الدر المصون في علوم الكتاب المكنون

السمين الحلبي

الفاتحة

مصدر بَسْمَلَ، أي قال: بسم الله، نحو: حَوْقَلَ وهيْلَلَ وحَمْدَلَ، أي: قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا الله، والحمد لله. وهذا شَبيه بباب النحت في النسب، أي إنهم يأخذون اسمَيْن فَيَنْحِتون منهما لفظاً واحداً، فينسِبون إليه كقولهم: حَضْرَميّ وعَبْقَسيّ وعَبْشَميّ نسبةً إلى حَضْرَمَوْت وعبدِ القَيْس وعبدِ شمس. قال: 6 - وتضحَكُ مني شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّة ... كَأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً يَمانياً وهو غيرُ مقيس، فلا جرم أن بعضهم قال في: بَسْمل وهَيْلل إنها لغة مُوَلَّدَة، [قال الماوردي: يقال لمَنْ قال: بسم الله: مُبَسْمِل وهي] لغةٌ مُوَلَّدة وقد جاءَتْ في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة: 7 - لقد بَسْمَلَتْ ليلى غداةَ لقِيتُها ... ألا حَبَّذا ذاكَ الحديثُ المُبَسْمِلُ

وغيرُه من أهلِ اللغةِ نَقَلها ولَم يقُلْ إنها مُوَلَّدَة ك ثعلب والمطرِّز. وبِسْم: جارٌّ ومجرور، والباء هنا للاستعانة كعَمِلت وبالقَدُوم، لأنَّ المعنى: أقرأ مستعيناً بالله، ولها معانٍ أُخَرُ تقدَّم الوعدُ بذكرها، وهي: الإِلصاقُ حقيقةً أو مجازاً، نحو: مَسَحْتُ برأسي، مررْتُ بزيدٍ، والسببية: [نحو] {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] ، أي بسببِ ظلمهم، والمصاحبة نحو: خرج زيدٌ بثيابه، أي مصاحباً لها، والبدلُ كقوله عليه السلام: «ما يَسُرُّنِي بها حُمْرُ النَّعَم» أي بدلها، وكقول الآخر: 8 - فليتَ لي بِهِمُ قوماً إذا ركبوا ... شَنُّوا الإِغارةَ فرساناً ورُكْبانا أي: بَدَلَهم، والقسم: أحلفُ باللهِ لأفعلنَّ، والظرفية نحو: زيد بمكة أي فيها، والتعدية نحو: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ، والتبعيض كقول الشاعر: 9 - شَرِبْنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعَتْ ... متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ

أي من مائه، والمقابلة: «اشتريتهُ بألف» أي: قابلتُه بهذا الثمنِ، والمجاوزة مثلُ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} [الفرقان: 25] أي عن الغمام، ومنهم مَنْ قال: لا تكون كذلك إلا مع السؤال خاصة نحو: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] أي عنه، وقول علقمة: 10 - فإنْ تَسْأَلوني بالنساءِ فإنني ... خبيرٌ بأَدْواءِ النساء طبيبُ إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه ... فليس له في وُدِّهِنَّ نَصيبُ والاستعلاء كقوله تعالى: {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران: 75] . والجمهورُ يأبَوْن جَعْلها إلا للإِلصاق أو التعديةِ، ويَرُدُّون جميعَ المواضعِ المذكورةِ إليهما، وليس هذا موضعَ استدلال وانفصال. وقد تُزاد مطَّردةً وغيرَ مطَّردة، فالمطَّردةُ في فاعل «كفى» نحو: {وكفى بالله} [النساء: 6] / أي: كفى اللهُ، بدليل سقوطِها في قول الشاعر: 11 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كفى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهياً وفي خبرِ ليس و «ما» أختِها غيرَ موجَبٍ ب إلاَّ، كقوله تعالى: {أَلَيْسَ

الله بِكَافٍ [عَبْدَهُ] } [الزمر: 36] ، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ} [الأنعام: 132] وفي: بحَسْبكِ زيدٌ. وغيرَ مطَّردةٍ في مفعولِ «كفَى» ، كقوله: 12 - فكفى بنا فَضْلاً على مَنْ غيرُنا ... حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا أي: كَفانا، وفي البيت كلامٌ آخرُ، وفي المبتدأ غيرَ «حَسْب» ومنه في أحدِ القولين: {بِأَييِّكُمُ المفتون} [القلم: 6] وقيل: المفتون مصدر كالمَعْقول والمَيْسور، فعلى هذا ليست زائدةً، وفي خبر «لا» أختِ ليس، كقوله: 13 - فكُنْ لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ ... بمُغْنٍ فتيلاً عن سَوادِ بنِ قاربِ أي: مُغْنياً، وفى خبرِ كان مَنْفِيَّةً نحو: 14 - وإنْ مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أكنْ ... بِأعجلِهم، إذْ أَجْشَعُ القومِ أَعْجَلُ أي: لم أكنْ أعجلَهم، وفي الحال وثاني مفعولَيْ ظنَّ منفيَّيْنِ أيضاً كقوله: 15 - فما رَجَعَتْ بخَائِبَةٍ رِكابٌ ... حكيمُ بنُ المُسَيَّب مُنْتَهاها

وقولِ الآخر: 16 - دعاني أخي والخيلُ بيني وبينه ... فلمَّا دعاني لم يَجِدْني بقُعْدَدِ أي: ما رَجَعَت رِكابُ خائبةً، ولم يَجِدْني قُعْدَداً، وفي خبر «إنَّ» كقول امرئ القيس: 17 - فإنْ تَنْأَ عنها حِقْبَةً لا تُلاقِها ... فإنك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ أي: فإنك المجرِّب، وفي: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله} [الأحقاف: 33] وشبهه. والاسمُ لغةً: ما أبانَ عن مُسَمَّى، واصطلاحاً: ما دلَّ على معنىً في نفسه فقط غيرَ متعرِّضٍ بِبُنْيَتِهِ لزمان ولا دالٍّ جزءٌ من أجزائه على جزءٍ من أجزاء معناه، وبهذا القيدِ الأخيرِ خَرَجت الجملةُ الاسميةُ، والتسميةُ: جَعْلُ ذلك اللفظِ دالاًّ على ذلك المعنى. واختلف الناسُ: هل الاسمُ عينُ المُسَمَّى أو غيرُه؟ وهي مسألةٌ طويلةٌ، تكلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً واستشكلوا على كونه هو المُسَمَّى إضافَتَه إليه، فإنه يلزم منه إضافةُ الشيء إلى نفسِه، وأجاب أبو البقاء عن ذلك بثلاثة أجوبة، أجودُها: أنَّ الاسم هنا بمعنى التسمية، والتسميةُ غيرُ الاسم، لأنَّ التسمية هي اللفظُ بالاسم، والاسمَ هو اللازمُ للمُسَمَّى فتغايرا. الثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: باسم مُسَمَّى اللهِ. الثالث: أن لفظَ «اسم» زائدٌ كقولِه:

18 - إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلامِ عليكما ... ومَنْ يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَرْ أي: السلام عليكما، وقول ذي الرمة: 19 - لاَ يَرْفَعُ الطرفَ إلاَّ ما تَخَوَّنَهُ ... داعٍ يُناديه باسمِ الماءِ مَبْغَومُ وإليه ذهب أبو عبيدة والأخفش وقطرب. واختلفوا في معنى الزيادة فقال الأخفش: ليخرجَ من حُكْمِ القسم إلى قَصْدِ التبرُّك «. وقال قطرب:» زيد للإِجلال والتعظيم «، وهذان الجوابان ضعيفان لأنَّ الزيادةَ والحذفَ لا يُصار إليهما إلاَّ إذا اضطُرَّ إليهما. ومن هذا القَبيلِ - أعني ما يُوهِمُ إضافةَ الشيءِ إلى نفسِه - إضافةُ الاسمِ إلى اللقبِ والموصوفِ إلى صفتهِ، نحو: سعيدُ كُرزٍ وزيدُ قُفَّةٍ ومسجدُ الجامعِ وبَقْلَةُ الحمقاءِ، ولكن النحويين أوَّلوا النوع الأول بأنْ جعلوا الاسمَ بمعنى المُسَمَّى واللقبَ بمعنى اللفظِ، فتقديرُه: جاءني مسمَّى هذا اللفظِ، وفي الثاني جَعَلوه على حَذْفِ مضافٍ، فتقديرُ بقلةِ الحمقاءِ: بقلةُ الحبِّةِ الحمقاءِ، ومسجدُ الجامعِ: مسجدُ المكانِ الجامعِ.

واختلف النحويون في اشتقاقه: فذهب أهلُ البصرة إلى أنه مشتقٌ من السُّمُوِّ وهو الارتِفاعُ، لأنه يَدُلُّ على مُسَمَّاه فيرفعُه ويُظْهِرهُ، وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من الوَسْم وهو العلامةُ لأنه علامةٌ على مُسَمَّاه، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى لكنه فاسدٌ من حيث التصريفُ. استدلَّ البصريون على مذهبهم بتكسيرِهم له على «أَسْماء» وتصغيرهم له على سُمَيّ، لأن التكسير والتصغير يَرُدَّان الأشياء إلى أصولها، وتقولُ العَربُ: فلانٌ سَمِيُّك، وسَمَّيْتُ فلاناً بكذا، وأَسْمَيْتُه بكذا، فهذا يَدُلُّ على اشتقاقه من السموّ، ولو كان من الوَسْم لقيل في التكسير: أَوْسام، وفي التصغير: وُسَيْم، ولقالوا: وَسِيمُك فلانٌ ووَسَمْتُ وأَوْسَمْتُ فلاناً بكذا، فدلَّ عدمُ قولِهم ذلك أنه ليس كذلك. وأيضاً فَجَعْلُه من السموّ مُدْخِلٌ له في البابِ الأكثرِ، وجَعْلُه من الوَسْم مُدْخِلٌ له في الباب الأقلِّ؛ وذلك أن حَذْفَ اللام كثيرٌ وحذفَ الفاءِ قليلٌ، وأيضاً فإنَّا عَهِدْناهم غالباً يُعَوِّضون في غير محلِّ الحَذْفَ فَجَعْلُ همزةِ الوصل عوضاً من اللام موافقٌ لهذا الأصل بخلافِ ادِّعاءِ كَوْنِها عوضاً من الفاء. فإن قيل: قولُهم «أسماء» في التكسير و «سُمَيّ» في التصغير لا دلالةَ فيه لجوازِ أن يكون الأصلُ: أَوْسَاماً ووُسَيْماً، ثم قُلِبَتِ الكلمةُ بأَنْ أُخِّرَتْ فاؤُها بعد لامها فصار لفظُ أَوْسام: أَسْماواً، ثم أُعِلَّ إعلالَ كساء، وصار وُسَيْم سُمَيْوَاً، ثم أُعِلَّ إعلالَ جُرَيّ تصغير جَرْو. فالجوابُ أنَّ ادِّعاء ذلك لا يفيدُ، لأنَّ القَلْبَ على خلافِ القياس فلا يُصارُ إليه ما لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ. وهل لهذا الخلافِ فائدةٌ أم لا؟ والجوابُ أن له فائدةً، وهي أَنَّ مَنْ قال باشتقاقِه من العلوِّ يقول: إنه لم يَزَلْ موصوفاً قبل وجودِ الخلق وبعدَهم

وعند فَنائِهم، لا تأثيرَ لهم في أسمائه ولا صفاتِه وهو قول أهل السُّنَّةِ. وَمنْ قال بأنه مشتقٌّ من الوَسْم يقول: كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفةٍ، فلما خَلَقَ الخلق جعلوا له أسماءً وصفاتٍ وهو قول المعتزلة، وهذا أشدُّ خطأً من قولِهم بخلق القرآن وعلى هذا الخلافِ وَقَعَ الخلافُ أيضاً في الاسم والمُسَمَّى. وفي الاسم خمسُ لغاتٍ: «اسم» بضم الهمزة وكسرها، و «سُِم» بكسر السين وضمها. وقال أحمد بن يحيى: «سُمٌ بضم السين أَخَذَه من سَمَوْتُ أسْمُو، ومَنْ قاله بالكسر أخذه من سَمَيْتُ أَسْمي، وعلى اللغتين قوله: 20 - وعامُنا أَعْجبنا مُقَدَّمُهْ ... يُدْعى أبا السَّمْحِ وقِرضابٌ سُِمُهْ مُبْتَرِكاً لكلِّ عَظْمٍ يَلْحُمُهْ ... يُنْشَدُ بالوجهين، وأنشدوا على الكسر: 21 - باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ ... [فعلى هذا يكون في لام» اسم «وجهان، أحدُهما: أنها واو، والثاني: أنها ياء وهو غريبٌ، ولكنَّ] أحمد بن يحيى جليلُ القدر ثقةٌ فيما ينقل. و» سُمَىً «مثل هُدَىً. واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر:

22 - واللهُ أَسْماك سُمَىً مُبارَكاً ... آثرك اللهُ به إيثارَكَا ولا دليلَ في ذلك لجوازِ أن يكونَ من لغةِ مَنْ يجعله منقوصاً مضمومَ السين وجاء به منصوباً، وإنما كان ينتهض دليلاً لو قيل: سُمَىً حالةَ رفعٍ أو جَرٍّ. وهمزتُه همزةُ وصلٍ أي تُثْبَت ابتداءً وتُحْذَفُ دَرْجَاً، وقد تُثْبَتُ ضرورةً كقوله: 23 - وما أنا بالمَخْسوسِ في جِذْمِ مالكٍ ... ولا مَنْ تسمَّى ثم يلتزِم الإِسْما وهو أحدُ الأسماءِ العشرةِ التي ابتُدِئ في أوائِلها بهمزةِ الوصلِ/ وهي: اسم واست وابن وابنُم وابنة وامرؤ وامرأة واثنان واثنتان وايمنُ في القسم. والأصل في هذه الهمزةِ أن تُثْبَتَ خَطَّاً كغيرِها من همزاتِ الوصل، وإنما حَذَفوها حين يُضاف الاسمُ إلى الجلالةِ خاصةً لكثرة الاستعمال. وقيل: ليوافقَ الخطُّ اللفظَ. وقيل لا حذفَ أصلاً، وذلك لأن الأصل: «سِمٌ» أو «سُم» بكسر السين أو ضمها فلمَّا دخلتِ الباءُ سَكَنَتِ العينُ تخفيفاً، لأنه وقع بعد الكسرة كسرةٌ أو ضمةٌ، [وهذا حكاه النحاس وهو حسن] ، فلو أضيف إلى غير الجلالة ثَبَتَتْ، نحو: باسم الرحمن، هذا هو المشهور، وحُكِيَ عن الكسائي والأخفش جوازُ حََذْفِها إذا أُضيفت إلى غيرِ الجلالة من أسماء الباري تعالى نحو: بسمِ ربِّك، بسمِ الخالق.

واعْلم أنَّ كلَّ جار ومجرور لا بُدَّ له من شيءٍ يَتَعَلَّقُ به، فعلٍ أو ما في معناه، إلا في ثلاثِ صور: حرفِ الجر الزائد ولعلَّ ولولا عند مَنْ يجر بهما، وزاد الاستاذ ابن عصفور كافَ التشبيه، وليس بشيء فإنها تتعلَّق. إذا تقرر ذلك ف «بسم الله» لا بدَّ من شيء يتعلق به ولكنه حُذِف. واختلف النحويون في ذلك، فذهب أهلُ البصرةِ إلى أنَّ المُتَعَلَّقَ به اسمٌ، وذهب أهلُ الكوفة إلى أنه فِعْلٌ، ثم اختَلَفَ كلٌ من الفريقين: فذهب بعضُ البصريين إلى أنَّ ذلك المحذوفَ مبتدأٌ حُذِفَ هو وخبرهُ وبقي معمولُه، تقديره: ابتدائي باسم الله كائنٌ أو مستقرٌ، أو قراءتي باسم الله كائنةٌ أو مستقرة. وفيه نظرٌ من حيث إنه يلزمُ حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معمولِه وهو ممنوعٌ، وقد نص مكي على مَنْع هذا الوجهِ. وذهبَ بعضُهم إلى أنه خبرٌ حُذِف هو ومبتدؤه أيضاً وبقي معمولُه قائماً مَقامَه، والتقدير: ابتدائي كائنٌ باسمِ الله، أو قراءتي كائنةٌ باسم الله نحو: زيدٌ بمكةَ، فهو على الأول منصوبُ المحلِّ وعلى الثاني مرفوعُه لقيامِهِ مقامَ الخبر. وذهب بعضُ الكوفيين إلى أنَّ ذلك الفعلَ المحذوفَ مقدَّرٌ قبله، قال: لأنَّ الأصلَ التقديمُ، والتقدير: أقرأُ باسم الله أو أبتدئُ باسم الله. ومنهم مَنْ قدَّر بعده: والتقدير: باسم الله أقرأ أو أبتدئ أو أتلو، وإلى هذا نحا الزمخشري قال: «ليفيدَ

التقديمُ الاختصاصَ لأنه وقع ردًّاً على الكفرة الذين كانوا يبدؤون بأسماءِ آلهتهم كقولهم: باسم اللات، باسم العُزَّى» وهذا حسنٌ جداً، ثم اعترض على نفسِه بقولِه تعالى: {اقرأ باسم رَبِّكَ} [القلم: 1] ، حيث صَرَّح بهذا العامل مُقَدَّماً على معمولِه، ثم أجاب بأنَّ تقديمَ الفعل في سورة العلق أوقعُ لأنها أولُ سورةٍ نَزَلَت فكان الأمرُ بالقراءة أهمَّ «. وأجاب غيرُه بأنَّ ب» اسم ربك «ليس متعلقاً ب» اقرأ «الذي قبله، بل ب» اقرأ «الذي بعده، فجاء على القاعدة المتقدمة. وفي هذا نظرٌ لأن الظاهرَ على هذا القول أن يكون «اقرأ» الثاني توكيداً للأول فيكون قد فَصَلَ بمعمول المؤكِّد بينه وبين ما أكَّده مع الفصلِ بكلامٍ طويل. واختلفوا أيضاً: هل ذلك الفعلُ أمرٌ أو خبرٌ؟ فذهب الفراء أنه أَمْرٌ تقديرُه: اقرأ أنت باسم الله، وذهب الزجاج أنه خبرٌ تقديره: اقرأ أنا أو أبتَدِئُ ونحوهُ. و «الله» في «بسم الله» مضافٌ إليه، وهل العاملُ في المضاف إليه المضافُ أو حرفُ الجرِّ المقدََّرِ أو معنى الإِضافة؟ ثلاثةُ أقوال خَيْرُها أوسطُها. وهو عَلَمٌ على المعبودِ بحق، لاَ يُطلق على غيره، ولَم يَجْسُرْ أحدٌ من المخلوقين أن يَتَسَّمى به، وكذلك الإِله قبل النقل والإِدغامِ لا يُطْلق إلا على المعبودِ بحقٍّ. قال الزمخشري: «كأنه صار عَلَماً بالغلَبة» ، وأمّا «إله»

المجردُ من الألف واللام فيُطلق على المعبود بحقٍّ وعلى غيره، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] ، { [أَرَأَيْتَ] مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الفرقان: 43] . واختلف الناسُ هل هو مُرْتَجَلٌ أو مشتق؟ ، والصوابُ الأولُ، وهو أعرفُ المعارف. يُحْكى أن سِيبوِيه رُئيَ في المنام فقيل [له] : ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال: خيراً كثيراً، لجَعْلِي اسمَه أعرفَ المعارفِ. ثم القائلونَ باشتقاقِه اختلفوا اختلافاً كثيراً، فمنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من لاهَ يليه أي ارتفع، ومنه قيل للشمس: إلاَهة بكسر الهمزة وفتحها لارتفاعها، وقيل: لاتخاذِهِم إياها معبوداً، وعلى هذا قيل: «لَهْيَ أبوك» يريدونَ: للهِ أبوك، فَقَلَب العينَ إلى موضع اللام. وخَفَّفه فَحَذَفَ الألفَ واللامَ وحَذَفَ حرفَ الجرِ. وأَبْعد بعضُهم فَجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر: 24 - ألا ياسَنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمى ... لَهِنَّكَ من برقٍ عليَّ كريمُ قال: الأصلُ: لله إنك كريمٌ عليَّ، فَحَذََفَ حرف الجر وحرف التعريف والألفَ التي قبل الهاء من الجلالة، وسَكَّن الهاءَ إجراءً للوصل مُجْرى الوقف،

فصار اللفظ: لَهْ، ثم أَلقى حركة همزة «إنَّ» على الهاء فبقي: لَهِنَّك كما ترى، وهذا سماجَةٌ من قائلِه. وفي البيت قولان أيسرُ من هذا. ومنهمَ مَنْ قال: «هو مشتقٌّ من لاه يَلُوه لِياهاً. أي احتجَبَ، فالألف على هذين القولين أصليةٌ، فحينئذ أصلُ الكلمة لاَهَ، ثم دخل عليه حرفُ التعريف فصار اللاه، ثم أُدْغِمت لام التعريف في اللام بعدها لاجتماعِ شروطِ الإِدغام، وفُخِّمت لامُه. ووزنُه على القولين المتقدِّمين إمَّا: فَعَل أو فَعِل بفتح العين أو كسرِها، وعلى كل تقدير: فتحرَّك حرفُ العلة وانفتحَ ما قبلَه فقُلِب ألفاً، وكان الأصلَ: لَيَهاً أو لَيِهاً أو لَوَهاً أو لَوِهاً. ومنهم مَنْ جَعَلَه مشتقاً من أَلَه، وأَلَه لفظٌ مشترك بين معانٍ وهي: العبادةُ والسكون والتحيُّر والفزع، فمعنى «إله» أنَّ خَلْقَه يعبدونه ويسكنون إليه ويتحيَّرون فيه ويفزعون إليه. ومنه قولُ رؤبة: 25 - لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ ... سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهي أي: من عبادتِه، ومنه {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] أي عبادتك. وإلى معنى التحيُّر أشار أمير المؤمنين بقوله: «كَلَّ دون صِفاته تحبيرُ الصفات وضَلَّ هناك تصاريفُ اللغات» وذلك أن العبد إذا تفكَّر في صفاته تحيَّر، ولهذا/ رُوي: «تفكروا في آلاء الله، ولا تتفكروا في الله» وعلى هذا فالهمزةُ أصلية والألفُ

قبل الهاء زائدةٌ، فأصلُ الجلالة الكريمة: الإِله، كقولِ الشاعر: 26 - معاذَ الإِله أن تكونَ كظبيةٍ ... ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةٍ رَبْرَبِ ثم حُذِفت الهمزةُ لكثرةِ الاستعمال كما حُذفت في ناس، والأصل أُناس كقوله: 27 - إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ ... نَ على الأُناس الآمِنينا فالتقى حرفُ التعريفِ مع اللامِ فأُدْغِم فيها وفُخِّم. أو نقول: إن الهمزة من الإِله حُذِفت للنقل، بمعنى أنَّا نَقَلْنا حَرَكتَها إلى لام التعريف وحَذَفْناها بعد نقل حركتها كما هو المعروف في النقل، ثم أُدغم لامُ التعريف كما تقدَّم، إلا أنَّ النقلَ هنا لازِمٌ لكثرةِ الاستعمال. ومنهم مَنْ قال: هو مشتقٌ من وَلِهَ لكونِ كلِّ مخلوقٍ والِهاً نحوَه، وعلى ذلك قال بعض الحكماء: «الله محبوب للأشياءِ كلها، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] ، فأصله: وِلاه ثم أُبدلت الواو همزةً كما أُبدلت في إشاح وإعاء، والأصلُ: وِشاح ووِعاء، فصار الفظُ به: إلاهاً، ثم فُعِل به ما تقدَّم مِنْ حَذْفِ همزتِه والإِدغام، ويُعْزَى هذا القول للخليل، فعلى هذين القولين وزنُ إلاه: فِعال، وهو بمعنى مَفْعول أي: مَعْبود أو متحيِّرٌ فيه كالكِتاب بمعنى مكتوب.

وُردَّ قولُ الخليل بوجهين، أحدهما: أنه لو كانت الهمزةُ بدلاً من واو لجاز النطق بالأصلِ، ولم يَقُلْه أحد، ويقولون: إشاح ووشاح وإعاء ووعاء. والثاني: أنه لو كان كذلك لجُمع على أَوْلِهة كأَوْعِية وأَوشِحَة فتُرَدُّ الهمزة إلى أَصلها، ولم يُجْمع» إله «إلا على آلهة. وللخليل أن ينفصِلَ عن هذين الاعتراضين بأنَّ البدلَ لزِم في هذا الاسمِ لأنه اختصَّ بأحكامٍ لم يَشْرَكَهْ فيها غيرُه، كما ستقف عليه، ثم جاء الجمع على التزامِ البدل. وأمَّا الألفُ واللامُ فيترتَّب الكلامُ فيها على كونِه مشتقاً أو غيرَ مشتقٍّ، فإنْ قيل بالأول كانَتْ في الأصل مُعَرِّفةً، وإنْ قيل بالثاني كانت زائدةً. وقد شَذَّ حذفُ الألفِ واللامِ من الجلالة في قولهم» لاهِ أبوك «، والأصل: للهِ أبوك كما تقدم، قالوا: وحُذِفَت الألفُ التي قبل الهاء خَطَّاً لئلا يُشْبَّهَ بخط» اللات «اسم الصنم، لأن بعضهم يقلبُ هذه التاء في الوقف هاءً فيكتُبها هاءً تَبَعَاً للوقف فمِنْ ثمَّ جاء الاشتباه. وقيل: لئلا يُشَبَّه بخط «اللاه» اسمَ فاعل من لها يلهو، وهذا إنما يَتِمُّ على لغة مَنْ يحذف ياءَ المنقوص المعرَّف وقفاً لأن الخطَّ يتبعه، وأمَّا مَنْ يُثْبِتُها وقفاً فيثبتها خطَّاً فلا لَبْس حينئذ. وقيل: حَذْفُ الألف لغةٌ قليلة جاء الخط عليها، والتُزمَ ذلك لكثرة استعماله، قال الشاعر: 28 - أقبلَ سَيْلٌ كان من أمر اللهْ ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّة المُغِلَّهْ وحكمُ لامِه التفخيمُ تعظيماً ما لم يتقدَّمْه كسرٌ فترقّقُ، وإن كان أبو القاسم الزمخشري قد أطلق التفخيمَ، ولكنه يريد ما قلته. ونقل

أبو البقاء أنَّ منهمِ مَنْ يُرَقِّقُها على كل حال. وهذا ليس بشيءٍ لأن العربَ على خِلافِه كابراً عن كابرٍ كما ذكره الزمخشري. ونقل أهلُ القراءة خلافاً فيما إذا تقدَّمَه فتحةٌ ممالةٌ أي قريبة من الكسرة: فمنهم مَنْ يُرَقِّقها، ومنهم مَنْ يُفَخِّمُها، وذلك كقراءة السوسي في أحدِ وَجْهَيْه: «حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً» . ونقل السهيلي وابن العربي فيه قولاً غريباً وهو أنَّ الألف واللام فيه أصليةٌ غيرُ زائدةٍ، واعتذرا عن وَصْلِ الهمزةِ بكثرة الاستعمال، كما يقول الخليل في همزةِ التعريف، وقد رُدَّ قولهُما بأنه كان ينبغي أن يُنَوَّن لفظُ الجَلالةِ لأنَّ وزنَه حينئذ فَعَّال نحو: لآَّل وسَآَّل، وليس فيه ما يمنعه من التنوينِ فدلَّ على أنَّ أل فيه زائدةٌ على ماهيةِ الكلمةِ. ومن غريبِ ما نُقِل فيه أيضاً أنه ليس بعربي بل هو مُعَرَّب، وهو سُريانيُّ الوَضْعِ وأصله: «لاها» فَعَرَّبَتْه العربُ فقالوا: الله، واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر:

29 - كحَلْفَةٍ من أبي رياحِ ... يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ فجاء به على الأصلِ قبل التعريبِ، ونقل ذلك أبو زيد البلخي. [ومِنْ غريب ما نُقل فيه أيضاً أنَّ الأصل فيه الهاءُ التي هي كنايةٌ عن الغائب] قالوا: وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في نظر عقولِهم فأشاروا إليه بالضمير، ثم زِيدَتْ فيه لامُ المِلْك، إذ قد عَلِموا أنه خالقُ الأشياء ومالِكُها فصار اللفظ: «لَهُ» ثم زِيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً، وهذا لا يُشبه كلامَ أهل اللغة ولا النَحْويين، وإنما يشبه كلامَ بعض المتصوفة. ومن غريب ما نُقل فيه أيضاً أنه صفةٌ وليس باسم، واعتلَّ هذا الذاهب إلى ذلك أنَّ الاسم يُعَرِّفَ المُسَمَّى والله تعالى لا يُدْرَكُ حِسَّاً ولا بديهةً فلا يُعَرِّفُه اسمه، إنما تُعَرِّفه صفاتُه، ولأن العَلَم قائمٌ مقامَ الإِشارة، واللهُ تعالى ممتنعٌ ذلك في حقه. وقد رَدَّ الزمخشري هذا القولَ بما معناه أنك تصفه ولا تَصِفُ به، فتقول: إله عظيم واحد، كما تقول: شيءٌ عظيم ورجلٌ كريم، ولا تقول: شيء إله، كما لا تقول: شيء رجل، ولو كان صفةً لوقع صفةً لغيره لا موصوفاً، وأيضاً فإنَّ صفاتِه الحسنى لا بُدَّ لها من موصوف تَجْري عليه، فلو جَعَلْتَها كلَّها صفاتٍ، بقيت غيرَ جاريةٍ على اسمٍ موصوفٍ بها، وليس فيما عدا الجلالة خلافٌ في كونِه صفةً فَتَعَيَّن أن تكونَ الجلالةُ اسماً لا صفةً. والقولُ في هذا الاسم الكريمِ يحتمل الإِطالةَ أكثرَ ممَّا ذكرْتُ لك، إنما اختصرْتُ ذلك خوفَ السآمة للناظر في هَذا الكتاب.

الرحمن الرحيم: صفتان مشتقتان من الرحمة، وقيل: الرحمنُ ليس مشتقاً لأن العربَ لم تَعْرِفْه في قولهم: {وَمَا الرحمن} [الفرقان: 60] وأجاب ابن العربي عنه بأنهم جَهِلوا الصفةَ دونَ الموصوفِ، ولذلك لم يقولوا: وَمَنْ الرحمن؟ وقد تَبِعا موصوفَهما في/ الأربعةِ من العشرة المذكورة. وذهب الأعلمُ الشنتمريُّ إلى أن «الرحمن» بدلٌ من اسمِ الله لا نعتٌ له، وذلك مبنيٌّ على مذهبه من أنَّ الرحمن عنده عَلَمٌ بالغلَبة. واستدَلَّ على ذلك بأنه قد جاء غيرَ تابعٍ لموصوفٍ، كقوله تعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1-2] {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] . وقد رَدَّ عليه السُّهيلي بأنه لو كان بدلاً لكان مبيَّناً لِما قبله، وما قبله - وهو الجلالة - لا يفتقرُ إلى تبيين لأنها أعرفُ الأعلامِ، ألا تراهم قالوا: {وَمَا الرحمن} [الفرقان: 60] ولم يقولوا: وما اللهُ. انتهى. أمَّا قوله: «جاء غيرَ تابع» فذلك لا يمنعُ كونَه صفةً، لأنه إذا عُلم الموصوفُ جاز حَذْفُه وبقاءُ صفتِه، كقولِه تعالى: {وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [فاطر: 28] أي نوع مختلف، وكقول الشاعر: 30 - كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوْهِنَها ... فلم يَضِرْها وأَوْهَى قرنَه الوَعِلُ أي: كوعلٍ ناطح، وهو كثير.

والرحمة لغةً: الرقةُ والانعطافُ، ومنه اشتقاق الرَّحِم، وهي الابطنُ لانعطافِها على الجنين، فعلى هذا يكون وصفُه تعالى بالرحمة مجازاً عن إنعامِه على عبادِه كالمَلِك إذا عَطَف على رعيَّته أصابَهم خيرُه. هذا معنى قول أبي القاسم الزمخشري. ويكونُ على هذا التقدير صفةَ فعلٍ لا صفةَ ذاتٍ، وقيل: الرحمة إرادةُ الخيرِ لمَنْْ أرادَ اللهُ به ذلك، ووَصْفُه بها على هذا القولِ حقيقةٌ، وهي حينئذ صفةُ ذاتٍ، وهذا القولُ هو الظاهرُ. وقيل: الرحمة رِقَّةٌ تقتضي الإِحسانَ إلى المرحومِ، وقد تُستعملُ تارةً في الرقة المجردة وتارةً في الإِحسان المجرَّد، وإذا وُصِف به الباري تعالى فليس يُراد به إلا الإِحسانُ المجردُ دونَ الرقةِ، وعلى هذا رُوي: «الرحمةُ من الله إنعامٌ وإفضالٌ، ومن الآدميين رقةٌ وتعطُّف» . [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «وهما اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر أي: أكثرُ رحمة» . قال الخطَّابي: وهو مُشْكِلٌ؛ لأن الرقة] لا مَدْخَلَ لها في صفاتهِ. وقال الحسين بن الفضل: «هذا وَهْمٌ من الراوي، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أَرْفَقُ من الآخر والرفق من صفاته» وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِفقَ، ويُعطي عليه ما لا يُعْطي

على العنف» ، ويؤيِّده الحديثُ، وأمَّا الرحيمُ فالرفيق بالمؤمنين خاصة. واختلف أهلُ العلمِ في «الرحمن الرحيم» بالنسبة إلى كونِهما بمعنىً واحدٍ أو مختلفين. فذهب بعضُهم إلى أنهما بمعنى واحد كَنْدمان ونَدِيم، ثم اختلف هؤلاء على قولين، فمنهم مَنْ قال: جُمِع بينهما تأكيداً، ومنهم مَنْ قال: لمَّا تَسَمَّى مُسَيْلمة - لعنه الله- بالرحمن قال الله لنفسه: الرحمنُ الرحيم، فالجمعُ بين هاتين الصفتين لله تعالى فقط. وهذا ضعيفٌ جداً، فإنَّ تسميَته بذلك غيرُ مُعْتَدٍّ بها البتَة، وأيضاً فإن بسم الله الرحمن الرحيم قبلَ ظهورِ أمرِ مُسَيْلَمَةَ. ومنهم مَنْ قال: لكلِّ واحد فائدةٌ غيرُ فائدةِ الآخر، وجَعَل ذلك بالنسبة إلى تغايُرِ متعلِّقِهما إذ يقال: «رَحْمن الدنيا ورحيمُ الآخرة» ، يُروى ذلك عن النبي صلَى الله عليه وسلم، وذلك لأنَّ رحمته في الدنيا تَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ، وفي الآخرة تَخُصُّ المؤمنين فقط، ويُروَى: رحيمُ الدنيا ورحمنُ الآخرة، وفي المغايَرة بينهما بهذا القَدْر وحدَه نظرٌ لا يَخْفى. وذهب بعضُهم إلى أنهما مختلفان، ثم اختلف هؤلاء أيضاً: فمنهم مَنْ قال: الرحمن أبلغُ، ولذلك لا يُطلق على غيرِ الباري تعالى، واختاره الزمخشري، وجعلَه من باب غَضْبان وسَكْران للممتلىءِ غَضَباً وسُكْراً، ولذلك يقال: رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة فقط، قال الزمخشري: «فكان القياسُ الترقِّيَ من الأدنى، إلى الأعلى، كما يُقال: شُجاع باسل

ولا يقال: باسِلٌ شجاع. ثم أجاب بأنه أَرْدَفَ الرحمنَ الذي يتناول جلائلَ النِّعَمِ وأصولَها بالرحيمِ ليكونَ كالتتمَّةِ والرديف ليتناولَ ما دَقَّ منها ولَطَف. ومنهم مََنْ عَكَس فجعلَ الرحيمَ أبلغَ، ويؤيده روايةُ مَنْ قال:» رحيم الدنيا وحمان الآخرة «لأنه في الدنيا يَرْحم المؤمن والكافرَ، وفي الآخرة لا يَرْحم إلا المؤمن. لكن الصحيح أنَّ الرحمنَ أبلغُ، وأمَّا هذه الروايةُ فليس فيها دليلٌ، بل هي دالَّةٌ على أنَّ الرحمنَ أبلغُ، وذلك لأن القيامَة فيها الرحمةُ أكثرُ بأضعافٍ، وأثرُها فيها أظهرُ، على ما يُروى أنه خَبَّأ لعباده تسعاً وتسعينَ رحمةً ليوم القيامة. والظاهر أن جهةَ المبالَغَةِ فيهما مختلفةٌ، فمبالغةُ» فَعْلان «من حيث الامتلاءُ والغَلَبَةُ ومبالغةُ» فعيل «من حيث التكرارُ والوقوع بمَحَالِّ الرحمة. وقال أبو عبيدة:» وبناء فَعْلان ليس كبناءِ فَعِيل، فإنَّ بناء فَعْلان لا يقع إلا على مبالغةِ الفِعْل، نحو: رجل غَضْبانُ للمتلئ غضباً، وفعيل يكون بمعنى الفاعلِ والمفعول، قال: 31 - فأمَّا إذا عَضَّتْ بك الحربُ عَضَّةً ... فإنك مَعْطوفٌ عليك رحيمُ فالرحمنُ خاصٌّ الاسمِ عامُّ الفعل. والرحيمُ عامٌّ الاسمِ خاصُّ الفعلِ، ولذلك لا يَتَعَدَّى فَعْلان ويتعدَّى فعيل. حكى ابنُ سِيده: «زيدٌ حفيظٌ علمَك وعلمَ غيرك» . والألفُ واللام في «الرحمن» للغلَبة كهي في «الصَّعِق» ، ولا يُطلق

على غير الباري تعالى عند أكثر العلماء، لقوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] ، فعادَلَ به ما لا شِرْكَةَ فيه، بخلاف «رحيم» فإنه يُطلق على غيره تعالى، قال [تعالى] في حَقَّه عليه السلام: {بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128] ، وأمَّا قول الشاعر في مُسَيْلَمََةَ الكذاب -لعنه الله تعالى-: 32 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأنت غَيْثُ الوَرى لا زلت رَحْمانا فلا يُلتفت إلى قوله لَفْرطَ تَعَنُّتهم، ولا يُستعمل إلاَّ مُعَرَّفاً بالألفِ واللامِ أو مضافاً، ولا يُلتفت لقوله: «لا زِلْتَ رَحْمانا» لشذوذه. ومن غريب ما نُقِل فيه أنه مُعَرَّب، ليس بعربيِّ الأصل، وأنه بالخاء المعجمة قاله ثعلب [والمبرد وأنشد] : 33 - لن تُدْرِكوا المَجْدَ أو تَشْرُوا عَباءَكُمُ ... بِالخَزِّ أو تَجْعلوا اليَنْبُوتَ ضَمْرانا أو تَتْرُكونَ إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكُمْ ... ومَسْحكم صُلبَهم رَخْمانَ قُرْبانا وفي وصل الرحيم بالحمد ثلاثة أوجهٍ، الذي عليه الجمهور: الرحيمِ بكسر الميم موصولةً بالحمد. وفي هذه الكسرة احتمالان: أحدهما - وهو الأصحُّ - أنها حركةُ إعرابٍ، وقيل: يُحتمل أنَّ الميم سَكَنَت على نية الوقف، فلمَّا وقع بعدها ساكن حُرِّكت بالكسر. والثاني من وَجْهَي الوصل: سكونُ الميمِ والوقفُ عليها، والابتداءُ بقطع ألف «الحمد» ، رَوَتْ ذلك أم سلمة عنه

عليه السلام. الثالث: حكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ: الرحيمَ الحمدُ «بفتح الميم ووصل ألف الحمد، كأنها سكنَّت وقطعَتِ الألفَ، ثم أَجْرت الوقف مُجرى الوصل، فألقَتْ حركة همزة الوصل على الميم الساكنة. قال ابن عطية:» ولم تُرْوَ هذه قراءةً عن أحد [فيما علمت، «وهذا فيه نظرٌ يجيئ في: {الم الله} [آل عمران: 1-2] قلت: يأتي تحقيقه في آل عمران إن شاء الله تعالى، ويحتمل هذا وجهاً آخر وهو أن تكونَ الحركةُ للنصبِ بفعل محذوفٍ على القطع] ، وهو أَوْلى من هذا التكلُّف.

2

الحمدُ: الثناءُ على الجميل سواءً كان نعمةً مُسْداةً إلى أحدٍ أم لا، يقال: حَمِدْتُ الرجل على ما أنعم به عليَّ وحَمِدْته على شجاعته، ويكون باللسان وحدَه دونَ عملِ الجَواح، إذ لا يقال: حَمِدْت زيداً أي عَمِلْتُ له بيديَّ عملاً حسناً، بخلافِ الشكر فإنه لا يكونُ إلاَّ نعمةً مُسْدَاةً إلى الغيرِ، يقال: شكرتُه على ما أعطاني، ولا يقال: شكرتُه على شجاعته، ويكون بالقلب واللسان والجوارح، قال تعالى: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} [سبأ: 13] وقال الشاعر: 34 - أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ مني ثلاثةً ... يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبا فيكونُ بين الحمد والشكر عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ. وقيل: الحمدُ هو الشكرُ بدليل قولهم: «الحمدُ لله شكراً» . وقيل: بينهما عمومٌ/ وخصوصٌ مطلقٌ والحمدُ أعمُّ من الشكرِ، وقيل: الحمدُ الثناءُ عليه تعالى بأوصافه،

والشكرُ الثناءُ عليه بأفعالِه، فالحامدُ قسمان: شاكرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجميلة. وقيل: الحمدُ مقلوبٌ من المدحِ، وليس بسديدٍ وإن كان منقولاً عن ثعلب، لأن المقلوبَ أقلُّ استعمالاً من المقلوب منه، وهذان مستويان في الاستعمال، فليس ادِّعاءُ قلبِ أحدِهما من الآخر أَوْلَى من العكس، فكانا مادتين مستقلتين، وأيضاً فإنه يَمْتنع إطلاقُ المدحِ حيث يجوزُ إطلاقُ الحمدِ، فإنه يقال: «حَمِدْتُ الله» ولا يقال مَدَحْته، ولو كان مقلوباً لَما امتنع ذلك. ولقائلٍ أن يقول: مَنَعَ من ذلك مانعٌ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك. وقال الراغب: «الحمدُ لله الثناء [عليه] بالفضيلة، وهو أخصُّ من المدحِ وأعمُّ من الشكر، يقال فيما يكونُ من الإِنسان باختياره وبما يكونُ منه وفيه بالتسخير، فقد يُمْدَحُ الإِنسان بطولِ قامتهِ وصَباحةِ وجههِ كما يُمْدَحُ ببذلِ مالِه وشجاعتهِ وعلمهِ، والحمدُ يكون في الثاني دونَ الأول، والشكرُ لا يُقال إلا في مقابلةِ نعمة، فكلُّ شكرٍ حَمْدٌ وليس كل حمدٍ شكراً، وكلُّ حَمْدٍ مَدْحٌ وليس كلُّ مَدْحٍ حمداً، ويقال: فلان محمود إذا حُمِد، ومُحْمَدٌ [وُجد محموداً] ومُحَمَّد كَثُرت خصالُه المحمودة، وأحْمَدُ أي: إنه يفوق غيرَه في الحمد» . والألفَ واللامُ في «الحَمْد» قيل: للاستغراقِ وقيل: لتعريفِ الجنسِ، واختاره الزمخشري، قال الشاعر: 35 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إلى الماجِدِ القَرْمِ الجَوادِ المُحَمَّدِ

وقيل: للعَهْدِ. وَمَنع الزمخشري كونَها للاستغراق، ولم يبيِّنْ وجهَ ذلك، ويُشْبِه أن يقال: إنَّ المطلوبَ من العبد إنشاء الحمد لا الإِخبارُ به وحينئذ يستحيلُ كونُها للاستغراقِ، إذ لا يُمْكنُ العبدَ أن يُنْشِئَ جميعَ المحامدِ منه ومن غيرِه بخلافِ كونِها للجنسِ. والأصلُ فيه المصدريةُ فلذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمع، وحكى ابنُ الأعرابي جمعَه على أَفْعُل وأنشد: 36 - وأَبْلَجَ محمودِ الثناء خَصَصْتُه ... بأفضلِ أقوالي وأفضلِ أَحْمُدي وقرأ الجمهور: «الحمدُ لِلَّه» برفع الدال وكسر لام الجر، ورفعُه على الابتداء، والخبرُ الجار والمجرور بعده فيتعلَّقُ بمحذوف هو الخبرُ في الحقيقة. ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَه اسماً وهو المختار، وإنْ شئتَ قدَّرْتَه فِعْلاً، أي: الحمدُ مستقرٌّ لله أو استقرَّ لله. والدليلُ على اختيار القول الأولِ أنَّ ذلك يتعيَّن في بعض الصور فلا أدلُّ من ترجيحه في غيرها، وذلك أنك إذا قلت: «خرجت فإذا في الدار زيدٌ» ، و «أمَّا في الدار فزيدٌ» ، يتعيَّن في هاتين الصورتين تقديرُ الاسم، لأن إذا الفجائية وأمَّا التفصيلية لا يليهما إلا المبتدأ. وقد عورض هذا اللفظُ بأنه يتعيَّن تقديرُ الفعلِ في

بعضِ الصور، وهو ما إذا ما وقع الجارُّ والمجرورُ صلةً لموصولٍ، نحو: «الذي في الدار» فليكنْ راجحاً في غيره. والجوابُ أن ما رَجَّحْنا به هو من باب المبتدأ والخبر وليس أجنبياً فكان اعتباره أولى، بخلاف وقوعه صلةً، والأولُ غيرُ أجنبي. ولا بُد من ذِكْر قاعدةٍ ههنا لعموم فائدتها، وهي أنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ إذا وَقَعا صلة أو صفة أو حالاً أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ، وذلك المحذوفُ لا يجوز ظهورهُ إذا كان كوناً مطلقاً، فأمَّا قول الشاعر: 37 - لكَ العِزُّ إنْ مَوْلاكَ عَزَّ وإنْ يَهُنْ ... فأنت لدى بُحْبوحَةِ الهُونِ كائِنُ فشاذٌّ لا يُلتفَتُ إليه. وأمَّا قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} [النمل: 40] فلم يَقْصِدْ جَعْلَ الظرفِ ثابتاً فلذلك ذكرَ المتعلِّقَ به. ثم ذلك المحذوفُ يجوز تقديرُه باسم أو فعل إلا في الصلة فإنه يتعيَّن أن يكون فعلاً، وإلاَّ في الصورتين المذكورتين فإنه يتعيَّنُ أَنْ يكونَ اسماً. واختلفوا: أيُّ التقديرين أولى فيما عدا الصورَ المستثناةَ؟ فقوم رجَّحوا تقديرَ الاسمِ، وقومٌ رجَّحوا تقديرَ الفعلِ، وقد تقدَّم دليلُ الفريقين. وقرئ شاذاً بنصب الدال من «الحمد» ، وفيه وجهان: أظهرهُما أنه

منصوبٌ على المصدرية، ثم حُذِف العاملُ، وناب المصدرُ مَنَابَه، كقولهم في الإِخبار: «حمداً وشكراً لا كُفْراً» ، والتقدير: أَحْمَدُ الله حَمْداً فهو مصدرٌ نابَ عن جملة خبرية. وقال الطبري: إن في ضمنه أمرَ عبادِه أن يُثْنوا به عليه، فكأنه قال: قولوا الحمدَ لله، وعلى هذا يجييء «قولوا إياك» فعلى هذه العبارة يكون من المصادر النائبة عن الطلب لا الخبر، وهو محتملٌ للوجهين، ولكنَّ كونَه خبرياً أَوْلَى من كونه طلبياً؛ ولا يجوز إظهارُ هذا الناصبِ لِئلاّ يُجْمَع بين البدلِ والمُبْدلِ منه. والثاني: أَنه منصوبٌ على المفعول به أي اقرؤوا الحمدَ، أو اتلوا الحمدَ، كقولهم: «اللهم ضَبُعاً وذئْباً» ، أي اجمَعْ ضبُعاً، والأولُ أحسن للدلالةِ اللفظيةِ. وقراءةُ الرفع أَمْكَنُ وأَبْلَغُ من قراءة النصب، لأنَّ الرفعَ في بابِ المصادر التي أصلُها النيابةُ عن أفعالها يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، ولذلك قال العلماء: إن جوابَ خليل الرحمن عليه السلام في قوله تعالى حكايةً عنه: {قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] أحسنُ مِنْ قول الملائكة «قالوا سلاماً» ، امتثالاً لقوله تعالى: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} [النساء: 86] . و «لله» على قراءة النصب يتعلَّق بمحذوفٍ لا بالمصدرِ لأنها للبيان تقديره: أَعْنِي لله، كقولهم: سُقْياً له وَرَعْياً لك، تقديرهُ: أعني له ولك، ويدلُّ

على أن اللام تتعلق في هذا النوع بمحذوفٍ لا بنفسِ المصدرِ أنهم لم يُعْمِلوا المصدرِ المتعدي في المجرورِ باللام فينصبوه فيقولوا: / سُقياً زيداً ولا رَعْياً عمراً، فدلَّ على أنه ليس معمولاً للمصدرِ، ولذلكَ غَلِظَ مَنْ جعلَ قولَه تعالى: {والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} [محمد: 8] من باب الاشتغالِ لأنَّ «لهم» لم يتعلَّق بِتَعْساً كما مَرَّ. ويحتمل أن يقال: إنَّ اللام في «سُقياً لك» ونحوِه مقويةٌ لتعدية العاملِ لكونِه فَرْعاً فيكونُ عاملاً فيما بعدَه. وقُرئ أيضاً بكسرِ الدال، ووجهُه أنها حركةُ إتباعٍ لكسرةِ لامِ الجر بعدها، وهي لغة تميم وبعض غطفان، يُتْبِعُون الأول للثاني للتجانس، ومنه: «اضربِ الساقَيْنُ أُمُّك هابِلُ» ، بضم نون التثنية لأجل ضمِّ الهمزة. ومثله: 38 - وَيْلِمِّها في هواءِ الجَوِّ طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبٌ الأصل: ويلٌ لأُِمها، فَحَذَفَ اللامَ الأولى، واستثقل ضمَّ الهمزةِ بعد الكسرة، فَنَقَلها إلى اللام بعد سَلْب حركتها، وحَذَفَ الهمزةَ، ثم أَتْبع اللامَ الميمَ، فصار اللفظ: وَيْلِمِّها، ومنهم مَنْ لا يُتبع، فيقول: وَيْلُمِّها بضم اللام، قال:

39 - وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ [وإخلافٌ وتَبِدِيلُ] ويُحتمل أن تكونَ هذه القراءة من رفعٍ وأن تكونَ مِنْ نصبٍ، لأنَّ الإِعرابَ مقدرٌ مَنَعَ من ظهورِه حركةُ الإِتباعِ. وقُرئ أيضاً: «لُلَّهِ» بضمِّ لامِ الجرِّ، قالوا: وهي إتباعٌ لحركة الدالِ، وفضَّلها الزمخشري على قراءة كسر الدال معتلاً لذلك بأنَّ إتباع حركة البناء لحركة الإِعراب أحسنُ من العكس وهي لغةُ بعضِ قيس، يُتْبعون الثاني للأول نحو: مُنْحَدُرٌ ومُقُبلِين، بضمِّ الدالِ والقافِ لأجلِ الميم، وعليه قُرئ: {مُرْدِفين} [الأنفال: 9] بضمِّ الراءِ إتباعاً للميمِ، فهذه أربعُ قراءاتٍ في «الحمدُ لله» وقد تقدَّم توجيهُ كلٍّ منها. ومعنى لام الجر هنا الاستحقاقُ، أي الحمدُ مستحقٌ لله، ولها معانٍ أُخَرُ، نذكرها الآن، وهي الملك والاستحقاق [نحو:] المالُ لزيد، الجُلُّ للفرس، والتمليك نحو: وَهَبْتُ لك وشبهِه، نحو: {جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل: 72] ، والنسب نحو: لزيد عَمُّ «والتعليلُ نحو: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس} [

النساء: 105] والتبليغ نحو: قلتُ لك، والتعجبُ في القسم خاصة، كقوله: 40 - للهِ يَبْقى على الأيام ذو حِيَدٍ ... بمُشْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والآسُ والتبيين نحو: قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] ، والصيرورةُ نحو قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] ، والظرفية: إمَّا بمعنى في، كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47] ، أو بمعنى عِنْد، كقولهم:» كتبتُه لخمسٍ «أي عند خمس، أو بمعنى بَعْدَ، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] أي: بعد دلوكها، والانتهاء، كقوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ} [فاطر: 13] ، والاستعلاء نحو قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} [الإسراء: 109] أي على الأذقان، وقد تُزاد باطِّراد في معمول الفعل مقدَّماً عليه كقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أو كان العاملُ فَرْعاً، نحوُ قولِه تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وبغيرِ اطًِّراد نحو قوله:

41 - ولمَّا أَنْ توافَقْنا قليلاً ... أنَخْنا للكلاكِل فارتَمَيْنا وأمَّا قوله تعالى: {قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] فقيلَ: على التضمين. وقيل هي زائدة. قوله {رَبِّ العالمين} : الربُّ لغةً: السيِّدُ والمالك والثابِت والمعبود، ومنه: 42 - أَرَبٌّ يبول الثُّعْلُبان برأسه ... لقد هانَ مَنْ بالَتْ عليه الثعالبُ والمُصْلِح. وزاد بعضُهم أنه بمعنى الصاحب وأنشد: 43 - قَدْ ناله ربُّ الكلاب بكفِّه ... بيضٌ رِهافٌ ريشُهُنَّ مُقَزَّعُ والظاهرُ أنه هنا بمعنى المالك، فليس هو معنى زائداً، وقيل: يكون بمعنى الخالق. واختلف فيه: هل هو في الأصل وصفٌ أو مصدرٌ؟ فمنهم مَنْ قال: هو وصفٌ ثم اختلف هؤلاء في وزنه، فقيل: هو على وزن فَعَل كقولك: نَمَّ يَنُمُّ فهو نَمٌّ، وقيل: وزنه فاعِل، وأصله رابٌّ، ثم حُذفت الألف لكثرةِ الاستعمال، كقولهم: رجل بارٌّ وبَرٌّ. ولِقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّم أنَّ بَرَّاً مأخوذٌ من بارّ بل هما صيغتان مستقلتان فلا ينبغي أن يُدَّعى أن ربَّاً أصله رابٌّ.

ومنهم من قال: هو مصدَر ربَّهُ يَرُبُّه رَبَّاً أي مَلَكَه، قال: «لأَنْ يَرُبَّني رجلٌ من قريش أحبُّ إليَّ أن يَرُبِّني رجلٌ من هوازن» ، فهو مصدَرٌ في معنى الفاعل، نحو: رجل عَدْلٌ وصَوم، ولا يُطلق على غير الباري تعالى إلا بقيدِ إضافة، نحو قوله تعالى: {ارجع إلى رَبِّكَ} [يوسف: 50] ، ويقولون: «هو ربُّ الدار وربُّ البعير» وقد قالَتْه الجاهلية للمَلِك من الناس من غير قَيْدٍ، قال الحارث بن حلزة: 44 - وهو الربُّ والشهيدُ على يَوْ ... مِ الحِيَارَيْنِ والبلاءُ بلاءُ وهذا من كفرهم. وقراءةُ الجمهور مجروراً على النعت لله أو البدل منه، وقُرئ منصوباً، وفيه ثلاثةُ أوجه: إمَّا [منصوبٌ] بما دَلَّ عليه الحمدُ، تقديره: أَحْمَدُ ربِّ العالمين، أو على القطعِ من التبعِيَّة أو على النداء وهذا أضعفُها؛ لأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف. وقُرئ مرفوعاً على القَطْعِ من التبعيَّة فيكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي هو ربُّ. وإذا قصد عُرِض ذِكْرُ القَطْعِ في التبعية فلنستطرِدْ ذكرَه لعمومِ الفائدةِ في ذلك: اعلم أن الموصوف إذا كان معلوماً بدون صفتهِ وكانَ الوصفُ مدحاً، أو ذَمَّاً أو ترحُّماً جاز في الوصفِ [التابع] الإِتباعُ والقطعُ، والقطعُّ إمَّا على النصب بإضمار فعل لائقٍ، وإمَّا على الرفع على خبر مبتدأ محذوف،

ولا يَجُوز إظهارُ هذا الناصبِ ولا هذا المبتدأ، نحو قَولِهم: «الحمدُ لله أهلَ الحمدِ» رُوِي بنصب «أهل» ورفعِه، أي: أعني أهلَ أو هو أهلُ الحمد. وإذا تكَرَّرت النعوتُ والحالةُ هذه كنتَ مخيَّراً بين ثلاثةِ أوجهٍ: إمّا إتْباعِ الجميع أو قطعِ الجميعِ أو قطعِ البعض وإتباعِ البعضِ، إلا أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ وقَطَعْتَ البعضَ وجب أن تبدأَ بالإِتباع، ثم تأتي بالقَطْعِ من غير عكسٍ، نحو: مَرَرْتُ بزيد الفاضلِ الكريمُ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوف بالجملة المقطوعة. والعالمين: خفضٌ بالإِضافةِ، علامةُ خفضِه الياءُ لجريانه مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، وهو اسمُ جمع لأن واحدَه من غير لفظِه، ولا يجوز أن يكونَ جمعاً لعالَم، لأنَّ الصحيحَ في «عالَم» أنه يُطلَقُ على كلِّ موجودٍ سوى الباري تعالى، لاشتقاقِه من العَلامة بمعنى أنه دالٌّ على صانعه، وعالَمون بصيغة الجمع لا يُطلق إلا على العقلاء دونَ غيرهم، فاستحالَ أن يكونَ عالَمون جمع عالَم؛ لأن الجمع لا يكون أخصَّ من المفرد، وهذا نظيرُ ما فعله سيبويه في أنَّ «أعراباً» ليس جمعاً لِ «عَرَب» لأن عَرَباً يُطلق على البَدَويّ والقَرويّ، وأعراباً لا يُطلق إلاَّ على البدوي دون القروي. فإنْ قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون «عالَمون» جمعاً ل «عالَم» مُراداً به العاقلُ دونَ غيره فيزولَ المحذورُ المذكورُ؟ أُجيبَ عن هذا بأنه لو جاز ذلك لجاز أن يقال: شَيْئون جمع شَيء مراداً به العاقلُ دونَ غيره، فدلَّ عدمُ جوازِه على عَدم ادِّعاء ذلك. وفي الجواب نظرٌ، إذ لقائلٍ أن يقول: شَيْئون مَنَعَ مِنه مانعٌ آخرٌ وهو كونُه ليس صفةً ولا علماً، فلا يلزم مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ «عالَمين» مراداً به العاقلُ، ويؤيِّد هذا ما نقل الراغب عن ابن عباس أن «عالَمين» إنما جُمع هذا الجمعَ لأنَّ المرادَ به

الملائِكةُ والجنُّ والإِنسُ، وقال الراغبُ أيضاً: «إن العالَم في الأصل اسمٌ لما يُعْلَم به كالطَابَع اسمٌ لما يُطْبَعُ به، وجُعِل بناؤه على الصيغةِ لكونِه كالآلة، فالعالَمُ آلةٌ في الدلالة على صانعهِ» ، وقال الراغب أيضاً: «وأمَّا جَمْعُه جَمْعَ السلامةِ فلكونِ الناسِ في جملتِهم، والإِنسانُ إذا شارك غيره في اللفظِ غَلَب حكمُه» ، وظَاهرُ هذا أن «عالَمين» يُطلَق على العُقلاءِ وغيرهم، وهو مخالفٌ لِما تقدَّم من اختصاصِه بالعُقلاءِ، كما زَعَم بعضُهم، وكلامُ الراغبِ هو الأصحُّ الظاهرُ.

3

نعت أو بدل، وقُرئا منصوبَيْنِ مرفوعَيْنِ، وتوجيه ذلك ما ذكر في {رَبِّ العالمين} ، وتقدَّم الكلامُ في اشتقاقهِما في البسملة/ فأغنى عن إعادته.

4

يجوز أن يكونَ صفةً أيضاً أو بَدَلاً، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً، وهو مشتقٌّ من المَلْك بفتح الميم، وهو الشدُّ والربط، قال الشاعر: 45 - مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها ... يَرَى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءها ومنه: «إملاكُ العَروسِ» ، لأنه عَقْدٌ وربط للنكاح. وقُرئ «مالِك» بالألف، قال الأخفش: «يقال: مَلِكٌ بَيِّنُ المُلْكِ

بضم الميم، ومالكٌ بيِِّنُ المَِلْكِ بفتح الميم وكسرها» ، ورُوِي ضَمُّها أيضاً بهذا المعنى. ورُوي عن العربِ: «لي في هذا الوادي مَلْك ومُلْك ومَلْك» مثلثةَ الفاء، ولكنَّ المعروف الفرقُ بين الألفاظ الثلاثة، فالمفتوحُ الشدٌّ والربطُ، والمضمومُ هو القهرُ والتسلُّطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ، ويكونُ باستحقاقٍ وغيره، والمكسورُ هو التسلطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ومَنْ لا يتأتَّى منه، ولا يكونُ إلا باستحقاق فيكونُ بين المكسور والمضموم عمومٌ وخصوصٌ من وجه. وقال الراغب: «والمِلْك - أي بالكسر - كالجنس للمُلْك - أي بالضم - فكل مِلْك - بالكسر - مُلك، وليس كل مُلك مِلكاً» ، فعلى هذا يكون بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ، وبهذا يُعرف الفرقُ بين مَلِك ومالِك، فإن مَلِكاً مأخوذ من المُلْك - بالضم، ومالِكاً مأخوذ من المِلْك بالكسر. وقيل: الفرقُ بينهما أن المَلِك اسمٌ لكل مَنْ يَمْلِكُ السياسة: إمَّا في نفسِه بالتمكُّن من زمام قُواه وصَرْفِها عَنْ هواها، وإمَّا في نفسه وفي غيره، سواءٌ تولَّى ذلك أم لم يتولَّ. وقد رجَّح كلٌّ فريقٍ إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يُسْقِط القراءةَ الأخرى، وهذا غير مَرْضِيٍّ، لأنَّ كلتيهما متواترةٌ، ويَدُلُّ على ذلك ما رُوي عن ثعلب أنه قال: [ «إذا اختلف الإِعرابُ في القرآن] عن السبعة لم أفضِّلْ إعراباً على إعراب في القرآن، فإذا خَرَجْتُ إلى الكلام كلامِ الناس فضَّلْتُ الأقوى» نقله أبو عمر الزاهد في «اليواقيت» . وقال الشيخ شهابُ الدين

أبو شامةَ: «وقد أكثر المصنفون في القراءات والتفاسير من الترجيحِ بين هاتين القراءتين، حتى إنَّ بعضَهُم يُبالِغُ في ذلك إلى حدٍّ يكاد يُسْقِطُ وجهَ القراءة الأخرى، وليس هذا بمحمودٍ بعد ثبوتِ القراءتين وصحةِ اتصافِ الربِّ تعالى بهما، ثم قال:» حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعةٍ وبهذه في رَكْعةٍ «ذكر ذلك عند قوله:» مَلِك يوم الدين ومالِك «. وَلْنذكرْ بعضَ الوجوه المرجِّحة تنبيهاً على معنى اللفظ لا على الوجهِ الذي قَصَدوه. فمِمَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ» مالك «أنها أمْدَحُ لعمومِ إضافتِه، إذ يقال:» مالِكُ الجِّن والإِنس والطير «، وأنشدوا على ذلك: 46 - سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الوجوهُ لوجهِه ... مَلِكِ الملوكِ ومالِكِ العَفْوِ وقالوا: «فلانٌ مالكُ كذا» لمَنْ يملكه، بخلاف «مِلك» فإنه يُضاف إلى غيرِ الملوك نحو: «مَلِك العرب والعجم» ، ولأنَّ الزيادةَ في البناءِ تدلُّ على الزيادةِ في المعنى كما تقدَّم في «الرحمن» ، ولأنَّ ثوابَ تالِيها أكثرُ من ثواب تالي «مَلِك» . وممَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ «مَلِك» ما حكاه الفارسي عن ابن السراج عن بعضِهم أنه وصَفَ نفسَه بأنه مالكُ كلِّ شيء بقوله: {رَبِّ العالمين} فلا فائدةَ في قراءةِ مَنْ قَرَأَ: «مالك» لأنها تكرارٌ، قال أبو عليّ: «ولا حُجَّة فيه لأنَّ في التنزيل مِثلَه كثيراً، يُذْكَرُ العامُّ ثم الخاصُّ، نحو: {هُوَ الله الخالق

البارىء المصور} [الحشر: 24] . وقال أبو حاتم:» مالِك «أَبْلَغُ في مدح الخالق، و» مَلِك «أبلغُ في مدحِ المخلوقِ، والفرقُ بينهما أن المالِكَ من المخلوقين قد يكون غيرَ مَلِك، وإذا كان الله تعالَى مَلِكاً كان مالكاً. واختاره ابن العربي. ومنها: أنها أعمُّ إذ تضاف للمملوك وغيرِ المملوك، بخلافِ» مالك «فإنه لا يُضاف إلاَّ للمملوك كما تقدَّم، ولإِشعارِه بالكثرةِ، ولأنه تمدَّح تعالَى بمالكِ المُلْك، بقوله تعالى:» قل اللَّهُمَّ مالكَ المُلْكِ «ومَلِك مأخوذ منه كما تقدم، ولم يتمدَّح بمالِك المِلك -بكسر الميم- الذي مالِكٌ مأخوذٌ منه. وقُرئَ مَلْك بسكون اللام، ومنه: 47 - وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ ... عَصَيْنا المَلْكَ فيها أنْ نَدِينا ومَليك. ومنه: 48 - فاقنَعْ بما قَسَم المَليكُ فإنَّما ... قَسَم الخلائِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُها ومَلِكي، وتُرْوَى عن نافع. إذا عُرف هذا فكونُ» مَلِك «نعتاً لله تعالى ظاهر، فإنه معرفةٌ بالإِضافة، وأمَّا» مالك «فإنْ أريد به معنى المُضِيِّ فجَعْلُه نعتاً واضحٌ أيضاً، لأنَّ إضافته

محضة فَيَتعرَّف بها، ويؤيِّد كونَه ماضِيَ المعنى قراءةُ مَنْ قرأ:» مَلَكَ يومَ الدين «، فجعل» مَلَك «فعلاً ماضياً، وإن أُريد به الحالُ أو الاستقبال فَيُشْكِلُ، لأنه: إمَّا أن يُجْعَلَ نعتاً لله ولا يجوز لأنَّ إضافةَ اسم الفاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبال غيرُ مَحْضَةٍ فلا يُعَرَّف، وإذا لم يتعرَّفْ فلا يكونُ نعتاً لمعرفةٍ، لِمَا عَرَفْتَ فيما تقدَّم من اشتراطِ الموافقةِ تعريفاً وتنكيراً، وإمَّا أن يُجْعَلَ بدلاً وهو ضعيف لأنَّ البدلَ بالمشتقات نادرٌ كما تقدَّم. والذي ينبغي أن يُقالَ: إنه نعتٌ على معنى أنَّ تقييدَه بالزمانِ غيرُ معتَبَرٍ، لأنَّ الموصوفَ إذا عُرِّفَ بوصفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غيرَ معتبرٍ، فكأنَّ المعنى - والله أعلم - أنه متصفٌ بمالكِ يومِ الدينِ مطلقاً، من غير نظرٍ إلى مضيٍّ ولا حالٍ ولا استقبالٍ، وهذا ما مالَ إليه أبو القاسم الزمخشري. وإضافةُ مالك ومَلِك إلى» يوم الدين «من باب الاتِّساع، إذ متعلَّقُهما غيرُ اليوم، والتقدير: مالكِ الأمرِ كله يومَ الدين. ونظيرُ إضافة «مالك» إلى الظرف هنا نظيرُ إضافة «طَبَّاخ» إلى «ساعات» من قول الشاعر: 49 - رُبَّ ابنَ عَمِّ لسُلَيْمى مُشْمَعِلّْ ... طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ إلا أنَّ المفعولَ في البيت مذكورٌ وهو «زادَ الكَسِل» ، وفي الآيةِ الكريمةِ غيرُ مذكورٍ للدلالةِ عليه. ويجوز أن يكونَ الكلامُ على ظاهرهِ من غيرِ تقديرِ حَذْفٍ. ونسبةُ المِلْكِ والمُلْك إلى الزمانِ في حقِّ الله تعالى غيرُ مُشْكِلَةٍ، ويؤيِّدُه

ظاهرُ قراءةِ مَنْ قرأ: «مَلَكَ يومَ الدينِ» فعلاً ماضياً فإن ظاهرَها كونُ «يوم» مفعولاً به. والإضافة على معنى اللام لأنها الأصل، ومنهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى «في» مستنداً إلى ظاهر قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33] ، قال: «المعنى مَكْرٌ في الليل، إذ الليل لا يُوصَف بالمكرِ، إنما يُوصَفُ به العقلاءُ، فالمكرُ واقعٌ فيه» . والمشهورُ أن الإِضافةَ: إمَّا على معنى اللام وإمَّا على معنى «مَنْ» ، وكونها بمعنى «في» غيرُ صحيح. وأمَّا قولُه تعالى: {مَكْرُ اليل} فلا دَلالةَ فيه، لأن هذا من باب البلاغة، وهو التجوُّزُ في أَنْ جَعَلَ ليلَهم ونهارَهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كثرةِ وقوعِه منهم فيهما، فهو نظيرُ قولهم: نهارُه صائمٌ وليلُه قائم، وقولِ الشاعر: 50 - أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسِلْسِلَةٍ ... والليلُ في قَعْرِ منحوتٍ من السَّاجِ لمًّا كانت هذه الأشياءُ يكثرُ وقوعُها في هذه الظروفِ وَصَفُوها بها مبالغةً في ذلك، وهو مذهبٌ حَسَنٌ مشهورٌ في كلامهم. واليومُ لغةً: القطعةُ من الزمان أيِّ زمنٍ كانَ من ليلٍ أو نهار، قال تعالى: {والتفت الساق بالساق إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} [القيامة: 29-30] ، وذلك كنايةٌ عن احتضارِ الموتى، وهو لا يختصُّ بليل ولا نهار، وأمَّا/ في العُرْف فهو من طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشمس. وقال الراغب: «اليومُ نعبِّر به عن وقت طلوعِ الشمس إلى غروبها» ، قلت: وهذا إنما ذكروه في النهارِ لا في اليوم، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرت لك.

والدِّيْنِ: مضافٌ إليه أيضاً، والمرادُ به هنا: الجزاءُ، ومنه قول الشاعر: 51 - ولم يَبْقَ سوى العُدْوا ... نِ دِنَّاهم كما دَانُوا أي جازَيْناهم كما جازونا، وقال آخر: 52 - واعلَمْ يقيناً أنَّ مُلْكَكَ زائلٌ ... واعلَمْ بأنَّ كما تَدِينُ تُدانُ ومثله: 53 - إذا مل رَمَوْنا رَمَيْناهُم ... ودِنَّاهُمُ مثلَ ما يَقْرِضُونا ومثله: 54 - حَصادُك يوماً ما زَرَعْتَ وإنما ... يُدانُ الفتى يوماً كما هو دائِنُ وله معانٍ أُخَرُ: العادَة، كقوله: 55 - كَدِينِك من أمِّ الحُوَيْرثِ قبلَها ... وجارتِها أمِّ الرَّباب بِمَأْسَلِ أي: كعادتك: ومثلُه: 5 - 6-

تقول إذا دَرَأْتُ لها وَضِيني ... أهذا دِينُه أبداً ودِينِي ودانَ عصى وأطاع، وذلَّ وعزَّ، فهو من الأضداد. والقضاءُ، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} [النور: 2] أي في قضائِه وحكمه، والحالُ، سُئل بعضُ الأعراب فقال: «لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه لأَجَبْتُكَ» أي: على حالة. والداءُ: ومنه قول الشاعر: 57 - يا دينَ قلبِك مِن سَلْمى وقد دِينا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويقال: دِنْتُه بفعلِه أَدِينُه دَيْناً ودِيناً - بفتح الدال وكسرها في المصدر - أي جازَيْتُه. والدِّينُ أيضاً: الطاعةُ، ومنه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً} [النساء: 125] أي: طاعةً، ويستعار للمِلَّة والشريعةِ أيضاً، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] يعني الإِسلام، بدليل قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] . والدِّينُ: سيرة المَلِك، قال زهير: 58 - لَئِنْ حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسَدٍ ... في دينِ عمروٍ وحالَتْ بينَنَا فَدَكُ يقال: دِينَ فلان يُدانُ إذا حُمِل على مكروهٍ، ومنه قيل للعبدِ، مَدين ولِلأمَةِ مَدِينة. وقيل: هو من دِنْتُه إذا جازيته بطاعته، وجَعَل بعضُهم المدينةَ من هذا الباب، قاله الراغب. وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظة عند ذِكْرِها.

5

«إياك» مفعولٌ مُقدَّمٌ على «نَعْبُدُ» ، قُدِّم للاختصاصِ، وهو واجبُ الانفصالِ. واختلفوا فيه: هل هو من قَبيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرةِ؟ فالجمهورُ على أنه مضمرٌ، وقال الزجاج: «هو اسم ظاهر» ، وترجيحُ القولين مذكورٌ في كتب النحو. والقائلونَ بأنه ضميرٌ اختلفوا فيه على أربعةِ أقوال، أحدُها: أنه كلَّه ضميرٌ. والثاني: أن: «إيَّا» وحدَه ضميرٌ وما بعده اسمٌ مضافٌ إليه يُبَيِّنُ ما يُراد به من تكلمٍ وغَيْبَةٍ وخطاب، وثالثُها: أن «إيَّا» وحدَه ضميرٌ وما بعدَه حروفُ تُبَيِّنُ ما يُراد به. ورابعها: أنَّ «إيَّا» عمادٌ وما بعده هو الضمير، وشَذَّت إضافتُه إلى الظاهرِ في قولهم: «إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيَّا الشَوابِّ» بإضافة «إيا» إلى الشَوابِّ، وهذا يؤيِّد قولَ مَنْ جَعَلَ الكافَ والهاءَ والياءَ في محل جرٍّ إذا قلت: إياك إياه إياي. وقد أَبْعَدَ بعضُ النحويين فَجَعَل له اشتقاقاً، ثم قال: هل هو مشتقٌ من «أَوّ» كقول الشاعر: 59 - فَأَوِّ لذِكْراها إذا ما ذَكَرْتُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أو من «آية» كقوله:

60 - لم يُبْقِ هذا الدهرُ من آيائِهِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهل وزنه إفْعَل أو فَعيل أو فَعُول ثم صَيَّره التصريف إلى صيغة إيَّا؟ وهذا الذي ذكره هذا القائل لا يُجْدِي فائدةً، مع أنَّ التصريف والاشتقاق لا يَدْخلان في المتوغِّل في البناء. وفيه لغاتٌ: أشهرُها كسرُ الهمزةِ وتشديدُ الياءِ، ومنها فتحُ الهمزةِ وإبدالُها هاءً مع تشديدِ الياء وتخفيفها. قال الشاعر: 61 - فَهِيَّاك والأمرَ الذي إنْ توسَّعَتْ ... مَواردُه ضاقَتْ عليك مصادِرُهْ [وقال بعضهم: إياك بالتخفيف مرغوبٌ عنه] ، لأنه يصير «شمسَك نعبد، فإنَّ إياةَ الشمس ضَوْءُها بكسر الهمزة، وقد تُفتح، وقيل: هي لها بمنزلة الهالة للقمر، فإذا حَذَفْتَ التاءَ مَدَدْتَ، قال: 62 - سَقَتْه إياةُ الشمسِ إلاَّ لِثاتِه ... أُسِفَّ فلم تَكْدِمْ عليه بإثْمِدِ وقد قُرئ ببعضها شاذاً، وللضمائر بابٌ طويلٌ وتقسيمٌ متسع لا يحتمله هذا الكتابُ، وإنما يأتي في غضونِه ما يليقُ به. ونعبُدُ: فعلٌ مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم، وقيل: لوقوعِه

موقعَ الاسم، وهذا رأيُ البصريين، ومعنى المضارعِ المشابِهُ، يعني أنه أشْبَه الاسمَ في حركاتِهِ وسَكَناتِهِ وعددِ حروفِهِ، ألا ترى أنَّ ضارباً بزنة يَضْرب فيما ذَكَرْتُ لك وأنه يَشِيع ويختصُّ في الأزمان، كما يشيعُ الاسمُ ويختصُّ في الأشخاصِ، وفاعلُه مستترٌ وجوباً لِما مرَّ في الاستعاذة. والعِبادة غاية التذلل، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفضالِ وهو الباري تعالى، فهي أبلغُ من العبودية، لأنَّ العبوديةَ إظهارُ التذلل، ويقال: طريق مُعَبَّد، أي مذلَّل بالوطء، قال طرفة: 63 - تباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتْبَعَتْ ... وَظِيفاً وظيفاً فوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ ومنه: العبدُ لذلَّته، وبعيرٌ مُعَبَّد: أي مُذَلَّل بالقَطِران. وقيل: العبادةُ التجرُّدُ، ويُقال: عَبَدْت الله بالتخفيف فقط، وعَبَّدْتُ الرجلَ بالتشديد فقط: أي ذَلَّلته أو اتخذتُه عبداً. وفي قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب، إذ لو جَرَى الكلامُ على أصلِه لقيل: الحمد الله، ثم قيل: إياه نعبدُ، والالتفاتُ: نوع من البلاغة. ومن الالتفات - إلا أنه عَكْسُ هذا - قولُه تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] ، ولم يقل: بكم. وقد التفت امرؤ القيس ثلاثةَ التفاتات في قوله:

64 - تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثمِدِ ... وبات الخَليُّ ولم تَرْقُدِ وباتَ وباتَتْ له ليلَةٌ ... كليلة ذي العائِرِ الأرْمَدِ وذلك من نبأٍ جاءني ... وخُبِّرْتُه عن أَبِي الأسودِ وقد خَطَّأ بعضُهم الزمخشري في جَعْلِه هذا ثلاثة التفاتات، وقال: بل هما التفاتان، أحدهما خروجٌ من الخطابِ المفتتحِ به في قوله: «ليلُك» إلى الغيبة في قوله: «وباتَتْ له ليلةٌ» ، والثاني: الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلم في قوله: «من نبأٍ جاءني وخُبِّرْتُه» . والجواب أن قوله أولاً: «تطاول ليلُك» فيه التفاتٌ، لأنه كان أصلُ الكلامِ أن يقولَ: تطاول ليلي، لأنه هو المقصودُ، فالتفت من مَقام التكلمِ إلى مقامِ الخطابِ، ثم من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، ثم من الغَيْبة إلى التكلمِ الذي هُوَ الأصلُ. وقُرئ شاذاً: «إِيَّاكَ يُعْبَدُ» على بنائِه للمفعول الغائبِ، ووجهُها على إشكالها: أنَّ فيها استعارةً والتفاتاً، أمّا الاستعارةُ فإنه استُعير فيها ضميرُ النصب لضمير الرفع، والأصل: أنت تُعْبَدُ، وهو شائعٌ كقولهم: عساك وعساه وعساني في أحد الأقوال، وقول الآخر: 65 - يابنَ الزُّبير طالما عَصَيْكا ... وطالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيكا فالكاف في «عَصَيْكا» نائِبةٌ عن التاء، والأصل: عَصَيْتَ. وأمَّا الالتفاتُ فكان من حقِّ هذا القارئ أن يقرأ: إياك تُعْبَدُ بالخطابِ، ولكنه التفتَ من الخطاب في «إيَّاك» إلى الغيبة في «يُعْبَدُ» ، إلا أنَّ هذا التفاتٌ غريب، لكونه في

جملة واحدةٍ/ بخلاف الالتفاتِ المتقدم. ونظيرُ هذا الالتفات قوله: 66 - أأنتَ الهلاليُّ الذي كنتَ مرةً ... سَمِعْنا به والأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ فقال: «به» بعد قوله: «أنت وكنت» . و «إيَّاك» واجبُ التقديمِ على عاملهِ، لأنَّ القاعدةَ أن المفعولَ به إذا كان ضميراً -لو تأخَّر عن عاملهِ وَجَبَ اتصالُه - وَجَب تقديمُه، وتحرَّزوا بقولهم: «لو تأخَّر عنه وَجَبَ اتصالَهُ» من نحو: «الدرهمَ إياه أعطيتُك» لأنك لو أَخَّرْتَ الضميرَ هنا فقلت: «الدرهمَ أعطيتُك إياه» لم يلزمِ الاتصالُ لِما سيأتي، بل يجوز: أعطيتُكه. والكلام في «إياك نَسْتعين» كالكلام في «إياك نعبدُ» والواو عاطفة، وهي من المُشَرِّكة في الإِعراب والمعنى، ولا تقتضي ترتيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيين. ولها أحكامٌ تختصُّ بها تأتي إن شاء الله تعالى. وأصل نَسْتعين: نَسْتَعْوِنُ مثل نَسْتَخْرِجُ في الصحيحِ، لأنه من العَوْنِ، فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو، فنُقِلَت إلى الساكن قبلها، فَسَكَنت الواوُ بعد النقلِ وانكسر ما قبلها فَقُلِبَتْ ياءً. وهذه قاعدةٌ مطردَة، نحو: ميزان ومِيقات وهما من الوَزْن والوَقْت. والسينُ فيه معناها الطلبُ، أي: نطلب منك العَوْنَ على العبادة، وهو أحدُ المعاني التي ل استفعل، وله معانٍ أُخَرُ: الاتخاذُ نحو: استعْبَدَه أي:

اتخذه عبداً، والتحول نحو: استحْجَرَ الطين أي: صار حَجَراً، ومنه قوله: «إن البُغاثَ بأرضِنا تَسْتَنْسِر» ، أي: تتحوَّل إلى صفة النسور، ووجودُ الشيء بمعنى ما صِيغ منه، نحو: استعظَمه أي وجدَه عظيماً، وعدُّ الشيء كذلك وإن لم يكنْ، نحو: استحسنه، ومطاوعةُ أَفْعَل نحو: أَشْلاه فاستشلى، وموافقتُه له أيضاً نحو: أَبَلَّ المريضُ واستبلَّ، وموافقةُ تفعَّل، نجو: استكبرَ بمعنى تكبَّر، وموافقةُ افتَعَلَ نحو: استعصمَ بمعنى اعتصم، والإِغناءُ عن المجردِ نحو: استكفَّ واستحيى، لم يُلْفَظْ لهما بمجردٍ استغناءً بهما عنه، وللإِغناءِ بِهِ عن فَعَل أي المجردِ الملفوظِ به نحو: استرجع واستعانَ، أي: رَجَع وحَلَق عانَتَه. وقرئ «نِسْتعين» بكسر حرفِ المضارعةِ، وهي لغةٌ مطردةٌ في حروف المضارعة، وذلك بشرطِ ألاَّ يكونَ حرفُ المضارعة ياء، لثقلِ ذلك. على أن بعضهم قال: يِيجَل مضارع وَجِلَ، وكأنه قصدَ إلى تخفيفِ الواو إلى الياء فَكَسر ما قبلها لتنقلبَ، وقد قرئ: {فإنهم يِيْلمونَ} [النساء: 104] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناء، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، وأن يكونَ المضارعُ من ماضٍ مكسورِ العينِ نحو: تِعْلم من عَلِمَ، أو في أوله همزة وصل نحو: نِسْتعين من استعان أو تاء مطاوعة نحو: نِتَعلَّم من تَعَلَّم، فلا يجوز في يَضْرِبُ ويَقْتُل كسرُ حرفِ المضارعة لعدمِ الشروط المذكورة. ومن طريف

ما يُحْكى أن ليلى الأخيلية من أهل هذه اللغة فدخلت ذات يومٍ على الحجَّاج وعنده النابغة الجعدي فذكرتْ شِدَّة البرد في بلادِها، فقال لها النابغة الجعدي وَعَرَفَ أنها تقع فيما أراد: فكيف تصنعون؟ ألا تَكْتَنُون في شدة البرد، فقالت: بلى، نِكْتَني، وكَسَرتِ النونَ، فقال: لو فَعْلْتُ ذلك لاغتسلْتُ، فضحك الحجاج وَخَجِلت ليلى. والاستعانة: طلبُ العَوْن، وهو المظاهَرَةُ والنُّصْرَةُ، وقَدَّم العبادةَ على الاستعانة لأنها وَصْلَةٌ لطلب الحاجة، وأطلق كُلاًّ من فِعْلي العبادة والاستعانة فلم يَذْكر لهما مفعولاً ليتناولا كلَّ معبودٍ به وكلَّ مستعانٍ، عليه، أو يكونُ المراد وقوع الفعل من غير نظرٍ إلى مفعولٍ نحو: {كُلوا واشربوا} [البقرة: 60] ، أي أَوْقِعوا هذين الفعلينِ.

6

قوله تعالى: {اهدنا الصراط} : إلى آخرها: اهْدِ: صيغةُ أمرٍ ومعناها الدعاءُ. وهذه الصيغةُ تَرِدُ لمعانٍ كثيرةٍ ذَكرها الأصوليون. وقال بعضهم: إنْ وَرَدَتْ صيغة افعَلْ من الأعلى للأَدنى قيل فيها أمرٌ، وبالعكس دعاءٌ، ومن المساوي التماسٌ. وفاعلُه مستترٌ وجوباً لما مَرَّ، أي: اهدِ أنت، ون مفعول أول، وهو ضميرٌ متصلٌ يكونُ للمتكلم مع غيرِه أو المعظِّم نفسَه، ويستعملُ في موضع الرفع والنصب والجر بلفظٍ واحدٍ: نحو: قُمنَا وضرَبَنَا زيدٌ وَمَرَّ بنا، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيرُه من الضمائر. وقد زعم بعض الناس أن الياء كذلك. تقول: أكرمَنَي وَمرِّ بي، وأنت تقومين يا هند، فالياء في المثال الأول منصوبةٌ المحلِّ، وفي الثاني مجرورتُه، وفي الثالث مرفوعتُه. وهذا ليس بشيء، لأن الياءَ في حالة الرفع ليست تلك الياءَ التي في حالة النصب والجر، لأن الأولى للمتكلمِ، وهذه للمخاطبةِ المؤنثةِ. وقيل: بل يشاركه لفظُ «هُمْ» ، تقول: هم نائمون وضربَهم ومررت بهم، ف «هم»

مرفوعُ المحلِّ ومنصوبُه ومجرورهُ بلفظٍ واحدٍ، وهو للغائِبِين في كل حال، وهذا وإن كان أقربَ من الأول، إلا أنه في حالة الرفع ضميرٌ منفصل، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متصلٌ، فافترقا، بخلاف «ن» فإن معناها لا يختلف، وهي ضمير متصلٌ في الأحوال الثلاثة. والصراطَ: مفعول ثان، والمستقيمَ: صفتُه، وقد تَبِعه في الأربعة من العشرة المذكورة. وأصل «هَدَى» أن يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجر وهو إمَّا: إلى أو اللام، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، ثم يُتَّسَعُ فيه، فيُحذَفُ الحرفُ الحرفُ فيتَعَدَّى بنفسِه، فأصلُ اهدِنا الصراط: اهدنا للصراط أو إلى الصراطِ، ثم حُذِف. والأمرُ عند البصريين مبنيٌّ وعند الكوفيين معرب، وَيدَّعون في نحو: «اضرب» أنَّ أصله: لِتَضْرِب بلام الأمر، ثم حُذِف الجازم وَتِبِعه حرفُ المضارعة وأُتِيَ بهمزة الوصل لأجلِ الابتداء بالساكن، وهذا ما لا حاجة إليه، وللردِّ عليهم موضع أَلْيَقُ به. ووزن اهْدِ: افْعِ، حُذِفَت لامُه وهي الياء حَمْلاً للأمر على المجزوم والمجزوم تُحذف منه لامُه إذَا كَانَتْ حرفَ علةٍ.

والهدايةُ: الإِرشادُ أو الدلالةُ أو التقدمُ، ومنه هَوادِي الخيل لتقدُّمِها قال امرؤ القيس: 67 - فَأَلْحَقَه بالهاديات ودونَه ... جواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيًّلِ أو التبيينُ نحو: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] . أي بَيَّنَّا لهم، أو الإِلهامُ، نحو: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] أي ألهمه لمصالِحه، أو الدعاءُ كقوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] أي داعٍ. وقيل هو المَيلُ، ومنه {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 56] ، والمعنى: مِلْ بقلوبنا إليك، وهذا غَلَطٌ، فإنَّ تَيْكَ مادة أخرى من هادَ يَهُود. وقال الراغب: «الهدايةُ دَلالةٌ بلطفٍ ومنه الهَدِيَّةُ وهوادي/ الوحش أي المتقدِّماتُ الهاديةُ لغيرها، وخُصَّ ما كان دلالةً بَهَدَيتُ، وما كان إعطاءً بأَهْديت. والصراطُ: الطريقُ المُسْتَسْهَل، وبعضُهم لا يقيِّدُه بالمستسهلِ، قال: 68 - فَضَلَّ عن نَهْج الصراطِ الواضِحِ ...

ومثله: 69 - أميرُ المؤمنين على صِراطٍ ... إذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مستقيمِ وقال آخر: 70 - شَحَنَّا أرضَهم بالخيلِ حتى ... تَرَكْناهُمْ أَذَلَّ من الصِّراطِ أي الطريق، وهو مشتق من السِّرْطِ، وهو الابتلاعُ: إمَّا لأن سالكه يَسْتَرِطه أو لأنه يَسْتَرِط سالكَه، ألا ترى إلى قولهم: «قَتَلَ أرضاً عالِمُها وقتلت أرضٌ جاهلَهَا» ، وبهذين الاعتبارين قال أبو تمام: 71 - رَعَتْه الفيافي بعدما كان حِقْبةً ... رعاها وماءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ ساكِبُهْ وعلى هذا سُمِّي الطريق لَقَماً ومُلْتَقِماً لأنه يلتقِمُ سالكه أو يلتقمُه سَالِكُه. وأصلُه السينُ، وقد قَرَأ به قنبل حيث وَرَدَ، وإنما أُبدلَتْ صاداً لأجل حرف الاستعلاء وإبدالُها صاداً مطردٌ عنده نحو: صَقَر في سَقَر، وصُلْح في سُلْح، وإصْبَع في اسبَع، ومُصَيْطِر في مُسَيْطر، لما بينهما من التقارب.

وقد تُشَمُّ الصادُ في الصراطِ ونحوهِ زاياً، وقرأ به خلف حيث وَرَد، وخلاَّد الأول فقط، وقد تُقْرَأ زاياً مَحْضَةً، ولم تُرْسم في المصحف إلا بالصادِ مع اختلافِ قراءاتِهم فيها كما تقدم. والصِّراطُ يُذَكَّر ويؤنَّث، فالتذكيرُ لغة تميم، وبالتأنيث لغة الحجاز، فإنْ استُعْمل مذكَّراً جُمِعَ في القلة على أَفْعِلة، وفي الكثرة على فُعُل، نحو: حِمار وأَحْمِرة وحُمُر، وإن استعمل مؤنثاً فقياسُه أَن يُجْمع على أَفْعُل نحو: ذِراع وأَذْرُع. والمستقيم: اسم فاعل من استقام بمعنى المجرد، ومعناه السويُّ من غير اعوجاج وأصله: مُسْتَقْوِم، ثم أُعِلَّ كإعلالِ نَسْتعين، وسيأتي الكلامُ مستوفى على مادته عند قوله تعالى: {يُقِيمُونَ الصلاة} .

7

قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين} : بدلٌ منه بدلُ كلٍ من كل، وهو بدلُ معرفةٍ من معرفة، والبدلُ سبعة أقسام، على خلافٍ في بعضها، بدلُ كلٍ من كل، بدلُ بعض من كل، بدلُ اشتمال، بدل غلط، بدل نسيان، بدل بَداء، بدل كل من بعض. أمّا الأقسامُ الثلاثة الأُوَلُ فلا خلافَ فيها، وأمّا بَدَلُ البَدَاء فأثبته بعضهم مستدلاً بقوله عليه السلام: «إنَّ الرجل ليصلي الصلاةَ، وما كُتب له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى العُشْر» ، ولا يَرِدُ هذا في

القرآن، وأمّا الغَلطُ والنِّسيانُ فأثبتهما بعضُهم مستدلاً بقول ذي الرمة: 72 - لَمْياءُ في شفَتْيها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ قال: لأنَّ الحُوَّة السوادُ الخالص، واللَّعَسُ سوادٌ يَشُوبه حمرة. ولا يَرِدُ هذان البدلان في كلامٍ فصيحٍ، وأمَّا بدلُ الكلِّ من البعضِ فأثبته بعضُهم مستدلاً بظاهر قوله: 73 - رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوها ... بسجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ وفي روايةِ مَنْ نَصَبَ «طلحة» قال: لأن الأعظُمَ بعضُ طلحة، وطلحة كلٌ، وقد أُبْدِل منها، واستدلَّ على ذلك أيضاً بقول امرئ القيس: 74 - كأني غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلوا ... لدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ فغذاةَ بعضُ اليوم، وقَد أبدل «اليومَ» منها. ولا حُجَّة في البيتين، أمَّا الأولُ: فإن الأصل: أعظُماً دفنُوها أعظمَ طلحة، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضاف إليه مُقامه، ويَدُلُّ على ذلك الروايةُ المشهورة وهي جر «طلحة» ، على أن الأصل: أعظُمَ طلحة، ولم يُقِم المضافَ إليه مُقامَ المضاف، وأمَّا الثاني فإن اليوم يُطلق على القطعة من الزمان كما تقدَّم. ولكلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب دلائلُ وإيرادات وأجوبةٌ، موضوعُها كتب النحو.

وقيل: إن الصراطَ الثاني غيرُ الأول والمرادُ به العِلْمُ بالله تعالى، قاله جعفر بن محمد، وعلى هذا فتخريجُه أن يكونَ معطوفاً حُذِف منه حرفُ العطفِ وبالجملةِ فهو مُشْكِلٌ. والبدلُ ينقسِمُ أيضاً إلى بدلِ معرفةٍ من معرفة ونكرةٍ من نكرة ومعرفةٍ من نكرة ونكرة من معرفة، وينقسم أيضاً إلى بدلِ ظاهرٍ من ظاهرٍ ومضمرٍ من مضمرٍ وظاهرٍ من مضمر ومضمرٍ من ظاهر. وفائدةُ البدلِ: الإِيضاحُ بعد الإِبهام، ولأنه يُفيد تأكيداً من حيث المعنى إذ هو على نيَّةِ تكرارِ العاملِ. و «الذين» في محلِّ جرٍّ بالإِضافة، وهو اسمٌ موصولٌ لافتقارِه إلى صلةٍ وعائدٍ وهو جمع «الذي» في المعنى، والمشهورُ فيه أن يكون بالياء رفعاً ونصباً وجراً، وبعضهم يرفعه بالواو جَرْياً له مَجْرى جمعِ المذكر السالم ومنه: 75 - نحن اللذونَ صَبَّحوا الصَّباحا ... يومَ النُّخَيْلِ غَارةً مِلْحاحَا وقد تُحْذف نونه استطالةً بصلتِه، كقوله: 76 - وإنَّ الذي حَانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ ... هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ ولا يقع إلا على أولي العلم جَرْياً به مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، بخلاف مفرده، فإنه يقع على أولي العلمِ وغيرهم. وأَنْعَمْتَ: فعلٌ وفاعلٌ صلةُ الموصول، والتاءُ في «أنعمتَ» ضميرُ

المخاطبِ ضميرٌ مرفوعٌ متصلٌ. و «عليهم» جارٌّ ومجرور متعلقٌ بأَنْعمت، والضميرُ هوالعائد وهو ضميرُ جمعِ المذكَّرِين العقلاءِ، ويستوي لفظُ متصلهِ ومنفصلهِ. والهمزة في «أَنْعمت» لجَعْلِ الشيء صاحبَ ما صيغ منه فحقُّه أن يتعدَّى بنفسه ولكنه ضُمِّن معنى تفضَّل فتعدَّى تعديَتَه. ولأفعل أربعةٌ وعشرون معنى، تقدَّم واحدٌ، والباقي: التعديةُ نحو: أخرجته، والكثرة نحو: أظبى المكان أي كَثُر ظِباؤه، والصيرورة نحو: أَغَدَّ البعير صار ذا غُدَّة، والإِعانة نحو: أَحْلَبْتُ فلاناً أي أَعَنْتُه على الحَلْب، والسَّلْب نحو: أَشْكَيْتُه أي: أَزَلْتُ شِكايته، والتعريض نحو: أَبَعْتُ المتاعَ أي: عَرَضْتُه للبيع، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو: أَحْمدته أي وجدتُه محموداً، وبلوغُ عدد نحو: أَعْشَرَتِ الدراهم، أي: بَلَغَتْ عشرةً، أو بلوغُ زمانٍ نحو أَصْبح، أو مكان نحو: أَشْأَمَ، وموافقهُ الثلاثي نحو: أَحَزْتُ المكانِ بمعنى حُزْته، أو أغنى عن الثلاثي نحو: أَرْقَلَ البعير، ومطاوعة فَعَل نحو: قَشَع الريحُ فَأقْشع السحابُ، ومطاوعة فَعَّل نحو: قَطَّرْته فَأَقْطَرَ، ونفي الغزيرة نحو: أَسْرع، والتسمية نحو: أخْطَأْتُه أي سَمَّيْتُه مخطئاً، والدعاء نحو: أَسْقيته أي قلت له: سَقاك الله، والاستحقاق نحو: أَحْصَدَ الزرعُ أي استحق الحصاد، والوصولُ نحو: أَعْقَلْته، أي: وَصَّلْتُ عَقْلِي إليه، والاستقبال نحو/: أفَفْتُه أي استقبلته بقولي أُفّ، والمجيء بالشيء نحو: أكثرتُ أي جئتُ بالكثير، والفرقُ بين أَفْعَل وفَعَل نحو: أشرقت الشمس أضاءت، وشَرَقَتْ: طَلَعت، والهجومُ نحو: أَطْلَعْتُ على القوم أي: اطَّلَعْتُ عليهم.

و «على» حرف استعلاء حقيقةً أو مجَازاً، نحو: عليه دَيْنٌ، ولها معانٍ أُخَرُ، منها: المجاوزة كقوله: 77 - إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر ... لَعَمْرُ الله أعجبني رضاها أي: عني، وبمعنى الباء: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ} [الأعراف: 105] أي بأَنْ، وبمعنى في: {مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] أي: في ملك، والمصاحبة نحو: {وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى} [البقرة: 177] والتعليل نحو: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ، أي: لأجل هدايته إياكم، وبمعنى مِنْ: {حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 5 - 6] أي: إلا من أزواجهم، والزيادة كقوله: 78 - أبى الله إلاَّ أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ ... على كلِّ أَفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ لأن «تروق» يتعدَّى بنفسه، ولكلِّ موضعٍ من هذه المواضع مجالٌ للنظر. وهي مترددةٌ بين الحرفية والاسمية، فتكونُ اسماً في موضعين، أحدُهما: أَنْ يدخلَ عليها حرفُ الجر كقوله:

79 - غَدَتْ مِنْ عليه بعد ما تَمَّ ظِمْؤُها ... تَصِلُ وعن قَيْضٍ بزَيْزَاءَ مَجْهَلِ ومعناها معنى فوق، أي من فوقه، والثاني: أن يُؤَدِّيَ جَعْلُها حرفاً إلى تعدِّي فعلِ المضمرِ المنفصل إلى ضميرِه المتصلِ في غيرِ المواضعِ الجائزِ فيها ذلك كقوله: 80 - هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ ... بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها ومثلُها في هذين الحكمين: عَنْ، وستأتي إن شاء الله تعالى. وزعم بعضُهم أنَّ «على» مترددة بين الاسم والفعل والحرف: أمَّا الاسمُ والحرفُ فقد تقدَّما، وأمَّا الفعلُ قال: فإنك تقول: «علا زيدٌ» أي ارتفع وفي هذا نظرٌ، لأنَّ «على» إذا كان فعلاً مشتقٌ من العلوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً فلا اشتقاقَ له فليس هو ذاك، إلا أنَّ هذا القائلَ يَرُدُّ هذا النظرَ بقولهم: إن خَلاَ وعدا مترددان بين الفعلية والحرفية، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر. والأصل في هاء الكناية الضمُّ، فإنْ تقدَّمها ياءٌ ساكنة أو كسرة كسرها غيرُ الحجازيين، نحو: عَلَيْهِم وفيهم وبهم، والمشهورُ في ميمها السكونُ قبل متحرك والكسرُ قبل ساكنٍ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاءَ، أمّا إذا ضَمَمْتَ فالكسرُ ممتنعٌ إلا في ضرورة كقوله: «وفيهُمِ الحكام» بكسر الميم. وفي «عليهم» عشر لغات قُرئ ببعضها: عليهِمْ الهاء وضمِّها

مع سكون الميم، عليهِمي، عَلَيْهُمُ، عليهِمُو: بكسر الهاء وضم الميم بزيادة الواو، عليهُمي بضم الهاء وزيادة ياء بعد الميم أو بالكسر فقط، عليِهِمُ بكسر الهاء وضم الميم، ذكر ذلك أبو بكر ابن الأنباري. و «غيرِ» بدلٌ من «الذين» بدلُ نكرة من معرفة، وقيل: نعتٌ للذين وهو مشكلٌ لأن «غير» نكرةٌ و «الذين» معرفةٌ، وأجابوا عنه بجوابين: أحدهما: أن «غير» إنما يكون نكرةً إذا لم يقع بين ضدين، فأمَّا إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغَيْريَّةُ فيتعرَّفُ «غير» حينئذٍ بالإِضافة، تقول: مررتُ بالحركة غير «السكون» والآيةُ من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب ابن السراج وهو مرجوح. والثاني: أن الموصولَ أَشْبَهَ النكرات في الإِبهام الذي فيه فعومل معاملةَ النكراتِ، وقيل: إنَّ «غير» بدلٌ من الضمير المجرور في «عليهم» ، وهذا يُشْكِلُ على قول مَنْ يرى أن البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه، ويُنوَى بالأول الطرحُ، إذ يلزم منه خَلوُّ الصلة من العائدِ، ألا ترى أنَّ التقديرَ يصير: صراطَ الذين أنعمت على غيرِ المغضوبِ عليهم. و «المغضوب» : خفضٌ بالإِضافةِ، وهو اسمُ مفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرور، ف «عَليهم» الأولى منصوبةُ المحلِّ والثانيةُ مرفوعتُه، وأَلْ فيه موصولةٌ والتقديرُ: غيرِ الذين غُضِبَ عليهم. والصحيحُ في ألْ الموصولة أنها اسمٌ لا حرفٌ. واعلَمْ أنَّ لفظَ «غير» مفردٌ مذكرٌ أبداً، إلا أنه إنْ أريد به مؤنثٌ جاز تأنيثُ فعلِه المسندِ إليه، تقول: قامت غيرُك، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفةٌ بمعنى اسم الفاعل وهو مغايرٌ، ولذلك لا يتعرَّف بالإِضافة،

وكذلك أخواتُها، أعني نحوَ: مثل وشِبْه وشبيه وخِدْن وتِرْب، وقد يُستثنى بها حَمْلاً على «إلاّ» ، كما يوصف بإلاّ حَمْلاً عليها، وقد يُرَاد بها النفيُ ك لا، فيجوز تقديمُ معمولِ معمولها عليها كما يجوز في «لا» تقول: أنا زيداً غيرُ ضاربٍ، أي غير ضاربٍ زيداً، ومنه قول الشاعر: 81 - إنَّ امرأً خَصَّني عَمْداً مودَّتَه ... على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ تقديرُه: لغيرُ مكفورٍ عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كَانَتْ لغير النفي، لو قلت: جاء القومُ زيداً غيرَ ضاربٍ، تريد: غيرَ ضاربٍ زيداً لم يَجُزْ، لأنها ليست بمعنى «لا» التي يجوز فيها ذلك على الصحيح من الأقوالِ في «لا» . وفيها قولٌ ثانٍ يمنعُ ذلك مطلقاً، وقولٌ ثالثٌ: مفصِّلٌ بين أن تكونَ جوابَ قَسَمٍ فيمتنعَ فيها ذلك وبين أن لا تكونَ فيجوزَ. وهي من الألفاظ الملازمة للإِضافة لفظاً أو تقديراً، فإدخالُ الألفِ واللامِ عليها خطأٌ. وقرئ «غيرَ» نصباً، فقيل: حالٌ من «الذين» وهو ضعيفٌ لمجيئهِ من المضافِ إليه في غير المواضعِ الجائزِ فيها ذلك، كما ستعرِفُه إن شاء الله تعالى، وقيل: من الضمير في «عليهم» وقيل: على الاستثناءِ المنقطعِ، ومنعه الفراء قال: لأن «لا» لا تُزاد إلا إذا تقدَّمها نفيٌ، كقوله:

82 - ما كان يرضى رسولُ الله فِعْلَهما ... والطيبان أبو بكرٍ ولا عُمَرُ وأجابوا بأنَّ «لا» صلةٌ زائدةٌ، مِثْلُها في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] وقول الشاعر: 83 - وما ألومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقول الآخر: 84 - وَيلْحَيْنَني في اللهو ألاَّ أُحِبُّه ... وللَّهوِ داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ وقول الآخر: 85 - أبى جودُه لا البخلَ واستعجلتْ نَعَمْ ... به مِنْ فتىً لا يمنعُ الجودَ نائِلُه ف «لا» في هذه المواضع صلةٌ. وفي هذا الجواب نظرٌ، لأن الفراء لَمْ يَقُلْ إنها غيرُ زائدة، فقولُهم: إن «لا» زائدةٌ في هذه الآية وتنظيرهُم لها بالمواضع المتقدمة لا يفيد/، وإنما تحريرُ الجواب أن يقولوا: وُجِدَتْ «لا» زائدةً من غير تقدُّم نفي كهذه المواضعِ المتقدمة. وتحتملُ أن تكونَ «لا» في قوله: «لا البخلَ» مفعولاً به ل «أبى» ، ويكونَ نصبُ «البخلَ» على أنه بدلٌ من «لا» ، أي أبى جودُه قولَ لا، وقولُ لا هو البخلُ، ويؤيِّدُ هذا قولُه: «واستعجَلَتْ

به نَعَمْ» فَجَعَلَ «نَعَم» فاعلَ «استعجَلَتْ» ، فهو من الإِسناد اللفظي، أي أبى جودُه هذا اللفظ، واستعجل به هذا اللفظُ. وقيل: إنَّ نَصْبَ «غيرَ» بإضمار أعني، ويُحكى عن الخليل. وقدَّر بعضُهم بعد «غير» محذوفاً، قال: التقديرُ: غيرَ صراطِ المغضوبِ، وأَطْلَقَ هذا التقديرَ، فلم يقيِّدْه بجرِّ «غير» ولا نصبِه، ولا يتأتَّى إلا مع نصبها، وتكون صفةً لقوله: {الصراط المستقيم} ، وهذا ضعيفٌ، لأنه متى اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ، فالأولى أن يكون صفةً ل «صراطَ الذين» ويجوز أن تكونَ بدلاً من {الصراط المستقيم} أو من {صِرَاطَ الذين} إلا انه يلزم منه تكرارُ البدل، وفي جوازِه نظرٌ، وليس في المسألة نقلٌ، إلا انهم قد ذكروا ذلك في بدلِ البَداء خاصة، أو حالاً من «الصراط» الأول أو الثاني. . . واعلم أنه حيث جَعَلْنَا «غير» صفةً فلا بد من القول بتعريف «غير» أو بإبهامِ الموصوف وجريانه مَجْرى النكرةِ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك في القراءة بجرِّ «غير» . و «لا» في قوله: {وَلاَ الضآلين} زائدةٌ لتأكيد معنى النفي المفهومِ من «غير» لئلا يُتَوَهَّم عَطْفُ «الضالِّين» على {الذين أَنْعَمْتَ} وقال الكوفيون: هي بمعنى «غير» ، وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صُرِّح ب «غير» كانَتْ للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخطاب. و «الضَّالين» مجرورٌ عطفاً على «المغضوب» ، وقُرِئَ شاذاً: الضَّأَلِّين بهمز الألف، وأنشدوا:

86 - وللأرضِ أمَّا سُودُها فَتَجلَّلَتْ ... بياضاً وأمَّا بِيضُها فادْهََأمَّتِ قال أبو القاسم الزمخشري: «فعلوا ذلك للجَدّ في الهرب من التقاء الساكنين» انتهى وقد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان، قال الشاعر: 87 - فخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَألَمِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بهمز «العَأْلَمِ» وقال آخر: 88 - ولَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بهمز ألف «زَوْزأة» ، والظاهر أنها لغةٌ مُطَّردةٌ، فإنهم قالوا في قراءة ابن ذكوان: «مِنْسَأْتَه» بهمزة ساكنة: إن أصلَها ألفٌ فقُلِبَتْ همزةً ساكنةً. فإن قيل: لِمَ أتى بصلة الذين فعلاً ماضياً؟ قيلٍ: لِيَدُلَّ ذلِك على ثبوتِ إنعام الله عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة أل اسماً ليشمل سائرَ الأزمانِ، وجاء به مبنياً للمفعول تَحْسِيناً للفظ، لأنَّ مَنْ طُلِبتْ منه الهدايةُ

ونُسِب الإِنعامُ إليه لا يناسِبُه نسبةُ الغضبِ إليه، لأنه مَقامُ تلطُّفٍ وترفُّق لطلبِ الإِحسانِ فلا يُحْسُنُ مواجَهَتُه بصفةِ الانتقام. والإِنعام: إيصالُ الإِحسان إلى الغير، ولا يُقال إلا إذا كان الموصَلُ إليه الإِحسانُ من العقلاءِ، فلا يقال: أَنْعم فلانٌ على فرسِه ولا حماره. والغضبُ: ثَورَان دم القلب إرادَة الانتقامِ، ومنه قولُه عليه السلام: «اتقوا الغضبَ فإنه جَمْرةٌ تُوقَدُ في قلب ابن آدم، ألم تَرَوْا إلى انتفاخ أَوْداجه وحُمْرةِ عينيه» ، وإذا وُصف به الباري تعالى فالمرادُ به الانتقام لا غيره، ويقال: فلانٌ غَضَبة «إذا كان سريعَ الغضبِ. ويقال: غضِبت لفلانٍ [إذا كان حَيًّا] ، وغضبت به إذا كان ميتاً، وقيل: الغضبُ تغيُّر القلبِ لمكروهٍ، وقيل: إن أريدَ بالغضبِ العقوبةُ كان صفةَ فِعْلٍ، وإنْ أريدَ به إرادةُ العقوبةِ كان صفةَ ذاتٍ. والضَّلال: الخَفاءُ والغَيْبوبةُ، وقيل: الهَلاك، فمِن الأول قولُهم: ضَلَّ الماءُ في اللبن، وقوله: 89 - ألم تسأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيارُ ... عن الحيِّ المُضَلَّلِ أين ساروا والضَّلْضَلَةُ: حجرٌ أملسُ يَردُّه السيلُ في الوادي. ومن الثاني: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] ، وقيل: الضلالُ: العُدول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّر به عن النسيان كقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] بدليلِ قوله: {فَتُذَكِّرَ} .

القول في «آمين» : ليست من القرآن إجماعاً، ومعناها: استجِبْ، فهي اسمُ فعلٍ مبنيٌ على الفتحِ، وقيل: ليس باسم فِعْل، بل هو من أسماءِ الباري تعالى والتقدير: يا آمين، وضَعَّفَ أبو البقاء هذا بوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يُبنى على الضم لأنه منادى مفردٌ معرفةٌ، والثاني: أن أسماءَ الله تعالى توقيفيةٌ. ووجَّه الفارسي قولَ مَنْ جعله اسماً لله تعالى على معنى أنَّ فيه ضميراً يعودُ على اللهِ تعالى: لأنه اسمُ فعلٍ، وهو توجيهٌ حسنٌ، نقله صاحب «المُغْرِب» . وفي آمين لغتان: المدُّ والقصرُ، فمن الأول قوله: 90 - آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدةٍ ... حتى أُبَلِّغَهَا ألفينِ آمينا وقال الآخر: 91 - يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً ... ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا ومن الثاني قوله: 92 - تباعَدَ عني فُطْحُلٌ إذ دعوتُه ... آمينَ فزاد الله ما بيننا بُعْدا وقيل: الممدودُ اسمٌ أعجمي، لأنه بزنة قابيل وهابيل. وهل يجوز

تشديدُ الميم؟ المشهورُ أنه خطأ نقله الجوهري، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفَر الصادق التشديدُ، وهو قولُ الحسين بن الفضل من أمِّ إذا قصد، أي نحن قاصدون نحوك، ومنه {ولا آمِّينَ البيت الحرام} [المائدة: 2] .

البقرة

إنْ قيل: إن الحروفَ المقطَّعة في أوائل السور أسماءُ حروفِ التهجِّي، بمعنى أن الميم اسْمٌ لمَهْ، والعينَ اسمٌ لعَهْ، وإن فائدتَها إعلامُهم بأن هذا القرآنَ منتظمٌ مِنْ جنس ما تَنْظِمون منه كلامَكم ولكن عَجَزْتُمْ عنه، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب، وإنما جيء بها لهذه الفائدةِ فأُلقيت كأسماءِ الأعدادِ نحو: واحد اثنان، وهذا أصحُّ الأقوالِ الثلاثة، أعني أنَّ في الأسماء التي لم يُقْصَدِ الإِخبارُ عنها ولا بها ثلاثةَ أقوالٍ، أحدها: ما تقدَّم. والثاني: أنها مُعْرَبَةٌ، بمعنى أنها صالحة للإِعراب وإنما فات شرطٌ وهو التركيبُ، وإليه مالَ الزمخشري. والثالث: أنها موقوفةٌ لا معربةٌ ولا مبنيةٌ. أو إنْ قيل: إنها أسماءُ السورِ المفتتحةِ بها، أو إنها بعضُ أسماءِ الله تعالى حُذِف بعضُها، وبقي منها هذه الحروفُ دالَّةٌ عليها وهو رأيُ ابن عباس، كقوله: الميم من عليهم والصاد من صادق فلها حينئذٍ محلُّ إعرابٍ، ويُحْتَمَلُ الرفعُ والجرُّ/،

فالرفعُ على أحد وجهين: إمَّا بكونها مبتدأ، وإمَّا بكونها خبراً كما سيأتي بيانُه مفصَّلاً. والنصب على أحَدِ وجهين أيضاً: إمَّا بإضمار فعلٍ لائقٍ تقديرُه: اقرَؤوا: ألم، وإمَّا بإسقاطِ حرف القسم كقول الشاعر: 93 - إذا ما الخبزُ تَأْدِمُه بلَحْمٍ ... فذاك أمانةَ الله الثريدُ يريد: وأمانةِ الله، وكذلك هذه الحروفُ، أقسم الله تعالى بها، وقد ردَّ الزمخشري هذا الوجه بما معناه: أنَّ «القرآن» في {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] و «القلم» في: {ن والقلم} [القلم: 1] محلوفٌ بهما لظهور الجرِّ فيهما، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَلَ الواوُ الداخلةُ عليهما للقسم أو للعطف، والأول يلزم منه محذورٌ، وهو الجمع بين قسمين على مُقْسَم، قال: «وهم يستكرهون ذلك» ، والثاني ممنوعٌ لظهور الجرِّ فيما بعدها، والفرضُ أنك قدَّرْتَ المعطوفَ عليه في محلِّ نصب. وهو ردٌّ واضح، إلا أَنْ يقال: هي في محلِّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجرُّ بعدَه كالموضعين المتقدمين و {حموالكتاب} [الزخرف: 1-2] و {ق والقرآن} [ق: 1] ولكن القائل بذلك لم يُفَرِّقْ بين موضعٍ وموضعٍ فالردُّ لازمٌ له. والجرُّ من وجهٍ واحدٍ وهو أنَّها مُقْسَمٌ بها، حُذِف حرف القسم، وبقي

عملُه كقولهم: «واللهِ لأفعلنَّ» ، أجاز ذلك أبو القاسم الزمخشري وأبو البقاء. وهذا صعيفٌ لأن ذلك من خصائص الجلالة المعظمة لاَ يَشْرَكُها فيه غيرُها. فتلخَّص ممَّا تقدم: أن في «الم» ونحوها ستةَ أوجه وهي: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، أو لها محلٌّ، وهو الرفعُ بالابتداء أو الخبر، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ أو حَذْفِ حرف القسم، والجرٌّ بإضمارِ حرفِ القسم. وأمَّا «ذلك الكتاب» فيجوز في «ذلك» أن يكون مبتدأ ثانياً والكتابُ خبرُه، والجملةُ خبرُ «ألم» ، وأغنى الربطُ باسمِ الإِشارة، ويجوز أن يكونَ «الم» مبتدأً و «ذلك» خبره و «الكتاب» صفةٌ ل «ذلك» أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان، وأن يكونَ «ألم» مبتدأً و «ذلك» مبتدأ ثان، و «الكتاب» : إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان له. و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ عن المبتدأ الثاني، وهو وخبرهُ خبرٌ عن الأول، ويجوز أن يكونَ «ألم» خبرَ مبتدأ مضمرٍ، تقديرُه: هذه ألم، فتكونُ جملةً مستقلةً بنفسها، ويكونُ «ذلك» مبتدأ ثانياً، و «الكتابُ» خبرُه، ويجوز أن يكونَ صفةً له أو بدلاً أو بياناً و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} هو الخبرُ عن «ذلك» ، أو يكون «الكتابُ» خبراً ل «ذلك» و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ ثانٍ، وفيه نظرٌ من حيث إنه تعدَّد الخبرُ وأحدُهما جملةٌ، لكنَّ الظاهرَ جوازُه كقوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20] إذا قيل إنَّ «تَسْعَى» خبرٌ، وأمَّا إن جُعِل صفةً فلا. وقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} يجوز أن يكونَ خبراً كما تقدَّم بيانُه، ويجوز أَنْ تكونَ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والعاملُ فيه معنى الإِشارة،

و «لا» نافيةٌ للجنس محمولةٌ في العمل على نقيضتها «إنَّ» ، واسمُها معربٌ ومبنيٌّ، فيُبْنَى إذا كان مفرداً نكرةً على ما كان يُنْصَبُ به، وسببُ بنائِه تضمُّنُهُ معنى الحرفِ، وهو «مِنْ» الاستغراقية يدلُّ على ذلك ظهورُها في قول الشاعر: 94 - فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسيفِه ... فقال: ألا لا مِن سبيلٍ إلى هندِ وقيل: بُني لتركُّبِه معها تركيبَ خمسةَ عشرَ وهو فاسدٌ، وبيانُه في غير هذا الكتابِ. وزعم الزجاج أنَّ حركةَ «لا رجلَ» ونحوِه حركةُ إعراب، وإنما حُذِف التنوين تخفيفاً، ويدل على ذلك الرجوعُ إلى هذا الأصلِ في الضرورةِ، كقوله: 95 - ألا رجلاً جزاه اللهُ خيراً ... يَدُلُّ على مُحَصِّلَةٍ تَبيتُ ولا دليلَ له لأنَّ التقديرَ: ألا تَرَوْنني رجلاً؟ . فإن لم يكن مفرداً - وأعنى به المضاف والشبيهَ بهِ- أُعرب نصباً نحو: «لا خيراً من زيد» ولا عملَ لها في المعرفةِ البتة، وأمًّا نحوُ: 96 - تُبَكِّي على زيدٍ ولا زيدَ مثلُهُ ... بريءٌ من الحُمَّى سليمُ الجوانِحِ وقول الآخر:

97 - أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ في البلادِ وقول الآخر: 98 - لا هيثَم الليلةَ للمَطِّي ... وقولِه عليه السلام: «لا قريشَ بعد اليوم، إذا هَلَكَ كسرى فلا كسرى بعدَه» فمؤولٌ. و «ريبَ» اسمُها، وخبرُها يجوز أن يكونَ الجارَّ والمجرورَ وهو «فيه» ، إلا أن بني تميم لا تكاد تَذْكر خبرَها، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره: لا ريبَ كائنٌ، ويكون الوقف على «ريب» حينئذ تاماً، وقد يُحذف اسمها ويبقى خبرُها، قالوا: لا عليك، أي لا بأسَ عليك، ومذهبُ سيبويه أنها واسمَها في محلِّ رفع بالابتداء ولا عمَل لها في الخبر، ومذهبُ الأخفش أن اسمَها في محلِّ رفع وهي عاملةٌ في الخبر. ولها أحكامٌ كثيرةٌ وتقسيماتٌ منتشرةٌ مذكورةٌ في النحو. واعلم أن «لا» لفظٌ مشتركٌ بين النفي، وهي فيه على قسمين: قسمٌ تنفي فيه الجنسَ فتعملُ عمَل «إنَّ» كما تقدم، وقسمٌ تنفي فيه الوِحْدة وتعملُ حينئذ عملَ ليس، وبين النهي والدعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادةً كما تقدَّم في {وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] .

و «ذلك» اسمُ إشارةٍ: الاسمُ منه «ذا» ، واللامُ للبعدِ والكافُ للخطاب وله ثلاثُ رتبٍ: دنيا ولها المجردُ من اللام والكاف نحو: ذا وذي وهذا وهذي، ووسطى ولها المتصلُ بحرفِ الخطابِ نحو: ذاك وذَيْكَ وتَيْكَ، وقصوى ولها/ المتصلُ باللام والكاف نحو: ذلك وتلك، لا يجوز أن يُؤتى باللام إلا مع الكاف، ويجوز دخولُ حرفِ التنبيه على سائر أسماء الإِشارة إلا مع اللام فيمتنعُ للطول، وبعضُ النحويين لم يَذْكرْ له إلا رتبتين: دنيا وغيرَها. واختلف النحويون في ذا: هل هو ثلاثيُّ الوضع أم أصلُه حرفٌ واحدٌ؟ الأولُ قولُ البصريين. ثم اختلفوا: هل عينُه ولامه ياء فيكونُ من باب حيي أو عينُه واوٌ ولامُه ياءٌ فيكونُ من باب طَوَيْت، ثم حُذِفت لامُه تخفيفاً، وقُلبت العينُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها، وهذا كلُّه على سبيل التمرين وإلا فهذا مبنيٌّ، والمبني لا يدخله تصريف. وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمشار إليه، ومنه: 99 - أقولُ له والرمحُ يَأطُر مَتْنَه ... تأمَّلْ خِفافاً إنَّني أنا ذلكا أو لأنه لمَّا نَزَل من السماء إلى الأرض أُشير بإشارة البعيد [أو لأنه كان موعوداً به نبيُّه عليه السلام، أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدَّره في اللوحِ المحفوظِ، وفي عبارة المفسرين أُشير بذلك للغائب يَعْنُون البعيد، وإلاَّ فالمشارُ إليه لا يكون إلا حاضراً ذهناً أو حساً، فعبَّروا عن الحاضرِ ذهناً بالغائبِ أي حساً، وتحريرُ القولِ ما ذكرته لك] .

والكتابُ في الأصل مصدرٌ، قال تعالى: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] وقد يُراد به المكتوبُ، قال: 100 - بَشَرْتُ عيالي إذ رأيتُ صحيفةً ... أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها ومثله: 101 - تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مني وفيها ... كتابٌ مثلَ ما لَصِق الغِراءُ وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الجمع، ومنه كتيبةُ الجيش، وكَتَبْتُ القِرْبَةَ: خَرَزْتُها، والكُتْبَةُ -بضم الكاف- الخُرْزَةُ، والجمع كُتَبٌ، قال: 102 - وَفْراءَ غَرْفيَّةٍ أَثْأى خوارِزُها ... مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بينها الكُتَبُ وكَتَبْتُ الدابَّةَ: [إذا جمعتَ بين شُفْرَي رَحِمها بحلَقةٍ أو سَيْر] ، قال: 103 - لاَ تأْمَنَنَّ فزاريَّاً حَلَلْتَ به ... على قُلوصِك واكتبْها بأَسْيارِ والكتابةُ عُرْفاً: ضمُّ بعضِ حروفِ الهجاءِ إلى بعضٍ. والرَّيْبُ: الشكُّ مع تهمة، قال:

104 - ليس في الحقِ يا أُمَيمةُ رَيْبٌ ... إنما الريبُ ما يقول الكَذوبُ وحقيقته على ما قال الزمخشري: قَلَقُ النفس واضطرابُها، ومنه الحديث: «دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك» ، وأنه مَرَّ بظبي خائف فقال: «لا يُرِبْهُ أحد» فليس قول من قال: «الريبُ الشكُّ مطلقاً» بجيدٍ، بل هو أخصُّ من الشكِّ، كما تقدَّم. وقال بعضهم: في الريب ثلاثةُ معانٍ، أحدُها: الشكُّ. قال ابن الزبعرى: 105 - ليسَ في الحقِ يا أميمةُ رَيْبٌ ... وثانيها التهمةُ: قال جميل بثينة: 106 - بُثَيْنَةُ قالت: يا جميلُ أَرَبْتَني ... فقلت: كلانا يابُثَيْنُ مُريبُ وثالثها الحاجةُ، قال: 107 - قََضَيْنا من تِهامةَ كلَّ ريبٍ ... وخَيْبَرَ ثم أَجْمَعْنا السيوفا وقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} يجوز فيه عدةُ أوجهٍ، أن يكونَ مبتدأ وخبرُه «فيه» متقدماً عليه إذا قلنا: إنَّ خبرَ «لا» محذوف، وإنْ قلنا «فيه» خبرُها كان خبرُه محذوفاً مدلولاً عليه بخبر «لا» تقديره: لا ريبَ فيه، فيه هدىً، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه هو هُدَىً، وأن يكونَ خبراً ثانياً ل «ذلك» ، على

أن «الكتاب» صفة أو بدلٌ أو بيان، و «لا ريب» خبرٌ أول، وأن يكون خبراً ثالثاً ل «ذلك» ، على أن يكون «الكتاب» خبراً أول و «لا ريبَ» خبراً ثانياً، وأن يكونَ منصوباً على الحال من «ذلك» أو من «الكتاب» والعاملُ «فيه» ، على كلا التقديرين اسمُ الإِشارةِ، وأن يكونَ حالاً ومن الضمير في «فيه» ، والعاملُ ما في الجار والمجرور من معنى الفعل، وجَعْلُه حالاً ممَّا تقدَّم: إمَّا على المبالغة، كأنه نفس الهدى، أو على حذف مضاف أي: ذا هدى أو على وقوعِ المصدر موقعَ اسم الفاعل، وهكذا كلُّ مصدرٍ وقع خبراً أو صفة أو حالاً فيه الأقوالُ الثلاثةُ أرجحُها الأولُ. وأجازوا أن يكونَ «فيه» صفةً لريب فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وأن يكونَ متعلقاً بريب، وفيه إشكالٌ، لأنه يَصير مُطَوَّلاً، واسمُ «لا» إذا كان مطولاً أُعرِب، إلا أَنْ يكونَ مُرادُهم أنه معمولٌ لِما دَلَّ عليه «ريبَ» لا لنفس «ريب» . وقد تقدَّم معنى «الهدى» عند قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] ، و «هُدَى» مصدرٌ على فُعَل، قالوا: ولم يَجىءْ من هذا الوزن في المصادر إلا: سُرى وبُكى وهُدى، وقد جاء غيرُها، وهو: لَقِيْتُه لُقَى، قال: 108 - وقد زعموا حِلْماً لُقاك ولم أَزِدْ ... بحمدِ الذي أَعْطَاك حِلْماً ولا عَقْلا والهُدى فيه لغتان: التذكير، ولم يَذْكُرِ اللِّحياني غيرَه، وقال الفراء: «بعضُ بني أسد يؤنِّثُه فيقولون: هذه هدىً» . و «في» معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً، نحو: زيدٌ في الدار، {وَلَكُمْ

فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 197] ، ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةَ نحو: {ادخلوا في أُمَمٍ} [الأعراف: 38] ، والتعليلُ: «إنَّ امرأةً دخلتِ النارَ في هرة» ، وموافقةُ «على» : {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] ، والباء: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] أي بسببه، والمقايَسَةُ: {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة} [التوبة: 38] . والهاءُ في «فيه» أصلُها الضمُّ كما تقدَّم من أنَّ هاءَ الكنايةِ أصلُها الضمُّ، فإنْ تَقَدَّمها ياءٌ ساكنةٌ أو كسرةٌ كَسَرَها غيرُ الحجازيين، وقد قرأ حمزة: «لأهلهُ امكثوا» وحفص في «عاهد عليهُ الله» ، «وما أنسانيهُ إلا» بلغةِ الحجاز، والمشهورُ فيها - إذا لم يَلِها ساكنٌ وسَكَنَ ما قبلها نحو: فيه ومنه - الاختلاسُ، ويجوز الإِشباعُ، وبه قرأ ابن كثير، فإنْ تحرَّك ما قبلها أُشْبِعَتْ، وقد تُخْتَلَسُ وتُسَكَّن، وقرئ ببعضِ ذلك كما سيأتي مفصلاً.

و «للمتقين» جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ ب «هُدَى» . وقيل: صفةٌ لهدى، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ومحلُّه حينئذٍ: إمَّا الرفعُ أو النصبُ بحسَبِ ما تقدم في موصوفه، أي: هدىً كائنٌ أو كائناً للمتقين. والأحسنُ من هذه الوجوه المتقدمة كلِّها أن تكونَ كلُّ جملةٍ مستقلةً بنفسها، ف «ألم» جملةٌ إنْ قيلَ إنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، و «ذلك الكتاب» جملةٌ، و «لا ريبَ» جملةٌ، و «فيه هدى» جملةٌ، وإنما تُرِكَ العاطفُ لشدةِ الوَصْلِ، لأنَّ كلَّ جملةٍ متعلقةٌ بما قبلها آخذةٌ بعُنُقِها تعلُّقاً لا يجوزُ معه الفصلُ بالعطفِ. قال الزمخشري ما معناه: فإن قلت: لِمَ لَمْ يتقدَّمِ الظرفُ على الريب كما قُدِّم على «الغَوْل» في قوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] قلت: لأنَّ تقديمَ الظرفِ ثَمَّ يُشْعِرُ بأنَّ غيرَها ما نُفِيَ عنها، فالمعنى: ليس فيها غَوْلٌ كما في خُمور الدنيا، فلَو قُدِّم الظرفُ هنا لأَفهمَ هذا المعنى، وهو أنَّ غيرَه من الكتبِ السماويةِ فيه ريبٌ، وليس ذلك مقصوداً، وكأنَّ هذا الذي ذكره أبو القاسم الزمخشري بناءً منه على أن التقديمَ يُفيد الاختصاصَ، وكأنَّ المعنى أنَّ خمرة الآخرة اختصَّتْ بنفي الغَوْلِ عنها بخلافِ غيرِها، وللمنازَعةِ فيه مجالٌ. وقد رامَ بعضُهم الردَّ عليه بطريقٍ آخرَ، وهو أنَّ العربَ قد وَصَفَتْ/ أيضاً خَمْرَ الدنيا بأنها لا تَغْتَالُ العقولَ، قال علقمة: 109 - تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذيكَ صالِبُها ... وَلاَ يُخَالِطُها في الرأسِ تَدْويمُ وما أبعد هذا من الردِّ عليه، إذ لا اعتبارَ بوَصْفِ هذا القائلِ.

فإن قيل: قد وُجِدَ الريبُ من كثيرٍ من الناس في القرآن، وقولُه تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ينفي ذلكَ. فالجوابُ من ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنَّ المنفيَّ كونُه متعلقاً للريبِ، بمعنى أنَّ معه من الأدلَّة ما إنْ تأمَّله المنصِفُ المُحِقُّ لم يَرْتَبْ فيه، ولا اعتبارَ بريبٍ مَنْ وُجِدَ منه الريبُ، لأنه لم ينظرْ حقَّ النظرِ، فَرَيْبُه غَيرُ مُعْتَدٍّ به. والثاني: أنه مخصوصٌ، والمعنى: لا ريبَ فيه عند المؤمنين، والثالث: أنه خبرٌ معناه النهيُ، أي لا تَرْتابوا فيه. والأول أحسنُ. و «المتقين» جمعُ مُتَّقٍ، وأصلُهُ مُتَّقْيِيْن بياءين، الأولى لامُ الكلمة والثانيةُ علامةُ الجمع، فاستُثْقِلَتِ الكسرةُ على لام الكلمة وهي الياءُ الأولى فحُذِفَت، فالتقى ساكنان، فحُذِف إحداهما، وهي الأولى، ومتَّقٍ من اتَّقَى يتَّقِي وهو مُفْتَعِل من الوقاية، إلا أنه يَطَّرِدُ في الواو والياء إذا كانا فاءَيْن ووقَعَتْ بعدَهما تاءُ الافتعالِ أن يُبْدَلا تاءً نحو: اتَّعَدَ من الوَعْد، واتَّسَرَ من اليُسْر، وفِعْلُ ذلك بالهمزة شَاذٌّ، قالوا: اتَّزر واتَّكل من الإِزار والأكل. ولافْتَعَلَ اثنا عشرَ معنىً: الاتخاذ نحو: اتَّقى، والتَّسَبُّب نحو: اعْتَمَلَ، وفعلُ الفاعلِ بنفسِهِ نحو: اضطرب، والتخيُّر نحو: انتخب، والخطف نحو: اسْتَلَبَ، ومطاوعةُ أفْعَل نحو: انْتَصَفَ مطاوعُ أَنْصَفَ، ومطاوعةُ فَعَّل نحو: عَمَّمْتُه فاعتمَّ، وموافقةُ تفاعَلَ وتفعَّل واسْتَفْعَلَ نحو: اجْتَوَر واقتسَمَ واعتصَرَ، بمعنى تجاور وتقسَّم واسْتَعْصَمَ، وموافقةُ المجرد نحو: اقتَدَرَ بمعنى قَدَر، والإِغناءُ عنه نحو: استلم الحجرَ، لم يُلفظ له بمجردٍ. والوِقايةُ: فَرْطُ الصيانة وشِدَّةُ الاحتراسِ من المكروه، ومنه: فرسٌ واقٍ

إذا كان يقي حافرُه أدنى شيءٍ يُصيبه. وقيل: هي في أصل اللغة قلةُ الكلام، وفي الحديث: «التقيُّ مُلْجَمٌ» ومن الصيانة قوله: 110 - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فتناوَلَتْه واتَّقَتْنَا باليَدِ وقال آخر: 111 - فَأَلْقَتْ قناعاً دونَه الشمسُ واتَّقَتْ ... بأحسنِ مَوْصولينِ كَفٍّ ومِعْصَمِ

3

{الذين يُؤْمِنُونَ} : «الذين» يَحْتمل الرفعَ والنصبَ والجرَّ، والظاهرُ الجرُّ، وهو من ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه نعتٌ للمتقين، والثاني: بدلٌ، والثالث: عطفُ بيان، وأمَّا الرفعُ فمن وجهَيْنِ، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ على معنى القطع، وقد تقدَّم. والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره قولان: أحدهما: أولئك الأولى، والثاني: أولئك الثانية والواوُ زائدةٌ. وهذان القولان رديئان مُنْكَران لأنَّ قولَه: «والذين يؤمنون» يمنع كونَ «أولئك» الأولى خبراً، ووجودُ الواوِ يمنع كونَ «أولئك» الثانية خبراً أيضاً، وقولُهم الواوُ زائدةٌ لا يُلْتفَتْ إليه. والنصبُ على القطع، و «يؤمنون» صلةٌ وعائدٌ، وهو مضارعٌ، علامةُ رفعهِ النونُ، لأنه أحدُ الأمثلةِ الخمسةِ. والأمثلةُ الخمسةُ عبارةٌ عن كل فعلٍ مضارعٍ اتصلَ به ألفُ اثنين أو واوُ جمع أو ياءُ مخاطبةٍ، نحو: يؤمنان تؤمنان يؤمنون تؤمنون تؤمنين. والمضارعُ معربٌ أبداً، إلا أن يباشرَ نونَ توكيدٍ أو إناثٍ، على تفصيلٍ يأتي إن شاء الله تعالى في غضونِ هذا الكتاب. وهو مضارعُ آمَنَ بمعنى صَدَّقَ، وآمَنَ مأخوذٌ من أَمِنَ الثلاثي، فالهمزة

في «أَمِنَ» للصيرورة نحو: أَعْشَبَ المكانُ أي: صار ذا عشبٍ، أو لمطاوعةِ فَعَّلَ نحو: كَبَّ فَأَكَبَّ، وإنما تعدَّى بالباء لأنه ضُمِّن معنى اعترف، وقد يتعدَّى باللام كقوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] {فَمَآ آمَنَ لموسى} [يونس: 83] إلا أنَّ في ضمنِ التعدية باللام التعديةَ بالباء، فهذا فَرْقُ ما بين التعديتين. وأصلُ «يُؤْمِنون» : يُؤَأْمِنُون بهمزتين، الأولى: همزةُ أَفْعَل، والثانيةُ: فاء الكلمةِ، حُذِفَت الأولى لقاعدة تصريفية، وهو أن همزة أفْعل تُحْذَف بعد حرفِ المضارعةِ واسمِ فاعله ومفعولِه نحو: أُكْرِمُ وتُكْرم ويُكْرم ونُكْرم وأنتَ مُكْرِم ومُكْرَم، وإنما حُذِفَت لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان، وذلك إذا كان حرفُ المضارَعةِ همزةً نحو: أنا أُكرم. الأصل: أُأَكْرِمُ بهمزتين، الأولى: للمضارَعةِ، والثانيةُ: هَمزَةُ أَفْعل، فحُذِفَت الثانيةُ لأنَّ بها حَصَل الثِّقَلُ، ولأن حرفَ المضارَعَةِ أولى بالمحافظةِ عليه، ثم حُمِل باقي البابِ على ذلك طَرْداً لِلْبابِ، ولا يجوز ثبوتُ همزةِ أَفْعَل في شيء من ذلك، إلا في ضرورة كقوله: 112 - فإنَّه أَهْلٌ لأِنْ يُؤَكْرَما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و «بالغيبِ» متعلِّق بيؤمنون، ويكون مصدراً واقعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أو اسمِ المفعولِ. وفي هذا الثاني نظرٌ لأنه مِنْ غابَ وهو لازمٌ فكيف يُبْنَى منه اسمُ مفعولٍ حتى يَقَعَ المصدرُ موقعَه؟ إلا أن يقال إنه واقعٌ موقعَ اسمِ

المفعولِ من فَعَّل مضعفاً متعدياً أي المغيَّب وفيه بُعْدٌ. وقال الزمخشري: «يجوز أن يكون مخفَّفاً من فَيْعِل نحو: هَيْن من هيِّنٍ، ومَيْت من مَيِّت» ، وفيه نظرٌ لأنه لا ينبغي أن يُدَّعى ذلك فيه حتى يُسمَعَ مثقلاً كنظائره، فإنها سُمِعَتْ مخفَّفةً ومثقَّلةً، ويَبْعُد أن يقالَ: التُزِم التخفيفُ في هذا خاصةً. ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال فيتعلَّقَ بمحذوف أي: يُؤْمِنُون ملتبسينَ بالغَيْب عن المؤمِنِ بهِ، والغيبُ حينئذٍ مصدرٌ على بابه. وهمزةُ يُؤْمِنُون -وكذا كلُّ همزةٍ ساكنةٍ- يجوز أن تُدَيَّر بحركةِ ما قبلها فَتُبْدَلَ حرفاً/ مجانساً نحو: راس وبير ويُؤمن، فإن اتَّفق أن يكونَ قبلها همزةٌ أخرى وَجَبَ البدلُ نحو إيمان وآمن. و «يُقيمون» عطفٌ على «يُؤمنون» فهو صلةٌ وعائدٌ. وأصلُه يُؤَقْوِمُونَ حُذفت همزةُ أَفْعَل لوقوعها بعد حرفِ المضارَعة كما تقدَّم فصار يُقْوِمون، فاستُثْقِلَتْ الكسرةُ على الواوِ فَفُعِل فيه ما فُعِل في «مستقيم» ، وقد تقدَّم في الفاتحة. ومعنى يُقيمون: يُدِيمون أو يُظْهِرون، قال الشاعر: 113 - أَقَمْنا لأهلِ العِراقَيْنِ سوقَ ال ... طِعانِ فخاموا وولَّوْا جميعاً وقال آخر: 114 - وإذا يُقال أتيتُمُ لم يَبْرحوا ... حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعانِ

و «الصلاةَ» مفعول به ووزنُها: فَعَلَة، ولامها واو لقولهم: صَلَوات، وإنما تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبت ألفاً، واشتقاقُها من الصَّلَوَيْنِ وهما: عِرقانِ في الوِرْكين مفترقانِ من الصَّلا وهو عِرْقٌ مستبطِنٌ في الظهر منه يتفرَّق الصَّلَوان عندَ عَجْب الذَّنْب، وذلك أن المصلِّي يحرِّك صَلَوَيْه، ومنه المُصَلِّي في حَلْبة السباق لمجيئِه ثانياً عند صَلَوَي السابق. والصلاةُ لغةً: الدعاءُ، قال: 115 - تقول بِنْتي وقد قَرَّبْتُ مُرْتَحَلا ... يا ربِّ جَنِّبْ أبي الأَوْصَابَ والوَجَعا عليكِ مثلُ الذي صَلَّيْتِ فاغتمضي ... يوماً فإنَّ لجَنْبِ المَرْءِ مُضطجَعَا أي: مثلُ الذي دَعَوْتِ، ومثلُه: 116 - لها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها ... وإن ذُبِحَتْ صَلَّى عليها وَزَمْزَما وفي الشرع: هذه العبادةُ المعروفة، وقيل: هي مأخوذةٌ من اللزوم، ومنه: «صَلِيَ بالنار» أي لَزِمَها، [قال] : 117 - لم أَكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ الل ... هُ وإني بحَرِّها اليومَ صالي وقيل: من صَلَيْتُ العودَ بالنار أي قوَّمْتُه بالصِّلاء وهو حَرُّ النار، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ، كأنَّ المُصَلِّي يُقَوِّم نفسه، قال: 118 - فلا تَعْجَلْ بأمرِكَ واستَدِمْهُ ... فما صلى عَصاكَ كمُسْتديمِ ذكر ذلك جماعةٌ أَجِلَّة وهو مُشْكِلٌ، فإن الصلاة مِنْ ذواتِ الواوِ وهذا من الياء.

و {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} جارٌّ ومجرور متعلِّق ب «يُنْفِقون» ، و «ينفقون» معطوفٌ على الصلة قبله، و «ما» المجرورةُ تحتمل ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ اسماً بمعنى الذي، ورزقناهم صلتُها، والعائدُ محذوفٌ، قال أبو البقاء: «تقديره: رزقناهموه أو رزقناهم إياه» ، وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشْكالٌ، لأنَّ تقديرَه متصلاً يلزم منه اتصال الضمير مع اتحاد الرتبة، وهو واجبُ الانفصال، وتقديرُه منفصلاً يمنع حذفَه؛ لأنَّ العائدَ متى كان منفصلاً امتنع حَذْفُه، نصُّوا عليه، وعَلَّلوه بأنه لم يُفْصَلْ إلا لِغَرضٍ، وإذا حُذِفَ فاتَتِ الدلالةُ على ذلك الغرضِ. ويمكن أن يُجاب عن الأولِ بأنه لمَّا اختلَفَ الضميران جَمْعاً وإفراداً وإن اتَّحدا رتبةً جاز اتصالُه، ويكون كقوله: 119 - وقد جَعَلَتْ نفسي تَطيبُ لِضَغمَةٍ ... لِضَغْمِهماها يَقْرَعُ العظمَ نَابُها وأيضاً فإنه لا يلزمُ مِنْ مَنْعِ ذلك ملفوظاً به مَنْعُه مقدَّراً لزَوالِ القُبْح اللفظي. وعن الثاني بأنه إنما يُمنع لأجلِ اللَّبْس الحاصلِ ولا لَبْسَ هنا. الثاني: يجوز أن يكونَ نكرةً موصوفةً، والكلامُ في عائِدها كالكلامِ في عائِدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً. الثالث: أن تكونَ مصدريةً، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعول أي: مرزوقاً، وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ قال: «لأنَّ الفِعْلَ لا يُنْفَقُ» من أنَّ المصدر مرادٌ به المفعولُ.

والرزقُ لغةً: العطاءُ، وهو مصدرٌ، قال تعالى: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} [النحل: 75] ، وقال الشاعر: 120 - رُزِقْتَ مالاً ولم تُرْزَقْ منافِعَه ... إنَّ الشقيَّ هو المَحْرُوم ما رُزِقا وقيل: يجوز أن يكونَ «فِعلاً» بمعنى مَفْعول نحو: ذِبْح ورِعْي، بمعنى مذبوح وَمَرْعِيّ. وقيل: الرزق بالفتح مصدرٌ، وبالكسر اسم، وهو في لغة أزد شنوءة الشكر ومنه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] وسيأتي في موضعه] ، ونفق الشيء نَفِد، وكلُّ ما جاء ممَّا فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ فدالٌ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمَّلت، قال الزمخشري، وهو كما قال نحو: نَفِد نَفَق نَفَر نَفَذ نَفَس نَفَش نَفَثَ نفح نفخ نَفَضَ نَفَل، وَنَفق الشيءُ بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَت الدابَّةُ: ماتَتْ نُفوقاً: والنفقَةُ: اسمُ المُنْفَق. و «مِنْ» هنا لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض، ولها معانٍ أُخر: بيانُ الجنس: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ، والتعليل: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} [البقرة: 19] ، والبدلُ: {بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] ، والمجاوزةُ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] ، وانتهاء الغاية قريبٌ منه، والاستعلاءُ: {وَنَصَرْنَاهُ

مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] ، والفصلُ: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} [البقرة: 220] ، وموافقةُ الباءِ وفي: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] ، {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40] ، والزيادةُ باطِّراد، وذلك بشرطين: كون المجرورِ نكرةً والكلامِ غيرَ موجَبٍ، واشترط الكوفيون التنكيرَ فقط، ولم يَشْترط الخفشُ شيئاً. والهمزةُ في «أَنْفَقَ» للتعدية، وحُذِفَتْ من «ينفقون» لِما تقدَّم في {يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3] .

4

قوله تعالى: {والذين يُؤْمِنُونَ} : الذين عطفٌ على «الذين» قبلَها، ثم لك اعتباران: أن يكونَ من باب عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض كقوله: 121 - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ وقوله: 122 - يا ويحَ زيَّابَة للحارثِ ال ... صابحِ فالغانمِ فالآئِبِ يعني: أنهم جامعونَ بين هذه الأوصافِ إن قيل إن المرادَ بهما واحدٌ.

والثاني: أن يكونوا غيرهم. وعلى كلا القولينِ فيُحكم على موضعِه بما حُكم على موضعِ «الذين» المتقدمة من الإِعرابِ رفعاً ونصباً وجَرًّا قَطْعاً واتباعاً، كما مرَّ تفصيله، ويجوز أن يكونَ عطفاً على «المتقين» ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه «أولئك» وما بعدها إن قيل إنهم غيرُ «الذين» الأولى، و «يؤمنون» صلةٌ وعائدٌ. و «بما أُنْزِلَ» متعلِّقٌ به و «ما» موصولةٌ اسميةٌ، و «أُنْزِلَ» صلتُها وهو فِعْلٌ مبني للمفعول، والعائدُ هو الضميرُ القائمُ مقامَ الفاعلَ، ويَضْعُف أن يكونَ نكرةً موصوفةً، وقد منع أبو البقاء من ذلك، قال: «لأنَّ النكرةَ الموصوفةَ لا عموم فيها، ولا يكمُل الإِيمانُ إلا بجميعِ ما أُنزل» . و «إليك» متعلِّقٌ ب «أُنزل» ، ومعنى «إلى» انتهاءُ الغاية، ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةُ: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ، والتبيين: {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 33] ، وموافقة اللام وفي ومِنْ: {والأمر إِلَيْكِ} [النمل: 33] أي لك: وقال النابغة: 123 - فلاَ تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني ... إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القار أَجْرَبُ أي في الناس، وقال الآخر: 124 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

أَيُسْقَى فلا يُرْوى إليَّ ابنُ أَحْمَرا أي: لا يُرْوى مني، وقد تُزَادُ، قُرئ: «تهوى إليهم» بفتح الواو. والكافُ في محلِّ جرٍّ، وهي ضميرُ المخاطبِ، ويتصلُ بها ما يَدُلُّ على التثنيةِ والجمعِ تذكيراً وتأنيثاً كتاءِ لمخاطب. والنزولُ: الوصول والحلولِ من غير اشتراطِ علوٍّ، قال تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 177] أي حلَّ ووَصَل، و «ما» الثانيةُ وصلتُها عطفٌ على «ما» الأولى قَبلَها، فالكلامُ عليها وعلى صلتِها كالكلامِ على «ما» التي قبلَها، فَلْيُتأمَّلْ. و «مِنْ قبلِك» متعلِّقٌ ب «أُنْزِلَ» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية، و «قبل» ظرف زمان يقتضي التقدُّم، وهو نقيضٌ «بعد» ، وكِلاهما متى نُكِّر أو أُضيف أُعْرِبَ، ومتى قُطع من الإِضافة لفظاً/ وأُرِيدت معنى بُني على الضم، فمِن الإِعرابِ قولُه: 125 - فساغَ ليَ الشرابُ وكنت قَبْلاً ... أكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ وقال آخر: 126 - ونحن قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ ... فما شَرِبوا بَعْداً على لَذَّةً خَمْرا ومن البناء قولُه تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] ، وزعم بعضُهم أن «قبل» في الأصل وصفٌ نابَ عن موصوفِه لُزوماً، فإذا قلت: «قمتُ قبلَ

زيد» فالتقدير: قمت زماناً قبلَ زمانِ قيامِ زيدٍ، فحُذِف هذا كلُّه، ونَاب عنه «قبل زيد» وفيه نظرٌ لاَ يَخْفى على مُتَأمِّله. واعلمْ أنَّ حكمَ فوق وتحت وعلى وأوَّل حكمُ قبل وبعد فيما تقدَّم، وقرئ: «بما أَنْزَلَ إليك» مبنيَّاً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو جبريلُ، وقُرئ أيضاً: أُنْزِلْ لَيْكَ بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكونَ سكَّن آخرَ الفعل كما سكَّنه الآخر في قوله: 127 - إنما شِعْريَ مِلْحٌ ... قد خُلْط بجُلْجُلانْ بتسكين «خُلْط» ثم حَذَف همزةَ «إليك» ، فالتقى مثلان فَأَدْغَمَ. و «بالآخرةِ» متعلِّقٌ بيوقنون، و «يُوقنون» خبرٌ عن «هم» وقُدِّم المجرورُ للاهتمام به كما قُدِّمَ المُنْفَقُ في قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] لذلك، وهذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفَتْ على الجملةِ الفعليةِ قبلَها فهي صلةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} لأن وصفهم بالإِيقان بالآخرةِ أَوْقَعُ مِنْ وَصْفِهم بالإِنفاق من الرزقِ فناسَبَ التأكيدَ بمجيء الجملةِ الاسميةِ، أو لئلاَّ يتكرَّرَ اللفظُ لو قيلَ: ومِمَّا رَزَقْناهم هم ينفقون. والإِيقانُ: تحقيقُ الشيء لوضوحِه وسكونِه يقال: يَقِنَ الماءُ إذا سَكَن فظهر ما تحته، وَيَقِنْتُ الأمر بكسر القاف، ويُوقنون مِنْ أَيْقَنَ بمعنى استيقن، وقد تقدَّم أن أَفْعَل تأتي بمعنى استفعل. والآخرة: تأنيث آخِر المقابل لأوَّل، وهي صفةٌ في الأصلِ جَرَتْ مَجْرى

الأسماءِ والتقديرُ: الدار الآخرة أو النشأة الآخرة، وقد صُرِّح بهذين الموصوفين قال تعالى: {وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ} [الأنعام: 32] ، وقال: {ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة} [العنكبوت: 20] وقرئ يُؤْقِنُون بهمز الواو، كأنهم جَعَلوا ضمةَ الياء على الواوِ لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه، والواوُ المضمومةُ يَطَّرِدُ قلبُها همزةً بشروط: منها ألاَّ تكونَ الحركةُ عَارضةً، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها، وألاَّ يكونَ مُدْغماً فيها، وألاّ تكونَ زائدةً، على خلافٍ في هذا الأخير، وسيأتي أمثلةُ ذلك في سورة آل عمران على قوله: {وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} [آل عمران: 153] ، فأجْرَوا الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلها مُجْرى المضمومةِ نفسِها لِما ذكرت ذلك، ومثلُ هذه القراءةِ قراءةُ قُنْبُل «بالسُّؤْقِ» [ص: 33] ، و «على سُؤْقِه» [الفتح: 29] ، وقال الشاعر: 128 - أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى ... وجَعْدَةُ إذ أضاءَهُما الوَقودُ بهمز «المُؤْقدين» . وجاء بالأفعالِ ِالخمسة بصيغة المضارع دلالةً على التجدُّد والحُدوثِ وأنهم كلَّ وقتٍ يفعلون ذلك. وجاء بأُنْزِل ماضياً وإن كان إيمانُهم قبلَ تمامِ نزولهِ تغليباً للحاضرِ المُنَزَّلِ على ما لم يُنَزَّلُ، لأنه لا بد من وقوعه فكأنه نَزَل، فهو من باب قولهِ: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ، بل أقربُ منه لنزولِ بعضِهِ.

5

قوله تعالى: {أولئك} : مبتدأٌ، خبرهُ الجارُّ والمجرورُ بعده أي كائنون على هدى، وهذه الجملة: إمَّا مستأنفةٌ وإمّا خبرٌ عن قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ} إمَّا الأولى وإمَّا الثانية، ويجوز أن يكون «أولئك» وحدَه خبراً عن {الذين يُؤْمِنُونَ} أيضاً إمَّا الأولى أو الثانية، ويكون «على هدى» في هذا الوجهِ في محلِّ نصب على الحالِ، هذا كلُّه إذا أعربنا {الذين يُؤْمِنُونَ} مبتدأ، أمَّا إذا جعلناه غيرَ مبتدأ فلا يَخْفَى حكمه مِمّا تقدم. ويجوز أن يكونَ {الذين يُؤْمِنُونَ} مبتدأ، و «أولئك» بدلٌ أو بيانٌ، و «على هدى» الخبرُ، و «مِنْ ربهم» في محلِّ جرٍّ صفةً لهُدى، ومِنْ لابتداء الغاية. ونَكَّر «هُدَى» ليفيدَ إبهامُه التعظيم كقوله: 129 - فلا وأبي الطيرِ المُرِبَّة بِالضُّحى ... على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ ورُوِيَ «مِنْ ربهم» بغير غُنَّة وهو المشهورُ، وبغنَّة ويُروى عن أبي عمرو. و «أولئك» : اسمُ إشارةٍ يشترك فيه جماعةُ الذكور والإِناث، وهو مبنيٌّ على الكسر لشبِهْه بالحرفِ في الافتقار، وفيه لغتان: المدُّ والقَصْر، ولكنَّ الممدود للبعيد، وقد يقال: أولا لِك، قال: 130 - أُولا لِك قومي لم يكونوا أُشَابَةً ... وهل يَعِظُ الضِّلِّيلَ إلا أُولا لِكَا

وعند بعضهم: المقصودُ للقريب والممدودُ للمتوسط وأولا لك للبعيد، وفيه لغاتٌ كثيرة. وكتبوا «أولئك» بزيادةِ واو قبل اللام، قيل للفرقِ بينها وبين «إليك» . {وأولئك هُمُ المفلحون} : «أولئك» مبتدأ و «هم» مبتدأ ثانٍ، و «المفلحون» خبره، والجملةُ خبر الأول، ويجوز أن يكونَ «هم» فصلاً أو بدلاً، والمفلحون: الخبر. وفائدةُ الفصل: الفرقُ بين الخبرِ والتابعِ، ولهذا سُمِّيَ فَصْلاً، ويفيدُ أيضاً التوكيدَ، وقد تقدَّم أنه يجوز أن يكون «أولئك» الأولى أو الثانية خبراً عن «الذين يؤمنون» ، وتقدَّم تضعيفُ هذين القولين. وكَرَّرَ «أولئك» تنبيهاً أنهم كما ثَبَتَت لهم الأُثْرَةُ بالهُدَى ثَبَتت لهم بالفلاح، فجُعِلت كلُّ واحدةٍ من الأُثْرَتَيْنِ في تميُّزِهم بها عن غيرِهم بمثابةِ لو انفردت لَكَفَتْ مُمَيِّزة على حِدَتها. وجاء هنا بالواو بين جملةِ قوله: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} بخلافِ قوله تعالى في الآية الأخرى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179] لأن الخبرَيْن هنا متغايران فاقتضى ذلك العطفَ، وأما تلك الآيةُ الكريمةُ فإن الخبريْن فيها شيءٌ واحدٌ، لأن التسجيلَ عليهم بالغفلةِ وتشبيهَهم بالأنعام معنى واحدٌ وكانَتْ عن العطف بِمَعْزِل، قال الزمخشري: «وفي اسم الإِشارة الذي هو» أولئك «إيذانٌ بأنَّ ما يَرِد عقيبَه والمذكورين قبله أهلٌ لاكتسابِه من أجل الخصال التي عُدِّدَت لهم، كقول حاتم:» وللهِ صعلوكٌ «، ثمَ عَدَّد له خِصالاً فاضلة، ثم عقَّبَ تعديدها بقوله:

131 - فذلك إن يَهْلِكْ فَحُسْنى ثناؤُه ... وإن عاش لم يَقْعُدْ ضعيفاً مُذَمَّماً والفلاحُ أصله الشَّقُّ، ومنه قوله: «إن الحديد بالحديد يفلح» ومنه قول بكر بن النطاح: 132 - لاَ تَبْعَثَنَّ إلى ربيعةَ غيرَها ... إن الحديدَ بغيرِه لا يُفْلِح ويُعَبَّرُ به عن الفوز والظفر بالبُغْيَة وهو مقصودُ الآيةِ، ويُراد به البَقاءُ، قال: 133 - لو أن حَيَّاً مُدْرِكُ الفَلاحِ ... أَدْرَكه مُلاعِبُ الرِّماحِ وقال آخر: 134 - نَحُلُّ بلاداً كلُّها حَلَّ قبلَنا ... ونرجو الفَلاَح بعد عادٍ وحِمْيَرِ وقال: 135 - لكلِّ هَمٍّ من الهُموم سَعَهْ ... والمُسْيُ والصُّبْحُ لا فَلاَح معه وقال آخر: 136 - أَفْلِحْ بما شِئْت فقد يُبْلَغُ بال ... ضَّعْفِ وقد يُخْدَعُ الأَريب

6

قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} : الآية، «إنَّ» حرفُ توكيدٍ ينصب الاسمَ ويرفع الخبرَ خلافاً للكوفيين بأنَّ رفعَه بما كان قبلَ دخولها وتُخَفَّف فتعملُ وتُهْمَلُ، ويجوز فيها أن تباشِرَ الأفعالَ، لكن النواسخَ غالباً، وتختصُّ بدخولِ لامِ الابتداءِ في خبرها أو معمولِه المقدَّمِ أو اسمِها المؤخر، ولا يتقدَّم خبرُها إلا ظرفاً أو مجروراً، وتختصُّ أيضاً بالعطفِ على مَحلِّ اسمِها. ولها ولأخواتِها أحكامٌ كثيرة لا يليقُ ذكرُها بهذا الكتابِ. و {الذين كَفَرُواْ} اسمُها، و «كفروا» صلةٌ وعائدٌ و «لا يؤمنون» خبرُها، وما بينهما اعتراضٌ، و «سواءٌ» مبتدأ، و «أأنذرتهم» وما بعده في قوة التأويل بمفرد/ هو الخبرُ، والتقدير: سواءٌ عليهم الإِنذارُ وعدمهُ، ولم يُحْتَجْ هنا إلى رابط لأن الجملة نفسُ المبتدأ. ويجوز أن يكون سواءٌ «خبراً مقدماً، و» أنذرتهم «بالتأويل المذكور مبتدأٌ مؤخرٌ تقديرُه: الإِنذارُ وعدمُه سواءٌ. وهذه الجملة يجوز فيها أن تكونَ معترضةً بين اسم إنَّ وخبرِها وهو» لا يؤمنون «كما تقدَّم، ويجوز أن تكونَ هي نفسُها خبراً لإِن، وجملة» لا يؤمنون «في محلِّ نَصْب على الحال أو مستأنفةٌ، أو تكونَ دعاءً عليهم بعدم الإِيمانِ وهو بعيدٌ، أو تكونَ خبراً بعد خبر على رَأْيِ مَنْ يُجَوِّز ذلك، ويجوز أن يكونَ» سواءٌ «وحده خبرَ إنَّ، و» أأنذرتَهُم «وما بعده بالتأويل المذكور في محلِّ رفع بأنه فاعلٌ له: والتقديرُ: استوى عندهم الإِنذارُ وعدمُه، و» لا يؤمنون «على ما تقدَّم من الأوجه، أعنى الحالَ والاستئناف، والدعاءَ والخبريةَ. والهمزةُ في» أأنذرتَهُمْ «الأصلُ فيها الاستفهامُ وهو هنا غيرُ مرادٍ، إذ المرادُ التسويةُ، و» أأنْذَرْتَهم «فعل وفاعل ومفعول.

و» أم «هنا عاطفةٌ وتٌُسَمَّى متصلةً، ولكونها متصلةٌ شرطان، أحدُهما: أن يتقدَّمها همزةُ استفهامٍ أو تسويةٍ لفظاً أو تقديراً، والثاني: أن يكونَ ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية، فإنَّ الجملةَ فيه بتأويلِ مفردٍ كما تقدَّم وجوابُها أحدُ الشيئين أو الأشياء، ولا تُجَاب بنَعَمْ ولا ب» لا «. فإنْ فُقِدَ شرطٌ سُمِّيتْ منقطعةً ومنفصلةً. وتُقَدَّر ب بل والهمزةِ، وجوابُها نعم أَوْلا، ولها أحكامٌ أُخَرُ. و» لم «حرفُ جزمٍ معناه نَفْيُ الماضي مطلقاً خلافاً لِمَنْ خَصَّها بالماضي المنقطع، ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم: 4] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] ، وهذا لا يُتَصَوَّر فيه الانقطاعُ، وهي من خواصِّ صيغ المضارع إلا أنها تَجْعَلُه ماضياً في المعنى كما تقدَّم، وهل قَلَبَت اللفظَ دون المعنى، أم المعنى دونَ اللفظ؟ قولان أظهرهُما الثاني، وقد يُحْذَفُ مجزومُها. والكَفْر: السِّتْر، ومنه سُمِّي الليل كافراً، قال: 137 - فَوَرَدَتْ قبلَ انبلاجِ الفجرِ ... وابنُ ذُكَاءٍ كامِنٌ في كَفْرِ وقال آخر: 138 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

أَلْقَتْ ذُكاءُ يمينَها في كافِر وقال آخر: 139 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في ليلةٍ كَفَر النجومَ غَمامُها و «سواء» اسمٌ بمعنى الاستواء فهو اسمُ مصدرٍ ويُوصف على أنه بمعنى مُسْتوي، فيتحمَّل حينئذ ضميراً، ويَرْفع الظاهرَ، ومنه قولُهم: مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ «برفع» العَدَم «على أنه معطوفٌ على الضمير المستكِّن في» سواء «، وشذَّ عدمُ الفصل، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع: إمَّا لكونِه في الأصل مصدراً، وإمَّا للاستغناء عن تثنيته بتثنيةِ نظيرهِ وهو» سِيّ «بمعنى مِثْلَ، تقول:» هما سِيَّان «أي مِثْلان، قال: 140 - مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها ... والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ على أنه قد حُكي» سواءان «وقال الشاعر: 141 - وليلٍ تقول الناسُ في ظُلُماته ... سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها فسواءٌ خبر عن جمع وهو» صحيحات «. وأصله العَدْل. قال زهير:

142 - أَرُونا سُبَّةً لا عيبَ فيها ... يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ أي: يَعْدِل بيننا العَدْلُ، وليس هو الظرفَ الذي يُستثنى به في قولك: قاموا سَواءَ زيد، وإنْ شاركه لفظاً. ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغاتِ الأربعَ المشهورةَ في» سواء «المستثنى به، وهذا عجيبٌ فإن هذه اللغاتِ في الظرفِ لا في» سواء «الذي بمعنى الاستواء. وأكثر ما تجيء بعده الجملة المصدَّرة بالهمزةِ المعادَلَة بأم كهذه الآية، وقد تُحْذَف للدلالةِ كقوله تعالى: {فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] أي: أصبرتم أم لم تصبروا، وقد يليه اسمُ الاستفهام معمولاً لما بعده كقولِ علقمة: 143 - سَواءٌ عليه أيَّ حينٍ أتيتَه ... أساعَة نَحْسٍ تُتَّقى أم بأَسْعَدِ فأيُّ حين منصوبٌ بأتيتَه، وقد يُعَرَّى عن الاستفهام وهو الأصلُ نحو: 144 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سواءٌ صحيحاتُ العيون وعُورُها والإِنذار: التخويفُ. وقال بعضهم: هو الإِبلاغ، ولا يكاد يكونُ إلا في تخويف يَسَعُ زمانُه الاحترازَ، فإنْ لم يَسَعْ زمانُه الاحترازَ فهو إشعارٌ لا إنذارٌ قال: 145 - أنذَرْتُ عَمْرَاً وهو في مَهَل ... قبلَ الصباحِ فقد عصى عَمْرُو ويتعدَّى لاثنين، قال تعالى: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً} [النبأ: 40] {أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديرُه: أأنذرْتَهُمُ العذابَ أم

لم تُنْذِرْهم إياه، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ كما تقدَّم في نظائره. والهمزةُ في» أَنْذَرَ «للتعدية، وقد تقدَّم أنَّ معنى الاستفهام هنا غيرُ مرادٍ، فقال ابن عطية:» لفظهُ لفظُ الاستفهامِ ومعناه الخبرُ، وإنما جرى عليه لفظُ الاستفهام لأنَّ فيه التسويةَ التي هي في الاستفهامِ، ألا ترى أنَّك إذا قلتَ مُخْبراً: «سواءٌ عليَّ أقمت أم قَعَدْتَ» ، وإذا قلتَ مستفهماً: «أَخَرَجَ زيدٌ أم قامَ» ؟ فقد استوى الأمران عندكَ، هذان في الخبر وهذان في الاستفهام، وعَدَمُ عِلْمِ أحدِهما بعينِه، فَلمَّا عَمَّتْهُما التسويةُ جرى على الخبر لفظُ الاستفهامِ لمشاركتِه إياه في الإِبهام، فكلُّ استفهامٍ تسويةٌ وإنْ لم تكن كلُّ تسويةٍ استفهاماً «وهو كلامٌ حسنٌ. إلا أنَّ الشيخَ ناقشه في قوله: «أأنْذَرْتَهُم أم لم تنذرْهم لفظُه لفظُ الاستفهام ومعناه الخبر» بما معناه: أنَّ هذا الذي صورتُه صورةُ استفهامٍ ليس معناه الخبرَ لأنه مقدَّرٌ بالمفردِ كما تقدَّم، وعلى هذا فليس هو وحدَه في معنى الخبر/ لأنَّ الخبرَ جملةٌ وهذا في تأويل مفردٍ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ. ورُوِيَ الوقفُ على قولِهِ «أم لم تُنذِرْهم» والابتداء بقوله: «لا يؤمنون» على أنها جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وهذا ينبغي أن يُرَدَّ ولا يُلْتفتَ إليه، وإنْ كانَ قد نقله الهذلي في «الوقف والابتداء» له.

وقرئ «أَأَنْذَرْتَهُمْ» بتحقيقِ الهمزتين وهي لغةُ بني تميمٍ، وبتخفيف الثانية بينَ بينَ وهي لغةُ الحجازِ، وبإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً، ومنه: 146 - أيا ظبيةَ الوَعْساء بين جُلاجِلٍ ... وبين النقا آأنتِ أَمْ أمُّ سالمِ وقال آخر: 147 - تطَالَلْتُ فاسْتَشْرَفْتُه فَعَرَفْتُهُ ... فقلت له آأنتَ زيدُ الأرانبِ وروي عن ورش إبدالُ الثانيةِ ألِفاً مَحْضة، ونسب الزمخشري هذه القراءة للَّحْنِ، قال: «لأنه يؤدي إلى الجمع بين ساكنين على غير حَدَّهما، ولأن تخفيفَ مثلِ هذه الهمزةِ إنما هو بينَ بينَ» وهذا منه ليس بصواب لثبوت هذه القراءة تواتراً، وللقرَّاء في نحو هذه الآية عَمَلٌ كثيرٌ وتفصيلٌ منتشر.

7

قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} . . الآية {على قُلُوبِهمْ} : متعلّق بخَتَم، و «على سمعهم» يَحْتمل عطفه على قلوبهم وهو الظاهر للتصريح بذلك، أعني نسبةَ الختم إلى السمع في قوله تعالى: {

وَخَتَمَ على سَمْعِهِ} [الجاثية: 23] ويَحْتمل أن يكونَ خبراً مقدماً وما بعده عَطْفٌ عليه، و «غِشَاوة» مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خبرها ظرفاً أو حرفَ جر تاماً وقُدِّمَ عليها جاز الابتداء بها، ويكون تقديمُ الخبر حينئذٍ واجباً لتصحيحه الابتداء بالنكرة، والآيةُ من هذا القبيل، وهذا بخلافِ قوله تعالى: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] لأن في تلك الآية مُسوِّغاً آخر وَهو الوصفُ، فعلى الاحتمال الأول يُوقف على «سمعهم» ويُبتدأ بما بعده وهو «وعلى أبصارهم غشاوةٌ» فعلى أبصارهم خبرٌ مقدم وغشاوة مبتدأ مؤخر، وعلى الاحتمال الثاني يُوقف على «قلوبهم» ، وإنما كُرِّر حرفُ الجر وهو «على» ليفيد التأكيدَ أو ليُشْعِرَ ذلك بتغايرِ الختمين، وهو أنَّ خَتْم القلوبِ غيرُ خَتْمِ الأسماعِ. وقد فرَّق النحويون بين: «مررت بزيد وعمرو» وبين: «مررت بزيد وبعمرو» ، فقالوا: في الأول هو مرورٌ واحدٌ وفي الثاني هما مروران، وهو يؤيِّد ما قلته، إلاَّ أن التعليلَ بالتأكيدِ يَشْمل الإِعرابين، أعني جَعْلَ «وعلى سَمْعِهم» معطوفاً على قوله «على قلوبهم» وجَعْلَه خبراً مقدماً، وأمَّا التعليلُ بتغاير الخَتْمين فلا يَجيء إلا على الاحتمالِ الأولِ، وقد يُقال على الاحتمال الثاني إنَّ تكريرَ الحرفِ يُشْعرُ بتغاير الغِشاوتين، وهو أنَّ الغِشاوة على السمع غيرُ الغشاوةِ على البصرِ كما تَقَدَّم ذلك في الخَتْمين. وقُرئ: «غِشاوةً» نصباً، وفيه ثلاثةُ أوجه، الأولُ: على إضمار فعلٍ لائق، أي: وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً، وقد صُرِّح بهذا العامل في قوله تعالى: {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] . والثاني: الانتصابُ على إِسقاط حرف

الجر، ويكون «وعلى أبصارهم» معطوفاً على ما قبله، والتقدير: ختم الله على قلوبهم وعلى سَمْعهم وعلى أبصارهم بغشاوة، ثم حُذِفَ حرفُ الجر فانتصب ما بعده كقوله: 148 - تَمُرُّون الدِّيارَ ولم تَعُوجوا ... كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ أي تمرون بالديارِ، ولكنه غيرُ مقيسٍ. والثالث: أن يكونَ «غِشاوةً» اسماً وُضِع موضع المصدر الملاقي لَخَتم في المعنى، لأنَّ الخَتْمَ والتَغْشيَة يشتركانِ في معنى السَِّتر، فكأنه قيل: «وخَتَم تغشيةً» على سبيل التأكيد، فهو من باب «قَعَدْتُ جلوساً» وتكونُ قلوبُهم وسمعهُم وأبصارُهم مختوماً عليها مُغَشَّاةً. وقال الفارسي: «قراءةُ الرفع أَوْلى لأنَّ النصبَ: إمَّا أَنْ تَحْمِلَه على خَتَم الظاهرِ فَيَعْرِضُ في ذلك أنّك حُلْتَ بين حرفِ العطف والمعطوفِ بِهِ، وهذا عِندنا إنما يجوزُ في الشعر، وإمَّا أن تحمِلَه على فِعْلٍ يَدُلُّ عليه» خَتَم «تقديره: وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً، فيجيء الكلامُ من باب: 149 - يا ليتَ زَوجَكَ قد غَدَا ... متقلِّداً سيفاً ورُمْحا وقوله: 150 - عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْناها

ولا تكاد تجدُ هذا الاستعمالَ في حالِ سَعَةٍ ولا اختيار «. واستشكل بعضهم هذه العبارةَ، وقال:» لا أَدْري ما معنى قوله: «لأن النصبَ إمَّا أن تحمله على خَتَم الظاهر» ، وكيف تَحْمِل «غشاوةً» المنصوبَ على «ختم» الذي هو فعل وهذا ما لا حَمْلَ فيه؟ «. ثم قال:» اللهم إلا أن يكونَ أراد أنَّ قوله تعالى {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} دعاءٌ عليهم لا خبرٌ، ويكون غشاوةً في معنى المصدر المَدْعُوِّ به عليهم القائم مقامَ الفعلِ فكأنه قيل: وغَشَّى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على «خَتَم» عَطْفَ المصدر النائبِ منابَ فعلِهِ في الدعاء، نحو: «رَحِمَ الله زيداً وسقياً له» ، فتكونُ إذ ذاكَ قد حُلْتَ بين «غشاوة» المعطوفِ وبين «ختم» المعطوفِ عليه بالجار والمجرور «انتهى، وهو تأويلٌ حسنٌ، إلا أن فيه مناقشةً لفظيةً، لأن الفارسي ما ادَّعى الفصلَ بين المعطوف والمعطوفِ عليه إنما ادَّعى الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف به أي بالحرفِ، فتحرير التأويلِ أنْ يقال: فيكونُ قد حُلْتَ بين غشاوة وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور. وقُرئ» غشاوة «بفتح العين وضَمِّها، و» عشاوة «بالمهملة. وأصوبُ القراءاتِ المشهورةُ، لأن الأشياءَ التي تَدُلُّ على الاشتمالِ تجيء أبداً على هذه الزنة كالعِمامة/ والضِمامة والعِصابة. والخَتْمُ لغةً: الوَسْمُ بطابع وغيره و» القلبُ «أصله المصدرُ فسُمُّي به هذا العضوُ، وهو اللَّحْمة الصَّنَوْبَرِيَّة لسُرعة الخواطِر إليه وتردُّدِها، عليه، ولهذا قال:

151 - ما سُمِّي القلبُ إلاَّ مِنْ تقلُّبِه ... فاحذَرْ على القَلْبِ من قَلْبٍ وتَحْويلِ ولمَّا سُمِّي به هذا العضو التزموا تفخيمه فَرْقاً بينه وبين أصلِه، وكثيراً ما يراد به العقلُ، ويُطلق أيضاً على لُبِّ كلِّ شيء وخالِصِه. والسَّمعُ والسَّماعُ مصدران لسَمِع، وقد يستعمل بمعنى الاستماع، قال: 152 - وقد تَوَجَّس رِكْزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ ... بِنَبْأةِ الصوتِ ما في سَمْعِهِ كَذِبُ أي في استماعه، والسِّمْع - بالكسر - الذِّكْرُ الجميل، وهو أيضاً وَلَدُ الذئب من الضبُعِ، وَوُحِّد وإن كان المرادُ به الجَمْعَ كالذين قبله وبعده لأنه مصدرٌ حقيقةً، ولأنه على حذفِ مضافٍ، أي مواضعِ سَمْعِهم، أو يكونُ كَنَى به عن الأذن، وإنما وَحَّدَه لِفَهْمِ المعنى كقوله: 153 - كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ أي: بطونكم، وَمثلُه: 154 - لها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها ... فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ

أي: جلودها، ومثله: 155 - لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبينا ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجِينا وقُرِئَ شاذاً» على أسماعِهم «وهي تؤيِّد هذا. والأَبْصار: جمعُ بَصَر وهو نور العين التي تُدْرِكُ بِه المرئيَّاتِ، قالوا: وليس بمصدر لجَمْعِه، ولقائلٍ أن يقولَ: جَمْعُه لا يَمْنع كونه مصدراً في الأصل، وإنما سَهَّل جَمْعَه كونُه سُمِّي به نُور العين فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية كما تقدَّم في قلوب جمع قَلْب، وقد قلتم إنه في الأصل مصدرٌ ثم سُمِّي به، ويجوز أن يُكَنْى به عن العين كما كُنِي بالسمع عنى الأذنِ وإن كان السمعُ في الأصلِ مصدراً كما تقدَّم. والغِشاوى الغِطَاءُ، قال: 156 - تَبِعْتُك إذ عَيْني عليها غِشاوةٌ ... فلمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نفسي أَلومُها وقال: 157 - هَلاَّ سألْتِ بني ذُبْيان ما حَسْبي ... إذا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشْمَطَ البَرِمَا وجَمْعُها غِشَاءٌ، لمَّا حُذِفَتِ الهاءُ قُلِبَتِ الواوُ همزةٍ، وقيل: غشاوى مثل

أَداوى، قال الفارسي: «ولم أَسمع من الغِشاوة متصرفاً بالواو، وإذا لم يوجَدْ ذلك وكان معناها معنى ما اللامُ منه الياءُ وهو غَشِي يغشى بدليلِ قولِهم: الغِشْيان، والغِشاوة من غَشِيَ كالجِباوَة من جَبَيْت في أنَّ الواو كأنها بدلٌ من الياء، إذ لم يُصَرَّفْ منه فِعْلٌ كما لم يُصَرَّفْ من الجباوة» انتهى. وظاهر عبارتِه أن الواو بدلٌ من الياء، فالياء أصل بدليلِ تصرُّف الفعلِ منها دون مادة الواو، والذي يظهرُ أنَّ لهذا المعنى مادتين: غ ش و، وغ ش ي، ثم تصرَّفوا في إحدى المادتين واستغْنَوا بذلك عن التصرُّف في المادة الأخرى، وهذا أقربُ من ادِّعاء قَلْبِ الواو ياءً من غير سببٍ، وأيضاً فالياءُ أخفُّ من الواو فكيف يَقْلِبون الأخفَّ للأثقل؟ {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} : «لهم» خبرٌ مقدَّمٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و «عذابٌ» مبتدأ مؤخر، و «عظيمٌ» صفته، والخبرُ هنا جائزُ التقدُّم، لأنَّ للمبتدأ مُسَوِّغاً وهو وصفُه، فهو نظير: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] من حيث الجوازُ. والعَذابُ في الأصل: الاستمرارُ ثم سُمِّيَ به كلُّ استمرارِ ألمٍ، وقيل: أصلُه المنعُ، وهذا هو الظاهرُ، ومنه قيل للماء: عَذْب، لأنه يمنع العطشَ، والعذابُ يمنع من الجريمة. و «عظيمٌ» اسمُ فاعلٍ من عَظُم، نحو: كَريم من كَرُم غيرَ مذهوبٍ به مذهبَ الزمان، وأصله أن تُوصف به الأجرامُ، ثم قد توصفُ به المعاني، وهل هو والكبيرُ بمعنى واحد أو هو فَوْقَ الكبيرِ، لأنَّ العظيمَ يقابِلُ الحقيرَ، والكبيرَ يقابل الصغيرَ، والحقيرَ دونَ الصغيرِ؟ قولان. وفعيل له معانٍ كثيرةٌ، يكون اسماً وصفةً، والاسمُ مفردٌ وجمعٌ، والمفردُ

اسمُ معنى واسمُ عينٍ، نحو قميص وظريف وصهيل وكلِيب جمع كَلْب، والصفةُ مفردُ فُعَلَة كعَرِيّ يجمع على عُرَاة، ومفرد فَعَلة كَسِريٍّ يُجْمَعُ على سَراة، ويكون اسمَ فاعل من فَعُل نحو: عظيم مِنَ عظمُ كما تقدم، ومبالغةً في فاعِل نحو: عليم من عالم، وبمعنى أَفْعل كشَمِيط بمعنى أَشْمط ومفعول كجِريح بمعنى مَجْروح، ومُفْعِل كسميع بمعنى مُسْمِع، ومُفْعَل كوليد بمعنى مُولَد، ومُفاعِل كجليس بمعنى مُجالِس، ومُفْتَعِل كبديع بمعنى مُبْتدِع، ومُتَفَعِّل كسَعِير بمعنى مُتَسَعِّر، ومُسْتَفْعِل كمكين بمعنى مُسْتَمْكِن، وفَعْل كرطيب بمعنى رَطِب، وفَعَل كعَجِيب بمعنى عَجَب، وفِعال كصحيح بمعنى صِحاح، وبمعنى الفاعلِ والمفعول كصريخ بمعنى صارخ أو مصروخ، وبمعنى الواحد والجَمْعِ نحو خليط، وجمع فاعِل كغريب جمع غارِب.

8

قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} . . الآية {مِنَ الناس} خبر مقدم و «من يقول» مبتدأ مؤخر، و «مَنْ» تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً أي: الذي يقول أو فريقٌ يقول: فالجملةُ على الأول لا محلَّ لها لكونِها صلةً، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ لكونها صفةً للمبتدأ. واستضعف أبو البقاء أن تكونَ موصولةً، قال: لأن «الذي» يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإِبهام «انتهى. وهذا منه غيرُ مُسَلَّم لأن المنقولَ أن الآية نَزَلَت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أُبَيّ ورهطِه. وقال الأستاذ الزمخشري:» إن كانَتْ أل للجنس كانت «مَنْ» نكرةً موصوفة كقوله: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ} [الأحزاب: 23] ، وإن كانَتْ للعهد كانت موصولةً «، وكأنه قَصَد مناسبةَ الجنسِ للجنسِ والعهدِ للعهد، إلاَّ أن هذا الذي قاله غيرُ لازم، بل يجوز أن تكونَ أل للجنسِ وتكونَ»

مَنْ «موصولةً، وللعهدِ ومَنْ نكرةً موصوفةً/. وزعم الكسائي أنها لا تكون إلا في موضعٍ تختص به النكرةُ، كقوله: 158 - رُبَّ مَنْ أنْضَجْتُ غيظاً قلبَه ... قد تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ وهذا الذي قاله هو الأكثر: إلا أنها قد جاءت في موضعٍ لا تختصُّ به النكرة، قال: 159 - فكفى بنا فضلاً على مَنْ غيرُنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و» مَنْ «تكون موصولةً ونكرةً موصوفةً كما تقدَّم وشرطيةً واستفهاميةً، وهل تقع نكرةً غيرَ موصوفةٍ أو زائدةً؟ خلافٌ، واستدلَّ الكسائي على زيادتها بقولِ عنترة: 160 - يا شاةَ مَنْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ له ... حَرُمَتْ عليَّ ولَيْتَها لم تَحْرُمِ ولا دليلَ فيه لجوازِ أن تكونَ موصوفةً بقَنَص: إمَّا على المبالغة أو على حذف مضاف. و» مِنْ «في» مِنَ الناس «للتبعيض، وقد زعم قومٌ أنها للبيان وهو غَلَطٌ لعدم تقدُّم ما يتبيَّن بها. و» الناس «اسمُ جمع لا واحدَ له مِنْ لفظه، ويرادفُهُ» أناسِيٌّ «جمع إنسان أو إِنْسِيّ، وهو حقيقةٌ في الآدميين، ويُطْلق على الجن

مجازاً. واختلف النحويون في اشتقاقه: فمذهبُ سيبويه والفراء أنَّ أصلَه همزةٌ ونون وسين والأصل: أناس اشتقاقاً من الأنس، قال: 161 - وما سُمِّي الإِنسانُ إلا لأُِنْسِه ... ولا القلبُ إلا أنه يَتَقَلَّبُ لأنه أَنِس بحواء، وقيل: بل أَنس بربه، ثم حُذفت الهمزة تخفيفاً، يدلُّ على ذلك قوله: 162 - إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ ... نَ على الأُناس الآمنينا وقال آخر: 163 - وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فهو سارِبُ وقال آخر: 164 - وكلُّ أُناسٍ سوف تَدْخُل بينهم ... دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ وذهب الكسائي إلى أنه من نون وواو وسين، والأصلُ: نَوَسَ، فَقُلبت الواوُ ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، والنَّوْس والحركةُ. وذهب بعضُهم إلى أنه من نون وسين وياء، والأصل: نَسِي، ثم قُلِبَتْ اللامُ إلى موضع العين فصار

نَيَساً، ثم قُلبت الياء ألفاً لما تقدم في نوس، قال: سُمُّوا بذلك لنِسْيانهم ومنه الإِنسان لنسيانه، قال: 165 - فإنْ نَسِيْتَ عُهوداً منك سالفةً ... فاغفرٍ فأولُ ناسٍ أولُ الناس ومثله: 166 - لا تَنْسَيَنْ تلك العهودَ فإنما ... سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسِي فوزنُه على القول الأول: عال، وعلى الثاني، فَعَل، وعلى الثالث: فَلَع بالقلب. و «يقول» : فعل مضارع وفاعله ضميرٌ عائد على «مَنْ» ، والقولُ حقيقةً: اللفظُ الموضوعُ لمعنىً، ويُطْلَقُ على اللفظِ الدالِّ على النسبةِ الإِسناديةِ وعلى الكلام النفساني أيضاً، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] ، وتراكيبه الستة وهي: القول واللوق والوقل والقلو واللقو والولق تَدُلُّ على الخفَّةِ والسرعةِ، وإنْ اختصَّتْ بعضُ هذه الموادِّ بمعانٍ أُخَرَ. والقولُ أصلُ تعديتِه لواحدٍ نحو: «قُلْتُ خطبةً» ، وتحكى بعده الجملُ، وتكون في حلِّ نصب مفعولاً بها إلا أَنْ يُضَمَّنَ معنى الظن فيعملَ عَمَلَه بشروطٍ عند غير بني سُلَيْم مذكورةٍ في كتب النحو، كقوله: 167 - متى تقولُ القُلُصَ الرواسِما ... يُدْنِيْنَ أمَّ قاسمٍ وقاسما

وبغير شرط عندهم كقوله: 168 - قالتْ وكنتُ رجلاً فطيناً ... هذا لَعَمْرُ اللهِ إسرائينا و «آمَنَّا» : فعلٌ وفاعلٌ، و «بالله» متعلقٌ به، والجملةُ في محلِّ نصب بالقول، وكُرِّرَت الباءُ في قوله «وباليومِ» للمعنى المتقدِّم في قوله: {وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 7] ، وقد سأل سائل فقال: الخبرُ لا بد وأن يفيدَ غيرَ ما أفاده المبتدأ، ومعلومٌ أن الذي يقولَ كذا هو من الناس لا من غيرهم. واُجيب عن ذلك: بأن هذا تفصيلٌ معنويٌّ لأنه تقدَّم ذِكْرُ المؤمنين، ثم ذِكْرُ الكافرين، ثم عَقَّبَ بذِكْر المنافقين، فصار نَظيرَ التفصيلِ اللفظي، نحو قوله: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ} [البقرة: 204] {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي} [لقمان: 6] فهو في قوةِ تفصيلِ الناسِ إلى مؤمنٍ وكافرٍ ومنافقٍ، وأحسنُ مِنْ هذا أن يُقالَ: إن الخبرَ أفادَ التبعيضَ المقصودَ لأن الناس كلهم لم يقولوا ذلك. وهم غيرُ مؤمنين فصارَ التقديرُ: وبعضُ الناسِ كَيْتَ وكَيْتَ. واعلم أن «مَنْ» وأخواتها لها لفظٌ ومعنىً، فلفظُها مفردٌ مذكَّرٌ، فإن أريد بها غيرُ ذلك فلك أن تراعيَ لفظها مرةً ومعناها أخرى، فتقول: «جاء مَنْ قام وقعدوا» والآيةُ الكريمة كذلك، روعي اللفظُ أولاً فقيل: «مَنْ يقول» ، والمعنى ثانياً في «آمَنَّا» ، وقال ابن عطية: «حَسُن ذلك لأنَّ الواحدَ قبلَ الجمعِ في الرتبة، ولا يجوزُ أن يرجِعَ متكلمٌ من لفظِ جَمْعٍ إلى توحيدٍ، لو قلت: ومن

الناس مَنْ يقومون ويتكلم لم يَجُز» . وفي عبارة القاضي ابن عطية نظرٌ، وذلك لأنه منع من مراعاة [اللفظ بعد مراعاة] المعنى، وذلك جائزٌ، إلا أنَّ مراعاةَ اللفظ أولاً أَوْلى، ومِمَّا يَرُدُّ عليه قولُ الشاعر: 169 - لستُ مِمَّنْ يَكُعُّ أو يَسْتَكينو ... ن إذا كافَحَتْهُ خيلُ الأعادي وقال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ} [التغابن: 9] إلى أن قال: «خالدين» فراعى المعنى، ثم قال: {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} فراعى اللفظَ بعد مراعاةِ المعنى وكذا راعى المعنى في قوله: «أو يَستكينون» ثم راعى اللفظَ في «إذا كافحته» . وهذا الحملُ جارٍ فيها في جميع أحوالها، أعني مِنْ كونِها موصولةً وشرطيةً واستفهامية/ أمَّا إذا كانَتْ موصوفةً فقال الشيخ: «ليس في مَحْفوظي من كلام العرب مراعاةُ المعنى» يعني تقول: مررت بمَنْ محسنون لك. و «الآخِر» صفةٌ لليوم، وهو مقابِلُ الأولِ، ومعنى اليومِ الآخر أي عن الأوقات المحدودة. و {مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} ما نافية، ويحتمل أن تكونَ هي الحجازيةَ فترفعَ الاسمَ وتنصبَ الخبرَ فيكونُ «هم» اسمَها، وبمؤمنين خبرَها، والباء زائدةٌ تأكيداً وأن تكونَ التميميةَ، فلا تعملَ شيئاً، فيكونُ «هم» مبتدأ و «بمؤمنين» الخبرَ والباءُ زائدةٌ أيضاً، وزعم أبو علي الفارسي وتبعه الزمخشري أن الباءَ

لا تُزاد في خبر «ما» إلا إذا كانَتْ عاملةَ، وهذا مردودٌ بقول الفرزدق، وهو تميمي: 170 - لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتاركِ حَقِّه ... ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ إلا أنَّ المختارَ في «ما» أن تكونَ حجازِيةً، لأنه لمَّا سقطت الباءُ صَرَّح بالنصب قال الله تعالى: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] وأكثرُ لغةِ الحجاز زيادةُ الباء في خبرها، حتى زعم بعضُهم أنه لم يَحْفَظِ النصبَ في غير القرآن إلا في قول الشاعر: 171 - وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... تَصِل الجيوشُ إليكمُ أَقْوادَها أبناؤُها متكنِّفَون أباهُمُ ... حَنِقُو الصدورِ وما هُمُ أولادَها وأتى بالضمير في قوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} جمعاً اعتباراً بمعنى «مَنْ» كما تقدم في قولِه «آمنَّا» . فإنْ قيل: لِمَ أتى بخبر «ما» اسمَ فاعل غيرَ مقيَّدٍ بزمان ولم يُؤْتَ بعدها بجملةٍ فعلية حتى يطابقَ قولَهم «آمنَّا» فيقال: وما آمنوا؟ فالجوابُ: أنه عَدَلَ عن ذلك ليفيدَ أنَّ الإِيمانَ منتفٍ عنهم في جميعِ الأوقات فلو أُتِيَ به مطابقاً لقولهم «آمنَّا» فقال: وما آمنوا لكان يكونُ نفياً للإِيمان في

الزمن الماضي فقط، والمرادُ النفيُ مطلقاً، أي: إنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإِيمان في وقتٍ من الأوقات.

9

قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ الله} : هذه الجملةُ الفعلية يُحْتمل أن تكونَ مستأنفةً جواباً لسؤال مقدَّر، وهو: ما بالُهم قالوا آمنَّا وما هم بمؤمنين؟ فقيل: يُخادعون اللهَ، ويحتمل أن تكونَ بدلاً من الجملةِ الواقعة صلةً ل «مَنْ» وهي «يقولُ» ، ويكون هذا من بدلِ الاشتمال، لأنَّ قولَهم كذا مشتملٌ على الخِداع فهو نظيرُ قوله: 172 - إنَّ عليَّ اللهَ أن تُبايعا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تَجِيءَ طائِعا وقول الآخر: 173 - متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجَا ف «تُؤْخَذَ» بدلُ اشتمالٍ من «تُبايع» وكذا «تُلْمم» بدلٌ من «تأتِنا» ، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب. والجملُ التي لا محلَّ لها من الإِعراب أربعٌ لا تزيد على ذلك -وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك- وهي: المبتدأ والصلة والمعترضة والمفسِّرة، وسيأتي تفصيلُها في مواضعها. ويُحْتمَل أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمير المستكنِّ في «يقول» تقديرُه: ومن الناسِ مَنْ يقول حالَ كونِهم مخادِعين. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في «بمؤمنين» والعاملُ فيها اسمُ الفاعل. وقد رَدَّ عليه بعضُهم

بما معناه: أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ نظيرُ: ما زيدٌ أقبل ضاحكاً، قال: «وللعربِ في مثل هذا التركيبِ طريقان، أحدُهما: نفيُ القيدِ وحدَه وإثباتُ أصلِ الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى أنَّ الإِقبالَ ثابتٌ والضحكَ منتفٍ، وهذا المعنى لا يُتَصَوَّرُ إرادتُه في الآية، أعني نفيَ الخِداع، وثبوتَ الإِيمان. الطريقُ الثاني: أن ينتفيَ القيدُ فينتفيَ العاملُ فيه فكأنه قيل في المثال السابق: لم يُقْبِلْ ولم يَضْحَكْ، وهذا المعنى أيضاً غيرُ مرادٍ بالآية الكريمة قَطْعاً، أعني نفيَ الإِيمان والخداعِ معاً، بل المعنى على نفي الإِيمان وثبوتِ الخداع، ففَسَد جَعْلُها حالاً من الضميرِ في» بمؤمنين «. والعجبُ من أبي البقاء كيف استشعر هذا الإِشكال فمنعَ مِنْ جَعْلِ هذه الجملةِ في محلِّ الجرِّ صفة لمؤمنين؟ قال:» لأنَّ ذلك يوجبُ نَفْيَ خداعِهِم، والمعنى على إثباتِ الخداعِ «، ثم جَعَلَها حالاً مِنْ ضمير» مؤمنين «ولا فرقَ بين الحالِ والصفةِ في هذا. والخِداعُ أصلُه الإِخفاء، ومنه الأَخْدَعان: عِرْقَان مستبطنان في العُنُق ومنه مَخْدَع البيت، فمعنى خادع أي: مُوهِمٌ صاحبَه خلافَ ما يريد به من المكروه، وقيل: هو الفساد، قال الشاعر: 174 - أبيضُ اللونِ لذيذٌ طَعْمُهُ ... طَيِّبُ الرِّيقِ إذا الريقُ خَدَعْ أي: فَسَد. والمصدر الخِدْعُ بكسر الخاء، ومثله: الخَدِيعة. ومعنى يخادعون الله أيْ مِنْ حيث الصورةُ لا مِنْ حيث المعنى، وقيل: لعدم عرفانِهم بالله تعالى وصفاته ظنُّوه مِمَّنْ يخادَعُ. وقال أبو القاسم الزمخشري/:» إنَّ اسمَ الله تعالى مُقْحَمٌ، والمعنى: يُخادِعون الذين آمنوا، ويكون من باب «

أعجبني زيدٌ وكرمُه» . المعنى: أعجبني كرمُ زيد، وإنما ذُكر «زيدٌ» توطئةً لذِكْر كرمه «وجَعَل ذلك نظيرَ قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] . وهذا منه غيرُ مُرْضٍ، لأنه إذا صَحَّ نسبةُ مخادعتِهم إلى الله تعالى بالأوجهِ المتقدمة فلا ضرورة تدعو إلى ادِّعاء زيادةِ اسم اللهِ تعالى، وأمَّا» أعجبني زيدٌ وكرمُه «فإنَّ الإِعجابَ أُسْنِدَ إلى زيدٍ بجملتِه، ثم عُطِفَ عليه بعضُ صفاتِه تمييزاً لهذه الصفةِ مِنْ بينِ سائرِ الصفاتِ للشرفِ، فصار من حيث المعنى نظيراً لقولِه تعالى: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . وفَاعَلَ له معانٍ خمسةٌ: المشاركةُ المعنويةُ نحو:» ضاربَ زيدٌ عمراً «وموافقةُ المجرد نحو:» جاوَزْتُ زيداً «أي جُزْتُه، وموافقةُ أَفْعَل متعدياً نحو:» باعَدْتُ زيداً وأَبْعدته «، والإِغناءُ عن أَفْعل نحو:» وارَيْتُ الشيءَ «، وعن المجردِ نحو: سافَرْت وقاسَيْت وعاقَبْت، والآيةُ فيها فاعَلَ يحتمل المعنيين الأَوَّلَيْنِ. أمَّا المشاركةُ فالمخادعةُ منهم لله تعالى تقدَّم معناها، ومخادعةُ الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكامَ المسلمين في الدنيا، ومخادعةُ المؤمنين لهم كونُهم امتَثلوا أمرَ الله تعالى فيهم، وأمَّا كونُه بمعنى المجرد فيبيِّنه قراءةُ ابن مسعود وأبي حيوة:» يَخْدَعون «.

وقرأ أبو عمرو والحرمِيَّان:» وما يُخَادِعون «كالأولى، والباقون: وما يَخْدعون، فيُحتمل أن تكونَ القراءتان بمعنىً واحد، أي يكون فاعَلَ بمعنى فَعَل، ويُحتمل أن تكونَ المفاعلةُ على بابها، أعني صدورَها من اثنين، فهم يُخادعون أنفسَهم، حيثُ يُمَنُّونَها الأباطيلَ، وأنفُسُهم تخادِعهم حيث تُمَنِّيهم ذلك أيضاً فكأنها محاورةٌ بين اثنين، ويكون هذا قريباً من قول الآخر: 175 - لم تَدْرِ ما لا ولستَ قائلَها ... عُمْرَكَ ما عِشْت آخرَ الأبدِ ولم تُؤامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً ... فيها وفي أختِها لم تَكَدِ وقال آخرُ: 176 - يؤامِرُ نَفْسَيْهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ ... أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبانَ أَمْ لا يَطورُها وقوله» إلا أنفسَهم «:» إلا «في الأصل حَرف استثناء، ِ وأنفسَهم مفعول به، وهذا الاستثناءُ مفرغٌ، وهو عبادرةٌ عما افْتَقَر فيه ما قبلَ» إلا «لِما بعدها، ألا ترى أن» يُخادعون «يَفْتَقِرُ إلى مفعولٍ، ومثلُه:» ما قام إلا زيدٌ «فقام يفتقر إلى فاعل، ٍ والتامُّ بخلافِه، أي: ما لم يَفْتَقِرْ فيه ما قبلَ» إلاَّ «لِما بعدها، نحو: قام القومُ إلا زيداً، وضرْبتُ القوم إلا بكراً، فقام قد أخذ فاعلَه، وضرْبتُ أخذ مفعولَه، وشرطُ الاستثناء المفرغ أن يكونَ بعد نفيٍ أو شِبْههِ كالاستفهام والنفي. وأمَّا قولُهم:» قرأتُ إلا يومَ كذا «فالمعنى على نفيٍ مؤول تقديره:

ما تركتُ القراءة إلا يوم كذا، ومثلُه: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] ، {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] ، وللاستثناء أحكامٌ كثيرة تأتي مفصلةً في غضون الكتاب إن شاء الله تعالى. وقُرئ: «وما يُخْدَعون» مبنياً للمفعول، وتخريجُها على أنَّ الأصلَ وما يُخْدَعون إلا عن أنفسِهم، فلمّا حُذِف الحرف انتصبَ على حدٍّ: 177 - تَمُرُّون الديار ولم تَعُوجوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و «يُخَدِّعون» ، مِنْ خَدَّعَ مشدداً، و «يَخَدِّعون» بفتح الياء والتشديد والأصل: يَخْتَدِعون فأدغم. {وَمَا يَشْعرونَ} هذه الجملةُ الفعليةُ، يُحتمل ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإِعراب، لأنها استئنافٌ، وأن يكونَ لها محلٌّ وهو النصبُ على الحال من فاعل «يَخْدعون» ، والمعنى: وما يَرْجِعِ وبالُ خِداعِهم إلا على أنفسِهم غيرَ شاعِرين بذلك. ومفعولُ «يَشْعُرون» محذوفٌ للعلم به، تقديرُه: وما يشعرون أنَّ وبالَ خداعِهم راجعٌ على أنفسِهم، أو اطِّلاعِ اللهِ عليهَم، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ لأنَّ الغرضَ نفيُ الشعورِ عنهم البتةَ من غير نظرٍ إلى مُتَعَلِّقِهِ، والأولُ يُسَمَّى حذفَ الاختصارِ، ومعناه حَذْفُ الشيءِ لدليلٍ، والثاني يُسَمَّى حذفَ الاقتصار، وهو حَذْفُ الشيءِ لا لدليلٍ.

والشعورُ: إدراكُ الشيء من وجهٍ يَدِقُّ ويَخْفى، مشتقٌّ من الشَّعْرِ لدقَّته، وقيل: هوالإِدراك بالحاسَّة مشتقٌّ من الشِّعار، وهو ثوبٌ يَلي الجسدَ، ومنه مشاعرُ الإِنسانِ أي حواسُّه الخمسُ التي يَشْعُرُ بها.

10

قولُه تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} : الآية. الجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدمٌ واجبُ التقديمِ لِما تَقَدَّم ذِكْرُه في قوله: {وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] . والمشهورُ تحريك الراءِ مِنْ «مَرَض» ، ورَوى الأصمعي عن أبي عمرو سكونَها، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَض. والمرضُ: الفتورُ، وقيل: الفساد، ويُطلق على الظلمة، وانشدوا: 178 - في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ ... فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ أي لظلمتها، ويجوزُ أن يكونَ أراد بمَرِضَتْ فَسَدت، ثم بيَّن جهةَ الفسادِ بالظلمةِ. وقوله: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} : هذه جملةٌ فعليةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الاسميةِ قبلها، مُتَسَبِّبَةٌ عنها، بمعنى أنَّ سبب الزيادة حصولُ المرضِ في قلوبهم، إذ المرادُ بالمرض هنا الغِلُّ والحَسَد/ لظهور دين الله تعالى. و «زاد» يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غيرُ الأول كأعطى وكسا، فيجوز حذفُ معمولَيْه وأحدِهما اختصاراً واقتصاراً، تقول: زاد المال، فهذا لازمٌ، وزِدْتُ زيداً خيراً، ومنه {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ، {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} «وزدتُ

زيداً» ولا تذكر ما زِدْتَه، وزدْتُ مالاً، ولا تذكر مَنْ زِدْتَه وألفُ «زاد» منقلبةٌ عن ياء لقولهم: يزيدُ. {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} نظير قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7] وقد تقدَّم. وأليم هنا بمعنى مُؤْلِم، كقوله: 179 - ونَرْفَعُ مِنْ صدورِ شَمَرْدَلاتٍ ... يَصُكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ ويُجمع على فُعَلاء كشريف وشُرَفَاء، وأَفْعال مثل: شريف وأَشْراف، ويجوزُ أن يكونَ فعيل هنا للمبالغة مُحَوَّلاً من فَعِلَ بكسرِ العين، وعلى هذا يكون نسبةُ الألم إلى العذاب مجازاً، لأن الألم حَلَّ بمَنْ وَقَعَ به العذابُ لا بالعذاب، فهو نظيرُ قولهم: شِعْرٌ شاعِرٌ. و {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ في «لهم» أي: استقر لهم عذابٌ أليم بسبب تكذيبهم. و «ما» يجوزُ أَنْ تَكونَ مصدريةً أي بكونِهم يكذبون وهذا على القول بأنَّ ل «كان» مصدراً، وهو الصحيحُ عند بعضهم للتصريحِ به في قول الشاعر: 180 - بِبَذْلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى ... وكونُك إياه عليكَ يَسيرُ فقد صرَّح بالكون. ولا جائزٌ أن يكونَ مصدَر كان التامةِ لنصبِه [الخبر] بعدها، وهو: «إياه» ، على أن للنظر في هذا البيتِ مجالاً ليسَ هذا موضعَه. وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريحُ به معها، لا تقول: «

كان زيد قائماً كوناً» ، قالوا: لأن الخبرَ كالعوضِ من المصدر، ولا يُجْمع بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه، وحينئذٍ فلا حاجةَ إلى ضميرٍ عائدٍ على «ما» لأنها حرفٌ مصدريٌّ على الصحيح خلافاً للأخفش وابنِ السراجِ في جَعْلِ المصدريَّة اسماً. ويجوز أن تكونَ «ما» بمعنى الذي، وحينئذ فلا بدَّ من تقديرِ عائدٍ أي: بالذي كانوا يكذِّبونه، وجاز حَذْفُ العائدِ لاستكمالِ الشروط، وهو كونُه منصوباً متصلاً بفعل، وليس ثَمَّ عائدٌ آخرُ. وزعم أبو البقاء أنَّ كونَ ما موصولةً اسمية هو الأظهرُ، قال: «لأن الهاء المقدرةَ عائدةٌ على» الذي «لا على المصدرِ» وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: لا نُسَلِّم أنه لا بدَّ من هاءٍ مقدرة، حتى يلزمَ جَعْلُ «ما» اسميةً، بل مَنْ قرأ «يَكْذِبون» مخففاً فهو عنده غيرُ متعَدٍّ لمفعولٍ، ومَنْ قرأه مشدَّداً فالمفعولُ محذوفٌ لِفَهْم المعنى أي: بما كانُوا يُكَذِّبون الرسولَ والقرآنَ، أو يكون المشددُ بمعنى المخَفَّف. وقرأ الكوفيون: «يَكْذِبون» بالفتح والتخفيفِ، والباقون بالضمِّ والتشديدِ. ويُكَذِّبون مضارع كَذَّب بالتشديد، وله معانٍ كثيرة: الرَّمْيُ بكذا، ومنه الآيةُ الكريمةُ، والتعديةُ نحو: فَرَّحْتُ زيداً، والتكثير نحو: قَطَّعْتُ

الأثواب، والجَعْلُ على صفة نحو: قطَّرْتُه أي: جعلته مُقَطَّرا، ومنه: 181 - قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... مَا قَطَّر الفارسَ إلا أنا والتسميةُ نحو: فَسَّقْتُه أي سَمَّيْتُه فاسقاً، والدعاءُ له نحو: سَقَّيْتُه أي: قلت له: سَقاك الله، أو الدعاءُ عليه نحو: عَقَّرْته، أي: قلت له: عَقْراً لك، والإِقامة على شيء نحو: مَرَّضْتُه، والإِزالة نحو: قَذَّيْتُ عينَه أي أزلْتُ قَذاها، والتوجُّه نحو: شَرَّق وغَرَّب، أي: تَوَجَّه نحو الشرق والغرب، واختصارُ الحكاية نحو: أَمَّن قال: آمين، وموافقة تَفَعَّل وفَعَل مخففَّاً نحو: ولَّى بمعنى تَوَلَّى، وقَدَّر بمعنى قَدَر، والإِغناء عن تَفَعَّل وفَعَل مخففاً نحو: حَمَّر أي تكلَّم بلغة حميرٍ، قالوا: «مَنْ دَخَلَ ظَفارِ حَمَّر» وعَرَّد في القتال هو بمعنى عَرِد مخففاً، وإن لم يُلْفَظْ به. و «الكذب» اختلف الناسُ فيه، فقائلٌ: هو الإِخبار عن الشيء بغيرِ ما هو عليه ذهناً وخارجاً، وقيل: بغير ما هو عليهِ في الخارجِ سواءً وافق اعتقادَ المتكلم أم لا. وقيل: الإِخبارُ عنه بغيرِ اعتقادِ المتكلِّم سَواءً وافق ما في الخارج أم لا، والصدقُ نقيضُه، وليس هذا موضعَ ترجيحٍ.

11

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} : الآية. «إذا» ظرفُ زمنٍ مستقبل ويلزمُها معنى الشرطِ غالباً، ولا تكونُ إلا في الأمرِ المحقق أو المرجَّحِ وقوعُه فلذلك لم تَجْزم إلا في شعر لمخالفتِها أدواتِ الشَرط، فإنها للأمر المحتمل، ومن الجزم قولُه: 182 - تَرفعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لي ... ناراً إذا خَمَدَتْ نيرانُهم تَقِدِ

وقال آخر: 183 - واستَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى ... تُصِبْكَ خَصَاصةٌ فَتَجَمَّلِ وقول الآخر: 184 - إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها ... خُطانا إلى أعدائِنا فَنُضَارِبِ فقوله: «فَنُضَارِبِ» مجزومٌ لعطفِه على محلِّ قولِه «كان وصلُها» . وقال الفرزدق: 185 - فقام أبو ليلى إليه ابنُ ظَالمٍ ... وكان إذا ما يَسْلُلِ السيفَ يَضْرِبِ وقد تكونُ للزمنِ الماضي ك «إذ» ، كما قد تكون إذْ للمستقبل ك «إذا» ، وتكون للمفاجأة أيضاً، وهل هي حينئذٍ باقيةٌ على زمانيتها أو صارَتْ/ ظرفَ مكانٍ أو حرفاً؟ ثلاثةُ أقوال، أصحُّها الأولُ استصحاباً للحالِ، وهل تتصرَّف أم لا؟ الظاهرُ عدمُ تَصَرُّفِها، واستدلَّ مَنْ زعم تصرُّفها بقولِه تعالى في قراءة مَنْ قرأ: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةً رَّافِعَةً إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً} [الواقعة: 1-4] بنصب {خَافِضَةً رَّافِعَةً} ، فَجَعَلَ «إذا» الأولى مبتدأ والثانيةَ خبرَها، التقديرُ: وَقْتُ وقوعِ الواقعة وقتُ رَجِّ الأرض، وبقوله: {حتى إِذَا جَآءُوهَا} [الزمر: 71] {حتى إِذَا كُنتُمْ} [يونس: 22] ، فجعلَ «حتى» حرفَ جر و «إذا» مجرورةً بها،

وسيأتي تحقيقُ ذلك في مواضِعِه. ولا تُضافُ إلا إلى الجملِ الفعليةِ خلافاً للأخفش. وقولُه تعالى: «قيل» فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعولِ، وأصلُه: قُولَ كضُرِبَ فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو، فَنُقِلَت إلى القافِ بعد سَلْبِ حركتِها، فَسَكَنَتَ الواوُ بعد كسرةٍ فقُلِبت ياءً، وهذه أفصحُ اللغاتِ، وفيه لغةٌ ثانية وهي الإِشمامُ، والإِشمامُ عبارةٌ عن جَعْلِ الضمةِ بين الضمِ والكسرِ، ولغةٌ ثالثةٌ وهي إخلاصُ الضم، نحو: قُوْلَ وبُوعَ، قال الشاعر: 186 - ليت وهل يَنْفَع شيئاً ليتُ ... ليت شباباً بُوْعَ فاشتريْتُ وقال آخر: 187 - حُوكَتْ على نِيْرَيْنِ إذ تُحاكُ ... تَخْتَبِطَ الشَّوْكَ ولا تُشَاكُ وقال الأخفش: «ويجوزُ» قُيْل «بضم القافِ والياءُ» يعني مع الياء لا أنَّ الياءَ تضمُّ أيضاً. وتجيءُ هذه اللغاتُ الثلاثُ في اختار وانقاد ورَدَّ وحَبَّ ونحوها، فتقول: اختير بالكسرِ والإِشمامِ واختُور، وكذلك انقيد وانقُود ورُدَّ ورِدَّ، وأنشدوا: 188 - وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا ... ولا قائِلُ المعروفِ فينا يُعنَّفُ

بكسر حاء «حِلَّ» وقرئ: «ولو رِدُّوا» بكسر الراء، والقاعدةُ فيما لم يُسَمَّ فاعلُه أن يُضَمَّ أولُ الفعلِ مطلقاً، فإن كان ماضياً كُسِر ما قبلَ آخرهِ لفظاً نحو: ضُرِب أو تقديراً نحو: قِيلَ واخْتِير، وإن كان مضارعاً فُتح لفظاً نحو يُضْرَبُ أو تقديراً نحو: يُقال ويُختار، وقد يُضَمُّ ثاني الماضي أيضاً إذا افتُتح بتاءِ مطاوعةٍ نحو تُدُحْرج الحجرُ، وثالثهُ إن افتُتح بهمزةِ وصل نحو: انطُلِق بزيدٍ. واعلم أن شرطَ جوازِ اللغاتِ الثلاث في قيل وغيض ونحوِهما أَلاَّ يُلْبِسَ، فإن أَلْبس عُمِل بمقتضى عَدمِ اللَّبْس، هكذا قال بعضُهم، وإن كان سيبويه قد أطلقَ جوازَ ذلك، وأشمَّ الكسائي: {قيل} [البقرة: 11] ، {وغيض} [هود: 44] {وجيء} [الزمر: 69] ، {وحيل بينهم} [سبأ: 54] ، {وسيق الذين} [الزمر: 71] ، {وسيىء بهم} [هود: 77] ، {وسيئت وجوهُ} [الملك: 27] ، وافقه هشام في الجميع، وابنُ ذكوان في «حيل» وما بعدها، ونافع في «سيئ» و «سيئَتْ» والباقون بإخلاصِ الكسرِ في الجميع. والإِشمامُ له معانٍ أربعةٌ في اصطلاح القرَّاء سيأتي ذلكَ في «يوسف» إن شاء الله تعالى عند {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا} [يوسف: 11] فإنه أليقُ به.

و «لهم» جارٌّ ومجرور متعلِّق بقيل، واللامُ للتبليغ، و «لا» حرفُ نهي تَجْزِمُ فعلاً واحداً، «تُفْسِدوا» مجزومٌ بها، علامةُ جَزْمِه حذفُ النون لأنه من الأمثلةِ الخمسةِ، و «في الأرضِ» متعلّقٌ به، والقائمُ مقامَ الفاعل هو الجملةُ من قوله «لا تُفْسِدوا» لأنه هو المقولُ في المعنى، واختاره أبو القاسم الزمخشري، والتقديرُ: وإذا قيل لهم هذا الكلامُ أو هذا اللفظُ، فهو من باب الإِسنادِ اللفظي. وقيل: القائمُ مقام الفاعلِ مضمرٌ تقديرُه: وإذا قيل لهم [قولٌ] هو، ويُفَسِّر هذا المضمَر سياقُ الكلامِ كما فسَّره في قولِه: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] والمعنى: «وإذا قيل لهم قولٌ سَديدٌ» فَأُضْمِر هذا القولُ الموصوفُ، وجاءَتِ الجملةُ بعده مفسرةً فلا موضعَ لها من الإِعراب، قال: «فإذا أَمْكَنَ الإِسنادُ المعنويُّ لم يُعْدَل إلى اللفظي، وقد أمكن ذلك بما تقدَّم» وهذا القولُ سبقه إليه أبو البقاء فإنه قال: «والمفعولُ القائمُ مقامَ الفاعل مصدرٌ وهو القولُ وأُضْمر لأنَّ الجملة بعد تفسِّره، ولا يجوزُ أن يكونَ» لا تُفْسِدوا «قائماً مقامَ الفاعلِ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلةً فلا تقومُ مقامَ الفاعل» . انتهى. وقد تقدَّم جوابُ ذلك مِنْ أنَّ المعنى: وإذا قيل لهم هذا اللفظُ، ولا يجوزُ أن يكونَ «لهم» قائماً مقامَ الفاعلِ إلا في رأي الكوفيين والأخفشِ، إذ يجوزُ عندهم إقامةُ غيرِ المفعولِ به مع وجودِه. وتلخَّص مِنْ هذا أنَّ جملةَ قولِه: «لا تُفْسدوا» في محلِّ رفعٍ على قولِ الزمخشري، ولا محلَّ لها على قول أبي البقاء ومَنْ تبعه. والجملةُ من قوله: «قيل» وما في حيِّزِه في محلِّ خَفْض

بإضافةِ الظرفِ إليه. والعاملُ في «إذا» جوابُها عند الجمهور وهو «قالوا» ، والتقدير: قالوا إنما نحن مصلحون وقتَ القائل لهم لا تُفْسدوا، وقال بعضهم: «والذي نختاره أنَّ الجملةَ/ التي بعدَها وتليها ناصبةٌ لها، وأنَّ ما بعدها ليس في محلِّ خفض بالإِضافةِ لأنها أداةُ شرط، فحكمُها حكمُ الظروفِ التي يُجازى بها، فكما أنك إذا قلتَ:» متى تقمْ أقمْ «كان» متى «منصوباً بفعلِ الشرط فكذلك» إذا «. قال هذا القائل: «والذي يُفْسد مذهبَ الجمهور جوازُ قولِك:» إذا قمت فعمورٌ قائمٌ «، ووقوعُ» إذا «الفجائية جواباً لها، وما بعد الفاء وإذا الفجائية لا يَعْمل ما بعدهما فيما قبلهما. وهو اعتراضٌ ظاهر. وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} » إنَّ «حرفٌ مكفوفٌ ب» ما «الزائدة عن العمل، ولذلك تليها الجملةُ مطلقاً، وهي تفيدُ الحصرَ عند بعضِهم. وأَبْعَدَ مَنْ زعم أن» إنما «مركبة من» إنَّ «التي للإِثبات و» ما «التي للنفي، وأنَّ بالتركيب حدث معنىً يفيد الحصرَ. واعلم أنَّ» إنَّ «وأخواتِها إذا ولِيَتْها» ما «الزائدةُ بَطَلَ عملُها وذهب اختصاصُها بالأسماء كما مرَّ، إلا» ليت «فإنه يجُوز فيها الوجهان سماعاً، وأنشدوا قولَ النابغة: 189 - قالتْ ألا ليتما هذا الحمامَُ لنا ... إلى حمامتِنا ونصفَُهُ فَقَدِ برفع» الحمام «ونصبه، فأمَّا إعمالُها فلبقاءِ اختصاصِها، وأمَّا إهمالُها فلحَمْلِها على أخواتها، على أنه قد رُوي عن سيبويه في البيت أنها معملةٌ

على رواية الرفع أيضاً بأن تَجْعل» ما «موصولةً بمعنى الذي، كالتي في قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69] و» هذا «خبرُ مبتدأ محذوف هو العائدُ، و» الحَمام «نعتٌ ل» هذا «و» لنا «خبر لليت، وحُذِف العائدُ وإنْ لم تَطُلْ الصلةُ، والتقدير: ألا ليت الذي هو هذا الحمامُ كائنٌ لنا، وهذا أَوْلى من أن يُدَّعَى إهمالُها، لأن المقتضَى للإِعمال -وهو الاختصاصُ- باقٍ. وزعم بعضُهم أن» ما «الزائدةَ إذا اتصلت بإنَّ وأخواتِها جاز الإِعمالُ في الجميع. و» نحن «مبتدأ، وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للمتكلم، ومن معه، أو المعظِّمِ نفسه، و» مصلحون «خبرُه، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنها محكيةٌ بقالوا. والجملة الشرطيةُ وهي قولُه:» وإذا قيلَ لهم «عطفٌ على صلة مَنْ، وهي» يقولُ «، أي: ومن الناس مَنْ يقول، ومن الناس مَنْ إذا قيل لهم لا تُفْسِدوا في الأرض قالوا:. وقيل: يجوز أَنْ تكونَ مستأْنفةً، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لها من الإِعراب لما تقدم، ولكنها جزءُ كلامٍ على القولِ الأول وكلامٌ مستقل على القول الثاني، وأجازَ الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على» يَكْذِبُون «الواقع خبراً ل» كانوا «، فيكونَ محلُّها النصبَ. وردَّ بعضُهم عليهما بأنَّ هذا الذي أجازاه على أحدِ وَجْهَي» ما «مِنْ قوله {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} خطأٌ، وهو أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي، إذ لا عائدَ فيها يعود على» ما «الموصولةِ، وكذلك إذا جُعِلت مصدريةً فإنها تفتقرُ إلى العائد عند الأخفش وابن السراج. والجوابُ عن هذا أنهما لا يُجيزان ذلك إلا وهما

يعتقدان أن» ما «موصولةٌ حرفيةٌ، وأمّا مذهبُ الأخفش وابن السراجِ فلا يلزمهما القولُ به، ولكنه يُشْكِل على أبي البقاء وحدَه فإنه يستضعف كونَ» ما «مصدريةً كما تقدم.

12

قوله تعالى: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} : الآية. «ألا» حرف تنبيه واستفتاح، وليست مركبةً مِنْ همزةِ الاستفهام ولا النافيةِ، بل هي بسيطةٌ، ولكنها لفظٌ مشتركٌ بين التنبيه والاستفتاح، فتدخلُ على الجملة اسميةً كانت أو فعلية، وبين العَرْض والتخصيص، فتختصُّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً، وتكون النافيةَ للجنس دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام، ولها أحكامٌ تقدَّم بعضها عند قوله {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] ، وتكونُ للتمني فتجري مَجْرى «ليت» في بعض أحكامِها. وأجاز بعضُهم أن تكون جواباً بمعنى بلى، يقول القائل: لم يقم زيد، فتقول: ألا، بمعنى بلى قد قام، وهو غريب. و «إنهم» «إنَّ» واسمُها، و «هم» تَحْتمل ثلاثةَ أوجه، أحدها: أن تكون تأكيداً لاسم «إنَّ» لأنَّ الضميرَ المنفصلَ المرفوعَ يجوز أن يؤكَّد به جميعُ ضروبِ الضميرِ المتصلِ، وأن تكون فصلاً، وأن تكونَ مبتدأ و «المفسدون» خبره، وهما خيرٌ ل «إنَّ» ، وعلى القَولَيْن الأَوَّلَيْن يكونُ «المفسدون» وحده خبراً لإِنَّ. وجيء في هذه الجملة بضروبٍ من التأكيد، منها: الاستفتاحُ والتنبيه والتأكيدُ بإنَّ وبالإِتيانِ وبالتأكيدِ أو الفصلِ بالضميرِ وبالتعريفِ في الخبر مبالغةً في الردِّ عليهم فيما ادَّعَوه من قولهم: إنما نحن مصلحون، لأنهم أَخْرجوا الجوابَ جملةً

اسمية مؤكَّدة بإنما، لِيَدُلُّوا بذلك على ثبوتِ الوصفِ لهم فردَّ الله عليهم بأبلَغَ وآكدَ مِمَّا ادَّعَوه. قوله تعالى: {ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} الواوُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلها و «لكن» معناها الاستدراكُ، وهو معنىً لا يفارقها، وتكون/ عاطفةً في المفردات، ولا تكون إلا بين ضِدَّيْن أو نقيضَيْن، وفي الخلافين خلافٌ، نحو: «ما قام زيدٌ لكن خرج بكر» ، واستدلَّ بعضُهم على ذلك بقولِ طرفة: 190 - ولستُ بحَلاَّلِ التِّلاعِ لِبَيْتِهِ ... ولكن متى يَسْترفدِ القومُ أَرْفِدِ فقوله:: متى يسترفدِ القوم أرفدِ «ليس ضداً ولا نقيضاً لما قبله، ولكنه خلافُه. قال بعضهم: وهذا لا دليلَ فيه على المُدَّعَى، لأنَّ قولَه:» لستُ بحلاَّل التِّلاعِ لبيته «كنايةٌ عن نفي البخلِ أي: لا أَحُلُّ التلاعَ لأجلِ البخلِ، وقوله:» متى يسترفد القوم أرفد «كنايةٌ عن الكرم، فكأنه قال: لست بخيلاً ولكن كريماً، فهي هنا واقعةٌ بين ضِدَّيْنِ. ولا تعملُ مخفَّفةً خلافاً ليونس، ولها أحكامٌ كثيرة. ومعنى الاستدراكِ في هذه الآيةِ يحتاجُ إلى فَضْلِ تأمُّلٍ ونَظَر، وذلك أنهم لَمَّا نُهُوا عن اتخاذِ مثلِ ما كانوا يتعاطَوْنه من الإِفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر تعالى بأنهم هم المفسدون، كانوا حقيقين بأن يَعْلَموا أن ذلك كما أخبر تعالى وأنهم لا يَدَّعُون أنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتَهم من عدمِ الشعورِ بذلك، ومثلُه قولك:» زيدٌ جاهلٌ ولكن لا يعلم «، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل، وصار الجهلُ وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يَعْلَمَ بهذا الوصفِ من نفسه، لأن الإِنسانَ ينبغي

له أن يعلم ما اشتملَتْ عليه نفسُه من الصفات فاستدركْتَ عليه أن هذا الوصفَ القائمَ به لا يعلمه مبالغةً في جَهْله. ومفعول» يَشْعرون «محذوف: إمَّا حذفَ اختصار، أي: لا يشعرون بأنهم مفسدون، وإمَّا حذفَ اقتصار، وهو الأحسنُ، أي ليس لهم شعورٌ البتة.

13

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُواْ} : الكلامُ عليها كالكلامِ على نظيرتِها قبلها. وآمِنُوا فعل وفاعل والجملةُ في محلِّ رفع لقيامها مقامَ الفاعلِ على ما تقدَّم في {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} [البقرة: 11] ، والأقوالُ المتقدمة هناك تعودُ هنا فلا حاجة لذِكْرِها. والكافُ في قوله: {كَمَآ آمَنَ الناس} في محلِّ نصبٍ. وأكثرُ المُعْرِبينَ يجعلون ذلك نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، والتقدير: آمنوا إيماناً كإيمانِ الناس، وكذلك يقولون في: «سِرْ عليه حثيثاً» ، أي سيراً حثيثاً، وهذا ليس من مذهب سيبويه، إنما مذهبُه في هذا ونحوِه أن يكونَ منصوباً على الحالِ من المصدرِ المضمرِ المفهومِ من الفعلِ المتقدمِ. وإنما أَحْوَجَ سيبويهِ إلى ذلك أنَّ حَذْفَ الموصوفِ وإقامةَ الصفةِ مُقامَه لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ، ليس هذا منها، وتلك المواضعُ أن تكونَ الصفةُ خاصةً بالموصوفِ، نحو: مررت بكاتبٍ، أو واقعةً خبراً نحو: زيد قائم، أو حالاً نحو: جاء زيدٌ راكباً، أو صفةً لظرف نحو: جلستُ قريباً منك، أو مستعمَلةً استعمالَ الأسماء، وهذا يُحْفَظُ ولا يقاس عليه، نحو: الأَبطح والأَبْرق، وما عدا هذه المواضعَ لا يجوزُ فيها حذفُ الموصوف، ألا ترى أن

سيبويه منع: «ألا ماءَ ولو باردا» ، وإنْ تقدَّم ما يدل على الموصوف، وأجاز: ألا ماءَ ولو بارداً لأنه نَصْبٌ على الحال. و «ما» مصدريةٌ في محلِّ جر بالكاف، و «آمَنَ الناسُ» صلتُها. واعلم أن «ما» المصدريةَ تُوصَلُ بالماضي أو المضارعِ المتصرِّف، وقد شَذَّ وصلُها بغيرِ المتصرِّف في قوله: 191 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بما لَسْتُما أهلَ الخيانةِ والغَدْرِ وهل تُوصل بالجمل الاسمية؟ خلافٌ، واستُدِلَّ على جوازه، بقوله: 192 - واصِلْ خليلَك ما التواصلُ مُمْكِنٌ ... فلأَنْتَ أو هُو عن قليلٍ ذاهبُ وقول الآخر: 19 - 3- أحلامُكم لِسَقامِ الجَهْل شافيةٌ ... كما دماؤُكُمُ تَشْفي من الكَلَب وقول الآخر: 19 - 4- فإنَّ الحُمْرَ من شرِّ المَطايا ... كما الحَبِطاتُ شَرُّ بني تميمِ إلا أنَّ ذلك يكثُر فيها إذا أَفْهَمَتِ الزمانِ كقوله: «واصلْ خليلَك.

البيت. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكونَ» ما «كافةً للكاف عن العمل، مثلُها في قولك: ربما قام زيد. ولا ضرورةَ تَدْعو إلى هذا، لأنَّ جَعْلَها مصدريةً مُبْقٍ للكافِ على ما عُهِدَ لها من العملِ بخلافِ جَعْلِها كافةً. والألفُ واللامُ في» الناس «تحتملُ أن تكونَ جنسيةً أو عهديةً. والهمزةُ في» أنؤمن «للإِنكار أو الاستهزاءِ، ومحلُّ» أنؤمن «النصبُ ب» قالوا «. وقوله: {كَمَآ آمَنَ السفهآء} : القولُ في الكافِ و» ما «كالقول فيهما فيما تقدَّم، والألفُ في السفهاء تحتمل أن تكونَ للجنسِ أو للعهدِ، وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلها للغلَبةِ كالعَيُّوق، لأنه لم يَغْلِبْ هذا الوصفُ عليهم، بحيث إذا قيل السفهاءُ فُهِمَ منهم ناسٌ مخصوصون، كما يُفْهم من العيُّوق/ كوكب مخصوص. والسَّفَهُ: الخِفَّةُ، تقول: «ثوبٌ سفيه» أي خفيفُ النَّسْج. وقوله: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} كقولِه فيما تقدَّم: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] فلا حاجة إلى إعادتِه. ومعنى الاستدراكِ كمعناه فيما تقدَّم، إلا أنه قال هناك: «لا يشعرون» ، لأن المثبتَ لهم هناكَ هو الإِفسادُ، وهو ممَّا يُدْرَكُ بأدنى تأمُّلٍ لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكرٍ كبير، فَنَفَى عنهم ما يُدْرَكُ بالمشاعرِ وهي الحواسُّ مبالغةً في تَجْهيلهم وهو أنَّ الشعور الذي قد ثَبَتَ للبهائم منفيٌّ عنهم، والمُثْبَتُ هنا هو السَّفَهُ والمُصَدَّرُ به هو الأمرُ بالإِيمان وذلك ممَّا يَحتاج إلى إمعان فكرٍ ونظرٍ تامٍ

يُفْضي إلى الإِيمانِ والتصديقِ، ولم يَقَعْ منهم المأمورُ به وهو الإِيمانُ، فناسَبَ ذلك نفيَ العلمِ عنهم. ووجهٌ ثان وهو أن السَّفَه هو خِفَّةُ العقل والجهلُ بالأمور، قال السمَوْءَل: 19 - 5- نخافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحلامُنا ... فنجهلَ الجهلَ مع الجاهلِ والعلمُ نقيضُ الجهلِ فقابلَه بقولِه: لا يَعْلمون، لأنَّ عدمَ العلمِ بالشيءِ جهلٌ به.

14

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا} : «إذا» منصوب بقالوا الذي هو جوابٌ لها، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك، و «لَقُوا» فعلٌ وفاعل، والجملةُ في محلِّ خفض بإضافةِ الظرفِ إليها. وأصل لَقُوا: لَقِيُوا بوزن شَرِبوا، فاسْتُثْقِلتِ الضمةُ على الياء التي هي لام الكلمة، فحُذِفَتِ الضمةُ فالتقى ساكنان: لامُ الكلمة وواوُ الجمع، ولا يمكن تحريكُ أحدهما، فَحُذِف الأول وهو الياء، وقُلِبت الكسرةُ التي على القاف ضمةً لتجانِسَ واوَ الضمير، فوزن «لَقُوا» : فَعُوا، وهذه قاعدةٌ مطردةٌ نحو: خَشُوا وحَيُوا. وقد سُمع في مصدر «لَقي» أربعة عشر وزناً: لُقْياً ولِقْيَةً بكسر الفاء وسكون العين، ولِقاء ولِقاءة [ولَقاءة] بفتحها أيضاً مع المدِّ في الثلاثة، ولَقَى ولُقَى بفتح القافِ وضمها، ولُقْيا بضم الفاء وسكون العين ولِقِيَّا بكسرهما والتشديد، ولُقِيَّا بضم الفاء وكسر العين مع التشديد، ولُقْياناً ولِقْيانا بضم الفاء وكسرها، ولِقْيانة بكسر الفاء خاصةً، وتِلْقاء.

و «الذين آمنوا» مفعولٌ به، و «قالوا» جوابُ «إذا» ، و «آمنَّا» في محلِّ نَصْبٍ بالقول. قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا} تقدَّم نظيرُه، والأكثرُ في «خلا» أن يتعدَّى بالباء، وقد يتعدَّى بإلى، وإنما تعدَّى في هذه الآية بإلى لمعنى بديعٍ، وهو أنه إذا تعدَّى بالباء احتمل معنيين أحدهما: الانفرادُ، والثاني: السخرية والاستهزاءُ، تقول: «خَلَوْتُ به» أي سَخِرْتُ منه، وإذا تعدَّى بإلى كان نَصَّاً في الانفرادِ فقط، أو تقول: ضُمِّن خَلا معنى صَرَف فتعدَّى بإلى، والمعنى: صَرفوا خَلاهم إلى شياطينهم، أو تضمَّن معنى ذهبوا وانصرفوا فيكون كقول الفرزدق: 196 - ألم تراني قالِباً مِجنِّي ... قد قَتَل اللهُ زياداً عنِّي أي: صرفه بالقتل، وقيل: هي هنا بمعنى مع، كقوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . وقيل: هي بمعنى الباء، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين، وأمَّا البصريون فلا يجيزون التَجوُّز في الحروف لضَعْفِها. وقيل: المعنى وإذا خَلَوا من المؤمنين إلى شياطينهم، ف «إلى» على بابِها، قلت: وتقديرُ «مِن المؤمنين» لا يجعلُها على بابِها إلاَّ بالتضمينِ المتقدِّم. والأصل في خَلَوْا: خَلَوُوْا، فَقُلِبَتِ الواوُ الأولى التي هي لامُ الكلمة ألفاً لتحركِها وانفتاحِ ما قبلها، فبقيَتْ ساكنةً، وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةٌ، فالتقَى ساكنان، فحُذِف أوَّلُهما وهو الألفُ، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليهَا.

و «شياطينهم» جمعُ شيطان جمعَ تكسيرٍ، وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقه فوزن شياطين: إمَّا فعاليل أو فعالين على حَسَب القَوْلينِ المتقدِّمَيْنِ في الاستعاذة. والفصيح في «شياطين» وبابِه أن يُعْرَبَ بالحركاتِ لأنه جمعُ تكسيرٍ، وفيه لُغَيَّةٌ رديئةٌ، وهي إجراؤُه إجراءَ الجمعِ المذكر السالم، سُمع منهم: «لفلانٍ بستانٌ حولَه بساتون» ، وقُرئ شاذاً: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطون} [الشعراء: 210] . قوله تعالى: {قالوا إِنَّا مَعَكُمْ} إنَّ واسمُها و «معكم» خبرُها، والأصل في إنَّا: إنَّنا، كقوله تعالى: {إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً} [آل عمران: 93] ، وإنما حُذِفَتْ إحدى نوني «إنَّ» لَمَّا اتصلت بنونِ ن، تخفيفاً، وقال أبو البقاء: «حُذِفَتِ النونُ الوسطى على القول الصحيح كما حُذِفَتْ في» إنَّ «إذا خُفِّفَتْ. و» مع «ظرفٌ والضميرُ بعده في محلِّ خفض بإضافتِه إليه وهو الخبرُ كما تقدَّم، فيتعلَّقُ بمحذوف، وهو ظرفُ مكانٍ، وفَهْمُ الظرفيةِ منه قَلِقٌ. قالوا: لأنه يَدُلُّ على الصحبةِ، ومِنْ لازمِ الصحبةِ/ الظرفيةُ، وأمَّا كونُه ظرفَ مكانٍ فلأنه مُخْبِرٌ به عن الجثث نحو:» زيدٌ معك «، ولو كان ظرف زمانٍ لم يَجُزْ فيه ذلك. واعلَم أنَّ» مع «لا يجوزُ تسكينُ عينِها إلا في شعر كقوله: 197 - وريشي مِنْكُمُ وهَوايَ مَعَكُمْ ... وإنْ كانَتْ زيارتُكم لِماما

وهي حينئذٍ على ظرفِيتها خلافاً لمَنْ زَعَم أنَّها حينئذٍ حرفُ جرٍّ، وإنْ كان النحاس ادَّعَى الإِجماع في ذلك، وهي من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ، وقد تُقْطَعُ لفظاً فتنتصب حالاً غالِباً، تقولُ: جاء الزيدان معاً أي مصطحِبَيْنِ، وقد تقع خبراً، قال الشاعر: 198 - حَنَنَْتَ إلى رَيَّا ونفسُك باعَدَتْ ... مَزارَكَ مِنْ رَيَّا وشَعْبَاكُما مَعَا فَشْعباكما مبتدأ، و» معاً «خبرُه، على أنه يُحتمل أن يكونَ الخبرُ محذوفاً، و» معا «حالاً. واختلفوا في» مع «حالَ قَطْعِها عن الإِضافة: هل هي من باب المقصور نحو: عصا ورحا، أو المنقوص نحو: يد ودم؟ قولان، الأولُ قولُ يونسَ والأخفشِ، والثاني قولُ الخليل وسيبويه، وتظهر فائدة ذلك إذا سَمَّيْنا به فعلى الأول تقول: جاءني معاً ورأيت معاً ومررت بمعاً، وعلى الثاني: جاءني معٌ ورأيت معاً ومررت بمعٍ كيَدٍ، ولا دليلَ على القولِ الأولِ في قوله:» وشَعْباكما معاً لأنَّ معاً منصوبٌ على الظرفِ النائبِ عن الخَبر، نحو: «زيدٌ عندَك» وفيها كلامٌ أطولُ من هذا، تَرَكْتُه إيثاراً للاختصارِ. قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} كقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] ، وهذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافِها إذ هي جوابٌ لرؤسائِهم، كأنهم لمَّا قالوا لهم: «إنَّا معكم» توجَّه عليهم سؤالٌ منهم، وهو فما بالُكم مع المؤمنين تُظاهِرونهم على دينهم؟ فأجابوهم بِهذه الجملةِ، وقيل: محلُّها النصب، لأنها بدلٌ من قولِه تعالى: «إنَّا معكم» . وقياسُ تخفيفِ همزةِ «مستهزئون» ونحوِه أن تُجْعَلَ بينَ بينَ، أي بين الهمزةِ والحرفِ الذي

منه حركتُها وهو الواو، وهو رأيُ سيبويه، ومذهبُ الأخفش قَلْبُها ياءً محضةً. وقد وَقَف حمزةُ على «مستهزئون» و {فَمَالِئُونَ} [الصافات: 66] ونحوهِما بحَذْفِ صورة الهمزة إتْباعاً لرسمِ المصحفِ.

15

قولُه تعالى: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} : «اللهُ» رفعٌ بالابتداء و «يَسْتَهْزىء» جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خبرِه، و «بهم» متعلقٌ به، ولا محلَّ لهذه الجملة لاستئنافِها، «وَيَمُدُّهم» في محلِّ رفع أيضاً لعطفِه على الخبر وهو يستهزىء، و «يَعْمَهُوْن» في محلِّ الحالِ مِن المفعولِ في «يَمُدُّهم» أو من الضميرِ في «طغيانهم» وجاءت الحالُ من المضافِ إليه لأنَّ المضاف مصدرٌ. و «في طغيانهم» يَحتمُل أن يتعلَّقَ بيَمُدُّهم أَو بيَعْمَهون، وقُدِّم عليه، إلا إذا جُعِل «يَعْمَهون» حالاً من الضميرِ في «طُغْيانهم» فلا يتعلَّق به حينئذ لفسادِ المعنى. وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ «في طُغيانهم» و «يَعْمَهون» حالَيْن من الضميرِ في «يَمُدُّهُمْ» ، مُعَلِّلاً ذلك بأنَّ العاملَ الواحدَ لا يعملُ في حالين، وهذا على رأي مَنْ مَنَعَ مِنْ ذلك، وأمَّا مَنْ يُجيزُ تعدُّدَ الحالِ مع عدمِ تعدُّدِ صاحبِها فيُجيز ذلك؛ إلاَّ أنَّه في هذه الآية ينبغي أن يَمْنَعَ ذلك لا لِما ذكره أبو البقاء، بل لأنَّ المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجارُّ والمجرورِ حالاً، إذ المعنى مُنْصَبٌّ على أنه متعلِّقٌ بأحدِ الفعلينِ، أعني يَمُدُّهُمْ أو يَعْمَهُونَ، لا بمحذوفٍ على أنه حالٌ.

والمشهورُ فتحُ الياءِ من «يَمُدُّهم» ، وقُرئ شاذاً بِضمِّها، فقيل: الثلاثي والرباعي بِمعنى واحدٍ، تقول: مَدَّة وأَمَدَّه بكذا، وقيل: مَدَّه إذا زاده من جنسه، وأَمَدَّه إذا زادَه من غير جنسِه، وقيل: مَدَّه في الشرِّ، كقوله تعالى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} [مريم: 79] ، وَأَمَدَّه في الخير، كقوله: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12] ، {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ} [الطور: 22] ، {أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ} [آل عمران: 124] ، إلا أنَّه يُعَكِّر على هذين الفرقين أنه قرئ: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} [الأعراف: 202] باللغتين، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيهِ ضَمِّ الياء أنه بمنزلةِ قولِهِ تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} [آل عمران: 21] {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} [الليل: 10] ، يعني أبو علي رحمه الله تعالى بذلك أنه على سبيل التهكم. وقال الزمخشري: «فإنْ قُلْتَ: لِمَ زعمت أنه من المَدَدِ دون المَدِّ في العُمْرِ والإِملاءِ والإِمهالِ؟ قلت: كفاك دليلاً على ذلك قراءةُ ابنِ كثير وابنِ محيصن:» ويُمِدُّهم «وقراءةُ نافعِ» «وإخوانُهم يُمِدُّونهم» على أنَّ الذي بمعنى أمهله إنما هو «مَدَّ له» باللام كأَمْلى له «.

والاستهزاءُ لغةً: السُّخْرِيةُ واللعبُ: يقال: هَزِئَ به، واستَهْزَأَ قال: 199 - قد هَزِئَتْ مني أمُّ طَيْسَلَهْ ... قالَتْ: أراه مُعْدِماً لا مالَ لَهْ وقيل: أصلُه الانتقامُ، وأنشدَ: 20 - 0- قد استهْزَؤوا منا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَراتُهُمُ وَسْطَ الصَّحاصِحِ جُثَّمُ فعلى هذا القولِ الثاني نسبةُ الاستهزاءِ إليه تعالى على ظاهِرها، وأمَّا على القولِ الأولِ فلا بُدَّ من تأويل ذلك. فقيل: المعنى يُجازيهم على استهزائهم، فَسَمَّى العقوبةَ باسم الذنبِ/ ليزدوجَ الكلامُ، ومنه: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] . وقال عمرو ابن كلثوم: 201 - ألا لا يَجْهَلَنْ أَحدٌ علينا ... فَنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا وأصلُ المَدَدِ: الزيادةُ. والطغيانُ: مصدر طغى يَطْغَى طِغْياناً وطُغْياناً بكسر الطاء وضمِّها، ولامُ طغى قيل: ياءٌ وقيل: واو، يقال: طَغيْتُ وطغَوْتُ، وأصلُ المادة مجاوَزَةُ الحَدِّ ومنه: طَغَى الماءُ. والعَمَهُ: التردُّدُ والتحيُّرُ، وهو قريبٌ من العَمَى، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً، لأن العَمَى يُطلق على ذهاب ضوء العين وعلى الخطأ في الرأي، والعَمَهُ لا يُطلق إلا على الخطأ في الرأي، يقال: عَمِهَ يَعْمَهُ عَمَهاً وَعَمَهاناً فهو عَمِهٌ وعامِهٌ.

16

قولُه تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} : «أولئك» رفعٌ بالابتداءِ والذين وصلتُه خبرُه، وقولُه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} هذه الجملةُ عطفٌ على الجملةِ الواقعةِ صلةً، وهي «اشْتَرَوْا» وزعم بَعضُهم أنها خبرُ المبتدأ، وأنَّ الفاءَ دَخَلَتْ في الخَبرِ لِما تَضَمَّنه الموصولُ من معنى الشرط، وجعل ذلك نظيرَ قوله: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [البقرة: 274] ثم قال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} وهذا وَهْمٌ، لأنَّ الذين اشتروا ليس مبتدأ حتى يُدَّعَى دخولُ الفاءِ في خبره، بل هو خبرٌ عن «أولئك» كما تقدَّم. فإنْ قيل: يكونُ الموصولُ مبتدأً ثانياً فتكونُ الفاءُ دَخَلَتْ في خبره فالجوابُ أنه يلزم مِن ذلك عدمُ الربطِ بين المبتدأ والجملة الواقعةِ خبراً عنه، وأيضاً فإنَّ الصلَةَ ماضيةٌ معنى. فإنْ قيل: يكونُ «الذين» بدلاً من «أولئك» فالجوابُ أنه يصير الموصولُ مخصوصاً لإِبداله من مخصوصٍ، والصلة أيضاً ماضيةٌ. فإن قيل: يكونُ «الذين» صفةً لأولئك ويصيرُ نظيرَ قولك: «الرجلُ الذي يأتيني فله درهمٌ» فالجوابُ: أنه مردودٌ بما رُدَّ به السؤالُ الثاني، وبأنه لا يجوز أن يكونَ وصفاً له لأنه أعرفُ منه فبانَ فسادُ هذا القول. والمشهورُ ضَمُّ واو «اشتروا» لالتقاءِ الساكنين، وإنما ضُمَّتْ تشبيهاً بتاءِ الفاعل. وقيل: للفرقِ بين واوِ الجمع والواوِ الأصليةِ نحو: لو استطعنا. وقيل: لأن الضمة هنا أخفُّ من الكسرةِ لأنها من جنسِ الواو. وقيل حُرِّكَتْ بحركة الياءِ المحذوفةِ، فإنَّ الأصلَ اشْتَرَيُوا كما سيأتي. وقيل هي للجمع فهي مثل: نحن. وقُرئ بكسرِها على أصلِ التقاء الساكنين، وبفتحِها: لأنه أخفُّ. وأجاز الكسائي همزَها تشبيهاً لها بأَدْؤُر وأَثْؤُب وهو ضعيف، لأن

ضمَّها غيرُ لازمٍ، وقال أبو البقاء: «ومِنهم مَنْ يَخْتَلِسُها، فيحذِفُها لالتقاءِ الساكنين وهو ضعيفٌ جداً؛ لأن قبلها فتحةً والفتحةُ لا تَدُلُّ عليها» . وأصل اشْتَرَوا: اسْتَرَيُوا، فتحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، ثم حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليها، وقيل: بل حُذِفَت الضمة من الياءِ فَسَكَنَتْ، فالتقى ساكنان، فَحُذِفَت الياءُ لالتقائِهما. فإن قيل: فواوُ الجمع قد حُرِّكَت فينبغي أن يعودَ الساكنُ المحذوفُ، فالجوابُ أن هذه الحركةَ عارضةٌ، فهو في حكمِ الساكنِ، ولم يجيءْ ذلك إلا في ضرورةِ شعرٍ، أنشد الكسائي: 202 - يا صَباحِ لَمْ تنامِ العَشِيَّا ... فأعاد الألفَ لمَّا حُرِّكَتِ الميمُ حَركةً عارضةً. و «الضلالةَ» مفعولُه، و «بالهدى» متعلِّق ب «اشتروا» ، والباءُ هنا للعِوض وهي تدخلُ على المتروكِ أبداً. فأمَّا قولُه تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة} [النساء: 74] فإنَّ ظاهرَه أنَّ الآخرة هي المأخوذةُ لا المتروكةُ، فالجوابُ ما قاله الزمخشري رحمه الله تعالى من أن المرادَ بالمُشترين المُبْطِئُون وُعِظُوا بأَنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاقِ ويُخْلِصوا الإِيمانَ بالله تعالى وسولِه ويجاهدوا في الله حَقَّ الجهادِ، فحينئذ إنما دخلتِ الباءُ على المتروكِ.

والشراءُ هنا مجازٌ عن الاستبدالِ بمعنى أنهم لَمَّا تَرَكوا الهدى، وآثروا الضلالةَ، جُعِلوا بمنزلة المشترين لها بالهدى، ثُم رُشِّح هذا المجازُ بقولِه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} فَأَسْنَدَ الربحَ إلى التجارةِ، والمعنى: فما ربحوا في تجارتهم، ونظيرُ هذا الترشيحِ قولُ الآخر: 203 - بكى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنكرَ جِلْدَه ... وَعجَّتْ عَجيجاً من جُذامَ المَطارِفُ لمَّا أَسْنَدَ البكاءَ إلى الخَزِّ من أجل هذا الرجل وهو رَوْحٌ وإنكارِه لجِلْده مجازاَ رشَّحه بقوله: «وعَجَّت المَطارِف من جُذام» أي: استغاثت الثياب من هذه القبيلة، وقولُ الآخر: 204 - ولَمَّا رأيتُ النَّسْرَ عَزَّ ابنُ دايةٍ ... وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جاشَ له صَدْري لمَّا جَعَلَ النَّسْرَ عبارةً عن الشيب، وابنَ دايةَ وهو الغرابُ عبارةً/ عن الشباب مجازاً رشَّحه بقوله: «وعَشَّشَ في وَكْريه» ، وقولُ الآخر: 205 - فما أُمُّ الرُّدَيْنِ وإنْ أَدَلَّتْ ... بعالمةٍ بأخلاقِ الكرامِ إذا الشيطانٌ قصَّع في قَفاها ... تَنَقَّفْناه بالحَبْل التُّؤامِ لمَّا قال: «قصَّع في قفاها» أي دخل من القاصعاء وهي جُحْر من جُحْرة

اليَرْبوع رشَّحه بقولِه: «تَنَقَّفْناه» أي: أخرجناه من النافِقاء، وهي أيضاً من جُحْرة اليربوع. قوله تعالى: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} هذه الجملةُ معطوفةٌ على قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} ، والرِّبْحُ: الزيادةُ على رأس المال، والمهتدي: اسم فاعل من اهتدى، وافتعل هنا للمطاوعة، ولا يكونُ افْتَعَل للمطاوعة إلا من فِعْلٍ متعدٍ. وزعم بعضُهم أنه يجيء من اللازم، واستدلَّ على ذلك بقول الشاعر: 206 - حتى إذا اشْتَال سُهَيْلٌ في السِّحَرْ ... كشُعلةِ القابِس تَرْمِي بالشَّرَرْ قال: «فاشْتال افْتَعَل لمطاوعة» شَال «وهو لازمٌ» ، وهذا وَهْمٌ من هذا القائل، لأن افتعلَ هنا ليس للمطاوعةِ، بل بمعنى فَعَل المجردِ.

17

قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} : «مثلُهم» مبتدأ و «كمثل» : جارٌّ ومجرور خبره، فيتعلَّقُ بمحذوف على قاعدةِ الباب، ولا مبالاة بخلافِ مَنْ يقول: إن كافَ التشبيه لا تتعلَّق بشيء، والتقديرُ مَثَلُهم مستقر كمثل وأجاز أبو البقاء وابنُ عطية أن تكونَ الكافُ اسماً هي الخبرُ، ونظَّره بقول الشاعر:

207 - أَتَنْتَهُون ولن ينهى ذوي شَطَط ... كالطَّعْن يَذْهَبُ فيه الزيتُ والفُتُل وهذا مذهبُ الأخفش: يُجيز أَنْ تكونَ الكافُ اسماً مطلقاً. وأمّا مذهب سيبويه فلا يُجيز ذلك إلا في شعر، وأمَّا تنظيرُه بالبيتِ فليس كما قال، لأنَّا في البيت نضطُّر إلى جَعْلِها اسماً لكونِها فاعلةً، بخلاف الآية. والذي ينبغي أن يقال: إنَّ كافَ التشبيه لها ثلاثةُ أحوال: حالٌ يتعيَّن فيها أَنْ تكونَ اسماً، وهي ما إذا كانت فاعلةً أو مجرورةً بحرفٍ أو إضافةٍ. مثالُ الفاعل: «أتنتهون ولن يَنْهى» البيت، ومثالُ جَرِّها بحرفٍ قولُ امرئ القيس: 208 - وَرُحْنا بكابْنِ الماء يُجْنَبُ وَسْطَنا ... تَصَوَّبُ فيه العينُ طوراً وتَرْتقي وقولُه: 209 - وَزَعْتُ بكالهَراوةِ أَعْوَجِيٍّ ... إذا جَرَت الرياحُ لها وِثابا ومثالُ جَرِّها بالإِضافة قولُه: 210 - فَصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مأكولْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وحالٌ يتعيَّن أن تكونَ فيها حرفاًَ، وهي: الواقعةُ صلةً، نحو: جاء الذي كزيدٍٍ، لأنَّ جَعْلَها اسماً يستلزمُ حَذْفَ عائدِ مبتدأٍ من غير طولِ الصلةِ،

وهو ممتنعٌ عند البصريين، وحالٌ يجوز فيها الأمران وهي ما عدا ذلك نحو: زيد كعمرو. وأَبْعَدَ مَنْ زعم أنها زائدةٌ في الآية الكريمة، أي: مَثَلُهم مثلُ الذي، ونظَّره بقوله: «فَصُيِّروا مثل كعصف» كأنه جعل المِثْل والمَثَل بمعنى واحدٍ، والوجهُ أَنَّ المَثَلَ هنا بمعنى القصةِ، والتقديرُ: صفتُهم وقصتُهم كقصةِ المستوقِدِ فليست زائدةً على هذا التأويلِ، ولكن المَثَلَ بالفتح في الأصل بمعنى مِثْل ومثيل نحو: شِبْه وشَبَه وشَبيه. وقيل: بل هي في الأصل الصفةُ، وأمَّا المَثَل في قوله: «ضَرَب مَثَلاً» فهو القولُ السائرُ الذي فيه غَرابةٌ من بعضِ الوجوهِ، ولذلك حُوفظ على لفظِه فلم يُغَيَّرْ، فيقال لكلِّ مَنْ فَرَّط في أمرٍ عَسِرْ تَدارُكُه: «الصيفَ ضَيّعْتِ اللبنَ» ، سواءٌ أكان المخاطب به مفرداً أم مثَنَّى أم مجموعاً أم مذكراً أم مؤنثاً، ليدلَّ بذلك على قَصْدٍ عليه. و «الذي» في محلِّ خَفْضٍ بالإِضافة، وهو موصولٌ للمفردِ المذكرِ، ولكن المرادَ به هنا جَمْعٌ، ولذلك رُوعي معناه في قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} فأعاد الضمير عليه جمعاً، والأَوْلى أن يقال إن «الذي» وقع وصفاً لشيء يُفْهِم الجمعَ، ثم حُذِفَ ذلك الموصوفُ للدلالةِ عليه، والتقديرُ: مَثَلهم كَمَثَل الفريق الذي استوقد أو الجمعِ الذي استوقَدَ، ويكون قد رُوعي الوصفُ مرةً، فعادَ الضميرُ عليه مفرداً في قوله: «استوقد» و «حَوْلَه» ، والموصوفُ أخرى فعاد الضميرُ عليهِ مجموعاً في قوله: «بنورِهم، وتركَهم» . ووهِم أبو البقاء فَجَعَل هذه الآيةَ من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ

تخفيفاً، وأن الأصلَ: الذين، ثم خُفِّف بالحذفِ، وكأنه جَعَلَه مثلَ قولِه تعالى في الآية الأخرى: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69] ، وقول الشاعر: 211 - وإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهم ... هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ والأصل: كالذينَ خاضُوا، وإنَّ الذين حانَتْ. وهذا وَهْمٌ فاحش، لأنه لو كان من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ لوجَبَ مطابقةُ الضميرِ جمعاً كما في قوله: «كالذي خاضوا» و «دماؤُهُمْ» ، فلمَّا قال تعالى: «استوقد» بلفظ الإِفراد تعيَّن أحدُ الأمرين المتقدِّمين: إمَّا جَعْلُه من باب وقوعِ المفردِ موقعَ الجمعِ لأن المرادَ به الجنسُ، أو أنه من باب ما وقع فيه صفةً لموصوف يُفْهِم الجَمْعَ. وقال الزمخشري ما معناه: إنَّ هذه الآيةَ مثلُ قولِه تعالى: {كالذي خاضوا} /، واعتلَّ لتسويغِ ذلك بأَمْرين: أحدُهما أنَّ «الذي» لمَّا كانَ وُصْلَةً لوصفِ المعارفِ ناسَبَ حَذْفَ بعضِه لاستطالتِه، قال: «ولذلك نَهَكُوه بالحَذْفِ، فحذَفوا ياءَه ثم كَسْرَتَه ثم اقتصروا منه على اللامِ في أسماء الفاعِلِين والمفعولين» . والأمرُ الثاني: أنَّ جَمْعَه ليس بمنزلةِ جَمْعِ غيرِه بالواو والنون، إنما ذلك علامةٌ لزيادةِ الدلالةِ، ألا ترى أن سائرَ الموصولاتِ لَفْظُ الجمع والمفردِ فيهنَّ سواءٌ. وهذا القولُ فيه نَظَرٌ مِنْ وجهين، أحُدهما: أنَّ قول ظاهرٌ في جَعْلِ هذه الآيةِ من باب حَذْف نون «الذين» ، وفيه ما تقدَّم من أنه كان ينبغي أن يطابقَ الضميرَ جَمْعاً كما في الآية الأخرى التي نَظَّر بها. والوجهُ الثاني: أنه اعتقدَ كونَ أل الموصولةِ بقيةَ «الذي» ، وليس كذلك، بل أل الموصولةُ اسمٌ موصولٌ مستقل، أي: غيرُ مأخوذٍ من شيءٍ، على أن الراجحَ

من جهةِ الدليلِ كونُ أل الموصولةِ حرفاً لا اسماً كما سيأتي. وليس لمرجِّحٍ أن يرجِّح قولَ الزمخشري بأنهم قالوا: إنَّ الميمَ في قولهم: «مُ الله» بقية ايمُن، فإذا انتهكوا ايمن بالحذف حتى صار على حرفٍ واحد فأولى أن يقال بذلك فما بقي على حرفين، لأن أل زائدةٌ على ماهِيَّةِ «الذي» فيكونون قد حَذَفوا جميعَ الاسم، وتركوا ذلك الزائدَ عليه بخلاف ميم ايمُن، وأيضاً فإنَّ القولَ بأنّ الميمَ بقيةُ أيمُن قولٌ ضعيف مردودٌ يأباه قولُ الجمهور. وفي «الذي» لغاتٌ: أشهرُها ثبوتُ الياء ساكنةً. وقد تُشَدَّد مكسورةً مطلقاً، أو جاريةً بوجوهِ الإِعرابِ، كقوله: 212 - وليسَ المالُ فاعلَمْهُ بمالٍ ... وإنْ أرضاكَ إلا ِللَّذيِّ يَنالُ به العَلاءَ ويَصْطَفيه ... لأقربِ أَقْرِبيه وللقَصِيِّ فهذا يَحْتمل أنْ يكونَ مبنيًّا وأن يكونَ مُعْرباً، وقد تُحْذف ساكناً ما قبلها، كقولِ الآخر: 213 - فلم أَرَ بيْتاً كان أكثرَ بهجةً ... مِنَ اللذْ به من آلِ عَزَّةَ عامرُ أو مكسوراً، كقوله: 214 - واللذِ لو شاء لكانَتْ بَرّاً ... أو جبلاً أَصَمَّ مُشَمْخِراً

ومثلُ هذه اللغات في «التي» أيضاً، قال بعضُهم: «وقولُهم هذه لغاتٌ ليس جيداً لأنَّ هذه لم تَرِدْ إلا ضرورةً، فلا ينبغي أن تسمى لغات» . واستوقَدَ استفْعَلَ بمعنى أفْعَلَ، نحو: استجاب بمعنى أَجاب، وهو رأي الأخفش، وعليه قولُ الشاعر: 215 - وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيبُ إلى الندى ... فلم يَسْتَجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجيبُ أي: فلم يُجِبْه، وقيل: بل السينُ للطلب، ورُجِّحَ قولُ الأخفش بأنَّ كونَه للطلب يستدعي حَذفَ جملةٍ، ألا ترى أنَّ المعنى استدعَوْا ناراً فَأَوْقدوها، فلمَّا أضاءَتْ لأنّ الإِضاءةَ لا تَتَسَبَّبُ عن الطلبِ، إنما تُسَبَّبُ عن الإِيقاد. والفاء في «فلمَّا» للسبب. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: «كمثل الذين» بلفظِ الجمع، «استوقد» بالإِفراد، وهي مُشْكِلةٌ، وقد خَرَّجوها على أوجهٍ أضعفَ منها وهي التوهُّمُ، أي: كانه نطق بمَنْ، إذا أعاد ضميرَ المفرد على الجمع كقولهم: «ضربني وضربتُ قومَك» أي ضربني مَنْ، أو يعودُ على اسمِ فاعلٍ مفهومٍ من اسْتَوْقََد، والعائدُ على الموصولِ محذوفٌ، وإن لم يَكْمُلْ شرطُ الحذفِ، والتقدير: استوقدها مستوقدٌ لهم، وهذه القراءة تُقوِّي قولَ مَنْ يقولُ: إن أصلَ الذي: الذين، فَحُذِفَتِ النونُ. و «لَمَّا» حرفُ وجوب لوجوب هذا مذهبُ سيبويه. وزعم الفارسي

وتبعه أبو البقاء أنها ظرفٌ بمعنى حين، وأنَّ العاملَ فيها جوابُها، وقد رُدَّ عليه بأنها أُجيبت ب «ما» النافية وإذا الفجائية، قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [فاطر: 42] . وقال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ، وما النافيةُ وإذا الفجائية لا يَعْمَلُ ما بعدهما فيما قبلهما فانتفى أَنْ تكونَ ظرفاً. وتكون «لَمَّا» أيضاً جازمةً لفعلٍ واحد، ومعناها نفيُ الماضي المتصلِ بزمنِ الحال، ويجوزُ حَذْفُ مجزومها، قال الشاعر: 216 - فجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً ولَمَّا ... فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ وتكونُ بمعنى إلا، قال تعالى: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} [الزخرف: 35] في قراءة مَنْ قرأه. و «أضاء» يكونُ لازماً ومتعدياً، فإن كان متعدياً ف «ما» مفعولٌ به، وهي موصولة، و «حولَه» ظرفُ مكانٍ ومخفوضٌ به، صلةٌ لها، ولا يَتَصَرَّفُ، وبمعناه: حَوال، قال الشاعر: 217 - وأنا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوالَكا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويُثَنَّيان، قال عليه السلام: «اللهم حوالَيْنا» ، ويُجْمَعان على أَحْوال. ويجوز أن تكونَ «ما» نكرةً موصوفةً، و «حولَه» صفتُها، وإن كان لازماً فالفاعلُ ضميرُ النار أيضاً، و «ما» زائدةٌ، و «حوله» منصوبٌ على الظرفِ العاملُ فيهِ «أضاء» . وأجاز الزمخشري أن تكون «ما» فاعلةً موصولةً أو نكرةً موصوفةً، وأُنِّثَ/ الفِعلُ على المعنى، والتقدير: فلمَّا أضاءَتِ الجهةُ التي حولَه أو جهةٌ حولَه. وأجاز أبو البقاء فيها أيضاً أن تكونَ منصوبةً على الظرف، وهي حينئذٍ إمَّا بمعنى الذي أو نكرة موصوفة، التقدير: فلمَّا أضاءت النارُ المكانَ الذي حوله أو مكاناً حوله، فإنه قال: «يُقال: ضاءَتِ النارُ وأَضاءَتْ بمعنىً، فعلى هذا تكون» ما «ظرفاً وفي» ما «ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أن تكونَ بمعنى الذي. والثاني: هي نكرة موصوفةٌ أي: مكاناً حوله، والثالث: هي زائدةٌ» انتهى. وفي عبارتِه بعضُ مناقشةٍ، فإنه بَعْدَ حُكْمِه على «ما» بأنَّها ظرفيةٌ كيف يجوزُ فيها والحالةُ هذه أن تكونَ زائدةً، وإنما أراد: في «ما» هذه من حيث الجملةُ ثلاثةُ أوجهٍ: وقولُ الشاعر: 218 - أضاءَت لهم أحسابُهم ووجُوهُهم ... دجى الليلِ حتى نَظَّم الجَزْعَ ثاقِبُهْ يَحْتمل التعدِّيَ واللزوم كالآية الكريمة. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: ضاءَتْ ثلاثياً.

قولُه تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} هذه الجملةُ الظاهرُ أنَّها جوابُ «لَمَّا» . وقال الزمخشري: «جوابُها محذوفٌ، تقديرُه: فلمَّا أضاءَتْ خَمَدَت» ، وجَعَل هذا أبلَغَ من ذِكْرِ الجواب، وجعلَ جملةَ قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل. وقد رَدَّ عليه بعضُهم هذا بوجْهَيْن أحدهما: أنَّ هذا تقديرٌ مع وجودِ ما يُغْني عنه فلا حاجةَ إليه، إذ التقديراتُ إنما تكونُ عند الضروراتِ. والثاني: أنه لا تُبْدَلُ الجملةُ الفعليةُ من الجملةِ الاسميةِ. و «بنورهم» متعلِّقٌ ب «ذَهَبَ» ، والباءُ فيها للتعدية، وهي مرادِفَةٌ للهمزة في التعديةِ، هذا مذهبُ الجمهورِ، وزَعَمَ أبو العباس أنَّ بينهما فَرْقاً، وهو أن الباءَ يلزَمُ معها مصاحبةُ الفاعل للمفعولِ في ذلك الفعلِ الذي فَعَلَه به والهمزةُ لا يَلْزَمُ فيها ذلك. فإذا قلتَ: «ذهبْتُ بِزيد» فلا بد أن تكونَ قد صاحَبْتَه في الذهاب فذهبْتَ معه، وإذا قلت: «أَذْهَبْتَه» جاز أن يكونَ قد صَحِبْتَه وألاَّ يكونَ. وقد رَدَّ الجمهورُ على المبرِّد بهذه الآية لأنَّ مصاحَبَتَه تعالى لهم في الذهابِ مستحيلةٌ. ولكن قد أجاب أبو الحسنِ ابنُ عصفور عن هذا بأنه يجوزُ أن يكونَ تعالى قد أَسْنَدَ إلى نفسِه ذهاباً يليقُ به كما أَسْند إلى نفسِه المجي والإِتيان على معنى يليقُ به، وإنما يُرَدُّ عليه بقولِ الشاعر:

219 - ديارُ التي كانت ونحن على مِنى ... تَحِلُّ بنا لولا نَجاءُ الرَّكائِب أي: تَجْعلنا حلالاً بعد أن كنا مُحْرِمين بالحَجّ، ولم تكن هي مُحْرِمةً حتى تصاحبَهم في الحِلّ، وكذا قولُ امرئ القيس: 220 - كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْدُ عن حالِ مَتْنِه ... كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزَّلِ الصَّفْوُ: الصخرة، وهي لم تصاحِبْ الذي تَزِلُّه. والضميرُ في «بنورِهم» عائدٌ على معنى «الذي» كما تقدَّم، وقال بعضُهم: هو عائدٌ على مضافٍ محذوفٍ تقديرُه: كمثلِ أصحابِ الذي استوقدَ، واحتاج هذا القائلُ إلى هذا التقديرِ قال: «حتى يتطابقَ المشبَّهُ والمشبَّهُ به، لأنَّ المشبَّهَ جمعٌ، فلو لم يُقَدَّرْ هذا المضافُ وهو» أصحاب «لَزِم أن يُشَبِّه الجمعَ بالمفردِ وهو الذي استوقد» انتهى. ولا أدري ما الذي حَمَلَ هذا القائلَ على مَنْعِ تشبيه الجمعِ بالمفردِ في صفةٍ جامعةٍ بينهما، وأيضاً فإنَّ المشبَّهَ المشبَّهَ به إنما هو القصتان، فلم يقع التشبيهُ إلا بين قصتين إحداهما مضافةٌ إلى جمع والأخرى إلى مفردٍ. قولُه تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} هذه جملةٌ معطوفةٌ على قوله «ذَهَبَ الله» . وأصل الترك: التخليةُ، ويُراد به التصييرُ، فيتعدَّى لاثنين على الصحيح، كقولِ الشاعر: 221 - أَمَرْتُكَ الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به ... فقد تَرَكْتُكَ ذا مال وذا نَشَبِ

فإن قُلْنا: هو متعدٍّ لاثنين كان المفعولُ الأول هو الضميرَ، والمفعولُ الثاني «في ظلمات» و «لا يُبْصرون» حالٌ، وهي حالٌ مؤكدة لأنَّ مَنْ كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ، وصاحبُ الحالِ: إمّا الضميرُ المنصوبُ أو المرفوعُ المستكنُّ في الجارِّ والمجرورِ. ولا يجوزُ أن يكونَ «في ظلمات» حالاً، و «لا يُبْصِرون» هو المفعولَ الثاني لأن المفعولَ الثاني خبرٌ في الأصل، والخبرُ لا يؤتَى به للتأكيد، وأنت إذا جعلت «في ظلمات» حالاً فُهِمَ منه عَدَمُ الإِبصارِ، فلم يُفِدْ قولُك بعد ذلك لا «يُبْصرون» إلا التأكيدَ، لكنَّ التأكيدَ ليس من شأن الإِخبار، بل من شأنِ الأحوال لأنها فَضَلاتٌ. ويؤيِّد ما ذكرتُ أن النَّحْويين لَمَّا أَعربُوا قولَ امرئ القيس: 222 - إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصَرفَتْ له ... بشِقٍّ وشِقٍّ عندنا لم يُحَوَّلِ أعربوا «شِق» مبتدأً و «عندنا» خبرَه، و «لم يُحَوَّل» جملةً حاليةً مؤكِّدةً، قالوا: وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأنه موضعُ تفصيل، وأبَوْا أن يَجْعلوا «لم يُحَوَّل» خبراً، و «عندنا» صفةً لشِق مُسَوِّغاً للابتداء به، قالوا: لأنه فُهم معناه من قوله: «عندنا» لأنه إذا كان عندَه عُلِم منه أنه لم يُحَوَّل، وقد أعربَه أبو البقاء كذلك، وهو مردودٌ بما ذكرْتُ لك. ويجوز إذا جَعَلْنا «لا يُبْصِرون» هو المفعولَ الثانيَ أن يتعلَّقَ «في ظلمات» به أو ب «تَرَكهم» ، التقدير: «وتَرَكهم لا يُبْصرون في ظلماتٍ» . وإن كان «تَرَكَ» متعدياً لواحد كان «في ظلمات» متعلَّقاً بتَرَكَ، و «لا يُبْصرون» حالٌ مؤكِّدة ويجوز أن يكونَ «في ظلمات» حالاً من الضمير المنصوب في «تَرَكهم» ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ و «لا يُبْصرون» حالٌ أيضاً: إمَّا من الضميرِ المنصوب في «تَرَكَهم»

فيكونُ له حالان/ ويجري فيه الخلافُ المتقدمُ، وإمَّا مِنَ الضميرِ المرفوعِ المستكنِّ في الجارِّ والمجرور قبلَه فتكونُ حالَيْنِ متداخلتين.

18

الجمهورُ على رَفْعِها على أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، ويَجيء فيه الخلافُ المشهورُ في تعدُّدِ الخبرِ، فَمَنْ أجازَ ذلك حَمَلَ الآيةَ عليه من غير تأويلٍ، ومَنْ مَنَعَ ذلك قال: هذه الأخبارُ وإن تعدَّدَتْ لفظاً فهي متَّحِدَةٌ معنًى، لأنَّ المعنى: هم غيرُ قائلين للحقِّ بسبب عَماهم وصَمَمِهم، فيكون من باب: «هذا حُلوٌ حامِضٌ» أي مُزٌّ، و «هو أَعْسَرُ يَسَرٌ» أي أَضْبَطُ، وقول الشاعر: 223 - ينامُ بإحدى مُقْلَتَيْهِ ويتَّقي ... بأخرى المَنايا فهو يَقْظانُ هاجِعُ أي: متحرِّزٌ، أو يقدَّر لكلِّ خبرٍ مبتدأً تقديرُه: هم صُمٌّ، هم بُكْم، هم عُمْي، والمعنى على أنهم جامعون لهذه الأوصافِ الثلاثة، ولولا ذلك لجاز أن تكونَ هذه الآيةُ من باب ما تعدَّدَ فيه الخبرُ لِتعدُّدِ المبتدأ، نحو قولِك: الزيدونَ فقهاءُ شعراءُ كاتبون، فإنه يَحْتمل أن يكونَ المعنى أن بعضَهم فقهاءُ، وبعضَهم شعراء وبعضَهم كاتبون، وأنَّهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة، بل بعضُهم اختصَّ بالفقه، والبعضُ الآخر بالشعرِ، والآخرُ بالكتابة. وقُرئ بنصبها، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه حالٌ، وفيه قولان، أحدُهما: هو حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في «تَرَكَهم» ، والثاني من المرفوع

في «لا يُبْصرون» . والثاني: النَصبُ على الذَمِّ، كقولِه: {حَمَّالَةَ الحطب} [المسد: 4] . وقول الآخر: 224 - سَقَوْني النَّسْءَ ثم تَكَنَّفوني ... عُدَاةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ أي: أَذُمُّ عُداةَ اللهِ. الثالث: أن يكونَ منصوباً بتَرَكَ أي: تَرَكهم صُمَّاً بُكْماً عُمْياً. والصَّمَمُ داءٌ يمنعُ من السَّماع، وأصلُه من الصَّلابة، يقال: «قناةٌ صَمَّاء» أي صُلبة، وقيل: أصلُه من الانسدادِ، ومنه: صَمَمْتُ القارورةَ أي: سَدَدْتُها. والبَكَم داءٌ يمنع الكلامَ، وقيل: هو عدمُ الفَهْمِ، وقيل: الأبكم مَنْ وُلِد أخرسَ. وقولُه: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} جملةٌ خبريةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الخبريةِ قبلها، وقيل: بل الأُولى دعاءٌ عليهم بالصَّمَم، ولا حاجةَ إلى ذلك. وقال أبو البقاء: «وقيل: فهم لا يَرْجِعُون حالٌ، وهو خطأٌ، لأن الفاء تُرَتِّبُ، والأحوالُ لا ترتيبَ فيها» . و «رَجَعَ» يكونُ قاصراً ومتعدياً باعتبَارَيْنِ، وهُذَيْل تقول: أَرْجَعَهُ غيرُهُ فإذا كان بمعنى «عاد» كان لازماً، وإذا كان بمعنى أعاد كان متعدياً، والآية الكريمةُ تحتمل التقديرينِ، فإنْ جَعَلْنَاه متعدياً فالمفعولُ محذوفٌ، تقديرُهُ: لاَ يَرْجِعُون جواباً، مثلُ قوله: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8] . وَزَعَمَ بعضُهم أنه يُضَمَّن معنى صار، فيرفعُ الاسم وينصِبُ الخبر، وجَعَل منه

قولَه عليه السلام: «لا تَرْجِعوا بعدي كُفَّاراً يضربُ بعضُكم رِقابَ بعض» ، ومَنْ مَنَعَ جريانِهِ مَجْرى «صار» جَعَلَ المنصوبَ حالاً.

19

قولُه تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} : في «أو» خمسة أقوال، أظهرهُا: أنها للتفصيلِ بمعنى أنَّ الناظرينَ في حالِ هؤلاء منهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بحال المستوقدِ الذي هذه صفتُهُ، ومنهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بأصحاب صَيِّبٍ هذه صفتُه. الثاني: أنها للإِبهام، أي: إن الله أَبْهَم على عباده تشبيهَهم بهؤلاء أو بهؤلاء، الثالث: أنها للشَّكِّ، بمعنى أن الناظر يَشُكُّ في تشبيههم. الرابع: أنها للإِباحة. الخامس: أنها للتخيير، أي: أًُبيح للناس أن يشبِّهوهم بكذا أو بكذا، وخُيِّروا في ذلك. وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين، أحدُهما: كونُها بمعنى الواو وأنشدوا: 225 - جاء الخلافةَ أو كانَتْ له قَدَراً ... كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ والثاني: كونُها بمعنى بل، وأنشدوا: 226 - بَدَتْ مثلَ قَرْن الشمسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى ... وصورتِها أَوْ أَنْتَ في العينِ أَمْلَحُ أي: بل أنت. و «كصيبٍ» معطوفٌ على «كَمَثَل» ، فهو في محلِّ رفع، ولا بُدَّ من حذف مضافَيْنِ، ليصِحَّ المعنى، التقدير: أو كمثل ذَوي صَيِّب، ولذلك رَجَعَ عليه

ضميرُ الجمع في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم} لأنَّ المعنى على تشبيهِهم بأصحاب الصيِّب لا بالصيِّب نفسِه. والصيِّبُ: المطر: سُمِّي بذلك لنزولِهِ، يقال: صابَ يصُوبُ إذا نَزَلَ، قال: 227 - فلسْتُ لإِنسِيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ من جوِّ السماءِ يَصُوبُ وقال آخر: 228 - فلا تَعْدِلي بيني وبينَ مُغَمَّرٍ ... سَقَتْكِ رَوايا المُزْنِ حيثُ تَصُوبُ واختُلف في وزن صَيِّب: فمذهبُ البصريين أنه «فَيْعِل» ، والأصلُ: صَيْوبٍ فَأُدْغِمَ كميِّت وهيِّن والأصلُ: مَيْوِت وهَيْوِن. وقال بعض الكوفيين: وزنه فَعِيل، والأصل «صَويب بزنة طَويل، قال النحاس:» وهذا خطأٌ لأنه كانَ ينبغي أن يَصِحَّ ولا يُعَلَّ كطويل «وكذا قال أبو البقاء. وقيل وزنه: فَعْيِل فقُلِب وأُدْغِم. واعلم أنه إذا قيل بأن الجملةَ من قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} استئنافيةٌ ومن قوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أنها من وصف المنافقين كانتا/ جملتي اعتراضٍ

بين المتعاطفَين، أعني قوله: كمثل وكصيّب، وهي مسألةُ خلاف منعها الفارسي وقد رُدَّ عليه بقول الشاعر: 229 - لَعَمْرُكَ والخُطوبُ مُغَيِّراتٌ ... وفي طولِ المُعَاشَرَةِ التَّقالي لقد بالَيْتُ مَظْعَنَ أمِّ أَوْفَى ... ولكنْ أمُّ أَوفَى لا تُبالي فَفَصَلَ بين القسمِ وهو قولُهُ:» لَعَمْرُك «وبين جوابِهِ وهو قولُهُ:» لقد بالَيْت «بجملتين، إحداهما:» والخطوبُ مغيِّرات «والثانيةُ:» وفي طولِ المعاشرةِ التقالي « [قولُه:] » مِن السماءِ «يَحْتمل وجهينِ، أحدُهما أَن يكونَ متعلقاً ب» صَيِّب «لأنه يعملُ عملَ الفعلِ، التقديرُ: كمطرٍ يصوبُ من السماء، و» مِنْ «لابتداء الغاية. والثاني: أن يكونَ في محلِّ جر صفةً لصيِّب، فيتعلَّقَ بمحذوف، وتكونُ» مِنْ «للتبعيض، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذفِ مضافٍ، تقديرهُ: كصيِّب كائنٍ من أمطارِ السماءِ. والسماءُ: كلُّ ما عَلاَك من سقف ونحوه، مشتقةٌ من السُّمُوِّ، وهو الارتفاعُ والأصل: سَماوٌ، وإنما قُلِبَتِ الواوُ هَمْزَةً لوقوعِها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ، وهو بدلٌ مطَّرد، نحو: كِساء ورِدَاء، بخلافِ نحو: سِقاية وشَقاوة، لعدم تطرُّفِ حرفِ العلة، ولذلك لَمَّا دَخلت عليها تاءُ التأنيث صَحَّتْ نحو: سَماوة، قال الشاعر:

230 - طيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفَا ... سَماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوْقَفَا والسماءُ مؤنث، وقد تُذَكَّر، وأنشدوا: 231 - فلو رَفَعَ السماءُ إليه قوماً ... لَحِقْنَا بالسماءِ مَعَ السحابِ فأعاد الضميرَ مِنْ قوله: «إليه» على السماءِ مذكَّراً، ويُجْمع على سَماوات وأَسْمِيَة وسُمِيَّ، والأصل: فُعول، إلا أنه أُعِلَّ إعلالَ عُصِيّ بقلب الواوين يائين وهو قلبٌ مطَّرد في الجمع، ويَقِلُّ في المفرد نحو: عتا عُتِيَّا، كما شَذَّ التصحيحُ في الجمع، قالوا: «إنكم تنظرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ» ، وجُمِعَ أيضاً على سَمَاء، ولكن مفردَه سَماوة، فيكونُ من باب تَمْرة وتمر، ويدلُّ على ذلك قولُه: 232 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . فوق سَبْعِ سَمَائِيا ووجهُ الدلالة أنه مُيِّزَ به «سبع» ، ولا تُمَيَّز هي وأخواتُها إلا بجمعٍ مجرور. قولهُ تعالَى: «فيه ظلماتٌ وَرَعْدٌ وبَرْقٌ» يَحْتمل أربعةَ أوجه، أحدها: أَنْ يكونَ صفةً ل «صَيِّب» . الثاني: أن يكونَ حالاً منه، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِهِ: إِمَّا بالعملِ في الجار بعدَه، أو بصفةٍ بالجارِ بعده. الثالث: أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في «مِن السماء» إذا قيل إنه صفةٌ لصيِّب، فيتعلَّقُ في

التقادير الثلاثة بمحذوفٍ، إلاَّ أنه على القولِ الأولِ في محلِّ جرٍّ لكونه صفةً لمجرورٍ، وعلى القولين الأخيرين في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ. و «ظلماتٌ» على جميع هذه الأقوال فاعلٌ به لأنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ متى اعتمدا على موصوفٍ أو ذي حال أو ذي خبرٍ أو على نفي أو استفهام عمِلاَ عَمَلَ الفِعْلِ، والأخفش يُعْمِلهما مطلقاً كالوصف، وسيأتي تحريرُ ذلك. الرابعُ: أن يكونَ خبراً مقدَّماً و «ظلماتٌ» مبتدأ، والجملةُ تحتمل وجهين: الجرَّ على أنها صِفَةٌ لصيِّب. والثاني: النصبُ على الحال، وصاحِبُ الحال يُحْتمل أن يكونَ «كصيِّب» وإن كان نكرةً لتخصيصهِ بما تقدَّمه، وأن يكونَ الضميرَ المستكنَّ في «مِنْ السماء» إذا جُعِلَ وصفاً لصيِّب، والضمير في «فيه» ضميرُ الصَيِّب «. واعلم أنَّ جَعْلَ الجارَّ صفةً أو حالاً، ورفعَ» ظلماتٌ «على الفاعلية به أَرْجَحُ مِنْ جَعْلِ» فيه ظلماتٌ «جملةً برأسِها في محلِّ صفةٍ أو حالٍ، لأنَّ الجارَّ أقربُ إلى المفردِ من الجملة، وأصلُ الصفةِ والحال أن يكونا مفرَدَيْنِ. » وَرَعْدٌ وبَرْقٌ «معطوفانِ على ظُلُماتٌ» بالاعتبارين المتقدمين، وهما في الأصل مصدران تقول: رَعَدت السماء تَرْعُدُ رَعْداً وَبَرَقَتْ بَرْقاً، قال أبو البقاء: «وهما على ذلك [مُوَحَّدَتان] هنا» ، يعني على المصدريَّة، ويجوز أن يكونا بمعنى الراعِد والبارِق نحو: رجل عَدْلٌ، والظاهرُ أنهما في الآية ليس المرادُ بهما المصدرَ بل جُعِلاَ اسماً للهزِّ واللمعَانِ، وهو مقصودٌ الآيةِ، ولا حاجةَ حينئذٍ إلى جَعْلِهِمَا بمعنى اسمِ فاعل. قولُه تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم} هذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها لاستئنافِها، كأنه قيل: ما حالُهم؟ فقيل: يَجْعَلون. وقيل: بل لها

محلٌّ، ثم اختُلِفَ فيه، فقيل: جَرٌّ لأنها صفةٌ للمجرور، أي: أصحابُ صيِّب جاعلين، والضميرُ محذوفٌ، أو نابَتْ الألفُ واللام منابَه، تقديرُهُ: يَجْعَلُونَ أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعِقِه. وقيل: محلُّها نصبٌ على الحال من الضمير «فيه» . والكلامُ في العائدِ كما تَقَدَّم، والجَعْلُ هنا بمعنى الإِلقاء، ويكونُ بمعنى الخَلْق فيتعدَّى لواحِدٍ، ويكون بمعنى صيَّر أو سَمَّى فيتعدَّى لاثنين، ويكون للشروع فيعملُ عَمَلَ عسى. وأصابِعُهم جمعُ إصْبَع، وفيها عشرُ لغاتٍ، بتثليث الهمزة مع تثليث الباء، والعاشرة: أُصْبوع بضمِّ الهمزة. والواوُ في «يَجْعلون» تعود للمضاف المحذوف كما تقدم إيضاحُهُ. واعلمْ أنَّه إذا حُذِفَ المضافُ جاز فيه اعتباران، أحدهما: أن يُلْتفت إليه، والثاني ألاَّ يُلْتَفَتَ إليه، وقد جُمِع الأمران في قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] ، التقدير: وكم من أهل قرية فلم يُرَاعِه في قوله: {أَهْلَكْنَاهَا [فَجَآءَهَا} ] وراعاه في قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} /. و {في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} كلاهما متعلقٌ بالجَعْل، و «مِنْ» معناها التعليل. والصواعِقُ: جمع صاعقة، وهي الصيحة الشديدة من صوت الرعد يكون معها القطعة من النار، ويقال: ساعِقة بالسين، وصاقِعة بتقديمِ القاف وأنشد: 233 - ألم تَرَ أنَّ المجرمين أصابَهُمْ ... صواقِعُ، لا بل هُنَّ فوق الصواقِعِ ومثلُه قول الآخر: 23 - 4-

يَحْكُمُونَ بالمَصْقُولَةِ القواطِعِ ... تَشَقُّقَ اليدَيْنِ بِالصَّواقِعِ وهي قراءةُ الحسن، قالَ النحاسَ: «وهي لغةُ تميم وبعض بني ربيعة» فيُحتمل أن تكونَ صاقِعَة مقلوبةً من صاعِقَة، ويُحْتَمَل ألاَّ تكونَ، وهو الأظهرُ لثبوتها لغةً مستقلةً كما تقدَّم، ويقال: صَعْقَة أيضاً، وقد قَرَأَ بها الكسائي في الذاريات، يقال: صُعِقَ زيدٌ وأَصْعَقَهُ غيرُه: قال: 235 - تَرى النُّعَراتِ الزُرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ ... أُحادَ وَمَثْنَى أصْعَقَتْهَا صواهِلُهْ قولُه تعالى: «حَذَرَ الموت» فيه وجهان، أظهرهُما: أنه مفعولٌ من أجله ناصبُه «يَجْعلون» ولا يَضُرُّ تعدُّدُ المفعولِ مِنْ أجْله، لأنَّ الفعلَ يُعَلِّل بعِلَلٍ. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ وعامِلُهُ محذوفٌ تقديرُهُ: يَحْذَرُونَ حَذَراً مثلَ حَذَرِ الموت، والحَذَرُ والحِذار مصدران لحَذرِ أي: خافَ خوفاً شديداً. واعلم أنَّ المفعولَ مِنْ أجله بالنسبةِ إلى نَصْبِهِ وجرِّه بالحرف على ثلاثةِ أقسام: قسم يكثُر نصبُه وهو ما كان غَيْرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافٍ نحو: جِئْت إكراماً لك، وقسم عكسُه، وهو ما كان معرَّفاً بأل. ومِنْ مجيئه منصوباً قولُ الشاعر: 236 - لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عن الهَيْجَاءِ ... ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ

وقسم يستوي فيه الأمران وهو المضافُ كالآيةِ الكريمة، ويكونُ معرفةً ونكرةً، وقد جَمَعَ حاتِم الطائيُّ الأمرينِ في قوله: 237 - وَأَغْفِرُ عوراءَ الكريمِ ادِّخَارَهُ ... وأُعْرِضُ عن شَتْمِ اللئيمِ تَكَرُّمَا و «حَذَرَ الموت» مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول، وفاعلُه محذوفٌ، وهو أحدُ المواضِعِ التي يجوزُ فيها حذفُ الفاعلِ وحدَه، [والثاني: فِعْلُ ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، والثالث: فاعل أَفْعَل في التعجب على الصحيح، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذفُ الفاعلِ وحدَه] خلافاً للكوفيين. والموتُ ضدُّ الحياة يقال: مات يموت ويَمات، قال الشاعر: 238 - بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البناتِ ... عِيشي ولا يُؤْمَنُ أن تَماتي وعلى هذه اللغة قُرِئَ: مِتْنَا ومِتُّ بكسر الميم كخِفْنَا وخِفْت، فوزنُ ماتَ على اللغةِ الأولى: فَعَل بفتح العينِ، وعلى الثانية: فَعِل بكسرِها، والمُوات بالضمِّ الموتُ أيضاً، وبالفتح: ما لا رُوحَ فيهِ، والمَوَتان بالتحريك ضد الحَيَوان، ومنه قولُهم «اشْتَرِ المَوَتانِ ولا تَشْتَرِ الحَيَوان» ، أي: اشتر الأَرَضِين ولا تَشْترِ الرقيق فإنه في مَعْرِضِ الهلاك. والمُوتان بضمِّ الميم: وقوعُ الموتِ في الماشية، ومُوِّت فلانٌ بالتشديد للمبالغة، قال:

239 - فَعُرْوَةُ مات موتاً مستريحاً ... فها أنا ذا أُمَوَّتُ كلَّ يومِ والمُسْتميتُ: الأمرُ المُسْتَرْسِلُ، قال رؤبة: 240 - وزَبَدُ البَحْرِ له كَتِيتُ ... والليلُ فوق الماء مُسْتَمِيتُ قولُه تعالى: «والله محيطٌ بالكافرين» جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وأصلُ مُحِيط: مُحْوِط، لأنه من حاطَ يَحُوطُ فأُعِلَّ كإعلال نَسْتعين. والإِحاطةُ: حَصْرُ الشيء مِنْ جميعِ جهاتِهِ، وهو هنا عبارةٌ عن كونِهِم تحت قَهْرِهِ، ولا يَفُوتونه. وقيل: ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي عقابُهُ محيطٌ بهم. وهذه الجملةُ قال الزمخشري: «هي اعتراضٌ لا محلَّ لها من الإِعراب» . كأنه يَعْني بذلك أنَّ جملَةَ قولِه: يَجْعلون أصابِعَهم، وجملةَ قوله: «يكاد البرق» شيءٌ واحدٌ، لأنَّهما من قصةٍ واحدةٍ فوقَعَ ما بينهما اعتراضاً.

20

قوله تعالى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} : «يكادُ» مضارع كَادَ، وهي لمقاربةِ الفعل، تعملُ عمل «كانَ» ، إلاَّ أنَّ خَبَرها لا يكونُ إلا مضارعاً، وشَذَّ مجيئُه اسماً صريحاً، قال: 241 - فَأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آيباً ... وكم مثلِها فارَقْتُها وهي تَصْفِرُ والأكثرُ في خبرِها تجرُّدُهُ من «أنْ» عَكَسَ «عسى» ، وقد شَذَّ اقترانُهُ بها، وقال رؤبة:

242 - قد كادَ مِنْ طولِ البلى أن يَمْحَصا ... لأنها لمقاربةِ الفعلِ، و «أَنْ» تُخَلِّصُ للاستقبال، فَتَنَافَا. واعلم أنَّ خَبَرَها إذا كانَتْ هي مثبتةً- منفيٌّ في المعنى لأنها للمقاربة، فإذا قلت: «كاد زيدٌ يفعلُ» كان معناه قارَبَ الفعلَ، إلا أنه لم يَفْعَل، فإذا نُفِيَتْ انتفَى خبرُها بطريقِ الأَوْلى، لأنه إذا انْتَفَتْ مقاربةُ الفعل/ انتفى هو من باب أَوْلَى ولهذا كانَ قَولُه تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] أبلغَ مِنْ أَنْ لو قيل: لم يَرَها، لأنه لم يقارِبِ الرؤيةَ فكيف له بها؟ وزعم جماعةٌ منهم ابن جني وأبو البقاء وابنُ عطية أنَّ نفيَها إثباتُ وإثباتَها نفيٌ، حتى أَلْغَزَ بعضُهم فيها فقال: 243 - أَنَحْوِيَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ ... جَرَتْ في لِسانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ إذا نُفِيَتْ - والله أعلمُ - أُثْبِتَتْ ... وإِنْ أُثْبِتَتْ قامَتْ مَقَامَ جُحُودِ وَحَكَوْا عن ذي الرمة أنه لمَّا أَنْشَدَ قولَه: 244 - إذا غَيَّر النأيُ المحِبِّينَ لم يَكَدْ ... رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ عِيْبَ عليه لأنه قال: لَمْ يَكَدْ يَبْرَحُ فيكون قد بَرِحَ، فغيَّره إلى قوله: «لم يَزَلْ» أو ما هو بمعناه، والذي غَرَّ هؤلاء قولُهُ تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] قالوا: فهي هنا منفيَّةٌ وخبرُها مُثْبَتٌ في المعنى، لأن الذبْحَ وقع

لقوله: «فَذَبَحُوها» . والجوابُ عن هذهِ الآية من وَجْهَين، أحدُهما: أنه يُحْمَلُ على اختلافِ وَقْتَيْنِ، أي: ذَبَحوها في وقتٍ، وما كادوا يفعلونَ في وقتٍ آخرَ، والثاني: أنه عَبَّر بنفيِ مقاربةِ الفعل عن شدَّةِ تعنُّتِهِمْ وعُسْرِهِم في الفعلِ. وأمَّا ما حَكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرُّمة في رجوعِهِ عن قولِهِ، وقالوا: هو أَبْلَغُ وأحسنُ مِمَّا غَيَّره إليه. واعلم أَنَّ خَبَرَ «كاد» وأخواتِها غيرَ عسى لا يكون فاعلُه إلا ضميراً عائداً على اسمها، لأنها للمقارَبَةِ أو للشروع بخلافِ عسى، فإنها للترجِّي، تقول: «عسى زيدٌ أن يقومَ أبوه» ، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأمَّا قولُه: 245 - وَقَفْتُ على رَبْعٍ لِميَّةَ ناقتي ... فما زِلْتُ أبكي عندَهُ وأُخَاطِبُهْ وَأَسْقِيهِ حتى كَادَ مِمَّا أَبُثُّه ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُه ومَلاعِبُهْ فأتى بالفاعلِ ظاهراً فقد حَمَلَه بعضُهم على الشذوذِ، وينبغي أن يُقال: إنما جاز ذلك لأن الأحجارَ والملاعب هي عبارةٌ عن الرَّبْع، فهي هو، فكأنه قيل: حتى كاد يكلِّمني، ولكنه عَبَّر عنه بمجموع أجزائه، وقولُ الأخر: 246 - وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني ... ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشاربِ السَّكِرِ وكنتُ أمشي على رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً ... فَصِرْتُ أمشي على أخرى من الشجر فأتى بفاعل [خبر] جَعل ظاهراً، فقد أُجيب عنه بوجهين: أحدُهما: أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديره: وقد جَعَل ثوبي إذا ما قمت يُثْقلني. والثاني: أنه من باب إقامةِ السببِ مُقامَ المُسَبَّبِ، فإنَّ نهوضَه كذا متسبِّبٌ عن إثقالِ

ثوبِه إياه، والمعنى: وقد جَعَلْتُ أَنْهَضُ نَهْضَ الشارب الثملِ لإِثقالِ ثوبي إياي. ووزن كاد كَودِ بكسر العين، وهي من ذواتِ الواو، كخاف يَخاف، وفيها لغةٌ أخرى: فتحُ عينها، فعلى هذه اللغةِ تُضَمُّ فاؤُها إذا أُسْنِدَتْ إلى تاء المتكلم وأخواتِها، فتقولُ: كُدْت وكُدْنا مثل: قُلْت وقُلْنا، وقد تُنْقَلُ كسرةُ عينها إلى فائِها مع الإِسناد إلى ظاهر، كقوله: 247 - وكِيدَ ضِباعُ القُفِّ يأكُلْنَ جُثَّتي ... وكِيدِ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَمُ ولا يجوز زيادتُها خلافاً للأخفشِ، وسيأتي هذا كلُه في «كاد» الناقصة، أمَّا «كاد» التامة بمعنى مَكَر فإنها فَعَل بفتح العين من ذواتِ الياء، بدليل قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15 - 16] . و «البرق» اسمها، و «يخَطف» خبرُها، ويقال: خَطِف يَخْطَفُ بكسر عين الماضي وفتح المضارع، وخَطَف يخطِف، عكسُ اللغة الأولى، وفيه قراءاتٌ كثيرة، المشهورُ منها الأولى. الثانية: يَخْطِف بكسر الطاء.

الثالثة يَخَطَّفُ بفتح الياء والخاء والطاء مع تشديدِ الطاء، والأصل: يَخْتَطِفُ، فَأُبْدلت تاءُ الافتعال طاءً للإِدغام، الرابعة: كذلك إلا أنَّه بكسر الخاء إتباعاً لكسرة الطاء. السادسة: كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء، السابعة: يَخْتَطِف على الأصل. الثامنة: يَخْطِّف بفتح الياء وسكونِ الخاء وتشديد الطاء، وهي رديئةٌ لتأديتها غلى التقاء ساكنين. التاسعة: بضم الياء وفتح الخاء وتشديدِ الطاء مكسورةً، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية. العاشرة: يَتَخَطَّف. والخَطْفُ: أَخْذُ شيءٍ بسرعة، وهذه الجملةُ - أعني قولَه: يكاد البرق يَخْطَف - لا محلَّ لَها، لأنها استئنافٌ، كأنه قيل: كيف يكونُ حالُهم مع ذلك البرقِ؟ فقيل: يكاد يَخْطَف، ويحتمل أن يكون في محلِّ جر صفةً لذوي المحذوفة، التقدير: أو كذوي صيبٍ كائدٍ البرقُ يَخْطَف. قوله تعالى: / {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} : «كل» نَصْبٌ على الظرفية، لأنها أُضيفت إلى «ما» الظرفية، والعاملُ فيها جوابُها، وهو «مَشَوا» . وقيل: «

ما» نكرةٌ موصوفةٌ، ومعناها الوقتُ أيضاً، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: كلَّ وقتٍ أضاءَ لهم فيه، فأضاءَ على الأول لا محلَّ له لكونِه صلةً، ومحلُّه الجرُّ على الثاني. و «أضاء» يجوز أن يكون لازماً. وقال المبرد: «هو متعدٍّ ومفعولُه محذوفٌ» ، أي: أضاء لهم البرقُ الطريقَ، فالهاء في «فيه» تعودُ على البرق في قولِ الجمهور، وعلى الطريقِ المحذوفِ في قول المبرد. و «فيه» متعلِّق بمَشَوا، و «في» على بابها أي: إنه محيطٌ بهم: وقيل: هي بمعنى الباء، ولا بدَّ من حذف على القَوْلين، أي: مَشَوا في ضوئِه أي بضوئِه، ولا محلَّ لجملةِ قولهِ «مَشَوا» لأنها مستأنفةٌ. واعلم أنَّ «كُلاًّ» من ألفاظِ العموم، وهو اسمُ جمعٍ لازمٌ للإِضافة، وقد يُحْذَفُ ما يضاف إليه، وهل تنوينُه حينئذٍ تنوينُ عوضٍ أو تنوينُ صَرْفٍ؟ قولان. والمضافُ إليه «كل» إن كانَ معرفةً وحُذِفَ بقيتْ على تعريفها، فلهذا انتصَبَ عنها الحالُ، ولا يَدْخُلها الألفُ واللامُ، وإن وقع ذلك في عبارةِ بعضِهم، وربما انتَصَبَتْ حالاً، وأصلُها أن تُسْتَعْمَل توكيداً كأجمعَ، والأحسنُ استعمالُها مبتدأً، وليس كونُها مفعولاً بها مقصوراً على السماعِ، ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعم ذلك. وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ أو معرفةٍ بلامِ الجنسِ حَسُنَ أن تَلِي العواملَ اللفظيةَ، وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ تعيُّنَ اعتبارُ تلك النكرة فيما لها من ضميرٍ وغيره، تقول: كلُّ رجال أتَوْكَ فأكرِمْهم، ولا يجوزُ أن يراعى لفظ «كل» فتقول: كلُّ رجال أتاكَ فأكرمه، و [تقول:] كلُّ رجلٍ أتاك فأكرمه، ولا تقول: أَتَوْك فأكرِمْهم، اعتباراً بالمعنى، فأما قوله: 248 - جادَتْ عليه كلُّ عَيْن ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ حدَيقةٍ كالدرهم

فراعى المعنى فهو شاذٌّ لا يُقاس عليه، وإذا أُضيفَتْ إلى معرفةٍ فوجهانِ، سواءً كانت الإِضافة لفظاً نحو: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} [مريم: 95] فراعى لفظَ كل، أو معنىً نحو: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40] فراعى لفظَها، وقال: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] ، فراعى المعنى، وقولُ بعضهم: إن «كُلَّما» تفيدُ التكرارَ، ليس ذلك من وَضْعها، فإنك إذا قُلْتَ: «كلما جِئْتَني أَكْرَمْتُك» كان المعنى: أُكْرِمُكَ في كلِّ فردٍ فردٍ من جَيئاتِكَ إليَّ. وقُرئ «ضاء» ثلاثياً، وهي تَدُلُّ على أنَّ الرباعيَّ لازمٌ. وقرئ: «وإذا أُظْلِم» مبنياً للمفعول، وجَعَلَه الزمخشريُّ دالاَّ على أنَّ أَظْلَمَ متعدٍ، واستأنَسَ أيضاً بقول حبيب: 249 - هما أَظْلما حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ... ظَلامَيْهِما عن وجهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ ولا دليلَ في الآيةِ لاحتمالِ أن أصلَه: وإذا أَظْلم الليلُ عليهم، فلمَّا بُنِي للمفعولِ حُذِف «الليل» وقام «عليهم» مَقَامَه، وأمَّا حبيبٌ فمُوَلِّدٌ. وإنما صُدِّرت الجملةُ الأولى بكلما، والثانيةُ بإذا، قال الزمخشري: «لأنهم حِراصٌ على وجودِ ما هَمُّهم به معقودٌ من إمكان المشي وتأتِّيه، فكُلَّما صادفوا منه فرصةً انتهزوها، وليسَ كذلك التوقُّفُ والتحبُّسُ» وهذا الذي قاله

هو الظاهرُ، إلاَّ أنَّ مِن النحويين مَنْ جعلَ أنَّ «إذا» تُفيد التكرار أيضاً، وأنشد: 250 - إذا وَجَدْتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبْدِي ... أَقْبَلْتُ نحو سِقاءِ القومِ أَبْتَرِدُ قال: «معناها معنى كلما» . قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} «لو» حرفٌ لِما كان سيقع لوقوع غيره، هذه عبارةُ سيبويه، وهي أَوْلى من عبارة غيره: / حرفُ امتناع لامتناع لِصحّةِ العبارة الأولى في نحو قوله تعالى: {لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر} [الكهف: 109] ، وفي قوله عليه السلام: «نِعْمَ العبدُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يُعْصِه» ، وعدم صحةِ الثانية في ذلك كما سيأتي محرِّراً، ولفسادِ نحو قولهم: «لو كان إنساناً لكان حيواناً» إذ لا يلزم مِنْ امتناعِ الإِنسانِ امتناعُ الحيوان، ولا يُجْزَمُ بها خلافاً لقوم، فأمَّا قولُه: 251 - لو يَشَأْ طارَ به ذو مَيْعَةٍ ... لاحِقُ الآطالِ نَهْدٌ ذو خُصَلْ وقول الآخر: 252 - تامَتْ فؤادَك لو يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ ... إحدى نساءِ بني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانا

فمِنْ تسكينِ المحرَّكِ ضرورةً، وأكثر ما تكونُ شرطاً في الماضي، وقد تأتي بمعنى إنْ كقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] وقولِه: 253 - ولَوْ أَنَّ ليلى الأخيليَّةَ سَلَّمَتْ ... عليَّ ودوني جَنْدَلٌ وصَفائِحُ لسَلَّمْتُ تسليمَ البشاشةِ أَوْزَقَا ... إليها صَدَىً مِنْ جانبِ القبرِ صائحُ ولا تكونُ مصدريةً على الصحيح، وقد تُشَرَّبُ معنى التمني فَتَنْصِبُ المضارعَ بعد الفاء جواباً لها نحو: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ} [الشعراء: 102] ، وسيأتي تحريرُه في مَوْضِعِه. و «شاء» أصلُه: شَيِئَ علَى فَعِلَ بكسر العين، وإنما قُلِبت الياءُ ألفاً للقاعدةِ المُمَهَّدةِ. ومفعولُه محذوفٌ تقديرُه: ولو شاء الله إذهابَ، وكَثُر حَذْفُ مفعولِه ومفعولِ «أراد» حتى لا يَكاد يُنْطَق به إلاَّ في الشيءِ المستغرَبِ كقولِه: 254 - ولو شِئْتُ أن أبكي دَماً لبكَيتُه ... عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أَوْسَعُ قال تعالى: {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [الزمر: 4] . واللامُ في «ذهب» جوابُ لو. واعلم أنَّ جوابَها يَكْثُر دخولُ اللامِ عليه مثبتاً، وقد تُحْذَفُ، قال تعالى: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70] ، ويَقِلُّ دخولُها

عليه منفيَّاً ب «ما» ، ويَمْتَنِعُ دخولُها عليه منفيَّاً بغير «ما» نحو: لو قُمْتَ لم أَقُمْ، لِتوالِي لامين فيثقلُ، وقد يُحْذَفُ كقوله: 255 - لا يُلْفِكَ الراجُوك إلا مُظْهِراً ... خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيماً و «بسَمْعِهم» متعلِّقٌ بذَهَب. وقُرِئَ: «لأَذْهَبَ» فتكونُ الباءُ زائدةً، أو يكونُ فَعَل وأَفْعَل بمعنىً، ونحوهُ: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] . قوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هذه جملةُ مؤكِّدةٌ لمعنى ما قبلَها، و «على كل شيء» متعلِّقٌ بقدير، وهو فَعِيل بمعنى فاعِل مشتقٌ من القُدْرَة وهي القُوة والاستطاعةُ، وفعلُها قَدَر بفتح العين، وله ثلاثةَ عشَرٍ مصدراً: قدرة بتثليث القاف، ومَقْدرة بتثليث الدال، وقَدْرَاً وقَدَراً وقُدَراً وقَداراً وقُدْراناً ومَقْدِراً ومَقْدَراً. وقدير أَبْلَغُ مِن قادر قاله الزجاج، وقِيل: هما بمعنى، قاله الهروي. والشيءُ: ما صَحُّ أن يُعْلَمَ من وجه، ويُخْبَرَ عنه، وهو في الأصل مصدرُ شاء يشاء/، وهل يُطْلق على المعدومِ والمستحيل؟ خلافٌ مشهور.

21

قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} . . «يا» حرف نداء وهي أم الباب، وزعم بعضُهم أنها اسمُ فعلٍ، وقد تُحْذَفُ نحو: {يُوسُفُ

أَعْرِضْ} [يوسف: 29] وينادى بها المندوبُ والمستغاثُ، قال الشيخ: «وعلى كثرة وقوع النداءِ في القرآن لمَ يَقَعْ نداءٌ إلا بها» . قلت: زَعَمَ بعضُهم أنَّ قراءةَ {أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] بتخفيف الميم أنَّ الهمزةَ فيه للنداءِ وهو غريبٌ. وقد يُراد بها مجردُّ التنبيه فيليها الجملُ الاسمية والفعلية، قال تعالى: {أَلاَ يا اسْجُدوا} [النمل: 25] بتخفيف أَلا، وقال الشاعر: 256 - ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال الآخر: 257 - يا لعنةُ اللهِ والأقوامِ كُلِّهمِ ... والصالحينَ على سِمْعانَ من جارِ و «أيّ» اسمُ منادى في محل نصب، ولكنه بُني على الضمِّ لأنه مفردٌ معرفةٌ. وزعم الأخفشُ أنَّها هنا موصولةٌ، وأنَّ المرفوعَ بعدها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملة صلةٌ، والتقديرُ: يا الذين هم الناسُ، والصحيح الأول، والمرفوع بعدها صفةٌ لها يلزم رَفْعُه، ولا يجوزُ نَصْبُه على المحلِّ، خلافاً للمازني، و «ها» زائدةٌ للتنبيه لازمةٌ لها، والمشهورُ فتحُ هائِها. ويجوزُ

ضَمُّها إتباعاً للياء، وقد قرأ عامر بذلك في بعض المواضع نحو: {أيُّهُ المؤمنون} [النور: 31] ، والمرسُوم يساعده. ولا يجوزُ وَصْفُ «أيّ» هذه إلا بما فيه الألفُ واللامُ، أو بموصولٍ هما فيه، أو باسم إشارة نحو: {ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} [الحجر: 6] ، وقال الشاعر: 258 - ألا أيُّهذا النابِحُ السِّيدَ إنني ... على نَأْيها مُسْتَبْسِلٌ مِنْ ورائِها ول «أيّ» معانٍ أُخَرُ كالاستفهام والشرطِ وكونِها موصولةً ونكرةً موصوفةً وصفةً لنكرةٍ وحالاً لمعرفةٍ. و «الناسُ» صفةٌ لأي، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ حَسْبما تقدَّم من الخلاف. و «اعبدوا رَبَّكُمُ» جملةٌ أمرية لا محلَّ لها لأنها ابتدائيةٌ. قولُه تعالى: {الذي خَلَقَكُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: نصبهُ على النعتِ لِرَّبكم. الثاني: نصبُه على القَطْع. الثالثُ: رَفْعُه على القطعِ أيضاً، وقد تقدَّم معناه. قوله تعالى: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} محلُّه النصبُ لعطفِه على المنصوبِ في «خَلَقَكم» ، و «مِنْ قبلكم» صِلةُ الذين، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر، و «مِنْ» لابتداء الغاية. واستشكلَ بعضُهم وقوعَ «مِنْ قبلكم» صلةً من حيث

إنَّ كلَّ ما جاز أن يُخْبَرَ به جاز أن يَقَعَ صلةً، و «مِنْ قبلكم» ناقصٌ ليس في الإِخبار به عن الأعيان فائدةٌ إلا بتأويل، فكذلك الصلةُ، قال: «وتأويلُه أنَّ ظرفَ الزمانِ إذا وُصِفَ صَحَّ الإِخبارُ والوصلُ به تقول: نحن في يومٍ طَيِّبٍ، فيكون التقديرُ هنا والله أعلم: والذين كانوا من زمان قبلَ زمانكم» . / وقال أبو البقاء: «التقدير: والذين خَلَقَهم من قبلِ خَلْقِكم، فَحَذَفَ الخَلْقَ وأقام الضميرَ مُقامَه» . وقرأ زيدٌ بنُ علي: «والذين مَن قَبْلِكُمْ» بفتح الميم. قال الزمخشري: ووجهُها على إشكالِها أن يقالَ: أَقْحَمَ الموصولَ الثاني بين الأول وصلتِه تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله: 259 - يَا تَيْمَ تَيْمَ عَدِيٍّ لا أبَالكُمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تَيْماً الثاني بين الأولِ وما أُضيفَ إليه، وكإقحامِهم لمَ الإِضافة بين المضافِ والمضاف إليه في نحو: لا أبالكَ، قيل: «هذا الذي قاله مذهبٌ لبعضِهم ومنه قولُه: 260 - من النَفَر اللاءِ الذين إذا هُمُ ... يَهابُ اللِّئامُ حَلْقَةَ البابِ قَعْقَعُوا

فإذا وجوابُها صلةُ» اللاء «، ولا صلة للذين لأنه توكيدٌ للأول. إلا أنَّ بعضَهم يَرُّدُّ هذا القولَ ويجعلُه فاسداً، مِنْ جهةِ أنه لا يُؤكَّدُ الحرفُ إلا بإعادةِ ما اتصل به فالوصولُ أَوْلَى بذلك، وخَرَّجَ الآية والبيتَ على أنَّ» مَنْ قبلكم «صلةٌ للموصولِ الثاني، والموصولُ الثاني وصلتُه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والمبتدأُ وخبرُه صلةُ الأول، والتقديرُ: والذينَ هُمْ قبلكم، وكذا البيتُ، تَجْعَلُ» إذا «وجوابَها صلةً للذين، والذين خبرٌ لمبتدأ محذوف، وذلك المبتدأُ وخبرُه صلةٌ لِلاَّءِ، ولا يَخْفَى ما في هذا من التعسُّفِ. والخَلْق يقال باعتبارين، وأحدهما: الإِبداع والاختراع، وهذه الصفةُ ينفردُ بها الباري تعالى. والثاني: التقديرُ: قال زهير: 261 - ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْري وقال الحَّجاج:» ما خلقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ ولا وَعَدْتُ إلا وَفَيْتُ «. وهذه الصفةُ لا يختصُّ بها اللهُ تعالى، وقد غَلِط أبو عبد الله البصري في أنه لا يُطْلق اسمُ الخالقِ على الله تعالى، قال: لأنه مُحَالٌ، وذلك أن التقدير والتسويةَ في حق الله تعالى ممتنعان، لأنهما عبارةٌ عن التفكُّر والظنِّ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: {هُوَ الله الخالق البارىء} [الحشر: 24] {الله خَالِقُ كُلِّ

شَيْءٍ} [الزمر: 62] . وكأنه لم يعلم أنَّ الخَلْقَ يكون عبارةً عن الإِنشاءِ والاختراع. قولُه تعالى:» لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «لعلَّ واسمُها وخبرُها، وإذا وَرَدَ ذلك في كلام الله تعالى، فللناسِ فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّ» لَعَلَّ «على بابها من الترجِّي والإِطماع، ولكنْ بالنسبةِ إلى المخاطَبين، أي: لعلَّكم تتقون على رجائِِكم وطمعِكم، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} أي: اذهبا على رجائكما. والثاني: أنها للتعليل، أي اعبدوا ربَّكم لكي تتقوا، وبه قال قطرب والطبري وغيرُهما وأنشدوا: 26 - 2- وقُلْتُمْ لنا كُفُّوا الحروبَ لَعَلَّنا ... نَكُفُّ ووَثَّقْتُمْ لنا كلَّ مَوْثِقِ فلمّا كَفَفْنَا الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ ... كَلَمْعِ سَرابٍ في المَلاَ مُتَألِّقِ أي: لكي نَكُفَّ الحربَ، ولو كانت» لعلَّ «للترجي لم يقلْ: وَوَثَّقْتُمْ لنا كلَّ مَوْثِقِ. والثالث: أنها للتعرُّض/ للشيء، كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرِّضين لأَِنَّ تتَّقوا. وهذه الجملةُ على كلِّ قولٍ متعلقةٌ من جهةِ المعنى باعبُدوا، أي: اعبدوه على رجائِكم التقوى، أو لتتقوا، أو متعرِّضين للتقوى، وإليه مالَ المهدوي وأبو البقاء. وقال ابن عطية: «يتَّجِهُ تعلًُّقُها ب» خَلَقَكم «، أنَّ كلَّ مولودٍ يُولد على الفطرةِ فهو بحيِثُ يُرْجى أَنْ يكونَ مُتَّقِياً، إلاَّ أنَّ المهدويَّ مَنَع من ذلك، قال:»

لأنَّ مَنْ ذَرأَه الله لجهنَّم لم يَخْلُقْه ليتَّقِيَ «ولم يَذْكر الزمخشري غيرَ تعلُّقِها ب» خَلَقَكُمْ «، ثم رتَّب على ذلك سؤالين، أحدُهما: أنه كما خَلَقَ المخاطبين لعلهم يتقون كذلك خَلَقَ الذين مِنْ قبلهم لذلك، فلِمَ خَصَّ المخاطبينَ بذلك دونَ مَنْ قَبلهم؟ وأجابَ عنه بأنَّه لَم يَقْصُرْه عليهم بل غلَّبَ المخاطبين على الغائبين في اللفظِ، والمعنى على إرادةِ الجميع. السؤالُ الثانِي: هَلاَّ قيل» تعبدونَ «لأجلِ اعبدوا، أو اتقوا لمكانِ» تَتَّقُون «ليتجاوبَ طَرفا النَّظْم، وأجابَ بأنَّ التقوى ليست غيرَ العبادةِ، حتى يؤدِّيَ ذلك إلى تنافُرِ النظم، وإنما التقوى قُصارى أمرِ العابدِ وأقصى جُهْدِه. قال الشيخ:» وأمَّا قولُه: ليتجاوبَ طرفاً النَظْم فليس بشيء، لأنه لا يمكن هنا تجاوبُ طَرَفَي النظْمِ، إذ نَظْمُ اللفظ: اعبدوا ربَّكم لعلكم تعبدُون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيدٌ في المعنى، إذ هو مثل: اضربْ زيداً لعلك تَضْربُه، واقصدْ خالداً لعلك تَقْصِدُه، ولا يَخْفَى ما في ذلك من غَثاثةِ اللفظِ وفسادِ المعنى «. والذي يظهرُ به صحتُه أن يكونَ» لعلكم تتقون «متعلقاً بقولِه:» اعبدوا «، فالذي نُودوا لأجلهِ هو الأمرُ بالعبادة، فناسَبَ أن يتعلَّقَ بها ذلك، وأتى بالموصولِ وصلتِه على سبيل التوضيحِ أو المدحِ الذي تعلَّقت به العبادةُ، فلم يُجَأ بالموصولِ لَيُحَدِّثَ عنه، بل جاءَ في ضمنِ المقصودِ بالعبادةِ، فلم يكُنْ يتعلَّقُ به دونَ المقصودِ. قلت: وهذا واضحٌ. وفي» لعلَّ «لغاتٌ كثيرةٌ، وقد يُجَرُّ بها، قال:

263 - لَعلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ علينا ... بشيء أنَّ أمَّكُمُ شَرِيمُ ولا تنصِبُ الاسمين على الصحيح، وقد تَدْخُلُ» أَنْ «في خبرها حَمْلاً على» عسى «، قال: 264 - لَعَلَّكَ يوماً أن تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تأتي للاستفهامِ والتعليلِ كما تقدَّم، ولكنَّ أصلَها أن تكونَ للترجِّي والطمعِ في المحبوباتِ والإِشفاق في المكروهات كعسى، وفيها كلامٌ أطولُ من هذا يأتي مفصَّلاً في غضونِ هذا الكتابِ إنْ شاء الله تعالى. وأصلُ تَتَّقُون: تَوْتَقِيُون لأنه من الوقاية، فأُبْدِلَتْ الواوُ تاء قبل تاء الافتعالِ، وأُدْغِمَتْ فيها، وقد تقدَّم ذلك في {لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، ثم اسْتُثْقِلَت الضمةُ على الياء فَقُدِّرَتْ، فَسَكَنَتْ الياءُ والواوُ بعدَها، فحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنين، وضُمَّت القافُ لتجانِسَها، فوزنُه الآن: تَفْتَعُونَ. وهذه الجملةُ أعني» لعلكم تتقونَ «لا يجوزُ أن تكونَ حَالاً لأنها طلبيةٌ، وإن كانَتْ عبارةُ بعضِهم تُوهم ذلك. ومفعولُ تَتَّقون محذوفٌ أي» تَتَّقون «الشِرْك أو النارَ.

22

قوله تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ} : «الذي» تحتملُ النصبَ والرفعَ. فالنصبُ من خمسةِ أوجهٍ، أظهرُها: أن يكونَ نصبُه على القطع. الثاني: أنه نعتٌ لربكم. الثالث: أنه بدلٌ منه. الرابع: أنه مفعول «تتقون» وبه بدأ أبو البقاء. الخامس: أنه نعتُ النعت أي: الموصولُ الأول، لكن المختارَ أن النعتَ لا يُنْعَتُ/ بل إنْ جاء ما يُوهم ذلك جُعِلَ نعتاً للأول، إلا أَنْ يمنَع مانعٌ فيكونَ نعتاً للنعت نحو قولهم: «يا أيُّها الفارسُ ذو الجُمَّة» ،

فذو الجُمَّة نعتٌ للفارس لا ل «أيّ» لأنها لا تُنْعَتُ إلاَّ بما تقدَّم ذِكْرُه. والرفعُ من وجهين: أحدهما وهو الأصح أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو الذي جَعَلَ. والثاني أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه بعد ذلك: «فلا تَجْعَلُوا» وهذا فيه نظرٌ من وجهين، أحدُهما: أنَّ صلتَه ماضِيةٌ فلم يُشْبِهِ الشرطَ فلا تُزَادُ في خبرِهِ الفاءُ، الثاني: عدمُ الرابط إلا أن يقالَ بمذهبِ الأَخفش وهو أَنْ يُجْعَلَ الربطُ مكرَّرَ الاسم الظاهر إذا كان بمعناه نحو: «زيدٌ قام أبو عبد الله» ، إذا كان أبو عبد الله كنيةً لزيد، وكذلك هنا أقامَ الجلالة مُقامَ الضميرِ كأنه قال: الذي جعل لكم فلا تَجْعلوا له أنداداً. و «جَعَل» فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لمفعولين فيكونُ «الأرضُ» مفعولاً أولَ، و «فراشاً» مفعولاً ثانياً. الثاني: أن تكونَ بمعنى «خَلَقَ» فتتعدَّى لواحد وهو «الأرضَ» ويكونُ «فراشاً» حالاً. «والسماء بِنَآءً» عطف على «الأرض فراشاً» على التقديرين المتقددِّمين، و «لكم» متعلِّق بالجَعْل أي لأجلكم. والفراشُ ما يُوْطَأُ ويُقْعَدُ عليه. والبِنَاءُ مصدرُ بَنَيْتُ، وإنما قُلِبت الياءُ همزةً لتطرُّفها بعد ألفٍ زائدةٍ، وقد يُرادُ به المفعولُ. و «أَنْزل» عطفٌ على «جَعَلَ» ، و «من السماء» متعلِّقٌ به، وهي لابتداءِ الغاية. ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن يكونَ حالاً مِنْ «ما» لأنَّ صفة النكرة إذا قُدِّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالاً، وحينئذٍ معناها التبعيضُ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: من مِياه السماءِ ماءً. وأصل ماء مَوَه بدليل قولهم: «ماهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوه» وفي جَمْعه:

مياه وأَمْواه، وفي تصغيرِه: مُوَيْه، فتحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها فقُلبت ألفاً، فاجتمع حرفان خَفِيَّان: الألفُ والهاءُ، فَأَبْدَلوا من الهاءِ أختَها وهي الهمزةُ لأنها أَجْلَدُ منها. وقوله: «فَأَخْرَجَ» عطفٌ على «أَنْزَل» مُرَتَّبٌ عليه، و «به» متعلِّقٌ بِه، والباءُ فيه للسببية. و «من الثمرات» متعلقٌ به أيضاً، ومِنْ هنا للتبعيضِ. وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلها زائدةً لوجهين، أحدُهما: زيادتُها في الواجبِ، وكَونُ المجرور بها معرفةً، وهذا لا يقولُ به بصريٌّ ولا كوفيٌّ إلا أبا الحسن الأخفش. والثاني: أن يكونَ جميعُ الثمراتِ رزقاً لنا، وهذا يخالف الواقعَ، إذ كثيرٌ من الثمرات ليس رزقاً. وجعلها الزمخشري لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ، إذ لم يتقدَّمْ ما يُبَيِّنُ هذا، وكأنه يعني أنه بيانٌ لرزقاً من حيث المعنى، و «رزقاً» ظاهرُه أنه مفعولٌ به، ناصبُه «أَخْرَجَ» . ويجوز أن يكونَ «من الثمرات» في موضع المفعول به، والتقديرُ: فأخرجَ ببعض الماء بعضَ الثمرات. وفي «رزقاً» حينئذ وجهان أحدُهما: أن يكونَ حالاً على أنَّ الرزقَ بمعنى المرزوقِ، كالطِّحْنِ والرِّعْي. والثاني: أن يكونَ مصدراً مَنْصُوباً على المفعولِ مِنْ أجلِه، وفيه شروطُ النصبِ موجودةٌ. وإنما نَكَّر «ماء» و «رزقاً» ليفيدَ التبعيضَ، لأنَّ المعنى: وأنزل من السماءِ بعض ماءٍ فَاَخْرَجَ به بعضَ الثمراتِ بعضَ رزقٍ لكم، إذ ليس جميعُ رزقِهم هو بعضَ الثمراتِ، إنَّما ذلك بعضُ رزقِهم. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «من الثمراتِ» حالاً مِنْ «رزقاً» لأنه لو تأخَّر لكان نعتاً، فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ، وجعلَ الزمخشري «من الثمرات»

واقعاً موقعَ الثمر أو الثمار، يَعْني مِمَّا نابَ جمعُ قلةٍ عن جمعِ الكثرة، نحو: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ} [الدخان: 25] و {ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] . ولا حاجةَ تدعو إلى هذا لأنَّ جَمْعَ السلامةِ المحلَّى بأَلْ التي للعمومِ يقعُ للكثرةِ، فلا فرقَ إذاً بين الثمراتِ والثمار، ولذلكَ ردَّ المحققونَ قولَ مَنْ ردَّ على حسان بن ثابت رضي الله عنه: 265 - لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحى ... وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدةٍ دَما قالوا: كان ينبغي أن يقولَ: الجِفان: وسيوفُنا، لأنه أمدحُ، وليس بصحيحٍ لما ذَكَرْتُ لك. و «لكم» يَحْتملُ التعلُّقَ ب «أَخْرَج» ، ويَحْتملُ التعلُّقَ بمحذوفٍ، على أن يكونَ صفةً ل «رِزْقاً» ، هذا إنْ أريد بالرزقِ المرزوقُ، وإنْ أُريد به المصدرُ فيحتملُ أن تكونَ الكافُ في «لكم» مفعولاً بالمصدرِ واللامُ مقويةً له، نحو: «ضربت ابني تأديباً له» أي: تأديبَه. قولُه تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} الفاءُ للتسبُّب، تَسَبَّبَ عن إيجادِ هذه الآياتِ الباهرة النهيُ عن اتخاذِكم الأندادَ. و «لا» ناهية و «تَجْعلوا» مجزومٌ بها، علامةُ جَزْمِه حَذْفُ النونِ، وهي هنا بمعنى تُصَيِّروا. وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ بمعنى تُسَمُّوا. وعلى القولين فيتعدَّى لاثنين أولُهما: أنداداً، وثانيهما: الجارُّ والمجرورُ قبلَه، وهو واجبُ التقديمِ. و «أنداداً» جمع نِدّ،

وقال أبو البقاء: «أَنْدَاداً جمعُ نِد ونَديد» وفي جَعْلَه جمعَ نديد نظرٌ، لأن أَفْعالاً لا يُحْفظ في فَعيل بمعنى فاعل، نحو: شَريف وأَشَرْاف ولا يُقاسُ عليه. والنِّدُّ: المقاوِمُ المضاهي، سواء كان [مثلاً] أو ضِدَّاً أو خلافاً وقيل: هو/ الضدُّ عن أبي عبيدة، وقيل: الكُفْء والمِثْل، قال حسان: 266 - أَتَهْجُوه ولستَ له بِنِدٍّ ... فشرُّكما لخيركما الفِداءُ أي: لستَ له بكُفْءٍ، وقد رُوِي ذلك، وقال آخر: 267 - نَحْمَدُ الله ولا نِدَّ له ... عندَه الخيرُ وما شاءَ فَعَلْ وقال الزمخشري: «النِّدُ المِثْل، ولا يُقال إلا للنِّدِّ المخالف، قال جرير: 268 - أَتَيْماً تَجْعَلونَ إليَّ نِدَّاً ... وما تَيْمٌ لذي حَسَبٍ نَدِيدُ ونادَدْتُ الرجلَ خالَفْتُه ونافَرْتُه مِنْ: نَدَّ يَنِدُّ نُدُوداً أي نَفَر» . انتهى، ويقال «نَديدة» على المبالغة، قال لبيد: 269 - لِكيلا يكونَ السَّنْدَرِيُّ نديدتي ... وأَجْعَلُ أَقْواماً عُموماً عَماعِمَا وأمَّا النَّدُّ بفتح النون فهو التل المرتفعُ، والنَّدُّ الطِّيب أيضاً، ليس بعربي. وهذه الجملةُ متعلقةٌ من حيث المعنى بقوله: «اعبدُوا» ، لأنَّ أصلَ

العبادةِ التوحيدُ، ويجوز أن يتعلَّقَ ب «الذي» إذا جعلتَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي هو الذي جعل لكم هذه الآياتِ العظيمةَ والدلائلَ النَّيِّرة الشاهدَةَ بالوَحْدانية فلا تَجْعلوا له أنداداً. وقال الزمخشري: «يتعلَّق ب» لعلَّكم «على أن ينتصِبَ» تجعلوا «انتصابَ {فَأَطَّلِعَ} [غافر: 37] في قراءةِ حَفْص، أي: خلقكم لكي تَتَّقوا وتخافوا عقابَه فلا تُشَبِّهوه بخَلْقه، فعلى قولِه: تكون» لا «نافيةً، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمارِ» أَنْ «في جوابِ الترجِّي، وهذا لا يُجيزه البصريون، وسيأتي تأويلُ» فأطَّلِع «ونظائِرِه في موضعِه إنْ شاء الله تعالى. قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب على الحال، ومفعولُ العِلْم متروكٌ لأنَّ المعنى: وأنتم من أهلِ العِلم، أو حُذِف اختصاراً أي: وأنتم تعلمونَ بُطْلانَ ذلك. والاسمُ من» أنتم «قيلَ: أَنْ، والتاءُ حرفُ خطاب يتغيَّرُ بحَسبِ المخاطب. وقيل: بل التاءُ هي الاسمُ وأَنْ عمادٌ قبلها. وقيل: بل هو ضميرٌ برُمَّتِه وهو ضميرُ رفعٍ منفصلٌ، وحكمُ ميمِه بالنسبة إلى السكونِ والحركةِ والإِشباعِ والاختلاسِ حكمُ ميم هم، وقد تقدَّم جميعُ ذلكَ.

23

قولُه تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ} : إنْ حرف شرطٍ يَجْزِم فعلينِ شرطاً وجزاءً، ولا يكونُ إلا في المحتملِ وقوعُه، وهي أمُّ ألبابِ، فلذلك يُحْذَفُ مجزومُها كثيراً، وقد يُحْذَفُ الشرطُ والجزاءِ معاً، قال: 270 - قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ ... كانَ فقيراً مُعْدِماً قالَتْ: وإنْ

أي: وإن كان فقيراً تزوجتُه، وتكونُ «إنْ» نافيةً لتعملُ وتُهْمَلُ، وتكون مخففةً وزائدةً باطِّراد وعدمِه، وأجاز بعضُهم أن تكونَ بمعنى إذْ، وبعضُهم أن تكونَ بمعنى قد، ولها أحكامٌ كثيرة. و «في ريب» خبر كان، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ومحلُّ «كان» الجزمُ، وهي وإن كانَتْ ماضيةً لفظاً فهي مستقبلةٌ معنى. وزعم المبردُ أنَّ ل «كان» الناقصةِ حكماً مع «إنْ» ليس لغيرها من الأفعالِ الناقصةِ فزعم أن لقوةِ «كان» أنَّ «إنْ» الشرطية لا تَقْلِبُ معناها إلى الاستقبال، بل تكونُ على معناها من المضيِّ، وتبعه في ذلك أبو البقاء، وعَلَّلَ ذلك بأنه كثُر استعمالُها غيرَ دالَّةٍ على حَدَثٍ. وهذا مردودٌ عند الجمهورِ لأن التعليقَ إنما يكون في المستقبلِ، وتأوَّلوا ما ظاهرُه غيرُ ذلك، نحو: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ} [يوسف: 26] : إمَّا بإضمار «يَكُنْ» بعد «إنْ» ، وإمَّا على التبيين، والتقديرُ: إنْ يكُنْ قميصُه أو إن يَتبيَّنْ كونُ قميصِه، ولمَّا خَفِيَ هذا المعنى على بعضهم جَعَل «إنْ» هنا بمنزلة «إذْ» . وقوله: «في ريبٍ» مجازٌ من حيث إنه جَعَلَ الريبَ ظرفاً محيطاً بهم، بمنزلةِ المكانِ لكثرةِ وقوعِه منهم. و «مِمَّا» يتعلقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لريب فهو في محلِّ جَرٍّ. و «مِنْ» للسببية أو ابتداءِ الغاية، ولا يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ، ويجوز أن تتعلَّق بريب، أي: إن ارتَبْتُمْ من أجل، ف «مِنْ» هنا

للسببيةِ «وما» موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ، والعائدُ على كلا القولين محذوفٌ أي: نَزَّلناه. والتضعيفُ في «نزَّلنا» هنا للتعدية مرادفاً لهمزةِ التعدِّي، ويَدُلُّ عليه قراءةُ «أنْزَلْنا» بالهمز، وجَعَلَ الزمخشري التضعيفَ هنا دالاًّ على نزولِه مُنَجَّماً في أوقاتٍ مختلفة. قال بعضُهم: «وهذا الذي ذهبَ إليه في تضعيفِ الكلمة هنا هو الذي يُعَبَّر عنه بالتكثير، أي يَفْعَلُ [ذلك] مرةً بعد مرةٍ، فَيُدَلُّ على ذلك بالتضعيفِ، ويُعَبَّرُ عنه بالكثرةِ» . قال: «وذَهَلَ عن قاعدةٍ وهي أن التضعيفَ الدالَّ على ذلك من شرطه أن يكونَ في الأفعال المتعديةِ قبل التضعيفِ غالباً نحو: جَرَّحْتُ زيداً وفتَّحْتُ الباب، ولا يُقال: جَلَّس زيدٌ، ونَزَّل لم يكن متعدياً قبلَ التضعيفِ، وإنَّ ما جَعَلَه متعدياً تضعيفُه. وقولُه «غالباً» لأنه قد جاء التضعيفُ دالاًّ على الكثرة في اللازم قليلاً نحو: «مَوَّت المالُ» وأيضاً فالتضعيفُ الدالُّ على الكثرةِ لاَ يَجْعَلُ القاصرَ متعدياً كما تقدَّم في موَّت المال، ونَزَّل كان قاصراً فصار بالتضعيفِ متعدِّياً، فدلَّ على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير، وأيضاً كان يَحْتاج قولُه/ تعالى: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] إلى تأويل، وأيضاً فقد جاء التضعيفُ حيث لا يمكنُ فيه التكثيرُ نحو قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} [الأنعام: 37] {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] إلا بتأويل بعيدٍ جداً، إذ ليس المعنى على

أنهم اقترحوا تكرير نزول آيةٍ، ولا أنه عَلَّق تكريرَ نزولِ مَلَكٍ رسولٍ على تقديرِ كونِ ملائكةٍ في الأرض. وفي قوله: «نَزَّلْنا» التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلُّمِ لأنَّ قبلَه: {اعبدوا رَبَّكُمُ} ، فلو جاء الكلامُ عليه لقيل: ممَّا نَزَّلَ على عبدِه، ولكنه التفت للتفخيمِ. و «على عبدنا» متعلِّقٌ بنزَّلنا، وعُدِّي ب «على» لإفادتها الاستعلاءَ، كأنَّ المُنَزَّل تَمَكَّنَ من المنزولِ عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثرُ القرآن بالتعدِّي بها، دونَ «إلى» ، فإنها تفيدُ الانتهاء والوصولَ فقط، والإِضافة في «عبدِنا» تفيدُ التشريف كقوله: 271 - يا قومِ قلبي عندَ زهْراءِ ... يَعْرِفُه السامعُ والرائي لا تَدْعُني إلاَّ بيا عبدَها ... فإنه أَشْرَفُ أسمائي وقُرئ: «عبادِنا» ، فقيل: المرادُ النبيُّ عليه السلام وأمته، لأنَّ جَدْوَى المنزَّلِ حاصلٌ لهم. وقيل: المرادُ بهم جميعُ الأنبياءِ عليهم السلام. قوله تعالى: «فَأْتُواْ» جوابُ الشرط، والفاءُ هنا واجبةٌ لأنَّ ما بعدها لا يَصِحُّ أن يكونَ شرطاً بنفسِه، وأصلُ فأْتُوا: اإْتِيُوا مثل: اضْربوا فالهمزة الأولى همزةُ وصلٍ أُتي بها للابتداءِ بالساكنِ، والثانيةُ فاءُ الكلمةِ، اجتمع همزتان، وَجَبَ قَلْبُ ثانيهما ياءً على حدِّ «إيمان» وبابِه، واستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياءِ التي هي لامُ الكلمةِ فَقُدِّرَتْ، فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدها واوُ الضميرِ ساكنةٌ فَحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ، وضُمَّتِ التاءُ للتجانُسِ فوزنُ ايتوا: افْعُوا، وهذه الهمزةُ إنما يُحتاجُ إليها ابتداءً، أمَّا في الدَّرْجِ فإنه يُسْتَغْنى عنها وتعودُ الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ لأنها إنما قُلِبَت ياءً للكسر الذي كان قبلها،

وقد زال نحو: «فَأْتوا» وبابِه وقد تُحْذَفُ الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ في الأمرِ كقوله: 272 - فإنْ نحنُ نَنْهَضْ لكم فَنَبُرَّكُمْ ... فَتُونا فعادُونا إذاً بالجرائمِ يريد: فَأْتونا كقوله: فَأْتوا. وبسورة متعلق ب أتوا «. قوله تعالى: {مِّن مِّثْلِهِ} في الهاء ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنها تعودُ على ما نَزَّلنا، فيكون مِنْ مثله صفةً لسورة، ويتعلّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر، أي: بسورةٍ كائنةٍ من مثلِ المنزَّل في فصاحتِه وإخبارِه بالغُيوبِ وغيرِ ذلك، ويكونُ معنى» مِنْ «التبعيضَ، وأجاز ابن عطية والمهدوي أن تكون للبيان، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدةً، ولا تجيء إلا على قول الأخفش. الثاني: أنها تعودُ على «عبدِنا» فيتعلَّقُ «من مثله» بأْتُوا، ويكون معنى «مِنْ» ابتداءَ الغاية، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكونَ صفةً لسورة، أي: بسورةٍ كائنة من رجلٍ مثلِ عبدِنا. الثالث: قال أبو البقاء: «إنها تعود على الأنداد بلفظِ المفرد كقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] قلت: ولا حاجةَ تَدْعو إلى ذلك، والمعنى يَأْباه أيضاً. والسُّورة: الدرجةُ الرفيعة، قال النابغة: 273 - ألم ترَ أنَّ الله أعطاكَ سُورةً ... ترى كلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ

وسُمِّيَتْ سورةُ القرآنِ بذلك لأنَّ صاحبَها يَشْرُفُ بها وَترْفَعُه. وقيل: اشتقاقُها من السُّؤْر وهو البَقِيَّة، ومنه» أَسْأَروا في الإِناء «قال الأعشى: 274 - فبانَتْ وقد أَسْأَرَتْ في الفؤا ... دِ صَدْعاً على نَأَيِها مُسْتطيرا أي: أَبْقَتْ، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ تميماً وغيرَها يهمزون فيقولون: سُؤْرة بالهمز، وسُمِّيت سورةُ القرآن بذلك لأنها قطعةٌ منه، وهي على هذا مخففةٌ من الهمزة، وقيل: اشتقاقُها من سُورِ البِناءِ لأنها تُحيط بقارئها وتحفظُه كسُورِ المدينة، ولكنَّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الواو، وجَمْعَ سُورةِ البِناء سُوْر بسكونِها فَفرَّقوا بينها في الجمعِ. قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَآءَكُم} هذه جملةُ أمرٍ معطوفةٌ على الأمر قبلها، فهي في محلِّ جَزْم أيضاً. ووزنُ ادْعُوا: افْعُوا لأن لام الكلمةِ محذوفٌ دلالةً على السكونِ في الأمر/ الذي هو جَزْم في المضارع، والواوُ ضميرُ الفاعِلِين و» شهداءَكم «مفعولٌ به جمعُ شهيد كظريف، وقيل: بل جمعُ شاهد كشاعر والأولُ أَوْلى لاطِّراد فُعَلاء في فَعِيل دونَ فاعلِ والشهادةُ: الحضور. و {مِّن دُونِ الله} متعلقٌ بادْعُوا، أي: ادْعُوا مِنْ دونِ الله شهداءكم، فلا تستشهدوا بالله، فكأنه قال: وادعُوا من غير الله مَنْ يشهَدْ لكم، ويُحتمل أَنْ يَتَعَلَّقَ ب» شهداءَكم «، والمعنى: ادعُوا مَن اتخذتموه آلهةً مِنْ دونِ الله وَزَعَمْتُم أنهم يَشْهدون لكم بصحةِ عبادتِكم إياهم، أو أعوانكم مِنْ دون أولياء الله، أي الذين تستعينون بهم دونَ الله. أو يكونُ معنى» مِنْ دونِ الله «بين يدي الله كقوله:

275 - تُريك القَذَى مِنْ دونِها وهي دونَه ... لوجهِ أخيها في الإِناءِ قُطُوبُ أي: تريكَ القذى قُدَّامها وهي قُدَّامه لرقتِها وصفائها. واختار أبو البقاء أن يكون {مِّن دُونِ الله} حالاً من» شهداءكم «، والعاملُ فيه محذوفٌ، قال:» تقديرُه: شهداءَكم منفردين عنِ الله أو عن أنصارِ الله «. و» دونَ «مْنِ ظروف الأمكنة، ولا تَتَصَرَّف على المشهورِ إلا بالجرِّ ب» مِنْ «، وزعم الأخفش أنها متصرِّفة، وجَعَل من ذلك قولَه تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] قال:» دونَ «مبتدأ، و» منَّا «خبرُه، وإنما بُني لإِضافتِه إلى مبني، وقد شَذَّ رفعُه خبراً في قولِ الشاعر: 276 - ألم تَرَ أنِّي قد حَمَيْتُ حقيقتي ... وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها وهو من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ لفظاً ومعنىً. وأمّا «دون» التي بمعنى رديء فتلك صفةٌ كسائرِ الصفات، تقول: هذا ثوبٌ دونٌ، ورأيت ثوباً دوناً، أي: رديئاً، وليستْ ممَّا نحن فيه. قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هذا شرطٌ حُذِفَ جوابُه للدلالة عليه، تقديره: إنْ كنتم صادِقين فافعلوا، ومتعلَّقُ الصدقِ محذوفٌ، والظاهرُ تقديرُه هكذا: إنْ كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزَّل على عبدِنا أنه من عندنا. وقيل: فيما تَقْدِرون عليه من المعارضة، وقد صَرَّح بذلك عنهم في آية أخرى حيث قال تعالى حاكياً عنهم: {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31] . والصدقُ

ضدُّ الكذبِ، وقد تقدَّم فَيُعْرَفُ مِنْ هناك، والصديقُ مشتقٌّ منه لصِدْقِه في الودِّ والنصحِ، والصِّدْقُ من الرماح: الصُّلبة.

24

قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} : «إنْ» الشرطيةُ داخلةٌ على جملة «لم تفعلوا» وتفعلوا مجزومٌ بلم، كما تدخل إنْ الشرطيةُ على فعلٍ منفي بلا نحو: {إنْ لا تفعلوه} [الأنفال: 73] فيكون «لم تفعلوا» في محلِّ جزم بها. وقوله: «فاتَّقوا» جوابُ الشرطِ، ويكونُ قولُه: «ولَنْ تفعلوا» جملةً معترضةً بين الشرطِ وجزائه. وقال جماعةٌ من المفسرين: معنى الآيةِ: وادعوا شهداءَكم مِنْ دونِ اللهِ إنْ كنتم صادِقين، ولَنْ تَفْعلوا فإنْ لم تَفْعلوا فاتَّقوا النار. وفيه نظرٌ لا يَخْفى. وإنما قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} فَعَبَّر بالفعلِ عن الإِتْيانِ لأن الفعلَ يجري مَجْرى الكناية، فيُعَبَّر به عن كلِّ فعلٍ ويُغْني عن طول ما تَكْني به. وقال الزمخشري: «لو لم يَعْدِلْ من لفظِ الإِتيانِ إلى لفظِ الفعلِ لاسْتُطِيل أن يقال: فإنْ لم تأتوا بسورةٍ من مثله ولَنْ تأتوا بسورةٍ مِنْ مثلِه» . قال الشيخ: «ولا يَلْزَمُ ما قال لأنه لو قال:» فإنْ لم تأتوا ولَنْ تأتوا «كان المعنى على ما ذَكَر، ويكونُ قد حَذَفَ ذلك اختصاراً، كما حَذَف اختصاراً مفعولَ {لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} ، ألا ترى أنَّ التقدير: فإنْ لم تفعلوا الإِتيانَ بسورةٍ من مِثله، ولن تفعلوا الإِتيانَ بسورةٍ من مثله» . و «لَنْ» حرفُ نَصْبٍ معناه نَفْيُ المستقبل، ويختصُّ بصيغةِ المضارع ك «لم» ، ولا يقتضي نََفْيُه التأبيدَ، وليس أقلَّ مدةً مِنْ نفي لا، ولا نونُه بدلاً من

ألفِ لا، ولا هو مركباً من «لا أَنْ» خلافاً للخليلِ، وزَعَم قومٌ أنها قد تَجْزِمُ، منهم أبو عبيدةَ وأنشدوا: 277 - لن يَخِبْ لانَ مِنْ رجائِك مَنْ حَرْ ... رَكِ مِنْ دونِ بابِك الحَلَقَهْ وقال النابغة: 278 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلن أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ ويُمكِنُ تأويلُ ذلك بأنه مِمَّا سُكِّنَ فيه للضرورةِ. قوله تعالى: {فاتقوا النار} هذا جوابُ الشرطِ كما تقدم، والكثير في لغة العرب: «اتقى يتَّقي» على افْتَعَل يَفْتَعِلُ، ولغة تميم وأسد: تَقَى يَتْقي مثل: رَمَى يَرْمي، فيُسكِّنون ما بعد حرفِ المضارعة، حكى هذه اللغة سيبويه، ومنهم مَنْ يُحَرِّكُ ما بعد حرف المضارعة، وأنشدوا: 279 - تَقُوه أيُّها الفِتْيانُ إنّي ... رأيتُ الله قد غَلَبَ الجُدودا

وقال آخر: 280 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَقِ الله فينا والكتابَ الذي تتلو قوله تعالى: {النار} مفعول به، و «التي» صفتُها، وفيها أربع اللغاتِ المتقدمةِ، كقوله: 281 - شُغِفَتْ بك اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمثلُ ما ... بك ما بها مِنْ لَوْعةٍ وغَرامِ وقال آخر: 28 - 2- فقلْ لِلَّتْ تَلُومُك إنَّ نَفْسي ... أراها لا تُعَوَّذُ بالتَّميمِ وقوله: {وَقُودُهَا الناس} جملةٌ من مبتدأ وخبر صلةٌ وعائدٌ، والألفُ واللامُ في «النار» للعهدِ لتقدُّمِ ذكرها في سورة التحريم وهي مكية عند قوله تعالى: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] . والمشهورُ فتحُ واوِ الوَقود، وهو اسمُ ما يُوقَدُ به، وقيل: هو مصدر كالوَلوع والقَبول والوَضوء والطَّهور. ولم يجىءْ مصدرٌ على فَعُول غيرُ هذه الألفاظِ فيما حكاه سيبويه. وزاد الكسائي: الوَزُوع، وقُرئ شاذاً في سورة (

ق) {وما مسَّنا من لَغوب} [الآية: 38] ، فتصير سبعةً، وهناك ذَكرْتُ هذه القراءةَ، ولكن المشهور أن الوقود والوَضوءَ والطَهور بالفتح اسمٌ وبالضم مصدرٌ، وقرئ شاذاً بضمها وهو مصدرٌ. وقال ابن عطية: «وقد حُكيا جميعاً في الحَطَب، وقد حُكيا في المصدر» انتهى. فإن أريدَ اسمُ ما يُوقد به فلا حاجةَ إلى تأويل، وإنْ أَريد بهما المصدرُ فلا بدَّ من تأويلٍ وهو: إمَّا المبالغة أي جُعلوا نفس التوقُّدِ مبالغةً في وصفهم بالعذاب، وإمّا حذفُ مضافٍ: إمَّا من الأولِ أي أصحابُ توقدِها، وإمَّا من الثاني أي: يُوقِدُها إحراقُ الناس، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه. والهاءُ في الحجارةِ لتأنيثِ الجمع. قوله تعالى: {أُعِدَّتْ} فعلُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، والقائمُ مَقَامَ الفاعلِ ضميرُ «النار» والتاء واجبة، لأن الفعلَ أُسْنِدَ إلى ضمير المؤنث، ولا يُلتفت إلى قوله:

283 - فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها لأنه ضرورةٌ خلافاً لابن كيسان. و «للكافرين» متعلقٌ به، ومعنى أُعِدَّت: هُيِّئَتْ، قال: 284 - أَعْدَدْتَ للحَدَثان سا ... بِغَةً وعَدَّاءً عَلَنْدى وقرئ: «أُعْتِدَتْ» من العَتاد بمعنى العُدَّة. وهذه الجملةُ الظاهر أنها لا محلَّ لكونِها مستأنفةً جواباً لمَنْ قال: لِمَنْ أُعِدَّتْ؟ وقال أبو البقاء: «محلُّها النصبُ على الحالِ من» النار «، والعامِلُ فيها اتقوا» . قيل: وفيه نظرٌ فإنها مُعَدَّةٌ للكافرين اتَّقَوْا أم لم يَتَّقُوا، فتكونُ حالاً لازمةً، لكن الأصل في الحال التي ليسَتْ للتوكيدِ أن تكونَ منتقلةً، فالأَوْلَى أن تكونَ استئنافاً. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُُ أن تكون حالاً من الضمير في» وَقُودُها «لثلاثة أشياء أحدها: أنها مضافا إليها. الثاني: أنَّ الحَطَب لا يعمل، يعني أنه اسمٌ جامدٌ. الثالث: الفصلُ بين المصدرِ أو ما يَعْمَلُ

عَمَلَهُ وبين مَا يَعْمَلُ فيه بالخبر وهو» الناسُ «، يعني أنَّ الوُقودَ بالضمِّ وإن كان مصدراً صالحاً للعملِ فلا يجوزُ ذلك أيضاً؛ لأنه عاملٌ في الحالِ وقد فَصَلْتَ بينه وبينها بأجنبي وهو» الناسُ «. وقال السجستاني: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} من صلة» التي «كقوله: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] ، قال ابن الأنباري:» وهذا غَلَطٌ لأن «التي» هُنا وُصِلَتْ بقوله: {وَقُودُهَا الناس} فلا يجوز أن تُوصل بصلةٍ ثانية، بخلافِ التي في آل عمران. قلت: ويمكن ألاَّ يكون غَلطاً، لأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ {وَقُودُهَا الناس} والحالةُ هذه صلةٌ، بل إمَّا معترضةً لأنَّ فيها تأكيداً وإمَّا حالاً، وهذان الوجهان لا يَمْنَعهُما معنىً ولا صناعةً.

25

قولُه تعالى: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ} : هذه الجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها، عَطَفَ جملةَ ثوابِ المؤمنين على جملةِ عقابِ الكافرين، وجاز ذلك لأنَّ مذهبَ سيبويه وهو الصحيح أنه لا يُشْتَرَطُ في عطفِ الجملِ التوافُقُ معنىً، بل تُعْطَفُ الطلبيةُ على الخبريةِ وبالعكس، بدليلِ قولِهِ:

285 - تُناغي غَزالاً عند بابِ ابنِ عامرٍ ... وَكَحِّلْ أماقِيكَ الحسانَ بإِثْمِدِ وقول امرئ القيس: 28 - 6- وإنَّ شفائي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ ... وهل عند رَسْمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكونَ عطفاً على «فاتقوا» ليَعْطِفَ أمراً على أمر. وهذا قد رَدَّهُ الشيخ بأنَّ «فاتَّقُوا» جوابُ الشرط، فالمعطوفُ يكون جواباً لأنَّ حكمَه حكمُه، ولكنه لا يَصِحُّ لأنَّ تبشيرَه للمؤمنين لا يترتَّبُ على قولِهِ: فإنْ لَمْ تَفْعَلوا. وقرئ: «وبُشِّرَ» ماضياً مبنياً للمفعولِ. وقال الزمخشري: «وهو عطف على أُعِدَّت» . قيل: «وهذا لا يتأتَّى على إعرابِ» أُعِدَّتْ «حالاً لأنها لا تَصْلُحُ للحاليَّةِ» . والبِشارةُ: أولُ خبرٍ من خيرٍ أو شرٍّ، قالوا: لأنَّ أثرَها يَظْهَرُ في البَشَرة وهي ظاهِرُ جلدِ الإِنسان، وأنشدوا: 287 - يُبَشِّرُني الغُرابُ بِبَيْنِ أهلي ... فقُلْتُ له: ثَكِلْتُكَ مِنْ بشيرِ

وقال آخر: 288 - وبَشَّرْتَنِي يا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي ... جَفَوْنِي وأنَّ الوُدَّ موعدُهُ الحَشْرُ وهذا رأي سيبويه، إلا أن الأكثرَ استعمالُها في الخير، وإن اسْتُعْمِلَتْ في الشرِّ فبقَيْدٍ، كقولِهِ تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} [آل عمران: 21] وإن أُطْلِقَتْ كانت للخير، وظاهرُ كلامِ الزمخشري أنها تختصُّ بالخَيْرِ، لأنه تَأَوَّلَ مثلَ: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} على العكسِ في الكلامِ الذي يُقْصَدُ به الزيادةُ في غَيْظِ المُسْتَهْزَأ به وتألُّمِهِ. والفعلُ منها: بَشَرَ وبَشَّر مخففاً ومثقلاً، كقولَه: «بَشَرْتُ عيالي» البيت، والتثقيلُ للتكثيرِ بالنسبة إلى المُبَشِّرِ به. وقد قرئ المضارعُ مخففاً ومشدداً، وأمَّا الماضي فَلَمْ يُقْرَأْ به إلا مثقَّلاً نحو: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] وفيه لغةٌ أخرى: أَبْشَرَ مثل أَكْرَمَ، وأنكر أبو حاتم التخفيفَ، وليس بصوابٍ لمجيء مضارعِهِ. وبمعنى البِشارة: البُشور والتَبْشير والإِبْشَار، وإن اختَلَفَتْ أفعالُها، والبِشارَةُ أيضاً الجَمالُ، والبَشير: الجميلُ، وتباشير الفجرِ أوائلُهُ. [وقرأ زيدٌ بنُ علي رضي الله عنهما «وبُشِّرَ» : ماضياً مبنياً للمفعول

قال الزمخشري: «عطفاً على» أُعِدَّت «انتهى. وهو غلط لأن المعطوف عليه [مِن] الصلة، ولا راجعَ على الموصولِ من هذه الجملةِ فلا يَصِحُّ أن يكونَ عطفاً على أُعِدَّت] . وفاعلُ» بَشِّرْ «: إِمَّا ضميرُ الرسولِ عليه السلام، وهو الواضحُ، وإمَّا كلُّ مَنْ تَصِحُّ منه البشارةُ. وكونُ صلةِ» الذين «فعلاً ماضياً دونَ كونِهِ اسمَ فاعلٍ دليلٌ على أَنْ يستحقَّ التبشيرَ بفضلِ الله مَنْ وَقَعَ منه الإِيمانُ وتَحَقَّقَ به وبالأعمالِ الصالحةِ. والصالحاتُ جمعُ صالحة وهي من الصفاتِ التي جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ في إيلائِها العواملَ، قال: 289 - كيفَ الهجاءُ وما تَنْفَكُّ صالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لأَْمٍ بظهرِ الغَيْبِ تَأْتِينِي وعلامةُ نصبِه الكسرةُ لأنه من بابِ جَمْعِ المؤنث السالم نيابةً عن الفتحةِ التي هي أصلُ النصبِ. قولُه تعالى: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} جناتٍ اسمُ أنَّ، و «لهم» خبرٌ مقدمٌ، ولا يجوز تقديمُ خبرِ «أنَّ» وأخواتِها إلا ظرفاً أو حرفَ جَرٍّ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جَرّ عند الخليل والكسائي ونصبٍ عند سيبويهِ والفراء، لأن الأصلَ «: وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم، فحُذِفَ حرفُ الجر مع أَنَّ، وهو حَذْفٌ

مُطَّردٌ معها ومع» أَنْ «الناصبة للمضارعِ، بشرط أَمْنِ اللَّبْسِ، بسبب طولهما بالصلة، فلما حُذِفَ حرفُ الجرّ جرى الخلافُ المذكورُ، فالخليل والكسائي يقولان: كأنَّ الحرفَ موجودٌ فالجرُّ باقٍ، واستدلَّ الأخفشُ لهما بقولِ الشاعر: 290 - وما زُرْتُ ليلى أنْ تَكُونَ حبيبةً ... إليَّ لا دَيْنٍ بها أنا طالِبُهْ فَعَطْفُ» دَيْنٍ «بالجرِّ على محلِّ» أن تكون «يبيِّنُ كونَها مجرورةً، قيل: ويَحْتملُ أن يكونَ من بابِ عَطْفِ التوهُّم فلا دليلَ فيه. والفراء وسيبويه يقولان: وَجَدْناهم إذا حذفوا حرفَ الجر نَصَبُوا، كقولِهِ: 291 - تَمُرُّونَ الديارَ وَلَمْ تَعُوجوا ... كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرَامُ أي بالديار، ولا يجوزُ الجرُّ إلا في نادرِ شعرٍ، كقولِهِ: 292 - إذا قيلَ: أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ ... أَشَارتْ كليبٍ بالأَكفِّ الأصابعُ أي: إلى كُلَيْبٍ، وقولِ الآخر: 293 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأَعْلامِ أي: إلى الأعلام. والجَنَّةُ: البُسْتَانُ، وقيل: الأرضُ ذاتُ الشجرِ، سُمِّيَتْ بذلك لسَتْرِها مَنْ فيها، ومنه: الجنين لاستتارِه، والمِجَنُّ: التُرْس، وكذلك» الجُنَّة «لأنه يَسْتُر صاحبَه، والجِنَّة لاستتارِهم عن أعينِ الناسِ. قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} هذه الجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ لأنها صفةٌ لجنَّات، و» تَجْرِي «مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِه ضمةٌ مقدرةٌ في الياءِ استثقالاً، وكذلك تُقَدَّرُ في كلِّ فعلٍ معتلٍ نحو: يَدْعو ويَخْشَى إلاَّ أَنَّها في الألِفِ تُقَدَّرُ تعذُّراً. والأنهارُ جمع نَهْر بالفتح، وهي اللغة العالية، وفيه تسكينُ الهاءِ، ولكن» أَفْعال «لا ينقاسُ في فَعْل الساكنِ العينِ بل يُحْفظ نحو: أَفْراخ وأَزْنَاد وأَفراد. والنهرُ دونَ البحرِ وفوقَ الجدولِ، وهل هو مجرى الماءِ أو الماءُ الجاري نفسُه؟ والأولُ أظهرُ، لأنه مشتقٌّ من نَهَرْت أي: وسَّعْتُ، قال قيس بن الخطيم يصفُ طعنةِ: 294 - مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأنْهَرْتُ فَتْقَها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي وَسَّعْتُ، ومنه: النهارُ لاتساعِ ضوئِهِ، وإنَّما أُطْلِقَ على الماءِ مجازاً إطلاقاً للمحلِّ على الحالِّ. و {مِن تَحْتِهَا} متعلقٌ بتجري، و» تحت «مكانٌ لا يَتَصَرَّفُ، وهو نقيضُ» فوق «، إذا أُضيفا أُعْرِبَا، وإذا قُطِعَا بُنِيَا على الضم. و» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ وقيل: زائدةٌ، وقيل: بمعنى في، وهما ضعيفان. واعلمْ أنه إذا قيل بأنَّ الجَنَّة هي الأرضُ ذاتُ الشجرِ فلا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: من تحتِ عَذْقِها أو أشجارِها. وإن قيل بأنها الشجرُ نفسَه فلا حاجةَ إلى ذلك. وإذا قيل بأنَّ الأنهارَ اسمٌ للماءِ الجاري فنسبةُ الجَرْيِ إليه حقيقةٌ. وإنْ قيلَ بأنه اسمٌ للأُخْدُودِ الذي يَجْرِي فيه فنسبةُ الجَرْي إليه مجازٌ كقول مهلهل: 295 - نُبِّئْتُ أنَّ النارَ بعدكَ أُوْقِدَتْ ... واسْتَبَّ بعدَك يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ قال الشيخ: «وقد ناقضَ ابنُ عطيةَ كلامَهُ هنا فإنه قال:» والأنهار: المياهُ في مجارِيها المتطاولةِ الواسعةِ «ثم قال:» نَسَبَ الجَرْيَ إلى النهر، وإنما يَجري الماءُ وحدَه توسُّعاً وتجوُّزاً، كما قال تعالى: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] ، وكما قال: نُبِّئْتُ أنَّ النار. البيت «. والألف واللامُ في» الأنهار «للجنس، وقيل: للعَهْدِ لِذِكْرِها في سورة

القتال. وقال الزمخشري:» يجوزُ أَنْ تَكونَ عوضاً من الضمير كقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] أي: أنهارُها «، بمعنى أنَّ الأصلَ: واشتعلَ رأسي، فَعَوَّض» أل «عن ياء المتكلم، وهذا ليس مذهب البصريين، بل قال به بعض الكوفيين، وهو مردودٌ بأنه لو كانت» أل «عوضاً من الضمير لَما جُمع بينهما، وقد جُمع بينهما، قال النابغة: 296 - رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رفيقةٌ ... بجَسِّ الندامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ [فقال: الجيبِ منها] ، وأمَّا ما وَرَدَ وظاهرُه ذلك فيأتي تأويله في موضِعِه. قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ} تقدَّم الكلامُ في» كُلَّما «، والعاملُ فيها هنا:» قالوا «، و» منها «متعلِّق ب» رُزِقوا «، و» مِنْ «لابتداء الغاية وكذلك» مِنْ ثمرةٍ «لأنها بَدَلٌ من قولِه» منها «بدَلُ اشتمالٍ بإعادةِ العاملِ،

وإنما قُلْنَا بدلُ اشتمالٍ، لأنه لا يتعلَّقُ حرفان بمعنىً واحدٍ بعاملٍ واحدٍ إلا على سبيلِ البدليةِ أو العطفِ. وأجاز الزمخشري أن تكونَ» مِنْ «للبيانِ، كقولِك: رأيت منكَ أسداً. وفيه نظرٌ، لأنَّ مِنْ شرطِ ذلك أن يَحُلَّ مَحَلَّها موصولٌ وأن يكونَ ما قبلَها مُحَلَّى بأل الجنسية، وأيضاً فليس قبلَها شيءٌ يَتَبَيَّنُ بها، وكونُها بياناً لِما بعدها بعيدٌ جداً وهو غيرُ المصطلح. و» رِزْقاً «مفعولٌ ثانٍ ل» رُزِقوا «وهو بمعنى» مَرْزوقٍ «، وكونُه مصدراً بعيدٌ لقولِه: {هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} والمصدرُ لا يؤتى به متشابهاً، وإنما يُؤْتى بالمرزوق كذلك. قوله:» قالوا: هذا الذي رُزِقْنا مِنْ قبلُ «» قالوا «هو العاملُ في» كلما «كما تقدَّم، و {هذا الذي رُزِقْنَا} مبتدأ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ بالقول، وعائدُ الموصولِ محذوفٌ لاستكمالِهِ الشروطَ، أي: رُزِقْناه. و» مِنْ قَبلُ «متعلِّقٌ به. و» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ، ولَمَّا قُطِعَتْ» قبلُ «بُنِيَتْ، وإنما بُنِيَتْ على الضَّمةِ لأنها حركةٌ لم تكنْ لها حالَ إعرابها. واختُلِفَ في هذه الجملةِ، فقيل: لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ لأنَّها استئنافيةٌ، كأن قيل لَمَّا وُصِفَت الجناتُ: ما حالُها؟ فقيل: كلما رُزِقوا قالوا. وقيل: لَهَا محلٌّ، ثم اختُلِفَ فيه فقيل: رفعٌ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، واختُلِفَ في ذلك المبتدأ، فقيل: ضميرُ الجنات أي هي كلما. وقيل: ضميرُ الذين آمنوا أي: هم كلما رُزقوا قالوا ذلك. وقيل:

محلًّها نصبٌ على الحالِ وصاحبُها: إمَّا الذينَ آمنوا وإمَّا جنات، وجازَ ذلك وإنْ كان نكرةً لأنها تَخَصَّصَتْ بالصفةِ، وعلى هذين تكونُ حالاً مقدَّرةً لأن وقتَ البشارةِ بالجناتِ لم يكونوا مرزوقينَ ذلك. وقيل: مَحَلُّهَا َنَصْبٌ على أنها صفةٌ لجنات أيضاً. قوله: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} الظاهرُ أنها جملةٌ مستأنفةٌ. وقال الزمخشري فيها: «هو كقولِكَ: فلانٌ أَحْسِنْ بفلان، ونِعْمَ ما فعل، ورأى من الرأي كذا، وكان صواباً، ومنه: {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] وما أشْبَه ذلك من الجملِ التي تُساق في الكلام معترضةً فلا محلَّ لها للتقرير» . قلت: يعني بكونها معترضةً أي بين أحوالِ أهل الجنة، فإنَّ بعدها: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ} ، وإذا كانت معترضةً فلا محلَّ لها أيضاً. وقيل: هي عطفٌ على «قالوا» ، وقيل: محلُّها النصبُ على الحالِ، وصاحبُها فاعلُ «قالوا» أي: قالوا هذا الكلامَ في هذه الحالِ، ولا بُدَّ من تقديرِ «قد» قبل الفعلِ أي: وقد أُتوا، وأصلُ أُتُوا: أُتِيُوا مثل: ضُرِبوا، فَأُعِلَّ كنظائرِه. وقرئ: وأتَوا مبنياً للفاعل، والضميرُ للوِلْدان والخَدَمْ للتصريحِ بهم في غير موضع. والضميرُ في «به» يعودُ على المرزوق الذي هو الثمرات، كما أنَّ «هذا» إشارةٌ إليه. وقال الزمخشري: «يعودُ إلى المرزوق في الدنيا

والآخرة لأنَّ قولَه: {هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} انطوى تحته ذِكْرُ ما رُزِقوه في الدارَيْن. ونظيرُ ذلك قولُه تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] أي: بجنسَي الغنيّ والفقيرِ المدلولِ عليهما بقولِه: غنياً أو فقيراً» . انتهى. قلت: يَعْني بقولِه: «انطوى تحتَه ذِكْرُ ما رُزِقوه في الدارَيْن» أنه لمَّا كان التقديرُ: مثل الذي رُزِقْناه كان قدِ انطوى على المرزوقَيْنِ معاً كما أنَّ قولَكَ: «زيدٌ مثل ُ حاتم» مُنْطَوٍ على زَيد وحاتم. قال الشيخ: «وما قالَه غيرُ ظاهر، لأنَّ الظاهر عَوْدُه على المرزوق في الآخرةِ فقط، لأنه هو المُحَدَّثُ عنه، والمشبَّهُ بالذي رُزقوه من قبلُ، لا سيما إذا فسَّرْتَ القبلِيَّةَ بما في الجنة، فإنه يتعيَّن عَوْدُه على المَرزوق في الجنةِ فقط، وكذلك إذا أَعْرَبْتَ الجملةَ حالاً، إذْ يَصيرُ التقديرُ: قالوا: هذا [مثلُ] الذي رُزقنا من قبل وقد أُتُوا به [متشابهاً] ، لأنَّ الحاملَ لهم على هذا القول كَونُه أُتُوا به متشابهاً وعلى تقديرِ أن يكونَ معطوفاً على» قالوا «لا يَصِحُّ عَوْدُهُ على المرزوقِ في الدارَيْنِ لأنَّ الإِتيانَ إذ ذاك يستحيل أن يكونَ ماضياً معنًى، لأنَّ العاملَ في» كلما «وما في حَيِّزها يتعيَّنُ هنا أن يكونَ مستقبلَ المعنى، لأنها لا تَخْلُو من معنى الشرط، وعلى تقديرِ كونها مستأنفةً لا يظهرُ ذلك أيضاً لأنَّ هذه الجملَ مُحَدَّثٌ بها عن الجنة وأحوالِها» .

26

قولُه تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} : «لا يَسْتَحْيي» جملةٌ في محل الرفع خبرٌ ل «إنَّ» ، واستفْعَلَ هنا للإِغناء عن الثلاثي المجرد، وقال الزمخشري: «إنه موافق له» أي: قد وَرَدَ حَيِي واسْتَحْيى بمعنى واحد، والمشهور: اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي فهو مُسْتَحْيٍ ومُسْتَحْيى منه من غير حَذْف، وقد جاء استحى يَسْتَحِي فهو مُسْتَحٍ مثل: استقى يستقي، وقُرئ به، ويروى عن ابن كثير. واختُلف في المحذوفِ فقيل: عينُ الكلمة فوزنُه يَسْتَفِل. وقيل: لامُها فوزنُه يَسْتَفِع، ثم نُقِلت حركةُ اللامِ على القولِ الأول وحركةُ العينِ على القولِ الثاني إلى الفاءِ وهي الحاءُ، ومن الحَذْفِ قولُه: 301 - ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ وتَتَّقِي ... محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَمِ وقال آخر: 302 - إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ يَعْرِضُ نفسَه ... كَرُعْنَ بِسَبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ والحياءُ لغةً: تَغَيَّرٌ وانكسارٌ يَعْتري الإِنسانَ من خوفِ ما يُعاب به، واشتقاقُه من الحياة، ومعنا على ما قاله الزمخشري: «نَقَصَتْ حياتُه واعتلَّتْ مجازاً كما يُقال: نَسِي وحَشِيَ وشَظِيَ الفرسُ إذا اعتلَّتْ هذه

الأعضاءُ، جُعِل الحَيِيُّ لما يعتريه مِنَ الانكسارِ والتغيُّرِ منتكسَ القوةِ منتقِصَ الحياةِ، كما قالوا: فلان هَلَك من كذا حياءً» . انتهى. يعني قوله: «نَسِيَ وَحشِيَ وشَظِيَ» أي أصيب نَساه وهو عِرْقٌ، وحَشاهُ وهو ما احتوى عليه البطن، وشَظاه وهو عَظْم في الوَرِك. واستعمالُه هنا في حقِّ اللهِ تعالى مجازٌ عن التَّرْكِ، وقيل: مجازٌ عن الخشيةِ لأنها أيضاً مِنْ ثمراتِه، وجَعَلَه الزمخشريُّ من باب المقابلة، يعني أنَّ الكفار لَمَّا قالوا: «أمَا يستحيي ربُّ محمدٍ أن يَضْرِبَ المَثَل بالمُحَقِّراتِ» قوبل قولُهم ذلك بقوله: «إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ» ، ونظيرُه قول أبي تمام: 303 - مَنْ مُبْلِغٌ أفناءَ يَعْرُبَ كلَّها ... أني بَنَيْتُ الجارَ قبلَ المَنْزِلِ لو لم يَذْكُرْ بناءَ الدارِ لم يَصِحَّ بناءُ الجارِ. واستحيى يتعدَّى تارةً بنفسِه وتارةً بحرفِ جرٍّ، تقول: اسْتَحْيَتْهُ، وعليه: «إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ» البيت، واستَحْيَيْتُ منه، وعليه: «ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ» البيت، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ قد تعدَّى في هذه الآية إلى «أَنْ يضربَ» بنفسِه فيكونَ في محلِّ نصبٍ قولاً واحداً، ويَحْتَمِل أن يكونَ تَعَدَّى

إليه بحرفِ الجرِّ المحذوفِ، وحينئذٍ يَجْري الخلافُ المتقدمُ في قولِه «أنَّ لهم جناتٍ» . و «يَضْرِبَ» معناه: يُبَيِّنَ، فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه التصييرُ، فيتعدَّى لاثنين نحو: «ضَرَبْتُ الطينَ لَبِناً» ، وقال بعضُهم: «لا يتعدَّى لاثنين إلا مع المَثَل خاصة» ، فعلى القول الأول يكونُ «مَثَلاً» مفعولاً و «ما» زائدةٌ، أو صفةٌ للنكرة قبلَها لتزدادَ النكرةُ شِياعاً، ونظيرُه قولُهم: «لأمرٍ ما جَدَع قَصيرٌ أنفَه» وقولُ امرئ القيس: 304 - وحديثُ الرَّكْبِ يومَ هنا ... وحديثٌ ما على قِصَرِهْ وقال أبو البقاء: «وقيل» ما «نكرةٌ موصوفةٌ» ، ولم يَجْعَلْ «بعوضة» صفتَها بل جَعَلَها بدلاً منها، وفيه نظرٌ، إذ يَحْتَاجُ أن يُقَدَِّر صفةً محذوفةً ولا ضرورةَ إلى ذلك فكان الأَوْلى أن يَجْعَلَ «بعوضةً» صفتَها بمعنى أنه وَصَفَها بالجنسِ المُنَكَّرِ لإِبهامِه فهي في معنى «قليل» ، وإليه ذهب الفراء والزَّجاج وثعلب، وتكون «ما» وصفتُها حينئذ بدلاً من «مثلاً» ، و «بعوضةً» بدلاً من «ما» أو عطفَ بيان لها إنْ قيلَ إنَّ «ما» صفةٌ ل «مثلاً» ، أو نعتٌ

ل «ما» إنْ قيل: إنها بدلٌ من «مثلاً» كما تقدَّمَ في قولِ الفراء، وبدلٌ من «مثلاً» أو عطفُ بيان له إنْ قيلَ: إنَّ «ما» زائدةٌ. وقيل: «بعوضة» هو المفعولُ و «مثلاً» نُصِبَ على الحال قُدِّم على النكرةِ. وقيل: نُصِبَ على إسقاطِ الخافض التقديرُ: ما بينَ بعوضةٍ، فلمَّا حُذِفَتْ «بَيْنَ» أُعربت «بعوضةً» بإعرابها، وتكونُ الفاءُ في قولِه: «فما فوقها» بمعنى إلى، أي: إلى ما فوقها، ويُعْزى هذا للكسائي والفراء وغيرِهم من الكوفيين وأنشدوا: 305 - يا أحسنَ الناسِ ما قَرْناً إلى قَدَمٍ ... ولا حبالَ مُحِبٍّ واصِلٍ تَصِلُ أي: ما بينَ قَرْنٍ، وحَكَوا: «له عشرون ما ناقةً فَحَمْلاً» ، وعلى القول الثاني يكونُ «مثلاً» مفعولاً أولَ، و «ما» تحتملُ الوجهين المتقدمين و «بعوضةً» مفعولٌ ثانِ، وقيل: بعوضةً هي المفعولُ الأولُ و «مَثَلاً» هو الثاني ولكنه قُدِّم. وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في «ما» ثلاثةَ أوجه: زائدةٌ، صفةٌ لما قبلَها، نكرةٌ موصوفةٌ، وأنَّ في «مَثَلاً» ثلاثةً أيضاً مفعولٌ أولُ، مفعولٌ ثانِ، حالٌ

مقدَّمةٌ، وأنَّ في «بعوضة» تسعة أوجهٍ. والصوابُ من ذلك كلّهِ أن يكونَ «ضَرَبَ» متعدياً لواحدٍ بمعنى بَيَّن، و «مثَلاً» مفعولٌ به، بدليلِ قولِه: {ضُرِبَ مَثَلٌ} [الحج: 73] ، و «ما» صفةٌ للنكرة، و «بعوضةً» بدلٌ لا عطفُ بيان، لأن عطفَ البَيان ممنوعٌ عند جمهور البصريين في النكراتِ. وقرأ ابن أبي عَبْلة والضحاك برفع «بعوضةٌ» ، واتفقوا على أنها خبرٌ لمبتدأ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ، فقيل: هو «ما» على أنها استفهاميةٌ، أي: أيُّ شيء بعوضةٌ، وإليه ذهب الزمخشري ورجَّحه. وقيل: المبتدأ مضمرٌ تقديرُه: هو بعوضةٌ، وفي ذلك وجهان، أحدُهما: أن تُجْعَلَ هذه الجملةُ صلةً ل «ما» لكونِها بمعنى الذي، ولكنه حَذَفَ العائد وإن لم تَطُل الصلةُ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلا في «أيّ» خاصةً لطولِها بالإِضافة، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ أو ضرورةٌ، كقراءةِ: {تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنُ} [الأنعام: 154] ، وقولِه: 306 - مَنْ يُعْنَ بالحَقِّ لا يَنْطِقْ بما سَفَهٌ ... ولا يَحِدْ عن سَبيلِ الحَمْدِ والكَرمِ

أي: الذي هو أحسنُ، وبما هو سَفَهٌ، وتكونُ «ما» على هذا بدلاً من «مثلاً» ، كأنه قيل: مَثَلاً الذي هو بعوضةٌ. والثاني: أن تُجْعَلَ «ما» زائدةٌ أو صفةً وتكونَ «هو بعوضةٌ» جملةً كالمفسِّرة لِما انطوى عليه الكلامُ. قولُه: {فَمَا فَوْقَهَا} قد تقدَّم أن الفاءَ بمعنى إلى، وهو قولٌ مرجوجٌ جداً. و «ما» في {فَمَا فَوْقَهَا} إن نَصَبْنا «بعوضةً» كانت معطوفةً عليها موصولةً بمعنى الذي، وصلتُها الظرفُ، أو موصوفةً وصفتُها الظرفُ أيضاً، وإنْ رَفَعْنَا «بعوضةٌ» ، وجَعَلْنَا «ما» الأولى موصولةً أو استفهاميةً فالثانيةُ معطوفةٌ عليها، لكنْ في جَعْلِنا «ما» موصولةً يكونُ ذلك من عَطْفِ المفرداتِ، وفي جَعْلِنَا إياها استفهاميةً يكونُ من عَطْفِ الجملِ، وإنْ جَعَلْنَا «ما» زائدةً أو صفةً لنكرة و «بعوضةٌ» خبراً ل «هو» مضمراً كانت «ما» معطوفةً على «بعوضة» . والبَعُوضةُ واحدةُ البَعُوض وهو معروفٌ، وهو في الأصل وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع، مأخوذ من البَعْضِ وهو القَطْع، وكذلك البَضْعُ والعَضْب، قال: 307 - لَنِعْمَ البيتُ بيتُ أبي دِثار ... إذا ما خافَ بعضُ القومِ بَعْضا ومعنى: {فَمَا فَوْقَهَا} أي: في الكِبَر وهو الظاهرُ، وقيل: في الصِّغَرِ. قوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ} «أمَّا» : حرفٌ ضُمِّن معنى اسمِ شرطٍ وفِعْله، كذا قدَّره سيبويه، قال: «أمَّا» بمنزلةِ مهما يَكُ مِنْ شيءٍ «. وقال

الزمخشري:» وفائدتُه في الكلامِ أن يُعْطيه فَضْلَ توكيدٍ، تقولُ: زيدٌ ذاهبٌ، فإذا قَصَدْتَ توكيدَ ذلك وأنه لا محالةَ ذاهبٌ قلت: أمَّا زيدٌ فذاهبٌ «وذَكَر كلاماً حسناً بليغاً كعادتِه في ذلك. وقال بعضُهم:» أمَّا «حرفُ تفصيلٍ لِما أَجْمَلَه المتكلِّمُ وادَّعاه المخاطبُ، ولا يليها إلا المبتدأ، وتَلْزَمُ الفاءُ في جوابها، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ أو مقدَّرٍ كقوله: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ} [آل عمران: 106] أي: فيقالُ لهم: أَكَفَرْتُمْ، وقد تُحْذَفُ حيث لا قولٌ، كقوله: 308 - فأمَّا القِتالُ لا قتالَ لديكُمُ ... ولكنَّ سَيْراً في عِراضِ المواكبِ أي: فلا قتالَ، ولا يجوزُ أن تليها الفاءُ مباشرةً ولا أن تتأخَّر عنها بِجُزْأَي جملةٍ لو قلت:» أمّا زيدٌ منطلقٌ ففي الدار «لم يَجُزْ، ويجوز أنْ يتقدَّم معمولُ ما بعد الفاءِ عليها، متليٌّ أمّا كقوله: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] ، ولا يجوز الفصلُ بين أمَّا والفاءِ بمعمولِ إنَّ خلافاً للمبرد، ولا بمعمولِ خبر ليت ولعلّ خلافاً للفراء.

وإنْ وَقَعَ بعدها مصدرٌ نحو: أمَّا عِلْماً فعالمٌ «: فإنْ كان نكرةً جاز نصبُه عند التميميين برُجْحَان، وضَعُفَ رفعُه، وإن كان معرفةً التزموا فيه الرفع. وأجاز الحجازيون فيه الرفعَ والنصْبَ، نحو:» أمَّا العلمُ فعالمٌ «ونصبُ المنكَّرِ عند سيبويهِ على الحالِ، والمعرَّفُ مفعولٌ له. وأمَّا الأخفشُ فنصبُهما عنده على المفعول المطلق. والنصبُ بفعلِ الشرط المقدَّر أو بما بعد الفاء ما لم يمنْع مانعٌ فيتعيَّنُ فعلُ الشرطِ نحو: أمَّا علماً فلا علَمَ له» أو: فإنَّ زيداً عالمٌ، لأن «لا» و «إنَّ» لا يعملُ ما بعدهما فيما قبلهما، وأمَّا الرفعُ فالظاهرُ أنه بفعلِ الشرط المقدَّر، أي: مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ أو العلمُ فزيدٌ عالمٌ، ويجوز أن يكونَ مبتدأ وعالمٌ خبرَ مبتدأ محذوفٍ، والجملَةُ خبرهُ، والتقديرُ: أمَّا علمٌ أو العلمُ فزيدٌ عالِمٌ به وجازَ الابتداءُ بالنكرة لأنه موضعُ تفصيلِ، وفيها كلامٌ أطولُ من هذا. و {الذين آمَنُواْ} في محلِّ رفع بالابتداء، و {فَيَعْلَمُونَ} خبرُه. قوله: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ} الفاءُ جوابُ أمَّا، لِما تَضَمَّنَتْه مِنْ معنى الشرطِ و «أنَّه الحقُّ» سادٌّ مَسَدَّ المفعولَيْن عند الجمهورِ، ومَسَدَّ المفعولِ الأولِ فقط والثاني محذوفٌ عند الأخفشِ أي: فَيَعْلَمونَ حقيقتَهُ ثابتةً. وقال

الجمهور: لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ وجودَ النسبةِ فيما بعدَ «أنَّ» كافٍ في تَعَلُّق العلمِ أو الظنِّ به، والضميرُ في «أنَّه» عائدٌ على المَثَل. وقيل: على ضَرْبِ المثلِ المفهومِ من الفِعْل، وقيل: على تَرْكِ الاستحياءِ. و «الحقُّ» هو الثابتُ، ومنه «حَقَّ الأمرُ» أي: ثَبَتَ، ويقابِلُه الباطلُ. وقوله: {مِن رَّبِّهِمْ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِن «الحق» أي: كائناً وصادراً مِنْ ربهم، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ المجازيةِ. وقال أبو البقاء: «والعامل فيه معنى الحقِّ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر فيه» أي: في الحق، لأنه مشتقٌ فيتحمَّلُ ضميراً. قوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله} اعلَمْ أنَّ «ماذا صنعت» ونحوَه له في كلامِ العربِ ستةُ استعمالات: أن تكون «ما» اسمَ استفهام في محلِّ رفعِ بالابتداءِ، و «إذا» اسمُ إشارةٍ خبرهُ. والثاني: أن تكونَ «ما» استفهاميةً وذا بمعنى الذي، والجملة بعدها صلةٌ وعائدُها محذوفٌ، والأجودُ حينئذٍ أن يُرْفَعَ ما أُجيب به أو أُبْدِلَ منه كقوله: 209 - ألا تَسْأَلانِ المرءَ ماذا يُحاوِلُ ... أَنَحْبٌ فيقضى أم ضَلالٌ وباطِلُ

ف «ذا» هنا بمعنى الذي لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ وهو «أَنَحْبٌ» ، وكذا {مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219] في قراءة أبي عمرو. والثالث: أن يُغَلَّبَ حكمُ «ما» على «ذا» ، فَيُتْرَكا ويَصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ، فيكونَ في محلِّ نصبٍ بالفعل بعدَه، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصَبَ جوابُه والمبدلُ منه كقولِه: {مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} في قراءة غير أبي عمروٍ، و «ماذا أَنْزَلَ ربُّكم، قالوا: خيراً: عند الجميع، ومنه قوله: 310 - يا خُزْرَ تغلبَ ماذا بالُ نِسْوَتِكم ... لا يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيْرَيْنِ تَحْنانَا ف» ماذا «مبتدأ، و» بالُ نسوتكم «خبرُه. الرابع: أن يُجْعَلَ» ماذا «بمنزلةِ الموصول تغليباً ل» ذا «على» ما «، عكسَ ما تقدَّم في الصورة قبلَه، وهو قليلٌ جداً، ومنه قولُ الشاعر: 311 - دَعي ماذا عَلِمْتِ سأتَّقيه ... ولكنْ بالمُغَيَّبِ نَبِّئِيني فماذا بمعنى الذي لأنَّ ما قبله لا يُعَلَّقُ. الخامسُ: زعم الفارسي أن» ماذا «كلَه يكونُ نكرةً موصوفةً وأنشد:» دَعي ماذا عَلِمْتِ «أي: دَعي شيئاً معلوماً وقد تقدَّم تأويلُه. السادس: وهو أضعفُها أن تكونَ» ما «استفهاماً و» ذا «زائدةً وجميعُ ما تقدَّم يصلُح أن يكون مثالاً له، ولكنَّ زيادةَ الأسماءِ ممنوعةٌ أو قليلةٌ جداً.

إذا عُرِفَ ذلك فقولُُه: {مَاذَآ أَرَادَ الله} يجوزُ فيه وجهان دونَ الأربعةِ الباقيةِ، أحَدُهما: أن تكونَ» ما «استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وذا بمعنى الذي، و» أراد الله «صلةٌ والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ شروطِه، تقديره: أرادَه اللهُ، والموصولُ خبرُ» ما «الاستفهاميةِ. والثاني: أن تكونَ» ماذا «بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ في محلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعد تقديرُه: أيَّ شيء أرادَ الله، ومحلٌّ هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ. [والإِرادةُ لغةً: طَلَبُ الشيءِ مع الميل إليه، وقد تتجرَّدُ للطلبِ، وهي التي تُنْسَبُ إلى اللهِ تعالى وعينُها واوٌ من رادَ يرودُ أي: طَلَب، فأصلُ أراد أَرْوَدَ مثل أَقام، والمصدرُ الإِرادةُ مثلُ الإِقامةِ، وأصلُها: إرْوَاد فأُعِلَّتْ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث] . قوله:» مَثَلاً «نصبٌ على التمييزِ، قيل: جاءَ على معنى التوكيدِ، لأنه من حيث أُشير إليه ب» هذا «عُلِم أنه مثلٌ، فجاء التمييزُ بعده مؤكِّداً للاسم الذي أُشير إليه. وقيل: نصبٌ على الحال، واختُلِفَ في صاحِبها فقيل: اسمُ الإِشارةِ، والعاملُ فيها معنى الإِشارةِ، وقيل: اسمُ الله تعالى أَي متمثِّلاً بذلك، وقيل: على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين، ومعناه عندهم: أنه

كان أصلُه أَنْ يَتْبَعَ ما قبلَه والأصلُ: بهذا المثلِ، فلمَّا قُطِع عن التبعيةِ انتصبَ، وعلى ذلك قولُ امرئ القيس: 312 - سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُهُ ... وعَاليْنَ قِنْواناً من البُسْرِ أَحْمَرَا أصله: من البسر الأحمر. قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} » الباء «للسببيةِ، وكذلك في {يَهْدِي بِهِ} وهاتان الجملتان لا محلَّ لهما لأنهما كالبيانِ للجملتينِ المُصَدَّرَتَيْنِ ب» أمَّا «، وهما من كلام الله تعالى، وقيل: في محلِّ نصب لأنهما صفتان لمَثَلاً، أي: مَثَلاً يُفَرِّقُ الناسَ به، إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتدِين، وهما على هذا من كلامِ الكفار وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ حالاً من اسمِ الله أي: مُضِلاً به كثيراً وهادياً به كثيراً. وجَوَّزَ ابن عطية أن تكونَ جملةُ قولَه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} من كلام الكفار، وجملةُ قوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} من كلام الباري تعالى. وهذا ليس بظاهرٍ، لأنه إلباسٌ في التركيب. والضميرُ في «به» عائدٌ على «ضَرْب» المضاف تقديراً إلى المثل، أي: بِضَرْب المَثَل، وقيل: الضمير الأول للتكذيبِ، والثاني للتصديق، ودلَّ على ذلك قُوَّةُ الكلام. وقُرئَ: {يُضِلُّ به كثيرٌ ويهدى به كثيرٌ، وما يُضَلُّ به إلا الفاسقُون} بالبناء للمفعول، وقُرئَ أيضاً: {يَضِلُّ به كثيرٌ ويَهْدي به كثيرٌ، وما يَضِلُّ بِه

إلا الفاسقون} بالبناء للفاعل، قال بعضهم: «وهي قراءة القَدَرِيَّة» قلت: نقل ابنُ عطية عن أبي عمرو الداني أنها قراءةُ المعتزلة، ثم قال: «وابنُ أبي عَبْلة مِنْ ثِقات الشاميّين» يعني قارئها، وفي الجملة فهي مخالفةٌ لسواد المصحف. فإن قيل: كيف وَصَف المهتدين هنا بالكثرةِ وهم قليلون، لقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24] {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] ؟ فالجوابُ أنهم وإن كانوا قليلين في الصورة فهم كثيرون في الحقيقةِ كقولِهِ: 313 - إنَّ الكرامَ كثيرٌ في البلادِ وإنْ ... قَلُّوا كما غيرهُم قَلَّ وإنْ كَثُروا فصار ذلك باعتبارَيْن. قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} . الفاسقين: مفعولٌ ل «يُضِلُّ» وهو استثناءٌ مفرغٌ، وقد تقدَّم معناه، ويجوزُ عند الفراء أن يكونَ منصوباً على الاستثناء، والمستثنى منه محذوفٌ تقديرُه: وما يُضِلُّ به أحداً إلا الفاسقين كقوله: 314 - نَجا سالمٌ والنَّفْسُ منه بشِدْقِه ... ولِمَ يَنْجُ إلا جَفْنَ سيفٍ ومِئْزَرا

أي: لم ينجُ بشيء، ومنعَ أبو البقاء نصبَه على الاستثناءِ، كأنه اعتبرَ مذهبَ جمهورِ البصريين. والفِسْقُ لغةً: الخروجُ، يقال: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرِها، أي: خَرَجَتْ، والفَاسِقُ خارجٌ عن طاعةِ الله تعالى، يقال: فَسَق يفسُقُ ويفسِقُ بالضم والكسر في المضارع فِسْقاً وفُسوقاً فهو فاسقٌ. وزعم ابن الأنباري أنه لم يُسْمع في كلامِ الجاهلية ولا في شعرها فاسِقٌ، وهذا عجيب، قال رؤبة: 315 - يَهْوِينَ في نَجْدٍ وغَوْراً غائراً ... فواسِقاً عن قَصْدِها جَوائِزاً

27

قوله تعالى: {الذين يَنقُضُونَ} . . فيه أربعة أوجهٍ، أحدُها: أنْ يكونَ نعتاً للفاسِقين. والثاني: أنه منصوبٌ على الذمِّ. والثالث أنه مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه الجملةُ من قوله: {أولئك هُمُ الخاسرون} . والرابع: أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: هم الفاسقون. والنَّقْضُ: حَلُّ تركيب الشيءِ والرجوعُ به إلى الحالة الأولى. والعهدُ في كلامِهم على معانٍ منها: الوصيةُ والضمانُ والاكتفاءُ والأمرُ. والخَسار: النقصانُ في ميزان أو غيره، قال جرير:

316 - إنَّ سَليطاً في الخسار إنَّهْ ... أولادُ قومٍ خُلِقوا أَقِنَّهْ وخَسَرْتُ الشيء بالفتح وأَخَسَرْتُه نَقَصْتُه، والخُسْران والخَسار والخيسرى كلُّه بمعنى الهلاك. و «مِنْ بعد» متعلقٌ ب «يَنْقْضُون» ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وقيل: زائدةٌ وليس بشيء. و «ميثاقَه» الضميرُ فيه يجوزُ أن يعودَ على العهدِ، وأن يعودَ على اسم الله تعالى، فهو على الأول مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، وعلى الثاني مضافٌ للفاعل، والميثاقُ مصدرٌ كالميلادِ والميعادِ بمعنى الولادةِ والوَعْد، وقال ابنُ عطية: «وهو اسمٌ في موضعِ المصدرِ كقولِهِ: 317 - أكُفْراً بعدَ رَدِّ الموتِ عني ... وبعد عطائِك المئةَ الرِّتاعا أي: إعطائك» ، ولا حاجة تدعُو إلى ذلك. والمادةُ تَدُلُّ على الشَدِّ والربطِ وجمعُه مواثيق ومياثِق وأنشد ابن الأعرابي: 318 - حِمىً لا يَحُلُّ الدهرُ إلا بإذنِنا ... ولا نَسْأَل الأقوامَ عهدَ المَيَاثِقِ و «يقطعونَ» عطف على «ينقصون» فهي صلةٌ أيضاً، و «ما» موصولةٌ،

و {أَمَرَ الله بِهِ} صلتُها وعائدُها. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً، ولا يجوز أن تكونَ مصدرِيَّةً لعَوْدِ الضميرِ عليها إلا عند أَبي الحسن وابن السراج، وهي مفعولةٌ بيَقْطَعون. قوله: {أَن يُوصَلَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: الجرُّ على البدلِ من الضمير في «به» أي: ما أمرَ اللهُ بوَصْلِهِ، كقول امرئ القيس: 319 - أمِنْ ذِكْرِ ليلى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتَقْصُرُ عنها خَطْوَةً وتَبُوصُ أي: أمِنْ نَأْيِها. والنصبُ وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلٌ من ما أمر اللهُ بدلُ اشتمالٍ. والثاني: أنه مفعولٌ من أجله، فقدَّره المهدوي: كراهةَ أن يُوصل، وقدَّرَهُ غيرُه: أن لا يُوصلَ. والرفع [على] أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ أي هو أن يُوصلَ، وهذا بعيدٌ جداً، وإنْ كان أبو البقاء ذَكَرَهُ. و {يُفْسِدُونَ} عطفٌ على الصلةِ أيضاً و {فِي الأرض} متعلِّقٌ به. وقولُه {أولئك هُمُ الخاسرون} كقولِهِ: {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] . وقد تقدَّم أنه يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ خبراً عن {الذين يَنقُضُونَ} إذا جُعِلَ مبتدأً، وإنْ لم يُجْعَلْ مبتدأ فهي مستأنفةٌ فلا محلَّ لها حينئذٍ. وتقدم معنى الخَسار، والأمرُ: طلبُ الأعلى من الأدنى.

28

قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} : «كيف» اسمُ استفهامٍ يُسْأَلُ بِهِ عن الأحوالِ، وبُنِيَ لتضمُّنِهِ معنى الهمزة، وبُنِيَ على أخفِّ الحركات، وشَذَّ دخولُ حرفِ الجرِّ عليها، قالوا: «على كيف تبيعُ الأَحْمَرَيْنِ» ، وكونهُا شرطاً قليلٌ، ولا يُجزْم بها خلافاً للكوفيين، وإذا أُبْدِل منها اسمٌ أو وَقَعَ جواباً لها فهو منصوبٌ إن كان بعدها فعلٌ متسلِّطٌ عليها نحو: كيف قمت؟ أصحيحاً أم سقيماً، وكيف سِرْت؟ فتقول: راشداً، وإلاَّ فمرفوعان: نحو: كيف زيدٌ؟ أصحيحٌ أم سقيمٌ. وإنْ وقعَ بعدَها اسمٌ مسؤولٌ عنه بها فهو مبتدأٌ وهي خبرٌ مقدَّمٌ، نحو: كيف زيدٌ؟ وقد يُحْذَفُ الفعلُ بعدَها، قال تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة: 8] أي كيف تُوالونهم. و «كيفَ» في هذه الآيةِ منصوبةٌ على التشبيهِ بالظرف عند سيبويه، أي: في أيِّ حالةٍ تكفُرون، وعلى الحالِ عند الأخفشِ، أي: على أي حالٍ تكفُرون، والعاملُ فيها على القولين «تكفرون» وصاحبُ الحالِ الضميرُ في تكفرون، ولم يَذْكر أبو البقاء غيرَ مذهبِ الأخفشِ، ثم قال: «والتقدير: معانِدين تكفرون. وفي هذا التقدير نظرٌ، إذ يذهبَ معه معنى الاستفهام المقصودِ به

التعجبُ أو التوبيخُ أو الإِنكارُ، قال الزمخشري بعد أَنْ جَعَلَ الاستفهامَ للإِنكارِ:» وتحريرهُ أنه إذا أنْكَرَ أن يكونَ لكفرهم حالٌ يُوجَدُ عليها، وقد عُلِمَ أنَّ كلَّ موجودٍ لا بُدَّ له من حالٍ، ومُحالٌ أن يُوجَدَ بغيرِ صفةٍ من الصفاتِ كان إنكاراً لوجودِه على الطريق البرهاني «. وفي الكلام التفاتٌ من الغَيْبَةِ في قولِه:» وأمَّا الذين كفروا «إلى آخره، إلى الخطاب في قولِهِ:» تَكْفُرون، وكُنْتُم «. وفائدتُهُ أنَّ الإِنكارَ إذا توجَّه إلى المخاطبِ كان أبلغَ. وجاء» تكفرونَ «مضارعاً لا ماضياً لأنَّ المُنْكَرَ الدوامُ على الكفرِ، والمضارعُ هو المُشْعِرُ بذلك، ولئلا يكونَ ذلك تَوْبيخاً لمَنْ آمَنَ بعد كُفْر. و» كَفَرَ «يتعدَّى بحرف الجر نحو: {تَكْفُرُونَ بالله} {تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} [آل عمران: 70] {كَفَرُواْ بالذكر} [فصلت: 41] ، وقد تعدَّى بنفسه في قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} [هود: 68] وذلك لمَّا ضُمِّن معنى جَحَدوا. قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} الواوُ واوُ الحالِ، وعلامتُها أن يَصْلُح موضِعَها» إذ «، وجملَةُ {كُنْتُمْ أَمْوَاتاً} في محلِّ نصبٍ على الحال، ولا بد من إضمار» قد «ليصِحَّ وقوعُ الماضي حالاً. وقال الزمخشري:» فإن

قلت «كيف صَحَّ أن يكونَ حالاً وهو ماضٍ بها؟ قُلْتُ: لَمْ تَدْخُل الواوُ على {كُنْتُمْ أَمْوَاتاً} وحدَه، ولكنْ على جملة قوله: {كُنْتُمْ أَمْوَاتاً} إلى {تُرْجَعُونَ} ، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتُكم هذه وحالُكم أنكم كنتم أمواتاً نُطَفَاً في أصْلاَبِ آبائكم فَجَعَلَكم أحياءً، ثم يُميتكم بعد هذه الحياة، ثم يُحْييكم بعد الموتِ ثم يُحاسِبُكم» . ثم قال: «فإنْ قلتَ: بعضُ القصةٍ ماضٍ وبعضُها مستقبلٌ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يَصِحُّ أن يقعَ حالاً حتى يكونَ فعلاً حاضراً وقتَ وجودِهَا هو حالٌ عنه فما الحاضرُ الذي وقع حالاً؟ قلت: هو العلمُ بالقصة كأنه قيل: كيف تكفرونَ وأنتم عالمونَ بهذه القصة بأولِها وبآخرها» ؟ قال الشيخُ ما معناه: هذا تَكَلُّفٌ، يعني تأويلَه هذه الجملةَ بالجملةِ الاسمية. قال: «والذي حَمَله على ذلك اعتقادُه أنَّ الجملَ مندرجةٌ في حكمِ الجملةِ الأولى» . قال: «ولا يتعيَّن، بل يكونُ قولُه تعالى: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وما بعده جملاً مستأنفةً أَخْبَرَ بها تعالى لا داخلةً تحت الحالِ، ولذلك غايَرَ بينها وبين ما قبلَها من الجملِ بحرفِ العطفِ وصيغةِ الفعل السابقَيْنِ لها في قولِهِ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} . والفاءُ في قولِه:» فَأَحْيَاكُمْ «على بابِها مِن التعقيبِ، و» ثم «على بابها

من التراخي، لأنَّ المرادَ بالموتِ الأول العدَمُ السابقُ، وبالحياةِ الأولى الخَلْقُ، وبالموتِ الثاني الموتُ المعهودُ، وبالحياةِ الثانية الحياةُ للبعثِ، فجاءت الفاءُ و» ثم «على بابِهما من التعقيبِ والتراخي على هذا التفسير وهو أحسنُ الأقوالِ، ويُعْزَى لابنِ عباس وابن مسعود ومجاهد، والرجوعُ إلى الجزاءِ أيضاً متراخٍ عن البعثِ. والضميرُ في» إليه «لله تعالى، وهذا ظاهرٌ لأنه كالضمائر قبلَه وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: إلى ثوابِهِ وعقابِه. وقيل: على الجزاءِ على الأعمالِ. وقيل: على المكانِ الذي يَتَوَلَّى اللهُ فيه الحكمَ بينكم. وقيل: على الإِحياء المدلولِ عليه بأَحْياكم، يعني أنكم تُرْجَعُون إلى الحالِ الأولى التي كنتم عليها في ابتداء الحياةِ الأولى من كونِكم لا تَمْلِكُون لأنفسِكم شيئاً. والجمهورُ على قراءة» تُرْجَعُون «مبنياً للمفعولِ، وقُرِئَ مبنيّاً للفاعل حيث جاء، ووجهُ القراءتين أنَّ» رَجَع «يكونُ قاصراً ومتعدياً، فقراءةُ الجمهورِ من المتعدِّي وهو أرجحُ؛ لأنَّ أصلَها:» ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجِعُكُمْ «لأنَّ

الإِسنادَ في الأفعالِ السابقة لله تعالى، فيناسِبُ أن يكونَ هذا كذا ولكنه بُنِيَ للمفعول لأجل الفواصل والقواطع. وأَمْوات جمعُ» مَيِّت «وقياسُه على فعائِلِ كسَيّد وسَيَائِدِ، والأَوْلَى أن يكون أموات جمع مَيْت مخفَّفاً كأقوال في جمع قَيْل، وقد تقدَّمت هذه المادةُ.

29

قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ} : هو مبتدأٌ وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للغائبِ المذكر، والمشهورُ تخفيفُ واوِهِ وفتحُها، وقد تُشَدَّد كقوله: 320 - وإنَّ لِساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها ... وَهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ وقد تُسَكَّنُ، وقد تُحْذَفُ كقوله: 321 - فَبَيْنَاهُ يَشْرِي. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والموصولُ بعده خَبَرٌ عنه. و «لكم» متعلقٌ بَخَلَقَ، ومعناه السببيةُ،

أي: لأجلِكم، وقيل: للمِلْك والإِباحةِ فيكونُ تمليكاً خاصَّاً بما يُنْتَفَعُ منه، وقيلَ: للاختصاص، و «ما» موصولةٌ و «في الأرض» صلُتها، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولٌ بها، و «جميعاً» حالٌ من المفعول بمعنى كل، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزمانِ، وهذا هو الفارقُ بين قولِك: «جاؤوا جميعاً» و «جاؤوا معاً» ، فإنَّ «مع» تقتضي المصاحبةَ في الزمانِ بخلافِ جميع. قيل: وهي هنا حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ قولَه: «ما في الأرضِ» عامٌّ. قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أصل «ثُمَّ» أن تقتضيَ تراخياً زمانياً، ولا زمانَ هنا، فقيل: إشارةٌ إلى التراخي بين رتبتي خَلْقِ الأرضِ والسماءِ. وقيل: لَمَّا كان بين خَلْقِ الأرضِ والسماءِ أعمالٌ أُخَرُ مِنْ جَعْلِ الجبالِ والبركةِ وتقديرِ الأقواتِ كما أشار إليه في الآيةِ الأخرى عَطَفَ بثُمَّ إذ بين خَلْقِ الأرضِ والاستواءِ إلى السماءِ تراخٍ. واستوى معناه لغةً: استقامَ واعتدلَ، مِن استوى العُود. وقيل: عَلاَ وارتفع قال الشاعر: 322 - فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بفَيْفاءَ قَفْرَةٍ ... وقد حَلَّقَ النجمُ اليمانيُّ فاسْتَوَى وقال تعالى: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} [المؤمنون: 28] ، ومعناه هنا قَصَد وعَمَدَ، وفاعل استوى ضميرٌ يعودُ على الله، وقيل: يعودُ على الدخان نقله

ابن عطية، وهذا غلطٌ لوجهين، أحدهُما: عَدَمُ ما يَدُلُّ عليه، والثاني: أنه يَرُدُّهُ قولُه: ثُمَّ استوى إلى السماء، وهي «دُخانٌ» . و «إلى» حرفُ انتهاءٍ على بابها، وقيل: هي بمعنى «على» فيكونُ في المعنى كقولِ الشاعر: 323 - قد استوى بِشْرٌ على العِراقِ ... مْنِ غيرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ أي: استولى، ومثلُه قول الآخر: 324 - فلمّا عَلَوْنَا واسْتَوَيْنَا عليهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسِرِ وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، ضميرُه هو الفاعلُ أي استوى أمرُهُ، و {إِلَى السمآء} متعلِّقٌ ب «استوى» ، و «فَسَوَّاهُنَّ» الضميرُ يعودُ على السماءِ: إمَّا لأنها جَمْعُ سَماوَة كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّها اسمُ جنسٍ يُطْلَقُ على الجَمْعِ، وقال الزمخشري: «هُنَّ» ضميرٌ مُبْهَمٌ، و «سبعَ سماواتٍ» يُفَسِّرُهُ كقولِهم: «رُبَّه رَجُلاً» . وقد رُدَّ عليه هذا، فإنَّه ليس من المواضِعِ التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه، لأنَّ النحويين حَصَروا ذلك في سبعةِ مواضع: ضميرِ الشأن، والمجرور ب «رُبَّ» ، والمرفوعِ بنعْمَ وبِئْسَ وما جرى مَجْراهما،

وبأوَّلِ المتنازِعَيْن والمفسَّر بخبرهِ وبالمُبْدِلِ منه، ثم قال هذا المعترض: «إلاَّ أن يُتَخَيَّلَ فيه أن يكونَ» سبع سماواتٍ «بدلاً وهو الذي يقتضيه تشبيهُه برُبَّه رجلاً، فإنه ضميرٌ مبهمٌ ليس عائداً على شيء قبلَه، لكن هذا يَضعفُ بكونِ هذا التقديرِ يَجْعَلُه غيرَ مرتبطٍ بما قبلَهُ ارتباطاً كلياً، فيكونُ أَخْبَرَ بإخبارينِ أحدُهما: أنه استوى إلى السماء. والثاني: أنه سَوَّى سبع سماوات، وظاهرُ الكلامِ أن الذي استوى إليه هو المُسَوَّى بعينه. قوله: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} في نصبه خمسةُ أوجه، أحسنُها: أنه بدلٌ من الضميرِ في {فَسَوَّاهُنَّ} العائدِ على السماءِ كقولِكَ: أخوك مررتُ به زيدٍ. الثاني: أنه بدلٌ من الضميرِ أيضاً، ولكن هذا الضمير يُفَسِّرُهُ ما بعده. وهذا يَضْعُفُ بما ضَعُفَ بِهِ قولُ الزمخشري، وقد تقدَّم آنِفاً. الثالث: أنه مفعولٌ به، والأصلُ: فَسَوَّى مِنْهُنَّ سبعَ سماواتٍ، وشبَّهُوهُ بقولِهِ تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ} [الأعراف: 155] أي: مِنْ قومه، قاله أبو البقاء وغيرُه. وهذا ضعيفٌ

لوجهين، أحدُهما بالنسبة إلى اللفظِ. والثاني بالنسبة إلى المعنى. أمَّا الأولُ: فلأنه ليس من الأفعالِ المتعديةِ لاثنينِ أحدُهما بإسقاطِ الخافضِ لأنها محصورةٌ في أمر واختار وأخواتِهما. الثاني: أنه يقتضي أن يكونَ ثَمَّ سماواتٌ كثيرةٌ، سوَّى من جملتِها سبعاً وليس كذلك. الرابعُ: أنَّ «سَوَّى» بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين، فيكونُ «سبع» مفعولاً ثانياً، وهذا لم يَثْبُت أيضاً أعني جَعْلَ «سَوَّى» مثل صَيَّرَ. الخامس: أن ينتصبَ حالاً ويُعْزَى للأخفش. وفيه بُعْدٌ من وجهين: أحدُهما: أنه حالٌ مقدَّرَةٌ وهو خلافُ الأصل. والثاني: أنها مؤولةٌ بالمشتقِّ وهو خلافُ الأصلِ أيضاً. قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} «هو» مبتدأ و «عليمٌ» خبره، والجارُّ قبلَه يتعلَّق به. واعلم أنه يجوزُ تسكين هاء «هو» و «هي» بعد الواو والفاء ولامِ الابتداءِ وثم، نحو: {فَهِيَ كالحجارة} [البقرة: 74] ، {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة} [القصص: 61] {لَهُوَ الغني} [الحج: 64] {لَهِيَ الحيوان} [العنكبوت: 64] ، تشبيهاً ل «هو» بعَضْد، ول «هي» بكَتْف،

فكما يجوز تسكين عين عَضُد وكَتِف يجوزُ تسكينُ هاء «هو» و «هي» بعد الأحرفِ المذكورةِ، إجراء للمنفصل مُجْرى المتصلِ لكثرةِ دَوْرِها مَعَها، وقد تُسَكَّنُ بعد كافِ الجرِّ كقوله: 325 - فَقُلْتُ لَهُمْ ما هُنَّ كَهْي فكيف لي ... سُلُوٌّ، ولا أَنْفَكُّ صَبَّاً مُتَيَّمَا وبعد همزة الاستفهامِ كقوله: 326 - فقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتاعاً فَأَرَّقَنِي ... فقلتُ أَهْيَ سَرَتْ أم عادني حُلُمُ وبعد «لكنَّ» في قراءة ابن حمدون: {لَّكِنَّ هْوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38] وكذا من قوله: {يُمِلُّ هْوَ} [البقرة: 282] . فإن قيل: عليمَ فَعيل مِن عَلِم متعدٍّ بنفسه تَعَدَّى بالباء، وكان مِنْ حقِّه إذا تقدَّم مفعولُه أَنْ يتعدَّى إليه بنفسِه أو باللامِ المقوِّية، وإذا تأخَّرَ

أَنْ يتعدَّى إليه بنفسه فقط؟ أن أمثلةَ المبالغةِ خالفَتْ أفعالَها وأسماءَ فاعِليها لمعنى وهو شَبَهُها بأَفْعل التفضيل بجامعِ ما فيها من معنى المبالغةِ، وأفعلُ التفضيلِ له حُكْمٌ في التعدِّي، فأُعْطِيتَ أمثلةُ المبالغةِ ذلك الحُكْمَ: وهو أنها لا تخلُو من أن تكونَ من فِعْلٍ متعدٍّ بنفسِه أولا، فإن كان الأول: فإمّا أن يُفْهِمَ علماً أو جهْلاً أَوْ لا، فإن كان الأولَ تعدَّت بالباء نحو: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} [النجم: 32] {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الحديد: 6] وزيدٌ جهولٌ بك وأنت أجهل به. وإن كان الثانيَ تعدَّتْ باللامِ نحو: أنا أضربُ لزيدٍ منك وأنا له ضرَّاب، ومنه {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ، وإن كانَتْ من متعدٍّ بحرفِ جر تعدَّت هي بذلك الحرفِ نحو: أنا أصبرُ على كذا، وأنا صبورٌ عليه، وأزهدُ فيه منك، وزهيدٌ فيه. وهذا مقررٌ في علم النحو.

30

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} : «إذ» ظرفُ زمانٍ ماضٍ، يُخَلِّص المضارعَ للمضيِّ وبُني لشَبَهِه بالحرفِ في الوَضْع والافتقار، وتليه الجملُ مطلقاً، فإذا كانتِ الجملةُ فعليةً قَبُحَ تقديمُ الاسمِ وتأخيرُ الفعلِ نحو: إذ زيدٍ قام، ولا يتصرَّفُ إلا بإضافةِ الزمنِ إليه نحو: يومئذٍ وحينئذٍ، ولا يكون مفعولاً به، وإن قال به أكثرُ المُعْرِبين، فإنهم يُقَدِّرونَ: اذكر وقتَ كذا، ولا ظرفَ مكان ولا زائداً ولا حرفاً للتعليل ولا للمفاجأة خلافاً

لزاعمي ذلك، وقد تُحْذَفُ الجملةُ المضافُ هو إليها للعلمِ ويُعَوَّض منها تنوينٌ كقولِهِ تعالى: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 84] ، وليس كسرتُه والحالةُ هذه كسرةَ إعرابٍ ولا تنوينُه تنوينَ صرفٍ خلافاً للأخفش، بل الكسرُ لالتقاءِ الساكنين والتنوينُ للعوضِ بدليلِ وجودِ الكسر ولا إضافةَ قال: 32 - 7- نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ ... بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُ وللأخفشِ أن يقولَ: أصلُه «وأنتَ حينئذٍ» فلمّا حُذِفَ المضافُ بقي المضافُ إليه على حَالِه ولَم يَقُمْ مَقامَه، نحو: {والله يُرِيدُ الآخرة} [الأنفال: 67] بالجر، إلا أنه ضعيفٌ. و {قَالَ رَبُّكَ} جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها. واعلم أنَّ «إذ» فيه تسعةُ أوجه، أحسنُها أنه منصوبٌ ب {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا} أي: قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم: إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً، وهذا أسهلُ الأوجهِ. الثاني: أنه منصوبٌ ب «اذكُرْ» مقدراً وقد تقدَّم أنه

لاَ يَتَصَرَّفُ فلا يقع مفعولاً. الثالث: أنه منصوبٌ ب «خَلَقَكم» المتقدمِ في قولِه: {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} [النساء: 1] والواو زائدةٌ. وهذا ليس بشيء لطولِ الفصلِ. الرابعُ: أنه منصوبٌ ب «قال» بعده. وهو فاسدٌ لأن المضافَ إليه لا يعمل في المضاف. الخامس: أنه زائدٌ ويعزى لأبي عبيد. السادس: أنه بمعنى قد. السابع أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ابتداءُ خَلْقِكم وقتُ قولِ ربِّك. الثامن: أنه منصوبٌ بفعلٍ لائق، تقديرُه: ابتدأ خلقُكم وقتَ قولِه ذلكَ، وهذان ضعيفان لأن وقتَ ابتداءِ الخلق ليس وقتَ القول، وأيضاً فإنه لاَ يَتَصرَّف. التاسع: أنه منصوبٌ ب «أحياكم» مقدَّراً، وهذا مردودٌ باختلافِ الوقتين أيضاً. و «للملائكة» متعلِّقٌ ب «قال» واللامُ للتبليغ. وملائكةٌ جمع مَلَك. واختُلِف في «مَلَك» على ستة أقوال، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا، فقال بعضهم: مَلَك ووزنه فَعَل من المُلْك، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعِه فقط. وقال بعضهم: بل أصلُهُ مَلأّك، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان

قَوْلان عند هؤلاء. والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً، فمنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من «أَلَك» أي: أرسل ففاؤُه همزةٌ وعينه لام، ويدلُّ عليه قوله: 328 - أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً ... غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ وقال آخر: 329 - وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه ... بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ وقال آخر: 33 - 0- أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا ... أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري فأصل مَلَكَ: مَأْلَك، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء، والفاءُ إلى موضع العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَعْفَل، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً، فيكونُ وزنُ مَلَكَ: مَعَلاً بحَذْفِ الفاء. ومنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من لأَك أي أرسل أيضاً، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا الأصلِ قال: 331 - فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ ثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلينِ، فوزن ملائِكَة على هذا القول: مفاعِلَة، وعلى القولِ الذي قبلَه: معافِلَة بالقلب.

وقيل: هو مشتقٌّ من: لاكَه يَلُوكه أي: أداره يُديره، لأنَّ المَلَكُ يُديرُ الرسالةَ في فيه، فأصل مَلَك: مَلْوَك، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللامِ الساكنةِ قبلها، فتحَرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلب ألفاً فصارَ ملاكاً مثل مَقَام، ثم حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَل بحذفِ العينِ، وأصلُ ملائكة ملاوِكة فقُلبت الواوُ همزةً، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مفاعل أن تكونَ زائدةً نحو عجائز ورسائل، على أنه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا: مصائِب ومنائِر، قُُرئ شاذاً: «معائِش» بالهمز، فهذه خمسةُ أقوال. والسادس: قال النضر بن شميل: «لا اشتقاقَ للملك عند العرب» . والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو: صَلادِمة. وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة، وليس بشيء، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً، قال الشاعر: 332 - أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ ... قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} هذه الجملة معمولُ القولِ، فهي

في محلِّ نصبٍ به، وكُسِرت «إنَّ» هنا لوقوعِها بعد القولِ المجرَّدِ من معنى الظن محكيةً به، فإن كان بمعنى الظنِ جَرى فيها وجهان: الفتحُ والكسرُ، وأنشدوا: 333 - إذا قلتُ أني آيبٌ أهلَ بلدةٍ ... نَزَعْتُ بها عنه الوليَّةَ بالهَجْر وكان ينبغي أن يُفَتَح ليسَ إلاَّ نظراً لمعنى الظنِّ، لكن قد يقال جاز الكسر مراعاةً لصورةِ القولِ. و «إنَّ» على ثلاثةِ أقسامٍ: قسمٍ يجب فيه كَسْرُها، وقسمٍ يجبُ فيه فَتْحُها وقسمٍ يجوز فيه وجهان، وليس هذا موضعَ تقريرِه، بل يأتي في غضون السور، ولكن الضابطَ الكلي في ذلك أنَّ كلَّ موضعٍ سَدَّ مَسَدَّها المصدرُ وَجَبَ فيه فتحُها نحو: بلغني أنك قائمٌ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّها وَجَبَ فيه كَسْرُها كوقوعِها بعد القولِ ومبتدأةً وصلةً وحالاً، وكلَّ موضعٍ جازَ أن يَسُدَّ مسدَّها جاز الوجهان كوقوعِها بعد فاءِ الجزاء، وإذا الفجائية وهذه أشدُّ العباراتِ في هذا الضابطِ. و «جاعلٌ» فيه قولان، أحدُهما أنه بمعنى خالق، فيكونُ «خليفةً» مفعولاً به، و «في الأرض» فيه حينئذ قولان، أحدُهما وهو الواضح أنه

متعلقٌ بجاعلٌ. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرةِ بعدَه. القولُ الثاني: أنه بمعنى مُصَيِّر، ولم يَذْكر الزمخشري غيرَه، فيكونُ خليفةً «هو المفعولَ الأولَ، و» في الأرض «هو الثانيَ قُدِّم عليه، ويتعلَّقُ بمحذوف على ما تقرَّر. و» خليفة «يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي: يَخْلُفُكم أو يَخْلُف مَنْ كان قبلَه من الجنِّ، وهذا أصحُّ لدخولِ تاءِ التأنيث عليه وقيل: بمعنى مفعول أي: يَخْلُف كلُّ جيلٍ مَنْ تقدَّمَه، وليس دخولُ التاءِ حينئذٍ قياساً. إلا أن يُقال:» إنَّ «خليفةً» جَرى مجرى الجوامدِ كالنطيحة والذبيحة. وإنما وُحِّد «خليفة» وإن كانَ المرادُ الجمعَ لأنه أريدَ به آدمُ وذريتُه، ولكن استَغْنى بذكره كما يُسْتَغْنى بذكرِ أبي القبيلة نحو: مُضَر ورَبِيعة، وقيل: المعنى على الجنس. وقرئ: «خليقةً» بالقاف. و «خليفةً» منصوبٌ ب «جاعل» كما تقدَّم، لأنَّه اسمُ فاعل. واسمُ الفاعل يعملُ عَمَل فعلِه مطلقاً إن كان فيه الألفُ واللام، وبشرطِ الحالِ أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه، ويجوز إضافتُه لمعمولِه تخفيفاً ما لَم يُفْصل بينهما كهذه الآية.

قوله: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ} قد تقدَّم أن «قالوا» عامل في «إذ قال ربُّك» وأنه المختارُ، والهمزةُ في «أتجعل» للاستفهامِ على بابها، وقال الزمخشري: «للتعجب» ، وقيل: للتقرير كقوله: 334 - ألستُمْ خيرَ مَنْ ركب المَطايا ... وأنْدى العالمينَ بطونَ راحِ وقال أبو البقاء: «للاستشهاد» ، أي: أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِد كَمَنْ كان قبلُ «وهي عبارةٌ غريبةٌ. و» فيها «الأولى متعلقةٌ ب» تَجْعَل «إن قيل: إنها بمعنى الخَلْق، و» مَنْ يُفْسِدُ «مفعولٌ به، وإنْ قيل إنَّها بمعنى التصيير فيكون» فيها «مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ وهو» مَنْ يفسد «، و» مَنْ «تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ للجملةِ بعدها من الإِعراب، وعلى الثاني محلُّها النصب، و» فيها «الثانيةُ مُتَعلقةٌ ب» يُفْسِدُ «. و» يَسْفِكُ «عطفٌ على» يُفْسِدُ «بالاعتبارين. والجمهورُ على رَفْعِهِ، وقُرئ منصوباً على جوابِ الاستفهام بعدَ الواو التي تقتضي الجمع بإضمار» أَنْ «كقوله: 335 - أَتَبيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكَرى ... وأبيتَ منك بليلةِ المَلْسُوعِ وقال ابن عطية:» منصوبٌ بواو الصَرْف «وهذه عبارةُ الكوفيين، ومعنى

واوِ الصرفِ أن الفعلَ كان يقتضي إعراباً فصَرَفَتْه الواوُ عنه إلى النصب، والمشهورُ» يَسْفِك «بكسر الفاء، وقُرئ بضمِّها، وقرئ أيضاً بضمِّ حرفِ المضارعةِ من أَسْفك وقُرئ أيضاً مشدَّداً للتكثير. والسَّفْكُ: هو الصَّبُّ، ولا يُستعمل إلا في الدمِ، وقال ابن فارس، والجوهري: «يُستعمل أيضاً في الدمع» . وقال المَهدوي «ولا يُستعمل السفك إلا في الدَّمِ، وقد يُستعمل في نثرِ الكلامِ، يقال: سَفَكَ الكلامَ أي: نثره» . والدِّماء: جمعُ دَمٍ، ولا يكونُ اسمٌ معربٌ على حرفين، فلا بدَّ له من ثالث محذوفٍ هو لامُه، ويجوزُ أن تكونَ واواً وأن تكونَ ياءً، لقولِهم في التثنيةِ: دَمَوان ودَمَيان، قال الشاعر: 33 - 6- فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا ... جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين وهل وزنُ دم «فَعْل» بسكون العين أو فَعَل بفتحها قولان، وقد يُرَدُّ

محذوفُه، فَيُسْتعملُ مقصوراً كعصا وغيرِه، وعليه قولُه: 337 - كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَها ... أَعْقَبَتْها الغُبْسُ منه عَدَماً غَفَلَتْ ثم أَتَتْ تَطْلُبه ... فإذا هِيَ بِعِظامٍ ودَماً وقد تُشَدَّدُ ميمُه أيضاً، قال الشاعر: 338 - أهانَ دَمَّكَ فَرْغَاً بعد عِزَّتِه ... يا عمروُ بَغْيُكَ إصراراً على الحَسَد وأصلُ: الدِّماء: الدِّماو أو الدِّماي، فقُلب حرفُ العلةِ همزةً لوقوعِه طَرَفاً بعد ألفٍ زائدةً نحو: كساء ورداء. قولُه: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} الواوُ للحال، و {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، في محلِّ النصب على الحال، و «بحمدك» متعلقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ أيضاً، والباءُ فيه للمصاحبة أي نُسَبِّح ملتبسين بحمدك، نحو: «جاء زيد بثيابِه» فهما حالان متداخلتان، أي حالٌ في حال. وقيل: الباءُ للسببية، فتتعلَّق بالتسبيح. قال ابن عطية: «ويُحْتمل أن يكونَ قولُهم:» بحمدِكَ «اعتراضاً بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبِّح

ونقدِّس، ثم اعترضُوا على جهةِ التسليم، أي: وأنتَ المحمودُ في الهداية إلى ذلك» قلتُ: كأنه يحاول أن تكونَ الباءُ للسببية، ولكن يكونُ ما تعلَّقَتْ به الباءُ فعلاً محذوفاً لائقاً بالمعنى تقديرُه: حَصَلَ لنا التسبيحُ والتقديسُ بسببِ حمدك. والحمدُ هنا: مصدرٌ مضاف لمفعولِه، وفاعلُه محذوف تقديره: بحمدِنا إياك. وزعم بعضهُم أن الفاعلَ مضمرٌ فيه وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ المصدرَ اسم جامدٌ لا يُضمرُ فيه، على أنه قد حُكِيَ خلافٌ في المصدرِ الواقعِ موقعَ الفعل نحو: ضرباً زيداً، هل يَتَحَّملُ ضميراً أم لا؟ وقد تقدَّم. و «نُقَدِّسُ» عطف على «نُسَبِّح» فهو خبر أيضاً عن «نحن» ومفعولُه محذوفٌ أي: نقدِّسُ أنفسَنا وأفعالنا لك، و «لكم» متعلِّقٌ بِه أو ب «نُسَبِّح» ، ومعناها العلةُ، وقيل: هي زائدةٌ، فإنَّ ما قبلَها متعدٍّ بنفسِه، وهو ضَعيفٌ إذ لا تُزادُ إلاَّ مع تقديمِ المعمولِ أو يكونَ العاملُ فَرْعاً، وقيل: هي مُعَدِّيَةٌ نحو: سجدت لله، وقيل: هي للبيان، كهي في قولك: سُقْياً لك، فعلى هذا يتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: تقديسُنا لك. وهذا التقدير أحسنُ من تقديرِ قولهم: «أعني» لأنه أليقُ بالموضِع. وأبعدَ مَنْ زَعَم أنَّ جملةَ قولِه «ونحنُ نسبِّح» داخلةٌ في حَيِّزِ استفهامٍ مقدرٍ تقديرُه: وأنحن

نسبِّح أم نتغيَّر. واستحسنه ابن عطية مع القولِ بالاستفهام المحضِ في قولهم: «أتجعلُ» ، وهذا يَأْباه الجمهورُ، أعني حَذْفَ همزةِ الاستفهام مِنْ غيرِ ذِكْر «أم» المعادِلةِ وهو رأيُ الأخفش، وجَعَل مِن ذلك قَولَه تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] أي: وأتلك نعمةٌ، وقول الآخر: 339 - طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضَ أَطْرَبُ ... ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَب أي: وأذو الشيب، وقول الآخر: 340 - أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكِرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلاً أي: أأفرحُ، فأمَّا مع «أمْ» فإنه جائزٌ لدَلالتِها عليه كقوله: 341 - فواللهِ ما أدري وإنْ كنتُ دارياً ... بسبْعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بِثَمانِ أي: أبسبعٍ.

والتسبيحُ: التنزِيهُ والبَرَاءَةُ، وأصلُه من السَّبْحِ وهو البُعْد، ومنه السابحُ في الماء، فمعنى «سبحان الله» أي: تنزيهاً له وبراءةً عمَّا لا يليقُ بجلالِه ومنه قولُ الشاعر: 342 - أقولُ لَمَّا جاءَني فَخْرُهْ ... سُبْحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخِر أي: تنزيهاً، وهو مختصٌّ بالباري تعالى، قال الراغب في قولِه سبحان مِنْ علقمة: «إن أصلَه سبحانَ علقمةَ، على سبيل التهكُّم فزادَ فيه» مِنْ «، وقيل: تقديرُه: سبحانَ الله مِنْ أجل عَلْقمة» ، فظاهرُ قولِه أنه يجوزُ أن يقالَ لغيرِ الباري تعالى على سبيل التهكُّم، وفيه نظرٌ. والتقديسُ: التَطْهير، ومنه الأرضُ المقدَّسَةُ، وبيت المَقْدِس، وروحُ القُدُس، وقال الشاعر: 343 - فَأَدْرَكْنَه يَأخُذْنَ بالساقِ والنَّسا ... كما شَبْرَقَ الوِلْدَانُ ثوبَ المَقْدِسِ أي: المطهَّرُ لهم. وقال الزَمخشري: «هو مِنْ قَدَّسَ في الأرضِ إذا ذهبَ فيها وأبعدَ، فمعناه قريبٌ من معنى نُسَبِّح» . انتهى. قوله تعالى: {قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أصلُ إنِّي: إنني فاجتمع

ثلاثةُ أمثال، فحذَفْنا أحدَها، وهل هو نونُ الوقايةِ أو النونُ الوسطى؟ قولان الصحيحُ الثاني، وهذا شبيهٌ بما تقدَّم في {إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] وبابه. والجملة في محلِّ نصبٍ بالقولِ، و «أعلمُ» يجوزُ فيه أن يكونَ فعلاً مضارعاً وهو الظاهرُ، و «ما» مفعولٌ به، وهي: إمَّا نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولةٌ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِه الشروطَ أي: تعلمونَه، وقال المهدوي، ومكي وتبعهما أبو البقاء: «إنَّ» أعلمُ «اسمٌ بمعنى عالم» كقوله: 344 - لَعَمْرُكَ ما أدري واني لأوْجَلُ ... على أيِّنا تَعْدُو المنيَّةُ أَوَّلُ ف «ما» يجوزُ فيها أن تكونَ في محلِّ جرٍّ بالإِضافةِ أو نصبٍ ب «أَعْلَمُ» ولم يُنوَّنْ «أعلمُ» لعدمِ انصرافِه، نحو: «هؤلاء حَوَاجُّ بيتَ الله» وهذا مبنيٌّ على أصلَيْن ضعيفينِ، أحدُهما: جَعْلُ أَفْعَل بمعنى فاعِل من غير تفضيلٍ، والثاني أنَّ أفْعل إذا كانت بمعنى اسمِ الفاعل عَمِلَتْ عملَه، والجمهورُ لا يثبتونها. وقيل: «أعلمُ» على بابها من كونِها للتفضيلِ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، أي: أعلمُ منكم، و «ما» منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه أفعل، أي: علمتُ ما لا تعلمون، ولا جائزٌ أن يُنْصَبَ بأفعل التفضيلِ

لأنه أضعفُ من الصفةِ التي هي أضعفُ من اسمِ الفاعلِ الذي هو أضعفُ من الفعلِ في العملِ، وهذا يكونُ نظيرَ ما أَوَّلوه من قول الشاعر: 345 - فلم أَرَ مثلَ الحيِّ حَيَّاً مُصَبَّحاً ... ولا مثلَنا يومَ التَقَيْنَا فوارِساً أَكَرَّ وأحمى للحقيقةِ منهمُ ... وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القوانِسا فالقوانسَ منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر، أي ب «ضَرَب» ، لا ب «أَضْرَبَ» ، وفي ادِّعاء مثلِ ذلك في الآيةِ الكريمةِ بُعْدٌ لحذفِ شيئين: المفضَّلِ عليه والناصبِ ل «ما» .

31

قولُه تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} . . هذه الجملةُ يجوز إلاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإِعرابِ لاستئنافِها، وأنْ يكونَ محلُّها الجرَّ لعطفِها على «قال ربك» . و «عَلَّم» هذه متعديةٌ إلى اثنين، وكانت قبلَ التضعيفِ متعديةً لواحدٍ لأنها عرفانيةٌ، فتعدَّت بالتضعيفِ لآخرَ، وفَرَّقوا بين «عَلِم» العُرْفانيةِ واليقينيةِ في التعديةِ، فإذا أرادوا أن يُعَدُّوا العرفانيةَ عَدَّوْها بالتضعيف، وإذا أرادوا أن يُعَدُّوا اليقينيةَ عَدَّوْها بالهمزةِ، ذكر ذلك أبو علي علي الشلوبين، وفاعلُ «عَلَّم» يعودُ على الباري تعالى، و «آدمَ» مفعولُه.

وفيه ستةُ أقوال، أرجحُها [أنه] اسمٌ أعجميٌّ غيرُ مشتقٍّ، ووزنُه فاعَل كنظائِره نحو: آزَر وشالَح، وإنما مُنع من الصرفِ للعَلَمِيَّة والعجمةِ الشخصيةِ، الثاني: أنه مشتقٌّ من الأُدْمَة، وهي حُمْرَةٌ تميلُ إلى السوادِ، الثالث: أنه مشتقٌّ من أَديمِ الأرض، [وهو أوجَهُها ومُنِعَ من الصَّرْف على هذين القولين للوزنِ والعلميةِ. الرابعُ: أنه مشتقٌّ من أديمِ الأرض] أيضاً على هذا الوزنِ أعني وزنَ فاعَل وهذا خطأ، لأنه كان ينبغي أن يَنْصَرِفَ. الخامس: أنه عِبْرِيٌّ من الإِدام وهو الترابُ. السادس: قال الطبري: «إنه في الأصل فِعْلٌ رباعي مثل: أَكْرَم، وسُمِّي به لغرضِ إظهارِ الشيء حتى تُعْرَفَ جِهتُه» والحاصلُ أنَّ ادِّعاءَ الاشتقاق فيه بعيدٌ، لأنَّ الأسماءَ الأعجميةَ لا يَدْخُلُها اشتقاقٌ ولا تصريفٌ، وآدمُ وإن كانَ مفعولاً لفظاً فهو فاعِلٌ معنى، و «الأسماءَ» مفعولٌ ثانٍ، والمسألةُ من باب أعطى وكسا، وله أحكامٌ تأتي إن شاء الله تعالى. وقُرئ: «عُلِّم» مبنياً للمفعول، و «آدمُ» رفعا لقيامهِ مَقامَ الفاعلِ. و «كلَّها» تأكيدٌ للأسماء تابعٌ أبداً، وقد يلي العواملَ كما تقدَّم. وقولُه «الأسماء كلَّها» الظاهرُ أنه لا يَحْتَاج إلى ادِّعاءِ حَذْفٍ، لأنَّ المعنى: وَعلَّم آدَمَ الأسماءَ، [ولم يُبَيِّنْ لنا أسماءً مخصوصةً، بل دَلَّ كلُّها على الشمولِ، والحكمةُ حاصلةٌ بتعلُّمِ الأسماءِ] ، وإنْ لم يَعْلَمْ مُسَمَّياتِها، أو يكونُ أَطْلَقَ الأسماءَ وأراد المسميَّات، فعلى هذين الوجهين لا حَذْفَ. وقيل: لا بدَّ من حذفٍ واختلفوا فيه، فقيل: تقديرُه: أسماءَ المسمَّيات، فَحُذِفَ المضافُ إليه

للعلم. قال الزمخشري: «وعُوَِّض منه اللامُ، كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] ورُجِّح هذا القول بقولِه تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء. . . فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} [البقرة: 31-33] ولم يَقُل: أنبئوني بهؤلاءِ فلمَّا أنبأهم بهم. ولكن في قوله: وعُوَّض منه اللام» نظرٌ، لأن الألف واللام لا يَقُومان مقامَ الإِضافةِ عند البصريين. وقيل: تقديرُه مُسَمَّياتِ الأسماء، فَحُذِف المضافُ، وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامه، ورُجِّح هذا القولُ بقولِه تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} لأن الأسماءَ لا تُجْمَع كذلك، فدلَّ عَوْدَه على المسميَّاتِ. ونحوُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40] تقديرُه: أو كذي ظُلُمات، فالهاءُ في «يَغْشَاه» تعودُ على «ذي» المحذوفِ. قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة} «ثم» حرفٌ للتراخي كما تقدَّم، والضميرُ في «عَرَضَهُمْ» للمسمِّياتِ المقدَّرةِ أو لإِطلاقِ الأسماءِ وإرادةِ المسمَّيات، كما تقدَّم. وقيل: يعودُ على الأسماءِ ونُقِل عن ابنِ عباس، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأ: «عَرَضَها وعَرَضَهُنَّ» إلا أنَّ في هذا القول جَعْلَ ضميرِ غير العقلاء كضمير العقلاءِ، أو نقول: إنما قال ابن عباس ذلك بناءً منه أنّه أطلقَ الأسماء وأراد المسمَّيات كما تقدَّم وهو واضحٌ. و «على الملائكة» متعلق ب «عرضهم» .

قوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء} الإِنباءُ: الإِخبارُ، وأَصلُ «أنبأ» أن يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر كهذه الآية، وقد يُحْذَفُ الحرفُ، قال تعالى: {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} [التحريم: 3] أي: بهذا وقد يتضمَّن معنى «أَعْلَم» اليقينية، فيتعدَّى تعديتَهَا إلى ثلاثةِ مفاعيل، ومثلُ أنبأ: نَبَّأ وأخبر، وخبَّر وحدَّث. و «هؤلاء» في محلِّ خفضٍ بالإِضافة وهو اسمُ إشارة ورتبتُه دنيا، ويُمَدُّ ويُقْصَرُ، كقولِه: 346 - هَؤُلا ثُمَّ هَؤُلا كُلاًّ أعطَيْ ... تَ نِعالاً محْذُوَّة بمِثالِ والمشهورُ بناؤُه على الكسرِ، وقد يُضَمُّ وقد يُنَوَّنُ مكسوراً، وقد تُبْدَلُ همزتُه هاءً، فتقولُ: هَؤُلاه، وقد يقال: هَوْلا، كقوله: 347 - تجلَّدْ لا يَقُلْ هَوْلا هَذَا ... بكَى لَمَّا بكى أَسَفا عليكما ولامُه عند الفارسي همزةٌ فتكونُ فاؤُه ولامُه من مادةٍ واحدةٍ، وعند المبرِّد أصلُها ياءٌ وإنما قُلِبَتْ همزةً لتطرُّفها بعد الألفِ الزائدة. قوله: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قد تقدَّم نظيره، وجوابُه محذوف أي: إنْ كنتمْ صادقين فأنبئوني، والكوفيون والمبرد يَرَوْنَ أنَّ الجوابَ هو المتقدِّمُ، وهو مردودٌ بقولِهِم: «أنتَ ظالمٌ إن فعلْتَ» لأنه لو كان جواباً لوَجَبَت الفاءُ

معه، كما تَجِبُ متأخراً، وقال ابن عطية: «إنَّ كونَ الجوابِ محذوفاً وهو رأيُ المبرد وكونَه متقدِّماً هو رأيُ سيبويه» وهو وَهْمٌ.

32

قوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ} . . «سُبْحان» اسمُ مصدرٍ وهو التسبيح، وقيل: بل هو مصدرٌ لأنه سُمِعَ له فعلٌ ثلاثي، وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافة وقد يُفْرَدُ، وإذا أُفْرِد مُنِعَ الصرفَ للتعريفِ وزيادةِ الألفِ والنونِ كقوله: 348 - أقولُ لَمَّا جاءني فَخْرُه ... سُبْحَانَ مِنْ علقَمَةَ الفاخِرِ وقد جاء منوَّناً كقوله: 349 - سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به ... وقبلَنَا سبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ فقيل: صُرِف ضرورةً، وقيل: هو بمنزلة قبلُ وبعدُ، إن نُوي تعريفُه بقي على حالِه، وإن نُكِّر أُعْرِبَ منصرفاً، وهذا البيتُ يساعِدُ على كونِهِ مصدراً [لا اسمَ مصدرٍ] لورودِه منصرفاً. ولقائلِ القولِ الأولِ أن يُجيبَ عنه بأنّ هذا نكرةٌ لا معرفةٌ، وهو من الأسماءِ اللازمةِ النصبَ على

المصدريةِ فلا يتصرَّفُ، والناصبُ له فعلٌ مقدرٌ لا يجوزُ إظهارُه، وقد رُوي عن الكسائي أنه جَعَلَه منادى تقديرُه: يا سبحانَك، وأباه الجمهورُ من النحاةِ، وإضافتُه [هنا] إلى المفعولِ لأنَّ المعنى: نُسَبِّحُك نحنُ. وقيل: بل إضافتُه للفاعل، والمعنى: تنزَّهْتَ وتباعَدْتَ من السوء وسبحانَك، والعاملُ فيه في محلِّ نصبٍ بالقول. قوله: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} كقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] و «إلاَّ» حرفُ استثناء، و «ما» موصولةٌ، و «علَّمتنا» صلتُها، وعائدُها محذوفٌ، على أن يكونَ «عِلْم» بمعنى مَعْلُوم، ويجوزُ أنْ تكونَ مصدريةً وهي في محلِّ نصب على الاستثناءِ، [ولا يجوزُ أن تكونَ منصوبةً بالعِلْم الذي هو اسمُ لا لأنه إذا عَمِل كان مُعْرباً] ، وقيل: في محلِّ رفعٍ على البدلِ من اسم «لا» على الموضع. وقال ابن عطية: «هو بدلٌ من خبر التبرئة كقولهم:» لا إلهَ إلا اللهُ «وفيهِ نظرٌ، لأن الاستثناءَ إنما هو من المحكومِ عليه بقيدِ الحكم لا مِن المحكومِ به. وَنقَل هو عن الزهراوي أنَّ» ما «منصوبَةٌ بعلَّمْتَنَا بعدَها، وهذا غيرُ معقولٍ لأنه كيف ينتصِبُ الموصولُ بصلتِه وتَعْمَلُ فيه؟ قال الشيخُ:» إلا أَنْ يُتَكَلَّف لَه وجهٌ بعيدٌ، وهو أن يكونَ استثناءً منقطعاً بمعنى

لكنْ، وتكونُ «ما» شرطيةً، و «علَّمتنَا» ناصبٌ لها وهو في محلِّ جَزْمٍ بها والجوابُ محذوفٌ، والتقديرُ: لكنْ ما علَّمْتنا عَلِمناه. قولُه: {إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم} أنتَ يَحتمِلُ ثلاثةَ أوجهٍ، أن يكونَ تأكيداً لاسم إنَّ فيكونَ منصوبَ المحلِّ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه ما بعده والجملةُ خبرُ إنَّ، وأن يكونَ فَصْلاً، وفيه الخلافُ المشهورُِ، وهل له محلُّ إعرابٍ أم لا؟ وإذا قيل: إنَّ له محلاًّ، فهل بإعرابِ ما قبلَه كقولِ الفراء فيكونُ في محلِّ نصبٍ، أو بإعراب ما بعده، فيكونُ في محلِّ رَفعٍ كقول الكسائي؟ و «الحكيمُ» خبَرٌ ثانٍ أو صفةٌ للعليم، وهما فَعِيل بمعنى فاعِل، وفيهما من المبالغةِ ما ليس فيه. والحُكْم لغةً: الإِتقانُ والمَنْع من الخروجِ عن الإِرادة، ومنه حَكَمَةُ الدابَّة وقال جرير: 350 - أبني حَنِيفَةَ أحْكِموا سفهاءَكُمْ ... إني أخافُ عليكُمُ أَنْ أغْضَبَا وقَدَّم «العليم» على «الحكيم» لأنه هو المتصلُ به في قولِه: «عَلَّم» وقولِه: «لا عِلْمَ لنا» ، فناسَبَ اتَّصالَه به، ولأنَّ الحِكْمَةَ ناشئةٌ عن العِلْمِ وأثرٌ له، وكثيراً ما تُقَدَّمُ صفةُ العِلْم عليها، والحكيمُ صفةُ ذاتٍ إنْ فُسِّر بذي الحكمةِ، وصفةُ فِعْلٍ إنْ فُسِّر بأنه المُحْكِمُ لصَنْعَتِه.

33

قوله تعالى: {قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} . . «آدَمُ» مبنيٌّ

على الضم لأنه مفردٌ معرفةٌ، وكلُّ ما كان كذلكُ بني على ما كان يُرْفع به، وهو في مَحلِّ نصبٍ لوقوعه موقعَ [المفعولِ به فإنَّ تقديره: أدعو آدمَ، وبُنِي لوقوعِه موقعَ] المضمرِ، والأصلُ: يا إياك، كقولهم: «يا إياك قد كُفِيْتُكَ» ويا أنتَ كقوله: 351 - يَا أبْجَرَ بنَ أَبْجَرٍ يا أَنْتا ... أنتَ الذي طَلَّقْتَ عامَ جُعْتَا قد أحسنَ اللهُ وقد أَسَأْتَا ... و «يا إياك» أقيسُ من «يا أنت» لأنَّ الموضعَ موضعُ نَصْبٍ، فإياك لائقٌ به، وتحرَّزْتُ بالمفردِ من المضافِ نحو: يا عبدَ الله، ومن الشبيهِ به وهو عبارةٌ عَمَّا كان الثاني فيه من تمامِ معنى الأول نحو: يا خيراً من زيدٍ ويا ثلاثةً وثلاثين، وبالمعرفة من النكرةِ غيرِ المقصودة نحو قوله: 352 - أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... ندامَاي مِنْ نجرانَ ألاَّ تلاقِيا فإن هذه الأنواع الثلاثة معربةٌ نصباً. و «أَنْبِئْهُمْ» فعلُ أمر وفاعلٌ ومفعولٌ، والمشهورُ: أَنْبِئْهُمْ مهموزاً مضمومَ الهاء، وقُرئ بكسر الهاءِ وتُرْْوى عن ابنِ عامر، كأنه أَتْبَعَ الهاءَ لحركةِ الباء

ولم يَعْتَدَّ بالهمزةِ لأنها ساكنةٌ، فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ، وقُرِئ بحَذْفِ الهمزةِ ورُوِيَتْ عن ابنِ كثير، قال ابن جني: «هذا على إبدالِ الهمزةِ ياءً كَمَا تقولَ: أَنْبَيْتُ بزنة أَعْطَيْت. قال:» وهذا ضعيفٌ في اللغة لأنه بدلٌ لا تخفيف، والبَدلُ عندنا لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ «، وهذا من أبي الفتح غيرُ مُرْضٍ لأن البدَل جاء في سَعَةِ الكلام، حكى الأخفشُ في» الأوسط «له أنهم يقولون في أَخْطَأْت: أَخْطَيْتُ، وفي توضَّأْت: توضَّيْتُ، قال:» وربما حَوَّلوه إلى الواو، وهو قليلٌ، قالوا: رَفَوْتُ في رَفَأْتُ ولم يُسْمع رَفَيْتُ «. إذا تقرَّر ذلك فللنَّحْويين في حرف العلة المبدلِ من الهمزةِ نظرٌ في أنه هل يجري مَجْرى حرفِ العلةِ الأصلي أم يُنْظرُ أصله؟ ورتَّبوا على ذلك أحكاماً ومِن جملتها: هل يُحْذَفُ جَزْماً كالحرف غيرِ المُبْدل [أم لا] نظراً إلى أصلِه، واستدلَّ بعضُهم على حَذْفِه جَزْماً بقول زهير: 353 - جريءٍ متى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بظُلْمِه ... سريعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ لأنَّ أصله» يُبْدَأ «بالهمزةِ فكذلك هذه الآيةُ أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً ثم حُذِفَتَ حَمْلاً للأمرِ على المجزومِ. وقُرئ» أنبيهم «بإثباتِ الياء نظراً إلى

الهمزةِ وهل تُضَمُّ الهاءُ نظراً للأصلِ أم تُكْسَرُ نظراً للصورة؟ وجهان مَنْقولان عن حمزةَ عند الوقفِ عليه. و» بأسمائِهم «متعلِّق بأَنْبِئْهُمْ، وهو المفعولُ الثاني كما تقدَّم، وقد يتعدَّى ب» عن «نحو: أنبأْتُه عن حالِه، وأمَّا تعديتُه ب» مِنْ «في قوله تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94] فسيأتي في موضعه إنْ شاءَ اللهُ تعالى. قوله: {قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ} الأية. «قال» جوابُ «فلمَّا» والهمزةُ للتقرير إذا دَخَلَتْ على نفي قَرَّرَتْهُ فيَصيرُ إثباتاً نحو: {أَلَمْ نَشْرَحْ} [الانشراح: 1] أي: قد شرحنا و «لم» حرفُ جزمٍ وقد تَقَدَّمَ أحكامُها، و «أَقُلْ» مجزومٌ بها حُذِفَتْ عينُه وهي الواوُ لالتقاءِ الساكنين. و «لكم» متعلقٌ به، واللامُ للتبليغِ. والجملةُ من قوله: «إني أَعْلَمُ» في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ. وقد تقدَّم نظائرُ هذا التركيبِ فلا حاجةَ إلى إعادتِه. قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} كقولِه: {أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من كونِ «أَعْلَمُ» فعلاً مضارعاً أو أفْعَل بمعنى فاعِل أو أَفْعَل تفضيل، وكونِ «ما» في محل نصبٍ أو جرٍ وقد تقدَّم. والظاهرُ: أن جملةَ قولِه: «وأعلمُ» معطوفةٌ على قولِه: {إني أَعْلَمُ غَيْبَ} ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وقال أبو البقاء: «إنه مستأنفٌ وليسَ محكيَّاً بالقولِ» ، ثم جَوَّزَ فيه ذلك.

و «تُبْدُون» وزنه: تُفْعون لأن أصله تُبْدِوُونَ مثل تُخْرِجون، فَأُعِلَّ بحذْفِ الواو بعد سكونها. والإِبداءُ: الإِظهارُ. والكَتْمُ: الإِخفاءُ، يقال: بَدا يَبْدُو بَداءً، قال: 354 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بَدا لَكَ في تلك القَلوصِ بَداءُ قوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} : «ما» عطفٌ على «ما» الأولى بحسَبِ ما تكونُ عليه من الإِعرابِ.

34

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ} : العاملُ في «إذ» محذوفٌ دلَّ عليه قولُه: «فَسَجَدوا» تقديرُه: «فَسَجَدوا» تقديرُه: أطاعوا وانقادُوا فسجدوا، لأنَّ السجودَ ناشئٌ عن الانقيادِ، وقيل: العاملُ «اذكُرْ» مقدرةً، وقيل: [إذ] زائدةٌ، وقد تقدَّم ضَعْفُ هذين القولين. وقال ابنُ عطية: «وإذ قلنا معطوفٌ على» إذ «المتقدمةِ» لا يَصِحُّ هذا لاختلافِ الوقتين، وقيل: «إذ» بدلٌ من «إذ» الأولى، ولا يَصِحُّ لِمَا تقدَّم ولتوسُّطِ حرفِ العطفِ، وجملةُ «قلنا» في محلِّ خفضٍ بالظرفِ، وفيه التفاتٌ من الغَيبةِ إلى التكلمِ للعظمة، واللامُ للتبليغ كنظائِرها. والمشهورُ جَرُّ تاءِ «الملائكة» بالحرفِ، وقرأ أبو جعفر بالضمِّ إتباعاً

لضمةِ الجيم، ولم يَعْتَدَّ بالساكن، وغَلَّطه الزجَّاج، وخطّأه الفارسي، وشَبَّهه بعضُهم بقولِه تعالى: {وَقَالَتِ اخرج} [يوسف: 31] بضم تاء التأنيث، وليس بصحيح لأنَّ تلك حركةُ التقاءِ الساكنين وهذه حركةُ إعرابٍ فلا يُتلاعَبُ بها، والمقصودُ هناك يحصُلُ بأيِّ حركةٍ كانَتْ. وقال الزمخشري: «لا يجوزُ استهلاكُ الحركةِ الإِعرابيةِ إلا في لغةٍ ضعيفةٍ كقراءةِ: {الحمد للَّهِ} [الفاتحة: 1] يعني بكسر الدال» ، قلتُ: وهذا أكثرُ شذوذاً، وأضعفُ من ذاك مع ما في ذاك من الضعفِ المتقدِّم، لأنَّ هناك فاصلاً وإنْ كان ساكناً، وقال أبو البقاء: «وهي قراءةٌ ضعيفةٌ جداً، وأحسنُ ما تُحْمَلُ عليه أن يكون الراوي لم يَضْبِطْ عن القارئ وذلك أن القارئ أشارَ إلى الضمِّ تنبيهاً على أنَّ الهمزةَ المحذوفةَ مضمومةٌ في الابتداءِ فلم يُدْرِك الراوي هذه الإِشارَةَ. وقيل: إنه نوى الوقفَ على التاءِ ساكنةً ثم حَرَّكها بالضم إتباعاً لحركةِ الجيم، وهذا من إجراءِ الوَصْلِ مُجْرى الوقفِ. ومثلُه: ما رُوِيَ عن امرأةٍ رأت رجلاً مع نساءٍ فقالت:» أفي سَوْءَةَ أنْتُنَّه «نوتِ الوقف على» سَوْءَة «فسكَّنَتِ التاءَ ثم ألقَتْ عليها حركةُ همزةِ» أنتنَّ «. قلت» فعلى هذا تكونُ هذه الحركةُ حركةَ

التقاءِ ساكنين، وحينئذٍ يكونُ كقوله: {قَالَتِ اخرج} [يوسف: 31] وبابه، وإنما أكثرَ الناسُ توجيهَ هذه القراءةِ لجلالةِ قارِئها أبي جعفر يزيد بن القعقاع شيخِ نافعٍ شيخِ أهل المدينةِ، وترجمتُهما مشهورةٌ. و «اسجُدوا» في محلِّ نصبٍ بالقولِ، واللامُ في «لآدمَ» الظاهرُ أنها متعلقةٌ باسجُدُوا، ومعناها التعليلُ أي لأجلِه وقيل: بمعنى إلى، أي: إلى جهته لأنه جُعِل قِبْلةً لهم، والسجودُ لله. وقيل: بمعنى مع لأنه كان إمامَهم كذا نُقِلَ، وقيل: اللامُ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ولا حاجةَ إلى ذلك. و «فسجدوا» الفاءُ للتعقيبِ، والتقديرُ: فسَجدوا له، فَحُذِفَ الجارُّ للعلمِ به. قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} [إلا] حرفُ استثناءٍ، و «إبليس» نصبٌ على الاستثناء. وهل نصبُه بإلاَّ وحدها أو بالفعلِ وحدَه أو به بوساطة إلا، أو بفعلٍ محذوف أو ب «أنَّ» ؟ أقوالٌ، وهل هو استثناءٌ متصلٌ أو منقطعٌ؟ خلافٌ مشهورٌ، والأصحُّ أنه متصلٌ. وأمَّا قولُه تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] فلا يَرُدُّ هذا لأنَّ الملائكة قد يُسَمَّوْنَ جِنَّاً لاجْتِنانِهم قال:

355 - وسَخَّر مِنْ جِنِّ الملائِكِ تسعةً ... قياماً لَديْهِ يَعْمَلون بلا أَجْرِ وقال تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] يعني الملائكةَ. واعلم أَنَّ المستثنى على أربعةِ أقسامٍ: قسمٍ واجبِ النصبِ، وقسم واجبِ الجرِّ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والجرُّ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والبدلُ مِمَّا قبله والرجحُ البدلُ. القسم الأول: المستثنى من الموجبِ والمقدَّمُ والمكررُ والمنقطعُ عند الحجاز مطلقاً، والواقعُ بعد لا يكون وليس ما خلا وما عدا عند غيرِ الجرميّ، نحو: قام القومُ إلا زيداً، ما قَام إلا زيداً القومُ، وما قام أحد إلا زيداً إلا عَمْراً، وقاموا إلا حماراً، وقاموا لا يكون زيداً وليس زيداً وما خلا زيداً وما عدا زيداً. القسم الثاني: المستثنى بغير وسِوى وسُوى وسَواء. القسم الثالث: المستثنى بعدا وخلا وحاشا. القسمُ الرابع: المستثنى من غيرِ الموجب نحو: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] . والسجودُ لغةً: التذلُّلُ والخضوعُ، وغايتُه وَضْعُ الجبهةِ على الأرضِ، وقال ابن السكيت: «هو المَيْلُ» قال زيدٌ الخيل: 356 - بجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَراته ... ترى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحَوافِرِ

[يريد أنَّ الحوافِرَ تطأُ الأرضَ فتجعلُ تأثُّرَ الأكْمِ للحوافرِ سُجودا] ، وقال آخر: 357 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُجودَ النصارى لأَِحْبارِها وفَرَّقَ بعضُهم بين سَجَد وأَسْجد، فسجد: وََضَعَ جَبْهَتَه، وأَسْجَدَ: أمال رأسَه وطأطأها، قال الشاعر: 358 - فُضُولَ أَزِمَّتِها أَسْجَدَتْ ... سُجودَ النَّصارى لأرْبابها وقال آخر: 359 - وقُلْنَ له أسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجدا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يعني: أنَّ البعيرَ طأطأ رأسَه لأجلها، ودراهمُ الأسجادِ دراهمُ عليها صُوَرٌ كانوا يَسْجُدون لها، قال الشاعر: 360 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وافى بها كدَراهمِ الأَسْجادِ ... وإبليس اختُلِفَ فيه فقيل: [إنه] اسمٌ أعجمي مُنِعَ من الصَّرْفِ

للعلَمِيَّة والعَجْمةِ، وهذا هو الصحيحُ، وقيل: إنه مشتقٌّ من الإِبْلاسِ وهو اليأسُ من رحمة اللهِ تعالى والبُعْدُ عنها، قال: 361 - وفي الوُجوهِ صُفْرَةٌ وإبْلاسْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال آخر: 362 - يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا ... قال نَعَمْ أَعْرِفُه وأَبْلَسَا أي: بَعُد عن العِمارةِ والأُنْسِ به، ووزنُه عند هؤلاء: إِفْعِيل، واعتُرِضَ عليهم بأنه كان ينبغي أن يكونَ منصرفاً، وأجابوا بأنه أَشْبَهَ الأسماءَ الأعجميةَ لعَدمِ نظيرِه في الأسماء العربية، ورُدَّ عليهم بأنَّ مُثُلَه في العربية كثيرٌ، نحو: إزْميل وإكليل وإغْريض وإخْريط وإحْليل. وقيل: لمَّا لم يَتَسَمَّ به أحدٌ من العرب صار كأنه دخيلٌ في لسانِهم فأشبهَ الأعجميةَ وفيه بُعْدٌ. قوله: {أبى واستكبر} الظاهرُ أنَّ هاتين الجملتين استئنافيتان جواباً لمَنْ قال: فما فعلَ؟ والوقفُ على قولِه: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} تامٌّ. وقال أبو البقاء: «في موضع نصبٍ على الحالِ من إبليسِ تقديرُه: تَرَك السجودَ كارهاً

ومستكبراً عنه فالوقفُ عنده على» واستكبر «، وجَوَّز في قولِه تعالى: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} أَنْ يكونَ مستأنفاً وأن يكونَ حالاً أيضاً. والإِباء: الامتناعُ، قالَ الشاعر: 363 - وإما أَنْ يقولوا قَدْ أَبَيْنا ... وشَرُّ مواطِنِ الحَسَبِ الإِباءُ وهو من الأفعال المفيدةِ للنفي، ولذلك وَقَعَ بعده الاستثناءُ المفرَّغُ، قال الله تعالى: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] والمشهورُ أبى يأبى بالفتحِ فيهما، وكان القياسُ كسرَ عينِ المضارعِ، ولذلك اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال: تِئْبى ونِئْبى. وقيل: لمَّا كانت الألفُ تشبه حروفَ الحَلْقِ فُتِح لأجلِها عينُ المضارعِ. وقيل: أَبى يأبى بالفتحِ فيهما، وكان القياسُ كسرَ عينِ المضارعِ، ولذلك اعتبره بعضُهم فَكَسَر حرفَ المضارعةِ فقال: تئبى ونئبى. وقيل: لَمَّا كانت الألف تشبه حروف الحلق فُتح لأجلها عين المضارع. وقيل: أَبِيَ يأبى بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع، وهذا قياسٌ فيُحتمل أنْ يكونَ مَنْ قال: أبى يأبى بالفتح فيهما استغنى بمضارع مَنْ قال: أبِيَ بالكسر ويكونُ من التداخُلِ نحو: ركَن يركَنُ وبابِه. واستكبر بمعنى تكبَّر وإنما قدَّم الإِباءُ عليه وإنْ كان متأخِّراً عنه في

الترتيبِ لأنه من الأفعالِ الظاهرةِ بخلافِ الاستكبارِ فإنه من أفعال القلوب. وقوله «وكان» قيل: هي بمعنى صار كقوله: 364 - بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنَّها ... قطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً بيوضُها أي: قد صارَتْ، ورَدَّ هذا ابنُ فُوْركَ وقال: «تَرُدُّه الأصولُ» والأظهر أنها على بابها، والمعنى: وكانَ من القومِ الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خَلْقِ آدمَ ما رُوي، أو: وكانَ في عِلْم الله.

35

قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} : هذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ: «إذْ قلنا» لا على «قُلْنا» وحدَه لاختلافِ زمنَيْهِما، و «أنت» توكيدٌ للضميرِ المستكنِّ في «اسكُن» ليصِحَّ العطفُ عليه، و «زوجُك» عَطْفٌ عليه، هذا مذهبِ البصريين، أعني: اشتراط الفصلِ بين المتعاطِفَيْن إذا كان المعطوفُ عليه ضميراً مرفوعاً متصلاً، ولا يُشْترط أن يكونَ الفاصلُ توكيداً، [بل] أيَّ فصلٍ كان، نحو: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] . وأمَّا الكوفيون فيُجيزون ذلك من غير فاصل وأنشدوا:

365 - قُلْتُ إذا أقبلَتْ وزهرٌ تَهادى ... كنعاجِ الفَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلا وهذا عند البصريينَ ضرورةً لا يُقاسُ عليه. وقد مَنَعَ بعضَهُم أن يكونَ «زوجُك» عطفاً على الضميرِ المستكنِّ في «اسكُنْ» وجعله من عطفِ الجملِ، بمعنى أن يكونَ «زوجُك» مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ، أي: وَلْتَسْكُنْ زوجك، فحُذِف لدلالة «اسكنْ» عليه، ونَظَّره بقولِه تعالى: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} [طه: 58] وزعم أنه مذهبُ سيبويهِ، وكأن شُبْهَتَه في ذلك أنَّ مِنْ حقِّ المعطوفِ حُلولَه مَحَلَّ المعطوفِ عليه، ولا يَصِحُّ هنا حلولُ «زوجُك» محلَّ الضميرِ، لأنَّ فاعلَ فِعْلِ الأمر الواحدِ المذكَّر نحو: قُمْ واسكُنْ لا يكونُ إلاَّ ضميراً مستتراً، وكذلك فاعل نفعلُ، فكيف يَصِحُّ وقوعُ الظاهرِ موقَع المضمرِ الذي قبله؟ وهذا الذي زعمه ليس بشيءٍ لأنَّ مذهبَ سيبويهِ بنصِّه يخالِفُه، ولأنَّه لا خلافَ في صِحَّةِ: «تقوم هندٌ وزيدٌ» ، ولا يَصِحُّ مباشرةُ زيدٍ ل «تقوم» لتأنيثه. والسكونُ والسُّكْنى: الاستقرارُ. ومنه: المِسْكينُ لعدَمِ استقراره وحركتِه وتصرُّفِه، والسِّكِّينُ لأنها تَقْطَعُ حركةَ المذبوحِ، والسَّكِينة لأنَّ بها يَذْهَبُ القلقُ.

و «الجَنَّةَ» مفعولٌ به لا ظرفٌ، نحو: سَكَنْتُ الدارَ. وقيل: هي ظرفٌ على الاتساعِ، وكان الأصلُ تعديتَه إليها ب «في» ، لكونها ظرفَ مكان مختصٍّ، وما بعد القولِ منصوبٌ به. قوله: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} هذه الجملةُ عَطْفٌ على «اسكُنْ» فهي في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، وأصلُ كُلْ: أُأْكُلْ بهمزتين: الأولى همزةُ وصلٍ، والثانيةُ فاءُ الكلمة فلو جاءَتْ هذه الكلمةُ على هذا الأصلِ لقيل: اُوكُلْ بإبدالِ الثانيةِ حرفاً مجانساً لحركةِ ما قبلَها، إلا أنَّ العربَ حَذَفَتْ فاءَه في الأمرِ تخفيفاً فاستَغْنَتْ حينئذٍ عن همزةِ الوصلِ فوزنُه عُلْ، ومثلُه: خُذْ ومُرْ، ولا يُقاسُ على هذه الأفعالِ غيرُها لا تقول من أَجَر: جُرْ. ولا تَرُدُّ العربُ هذه الفاءَ في العطف بل تقول: قم وخذ وكُلْ، إلا «مُرْ» فإنَّ الكثيرَ رَدُّ فائِه بعد الواوِ والفاءِ قال تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ} [الأعراف: 145] و {وَأْمُرْ أَهْلَكَ} [طه: 132] ، وعدمُ الردِّ قليلٌ، وقد حَكَى سيبويه: «اؤْكُلْ» على الأصلِ وهو شاذٌّ. وقال ابن عطية: «حُذِفَتِ النونُ من» كُلا « [للأمر] » وهذه العبارةُ مُوهِمةٌ لمذهبِ الكوفيين من أنَّ الأمرَ عندهم مُعْربٌ على التدريجِ كما تقدَّم، وهو عند البصريين محمولٌ على المجزومِ، فإن سُكِّنَ المجزومُ سُكِّن الأمرُ منه، وإنْ حُذِفَ منه حرفٌ حُذِفَ من الأمر.

و «منها» متعلِّقٌ به، و «مِنْ» للتبعيضِ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ، أي: مِنْ ثمارِها، ويجوز أن تكونَ «مِنْ» لابتداءِ الغاية وهو أَحْسَنُ، و «رَغَداً» نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ. وقد تقدَّم أن مذهب سيبويه في هذا ونحوِه أن ينتصبَ حالاً، وقيل هو مصدر في موضع الحال أي: كُلا طيِّبَيْنِ مُهَنَّأَيْنِ. وقُرئ: «رَغْداً» بسكون الغينِ وهي لغةُ تميمٍ. وقال بعضُهم: كل فعلٍ حلقيٍّ العين صحيحِ اللامِ يجوزُ فتحُ عينِه وتسكينها نحو: نهر وبحر. وهذا فيه نظرٌ بل المنقولُ أنَّ فعْلاً بسكونِ العينِ إذا كانت عينُه حلقيةً لا يجوزُ فتحُها عند البصريين إلا أَنْ يُسَمَعَ فَيُقْتَصَرَ عليه، ويكون ذلك على لغتين لأنَّ إحداهما مأخوذةٌ من الأخرى. وأمَّا الكوفيون فبعضُ هذا عندهم ذو لغتين، وبعضُه أصلُه السكونُ ويجوز فتحُه قياساً، أمَّا أنَّ فعَلاً المفتوحَ العينِ الحلقِيَّها يجوزُ فيه التسكينُ فيجوز في السَّحَر: السَّحْر فهذا لا يُجيزه أحد. والرغَدُ: الواسِعُ الهنيءُ، قال امرؤ القيس: 366 - بينما المرءُ تراهُ ناعماً ... يَأْمَنُ الأحداثَ في عيشٍ رَغَدْ ويقال: رَغُِدَ عيشُهم بضم الغين وكسرها وأَرْغَدَ القومُ: صاروا في رَغَد. قوله: {حَيْثُ شِئْتُمَا} حيث: ظرفُ مكانٍ، والمشهور بناؤُها على الضم لشَبَهِها بالحرفِ في الافتقارِ إلى جملةٍ، وكانت حركتُها ضمةً تشبيهاً ب «قبل» و «بعد» . ونقل الكسائي إعرابَها عن فَقْعَس، وفيها لغاتٌ: حيث بتثليث الثاء

وحَوْث بتثليثها أيضاً، ونُقل: حاث بالألف، وهي لازمةُ [الظرفيةِ لا تتصرفُ، وقد تُجَرُّ بمِنْ كقوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ} [البقرة: 222] {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] ، وهي لازمةٌ] للإِضافة إلى جملةٍ مطلقاً ولا تُضاف إلى المفرد إلا نادراً، قال: 367 - أَمَا تَرى حيثُ سهيلٍ طالِعا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال آخر: 368 - وَنَطْعَنُهم تحت الحُبَى بعد ضَرْبهم ... ببيضِ المواضي حيثُ لَيِّ العَمائم وقد تُزاد عليها «ما» فتجزمُ فعلين شرطاً وجزاء كإنْ، ولا يُجْزَمُ بها دونَ «ما» خلافاً لقوم، وقد تُشَرَّبُ معنَى التعليلِ، وزعم الأخفش أنها تكونُ ظرفَ زمانٍ وأنشد: 369 - للفتى عَقْلٌ يَعيشُ به ... حيث تَهْدي ساقَهُ قَدَمُهْ ولا دليلَ فيه لأنها على بابِها.

والعامِلُ فيها هنا «كُلا» أي: كُلا أيَّ مكانٍ شِئْتُما تَوْسِعَةً عليهما. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ بدلاً من «الجنَّة» ، قال: «لأنَّ الجنةَ مفعولٌ بها، فيكون» حيث «مفعولاً به» وفيه نظرٌ لأنها لا تتصرَّف كما تقدَّم إلا بالجرِّ ب «مِنْ» . قوله: «شِئْتُمَا» : الجملةُ في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها. وهل الكسرةُ التي على الشين أصلٌ كقولِك: جِئْتُما وخِفْتُما، أو مُحَوَّلة من فتحة لتدلَّ على ذواتِ الياءِ نحو: بِعْتما؟ قولان مبنيَّان على وزنِ شَاءَ ما هو؟ فمذهب المبرد أنه: فَعَل بفتحِ العينِ، ومذهبُ سيبويه فَعِل بكسرِها ولا يخفى تصريفُهما. قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} لا ناهيةٌ، و «تَقْرَبا» مجزومٌ بها حُذِفَتْ نونُه. وقُرئ: «تِقْرَبا» بكسر حرف المضارعة، والألفُ فاعلٌ، و «هذه» مفعولٌ به اسمُ إشارةِ المؤنث، وفيها لغاتٌ: هذي وهذهِ [وهذهِ] بكسرِ الهاء بإشباعٍ ودونِهِ، وهذهْ بسكونِه، وذِهْ بكسر الذالِ فقط، والهاءُ بدلٌ من الياءِ لقُرْبِهَا منها في الخَفَاءِ. قال ابنُ عطية ونُقِلَ أيضاً عن النحاس «وليس في الكلام هاءُ تأنيثٍ مكسورٌ ما قبلَها غيرُ» هذه «. وفيه نظرٌ، لأن تلك الهاء التي تَدُلُّ على التأنيث ليستْ هذه، لأن تيكَ بدلٌ من تاءِ التأنيث في الوقف، وأمَّا

هذه الهاءُ فلا دلالةَ لها على التأنيثِ بل الدالُّ عليه مجموعُ الكلمةِ، كما تقول: الياءُ في» هذي «للتأنيثِ. وحكمُها في القُرْبِ والبُعْدِ والتوسط ودخولِ هاءِ التنبيه وكافِ الخطاب حكمُ» ذا «وقد تقدَّم. ويُقال فيها أيضاً: تَيْك وتَيْلَكَ وتِلْكَ وتالِك، قال الشاعر: 370 - تعلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْدا ... وأنَّ لتالِكَ الغُمَرِ انْحِسَاراً قال هشام:» ويقال: تافَعَلَتْ «، وأنشدوا: 371 - خَليليَّ لولا ساكنُ الدارِ لم أُقِمْ ... بتا الدارِ إلاَّ عابرَ ابنِ سبيلٍ و» الشجرةِ «بدل من» هذه «، وقيل: نعتٌ لها لتأويلِها بمشتق، أي: هذه الحاضرةَ من الشجر. والمشهورُ أن اسمَ الإِشارةِ إذا وقع بعده مشتقٌّ كان نعتاً له، وإن كان جامداً كان بدلاً منه. والشجَرةُ واحدة الشَّجَر، اسم جنس، وهو ما كان على ساقٍ بخلاف النجم، وسيأتي تحقيقُهما في سورة» الرحمن «إن شاء الله تعالى. وقرئ:» الشجرة «بكسر الشينِ والجيمِ

وسكونِ الجيمِ، وبإبدالها ياءً مع فتحِ الشين وكسرِها لقُرْبِها منها مَخْرجاً، كما أُبْدِلَتِ الجيمُ منها في قوله: 372 - يا رَبِّ إنْ كنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتِجْ ... فلا يَزالُ شاحِجٌ يأتيكَ بِجْ يريد بذلك حَجَّتي وبي، وقال آخر: 373 - إذا لم يكُنْ فِيكُنَّ ظِلٌّ وَلاَ جَنًى ... فَأَبْعَدَكُنَّ اللهُ من شِيَرَاتِ وقال أبو عمرو:» إنما يقرأ بها برابِرُ مكةَ وسُودانُها «. وجُمعت الشجرُ أيضاً على شَجْراء، ولم يأتِ جمعٌ على هذه الزِنة إلا قَصَبَة وَقَصْباء، وطَرَفَة وطَرْفاء وحَلَفة وحَلْفاء، وكان الأصمعي يقول:» حَلِفة بكسر اللام «وعند سيبويه أنَّ هذه الألفاظَ واحدةٌ وجمعٌ. وتقول: قَرِبْتُ الأمرَ أقرَبه بكسرِ العين في الماضي، وفتحِها في المضارع أي: التبَسْتُ به، وقال الجوهري:» قَرُب بالضمِّ يقرُبُ قُرْباً أي: دَنَا، وقَرِبْتُهُ بالكسر قُرْبَاناً دَنَوْتُ [منه] ، وقَرَبْتُ أقرُبُ قِرابَةً مثل: كَتَبْتُ أكتُبُ

كِتابة إذا سِرْتَ إلى الماء وبينك وبينه لَيْلَةٌ. وقيل: إذا قيل: لا تَقْرَبْ بفتح الراء كان معناه لا تَلْتَبِسْ بالفعلِ وإذا قيل: لا تَقْرُب بالضمِّ كان معناه: لاَ تَدْنُ منه «. قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} فيه وجهان: أحدُهما: أَنْ يكونَ مجزوماً عطفاً على» تَقْرَبَا «كقولِهِ: 374 - فقلت له: صَوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّهُ ... فَيُذْرِكَ من أُخرى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ والثاني: أنه منصوبٌ على جوابِ النهي كقولِهِ تعالى: {لاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ} [طه: 81] والنصبُ بإضمارِ» أَنْ «عند البصريينَ، وبالفاءِ نفسِها عند الجَرْمي، وبالخلافِ عند الكوفيين، وهكذا كلُّ ما يأتي مثلَ هذا. و {مِنَ الظالمين} خبرُ كان. والظُلْمُ: وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِه ومنه قيل للأرضِ التي لم تستحقَّ الحفرَ فتُحْفَر: مظلومةٌ، وقال النابغة الذبياني: 375 - إِلاَّ أَوارِيَّ لأَيَاً ما أُبَيِّنُهَا ... والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ

وقيل: سُمِّيَتْ مَظلومةً لأنَّ المطرَ لا يأتيها، قال عمرو بن قَمِيئَةَ: 376 - ظَلَمَ البطاحَ له انهِلاَلُ حَرِيصةٍ ... فصفَا النِّطافُ له بُعَيْدَ المُقْلَعِ وقالوا:» مَنْ أشبه أباهَ فما ظَلَمْ «، قال: 377 - بأبِهِ اقتدى عَدِيٌّ في الكَرَمْ ... ومَنْ يشابِهْ أَبَه فما ظَلَمْ

36

قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} : المفعولُ هنا واجبُ التقديمِ لأنه ضميرٌ متصلٌ، والفاعلُ ظاهرٌ، وكلُّ ما كان كذا فهذا حكمُه. قرأ حمزة: «فَأَزَالهما» والقِراءتان يُحتمل أن تكونا بمعنىً واحدٍ، وذلك أنَّ قراءةَ الجماعةِ «أَزَلَّهما» يجوز أَنْ تكونَ مِنْ «زَلَّ عن المكان» إذا تَنَحَّى عنه فتكونَ من الزوالِ كقراءَةِ حمزة، ويَدُلُّ عليه قولُ امرئ القيس: 378 - كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ ... كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزَّلِ وقال أيضاً: 379 - يَزِلُّ الغلامُ الخِفُّ عن صَهَوَاتِهِ ... ويَلْوِي بأثوابِ العنيفِ المُثَقَّلِ

فَرَدَدْنا قراءَة الجماعة إلى قراءة حمزة، أو نَرُدُّ قراءَةَ حمزةَ إلى قراءَةِ الجماعة بأَنْ نقول: معنى أزالَهما أي: صَرَفَهُمَا عن طاعةِ الله تعالى فَأَوْقَعَهما في الزَلَّةِ لأنَّ إغواءَه وإيقاعَه لهُما في الزَلَةِ سببُ للزوالِ. ويُحتمل أن تفيدَ كلُّ قراءةٍ معنًى مستقلاً، فقراءةُ الجماعةُ تُؤْذِنُ بإيقاعهما في الزَّلَّةِ، فيكونُ زلَّ استنزل، وقراءةُ حمزة تؤذن بتنحيتِهما عن مكانِهما، ولا بُدَّ من المجازِ في كلتا القراءتينِ لأن الزَّلَل [أصلُه] في زَلَّة القَدَمِ، فاستُعْمِلَ هنا في زَلَّةِ الرأي، والتنحيةُ لا يَقْدِر عليها الشيطانُ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي في زَلَّة الرأي، والتحيةُ لا يقْدِر عليها الشيطانُ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي سببُ التنحيةِ. و «عنها» متعلقٌ بالفعلِ قبلَه. ومعنى «عَنْ» هنا السببيَّةُ إن أَعَدْنَا الضميرَ على «الشجرة» أي: أَوْقَعَهما في الزَّلَّةِ بسبب الشجرة. ويجوز أن تكونَ على بابِها من المجاوزة إن [عاد] الضميرُ على «الجَنَّةِ» ، وهو الأظهرُ، لتقدُّمِ ذِكْرِها، وتجيءُ عليه قراءةُ حمزة واضحةً، ولا تظهَرُ قراءتُهُ كلَّ الظهورِ على كونِ الضميرِ للشجرة، قال ابن عطية: «وأمَّا مَنْ قرأ» أَزَالهما «فإنَّه يعودُ على الجَنَّةِ فقط» ، وقيل: الضميرُ للطاعةِ أو للحالة أو للسماءِ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدَلالةِ السياقِ عليها وهذا بعيدٌ جداً.

قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} الفاءُ هنا واضحةُ السببية. وقال المهدويُّ: «إذا جُعِلَ» فَأَزَلَّهما «بمعنَى زلَّ عن المكان كان قولُه تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} توكيداً، إذ قد يمكنُ أن يزولا عن مكانٍ كانا فيه إلى مكان آخرَ» ، وهذا الذي قاله المهدوي أَشْبَهُ شيءٍ بالتأسيسِ لا التأكيدِ، لإِفادتِهِ معنىً جديداً، قال ابن عطية: «وهنا محذوفٌ يَدُلُّ عليه الظاهرُ تقديرُهُ: فأكلا من الشجَرَةِ» ، يعني بذلك أنَّ المحذوفَ يُقَدِّرُ قبلَ قولِهِ «فَأزَلَّهما» . و {مِمَّا كَانَا} متعلِّقٌ بأَخْرَجَ، و «ما» يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، أي: من المكانِ أو النعيمِ الذي كانا فيه، أو من مكانٍ أو نعيمٍ كانا فيه، فالجملةُ مِنْ كان واسمِها وخبرِها لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّهَا الجرُّ على الثاني، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. وقوله: «اهبِطوا» جملةٌ أمريةٌ في محلِّ نصبٍ بالفعلِ [قبلها] . وقُرئ: «اهبُطوا» بضم الباء وهو كثيرٌ في غيرِ المتعدِّي، وأمّا الماضي فهبَطَ بالفتحِ فقط، وجاء في مضارعِهِ اللغتان، والمصدرُ: الهُبوط بالضم، وهو النزولُ. وقيلَ: الانتقال مطلقاً. وقال المفضل: «الهبوطُ: الخروجُ من البلد، وهو أيضاً الدخولُ فيها فهو من الأضداد» . والضمير في «اهبطوا»

الظاهرُ أنه لجماعةٍ، فقيل: لآدَمَ وحوَّاءَ والجنةِ وإبليسَ، [وقيلَ: لهما وللجنة] ، وقيل: لهما وللوسوسةِ، وفيه بُعْدٌ. وقيل: لبني آدمَ وبني إبليس، وهذا وإنْ نُقِلَ عن مجاهد والحسن لا ينبغي أَنْ يُقالُ، لأنه لم يُوْلَدْ لهما في الجنة بالاتفاق. وقال الزمخشري: «إنه يعودُ لآدمَ وحواء، والمرادُ هما وذريتُهما، لأنهما لمَّا كانا أصلَ الإِنسِ ومتشَعَّبَهم جُعِلاَ كأنهما الإِنسُ كلُّهم، ويَدُلُّ عليه» قال اهبِطوا منها جميعاً «. قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، وفيها قولان، أَصَحُّهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: اهبِطوا مُتعادِيْن. والثاني: أنها لا محلَّ لها لأنها استئنافُ إخبارٍ بالعَداوة. وأُفْرِدَ لفظُ» عدو «وإِنْ كان المرادُ به جَمْعَاً لأحدِ وجهَيْنِ: إِمَّا اعتباراً بلفظِ» بعض «فإنه مفردٌ، وإِمَّا لأن» عَدُوَّاً «أشْبَهَ المصادرَ في الوزنِ كالقَبول ونحوِهِ. وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأن بعضهم جعل عَدُوّاً مصدراً، قال في سورة النساء:» وقيلَ: عَدُوٌّ مصدرٌ كالقَبول والوَلوعِ فلذلك لم يُجْمَعْ «، وعبارةُ مكي قريبةٌ من هذا فإنَّه قال:» وإنما وُحِّدَ وقبلَه جمعٌ لأنه بمعنى المصدرِ تقديرُهُ: ذوي عَداوة «. [ونحوُه: {فَإِنَّهُمْ

عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77] ، وقولُه: {هُمُ العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4] . واشتقاقُ العدوّ من عَدا يعدُو: إذا ظَلَمَ. وقيل: من عَدَا يعدُو إذا جاوَزَ الحقَّ، وهما متقاربان. وقيل: من عُدْوَتَي الجبل وهما طرفاه فاعتَبروا بُعْدَ ما بينهما، ويقال: عُدْوَةَ، وقد يُجْمَعُ على أَعْدَاء.] . واللامُ في» لِبعض «متعلقةٌ ب» عَدُوّ «ومقوِّيةٌ له، ويجوزُ أن تكونَ في الأصلِ صفةً ل» عدُوّ «، فلمَّا قُدِّمَ عليه انتصَبَ حالاً، فتتعلَّقُ اللامُ حينئذٍ بمحذوفٍ، وهذه الجملةُ الحاليةُ لا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ واوِ الحالِ منها، لأنَّ الربطَ حَصَلَ بالضميرِ، وإن كان الأكثرُ في الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً أن تقترنَ بالواوِ. والبعضُ في الأصل مصدرُ بَعَضَ الشيءَ يَبْعَضُه إذا قطعه فأُطْلِقَ على القطعةِ من الناسِ لأنها قطعةٌ منه، وهو يقابِلُ» كُلاًّ «، وحكمُهُ حكمُه في لُزومِ الإِضافةِ معنىً وأنه مَعرفةٌ بنيَّةِ الإِضافةِ فلا تَدْخُل عليه أل وينتصِبُ عنه الحال. تقول:» مررت ببعضٍ جالساً «وله لفظٌ ومعنًى، وقد تقدَّم تقريرُ جميعِ ذلك في لفظِ» كُل «. قوله: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} هذه الجملةُ يجوز فيها الوجهان المتقدِّمان في الجملةِ قبلَها من الحاليةِ والاستئنافِ، كأنه قيل: اهبِطوا مُتَعادِينَ ومستحقِّينَ الاستقرارَ. و «لكم» خبرٌ مقدمٌ. و {فِي الأرض} متعلقٌ بما تعَلَّقَ

به الخبرُ من الاستقرار. وتعلُّقُه به على وجهين أحدُهما: أنه حالٌ، والثاني: أنه غيرُ حالٍ بل كسائرِ الظروفِ، ويجوزُ أن يكونَ {فِي الأرض} هو الخبرَ، و «لكم» متعلقٌ بما تَعَلَّقَ به هو من الاستقرارِ، لكن على أنه غيرُ حالٍ، لئلا يلزَمَ تقديمُ الحالِ على عامِلِها المعنوي، على أنّ بعضَ النَّحويين أجاز ذلك إذا كانتِ الحالُ نفسُها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ كهذه الآية، فيكونَ في «لكم» أيضاً الوجهان، قال بعضُهم: «ولا يجوز أن يكونَ {فِي الأرض} متعلقاً بمستقرّ سواءً جُعل مكاناً أو مصدراً، أمّا كونُهُ مكاناً فلأنَّ أسماءَ الأمكنةِ لا تعملُ، وأمَّا كونُه مصدراً فإن المصدرَ الموصولَ لا يجوزُ تقديمُ معمولِهِ عليه» . ولِقائلٍ أن يقول: هو متعلِّقٌ به على أنه مصدرٌ، لكنه غيرُ مؤولٍ بحرفٍ مصدري بل بمنزلةِ المصدر في قولِهم: «له ذكاءٌ ذكاءَ الحكماءِ» . وقد اعتذر صاحبُُ هذا القولِ بهذا العُذْرِ نفسِه في موضعٍ آخرَ مثلِ هذا. قوله: {إلى حِينٍ} الظاهرُ أنه متعلقٌ بمتاع، وأنَّ المسألة من بابِ الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من قولِهِ: {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ} يَطْلُبُ قولَه « {إلى حِينٍ} من جهةِ المعنى. وجاء الإِعمالُ هنا على مختارِ البصريين وهو إعمالُ الثاني

وإهمالُ الأولِ فلذلك حُذِفَ منه، والتقديرُ: ولكم في الأرض مستقرٌّ إليه ومتاعٌ إلى حين، ولو جاءَ على إعمالِ الأولِ لأضمَرَ في الثاني، فإن قيل: مِنْ شرطِ الإِعمالِ أن يَصِحَّ تَسَلُّطُ كلٍّ من العامِلَيْنِ على المعمولِ، و» مستقرٌ «لا يَصِحُّ تَسَلُّطُه عليه لِئَلاَّ يلزَمَ منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ والمصدر بتقديرِ الموصول. فالجوابُ: أنَّ المحذورَ في المصدرِ الذي يُرادُ به الحَدَثُ وهذا لَمْ يُرَدْ به حَدَثٌ، فلا يُؤَول بموصولٍ، وأيضاً فإنَّ الظرفَ وشبهَه تَعْمَلُ فيه روائِحُ الفعل حتى الأعلامُ كقوله: 380 - أنا ابنُ مَأوِيَّةَ إذ جَدَّ النُّقُرْ ... و» مستقر «يجوز أن يكونَ اسمَ مكانٍ وأن يكونَ اسم مصدرٍ، مُسْتَفْعَل من القَرار وهو اللُّبْثُ، ولذلك سُمِّيَتِ الأرضُ قَرارَةٌ، قال الشاعر: 381 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَتَرَكْنَ كلَّ قَرارَةٍ كالدِّرْهَمِ ويقال: استقرَّ وقرَّ بمعنًى. والمَتاعُ: البُلْغَةُ مأخوذةٌ من مَتَع النهار أي: ارتفع. واختار أبو البقاء أن يكونَ» إلى حين «في محلِّ رفعٍ صفةً لمَتاع. والحينُ: القطعةُ من الزمان طويلةً كانت أو قصيرةً، وهذا هو المشهورُ،

وقيل: الوقتُ البعيدُ. ويُقال: عامَلَتْهُ محايَنَةً، وَأَحْيَنْتُ بالمكانِ أقمت به حِيناً، وحانَ حينُ كذا: قَرُبَ، قالت بثينة: 382 - وإنَّ سُلُوِّي عن جميلٍ لَساعةٌ ... من الدهرِ ما حانَتْ ولا حانَ حِينُها وقال بعضُهم:» إنه يُزادُ عليه التاءُ فيقال: تحينَ قُمْتَ «وأنشد: 383 - العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ ... والمُطْعِمُون زمانَ أين المُطْعِمُ وليس كذلكَ، وسيأتي تحقيقُ هذا إن شاء الله تعالى.

37

قوله: {فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} : الفارُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلَها، و «تلقَّى» تفعَّل بمعنى المجرد، وله معانٍ أُخَرُ: مطاوعة فَعَّلَ نحو: كسَّرته فتكسَّرَ، والتجنُّب نحو: تجنَّب أي جانَبَ الجَنْبَ، والتكلُّف نحو: تحلَّم، والصيرورةُ نحو: تَأثَّم، والاتخاذُ نحو: تَبَنَّيْتُ الصبيَّ أي: اتخذتُه ابناً، ومواصلةُ العمل في مُهْلَة نحو: تَجَرَّع وتَفَهَّمَ،

وموافقةُ استَفْعَل نحو: تكبَّر، والتوقُّع نحو: تَخَوَّف، والطلبُ نحو: تَنَجَّز حاجَته، والتكثير نحو: تَغَطَّيت بالثياب، والتلبُّس بالمُسَمَّى المشتقِّ منه نحو: تَقَمَّص، أو العملُ فيه نحو: تَسَحَّر، والخَتْلُ نحو: تَغَفَّلْتُه. وزعم بعضُهم أن أصل تلقَّى تلقَّن بالنون فأُبْدِلَتِ النونُ ألفاً، وهذا غَلَطٌ لأن ذلك إنما ورد في المضعَّف نحوَ: قَصَّيْتُ أظفاري وَتَظَنَّيْتُ وأَمْلَيْتُ الكتابَ، في: قَصَصْتُ وتَظَنَّنْتُ وَأَمْلَلْتُ. و {مِن رَّبِّهِ} متعلِّقٌ به، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ مجازاً، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ في الأصلِ صفةً لكلماتٍ فلمَّا قُدِّم انتصَبَ حالاً، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، و «كلماتٍ» مفعول به. وقرأ ابنُ كثير بنصْبِ «آدم» ورفعِ «كلمات» ، وذلك أنَّ مَنْ تلقَّاك فقد تلقَّيْتَه، فتصِحُّ نسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ. وقيل: لمَّا كانَتِ الكلماتُ سبباً في توبته جُعِلَتْ فاعِلَةً. ولم يؤنَّثِ الفعلُ على هذه القراءةِ وإنْ كان الفاعلُ مؤنثاً [لأنه غيرُ حقيقي، وللفصلِ أيضاً، وهذا سبيلُ كلِّ فعلٍ فُصِلَ بينه وبين فاعِله المؤنَّثِ بشيءٍ، أو كان الفاعلُ مؤنثاً] مجازياً. قولُه تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} عَطْفٌ على ما قبلَه، ولا بُدَّ من تقديرِ جملةٍ قبلَها أي: فقالَها. والكلماتُ جمع كلمة، وهي اللفظُ الدالُّ على معنًى مفردٍ ويُطْلَقُ على الجمل المفيدةِ مجازاً تسميةً للكلِّ باسمِ الجُزِءِ كقوله تعالى: {

تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ} [آل عمران: 64] ثم فَسَّرها بقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} إلى آخره. وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون: 100] يريدُ قولَه: {رَبِّ ارجعون} إلى آخرِه، وقال لبيد: 384 - ألاَ كلُّ شيءٍ ما خَلاَ اللهَ باطلُ ... وكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ فسمَّاه رسولُ الله ™ كلمةً، فقال: «أصدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ» . والتوبةُ: الرجوعُ، ومعنى وَصْفِ اللهِ تعالى بذلك أنه عبارةٌ عن العطفِ على عبادِه وإنقاذِهم من العذابِ، ووصفُ العبدِ بها ظاهرٌ لأنه يَرْجع عن المعصيةِ إلى الطاعةِ، والتَّوابُ الرحيمُ صفتا مبالغةٍ، ولا يختصَّان بالباري تعالى. قال تعالى: {يُحِبُّ التوابين} [البقرة: 222] ، ولا يُطْلَقُ عليه «تائب» وإن صُرِّحَ بفعلِه مُسْنَداً إليه تعالى، وقُدِّم التوابُ على الرحيم لمناسبةِ «فَتَاب عليه» ولأنه موافقٌ لخَتْم الفواصلِ بالرحيم. وقوله: {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} نظير قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم} [البقرة: 32] . وأدغم أبو عمرو هاء «إنه» في هاء «هو» . واعتُرِض على هذا بأن بين المِثْلَيْنِ ما يمنع [من] الإِدغام وهو الواوُ، وأُجيب بأنَّ الواوَ صلةٌ زائدةٌ لا يُعْتَدُّ بها بدليلِ سقوطِها في قوله:

385 - لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّه صوتُ حادٍ ... إذا طَلَبَ الوسِيقَةَ أو زَمِيرُ وقوله: 386 - أو مُعْبَرُ الظهرِ يُنْبي عن وَلِيَّتِه ... ما حَجَّ في الدنيا ولا اعْتَمَرا والمشهورُ قراءةُ: «إنَّه» بكسر إنَّ، وقُرئ بفتحِها على تقديرِ لامِ العلة.

38

قولُه: {قُلْنَا اهبطوا} إنما كرَّر قولِه: «قُلْنا» لأنَّ الهبوطَيْنِ مختلفان باعتبارِ متعلَّقَيْهما، فالهبوطُ الأول [عَلَّق به العداوةَ، والثاني علَّقَ به إتيانَ الهدى. وقيل: «لأنَّ الهبوطَ الأول] من الجنةِ إلى السماءِ، والثاني من السماءِ إلى الأرض» . واستَعْبَدَه بعضُهم لأجلِ قوله: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} . وقال ابن عطيةِ: «وحكى النقاش أن الهبوطَ الثاني إنما هو من الجنة إلى السماءِ، والأولى في ترتيبِ الآيةِ إنما هو إلى الأرضِ وهو الأخيرُ في الوقوعِ» . انتهى، وقيل: كُرِّر على سبيلِ التأكيدِ نحو قولِك: قُمْ قُمْ، والضمير في «منها» يَعُودُ على الجنةِ أو السماء.

قوله: «جميعاً» حالٌ من فاعلِ «اهبِطوا» أي: مجتمِعِين: إمَّا في زمانٍ واحدٍ أو في أزمنةٍ متفرقة لأنَّ المرادَ الاشتراكُ في أصلِ الفعل، وهذا [هو] الفرقُ بين: جاؤوا جميعاً، وجاؤوا معاً، فإن قولَك «معاً» يستلزمُ مجيئهم جميعاً في زمنٍ واحدٍ لِما دَلَّتْ عليه «مع» مِن الاصطحاب، بخِلاف «جميعاً» فإنها لا تفيدُ إلا أنه لم يتخلَّفْ أحدٌ منهمْ عن المجيءِ، من غيرِ تعرُّضٍ لاتحادِ الزمانِ. وقد جَرَتْ هذه المسألةُ بين ثعلب وغيره، فلم يعرِفْها ذاك الرجلُ فأفادها له ثعلب. و «جميع» في الأصل من ألفاظِ التوكيد، نحو: «كُل» ، وبعضُهم عَدَّها معها. وقال ابنُ عطية: «وجميعاً حالٌ من الضميرِ في» اهبِطوا «وليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعل، ولكنه عِوَضٌ منهما دالٌّ عليهما، كأنه قال:» هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً «كأنه يعني أنَّ الحالَ في الحقيقةِ محذوفٌ، وأنَّ» جميعاً «تأكيدٌ له، إلا أنَّ تقديرَه بالمصدرِ يَنْفي جَعْلَه حالاً إلا بتأويلٍ لا حاجةَ إليه. وقال بعضُهُم: التقديرُ: قُلْنا اهبِطوا مجتمِعِين فهبطوا جميعاً، فَحُذِفَ الحالُ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه، وحُذِفَ العاملُ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه، وهذا تكلُّفٌ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ. قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِع} . . . الآية. الفاءُ مُرَتَّبَةٌ معقِّبةٌ. و» إمَّا «أصلُها: إن الشرطيةُ زِيدَتْ عليها» ما «تأكيداً، و» يأتينَّكم «في محلِّ

جزمٍ بالشرطِ، لأنه بُني لاتصالِه بنونِ التوكيدِ. وقيل: بل هو مُعْرَبٌ مطلقاً. وقيل: مبنيٌّ مطلقاً. والصحيح: التفصيلُ: إنْ باشَرَتْه كهذه الآيةِ بُني، وإلاَّ أُعْرِبَ، نحو: هل يقومانِّ؟ وبُني على الفتحِ طلباً للخفَّة، وقيل: بل بُني على السكونِ وحُرِّكَ بالفتحِ لالتقاءِ الساكنينِ. وذهب الزجاج والمبردُ إلى أن الفعلَ الواقعَ بعد إن الشرطية المؤكَّدة ب» ما «يجب تأكيدُه بالنون، قالا: ولذلك لم يَأْتِ التنزيلُ إلا عليه. وذهب سيبويه إلى أنه جائزٌ لا واجبٌ، لكثرةِ ما جاءَ به منه في الشعر غيرَ مؤكَّد، فكثرةُ مجيئِه غيرَ مؤكَّدٍ يدلُّ على عَدَمِ الوجوبِ، فمِنْ ذلك قولُه: 387 - فإمَّا تَرَيْني كابنةِ الرَّمْلِ ضاحياً ... على رِقَّةٍ أَحْفَى ولا أَتَنَعَّلُ وقولُ الآخر: 388 - يا صاحِ إمَّا تَجِدْني غيرَ ذي جِدَةٍ ... فما التَخلِّي عن الخُلاَّنِ من شِيَمي وقولُ الآخر: 38 - 9- زَعَمَتْ تُماضِرُ أنَّني إمَّا أَمُتْ ... يَسْدُدْ أُبَيْنُوها الأَصاغِرُ خُلَّتي

وقول الآخر: 39 - 0- فإمَّا تَرَيْني ولِي لِمَّةٌ ... فإنَّ الحوادثَ أودى بِها وقولُ الآخر: 39 - 1- فإمَّا تَرَيْني لا أُغَمِّضُ ساعةً ... مِن الدهرِ إلا أَنْ أَكِبَّ فَأَنْعَسَا وقول الآخر: 392 - إمَّا تَرَيِْني اليومَ أمَّ حَمْزِ ... قارَبْتُ بينَ عَنَقي وجَمْزِي وقال المهدوي: «إما» هي إنْ التي للشرطِ زِيدَتْ عليها «ما» ليصِحَّ دخولُ النون للتوكيدِ في الفعلِ، ولو سَقَطَتْ «ما» لم تَدْخُلِ النونُ، ف «ما» تؤكِّدُ أولَ الكلامِ، والنونُ تؤكِّدُ آخرَه «وتبعه ابنُ عطية. وقال بعضهم:» هذا الذي ذَهَبا إليه من أنَّ النونَ لازِمَةٌ لفعلِ الشرطِ إذا وُصِلَتْ «إنْ» ب «ما» هو مذهبُ المبردِ والزجاجِ «. انتهى. وليس في كلامِهما

ما يدُلُّ على لزومِ النونِ كما ترى، غايةُ ما فيه أنَّهما اشترطا في صِحَّةِ تأكيدِه بالنونِ زيادةَ» ما «على» إنْ «، أمَّا كونُ التأكيدِ لازماً أو غيرَ لازم فلم يتعرَّضا له، وقد جاء تأكيدُ الشرطِ بغيرِ» إنْ «كقوله: 393 - مَنْ نَثْقَفَنْ منهم فليس بآئِبِ ... أبداً وقتلُ بني قُتَيْبَةَ شافي و» مني «متعلق ب» يَأْتِيَنَّ «، وهي لابتداءِ الغاية مَجازاً، ويجوز أن تكون في محلِّ حالٍ من» هُدَىً «لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها، وهو نظيرُ ما تَقَدَّم في قوله تعالى: {مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] ، و» هُدى «فاعلٌ، والفاءُ مع ما بعدها مِنْ قولِه: {فَمَن تَبِعَ} جوابُ الشرطِ الأولِ، والفاءُ في قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ} جوابُ الثاني، وقد وقع الشرطُ [الثاني وجوابُه جوابَ الأول، ونُقِل عن الكسائي أن قوله: {فَلاَ خَوْفٌ} جوابُ الشرطين] معاً. قال ابن عطية بعد نَقْلِه عن الكسائي:» هكذا حُكِي وفيه نَظَرٌ، ولا يتوجَّه أن يُخالَفَ سيبويه هنا، وإنما الخلافُ في نحوِ قولِه: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ} [الواقعة: 88-89] فيقولُ سيبويهِ: جوابُ أحدِ الشرطينِ محذوفٌ لدلالةِ قوله «فَرَوْحٌ» عليه. ويقول الكوفيون «فَرَوْح» جوابُ الشرطين. وأمَّا في هذه الآية فالمعنى يمنع أَنْ يكونَ «فلا خوف» جواباً للشرطين «. وقيل: جوابُ الشرطِ الأول محذوفٌ

تقديرُه: فإمَّا يأتِيَنَّكم مني هدىً فاتَّبعوه، وقولُه: {فَمَنْ تَبِع} جملةٌ مستقلةٌ. وهو بعيدٌ أيضاً. و» مَنْ «يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، ويجوز أَنْ تكونَ موصولةً، ودَخَلَت الفاءُ في خبرِها تشبيهاً لها بالشرطِ، ولا حاجةَ إلى هذا. فإن كانتْ شرطيةً كان «تبع» في محل جزم، وكذا: «فلا خَوْفٌ» لكونِهما شرطاً وجزاءً، وإنْ كانت موصولةً فلا محلَّ ل «تَبِع» . وإذا قيل بأنَّها شرطيةٌ فهي مبتدأٌ أيضاً، ولكنْ في خبرها خلافٌ مشهور: الأصحُّ أنه فعلُ الشرطِ، بدليل أنه يَلزُم عودُ ضميرٍ مِنْ فعلِ الشرط على اسمِ الشرط، ولا يلزَمُ ذلك في الجوابِ، تقول: مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً، [فليس في «أُكرم زيداً» ضميرٌ يعودُ على «مَنْ» ولو كان خبراً للزِمَ فيه ضميرٌ] ، ولو قلتَ: «مَنْ يَقُمْ زيداً أُكْرِمْه» وأنت تعيدُ الهاءَ على «مَنْ» لم يَجُزْ لخلوِّ فعلِ الشرطِ من الضمير. وقيل: الخبرُ الجوابُُ، ويلزُم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائدٍ على اسمِ الشرطِ، فلا يَجُوزُ عندهم: «مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً» ولكنه جائز، هذا ما أورده أبو البقاء. وسيأتي تحقيقُ القول في لزوم عَوْدِ ضميرٍِ مِنَ الجوابِ إلى اسمِ الشرطِ عند قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] . وقيل: مجموعُ الشرطِ والجزاءِ هو الخبرُ لأنَّ الفائدةَ إنما تَحْصَلُ منهما. وقيل: ما كان فيه ضميرٌ عائدٌ على المبتدأِ فهو الخبرُ.

والمشهورُ: «هُدَايَ» ، وقُرئ: هُدَيَّ، بقلبِ الألفِ ياءً، وإدغامها في ياء المتكلم، وهي لغة هُذَيْل، يقولون في عَصاي: عَصَيَّ، وقال شاعرُهم يرثي بَنيه: 394 - سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ كأنهم لمَّا لم يَصِلوا إلى ما تستحقُّه ياءُ المتكلمِ مِنْ كسرِ ما قبلَها لكونِه ألفاً أتَوا بما يُجَانِسُ الكسرةَ، فقلبوا الألفَ ياءً، وهذه لغةٌ مطردةٌ عندهم، إلا أَنْ تكونَ الألفُ للتثنية فإنهم يُثْبِتُونها نحو: جاء مسلمايَ وغلامايَ. قولُه: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ جواباً للشرطِ، فيكونَ في محلِّ جزم، وأن يكونَ خبراً ل «مَنْ» إذا قيل بأنها موصولةٌ، وهو أَوْلَى لمقابلتِه بالموصولِ في قولِه: {والذين كَفَرواْ} فيكونَ في محل رفع، و «لا» يجوز أَنْ تكونَ عاملةً عملَ ليس، فيكونَ «خوفٌ» اسمها، و «عليهم» في محلِّ نصبٍ خبرَها، ويجوز أن تكونَ غيرَ عاملةٍ فيكونَ «خوفٌ» مبتدأ، و «عليهم» في محل رفع خبرَه. وهذا أَوْلَى مِمَّا قَبْله لوجهين،

أحدُهما: أنَّ عملَها عملَ ليس قليلٌ ولم يَثْبُتْ إلا بشيءٍ محتملٍ وهو قوله: 395 - تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقياً ... ولا وَزرٌ ممَّا قضى اللهُ واقِيَا والثاني: أنَّ الجملة التي بعدها وهي: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} تُعَيِّنُ أن تكونَ «لا» فيها غيرَ عاملةٍ لأنها لا تعملُ في المعارفِ، فَجَعْلُها غيرَ عاملةٍ فيه مشاكلةٌ لِما بعدها، وقد وَهِمَ بعضُهم فَجَعَلها عاملةً في المعرفة مستدلاًّ بقوله: 396 - وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً ... سِواها في حُبِّها مُتَراخِيا ف «أنا» اسمُها و «باغياً» خبرُها. قيل: ولا حُجَّةَ فيه لأنَّ «باغياً» حال عاملُها محذوفٌ هو الخبرُ في الحقيقة تقديره: ولا أنا أرى باغِياً، أو يكونُ التقديرُ: ولا أُرَى باغيا، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ. وقُرِئَ: «فلا خَوْفُ» بالرفعِ مِنْ غيرِ تنوين، والأحسنُ فيه أَنْ تكونَ الإِضافةُ مقدرةً أي: خوفُ شيءٍ، وقيلَ: لأنه على نيةِ الألفِ واللامِ، وقيل: حَذَفَ التنوينَ تخفيفاً. وقرئ: «فلا خوفَ» مبنياً على الفتح، لأنها

لا التبرئة وهي أبلغُ في النفي، ولكن الناسَ رجَّحوا قراءةَ الرفع، قال أبو البقاء: «لوجهَيْنِ، أحدُهما: أنه عُطِف عليه ما لا يجوزُ فيه إلا الرفعُ وهو قولُه:» ولا هم «لأنه معرفةٌ، و» لا «لا تعملُ في المعارِفِ، فالأَوْلى أن يُجْعَلَ المعطوفُ عليه كذلك لتتشاكلَ الجملتان» ، ثم نظَّره بقولِهم: «قام زيد وعمراً كلَّمْتُه» يعني في ترجيحِ النصب في جملة الاشتغالِ للتشاكل. ثم قال: «والوجهُ الثاني من جهة المعنى، وذلك أنَّ البناءَ يَدُلُّ على نفي الخوفِ عنهم بالكُلِّيَّة، وليس المراد ذلك، بل المرادُ نفيُه عنهم في الآخرةِ. فإنْ قيل: لِمَ لا يكونُ وجهُ الرفعِ أنَّ هذا الكلامَ مذكورٌ في جزاءِ مَنِ اتَّبع الهدى، ولا يَليق أن يُنْفَى عنهم الخوفُ اليسيرُ ويُتَوَهَّمَ ثَبوتُ الخوفِ الكثير؟ قيل: الرفعُ يجوزُ أَنْ يُضْمَرَ معه نفيُ الكثيرِ، تقديرُه: لا خوفٌ كثيرٌ عليهم، فيُتَوَهَّمَ ثبوتَ القليلِ، وهو عكسُ ما قُدِّر في السؤال فبانَ أنَّ الوجهَ في الرفعِ ما ذكرنا» . انتهى. قولُه تعالى: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} تقدَّم أنه جملةٌ منفيةٌ وأنَّ الصحيحَ أنَّها غيرُ عاملةٍ، و «يَحْزنون» في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ، وعلى هذا القولِ الضعيفِ يكون في محل نصب. والخوفُ: الذُّعْرُ والفَزَع، يقال: خافَ يخاف فهو خائِفٌ والأصل: خَوِف بزون عَلِمَ، ويتعدَّى بالهمزةِ والتضعيف. قال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ} [الإسراء: 60] ، ولا يكونُ إلا في الأمر المستقبل. والحزنُ ضدُّ السرورِ، وهو مأخوذٌ من

الحَزْن، وهو ما غَلُظَ من الأرض فكأنه ما غَلُظ من الهمِّ، ولا يكون إلا في الأمرِ الماضي، يقال: حَزِن يَحْزَن حُزْناً وحَزَناً. ويتعدَّى بالهمزةِ نحو: أَحْزَنْتُه، وحَزَّنْتُه، بمعناه، فيكون فَعَّل وأَفْعَلَ بمعنى. وقيل: أَحْزَنَه حَصَّل له حُزْناً. وقيل: الفتحةُ مُعَدِّيةٌ للفعلِ نحو: شَتِرَتْ عينُه وشَتَرها الله، وهذا على قولِ مَنْ يَرَى أنَّ الحركةَ تُعَدِّي الفعلَ. وقد قُرِئ باللغتين: «حَزَنَه وأَحْزَنه» وسيأتي تحقيقهما.

39

قوله: {والذين كَفَرواْ، إلى قوله: خَالِدُونَ} : «الذين» مبتدأ وما بعده صلةٌ وعائدٌ، و «بآياتنا» متعلقٌ بكذَّبوا. ويجوز أن تكونَ الآيةُ من بابِ الإِعمال، لأنَّ «كفروا» يَطْلُبها، ويكونُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول، والتقديرُ: كفروا بنا وكَذَّبوا بآياتِنا. و «أولئك» مبتدأٌ ثانٍ و «أصحابُ» خبرُه، والجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوزُ أن يكونَ «أولئك» بدلاً من الموصول أو عطفَ بيان له، و «أصحابُ» خبرَ المبتدأ الموصول. وقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ للتصريحِ بذلك في مواضعَ. قال تعالى: {أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ} [التغابن: 10] . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من «النار» ، قال: «لأنَّ فيها ضميراً يعودُ عليها، ويكونُ العامل فيها معنى الإِضافةِ أو اللام المقدَّرَةَ» . انتهى. وقد عُرِف ما في ذلك.

ويجوز أن تكونَ في محلِّ رفع خبراً لأولئك، وأيضاً فيكونُ قد أُخْبِرَ عنه بخبرين، أحدُهما مفردٌ وهو «أصحابُ» . جملةٌ، وقد عُرَف ما فيه من الخلافِ. و «فيها» متعلقٌ ب «خالدون» . قالوا: وحُذِف من الكلام الأول ما أُثْبِتَ في الثاني، ومن الثاني ما أُثْبِتَ في الأول، والتقدير: فَمَنْ تبع هُدايَ فلا خوفٌ ولا حُزْنٌ يَلْحَقُه وهو صاحبُ الجنةِ، ومَنْ كَفَر وكَذَّب لَحِقَه الحزنُ والخوفُ وهو صاحبُ النار لأنَّ التقسيمَ يقتضي ذلك، ونظَّروه بقولِ الشاعر: 397 - وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ فَتْرَةٌ ... كما انتفَضَ العصفورُ بلَّلَه القَطْرُ والآيَةُ [لغةً] : العلامةُ، قال النابغةُ الذبياني: 398 - تَوَهَمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها ... لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابِعُ وسُمِّيَتْ آيةُ القرآنِ [آيةً] لأنها علامةٌ لانفصالِ ما قبلَها عمَّا بعدَها. وقيل: سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَجْمَعُ حروفاً من القرآن فيكون مِنْ قولِهم: «خرج بنو فلان بآيتِهم» أي: بجماعتهم، قال الشاعر:

399 - خَرَجْنا مِن النَّقْبَيْنِ لا حَيَّ مِثْلُنا ... بآياتِنا نُزْجي اللِّقاحَ المَطافِلاَ واختلف النحويون في وَزْنِها: فمذهب سيبويه والخليلِ أنها فَعَلَة، والأصل: أَيَية بفتح العين، تحرَّكَتِ الياء وانفتح ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً، وهذا شاذٌ، لأنه إذا اجتمع حرفا عِلة أُعِلَّ الأخيرُ، لأنه مَحَلُّ التغييرِ نحو: هوى وحوى، ومثلُها في الشذوذِ: غاية وطاية وراية. ومذهبُ الكسائي أن وَزنَها آيِيَة على وزن فاعِلة، فكانَ القياسُ أن يُدْغَمَ فيقال: آيَّة كدابَّة إلا أنه تُرِكَ ذلك تخفيفاً، فحذَفُوا عينَها كما خفَّفوا كَيْنونة والأصل: كيَّنونة بتشديد الياء، وضَعَّفُوا هذا بأنَّ بناءَ كيَّنونة أثقلُ فناسَبَ التخفيفُ بخلافِ هذه. ومذهبُ الفرَّاء أنَّها فَعْلةٌ بسكونِ العين، واختاره أبو البقاء قال: «لأنها من تَأَيَّا القوم أي اجتمعوا، وقالوا في الجمع: آياء، فَظَهَرَتِ الياءُ [الأولى] ، والهمزةُ الأخيرةُ بدلٌ من ياء، ووزنُه أَفْعال، والألفُ الثانيةُ بدلٌ من همزةٍ هي فاءُ الكلمة، ولو كانَتْ عينُها واواً لقالوا في الجمع، آواء، ثم إنهم قَلَبوا الياءَ الساكنةَ ألفاً على غيرِ قياس» انتهى. يعني أنَّ حرفَ العلَّةِ لا يُقْلَبُ حتى يَتَحَرَّكَ وينفتحَ ما قبله.

وذهبَ بعضُ الكوفيين إلى أن وزنها أَيِيَة، بكسر العين مثل: نَبِقَة فَأُعِلَّ، وهو في الشذوذِ كمذهبِ سيبويه والخليل. وقيل وزنُها: فَعُلَة بضم العين، وقيل أصلُها: أياة بإعلال الثاني، فَقُلبت بأَنْ قُدِّمَتِ اللامُ وأُخِّرَتِ العينُ وهو ضعيفٌ. فهذه ستةُ مذاهبَ لا يَسْلَمُ كلُّ واحدٍ منها من شذوذٍ.

40

قولُه تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} . . «بني» منادى وعلامةُ نصبِه الياءُ لأنه جمعُ مذكرٍ سالمٌ وحُذِفَتْ نونُه للإِضافةِ، وهو شبيهٌ بجَمْعِ التكسيرِ لتغيُّرِ مفرِده، ولذلك عامَله العربُ ببعضِ معاملةِ التكسير فَأَلْحقوا في فِعْلِه المسندِ إليه تاءَ التأنيثِ نحو: قالت بنو فلان، وقال الشاعرَ: 400 - قالَتْ بنو عامِرٍ خالُوا بني أَسَدٍ ... يا بؤسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ وأعْربوه بالحركاتِ أيضاً إلحاقاً [له] به، قال الشاعر: 401 - وكان لنا أبو حسنٍ عليٌّ ... أباً بَرًّا ونحنَ له بنينُ برفعِ النونِ، وهل لامُه ياءٌ لأنه مشتقٌ من البناء لأن الابنَ من فَرْعِ الأبِ، ومبنيٌّ عليه، أو واوٌ لقولهم: البُنُوَّة كالأُبُوَّة والأُخُوَّة؟ قولان. الصحيحُ الأولُ، وأمّا البُنُوّة فلا دلالَةَ فيها لأنهم قد قالوا: الفُتُوَّة، ولا خلافَ أنها من ذوات الياء، إلا أنَّ الأخفشَ رَجَّح الثانيَ بأنَّ حَذْفَ الواو أكثرُ. واختُلِفَ في

وزنِه فقيل: بَنَي بفتح العين وقيل بَنْي بسكونها، وقد تقدم أنه أحد الأسماء العشرةِ التي سُكِّنَتْ فاؤها وعُوِّضَ من لامِها همزةُ الوصلِ. وإسرائيل: خَفْضٌ بالإِضافةِ، ولا يَنْصَرِفُ للعلَمِيَّة والعُجْمة، وهو مركبٌ تركيبَ الإِضافةِ مثل: عبد الله، فإنَّ «إسْرا» هو العبدُ بلغتِهم، و «إيل» هو اللهُ تعالى. وقيل: «إسْرا» مشتقٌ من الأسْرِ وهو القوة، فكأن معناه: الذي قَوَّاه الله. وقيل لأنه أُسْرِي بالليلِ مُهاجراً إلى اللهِ تعالى. وقيل: لأنه أَسَرَ جِنِّيَّاً كان يُطْفِئُ سِراج بيتِ المَقْدِس. قال بعضُهُم: فعلى هذا يكونُ الاسمِ عربياً وبعضُه أعجمياً، وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ بلغاتٍ كثيرةٍ أفصَحُها لغةُ القرآنِ وهي قراءةُ الجمهور. وقرأ أبو جعفر والأعمش، «إسْرايِل» بياءٍ بعد الألف من غيرِ همزةٍ، ورُوِي عن ورش: إسْرائِل بهمزةٍ بعد الألف دونَ ياءٍ، واسْرَأَلَ بهمزةٍ مفتوحةٍ بين الراء واللام [واسْرَئِل بهمزة مكسورةٍ بين الراء واللام] وإسْرال بألفٍ محضة بين الراءِ واللامِ، قال الشاعر: 402 - لا أرى مَنْ يُعْينُني في حياتي ... غيرَ نفسي إلا بني إسْرالِ

وتُرْوى قراءةً عن نافع. و «إسرائِين» أَبْدلوا من اللامِ نوناً كأُصَيْلان في أُصَيْلال، قال: 403 - قالَتْ وكنتُ رجلاً فَطِينا ... هذا وربِّ البيتِ إسرائينا ويُجْمَع على «أَساريل» . وأجاز الكوفيون: أَسارِلَة، وأسارِل، كأنهم يُجيزون التعويضَ وعدمه، نحو: فَرازِنة وفرازين. قال الصفَّار: «لا نعلم أحداً يُجيز حذفَ الهمزةِ من أوَّلِه» . قوله: {اذكروا نِعْمَتِيَ} اذكروا فعلٌ وفاعلٌ، ونعمتي مفعولٌ، وقال ابن الأنباري: «لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ تقديرُه: شُكْرَ نِعْمتي. والذِّكر والذُّكر بكسرِ الذال وضَمِّها بمعنىً واحدٍ، ويكونان باللسانِ وبالجَنانِ. وقال الكسائي:» هو بالكسر لِلِّسان وبالضمّ للقلب «فضدُّ المكسور: الصمتُ، وضدُّ المضمومِ: النِّسْيان، وفي الجملةِ فالذكرُ الذي محلُّه القلبُ ضدُّه النسيانُ، والذي محلُّه اللسانُ ضِدُّه الصمتُ، سواءً قيل: إنهما بمعنىً واحدٍ أم لا. والنِّعْمَةُ: اسمٌ لِما يُنْعَمُ به وهي شبيهةٌ بفِعْلٍ بمعنى مَفْعول نحو: ذِبْح ورِعْي، والمرادُ بها الجمعُ لأنها اسمُ جنسٍ، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ

نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] . و {التي أَنْعَمْتُ} صفتُها والعائدُ محذوفٌ. فإنْ قيل: مِنْ شرطِ حَذْفِ عائدِ الموصولِ إذا كان مجروراً أن يُجَرَّ الموصولُ بمثلِ ذلك الحرفِ وأَنْ يَتَّحِدَ متعلَّقُهما، وهنَا قد فُقِد الشرطان، فإنَّ الأصلَ: التي أنعمتُ بها، فالجوابُ أنه إنما حُذِف بعد أَنْ صار منصوباً بحَذْفِ حَرْفِ الجرِّ اتساعاً فبقي: أنعمتُها، وهو نظيرُ: {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] في أحدِ الأوجه، وسيأتي تحقيقُه إنْ شاء الله تعالى. و «عليكُمْ» متعلِّقٌ به، وأتى ب «على» دلالةً على شمولِ النعمةِ لهم. قوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي} هذه جملةٌ أمريةٌ عطْفٌ على الأمريَّةِ قبلَها، ويقال: أَوْفَى وَوَفَى وَوَفَّى مشدَّداً ومخففاً، ثلاثُ لغاتٍ بمعنىً، قال الشاعر: 404 - أمَّا ابنُ طَوْقٍ فقد أَوْفَى بذِمَّتِه ... كما وَفَى بقِلاصِ النَّجْمِ حادِيها فَجَمَع بين اللغتين. ويقال: أَوْفَيْتُ وفَيْتُ بالعهدِ وأَوْفَيت الكيلَ لا غيرُ. وعن بعضِهم أنَّ اللغاتِ الثلاثَ واردةٌ في القرآن، أمَّا «أَوْفى»

فكهذه الآية، وأمَّا «وفَّى» بالتشديد فكقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] ، وأمَّا «وَفَى» بالتخفيف فلِم يُصَرَّح به، وإنما أُخِذَ مِنْ قوله تعالى: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} [التوبة: 111] ، وذلك أنَّ أَفْعَلَ التفضيلَ لا يُبْنَى إلا من الثلاثي كالتعجُّب هذا هو المشهورُ، وإنْ كانَ في المسألة كلامٌ كثيرٌ، ويُحْكى أن المستنبِطَ لذلك أبو القاسم الشاطبي، ويجيء «أَوْفَى» بمعنى ارتفع، قال: 405 - رُبَّمَا أَوْفَيْتُ في عَلَمٍ ... تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ و «بعهدي» متعلِّقٌ ب «أَوْفُوا» والعَهْدُ مصدرٌ، ويُحتمل إضافتُه للفاعل أو المفعول. والمعنى: بما عَاهَدْتُكم عليه من قَبول الطاعة، ونحوُه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني آدَمَ} [يس: 60] أو بما عاهَدْتموني عليه، ونحوُه: {وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله} [الفتح: 10] ، {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] . قوله: «أُوْفِ» مجزومٌ على جوابِ الأمر، وهل الجازمُ الجملةُ الطلبيةُ

نفسُها لِما تضمَّنَتْه مِنْ معنى الشرط، أو حرفُ شرطٍ مقَدَّرٌ تقديرُه: «إنْ تُوفوا بعَهْدي أُوفِ» قولان. وهكذا كلُّ ما جُزِم في جوابِ طلبٍ يَجْري [فيه] هذا الخلاف. و «بعَهْدِكم» متعلِّقٌ به، وهو محتمِلٌ للإِضافةِ إلى الفاعلِ أو المفعولِ كما تقدَّم. قولُه: {وَإِيَّايَ فارهبون} «إيَّاي» ضميرٌ منصوبٌ منفصلٌ، وقد عُرِفَ ما فيه من الفاتحة. ونصبُه بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرهُ الظاهرُ بعدَه، والتقديرُ: «وإياي ارهبوا فارهبون» وإنما قَدَّرْتُه متأخراً عنه، لأنَّ تقديرَه متقدِّماً عليه لا يَحْسُنُ لانفصالِه، وإن كان بعضُهم قَدَّره كذلك. والفاءُ في «فارهبون» فيها قولان للنحويين، أحدُهما: أنها جوابُ أمر مقدَّر تقديرُه: تَنَبَّهوا فارهبون، وهو نظيرُ قولِهم: «زيداً فاضرب» أي: تنبَّهْ فاضربْ زيداً، ثم حُذِف: تَنَبَّه فصار: فاضْرِب زيداً، ثم قُدِّم المفعولُ إصلاحاً للَّفْظِ، لئلا تقعَ الفاءُ صدراً، وإنما دَخَلَتِ الفاءُ لتربِطَ هاتين الجملتين. والقولُ الثاني في هذه الفاءِ: أنها زائدةٌ. وقال الشيخ بعد أن حكى القولَ الأولَ: «فتحتملُ الآيةُ وجهين أحدُهما: أن يكونَ التقديرُ: وإياي ارهبوا تنبَّهُوا فارهبون، فتكونُ الفاء دَخَلَتْ في جواب الأمر وليست مؤخرةً من تقديم. والوجهُ الثاني أن يكونَ التقديرُ: وتنبَّهوا فارهبون، ثم قُدِّم المفعولُ فانفصلَ وأُتِي بالفاء حين قُدِّم المفعول،

وفعلُ الأمر الذي هو تنبَّهوا محذوفٌ، فالتقى بحذفِه الواوُ والفاءُ، يعني فصارَ التقديرُ: وفإياي ارهَبُوا، فقُدِّم المفعولُ على الفاءِ إصلاحاً للفظ، فصارَ: وإيَّاي فارهبوا، ثم أُعيد المفعولُ على سبيل ِ التأكيد ولتكميل الفاصِلةِ، وعلى هذا» فإيَّاي «منصوبٌ بما بَعده لا بفعلٍ محذوفٍ، ولا يَبْعُد تأكيد المنفصل بالمتصل كما لا يمتنعُ تأكيدُ المتصلِ بالمنفصلِ، وفيه نظرٌ. والرَّهَبُ والرَّهْبُ والرَّهْبةُ: الخوفُ، مأخوذٌ من الرَّهابة وهي عَظْْمٌ في الصدر يؤثِّر فيه الخوف.

41

قوله تعالى: {بِمَآ أَنزَلْتُ} . . «ما» يجوز أن تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: الذي أَنْزَلْتُه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ أي بالمنزَّلِ. و «مصدقاً» نصبٌ على الحالِ، وصاحبُها العائدُ المحذوفُ. وقيل: صاحبُها «ما» والعاملُ فيها «آمنوا» وأجازَ بعضُهم أن تكونَ «ما» مصدريةً من غير جَعْلِه المصدرَ واقعاً موقعَ مفعولٍ به، وجَعَل «لِما معكم» من تمامه، أي: بإنزالي لِما معكم، وجَعَل «مُصَدِّقاً»

حالاً من «ما» المجرورةِ باللامِ قُدِّمَتْ عليها وإن كان صاحبُها مجروراً، لأنَّ الصحيحَ جوازُ تقديمِ حالِ المجرورِ [بحرفِ الجر] عليه كقولِه: 406 - فإنْ تَكُ أَذْوادٌ أُصِبْنَ ونِسْوَةٌ ... فَلَنْ يَذْهبوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبالِ «فَرْغا» حالٌ من «بقتل» ، وأيضاً فهذه اللامُ زائدةٌ فهي في حكم المُطَّرح، و «مصدقاً» حالٌ مؤكدة، لأنه لا تكونُ إلا كذلك. والظاهرُ أنَّ «ما» بمعنى الذي، وأنَّ «مصدقاً» حالٌ مِنْ عائدِ الموصولِ، وأنَّ اللامَ في «لِما» مقويةٌ لتعدية «مصَدِّقاً» ل «ما» الموصولةِ بالظرف. قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} «أولَ» خبرُ «كان» قبلَه، وفيه أربعة أقوال، أحدُها وهو مذهبُ سيبويهِ أنه أَفْعَل، وأنَّ فاءَه وعينَه واوٌ، وتأنيثَه أُوْلى، وأصلُها: وُوْلى، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً وجوباً، وليست مثلَ «وُوْرِيَ» في عَدَمِ قَلْبها لسكونِ الواوِ بعدَها، لأنَّ واوَ «أُولَى» تَحَرَّكت في الجمعِ في قولهم «أُوَل» ، فحُمِلَ المفردُ على الجمعِ في ذلك. ولم يَتَصَرَّفْ من «أوَّل» فِعْلٌ لاستثقاله. وقيل: هو مِنْ وَأَل إذا نجا، ففاؤُه واوٌ وعينُه همزةٌ، وأصلُه أَوْ أَل، فَخُفِّفَت بأَنْ قُلِبَتِ الهمزةُ واواً، وأُدْغِم فيها الواوُ فصار: أوَّل، وهذا ليسَ بقياس تخفيفِه، بل قياسُه أن تلقى حركةُ الهمزةِ على الواو الساكنة

وتُحْذَفُ الهمزةُ، ولكنهم شَبَّهوه بخَطِيَّة وبرِيَّة، وهو ضعيفٌ، والجمع: أَوائل وأَوالي أيضاً على القلب. وقيل: هو من آل يَؤُول إذا رَجَع، وأصلُه: أَأْوَل بِهمزتين الأولى زائدةٌ والثانيةُ فاؤُه، ثم قُلِب فأُخِّرَتِ الفاءُ بعد العين فصار: أوْأَل بوزن أَعْفَل، ثم فُعِلَ به ما فُعِل في الوجهِ الذي قبلَه من القلب والإِدغامِ وهو أضعفُ منه. وقيل: هو وَوَّل بوزن فَوْعَلِ، فأُبْدِلَتِ الواوُ الأولَى همزةً، وهذا القولُ أَضْعَفُها؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرفَ ليس إلاَّ. والجمعُ: أوائل، والأصلُ: وَواوِل، فَقُلِبتِ الأولى همزةً لِما تقدَّم، والثالثة أيضاً لوقوعِها بعد ألفِ الجمعِ. واعلم أَنَّ «أَوَّل» أَفْعَلُ تفضيلٍ، وأَفْعَلُ التفضيلِ إذا أُضيفَ إلى نكرةٍ كان مفرداً مذكراً مطلقاً. ثم النكرةُ المضافُ إليها أَفْعل: إمَّا أن تكونَ جامدةً أو مشتقةً، فإنْ كانَتْ جامدةً طابقَتْ ما قبلها نحو: الزيدان أفضلُ رجلَيْن، الزيدون أفضلُ رجال، الهنداتُ أفضلُ نسوةٍ. وأجاز المبردُ إفرادَها مطلقاً ورَدَّ عليه النَّحْويون. وإن كانَتْ مشتقةً فالجمهورُ أيضاً على وجوبِ المطابقةِ نحو: «الزيدُون أفضلُ ذاهبين وأكرمُ قادمين» ، وأجازَ بعضُهم المطابقةَ وعدَمَها، أنشد الفراء:

407 - وإذا هُمُ طَعِمُوا فَالأَمُ طاعِمٍ ... وإذا هُمُ جاعوا فَشَرُّ جِياعِ فَأَفْرَدَ في الأولِ وطابَقَ في الثاني. ومنه عندَهم: {وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} . إذا تقرَّر هذا فكان ينبغي على قولِ الجمهور أن يُجْمع «كافر» ، فأجابوا عن ذلك بأوجهٍ: أَجْوَدُها: أَنَّ أَفْعَل في الآية وفي البيتِ مضافٌ لاسمٍ مفردٍ مُفْهِمٍ للجمع حُذِفَ وبَقيتْ صفتُه قائمةً مَقامَه، فجاءت النكرةُ المضافُ إليها أفْعَل مفردةٍ اعتباراً بذلك الموصوف المحذوف، والتقديرُ: ولا تكونوا أولَ فريقٍ أو فوجٍ كافرٍ، وكذا: فَالأَمُ فريقٍ طاعمٍ، وقيل: لأنه في تأويل: أوَّلَ مَنْ كفر به، وقيل: لأنه في معنى: لا يكُنْ كلُّ واحدٍ منكم أولَ كافرٍ، كقولِك: كساناً حُلَّةً أي: كلَّ واحدٍ منا، ولا مفهومَ لهذهِ الصفةِ هنا فلا يُراد: ولا تكونوا أولَ كافرٍ بل آخرَ كافر. ولمَّا اعتقدَ بعضُهم أنَّ لها مفهوماً احتاجَ إلى تأويل جَعْلِ «أول» زائداً، قال: تقديرُه ولا تكونوا كافرين به، وهذا ليس بشيء، وقدَّره بعضُهم بأَنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه: ولا تكونوا أولَ كافرٍ به ولا آخرَ كافرٍ، ونصَّ على الأول لأنه أَفْحَشُ للابتداءِ به، وهو نظيرُ قولِه: 408 - مِنْ اُناسٍ ليسَ في أَخْلاقِهِمْ عاجلُ ... الفُحْشِ ولا سوءُ الجَزَعْ لا يريد أن فيهم فُحْشاً آجِلاً، بل يريد لا فُحْشَ عندهم لا عاجلاً ولا آجِلاً. والهاءُ في «به» تعودُ على «ما أَنْزَلْتُ» وهو الظاهرُ، وقيل: على «ما معكم» وقيل: على الرسولِ عليه السلام لأنّ التنزيلَ يَسْتَدْعِي مُنَزَّلاً إليه، وقيل: على النعمةِ ذهاباً بها إلى معنى الإِحسانِ.

قوله: {بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} متعلِّقٌ بالاشتراءِ قبلَه، وضُمِّنَ الاشتراءُ معنى الاستبدالِ، فلذلك دَخَلَتِ الباءُ على الآياتِ، وكان القياسُ دخولَها على ما هو ثَمَنٌ لأنَّ الثمنَ في البيعِ حقيقتُه أن يَشْتَرَى به لا أَنْ يَشْتَري لكنْ لَمَّا دَخَلَ الكلامَ معنى الاستبدالِ جازَ ذلك، لأنَّ معنى الاستبدالِ أن يكونَ المنصوبُ فيه حاصلاً والمجرورُ بالباءِ زائلاً. وقد ظَنَّ بعضُهم أنَّ «بَدَّلْتُ الدرهمَ بالدينار» وكذا «أَبْدَلْتُ» أيضاً أنَّ الدينارَ هو الحاصلُ والدرهمَ هو الزائلُ، وهو وَهْمٌ، ومِنْ مجيءِ اشترى بمعنى استبدل قوله: 409 - كما اشْتَرَى المسلمُ إذا تَنَصَّرا ... وقول الآخر: 410 - فإنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلُ فيكم ... فإنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بعدكِ بالجَهْلِ وقال المهدوي: «دخولُ الباءِ على الآياتِ كدخولِها على الثَّمن، وكذلك كلُّ ما لا عَيْنَ فيه، وإذا كان في الكلامِ دراهمُ أو دنانيرُ دخَلَتِ الباءُ

على الثمنِ قاله الفراء» انتهى. يعني أنه إذا لم يكُنْ في الكلامِ درهمٌ ولا دينارٌ صَحَّ أن يكونَ كلُّ من العِوَضَيْن ثمناً ومثمَّناً، لكن يَخْتَلِفُ [ذلك] بالنسبةِ إلى المتعاقِدَيْن، فَمَنْ نَسَب الشراءَ إلى نفسِه أَدْخَلَ الباءَ على ما خَرَج منه وزال عنه ونَصَب ما حَصَل له، فتقولُ: اشتريتُ هذا الثوبَ بهذا العبدِ، وأمَّا إذا كان ثَمَّ دراهمُ أو دنانيرُ كان ثَمَناً ليس إلاَّ، نحو: اشتريْتُ الثوبَ بالدرهمِ، ولا تقول: اشتريتُ الدرهمَ بالثوبِ. وقدَّر بعضُهم [مضافاً] فقال: بتعليمِ آياتي لأنَّ الآياتِ نفسَها لا يُشْتَرى بِها، ولا حاجةَ إلى ذلك، لأنَّ معناه الاستبدال كما تقدَّم. و «ثَمناً» مفعولٌ به، و «قليلاً» صفتُه. و {وَإِيَّايَ فاتقون} كقوله {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] . وقال هنا: [فاتقون، وهناك فارهبون لأنَّ تَرْكَ المأمورِ به هناك معصيةٌ وهي تَرْكُ ذِكْر النعمةِ والإِيفاءِ بالعَهْدِ، وهنا] تَرْكُ الإِيمانُ بالمُنَزَّلِ والاشتراءُ به ثمناً قليلاً كفرٌ فناسبَ ذِكْرَ الرَّهَب هناك لأنه أخفُّ يجوزُ العَفْوُ عنه لكونِه معصيةً، وذَكَر التقوى هنا لأنه كُفْرٌ لا يجوز العفو عنه، لأنَّ التقوى اتِّخاذُ الوقايةِ لِما هو كائنٌ لا بُدَّ منه.

42

قوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} : الباءُ: [هنا] معناها الإِلصاقُ، كقولِك: خَلَطْتُ الماءَ باللبن، أَي: لاَ تَخْلِطوا الحقَّ

بالباطلِ فلا يتميَّزَ. وقال الزمخشري: «إنْ كانت صلةً مثلَها في قولك لَبَسْتَ الشيء بالشيء وخَلَطْتُه به كان المعنى: ولا تكتُبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلِطُ الحقَّ المُنَزَّلُ بالباطلِ الذي كتبتم. وإن كانت باءَ الاستعانةِ كالتي في قولِك: كتبْتُ بالقلَمِ كان المعنى: ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطِلكم الذي تكتبونَه» فأجازَ فيها وجهين كما ترى، ولا يريدُ بقوله: «صلة» أنها زائدةٌ بل يريدُ أنها مُوصِلَةٌ للفعلِ، كما تقدَّم. قال الشيخ: «وفي جَعْلِهِ إياها للاستعانةِ بُعْدٌ وصَرْفٌ عن الظاهرِ مِنْ غيرِ ضرورةٍ، ولا أدري ما هذا الاستبعادُ من وُضوحِ هذا المعنى الحَسَن؟ . قوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق} فيه وجهان، أحدُهما وهو الأظهرُ: أنَّه مجزومٌ بالعطفِ على الفعلِ قبلَه، نهاهم عن كلِّ فِعل على حِدَتِه أي: لا تفعلوا لا هذا ولا هذا. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ» أَنْ «في جوابِ النهي بعد الواو التي تقتضي المعيةَ، أي: لا تَجْمَعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكتمانِه، ومنه: 411 - لاَ تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثْلَه ... عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عظيمُ

و» أَنْ «مع ما في حيِّزها في تأويلِ مصدرٍ، فلا بُدَّ من تأويلِ الفعلِ الذي قَبلَها بمصدرٍ أيضاً ليصِحَّ عَطْفُ الاسمِ على مثلِه، والتقديرُ: لا يكُنْ منكم لَبْسُ الحقِ بالباطلِ وكتمانُه، وكذا [سائرُ] نظائره. وقال الكوفيون:» منصوب بواو الصرف «، وقد تقدَّم معناه، والوجهُ الأولُ أَحْسَنُ لأنه نَهْيٌ عن كلِّ فِعْلٍ على حِدَتِه. وأمَّا الوجهُ الثاني فإنه نَهْيٌ عن الجمع، ولا يَلْزَمُ مِن النهيِ عن الجمعِ بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَتِه إلا بدليل خارجي واللَّبْسُ: الخَلْطُ والمَزْجُ، يُقال: لَبَسْتُ عليه الأمرَ أَلْبِسُه خَلَطْتُ بيِّنَه بمُشْكِله، ومنه قولُ الخَنْساء: 412 - ترى الجلِيسَ يقولُ الحقَّ تَحْسَبُه ... رُشْداً وهيهاتَ فانظُرْ ما به التبسا صَدِّقْ مقالتَه واحذَرْ عَداوَتَهُ ... والبِسْ عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا وقال العجَّاج: 413 - لَمَّا لَبَسْنَ الحقَّ بالتجنِّي ... غَنِيْنَ واسْتَبْدَلْنَ زيداً مِنِّي ومنه أيضاً: 414 - وقد لَبَسْتُ لهذا الأمرَ أَعْصُرَهُ ... حتى تَجَلَّل رأسي الشيبُ فاشْتَعلا وفي فلان مَلْبَسٌ أي: مُسْتَمْتَعٌ، قال: 41 - 5-

ألا إنَّ بعدَ العُدْمِ للمَرْءِ قُِنْوَةً ... وبعدَ المشيبِ طولَ عُمْرٍ ومَلْبَسَا وقولُ الفَرَّار: 416 - وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ ... حتى إذا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لها يَدِي يحتمل أن يكونَ منه وأن يكونَ من اللِّباس، والآيةُ الكريمةُ تحتمِلُ المعنيين أي: لا تُغَطُّوا الحقَّ بالباطِلِ. والباطلُ ضدُّ الحقِّ، وهو الزائلُ، كقولِ لبيد: 417 - ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد بَطَل يَبْطُلُ بُطولاً وبُطْلاً وبُطْلاناً. والبَطَلُ: الشجاعُ، سُمِّي بذلك لأنه يُبْطِل شَجاعةَ غيرِه. وقيل: لأنه يُبْطِلَ دمَه، فهو فَعَل بمعنى مَفْعُولِ، وقيل: لأنه يُبْطِلُ دمَ غيرِه فهو بمعنى فاعلِ. وقد بَطُل [بالضم] يَبْطُل بُطولاً وبَطالة أي: صارَ شجاعاً. قال النابغة: 418 - لَهُمْ لِواءٌ بأيدي ماجدٍ بَطَلٍ ... لا يقطَعُ الخَرْقَ إلا طَرْفُه سامي وبَطَل الأجيرُ بالفتح بِطالة بالكسر: إذا تَعَطَّل فهو بَطَّالٌ، وذهب دَمُه بُطْلاً بالضم أَي: هَدْراً. قولُه: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نَصْبٍ على

الحال، وعامُلها: إمَّا تَلْبِسوا أو تَكْتُموا، إلاَّ أنَّ عَمَل «تكتموا» أَوْلَى لوجهين، أحدُهما: أنه أقربُ. والثاني: أنَّ كُتْمانَ الحقِّ مع العلمِ به أَبْلَغُ ذمَّاً، وفيه نوعُ مقابلةٍ. ولا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال، لأنه يَسْتدعي الإِضمارَ، ولا يجوزُ إضمارُ الحال، لأنه لا يكونُ إلا نكرةً، ولذلك مَنَعوا الإِخبارَ عنه بالذي. فإنْ قيل: تكونُ المسألةُ من باب الإِعمال على معنى أنَّا حَذَفْنَا من الأولِ ما أثبتناه في الثاني من غيرِ إضمارٍ، حتى لا يَلْزَمَ المحذورُ المذكورُ والتقديرُ: ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ وأنتم تعلمون، ولا تَكْتُموا الحقَّ وأنتم تَعْلَمون. فالجوابُ أنَّ هذا لا يُقال فيه إعمالٌ، لأنَّ الإِعمالَ يَسْتَدْعي أن يُضْمَرَ في المهمل ثم يُحْذَفَ. وأجاز ابن عطية ألاَّ تكونَ هذه الجملةُ حالاً فإنه قال: «ويُحْتمل أن تكونَ شهادةً عليهم بِعِلْمِ حقٍّ مخصوصٍ في أمرِ محمدٍ عليه السلام، ولم يَشْهَدْ لهم بالعلمِ [على الإِطلاق] ، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ في موضعِ الحال» وفيما قاله نظرٌ. وقُرئ شاذاً: «وَتَكْتُمونَ» بالرفع، وخَرَّجوها على أنها حالٌ. وهذا غيرُ صحيحٍ لأنه مضارعٌ مُثْبَتٌ، فمِن حَقِّه الاَّ يقترنَ بالواوِ، وما وَرَد من

ذلك فهو مؤولٌ بإضمار مبتدأ قبلَه قَولِهم: «قُمْتُ وأَصُكُّ عينَه» ، وقولِ الآخر: 419 - فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وأَرْهُنُهُمْ مالِكَا أي: وأنا أصُكُّ، وأنا أَرْهُنهم، وكذا: وأنتم تَكْتُمون، إلاَّ أنه يَلْزَمُ منه إشكالٌ آخرُ، وهم أنهم مَنْهِيُّون عن اللَّبْسِ مطلقاً، والحالُ قََيْدٌ في الجملةِ السابقةِ فيكونُ قد نُهُوا بقيدٍ، وليسَ ذلك مُراداً، إلا أَنْ يُقال: إنَّها حالٌ لازمةٌ، وقد قدَّرَه الزمخشري بكاتِمين، فَجَعَله حالاً، وفيه الإِشكالُ المتقدِّم، إلاَّ أنْ يكونَ أرادَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ. ويجوزُ أن تكونَ جملةً خبريةً عُطِفَتْ على جملةٍِ طلبيةٍ، كأنَّه تعالى نَعَى عليهم كَتْمَهُمْ الحقَّ مع عِلْمِهِم أنَّه حق. ومفعولُ العلمِ غيرُ مرادٍ لأنَّ المعنى: وأنتم مِنْ ذوي العلمِ. وقيلَ: حُذِفَ للعلمِ به، والتقديرُ: تَعْلَمُون الحقَّ من الباطِلِ. وقَدَّره الزمخشري «وأنتم تَعْلَمُون في حالِ عِلْمِكُم أنَّكم لابسونَ كاتمون» ، فَجَعَل المفعولَ اللَّبْسَ والكتمَ المفهومَيْنِ من الفعلَيْن السابقَيْن، وهذا حَسَنٌ جداً. قوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} هذه الجملةُ وما بعدَََهَا عطفٌ على الجملةِ قبلَها، عطفَ أمراً على نَهْي. وأصلُ أَقيموا: «أَقْوِمُوا» فَفُعِل به ما فُعِلَ

ب {يُقِيمُونَ} [البقرة: 3] وقد تقدَّم، وأصلُ آتُوا: اَأْتِيُوا بهمزتين مثل: أَكْرِموا، فَقُلِبَتْ الثانيةُ ألفاً لسكونِها بعدَ همزةٍ مفتوحةٍ، واسْتُثْقِلَتِ الضَّمةُ على الياءِ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان «الياءُ والواوُ، فحُذِفَتِ الياءُ لأنها أَوَّلُ، وحُرِّكَتِ التاءُ بحركتِها. وقيل: بل ضُمَّت تَبَعاً للواو، كما ضُمَّ آخِرُ» اضْرِبُوا «ونحوِه، ووزنه: أَفْعُوا بحذف اللام. وألفُ» الزكاة «من واو لقولهم: زَكَوات، وزَكا يَزْكُو، وهي النُمُوُّ، وقيل: الطهارةُ، وقيل: أصلُها الثناءُ الجميلُ ومنه» زَكَّى القاضي الشهودَ «، والزَّكا: [الزوجُ] صارَ زَوْجاً بزيادةِ فردٍ آخرَ عليه. والخَسا: الفَرْدُ: قال: 420 - كانوا خَسَاً أوزَكاً من دون أربعةٍ ... لَمْ يَخْلُقوا وجُدودُ الناسِ تَعْتِلجُ قوله: {مَعَ الراكعين} منصوبٌ باركَعوا. والركوعُ: الطمأنينةُ والانحناءُ، ومنه قوله: 421 - أُخَبِّرُ أَخْبارَ القرونِ التي مَضَتْ ... أَدِبُّ كأِّني كُلَّما قُمْتُ راكِعُ وقيل: الخضوعُ والذِّلَّة، ومنه قولُ الشاعر: 422 - ...

لا تُهينَ الفقيرَ علَّكَ أَنْ تَرْ كَعَ يوماً والدهرُ قَدْ رَفَعَهْ ...

44

قولُه تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} : الهمزةُ للإِنكارِ والتوبيخِ أو للتَّعجُّبِ مِنْ حالِهم. و «أَمَرَ» يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذَفُ، وقد جَمَع الشاعرُ بين الأَمرين في قوله: 423 - أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمِرتَ به ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ فالناسَ مفعولٌ أولُ، وبالبِرِّ مفعولٌ ثان. والبِرُّ: سَعَةُ الخيرِ مِن الصلة والطاعة، ومنه البَرُّ والبَرِيَّة لسعَتِهما، والفعلُ [منه] : بَرَّيَبَرُّ على فَعِل يَفْعَل كعَلِمَ يَعْلَم، قال: 424 - لا هُمَّ ربِّ إنَّ بَكْراً دونكا ... يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا [أي: يُطيعونك، والبِرُّ أيضاً: ولدُ الثعلب وسَوْقُ الغَنَم، ومنه قولُهم: «لا يَعْرِفُ الهِرَّ من البِرِّ» أي: لا يَعْرِفُ دُعاءَها مِنْ سَوْقِها، والبِرُّ أيضاً الفؤادُ، قال: 425 - أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه ... وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ والبَرُّ بالفتح الإِجلالُ والتعظيمُ، ومنه: وَلَدٌ بَرٌّ بوالدَيْهِ، أي: يُعَظِّمُهما، واللهُ تعالى بَرُّ لسَعَةِ خيرِه على خَلْقِه] . قوله: «وَتَنْسَوْن» داخلٌ في حَيِّز الإِنكار، وأصلُ تَنْسَوْن: تَنْسَيُون، فأُعِلَّ

بحَذْفِ الياءِ سُكونها، وقد تقدَّم في {اشتروا} [البقرة: 16] ، فوزنُه تَفْعون، والنِّسيانُ: ضدُّ الذِّكْر، وهو السهوُ الحاصِلُ بعد حصولِ العلمِ، وقد يُطْلَقُ على التِّركِ، ومنه: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، وقَد يَدْخُلُه التعليقُ حَمْلاً على نقِيضه، قال: 426 - ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ ... وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ قوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال، العاملُ فيها «تَنْسَوْن» . والتلاوةُ: التتابعُ، ومنه تلاوة القرآنِ، لأنَّ القارئ يُتْبِع كلماتِه بعضَها ببعضٍ، ومنه: {والقمر إِذَا تَلاَهَا} [الشمس: 2] ، وأَصل تَتْلُون: تَتْلُوون بواوين فاستُثْقِلتِ الضمة على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ فوزنُه: تَفْعُون. قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} الهمزةُ للإِنكارِ أيضاً، وهي في نيَّةِ التأخير عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 77] {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} [يونس: 51] ، والنيَّةُ بها التأخيرُ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول: ما قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ. وزعم

الزمخشري أن الهمزةَ في موضعها غيرُ مَنْوِيٍّ بها التأخيرُ، ويُقَدِّرَ قبل الفاءِ والواوِ وثم فعلاً عُطِفَ عليه ما بعده، فيقدِّر هنا: أتغْفَلون فَلاَ تَعْقلون، وكذا: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ} [سبأ: 9] أي: أَعَمُوا فلم يَرَوْا، وقد خالف هذا الأصلَ ووافق الجمهورَ في مواضعَ يأتي التنبيهُ عليها. ومفعولُ «تَعْقِلون» غيرُ مرادٍ، لأنَّ المعنى: أفلا يكونُ منكم [عَقْلٌ] . وقيل: تقديرهُ: أفلا تَعْقِلون قُبْحَ ما ارتكبتم مِنْ ذلك. والعَقْلُ: الإِدراكُ المانعُ من الخطأ، وأصلُه المَنْعُ: ومنه: العِقال، لأنه يَمْنَعُ البعيرَ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني، والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى، قال علقمة: 427 - عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ ... كأنَّه من دم الأَجْوافِ مَدْمُومُ قال ابن فارس: «ما كان منقوشاً طُولاً فهو عَقْلٌ، أو مستديراً فهوَ رَقْمٌ» ولا محلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها. قوله: {واستعينوا بالصبر} هذه الجملةُ الأمريةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر، ولكن اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل. وأصلُ «استعينوا» اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل

به ما فُعِل في {نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وقد تقدَّم تحقيقُه ومعناه. «وبالصبر» متعلقٌ به والباءُ للاستعانةِ أو للسببيةِ، والمستعانُ عليه محذوفٌ ليَعُمَّ جميعَ الأحوال المستعانِ عليها، و «استعان» يتعدَّى بنفسِه نحو: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال أي: ملتبسينَ بالصبر، والظاهر أنه يتعدَّى بنفسه وبالباء تقولُ: استَعَنْتُ [الله واستعنْتُ بالله] وقد تقدَّم أن السينَ للطلب. والصبرُ: الحَبْسُ على المكروه، ومنه: «قُتِل فلانٌ صبراً» ، قال: 428 - فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً ... فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} إنَّ واسمها وخبرُها، والضميرُ في «إنها» قيل: يعودُ على الصلاة وإنْ تقدَّم شيئان، لأنها أغلبُ منه وأهمُّ، وهو نظيرُ قولِه: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أعاد الضمير على التجارةِ لأنها أهمُّ وأَغْلَبُ، كذا قيل، وفيه نظرٌ، لأنَّ العطف ب «أو» فيجبُ الإِفرادُ، لكنَّ المرادَ أنه ذَكَر الأهمَّ من الشيئين فهو نظيرُها من هذه الجهةِ. وقيل: يعودُ على الاستعانةِ المفهومةِ من الفعلِ نحو: {هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] . وقيل: على العِبادةِ المدلولِ عليها بالصبرِ والصلاةِ، وقيل: هو

عائدٌ على الصبرِ والصلاةِ، وإنْ كان بلفظِ المفردِ، وهذا ليسَ بشيء. وقيل: حُذِفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه، وتقديرُه: وإنه لكبيرٌ، نحو قوله: 429 - إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشَّعْرَ الأسْ ... وَدَ ما لم يُعاصَ كان جُنوناً قوله: {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} استثناءٌ مفرَّعٌ، وجازَ ذلك وإن كانَ الكلامُ مُثْبَتاً لأنه في قوةِ المنفيِّ، أي: لا تَسْهُل ولا تَخِفُّ إلاَّ على هؤلاء، ف «على الخاشعين» متعلَّقٌ ب «كبيرة» نحو: «كَبُر عليَّ هذا» أي: عَظُم وشَقَّ. والخشوعُ: الخُضوع، وأصلُه اللِّيْنُ والسُّهولة، ومنه «الخُشْعَةُ» للرَّمْلَةِ المتطامنةِ، وفي الحديث: «كانَتْ خُشْعَةً على الماءِ ثم دُحِيَتْ بعدُ» أي: كانت الأرضُ لينةً، وقال النابغة: 430 - رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه ... ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِعُ أي: عليه أثرُ الذلَّ، وفَرَّق بعضُهم بين الخضوع والخُشوع، فقال: الخُضُوع في البدنِ خاصةً، والخُشُوع في البدنِ والصوت والبصر فهو أعمُّ منه.

46

قوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} : «الذين» يَحتملُ موضعُه الحركاتِ الثلاثَ، فالجرُّ على أنه تابعٌ لِما قَبْلَه

نعتاً، وهو الظاهرُ، والرفعُ والنصبُ على القَطْع، وقد تقدَّم معناه. وأصلُ الظنِّ: رُجْحانُ أحدِ الطرفينِ وأمَّا هذه الآيةُ ففيها قولانِ، أحدُهما وعليه الأكثرُ أنَّ الظنَّ ههنا بمعنى اليقين ومثلُه: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] ، وقوله: 431 - فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ وقال أبو دُؤاد: 432 - رُبَّ همٍّ فَرَّجْتُه بعَزيمٍ ... وغُيوبٍ كَشَّفْتُها بظُنونِ فاستُعْمِلَ الظنَّ استعمالَ اليقينِ مجازاً، كما استُعْمِل العِلْمُ استعمالَ الظنِّ كقولِه: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] ولكنَّ العربَ لا تَسْتَعْمِلُ الظنَّ استعمالَ اليقين إلا فيما لم يَخْرُجْ إلى الحِسِّ والمشاهدةِ كالآيتين والبيت، ولا تَجِدُهم يقولون في رجل مَرْئيٍّ حاضراً: أظنُّ هذا إنساناً. والقولُ الثاني: أنَّ الظنَّ على بابِه وفيه حينئذٍ تأويلان، أحدُهما ذَكَره المهدوي والماوَرْدي وغيرُهما: أن يُضْمَر في الكلام «بذنوبهم» فكأنهم يتوقَّعون لقاءَه مُذْنِبين. قال ابن عطية: «وهذا تعسُّفٌ» والثاني من التأويلين:

أنهم يظنُّون ملاقاةَ ثوابِ ربهم لأنهم ليسوا قاطِعين بالثوابِ دونَ العقاب، والتقديرُ: يَظُنُّون أنهم ملاقُو ثوابِ ربِّهم، ولكن يُشْكِلُ على هذا عَطْفُ {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فإنه لا يَكْفي فيه الظنُّ، هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في «إليه» على الربِّ سبحانه وتعالى، أمَّا إذا أَعَدْناه على الثوابِ المقدَّر فيزولُ الإِشكالُ أو يُقالُ: إنه بالنسبةِ إلى الأول بمعنى الظنِّ على بابه، وبالنسبةِ إلى الثاني بمعنى اليقينِ، ويكونُ قد جَمَعَ في الكلمةِ الواحدةِ بين الحقيقةِ والمجازِ، وهي مسألةُ خلافٍ و «أن» وما في حَيِّزها سادَّةٌ [مَسَدَّ] المفعولَيْنِ عندَ الجمهورِ، ومسدَّ الأولِ، والثاني محذوفٌ عند الأخفش، وقد تقدَّم تحقيقُه. و {مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} من باب إضافةِ اسم الفاعل لمعموله إضافةً تخفيفٍ لأنه مستقبلٌ، وحُذِفَتِ النونُ للإِضافة، والأصلُ: مُلاقونَ ربِّهم. والمفاعلةُ هنا بمعنى الثلاثي نحو: عافاك الله، قاله المهدوي: قال ابن عطية: وهذا ضعيفٌ، لأنَّ «لَقِيَ» يتضمَّن معنى «لاقى» . كأنه يَعْني أن المادةَ لذاتها تقتضي المشاركةَ بخلافِ غيرِها من: عاقَبْت وطارقت وعافاك. وقد تقدَّم أن في الكلام حَذْفاً تقديرُه: ملاقو ثوابِ ربِّهم وعقابِه. قال ابن عطية: «ويَصِحُّ أن تكونَ الملاقاةُ هنا الرؤيةَ التي عليها أهلُ السُّنَّةِ وورد بها

متواترُ الحديث» ، فعلى هذا الذي قاله لا يُحْتاج إلى حَذْفِ مضاف. {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} عَطْفٌ على «أَنَّهم» وما في حَيِّزها، و «إليه» متعلق ب «راجعون» ، والضميرُ: إمَّا للربِّ سبحانَه أو الثَّوابِ كما تقدَّم، أو اللقاءِ المفهوم من «مُلاقُو» .

47

قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} : «أنَّ» وما في حَيِّزها في محل نصبٍ لعَطْفِها على المنصوبِ في قوله: {اذكروا نِعْمَتِي} أي: اذكروا نعمتيَ وتفضيلي إياكم، والجارُّ متعلَِّقٌ به، وهذا من الباب عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ لأن النعمةَ تَشْمَلُ التفضيلَ. والفضلُ: الزيادةُ في الخَيْر، واستعمالُه في الأصل التعدِّي ب «على» ، وقد يَتَعدَّى ب «عَنْ» : إمَّا على التضمين وإمَّا على التجوُّزِ في الحذف، كقوله: 433 - لاهِ ابنُ عَمِّك لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ ... عني ولا أَنْتَ دَيَّاني فَتَخْزَوني وقد يتعدَّى بنفسه، كقوله: 434 - وَجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً ... كفَضْلِ ابنِ المَخَاضِ على الفَصيلِ وب «على» ، وفِعْلُه: فضَل يَفْضُل بالضم، كقَتَلَ يقتُل. وأمَّا الذي معناه الفَضْلة من الشيء وهي البقيَّة ففعلُه أيضاً كما تقدَّم، ويقال فيه أيضاً: «

فَضِل» بالكسر يَفْضَل بالفتح كعَلِم يعلَم، ومنهم مَنْ يكسِرُها في الماضي ويَضُمُّها في المضارعِ وهو من التداخُلِ بين اللغتين.

48

قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً} : «يوماً» مفعولٌ به، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: عذابَ يوم أو هولَ يوم، وأُجيز أن يكونَ منصوباً على الظرف، والمفعولُ محذوفٌ تقديره: واتقوا العذابَ في يومٍ صفتُه كَيْتَ وكَيْتَ، ومَنَع أبو البقاء كونَه ظرفاً، قال: «لأنَّ الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة» ، والجوابُ عَمَّا قاله: أن الأمرَ بالحَذَرِ من الأسبابِ المؤدِّيةِ إلى العذابِ في يومِ القيامةِ. وأصلُ اتَّقُوا: اوْتَقُوا، ففُعِل به ما تقدَّم في {تَتَّقُونَ} [البقرة: 22] . قوله: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} التنكيرُ في «نفسٌ» و «شيئاً» معناه أنَّ نفساً من الأنفس لا تَجْزي عن نفس مثلِها شيئاً من الأشياء، وكذلك في «شفاعةٌ» و «عدلٌ» ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «يوماً» والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: لا تَجْزي فيه، ثم حُذِفَ الجارُّ والمجرورُ لأنَّ الظروفَ يُتَّسَعُ فيها ما لا يُتَّسَعُ في غيرِها، وهذا مذهبُ سيبويه. وقيل: بل حُذِفَ بعد حرفِ الجرِّ ووصولِ الفعل إليه فصار: «لا تَجْزيه» كقوله:

435 - ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً ... قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ ويُعْزى للأخفش، إلا أن المهدويَّ نَقَل أنَّ الوجهين المتقدمين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. ويَدُلُّ على حَذْفِ عائدِ الموصوفِ إذا كان منصوباً قولُه: 436 - وما أَدْري: أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءِ ... وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا أي: أصابوه، ويجوز عند الكوفيين أن يكونَ التقديرُ: يوماً يومَ لا تَجْزي نفسٌ، فيصيرُ كقولهِ تعالى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ} [الانفطار: 19] ، ويكونُ اليومُ الثاني بدلاً من «يوماً» الأولِ، ثم حُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه كقوله تعالى: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] ، وعلى هذا لا يُحتاج إلى تقديرِ عائدٍ لأنَّ الظرف متى أُضيف في الجملةِ بعدَه لم يُؤْتَ له فيها بضمير إلا في ضرورةٍ، كقوله: 437 - مَضَتْ مِئَةٌ لِعامَ وُلِدْتُ فيه ... وعَشْرٌ بعدَ ذاكَ وحِجَّتانِ و {عَن نَّفْسٍ} متعلِّقٌ بتَجْزي، فهو في محلِّ نَصْب به، قال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ نصباً على الحال» .

والجزاء: القضاءُ والمكافأةُ، قال الشاعر: 438 - يَجْزِيه ربُّ العرشِ عَنِّي إذْ جَزَى ... جناتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ العُلَى والإِجزاءُ: الإِغْناء والكِفاية، أَجْزَأَني كذا: كفاني، قال: 439 - وأجْزَأْتَ أمرَ العالمينَ ولم يكُنْ ... لِيُجْزَأَ إلا كاملٌ وابنُ كاملِ قيل: وأَجْزَأْتُ وجَزَأْتُ متقاربان. وقيل: إنَّ الجزاء والإِجزاء بمعنى، تقول منه: جَزَيْتُه وأَجْزَيْته، وقد قُرئ: «تُجْزِئُ» بضمِّ حرفِ المضارعة من أَجْزَأ، وَجَزَأْتُ بكذا أي: اجتزَأْتُ به، قال الشاعر: 440 - فإنَّ الغَدْرَ في الأقوام عارٌ ... وإنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بالكُراعِ أي: يَجْتَزِئ به. قوله: «شيئاً» نصبٌ على المصدرِ، أي: شيئاً من الجزاء؛ لأن الجزاءَ شيءٌ، فَوُضِع العامُّ موضعَ الخاصِّ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به على أنَّ «تَجْزِي» بمعنى «تَقْضي» ، أي: لا تَقْضي [نفسٌ] من غيرِها شيئاً من الحقوقِ، والأولُ أظهَرُ.

قوله: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلها فهي صفةٌ أيضاً ل «يوماً» ، والعائدُ منها عليه محذوفٌ كما تقدَّم، أي: ولا يُقبل منها فيه شفاعةٌ. و «شفاعةٌ» مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه، فلذلك رُفِعَتْ، وقُرئ: «يُقْبَل» بالتذكير والتأنيثِ، فالتأنيثُ لِلَّفْظِ، والتذكيرُ لأنه مؤنثٌ مجازيٌّ، وحَسَّنَهُ الفصلُ. وقُرئ: «ولا يَقْبل» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى. و «شفاعةً» نصباً مفعولاً به. و {لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} صفةٌ أيضاً، والكلامُ فيه واضحٌ. و «منها» متعلِّقٌ ب «يُقْبل» و «يُؤْخذ» ، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ نصباً على الحال، لأنه في الأصلِ صفةٌ لشفاعة وعدل، فلمَّا قُدِّم عليهما نُصِبَ على الحالِ، ويتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، وهذا غيرُ واضحٍ، فإنَّ المعنى مُنْصَبٌّ على تعلُّقِهِ بالفعلِ، والضميرُ في «منها» يعودُ على «نفس» الثانيةِ، لأنها أقربُ مذكور، ويجوز أن يعودَ على الأولى لأنها هي المُحَدَّث عنها، ويجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ الأول على الأولى وهي النفسُ الجازية، والثاني يعودُ على الثانية وهي المَجْزِيُّ عنها، وهذا مناسِبٌ. والشفاعةُ مشتقةٌ من الشَّفْع، وهو الزوجُ، ومنه: الشُّفْعَةُ، لأنها ضَمُّ مِلْكٍ إلى غيره، والشافعُ والمشفوعُ له، لأنَّ كلاًّ منهما يُزَوِّجُ نفسَه بالآخر، وناقةٌ شَفُوع: تَجْمَع بين مَحْلَبَيْنِ في حَلْبةٍ واحدةٍ، وناقةٌ شافِع إذا اجتمع لها حَمْلٌ وولدٌ يَتْبَعُها، والعَدْل بالفتح الفِداء، وبالكسر المِثْل، يقال: عَدْل

وعَدِيل. وقيل: «عَدْل» بالفتح المساوي للشيء قيمةً وقَدْراً، وإنْ لم يكنْ جنسه، وبالكسر: المساوي له في جنسهِ وجِرْمه، وحكى الطبري أنَّ من العرب مَنْ يكسِر الذي بمعنى الفِداء، والأولُ أشهرُ، وأمّا عِدْل واحد الأَعْدال فهو بالكسر لا غيرُ. قوله: {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، معطوفةٌ على ما قبلَها وإنما أُتي هنا بالجملةِ مصدرةً بالمبتدأ مُخْبَراً عنه بالمضارعِ تنبيهاً على المبالغةِ والتأكيدِ في عَدَمِ النُّصْرة. والضميرُ في قوله «ولا هُمْ» يعود على النفس؛ لأنَّ المرادَ بها جنسُ الأنفس، وإنما عادَ الضميرُ مذكَّراً وإن كانَتِ النفسُ مؤنثةً لأنَّ المراد بها العِبادُ والأناسيُّ. قال الزمخشري: «كما تقول ثلاثةُ أنفسٍ» يعني: إذا قُصِد بها الذكورُ، كقوله: 441 - ثلاثةُ أَنْفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولكنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنه ضرورةٌ، فالأَوْلى أن يعودَ على الكفارِ الذين اقتضَتْهُمُ الآيةُ كما قال ابنُ عطية. والنَّصْرُ: العَوْنُ، والأنصار: الأعوان، ومنه: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52] والنصر أيضاً: الانتقامُ، انتصر زيد أي: انتقم. والنَّصْرُ أيضاً: الإِتيان نَصَرْتُ أرضَ بني فلان أتيتُها، قال الشاعر: 442 - إذا دَخَلَ الشهرُ الحرامُ فودِّعي ... بلاد تميمٍ وانصُري أرضَ عامرِ وهو أيضاً: العَطاءُ، قال الراجز: 443 - إني وأسطارٍ سُطِرْنَ سَطْراً ... لَقائِلٌ يا نصرُ نَصْرٌ نَصْرا ويتعَدَّى ب «على» ، قال: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [البقرة: 286] ، وأمَّا قولُه: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] فيحتَمِل التعدِّيَ ب «مِنْ» ويَحْتمل أن يكونَ من التضمين أي: نَصَرْناه بالانتقام له منهم.

49

قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} : «إذْ» في موضعِ نصبٍ عطفاً على «نعمتي» ، وكذلك الظروفُ التي بعده نحو: «

وإذا واعَدْنا» «وإذا قُلتم» . وقُرئ: «أَنْجَيْتُكُم» على التوحيدِ، وهذا خطابٌ للموجودين في زمن الرسول عليه السلام، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: أَنْجَيْنا آباءكم، نحو: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} [الحاقة: 11] أو لأنَّ إنجاءَ الآباء سببٌ في وجودِ الأبناءِ. وأصلُ الإِنجاءِ والنجاةِ الإِلقاءُ على نَجْوَةٍ من الأرضِ، وهي المُرتفعُ منها لِيَسْلَمَ من الآفات، ثم أُطلِقَ الإِنجاء على كل فائزٍ وخارجٍ من ضيق إلى سَعَة وإن لم يُلْقَ على نَجْوة. و «من آلِ» متعلِّقٌ به، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. و «آل» اختُلِف فيه على ثلاثةِ أقوال، قال سيبويه وأتباعُه: إنَّ أصلَه أَهْلٌ، فأُبْدِلَتِ الهاءُ همزةً لقُربها منها، كما قالوا: ماء وأصلُه: ماه، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ألفاً، لسكونِها بعد همزةٍ مفتوحةٍ نحو: آمَنَ وآدَم، ولذلك إذا صُغِّر رَجَعَ إلى أصله فتقول: أُهَيْل. قال أبو البقاء: «وقال بعضُهم: أُوَيْل، فأُبدلت الألفُ واواً، ولَم يَرُدَّه إلى أصله، كما لَم يَرُدُّّوا» عُيَيَدْ «إلى أصله في التصغير» . يعني فلم يقولوا «عُوَيد» لأنه من عاد يعود، قالوا: لئلا يلتبسَ بعُود الخَشَب. وفي هذا نظر، لأنَّ النحْويين قالوا: مَنِ اعتقد كونَه من «أهل» صَغَّره على أُهَيْل، ومَنِ اعتقد كونَه من آل يَؤُولُ أي رَجَع صغَّره على أُوَيْل. وذهب النحاس إلى أنَّ أصلَه «أَهْلَ» أيضاً، إلا أنه قَلَب الهاءَ ألفاً من غير أَنْ يَقْلِبَها أولاً همزة، وتصغيرُه

عنده على أُهَيْل. وقال الكسائي: أُوَيْل، قد تقدَّم ما فيه. ومنهم مَنْ قال: أصلُه مشتقٌّ من آل يَؤُول، أي: رَجَع، لأن الإِنسان يَرْجِع إلى آله، فتحرَّكَتِ الواوُ وانفَتَح ما قبلَها فقُلِبَتْ ألفاً، وتصغيرُه على أُوَيْل نحو: مال ومُوَيل وباب وبُوَيْب، ويُعْزى هذا للكسائي. وجمعه آلون وآلين وهو شاذٌّ كأهلِين لأنه ليس بصفةٍ ولا عَلَمٍ. واختُلِف فيه: فقيل: «آلُ الرجل» قرابتُه كأهلِه، وقيل: مَنْ كان مِنْ شيعتِه، وإن لم قريباً منه وقيل: مَنْ كان تابعاً له وعلى دينِه وإنْ لم يكنْ قريباً منه، قال: 444 - فلاَ تَبْكِ مَيْتاً بعد مَيْتٍ أَجَنَّهُ ... عليٌّ وعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِ ولهذا قيل: [إن] آلَ النبي مَنْ آمَنَ به إلى آخرِ الدهرِ، ومَنْ لم يُؤْمِنْ به فليس بآلِه، وإن كان نسبياً له، كأبي لهب وأبي طالب. واختَلَفَ فيه النحاة: هل يُضاف إلى المضمر أم لا؟ فذهبَ الكسائي وأبو بكر الزبيدي والنحاس إلى أنَّ ذلك لا يجوزُ، فلا يجوز: اللهم صلِّ على محمدٍ وآلهِ، بل: وعلى آلِ محمد، وذهبَ جماعةٌ منهم [ابنُ] السِّيد إلى جوازه، واستدلَّ بقولِه عليه السلام، لمَّا سُئِل فقيل: يا رسولَ الله مَنْ آلُكَ؟ فقال: «آلي كلُّ تقيّ

إلى يوم القيامة» وأنشدوا قولَ أبي طالب: 445 - لا هُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْ ... نَعُ رَحْله فامنَعْ حَلالَكْ وانصُرْ على آل الصَّلي ... ب وعابِديه اليومَ آلَكْ وقول نُدْبة: 446 - أنا الفارسُ الحامي حقيقةَ والدي ... وآلي كما تَحْمي حقيقةَ آلِكا واختلفوا أيضاً فيه: هل يُضافُ إلى غيرِ العقلاءِ فيُقال: آلُ المدينةِ وآلُ مكةَ؟ فمنعَه الجمهورُ، وقال الأخفش: قد سَمِعْنَاه في البلدان قالوا: أهلُ المدينةِ وآلُ المدينة، ولا يُضاف إلاَّ إلى مَنْ له قَدْرٌ وخَطَرٌ، فلا يُقال: آلُ الإِسكاف ولا آلُ الحَجَّام، وهو من الأسماءِ اللازمة للإِضافة معنى لا لفظاً، وقد عَرَفْتَ ما اختصَّ به من الأحكامِ دونَ أصلِه الذي هو «أَهْل» . هذا كلُّه في «آل» مراداً به الأهلُ، أمَّا «آل» الذي هو السَّراب فليس مِمَّا نَحْنُ فيه في شيء، وجَمْعُه أَأْوال، وتصغيرُه أُوَيْل ليس إلاَّ، نحوُ: مال وأَمْوال ومُوَيْل. قوله: «فِرْعَون» خفضٌ بالإِضافةِ، ولكنه لا يَنْصَرِفُ للعُجْمة والتعريف. واختُلِفَ فيه: هل هو علمُ شخصٍ أو علمُ جنسٍ، فإنه يُقال لكلِّ مَنْ مَلَك القِبْطَ ومصرَ: فرعون، مثلَ كِسْرى لَكَلِّ مَنْ مَلَك الفرس، وقيصرُ

لكلِّ مَنْ مَلَك الروم، والقَيْلُ لكلِّ مَنْ مَلَكَ حميرَ، والنجاشي لكلِّ مَنْ مَلَكَ الحبشةَ، وَبَطْلَيْموس لكلِّ مَنْ مَلَكَ اليونان. قال الزمخشري: «وفرعونُ عَلَمٌ لِمَنْ مَلَك العمالقة كقيصر للروم، ولعُتُوِّ الفراعِنَة اشتقُّوا منه: تَفَرْعَنَ فلانٌ إذا عَتا وَتَجَبَّر، وفي مُلْحِ بعضم. 447 - قد جاءَهْ الموسى الكَلُومُ فَزَاد في ... أَقْصَى تَفَرْعُنِه وفَرْطِ عُرَامِه وقال المسعودي:» لا يُعْرَفُ لِفرْعَوْنَ تفسيرٌ بالعربيةِ «، و [ظاهر] كلامِ الجَوْهري أنَّه مشتقٌّ مِنْ معنى العُتُوِّ، فإنه قال:» والعُتاة الفَرَاعِنة، وقد تَفَرْعَنَ وهو ذو فَرْعَنةٍ أي: دهاءٍ ومكرٍ «. وفي الحديث:» أَخَذْنا فِرْعونَ هذه الأمَّةِ «إلاَّ أنْ يريدَ معنى ما قاله الزمخشري المتقدم. قولُه:» يَسُومونكم «سوءَ العذابِ» هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحالِ مِنْ «آل» حالَ كونِهم سائِمين. ويجوز أَنْ تكونَ مستأنفةً لمجردِ الإِخْبارِ بذلك، وتكون حكايةَ حالٍ ماضيةٍ، قال بمعناه ابن عطية، وليس بظاهر. وقيل: هي خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، أي: هم يَسُومونكم، ولا حاجةَ إليه

أيضاً. و «كم» مفعولٌ أولُ، و «سوء» مفعولٌ ثانٍ، لأنَّ «سام» يتعدَّى لاثنين كأعطى ومعناه: أَوْلاهُ كذا وأَلْزمه إياه أو كلَّفه إياه، ومنه قولُ عمرو بن كلثوم: 448 - إذا ما المَلْكُ سامَ الناسَ خَسْفاً ... أَبَيْنا أَنْ نُقِرَّ الخَسْفَ فِينا قال الزمخشري: «وأصلُهُ مِنْ سَام السِّلْعَةَ إذا طَلَبها، كأنه بمعنى يَبْغُونكم سوءَ العذاب ويُريدُونَكم عليه» ، وقيل: أصلُ السَّوْمِ الدَّوامُ، ومنه: سائِمَةُ الغَنَم لمُداوَمَتِها الرَّعْيَ. والمعنى: يُديمونَ تعذيبكم، وسوءُ العذابِ أشدُّهُ وأفظعهُ وإنْ كان كَلُّه سيئاً، كأنه أقبحُهُ بالإِضافة إلى سائرِه. والسوءُ: كلُّ ما يَعُمُّ الإِنسانَ من أمرٍ دنيوي وأُخْرَوي، وهو في الأصل مصدرٌ، ويؤنَّثُ بالألفِ، قال تعالى: {أَسَاءُواْ السواءى} [الروم: 10] . وأجاز بعضُهم أن يكونَ «سوء» نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديرُه: يَسُومونكم سَوْماً سيئاً كذا قدَّره، وقال أيضاً: «ويجوزُ أن يكونَ بمعنى سَوْم العذاب» ، كأنه يريد بذلك أنه منصوبٌ على نَوْعِ المصدرِ، نحو: «قَعَدَ جلوساً» ، لأن سُوء العذابِ نوعٌ من السَّوْمِ. قولُه تعالى: «يُذَبِّحُون» هذه الجملةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ مفسِّرةً للجملة قبلَها، وتفسيرُها لها على وجهين: أحدُهما أن تكونَ مستأنفةً، فلا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعرابِ، كأنه قيل: كيف كان سَوْمُهم العذابَ؟ فقيل: يُذَبِّحُون. والثاني: أنْ تكونَ بدلاً منها كقولِه:

449 - متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بِنا في ديارنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] ، ولذلك تُرِكَ العاطفُ، ويُحْتمل أن تكونَ حالاً ثانيةً، لا على أنها بدلٌ من الأولى، وذلك على رَأْي مَنْ يُجَوِّزُ تَعَدُّدَ الحال. وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ محتجَّاً بأنَّ الحَالَ تُشْبِهُ المفعولَ به ولا يَعملُ العاملُ في مفعولَيْن على هذا الوصفِ، وهذا بناءً منه على أحد القولين، ويحتملُ أن يكونَ حالاً من فاعل «يَسُومونكم» . وقُرئ: «يَذْبَحُون» بالتخفيف، والأولى قراءةُ الجماعةِ لأنَّ الذبحَ متكرِّر. فإنْ قيل: لِمَ لَم يُؤْتَ هنا بواو العَطْفِ، كما أُتِي بها في سورة إبراهيم؟ فالجوابُ أنه أُرِيدَ هنا التفسيرُ كما تقدَّم، وفي سورة إبراهيم معناه: يُعَذِّبونكم بالذَّبْح وبغيرِ الذبحِ. وقيل: يجوز أن تكونَ الواوُ زائدةً فتكونَ كآيةِ البقرة، واستدلَّ هذا القائلُ على زيادةِ الواوِ بقوله: 450 - فَلَمَّا أَجَزْنَا ساحةَ الحِّي وانْتَحَى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: إلى المَلِكِ القَرْم وابنِ الهُمَامِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والجوابُ الأول هو الأَصَحُّ. والذَّبْحُ: أصلُه الشَّقُّ، ومنه: «المَذابحُ» لأخاديدِ السيول في الأرض. و «أبناء» جمع ابن، رَجَع به إلى أصله، فَرُدَّت لامُه، إمَّا الواوُ أو الياءُ حَسْبما تقدَّم. والأصلُ: «أَبْناو» أو «أبناي» ، فَأُبْدِل حرفُ العلةِ همزةً لتطرُّفِه بعد ألفٍ زائدةٍ، والمرادُ بهم الأطفالُ، وقيل: الرجالُ، وعَبَّر عنهم بالأبناءِ اعتباراً بما كانوا. قوله: {وَيَسْتَحْيُونَ} عطفٌ على ما قبله، وأصلُه: يَسْتَحْيِيُون، فَأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ بعد حَذْفِ حركتها وقد تقدَّم بيانُه، فوزتُه يَسْتَفْعُون. والمراد بالنساءِ الأطفالُ، وإنما عَبَّر عنه بالنساءِ لمآلِهِنَّ إلى ذلك. وقيل: المرادُ غيرُ الأطفالِ، كما قيل في الأبناء. ولامُ النساءِ الظاهرُ أنَّها من واوٍ لظهورها في مرادِفِه وهو نِسْوَان ونِسْوَة، ويُحْتمل أن تكونَ ياءً اشتقاقاً من النِّسْيان، وهل نساء جمعُ نِسوةٍ أو جمعُ امرأةٍ مِنْ حيث المعنى؟ قولان. قوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، و «بلاءٌ» مبتدأ. ولامُه واوٌ لظهورِها في الفعلِ نحو: بَلَوْتُه، أَبْلُوه، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [البقرة: 155] ، فأُبْدِلَتْ همزةً. والبلاءُ يكون في الخيرِ والشرِّ، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] لأنَّ الابتلاءَ امتحانٌ فيمتحِنُ اللهُ عباده بالخيرِ ليشكُروا، وبالشرِّ ليصبِروا، وقال ابن كَيْسان: «أبلاهُ وبَلاه في الخير» وأنشد:

452 - جَزَى اللهُ بالخَيراتِ ما فَعَلا بكم ... وأَبْلاهُمَا خيرَ البلاءِ الذي يَبْلُو فَجَمَع بين اللغتين، وقيل: الأكثرُ في الخيرِ أَبْلَيْتُه، وفي الشرِّ بَلَوْتُه، وفي الاختبارِ ابتلَيْتُه وبَلَوْتُه، قال النحاس: «فاسمُ الإِشارة من قوله:» وفي ذلكم «يجوزُ أن يكونَ إشارةً إلى الإِنجاءِ» وهو خيرٌ مَحْبوب، ويجوز أن يكونَ إشارةً إلى الذَّبْحِ، وهو شرٌّ مكروهٌ «. وقال الزمخشري:» والبلاءُ: المِحْنَةُ إنْ أشير ب «ذلك» إلى صنيع فرعون، والنعمةُ إن أُشير به إلى الإِنجاء «، وهو حسن. وقال ابن عطية:» ذلكم «إشارةٌ إلى جملةِ الأمر إذ هو خيرٌ فهو كمفردٍ حاضر» كأنه يريدُ أنه أُشير به إلى مجموعِ الأمرين من الإِنجاءِ والذبح، ولهذا قال بعدَه: «ويكونُ البلاءُ في الخيرِ والشر» وهذا غيرُ بعيدٍ، ومثله: 453 - إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى ... وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ و {مِّن رَّبِّكُمْ} متعلقٌ ب «بلاءٌ» ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ مجازاً. وقال أبو البقاء: «هو رفعٌ صفةٌ ل» بلاء «فيتعلَّقُ بمحذوفٍ» وفي هذا نظرٌ، من حيث إنه إذا اجتمع صفتان، إحداهما صريحةٌ والأخرى مُؤَوَّلةٌ قُدِّمَتِ الصريحةُ، حتى إنَّ بعضَ الناسِ يَجْعلُ ما سِواه ضرورةً. و «عظيمٌ» صفة ل «بلاء» وقد تقدَّم معناه مستوفىً في أول السورة.

50

قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} . . «بكم» الظاهرُ أنَّ الباءَ على بابها من كونِها داخلةً على الآلةِ فكأنه فَرَق بهم كما يُفْرَقُ بين الشيئين بما توسَّط بينهما. وقال أبو البقاء: «ويجوز أن تكون المُعَدِّيةَ كقولِك: ذهبتُ بزيدٍ، فيكونُ التقدير: أَفْرَقْناكم البحرَ، ويكونُ بمعنى: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر} [الأعراف: 138] وهذا قريبٌ من الأولِ. ويحوزُ أن تكونَ الباءُ للسببيَّة أي: بسببكم، ويجوزُ أن تكونَ للحالِ من» البحر «أَيْ: فَرَقْناه ملتبِساً بكم، ونظَّره الزمخشري بقولِ الشاعر: 454 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَدُوس بنا الجماجِمَ والتَّريبا أي: تدوسُها ونحن راكبوها. قال أبو البقاء:» أي: فَرَقْنا البحرَ وأنتم به، فتكونُ إمَّا حالاً مقدَّرةً أو مقارنةً «. قلت: وأيُّ حاجةٍ إلى جَعْلِه إياها حالاً مقدَّرة وهو لم يكنْ مفروقاً إلا بهم حالَ كونِهم سالكينَ فيه؟ وقال أيضاً: و» بكم «في موضعِ نصبٍ مفعولٌ ثانٍ لفَرَقْنا، و» البحرَ «مفعولٌ أولُ، والباءُ هنا في معنى اللام» وفيه نظرٌ؛ لأنه على تقديرِ تسليم كون الباءِ بمعنى اللام فتكونُ لام العلَّةِ، والمجرورُ بلام العلةِ لا يُقال إنَّه مفعولٌ ثانٍ، لو قلتَ:

ضَرَبْتُ زيداً لأجلِك، لا يقولُ النحوي: «ضَرَبَ» يتعدَّى لاثنين إلى أحدهما بنفسه والآخر بحرفِ الجر. والفَرْقُ والفَلْقُ واحدٌ، وهو الفصلُ والتمييز، ومنه {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] [أي: فَصَلْناه] وميَّزناه بالبيانِ، والقرآنُ فرقانٌ لتمييزه بين الحقِّ والباطل وفَرْقُ الرأسِ لوضوحِه، والبحرُ أصله: الشِّقُّ الواسعُ، ومنه: البَحِيرة لشَقِّ أذُنها. والخلافُ المتقدِّمُ في النهر في كونِه حقيقةً في الماء أو في الأخدُودِ جارٍ هنا فَلْيُلْتَفَتْ إليه. وهل يُطْلَقُ على العَذْبِ بَحْرٌ، أو هو مختصٌّ بالماءِ المِلْحِ؟ خلافٌ يأتي تحقيقُه في موضِعِه. ويقال: أَبْحَرَ الماءُ أي: صار مِلْحاً قال نُصَيْب: 455 - وقد عادَ ماءُ الأرضِ بَحْراً فزادني ... إلى مَرَضي أَنْ أَبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ والغَرَقُ: الرُّسوبُ في الماءِ، وتُجُوِّزُ به عن المُداخَلَةِ في الشيء، فيقال: أَغْرَق فلانٌ في اللَّهْو، ويقال: غَرِقَ فهو غَرِقٌ وغارِق، وقال أبو النجم:

456 - مِنْ بَيْنِ مقتولٍ وطافٍ غارِقِ ... ويُطْلَقُ على القتلِ بأيِ نوعٍ كان، قال: 457 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ألا لَيْتَ قَيْساً غَرَّقَتْهُ القَوابِلُ والأصلُ فيه أن القابِلَة كانَتْ تُغَرِّق المولودَ في دَمِ السلى عام القَحْطِ ليموتَ، ذكراً كان أو أنثى، ثم جُعِل كلُّ قَتْل تغريقاً. ومنه قول ذي الرمة: 458 - إذا غَرَّقْتَ أرباضُها ثِنْيَ بَكْرَةٍ ... بتَيْهاءَ لم تُصْبِحْ رَؤوماً سَلُوبُها قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملةٌ من مبتدأ أو خبر في محلِّ نصبٍ على الحال من «آل فرعون» والعاملُ «أَغْرقنا» ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من مفعولٍ «أنْجَيْناكم» . والنظرُ يَحْتَمِلُ أن يكونَ بالبصرِ لأنهم كانوا يُبْصِرُون بعضَهم بعضاً لقُرْبِهم. وقيل: إنَّ آلَ فرعون طَفَوْا على الماء فنظروا إليهم، وأن يكونَ بالبصيرةِ والاعتبار. وقيل: المعنى وأنتم بحالِ مَنْ ينظرُ لو نَظَرْتُم، ولذلك لم يُذْكَرْ له مفعولٌ.

51

قوله تعالى: {وَاعَدْنَا} . قرأ أبو عمروٍ هنا وما كان مثلَه ثلاثياً، وقرأه الباقون: «واعَدنْا» بألف. واختارَ أبو عُبَيْد قراءةَ أبي عمروٍ، ورجَّحها بأنَّ المواعدةَ إنما تكونُ من البشر، وأمَّا اللهُ تعالى فهو المنفردُ بالوَعْد والوعيد، على هذا وجَدْنَا القرآن، نحو: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} [النور: 55] {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ} [الفتح: 20] {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} [إبراهيم: 22] {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله} [الأنفال: 7] ، وقال مكي مُرَجِّحاً لقراءةِ أبي عمرو أيضاً: «وأيضاً فإنَّ ظاهرَ اللفظِ فيه وَعْدٌ من اللهِ لموسى، وليسَ فيه وعدٌ مِنْ موسى فَوَجَبَ حَمْلُهُ على الواحدِ بظاهر النص» ثم ذَكَرَ جماعةً جِلَّةً من القرَّاءِ عليها. وقال أبو حاتم مُرَجِّحاً لها أيضاً: «قراءةُ العامَّة عندَنا: وَعَدْنا بغيرِ ألفٍ لأن المواعَدَةَ أكثرُ ما تكونُ من المخلوقين والمتكافِئين» . وقد أجابَ الناس عن قول أبي عُبَيْد وأبي حاتم ومكي بأن المفاعلةَ هنا صحيحةٌ، بمعنى أنَّ موسى نزَّلَ قبوله لالتزام الوفاءِ لمنزلة الوَعْدِ منه، أو أنَّه وَعَدَ أن يُعْنَى بما كلَّفه ربُّه. وقال مكي: «المواعدة أصلُها من اثنين، وقد تأتي بمعنى فَعَل نحو:

طارَقْتُ النَّعْلَ» ، فجعل القراءتين بمعنىً واحد، والأولُ أحسنُ. ورجَّح قوم «واعدنا» . وقال الكسائي: «وليس قولُ الله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ} [النور: 55] من هذا البابِ في شيء؛ لأن واعَدْنا موسى إنما هو من بابِ الموافاة، وليس من الوَعْد في شيء، وإنما هو من قولك: مَوْعِدُكَ يومُ كذا وموضعُ كذا، والفصيحُ في هذا» واعَدْنا «. وقال الزجاج:» واعَدْنا «بالألفِ جَيِّدٌ، لأن الطاعةَ في القَبول بمنزلةِ المواعدة، فمِنَ الله وَعْدٌ، ومِنْ موسى قَبولٌ واتِّباعٌ، فجَرى مَجْرَى المواعدة» . وقال مكي أيضاً: «والاختيارُ» واعَدْنا «بالألفِ، لأن بمعنى وَعَدْنَا، في أحدِ مَعْنَيَيْه، وأنه لا بُدَّ لموسى وَعْدٍ أو قبول يقُومُ مقامَ الوعدِ فَصَحَّت المفاعلة» . و «وعدَ» يتعدَّى لاثنين، فموسى مفعولٌ أولُ، وأربعين مفعولٌ ثانٍ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضاف، أي: تمامَ أربعين، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ على الظرفِ لفسادِ المعنى وعلامةُ نصبه الياءُ لأنه جارٍ مجرى جَمْعِ المذكر السالم، وهو في الأصلِ مفرد اسمُ جمعٍ، سُمِّي به هذا العَقْدُ من العَدَد، ولذلك أَعْربه بعضُهم بالحركاتِ ومنه في أحدِ القولين قولُه: 459 - وماذا يَبْتَغِي الشعراءُ مني ... وقد جاوَزْتُ حَدَّ الأربعينِ

بكسر النون، و «ليلةً» نصبٌ على التمييز، والعُقود التي هي من عِشْرين إلى تسعين وأحدَ عشرَ إلى تسعةَ عشرَ كلُّها تُمَيَّز بواحدٍ منصوبٍ. وموسى اسمٌ أعجمي [غيرُ منصرفٍ] ، وهو في الأصل على ما يُقال مركبٌ، والأصل: مُوشى بالشين لأنَّ «ماء» بلغتهم يقال له: «مُو» والشجر يقال له «شاء» فعرَّبته العربُ فقالوا موسى، قالوا: وقد لَقِيه آلُ فرعون عند ماءٍ وشجرٍ. واختلافُهم في موسى: هل هو مُفْعَل مشتقٌّ من أَوْسَيْتُ رأسَه إذا حلقتُه فهو مُوسى، كأعطيتُه فهو مُعْطَىً، أو هو فُعْلَى مشتقٌّ من ماسَ يميس أي: يتبخترُ في مِشْيَته ويتحرَّكُ، فقُلِبَتِ الياءُ واواً لانضمامِ ما قبلَها كمُوْقِن من اليقين، [وهذا] إنما هو [في] مُوسى الحديدِ التي هي آلةُ الحَلْق، لأنها تتحرَّك وتضطربُ عند الحَلْقِ بها، وليس لموسى اسمِ النبي عليه السلام اشتقاقٌ لأنه أعجميٌّ. قوله: {ثُمَّ اتخذتم العجل} اتَّخذ يتعدَّى لإِثنينِ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ أي: ثم اتخذتم العجلَ إلهاً. وقد يتعدَّى لمفعولٍ واحد إذا كان معناه عَمِل وجَعَل نحو: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116] ، وقال بعضُهم: تَخِذَ واتَّخَذَ يتعدَّيانِ لاثنين ما لَمْ يُفْهِمَا كَسْباً، فيتعدَّيان لواحدٍ. واختُلِفَ في اتَّخَذَ فقيل: هو افْتَعَلَ من الأخْذ والأصلُ: اأتخذ الأوُلى همزةُ وصلٍ والثانيةُ فاءُ الكلمةِ فاجتمعَ همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ بعد أخرى، فَوَجَبَ قلبُها ياءً كإيمان،

فَوَقَعَت الياءُ قبلَ تاءِ الافتعالِ فأُبْدِلَتْ تاءً وأُدْغِمَتْ في تاءِ الافتعال كاتَّسر مِن اليُسْر، إلاَّ أنَّ هذا قليلٌ في باب الهمز نحو: اتَّكل من الأكْل واتَّزَرَ من الإِزارِ. وقال أبو علي: هو افْتَعَلَ من تَخِذَ يَتْخِذُ، وأنشد: 460 - وقد تَخِذَتْ رِجْلِي إلى جَنْبِ غَرْزِهَا ... نَسيفاً كأُفْحوصِ القَطاةِ المُطَرِّقِ وقال تعالى: {لَتَخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] وهذا أسهلُ القَوْلَيْن. والقُرَّاءُ على إدغامِ الذالِ في التاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجِهما، وابن كثير وعاصم في رواية حَفْصٍ بالإِظهار، وهذا الخلافُ جارٍ في المفردِ نحو: اتَّخَذْتُ، والجمع نحو: اتَّخَذْتُم، وأتى في هذه الجملة ب «ثُمَّ» دلالةً على أنَّ الاتخاذَ كان بعدَ المواعدة بمُهْلَةٍ. قوله: «مِنْ بعدِه» متعلِّقٌ باتَّخَذْتُمْ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، والضميرُ يعودُ على موسى، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: مِنْ بعدِ انطلاقِه أو مُضِيِّهِ، وقال ابنُ عطية: «يعودُ على موسى [وقيل: على انطلاقِه للتكليمِ، وقيل: على الوَعْد، وفي كلامِهِ بعضُ مناقشةٍ، فإنَّ قولَه:» وقيل يعودُ على انطلاقِه «يَقْتَضِي عَوْدَه على موسى] من غيرِ تقدير مضافٍ وذلك غيرُ مُتَصَوَّرٍ.

قوله:» وأنتم ظالمون «جملةٌ حاليةٌ من فاعل» اتَّخَذْتُمْ «.

52

قوله تعالى: [ {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم} ] . . والعَفْوُ: المَحْوُ، ومنه «عَفَا اللهُ عنكم» أي: مَحَا ذنوبَكم، والعافيةُ لأنها تَمْحُو السُّقْمَ، وَعَفَتِ الريحُ الأثرَ، قال: 461 - فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها ... لِما نَسَجَتْها مِنْ جَنُوبٍ وشَمَأْلِ وقيل: عَفا كذا أي: كَثُر، ومنه «وَأَعْفُوا اللِّحى» فيكونُ من الأضداد. وقال ابنُ عطية: «العَفْوُ تغطيهُ الأثرِ وإذهابُ الحالِ الأول من الذَّنْب أو غيره ولا يُسْتَعْمَلُ العَفْوُ بمعنى الصَّفْح إلا في الذَّنْبِ» . وهذا الذي قاله [قريبٌ] من تفسير الغُفْرانِ، لأنَّ الغَفْرَ التغطيةُ والسَّتْر، ومنه: المِغْفَرُ، ولكِنْ قد فُرِّقَ بينهما بأنَّ العفوَ يجوزُ أن يكونَ بعد العُقوبَةِ فيجتمِعُ معها، وأمَّا الغُفْران فلا يكونُ مع عقوبةٍ. وقال الراغب: «العَفْوَ: القَصْدُ لِتَناوُلِ الشيء، يُقال: عَفَاه واعْتَفَاه أي قَصَده مُتَناولاً ما عندَه، وعَفَتِ الريحُ الترابَ قَصَدَتْها متناولةً آثارَها، وعَفَتِ الديارُ كأنها قَصَدَتْ نحو البِلَى، وعَفَا النبتُ والشَّعْرُ قَصَدَ تناولَ الزيادةِ، وعَفَوْتُ عنك كأنه قَصَدَ إزالَة ذَنْبِه صارِفاً عنه، وأَعْفَيْتُ كذا أي تركْتُه يَعْفُو ويكثُر ومنه» وأَعْفُوا اللحى «فَجَعَلَ القصدَ قَدْراً

مشتركاً في العَفْو، وهذا ينفي كونَه من الأضداد، وهو كلامٌ حَسَنٌ، وقال الشاعرٍ: 462 - ……. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا ردَّ عافي القِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُهَا معناه: أنَّ العافِيَ هنا ما يَبْقَى في القِدْرِ مِنَ المَرَقِ ونحوِه، فإذا أرادَ أحدٌ [أَنْ] يستعيرَ القِدْرَ يُعَلِّلُ صاحبَها بالعافي الذي فيها، فالعافي فاعل، ومَنْ يستعيرُها مفعولٌ، وهو من الإِسنادِ المجازي لأنَّ الرادَّ في الحقيقة صاحبُ القِدْرِ بسببِ العافي. وقوله: {تَشْكُرُونَ} في محلِّ رفعٍ خبرُ» لعلَّ «، وقد تقدَّم تفسيرُ الشكر عند ذكر الحَمْدِ. وقال الراغب:» وهو تَصَوُّرُ النِّعْمَةِ وأظهارُها، وقيل: هو مَقْلُوبٌ عن الكَشْرِ أي الكَشْف وهو ضدُّ الكفر، فإنه تَغْطِيَةُ النِّعْمَةِ. وقيل: أصلُه من عَيْن شَكْرى أي ممتلئةٌ، فهو على هذا الامتلاءُ مِنْ ذِكر المُنْعَمِ عليه «. وشَكَر من الأفعالِ المتعدِّيَة بِنفسِها تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى وليسَ أحدُهما أصلاً للآخَر على الصحيحِ، فَمِنَ المتعدِّي بنفسِه قولُ عمرو ابن لُحَيّ: 463 - همُ جَمَعُوا بؤسى ونعمى عليكُمُ ... فَهَلاَّ شكرْتَ القومَ إذ لم تُقاتِلِ

ومن المتعدَّي بحرفِ الجرِّ قولُه تعالى: {واشكروا لِي} [البقرة: 152] وسيأتي [هناك] تحقيقُه.

53

قوله تعالى: {الكتاب والفرقان} . . مفعولٌ ثانٍ لآتينا، وهل المرادُ بالكتاب والفرقانِ شيءٌ واحدٌ وهو التوراةُ؟ كأنه قيل: الجامعُ بينَ كونِه كتاباً مُنَزَّلاً وفرقاناً يَفْرُق بين الحقِّ والباطلِ، نحو: رأيت الغيثَ والليثَ، وهو من باب قولِه: 464 - إلى المَلِك القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أو لأنه لمَّا اختَلَفَ اللفظُ جازَ ذلك كقوله: 465 - فَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لراهِشَيْهِ ... وأَلْفَى قولَها كَذِباً وَمَيْنَا وقوله: 466 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وهندٌ أتى مِنْ دَوْنِها النَّأْيُ والبُعْدُ

وقولهِ: 467 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَقْوَى وأَفْقَرَ بعدَ أُمِّ الهَيْثَمِ قال النحاس: «هذا إنما يجوزُ في الشِّعْر، فالأحسنُ أن يُرادَ بالفرقان ما علَّمه اللهُ موسى من الفَرْق بين الحق والباطل» . وقيل: الواوُ زائدة، و «الفرقان» نعتٌ للكتاب أو «الكتابُ» التوراةُ، و «الفرقانُ» ما فُرِّقَ به بين الكُفْر والإِيمانِ، كالآياتِ من نحو العَصا واليد، أو ما فُرِّقَ به بين الحلالِ والحَرام من الشرائعِ. والفُرْقُانُ في الأصلِ مصدرٌ مثلُ الغُفْران. وقد تقدَّمَ معناهُ في {فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50] . وقيل: الفرقانُ هنا اسمُ للقرآنِ، قالوا: والتقديرُ: ولَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتابَ ومحمداً الفرقانَ. قال النحاس: «هذا خطأٌ في الإِعرابِ والمعنى، أمَّا الإِعرابُ فلأنَّ المعطوفَ على الشيءِ مثلُه، وهذا يخالِفُه، وأمَّا المعنى فلقولِه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان} [الأنبياء: 48] .

54

قوله تعالى: {يَاقَوْمِ} . . اعلم أنَّ في المنادى المضافِ إلى ياء المتكلم ستَّ لغاتٍ أفصحُها: حَذْفُها مُجْتَزَأً منها بالكسرةِ وهي لغةُ القرآن،

الثانية: ثبوتُ الياءِ ساكنةً، الثالثة: ثبوتُها مفتوحةً، الرابعةُ: قَلْبُهَا ألفاً، الخامسةُ: حَذْفُ هذهِ الألفِ والاجتزاءُ عنها بالفتحةِ كقولِه: 468 - ولَسْتُ بِراجعٍ ما فاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لَوَنِّي أي: بقولي يا لَهْفا، السادسة: بناءُ المضاف إليها على الضمِّ تشبيهاً بالمفرد، نحو قراءةِ مَنْ قَرَأ: {قَالَ رَبُّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] . قال بعضُهم: «لأنَّ» يا قوم «في تقدير: يا أيُّهَا القومُ» وهذا ليس بشيءٍ. والقومُ: اسمُ جمعٍ، لأنَّه دالٌّ على أكثرَ مِن اثنين، وليس له واحدٌ من لفظِهِ ولا هو على صيغةٍ مختصَّةٍ بالتكسيرِ، ومفردُه رَجُل، واشتقاقُه من قام بالأمرِ يَقُوم به، قال تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} [النساء: 34] ، والأصلُ في إطلاقِه على الرجال، ولذلك قُوبل بالنساءِ في قولهِ: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ. . . وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ} [الحجرات: 11] وفي قولِ زهير: 469 - وما أَدْرِي وسوفُ إخالُ أَدْرِي ... أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ وأما قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105] و {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} [الشعراء: 160] ، والمكذِّبون رجالٌ ونساء فإنما ذلك من باب التغليب، ولا يجوزُ أن يُطْلَقَ

على النساءِ وَحْدَهُنَّ البتةَ، وإن كانَتْ عبارةُ بعضِهم تُوهِمُ [ذلك] . قوله: {باتخاذكم العجل} الباءُ للسببيةِ، متعلِّقَةٌ ب «ظَلَلْتُم» وقد تقدَّم الخلافُ في هذه المادةِ: هل أصلُها أَخَذَ أو تَخِذَ. و «العجل» مفعولٌ أولُ والثاني محذوفٌ أي: إلهاً كما تقدَّم. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعِلِ وهو أحسنُ الوجهينِ، فإنَّ المصدَرَ إذا اجتمع فاعلُه ومفعولُه فالأَوْلَى إضافتُه إلى الفاعل لأنَّ رُتْبَته التقديمُ، وهذا من الصورِ التي يَجِبُ فيها تقديمُ الفاعل. فأمَّا: {قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [الأنعام: 137] فسيأتي [القول فيها مُشْبعاً] إن شاء الله تعالى. والعِجْلُ معروفٌ وهو وَلَدُ البقرة. قال الراغب: «العِجْلُ وَلَدُ البقرةِ لِتَصوُّرِ عَجَلَتِها التي تَعْدَمُ منه إذا صارَ ثَوْراً» . وقيل: إنما سُمِيَّ عِجْلاً لأنهم تَعَجَّلُوا عبادتَه قبل مجيء موسى، ويُرْوى عن عليّ، وهذا لا يَصِحُّ عنه فإنَّ هذا الاسمَ معروفٌ قبلَ ذلك، والجمع عَجاجِيل وعُجُول. قوله: «إلى بارِئِكم» متعلِّقٌ ب «تُوبوا» والمشهورُ كَسْرُ الهمزة، لأنها حركةُ إعرابٍ، ورُوي عن أبي عمرو ثلاثةُ أوجهٍ أُخَرَ: الاختلاسُ، وهو

الإِتيانُ بحركةٍ خفيَّة، والسكونُ المَحْضُ، وهذه قد طَعَنَ عليها جماعةٌ من النحويين، ونسبوا راويَها إلى الغَلَطِ على أبي عمرو، قال سيبويه: «إنما اختلسَ أبو عمرو فظنَّه الروايَ سَكَّن ولم يَضْبِط» ، وقال المبردُ: «لا يجوزُ التسكينُ مع توالي الحركات في حرف الإِعراب في كلامٍ ولا شعر، وقراءةُ أبي عمروٍ لَحْنٌ» وهذه جرأةٌ من المبرِّد وجَهْلٌ بأشعارِ العرب، فإنَّ السكونَ في حركاتِ الإِعراب قد وَرَدَ في الشعرِ كثيراً، ومنه قولُ امرئِ القيس: 470 - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إثْماً مِن اللهِ ولا واغِلِ فسكَّن «أَشْرَبْ» ، وقال جرير: 471 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ونهرُ تيرى فما تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ وقال أخر: 472 - رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما ... وقد بَدَا هَنْكِ من المِئْزَرِ

يريد: هَنُك، وتَعْرِفُكم، فهذه حركاتُ إعرابٍ وقد سُكِّنَتْ، وقد أنشد ابنُ عطية وغيرُه رَدَّاً عليه: 473 - قالت سُلَيْمى اشْتَرْ لنا سَويقا ... وقول الآخر: 474 - إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ ... وقول الآخر: 475 - إنما شِعْريَ شَهْدٌ ... قد خُلْطَ بِجُلْجُلانْ ولا يَحْسُن ذلك لأنها حركاتُ بناء، وإنما مَنَع هو ذلك في حركاتِ الإِعراب، وقراءةُ أبي عمرو صحيحةٌ، وذلك أنَّ الهمزةَ حرفٌ ثقيل، ولذلك اجْتُرِئَ عليها بجميع أنواعِ التخفيفِ، فاسْتُثْقِلَتْ عليها الحركةُ فقُدِّرَت، وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة - رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {وَمَكْرَ

السيىء وَلاَ} فإنه سَكَّن هَمزة «السيء» وَصْلاً، والكلامُ عليهما واحد، والذي حسَّنه هنا أنَّ قبلَ كسرةِ الهمزةِ راءً مكسورةً، والراءُ حرفُ تكريرٍ، فكأنه توالى ثلاثُ كَسَرات فَحَسُنَ التسكينُ، وليت المبردَ اقتدى بسيبويهِ في الاعتذار عن أبي عمرو وفي عَدَم الجرأة عليه: 476 - وابنُ الَّلُبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيْسِ وجميعُ روايةِ أبي عمروٍ دائرةٌ على التخفيفِ، ولذلك يُدْغِمُ المِثْلَيْن والمتقارِبَيْن ويُسَهِّلُ الهمزة ويُسكِّنُ نحو: {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] ، و {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] ، و {بِأَعْلَمَ بالشاكرين} [الأنعام: 53] على تفصيلٍ معروفٍ عند القرَّاء. ورُوِيَ [عنه] إبدالُ هذه الهمزةِ الساكنةِ ياءً كأنه لم يَعْتَدَّ بالحركةِ المقدَّرةِ، وبعضُهم يُنْكِرُ ذلك [عنه] ، فهذه أربعُ قراءات لأبي عمروٍ. وروى ابنُ عطية عن الزهري «بارِيِِكم» بكسر الياء من غيرِ هَمْزٍ، قال: «ورُوِيَتْ عن نافع» ،

قلت: من حقَّ هذا القارئ أن يُسَكِّنَ الياءَ لأنَّ الكسرةَ ثقيلةٌ عليهَا، ولا يجوزُ ظهورُها إلا في ضرورةِ شعرٍ كقول أبي طالب: 477 - كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّداً ... ولم تَخْتَصِبْ سُمْرُ العَوالِيِّ بالدَّمِ وقرأ قتادة: «فاقْتالوا» وقال: هي من الاستقالةِ، قال ابن جني: «اقتال: افْتَعَل، ويُحَتمل أنْ تكونَ عينُها واواً [كاقتادوا] أو ياءً كاقتاس، والتصريفُ يُضْعِفُ أن تكونَ من الاستقالة» ، ولكن قتادةَ ينبغِي أن يُحْسَنَ الظَّنُّ به في أنه لم يُوْرِدْ إلا بحُجَّةٍ عنده. والبارئ هو الخالقُ، بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ أي خَلَقَهم، وقد فَرَّق بعضُهم بين الخالق والبارئ بأنَّ البارئَ هو المُبْدِعُ المُحْدِثُ، والخالِقُ هو المُقَدِّرُ الناقلُ من حالٍ إلى حال. وأصَلُ هذه المادةِ يَدُلُ على الانفصالِ والتميُّزِ، ومنه: بَرَأَ المريضُ بُرْءاً وبَرْءاً وبَرِئْتُ وَبَرَأْتُ أيضاً من الدَّيْن بَراءةً، والبَرِيَّةُ الخَلْق، لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى الوجودِ، إلا أنَّه لا يُهْمَزُ، وقيل: أصلُه من البَرَى وهو التراب، وسيأتي تحقيقُ القَوْلَيْنِ في موضعِه إن شاء الله تعالى. قوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} قال بعضُهم: «ذلكم» مفردٌ واقعٌ موقعَ «ذانكم»

المثنَّى، لأنه قد تقدَّم اثنان: التوبة والقتلُ. قال أبو البقاء: «وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّ قولَه: {فاقتلوا} تفسيرُ التوبةِ فهو واحدٌ» و «خَيْر» أفعلُ تفضيلٍ وأصلُه: أًَخْيَرُ، وإنما حُذِفَتْ همزتُه تخفيفاً ولا تَرْجِعُ هذه الهمزةُ إلا في ضرورةٍ، قال: 478 - بلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ ... ومثلُه شَرّ، لا يجوز أَشَرّ، إلا في ندور، وقد قُرىء: {مَن الكّذَّابُ الأَشَرُّ} [القمر: 26] وإذا بُني من هذه المادةِ فعلُ تعجُّبٍ على أَفْعَل فلا تُحْذَفُ همزتُه إلا في ندورٍ كقولِهم: «ما خَيْرَ اللبنِ للصحيحِ، وما شَرَّه للمبطونِ» فخيرٌ وشَرٌّ قد خَرَجَا عن نظائرهما في بابِ التفضيل والتعجُّب، و «خَيْر» أيضاً مخفَّفَةٌ من خَيَّر على فَيْعِل ولا يكونُ من هذا البابِ، ومنه: «فيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ» قال بعضهم: «مُخَفَّف من خَيِّرات» . والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للعلمِ به، أي: خيرٌ لكم من عدم التوبة. ولأَفْعَلِ التفضيلِ أحكامٌ كثيرةٌ وشروطٌ منتشرةٌ لاَ يَحْتملها [هذا] الكتابُ، وإنما نأتي منها بما نضطرُّ إليه.

قولُه تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} في الكلامِ حَذْفٌ، وهو «فَفَعَلْتُم ما أُمِرْتُمْ به من القتلِ فتابَ عليكم. والفاءُ الأولى في قوله:» فتوبوا «للسببية، لأن الظلمَ سَببُ التوبةِ، والثانيةُ للتعقيبِ، لأنَّ المعنى: فاعْزِموا على التوبة، فاقتلوا أنفسَكم، والثالثةُ متعلقةٌ بمحذوفٍِ، ولا يخلو: إمَّا أن ينتظمَ في قول موسى لهم فيتعلَّقَ بشرطٍ محذوفٍ كأنه: وإنْ فَعَلْتُم فقد تابَ عليكم، وإمَّا أَنْ يكونَ خطاباً من الله لهم على طريقةِ الالتفاتِ، فيكونُ التقديرُ: فَفَعَلْتُم ما أَمركم به موسى فتابَ عليكُم، قاله الزمخشري.

55

قولُه تعالى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} : إنَّما تعدَّى باللامِ دونَ الباءِ لأحدِ وجهين: إمَّا أَنْ يكونَ التقديرُ: لَن نُؤْمِنَ لأجلِ قولِك، وإمَّا أَنْ يُضَمَّنَ مَعنى الإِقرارِ، أي: [لَنْ] نُقِرَّ لك بما ادَّعَيْتَه، وقرأ أبو عمرو بإدغام النونِ في اللامِ لتقاربُهِما. قولُه تعالى: «جَهْرَةً» فيه قولان: أحدُهما: أنها مصدرٌ وفيها حينئذٍ قولان، أحدُهما أنَّ ناصبَها محذوفٌ، وهو من لفظِها، تقديرُه: جَهَرْتُمْ جَهْرةً نقله أبو البقاء، والثاني: أنها مصدرٌ من نوعِ الفعلِ فَتَنْتَصِبُ انتصابَ

القُرْفُصاء من قولك: «قَعَدَ القُرْفُصاء» ، «واشتمل الصَمَّاء» ، فإنها نوعٌ من الرؤيةِ، وبه بدأ الزمخشري. والثاني: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، وفيها حينئذ أربعةُ أقوالٍ، أحدُهما: أنه حالٌ من فاعل «نرى» أي: ذوي جَهْرَةٍ، قاله الزمخشري. والثاني: أنَّها حالٌ من فاعل «قُلْتم» ، أي: قلتم ذلك مجاهِرين، قاله أبو البقاء، وقال بعضُهم: فيكونُ في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: قُلْتم جهرةً لن نؤمِنَ لك، ومثلُ هذا لا يُقال فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، بل أتى بمفعولِ القولِ ثم بالحالِ من فاعِلِه، فهو نظيرُ: «ضَرَبْتُ هنداً قائماً» . والثالثُ: أنَّها حَالٌ من اسمِ اللهِ تعالى، أي: نَرَاه ظاهراً غيرَ مستورٍ. والرابعُ: أنَّها حالٌ من فاعلِ «نؤمن» نقله ابنُ عطية، ولا معنى له، والصحيحُ من هذه الأقوالِ الستةِ الثاني. وقرأ ابنُ عباس «جَهَرَةً» بفتح الهاء وفيها قولان، أحدُهما: أنها لغةٌ في جَهْرة، قال ابن عطية: «وهي لغةٌ مسموعةٌ عند البصريين فيما فيه حَرْفُ الحلقِ ساكنٌ قد انفتح ما قبله، والكوفيون يُجيزون فيه الفتحَ وإنْ لَمْ يَسْمعوه» ، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ في ذلِك. والثاني: أنها جمعُ «جاهر» ، نحو: خادِم وخَدَم والمعنى: حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر، وهي تُؤَيِّدُ كونَ «جهرةً» حالاً من فاعل «نَرى» .

والجَهْرُ: ضدُّ السِّرِّ وهو الكَشْفُ والظهورُ، ومنه جَهَرَ بالقراءةِ أي: أظهرَها: قال الزمخشري: «كأنَّ الذي يَرى بالعين جاهرٌ بالرؤيةِ، والذي يَرَى بالقلبِ مُخافِتٌ بها» .

57

قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} : تقديرُه: وجَعَلْنا الغَمَامَ يُظَلِّلُكُمْ، قال أبو البقاء: «ولا يكونُ كقولِك:» ظَلَّلْتُ زيداً يُظَلُّ «لأن ذلك يقتضي أن يكونَ الغمامُ مستوراً بظِلٍّ آخَرَ» وقيل: التقديرُ: بالغَمامِ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ، لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ لا ينقاسُ. والغَمامُ: السَّحابُ لأنه يَغُمُّ وجهَ السماء، أي يستُرُها، وكلُّ مستورٍ مغموم أي مُغَطَّى، وقيل: الغمامُ: السحابُ الأبيضُ خاصةً، ومثلُه الغَيْمُ والغَيْن بالميم والنونِ، وفي الحديثِ «إنه لَيُغَانُ على قَلْبِي» ، وواحدتُه غَمامةٌ فهو اسمُ جنسٍ. والمَنُّ قيل: هو التَّرَّنْجِبين والطَّرَّنْجِيِِن بالتاء والطاء، وقيل: هو مصدرٌ يعني به جميعَ ما منَّ الله تعالى به على بني إسرائيل من النِّعَمِ، وكذلك قِيل في السَّلْوى، إنها مصدرٌ أيضاً، أي: إنَّ لهم بذلك التَّسَلِّيَ، نقلَه الراغبُ، والمَنُّ أيضاً مِقْدارٌ يُوزَنُ به، وهذا يجوزُ إبدالُ نونِه الأخيرةِ حرفَ

علَّة، فيقالُ: «مَنا» مثلَ عَصا، وتثنيتُه مَنَوان، وجمعُه أمْناء. والسَّلْوى المشهورُ أنها السمانى بتخفيفِ الميمِ، طائرٌ معروف. والمَنُّ لا واحدَ له من لفظِه، والسَّلْوى مفردُها سَلْواة، وأنشدوا: 47 - 9- وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ سَلْوَةٌ ... كما انتفضَ السَّلْواةُ مِنْ بَلَلِ القَطْرِ فيكونُ عندَهم من باب: قمح وقمحة، وقيل: «سَلْوى» مفردٌ وجمعُها سَلاوى، قاله الكسائي، وقيل: سَلْوى يُستعمل للواحدِ والجمعِ، كدَقَلى وشُكاعى وقيل: السَّلْوى: العَسَلُ، قال الهذلي: 480 - وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ ... أَلَذُّ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورُها وغَلَّطه ابنُ عطية، وادَّعَى الإِجماعَ على أن السَّلْوى طائر، وهذا غيرُ مُرْضٍ من القاضي أبي محمد، فإن أئمةَ اللغةِ نقلوا أن السلوى العَسَلُ، ولم يُغْلِّطوا هذا الشاعرَ، بل يستشهدونَ بقولِه. قوله: «كُلُوا» هذا على إضمار القَوْلِ، أي: وقُلْنَا لهم: كُلوا: وإضمارُ القولِ كثيرٌ في لسانِهم، ومنه: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23-24] أي: يقولونَ سلامٌ، «والذينَ اتَّخَذوا من دونِهِ أولياءَ ما نعبدُهم

إلا» أي: يقولون ذلك، «وأمَّا الذين اسْوَدَّتْ وجوهُهم أَكَفَرْتم أي: فيُقال لهم ذلك وقد تقدَّم القولُ في» كل «وتصريفِه. قوله: {مِن طَيِّبَاتِ} » مِنْ «لابتداءِ الغايةِ أو للتبعيضِ، وقال أبو البقاء:» أو لبيانِ الجنسِ والمفعولُ محذوفٌ أي: كُلوا شيئاً من طيبات «وهذا غيرُ مُرْضٍ، لأنه كيف يُبَيَّنُ شيءٌ ثم يُحْذَفُ؟ قوله: {مَا رَزَقْنَاكُمْ} يجوزُ في» ما «أن تكونَ بمعنى الذي، وما بعدها صلةٌ لها والعائدُ محذوفٌ، أي: رزقناكموه، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً. فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّها الجرُّ على الثاني، والكلامُ في العائدِ كما تقدَّم، وأن تكونَ مصدريةً والجملةُ صلتُها، ولم يُحْتَجْ إلى عائدٍ على ما عُرِفَ قبلَ ذلك، ويكونُ هذا المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ، أي: مِنْ طيباتِ مَرْزُوقِنا. قوله تعالى: {أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} » أنفسَهم «مفعولٌ مقدَّمٌ، و» يَظْلِمُون «في محلِّ النصْبِ لكونِه خبرَ» كانوا «، وقُدِّم المفعولُ إيذاناً باختصاصِ الظلم بهم وأنَّه لا يتعدَّاهم. والاستدراكُ في» لكنْ «واضحٌ. ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قبل قوله {وَمَا ظَلَمُونَا} ، فقدَّره ابنُ عطية: فَعَصَوْا ولم يقابلوا النِّعَمَ بالشكر. وقال الزمخشري:» تقديرُه: فَطَلمُونا بأَنْ كفروا هذه النِّعَمَ وما ظلمونا، فاختصرَ الكلامَ بحذْفِه لدلالةِ {وَمَا ظَلَمُونَا} عليه.

58

قوله تعالى: {هذه القرية} : هذه: منصوبةٌ عند سيبويه على الظرف وعند الأخفشِ على المفعولِ به، وذك أنَّ كلَّ ظَرْفِ مكانٍ مختصٍّ لا يتَعَدَّى إليه الفعلُ إلا ب «في» تقول: صَلَّيْتُ في البيتِ، ولا تقولُ: صَلَّيْتُ البيتَ؛ إلا ما اسْتُثْني. ومِنْ جملةِ ما اسْتُثْنِي «دَخَلَ» مع كلِّ مكانٍ مختصٍّ، نحو: دَخَلْتُ البيتَ والسوقَ، وهذا مذهبُ سيبويهِ. وقال الأخفشُ: «الواقعُ بعد» دَخَلْتُ «مفعولٌ به كالواقعِ بعد هَدَمْتُ في قولِك:» هَدَمْتُ البيتَ «فلو جاء» دَخَلَ «مع غيرِ الظرفِ تَعَدَّى [بفي، نحو: دَخَلْتُ في الأمر، ولا تقولُ: دَخَلْتُ الأمرَ، وكذا لو جاءَ الظرفُ المختصُّ مع غيرِ» دَخَلَ «تَعَدَّى] ب» في «إلا ما شَذَّ كقولِه: 481 - جَزَى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِه ... رفيقَيْن قالا خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ و» القريةَ «نعتٌ ل» هذه «، أو عطفُ بيانٍ كما تقدَّم، والقريةُ مشتقةٌ من قَرَيْتُ أي: جَمَعْتُ: تقولُ: قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ، أي: جَمَعْتُه، واسمُ ذلك الماء: قِرَىً بكسر القاف. والمِقْراةُ: الجَفْنَةُ العظيمةُ، وجمعُها مَقارٍ، قال: 482 - عِظام المَقاري ضَيْفُهُمْ لا يُفَزَّعُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والقَرْيان: اسمٌ لمُجْتَمَعِ الماءِ، والقريةُ في الأصلِ اسمٌ للمكانِ

الذي يَجْتمع فيه القومُ، وقد يُطْلَقُ عليهم مجازاً، وقوله تعالى:» واسألِ القريةَ «يَحْتَمِلُ الوَجْهين. وقال الراغبُ:» إنها اسمٌ للموضعِ وللناسِ جميعاً، ويُسْتعملَ في كلِّ واحدٍ منهما «. قولُه تعالى: {الباب سُجَّداً} » سُجَّدا «حالٌ من فاعلِ» ادْخُلوا «، وهو جمع ساجدِ. قال أبو البقاء:» وهو أَبْلَغُ من السجود «يعني أنَّ جَمْعَه على فُعَّل فيهِ من المبالغةِ ما ليسَ في جَمْعِهِ على فُعُول، وفيه نَظَرٌ. وأصلُ» باب «: بَوَب لقولهم أَبْواب، وقد يُجْمَعُ على أَبْوِية لازدواجِ الكلامِ، قال الشاعر: 483 - هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ ولاَّجُ أبوبةٍ ... يَخْلِطُ بالبِرِّ منه الجِدِّ والِّلْينا قوله: حِطَّة» قُرِئ بالرفع والنصب، فالرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: مسألتُنا حِطَّة أو أمرُك حِطَّة، قال الزمخشري: والأصلُ النصبُ، بمعنى حُطَّ عنا ذنوبَنا حِطَّةً، وإنما رُفِعَتْ لتعطِيَ [معنى] الثباتِ، كقوله: 484 - شَكا إليَّ جَمَلي طُولَ السُّرَى ... صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مُبْتَلَى

والأصلُ: صَبْراً عليَّ، اصبرْ صبراً «، فَجَعَلَه من بابِ {سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 24] ، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وقال ابنُ عطية:» وقيل: أُمِروا أن يقولوها مرفوعةً على هذا اللفظِ «يعني على الحكايةِ، فعلى هذا تكونُ هي وحدَها من غيرِ تقديرِ شيءٍ مَعَها في مَحلِّ نصبٍ بالقول، وإنما مَنَعَ النصبَ حركةُ الحكايةِ. وقال أيضاً:» وقال عكرمة: أُمِروا أن يقولوا لا إله إلا اللهُ، لتُحَطَّ بها ذنوبهُم «وحكى قَوْلَيْن آخرين بمعناه، ثم قال:» فعلى هذه الأقوالِ تقتضي النصبَ، يعني أنه إذا كان المعنى على أنَّ المأمورَ به لا يتعيَّنُ أن يكونَ بهذا اللفظِ الخاصِّ، بل بأيِّ شيء يقتضي حَطَّ الخطيئةِ فكان ينبغي أن ينتصبَ ما بعد القول مفعولاً به نحو: قُلْ لزيد خيراً، المعنى: قل له ما هو من جنس الخُيور. وقال النحاس: «الرفعُ أَوْلى لِما حُكي عن العرب في معنى بَدَّل، قال أحمد بن يحيى:» يقال: بَدَّلْتُهُ أي غَيَّرْتُهُ ولم أُزِلْ عينَه، وأَبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينَه وشخصَه كقوله: 485 - عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ ... وقال تعالى: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] ، ولحديث ابن مسعود «

قالوا حِنْطة» تفسيرٌ على الرفع يعني أنَّ الله تعالى قال: «فبدَّل» الذي يقتضي التغييرَ لا زوالَ العَيْنِ، وهذا المعنى يَقْتضي الرفعَ لا النصبَ. وقرأ ابنُ أبي عبلة «حِطَّةً» بالنصب، وفيها وجهان: أحدُهما: أنها مصدرٌ نائبٌ عن الفعلِ، نحو: ضَرْباً زيداً، والثاني: أن تكونَ منصوبةً بالقولِ أي: قولوا هذا اللفظَ بعينِه، كما تقدَّم في وجهِ الرفعِ، فهي على الأوَّلِ منصوبةٌ بالفعلِ المقدِّرِ، وذلك الفعلُ المقدَّرُ ومنصوبُه في محلِّ نصبٍ بالقولِ، ورجَّحَ الزمخشري هذا الوجهَ. والحِطَّةُ: اسمٌ للهيئةِ من الحَطِّ كالجِلْسَةِ والقِعْدَة، وقيل: هي لفظةٌ أُمِروا بها ولا ندري مَعْناها، وقيل: هي التوبةُ، وأنشد: 486 - فاز بالحِطَّة التي جَعَلَ الل ... هُ بها ذنبَ عبدهِ مَغْفُورا قوله: «نَغْفِرْ» هو مجزومٌ في جوابِ الأمر، وقد تقدَّم الخلافُ: هل الجازمُ نفسُ الجملةِ أو شرطٌ مقدَّرٌ؟ أي: إنْ يقولوا نَغْفِرْ. وقُرئ «نَغْفِرْ» بالنون وهو جارٍ على ما قبله من قولِه «وإذ قلنا» و «تُغْفَرْ» مبنياً للمفعول بالتاءِ

والياء. و «خَطاياكم» مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعِلُه، فالتاءُ لتأنيثِ الخَطايا، والياءُ لأن تأنيثَها غيرُ حقيقي، وللفصلِ أيضاً ب «لكم» . وقُرئ «يَغْفِرْ» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، وهي في معنى القراءةِ الأولى، إلا أنَّ فيه التفاتاً. و «لكم» متعلق ب «نَغْفِرْ» . وأدغم أبو عمرو الراءَ في اللام، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُونها، قالوا: لأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فهي أقوى من اللامِ، والقاعدةُ أنَّ الأضعفَ يُدْغَمُ في الأقوى من غيرِ عَكْسٍ، وليسَ فيها ضَعْفٌ؛ لأنَّ انحرافَ اللامِ يقاوِمُ تكريرَ الراءِ. وقد طَوَّل أبو البقاء وغيرُه في بيانِ ضَعْفِها وقد تقدَّم جوابُه. قوله: «خَطَايَاكُمْ» : إمّا منصوبٌ بالفعل قبلَه، أو مرفوعٌ حَسْبما تقدَّم من القراءاتِ، وفيها أربعةُ أقوال، أحدُها: وهو قولُ الخليل رحمه الله أن أصلَها: خطايِئٌ، بياء بعد الألف ثم همزةٍ، لأنها جمعُ خطيئة مثل: صحيفة وصحايف، فلو تُرِكت على حالِها لوجَبَ قلبُ الياءِ همزةً لأنَّ مَدَّةَ فعايل يُفْعَلُ بها كذا، على ما تقرَّر في علمِ التصريف، فَفَرَّ من ذلك لئلا يَجْتَمع همزتان [بأنْ] قَلَبَ فَقَدَّم اللامَ وأَخَّر عنها المَدَّة فصارت: خَطائِي،

فاسْتُثْقِلَتْ على حرفٍ ثقيلٍ في نفسِه وبعده ياءٌ من جِنْسِ الكسرةِ، فَقَلبوا الكسرةَ فتحةً، فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً، فصارتْ: خطاءَا، بهمزةٍ بين ألفين، فاسْتُثْقِل ذلك فإنَّ الهمزةَ تشبه الألفَ، فكأنه اجتمع ثلاثُ ألفاتٍ، فقلبوا الهمزةَ ياءً، لأنها واقعةٌ موقِعَها قبل القلبِ، فصارَتْ خطايا على وزن فَعَالَى، ففيها أربعةُ أعمالٍ، قلبٌ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً، وقلبُ الياءِ ألفاً، وإبدالُ الهمزةِ ياءً، هكذا ذكر التصريفيون، وهو مذهبُ الخليلِ. الثاني وعزاه أبو البقاء إليه أيضاً إنه خطائِئ بهمزتين الأولى منهما مكسورةٌ وهي المنقلبةُ عن الياءِ الزائدةِ في خطيئة، فهو مثل صحيفة وصَحائف فاسْتُثْقِل الجمعُ بين الهمزتين، فَنَقلوا الهمزةَ الأولى إلى موضع الثانية فصار وزنُه: فعالِئ، وإنما فعلوا ذلك لتصيرَ المكسورةُ طرفاً، فتنقلبَ ياءً فتصيرَ فَعالِئ، ثم أَبْدَلوا من كسرةِ الهمزةِ الأولى فتحةً، فانقلبتِ الياءُ بعدها ألفاً كما قالوا: يا لَهَفى ويا أسفى، فصارت الهمزةُ بين ألفين، فأُبْدل منها ياءٌ لأن الهمزةَ قريبةٌ من الألفِ، فاستكرهوا اجتماعَ ثلاثة ألفاتٍ. فعلى هذا فيها خمسةُ تغييراتٍ: تقديمُ اللامِ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً، وإبدال الهمزةِ الأخيرة ياءً، ثم إبدالُها ألفاً، ثم إبدالُ الهمزةِ التي هي لامٌ ياءً. والقولُ الأولُ أَوْلَى لقلةِ العملِ، فيكون للخليلِ في المسألةِ قولان.

الثالث: قولُ سيبويهِ، وهو أنَّ أصلَهَا عنده خطايئ كما تقدم، فَأَبْدَلَ الياءَ الزائدةَ همزةً، فاجتمع همزتان، فَأَبْدَلَ الثانيةَ منهما ياءً لزوماً، ثم عَمِلَ العملَ المتقدِّم، ووزنُها عنده فعائل، مثل صحائِف، وفيها على قوله خمسةُ تغييراتٍ، إبدالُ الياءِ المزيدةِ همزةً، وإبدالُ الهمزةِ الأصليةِ ياءً، وقَلْبُ الكسرةِ فتحةً، وقلبُ الياءِ الأصليةِ ألفاً، وقَلْبُ الهمزةِ المزيدةِ ياءً. الرابع: قولُ الفرَّاء، وهو أنَّ خَطايا عنده ليس جَمْعاً لخطيئة بالهمزةِ وإنما هو جمعٌ لخَطِيَّة كهدِيَّة وهَدايا، ورَكِيَّة ورَكايا، قال الفراء: «ولو جُمِعَت خطيئة مهموزةً لقلت خطاءَا» ، يعني فلم تُقْلَبِ الهمزةِ ياءً بل بَقَّوها على حالِها، ولم يُعُتَدَّ باجتماعِ ثلاثِ ألفاتٍ، ولكنه لم يَقُله العربُ، فَدَلَّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز. وقال الكسائي: ولو جُمِعَت مهموزةً أُدْغِمَتِ الهمزةُ في الهمزةِ مثل: دَوابّ. وقُرئ «يَغْفِرْ لكم خطيئَاتكم» و «خطيئَتكم» بالجَمْعِ والتوحيدِ وبالياءِ والتاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، و «خَطَأْيَاكم» بهمزِ الألفِ الأولى دونَ الثانيةِ، وبالعكسِ. والكلامُ في هذه القراءاتِ واضحٌ مِمَّا تقدَّم. والغَفْرُ: السِّتْرُ، ومنه: المِغْفَرُ لسُتْرَةِ الرأس، وغُفْرانُ الذنوب لأنها تُغَطِّيها. وقد تقدَّم الفرقُ بينه وبين العفو. والغِفار خِرْقَةٌ تَسْتُر الخِمار [أن]

يَمَسَّه دُهْنُ الرأسِ. والخطيئة من الخَطَأ، وأصلُه العُدولُ عن الجهةِ، وهو أنواعٌ، أحدُها إرادَةُ غيرِ ما يُحْسِنُ إرادَته فيفعلُه، وهذا هو الخطأُ التامُّ يقال منه: خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً وخَطْأَةً. والثاني: أن يريدَ ما يُحْسِنُ فِعْلَه ولكن يقع بخلافِه، يُقال منه: أَخْطَأ خَطَأً فهو مُخْطِئٌ، وجملةٌ الأمرِ أنَّ مَنْ أَرادَ شيئاً واتفق منه غيرُهُ يُقال: أخْطَأَ، وإن وقع كما أراد يُقال: أصاب، وقد يُقال لِمَنْ فَعَل فِعْلاً لا يَحْسُنُ أو أرادَ إرادةً لا تَجْمُلُ: إنه أَخْطأ، ولهذا يقال أصابَ الخطأَ وأخطأَ الصوابَ وأصابَ الصوابَ وأخطأَ الخطأَ، وسيأتي الفرقُ بينهما وبين السيئة إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

59

قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ} : لا بُدَّ في هذا الكلام من تأويلٍ، إذ الذَمُّ إنما يتوجَّهُ عليهم إذا بَدَّلوا القولَ الذي قيل لهم، لا إذَا بَدَّلوا قولاً غيره، فقيل: تقديرُه: فبدَّل الذين ظلموا بالذي قيل لهم [قولاً غيرَ الذي قِيل لهم] ف «بَدَّلَ» يتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ بنفسِه وإلى آخر بالباءِ، والمجرورُ بها هو المتروكُ والمنصوبُ هو الموجودُ كقولِ أبي النجم: 487 - وبُدِّلَتْ والدهرُ ذو تَبَدُّلِ ... هَيْفاً دَبُوراً بالصَّيا والشَّمْأَلِ فالمقطوعُ عنها الصَّبا والحاصلُ لها الهَيْفُ، قالَه أبو البقاء. وقال: «يجوز أن يكونَ» بَدَّل مَحْمولاً على المعنى تقديره: فقال الذين ظلموا قولاً

غيرَ الذي قيلَ لهم، لأنَّ تبديلَ القولِ بقولٍ فنصْبُ «غير» عنده في هذين القولَيْن على النعت ل «قولاً» وقيل: تقديرُه: فَبَدَّل الذينَ ظلموا قولاً بغيرٍ الذي، فَحَذَفَ الحرفَ فانتصَبَ، ومعنى التبديلِ التغييرُ كأنه قيل: فغيَّروا قولاً بغيره، أي جاؤوا بقولٍ آخرَ مكانَ القولِ الذي أُمِروا به، كما يُرْوى في القصة أنَّهم قالوا بَدَلَ «حِطَّة» حِنْطة في شُعَيْرة. والإِبدالُ والاستبدالُ والتبديلُ جَعْلُ الشيءِ مكانَ آخَرَ، وقد يُقال التبديل: التغييرُ وإنْ لم يَأْتِ بِبَدَلِهِ، وقد تقدَّم الفرقُ بينَ بَدَّل وأَبْدَلَ، وهو أنَّ بَدَّلَ بمعنى غيَّر مِنْ غير إزالةِ العَيْن، وأَبْدَلَ تقتضي إزالة العين، إلا أنه قُرئ: {عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا} [القلم: 32] {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} [الكهف: 81] بالوجهين، وهذا يَقْتضي اتِّحادَهما معنىً لا اختلافَهما] ، والبديلُ، والبدل بمعنى واحدٍ، وبَدَّله غيرُه. ويُقال: بِدْل وبَدَل كشِبْه وشَبَه ومِثْل ومَثَل ونِكْل ونَكَل، قال أبو عبيدة: «لم يُسْمع في فِعْل وفَعَل غيرُ هذه الأحرفِ» . قوله: {مِّنَ السمآء} [يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ متعلِّقاً بأَنْزلنا، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، أيْ: من جهةِ السماء، وهذا الوجهُ] هو

الظاهرُ. والثاني أن يكونَ صفةً ل «رِجْزاً» ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ و «مِنْ» أيضاً لابتداءِ الغايةِ. وقولُه: {عَلَى الذين ظَلَمُواْ} فأعادَهم بذِكْرِهم أولاً، ولم يَقُلْ «عليهم» تنبيهاً على أنَّ ظُلْمَهُم سببٌ في عقابِهم، وهو من إيقاعِ الظاهرِ مَوْقِعَ المُضْمر لهذا الغرض. وإيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمرِ على ضَرْبَيْنِ: ضربٍ يقعُ بعد تمامِ الكلامِ كهذهِ الآيةِ، وقول الخَنْساء: 488 - تَعَرَّقَنِي الدَّهرُ نَهْساً وحَزَّاً ... وأَوْجَعَني الدَّهْرُ قَرْعاً وغَمْزَا أي: أصابَتْني نوائبُه جُمَعُ، وضربٍ يقعُ في كلامٍ واحد نحو قوله: {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1-2] وقوِل الآخر: 489 - ليتَ الغُرابَ غداةَ يَنْعَبُ دائِباً ... كان الغرابُ مُقَطَّعَ الأَوْداجِ وقد جمع عديٌّ بنُ زيدٍ بين المعنيين فقال: 490 - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقيرا وجاء في سورة الأعراف {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} [الأعراف: 133] فجاء هنا بلفظ الإِرسالِ، وبالمضمرِ دونَ الظاهرِ، وذلك أنه تعالى عَدَّد عليهم في هذه

السورة نِعَماً جَسيمةً كثيرةً فكانَ توجيهُ الذمِّ عليهم وتوبيخُهم بكُفرانِها أَبَلَغَ مِنْ ثَمَّ، حيث إنه لم يُعَدِّدْ عليهم هناك ما عَدَّد هنا، ولفظُ الإِنزالِ للعذابِ أبلغُ من لفظِ الإِرسالِ. والرِّجْزُ: العَذَابُ، وفيه لغةٌ أخرى وهي ضَمُّ الراءِ، وقُرِئ بهما وقيل: المضمومُ اسمُ صَنَمٍ، ومنه: {والرجز فاهجر} [المدثر: 5] وذلك لأنَه سببُ العذابِ. وقال الفراء: «الرِّجْزُ والرِّجْسُ بالزاي والسين بمعنَىً كالسُّدْغِ والزُّدْغِ، والصحيحُ أن الرِّجْزَ: القَذَرُ وسيأتي بيانُه، والرَّجَزُ داءٌ يُصيبُ الإِبلِ فترتعشُ منه، ومنه بَحْر الرَّجَز في الشعر. قوله:» بما كانوا يفسُقُون متعلِّق ب {أَنزَلْنَا} والباءُ للسببية و «ما» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً، وهو الظاهرُ أي: بسببِ فِسْقِهم، وأن تكونَ موصولةً اسميةً، والعائدُ محذوفٌ على التدريجِ المذكور في غير موضعٍ، والأصلُ يَفْسُقُونَه، ولا يَقْوى جَعْلُها نكرةً موصوفَةً، وقال في سورة الإِعراف: {يَظْلِمُونَ} [الآية: 162] تنبيهاً [على] أنهم جامِعُون بين هذين الوصفينِ القبيحين. وقد

تقدَّم معنى الفِسْق. وقرأ ابن وثَّاب {يَفْسُقُونَ} بكسر السين، وقد تقدَّم أنهما لغتان.

60

قوله تعالى: {استسقى موسى لِقَوْمِهِ} السينُ للطلبِ على وَجْهِ الدُّعَاءِ أي: سَأَل لهم السُّقيا، وألفُ استسقى منقلبةُ عن ياءٍ لأنه من السَّقْيِ، وقد تقدَّم معنى استفْعَلَ مستوفى في أولِ السورة. ويقال: سَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه بمعنى وأنشد: 491 - سَقَى قومي بني بكر وأَسْقَى ... نُمَيْراً والقبائلَ من هِلالِ وقيل: سَقَيْتُه: أَعْطَيْتُه، ما يَشْرَبُ، وأَسْقَيْته جَعَلْتُ ذلك له يتناولُه كيف شاء، والإِسقاءُ أَبْلَغُ من السَّقْي على هذا، وقيل: أَسْقَيْته دَلَلْتُه على الماءِ، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى عند قولِه: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] . و «لقومِه» متعلِّقٌ بالفعلِ واللامُ للعلَّة، أي: لأجلِ، أو تكونُ للبيان لَمَّا كانَ المرادُ به الدعاءَ كالتي في قولِهِم «سُقْياً لك» فتتعلَّقُ بمحذوفٍ كنظيرتِها «. قوله: {اضرب بِّعَصَاكَ} الإِدغام [هنا] واجبٌ؛ لأنه متى اجتمع مِثْلان

في كلمتين أو كلمةٍ أَوَّلُهما ساكنٌ وَجَبَ الإِدغامُ نحو: اضربْ بكرا. وألفُ» عصاك «منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم في النسب: عَصَوِيّ، وفي التثنية عَصَوانِ، قال: 492 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... على عَصَوَيْها سابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ والجمع: عِصِيّ وعُصِيّ بضمِّ العَيْنِ وكَسْرِها إتباعاً، وأَعْصٍ، مثل: زَمَن وأَزْمُن، والأصل: عُصُوو، وأَعْصُو، فَأُعِلَّ. وعَصَوْتُه بالعَصا وعَصَيْتُه بالسيفِ، و» ألقى عصاه «يُعَبَّر به عن بُلوغ المنزلِ، قال: 493 - فَأَلْقَتْ عَصاها واستقرَّ بها النَّوى ... كما قرَّ عَيْناً بالإِيابِ المسافِرُ وانشقَّت العصا بين القومِ أي: وقع الخلافُ، قال الشاعر: 494 - إذا كانتِ الهيجاءُ وانشَقَّتِ العَصا ... فَحَسْبُك والضحاكُ سيفٌ مُهَنَّدُ قال الفراء:» أولُ لَحْنٍ سُمِع بالعراقِ هذه عصاتي «يعني بالتاء، و» الحَجَرَ «مفعولٌ وأل فيه للعهدِ، وقيل: للجنسِ.

قوله: {فانفجرت} » الفاءُ «عاطفةٌ على محذوفٍ لا بُدَّ منه، تقديرُه: فَضَرَبَ فانفجَرَت، وقال ابنُ عصفور:» [إن] هذه الفاءَ الموجودةَ هي الداخلةُ على ذلك الفعلِ المحذوفِ، والفاءُ الداخلةُ على «انفجَرتْ محذوفةٌ» وكأنه يقولُ: حُذِفَ الفعلُ الأولُ لدلالةِ الثاني عليه، وحُذِفَتِ الفاءُ الثانيةُ لدلالةِ الأولى عليها. ولا حاجةَ تَدْعُو إلى ذلك، بل يُقال: حُذِفَتْ الفاءُ وما عَطَفَتْه قبلها. وجَعَلَها الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدَّرٍ، قال: «أو: فإن ضَرَبْتَ فقد انفجرَتْ، قال:» وهي على هذا فاءٌ فصيحةٌ لا تقع إلا في كلامٍ بليغ «، وكأنه يريدُ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ. والانفجارُ: الانشقاقُ والتفتُّح، ومنه الفَجْرُ لانشقاقِه بالضوءِ، وفي الأعرافِ، {فانبجست} [الآية: 160] ، فقيل: هما بمعنى، وقيل: الانبِجاس أضيقُ، لأنه يكونُ أولَ والانفجارُ ثانياً. قوله: {اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} فاعل» انفجرت «، والألفُ علامةُ الرفعِ لأنه مَحْمولٌ على المثنَّى، وليس بمثنَّى حقيقةً إذ لا واحد له من لفظِه، وكذلك مذكَّرهُ» اثنان «ولا يُضاف إلى تمييز لاستغنائِه بذكر المعدودِ مثنَّى، تقول:

رجلان وامرأتان، ولا تقول: اثنا رجلٍ ولا اثنتا امرأةٍ، إلا ما جاءَ نادراً فلا يُقاسُ عليه: قال: 495 - كأنَّ خِصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ ... ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتا حَنْظَل وثِنْتان مثل اثنتين، وحكمُ اثنين واثنتين في العددِ المركب أن يُعْرَبا بخلافِ سائرِ أخواتهما، قالوا: لأنه حُذِفَ معهما ما يُحْذَفُ في المعرب عند الإِضافة وهي النونُ فأشبها المعربَ فأُعْرِبا كالمثنى بالألف رفعاً وبالياء نصباً وجرَّاً، وأمَّا «عَشْرة» فمبني لتنزُّلِه منزلَةَ تاءِ التأنيثِ ولها أحكامٌ كثيرةٌ. و «عَيْناً» تمييز. وقُرئ: «عَشِرة» بكسر الشينِ وهي لغةُ تميمٍ، قال النحاس: «وهذا عجيبٌ فإنَّ لغةَ تميم عَشِرة بالكسر، وسبيلُهم التخفيفُ، ولغةَ الحجازِ عَشْرة بالسكون وسبيلُهم التثقيلُ» . وقرأ الأعمش: عَشَرة بالفتح. والعينُ اسم مشتركٌ بين عَيْنِ الإِنسانِ وعَيْن الماء وعَيْنِ السحابة وعَيْنِ الذهبِ وعَيْنِ

المِيزان، والعَيْنُ: المطر الدائم ستاً أو خمساً، والعَيْنُ: الثُّقْب في المَزادَة، وبلدٌ قليلٌ العَيْن أي: قليلُ الناس. [قوله: {كُلُّ أُنَاسٍ} قد تقدَّم الكلام على أنه أصلُ الناس. وقال الزمخشري في سورة الأعراف: إنه اسمُ جَمْعٍ غيرُ تكسير، ثم قال: «ويجوز أن يكونَ الأصلُ الكسرَ، والتكسيرُ والضمةُ بدلٌ من الكسرةِ، كما أُبْدِلَتْ في سُكَارى من الفتحة وسيأتي تحريرُ البحث معه إن شاء الله تعالى في السورةِ المذكورة] . قوله: {مَّشْرَبَهُمْ} مفعولٌ ل» عَلِمَ «بمعنى عَرَف، والمَشْرَبُ هنا مَوْضِعُ الشُّرْبِ؛ لأنُه روي أنه كان لكلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرةٍ عيناً لا يَشْرَكُهُ فيها [سِبْطُ] غيرُه. وقيل: هو نفسُ المشروب. فيكون مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به. قوله: {كُلُواْ واشربوا} هاتان الجملتانِ في محلِّ نَصْبٍ بقولٍ مضمرٍ، تقديرُه: وقُلْنَا لهم كُلوا واشْرَبُوا، وقد تقدَّم تصريفُ» كل «وما حُذِف منه. قولُه: {مِن رِّزْقِ الله} هذه من باب الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من الفعلين يَصِحُّ تسلُّطُه عليه، وهو من باب إعمالِ الثاني للحذفِ من الأولِ، والتقديرُ: وكُلوا منه.

و» مِنْ «يجوزُ أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأن تكونَ للتبعيضِ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولُ الأكلِ محذوفاً، وكذلك مفعولُ الشُّرْب، للدلالة عليهما، والتقدير: كُلوا المَنَّ والسَّلْوى، لتقدُّمِهما في قوله: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} [البقرة: 57] واشرَبوا ماءَ العيُونِ المتفجرةِ، وعلى هذا فالجارُّ والمجرورُ يُحْتمل تعلُّقُه بالفعلِ قبله، ويُحْتمل أن يكونَ حالاً من ذلك المفعولِ [المحذوفِ] ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ. وقيل: المرادُ بالرزق الماءُ وحدَه، ونَسَب الأكلَ إليه لمَّا كانَ سبباً في نَماء ما يُؤكل وحياتِهِ فهو رزقٌ يُؤْكل منه ويُشْرَبُ، والمرادُ بالرزقِ المَرْزُوقُ، وهو يَحْتَمل أن يكونَ من باب ذِبْح ورِعْي، وأن يكونَ من باب» درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ «، وقد تقدَّم بيانُ ذلك. قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} أصلُ» تَعْثَوا «: تَعْثَيُوا، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ فحُذِفَت فالتقى ساكنانِ فحُذِفَ الأولُ منهما وهو الياءُ، أو لَمَّا تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلَها فُلِبَت ألفاً، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ وبقيتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها وهذا أَوْلى، فوزنُه تَفْعُون. والعِثِيُّ والعَيْثُ: أشدُّ الفسادِ وهما متقاربان. وقال بعضُهم: «إلاَّ أنَّ العَيْثَ أكثرُ ما يُقال فيما يُدْرَك حِسَّاً، والعِثِيُّ فيما يُدْرَكُ حُكْماً، يقال: عَثَى يَعْثَى عِثِيَّاً وهي لغةُ القرآنِ، وعثا يَعْثُوا عُثُوّاً وعاثَ يعيثُ عِثِيّاً، وليس عاثَ مقلوباً من عثى

كَجَبَذَ وجَذَبَ لتفاوتِ مَعنَيَيْهما كما تقدَّم، ويُحْتمل ذلك، ثم اختصَّ كلُّ واحدٍ بنوعٍ. ويُقال: عَثِيَ يعثى عِثِيّاً ومَعَاثاً، وليس عَثِي أصلُه عَثِوَ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها كَرَضِيَ من الرّضوان لثبوتِ العِثِيّ وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك. وعَثَا كما تقدَّم، ويقال: عَثَّ يَعُثُّ مضاعفاً أي فسد، ومنه: العُثَّةُ سُوسةٌ تُفْسِدُ الصوفَ، وأمَّا» عَتَا «بالتاءِ المثنَّاة فهو قريبٌ من معناه وسيأتي الكلامُ عليه. و» مُفْسدين «حالٌ من فاعل» تَعْثَوْا «، وهي حالٌ مؤكِّدةٌ، لأنَّ معناها قد فُهِم من عامِلها، وحَسَّنَ ذلك اختلافُ اللفظين، ومثله: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] ، هكذا قالوا: ويُحتمل أن تكونَ حالاً مبيِّنَةً، لأنَّ الفسادَ أعمُّ والعِثِيِّ أخصُّ كما تقدَّم، ولهذا قال الزمخشري:» فقيل لهم: لا تَتَمادَوا في الفسادِ في حالِ فَسادِكم، لأنهم كانوا متمادِيْنَ فيه، فغايَر بينهما كما ترى. و {فِي الأرض} يَحْتمل أن يتعلَّق ب «تَعْثَوْا» وهو الظاهرُ، وأن يَتَعلَّقَ بمفسدين.

61

قوله تعالى: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} : ناصبٌ ومنصوبٌ، والجملةُ في محلَّ نصبٍ بالقولِ، وقد تقدَّم الكلامُ على «لن» ، وقولُه «طعام واحد» وإنما كانا طعامين وهما المَنُّ والسَّلْوى؛ لأنَّ المرادَ بالواحدِ ما لا يَخْتَلِفُ ولا يتبدَّل، فأُريد نفيُ التبدُّلِ والاختلافِ، أو لأنهما

ضَرْبٌ واحدُ لأنهما من طعامِ أهلِ التلذُّذِ والترف، ونحن أهلُ زراعاتٍ، لا نريد إلا ما أَلِفْنَاه من الأشياءِ المتفاوتةِ، أو لأنهم كانوا يأكلونَ أحدَهما بالآخرِ أو لأنهما كانا يُؤْكلان في وقتٍ واحدٍ، وقيل: كَنَوْا بذلك عن الغِنَى، فكأنهم قالوا: لن نرضَى أن نكونَ كلُّنا مشتركين في شيءٍ واحدٍ فلا يَخْدُمَ بعضُنا بعضاً وكذلك كانوا، وهم أوّلُ مَنِ اتَّخَذَ الخَدَمَ والعبيدَ. والطعامُ: اسمٌ لكل ما يُطْعَم من مأكولٍ ومشروبٍ، ومنه {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} [البقرة: 249] وقد يختصُّ ببعضِ المأكولاتِ كاختصاصه بالبُرِّ والتمر، وفي حديث الصدقة: «أو صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير» ، والطَّعْمُ بفتحِ الطاءِ المصدرُ أو ما يُشْتَهى من الطعام أو ما يُؤَدِّيه الذَّوْقُ، تقول: طَعْمُه حُلْوٌ وطَعْمُه مُرٌّ، وبضمِّها الشيءُ المَطْعُوم كالأُكْلِ والأَكْل، قال أبو خراش: 496 - أَرُدُّ شُجاعَ البطنِ لو تَعْلَمِيْنَه ... وأُوْثِرُ غيري من عيالِك بالطَّعْمِ وأَغْتَبِقُ الماءَ القُراحَ فأنتهي ... إذا الزادُ أمسى للمُزَلَّجِ ذا طَعْمِ أراد بالأولِ المطعومُ وبالثاني ما يُشْتهى منه، وقد يُعَبَّر به عن الإِعطاءِ، قال عليه السلام: «إذا اسْتَطْعَمَكم الإِمامُ فأطْعِموه» أي: إذا

استفتح فافتحُوا عليه، وفلانٌ ما يَطْعَمُ النومَ إلا قائماً، قال: 497 - نَعاماً بوَجْرَةَ صُفْرَ الخُدو ... دِ ما تَطْعَمُ النَّومَ إلا صِياما قوله: {فادع} اللغةُ الفصيحةُ «ادعُ» بضم العينِ مِنْ دَعَا يدعُو، ولغة بني عامر: فادْعِ بكسر العين، قالَ أبو البقاء: «لالتقاءِ الساكنين، يُجْرُون المعتلَّ مُجْرى الصحيحِ، ولا يُراعونَ المحذوفَ» يعني أنَّ العينَ ساكنةٌ لأجل الأمرِ، والدالُ قبلَها ساكنةٌ، فكُسِرت العينُ، وفيه نظرٌ، لأن القاعدةَ في هذا ونحوه أنْ يُكْسَرَ الأولُ من الساكنين لا الثاني، فيجوزُ أن يكونَ [مِنْ لغتهم] دَعَى يَدْعي مثل رَمى يَرْمي. والدعاءُ هنا السؤالُ، ويكونُ بمعنى التسمية كقوله: 498 - دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم، و «لنا» متعلِّق به، واللام للعلَّة. قوله «يُخْرِجْ» مجزومٌ في جوابِ الأمر، وقال بعضُهم: «مجزومٌ بلام الأمرِ مقدرةً، أي: لِيُخْرِجْ، وضَعَّفه الزجاج، وسيأتي الكلامُ على حَذْفِ لامِ الأمرِ إن شاء الله تعالى.

قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الأرض} مفعولُ» يُخْرِجْ «محذوفٌ عند سيبويهِ تقديرُه: مأكولاً [مِمَّا] أو شيئاً مِمَّا تُنبت الأرضُ، والجارُّ يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، وتكونُ» مِنْ «لابتداءِ الغاية، وأنْ يكونَ صفةً لذلك المفعولِ المحذوفِ، فيتعلَّقَ بمضمرٍ أي: مأكولاً كائناً ممَّا تُنْبِتْهُ الأرضُ و» مِنْ «للتبعيضِ، ومذهبُ الأخفش أنَّ» مِنْ «زائدةٌ في المفعول، والتقديرُ: يُخْرِجْ ما تُنْبِتُه الأرضُ، لأنه لا يَشْتَرِط في زيادتِها شيئاً. و «ما» يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً والعَائدُ محذوفٌ، أي: من الذي تُنْبِتُه أو من شيءٍ تُنبته، ولا يجوزُ جَعْلُها مصدريةً لأن المفعولَ المحذوفَ لا يُوَصَفُ بالإِنباتِ، لأن الإِنباتِ مصدرٌ والمُخْرَجَ جَوْهَرٌ، وكذلك على مذهبِ الأخفش لأنَّ المُخْرَجَ جَوْهَرٌ لا إنبات. قوله: {مِن بَقْلِهَا} يجوزُ فيه وجهان: أحدُهما: أن يكونَ بَدلاً من «ما» بإعادةِ العامل، و «مِنْ» معناها بيانُ الجنس، والثاني: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المحذوفِ العائدِ على «ما» أي: مما تُنْبته الأرضُ في حالِ كَوْنه مِنْ بقلها و «مِنْ» أيضاً للبيان. والبقلُ كلُّ ما تُنْبِتهُ الأرضُ من النَّجْم أي: مِمَّا لا ساقَ له، وجمعُه: بُقول. والقِثَّاء معروف، الواحدُ: قِثَّاءة، فهو من باب قَمْح وقمحة، وفيها لغتان: المشهورةُ كَسْرُ القافِ،

وقُرئ بضمِّها، والهمزةُ أصلٌ بنفسِها في قولهم: أَقْثَأَتِ الأرضُ أي: كَثُر قِثَّاؤها ووزنُها فِعَّال، ويُقال في جَمْعها قَثَائي مثل عِلْباء وعَلاَبي. قال بعضُهم: «إلاَّ أنَّ قِثَّاء من ذواتِ الواو، تقول: أَقْثَأْتُ القومَ،: أي أطعمتهُم ذلك، وفَثَأْتُ القِدْر سكَّنْتُ غَلَيَانَها بالماءِ، قال: 499 - تفُورُ علينا قِدْرُهم فَنُديمُها ... ونَفْثَؤُها عَنَّا إذا حَمْيُها غَلا وهذا من هذا [القائل] وَهْمٌ فاحش، لأنه لمَّا جَعَلَها من ذوات الواو كيفَ يَسْتَدِلُّ عليها بقولهم:» أَقْثَأْتُ القومَ « [بالهمز] ، بل كان ينبغي أن يُقال: أَقْثَيْتُ والأصلُ: أَقْثَوْتُ، لكنْ لمَّا وَقَعَتِ الواوُ في بناتِ الأربعةِ قُلِبَتْ ياءً، كأَغْزَيْتُ من الغَزْوِ، ولكان ينبغي أن يُقالَ:» فَثَوْتُ القِدْر «بالواو، ولقال الشاعر: نَفْثَوُها بالواو، والمَقْثَأَةُ والمَقْثُؤَةُ بفتح التاءِ وضمِّها: مَوْضِعُ القِثَّاء. والفُوم: الثُّوم، والفاءُ تُبْدَلُ من الثاء، قالوا: جَدَفٌ وجَدَثٌ، وعاثُور وعافُور، ومعاثِير ومعافِير، ولكنه [على] غيرِ قياس، وقيل

الحِنْطَة، وأنشد ابن عباس: 500 - قد كنتُ أغْنَى الناسِ شخصاً واحداً ... نَزَل المدينةَ عن زِراعة فُوْمِ وقيل غيرُ ذلك. قوله:» أَدْنى «فيه ثلاثةُ أقوال، أحدُها وهو الظاهرُ، وهو قول أبي إسحاق الزجاج أنَّ أصلَه: أَدْنَوُ من الدُّنُوِّ وهو القُرْب، فَقُلِبتَ الواوُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلها، ومعنى الدنوِّ في ذلك وجهان: أحدُهما: أنه أقربُ لقلةِ قيمته وخَساسته. والثاني: أنه أقربُ لكم لأنه في الدنيا بخلافِ الذي هو خيرٌ، فإنه بالصبرِ عليه يَحْصُلُ نفعُهُ في الآخرةِ، والثاني قولُ علي بن سليمان الخفش: أنَّ أصلَه أَدْنَأُ مهموزاً من دَنَأَ يَدْنَأُ دَناءة، وهو الشيء الخسيس، إلا أنه خُفِّفَ همزهُ كقوله: 501 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فارْعَيْ فَزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ ويَدُلُّ عليه قراءةُ زهير الفرقبي:» أَدْنَأُ «بالهمز. الثالث: أنَّ أصلَه أَدْوَنُ

من الشيء الدُّوْن أي الرديء، فَقُلِب بأَنْ أُخِّرتِ العينُ إلى موضعِ اللامِ فصارِ: أَدْنَوَ فأُعِلَّ كما تقدَّم، ووزنُهُ أَفْلَع، وقد تقدَّم معنى الاستبدالِ وأدْنَى خبرٌ عن «هو» والجملة صلةٌ وعائدٌ، وكذلك «هو خير» أيضاً صلةٌ وعائد. قوله: «مِصْراً» قرأه الجمهورُ منوناً، وهو خَطُّ المصحف، فقيل: إنهم أُمِروا بهبوطِ مصرٍ من الأمصار فلذلك صُرِف، وقيل: أُمِرُوا بمصرَ بعينه وإنما صُرِف لخفَّته، لسكونِ وسطِه كهنْد ودَعْد، وأنشد: 502 - لم تَتَلَفَّعْ فَضْلِ مِئْزَرِها ... دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ فَجَمع بين الأمرين، أو صَرَفه ذهاباً به إلى المكان، وقرأ الحسنُ وغيرُه: «مصرَ» وكذلك هي في بعضِ مصاحفِ عثمان ومصحفِ أُبَيّ، كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه. وقال الزمخشري: «إنه مُعَرَّبٌ من لسان العجم، فإن أصله مِصْرائيم، فَعُرِّب» ، وعلى هذا إذا قيل بأنه عَلَمٌ لمكانٍ بعينه فلا ينبغي أن يُصْرف البتةَ لانضمامِ العُجْمِة إليه، فهو نظيرُ «ماه وجَوْر وحِمْص» ولذلك أجمعَ الجمهورُ على منعِه في قولِه {ادخلوا مِصْرَ} [يوسف: 99] . والمِصْرُ في أصل اللغةِ: «

الحدُّ الفاصلُ بين الشيئين» وحُكِي عن أهلِ هَجَرَ أنهم إذا كَتَبوا بَيْعَ دارٍ قالوا: اشترى فلانٌ الدارَ بمُصُورِها «أي: حدودِها، وأنشد: 503 - وجاعِلُ الشمسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بهِ ... بين النهارِ وبينَ الليلِ قد فَصَلا قوله {مَّا سَأَلْتُمْ} » ما «في محلِّ نصبٍ اسماً لإِنَّ، والخبرُ في الجارِّ قبله، و» ما «بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ، أي: الذي سألتموه. قال أبو البقاء:» ويَضْعُفُ أن يكونُ نكرةًَ موصوفةً «يعني أنَّ الذي سألوه شيءٌ معينٌ فلا يَحْسُنُ أن يُجابُوا بشيءٍ مُبْهَمٍ. وقُرئ:» سِلْتُم «مثل بِعْتُم، وهي مأخوذةٌ مِنْ سالَ بالألف، قالَ حسان رضي الله عنه: 504 - سَالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سَالَتْ ولم تُصِبِ وهل هذه الألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ أو واوٍ لقولهم: يتساوَلان، أو عن همزةٍ؟ أقوالٌ ثلاثةٌ سيأتي بيانُها إن شاء الله في سورة المعارج. قولُه: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} » ضُرِبت «مبنيٌّ للمفعولِ،» الذِّلَّةُ «قائمٌ مَقَامَ الفاعلِ، ومعنى» ضُرِبَتْ «أي: أُلْزِموها وقُضِيَ عليهم بها، من ضَرْب القِباب، قال الفرزدقُ لجرير: 505 - ضَرَبَتْ عليك العنكبوتُ بِنَسْجِها ... وَقَضى عليكَ به الكتابُ المُنَزَّلُ

والذِّلَّةُ: الصِّغارُ، والذُّل بالضم ما كان عن قَهْر، وبالكسر ما كانَ بعد شِماس من غير قهر، قاله الرغب. والمَسْكَنَةُ: مَفْعَلةٌ من السكون، لأن المِسْكينَ قليلُ الحركةِ والنهوضِ، لِما به من الفَقْر، والمِسْكينُ مِفْعيل منه إلا أنَّ هذه الميمَ قد ثَبَتَتْ في اشتقاق هذهِ الكلمةِ، قالوا: تَمَسْكَنَ يَتَمَسْكَنُ فهو مُتَمَسْكِنٌ، وذلك كما تَثْبُتُ ميم تَمَنْدَلَ وتَمَدْرَعَ من النَّدْل والدَّرْع، وذلك لا يَدُلُّ على أصالتها، لأن الاشتقاق قَضَى عليها بالزيادَةِ. وقال الراغب: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} فالميمُ في ذلك زائدةٌ في أصحِّ القولين «وإيرادُ هذا الخلافِ يُؤْذِنُ بأنَّ النونَ زائدةٌ، وأنه من مَسَك» . قوله: «وباؤُوا» ألفُ «باءَ بكذا» منقلبةٌ عن واو لقولهم: «باء يَبُوء» مثل: قال يقول:، قال عليه الصلاة والسلام «أبُوْءُ بنعمتِك عليّ» والمصدرُ البَواء، وباءَ معناه رَجَعَ، وأنشد بعضهم: 506 - فآبُوا بالنَّهائِبِ والسَّبايا ... وأُبْنا بالمُلوكِ مُصَفَّدينا وهذا وَهَمٌ، لأنَّ هذا البيتَ من مادة آب يَؤُوب فمادتُه من همزةٍ وواو وباء، و «باء» مادتُه من باء وواو وهمزة، وادِّعاءُ القلبِ فيه بعيدٌ [أنه لم يُعْهَدْ] تقدُّمُ العينِ واللام معاً على الفاء في مقلوبٍ وهذا من ذاك.

والبَواء: الرجوعُ بالقَوَدِ، وهم في هذا الأمر بَواء أي: سَواء، قال: 507 - ألا تَنْتَهي عنَّا مُلُوكٌ وتَتَّقي ... محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَّمِ أي: لا يرْجِعُ الدم بالدم في القَوَد، وباءَ بكذا أَقَرَّ أيضاً، ومنه الحديثُ المتقدم، أي أُقِرُّ بِها [وأُلْزِمُها نفسي] ، وقال: 508 - أَنْكَرْتُ باطِلَها وبُؤْتُ بحقِّها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال الراغبُ: «أصلُ البَواءِ مساواةُ الأجزاءِ في المكانِ خِلاَفَ النَّبْوَةِ الذي هو منافاةُ الأجْزاء، وقوله» وباؤُوا بغضبٍ «أي حَلُّوا مَبْوَأً ومعه غضبٌ، واستعمال» باء «تنبيهٌ على أنَّ مكانه الموافقَ يَلْزَمُه فيه غضبُ اللهِ فكيف بغيره من الأمكنَةِ، وذلك نحو {فَبَشِّرْهم بعذاب} [آل عمران: 21] . ثم قال:» وقولُ مَنْ قَالَ «بُؤْتُ بحقِّها» أي أَقْرَرْتُ فليس تفسيرُه بحسب مقتضى اللفظ، وقولُهم: حَيّاك الله وبَيَّاك «أصلُه: بَوَّأَك وإنما غُيِّر للمشاكَلَةِ، قاله خلف الأحمر» . قوله: بغضب «في موضعِ الحالِ من فاعِل» باؤوا «: أي: رَجَعوا مغضوباً

عليهم، وليس مفعولاً به كمررتُ بزيدٍ. وقال الزمخشري:» هو من قولك: باء فلانٌ بفلان إذا كانَ حقيقاًَ بأنْ يُقْتَلَ به لمساواتِه له ومكافَأَته، أي: صاروا أحِقَّاءَ بغضبِه «وهذا التفسيرُ ينفي كونَ الباءِ لِلحال/. قوله» مِن الله «الظاهرُ أنَّه في محلِّ جرٍّ صفةً لغضَب، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: بغضبٍ كائنٍ من اللهِ. و» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ مجازاً، وقيل: هو متعلِّقٌ بالفعلِ نفسِه أي: رَجَعوا من الله بغضب، وليس بقويٍّ. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} » ذلك «مبتدأٌ أُشير به إلى ما تَقَدَّم من ضَرْب الذِّلَّة والمَسْكَنة والخلافةِ بالغضب. و» بأنهم «الخبرُ. والباءُ للسببية، أي: ذلك مستحقٌّ بسببِ كفرِهم. وقال المهدوي:» الباءُ بمعنى اللام أي: لأنهم «ولا حاجة إلى هذا، فإنَّ باءَ السببيةِ تفيدُ التعليلَ بنفسِها. و» يكفرون «في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ، وكانَ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لأنَّ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جرٍّ بالباء. والباءُ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأِ كما تقدَّم. قوله «بآيات الله» متعلِّقٌ بيكفرون، والباءُ للتعدية. قوله «ويقتُلون» في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان، وقرئ: «تَقْتُلون» بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأولِ بعد الغَيْبة، و «يُقَتِّلونَ» بالتشديدِ للتكثيرِ. قوله: «الأنبياءَ» مفعولٌ به جمع نبيّ، والقُرَّاء على تَرْك الهمز في

النُّبُوَّة وما تَصَرَّف منها، ونافعٌ المدنيُّ على الهمزِ في الجميع إلا موضعين: في سورةِ الأحزابِ «للنبيِّ إن أراد» « [لا تَدْخُلوا] بيوتَ النبيِّ إلاَّ» فإنَّ قالون حَكَى عنه في الوصلِ كالجماعةِ وسيأتي. فأمّا مَن هَمَز فإنه جَعَله مشتقاً من النبأ وهو الخبر، فالنبيُّ فعيل بمعنى فاعل، أي: مُنَبِّئٌ عن الله برسالته، ويجوزُ أن يكونَ بمعنى مَفْعول أي: إنه مُنَبَّأ مِن الله بأوامِره ونواهِيه، واستدلُّوا على ذلك بجَمْعِهِ على نُبَآء، كظريف وظُرَفاء، قال العباس ابن مرداس: 509 - يا خاتَم النُّبَآء إنَّك مُرْسَلٌ ... بالخيرِ، كلُّ هدى السبيلِ هُداكا فظهورُ الهمزتين يَدُلُّ على كونِهِ من النبأ، واستضعف بعضُ النحويين هذه القراءةَ، قال أبو علي: «قال سيبويه:» بلغنَا أنّ قوماً من أهل التحقيق يحقِّقون نَبيَّاً وبَريَّة، قال: وهو رديء «، وإنما استردَأَه لأن الغالبَ التخفيفُ» وقال أبو عبيد: «الجمهورُ الأعظمُ من القُرَّاء والعوام على إسقاط الهمز من النبيّ والأنبياء، وكذلك أكثرُ العرب مع حديث رويناه، فذكر أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:» يا نبيءَ الله «فهمز، فقال:» لست نبيءَ الله «فهمز،» ولكن نبيُّ اللهِ «ولم يهمز، فأنكر عليه الهمز، قال:» وقال لي أبو عبيدة: العربُ تُبْدِل الهمزَ في ثلاثةِ أحرف: النبي والبريَّة والخابية وأصلهنَّ الهمزُ «، قال أبو عبيدة:» ومنها حرف رابع: الذُّرِّيَّة من ذرأ يذرأ،

ويدل على أن الأصلَ الهمزُ قولُ سيبويه: إنهم كلَّهم يقول: تنبَّأ مسيلمة فيهمزون، وبهذا لا ينبغي أن تُرَدَّ به قراءة هذا الإِمامِ الكبير. أمَّا الحديثُ فقد ضَعَّفوه، قال ابنُ عطية: «مِمَّا يُقَوِّيَ ضعفَه أنه لمَّا أَنْشده العباس:» يا خاتم النُّبآء «لم يُنْكِرهْ، ولا فرقَ بين الجمع والواحد» ، ولكنَّ هذا الحديثَ قد ذكره الحاكم في المستدرك، وقال: هو صحيحٌ على شرطِ الشيخين، ولم يُخْرجاه. قلت: فإذا كان ذلك كذلك فَلْيُلْتَمَسْ للحديثِ تخريجٌ يكونُ جواباً عن قراءة نافع، على أن القطعيَّ لا يُعارَضُ بالظني، وإنما نذكرُه زيادةَ فائدةِ والجواب عن الحديث أن أبا زيد حكى: «نَبَأْتُ من أرضِ كذا إلى أَرض كذا» أي: خَرَجْتُ منها إليها، فقوله: «يا نبيءَ الله» بالهمز يُوهم يا طريدَ الله الذي أخرجه من بلدِه إلى غيره، فنهاهُ عن ذلك لإِيهامِهِ ما ذكرنا، لا لسبب يتعلَّق بالقراءةِ. ونظيرُ ذلك نَهْيُه للمؤمنين عن قولهم: «راعِنا» ، لَمَّا وَجَدَتِ اليهودُ بذلك طريقاً إلى السبِّ به في لغتهم، أو يكونُ حَضَّاً منه عليه السلام على تحرِّي أفصحِ اللغاتِ في القرآنِ وغيرِه. وأمَّا مَنْ لم يَهْمِزْ فإنَّه يَحْتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه من المهموزِ ولكِنْ خُفِّفَ، وهذا أَوْلى ليوافِقَ القراءتين ولظهورِ الهمزِ في قولِهم: تَنَبَّأ مُسَيلَمَةُ، وقولِه: «يا خاتَم النُّبآء» . والثاني: أنه أصلٌ آخرُ بنفسِه مشتقٌ من نَبا ينبو إذا ظَهَرَ وارتفع، ولا شك أن رتبة النبيِّ مرتفعةٌ ومنزلتَه ظاهرةٌ بخلاف غيره من الخَلْق، والأصلُ: نَبِيْوٌ وأَنْبِواء، فاجتمع الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهُما بالسكون، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِم، كميِّت في مَيْوِت، وانكسر ما قبلَ الواوِ في الجمعِ فقُلبت ياءً، فصار أنبِياء. والواوُ في النبوَّة بدلٌ من الهمزِ على الأولِ

وأصلٌ بنفسِها على الثاني، فهو فَعِيلٌ بمعنى فاعِل أي: ظاهرٌ مرتفعٌ، أو بمعنى مفعول أي: رَفَعه الله على خَلْقه، أو يكونُ مأخوذاً من النبيّ الذي هو الطريق، وذلك أن النبيَّ طريقُ اللهِ إلى خَلْقِه، به يتوصَّلُون إلى معرفةِ خالِقِهم، وقال الشاعر: 510 - لمَّا وَرَدْنَ نُبَيَّاً واسْتَتَبَّ بِنا ... مُسْحَنْفِرٌ كخُطوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ أي: طريقاً، وقال: 511 - لأَصْبَحَ رَتْماً دُقاقُ الحَصَى ... مكانَ النَّبِيِّ من الكاثِبِ الرَّتْمُ بالتاء المثنَّاة والمثلثةِ جميعاً: الكَسْر، والكاثبُ بالمثلثة اسمُ جبلٍ، وقالوا في تحقير نُبُوَّة مُسَيْلَمَةَ: نُبَيِّئَة. وقالوا: جمعُه على أَنْبياء قياس مطَّرد في فَعيل المعتلِّ نحو: وَلِيَّ وأَوْلياء وصَفِيّ وأَصْفِياء. وأمَّا قالون فإنما تَرَك الهمزَ في الموضعين المذكورين لَمَدْركٍ آخرَ، وهو أنه مِنْ أصلِه في اجتماعِ الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورَتَيْنِ أَنْ تُسَهَّل الأولى، إلا أنْ يَقَعَ قبلَها حَرفُ مدٍّ فتُبْدَلَ وتُدْغَمَ، فَلَزِمَه أن يفعل هنا ما فَعَل في «بالسوء إلاَّ» مِن الإِبدالِ والإِدغامِ، إلاَّ أنه رُوي عنه خلافٌ في «بالسوء إلاَّ» ولم يُرْوَ عنه هنا خلافٌ، كأنه التزم البدل لكثرةِ الاستعمال في هذه اللفظة وبابها، ففي التحقيق لم يَتْرُكْ همزَ «النبيّ» بل هَمزَهْ وَلمَّا هَمَزَه أدَّاه قياسُ تخفيفِه إلى ذلك، وَيدُلَّ على هذا الاعتبارِ أنَّه إنما يَفْعَلُ ذلك حيث يَصِلُ، أمَّا إذا وَقَفَ فإنَّه يَهْمِزُه في الموضعين لزوالِ السببِ المذكورِ/ فهو تارِكٌ للهمزِ لفظاً آتٍ به تقديراً.

قولُه تعالى: {بِغَيْرِ الحق} في محلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعلِ «يَقْتُلون» تقديرُه: يقتُلونهم مُبْطِلين، ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره: قَتْلاً كائناً بغيرِ الحق، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ. قال الزمخشري: «قتلُ الأنبياءِ لا يكون إلا بغير الحقِّ، فما فائدةُ ذِكْرِه؟ وأجابَ بأنَّ معناه أنهم قَتَلوهم بغيرِ الحق عندَهم لأنهم لم يَقْتُلُوا ولا أَفْسَدوا في الأرض حتى يُقْتَلوا، فلو سُئِلوا وأَنْصَفُوا مِنْ أنفسِهم لم يَذْكُروا وجهاً يَسْتَحِقُّونَ به القتلَ عندهم» وقيل: إنما خَرَجَ وصفُهم بذلك مَخْرَجَ الصفةِ لقَتْلِهم بأنه ظلمٌ في حقهم لاحقٌ، وهو أبلغُ في الشَّناعة والتعظيم لذنوبهم. قوله: {ذلك بِمَا عَصَواْ} مثلُ ما تقدَّم. وفي تكريرِ اسم الإِشارة قولان، أحدهما: أنه مُشارٌ به إلى ما أَشِير بالأول إليه على سبيل التأكيد. والثاني ما قالَه الزمخشري: وهو أَنْ يشَار به إلى الكفرِ وقَتْلِ الأنبياء، على معنى أنَّ ذلك بسببِ عِصْيانهم واعتدائِهم لأنَّهم انهمكوا فيهما «. و» ما «مصدريةٌ والباءُ للسببيَّة، أي بسبب عِصْيانهم، فلا محلَّ ل» عَصَوا «لوقوعِه صلةً، وأصلُ عَصَوْا عَصَيُوا، تحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلَها، قُلبت ألفاً، فالتقى ساكنان هي والواوُ، فحُذِفَت لكونها أوَّلَ الساكنين، وبَقيَتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها فوزنه فَعَوْا.» وكانوا يعتدُون «في محلِّ نصبٍ خبراً ل» كان «، وكانَ وما بعدها عطفٌ على صلةِ» ما «المصدرية. وأصلُ العِصيان: الشِّدَّةُ، اعتصَتِ النَّواةُ، اشتدَّت، والاعتداءُ على المجاوزُ من عدا يعدُو، فهو افتعالٌ منه، ولم يَذْكُرْ متعلَّقَ العِصيان والاعتداءِ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُعْصَى ويعتدى فيه.

وأصلُ» يَعْتَدُون «يَعْتَدِيُونَ، ففُعِل به ما فُعِل ب {يتَّقون} [البقرة: 21] من الحَذْفِ والإِعلال وقد تقدَّم، فوزنُه يَفْتَعُون. والواوُ من» عَصَوْا «واجبةُ الإِدغام في الواوِ بعدَها لانفتاحِ ما قبلَها، فليسَ فيها مَدٌّ يمنعُ مِن الإِدغامِ، ومثلُه: {فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ} [آل عمران: 20] وهذا بخلافِ ما إذا انضمَّ ما قبل الواوِ، فإنَّ المدَّ يقومُ مَقامَ الحاجز بين المِثْلَيْن فيجبُ الإِظهارُ، نحو {آمَنُواْ وَعَمِلُواْ} [البقرة: 25] ومثلُه: {الذى يُوَسْوِسُ} [البقرة: 126] .

62

قولُه تعالى: {مَنْ آمَنَ بالله} . . «مَنْ» يجوز فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيّةً في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «آمَن» مجزومٌ بها تقديراً وهو الخبرُ على الصحيحِ حَسْبما تقدَّم الخلافُ فيه. وقوله: «فلهم» جواب الشرط، وهذه الجملة الشرطية في محل رفع خبراً ل «إنَّ» في قوله: إنَّ الذين آمنُوا، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: مَنْ آمن منهم، كما صَرَّح به في موضعٍ آخَر. والثاني: أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ومَحَلُّها حينئذٍ النصبُ على البدلِ مِنْ اسمِ «إنَّ» وهو «الذين» بدلِ بعضٍ من كلٍّ، والعائذُ أيضاً محذوفٌ كما تقدْم، و «آمن» صلتُها، فلا محلَّ له حينئذ. وقوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبرُ «إنَّ الذين» ، ودخلتِ الفاءُ لأن الموصولَ يُشْبه الشرطَ، وهذا عند غيرِ الأخفش، وأمَّا الأخفش فنُقِل عنه أنَّه إذا نُسِخ المبتدأ ب «إنَّ» يمتنعُ ذلكَ فيه، فمحلُّ قولِه {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} رفعٌ على هذا

القولِ، وجَزْمٌ على القولِ الأولِ، و «لهمْ» خبرٌ مقدَّمٌ متعلِّقٌ بمحذوفٍ، و «أجرُهُمْ» مبتدأ، ويجوزُ عند الأخفش أن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبلَه وإنْ لهم يعتَمِدْ، وقد تقدَّم ذِكْرُ الخلافِ في ذلك. قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} «عند» ظرفُ مكانٍ لازمُ الإِضافةِ لفظاً ومعنىً، والعاملُ فيه الاستقرارُ الذي تضمَّنه «لهم» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «أجرُهم» فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه: فلهم أجرُهم ثابتاً عند ربهم. والعِنْديَّة مجازُ لتعالِيه عن الجهةِ، وقد تَخْرُجُ إلى ظرفِ الزمان إذا كانَ مظروفُها معنىً، ومنه قولُه عليه السلام: «إنما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأولى» والمشهورُ كسرُ عَيْنِها، وقد تُفْتَحُ وقد تُضَمُّ. والذين هادُوا هم اليهودُ، وهادُوا في أَلِفه قولان: أحدُهما أنه من واو، والأصلُ: هاد يهودُ أي تاب، قال الشاعر: 512 - إنِّي امرؤٌ من حُبِّه هائِدُ ... أي: تائبٌ، ومنه سُمِّي اليهودُ لأنَّهم تابُوا عن عبادةِ العِجْلِ، وقال تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي تُبْنَا، وقيل: هو من التَّهْويد وهو النطق في سكون ووقار، وأنشدوا: 513 - وخُودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحى ... قَريضَ الرُّدافَى بالغِناءِ المُهَوَّد وقيل: هو من الهَوادة وهي الخضوعُ. الثاني: انها من ياء، والأصلُ: هاد

يَهِيد، أي: تحرَّك ومنه سُمِّي اليهودُ لتحرُّكهم في دراستِهم. وقيل: سُمُّوا يهودَ نسبةً ليهوذا بالذال المعجمة وهو ابنُ يعقوب عليه السلام، فغيَّرتْه العربُ من الذال المعجمة إلى المهملة جَرْياً على عادتها في التلاعُب بالأسماء الأعجمية. والنَّصارى جمعٌ، واحدُه نَصْران ونَصْرَانة كَنْدمان ونَدْمانة وندامى، قاله سيبويه وأنشد: 514 - فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها ... كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ وأنشد الطبري على نَصْران قوله: 515 - يَظَلُّ إذا دارَ العِشَا مُتَحَنِّفاً ... ويُضْحي لَدَيْه وهو نَصرْانُ شامِسُ قال سيبويه: «إلاَّ أنَّه لم يُسْتَعْمَلْ في الكلام إلا بياءِ النسب» وقال الخليل: «واحدُ النصارى نَصْرِيّ كمَهْرِيّ ومهارى. وقال الزمخشري:: الياءُ في نَصْرانيّ للمبالغة كالتي في أَحْمَري» . ونصارى/ نكرةٌ، ولذلك دَخَلَتْ عليه أَلْ وَوُصِفَ بالنكرةِ في قول الشاعر: 516 - صَدَّتْ كما صَدَّ عما لا يَحِلُّ له ... ساقي نصارى قُبَيْل الفِصْحِ صُوَّامِ

وسُّمُوا بذلك نسبةً إلى قرية يقال لها نَاصِرة، كان يَنْزِلها عيسى عليه السلام، أو لأنهم كانوا يتناصرون، قال الشاعر: 517 - لَمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصارا ... شَمَّرْتُ عن رُكْبَتيَ الإِزارا كُنْتُ لهم من النَّصارى جَارا ... والصابئُون: قومٌ عَبدوا الملائكةَ، وقيل: الكواكبَ. والجمهورُ على همزهِ، وقرأه نافعٌ غيرَ مهموز. فمَنْ هَمَزَه جَعَلَه من صَبَأَ نابُ البعير أي: خَرَجَ، وصَبَأَتِ النجومُ: طَلَعت. وقال أبو عليّ: «صَبَأْتُ على القومِ إذا طَرَأْتُ عليهم، فالصابِئُ: التارِكُ لدينِه كالصابىءِ الطارئِ على القومِ فإنه تارِكٌ لأرضِه ومنتقلُ عنها» . ومَنْ لم يَهْمَِزْ فإنه يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ مأخوذاً من المهموزِ فَأَبْدَلَ من الهمزةِ حرفَ علة إمَّا ياءً أو واواً، فصارَ من باب المنقوصِ مثل قاضٍ أو غازٍ، والأصل: صابٍ، ثم جُمِع كما يُجْمع القاضي أو الغازي، إلا أنَّ سيبويه لا يرى قلبَ هذه الهمزة إلا في الشعر، والأخفشُ وأبو زيد يَرَيان ذلك مطلقاً. الثاني: أنه من صَبَا يَصْبو إذا مال، فالصابي كالغازي، أصلُه، صابِوٌ فأُعِلَّ كإعلال غازٍ. وأَسْند أبو عُبَيْد إلى ابن عباس: «ما الصابُون إنما هي الصابئون، ما الخاطون إنما هي الخاطِئون» . فقد اجتمع في قراءةِ نافع همزُ النبيين وتَرْكُ همز الصابئين، وقد عَرَفْت أن العكسَ فيهما أَفْصَحُ. وقد حَمَلَ الضميرَ في قوله {مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ} على لفظِ «مَنْ» فأَفْرد، وعلى المعنى في قولِه: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} على المعنى، فَجَمَع كقوله:

518 - أَلِمَّا بسَلْمى عنكما إنْ عَرَضْتُما ... وقولا لها عُوجِي على مَنْ تَخَلَّفوا فراعى المعنى، وقد تقدَّم تحقيق ذلك عند قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا} [البقرة: 8] . والأجْرُ في الأصلِ مصدرٌ يقال: أَجَرَهُ الله يأجِرُهُ أَجْراً، وقد يُعَبَّر به عن نفس الشيء المُجَازَى به، والآيةُ الكريمة تحتملُ المعنيين. وقرأ أبو السَّمَّال: {والذين هَادَوْا} بفتحِ الدال كأنها عنده من المفاعَلَةِ والأصلُ: «هادَيُوا» فأُعِلَّ كنظائره.

63

قوله تعالى: {فَوْقَكُمُ} : ظرفُ مكانٍ ناصبُه «رَفعْنا» وحكمُ «فوق» مثلُ حكم تحت، وقد تقدَّم الكلامُ عليه. قال أبو البقاء: «ويَضْعُف أن يكونَ حالاً من» الطور «، لأن التقدير يصير: رَفَعْنا الطورَ عالياً، وقد استُفيد [هذا] من» رَفَعْنا «وفي هذا نظرٌ لأنَّ المرادَ به علوٌّ خاص وهو كونُه عالياً عليهم لا مطلقُ العلوِّ حتى يصيرَ رفعناه عالياً كما قدَّره. قال:» ولأنَّ الجَبَلَ لم يكُنْ فوقَهم وقتَ الرفع، وإنما صارَ فوقَهم بالرفْعِ. ولقائلٍ أن يقولَ: لِمَ لا يكونُ حالاً مقدرة، وقد قالَ هو في قولِه «بقوة» إنها حالٌ مقَدَّرةٌ كما سيأتي. والطُّور: اسمٌ لكلَّ جبل، وقيل لما أَنْبَتَ منها خاصةً دونَ ما لم يُنْبِتْ، وهل هو عربي أو سُرْياني؟ قولان، وقيل: سُمِّي بطور ابنُ اسماعيل عليه السلام، وقال العجَّاج:

519 - داني جَنَاحَيْهِ من الطُّور فَمَرّْ ... تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كَسَرْ قوله: «خُذُوا» في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر، أي: وقُلْنا لهم خُذُوا، وهذا القولُ المضمر يجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل «رَفَعْنا» والتقدير: ورفعنا الطور قائلين لكم خُذوا. وقد تقدَّم أنَّ «خُذْ» محذوفُ الفاءِ وأن الأصلَ: أُؤْخُذْ، عند قوله {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} [البقرة: 35] . قوله: {مَآ آتَيْنَاكُم} مفعولُ «خُذوا» ، و «ما» موصولةٌ بمعنى الذي لا نكرةٌ موصوفةٌ، والعائدُ محذوفٌ أي: ما آتيناكموه. قوله: «بقوةٍ» في محلِّ نَصْبٍ على الحال. وفي صاحِبها قولان، أحدهما: أنه فاعلُ «خُذوا» وتكونُ حالاً مقدرة، والمعنى: خُذوا الذي آتيناكموه حالَ كونكم عازمين على الجِدِّ بالعمل به. والثاني: أنه ذلك العائدُ المحذوف، والتقدير: خُذوا الذي آتيناكُموه في حالِ كونه مشدَّداً فيه أي: في العمل به والاجتهادِ في معرفته، وقوله «ما فيه» الضميرُ يعود على «ما آتيناكم» . والتولِّي تَفَعُّل من الوَلْي، وأصلُه الإِعراضُ عن الشيء بالجسم، ثم استُعْمِل في الإِعراض عن الأمورِ والاعتقاداتِ اتساعاً ومجازاً، و «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدَّم من رفعِ الطور وإيتاء التوراة.

64

قوله تعالى: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله} : «لولا» هذه حرفُ امتناعٍ لوجودٍ، والظاهرُ أنها بسيطةٌ، وقال أبو البقاء: «هي مركبةٌ من» لَوْ «و» لا «، و» لو «قبل التركيبِ يمتنعُ بها الشيءُ لامتناع غيره، و» لا «للنفي، والامتناعُ نفيٌ في المعنى، وقد دَخَلَ النفيُ ب» لا «على أحد امتناعي لو، والنفيُ إذا دخل على النفي صار إيجاباً، فمِنْ هنا صار معنى» لولا «هذه يمتنع بها الشيءُ

لوجودِ غيره، وهذا تكلُّفُ ما لا فائدةَ فيه، وتكونُ» لولا «أيضاً حرفَ تخضيضٍ فتختصُّ بالأفعال وسيأتي الكلامُ عليها إن شاء الله تعالى. و» لولا «هذه تختصُّ بالمبتدأ، ولا يجوزُ أَنْ يلَيها الأفعالُ، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك أُوِّلَ كقولِه: 520 - ولولا يَحْسِبون الحِلْم عَجْزاً ... لَمَا عَدِم المُسيئون احتمالي وتأويلُه أن الأصلَ: ولولا أن يَحْسِبِوا، فلمَّا حُذِفَتْ ارتفع الفعلُ كقوله: 521 - ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: أَنْ أَحضرَ، والمرفوعُ بعدها مبتدأٌ خلافاً للكسائي حيث رَفَعَهُ بفعلٍ مضمر، وللفراء حيث قال:» مرفوعٌ بنفس لولا «، وخبرُه واجبُ الحذف/ للدلالةِ عليه وسَدِّ شيءٍ مَسَدَّه وهو جوابُها، والتقديرُ: ولولا فضلُ اللهِ كائنٌ أو حاصل، ولا يجوز أن يُثْبَتَ إلا في ضرورة شعر، ولذلك لُحِّن المعري في قوله: 522 - يُذيبُ الرُّعْبُ منه كلَّ عَضْبٍ ... فلولا الغِمْدُ يُمْسِكُه لَسالا حيث أَثْبتَ خبرَها بعدها، هكذا أطلقوا. وبعضُهم فصَّل فقال:» إنْ كان خبرُ ما بعدها كوناً مطلقاً فالحذفُ واجبٌ، وعليه جاء التنزيلُ وأكثرُ الكلام، وإن كان كوناً مقيداً فلا يَخْلو: إمّا أَنْ يَدُل عليه دليلُ أو لا، فإنْ لم يَدُلَّ

عليه دليلٌ وجَبَ ذِكْرُه، نحو قولِه عليه السلامُ: «لولا قومُكِ حديثو عهدٍ بكفر» وقولِ الآخر: 523 - فلولا بَنُوها حولَها لَخَبَطْتُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإنْ دَلَّ عليه دليلٌ جاز الذكرُ والحذف، نحو: لولا زيدٌ لغُلِبْنا، أي شجاع، وعليه بيتُ المعري المتقدِّم، وقال أبو البقاء: «ولَزِمَ حَذْفُ الخبر للعلمِ به وطولِ الكلام، فإن وَقَعَتْ» أَنْ «بعدها ظَهَر الخبرُ، كقولِه:» فلولا أنَّه كان من المُسَبِّحين «فالخبرُ في اللفظ ل» أنَّ «وهذا الذي قاله مُوْهمٌ، ولا تعلُّق لخبرِ» أنَّ «بالخبر المحذوف ولا يُغْني عنه البتةَ فهو كغيرِه سواء، والتقدير: فلولا كونُه مُسَبِّحاً حاضرٌ أو موجود، فأيُّ فائدةٍ في ذكره لهذا؟ والخبرُ يجب حَذْفُه في صورٍ أخرى، يطولُ الكتابُ بِذِكْرِها وتفصيلِها، وإنما تأتي إن شاء اللهُ مفصَّلةً في مواضعها. وقد تقدَّم معنى الفضلِ عند قوله {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] . قوله: {لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين} اللامُ جوابُ لولا. واعلم أنَّ جوابَها إن كان مُثْبَتَاً فالكثيرُ دخولُ اللامِ كهذه الآيةِ ونظائِرها، ويَقِلُّ حَذْفُها، قال: 524 - لَوْلا الحياءُ وباقي الدينِ عِبْتُكُما ... ببعضِ ما فيكما إذْ عِبْتُما عَوَري

وإنْ كان منفيَّاً فلا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يكونَ حرفُ النفي «ما» أو غيرَها، إن كان غيرَها فتركُ اللام واجبٌ نحو: لولا زيدٌ لم أقم، أو لن أقوم، لئلاَّ يتوالى لامان، وإن كان ب «ما» فالكثيرُ الحَذْفُ، ويَقِلُّ الإِتيانُ بها، وهكذا حكمُ جوابِ «لو» الامتناعية، وقد تقدَّم عند قولِه: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] ولا محلَّ لجوابِها من الإِعرابِ. و {مِّنَ الخاسرين} في محلِّ نصبٍ خبراً ل «كان» ، ومِنْ للتبعيض.

65

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} : اللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: والله لقد، وهكذا كلُّ ما جاءَ من نظائرِها، و «قد» حرف تحقيق وتوقع، ويُفيد في المضارع التقليلَ إلا في أفعال الله تعالى فإنَّها للتحقيق، وقد تُخْرِجُ المضارع إلى المُضيِّ كقوله: 525 - قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَّراً أناملُه ... كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرصادِ وهي أداةٌ مختصةٌ بالفعلِ، وتَدْخُل على الماضي والمضارعِ، وتُحْدِثُ في الماضي التقريبَ من الحالِ. وفي عبارة بعضِهم: «قد: حرفٌ يَصْحَبُ الأفعالَ ويُقَرِّبُ الماضِيَ من الحالِ، ويُحْدِثُ تقليلاً في الاستقبال» ويكونُ اسماً بمعنى حَسْب نحو: قدني درهمٌ أي: حسبي، وتتصل بها نونُ الوقايةِ مع ياء المتكلم غالباً، وقد جَمَعَ الشاعر بين الأمرين، قال:

526 - قَدْنيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإذا كانت حرفاً جاز حَذْفُ الفعلِ بعدَها كقولِه: 527 - أَفِدَ الترحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا ... لمَّا تَزُلْ برِحالِنا وكَأنَّ قَدِ أي: قد زالت، وللقسم وجوابِه أحكامٌ تأتي إنْ شاء الله تعالى مفصَّلةً. و «عَلِمْتُمِ» بمعنى عَرَفْتُم، فيتعدَّى لواحدٍ فقط، والفرقُ بين العلم والمعرفة أنَّ العلمَ يستدعي معرفةَ الذاتِ وما هي عليه من الأحوال نحو: عَلمتُ زيداً قائماً أو ضاحكاً، والمعرفةُ تستدعي معرفةَ الذاتِ، وقيل: لأنَّ المعرفةَ يسبقها جهلٌ، والعلمُ قد لا يَسْبِقُه جهلٌ، ولذلك لا يجوزُ إطلاقُ المعرفةِ عليه سبحانه. {الذين اعتدوا} الموصولُ وصلتُه في محلِّ النصبِ مفعولاً به، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ، كما قدَّره بعضُهم، أي: أحكامُ الذين اعتدوا، لأنَّ المعنى عَرَقْتم أشخاصَهم وأعيانَهم. وأصلُ اعتَدَوْا: اعتَدَيُوا، فأُعِلَّ بالحذف ووزنه افْتَعَوا، وقد عُرِفَ تصريفُه ومعناه. قوله: «منكم» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في «اعتدَوا» ويجوز أن يكونَ من «الذين» أي: المعتدين كائنين منكم، و «مِنْ» للتبعيض. قوله: {فِي السبت} متعلِّقٌ باعتَدَوا، والمعنى: في حُكْم السبت، وقال أبو البقاء: وقد قالوا: اليومَ السبتُ، فجعلوا «اليومَ» خبراً عن السبت، كما يقال، اليومَ القتالُ، فعلى ما ذكرنا يكونُ في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه في يوم السبت «. والسبتُ في الأصل مصدرُ سَبَتَ، أي: قَطَعَ العمل. وقال ابن عطية:» والسَّبتُ: إمَّا مأخوذٌ من السُّبوت الذي هو الراحة والدَّعَة،

وإمَّا من السَّبْت وهو القطع، لأن الأشياء فيه سَبَتَتْ وتَمَّتْ خِلْقَتُها، ومنه قولُهم: سَبَتَ رأسَه أي: حَلَقه. وقال الزمخشري: «والسبتُ مصدرُ سَبَتَتِ اليهودُ إذا عَظَّمت يومَ السبتِ» وفيه نظرٌ، فإنَّ هذا اللفظ موجودٌ واشتقاقُه مذكورٌ في لسان العرب قبل فِعْل اليهودِ ذلك، الهم إلا أَنْ يريدَ هذا السبتَ الخاصَّ المذكورَ في هذه الآيةِ. والأصلُ فيه المصدرُ كما ذكرتُ، ثم سُمِّي به هذا اليومُ من الأسبوع لاتفاقِ وقوعِه فيه كما تقدَّم أنَّ خَلْقَ الأشياء تَمَّ وقُطِعَ، وقد يقال يومُ السبتِ فيكونُ مصدراً، وإذا ذُكِرَ معه اليومُ أو مع ما أشبهه من أسماءِ الأزمنة مِمَّا يتضمَّن عَمَلاً وحَدَثاً جاز نصبُ اليومِ ورفعُه نحو: اليوم الجمعةُ، اليوم العيدُ، كما يقال: اليوم الاجتماعُ والعَودُ، فإنْ ذُكِرَ مع «الأحد» وأخواتِه وَجَب/ الرفعُ على المشهورِ، وتحقيقُها مذكورٌ في كتبِ النحوِ. قوله: {قِرَدَةً خَاسِئِينَ} يجوز فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها أن يكونا خبرين، قال الزمخشري: «أي: كونوا جامعين بين القِرَدِيَّة والخُسُوء» وهذا التقديرُ بناءً منه على على أنَّ الخبرَ لا يتعدَّدُ، فلذلك قَدَّرهما بمعنى خبرٍ واحدٍ من باب: هذا حُلْوٌ حامِضٌ، وقد تقدَّم القول فيه. الثاني: أن يكون «خاسئين» نعتاً لقِردة، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ مِنْ حيث إن القردةَ غيرُ عقلاءَ، وهذا جَمْعُ العقلاء. فإنْ قيل: المخاطبون عُقَلاء. فالجوابُ أنّ ذلك لا يُفيد، لأنَّ التقديرَ عندكم حينئذٍ: كونوا مثلَ قِرَدةٍ مِنْ صفتِهِم الخُسُوء، ولا تعلُّقَ للمخاطَبِين بذلك، إلا أنه يمكنُ أَنْ يقالَ إنهم مُشَبَّهون بالعقلاء، كقوله: {لِي

سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] ، {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] . الثالث: أن يكون حالاً من اسم «كونوا» والعاملُ فيه «كونوا» وهذا عندَ مَنْ يُجيز ل «كان» أن تعملَ في الظروفِ والأحوالِ. وفيه خلافٌ سيأتي تحقيقُه عند قولِه تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} [يونس: 2] إن شاء الله تعالى. الرابع وهو الأجْوَدُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في «قِرَدَةً» لأنه في معنى المشتقِّ، أي: كونوا مَمْسُوخِينَ في هذه الحالةِ، وجَمْعُ فِعْل على فِعَلة قليلٌ لا ينقاس. ومادة القرد تدل على اللصوق والسكون، تقول: «قَرَد بمكان كذا» أي: لَصِق به وسكن، ومنه الصوفُ القَرَد «أي المتداخلُ، ومنه أيضاً:» القُراد «هذا الحيوانُ المعروف. ويقال: خَسَأْتُه فَخَسَأَ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو: زاد وغاض، وقيل: يُقال خَسَأْتُه فَخَسِىءَ وانْخَسَأَ؛ والمصدر الخُسُوء والخَسْءُ. وقال الكسائي:» خَسَأْتُ الرجلَ خَسْئاً، وخَسَأَ هو خُسُوءاً ففرَّقَ بين المصدَرَيْن، والخُسُوءُ: الذِّلَّة والصَّغارُ والطَّرْدُ والبُعْدُ ومنه خَسَأْتُ الكلبَ.

66

قوله تعالى: {نَكَالاً} : مفعولٌ ثانٍ لجَعَلَ التي بمعنى صَيَّر والأولُ هو الضميرُ وفيه أقوالٌ، أحدُها: يعود على المَسْخَة. وقيل: على القريةِ لأنَّ الكلامَ يقتضيها كقولِه: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} [العاديات: 4] أي بالمكانِ. وقيل على العقوبة، وقيل على الأمَّة. والنَّكالُ: المَنْعُ، ومنه النِّكْلُ اسمٌ للقيد من الحديد واللِّجام لأنه يُمْنَعُ به، وسُمِّي العِقابُ نكالاً لأنه يُمْنَعُ به غيرُ المعاقب أن يفعلَ فِعْلَه، ويَمْنَعُ المُعاقَبَ أن يعودَ إلى فِعْلِه الأولِ. والتنكيلُ: إصابةُ الغيرِ بالنَّكالِ ليُرْدَعَ غيرُه، ونَكَلَ عن كَذا يَنْكُل نُكولاً امتنع، وفي

الحديثِ: «إنَّ الله يحبُ الرجلَ النَّكَل» أي: القوي على الفرس. والمَنْكَلُ ما يُنَكَّل به الإِنسان قال: 528 - فارمِ على أَقْفائِهم بِمَنْكَلِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والضميرُ في يديهَا وخلفها كالضميرِ في {جَعَلْنَاهَا} . قوله: {وَمَوْعِظَةً} عطفٌ على {نَكَالاً} وهي مَفْعِلَة من الوعظ وهو التخويف، وقال الخليل: «التذكيرُ بالخيرِ فيما يَرِقُّ له القَلْبُ، والاسمُ: العِظَةُ كالعِدَة والزِنَة. و» للمتقين «متعلقٌ بِمَوْعِظة. واللامُ للعلة، وخُصَّ المتقين بالذِّكْرِ، وإن كانَتْ موعظةً لجميعِ العالَم: البَرِّ والفاجِرِ، لأن المنتفعَ بها هم هؤلاء دونَ مَنْ عَدَاهم، ويجوزُ أَنْ تكونَ اللامُ مقويةً، لأنَّ» موعظة «فَرْعٌ على الفِعْلِ في العملِ فهو نظيرٌ {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ، فلا تعلُّق لها لزيادتها، ويجوز أَنْ تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ لأنها صفةٌ لموعظةً، أي: موعظةً كائنةً للمتقين.

67

قوله تعالى: {يَأْمُرُكُمْ} . . الجمهور على ضمِّ الراء لأنه مضارعٌ مُعْرَبٌ مجرَّدٌ من ناصبٍ وجازمٍ. ورُوِيَ عن أبي عمرو سكونُها سكوناً مَحْضاً واختلاسُ الحركةِ، وذلك لتوالي الحركات، ولأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فكأنها حرفان، وحركتُها حركتان، وقيل: شبَّهها بعَضْد، فسُكِّن أَوْسَطُه

إجراءً للمنفصلِ مجرى المتصلِ، وهذا كما تَقَدَّم في قراءة «بارِئْكم» ، وقد تقدَّم ذِكْرُ من اسْتَضْعَفها من النحويين، وتقدَّم ذكرُ الأجوبةِ عنه بما أَغْنَى عن إعادتِه هنا، ويجوز في همز «يَأْمركم» إبدالُه ألفاً وهذا مطَّرِدٌ. و «يَأْمركم» هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ خبراً لإِنَّ، وإنَّ وما في حَيِّزها في مَحلِّ نصب مفعولاً بالقول، والقولُ وما في حَيِّزِه في محلِّ جرٍّ بإضافة الظرف إليه، والظرفُ معمولٌ لفعل محذوفٍ أي: اذكُرْ. قوله: {أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} «أَنْ» وما في حَيِّزِها مفعولٌ ثانٍ ليَأْمركم، فموضِعُها يجوزُ أن يكونَ نصباً وإن يكونَ جرَّاً حَسْبَما مضى من ذِكْرِ الخلافِ، لأنَّ الأصلَ على إسقاطِ حرفِ الجرّ أي: بأَنْ تَذْبَحوا، ويجوزُ أن يُوافِقَ الخليلُ هنا على أَنَّ موضِعَها نَصبٌ لأنَّ هذا الفعلَ يجوز حذفُ الباءِ معه، ولو لم تكنِ الباءُ في «أَنْ» نحو: أمرتُكَ الخيرَ. والبقرةُ واحدة البَقَر، تقعُ على الذكَرِ والأنثى نحو حَمامة، والصفةُ تُمَيِّزُ الذكر من الأنثى، تقول: بقرةٌ ذكرٌ وبقرةٌ أنثى، وقيل: بقرةٌ اسمٌ للأنثى خاصةً من هذا الجِنس مقابلةً لثور، نحو: ناقةٌ وجَمَل، وأَتان وحمار، وسُمِّي هذا الجنسُ بذلك لأنه يَبْقُر الأرض أي يَِشُقُّها بالحرث، ومنه: بَقَر بطنَه، والباقر أبو جعفر لشَقِّه العلمَ، والجمع: بَقَر وباقِر وبَيْقُور وبَقِيرِ. قوله: {هُزُواً} مفعول ثان ل « {أَتَتَّخِذُنَا} . وفي وقوعِ» هُزُوا «مفعولاً ثانياً ثلاثةُ أقوالٍ. أحدُها: أنه على حَذْفِ مضافٍ أي ذوي هُزْء. الثاني: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي مَهْزُوءاً بنا. الثالث: أنهم جُعِلوا نفس الهُزْءِ

مبالغةً. وهذا أولى، وقال الزمخشري وبدأ به:» أَتَجْعَلُنا مكانَ هُزْءٍ «وهو قريبٌ من هذا. وفي {هُزُواً} قراءاتٌ سِتٌّ، المشهورُ منها ثلاثٌ: هُزُؤاً بضمتين مع الهمز، وهُزْءاً بسكونِ العين/ مع الهمز وَصْلاً وهي قراءة حمزة رحمه الله، فإذا وَقَفَ أبدلَها واواً، وليس قياسَ تخفيفها، وإنما قياسُه إلقاءُ حركتِها على الساكنِ قبلَها. وإنما اتَّبع رسمَ المصحف فإنها رُسِمَتْ فيه واواً، ولذلك لم يُبْدلها في» جزءاً «واواً وقفاً، لأنها لم تُرْسَمْ فيه واواً كما سيأتي عن قريب، وقراءتُه أصلُها الضمُّ كقراءةِ الجماعةِ إلا أنه خُفِّفَ كقولِهم في عُنُق: عُنْق. وقيل: بل هي أصلٌ بنفسِها، ليست مخففةً من ضم، حَكَى مكي عن الأخفش عن عيسى بن عمر:» كلُّ اسمٍ ثلاثي أولُه مضمومٌ يجوزُ فيه لغتان: التثقيل والتخفيفُ «. و «هُزُواً» بضمتين مع الواوِ وَصْلاً وَوَقْفاً وهي قراءةُ حَفْص عن عاصم، كأنه أَبْدَلَ الهمزةَ واواً تخفيفاً، وهو قياسٌ مطَّرد في كلِّ همزة مفتوحةٍ مضمومٍ ما قبلَها نحو جُوَن في جُؤَن، و {السفهآء ولا إِنَّهُمْ} [البقرة: 13] وحكمُ «كُفُواً» في قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] حكمُ «هُزُواً» في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً. و «هُزَاً» بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها

وهو أيضاً قياسٌ مطرد، وهُزْواً بسكون العين مع الواو، وهُزَّاً بتشديد الزاي من غيرِ همزةٍ، ويروى عن أبي جعفر، وتقدَّم معنى الهُزْء أول السورة. قوله: {أَعُوذُ بالله} تقدَّم إعرابُه في الاستعاذَةِ، وهذا جوابٌ لاستفهامِهم في المعنى كأنه قال: لا أَهْزَأُ مستعيذاً باللهِ من ذلك فإنَّ الهازِئَ جاهِلٌ. وقوله {أَنْ أَكُونَ} أي: مِن أَنْ أكونَ، فيجيءُ فيه الخلافُ المعروف. و «مِن الجاهلين» خبرُها، وهو أَبْلَغُ من قولِك: «أن أكونَ جاهِلاً، فإنَّ المعنى: أن أنتظمَ في سلكِ قَوْمٍ اتَّصفوا بالجهل.

68

قوله تعالى: {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا} . . كقوله: {فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} [البقرة: 61] وقد تقدَّم. قوله: «ما هي» ؟ ما استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ تقديرُه: أيُّ شيءٍ هي، و «ما» الاستفهاميةُ يُطْلَبُ بها شَرْحُ الاسم تارةً نحو: «ما العنقاءُ؟ [و] ماهيَّةُ المُسَمَّى أخرى نحو: ما الحركةُ. وقال السكاكي:» يَسْأَلُ ب «ما» عن الجنسِ، تقولُ: ما عندك؟ أي: أيُّ أجناسِ الأشياءِ عندك، وجوابُه: كتابٌ ونحوه، أو عن الوصف، تقول: ما زيدٌ؟ وجوابه: كريمٌ «وهذا هو المرادُ في الآية. و» هي «ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ في محلِّ رفع خبراً ل» ما «، والجملةُ في محلِّ نصب بيبيِّن، لأنه مُعَلَّقٌ عن الجملةِ بعده، وجاز ذلك لأنَّه شبيهٌ بأفعالِ القلوبِ. قوله: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} لا نافيةٌ، و» فارضٌ «صفةٌ لبقرة، واعترض ب» لا «بين الصفةِ والموصوفِ، نحوٍ: مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصيرٍ. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي: لا هي فارضٌ. وقولُه: {

وَلاَ بِكْرٌ} مثلُ ما تقدَّم، وتكرَّرت» لا «لأنها متى وقعت قبل خبرٍ أو نعتٍ أو حالٍ وَجَب تكريرُها، تقول: زيدٌ لا قائمٌ ولا قاعدٌ، ومررت به لا ضاحكاً ولا باكياً، ولا يجوز عدمُ التكرارِ إلا في ضرورةٍ خلافاً للمبرد وابن كيسان، فمن ذلك: 529 - وأنتَ امرؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لغيرِنا ... حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ وقولُه: 530 - قَهَرْتَ العِدَى لا مُسْتَعيناً بعُصْبَةٍ ... ولكنْ بأنواعِ الخدائعِ والمَكْرِ فلم يكرِّرها في الخبر ولا في الحالِ. والفارضُ: المُسِنَّةُ الهَرِمة، قال الزمخشري:» كأنَّها سُمِّيَتْ بذلك لأنها فَرَضَتْ سِنَّها، أي قَطَعَتْها وبَلَغَتْ آخرَها «قال الشاعر: 531 - لَعَمْرِي لقد أَعْطَيْتَ جارَك فارِضاً ... تُساقُ إليه ما تقومُ على رِجْلِ ويقال لكلِّ ما قَدُم: فارضٌ، قال: 532 - شَيَّبَ أصداغِي فرأسي أبيضُ ... محامِلٌ فيها رجالٌ فُرَّضُ

أي: كبارٌ قدماء، وقال آخر: 533 - يا رُبَّ ذي ضِغْنٍ عليَّ فارضِ ... له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ وقال الراغب:» سُمِّيَتْ فارِضاً لأنها تقطعُ الأرضَ، والفَرْضُ في الأصل: القَطْع وقيل: لأنها تحملُ الأحمَالَ الشاقةَ. وقيل: لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّة، قال: فعلى هذا تكونُ الفارضُ اسماً إسلامياً «ويقال فَرَضَتْ تفرِضُ بالفتح فُروضاً، وقيل: فَرُضَتْ بالضمِّ أيضاً. والبِكْرُ ما لم تَحْمِل، وقيل: مَا وَلَدَتْ بطناً واحداً وذلك الولدُ بِكْرٌ أيضاً، قال: 534 - يا بِكْرَ بَكْرَيْنِ ويا خِلْبَ الكَبِدْ ... أصبحْتَ مني كذراعٍ من عَضُدْ والبِكْرُ من الحيوان: مَنْ لم يَطْرُقْه فَحْل، والبَكْر بالفتح: الفَتِيُّ من الإِبل، والبَكارة بالفتح: المصدر. قوله: {عَوَانٌ} صفةٌ لبقرة، ويجوز أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي: هي عوانٌ، كما تقدَّم في {لاَّ فَارِضٌ} والعَوانُ، النَّصَفُ، وهو التوسُّطُ بين الشيئينِ، وذلك أقوى ما يكونُ وأحسنُه، قال: 535 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نواعِمُ بين أبكارٍ وعُونِ

وقيل: هي التي وَلَدَت مرةً بعد أخرى، ومنه الحَرْبُ العَوانُ، أي: التي جاءت بعدَ حربٍ أخرى، قال زهير: 536 - إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ والعُون بسكونِ الواو: الجمعُ، وقد تُضَمُّ ضرورةً كقوله: 537 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . في الأكُفِّ اللامِعاتِ سُوُرْ بضمِّ الواو. ونظيرُه في الصحيح: قَذَال وقُذُل، وحِمار وحُمُر. قوله: {بَيْنَ ذلك} صِفةٌ لعَوان، فهو في محلِّ رفعٍ ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائنٌ بين ذلك، و «بين» إنما تُضاف لشيئين فصاعداً، وجاز أن تضافَ هنا إلى مفرد، لأنه يُشارُ بِهِ إلى المثنى والمجموع، كقوله: 538 - إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى ... وكِلا ذلك [وَجْهٌ وقَبَلْ] كأنه قيل: بين ما ذُكِر من الفارضِ والبِكْر. قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف جازَ أن يُشارَ به إلى مؤنَّثَيْن وإنما هو لإِشارةِ المذكر؟ قلت: لأنه في تأويلِ ما ذُكر وما تقدَّم» ، وقال: «وقد يَجْري الضمير مَجْرى اسم الإِشارةِ في هذا/ قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة في قوله:

539 - فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ ... كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ إن أردْتَ الخطوطَ فقل: كأنها، وإن أردْتَ السوادَ والبَلَق فقل: كأنهما، فقال: أردْتُ: كأنَّ ذاكَ. وَيْلَك» . والذي حَسَّنَ منه أنَّ أسماءَ الإِشارةِ تَثْنِيتُها وجَمْعُها وتأنيثُها ليسَتْ على الحقيقة، وكذلك الموصولاتُ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع. قوله: {مَا تُؤْمَرونَ} «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ تقديره: تُؤْمَرون بِه، فحُذِفَت الباءُ وهو حذفٌ مطَّردٌ، فاتصل بالضميرِ فحُذِفَ. وليس هو نظيرَ {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] فإنَّ الحذف هناك غيرُ مقيسٍ، ويضعُف أن تكونَ «ما» نكرةً موصوفةً. قال أبو البقاء: «لأنَّ المعنى على العُمومِ وهو بالذي أَشْبَهُ» ، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً أي: أَمَرَكم بمعنى مأمورَكم، تسميةً للمفعولِ بالمصدرِ كضَرْبِ الأمير، قاله الزمخشري. و «تُؤْمَرون» مبنيٌّ للمفعول والواوُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لوقوعِها صلةً.

69

قوله تعالى: {مَا لَوْنُهَا} : كقولِه «هي» ؟ وقال أبو البقاء: «ولو قُرئ» لونَها «بالنصب لكان له وجهٌ، وهو أن تكونَ» ما «زائدة كهي في قوله: {أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ} [القصص: 28] ويكون التقديرُ: يبين لنا لونَها، وأمَّا» ما هي «فابتداءٌ وخبرٌ لا غيرُ إذ لا يُمْكِنُ جَعْلُ» ما «زائدةً لأنَّ» هي «لا يَصِحُّ أن تكونَ مفعولَ يبيِّن» يعني أنها بصيغةِ الرفع، وهذا ليس من مواضعِ

زيادةِ «ما» فلا حاجةَ إلى هذا. واللونُ عبارةٌ عن الحمرةِ والسوادِ ونحوِهما. واللونُ أيضاً النوعُ وهو الدَّقَل نوعٌ من النحل، قال الأخفش: «هو جَماعةٌ واحدها: لِينة» وسيأتي. وفلان يَتَلَوَّن أي: لا يثبُتُ على حالٍ، قال الشاعر: 540 - كلَّ يومٍ تتلوَّنْ ... غيرُ هذا بك أَجْمَلْ قوله: {صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} بجوز أن يكونَ «فاقعٌ» صفةً و «لونُها» فاعلٌ به، وأن يكونَ خبراً مقدماً، و «لونُها» مبتدأ مؤخرٌ والجملةُ صفةٌ، ذكرها أبو البقاء. وفي الوجهِ الأول نظرٌ، وذلك أن بعضَهم نقلَ أن هذه التوابعَ للألوانِ لا تعملُ عَمَلَ الأفعال. فإنْ قيل: يكونُ العملُ لصفراء لا لفاقع كما تقول: مررتُ برجلٍ أبيضَ ناصعٍ لونُه، فلونُه مرفوعٌ بأبيض لا بناصع، فالجوابُ: أنَّ ذلك ههنا ممنوعٌ من جهةٍ أخرى، وهو أنَّ صفراء مؤنثٌ اللفظِ، ولو كانَ رافعاً ل «لونُها» لقيل: أصفرُ لونُها، كما تقول: مررت بامرأةٍ أصفرَ لونُها، ولا يجوز: صفراءَ لونُها، لأنَّ الصفةَ كالفِعْل، إلا أن يُقال: إنه لمَّا أُضيف إلى مؤنثٍ اكتسَب منه التأنيثَ فعُومِل معاملتَه كما سيأتي ذِكْرُه. ويجوز أن يكونَ «لونُها» مبتدأً، و «تَسُرُّ» خبرَه، وإنما أَنَّث الفعلَ لاكتسابِه بالإِضافةِ معنى التأنيث: كقوله:

541 - مَشَيْنَ كما اهتَزَّتْ رماحٌ تَسَفَّهَتْ ... أعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسِمِ وقول الآخر: 542 - وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أَذَعْتَه ... كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ أنَّث فعلَ المَرِّ والصدرِ لَمَّا أُضيفا لمؤنثٍ، وقُرئ {تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] وقيل: لأنَّ المرادَ باللونِ هنا الصفرةُ، وهي مؤنثةٌ فَحُمِل على المعنى في ذلك، ويقال: أصفرُ فاقعٌ، وأبيضُ ناصعٌ وَيَقِقٌ ولَهِقٌ، ولِهاقٌ وأخضرُ ناصعٌ، وأحمرُ قانئٌ وأسودُ حالِكٌ وحائِك وحَلَكُوك وحُلْكُوك ودَجُوجيّ وغِرْبيب وبهيم، وقيل: «البهيم الخالصُ من كل لون» . وبهذا يَظْهر أن صفراء على بابها من اللون المعروفِ لا سوداء كما قاله بعضهم، فإنَّ المفقوعَ من صفةِ الأصفرِ خاصةً، وأيضاً فإنه مجازٌ بعيدٌ، ولا يُسْتَعمل ذلك إلا في الإِبِلِ لقُرْب سوادها من الصفرةِ كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 33] . وقال: 543 - تلك خَيْلِيْ منه وتلكَ رِكابي ... هُنَّ صُفْرٌ أولادُها كالزَّبيبِ قوله: {تَسُرُّ الناظرين} جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «بقرة» أيضاً، وقد تقدَّم أنه يجوز أن تكونَ خبراً عن «لونها» بالتأويلين المذكورين. والسرورُ لَذَّةٌ في

القلب عند حصولِ نَفْعِ أو توقُّعِه، ومنه «السريرُ» الذي يُجْلَسُ عليه إذا كان لأولي النِّعمةِ، وسريرُ الميِّت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً بذلك.

70

قوله تعالى: {مَا هِيَ} ؟ . . مرةً ثانيةً، تكريرٌ للسؤال عن حالِها وصفتِها واستكشافٌ زائدٌ ليزدادوا بياناً لوَصْفِها. قوله: {إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} «البقر» اسمُ إنَّ وهو اسمُ جنسٍ كما تقدَّم. وقرئ «الباقِرُ» وهو بمعناه كما تقدم. و «تَشَابه» جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ خبراً لإِنَّ، وقرئ: «تَشَّابَهُ» مشدَّداً ومخففاً وهو مضارعٌ، فالأصلُ: تَتَشابهُ بتاءين، فَأُدْغِمَ وحُذِفَ منه أخرى، وكِلا الوجهين مقيس. وقُرئ أيضاً: يَشَّابَهُ بالياء من تحت وأصله يتشابه فَأُدغم أيضاً، وتذكيرُ الفعل وتأنيثُه جائزان لأن فاعلَه اسمُ جنس وفيه لغتان: التذكيرُ والتأنيثُ، قال تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحافة: 7] فَأَنَّث، و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] فذكَّر، ولهذا موضعٌ نستقصي منه، يأتي إن شاء الله تعالى. وتَتَشَابَهُ بتاءين على الأصل، وتَشَّبَّهُ بتشديد الشين والباء من غير ألف، والأصلُ: تَتَشَبَّهُ. وتَشَّابَهَتْ،

ومُتَشَابِهَة، ومُتَشَابِه، ومُتَشَبِّه على اسم الفاعل من تشابه وتَشَبَّه، وقُرئ: تَشَبَّهَ ماضياً. وفي مصحف أُبَيّ: «تَشَّابَهَتْ» بتشديد الشين. قال أبو حاتم: «هو غلط لأن التاءَ في هذا الباب لا تُدْغَمُ إلا في المضارعِ» ، وهو معذورٌ في ذلك. وقرئ: تَشَّابَهَ كذلك إلا أنه بطرح تاء التأنيث، ووجهُها على إشكالها أن يكونَ الأصل: إن البقرة تشابَهَتْ فالتاء الأولى من البقرة والتاء الثانية من الفعل، فلمَّا اجتمع متقاربان أَدْغَم نحو: الشجرةُ. . . إلا أنه يُشْكِل أيضاً في تَشَّابه من غير تاء، لأنه كان يَجبُ ثبوتُ/ علامةِ التأنيثِ، وجوابُه أنه مثلُ: 544 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها مع أن ابنَ كَيْسان لا يلتزم ذلك في السَّعَة. قوله: {إِن شَآءَ الله} هذا شرطٌ جوابُه محذوفٌ لدلالةِ إنْ وما في حَيِّزها عليه، والتقدير: إن شاء اللهُ هدايتَنا للبقرة اهتدَيْنا، ولكنهم أَخرجُوه في جملةٍ اسميةٍ مؤكَّدة بحرفَيْ تأكيدٍ مبالغةً في طَلَب الهداية، واعترضوا بالشرطِ تيمُّناً بمشيئةِ الله تعالى. و «لمهتدونَ» اللامُ لامُ الابتداءِ داخلةٌ على خبرِ «إنَّ» ، وقال أبو البقاء: «جوابُ الشرط إنَّ وما عملت فيه عند سيبويه، وجاز ذلك

لمَّا كان الشرطُ متوسطاً، وخبرُ إنَّ هو جوابُ الشرط في المعنى، وقد وقع بعدَه، فصار التقديرُ: إنْ شاء اللهُ اهتدينا. وهذا الذي قاله لا يَجُوز، فإنه متى وقعَ جواب الشرطِ ما لا يَصْلُح أنْ يكونَ شرطاً وجَبَ اقترانُه بالفاء، وهذه الجملةُ لا تَصْلح أن تقعَ شرطاً، فلو كانَتْ جواباً لَزِمَتْها الفاءُ، ولا تُحْذَفُ إلا ضرورةً، ولا جائزٌ أنْ يريدَ أبو البقاء أنه دالٌّ على الجواب وسَمَّاه جواباً مجازاً، لأنه جَعَلَ ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه، فقال:» وقالَ المبرد: الجوابُ محذوفٌ دَلَّتْ عليه الجملةُ، لأنَّ الشرط معترضٌ فالنيةُ به التأخيرُ، فيصيرُ كقولِك: «أنت ظالم إنْ فَعَلْتَ» وهذا الذي نقلَه عن المبرد هو المنقولُ عن سيبويه، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نُقِل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوزُ تقديمُ جوابِ الشرطِ عليه، وقد ردَّ عليهم البصريون بقول العرب: «أنتَ ظالمٌ إنْ فعلْتَ» إذ لو كانَ جواباً لوَجَبَ اقترانُه بالفاءِ لِما ذكرْتُ لك. وأصلُ «مُهْتَدُون» مُهْتَدِيُون، فأُعِلَّ بالحَذْفِ، وهو واضحٌ مما تقدَّم.

71

قوله تعالى: {لاَّ ذَلُولٌ} : المشهورُ «ذلولٌ» بالرفع على أنها صفةٌ لبقرة، وتوسَّطت «لا» للنفي كما تقدَّم في {لاَّ فَارِضٌ} ، أو على أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: لا هي ذلولٌ. والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعٍ صفةً لبقرة. وقرئ: «لا ذَلولَ» بفتح اللام على أنها «لا» التي للتبرئة والخبرُ محذوف، تقديره: لا ذلولَ ثَمَّ، أو ما أشبهه، وليس المعنى على هذه

القراءةِ، ولذلك قال الأخفشُ: «لا ذلولٌ نعت ولا يجوز نصبُه» . والذَّلولُ: التي ذُلِّلَتْ بالعمل، يقال: بَقَرةٌ ذَلول بَيَِّنَةُ الذِّل بكسر الذال، ورجلٌ ذَليل بيِّنُ الذُّل بضمها، وقد تقدَّم عند قوله: {الذلة} [البقرة: 61] . قوله: {تُثِيرُ الأرض} في هذه الجملةِ أقوالٌ كثيرٌ، أظهرهُا أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في «ذلول» تقديرُه: لا تُذَلُّ حالَ إثارتِها [الأرضَ] . وقال ابن عطية: «وهي عند قومٍ جملةً في موضعِ الصفةِ لبقرة، [أي] : لا ذلولٌ مثيرةٌ، وقالَ أيضاً: ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في موضعِ الحالِ لأنها من نكرةٍ» ، أمَّا قولُه: «في موضع الصفةِ» فإنه يلزم منه أنَّ البقرةَ كانت مثيرةً للأرض، وهذا لم يَقُلْ به الجمهور، بل قال به بعضُهم، وسيأتي بيانُه قريباً. وأمَّا قولُه: «لا يجوز أن تكونَ حالاً يعني من» بقرة «لأنها نكرةٌ. فالجوابُ: أنَّا لا نُسَلِّم أنها حالٌ من بقرة، بل من الضميرِ في» ذلولٌ «كما تقدَّم شرحه، أو نقولُ: بل هي حالٌ من النكرة قد وُصِفَتْ وتخصَّصَتْ بقوله {لاَّ ذَلُولٌ} وإذا وُصِفَت النكرةُ ساغَ إتيانُ الحالِ منها اتفاقاً. وقيل: إنها مستأنفةً، واستئنافُها على وجهين، أحدُهما: أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي: هي تثير، والثاني: أنها مستأنفةٌ بنفسِها من غير تقديرِ مبتدأ، بل تكونُ جملةً فعليةً ابتُدئ بها لمجرد الإِخبار بذلك. وقد مَنَعَ من القول باستئنافها جماعةٌ، منهم الأخفش علي بن سليمان، وعلَّل ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ بعدَه: {وَلاَ تَسْقِي الحرث} فلو كان مستأنفاً لما صَحَّ دخولُ» لا «بينه وبين الواوِ. الثاني: أنها لو كانت تثير الأرضَ لكانَتِ

الإِثارةُ قد ذَلَّلَتْها، واللهُ تعالى نفى عنها ذلك بقولِه: لا ذلولٌ. انتهى. وهذا المعنى هو الذي منعتُ به أن يكون» تثيرُ «صفةً لبقرة لأن اللازمَ مشتركٌ، ولذلك قال أبو البقاء:» ويجوزُ على قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ هذا الوجهَ يعني كونها تثيرُ ولا تَسْقي أن تكونَ تُثير في موضعِ رفعٍ صفةً لبقرة «. وقد أجابَ بعضُهم عن الوجه الثاني بأن إثارةَ الأرض عبارةٌ عن مَرَحِها ونشاطِها كما قال امرؤ القيس: 545 - يُهيلُ ويُذْري تُرْبَهُ ويُثيرُه ... إثارةَ نَبَّاثِ الهَواجِرِ مُخْمِسِ أي: تثيرُ الأرضَ مَرَحاً ونشاطاً لا حَرْثاً وعَمَلاً، وقال أبو البقاء: «وقيل هو مستأنفٌ، ثم قال:» وهو بعيدٌ عن الصحة، لوجهينِ، أحدُهما: أنه عَطَفَ عليه قوله: {وَلاَ تَسْقِي الحرث} فنفى المعطوفَ، فيجب أن يكونَ المعطوفُ عليه كذلك لأنه في المعنى واحدٌ، ألا ترى أنك لا تقول: مررتُ برجلٍ قائمٍ ولا قاعدٍ، بل تقول: لا قاعدٍ بغير واو، كذلك يجب أن يكون هنا، وذَكر الوجه الثاني كما تقدَّم، وأجاز أيضاً أن يكون «تُثير» في محلِّ رفعٍ صفةً لذَلول وقد تقدَّم لك خلافٌ: هل يُوصف الوصفُ أو لا؟ فهذه ستةُ أوجهٍ، تلخيصها: أنها حالٌ من الضميرِ في «ذَلولٌ» أو من «بقرة» أو صفةٌ لبقرة أو لذلولٌ أو مستأنفةٌ بإِضمارِ مبتدأ أو دونَه. قوله: {وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا} الكلام في هذه كما تقدم فيما قبلها من كونِها صفةً لبقرة أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ. وقال الزمخشري: ولا الأولى للنفي يعني الداخلةَ على «ذلولٌ» والثانيةُ مزيدة/ لتوكيدِ

الأولى، لأن المعنى: لا ذلولٌ تثيرُ وتَسْقي، على أن الفعلينِ صفتانِ لذَلول، كأنه قيل: لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقيةٌ «. وقُرئ» تُسْقي «بضم التاء من أَسْقى. وإثارةُ الأرضِ تحريكُها وبَحْثُها، ومنه {وَأَثَارُواْ الأرض} [الروم: 9] أي: بالحرثِ والزراعةِ، وفي الحديث:» أثيروا القرآن، فإنه عِلْمُ الأولين والآخرِين «، وفي روايةٍ،» مَنْ أرادَ العِلمَ فَلْيُثَوِّرِ القرآن «ومُسَلَّمةٌ من سَلِمَ له كذا أي: خَلُص. و» شية «مصدرٌ وَشَيْتُ الثوبَ أَشِيْهُ وَشْياً وشِيَةً، فحُذفت فاؤها لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ في المضارع، ثم حُمِلَ باقي البابِ عليه، ووزنُها: عِلة، ومثلُها: صِلة وعِدة وزِنة، وهي عبارةٌ عن اللمعةِ المخالفةِ للَّوْنِ، ومنه ثَوْبٌ مَوْشِيٌّ أي منسوجٌ بلونينِ فأكثرَ، وثور مَوْشِيُّ القوائم أي: أَبْلَقُها قال الشاعر: 546 - من وحشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكارِعُه ... طاوِي المصيرِ كسَيْفِ الصيْقَلِ الفَرِدِ ومنه:» الواشي «للنمَّام، لأنه يَشي حديثَه أي: يُزَيِّنُه ويَخْلِطُه بالكذب، وقال بعضهم: ولا يقال له واشٍ حتى يُغَيِّرَ كلامَه ويُزَيِّنَه. ويقال: ثورٌ أَشْيَهُُ، وفرس أَبْلَقُ وكبشٌ أَخْرَجُ وتيسٌ أَبْرَقُ وغرابٌ أَبْقَعُ، كلُّ ذلك بمعنى البُلْقَةِ، و» شِيَةَ «اسم لا، و» فيها «خبرها. قوله: {الآن جِئْتَ} » الآن «منصوبٌ بجِئْتَ، وهو ظرفُ زمانٍ يقتضي الحالَ ويُخَلِّصُ المضارع له عند جمهور النحويين، وقال بعضُهم: هذا هو

الغالبُ وقد جاء حيثُ لا يُمْكِنُ أن يكونَ للحالِ كقولِه: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن} [الجن: 9] {فالآن بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] فلو كان يقتضي الحالَ لَما جاء مع فعل الشرط والأمرِ اللذين هما نصٌّ في الاستقبالِ، وعَبَّر عنه هذا القائلُ بعبارةٍ توافقُ مذهبَه وهي:» الآن «لوقتٍ حُصِر جميعُه أو بعضُه» يريد بقولِه: «أو بعضُه» نحوَ: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ} وهو مبنيٌّ. واختُلِفَ في علَّة بِنائِه، فقال الزجاج: «لأنَّه تضمَّن معنى الإِشارة، لأنَّ معنى أفعلُ الآن أي: هذا الوقتَ» . وقيل: لأنه أَشْبَهَ الحرفَ في لزومِ لفظٍ واحدٍ، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُصَغَّرُ. وقيل: لأنَّ تضمَّن معنى حرفِ التعريفِ وهو الألفُ واللامُ كأمسِ، وهذه الألفُ واللامُ زائدةٌ فيه بدليلِ بنائِه ولم يُعْهَدْ معرَّفٌ بأل إلاَّ مُعْرباً، ولَزِمَت فيه الألفُ واللامُ كما لَزِمَت في الذي والتي وبابهما، ويُعْزى هذا للفارسي. وهو مردودٌ بأنَّ التضمينَ اختصار، فكيف يُخْتصر الشيءَ، ثم يُؤْثى بمثلِ لفظِه. وهو لازمٌ للظرفيَّة ولا يَتَصَرَّفُ غالباً، وقد وَقَع مبتدأ في قوله عليه السلام: «فهو يَهْوى في قَعْرِها الآنَ حينَ انتهى» فالآن مبتدأ وبني على الفتح لِما تقدَّم، و «حين» خبره، بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ، ومجروراً في قوله: 547 - أإلى الآن لا يَبِينُ ارْعِواءُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وادَّعى بعضُهم إعرابَه مستدلاًّ بقوله: 548 - كأنَّهما مِلآْنِ لم يتَغَيَّرا ... وقد مَرَّ للدارَيْنِ من بعدنا عَصْرُ يريد: «من الآن» فجَرَّه بالكسرة، وهذا يَحْتمل أن يكونَ بُني على الكسر. وزعم الفراء أنه منقولٌ من فعلٍ ماضٍ، وأن أصلَه آنَ بمعنى حانَ فَدَخَلَتْ عليه أل زائدةً واسْتُصْحِبَ بناؤُه على الفتح، وجَعَله مثلَ قولهم: «ما رأيته مذ شَبَّ إلى دَبَّ» وقولِه عليه السلام: «وأَنْهاكم عن قيلَ وقال» ، ورُدَّ عليه بأنَّ أل لا تدخُل على المنقولِ من فعلٍ ماضٍ، وبأنه كان ينبغي أن يجوزَ إعرابُه كنظائرِه، وعنه قولٌ آخر أنَّ أصلَه «أوان» فحُذِفَتِ الألفُ ثم قًُلبت الواو ألفاً، فعلى هذا ألفُه عن واو، وقد أدخله الراغبُ في باب «أين» فتكون ألفُه عن ياء، [والصواب الأول] . وقُرئ «قالوا الآن» بتحقيق [الهمزةِ] من غير نَقْل، وهي قراءةُ الجمهورِِ، و «قالُ لان» بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها وحَذْفِ الهمزة، وهو قياسٌ مطَّرد، وبه قرأ نافع وحمزة باختلافٍ عنه، و «قالو لاَن» بثبوتِ الواوِ مِنْ قالوا لأنها إنما حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين وقد تحرَّكَتِ اللامُ لنقلِ حركةِ الهمزةِ إليها، واعتدُّوا بذلك كما قالوا في الأحمر: «لَحْمَر» . وسيأتي تحقيقُ

هذا إن شاء اللهُ تعالى في {عَاداً الأولى} [النجم: 50] ، وحُكي وجه رابع: «قالوا ألآن» بقطعِ همزةِ الوصلِ وهو بعيدٌ. قوله: «بالحقِّ» يجوزُ فيه وجهانِ، أحدُهما أن تكونَ باءَ التعدية كالهمزة كأنه قيل: أَجَأْتَ الحقَّ أي: ذَكَرْتَه. الثاني: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ «جِئْتَ» أي: جِئْتَ ملتبساً بالحقِّ أو ومعك الحقُّ. قوله {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} كادَ واسمُها وخبرُها، والكثيرُ في خبرها تَجَرُّدُه من أَنْ، وشَذَّ قولُه: 549 - قد كادَ من طولِ البِلى أَنْ يَمْحَصا ... عكسَ عسى، ومعناها مقاربةُ الفعلِ، وقد تقدَّم جملةٌ صالحةٌ من أحكامِها، وكونُ نفيها إثباتاً وأثباتِها نفياً، والجوابُ عن ذلك عند قوله: {يَكَادُ البرق} [البقرة: 20] فَلْيُلْتَفتْ إليه.

72

قوله تعالى: {فادارأتم فِيهَا} : فعلٌ وفاعلٌ، والفاءُ للسببية، لأنَّ التدارُؤَ كان مُسَبَّباً عن القتلِ، ونسبَ القتلَ إلى الجميعِ وإنْ لم يَصْدُرْ إلاَّ من واحدٍ أو اثنين كما قيل، لأنه وُجِدَ فيهم، وهو مجازٌ شائعٌ. وأصل ادَّارأتم: تَدارَأْتُم تفاعَلْتم من الدَّرْءِ وهو الدفعُ، فاجتمعَتِ التاءُ مع الدال وهي مقارِبتُها فأريدَ الإِدغامُ فَقُلبت التاءُ دالاً وسُكِّنتْ لأجلِ الإِدغامِ، ولا يمكنُ الابتداءُ بساكنٍ فاجتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ ليُبتدأ بها فبقي ادَّارأتم، والأصل: «ادْدَارَأْتم» فأدغم، وهذا مطردٌ في كلِّ فعل على تَفَاعَل أو تفعَّل فاؤُه دالٌ نحو: «تَدَايَنَ

وادَّايَنَ، وتَدَيَّن وادَّيَّن، أو ظاء أو طاء أو ضاد أو صادٌ نحو: تَطَاير واطَّاير، وتَطّيَّر واطَّيَّر، وتَظَاهَرَ واظَّاهر، وتَطَهَّر واطَّهَّر، والمصدرُ على التفاعُلِ أو التفعُّل نحو: تدارؤ وتطهُّر نظراً إلى الأصلِ، وهذا أصل نافعٌ في جميعِ الأبوابِ فليُتأمَّلْ. قوله: {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} » الله «رفعٌ بالابتداء و» مُخْرجٌ «خبرُه، وما موصولةٌ منصوبةٌ المحلِّ باسمِ الفاعلِ، فإنْ قيل: اسمُ الفاعلِ لا يَعْمَل بمعنى الماضي إلا مُحَلَّى بالألف واللام. فالجواب/ أنَّ هذه حكايةُ حالٍ ماضيةٍ، واسمُ الفاعل فيها غير ماضٍ، وهذا كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] ، والكسائي يُعْمِلُه مطلقاً ويستدلُّ بهذا ونحوهِ. و» ما «يجوز أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً، فلا بد من عائدٍ، تقديره: مُخْرِجُ الذي كنتم تكتمونَه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعول به أي مُخْرِجٌ مكتومَكم، وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإِعرابِ لأنها معترضةٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وهما:» فادَّارَأْتم «» فقلنا اضرِبوه «قاله الزمخشري. والضميرُ في» اضربوه «يعودُ على النفس لتأويلِها بمعنى الشخص والإِنسان، أو على القتيلِ المدلولِ عليه بقوله: والله مُخْرِجٌ ما كنتم تكتمون» . والجملةُ من «اضربوه» محلِّ نصبٍ بالقولِ.

73

قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي الله} : «كذلك» في محلِّ نصب لأنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف تقديرُه: يُحْيي الله الموتى إحياءً مثلَ ذلك الإِحياءِ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي إحياءً كائناً كذلك الإِحياءِ، أو لأنه حالٌ من المصدرِ المعرَّفِ، أي: ويريكم الإِراءةَ حالَ كونِها مُشْبِهةً ذلك الإِحياءَ، وقد تقدَّم أنه مذهبُ سيبويه، والموتى جمع «مَيِّت» وقد تقدَّم.

قوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} الرؤيةُ هنا بَصَريَّةٌ فالهمزةُ للتعديةِ أَكْسَبَتِ الفعلَ مفعولاً ثانياً، وهو «آياتِه، والمعنى: يَجْعلكم مُبْصِرينَ آياتِه. و» كم «هو المفعولُ الأولُ، وأصلُ يُريكم: يُأَرْإيكم، فَحُذِفَت همزةَ أَفْعل في المضارعةِ لِما تقدَّم في» يُؤْمنون «وبابه، فبقي يُرئيكم، فَنُقِلت حركةُ الهمزة على الراءِ، وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً، وهو نقل لازمٌ في مادةِ» رأى «وبابِه دون غيره ممَّا عينُه همزةٌ نحو: نَأَى يَنْأَى، ولا يجوز عدمُ النقلِ في رأى وبابِه إلا ضرورةً كقوله: 550 - أُري عَيْنَيَّ ما لم تَرْأَياهُ ... كِلانا عالمٌ بالتُّرَّهاتِ

74

قوله تعالى: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} : «أو» هذه ك «أو» في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] فكلُّ ما قيلَ فيه ثَمَّةَ يمكنُ القولُ به هنا، ولمَّا قال أبو الأسود: 551 - أُحِبُّ محمداً حُبَّاً شديداً ... وعَبَّاساً وحمزةَ أو عَلِيَّا اعترضوا عليه في قوله «أو» التي تقتضي الشكَّ، وقالوا له: أَشَكَكْتَ؟ فقال: كَلاَّ، واستدلَّ بقولِه تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ} [سبأ: 24] وقال: أَوَ كان شاكَّاً مَنْ أَخْبر بهذا؟ وإنما قَصَد رحمه الله الإِبهامَ على المخاطب. و «أشدُّ» مرفوعٌ لعطفِه على محلِّ «كالحجارة» أي: فهي مثلُ الحجارةِ أو أشدُّ. والكافُ يجوزُ أن تكونَ حرفاً فتتعلَّقَ بمحذوفٍ وأن تكونَ

اسماً فلا تتعلَّقَ بشيء، ويجوز أن تكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: أو هي أشدُّ. و «قسوة» نصبٌ على التمييزِ؛ لأنَّ الإِبهامَ حَصَلَ في نسبةِ التفضيلِ إليها، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للدلالةِ عليه أي: أشدُّ قسوةً من الحجارةِ. وقُرئ «أشدَّ» بالفتح، ووجهُها أنه عَطَفَها على «الحجارة» أي: فهي كالحجارة أو كأشدَّ منها. قال الزمخشري مُوَجِّهاً للرفعِ: «وأشدُّ معطوفٌ على الكاف: إمَّا على معنى: أو مثلُ أشدَّ فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، وتَعْضُده قراءة الأعمش بنصبِ الدال عطفاً على الحجارة» . ويجوز على ما قاله أن يكونَ مجروراً بالمضافِ المحذوفِ تُرِكَ على حاله، كقراءة: {والله يُرِيدُ الآخرة} [الأنفال: 67] بجرِّ الآخرةِ، أي: ثوابَ الآخرةِ، فيحصُلُ من هذا أنَّ فتحةَ الدالِ يُحْتَمَلُ أن تكونَ للنصبِ وأن تكونَ للجرِّ. وقال الزمخشري أيضاً: «فإنْ قلت: لِمَ قيل» أشدُّ قسوةً «وفعلُ القسوةِ ممَّا يخرُج منه أفعلُ التفضيلِ وفعلُ التعجبِ؟ يعني أنه مستكملٌ للشروطِ مِنْ كونِه ثلاثياً تاماً غيرَ لَونٍ ولا عاهةٍ متصرفاً غيرَ ملازمٍ للنفيِ ثم قال:» قلت: لكونِه أَبْيَنَ وأدلَّ على فرطِ القسوةِ، ووجهٌ آخرُ وهو أنه لا يَقْصِدُ معنى الأقسى، ولكنه قَصَد وصفَ القسوةِ بالشدة، كأنه قيل: اشتدَّتْ قسوةُ الحجارةِ وقلوبُهم أشدُّ قسوةً «وهذا كلامٌ حسنٌ جداً، إلا أنَّ كونَ القسوةِ يجوزُ بناءُ التعجبِ منها فيه نظرٌ من حيثُ إنَّها من الأمورِ الخَلْقيَّةِ أو من العيوبِ، وكلاهما ممنوعٌ منه بناءُ البابَيْنِ. وقُرئ: قَساوة. قوله: {لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ} اللامُ لامُ الابتداء دَخَلَت على اسم» إنَّ «، لتقدُّمِ

الخبرِ وهو {مِنَ الحجارة} ، وهي بمعنى الذي في محلِّ النَّصْبِ ولو لم يتقدَّم الخبرُ لم يَجُزْ دخولُ اللام على الاسم لئلا يتوالَى حرفا تأكيدٍ، وإنْ كان الأصلُ يقتضي ذلك، والضميرُ في» منه «يعودُ على» ما «حَمْلاً على اللفظ، قال أبو البقاء:» ولو كان في غيرِ القرآنِ لجازَ «منها» على المعنى «قلت: هذا الذي قد قرأ به أُبي بن كعب والضحاك. وقرأ مالك بن دينار: «يَنْفَجِرُ» من الانفجار. وقرأ قتادة: {وَإِنْ مِنَ الحجارة} بتخفيف إنْ من الثقيلة وأتى باللام فارقةً بينها وبين «إنْ» النافية، وكذلك {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} وهذه القراءة تحتمل أن تكونَ «ما» فيها في محل رفع وهو المشهورُ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ لأنَّ «إنْ» المخففة سُمع فيها الإِعمالُ والإِهمالُ، قال تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] في قراءة مَنْ قرأه. وقال في موضع آخر: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} [يس: 32] إلاَّ أنَّ المشهورَ الإِهمالُ. و {يَشَّقَّقُ} أصلُه: يَتَشَقَّقُ، فأُدْغم، وبالأصلِ قرأ الأعمشُ، وقرأ طلحة بن مصرف: «لَمَّا» بتشديد الميم في الموضعين، قال ابن عطية: «وهي قراءة غير متجهة» وقرأ أيضاً: «يَنْشَقُّ» بالنون، وفاعلُه ضمير «ما» وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الماء لأنَّ» يَشَّقَّقُ «يجوز أن يُجْعَلَ للماء على

المعنى، فيكونَ معك فعلان، فيعملُ الثاني منهما في الماء، وفاعلُ الأولِ مضمرٌ/ على شريطةِ التفسيرِ، وعند الكوفيين يَعْمَلُ الأولُ فيكون في الثاني ضميرٌ» يعني أنه من باب التنازع، ولا بد من حَذْفِ عائدٍ من «يَشَّقَّق» على «ما» الموصولة دلَّ عليه قوله «مِنْه» والتقديرُ: وإنَّ من الحجارة لما يَشَّقَّقُ الماءُ منه فيخرجُ الماءُ منه. وقال أيضاً: «ولو قُرئ» تتفجَّر «بالتاءِ جاز» قلتُ: قال أبو حاتم يجوز «لما تتفجَّر» بالتاء لأنه أَنَّثه بتأنيثِ الأنهار، وهذا لا يكون في تشَّقَّق يعني التأنيث. قال النحاس: «يجوز ما أنكره على المعنى، لأنَّ المعنى: وإنَّ منها لحجارةً تَتَشَقَّقُ» يعني فيراعي به معنى «ما» فإنَّها واقعةٌ على الحجارة. قوله: {مِنْ خَشْيَةِ الله} منصوبُ المحلِّ متعلقٌ ب «يَهْبِط» . و «مِنْ» للتعليل، وقال أبو البقاء: [ «مِنْ» ] في موضع نصب بيهبط، كما تقول: يهبط بخشيةِ الله، فجعلَها بمعنى الباء المُعَدِّية، وهذا فيه نظرٌ لا يَخْفَى. وخشية مصدرَ مضافٌ للمفعول تقديرُه: مِنْ أن يَخْشَى اللهَ. وإسنادٌ الهبوطِ إليها استعارةُ، كقوله: 552 - لَمَّا أَتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ ... سُورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ ويجوز أن يكونَ حقيقةً على معنَى أنَّ الله خلقَ فيها قابليةً لذلك. وقيل: الضميرُ في «منها» يعودُ على القلوبِ وفيه بُعْدٌ لتنافُرِ الضمائر.

قوله {وَمَا الله بِغَافِلٍ} قد تقدَّم في قوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] فَلْيُلْتَفَتْ إليه. قوله: {عَمَّا تَعْمَلُونَ} بغافل، و «ما» موصولةٌ اسميةٌ، فلا بد من عائدٍ أي: تعملونه، أو مصدريةٌ فلا يُحتاجُ إليه، أي عن عملِكم، ويجوز أن يكونَ واقعاً موقعَ المفعولِ به، ويجوز ألاَّ يكون. وقُرِئ «يعملون» بالياءِ والتاءِ.

75

قوله تعالى: {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} . . ناصبٌ ومنصوبٌ، وعلامةُ النصبِ حَذْفُ النونِ، والأصلُ: في أَنْ، فموضعُها نصبٌ أو جَرٌّ على ما عُرِفَ غيرَ مرةَ، وعَدَّى «يؤمنوا» باللام لتضمُّنِه معنى أَنْ يُحْدِثوا الإِيمان لأجلِ دعوتِكم، قاله الزمخشري وقد تقدَّم تحقيقُه. قوله: {وَقَدْ كَانَ} الواو للحالِ. قالَ بعضُهم: «وعلامتُها أَنْ يَصْلُحَ موضعَها» إذ «والتقدير: أفتطمَعُون في إيمانِهم والحالُ أنهم كاذبون مُحَرِّفون لكلام الله تعالى. و» قد «مقربةٌ للماضي مِن الحال سَوَّغَتْ وقوعَه حالاً. و» يَسْمَعُون «خبراً كان، و» منهم «في محلِّ رفع صفةً لفريقٍِ، أي: فريقٌ كائنٌ منهم. وقال بعضُهم: {يَسْمَعُونَ} في محلِّ رفعٍ صفةً لفريق، و» منهم «في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ، وهذا ضعيفٌ. والفريق اسمُ جمعٍ لا واحدَ له مِن لفظِه كرهط وقوم، وكان وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ على ما تقدَّم. وقُرئ {كَلِمَ الله} وهو اسمُ جنسٍ واحدهُ كلمة، وفَرَّق النحاة بين الكلام والكَلِم، بأنَّ الكلامَ شرطُه الإِفَادَةُ، والكَلِمُ شَرْطُه التركيبُ من ثلاثٍ

فصاعداً، لأنه جَمْعٌ في المعنى، وأقلُّ الجمعِ ثلاثةٌ، فيكونَ بينهما عمومٌ وخُصوصٌ من وجهٍ، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِهم. وهل الكلامُ مصدرٌ أو اسمُ مصدر؟ خلافٌ. والمادةُ تَدُلُّ على التأثير، ومنه الكَلْمُ وهو الجرحُ، والكلامُ يؤثِّر في المخاطب قال: 553 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجُرْحُ اللسانِ كجُرْحِ اليَدِ ويُطْلَقُ الكلامُ لغةً على الخطِّ والإِشارةِ كقوله: 554 - إذا كَلَّمَتْنِي بالعيونِ الفواتِرِ ... رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ وعلى النفساني، قال الأخطل: 555 - إنَّ الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما ... جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَلِيلا قيل: ولم يُوْجَدْ هذا البيتُ في ديوان الأخطل، وأمَّا عند النحويين فلا يُطْلَقُ إلا على اللفظِ المركَّب المفيدِ بالوَضْع. قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} متعلِّقٌ ب {يُحَرِّفُونَهُ} . والتحريفُ: الإِمالة والتحويلُ، و» ثم «للتراخي: إمَّا في الزمانِ أو الرتبةِ، و» ما «يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أي: ثم يُحَرِّفون الكلامَ من بعدِ المعنى الذي فَهِموه وعَرفوه. ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً والضميرُ في» عَلَقوه «يعودُ حينئذٍ على الكلامِ، أي مِنْ بعدِ تَعَقُّلِهِم إياه. قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ، وفي العاملِ فيها قولان، أحدهما: {عَقَلُوهُ} ، ولكنْ يلزَمُ منه أن تكونَ حالاً مؤكدةً،

لأنَّ معناها قد فُهِمَ مِنْ قولِه» عَلَقُوه «والثاني: وهو الظاهرُ، أنه يُحَرِّفونه، أي يُحَرِّفونه حَالَ عِلْمِهِم بذلك.

76

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ} . . الآية، قد تقدَّم نظيرُها أولَ السورةِ، وقد تقدَّم الكلامُ على مفرداتها وإعرابها، فأغنى ذلك من الإِعادة. وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وجهَيْن، أحدُهما: أن تكونَ مستأنفةً كاشفةً عن أحوال اليهودِ والمنافقين. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ معطوفةً على الجملة الحالية قبلها وهي: «وقد كان فريقٌ» والتقدير: كيف تطمعون في إيمانِهم وحالُهم كَيْتَ وكَيْتَ؟ وقرأ ابن السَّمَيْفَع: لاقُوا، وهو بمعنى لَقوا، فَاعَل بمعنى فَعِل نحو: سافر وطارَقْتُ النعل. قوله: {بِمَا فَتَحَ الله} متعلِّقٌ بالتحديث قبلَه، وما موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ أي: فَتَحَه الله. وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً أو مصدريةً، أي: شيءٌ فَتَحه، فالعائدُ محذوفٌ أيضاً، أو بفتحِ الله عليكم. وفي جَعْلِها مصدريةً إشكالٌ من حيثُ إن الضميرَ في قولِه بعد ذلك: {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ} عائدٌ على «ما» هذا هو الظاهرُ، وما المصدريةُ حرفٌ لا يعودِ عليها ضميرٌ على المشهورِ خلافاً للأخفشِ وأبي بكر بن السراج، إلا أَنْ يُتَكَلَّفَ فيُقال: الضميرُ يعودُ على المصدرِ المفهومِ من قوله: {أَتُحَدِّثُونَهُم} أو من قوله فَتَح، أي: لِيحاجُّوكم بالتحديثِ الذي حُدِّثْتُمُوه، أو بالفتح

الذي فَتَحه الله عليكم. والجملةُ من قولِهِ: «أتُحَدِّثونهم في محلِّ نصبٍ بالقَوْل، والفتحُ هنا معناه الحكمُ والقَضاءُ، وقيل: الفَتَّاحُ: القاضي بلغةِ اليمن، وقيل الإِنزالُ. وقيل: الإِعلامُ/ أو التبيينُ بمعنى أنه بَيَّنَ لكم صفة محمدٍ عليه السلام، أو المَنُّ بمعنى ما مَنَّ عليكم به من نَصْرِكم على عَدُوِّكم، وكلُّ هذه أقوالٌ مذكورةٌ في التفسيرِ. قوله: {لِيُحَآجُّوكُم} هذه اللامُ تُسَمَّى لامَ كي بمعنى أنها للتعليل، كما أنَّ» كي «كذلك، لا بمعنى أنها تَنْصِبُ ما بعدَها بإضمار ب» كي «كما سيأتي، وهي حرفُ جرٍّ، وإنما دَخَلَتْ على الفعل لأنه منصوبٌ بأَنْ المصدريةِ مقدرةً بعدها، فهو معها بتأويل المصدرِ أي للمُحاجَّةِ، فلم تَدْخُلْ إلا على اسم لكنه غيرُ صريح. والنصبُ بأَنْ المضمرةِ كَما تقدَّم لا بكَيْ خلافاً لابن كيسان والسيرافي وإن ظَهَرَتْ بعدها نحو قولِه تعالى: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} [الحديد: 23] لأن» أَنْ «هي أُمُّ البابِ، فادِّعاءُ إضمارِها أَوْلَى مِنْ غيرِها. وقال الكوفيون:» النصبُ باللامِ نفسِها، وأَنَّ ما يظهر بعدَها من كي وأَنْ إنما هو على سبيلِ التأكيد «، وللاحتجاجِ موضعٌ غيرُ هذا من كتب النحو. ويجوز إضمارُ أَنْ وإظهارُها بعد هذه اللامِ إلاَّ في صورةٍ واحدةٍ وهي ما إذا وقع بعدها» لا «نحو قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] ، {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} [البقرة: 150] ، وذلك لِما يَلْزَمُ من توالي لاَميْن فيثقُل اللفظُ. والمشهورُ في لغةِ العربِ كَسْرُ هذه اللامِ لأنها حرفُ جر وفيها لُغَيَّةٌ شاذَّةٌ وهي الفتح. وهذه اللامُ متعلقةٌ بقوله: «أَتُحَدِّثُونهم» . وذهب بعضُهم إلى أنَّها متعلقةٌ ب «فَتَحَ» ، وليس بظاهرٍ، لأنَّ المُحاجَّةِ ليست علة للفتح، وإنما هي

نَشَأَتْ عن التحديث، اللهم إلا أَنْ يُقالَ: تَتَعَلَّقُ به على أنها لامُ العاقبة، وهو قولٌ قيل بهِ فصارَ المعنى أنَّ عاقبةَ الفتحِ ومَآلَة صارَ إلى أَنْ حاجُّوكم، أو تقول: إنَّ اللام لامُ العِلَّة على بابِها، وإنَما تَعَلَّقَتْ بفَتْحِ لأنه سببٌ للتحديث، والسَّبَبُ والمُسَبَّبُ في هذا واحدٌ. قوله: «به» الضميرُ يعودُ على «ما» من قوله: {بِمَا فَتَحَ الله} وقد تقدَّم أنه يضعفُ القولُ بكونِها مصدريةً، وأنه يجوز أن يعود على أحدِ المصدَرَيْنِ المفهومين من «أَتُحَدِّثُونهم» و «فتح» . قوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} ظرفٌ معمولٌ لقولِه: {لِيُحَآجُّوكُم} بمعنى لِيحاجُّوكم يومَ القيامة، فًَكَنَى عنه بقوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} ، وقيل: «عندَ» بمعنى في، أي: ليحاجُّوكم في ربكم، أي: فيكونون أَحَقَّ به منكم. وقيل: ثَمَّ مضَافٌ محذوفٌ أي: عند ذِكْرِ ربِّكم، وقيل: هو معمولٌ لقولِه: {بِمَا فَتَحَ الله} أي بما فتح اللهُ مِنْ ربكم ليحاجُّوكم، وهو نَعْتُه عليه السلام وأَخْذُ ميثاقِهم بتصديقِه. ورجَّحه بعضُهم وقال: «هو الصحيح، لأنَّ الاحتجاجَ عليهم هو بما كانَ في الدنيا» وفي هذا نظرٌ مِنْ جهةِ الصناعة، وذلك أنَّ {لِيُحَآجُّوكُم} متعلقٌ بقوله: {أَتُحَدِّثُونَهُم} على الأظهرِ كما تقدَّم فيلزَمُ الفَصْلُ به بين العاملِ وهو فَتَح وبين معمولِه وهو عند ربك وذلك لا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ منهما. قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} تقدَّم الكلامُ على نظيرَتِها. وفي هذه الجملةِ قولان: أحدُهما [أنها] مندرجَةٌ في حَيِّز القولِ. والثاني أنها من خطابِ الله تعالى للمؤمنين بذلك فَمَحَلُّها النصبُ على الأولِ ولا محلَّ لها على الثاني، ومفعولُ {تَعْقِلُونَ} يجوزُ أن يكونَ مراداً ويجوزُ ألاَّ يكونَ.

77

قوله تعالى: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله} . . تقدَّم أنَّ مذهبَ الجمهورِ أنَّ النيةَ بالواوِ التقديمُ على الهمزةِ لأنَّها عاطفةٌ، وإنما أُخِّرَتْ عنها لقوةِ

همزةِ الاستفهام، وأنَّ مذهبَ الزمخشري تقديرُ فِعْلٍ بعدَ الهمزةِ، ولا للنفي. و {أَنَّ الله يَعْلَمُ} يجوزُ أن تكونَ في محلِّ نصبٍ، وفيها حينئذٍ تقديران، أحدُهما أنَّها سادَّةٌ مسَدَّ مفردٍ إن جَعَلْنَا عَلِمَ بمعنى عَرَف، والثاني: أنها سادةٌ مَسَدَّ مفعولَيْن إنْ جَعَلْنَاها متعديةً لاثنين كظنَنْتُ، وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهبُ سيبويهِ والجمهور، وأنَّ الأخفشَ يَدَّعي أنها سَدَّتْ مَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ، و «ما» يجوز أن تكونَ بمعنى الذي وعائدُها محذوف، أي: ما يُسِرُّونه ويُعْلِنُونه، وأن تكونَ مصدريةً أي: يعلم سِرَّهم وعَلَنَهم، والسِرُّ والعلانِيَةُ متقابِلان.

78

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} . . «منهم» خبرٌ مقدَّمٌ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «أمِّيُّون» مبتدأٌ مؤخر، ويجوزُ على رأي الأخفشِ أن يكونَ فاعلاً بالظرف قبلَه وإنْ لم يَعتمدْ، وقد بَيَّنْتُ على ماذا يعتمد فيما تقدَّم. «وأمِّيُّون جمع أُمّيّ وهو مَنْ لا يكتب ولا يقرأ، واختُلف في نسبته، فقيل: إلى الأُم وفيه معنيان: أحدُهما: أنه بحال أمِّه التي وَلَدَتْه مِنْ عَدَمِ معرفةِ الكتابة وليس مثلَ أبيه، لأن النساءَ ليس منْ شُغْلِهِنَّ الكتابةُ. والثاني: أنَّه بحاله التي وَلَدَتْهُ أمُّه عليها لم يتغيَّرْ عنها ولم يَنْتَقِلْ. وقيل: نُسِبَ إلى الأُمَّة وهي القامَةُ والخِلْقَةُ، بمعنى أنه ليس له من الناسِ إلا ذلك. وقيل: نسب إلى الأُمَّة على سَذاجَتِها قبل أن تَعْرِفَ الأشياء كقولهم: عامِّي أي: على عادة العامَّة. وعن ابن عباس:» قيل لهم أمِّيُّون لأنهم لم يُصَدِّقوا بأم الكتاب «وقال أبو عبيدة:» قيل لهم أُمِّيُّون لإِنزالِ الكتابِ عليهم كأنهم نُسبوا لأُمِّ الكتاب «. وقرأ ابن أبي عبلة:» أُمِّيُون «بتخفيف الياء، كأنه اسْتُثْقَلَ تواليَ تضعيفين.

قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ} جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ صفةً لأمِّيُّونُ، كأنه قيل: أُمِّيُّون غيرُ عالمين. قوله: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} هذا استثناءٌ منقطعُ، لأن الأمانيَّ ليست من جنسِ الكتابِ، ولا مندرجةٌ تحتَ مدلولِه، وهذا هو المنقطعُ، ولكنَّ شرطه أن يُتَوَهَّمَ دخولُه بوجهٍ ما كقولِه: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} [النساء: 157] / وقولِ النابغة: 556 - حَلَفْتُ يميناً غيرَ ذي مَثْنَوِيَّةٍ ... ولا عِلْمَ إلا حُسْنُ ظنٍّ بصاحبِ لأنَّ بِذِكْرِ العلم استُحْضِرَ الظنُّ، ولهذا لا يَجُوز: صَهَلَت الخيلُ إلا حماراً. واعلمْ أنَّ المنقطعَ على ضَرْبَيْن: ضربٍ يَصِحُّ تَوَجُّهُ العاملِ عليه نحو:» جاء القومُ إلا حماراً «وضربٍ لا يتوجَّهُ نحو ما مَثَّل به النحويون:» ما زاد إلا ما نَقَصَ، وما نَفَعَ إلا ما ضَرَّ «فالأول فيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ نصبهِ ولغةُ تميمٍ أنه كالمتصل، فيجوزُ فيه بعد النفي وشِبْهِهِ النصبُ والإِتباعُ، والآيةُ الكريمة من الضَرْب الأول، فيَحْتملُ نصبُها وجهين، أَحَدُهُما: على الاستثناء المنقطع، والثاني: أنه بدلٌ من الكتاب، و» إلا «في المنقطع تُقَدَّر عند البصريين ب» لكن «وعند الكوفيين ب» بل «. وظاهرُ كلام أبي البقاء أن نَصْبَه على المصدرِ بفعلِ محذوفٍ، فإنَّه قال: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} استثناء منقطع، لأنَّ الأمانيَّ ليس من جنسِ العلم، وتقديرُ» إلاَّ «في مثلِ هذا ب» لكنْ «، أي: لكنْ يتَمنَّونه أمانيَّ، فيكونُ عندَه من بابِ الاستثناء المفَرَّغِ المنقطعِ، فيصيرُ نظيرَ:» ما علمتُ إلا ظناً «وفيه نظرٌ.

والأمانيُّ جمع أُمْنِيَّة بتشديد الياء فيهما. وقال أبو البقاء: «يجوز تخفيفُها فيهما» . وقرأ أبو جعفر بتخفيفها، حَذَفَ إحدى الياءَين، تخفيفاً، قال الأخفش: «هذا كما يُقال في جمعِ مفتاح: مفاتح ومفاتيح» ، قال النحاس: «الحَذْفُ في المعتلِّ أكثرُ» وأنشد قول النابغة: 557 - وهل يُرْجِعُ التسليمَ أو يَكْشِفُ العمى ... ثلاثُ الأَثافي والرسومُ البلاقِعُ وقال أبو حاتم: «كلُّ ما جاء واحدُه مشدَّداً من هذا النوع فلك في الجمعِ الوجهان» وأصلُه يَرْجِعُ إلى ما قال الأخفش. ووزن أُمْنِيَّة: أُفْعُولة من منَّى يُمَنِّي إذا تلا وقرأ، قال: 558 - تَمَنَّى كتابَ اللهِ آخرَ ليلِهِ ... تَمَنِّىِ داودَ الزبورَ على رِسْلِ وقال كعب بن مالِك: 559 - تَمَنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ لَيلهِ ... وآخِرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ وقال تعالى: «إلا إذا تَمَنَّى ألقى الشيطانُ في أُمْنِيَّتِهِ» ، أيَ: قَرَأَ وتَلا، فالأصلُ على هذا: أُمْنُوية، فاعتلَّت اعتلالَ ميِّت وسيِّد، وقد تقدَّم. وقيل:

الأمنيَّةُ الكذبُ والاختلاقُ. وقيل ما يتمنَّاه الإِنسان ويَشْتهيه. وقيل: ما يُقَدِّرُه وَيَحْزِرُه مِنْ مَنَّى إذا كَذَبَ أو تمنَّى أو قدَّر، كقوله: 560 - لا تأْمَنَنَّ وأنْ أمْسَيْت في حَرَمٍ ... حتى تُلاقِي ما يَمْني لكَ الماني أي: يقدِّر لك المقدِّرُ. وقال الراغب: «والمَنْيُ القَدْرُ، ومنه» المَنا «الذي يُوزَنُ به، ومنه: المَنِيَّة وهو الأجَل المقدَّرُ للحيوان، والتمنِّي: تقديرُ شيءٍ في النفسِ وتصويرُه فيها، وذلك قد يكونُ عن ظَنٍّ وتخمين، وقد يكونُ بناءً على رَوِيَّةٍ وأصلٍ، لكنْ لمَّا كان أكثرُه عن تَخْمينٍ كان الكذبُ أَمْلَكَ له، فأكثرُ التمنِّي تصوُّرُ ما لا حقيقةَ له، والأُمْنِيَةُ: الصورةُ الحاصلةُ في النفسِ مِنْ تمنِّي الشيءِ، ولمَّا كان الكذبُ تَصَوُّرَ ما لا حقيقة له وإيرادَه باللفظِ صار التَمنِّي كالمبدأ للكذبِ [فعُبِّر به عنه، ومنه قولُ عثمانَ رضي اللهُ عنه:» ما تَغَنَّيْتُ ولا تَمَنَّيْتُ منذ أَسلمْتُ «] . وقال الزمخشري:» والاشتقاقُ من مَنَّى إذا قدَّر، أن المتمنِّي يُقَدِّر في نفسِه ويَحْزِرُ ما يتمنَّاه، وكذلك المختلقُ، والقارئُ يقدِّر أنَّ كلمةَ كذا بعد كذا «فجَعَلَ بين هذه المعاني قَدْراً مشتركاً وهو واضحٌ. قولُه: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} » إنْ «نافيةٌ بمعنى ما، وإذا كانت نافيةً فالمشهورُ أنها لا تعملُ عملَ» ما «الحجازيةِ، وأجاز بعضُهم ذلك ونَسَبه لسيبويهِ

وأَنْشدوا: 561 - إنْ هُوَ مستولياً على أَحَدٍ ... إلاَّ على أَضْعَفِ المجانين و» هو «اسمُها و» مستولياً «خبرُها، فقولُه» هم «في محلِّ رفعٍ بالابتداء، لا اسم» إنْ «لأنها لم تَعْمَل على المشهور، و» إلاَّ «للاستثناء المفرغ، و» يَظُنُّونَ «في محلِّ الرفع خبراً لقولِه» هم «وحَذَفَ مفعوليَ الظنِّ للعلمِ بهما، أو اقتصاراً، وهي مسألةُ خلافِ.

79

قولُه تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ} . . وَيْلٌ مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كانَ نكرةً لأنه دعاءٌ عليهم، والدعاءُ من المسوِّغاتِ سواءً كان دعاءً له نحو: «سلامٌ عليكم، أو عليه كهذه الآية، والجارُّ بعده الخبرُ فيتعلًّقُ بمحذوف. وقال أبو البقاء:» ولو نُصِبَ لكانَ له وجهٌ على تقدير: أَلْزَمَهم الله ويلاً، واللامُ للتبيين لأنَّ الاسمَ لم يُذْكَرْ قَبْلَ المصدر «يعني أنَّ اللامَ بعد المنصوبِ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، وقولُه:» لأنَّ الاسم «يعني أنه لو ذُكِرَ قبلَ» ويلَ «فقلت:» ألزم الله زيداً ويلاً «لم يَحْتَجْ إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر، وعبارةُ الجَرْميّ توهم وجوبَ الرفعِ في المقطوعِ عن الإضافة، ونَصَّ الأخفش على جوازِ النصبِ فإنه قال:» ويجوزُ النصبُ على إضمار فعلٍ أي: أَلْزمهم الله ويلاً «. واعلم أن ويلاً وأخواتِه وهي: وَيْح ووَيْس ووَيْب وعَوْل من المصادرِ المنصوبةِ بأفعالٍ من غير لفظِها، وتلك الأفعالُ واجبةُ الإِضمارِ، لا يجوز

إظهارُها البتة أنها جُعِلَتْ بدلاً من اللفظ بالفعلِ، وإذا فُصِل عن الإِضافةِ فالأحسنُ فيه الرفعُ، نحوَ:» وَيْلٌ له «وإن أُضِيفَ نُصِبَ على ما تقدَّم، وإن كان عِبارةُ الجرميّ توهُم وجوبَ الرفعِ عند قَطْعِه عن الإِضافة فإنه قال:» فإذا أَدْخَلْتَ اللامَ رَفَعْتَ فقلت: ويلٌ له، وَوَيْحٌ له «كأنه يُريد على الأكثر، ولم يَسْتعمل العربُ منه فعلاً لاعتلالِ عينه وفائِه، وقد حَكى ابن عرفة:» تَوَيَّلَ الرجلُ «إذا دَعا بالوَيْل، وهذا لا يَرُدُّ، لأنه مثلُ قولهم:» سَوَّفْتَ ولَوْلَيْتَ «إذا قلتَ: له سوفَ ولو. ومعنى الوَيْلِ شِدَّةُ الشر قاله الخليل، وقال الأصمعي: الوَيْلُ: التفجُّع، والوَيْل: الترحُّم. وقال سيبويه:» وَيْل، لِمَنْ وَقَعَ في الهَلَكَة، ووَيْحٌ زَجْرٌ لمَنْ أَشْرَفَ على الهَلاك «وقيل: الويلُ الحُزن، وهل ويْل ووَيْح ووَيْس ووَيْب بمعنى واحد أو بينها فرقٌ؟ خلافٌ، وقد تقدَّم ما فرَّق به سيبويه في بعضِها. وقال قومٌ: وَيْلٌ في الدُّعاء عليه، ووَيْحٌ وما بعدَه ترحُّمٌ عليه. وزعم الفرّاء أن أصلَ وَيْل: وَيْ أَي حُزْن، كما تقول: وَيْ لفلان، أي حُزْن له، فَوَصَلَتْه العربُ باللام، وقَدَّرَتْ أنَّها منه فَأَعْرَبوها وهذا غريبٌ جداً. ويقال: وَيْل وويلَة بالتاء، وقال امروء القيس: 562 - له الويلُ إنْ أَمْسى ولا أمُّ عامرٍ ... لَدَيْهِ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يَشْكُرا وقال أيضاً:

563 - ويومَ دَخَلْتَ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فقالَتْ: لَكَ الوَيْلاتُ إنَّك مُرْجِلي فويلات جمع وَيْلَة لا جمعُ وَيْل كما زَعَم ابن عطية/ لأنَّ جمعَ المذكر بالألفِ والتاءِ لا يَنقَاسُ. قوله {بِأَيْدِيهِمْ} متعلِّقٌ بيكُتبون، ويَبْعُدُ جَعْلُه حالاً من» الكتاب «، والكتابُ هنا بمعنى المكتوب، فنصبُه على المفعولِ به، ويَبْعُدُ جَعْلُهُ مصدراً على بابِه، وهذا من بابِ التأكيد فإن الكُتْبَةَ لا تكون بغير اليدِ، ونحوُه: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] ، {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] . وقيل: فائدةُ ذكره أنَّهم باشَرُوا ذلك بأنفسِهم ولم يَأَمُروا به غيرَهم، فإنَّ قولَك: فَعَلَ فلانٌ كذا يَحْتملُ أنه أمر بفعلِه ولم يُباشِرْه، نحو: بنى الأميرُ المدينةَ، فأتى بذلِك رَفْعاً لهذا المجازِ. وقيل: فائدتُه بيانُ جُرْأَتِهم ومُجَاهَرَتِهم، فإنَّ المباشِرَ للفعل أشدُّ مواقعةً مِمَّنْ لم يباشِرْه. وهذان القولان قريبان من التأكيد، فإنَّ أصلَ التأكيدِ رفْعُ توهُّمِ المجاز. وقال ابن السَّرَّاج: «ذِكْرُ الأيدي كنايةٌ عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلقائهم ومِنْ عندِ أنفسِهم» وهذا الذي قاله لا يَلْزَمُ. والأيدي جمعُ يَدٍ، والأصلُ: أَيْدُيٌ بضمِّ الدالِ كفَلْس وأَفْلُس في القلة فاستُثْقِلَت الضمةُ قبل الياءِ فَقُلِبَت كسرةً للتجانسِ نحو: بِيْض جمعَ أَبْيض، والأصلُ: بُيْض بضم الياء كحُمْر جمع أَحْمر، وهذا رأيُ سيبويه، أعني أنه يُقِرُّ الحرفَ ويُغَيِّر الحركةَ ومذهبُ الأخفشِ عكسُه، وسيأتي تحقيقُ مذهَبَيْهما عند ذِكْرِ «معيشة» إنْ شاء الله تعالى.

وأصل يَد: يَدْي بسكونِ العَيْنِ، وقيل: يَدَي بتحريكِها، فتحرَّك حرفُ العلة وانفتَح ما قبلَه فقُلِب ألفاً فصارَ يداً كَرَحَىً، وعليه التثنيةُ: يديان، وعليه أيضاً قوله: 564 - يا رُبَّ سارٍ باتَ لن يُوَسَّدا ... تحتَ ذِراعِ العَنْسِ أو كفَّ اليَدا والمشهورُ في تثنيتها عَدَمُ ردِّ لامِها، قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ، وقد شَذَّ الردُّ في قوله: «يَدَيانِ: 565 - يَدَيَان بَيْضَاوان عِندَ مُحَلِّمٍ ... قد يَمْنَعانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرا وأيادٍ جمعُ الجمعِ نحو: كَلْبَ وأَكْلُب وأكالب. ولا بدَّ في قوله: {يَكْتُبُونَ الكتاب} مِنْ حَذْفٍ يَصِحُّ معه المعنى، فقدَّره الزمخشري:» يكتبونَ الكتابَ المحرَّفَ «وقدَّرَه غيرُه حالاً من الكتاب تقديرُه: يكتُبون الكتابَ مُحَرَّفاً، وإنما أَحْوَجَ إلى هذا الإِضمارِ لأنَّ الإِنكارَ لاَ يَتَوَجَّهُ على مَنْ كَتَب الكتاب بيده إلا إذا حَرَّفه وغَيَّره. قوله: {لِيَشْتَرُواْ} اللامُ لامُ كي، وقد تقدَّمت. والضميرُ في» به «يعودُ على ما أشاروا إليه بقولِهم: {هذا مِنْ عِنْدِ الله} و» ثمناً «مفعولُه، وقد تقدَّم

تحقيقُ دخولِ الباءِ على غيرِ الثمن عند قولِه: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] فَلْيُلْتَفَتْ إليه، واللامُ متعلقةٌ بيقولون، أي: يقولونَ ذلك لأجلِ الاشتراءِ. وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَها متعلقةً بالاستقرارِ الذي تضمَّنه قولُه {مِنْ عِنْدِ الله} . قوله: {مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} متعلِّقٌ بوَيْل أو بالاستقرارِ في الخبر، و» مِنْ «للتعليلِ، و» ما «موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ، ويجوزُ أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس كقوةِ الأولِ والعائدُ أيضاً محذوفٌ أي: كَتَبَتْهُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي: مِنْ كَتْبِهم، و {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} مثلُ ما تقدَّم قبلَه، وإنما كرَّر» الوَيْل «ليُفيدَ أنَّ الهَلَكَة متعلقةٌ بكلِّ واحدٍ من الفِعْلَيْنِ على حِدَتِه لا بمجموعِ الأمرَيْنِ، وإنَّما قَدَّم قولَه:» كَتَبَتْ «على» يَكْسبون «لأن الكتابةَ مُقَدَّمةٌ فنتيجتُها كسبُ المالِ، فالكَتْبُ سببٌ والكسبُ مُسَبَّبٌ، فجاء النَّظْمُ على هذا.

80

قوله تعالى: {إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} . . هذا استثناءٌ مفرَّغٌ، فأيَّاماً منصوبٌ على الظرفِ بالفعلِ قبلَه، والتقديرُ: لَنْ تَمَسَّنا النارُ أبداً إلا أياماً قلائلَ يَحْصُرُها العَدُّ، لأن العَدَّ يَحْصُر القليلَ، وأصلُ أَيَّام: أَيْوام لأنه جمعُ يوم، نحو: قَوْم وأَقْوامٍ، فاجتمع الياءُ والواوُ وَسَبَقَتْ إحداهُما بالسكونِ فَوَجَبَ قَلْبُ الواوِ ياءً وإدغامُ الياءِ في الياءِ، مثل هيّن وميّت. قوله: {أَتَّخَذْتُمْ} الهمزةُ للاستفهامِ، ومعناهُ الإِنكارُ والتقريعُ، وبها استُغْنِيَ عن همزةِ الوصل الداخلةِ على «اتَّخَذْتُم» كقوله: {أفترى عَلَى الله} [سبأ: 8] ، {أَصْطَفَى} [الصافات: 153] وبابه. وقد تقدَّم القولُ في تصريفِ {اتخذتم} [البقرة: 67] وخلافُُ أبي علي فيها. ويُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ هنا متعديةً لواحد. قال

أبو البقاء: «وهو بمعنى جَعَلْتُم المتعدية لواحد» ، ولا حاجةَ إلى جَعْلِها بمعنى «جَعَل» في تعدِّيها لواحد، بل المعنى: هل أَخَذْتُم مِنَ اللهَ عَهْداً، ويُحتملُ أَنْ تتعدى لاثنين، والأولُ «عهد» ، والثاني «عند الله» مقدَّماً عليه، فعلى الأولِ يتعلَّقُ «عند الله» باتَّخَذْتُمْ، وعلى الثاني يتعلَّقُ بمحذوفٍ. ويجوزُ نَقْلُ حركةِ همزةِ الاستفهامِ إلى لام «قُلْ» قبلَها فَتُفْتَحُ وتُحْذَفُ الهمزةُ وهي لغةٌ مطَّرِدَةٌ قرأَ بها نافع في روايةِ ورش عنه. قوله: {فَلَنْ يُخْلِفَ الله} هذا جوابُ الاستفهامِ المتقدِّمِ في قوله: {أَتَّخَذْتُمْ} وهل هذا بطريقِ تضمينِ الاستفهامِ معنى الشرطِ، أو بطريقِ إضمار الشرطِ بعدَ الاستفهامِ وأخواتِهِ؟ قولان، تقدَّم تحقيقُهما. واختار الزمخشري القولَ الثاني، فإنه قال: {فَلَنْ يُخْلِفَ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: إن اتَّخَذْتُمْ عندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عهدَه «. وقال ابنُ عطية:» فلن يُخْلِف اللهُ عهدَه: اعتراضٌ بين أثناءِ الكلامِ. كأنه يَعْني بذلك أنَّ قولَه: «أم تَقُولون» مُعادِلٌ لقولِه: «أَتَّخَذتم» فَوَقَعَتْ هذه الجملةُ بين المتعادِلَيْنِ معترضةً، والتقديرُ: أيُّ هذين واقعٌ؟ اتِّخاذِكم العهدَ أم قولِكم بغيرِ علمٍ، فعلى هذا لا محلَّ لها من الإِعراب، وعلى الأول محلُّها الجَزْمُ. قوله: {أَمْ تَقُولُونَ} أمْ «هذه يجوزُ فيها وجهانِ، أحدُهما: أَنْ تكونَ متصلةً فتكونَ للمعادلةِ بين الشيئين، أي: أيُّ هذين واقعٌ، وأَخْرَجَهَ مُخْرَجَ المتردِّدِ فيه، وإنْ [كان] قد عُلِم وقوعُ أحدِهما، وهو قولُهم على اللهِ

ما لا يعلمون للتقرير، ونظيرُه: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] وقد عُلِمَ أيُّهما على هدىً وأيُّهما في ضلالِ، وقد عَرَفْتَ شروطَ المتصلةِ أولَ السورة. ويجوزُ أن تكونَ منقطعةً، فتكونَ غيرَ عاطفةٍ، وتُقَدَّر ب بل والهمزةِ/ والتقديرُ: بل أتقولون، ويكونُ الاستفهامُ للإِنكارِ لأنه قد وقع القولُ منهم بذلك، هذا هو المشهورُ في أمِ المنقطعةِ. وزعم جماعةٌ أنها تُقَدَّر ب» بل «وجدَها دونَ همزةِ استفهامٍ، فَيُعْطَفُ ما بعدَها على ما قبلها في الإِعرابِ، واستدَلَّ عليه بقولِهم: إنَّ لنا إبلاً أَمْ شاءً، بنصْبِ» شاء «وقول الآخر: 566 - وَليْتَ سليمى في المَنَامِ ضَجيعتي ... هنالِكَ أَمْ في جنةٍ أَمْ جَهَنَّمِ تقديره: بل في جهنَّمَ، ولو كانَتْ همزةُ الاستفهامِ مقدَّرةً بعدَها لَوَجَبَ الرفعُ في «شاء» و «جهنم» على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وليس لقائلٍ أن يقولَ: هي في هذين الموضعينِ متصلةٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ أنَّ شرطَها أَنْ تتقدَّمَها الهمزةُ لفظاً أوْ تقديراً، ولا يَصْلُحُ ذلك هنا. قوله: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} «ما» منصوبةٌ بتقولون، وهي موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرةٌ موصوفةٌ، والعائدُ على كِلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ، أي: ما لا تعلمونه، فالجملة لا محلَّ لها على القولِ الأولِ، ومحلُّها النصبُ على الثاني ولا يَجُوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً.

81

قوله تعالى: {بلى} . . حَرْفُ جوابٍ كنَعَم وجَيْرِ وأَجَلْ وإي، إلاَّ أَنَّ «بلى» جوابٌ لنفي متقدِّمٍ، سواءً دخلَه استفهامٌ أم لا، فيكونُ

إيجاباً له نحو قول القائلِ: ما قام زيدٌ فتقولُ: بلى، قد قام، وتقول: أليس زيداً قائماً؟ فتقول بلى، أي: هو قائم، قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] ويُروى عن ابن عباس أنهم لو قالوا: نَعَمْ لَكَفروا. فأمَّا قولُه: 567 - أليسَ الليلُ يَجْمَعُ أُمَّ عمروٍ ... وإيَّانا فَذَاكَ بِنا تَدانِي نَعَمْ وترى الهلالَ كما أَراه ... وَيعْلُوها النهارُ كما عَلاني فقيل: ضرورةٌ، وقيل: نَظَرَ إلى المعنى؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دَخَل على النفي قَرَّره، وبهذا يُقال: فكيفَ نُقِل عن ابنِ عباس أنَّهم لو قالوا نعم لكَفروا، مع أنَّ النفي صَار إيجاباً؟ وقيل: قَوْلُه: «نعم» ليس جواباً ل «أليس» إنما هو جوابٌ لقولِه: «فذاكَ بنا تَداني» فقوله تعالى: «بلى» رَدٌّ لقولِهم: {لَن تَمَسَّنَا النار} أي: بلى تَمَسُّكم أبداً، بدليلِ قولِه: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قاله الزمخشري، يريد أن «أبداً» في مقابَلَةِ قولهم: {إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} وهو تقديرٌ حَسَنٌ. والبصريون يَقُولون: إنَّ «بلى» حرفٌ بسيطٌ. وزعم الكوفيون أنَّ أصلها بل التي للإِضراب، زِيْدَتْ عليها الياء ليَحْسُنَ الوقف عليها، وضُمِّنت الياء معنى الإِيجاب، قيل: تَدُلُّ على رَدِّ النفي والياءُ تَدُلُّ على الإِيجابِ، يَعْنُون بالياءِ الألفَ، وإنما سَمَّوْها ياءً لأنَّها تُمال وتُكْتَبُ بالياءِ، ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ غيرُ هذا، وسيأتي الكلامُ إن شاء الله في بقيةِ حروفِ الجواب. قولُه: {مَن كَسَبَ} يجوزُ «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي. والخبرُ قولُه: «فأولئك» ، وجازَ دخولُ الفاءِ في الخبر لاستكمالِ

الشروطِ المذكورةِ فيما تقدَّم. ويؤيِّد كونَها موصوفةً ذِكْرُ قَسيمِها موصولاً وهو قولُه: {والذين كَفَرواْ} ، ويجوزُ أن تكونَ شرطيةً، والجوابُ قولُه «فأولئك» وعلى كِلا القولين فمَحَلُّها الرفعُ بالابتداء، لكنْ إذا قلنا إنها موصولةٌ كان الخبر: «فأولئك» وما بعد بلا خلافٍ، ولا يكونُ لقولِه {كَسَبَ سَيِّئَةً} وما عُطِفَ عليه مَحَلٌّ من الإِعرابِ لوقوعِه صلةً، وإذا قلنا إنها شرطيةٌ فيجيء في خبرها الخلافُ المشهورُ: إمَّا الشرطُ أو الجزاءُ أو هما، حَسْبما تقدَّم، ويكونُ قولُه «كَسَب» وما عُطِفَ عليه في محلِّ جَزْمٍ بالشرط. و «سَيِّئَةً» مفعولٌ به، وأصلُها: سَيْوِئةَ، لأنَّها من ساءَ يسُوِء، فوزنُها فَيْعِلة، فاجتمعَ الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فأُعِلَّتْ إعلالَ سَيّد وميّت، وقد تقدَّم. وراعى لفظ «مَنْ» مرةً فأفرَدَ في قوله «كسب» ، و «به» و «خطيئته» ، والمعنى مرةًً أخرى، فَجَمَع في قوله: {فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وقرأ نافعٌ وأهلُ المدينة: «خطيئاتُه» بجمعِ السلامة، والجمهور: «خطيئتُه» بالإِفراد. ووجهُ القراءتين ينبني على مَعرفة السيئة والخطيئة. وفيهما أقوالٌ «، أحدُهما: أنهما عبارتان عن الكفر بلفظَيْن مختلفين. الثاني: السيئةُ الكفرُ، والخطيئةُ الكبيرةُ. الثالث: عكسُ الثاني. فوجْهُ قراءةِ الجماعة على الأولِ والثالث أنَّ المرادَ بالخطيئةِ الكفرُ وهو مفردٌ، وعلى الوجهِ الثاني أنَّ المرادَ به جنسُ الكبيرةِ. ووجهُ قراءِة نافعٍ على الوجهِ الأول والثالثِ أَنَّ المرادَ بالخطيئات أنواعُ الكفرِ المتجَدِّدَة في كلِّ وقتٍ، وعلى الوجه الثاني أَنَّ المرادَ به الكبائرُ وهي جماعةٌ. وقيل: المرادُ بالخطيئةِ نفسُ السيئةِ المتقدِّمة فسمَّاها بهذين الاسمين تقبيحاً لها، كأنَّه قال: وأَحاطَتْ به خطيئتُه تلك، أي السيئة، ويكونُ المرادُ بالسيئةِ الكفرَ، أو يُراد بهم العصاةُ، ويكونُ أرادَ بالخلودِ المُكْثَ الطويلَ، ثم بعد ذلك يَخْرُجُون.

وقوله: {فأولئك أَصْحَابُ} إلى آخره تقدَّمَ نظيرُه فلا حاجةَ إلى إعادَتِه. وقُرئ» خطاياه «تكسيراً وهذه مخالِفةٌ لسَوادِ المصحفِ، فإنه رُسِم» خطيئتُه «بلفظِ التوحيدِ. وقد تقدَّم القول في تصريف خطايا.

83

قولُه تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا} . . «إذ» معطوفٌ على الظروفِ التي قبله، وقد تقدَّم ما فيه من كونِه متصرفاً أو لا. و «أَخَذْنا» في محلِّ خفضٍ، أي: واذكر وقتَ أَخْذِنا ميثاقَهم أو نحو ذلك. قوله: {لاَ تَعْبُدُونَ} قُرئ بالياءِ والتاء، وهو ظاهرٌ. فَمَنْ قَرَأَ بالغَيْبة فلأنَّ الأسماءَ الظاهرةَ حكمُها الغَيْبة، ومَنْ قَرَأَ بالخطابِ فهو التفاتٌ، وحكمتُه أنَّه أدعى لقبولِ المخاطبِ الأمرَ والنهيَ الوارِدَيْنِ عليه، وجَعَل أبو البقاء قراءةَ الخطابِ على إضمارِ القَوْلِ. قال: «يُقْرَأُ بالتاء على تقدير: قُلْنا لهم: لا تَعْبُدون إلا الله» وكونُه التفاتاً أَحْسَنُ، وفي هذه الجملةِ المنفيَّةِ من الإِعرابِ ثمانيةُ أوجهٍ، أَظْهَرُها: أنَّها مفسِّرةٌ لأخْذِ الميثاقِ، وذلك أنه لمَّا ذَكَرَ تعالى أنه أَخَذَ ميثاقَ بني إسرائيل كانَ في ذلك إيهامٌ للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجملةِ مفسِّرةً له، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من «بني إسرائيل» وفيها حينئذ وجهان، أحدُهما: أنَّها حالٌ مقدَّرة بمعنى أَخَذْنا مِيثاقَهم مقدِّرين التوحيدَ أبداً ما عاشُوا. والثاني: أنها حالٌ مقارِنةٌ بمعنى: أَخَذْنا ميثاقَهم ملتزمين الإِقامةَ على التوحيد، قالَه أبو البقاء، وسَبَقَه

إلى ذلك قطرب والمبرِّد، وفيه نظرٌ من حيث مجيءُ الحال من المضافِ إليه/ في غير المواضِع الجائز فيها ذلك على الصحيحِ، خلافاً لمَنْ أجازَ مجيئَها من المضافِ إليه مطلقاً، لا يُقال المضافُ إليه معمولٌ في المعنى لميثاق، لأنَّ ميثاقاً إمَّا مصدرٌ أو في حكمه، فيكونُ ما بعده إمَّا فاعلاً أو مفعولاً، وهو [غير] جائز لأنَّ مِنْ شرطِ عملِ المصدرِ غير الواقِعِ موقعَ الفعلِ أَنْ ينحلَّ لحرفٍ مصدريٍ وفعل هذا لاَ يَنْحَلُّ لهما، لَو قَدَّرْتَ: وإذ أَخَذْنا أن نواثِقَ بني إسرائيلَ أو يواثقنا بنو إسرائيل لم يَصِحَّ، ألا ترى أنَّك لو قُلْتَ: أَخَذْتُ علمَ زيدٍ لم يتقدَّر بقول: أخذت أَنْ يعلَمَ زيدٌ، ولذلك مَنَع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه: «هذا بابُ علم ما الكِلمُ من العربية» أن يُقَدَّر المصدرُ بحرفٍ مصدري والفعل، وَردَّ وأنكر على مَنْ أجازه. الثالث: أن يكنَ جواباً لقسمٍ محذوفٍ دَلَّ عليه لفظُ الميثاق، أي: استَحْلَفْناهم أو قلنا لهم: باللهِ لا تعبدون. ونُسِب هذا الوجهُ لسيبويه ووافقه الكسائي والفراء والمبرِّدُ. الرابع: أن يكونَ على تقديرِ حَذْفِ حرفِ الجرّ، وحَذْفِ أَنْ، والتقديرُ: أَخَذْنَا ميثاقَهم على أَنْ لا تعبدوا أَو بأَنْ لا تَعْبدوا، فَحُذِفَ حرفُ الجر لأنَّ حَذْفَه مطَّردٌ مع أَنَّ وأَنْ كما تقدَّم غيرَ مرة، ثم حُذِفَتْ «أَنْ» الناصبةُ فارتفع الفعلُ بعدَها ونظيرُه قولُ طرفة: 568 - أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدي

وحَكَوا عن العرب: «مُرْهُ يَحْفِرَها» أي: بِأَنْ يَحْفِرَها، والتقديرُ: عن أَنْ أَحْضُرَ، وبأَنْ يَحْفِرَها، وفيه نظرٌ، فإنَّ إضمارَ «أَنْ» لا ينقاسُ، إنَّما يجوزُ في مواضعَ عَدَّها النَّحْويون وجَعَلُوا ما سِواها شاذاً قليلاً، وهو الصحيحُ خلافاً للكوفيين. وإذا حُذِفَتْ «أَنْ» فالصحيحُ جوازُ النصبِ والرفعِ، ورُوي: «مُرْه يَحْفِرها» ، وأَحْضُر الوغى «بالوجهين، وهذا رأيُ المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن حيث التزم رفعَه. وللبحثِ موضعٌ غيرُ هذا هو أَلْيَقُ به. وأيَّد الزمخشري هذا الوجهَ الرابعَ بقراءةِ عبد الله:» لاَ تَعْبُدوا «على النهي. الخامس: أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ بالقولِ المحذوفِ، وذلك القولُ حالٌ تقديره: قائلين لهم لا تعبدون إلا اللهَ، ويكونُ خبراً في معنى النهي ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ المتقدمة، وبهذا يَتَّضح عطفُ» وقولوا «عليه، وبه قال الفراء. السادس: أَنَّ» أَنْ «الناصبة مضمرةٌ كما تقدَّم، ولكنها هي وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على أنها بدلٌ من» ميثاق «، وهذا قريبٌ من القولِ الأول من حيثُ إنَّ هذه الجملة مفسِّرةٌ للميثاق، وفيه النظرُ المتقدم، أعني حَذْفَ» أَنْ «في غيرِ المواضِع المَقِيسة. السابعُ: أَنْ يكونَ منصوباً بقولٍ محذوفٍ، وذلك القولُ ليس حالاً، بل مجرَّدُ إخبارٍ، والتقديرُ: وقُلْنا لهم ذلك، ويكونُ خبراً في معنى النهي. قاله الزمخشري:» كما تقولُ: تذهَبُ إلى فلانٍ تقولُ له كذا، تريدُ الأمر، وهو أَبْلَغُ من صريحِ الأمر والنهي، لأنَّه كأنه سُورع إلى الامتثالِ

والانتهاءِ فهو يُخْبِرُ عنه، وتَنْصُره قراءة أُبَي وعبد الله: «لا تعبدوا» ولا بدَّ من إرادة القول «. انتهى، وهو كلامٌ حسنٌ جداً. الثامن: أن يكونَ التقديرُ: أَنْ لا تعبدون، وهي» أَنْ «المفسِّرة، لأنَّ في قوله: {أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} إيهاماً كما تقدَّم، وفيه معنى القول، ثم حُذِفَتْ» أَنْ «المفسِّرة، ذكره الزمخشري. وفي ادِّعاء حَذْفِ حرفِ التفسيرِ نَظَرٌ لا يخفى. وقوله: {إِلاَّ الله} استثناءٌ مفرغ، لأنَّ ما قَبله مفتقرٌ إليه وقد تقدَّم تحقيقُه أولاً. وفيه التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة، إذ لو جرى الكلامُ على نَسقَه لقيل: لا تَعْبدون إلا إيانا، لقوله» أَخَذْنَا «. وفي هذا الالتفاتِ من الدلالةِ على عِظَمِ هذا الاسم والتفرُّدِ به ما ليس في المُضْمر، وأيضاً الأسماءُ الواقعةُ ظاهرةٌ فناسَبَ أنْ يُجاوِرَ الظاهرُ الظاهرَ. قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تتعلَّقَ الباء ب» إحساناً «، على أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر، والتقديرُ: وأَحْسِنوا بالوالدَيْنِ، والباءُ ترادِفُ» إلى «في هذا المعنى، تقول: أَحْسَنْتُ به وإليه، بمعنى أَنْ يكونَ على هذا الوجهِ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌُ، أي: وأَحْسنوا بِرَّ الوالدَيْن بمعنى: أَحْسِنوا إليهما بِرَّهما. قال ابن عطية: «يَعْتَرِضُ هذا القولَ أَنْ يتقدَّمَ على المصدرِ معمولُه» وهذا الذي جَعَله ابنُ عطية اعتراضاً على هذا القولِ لا يتِمُّ على مذهب الجمهور، فإنَّ مذهبَهَم جوازُ تقديم معمولِ المصدرِ النائبِ عن فِعْل الأمر عليه، تقول: ضرباً زيداً، وإنْ شئْتَ: زيداً ضرباً، وسواءً عندهم إنْ جَعَلْنَا العملَ للفعلِ المقدَّرِ أم للمصدرِ النائبِ عن فِعْلِه فإنَّ

التقديمَ عندَهم جائزٌ، وإنما يمتنعُ تقديمُ معمولِ المصدرِ المنحلِّ لحرفٍ مصدري والفعلِ، كما تقدَّم بيانه آنِفاً، وإنما يَتِمُّ على مذهبِ أبي الحسن، فإنه يمنَعُ تقديمَ معمولِ المصدرِ النائبِ عن الفعلِ، وخالَفَ الجمهورَ في ذلك. الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ، وذلك المحذوفُ يجوزُ أَنْ يُقَدَّر فعلَ أمرٍ مراعاةً لقولِه: {لاَ تَعْبُدُونَ} فإنه في معنى النهي كما تقدَّم، كأنه قال: لا تَعْبدوا إلا اللهَ وأَحْسِنوا بالوالدين. ويجوز أن يُقَدَّر خبراً مراعاةً لِلَفْظِ «لا تعبدون» والتقديرُ: وتُحْسِنُون. وبهذين الاحتمالين قَدَّر الزمخشري، وَيَنْتَصِبُ «إحساناً» حينئذٍ على المصدرِ المؤكِّد لذلك الفعلِ المحذوفِ. وفيه نظرٌ من حيث إنَّ حَذْفَ عاملِ المؤكِّد منصوصٌ على عدمِ جوازِه، وفيه بَحْثٌ ليس هذا موضعَه. الثالث: / أن يكونَ التقديرُ: واستوصُوا بالوالدَيْن فالباءُ تتعلَّقُ بهذا الفعل المقدَّرِ، وينتصبُ «إحساناً» حينئذٍ على أنه مفعولٌ به. الرابعُ: تقديرُه: ووصَّيْناهم بالوالدَيْنِ، فالباءُ متعلِّقةٌ بالمحذوفِ أيضاً، وينتصبُ «إحساناً» حينئذٍ على أنه مفعولٌ من أجلهِ، أي لأجل إحساننا إلى المُوصَى بهم من حيث إن الإِحسانَ مُتَسَبِّبٌ عن وصيتِنا بهم أو الموصى لِما يترتَّبُ الثوابِ منَّا لهم إذا أَحْسَنوا إليهم. الخامس: أن تكونَ الباءُ وما عَمِلَتْ فيه عطفاً على قولِه: {لاَ تَعْبُدُونَ} إذا قيلَ بأنَّ «أَنْ» المصدريةَ مقدرةٌ، فينسِبُكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ يُعْطَفُ عليه هذا المجرورُ، والتقديرُ: أََخَذْنا ميثاقَهم بإفرادِ الله بالعبادَةِ وبالوالدَيْن، أي: وبِبِرِّ الوالدَيْن، أو بإحسانٍ إلى الوَالدَيْن، فتتعلَّقُ الباءُ حينئذٍ بالميثاقِ لِما فيه من معنى الفعلِ، فإن الظرفَ وشِبْهَهُ تعملُ فيه روائحُ الأفعالِ، وينتصبُ «إحساناً» حينئذٍ على المصدر من ذلك المضافِ المحذوفِ وهو البِرُّ لأنه بمعناه أو الإِحسانُ الذي قَدَّرناه. والظاهرُ من هذه الأوجهِ

إنما هو الثاني لِعَدَمِ الإِضمارِ اللازم في غَيْره، ولأنَّ ورودَ المصدرِ نائباً عن فعلِ الأمر مطَّرد شائِعٌ، وإنَّما قٌدِّم المعمولُ اهتماماً به وتنبيهاً على أَنَّه أَوْلَى بالإِحسان إليه مِمَّن ذُكِرَ معه. والوالدان: الأبُ والأمُ، يُقال لكلِّ واحدٍ منهما والد، قال: 569 - ألا رُبَّ مولودٍ وليسَ لَهُ أبٌ ... وذي وَلَدْ لَمْ يَلْدَهُ أبوانِ وقيل: لا يقال في الأم: والدة بالتاء، وإنما قِيل فيها وفى الأب: والدان تغليباً للمذكَّر. والإِحسانُ: الإِنعامُ على الغير، وقيل: بل هو أَعَمُّ من الإِنعام، وقيل هو النافِعُ لكل شيء. قوله: {وَذِي القربى} وما بعدَه عطفٌ على المجرورِ بالباءِ، وعلامةُ الجرِّ فيها الياءُ؛ لأنَّها من الأسماءِ الستةِ تُرْفَعُ بالواو وتُنْصَبُ بالألف وتُجَرُّ بالياء بشروطٍ ذكرها النحويون، وهل إعرابُها بالحروفِ أو بغيرها. عشرةُ مذاهبِ للنحْويين فيها، ليس هذا موضعَ ذِكْرِها، وهي من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ لفظاً ومعنًى إلى أسماءِ الأجناس ليُتَوَصَّل بذلك إلى وَصْف النكرة باسمِ الجنسِ، نحو: مَرَرْتُ برجلٍ ذي مالٍ، وإضافتُه إلى المضمرِ ممنوعةٌ إلا في ضرورةٍ أو نادرِ كلام كقوله: 570 - صَبَحْنا الخَزْرَجِيَّةَ مُرْهَفاتٍ ... أبانَ ذوي أَرُومَتِها ذَوُوها

وأنشد الكسائي: 571 - إنما يَعْرِفُ المَعْ ... روفَ في الناس ذَوُوه وعلى هذا قولُهم: اللهم صَلِّ على محمدٍ وذَويه، وإضافتُه إلى العَلَمِ قليلةٌ جداً، وهي على ضَرْبين: واجبةٌ وذلك إذا اقْتَرَنا وَضْعاً نحو: ذي يزن وذي رَعين، وجائزةٌ وذلك [إذا] لم يقترنا وَضْعاً نحو: ذي قَطَري وذي عمرو، أي: صاحبُ هذا الاسمِ، وأقلُّ من ذلك إضافتُها إلى ضميرِ المخاطب كقوله: 572 - وإنَّا لَنَرْجُو عاجلاً منكَ مثلَ ما ... رَجَوْناه قِدْماً من ذَويك الأفاضلِ وتَجيء «ذو» موصولةً بمعنى الذي وفروعِه، والمشهورُ حينئذٍ بناؤها وتذكيرها، ولها أحكامٌ كثيرة مذكورةٌ في كتب النحو. و «القُرْبى» مضافٌ إليه وأَلِفُه للتأنيث وهو مصدرٌ كالرُّجْعى والعُقْبى، ويُطْلق على قَرابة الصُّلب والرَّحِم، قال طَرَفة: 573 - وظُلْمُ ذوي القُرْبى أشدُّ مضاضةً ... على الحُرِّ مِنْ وَقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ وقال أيضاً: 574 - وَقرَّبْتُ بالقُرْبى وجَدِّك إنه ... متى يَكُ أَمْرٌ للنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ

والمادةُ تدل على الدُّنِّو ضد البُعْد. قوله: {واليتامى} وزنُه فَعالى، وألفهُ للتأنيثِ وهو جَمْعِ يتيم كنديم ونَدامى ولا يَنْقاسُ هذا الجمعُ، واليُتْمُ: الانفراد، ومنه «اليَتيم» لانفرادِه عن أبويه أو أحدِهما، ودُرَّةٌ يتيمةٌ: إذا لم يكنْ لها نظيرٌ. وقيل: اليُتْم الإِبطاءُ ومنه صبيٌّ يتيم لأنه يُبْطِئُ عنه البِرُّ. وقيل: هو التغافل لأن الصبيَّ يُتَغافل عمَّا يُصْلِحُه. قال الأصمعي: «اليُتْمُ في الآدميين مِنْ قِبَل فَقْد الآباء وفي غيرهم من قِبَل فَقْد الأُمهات» . وقال الماوردي: «إن اليُتْمَ في الناس أيضاً من قِبَل فَقْد الأمَّهات» والأولُ هو المعروفُ عند أهلِ اللغةِ يقال: يَتُم يَيْتُم يُتْماً مثل: كرُم يكرُم وعَظُم يَعْظُم عُظْماً، ويَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثلَ: سَمِعَ يَسْمَع سَمْعاً، فهاتان لغتان مشهورتان حكاهما الفراء، ويقال: أَيْتمه اللهُ إيتاماً أي فَعَل به ذلك. وعلامةُ الجرِّ في القربى واليتامى كسرةٌ مقدَّرة في الألفِ، وإن كانَتْ للتأنيثِ، لأنَّ ما لا ينصرفُ إذا أُضيف أو دَخَلَتْه أل انجرَّ بالكسرة، وهل يُسَمَّى حينئذٍ منصرفاً أو مُنْجرَّا؟ ثلاثةُ أقوالُ يُفَصَّل في الثالث بين أن يكونَ أحدَ سببيه العلميةُ فيُسَمَّى منصرفاً نحو: «يَعْمُرُكمْ» أو لا فيُسَمَّى منجرَّا نحو: بالأحمر، والقُرْبى واليتامى من هذا الأخير. قوله: «والمساكين» جمعُ مِسْكين، ويُسَمُّونه جَمْعاً لا نظيرَ له في الآحاد وجَمْعاً على صيغةِ منتهى الجموع، وهو من العِلَل القائمةِ مَقامَ عِلَّتين، وسيأتي تحقيقُه قريباً في هذه السورةِ. وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقِه عند ذِكْرِ المَسْكَنة واختُلِف فيه: هل هو بمعنى الفقيرِ أو أسوأُ حالاً منه كقوله: {

مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي لَصِق جِلْدُه بالتراب بخلافِ الفقير فإنَّ له شيئاً ما، قال: 575 - أمَّا الفقيرُ الذي كانَتْ حَلُوبَتُه ... وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ أو أكملُ حالاً لأنَّ اللهَ جَعَلَ لهم مِلْكاً ما، قال: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] خلافٌ مشهور بين العلماء من الفقهاءِ واللغويين. قوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} هذه الجِِملةُ عَطْفٌ على قولِه {لاَ تَعْبُدُونَ} في المعنى، كأنه قال: لا تَعْبدوا إلا الله وأَحْسِنوا بالوالدين وقُولوا، أو على «أَحْسِنوا» المقدَّر كما تقدَّم تقريرُه في قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} ، وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقولٍ محذوف تقديرُه: «وقلنا لهم قولوا. وقرئ: حَسَناً بفتحتين وحُسُناً بضمتين، وحُسْنى من غير تنوين كحُبْلى، وإحساناً من الرباعي. فامَّا قراءة» حُسْناً «بالضم والإِسكان فيَحْتمل أوجهاً، أحدُها وهو الظاهرُ: أنه مصدرٌ وَقَع صفةً لمحذوفٍ تقديرُه: وقولوا للناسِ قَوْلاً حُسْناً أي: ذا حُسْن. الثاني: أن يكونَ وُصِفَ به مبالغةً كأنه جُعِلَ القولُ نفسُه حَسَناً. الثالث: أنه صفةٌ على وزن فُعْل وليس أصلُه المصدرَ، بل هو كالحُلْو والمُرّ،

فيكون بمعنى» حَسَن «بفتحتين، فيكونُ فيه لغتان: حُسْن وحَسَن كالبُخْل والبَخَل، والحُزْن والحَزَن، والعُرْب والعَرَب. الرابع: أنه منصوبٌ على المصدرِ من المعنى، فإنَّ المعنى: وَلْيَحْسُن قولُكم حُسْناً. وأمَّا قراءةُ» حَسَناً «بفتحتين وهي قراءةُ حمزة والكسائي فصفةٌ لمحذوف، تقديرُه: قولاً حَسَناً كما تقدَّم في أحد أوجه» حُسْنا «. وأمَّا» حُسُناً «بضمَّتين فضمةُ السينِ للإِتباعِ للحاءِ فهو بمعنى» حُسْناً «بالسكون وفيه الأوجهُ المتقدمةُ. وأمَّا مَنْ [قَرَأَ] » حُسْنى «بغير تنوين، فَحُسْنَى مصدرٌ كالبُشْرى والرُّجْعى. وقال النحاس في هذه القراءةِ:» ولا يجوزُ هذا في العربية، لا يُقال من هذا شيءٌ إلا بالألفِ واللامِ نحو: الكُبْرى والفُضْلَى، هذا قول سيبويه، وتابعه ابنُ عطية على هذا، فإنه قال: «وردَّه سيبويه لأن أَفْعَل وفُعْلى لا يجيء إلا معرفةً، إلا أن يُزال عنها معنى التفضيل، ويَبْقى مصدراً كالعُقْبى فذلك جائزٌ وهو وجهُ القراءةِ بها. انتهى وقد ناقشهَ الشيخ، وقال:» في كلامِه ارتباكٌ لأنه قال: لأنَّ أفْعَل وفُعْلى لا يَجِيءُ إلا معرفةً، وهذا ليس بصحيح. أمَّا «أَفْعَل» فله ثلاثةُ استعمالاتٍ، أحدُها: أن يكونَ معه «مِنْ» ظاهرةً أو مقدرةً، أو مضافاً إلى نكرةً، ولا يَتَعرَّفُ في هذين بحالٍ. الثاني: أن يَدْخُلَ عليه أَلْ فيتعرفَ بها، الثالث: أن يُضَاف إلى معرفةٍ فيتعرَّفَ على الصحيح. وأمَّا «فُعْلى» فلها استعمالان، أحدُهما بالألفِ واللام، والثاني: الإِضافةُ لمعرفةٍ وفيها الخلافٌُ السابقُ. وقولُه: «إلا أَنْ يُزال عنها معنى التفضيلِ ويبقى مصدراً»

ظاهرُ هذا أنَّ فُعْلى أنثى أَفْعَل إذا زال عنها معنى التفضيلِ تَبْقى مصدراً وليس كذلك، بل إذا زَال عن فُعْلى أنثى أَفْعَل معنى التفضيلِ صارَتْ بمنزلةِ الصفةِ التي لا تفضيلَ فيها، ألا ترى إلى تأويلِهم كُبْرى بمعنى كبيرة، وصُغْرى بمعْنى صغيرة، وأيضاً فإنَّ فُعْلى مصدراً لا ينقاسُ، إنما جاءَتْ منها ألَيْفاظٌ كالعُقْبَى والبُشْرى «. ثم أجابَ الشيخُ عن هذا الثاني بما معناه أنَّ الضميرَ في قولِه «عنها» عائدٌ إلى «حُسْنى» لا إلى فُعْلى أنثى أَفْعل، ويكون استثناءً منقطعاً كأنه قال: إلا أَنْ يُزال عن حُسْنى التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل، ويَصير المعنى: إلا أَنْ يُعْتقد أنَّ «حُسْنى» مصدرٌ لا أنثى أَفْعَل، وقولُه: «وهو وجهُ القراءة بها» أي: والمصدرُ وَجْهُ القراءة بها. وتخريجُ هذه القراءةِ على وجهين، أحدُهما: المصدرُ كالبشرى وفيه الأوجهُ المتقدمة في «حُسْناً» مصدراً إلا أنه يَحْتاج إلى إثباتُ حُسْنى مصدراً من قولِ العرب: حَسُنَ حُسْنَى، كقولهم: رَجَع رُجْعى، إذ مجيء فُعْلى مصدراً لا يَنْقَاس. والوجهُ الثاني أن تكونَ صفةً لموصوفٍ محذوفٍ؛ أي: وقولوا للناس كلمةً حُسْنى أو مقالةً حُسْنى. وفي الوصف بها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ للتفضيلِ، ويكونُ قد شَذَّ استعمالُها غيرَ معرَّفةٍ بال ولا مضافةٍ إلى معرفةِ كما شَذَّ قولٌه: 576 - وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ ... يَوْماً سَراةَ كِرامِ الناسِ فادْعِينا وقولُه: 577 - في سَعْي دُنْيا طالما قَدْ مُدَّتِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والوجه الثاني: أن تكونَ لغيرِ التفضيل، بل بمعنى حَسَنة نحو كُبْرى في معنى كبيرة، أي: وقولوا للناسِ مقالَةً حَسَنة، كما قالوا: «يوسفُ أَحْسَنُ إخوتِه» في معنى حَسَن إخوتِه «انتهى. وقد عُلِم بهذا فسادُ قولِ النحاس. وأمَّا مَنْ قرأ» إحساناً «فهو مصدرٌ وَقَع صفةً لمصدرٍ محذوف أي قولاً إحساناً، وفيه التأويلُ المشهورُ، وإحساناً مصدرٌ من أَحْسَن الذي همزتُه للصيرورةِ أي قولاً ذا حُسْنٍ، كما تقولُ:» أَعْشَبَتِ الأرضُ «أي: صارت ذا عشبٍ. وقوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} [البقرة: 43] تقدَّم نظيره. قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} قال الزمخشري:» على طريقةِ الالتفات «وهذا الذي قاله إنما يَجيءُ على قراءةِ» لا يَعْبدون «بالغيبة، وأمَّا على قراءةِ الخطابِ فلا التفاتَ البتةَ، ويجوزُ أن يكونَ أرادَ بالالتفاتِ الخروجَ مِنْ خطابِ بني إسرائيل القدماءِ إلى خطابِ الحاضرين في زمنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قيل بذلك، ويؤيِّده قولُه تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ} قيل: يعني بهم الذي أسْلموا في زمانِه عليه السلام كعبدِ الله بن سَلاَّم وأضرابه، فيكونُ التفاتاً على القراءَتين. والمشهورُ نَصْبُ» قليلاً «على الاستثناء لأنه مِنْ/ موجب. ورُوِي عن أبي عمرو وغيره:» إلا قليلٌ «بالرفع. وفيه ستةُ أقوال، أصحُّها: أنَّ رفعه على الصفة بتأويل «إلا» وما بعدها بمعنى غَيْر. وقد عَقَد سيبويه رحمه الله في ذلك باباً في كتابه فقال: «هذا بابٌ ما يكونُ فيه» إلاَّ «وما بعدها وصفاً بمنزلة غير ومثل» ، وذكر من أمثلة هذا الباب: لو كان معنا إلا رجلٌ

إلا زيدٌ لغُلِبْنا «و {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، و: 578 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قليلٌ بها الأصواتُ إلا بُغامُها وسَوَّى بين هذا وبينَ قراءةِ: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} برفع» غير «، وجَوَّز في نحو:» ما قامَ القومُ إلا زيدٌ «بالرفع البدلَ والصفةَ، وخَرَّج على ذلك قولَه: 579 - وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أَخوه ... لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدانِ كأنه قال: وكل أخٍ غيرُ الفرقدين مفارقُه أخوه، كما قال الشماخ: 580 - وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه ... لِوَصْلِ خليلٍ صارمٌ أو معارِزُ وأنشدَ غيرُه: 581 - لدَمٍ ضائِعٍ تغيَّبَ عنه ... أَقْربوه إلا الصَّبا والجَنُوبُ

وقولَه: 582 - وبالصَّريمةِ منهم منزلٌ خَلَقٌ ... عافٍ تَغَيَّر إلا النُّؤْيُ والوَتِدُ والفرقُ بين الوصفِ بإلاَّ والوصفِ بغيرها أنَّ» إلا «تُوصف بها المعارفُ والنكراتُ والظاهرُ والمضمرُ، وقال بعضُهم:» لا توصَف بها إلا النكرةُ أو المعرَّفةُ بلام الجنس فإنه في قوة النكرة «. وقال المبرد:» شَرْطُه صلاحيةُ البَدَلِ في موضعه «، ولهذا موضعٌ نتكلَّم فيه. الثاني: أنه عطفُ بيان. قال ابن عصفور:» إنما يعني النحويون بالوصفِ بإلا عطفَ البيان «وفيه نظرٌ. الثالث: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوف كأنه قال: امتنع قليل. الرابع: أن يكونَ مبتدأ وخبرُه محذوفٌ أي: إلا قليلٌ منكم لم يَتَوَلُّوا، كما قالوا: ما مررْتُ بأحدٍ إلا رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه. الخامس: أنه توكيدٌ للمضمرِ المرفوع، ذكرَ هذه الثلاثة الأوجهَ أبو البقاء. قال:» وسيبويه وأصحابُه يُسَمُّونه نعتاً ووَصْفاً «يعني التوكيد. وفي هذه الأوجه التي ذَكَرها ما لا يَخْفى ولكنها قد قِيلت. السادس: أنه بدلٌ من الضميرِ في» تَوَلَّيْتُم «قال ابن عطية:» وجاز ذلك مع أنَّ الكلامَ لم يتقدَّمْ فيه نفيٌ، لأن «تَوَلَّيْتم» معناه النفيُ كأنه قال: لم تَفُوا بالميثاقِ إلا قليلٌ «وهذا الذي ذكره مِنْ جوازِ البدل منعه النحويون، لا يُجيزون:» قام القَومُ إلا زيدٌ «على البدل، قالوا: لأنَّ البدل يَحُلُّ مَحَلَّ المبدَلِ منه فَيَؤُولُ إلى قولِك: قامَ إلا زيدٌ، وهو ممتنعٌ، وأمَّا قولُه: إنه في تأويل النفي» فما مِنْ موجَبٍ إلا يمكن فيه ذلك، ألا تَرى أنَّ قولَك: «قام القومُ إلا زيدٌ» في قوة «لم يَجْلِسُوا إلا زيدٌ» فكلُّ موجَبٍ إذا أخَذْتَ نَفْيَ نقيضِه أو ضدِّه

كانَ كذلك، ولم تعتبر العربُ في كلامِها، وإنما أجاز النحويون «قام القومُ إلا زيدٌ» بالرفع على الصفة كما تقدَّم تقريرُه. و «منكم» صفةٌ لقليلاً، فهي في محلِّ نصبٍ أو رفعٍ على حَسَب القراءتين. والظاهرُ أن القليلَ مرادٌ بهم الأشخاصُ لوَصْفِه بقوله «منكم» . وقال ابن عطية: «ويُحتمل أَنْ تكونَ القلةُ في الإِيمان، أي: لم يَبْقَ حينَ عَصَوا وكَفَر آخرُهم بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا إيمانٌ قليلٌ إذ لا ينفعهم، والأولُ أقوى» انتهى. وهذا قولٌ بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ. قوله: {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} جملةٌ من مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «تَوَلَّيْتُم» . وفيها قولان، أحدُهما: أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ التولِّيَ والإِعراضَ مترادفان. وقيل: مبيِّنةٌ، فإن التولِّيَ بالبدنِ والإِعراضَ بالقلبِ، قاله أبو البقاء: وقال بعدَه: «وقيل: تَوَلَّيْتم يعني آباءهم، وأنتم مُعْرِضُون يعني أنفسَهم، كما قال: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ} [الأعراف: 141] أي: آباءَهم» انتهى. وهذا يُؤَدِّي إلى [أنّ] جُمْلَةَ قوله {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} لا تكون حالاً، لأنَّ فاعلَ التولِّي في الحقيقة ليس هو صاحبَ الحال والله أعلم. وكذلك تكون مبيِّنةً إذا اختَلَفَ متعلَّقُ التولِّي والإِعراضِ كما قال بعضُهم: ثم تَوَلَّيْتم عن أَخْذِ ميثاقكم وأنتم مُعْرِضون عن هذا النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: التولِّي والإِعراضُ مأخوذان من سلوك الطريق، وذلك أنه إذا سَلَكَ طريقاً ورجَع عَوْدَه على بَدْئِه سُمِّي ذلك تولِّياً، وإنْ سَلَكَ في عُرْضِ الطريقِ سُمِّي إعراضاً وجاءَتِ الحالُ جملةً اسميةً مصدَّرةً ب «أنتم» لأنه آكد. وجيء بخبرِ المبتدأ اسماً لأنه أدلُّ على الثبوتِ فكأنه قيل: وأنتم عادَتُكم التولِّي عن الحقِّ والإِعراضُ عنه.

84

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ} : كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ: لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [البقرة: 83] . قوله: {مِّن دِيَارِكُمْ} متعلِّقٌ بتُخْرِجُون ومِنْ لابتداءِ الغايةِ. ودِيار جمع دَار والأصل: دَوَر، لأنها من دَار يدُور دَوَراناً، وأصلُ دِيار: دِوار، وإنما قُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلَها، واعتلالِها في الواحدِ. وهذه قاعدةٌ مطَّردة في كلِّ جَمْعٍ على فِعال صحيحِ اللام قد اعتلَّتْ عينُ مفردِه أو سَكَنَتْ حرفَ علةٍ نحوُ: دار ودِيار وثِياب، ولذلك صَحًّ «رِواء» لاعتلال لامه، و «طِوال» لتحرُّكِ عينِ مفردِه وهو طويلٍ، فأمَّا «طِيال» في طِوال فشاذٌّ. وحكمُ المصدرِ حكمُ هذا نحو: قامَ قِياماً وصامَ صِياماً، ولذلك صَحَّ «لِواذ» لِصحَّةِ فِعْلِه في قولِهم: لاوَذ، وأمَّا «دَيَّار» فهو من لفظة الدَّار، وأصلُه دَيْوار، فاجتمع الياءُ والواوُ فأُعِلاَّ على القاعدةِ المعروفةِ فوزنُه: فَيْعال لا فَعَّال، إذ لو كان فَعَّالاً لقيل: دَوَّار كصَوَّام وقَوَّام. والدارُ مجتمعُ القومِ من الأبنية. وقال الخليل: «كلُّ موضعٍ حَلَّه الناس، وإن لم يكن أبنيةً» . وقرئ: «تَسْفُكُون» بضم الفاء، و «تُسَفِّكون» من سَفَّك مضعفاً، «وتُسْفِكون» من أَسْفك الرباعي. وقوله: {دِمَآءَكُمْ} يَحْتملُ الحقيقةَ وقد وُجِدَ مَنْ قَتَلَ نَفْسَه، ويَحْتمل المجازَ وذلك من أوجه، أحدها: إقامةُ السببِ مُقامَ المُسَبَّب، أي: إذا سَفَكْتُمْ

دمَ غيرِكم فقد سُفِكَ دَمُكم، وهو قريبٌ/ من قولهم: «القتلُ أنفى للقتل» . قال: 583 - سَقَيْناهُمُ كأساً سَقَوْنا بمثلِها ... ولكنهم كانُوا على الموتِ أَصْبَرَا وقيل: «المعنى: لا يَسْفِك بعضُكم دمَ بعض» واختاره الزمخشري. وقيل: «لا تسفِكوها بارتكابكم ما يُوجِبُ سَفْكَها كالارتداد ونحوه» . قوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} قال أبو البقاء: «فيه وجهان، أحدُهما أنَّ» ثُمَّ «على بابِها في إفادَةِ العَطْفِ والتراخي. والمعطوفُ عليه محذوفٌ تقديرُه: فَقَبِلْتُم ثم أَقْررتم. والثاني: أن تكونَ» ثُمَّ «جاءَتْ لترتيبِ الخبرِ لا لترتيبِ المُخْبَر عنه، كقوله تعالى: {ثُمَّ الله شَهِيدٌ} [يونس: 46] . قوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} كقوله: {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} [البقرة: 83] .

85

قوله تعالى: {أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ} : فيه سبعة أقوال، أحدها: وهو الظاهرُ أنَّ «أنتم» في محلِّ رفع بالابتداء، و «هؤلاء» خبرُه. و «تَقْتُلون» حالٌ العاملُ فيها اسمُ الإِشارةِ لِما فيه من معنى الفِعْل، وهي

حالٌ منه ليتَّحِدَ ذو الحالِ وعامِلُها، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في غيرِ هذا [المكانِ] وقد قالتِ العربُ: «ها أنت ذا قائماً» ، و «ها أنا ذا قائماً» ، و «ها هو ذا قائماً» ، فأخبروا باسمِ الإِشارةِ عن الضميرِ في اللفظِ، والمعنى على الإِخبارِ بالحال، فكأنه قال: أنت الحاضرُ وأنا الحاضرُ وهو الحاضرُ في هذه الحالِ. ويَدُلُّ على أنَّ الجملةَ من قوله «تَقْتُلون» حالٌ وقوعُ الحالِ الصريحةِ موقعَها، كما تقدَّم في: ها أنا ذا قائماً ونحوِه، وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري فقال: «ثم أنتم هؤلاء» استبعادٌ لِما أُسْنِد إليهم من القَتْل والإِجلاءِ بعد أَخْذِ الميثاق منهم، وإقرارِهم وشهادتِهم، والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء الشاهدون «، يعني أنكم قومٌ آخرون غيرُ أولئك المُقِرِّين، تنزيلاً لتغيُّر الصفةِ منزلةَ تغيُّرِ الذاتِ، كما تقول: رَجَعْتُ بغير الوجه الذي خَرَجْتُ به. وقوله:» تَقْتُلون «بيانٌ لقوله: ثم أنتم هؤلاء. قال الشيخ كالمعترضِ عليه كلامَه:» والظاهرُ أنَّ المشارَ إليه بقوله: «أنتم هؤلاء» المخاطبون أولاً، فليسوا قوماً آخرين، ألا ترى أنَّ التقديرَ الذي قدَّره الزمخشري مِنْ تقديرِ تغيُّرِ الصفةِ منزلةَ تغيُّرِ الذاتِ لا يتأتى في نحو: ها أنا

ذا قائماً، ولا في نحو: ها أنتم هؤلاء، بل المخاطَبُ هو المُشارُ إليه مِنْ غيرِ تغيُّرٍ «ولم يتضحْ لي صحةُ الإِيرادِ عليه وما أبعدَه عنه. الثاني: أن» أنتم «أيضاً مبتدأٌ، و» هؤلاء «خبرُه، ولكنْ بتأويل حذفِ مضافٍ تقديرُه: ثم أنتم مثلُ هؤلاء، و» تقتلونَ «حالٌ أيضاً، العاملُ فيها معنى التشبيه، إلا أنَّه يلزَمُ منه الإِشارةُ إلى غائبين، لأن المرادَ بهم أسلافُهم على هذا، وقد يُقال: إنه نَزَّل الغائِبُ مَنْزِلَةَ الحاضرِ. الثالث: وَنَقَله ابنُ عطية عن شيخِه ابن الباذش أن» أنتم «خبرٌ مقدمٌ، و» هؤلاء «مبتدأٌ مؤخرٌ، وهذا فاسدٌ؛ لأن المبتدأ والخبرَ متى استويا تعريفاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدُّمُ الخبرِ، وإنْ وَرَد [منه] ما يُوهِم فمتأوَّلٌ. الرابع: أنَّ» أنتم «مبتدأٌ، و» هؤلاء «منادى حُذِفَ منه حرفُ النداءِ، و» تقتلون «خبرُ المبتدأ، وفَصَلَ بالنداءِ بين المبتدأ وخبرِه. وهذا لا يُجيزه جمهورُ البصريين، وإنما قال به الفراءُ وجماعةٌ وأنشدوا: 584 - إنَّ الأُولى وُصِفُوا قومي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هذا اعتصِمْ تَلْقَ مَنْ عاداك مَخْذولا أي: يا هذا، وهذا لا يَجُوز عند البصريين، ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله:

585 - هَذِي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رَسيسا ... ثم انصرَفْتِ وما شَفَيْتِ نَسيسا وفي البيتِ كلامٌ طويل. الخامس: أنَّ «هؤلاء» موصولٌ بمعنى الذي. و «تَقْتُلون» صلتُه، وهو خبرٌ عن «أنتم» أي: أنتم الذين تقتلونَ. وهذا أيضاً ليس رأيَ البصريين، وإنما قالَ به الكوفيون، وأنشدوا: 586 - عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ ... أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ أي: والذي تحملينَ، ومثلُه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} [طه: 17] أي: وما التي؟ . السادسُ: أن «هؤلاء» منصوبٌ على الاختصاصِ، بإضمارِ «أعني» و «أنتم» مبتدأٌ، وتقتلونَ خبرُه، اعترَض بينهما بجملةِ الاختصاصِ، وإليه ذهب ابن كيسان. وهذا لا يَجُوز؛ لأنَّ النحويين قد نَصُّوا على أنَّ الاختصاصَ لا يكون بالنكراتِ ولا أسماءِ الإِشارةِ، والمستقرأُ مِنْ لسانِ العرب أنَّ المنصوبَ على الاختصاصِ: إمَّا «أيُّ» نحو: «اللهم اغْفِر لنا أَيَّتُها العِصابةَ» ، أو معرَّفٌ بأل [نحو] : نحنُ العربَ أَقْرى الناس للضيفِ، أو بالإِضافةِ نحو: «نحن معاشِرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ» وقد يَجِيءُ عَلَما كقولِه:

587 - بنا تميماً يُكْشَفُ الضبابُ ... وأكثرُ ما يجيء بعد ضمير متكلِّم كما تقدَّم، وقد يَجيء بعدَ ضميرٍ مخاطَبٍ، كقولِهم «بكَ اللهَ نرجو الفضلَ» وهذا تحريرُ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ. السابع: أن يكونَ {أَنْتُمْ هؤلاء} [على] ما تقدَّم مِنْ كونِهما مبتدأ وخبراً، والجملةُ من «تقتلون» مستأنفةٌ مبيِّنةٌ للجملةِ قبلها، يعني أنتم هؤلاء الأشخاصُ الحَمْقَى، وبيانُ حماقتِكم أنكم تقتلون أنفسَكم وتُخْرِجون فريقاًَ منكم من ديارِهم، وهذا ذكره الزمخشري في سورة آل عمران في قوله: {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ} [آل عمران: 66] ولم يَذْكُرَه هنا، وسيأتي بنصِّه هناك إنْ شاء الله تعالى. قوله: {تَظَاهَرُونَ} هذه الجملةُ في محل نصب على الحال من فاعل {تُخْرِجُونَ} وفيها خمسُ قراءات: «تظَّاهرون» بتشديد الظاء، والأصل: تَتَظاهرون فأُدْغِم لقُرْبِ التاء من الظاء، و «تَظَاهرون» مخفَّفاً، والأصل كما تقدَّم، إلا أنَّه خفَّفَه بالحذف. وهل المحذوفُ الثانية وهو الأَوْلى لحصول

الثقل بها ولعَدَم دَلالِتها على معنى المضارعة أو الأُولى كما زعم هشام؟ قال الشاعر: 588 - تَعَاطَسُون جميعاً حولَ دارِكُمُ ... فكُلِّكم يا بني حمدانَ مَزْكُومُ أراد: تتعاطَسون فحَذَف. و «تَظَهَّرُون» بتشديد الظاء والهاء، و «تُظَاهِرون» من تَظاهَرَ. و «تتظاهَرون» على الأصل مِنْ غيرِ حذفٍ ولا إدغامٍ، وكلُّهم يَرْجِعُ إلى معنى المُعاوَنة والتناصُرِ من المُظاهَرة، كأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يُسْنِدُ ظهرَه للآخر ليتقوَّى به فيكونَ له كالظهر، قال: 589 - تَظَاهَرْتُمُ أَسْتاهَ بيتٍ تَجَمَّعَتْ ... على واحدٍ لا زِلْتُمُ قِرْنَ واحِدِ والإِثْمُ في الأصل: الذَّنْبُ وجمعُه آثام، ويُطْلَقُ على الفعلِ الذي يَسْتَحِقُّ به صاحبه الذمِّ واللومَ. وقيل هو: ما تَنْفِرُ منه النفسُ ولا يَطْمئنُّ إليه القلبُ، فالإِثمُ في الآيةِ يَحْتمل أن يكونَ مراداً به ما ذَكَرْتُ من هذه المعاني. ويَحْتَمِلُ أن يُتَجَوَّزَ به عَمَّا يُوجِبُ الاثمَ إقامةً للسَّبب مُقَامَ المُسَيَّب كقول الشاعر: 590 - شَرِبْتُ الإِثْمَ حتى ضَلَّ عَقْلي ... كذاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بالعُقولِ فَعَبَّر عن الخمرِ بالإِثمِ لمَّا كان مُسَبَّباً عنها.

والعُدْوانُ: التجاوُزُ في الظلمِ، وقد تقدَّم في {يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] وهو مصدرٌ كالكُفْران والغُفْران، والمشهورُ ضَمُّ فائِه، ضَمُّ فائِه، وفيه لغةٌ بالكسرِ. قوله: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ} إنْ شرطيةٌ ويَأْتوكم مجزومٌ بها بحَذْفِ النونِ والمخاطبُ مفعولٌ، و «أُسارى» حالٌ من الفاعل في «يأتوكم» . وقرأ الجماعةُ غيرَ حمزة «أُسارى» ، وقرأ هو أَسْرَى، وقُرئ «أَسارى» بفتح الهمزة. فقراءةُ الجماعة تحتمل أربعة أوجه، أحدُها: أنه جُمِعَ جَمْعَ كَسْلان لِمَا جَمَعَهما مِنْ عدمِ النشاطِ والتصرُّف، فقالوا: أَسير وأُسارى [بصم الهمزة] كَكَسْلان وكُسَالى وسَكْران وسُكارى، كما أنه قد شُّبِّه كَسْلان وسَكْران به فجُمِعا جَمْعَه الأصليَّ الذي هو على فَعْلَى فقالوا: كَسْلان وكَسْلى، وسَكْران وسَكْرى كقولهم: أَسير وأَسْرى. قال سيبويه: «فقالوا في جمع كَسْلان كَسْلَى شبَّهوه بأَسْرى كما قالوا أُسارى شبَّهوه بكُسالى» ، ووجهُ الشبه أن الأَسْر يَدْخُل على المَرْءِ كَرْهاً، كما يَدْخُل الكسل، قال

بعضهم: «والدليلُ على اعتبارِ هذا المعنى أنَّهم جَمَعوا مريضاً ومَيِّتاً وهالِكاً على فَعْلَى فقالوا: مَرْضَى ومَوْتَى وهَلْكَى لَمَّا جَمَعَها المعنى الذي في جَرْحَى وقَتْلَى» . الثاني: أن أُسارى جمعُ أَسير، وقد وَجَدْنا فَعِيلاً يُجْمع على فُعَالى قالوا: شيخٌ قديم وشيوخٌ قُدامى، وفيه نظرٌ فإن هذا شاذٌّ لا يُقاس عليه. الثالث: أنه جَمْعُ أسير أيضاً وإنما ضَمُّوا الهمزةَ من أُسارى وكان أصلُها الفتح كنديم ونَدامى [كما ضُمَّتِ الكافُ والسينُ من كُسَالى وسُكارى] وكان الأصلُ فيهما الفتحَ نحو: عَطْشَان وعَطَاشى. الرابع: أنه جَمْعُ أَسْرى الذي [هو] جمعُ أسير فيكونُ جَمْعَ الجمعِ. وأمَّا قراءةُ حمزةَ فواضحةٌ؛ لأن فَعْلى ينقاس في فَعيل بمعنى مُمَات أو مُوْجَع نحو: جَريح وجَرْحى وقَتيل وقَتْلى ومَريض ومَرْضى. وأما «أَسارَى» بالفتح فلغةٌ ليست بالشاذة، وقد تقدَّم أنها أَصْلُ أُسارى بالضم [عند بعضهم] ، ولم يَعْرف أهلُ اللغة فَرْقاً بين أُسارى وأَسْرى إلا ما حكاه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: «ما كان في الوَثاق فهم الأُسارى وما كان في اليدِ فهم الأَسْرَى. ونَقَلَ عنه بعضُهم الفرقَ

بمعنى آخر فقال:» ما جاء مُسْتأسِرا فهم الأَسْرى، وما صار في أيديهم فهم الأُسارى، وحكى النقاش عن ثعلب أنَّه لما سَمع هذا الفرقَ قال: «هذا كلامُ المجانين» ، وهي جرأةٌ منه على أبي عمرو، وحُكي عن المبردِ أنه يُقال: «أَسير وأُسَراء كشهيد وشُهَداء» . والأسيرُ مشتق من الإِسار وهو القَيْدُ الذي يُرْبط [به المَحْمَلُ، فسُمِّي الأسير أسيراً لشدة وَثاقه، ثم اتُّسِعَ فيه فَسُمِّي كلُّ مأخوذٍ بالقَهْرِ أَسيراً وإن لم يُرْبَط] . والأسْر: الخَلْق في قوله تعالى {وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] ، وأُسْرَة الرجل مَنْ يتقوَّى بهم، والأُسْرُ احتباسُ البولِ، رجلٌ مَأْسورٌ [أذا] أصابَه ذلك: وقالت العرب: «أَسَرَ قَتَبه» أي: شَدَّه. قال الأعشى: 591 - وقَيَّدني الشِّعْرُ في بيتِه ... كما قَيَّد الآسِراتُ الحمارا يريد أنه بَلَغ في الشعر النهايةَ حتى صارَ له كالبيتِ لا يَبْرَح عنه. قوله: {تُفَادُوهُمْ} قرأ نافع وعاصم والكسائي: «تُفادُوهم» ، وهو جوابُ الشرطِ فلذلك حُذِفَت نونُ الرفعِ، وهل القراءتان بمعنىً واحدٍ، ويكونُ معنى فاعَلَ مثلَ معنى فَعَل المجرد نحو: عاقَبْت وسافَرْت، أو بينهما

فرقٌ؟ خلافٌ مشهورٌ، ثم اختلف الناسُ في ذلك الفرقِ ما هو؟ فقيل: مَعْنَى فَداه أَعْطى فيه فِداءٍ من مالٍ وفاداه أعطى فيه أسيراً مثلَه وأنشد: 592 - ولكنِّني فادَيْت أمِّي بعدما ... عَلا الرأسَ كَبْرَةٌ ومَشِيبُ بِعَبْدَيْن مَرْضِيَّيْنِ لم يَكُ فيهما ... لَئِنْ عُرِضا للناظِرين مَعِيبُ وهذا القول يَرُدُّه قولُ العباس رضي الله عنه: «فادَيْت نفسي وفادَيْتَ عَقيلا» ومعلومٌ أنه لم يُعْطِ أسيرَه في مقابلة نفسِه ولا وَلَدِه، وقيل: «تَفْدُوهم بالصلح وتُفادُوهم بالعِتْقِ» . وقيل: «تَفْدُوهم تُعْطوا» فِدْيَتَهم، وتُفادوهم تَطْلبون من أعدائِكم فِدْيةَ الأسيرِ الذي في أيديكم، ومنه قول الشاعر: 593 - قفي فادِي أسيرَكِ إنَّ قومي ... وقومَك لا أرى لهمُ اجتماعا والظاهرُ أن «تُفادهم» على أصله من اثنين، وذلك أن الأسيرَ يعطي المالَ والآسِرَ يعطي الإِطلاقَ، وتَفْدُوهم على بابِه من غيرِ مشاركةٍ، وذلك أنَّ أَحدَ الفريقين يَفْدي صاحبه من الآخر بمالٍ أو غيره، فالفعلُ على الحقيقة من واحدٍ، والفداءُ ما يُفْتَدَى به، وإذا كُسِر أولُه جازَ فيه وجهان: المَدُّ والقَصْرُ فمِن المدِّ قولُ النابغة:

594 - مَهْلاً فِداءً لكَ الأقوامُ كلُّهمُ ... وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ ومن القَصْرِ قولُه: 595 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فِدَىً لَكَ مِنْ رَبٍّ طَريفي وتالدي / وإذا فُتِحَ فالقصرُ فقط، ومن العربِ مَنْ يكسِرُ «فِدى» مع لام الجر خاصةً، نحو: فِدَىً لكَ أبي وأمي يريدون الدعاءَ له بذلك، وفَدى وفادى يتعدَّيان لاثنينِ أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ جر تقول: فَدَيْتُ أو فادَيْتُ الأسير بمال، وهو محذوفٌ في الآية الكريمة. قال ابن عطية: «وحَسُنَ لفظ الإِتيانِ من حيثُ هو في مقابلةِ الإِخراج فيظهرُ التضادُّ المُقْبِحُ لفِعْلِهم في الإِخراج» يعني أنه لا يناسِبُ مَنْ أَسَأْتُمْ إليه بالإِخراجِ مِنْ دارِه أَنْ تُحْسِنُوا إليه بالفِداء. قوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ} هذا موضعٌ يَحْتاجُ لفضلِ نَظَرٍ، والظاهرُ من الوجوهِ المنقولةِ فيه أن يكونَ «هو» ضميرَ الشأنِ والقصةِ فيكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «مُحَرَّمٌ» خبرٌ مقدمٌ وفيه ضميرٌ قائمٌ مَقامَ الفاعلِ، و «إخراجُهم» مبتدأ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعِ خبراً لضميرِ الشأن، ولم يَحْتَجْ هنا إلى عائدٍ على المبتدأ لأنَّ الخبرَ نفسُ المبتدأ وعينُه. وهذه الجملةُ مفسِّرةٌ لهذا الضمير، وهو أحدُ المواضعِ التي يُفَسَّرُ فيها المضمرُ بما بعدَه، وقد تقدَّمَتْ وليس لنا من الضمائرِ ما يُفَسَّر بجملةٍ غيرُ هذا الضمير، ومِنْ شَرْطِه أن يؤتى به في مواضعِ التعظيم وأنْ يكونَ معمولاً للابتداءِ أو نواسِخه فقط،

وأن يُفَسَّر بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجزئيها، ولا يُتْبَعَ بتابعٍ من التوابعِ الخمسةِ، ويجوزُ تذكيرُه وتأنيثُه مطلقاً خلافاً لمَنْ فصَّل: فتذكيرُه باعتبارِ الأمر والشأن، وتأنيثُه باعتبار القصةِ فتقولُ: هي زيدٌ قائمٌ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُحْذَفُ إلا في مواضع تُذْكر إنْ شاء الله تعالى. والكوفيون يُسَمُّونه ضميرَ المَجْهول وله أحكامٌ كثيرةٌ. الوجهُ الثاني: أن يكونَ «هو» ضميرَ الشأنِ أيضاً، و «مُحَرَّمٌ» خبرُه، [و «إخراجُهم» مرفوعٌ] على أنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه. وهذا مذهبُ الكوفيين وتابَعهم المهدوي، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول، لأنَّ عندهم [أنَّ الخبرَ المحتمِّل ضميراً] مرفوعاً لا يجوزُ تقديمُه على المبتدأ فلا يُقال: «قائمٌ زيدٌ» على أن يكونَ «قائمٌ» خبراً مقدَّماً، وهذا عند البصريين [ممنوعٌ لِمَا عَرَفْتَه أنَّ ضميرَ] الشأنِ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، والاسمُ المشتقُّ الرافعُ لِما بعدَه من قبيلِ المفرداتِ لا الجملِ فلا يُفَسَّر به ضميرُ الشأنِ. الثالث: أن يكونَ «هو» كنايةً عن الإِخراجِ، وهو مبتدأ، و «مُحَرَّمٌ» خبرُه، و «إخراجُهم» بدلٌ منه، وهذا على أحدِ القولين وهو [جوازُ إبدالِ الظاهرِ من] المضمرِ قبله ليفسِّرَه، واستدلَّ مَنْ أجازَ ذلك بقوله: 596 - على حالةٍ لَوْ أنَّ في القومِ حاتِماً ... على جُودِه لَضَنَّ بالماءِ حاتِمِ فحاتم بدلٌ من الضميرِ في «جودِه» . الرابع: أن يكونَ «هو» ضميرَ الإِخراجِ المدلولَ عليه بقوله «وتُخْرِجون» ، و «مُحَرَّمٌ» خبره و «إخراجُهم» بدلٌ من الضميرِ المستترِ في «مُحَرَّمٌ» .

الخامس: كذلك، إلاَّ أنَّ «إخراجُهم» بدلٌ من «هو» . نقل هذينِ الوجهين أبو البقاء. وفي هذا الأخيرِ نظرٌ، وذلك أنَّك إذا جَعَلْتَ «هو» ضمير الإِخراج المدلولِ عليه بالفعل كانَ الضميرُ مفسَّراً به نحو: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] فإذا أَبْدَلْتَ منه «إخراجُهم» الملفوظَ به كانَ مفسَّراً به أيضاً، فيلزَمُ تفسيرُه بشيئين، إلا أَنْ يقالَ: هذان الشيئان في الحقيقة شيءٌ واحدٌ فيُحتملَ ذلك. السادس: أجاز الكوفيون أن يكونَ «هو» عماداً وهو الذي يُسَمِّيه البصريون ضميرَ الفصل قُدِّم مع الخبر لِما تقدَّم، والأصلُ: وإخراجُهم هو مُحَرَّمٌ عليكم، فإخراجُهم مبتدأ، ومُحَرَّم خبره، وهو عِمادٌ، فلمَّا قُدِّمَ الخبرُ قُدِّمَ معه. قال الفراء: «لأن الواوَ هنا تَطْلبُ الاسمَ، وكلُّ موضعٍ تطلب فيه الاسمَ فالعمادُ جائزٌ» وهذا عند البصريين ممنوعٌ من وجهين: أحدُهما: أن الفصلَ عندهم مِنْ شرطِهِ أن يَقَعَ بين معرفَتَيْن أو بين معرفةٍ ونكرةٍ قريبةٍ من المعرفةِ في امتناع دخول أل كأَفْعَل مِنْ، ومثلٍ وأخواتها. والثاني: أنَّ الفصلَ عندهم لا يجوز تقديمُه مع ما اتصل به. ولهذه الأقوالِ مواضعُ يُبْحث فيها عنها. السابع: قال ابن عطية: «وقيل في» هو «إنه ضميرُ الأمرِ، والتقديرُ: والأمرُ مُحَرَّم عليكُم، وإخراجُهُمْ في هذا القولِ بدلٌ من» هو «انتهى. قال الشيخ:» وهذا خطأٌ من وجهين، أحدُهما: تفسيرُ ضميرِ الأمرِ بمفردٍ وذلك

لا يُجيزه بَصْريٌّ ولا كوفيٌّ، أمّا البصريُّ فلاشتراطه جملةً، وأمَّا الكوفيُّ فلا بد أن يكونَ المفردُ قد انتظمَ منه ومِمَّا بعده مُسْنَدٌ إليه في المعنى نحو: ظَنَنْتُه قائماً الزيدان. والثاني: أنه جَعَلَ «إخراجُهم» بدلاً من ضميرِ الأمر، وقد تقدَّم أنه لا يُتْبَعُ بتابعٍ. الثامن: قال ابنُ عطية أيضاً: «وقيل» هو «فاصلةٌ، وهذا مذهبٌ الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و» مُحَرَّم «على هذا ابتداءٌ، و» اخراجُهم «خبرٌ» . قال الشيخ: «والمنقولُ عن الكوفيين عكسُ هذا الإِعرابُ، أي: يكونُ» إخراجُهم «مبتدأ مؤخراً، و» مُحَرَّم «خبرٌ مقدمٌ، قُدِّم معه الفصلُ كما مرَّ، وهو الموافِقُ للقواعدِ، وألاَّ يَلزَم منه الإِخبارُ بمعرفةٍ عن نكرةٍ من غير ضرورةٍ تَدْعو إلى ذلك. التاسع: نَقَله ابنُ عطية أيضاً عن بعضِهم أن» هو «الضميرَ المقدَّرَ في» مُحَرَّم «قُدِّمَ وأُظْهِر، قال الشيخ:» وهذا ضعيفٌ جداً، إذ لا ضرورةَ تدعو إلى انفصالِ هذا الضميرِ بعد استتارهِ وتقديمهِ، وأيضاً فإنه يلزَمُ خُلُوُّ اسمِ المفعولِ مِنْ ضميرٍ، إذ على هذا القولِ يكونُ «مُحَرَّم» خبراً مقدَّماً و «إخراجُهم» مبتدأ، ولا يُوجد اسمُ فاعلٍ ولا مفعولٍ خالياً من الضمير إلا إذا رَفَعَ الظاهرَ، ثم يبقى هذا الضميرُ لا ندري ما إعرابُه؟ إذ لا يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ولا فاعلاً مقدَّماً «وفي قول الشيخ:» يَلْزَمُ خُلُوُّه من ضميرٍ «نظرٌ، إذ هو ضميرٌ مرفوعٌ به فلم يَخْلُ منه، غايةُ ما فيه أنه/ انفصلَ للتقديم، وقوله:»

لا ندري ما إعرابهُ «قد درى، وهو الرفعُ بالفاعليةِ. قوله:» والفاعلُ لا يُقَدَّم «ممنوعٌ فإنَّ الكوفيَّ يُجيزُ تقديمَ الفاعلِ، فيحُتمل أن يكونَ هذا القائلُ يَرى ذلك، ولا شك أنَّ هذا قولٌ رديءٌ مُنْكَرٌ لا ينبغي أن يجوزَ مثلُه في الكلامِ، فكيف في القرآن!! فالشيخُ معذورٌ، وعَجِبْتُ من القاضي أبي محمد كيف يُورد هذه الأشياءَ حاكياً لها، ولم يُعَقِّبْها بنكيرٍ. وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ محذوفةً من الجملِ المذكورة قبلَها، وذلك أنه قد تقدَّم ذكرُ أربعةِ أشياءَ كلُّها مَحُرَّمةٌ، وهي قولُه: «تَقْتُلون أنفسَكم، وتُخْرِجُون، وتُظاهرون، وتُفادون، فيكونُ التقدير: تقتلون أنفسَكم وهو مُحَرَّمٌ عليكم قتلُها، وكذلك مع البواقي. ويجوز أن يكونَ خَصَّ الإِخراجَ بذكر التحريمِ وإنْ كانَتْ كلُّها حَراماً، لِما فيه من مَعَرَّة الجلاءِ والنفي الذي لا ينقطعُ شرُّه إلا بالموت والقتلِ، وإنْ كان أعظمَ منه إلا أنَّ فيه قطعاً للشرِّ، فالإِخراجُ من الديارِ أصعبُ الأربعةِ بهذا الاعتبار. والمُحَرَّمُ: الممنوعُ، فإنَّ الحرامَ هو المَنْعُ من كذا. والحَرامُ: الشيءُ الممنوعُ منه يُقَالُ: حَرامٌ عليك وحَرَمٌ عليك، وسيأتي تحقيقُه في الأنبياء. قوله: {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ} :» ما «يجوز فيها وجهان، أحدُهما أن تكونَ نافيةً و» جزاء «مبتدأ، و» إلاَّ خِزْيٌ «» خبرُه «وهو استثناءٌ مفرغٌ، وبَطَلَ عَمَلُ» ما «عند الحجازيين لانتقاضِ النفي ب إلاَّ، وفي ذلك خلافٌ طويلٌ وتفصيلٌ منتشرٌ، وتلخيصُه أنَّ خبرَها الواقعَ بعد» إلاَّ «: جمهورُ البصريين على وجوبِ رَفْعِه مطلقاً، سواءً كان هو الأولَ أو مُنَزَّلاً منزلَته أو صفةً أو لم يكُنْ، ويتأوَّلون قوله: 59 - 7- وما الدهرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بأَهْلِه ... وما صاحبُ الحاجاتِ إلاَّ مُعَذِّبَا

على أنَّ الناصبَ لمَنْجَنوناً ومُعَذَّباً محذوفٌ، أي: يدورُ دَوَرَانَ مَنْجَنونٍ، ويُعَذَّبُ مُعَذَّباً تَعْذيباً. وأجاز يونس النصبَ مطلقاً، وإن كان النحاسُ نَقَلَ عدمَ الخلافِ في رفع» ما زيدٌ إلا أخوك «، فإن كان الثاني مُنَزَّلاً منزلةَ الأولِ نحو:» ما أنت إلا عِمامَتك تحسيناً وإلاَّ رِداءَك ترتيباً «فأجاز الكوفيون نصبَه، وإن كان صفةً نحو: ما زيدٌ إلا قائمٌ فأجاز الفراء نصبَه أيضاً. والثاني أن تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفع بالابتداء، و» جزاء «خبرُه، و {إِلاَّ خِزْيٌ} بدلٌ من» جَزَآءُ «، نقله أبو البقاء و» مَنْ «موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ، و» يفعلُ «لا محلَّ لها على الأول، ومحلُّها الجَرُّ على الثاني. قوله:: منكم» في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ «يفعل» فيتعلَّقُ بمحذوف أي: يفعلُ ذلك حالَ كونِه منكم. قوله: {فِي الحياة} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل «خزي» ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: خِزْيٌ كائنٌ في الحياة، والثاني: أن يكونَ محلُّه النصبَ على أنه ظرفٌ للخِزْي فهو منصوبٌ به تقديراً. والجَزاءُ: المقابَلَةُ، خيراً كان أو شراً، والخِزْيُ: الهَوانُ، يُقال: خَزِيَ بالكسر يخزى خِزْياً فهو خَزْيانُ، وامرأة خَزْيا والجمع خَزايا، وقال ابن السكيت: «الخِزْيُ الوقوعُ في بَلِيَّة، وخَزِيَ الرجلُ في نفسِه يَخْزَى خَزَايَةً إذا استحيا» . والدُّنْيا فُعْلَى تأنيثُ الأدْنى من الدُنُوِّ، وهو القُرْب، وألِفُها للتأنيثِ، ولا تُحْذَفُ منها أل إلا ضرورةً كقوله: 598 - يومَ ترى النفوسُ مَا أعَدَّتِ ... في سَعْي دُنْيَا طالمَا قد مُدَّتِ

وياؤُها عن واو، وهذه قاعدةٌ مطَّردةٌ، وهي كلُّ فُعْلَى صفةً لامُها واوٌ تُبْدَلُ ياءَ نحو: العُلْيَا والدُّنْيا، فأمَّا قولُهم: القُصْوى عند غير تميم، والحُلْوى عند الجميع فشاذ، فلو كانت فُعْلى اسماً صَحَّتِ الواو كقوله: 599 - أداراً بحزوى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً ... فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ وقد استُعْمِلَتْ استعمالَ الأسماءِ، فلم يُذْكَرْ موصوفُها، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} [الأنفال: 67] ، وقال ابنُ السراج في «المقصور والممدود» : «والدُّنْيا مؤنثةٌ مقصورةٌ، تُكْتَبُ بالألفِ، هذه لغةُ نجدٍ وتميمٍ، إلا أنَّ الحجازِ وبني أسد يُلْحِقُونها ونظائرهَا بالمصادرِ ذوات الواو فيقولون: دَنْوَى مثلَ شَرْوى، وكذلك يَفْعَلون بكلِ فُعْلى موضعُ لامِها واوٌ يفتحونَ أوَّلها ويَقْلِبُون ياءَها واواً، وأمَّا أهلُ اللغةِ الأولى فَيَضُمُّون الدالَ ويَقْلِبُون الواءَ ياءً لاستثقالِهم الواوَ مع الضمةِ. وقُرئ:» يُرَدُّون «بالغَيْبَةِ على المشهورِ. وفيه وجهان: أحدُهما: أن يكونَ التفاتاً فيكون راجعاً إلى قوله:» أفتؤمنون «فَخَرَج من ضميرِ الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، والثاني: أنَّه لا التفاتَ فيه، بل هو راجِعٌ إلى قولِه:» مَنْ يفعَل «، وقرأ الحسن» تُرَدُّون «بالخطابِ، وفيه الوجهانِ المتقدِّمان، فالالتفاتُ نظراً لقولِه:» مَنْ يفعل «وعدمُ الالتفات نظراً لقوله:» أفتؤمنون «.

وكذلك {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قُرِئَ في المشهورِ بالغَيْبَةِ والخطابِ، والكلامُ فيهما كما تقدَّم.

86

وتقدَّم نظائرُ {أولئك الذين اشتروا} . . وما بعدَه. إلا أنَّ بعضَ المُعْرِبين ذَكَر وجوهاً مردودةً لا بدَّ من التنبيهِ عليها، فأجاز أن يكونَ «أولئك» مبتدأ، و {الذين اشتروا} خبرَه، و {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} خبراً ثانياً لأولئك، قال: «ودخَلَتِ الفاءُ في الخبر لأجلِ الموصولِ المُشْبِهِ للشرطِ وهذا خطأٌ، فإن قوله: {فَلاَ يُخَفَّفُ} لم يَجْعَلْهُ خبراً للموصول حتى تَدْخُلَ الفاءُ في خبره، وإنما جَعَلَه خبراً عن» أولئك «وأينَ هذا مِنْ ذاك؟ وأجاز أيضاً أن يكونَ» الذين «مبتدأ ثانياً، و {فَلاَ يُخَفَّفُ} خبرَهُ، دخَلْت لكونِه خبراً للموصولِ، والجملةُ خبراً عن» أولئك «قال:» ولم يُحْتَجْ هنا إلى عائدٍ لأنَّ «الذين» هم «أولئك» كما تقولُ: «هذا زيدٌ منطلقٌ» ، وهذا أيضاً خَطَأٌ لثلاثةِ أوجهٍ أحدُها: خُلُوُّ الجملةِ مِن رابطٍ/، قوله: «لأن الذين هم أولئك» لا يفيدُ لأنَّ الجملةَ المستغنِيَةَ لا بُدَّ وأنْ تكونَ نفسَ المبتدأ، وأمَّا تنظيرُه ب «هذا زيدٌ منطلقٌ» فليس بصحيحٍ، فإنَّ «هذا» مبتدأٌ، و «زيدٌ» خبرٌ، و «منطلقٌ» خبرٌ ثانٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ «زيدٌ» مبتدأً ثانياً، و «منطلقٌ» خبرَه والجملةُ خبرٌ عن الأول للخلوِّ من الرابط. الثاني: أن الموصولَ هنا لقومٍ معيَّنين وليس عاماً، فلم يُشْبِه الشرط فلا تَدْخُلُ الفاءُ في خبره. الثالث: أن صلته ماضيةٌ لفظاً ومعنىً، فلم يُشْبِهْ فعلَ الشرطِ في الاستقبال فلا يجوزُ دخولُ الفاءِ في الخبرِ. فتعيَّن أن يكون «أولئك» مبتدأً والموصولُ بصلتِه خبرَه، و {فَلاَ يُخَفَّفُ} معطوفٌ على الصلةِ، ولا يَضُرُّ تخالُفُ الفِعْلَيْنِ في الزمانِ، فإنَّ الصلاتِ من

قَبيل الجملِ، وعَطْفٌ الجملِ لا يُشْتَرَطُ فيه اتحادُ الزمانِ، يجوزُ أن تقولَ: «جاء الذي قَتَلَ زيداً أمسٍ وسيقتُل عمراً غداً» ، وإنما الذي يُشْتَرَطُ فيه ذلك حيث كانت الأفعالُ مُنَزَّلَةً منزلةَ المفرداتِ. قوله: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يجوز في «هم» وجهانِ، أحدُهما: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وما بعده خبرُه، ويكون قد عَطَفَ جملةً اسميةً على جملةٍ فعليةٍ وهي: {فلا يُخَفَّفَ} . والثاني: أن يكونَ مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرهُ هذا الظاهرُ، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ، ويكونُ كقولِه: 600 - وإنْ هُو لم يَحْمِلْ على النفسِ ضَيْمَها ... فليسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ وله مُرَجِّحٌ على الأولِ وذلك أنَّه يكونُ قد عَطَفْتَ جملةً فعليةً على مثلِها، وهو من المواضعِ المرجَّحِ فيها الحَمْلُ على الفعلِ في بابِ الاشتغالِ. وليس المرجِّحُ كونَه تقدَّمه لا النافية، فإنَّها ليسَتْ من الأدواتِ المختصَّةِ بالفِعْلِ ولا الأولى به، خلافاً لابن السِّيدِ حيث زَعَمَ أنَّ «لا» النافيةَ من المرجِّحاتِ لإِضمارِ الفعل، وهو قولٌ مرغوبٌ عنه، ولكنه قَويٌ من حيث البحث. فقوله: «يُنْصَرون» لا محلَّ له على هذا لأنه مفسِّرٌ، ومحلُّه الرفعُ على الأولِ لوقوعه موقعَ الخبرِ.

87

قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} . . التضعيفُ في «قَفَّيْنا» ليس للتعديةِ، إذ لو كانَ كذلك لتعدَّى إلى اثنينِ لأنه قبلَ التضعيفِ يتعدَّى لواحدٍ، نحو: قَفَوْت زيداً، ولكنه ضُمِّن معنى «جِئْنا» كأنه قيل: وجئنا من بعده بالرسلِ. فإنْ قيل: يجوزُ أن يكونَ متعدِّياً لاثنين على معنى أنَّ الأولَ محذوفٌ والثاني «بالرسل» والباءُ فيه زائدةٌ تقريرُه: {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} .

فالجوابُ أن كثرةَ مجيئِه في القرآن كذلك يُبْعِدُ هذا التقديرَ، وسيأتي لذلك مزيدُ بيانٍ في المائدةِ إن شاء الله تعالى. وقَفَّينا أصله: قَفَّوْنا، ولكنْ لَمَّا وقعتِ الواوُ رابعةً قَلِبَتْ ياءً، واشتقاقُه من قَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتَ قَفاه، ثم اتُّسع فيه، فَاُطْلِقَ على كلِّ تابع، وإن بَعُدَ زمانُ التابعِ من زمانِ المَتْبوع، وقال أمية: 601 - قالَتْ لأختٍ له قُصِّيه عن جُنُبٍ ... وكيفَ تَقْفُو ولا سَهْلٌ ولا جَبَلُ والقَفا مُؤَخَّرُ العُنُق، ويقال له: القافية أيضاً، ومنه قافيةُ الشِّعْر، لأنها تَتلُو بناءَ الكلام وآخرَه، ومعنى قَفَّيْنا أي: أَتْبَعْنا كقولِه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] . و {مِن بَعْدِهِ} متعلِّقٌ به، وكذلك «بالرُسل» ، وهو جمعُ رسول بمعنى مُرْسَل، وفُعُل غيرُ مَقيسٍ في فَعُول بمعنى مَفْعول، وسكونُ العين لغةُ الحجازِ وبها قرأ يحيى والحسن، والضمُّ لغةُ تميم، وقد قرأَ السبعةُ بلغةِ تميم إلا أبا عمرو فيما أُضيف إلى «ن» أو «كم» أو «هم» فإنه قرأ بالسكونِ لتوالي الحركاتِ. قوله: «عيسى» عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم يَنْصَرِفْ، وقد تكلَّم النحويون في وزنِه واشتقاقِه على تقدير كونِه عربيَّ الوضع، فقال سيبويه: «وزنُه فِعْلى والياءُ فيه ملحقةٌ ببناتِ الأربعةِ كياءِ مِعْزَى» يَعْني بالياءِ الألفَ، سَمَّاها ياء لكتابتِها بالياءِ. وقال الفارسي: «أَلفُه ليست للتأنيثِ كذِكْرى، بدلالةِ صَرْفهم له في النكرةِ» . وقال عثمانُ بن سعيد الصَّيْرَفي: «وزنه فِعْلَل» فالألفُ عنده

أصليةٌ بمعنى أنها منقلبةٌ عن أصل. ورَدَّ ذلك عليه ابنُ الباذِشِ بأنَّ الياءَ والواوَ لا يكونان أصلَيْن في بناتِ الأربعةِ، فمَنْ قال إنَّ «عِيسى» مشتقٌّ من العَيْس وهو بياضٌ تخالطُه شُقْرةٌ كأبي البقاء وغيره ليس بمصيبٍ لأنَّ الأعجميَّ لا يَدْخُلُه اشتقاقٌُ ولا تصريفٌ. وقال الزمخشري: «وقيل: عيسى بالسُّريانية: أَيْسوع» . قوله: «ابنَ مريم» عطفُ بيان أو بدلٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً إلا أنَّ الأولَ أَوْلَى لأنَّ «ابن مريم» جرى مَجْرَى العلم له. وللوصفِ بابن أحكامٌ تَخُصُّه سَتَأْتِي مبينةً إن شاء الله تعالى، وتقدَّم اشتقاقُ «ابن» وأصلُه. ومَرْيم أصلُه بالسريانية صفةٌ بمعنى الخادِم ثم سُمِّي به فلذلك لم ينصرِفْ، وفي لسانِ العرب هي المرأةُ التي تُكْثِرُ مخالطَة الرجال كالزِّير من الرجال وهو الذي يُكْثِرُ مخالطَتَهُنَّ، قال رؤبة: 602 - قلتُ لِزِيرٍ لم تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وياءُ «الزير» عن واو لأنه من زار يَزُور فَقُلِبَتِ للكسرة قبلَها كالرِّيح، فصار لفظُ مريم مشتركاً بين اللسانينِ، ووزنُه عند النحويين مَفْعَل لا فَعْيَل، قال الزمخشري: «لأن فَعْيَلاً بفتح الفاء لم يَثْبُتْ في الأبينة كما ثَبَتَ في

نحو: عِثْيَر وعِلْيَب» وقد أثبت بعضهم فَعْيَلاً وجَعَلَ منه نحو: «ضَمْيَد» اسمَ مكان و «مَدْيَن» على القولِ بأصالة ميمهِ و «ضَهْيَا» بالقصر وهي المرأةُ التي لا تَحِيضُ، أو لا ثَدْيَ لها، لأنها مشتقةٌ من ضاهَأَتْ أي شابَهَتْ، لأنها شابَهَتِ الرجال في ذلك، ويجوزُ مَدُّها قاله الزجاج. وقال ابن جني: «وأما ضَمْيدَ وعَثْيَر فمصنوعان» فلا دَلالة فيهما على ثبوت فَعْيَل، وصحةُ الياءِ في مريم على خلافِ القياس، إذ كان من حقِّها الإِعلالُ بنَقْلِ حركةِ الياء إلى الراءِ ثم قَلْبِ الياءِ ألفاً نحو: مَباع من البَيْع، ولكنه شَذَّ مَزْيَد ومَدْيَن، وقال أبو البقاء: «ومَرْيَم عَلَمٌ أعجمي ولو كان مشتقاً من رامَ يريم لكان مَرِيماً بسكونِ الياء، وقد جاءَ في الأعلامِ بفتح الياء نحوَ مَزْيَد وهو على خلافِ القياس» . قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ} معطوفٌ على قوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى} . وقرأ الجمهور/ أيَّدْناه على فَعَّلْناه، وقرأ مجاهد وابن محيصن ويروي عن أبي عمرو «آيَدْنَاه» على: أَفْعَلْناه، والأصلُ في أَاْيَدَ بهمزتين، ثانيتُهما ساكنةٌ فوجَبَ إبدالُ الثانيةِ ألفاً نحو: أَأْمَنَ وبابِه، وصححت العينُ وهي الياءُ كما صَحَّتْ في «أَغْيَلَت» و «أَغْيَمَت» ، وهو تصحيحٌ شاذٌّ إلا في فِعْل التعجب نحو: ما أَبْيَنَ

وأَطْوَل. وحُكي عن أبي زيد أن تصحيحَ «أَغْيَلَت» مقيسٌ. فإنْ قيل: لِم لا أُعِلَّ آيَدْناه كما أُعِلَّ نحو: أَبَعْناه حتى لا يَلْزَم حَمْلُه على الشاذ؟ فالجواب أنه لو أُعِلَّ بأنْ أُلْقِيَتْ حركةُ العينِ على الفاءِ فيلتقي ساكنانِ العينُ واللامُ فتُحْذَفُ العَيْنُ لالتقاء الساكنين، فتجتمعُ همزتان مفتوحتان فيجبُ قَلْبُ الثانيةِ واواً نحو «أَوادِم» ، فتتحرَّكُ الواوُ بعدَ فتحةٍ فتقلبُ أَلفاً فيصيرُ اللفظُ: أَادْناه، لأدَّى ذلك إلى إعلالِ الفاءِ والعينِ، فلمَّا كانَ إعلالُه يؤدِّي إلى ذلك رُفِضَ بخلاف أَبَعْناه وأَقَمْناه، فإنه ليسَ فيه إلا إعلالُ العينِ فقط. قال أبو البقاء: «فإنْ قلتَ: فَلِمَ لَمْ تُحْذَفِ الياءُ التي هي عينٌ كما حُذِفَتْ من نحو: أَسَلْناه منْ سالَ يَسالُ؟ قيل: لو فَعَلوا ذلك لتوالى إعلالان: أحدُهما قَلْبُ الهمزةِ الثانيةِ ألفاً ثم حَذْفُ الألفِ المبدلة من الياءِ لسكونِها وسكونِ الألفِ قبلَها، فكان يصيرُ اللفظُ آدْناه فكانَتْ تُحْذَفُ الفاءُ والعينُ وليس» أسلناه «كذلك، لأنَّ هناك حَذْفَ العينِ وحدَها. وقال الزمخشري في المائدة: «آيَدْتُك على أَفْعَلْتُك» وقال ابن عطية: «على فاعَلْتُك» ثم قال: «ويَظْهَرُ أن الأصلَ في القراءتين: أَفْعَلْتُك ثم اختَلَفَ الإِعلالُ» . انتهى. والذي يظهر أن «أيَّد» فَعَّل لمجيء مضارِعِه على يُؤَيِّدُ بالتشديدِ، ولو كان أَيَّد بالتشديد بزنة أَفْعَلَ لكان مضارعُه يُؤْيِدُ كيُؤْمِنُ من آمَنَ، وأمَّا آيَدَ يعني بالمَدِّ فيُحتاج في نَقْلِ مضارعه إلى سَماعٍ، فإنْ سُمِعَ يُؤايِدُ كيُقاتِل فهو فاعَل، فإنْ سُمع يُؤْيِدُ كيُكْرِمُ فآيد أَفْعَل، ذكر ذلك جميعَه الشيخُ في

المائدة. ثم قال: «إنه لم يَظْهر كلامُ ابن عطية في قوله:» اختلف الإِعلالُ «وهو صحيحٌ، إلاَّ أنَّ قوله: الذي يظهر أن أيَّد في قراءةِ الجمهورِ فَعَّل لا أَفْعَل إلى أخرِه» فيه نظرٌ لأنه يُشْعِرُ بجوازِ شيءٍ آخَر وذلك متعذَّرٌ، كيف يُتَوَهَّمُ أن أيَّدَ بالتشديدِ في قراءةِ الجمهورِ بزنة أَفْعَل، هذا ما لا يَقَعْ. والأَيْدُ: القوَّةُ، قال عبد المطلب: 603 - الحمدُ للهِ الأَعزِّ الأكرمِ ... أَيَّدَنا يومَ زُحوفِ الأشْرَمِ والصحيحُ أن فَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى واحد وهو قَوَّيْناه. وقد فَرَّق بعضُهم بينهما فقال: «أمَّا المدُّ فمعناه القوةُ، وأمَّا القصرُ فمعناه التأييدُ والنَّصْرُ» ، وهذا في الحقيقةِ ليس بفرقٍ، وقد أبدلتِ العربُ في آيَدَ على أَفْعَل الياءَ جيماً فقالت: آجَدَهُ أي قوَّاه، قال الزمخشري: «يقال:» الحمدُ لله الذي آجَدَني بعد ضَعْفٍ وأَوْجَدني بعد فَقْر «، وهذا كما أَبْدلوا من يائِه جيماً فقالوا: لا أَفْعَل ذلك جَدَ الدهرِ أي: يدَ الدهر، وهو إبدالٌ لا يَطَّرِدُ. قوله: {بِرُوحِ القدس} متعلِّق بأيَّدْناه. وقرأ ابن كثير:» القُدْس «بإسكانِ الدال، والباقون بضمِّها، وهما لغتان: الضمُّ للحجاز، والإِسكانُ لتميم، وقد تقدَّم ذلك، وقرأ أبو حَيْوة:» القُدُوس «بواوٍ، وفيه لغةُ فتحِ القاف والدال ومعناه الطهارةُ أو البركةُ كما تقدَّم عند قولِه:» ونقدِّسُ لك «. والروح في الأصل: اسمٌ للجزءِ الذي تَحْصُلُ به الحياةُ في الحيوان قاله الراغب،

والمرادُ به جبريلُ عليه السلام لقولِ حَسَّان: 604 - وجبريلٌ رسولُ الله فينا ... وروحُ القُدْسِ ليس له كِفَاءُ سُمِّي بذلك لأنَّ بسببه حياةَ القلوب. قوله: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ} الهمزةُ هنا للتوضيحِ والتقريعِ، والفاءُ للعطفِ عَطَفَتْ هذه الجملةَ على ما قبلَها، واعتُنِيَ بحرفِ الاستفهام فقُدِّمَ، وقد مَرَّ تحقيقُ ذلك، وأنَّ الزمخشري يُقَدِّر بين الهمزةِ وحرفِ العطْفِ جملةً ليَعْطِفَ عليها. وهذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلها من غيرِ حَذْفِ شيء، كأنه قال: ولقد آتَيْنا يا بني إسرائيلَ أنبياءَكم ما آتيناهُمْ فكلما جاءَكم رسُولٌ. ويجوز أَنْ يُقَدَّر قبلَها محذوفٌ أي: فَفَعَلْتُم ما فَعَلْتُم فكلما جاءَكم رسولٌ. وقد تقدَّم الكلام في» كلما «عند قولِه: {كُلَّمَا أَضَآءَ} [البقرة: 20] . والناصبُ لها هنا «استكبرتم» ، و «رسول» فَعُول بمعنى مَفْعُول أي مُرْسَل، وكونُ فَعُول بمعنى المَفْعُول قليلٌ، جاء منه الرَّكُوب والحَلُّوب أي: المَرْكُوب والمَحْلُوب، ويكون مصدراً بمعنى الرسالة قاله الزمخشري. وأنشد: 605 - لقد كَذَبَ الواشون ما فُهْتُ عندَهم ... بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهُمْ برَسول أي: برسالة، ومنه عنده: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] . قوله: {بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ} متعلِّق بقوله «جاءكم» ، و «جاء» يتعدى بنفسِه تارةً كَهذِه الآية، وبحرفِ الجرِّ أُخْرى نحو: جِئْتُ إليه، و «ما» موصولةٌ

بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروط، والتقديرُ: بما لا تهواه، و «تهوى» مضارعُ هَوِي بكسر العين ولامُه من ياءٍ لأنَّ عينَه واوٌ، وباب طَوَيْتُ وشَوَيْتُ أكثرُ من بابُ قوَّة وحُوَّة. ولا دليلَ في «هَوِيَ» لانكسار العين وهو مثل «شَقِي» من الشَّقاوة، وقولُهم في تثنيةِ مصدرِه هَوَيان أدلُّ دليلٍ على ذلك، ومعنى تَهْوَى: تُحِبُّ وتختار. وأصل الهَوَى: المَيْلُ، سُمِّي بذلك لأنه يَهْوي بصاحبِه في النار ولذلك لا يُسْتعمل غالباً إلا فيما لا خَيْرَ فيه، وقد يُستعمل فيما هو خيرٌ، ففي الحديث الصحيح قولُ عمرَ في أُسارى بدر: «فَهَوِي رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قالَ أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلت. وعن عائشة رضي الله عنها:» واللهِ ما أَرى ربَّك إلا يُسارع في هَوَاك «وجمعُه أَهْواء، قال تعالى: {بِأَهْوَائِهِم} [الأنعام: 119] ولا تُجْمع على أَهْوِية وإنْ كان قد جاء: نَدَى وأَنْدِية قال الشاعر: 606 - في ليلةٍ من جُمادى ذاتِ أَنْدِيَةٍ ... لا يُبْصِرُ الكلبُ في ظَلْمائها الطُّنُبا وأمَّا» هوى يَهْوي «بفتحها في الماضي وكسرِها في المضارع فمعناهُ السقوطُ، والهَوِيُّ بفتح الهاءُ ذهابٌ في انحدارِ، والهُوِيُّ ذهابٌ في صعود، وسيأتي تحقيقُ كلِّ ذلك، وأسندَ الفعلَ إلى الأنفس دونَ المخاطبِ فلم يَقُلْ:» بما لا تَهْوون «تنبيهاً أنَّ النفسَ يُسْنَدُ إليها الفعلُ السَّيِّء غالباً نحو: {

إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} [يوسف: 53] {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} [يوسف: 18] {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} [المائدة: 30] واستكبر بمعنى تَكَبَّرَ. قوله: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ} الفاءُ عاطفةٌ جملةَ» كَذَّبْتم «على» استكبرتم «و» فريقاً «مفعولٌ مقدَّم قُدِّم لتتفقَ رؤوسَ الآي، وكذا {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} ، ولا بُدَّ من محذوفٍ أي: فريقاً منهم، والمعنى أنه نشأ عن استكبارهم مبادرةُ فَرِيقٍ من الرسلِ بالتكذيب ومبادَرَةُ آخرين بالقتلِ، وقَدَّم التكذيبَ لأنه/ أولُ ما يفعلونه من الشرِّ ولأنه مشتركٌ بين المقتولِ وغيره، فإنَّ المقتولِين قد كذَّبوهم أيضاً، وإنما لم يُصَرِّحْ به لأنه ذَكَرَ أقبحَ منه في الفعلِ. وجيء ب» تقتلون «مضارعاً: إمَّا لكونِه مستقبلاً لأنهم كانوا يَرُومون قَتْلَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولِما فيه من مناسبة رؤوسِ الآيِ والفواصِل، وإمَّا أن يُرادَ به الحالُ الماضيةُ أن الأمرَ فظيعٌ فأُريد استحضارُه في النفوس وتصويرُه في القلوب. وأجازَ الراغب أَنْ يكونَ {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ} معطوفاً على قوله» وأَيَّدْناه «ويكونُ» أفكلما «مع ما بعده فَصْلاً بينهما على سبيلِ الإِنكار، والأظهرُ هو الأولُ، وإنْ كان ما قاله محتملاً.

88

قوله تعالى: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} . . مبتدأٌ وخبر، والجملةُ في محلِّ نصبِ بالقول قبلَه، وقرأ الجمهورُ: «غُلْفٌ» بسكون اللام، وفيها وجهان، أحدهما وهو الأظهرُ: أن يكونَ جمع «أَغْلَف» كأحمر وحُمْر وأصفر وصُفْر، والمعنى على هذا: أنها خُلِقَتْ وجُبِلت مُغَشَّاةً لا يَصِلُ إليها الحقُّ استعارةً من الأغلف الذي لم يُخْتَتَنْ. والثاني: أن يكونَ جمعَ «

غِلاف» ، ويكونُ أصلُ اللامِ الضمَّ فخُفِّفَ نحو: حِمار وحُمُر وكتاب وكُتُب، إلاَّ أنَّ تخفيفَ فُعُل إنما يكون في المفرد غالباً نحو عُنْق في عُنُق، وأمَّا فُعُل الجمع فقال ابن عطية: «لا يجوز تخفيفُه إلا في ضرورةٍ» ، وليس كذلك، بل هو قليل، وقد نصّ غيرُه على جوازه، وقرأ ابن عباس ويُروى عن أبي عمرو بضمِّ اللامِ وهو جمع «غِلاف» ، ولا يجوز أن يكون فُعُل في هذه القراءة جمعَ «أَغْلف» لأنَّ تثقيلَ فُعُل الصحيحِ العينِ لا يجوز إلاَّ في شِعْر، والمعنى على هذه القراءة أنَّ قلوبَنا أوعيةٌ للعلمِ فهي غيرُ محتاجةٍ إلى علمٍ آخر، والتغليفُ كالتغشِيَة في المعنى. قوله: {بَل لَّعَنَهُمُ الله} «بل» حرفُ إضرابٍ، والإِضرابُ راجعٌ إلى ما تَضَمَّنه قولُهم من أن قلوبَهم غُلْف، فردَّ الله عليهم ذلك بأنَّ سببَه لَعْنُهم بكفرهم السابق. والإِضرابُ على قسمين: إبطالٍ وانتقالٍ، فالأول نحو: ما قام زيدٌ بل عمروٌ، ولا تَعْطِفُ «بل» إلا المفردات، وتكونُ في الإِيجاب والنفي والنهي، ويُزاد قبلها «لا» تأكيداً. واللَّعْنُ: الطَّرْدُ والبُعْدُ، ومنه: شَأْوٌ لعين أي بعيد: قال الشمَّاخ. 607 - ذَعَرْتُ به القَطا ونَفَيْتُ عنه ... مقامَ الذئبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ أي: البعيد، وكان وجهُ الكلام أن يقول: «مقام الذئب اللعين كالرجل» . والباءُ في «بكفرهم» للسببِ، وهي متعلِّقَةٌ بلَعَنَهُمْ. وقال الفارسي: «النية به التقديمُ أي: وقالوا: قُلوبنا غلفٌ بسببِ كفرهم، فتكونُ الباءُ متعلقةً بقالوا وتكونُ» بل لعنهم «جملةً معترضةً» ، وفيه بُعْدٌ، ويجوز أن تكونَ حالاً

من المفعولِ في «لَعَنهم» أي لعَنهم كافرين أي: مُلتبسين بالكفرِ كقوله: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر} [المائدة: 61] . قوله: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} في نصبِ «قليلاً» ستةُ أوجهٍ، أحدُها وهو الأظهرُ: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: فإيماناً قليلاً يُؤمنون. الثاني: أنه حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المحذوفِ أي: فيؤمنونه أي الإِيمانَ في حالِ قلَّته، وقد تقدَّم أنه مذهب سيبويه وتقدَّم تقريره. الثالث: أنه صفةٌ لزمان محذوفٍ، أي: فزماناً قليلاً يؤمنون، وهو كقوله: {آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ} [آل عمران: 72] . الرابع: أنه على إسقاطِ الخافض والأصل: فبقليل يؤمنون، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ انتصب، ويُعْزَى لأبي عبيدة. الخامس: أن يكونَ حالاً من فاعل «يؤمنون» ، أي فَجَمْعاً قليلاً يؤمنون أي المؤمِنُ فيهم قليلٌ، قال معناه ابنُ عباس وقتادة. إلا أن المهدوي قال: «ذهب قتادة إلى أنَّ المعنى: فقليلٌ منهم مَنْ يؤمن، وأنكره النحويون، وقالوا: لو كانَ كذلك لَلَزِمَ رفعُ» قليل «. قلت: لا يلزمَ الرفعُ مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لِما تقدَّم من أنَّ نصبَه على الحالِ وافٍ بهذا المعنى: و» ما «على هذه الأقوالِ كلها مزيدةٌ للتأكيد. السادس: أن تكونَ» ما «نافيةً أي: فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، ومثلُه: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] ، {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] ، وهذا قويٌ من جهة المعنى، وإنما يَضْعُفُ شيئاً من جهةٍ تقدُّم ما في حَيِّزها عليها، قاله أبو البقاء، وإليه ذهب ابن الأنباري، إلا أنَّ تقديمَ

ما في حَيِّزها عليها لم يُجْزِه البصريون، وأجازه الكوفيون. قال أبو البقاء:» ولا يَجُوز أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً، لأن «قليلاً» يبقى بلا ناصبٍ «. يعني أنَّك إذا جَعَلْتَها مصدريةً كان ما بعدَها صلتَها، ويكون المصدرُ مرفوعاً ب» قليلاً «على أنه فاعلٌ به فأين الناصبُ له؟ وهذا بخلافِ قولِه {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] فإنَّ» ما «هناك يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لأنَّ» قليلاً «منصوبٌ ب كان. وقال الزمخشري:» ويجوز أن تكونَ القِلَّةُ بمعنى العَدَم «. قال الشيخ:» وما ذهبَ إليه من أنَّ «قليلاً» يُراد به النفيُ فصحيحٌ، لكنْ في غيرِ هذا التركيب، أعني قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} لأنَّ «قليلاً» انتصبَ بالفعلِ المثبتِ فصار نظيرَ «قُمْتُ قليلاً» أي: قمتُ قياماً قليلاً، ولا يَذْهَبُ ذاهبٌ إلى أنَّك إذا أَتَيْتَ بفعلٍ مُثْبَتٍ وجَعَلْتَ «قليلاً» منصوباً نعتاً لمصدرِ ذلك الفعلِ يكونُ المعنى في المُثْبَتِ الواقعِ على صفةٍ أو هيئةٍ انتفاءَ ذلك المُثْبَتِ رأساً وعدَمَ قوعِه بالكلِّية، وإنما الذي نَقَل النحويون: أنَّه قد يُراد بالقلة النفيُ المَحْضُ في قولهم: «أقَلُّ رجلٍ يقول ذلك، وقَلَّما يقوم زيد» ، وإذا تقرَّر هذا فَحَمْلُ القلةِ على النفي المَحْضِ هنا ليس بصحيحٍ «. انتهى. / قلت: ما قاله أبو القاسم الزمخشري رحمه الله من أنَّ معنى التقليلِ هنا النفيُ قد قال به الواحديُّ قبلَه، فإنه قال:» أَيْ: لا قليلاُ ولا كثيراً، كما تقول: قَلَّما يفعلُ كذا، أي: ما يفعله أصلاً «.

89

قوله تعالى: {مِّنْ عِندِ الله} . . فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه في محلِّ رفع صفةً لكتاب، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي كتابٌ كائنٌ من عندِ الله.

والثاني: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ لابتداءِ غايةِ المجيء قالَه أبو البقاء. وقد ردَّ الشيخ هذا الوجهَ فقال: «لا يُقال إنه يُحْتمل أن يكونَ {مِّنْ عِندِ الله} متعلقاً بجاءهم، فلا يكونُ صفةً، للفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ بما هو معمولٌ لغير أحدهِما» يعني أنه ليس معمولاً للموصوفِ ولا للصفةِ فَلا يُغْتَفَرُ الفصلُ به بينهما. والجمهورُ على رفع «مُصَدِّقٌ» على أنه صفةٌ ثانيةٌ، وعلى هذا يُقال: قد وُجِدَ صفتان إحداهُما صريحةٌ والأخرى مؤولةٌ، وقد قُدِّمَتِ المؤولةُ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك غيرُ ممتنع وإنْ زَعَمَ بعضُهم أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً. والذي حَسَّنَ تقديمَ غير الصريحة أنَّ الوصفَ بكينونَتِه مِنْ عندِ الله آكدُ، وأنَّ وصفَه بالتصديقِ ناشىءٌ عن كونه من عندِ الله. وقرأ ابن أبي عبلة «مُصَدِّقاً» نصباً، وكذلك هو في مصحفِ أُبيّ، ونصبُه على الحال، وفي صاحِبها قولان، أحدُهما أنه «كتاب» . فإنْ قيل: كيفَ جاءت الحالُ مِن النكرة؟ فالجوابُ أنها قد قَرُبَتْ من المعرفة لتخصيصِها بالصفةِ وهي {مِّنْ عِندِ الله} كما تقدَّم. على أنَّ سيبويهِ أجاز مجيئَها منها بلا شرطٍ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري. والثاني: أنه الضمير الذي تَحَمَّله الجارُّ والمجرورُ لوقوعِه صفةً، والعاملُ فيها إمَّا:

الظرفُ أو ما يتعلَّق به على الخلاف لمشهور، ولهذا اعترَضَ بعضُهم على سيبويه في قوله: 608 - لِمَيَّةَ موحِشاً طَلَلٌ ... يَلُوح كأنَّه خِلَلُ إنَّ «موحشاً» حالٌ من «طَلَل» ، وساغَ ذلك لتقدُّمِهِ، فقال: لا حاجةَ إل ذلك، إذ يمكنُ أن يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في قوله: «لميَّةَ» الواقعَ خبراً لطلل، وللجوابِ، عن ذلك موضعٌ آخرُ. واللام في {لِّمَا مَعَهُمْ} مقويةٌ لتعدية «مُصَدِّق» لكونِه فَرْعاً، و «ما» موصولةٌ، والظرفُ صلتُها. قوله: {وَكَانُواْ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على «جاءهم» فيكونُ جوابُ «لَمَّا» مرتَّباً على المجيءِ والكونِ. والثاني: أن يكونَ حالاً أي: وقد كانُوا، فيكونُ جوابُ «لَمَّا» مرتَّباً على المجيءِ بقيدٍ في مفعولِه وهم كونُهم يَسْتَفْتِحون. قال الشيخ: «وظاهرُ كلامِ الزمخشري أن» وكانوا «ليسَتْ معطوفةً على الفعلِ بعد» لَمَّا «ولا حالاً، لأنه قدَّر جوابَ» لَمَّا «محذوفاً قبل تفسيره» يستفتحون «، فَدلَّ على أنَّ قوله» وكانوا «جملةٌ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ من قولِه: ولَمَّا، وهذا هو الثالثُ. و {مِن قَبْلُ} متعلقٌ بيَسْتَفْتِحون، والأصل، من قبلِ ذلك، فلمَّا قُطِعَ بُنِيَ على الضمِّ. و «يَسْتَفْتحون» في محلِّ النصبِ على خبر «كان» . واختلف النحويون في جوابِ «لَمَّا» الأولى والثانية. فَذَهَبَ الأخفش والزجاج إلى أنَّ

جوابَ الأولى محذوفٌ تقديرُه: ولَمَّا جاءهم كتابٌ كفروا به. وقَدَّره الزمخشري: «كَذَّبوا به واستهانوا بمجيئه» وهو حَسَنٌ. وذهب الفراء إلى أنَّ جوابَها الفاءُ الداخلةُ على لَمَّا، وهو عندَه نظير {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ} [البقرة: 38] قال: «ولا يجوزُ أن تكونَ الفاءُ ناسقةً إذ لا يَصْلُح موضِعَهَا الواوُ» و «كفروا» جوابُ لَمَّا الثانية على القولَيِْن. وقال أبو البقاء: «في جواب لَمَّا الأولى وجهانِ، أحدُهما: جوابُها» لَمَّا «الثانية وجوابُها. وهذا ضعيفٌ لأنَّ الفاءَ مع» لمَّا «الثانيةِ، و» لمَّا «لا تُجَابُ بالفاءِ إلا أَنْ يُعْتقدَ زيادةُ الفاءِ على ما يُجيزه الأخفش» قلت: ولو قيل برأي الأخفش في زيادةِ الفاءِ من حيث الجملةُ فإنه لا يمكنُ ههنا لأنَّ «لَمَّا» لا يُجابُ بمثلِها، لا يُقال: «لَمَّا جاء زيدٌ لَمَّا قَعَد أكرمتُك» على أن يكونَ «لَمَّا قعد» جوابَ «لمَّا جاء» . والله أعلم. وذهب المبردُ إلى أنَّ «كفروا» جوابُ «لَمَّا» الأولى وكُرِّرت الثانيةُ لطولِ الكلام، ويُفيد ذلك تقريرَ الذنبِ وتأكيدَه، وهو حسنٌ، لولا أنَّ الفاءَ تَمْنع من ذَلك. وقال أبو البقاء بعد أن حَكَى وجهاً أولَ: «والثاني: أنَّ» كفروا «جوابُ الأولى والثانية لأنَّ مقتضاهما واحدٌ. وقيل: الثانيةُ تكريرٌ فلم يُحْتَجْ إلى جواب» قلت: «قولُه:» وقيل الثانية تكريرٌ «هو ما حَكَيْتُ عن المبرد، وهو في الحقيقة ليس مغايراً للوجه الذي ذَكَره قبله من كون» كفروا «جواباً لهما بل هو هو. قوله: {فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} جملةٌ من مبتدأ أو خبرٍ مُتَسَبِّبَةٌ عَمَّا تقدَّم. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعل، وأتى ب» على «تنبيهاً على أنَّ اللعنةَ قد

استعْلَتْ عليهم وشَمِلَتْهم. وقال: {عَلَى الكافرين} ولم يقُلْ» عليهم «إقامةً للظاهر مُقامَ المضمرِ لينبِّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفرُ.

90

قولُه تعالى: {بِئْسَمَا اشتروا} . . بئسَ: فعلٌ ماض غيرُ متصرفٍ، معناه الذمُّ، فلا يَعْمُل إلا في معرَّفٍ بأل، أو فيما أُضيف إلى ما هما فيه، أو في مضمرٍ مفسَّرٍ بنكرةٍ، أو في «ما» على قول سيبويه. وفيه لغاتٍ: بَئِسَ بكسر العينِ وتخفيفٍ، هذا الأصلُ، وبِئِس بكسرِ الفاء إتباعاً للعينِ وتخفيفٍ، هذا الإِتباعُ، وهو أشهرُ الاستعمالاتِ، ومثلُها «نِعْمَ» في جميع ما تقدَّم من الأحكام واللغات. وزعم الكوفيون أنهما اسمان، مستدلِّين بدخول حرف الجر عليهما في قولهم: «ما هي بِنِعْمَ الولد نصرُها بكاءٌ وبِرُّها سَرِقة» ، «ونِعْمَ السيرُ على بِئس العَيْر» وقولِه: 609 - صَبَّحَكَ اللهُ بخيرٍ باكرِ ... بنِعْمَ طيرٍ وشبابٍ فاخِرِ وقد خَرَّجه البصريون على حَذْفِ موصوف، قامَتْ صفتُه مَقَامَه تقديرُه: ما هي بولدٍ مقولٍ فيه نِعْم الولد، ولها أحكامٌ كثيرة، ولا بُدَّ بعدَها من مخصوصٍ بالمدحِ أو الذمِّ، وقد يُحْذَفُ لقرينةٍ، هذا حكمُ بِئْسَ. أمَّا، «ما» الواقعةُ بعدَها كهذه الآيةِ: فاختلف النحويون فيها اختلافاً كثيراً، واضطربت النقولُ عنهم اضطراباً شديداً، فاختلفوا: هَلْ لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟ فذهبَ الفراء إلى أنها مع «بِئْسَ» شيءٌ واحد رُكِّبَ تركيبَ «

حَبَّذا» نَقَلَه ابنُ عطية، ونَقَلَ عنه المهدوي أنه يُجَوِّز أن تكونَ «ما» مع بئسَ بمنزلة كُلَّما، فظاهرُ هذين النقلين أنها لا محلَّ لها. وذهب الجمهورُ إلى أنَّ لها مَحَلاً، ثم اختلفوا: / محَلُّها رفعٌ أو نصبٌ؟ فذهب الأخفشُ إلى أنها في محلِّ نصبٍ على التمييزِ والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ صفةً لها، وفاعلُ بئس مضمرٌ تُفَسِّرُه «ما» ، والمخصوصُ بالذمِّ هو قولُه: {أَن يَكْفُرُواْ} لأنه في تأويلِ مصدرٍ، والتقدير: بِئْسَ هو شيئاً اشتَروا به كفرُهم، وبه قال الفارسي في أحدِ قوليه، واختاره الزمخشري، ويجوزُ على هذا أن يكونَ المخصوصُ بالذمِّ محذوفاًَ، و «اشتَرَوا» صفةً له في محلِّ رفعٍ تقديرُه: بئس شيئاً شيءٌ أو كفرٌ اشتروا به، كقولِه. 610 - لنِعْمَ الفتى أَضْحَى بأَكْنافِ حَائِل ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: فتىً أَضْحى، و {أَن يَكْفُرُواْ} بدلٌ من ذلك المحذوفِ، أو خبرٌ مبتدأ محذوفٍ أي: هو أَنْ يكفروا. وذهبَ الكسائي إلى أنَّ «ما» منصوبةُ المحلِّ أيضاً، لكنه قَدَّر بعدها «ما» أخرى موصولةً بمعنى الذي، وجعل الجملةَ مِنْ قولِه «اشتَرَوا» صلتها، و «ما» هذه الموصولةُ هي المخصوصُ بالذمِّ، والتقديرُ: بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم، فلا محلَّ ل «اشتروا» على هذا، ويكونُ {أَن يَكْفُرُواْ} على هذا القولِ خبراً لمبتدأ محذوفٍ كما تقدَّم، فتلخَّص في الجملة الواقعةِ بعد «ما» على القولِ بنصبِها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنها صفةٌ لها فتكونُ في محلِّ نصبٍ أو صلةٌ ل «ما» المحذوفةِ فلا محلَّ لها أو صفةٌ للمخصوصِ بالذم فتكونُ في محلِّ رفعٍ.

وذهب سيبويه إلى أَنَّ موضعَها رفعٌ على أنَّها فاعلُ بئس، فقال سيبويه: هي معرفةٌ تامةٌ، التقديرُ: بئس الشيء، ُ والمخصوصُ بالذمِّ على هذا محذوفٌ أي شيءٌ اشتَرَوا به أنفَسَهم، وعُزي هذا القولُ أيضاً للكسائي. وذهب الفراء والكسائي أيضاً إلى أنَّ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي والجملةُ بعْدَها صلتُها، ونقلَه ابن عطية عن سيبويه، وهو أحدُ قَوْلَيْ الفارسي، والتقدير: بئسَ الذي اشتروا به أنفسَهم أَنْ يكفُروا، فأَنْ يكفروا هو المخصوصُ بالذمِّ. قال الشيخ: «وما نَقَلَه ابنُ عطية عن سيبويه وَهْمٌ عليه» . ونقل المهدوي وابن عطية عن الكسائي أيضاً أن «ما» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً، والتقديرُ: بئسَ اشتراؤُهم، فتكونُ «ما» وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ. قال ابنُ عطية: «وهذا معترضٌ بأنَّ» بِئْسَ «لا تَدْخُل على اسمٍ معيَّنٍ يتعرَّفُ بالإِضافةِ للضمير» . قال الشيخ: «وهذا لا يَلْزَم إلا إذا نَصَّ أنه مرفوعُ بئس، أمَّا إذا جعله المخصوصَ بالذمِّ وجعل فاعلَ» بئس «مضمراً والتمييزُ محذوفٌ لفهم المعنى، والتقدير: بئسَ اشتراءً اشتراؤُهم فلا يَلْزَمُ الاعتراضُ» قلت: وبهذا أَعْني بجَعْلِ فاعلِ بئسَ مضمراً فيها جَوَّز أبو البقاء في «ما» أَنْ تكونَ مصدريةً، فإنه قال: «والرابعُ أن تكونَ مصدريةً أي: بئسَ شِراؤُهم، وفاعلُ بئسَ على هذا مضمرٌ لأنَّ المصدر ههنا مخصوصٌ ليس بجنسٍ» يعني فلا يكونُ فاعلاً، لكن يُبْطِلُ هذا القولَ عَوْدُ الضمير في «به» على «ما» والمصدريةُ لا يعودُ عليها، لأنها حرفٌ عند

الجمهور، وتقديرُ أَدِلَّةِ كلِّ فريق مذكورٍ في المُطَوَّلات. فهذه نهايةُ القولِ في «بئسما» و «نِعِمَّا» واللهُ أعلم. قوله: {أَن يَكْفُرُواْ} قد تقدَّم فيه أنه يجوزُ أن يكونَ هو المخصوصَ بالذمِّ فتكونُ الأوجهُ الثلاثة: إمَّا مبتدأ وخبرُه الجملةُ قبلَه، ولا حاجةَ إلى الرابطِ، لأنَّ العمومَ قائمٌ مَقامَه إذ الألفُ واللامُ في فاعلِ نِعْم وبئسَ للجنسِ، أو لأنَّ الجملةَ نفسُ المبتدأ، وإمّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وإمَّا مبتدأٌ وخبره محذوف، وتقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ بدلاً أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ حَسْبما تقرَّر وتحرَّر. وأجاز الفراء أن يكونَ في محلِّ جَرِّ بدلاً من الضميرِ في «به» إذا جَعَلْتَ «ما» تامَّة. قوله: {بِمَآ أنَزَلَ الله} متعلِّق بيكفُروا، وقد تقدَّم أنَّ «كفر» يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى، و «ما» موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: أَنْزله، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً، وكذلك جَعْلُها مصدريةً والمصدرُ قائمٌ مقامَ المفعولِ أي بإنزالِه يعني بالمُنَزَّل. قوله: {بَغْيَاً} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مفعولٌ مِنْ أَجْله وهو مستوفٍ لشروطِ النصبِ، وفي الناصبِ له قولان، أحدُهما وهو الظاهر أنه «يكفروا» أي علةُ كفرِهم البغيُ. والثاني أنه {اشتروا} ، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشري، فإنه قال: «وهو علةُ {اشتروا} . والثاني من الأوجهِ الثلاثة: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ يَدُلُّ عليه ما تَقَدَّم أي بَغَوْا بَغْيَاً. والثالث: أنه في موضعِ حالٍ، وفي صاحِبها القولان المتقدَّمان: إمَّا فاعلُ {اشتروا} وإمَّا فاعلُ {يَكْفُرُواْ} ، تقديرُه: اشْتَرَوا باغِين، أو يَكْفُروا باغِين.

والبَغْيُ: أصلُه الفَسادُ مِنْ قَوْلِهم: بَغَى الجُرْحُ أي فَسَدَ قاله الأصمعيْ وقيل: هو شِدَّةُ الطلبِ، ومنه قولُه تعالى: {مَا نَبْغِي} [يوسف: 65] ، وقال الراجز: 611 - أُنْشِدُ والباغي يُحِبُّ الوِجْدانْ ... قلائِصاً مختلفاتِ الألْوانْ ومنه» البَغِيُّ «لشدة طلبها له. قوله {أَن يُنَزِّلُ الله} فيه قولان، أحدُهما: أنَّه مفعولٌ من أجلِه والناصبُ له» بَغْياً «أي: عِلَّةُ البغيِ إنزالُ الله فَضْلَه على محمدٍ عليه السلامُ. والثاني أنَّه على إسقاطِ الخافضِ والتقديرُ: بَغْياً على أَنْ يُنَزِّلَ، أي: حَسَدَاً على أَنْ يُنَزِّلَ، فيجيءُ فيه الخلافُ المشهورُ: أهي في موضعِ نصبٍ أو في موضعِ جرِ؟ والثالثُ: أنَّه في محلِّ جرٍّ بدلاً من» ما «في قوله: {بِمَآ أنَزَلَ الله} بدلَ اشتمال، أي: بإنزال الله فيكونُ مثلَ قولِ امرئ القيس: 612 - أَمِنْ ذِكْر سلمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميعَ المضارع من» أَنْزَل «مخففاً إلا ما وقع الإِجماع على تشديدِه في الحجرِ {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ} [الحجر: 21] ، وقد خالفا هذا الأصلَ: أمَّا أبو عمرو فإنه شدَّد {على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً} [الآية: 37] / في الأنعام، وأمَّا ابن كثير فإنه شَدَّد في الإِسراء، {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن} [الإسراء: 82] {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً} [الإسراء: 93] والباقون

بالتشديد في جميع المضارع إلا حمزة والكسائيَّ فإنهما خالفا هذا الأصلَ فخَفَّفا: {وَيُنَزِّلُ الغيث} [الآية: 34] آخر لقمان، {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث} [الآية: 28] في الشورى. والهمزةُ والتضعيفُ للتعديَةِ، وقد تقدَّم: هل بينهما فرقٌ؟ وتحقيقُ كلٍّ من القولين، وقد ذَكَر القُرَّاءُ مناسباتٍ للإِجماعِ على التشديد في ذلك الموضعِ ومخالفةِ كلِّ واحدٍ أصلَه لماذا؟ بما يطول ذكره، والأظهرُ من ذلك كلِّه أنه جَمْعٌ بين اللغات. قوله: {مِن فَضْلِهِ} :» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ، وفيه قولان، أحدُهما: أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولُ» يُنَزِّل «أي: أَنْ يُنَزِّل الله شيئاً كائناً من فضلِه فيكونُ في محلِّ نصب. والثاني: أنَّ» مِنْ «زائدةٌ، وهو رأيُ الأخفش، وحينئذٍ فلا تَعَلُّقَ له، والمجرورُ بها هو المفعولُ أي: أَنْ يُنَزِّلُ الله فضله. قوله {على مَن يَشَآءُ} متعلقٌ بيُنَزِّلَ. و» مَنْ «يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على الموصولِ أو الموصوفِ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ المجوِّزةِ للحَذْفِ، والتقديرُ: على الذي يشاؤُه أو على رجلٍ يشاؤه، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً فإنه قال بعد تجويزِه في» مَنْ «أن تكونَ موصوفةً أو موصولةً» ومفعولُ «يشاء» محذوفٌ أي: يَشَاءُ نزولَه عليه، ويجوزُ أَنْ يكونَ يشاءُ يختارُ ويصطفي «انتهى. وقد عَرَفْت أن العائدَ المجرورَ لا يُحْذَفُ إلا بشروطٍ وليسَتْ موجودةٌ هنا فلا حاجةَ إلى هذا التقديرِ. قوله: {مِنْ عِبَادِهِ} فيه قولان: أحدُهما: أنَّه حالٌ من الضميرِ المحذوفِ

الذي هو عائدٌ على الموصولِ أو الموصوفِ، والإِضافةُ تقتضي التشريفَ. والثاني: أَنْ يكونَ صفةً ل «مَنْ» بعدَ صفةٍ على القولِ بكونِها نكرةً، قاله أبو البقاء. وهو ضعيفٌ لأنَّ البداءة بالجارِّ والمجرورِ على الجملةِ في باب النعتِ عند اجتماعهما أَوْلَى لكونِه أقربَ إلى المفردِ، فهو في محلِّ نصبٍ على الأولِ وجَرٍّ على الثاني، وفي كِلا القولين يتعلَّق بمحذوفٍ وجوباً لِما عَرَفْتَ. قوله: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ} الباءُ للحال، أي: رَجَعوا ملتبسين بغضبٍ أي مغضوباً عليهم وقد تقدم ذلك. قوله {على غَضَبٍ} في محل جر لأنه صفة لقوله «بغضب» أي: كائن على غضب أي بغضبٍ مترادفٍ. وهل الغضبانِ مختلفانِ لاختلافِ سببهما، فالأولُ لعبادةِ أسلافِهم العجلَ والثاني لكفرِهم بمحمدٍ السلام، أو الأولُ لكفرِهم بعيسى والثاني لكفرِهم بمحمدٍ صلى الله وسلم عليهما، أو هما شيءٌ واحدٌ وذُكِرا تشديداً للحال وتأكيداً؟ خلافٌ مشهور. قوله: {مُّهِينٌ} صفة لعذاب، وأصلُه: «مُهْوِن» لأنه من الهَوان وهو اسمُ فاعلٍ من أَهان يُهين إهانةً، مثل أَقامَ يُقيم إقامةً، فنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ على الساكن قبلَها، فَسَكَنَتِ الواوُ بعدَ كسرةٍ فَقُلِبَتْ ياءً. والإِهانةُ: الإِذلالُ والخِزْيُ، وقال: «وللكافرين» ولم يَقُلْ: «ولهم» تنبيهاً على العلةِ المقتضيةِ للعذابِ المُهينِ.

91

قوله تعالى: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ} : يجوزُ في هذه الجملةِ وجهانِ، أحدُهما: أَنْ تكونَ استئنافيةً استؤنِفَتْ للإِخبارِ بأنَّهم يكفرُون بما عدا التوراةَ فلا محلَّ لها من الإِعراب. والثاني أن تكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يكفرون، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والعاملُ فيها «قالوا» أي قالوا: نؤمنُ حالَ كونِهم كافرين بكذا، ولا يجوزُ أَنْ

يكونَ العاملُ فيها «نؤمن» ، قال أبو البقاء: «إذ لو كان كذلك لكان لفظُ الحال ونكفر أو ونحن نكفر» يعني فكان يجبُ المطابَقةُ. ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لِما تقدَّم من أن المضارعَ المُثْبَتَ لا يقترن بالواوِ وهو نظيرُ قوله: 613 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مالِكا وحُذِفَ الفاعلُ من قولِه: {بِمَا أَنْزَلَ} وأُقيم المفعولُ مُقامَه للعلم به، إذ لا يُنَزِّلُ الكتبَ السماويةَ إلا اللهُ، أو لتقدُّمِ ذكره في قولِه: {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . قوله: {بِمَا وَرَآءَهُ} متعلَّق بيَكْفرون، وما موصولةٌ، والظرفُ صلتُها، فمتعلَّقه فعلٌ ليس إلا. والهاءُ في «وراءه» تعودُ على «ما» في قوله: {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ} . ووراءَ من الظروف المتوسطةِ التصرُّفِ، وهو ظرفُ مكانٍ، والمشهورُ أنه بمعنى خَلْف وقد يكونُ بمعنى أَمام، فهو من الأَضْداد، وفَسَّره الفراء هنا بمعنى «سِوَى» التي بمعنى «غَيْر» ، وفَسَّره أبو عبيدة وقتادة بمعنى «بعد» . وفي همزه قولان، أحدُهما: أنه أصلٌ بنفسِه وإليه ذهبَ ابن جني مُسْتَدِلاًّ بثُبوتِها في التصغيرِ في قولهم: وُرَيْئَة. والثاني: أنها من ياء لقولهم: تَوَارَيْتَ قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ. ولا يجوز أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من واو لأنَّ ما فاؤُه واوٌ لا تكونُ لامُه واواً إلا ندوراً نحو «واو» اسمِ حَرْفِ الهجاء، وحكمُه حكمُ قبلُ

وبعدُ في كونِه إذا أُضيف أُعْرِبَ، وإذا قُطِعَ بُني على الضم وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر: 614 - إذا أنا لم أُومِنْ عليكَ ولم يَكُنْ ... لقاؤُك إلا مِنْ وراءُ وراءُ وراءُ وفي الحديثِ عن إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كنتُ خليلاً مِنْ وراءُ وراءُ» ، وثبوتُ الهاء في مصغَّرِها شاذٌ، لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تَثْبُتُ الهاءُ في مصغَّره إلا في لفظتين شَذَّتا وهما: وُرَيْئَة وقُدَيْدِيمة: تصغير: وراء وقُدَّام. قال ابن عصفور: «لأنَّهما لم يتصرَّفا فلو لم يُؤَنَّثا في التصغير لَتُوُهِّمَ تذكيرهُما» . قوله: {وَهُوَ الحق} مبتدأٌ وخبر، والجُملةُ في محلِّ نصب على الحال والعاملُ فيها قولُه: «ويَكفرون» وصاحبُها فاعلُ يكفرون. وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ العاملُ الاستقرارَ الذي في قولِه {بِمَا وَرَآءَهُ} أي: بالذي استقر وراءَه وهو الحقُّ. قوله: {مُصَدِّقاً} حالٌ مؤكِّدة لأنَّ قولَه {وَهُوَ الحق} قد تضمَّن معناها والحالُ المؤكِّدةُ: إمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ عاملها نحو: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] ، وإمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ مضمونَ جملةٍ. فإن كانَ الثاني التُزِم إضمارُ عاملِها وتأخيرها عن الجملة، ومثلُه ما أنشدَ/ سيبويه:

615 - أنا ابنُ دارةُ مَعْروفاً بها نَسَبي ... وهَلْ بدارةَ لَلنَّاسِ مِنْ عَارِ والتقديرُ: وهو الحقُّ أَحُقُّه مصدقاً، وابنُ دارَة أُعْرَفُ معروفاً، هذا تقديرُ كلامِ النحويين. وأمّا أبو البقاء فإنه قال: «مصدقاً حالٌ مركِّدةٌ، والعاملُ فيها ما في» الحقّ «من معنى الفعل إذ المعنى: وهو ثابِتٌ مصدِّقاً، وصاحب الحالِ الضميرُ المستترُ في» الحقّ «عند قومٍ، وعند آخرين صاحبُ الحالِ ضميرٌ دَلَّ عليه الكلامُ، و» الحقّ «مصدرٌ لا يتحَمَّلُ الضميرَ على حَسَبِ تحمُّلِ اسمِ الفاعلِ له عندهم، فقولُه» عند آخرين «هذا هو الذي قَدَّمْتُه أوَّلاً وهو الصواب. قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه: إنْ كنتم آمنتم بما أُنزِلَ عليكم فَلِمَ قَتَلتم الأنبياءَ؟ وهذا تكذيبٌ لهم، لأن الإِيمانَ بالتوراةِ منافٍ لقتلِ أَشْرَفِ خَلْقِه. و» لِمَ «جارٌّ ومجرورٌ، اللامُ حرفٌ جرِ وما استفهاميةٌ في محلِّ جَرٍّ أي: لأي شيء؟ ولكنْ حُذِفَتْ ألِفُها فَرْقَاً بينَها وبين» ما «الخبريةِ. وقد تُحْمَلُ الاستفهاميةُ على الخبريةِ فَتَثْبُتُ أَلفُها، قالَ الشاعر: 616 - على ما قامَ يَشْتِمُني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تمرَّغَ في رَمادِ وهذا ينبغي أَنْ يُخَصَّ بالضرورةِ كما نصَّ عليه بعضُهم، والزمخشري يُجيز ذلك، ويُخَرِّج عليه بعضَ آي القرآن، كما قد تُحْمَلُ الخبريةُ على الاستفهاميةِ في الحذفِ في قولِهم: اصنعْ بِمَ شِئْتَ، وهذا لمجردِ الشَّبَهِ اللفظيِّ. وإذا وُقف على» ما «الاستفهاميةِ المجرورة: فإنْ كانَتْ مجرورةً باسمٍ وَجَبَ لَحاقُ هاءِ السكتِ نحو: مَجيء مَهْ، وإن كانَتْ مجرورةً بحرْفٍ فالاختيارُ اللَّحاقُ. والفرقُ أنَّ الحرفَ يمتزجُ بما يَدْخُلُ عليه فَتَقْوَى به

الاستفهاميةُ بخِلافِ الاسمِ المضافِ إليها فإنه في نيةِ الانفصالِ، وهذا الوقفُ إنما يجوز ابتلاءً أو لقَطْعِ نفسٍ، ولا جَرمَ أنَّ بعضَهم مَنَع الوقفَ على هذا النحوِ، قال:» لأنه إنْ وُقف بغيرِ هاءٍ كان خطأً لنقصانِ الحَرْفِ، وإنْ وُقِفَ بهاءٍ خالفَ السوادَ «، لكن البزي قد وقف بالهاء، ومثلُ ذلك لا يُعَدُّ مخالفةً للسواد، ألا ترى إلى إثباتِهم بعضَ ياءاتِ الزوائدِ. والجارُّ متعلقٌ بقولِهِ:» تقتلون «، ولكنه قُدِّمَ عليه وجوباً لأنَّ مجرورَه له صدُر الكلامِ، والفاءُ وما بعدها من» تَقْتُلون «في محلِّ جزم، وتَقتلون وإن كان بصيغةِ المضارعِ فهو في معنى الماضي لفَهْمِ المعنى، وأيضاً فمعه قولُه» من قبل «، وجاز إسنادُ القتلِ إليهم وإنْ لم يَتَعاطَوْه لأنهم لَمَّا كانوا راضِينَ بفعلِ أسلافِهم جُعِلوا كأنَّهم فَعَلوا هم أنفسهم. قوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} في» إنْ «قولان أحدهما: أنها شرطية وجوابُها محذوفٌ تقديرُه: إنْ كنتُمْ مؤمنينَ فلِمَ فَعَلْتُم ذلك، ويكونُ الشرط وجوابُه قد كُرِّر مرتين، فَحُذِفَ الشرطُ من الجملةِ الأولى وبقي جوابُه وهو: فَلِمَ تقتلون، وحُذِفَ الجوابُ من الثانيةِ وبقي شرطُه، فقد حُذِفَ مِنْ كلِّ واحدةٍ ما أُثْبت في الأخرى. وقال ابن عطية:» جوابُها متقدِّمٌ، وهو قوله: فَلِمَ «وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الكوفيين وأبي زيد. والثاني: أَنَّ» إنْ «نافيةٌ بمعنى ما، أي: ما كنتم مؤمنين لمنافاةِ ما صَدَر منكم الإِيمانَ.

92

قوله تعالى: {بالبينات} : يجوز فيه وجهان، أحدُهما أن يكونَ حالاً من «موسى» ، أي: جاءكم ذا بيناتٍ وحُجَجٍ أو ومعه البيناتُ. والثاني: أن يكونَ مفعولاً أي: بسبب إقامةِ البيناتِ، وما بعدَه من الجملِ قد تقدَّم مِثْلُه فلا حاجةَ إلى تكريرِه.

93

قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على قولِه: «قالوا سَمِعْنا» ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من فاعل «قالوا» ، أي: قالوا ذلك وقد أُشْربوا ولا بدَّ من إضمار «قد» لِيَقْرُبَ الماضي إلى الحالِ خلفاً للكوفيين، حيثُ قالوا: لا يُحْتاجُ إليها. ويجوز أن يكونَ مستأنفاً لمجردِ الإِخبارِ بذلك، واستضعَفَه أبو البقاء، قال: «لأنَّه قد قالَ بعدَ ذلك: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ} ، فهو جوابُ قولِهم:» سَمِعْنا وعَصَيْنا «، فالأَوْلَى ألاَّ يكونَ بينهما أجنبيٌ» . والواوُ في «أُشْرِبوا» هي المفعولُ الأولُ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، والثاني هو «العِجْلَ» لأنَّ «شَرِبَ» يتعدَّى بنفسه فَأَكْسَبَتْه الهمزةُ مفعولاً آخرَ، ولا بد من حَذْفِ مضافَيْنِ قبلَ «العِجْل» والتقديرُ: وأُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العِجْلِ. وحَسَّن حَذْفَ هذين المضافين المبالغَةُ في ذلك، حتى كأنَّه تُصُوِّر إشرابُ ذاتِ العِجْل. والإِشرابُ: مخَالَطَةُ المائع بالجامِدِ، ثم اتُّسِعَ فيه حتى قيل في الألوان نحو: أُشْرِبَ بياضُه حُمْرةً. والمعنى: أنهم داخَلَهم حُبُّ عبادتِه، كما داخَل الصبغُ الثوبَ. ومنه: 617 - إذا ما القلبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ ... فلا تَأْمَلْ له الدهرَ انْصِرافَا وعَبَّر بالشربِ دونَ الأكل، لأنَّ الشربَ يتغَلْغَلْ في باطنِ الشيء بخلاف

الأكل، فإنه مجاوزٌ، ومنه في المعنى: 618 - جَرَى حبُّها مَجْرى دَمي في مَفاصِلي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال بعضُهم: 619 - تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فؤادي ... فبادِيه مع الخافي يَسيرُ تَغَلْغَلَ حيثُ لم يَبْلُغْ شرابٌ ... ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ أكادُ إذا ذَكَرْتُ العهدَ مِنْها ... أطيرُ لو أن إنساناً يَطيرُ وقيل: الإشرابُ هنا حقيقةٌ، لأنه يُروى أن موسى عليه السلام بَرَدَ العِجل بالمِبْرَدِ ثم جعل تلك البُرادة في ماءٍ وأمرهم بشُرْبه، فَمَنْ كان يُحِبُّ العجل ظَهَرَتِ البُرادَةُ على شَفَتَيْه، وهذا وإنْ كان قال به السُّدِّي وابن جريج وغيرُهما فَيَرُدُّه قولُه: «في قُلوبهم» . قوله: «بكُفْرهم» فيه وجهان، أظهرُهما: / أنَّها للسببيةِ متعلِّقَة [41 / ب] ب «أُشْرِبوا» ، أي: أُشْربوا بسببِ كفرِهم السابِق. والثاني: أنها بمعنى «مع» ، يَعْنُون بذلك أنَّها للحالِ، وصاحبُها في الحقيقةِ ذلك المضافُ المحذوفُ أي: أُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العجلِ مختلطاً بكُفْرهم. والمصدرُ مضافٌ للفاعِلِ، أي: بأَنْ كفروا. {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} كقولِه: {بِئْسَمَا اشتروا} [البقرة: 90] فَلْيُلْتفت إليه.

قوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} يجوزُ فيه الوجهان السابقان من كونِها نافيةً وشرطيةً، وجوابُها محذوفٌ تقديرُه: «فبِئْسَما يَأْمرُكم» . وقيلَ: تقديرُه: فلا تقتلوا أنبياءَ الله ولا تُكّذِّبوا الرسلَ ولا تكتمُوا الحقَّ، وأَسْندَ الإِيمانَ إليهم تَهَكُّماً بهم، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ صفةٍ أي: إيمانُكم الباطلُ، أو حَذْفِ مضافٍ أي: صاحبُ إيمانكم. وقرأ الحسن: «بِهُو إيمانُكُمْ» بضم الهاءِ مع الواو وقد تقدَّم أنِّها الأصل.

94

قوله تعالى: {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً} : شَرْطٌ جوابُه: «فَتَمَنَّوُا» و «الدارُ» اسمُ كان وهي الجنةُ. والأَوْلَى أن يُقَدَّر حَذْفُ مضافٍ، أي: نَعيمُ الدارِ، لأنَّ الدارَ الآخِرةَ في الحقيقةِ هي انقضاءُ الدنيا وهي للفريقَيْن. واختلفوا في خبر «كان» على ثلاثةِ أقوالٍ، أحدُها: أنه «خالصةً» فتكون «عند» ظرفاً لخالصةً أو للاستقرار الذي في «لكم» ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مِن «الدار» والعاملُ فيه «كان» أو الاستقرارُ. وأمَّا «لكم» فيتعلَّقُ بكان لأنها تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه. قال أبو البقاء «ويجوز أن تكونَ للتبيينِ فيكونَ موضعُها بعد» خالصةً «أي خالصةً لكم فَتَتَعَلَّقَ بنفسِ» خالصةً «. وهذا فيه نظرٌ، لأنه متى كانت للبيانِ تعلَّقَتْ بمحذوفٍ تقديرُه: أعني لكم نحو: سُقْياً لك، تقديرُه: أعني بهذا الدعاءِ لك. وقد صَرَّح غيرُه في هذا الموضعِ بأنها للبيانِ وأنها متعلقةٌ حينئذٍ بمحذوف كما ذكرت. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل» خالصةً «في الأصل قُدِّم عليها فصار حالاً منها فيتعلَّقَ بمحذوفٍ.

الثاني: أنَّ الخبر» لكم «فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ويُنْصَبُ» خالصةً «حينئذٍ على الحالِ، والعاملُ فيها: إمَّا» كان «أو الاستقرارُ في» لكم «و» عند «منصوبٌ بالاستقرارِ أيضاً. الثالث: أنَّ الخبرَ هو الظَرْفُ، و» خالصةً «حالٌ أيضاً، والعاملُ فيها: إمَّا» كانَ «أو الاسقرارُ، وكذلك» لكم «. وقد مَنَعَ من هذا الوجهِ قومٌ فقالوا:» لا يجوزُ أن يكونَ الظرفُ خبراً لأنَّ الكلامَ لا يَسْتَقِلُّ به «. وجَوَّزَ ذلك المهدوي وابنُ عطية وأبو البقاء. واستشعر أبو البقاء هذا الإِشكالَ وأجاب عنه فإنه قال:» وسَوَّغَ أن يكونَ «عند» خبرَ كان «لكم» ، يعني لفظَ «لكم» سَوَّغَ وقوعَ «عند» خبراً، إذ كان فيه تخصيصٌ وتَبْيينٌ، ونظيرُه قولُه: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، لولا «له» لم يَصِحَّ أن يكونَ «كفواً» خبراً. و {مِّن دُونِ الناس} في محلِّ النصبِ ب «خالصةً» لأنَّك تقولُ: «خَلُصَ كذا مِنْ كذا» . وقرأ الجمهورُ: «َتَمَنَّوُا الموتَ» بضمِّ الواو، ويُرْوَى عن أبي عمرو فتحُها تخفيفاً، واختلاسُ الضمة. وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء الساكنين تشبيهاً بواو «لَوِ استطعنا» . و «إنْ كنتم» كقوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} وقد تقدَّمَ.

95

قولُه تعالى: {أَبَداً} . . منصوبٌ بَيَتَمَنَّوْه، وهو ظرفُ زمانٍ يقعُ للقليلِ والكثيرِ، ماضياً كانَ أو مستقبلاً، تقول: ما فَعَلْتُه أبداً، وقال الراغب: «هو عبارةٌ عن مدةِ الزمانِ الممتدِّ الذي لا يَتَجزَّأ كما يتجزَّأُ الزمانُ، وذلك أنه يقال: زمانَ كذا ولا يُقال: أبدَ كذا، وكان مِنْ حَقِّه على هذا ألاَّ يُثَنَّى ولا يُجْمَعَ، وقد قالوا: آباد فجَمَعوه لاختلافِ أنواعِه، وقيل: آباد لغةٌ مُوَلَّدَةٌ، ومجيئُه بعد» لَنْ «يَدُلُّ على أن نَفْيَها لا يقتضي التأبيدَ، وقد تقدَّم ذلك، ودَعْوى التأكيدِ فيه بعيدةٌ» . وقال هنا: «ولن يَتَمَنَّوْه» فنَفى بلن وفي الجمعة ب «لا» قال صاحب المنتخب: «لأنَّ دَعْواهم هنا أعظمُ مِنْ دعواهُمْ هناك لأنَّ السعادةَ القُصْوى فوق مرتبةِ الولايةِ، لأنَّ الثانيةَ تُراد لحصولِ الأولى، والنفيُ ب» لن «أَبْلَغُ مِن النفي بِ» لا «. قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} متعلِّقٌ بيتمنَّوْه، والباءُ للسببية أي بسببِ اجتراحِهم العظائمَ. و» ما «يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أَظْهَرُها: كونُها موصولةً بمعنى الذي. والثاني: نكرةٌ موصوفةٌ والعائدُ على كلا القولَيْنِ محذوفٌ أي: بما قَدَّمَتْه، فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ، ومحلُّها الجرُّ على الثاني. والثالث: أنَّها مصدريَّةٌ أي: بتَقْدِمَةِ أيديهِم. ومفعولُ» قَدَّمَتْ «محذوفٌ أي: بما قَدَّمَتْ أيدِيهم الشرَّ أو التبديلَ ونحوَه.

96

قولُه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس} . . هذه اللامُ جوابُ قسم محذوفٍ، والنونُ للتوكيدِ تقديرُه: واللهِ لَتَجِدَنَّهُم. و «وجَدَ» هنا متعديةٌ لمفعولَيْن أوَّلُهما الضميرُ، والثاني «أَحْرَصَ» ، وإذا تَعَدَّتْ لاثنين كانَتْ

ك «عَلِمَ» في المعنى نحو: {وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 10] . ويجوزُ أن تكونَ متعديةً لواحدٍ ومعناها معنى لِقيَ وأصابَ، وينتصِبُ «أَحْرَصَ» على الحالِ: إمَّا على رَأْي مَنْ لا يشترطُ التنكيرَ في الحال، وإمَّا على رَأْي مَنْ يرى أنَّ إضافةَ «أَفْعَل» إلى معرفةٍ فجاءَتْ على أحدِ الجائِزَيْن، أعني عَدَمَ المطابقةِ، وذلك أنَّها إذا أُضيفَتْ إلى معرفةٍ على نيَّةِ «مِنْ» جازَ فيها وجهان: المطابقةُ لِما قبلَها نحو: الزيدان أَفْضَلا الرجالِ، والزيدون أفاضل الرجال، وهند فُضْلى النساء. والهنودُ فُضْلَياتُ النساءِ، ومنه قولُه: «أكابِرَ مجرميها» ، وعدمُها نحو: الزيدون أَفْضَلُ الرجالِ، وعليه هذه الآيةُ، وكلا الوجهين فصيحٌ، خلافاً لابن السراج حيث ادَّعى تعيُّنَ الإفرادِ، ولأبي منصور الجواليقي حيث زَعَم أنَّ المطابقةَ أفصحُ. وإذا أُضيفت لمعرفةٍ لَزِمَ أن تكونَ بعضَها، ولذلك مَنَع النحْويون: «يوسُف أَحْسَنُ إخوته» على معنى التفضيلِ، وتأوَّلوا ما يُوهِمُ غيرَه نحو: «الناقصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان» بمعنى العادِلان فيهم، وأمَّا:

620 - يا رَبَّ موسى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ ... فاصبُبْ عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ فشاذٌّ، وسَوَّغَ ذلك / كَوْنُ «أَظْلَمَ» الثاني مقحماً كأنه قال: «أَظْلَمُنا» . وأمَّا إذا أُضيفَ لنكرةِ فقد سَبَقَ حكمُها عند قولِه: «أوَّل كافر» . قوله: {على حَيَاةٍ} متعلِّق ب «أَحْرَصَ» ، لأنَّ هذا الفعلَ يتعدَّى ب «على» ، تقول: حَرَصْتُ عليه. والتنكيرُ في «حياة» تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً وهي الحياةُ المتطاولةُ، ولذلك كانت القراءةُ بها أَوْقَعَ مِنْ قراءةِ أُبَيّ «على الحياة» بالتعريفِ. وقيل: إنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: على طُولِ حياةٍ، والظاهرُ أنه لا يَحتاج إلى تقدير صفةٍ ولا مضافٍ، بل يكونُ المعنى: أنَّهم أحرصُ الناسِ على مطلقِ حياةٍ. وإنْ قُلْتَ: فكيف وإنْ كَبُرَتْ فيكونُ أَبْلَغَ في وَصْفِهم بذلك. وأصلُ حياة: حَيَيَة تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها قُلِبَتْ أَلِفاً. قولُه: {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} يجوزُ أَنْ يَكونَ متصلاً داخلاً تحتَ أَفْعَل التفضيلِ، ويجوزُ أن يكونَ منقطعاً عنه، وعلى القولِ باتصالِه به فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه حُمِل على المعنى، فإنَّ مَعْنَى أحرصَ الناس: أَحْرَصَ من الناسِ، فكأنه قيل: أحرصَ من الناسِ ومِن الذين أشركوا. الثاني: أن يكون حَذَفَ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه، والتقديرُ: وأحرصَ من الذين أشركوا، وعلى ما تقرَّر من كونِ {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} متصلاً بأَفْعَلِ التفضيلِ فلا بُدَّ مِنْ ذِكْر «مِنْ» لأنَّ «أَحرصَ» جَرى على اليهودِ، فَلَوْ عُطِفَ بغيرِ «مِنْ» لكانَ معطوفاً على الناس، فيكونُ في المعنى: ولتجدنَّهم أحرصَ الذين أَشْرَكوا فيلزُم إضافةُ أَفْعَلَ إلى غيرِ ما اندَرَجَ تحتَه، لأنَّ اليهودَ ليسوا من هؤلاء المشركينَ الخاصِّينَ لأنهم قالوا في تفسيرهم إنهم المجُوس أو عَرَبٌ يَعْبُدون

الأصنامَ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ إنه يَغْتفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائلِ، فحينئذٍ لو لم يُؤْتَ بمِنْ لكان جائزاً. الثالث: أنَّ في الكلام حَذْفاً وتقديماً وتأخيراً، والتقديرُ: ولتجدنَّهم وطائفةً من الذين أشركوا أحرصَ الناسِ، فيكونُ {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} صفةً لمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ معطوفٌ على الضمير في «لتجدنَّهم» ، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى، ولكنه يَنْبُو عنه التركيبُ لا سيما على قولِ مَنْ يَخُصُّ التقديمَ والتأخيرَ بالضرورةِ. وعلى القولِ بانقطاعهِ من «أَفْعل» يكونُ {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} خبراً مقدَّماً.، و «يَوَدُّ أحدُهم» صفةً لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه: ومن الذين أَشْركوا قومٌ أو فريقٌ يَوَدُّ أحدُهم، وهو من الأماكن المطَّردِ فيها حَذْفُ الموصوفِ بِجُمْلَتِه، كقولِه: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] ، وقوله: «مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام» . والظَاهر أن الذين أشْركوا غيرُ اليهودِ كما تقدم. وأجاز الزمخشري أن يكونَ من اليهود لأنهم قالوا: عُزَيْرٌ ابنُ الله، فيكونَ إخباراً بأنَّ مِنْ هذه الطائفة التي اشتدَّ حرصُها على الحياةِ مَنْ يَوَدُّ لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ، ويكون من وقوعِ الظاهِرِ المُشْعِر بالغَلَبة موقعَ المضمرِ، إذا التقديرُ: ومنهم قومٌ يَوَدُّ أحدُهم. وقد ظَهَرَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الكلامَ مِن باب عَطْفِ المفرداتِ على القولِ بدخول {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} تحت أَفْعَل، ومن بابِ عَطْفِ الجمل على القولِ بالانقطاعِ. قوله: «يَوَدُّ أحدُهم» هذا مبنيٌّ على ما تقدَّم، فإنْ قيل بأنَّ {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} داخلٌ تحتَ «أَفْعَلَ» كان في «يَوَدُّ» خمسةُ أوجهٍ أحدُها: أنه حالٌ من الضمير في «لَتَجِدَنَّهم» أي: لتجِدنَّهم وادَّاً أحدُهم. الثاني: أنه حالٌ من الذين أشركوا فيكونُ العاملُ فيه «أَحْرَصَ» المحذوف. الثالث: أنه حالٌ من فاعلِ «أشْركوا» . الرابع: أنه مستأنفٌ استؤنفَ للإِخبار بتبيينِ حالِ أمرِهم في

ازديادِ حِرْصِهِم على الحياةِ. الخامسُ وهو قولُ الكوفيين: أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ، ذلك الموصولُ صفةٌ للذين أشركوا، والتقدير: ومن الذين أشركوا الذين يودُّ أحدُهم. وإنْ قيلَ بالانقطاع فيكونُ في محلِّ رفعٍ، لأنه صفةٌ لمبتدأٍ محذوفٍ كما تقدَّم. و «أحدٌ» هنا بمعنى واحد، وهمزتُه بدلٌ من واو، وليس هو «أحد» المستعملَ في النفي فإنَّ ذاك همزتُه أصلٌ بنفسِها، ولا يُستعملُ في الإِيجابِ المَحْض. و «يودُّ» مضارعُ وَدِدْتُ بكسر العينِ في الماضي، فلذلك لم تُحْذَفْ الواوُ في المضارعِ لأنها لم تقعْ بين ياءٍ وكسرةٍ بخلافٍ «يَعِد» وبابه، وحكى الكسائي في «ودَدْت» بالفتحِ. قال بعضُهم: «فعلى هذا يُقال يَوِدُّ بكسر الواو» . والوَدادة التمني. قوله: «لو يُعَمَّر» في «لو» هذه ثلاثةُ أقوال، أحدُها - وهو الجاري على قواعِد نحاةِ البصرة -: أنها حرفٌ لِما كان سيقَعُ لوقوعِ غيره، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ «يَوَدُّ» عليه، وحُذِفَ مفعولُ «يَوَدُّ» لدلالةِ «لو يُعَمَّرَ» عليه، والتقديرُ: يَوَدُّ أحدُهم طولَ العمرِ، لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ لَسُرَّ بذلك، فَحُذِفَ من كلِّ واحدٍ ما دَلَّ عليه الآخرُ، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب. والثاني - وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء -: أنها مصدرية بمنزلة أَنْ الناصبةِ، فلا يكونُ لها جوابٌ، ويَنْسَبِكُ منها وما بعدَها مصدرٌ يكونُ مفعولاً ليَوَدُّ، والتقدير: يَوَدُّ أحدُهم تعميرَه ألفَ سنةٍ. واستدلَّ أبو البقاء بأنَّ الامتناعية معناها في الماضي، وهذه يَلْزَمُها المستقبل ك «أَنْ» ، وبأنَّ «يودُّ» / يتعدَّى لمفعول وليس مِمَّا يُعَلَّق، وبأنَّ «أَن» قد وَقَعَتْ بعد يَوَدُّ في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266] وهو كثيرٌ، وموضعُ الردِّ عليه غيرُ الكتابِ. الثالث - وإليه نحا الزمخشري -: أن يكونَ معناها التمني فلا تحتاجُ إلى جوابٍ لأنها في

قوة: يا ليتني أُعَمَّر، وتكونَ الجملةُ من لَوْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به على طريقِ الحكايةَ بيَوَدُّ، إجراءً له مُجْرى القول. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف اتصل لو يُعَمَّر بَيَودُّ أحدُهم؟ قُلْتُ: هي حكايةٌ لوَدَادَتِهم، و» لو «في معنى التمني، وكان القياسُ:» لو أُعَمَّر «إلا أنَّه جرى على لفظِ الغَيْبَة لقوله:» يَوَدُّ أحدُهم «، كقولِك: حَلَفَ بالله ليَفْعَلَنَّ انتهى» . وقد تقدَّم شرحُه، إلا قولَه: «وكان القياسُ لو أُعَمَّر، يعني بذلك أنه كانَ مِنْ حَقِّه أَنْ يأتيَ بالفعلِ مُسْنَداً للمتكلم وحدَه وإنما أَجْرَى» يَوَدُّ «مُجْرى القولِ لأنَّ» يَوَدُّ «فعلٌ قَلبي والقولُ يَنْشَأُ عن الأمورِ القلبيَّةِ» . و «ألفَ سَنَةٍ» منصوبٌ على الظرفِ بيُعَمَّر، وهو متعدٍّ لمفعولٍ واحد قد أٌقِيم مُقَامَ الفاعلِ. وفي «سَنَة» قولان «أحدُهما: أنَّ أصلَها: سَنَوة لقولهم: سَنَوات وسُنَيَّة وسانَيْتُ. والثاني: أنها من سَنَهَة لقولِهم: سَنَهات وسُنْيَهَة وسانَهْتُ، واللغتان ثابتتان عن العربِ كما ذَكَرْتُ لك. قوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب} في هذا الضميرِ خمسةُ أَقْوالٍ، أحدُها: أنه عائدٌ على» أحد «وفيه حينئذٍ وَجْهان، أحدُهما: أنه اسمُ» ما «الحجازيةِ، و» بمُزَحْزِحِه «خبرُ» ما «، فهو في محلِّ نصبٍ والباءُ زائدة. و «أَنْ يُعَمَّر» فاعلٌ بقولِه «بمُزَحْزِحِه» ، والتقديرُ: وما أحدُهم مُزَحْزِحَه تعميرُه. الثاني من الوجهين في «هو» : أن يكونَ مبتدأ، و «بمُزَحْزِحِهِ» خبرُه، و «أَنْ يُعَمَّر» فاعلٌ به كما تقدَّم، وهذا على كَوْنِ «ما» تميميَّةً، والوجهُ الأولُ أحسنُ لنزولِ القرآنِ بلغة الحجازِ وظهورِ النصب في قولِه: {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] ، {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] . الثاني من الأقوال: أن يعودَ على المصدرِ المفهومِ من «يُعَمَّر» ، أي:

وما تعميره، ويكون قولُه: «أن يُعَمَّر» بدلاً منه، ويكون ارتفاعُ «هو» على الوَجْهَيْن المتقدِّمَين، أعني كونَه اسمَ «ما» او مبتدأ. الثالثُ: أن يكونَ كناية عن التعميرِ، ولا يعودُ على شيء قبلَه، ويكونُ «أن يُعَمَّر» بدلاً منه مفسِّراً له، والفرقُ بين هذا وبين القولِ الثاني أنَّ ذاك تفسيرُه شيءٌ متقدِّمٌ مفهومٌ من الفعلِ، وهذا مفسَّرٌ بالبدلِ بعده، وقد تقدَّم أنَّ في ذلك خلافاً، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله: «ويجوزُ أن يكونَ» هو «مبهماً، و» أَنْ يُعَمَّر «موضِّحَه» . الرابع: أنه ضميرُ الأمرِ والشأنِ وإليه نحا الفارسي في «الحلبيَّات» موافقةً للكوفيين، فإنهم يُفَسِّرون ضميرَ الأمرِ بغيرِ جملةٍ إذا انتظَمَ من ذلك إسنادٌ معنويٌّ، نحو: ظَنَنْتُه قائماً الزيدانَ، وما هو بقائمٍ زيدٌ، لأنه في قوة: ظننتُه يقومُ الزيدان، وما هو يقومُ زيدٌ، والبصريُّون يَأْبَوْن تفسيرَه إلا بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجُزْئَيْها سالمةٍ من حرفِ جرٌّ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين. الخامسُ: أنَّه عِمادٌ، نعني به الفصلَ عند البصريين، نَقَلَه ابن عطية عن الطبري عن طائفةٍ، وهذا يحتاجُ إلى إيضاح: وذلك أنَّ بعض الكوفيين يُجِيزون تقديم العِماد مع الخبرِ المقدَّم، يقولون في: زيدٌ هو القائمُ: هو القائمُ زيدٌ، وكذلك هنا، فإنّ الأصلَ عند هؤلاءِ أَنْ يكونَ «بمُزَحزِحِه» خبراً مقدَّماً و «أَنْ يُعَمَّر» مبتدأً مؤخراً، و «هو» عَمادٌ، والتقديرُ: وما تعميرُه هو بمزحزحِه، فلمَّا قُدِّم الخبرُ قُدِّم معه العِمادُ. والبصريُّون لا يُجِيزون شيئاً من ذلك. و «من العذابِ» متعلِّقٌ بقوله: «بمُزَحْزِحِه» و «مِنْ» لابتداءِ الغاية.

والزَّحْزَحَةُ: التنحِيَةُ، تقولُ: زَحْزَحْتُه فَزَحْزَحَ، فيكون قاصراً ومتعدِّياً، فمِنْ مجيئِه متعدِّياً قولُه: 621 - يا قباضَ الروحِ مِنْ نَفْسٍ إذا احْتَضَرَتْ ... وغافرَ الذنبِ زَحْزِحْني عَنِ النارِ وأنشدَه ذو الرمة: 622 - يا قابضَ الروح مِنْ جِسْم عَصَى زَمَنَاً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومن مجيِئه قاصراً قولُ الآخر: 623 - خليلَيَّ ما بالُ الدُّجى لا يُزَحْزَحُ ... وما بالُ ضوءِ الصبحِ لا يَتَوَضَّحُ قولُه: «أَنْ يُعَمَّر» : إمَّا أَنْ يكونَ فاعِلاً أو بدلاً من «هو» أو مبتدأً حَسْبَ ما تقدَّم من الإِعرابِ في «هو» . {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} مبتدأٌ وخبرُه، و «بما» متعلِّقٌ ببصير. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على كلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ أي: يَعْمَلُونه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي: بِعَمَلِهم. والجمهورُ «يعملون» بالياء، نَسَقَاً على ما تقدَّم، والحسنُ وغيرُه «تَعْمَلُون» بالتاء للخطاب على الالتفات، وأتى بصيغةِ المضارعِ، وإن كانَ عِلْمُه محيطاً بأعمالِهم السالفةِ مراعاً لرؤوسِ الآي، وخَتْمِ الفواصلِ.

97

قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ} . . . «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «كان» خبرُه على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم، وجوابُهُ محذوفٌ تقديرُه: مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ فلا وَجْهَ لعداوتِه، أو فَلْيَمُتْ

غَيْظاً ونحوُه. ولا جائز أن يكونَ «فإنه نزَّله» جواباً للشرطِ لوجهين، أحدُهما من جهةِ المعنى، والثاني من جهةِ الصناعةِ، أما الأول: فلأنَّ فِعْلَ التنزيلِ متحقِّقُ المُضِيِّ، والجزاءُ لا يكون إلاَّ مستقبلاً ولقائلٍ أن يقولَ: هذا محمولٌ على التبيين، والمعنى: فقد تبيَّن أنه نَزَّله، كما قالوا في قوله: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ [مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 26] ونحوِه. وأمَّا الثاني: فلأنه] لا بد من جملة الجزاء مِن ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ، فلا يجوزُ: مَنْ يَقُمْ فزيدٌ منطَلِقٌ، ولا ضميرَ في قولِه: «فإنَّه نَزَّله» يَعُودَ على «مَنْ» فلا يكونُ جواباً للشرط، وقد جاءَتْ مواضعُ كثيرةٌ مِنْ ذلك، ولكنهم أَوَّلُوها على حَذْفِ العائدِ فَمِنْ ذلك قُولُه: 624 - فَمَنْ تَكُنِ الحضارَةُ أَعْجَبَتْهُ ... فَأَيَّ رجالِ باديةٍ تَراني وقولُه: 625 - فَمَنْ يَكُ أَمْسى بالمدينةِ رَحْلُه ... فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ وينبغي أن يُبْنَى ذلك على الخلافِ في خبر اسم الشرط. فإنْ قيل: إنَّ الخبرَ هو الجزاءُ وحدَه - أو هو مع الشرطِ - فلا بدَّ من الضمير /، وإنْ قيل بأنه فعلُ الشرطِ وحدَه فلا حاجَةَ إلى الضميرِ، وقد تقدَّم قولُ أبي البقاء وغيره في ذلك عند قوله تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] ، وقد صَرَّحَ الزمخشري بأنَّه جوابُ الشرطِ، وفيه النظرُ المذكورُ، وجوابُه ما تقدَّم.

و «عَدُوَّاً» خبرُ كانَ، وَيَسْتَوي فيه الواحدُ وغيرُه، قال: «هم العدُوُّ» : والعَدَاوَةُ: التجاوُزُ. قالَ الراغب: «فبالقلب يُقال العَدَاوَةُ، وبالمشِي يقال: العَدْوُ، وبالإِخلال في العَدْلِ يقال: العُدْوان، وبالمكان أو النسب يقال: قومٌ عِدَىً أي غُرَبَاء» . و «لِجبريلَ» يجوزُ أنْ يكونَ صفةً ل «عَدُوّاً» فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وأَن تكونَ اللامُ مقويةً لتعدِيَةِ «عَدُوَّاً» إليه. وجبريل اسمُ مَلَكٍ وهو أعجمي، فلذلك لم يَنْصَرِفْ، وقولُ مَنْ قالَ: «إنَّه مشتقٌّ من جَبَرُوت الله» بعيدٌ، لأنَّ الاشتقاقَ لا يكونُ في [الأسماءِ] الأعجميةِ، وكذا قولُ مَنْ قالَ: «إنه مركبٌ تركيبَ الإِضافةِ، وأنَّ» جَبْر «معناه عَبْد، و» إيل «اسمٌ من أسماء الله تعالى فهو بمنزلةِ عبد الله» لأنه كانَ ينبغي أَنْ يَجْرِيَ الأولُ بوجوهِ الإِعراب وأن ينصرفَ الثاني، وكذا قولُ المهدوي: إنه مركَّبٌ تركيبَ مَزْجٍ نحو: حَضْرَمَوْت لأنه كانَ ينبغي أن يُبْنَى الأولُ على الفتحِ ليس إلاَّ. وأمَّا ردُّ الشيخِ عليه بأنه لو كانَ مركباً تركيبَ مزجٍ لجازَ فيه أَنْ يُعْرَبَ إعرابَ المتضايِفَيْنِ أو يُبْنَى على الفتحِ كأحدَ عشرَ، فإنَّ كلَّ ما رُكِّب تركيبَ المَزْجِ يجوزُ فيه هذه الأوجهُ، وكونُه لم يُسْمَعْ فيه البناءُ ولا جريانُه مَجْرى المتضايِفَيْنِ دليلٌ على عَدَمِ تركيبِه تركيبَ المَزْجِ، فلا يَحْسُنَ رَدَّاً لأنه جاءَ على أحدِ الجائِزَيْنِ واتَّفَقَ أنه لم يُسْتَعْمَلْ إلا كذلك. وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ على عادَتها في الأسماءِ الأعجميَّةِ فجاءَتْ فيه بثلاثَ عشرةَ لغةً، أشهرُها وأفصحُها: جِبْرِيل بزنةِ قِنْدِيل، وهي قراءةُ

أبي عمرو ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم. وهي لغةُ الحجازِ، قال ورقةُ بنُ نوفل: 626 - وجِبْريلُ يأتيه ومِيكالُ مَعْهُما ... مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصدرَ مُنْزَلُ وقال حسان: 627 - وجِبْريلٌ رسولُ اللهِ فينا ... وروحُ القُدْسِ ليسَ له كِفَاءُ وقال عمران بن حطان: 628 - والروحُ جبريلُ منهم لا كِفَاءَ له ... وكانَ جِبْرِيلُ عند الله مَأْمُوناً الثانيةُ: كذلك إلا أنه بفتحِ الجيم، وهي قراءة ابن كثير والحسن، وقال الفراء: «لا أُحِبُّها لأنه ليس في كلامهم فَعْليل» . وما قاله ليس بشيء لأن ما أَدْخَلَتْه العربُ في لِسانِها على قسمين: قسمٍ ألحقُوه بأبنيتِهم كلِجام، وقسمٍ لم يُلْحقوه كإبْرَيْسَم، على أنه قِيل إنه نظيرُ شَمْوِيل اسمِ طائر، وعن ابن كثير أنه رأى النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ: جَبْريلَ وميكائيل، قال: فلا أزال أقرؤهُما كذلك. الثالث: جَبْرَئيل كعَنْتَريس، وهي لغةُ قيسٍ وتميمٍ، وبها قرأ حمزةُ والكسائي، وقال حسان: 629 - شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ ... َ الدهرِ الا جَبْرَئِيلُ أَمامَها

وقال جرير: 630 - عبَدوا الصليبَ وكَذَّبوا بمحمدٍ ... وبجَبْرَئِيلَ وكَذَّبوا مِيكالا الرابعةُ: كذلك إلا أنه لا ياءَ بعد الهمزةِ، وتُرْوَى عن عاصمٍ ويحيى ابن يعمر. الخامسة: كذلك إلا أنَّ اللامَ مشدَّدَةٌ، وتُرْوى أيضاً عن عاصم ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا: و «إلَّ» بالتشديد اسمُ الله تعالى، وفي بعض التفاسير: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10] قيل: معناهُ الله. ورُوي عن أبي بكر لَمَّا سَمِعَ بسَجْع مُسَيْلَمة: «هذا كلامٌ لم يَخْرُجْ من إلّ» . السادسة: جَبْرَائِل بألفٍ بعدَ الراءِ وهمزةٍ مكسورةٍ بعدَ الألفِ، وبها قرأ عكرمةُ. السابعةُ: مِثلُها إلا أنَّها بياءٍ بعدَ الهمزةِ. الثامنة: جِبْرايِيل بياءَيْنِ بعد الألفِ من غير هَمْزٍ، وبها قَرأ الأعمشُ ويَحْيى أيضاً. التاسعةُ: جِبْرال. العاشرة: جِبْرايِل بالياءِ والقَصْرِ وهي قراءةُ طلحةَ بن مصرف. الحاديةَ عشرةَ، جَبْرِين بفتحِ الجيمِ والنون. الثانيةَ عشرةَ: كذلك إلا أنَّها بكسرِ الجيم. الثالثةَ عشرةَ: جَبْرايين. والجملةُ مِنْ قولِه: «مَنْ كان» في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والضميرُ في قوله: «فإنَّه» يعودُ على جبريل، وفي قوله «نَزَّلَه» يعودُ على القرآنِ، وهذا موافقٌ لقولِه: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] في قراءةِ مَنْ رَفَع «الروح» ، ولقولِه «مصدِّقاً» ، وقيل: الأولُ يعودُ على اللهِ والثاني يعودُ على جِبْريل، وهو موافقٌ لقراءَةِ مَنْ قَرأَ {نَزَلَ به الروحُ} بالتشديدِ والنَّصْبِ، وأتى ب «على» التي تقتضي

الاستعلاء دونَ «إلى» التي تقتضي الانتهاء، وخَصَّ القلبَ بالذكر لأنه خزانةُ الحِفْظِ وبيتُ الرَّبِّ، وأضافه إلى ضميرِ المخاطب دونَ ياءِ المتكلِّمِ - وإنْ كان ظاهرُ الكلامِ يقتضي أَنْ يكون «على قلبي» - لأحدِ أمرَيْنِ: إمَّا مراعاةً لحالِ الأمرِ بالقولِ فَتَسْرُدُ لفظَه بالخطابِ كما هو نحوُ قولِك: قل لقومِك لا يُهينوك، ولو قلت: لا تُهينوني لجازَ، ومنه قولُ الفرزدق: 631 - ألم تَرَ أنِّي يومَ جَوِّ سُوَيْقَةٍ ... دَعَوْتُ فنادَتْني هُنَيْدَةُ: ما ليا فَأَحْرَز المعنى ونكبَّ عن نداءِ هُنَيْدَةَ ب «مالك» ؟ ، وإمَّا لأنَّ ثَمَّ قولاً آخرَ مضمراً بعد «قُلْ» ، والتقديرُ: قُلْ يا محمد: قال الله مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ، وإليه نَحَا الزمخشري بقولِه: «جاءَتْ على حكايةِ كلامِ الله تعالى، قُلْ ما تكلَّمْتُ به من قولي: مَنْ كانَ عَدُوّاً لجبريلَ فإنه نَزَّله على قَلْبِكَ» فعلى هذا الجملةُ الشرطيةُ معمولةٌ لذلك القولِ المضمرِ، والقولُ المُضْمَرُ معمولٌ لِلَفْظِ «قُلْ» ، والظاهرُ ما تقدَّم من كونِ الجملةِ معمولةً لِلَفْظِ «قُلْ» بالتأويل المذكورِ أولاً، ولا يُنافيه قولُ الزمخشري فإنَّه قَصَدَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ. قوله: {بِإِذْنِ الله} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل: «نَزَّله» إنْ قيلَ إنه ضميرُ جبريل، أو من مفعولِه إنُ قيل إنَّ الضميرَ المرفوعَ في «نَزِّلَ» يعودُ على الله، والتقديرُ: فإنَّه نَزَّله مأذوناً له أو ومعه إذْنُ الله. [والإِذْنُ في الأصلِ العِلْمُ بالشيءِ، والإِيذانُ: الإِعلامُ] ، أَذِنَ به: عَلِمَ به. وأذَنْتُه بكذا: أَعْلَمْتُه به،

ثم يُطْلَقُ على التمكينِ، أَذِن لي في كذا: أَمْكَنني منه، وعلى الاختيارِ: فَعَلْتُه بإذنك: أي باختيارِك، وقولُ مَنْ قال بإذنه أي: بتيسيرِه راجعٌ إلى ذلك. قولُه: «مُصَدِّقاً» حالٌ من الهاءِ في «نَزَّلَه» إنْ كانَ يعودُ الضميرُ على القرآنِ، وإنْ عادَ على جبريل ففيه احتمالان، أحدُهما: أَنْ يكونَ من المجرور المحذوفِ لفَهْمِ المعنى، والتقديرُ: فإنَّ الله / نَزَّل جبريلَ بالقرآنِ مصدِّقاً، والثاني: أن يكونَ مِنْ جبريل بمعنى مُصَدِّقاً لِما بينَ يديهِ من الرسلِ وهي حالٌ مؤكِّدةٌ، والهاءُ في «بين يديه» يجوزُ أن تعودَ على «القرآنِ» أو على «جِبْريل» . و «هُدَىً وبُشْرَى» حالان مَعْطوفانِ على الحالِ قبلهما، فهما مصدران موضوعان مَوْضِعَ اسمِ الفاعلِ، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا هُدَىً، و «بُشْرى» ألفُها للتأنيثِ، وجاءَ هذا الترتيبُ اللفظيُّ في هذه الأحوالِ مطابقاً للترتيبِ الوجودِيِّ، وذلك أنَّه نَزَل مصدِّقاً للكتبِ لأنها من ينبوعٍ واحدٍ، والثاني: أنه حَصَلَتْ به الهدايةُ بعد نزولِه. والثالث: أنه بُشْرى لمَنْ حَصَلَتْ له به الهدايةُ، وخَصَّ المؤمنينَ لأنهم المنتفعونَ به دونَ غيرِهم وقد تقدَّم نحوُه.

98

قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً} : الكلامُ في «مَنْ» كما تقدَّم، إلاَّ أَنَّ الجوابَ هنا يَجُوز أن يكونَ {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} ، فإنْ قيل: وأين الرابطُ؟ فالجوابُ مِنْ وَجْهين أحدُهما: أنَّ الاسم الظاهرَ قامَ مَقام المضمرِ، وكان الأصلُ: فإنَّ الله عَدُوٌّ لهم، فأتى بالظاهرِ تنبيهاً على العلةِ. والثاني: أن يُرادَ بالكافرين العموم، والعموم من الروابط، لاندراجِ الأولِ. تحتَه. ويجوزَ أن يكونَ محذوفاً تقديرُه: مَنْ كانَ عَدُوَّاً لله فقد كَفَر ونحوُه. وقال بعضهم: الواوُ في قوله: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بمعنى أو، قال: لأنَّ مَنْ عادى واحداً من هؤلاء المذكورين فالحكمُ فيه كذلك. وقال بعضُهم: هي للتفصيلِ، ولا حاجةَ إلى ذلك، فإنَّ هذا الحكمَ معلومٌ، وَذَكر

جبريلَ وميكالَ بعد اندراجهما أولاً تنبيهاً على فَضْلِهما على غيرِهما من الملائكةِ، وهكذا كلُّ ما ذُكِرَ: خاصٌ بعد عامٍ، وبعضهم يُسَمِّي هذا النوعَ بالتجريدِ، كأنه يعني به أنه جَرَّدَ من العموم الأولِ بعضَ أفرادِه اختصاصاً له بمزيَّةٍ، وهذا الحكمُ - أعني ذِكْرَ الخاصِّ بعد العامِّ - مختصٌّ بالواوِ، لا يَجُوز في غيرِها من حروف العَطْف. وجَعَل بعضُهم مثلَ هذه الآيةِ - أعني في ذِكْرِ الخاصِّ بعد العامِّ تشريفاً له - قولَه: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وهذا فيه نظر؛ فإن «فاكهةٌ» من باب المطلقِ لأنها نكرةٌ في سياقِ الإثبات، وليست من العمومِ في شيءٍ، فإنْ عَنَى أنَّ اسمَ الفاكهةِ يُطْلَقُ عليهما من بابِ صِدْقِ اللفظِ على ما يَحْتمله ثم نَصَّ عليه فصحيحٌ. وأتى باسمِ الله ظاهراً في قوله: {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ} لأنه لو أُضْمِر فقيل: «فإنَّه» لأَوْهم عَوْدَه على اسمِ الشرط فينعكسُ المعنى، أو عَوْدَه على ميكال لأنه أقربُ مذكورٍ. وميكائيل اسمٌ أعجمي، والكلامُ فيه كالكلامِ في جِبْريل من كونِه مشتقاً من مَلَكوت الله أو أن «مِيك» بمعنى عبد، و «إيل» اسمُ الله، وأنَّ تركيبَه تركيبُ إضافةٍ أو تركيبُ مَزْجٍ، وقد عُرِف الصحيح من ذلك. وفيه سبعُ لغاتٍ: مِيكال بزنة مِفْعال وهي لغةُ الحجاز، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم، قال: 632 - ويومَ بَدْرٍ لقِيناكم لنا عُدَدٌ ... فيه مع النصرِ مِيكالٌ وجِبريلٌ وقوله: 633 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . .

وكَذَّبوا مِيْكالا الثانيةُ: كذلك، إلا أنَّ بعدَ الألفِ همزةً وبها قرأ نافع. الثالثة: كذلك إلا أنه بزيادةِ ياءٍ بعد الهمزةِ وهي قراءةُ الباقين. الرابعة: مِيكَئِيل مثل مِيكَعِيل وبها قرأ ابن محيصن. الخامسة: كذلك إلاَّ أنه لا ياءَ بعد الهمزة فهو مثلُ: مِيكَعِل وقُرىء بها. السادسةُ: ميكاييل بيائين بعد الألف وبها قرأ الأعمش. السابعة: ميكاءَل بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألفِ كما يُقال: إسراءَل. وحكى الماوَرديُّ عن ابن عباس أن «جَبْر» بمعنى عَبْد بالتكبير، و «مِيكا» بمعنى عُبَيْد بالتصغير، فمعنى جِبْريل: عبد الله، ومعنى مِيكائيل: عُبَيْد الله قال: «ولا يُعْلَمُ لابنِ عباس في هذا مخالفٌ» . قوله: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون} هذا استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد تقدَّم أن الفراءَ يُجِيز فيه النصبَ.

100

قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ} : الجمهورُ على تحريك واو «أَوَ كلما» واختلف النحْويون في ذلك على ثلاثةِ أقوال، فقال الأخفش: إنّ الهمزةَ للاستفهام والواوُ زائدةٌ، وهذا على رأيِه في جوازِ زيادتِها. وقال الكسائي: هي «أَوْ» العاطفةُ التي بمعنى بل، وإنما حُرّكَتِ الواوُ، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأَها ساكنةً. وقال البصريون: هي واوُ العطفُ قُدَّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ على ما عُرِفَ، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينَ الهمزةِ وحرفِ العطف شيئاً يَعْطِفُ عليه ما بعده، لذلك قَدَّره هنا: أكفروا بالآياتِ البيِّناتِ وكُلَّما عاهدوا.

وقرأ أبو السَّمَّال العَدَوي: «أَوْ كلَّما» ساكنةَ الواو، وفيها أيضاً ثلاثةُ أقوال، فقالَ الزمخشري: «إنها عاطفةٌ على» الفاسقين «، وقدَّره بمعنى إلاَّ الذين فَسَقُوا أو نَقَضُوا يعني به أنه عَطَفَ الفعلَ على الاسم لأنه في تأويلهِ كقولِه: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] أي: الذين اصَّدَّقوا وأَقْرضوا. وفي هذا كلامٌ يأتي في سورتِه إنْ شاء الله تعالى، وقال المهدوي:» أَوْ «لانقطاعِ الكلامِ بمنزلة أَمْ المنقطعةِ، يعني أنَّها بمعنى بل، وهذا رأيُ الكوفيين وقد تقدَّم تحريرُ هذا القولِ وما استدلُّوا به من قوله: 634 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . أو أَنْتَ في العَيْنِ أَمْلَحُ في أولِ السورةِ، وقالَ بعضُهم: هي بمعنى الواوِ فتتفقُ القراءتان، وقد ثَبَتَ ورودُ» أو «بمنزلةِ الواوِ كقوله: 635 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ما بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ {خطيائة أَوْ إِثْماً} [النساء: 112] {آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] فلْتَكُنْ هذه القراءةُ كذلك، وهذا أيضاً رأيُ الكوفيين كما تقدَّم. والناصبُ لكُلَّما بعدَه، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها. وانتصابُ» عَهْداً «على أحدِ وَجْهين: إمَّا على المصدرِ الجاري على غيرِ الصَّدْر وكان الأصلُ:» معاهدةً «، أو على المفعولِ به على أَنْ يُضَمَّن عاهدوا

معنى أَعْطَوا، ويكونُ المفعولُ الأولُ محذوفاً، والتقديرُ: عاهدوا الله عَهْدَاً. وقُرِىءَ:» عَهِدُوا «فيكونُ» عهْداً «مصدراً/ جارياً على صَدْرِه، وقُرىء أيضاً:» عُوْهِدُوا «مبنياً للمفعولِ» قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} هذا فيه قولان، أحدُهما: أنه من بابِ عطفِ الجملِ وهو الظاهرُ، وتكونُ «بل» لإِضرابِ الانتقالِ لا الإِبطالِ وقد عَرَفَتْ أنَّ «بل» لا تُسَمَّى عاطفةً حقيقةً إلا في المفرداتِ. والثاني: أنه يكونُ من عطفِ المفرداتِ ويكونُ «أكثرُهم» معطوفاً على «فريقٍ» ، و «لا يؤمنون» جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من «أكثرُهم» . وقال ابن عطية «من الضمير في» أكثرُهم «، وهذا الذي قاله جائزٌ، لا يُقال: إنها حالٌ من المضافِ إليه لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه وذلك جائزٌ: وفائدةُ هذا الإِضرابِ على هذا القولِ أنه لمَّا كان الفريقُ ينطلِقُ على القليلِ والكثيرِ وأَسْنَدَ النَّبْذَ إليه، وكان فيما يتبادَرُ إليه الذهنُ أنَّه يُحْتمل أَنَّ النابذين للعَهْد قليلٌ بَيَّن أنَّ النابذين هم الأكثرُ دَفْعاً للاحتمال المذكورِ، والنَّبْذُ: الطَّرحُ وهو حقيقةٌ في الأجْرام وإسنادُه إلى العَهْدِ مجازٌ.

101

قوله تعالى: {الكتاب كِتَابَ الله} : «الكتابَ» مفعولٌ ثانٍ ل «أُوْتُوا» لأنه يتعدَّى في الأصلِ إلى اثنين. فأُقيم الأولُ مُقام الفاعلِ وهو الواوُ،

وبقي الثاني منصوباً، وقد تَقَدَّم أنه عند السهيلي مفعولٌ أوَّلُ، و «كتابَ الله» مفعولُ نَبَذَ، و «وراءَ» منصوبٌ على الظرفِ وناصبُه «نَبَذَ» ، وهذا مَثَلٌ لإِهمالِهم التوراةَ، تقولُ العرب: «جَعَلَ هذا الأمرَ وراءَ ظهره ودَبْرَ أذنِه» أي: أهمله، قال الفرزدق: 636 - تَميمُ بنُ مُرٍّ لا تكونَنَّ حاجتي ... بِظَهْرٍ فلا يَعْيَا عليَّ جوابُها والنَّبْذُ: الطَّرْحُ - كما تقدَّم -. وقال بعضُهم: «النَّبْذ والطَّرْح والإلقاء متقاربة، إلا أن النبذَ أكثرُ ما يقال في المبسوط والجاري مَجْراه، والإِلقاء فيما يُعْتبر فيه ملاقاةٌ بين شيئين» ومن مجيء النَّبْذ بمعنى الطرح قوله: 637 - إنَّ الذين أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... نَبَذُوا كتابَك واسْتَحَلُّوا المَحْرَما وقال أبو الأسود: 638 - وخَبَّروني مَنْ كنتُ أرسلْتُ أنَّما ... أَخَذْتَ كتابي مُعْرِضاً بشِمالكا نظْرتَ إلى عنوانِه فنبذْتَه ... كنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعالِكا قوله: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} جملةٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال، وصاحبُها، فريقٌ، وإنْ كان نكرةً لتخصيص بالوصفِ، والعاملُ فيها: نَبَذَ، والتقدير: مُشْبهين للجُهَّال. ومتعلَّقُ العلمِ محذوفٌ تقديرُه: أنه كتابُ الله لا يُداخِلُهم فيه شكٌّ، والمعنى: أنهم كفروا عِناداً.

102

قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} : هذه الجملةُ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ السابقةِ من قولِه: «ولمَّا جاءَهم» إلى آخرها.

وقال أبو البقاء: «إنها معطوفةٌ على» أُشْرِبوا «أو على» نَبَذَ فريقٌ «، وهذا ليس بظاهر، لأنَّ عطفَها على» نَبَذَ «يقتضي كونَها جواباً لقولِه: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ} واتِّباعُهم لِما تتلو الشياطينُ ليس مترتِّباً على مجيء الرسولِ بل كان اتِّباعُهم لذلك قبله، فالأَوْلَى أن تكونَ معطوفةً على جملةٍ لا كما تقدم. و» ما «موصولةٌ، وعائدُها محذوفٌ، والتقديرُ: تَتْلوه. وقيل:» ما «نافيةٌ وهذا غَلَطٌ فاحش لا يَقْتَضِيه نَظْمُ الكلامِ البتةَ، نقل ذلك ابنُ العربي. و» يَتْلو «في معنى تَلَتْ فهو مضارعٌ واقعٌ موقعَ الماضي كقوله: 639 - وإذا مَرَرْتَ بقبرِه فاعْقِرْ بِه ... كُوَمَ الهِجانِ وكلَّ طَرْفٍ سابحِ وانضَحْ جوانِبَ قبرِه بدِمائِها ... فَلَقَدْ يكونُ أخا دمٍ وذَبائحِ أي: فلقَدْ كان، وقال الكوفيون: الأصلُ: ما كانت تَتْلو الشياطينُ، ولا يريدونَ بذلك أنَّ صلةَ» ما «محذوفةٌ، وهي» كانَتْ «، و» تتلو «في موضعِ الخبرِ، وإنما قَصَدوا تفسيرَ المعنى، وهو نظيرُ:» كانَ زيدٌ يقوم «المعنى على الإِخبار بقيامِه في الزمنِ الماضي وقرأ الحسن والضحاك:» الشياطُون «إجراءً له مُجْرى جَمْعِ السلامةِ، قالوا: وهو غَلَطٌ. وقال بعضُهم: لَحْنٌ فاحِشٌ. وحكى الأصمعي:» بُستانُ فلانٍ حولَه بَساتُون «وهو يُقَوِّي قراءَةَ الحسن. قوله: {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فيه قولان: أحدُهما: أنه على معنى في، أي: في زمنِ ملكِه، والمُلْكُ هنا شَرْعُه. والثاني: أَنْ يُضَمَّن تَتْلو معنى:

تتقوَّل أي: تتقوَّل على مُلْكِ سليمان، وتَقَوَّل يتعدَّى بعلى، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل} [الحاقة: 44] . وهذا الثاني أَوْلَى، فإن التجَوُّز في الأفعالِ أَوْلَى مِن التجوُّز في الحُروف، وهو مذهبُ البصريينَ كما مَرَّ غيرَ مرة. وإنما أَحْوَجَ إلى هذيْنِ التأويلَيْنِ لأن تلا إذا تعدَّى ب» على «كان المجرورُ ب» على «شيئاً يَصِحُّ أَنْ يُتْلى عليه نحو: تَلَوْتُ على زيدٍ القرآنَ، والمُلْكُ ليس كذلك. والتلاوةُ: الاتِّباعُ أو القراءةُ وهو قريبٌ منه. وسُلَيمان عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم ينصرِفْ. وقال أبو البقاء:» وفيه ثلاثةُ أسبابٍ: العجمةُ والتعريفُ والألفُ والنونُ «وهذا إنما يَثْبُتُ بعد دخولِ الاشتقاقِ فيه والتصريفِ حتى تُعْرَفَ زيادتُهما، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخلان في الأسماء الأعجمية، وكَرَّر قولَه {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بذكرِه ظاهراً تفخيماً له وتعظيما كقوله: 640 - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. قوله: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} هذه الواوُ عاطفةٌ جملةَ الاستدراكِ على ما قبلَها. وقرأ ابنُ عامر والكسائيُّ وحمزةُ بتخفيفِ «لكنْ» ورَفْعِ ما بَعْدها، والباقون بالتشديدِ والنصبِ وهو واضحٌ. وأمَّا القراءةُ الأولى فتكونُ «لكنْ» مخففةً من الثقيلة جيء بها لمجرَّدِ الاستدراك، وإذا خُفِّفَتْ لم تَعْمَلْ عند الجمهورِ، ونُقِلَ جوازُ ذلك عن يونسَ والأخفشِ. وهل تكونُ عاطفةً؟ الجمهورُ

على أنَّها تكونُ عاطفةً إذا لم يكنْ معها الواوُ، وكانَ ما بعدَها مفرداً، وذهبَ يونسُ إلى أنها لا تكونُ عاطفةً، وهو قويٌّ، فإنه لم يُسْمَعْ من لسانهم: ما قام زيدٌ لكن عمروٌ، وإن وُجِدَ ذلك في كتب النحويين فمِنْ تمثيلاتِهم، ولذلك لم يُمَثِّل بها سيبويه إلا مع الواو وهذا يَدُلُّ على نَفْيهِ. وأمَّا إذا وقعت بعدها الجملُ فتارةً تقترنُ بالواوِ وتارةً لا تقترنُ، قال زهير: 641 - إنَّ ابنَ وَرْقَاءَ لا تُخْشَى بوادِرُهُ ... لكنْ وقائِعُه في الحَرْبِ تُنْتَظَرُ وقال الكسائي والفراء: «الاختيارُ تشديدُها إذا كانَ قبلَها واوٌ، وتخفيفُها إذا لم يكنْ» وهذا جنوحٌ منهما إلى القولِ بكونِها حرفَ عطفٍ. وأبعدَ مَنْ زَعَم أنها مركبةٌ من ثلاثِ كلماتٍ: لا النافيةِ وكافِ الخطابِ وأَنْ التي للإِثباتِ وإنَّما حُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً. قوله: {يُعَلِّمُونَ الناس السحر} «الناسَ» مفعولٌ أولُ، و «السحرَ» مفعولٌ ثانٍ. واختلفوا في هذه الجملةِ على خمسةِ أقوال، أحدُها: أنها حالٌ من فاعل «كفروا» ، أي: كفروا مُعَلِّمينَ. الثاني: أنها حالٌ من الشياطين، ورَدَّه أبو البقاء بأنَّ «لكنّ» لا تعملُ في الحال. وليس بشيء فإن «لكنَّ» فيها رائحةُ الفعل. الثالث: أنها في محلِّ رفعٍ على أنَّها خبرٌ ثانٍ للشياطين. الرابعُ: أنها بدلٌ من «كَفروا» أبدلَ الفعلَ من الفعلِ. الخامسُ: أنَّه استئنافيةٌ، أخبرَ عنهم بذلك، هذا إذا أعَدْنا الضميرَ من «يُعَلِّمون» على الشياطين، أمَّا إذا أَعَدْناه على «الذين اتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ» فتكونُ حالاً من فاعلِ «اتَّبعوا» ، أو استئنافيةً

فقط. والسِّحْرُ: كلُّ ما لَطُفَ ودَقَّ. سَحَرَهُ. إذا أبدى له أمراً يَدِقُّ عليه ويَخْفَى. قال: 642 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَدَاءٌ عَراني من حُبابِكِ أَمْ سِحْرُ ويقال: سَحَره: أي خَدَعَه وعَلَّله، قال امرؤ القيس: 643 - أرانا مُوضِعِيْنَ لأمرٍ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعام وبِالشَّرابِ أي: نُعَلَّلُ، وهو في الأصلِ: مصدرٌ يُقال: سَحَرَه سِحْراً، ولم يَجِيءْ مصدرٌ لفَعَل يَفْعَل على فِعْل إلاَّ سِحْراً وفِعْلاً. قوله: {وَمَآ أُنْزِلَ} فيه أربعةُ أقوالٍ أَظْهَرُها / أنَّ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي محلُّها النصبُ عطفاً على «السِّحْر» ، والتقديرُ: يُعَلِّمُون الناسً السحرَ والمُنَزَّلَ على المَلَكَيْن. الثاني: أنها موصولةٌ أيضاً ومحلها النصبُ لكنْ عطفاً على {مَا تَتْلُواْ الشياطين} والتقديرُ: واتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ وما أُنْزِل على المَلَكَيْن وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ، ولا حاجَةَ إلى القولِ بأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً. الثالث: أنَّ محلَّها الجَرُّ عطفاً على «مُلْكِ سليمان» والتقديرُ: افتراءً على مُلْكِ سُلَيْمان وافتراءً على ما أُنْزِلَ على المَلَكْين. وقال أبو البقاء: «تقديرُه: وعلى عَهْدِ الذي أُنْزِل» . الرابع: «أنَّ» ما «حرفُ نفيٍ، والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ المنفيَّةِ قبلها، وهي {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ، والمعنى: وما أُنْزِل على المَلَكَيْنِ إباحةُ السِّحْرِ.

والجمهورُ على فَتْح لام» المَلَكَيْن «على أنَّهما من الملائكة، وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن بكَسْرها على أَنَّهما رَجُلانِ من الناسِ، وسيأتي تقريرُ ذلك. قوله {بِبَابِلَ} متعلِّقٌ بأُنِزِلَ، والباءُ بمعنى» في «أي: في بابل: ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المَلَكَيْن أو من الضمير في» أُنْزل «فيتعلَّق بمحذوفٍ، ذَكَر هذين الوجهين أبو البقاء. وبابل لاَ يَنْصَرِفُ للعُجْمَةِ والعَلَمية، فإنها اسمُ أرضٍ وإنْ شِئْتَ للتأنيث والعَلَمية، وسُمِّيَتْ بذلك قال: لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخلائقِ بها، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ ريحاً فَحَشَرَتْهُمْ بهذه الأرضِ فلم يَدْرِ أحدٌ ما يقولُ الآخر، ثم فَرَّقَتْهُم الريحُ في البلادِ يتكلَّمُ كلُّ أحدٍ بلغةٍ. والبَلْبَلَةُ: التفرقةُ، وقيل: لَمَّا أُهْبِطَ نوحٌ عليه السلام نَزَلَ فبنى قريةً وسمّاها» ثمانينَ «، فَأَصْبَحَ ذاتَ يوم وقد تَبَلْبَلَتْ ألْسِنتُهم على ثمانينَ لغةً. وقيل: لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخَلْقِ عند سقوطِ صَرْحِ نمرود. قوله: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} الجمهورُ على فَتْح تائِهما، واختلف النحويون في إعرابهما، وذلكَ مبنيٌّ على القراءَتَيْنِ في» المَلَكَيْنِ «: فَمَنْ فَتَحَ لامَ» المَلَكَيْنِ «وهم الجمهورُ كان في هاروت وماروتَ أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها بَدَلٌ من» الملَكَيْنِ «، وجُرَّ بالفتحةِ لأنهما لا يَنْصَرِفان للعُجْمةِ والعَلَمِيَّةِ. الثاني: أنهما عطفُ بيانٍ لهما. الثالث: أنهما بدلٌ من» الناس «في قوله: {يُعَلِّمُونَ الناس}

وهو بدلُ بعضٍ من كلٍ، أَوْ لأنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان. الرابع: أنهما بدلٌ من» الشياطين «في قوِه:» ولكنَّ الشياطينَ «في قراءةِ مَنْ نَصَبَ، وتوجيهُ البدلِ كما تقدَّم. وقيل: هاروت وماروت اسمان لقبيلتينِ من الجن فيكونُ بدلَ كلٍ من كلٍ، والفتحةُ على هذين القولَيْنِ للنصْبِ. وأمَّا مَنْ قَرَأَ برفعِ» الشياطين «فلا يكونُ» هاروت وماروت «بدلاً منهم، بل يكونُ منصوباً في هذا القولِ على الذمِّ، أي: أذمُّ هاروتَ وماروتَ من بينِ الشياطينِ كلِّها، كقولِه: 644 - أَقَارِعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها ... وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تُجادِعُ أي: أذمُّ وجوهَ قرودٍ، ومَنْ كَسَرَ لامَهما فيكونان بدلاً منهما كالقولِ الأولِ إلا إذا فُسِّر بداودَ وسليمان - كما ذكره بعضُ المفسِّرين - فلا يكونَانِ بَدَلاً منهما بل يكونانِ متعلِّقين بالشياطين على الوَجْهَيْن السابقين في رفع الشياطين ونَصْبِه، أو يكونان بدلاً من» الناس «كما تقدَّم. وقرأ الحسن: هاروتُ وماروتُ برفعهما، وهما خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: هما هاروتُ وماروتُ، ويجوز أَنْ يكونا بدلاً من «الشياطين» الأولِ، وهو قولُه: {مَا تَتْلُواْ الشياطين} أو الثاني على قراءةِ مَنْ رفَعَه. ويُجْمعان على هَواريت ومَواريت وهَوارِتَة ومَوارِتَة، وليس مَنْ زعم اشتقاقَهما من الهَرْت والمَرْت وهو الكَسْر بمُصيبٍ لعدَمِ انصرافِهِما، ولو كانا مشتقَّينِ كما ذُكِر لانْصَرَفا. قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلَها. والجمهور على «يُعَلِّمان» مُضَعَّفاً، واختُلِفَ فيه على قَوْلَين: أحدُهما: أنه على بابِه من التعليم. والثاني: أنه بمعنى يُعْلِمان من «أَعْلم» ، فالتضعيفُ والهمزةُ

متعاقبان، قالوا: لأنَّ المَلَكَيْن لا يُعَلِّمان الناسَ السحرَ، إنما يُعْلِمانِهِم به ويَنْهَيانِهم عنه، وإليه ذَهَبَ طلحة بن مصرف، وكان يقرأ: «يُعْلِمان» من الإِعلام. وممَّن حكى أنتَ تَعَلَّمْ بمعنى اعلَمْ ابنُ الأعرابي وابن الأنباري وأنشدوا قولَ زهير: 645 - تَعَلَّمَنْ هالَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَمَاً ... فاقْدِرْ بِذَرْعِكِ وانظُرْ أينَ تَنْسَلِكُ وقولَ القطامي 646 - تَعَلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْداً ... وأَنَّ لذلك الغَيِّ انقِشاعاً وقول كعب بن مالكِ: 647 - تَعَلَّمْ رسولَ اللهِ أنَّك مُدْرِكي ... وأنَّ وعيداً منكَ كالأخذِ باليدِ وقول الآخر: 648 - تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا ... على مُتَطَيِّرٍ وهو الثُّبُورُ والضميرُ في «يُعَلِّمان» فيه قولان، أحدُهما: أَنَّه يعودُ على هاروت وماروت، والثاني: أنه عائدٌ على المَلَكَيْنِ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبَيّ بإظهارِ الفاعلِ: «وما يُعَلَّمُ المَلَكان» ، والأولُ هو الأصحُّ؛ وذلك أنَّ الاعتمادَ إنما هو على البَدَل دون المبدل منه فإنه في حُكْم المُطَّرَح فمراعاتُه أَوْلَى تقول: «هندٌ

حُسْنُها فاتِنٌ» ولا تقول: «فاتنةٌ» مراعاةً لهند إلا في قليلٍ من الكلامِ كقوله: 649 - إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها ... تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ وقول الآخر: 650 - فكأنَّه لَهِقُ السَّراةِ كأنه ... ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ فراعى المُبْدَلَ منه في قوله: تَرَكَتْ، وفي قوله: مُعَيَّن، ولو راعى البَدَلَ وهو الكثيرُ لقال: تَرَكا ومُعَيَّنان كقولِ الآخر: 651 - فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ ... ولكنَّه بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا ولو لَمْ يُراعِ البدلَ لَلَزِمَ الإِخبارُ بالمعنى عن الجثة. وأجاب الشيخ عن البيتين بأن «رَواحَهَا وغدوَّها» منصوبٌ على الظرفِ، وأن قوله «مُعَيَّنٌ» خبرٌ عن «حاجِبَيْه» وجازَ ذلك لأن كلَّ اثنين لا يُغْني أحدهما عن الآخر يجوزُ فيهما ذلك، قال: 652 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

بها العَيْنانُ تَنْهَلُّ وقال: 653 - لكأنَّ في العَيْنَيْن حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ ويجوز عكسه، قال: 654 - إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى ... بصحراء فَلْجٍ ظَلَّتا تَكِفَانِ و «مِنْ» زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ لا للاستغراق، لأنَّ «أحداً» يفيدُه بخلافِ: «ما جاءَني من رجلٍ» فإنَّهَا زائدةٌ للاستغراقِ، و «أحد» هنا الظاهرُ أنه الملازمُ للنفي وأنَّه الذي همزتُه أصلٌ بنفسِها. وأجاز أبو البقاء أن يكون بمعنى واحد فتكونَ همزتُه بدلاً من واو. قوله: {حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} حتى: حرفُ غايةٍ وهي هنا بمعنى إلى / والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمارِ «أَنْ» ولا يجوزُ إظهارها، وعلامةُ النصبِ حذفُ النونِ، والتقديرُ: إلى أَنْ يقولا، وهي متعلقةٌ بقولِه: «وما يُعَلِّمانِ» والمعنى أنه ينتفي تعليمُهما أو إعلامُهما على حسبِ ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية وهي قولُهم: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} وأجاز أبو البقاء أَنْ يقولاَ «وهذا الذي أجازه لا يُعْرَفُ عن أكثر المتقدمين وإنما هو شيءٌ قاله الشيخُ

جمالُ الدين بنُ مالكِ وأنشد: 655 - ليسَ العطاءُ من الفُضُولِ سَماحةً ... حتى تَجودَ وما لَدَيْكَ قليلُ قال:» تقديرُه: إلا أَنْ تجودَ «. واعلم أنَّ» حتى «تكونُ حرفَ جر بمعنى إلى كهذِه الآية، وكقولِه: {حتى مَطْلَعِ [الفجر] } [القدر: 5] ، وتكونُ حرفَ عطفٍ، وتكونُ حرفَ ابتداءً فتقعُ بعدها [الجملُ كقوله] : 656 - فما زالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دماءَها ... بدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ والغايةُ معنىً لا يفارقها في هذه الأحوالِ الثلاثة [فلذلك لا يكون ما بعدها] إلا غايةً لِما قبلها: إمَّا في القوةِ أو الضَّعْفِ أو غيرِهما، ولها أحكامٌ ستأتي إنْ شاء الله تعالى. و» إنَّما مكفوفةٌ بما الزائدةِ فلذلكَ وَقَعَ بعدَها الجملةُ، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم يُجِيزُ إعمالَها، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وكذلك: «فَلا تَكْفُرْ» . قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ} في هذه الجملة سبعةُ أقوالٍ، أظهرُها، أنَّها معطوفةٌ على قولِه: «وما يُعَلِّمان» والضميرُ في «فيتعلَّمون» عائدٌ على «أحد» .

وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى، نحو قولِه: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ، فإن قيل: المعطوفُ عليه منفيٌّ فيَلْزَمُ أَنْ يكونَ «فيتعلَّمون» منفياً أيضاً لعطفِه عليه وحينئذٍ ينعكسُ المعنى. فالجوابُ ما قالوه وهو أَنَّ {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ} وإنْ كان منفيَّاً لفظاً فهو موجَبٌ معنىً لأنَّ المعنى: يَعَلِّمان الناسَ السحرَ بعدَ قولِهما: إنما نحنُ فتنةٌ، وهذا الوجهُ ذكره الزجاجُ وغيرُه. الثاني: أنه معطوفٌ على {يُعَلِّمُونَ الناس السحر} قاله الفراء. وقد اعترَضَ الزجاجُ هذا القولَ بسبب لفظِ الجمع في «يُعَلِّمون» مع إتيانِه بضميرِ التثنية في «منهما» ، يعني فكانَ حقه أنْ يُقالَ: «منهم» لأجلِ «يَعَلِّمون» ، وأجازَه أبو عليّ وغيرُه، وقالوا: لا يمتنع عَطْفُ «فيتعلَّمون» على «يُعَلِّمون» وإن كان التعليمُ من المَلَكَيْنِ خاصةً، والضميرُ في «منهما» راجعٌ إليهما، فإنَّ قوله «منهما» إنما جاء بعدَ تقدُّم ذِكْرِ المَلَكَيْنِ. وقد اعتُرِضَ على قولِ الفراء من وجهٍ آخرَ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه الإِضمارُ قبلَ الذكرِ، وذلك أَنَّ الضميرَ في «مِنهما» عائدٌ على المَلَكَيْن وقد فرضتم أنّ «فيتعلَّمون منهما» عَطْفٌ على «يُعَلِّمون» فيكونُ التقديرُ: «يُعَلِّمون الناسَ السحرَ فيتعلَّمون منهما» فيلزم الإِضمارُ في «منهما» قبلَ ذِكْرِ المَلَكَيْنِ، وهو اعتراضٌ واهٍ فإنَّهما متقدِّمان لفظاً، وتقديرُ تأخُّرِهما لا يَضُرُّ، إذ المحذورُ عَوْدُ الضميرِ على غيرِ مذكورٍ في اللفظ. الثالث: - وهو أحدُ قَولَيْ سيبويه - أنه عَطْفٌ على «كفروا» ، و «كفروا» فِعْلٌ في موضعِ رفعٍ، فلذلك عُطِفَ عليهِ فعلٌ مرفوعٌ، قال سيبويه: «وارْتفَعَتْ» فيتعلَّمون «لأنه لم يُخْبِرْ عن المَلَكَيْن أنهما قالا: لا تَكْفُرْ

فيتعلَّموا ليَجْعلا كفره سبباً لتعلُّمِ غيرِه، ولكنه على: كفروا فيتعلَّمون» ، وشَرْحُ ما قالَه هو أنه يريد أنَّ ليس «فيتعلَّمون» جواباً لقولِه: «فلا تَكْفُرْ» فينتصِبَ في جوابِ النهي كما انتصَبَ: «فَيُسْحِتَكم» بعدَ قولِه: «لا تَفْتَرُوا» لأنَّ كُفْرَ مَنْ نَهَياه أَنْ يكفرَ ليس سبباً لتعلُّمِ مَنْ يتعلَّم. وقد اعتُرِضَ على هذا بما تقدَّم لزومِ الإضمارِ قبلَ الذكر وتقدَّم جوابُه. الرابع: وهو القولُ الثاني لسيبويه - أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: «فهم يتعلَّمون» ، فَعَطَفَ جملةً اسميةً على فعليةٍ. الخامس: قال الزجاج أيضاً: «والأجودُ أَنْ يكونَ معطوفاً على» يُعَلِّمان فيتعلَّمون «فاستغنى عِنْ ذكرِ» يَعَلِّمان «على ما في الكلام من الدليل عليهِ» . واعترَض أبو علي قولَ الزجاج فقال: «لا وجهَ لقولِه:» استغنى عن ذِكْرِ يُعَلِّمان «لأنه موجودٌ في النص» . وهذا الاعتراضُ من أبي علي تحاملٌ عليه لسببٍ وقَعَ بينهما، فإنَّ الزجاجَ لم يُرِدْ أنَّ «فيتعلَّمون» عطفٌ على «يُعَلِّمان» المنفيِّ ب «ما» في قوله «وما يُعَلِّمان» حتى يكونَ مذكوراً في النصِّ، وإنما أرادَ أن ثَمَّ فِعلاً مضمراً يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ وهو: يَعَلِّمان فيتعلَّمون. السادس: انه عَطْفٌ على معنى ما دَلَّ عليه أولُ الكلام، والتقديرُ: فَيَأْتُون فيتعلَّمونَ، ذكره الفراءُ والزَّجَّاجُ أيضاً. السابع: قال أبو البقاء: «وقِيل هو مستأنَفٌ» وهذا يَحْتَمِل أَنْ يريدَ أنه

خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ كقولِ سيبويه، وأن يكونَ مستقلاً بنفسِه غيرَ محمولٍ على شيءٍ قبلَه وهو ظاهرُ كلامِه. هذا نهايةُ القولِ في هذه المسألةِ، وقد أَمْعَنَ المهدويُّ - رحمه الله - فيها فأمتعَ. قوله: «مِنْهُمَا» متعلِّقٌ بيُعَلِّمون. و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وفي الضمير ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها: عَوْدُه إلى المَلَكَيْنِ، سواءً قُرِىء بِكْسر اللام أو فتحِها. والثاني: أنه يعودُ على السحرِ وعلَى المُنَزَّل على الملَكَيْنِ، والثالث: أنه يعودُ على الفتنةِ وعلى الكفر المفهومِ من قولِه «فَلا تَكْفُرْ» وهو قولُ أبي مسلم. قوله: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} الظاهرُ في «ما» أنَّها موصولةٌ اسميةٌ، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس بواضحٍ، ولا يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ في «به» عليها، والمصدريةُ حرفٌ عند جمهورِ النَّحْويين كما تقدَّم غيرَ مَرَّة. و «بين المرءِ» ظَرْفٌ ل «يُفَرِّقون» . والجمهورُ على فَتْحِ ميم «المَرْء» مهموزاً وهي اللغة العالية. وقرأ ابنُ أبي إسحاق: «المُرْء» بضمِّ الميمِ مهموزاً، وقرأ الأشهب العقيلي والحسنُ: «المِرْء» بكسر الميم مهموزاً. فأمَّا الضمُّ فلغةٌ مَحْكِيَّةٌ، وأمَّا الكسرُ فَيَحتمِلُ أَنْ يكونَ لغةً مطلقاً، ويَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ ذلك للإِتباع، وذلك أنَّ في «المَرْء» لغةً، وهي أنَّ فاءَه تَتْبَعُ لامَه فإنْ ضُمَّ ضُمَّتْ وإنْ فَتِحَ فُتِحَتْ وإنْ كُسِرَ كُسِرَتْ. تقول: «ما قام المُرْءُ» بضم الميم، و «رأيت المَرْءَ» بفتحها، و «مررت بالمِرْءِ» بكسرِها. وقد يُجْمع بالواوِ والنون وهو شاذٌ، قال الحسن في بعضِ مواعِظه: «أَحْسِنوا مَلأَكم أيها المَرْؤُوْن» أي:

أخلاقكم. وقرأ الحسن والزهري: «المِرِ» بكسر الميم وكسرِ الراء خفيفة، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ على الراءَ وحَذَفَ الهمزة تخفيفاً، وهو قياسٌ مُطَّرد. / وقرأ الزهري أيضاً: «المَرِّ» بتشديد الراء من غير همز، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الراء ثم نَوَى الوقفَ عليها مشدداً، كما رُوي عن عاصم «مُسْتَطرٌّ» بتشديد الراء، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. قوله: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} يجوز في «ما» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ الحجازيةَ فيكون «هم» اسمَها، و «بضارِّين» خبرَها، والباءُ زائدةٌ، فهو في محلِّ نصبٍ، والثاني: أن تكونَ التميميةَ، فيكونَ «هم» مبتدأ، و «بضارِّين» خبرَه والباءُ زائدةٌ أيضاً فهو في محلِّ رفعٍ. والضميرُ فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّه عائدٌ على السَّحَرةِ العائدِ عليهم ضميرُ «فيتعلَّمون» . الثاني: يعود على اليهود العائدِ عليهم ضميرُ «واتَّبَعوا» . الثالث: يعودُ على الشياطين. والضميرُ في «به» يعودُ على «ما» في قولِه: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} . والجمهورُ على «بضارِّين» بإثباتِ النونِ و «من أحدٍ» مفعولٌ به، وقرأ الأعمشُ: «بضارِّي» من غيرِ نونٍ، وفي توجيهِ ذلك قولان، أظهرُهما: أنه أَسْقَطَ النونَ تخفيفاً وإنْ لم يَقَعْ اسمُ الفاعلِ صلةً لألْ ومثلُه قولُ الشاعر: 657 - ولَسْنا إذا تَأَبْون سِلْماً بمُذْعِني ... لكم غيرَ أنَّا إنْ نُسالَمْ نُسالِم أي: بمُذْعنين، ونظيرُه في التثنية: «قَظَا قَظَا بَيْضُك ثِنْتا وبَيْضِي مِئَتا. يريدون: ثِنْتان ومِئَتان. والثاني - وبه قال الزمخشري وابنُ

عطية -: أن النونَ حُذِفَتْ للإِضافة إلى» أحد «وفُصِل بين المضافِ والمضافِ إليه بالجارِّ والمجرور وهو» به «كما فُصِل به في قول الآخر: 658 - هما أَخَوا في الحربِ مَنْ لا أخَاله ... إذا خافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعاهُما وفي قوله: 659 - كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً ... يهوديٍ يقارِبُ أو يُزِيلُ ثم اسْتَشْكَلَ الزمخشري ذلك فقال:» فإنْ قلتَ كيفُ يُضافُ إلى أحد وهو مجرورٌ بمِن؟ قلت: جُعِل الجارُّ جزءاً من المجرور «، قال الشيخ:» وهذا التخريجُ ليس بجيد لأنَّ الفصلَ بين المتضايفَيْنَ بالظرفِ والمجرورِ من ضرائرِ الشعرِ، وأقبحُ من ذلك ألاَّ يكونَ ثُمَّ مضافٌ إليه، لأنه مشغولٌ بعاملِ جرَّ فهو المؤثِّرُ فيه لا الإضافةُ، وأمَّا جَعْلُه حرفَ الجرِّ جزءاً من المجرورِ فليس بشيء لأنَّ هذا مؤثرٌ فيه وجزءُ الشيءِ لا يُؤَثِّر فيه «وفي قولِ الشيخ نظرٌ، أمَّا كونُ الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال، لأنه قد فُصِل بالمفعولِ به في قراءة ابن عامر فبالظرفِ وشَبْهِهِ أَوْلَى، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام.

وأمَّا قولُه:» لأنَّ جزءَ الشيءِ لا يؤثر فيه «فإنما ذلك في الجُزْءِ الحقيقي، وهذا إنما قال: نُنَزِّلُه منزلَة الجزءِ، ويَدُلُّ على ذلك قولُ النحويين: الفعلُ كالجزءِ من الفاعلِ ولذلك أُنِّثَ لتأنيثه، ومع ذلك فهو مؤثِّرٌ فيه. و» مِنْ «في» مِنْ أَحَد «زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراق كما تقدَّمَ في {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} . وينبغي أَنْ يجيءَ قولُ أبي البقاء: إنَّ» أَحَداً «يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنىً واحدٍ، والمعهودُ زيادةُ» مِنْ «في المفعولِ به المعمولِ لفعل منفيٍّ نحو:» ما ضَربْتُ من أحدٍ «إلا أنَّه حُمِلَتِ الجملةُ الاسميةُ الداخلُ عليها حرفُ النفي على الفعليةِ المنفيةِ في ذلك لأن المعنى: وما يَضُرُّون من أحدٍ، إلا انه عَدَلَ إلى هذه الجملةِ المصدَّرَة بالمبتدأِ المُخْبَرِ عنه باسمِ الفاعلِ الدالِّ على الثبوتِ والاستقرارِ المزيدِ فيه باءُ الجرِّ للتوكيدِ المرادِ الذي لَمْ تُفِدْه الجملةُ الفعلية. قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ من الأحوالِ. فهو في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، وفي صاحبِ هذه الحالِ أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه الفاعلُ المستكِنُّ في» بضارِّين «. الثاني: أنه المفعولُ وهو» أَحَدٍ «وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لاعتمادِها على النفيِ. والثالثُ: أنَّه الهاءُ في» به «أي بالسحرِ، والتقديرُ: وما يَضُرُّون أحداً بالسحرِ إلاَّ ومعه عِلْمُ الله أو مقروناً بإذنِ الله ونحوُ ذلك. والرابعُ: أنه المصدَرُ المعرِّفُ وهو الضررُ، إلاَّ أنه حُذِفَ للدلالةِ عليه. قوله: {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنها عَطْفٌ على «يَضُرُّهم» فتكونُ صلةً ل «ما» أيضاً، فلا مَحَلَّ لها مِن الإِعراب. والثاني - وأجازه أبو البقاء -: أن تكونَ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ

تقديرُه: وهو لا ينفعُهم، وعلى هذا فتكونُ الواو للحالِ، والجملةُ من المبتدأِ والخبر في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، وهذه الحالُ تكونُ مؤكِّدةً لأنَّ قولَه: «ما يَضُرُّهم» ، يُفْهَمُ منه عدمُ النفع، قال أبو البقاء: «ولا يَصِحُ عَطْفُه على» ما «لأنَّ الفعلَ لا يُعْطَفُ على الاسم» وهذا من المواضعِ المستغنى عن النصِّ على مَنْعِها لوضوحِها، وإنما يُنَصُّ على مَنْعِ شيءٍ يُتَوَهَّمُ جوازُه. وأتى هنا ب «لا» لأنها ينفى بها الحالُ والاستقبالُ، وإنْ كان بعضُهم خَصَّها بالاستقبالِ. والضُّرُّ والنَّفْعُ معروفان، يقال: ضَرَّه يَضُرُّه بضم الضاد، وهو قياسُ المضاعَفِ المتعدِّي، والمصدرُ: الضُّر والضَّر بالضم والفتح، والضَّرر بالفك أيضاً، ويقال: ضَارَه يَضيره بمعناه ضَيْراً، قال الشاعر: 660 - تقولُ أُناسٌ لا يَضِيرُك نَأْيُها ... بلى كلُّ ما شَفَّ النفوسَ يَضِيرُها وليس حرفُ العلةِ مُبْدَلاً من التضعيفِ، ونَقَلَ بعضُهم: أنَّه لا يُبْنَى من «نفع» اسمُ مفعول فَيُقال: مَنْفُوع، والقياسُ لا يَأْباه. قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ} تقدَّم أنَّ هذه اللامَ جوابُ قسمٍ محذوفٍ. و «عَلِمَ» يجوزُ أن تكون متعديةً إلى اثنين أو إلى واحدٍ، وعلى كلا التقديرَيْنِ فهي معلَّقةٌ عن العمل فيما بعدَها لأجلِ اللامِ، فالجملةُ بعدَها في محلِّ نصبِ: إمَّا سادةً مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ على حَسَبِ ما تقدَّم، ويظهر أثرُ ذلك في العطفِ عليها، فإن اعتقدنا تعدِّيَها لاثنين عَطَفْنا على الجملةِ بعدَها مفعولَيْن وإلاَّ عَطَفْنا مفعولاً واحداً، ونظيرُه في الكلامِ: عَلِمْتُ لزيدٌ قائمٌ وعمراً ذاهباً، أو عَلِمْتُ لزَيدٌ قائمٌ وذهابَ عمروٍ. والذي يَدُلُّ على أنَّ الجملةَ المعلَّقة بعد «عَلِم» في محلِّ نصبٍ وعَطْفَ المنصوبِ على محلِّها قولُ الشاعرِ:

661 - وما كنْتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما الهَوى ... ولا موجعاتِ القَلْبِ حتى تَوَلَّتِ رُوي بنصبِ «مُوجعات» على أنه عَطْفٌ على محلِّ «ما الهوى» ، وفي البيت كلامٌ، إذ يُحتمل أن تكونَ «ما» زائدةً، و «والهوى» مفعولٌ به، فَعَطَفَ «موجعات» ِ «عليه، ويُحتمل أن تكونَ» لا «نافيةً للجنس و» موجعاتِ «اسمُها والخبرُ محذوفٌ كأنه قال: ولا موجعاتِ القلب عندي حتى تولَّت. والضميرُ في» عَلِموا «فيه خمسةُ أقوالٍ، أحدُها ضميرُ اليهودِ الذين بحضرة محمدٍ عليه السلام، أو ضميرُ مَنْ بحضرةِ سليمانَ، أو ضميرُ جميعِ اليهودِ أو ضميرُ الشياطين، أو ضميرُ المَلَكَيْنِ عند مَنْ يرى / أنَّ الاثنين جمعٌ. قوله: {لَمَنِ اشتراه} في هذه اللامِ قولان، أحدُهما: - وهو الظاهرُ عند النحويين - أنها لامُ الابتداءِ المعلِّقةِ ل «عَلِم» عن العملِ كما تقدّم، و «مَنْ» موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «اشتراهُ» صلتُها وعائدُها. و {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ومِنْ زائدةٌ في المبتدأ، والتقديرُ: ما له خلاقٌ في الآخرةِ. وهذه الجملةُ في محلة رفعٍ خبراً ل «مَنْ» الموصولةِ فالجملةُ من قوله: «ولقد عَلِموا» مقسمٌ عليها كما تقدَّم، و «لَمَن اشتراه» غيرُ مقسمٍ عليها، هذا مذهبُ سيبويه والجمهور. الثاني - وهو قول الفراء، وتَبِعه أبو البقاء -: أن تكونَ هذه اللامُ هي الموطئةَ للقسَمِ، و «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} جوابُ القسمِ، ف «اشتراه» على القولِ الأولِ صلةٌ وعلى هذا الثاني هو خبرٌ لاسمِ الشرطِ. ويكونُ جوابُ الشرطِ محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرطٌ وقَسَمٌ ولم يتقدَّمْهما

ذو خبر أُجيب سابقُهما غالباً، وقد يُجاب الشرطُ مطلقاً كقوله: 662 - لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادِقاً ... أَصُمْ في نهارِ القَيْظِ للشمسِ باديا ولا يُحْذَفُ جوابُ الشرطِ إلاَّ وفعلُه ماضٍ، وقد يكونُ مضارعاً كقوله: 663 - لَئِنْ تَكُ قَدْ ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسِعُ فعلى قولِ الفراء تكونُ الجملتان من قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه} مُقْسَماً عليهما، ونُقِل عن الزجاج مَنْعُ قولِ الفراءِ فإنه قال: «هذا ليس موضعَ شرط» ولم يُوجِّهْ مَنْعَ ذَلك. والذي يَظْهَرُ في مَنْعِهِ، أنَّ الفعل بعد «مَنْ» وهو «اشتراه» ماضٍ لفظاً ومعنىً فإنَّ الاشتراءَ قد وَقَعَ وانفصَلَ، فَجَعَلُه شرطاً لا يَصِحُّ؛ لأنَّ فعلَ الشرطِ وإنْ كان ماضياً لفظاً فلا بدَّ أن يكونَ مستقبلاً معنىً. والخَلاقُ: النَّصِيبُ، قال الزجاج: «أكثرُ استعمالِه في الخيرِ» فأمَّا قولُه: 664 - يَدْعُون بالوَيْلِ فيها لا خَلاقَ لَهُمْ ... إلا سَرابيلُ من قَطْرٍ وأغلالُ

فيَحْتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أنه على سبيلِ التهكُّمِ بهم كقوله: 665 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَحِيَّةُ بَيْنِهم ضَرْبٌ وجَيِعُ والثاني: أنه استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكنْ لهم السرابيلُ مِنْ كذا، والثالث: أنه اسْتُعْمِل في الشرِّ على قِلَّة. والخَلاقُ: القَدْر قال: 666 - فما لَكَ بيتٌ لدى الشامخاتِ ... وما لَكَ في غالِبٍ مِنْ خَلاقِ أي: من قَدْرٍ ورتبةٍ، وهو قريبٌ من الأولِ. والضميرُ المنصوبُ في «اشتراه» فيه أربعةُ أقوالٍ: يعودُ على السحرِ أو الكفرِ أو كَيْلِهم الذي باعوا به السحرَ أو القرآنَ لتعويضِهم كتبَ السحرِ عنه. وقد تقدَّم الكلامُ على قولِه: «ولَبِئْس ما» وما ذَكَر الناسُ فيها. واللامُ في «لَبِئْسَما» جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: والله لَبِئْسَما، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: السحرُ أو الكفرُ. قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُ لو محذوفٌ تقديرُه: لو كانوا يَعْلَمُون ذمَّ ذلك لَمَا باعُوا به أنفسَهم، وهذا أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء: «لو كانوا يَنْتَفِعُون بعِلْمهم لامتنعُوا من شراء السحرِ» لأنَّ المقدَّرَ كلما كان مُتَصَيَّداً من اللفظِ كان أَوْلَى. والضميرُ في «به» يعودُ على السحرِ أو الكفرِ، وفي «يَعْلَمُون» يعودُ على اليهود باتفاق، واعلمْ أنَّ هنا سؤالاً معنوياً ذكره الزمخشري

وغيرُه، وهو مترتِّبٌ على عَوْدِ الضميرِ في «عَلِمُوا» و «يَعْلَمُون» ، وذلك أنَّ الزمخشري قال: «فإنْ قلتَ: كيف أَثْبَتَ لهم العلمَ أولاَّ في» ولقد عَلِمُوا «على سبيلِ التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قولِه: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ؟ قلت: معناه: لو كانوا يَعْمَلون بعِلْمِهم، جَعَلهم حينَ لم يَعْلَموا به كأنهم مُنْسلخون عنه» وهذا بناءً منه على أنَّ الضميرين في «عَلِموا» و «يَعْلَمون» لشيءٍ واحدٍ. وأجابَ غيرُه على هذا التقدير بأن المرادَ بالعلم الثاني العقلُ لأنَّ العِلْمَ مِنْ ثمرتِه، فلمَّا انتفَى الأصلُ انتفى ثمرتُه، أو يغايِرُ بين متعلَّقِ العِلْمين أي: عَلِموا ضرره في الآخرةِ ولم يعلموا نَفْعَه في الدنيا، وأمَّا إذا أَعَدْتَ الضميرَ في «عَلِموا» على الشياطين أو على مَنْ بحضرةِ سليمانَ أو على المَلَكَين فلا إشكالَ لاختلافِ المُسْنَد إليه العلمُ حينئذ.

103

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ} : «لو» هنا فيها قولان، أحدُهما: أنها على بابِها من كوِنها حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيره، وسيأتي الكلامُ في جوابها. وأجاز الزمخشري أن تكونَ للتمني أي: ليتهم آمنوا على سبيل المجازِ عن إرادةِ الله إيمانَهم واختيارَهم له، فعلى هذا لا يَلْزَمُ أن يكونَ لها جوابٌ لأنها قد تُجابُ بالفاءِ حينئذٍ، وفي كلامِه اعتزالٌ موضعُه غيرُ هذا الكتابِ. و «أنهم آمنوا» مؤولٌ بمصدرٍ، وهو في محلِّ رفعٍ، واختُلِفَ في ذلك على قَولَيْن، أحدُهما - وهو قولُ سيبويه - أنَّه في محلِّ رفعٍ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ، تقديرُه: ولو إيمانُهم ثابتٌ، وشَذَّ وقوعُ الاسمِ بعد لو، وإنَّ كانت مختصةً بالأفعال، كما شَذَّ نصبُ «غُدْوَةً» بعد «لَدُنْ» . وقيل: لا يَحْتاج هذا المبتدأ إلى خبرٍ لجَريانِ لفظِ المسندِ والمسندِ إليه في صلةِ «أَنَّ» ، وصَحَّح

الشيخ هذا في سورة النساء، وهذا يُشْبِهُ الخلافَ في «أنَّ» الواقعةِ بعد ظنَّ وأخواتِها، وقد تقدَّم تحقيقُه والله أعلم. والثاني: - وهو قولُ المبرد - أنه في محلِّ رفعٍ بالفاعليةِ، رافعُه محذوفٌ تقديرُه: ولو ثَبَتَ إيمانُهم، لأنَّها لا يَليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنه لا يُضْمَرُ بعدَها الفعلُ إلا مفسَّراً بفعلٍ مثلِه، وهذا يُحْمَلُ على المبرد، ولكلِّ من القولين دلائلُ ليس هذا موضعَها. والضميرُ في «أنهم» فيه قولان، أحدُهما: عائدٌ على اليهودِ، والثاني: على الذينَ يُعَلِّمون السحرَ. قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله} في هذه اللامِ قولان، أحدُهما: أنها لامُ لامُ الابتداءِ وأنَّ ما بعدها استئنافُ إخبارٍ بذلك، وليس متعلِّقاً بإيمانِهم وتقواهم ولا مترتِّباً عليه، وعلى هذا فجوابُ «لو» محذوفٌ إذا قيل بأنها ليست للتمني أو قيل / بأنها للتمني ويكونُ لها جوابٌ تقديره: لأُثيبوا. والثاني: أنها جوابُ لو، فإنَّ «لو» تجابُ بالجملةِ الاسميةِ. قال الزمخشري: «أُوْثِرَتِ الجملةُ الاسميةُ على الفعليةِ في جوابِ لو لِما في ذلك من الدَلالةِ على ثبوتِ المُثُوبة واستقرارها، كما عَدَلَ عن النصبِ إلى الرفعِ في» سلامٌ عليكم «وفي قوع جوابِ» لو «جملةً اسميةً نَظَرٌ يحتاجُ إلى دليلٍ غير مَحَلِّ النزاع. قال الشيخ:» لم يُعْهَدْ في كلامِ العربِ وقوعُ الجملةِ الابتدائيةِ جواباً لِلَوْ، إنما جاءَ هذا المختلَفُ في تخريجِه، ولا تَثْبُتُ القواعدُ الكليةُ بالمُحْتَمَلِ.

ولمَثُوبة فيها قولان أحدُهما: أنَّ وزنَها مَفْعُولَة والأصلُ مَثْوُوْبَة، فثَقُلَتْ الضمةُ على الواوِ فَنُقِلَتْ إلى الساكنِ قبلها، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أحدُهما مثل: مَقُولة ومَجُوزة ومَصُوْن ومَشُوْب، وقد جاءَتْ مصادرُ على مَفْعُول كالمَعْقُول، فهي مصدرٌ نَقَل ذلك الواحدي. والثاني: أنها مَفْعُلَةٌ من الثواب بضمَّ العين، وإنما نُقِلَتِ الضَمَّةُ منها إلى الثاء، ويقال: «مَثْوَبة» بسكون الثاءِ وفتحِ الواو، وكان مِنْ حَقِّها الإِعلالُ فيقال: «مَثُابة» كمَقامَة، إلا أنهم صَحَّحُوها كما صَحَّحُوا في الأعلام مَكْوَزَة، وبذلك قرأ أبو السَّمَّال وقتادة كمَشْوَرة. ومعنى «لَمَثُوبة» أي: ثوابٌ وجزاءٌ في من الله. وقيل: لَرَجْعَةٌ إلى الله. قوله: {مِّنْ عِندِ الله} في محلِّ رفعٍ صفةً لِمَثُوبة، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: لَمَثُوبة كائنة من عندِ الله. والعِنْدِيَّة هنا مجازٌ كما تقدَّم في نظائره. قال الشيخ: «وهذا الوصفُ هو المُسَوِّغُ لجوازِ الابتداءِ بالنكرةِ» قلت: ولا حاجةَ إلى هذا لأنَّ المُسَوِّغَ هنا شيء آخر وهو الاعتمادُ على لامِ الابتداءِ، حتى لو قيل في الكلام: «لَمَثُوبة خيرٌ» من غيرِ وصفٍ لَصَحَّ. والتنكيرُ في «لَمَثُوبَةٌ» يفيدُ أنَّ شيئاً من الثوابِ - وإنْ قَلَّ - خَيرٌ، فلذلك لا يُقال له قليلٌ، ونظيرُه: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] . وقوله «خيرٌ» خبرٌ لِمَثُوبَةٌ، وليست هنا بمعنى أَفْعَل التفضيلِ، بل هي لبيانِ أنها فاضلةٌ، كقوله: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ} [فصلت: 40] .

قوله: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُها محذوفٌ تقديرُه: لكان تحصيلُ المثوبةِ خيراً، أي تحصيلُ أسبابِها من الإِيمانِ والتقوى، وكذلك قَدَّرَه، بعضُهم: لآمنوا. وفي مفعولِ «يَعْلَمُون» وجهان: أحدُهما: أنه محذوفٌ اقتصاراً أي: لو كانوا من ذوي العلمِ، والثاني: أنه محذوفٌ اختصاراً، تقديرُه: لو كانوا يَعْلمون التفضيلَ في ذلك، أو يعلمونَ أنَّ ما عند الله خيرٌ وأَبْقَى.

104

قوله تعالى: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} : الجمهورُ على «راعِنا» أمرٌ من المُراعاة، وهي النظرُ في مصالحِ الإِنسانِ وتَدَبُّرِ أمورِه، و «راعِنا» يقتضي المشاركةَ لأنَّ معناه: ليكن منك رعايةٌ لنا وليكن منا رعايةٌ لك، فَنُهوا عن ذلك لأنَّ فيه مساواتِهم به عليه السلام. وقرأ الحسنُ وأبو حَيْوَة: «راعِناً» بالتنوين، ووجهُه أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً راعناً، وهو على طَريقِ النَسَب كلابن وتامر، والمعنى: لا تقولوا قولاً ذا رُعونة. والرُّعونة: الجَهْل والحُمْق والهَوَج، وأصلُ الرُّعونة: التفرُّقُ، ومنه: «جَيْشٌ أَرْعَنُ» أي: متفرِّقٌ في كل ناحية، ورجلٌ أَرْعَنُ: أي ليس له عَقْلٌ مجتمعٌ، وامرأةٌ رَعْنَاءٌ، وقيل للبَصْرةِ: الرَّعْناء، قال: 766 - لولا ابنُ عُتْبَةَ عمروٌ والرجاءُ له ... ما كانَتِ البصرةُ الرَّعْناءُ لي وَطَنا قيل: سُمِّيت بذلك لأنها أَشْبَهت «رَعْنَ الجبلِ» وهو الناتِيءُ منه، وقال ابن فارس: «يقال: رَعَن الرجلُ يَرْعَنُ رَعَناً» . وقرأ أُبَيّ: راعُونا، وفي مصحف عبد الله كذلك، خاطَبوه بلفظِ الجمعِ تعظيماً، وفي مصحفِ عبدِ الله أيضاً، «ارْعَوْنا» لِما تقدَّم. والجملةُ في محل نصبٍ بالقول، وقَدَّم النهيَ على الأمرِ لأنه من باب التروك فهو أَسْهَلُ.

قوله: «انظُرْنا» الجملةُ أيضاً في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، والجمهورُ على «انظُرْنا» بوصلِ الهمزةِ وضَمِّ الظاء أمراً من الثلاثي، وهو نظرٌ من النَّظِرَة وهي التأخير، أي: أَخِّرْنا وتأنَّ علينا، قال امرؤ القيس: 668 - فإنَّكما إنْ تَنْظُرانيَ ساعةً ... من الدَّهْرِ يَنْفَعْني لدى أمِّ جُنْدَبِ وقيل: هو من نَظَر أي: أبْصَرَ، ثم اتُّسِعَ فيه فَعُدِّيَ بنفسِه لأنه في الأصلِ يَتَعدَّى ب «إلى» ، ومنه: 669 - ظاهراتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ ... نَ كما يَنْظُرُ الأَراكَ الظباءُ أي: إلى الأراك، وقيل: مِنْ نَظَر أي: تفكر ثم اتُّسِعَ فيه أيضاً فإنَّ أصلَه أَنْ يتعدَّى بفي، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ على هذا أي: انظُرْ في أمرنا وقرأ أُبيّ والأعمش: «أَنْظِرْنَا» بفتحِ الهمزةِ وكسرِ الظاءِ أمراً من الرباعي بمعنى: أَمْهِلْنا وأخِّرْنا، قال الشاعر: 670 - أبا هندٍ فلا تَعْجَلْ عَلَيْنا ... وأَنْظِرْنا نُخْبِّرْكَ اليَقينا أي: أَمْهِلْ علينا، وهذا القراءةُ تؤيِّد أنَّ الأولَ من النَّظْرةِ بمعنى التأخير لا من البصرِ ولا من البصيرةِ، وهذه الآيةُ نَظيرُ التي في الحديد:: انظُرونا نقتبسْ «فإنها قُرِئَتْ بالوَجْهَيْنِ.

105

قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الكتاب} : في «مِنْ» قولان: أحدهُما: أنها للتبعيضِ فتكونُ هي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ على الحال

ويتعلَّقُ بمحذوف أي: ما يَوَدُّ الذين كفروا كائنين من أهلِ الكتابِ. الثاني: أنها لبيانِ الجنسِ وبه قالَ الزمخشري. قوله: {وَلاَ المشركين} عطفٌ على «أَهْلِ» المجرورِ بمِنْ و «لا» زائدةٌ للتوكيد لأنَّ المعنى: ما يَوَدُّ الذين كفروا مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين كقولِه: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] بغيرِ زيادة «لا» . وزعَمَ بعضُهم أنه مخفوضٌ على الجِوار وأنَّ الأصلَ: ولا المشركون، عطفاً على الذين وإنما خُفِض للمجاورة، نحو: «برؤوسكم وأرجلكِم» في قراءة الجر، وليس بواضح. وقال النحاس: «ويجوزُ: ولا المشركونَ بعطفِه على» الذين «وقال أبو البقاء:» وإنْ كان قد قرىء «ولا المشركون» بالرفع فهو عطفٌ على الفاعل، والظاهر أنه لم يُقْرأ بذلك «وهذان القولان يؤيِّدان ادِّعاءَ الخفضِ في الجوار. قوله: {أَن يُنَزَّلَ} ناصبٌ ومنصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٌ ب» يَوَدُّ «أي: ما يودُّ إنزالَ خيرٍ، وبُني الفعلُ للمفعولِ للعلمِ بالفاعلِ وللتصريحِ به في قولِه:» من ربكم «، وأتى ب» ما «في النفي دونَ غيرِها لأنَّها لنفي الحالِ وهم كانوا متلبِّسين بذلك. قولُه: {مِّنْ خَيْرٍ} / هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعلِ، و» مِنْ «زائدةٌ، أي: أَنْ يُنَزَّل خيرٌ من ربكم. وحَسُنَ زيادتُها هنا وإنْ كان» يُنَزَّل «لم يباشِرْه حرفُ النفي لانسحابِ النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نُفِيَتِ الوَدادَةُ انتفى مُتَعَلَّقُها.

وهذا له نظائرُ في كلامِهم نحو:» ما أظنُّ أحداً يقولُ ذلك إلا زيدٌ «برفع» زيدٌ «بدلاً من فاعِل» يقول «وإنْ لم يباشر النفيَ، لكنه في قوةِ:» ما يقولُ أحدٌ ذلك إلا زيدٌ في ظني «وقولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} [الأحقاف: 33] زيدت الباءُ لأنه في معنى: أَوَلَيس اللهُ بقادرٍ، وهذا على رأي سيبويه وأتباعِه. وأمَّا الكوفيون والأخفش فلا يَحْتاجون إلى شَيءٍ من هذا. وقيل:» مِنْ «للتبعيض أي: ما يَوَدُّون أَنْ يُنَزَّلُ من الخيرِ قليلٌ ولا كثيرٌ، فعلى هذا يكونُ القائمُ مقامَ الفاعل:» عليكم «والمعنى: أَنْ يُنَزَّل عليكم بخير من الخُيور. قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} في» مِنْ «أيضاً قولان، أحدُهما: أنَّها لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقُ بِيُنَزَّل. والثاني: أنها للتبعيضِ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف تقديرُه: مِنْ خُيورِ ربِّكم، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، لأنَّها ومجرورَها صفةً لقولِه:» مِنْ خيرٍ «أي: مِنْ خيرٍ كائن من خيورِ ربِّكم، ويكونُ في محلِّها وجهان: الجرُّ على اللفظِ، والرفعُ على الموضعِ لأنَّ» مِنْ «زائدةٌ في» خير «فهو مرفوعٌ تقديراً لقيامهِ مَقامَ الفاعل كما تقدَّم. وتلخَّصَ ممَّا تقدم أنَّ في كلِّ واحدةٍ من لفظِ «مِنْ» قولين، الأولى: قيل إنها للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس، وفي الثانيةِ قولان: زائدةٌ أو للتبعيضِ، وفي الثالثة أيضاً قولان ابتداءُ الغايةِ أو التبعيضُ. قوله: {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} هذه جملةٌ ابتدائيةٌ تَضَمَّنَتْ رَدُّ ودَادَتِهم ذلك. و «يختصُّ» يَحْتملُ أن يكونَ هنا متعدِّياً وأن يكونَ لازماً، فإنْ

كان متعدِّياً كان فيه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى، وتكون «مَنْ» مفعولاً به أي يختصُّ الله الذي يشاؤه برحمتِه، ويكونُ معنى افْتَعَلَ هنا معنى المجرد نحو: كَسَب مالاً واكتسَبه، وإنْ كان لازماً لم يكن فيه ضميرٌ ويكونَ فاعلُه «مَنْ» أي: واللهُ يختصُّ برحمتِه الشخصَ الذي يَشاؤُه ويكون افتعل بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو اضطرب، والاختصاص ضد الاشتراك، وبهذا تبين فساد قول مَنْ زعم أنه هنا متعدٍّ ليس إلاَّ. و «مَنْ يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً، وعلى كلا التقديرين فلا بُدُّ من تقديرِ عائدٍ، أي: يشاءُ اختصاصَه، ويجوزُ أَنْ يُضَمَّنَ» يشاء «معنى يَخْتار، فيحنئذٍ لا حاجة إلى حَذْفِ مضاف بل تقدِّره ضميراً فقط أي: يَشاؤه، و» يشاءُ «على القولِ الأولِ لا محلَّ له لكونِه صلةً، وعلى الثاني محلُّه النصبُ أو الرفعُ على ما ذُكِرَ في موصوفِه من كونِه فاعلاً أو مفعولاً.

106

قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ} . . في «ما» قولان: أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّها مفعولٌ مقدم لنَنْسَخْ، وهي شرطيةٌ جازمةٌ له، والتقدير: أيَّ شيءٍ نَنْسَخ، مثلَ قوله {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} [الإسراء: 110] . والثاني: أنَّها شرطيةٌ أيضاً جازمة لنَنْسَخْ، ولكنَّها واقعةٌ موقعَ المصدرِ، و «مِنْ آيةٍ» هو المفعولُ به، والتقديرُ: أَّي نَسْخٍ نَنْسَخ آيةً، قاله أبو البقاء وغيرُه، وقالوا: مجيءُ «ما» مصدراً جائز وأنشدوا: 671 - نَعَبَ الغرابُ فقلتُ: بَيْنٌ عاجِلُ ... ما شِئْتَ إذ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فانْعَبِ وقد رَدَّ هذا القولَ بعضُهم بشيئين، أحدُهما: أنَّه يَلْزَمُ خُلُوُّ جملةِ الجزاءِ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ وهو غيرُ جائزٍ، وقد تقدَّم تحقيقُ

الكلامِ في ذلك عند قولِه: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] . والثاني: أنَّ «مِنْ» لا تُزَادُ في الموجَبِ، والشرطُ موجَبٌ، وهذا فيه خلافٌ لبعضِ البصريين أجازَ زيادتَها في الشرطِ لأنه يُشْبِه النفيَ، ولكنه خلافٌ ضعيفٌ. وقرأ ابنُ عامر: «نُنْسِخْ» بضمِّ النونِ وكسر السينِ من أَنْسَخَ، قال أبو حاتم: «هو غلطٌ» وهذه جرأةٌ منه على عادَتِه، وقال أبو عليّ: ليسَتْ لغةٌ لأنه لا يُقال: نَسَخَ وأَنْسخ بمعنىً، ولا هي للتعديةِ لأنَّ المعنى يجيءُ الأمرُ كذلكَ، فلم يبقَ إلا أَنْ يكونَ المعنى: ما نَجِدْه منسوخاً كما يُقال: أَحْمَدْتُه وأَبْخلْتُه، أي: وَجَدْتُه كذلك ثم قال: «وليس نَجِدُه منسوخاً إلا بأَنْ يَنْسَخَه، فتنفقُ القراءتان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ» ، فالهمزةُ عنده ليس للتعديةِ. وجَعَلَ الزمخشري وابنُ عطية الهمزةَ للتعديةِ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعولِ الأولِ المحذوفِ وفي معنى الإِنساخ، فَجَعَل الزمخشري المفعولَ المحذوفَ جبريلَ عليه السلام، والإِنساخَ هو الأمرَ بنَسْخِها، أي: الإِعلامُ به، وجَعَلَ ابنُ عطية المفعولَ ضميرَ النبي عليهِ السلام، والإِنساخَ إباحةَ النَّسْخ لنبيِّه، كأنه لَمَّا نَسَخَها أباحَ لَه تَرْكَها، فَسَمَّى تلك الإِباحة إنساخاً. وخرَّج ابنُ عطية القراءةَ على كَوْنِ الهمزةِ للتعديةِ مِنْ وجهٍ آخرَ، وهو مِنْ نَسْخ الكتابِ، وهو نَقْلُه من غير إزالةٍ له، قال: «ويكونُ المعنى: ما نَكْتُبْ ونُنَزِّلْ من اللوح المحفوظ أو ما نؤخِّرْ فيه ونَتْرُكْهُ فلا نُنُزِّلْه، أيَّ ذلك فَعَلْنا فإنما نأتي بخيرٍ من المؤخَّر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في» منها «و» بمثلها «

عائِدَيْنِ على الضمير في» نَنْسَأْها «قال الشيخ:» وذَهَلَ عن القاعدة وهي أنه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ من الجزاء على اسم الشرطِ، و «ما» في قوله: «ما نَنْسَخْ» شرطيةٌ، وقولُه «أو نَنْسَأْها» عائدٌ على الآية، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها من حيث اللفظُ والمعنى، بل إنما يعودُ عليها من حيث اللفظُ فقط نحو: عندي درهمٌ ونصفُه، فهو في الحقيقة على إضمار «ما» الشرطيةِ، التقدير: أو ما نَنْسَأْ من آيةٍ ضرورةَ أنَّ المنسوخِ غيرُ المَنْسُوء، ولكن يبقى قولُه: مَا نَنْسَخْ من آيةٍ مُفْلَتاً من الجوابِ، إذ لا رابطَ يعودُ منه إليه فَبَطَلَ هذا المعنى الذي قاله «. قوله: {مِنْ آيَةٍ} «مِنْ» للتبعيضِ، فهي متعلِّقةٌ بمحذوف لأنها صفةٌ لاسمِ الشرط، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً، والمعنى: أيَّ شيءٍ نَنْسَخْ من الآيات ف «آية» مفرد وقع موقِعَ الجمعِ، وكذلك تخريجُ كلِّ ما جاءَ من هذا التركيب: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} ، وهذا المجرورُ هو المخصِّصُ والمبِّينُ لاسم الشرطِ؛ وذلك أَنَّ فيه إبهاماً من جهةِ عمومهِ، ألا ترى أنَّك لو قلت: «مَنْ يُكْرشمْ أُكْرِمْ» تناوَلَ النساءَ والرجالَ، فإذا قلت: «مِن الرجالِ» بَيَّنْتَ وخصَّصْتَ ما تناوَله اسمُ الشرط. وأجاز أبو البقاء فيها وَجْهَيْنِ آخرين، أحدهما: أنَّها في موضع نصبٍ على التمييز، والممَّيز «ما» والتقدير: أَيَّ شيءٍ نَنْسَخْ، قال: «ولا يَحْسُنُ أن تقدِّر: أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ، لأنَّك لا تَجْمَعْ بَيْنَ» آية «وبين المميَّز بآية، لا تقول: أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ من آيةٍ، يعني أنك لو قَدَّرْتَ ذلك لاستَغْنَيْتَ عن التمييز. والثاني:

أنها زائدةٌ وآية حال /، والمعنى: أيَّ شيءَ نَنْسَخْ قليلاً أو كثيراً، وقد جاءت» آية «حالاً في قوله: {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73] أي:» علامة «وهذا فاسدٌ لأن الحالَ لا تُجَرُّ ب» مِنْ «، وقد تقدَّم أنها مفعولٌ بها، و» مِنْ «زائدةٌ عل القَوْل بجَعْل» ما «واقعةً موقع المصدر، فهذه أربعةُ أوجه. قولِه: {أَوْ نُنسِهَا} » أو «هنا للتقسيم، و» نُنْسِها «مجزومٌ عطفاً على فعل الشرطِ قبلَه. وفيها ثلاثَ عشرة قراءةً:» نَنْسَأها «بفتحِ حرفِ المضارعةَ وسكونِ النون وفتحِ السين مع الهمز، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير. الثانية: كذلك إلا أنه بغير همزٍ، ذكرها أبو عبيد البكري عن سعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال ابن عطية:» وأراه وَهِمَ «. الثالثة:» تَنْسَها «بفتح التاء التي للخطاب، بعدَها نونٌ ساكنةٌ وسينٌ مفتوحةٌ من غيرِ همزٍ، وهي قراءةُ الحسن، وتُرْوى عن ابن أبي وقاص، فقيل لسعدِ بنِ أبي وقاص:» إن سعيدَ بن المسيَّبَ يَقْرؤها بنونٍ أولى مضمومةٍ وسينٍ مكسورةٍ فقال: إن القرآن لم يَنْزِلْ على المسيَّب ولا على ابن المسيَّبِ «وتلا: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] يعني سعدٌ بذلك أن نسبةَ النسيانِ إليه

عليه السلامُ موجودةٌ في كتابِ الله فهذا مثلُه. الرابعةُ: كذلك إلا أنه بالهمز: الخامسةُ: كذلك إلا أنَّه بضمِّ التاء وهي قراءةُ أبي حَيْوَة: السادسةُ: كذلك إلا أنَّه بغيرِ همزٍ وهي قراءةُ سعيدِ بن المسيَّبِ. السابعة: «نُنْسِها» بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكَسْرِ السينِ من غيرِ همزٍ وهي قراءةُ باقي السبعةِ. الثامنةُ: كذلك إلا أنه بالهمز. التاسعةُ: نُنَسِّها بضمِّ حرفِ المضارعةِ وفتحِ النونِ وكسر السينِ مُشَدَّدَةً وهي قراءةُ الضحاك وأبي رجاء. العاشرةُ: «نُنْسِكَ. بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكسرِ السينِ وكافٍ بعدها للخطاب. الحاديةَ عشرة: كذلك إلا أنه بفتح النون الثانيةِ وتشديد السين مكسورةً، وتروى عن الضحاك وأبي رجاء أيضاً. الثانيةَ عشرةَ: كذلك إلا أنه بزيادةِ ضمير الآية بعد الكاف:» نُنَسِّكَها «وهي قراءة حذيفة، وكذلك هي في مصحفِ سالم مولاه. الثالثةَ عشرةَ:» ما نُنْسِكَ من آيةٍ أو نَنْسَخْها نَجِىءْ بمثلِها «وهي قراءةُ الأعمش، وهكذا ثَبَتَتْ في مصحفِ عبد الله. فأمَّا قراءةُ الهَمْز على اختلافِ وجوهِها فمعناها التأخيرُ من قولِهم: نَسَأَ الله وأَنْسَأَ اللهُ في أَجَلِكَ أي: أَخَّرَه، وبِعْتُه نسيئةً أي متأخراً، وتقولُ العرب: نَسَأْتُ الإِبلَ عن الحوضِ أَنْسَؤُها نَسْئَاً، وأنْسَأَ الإِبلَ: إذا أَخَّرَها عَنْ ورودِها يومَيْنِ فأكثرَ، فمعنى الآيةِ على هذا فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: نؤخِّرُ نَسْخَها ونزولَها وهو قولُ عطاء. الثاني: نَمْحُها لفظاً وحكماً وهو قول ابن

زيد. الثالث: نُمْضِها فلا نَنْسَخْها وهو قولُ أبي عبيد، وهو ضعيفٌ لقوله: نَأْتِ بخيرٍ منها، لأنَّ ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يُقال فيه: نَأْتِ بخير منه. وأمَّا قراءةُ غيرِ الهَمْزِ على اختلافِ وجوهِها أيضاً ففيها احتمالان: أظهرُهما: أنها من النسيانِ، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يكونَ المرادُ به في بعض القراءاتِ ضدَّ الذِّكْرِ، وفي بعضِها التركَ. والثاني: أنَّ أصلَه الهمزُ من النَّسْء وهو التأخيرُ، إلا أنَّه أُبْدِلَ من الهمزةِ ألفٌ فحينئذٍ تتَّحِد القراءتان. ثم مَنْ قرأ مِنَ القُرَّاء:» نَنْسَاها «من الثلاثي فواضحٌ. وأمَّا مَنْ قرأ منهم مِنْ أَفْعَل، وهم نافع وابن عامر والكوفيون فمعناه عندهم: نُنْسِكَها، أي: نجعلُك ناسياً لها، أو يكونُ المعنى: نَأْمُرُ بتركها، يقال: أَنْسَيْتُهُ الشيءَ أي أَمَرْتُه بتركِه، ونَسِيْتُه تَرَكْتُه، وأنشدوا: 672 - إنَّ عليَّ عُقْبَةً أَقْضِيها ... لستُ بِناسِيها ولا مُنْسِيها أي: لا تاركها ولا آمراً بتركها، وقد تكلَّم الزجاج في هذه القراءةِ فقال:» هذه القراءةُ لا يَتَوَجَّهُ فيها معنى الترك، لا يُقال: أَنْسَى بمعنى ترك قال الفارسي وغيرُه: «ذلك مُتَّجِهٌ لأنه بمعنى نَجْعَلُكَ تَتْرُكها» وقد ضَعَّفَ الزجاج أيضاً أَنْ تُحْمَلَ الآيةُ على معنى النسيانِ ضدَّ الذكرِ، وقال: «إنَّ هذا لم يكُنْ له عليه السلام ولا نَسي قرآناً» ، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] أي لم نَفْعَل شيئاً من ذلك. وأجابَ الفارسي

عنه بأنَّ معناه لم نُذْهِبْ بالجميع. وهذا نهايةُ ما وَقَعْتُ عليه من كلام الناس. قوله: «نَأْت» هو جوابُ الشرط، وجاء فعلُ الشرطِ والجزاءِ مضارعَيْنِ، وهذا التركيبُ أفصحُ التراكيبِ، أعني: مجيئهما مضارِعَيْن. وقوله: «بخيرٍ منها» متعلِّقٌ بِنَأْتِ، وفي «خير» هنا قولان، الظاهرُ منهما: أنها على بابها من كونها للتفضيل، وذلك أنَّ الآتيَ به إن كانَ أَخفَّ من المنسوخ أو المنسوء فخيريَّتُه بالنسبة إلى سقوطِ أعباء التكليف، وإنْ كانَ أَثْقَلَ فخيريَّتُه بالنسبة إلى زيادةِ الثوابِ، وقولُه: «أو مثلِها» أي في التكليف والثواب، وهذا واضحٌ. والثاني: أن «خيراً» هنا مصدرٌ، وليس من التفضيلِ في شيء، وإنَّما هو خيرٌ من الخُيورِ، كخير في قوله: {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105] و «مِنْ» لابتداء الغاية، والجارُ والمجرور صفةٌ لقولِه «خير» أي: خيرٌ صادِرٌ من جهتِها، والمعنى عند هؤلاء: مَا نَنْسَخْ من آيةٍ أو نؤخِّرْها نأتِ بخيرٍ من الخيور من جهةِ المنسوخِ أو المنسوء. وهذا بعيدٌ جداً لقوله بعدَ ذلك: «أو مثلِها» فإنه لا يَصِحُّ عَطْفُه على «بخير» على هذا المعنى، اللهم إلاَّ أَنْ يُقْصَدَ بالخيرِ عَدَمَ التكليفِ، فيكونَ المعنى: نَأْتِ بخيرِ من الخُيور، وهو عَدَمُ التكليفِ أو نَأْتِ بمثلِ المنسوخِ أو المَنْسوء. وأمَّا عَطْفُ «مثلِها» على الضمير في «منها» ، فلا يجوزُ إلا عند الكوفيين، لعدمِ إعادةِ الخافضِ، وقوله «ما نَنْسَخْ» فيه التفاتٌ من غيبةٍ إلى تكلم، ألا ترى أنَّ قبله «واللهُ يَخْتَصُّ» {والله ذُو الفضل} . والنَّسْخُ لغةً: الإِزالةُ بغيرِ بدلٍ يُعْقِبُه، نَسَخَتِ الريحُ الأثرَ والشمسُ الظلَّ، أو نَقْلُ الشيءِ من غير إزالة [نحو:] نَسَخْتُ الكتابَ، وقال بعضهُم:

«والنسخُ: الإِزالةُ، وهو في اللغةِ على ضَرْبَيْن: ضرب فيه إزالةُ شيءٍ وإقامةُ غيره مُقامَه نحو:» نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ «فإنَّها ازالته وقامَتْ مَقامَه، ومنه {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، والثاني: أن يُزيلَه ولا يَقُومَ شيءٌ مقامَه نحو: نَسَخَتِ الريحُ الأثر ومنه: فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقي الشيطانُ، النسيئة: التأخيرُ كما تقدَّم، والإمضاءُ أيضاً قال: 673 - أَمُونٍ كأَلْواحِ الإرانِ نَسَأْتُها ... على لاحِبٍ كأنَّه ظَهْرُ بُرْجُدٍ

107

قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} : هذا استفهامٌ معناهُ التقريرُ، فلذلك لم يَحَتَجْ إلى معادِلٍ يُعْطَفُ عليه ب «أم» ، وأَمْ في قولِه: «أم تُريدون» : منقطعةٌ هذا هو الصحيحُ في الآيةِ. قال ابنُ عطية «ظاهرُه الاستفهامُ المحضُ، فالمعادِلُ هنا على قولِ جماعةٍ: أَمْ تريدون، وقال قومٌ: أَمْ منقطعةٌ، فالمعادِلُ محذوفٌ تقديرُه: أَمْ عَلِمْتُم، هذا إذا أُريدَ بالخِطابِ أمتُه عليه السلام، أمَّا إذا أُرِيدَ هو به فالمعادِلُ محذوفٌ لا غيرُ، وكِلا القَوْلَين مَرْوِيُّ» انتهى. وهذا غيرُ مَرْضِيٍّ لِما مَرَّ أَنَّ المرادَ بِه التقريرُ، فهو كقولِه: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1] والاستفهامُ بمعنى التقريرِ كثيرٌ جداً لا سيما إذا دَخَلَ على نفيٍ كما مَثَّلْتُه لك. وفي قولِه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله} التفاتان، أحدُهما: خروجٌ من خطاب جماعةٍ وهو {خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ، والثاني: خروجٌ من ضميرِ المتكلِّم المعظِّمِ نفسَه إلى الغَيْبَةِ بالاسمِ الظاهر، فلم يقل: ألم تعلموا أننا، وذلكَ لِما يَخْفَى من التعظيمِ والتفخيم. {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} : أَنَّ وما في حَيِّزِها: إمَّا سادةٌ مسدَّ مفعولَيْنِ كما هو مذهبُ الجمهورِ، أو واحدٍ والثاني محذوفٌ كما هو مذهبُ الأخفشِ حَسْبَ ما تقدَّم من الخلافِ.

قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ} . . . يجوزُ في «مُلْك» وجهان، أحدُهما أنَّه مبتدأٌ وخبرُه مُقَدَّمِ عليه، والجملةُ في محلَّ رفعٍ خبرٌ ل «أنَّ» . والثاني: أنه مرفوعٌ بالفاعليةِ، رَفَعَه الجارُّ قبله عند الأخفش، لا يقال: إنَّ الجارَّ هنا قد اعتمد لوقوعِه خبراً ل «أَنَّ» ، فيرفعُ الفاعلَ / عند الجميع، لأنَّ الفائدة لم تتمَّ به فلا يُجْعَلُ خبراً. والمُلْكُ بالضمِّ الشيءُ المَمْلوك، وكذلك هو بالكسرِ، إلا أنَّ المضمومَ لا يُسْتَعْمَل إلا في مواضِع السَّعَةِ وبَسْطِ السُّلْطانِ. قوله: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ} يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: كونُهما تميميَّةً فلا عَمَلَ لها فيكونُ «لكم» خبراً مقدماً، و «مِنْ وليّ» مبتدأً مؤخراً زيدت فيه «مِنْ» فلا تعلُّقَ لها بشيءٍ. والثاني: أن تكونَ حجازيةً وذلك عند مَنْ يُجيز تقديمَ خبرِها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ، فيكونُ «لكم» في محلِّ نصبٍ خبراً مقدَّماً، و «مِنْ وليّ» اسمها مؤخراً، و «مِنْ» فيه زائدةٌ أيضاً، و {مِّن دُونِ الله} فيه وجهان، أحدُهما أنَّه متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به «لكم» من الاستقرارِ المقدَّرِ، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية. والثاني: أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من قوله: {مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} لأنَّه في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ، فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً، قاله أبو البقاء. فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ غيرِ الذين تعلَّق به «

لكم» . ولا نصير «عطفٌ على لفظِ» ولي «ولو قُرِىءَ برفعِهِ على الموضِع لكان جائزاً. وأتى بصيغة فَعيل في» وليَّ «و» نَصير «لأنها أَبْلَغُ من فاعل، ولأنَّ» وليَّاً «أكثرُ استعمالاً من» والٍ «ولهذا لم يَجِيءْ في القرآن إلا في سورةِ الرعدِ، وأيضاً لتواخي الفواصلِ وأواخرِ الآي. وفي قولِه» لكم «انتقالٌ من خطابِ الواحدِ لخطابِ الجماعةِ، وفيه مناسَبَةٌ، وهو أنَّ المنفيَّ صار نَصَّاً في العمومِ بزيادةِ» مِنْ «فناسَبَ كونَ المَنْفِيِّ عنه كذلكَ فجُمِعَ لذلك. قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} . . قد تَقَدَّم أنَّ «أَمْ» هذه يجوزُ أن تكونَ متصلةً معادِلَةً لقولِه: «ألم تَعْلَمْ» ، وأَنْ تكونَ منقطعة وهو الظاهرُ، فَتُقَدَّر ببل والهمزِ، ويكون إضرابَ انتقالٍ من قصةٍ إلى قصة قال أبو البقاء: أَمْ هنا منقطعةٌ، إذ ليسَ في الكلام همزةٌ تقعُ موقعَها ومع أم: أيُّهما، والهمزةُ من قولِه: «ألم تعلمْ» ليسَتْ مِنْ أم في شيء والمعنى: بل أتريدون «فَخَرَجَ مِن كلام إلى كلام. وأصلُ تُريدون: تُرْودُون، لأنه مِنْ رَادَ يَرُودُ، وقد تقدَّم، فَنُقِلَتْ حركةُ الواوِ على الراءِ فَسَكَنَت الواوُ بعد كسرةٍ فقُبِلَتْ ياءً. وقيل» أم «للاستفهامِ، وهذه الجملةُ منقطعةٌ عما قبلها وقيل: هي بمعنى بل وحدَها، وهذان قولان ضعيفان. قوله: {أَن تَسْأَلُواْ} ناصبٌ ومنصوبٌ في محلِّ نصبٍ مفعولاً به بقوله» تُريدون «، أي: أتريدون سؤالَ رسولِكم. قولُه:» كما سُئِلَ «متعلِّقٌ بتَسْأَلوا، والكافُ في محلِّ نصبٍ، وفيها التقديران المشهوران: فتقديرُ سيبويه أنَّها حالٌ من ضمير المصدرِ المحذوف

أي: أَنْ تَسْأَلوه أي: السؤالَ حالَ كونِه مُشَبَّهاً بسؤالِ قومِ موسى له، وتقديرُ غيرِه - وهم جمهور النحويين - أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا. و» ما «مصدرية، أي: كسؤال موسى، وأجاز الحوفي كونها بمعنى الذي فلا بدَّ من تقدير عائد، أي كالسؤال الذي سُئِله موسى. و» موسى «مفعول لم يُسمَّ فاعله، حُذِف الفاعل للعلم به، أي كما سأل قوم موسى. والمشهور:» سُئِل «بضم السين وكسر الهمزة، وقرأ الحسن:» سِيل «بكسر السين وياء بعدها، مِنْ: سالَ يسال نحو خِفْتُ أخاف، وهل هذه الألفُ في» سال «أصلُها الهمزُ أولا؟ تقدَّم خلافٌ في ذلك وسيأتي تحقيقُه في» سَأَلَ «، وقُرىء بتسهيلِ الهمزةِ بينَ بينَ. و «من قبلُ» متعلق بسُئل، و «قبلُ» مبنيةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي: من قبلِ سؤالِكم. وهذا توكيدٌ، وإلاَّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم. قوله: {بالإيمان} فيه وجهان، أحدُهما: أنها باء العِوَضيَّة، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. والثاني: أنها للسببية، قال أبو البقاء: «يجوز أن يكونَ مفعولاً بيتبدَّل، وتكون الباءُ للسبب كقولك: اشتريْتُ الثوبَ بدرهمٍ» وفي مثالِه هذا نظرٌ. {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} قُرِىَء بإدغام الدال في الضاد وإظهارها، و «سواءَ»

قال أبو البقاء: «سواء السبيلِ ظرفٌ بمعنى وَسَطِ السبيلِ وأعدله» وهذا صحيحٌ فإنَّ «سَواء» جاء بمعنى وَسَط، قال تعالى: {فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] وقال عيسى بن عمر: «ما زلت أكتب حتى انقطع سَوائي» وقال حسان 674 - يا ويحَ أصحابِ النبيِّ ورَهْطِه ... بعدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ ومن مجيئه بمعنى العَدْلِ قولُ زهير: 675 - أَرُونا خُطَّةً لا عيبَ فيها ... يُسَوِّي بيننا فياه السَّواءُ والسبيلُ يُذَكَّر ويؤنَّث: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] . والجملةُ من قولِه: «فَقَدْ ضَلَّ» في محلِّ جزمٍ لأنَّها جزاءُ الشرطِ، والفاءُ واجبةٌ هنا لعَدَمِ صلاحيَتِه شَرْطَاً.

109

قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم} : الكلامُ في «لو» كالكلامِ فيها عندَ قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} [البقرة: 96] ، فمَنْ جَعَلَهَا مصدريةً هناك جعَلها كذلك هنا، وقال: هي مفعولُ «يَوَدُّ» ، أي: وَدَّ كثيرٌ رَدَّكم. ومَنْ أبى جَعَلَ جوابَها محذوفاً تقديرُه: لو يَرُدُّونَكم كفاراً لَسُرُّوا - أو فرحوا - بذلك، وقال بعضُهم: تقديرُه: لو يَرُدُّونكم كفاراً لَوَدُّوا ذلك، فَوَدَّ دالَّةٌ على الجوابِ وليسَتْ بجوابٍ لأنَّ «لو» لا يتقدَّمُها جوابُها كالشرط. وهذا التقديرُ الذي قَدَّره هذا القائلُ فاسدٌ؛ وذلك أنَّ «لو» حرفٌ لما كان سيقعُ لوقوعِ

غيرِه فَيَلْزَمُ مِنْ تقديرِه ذلك أن وَدَادَتَهُم ذلك لم تَقَعْ، لأن الموجَبَ لفظاً منفيٌّ معنىً، والغرضُ أن ودَادَتَهم ذلك واقعةٌ باتفاقٍ، فتقديرُ: لَسُرُّوا ونحوِه هو الصحيحُ. و «يَرُدُّ» هنا فيه قولان، أحدُهما - وهو الواضحُ - أنها المتعديةُ لمفعولين بمعنى صَيَّر، فضميرُ المخاطبين مفعولٌ أَوَّلُ، و «كفاراً» مفعولٌ ثانٍ، ومِنْ مجيء رَدَّ بمعنى صَيَّر قوله: 676 - رمى الحَدَثانُ نسوةَ آلِ حربٍ ... بمِقْدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا فَرَدَّ شعورَهُنَّ السُّودَ بيضاً ... وَرَدَّ وجوهَهُنَّ البِيضُ سُودا وجَعَلَ أبو البقاء «كفاراً» حالاً من ضميرِ المفعولِ على أنَّها المتعديةُ لواحدٍ، وهو ضعيفٌ لأنَّ الحالَ يُسْتَغْنى عنها غالباً، وهذا لا بُدَّ منه. و «مِنْ بعدِ» متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية. قوله: {حَسَداً} نصبٌ على المفعولِ له، وفيه الشروطُ المجوِّزة لنصبِه، والعاملُ فيه «وَدَّ» أي: الحاملُ على ودَادَتِهم رَدَّكم كفاراً حَسَدُهم لكم. وجَوَّزوا فيه وجهين آخرين، أحدُهما: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، وإنما لم يُجْمَعْ لكونِه مصدراً، أي: حاسِدِين، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مجيءَ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدريةِ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظِه أي يَحْسُدونكم حَسَداً، والأولُ أظهرُ الثلاثة. قوله: {مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها، أنَّه متعلِّقٌ بوَدَّ، أي: وَدُّوا ذلك مِنْ قِبَلِ شَهَواتِهم لا من قبلِ التَدَيُّنِ، و «مِنْ» لابتداءِ

الغايةِ. الثاني: أنه صفةٌ ل «حَسَدا» ، فهو في محلِّ نصبٍ، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: حَسَداً كائناً مِنْ قِبَلهم وشهوتِهم، ومعناه قريبٌ من الأول. الثالث: انه متعلِّقُ بيردُّونكم، و «مِنْ» للسببية، أي: يكونُ الردُّ مِنْ تِلْقائِهم وجِهَتِهم وبإغوائهم. قوله: «مِّن بَعْدِ مَا» متعلِّقٌ ب «وَدَّ» ، و «مِنْ» للابتداءِ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدأتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم، فكفرُهم عنادٌ، و «ما» مصدريةٌ أي: مِنْ بعدِ تبيُّنِ الحقِّ. والحَسَدُ: تمنِّي زوالِ نعمةِ الإِنسانِ، المصدرُ: حَسَدٌ وحَسَادَة. والصَّفْحُ قريبُ من العفو، مأخوذٌ من الإِعراض بِصَفْحَةِ العنق، وقيل: معناهُ التجاوزُ، مِنْ تَصَفَّحْتُ الكتاب أي: جاوزت / ورقَه، والصَّفوح: من أسماء الله، والصَّفُوح أيضاً: المرأةُ تَسْتُر وجهَها إعراضاً، قال: 677 - صَفُوحٌ فما تَلْقاكَ إلاَّ بِحِيلةٍ ... فمَنْ ملَّ منها ذلك الوصلَ مَلَّتِ قوله: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] فيجوز في «ما» أن تكونَ مفعولاً بها وأن تكونَ واقعةً موقعَ المصدرِ، ويجوز في «مِنْ خيرٍ» الأربعةُ الأوجهِ التي في «من آية» . من كونِه مفعولاً به أو حالاً أو تمييزاً أو متعلقاً بمحذوفٍ. و «مِنْ» تبعيضيةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُها فَلْيُراجَع ثَمَّةَ. و «لأنفسِكم» متعلِّق بتقدِّموا، أي: لحياةِ أنفسِكم، فَحُذِفَ، و «تَجِدُوه» جوابُ الشرطِ، وهي المتعدِّيةُ لواحدٍ لأنها بمعنى الإِصابةِ، ومصدرُها الوِجْدانُ بكسرِ الواو كما تقدَّم، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: تَجدوا ثوابَه، وقد جَعَلَ الزمخشري الهاءَ عائدةً على «ما» وهو يريد ذلك، لأنَّ الخيرَ المتقدِّم سببٌ

مُنْقَضٍ لا يوجد، إنما يوجد ثوابُه. قوله: «عند الله» يجوزُ فيه وجهان. أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «تجدوه» . والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ أي: تَجِدُوا ثوابَه مُدَّخَراً مُعَدَّاً عند الله، والظرفيةُ هنا مجازٌ نحو: «لك عندَ فلانٍ يدُ» .

111

قوله تعالى: {إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً} : «مَنْ» فاعلٌ بقوله «يَدْخُلَ» وهو استثناءٌ مفرغٌ، فإنَّ ما قبل «إلاَّ» مفتقرٌ لِما بعدَها، والتقديرُ: لن يدخلَ الجنةَ أحدٌ، وعلى مذهبِ الفراء يجوزُ في «مَنْ» وجهان آخران، وهما النصبُ على الاستثناءِ والرفعُ على البدلِ من «أحد» المحذوفِ، فإن الفراء يراعي المحذوفَ، وهو لو صُرِّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران فكذلك مع تقدِيره عندَه، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين. والجملةُ من قولِه: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن} في محل نصبٍ بالقول، وحُمِلَ أولاً على لفظِ «مَنْ» فَأُفْرِدَ الضمير في قوله: «كان» ، وعلى معناها ثانياً فجُمِع في خَبَرِها وهو «هوداً» ، وفي مثلِ هذين الحَمْلين خلافٌ، أعني أن يكونَ الخبرُ غيرَ فعل، بل وصفاً يَفْصِلُ بين مذكرِه ومؤنثِه تاءُ التأنيثِ، فمذهَبُ جمهورِ البصريين والكوفيين جوازُه، ومذهبُ غيرِهم مَنْعُه، منهم أبو العباس، وهو مَحْجوجون بسماعِه من العربِ كهذه الآيةِ، فإنَّ هوداً جمعُ هائد على أظهر القولين، نحو: بازِل وبُزْل وعائِد وعُود وحائل وحُول وبائِر وبُور و «هائد» من الأوصافِ الفارقِ بين مذكرِها ومؤنثِها تاءُ التأنيثِ، وقال الشاعر:

678 - وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكم نِياما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و «نيام» جمعُ نائمٍ وهو كالأول، وفي «هُود» ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه جمعُ هائِدٍ كما تقدَّم. والثاني: أنه مصدرٌ على فُعْل نحو حُزْن وشُرْب، يوصف به الواحدُ وغيرُه نحو: عَدْل وصَوْم. والثالث: - وهو قَوْلُ الفراء - أنَّ أصلَه «يَهود» فحُذِفَتِ الياء من أوله، وهذا بعيدٌ جداً. و «أو» هنا للتفصيلِ والتنويعِ لأنه لمَّا لَفَّ الضميرَ في قوله: «وقالوا» فَصَّل القائلين، وذلك لِفَهْمِ المعنى وأَمْنِ الإلباس، والتقديرُ: وقالَ اليهودُ لًَنْ يدخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كانَ هُوداً، وقال النصارى: لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصارى؛ لأنَّ مِن المعلومِ أنَّ اليهودَ لا تقول: لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصرانياً وكذلك النَّصارى، ونظيرُه: {قَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 135] إذ معلومُ أنَّ اليهودَ لا تَقُول: كونوا نصارى، ولا النصارى تقول: كونوا هوداً، وصُدِّرَت الجملةُ بالنفي ب «لن» لأنها تُخَلِّصُ للاستقبالِ ودخولُ الجنة مستقبلٌ. وقُدَّمَتِ اليهودُ على النصارى لفظاً لتقدُّمِهِم زماناً. قوله: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} «تلك» مبتدأ، و «أمانِيُّهم» خبرُه، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لكونها اعتراضاً بين قولِه: «وقالوا» وبين: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} فهي اعتراضٌ بين الدعوى ودليلها. والمشارُ إليه ب «تلك» فيه ثلاثةُ احتمالات أحدُها: أنه المقالةُ المفهومةُ مِنْ: «َقَالُواْ لَن يَدْخُلَ» ، أي: تلك المقالةُ أمانيُّهم، فإنْ قيل: فكيف أَفْرَدَ المبتدأ وجَمَعَ الخبرَ؟ فالجوابُ أن تلك كنايةً عن المقالةِ، والمقالةُ في الأصلِ مصدرٌ، والمصدرُ يقع بلفظِ الإِفرادِ للمفردِ والمثنَّى والمجموعِ، فالمرادُ ب «تلك» الجمعُ من حيث المعنى. والثاني: - قاله

الزمخشري - وهو أَنْ يُشار بها إلى الأماني المذكورة وهي أمْنُيَّتُهُم ألاَّ يُنَزَّلَ على المؤمنين خيرٌ من ربهم، وأمنَّيتُهم أَنْ يَرُدُّوهم كفاراً، وأُمْنِيَّتُهم ألاَّ يَدْخُلَ الجنةَ غيرُهم. قال الشيخ: «وهذا ليس بظاهرٍ لأنّ كلَّ جملةٍ ذُكِرَ فيها وُدُّهم لشيء قد كَمَلَتْ وانفَصَلَتْ واستقلَّت بالنزولِ، فَيَبْعُد أنْ يشارَ إليها» . والثالث - وإليه ذهب الزمخشري أيضاً - أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: أمثالُ تلك الأُمْنِيَّة أمانِيُّهم، يريد أن أمانيَّهم جميعاً في البُطْلان مثلُ أمنِيَّتِهم هذه. انتهى ما قاله، يعني أنه أُشير بها إلى واحدٍ. قال الشيخُ في هذا الوجهِ، «وفيه قَلْبُ الوَضْعِ، إذ الأصلُ أن يكونَ» تلك «مبتدأ، و» أمانيُّهم «خبرٌ، فَقَلبَ هذا الوضعِ، إذ قال: إن أمانيَّهم في البُطْلان مثلُ أمنيَّتِهم هذه، وفيه أنَّه متى كان الخبرُ مُشَبَّهاً به المبتدأُ فلا يتقدَّمُ الخبرُ نحو: زيدٌ زهيرٌ، فإنْ تقدَّمَ كان ذلك من عكسِ التشبيهِ كقولك: الأسدُ زيدٌ شجاعةً» . قوله: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ. واختُلِفَ في «هاتِ» على ثلاثة أقوال، أحدُها: أنه فعلٌ، وهذا هو الصحيحُ لاتصالِه بالضمائرِ المرفوعةِ البارزةِ نحو: هاتُوا، هاتي، هاتِيا، هاتِين. الثاني: أنه اسمُ فعلٍ بمعنى أحْضِرْ. والثالث - وبه قال الزمخشري -: أنه اسمُ صوتٍ بمعنى ها التي بمعنى أحْضِرْ. وإذا قيل بأنه فعلٌ فاختُلِفَ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ أيضاً، أصحُّها: أن هاءَه أصلٌ بنفسها، وأنَّ أصلَه هاتَي يُهاتي مُهاتاةً مثل: رامَى يُرامي مُراماة،

فوزنه فاعَلَ فنقول: هاتِ يا زيدُ وهاتي يا هندُ وهاتوا وهاتِين يا هندات، كما تقولُ: رامِ رامي راميا رامُوا رامِينَ. وزعم ابن عطية أن تصريفَه مهجورٌ لا يُقال فيه إلا الأمرُ، وليس كذلك. الثاني: أنَّ الهاءَ بَدَلٌ من الهمزةِ وأنَّ الأصلَ: أَأْتى وزنُه: أَفْعَل مثل أَكْرم. وهذا ليس بجيدٍ لوجهين، أحدهما: أنَّ آتى يتعدَّى لاثنينِ وهاتى يتعدَّى لواحدٍ فقط. والثاني من الوجهين: أنه كان ينبغي أَنْ تعود الألفُ المُبْدَلةُ من الهمزةِ إلى أصلِها لزوالِ موجِبِ قَلْبِها وهو الهَمْزةُ الأولى ولم يُسْمع ذلك الثالث: أن هذه «ها» التي للتنبيه دَخَلَتْ على «أتى» ولَزِمَتْها، وحُذِفَتْ همزةُ أتى لُزوماً وهذا مردودٌ، فإنَّ معنى هاتِ أحْضِرْ كذا ومعنى ائتِ: احضَرْ أنت، فاختلافُ المعنى يَدُلُّ على اختلافِ المادة. فتحصَّل في «هاتُوا» سبعةُ أقوالٍ، فعلٌ أو اسمُ فعلٍ أو اسمُ صوتٍ، والفعلُ هل يَتصرَّفُ أو لا يتصرفُ، وهل هاؤُه أصلية أو بَدَلٌ من همزةٍ أو هي هاءُ التنبيه زِيدت وحُذِفَتْ همزتُه؟ وأصلُ هاتوا: هاتِيُوا، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وضُمَّ ما قبلَه لمجانسة الواو فصار هاتوا. قوله: {بُرْهَانَكُمْ} مفعولٌ به، واختُلِفَ فيه على قَوْلَيْن، أحدُهما: أنه مشتقٌّ من البُرْهِ وهو القَطْعُ، وذلك أنه دليلٌ يفيدُ العلمَ القطعيَّ، ومنه: بُرْهَةُ الزمان أي: القِطْعَةُ منه فوزنه فُعْلان. والثاني: أن نونَه أصليةٌ لثبوتِها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً، والبَرْهَنَةُ البيانُ، فَبَرْهَنَ فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ، لأنَّ فعلنَ غيرُ موجود في أبنيتهم فوزنه فُعْلال، وعلى هذين القولين يترتَّب الخلافُ في صَرْفِ «بُرهان» وعدمِه مُسَمَّى به.

112

قوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} : جملةٌ في موضعِ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيها «أَسْلم» ، وعَبَّر بالوجهِ لأنه أشرفُ الأعْضاءِ وفيه أكثرُ الحواسِّ، ولذلك يقال: وَجْهُ الأمرِ أي مُعظَمُه قال الأعشى: 679 - أُؤوِّلُ الحُكْمَ على وَجْهِهِ ... ليسَ قضائي بالهوى الجائِرِ ومعنى أَسْلَمَ: خَضَع، ومنه: 680 - وأَسْلَمْتُ وَجْهي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... له المُزْنُ تَحْمِيلُ عَذْباً زُلالا وهذه الحالُ مؤكِّدة لأنَّ مَنْ أَسْلَمَ وجهه لله فهو مُحْسِنٌ، وقال الزمخشري: «وهو مُحْسِنٌ له في عمله» فتكونُ على رأيه مبيِّنة، لأنَّ مَنْ أَسْلَم وجهَه قسمان: مُحْسِنٌ في عمله وغيرُ محسنٍ. قال الشيخ: «وهذا منه جُنوحٌ إلى الاعتزال» . قوله {فَلَهُ أَجْرُهُ} الفاءُ جوابُ الشرطِ إنْ قيل بأنَّ «مَنْ» شرطية، أو زائدةٌ في الخبرِ إنْ قيل بأنَّها موصولةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين عند قولِه {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] وهذه نظيرُ تلك فَلْيُلْتفتُ إليها. وهنا وجهٌ آخرُ زائدٌ على ما في تلك ذكره الزمخشري وهو أن تكونَ «مَنْ» فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي: بلى يَدْخُلها مَنْ أَسْلم، و «فله أجرُه» كلامٌ معطوفٌ على يَدْخُلَها. هذا نصُّه. و «له أجره» مبتدأٌ وخبرُه، إمَّا في محلّ ِجزمٍ أو رفعٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من الخلافِ في «مَنْ» ، وحُمِل على لفظِ «مَنْ» فأُفْرِدَ الضميرُ في قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} وعلى معناها فجُمع في قولِه: {عليهم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وهذا أحسنُ

التركيبين - أعني البَداءَةَ بالحَمْلِ على اللفظ ثم الحَمْلِ على المعنى. والعاملُ في «عند» ما تعلَّق به «له» من الاستقرارِ، ولمَّا أحال أجرَه عليه أضافَ الظرفَ إلى لفظةِ الربِّ لِما فيها من الإِشعار بالإِصلاحِ والتدبيرِ، ولم يُضِفْهُ إلى الضمير ولا إلى الجلالةِ فيقول: فله أجرهُ عنده أو عندَ الله، لما ذكرْتُ لك، وقد تقدَّم الكلامُ في قولِه تعالى: «ولا خَوْفٌ» وما فيه من القرآءت.

113

قوله تعالى: {اليهود} : اليهودُ مِلَّةٌ معروفةٌ، والياءُ فيه أصليةُ لثبوتِها في التصريفِ، وليست من مادَّةِ هَوَد من قوله: {هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقد تقدَّم أن الفراء يَدَّعي أنَّ «هوداً» أصلُه: يَهود فَحُذِفت ياؤُه، وتقدَّم أيضاً عند قولِه: «والذين هادوا» أنَّ اليهودَ نسبةُ ليهوذا ابن يعقوب. وقال الشلوبين: «يَهُود فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ جمعَ يهودي فتكونَ نكرةً مصروفةً. والثاني: أَنْ تكونَ عَلَماً لهذه القبيلةِ فتكونَ ممنوعةُ من الصرف. انتهى، وعلى الأولِ دَخَلَتْ الألفُ واللامُ، وعلى الثاني قولُه: 681 - أولئك أَوْلَى من يهودَ بمِدْحَةٍ ... إذا أنتَ يوماً قُلْتَها لم تُؤَنَّبِ وقال: 682 - فَرَّتْ يهودُ وأَسْلَمَتْ جيرانُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولو قيل بأنَّ» يهود «منقولٌ من الفعلِ المضارع نحو: يَزيد ويشكر لكان قولاً حسناً. ويؤيِّدُه قولُهم: سُمُّوا يهوداً لاشتقاقِهم من هاد يَهُود إذا تَحَرَّك. قوله: {لَيْسَتِ النصارى} » ليس «فعلٌ ناقصٌ أبداً من أخواتِ كان ولا يتصرَّفُ ووزنُه على فَعِل بكسر العين، وكان من حقِّ فائِه أن تُكْسَرَ إذا أُسْنِدَ إلى تاء المتكلم ونحوِها دلالةًعلى الياءِ مثل: شِئْتُ، إلا أنه لَمَّا لم يتصرَّفْ بقيت الفاءُ على حالِها، وقال بعضُهم: لُسْتُ بضم الفاء، ووزنُه على هذه اللغة: فَعُل بضم العين، ومجيء فَعُل بضمِّ العينِ فيما عينُه ياءٌ نادر، لم يَجيء منه إلا» هَيُؤَ الرجلُ «إذا حَسُنَتْ هيئتُه. وكونُ» ليس «فعلاً هو الصحيحُ خلافاً للفارسي في أحدِ قولَيْه ومَنْ تابَعَه في جَعْلِها حرفاً ك» ما «ويَدُل على فعليَّتها اتصالُ ضمائرِ الرفعِ البارزةِ بها، ولها أحكامٌ كثيرةٌ. و» النصارى «اسمُها، و» على شيء «خبرُها، وهذا يَحْتمِل أن يكونَ ممَّا حُذِفَتْ فيه الصفةُ، أي على شيء مُعْتَدٍّ به كقولِه:» إنه ليس من أهلِك «أي: أهلِك الناجين، [وقوله:] 683 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . لقد وَقَعْتِ على لَحْمِ أي: لحمٍ عظيمٍ وأَنْ يكونَ نفياً على سبيلِ المبالَغَةِ، فإذا نُفِي إطلاقُ الشيء على ما هُمْ عليه مع أنَّ الشيء يُطْلق على المعدومِ عند بعضهم كان ذلك مبالغةً في عدمِ الاعتدادِ به، وصارَ كقولهم:» أقَلُّ من لا شيء «. قوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ} جملةٌ حالية. وأصل يَتْلُون: يَتْلُوُوْنَ فأُعِلَّ بحذفِ اللام وهو ظاهر. قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} في هذا الكافِ

قولان، أحدُهما: أنها في محلِّ نصبٍ وفيها حينئذ تقديران، أحدُهما: أنَّها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ قُدِّم على عامِله تقديرُه: قولاً مثلَ ذلك القولِ قالَ الذين لا يعلمون. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المصدرِ المعرفةِ المضمرِ الدالِّ عليه» قال «تقديرُه: مثلَ ذلك القولِ قاله أي: قال القولَ الذين لا يعلمون حالَ كونِه مثلَ ذلك القولِ، وهذا رأيُ سيبويه والأول رأيُ النحويين كما تقدَّم غيرَ مرة. وعلى هذين القولَيْن ففي «مثلَ قولهم» وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على البدلِ من موضعِ الكاف. الثاني من الوجهين: أنه مفعولٌ به العاملُ فيه «يَعْلمون» ، أي: الذين لا يعلمون مثلَ مقالةِ اليهود والنصارى مثلَ مقالهم، أي: إنهم قالوا ذلك على سبيلِ الاتفاقِ، وإن كانوا جاهلين بمقالةِ اليهود والنصارى. الثاني من القولين: أنَّها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والجملةُ بعدها خبرٌ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: مثلَ ذلك قاله الذين لا يعلمون، وانتصابُ «مثلَ قولهم» حينئذٍ إمَّا: على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو مفعولٌ بيعلمون تقديرُه مثلَ قولِ اليهودِ والنصارى قالَ الذينَ لا يعلمون اعتقادَ اليهود والنصارى. ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ نصبَ المفعولِ بقال لأنه أَخَذَ مفعولَه وهو العائدُ على المبتدأ، ذكر ذلك أبو البقاء، وفيه نظرٌ من وجهين: أحدُهما: أنَّ الجمهورَ يأبي جَعْلَ الكافِ اسماً. والثاني: حَذْفُ العائدِ المنصوبِ، والنحويون ينصُّون على مَنْعِه ويجعلون قولَه: 684 - وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ... بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِلِ ضرورةً، وللكوفيين في هذه المسألةِ تفصيلٌ.

قوله: {بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} منصوبان بيحكُمُ، و «فيه» متعلق بيختلفون.

114

قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} : «مَنْ» استفهامٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «أظلمُ» أفعلُ تفضيلٍ خبرُه، ومعنى الاستفهامِ هنا النفيُ، أي: لا أحدَ أظلمُ منه، ولمَّا كان المعنى على ذلك أَوْرَدَ بعضُ الناس سؤالاً: وهو أنَّ هذه الصيغةَ قد تكرَّرتْ في القرآن: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى} [الأنعام: 21] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} [السجدة: 22] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} [الزمر: 32] وكلُّّ واحدةٍ منها تقتضي أنَّ المذكورَ فيها لا يكونُ أحدٌ أظلمَ منه، فكيف يُوصفُ غيرُه بذلك؟ وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ، أحدُها: - ذكره هذا السائلُ - وهو أَنْ يُخَصَّ كلُّ واحدٍ بمعنى صلته كأنه قال: لا أحدَ من المانعين أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ الله، ولا أحدَ من المفترين أظلمُ مِمَّن افترى على الله، ولا أحدَ من الكذَّابين أظلمُ مِمَّن كَذَب على الله، وكذلك ما جاءَ منه. الثاني: أن التخصيصَ يكونُ بالنسبةِ إلى السَّبْقِ، لمَّا لم يُسْبَقْ أحدٌ إلى مثلِه حَكَم عليهم بأنَّهم أظلمُ مِمَّن جاء بعدَهم سالكاً طريقتَهم في ذلك، وهذا يُؤُول معناه إلى السَّبْقِ في المانعيَّةِ والافترائيِّةِ ونحوِهما. الثالث: أنَّ هذا نَفْيٌ للأظلميَّة، ونفيُ الأظلميَّةِ لا يَسْتَدْعي نفيَ الظالميةِ، لأنَّ نَفْيَ المقيدِ لا يَدُلُّ على نفيِ المطلقِ، وإذا لم يَدُلَّ على نَفْيِ الظالميةِ لم يكن مناقِضاً لأنَّ فيها إثباتَ التسوية في الأظلميةِ، وإذا ثَبَتَتْ التسويةُ في الأظلميةِ لم يكنْ أحدٌ مِمَّن وُصِف بذلك يزيدُ على الآخر لأنهم / متساوون في ذلك وصار المعنى: ولا أحدَ أظلمُ مِمَّن مَنَع ومِمَّن افترى وممَّن ذُكِّر، ولا إشكالَ في تساوي هؤلاء في الأظلميَّة، ولا يَدُل ذلك على أنَّ أحد هؤلاء يزيدُ على الآخرِ في الظلم، كما أنَّك إذا قلتَ: «

لا أحدَ أفقهُ من زيدٍ وبكرٍ وخالدٍ» لا يَدُلُّ على أن أحدَهم أفقهُ من الآخر، بل نَفَيْتَ أن يكونَ أحدٌ أفقهَ منهم، لا يُقال: إنَّ مَنْ مَنَع مساجدَ اللهِ وسَعَى في خرابِها ولم يَفْتَرِ على الله كذباً أقلُّ ظلماً مِمَّنْ جَمَعَ بين هذه الأشياء فلا يكونون متساوين في الأظلميةِ؛ لأنَّ هذه الآياتِ كلَّها في الكفار وهم متساوُون في الأظلميَّة وإن كان طُرُقُ الأظلميةِ مختلفةً. و «مَنْ» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً فلا محلَّ للجملةِ بعدَها، وأَنْ تكونَ موصوفةً فتكونَ الجملةُ في محلِّ جرٍّ صفةً لها، و «مساجد» مفعولٌ أولُ لمَنَع، وهي جمعُ مَسْجِد وهو اسمُ مكانِ السجودِ، وكان من حَقِّه أن يأتي على مَفْعَل بالفتح لانضمامِ عينِ مضارِعه ولكن شَذَّ كَسْرُه كما شَذَّت ألفاظُ يأتي ذكرُها، وقد سُمع «مَسْجَد» بالفتح على الأصل، وقد تُبْدَلُ جيمُه ياءً ومنه: المَسْيِد في لغة. قوله: {أَن يُذْكَرَ} ناصبٌ ومنصوبٌ، وفيه أربعةٌ أوجهٍ أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ لمَنَع، تقولُ: مَنَعْتُه كذا. والثاني: أنه مفعولٌ من أجلِه أي: كراهةَ أن يُذْكَرَ. وقال الشيخ: «فَتَعَيَّن حَذْفُ مضافٍ أي دخولَ مساجدِ الله، وما أَشْبهه» . والثالثُ: أنه بدلُ اشتمالٍ من «مساجد» ، أي: مَنَعَ ذِكْرَ اسمِه فيها. والرابع: أنه على إسقاطِ حرفِ الجرِّ، والأصلُ: مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وحينئذٍ يجيءُ فيها المذهبان المشهوران من كونها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ، و «في خَرابِها» متعلِّقٌ بسَعَى. واختُلِف في «خراب» : فقال أبو البقاء: «هو اسمُ مصدرٍ بمعنى التخريب كالسَّلامِ بمعنى التسليم، وأُضيف اسمُ المصدرِ لمفعوله لأنه يَعْمَلُ عَمَلَ الفعلِ. وهذا على أحدِ القَوْلينِ في اسمِ المصدرِ

هل يَعْمَلُ أو لا؟ وأنشدوا على إعماله: 685 - أَكْفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني ... وبعد عَطائِك المئةَ الرِّتاعا وقال غيرُه: هو مصدرُ خَرِبَ المكان يخرَب خَراباً، فالمعنى: سعى في أن تَخْرَبَ هي بنفسِها بعدمِ تعاهُدها بالعِمارة، ويقال: منزلٌ خَرابٌ وخَرِب كقوله: 686 - ما رَبْعُ مَيَّةَ معمورٌ يَطِيفُ [به] ... غَيْلانُ أَبْهى رُبَىً من رُبْعِها الخَرِب فهو على الأولِ مضافٌ للمفعولِ وعلى الثاني مضافٌ للفاعل. قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ} :» لهم «خبرُ» كان «مقدَّمٌ على اسمِها، واسمُها» أَنْ يدخُلوها «لأنه في تأويل المصدرِ، أي: ما كان لهم الدخولُ، والجملةُ المنفيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً عن» أولئك «. قوله: {إِلاَّ خَآئِفِينَ} حالٌ من فاعل» يَدْخُلوها «، وهذا استثناءٌ مفرغٌ من الأحوالِ، لأن التقديرَ: ما كان لهم الدخولُ في جميع الأحوال إلا في حالةِ الخوف. وقرأ أُبَيّ» خُيَّفاً «وهو جمعُ خائف، كضارب وضُرَّب، والأصل: خُوَّف كصُوَّم، إلا أنه أَبْدل الواوَيْنِ ياءَيْنِ وهو جائزٌ، قالوا: صُوَّم وصُيَّم، وحَمَل أولاً على لفظ» مَنْ «، فَأَفْرَد في قوله:» مَنَع، وسعى «وعلى معناها ثانياً فجَمَع في قوله:» أولئك «وما بعده. قوله: {لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ} هذه الجملةُ وما بعدها لا محلَّ لها

لاستئنافِها عَمَّا قبلَها، ولا يجوز أن تكونَ حالاً لأنَّ خِزْيَهم ثابتٌ على كلِّ حالٍ لا يتقيَّد بحالِ دخولِ المساجدِ خاصةً.

115

قوله تعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} : جملةٌ مرتبطةٌ بقولِه: «مَنَعَ مساجدِ الله، وسعى في خَرابِها» يعني أنه إنْ سَعَى ساعٍ في المَنْعِ مِنْ ذِكْرِهِ تعالى وفي خَرابِ بيوتِه فليسَ ذلك مانعاً من أداءِ العبادَةِ في غيرِها لأنَّ المشرقَ والمغربَ وما بينهما له تعالى، والتنصيصُ على ذِكْرِ المَشْرقِ والمَغْرِبِ دونَ غيرِهما لوجهين، أحدُهما: لشَرَفِهما حيث جُعِلا لله تعالى. والثاني: أن يكونَ مِن حَذْفِ المعطوفِ للعِلْم أي: لله المشرقُ والمغربُ وما بينهما كقوله: «تَقِيكم الحَرَّ» أي والبردَ، وكقولِ الشاعر: 687 - تَنْفي يداها الحصى في كلِّ هاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدراهيمِ تَنْقادُ الصيّاريفِ أي: يَداها ورجلاها، ومثله: 688 - كأنَّ الحَصَى من خَلْفِها وأمامِها ... إذا نَجَلَتْه رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرَا أي: رجلُها ويدُها. وفي المشرق والمغرب قَوْلان، أحدُهما: أنهما اسما مكانِ الشروقِ والغروبِ، والثاني: أنهما اسما مصدرٍ أي: الإِشراق والإِغرابُ، والمعنى: لله تَوَلِّي إشراقِ الشمسِ من مَشْرِقها وإغرابِها من مَغْربها، وهذا يُبْعِدُه قولُه: «فأينما تُوَلُّوا» ، وأَفْرد المشرقَ والمغربَ إذا المرادُ ناحيتاهما، أو لأنَّهما مصدران، وجاء المشارقُ والمغاربُ باعتبار وقوعِهما في

كلِّ يومٍ، والمشرقَيْن والمغربَيْن باعتبارِ مَشْرق الشتاءِ والصيف ومَغْربيهما. وكان مِنْ حقِّهما فتحُ العينِ لِما تقدَّم من أنَّه إذا لم تَنْكَسِرْ عينُ المضارعِ فحقُّ اسمِ المصدرِ والزمانِ والمكانِ فتحُ العينِ، ويجوزُ ذلك قياساً لا تلاوةً. قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} «أين» هنا اسمُ شرطٍ بمعنى «إنْ» ، و «ما» مزيدةٌ عليها و «تُوَلُّوا» مجزومٌ بها. وزيادةُ «ما» ليست لازمةً لها بدليلِ قوله: 689 - أَيْنَ تَضْرِبْ بنا العُداةَ تَجِدْنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهي ظرفُ مكان، والناصبُ لها ما بعدَها، وتكونُ اسمَ استفهامٍ أيضاً فهي لفظٌ مشتركٌ بين الشرطِ والاستفهامِ ك «مَنْ» و «ما» . وزعم بعضُهم أن أصلَها السؤالُ عن الأمكنةِ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّنه معنى حرفِ الشرط أو الاستفهامِ. وأصلُ تُوَلُّوا: تُوَلِّيوا فَأُعِلَّ بالحَذْفِ. وقرأ الجمهور: تُوَلُّوا بضم التاء واللام بمعنى تَسْتقبلوا، فإنَّ «وَلَّى» وإن كان غالبُ استعمالِها أَدْبَر فإنها تقتضي الإِقبالَ إلى ناحية ما. تقول: وَلَّيْتُ عن كذا إلى كذا. وقرأ الحسن: «تَوَلَّوا» بفتحِهما، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ مضارعاً والأصل: تَتَوَلَّوا مِن التَّوْلِيَةِ فَحَذَف إحدى التاءَيْن تخفيفاً، نحو: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] . والثاني: أن يكونَ ماضياً والضميرُ للغائِبين ردَّاً على قوله: «لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة» فتتناسَقُ الضمائرُ، وقال أبو البقاء: «والثاني: أنه ماضٍ والضمير للغائبين، والتقديرُ: أَيْنما يَتَوَلَّوا» يعني أنه وإنْ كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً، ثم قال: «وقد يَجُوزُ أَنْ يكونَ ماضياً قد وَقَع،

ولا يكونُ» أَيْنَ «شرطاً في اللفظِ بل في المعنى، كما تقولُ:» ما صَنَعْتَ صنعتُ «إذا أَرَدْتَ الماضي، وهذا ضعيفٌ لأنَّ» أين «إمَّا شرطٌ أو استفهامٌ وليس لها معنىً ثالثٌ» . انتهى وهو غيرُ واضحٍ. قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ الله} الفاءُ وما بعدَها جوابُ الشرطِ، فالجملةُ في محلِّ جزم، و «ثَمَّ» خبرٌ مقدم، و «وجهُ الله» رفعٌ بالابتداء و «ثَمَّ» اسمُ إشارةٍ للمكانِ البعيدِ خاصةً مثل: هُنا وهَنَّا بتشديدِ النونِ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ لتضمُّنِه معنى حرفِ الإشارة أو حرفِ الخطاب. قال أبو البقاء: «لأنك تقولُ في الحاضر: هُنا، وفي الغائب هُناك، وثَمَّ ناب عن هناك» / وهذا ليس بشيءٍ. وقيل: بُني لِشَبَهِهِ بالحَرْفِ في الافتقارِ، فإنه يَفْتَقِرُ إلى مشارٍ إليه، ولا يَتَصَرَّف بأكثَر مِنْ جَرِّه ب «مِنْ» ، ولذلك غَلِط بعضُهم في جَعْله مفعولاً به في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ [رَأَيْتَ] } [الإنسان: 20] ، بل مفعولُ «رأيت» محذوف. ومعنى «وَجْهُ الله» جِهَتُه التي ارتضاها قِبْلةً وأمَرَ بالتوجُّه نحوَها، أو ذاتُه نحو: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، أو المرادُ به الجاهُ، أي فَثَمَّ جَلالُ الله وعَظَمَتُه مِنْ قولِهم: هو وجهُ القوم، أو يكونُ صلةً زائداً، وليس بشيءٍ، وقيل: المرادُ به العملُ قاله الفراء وعليه قوله:

690 - أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لسْتُ مُحْصِيَه ... ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ

116

قوله تعالى: {اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ} : الجمهورُ: «وقالوا» بالواوِ عطفاً لهذِه الجملةِ الخبريةِ على ما قبلَها وهو أحسنُ في الربط. وقيل: هي معطوفةً على قوله: «وسعى» فيكونُ قد عَطَفَ على الصلة مع الفعلِ بهذه الجملِ الكثيرة، وهذا ينبغي أن يُنَزَّه القرآنُ عن مِثْله. وقرأ ابن عامر - وكذلك هي في مصاحف الشام - «قالوا» من غير واوٍ، وذلك يَحْتمل وجهين، أحدُهما: الاستئنافُ. الثاني: حَذْفُ حرفِ العطفِ وهو مرادٌ، استغناء عنه بربطِ الضميرِ بما قبلَ هذه الجملةِ. و «اتَّخَذَ» بجوزُ أن يكونَ بمعنى عَمِل وَصنَع، فيتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر، فيتعدَّى لاثنين، ويكونُ الأولُ هنا محذوفاً تقديرُه: «وقالوا اتَّخذَ اللهُ بعضَ الموجودات ولداً» إلا أنَّه مع كثرةِ دَوْرِ هذا التركيبِ لم يُذْكَرْ معها إلا مفعولٌ واحدٌ: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} [الأنبياء: 26] ، {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 92] . والوَلَدُ: فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقْص، وهو غيرُ مقيسٍ، والمصدرُ: الوِلادة والوَليديَّة، وهذا الثاني غريبٌ جداً. قوله: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} «بَلْ» إضرابٌ وانتقالٌ، و «له» خبرٌ مقدَّمٌ و «ما» مبتدأ مؤخرٌ، وأتى هنا ب «ما» لأنه إذا اختلَطَ العاقلُ بغيره كان المتكلمُ مُخَيَّراً في «ما و» مَنْ «، ولذلك لَمَّا اعتَبَر العقلاءَ غلَّبهم في قوله» قانتون «فجاء بصيغةِ السلامةِ المختصَّةِ بالعقلاء. قال الزمخشري» فإن قلت: كيف جاءَ ب «ما» التي لغير أولي العلمِ مع قوله «قانتون» ؟ قلت: هو كقولِه:

«سبحانَ ما سَخَّركُنَّ» وكأنه جاء ب «ما» دون «مَنْ» تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنِهِمْ، وهذا جنوحٌ منه إلى أنَّ «ما» قد تقع على أولي العلمِ، ولكنَّ المشهورَ خلافُه. وأمَّا قولُه «سبحانَ ما سَخَّركُنَّ لنا» فسبحانُ غَيرُ مضافٍ، بل هو كقوله: 691 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سبحان مِنْ علقمةَ. . . . . . . . . . . . . . و «ما» مصدرية ظرفية. قوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مبتدأٌ وخبرٌ، و «كلٌّ» مضافَةٌ إلى محذوفٍ تقديراً، أي: كلُّ مَنْ في السموات والأرض، وقال الزمخشري: «ويجوزُ أن يكونَ كلَّ مَنْ جَعَلوه لله وَلَداً» قال الشيخ: «وهذا بعيدُ جداً لأن المجعولَ ولداً لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، ولأنَّ الخبرَ يشتركُ فيه المجعولُ [ولداً] وغيرُه» قوله: «لم يَجْرِ له ذِكْر» بل قد جَرَى ذِكْرُه فلا بُعْدَ فيه. وجَمَعَ «قانِتون» حَمْلاً على المعنى لِما تقدَّم من أَنَّ «كُلاًّ» إذا قُطِعَتْ عن الإِضافة جاز فيها مراعاةُ اللفظِ ومراعاةُ المعنى وهو الأكثر نحو: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] . ومِنْ مراعاةِ اللفظِ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] {فكُلاًّ أَخَذْنا بذَنْبِه} [العنكبوت: 40] ، وحَسُنَ الجمعُ هنا لتواخي رؤوسِ الآي. والقُنُوت: الطاعةُ والانقيادُ أو طولُ القيام أو الصمتُ أو الدعاءُ.

117

قوله تعالى: {بَدِيعُ السماوات} : المشهورُ رَفْعُه على أنه

خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو بديعُ. وقُرىء بالجرِّ على أنه بدلٌ من الضميرِ في «له» وفيه الخلافُ المشهورُ. وقُرىء بالنصبِ على المَدْحِ، وبديعُ السماواتِ من بابِ الصفةِ المشبهة أضيفَتْ إلى منصوبِها الذي كانَ فاعلاً في الأصلِ، والأصل: بديعٌ سماواتُه، أي بَدُعَتْ لمجيئِها على شكلٍ فائقٍ حسنٍ غريبٍ، ثم شُبِّهَتْ هذه الصفةُ باسمِ الفاعلِ فَنَصَبَتْ ما كانَ فاعلاً ثم أُضِيفَتْ إليه تخفيفاً، وهكذا كلُّ ما جاء من نظائرِه، فالإِضافةُ لا بدَّ وأن تكونَ من نصب لئلاَّ يلزم إضافة الصفةِ إلى فاعلِها وهو لا يجوزُ، كما لا يجوزُ في اسمِ الفاعلِ الذي هو الأصلُ. وقال الزمخشري: «وبديعُ السماواتِ» من باب إضافةِ الصفةِ المشبهةِ إلى فاعلِها «. وردَّ عليه الشيخُ بما تقدَّم، ثم أجابَ عنه بأنه يُحتمل أَنْ يريدَ إلى فاعلِها في الأصلِ قبل أن يُشَبَّه. وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً: وهو أن يكونَ» بديع «بمعنى مُبْدِع، كما أنَّ سميعاً في قولِ عمرو بمعنى مُسْمِعِ نحو: 692 - أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ ... يُؤَرِّقُني وأصحابي هُجُوعِ إلا أنه قال:» وفيه نظرٌ «. وهذا الوجهُ لم يذكر ابنُ عطية غيرَه، وكأن النظرَ الي ذكر الزمخشري - والله أعلم - هو أنَّ فَعيلاً بمعنى مُفْعِل غيرُ

مَقيسٍ، وبيتُ عمروٍ مُتَأَوَّلٌ، وعلى هذا القولِ يكونُ بديعُ السماواتِ من بابِ إضافةِ اسمِ الفاعلِ لمنصوبِه تقديراً. والمُبْدِعُ: المخترِعُ المُنْشِىءُ، والبديع: الشيء الغريبُ الفائقُ غيرَه حُسْناً. قوله: {وَإِذَا قضى أَمْراً} العاملُ في» إذا «محذوفٌ يَدُلُّ عليه الجوابُ من قولِه:» فإنما يقول «، والتقديرُ: إذا قضى أمراً يكونُ، فيكونُ هو الناصبُ له. و» قضى «له معانٍ كثيرةٌ، قال الأزهري:» قضى «على وجوهٍ مَرْجِعُها إلى انقطاعِ الشيء وتمامِه قال أبو ذؤيب: 693 - وعليهما مَسْرودتان قَضَاهُما ... داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ وقال الشماخ: 694 - قَضَيْتَ أموراً ثم غادَرْتَ بعدَها ... بوائِقَ في أَكْمامِها لم تُفَتَّقِ فيكونُ بمعنى خَلَق نحو: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] ، وبمعنى أَعْلَمَ: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] ، وبمعنى أَمَر: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإِسراء: 23] ، وبمعنى وفَّى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29] ، وبمعنى ألزم: قضى القاضي بكذا، وبمعنى أراد: {وَإِذَا قضى أَمْراً} [البقرة: 117] [وبمعنى] أَنْهى، ويجيءُ بمعنى قَدَّر وأَمْضَى، تقول: قَضَى يقضي قَضاءً قال:

695 - سَأَغْسِلُ عني العارَ بالسيفِ جالِباً ... عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالِبا قوله: {فَيَكُونُ} الجمهورُ على رفعه، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً أي خَبَراً لمبتدأ محذوفٍ أي: فهو يكونُ، ويُعزْى لسيبويه، وبه قال الزجاج في أحدِ قولَيْه. والثاني: أَنْ يكونَ معطوفاً على «يقولُ» وهو قول الزجاج والطبري. وردَّ ابن عطية هذا القولَ وجعله خطأً من جهةِ المعنى؛ لأنَّه يَقْتضي أنَّ القولَ مع التكوينِ والوجودِ «انتهى. يعني أنَّ الأمرَ قديمٌ والتكوينَ حادثُ فكيف يُعْطَفُ عليه بما يقتضي تعقيبَه له؟ وهذا الردُّ إنما يلزم إذا قيل بأنَّ الأمرَ حقيقةٌ، أمَّا إذا قيل بأنَّه على سبيلِ التمثيل - وهو الأصحُّ - فلا، ومثلُه قولُ أبي النجم: 696 - إذا قالَتِ الأَنْسَاعُ للبَطْنِ الحَقي ... الثالث: أن يكونَ معطوفاً على» كُنْ «من حيثُ المعنى، وهو قولُ الفارسي، وضَعَّفَ أن يكونَ عطفاً على» يقولُ «، لأنَّ من المواضعِ ما ليس

فيه» يقولُ «كالموضع الثاني في آل عمران، وهو: {ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] ، ولم يَرَ عطفَه على» قال «من حيث إنه مضارعٌ فلا يُعْطَف على ماضٍ فَأَوْرد على نفسه: 697 - ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني فقال:» أَمُرُّ بمعنى مَرَرْت. قال بعضُهم: «ويكون في هذه الآيةِ - يعني في آيةِ آل عمران - بمعنى كان فَلْيَجُزْ عَطْفُه على» قال «. وقَرأَ ابن عامر/» فيكونَ «نصبأ هنا وفي الأول من آل عمران، وهي: {لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ} [آل عمران: 47] ، تحرُّزاً من قوله: {كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ} [آل عمران: 59] وفي مريم: {كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ الله رَبِّي} [مريم: 35] ، وفي غافر: {كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ} [غافر: 68] ، ووافقه الكسائي على ما في النحل ويس وهي: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] . أمَّا آيتا النحلِ ويس فظاهِرتان لأنَّ قبلَ الفعل منصوباً يَصِحُّ عطفُه عليه وسيأتي. وأمَّا ما انفرَدَ به ابنُ عامر في هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلامُ

الناس فيها وهي لعمري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرَّأ بعض الناس على هذا الإِمام الكبيرِ، فقال ابن مجاهد:» قرأ ابن عامر «فيكونَ» نصباً وهذا غيرُ جائز في العربية؛ لأنه لا يكونُ الجواب هنا للأمر بالفاء إلا في يس والنحل، فإنه نَسَقٌ لا جوابٌ «، وقال في آل عمران:» قرأ ابن عامر وحدَه: «كن فيكونَ» بالنصب وهو وهمٌ «قال:» وقال هشام: كان أيوبُ بن تميم يقرأُ: فيكونُ نصباً ثم رَجَع فقرأ: فيكونُ رفعاً «، وقال الزجاج:» كن فيكونُ: رفعٌ لا غيرُ «. وأكثرُ ما أَجابوا بأنَّ هذا مِمَّا رُوعي فيه ظاهرُ اللفظ من غير نظر للمعنى، يريدون أنه قد وُجِد في اللفظ صورةُ أمر فنَصَبْنا في جوابه بالفاء، وأمّا إذا نظرنا إلى جانب المعنى فإن ذلك لا يَصِحُّ لوجهين، أحدهما: أنَّ هذا وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبرُ نحو: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن} [مريم: 75] أي: فَيَمُدُّ، وإذا كان معناه الخبرَ لم ينتصِبْ في جوابِه بالفاء إلا ضرورةً كقوله: 698 - سَأَتْرُك منزلي لبني تميمٍ ... وأَلحَقُ بالحجازِ فأستريحا وقول الآخر: 699 - لنا هَضْبةٌ لا يَنْزِلُ الذلُّ وَسْطَها ... ويَأْوي إليها المُسْتجيرُ فَيُعْصَما

والثاني: أنَّ مِنْ شرطِ النصبِ بالفاءِ في جوابِ الأمرِ أَنْ يَنْعَقِدَ منهما شرطٌ وجزاءٌ نحو: «ائتني فأكرمك» تقديرُه: إنْ أتيتني أكرمتُك، وههنا لا يَصِحُّ ذلك إذ يَصيرُ التقديرُ: إنْ تَكُنْ تَكُنْ، فيتَّحِدُ فعلا الشرطِ والجزاءِ معنىً وفاعلاً، وقد عَلِمْت أنه لا بُدَّ من تغايرِهما وإلاَّ يلزمْ أن يكونَ الشيءُ شرطاً لنفسه وهو مُحال. قالوا: والمعاملةُ اللفظية واردةُ في كلامهم نحو: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ} [إبراهيم: 31] {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} [الجاثية: 14] وقال عمر ابن أبي ربيعة: 700 - فَقُلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشتَمِلْ ... عليه برفقٍ وارْقُبِ الشمسِ تَغْرُبِ وأَسْرِجْ لي الدَّهْماءَ واذهَبْ بمِمْطَري ... ولا يَعْلَمَنْ خلقٌ من الناسِ مَذْهَبي فجعل «تَغْرُبِ» جواباً «ارقب» وهو غير مترتِّب عليه، وكذلك لا يلزمُ من قوله [تعالى] أَنْ يفعلوا، وإنما ذلك مراعاةً لجانبِ اللفظِ. أمَّا ما ذكروه في بيتِ عمر فصحيحُ، وأمَّا الآياتُ فلا نُسَلِّم أنه غيرُ مترتِّبٍ [عليه] ، لأنه أرادَ بالعبادِ الخُلَّصَ، ولذلك أضافهم إليه، أو تقولُ إن الجزمَ على حَذْفِ لأمِ الأمر وسيأتي تحقيقهُ في موضعه. وقال الشيخ جمال الدين بنُ مالك: «إنَّ» أَنْ «الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر بإنما اختياراً وحكاه عن بعض الكوفيين، قال:» وحَكَوْا عن العرب: «إنما هي ضربةٌ من الأسدِ فَتَحْطِمَ ظهرَه» بنصبِ «تَحْطِمَ» فعلى هذا يكون النصبُ في قراءة ابن

عامر محمولاً على ذلك، إلا أنَّ هذا الذي نَصَبوه دليلاً لا دليلَ فيه لاحتمالِ أَنْ يكونَ من بابِ العطفِ على الاسمِ، تقديرُه: إنما هي ضربةٌ فَحَطْم، كقوله: 701 - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ وهذا نهايةُ القول في هذه الآية.

118

قوله تعالى: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله} : «لولا» و «لَوْما» يكونانِ حَرْفي ابتداءٍ، وقد تقدم ذلك عند قوله {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله} [البقرة: 64] ، ويكونان حَرْفَيْ تحضيضٍ بمنزلة: «هَلاَّ» فيختصَّان بالأفعالِ ظاهرةً أو مضمرةً كقوله: 702 - تَعُدُّون عَقْرَ النِّيْبِ أفضلَ مَجْدِكُم ... بنى ضَوْطَرِى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا أي: لولا تَعُدُّون الكميَّ، فإنْ وَرَدَ ما يُوهم وقوعَ الاسمِ بعدَ حرفِ التحضيض يُؤَوَّل كقوله: 703 - ونُبِّئْتُ ليلى أَرْسَلَتْ بشفاعةٍ ... إليَّ فهلاَّ نفسُ لَيْلى شَفِيعُها ف «نفسُ ليلى» مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّره «شفيعُها» أي: فَهَلاَّ

شَفَعَتْ نفسُ ليلى. وقال أبو البقاء: «إذا وَقَعَ بعدَها المستقبلُ كانَتْ للتحضيضِ وإنْ وَقَعَ [بعدها] الماضي كانَتْ للتوبيخ» وهذا شيءٌ يقولُه علماءُ البيانِ، وهذه الجملةُ التحضيضيةُ في محلِّ نصبٍ بالقول. قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الذين} قد تقدَّم الكلامُ على نظيرِه فَلْيُطْلَب هناك. وقرأ أبو حَيْوة وابن أبي إسحاق: «تَشَّابَهَتْ» بتشديد الشين، قال الداني: «وذلك غيرُ جائز لأنه فعلٌ ماض» يعني أن التاءَيْن المزيدتين إنما تجيئان في المضارع فَنُدْغِم، أمَّا الماضي فلا.

119

قولُه تعالى: {بالحق} : يجوزُ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مفعولاً به أي: بسببِ إقامةِ الحقِّ. الثاني: أَنْ يكونَ حالاً من المفعولِ في، «أَرْسلناك» أي: أَرْسلناك ملتبساً بالحقِّ. الثالث: أن يكونَ حالاً من الفاعل أي: ملتبسين في الحقِّ، قوله: «بَشيراً ونذيراً» يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: ان يكونَ حالاً من المفعول، وهو الظاهرُ. الثاني: أن يكونَ حالاً مِن «الحقِّ» لأنه يُوصف أيضاً بالبِشارة والنِّذارة، وبشير ونذيرِ على صيغة فَعيل، أمَّا بشير فتقولُ هو من بَشَر مخففاً لأنه مسموعٌ فيه، وفَعِيلُ مُطَّردٌ من الثلاثي، وأمَّا «نذير» فمن الرباعي ولا يَنْقاس عَدْلُ مُفْعِل إلى فعيل، إلا أنَّ له هنا مُحَسِّناً. قوله: {وَلاَ تُسْأَلُ} قرأ الجمهور: «تُسْأَلُ» مبنياً للمفعول مع رفعِ الفعلِ على النفي. وقُرىء شاذاً: «تَسْأَلُ» مبنياً للفاعل مرفوعاً أيضاً، وفي هذه

الجملةِ وجهان: أحدُهما: أنه حالٌ فيكونُ معطوفاً على الحال قبلها، كأنه قيل: بشيراً أو نذيراً وغيرَ مسؤول. والثاني: أن تكونَ مستأنفةً. وقرأ نافع «تُسْأَلْ» على النهي وهذا مستأنفٌ فقط، ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً لأنَّ الطَلَبَ لا يَقعُ حالاً. والجحيمُ: شدَّةُ تَوَقُّدِ النار، ومنه قيل لعين الأسد: «جَحْمة» لشدَّة توقُّدِها، يُقال: جَحِمَتِ النارُ تَجْحَمُ، ويقال لشدة الحر: «جاحم» ، قال: 704 - والحربُ لا يَبْقى لِجَا ... حمِها التخيُّلُ والمِراحُ والرِّضا: ضدُّ الغضَبِ، وهو من ذَواتِ الواوِ لقولِهم: الرُّضْوانِ، والمصدر: رِضا ورِضاء بالقصرِ والمَدّ ورِضْواناً ورُضْواناً بكسرِ الفاء وضمِّها، وقد يَتَضَمَّن معنى «عَطَفَ» فيتعدَّى ب «على» ، قال: 705 - إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والمِلَّةُ في الأصلِ: الطريقةُ، يقال: طريقٌ مُمِلٌّ: أي: أثَّر فيه المَشْيُ ويُعَبَّر بها عن الشريعة تَشْبيهاً بالطريقةِ، وقيل: بل اشْتُقَّت من «أَمْلَلْتُ» لأنَّ الشريعةَ فيها مَنْ يُملي ويُمْلَى عليه.

120

قوله تعالى: {هُوَ الهدى} : يجوزُ في «هو» أَنْ يكونَ فَصْلاً أو مبتدأً وما بعدَه خبرُه، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «هدى الله» لمجيئِه بصيغةِ الرفعِ، وأجازَ أبو البقاء فيه أن يكونَ توكيداً لاسم إنَّ، وهذا لا يجوزُ فإن المضمَر لا يؤكِّدُ المُظْهَرَ. قوله: {وَلَئِنِ اتبعت} هذه تسمَّى اللامَ الموطِّئَةَ للقسم، وعلامتُها أَنْ تقعَ

قبلَ أدواتِ الشرطِ، وأكثرُ مجيئِها مع «إنْ» وقد تأتي مع غيرِها نحو: {لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ} [آل عمران: 81] ، {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 18] وسيأتي بيانُه، ولكنها مُؤذِنةٌ بالقسم اعتُبر سَبْقُها فَأُجيبَ القَسَمُ دونَ الشرطِ بقوله: {مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ} وحُذِفَ جوابُ الشرط. ولو أُجيب الشرطُ لَوَجَبَتِ الفاءُ، وقد تُحْذَفُ هذه اللامُ ويُعْمَلُ بمقتضاها/ فيجابُ القَسَمُ نحو قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73] . قوله: «من العِلْم» في محلِّ نصب على الحال من فاعل «جاءك» و «مِنْ» للتبعيض، أي جاءَكَ حالَ كونِه بعضَ العلم.

121

قولُه تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ} : رفعٌ بالابتداء، وفي خبرهِ قولان، أحدُهما: «يَتْلُونه» ، وتكونُ الجملةُ من قولِه «أولئكَ يؤمنون» : إمَّا مستأنفةً وهو الصحيحُ، وإمَّا حالاً على قولٍ ضعيفٍ تقدَّم مثلُه أولَ السورة. والثاني: أنَّ الخبرَ هو الجملةُ من قوله: «أولئك يؤمنون» ويكونُ «يتلونه» في محلِّ نصبٍ على الحالِ: إمّا من المفعولِ في «آتَيْناهم» وإمَّا من الكتاب، وعلى كِلا القَوْلَيْن فهي حالٌ مقدَّرة، لأنَّ وقتَ الإِيتاء لم يكونوا تالين، ولا كانَ الكتابُ مَتْلُوّاً. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ «يَتْلونه» خبراً، و «أولئك يؤمنون» خبراً بعد خبر، قال: «مثلُ قولهم:» هذا حلوٌ حامِضٌ «كأنه يريدُ جَعْلَ الخبرينِ في معنى خبرٍ واحدٍ، هذا إنْ أُريد ب» الذين «قومٌ مخصوصونَ، وإنْ أريدَ بهم العمومُ كانَ» أولئكَ يُؤمِنونُ «الخبرَ. قال جماعة - منهم ابنُ عطية وغيرُه -» ويَتْلُونه «حالٌ لا يُسْتَغْنى عنها وفيها الفائدةُ» . وقال أيضاً أبو البقاء: «ولا يجوزُ أن يكونَ» يَتْلُونه «خبراً لئلا يلزَمَ منه أنَّ كلَّ مؤمِنٍ يتلو الكتاب حقَّ

تلاوتِه بأيِّ تفسيرٍ فُسِّرَت التلاوةُ» . قال الشيخ: «ونقول ما لَزِمَ من الامتناع مِنْ جَعْلِها خبراً يلزمُ في جَعْلِها حالاً لأنَّه ليس كل مؤمنٍ على حالِ التلاوة بِأيّ تفسير فُسِّرت التلاوة» . قوله: {حَقَّ تِلاَوَتِهِ} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنَّه نُصِبَ على المصدرِ وأصلُه: «تلاوةً حقاً» ثم قُدِّم الوصفُ وأُضيفَ إلى المصدرِ، وصار نظير: «ضَرَبْتَ شديدَ الضربِ» أي: ضَرْباً شديداً. فلمّا قُدِّم وصفُ المصدرِ نُصِبَ نَصْبَه. الثاني: أنه حالٌ من فاعل «يَتْلونه» أي: يَتْلُونه مُحِقِّينِ، الثالث: أنه نَعْت مصدرٍ محذوفٍ. وقال ابن عطية: «و» حَقَّ «مصدرٌ والعاملُ فيه فعلٌ مضمرٌ وهو بمعنى أَفَعَل، ولا تجوزُ إضافتُه إلى واحدٍ معرَّفٍ، إنما جازَتْ هنا لأنَّ تَعَرُّفَ التلاوةِ بإضافتِها إلى الضميرِ ليس بتعرُّفٍ مَحْضٍ، وإنما هو بمنزلةِ قولهِم: رجلٌ واحدُ أمِّه ونسيج وحدِه» يعني أنه في قوةِ أفعَلِ التفضيلِ بمعنى أحقَّ التلاوةِ، وكأنه يرى أنَّ إضافةَ أفعل غيرُ محضةٍ، ولا حاجَةَ إلى تقديرِ عاملٍ فيه لأنَّ ما قبله يَطْلُبُه. والضميرُ في «به» فيه أربعةُ أقوالٍ، أحدُها - وهو الظاهرُ -: عَوْدُه على الكتاب. الثاني: عَوْدُه على الرسولِ، قالوا: «ولم يَجْرِ له ذِكْرٌ لكنَّه معلومٌ» ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ فغنه مذكور في قولِه: «أَرْسلناك» ، إلا أنَّ فيه التفاتاً من خطابٍ إلى غَيْبة. الثالثُ: أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى، وفيه التِفاتٌ أيضاً من ضميرِ المتكلِّمِ المعظِّمِ نفسَه في قولِه: «أَرْسلناك» إلى

الغَيْبة. الرابعُ: قال ابن عطية: «إنه يعودُ على» الهدى «وقَرَّره بكلامٍ حَسَنٍ. قوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} العاملُ في» إذا «قال. . . العامِلُ فيه» اذكر «مقدراً، وهو مفعولٌ، وقد تقدَّم أنَّه لا يَتَصَرَّفُ. فالأَوْلَى ما ذَكَرْتُه أولاً، وقَدَّره. . . كان كَيْتَ وكَيْتَ، فَجَعَلَه ظرفاً، ولكنَّ عاملَه مقدرٌ. و» ابتلى «وما بعده في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه. وأصلُ ابتلى: ابتلَوَ، فألفُه عن واوٍ، لأنَّه من بَلا يَبْلو أي: اختبرَ. و» إبراهيمَ «مفعولٌ مقدمٌ، وهو واجبُ التقديمِ عند جمهورِ النحاةِ؛ لأنه متى اتَّصل بالفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المفعولِ وَجَبَ تقديمُه لئلا يعودَ الضميرُ على متأخِّرٍ لفظاً ورتبةً. هذا هو المشهورُ، وما جاءَ على خلافِهِ عَدُّوه ضرورةً. وخالَفَ أبو الفتح وقال:» إنَّ الفعلَ كما يَطْلُبُ الفاعلَ يطلُبُ المفعولَ فصارَ لِلَّفظِ به شعورٌ وطَلَبٌ «وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرةً تأخَّر فيها المفعولُ المتصلُ ضميرُهُ بالفاعلِ، منها: 706 - لَمَّا عصى أصْحابُه مُصْعَباً ... أَدَّى إليه الكيلَ صاعاً بصاعْ ومنها: 707 - جَزَى بَنُوه أَبا الغَيْلانِ عن كِبَرٍ ... وحُسْنِ فِعْلٍ كما يُجْزَى سِنِمَّارُ

وقال ابنُ عطية:» وقَدَّم المفعولَ للاهتمامِ بمَنْ وَقَع الابتلاءُ [به] ، إذ معلومٌ أنَّ اللهَ هو المبتلي، واتصالُ ضميرِ المفعولِ بالفاعلِ موجِبٌ للتقديم «يعني أنَّ الموجِبَ للتقديمِ سببان: سببٌ معنويٌّ وسببٌ صناعي. و» إبراهيم «عَلَمٌ أَعْجَمي، قيل: معناه قبل النقلِ: أبٌ رحيمٌ، وفيه لغاتٌ تسعٌ، أشهرُها: إبراهيم بألف وياء، وإبراهام بألِفَيْن، وبها قرأ هشام وابنُ ذكوان في أحدِ وَجْهَيْهِ في البقرةِ، وانفرَدَ هشام بها في ثلاثةِ مواضعَ من آخرِ النساءِ وموضِعَيْنِ في آخرِ بَراءة وموضعٍ في آخرِ الأنعام وآخرِ العنكبوت، وفي النجم والشورى والذاريات والحديد والأول من الممتحنة، وفي إبراهيم وفي النحل موضعين وفي مريم ثلاثة، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسةَ عشرَ في البقرة وثمانيةَ عشرَ في السور المذكور. ورُوي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك. ويروى أنه قيل لمالكِ بنِ أنس: إنَّ أهلَ الشامِ يقرؤون ستةً وثلاثين موضعاً: إبراهام بالألف، فقال: أهلُ دمشقِ بأكل البطيخ أبصرُ منهم بالقرآءة. فقيل: إنَّهم يَدَّعون أنها قراءةُ عثمانَ، فقال: هذا مصحفُ عثمانَ فَأَخْرجه فوجَدَه كما نُقِل له. الثالثة: إبراهِم بألفٍ بعد الراء وكسرِ الهاءِ دون ياءٍ، وبها قرأ أبو بكر، وقال زيدٌ بن عمرو بن نفيل: 708 - عُذْتُ بما عاذَ به إبراهِمُ ... إذ قالَ وَجْهي لك عانٍ رَاغِمُ الرابعة: كذلك، إلا أنه بفتحِ الهاءِ. الخامسة: كذلك إلا أنه بضمِّها.

السادسة: إبْرَهَم بفتح الهاء من غير ألفٍ وياء، قال عبد المطلب: 709 - نحنُ آلُ اللهِ في كَعْبته ... لم نَزَلْ ذاكَ على عهد ابْرَهَمْ السابعة: إبراهوم بالواو. قال أبو البقاء: «ويُجْمع على أَباره عند قومٍ وعند آخرين بَراهم. وقيل: أبارِهَة وبَراهِمَة، ويجوز أَبَارهة» وقال المبرِّد: «لا يقال: بَراهِمَة فإنَّ الهمزةَ لا يَجُوز حَذْفُها» . وحكى ثعلب في جمعِه: بَراه، كما يُقال في تصغيره: «بُرَيْه» بحذفِ الزوائدِ. والجمهورُ على نصبِ «إبراهيم» ورفعِ «ربُّه» كما تقدَّم، وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا: وتأويلُها دَعَا ربَّه، فسَمَّى دعاءَه ابتلاءً مجازاً لأنَّ في الدعاءِ طلبَ استكشافٍ لِما تجري به المقاديرُ. والضميرُ المرفوعُ في «فَأَتَّمَّهُنَّ» فيه قولان: أحدُهما أنه عائدٌ على «ربه» أي: فأكملهنَّ. والثاني: أنه عائدٌ على إبراهيم أي: عَمِل بهنَّ وَوَفَّى بهنَّ. قوله: {قَالَ إِنِّي} هذه الجملةُ القولية يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلَها، إذا قلنا بأنها عاملةٌ في «إذ» لأن التقديرَ: وقالَ إني جاعِلُكَ إذا ابتلى، ويجوزُ أن تكونَ استئنافاً إذا قلنا: إنَّ العاملَ في «إذ» مضمرٌ، كأنه قيل: فماذا قال له ربُّه حين أتَمَّ الكلماتِ؟ فقيل: قال: إني جاعِلُك. ويجوزُ فيها أيضاً على هذا القولِ أن تكونَ بياناً لقوله: «ابتلى» وتفسيراً له، فيُرادُ بالكلماتِ

ما ذَكَره من الإِمامةِ وتَطْهِيرِ البيتِ ورَفْعِ القواعدِ وما بعدَها، نَقَل ذلك الزمخشري. قوله: {جَاعِلُكَ} هو اسمُ فاعلٍ من «جَعَلَ» بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أحدُهما: الكافُ وفيها الخلافُ المشهورُ: هل هي في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ؟ وذلك أن الضميرَ المتصل باسمِ الفاعلِ فيه ثلاثة أقوال، أحدُها: أنه في محلِّ جرٍّ بالإِضافة. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ، وإنَّما حُذِفَ التنوينُ لشدةِ اتصالِ الضميرِ، قالوا: ويَدُلُّ على ذلك وجودُه في الضرورةِ كقوله: 710 - فما أَدْري وظني كلَّ ظَنِّ ... أَمُسْلِمُني إلى قومي شُراحي وقال آخر: 711 - هُمُ الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُونه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا على تسليمِ كونِ نون «مُسْلِمُني» تنويناً، وإلاَّ فالصحيحُ أنها نونُ وقايةٍ. الثالث - وهو مذهبُ سيبويه -/ أنَّ حكمَ الضميرِ حكمُ مُظْهره فما جاز في المُظْهَرِ يجوزُ في مضمرِه. والمفعولُ الثاني إماماً. قوله: {لِلنَّاسِ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بجاعل أي لأجلِ الناس. والثاني: انه حالٌ من «إماماً» فإنه صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها. فيكونُ حالاً منها، إذ الأصلُ: إماماً للناسِ، فعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ. والإِمامُ:

اسمُ ما يُؤْتَمُّ به أي يُقْصَدُ ويُتَّبَعُ كالإِزار اسمُ ما يُؤْتَزَرُ به، ومنه قيل لخيط البَنَّاء: «إمام» ، ويكون في غيرِ هذا جَمْعاً لآمّ اسمِ فاعلٍ من أَمَّ يَؤُمُّ نحو: قائم وقِيام: ونائِم ونِيام وجائِع وجِياع. قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها، أَنَّ «مِنْ ذريتي» صفةً لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ، والمفعولُ الثاني والعاملُ فيهما محذوفٌ تقديرُه: «قال واجْعَلْ فريقاً من ذريتي إماماً» قاله أبو البقاء. الثاني: أنَّ «ومِنْ ذُرِّيَّتي» عطفٌ على الكافِ، كأنَّه قال: «وجاعلُ بعضِ ذريتي» كما يُقال لك: سَأُكْرمك، فتقول: وزيداً. قال الشيخ: «لا يَصِحُّ العطفُ على الكافِ لأنَّها مجرورةٌ، فالعطفُ عليها لا يكونُ إلا بإعادة الجارّ، ولم يُعَدْ، ولأنَّ» مِنْ «لا يُمْكِنُ تقديرُ إضافةِ الجارِّ إليها لكونِها حرفاً، وتقديرُها مرادفةً لبعض حتى تَصِحَّ الإِضافةُ إليها لا يَصِحُّ، ولا يَصِحُّ أن يقدَّرَ العطفُ من باب العطفِ على موضعِ الكاف لأنَّه نصبٌ فَتُجْعَلَ» مِنْ «في موضعِ نصبٍ لأنَّه ليسَ مِمَّا يُعْطَفُ فيه على الموضعِ في مذهبِ سيبويهِ لفواتِ المُحْرِزِ، وليسَ نظيرَ ما ذَكَر لأن الكاف في» سأكرمك «في موضعِ نصبٍ. الثالث: قال الشيخ:» والذي يَقْتضيه المعنى أن يكونَ «مِنْ ذرّيَّتي» متعلقاً بمحذوفٍ، التقديرُ: واجْعَلْ مِنْ ذرِّيّتي إماماً لأنَّ «إبراهيم» فَهِمَ من قولِه: «إني جاعلُك للناسِ إماماً الاختصاصَ، فسأل أَنْ يَجْعل مِنْ ذريتِه إماماً» فإنْ أرادَ الشيخُ التعلُّق الصناعيُّ فيتعدَّى «جاعل» لواحدٍ، فهذا ليسَ بظاهرٍ، وإن أرادَ التعلُّقَ المعنويَّ فيجوزُ أَنْ يريدَ ما يريده أبو البقاء. ويجوزُ أَنْ يكونَ «مِنْ ذرِّيَّتي» مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وجاز ذلك لأنه يَنْعَقِدُ من هذين الجزأين مبتدأُ وخيرُ.

لو قلتَ: «مِنْ ذُرِّيَّتي إمامٌ» لصَحَّ. وقال ابن عطية: «وقيل هذا منه على جهةِ الاستفهامِ عنهم أي: ومِنْ ذريتي يا ربِّ ماذا يكون؟ فيتعلَّقُ على هذا بمحذوفٍ، ولو قَدَّره قبل» مِنْ ذريتي «لكانَ أَوْلى لأنَّ ما في حَيِّز الاستفهامِ لا يتقدَّم عليه. وفي اشتقاق» ذُرِّيَّة «وتصريفها كلامٌ طويلٌ يَحْتاج الناظرُ فيه إلى تأمُّل. اعلم أنَّ في» ذرية «ثلاثَ لغاتٍ: ضَمَّ الذالِ وكسرَها وفتحَها، وبالضمِّ قرأ الجمهورُ، وبالفتحِ قرأ أبو جعفر المدني، وبالكسر قرأ زيد بن ثابت. فأمّا اشتقاقُها ففيه أربعةُ مذاهبَ، أحدُها: أنها مشتقةٌ من ذَرَوْتُ، الثاني: مِنْ ذَرَيْتُ، الثالث: من ذَرَأَ اللهُ الخَلْقَ، الرابع: من الذرّ. وأَمَّا تصريفُها: فَذُرِّيَّة بالضمِّ إن كانَتْ من ذَرَوْتُ فيجوز فيها أَنْ يكونَ وزنها فُعُّولَة، والأصلُ: ذُرُّوْوَة فاجتمع واوان: الأولى زائدةٌ للمدِّ والثانيةُ لامُ الكلمةِ، فَقُلِبَتْ لامُ الكلمةِ ياءً تخفيفاً فصار اللفظُ ذُرُّوْيَة، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وَسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياء التي هي منقلبةٌ من لامِ الكلمةِ، وكُسِرَ ما قبل الياءَ وهي الراءُ للتجانُسِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ وزنُها فُعِّيْلَة، والأصلُ: ذُرِّيْوَة، فاجتمعَ ياءُ المدِّ والواوُ التي هي لامُ الكلمةِ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدغمت فيها ياءُ المدِّ. وإن كانت من ذَرَيْتُ لغةً في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنُها فُعُّولَة أو فُعِّيلة كما تقدَّم، وإنْ كانَتْ فُعُّولة فالأصلُ ذُرُّوْيَة فَفُعِل به ما تقدَّم من القلبِ والإِدغامِ، وإنْ كانَتْ فُعِّيْلَة فالأصلُ: ذُرِّيْيَة، فَأُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياءِ التي [هي] لامٌ. وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ

مهموزاً فوزنُها فُعِّيْلة والأصلُ: ذُرِّيْئَة فَخُفَّفتِ الهمزةُ بأَنْ أُبْدِلَتْ ياءً كهمزةِ خطيئة والنسيء، ثم أُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياء المُبْدَلَةِ من الهمزةِ. وإن كانَتْ من الذَّرِّ فيجوزُ في وزنها أربعةُ أوجه، أحدُها: فُعْلِيَّة وتَحْتمل هذه الياءُ أَنْ تكونَ للنسَبِ وغَيَّروا الذالَ من الفتحِ إلى الضمِّ كما قالوا في النَسَبِ إلى الدَّهْر: دُهْري وإلى السَّهْل: سُهْلي بضمِّ الدال والسين، وأَنْ تكونَ لغيرِ النسَبِ فتكونُ كقُمْرِيَّة. الثاني: أن يكونَ: فُعِّيْلَة كمُرِّيقَة، والأصلُ: ذُرِّيْرةً، فَقُلِبَتِ الراءُ الأخيرةُ ياءً لتوالي الأمثال، كما قالوا تَسَرَّيْتُ وتَظَنَّيْتُ في تَسَرَّرْتُ وتَظَنَّنْتُ. الثالث: أن تكونَ فُعُّولة كَقُدُّوس وسُبُّوح، والأصلُ: ذُرُّْوَرة، فَقُلِبَتِ الراءُ لِما تقدَّم، فصارَ ذُرُّوْيَة، فاجْتَمَعَ واوٌ وياءٌ، فجاء القلبُ والإدغامُ كما تقدَّم. الرابع: أن تكونَ فُعْلُولة والأصل: ذُرُّوْرَة، فَفُعِلَ بها ما تقدّم في الوجهِ الذي قبله. وأمَّا ذِرِّيَّة بكسر الذال فإن كانت مِنْ ذَرَوْتُ فوزنُها فِعِّيْلَة، والأصل: ذِرِّيْوَة، فَأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً وأُدْغَمَتْ في الياءِ بعدَها، فإنْ كانَتْ من ذَرَيْتُ فوزنها فِعِّيْلة أيضاً، وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ فوزنُها فِعِّيْلة أيضاً كبِطِّيْخة، والأصل ذِرِّيْئَة فَفُعِل فيها ما تقدَّم في المضمومةِ الدالِ، وإن كانَتْ من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ وزنُها فِعْلِيَّة نسبةً إلى الذرّ على غيرِ قياسٍ في المضمومةِ. الثاني: أَنْ تكونَ فِعِّيْلَة، الثالث: أن تكونَ فِعْلِيلَة كحِلْتيت والأصلُ فيها: ذِرِّيْرَة فَفُعِل فيهما ما تقدَّم من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ ياءُ والإِدغامِ فيها. وأمَّا «ذَرِّيَّة» بفتحِ الذال: فإن كانَتْ مِنْ ذَرَوْتُ أو ذَرَيْتُ فوزنُها: فَعِّيْلَة كسَكِّينة، والأصلُ: ذَرِّيْوَة أو ذَرِّيْيَة، أو فَعُّولة والأصلُ: ذَرُّوْوَة أو ذَرُّوْيَة،

فَعُعِل به ما تقدَّم في نَظيرهِ، وإنْ كانَتْ مِنْ ذَرَأَ فوزنُها: إمّا فَعِّيْلَة كسَكِّينة والأصلُ: ذَرِّيْئَة، وإمّا فَعُّولة كخَرُّوبة والأصلُ: ذَرَّوْءةَ ففُعِل به ما تقدَّم في نظيره. وإنْ كانَتْ من الذرّ ففي وَزْنِها أيضاً أربعة أوجهٍ أحدُها فَعْلِيَّة، والياءُ أيضاً تَحْتَمِلُ أَنْ تكونَ للنسَبِ ولم يَشِذُّوا فيه بتغيير كما شّذُّوا في الضم والكسرِ وأَنْ لا يكون نحو: بَرْنِيَّة، الثاني: فَعُّولة كَخرُّوبة والأصلُّ ذَرُّوْرَة، الثالث: فَعِّلية كسَكِّينة والأصلُ: ذَرِّيْرَة، الرابع: فَعْلُولة كبَكُّولَة والأصلُ: ذَرُّوْرَة أيضاً فَفُعِل به ما تقدَّم في نظيره، من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ وإدغامِ ما قبلَها فيها وكُسِرَتِ الذالُ اتباعاً. وبهذا الضبطِ الذي فعلتُه اتَّضح القولُ في هذه اللفظةِ لغةً واشتقاقاً وتصريفاً، فإنَّ الناس قد استشكلوا هذه اللفظةَ بالنسبةِ لما ذكرْتُ، وغلِط أكثرهُم في تصريفِها بالنسبةِ إلى الأعمال التي قَدَّمْتُها والحمد لله. وأمَّا مَنْ بناها على فَعْلَة مثلَ جَفْنَة فإنها عنده من ذَرَيْتُ. والذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ يقع على الذكور والإِناث والجمع الذَراري، وزعم بعضُهم أنها تقع على الآباء كوقوعِها على الأبناء مستدلاً بقوله {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون} [يس: 41] يعني نوحاً ومَنْ معه وسيأتي ذلك في موضِعِه. قوله: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} الجمهورُ على نصبِ «الظالمين» مفعولاً و «عَهْدي» فاعلٌ، أي: لا يَصِلُ عهدي إلى الظالمين فيدرِكَهم. وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء/: «والظالمون» بالفاعلية، و «عهدي»

مفعولٌ به، والقراءتان ظاهرتان، إذ الفعلُ يَصِحُّ نسبتُه إلى كلٍّ منهما فإنَّ مَنْ نالَكَ فقد نِلْتَه. والنَّيْلُ: الإدراك وهو العَطاءُ أيضاً، نال ينال نَيْلاً فهو نائل.

125

قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت} : «إذ» عَطْفٌ على «إذْ» قبلَها، وقد تقدَّم الكلامُ فيها، و «جَعَلْنا» يحتمل أن يكونَ بمعنى «خَلَقَ» و «وَضَعَ» فيتعدَّى لواحدٍ وهو «البَيْت» ، ويكون «مَثَابةً» نصباً على الحالِ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين، فيكون «مثابةً» هو المفعولُ الثاني. والأصلُ في «مَثَابة» مَثْوَبة، فَأُعِلَّ بالنقلِ والقلبِ، وهل هو مصدرٌ أو اسمُ مكانٍ قولان؟ وهل الهاءُ فيه للمبالغةِ كعَلاَّمة ونسَّابة لكثرةِ مَنْ يَثُوب إليه أي يرجع أو لتأنيث المصدرِ كمقامة أو لتأنيثِ البقعة؟ ثلاثةُ أقوال، وقد جاء حَذْفُ هذه الهاءِ قال ورقة بن نوقل: 712 - مَثَابٌ لأَفْناءِ القبائلِ كلِّها ... تَخُبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الذَّوامِلُ وقال: 713 - جَعَلَ البيتَ مثاباً لهُمُ ... ليس منه الدهرَ يَقْضُون الوطَرْ وهل معناه من ثابَ يَثُوب أي: رَجَع، أو من الثوابِ الذي هو الجزاء؟ قولان أظهرُهما أوَّلُهما. وقرأ الأعمش وطلحة: «مَثَابَاتٍ» جَمْعاً، ووجهُه أنه مثابةٌ لكلِّ واحدٍ من الناس.

قوله: {لِّلنَّاسِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لمثابة ومَحَلُّه النصبُ. والثاني: أنه متعلِّقٌ بجَعَلَ أي: لأجلِ الناسِ يعني مناسكَهم. قوله: {وَأَمْناً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه عَطْفٌ على «مَثَابة» وفيه التأويلاتُ المشهورةُ: إمَّا المبالغةُ في جَعْلِه نفس المصدر، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا أَمْن، وإمَّا على وقوعِ المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعل أي: آمِنَاً، على سبيل المجاز كقوله: «حَرَماً آمِناً» . والثاني: أنه معمولٌ لفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: وإذ جَعَلْنَا البيتَ مثابةً فاجْعَلوه آمِناً لا يعتدي فيه أحدٌ على أحد. والمعنى: أن الله جَعَلَ البيتَ محترماً بحكمه، وربما يُؤَيَّد هذا بقراءَةِ: «اتَّخِذُوا» على الأمرِ فعلى هذا يكونُ «وأَمْناً» وما عَمِل فيه من باب عطفِ الجملِ عُطِفَت جملةٌ أمريةٌ على خبريةٍ، وعلى الأول يكون من عطف المفردات. قوله: {واتخذوا} قرأ نافعٌ وابنُ عامر: «واتَّخذوا» فعلاً ماضياً على لفظ الخبر، والباقون على لفظِ الأمرِ. فأمَّا قراءةُ الخبرِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه معطوفٌ على «جَعَلْنا» المخفوض ب «إذ» تقديراً فيكون الكلامُ جملةً واحدةً. الثاني: أنه معطوفٌ على مجموعِ قولِه: «وإذ جَعَلْنا» فيحتاجُ إلى تقديرِ «إذ» أي: وإذ اتخذوا، ويكون الكلامُ جملتين. الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على محذوفٍ تقديرُه: فثابوا واتخذوا. وأمَّا قراءةُ الأمرِ ففيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها عَطفٌ على «اذكروا» إذا قيل بأنَّ الخطابَ هنا لبني إسرائيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا. والثاني:

أنها عطفٌ على الأمر الذي تَضَمَّنه قولُه: «مثابةً» كأنه قال: ثُوبوا واتَّخِذوا، ذكرَ هذين الوجهين المهدوي. الثالث: أنه معمولٌ لقولٍ محذوفٍ أي: وقُلْنا اتَّخِذوا إن قيل بأنَّ الخطابَ لإِبراهيمَ وذرّيَّتِه أو لمحمدٍ عليه السلام وأمَّتِه. الرابع: أن يكونَ مستأنفاً ذكرَه أبو البقاء. قوله: {مِن مَّقَامِ} في «مِنْ» ثلاثة أوجه: أحدُها: أنها تبعيضيةٌ وهذا هو الظاهرُ. الثاني: أنها بمعنى في. الثالث: أنها زائدةٌ على قولِ الأخفش. وليسا بشيء. والمَقامُ هنا مكانُ القيامِ، وهو يَصْلُح للزمانِ والمصدر أيضاً واصلُه: «مَقْوَم» فأُعِلَّ بنَقْلِ حركةِ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها وقَلْبِها ألفاً، ويُعَبَّرُ به عن الجماعةِ مجازاً كما يُعَبَّر عنهم بالمجلسِ قال زهير: 714 - وفيهمْ مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ ... وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القولُ والفِعْلُ قوله: {مُصَلًّى} مفعولُ «اتَّخِذُوا» ، وهو هنا اسمُ مكانٍ أيضاً، وجاءَ في التفسير بمعنى قِبْلة. وقيل: هو مصدرٌ: فلا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: مكانَ صلاة، وألفهُ منقلبةٌ عن واوٍ، والأصلُ: «مُصَّلَّوَ» لأنَّ الصلاةَ من ذواتِ الواوِ كما تقدَّم أولَ الكتابِ. قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ} إسماعيل عَلَمٌ أعجميٌّ وفيه لغتان: اللام والنونُ وعليه قولُ الشاعر: 715 - قال جواري الحَيِّ لمَّا جِينا ... هذا وربِّ البيتِ إسماعينا

ويجمع على: سَماعِلة وسَماعيل وأساميع. ومن أَغْرَبِ ما نُقِلَ في التسمية به أنَّ إبراهيمَ عليه السلام لمَّا دعا الله أَنْ يرزقَه ولداً كان يقول: اسْمَعْ إيل اسْمَعْ إيل، وإيل هو الله تعالى فَسَمَّى ولدُه بذلك. قوله: {أَن طَهِّرَا} يَجوزُ في «أَنْ» وَجْهان، أحدُهما أنَّها تفسيريةٌ لجملةِ قولِه: «عِهِدْنا» فإنَه يتضمَّنُ معنى القولِ لأنَّه بمعنى أَمَرْنا أو وَصَّيْنا فهي بمنزلةِ «أي» التي للتفسيرِ، وشرطُ «أَنْ» التفسيريةِ أَنْ تَقَعَ بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه. وقال أبو البقاء: «والمفسِّرةُ تقعُ بعد القولِ وما كان في معناه. وقد غَلِطَ في ذلك، وعلى هذا فلا محلَّ لها من الإِعرابِ. والثاني: أن تكونَ مصدريةً وخَرَجَتْ عن نظائرِها في جوازِ وَصْلِها بالجملةِ الأمريَّة قالوا:» كتبْتُ إليه بأَنْ قُمْ «وفيها بحثٌ ليس هذا موضعَه، والأصلُ: بأَنْ طَهِّرا، ثم حُذِفَتِ الباءُ فيَجيءُ فيها الخلافُ المشهورُ من كونِها في محل نصبِ أو خفضٍ. و» بيتي «مفعولٌ به أُضيف إليه تعالى تشريفاً. والطائفُ اسم فاعلٍ من طَاف يَطُوف، ويقال: أَطَاف رباعياً، قال: 716 - أَطَافَتْ به جَيْلانُ عند قِطاعِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا من باب فَعَل وأَفْعَل بمعنىً. والعُكوفُ لغةً: اللزومُ والَّلْبثُ، قال: 717 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... عليه الطيرُ ترقبُه عُكوفا

وقال: 718 - عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُون الفَنْرَجا ... ويقال: عَكَفَ يَعْكُف ويعكِف، بالفتحِ في الماضي والضمِّ والكسرِ في المضارع، وقد قُرِىء بهما. و» السجودُ «يجوز فيه وجهان، أحدُهُما: أنه جمع ساجِد نحو: قاعِد وقُعود، وراقِد ورُقُود، وهو مناسبٌ لِما قبله. والثاني: أنه مصدرٌ نحو: الدُّخول والقُعُود، فعلى هذا لا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: ذوي السجودِ ذكرَه أبو البقاء. وعَطَفَ أحد الوصفينِ على الآخر في قوله: الطائفين والعاكفين لتباينِ ما بينهما، ولم يَعْطِفْ إحدى الصفتينِ على الأخرى في قوله: الرُّكَّعِ السجودِ، لأنَّ المرادَ بهما شيءٌُ واحدٌ وهو الصلاةُ إذ لو عَطَفَ لَتُوُهِّم أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عبادةٌ على حِيالها، وجَمَعَ صفتين جَمْع سلامة وأُخْرَيَيْنِ جمع تكسيرٍ لأجلِ المقابلةِ وهو نوعٌ من الفَصاحةِ، وأخَّر صيغةَ فُعول على فُعَّلَ لأنها فاصلة.

126

قوله تعالى: {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} : الجَعْلُ هنا بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنين ف «هذا» مفعولٌ أولُ و «بلداً» مفعولٌ ثانٍ، والمعنى: اجْعَلْ هذا البلدَ أو هذا المكانَ. و «آمناً» صفةٌ أي ذا أَمْن نحو: «عيشةٌ راضيةٌ» أو آمِناً مَنْ فِيه نحو: ليلةٌ نائمٌ. / والبلدُ معروفٌ وفي تسميته قولان، أحدُهما: أنه مأخوذُ من البَلْدِ. والبَلْدُ في الأصل: الصَّدْر يقال: وضَعَتِ الناقةُ بَلْدَتها إذا

بَرَكَتْ أي: صدرَها، والبَلَدُ صدرُ القُرى فسُمِّي بذلك. والثاني: أنَّ البلدَ في الأصل الأثَرُ ومنه: رجلٌ بَليد لتأثير الجهل فيه، وقيل لِبَرْكَةِ البعيرِ «بَلْدَة» لتأثيرِها في الأرض إذا بَرَك قال: 719 - أُنِيخَتْ فأَلْقَتْ بَلْدَةً فوق بلْدةٍ ... قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها قوله: {مَنْ آمَنَ} بدلُ بعضٍ من كل وهو «أهلَه» ولذلك عادَ فيه ضميرٌ على المُبْدَلِ منه، و «مِنْ» في «مِن الثمرات» للتبعيضِ. وقيل: للبيانِ، وليس بشيءٍ إذ لم يتقدَّمُ مُبْهَمٌ يبيَّنُ بها. قولُه: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} يجوزُ في «مَنْ» ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ موصولةً، وفي محلِّها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه، قال اللهُ وأرزقُ مَنْ كَفَرَ، ويكونُ «فأمتِّعُه» معطوفاً على هذا الفعلِ المقدَّرِ. والثاني من الوجهين: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداء و «فأمتِّعُه» الخبرَ، دَخَلَت الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً له بالشرطِ، وسيأتي أنَّ أبا البقاء يمنعُ هذا والردُّ عليه. الثاني من الثلاثةِ الأوجهِ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً ذكرَه أبو البقاء، والحكمُ فيها ما تقدَّم من كونِها في محلِّ نصبٍ أو رفع. الثالث: أن تكونَ شرطيةً ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ فقط، و «فأمتِّعُه» جوابُ الشرط. ولا يجوزُ في «مَنْ» في جميع وجوهِها أَنْ تكونَ منصوبةً على الاشتغال، أمَّا إذا كانَتْ شرطاً فظاهرٌ لأنَّ الشرطيةَ إنما يفسِّر عاملَها فعلُ الشرطِ لا الجزاءُ، وفعلُ الشرطِ هنا غيرُ ناصبٍ لضميرِها بل رافعُه، وأمَّا إذا كانت موصولةً فلأنَّ

الخبرَ الذي هو «فأمتِّعه» شبيهٌ بالجَزاء ولذلك دَخَلَتْه الفاءُ، فكما أن الجزاءَ لا يفسِّر عاملاً فما أشبهَه أَوْلى بذلك، وكذا إذا كانَتْ موصوفةً فإنَّ الصفةَ لا تُفَسِّرُ. وقال أبو البقاء: «لا يجوزُ أن تكونَ» مَنْ «مبتدأ و» فأمتِّعُه «الخبرَ، لأنَّ» الذي «لا تدخُل الفاءُ في خبرها إلا إذا كان الخبرُ مُسْتَحِقَّاً بالصلةِ نحو: الذي يأتيني فله درهمٌ، والكفرُ لا يَسْتَحِقُّ به التمتُّعُ، فإنْ جَعَلْتَ الفاءَ زائدةً على قولِ الأخفش جازَ، أو [جعلت] الخبرَ محذوفاً و» فأمتِّعُه «دليلاً عليه جاز، تقديرُه: ومَنْ كَفَرَ أرزُقُه فَأمتِّعه. ويجوز أَنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً والفاءُ جوابَها. وقيل: الجوابُ محذوفٌ تقديرُه: ومَنْ كَفَرَ أرزُقْ، و «مَنْ» على هذا رفعٌ بالابتداءِ، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ منصوبةً لأن أداةَ الشرطِ لا يَعْمل فيها جوابُها بل فعلُ الشرطِ «. انتهى. أمَّا قولُه:» لأنَّ الكفرَ لا يَسْتِحقُّ به التمتُّعُ «فليس بِمُسَلَّم، بل التمتعُ القليلُ والمصيرُ إلى النار مُسْتَحِقَّان بالكفرِ، وأيضاً فإنَّ التمتعَ إنْ سَلَّمْنا أنَّه ليس مُسْتَحِقاً بالكفر، ولكن قد عُطِفَ عليه ما هو مُسْتَحِقٌ به وهو المصيرُ إلى النار فناسَبَ ذلك أنْ يَقَعا جميعاً خبراً، وأيضاً فقد ناقَض كلامَه لأنه جَوَّز فيها أن تكونَ شرطيةً، وهل الجزاءُ إلا مُسْتَحِقٌّ بالشرط ومُتَرَتِّبٌ عليه فكذلك الخبرُ المُشَبَّهُ به. وأما تجويزُه زيادةَ الفاءِ وحَذْفَ الخبر أو جوابَ الشرطِ فأوجهٌ بعيدة لا حاجةَ إليها. وقرىء: أُمْتِعُه مخففاً من أَمْتَع يُمْتِعُ وهي قراءةُ ابنِ عامر، وفَأُمْتِعُّه بسكونِ العينِ وفيها وجهان: أحدُهما: أنه تخفيفٌ كقولِه: 720 - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثاني: أنَّ الفاءَ زائدةٌ وهو جوابُ الشرط فلذلك جُزِمَ بالسكونِ. وقرأ ابنُ عباس ومجاهد {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} على صيغةِ الأمر فيهما، ووجهُها أَنْ يكونَ الضميرُ في» قال «لإِبراهيم، يعني سألَ ربَّه ذلكَ، و» مَنْ «على هذه القراءة يجوز أن تكونَ مبتدأ وأن تكونَ منصوبة على الاشتغال بإضمارِ فعلٍ سواءً جَعَلْتَها موصولةً أو شرطيةً، إلا أنك إذا جَعَلْتَها شرطيةً قَدَّرْتَ الناصبَ لها متأخراً عنها لأنَّ أداة الشرط لها صدرُ الكلامِ. وقال الزمخشري: {وَمَن كَفَرَ} عَطْفٌ على» مَنْ آمَنَ «كما عَطَفَ» ومِنْ ذريتي «على الكافِ في» جاعِلُك «. قال الشيخ: أمَّا عطفُ» مَنْ كَفَر «على» من آمَنَ «فلا يَصِحُّ لأنه يتنافى تركيبُ الكلامِ، لأنه يصيرُ المعنى: قال إبراهيم: وارزُقْ مَنْ كَفَرَ لأنه لا يكونُ معطوفاً عليه حتى يُشْرِكَه في العامل، و» من آمن «العامل فيه فعلُ الأمر وهو العاملُ في» ومَنْ كفر «، وإذا قَدَّرْتَه أمراً تنافى مع قوله» فَأُمَتِّعه «لأنَّ ظاهرَ هذا إخبارٌ من اللهِ بنسبةِ التمتع وإلجائِهم إليه تعالى وأنَّ كلاً من الفعلين تضمَّن ضميراً، وذلك لا يجوزُ إلا على بُعْدٍ بأن يكون بعد الفاء قولٌ محذوفٌ فيه ضميرٌ الله تعالى أي: قال إبراهيم وارزُقْ مَنْ كفر، فقال الله أمتِّعُه قليلاً ثم اضطرُّه، ثم ناقَضَ الزمخشري قوله هذا أنه عَطَفَ على» مَنْ «كما عَطَفَ» ومِنْ ذرِّيتي «على الكاف في» جاعِلك «فقال:» فإنْ قُلْتَ لِمَ خَصَّ إبراهيمُ المؤمنينَ حتى رَدَّ عليه؟ قلت: قاسَ الرزقَ على الإِمامة فَعَرَف الفرْقَ بينهما بأنَّ الإِمَامة لا تكون للظالِم، وأمَّا الرزقُ فربما يكون استدراجاً، والمعنى: قال وأرزقُ مَنْ كفر

فأمتِّعه «فظاهرُ قولِه» والمعنى قال «أنَّ الضمير ٌٌٌٌٌٌفي» قال «لله تعالى، وأنَّ» مَنْ كَفَرَ «منصوبٌ بالفعلِ المضارعِ المسندِ إلى ضميرِ المتكلِّم» و «قليلاً نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو زمانٍ، وقد تقدَّم له نظائرُ واختيار سيبويه فيه. وقرأ الجمهور: «أضطَرُّه» خبراً. وقرأ يحيى بن وثاب: «إضطرُّه» بكسر الهمزة، ووجهُها كسرُ حرفِ المضارعةِ كقولهم في أخال: إخالُ. وقرأ ابن مُحَيْصِن: «أطَّرُّه» بإدغامِ الضادِ في الطاءِ نحو: اطّجع في اضطجع، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف: ضم شغر نحو: اطَّجع في اضطجع، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف: ضم شغر نحو: اطَّجع في اضطجع [قاله الزمخشري، وفيه نظرٌ، فإن هذه الحروف قد أدغمت في غيرها، أدغم أبو عمرو الداني اللام في {يَغْفِرْ لَكُمْ} [نوح: 4] ، والضاد في الشين: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النور: 62] ، والشين في السين: {العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] ، وأدغم الكسائي الفاء في الباء: {نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض} [سبأ: 9] ، وحكى سيبويه أن «مُضَّجعاً» أكثر فدل على أن «مُطَّجعاً كثير. وقرأ يزيد بن أبي حبيب:» أضطُّرُّه «بضم الطاء كأنه للإِتباع. وقرأ أُبَيّ:» فَنُمَتِّعُه ثم نَضَطَرُه «بالنون.

واضْطَرَّ افتعَل من الضُرِّ، وأصلُه: اضْتَرَّ فأُبدلت التاءُ طاءً لأن تاء الافتعال تُبْدل طاءً بعد حروفِ الإِطباق وهو متعدٍّ، وعليه جاء التنزيل، وقال: 721 - اضطَرَّكَ الحِرْرُ مِنْ سَلْمى إِلى أَجَأٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والاضطرارُ: الإِلجاءُ والإِلزازُ إلى الأمرِ المكروهِ. قوله:» وبئس المصيرُ «» المصير «فاعل والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: النارُ. ومصير: مَفْعِل من صار يصير، وهو صالحٌ للزمان والمكانِ، وأمَّا المصدرُ فقياسُه الفتحُ لأنَّ ما كُسِر عينُ مضارِعِه فقياسُ ظرفِيَّة الكسرُ ومصدرُه الفتحُ/. ولكن النحويين اختلفوا فيما كانَتْ عينُه ياءً على ثلاثةِ مذاهبَ، أحدها: أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم. والثاني: أنه مُخَيَّرٌ فيه. والثالث: مذاهبَ، أحدها: أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم. والثاني: أنه مُخَيَّرٌ فيه. والثالث: أن يتُبع المسموعُ فما سُمِعَ بالكسرِ أو الفتح لا يَتَعَدَّى، فإنْ كان» المصيرُ «في الآية اسمَ مكانٍ فهو قياسي اتفاقاً، والتقدير: وبِئْسَ المصيرُ النارُ كما تقدَّم، وإن كان مصدراً على رأي مَنْ أجازه فالتقدير: وبِئْسَ الصيرورةُ صَيْرورتُهم إلى النار.

127

قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ} : «إذ» عطفٌ على «إذ» قبلها فالكلامُ فيهما واحِدٌ، و «يرفعُ» في معنى رفَعَ ماضياً، لأنَّها من الأدواتِ المخلِّصةِ المضارعَ للمُضِيّ. وقال الزمخشري: «هي حكايةُ حالٍ ماضية» قال الشيخ: «وفيه نظرٌ» . والقواعدُ: جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لِما فوقُ، وهي صفةٌ غالبة ومعناها الثابتة، ومنه «قَعَّدك الله» أي: أسأل الله

تَثْبيتك، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها، لأنه إذا بُني عليها نُقِلَتْ من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع. وأمّا القواعدُ من النساء فمفردُها «قاعِد» من غير تاءٍ لأنَّ المذكر لاحظَّ له فيها إذ هي من: قَعَدَتْ عن الزوج. ولم يقل «قواعد البيت» بالإِضافة لِما في البيان بعد الإِبهام من تفخيمِ شَأْنِ المبيَّن. قوله: {مِنَ البيت} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «يرفع» ومعناها ابتداءُ الغايةِ. والثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «القواعدِ» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه: كائنةً من البيت، ويكون معنى «مِنْ» التبعيضَ. قوله: {وَإِسْمَاعِيلُ} فيه قولان، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّه عطفٌ على «إبراهيم» فيكونُ فاعلاً مشاركاً له في الرفعِ، ويكونُ قولُه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} في محلِّ نَصْب بإضمار القولِ، ذلك القولُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ منهما أي: يَرْفَعان يقولان: ربَّنَا تقبَّلْ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ، قرأ: «يقولان ربَّنا تقبَّلْ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ، قرأ:» يقولان ربَّنا تقبَّلْ «أي: قائِلين ذلك، ويجوز ألاَّ يكونَ هذا القولُ حالاً بل هو جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلها، ويكونُ هو العاملَ في» إذ «قبله، والتقديرُ: يقولان ربَّنا تقبَّلْ إذ يرفعان أي: وقتَ رَفْعِهما. والثاني: الواوُ واو الحالِ، و» إسماعيلُ «مبتدأٌ وخبرهُ قولٌ محذوفٌ هو العاملُ في قولِه:» ربَّنا تَقبَّلْ «فيكونُ» إبراهيم «هو الرافعَ، و» إسماعيلُ «هو الداعيَ فقط، قالوا: لأنَّ إسماعيلَ كان حينئذٍ طفلاً صغيراً، وَرَوْوه عن علي عليه السلام. والتقديرُ: وإذ يرفع إبراهيمُ حالَ كونِ إسماعيل يقول: ربَّنا تقبَّلْ منا. وفي المجيء بلفظِ الربِّ تنبيهٌ بذِكْرِ هذه الصفةِ على التربية والإصلاح. وتقبَّلْ بمعنى اقبْلَ، فتفعَّلْ هنا بمعنى المجرَّد. وتقدَّم الكلام على نحوِ {إِنَّكَ أَنتَ السميع} من كون» أنت «يجوزُ فيه التأكيدُ والابتداءُ

والفصلُ، وتقدَّمت صفةُ السمع وإن كان سؤالُ التقبُّلِ متأخراً عن العمل للمجاوَرَةِ، كقولِه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت} [آل عمران: 106] وتأخَّرت صفةُ العِلْمِ لأنَّها فاصلةٌ، ولأنَّها تَشْمَل المسموعاتِ وغيرَها. قوله: {مُسْلِمَيْنِ} مفعولٌ ثان للجَعْل لأنَّه بمعنى التصيير، والمفعولُ الأولُ هو «ن» وقرأ ابن عباس «مسلمِين» بصيغةِ الجمع، وفي ذلك تأويلان أحدُهما: أنهما أَجْرَيَا التثنية مُجْرَى الجمعِ، وبه استدلَّ مَنْ يَجْعَلُ التثنيةَ جمعاً. والثاني: أنهما أرادا أنفسهما وأهلَهما كهاجر. قوله {لَّكَ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بمُسْلِمَيْن، لأنه بمعنى نُخْلِصُ لك أوجهَنَا نحو: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} فيكونَ المفعولُ محذوفاً لفَهْمِ المعنى. والثاني: أنه نعتٌ لِمُسْلِمَيْن، أي: مُسْلِمَيْن مستقرَّيْنِ لك أي: مستسلمَيْن، والأولُ أقوى معنىً. قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً} فيه قولان، أحدهُما - وهو الظاهر - أنَّ «مِنْ ذريتنا» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ، و «أمة مسلمة» مفعولٌ ثان تقديرُه: واجْعَلْ فريقاً من ذريتنا أمةً مسلمةً. وفي «من» حينئذ ثلاثة أقوالٍ، أحدُها: أنها للتبعيض، والثاني - أجازه الزمخشري - أن تكونَ لتبيين، قال: كقولِه: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} [النور: 55] . الثالث: أن تكون لابتداءِ غايةِ الجَعْل، قاله أبو البقاء. الثاني من القولَيْن: أن يكونَ «أمَّةً» هو المفعولَ الأولَ، و «مِنْ ذريتنا»

حالٌ منها؛ لأنه في الأصل صفةٌ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً، و «مُسْلِمَةً» هو المفعولُ الثاني، والأصل: «واجعَلْ أمةً من ذريتنا مسلمةً» ، فالواو داخلةٌ في الأصلِ على «أمة» وإنما فَصَلَ بينهما بقولِه: «مِنْ ذرِّيَّتنا» وهو جائزٌ لأنَّه من جملةِ الكلام المعطوفِ، وفي إجازتِه ذلك نظرٌ، فإنَّ النحويين كأبي علي وغيره منعوا الفصلَ بالظرفِ بين حرفِ العطفِ إذا كان على حرفٍ واحدٍ وبين المعطوفِ، وجَعَلوا قولَه: 722 - يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال ... عَصْبِ ويوماً أَديمَها نَغِلاً ضرورةً فالفصلُ بالحالِ أبعدُ، وصار ما أجازه نظيرَ قولِك: «ضَرَبَ الرجلَ ومتجردةً المرأةَ زيدٌ» وهذا غيرُ فصيحٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ «اجعَلْ» المقدرةُ بمعنى اخلُقْ وأوجِدْ، فيتعدَّى لواحدٍ ويتعلَّقَ «من ذريتنا» به، ويكونُ «أمةً» مفعولاً به؛ لأنه إنْ كان مِنْ عطفِ المفردات لَزِمَ التشريكُ في العاملِ الأولِ والعاملُ الأولُ ليس معناه «اخلُقْ» إنما معناه صيِّر، وإن كان من عطفِ الجملِ فلا يُحْذَفُ إلا ما دَلَّ عليه المنطوقُ، والمنطوقُ ليس بمعنى الخَلْقَ فكذلك المحذوفُ، ألا تراهم مَنَعوا في قولِه: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] أن يكونَ التقديرُ: وملائكتُه يُصَلُّون لاختلافِ مدلولِ الصلاتين، وتأوَّلوا ذلك على قَدْرٍ مشتركٍ بينهما، وقوله «لكَ» فيه الوجهان المتقدمان بعد «مسلِمَيْنِ» . قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} الظاهرُ أن الرؤيةَ هنا بَصَرِيَّة، فرأى في الأصلِ يتعدَّى لواحدٍ، فلمّا دَخَلَتْ همزةُ النقلِ أَكْسبتها مفعولاً ثانياً، ف «ن» مفعولٌ أولُ، و «مناسِكَنا» مفعولٌ ثانٍ. وأجاز الزمخشري أن تكون منقولةً من «رأى»

بمعنى عَرَفَ فتتعدَّى أيضاً لاثنينِ كما تقدَّم، وأجاز قومٌ فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبيَّةٌ، والقلبيةُ قبلَ النقلِ تتعدَّى لاثنين، كقوله: 723 - وإنَّا لَقومٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً ... إذا ما رَأَتْه عامرٌ وسَلُولُ وقال الكميت: 724 - بأيِّ كتابٍ أم بأيَّةِ سُنَّةٍ ... ترى حُبَّهم عاراً عليَّ وتَحسِبُ وقال ابن عطية: «ويلزَمُ قائلَه أَنْ يتعدَّى الفعلُ منه إلى ثلاثةٍ: وينفصلُ عنه بأنّه يوجدُ مُعَدَّىً بالهمزةِ من رؤيةِ القلب كغيرِ المُعَدَّى وأنشد قولَ حطائط بن يعفر: 725 - أَريني جواداً مات هَزْلاً لأَنني ... أرى ما تَرَيْنَ أَوْ بخيلاً مُخَلَّدا يعني: أنه قد تَعدَّت» عَلِم «القلبيةُ إلى اثنين سواءً كانت مجردةً من الهمزةِ أم لا، وحينئذٍ يُشْبه أن يكونَ ما جاء فيه فَعِل وأَفْعل بمعنىً وهو غريبٌ، ولكنَّ جَعْلَه بيتَ حطائط من رؤيةِ القلبِ ممنوعٌ بل معناه من رؤيةِ البصرِ، ألا ترى أن قولَه» جواداً ماتَ «من متعلِّقات البصر، فيَحْتاجُ في إثباتِ تعدِّي» أعلَم «القلبية إلى اثنين إلى دليلٍ. وقال بعضهم:» هي هنا بَصَريَّةٌ قلبيةٌ

معاً لأنّ الحَجَّ لا يَتِمُّ إلا بأمورٍ منها ما هو معلومٌ ومنها ما هو مُبْصَر «، ويلزَمُه على هذا الجمعُ بين الحقيقةِ والمجاز أو استعمالُ المشتركِ في معنييه معاً. وقرأ الجمهور:» أَرِنَا «بإشباعِ كسرِ الراءِ هنا وفي النساء وفي الأعرافِ.» أَرِني أنظرْ «، وفي فُصّلت: {أَرِنَا الذين} [فصلت: 29] ، وقرأ ابن كثير بالإِسكان في الجميعِ ووافقه في فصلت ابنُ عامر وأبو بكر عن عاصم/، واختُلِف عن أبي عمرو فروى عنه السوسي موافقةَ ابنِ كثير في الجميع، وروى عنه الدوري اختلاسَ الكسرِ فيها. أمَّا الكسرُ فهو الأصلُ، وأمَّا الاختلاسُ فَحَسَنٌ مشهور، وأما الإِسكان فللتخفيفِ، شَبَّهوا المتصلَ بالمنفصلِ فسكَّنوا كسره، كما قالوا في فَخِذ: فَخْذ وكتِف: كتْف. وقد غَلَّط قومٌ راويَ هذه القراءةِ وقالوا: صار كسرُ الراءِ دليلاً عَلى الهمزةِ المحذوفةِ فإنَّ أصلَه:» أَرْءِنا «ثم نُقِل، قاله الزمخشري تابعاً لغيره. قال الفارسي:» التغليطُ ليس بشيءٍ لأنَّها قراءةُ متواترةٌ، وأمّا كسرةُ الراءِ فصارَتْ كالأصلِ لأنَّ الهمزةَ مرفوضةُ الاستعمالِ «وقال أيضاً:» ألا تراهم أَدْغموا في {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38] ، والأصل: «لكنْ أنا» «نَقَلوا الحركةَ وحذفوا ثم أدغموا، فذهابُ الحركةَ في» أَرِنا «ليس بدونِ ذهابِها في الإِدغامِ، وأيضاً فقد سُمِع الإِسكانُ في هذا الحرفِ نَصَّاً عن العرب قال:

726 - أَرْنا إدواةَ عبْدِ الله نَمْلَؤُها ... من ماءِ زمزمَ إن القومَ قد ظَمِئوا وأصل أَرِنَا: أَرْءِنا، فنُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى الراء وحُذِفَتْ هي، وقد تقدّم الكلامُ بأشبع مِنْ هذا عند قولِه: {حتى نَرَى الله} [البقرة: 55] . والمناسِكُ واحدُها: مَنْسَك بفتح العين وكسرِها، وقد قرىء بهما والمفتوحُ هو المقيسُ لانضمامِ عينِ مضارعه. والمنسَكُ: موضعُ النسُك وهو العبادة. قوله: {فِيهِمْ} في هذا الضميرِ قولان: أحدُهما: أنه عائدٌ على معنى الأمة، إذ لو عادَ على لفظِها لقال:» فيها «قاله أبو البقاء، والثاني: أنه يعودُ على الذريةِ بالتأويلِ. المتقدِّم. وقيل: يعودُ على أهل مكة، ويؤيده: {الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً} [الجمعة: 2] .

129

قوله تعالى: {مِّنْهُمْ} : في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ لرسولاً فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: رسولاً كائناً منهم. قوله: {يَتْلُواْ} في محلِّ هذه الجملة ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً لرسولاً، وجاء هذا على الترتيبِ الأحْسَنِ إذ تقدَّم ما هو شبيهٌ بالمفردِ وهو المجرورُ على الجملةِ. والثاني: أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من «رسولا» لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّصَ. الثالث: أنها حالٌ من الضميرِ في «مِنْهم» والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به «منهم» لوقوعِه صفةً. وتقدَّم قولُه «العزيزُ» لأنها صفةُ ذاتٍ وتأخَّر «الحكيمُ» لأنها صفةُ فِعْل.

ويقال: عَزَّ يَعُزَّ، وَيَعَزُّ، ويَعِزُّ، ولكنْ باختلافِ معنىً، فالمضمومُ بمعنى غَلَب ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23] والمفتوحُ بمعنى الشدةِ، ومنه: عَزَّ لحمُ الناقة أي: اشتدَّ، وعَزَّ عليَّ هذا الأمرُ، والمكسورُ بمعنى النَّفاسةِ وقلةِ النظري.

130

قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ} : «مَنْ» اسمُ استفهامٍ بمعنى الإِنكار فهو نفيٌ في المعنى، ولذلك جاءَتْ بعده «إلاَّ» التي للإِيجابِ، ومحلُّه رفعٌ بالابتداءِ، و «يَرْغَبُ» خبرُه، وفيه ضميرٌ يعودُ عليه، والرغبةُ أصلُها الطلبُ، فإنْ تَعَدَّت ب «في» كانَتْ بمعنى الإِيثارِ له والاختيارِ نحو: رَغِبْت في كذا، وإن تَعَدَّت ب «عن» كانت بمعنى الزَّهادة نحو: رَغِبْت عنك. قوله: {إِلاَّ مَن سَفِهَ} في «مَنْ» وجهان: أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ على البدلِ من الضمير في «يَرْغَبُ» وهو المختارُ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجبٍ، والكوفيون يَجْعَلون هذا من بابِ العطفِ، فإذا قلتَ: ما قام القومُ إلا زيدٌ، ف «إلاَّ» عندهم حرفُ عطفٍ وزيدٌ معطوفٌ على القوم، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِ النحو. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الاستثناء و «مَنْ» يُحتمل أن تكونَ موصولةً وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً، فالجملةُ بعدَها لا محلَّ لها على الأولِ، ومحلُّها الرفعُ أو النصبُ على الثاني. قوله: {نَفْسَهُ} في نصبِه سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو المختارُ - أَنْ يكونَ مفعولاً به؛ لأنَّ ثعلباً والمبرد حكيا أنَّ سَفِه بكسر [الفاء] يتعدَّى بنفسه كما يتعدَّى سَفَّه بفتح الفاء والتشديد، وحُكي عن أبي الخطاب أنها لغةٌ، وهو اختيارُ الزمخشريُ فإنه قال: «سَفِه نفسَه: امتَهَنَها واستخَفَّ بها» ، ثم ذَكَر

أوجهاً أُخَرَ، ثم قال: «والوجهُ الأول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث:» الكِبْرُ أَنْ تَسْفَهَ الحقَّ وتَغْمَصَ الناسَ «الثاني: أنه مفعولٌ به ولكن على تضمين» سَفِه «. معنى فِعْلٍ يتعدَّى، فقدَّره الزجاج وابنُ جني بمعنى جَهِل، وقدَّره أبو عبيدة. بمعنى أهلك. الثالث: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجرِّ تقديره: سَفِه في نفسه. الرابع: توكيدٌ لمؤكَّدٍ محذوفٍ تقديره: سَفِه قولَه نفسَه، فحذَفَ المؤكَّد، قياساً على النعت والمنعوت، حكاه مكي. الخامس: أنه تمييزٌ وهو قولُ بعضِ الكوفيين، قال الزمخشري:» ويجوز أَنْ يكونَ في شذوذِ تعريفِ المُمَيِّز نحو قوله: 727 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا بفَزارةَ الشُّعْرِ الرِّقَابا 728 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ فجعل الرِّقابَ والظهرَ تمييزَيْن، وليسَ كذلك، بل هما مُشَبَّهان

بالمفعول به لأنهما معمولاً صفةٍ مشبهةٍ، وهي الشُّعْر جمع أَشْعر، وأجَبّ وهو اسمٌ. السادس: أنه مشبّهٌ بالمفعولِ به وهو قولُ بعض الكوفيين. السابع: أنه توكيدٌ لِمَنْ سَفِه، لأنه في محلِّ نصبٍ على الاستثناء في أحد القولين، وهو تخريجٌ غريبٌ نقله صاحب «العجائب والغرائب» ، والمختارُ الأولُ لأنَّ التضمينَ لا يَنْقاسُ وكذلك حرفِ الجرِّ، وأمّا حَذْفُ المؤكَّد وإبقاءُ التوكيدِ فالصحيحُ لا يجوزُ، وأمَّا التمييزُ فلا يقع معرفةً، وما وَرَدَ نادرٌ أو مُتَأَوَّل، وأمّا النصبُ على التشبيهِ بالمفعولِ فلا يكونُ في الأفعالِ إنما يكون في الصفاتِ المشبَّهةِ خاصةً. قوله: {فِي الآخرة} فيه خمسةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلِّق بالصالحين على أن الألفِ واللامَ للتعريفِ وليستْ موصولةً. الثاني أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أيضاً لكن مِنْ جِنسِ الملفوظِ به أي: وإنه لصالحٌ في الآخرة لَمِن الصالحين. الرابع: أن يتعلَّقَ بقولِه «الصالحين» وإنْ كانت أل موصولةً: لأنه يُغْتفر في الظروفِ وشِبْهِها ما لا يُغْتَفَرُ في غيرِها اتِّساعاً، ونظيرُه قوله: 729 - رَبَّيْتُه حتى إذا تَمَعْدَدا ... كان جزائي بالعَصَى أَنْ أُجْلَدَا الخامس: أن يتعلَّق ب «اصَطَفْيناه» قال الحسين بن الفضل: «في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، مجازُه: ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة» وهذا ينبغي ألاَّ يجوزُ مثلُه في القرآنِ لنُبُوِّ السَّمْعِ عنه.

والاصطفاءُ: الاختيارُ، افتعال من صَفْوةِ الشيء وهي خِيارُه، وأصلُه: اصْتَفى، وإنما قُلِبت تاءُ الافتعال طاءً مناسبةً للصادِ لكونِها حرفَ إطباقٍ وتقدَّم ذلك عند قولِه: {أَضْطَرُّهُ} [البقرة: 126] . وأكَّد جملةَ الاصطفاءِ باللام، والثانية بإنَّ واللام، لأنَّ الثانية محتاجةٌ لمزيدِ تأكيدٍ، وذلك أنَّ كونَه في الآخرةِ من الصالحين أمرٌ مغيَّبٌ، فاحتاجَ الإِخبارُ به إلى فَضْلِ توكيدٍ، وأمَّا اصطفاءُ الله له/ فقد شاهَدُوه منه ونَقَله جيلٌ بعد جيلٍ.

131

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ} : في «إذ» خمسةُ أوجهٍ أصَحُّها أنه منصوبٌ ب «قال أَسْلَمْتُ» ، أي: قال أسلمتُ وقتَ قولِ الله له أَسْلَمْ. الثاني: أنه بَدَلٌ من قوله «في الدنيا» . الثالث: أنه منصوبٌ باصطفيناه. الرابع: أنه منصوبٌ ب «اذكر» مقدَّراً، ذكر ذلك أبو البقاء والزمخشري. وعلى تقدير كونِه معمولاً لاصطفيناه أو ل «اذكر» مقدرّاً يبقى قولُه «قال أسلمْتُ» غيرَ منتظم مع ما قبله، إلا أنْ يُقدَّرَ حذفُ حرفِ عطفٍ أي: فقال، أو يُجْعَلَ جواباً لسؤالٍ مقدَّرٍ أي: ما كان جوابُه؟ فقيل: قال أسلَمْتُ، الخامس: أبْعَدَ بعضُهم فجعله مع ما بعدَه في محلِّ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيه «اصطَفَيْناه» . وفي قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ} التفاتٌ إذ لو جاءَ على نَسَقِهِ لقيل: إذ قلنا، لأنَّه بعدَ «ولقَدِ اصْطَفَيْناه» وعكسُه في الخروجِ من الغَيْبةِ إلى الخطابِ قولُه: 730 - باتَتْ تَشَكَّى إليَّ النفسُ مُجْهِشَةً ... وقد حَمَلْتُكَ سبعاً بعدَ سَبْعينا وقوله {لِرَبِّ العالمين} فيه من الفخامة ما ليس في قوله «لك»

أو «لربّي» ، لأنه إذا اعترف بأنَّه ربُ جميعِ العالمينِ اعتَرَف بأنه ربُّه وزيادةٌ بخلافِ الأول فلذلك عَدَلَ عن العبارَتَيْنِ. وفيه قوله: «أَسْلْمِ» حَذْفُ مفعولٍ تقديرُه: أَسْلِمْ لربِّك.

132

قوله تعالى: {ووصى} : قُرِىء مِنْ وصَّى، وفيه معنى التكثير باعتبارِ المفعولِ المُوَصَّى، وأَوْصى رباعياً وهي قراءةُ نافعٍ وابنِ عامر، وكذلك هي في مصاحفِ المدينةِ والشام، وقيل أَوْصى ووصَّى بمعنىً. والضميرُ في «بها» فيه ستةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه يعودُ على المِلَّة في قوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} ، قال الشيخ: «وبه ابتدأ الزمخشري، ولم يذكُرِ [المهدوي] وغيرَه» والزمخشري - رحمه الله - لم يذكرْ هذا، وإنما ذَكَرَ عَوْدَه على قوله «أَسَلَمْتُ» لتأويله بالكلمةِ، قال الزمخشري: «والضميرُ في» بها «لقولِه {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} على تأويلِ الكلمةِ والجملةِ، ونحوُه رجوعُ الضميرِ في قولِه: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} [الزخرف: 28] إلى قوله: {إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} [الزخرف: 28] وقولُه» كلمةً باقيةً «دليلٌ على أن التأنيثِ على معنى الكلمة. انتهى. الثاني: أنَّه يعودُ على الكلمةِ المفهومةِ من قولِه» أَسْلَمْتُ «كما تقدَّم تقريرُه عن الزمخشري: قال ابن عطية:» وهو أصوبُ لأنه أقربُ مذكور «. الثالثُ: أنه يَعودُ على متأخر، وهو الكلمةُ المفهومةُ مِنْ قولِه: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} . الرابع: أنه

يعودُ إلى كلمةِ الإِخلاص وإن لم يَجْرِ لها [ذِكْرٌ] . الخامسُ: أنه يعودُ على الطاعةِ للعلم بها أيضاً. السادسُ: أنَّه يعودُ على الوصيَّةِ المدلولِ عليها بقوله:» ووصَّى «، و» بها «يتعلَّق لوصَّى. و» بنِيه «مفعولٌ به. قوله: {وَيَعْقُوبُ} الجمهورُ على رفعه وفيه قولان، أظهرهُما: أنه عطفٌ على» إبراهيم «ويكونُ مفعولُه محذوفاً أي: ووصَّى يعقوبُ بنيه أيضاً، والثاني: أن يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ وخبرُه محذوفٌ تقديرُه ويعقوبُ قال: يا بَنِيَّ إنَّ الله اصطفى. وقرأ إسماعيل بن عبد الله وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على» بَنيه «، أي: ووصَّى إبراهيمُ يعقوبَ أيضاً. قوله: {يَا بَنِيَّ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه من مقولِ إبراهيمِ، وذلك على القولِ بعطفِ يعقوبَ على إبراهيم أو على قراءتهِ منصوباً. والثاني: أنه مِنْ مقولِ يعقوبَ إنْ قُلْنا رفعُه بالابتداءِ ويكونُ قد حَذَفَ مقولَ إبراهيم للدلالةِ عليه تقديرُه:» ووصَّى إبراهيمُ بنيه يا بَنِيَّ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملةُ من قوله: «يا بَنِيَّ» وما بعدها [منصوبةٌ] بقولٍ محذوفٍ على رأيِ البصريين، أي: فقال يا بَنِيَّ، وبفعل الوصيَّةِ لأنَّها في معنى القولِ على رأيِ الكوفيين، وقال الراجز: 731 - رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبرانَا ... إنَّا رَأَيْنا رجلاً عُرْيانا بكسر الهمزةِ على إضمارِ القولِ، أو لإِجراءِ الخبرِ مُجْرى القولِ،

ويؤيِّد تعلُّقَها بالوصية قراءةُ ابنِ مسعود: «أَنْ يا بَنِيَّ» ب «أَنْ» المفسرة، ولا يجوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً لعدمِ ما يَنْسَبِكُ منه مصدرٌ، ومَنْ أبى جَعْلَها مفسرةً وهم الكوفيون يجعلونَها زائدةً. ويعقوبُ عَلَمٌ أعجمي ولذلك لا يَنْصَرِفُ، ومَنْ زَعَم أنَّه سُمِّي يعقوب لأنه وُلِد عَقِبَ العَيْص أخيه وكانا تَوْءَمين أَوْ لأنه كَثُر عَقِبُه ونَسْلُه فقد وَهمَ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصَرِفَ لأنه عربيٌّ مشتق. ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الحَجَل، إذا سُمِّي به المذكرُ انصرفَ، والجمعُ يعاقِبَة ويعاقيب. و «اصطفى» ألفُه عن ياء، تلك الياءُ منقلبةُ عن واو لأنها من الصَّفْوة، ولمَّا صارتِ الكلمةُ أربعةً فصاعداً، قُلِبَتْ ياءً ثم انقَلَبَتْ ألفاً. و «لكم» أي لأجلكم، والالفُ واللامُ في «الذين» للعهدِ. قوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إلا} هذا نَهْيٌ في الصورةِ عن الموتِ، وهو في الحقيقةِ نَهْيٌ عن كونِهم على خلافِ حالِ الإِسلامِ إذا ماتوا كقولك: «لا تُصَلِّ إلا وأنت خاشع» ، فَنهْيُك له ليس عن الصلاة، إنما هو عن تَرْك الخشوع في حالِ صلاتِه، والنكتةُ في إدخالِ حرفِ النهي على الصلاةِ وهي غيرُ مَنْهِيٍّ عنها هي إظهارُ أنَّ الصلاةَ التي لا خشوعَ فيها كالصلاة، كأنه قال: أَنْهَاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالةِ، وكذلك المعنى في الآيةِ إظهارُ أنَّ موتهم لا على حالِ الثباتِ على الإِسلامِ موتٌ لا خيرَ فيه، وأنَّ حقَّ هذا الموتِ ألاَّ يُجْعَلَ فيهم. وأصل تموتُنَّ: تموتُونَنَّ: النونُ الأولى علامةُ الرفعِ والثانيةُ المشدَّدةُ للتوكيدِ، فاجتمع ثلاثةُ أمثالٍ فَحُذِفَتْ نونُ الرفعِ؛ لأنَّ نونَ التوكيدِ أَوْلى

بالبقاءِ لدلالِتها على معنىً مستقلٍ فالتقى ساكنان: الواوُ والنونُ الأولى المُدْغمة فَحُذِفَت الواوُ لالتقاءِ الساكنين، وبقيتِ الضمةُ تَدُلُّ عليها وهكذا كلُّ ما جاء من نظائره. {إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} هذا استثناءٌ مفرَّغٌ من الأحوالِ العامة، و «أنتم مسلمون» مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصلٍ على الحالِ كأنه قال تعالى «لا تَموتُنَّ على كلِّ حالٍ إلا على هذه الحالِ» ، والعاملُ فيها ما قبلَ إلاَّ.

133

قوله: {أَمْ} : في أم هذه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُهما - وهو المشهورُ -: أنها منقطعةٌ، والمنقطعةُ تُقُدَّر ب «بل» وهمزةِ الاستفهامِ وبعضُهم يقدَّرُها ببل وحدَها. ومعنى الإِضرابِ انتقالٌ من شيءٍ إلى شيءٍ لا إبطالٌ له، ومعنى الاستفهامِ الإِنكارُ والتوبيخُ فيؤُول معناه إلى النفي أي: بل أكنتم شهداءَ يعني لم تكونوا. الثاني: أنها بمعنى/ همزةِ الاستفهامِ وهو قولُ ابن عطية والطبري، إلا أنهما اختلفا في محلِّها: فإنَّ ابن عطية قال: «وأم تكون بمعنى ألفِ الاستفهامِ في صدرِ الكلامِ، لغةٌ يمانيَّة» وقال الطبري: «إنَّ أم يُستفهم بها وسْطَ كلامٍ قد تقدَّم صدرُه» ، قال الشيخ في قول ابن عطية: «ولم أقفْ لأحدٍ من النحويين على ما قال» ، وقال في قول الطبري: «وهذا أيضاً قولٌ غريبٌ» . الثالث: أنها متصلةٌ وهو قولُ الزمخشري، قال الزمخشري بعد أن جَعَلَها منقطعةً وجَعَلَ الخطابَ للمؤمنين قال بعد ذلك: «وقيل الخطابُ لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبيٌّ إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شَهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه لظَهَر لهم

حِرْصُه على مِلَّة الإِسلامِ ولَمَا ادَّعَوا عليه اليهوديةَ، فالآيةُ منافيةٌ لقولهم، فكيف يُقال لهم: أم كنتم شهداءَ؟ ولكن الوجهَ أن تكونَ» أم «متصلةً على أَنْ يُقَدَّرَ قبلَها محذوفٌ كأنه قيل: أَتَدَّعُون على الأنبياءِ اليهوديةَ أم كنتُمْ شهداءَ، يعني أنَّ أوائلكم من بني إسرائيلَ كانوا مشاهِدين له إذا أراد بَنيه على التوحيد وملَّةِ الإِسلامِ. فما لكم تَدَّعُون على الأنبياءِ ما هم منه بَراءٌ؟» . قال الشيخ: «ولا أعلَمُ أحداً أجازِ حَذْفَ هذه الجملةِ، لا يُحْفَظُ ذلك في شعرٍ ولا غيرِه، لو قلت:» أم زيدٌ «تريد:» أقام عمروٌ أم زيدٌ «لم يَجُزْ، وإنما يجوز حَذْفُ المعطوفِ عليه مع الواوِ والفاءِ إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولك:» بلى وعمراً «لمَنْ قال: لم يَضرِبْ زيداً، وقوله تعالى: {فانفجرت} [البقرة: 60] أي فضربَ فانفجَرَتْ، ونَدَرَ حَذْفُه مع أو كقوله: 732 - فَهل لكَ أو مِنْ والدٍ لَكَ قبلنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: من أخٍ أو والدٍ، ومع حتى كقوله: 733 - فواعَجَباً حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني ... كأن أباها نَهْشَلٌ أو مجاشِعُ أي: يَسُبُّني الناسُ حتى كُلَيْبٌ، على نظرٍ فيه، وإنما الجائزُ حَذْفُ» أم «مع ما عَطَفَتْ كقوله:

734 - دعاني إليها القلبُ إني لأَمرِهِ ... سميعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها أي: أم غَيٌّ، وإنما جاز ذلك لأنَّ المستفْهَمَ عن الإِثبات يتضمَّن نقيضَه، ويجوز حَذْفُ الثواني المقابلاتِ إذا دَلَّ عليها المعنى، ألا ترى إلى قولِه: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] كيف حَذَف» والبردَ «. انتهى. و «شهداء» خبرُ كان وهو جَمْعُ شاهد أو شهيد، وقد تقدَّم أول السورة. قوله: {إِذْ حَضَرَ} «إذ» منصوبٌ بشهداءَ على أنَّه ظَرْفٌ لا مفعولٌ به أي: شهداء وقتَ حضور الموتِ إياه، وحضورُ الموتِ كنايةٌ عن حضورِ أسبابِهِ ومقدِّماته، قال الشاعر: 735 - وقلْ لهمْ بادِروا بالعُذْرِ والتمِسوا ... قولاً يُبَرِّئُكُم إني أنا الموتُ أي: أنا سببُه، والمشهورُ نصبُ «يعقوب» ورفع «الموت» ، قَدَّم المفعولَ اهتماماً. وقرأ بعضُهم بالعكس. وقُرىء «حَضِر» بكسر الضاد قالوا: والمضارعُ يَحْضُر بالضم شاذ، وكأنه من التداخُلِ وقد تقدَّم. قوله: {إِذْ قَالَ} «إذ» هذه فيها قولان أحدُهما: بدلٌ من الأولى، والعاملُ فيها: إمَّا العاملُ في إذ الأولى إنْ قلنا إنَّ البدلَ لا على نية تكرار العامل أو عاملٌ مضمرٌ إِنْ قلنا بذلك. الثاني: أنها ظرفٌ لحَضَر. قوله: {مَا تَعْبُدُونَ} ؟ «ما» اسمُ استفهام في محلِّ نصبٍ لأنه مفعولٌ مقدَّمٌ بتعبدون، وهو واجبُ التقديمِ لأنَّ له صدرَ الكلام وأتى ب «ما» دون «مَنْ» لأحدِ أربعةِ معانٍ، أحدُهما: أنَّ «ما» للمُبْهَمِ أمرُه، فإذا عُلِمَ فُرِّق ب «ما»

و «مَنْ. قال الزمخشري:» وكفاك دليلاً قولُ العلماء «مَنْ لما يَعْقِل» . الثاني: أنها سؤالٌ عن صفةِ المعبود، قال الزمخشري: «كما تقول: ما زيدٌ؟ تريد: أفقيهٌ أم طبيبٌ أم غيرُ ذلك من الصفات» . الثالث: أن المعبودات ذلك الوقتَ كانت غيرَ عقلاء كالأوثان والأصنام والشمسِ. والقمرِ، فاسْتَفْهم ب «ما» التي لغير العاقل فَعَرَف بنوه ما أراد فأجابوه بالحقِّ. الرابع: أنه اختَبَرهم وامتحَنَهم فسألهم ب «ما» دون «مَنْ» لئلا يَطْرُقَ لهم الاهتداء فيكون كالتلقين لهم ومقصودُه الاختبارُ. وقولُه «مِنْ بعدي» أي بعد موتي. قوله: {وإله آبَائِكَ} أعاد ذكرَ الإِله لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرورِ دون إعادة الجارَّ، والجمهور على «آبائِك» وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء «أبيك» ، وقرأ أُبَيّ: «وإلَه إبراهيم» فأسقط «آبائك» . فأمّا قراءةُ الجمهور فواضحةٌ. وفي «إبراهيم» وما بعدَه حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أوحدُها: أنه بدلٌ. والثاني: أنه عطفُ بيانٍ، ومعنى البدلية فيه التفصيلُ. الثالثُ: أنه منصوبٌ بإضمار «أعني» ، فالفتحةُ على هذا علامةٌ للنصبِ، وعلى القَوْلين قبلَه علامةٌ للجرِّ لعدَمِ الصَّرْفِ، وفيه دليلٌ على تسمية الجَدِّ والعمِّ أباً، فإنَّ إبراهيمَ جَدُّه وإسماعيلَ عمُّه، كما يُطْلَقُ على الخالة أب، ومنه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} [يوسف: 100] في أحد القولين. قال بعضهم: «وهذا من باب التغليب، يعني أنه غَلَّب الأبَ على غيره وفيه نظرٌ، فإنه قد جاء هذا الإِطلاقُ حيث لا تثنيةٌ ولا جمعٌ فَيُغَلَّبُ فيهما، قال عليه السلام: «رُدُّوا عليَّ أبي» يعني العباس. وأمَّا قراءة «أَبيك» فتحتملُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ مفرداً غيرَ

جمعٍ، وحينئذٍ: فإمّا أَنْ يكونَ واقعاً موقعَ الجمعِ أولا، فإن كان واقعاً موقع الجمعِ فالكلامُ في «إبراهيم» وما بعدَه كالكلامِ فيه على القراءة المشهورةِ، وإنْ لم يكنْ واقعاً موقعه بل أُريد به الإِفرادُ لفظاً ومعنىً فيكون «إبراهيم» وحدَه على الأوجه الثلاثة المتقدمة، ويكونُ إسماعيلُ وما بعدَه عطفاً على «أبيك» أي: وإله إسماعيل. الثاني: يكونَ جَمْعَ سلامةٍ بالياء والنون، وإنما حُذِفَت النون للإِضافة، وقد جاء جمعُ أب على «أَبُون» رفعاً، و «أبِين» جَرَّاً ونَصْباً حكاها سيبويه، قال الشاعر: 736 - فلمَّا تَبَيَّنَّ أصواتَنا ... بَكَيْنَ وفَدَّيْنَنَا بالأِبِينا ومثله: 737 - فَقُلْنا أَسْلِموا إنَّا أَبُوكمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والكلامُ في إبراهيمِ وما بعده كالكلامِ فيه بعد جمعِ التكسير. وإسحاق علم أعجمي ويكونُ مصدرَ أًسْحق، فلو سُمِّي به مذكرٌ لانصرَف، والجمعُ أساحِقة وأساحيق. قولُه: {إلها وَاحِداً} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها أنَّه بدل مِنْ «إلهك» بدلُ نكرةٍ موصوفةٍ من معرفةٍ كقولِه: {بالناصية نَاصِيَةٍ [كَاذِبَةٍ] } [العلق: 15] . والبصريون لا يَشْترطون الوصفَ مُسْتدِلِّين بقولِه:

738 - فلا وأبيك خيرٍ منك ... إنِّي لَيُؤْذِيني التَّحَمْحُمُ والصَّهيلُ ف «خيرٍ» بدل من «أبيك» ، وهو نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ. والثاني أنه حالٌ من «إلهك» / والعاملُ فيه «نعبدُ» ، وفائدةُ البدلِ والحالِ التنصيصُ على أن معبودَهم فَرْدٌ إذ إضافةُ الشيءِ إلى كثير تُوهم تعدادَ المضافِ، فنصَّ بها على نَفْي ذلك الإِبهامِ. وهذه الحالُ تسمّى «حالاً موطئةً» وهي أَنْ تذكرها ذاتاً موصوفةً نحو: جاء زيد رجلاً صالحاً. الثالث: - وإليه نحا الزمخشري - أن يكونَ منصوباً على الاختصاص أي: نريد بإلهك إلهاً واحداً. قال الشيخ: «وقد نَصَّ النحويون على أنَّ المنصوبَ على الاختصاص لا يكون نكرةً ولا مبهماً» . قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنها معطوفةٌ على قوله: «نعبد» يعني أنها تَتِمَّةُ جوابِهم له فأجابوه بزيادة. والثاني: أنها حالٌ من فاعلِ «نَعْبُدُ» والعاملُ «نَعْبُد» . والثالث: - وإليه نحا الزمخشري - ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ، بل هي جملةٌ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ، أي: ومِنْ حالِنا أنَّا له مخلصونَ. قال الشيخ: «ونصَّ النحويون على أنَّ جملةَ الاعتراضِ هي التي تفيدُ تقويةً في الحكمِ: إمَّا بين جُزْئَي صلةٍ وموصولٍ كقوله: 739 - ماذا - ولا عُتْبَ في المقدورِ - رُمْتَ أما ... يَكْفِيك بالنَّجْحِ أَمْ خُسْرٌ وتَضْلِيل

وقوله: 740 - ذاكَ الذي - وأبيك - يَعْرِفُ مالكاً ... والحقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ الباطِلِ أو بين مسندٍ ومسند إليه كقوله: 741 - وقد أَدْرَكَتْني - والحوادِثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةُ قومٍ لا ضِعافٍ ولا عُزْلِ أو بينَ شرطٍ وجزاءٍ أو قَسَمٍ وجوابِه، ممَّا بينهما تلازُمٌ ما، وهذه الجملةُ قبلَها كلامٌ مستقلَّ عمَّا بعدَها، لاَ يُقال: إنَّ بينَ المُشار إليه وبينَ الإِخبارِ عنه تلازماً لأنَّ ما قبلها مِنْ مقول بني يعقوبَ وما بعدَها من كلام الله تعالى، أَخْبر بها عنهم، والجملةُ الاعتراضيةُ إنما تكونُ من الناطقِ بالمتلازِمَيْنِ لتوكيدِ كلامِه «. انتهى ملخصاً. وقال ابن عطية:» ونحنُ لَه مسلمون ابتداءٌ وخبرٌ أي: كذلك كنَّا ونحن نكون «. قال الشيخ:» يَظْهَرُ منه أنه جَعَلَ هذه الجملةُ عطفاً على جملةٍ محذوفةٍ ولا حاجةَ إليه «.

134

قولُه تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ} : «تلكَ» مبتدأٌ، و «أمةٌ» خبرُه، ويجوزُ أن تكونَ «أمةٌ» بدلاً من «تلك» و «قد خَلَتْ» خبرٌ للمبتدأ.: وأصل تلك: تي فلمَّا جِيء باللامِ للبعدِ حُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنَيْنِ، فإنْ قيلَ: لِمَ لَمْ تُكْسَرُ اللامُ حتى لا تُحْذَفَ الياءُ؟ فالجوابُ أَنَّه يَثْقُل اللفظُ بوقوع الياءِ بين كسرتين. وزعم الكوفيون أن التاءَ وحدَها هي الاسمُ، وليس ثَمَّ شيءٌ

محذوفٌ. وقوله «قد خَلَتْ» جملةٌ فعليةٌ في محلِّ رفع صفةً ل «أمَّة» ، إنْ قيل إنَّها خبرُ «تلك» ، أو خبرُ «تلك» إنْ قيل إنَّ «أُمَّة» بدلٌ من «تلك» ، كما تقدَّم، و «خَلَتْ» أي صَارتْ إلى الخلاءِ وهي الأرْضُ التي لا أنيسَ بها، والمرادُ به ماتَتْ، والمشارُ إليه هو إبراهيم ويعقوبُ وأبناؤُهم. قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ صفةً لأمة أيضاً، فيكونُ محلُّها رفعاً. والثاني: أن تكونَ حالاً من الضمير في «خَلَتْ» فمحلُّها نصبٌ، أي: خَلَتْ ثابتاً لها كَسْبُها. الثالث: أن تكونَ استئنافاً فلا محلَّ لها. وفي «ما» مِنْ قولِه: «ما كَسَبَتْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها بمعنى الذي. والثاني: أنها نكرةٌ موصوفة، والعائدُ على كِلا القولَيْنِ محذوفٌ أي: كَسَبَتْه، إلاَّ أنَّ الجملةَ لا محلَّ لها على الأول. والثالث: أنَ تكونَ مصدريةً فلا تحتاجُ إلى عائدٍ على المشهور، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ أي: له مكسُوبُها أو يكونُ ثمَّ مضافٌ أي: لها جزاءُ كَسْبِها. قوله: {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} إنْ قيل: إنَّ قولَه {لَهَا مَا كَسَبَتْ} مستأنَفٌ كانت هذه الجملةُ عطفاً عليه، وإنْ قيل إنَّه صفةٌ أو حالٌ فلا، أمَّا الصفةُ فلعدمِ الرابطِ فيها، وأمَّا الحالُ فلاختلافِ زمانِ استقرارِ كسبِها لها وزمانِ استقرارِ كسب المخاطَبين، وعطفُ الحالِ على الحالِ يُوجِبُ اتحادَ الزمانِ و «ما» مِنْ قولِه «ما كسبتم» ك «ما» المتقدمةِ. قوله: {وَلاَ تُسْأَلُونَ} هذه الجملةُ استئنافٌ ليس إلاَّ، ومعناها التوكيدُ لِما قبلَها، لأنه لمَّا تقدَّم أنَّ أحداً لا ينفعه كَسْبُ أحدٍ بل هو مختصٌّ به إِنْ خيراً وإنْ شراً فلذلك لا يُسْأل أحدٌ عن غيره، وذلك أنَّ اليهودَ افتخَروا بأسلافِهم فَأُخْبِروا بذلك. و «ما» يجوزُ فيها الأوجهُ الثلاثةُ مِنْ كَوْنِها موصولةً اسميةٌ

أو حرفية أو نكرةً، وفي الكلامِ حَذْفٌ أي: ولا يُسْأَلون عمّا كنتم تَعملون. قال أبو البقاء: «ودلَّ عليه: لَهَا ما كَسَبَتْ ولكم ما كَسَبْتُم انتهى. ولو جُعِلَ الدالُّ قولَه {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كان أَوْلى لأنه مقابلَةٌ.

135

قوله تعالى: {هُوداً أَوْ نصارى} : الكلامُ في «أو» كالكلامِ فيها عندَ قولِه: «وقالوا: لن يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان هوداً أو نصارى» وقد تقدَّم، و «تهتدوا» جزمٌ على جوابِ الأمرِ، وقد عُرِفَ ما فيه من الخلافِ: أعني هل جَزْمُه بالجملةِ قبلَه أو ب «إنْ» مقَدَّرَةً؟ قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} قرأ الجمهور: «مِلَّةَ» نصباً، وفيها أربعة أوجه، أحدها: أنه مفعولُ فعلٍ مضمرٍ، أي: بل نتبعُ مِلّةَ، لأنَّ معنى كونوا هُوداً: اتبعوا اليهوديةَ أو النصرانية. الثاني: أنه منصوبٌ على خبر كان، أي: بل نكونُ مِلَّة أي: أهلَ ملة، كقول عدي بن حاتم: «إني من دين» أي من أهل دين، وهو قولُ الزجاج وتَبِعه الزمخشري. الثالث: أنه منصوبُ على الإِغراء أي: الزموا ملةَ وهو قولُ أبي عُبَيْدَةَ، وهذا كالوجهِ الأولِ في أنَّه مفعولٌ به وإن اختلفَ العاملُ. الرابع: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجَرِّ، والأصلُ: نَقْتَدي بملةِ إبراهيم، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ، وهذا يحتملُ أَنْ يكونَ من كلامِ المؤمنين فيكونَ تقديرُ الفعلِ: بل نكونُ أو نتَّبع أو نَقْتدي كما

تقدَّم، وأن يكونُ خطاباً للكفارِ فيكونُ التقديرُ: كونوا أو اتَّبعوا او اقتدوا. وقرأ ابن هرمز وابن أبي عبلة «مِلَّةُ» رفعاً. وفيها وجهان: أحدُهما: خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: بل ملتُنا ملةُ إبراهيمَ أو نحن ملةُ، أي أهلُ ملة. والثاني: أنها مبتدأٌ حُذِفَ خبرُه، تقديرُه: مِلَّة إبراهيمَ ملَّتُنا. قوله: {حَنِيفاً} في نصبهِ أربعةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه حالٌ من «إبراهيم» لأنَّ الحالَ تجيءُ من المضافِ إليهِ قياساً في ثلاثةِ مواضعَ على ما ذَكَرَ بعضُهم، أحدها: أن يكونَ المضافُ عاملاً عملَ الفعلِ. الثاني: أنْ يكون جزءاً نحو: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] . الثالث: أن يكونَ كالجزءِ كهذه الآية؛ لأنَّ إبراهيمَ لمَّا لازمَها تنزَّلَتْ منه منزلةَ الجزءِ. والنحويون يسضعفون مجيئَها من المضاف إليه ولو كانَ المضافُ جزءاً، قالوا: لأنَّ الحالَ لا بدَّ لها من عاملٍ، والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحبها، والعاملُ في صاحبِها لا يعملُ عملَ الفعل. ومَنْ جَوَّز ذلك قَدَّر العاملَ فيها معنى اللام أو معنى الإِضافةِ، وهما عاملان في صاحِبها عند هذا القائل. ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجهِ، وشبَّهه بقولك: «رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً» وهو قولُ الزجَّاج. الثاني: نصبُه بإضمارِ فعلٍ أي: نتبعُ حنيفاً، وقدَّره أبو البقاء بأعني، وهو قولُ الأخفشِ الصغيرِ وجَعَلَ الحالَ خطأ.

الثالث: أنه منصوبٌ على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين، وكان الأصلُ عندهم: إبراهيمَ الحنيفَ، فلمَّا نكَّره لم يُمْكِن إتْباعه، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك. الرابع - وهو المختارُ - أن يكونَ حالاً من «ملَّة» فالعاملُ فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها، وقد تقدَّم، وتكونُ حالاً لازمةً لأنَّ الملَّةَ لا تتغيَّر عن هذا الوصفِ، وكذلك على القولِ بِجَعْلِها حالاً من «إبراهيم» لأنَّه لم يَنْتقِلْ عنها، فإنْ قيل: صاحبُ الحالِ مؤنثٌ فكان ينبغي أَنْ يطابقَه في التأنيثِ فيقال: حنيفةً، فالجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنَّ فَعيلاً يستوي فيه المذكرُ والمؤنُث. والثاني: أن الملَّة بمعنى الدِّين، ولذلك أُبْدِلَتْ منه في قوله: {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [الأنعام: 161] ذكر ذلك ابنُ الشجري في «أماليه» . والحَنَفُ: المَيْلُ ومنه/ سُمِّي الأحْنَفُ لِمَيْلِ إحدى قَدَمَيْهِ بالأصابعِ إلى الأخرى قالَتْ أمُّه: 742 - واللَّهِ لولا حَنَفٌ برِجْلِه ... ما كانَ في فِتْيانكم مِنْ مثلهِ ويقال: رَجُلٌ أَحْنَفُ وامرأة حَنْفَاءُ، وقيل: هو الاستقامةُ، وسُمِّي المائلُ الرجلِ بذلك تفاؤلاً كقولِهم لِلديغ: «سليمٌ» ، وللمَهْلَكَة: «مفازة» قاله ابن قتيبة، وقيل: الحَنيفُ لَقَبٌ لمن تَدّيَّن بالإِسلام، قال عمرو:

743 - حَمَدْتُ اللهَ حين هدى فؤادي ... إلى الإِسلام والدينِ الحَنيفِ قاله القفال، وقيل: الحَنيف: المائلُ عَمّا عليه العامَّةُ إلى ما لزِمه، قاله الزجاج وأنشد: 744 - ولكنَّا خُلِقْنا إذْ خُلِقْنا ... حنيفاً دينُنا عَنْ كلِّ دِينِ

136

قوله تعالى: {قولوا} : في هذا الضمير قولان، أحدُهما: أنَّه للمؤمنينِ والمرادُ بالمُنَزَّلِ إليهم القرآنُ على هذا. والثاني: أنه يعودُ على القائلين كونوا هوداً أو نصارى، والمرادُ بالمُنَزَّل إليهم: إمّا القرآنُ وإمَّا التوراةُ والإِنجيلُ، وجملةُ «آمنَّا» في محلِّ نَصْبِ بقولوا، وكرَّر الموصول في قولِه: {وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ} لاختلافِ المنزَّلِ إلينا والمُنزَّلِ إليه، فلو لم يكرِّر لأوْهَمَ أن المنزَّلَ إلينا هو المنزَّلُ إليه، ولم يكرِّر في «عيسى» لأنه لم يخالِفْ شريعةَ موسى إلا في نَزْر يَسير، فالذي أوتيه عيسى هو عينُ ما أُوتيه موسى إلاَّ يسيراً، وقُدِّم المنزَّلُ إلينا في الذِّكرْ وإِنْ كان متأخراً في الإِنزال تشريفاً له. والأسْباط: جمعُ «سِبْط» وهم في وَلَدِ يعقوبَ كالقبائل في وَلَدِ إسماعيلً. واشتقاقُهم من السَّبْط وهو التتابعُ، سُمُّوا بذلك لأنهم أمة متتابعون. وقيل: هو مَقْلُوبٌ من البَسْط، وقيل: مِنْ «السَّبَط: بالتحريك جمع» سَبَطة «وهو الشجرُ الملتفُّ. وقيل للحَسَنَيْن سِبْطا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لانتشارِ ذرِّيَّتهم، ثم قيل لكل ابن بنت:» سِبْط «. قوله: {وَمَآ أُوتِيَ موسى} يجوزُ في» ما «وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ عطفاً على المؤمَنِ به وهو الظاهرُ. والثاني: أنَّها في محلِّ رفعِ

بالابتداءِ، ويكونُ {وَمَا أُوتِيَ النبيون} عطفاً عليها، وفي الخبرِ وجهان، أحدُهما: أن يكونَ» مِنْ ربهم «. والثاني: أن يكون» لا نفرِّقُ «هكذا ذَكِرَ الشيخ، إلا أنَّ في جَعْلِه» لا نفرِّقُ «خبراً عن» ما «نظراً لا يَخْفى من حيثُ عدمُ عودِ الضميرِ عليها. ويجوزُ أن تكونَ» ما «الأولى عطفاً على المجرورِ، وما الثانيةُ مبتدأةً وفي خبرها الوجهانِ، وللشيخ أن ينفصِلَ عن عدمِ عَوْدِ الضميرِ بأنَّه محذوفٌ تقديرُه: لا نفرِّق فيه، وحَذْفُ العائدِ المجرورِ ب» في «مطَّردٌ كَما ذَكَر بعضُهم، وأنشد: 745 - فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويومٌ نُسَاءُ ويَوْمٌ نُسَرّ أي: نُساء فيه ونُسَرُّ فيه. قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وهو الظاهرُ - أنَّه في محلِّ نصبٍ، و» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ، ويتعلَّقُ ب» أُوتِيَ «الثانيةِ إن أَعَدْنا الضميرَ على النبيين فقط دونَ موسى وعيسى أو ب» أوْتِيَ «الأولى، وتكونُ الثانيةُ تكراراً لسقوطِها في آل عمران إنْ أَعَدْنَا الضميرَ على موسى وعيسى والنبيِّين، الثاني: أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ من العائدِ على الموصولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه: وما أُوتيه كائناً من ربهم الثالث: انه في محلَّ رفعٍ لوقوعِه خبراً إذا جَعَلْنا» ما «مبتدأً وقد تقدَّم تحقيقُه. قوله: {بَيْنَ أَحَدٍ} متعلِّقُ ب «لا نُفَرِّقُ» ، وفي «أحد» قولان أظهرُهما: أنَّه الملازِمُ للنفي الذي همزتُه أصليةٌ فهو للعمومِ وتحته أفرادٌ، فلذلك صَحَّ دخولُ «بين» عليه مِنْ غيرِ تقديرِ معطوفٍ نحو: «المالُ بين الناس» . والثاني: أنه الذي همزتُه بدلٌ من واوٍ بمعنى واحد، وعلى هذا فلا بدَّ من تقديرِ معطوفٍ

ليَصِحَّ دخولُ «بَيْنَ» على متعددٍ، ولكنه حُذِفَ لفَهْمِ المَعْنى، والتقدير: بين أحدٍ منهم، ونظيرُه ومثلُه قولُ النابغة: 746 - فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً ... أبو حُجُرٍ إلا ليالٍ قلائِلُ أي: بين الخير وبيني. و «له» متعلِّقٌ بمسلمون، قُدِّم للاهتمامِ به لعَوْدِ الضميرِ على الله تعالى أو لتناسُبِ الفواصل.

137

قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} : في الباءِ أقوالٌ، أحدُها: أنها زائدةٌ كهي في قولِه {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] وقوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ} [مريم: 25] وقوله: 747 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ والثاني: أنها بمعنى «على، أي: فإنْ آمَنوا على مثلِ إيمانكم بالله» . والثالث: أنَّها للاستعانةِ كهي في «نَجَرْتُ بالقَدُوم» و «كَتَبْتُ بالقلم» والمعنى: فإنْ دَخَلوا في الإِيمانِ بشهادةٍ مثلِ شهادتِكم، وعلى هذه الأوجهِ فيكونُ المؤمَنُ به محذوفاً، و «ما» مصدريةً والضميرُ في «به» عائداً على الله تعالى، والتقديرُ: فإنْ آمنوا باللهِ إيماناً مثلَ إيمانِكم به، و «مثل» هنا فيها قولان، أحدُهما: أنَّها زائدةٌ والتقديرُ: بما آمنْتُم به، وهي قراءة عبدِ الله بنِ مسعودٍ وابن

عباس، وذكر البيهقي عن ابن عباس: «لا تقولوا بمثلِ ما آمنتم [به] فإنَّ اللهَ لَيس لَه مِثْلٌ ولكن قولوا بالذين آمنتم به} وهذه تُرْوَى قراءةً [عن] أُبَيّ، ونظيرُها في الزيادةِ قولُ الشاعرِ: 748 - فَصُيِّروا مثلَ كعصفٍ مَأْكُولْ ... وقال بعضهم: هذا من مجازِ الكلام تقولُ: هذا أمرٌ لا يَفْعَلُه مثلُك، أي لا تَفْعَلُه أنت، والمعنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، نَقَلَه ابنُ عطية، وهو يَؤُول إلى إلغاءِ» مثل «وزيادتِها، والثاني: أنها ليست بزائدةٍ، والمثليةُ متعلقةٌ بالاعتقادِ، أي: فإن اعتقدوا بمثلِ اعتقادكم، أو متعلقةٌ بالكتابِ أي: فإنْ آمنوا بكتاب مثلِ الكتابِ الذي آمنتُمْ به، والمعنى: فإنْ آمَنوا بالقرآنِ الذي هو مُصَدَّقٌ لِما في التوراةِ والإِنجيلِ، وهذا التأويلُ ينفي زيادةَ الباء. و» ما «قولِه: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ} فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها بمعنى الذي والمرادُ بها حينئذٍ: إمَّا اللهُ تعالى بالتأوِيل المتقدِّمِ عِندَ مَنْ يُجيز وقوعَ» ما «على أولي العلمِ نحو: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] وإمَّا الكتابُ المنزَّلُ. والثاني: أنَّها مصدريةٌ وقد تقدَّم ذلك. والضميرُ في» به «فيه أيضاً وجهان، أحدُهما: أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى كما تقدَّم. والثاني: أن يعودَ على» ما «إذا قيل: إنَّها بمعنى الذي. قوله: {فَقَدِ اهتدوا} جوابُ الشرط في قوله:» فإنْ آمنوا «، وليس الجوابُ محذوفاً، كهو في قوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [فاطر: 4] لأنَّ تكذيبَ الرسلِ

ماضٍ محقَّقُ هناك فاحتجْنا إلى تقديرِ جوابٍ، وأمَّا هنا فالهدايةُ منهم لم تقعْ بعدُ فهي مستقبلةٌ معنىً وإن أُبْرِزَتْ في لفظِ المُضِيّ. قوله: {فِي شِقَاقٍ} خبرٌ لقوله:» هم «وجَعَلَ الشِّقاقَ ظرفاً لهم وهم مظروفون له مبالَغَةً في الإِخبارِ باستعلائِه عليهم، وهو أَبْلَغُ مِنْ قولِك هم مُشاقُّون، ومثلُه: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66] ونحوُه: والشِّقاقُ مصدرٌ من شاقَّه يُشاقُّه نحو: ضاربه ضِراباً، ومعناه المخالَفَةُ والمُعَادَاةُ، وفي اشتقاقِه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه من الشِّقِّ وهو الجانبُ. وذلك أن أحد المُشاقِّين يَصير في شِقِّ صاحبِه/ أي: جانبِه، قال امرؤ القيس: 749 - إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِها انْصَرَفَتْ له ... بشِقًّ وشِقٌّ عندَنا لم يُحَوَّلِ أي: بجانبٍ. الثاني: أنه من المَشَقَّة فإنَّ كلاً منهما يَحْرِصُ على ما يَشُقُّ على صاحبِه. الثالث: أنَّه من قولهم: «شَقَقْتُ العَصا بيني وبينك» وكانوا يفعلون ذلك عند تَعادِيهم، والفاءُ في قولهِ: «فَسَيَكْفِيكَهُم» تُشْعِرُ بتعقيبِ الكفاية عَقِبَ شِقاقهم. وجيءَ بالسينِ دونَ سوف لأنها أقربُ منها زماناً بوَضْعِها، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: فسيكفيكَ شِقاقَهم؛ لأنَّ الذواتِ لا تُكْفى إنما تُكْفَى أفعالُها، والمَكْفِيُّ به هنا محذوفٌ أي: بمَنْ يَهْدِيه الله أو بتفريق كلمتِهم.

138

قوله تعالى: {صِبْغَةَ الله} : قرأ الجمهورُ «صبغةَ» بالنصبِ، وقال الطبري: «مَنْ قَرَأَ مِلَّةُ إبراهيمَ بالرفع قرأ صبغةُ بالرفع» وقد تقدَّم أنها قراءةُ ابنِ هرمز وابن أبي عبلة. فأمَّا قراءةُ الجمهورِ ففيها أربعةُ

أوجهٍ أحدُها: أنَّ انتصابَها انتصابُ المصدرِ المؤكِّد وهذا اختاره الزمخشري، وقال: «هو الذي ذَكَر سيبويه والقولُ ما قالَتْ حَذامِ» انتهى قولُه. اختُلَفِ حينئذٍ عن ماذا انتصَبَ هذا المصدرُ؟ فقيل عن قولِه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقيل: عَنْ قولِه: {فَقَدِ اهتدوا} . الثاني: أنَّ انتصابَها على الإِغراء أي: الزَمُوا صبغةَ الله، قال الشيخ: «وهذا ينافِرُه آخرُ الآيةِ وهو قولُه: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} إلا أَنْ يُقَدَّر هنا قولٌ، وهو تقديرٌ لا حاجةَ إليه ولا دليلَ من الكلامِ عليه» . الثالث: أنها بدلٌ من «مِلَّةَ» وهذا ضعيف إذ قد وَقَعَ الفصلُ بينهما بجُملٍ كثيرة. الرابع انتصابُها بإضمار فعلٍ أي: اتِّبِعوا صبغةَ الله، ذكره أبو البقاء مع وجهِ الإِغراءِ، وهو في الحقيقةِ ليس زائداً فإنَّ الإِغراءَ أيضاً هو نصبٌ بإضمارِ فعلٍ. قال الزمخشري: «وهي - أي الصبغةُ - مِنْ صَبَغَ كالجِلْسَة من جَلَسَ، وهي الحالَةُ التي يقع عليها الصَّبْغُ، والمعنى تطهيرُ الله، لأنَّ الإِيمانَ يُطَهِّرُ النفوسَ، والأصلُ فيه أنَّ النصارى كانوا يَغْمِسون أولادَهم في ماء المَعْمودِيَّةِ ويقولون هو تطهيرٌ لهم، فَأُمِرَ المسلمون أَنْ يقولوا: آمنَّا وصَبَغَنا الله صِبْغَةً لا مثلَ صِبْغَتِكم، وإنَّما جيء بلفظِ الصِّبْغَةِ على طريقِ المُشاكلةِ كما تقول لِمَنْ يَغْرِسُ الأشجار: اغْرِسْ كما يَغْرِسُ فلانٌ، تريدُ رجلاً يصطنعُ الكلامَ» . وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتحتملُ وَجْهين أحدُهما: أنَّها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي:

ذلك الإِيمانُ صبغةُ الله. والثاني: أن تكونَ بدلاً مِنْ «مِلَّة» لأنَّ مَنْ رَفَعَ «صِبْغَة» رفع «مِلَّة» كما تقدَّم فتكونَ بدلاً منها كما قيل بذلك في قراءةِ النصبِ. قولِه: {وَمَنْ أَحْسَنُ} مبتدأٌ وخبرٌ، وهذا استفهامٌ معناه النَّفْيُ أي: لا أحدَ، و «أَحْسَنُ» هنا فيها احتمالان، أحدُهما: أنها ليست للتفضيل إذ صبغةُ غيرِ الله منتفٍ عنها الحُسْنُ. والثاني: أنْ يُراد التفضيلُ باعتبارِ مَنْ يظنُّ أنَّ في صِبْغةِ غيرِ الله حُسْناً لا أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى حقيقةِ الشيءِ. و «مِنَ الله» ، متعلِّقٌ بَحْسَنُ فهو في محلِّ نَصْبٍ. و «صبغةً» نصبٌ على التمييز مِنْ أَحْسَنُ، وهو من التمييز المنقولِ من المبتدأ والتقديرُ: ومَنْ صِبْغَتُه أحسنُ مِنْ صبغةِ الله، فالتفضيلُ إنَّما يَجْري بين الصبغتينِ لا بينَ الصابغين. وهذا غريبٌ أعني كَوْنَ التمييزِ منقولاً من المبتدأ. قولُه: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ معطوفةٌ على قَوْلِهِ {قولوا آمَنَّا بالله} فهي في محلِّ نصبٍ بالقول، قال الزمخشري: «وهذا العطفُ يَرُدُّ قولَ مَنْ زَعَمَ أنَّ» صبغة الله «بدلٌ مِنْ» مِلَّةَ «أو نصبٌ على الإِغراءِ بمعنى عليكم صبغةَ الله لما فيه مِنْ فَكِّ النَّظْم وإخراجِ الكلامِ عن التئامِهِ واتِّساقِه» . قال الشيخ: «وتقديرُه في الإِغراءِ: عليكم صبغةَ ليس بجيدٍ؛ لأنَّ الإِغراءَ إذَا كانَ بالظروفِ والمجروراتِ لا يجوزُ حَذْفُ ذلك الظرفِ ولا المجرورِ، ولذلك حينَ ذَكَرْنا وجهَ الإِغراءِ قدَّرْنا بالزموا صبغةَ الله. انتهى» . كأنَّه لضَعْفِ العَمَلِ بالظروف والمجروراتِ ضَعُفَ حَذْفُها وإبقاءُ عملِها.

139

قوله تعالى: {أَتُحَآجُّونَنَا} : الاستفهامُ هنا للإِنكار والتوبيخِ. والجمهورُ: «أتحاجُّوننا» بنونين الأولى للرفعِ والثانيةُ نونُ «ن»

وقرأ زيدٌ والحسنُ والأعمشُ بالإدغام، وأجاز بعضُهم حَذْفَ النونِ الأولى، فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ، وأمّا قراءةُ الإِدغامِ فلاجتماعِ مِثْلَيْن، وسَوَّغَ الإِدغام وجودُ حرفِ المَدِّ واللين قبلَه القائمِ مقام الحركةِ، وأما من حَذَفَ فبالحَمْلِ على نونِ الوقايةِ كقراءة: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] وقولِه: 750 - تَراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني يريد: فلينني، وهذه الآيةُ مثلُ قولِه: {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] فإنه قُرِئَتْ بالأوجهِ الثلاثةِ: الفَكِّ والإِدغامِ والحَذْفِ، ولكن في المتواتِر، وهنا لم يُقْرَأْ في المشهورِ كما تقدَّم إلا بالفك. ومَحَلُّ هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ قَبْلها. والضميرُ في «قل» يَحْتَمِلُ أن يكونَ للنبي عليه السلام أو لكلِّ مَنْ يَصْلُح للخطابِ، والضميرُ المرفوعُ في «أتحاجُّوننا» لليهودِ والنصارى أو لمشركي العَرَبِ. والمُحَاجَّةُ مُفَاعَلة من حَجَّه يَحُجُّه. وقولُه «في الله» لا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: في شأنِ الله أو دينِ الله. قوله: {وَهُوَ رَبُّنَا} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وكذا ما عُطِفَ عليه من قولِه: «ولنا أعمالُنا» ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: جَزَاءُ أعمالِنا ولكم جزاءُ أعمالِكم.

140

قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} : قرأ حمزة والكسائي وحفص وابن عامر بتاءِ الخطابِ والباقون بالياء، فأمّا قراءةُ الخطابِ فتحتمل «أم» فيها وَجْهين «، أحدُهما: أن تكونَ المتصلةَ، والتعادلُ بين هذه الجملةِ وبين قوله:» أتحاجُّوننا، فالاستفهامُ عن وقوعِ أحدِ هذين الأمْرَيْن: المُحاجَّةِ في اللهِ او ادِّعاءٍ على إبراهيمَ ومَنْ ذُكِرَ معه اليهوديَة والنصرانيةَ، وهو استفهامُ إنكارٍ وتويبخٍ كما تقدَّم فإنَّ كِلا الأمرين باطلٌ. والثاني: أن تكونَ المنقطعةَ فتتقدَّرَ ب «بل» والهمزةِ، على ما تقرَّر في المنقطعة على أصحِّ المذاهبِ، والتقدير: بل أتقولون: والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ أيضاً فيكونُ قد انتقل عن قولِه: أتحاجُّوننا وأَخَذَ في الاستفهام عن قضيةٍ أخرى، والمعنى على إنكارِ نسبةِ اليهوديةِ والنصرانيةِ إلى إبراهيمَ ومَنْ ذُكِرَ معه. وأمَّا قراءةُ الغَيْبة فالظاهرُ أنَّ «أم» فيها منقطعةٌ على المعنى المتقدَّم. وحكى الطبري عن بعضِ النحويين أنها متصلةٌ لأنك إذا قلت: أتقومُ أم يقولم عمروٌ: أيكونُ هذا أم هذا. وردَّ ابنُ عطية هذا الوجهَ فقال: «هذا المثالُ غيرُ جيدٍ، لأنَّ القائلَ فيه واحدٌ والمخاطَبُ واحدٌ، والقولُ في الآيةِ من اثنين والمخاطَبُ اثنان غَيْرانِ، وإنّما تَتَّجِهُ معادَلةُ» أم «للألفِ على الحكم المعنوي، كأنَّ معنى قُلْ أتحاجُّوننا: أيُحاجُّون يا محمد أم يقولون» انتهى. وقال الزمخشري: «وفيمَنْ قَرَأَ بالياء لا تكونُ إلا منقطعةً» قال الشيخ: «ويمكن الاتصالُ مع قراءةِ الياءِ، ويكون ذلك من الالتفاتِ إذ صارَ فيه [

خروجٌ] من خطابٍ إلى غَيْبةِ، والضميرُ لناسٍ مخصوصين» . وقال أبو البقاء: «أم يقولونَ يُقْرأ بالياء ردَّاً على قوله:» فَسَيَكْفيكُهُم الله «فجَعَلَ هذه الجملةَ متعلقةً بقولِه:» فسيكفيكَهم «وحينئذٍ لا تكونُ إلا منقطعةً لِمَا عَرَفْتَ أنَّ من شرط المتصلةِ تقدُّمَ همزةِ استفهامٍ أو تسويةٍ مع أن المعنى ليس/ على أنَّ الانتقالَ مِن قولِه:» فَسَيَكْفيكهم «إلى قولِه» أم يقولون «حتى يَجْعَلَه ردَّاً عليه وهو بعيدٌ عنه لفظاً ومعنىً. وقال الشيخ:» الأحسنُ في القراءتين أن تكونَ «أم» منقطعةً وكأنه أنكرَ عليهم مُحاجَّتَهم في الله ونسبة أنبيائِه لليهودية والنصرانية، وقد وَقَع منهم ما أَنْكَرَ عليهم، ألا ترى إلى قولِه: {قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] الآيات وإذا جَعَلْناها متصلةً كان ذلك غيرَ متضمِّنٍ وقوعَ الجملتين، بل إحداهما، وصارَ السؤالُ عن تعيينِ إحداهما، وليس الأمرُ كذلك إذا وقعا معاً. وهذا الذي قاله الشيخُ حسنٌ جداً. و «أو» في قولِه: «هوداً أو نصارى» كهي في قولِه: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقد تقدَّم تحقيقُه. قوله: {أَمِ الله} أم متصلةٌ، والجلاَلةُ عَطْفٌ على «أنتم» ، ولكنه فَصَل بين المتعاطِفينَ بالمسؤولِ عنه، وهو أحسنُ الاستعمالاتِ الثلاثةِ: وذلك أنه يَجوزُ في مثلِ هذا التركيبِ ثلاثةُ أوجهٍ: تقدُّمُ المسؤولِ عنه نحو: أأعلم أنتم أم اللهُ، وتوسُّطُه نحو: أأنتم أعلمُ أم اللهُ، وتأخيرُه نحو: أأنتم أم الله أعلمُ: وقال أبو البقاء: «أم الله» مبتدأ والخبرُ محذوفٌ، أي: أم الله أعلمُ، و «أم» هنا

المتصلةُ أي: أيُّكم أعلم «وهذا الذي قاله فيه نظرٌ، لأنَّه إذا قَدَّر له خبراً صناعياً صار جملةً، وأم المتصلةُ لا تَعْطِفُ الجملةَ بل المفردَ وما في معناه. وليس قولُ أبي البقاء بتفسيرِ معنىً فيُغْتفَرَ له ذلك بل تفسيرُ إعرابٍ، والتفضيلُ في قوله» أعلمُ «على سبيلِ الاستهزاءِ وعلى تقديرِ أن يُظَنَّ بهم عِلْمٌ من الجَهَلَةِ وإلاّ فلا مشاركةَ، ونظيرُه قولُ حسان: 751 - أتَهْجوه ولَسْتَ له بكُفْءٍ ... فَشَرُّكما لخيرِ كما الفِداءُ وقد عُلِم أنَّ الرسولَ خيرٌ كلُّه. قوله: {مِنَ الله} في» مِنْ «أربعة أوجه، أحدها: أنها متعلِّقةٌ ب» كَتَم «، وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: كَتَم مِنْ عبادِ الله شهادةً عندَه. الثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ لشهادة بعد صفةٍ، لأنَّ» عنده «صفةٌ لشهادة» وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنَّه قال: و «مِنْ» في قولِه: {شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} مثلُها في قولِك: «هذه شهادةٌ مني لفلان» إذا شَهِدْتَ له، ومثلُه: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [براءة: 1] الثالث: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المضمرِ في «عنده» ، يعني مِن الضميرِ المرفوعِ بالظرفِ لوقوعِه صفةً، ذَكَره أبو البقاء. الرابع: أن يتعلَّقَ بذلك المحذوفِ الذي تعلَّق به الظرفُ وهو «عنده» لوقوعِه صفةً، والفرقُ بينه وبين الوجهِ الثاني أنَّ ذاك له عاملٌ مستقلٌ غيرُ العاملِ في الظرف. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تُعَلَّقَ» مِنْ «بشهادةٍ، لئلا يُفْصَلَ بين

الصلةِ والموصولِ بالصفةِ يعني أنَّ» شهادة «مصدرٌ مؤولٌ بحرفٍ مصدري وفعلٍ فلو عَلَّقْتَ» مِنْ «بها لكنْتَ قد فَصَلْتَ بين ما هو في معنى الموصولِ وبين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي وهو الظرفُ الواقعُ صفةً لشهادة. وفيه نظرٌ من وجهين: أحدُهما: لأ نُسَلِّمُ أنَّ» شهادة «يَنْحَلُّ لموصولٍ وصلتِه، فإنَّ كلَّ مصدرٍ لا يَنْحَلُّ لهما. والثاني: سَلَّمْنا ذلك ولكن لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنَّ الظرفَ صفةٌ بل هو معمولٌ لها، فيكونُ بعضُ الصلةِ لا أجنبياً حتى يَلْزم الفصلُ به بين الموصول وصلِته، وإنَّما كان طريقُ مَنْع هذا بَغَيْرِ ما ذَكَر، وهو أنَّ المعنى يأبى ذلك. وكَتَمَ يتعدَّى لاثنين فأولُهما في الآيةِ الكرمية محذوفٌ تقديرُه: كَتَمَ الناسُ شهادةً، والأحسنُ من هذه الوجوهِ أن تكونَ» من الله «صفةً لشهادة أو متعلقةً بعامل الظرفِ لا متعلقةً بكتم، وذلك أنَّ كتمانَ الشهادةِ مع كونِها مستودعةً مِنَ الله عندَه أبلغُ في الأظلميَّةِ مِنْ كتمانِ شهادةٍ مطلقةٍ من عبادِ الله. وقال في «ريّ الظمآن» : «في الآيةِ تقديمُ وتأخيرُ، والتقديرُ: ومَنْ أظلمُ مِنَ الله مِمَّنْ كَتَمَ شهادةً حَصَلَتْ له كقولِك:» ومَنْ أظلمُ من زيدٍ من جملةِ الكلمتين للشهادة «والمعنى: لو كانَ إبراهيمُ وبنوه يهوداً أو نصارى، ثم إنَّ الله كَتَمَ هذه الشهادةَ لم يكن أحدٌ مِمَّنْ يكتمُ الشهادةَ أظلمَ منه، لكن لمَّا استحال ذلك مع عَدْلِه وتنزيهه عن الكذبِ عَلِمْنا أنَّ الأمرَ ليس كذلك» . قال الشيخ: «وهذا متكلفٌ جداً من حيث التركيبُ ومن حيث المدلولُ: أمَّا التركيبُ فإنَّ التقديمَ والتأخيرَ من الضرائرِ عند الجمهور، وأيضاً فيبقى قوله:» مِمَّن كتم «متعلِّقاً إمَّا بأظلم، فيكونُ ذلك على طريق البدليَّةِ، ويكون

إذ ذاك بدلَ عامٍ من خاص وليس بثابتٍ، وإنْ كان بعضُهم زَعَمَ ورودَه، لكنَّ الجمهور تأوَّلوه بوضعِ العامِّ موضعَ الخاص، أو تكونُ» مِنْ «متعلقةً بمحذوف فتكونُ في موضعِ الحال أي: كائناً من الكاتمين. وأمَّا من حيث المدلولُ فإنَّ ثبوتَ الأظلميَّة لمن جُرَّ ب» مِنْ «يكونُ على تقدير، أي: إنْ كَتَمها فلا أحدَ أظلمُ منه، وهذا كلُّه معنىً لا يَليقُ به تعالى ويُنَزَّه كتابُه عنه» .

142

قوله تعالى: {مِنَ الناس} : في محلِّ نصبٍ على الحالِ، من «السفهاء» والعاملُ فيها «سيقولُ» وهي حالٌ مبيِّنة فإنَّ السَّفَه كما يوصف به الناسُ يُوْصَفُ به غيرُهم من الجمادِ والحيوانِ، وكما يُنْسَبُ القولُ إليهم حقيقةً يُنْسَبُ لغيرهم مجازاً فَرَفَع المجازَ بقولِه: «مِن الناسِ» ذكره ابن عطية وغيرُه. قوله: {مَا وَلاَّهُمْ} «ما» مبتدأٌ وهي استفهاميةٌ، والجملةُ بعدها خبرٌ عنها، و «عن قِبْلَتِهم» متعلقٌ ب «وَلاَّهم» ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ في قولِه «عليها» أي: على توجُّهِهَا أو اعتقادِها، وجملةُ الاستفهامِ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والاستعلاءُ في قولِه «عليها» مجازٌ، نَزَّلَ مواظَبَتَهم على المحافظةِ عليها منزلةَ مَنِ استعلى على الشيء.

143

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} : الكافُ فيها الوجهانِ المشهوران كما تقدَّم ذلك غيَر مرةٍ، وهما: إمَّا النصبُ على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أو على الحالِ من المصدرِ المحذوفِ، والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً جَعْلاً مثلَ ذلك ولكنَّ المشارَ إليه ب «ذلك» غيرُ مذكورٍ فيما تقدَّم، وإنما تقدَّم ما يَدُلُّ عليهِ واختلفوا في «ذلك» على خمسةِ أوجهٍ: أحدها أنَّ المشارَ إليه هو الهدفُ المدلولُ عليه بقولِ: {يَهْدِي مَن يَشَآءُ} والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ما هَدَيْناكم

الثاني: أنه الجعلُ، والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ذلك الجعلِ الغريبِ الذي فيه اختصاصُكم بالهدايةِ. الثالث: قيل: المعنى كما جَعَلْنا قِبْلَتَكم متوسطةً جَعَلْناكم أمةً وسطاً. الرابع: قيل: المعنى كما جعلنا القِبْلة وسطَ الأرضِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً. الخامس: - وهو أبْعَدُها - أنَّ المشارَ إليه قولُه: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} أي: مثلُ ذلك الاصطفاءِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً و «جَعَل» بمعنى صَيَّر، فيتعدَّى لاثنين، فالضميرُ مفعولٌ أولُ، و «أمةً» مفعولٌ ثانٍ ووسَطاً نعتُه. والوسَطُ بالتحريكِ: اسمٌ لما بينَ الطرفَيْن، ويُطْلَقُ على خِيارِ الشيءِ لأن الأوساطَ محميَّةٌ بالأطراف قال حبيب: 752 - كانَتْ هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَتْ ... بها الحوادثُ حتى أَصْبَحَتْ طَرَفا ووسَطُ الوادي خيرُ موضعٍ فيه، قالَ زهير: 753 - هُمُ وسَطٌ تَرْضى الأنامُ بحُكْمِهِمْ ... إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعْظَمِ وقوله: 754 - وكُنْ من الناسِ جميعاً وسَطَا ... وفَرَّق بعضُهم بين وسَط بالفتح ووسْط بالتسكين، فقال: كلُّ موضع صَلَح فيه لفظُ «بَيْنَ» يقال بالسكون وإلا فبالتحريك. فتقول: جَلَسْتُ وسْطَ القومِ بالسكون. وقال الراغب: «وسَطُ الشيءِ ما له طرفان متساويا القَدْر، ويُقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد، فتقول: وسَطُه صُلْبٌ، ووسْط بالسكون يُقال في الكميةِ المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو:»

وسْط القوم «كذا، وتحريرُ القولِ فيه هو أن المفتوحَ في الأصلِ مصدر، ولذلك استوى في الوصف به الواحد وغيره، المؤنث والمذكرُ، والساكنُ ظرفٌ والغالبُ فيه عدمُ التصرُّفِ، وقد جاء متمكناً في قول الفرزدق: 755 - أتَتْه بمَجْلومٍ كأنَّ جبينَه ... صلاءَةُ وَرْسٍ وَسْطُها قد تَفَلَّقَا رُوي برفع الطاءِ والضميرُ لصلاءة، وبفتحِها والضميرُ للجائية. قوله:» لتكونوا «يجوز في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أن تكونَ لام» كي «فتفيدَ العلة. والثاني أن تكونَ لامَ الصيرورةِ، وعلى كلا التقديرين فهي حرفُ جر، وبعدَها أَنْ مضمرةٌ، وهي وما بعدَها في محلِّ جر، وأتى ب» شهداء «جمعَ شهيدٍ الذي/ يَدُلُّ على المبالغةِ دونَ شاهِدين وشهود جمعَيْ شاهد. وفي» على «قولان أحدُهما: أنَّها على بابِها، وهو الظاهرُ. والثاني أنها بمعنى اللام، بمعنى: أنكم تَنْقُلون إليهم ما عَلِمْتموه من الوحي والدين، كما نقله الرسولُ عليه السلام، وكذلك القولان في» على «الأخيرة، بمعنى أن الشهادَة بمعنى التزكية منه عليه السلام لهم. وإنما قُدِّم متعلِّق الشهادة آخِراً وقُدِّم أولاً لوجهين، أحدُهما - وهو ما ذكره الزمخشري - أن الغرضَ في الأولِ إثباتُ شهادتِهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم يكونِ الرسولِ شهيداً عليهم، والثاني: أن «شهيداً» أَشْبَهُ بالفواصلِ والمقاطعِ من «عليكم» فكان قولُه «شهيداً» تمامَ الجملةِ ومقطعَها دون «عليكم» . وهذا الوجهُ قاله

الشيخُ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبَه من أنَّ تقديمَ المفعولِ يُشْعِرُ بالاختصاصِ وقد تقدَّم ذلك. قوله: {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} في هذه الآيةِ خمسةُ أوجهٍ أحدُها: أنَّ «القِبلْة» مفعولٌ أولُ، و {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} مفعولٌ ثانٍ، فإنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ، وهذا ما جَزَمَ به الزمخشري فإنَّه قال: {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} ليس بصفةٍ للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جَعَلَ، يريد: وما جَعَلْنَا القبلةَ الجهةَ التي كنتَ عليها، وهي الكعبةُ؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي بمكة إلى الكعبةِ، ثم أُمِر بالصلاةِ إلى صخرةِ بيتِ المَقْدِس ثم حُوِّلَ إلى الكعبةِ «. الثاني: أنَّ» القِبلةَ «هي المفعولُ الثاني، وإنما قُدِّم، و {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} هو الأول، وهذا ما اختارَه الشيخُ محتجَّاً له بأنَّ التصييرَ هو الانتقالُ من حالٍ إلى حالٍ، فالمتلبِّسُ بالحالةِ الأولى [هو المفعولُ الأولُ والملتبِّسُ] بالحالةِ الثانية هو المفعولُ الثاني، ألا ترى أنك تقول: جَعَلْتُ الطينَ خَزَفاً وجَعَلْتُ الجاهلَ عالِماً، والمعنى هنا على هذا التقديرِ، وما جَعَلْنا القبلةَ - الكعبة التي كانَتْ قبلةً لك أولاً ثم صُرِفْتَ عنها إلى بيت المقدس - قبلتك الآن إلا لِنَعْلمَ، ونسبَ الزمخشري في جَعْلِه» القبلةَ «مفعولاً أولَ إلى الوهم. وفيه نظر. الثالث: أنَّ» القبلة «مفعولٌ أول، و» التي كنتَ «صفتَهَا، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه: وما جعلْنا القبلةَ التي كنت عليها منسوخةً. ولَمَّا ذكر

أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّره: وما جَعَلْنَا القبلةَ التي كنت عليها قبلة، ولا طائل تحته. الرابع: أن» القبلةَ «مفعولٌ أولُ، و» إلا لِنَعْلَمَ «هو المفعولُ الثاني، وذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: وما جعلنا صَرْفَ القِبْلةِ التي كنت عليها إلاَّ لنعلمَ، نحو قولِك: ضَرْبُ زيدٍ للتأديبِ، أي: كائنٌ أو ثابتٌ للتأديبِ. الخامس: أنَّ» القبلةَ «مفعولٌ أولُ، والثاني محذوفٌ، و {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} صفةٌ لذلك المحذوفِ، والتقديرُ: وما جَعَلْنا القبلةَ القبلةَ التي، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيفٌ. وفي قوله» كنت «وجهان أحدهما: أنها زائدةُ، ويُروَى عن ابن عباس أي: أنتَ عليها، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعراب. والقِبْلَةُ في الأصلِ اسمٌ للحالة التي عليها المقابِلُ نحو: الجلْسة، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجِّه إليه للصلاة. وقال قطرب: «يقولون:» ليس له قِبْلَةٌ «أي جهةٌ يتوجه إليها» . وقال غيره: إذا تقابل رجلان فكلُّ واحدٍ قِبْلَةٌ للآخرِ. قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} قد تقدَّم أنه في أحدِ الأوجهِ يكون مفعولاً ثانياً، وأمَّا على غيره فهو استثناءٌ مفرغ من المفعولِ له العامِّ، أي: ما سببُ تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا. وقوله «لنعلم» ليس على ظاهره فإن علمَه قديمٌ غيرُ حادثٍ فلا بدَّ من تأويلِهِ وفيه أوجهٌ، أحدُها: لتمييز التابع من الناكص إطلاقاً للسببِ وإرادةَ المسبَّبِ. وقيل: على حَذْفِ مضافٍ أي لنعلمَ رسولَنا فَحَذَفَ، أو أرادَ بذلك تَعلُّقَ العلمِ بطاعتِهم وعِصْيانِهم في أمرِ القبِّلَه. قوله: {مَن يَتَّبِعُ} في «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أنها موصولةٌ، و «يتَّبع»

صلتُها، والموصولُ وصلتُه في محلِّ المفعولِ ل «نعلم» لأنه يتعدَّى إلى واحدٍ. والثاني: أنها استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ و «يتَّبعُ» خبرهُ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنَّها معلِّقة للعلم، والعلم على بابِه، وإليه نحا الزمخشري في أحدِ قوليه. وقد رَدَّ أبو البقاء هذا الوجهَ فقال: «لأنَّ يُوجِبُ أَنْ تُعَلَّق» نعلم «عن العملِ، وإذا عُلِّقَتْ عنه لم يَبْقَ ل» مِنْ «ما تتعلَّقُ به لأنَّ ما بعد الاستفهامِ لا يتعلَّق بما قبله، ولا يَصِحُّ تعلُّقها بيتَّبعُ لأنها في المعنى متعلِّقةٌ بنَعْلَمَ، وليس المعنى: أيُّ فريقٍ يَتَّبعُ مِمَّنْ ينقلب» انتهى. وهو رَدٌّ واضحُ إذ ليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على أَنْ يتعلَّقَ مِمَّنْ ينقلِبُ بنعلمَ نحو: عَلِمْتُ مَنْ أحسنَ إليك ممَّنْ أساءَ، وهذا يُقَوِّي التَجوُّزَ بالعِلْمِ عن التمييز؛ فإنَّ العلمَ لا يتعدَّى بمِنْ إلا إذا أريد به التمييزُ. وقرأ الزهري: «إلا ليُعْلَمَ» على البناءِ للمفعولِ، وهي قراءةٌ واضحةٌ لا تَحْتاجُ إلى تأويلٍ، فإنَّا [لا] نُقَدِّرُ ذلك الفاعل غيرَ اللهِ تعالى. قوله: {على عَقِبَيْهِ} في محلِّ نَصْبٍ على الحال، أي: يَنْقِلِبُ مرتدَّاً راجعاً على عَقِبَيْه، وهذا مجازٌ، وقُرىء «على عَقْبَيْه» بسكون القاف وهي لغةُ تميم. قوله: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} «إنْ» هي المخففةُ من الثقيلةِ دَخَلَتْ على ناسخِ المبتدأ والخبر، وهو أغلبُ أحوالِها، واللامُ للفرقِ بينها وبين إنْ النافيةِ، وهل هي لامُ الابتداءِ أو لامٌ أخرى أُتِيَ بها للفرقِ؟ خلافٌ مشهور، وزعم الكوفيون أنها بمعنى «ما» النافية وأنَّ اللام بمعنى إلاَّ، والمعنى: ما كانت

إلا كبيرةً، نقل ذلك عنهم أبو البقاء، وفيه نظرٌ ليس هذا موضعَ تحريرِه. والقراءةُ المشهورةُ نصبُ «كبيرةً» «على خبر» كان «واسمُ كانَ مضمرٌ فيها يعودُ على التَّوْلِيَةِ أو الصلاةِ أو القِبلةِ المدلولِ عليها بسياقِ الكلامِ وقرأ اليزيدي [عن أبي عمرو] برفعِها، وفيه تأويلان، أحدُهما - وذكره الزمخشري -: أنَّ» كان «زائدةٌ، وفي زيادتها عاملةً نظرٌ لا يَخْفى، وقد استدلَّ الزمخشري على ذلك بقوله: 756 - فكيفَ إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ فإنَّ قولَه «كرام» صفةٌ لجيران، وزادَ بينهما «كانوا» وهي رافعةٌ للضميرِ، ومَنْ مَنَع ذلك تأوَّل «لنا» خبراً مقدماً، وجملةُ الكونِ صفةٌ لجيران. والثاني: أنَّ «كان» غيرُ زائدةٍ، بل يكونُ «كبيرةً» خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: وإنْ كانَتْ لهي كبيرةٌ، وتكونُ هذه الجملةُ في محلّّ نصبٍ خبراً لكانت، ودخلت لام الفرقِ على الجملة الواقعةِ خبراً، وهو توجيهٌ ضعيفٌ، ولكن لا تُوَجَّه هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرَ مِنْ ذلك. قوله: {إِلاَّ عَلَى الذين} متعلِّقٌ ب «كبيرة» ، وهو استثناءٌ مفرغٌ، فإنْ قيل: لَمْ يتقدَّمْ هنا نفيٌ ولا شبهُه، وشرطُ الاستثناءِ المفرَّغِ تَقَدَّمُ شيءٍ من ذلك، فالجوابُ أنَّ الكلام وإن كان موجَباً لفظاً فإنه في معنى النفي، إذ المعنى أنَّها لا تَخِفُّ ولا تَسْهُلُ إلا على الذينَ، وهذا التأويلُ بعينِه قد ذكروه في قوله: {

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] ، وقال الشيخ: «هو استثناءٌ من مستنثىً محذوفٍ تقديرُه: وإنْ كانت لكبيرةً على الناسِ إلا على الذين، وليسَ استثناءً مفرغاً لأنه لم يتقدَّمْه نفيٌ ولا شِبْهُه» وقد تقدم جوابُ ذلك. قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ} في هذا التركيب وما أشبهه مِمَّا ورد في القرآن وغيرِه نحو: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ} [آل عمران: 179] {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ} [آل عمران: 179] قولان أحدُهما: - قول البصريين - وهو أنَّ خبرَ «كان» محذوفٌ، وهذه اللامُ تُسَمَّى لامَ الجحود ينتصِبُ الفعلُ بعدها بإضمار «أَنْ» وجوباً، فينسبكُ منها ومن الفعلِ مصدرٌ مُنْجَرٌّ بهذه اللامِ، وتتعلَّق هذه اللامُ بذلك الخبرِ المحذوفِ، والتقديرُ: وما كان اللهُ مريداً لإِضاعةِ أعمالِكم، وشرطُ لام الجحودِ عندهم أن يتقدَّمَها كونٌ منفيٌّ. واشترط بعضُهم مع ذلك أن يكونَ كوناً ماضياً. ويُفَرَّقُ بينها وبينَ لام كي ما ذكرنا من اشتراطِ تقدُّمِ كونٍ منفيٍّ، ويَدُلُّ على مذهبِ البصريين التصريحُ بالخبرِ المحذوفِ في قوله: / 757 - سَمَوْتَ ولم تَكُنْ أَهْلاً لِتَسْمُو ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والقولُ الثاني للكوفيين: وهو أنَّ اللامَ وما بعدَها في محلِّ الخبرِ، ولا يُقَدِّرون شيئاً محذوفاً، ويزعمون أنَّ النصبَ في الفعلِ بعدَها بنفسِها لا بإضمارِ أَنْ، وأنَّ اللامَ للتأكيدِ، وقد رَدَّ عليهم أبو البقاء فقال: «وهو بَعيدٌ

لأنَّ اللاَم لامُ الجرِّ و» أَنْ «بعدها مُرادَةٌ، فيصيرُ التقدير على قولهم: وما كان الله إضاعةَ إيمانكم، وهذا الردُّ هنا لازمٍ لهم، فإنَّهم لم يقولوا بإضمارِ» أَنْ «بعد اللام كما قَدَّمْتُ نقلَه عنهم، بل يزعمون النصبَ بها وأنها زائدةٌ للتأكيدِ، ولكنْ للردِّ عليهم موضعٌ غيرُ هذا. واعلم أنَّ قولَك: «ما كان زيدٌ ليقومَ» بلامِ الجحودِ أَبْلَغُ من: «ما كان زيدٌ يقومُ» ، أمَّا على مذهبِ البصريين فواضحٌ، وذلك أنَّ مع لام الجحود نفيَ الإرادةِ للقيام والتهيئةِ، ودونَها نفيٌ للقيامِ فقط، ونفيُ التهيئةِ والإِرادة للفعلِ أبلغُ من نفيِ الفعلِ، إذ لا يلزمُ من نفي الفعل نفيُ إرادتِه، وأمَّا على مذهبِ الكوفيين فلأنَّ اللامَ عندهم للتوكيد والكلامُ مع التوكيدِ أبلغُ منه بلا توكيدٍ. وقرأ الضَّحاك: «ليُضَيِّع» بالتشديد، وذلك أن أَضاع وضَيَّع بالهمزةِ أو التضعيف للنقلِ من «ضاع» القاصر، يقال: ضاع الشيء يضيع، وأضَعْتُه أي أهملته فلم أحفظْه، وأمّا ضاعَ المِسْك يَضوع أي: فاحَ فمادةٌ أخرى. قوله: {لَرَءُوفٌ} قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر: لَرُؤفٌ على وزن: نَدُس، وهي لغةٌ فاشية كقوله: 758 - وشَرُّ الظالمينَ فلا تَكُنْهُ ... يقاتِلُ عَمَّه الرَّؤُفَ الرَّحيما وقال آخر: 759 - يَرَى للمُسلمين عليه حَقَّاً ... كحقِّ الوالدِ الرَّؤُفِ الرحيمِ

وقرأ الباقون: «لَرَؤُوف» على زنة شَكُور، وقرأ أبو جعفر: «لَرَوُفٌ» من غير همزٍ، وهذا دأبُه في كلِّ همزةٍ ساكنةٍ أو متحركةٍ. والرأفة: أشدُّ الرحمة فهي أخصُّ منها، وفي رؤوف لغتان أَخْرَيَان لم تَصِلْ إلينا بهما قراءةٌ وهما: رَئِفٌ على وزن فَخِذ، ورَأْفٌ على وزن صَعْب. وإنما قُدِّم على «رحيم» لأجلِ الفواصل.

144

قوله تعالى: {قَدْ نرى} : «قد» هذه قالَ فيها بعضُهم: إنها تَصْرِفُ المضارعَ إلى معنى المضيِّ، وجَعَلَ، مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها وقولَ الشاعر: 760 - لِقَوْمٍ لعَمْري قد نَرَى أمسِ فيهمُ ... مرابطَ للأمْهارِ والعَكَرِ الدَّهِرْ وقال الزمخشري: «قد نرى» : ربما نرى، ومعناه كثرةُ الرؤيةِ كقول الشاعر: 761 - قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصَفْراً أناملُه ... كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرْصادِ قال الشيخ: «وشرحه هذا على التحقيق متضادٌّ، لأنه شَرَحَ» قد نرى «بربما نرى، ورُبَّ على مذهب المحققين إنما تكون لتقليلِ الشيء في نفسِه أو لتقليلِ نظيرِه: ثم قال:» ومعناه كثرةُ الرؤيةِ فهو مضادٌّ لمدلولِ رُبَّ على مذهب الجمهور. ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرةِ الرؤيةِ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ لأنه

لم تُوضَعْ للكثرةِ «قد» مع المضارع سواءً أريد به المضيُّ أم لا، وإنما فُهِمَت الكثرةُ من متعلَّقِ الرؤيةِ وهو التقلُّبُ «. قوله: {فِي السمآء} : في متعلَّق الجارِّ ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنه المصدرُ وهو» تقلُّب «، وفي» في «حينئذ وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابِها الظرفية وهو الواضحُ. والثاني: أنَّها بمعنى» إلى «أي: إلى السماء، ولا حاجةَ لذلك، فإنَّ هذا المصدرَ قد ثَبَتَ تعدّيه ب» في «، قال تعالى: { [لاَ يَغُرَّنَّكَ] تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} [آل عمران: 196] . والثاني من القولين: أنه» نرى «وحينئذ تكونُ» في «بمعنى» مِنْ «أي: قد نَرى مِن السماء، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحيَّزُ في جهة على سبيل التشريفِ. والثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من» وجهِك «ذكرَه أبو البقاء فيتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فاعِلِه، ولا يجوزُ أن يكونَ مضافاً إلى منصوبهِ لأنَّ مصدرَ ذلك التقليب، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ من قولِه» وجهك «وهو بصرُ وجهِك لأنَّ ذلك لا يكادُ يُسْتَعملُ، بل ذكر الوجهَ لأنه أشرَفُ الأعضاءِ وهو الذي يُقَلْبه السائلُ في حاجته وقيل: كَنَى بالوجهِ عن البصر لأنه مَحَلُّه. قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} الفاءُ هنا للتسبب وهو واضحُ، وهذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ، أي: فوالله لَنُوَلينَّكَ، و» نُوَلِّي «يتعدَّى لاثنين: الأول الكاف والثاني» قبلةً «، و» ترضاها «الجملة في محل نصبٍ صفةً لقبلةً، قال الشيخ:» وهذا - يعني «فلنولينك» - يَدُلُّ على أَنَّ في الجملةِ السابقةِ حالاً محذوفةً تقديرُه: قد نرى تقلُّبَ وجهِك في السماءِ طالباً قبلةً غيرَ التي أنت مستقبلَها.

قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد} : «وَلَّى» يتعدَّى لاثنين أحدُهما «وجهك» والثاني «شطرَ» ويجوز أن ينتصبَ «شطر» على الظرفِ المكاني فيتعدَّى الفعلُ لواحدٍ وهو قولُ النحاس، ولَمْ يذكرِ الزمخشري غيرَه، والأولُ أوضحُ، وقد يتعدَّى إلى ثانيهما بإلى. والشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه، ويكون بمعنى الجهة والنحو، قال: 762 - ألا مَنْ مُبْلِغٌ عني رسولاً ... وما تُغْني الرسالةُ شطرَ عمروِ وقال: 763 - أقولُ لأُمِّ زِنْباعٍ أَقيمي ... صدورَ العيسِ شَطْرَ بني تميمِ وقال: 764 - وقد أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمْ ... هَوْلٌ له ظُلَمٌ يَغْشاكُمُ قِطَعا وقال ابن أحمر: 765 - تَعْدُو بنا شَطْرَ نجدٍ وهيَ عاقِدَةٌ ... قد كارب العقدُ من إيقادها الحُقُبا وقال:

766 - وأَطْعَنُ بالرُّمْحِ شَطْرَ المُلو ... كِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال: 767 - إنَّ العَسِيرَ بها داءٌ مُخامِرُها ... وشَطْرَها نَظَرُ العينين مَحْسورُ كل ذلك بمعنى: نحو وتِلْقاء. ويقال: شَطَرَ: بَعُد ومنه: الشاطرُ وهو الشابُّ البعيدُ من الجيرانِ الغائبِ عن منزلِه، يقال: شَطَر شُطوراً، والشَّطيرُ: البعيدُ ومنه منزل شَطِير، وشَطَر إليه أي أقبل. وقال الراغب: «وصار يُعَبَّر بالشاطر عن البعيدِ وجمعه شَطْر، والشاطر أيضاً لِمَنْ يتباعَدُ من الحقَّ وجمعُه شُطَّار. وقوله: {حَيْثُ مَا كُنْتُمْ} في» حيثما «هنا وجهان، أظهرُهما: أنها شرطيةٌ، وشرطٌ كونِها كذلك زيادةُ» ما «بعدها خلافاً للفراء، ب» كنتم «، في محلِّ جزم بها، و» فولُّوا «جوابُها وتكون هي منصوبةً على الظرفِ بكنتم، فتكونُ هي عاملةً فيه الجزمَ، وهو عاملٌ فيها النصبَ نحو: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [الإسراء: 110] واعلم أنَّ» حيث «من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ فالجملةُ التي بعدها كان القياسُ يقتضي أن تكونَ في محلِّ خفضٍ بها، ولكنْ مَنَعَ من ذلك مانعٌ وهو كونُها صارَتْ من عوامل الأفعالِ. قال الشيخ:» وحيث هي ظرفُ مكانٍ مضافةً إلى الجملةٍ فهي مقتضيةٌ للخفضِ بعدَها، وما اقتضى الخفضَ لا يقتضي الجزمَ، لأنَّ عواملَ الأسماءِ لا تعملُ في الأفعالِ، والإِضافةُ موضَّحةُ

لِما أُضيف، كما أنَّ الصلةَ موضِّحَةٌ فيُنافي اسمُ الشرط؛ لأنَّ اسمَ الشرطِ مبهمٌ، فإذا وُصِلَتْ ب «ما» زال منها معنى الإِضافةِ وضُمِّنَتْ معنى الشرطِ وجُوزي بها، وصارَتْ من عواملِ الأفعالِ «. والثاني: أنها ظرفٌ غيرُ مضمَّنٍ معنى الشرط، والناصبُ له قولُه:» فَوَلُّوا «قاله أبو البقاء، وليس بشيء، لأنه متى زيدت عليها» ما «وَجَبَ تضمُّنُها معنى الشرطِ. وأصل وَلُّوا: وَلِّيُوا، فاستُثْقِلَتِ الضمة على الياءِ فَحُذِفَتْ فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبلَه ليجانسَ الضميرَ فوزنه فَعُّوا. وقوله:» شَطْرَه «فيه القولان، وهما: إمَّا المفعولُ به وإمّاَ الظرفية كما تقدم. قوله: {أَنَّهُ الحق} يُحْتمل أن تكونَ» أَنَّ «واسمُها وخبرُها سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ ل» يَعْلَموْن «عند الجمهور، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ والثاني محذوفٌ على أنها تتعدَّى لاثنين، وأن تكونَ سادَّةً مسدَّ مفعولٍ واحدٍ على أنها بمعنى العرفان. وفي الضميرِ ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها: يعودُ على التوليِّ المدلولِ عليه بقولِه: «فولُّوا» . والثاني: على الشطر. والثالث: على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكونُ على هذا التفاتاً من خطابه بقوله «فَلَنُوَلِّينَّكَ» إلى الغَيْبة. قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الحق أي: الحقُّ كائناً مِنْ ربهم. وقرىء: «عمَّا يعملون» بالغَيْبة ردَّاً على الذين أوتوا الكتاب أو رَدَّاً على المؤمنين ويكون/ التفاتاً من خطابِهم بقولِه: «وجوهكم - كنتم» . وبالخطاب على ردِّه للمؤمنين وهو الظاهرُ، أو للذين على الالتفات تحريكاً لهم وتَنْشِيطاً.

145

قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ} : فيه قولان، أحدُهما قولُ سيبويهِ وهو أنَّ اللامَ هي الموطِّئَةُ للقسَمِ المحذوفِ و «إنْ» شرطيةٌ، فقد اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ، وسَبَقَ القسمُ فالجوابُ له إذ لم يتقدَّمْهما ذو خبرٍ، فلذلك جاء الجوابُ للقسمِ بما النافيةِ وما بعدَها، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لسدِّ جوابِ القسمِ مَسَدَّه، ولذلك جاء فعلُ الشرطِ ماضياً لأنه متى حُذِفَ الجوابُ وَجَبَ مضيُّ فعلِ الشرطِ إلا في ضرورةٍ، و «تَبِعوا» وإنْ كان ماضياً لَفْظاً فهو مستقبلٌ معنىً، أي: ما يتَّبعون لأنَّ الشرطَ قيدٌ في الجملةِ والشرطُ مستقبلٌ فَوَجَبَ أنْ يكونَ مضمونُ الجملةِ مستقبلاً ضرورةَ أنَّ المستقبلَ لا يكونُ شرطاً في الماضي. الثاني: وهو قولُ الفراء - ويُنْقل أيضاً عن الأخفشِ والزجاج - أن «إنْ» بمعنى «لو» ، ولذلك كانَتْ «ما» في الجوابِ، فَجَعَلَ «ما تَبِعوا» جواباً لإِنْ لأنَّها بمعنى لو، أمّا إذا لم تكن بمعناها فلا تُجابُ ب «ما» وحدَها، بل لا بُدَّ من الفاءِ، تقول: إن تَزُرْني فما أزورك، ولا يجيز الفراء: «ما أزورك» بغير فاء. وقال ابن عطية: «وجاء جوابُ» لَئِنْ «كجوابِ لو، وهي ضدُّها في أَنْ» لو «تَطْلُبُ المُضِيَّ والوقوعَ و» إنْ «تَطْلُب الاستقبالَ، لأنهما جميعاً يترتَّب قبلَها القسمُ، فالجوابُ إنما هو للقسمِ، لأنَّ أحدَ الحَرْفَيْنِ يَقَع موقعَ الآخرِ هذا قولُ سيبويه» قال الشيخ: «هذا فيه تثبيجٌ وعدمُ نصٍ على المرادِ، لأنَّ أَوَّلَه يقتضي أنَّ الجوابَ ل» إنْ «وقولُه بعدَه: الجوابُ للقسم يَدُلُّ على أنه

ليسَ لإِنْ، وتعليلُه بقولِه:» لأنَّ أحد الحرفين يَقَعُ موقعَ الآخرِ لا يَصْلُحُ علةً لكونِ «ما تَبِعوا» جواباً للقسمِ، بل لكونِه جواباً لإِنْ، وقوله: «قولَ سيبويه» ليس في كتابِ سيبويه ذلك، إنما فيه أن «ما تَبِعوا» جوابُ القسمِ، ووقعَ فيه الماضي موقعَ المستقبلِ، قال سيبويه: «وقالوا: لَئِنْ فَعَلْتَ ما فَعَلَ يريد معنى ما هو فاعِلٌ وما يَفْعَلَ» . وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ قولَه: «ما تَبِعُوا» فيه قولان، أحدُهما: أنه جوابٌ الشرطِ ولذلك لم يَقْتَرِنْ بالفاءِ. والثاني: أنه جوابٌ لإِنْ إجراءً لها مُجرى لو. وقال أبو البقاء: «ما تَبِعوا» أي: لا يتَّبعوا، فهو ماضٍ في معنى المستقبلِ، ودخلَتْ «ما» حَمْلاً على لفظِ الماضي، وحُذِفَتْ الفاءُ في الجوابِ لأنَّ فعلَ الشرطِ ماضٍ، وقال الفراء: إنْ هنا بمعنى لو «وهذا من أبي البقاءِ يُؤْذِنْ أنَّ الجوابَ للشرطِ وإنما حُذِفَتِ الفاءُ لكونِ فعلِ الشرطِ ماضياً، وهذا منه غير مَرْضِيٍّ، لأنه خَالَفَ البصريين والكوفيين بهذه المقالةِ. قوله: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} «ما» تَحْتَمِل الوَجْهين أعنى كونها حجازيةً أو تميميةً، فعلى الأولِ يكون «أنتَ» مرفوعاً بها، و «بتابع» في محلِّ نصبٍ، وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداءِ و «بتابعٍ» في محلِّ رفعٍ، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ الشرطِ وجوابِه لا على الجوابِ وحدَه، إذ لا يَحُلُّ محلَّه لأنَّ نفيَ تَبَعيَّتِهم لقِبْلَتِه مقيدٌ بشرطٍ لا يَصِحُّ أَنْ يكونَ قيداً في نفي تبعيَّتِه قِبلَتَهم. وهذه الجملةُ أبلغُ في النفي مِنْ قولِه: {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} من وجوهٍ أحدُها: كونُها اسميةً متكررٌ فيها الاسمُ، مؤكَّدٌ نفيُها بالباءِ. ووحَّد القبلةَ وإن كانت مثنَّاةً لأنَّ لليهودِ قِبلةً وللنصارى قبلةً أخرى لأحدِ وجهين: إمَّا لاشتراكِهما في البطلان صارا قِبلةً واحدةً، وإمَّا لأجْلِ المقابلةِ في

اللفظِ، لأنَّ قبلَه {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} . وقُرِىء «بتابعِ قبلتِهم» بالإِضافةِ تخفيفاً لأنَّ اسمَ الفاعلِ المستكملِ لشروطِ العملِ يجوزُ فيه الوجهان. واختُلِفَ في هذه الجملةِ: هل المرادُ بها النهيُ أي: لا تَتَّبعْ قبلتهم ومعناه الدوامُ على ما أنتَ عليه لأنَّه معصومٌ من اتِّباعِ قبلتِهم أو الإِخبارُ المحض بنفي الاتِّباع. والمعنى أنَّ هذه القبلةَ لا تصيرُ منسوخةً، أو قطعُ رجاءِ أهلِ الكتابِ أن يعودَ إلى قِبْلتِهم؟ قولان مشهوران. قوله: {وَلَئِنِ اتبعت} كقولِه: «ولَئِنْ أَتَيْتَ» . وقولُه: «إنَّك» جوابُ القسمِ، وجوابُ الشرط محذوفٌ كما تقدَّم في نظيرِه، قال الشيخ: «لا يقال إنه يكونُ جواباً لهما لامتناع ذلك لفظاً ومعنىً، أمَّا المعنى فلأنَّ الاقتضاءَ مختلفٌ، فاقتضاءُ القسَمِ على أنه لا عملَ له [فيه] ، لأنَّ القسَم إنما جيءَ به توكيداً للجملةِ المُقْسَمِ عليها، وما جاءَ على سبيلِ التوكيدِ لا يناسِبُ أن يكونَ عاملاً، واقتضاءُ الشرطِ على أنه عاملٌ فيه، فتكونُ الجملةُ في موضعِ جزم، وعَمَلُ الشرطِ لقوةِ طلبه له، وأمَّا اللفظُ فإنَّ هذه الجملةَ إذا كانَتْ جوابَ قسمٍ لم تَحْتَجْ إلى مزيدِ رابطٍ، فإذا كانت جوابَ شرط احتيجت إلى مزيدِ رابطٍ وهو الفاء ولا يَجوزُ أن تكونَ خاليةً من الفاء موجودة فيها فلذلك امتنع أن تَكونَ جواباً لهما معاً» . و «إذَنْ» حرفُ جوابٍ وجزاءٍ بنص سيبويه، وتَنْصِبُ المضارعَ بثلاثةِ شروطٍ: أن تكونَ صدراً، وألاَّ يُفْصَلَ بينها وبين الفعلِ بغيرِ الظرفِ والقسمِ

وألاَّ يكونَ الفعلُ حالاً، ودخلَتْ هنا بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتقريرِ النسبةِ بينهما وكانَ حَدُّها أَنْ تتقدَّمَ أو تتأخَّرَ، فلم تتقدَّمْ لأنَّه سَبَقَ قسمٌ وشرطٌ والجوابُ هو للقسمِ، فلو تقدَّمَتْ لَتُوُهِّمَ أنها لتقريرِ النسبةِ التي بين الشرطِ والجوابِ المحذوفِ، ولم تتأخَّرْ لِئَلاَّ تفوتَ مناسبةُ الفواصلِ ورؤوسِ الآي. قال الشيخ: «وتحريرُ معنى» إذَنْ «صعبٌ اضطربَ الناسُ في معناها وفي فهم كلامِ سيبويهِ فيها، وهو أنَّ معناها الجوابُ والجزاءُ» قال: «والذي تحصَّل فيها أنها لا تقعُ ابتداء كلامٍ، بل لا بدَّ أَنْ يسبِقَها كلامٌ لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظِ أو التقديرِ وإنْ كان مُتَسَبِّباً عَمَّا قبلَها فهي في ذلك على وجهين، أحدُهما: أَنْ تَدُلَّ على إنشاءِ الارتباطِ والشرطِ، بحيث لا يُفْهم الارتباطُ من غيرِها مثالُ ذلك: أزورُك. فتقول: إذاً أزورَك، فإنما تريد الآن أن تجعلَ فعلَه شرطاً لفِعْلِكَ، وإنشاءُ السببيةِ في ثاني حالٍ من ضرورته أن يكونَ في الجواب وبالفعلية في زمانٍ مستقبلٍ، وفي هذا الوجهِ تكونُ عاملة، ولعملها شروطٌ مذكورةٌ في النحوِ. الوجه الثاني: أن تكونَ مؤكِّدةً لجوابٍ ارتبط بمُقَدَّمٍ أو مَنْبَهَةً على مُسَبَّبٍ حَصَلَ في الحال، وهي في الحالَيْنِ غيرُ عاملةٍ لأنَّ المؤكِّداتِ لا يُعْتَمَدُ عليها والعاملُ يُعْتَمَدُ عليه، وذلك، نحو: «إنْ تأتني إذاً آتِكَ» ، و «واللَّهِ إذاً لافعلَنَّ» فلو أُسْقِطَتْ «إذاً» لَفَهُمَ الارتباطُ، ولَمَّا كانَتْ في هذا الوجهِ غير مُعْتَمَدٍ عليها جاز دخولُها على الجملةِ الاسميةِ الصريحةِ نحو: «أزورك» فتقول: «إذاً أنا أكرمُك» ، وجاز توسُّطُها نحو: «أنا إذاً أكرمُك» ، وتأخُّرها. وإذا تقرَّر هذا فجاءت «إذاً» في الآيةِ مؤكدةً للجوابِ المُرْتَبِطِ بما تقدَّم، وإنما قَرَّرْتُ معناها هنا لأنها كثيرةٌ الدَّوْرِ في القرآنِ فتُحْمَلُ في كلِّ موضعٍ على ما يناسِبُ من هذا الذي قَرَّرْناه «. انتهى كلامُه. واعلم أنَّها إذا تقدَّمَها عاطفٌ جازَ إعمالُها وإهمالُها وهو الأكثرُ، وهي

مركبةٌ من همزة وذال ونون، وقد شَبَّهَتِ العربُ نونَها بتنوين المنصوبِ فَقَلَبُوها في الوقفِ ألفاً وكتبوها الكُتَّاب على ذلك، وهذا نهايةُ القولِ فيها. / وجاء في هذا المكان {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} وقال قبلَ هذا: {بَعْدَ الذي جَآءَكَ} [البقرة: 120] وفي الرعدَ: {بَعْدَ مَا جَآءَكَ} [الرعد: 37] فلم يأتِ ب» من «الجارةِ إلاَّ هنا، واختصَّ موضعاً ب» الذي «، وموضِعَيْنِ ب» ما «، فما الحكمةُ في ذلك؟ والجوابُ ما ذَكَرَه بعضُهم وهو أنَّ» الذي «أَخَصُّ، و» ما «أشدَّ إبهاماً، فحيث أتى بالذي أشير به إلى العلمِ بصحةِ الدينِ الذي هو الإِسلام المانعُ من مِلَّتَي اليهود والنصارى، فكان اللفظُ الأخَصُّ الأشهرُ أَوْلَى فيه لأنه عِلْمٌ بكلِّ أصولِ الدينِ، وحيث أتى بلفظِ» ما «أُشيرَ به إلى العلمِ بركنٍ من أركانِ الدينِ، أحدُهما: القِبلةُ، والآخرُ: بعض الكتاب لأنه أشَارَ إلى قولِه: {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] . قال» وأما دخولُ «مِنْ» ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ [على] عليه السلام أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ في قِبْلَتِهم، والذي يقال في هذا: إنَّه من بابِ التنوعِ في البلاغة.

146

قوله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ} : فيه ستةُ أوجهٍ أظهرُها: أنَّه مرفوع بالابتداءِ، والخبرُ وقوله «يَعْرفونه» . الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هم الذين آتيناهم. الثالث: النصبُ بإضمار أعني. الرابعُ: الجرُّ على البدلِ من «الظالمين» . الخامس: على الصفةِ للظالمين. السادس: النصبُ على البدلِ من {الذين أُوتُواْ الكتاب} في الآيةِ قبلَها.

قوله: «يَعْرفونه» فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ للذين آتيناهم كما تقدَّم في أحدِ الأوجهِ المذكورةِ في «الذين آتيناهم» . الثاني: أنه نصبٌ على الحالِ على باقيةِ الأقوالِ المذكورةِ، وفي صاحبِ الحالِ وجهان، أحدُهما: المفعولُ الأولُ لآتيناهم، والثاني: المفعولُ الثاني وهو الكتاب، لأنَّ في «يَعْرفُونه» ضميرين يعودان عليهما. والضمير في «يَعْرفونه» فيه أقوالٌ، أحدُهما: أنه يعودُ على الحقِّ الذين هو التحوُّل. الثاني: على القرآن. الثالث: على العِلْم، الرابع: على البيتِ الحرام، الخامس: على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبه بدأ الزمخشري، واختاره الزجاج وغيرُه، قالوا: وأُضْمِرَ وإنْ لم يَسْبِقْ له ذِكْرٌ لدلالة الكلامِ عليه وعَدِمِ الَّلبْسِ، ومثلُ هذا الإِضمارِ فيه تفخيمٌ له كأنَّه لشُهْرَتِه وكونِه علماً معلوماً مستغنىً عن ذِكْرِهِ بلفظِه. قال الشيخ: «بل هذا من بابِ الالتفات من الخطابِ في قوله:» قولِّ وجهَك «إلى الغيبة» . قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ} الكافُ في محلِّ نَصْبٍ. إمَّا على كونِها نَعْتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: مَعرفةً كائنةً مثلَ معرفتِهم أبناءَهم أو في موضعِ نصبٍ على الحالِ من ضمير ذلك المصدرِ المعرفةِ المحذوفِ، التقديرُ: يعرفونه المعرفةَ مماثلة لعرفانهم، وهذا مذهبُ سيبويه، وتقدَّم تحقيقُ هذا. و «ما» مصدريةٌ لأنه يَنْسَبِكُ منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ كما تقدَّم تحقيقُه. قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ يكتُمون، والأقربُ فيها أَنْ تكونَ حالاً لأنَّ لفظَ «يكتمُون الحق» يَدُلُّ على عِلْمه إذ الكتمُ إخفاءُ ما يُعْلَمُ، وقيل: متعلَّقُ العلم هو ما على

الكاتمِ من العقابِ، أي: وهم يعلمونَ العقابَ المُرَتَّبَ على كاتم الحق، فتكونُ إذ ذاكَ حالاً مبيِّنةً.

147

قوله تعالى: {الحق مِن رَّبِّكَ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ والمجرورُ بعده، وفي الألفِ واللامِ حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ للعهدِ، والإِشارةُ إلى الحقِّ الذي عليه الرسولُ عليه السلام أو إلى الحقِّ الذي في قولِه «يكتمون الحقَّ» أي: هذا الذي يكتمونه هو الحقُّ من ربك، وأن تكونَ للجنسِ على معنى الحقُّ من اللهِ لا من غيره. الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو الحقُّ من ربك، والضميرُ يعودُ على الحقِّ المكتومِ أي ما كتموه هو الحقُّ. الثالث: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: الحقُّ من ربِّك يعرفونه، والجارُّ والمجرورُ على هذين القولين في محل نصبٍ على الحالِ من «الحق» ، ويجوز أن يكونَ خبراً بعد خبرٍ في الوجهِ الثاني. وقرأ علي بن أبي طالب: {الحقَّ من ربك} نصباً، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ على البدلِ من الحقّ المكتوم، قاله الزمخشري الثاني: أن يكونَ منصوباً بإضمار «الزم» ويدلُّ عليه الخطابُ بعده [في] قوله: «فلا تكونَنَّ» الثالث: أنه يكونَ منصوباً ب «يَعْلَمون» قبلَه. وذكر هذين الوجهين ابنُ عطية، وعلى هذا الوجهِ الأخيرِ يكونُ مِمَّا وقع فيه الظاهرُ موقعَ المضمر أي: وهم يعلمونَه كائناً من ربك، وذلك سائغٌ حسنٌ في أماكنِ التفخيم والتهويل نحو:

768 - لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلَغُ من النهيِ عن نفسِ الصفةِ فلذلك جاءَ التنزيلُ عليه: نحو {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} [الأنعام: 35] دونَ: لا تَمْتَرِ ولا تَجْهَلْ ونحوِه، وتقريرُ ذلك أنَّ قولَه: «لا تكُنْ ظالماً» نهي عن الكونِ بهذه الصفةِ، والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلغُ من النهي عن تلك الصفةِ، إذ النهيُ عن الكونِ على صفةٍ يَدُلُّ على عمومِ الأكوانِ المستقبلةِ عن تلكَ الصفةِ، والمعنى لا تَظْلِمْ في كل أكوانِك أي: في كل فردٍ فردٍ من أكوانِك فلا يَمُرُّ بك وقتٌ يؤخذ منك فيه ظلمٌ، فيصيرُ كأن فيه نصاً على سائرِ الأكوانِ بخلاف: لا تَظْلِمْ، فإنَّه يستلزِمُ الأكوانَ، وفَرْقٌ بين ما يَدُلَّ دلالةً بالنصِّ وبين ما يَدُلُّ دلالةً بالاستلزام. والمتراءُ: افْتِعال من المِرْيَةِ وهي الشَّكُّ، ومنه المِراء قال: 769 - فإيَّاك إيَّاكَ المِراءَ فإنَّه ... إلى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وللشَّرِّ جَالِبُ ومارَيْتُه: جَادَلْتُه وشاكَلْتُه فيما يَدَّعِيه، وافتَعَل فيه بمعنى تَفَاعلَ يقال: تَمارَوْا في كذا وامتَرَوْا فيه نحو: تجاوَروا، واجتوروا. وقال الراغب: «المِرْيَةُ: التَّرَدُّدُ في الأمر وهي أخصُّ من الشك، والامتراءُ والمُماراةُ: المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية، وأصلَهُ من مَرَيْتُ الناقةَ إذا مسحتُ ضَرْعَها للحَلْبِ»

ففرَّق بين المِرْيةِ والشَّكِ كما تَرَى، وهذا كما تقدَّم له الفرقُ بين الرَّيْبَ والشك، وأنشدَ الطبري قولَ الأعشى: 770 - تَدُرُّ على أَسْؤُقِ المُمْتَرِي ... ن رَكْضاً إذا ما السرابُ ارْجَحَنْ شاهداً على أنَّ الممترينَ الشاكُّون، قال: «ووَهِمَ في ذلك لأن أبا عبيدةَ وغيرَه قالوا: الممترون في البيت هم الذين يَمْرُون الخيلَ بأرجلِهم همزاً لتجريَ [كأنهم] يَتَحَلَّبون الجَرْيَ منها» .

148

قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} : جمهورُ القراء على تنوين «كل» ، وتنوينُه للعوض من المضافِ إليه، والجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، و «وِجْهَةٌ» مبتدأُ مؤخرٌ، واختُلِفَ في المضافِ إليه «كل» المحذوفِ فقيل: تقديرُه: ولكلِّ طائفةٍ من أهل الأديان، وقيل: ولكلِّ أهلِ موضعٍ من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً ووراءُ وقُدَّامُ. وفي «وِجْهَة» قولان، أحدُهما - ويُعْزَى للمبرِّد والفارسي والمازني في أحدِ قولَيْه -: أنّها اسمُ المكانِ المتوجَّه إليه، وعلى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ قياساً إذ هي غيرُ مصدرٍ. قال سيبويه «ولو بَنَيْتَ فعْلَةَ من الوَعْد لقلتَ: وِعْدَة، ولو بَنَيْتَ مصدراً لقلْتَ: عِدَة، والثاني: أنها مصدرٌ، ويُعْزى للمازني، وهو ظاهرٌ كلام سيبويه، فإنه قال بعد ذِكْر

حَذْفِ الواو من المصادر:» وقد أثبتوا فقالوا: وِجْهَة في الجِهة «، وعلَى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ شاذاً مَنْبَهَةً على ذلك الأصلِ المتروكِ في عِدَة ونحوِها، والظاهرُ أَنَّ الذي سَوَّغَ إثباتَ الواوِ وإنْ كانَتْ مصدراً أنها مصدرٌ جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ؛ إذ الفعلُ المسموعُ من هذه المادةِ تَوَجَّه واتَّجَهَ، ومصدرُهما التوجُّه والاتِّجاه، ولم يُسْمَعْ في فِعْلِه: وَجَهَ يَجِهُ كَوَعَدَ يَعِدُ، وكانَ الموجِبَ لحَذْفِ الواوِ من عِدَة وزِنَة الحملَ على المضارعِ لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ، وهنا فلم يُسْمَعْ فيه مضارعٌ يُحْمَلُ مصدرُه عليه فلذلك قلت: إنَّ» وِجْهَة «مصدرٌ على حَذْفِ الزوائدِ لَتَوَجَّه أو اتَّجَه. وقد ألَمَّ أبو البقاء بشيءً من هذا. قوله: {هُوَ مُوَلِّيهَا} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ رفعٍ لأنَّها صفةٌ لوِجْهَة، واختُلِف في» هو «على قولين، أحدَهما: أنه يعودُ على لفظِ» كل «/ لا على معناها ولذلك أُفْرِدَ، والمفعول الثاني محذوف لفهمِ المعنى تقديرُه هو مُوَلِّيها وَجْهَه أو نفسَه، ويؤيد هذا قراءةُ ابن عامر:» مُوَلاَّها «على ما لم يُسَمَّ فاعلُه كما سيأتي. والثاني: أنه يعودُ على اللهِ تعالى أي: الله مُوَلِّي القبلةِ إياه، أي ذلك الفريقُ. وقرأ الجمهورُ:» مُوَلِّيها «على اسمُ فاعل، وقد تقدَّم أنه حُذِفَ أحدُ مفعولَيْه، وقرأ ابن عامر - ويُعْزَى لابن عباس - مُوَلاَّها على اسمِ المفعول، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، والثاني هو الضميرُ المتصلُ به وهو» ها «العائدُ على الوجهة، وقيل: على التوليةِ ذكره أبو البقاء، وعلى هذه القراءةِ بتعيَّن عَوْدُ» هو «إلى الفريق، إذ يَسْتَحِيلُ في المعنى عَوْدُه على الله تعالى، وقرأ

بعضُهم:» ولكلِّ وِجْهَةٍ «» بالإِضافة، ويُعزى لابنِ عامر، واختلفوا فيها على ثلاثةِ أقوالٍ أحدُها: - وهو قولُ الطبري -: أنها خطأ وهذا ليس بشيء، إذ الإِقدامُ على تخطئة ما ثَبَتَ عن الأئمةِ لا يَسْهُلُ. والثاني - وهو قولُ الزمخشري وأبي البقاء: أنَّ اللامَ زائدةٌ في الأصلِ، قال الزمخشري: «المعنى وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُولِّيها، فزيدتِ اللامُ لتقدُّمَ المفعولِ، كقولِك: لزيدٍ ضَرَبْتُ، ولزيدٍ أبوه ضاربه. قال الشيخ: وهذا فاسدٌ لأنَّ العاملَ إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعدَّ إلى ظاهرِه المجرورِ باللام لا تقولُ: لزيدٍ ضَرَبْتُه، ولا: لزيدٍ أنا ضَاربُه، لئلا يلزَم أحدُ محذورَيْن، وهما: إمَّا لأنه يكونُ العاملُ قوياً ضعيفاً، وذلك أنه من حيث تَعَدَّى للضمير بنفسِه يكون قوياً ومن حيث تَعَدَّى للظاهرِ باللامِ يكون ضعيفاً، وإمَّا لأنَّه يَصير المتعدِّي لواحدٍ متعدِّياً لاثنينِ، ولذلك تَأَوَّلَ النَّحْويون ما يُوهِمُ ذلك وهو قولُه: 771 - هذا سُراقَةُ للقرآنِ يَدْرُسُه ... والمرءُ عند الرُّشا إنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ على أنَّ الضميرَ في» يدرسه «للمصدرِ، أي: يدرس الدرسَ لا للقرآن، لأن الفعلَ قد تعدَّى إليه. وأمَّا تمثيلُه بقوله:» لزيدٍ ضَرَبْتُ «فليس نظيرَ الآية

لأنه لم يَتَعَدَّ في هذا المثال إلى ضميره، ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من باب الاشتغال، فتقدِّرَ عاملاً في» لكلِّ وِجْهةٍ «يفسِّره» مُولِّيها «لأنَّ الاسمَ المشتغِلَ عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرفٍ ينتصبُ ذلك الاسم بفعل يوافِقُ العاملَ الظاهرَ في المعنى، ولا يجوزُ جَرُّ المشتغلِ عنه بحرفٍ، تقول: زيداً مررت به أي: لابست زيداً مررتُ به، ولا يجوزُ: لزيدٍ مررتُ به، قال تعالى: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ} [الإنسان: 31] وقال: 772 - أثعلبَةَ الفوارسٍ أم رياحا ... عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا فأتى بالمشتغَلِ عنه منصوباً، وأمَّا تمثيلُه بقولِه: لزيدٍ أبوه ضاربُه فتركيبٌ غيرُ عربي. الثالث: أن» لكلَّ وجهةٍ «متعلِّقٌ بقوله:» فاستبقوا الخيراتِ «أي: فاستبقوا الخيراتِ لكلِّ وجهةٍ، وإنما قُدِّم على العاملِ للاهتمامِ به، كما يُقَدَّمُ المفعولُ، ذكرَه ابنُ عطية، ولا يجوزُ أَنْ تُوَجَّه هذه القراءةُ على أنَّ» لكلِّ وجهةٍ «في موضعِ المفعولِ الثاني لمولِّيها، والمفعولُ الأولُ هو المضافُ إليه اسمُ الفاعل الذي هو» مُوَلٍّ «وهو» ها «، وتكون عائدةً على الطوائفِ، ويكونُ التقديرُ: وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُوَلِّي الطوائفِ أصحابِ القِبْلاتِ، وزيدتْ اللامُ في المفعولِ لتقدُّمه ويكونُ العامِلُ فرعاً؛ لأنَّ النَحْويين نَصُّوا على أنه لا يجوزُ زيادةُ اللامِ للتقويةِ إلا في المتعدي لواحد فقط، و» مُوَلٍّ «مِمَّا يتعدَّى لاثنين، فامتنع ذلك فيه. وهذا المانعُ هو الذي مَنَعَ من الجوابِ عن الزمخشري فيما اعترَضَ به عليه الشيخُ من كونِ الفعلِ إذا تعدَّى للظاهرِ فلا يتعدَّى لضميرِه،

وهو أنه كان يمكن أن يُجابَ عنه بأَنَّ الضميرَ المتصل ب» مُوَلّ «ليس بضميرِ المفعولِ بل ضميرُ المصدرِ وهو التوليةُ، ويكون المفعولُ الأولُ محذوفاً، والتقدير: اللهُ» مُولِّي التوليةِ كلَّ وجهةٍ أصحابَها، فلما قُدِّمَ المفعولُ على العاملِ قَوِي باللامِ لولا أنهم نَصُّوا على المنعِ مِنْ زيادتِها في المتعدِّي لاثنينِ وثلاثة. قوله: {فاستبقوا الخيرات} «الخيرات» منصوبةٌ على اسقاطِ حرفِ الجرِّ، التقديرُ: إلى الخيرات، كقول الراعي: 773 - ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومَنْ يَمِلْ ... سِواكمْ فإني مُهْتَدٍ غيرُ مائِلِ أي: إلى سواكم، وذلك لأنّ «استبق» : إمّا بمعنى سَبَق المجردِ أو بمعنى تسابق، لا جائز أن يكونَ بمعنى سَبَقَ لأنَّ المعنى ليس على اسبقوا الخيراتِ، فبقي أن يكون بمعنى تسابقَ ولا يتعدَّى بنفسِه. والخَيْرَات جمع: خَيْرة وفيهما احتمالان: أحدُهما: أن تكونَ مخففةً من «خَيِّرَة» بالتشديدِ بوزنِ فَيْعِلَة نحو: مَيْت في مَيّت. والثاني: أن تكونَ غيرَ مخففةٍ، بل تَثْبُتُ على فَعْلَة بوزن جَفْنَة، يقال: رجلٌ خَيْرٌ وامرأةٌ خيرٌ، وعلى كِلا التقديرين فليسا للتفضيل. والسَّبْقُ: الوصولُ إلى الشيءِ أولاً، وأصلُه التقدُّمُ في السير، ثم تُجُوِّزَ به في كلِّ تقدُّم. قوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ} «أين» اسمُ شرطٍ تَجْزِمُ فعلين كإنْ و «ما» مزيدةٌ عليها على سبيلِ الجواز، وهي ظرفُ مكانٍ، وهي هنا في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ، وتقديمُها واجبٌ لتضمُّنها معنى ماله صدرُ الكلامِ، و «تكونوا» مجزومٌ بها على الشرطِ، وهو الناصبُ لها، و «يأتِ» جوابُها، وتكونُ أيضاً استفهاماً فلا تعملُ شيئاً، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّن معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهام.

149

قولُه تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ} : «مِنْ حيثُ» متعلِّقٌ بقوله: «فولِّ» و «خرجْتَ» في محلِّ جَرٍّ بإضافة «حيث» إليها، وقرأ عبد الله «حيثَ» بالفتح، وقد تقدَّم أنها إحدى اللغات، ولا تكونُ هنا شرطيةً، لعدم زيادةِ «ما» ، والهاءُ في قولِه: «وإنَّه لَلْحَقُّ» الكلامُ فيها كالكلامِ عليها فيما تقدَّم. وقرىء «تَعْلَمون» بالياء والتاء، وهما واضحتان كما تقدَّم.

150

قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ} : هذه لامُ كي بعدها «أَنْ» المصدريةُ الناصبةُ للمضارعِ، و «لا» نافيةٌ واقعةٌ بين الناصبِ ومنصوبِهِ، كما تقعُ بين الجازمِ ومجزومِه نحوَ: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ} [الأنفال: 73] ، و «أَنْ» هنا واجبةُ الإِظهارِ، إذ لو أُضْمِرَتْ لَثَقُلَ اللفظُ بتوالي لامَيْنِ، ولامُ الجرِّ متعلقةٌ بقولِه: «فَوَلُّوا وجوهَكم» . وقال أبو البقاء: متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: فَعَلْنا ذلك لئلاَّ، ولا حاجةَ إلى ذلك، و «للناس» خبرٌ ل «يكون» مُقَدَّمٌ على اسمها، وهو «حُجَّةٌ» و «عليكم» في محلِّ نصبٍ على الحالِ، لأنَّه في الأصلِ صفةُ النكرةِ، فلمّا تقَدَّم عليها انتصَبَ حالاً، ولا يتعلَّقُ ب «حُجَّة» لئلا يَلْزَمَ تقديمُ معمولِ المصدر عليه، وهو ممتنعٌ، لأنَّه في تأويلِ صلةٍ وموصولٍ، وقد قالَ بعضُهم: «يتعلَّق بحُجَّة» وهو ضعيفٌ. ويجوزُ أن يكونَ «عليكم» خبراً ليكون، ويتعلَّقُ «للناسِ» ب «يكون» على رَأْي مَنْ يَرَى أنَّ كان الناقصةَ تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه، وذكَّرِ الفعلَ في قوله «يكونَ» ؛ لأنَّ تأنيثَ الحجة غيرُ حقيقي، وحَسَّن ذلك الفصلُ أيضاً. قوله: {إِلاَّ الذين} قرأ الجمهور «إلاَّ» بكسرِ الهمزةِ وتشديدِ اللام،

وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد بفتحِها وتخفيفِ اللامِ على أنها للاستفتاح. فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون/ في تأويلها على أربعةِ أقوال أظهرُها: - وهو اختيارُ الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه استثناء متصلٌ، قال الزمخشري: «ومعناه لئلا يكونَ حجةٌ لأحدٍ من اليهودِ إلا للمعانِدِين منهم القائلينَ: ما ترك قبلتنا إلى الكعبةِ إلا مَيْلاً لدين قومه وحُبَّاً لهم، وأَطلْق على قولِهم» حجة «لأنهم ساقُوه مَساقَ الحُجّة. وقال ابن عطية:» المعنى أنه لا حجة لأحدٍ عليكم إلا الحجةُ الداحضةُ للذين ظلموا من اليهود وغيرِهم الذين تكلَّموا في النازلة، وسمَّاها حُجَّة، وحكم بفسادها حين كانت من ظالم «. الثاني: انه استثناءٌ منقطعٌ فيُقَدَّر ب» لكن «عند البصريين وببل عند الكوفيين لأنه استثناءٌ مِنْ غيرِ الأولِ والتقديرُ: لكنَّ الذين ظلموا فإنَّهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبْهَة يَضَعونَها موضعَ الحُجَّةِ. ومثارُ الخلافِ هو: هل الحُجَّةُ هو الدليلُ الصحيحُ أو الاحتجاجُ صحيحاً كان أو فاسداً؟ فعلى الأولِ يكونُ منقطعاً وعلى الثاني يكون متصلاً. الثالث: - وهو قولُ أبي عبيدة - أن» إلاَّ «بمعنى الواو العاطفةِ، وجَعَلَ من ذلك قولَه: 774 - وكلُّ أخٍ مُفَارِقُه أَخوه ... لَعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقَدان

وقولِ الآخر: 775 - ما بالمدينةِ دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا تقديرُ ذلك عنده: «ولا الذين ظلموا - والفرقدان - ودار مروان» وقد خَطَّأه النحاةُ في ذلك كالزجاج وغيره. الرابع: أنَّ «إلا» بمعنى بَعْدَ، أي: بعد الذين ظلموا، وجعل منه قولَ الله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] ، وقولَه تعالى: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] تقديرُه: بعد الموتةِ وبعدَ ما قد سَلَف، وهذا من أفسدِ الأقوالِ وأنْكَرِها وإنما ذكرْتُه لغرضِ التنبيه على ضَعْفِه. و «الذين» في محلِّ نصب على الاستثناءِ، على القَوْلين اتصالاً وانقطاعاً. وأجاز قطرب أن يكونَ في موضع جَرٍّ بدلاً من ضمير الخطابِ في «عليكم» ، والتقديرُ: لئلا تَثْبُتَ حُجَّةٌ للناسِ على غيرِ الظالمين منهم، وهو أنتم أيها المخاطبون بتوليةِ وجوهِكِم إلى القبلة، ونُقِلَ عنه أنه كان يقرأ: {إِلاَّ عَلَى الذين} كأنه يكرر العاملَ في البدلِ على حِدِّ قوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] وهذا عند جمهورِ البصريين ممتنعٌ، لأنه يؤدِّي إلى بدلِ ظاهرٍ من ضميرِ حاضرٍ بدلِ كلٍّ مِنْ كلٍّ، ولم يُجِزْه من البصريين إلا الأخفشُ، وتأوَّل غيرُه ما وَرَدَ من ذَلك. وإمَّا قراءةُ ابن عباس ف «ألا» للاستفتاح، وفي محلِّ «الذين» حينئذٍ ثلاثة أوجهٍ، أظهرُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه: «فلا تَخْشَوْهم» وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في

الخبرِ لأنَّ الموصلَ تَضَمَّنَ معنى الشرطِ، والماضي الواقعُ صلةً مستقبلٌ معنىً، كأنه قيل: مَنْ يظلمُ الناسَ فلا تَخْشَوهم، ولولا دخولُ الفاءِ لترجَّحَ النصبُ على الاشتغال، أي: لاَ تَخْشَوا الذين ظلموا لا تَخْشَوْهم. الثاني: أن يكون منصوباً بإضمارِ فعلٍ على الاشتغال، وذلك على قول الأخفش فإنه يجيز زيادةَ الفاءِ. الثالث - نقله ابن عطية -: أن يكونُ منصوباً على الإِغراء. ونُقِلَ عن ابن مجاهد أنَّه قرأ: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} وجعل «إلى» حرفَ جر متأولاً لذلك بأنَّها بمعنى مع، والتقديرُ: لئلا يكونَ للناسِ عليكم حجُةٌ مع الذين، والظاهرُ أنَّ هذا الروايَ وقع في سَمْعِهِ «إلا الذين» بتخفيف «إلا» فاعتقَدَ ذلك فيها، وله نظائرُ مذكورةٌ عندهم «. و» منهم «في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ويحتمل أَنْ تكونَ» مِنْ «للتبعيضِ وأن تكونَ للبيان. قوله: {وَلأُتِمَّ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أَظْهَرُها: أنه معطوفٌ على قوله» لئلا يكونَ «كأن المعنى:» عَرَّفْناكم وجهَ الصوابِ في قبلتِكم والحُجَّم لكم لانتفاءِ حُجَجِ الناس عليكم ولإِتمام النعمةِ، فيكونُ التعريفُ مُعَلَّلاً بهاتين العلَّتين، والفصلُ بالاستثناءِ وما بعدَه كلا فصلٍ إذ هو من متعلِّقِ العلةِ الأولى. الثاني: أنه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ وكلاهما معلولُها الخَشْيَةُ السابقةُ، فكأنه قيل: واخْشَوْني لأَوفِّيَكم ولأُتِمَّ نعمتي عليكم. الثالث: أنه مُتعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدرٍ بعدَه تقديرُه: «ولأتمَّ نعمتي عليكم عَرَّفْتُكم أمرَ قِبْلَتِكم. الرابع: وهو أضعفُها - أن تكونَ متعلقةً بالفعلِ قبلَها، والواوُ زائدة، تقديرُه: واخشَوْنِي لأُتِمَّ نعمتي. وهذه لامُ كي وأنْ مضمرةٌ بعدَها ناصبةٌ

للمضارعِ فينسبكُ منها مصدرٌ مجرورٌ باللامِ، وتقدَّم تحقيقُه، و» عليكم «فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلقَ بأُتِمَّ، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من نعمتي، أي: كائنةً عليكم.

151

قوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا} : في الكافِ قولان، أظهرُهما: أنَّها للتشبيه. والثاني: أنها للتعليل، فعلى القولِ الأولِ تكونُ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ. واختَلَفَ الناسُ في متعلَّقِها حينئذٍ على خمسةِ أوجهٍ، أحدُها: أنها متعلقةٌ بقوله: «ولأتِمَّ» تقديرُه: ولأتَّم نعمتي عليكم إتماماً مثلَ إتمامِ الرسولِ فيكم، ومتعلَّقُ الإِتمامَيْنِ مختلفٌ، فالأولُ بالثوابِ في الآخرةِ والثاني بإرسالِ الرسولِ في الدنيا، أو الأولُ بإيجابِ الدعوةِ الأولى لإِبراهيم في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 138] والثاني بإجابةِ الدعوةِ الثانية في قوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 12] ، [ورجَّحه مكي لأنَّ سياقَ اللفظِ يَدُلُّ على أنَّ المعنى] : ولأتمَّ نعمتي ببيان مِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ كما أَجَبْنا دعوتَه فيكم فَأَرْسلنا إليكم رسولاً منكم. الثاني أَنها متعلقةٌ بيهتدون، تقديرُه: يَهْتدون اهتداءً مثلَ إرسالِنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيهُ الهدايةِ بالإِرسال في التحقيق والثبوتِ، أي: اهتداءً متحققاً كتحققِ إرسالنا. الثالث: - وهو قول أبي مسلم - أنها متعلقةٌ بقولِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] ، أي: جَعْلاً مثلَ إرسالِنا. وهذا بعيدٌ جداً لطولِ الفصلِ المؤذنِ بالانقطاعِ. الرابع: أنها متعلقةٌ بما بعدها وهو «اذكروني» ، قال الزمخشري: «كما ذَكَرْتُكُم

بإرسالِ الرسلِ فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فيكونُ على تقديرِ مصدرٍ محذوفٍ، وعلى تقديرِ مضافٍ أي: اذكروني ذكراً مثل ذِكْرِنا لكم بالإِرسال، ثم صار: مثلَ ذكرِ إرسالِنا، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فإنه يكرمك، والفاءُ غيرُ مانعةٍ من ذلك» قال أبو البقاء: «كما لم تَمْنَعْ في باب الشرط» يعني أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاءِ يَعْمَلُ فيما قبلها. [وقد رَدَّ مكي هذا بأنَّ الأمرَ إذا كان له جوابٌ لم يتعلَّق بهِ ما قبله] لاشتغالِه بجوابِه و «اذكروني» قد أُجيب بقولِه: «أذكرْكم» فلا يتعلَّقُ به ما قبلَه، قال «ولا يجوزُ ذلك إلا على التشبيه بالشرطِ الذي يُجاب بجوابين نحو: إذا أتاك فلانٌ فأكرمه تَرْضَهْ، فيكونُ» كما «و» فأذكركم «جوابين للأمرِ، والأول أفصحُ وأشهرُ، وتقول:» كما أحسنت إليك فأكرمني «فيَصِحُّ أن تجعلَ الكافَ متعلقةً بأكرمني إذ لا جواب له» . وهذا الذي منعه مكي قال الشيخ: «لا نعلم خلافاً في جوازِه» وأمَّا قولُه: «إلا أن يُشَبَّه بالشرطِ» وجعلُه «كما» جواباً للأمر فليس بتشبِيهٍ صحيحٍ ولا يُتَعَقَّلُ، وللاحتجاجِ عليه موضعٌ غيرُ هذا الكتاب. قال الشيخ: وإنما يَخْدِشُ هذا عندي وجودُ الفاء فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتَبْعُدُ زيادتُها «. انتهى وقد تقدَّم ما نقلته عن أبي البقاء في أنها غيرُ مانعةٍ من ذلك. الخامس: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من «نعمتي» والتقديرُ: ولأُتِمَّ نعمتي مُشْبِهَةً إرسالنَا فيكم رسولاً، أي: مشبهةً نعمةَ الإِرسالِ، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ.

وأمَّا على القولِ بأنَّها للتعليلِ فتتعلَّقُ بما بعدَها، وهو قولُه: «فاذكروني» أي: اذكروني لأجلِ إرسالِنا فيكم رسولاً، وكونُ الكافِ للتعليل واضحٌ، وجَعَلَ بعضُهم منه: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] ، وقولَ الآخر: 776 - لا تَشْتُمِ الناسَ كما لا تُشْتَمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ي: لا تشتم لامتناعِ الناسِ مِنْ شَتْمِكَ. وفي «ما» المتصلةِ بهذه الكافِ ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مصدريةٌ وقد تقدَّم تحريرُه. والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، و «رسولاً» بدلٌ منه، والتقديرُ: كالذي أرسلناه رسولا، وهذا بعيدٌ جداً، وأيضاً فإنَّ فيه وقوعَ «ما» على آحادِ العقلاءِ وهو قولٌ مرجوحٌ الثالث: أنها كافةٌ للكافِ كهي في قولِه: 777 - لَعَمْرُكَ إنني وأبا حُمَيْدٍ ... كما النَّشْوانُ والرجلُ الحليمُ ولا حاجةَ إلى هذا، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلاَّ حيث تعذَّرَ أَنْ ينسبكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ، كما إذا اتصلت بجملةٍ اسميةٍ كالبيتِ المتقدِّم. و «منكم» في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ ل «رسولاً» وكذلك ما بعدَه من الجمل، ويُحْتمل أن تكونَ الجملُ بعده حالاً لتخصص النكرةِ بوَصْفِها بقوله: «منكم» ، وأتى بهذه الصفاتِ بصيغةِ المضارع لأنه يَدُلُّ على/ التجدُّدِ والحدوثِ، وهو مقصودُ ها هنا بخلاف كونِه منهم فإنَّه وصفٌ ثابتٌ له، وهنا قَدَّم التزكيةَ على

التعليمِ، وفي دعاء إبراهيم بالعكسِ، والفرقُ أنَّ المرادَ بالتزكيةِ هنا التطهيرُ من الكفرِ وكذلك فَسَّروه، وهناك المرادُ بها الشهادةُ بأنَّهم خيارٌ أزكياءُ وذلك متأخِّر عن تعلُّمِ الشرائعِ والعَمَلِ بها، وقوله: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} بعد قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة} مِنْ بابِ ذكرِ العامِّ بعد الخاصِّ وهو قليلٌ بخلافِ عكسِه.

152

وقوله تعالى: {واشكروا لِي} : تقدَّم أنَّ «شكر» يتعدَّى تارةً بنفسِ وتارةً بحرفِ جَرٍّ على حدٍّ سواءٍ على الصحيحِ، وقال بعضُهم: إذا قلت: شكرْتُ لزيدٍ فمعناه شَكَرْتُ لزيدٍ صَنيعَه، فَجَعَلُوه متعدِّياً لاثنينِ أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجَرّ، ولذلك فسَّر الزمخشري هذا الموضعَ بقولِه: «واشكُروا لي ما أَنْعَمْتُ به عليكم» . وقال ابن عطية: «واشكروا لي واشكروني بمعنى واحد، و» لي «أفصحُ وأشهرُ مع الشكر، ومعناه نعمتي وأيادِيَّ، وكذلك إذا قُلْتَ: شَكَرْتُك، فالمعنى شَكَرْتُ لك صنيعك وذَكَرْتُه، فَحَذَفَ المضافَ، إذ معنى الشكرِ ذِكْرُ اليدِ وذِكْرُ مُسْدِيها معاً، فما حُذِفَ مِنْ ذلك فهو اختصارٌ لدلالةِ ما بقي على ما حُذِفَ» .

154

قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} : خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: لا تقولوا: هم أمواتٌ، وكذلك «أحياءٌ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: بل هم أحياءٌ، وقد راعى لفظَ «مَنْ» مرةً فأَفْرَدَ في قولِه «يُقْتَلُ» ، ومعناها أخرى فَجَمَع في قولِه {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} واللامُ هنا للعِلَّة، ولا تكونُ للتبليغ، لأنهم لم يُبَلِّغوا الشهداء قولَهم هذا. والجملةُ من قولِه: «هم أمواتٌ» في محلِّ نصب بالقول لأنها محكيَّة به، وأما {بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ} فيتحمل وجهين، أحدهما

ألاَّ يكونَ له محلٌّ مِنَ الإِعرابِ، بل هو إخبارٌ مِنَ الله تعالَى بأنَّهم أحياءٌ، ويُرَجِّحُه قولُه: {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} إذ المعنى لا شعورَ لكم بحياتِهم. والثاني: أن يكون محلُّه النصبُ بقولٍ محذوفٍ تقديرُه، بل قولوا هم أحياء، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ بالقولِ الأولِ لفسادِ المعنى، وحُذِفَ مفعولُ «يشعرون» «لِفَهْمِ المعنى أي: بحياتِهم.

155

قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} : هذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ، ومتى كان جوابُه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً وَجَبَ تلقِّيه باللامِ وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما، ولا يُجِيز البصريونَ ذلك إلا في ضرورةٍ. وفُتِح الفعل المضارعُ لاتصالِه بالنونِ وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك وما فيه من الخلاف. قوله: «بشيءٍ» متعلِّقٌ بقولِه: «لَنَبْلُوَنَّكَ» والباءُ معناها الإِلصاقُ، وقراءةُ الجمهورِ على إفرادِ «شيء» ومعناها الدَّلالةُ على التقليلِ، إذ لو جَمَعَه لاحتمل أن يكون ضروباً من كل واحد. وقرأ الضحاك بن مزاحم «بأشياء» على الجمعِ، وقراءةُ الجمهور لا بُدَّ فيها من حذفٍ تقديرُه: وبشيءٍ من الجوعِ وبشيءٍ من النقصِ، وأمّا قراءةُ الضحاك فلا تحتاجُ إلى هذا، وقولُه «من الخوف» في محلِّ جرٍّ صفةً لشيء فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. قوله: {وَنَقْصٍ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على «شيء» والمعنى: بشيءٍ من الخوفِ وبنقصٍ، والثاني: أن يكونَ معطوفاً على الخوفِ، أي: وبشيءٍ من نَقْصِ الأموال، والأولُ أَوْلَى لاشتراكِهما في التنكيرِ. قوله: {مِّنَ الأموال} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ متعلِّقاً بنَقْصٍ لأنه مصدرُ نَقَص، وهو يتعدَّى إلى واحد، وقد حُذِفَ، أي: ونقصِ شيء مِنْ

كذا. الثاني: أن يكونَ في محلِّ جر صفةً لذلك المحذوفِ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: ونقصِ شيءٍ كائنٍ مِنْ كذا. الثالث: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ نُصِبَ بهذا المصدرِ المنوَّنِ، والتقديرُ: ونقصٍ شيئاً كائناً من كذا، ذكره أبو البقاء، ويكونُ معنى «مِنْ» على هذين الوجهين التبعيضَ. الرابع: أن يكونَ في محلّ جَرٍّ صفةً ل «نَقْص» ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً، أي: نقصٍ كائنٍ من كذا، وتكونُ «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. الخامس: أن تكونَ «مِنْ» زائدةً عند الأخفش، وحينئذ لا تَعَلُّق لها بشيءٍ.

156

قوله تعالى: {الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً على النعتِ للصابرين، وهو الأصحُّ. الثاني: أن يكونَ منصوباً على المدحِ. الثالث: أن يكونَ مرفوعاً على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هم الذين، وحينئذٍ يَحْتمل أن يكونَ على القَطْع، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ. الرابعُ: أن يكونَ مبتدأ، والجملةُ الشرطيةُ من «إذا» وجوابِها صلته، وخبرهُ ما بعدَه من قولِه: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} .

157

قوله تعالى: {أولئك} : مبتدأٌ، و «صلواتٌ» مبتدأٌ ثانٍ، و «عليهم» خبرُه مقدَّمٌ عليه، والجملةُ خبرُ قولِه «أولئك» ، ويجوزُ أَنْ تكونَ «صلوات» فاعلاً بقوله: «عليهم» . قال أبو البقاء: «لأنه قد قَوِيَ بوقوعِهِ خبراً. والجملةُ من قولِه:» أولئك «وما بعدَه خبرُ» الذين «على أحِد الأوجه المتقدِّمِة، أو لا محلَّ لها على غيرِه من الأوجه، و» قالوا «هو العاملُ في» إذا «لأنه جوابُها، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك، وتقدَّم أنها هل تقتضي التكرارَ أم لا؟

قوله: {إِنَّا للَّهِ} » إنَّ واسمُها وخبرُها في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، والأصل: إنَّنا بثلاث نوناتٍ، فَحُذِفَتِ الأخيرةُ من إنَّ لا الأولى، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها، ولأنها طَرَفٌ والأطرافُ أَوْلَى بالحَذْفِ، لا يُقال: «إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانَتْ مخففةً، والمخففةُ لا تعملُ على الأفصح فكانَ ينبغي أن تُلْغَى فينفصلَ الضميرُ المرفوعُ حينئذٍ إذ لا عمل لها فيه، فدلَّ عَدَمُ ذلك على أنَّ المحذوفَ النونُ الأولى» لأنَّ هذا الحَذْفَ حَذْفٌ لتوالي الأمثالِ لا ذاك الحَذْفُ المعهود في «إنَّ» و «أصابَتْهم مصيبةٌ» من التجانسِ المغاير، إذ إحدى كلمتي المادةِ اسمٌ والأخرى فِعْلٌ، ومثلُه: {أَزِفَتِ الآزفة} [النجم: 57] {وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] قوله: {وَرَحْمَةٌ} عَطْفٌ على الصلاة وإن كانَتْ بمعناها، فإنَّ الصلاةَ من الله رحمةٌ لاختلافِ اللفظين كقولِه: 778 - وقَدَّمَتِ الأدِيمَ لراهِشَيْهِ ... وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا وقوله: 779 - أَلا حَبَّذا هِنْدٌ وأرضٌ بها هندٌ ... وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ قولُه: {مِّن رَّبِّهِمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لصلوات، و «مِنْ» للابتداءِ، فهو في محلِّ رفعٍ أي: صلواتٌ كائنةٌ من ربهم. والثاني: أن يتعلَّقَ بما تَضَمَنَّه قولُه «عليهم» من الفعل إذا جَعَلْناه رافعاً لصلوات رَفْعَ الفاعلِ، فعلى الأولِ يكونُ قد حَذَفَ الصفةَ بعد «رحمة» أي: ورحمةٌ منه، وعلى الثاني لا يَحْتاج إلى ذلك. وقولُه {وأولئك هُمُ المهتدون} نظيرُ: {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] .

158

قوله تعالى: {إِنَّ الصفا} : «الصَّفا» اسمُها، و {مِن شَعَآئِرِ الله} خبرُها. قال أبو البقاء: «وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ، تقديرُه:» طوافُ الصفا، أو سَعْيُ الصفا «. وألفُ الصَّفا عن واوٍ بدليلِ قَلْبِها في التثنية واواً، قالوا: صَفَوان، والاشتقاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً لأنَّه من الصَّفْوِ، وهو الخُلُوصُ، والصَّفا الحَجَرُ الأمْلَسُ وقيل: الذي لا يُخالِطُه غيرُه من طينٍ أو ترابٍ، ويُفَرَّقُ بين واحدِه وجَمْعِه تاءُ التأنيثِ نحو: صفاً كثيرٌ وصفاة واحدة، وقد يجمع الصَّفا على فُعول وأَفْعال قالوا: صُفِيٌّ بكسر الصاد وضمِّها كعِصِيّ، وأصْفاء، والأصل: صُفُوو وأَصْفاو، فَقُلِبَتِ الواوان في» صُفُوو «ياءَين، والواوُ في أصفاء همزةً ككساء وبابه. والمَرْوَةُ: الحِجارة الصِّغارُ، فقيل اللَّيِّنَة وقيل: الصُلبة، وقيل المُرْهَفَةُ الأطْراف، وقيل البيض وقيل: السُّود، وهما في الآية عَلَمان لجبلين معروفين. والألفُ واللامُ فيهما للغَلَبةِ كهما في البيت والنجم، وجمعها: مَرْوٌ، كقوله: 780 - وترى المَرْوَ إذا ما هَجَّرَتْ ... عن يَدَيْها كالفَراشِ المُشْفَتِرّْ والشعائر: جمع شَعيرَة وهي العلامةُ، وقيل: جمع شِعارة، والرادُ بها في الآية مناسِكُ الحُجِّ، والأجود» شعائِر «بالهمزِ لزيادةِ حرفِ المَدّ وهو عكسُ معائِش ومصائب. / قوله: {فَمَنْ حَجَّ البيت} » مَنْ «شرطيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ، و» حَجَّ «في محلِّ جَزْمٍ، و» البيتَ «نَصْبٌ على المفعولِ به لا على الظرفِ، والجوابُ قولُه:» فلا جُناحَ «. والحَجُّ لغةً: القَصْدُ مرةً بعدَ أخرى، قال:

781 - لِراهِبٍ يَحُجُّ بيتَ المَقْدِسِ ... في مِنْقَلٍ وبُرْجُدٍ وبُرْنُسِ والاعتمارُ: الزيارةُ، وقيل: مطلقُ القصدِ، ثم صارا عَلَمين بالغَلَبة في المعاني كالبيت والنجم في الأعيان. وقوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} الظاهرُ أنَّ» عليه «خبرُ» لا «، و» أَنْ يَطَّوَّفَ «أصلُه: في أَنْ يَطَّوَّفَ، فَحُذِف حرفُ الجر، فيجيء في محلِّها القولان، النصبُ أو الجرُّ. والوقفُ في هذا الوجهِ على قولِه» بهما «. وأجازوا بعد ذلك أوجهاً ضعيفةً منها: أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه» فلا جُناحَ «على أن يكونَ خبرُ» لا «محذوفاً، وقدَّره أبو البقاء:» فَلاَ جُنَاحَ في الحج «ويُبْتدَأ بقولِه: {عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ} فيكونُ» عليه «خبراً مقدماً و» أَنْ يطَّوَّفَ «في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ بالابتداءِ، فإنَّ الطوافَ واجبٌ، قال أبو البقاء هنا:» والجيدُ أن يكونَ «عليه» في هذا الوجهِ خبراً، و «أَنْ يَطَّوَّفَ» مبتدأً «. ومنها: أن يكونَ {عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ} من بابِ الإِغراءِ، فيكونَ» أَنْ يَطَّوَّفَ «في محلِّ نصبٍ كقولك، عليك زيداً، أي: الزَمْه، إلا أنَّ إغراءَ الغائبِ ضعيفٌ، حكى سيبويه:» عليه رجلاً لَيْسَني «، قال: وهو شاذ. ومنها: أَنَّ «أَنْ يطَّوَّفَ» في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل «لا» والتقديرُ: فلا جُناحَ الطوافُ بهما. ومنها: «أَنْ يطَّوَّفَ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في «عليه» ، والعاملُ في الحالِ العاملُ في الخبرِ، والتقديرُ: فلا جُناحَ عليه في حالِ تَطْوافِه بهما. وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهما تنبيهاً على غَلَطِهما، ولا فائدةٌ في ذِكْرِ وجهِ الغَلَطِ إذا هو واضحٌ بأدنى نَظَرٍ.

وقراءةُ الجمهور «أَنْ يَطَّوَّفَ» بغير لا. وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر بن حوشب: «أَنْ لا يَطَّوَّفَ» قالوا: وكذلك في مُصْحَفي أُبَيّ وعبدِ الله. وفي هذه القراءةِ احتمالان، أحدُهما: أنَّها زائدة كهي في قولِه: {أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] وقوله: 782 - وما أَلومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرا وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتين. والثاني: أنها غيرُ زائدةٍ بمعنى أَنَّ رَفْعَ الجُناحِ في فِعْلِ الشيء هو رفعٌ في تَرْكِه، إذ هو تخييرٌ بين الفعلِ والتركِ نحو: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} [البقرة: 230] ، فتكونُ قراءةُ الجمهورِ فيها رفعُ الجناحِ في فعلِ الطوافِ نَصَّاً وفي هذه رفعُ الجناحِ في الترك نَصَّاً. وقرأ الجمهورُ: «يَطَّوَّفَ» بتشديد الطاءِ والواوِ، والأصلُ: يَتَطَوَّف، وماضيه كان أصله: «تَطَوَّفَ» ، فلمّا أُريد الإِدغامُ تخفيفاً قُلِبَتِ التاءُ طاءٌ وأُدْغِمت في الطاءِ فاحتيج إلى همزة وَصْلٍ لسكونِ أولِه لأجل الإِدغام فأُتي بها فجاء مضارعُه عليه: يَطَّوَّف فانحَذَفَت همزتُ الوصلِ لتحصُّنِ الحرفِ المدغمِ بحرفِ المضارعة، ومصدرُه على التطَّوفِ رجوعاً إلى أصلِ تَطَوَّفَ. وقرأ أبو السَّمَّال: «يَطُوف» مخففاً، من طاف يَطُوف وهي سهلة. وقرأ

ابن عباس: «يَطَّاف» بتشديد الطاء مع الألف وأصله: يَطْتَوِف على وزن يَفْتَعِل وماضيه: أطْتَوَف افْتَعَل تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً، ووَقَعَتْ تاءُ الافتعالِ بعدَ الطاءِ فَوَجَبَ قَلْبُها طاءً وإدغامُ الطاءِ فيها كما قالوا: أطَّلَب يَطَّلِبُ، والأصل: اطْتَلَب يَطْتَلِبُ، فصار: اطَّاف وجاء مضارعُه عليه: يَطَّاف. هذا هو تصريفُ هذه اللفظةِ من كونِ تاءِ الافتعال تُقْلَبُ طاءً وتُدَغَمُ فيها الطاءُ الأولى. وقال ابن عطية: «فجاء يَطْتَاف أُدْغِمَت التاءُ - بعد الإِسكانِ - في الطاءِ على مَذْهَبِ مَنْ أَجازَ إدغامَ الثاني في الأولِ كما جاءَ في» مُدَّكِر «، ومَنْ لم يُجِزْ ذلك قال: قُلَبَتِ التاءُ طاءٍ ثم أُدْغِمت الطاءُ في الطاء، وفي هذا نظرٌ لأنَّ الأصليَّ أُدْغِم في الزائد وذلك ضعيفٌ» . وهذا الذي قاله ابنُ عطية فيه خطأٌ من وَجْهين، أحدُهما: كَوْنُه يَدَّعي إدغامَ الثاني في الأولِ وذلك لا نظيرَ له، إنما يُدْغَمُ الأولُ في الثاني. والثاني: أنه قال كما جاء في «مُدَّكِر» لأنه كان ينبغي على قوله أن يقال: مُذَّكِر بالذال المعجمة وهذه لغةٌ رديئةٌ، إنما اللغةُ الجيدةُ بالمهملة لأنَّا قلبْنا تاءَ الافتعالِ بعد الذالِ المعجمةِ دالاً مهملة فاجتمع متقاربان فَقَلَبْنا أوَّلَهما لجنسِ الثاني وأَدْغَمْنا، وسيأتي تحقيقُ ذلك. ومصدر اطَّاف على الاطِّياف بوزن الافْتعال، والأصلُ: اطَّواف فكُسِر ما قبل الواو فقُلِبَتْ ياءً، وإنما عَادَتِ الواوُ إلى أصلِها لزوالِ موجب قَلْبها ألفاً ويُوضِّح ذلك قولُهم: اعتاد اعتياداً، والأصل: اعتِواد فَفُعِل به ما ذَكرْتُ لك. قوله: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قرأ حمزةُ والكسائي «تَطَوعَّ» هنا وفي الآية

الآتية بعدها: يَطَّوَّعْ بالياء فعلاً مضارعاً، وقرأه الباقون: «تَطَوَّع» فعلاً ماضياً. فأمَّا على قراءتهما فتكونُ «مَنْ» شرطيةً ليس إلاَّ، لعملِها الجزمَ. وأصل يَطَّوَّع. يَتَطَوَّع فأُدْغِم على نحو ما تقدّم في «يطّوّف» وهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ فعلُ الشرطِ على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم تحقيقُه. وقولُه: «فإنَّ الله» جملةٌ في محلِّ جزمٍ لأنَّها جوابُ الشرطِ، ولا بُدَّ مِنْ عائدٍ مقدَّرٍ أي: فإنَّ الله شاكرٌ له. وقال أبو البقاء: «وإذا جَعَلْتَ» مَنْ «شرطاً لم يكنْ في الكلامِ حَذْفُ ضميرٍ لأنَّ ضميرَ» مَنْ «في تطوَّع» وهذا يخالِفُ ما قَدَّمْتُ لك نَقْلَه عن النحويين من أنه إذا كان أداةُ الشرطِ اسماً لَزِمَ أن يكونَ في الجوابِ ضميرٌ يعودُ عليهِ وتقدَّم تحقيقُ ذلك. وأمَّا على قراءة الجمهورِ فتحتمل وَجْهَيْنِ، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً، والكلامُ فيها كما تقدَّم. والثاني: أن تكونَ موصولةً و «تَطَوَّعَ» صلتَها فلا محلَّ له مِنْ الإِعراب حينئذٍ، وتكونُ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ أيضاً و «فإنَّ الله» خبرُه، ودَخَلَت الفاءُ لِما تضمَّن مِنْ معنى الشرط، والعائدُ محذوفُ كما تقدَّم أي: شاكرٌ له، وانتصابُ «خيراً» على أحدِ أوجهِ: إمَّا على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي: تَطَوَّع بخيرٍ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ نحو قولِه: 783 - تَمُرُّونَ الدِّيار ولم تَعُوجُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهو غيرُ مقيسٍ. الثاني: أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي: تطُّوعاً خيراً. والثالثُ: أن يكونَ حالاً من ذلك المصدر المقدَّر معرفةً، وهذا مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم غيرَ مرةٍ، أو على تضمينِ «تَطَوَّعَ» ، فعلاً يتعدَّى،

أي: مَنْ فَعَلَ [خيراً متطوِّعاً به] . وقد تلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في قولِه: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} وجهين، أحدُهما: الجزمُ على القولِ بكونِ «مَنْ» شرطيةً والثاني: الرفعُ على القولِ بكونِها موصولةً.

159

قوله تعالى: {مَآ أَنزَلْنَا} : مفعول بيكتمون، و «أَنْزلنا» صلتُه وعائدُه محذوفٌ، أي أنزلناه. و «من البيناتِ» يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها حالٌ من ما الموصولةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائناً من البينات. الثاني: أَنْ يتعلَّق بأنزلنا فيكونَ مفعولاً به قالَه أبو البقاء، وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه إذا كان مفعولاً به لم يتعدَّ الفعلُ إلى ضميرٍ، وإذا لم يتعدَّ إلى ضميرِ الموصولِ بقي الموصولُ بلا عائدٍ. الثالث: أن يكونَ حالاً من الضميرِ العائدِ على الموصولِ، والعاملُ فيه «أنزلنا» لأنه عاملٌ في صاحبها. قوله: {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ} متعلِّقٌ بيكتُمون ولا يتعلَّقُ بأَنْزَلْنا لفسادِ المعنى، لأنَّ الإِنزالَ لم يكُنْ بعد التبيين، وأمَّا الكتمان فبعد التبيين. والضميرُ في بَيَّنَّاه يعودُ على «ما» الموصولةِ. وقرأ الجمهور «بَيَّنَّاه» ، وقرأ طلحة بن مصرف «بَيَّنه» على ضمير الغائبِ وهو التفاتٌ من التكلمِ إلى الغَيْبةِ. و «الناس» متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه. وقوله: {فِي الكتاب} يَحْتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بقوله: «بَيَّنَّاه» . والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في «بَيَّنَّاه» أي: بَيَّنَّاه حالَ كونِه مستقراً كائناً في الكتاب. قوله: {أولئك يَلعَنُهُمُ} يجوز في «أولئك» وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ مبتدأً و «يلعنُهم» خبرُه والجملةُ خبرُ «إنَّ الذين» /. والثاني: أن يكونَ بدلاً من «

الذين» و «يَلْعَنُهم» الخبرُ لأنَّ قولَه: «ويَلْعَنُهم اللاعنون» يَحْتَمل أنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه وهو «يلعنهم الله» وأَنْ يكونَ مستأنفاً. وأتى بصلةِ الذينَ فعلاً مضارعاً وكذلك بفعل اللعنةِ دلالةً على التجدُّد والحُدوث، وأَنَّ هذا يتجدَّد وقتاً فوقتا، وكررت اللعنة تأكيداً في ذمِّهم. وفي قوله «يَلْعَنُهم اللهُ» التفاتٌ إذ لو جرى على سننِ الكلامِ لقال: نلعنهم لقوله: «أنزلنا» ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضميرِ.

160

قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} : فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً، والمستثنى منه هو الضميرُ في «يلعنهم» . والثاني: أن يكونَ استثناءً منقطعاً لأنَّ الذين كَتَمُوا لُعِنوا قبل أن يتوبوا، وإنما جاء الاستثناءُ لبيان قَبولِ التوبة، لأنَّ قوماً من الكاتمين لم يُلْعَنوا، ذكر ذلك أبو البقاء وليس بشيء. قوله: {وَمَاتُوا} هذه واوُ الحال، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، وإثباتُ الواو هنا أفصحُ خلافاً للفراء والزمخشري حيث قالا: إنَّ حذفَها شاذ. وقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ} «أولئك» مبتدأ، و «عليهم لعنةُ اللهِ» مبتدأً وخبرٌ، خبرٌ عن أولئك، وأولئك وخبرُه خبرٌ عن «إنَّ» . ويجوزُ في «لَعنةُ» ، الرفعُ بالفاعليةِ بالجارِّ قبلها لاعتمادِها فإنه وقع خبراً عن «أولئك» وتقدَّم تحريرُه في {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 157] قوله: {والملائكة} الجمهورُ على جَرِّ الملائكة نَسفَاً على اسمِ الله. وقرأ الحسن بالرفع: {والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} ، وخَرَّجَها النحويون على العطفِ على موضعِ اسمِ الله تعالى، فإنَّه وإنْ كان مجروراً بإضافةِ المصدرِ

إليه فموضعُه رفعٌ بالفاعليةِ لأنَّ هذه المصدرَ ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍ وفِعْلٍ، والتقدير: أَنْ لَعَنَهم، أو أَنْ يَلْعَنَهم اللهُ، فَعَطَفَ «الملائكةُ» على هذا التقدير، قال الشيخ: «وهذا ليس بجائزٍ على ما تقرَّر من العطفِ على الموضعِ، فإنَّ مِنْ شرطِه أن يكونَ ثَمَّ مُحْرِزٌ للموضع وطالبٌ له، والطالبُ للرفعِ وجودُ التنوينِ في المصدرِ، هذا إذا سَلَّمْنا أن» لعنة «تَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفِعْلٍ، لأنَّ الانحلالِ لذلك شرطُه أَنْ يُقْصَدَ به العلاج، ألا ترى أنَّ قولَه: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] ليس المعنى على تقديرِ: أَنْ يَلْعَنَ اللهُ على الظالمين، بل المرادُ اللعنةُ المستقرةُ، وأضيفت لله تعالى على سبيلِ التخصيص لا على سبيل الحدوث» ونقلَ عن سيبويه أن قولَك: «هذا ضاربُ زيدٍ غداً وعمراً» بنصب «عمراً» أنَّ نصبَه بفعلٍ محذوفٍ، وأبى أَنْ ينصِبَه بالعطفِ على الموضعِ، ثم بعد تسليمِه ذلك كلَّه قال: «المصدرُ المنوَّنُ لم يُسْمَعْ بعدَه فاعلٌ مرفوعٌ ومفعولٌ منصوبٌ، إنما قاله البصريون قياساً على أَنْ والفعل ومَنَعَه الفراء وهو الصحيح» . ثم إنَّه خَرَّجَ هذه القراءةَ الشاذة على أحدِ ثلاثةِ أوجه، الأولُ: أَنْ تكونَ «الملائكةُ» مرفوعةً بفعلٍ محذوفٍ أي: وتَلْعَنُهم الملائكة، كما نَصَبَ سيبويه «عمراً» في قولك: «ضاربُ زيدٍ وعمراً» بفعلٍ محذوفٍ. الثاني: أن تكونَ

الملائكةُ عطفاً على «لعنة» بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ: ولَعْنَةُ الملائكةِ، فَلمَّا حُذِفَ المضافُ أٌقيم المضافُ إليه مُقامه. الثالث: أن يكونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرُه تقديره: والملائكةُ والناسُ أجمعون تَلْعَنُهم «. وهذه أوجهٌ متكلفة، وإعمالُ المصدرِ المنونِ ثابتٌ، غايةُ ما في الباب أنه قد يُحْذَفُ فاعله كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14] وأيضاً فقد أَتْبَعَتِ العربُ المجرورَ بالمصدرِ على مَوْضِعَيْه رفعاً على الشاعر: 784 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... مَشْيَ الهَلوكِ عليها الخَيْعَلُ الفَضُلَ برفع» الفُضُلُ «وهي صفةٌ للهَلوك على الموضعِ؛ وإذا ثَبَتَ ذلك، في النعتِ ثَبَتَ في العطفِ لأنهما تابعان من التوابعِ الخمسةِ. و» أجمعين «من ألفاظِ التأكيدِ المعنوي بمنزلة» كل «.

162

قوله تعالى: {خَالِدِينَ} : حالٌ من الضمير في «عليهم» ، قوله «لا يُخَفَّفُ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً. الثاني: أن يكونَ حالاً من الضمير في «خالدين» فيكونَ حالان متداخلان. الثالث: أن يكونَ حالاً ثانيةً من الضميرِ في «عليهم» ، وذلك عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الحالِ. وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجه بناءً منه على مذهبِه في ذلك.

163

قوله تعالى: {وإلهكم إله وَاحِدٌ} : خبرٌ المبتدأ، و «واحدٌ» صفةٌ، وهو الخبرُ في الحقيقةِ لأنه محطُّ الفائدةِ، ألا ترى أنه لو اقْتُصِر على ما قبلَه لم يُفِدْ وهذا يُشْبِهُ الحال الموطِّئةَ نحو: مررتُ بزيد رجلاً صالحاً، فرجلاً حالٌ وليست مقصودةً، إنما المقصودُ وَصْفُها. قوله: {إِلاَّ هُوَ} رفعُ «هو» على أنَّه بدلٌ من اسم «لا» على المحلِّ، إذ محلُّه الرفعُ على الابتداءِ أو هو بَدَلٌ مِنْ «لا» وما عَمِلَتْ فيه لأنَّها وما بعدَها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، ولا يجوزُ أن يكونَ «هو» خبرَ لا التبرئة لِما عَرَفْتَ أنها لا تَعْمَلُ في المعارفِ بل الخبرُ محذوفٌ أي: لا إله لنا، هذا إذا فَرَّعنا على أنَّ «لا» المبنيَّ معها اسمُها عاملةٌ في الخبر، أمَّا إذا جَعَلْنا الخبرَ مرفوعاً بما كان عليه قبل دخولِ لا وليس لها فيه عملٌ - وهو مذهبُ سيبويه - فكان ينبغي أَنْ يكونَ «هو» خبراً إلا أنه مَنَعَ من ذلك كونُ المبتدأِ نكرةً والخبرُ معرفةً وهو ممنوعٌ إلا في ضرائِر الشعرِ في بعضِ الأبوابِ. واستشكل الشيخُ كونَه بدلاً مِنْ «إله» قال: «لأنه لم يُمْكِنْ تكريرُ العاملِ لا تقولُ:» لا رجلَ لا زيدَ «، والذي يظهر لي أنه ليس بدلاً من» اله «ولا مِنْ» رجل «في قولك» لا رجلَ إلا زيدٌ، إنما هو بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبرِ المحذوفِ فإذا قُلْنا: «لا رجلَ إلا زيدٌ» فالتقدير: لا رجلَ كائنٌ أو موجودٌ إلا زيد، فزيدٌ بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبر لا من «رجل» ، فليس بدلاً على موضعِ اسم لا، وإنما هو بدلٌ مرفوعٌ من ضمير مرفوع، ذلك الضميرُ هو عائدٌ على اسم [لا] ، ولولا تصريحُ النَّحْويين أنَّه بدلٌ على الموضع من اسم «لا» لتأوَّلْنا كلامهم على ما تقدَّم تأويلُه «. وهذا الذي قالَه غيرُ مشكل لأنهم لم يقولوا: هو بدلٌ من اسمِ لا على اللفظِ حتى يَلْزَمَهم تكريرُ العاملِ،

وإنما كان يُشْكِلُ لو أجازوا إبدالَه من اسمِ» لا «على اللفظِ وهم لم يُجِيزوا ذلك لعدمِ إمكانِ تكريرِ العاملِ، ولذلك مَنَعوا وجهَ البدلِ في قولِهم {لا إله إلا اللهَ} وجعلوه انتصاباً على الاستثناء، وأجازوه في قولك:» لا رجلَ في الدارِ إلا صاحباً لك «لأنه يمكنُ فيه تكريرُ العاملِ. قوله: {الرحمن الرحيم} فيه أربعة أوجه، أحدها: أن يكونَ بدلاً من» هو «بدلَ ظاهرٍ من مضمر، إلاَّ أنَّ هذا يؤدي إلى البدلِ بالمشتقات وهو قليلٌ، ويمكن. الجوابُ عنه بأن هاتين الصفتين جَرَتا مجرى الجوامِد/ ولا سيما عند مَنْ يجعلُ «الرحمنُ» علماً، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البسملة. الثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو الرحمنُ، وحَسَّن حذفَه توالي اللفظ ب «هو» مرتين. الثالث: أن يكونَ خبراً ثالثاً لقولِه: «وإلهُكم» أَخْبر عنه بقولِه: «إله واحد» ، وبقولِه: «لا إله إلا هو» ، وبقولِه: «الرحمن الرحيم» ، وذلك عند مَنْ يرى تعديدَ الخبر مطلقاً، الرابع: أن يكونَ صفةً لقولِه: «هو» وذلك عند الكسائي فإنه يُجيز وصفَ الضمير الغائبِ بصفةِ المَدْحِ، فاشترطَ في وصفِ الضمير هذين الشرطين: أن يكونَ غائباً وأن تكونَ الصفةُ صفةَ مدحٍ، وإنْ كانَ الشيخُ جمالُ الدين بن مالك أَطْلَقَ عنه جوازَ وصفِ ضمير الغائب. ولا يجوزُ أَنْ يكون خبراً ل «هو» هذه المذكورةِ لأنَّ المستثنى ليس بجملةٍ.

164

قوله تعالى: {الليل والنهار} : «الليل» قيل: هو اسمُ جنسٍ فيفرِّقُ بين واحدِه وجمعِه تاءُ التأنيث فيقال: ليلة وليل كتمرة وتمر، والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحْفَظ له جمعٌ، ولذلك خَطَّأ الناسُ مَنْ زَعَم أنَّ اللياليَ جَمْعَ ليل، بل الليالي جمع لَيْلة، وهو جمعٌ غريب، ولذلك قالوا: هو جَمْع

ليلاة تقديراً وقد صُرِّح بهذا المفردِ في قَوْل الشاعر: 785 - في كلِّ يوم وبكلِّ ليلاهْ ... ويَدُلُّ على ذلك تصغيرُهم لها على لُيَيْلَة ونظير ليلة وليال كَيْكة وكَيَاك كأنهم تَوهَّموا أنها كَيْكات في الأصل، والكيكة: البيضة. وأمّا النهار فقال الراغب: «هو في الشرعِ لِما بينَ طلوعِ الفجر إلى غروبِ الشمس» ، وظاهرُ اللغة أنه من وقت الإِسفار، وقال ثعلب والنضر بن شميل: «هو من طُلوع الشمس» زاد النضر «ولا يُعَدُّ من قبل ذلك من النهار» . وقال الزجاجِ: «أولُ النهار دُرورُ الشمسِ» ويُجْمع على نُهُر وأَنْهِرَة نحو قَذَال وقُذُل وأَقْذِلة، وقيل: «لا يُجْمع لأنه بمنزلة المصدر، والصحيحُ جَمْعُه على ما تقدَّم قال: 786 - لولا الثَّريدان لَمُتْنا بالضُّمُرْ ... ثريدُ ليلٍ وثريدٌ بالنُّهُرْ وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة وأنها تَدُلُّ على الاتساع، ومنه:» النهار «لاتساعِ ضوئِه عند قوله {مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] . والاختلافُ مصدرٌ مضاف لفاعِله، المرادُ باختلافهما أنَّ كلَّ واحد يَخْلُف، ومنه: {جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} [الفرقان: 62] ، وقال زهير: 787 - بِها العِيْنُ والآرامُ يَمْشِيْنَ خِلْفَةً ... وأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كلِّ مَجْثَمِ

وقال آخر: 788 - ولها بالماطِرُون إذا ... أَكَلَ النملُ الذي جَمَعا خِلْفَةٌ حتى إذا ارتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ من جِلَّقٍ بِيَعَا وقَدَّم الليلَ على النهار لأنَّه سابقهُ، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وهذا أصحُّ القولين، وقيل: النورُ سابِقُ الظلمةِ وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ: وهي أن الليلةَ هل هي تابعةٌ لليومِ قبلَها أو لليومِ بعدَها؟ فعلى القولِ الصحيح تكونُ الليلةُ لليوم بعدها، فيكونُ اليومُ تابعاً لها. وعلى القولِ الثاني تكونُ لليومِ قبلَها فتكونُ الليلةُ تابعةً له، فيومُ عرفَةَ على القولِ الأولِ مستثنىً من الأصل فإنه تابعٌ لليلةِ بعدَه، وعلى الثاني جاءَ على الأصل. قوله: {والفلك} عطفٌ على» خَلْقِ «المجرورِ ب» في «لا على» السماواتِ «المجرورةِ بالإِضافة، والفُلْك [يكون واحداً كقولِه: {فِي الفلك المشحون} [الشعراء: 119] وجمعاً] كقوله: {فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] فإذا أُريد به، الجَمعُ ففيه أقوالٌ، أحدُها: قولُ سيبويهِ - وهو الصحيحُ -» أنه جمعُ تكسير «فإنْ قيل: جمعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تغيُّرٍ ما، فالجوابُ أنَّ تغييره مقدَّرٌ، فالضمةُ في حالِ كونه جمعاً كالضمةِ في» حُمُر «و» نُدُب «وفي حالِ كونهِ مفرداً كالضمة في قُفْل. وإنَّما حَمَل سيبويهِ على هذا، ولم يَجْعَلْه مشتركاً بين

الواحدِ والجمع نحو: «جُنُب» و «شُلُل» أنَّهم لو قَصَدوا الاشتراكَ لم يُثَنُّوه كما لا يُثَنُّون جُنُباً وشُلُلاً فلما ثَنَّوه وقالوا: «فُلْكان» عَلِمْنا أنهم لم يَقْصِدوا الاشتراكَ الذي قصدوه في جُنُب وشُلُل ونظيرُه: ناقةٌ هِجان ونوقٌ هِجان، ودِرْع دِلاص ودُروع دِلاص، فالكسَرةُ في المفردِ كالكسرة في كتاب، وفي الجمعِ كالكسرة في رجال، لأنهم قالوا في التثنيةِ هِجانان ودِلاصان. الثاني: مذهبُ الأخفش أنَّه اسمُ جمعٍ كصَحْب ورَكْب. الثالث: أنه جَمْع فَلَك بفتحتين كأَسَد وأُسْد، واختار الشيخ أنه مشترك بين الواحدِ والجمعِ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنيةِ، ولم يَذْكُر لاختيارِه وجهاً. وإذا أُفْرِدَ «فُلْك» فهو مذكرٌ قال تعالى: {فِي الفلك المشحون} قالوا: - ومنهم أبو البقاء -: ويجوزُ تأنيثُه مستدلِّين بقوله: {والفلك التي تَجْرِي} فوصَفَه بصفةِ التأنيثِ، ولا دليلَ في ذلك لاحتمالِ أنْ يُرادَ به الجمعُ، وحينئذٍ فيوصفُ بما تُوصَفُ به المؤنثةُ الواحدةُ. وأصلُه: من الدوران ومنه: «فَلَك السماء» لدورَانِ النجومِ فيه، وفَلْكَةُ المِغْزَل، وفَلَكَتِ الجاريةُ استدارُ نَهْدُها. وجاءَ بصلةِ «التي» فعلاً مضارعاً ليدلَّ على التجدُّدُ والحدوثِ، وإسنادُ الجري إليها مَجازٌ، وقوله «في البحر» توكيدٌ، إذ معلومٌ أنها لا تجري في غيرِه، فهو كقولِه: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] .

قوله: «بما يَنْفَعُ» في «ما» قولان «أحدُهما: أنَّها موصولةٌ اسميةٌ، وعلى هذا الباءُ للحال أي: تَجْري مصحوبةً بالأعيانِ التي تَنْفَعُ الناسَ. الثاني: أنها حرفيةٌ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسببِ أي: تَجْري بسببِ نَفْع الناسِ في التجارةِ وغيرِها. قوله: {مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ} : مِنْ الأولى معناها ابتداءُ الغايةِ أي: أَنْزَلَ من جهةِ السماءِ، وأمّا الثانيةُ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدَها: أَنْ تكونَ لبيانِ الجنس فإنّ المُنَزَّلَ من السماء ماءٌ وغيرُه. والثاني: أن تكونَ للتبعيضِ فإنّ المنزَّل منه بعضٌ لا كلٌّ. والثالثُ: أن تكونَ هي وما بعدها بدلاً مِنْ قولِه:» من السماء «بدلَ اشتمال بتكريرِ العاملِ، وكلاهما أعني - مِنْ الأولى ومِنْ الثانية - متعلقان بأَنْزَلَ. فإنْ قيل: كيف تَعَلَّق حرفان متَّحدان بعاملٍ واحد؟ فالجوابُ أنَّ الممنوعَ من ذلك أن يتَّحِدا معنىً من غير عطفٍ ولا بدلٍ، لا تقول: أخذت من الدراهم من الدنانير. وأمَّا الآيةُ فإن المحذورَ فيها مُنْتَفٍ، وذلك أنك إنْ جَعَلْتَ» مِنْ «الثانية» للبيانِ أو للتبعيض فظاهرٌ لاختلافِ معناهما فإن الأولى للابتداءِ، وإنْ جعلتها لابتداءِ الغايةِ فهي وما بعدها بدلٌ، والبدلُ يجوزُ ذلك [فيه] كما تقدَّم. ويجوز أَنْ تتعلَّقَ «مِنْ» الأولى بمحذوفٍ على أنها حال: إمّا من الموصولِ نفسِه وهو «ما» أو من ضميره المنصوبِ بأنزل أي: وما أنزله الله حالَ كونِه كائناً من السماء. قوله: {فَأَحْيَا بِهِ} عَطَفَ «أحيا» على «أنزل» الذي هو صلةٌ بفاء التعقيبِ دلالةً على سرعة النبات. و «به» متعلق «بأحيا، والباء يَجوز أن تكونَ للسبب وأن تكونَ باء الآلة، وكلُّ هذا مجازٌ، فإنه متعالٍ عن ذلك، والضميرُ في» به «يعودُ على الموصول. / قوله: {وَبَثَّ فِيهَا} يجوزُ في» بَثَّ «وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على»

أنزل «داخلٌ تحت حكمِ الصلةِ؛ لأنَّ قولَه» فَأَحْيا «عطفٌ على» أنزل «فاتصل به وصارا جميعاً كالشيءِ الواحد، وكأنه قيل:» وما أنزل في الأرض من ماءٍ وبَثَّ فيها من كلِّ دابة لأنهم يَنْمُون بالخِصْبِ ويَعيشون بالحَيا. هذا نصُّ الزمخشري. والثاني: أنه عطفٌ على «أحيا» . واستشكل الشيخُ عطفَه عليها، لأنَّها صلةٌ للموصول فلا بُدَّ من ضميرٍ يَرْجِعُ من هذه الجملةِ وليسَ ثَمَّ ضميرٌ في اللفظِ لأنَّ «فيها» يعودُ على الأرض، فبقي أن يكونَ محذوفاً تقديرُه: وبث به فيها، ولكن لا يجوزُ حذفُ الضمير المجرورِ بحرفِ إلاَّ بشروطٍ: أن يكونَ الموصولُ مجروراً بمثلِ ذلك الحرفِ، وأن يتَّحدَ متعلَّقهُما، وأَنْ لا يُحْصَرَ الضميرُ، وأَنْ يتعيَّنَ للربطِ، وألاَّ يكونَ الجارَّ قائماً مقامَ مرفوعٍ، والموصولُ هنا غيرُ مجرورٍ البتةَ، ولمَّا استشكل هذا بما ذَكَرَ خَرَّج الآية على حَذْفِ موصولٍ اسمي، قال: «وهو جائز شائع في كلامهم، وإنْ كان البصريون لا يُجيزونه، وأنشدَ شاهداً عليه: 789 - ما الذي دأبُه احتياطَ وحَزْمٌ ... وهواه أطاع يَسْتويانِ أي: والذي أطاع، وقوله: 790 - أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكم ... ويمدَحُه ويَنْصُره سَواءُ أي: ومَنْ ينصرُه.

وقوله: 791 - فواللهِ ما نِلْتُمْ وما نِيلَ منكمُ ... بمعتدلٍ وَفْقٍ ولا متقاربِ أي: ما الذي نلتم؛ وقوله تعالى: {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46] أي: وبالذي أُنزل إليكم؛ ليطابقَ قولَه: {والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} [النساء: 136] . ثم قال الشيخ:» وقد يتمشَّى التقديرُ الأولُ «- يعني جوازَ الحَذْفِ وإن لم يوجد شرطُه - قال:» وقد جاءَ ذلك في أشعارِهم؛ وأَنْشَدَ: 792 - وإنَّ لساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها ... وهُوَّ على مَنْ صَبَّه اللهُ عَلْقَمُ أي: عَلْقم عليه، وقوله: 793 - لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أَنْ يَرُدَّني ... إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قِادرُه أي: أَصْعَدْتِني به. قوله: {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} يجوز في «كل» ثلاثةُ أوجهٍ؛ أحدها: أن يكونَ في موضعِ المفعولِ به لبثَّ؛ وتكونُ «مِنْ» تبعيضيةً. الثاني: أن تكون «مِنْ» زائدةً على مذهب الأخفش، و «كلَّ دابة» مفعول به. ل «بَثَّ» أيضاً والثالث: أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من مفعولِ «بَثَّ» المحذوفِ إذا قلنا إنَّ

ثَمَّ موصولاً محذوفاً تقديرُه: وما بثُّ حالَ كونِه كائناً من كلِّ دابة؛ وفي «مِنْ» حينئذ وجهان؛ أحدهما: أن تكونَ للبيان. والثاني: أن تكونَ للتبعيض. وقال أبو البقاء: «ومفعولُ» بَثَّ «محذوفٌ» تقديرُه: وبثَّ فيها دوابَّ كلَّ دابِةٍ «، وظاهرُ هذا أنَّ {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} صفةٌ لذلك المحذوفِ وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته. والبَثُّ: نَشْرٌ وتفريق، قال: 794 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وفي الأرضِ مَبْثُوثاً شجاعٌ وعَقْربُ ومضارعُه يَبُثُّ بضمِّ العَيْنِ، وهو قياسُ المضاعفِ المتعدِّي، وقد جاء الكسرُ في أُلَيَفاظ؛ قالوا:» نَمَّ الحديثَ يَنِمُّه «بالوجهين. والدابَّةُ: اسمٌُ لكلِّ حيوانٍ، وزعَم بعضُهم إخراجَ الطيرِ منه ورُدَّ عليه بقولِ عَلْقمة: 795 - كأنَّهم صابَتْ عليهم سَحابةٌ ... صواعِقُها لطيرِهِنَّ دَبيبُ وبقول الأعشى: 796 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... دبيبَ قَطا البَطْحَاءِ في كلِّ مَنْهَلِ

وبقوله: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} [النور: 45] ، ثم فَصَّل بمَنْ يمشي على رِجْلين وهو الإِنسانُ والطير. قوله: {وَتَصْرِيفِ الرياح} » تصريف «مصدر صَرَّف وهو الردُّ والتقليبُ، ويجوز أن يكونَ مضافاً للفاعل، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: وتصريفِ الرياحِ السحابَ، فإنها تسوقُ السحابَ، وأن يكونَ مضافاً للمفعولِ، والفاعلُ محذوفٌ أي: وتصريفِ اللهِ الريحَ. والرياحُ: جمعُ ريح جمعَ تكسير، وياءُ الريحِ والرياحِ عن واوٍ؛ والأصلُ: رِوْح، لأنه من راح يروح، وإنما قُلِبَتْ في» ريح «لسكونها وانكسار ما قبلها، وفي» رياح «لأنها عينٌ في جمعٍ بعد كسرةٍ وبعدَها ألفٌ وهي ساكنةٌ في المفردِ، وهو إبدالٌ مطردٌ، ولذلك لمّا زال موجبُ قَلْبِها رَجَعَتْ إلى أصلِها فقالوا: أَرْواح قال: 797 - أَرَبَّتْ بها الأرواحُ كلَّ عَشِيَّةٍ ... فلم يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ ومثلُه: 798 - لَبَيْتٌ تَخْفُقُ الأرواحُ فيه ... أَحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ وقَدْ لَحَنَ عمارةُ بن عقيل بن بلال فقال» الأرياح «في شعرِه، فقال له أبو حاتم:» إن الأرياح لا تجوزُ «فقال له عمارة: ألا تسمع قولهم: رياح. فقال أبو حاتم: هذا خلافُ ذلك، فقال: صَدَقْتَ ورَجَعَ. قال الشيخ:» وفي محفوظي قديماً أنَّ «الأرياح» جاء في شِعْر بعضِ فصحاءِ العرب المستشهدِ

بكلامِهم كأنهم بَنَوْه على المفردِ وإن كانت علةُ القلبِ مفقودةً في الجمع، كما قالوا: عيد وأعياد، والأصلُ: أَعْواد لأنه من عاد يَعُود، لكنه لمَّا تُرِك البدلُ جُعِلَ كالحرفِ الأصليِّ «. قلت: ويؤيِّد ما قاله الشيخُ أن التزامهم الياء في الأرياح لأجلِ اللَّبسِ بينه وبي أَرْواح جمع رُوح، كما قالوا: التُزِمَت الياءُ في أعياد فرقاً بينه وبين أَعْواد جمع عُود الحطبِ، ولذلك قالوا في التصغير عُيَيْد دون عُوَيْد، وعَلَّلوه باللَّبْسِ المذكورِ. قال ابنُ عطية: «وجاءَتْ في القرآنِ مجموعةً مع الرحمةِ مفردة مع العذابِ إلا في قولِه: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] وهذا أَغْلَبُ وقوعِها في الكلامِ، وفي الحديث:» الله اجعلها رياحاً ولا تَجْعَلْها ريحاً «لأنَّ ريحَ العذابِ شديدةٌ ملتئمةٌ الأجزاءِ كأنّها جسمٌ واحدٌ، وريحُ الرحمةِ ليِّنةٌ متقطعةٌ، وإنما أُفرِدَتْ مع الفُلْك - يعني في يونس - لأنها لإِجراء السفن وهي واحدةٌ متصلةٌ؛ ثم وُصِفَتْ بالطيِّبة فزالَ الاشتراكُ بينها وبين ريح العذاب» . انتهى وهذا الذي قالَه يَرُدُّه اختلافُ القراءِ في أحدَ عشر موضعاً يأتي تفصيلُها. وإنما الذي يقال: إنَّ الجمعَ لم يأتِ مع العذابِ أصلاً؛ وأمَّا المفردُ فجاءَ فيهما، ولذلك اختصَّها عليه السلام في دعائِه بصيغةِ الجمعِ. وقرأ هنا «الريح» بالإِفراد حمزةُ والكسائي، والباقون بالجمع،

فالجمعُ لاختلافِ أنواعِها: جَنوباً ودَبوراً وصَبا وغيرَ ذلك، وإفرادُها على إرادة الجنس. والسحابُ: اسمُ جنسٍ واحدَتُه سَحابةٌ، سُمِّي بذلك لانسحابِه، كما قيل له: حَبِيٌّ لأنه يَحْبُو، ذكر ذلك أبو علي، وباعتبار كونِه اسمَ جنس وَصَفَه بوصفِ الواحدِ المذكَّر في قوله: «المُسَخَّر» كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] ولمّا اعتبر معناه تارةً أخرى وَصَفَه بما يوصَفُ به الجمعُ في قوله: {سَحَاباً ثِقَالاً} [الأعراف: 57] ، ويجوز أن يوصفَ بما تُوصفُ به المؤنثةُ الواحدةُ كقولِه: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} / [الحاقة: 7] وهكذا كلُّ اسم جنس فيه لغتان: التذكيرُ باعتبارِ اللفظِ والتأنيثُ باعتبارِ المعنى. والتسخيرُ: التذليلُ وجَعْلُ الشيءِ داخلاً تحت الطَّوْعِ. وقال الراغب: «هو القَهْرُ على الفعلِ وهو أبلغُ من الإِكراه» . قوله: {بَيْنَ السمآء} في «بين» قولان، أحدهما: أنه منصوبٌ بقوله: «المُسخَّرِ» ؛ فيكونُ ظرفاً للتسخير. والثاني: أن يكونَ حالاً من الضمير المستتِر اسمِ المفعول، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً بين السماء و «لآياتٍ» اسمُ إنَّ والجارُ خبرٌ مقدمٌ، ودَخَلَتِ اللامُ على الاسمِ لتأخُّرِه عن الخبر، ولو كان موضعَه لما جازَ ذلك فيه. وقوله: {لِّقَوْمٍ} في محلِّ نصبٍ لأنَّه صفةٌ لآيات، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ وقولُه «يَعْقِلون» الجملةُ في محلذ شجرٍ لأنها صفةٌ لقومٍ.

165

قوله تعالى: {مَن يَتَّخِذُ} : «مَنْ» في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وخبرُه الجارُّ قبلَه، ويجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكون موصولةً. الثاني: أن تكونَ موصوفةً، فعلى الأولِ لا محلَّ للجملةِ بعدها، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ، أي: فريقٌ أو شخصٌ متَّخِذٌ؛ وأَفْرَدَ الضميرَ في «يتَّخذ» حَمْلاً على لفظِ «مَنْ» . قوله: {مِن دُونِ الله} متعلِّقٌ بيتَّخذ. والمرادُ بدون هنا: غَيْر، وأصلُها أن تكونَ ظرفَ مكانٍ نادرةَ التصرُّف؛ وإنما أَفْهَمَتْ معنى «غير» مجازاً؛ وذلك أنك إذا قلت: «اتخذتُ من دونِك صديقاً» أصلُه: اتَّخَذْتُ من جهةٍ ومكانٍ دونَ جهتِك ومكانِك صديقاً، فهو ظرفٌ مجازيٌّ. وإذا كان المكانُ المتَّخَذُ منه الصديقُ مكانَك وجهتُك منحطةً عنه ودونه لزم أن يكونَ غيراً لأنه ليس إياه، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه مع كونه غيراً فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق لا بطريقِ الوَضْع لغةً، وقد تقدَّم تقريرُ شيءٍ من هذا أول السورةِ. و «يتَّخِذُ» يَفْتَعِلُ من الأخْذِ، وهي متعدِّيَةٌ إلى واحد وهو: أَنْداداً «. وقد تقدَّم الكلامُ على» أنداداً أيضاً واشتقاقه. قوله: {يُحِبُّونَهُمْ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «مَنْ» في أحدِ وجهَيْها، والضميرُ المرفوعُ يعودُ عليها باعتبارِ المعنى بعد اعتبارِ اللفظِ في «يتَّخِذُ» . والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لأنداداً، والضميرُ المنصوبُ يعودُ عليهم، والمرادُ بهم الأصنامُ، وإنما جمعَ العقلاءَ لمعاملتهم لهم معاملةَ العقلاءِ، أو يكونُ المرادُ بهم مَنْ عُبِد من دونِ الله عقلاءَ وغيرهم، ثم غَلَّبَ العقلاءَ على غيرِهم. الثالث: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في «يَتَّخِذ» ، والضميرُ المرفوعُ عائدٌ على ما عاد عليه الضميرُ في «يتَّخِذُ» ، وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى كما تقدَّم.

قوله: {كَحُبِّ الله} الكافُ في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: يُحِبُّونهم حباً كحُبِّ اللَّهِ، وإمَّا على الحالِ من المصدرِ المعرَّفِ كما تقدَّمَ تقريرُه غيرَ مرةٍ. والحُبُّ: إرادةُ ما تراه وتظنه خيراً، وأصلهُ من حَبَبْتُ فلاناً: أصبْتُ حبة قلبِه نحو: كَبِدْتُه. وأَحْبَبْتُه: جَعَلْتُ قلبي مُعَرَّضاً بأن يحبَّه، لكن أكثر الاستعمالِ أن يُقال: أَحْبَبْتُه فهو محبوب، ومُحَبّ قليلٌ كقوله: 799 - ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه ... مني بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ والحُبُّ في الأصلِ مصدرُ حَبَّه، وكان قياسُه فتحَ الحاءِ، ومضارِعُه يَحُبُّ بالضم وهو قياسُ فِعْل المضعَّف وشَذَّ كسرُه، ومحبوب أكثر من مُحَبّ، ومُحِبّ أكثر من حابّ، وقد جُمِع الحبُّ لاختلافِ أنواعِه، وقال: 800 - ثلاثَةُ أحبابٍ فَحُبُّ علاقةٍ ... وحُبُّ تِمِلاَّقٍ وحُبُّ هو القتلُ والحُبُّ مصدرٌ مضافٌ لمنصوبه والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: كحبِّهم الله أو كحبِّ المؤمنين الله، بمعنى أنهم سَوَّوا بين الحُبَّين: حبِّ الأندادِ وحُبِّ اللهِ. وقال ابن عطية: «حُبّ» مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللفظ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعلِ المضمرِ تقديرُه: كحبِّكم اللَّهَ أو كَحبِّهم اللَّهَ حَسْبَ ما قَدَّر كلَّ وجهٍ منها فرقةٌ «. انتهى، وقوله» للفاعل المضمر «يريد أنَّ ذلك الفاعلَ مِنْ جنسِ الضمائر وهو:» كُمْ «أو» هِمْ «، أو يكونُ يُسَمِّى الحَذْف

أضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ، ولا يريد أن الفاعلَ مضمرٌ في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعالِ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضِهم، مردودٌ بأنَّ المصدرَ اسمُ جنسٍ؛ واسمُ الجنسِ لا يُضْمَرُ فيه لجمودِه. وقال الزمخشري:» كحُبِّ اللهِ: كتعظيمِ اللهِ، والخُضوعُ له، أي: كما يُحَبُّ اللهُ، على أنَّه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعولِ، وإنما استُغْنِيَ عن ذِكْرِ مَنْ يُحِبُّه لأنه غيرُ ملتبسٍ «. انتهى. أمّا جَعْلُه المصدرَ من المبني للمفعول فهو أحدُ الأقوالِ الثلاثةِ: أعني الجوازَ مطلقاً. والثاني: المنعُ مطلقاً وهو الصحيحُ. والثالث: التفصيلُ بين الأفعالِ التي لم تُسْتَعْمَلْ إلا مبنيةً للمفعولِ فيجوزُ نحو: عَجِبْتُ من جنونِ زيدٍ بالعلمِ، ومنه الآيةُ الكريمةُ فإنَّ الغالِبَ في» حُبّ «أن يُبْنى للمفعولِ، وبَيْنَ غيرها فلا يجوزُ، واستدلَّ مَنْ أجازه مطلقاً بقول عائشة:» نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قَتْلِ الأبتر وذو الطُّفْيَتَيْن «برفعِ» ذو «عطفاً على محلّ» الأبتر «لأنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه تقديراً أي: أن يُقْتَلَ الأبترُ. ولتقريرِ هذه الأقوالِ موضعٌ غيرُ هذا. وقد رَدَّ الزجاجُ تقديرَ مَنْ قَدَّر فاعل المصدرِ المؤمنين أو ضميرَهم، وقال:» ليس بشيء «، والدليلُ على نقضه قولُه بعدُ: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} ، ورجَّحَ أن يكونَ فاعلُ المصدرِ ضميرَ المتَّخِذين، أي: يُحِبُّون الاصنامَ كما يُحِبُّون الله، لأنهم أَشْرَكوها مع الله تعالى فَسَوَّوا بين الله وبين أوثانِهم في المحبَّةِ» . وهذا الذي قاله الزجّاجُ من الدليلِ واضحٌ؛ لأنَّ التسوية بين مَحَبَّةِ

الكفار لأوثانهم وبين محبةِ المؤمنين لله ينافي قوله: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} فإنَّ فيه نفيَ المساواةِ. وقرأ أبو رجاء: «يَحُبُّونهم» من «حَبَّ» ثلاثياً، و «أَحَبَّ» أكثرُ، وفي المثل: «مَنْ حَبَّ طَبَّ» . قولُه: {أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} المفضلُ عليه محذوفٌ، وهم المتخذون الأنداد، أي: أشدُّ حباً لله من المتخذين الأنداد لأوثانِهم، وقال أبو البقاء: «ما يتعلَّقُ به» أشدّ «محذوفٌ تقديرُه:» أشدُّ حباً لله مِنْ حُبِّ هؤلاء للأندادِ «والمعنى: أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله أكثرَ مِنْ محبَّةِ هؤلاء أوثَانَهم. ويُحْتَملُ أن يكونَ المعنى أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله تعالى أكثر مِمَّا يُحِبُّه هؤلاء المتَّخِذون؛ لأنهم لم يَشْرَكوا معه غيره. وأتى بأشدَّ متوصِّلاً بها إلى أَفْعَل التفضيل من مادة الحب لأن «حُبَّ» مبنيٌّ للمفعولِ والمبنيُّ للمفعولِ لا يُتَعَجَّبُ منه ولا يُبْنَى منه أفعل للتفضيل، فلذلك أتى بما يَجُوز ذلك فيه. فأمَّا قولُهم: «ما أحبَّه إلي» فشاذٌّ على خلافٍ في ذلك بين النحويين. و «حباً» تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ تقديرُه: حُبُّهم للهِ أشَدُّ. قوله: {وَلَوْ يَرَى الذين} جوابُ لو محذوفٌ، واختُلِفَ في تقديره، ولا يَظْهَرُ ذلك إلا بعد ذِكْرِ القراءت الواردة في ألفاظِ هذه الآيةِ الكريمة: قرأ ابنُ عامر ونافع: «ولو ترى» بتاءِ الخطابِ، و «أن القوة» و «أن الله بفتحِهما، وقرأ ابنُ عامر:» إذ يُرَوْن «بضم الياء، والباقون بفتحِهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون:» ولو يرى «بياء الغيبة،» أنَّ القوة «و» أنَّ الله «

بفتحِهما، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة ويعقوب وأبو جعفر:» ولو تَرَى «بالخطاب،» إن القوة «و» إن الله «بكسرهما، وقرأت طائفةٌ:» ولو يرى «بياء الغيبة،» إن القوة «و» إن الله «بكسرهما. إذا تقرَّر ذلك فقد اختلفوا في تقديرِ جواب لو، فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قولِه:» أن القوة «ومنهم مَنْ قدَّره بعد قولِه:» وأنَّ الله شديدُ العذابِ «/ وهو قولُ أبي الحسن الأخفش والمبرد. أمَّا مَنْ قَدَّره قبل» أنَّ القوةَ «فيكونُ» أنَّ القوةَ «معمولاً لذلك الجوابِ. وتقديرُه على قراءةِ ترى - بالخطاب - وفتح أنَّ وأنَّ: لعلِمْتَ أيها السامعُ أنَّ القوةَ لله جميعاً، والمرادُ بهذا الخطابِ: إمّا النبيُّ عليه السلام وإمّا كلُّ سامعٍ. وعلى قراءةِ الكسرِ في» إنّ «يكونُ التقديرُ: لقلت إنَّ القوةَ لله جميعاً، والخلافُ في المرادِ بالخطاب كما تقدَّم، أو يكونُ التقديرُ: لاستعظَمت حالَهم، وإنما كُسِرَتْ» إنَّ «لأنَّ فيها معنى التعليل نحو قولك: لو قَدِمْتَ على زيد لأحْسنَ إليك إنَّه مكرمٌ للضِّيفان، فقولك: أنه مكرِمٌ للضِّيفان» عِلَّةٌ لقولِك «أَحْسَنَ إليك» . وقال ابنُ عطية: «تقديرُه: ولو ترى الذين ظَلَموا في حال رؤيتهم العذابَ وفزعهم منه واستعظامِهم له لأقَرُّوا له لأقَرُّوا أنَّ القوةَ لله جميعاً» وناقشه الشيخ فقال: «كان ينبغي أن يقولَ: في وقتِ رؤيتهم العذابَ فيأتي بمرادف» إذ «وهو الوقتُ لا الحالُ، وأيضاً فتقديرُه لجوابِ» لو «غيرُ مُرَتَّبٍ على ما يلي» لو «، لأنَّ رؤية السامعِ أو النبي عليه السلام الظالمينَ في وقتِ رؤيتهم لا يترتَُّبُ عليها إقرارُهم بأنّ القوة لله جميعاً، وهو نظيرُ قولِك:» يا زيدُ لو ترى عَمْراً في وقتِ ضَرْبِه لأقَرَّ أنَّ الله قادِرٌ عليه «فإقرارُه بقدرةِ الله ليست مترتبةً على رؤيةِ زيد»

انتهى. وتقديرُه على قراءةِ «يرى» بالغيبة: لعلموا أنَّ القوةَ، إنْ كان فاعل «يرى» «الذين ظلموا» ، وإن كان ضميراً يعودُ على السامعِ فيُقَدَّرُ: لَعَلِمَ أنَّ القوة. وأمَّا مَنْ قَدَّره بعدَ قولِه: شديدُ العذاب فتقديرُه على قراءة «ترى» بالخطابِ: لاستعظَمْتَ ما حلَّ بهم، ويكونُ فتحُ «أنَّ» على أنه مفعولٌ من أجلِه، أي: لأنَّ القوةَ لله جميعاً، وكَسْرُها على معنى التعليلِ نحو: «أكرِمْ زيداً إنه عالم، وأَهِنْ عمراً إنَّه جاهلٌ» ، أو تكونُ جملةً معترضةً بين «لو» وجوابِها المحذوفِ. وتقديرُه على قراءةِ «ولو يرى» بالغيبة إن كان فاعلُ «يرى» ضميرَ السامعِ: لاستعظَمَ ذلك، وإنْ كان فاعلُه «الذين» كان التقديرُ: لاستعظَموا ما حَلَّ بهم، ويكونُ فتحُ «أنَّ» على أنها معمولةٌ ليرى، على أن يكونَ الفاعلُ «الذين ظلموا» ، والرؤيةُ هنا تحتِملُ أن تكونَ من رؤيةِ القلبِ فتسدَّ «أنَّ» مسدَّ مفعولهما، وأن تكونَ من رؤية البصرِ فتكونَ في موضعِ مفعولٍ واحدٍ. وأمَّا قراءةُ «يرى الذين» بالغَيبة وكسرِ «إنَّ» و «إنَّ» فيكونُ الجوابُ قولاً محذوفاً وكُسِرتَا لوقوعِهما بعد القولِ، فتقديرُه على كونِ الفاعلِ ضميرَ الرأي: لقال إنَّ القوةَ؛ وعلى كونه «الذين» : لقالوا: ويكونُ مفعولُ «يرى» محذوفاً أي: لو يرى حالهم. ويُحتمل أن يكونَ الجوابُ: لاستَعْظَم أو لاستَعْظَموا على حَسَبِ القولين، وإنما كُسِرتا استئنافاً، وحَذْفُ جوابِ «لو» شائعٌ مستفيضٌ، وكثُر حَذْفهُ في القرآن. وفائدةُ حَذْفِه استعظامُه وذهابُ النفسِ كلَّ مذهبٍ فيه بخلافِ ما لو ذُكِر، فإنَّ السامعَ يقصُر هَمَّه عليه، وقد وَرَدَ في أشعارهم ونثرِهم حَذْفُه كثيراً. قال امرؤ القيس:

801 - وجَدِّكَ لو شيءُ أتانا رسولُه ... سِواك ولكن لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا وقال النابغة: 802 - فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً ... أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قلائِلُ ودَخَلَتْ «إذ» وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناءِ هذه المستقبلات تقريباً للأمر، وتصحيحاً لوقوعِه، كما وَقَعَتْ صيغة المضيِّ موقعَ المستقبل لذلك كقولِهِ: {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] {ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50] ، وكما قال الأشتر: 803 - بَقَّيْتُ وَفْرِي وانحرَفْتُ عن العُلَى ... ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عَبُوسِ إِنْ لم أشُنَّ على ابن حربٍ غارةً ... لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ فأوقع «بَقَّيْتُ» و «انحَرَفْتُ» - وهما بصيغة المضيِّ - موقِعَ المستقبلِ لتعليقهما على مستقبلٍ وهو قولُه: «إنْ لم أشُنَّ» . وقيل: أَوْقَعَ «إذ» موقع «إذا» وقيل: زمن الآخرة متصلٌ بزمن الدنيا، فقامَ أحدُهما مقامَ الآخر لأنَّ المجاور للشيءِ يقوم مقامه، وهكذا كلَّ موضعٍ وَقَع مثلَ هذا، وهو في القرآن كثيرٌ. وقراءةُ ابنِ عامر «يُرَوْنَ العذاب» مبنياً للمفعول مَنْ أَرَيْتُ المنقولةِ من رَأَيْتُ بمعنى أبصرتُ فتعدَّتُ لاثنين، أولُهما قامَ مَقامَ الفاعلِ وهو الواو، والثاني هو «العذابُ» ، وقراءةُ الباقين واضحةٌ.

وقال الراغبُ: «قوله» : «أنَّ القوة» بدلٌ من «الذين» قال: «وهو ضعيفٌ» قال الشيخ: «ويصيرُ المعنى: ولو تَرى قوةَ الله وقدرَتَه على الذين ظلموا» . وقال في «المنتخب» : «قراءةُ الياء عند بعضهم أَوْلَى من قراءة التاء» ، قال: «لأنَّ النبيَّ عليه السلام والمؤمنين قد عَلِموا قَدْرَ ما يُشَاهِدُه الكفارُ، وأمّا الكفارُ فلم يَعْلَمُوه فوجَبَ إسنادُ الفعلِ إليهم» وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ القراءَتَيْنِ متواتِرتان. قوله: {جَمِيعاً} حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور الواقع خبراً، لأنَّ تقديره: «أنَّ القوةَ كائنةٌ لله جميعاً» ، ولا جائزٌ أن يكونَ حالاً من القوة، فإنَّ العاملٍ في الحال هو العاملُ في صاحبِها، و «أنَّ» لا تعملُ في الحال، وهو مُشْكلٌ، فإنَّهم أجازوا في «ليت» أن تعمل في الحال، وكذا «كأنَّ» لِما فيها من معنى الفعل - وهو التمني والتشبيه - فكان ينبغي أن يجوزَ ذلك في «أنَّ» لِما فيها من معنى التأكيد. و «جميع» في الأصل: فَعِيل من الجَمْعِ، وكأنه اسمُ جمعٍ، فلذلك يُتْبَع تارةً بالمفرد، قال تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] ، وتارةً بالجمعِ، قال تعالى: {جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] ، ويَنْتَصِبُ حالاً، ويؤكد به بمعنى «كل» ، ويَدُلُّ على الشمول كدلالةِ «كل» ، ولا دلالة له على الاجتماع في الزمان، تقول: «جاء القومُ جميعُهم» لا يلزُم أَنْ يكونَ مجيئُهم في زمنٍ واحدٍ، وقد تقدَّم ذلك في الفرقِ بينها وبين «جاؤوا معاً» .

166

قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ} : في «إذْ» ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أنَّها بدلٌ من «إذ يَرَوْن» . الثاني: أنها منصوبةٌ بقولِه «شديدُ العذاب» الثالث: - وهو أضعفها - أنها معمولةٌ لا ذكر مقدراً. و «تَبَرَّأ» في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه. والتبرُّؤُ: الخلوصُ والانفصال، ومنه: بَرِئْتُ من الدَّيْن، وقد تَقدَّم تحقيقُ ذلك عند قولِه: {إلى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] . والجمهورُ على تقديم «اتُّبِعوا» مبنياً للمفعول على «اتَّبعوا» مبنياً للفاعل. وقرأ مجاهد بالعكس، وهما واضحتان، إلاَّ أنَّ قراءة الجمهورِ واردةٌ في القرآنِ أكثرَ. قوله: {وَرَأَوُاْ العذاب} في هذه الجملة وجهانِ: أظهرهُما: أنها عطفٌ على ما قبلها، فتكونُ داخلةً في حَيِّز الظرف، تقديرُه: «إذ تبرّأ الذين اتُّبِعوا، وإذْ رَأَوا» . والثاني: أن الواو للحالِ والجملةُ بعدها حاليةٌ، و «قد» معها مضمرةٌ، والعاملُ في هذه الحالِ: «تَبَرَّأ» أي: تبرَّؤوا في حالِ رؤيتهم العذابَ. قوله: {وَتَقَطَّعَتْ} يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ وأَنْ تكونَ للحالِ، وإذا كانت للعطفِ فهل عَطَفَتْ «تَقَطَّعَتْ» على «تَبَرَّأ» ، ويكون قوله: «ورأوا» حالاً، وهذا اختيار الزمخشري، أو عَطَفَتْ على «رأوا» ؟ وإذا كانت للحال فهل هي حالٌ ثانية للذين، أو حالٌ للضميرِ في «رَأوا» ؟ وتكونُ حالاً متداخلةً إذا جَعَلْنا «ورأوا» حالاً. والباءُ في «بهم» فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُهُما: أنَّها للحالِ أي: تَقَطَّعَتْ موصولةً بهم الأسبابُ نحو: «خَرَج بثيابه» . الثاني: أن تكونَ للتعديةِ، أي:

قَطَّعَتْهُم الأسبابُ كما تقولُ: تَفَرَّقَتْ بهم الطرقُ «أي: فَرَّقَتْهم. الثالث: أن تكون للسببية، أي: تَقَطَّعتْ بسببِ كفرِهم الأسبابُ التي كانوا يَرْجُون بها النجاة. الرابع: أن تكونَ بمعنى» عن «، أي: تَقَطَّعت عنهم. والأسبابُ: الوَصْلاتُ بينهم، وهي مجازٌ، فإن السبب في الأصل الحَبْلُ ثم أُطلقَ على كلِّ ما يُتَوصَّل به إلى شيء: عيناً كان أو معنىً، وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ، قال زهير: 804 - ومَنْ هابَ أسبابُ المنايا يَنَلْنَه ... ولو نالَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ وقد وُجِد هنا نوعٌ من أنواعِ: البديع هو الترصيعُ/، وهو عبارةُ عن تَسْجِيع الكلامِ، وهو هنا في موضعَيْن، أحدُهما {اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} ولذلك حَذَفَ عائدَ الموصولِ الأولِ فلم يَقُلْ: من الذين اتَّبعوهم لفوات ذلك والثاني: {وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} وهو كثيرٌ في القرآنِ {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة: 73] .

167

قوله تعالى {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} : منصوبٌ بعد الفاء بِأَنْ مضمرةً في جواب التمني الذي أُشْرِبته «لو» ، ولذلك أُجيبت بجواب «ليت» الذي في قوله: يا ليتني كنتُ معهم فأفوز «، وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمني فهل هي الامتناعيةُ المفتقرةُ إلى جوابٍ أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ؟ الصحيحُ أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدَّرٌ في الآيةِ تقديرُه: لتبرَّأنا ونحوُ ذلك. وقيل:» لو «في هذه الآيةِ ونظائرها لِما كان سَيَقَعُ لوقوع غيره، وليس فيها معنى التمني،

والفعلُ منصوبٌ ب» أَنْ «مضمرةً على تأويلِ عَطْفِ اسم على اسم وهو» كَرَّة «والتقديرُ: لو أنَّ لنا كرةً فتبرُّؤاً فهو من باب قوله: 805 - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويكونُ جواب لو محذوفاً أيضاً كما تقدَّم. وقال أبو البقاء:» فنتبرأ «منصوبٌ بإضمار أنْ تقديرُه: لو أنّ لنا أن نرجِع فنتبرأ» فَحَلَّ «كرة» إلى قولِه «أَنْ نَرْجِعَ» لأنه بمعناه وهو قريبٌ، إلاَّ أنَّ النَّحْويين يُؤَوِّلون الفعلَ المنصوبَ بمصدرٍ ليَعْطِفُوهُ على الاسم قبلَه، ويتركون الاسمَ على حالِه، وذلك لأنه قد يكونُ اسماً صريحاً غير مصدرٍ نحو: «لولا زيدٌ ويخرج لأكرمتُك» فلا يتأتّى تأويله بحرف مصدري وفعلٍ. والقائل بأنّ «لو» التي للتمني لا جوابَ لها استدلَّ بقول الشاعر: 806 - فلو نَبْشُ المقابرِ عن كُلَيْبٍ ... فَتُخْبَر بالذَّنائِبِ أيُّ زُورِ وهذا لا يَصِحُّ فإنَّ جوابَها في البيتِ بعدَه وهو قولُه: 807 - بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيناً ... وكيف لقاءُ مَنْ تحتَ القبورِ واستدلَّ هذا القائلُ أيضاً بأنَّ «أنَّ» تُفْتَحُ بعد «لو» كما تُفْتَحُ بعدَ ليت في قولِه: 808 - يا ليتَ أنَّا ضَمَّنا سَفينَهْ ... حتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنُونَهْ وههنا فائدةٌ ينبغي أن يُنتبه لها وهي: أنَّ النحاة قالوا: «كلُّ موضعٍ نُصِبَ

فيه المضارعُ بإضمارِ أَنْ بعد الفاء إذا سَقَطَت الفاءُ جُزِم إلا في النفي» ، [و] ينبغي أَنْ يُزادَ هذا الموضعُ أيضاً فيُقال: وإلا في جوابِ التمني ب «لو» ، فإنَّه يُنْصبُ المضارع فيه بإضمار «أَنْ» بعدَ الفاء الواقعةِ جواباً له، ومع ذلك لو سَقَطَت هذه الفاءُ لم يُجْزَمْ. قال الشيخ: «والسببُ في ذلك أنها محمولةٌ على حرف التمني وهو ليت، والجزمُ في جوابِ ليت إنما هو لتضَمُّنِها معنى الشرط أو لدلالتِها على كونِه محذوفاً على اختلافِ القولين فصارت» لو «فرع الفرع، فَضَعُفَ ذلك فيها. قوله:» كما «الكافُ موضعُها نصبٌ: إمَّا على كونِها نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، أي: تبرُّؤاً مثلَ تبرئتهم، وإمَّا على الحالِ من ضمير المصدر المُعرَّفِ المحذوفِ أي: نتبَّرؤه - أي التبرؤ - مشابهاً لتبرئتهم، كما تقدَّم تقريره غيرَ مرةٍ. وقال ابنُ عطية: «الكافُ في قوله» كما «في موضعِ نصبٍ على النعت: إمَّا لمصدرٍ أو لحالٍ تقديرُه: متبرئين كما» . قال الشيخ: «وأمّاً قولُه» لحال تقديرُه متبرئين كما «فغيرُ واضحٍ، لأنَّ» ما «مصدريةٌ فصارَتِ الكافُ الداخلةُ عليها من صفاتِ الأفعال، ومتبرئين من صفاتِ الأعيانِ فكيف يُوصف بصفاتِ الأفعالِ» قال: «وأيضاً لا حاجةَ لتقدير هذه الحال؛ لأنها إذ ذاك تكونُ حالاً مؤكدةً، وهي خلافُ الأصلِ، وأيضاً فالمؤكَّد ينافيه الحذفُ لأنَّ التأكيدَ يُقَوِّيه فالحَذْفُ يناقِضُه» . قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ} في هذه الكافِ قولان، أحدُهما: أنَّ موضعَها نصبٌ: إمَّا نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من المصدرِ المعرَّفِ، أي: يُريهم

رؤيةً كذلك، أو يَحْشُرهم حشراً كذلك، أو يَجْزيهم جزاءً كذلك، أو يُريهم الإِراءةَ مشبهةً كذلك ونحوُ هذا. والثاني: أن يكونَ موضعُها رفعاً على انه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ كذلك أو حَشْرُهم كذلك قاله أبو البقاء. قال الشيخ: «وهو ضعيفٌ لأنه يقتضي زيادةَ الكافَ وحَذْفَ مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأصل» . والإِشارةُ بذلك إلى إرءَتِهم تلك الأهوال، والتقدير: مثلَ إراءتهم الأهوال يُريهم اللهَ أعمالهم حسراتٍ، وقيل: الإِشارة إلى تبرؤ بعضِهم مِنْ بعضٍ. والرؤيةُ هنا تحتملُ وَجْهَيْن، أحدُهما: أن تكونَ بصريةً، فتتعدَّى لاثنين بنقل الهمزة، أولُهُما الضميرُ والثاني «أعمالَهم» و «حسراتٍ» على هذا حالٌ من «أعمالهم» . والثاني: أن تكون قلبية، فتتعدَّى لثلاثة ثالثُها «حسرات» و «عليهم» يجوزُ فيه وجهان: أن يتعلَّق ب «حسراتٍ» لأنَّ «يَحْسَر» يُعَدَّى بعلى، ويكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: على تفريطهم. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنَّها صفةٌ لحَسَرات، فهي في محل نصبٍ لكونِها صفةً لمنصوبٍ. والكَرَّةُ: العَوْدَةُ، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرَّاً، قال: 809 - أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي ... أفيها كانَ حَتْفِي أَمْ سِواها والحسرةُ: شِدَّةُ النَّدَمِ، وهو تألمُ القلب بانحساره عما يُؤمِّلهُ، واشتقاقُها: إمَّا من قولِهم: بعيرٌ حَسِير، أي: منقطعُ القوةِ أو مِنَ الحَسْرِ وهو الكِشْفُ.

168

قولُه تعالى: {مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} : «حلالاً» فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَن يكونَ مفعولاً ب «كُلوا» ، و «مِنْ» على هذا فيها

وجهان، أحدُهما: أَنْ تتعلَّق بكُلوا، ويكونُ معناها ابتداءَ الغايةِ. والثاني: أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من «حلالاً» وكانت في الأصلِ صفةً له فلمّا قُدِّمت عليه انتصَبَت حالاً، ويكونُ معنى «مِنْ» التبعيض. الثاني: أن يكونَ انتصابُ «حلالاً» على أنه نعت لمفعولٍ محذوفٍ، تقديرُه: شيئاً أو زرقاً حلالاً ذكرَه مكي، واستبعدَه ابنُ عطية، ولم يُبَيِّنْ وجهَ بُعْدِهِ، والذي يَظْهَرُ في بُعْدِه أنَّ «حلالاً» ليس صفةً خاصةً بالمأكولِ، بل يُوصَفُ به المأكولُ وغيرُه، وإذا لم تكن الصفةُ خاصةً لا يجُوزُ حَذْفُ الموصوفِ. الثالثُ: أَنْ ينتصِبَ «حلالاً» على أنه حالٌ من «ما» بمعنى الذي، أي: كُلوا من الذي في الأرض حال كَونِه حلالاً. الرابع: أن ينتصِبَ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: أكلاً حلالاً، ويكون مفعولُ «كُلوا» محذوفاً، و «ما في الأرض» صفةٌ لذلك المفعولِ المحذوفِ، ذكره أبو البقاء، وفيه من الردِّ ما تقدَّم على مكي، ويجوزُ على هذا الوجهِ الرابع ألاَّ يكونَ المفعولُ محذوفاً بل تكون «مِنْ» مزيدةً على مذهب الأخفش تقديرُه: كُلوا ما في الأرض أكلاً حلالاً. الخامس: أنْ يكونَ حالاً من الضمير العائِد على «ما» قاله ابنُ عطية، يعني بالضمير الضميرَ المستكنَّ في الجارِّ والمجرورِ الواقعِ صلةً. و «طيباً» فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن يكونَ صفةً لحلالاً، أمَّا على القول بأنَّ «مِنْ» للابتداءِ متعلِّقة ب «كُلوا» فهو واضحُ، وأمّا على القولِ بأنّ «مِما في الأرض» حالٌ من «حلالاً» ، فقال أبو البقاء: «ولكنَّ موضعَها بعد

الجارِّ والمجرور، لئلا يُفْصَلَ بالصفةِ بين الحالِ وذي الحالِ» وهذا الذي قاله ليس بشيء فإنَّ الفصلَ بالصفةِ بين الحال وصاحِبها ليس بممنوع، تقول: «جاءني زيدٌ الطويلُ راكباً» بل لو قَدَّمْتَ الحالَ على الصفةِ فقلتَ: «جاءني زيدٌ راكباً الطويلُ» كان في جوازه نظرٌ. الثاني: أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أو حالاً من المصدرِ المَعْرفة المحذوفِ أي: أكلاً طيباً. الثالث: أن يكونَ حالاً من الضميرِ في «كُلوا» تقديرُه: مستطيبين، قاله ابنُ عطية، قال الشيخُ: «وهذا فاسدٌ في اللفظ/ والمعنى، أمّا اللفظُ فلأنَّ» الطيِّب «اسمُ فاعل فكان ينبغي أن تُجْمَعَ لتطابق صاحبَها فيقال: طيبين، وليس» طيب «مصدراً فيقال: إنما لم يُجْمَع لذلك. وأما المعنى فإنَّ «طيباً» مغايرٌ لمعنى «مستطيبين» لأنَّ الطِّيب من صفاتِ المَأْكولِ والمستطيبَ من صفاتِ الآكلينَ، تقول: طاب لزيدٍ الطعامُ، ولا تقولُ: «طابَ زيدٌ الطعام» بمعنى استطابه «. والحَلالُ: المأذونُ فيه، ضدُّ الحرام الممنوع منه. [يُقال:] حَلَّ يَحِلُّ بكسرِ العين في المضارعِ، وهو القياسُ لأنه مضاعَفٌ غيرُ متعدٍّ، ويقال: حَلال وحِلُّ، كحرام وحَرَم، وهو في الأصل مصدرٌ، ويقالُ:» حلٌِ بِلٌّ «على سبيلِ الإِتباع كحَسَنٌ بَسَنٌ. وَحَلَّ بمكان كذا يحِلُّ بضمِّ العَيْنِ وكسرِها، وقرىء، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] بالوجهين. قوله: {خُطُواتِ} قرأ ابنُ عامر والكسائي وقنبل وحَفص: خُطُوات بضم الخاء والطاء، وباقي السبعة بسكون الطاءِ، وقرأ أبو السَّمَّال» خُطَوات «

بفتحها، ونقل ابنُ عطية وغيرُه عنه أنه قرأ» خَطَوات «بفتح الخاء والطاء، وقرأَ عليّ وقتادة والأعمش بضمِّها والهمز. فأمّا قراءةُ الجمهورِ والأولى من قراءَتَيْ أبي السَّمَّال فلأنَّ» فَعْلَة «الساكنةَ العين السالمتها إذا كانت اسماً جاز في جَمْعِها بالألف والتاءِ ثلاثةُ أوجهٍ - وهي لغاتٌ مسموعةٌ عن العرب -: السكونُ وهو الأصلُ، والإِتباع، والفتحُ في العَيْنِ تخفيفاً. وأمَّا قراءةُ أَبي السَّمَّال التي نَقَلَها ابنُ عطية فهي جَمْعُ خَطْوة بفتح الخاء، والفرقُ بين الخطوة بالضم والفتح: أنَّ المفتوحَ مصدرٌ، دالةٌ على المَرَّة من خَطَا يَخْطُوا إذا مَشَى، والمضمُوم اسمٌ لِما بين القَدَمَيْن كأنه اسمٌ للمسافةِ، كالغُرْفَة اسمٌ للشيءِ المُغْتَرَف، وقيل: إنهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكرَه أبو البقاء. وأمَّا قراءةُ عليّ ففيها تأويلان، أحدُهما: - وبه قال الأخفش - أنَّ الهمزةَ أصلُ وأنه من الخطأ، و» خُطُؤات «جمع» خِطْأَة «إِنْ سُمِعَ، وإلاَّ فتقديراً، وتفسيرُ مجاهدٍ إياه بالخطايا يؤيِّد هذا، ولكنْ يُحْتَمَل أَنْ يكونَ مجاهِدٌ فَسَّره بالمرادفِ. والثاني: أنه قَلَبَ الهمزةَ عن الواوِ لأنَّها جاورت الضمةَ قبلَها فكأنَّها عليها، لأنَّ حركةَ الحرف بين يديه على الصحيح لا عليه. قوله: {إِنَّهُ لَكُمْ} قال أبو البقاء:» إنما كسر الهمزة لأنه أراد الإِعلامَ

بحالِه، وهو أبلغُ من الفتح، لأنه إذا فَتَح الهمزةَ صار التقديرُ: لا تتَّبِعوه لأنه عدوٌّ لكم، واتِّباعُهُ ممنوعٌ وإن لم يكن عدواً لنا، ومثلُه: 810 - لبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ لك ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كَسْرُ الهمزةِ أجودُ لدلالةِ الكسرِ على استحقاقه الحمدَ في كلِّ حالٍ وكذلك التلبيةُ «انتهى. يعني أن الكسرَ استئنافٌ فهو بعضُ إخبارٍ بذلك، وهذا الذي قاله في وجهِ الكسرِ لا يتعيَّنُ، لأنه يجوزُ أن يُرادَ التعليل مع كسرِ الهمزةِ فإنهم نَصُّوا على أنَّ» إنَّ «المسكروةَ تفيدُ العلةَ أيضاً، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها فينبغي أن يقالَ: قراءةُ الكسرِ أَوْلَى لأنها محتملةٌ للإِخبارِ المَحْضِ بحالِهِ وللعلِّيَّة، وأمّا المفتوحةُ فهي نصٌّ في العلِّيَّة، لأنَّ الكلامَ على تقديرِ لامِ العلةِ.

169

قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ} : عطفٌ على قولِه «بالسوءِ» تقديرُه: «وبأنْ تقولوا» فيحتملُ موضعُها الجرَ والنصبَ بحسب قولي الخليلِ وسيبويه. و «الفحشاءُ» مصدرٌ من الفُحْش، كالبأساء من البأْسِ. والفُحْشُ قُبْحُ المنظر، قال امرؤ القيس: 811 - وجِيدٍ كجيدٍ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ ... إذا هي نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ وتُوُسِّع فيه حتى صارَ يُعَبَّرُ به عن كلِّ مستقبَحٍ معنىً كان أو عيناً.

170

قولُه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} : الضميرُ في «لهم» فيه أربعةُ أقوال، أحدُها: أنه يعود على «مَنْ» في قولِهِ: {مَن يَتَّخِذُ} [البقرة: 165] وهذا بعيدٌ. الثاني: أنه يعودُ على العرب الكفَّار لأنَّ هذا حالُهم. الثالث: أنه يعودُ على اليهودِ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافِهِم. الرابعُ: أنه يعودُ على الناسِ في قولِهِ: {يَا أَيُّهَا الناس} [البقرة: 168] ، قاله الطبري، وهو ظاهرٌ، إلاَّ أَنَّ ذلك يكونُ من بابِ الالتفات من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، وحكمتُه أنهم أُبْرِزوا في صورةِ الغائبِ الذي يُتَعَجَّبُ مِنْ فِعْلِهِ، حيث دُعِيَ إلى شريعةِ اللَّهِ والنورِ والهدى فأجابَ باتِّباع شريعةِ أبيه. قوله: {بَلْ نَتَّبِعُ} بل هنا عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ قبلها تقديرُه: لا نتَّبعُ ما أنزل اللَّهُ بل نَتَّبعُ كذا، ولا يجوزُ أنْ تكونَ معطوفةً على قولِهِ: «اتَّبِعُوا» لفسادِهِ. وقال أبو البقاء: «بل» هنا للإِضرابِ عن الأول، أي: لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وليس بخروجٍ من قصةٍ إلى قصةٍ يعني بذلك أنه إضرابُ إبطالٍ لا إضرابُ انتقالٍ، وعلى هذا فيقالُ: كلُّ إضرابٍ في القرآنِ فالمرادُ به الانتقالُ من قصةٍ إلى قصةٍ إلاَّ في هذه الآية، وإلاَّ في قولهِ: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق} [السجدة: 3] فإنه محتمل للأمرين فإن اعتبرْتَ قوله: «أم يقولون افتراه» كان إضرابَ انتقالٍ، وإن اعتبرْتَ «افتراه» وحدَه كان إضرابَ إبطالٍ.

قوله: {أَلْفَيْنَا} في «ألفى» هنا قولان، أحدُهما: أنها متعدِّيةٌ إلى مفعولٍ واحدٍ، لأنها بمعنى «وَجَدَ» التي بمعنى أصابَ، فعلى هذا يكونُ «عليه» متعلِّقاً بقولِهِ «أَلْفينَا» . والثاني: أنها متعدِّية إلى اثنين، أولُهما «آباءَنا» والثاني: «عليه» ؛ فَقُدِّمَ على الأولِ. وقال أبو البقاء: «هي محتملةٌ للأمرين، أعني كونَها متعديةً لواحدٍ أو لاثنين» قال أبو البقاء: «ولامُ أَلْفَيْنَا واوٌ لأنَّ الأصلَ فيما جُهِلَ من اللاماتِ أنْ يكونَ واواً» يعني فإنَّه أوسعُ وأكثرُ فالردُّ إليه أَوْلَى. قوله: {أَوَلَوْ} الهمزةُ للإِنكار، وأمَّا الواو ففيها قولان، أحدُهما: - وإليه ذهب الزمخشري - أنها واوُ الحالِ، والثاني - وإليه ذهب أبو البقاء وابن عطية - أنها للعطفِ. وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهمزةِ الواقعةِ قبل الواوِ والفاءِ وثُمَّ: هل بعدَها جملةٌ مقدرةٌ؟ وهو رأيُ الزمخشري، ولذلك قَدَّرَه هنا: أيتَّبِعُونَهم ولو كانَ آباؤُهُم لا يَعْقِلُون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب، أو النيةُ بها التأخيرُ عن حرفِ العطف؟ وقد جَمَعَ الشيخ بين قولِ الزمخشري وقولِ ابن عطية فقال: «والجمعُ بينهما أنَّ هذه الجملةَ المصحوبةَ ب» لو «في مثلِ هذا السياقِ جملةٌ شريطةٌ، فإذا قال:» اضربْ زيداً ولو أَحْسَنَ إليك «فالمعنى: وإنْ أَحسَنَ إليكَ، وكذلك:» أَعْطوا السائلَ ولو جاءَ على فرسٍ «» رُدُّوا السائلَ ولو بشقَّ تمرةٍ «المعنى فيهما:» وإنْ «، وتجيء»

لو «هنا تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسبُ ما قبلها، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعلُ، ولتدلُّ على أن المرادَ بذلك وجودُ الفعلِ في كل حالٍ، حتى في هذه الحالِ التي لا تناسبُ الفعلَ، ولذلك لا يجوزُ:» اضربْ زيداً ولو أساء إليكَ «ولا:» أَعْطُوا السائل ولو كان محتاجاً «، فإذا تقرَّر هذا فالواوُ في» ولو «في الأمثلةِ التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدرةٍ، والمعطوف على الحالِ حالٌ، فَصَحَّ أن يقالَ إنها للحالِ من حيثُ عطفُها جملةً حاليةً على حالٍ مقدرةٍ، وصَحَّ أن يقالَ إنها للعطف من حيث ذلك العطفُ، والمعنى - والله أعلمُ - أنها إنكارُ اتِّباعِ آبائِهِم في كلِّ حالٍ حتى في الحالة التي تناسِبُ أنْ يَتَّبِعُوهُمْ فيها وهي تَلَبُّسهم بعدمِ العَقْلِ والهدايةِ، ولذلك لا يجوزُ حذف هذه الواوِ الداخلةِ على» لو «إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها، وإنْ كانتِ الجملةُ الحاليةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحالِ، لأنَّ مجيئَها عاريةً من هذه الواو مؤذنٌ بتقييدِ الجملةِ السابقةِ بهذه الحال. فهو يُنافي استغراقَ الأحوالِ، حتى هذه الحالُ، فهما معنيانِ مختلفانِ، ولذلك ظهر الفرقُ بين: «أَكْرِمْ زَيْداً لو جَفَاك» وبين «أكْرمْ زيداً ولو جَفَاك» انتهى. وهو كلامٌ حَسَنٌ/ وجوابُ «لو» محذوفٌ تقديرُه: لاتَّبعوهم، وقدَّره أبو البقاء: «أفكانوا يَتَّبِعونهم» وهو تفسيرُ معنىً، لأن «لو» لا تُجاب بهمزةِ الاستفهام. قوله: {شَيْئاً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به، فَيَعُمُّ جميعَ المعقولاتِ لأنها نكرةٌ في سياقِ النفي، ولا يجوزُ أن يكونَ المرادُ نَفيَ الوحدةِ فيكونَ المعنى: لا يعقلون شيئاً بل أشياءَ. والثاني: أن ينتصبَ على المصدريةِ، أي: لا يَعْقِلُون شيئاً من العقلِ. وقَدَّمَ نفيَ العقلِ على نفيِ الهدايةِ؛ لأنه تصدرُ عنه جميعُ التصرفاتِ.

171

قوله تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ} : اختلفَ الناسُ في هذه الآيةِ اختلافاً كثيراً واضطربوا اضطراباً شديداً، وأنا بعونِ اللَّهِ قد لَخَّصْتُ أقوالَهم مهذبةً، ولا سبيلَ إلى معرفةِ الإِعرابِ إلاَّ بعد معرفةِ المعنى المذكورِ في هذه الآيةِ. وقد اختلفُوا في ذلك: فمنهم مَنْ قال: معناها أنَّ المَثَلَ مضروبٌ بتشبيهِ الكافِرِ بالناعِقِ. ومنهم مَنْ قالَ: هو مضروبٌ بتشبيهِ الكافر بالمنعوق به. ومنهم مَنْ قال: هو مضروبٌ بتشبيهِ الداعي والكافرِ بالناعقِ والمنعوقِ به. فهذه أربعةُ أقوالٍ. فعلى القولِ الأولِ: يكون التقديرُ: «وَمَثَلُ الذين كفروا في قلةِ فَهْمِهِمْ كمثلِ الرعاةِ يُكَلِّمون البُهْمَ، والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً» . وقيلَ: يكون التقديرُ: ومثلُ الذين كفروا في دعائِهم آلهتَهم التي لا تفقَه دُعَاءَهم كمَثَلِ الناعِقِ بغنمِهِ لا ينتفعُ من نعيقِهِ بشيءٍ، غيرَ أنَّه في عَناءٍ، وكذلك الكافرُ ليس له من دعائِهِ الآلهةَ إلا العَناءُ. قال الزمخشري - وقد ذكر هذا القولَ - «إلاَّ أَنَّ قولَه {إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} لا يساعدُ عليه لأنَّ الأصنامَ لا تَسْمَعُ شيئاً» . قال الشيخ: «ولَحَظَ الزمخشري في هذا القولِ تمامَ التشبيهِ من كلِّ جهةٍ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاءً ونداءً فكذلك مدعُوُّ الكافرِ من الصنمِ، والصنَمُ لا يسمع، فَضَعُفَ عنده هذا القولُ» قال: «ونحن نقول: التشبيهُ وَقَعَ في مُطْلَقِ الدعاءِ

لا في خصوصياتِ المدعوِّ، فتشبيه الكافرُ في دعائه الصنمَ بالناعِقِ بالبهيمةِ لا في خصوصياتِ المنعوقِ به» . وقيل في هذا القولِ: - أعني قولَ مَنْ قال التقديرُ: وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهِم آلهتَهم - إن الناعق هنا ليس المرادُ به الناعقَ بالبهائِمِ، وإنما المرادُ به الصائحُ في جوفِ الجبلِ فيجيبُه الصَّدى، فالمعنى: بما لا يَسْمَعُ منه الناعقُ إلا دعاءَ نفسِهِ ونداءها، فعلى هذا القولِ يكونُ فاعلٌ «يسمع» ضميراً عائداً على الذين يَنْعِقُ، ويكونُ العائدُ على «ما» الرابطُ للصلةِ بالموصولِ محذوفاً لفهمِ المعنى، تقديرُه: بما لا يَسْمَعُ منه، وليس فيه شرطُ جوازِ الحذفِ فإنَّه جُرَّ بحرفٍ غيرِ ما جُرَّ به الموصولُ، وأيضاً فقد اختَلَفَ متعلَّقاهما، إلا أنه قد وَرَدَ ذلك في كلامهم. وأمّا على القولين الأوَّلَيْن فيكون فاعلُ «يَسْمَعُ» ضميراً يعود على «ما» الموصولةِ، وهو المنعوقُ به. وقيل: المرادُ بالذين كفروا المتبوعون لا التابعون، والمعنى: مَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم أتباعَهم، وكونِ أتباعِهم لا يحصُلُ لهم منهم إلا الخَيْبَةُ؛ كَمَثَلِ الناعِقِ بالغنم. فعلى هذه الأقوالِ كلِّها يكونُ «مثل» مبتدأً و «كمثلِ» خبرَه، وليس في الكلام حذفٌ إلا جهةُ التشبيهِ. وعلى القولِ الثاني من الأقوالِ الأربعةِ المتقدمةِ فقيل: معناه: وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم إلى الله تعالى وَعَدَمِ سماعِهِم إياه كَمَثَلِ بهائِمِ الذي يَنْعِقُ، فهو على حذفِ قيدٍ في الأولِ وحَذْفِ مضافٍ في الثاني. وقيل التقديرُ: وَمَثَلُ الذين كفروا في عَدَم فَهْمِهِم عن اللِّهِ ورسولِهِ كَمَثَلِ المنعوقِ به من البهائِمِ التي لا تَفْقَهُ من الأمرِ والنهي غيرَ الصوتِ، فيُرادُ بالذي يَنْعقُ الذي يُنْعَقُ به ويكونُ هذا من القلبُ، وقال قائلُ هذا: كما تقولون: «دَخَلَ

الخاتَمُ في يدي والخِفُّ في رِجْلِي» . وإلى هذا التفسير ذهب الفراءُ وأبو عبيدة وجماعةٌ، إلا أن القلبَ لا يقعُ على الصحيح إلا في ضرورةٍ أو ندورٍ. وأمَّا على القولِ الثالثِ فتقديرُهُ: وَمَثَلُ داعي الذين كفروا كمثلِ الناعِقِ بغنمِهِ، في كونِ الكافرِ لا يَفْهَمُ مِمَّا يخاطِبُ به داعيه إلا دَوِيَّ الصوتِ دونَ إلقاء فكرٍ وذهنٍ، كما أنَّ البهيمَةَ كذلك، فالكلامُ على حَذْفِ مضافٍ من الأول. قال الزمشخري: «ويجوز أن يُرادَ ب» ما لا يَسْمَعُ «الأصَمُّ الأصلج الذي لا يَسْمَعُ من كلامِ الرافعِ صوتَه بكلامِهِ إلا النداءَ والصوتَ لا غيرُ من غير فَهْمٍ للحروفِ» وهذا منه جنوحٌ إلى جوازِ إطلاقِ «ما» على العقلاءِ، أو لَمَّا تَنَزَّل هذا منزلةَ مَنْ لا يَسْمَعُ مِنَ البهائِم أوقَعَ عليه «ما» . وأمَّا على القولِ الرابعِ - وهو اختيار سيبويهِ في هذه الآية - وتقديرُه عندَه: «مَثَلُكَ يا مُحَمَّدُ ومثلُ الذين كفروا كمثلِ الناعقِ والمنعوقِ به» واختلفَ الناسُ في فَهْمِ كلامِ سيبويه، فقائلٌ: هو تفسير معنىً، وقيل: تفسيرُ إعرابٍ، فيكونُ في الكلامِ حَذْفَان: حَذْفٌ من الأولِ وهو حَذْفُ «داعيهم» وقد أثبتَ نظيره في الثاني، وحَذْفٌ من الثاني وهو حَذْفُ المنعوقِ، وقد أثبت نظيرَه في الأول، فشبَّه داعيَ الكفارِ براعي الغنم في مخاطبتِهِ مَنْ لا يَفْهَمُ عنه، وَشَبَّه الكفارَ بالغنَمِ في كونِهِم لا يسمعونَ مِمَّا دُعُوا إليه إلاَّ أصواتاً لا يَعْرفون ما وراءها. وفي هذا الوجْهِ حَذْفٌ كثيرٌ، إذ فيه حَذْفُ معطوفَيْنِ إذ التقديرُ

الصناعي: وَمَثَلُ الذين كفروا وداعيهم كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بالمنعوقِ به. وقد ذَهَبَ إليه جماعةٌ منهم أبو بكر ابنُ طاهر، وابن خروف والشلوبين، قالوا: العربُ تستحسنُ هذا، وهو من بديعِ كلامِها، ومثلُه قولُه: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} [النمل: 12] تقديرُهُ: وأَدْخِلْ يَدَكَ في جيبكَ تَدْخُلْ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ، فَحذَف «تَدْخُلْ» لدلالة «تَخْرُجْ» وَحَذَفَ «وَأَخْرِجْهَا» لدلالةِ: «وَأَدْخِلْ» ، قالوا: ومثلُهُ قولُه: 812 - وإني لَتَعْروني لذاكراكِ فَتْرَةٌ ... كما انتَفَضَ العُصْفُورَ بَلَّلَهُ القَطْرُ لم يُرِدْ أن يُشَبِّه فترَتَه بانتفاضِ العصفورِ حين بَلَّلهُ القَطْرُ لأنَّهما ضِدَّان، إذ هما حركةٌ وسكونٌ، ولكنَّ تقديرَه: إني إذا ذكرتُكِ عَراني انتفاضٌ ثم أفترُ، كما أنَّ العصفورَ إذا بلَّله القطرُ عراهُ فترةٌ ثم يَنْتَفِضُ، غيرَ أَنَّ وجيبَ قلبِهِ واضطرابَه قبل الفترة، وفترةَ العصفورِ قبل انتفاضه. وهذه الأقوالُ كلُّها إنما هي على القولِ بتشبيهِ مفردٍ بمفردٍ ومقابلةِ جزءٍ من الكلام السابقِ بجزءٍ من الكلامِ المشبَّهِ به، أمَّا إذا كانَ التشبيهُ من بابِ تشبيهِ جملةٍ بجملةٍ فلا يُنْظَرُ في ذلك إلى مقابلةِ الألفاظِ المفردةِ، بل يُنْظَرُ إلى المعنى، وإلى هذا نَحَا أبو القاسم الراغبُ. قال الراغب: «فلما شَبَّه قصةَ

الكافرين في إعراضِهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ بقصةِ الناعقِ قدَّم ذكرَ الناعقِ لينبني عليه ما يكونُ منه ومن المنعوقِ به» . والكاف ليست بزائدةً خلافاً لبعضهم؛ لأنَّ الصفةَ ليست عينَ الصفةِ الأخرى فلا بُدَّ من الكافِ، حتى إنه لو جاءَ الكلامُ دونَ الكافِ اعتقادنا وجودَها تقديراً تصحيحاً للمعنى. وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أنَّ «مثلُ الذين» مبتدأٌ، و «كمثل الذي» خبرُه: إمَّا مِنْ غيرِ اعتقادِ حذفٍ، أو على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ، أي: مَثَلُ داعي الذينَ، أو من الثاني: أي: كمثلِ بهائِمِ الذي، أو على حَذْفَيْنِ: حَذَفَ من الأول ما أثبتَ نظيرَه في الثاني، ومِن الثاني ما أثبتَ نظيرَه في الأولِ كما تقدَّم تحريرُ ذلك كله. وهذا نهايةٌ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ. والنَّعِيقُ: دعاءُ الراعي وتصويتُهُ بالغنم، قال: 813 - فانْعَقْ بضَأْنِك يا جريرُ فإنَّما ... مَنَّتْكَ نفسُك في الخَلاءِ ضَلالا يقال: نَعَقَ بفتح العين ينعقِ بكسرها، والمصدرُ: النَّعيقُ والنُّعاقُ والنَّعْقُ، وأمّا «نَعَقَ الغرابُ» فبالمعجمة، وقيل: بالمهملةِ أيضاً في الغرابِ وهو غريبٌ/. قوله: {إِلاَّ دُعَآءً} هذا استثناءٌ مفرَّغٌ لأنَّ قبلَهُ «يَسْمَعُ» ولم يأخُذْ مفعولَه. وزعم بعضُهم أنَّ «إلاَّ» زائدةٌ، فليسَ من الاستثناء في شيء. وهذا قولٌ مردودٌ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادةِ «إلاَّ» في قولِهِ:

814 - حَراجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلا مُنَاخَةً ... على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بلدا قَفْرَا فقد ردَّ الناسُ عليه، ولم يقبلوا قوله. وفي البيت كلامٌ تقدَّم. وأوردَ بعضهم هنا سؤالاً معنوياً: وهو قولهُ: {لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} ليس المسموعُ إلا الدعاءَ والنداءَ فكيف ذَمَّهم بأنهم لا يَسْمَعُون إلا الدعاء، وكأنَّه قيل: لا يَسْمَعُون إلا المسموعَ، وهذا لا يَجُوز؟ فالجوابُ أنَّ في الكلام إيجازاً، وإنما المعنى: لا تَفْهَمُ معانيَ ما يقال لهم، كما لا تُمَيِّز البهائِمُ بين معاني الألفاظِ التي يُصَوَّتُ بها، وإنما تَفْهَمُ شيئاً يسيراً قد أَدْرَكَتْه بطولِ الممارسةِ وكثرةِ المعاودةِ، فكأنه قيل: ليسَ لهم إلا سماعُ النداء دون إدراكِ المعاني والأغراضِ. وهذا السؤالُ من أصلِهِ ليس بشيءٍ، ولولا أنَّ الشيخَ ذكره لم أذكرْهُ. وهنا سؤالٌ آخرُ: وهو هل هذا من بابِ التكرارِ لمَّا ختلفَ اللفظُ، فإنَّ الدعاءَ والنداءَ واحدةٌ؟ والجوابُ أنه ليس كذلك، فإنَّ الدعاءَ طلبُ الفعلِ والنداءَ إجابةُ الصوتِ. ذكر ذلك عليُّ بن عيسى.

172

قولُه تعالى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ} : مفعولُ «كُلوا» محذوفٌ، أي: كُلوا رزقَكم. وفي «مِنْ» حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقَ ب «كلوا» . والثاني: أَنْ تكونَ تبعيضيَّة فتتعلَّق بمحذوفٍ إذ هي حالٌ من ذلك المفعولِ المقدَّرِ، أي: كُلوا رزقَكم حالَ كونِهِ بعضَ طيباتِ ما رزقناكم. ويجوزُ في رأيِ الأخفش أن تكونَ «مِنْ» زائدةً في

المفعولِ به، أي: كلوا طيباتِ ما رزقناكم. و «إنْ كُنْتُمْ» شرطٌ وجوابُهُ محذوفٌ، أي: فاشكروا له. وقولُ مَنْ قال مِنَ الكوفيين إنَّها بمعنى «إذ» ضعيفٌ. و «إياه» مفعولٌ مقدَّمٌ ليُفيدَ الاختصاصَ، أو لكونِ عامِلِه رأسَ آيةٍ، وانفصالُهُ واجبٌ، ولأنه متى تأخَّر وَجَبَ اتِّصالُه إلا في ضرورةٍ كقولِهِ: 815 - إليك حتى بَلَغَتْ إيَّا كا ... وفي قولِهِ: {واشكروا للَّهِ} التفاتٌ من ضميرِ المتكلّم إلى الغَيْبَةِ، إذ لو جَرَى على الأسلوبِ الأولِ لقال: «واشكرونا» .

173

قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} : الجمهُور قرؤوا «حَرَّم» مشدَّد مبنياً للفاعِلِ، «الميتة» نصباً، على أنَّ «ما» كافةٌ مهيِّئَةٌ لإِنَّ في الدخولِ على هذه الجملَةِ الفعليةِ، وفاعلُ «حَرَّم» ضَمِيرُ اللَّهِ تعالى. و «الميتةَ» مفعولٌ به. وابنُ أبي عبلة برفع الميتة وما بعدَها. وتخريجُ هذه القراءةِ سهلٌ، وهو أن تكونَ «ما» موصولةً، و «حَرَّمَ» صلتها، والفاعلُ ضميرُ اللَّهِ تعالى، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، تقديرُهُ: حَرَّمه، والموصولُ وصلتُه في محلِّ نصبٍ اسمُ «إنَّ» و «الميتةُ» خبرُها. وقرأ أبو جعفر: «حُرَّم» مبنياً للمفعولِ، فتحتملُ «ما» في هذه القراءةِ وجهين، أحدُهما: أن تكونَ «ما» مهيِّئَةً، و «الميتةُ» مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه والثاني: أن تكون موصولةً، فمفعولُ «حَرَّمَ» القائم مقامَ الفاعلِ ضميرٌ مستكنٌ يعود على «ما» الموصولةِ، و «الميتةُ» خبرُ «إنَّ» .

وقرأ أبو عبدِ الرحمن السُّلَّمي: «حَرُمَ» بضمِّ الراء مخففةً، و «الميتةُ» رفعاً «و» ما «تحتملُ الوجهين أيضاً، فتكونُ مهيئةً، و» الميتةُ «فاعلٌ بحَرُم، أو موصولةً، والفاعلُ ضميرٌ يعودُ على» ما «، وهي اسمُ» إنَّ «، و» الميتةُ «خبرُها. والجمهورُ على تخفيفِ» المَيْتَة «في جميع القرآنِ، وأبو جَعْفَرٍ بالتشديدِ وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ» المَيْت «مخفَّفٌ من» الميِّت «وأن أصلَه: مَيْوِت، وهما لغتان، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قولِهِ {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [الآية: 27] في آلِ عمران. ويُحْكَى عن قدماءِ النحاة أن» المَيْت «بالتخفيف مَنْ فارقَتْ روحُهُ جسدَه، وبالتشديد مَنْ عايَنَ أسبابَ الموتِ ولم يَمُتْ. وحكى ابنُ عطية عن أبي حاتم أنَّ ما قد ماتَ يُقالان فيه، وما لم يَمُتْ بعدُ لا يقال فيه بالتخفيفِ، ثم قال:» ولم يَقْرَأ أحدٌ بتخفيفِ ما لم يَمُتْ إلا ما رَوَى البزي عن ابنِ كثير: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] . وأمَّا قولُه: 816 - إذا ما ماتَ مَيْتٌ من تميمٍ ... فَسَرَّكَ أن يعيشَ فَجِىءْ بِزادِ [فقد حُمِل على مَنْ شارَفَ الموتَ، وحَمْلُه على الميتِ حقيقةً أبلغُ في الهجاء] .

وأصل «مَيِّتة» : مَيْوِتَة، فَأُعِلَّتْ بقَلْبِ الواوِ ياءً وإدغامِ الياءِ فيها، وقال الكوفيون: أصلُه: مَوِيت، ووزنُه فَعيل. واللحمُ معروفٌ، وجمعه لُحوم ولُحْمان، يُقال: لَحُمَ الرجلُ بالضم لحامةً فهو لَحِيم، أي: غَلُظَ، ولَحِمَ بالكسر يَلْحَم بالفتح فهو لَحِم: اشتاق إلى اللَّحْم وألحمَ الناسُ فهو لاحِمٌ، أي: أَطعَمَهم اللحمَ، وأَلْحَمَ كثُر عنده اللحمُ. والخنزير حيوانٌ معروفٌ، وفي نونِه قولانِ؛ أصحُّهما أنَّها أصليةٌ ووزنُه فِعْليل كغِرْبيب. والثاني: أنها زائدةٌ اشتقُّوه من خَزَر العَيْنِ أي: ضيقها لأنه كذلك يَنْظُر. وقيل: الخَزَرُ النظرُ بمؤخَّرِ العَيْنِ، يقال: هو أَخْزَرُ بيِّنُ الخَزَرِ. قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ} «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، ومَحَلُّهما: إمَّا النصبُ وإمَّا لرفعُ عطفاً على «الميِّتة» ، والرفعُ: إمَّا على خبر إنَّ، وإمَّا على الفاعلية على حَسَبِ ما تقدَّم من القراءاتِ. و «أُهِلَّ» مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ في «به» ، والضميرُ يعودُ على «ما» ، والباءُ بمعنى «في» . ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: في ذَبْحِه، لأنَّ المعنى وما صَحَّ في ذَبْحِه لغَيْرِ اللهِ. والإِهلالُ: مصدرُ أَهَلَّ أي: صَرَخَ ورفَع صوتَه ومنه: الهِلال لأنه يُصرَخُ عند رؤيتِه، واستهَلَّ الصبيُّ. قال ابن أحمر: 817 - يُهِلُّ بالغَرْقَدِ رُكْبَانُها ... كما يُهِلُّ الراكبُ المُعْتَمِرُ

قال النابغة: 818 - أو دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُها ... بَهِجٌ متى يَرَها يَهِلُّ ويَسْجُدُ وقال: 819 - تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقتلى هُذَيْلٍ ... وترى الذئبَ لها يَسْتَهِلُّ قوله: {فَمَنِ اضطر} في «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً. والثاني: أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي، فعلى الأولِ يكونُ «اضطُرَّ» في محلِّ جَزْم بها. وقوله: {فلا إِثْمَ} جوابُ الشرطِ، والفاءُ فيه لازمةٌ. وعلى الثاني لا محلَّ لقولِه: «اضطُّرَّ» من الإِعرابِ لوقوعهِ صلةً، ودخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً للموصولِ بالشرطِ. ومحلُّ {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} الجزمُ على الأولِ والرفعُ على الثاني. والجمهورُ على «اضْطُرَّ» بضمِّ الطاءِ وهي أصلُها، وقرأ أبو جعفر بكسرها لأنَّ الأصل: «اضْطُرِرَ» بكسرِ الراءِ الأولى، فلمّا أُدْغِمَتِ الراءُ في الراءِ نُقِلَت حركتُها إلى الطاءِ بعد سَلْبِها حَرَكَتَها. وقرأ ابن محيصن: «اطُّرَّ» بإدغام الضادِ في الطاء. وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألةِ بأشبعَ مِنْ هذا عند قولِه: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} [البقرة: 126] . وقرأ أبو عمرو وعاصمٌ وحمزةٌ بكسرِ نون «مَنْ» على أصلِ التقاءِ

الساكنين، وضَمَّها الباقون إتباعاً لضمِّ الثالث. وليس هذا الخلافُ مقصوراً على هذه الكلمةِ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين، وضُمَّ الثالثُ ضَمَّاً لازماً نحو: {وَلَقَدِ استهزىء} [الأنعام: 10] {قُلِ ادعوا} [الإسراء: 110] قالتِ اخْرُجْ جرى الخلافُ المذكورُ. إلاَّ أنَّ أبا عمروٍ خرجَ عن أصلِه في {أو} [المزمل: 3] و {قل} [110: الإسراء] فضمَّهما، وابنَ ذكوان خرجَ عن أصلِه فكسر التنوين خاصة نحو: {مَحْظُوراً انظر} [20-21: الإسراء] ، واختُلف عنه في: {بِرَحْمَةٍ ادخلوا} [الأعراف: 49] ، واختُلف عنه في: {خَبِيثَةٍ اجتثت} [إبراهيم: 26] ، وسيأتي بيان الحكمةِ في ذلك عند ذكره إنْ شاء الله تعالى. قوله: {غَيْرَ بَاغٍ} نصبٌ على الحالِ، واختُلِفَ في صاحبها، فالظاهر أنه هو الضميرُ المستتر في «اضطُرَّ» ، وجَعَلَه القاضي وأبو بكر الرازي من فاعل فعلٍ محذوفٍ بعد قولِه: «اضطُرَّ» ، قالا: تقديرُه: فمَنْ اضطُرَّ فأكلَ غيرَ باغ، كأنهما قصدا بذلك أن يَجْعلاه قيداً في الأكلِ لا في الاضطرارِ. قال الشيخ «ولا يتعيَّن ما قالاه، إذا يُحْتَملُ أَنْ يكونَ هذا المقدَّرُ بعد قولِه: {غَيْرَ

بِاغٍ وَلاَ عَادٍ} بل هو الظاهرُ والأَولى، لأنَّ في تقديره قبل» غيرَ باغ «فصلاً بين ما ظاهرُه الاتصالُ بما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله:» غيرَ باغ «. و» عادٍ «اسمُ فاعلٍ من عدا يَعْدُو إذا تجاوزَ حَدَّه، والأصلُ: عادِوٌ، فَقُلبت الواوُ ياءٌ لانكسارِ ما قبلها كغازٍ من الغَزْو. وهذا هو الصحيحُ، وفيه قولٌ ثانٍ: أنه مقلوبٌ من عادَ يعودُ فهو عائدٌ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فصارِ اللفظُ: عادِو، فأُعِلَّ بما تقدَّم، ووزنُه: فالِع، كقولهم: شاكٍ في شائِك من الشوكة، وهارٍ والأصل هائر، لأنه من هار يَهُور، قال أبو البقاء:» ولو جاء في غيرِ القرآن منصوباً عطفاً على موضعِ «غير» جاز «يعني فكان يقال: ولا عادياً. وقد اختلف القُرَّاء في حركةِ التقاء الساكنين مِنْ نحو: {فَمَنِ اضْطُرَّ} ، وبابِِِِه فأبو عمرو وحمزة وعاصم على كسرِ الأولِ منهما، والباقون على الضم إلا ما يُسْتثنى لبعضهم. وضابطُ محلِّ اختلافهم: كلُّ ساكنين التقيا من كلمتين ثالثُ ثانيهما مضمومٌ ضمةً لازمةً، نحو:» فَمَنِ اضطُرَّ « {فَمَنِ اضطُرَّ} {أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً} [المزمل: 3] {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ} [يوسف: 31] {قُلِ ادعوا الله} [الإسراء: 110] {أَنِ اعبدوا} [المائدة: 117] {وَلَقَدِ

استهزىء} [الأنعام: 10] » محظوراً انظر «: وفُهِم من قولي» كلمتين «الاحترازُ من أن يُفْصَلَ بينهما بكلمةٍ أخرى نحو: {إِنِ الحكم} [الأنعام: 57] فإنَّ هذا وإنْ صَدَقَ عليه أنَّ الثالثَ مضمومٌ ضماً لازماً؛ إلا أنه قد فُصِلَ بينهما بكلمةٍ أخرى وهي أل المعرفة. ومِنْ قولي:» ضمةً لازمةً «الاحترازُ من نحو: {أَنِ امشوا} [ص: 26] فإنَّ الشين أصلُها الكسرُ، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين، ومَنْ ضَمَّ فللإِتباع. واسْتُثْنِي لأبي عمروٍ موضعان فضمَّهما: وهما:» قُل ادْعُوا «» أو انْقُصْ منه «، واسْتُثْنِي لابن ذكوان عن ابن عامر التنوينُ فكسره نحو:» محظوراً نظر «، واختلف عنه في لفظتين: {خَبِيثَةٍ اجتثت} [إبراهيم: 26] {بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة} [الأعراف: 49] / والمقصودُ بذلك الجمعُ بين اللغتين.

174

قوله تعالى: {مِنَ الكتاب} : في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه العائدُ على الموصولِ، تقديرُه: أنزله اللهُ حالَ كونِه من الكتابِ، فالعاملُ فيه «أَنْزَلَ» ، والثاني: أنه الموصولُ نفسه، فالعاملُ في الحالِ «يكتمون» . قوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} الضميرُ في «به» يُحْتَمَلُ أن يعودَ على «ما» الموصولةِ، وأَنْ يعودَ على الكَتْمِ المفهومِ من قولِه: «يكتمون» وأَنْ يعودَ على الكتابِ، أظهرها أوَّلُها، ويكونُ ذلك على حَذْفِ مضافٍ، أي: يشترون بكَتْمِ ما أَنْزل.

قوله: {إِلاَّ النار} استثناءٌ مفرغٌ؛ لأن قبلَه عاملاً يَطلُبه، وهذا من مجاز الكلام، جَعَل ما هو سببٌ للنار كقولِهم: «أكل فلانٌ الدمَ» يريدون الدِّية التي بسببها الدمُ، قال: 820 - فلو أَنَّ حَيَّاً يقبلُ المالَ فِدْيةً ... لَسُقْنا إليه المالَ كالسيلِ مُفْعَما ولكنْ أبى قومٌ أُصيب أخوهمُ ... رِضا العارِ واختاروا على اللبنِ الدِّما وقال: 821 - أَكَلْتُ دماً إنْ لم أَرْعُكِ بِضَرَّةٍ ... بعيدةِ مَهْوى القِرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ وقال: 822 - يَأْكُلْن كَلَّ ليلةٍ إكافا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يريد: ثمن إكاف. وقوله: {فِي بُطُونِهِمْ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أَنْ يتعلَّقَ بقولِه: «يأكلون» فهو ظرفٌ له. قال أبو البقاء: «وفيه حَذْفُ مضافٍ أي طريق بطونهم، ولا حاجةَ إلى ما قاله من التقدير. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على

أنه حالٌ من النارِ. قال أبو البقاء:» والأجْوَدُ أن تكونَ الحالُ هنا مقدرةً لأنها وقتَ الأكلِ ليسَتْ في بطونِهم، وإنما تَؤُولُ إلى ذلك، والتقدير، ثابتةً أو كائنةً في بطونهم قال: «وَيَلْزَمُ من هذا تقديمُ الحالِ على حرف الاستثناءِ وهو ضعيفٌ، إلا أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً، و» في بطونِهم «حالاً من أو صفةً له، أي: في بطونهم شيئاً يعني فيكونُ» إلا النار «منصوباً على الاستثناءِ التام، لأنه مستثنى من ذلك المحذوفِ. إلا أنه قال بعد ذلك» وهذا الكلامُ في المعنى على المجازِ، وللإِعرابِ حكمُ اللفظ. والثالثُ: أن يكونَ صفةً أو حالاً من مفعول «كُلوا» محذوفاً كما تقدَّم تقريرُه.

175

قوله تعالى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ} : في «ما» هذه خمسةُ أقوالٍ، أحدها: - وهو قولُ سيبويه والجمهور - أنها نكرةٌ تامةٌ غيرُ موصولةٍ ولا موصوفةٍ، وأنَّ معناها التعجب، فإذا قلت: ما أحسنَ زيداً، فمعناه: شيءٌ صَيَّر زيداً حسناً. والثاني: - وإليه ذهب الفراء - أنَّها استفهاميةٌ صَحِبها معنى التعجب، نحو: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] . والثالث: - ويُعْزَى للأخفش - أنها موصولةٌ. والرابعُ: - ويُعْزَى له أيضاً - أنها نكرةٌ موصوفةٌ. وهي على الأقوالِ الأربعةِ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، وخبرُها على القولين الأوَّلين الجملةُ الفعليةُ بعدها، وعلى قولَيْ الأخفش يكون الخبرُ محذوفاً، فإنَّ الجملةَ بعدها إمَّا صلةٌ أو صفةٌ. وكذلك اختلفوا في «أَفْعل» الواقع بعدَها أهو اسمٌ - وهو قولُ الكوفيين - أم فعلٌ؟ وهو الصحيحُ. ويترتبُ على هذا الخلافِ خلافٌ في

نَصْبِ الاسمِ بعدَه: هل هو مفعولٌ به أو مُشَبَّهٌ بالمفعولِ به. ولهذا المذاهبِ دلائلُ واعتراضاتُ وأجوبةٌ ليس هذا موضوعَها. والمرادُ بالتعجبِ هنا وفي سائرِ القرآنِ الإِعلامُ بحالهم أنها ينبغي أن يُتَعجَّب منها، وإلا فالتعجُّبُ مستحيلٌ في حَقِّه تعالى. ومعنى «على النار» [أي] على عَمَل أهلِ النارِ، وهذا من مجازِ الكلام. الخامس: أنَّها نافيةٌ، أي: فما أصبرَهم اللهُ على النار، نقله أبو البقاء وليس بشيءٍ.

176

قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله} : اختلفوا في محلِّ «ذلك من الإِعراب. فقيل: رفعٌ، وقيل: نصبٌ. والقائلون بأنه رفعٌ اختلفوا على ثلاثةِ أقوال، أحدُهما: أنه فاعلٌ بفعل محذوفٍ، أي: وَجَبَ لهم ذلك. والثاني: أنَّ» ذلك «مبتدأٌ، و» بأنَّ الله «خبرُه، أي: ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أَنْزَل اللهُ في القرآنِ من استحقاقِ عذابِ الكافر. والثالث: أنه خبرُ والمبتدأ محذوفٌ، أي الأمرُ ذلك، والإِشارةُ إلى العذابِ، ومَنْ قاله بأنه نصبٌ قدَّره. فَعَلْنا ذلك، والباءُ متعلقةٌ بذلك المحذوفِ ومعناها السببيةٌ.

177

قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله} : قرأ الجمهور برفع «البر» ، وحمزة وحَفْص عن عاصم بنصبه. فقراءةٌ الجمهور على أنه اسمُ «ليس» ، و «أن تُوَلُّوا» خبرها في تأويلِ مصدرٍ، أي: ليس البرُّ توليتكم. ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ من حيث إنه ولي الفعلُ مرفوعَه قبل منصوبِه. وأمّا قراءةُ حمزةَ وحفص فالبرَّ خبرٌ مقدَّمٌ، و «أن تُوَلُّوا» اسمها في تأويلِ مصدرٍ. ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ بأنّ المصدر المؤولَ أَعْرَفُ من المُحَلّى بالألفِ واللام،

لأنه يُشْبِهُ الضميرَ من حيث إنه لا يُوصَف ولا يُوْصَفُ به، والأعرافُ ينبغي أن يُجْعَلَ الاسمَ، وغيرُ الاعرفِ الخبرَ. وتقديمُ خبرِ ليس على اسمِها قليلٌ حتى زَعَم مَنْعَه جماعةٌ، منهم ابن دَرَسْتَوَيْه قال: لأنها تُشْبه «ما» الحجازية، ولأنها حرفٌ على قولِ جماعةٍ، ولكنه محجوجٌ بهذه القراءة المتواترةٍ وبقول الشاعر: 823 - سَلِي إْن جَهِلْتِ الناسَ عَنَّا وعنهم ... وليس سواءً عالِمٌ وجَهُولُ وقال آخر: 824 - أليسَ عظيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ... وليس علينا في الخُطوبِ مُعَوَّلُ وفي مصحفِ أُبَيّ وعبد الله: «بأن تُوَلُّوا» بزيادةِ الباءِ وهي واضحةٌ، فإنَّ الباءَ تُزاد في خبرِ «ليس» كثيراً. وقوله: {قِبَلَ} منصوبٌ على الظرفِ المكاني بقوله «تُوَلُّوا» ، وحقيقةُ قولك: «زيدٌ قِبَلك» : أي في المكانِ الذي قبلك فيه، وقد يُتَسَّع فيه فيكونُ بمعنى «عند» نحو: «قِبَل زيدٍ دَيْنٌ» أي: عندَه دَيْنٌ. قوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ «البِرَّ» اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ، والأصلُ: بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة «فَطِن» ، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها،

فعلى هذه القراءةِ لا يَحتاج الكلامُ إلى حَذْفٍ وتأويلٍ لأنَّ البِرَّ من صفاتِ الأعيان، كأنه قيل: ولكن الشخصَ البِرِّ مَنْ آمن. الثاني: أنَّ في الكلامِ حذفَ مضافٍ من الأولِ تقديرُه: «ولكنَّ ذا البِرَّ مَنْ آمن» . الثالث: أن يكونَ الحذفُ من الثاني، أي: ولكن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن، وهذا تخريجُ سيبويه واختيارُه، وإنما اختارَه لأنَّ السابق إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَةُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو من جنس ما يُنْفَى، ونظيرُ ذلك: «ليس الكرمُ أن تَبْذُلَ درهماً ولكن الكرمَ بَذْلُ الآلاف» ولا يناسِبُ «ولكن الكريم مَنْ يبذُلُ الآلاف» . الرابع: أن يُطْلَقَ المصدرُ على الشخصِ مبالغةً نحو: «رجلٌ عَدْلٌ» . ويُحكى عن المبردِ: «لو كنتُ مِمَّن يقرأُ لقرأتُ:» ولكنَّ البَرَّ «بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن» البَرَّ «اسم فاعل تقول: بَرَّ يبَرُّ فهو بارٌّ وبَرٌّ، فتارةً تأتي به على فاعِل وتارة على فَعِل. الخامس: أن المصدرَ وقع مَوْقِع اسمِ الفاعلِ نحو: «رجل عَدْل» أي عادل، كما قد يَقَعُ اسمُ الفاعلِ موقعه نحو: «أقائماً وقد قعد الناس» في قولٍ، وهذا رأيُ الكوفيين. والأَوْلَى فيه ادِّعاءُ أنه محذوفٌ من فاعل، وأن أصلَه بارٌّ، فجُعل «بِرَّاً» ك «سِرّ» ، وأصلُه: سارٌّ، وربٌّ أصله رابٌّ. وقد تقدَّم ذلك. وجَعَلَ الفراء «مَنْ آمَنَ» واقعاً موقِعَ «الإِيمان» فأوقَعَ اسمَ الشخصِ على المعنى كعكسه، كأنه قال: «ولكنَّ البِرَّ الإِيمانُ بالله» . قال: «والعربُ تَجْعَلُ الاسمُ خبراً للفعلِ وأنشد: 825 - لَعَمْرُك ما الفتيانُ أن تَنْبُت اللِّحى ... ولكنما الفتيانُ كلُّ فتىً نَدِي

جَعَلَ نباتَ اللحيةِ خبراً للفتيانِ، والمعنى: لَعَمْرُكَ ما الفتوةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحى. وقرأ نافع وابن عامر:» ولكنْ البِرُّ «هنا وفيما بعد بتخفيف لكن، وبرفع» البرُّ «، والباقون بالتشديد ولنصب، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قولِه: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} [البقرة: 102] ، وقرىء:» ولكنَّ البارَّ «بالألف وهي تقوِّي أنَّ» البِرَّ «بالكسرِ المرادُ به اسمُ الفاعلِ لا المصدرُ. وَوَحَّد» الكتابَ «لفظاً والمرادُ به الجمعُ، وحَسَّن ذلك كونُه مصدراً في الأصلِ، أو أرادَ به الجنسَ، أو أراد به القرآنَ، فإنَّ مَنْ آمنَ به فقد آمَنَ بكلِّ الكتبِ فإنَّه شاهدٌ لها بالصحةِ. قوله: {على حُبِّهِ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ، العاملُ في» آتى «، أي: آتى المالَ حالَ محبَّتِه له واختياره إياه. والحبُّ مصدرٌ حَبَبْتُ لغةً في أحببت كما تقدَّم، ويجوزُ أن يكونَ مصدرَ الراعي على حَذْف الزوائد، ويجوز أن يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِحباب كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . والضميرُ المضافُ إليه هذا المصدرُ فيه أربعةُ أقوالٍ. أظهرُها: أنه يعودُ على المالِ لأنه أبلغُ من غيرِه كما ستقف عليه. الثاني: أنه يعودُ على الإِيتاء المفهومِ من قوله:» آتى «أي: على حُبِّ الإِيتاء، وهذا بعيدٌ من حيث

المعنى. أمّا من حيث اللفظُ. فإنَّ عَوْدَ الضميِر على غيرِ مذكورٍ بل مدلولٌ عليه بشيءٍ خلافُ الأصل. وأما من حيث المعنى فإن المدح لا يَحْسُنُ على فعل شيء يحبه الإِنسان لأنَّ هواه يساعده على ذلك وقال زهير: 826 - تَراهُ إذا ما جِئتَه مُتَهَلِّلاً ... كأنَّك تُعْطيه الذي أنت سائلُهُ والثالث: أن يعودَ على الله تعالى، وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون المصدرُ مضافاً للمفعولِ، وعلى هذا فالظاهِرُ أَنَّ فاعلَ هذا المصدرِ هو ضميرُ/ المُؤتي. وقيل: هو ضمير المؤتَوْن. أي: حُبِّهم له واحتياجِهِم إليه، وليس بذاك. و «ذي القربى» على هذه الأقوالِ الثلاثةِ منصوبٌ بآتى فقط، لا بالمصدرِ لأنه قد استوفى مفعولَه. الرابع: أن يعودَ على «مَنْ آمن» ، وهو المُؤْتِي للمال، فيكون المصدرُ على هذا مضافاً للفاعِلِ، وعلى هذا فمفعولُ هذا المصدرِ يُحْتمل أن يكونَ محذوفاً، أي: «حُبِّه المال» ، وأن يكونَ «ذوي القربى» ، إلا أنه لا يكونُ فيه تلك المبالغَةُ التي فيما قبله. قال ابن عطية: «ويجيء قولُه:» على حُبِّه «اعتراضاً بليغاً في أثناء القولِ» . قال الشيخ: «فإن أراد بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس بجيد، فإن ذلك من خصوصياتِ الجملة التي لا مَحَلَّ لها، وهذا مفردٌ وله محلٌّ، وإن أراد به الفصلَ بالحال بين المفعولين، وهما» المال «و» ذوي «فَيَصِحُّ إلا أنه فيه إلباسٌ» . قوله: {ذَوِي} فيه وجهان، أحدُهما - وهو الظاهر - أنه مفعولُ بآتى، وهل هو الأولُ و «المالَ» هو الثاني - كما هو قول الجمهور - وقُدِّم للاهتمام، أو هو الثاني فلا تقديمَ ولا تأخير كما هو قول السهيلي؟ والثاني: أنه منصوبٌ ب «حُبِّه» على أنَّ الضميرَ يعودُ على «مَنْ آمن» كما تقدَّم.

قوله: {واليتامى} ظاهرُهُ أنه منصوبٌ عطفاً على «ذوي» . وقال بعضُهم: «هو عطفٌ على» القُرْبى «، أي: آتى ذوي اليتامى، أي: أولياءَهم، لأن الإِيتاءَ إلى اليتامى لا يَصِحُّ» ولا حاجةَ إلى هذا فإن الإِيتاء يَصْدُق وإن لم يباشر مَنْ يؤتيه بالإِيتاء، يقال: «أتيتُ السلطانُ الخراجَ» وإنما أعطيتُ أعوانَهُ. و «ابن السبيل» اسمُ جنسٍ أو واحدٌ أُريد [به] الجمعُ، وسُمِّي ابنُ السبيلِ - لملازمتِهِ إياها في السفرِ، أو لأنَّه تُبْرِزُهُ فكأنها وَلَدَتْهُ. قوله: {وَفِي الرقاب} متعلِّقٌ بآتى. وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ ضَمَّنَ «آتى» معنى فِعْلٍ يتعدَّى لواحدٍ، كأنه قال: وَضَع المالَ في الرقاب. والثاني: أن يكونَ مفعولُ «آتى» الثاني محذوفاً، أي: آتى المالَ أصحابَ الرقاب في فكِّها أو تخليصِها، فإنَّ المرادَ بهم المكاتَبون أو الأُسارى أو الأرِقَّاءُ يُشْتَرُوْن فيُعْتَقُون. وكلُّ هذه أقوالٌ قيل بها. قوله: {وَأَقَامَ الصلاة} عَطْفٌ على صلةِ «مَنْ» وهي: آمن وآتى، وإنما قَدَّم الإِيمانَ لأنه رأسُ الأعمالِ الدينيةِ، وثَنَّى بإيتاء المالِ لأنه أَجِلُّ شيء عند العرب وبه يَتَمَدَّحُون ويفتخرون بفكِّ العاني وقِرى الضِّيفان، يَنْطِقُ بذلك نظمُهم ونثرُهم. قوله: {والموفون} في رفعه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: - ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه عطفٌ على «مَنْ آمن» ، أي: ولكنَّ البِرَّ المؤمنون

والموفون. والثاني: أن يَرْتفعَ على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هم المُوفون. وعلى هذينِ الوجهين فنصْبُ «الصابرين» على المدحِ بإضمارِ فعلٍ، وهو في المعنى عَطْفٌ على «مَنْ آمن» ، ولكنْ لَمَّا تكرَّرت الصفاتُ خُولف بين وجوه الإِعرابِ. قال الفارسي: «وهو أبلغُ لأنَّ الكلامَ يَصِيرُ على جملٍ متعددةٍ، بخلافِ اتفاق الإِعراب فإنه يكونُ جملةً واحدةً، وليس فيها من المبالغةِ ما في الجملِ المتعددةِ. فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ على هذين الوجهين أن يكونَ معطوفاً على» ذوي القربى «أي: وآتى المالَ الصابرين؟ قيل: لئلاَّ يلزمَ من ذلك محذورٌ وهو الفصلُ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه الذي هو في حكمِ الصلة بأجنبي وهو الموفون. والثالث: أن يكونَ» الموفون «عطفاً على الضمير المستتر في» آمَنَ «، ولم يُحْتَجْ إلى التأكيدِ بالضميِر المرفوعِ المنفصلِ لأنَّ طولَ الكلامِ أغنى عن ذلك. وعلى هذا الوجهِ يجوزُ في» الصابرين «وجهان، أحدُهما: النصبُ بإضمارِ فعلٍ كما تقدَّم، والثاني: العطفُ على» ذوي القربى «، ولا يَمْنَعُ من ذلك ما تقدَّم من الفصلِ بالأجنبي، لأنَّ الموفين على هذا الوجه داخلٌ في الصلةِ فهو بعضُها لا أجنبيٌّ منها. وقوله: {إِذَا عَاهَدُواْ} » إذا «منصوبٌ بالموفُون، أي: الموفون وقتَ العهدِ من غيرِ تأخيرِ الوفاءِ عن وقتِهِ. وقرأ الحسنُ والأعمشُ ويعقوبُ:» والصابرون «، وحكى الزمخشري قراءَة:» والموفين «و» الصابرين «.

قال الراغب: وإنما لم يَقُلْ:» وأوفى «كما قال» وأقام «لأمرين، أحدُهما: اللفظُ، وهو أنَّ الصلةَ متى طالت كان الأحسنُ أن تُعْطَفَ على الموصولِ دون الصلة لئلا تطولَ وَتَقْبُحَ. والثاني: أنه ذكر في الأولِ ما هو داخلٌ في حَيِّز الشريعةِ وغيرُ مستفادٍ إلاَّ منها، والحكمةُ العقليةُ تقتضي العدالةَ دون الجَوْر، ولمَّا ذكرَ وفاءَ العهدِ وهو مِمَّا تقضي به العُقولُ المجردةُ صار عطفُهُ على الأولِ أحسنَ، ولَمَّا كان الصبرُ من وجهٍ مبدَأَ الفضائِلِ ومن وجهٍ جامعاً للفضائلِ إذ لا فضيلَةَ إلا وللصبرِ فيها أثرٌ بليغٌ غَيَّر إعرابَهُ على هذا المَقْصِد» وهذا كلامٌ حَسَنٌ طائِلٌ. و «حين البأسِ» منصوبٌ بالصابرين، أي: الذين صَبَروا وقتَ الشدةِ. والبأساءُ والضراءُ فيهما قولان، أحدُهما: - وهو المشهورُ - أنهما اسمان مشتقان من البُؤْس والضُرّ، وألفُهما للتأنيث، والثاني: أنهما وَصْفان قائمانِ مقام موصوف. والبؤس والبأساء: الفقر، يقال: بَئِس يَبْأَس إذا افتقر. قال الشاعر: 827 - ولم يَكُ في بُؤْسٍ إذا بات ليلةً ... يناغي غَزالاً ساجيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ وأما البأسُ فشدةُ القتالِ خاصةً، بَؤُسَ الرجلُ أي: شَجُع. قوله: {أولئك الذين صَدَقُوا} مبتدأٌ وخبرٌ، وأتى بخبر «أولئك» الأولى موصولاً بصلةٍ وهي فعلٌ ماضٍ لتحقُّقِ اتِّصافهم به، وأنَّ ذلك قد وَقَع منهم واستقرَّ، وأتى بخبرِ الثانيةِ بموصولٍ صلتُه اسمُ فاعل ليدلَّ على الثبوت، وأنه ليس متجدِّداً بل صار كالسَّجِيَّةِ لهم، وأيضاً فلو أتى به فعلاً ماضياً لَمَا حَسُنَ وقوعُه فاصلةً.

178

قوله تعالى: {القصاص فِي القتلى} : أي: بسببِ القتلى، و «في» تكون للسببية كقوله عليه السلام: «إنَّ امرأة دخلت النارَ في هرة» أي: بسببها. و «فَعْلَى» يَطَّرد أن يكون جمعاً لفَعِيل بمعنى مفعول وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قولِه: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى} [البقرة: 85] . قوله: {الحر بِالْحُرِّ} مبتدأٌ وخبرٌ، والتقديرُ: الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ، أو مقتولٌ بالحُرِّ، فَتُقَدِّر كوناً خاصاً حُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه، فإن الباءَ فيه للسبب، ولا يجوزُ أن تقدِّره كوناً مطلقاً، إذ لا فائدةَ فيه لو قلت: الحُرَّ كائنٌ بالحر، إلا أنْ تُقَدِّر مضافاً، أي: قتلُ الحرِّ كائنٌ بالحر. وأجاز الشيخ أن يكونَ «الحُرُّ» مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: يُقْتَلُ الحُرُّ بالحر، يَدُلُّ عليه قولُه: {القصاص فِي القتلى} فإنَّ القِصاصَ يُشْعِرُ بهذا الفعلِ المقدِّر، وفيه بَعْدٌ. والقِصاص مصدرُ قاصَّهُ يُقاصُّه قِصاصاً ومُقَاصَّةً، نحو: قاتَلْتُهُ قِتالاً ومُقَاتَلَةً، وأصلُهُ من قَصَصْتُ الشيءَ اتَّبَعْتَ أثرَه، لأنه اتباعُ دمِ المقتول. والحُرُّ وصفٌ، و «فُعْل» الوصف جَمْعُه على أفعال لا ينقاس، قالوا: حُرّ وأحرار، ومُرّ وأمرار، والمؤنثة حُرَّة، وجمعها على «حرائِر» محفوظُ أيضاً، يقال: حَرَّ الغلام يَحَرُّ حُرِّيَّةً. قوله: {فَمَنْ عُفِيَ} يجوزُ في «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً. والثاني: أن تكونَ موصولةً. وعلى كلا التقديرين فموضعُهما رفعٌ بالابتداء. وعلى الأول يكونُ «عُفِي» في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، وعلى الثاني لا محلَّ له وتكونُ الفاءُ واجبةً في قولِه: «فاتِّباع» على الأول، ومحلُّها وما بعدها الجزمُ،

وجائزةٌ في الثاني، ومحلُّها وما بعدَها الرفعُ على الخبر. والظاهرُ أنَّ «مَنْ» هو القاتلُ، والضميرُ في «له» و «أخيه» عائدٌ على «مَنْ و» شيءٌ «هو القائمُ مقامَ الفاعلِ، والمرادُ به المصدرُ، وبُني» عُفِي «للمفعولِ وإن كان قاصراً، لأنَّ القاصِرَ يتعدَّى للمصدرِ كقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [المؤمنون: 101] . والأخ هو المقتولُ أو وليُّ الدمِ، وسَمَّاه أخاً للقاتل استعطافاً له عليه، وهذا المصدرُ القائمُ مقامَ الفاعلِ المرادُ به الدمُ المعفوُّ عنه. وعَفَا يتعدَّى إلى الجاني وإلى الجنايةِ ب» عن «، تقول: عَفَوْتُ عن زيد، وعَفَوْتُ عن ذنبِ زيدٍ، فإذا عُدِّي إليهما معاً تعدَّى إلى الجاني باللام وإلى الجناية بعَنْ، تقول: عَفَوْتُ لزيدٍ عن ذنبِهِ، والآيةُ من هذا الباب/ أي: فَمَنْ عُفِيَ له عن جِنايَتِهِ. وقيل» مِنْ «هو وليُّ الدمِ. أي: مَنْ جُعِلَ له من دمِ أخيه بَدَلُ الدمِ وهو القصاصُ أو الدِّيةُ والمرادُ ب» شيء «حينئذٍ ذلك المستحِقُّ، والمرادُ بالأخِ المقتولُ، ويُحتمل أَنْ يُرَاد به على هذا القولِ أيضاً القاتلُ، ويُراد بالشيء الديةُ و» عُفِي «بمعنى يُسِّر على هذين القَولين، وقيل: بمعنى تُرِكَ. وشَنَّع الزمخشري على مَنْ فَسَّر «عُفِيَ» بمعنى «تُرِكَ» قال: فإنْ قلت: هَلاَّ فَسَّرْت «عُفي» بمعنى «تُركَ» حتى يكونَ «شيء» في معنى المفعول به. قلت: لأنَّ عَفَا الشيء بمعنى تَرَكَه ليس يَثْبُتُ، ولكن «أعفاه» ومنه: «وَأَعْفوا اللَّحى» فإنْ قلت: قد ثَبَتَ قولُهم: عفا أَثَرُه إذا مَحاه وأَزاله، فَهَلاَّ جَعَلْتَ معناه: فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أخيه شيءٌ. قلت: عبارةٌ قلقةٌ في مكانِها، والعفُو في باب الجنايات عبارةٌ متداولةٌ مشهورةٌ في الكتابِ والسنةِ واستعمالِ الناسِ فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرى قلقةٍ نابيةٍ عن مكانِها، وترى كثيراً مِمَّن

يتعاطى هذا العلمَ يَجْتَرِىءُ إذا أُعْضِلَ عليه تخريجُ وجهٍ للمُشْكلِ مِنْ كَلامِ الله على اختراعِ لغةٍ وادِّعاءٍ على العربِ ما لم تَعْرفه، وهذه جرأةٌ يُستعاذُ باللَّهِ منها. قال الشيخ: «إذا ثَبَتَ أنَّ» عَفَا «بمعنى مَحا فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية عليه ويكونُ إسنادُ» عَفَا «لمرفوعِهِ إسناداً حقيقياً؛ لأنه إذا ذاك مفعولٌ به صريحٌ، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسنادُهُ لمرفوعِهِ مجازاً لأنَّه مصدرٌ مشبَّهٌ بالمفعولِ به، فقد يتعادَلُ الوجهان: أعنى كونَ عفا اللازمِ لشهرتِهِ في الجناياتِ و» عفا «المتعدِّي بمعنى» مَحَا «لتعلقِهِ بمرفوعِهِ تعلقاً حقيقياً» فإن قيل: تُضَمِّنُ «عَفَا» معنى «تَرك» فالجوابُ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاس، وقد أجاز أبنُ عطية أَنْ يكونَ عَفا بمعنى تَرَكَ. وقيل: إن «عُفِيَ» بمعنى فَضِلَ، والمعنى: فَمَنْ فَضِلَ له من الطائفتين على الأخرى شيءٌ من تلك الدِّيات، مِنْ قَوْلِهِم: عَفَا الشيءُ إذا كَثُرَ. وأَظْهَرُ هذه الأقوالِ أوَّلُها. قوله: {فاتباع بالمعروف} في رَفْع «اتباع» ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، فقدَّرَهُ ابنُ عطية: فالحكمُ أو الواجبُ الاتِّباعُ، وَقَدَّره الزمخشري: فالأمرُ اتِّباع. قال ابنُ عطية: «وهذا سبيلُ الواجباتِ، وأمَّا المندوباتُ فتجيءُ منصوبةً كقوله: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] . قال الشيخ» ولا أدري ما الفرقُ بين النصبِ والرفعِ إلا ما ذكروه من أنَّ الجملةَ الاسميَّةَ

أثبَتُ وأكدُ، فيمكنُ أن يكونَ مستندُ ابنِ عطية هذا، كما قالوا في قوله: {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] . الثاني: أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ، وقَدَّرَهُ الزمخشري: فليكن اتِّباعُ. قال الشيخ: «هو ضعيفٌ إذ» كان «لا تُضْمَرُ غالباً إلا بعد» إنْ «- الشرطية و» لو «لدليلٍ يَدُلُّ عليه» . الثالث: أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر، فمنهم مَنْ قَدَّره متقدماً عليه، أي: فعليه اتِّباع، ومنهم مَنْ قَدَّره متأخراً عنه، أي: فاتِّباع بالمعروفِ عليه. قوله: {بالمعروف} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّقَ باتِّباعِ فيكونَ منصوبَ المحلّ. الثاني: أن يكونَ وصْفاً لقوله «اتِّباع» فيتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ مَحلُّه الرفعَ. الثالث: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ المحذوفةِ تقديرُهُ: فعليه اتِّباعُه عادلاً، والعاملُ في الحالِ معنى الاستقرار. قوله: {وَأَدَآءٌ} في رفعِهِ أربعة أوجهٍ، الثلاثةُ المقولةُ في قولِه «فاتِّباعٌ» لأنه معطوفٌ عليه. والرابعُ: أن يكونَ مبتدأ خبرُه الجارُّ والمجرورُ بعدَه، وهو «بإحسان» وهو بعيدٌ. و «إليه» في محلِّ نصبٍ لتعلُّقِهِ «بأداء» ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً لأداء، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: وأداءٌ كائنٌ إليه. و «بإحسانٍ» فيه أربعةُ أوجه: الثلاثةُ المقولةُ في «بالمعروف» ، والرابعُ:

أن يكونَ خبرَ «الأداء» كما تقدَّم في الوجهِ الرابع مِنْ رفعِ «أداء» . والهاءُ في «إليه» تعودُ إلى العافي وإنْ لَمْ يَجْرِ له ذِكْرٌ، لأنَّ «عَفَا» يَسْتَلْزِمُ عافياً، فهو من بابِ تفسيرِ الضميرِ بمصاحبٍ بوجهٍ ما، ومنه: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} أي الشمس، لأنَّ في ذِكْرِ «العشيّ» دلالةً عليها، ومثله: 828 - فإنَّك والتأبينَ عروةَ بعدَما ... دَعَاكَ وأيدينا إليه شَوارعُ لكالرجلِ الحادي وقد تَلع الضحى ... وطيرُ المنايا فوقَهُنَّ أواقِعُ فالضميرُ في «فوقهُنَّ» للإِبل، لدلالةِ لفظِ «الحادي» عليها لأنها تُصاحِبُه بوجهٍ ما. قوله: {ذلك تَخْفِيفٌ} الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العفوِ والديةِ و «من ربكم» في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لِما قبلَه فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «رَحمة» صفتُها محذوفةٌ أيضاً أي: ورحمةٌ من ربكم. وقوله: {فَمَنِ اعتدى} يجوز في «مَنْ» الوجهان الجائزان في قولِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} من كونِها شرطية وموصولةً، وجميعُ ما ذُكِرَ ثَمَّةَ يعودُ هنا. قوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} يجوزُ أنْ يَكُونَ «لكم» الخبر وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه «لكم» ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من «حياةٌ» ، لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً، ويجوزُ أن يكونَ «في القصاص» هو الخبرَ، و «لكم» متعلقٌ بالاستقرارِ المتضمِّن له، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قولِهِ: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36] ، وهناك أشياءُ لا تَجِيءُ هنا.

وقرأ أبو الجوزاء «في القَصَص» والمرادُ به القرآنُ. قال ابن عطية: «ويَحتمل أن يكون مصدراً كالقِصاص، أي إنه إذا قُصّ أثرُ القاتِلِ قَصَصَاً قُتِلَ كما قَتَل» . والقِصاصُ مصدرُ قَصَّ أي: تَتَبَّع، وهذا أصلُ المادة، فمعنى القِصاص تتَبُّعُ الدم بالقَوَد، ومنه «القصيص» لما يُتَتَبَّعُ من الكلأ بعد رَعْيِهِ، والقَصَصُ تَتَبُّع الأخبار ومثله القَصُّ، والقَصُّ أيضاً الجِصُّ، ومنه الحديث: «نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبورِ» أي تَجْصيصِها. ونظيرُ هذا الكلامِ قولُ العرب: «القتلُ أَوْفَى للقتل» ويُرْوى أَنْفَى للقتل، ويُرْوَى: أَكفُّ للقتَل. وهذا وإنْ كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العلماءُ بينه وبين الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغةِ وُجِدَتْ في الآية الكريمة دونَه، منها: أنَّ في قولِهم تكرار الاسم في جملةٍ واحدةٍ. ومنها: أنه لا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ لأنَّ «أَنْفَى» وأَوْفَى «و» أكفُّ «أفعلُ تفضيلٍ فلا بدَّ من تقديرِ المفضَّل عليه، أي: أنفى للقتل مِنْ ترك القتل. ومنها: أنَّ القِصاصَ أَمُّ إذ يوجدُ في النفس وفي الطَّرَف. والقتلُ لا يكونُ إلا في النفس. ومنها: أنَّ ظاهرَ قولِهم كونُ وجودِ الشيء سبباً في انتفاء نفسِه. ومنها: أنَّ في الآية نوعاً من البديع يُسَمَّى الطباق وهو مقابلةُ الشيء بضده فهو يُشْبِهُ قوله تعالى: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] قوله: {ياأولي الألباب} منادى مضافٍ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ. واعلم أن»

أولي «اسمُ جمعٍ لأنَّ واحدَه وهو» ذو «من غير لفظِه. ويَجْرِي مَجْرَى جمعِ المذكرِ السالم فِي رفعِهِ بالواوِ ونصبِه وجرِّه بالياء المكسورِ ما قبلها، وحكمهُ في لزوم الإِضافة إلى اسمِ جنسٍ حكمُ مفردِه. وقد تقدَّم في قولِه: {ذَوِي القربى} [البقرة: 177] ويقابِلُه في المؤنث: أُولات: وكُتِبا في المصحفِ بواوٍ بعد الهمزةِ قالوا: لِيُفَرِّقوا بين» أُولي كذا «في النصبِ والجر وبين» إلى «التي هي حرفُ جر، ثم حُمِل باقي الباب عليه، وهذا كما تقدَّم في الفرقِ بين» أولئك «اسمَ إشارةٍ و» إليك «جاراً ومجروراً وقد تقدَّم. وإذا سَمَّيْتَ بأولي من أُولي كذا قلت: جاء أُلون ورأيت إلين، بردِّ النونِ لأنها كالمقدَّرة حالة الإِضافةِ فهو نظيرُ: ضارِبُو زيدٍ وضاربي زيدٍ. والألبابُ جمعُ» لُبٍّ «وهو العقلُ الخالي من الهَوي، سُمِّيَ بذلك لأحدِ وجهين: إمَّا لبنائِه من لَبَّ بالمكانِ أقامَ به، وإمَّا من اللُّباب وهو الخالِصُ، يقال: لبُبْتُ بالمكان ولبِبْتُ بِضمِّ العينِ وكسرِها، ومجيءُ المضاعَفِ على فَعْل بضمِّ العينِ شاذ، استَغْنَوا عنه بِفَعَل مفتوح العين، وذلك في ألفاظ محصورة نحو: عَزُزْتُ/ وسَرُرْتُ ولَبُبت ودَمُمْتُ ومَلُلْتُ، فهذه بالضمِّ وبالفتح، إلا لَبُبْت فبالضمِّ والكسرِ كما تقدَّم.

180

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ} : «كُتِبَ» مبنيٌّ للمفعول وحُذِفَ الفاعلُ للعلم به - وهو اللهُ تعالى - وللاختصار. وفي القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ «الوصيةُ» أي: كُتِب عليكم الوصيةُ، وجاز تذكيرُ الفعلِ لوجهين، أحدُهُما: كونُ القائمِ مقامَ الفاعلِ مؤنثاً مجازياً، والثاني: الفصلُ بينه وبين مرفوعه. والثاني: أنه الإِيصاءُ المدلولُ عليه بقوله: {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} أي: كُتِب هو أي: الإِيصاء.

والثالث: أنه الجارُّ والمجرورُ، وهذا يتَّجِهُ على رَأي الأخفشِ والكوفيين. و «عليكم» في محلِّ رفعٍ على هذا القولِ، وفي محلِّ نصبٍ على القولين الأوَّلين. قوله: {إِذَا حَضَرَ} العاملُ في «إذا» «كُتِب» على أنها ظرفٌ محضٌ، وليس متضمناً للشرطِ، كأنه قيل: كُتِب عليكم الوصيةُ وَقْتَ حضورِ الموتِ، ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيه لفظَ «الوصية» لأنها مصدرٌ، ومعمولُ المصدرِ لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ إلا على مذهبِ مَنْ يَرى التوسُّع في الظرفِ وعديلِه، وهو أبو الحسن، فإنه لا يَمْنَعُ ذلك، فيكون التقديرُ: كُتِب عليهم أَنْ تُوصوا وَقْتَ حضورِ الموت. وقال ابن عطية: «ويتَّجِه في إعرابِ هذه الآية أن يكونَ» كُتِب «هو العامل في» إذا «، والمعنى: توجَّه عليكم إيجابُ الله ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبَّر عن توجُّهِ الإِيجابِ بكُتب، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوبٌ في الأزل، و» الوصيةُ «مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه بكُتِب. وجوابُ الشرطَيْنِ» إنْ «و» إذا «مقدرٌ يَدُلُّ عليه ما تقدَّم من قوله كُتِب» . قال الشيخ: «وفي هذا تناقضٌ لأنه جَعَلَ العاملَ في» إذا «كُتِبَ، وذلك يَسْتَلْزم أن يكونَ» إذا «ظرفاً محضاً غيرَ متضمنٍ للشرطِ، وهذا يناقِضُ قوله:» وجوابُ «إذا» و «إنْ» محذوفٌ؛ لأنَّ إذا الشرطيةَ لا يَعْمَلُ فيها إلا جوابُها أو فعلُها الشرطِيُّ، و «كُتِب» ليس أحدَهما، فإنْ قيل: قومٌ يجيزون تقديم جوابِ الشرطِ فيكونُ «كُتب» هو الجوابَ، ولكنه تقدَّم، وهو عاملٌ في «إذا» فيكونُ ابنُ عُطية يقولُ بهذا القولِ. فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يجوزُ، لأنه صَرَّح بأنَّ جوابَها محذوف مدلولٌ عليه بكُتب، ولم يَجْعَل كُتِبَ هو الجوابَ «.

ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ في» إذا «الإِيصاء المفهوم من لفظ» الوصية «وهو القائمُ مقامَ الفاعلِ في» كُتِب «كما تقدَّم. قال ابنُ عطيةَ في هذا الوجهِ:» ويكونُ هذا الإِيصاءُ المقدَّرُ الذي يَدُلُّ عليه ذِكْرُ الوصية بعدُ هو العاملَ في «إذا» وترتفع «الوصيةُ» ، بالابتداء، وفيه جوابُ الشرطين على [نحو] ما أنشده سيبويه: 829 - مَنْ يفعلِ الصالحاتِ اللهُ يحفظُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويكون رفعُها بالابتداءِ، أي: فعليه الوصيةُ بتقديرِ الفاءِ فقط، كأنه قال فالوصيةُ للوالدَيْنِ «. وناقشه الشيخ من وجوهٍ، أحدُها: أنه متناقضٌ من حيث إنه إذا جَعَلَ» إذا «معمولةً للإِيصاء المقدَّر تمحَّضَتْ للظرفية فكيف يُقَدَّر لها جوابٌ كما تقدَّم تحريرُه؟ والثاني: أنَّ هذا الإِيصاء: إمَّا أَنْ تُقَدِّرَ لَفظَه محذوفاً أو تُضْمِرَه، وعلى كِلا التقديرين فلا يَعْمَلُ لأنَّ المصدرَ شَرْطُ إعماله ألاَّ يُحْذَفَ ولا يُضْمَرَ عند البصريين، وأيضاً فهو قائمٌ مقامَ الفاعلِ فلا يُحْذَفُ. الثالث: قولُه» جوابُ الشرطين «والشيءُ الواحدُ لا يكونُ جواباً لاثنين، بل جوابُ كلِّ واحد مستقلٌ بِقَدْرِه. الرابعُ: جَعْلُه حَذْفَ الفاءِ جائزاً في القرآن، وهذا نصُّ سيبويه على أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً وأنشد: مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرها ... والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ وإنشادُه» مَنْ يَفْعَلِ الصالحات اللهُ يحفظه «يجوزُ أن يكونَ روايةً،

إلا أنَّ سيبويهِ لم يُنْشِدْه كذا بل كما تقدَّم والمبرد رُوي عنه أَّنه لا يُجِيزُ حَذْفَ الفاءِ مطلقاً، لا في ضرورة ولا غيرها، ويَرْوِيه:» مَنْ يفعل الخيرَ فالرحمنُ يشكُره «، وردَّ الناسُ عليه بأنَّ هذه لَيسَتْ حجةً على روايةِ سيبويه. ويجوزُ أَنْ تكونَ» إذا «شرطيةً، فيكونَ جوابُها وجوابُ» إنْ «محذوفَيْن. وتحقيقُه: أنَّ جواب» إنْ «مقدَّرٌ، تقديرُه:» كُتب الوصيةُ على أحدكم إذا حضَرهُ الموتُ إن ترك خيراً فلْيُوص «، فقولُه» فَلْيُوصِ «جوابٌ لإِنْ، حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه، ويكونُ هذا الجوابُ المقدرُ دالاً على جوابِ» إذا «فيكونُ المحذوفُ دَالاً على محذوفٍ مثله. وهذا أَوْلَى مِنْ قولِ مَنْ يقول: إنَّ الشرطَ الثاني جوابُ الأول، وحُذف جوابُ الثاني، وأَوْلَى أيضاً مِنْ تقديرِ مَنْ يُقَدِّره مِنْ معنى» كُتِبَ «ماضي المعنى، إلاَّ أَنْ يُؤَوِّلَه بمعنى: يتوجَّه عليكم الكَتْبُ إن تَرَكَ خيراً. قوله:» الوصيةُ «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، [أحدها:] أن يكونَ مبتدأً وخبرُه» للوالدَيْن «. والثاني: أنه مفعولُ» كُتِب «وقد تقدَّم. الثالث: أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي: فعليه الوصيةُ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه. قوله: {الوصية} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، [أحدها:] أن يكون مبتدأً وخبرُه» للوالدَيْن «. والثاني: أنه مفعولُ» كُتِب «وقد تقدَّم. الثالث: أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي: فعليه الوصيةُ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه. قوله:» بالمعروف «يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بنفسِ» الوصية «، والثاني أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الوصية، أي: حالَ كونِها ملتبسةً بالمعروفِ لا بالجَوْر. قوله: {حقاً} في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ

محذوفٍ، وذلك المصدرُ المحذوفُ: إمَّا مصدرُ «كُتِب» أو مصدرُ «أَوْصى» أي كَتْباً أو إيصاءً حقاً. الثاني: أنه حالٌ من المصدَرِ المُعَرَّفِ المحذوف: [إِمَّا] مصدرُ «كُتِب» أو «أَوْصَى» كما تقدَّم. الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مؤكد لمضمونِ الجملة، فيكونُ عاملُه محذوفاً، أي: حَقَّ ذلك حقاً، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء. وقال الشيخ: «وهذا تَأْباه القواعدُ النحوية، لأنَّ ظاهرَ قولِه:» على المتقين «أن يتعلَّق ب» حقاً «أو يكونَ في موضعِ الصفة له، وكِلا التقديرين لا يجوزُ. أمَّا الأولُ فلأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وأمَّا الثاني فلأن [الوصفَ يُخْرِجُه عن التأكيد] ، وهذا لاَ يَلْزَمُهم فإنهم والحالةُ هذه لا يقولونُ إنَّ» على المتقين «متعلِّقٌ به. وقد نَصَّ على ذلك أبو البقاء فإنه قال: /» وقيل هو متعلقٌ بنفسِ المصدرِ وهو ضعيفٌ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وإنما يَعْمَلُ المصدرُ المنتصِبُ بالفعلِ المحذوفِ إذ نابَ عنه كقولِك: ضرباً زيداً، أي: اضرِبْ «إلا أنه جَعَله صفَةً لحقّ، فهذا يَرِدُ عليه. وقال بعضُ المُعْرِبين:» إنه مؤكِّدُ لِما تَضمَّنَه معنى «المتقين» كأنه قيل: على المتقين حقاً، كقوله: {أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} [الأنفال: 74] . وهذا ضعيفٌ لتقدُّمِه على عامِله الموصولِ، ولأنه لا يتبادَرُ إلى الذهن.

قال الشيخ: «والأَوْلى عندي أن يكونَ مصدراً مِنْ معنى» كُتب «لأنَّ معنى» كَتَبَ الوصيةَ «أي: حَقَّتْ وَوَجَبَتْ، فهو مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر نحو: قَعَدْتُ جلوساً.

181

قوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ} : «مَنْ» يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وموصولةً، والفاءُ: إمّا واجبةٌ إن كانَتْ شرطاً، وإمّا جائزٌ إنْ كانت موصولةً، بلفظِ المؤنَّثِ لأنَّها في معنى المذكَّر، وهو الإِيصاءُ. أو تعود على نفس الإِيصاء المدلولِ عليه بالوصِيَّة، إلاَّ أنَّ اعتبارَ التذكير في المؤنثِ قليلٌ وإن كان مجازياً، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك: هند خرجَتْ والشمسُ طلَعَتْ، ولا يجوزُ: الشمسُ طَلَع، كما لا يَجُوزُ: «هند خرج» إلاَّ في ضرورةٍ. وقيل: تعودُ على الأمرِ والفَرْضِ الذي أَمَرَ به اللهُ وفَرَضه. وكذلك الضميرُ في «سَمِعَه» والضميرُ في «إثمُه» يعودُ على الإِيصاء المُبَدَّلِ، أو التبديلِ المفهوم من قولِه: «بَدَّله» . وقد راعى المعنى في قوله: {عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ} إذ لو جَرَى على نَسَق اللفظِ الأولِ لقالَ: «فإنَّما إثمُه عليه - أو على الذي يُبَدِّله» . وقيل: الضميرُ في «بَدَّله» يعودُ على الكَتْبِ أو الحقِّ أو المعروفِ. فهذه ستةُ أقوالٍ. و «ما» في قولِه: {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي: بعد: سماعِه، وأن تكون موصولةً بمعنى الذي. فالهاءُ في «سَمِعَه» على الأول تعودُ على ما عادَ عليه الهاءُ في «بَدَّله» ، وعلى الثاني تعودُ على الموصولِ، أي بعد الذي سَمِعَه من أوامرِ الله.

182

قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ} : يجوزُ فيها الوجهان الجائزان في «مَنْ» قبلَها. والفاءُ في «فلا إثم» هي جوابُ الشرطِ أو الداخلةُ في الخبر. و «مِنْ موصٍ» يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ متعلقةً بخاف على انها لابتداءِ الغاية. الثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «جَنَفَاً» ، قُدِّمَتْ عليه، لأنها كانَتْ في الأصل صفةً له، فلمَّا تَقَدَّمَتْ نُصِبَتْ حالاً. ونظيره: «أخَذْتُ من زيد مالاً» إن شِئت عَلَّقْتُ «مِنْ زيد» ب «أَخَذْتُ» ، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من «مالاً» لأنه صفته في الأصلِ، الثالث: أن تكونَ لبيان جنسِ الجانفين: وتتعلَّقُ أيضاً بخاف. فعلى القولين الأولين لا يكونَ الجانِفُ من الموصِين بل غيرُهم، وعلى الثالث يكونُ من الموصين. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي: «مُوَصٍّ» بتشديدِ الصادِ والباقون بتخفيفها. وهما من أوصى ووصَّى، وقد تقدَّم أنهما لغتان، إلاَّ أن حمزةَ والكسائي وأبا بكر هم من جملةِ الذين يَقْرؤون {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ} [البقرة: 132] مضعَّفاً، وأنَّ نافعاً وابن عامر يقرآن: «أوصى» بالهمزة، فلو لم تكن القراءةُ سُنَّةً متبعةً لا تجوزُ بالرأي لكان قياسُ قراءةِ ابن كثير وأبي عمرو وحفص هناك «ووصَّى» بالتضعيف أن يقرآ هنا «مُوَصٍّ» بالتضعيف، وأما نافعٌ وابنُ عامر فإنهما قرآ هنا «مُوصٍ» مخففاً على قياس قراءتهما هناك و «أَوْصَى» على أَفْعَل. وكذلك حمزة والكسائي وأبو بكر قرؤوا: «ووصَّى» هناك بالتضعيف فقرؤوا هنا «مُوَصٍّ» بالتضعيفِ على القياس. والخَوْفُ هنا بمعنى الخَشْيَة وهو الأصلُ، وقيل: بمعنى العِلْم وهو مجازٌ، والعلاقةُ بينهما هو أنَّ الإِنسَان لا يَخافُ شيئاً حتى يَعْلَم أنه مِمَّا يُخاف منه فهو من باب التعبير عن السبب بِالمُسَبِّبِ. ومِنْ مجيء الخوف

بمعنى العِلْم قولُه تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229] ، وقولُ أبي مِحْجن الثقفي: 830 - إذا مُتُّ فادْفِنِّي إلى جَنْبٍ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عظامي في المَمات عروقُها ولا تَدْفِنَنِّي في الفلاةِ فإنني ... أخَافُ إذا ما مُتُّ ألاَّ أذوقُها والجَنَفُ لأهلِ اللغةِ فيه قولان أحدُهما: المَيْلُ، قال الأعشى: 831 - تَجانَفُ عن حُجْرِ اليمَامةِ ناقتي ... وما قَصَدَتْ من أهلِها لِسِوائكا وقال آخر: 832 - هُمُ المَوْلى وإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا ... وإنَّا مِنْ لقائِهِمْ لَزُورُ وقيل: هو الجَوْرُ. قال: 833 - إني امرؤٌ منعَتْ أَرومةُ عامرٍ ... ضَيْمي وقد جَنَفَتْ عليَّ خُصومُ يقال: جَنِفَ بكسر النون يَجْنَفُ بفتحها فهو جَنِفٌ وجانِفٌ، وأَجْنَفَ جاء بالجَنَفِ كَألاَم جاء بما يُلام عليه.

والضميرُ في «بينهم» عائد على الموصي والورثةِ، أو على الموصَى لهم، أو على الورثةِ والمُوصى لهم. والظاهرُ عودُه على المَوصى لهم، إذ يدلُّ على ذلك لفظُ «المُوصى» . وهو نظيرُ {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ} [البقرة: 178] [في] أن الضمير يعودُ للعافي لاستلزام «عفا» له، ومثلُه ما أنشد الفراء: 834 - وما أَدْري إذا يَمَّمْتُ أرضاً ... أريدُ الخيرَ أيُّهما يَليِني فالضمير في «أيُّهما» يعودُ على الخيرِ والشرِّ، وإنْ لم يَجْرِ ذِكْرُ الشِّر لدلالةِ ضِدِّه عيله، والضميرُ في «عليه» وفي «خاف» وفي «أصلح» يعود على «مَنْ» .

183

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} : «الصيامُ» مفعولُ لم يُسَمَّ فاعلُه وقُدِّم عليه هذه الفَضْلَةُ وإنْ كان الأصلُ تأخيرها عنه لأنَّ البداءة بذكرِ المكتوبِ عليه آكدُ مِنْ ذِكْر المكتوبِ لتعلُّق الكتب بِمَنْ يؤدِّي. والصيام: مصدرُ صام يصوم صوماً، والأصلُ: صِواماً، فَأُبْدِلَتْ الواوُ ياءٌ والصومُ مصدرٌ أيضاً، وهذان البناءانِ - أعني فَعْل وفِعال - كثيران في كلِّ فعلٍ واويِّ العينِ صحيحِ اللامِ، وقد جاء منه شيءٌ قليل على فُعول قالوا: غار غُووراً، وإنما استكرهوه لاجتماعِ الواوَيْنِ/، ولذلك هَمَزه بعضُهم فقال: الغُؤُور. والصيام لغةً الإِمساكُ عن الشيء مطلقاً، ومنه: صامَتِ الريحُ: أمسكَتْ عن الهبوبِ، والفرسُ: أَمْسَكَتْ عن العَدْوِ، [وقال] : 835 - خيلٌ صِيامُ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجُما

وقال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} [مريم: 26] أي: سكوتاً لقوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} . وصامَ النهارُ أي: اشتدَّ حَرَّه، قال: 836 - حتى إذا صامَ النهارُ واعتَدَلْ ... ومالَ للشمسِ لُعابٌ فَنَزَلْ كأنهم تَوَهَّموا ذلك الوقتَ إمساكَ الشمسِ عن المَسِيرِ. ومَصَامُ النجومِ: إمساكُها عن السيرِ، قال امرؤ القيس: 837 - كأنَّ الثُّرِيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِها ... بأمراسِ كُتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ قوله: {كَمَا كُتِبَ} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّ محلَّها النصْب على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي: كُتِبَ كَتْباً مثلَ ما كُتِبَ. الثاني: أنه في محلِّ حالٍ من المصدرِ المعرفةِ أي: كُتِبَ عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبِهاً ما كُتِبَ. و «ما» على هذين الوجهينِ مصدريةٌ. الثالث: أن يكون نعتاً لمصدرٍ من لفظِ الصيام، أي: صوماً مثلَ ما كُتِبَ. ف «ما» على هذا الوجه بمعنى الذي، أي: صوماً مماثلاً للصومِ المكتوبِ على مَنْ قبلكم. و «صوماً» هنا مصدر مؤكِّد في المعنى، لأنَّ الصيامَ بمعنى: أنْ تصُومُوا صوماً، قاله أبو البقاء، وفيه أنَّ المصدرَ المؤكِّد يُوصَفُ، وقد تقدَّم مَنْعُه عندَ قولِهِ تعالى {بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 180] . وقال الشيخ - بعد أَنْ حكى هذا عن ابن عطية - «وهذا فيه بُعْدٌ؛ لأنَّ تشبيهَ الصوم بالكتابةِ لا يصحُّ، هذا إن كانت» ما «مصدريةً، وأمّا إن كانت

موصولةً ففيه أيضاً بُعْدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصومِ بالصومِ لا يَصِحُّ إلاَّ على تأويلٍ بعيدٍ» . الرابع: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «الصيام» ، وتكونُ «ما» موصولةً، أي: مُشْبهاً الذي كُتِبَ. والعاملُ فيها «كُتِبَ» لأنه عاملٌ في صاحبِها. الخامس: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنَّه صفةٌ للصيامِ، وهذا مردودٌ بأنَّ الجارَّ والمجرورَ من قبيلَ النكرات والصيامُ معرفةٌ، فكيف تُوصَفُ المعرفةُ بالنكرةِ؟ وأجابَ أبو البقاء عن ذلك «بأنَّ الصيامَ غيرُ مُعَيَّنٍ» كأنه يعني أنَّ «أل» فيه للجنسِ والمعرَّفُ بأل الجنسيةِ عندهم قريبٌ من النكرةِ، ولذلك جازَ أن تَعْتَبِرَ لفظة مرةً ومعناه أخرى، قالوا: «أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِرْهَمُ البيض» ومنه: 838 - ولقد أَمُرُّ على اللئيمَ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني [وقولُه تعالى:] {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قولِه: {الذين مِن قَبْلِكُمْ} كيف وُصِلَ الموصول بهذا، والجوابُ عنه في قولِه: {خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] . قوله {أَيَّاماً} في نصبِه أربعةُ أوجه، أظهرُها: أنه منصوبٌ بعاملٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلامِ تقديرُه: صوموا أياماً، ويَحْتَمِلُ هذا النصبُ وجهين: إمَّا الظرفيةَ وإمَّا المفعولَ به اتساعاً. الثاني: أنه منصوبٌ بالصيام، ولم يَذْكُرِ الزمخشري غيرَه، ونَظَّرهُ

بقولِكَ: «نَوَيْتُ الخروجَ يوم الجمعةِ» ، وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّه يلزُم الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ بأجنبي، وهو قولُه: «كما كُتِبَ» لأنه ليس معمولاً للمصدرِ على أيَّ تقديرٍ قَدَّرْتَه. فإنْ قِيل: يُجْعَل «كما كُتِبَ» صفةً للصيام، وذلك على رأي مَنْ يُجِيزِ وَصْفَ المعرَّفِ بأل الجنسيةِ بما يَجْرِي مَجْرى النكرةِ فلا يكونُ أجنبياً. قيل: يَلْزُمُ مِنْ ذَلك وصفُ المصدرِ قبل ذِكْرِ معمولِهِ، وهو ممتنعٌ. الثالث: أنه منصوبٌ بالصيام على أَنْ تقدِّر الكافَ نعتاً لمصدرٍ من الصيام، كما قد قال به بعضُهم، وإنْ كان ضعيفاً، فيكونُ التقديرُ: «الصيام صوماً كما كُتِبَ» فجاز أن يَعْمل في «أياماً» «الصيامُ» لأنه إذ ذاك عاملٌ في «صوماً» الذي هو موصوفٌ ب «كما كُتِبَ» فلا يقعُ الفصلُ بينهما بأجنبي بل بمعمولِ المصدرِ. الرابع: أن ينتصِبَ بكُتب: إمَّا على الظرف وإمَّا على المفعولِ به توسُّعاً، وإليه نحا الفَراء وتَبِعَهُ أبو البقاء. قال الشيخ: «وكِلا القولينِ خطأٌ: أمَّا النصبُ على الظرفِ فإنه محلٌّ للفعل، والكتابةُ ليست واقعةً في الأيامِ، لكنْ متعلَّقُها هو الواقعُ في الأيام. وأمَّا النصبُ على المفعولِ اتِّساعاً فإنَّ ذلك مبنيٌّ على كونِهِ ظرفاً لكُتِبَ، وقد تقدَّم أنه خطأ. و» معدوداتٍ «صفةٌ، وجَمْعُ صفةِ ما لا يَعْقِل بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ نحو هذا، وقولِه» جبال راسيات - وأيام معلوماتٌ «. قوله: {أَوْ على سَفَرٍ} في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان. و» أو «هنا

للتنويع، وعَدَلَ عن اسمِ الفاعلِ، فلم يَقُلْ:» أو مسافراً «إشعاراً بالاستعلاءِ على السفرِ لما فيه من الاختيارِ بخلافِ المرضِ فإنه قَهْرِيٌّ. قوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الجمهورُ على رفعِ» فَعِدَّةٌ «، وفيه وجوهٌ أحدُها، أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ: إمَّا قبلَه تقديرُهُ: فعليه عِدَّةٌ، أو بعدَه أي: فَعِدَّةٌ أمثلُ به. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ عِدَّةٌ. الثالث: أن يرتفَع بفعلٍ محذوفٍ، أي: فتجزيه عِدَّةٌ. وقرىء: «فَعِدَّةً» نصباً بفعلٍ محذوف، تقديره: فَلْيَصُمْ عِدَّةً. وكأن أبا البقاء لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة فإنه قال: «ولو قُرِىء بالنصبِ لكان مستقيماً» . ولا بدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه: «فَصَوْمُ عدَّة» ومِنْ حَذْفِ جملةٍ بين الفعلينِ ليصحَّ الكلامُ تقديره: فأفْطَرَ فعدةٌ، ونظيرُه: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] أي: فَضَرَبَ فانفلقَ. و «عدةٌ» بمعنى معدودةٌ كالطِّحْن والذِّبْح. ونَكَّر قوله «فَعِدَّةٌ» ولم يَقُل «فَعِدَّتُها» اتِّكالاً على المعنى. و «من أيامٍ» في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ القراءتين صفةُ لِعِدَّة. قوله: {أُخَرَ} صفةٌ لأيَّامٍ. و «أُخَرُ» على ضَرْبَيْن، ضربٍ: جَمْعُ «أخرى» تأنيثِ «آخَر» الذي هو أَفْعَلُ تفضيلٍ. وضَرْبٍ جمعُ أُخْرى بمعنى آخِرة، تأنيث: «آخِر» المقابِل لأوَّل، ومنه قولُه تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ} [الأعراف: 49] . فالضربُ الأولُ لا يَنْصَرِفُ، والعلةُ المانعةُ له من الصرفِ: الوصفُ والعَدْلُ. واختلف النحويون في كيفيةِ العَدْلِ، فقال الجمهورُ: إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ، وذلك أن «أُخَر» جمع أُخْرى، وأُخْرَى تأنيث «آخَر» وآخَرُ أَفعَلُ تفضيلٍ، وأفعلُ التفضيل لا يخلو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالات: إمَّا مع أل وإمَّا مع «مِنْ» وإمَّا مع الإِضافة. لكنَّ «مِنْ ممتنعةٌ لأنَّها معها يَلْزَمُ الإِفرادُ والتذكير، ولا إضافة/ في اللفظِ، فَقَدَّرْنَا عَدْلَه عن الألفِ واللامِ، وهذا كما قالوا في» سَحَر «إنه عَدْلٌ عن

الألفِ واللامِ إلاَّ أنَّ هذا مع العَلَمِيَّةِ. ومذهبُ سيبويه أنه عَدْلٌ من صيغةً إلى صيغة لأنه كان حقُّ الكلام في قولك:» مررت بنسوة أُخَرَ «على وزن فُعَل أن يكونَ» بنسوة آخَرَ «على وزن أَفْعَل لأنَّ المعنى على تقديرِ مِنْ، فَعُدِلَ عن المفردِ إلى الجمع. ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ هو أليقُ به من هذا. وأما الضَّرْب الثاني فهو مُنْصَرِفٌ لِفُقْدَانِ العلةِ المذكورةِ. والفرقُ بين» أُخْرَى «التي للتفضيل و» أُخرى «التي بمعنى متأخرة أنَّ معنى التي للتفضيلِ معنى» غير «ومعنى تَيْكَ معنى متأخرة، ولكونِ الأولى بمعنى» غير «لا يجوزُ أن يكونَ ما اتصل بها إلا مِنْ جنسِ ما قبلَها نحو:» مررتُ بك وبرجلٍ آخرَ «ولا يجوزُ: اشتريت هذا الجَمَل وفرساً آخرَ لأنه من غيرِ الجنس. وأمَّا قوله: 839 - صَلَّى على عَزَّةَ الرحمانُ وابنتِها ... ليلى وصَلَّى على جاراتِها الأُخَرِ فإنه جعل ابنتَها جارةً لها، ولولا ذلك لم يَجُزْ. ومعنا التفضيل في آخَر وأوَّل وما تصرَّف منهما قلقٌ، وتحقيقُ ذلك في كتبِ النحوِ، وقد بَيَّنْتُ ذلك في» شرح التسهيل «فَلْيُلتفت إليه. وإنَّما وُصِفَت الأيام ب «أُخَر» من حيث إنها جَمْعُ ما لا يَعْقِلُ، وجَمْعُ ما لا يَعْقِلُ يجوزُ أن يعامَلَ معاملَةَ الواحدَةِ المؤنثةِ ومعاملةَ جَمْعِ الإِناث، فَمِن الأولِ: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] ، ومِنْ الثاني هذه الآيةُ ونظائرها،

وإنما أُوثِرَ هنا معاملتُه معاملَةَ الجَمْعِ لأنه لو جِيءَ به مُفْرَداً فقيل: عِدَّةٌ من أيامٍ أخرى لأوْهَمَ أنه وصفٌ لعِدَّة فيفوتُ المقصودُ. قوله: {يُطِيقُونَهُ} الجمهورُ على «يُطِيقُونه» من أطاق يُطِيق، مثل أَقامَ يُقيم. وقَرَأَ حُميد: «يُطْوِقُونه» من أَطْوقَ، كقولهم: أَطْوَلَ في أَطال، وأَغْوَلَ في أَغال، وهذا تصحيحٌ شاذ، ومثله في الشذوذ من ذواتِ الواو: أَجْوَدَ بمعنى أجاد، ومِنْ ذوات الياء: أَغْيَمتِ السماءُ وأَجْيَلَت، وأَغْيَلَتِ المرأة، وأَطْيَبَت، وقد جاء الإِعلال في الكلِ وهو القياسُ، ولم يَقُلْ بقياسِ نحو: «أَغْيَمَت» و «أطْوَل» إلا أبو زيد. وقرأ ابن عباس وابن مسعود: «يُطَوَّقونه» مبنياً للمفعول من طَوَّق مضعفاً على وزنِ قَطَّع. وقرأت عائشة وابن دينار: «يَطَّوَّقُونَه» بتشديد الطاء والواو من أَطْوَقَ، وأصلُه تَطَوَّق، فَلَمَّا أُريد إدغامُ التاءِ في الطاء قُلِبَتْ طاءً، واجْتُلِبَتِ همزةُ الوصل لتمكُّنِ الابتداءِ بالساكن، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في قولِه: {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . وقرأ عكرمة وطائفةٌ: «يَطَّيَّقونُه» بفتحِ الياء وتَشْدِيد الطاء والياء، وتُرْوى عن مجاهدٍ أيضاً. وقُرىء أيضاً هكذا لكن ببناءِ الفعل للمفعول.

وقد رَدَّ بعضُ الناسِ هذه القراءةَ. وقال ابن عطية: «تشديدُ الياء في هذه اللفظةِ ضعيفٌ» وإنما قالوا بِبُطْلاَنِ هذه القراءةِ لأنها عندهم من ذوات الواوِ وهو الطَّوْق، فمن أين تَجِيءُ الياءُ؟ وهذه القراءةُ ليست باطلةً ولا ضعيفةً، ولها تخريجٌ حسنٌ: وهو أنَّ هذه القراءةَ ليست مِنْ تَفَعَّل حتى يلزمَ ما قالوه من الإشكال، وإنما هي من تَفَيْعَل، والأصلُ: تَطَيْوَق من الطَّوْقِ، كتَدَيَّر وتَحَيَّر من الدَّوَران، والحَوْر، والأصلُ: تَدَيْوَر وتَحَيْوَرَ، فاجتمعت الياءُ والواوُ، وسبقت إحداهما بالسكونِ فقُلِبَت الواوُ ياءً، وأُدْغِمَت الياءُ في الياءِ، فكان الأصلُ: يَتَطَيْوَقُونه، ثم أُدْغِمَ بعد القلبِ، فَمَنْ قَرَأَه «يَطَّيَّقونه» بفتح الياءِ بناه للفاعل، ومَنْ ضَمَّها بَناه للمفعول. وتَحْتَمِل قراءةُ التشديد في الواوِ أو الياءِ أن تكونَ للتكلفِ، أي: يتكلَّفون إطاقَتَه، وذلك مجازٌ من الطَّوْقِ الذي هو القِلاَدَةُ، كأنه بمنزلةِ القِلادَةِ في أَعْنَاقِهِم. وأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أنَّ «لا» محذوفةٌ قبلَ «يُطِيقُونَه» وأنَّ التقديرَ: «لا يُطيقونه» ونَظَّره بقولِهِ: 840 - فحالِفْ فلا واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً ... من الأرضِ إلا أنت للذلِّ عارِفُ وقوله: 841 - آليتُ أمدحُ مُغْرَما أبداً ... يَبْقى المديحُ وَيذْهَبُ الرِّفْدُ وقوله: 842 - فقلتُ يمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قاعِداً ... ولو قَطَعوا رأسي لديك وأَوْصَالي

المعنى: لا تهبط ولا أمدح ولا أبرحُ. وهذا ليس بشيء، لأنَّ حَذْفَهَا مُلْبِسٌ، وأمَّا الأبيات المذكورةٌ فلدلالةِ القَسَمِ على النفي. والهاءُ في «يُطِيقُونَه» للصومِ، وقيل: للفِداءِ، قاله الفراء. و «فِدْيَةٌ» مبتدأٌ، خبرُهُ في الجارِّ قبلَه. والجماعةُ على تنوينِ «فِدْيَة» ورفع «طعام» وتوحيدِ «مسكين» وهشامٌ كذلك إلاَّ أنه قرأ: «مساكين» جمعاً، ونافع وابنُ ذكوان بإضافة «فدية» إلى «طعام مساكين» جمعاً. فالقراءةُ الأولى يكونُ «طعام» بدلاً من «فِدْية» بَيَّن بهذا البدلِ المرادَ بالفدية، وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوف، أي: هي طعام. وأما إضافة الفِدْية للطعامِ فمِنْ باب إضافة الشيء إلى جنسه، والمقصودُ به البيانُ كقولِك. خاتَمُ حديدٍ وثوبُ خَزٍّ وبابُ ساجٍ، لأنَّ الفِدْيَةَ تكونُ طعاماً وغيرَه. وقال بعضهم: «يجوزُ أن تكونَ هذه الإِضافة من بابِ إضافة الموصوفِ إلى الصفةِ، قال:» لأنَّ الفديةَ لها ذاتٌ وصفتُها أنَّها طعامٌ «وهذا فاسدٌ، لأنَّه: إمَّا أنَّ يريدَ بطعام المصدر بمعنى الإِطعام كالعَطاءِ بمعنى الإِعطاء، أو يريدَ به المفعولَ، وعلى كِلا التقديرين فلا يُوصف به؛ لأن المصدرَ لا يُوصَفُ به إلا عند المبالغةِ، وليسَتْ مُرادةً هنا، والذي بمعنى المفعولِ ليس جارياً على فِعْلٍ ولا ينقاسُ، لا تقولُ: ضِراب بمعنى مَضْروب، ولا قِتال بمعنى مَقْتُول، ولكونِها غيرَ جاريةً على فِعْلٍ لم تعملْ عَمَله، لا تقول:» مررت برجلٍ طعامٍ خبزُه «وإذا كانَ غيرَ صفةٍ فكيفَ يقال: أُضيف الموصوفُ لصفتِه؟

وإنَّما أُفْرِدَت» فِدْية «لوجهين، أحدُهما: أنَّها مصدرٌ والمصدرُ يُفْرَدُ، والتاء فيها ليست للمَرَّة، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث. والثاني: أنه لَمَّا أضافها إلى مضافٍ إلى الجمع أَفْهَمَتِ الجَمْعَ/، وهذا في قراءةِ» مساكين «بالجمع. ومَنْ جمع» مساكين «فلمقابلةِ الجمع بالجمعِ، ومَنْ أَفْرَدَ فعلى مراعاةِ إفرادِ العمومِ، أي: وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيق الصومَ لكلِّ يوم يُفْطِرُه إطعامُ مسكين. ونظيرهُ: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وتَبَيَّن مِنْ إفراد» المسكين «أنَّ الحكم لِكلِّ يومٍ يُفْطِرُ فيه مسكينٌ، ولا يُفْهَم ذلك من الجَمْعِ. والطعامُ: المرادُ به الإِطعامُ، فهو مصدرٌ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ، قال أبو البقاء:» لأنه أضافه إلى المسكين، وليس الطعامُ للمسكين قبل تمليكِه إياه، فلو حُمِلَ على ذلك لكان مجازاً، لأنه يصير تقديرُه: فعليه إخراجُ طعامٍ يصيرُ للمساكين، فهو من باب تسميةِ الشيءِ، بما يَؤُول إليه، وهو وإنْ كان جائزاً إلا أنه مجازٌ والحقيقةُ أولى منه «. قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قد تقدَّم نظيرُه والكلامُ مستوفىً عليه عند قولِه: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] فَلْيُلْتفت إليه. والضميرُ في قولِهِ:» فهو «ضميرُ المصدرِ المدلولِ عليه بقولِهِ:» فَمَنْ تَطَوَّع «أي: فالتطوعُ خيرٌ له و» له «في مَحَلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لخيرٍ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: خيرٌ كائنٌ له.

قوله: {وَأَن تَصُومُواْ} في تأويل مصدرٍ مرفوعٌ بالابتداء تقديرُه:» صومكم «و» خَيْرٌ «خبرُه. ومثلُه: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] وقوله: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} شرطٌ حُذِفَ جوابُهُ، تقديرُه: فالصومُ خيرٌ لكم. وحُذِفَ مفعولُ العلم: إمَّا اقتصاراً، أي: إن كنتمْ من ذوي العلم والتمييز، أو اختصاراً أي: تعلمونَ ما شرعيتُه وتبيينُه، أو فَضْلَ ما عِلِمْتُم.

185

قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} : فيه قراءتان، المشهورةُ الرفعُ، وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، وفي خبرهِ حينئذٍ قولان، الأولُ: أنه قولُه {الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملةَ مَنْبَهَةً على فَضْلِه ومَنْزِلَتِه، يعني أنَّ هذا الشهر الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ هو الذي فُرِضَ عليكم صومُهُ، والقولُ الثاني: أنه قولُه: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وتكونُ الفاءُ زائدةً وذلك على رأي الأخفشِ، وليست هذه الفاء لا تزاد في الخبرِ لشبهِ المبتدأِ بالشرطِ، وإن كان بعضُهم زَعَم أنَّها مثلُ قولِهِ: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8] وليس كذلك، لأنَّ قولِهِ: {الموت الذي تَفِرُّونَ} يُتَوَهَّم فيه عمومٌ بخلاف شهر رمضان. فإنْ قيل: أين الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين المبتدأِ؟ قيل: تكرارُ المبتدأِ بلفظِه كقوله: 843 - لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا الإِعراب - أعني كون «شهر رمضان» مبتدأ - على قولِنا: إن الأيامَ المعدوداتِ هي غيرُ رمضان، أمَّا إذا قُلْنا إنها نفسُ رمضان ففيه الوجهان الباقيان.

أحدُهما: أن يكون خَبَرَ مبتدأٍ محذوفٍ، فقدَّرَهُ الفراء: ذلكم شهرُ رمضانَ، وقدَّره الأخفش: المكتوبُ شهرُ، والثاني: أن يكونَ بدلاً مِنْ قَوْلِهِ «الصيام» أي: كُتِبَ عليكم شهرُ رمضانَ، وهذا الوجهُ وإن كان ذهب إليه الكسائي بعيدٌ جداً لوجهين، أحدُهما: كثرةُ الفصلِ بين البدلِ والمُبْدَلِ منه. والثاني: أنه لا يكونُ إذ ذاك إلا مِنْ بدلِ الإِشمالِ وهو عكسُ بدلِ الاشتمالِ، لأنَّ بدلَ الاشتمال غالباً بالمصادرِ كقوله: {عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] ، وقول الأعشى: 844 - لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثَوَيْتُه ... تَقَضِّي لُباناتٍ وَيَسْأَمُ سائِمُ وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصدرِ. ويمكن أن يوجَّهَ قولُه بأنَّ الكلامَ على حَذْفِ مضافٍ تقديرُهُ: صيامُ شهر رمضان، وحينئذٍ يكونُ من بابِ [بدلِ] الشيءِ من الشيءِ وهما لعينٍ واحدة. ويجوزُ أن يكونَ الرفعُ على البدلِ من قوله «أياماً معدوداتٍ» في قراءةِ مَنْ رَفَع «أياماً» ، وهي قراءة عبدِ الله وفيه بُعْدٌ. وأَمَّا غيرُ المشهورِ فبالنصب، وفيه أوجهٌ، أجودُها، النصبُ بإضمار

فعلٍ أي: صُوموا شهرَ رمضانَ. الثاني - وذَكَره الأخفشُ والرُمَّاني -: أن يكونَ بدلاً من قولِهِ «أياماً معدوداتٍ» ، وهذا يُقَوِّي كونَ الأيام المعدودات هي رمضانَ، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ. الثالثَ: نَصْبٌ على الإِغراء ذكره أبو عبيدة والحوفي. الرابع: أَنْ ينتصِبَ بقولِهِ: «وَأَنْ تصوموا» حكاه ابن عطية، وجَوَّزَهُ الزمخشري، وغَلَّطَهما الشيخُ: «بأنَه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصولِ وصلِتهِ بأجنبي، لأنَّ الخبرَ وهو» خيرٌ «أجنبي من الموصولِ، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصولِ إلا بعد تمامِ صلتِهِ، و» شهر «على رأيهم من تمامِ صلة» أَنْ «فامتنع ما قالوه. وليس لقائلٍ أن يقول: يتخرَّجُ ذلك على الخلافِ في الظرفِ وحَرفِ الجر فإنه يُغْتَفَرُ فيه ذلك عند بعضهم لأنَّ الظاهرَ من نصبِهِ هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ «. الخامسُ: أنه منصوبٌ ب» تَعْملون «على حَذْفِ مضافٍ، تقديرُهُ: تعلمونَ شرفَ شهرِ رمضان فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقَامَهُ في الإِعرابِ. وأَدْغم أبو عمر راء» شهر «في راء» رمضان «، ولا يُلْتفت إلى من استضعفها من حيثُ إنَّه جَمَعَ بين ساكنين على غيرِ حَدَّيْهِما، وقولُ ابن عطية:» وذلك لا تقتضيه الأصولُ «غيرُ مقبولٍ منه، فإنَّه إذا صَحَّ النقلُ لا يُعارَضُ بالقياس. والشهرُ لأهلِ اللغة فيه قولان، أشهرهُما: أنه اسمٌ لمدةِ الزمانِ التي

يكونُ مَبْدَؤُها الهلال خافياً إلى أن يَسْتَسِرَّ، سُمِّي بذلك لِشُهْرَتِهِ في حاجةِ الناسِ إليه من المعلوماتِ. والثاني - قاله الزجاج - أنه اسمٌ للهلالِ نفسه. قال: 845 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... والشهرُ مثلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ سُمِّي بذلك لبيانِهِ، قال ذو الرُّمَّة: 846 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَرى الشهرَ قبلَ الناسِ وهو نَحِيلُ يقولون: رَأَيْتُ الشهرَ أي: هلاله، ثم أُطْلِقَ على الزمانِ لطلوعِهِ فيه، ويقال: أَشْهَرْنا أي: أتى علينا شهرٌ. قال الفراء:» لم أَسْمَعْ فعلاً إلاَّ هذا «قال الثعلبي:» يُقال شَهَرَ الهِلالُ إذا طَلَعَ «. ويُجْمَعُ في القلةِ على أَشْهُر/ وفي الكثرةِ على شُهور. وهما مَقِيسان. ورمضانُ علمٌ لهذا الشهر المخصوصِ وهو علمُ جنسٍ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ، أحدُهما: أنَّه وافق مجيئه في الرَّمْضَاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّي بذلك، كربيع لموافقتِه الربيعَ، وجُمادى لموافقتِه جمود الماء، وقيل: لأنه يَرْمَضُ الذنوبَ أي: يَحْرِقُها بمعنى يَمْحُوها. وقيل: لأنَّ القلوبَ تَحْتَرق فيه من الموعظة. وقيل: من رَمَضْتُ النَّصْلَ دَقَقْتُه بين حجرينِ ليَرِقَّ

يقال: نَصْلٌ رَميض ومَرْموض. وكان اسمه في الجاهليةِ ناتِقاً. أنشد المفضَّل: 847 - وفي ناتِقٍ أَجْلَتْ لدى حَوْمةِ الوَغى ... وولَّتْ على الأدبارِ فُرْسانُ خَثْعَمَا وقال الزمشخري:» الرَّمَضانُ مصدرُ رَمِضَ إذا احترَق من الرَّمْضاء «قال الشيخ:» وَيَحْتَاج في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صحةِ نقلٍ، فإن فَعَلاناً ليس مصدرَ فَعِل اللازم، بل إِنْ جاءَ منه شيءٌ كان شاذَّاً «. وقيل: هو مشتقٌّ من الرَّمَضِيّ وهو مَطَرٌ يأتي قبلَ الخريفِ يُطَهِّر الأرضَ من الغبار فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذنوب. والقرآنُ في الأصلِ مصدرُ» قَرَأْتُ «، ثم صارَ عَلَماً لِما بين الدَّفَّتْينِ ويَدُلُّ على كونِه مصدراً في الأصلِ قولُ حَسَّان في عثمانَ رضي الله عنهما: 848 - ضَحُّوا بأَشْمَطَ عنوانُ السجودِ به ... يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحاً وقُرْآنا وهو مِنْ قَرَأَ بالهمزِ أي: جَمَعَ، لأنه يَجْمَعُ السورَ والآيات والحِكَمَ والمواعِظَ والجمهورُ على همزه، وقرأ ابنُ كثير من غيرِ همزٍ. واختُلِفَ في تخريج قراءته على وَجْهَيْن أَظهرُهما: أنه من باب النقلِ، كما يَنْقُل ورش حركةَ الهمزة إلى الساكنِ قبلَها ثم يَحْذِفُها في نحوِ: {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون: 1] وهو وإنْ لم يكنْ أصلُه النقلَ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرةِ الدَّوْر وجمعاً بين اللغتين.

والثاني: أنه مشتقٌّ عنده مِنْ قَرَنْتُ بين الشيئين، فيكونُ وزنُهُ على هذا: فُعالاً، وعلى الأول. فُعْلاناً، وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السورِ والآياتِ والحِكَمْ والمواعِظِ. وأما قولُ مَنْ قال إنَّه مشتقٌّ مِنْ قَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ أي جَمَعْتُه فغلطٌ، لأنَّهما مادتان متغايرتان. و «القرآنُ» مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله، ومعنى {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} : أنَّ القرآن نَزَلَ فيه فهو ظرفٌ لإِنزالِه: قيل في الرابع والعشرين منه، وقيل: أُنْزِلَ في شأنِه وفضلِه، كقولك «أُنِزِلَ في فلانٍ قرآنٌ» . قوله: {هُدًى} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن، والعاملُ فيه «أُنْزِلَ» وهُدَىً ومصدرٌ، فإمَّا أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا هدى أو على وقوعِه موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: هادياً، أو على جَعْلِه نفسَ الهُدى مبالغةً. قوله: {لِّلنَّاسِ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ ب «هُدَىً» على قولِنا بأنه وَقَعَ مَوْقِعَ «هادٍ» ، أي: هادياً للناس. والثاني: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للنكرةِ قبلَه، ويكونُ محلُّه النصبَ على الصفةِ، ولا يجوزُ أَنْ يكون «هُدَىً» خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: «هو هدى» لأنه عُطِفَ عليه منصوبٌ صريحٌ وهو: «بَيِّنات» ، و «بَيِّنات» عطفٌ على الحالِ فهي حالٌ أيضاً، وكِلا الحالَيْنِ لازمةٌ، فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ، وهذا من باب عطف الخاص على العامَّ، لأنَّ الهدى يكونُ بالأشياء الخفيَّة والجليَّةِ، والبَيِّنات من الأشياء الجَلِيَّة. قوله: {مِّنَ الهدى والفرقان} هذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌُ لقوله: «هدىً وبَيِّناتٍ» فمحلُّه النصبُ، ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي: إنَّ كَوْنَ القرآنِ هدىً وبّيِّناتٍ «هو من جملةِ هُدَى الله وبَيِّناتِه؛ وعَبَّر عن البيناتِ بالفرقان ولم يأتِ» من الهُدى والبينات «فيطابقْ العجزُ الصدر لأنَّه فيه مزيدٌ معنىً لازم للبينات

وهو كونُه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ، ومتى كان الشيءُ جليَّاً واضحاً حَصَل به الفرقُ، ولأنَّ في لفظِ الفرقانِ تواخيّ الفواصِلِ قبله، فلذلك عَبَّر عن البينات بالفرقان. وقال بعضُهم:» المرادُ بالهُدى الأولِ أصولُ الدياناتِ وبالثاني فروعُها «. وقال ابنُ عطية:» اللامُ في الهُدى للعهدِ، والمرادُ الأولُ «يعني أنه تقدَّم نكرةٌ، ثم أُعيد لفظُها معرفاً بأل، وما كان كذلك كانَ الثاني فيه هو الأولَ نحو قولِه: {إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15-16] ، ومِنْ هنا قال ابن عباس: «لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن» وضابطُ هذا أَنْ يَحُلَّ محلَّ الثاني ضميرُ النكرةِ الأولى، ألا ترى أنه لو قيل: فعصاه لكان كلاماً صحيحاً «. قال الشيخ:» وما قاله ابنُ عطية لا يتأتَّى هنا، لأنه ذَكَرَ هو والمُعْرِبُون أنَّ «هدى» منصوبٌ على الحالَ، والحالُ وَصْفٌ في ذي الحال، وعَطَفَ عليه «وَبيِّنات» فلا يَخْلو قولُه «من الهدى» - والمرادُ به الهدى الأولُ - من أن يكونَ صفةً لقولِه «هُدَىً» أو لقولِهِ «وبيناتٍ» أَوْ لهما، أو متعلِّقاً بلفظ «بينات» . لا جائزٌ أن يكونَ صفةً ل «هدى» لأنه مِنْ حيثُ هو وَصْفٌ لزم أن يكونَ بعضاً، ومن حيث هو الأولُ لَزِم أن يكونَ إياه، والشيء الواحدُ لا يكونُ بعضاً كُلاًّ بالنسبةِ لماهِيَّته، ولا جائزٌ أَنْ يكونَ صفةً لبيناتٍ فقط لأنَّ «وبينات» معطوفٌ على «هُدَى» و «هُدَى» حالٌ، والمعطوفُ على الحالِ حالٌ، والحالانِ وصفٌ في ذي الحال، فمِنْ حيثُ كونُهما حالَيْن تَخَصَّص بهما ذو الحال إذ هما وَصْفان، ومِنْ حيثُ وُصِفَتْ «بَيِّنات» بقوله: «مِنَ الهدى» خَصَصْناها به/ فتوقَّفَ تخصيصُ القرآن على قوله: «هُدَىً وَبَيَّنات» معاً، ومن حيثُ جَعَلْتَ «مِنَ الهدى» صفةً لبيِّنات وتَوَقَّفَ تخصيصُ «بيِّنات» على «هُدَى» فَلَزِمَ من ذلك

تخصيصُ الشيءِ بنفسِه وهو مُحالٌ. ولا جائزٌ أَنْ يَكونَ صفةً لهما لأنه يَفْسُدُ من الوجهينِ المذكورينِ مِنْ كونِه وَصَفَ الهدى فقط، أو بينات فقط. ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق بلفِظِ «بينات» لأنَّ المتعلَّقَ قَيْدٌ في المتعلَّقِ به، فهو كالوصفِ فيمتنع من حيثُ يمتنعُ الوصفُ، وأيضاً فلو جَعَلْتَ هنا مكانَ الهدى ضميراً فقلْتَ: منه، أي: من ذلك الهُدى لم يَصِحَّ، فلذلك اخْتَرْنا أن يكونَ الهُدى والفرقانُ عامَّيْنِ حتى يكونَ هُدَى وبينات بعضاً منهما «. قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} » مَنْ «فيها الوجهانِ: أعني كونَها موصولةً أو شرطيةً، وهو الأظهرُ. و» منكم «في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في» شَهِدَ «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً منكم. وقال أبو البقاء:» منكم «حالٌ من الفاعلِ، وهي متعلقةٌ ب» شِهِدَ «. قال الشيخ:» فَناقَضَ، لأنَّ جَعْلَهَا حالاً يوجِبُ أَن يكونَ عاملُها محذوفاً، وجَعْلَها متعلقةً بشَهِدَ يوجِبُ ألاَّ تكونَ حالاً «. ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن اعتراضِ الشيخ عليه بأنَّ مرادَه التعلُّق المعنوي، فإنَّ كائناً الذي هو عاملٌ في قولِه» منكم «هو متعلِّقٌ بشَهِدَ، وهو الحالُ حقيقةً. وفي نَصْبِ» الشهر «قولان، أحدُهما: أنَّه منصوبٌ على الظرف، والمرادُ بشَهِدَ: حَضَر ويكونُ مفعولُ» شَهِدَ «محذوفاً تقديرُه: فَمَنْ شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلدَ في الشهرِ. والثاني: أنه منصوبٌ على المفعولِ به، وهو على حَذْفِ مضافٍ. ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف: فالصحيحُ أنَّ تقديره «دخول الشهر» . وقال بعضُهم: هلال الشهر، وهذا ضعيفٌ لوجهين، أحدهما: أنك لا تقول: شَهِدْتُ الهلالَ، إنما تقول: شاهَدْتُ الهِلالَ.

والثاني: أنه كان يَلْزَمُ الصومَ كلُّ مَنْ شَهِدَ الهلالَ، وليس كذلك. وقال الزمخشري: «الشهرَ منصوبٌ على الظرف، وكذلك الهاءُ في» فَلْيَصُمْه «، ولا يكونُ مفعولاً به كقولك: شَهِدْتُ الجمعة، لأنَّ المقيمَ والمسافِرَ كِلاهُما شاهِدَان للشهرِ» وفي قوله: «الهاء منصوبةٌ على الظرفِ» فيه نظرٌ لا يَخْفَى، لأنَّ الفعلَ لا يتعدَّى لضميرِ الظَرْفِ إلا ب «في» ، اللهم إلاَّ أَنْ يُتَوَسَّع فيه، فَيُنْصَبَ نَصْبَ المفعولِ به، وهو قد نَصَّ على أَنَّ نَصْبَ الهاءِ أيضاً على الظرفِ. والفاءُ في قولِه: «فَلْيَصُمْهُ» : إمَّا جوبُ الشرطِ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حَسَبِ ما تقدَّم في «مَنْ» ، واللامُ لامُ الأمرِ. وقرأ الجمهورُ بسكونِها وإنْ كان أصلُها الكسرَ، وإنما سكَّنوها تشبيهاً لها مع الواوِ والفاءِ ب «كَتِف» ، إجراءً للمنفصِلِ مُجْرَى المتصلِ. وقرأ السلمي وأبو حَيْوة وغَيرُهُما بالأصل، أعني كسر لامِ الأمر في جميعِ القرآن. وفَتْحُ هذه اللامِ لغةُ سُلَيْم فيما حكاه الفراء، وقَيَّد بعضُهم هذا عن الفراء، فقال: «مِنَ العرب مَنْ يفتحُ هذه اللام لفتحةِ الياء بعدها» ، قال: «فلا يكونُ على هذا الفتحُ إنِ انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ نحو: لِيُنْذِرُ، ولِتُكْرِمْ أنتَ خالداً» . والألفُ واللامُ في قولِه {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} للعهدِ إذ لو أَتَى بدَله بضميرٍ فقالَ: فَمَنْ شَهِدَه منكم لَصَحَّ، إلا أنَّه أَبْرزه ظاهراً تَنْويهاً به. قوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} تقدَّم معنى الإِرادة واشتقاقُها عند قوله تعالى: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا} [البقرة: 26] . و «أراد» يتعدى في الغالبِ إلى الأجْرام بالياء

وإلى المصادرِ بنفسِه كالآيةِ الكريمةِ، وقد يَنعكِسُ الأمرُ، قال الشاعر: 849 - أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ ... عَراراً لعَمْرِي بالهَوانِ فَقَدْ ظَلَمْ والباءُ في «بكم» قالَ أبو البقاء: «للإِلصاقِ، أي: يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ وهو من مجازِ الكلامِ، أي: يريدُ اللهُ بفِطْركم في حالِ العُذْرِ اليسرَ. وفي قولِه: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} تأكيدٌ، لأنَّ قبلَه {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} وهو كافٍ عنه. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب وابن هرمز:» اليُسُر والعُسُر «بضمّ السين، واختلف النحاةُ: هل الضَمُّ أصلٌ والسكونُ تخفيفٌ، أو الأصلُ السكونُ والضمُّ للإِتباعِ؟ الأولُ أظهرُ لأنه المعهودُ في كلامِهم. قوله: {وَلِتُكْمِلُواْ} في هذه اللام ثلاثةُ أقوالٍِ، أحدُها: أنها زائدةٌ في المفعولِ به كالتي في قولك: ضَرَبْتُ لزيدٍ، و «أَنْ» مُقَدَّرةٌ بعدَها تقديرُه: «ويريد أنْ تُكمِلوا العِدَّة» أي: تكميلَ، فهو معطوفٌ على اليُسْر. ونحوُه قولُ أبي صخر: 850 - أريدُ لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ طريقِ وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء، وإنما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المفعولِ - وإنْ كان ذلك إنما يكونُ إذا كان العاملُ فرعاً

أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طالَ. الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه فَعُدِّي بزيادة اللام قياساً لضَعْفِه بطولِ الفصلِ على ضَعْفِه بالتقديم. الثاني: أنَّها لامُ التعليل وليسَتْ بزائدةٍ، واختلَفَ القائلون بذلك على ستةِ أوجه أحدُها: أن يكونَ بعدَ الواوِ فعلٌ محذوفٌ / وهو المُعَلَّل تقديرُه: «ولِتُكْمِلوا العِدَّة فَعَلَ هذا» ، وهو قولُ الفراء. الثاني - وهو قولُ الزجاج - أن تكونَ معطوفةً على علة محذوفةٍ حُذِفَ معلولُها أيضاً تقديرُه: فَعَلَ الله ذلك لِيُسَهِّل عليكِم ولِتُكْمِلوا. الثالث: أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعد هذه العلةِ تقديرُه: «ولِتُكْمِلوا العدَّةَ رخَّص لكم في ذلك» ونَسبه ابن عطية لبعض الكوفيين. الرابع: أنَّ الواوَ زائدةٌ تقديرُه: يريد الله بكم كذا لِتُكْمِلوا، وهذا ضعيفٌ جداً. الخامسُ: أَنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعدَ قولِه: «ولَعَلَّكم تَشْكُرون» ، تقديرُه: شَرَعَ ذلك، قاله الزمخشري، وهذا نصُّ كلامِه قال: «شَرَعَ ذلك، يَعني جُملةَ ما ذَكَر من أمرِ الشاهدِ بصومِ الشهرِ وأمرِ المرخَّصِ له بمراعاةِ عِدَّةِ ما أَفْطَر فيه ومن الترخيص في إباحةِ الفطر، فقولُه:» ولِتُكْمِلوا «علَّةُ الأمر بمراعاةِ العدَّة، و» لِتُكَبِّروا «علةُ ما عُلِم من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةِ الفِطْر و» لعلَّكم تَشْكرون «علةُ الترخيصِ والتيسير، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيفُ المَسْلَكِ، لا يهتدي إلى تبينُّه إلا النُّقَّابُ من علماءِ البيانِ» . السادس: أن تكونَ الواوُ عاطفةً على علةٍ محذوفةٍ، التقديرُ: لتعملوا ما تعلَمون ولِتُكْملوا، قاله الزمخشري، وعلى هذا فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسيرِ. واختصارُ

هذه الأوجهِ أَنْ تكونَ هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ: إمّا قبلَها وإمَّا بَعدَها، أو تكونَ علةً للفعلِ المذكور قبلَها وهو «يُريد» . الثالث: أنَّها لامُ الأمرِ، وتكونُ الواوُ قد عَطَفَتْ جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ، فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ، وعلى ما قبلَه يكونُ من عَطْفِ المفردات كما تقدَّم تقريرُه، وهذا قولُ ابنِ عطية، وضَعَّفه الشيخُ بوجهَيْنِ، أحدُهما: أنَّ أَمْرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِه لغةٌ قليلةٌ نحوُ: لِتَقُمْ يا زيد، وقد قرىء شاذاً: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] بتاء الخطاب. والثاني: أن القُرَّاءَ أَجْمَعُوا على كسرِ هذه اللامِ، ولو كانَتْ للأمرِ لجاز فيها الوجهان: الكسرُ والإِسكانُ كأخواتها. وقرأ الجمهورُ «ولِتُكْمِلوا» مخففاً من أَكْمل، والهمزةُ فيه للتعدية. وقرأ أبو بكر بتشديدِ الميم، والتضعيفُ للتعديةِ أيضاً؛ لأنَّ الهمزةَ والتضعيفَ يتعاقبان في التعديةِ غالباً، والألفُ واللامُ في «العِدَّة» تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أحدُهما: أنها للعهدِ فيكونُ ذلك راجعاً إلى قولِه تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهذا هو الظاهرُ، والثاني: أَنْ تكونَ للجنسِ، ويكونُ ذلك راجعاً إلى شهرِ رمضانَ المأمورِ بصومِه، والمعنى أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين. واللامُ في «وَلِتُكَبِّروا» كهي في «ولِتُكْمِلوا» ، فالكلام فيها كالكلام فيها، إلاَّ أنَّ القولَ الربعَ لا يتأتَّى هنا. قوله: {على مَا هَدَاكُمْ} هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب «تُكَبِّروا» . وفي «على»

قولان، أحدُهما: أنها على بابِها من الاستعلاءِ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبيرِ بها لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ. قال الزمخشري: «كأنَّه قيل: ولِتُكَبِّروا الله حامِدين على ما هَدَاكم» قال الشيخ: «وهذا منه تفسيرُ معنى لا إعراب، إذ لو كان كذلك لكانَ تعلُّقُ» على «ب» حامدين «التي قَدَّرها لا ب» تُكَبِّروا «، وتقديرُ الإِعراب في هذا هو:» ولِتَحْمَدُوا الله بالتكبيرِ على ما هداكم، كما قدَّره الناسُ في قوله: 851 - قد قَتَلَ اللهُ زياداً عَنِّي ... أي: صَرَفَه بالقتلِ عني، وفي قولِه: 852 - ويَرْكَبُ يومَ الرَّوْع مِنَّا فوارِسٌ ... بصيرونَ في طَعْن الكُلى والأباهِرِ أي: متحكِّمون بالبصيرة في طَعْن الكُلى «. والثاني: أنها بمعنى لامِ العلَّةِ، والأول أَولَى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ. و» ما «في قوله: {على مَا هَدَاكُمْ} فيها وجهان، أظهرهُما: أنها مصدريةٌ، أي: على هدايته إياكم. والثاني: أنَّها بمعنى الذي. قال الشيخ:» وفيهُ بَعُدٌ مِنْ وَجْهَيْن، أحدُهما: حَذْفُ العائدِ تقديرُه: هداكُموه «وقَدَّره منصوباً لا مجروراً باللامِ ولا بإلى، لأنَّ حَذْفَ المنصوبِ أسهلُ،

والثاني: حَذْفُ مضافٍ يَصِحُّ به معنى الكلامِ، تقديرُه: على اتِّباع الذي هَداكُمْ أو ما أَشْبَهَه» . وخُتِمَتْ هذه الآية بترجِّي الشكر لأنَّ قبلَها تيسيراً وترخيصاً، فناسَبَ خَتْمَها بذلك. وخُتمت الآيتان قبلَها بترجِّي التقوى، وهو قولُه: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقولُه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 178] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليفِ، فناسَب خَتْمَها بذلك، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّب بترجي الشكر غالباً، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصِ عَقَّب بترجي التقوى وشِبْهِها، وهذا من محاسِن علمِ البيانِ.

186

قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ} : في «أُجيب» وجهانِ أحدُهما: أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل «قَرِيبٌ» والثاني أنها خبرٌ ثانٍ لإِنِّي، لأنَّ «قريب» خبرٌ أولُ. ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعدَ فاء الجزاء تقديرُه: فَقُلْ لهم إني قَرِيبٌ، وإنما احتُجْنا إلى هذا التقديرِ لأنَّ المترتِّب على الشرط الإِخبارُ بالقُرْبِ. وجاء قولُه «أجيب» مراعاةً للضميرِ السابقِ على الخبرِ، ولم يُراعَ الخبرُ فيقالُ: «يُجيبُ» بالغَيْبَة مراعاةً لقولِه: «قريبٌ» لأنَّ الأَشهَر من طريقتي العرب هو الأولُ، كقوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] وفي أخرى {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] ، وقولِ الشاعر:

853 - وإنَّا لَقَوْمٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً ... إذا ما رَأَتْهُ عامِرٌ وسَلُولُ / ولو راعى الخبر لقال: «مَا يَرَوْنَ القَتْلَ» . وفي قوله: {عَنِّي} و «إنِّي» التفاتٌ من غَيْبَة إلى تَكَلُّمٍ، لأنَّ قبلَه، «ولتُكَّبِّروا الله» والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ. والكافُ في «سألَكَ» للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنْ لم يَجْرِ لَه ذكْرٌُ، إلاَّ أنَّ قولَه: {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} يَدُلُّ عليه، لأنَّ تقديره: «أُنْزِلَ فيه القرآنُ على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وفي قوله: «فإني قريب» مجازٌ عن سرعةِ إجابته لدعوةِ داعيه، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحس لتعاليه عن المكان، ونظيرُه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] ، «» هو بَيْنَكم وبين أَعْنَاق رواحلِكم « والعاملُ في» إذا «قال الشيخ:» قولُه: أُجيبُ «يعني» إذا «الثانيةَ فيكونُ التقديرُ: أُجيبُ دعوته وقتَ دعائِه، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمجردِ الظرفية وأَنْ تكونَ شرطيةً، وحذف جوابها لدلالةِ» أُجِيْبُ «عليه، وحينئذٍ لا يكونُ» أُجيبُ «هذا الملفوظُ به هو العامل فيها، بل ذلك المحذوفُ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجيز تقديمَه على الشرط، وأمَّا» إذا «الأولى فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ. والهاء في» دعوة «ليستْ الدالَّة على المَرَّة نحو: ضَرْبَة وقَتْلَة، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ نحو: رَحْمة ونَجْدة، فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة. والياءان من قولِه:» الداع - دعانِ «من الزوائدِ عند القُرَّاء، ومعنى ذلك أنَّ الصحابَة لم تُثْبِتْ لها صورةً في المصحفِ، فمن القُرَّاء مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسم وَقْفاً ووَصْلاً، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَيْن، ومنهم مَنْ يُثْبِتَها وَصَّلاً

ويَحْذِفُها وَقْفاً، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستون ياءً، ومعرفةُ ذلك مُحَالةُ على كتبِ القراءاتِ، فَأَثْبَتَ أبو عمروٍ وقالون هاتين الياءيْن وَصْلاً وحَذَفَاها وقفاً. قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} في الاستفعالِ هنا قولان، أحدُهما: أنَّه للطلب على بابِه، والمعنى: فَلْيَطْلبُوا إجابتي قاله ثعلب. والثاني: أنه بمعنى الإِفعال، فيكون استفعل وأَفْعَل بمعنىً، وقد جاءَتْ منه ألفاظٌ نحو: أقرَّ واستقرَّ؛ وأبَلَّ المريضُ واسْتَبَلَّ، وأحصدَ الزرعُ واستحصد، واستثار الشيء وأثارَه، واستعجله وأَعْجَله، ومنه استجابَهُ وأجَابَهُ، وإذا كان استفعل بمعنى أَفْعَل فقد جاء متعدِّياً بنفسه وبحرف الجرِّ، إلا أنه ل يَرِدْ في القرآن إلاَّ مُعَدَّىً بحرف الجرِّ نحو: {فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 84] فاستجاب لَهُمْ «، ومِنْ تعدِّيه بنفسِه قوله: 854 - وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ ولقائلٍ أن يقولَ: يَحْتَمِلُ هذا البيتُ أَنْ يكونَ مِمَّا حُذِفَ منه حرفُ الجر. واللامُ لامُ الأمر، وفَرَّق الرماني بين أَجاب واستجاب: بأنَّ» استجاب «لا يكون إلا فيما فيه قبول لِما دُعِي إليه نحو: {فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 76] {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] ، وأمَّا» أجاب «فأعمُّ لأنه قد يُجيب بالمخالفة، فَجَعَل بينهما عموماً وخصوصاً.

والجمهورُ على» يَرْشُدون «بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ، وماضيه رَشَدَ بالفتح وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين، وقُرىء بفتحها. وماضيه رَشِد بالكسر، وقرىء، يُرْشَدون» مبنياً للمفعول، وقرىء: «يُرْشِدُونَ» بضم الياء وكسر الشين من أَرْشد. المفعولُ على هذا محذوفٌ تقديرُه: يُرْشِدون غيرَهم.

187

قوله تعالى: {لَيْلَةَ الصيام} : منصوبٌ على الظرفِ، وفي الناصبِ له ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنه «أُحِلَّ» ، وليس بشيءٍ، لأنَّ الإِحلال ثابتٌ قبلَ ذلك الوقتِ. الثاني: أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ «الرفث» ، تقديرُه: أُحِلَّ لكم أن تَرْفُثوا ليلة الصيامِ، كما خَرَّجوا قول الشاعر: 855 - وبعضُ الحِلْم عِند الجَهْ ... لِ للذلَّةِ إذْعان أي: إذعان للذلة إذعانٌ، وإنما لم يَجُزْ أن يَنْتَصِب بالرَّفَثِ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على الموصولِ فلذلك احْتُجْنا إلى إضمار عاملٍ مِنْ لفظ المذكورِ. الثالث: أنه متعلِّق بالرفثِ، وذلك على رَأْي مَنْ يرى الاتساعَ في الظروف والمجرورات، وقد تقدَّم تحقيقه. وأضيفت الليلة اتساعاً لأنَّ شرطَ صحتِه وهو النيةُ موجودةٌ فيها، والإِضافة [تحصُل] بأدنى ملابسةٍ، وإلاَّ فمِنْ حَقِّ الظرف المضاف إلى حَدَثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدثُ في جزء من ذلك الظرف، والصومُ في الليلِ غيرُ معتبرٍ، ولكنَّ المُسَوِّغَ لذلك ما ذَكرْتُ لك.

والجمهورُ على «أُحِلَّ» مبنياً للمفعولِ للعلمِ به وهو اللَّهُ تعالى، وقرىء مبنياً للفاعلِ، وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ من باب الإِضمارِ لفَهْمِ المعنى، أي أَحَلَّ اللَّهُ، لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّل والمحرِّم. والثاني: أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قولِهِ: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} وهو المتكلمُ، ويكونُ ذلك التفاتاً، وكذلك في قوله «لكم» التفاتٌ من ضميرِ الغَيْبة في: «فَلْيَسْتجيبوا وَلْيؤمنوا» . وعُدِّي «الرفث» بإلى، وإنما يتعدَّى بالباء لِما ضُمِّن مِنْ معنى الإِفضاء، كأنه قيل: أُحِلَّ لكم الإِفضاءُ إلى نسائِكم بالرَّفَث. وقرأ عبد الله «الرَّفوث» . والرَّفَثُ لغةً مصدرُ: رَفَثَ يَرْفُث إذا تكلم بالفُحْشِ، وأَرْفَثَ أتى بالرَّفَثِ، قال العجاج: 856 - ورُبَّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ ... عن اللَّغا وَرَفَثِ التكلُّم وقال الزجاج: - ويُروى عن ابن عباس - «إن الرفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجلُ من المرأة» . وقيل: الرفث: الجِماعُ نفسُه، وأنشد: 857 - ويُرَيْنَ من أَنَسِ الحديثِ زوانيا ... ولَهُنَّ عن رَفَثِ الرجالِ نفارُ وقول الآخر: 858 - فَظِلْنَا هنالِكَ في نِعْمَةٍ ... وكلِّ اللَّذاذَةِ غيرَ الرَّفَثْ

ولا دليل فيه لاحتمالِ إرادة مقدمات الجِماع كالمداعَبَةِ والقُبْلَةِ، وأنشد ابنُ عباس وهو مُحْرِمٌ: / 859 - وهُنَّ يَمْشِين بنا هَمِيسا ... إنْ يَصْدُقِ الطيرُ نَنِكَ لَمِيسا فقيل له: رَفَثْتَ، فقال: إنما الرَّفَث عند النساء. قوله: {كُنتُمْ تَخْتانُونَ} في محلِّ رفعٍ خبرٌ لأنَّ. و «تَخْتانون» في محلِّ نصبٍ خبرٌ لكان. قال أبو البقاء: «وكُنْتُم هنا لفظُها لفظُ الماضي ومعناها المضيُّ أيضاً، والمعنى: أن الاختيان كان يقعُ منهم فتاب عليهم منه، وقيل: إنه أرادَ الاختيان في الاستقبال، وذَكَرَ» كان «ليحكي بها الحالَ كما تقول: إن فعلت كنت ظالماً» وفي هذا الكلامِ نظرٌ لا يَخْفى. و «تَخْتَانون» تَفْتَعِلُون من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ لقولِهم: خانَ يخُون، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خانَ يَخُون خَوْناً وخِيانة، وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشيءَ تَنَقَّصْتُه، قال زهير: 860 - بآرِزَةِ الفَقَارَةِ لم يَخُنْهَا ... قِطافٌ في الرِّكاب ولا خِلاءُ وقال الزمخشري: «والاختيانُ: من الخيانة كالاكتساب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة» يعني من حيثُ إن الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى، كما قَدَّمَهُ في قولِهِ الرحمنُ الرحيمُ. وقيل هنا: تختانون أَنْفُسَكُم أي:

تتعهدونها بإتيانِ النساء، وهذا يكون بمعنى التخويل، يقال: تَخَوَّنه وَتَخَوَّله بالنون واللام، بمعنى تَعَهَّده، إلا أنَّ النونَ بدلٌ من اللام، لأنه باللامِ أشهرُ. و «عَلِمَ» إنْ كانَتِ المتعدية لواحد بمعنى عَرَف، فتكونُ «أنَّ» وما في حيِّزها سادَّة مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ، وإن كانتِ المتعديةَ لاثنينِ كانَتْ سادةً مَسَدَّ المفعولينِ على رأي سيبويه، ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ على مذهبِ الأخفش. وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} لا محلَّ له من الإِعراب، لأنه بيانٌ للإِحلالِ فهو استئنافٌ وتفسيرٌ: وقَدَّمَ قولَه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} على {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} تنبيهاً على ظهورِ احتياجِ الرجل للمرأةِ وعَدَم صَبْرِهِ عنها، ولأنَّه هو البادىءُ بطلبِ ذلك، وكَنَى باللباسِ عن شِدَّة المخالَطَةِ كقولِهِ - هو النابغة الجَعْدِي -: 861 - إذا ما الضجيعُ ثُنَى جيدَها ... تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا وفيه أيضاً: 862 - لَبِسْتُ أُناساً فَأَفْنَيْتُهُمْ ... وَأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا قوله: {فالآن بَاشِرُوهُنَّ} قد تقدَّم الكلامُ على «الآن» . وفي وقوعِهِ ظرفاً للأمرِ تأويلٌ، وذلك أنه للزمنِ الحاضِرِ والأمرُ مستقبلٌ أبداً، وتأويلُهُ ما قاله أبو البقاء قال: «والآن: حقيقَتُه الوقتُ الذي أَنْتَ فيه، وقد يقع على

الماضي القريب منكَ، وعلى المستقبلِ القريبِ، تنزيلاً للقريبِ منزلةَ الحاضِرِ، وهو المرادُ هنا، لأنَّ قولَه:» فالآن باشِروهُنَّ «أي: فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكم فيه الجِماعُ من الليل» وقيل: هذا كلامٌ محمولٌ على معناه، والتقدير: فالآن قد أَبَحْنا لكم مباشَرَتَهُنَّ، ودَلَّ على هذا المحذوفِ لفظُ الأمرِ فالآن على حقيقته وقرىء: «واتَّبِعُوا» من الاتِّباع، وتُرْوى عن ابن عباس ومعاوية ابن قرة والحسن البصري. وفَسَّروا «ما كَتَبَ اللَّهُ» بليلةِ القدر، أي: اتَّبِعوا ثوابها، قال الزمخشري: «وهو قريبٌ من بِدَعِ التفاسير» . قوله: {حتى يَتَبَيَّنَ} «حتى» هنا غايةٌ لقولِهِ: «كُلُوا واشربوا» بمعنى إلى، ويقال: تَبَيَّن الشيءُ وأبان واستبان وبانَ كُلُّه بمعنىً، وكلُّها تكونُ متعديةٌ ولازمةً، إلاَّ «بان» فلازمٌ ليس إلاَّ. و «مِن الخيط» مِنْ لابتداءِ الغاية وهي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ ب يتبيَّن، لأنَّ المعنى: حتى يُبايِن الخيطُ الأبيضُ الأسودَ. و «من الفجر» يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ تبعيضيةً فتتعلَّق أيضاً ب «يتبيَّن» ؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ وهو بعَضُ الفجرِ وأولُه، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ بعاملٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في الأبيض، أي: الخيطُ الذي هو أبيضُ كائناً من الفجرِ، وعلى هذا يجوزُ أن تكونُ «مِنْ» لبيانِ الجنس كأنه قيل

الخيطُ الأبيضُ الذي هو الفجرُ. والثالث: أن يكونَ تمييزاً، وهو ليس بشيء، وإنما بَيَّن قولَه «الخيط الأبيض» بقولِهِ: «مِنَ الفجرِ» ، ولم يُبَيِّن الخيطَ الأسود فيقول: مِنَ الليلِ اكتفاءً بذلك، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاك لأنَّه هو المَنُوط به الأحكامُ المذكورةُ من المباشَرَةِ والأكلِ والشُّرْبِ. وهذا من أحسنِ التشبيهات حيث شَبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ، حتى إنه لما ذَكَر عَديُّ بن حاتَمٍ لرسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه فَهِمَ من الآية حقيقةَ الخيطِ تعجَّب منه، وقال: «إن وسادَك لَعَرِيض» ويُروى: «إنك لعريضُ القَفَا» وقد رُوي أنَّ بعضَ الصحابة فَعَلَ كَفِعْل عَدِيّ، ويُرْوى أن بينَ قولِهِ «الخيط الأبيض» «من الخيط الأسود» عاماً كاملاً في النزولِ. وهذا النوعُ من بابِ التشبيهِ من الاستعارة، لأنَّ الاستعارَة هي أَنْ يُطْوَى فيها ذِكْرُ المُشَبَّهِ، وهنا قد ذُكِرَ وهو قولُهُ: «من الفجر» ، ونظيرُهُ قولُكَ: «رأيت أسداً من زيدٍ» لو لم تَذْكُر: «من زيدٍ» لكانَ استعارةً. ولكنَّ التشبيهَ هنا أبلغُ، لأنَّ الاستعارة لا بد فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثَمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلُ ذلك على الحقيقةِ مدةً، حتى نَزَلَ «مِنَ الفَجْرِ» فَتُرِكَتْ الاستعارة وإنْ كانَتْ أبلغَ لِمَا ذَكَرْتُ لك. والفجرُ مصدر فَجَرَ يَفْجُرُ أي: انشَقَّ. قوله: {إِلَى الليل} فيه وجهان: أحدُهما: أنه متعلِّق بالإِتمامِ فهو غايةٌ له. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الصيام، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً إلى الليل، و «إلى» إذا كان ما بعدها من غيرِ جنسِ ما قبلَها لم يدخُلْ فيه، والآيةُ من هذا القبيلِ.

«وأنتم عاكفون» جملةٌ حاليةٌ من فاعل «تباشروهُنَّ» ، والمعنى: لا تباشروهُنَّ وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد، وليس المرادُ النهيّ عن مباشرتِهِنَّ في المسجدِ بقيدِ الاعتكافِ، لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً. والعُكُوف: الإِقامَةُ والملازَمَةُ له، يقال: عَكَف / بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر، وقد قُرىء: {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ} [الأعراف: 138] بالوجهين وقال الفرزدق: 863 - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِين كأنَّهم ... على صَنَمٍ في الجاهليةِ عُكَّفُ وقال الطرماح: 864 - وظلَّ بناتُ الليلِ حولي عُكَّفاً ... عكوفَ البواكي بينهنَّ صَريعُ ويقال: الافتعالُ منه في الخير، والانفعالُ في الشَّرِّ. وأمَّا الاعتكافُ في الشرع فهو إقامةٌ مخصوصةٌ بشرائط، والكلامُ فيه بالنسبة إلى الحقيقةِ الشرعيةِ كالكلام في الصلاةِ. وقرأ قتادة: «عَكِفُون» كأنه يقال: عاكِفٌ وعَكِفُ نحو بار وَبَرّ ورَابٌّ ورَبٌّ. وقرأ الأعمش: «في المسجدِ» بالإِفرادِ كأنه يريد الجنسَ. قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإِشارة أَخْبَرَ عنه بجمعٍ، فلا جائزٌ أنْ يُشار به إلى ما نُهِيَ عنه في الاعتكاف لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ

إلى ما تضمَّنَتْه آيةُ الصيامِ من أولها إلى هنا، وآيةُ الصيامِ قد تَضَمَّنَتْ عدةَ أوامِرَ، والأمرُ بالشيء نْهَيٌ عن ضدَّه، فبهذا الاعتبارِ كانَتْ عِدَّةَ مناهيَ، ثم جاء آخرُها صريحَ النهي وهو: «ولا تباشِرُوهُنَّ» فأَطْلَقَ على الكل «حدوداً» تغليباً للمنطوقِ به، واعتباراً بتلك المناهي التي تضمَّنَتْهَا الأوامرُ، فقيل فيها حدودٌ، وإنما اضطُرِرْنا إلى هذا التأويلِ لأنَّ المأمورَ به لا يقال فيه «فلا تَقْرَبُوها» . قال أبو البقاء: «دخولُ الفاءِ هنا عاطفةٌ على شيءٍ محذوفٍ تقديرُه:» تَنَبَّهوا فلا تَقْرَبُوها «ولا يَجُوز في هذه الفاء أَنْ تكونَ زائدةً كالتي في قولِهِ تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] على أحدِ القولَيْنِ، لأنه كانَ ينبغي أن ينتصِبَ» حدودَ الله «على الاشتغالِ، لأنه الفصيحُ فيما وَقَعَ قبل أمر أو نهي نحو:» زيداً فاضْرِبْه، وعمراً فلا تُهِنْهُ «فلمَّا أَجْمَعَت القُرَّاءُ هنا على الرفع علمنا أنَّ هذه الجملةَ التي هي» فلا تَقْرَبُوها «منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلاَّ يلزمْ وجودُ غيرِ الفصيحِ في القرآنِ. والحدودُ: جَمْعُ حَدٍّ وهو المنعُ، ومنه قيلَ للبَوَّاب: حَدَّاد، لأنَّه يَمْنَعُ من العبور. وحَدُّ الشيءِ منتهاه ومنقطَعُه، ولهذا يُقال: الحَدُّ مانِعٌ جامع أي: يَمْنَعَ غير المحدودِ الدخولَ في المحدودِ. والنهيُ عن القربانِ أبْلَغُ من النهيِ عن الالتباسِ بالشيءِ، فلذلك جاءتِ الآيةُ الكريمةُ. وقال هنا:» فلا تقْرَبُوها «وفي مواضع أُخَرَ: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] ومثلُه: {

وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} [البقرة: 229] {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} [النساء: 14] لأنه غَلَّب هنا جهةَ النهي إذ هو المُعَقَّبُ بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} وما كان مَنْهِيّاً عن فعلِهِ كان النهيُ عن قُرْبَانِهِ أبلغَ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ فجاء» فلا تَعْتَدُوها «عَقِبَ بيانِ أحكامٍ ذُكِرَت قبلُ كالطلاقِ والعِدَّة والإِيلاءِ والحَيْض والمواريث، فناسَبَ أن يَنْهَى عن التَّعدِّي فيها، وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ الذي حَدَّه اللَّهُ فيها. قوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله} الكافُ في محلِّ نصب: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: بياناً مثلَ هذا البيانِ، أو حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه.

188

قولُه تعالى: {بَيْنَكُمْ} : في هذا الظرفِ وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بتأكلوا بمعنى: لا تَتَنَاقَلوها فيما بينكم بالأكلِ. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «أموالكم» ، أي: لا تأكلوها كائنةً بينكم. وقَدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم أو دائرةٍ بينكم، وهو في المعنى كقولِهِ: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] ، وفي تقدير «دائرةً» - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نَظَرٌ لا يَخْفَى، إلاَّ أَنْ يُقالَ: دَلَّتِ الحالُ عليه. قولُه {بالباطل} فيه وجهان، أحدُهما: تعلُّقه بالفعل، أي: لا تَأْخُذوها بالسببِ الباطلِ. الثاني: أَنْ يكونَ حالاً، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، ولكنْ في صاحِبها احتمالان، أحدهما: أنه المالُ، كأن المعنى، لا تأكلوها ملتبسةً بالباطلِ، والثاني: أَنْ يكونَ الضميرَ في «تأكلوا» كأنَّ المعنى: لا تأكلوها مُبْطِلين، أي: مُلْتَبِسينَ بالباطِل.

قوله {وَتُدْلُواْ بها} في «تَدْلُوا» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبلَه، ويؤيِّدهُ قراءة أُبيّ: «ولا تُدْلُوا» بإعادةِ لا الناهيةِ، والثاني: أنَّه منصوبٌ على الصرف، وقد تقدَّم معنى ذلك وأنه مذهبُ الكوفيين، وأنه لم يَثْبُتْ بدليلٍ. والثالث: أنه منصوبٌ بإضمارِ أنْ في جواب النهي، وهذا مذهبُ الأخفشِ، وجَوَّزَهُ ابنُ عطيَّة والزمخشري ومكي وأبو البقاء. قال الشيخ: «وأَمَّا إعرابُ الأخفشِ وتجويزُ الزمخشري ذلك هنا فتلك مسألةُ:» لا تأكل السمك وتشربَ اللبن «. قال النحويون: إذا نُصِبَ لِوَجْهَيْنِ، أحدُهما: أنَّ النهيَ عن الجمعِ لا يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن كلِّ واحدٍ منهما على انفرادِهِ، والنهيُ عن كلِّ واحدٍ منهما يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن الجمعِ بينهما؛ لأن الجمعَ بينهما حصولُ كلِّ واحدٍ منهما، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً، ألا ترى أنَّ أَكْلَ المالِ بالباطلِ حرامٌ سواءً أُفْرِدَ أم جُمِعَ مع غيرهِ من المُحَرَّمات. والثاني - وهو أَقْوَى - أَنَّ قولَه» لِتأكلوا «عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، فلو كان النهيُ عن الجمعِ لم تَصِحَّ العلةُ له، لأنه مركبٌ من شيئين لا تَصِحُّ العلةُ أن تَتَرتَّب على وجودهما، بل إنما تترتَّب على وجودِ أحدهما، وهو الإدلاء بالأموالِ إلى الحكام» .

و «بها» متعلقٌ ب «تُدْلُوا» ، وفي الباء قولان، أحدُهما: أنها للتعديةِ، أي لترسِلوا بها إلى الحكام، والثاني: أنَّها للسببِ بمعنى أن المراد بالإِدْلاَءِ الإِسراعُ بالخصومةِ في الأموالِ إمَّا لعدمِ بَيِّنةٍ عليها، أو بكونِهَا أمانةً كمالِ الأيتام. والضميرُ في «بها» الظاهرُ أنه للأموالِ وقيل: إنه / لشهادةِ الزُّورِ لدلالةِ السياقِ عليها، وليس بشيءٍ. و «من أموال» في محلِّ نصبٍ صفةً ل «فريقاً» ، أي: فَريقاً كائناً من أموالِ الناس. قوله: {بالإثم} تَحْتَمِلُ هذه الباء أَنْ تكونَ للسببِ فتتعلَّقَ بقوله «لتأكلوا» وأّنْ تكونَ للمصاحبةِ، فتكونَ حالاً من الفاعلِ في «لتأكلوا» ، وتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: لتأكلوا ملتبسين بالإِثْم. «وأنتم تعلمون» جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعلِ «لتأكلوا» ، وذلك على رَأْيِ مَنْ يُجيز تَعَدُّدَ الحالِ، وأَمَّا مَنْ لا يُجِيزُ ذلك فيَجْعَلُ «بالإِثم» غيرَ حالٍ.

189

قولُه تعالى: {عَنِ الأهلة} : متعلِّقٌ بالسؤال قبلَه، يُقال: «سألَ به وعنه» بمعنىً. والضميرُ في «يَسْأَلُونك» ضميرُ جماعةٍ، وفي القصةِ أن السائل اثنان، فَيَحْتَمِلُ ذلك وجهين، أحدُهما: أنَّ ذلك لكونِ الاثنين جمعاً. والثاني: من نسبةِ الشيء إلى جمْعٍ وإنْ لم يَصْدُرْ إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين، وهو كثيرٌ في كلامِهِم. والجمهور على إظهار نونِ «عَنْ» قبل لام «الأهلَّة» وورش على أصِله من نقلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها، وقُرِىءَ شاذاً: «علَّ هِلَّة» وتوجيهُها أنه نَقَلَ حركةَ همزة «أهلة» إلى لامِ التَّعريفِ، وأدغم نونَ «عن» في لام التعريف لسقوطِ همزةِ الوصلِ في الدَّرْج، وفي ذلك اعتدادٌ بحركةِ الهمزةِ المنقولةِ وهي لغةُ مَنْ يقول: «لَحْمَر» من غيرِ همزةِ وصلٍ.

وإنما جُمِعَ الهلالُ وإنْ كان مفرداً اعتباراً باختلافِ أزْمَانِهِ، قالوا من حيث كونُهُ هلالاً في شهرٍ غيرُ كونِهِ هلالاً في آخرَ. والهلالُ هذا الكوكبُ المعروفُ. واختَلَفَ اللغويون: إلى متى يسمى هِلالاً؟ فقال الجمهورُ: يُقال له: هلالٌ لِلَيْلَتَيْنِ، وقيل: لثلاثٍ، ثم يكونُ قمراً. وقال أبو الهيثم: «يُقال له هلالٌ لليلَتْين من أول الشهر ولَيْلَتين من آخره وما بينهما قمرٌ» . وقال الأصمعي: «يقال له هلالٌ إلى أن يُحَجِّرَ، وتحجيرُه أن يستديرَ له كالخيطِ الرقيق» ، ويُقال له بَدْرٌ من الثانيةَ عشرةَ إلى الرابعةَ عشرةَ، وقيل: «يُسَمَّى هلالاً إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُه سوادَ الليل، وذلك إنَّما يكونُ في سبعِ ليالٍ» ، والهلالُ يكونُ اسماً لهذا الكوكبِ، ويكونُ مصدراً، يقال: هَلَّ الشهرُ هلالاً. ويقال: أُهِلَّ الهلالُ واسْتُهِلَّ مبنياً للمفعولِ وأَهْلَلْنَاه واسْتَهْلَلْنَاهُ، وقيل: يقال: أَهَلَّ واسْتَهَلَّ مبنياً للفاعلِ وأنشد: 865 - وشهرٌ مُسْتَهِلٌّ بعدَ شهرٍ ... وحَوْلٌ بعدَهُ حولٌ جَدِيدُ وسُمِّي هذا الكوكبُ هلالاً لارتفاعِ الأصواتِ عند رؤيتِه، وقيل: لأنه من البيان والظهورِ، أي: لظهورهِ وقتَ رؤيَتِهِ بعد خَفَائِهِ، ولذلك يُقال: تَهَلَّلَ وَجْهُهُ: ظَهَرَ فيه بِشْرٌ وسرورٌ وإنْ لم يَكُنْ رفَعَ صوتَه. . . ومنه قول تأبَّط شرّاً.

866 - وإذا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِه ... بَرَقَتْ كبَرْقِ العارضِ المُتَهَلِّلِ وقد تقدَّم أن الإِهلال الصراخُ عند قولِه: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [البقرة: 173] وفِعال المضعَّفُ يَطَّردُ في تكسيرِه أَفْعِلة كأَهِلَّة، وشَذَّ فيه فِعَل كقولهم: عِنَن وحِجَج في: عِنَان وحِجاج. وقَدَّر بعضُهم مضافاً قبلَ «الأهِلَّة» أي: عَنْ حكمِ اختلافِ الأهِلَّة لأن السؤال عن ذاتِها غيرُ مفيدٍ، ولذلك أُجيبوا بقولِه: «قل هي مواقيتُ» وقيل: إنهم لَمَّا سألوا عن شيء قليلِ الجَدْوى أُجيبوا بما فيه فائدةٌ، وعَدَلَ عن سؤالِهم إذ لا فائدة فيه، وعلى هذا فلا يُحْتاجُ إلى تقديرِ مضافٍ. و «للناسِ» متعلِّقٌ بمحذوفٌ، لأنه صفةٌ ل «مواقيت» أي: مواقيتُ كائنةً للناسِ. والمواقيتُ: جَمْعُ ميقات، رَجَعِتِ الواوُ إلى أصلها إذا الأصلُ: مِوْقات من الوقت، وإنما قُلِبت ياءً لكسرِ ما قبلها، فلمّا زَالَ موجبُه في الجمعِ رُدَّت واواً، ولا يَنْصَرِفُ لأنه بزنةِ مُنْتهى الجموعِ. والميقات منتهى الوقت. قوله: {والحج} عطفٌ على «الناس» ، قالوا: تقديرُه: ومواقيتُ الحَجِّ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأول، ولمَّا كانَ الحجُّ مِنْ أعظمِ ما تُطْلَبُ مواقيتهُ وأشهرُه بالأهِلَّة أُفْرِد بالذِّكر، وكأنه تخصَّص بعد تعميم، إذ قولُه «مواقيتُ للناسِ» ليس المعنى لذواتِ الناس، بل لا بُدَّ من مضافٍ أي: مواقيتُ لمقاصدِ الناسِ المحتاجِ فيها للتأقيتِ، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناسِ، بل على المضافِ المحذوفِ الذي ناب «الناس» منابَه في الإِعراب. وقرأ الجمهورُ «الحج» بالفتح في جميعِ القرآنِ إلا حمزةَ والكسائي

وحفصاً عن عاصم فقرؤوا {حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] بالكسر، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وهل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان؟ قال سيبويه: «هما مصدران» فالمفتوحُ كالردِّ والشدِّ، والمكسورُ كالذِّكر، وقيل: بالفتحِ هو مصدرٌ، وبالكسرِ هو اسمٌ. قوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ} كقوله: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ} [البقرة: 177] وقد تقدَّم؛ إلا أنَّه لم يُخْتلف هنا في رفع «البر» ، لأنَّ زيادةَ الباءِ في الثاني عَيَّنت كونَه خبراً، وقد تقدَّم لنا أنها قد تُزادُ في الاسم ولا حاجة إلى إعادة ما تقدَّم. وقرأ أبو عمرو وحفص وورش «البُيوت» و «بُيوت» بضمِّ الباء وهو الأصلُ، وقرأ الباقون بالكسرِ لأجلِ الياء، وكذلك في تصغيره، ٌٌٌ ولا يُبالَى بالخروجِ من كسرٍ إلى ضمٍ لأنَّ الضمةَ في الياءِ، والياءُ بمنزلة كسرتين فكانت الكسرةُ التي في الباء كأنها وَلِيَتْ كسرةً، قاله أبو البقاء. و «مِنْ» في قولِه: «مِنْ ظهورِها» و «من أبوابها» متعلقةٌ بالإِتيان ومعناها ابتداءُ الغاية. والضميرُ في «ظهورها» و «أبوابِها» للبيوتِ، وجِيء به كضميرِ المؤنثةِ الواحدِ لأنه يجوزُ فيه ذلك.

وقوله: {ولكن البر مَنِ اتقى} «كقوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] سواءٌ بسواء ولمَّا تقدَّم جملتانِ خبريتان، وهما:» وليس البرُّ « {ولكن البر مَنِ اتقى} عُطِف عليهما جملتان أمريتان، الأولى للأولى، والثانية للثانية، وهما:» وَأْتُوا البيوت «» واتَّقوا الله «. وفي التصريح بالمفعول في قوله:» واتقوا الله «دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتقى، أي: اتقى الله.

190

قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ الله} : متعلِّقٌ بقاتِلوا، على أحد معنيين: إمَّا أن تقدِّر مضافاً، أي في نصرةِ سبيلِ الله، / والمرادُ بالسبيلِ: دينُ الله، لأنَّ السبيلَ في الأصلِ الطريقُ، فتُجُوِّز به عن الدينِ، لَمّا كان طريقاً إلى الله، وإمَّا أن تُضَمِّن «قاتلوا» معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دينِ الله. والذين يقاتلونكم «مفعولُ» قاتلوا.

191

قوله تعالى: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} : «حيث» منصوبٌ بقوله: «اقتلوهم» ، و «ثَقِفْتُموهم» في محلِّ خفضٍ بالظرف، وثَقِفْتموهم أي: ظَفِرتْم بهم، ومنه: «رجلٌ ثقيف» : أي سريعُ الأخذ لأقرانِه، قال: 867 - فإمَّا تَثْقَفوني فاقتلوني ... فَمَنْ أَثْقَفْ فليسَ إلى خلودِ وثَقِفَ الشيءَ ثقافةً إذا حَذَقَه، ومنه الثقافةُ بالسيف، وثَقِفْتُ الشيء قَوَّمُتُه ومنه الرماح المُثَقَّفة، قال الشاعر: 686 - ذَكَرْتُكِ والخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْننا ... وقد نَهِلَتْ مِنَّا المثقَّفَةُ السُّمْرُ

قوله: {مِّنْ حَيْثُ} متعلِّقٌ بما قبله، وقد تُصُرِّفَ في «حيث» بجَرِّها بمِنْ كما جُرَّت بالباء وفي، وبإضافة «لدى» إليها. و «أَخْرجوكم» في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه. ولم يذكر «للفتنة» ولا «للقتل» - وهما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً، إذ المراد إذا وُجِدَ هذان، من أيِّ شخص كان بأي شخصٍ كان، وقد تقدَّم أنه يجوز حَذْفُ الفاعلِ مع المصدر. قوله: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ} قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة: «ولا تُقاتلوهم حتى يقاتِلوكم، فإنْ قاتلوكم» بالألف من القتال، وقرأها حمزة والكسائي من غير ألف من القتل. فأما قراءة الجمهور فهي واضحةٌ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل، فدلالتها على النهي عن القتل بطريقِ الأوْلى. وأمّا قراءةُ الأخوين ففيها تأويلان، أحدُهما: أن يكونَ المجازُ في الفعل، أي: ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قَتْلكم. ومنه {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] ثم قال: «فما وَهَنوا» أي ما وَهَن مَنْ بقيَ منهم، وقال الشاعر: 869 - فإنْ تَقْتُلونا نُقَتِّلْكُمُ ... وإنْ تَفْصِدوا الدَّمَ نَفْصِدِ أي: فإنْ تقتلوا بعضنا. وأَجْمَعوا على «فاقتلوهم» أنَّه من القتل، وفيه بشارةٌ بأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم مُتَمَكِّنون منهم بحيثُ إنكم أَمَرْتُم بقتلِهم لا بقتالِهم لنصرتِكم عليهم وخُذْلانِهم، وهي تؤيِّد قراءةَ الأخوينِ، ويؤيِّدُ قراءةَ الجمهورِ: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} . و «عند» منصوبٌ بالفعل قبله. و «حتى» متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له بمعنى «إلى» ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أَن» كما تقرَّر. والضميرُ في «فيه» يعودُ

على «عند» ، إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى إليه الفعلُ إلا ب «في» ، لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولِها، وأصلُ الظرفِ على إضمارِ «في» اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعَ في الظرفِ فَيَتَعدَّى الفعلُ إلى ضميره مِنْ غيرِ «في» ، لا يُقال: «الظرف ليس حكمه حكمَ ظاهره، ألا ترى أنَّ ضميرَه يُجَرُّ بفي وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه. ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} أي: فإنْ قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه، فَحَذَفَ لدلالةِ السياقِ عليه. قوله: {كَذَلِكَ جَزَآءُ} فيه وجهان: أحدُهما: أنَّ الكافَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «جزاءُ الكافرين» خبرُه، أي: مثلُ ذلك الجزاءِ جزاؤهم، وهذا عند مَنْ يرى أن الكافَ اسمٌ مطلقاً، وهو مذهبُ الأخفش. والثاني: أن يكونَ «كذلك» خبراً مقدماً، و «جزاءٌ» مبتدأ مؤخراً، والمعنى: جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجزاءِ وهو القتلُ. و «جزاء» مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه أي: جزاءُ الله الكافرين. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «الكافرين» مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ مقدرٌ من فعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ، تقديرُه: كذلك يُجْزى الكافرون، وقد تقدَّم لنا في ذلك خلافٌ.

192

ومتعلق الانتهاء محذوف؛ أي: عن القتال. وانتهى «افتعل» من النهي، وأصلُ انتهَوا: انتهَيُوا، فاستُثْقِلَتْ الضمةُ على الياءِ فَحُذِفَتْ ساكنان فَحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنين، أو تقول: تَحَرَّكَتِ الياء وانفتحَ ما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى ساكنان، فَحُذِفَتِ الألفُ وبَقِيَتِ الفتحة تَدُلُّ عليها.

193

قوله تعالى: {حتى لاَ تَكُونَ} : يجوزُ في «حتى» أن تكونَ معنى كي، وهو الظاهرُ، وأن تكونَ بمعنى إلى، وأَن مضمرةٌ بعدَها في الحالين. و «تكونُ» هنا تامةٌ و «فتنةٌ» فاعلٌ بها، وأمَّا {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} فيجوزُ أن تكونَ تامةً أيضاً، وهو الظاهرُ، ويتعلَّقُ «لله» بها، وأن تكونَ ناقصةً و «لله» الخبرَ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائناً لله. و {إِلاَّ عَلَى الظالمين} في محلِّ رفعٍ خبرُ «لا» التبرئةِ، ويجوزُ أن يكونَ خبرُها محذوفاً تقديرُه: لا عدوانَ على أحد، فيكونُ «إلا على الظالمين» بدلاً على إعادةِ تكرارِ العامل. وهذه الجملةُ وإنْ كانَتْ بصورةِ النفي فهي في معنى النهي، لئلا يلزم الخُلْفُ في خبره تعالى، والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء، أَبْرَزَتْه في صورةِ النفي المَحْضِ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتةَ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك، وعكسُه في الإِثباتِ إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشيءِ أبرزوه في صورة الخبرِ نحو: {والوالدات يُرْضِعْنَ} [البقرة: 17] وسيأتي.

194

قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر} مبتدأٌ خبرُه الجارُّ بعده، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ/ تقديرُه: انتهاكُ حرمةِ الشهرِ الحرام بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ، والألفُ واللامُ في الشهر الأول والثاني للعهد، لأنهما معلومان عند المخاطبين، فإنَّ الأولَ ذو القعدة من سنة سبع، والثاني من سنة ست. وقرىء: «والحُرْمات» بسكون الراء، ويُعْزى للحسن، وقد تقدَّم أنَّ جمعُ فَعْلَة بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثة أوجه: هذان الاثنانِ وفَتْحُ العين، عند قوله {فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17]

وقوله: {فَمَنِ اعتدى} يجوزُ في «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ فتكونُ الفاء جواباً. والثاني: أن تكونَ موصولةً فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر، وقد تقدَّم لذلك نظائر. قوله: {بِمِثْلِ مَا اعتدى} في الباء قولان، أحدُهما: أن تكونَ غيرَ زائدةٍ، بل تكونُ متعلقةً باعتدوا، والمعنى بعقوبةٍ مثلِ جنايةِ اعتدائِه. والثاني: أنها زائدةٌ أي: مثلَ اعتدائه، فتكون: إمّا نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: اعتداء مماثلاُ لاعتدائه، وإمَّا حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه أي: فاعتدوا الاعتداء مُشْبِهاً اعتداءَه. و «ما» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً فلا تفتقر إلى عائدٍ، وأَنْ تكونَ موصولةً فيكونُ العائدُ محذوفاً، أي: مثلَ ما اعتدى عليكم به، وجاز حذفُه لأنَّ المضافَ إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ جُرَّ به العائدُ واتَّحد المتعلَّقان.

195

قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} : في هذه الباء ثلاثة أوجه أحدُها: أنها زائدةٌ في المفعول به لأن «ألقى» يتعدَّى بنفسه، قال تعالى: {فألقى موسى عَصَاهُ} [الشعراء: 45] ، وقال: 870 - حتى إذا أَلْقَتْ يداً في كافِرِ ... وأَجَنَّ عَوْراتِ الثغورِ ظلامُها فزيدت الباءُ في المفعولِ كما زيدت في قوله: 871 - وأَلْقى بكفَّيْهِ الفتى استكانَةً ... من الجوع وَهْناً ما يَمُرُّ وما يَحْلُو

وهذا قولُ أبي عبيدة، وإليه ميلُ الزمخشري، قال: «والمعنى: ولا تَقْبِضُوا التهلكة أيديكم، أي: لا تَجْعلوها آخذةً بأيديكم مالكةً لكم» إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادةَ الباءِ في المفعولِ لا تَنْقاسُ، إنما جاءتْ في الضرورة كقوله: 872 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ الثاني: أنها متعلقةٌ بالفعلِ غيرُ زائدةٍ، والمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: ولا تُلْقوا أنفسكم بأيديكم، ويكون معناها السبب كقولِك: لا تُفْسِدْ حالَك برأيك. الثالث: أن يضمَّن «ألقى» معنى ما يتعدَّى بالباء، فيُعدَّى تعديته، فيكونُ المفعول به في الحقيقة هو المجرورَ بالباء تقديره: ولا تُفْضوا بأيديكم إلى التهلكة، كقولك: أَفْضَيْتُ بجَنْبي إلى الأرضِ أي: طَرَحْتُه على الأرض، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس، لأنَّ بها البطشَ والحركةَ، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاه عن المبرد أن «ألقى» يتعدَّى بالباء أصلاً من غيرِ تضمينٍ، فإنه قال: «وقال المبرد: ليست بزائدةٍ بل هي متعلقةٌ بالفعلِ كمَرَرْتُ بزيدٍ والأوْلى حَمْلُه على ما ذَكَرْتُ» . والتَّهْلُكَةُ: مصدرٌ بمعنى الهَلاكِ، يُقال: هَلَكَ يَهْلَكُ هُلْكاً وهَلاكاً وهَلْكاءَ على وزنِ فَعْلاء ومَهْلكاً ومَهْلكة مثلثَ العين وتَهْلُكَة. وقال الزمخشري «ويجوزُ أن يقال: أصلُها التَّهلِكة بكسر اللام كالتَّجْرِبة، على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللام - فَأُبْدِلَتِ الكسرةُ ضمة كالجِوار

والجُوار» ، ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذ ودَعْوى إبدالٍ لا دليل عليها، وذلك أنه جَعَله تَفْعِلة بالكسر مصدر فَعَّل بالتشديد، ومصدرُه إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على تَفْعيل، وتَفْعِلة فيه شاذٌّ. وأمَّا تنظيرُه له بالجِوار والجُوار فليس بشيء، لأن الضمَّ فيه شاذٌّ، فالأَولى أن يقال: إنَّ الضمَّ أصلٌ غيرُ مُبْدَلٍ من كسر. وقد حكى سيبويه مِمَّا جاء من المصادر على ذلك التَضُرَّة والتَّسُرَّة. قال ابن عطية: «وقرأ الخليل التَّهْلِكة بكسر اللام وهي تَفْعِلة من هَلَّك بتشديد اللام» وهذا يَقَوِّي قولَ الزمخشري. وزعم ثعلب أن «تَهْلُكَه» لا نظير لها، وليس كذلك لِما حكى سيبويه. ونظيرها من الأعيان على هذا الوزن: التَّنْفُلة والتنصُبة. والمشهورُ أنه لا فرقَ بين التَّهْلُكه والهَلاك، وقال قومٌ: التَّهْلُكَة: ما أمكن التحرُّزُ منه، والهَلاكُ ما لا يمكن. وقيل: هي نفسُ الشيء المُهْلِك. وقيل: هي ما تَضُرُّ عاقبتُه. والهمزة في «ألقى» للجَعلِ على صفة نحو: أَطْرَدْتُه أي: جعلتُه طريداً فيه ليست للتعدية لأنَّ الفعلَ متعدٍّ قبلَها، فمعنى أَلْقيتُ الشيء جَعلْتُه لُقَىً فهو فُعَل بمعنى مَفْعول، كما أن الطريد فَعِيل بمعنى مفعول، كأنه قيل: لا تَجْعلوا أنفسكم لُقَىً إلى التهلُكَه.

196

قوله تعالى: {والعمرة للَّهِ} : الجمهورُ على نصب «العمرة» على العطفِ على ما قبلها و «لله» متعلقٌ بأتِمُّوا، واللامُ لامُ المفعولِ من أجله. ويجوزُ أن تتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ من الحج والعمرة،

تقديره: أتِمُّوها كائنين لله. وقرأ عليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت: «والعمرةُ» بالرفع على الابتداء، و «لله» الخبر، على أنها جملةٌ مستأنفةٌ. قوله: {فَمَا استيسر} ما موصولةٌ بمعنى الذي، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً، وفيها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنها في محلِّ نصبٍ أي: فَلْيَهْدِ أو فلينْحَر، وهذا مذهبُ ثعلب. والثاني: ويُعْزى للأخفش أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: فعليه ما استَيْسر. والثالث: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: فالواجبُ ما استَيْسر واستَيْسر هنا بمعنى يَسَر المجرد كصَعُب واستصعَبَ وغَنِيَ واستغنى، ويجوزُ أن يكون بمعنى تَفَعَّل نحو: تكَّبر واستكبر، وتَعَظَّم واستعظم. وقد تقدَّم ذلك في أولِ الكتاب. والحَصْرُ: المَنْعُ، ومنه قيل للمَلِك: الحَصِير، لأنه ممنوعٌ من الناس، وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنىً أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ بين أهلِ العلمِ. فقال الفراء والزجاج والشيباني إنهما بمعنىً، يُقالان في المرضِ والعَدُوِّ جميعاً وأنشدوا: 873 - وما هَجْرُ ليلى أَنْ تكونَ تباعَدَتْ ... عليكَ ولا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ

وفَرَّق بعضُهم، فقال الزمخشري: يقال: أُحْصِر فلانٌ إذا معه أمرٌ من خوف أو مرض أو عجز، قال تعالى: {الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 273] ، وقال ابن ميادة: «وما هَجْرُ ليلى أن تكون تباعَدَتْ» ، وحُصِر إذا حبسه عدوٌّ أو سجن، هذا هو الأكثرُ في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء/ مثل: صَدَّه وأصدَّه، وكذلك الفراء والشيباني، ووافقه ابن عطية أيضاً فإنه قال: «والمشهورُ من اللغة: أُحْصِر بالمرضِ وحُصِر بالعَدُوِّ. وعكس ابن فارس في» مجمله «فقال» حُصِر بالمرضِ وأُحْصِر بالعَدُوّ «وقال ثعلب:» حُصِر في الحَبْسِ أقوى من أُحْصِر «، ويقال: حَصِرَ صدرُه أي: ضاق؛ ورجل حَصِر: لا يبوحُ بسرِّه، قال جرير: 874 - وَلَقَد تَكَنَّفني الوُشاةُ فصادَفُوا ... حَصِراً بسرِّك يا أُمَيْمَ حَصُورا والحَصيرُ معروفٌ لامتناعِ بعضه ببعض، والحصير أيضاً المِلك كما تقدَّم لاحتجابه. قال لبيد: 875 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... جِنٌّ لدى باب الحصيرِ قِيامُ قوله: {مِنَ الهدي} فيه وجهان: أحدُهما: أن تكونَ» مِنْ «تبعيضيةً ويكونَ محلُّها النصبَ على الحال من الضمير المستتر في» اسْتَيْسر «العائدِ على» ما «أي: حالَ كَوْنِهِ بعض الهَدْي. والثاني: أن تكون» مِنْ «لبيان الجنس فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أيضاً.

وفي الهَدْي قولان، أحدُهما: أنه جمعُ هَدْيَة كجَدْي جمع جَدْيَة السَّرْج. والثاني: أن يكونَ مصدراً واقعاً موقع المفعول أي: المُهْدَى، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجمعِ. قال أبو عمرو بن العلاء: «لا أعْرف لهذه اللفظة نظيراً» . وقرأ مجاهد والزهري: «الهَدِيُّ» بتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا. والثاني: أن يكون فَعيلاً بمعنى مفعول نحو: قتيل بمعنى مَقْتُول. و «مَحِلَّه» يجوز أَنْ يَكُونَ ظرفَ مكانٍ أو زمانٍ، ولم يُقْرَأ إلاَّ بكسرِ الحاءِ فيما عَلِمْتُ إلاَّ أنه يجوزُ لغةً فتحُ حائِه إذا كان مكاناً. وفَرَّق الكسائي بينهما، فقال: «المكسورُ هو الإِحلالُ من الإِحرامِ، والمفتوحُ هو مكانُ الحلولِ من الإِحصار» . وقيل: {مِنكُم} فيه وجهان، أحدُهما: أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من «مريضاً» ؛ لأنه في الأصل صفةٌ له، فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً. وتكونُ «مِنْ» تبعيضيةً، أي: فَمَنْ كان مريضاً منكم. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً، قال الشيخ: «وهو لا يكادُ يُعْقَلُ» . «ومَنْ» يجوز أنْ تكونَ شرطيةً وأَنْ تكونَ موصولةً. قوله: {أَوْ بِهِ أَذًى} يجوز أَنْ يكونَ هذا من بابِ عَطْفِ المفرداتِ وأن يكون من بابِ عطفِ الجمل: أما الأولُ فيكونُ «به» هذا الجَارُّ والمجرور

معطوفاً على «مريضاً» الذي هو خبرُ كان، فيكونُ في محلِّ نصبٍ. ويكونُ «أذىً» مرفوعاً به على سبيلِ الفاعليةِ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد رَفَع الفاعل عند الكل، فيصيرُ التقديرُ: فَمَنْ كان كائناً به أذى من رأسِهِ. وأما الثاني فيكونُ «به» خبراً مقدَّماً، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ، وفي الوجهِ الأولِ كان نصباً، و «أذىً» مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وتكونُ هذه في محلِّ نصبٍ لأنها عَطفٌ على «مريضاً» الواقع خبراً لكان، فهي وإنْ كانَتْ جملةً لفظاً فهي في محلِّ مفردٍ، إذ المعطوفُ على المفردِ مفردٌ، لا يقال: إنه عاد إلى عطفِ المفرداتِ فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفرقِ. وأجازوا أن يكونَ «أذى» معطوفاً على إضمارِ «كان» لدلالةِ «كانَ» الأولى عليها، وفي اسمِ «كان» المحذوفَةِ حنيئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ ضميرَ «مَنْ» المتقدمة، فيكونُ «به» خبراً مقدماً، و «أذى» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لكان المضمرةِ. والثاني: أن يكونَ «أذى» ، و «به» خبرَها، قُدِّم على اسمِها. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «أو به أذى» معطوفاً على «كان» ، وأَعْرَبِ «به» خبراً مقدماً متعلِّقاً بالاستقرارِ، و «أذى» مبتدأ مؤخراً، والهاءُ في «به» عائدةٌ على مَنْ. وهذا الذي قاله خَطَّأَهُ الشيخُ فيه، قال: «لأنه كان قد قَدَّمَ أن» مَنْ «شرطيةُ، وعلى هذا التقدير يكون خطأ، لأن المعطوفَ على جملةِ الشرط شرطٌ والجملةُ الشرطيةُ لا تكونُ إلا فعليةً، وهذه كما ترى جملةُ اسميةٌ على ما قَرَّرَهُ. فكيف تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ التي يجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل: فإذا جَعَلْنَا «مَنْ» موصولةً فهل يَصِحُّ ما قاله من كون «به أذى» معطوفاً على «كان» ؟ فالجوابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ «مَنْ» الموصولةَ إذا

ضَمِّنَتْ معنى اسم الشرطَ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جملةً فعليةً أو ما هي في قوتها «. والباءُ في» به «يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ للإِلصاق، والثاني: أن تكونَ ظرفيةً. قولُهُ: {مِّن رَّأْسِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه في محلِّ رفع لأنه صفةٌ لأذى، أي أذى كائنٌ من رأسِهِ. والثاني: أن يتعلَّق بما يتعلَّقُ» به «من الاستقرارِ، وعلى كلا التقديرين تكونُ» مِنْ «لابتداءِ الغاية. قوله: {فَفِدْيَةٌ} في رفعها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ مبتدأً والخبرُ محذوفٌ، أي: فعليه فديةٌ. والثاني: أنْ تكونَ خبرَ مبتدأ محذوف أي: فالواجبُ عليه فديةٌ. والثالثُ: أن يكونَ فاعلَ فعلٍ مقدَّر أي: فَتَجِبُ عليه قديةُ. وقُرىء شاذاً:» فَفِدْيَةً «نصباً، وهي على إضمارِ فعلٍ أي: فَلْيَفْدِ فديةً. و» مِنْ صيام «في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حسب القراءتين صفةً ل» فدية «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و» أو «للتخيير، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفاء تقديرهُ: فَخَلقَ فَفِدْيَة. وقرأ الحسنُ والزهري» نُسْك «بسكون السين، وهو تخفيفُ المضموم. والأذى مصدرٌ بمعنى الإِيذاء وهو الألمُ، يقال: آذاه يُؤْذِيه إيذاءً وأذى، فكأنَّ الأذى مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد أواسمُ مصدرٍ كالعطاء اسم للإِعطاء، والنبات للإِنبات. وفي النُّسُك قولان، أحدُهما: أنه مصدرٌ يقال: نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضم، والإِسكان كما قرأه الحسن. والثاني: أنه جمع نَسِيكة، قال ابن الأعرابي:» النَّسيكة في الأصل سَبيكة الفضة، وتُسَمَّى العبادةُ بها لأنَّ العبادة مُشْبِهَةٌ سبيكة الفِضَّة في صفائها وخُلوصِها من الآثام، وكذلك سُمِّي العابدُ ناسكاً، وقيل للذَّبِيحة «نَسِيكة» لذلك «.

قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} الفاءُ عاطفةٌ على ما تقدَّم، و» إذا «منصوبةٌ بالاستقرار المحذوفِ؛ لأنَّ التقديرَ: فعليه ما اسْتَيْسَرَ، أي. فاستقرَّ عليه ما استيسر. وقوله: {فَمَن تَمَتَّعَ} الفاءُ جوابُ الشرطِ بإذا، والفاءُ في قولِهِ:» فما استيْسَرَ «جوابُ الشرطِ الثاني. ولا نعلمُ خلافاً أنه يقعُ الشرطُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ. وقد تقدَّم الكلامُ في» فما استَيْسَرَ «/ فأغنى عن إعادته. قوله: {فَصِيَامُ} في رفعِه الأوجهُ الثلاثةُ المذكورةُ في قولِهِ:» فَفِدْيَةٌ «. وقرىء «فصيام» نصباً، على تقديرِ فَلْيَصُمْ، وأُضيف المصدرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً، وهو في اللفظِ مفعولٌ به على السَّعِةِ. و «في الحج» متعلقٌ بصيام. وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي: في وقتِ الحَجِّ. ومنهم مَنْ قَدَّر مضافين، أي: وقتَ أفعالِ الحَجِّ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرفَ مكانٍ أي: مكانَ الحج، ويترتَّب على ذلك أحكامٌ. قوله: {وَسَبْعَةٍ} الجمهورُ على جَرِّ «سبعة» عطفاً على ثلاثة. وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: «وسبعةً» بالنصب. وفيها تخريجان، أحدهما: قاله الزمخشري وهو أن يكون عطفاً على محلَّ «ثلاثة» كأنه قيل: فصيامُ ثلاثة، كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] ، يعني أن المضافَ إليه المصدرُ منصوبٌ معنى بدليلِ ظهورِ عملِ المُنَوَّنِ النصبَ في «يتيماً» . والثاني: أن ينتصبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «فَلْيَصُومُوا» ، قال الشيخ: «

وهذا مُتَعَيَّنٌ، لأنَّ العطفَ على الموضعِ يُشْتَرَطُ فيه وجودُ المُحْرِزِ» يعني على مذهب سيبويه. قوله: {إِذَا رَجَعْتُمْ} منصوبٌ بصيام أيضاً، وهي هنا لِمَحْضِ الظرفِ، وليس فيها معنى الشرط. لا يقال: يَلْزَمُ أن يعملَ عامِلٌ واحدٌ في ظرفي زمان، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطفِ والبدلِ، وهنا يكونُ عَطَفَ شيئين على شيئين، فَعَطَفَ «سبعةٍ» على «ثلاثة» وعطف «إذا» على «في الحج» . وفي قوله: {رَجَعْتُمْ} شيئان: أحدُهما التفاتٌ، والآخرُ الحَمْلُ على المعنى، أمَّا الالتفاتُ: فإنَّ قبلَه «فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَم يَجِدُ» فجاء بضمير الغَيْبَةِ عائداً على «مَنْ» ، فلو سيق هذا على نظم الأولِ لقيل: «إذا رجع» بضميرِ الغَيْبَةِ. وأمَّا الحملُ: فلأنه أتى بضميرِ جمعٍ اعتباراً بمعنى «منْ» ، ولو راعى اللفظَ لأفردَ، فقال: «رَجَعَ» . وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} مبتدأ وخبرٌ، والمشارُ إليه هي السبعةُ والثلاثةُ، ومميِّزُ السبعةِ والعشرةِ محذوفٌ للعلمِ به. وقد أثبت تاءَ التأنيثِ في العددِ مع حَذْفِ التمييزِ، وهو أحسنُ الاستعمالَيْنِ، ويجوزُ إسقاطُ التاءِ حينئذٍ، وفي الحديث: «وأَتْبَعَهُ بستٍ من شوال» ، وحكى الكسائي: «صُمْنَا من الشهرِ خمساً» وفي قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} - مع أن من المعلوم أن الثلاثةَ والسبعة عشرة - أقوالٌ كثيرةٌ لأهلِ المعاني، منها قولُ ابن عرفة: «العرب إذا ذكرت

عددين، فمذهبُهم أن يُجملوهما» ، وحَسَّن هذا القولَ الزمخشري بأَنْ قال: «فائدةُ الفَذْلَكَةِ في كل حساب أن يُعْلَمَ العددُ جملةً كام يُعْلَمُ تفصيلاً، لِيُحْتَاط به من جهتين فيتأكَّد العِلمُ، وفي أمثالهم» علمان خيرٌ من علم «. قال ابن عرفة:» وإنما تَفْعَلُ العربُ ذلك لأنَّها قليلةُ المعرفة بالحساب، وقد جاء: «لا نَحْسُب ولا نكتُب» ، وَوَرَدَ ذلك في أشعارِهِم، قال النابغة: 876 - تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفَتُها ... لستةِ أيامٍ وذا العامُ سابعُ وقال الفرزدق: 877 - ثلاثٌ واثنتان فَهُنَّ خَمْسٌ ... وسادسةٌ تَميلُ إلى شَمَام وقال الأعشى: 878 - ثلاثٌ بالغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبي ... وسِتٌّ حين يُدْرِكُني العِشاءُ فذلك تِسْعَةٌ في اليومِ رِيِّي ... وشُرْبُ المرءِ فَوْقَ الرَّيِّ داءُ وقال آخر: 879 - فَسِرْتُ إليهمُ عِشْرِينَ شهراً ... وأربعةً فذلك حِجَّتانِ وعن المبرد: «فتلك عشَرَةٌ: ثلاثةٌ في الحج وسبعةٌ إذا [رجعتم] فَقَدَّم وأخَّر» ، ومثله لا يَصِحُّ عنه. وقال ابن الباذش: «جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها، لا أنها هي الخبرُ المستقلُّ بفائدةِ الإِسناد كما تقول:» زيدٌ رجل صالح «

يعني أن المقصودَ الإِخبارُ بالصلاح، وجيء برجلٍ توطئةً، إذ معلومٌ أنه رجل. وقال الزجاج» جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازِ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثلاثةً أو سبعةً؛ لأنَّ الواوَ قد تقوم مَقامَ أو، ومنه: {مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فأزال احتمالَ التخيير، وهذا إنما يتمشَّى عند الكوفيين، فإنهم يُقيمون الواوَ مُقامَ أو. وقال الزمخشري: «الواوُ قد تجيء للإِباحةِ في قولِك:» جالس الحسنَ ابن سيرين «ألا ترى أنه لو جالَسَهما معاً أو أحدَهما كان ممتثلاُ فَفُذْلِكَتْ نفياً لِتَوَهُّم الإِباحة» قال الشيخ: «وفيه نظرٌ لأنه لا تُتَوَهَّمُ الإِباحه، فإنَّ السياق سياقُ إيجاب، فهو ينافي الإِباحة، ولا ينافي التخييرَ، فإن التخييرَ يكون في الواجبات، وقد ذكر النحويون الفرقَ بين التخييرِ والإِباحةِ» . قوله: {ذلك لِمَن} «ذلك» مبتدأٌ، والجارُّ بعدَه الخبرُ. وفي اللامِ قولان، أحدُهما: أنَّها على بابِها، أي ذلك لازمٌ لِمَنْ. والثاني: أنها بمعنى على، كقولِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله} ، [البقرة: 161] ولا حاجةَ إلى هذا. و «مَنْ» يجوز أن تكونَ موصولةً وموصوفةً. و «حاضري» خبرُ «يكن» وحُذِفَت نونُه للإِضافة و «شديدُ العقاب» من باب إضافةِ الصفةِ المشبهة إلى مرفوعها، وقد تقدَّم أن الإِضافة لا تكون إلا مِنْ نَصْبِ، والنصبُ والإِضافةُ أبلغُ من الرفعِ؛ لأن فيها إسنادَ الصفةِ للموصوفِ ثم ذكر مَنْ هي له حقيقةٌ، والرفعُ إنما فيه إسنادُها لمَنْ هي له حقيقةٌ، دونَ إسنادٍ إلى موصوف.

197

قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ} : «الحَجُّ» مبتدأ و «أشهرٌ» خبرهُ، والمبتدأ والخبرُ لا بد أَنْ يَصْدُقَا على ذاتٍ واحدة، و «الحَجُّ» فِعْلٌ من الأفعال، و «أشهرٌ» زمانٌ، فهما غَيْران، فلا بُدَّ من تأويل، وفيه ثلاثةُ احتمالاتٍ، أحدُهما: أنه على حَذْف مضافٍ من الأول، تقديره: أشهرُ الحجِّ أشهرٌ معلوماتٌ. الثاني: الحَذْفُ من الثاني تقديرُه: الحَجُّ حَجُّ أشهرٍ، فيكونُ حَذَفَ من كلِّ واحدٍ ما أَثْبَتَ نظيرَهُ. الثالث: ان تَجْعَلَ الحدثَ نفسَ الزمانِ مبالغةً، ووجهُ المجازِ كونُه حالاً فيه، فلما اتُّسِعَ في الظرفِ جُعِلَ نفسَ الحدثِ، ونظيرُها: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] / وإذا كان ظرفُ الزمانِ نكرةً مُخْبَراً به عن حَدَثٍ جاز فيه الرفعُ والنصبُ مطلقاً، أي: سواءً كان الحدث مستوعباً للظرفِ أم لا، هذا مذهبُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فقالوا: إنْ كانَ الحدثُ مستوعباً فالرفعُ فقط نحو: «الصومُ يومٌ» وإن لم يكن مستوعباً فهشام يلتزم رفعَه أيضاً نحو: «ميعادُك يومُ» والفراءُ يجيز نصبَهُ مثلَ البصريين، وقد نُقِلَ عنه أنه مَنَع نصْبَ «أشهر» يعني في الآية لأنها نكرةٌ، فيكونُ له في المسألة قولان، وهذه المسألةُ بعيدةُ الأطرافِ تضُمُّها كتبُ النحويين. قال ابن عطية: «ومَنْ قَدَّر الكلامَ: [الحج] في أشهر فيلزَمُهُ مع سقوطِ حرفِ الجر نصبُ الأشهر، ولم يقرأ به أحدٌ» قال الشيخ: «ولا يلزم ذلك، لأنَّ الرفعَ على جهةِ الاتساعِ، وإن كان أصلُهُ الجرَّ بفي» . قوله: {فَمَنْ} : «مَنْ» يجوزُ فيها أن تكون شرطيةً، وأَنْ تكونَ موصولةً كما تقدَّم في نظائرها، و «فيهن» متعلِّقٌ ب «فَرَضَ» ، والضميرُ في «فيهن» يعودُ على «أشهر» ، وجيء به كضمير الإِناث لما تَقَدَّم مِنْ أَنَّ جمعَ غير العاقلِ في

القلَّةِ يُعامَل معاملةَ جمْعِ الإِناثِ على الأفصحِ، فلذلك جاء «فيهنَّ» دونَ «فيها» ، وهذا بخلافِ قولِهِ {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] لأنه هناك جمعُ كثرة. قوله: {فَلاَ رَفَثَ} الفاءُ: إمَّا جوابُ الشرطِ، وإمَّا زائدةٌ في الخبرِ على حَسَبِ النحويين المتقدمين. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بتنوين «رفث» و «فُسوق» ورفعِهما وفتحِ «جدال» ، والباقون بفتح الثلاثة، وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين، والعطاردي بنصب الثلاثة والتنوين. فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان، أظهرُهما: أنَّ «لا» ملغاةٌ وما بعدها رفعٌ بالابتداء، وسَوَّغ الابتداء بالنكرةِ تقدُّم النفيِ عليها. و «في الحجّ» خبرُ المبتدأ الثالث، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثاني لدلالةِ خبرِ الثالثِ عليهما، أو يكونُ «في الحج» خبرَ الأول، وحُذِفَ خبرُ الثاني والثالث لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما، ويجوزُ أَنْ يكونَ «في الحج» خبرَ الثلاثة. ولا يجوزُ أن يكونَ «في الحج» خبرَ الثاني، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثالثِ لقُبْحِ مثل هذا التركيب، ولتَأْدِيَتِهِ إلى الفَصْلِ. والثاني: أن تكون «لا» عاملَةً عملَ ليس، ولعملِها عملَها شروطٌ: تنكيرُ الاسم، وألاّ يتقدَّم الخبرُ ولا ينتقض النفيُ، فيكونُ «رفث» اسمَها وما بعدَه عطفٌ عليه، و «وفي الحجِّ» الخبرُ على حسَبِ ما تقدَّم من التقادير فيما قبلَه. وابنُ عطية جَزَمَ بهذا الوجهِ، وهو ضعيفٌ لأنَّ إعمالَ «لا» عَمَلَ ليس لم يَقُمْ عليه دليلٌ صريحٌ، وإنما أنشدوا أشياءَ محتملةً، أنشد سيبويه:

880 - مَنْ صَدَّ عن نيرانِها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا براحُ وأنشد غيره: 881 - تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقيا ... ولا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ واقِيَا وقول الآخر: 882 - أَنْكَرْتُها بعد أعوامٍ مَضَيْنَ لها ... لا الدارُ داراً ولا الجيرانُ جيرانا وأنشدَ ابنُ الشجري: 883 - وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً ... سِواها ولا في حُبِّها متراخِيا والكلامُ في هذه الأبيات له موضعٌ غيرُ هذا. وأمَّا مَنْ نَصَبَ الثلاثةَ منونةً فتخريجُها على أن تكونَ منصوبة على المصدرِ بأفعالٍ مقدرةٍ من بفظِها، تقديرُه: فلا يَرْفُثُ رَفَثَاً ولا يَفْسُقُ فُسوقاً ولا يجدال جِدالاً، وحينئذٍ فلا عمل للا فيما بعدها، وإنما هي نافيةٌ للجمل المقدرة، و «في الحجِّ» متعلِّقٌ بأيِّ المصادرِ الثلاثةِ شِئْتَ، على أن المسألة من التنازعِ، ويكونُ هذا دليلاً على تنازع أكثرَ مِنْ عاملين، وقد يمكنُ أن يُقَال: إن هذه «لا» هي التي للتبرئِة على مَذْهَبِ مَنْ يرى أنَّ اسمهَا معربٌ منصوب، وإنما حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً، فروجعُ الأصلُ في هذه القراءة الشاذةِ كما روجع في قوله: 884 - ألا رجلاً جَزاه اللهُ خيراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم تحريرُ هذا المذهبِ.

وأمَّا قراءةُ الفتحِ في الثلاثةِ فهي «لا» التي للتبرئةِ. وهل فتحةُ الاسمِ فتحةُ إعرابٍ أم بناءٍ؟ قولان، الثاني للجمهورِ. وإذا بُني معها فهل المجموع منها ومن اسمِها في موضعِ رفعٍ بالابتداء، وإن كَانَتْ عاملةً في الاسمِ النصبَ على الموضع ولا خبرَ لها؟ أو ليس المجموعُ في موضعِ مبتدأ، بل «لا» عاملةٌ في الاسمِ النصبَ على الموضعِ وما بعدها خبرٌ ل «لا» ، لأنها أُجْرِيَتْ مُجْرى «أنَّ» في نصبِ الاسمِ ورفعِ الخبر؟ قولان، الأولُ قولُ سيبويه، والثاني قولُ الأخفش. وعلى هذين المذهبين يترتَّب الخلافُ في قوله «في الحج» فعلى مذهبِ سيبويه يكونُ في موضعِ خبرِ المبتدأ، وعلى رأي الأخفش يكونُ في موضعِ خبرِ «لا» ، وقد تقدَّم ذلك أولَ الكتابِ، وإنما أُعيدُ بعضَه تنبيهاً عليه. وأمَّا مَنْ رفع الأوَّلَيْن وفتحَ الثالث: فالرفعُ على ما تقدَّم، وكذلك الفتحُ، إلا أنه ينبغي أَنْ يُتَنَبَّه لشيءٍ: وهو أنَّا إذا قلنا بمذهبِ سيبويه من كونِ «لا» وما بُني معها في موضعِ المبتدأ يكونُ «في الحج» خبراً عن الجميع، إذ ليس فيه إلا عَطْفُ مبتدأٍ على مبتدأ. وأمَّا على مذهبِ الأخفشِ فلا يجوز أن يكونَ «في الحج» إلا خبراً للمبتدأيْنِ أو خبراً ل «لا» . ولا يجوزُ أن يكونَ خبراً للكلِّ لاختلافِ الطالبِ، لأنَّ المبتدأ يَطْلُبه خبراً له ولا يطلبُه خبراً له. وإنما قُرِىء كذلك، قال الزمخشري: «لأنهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونَنَّ رفثٌ ولا فسوقٌ، والثالِثُ على معنى الإِخبار بانتفاءِ الجدال، كأنه قيل: ولا شكَّ ولا خلافَ في الحج» واستدلَّ

على أنّ المنهيَّ عنه هو الرفثُ والفسوقُ دونَ الجدالِ بقولِه عليه السلام: «مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ» وأنه لم يَذْكُرِ الجدالَ. وهذا الذي ذكره الزمخشري سبقه إليه صاحبُ هذه القراءة، إلا أنه أفصحَ عن مرادِه، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها -: الرفعُ بمعنى فلا يكونُ رفثٌ ولا فسوقٌ؛ أَيْ شيءٌ يَخْرُج من الحَجِّ، ثم ابتدأ النفيَ فقال: «ولا جدالَ» ، فأبو عمرو لم يجعل النفيَيْن الأوَّلَيْن نهياً، بل تركهما على النفي الحقيقي؛ فمِنْ ثَمَّ كان في قولِه هذا نظرٌ؛ فإنَّ جملة النفيِ بلا التبرئةِ قد يرادُ بها النهيُ أيضاً، وقيل ذلك في قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] . والذين يظهر في الجوابِ عن ذلك ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال: «وقيل: الحُجَّةُ لمَنْ رفعهما أنَّ النفي فيهما ليس بعامٍّ، إذ قد يقع الرفث والفسوق في الحج من بعضِ الناسِ بخلاف نفي الجدال في أمر الحج فإنه عامٌّ. . .» وهذا يتمشَّى على عُرْفِ النحويين فإنهم يقولون: لا العاملةُ عملَ «ليس» لنفي الوَحْدة، والعاملةُ عملَ «إنَّ» لنفي الجنس، قالوا: ولذلك يُقال: لا رجلَ فيها بل رجلان أو رجال إذا رفعت، ولا يَحْسُن ذلك إذا بَنَيْتَ اسمَها أو نَصَبْتَ بها. وتوسَّط بعضُهم فقال: التي للتبرئة نصٌّ في العمومِ، وتلك ليست نَصَّاً، والظاهرُ أنَّ النكرةَ في سياق النفي مطلقاً للعموم.

وقد تقدَّم معنى الرَّفَثِ والفِسْق. وقرأ عبد الله «الرَّفُوث» وهو مصدر بمعنى الرَّفث. وقوله: {فَلاَ رَفَثَ} وما في حَيِّزه في محلِّ جَزْمٍ إن كانت «مَنْ» شرطيةٌ، ورفع إن كانت موصولةً، وعلى كِلا التقديرين فلا بُدَّ من رابطٍ يَرْجِع إلى «مَنْ» ؛ لأنها إنْ كانَتْ شرطيةً فقد تقدَّم أنه لا بد من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرط، وإنْ كانت موصولةً فهي مبتدأٌ والجملةُ خبرُها ولا رابطَ في اللفظِ، فلا بدَّ من تقديرِه وفيه احتمالان، أحدُهما: أن تقدِّره بعد «جدال» تقديرُه: ولا جدالَ منه ويكون «منه» صفةً ل «جدال» ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، فيصيرُ نظيرَ قولِهم: «السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم» تقديره: منوانِ منه. والثاني: أنْ يُقَدَّرَ بعد الحج «تقديره: ولا جدالَ في الحجِّ منه، أو: له. ويكونُ هذا الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من» الحج «. وللكوفيين في هذا تأويلٌ آخرُ/ وهو أنَّ الألفَ واللامَ نابت منابَ الضميرِ، والأصلُ: في حَجِّه، كقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40] ثم قال: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] أي: مَأْواه. وكَرَّر الحجَّ وَضْعاً للظاهر موضعَ المضمر تفخيماً كقوله: 885 - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكأنَّ نظمَ الكلام يقتضي:» فَمَنْ فرض فيهنَّ الحجَّ فلا رَفَث فيه «، وحَسَّنَ ذلك في الآيةِ الفصلُ بخلاف البيت. والجِدال مصدر» جادَلَ «. والجدالُ: أشدُّ الخصام مشتقٌّ من الجَدالة،

وهي الأرض؛ كأنَّ كلَّ واحد من المتجادِلَيْن يرمي صاحبه بالجَدالَةِ، قال الشاعر: 886 - قد أَرْكَبُ الآلَةَ بعدَ الآلَهْ ... وأترُكُ العاجِزَ بالجَدَالَهْ ومنه:» الأجْدل «الصقر، لشِدَّته. والجَدْلُ فَتْلُ الحَبْل، ومنه: زِمامٌ مجدولٌ أي مُحْكَمُ الفَتْلِ. قولُه: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} تقدَّم الكلامُ على نظيرتها، وهي: {مَا نَنسَخْ} ، فكلُّ ما قيلَ ثَمَّ يُقال هنا. قال أبو البقاء:» ونزيدُ هنا وجهاً آخرَ: وهو أن يكونَ «منْ خير» في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديرُه: وما تفعلوا فعلاً كائناً مِنْ خيرٍ «. و» يَعْلَمْه «جزمٌ على جوابِ الشرطِ، ولا بُدَّ من مجازٍ في الكلام: فإمَّا أن يكون عَبَّر بالعلمِ عن المُجازاة على فِعْلِ الخير، كأنه قيل: يُجازِكم، وإمَّا أَنْ تُقَدِّر المجازاةَ بعد العلمِ أي: فيثيبه عليه. وفي قوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ} التفاتٌ؛ إذ هو خروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ في قولِه:» فَمَنْ فَرَض «. وحُمِلَ على معنى» مَنْ «إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرِدْه. وقد خَبَط بعضُ المُعْرِبين فقال:» مِنْ خير «متعلقٌ بتَفْعلوا، وهو في موضعِ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقدرُه:» وما تفعلوه فعلاً مِنْ خير «والهاءُ في» يَعْلَمْه «تعودُ إلى» خير «. وهذا غلطٌ فاحشٌ؛ لأنه من حيثُ عَلَّقه بالفعلِ

قبلَه كيف يَجْعَلُه نعت مصدرٍ محذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعود إلى» خير «يلزم منه خلوُّ جملةِ الجوابِ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ، وذلك لا يجوز أمَّا لو كانَتْ أداةُ الشرط حرفاً فلا يُشْترط فيه ذلك فالصوابُ ما تقدَّم. وإنما ذكرتُ لك هذا لئلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه. والهاءُ عائدةٌ على» ما «التي هي اسمُ الشرط. وألفُ» الزاد «منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم: تَزَوَّدَ.

198

قوله تعالى: {أَن تَبْتَغُواْ} : «أَنْ» في محلِّ نصبٍ عند سيبويه والفراء، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأخفش؛ لأنَّها على إضمار حرفِ الجَرِّ، في أَنْ، وهذا الجارُّ متعلَّقٌ: إمَّا بجُناحِ لما فيه من معنى الفعلِ وهو الميلُ والإِثمُ، وما كانَ في معناهما، وإمَّا بمحذوفٍ، لأنه صفةٌ ل «جُناح» ، فيكونُ مرفوعَ المحلِّ أي: جناحٌ كائنٌ في كذا. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه متعلقٌ ب «ليس» ، واستضعفه، ولا ينبغي ذلك، بل يُحْكَمُ بتخطئتِه البتة. قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} يجوز أَنْ يتعلَّق بتبتغوا، وأن يكونَ صفةً ل «فضلاً» ، فيكونُ منصوبَ المحل، متعلقاً بمحذوفٍ. و «مِنْ» في الوجهين لابتداءِ الغاية، لكنْ في الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أي: فضلاً كائناً مِنْ فُضولِ ربكم. قوله: {فَإِذَآ أَفَضْتُم} العاملُ فيها جوابُها وهو «فاذكروا» قال أبو البقاء. «ولا تمنع الفاءُ من عملِ ما بعدَها فيما قبلها لأنه شرطٌ» . وقد منع الشيخ

مِنْ ذلك بِما معناه أنَّ مكانَ إنشاء الإِفاضة غيرُ مكانِ الذكر؛ لأنَّ ذلك عرفات وهذا المَشْعَرَ الحرام، وإذا اختلف المكانُ لزم منه اختلافُ الزمانِ ضرورةً، فلا يجوزُ أَنْ يكونَ الذكر عند المشعر الحرام واقعاً عند إنشاء الإِفاضة. قوله: {مِّنْ عَرَفَاتٍ} متعلِّقٌ ب «أَفَضْتُم» والإِفاضةُ في الأصل: الصبُّ، يقال: فاضَ الماء وأَفَضْتُه، ثم يُستعمل في الإِحرام مجازاً. والهمزة في «أَفَضْتُم» فيها وجهان، أحدهما: أنها للتعدية فيكون مفعولُه محذوفاً تقديره: أَفَضْتُم أنفسكم، وهذا مذهبُ الزجاج وتبعه الزمخشري، وقَدَّره الزجاج فقال: «معناه: دَفَع بعضُكم بعضاً» . والثاني: أن أَفْعَل هنا بمعنى فَعَل المجردِ فلا مفعولَ به. قال الشيخ: «لأنه لا يُحفظ: أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه، وكان قد شرحه بالانخراط والاندفاعِ والخروج من المكانِ بكثرة. وأصل أَفَضْتُم: أَفْيَضْتُم فَأُعِلَّ كنظائره، بأَنْ نُقِلَتْ حركةُ حرفِ العلة على الساكنِ قبله فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصلِ وانفتح ما قبله فَقُلِب ألفاً وهو من ذواتِ الياء من الفَيْض كما ذَكَرْتُ لك، ولا يكون من ذواتِ الواوِ من قولهم: فَوْضى الناسِ وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائسٍ. وعَرَفات اسمُ مكانٍ مخصوصٍ، وهل هو مشتقٌّ أو مرتجل؟ قولان أحدهما: أنه مرتجلٌ وإليه ذهب الزمخشري قال:» لأنَّ العَرَفَة لا تُعْرَف في أسماء الأجناس إلا أَنْ تكونَ جمعَ عارف «. والثاني: أنه مشتقٌّ، واختُلِفَ في اشتقاقه، فقيل: من المعرفة لأن إبراهيم عليه السلام لَمَّا عَرَّفه جبريل هذه البقعة فقال: عَرَفْتُ عَرَفْتُ، أو لأنه عَرَّفَه بها هاجَرَ واسماعيلَ لَمَّا اخَّرجَتْهما

سارةُ في غَيْبته فوجَدهما بها، أو لأنَّ آدم عَرَف بها حواء. وقيل: مشتقةٌ من العَرْف وهو الرائحةُ الطيبة، وقيل: من العُرْف وهو الارتفاعُ ومنه عُرْفُ الديك، وعرفات جمع عَرَفة في الأصل ثم سُمِّي به هذا الموضعُ، والمشهور أنَّ عرفات وعَرَفه واحد. وقيل: عَرَفةُ اسمُ اليومِ وعرفات اسمُ مكان، والتنوين في عَرَفات وبابِهِ فيه ثلاثةُ أقوال، أظهرُها: أنه تنوينُ مقابلةٍ، يَعْنُون بذلك أنَّ تنوينَ هذا الجمع مقابلٌ لنونِ جمع/ الذكور، فتنوينُ مسلمات مقابل لنون مسلمين، ثم جُعِل كلُّ تنوينٍ في جمعِ الإِناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - كذلك طَرْداً للباب. والثاني أنه تنوينُ صرفٍ وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال: «فإن قلت: فهلاَّ مُنِعَت الصرفَ وفيها السببان: التعريفُ والتأنيثُ. قلت: لا يخلو التأنيثُ: إما أن يكونَ بالتاءِ التي في لفظِها وإما بتاء مقدرة كما في» سعاد «فالتي في لفظِها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامةُ جمعِ المؤنث، ولا يَصِحُّ تقديرُ التاءِ فيها، لأنَّ [هذه] التاء لاختصاصها بجمعِ المؤنثِ مانعةٌ من تقديرُها كما لا تُقَدَّر تاءُ التأنيث في بنت؛ لأنَّ التاءَ التي هي بدلٌ من الواو لاختصاصِها بالمؤنث كتاءِ التأنيث فَأَبَتْ تقديرَها» فمنع الزمخشري أن يكون التأنيثُ سبباً فيها فصار التنوينُ عنده للصرفِ. والثالث: أنَّ جمعَ المؤنثِ إنْ كان له جمعٌ مذكرٌ كمسلمات ومسلمين فالتنوين للمقابلةِ وإلاَّ فللصرفِ كعرفات. والمشهورُ - حالَ التسمية به - أن يُنَوَّن وتُعْرِبَه بالحركتين: الضمة والكسرة كما لو كان جَمْعاً، وفيه لغة ثانية: وهو حَذْفُ التنوينِ تخفيفاً

وإعرابُه بالكسرةِ نصباً. والثالثة: إعرابُه غيرَ منصرف بالفتحة جراَ، وحكاها الكوفيون والأخفش، وأنشدَ قول امرىء القيس: 887 - تَنَوَّرْتُها مِنْ أَذْرِعاتَ وأهلُها ... بيثربَ أدنى دارِها نظرٌ عالي بالفتح. قوله: {عِندَ المشعر الحرام} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ باذكروا. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ «اذكروا» أي: اذكروه كائنين عند المشعِر. قوله: {كَمَا هَدَاكُمْ} فيه خمسةُ أقوالٍ، أحدُها: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على أنَّها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: ذكراً حسناً كما هداكم هدايةٌ حسنة، وهذا تقدير الزمخشري. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدرِ المقدرِ، وهو مذهبُ سيبويه. والثالث: أن تكونَ للتعليل بمعنى اللام، أي: اذكروه لأجلِ هدايته إياكم، حكى سيبويه «كما أنه لا يَعْلَمُ فتجاوزَ الله عنه» . ومِمَّنْ قَالَ بكونِها للعِلِّيَّة الأخفشُ وجماعةٌ. و «ما» في «كما» يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ مصدريةً، فتكونَ مع ما بعدها في محلِّ جر بالكافِ، أي: كهدايته. والثاني: - وبه قال

الزمخشري وابن عطية - أن تكونَ كافةً للكافِ عن العملِ، فلا يكونُ للجملة التي بعدها محلُّ من الإِعرابِ، بل إنْ وَقَع بعدَها اسمٌ رُفِعَ على الابتداء كقوله: 888 - ونَنْصُرُ مولانا ونعلُم أنَّه ... كما الناسُ مجرومٌ عليه وجَارِمُ وقال آخر: 889 - لعمرك إنني وأبا حميدٍ ... كما النشوانُ والرجلُ الحليمُ أريد هجاءَه وأخاف ربي ... وأعلم أنه عبدٌ لئيم وقد منع صاحبُ «المستوفى» كونَ «ما» كافةً للكافِ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم. والرابع: أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال من فاعل «اذكروا» تقديرُه: مُشْبِهين لكم حين هداكم. قال أبو البقاء: «ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجثة لا تشبه الحدثَ. والخامس: أن تَكونَ الكافُ بمعنى» على «كقوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . قوله: {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين} :» إنْ «هذه هي المخففةُ من الثقيلة، واللامُ بعدها للفرق بينها وبين النافيةِ، وجازَ دخولُ» إنْ «على الفعل

لأنه ناسخٌ. وهل هذه اللامُ لام الابتداءُ التي كانت تصحبُ» إنَّ «أو لامٌ أخرى غيرُها، اجتُلِبَتْ للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف: فالفراءُ يزعم أنها بمعنى» إنْ «النافية واللامُ بمعنى إلاَّ أي: ما كنتم من قبلِه إلا من الضالين، ومذهبُ الكسائي التفصيلُ: بين أنْ تدخُلَ على جملةٍ فعليةٍ فتكونَ» إنْ «بمعنى قد، واللامُ زائدة للتوكيدِ وبين أن تدخلَ على جملةٍ اسمية فتكون كقولِ الفراء، وقد تقدَّم طرفٌ من هذه الأقوال. و» من قبله «متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه» لمن الضالين «، تقديرُه: كنتم من قبله ضالِّين لمن الضالين. ولا يتعلَّق بالضالِّين بعده، لأنَّ ما بعد أل الموصولة لا يعمل فيما قبلها، إلا على رأي مَنْ يتوسَّع في الظرف، وقد تقدم تحقيقه. والهاء في» قبله «عائدةٌ على» الهدى «المفهومِ من قوله» كما هداكم.

199

قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ} استشكل الناسُ مجيءَ «ثم» هنا من حيث إنَّ الإِفاضة الثانية هي الإِفاضةُ الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تَقِفُ بمزدلفة وسائرُ الناسِ بعرفة، فأُمروا أن يَفيضوا من عرفةَ كسائرِ الناسِ، فكيف يُجاء ب «ثم» التي تقتضي الترتيب والتراخيَ؟ وفي ذلك أجوبةٌ: أحدُها: أنَّ الترتيبَ في الذِّكر لا في الزمانِ الواقعِ فيه الأفعالُ، وحَسَّنَ ذلك أن الإِفاضةَ الأولى غيرُ مأمورٍ بها، إنما المأمورُ به ذكرُ اللهِ إذا فُعِلَت الإِفاضةَ. والثاني: أن تكونَ هذه الجملة معطوفةً على قولِه: {واتقوني يا أولي} ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ وهو بعيدٌ. الثالث: أن تكونَ «ثم» بمعنى الواو، وقد قال به بعضُ النحويين، فهي لعطفِ كلامٍ على كلامٍ منقطعٍ من الاول. الرابع: أن الإِفاضة الثانيةَ هي من جَمْعٍ إلى مُنى، والمخاطبون بها جميعُ

الناس، وبهذا قال جماعةٌ كالضحاك ورجَّحه الطبري، وهو الذي يقتضيه ظاهرُ القرآنِ وعلى هذا ف «ثم» على بابها، قال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف موقعُ» ثم «؟ قلت: نحوُ موقِعها في قولك:» أحْسِنْ إلى الناس ثم لا تُحْسِن إلى غير كريم «تأتي ب» ثم «لتفاوتِ ما بين الإِحسانِ إلى الكريمِ والإِحسان إلى غيرِه وبُعْدِ ما بينهما، فكذلك حين أمرَهم بالذكر عند الإِفاضةِ من عرفات قال:» ثم أفيضوا «لتفاوتِ ما بين الإِفاضَتَيْنِ وأنَّ إحداهما صوابٌ والثانيةَ خطأٌ» . قال الشيخ: «وليست الآية نظيرَ المثال الذي مثَّله، وحاصلُ ما ذَكَرَ أن» ثم «تَسْلُب الترتيبَ وأنَّ لها معنىً غيرَه سَمَّاه بالتفاوتِ/ والبُعْدِ لما بعدها مِمَّا قبلها، ولم يَذْكُر في الآية إفاضة الخطأ حتى تجيء» ثم «لتفاوتِ ما بينها، ولا نعلمُ أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم» . وهذا الذي ناقشَ الشيخُ به الزمخشري تحاملٌ عليه، فإنه يعني بالتفاوتِ والبُعْد التراخيَ الواقعَ بين الرتبتين. وسيأتي له نظائرُ، وبمثلِ هذه الأشياءِ لا يُرَدُّ كَلامُ مثلِ هذا الرجل. و «من حيث» متعلِّقٌ بأَفيضوا، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، و «حيث» هنا على بابِها من كونِها ظرفَ زمانٍ، وقال القفال: «هي هنا لزمانِ الإِفاضة» وقد تقدَّم أن هذا قولُ الأخفش، وتقدَّم دليلُه، وكأن القفال رام بذلك التغايرَ بين الإِفاضتين ليقع الجوابُ عن مجيء «ثم» هنا، ولا يفيدُ ذلك لأن الزمان يستلزمُ مكانَ الفعلِ الواقعِ فيه. و «أفاض الناسُ» في محلِّ جرٍّ بإضافة «حيثُ» إليها. والجمهورُ على رفعِ السين من «الناسُ» . وقرأ سعيد بن جبير: «الناسي» وفيها تأويلان،

أحدهما: أنه يُراد به آدمُ عليه السلام، وأيَّدوه بقوله: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] . والثاني: أن يُراد به التاركُ للوقوف بمزدلفة، وهم جَمْعُ الناس، فيكون المرادُ بالناسي حنسَ الناسين. قال ابن عطية: «ويجوزُ عند بعضِهم حذفُ الياءِ، فيقول:» الناس كالقاضِ والهادِ «قال: أمّا جوازُه في العربية فذكره سيبويه، وأمّا جوازُه قراءَةً فلا أحفظه» . قال الشيخ: «لم يُجِزْ سيبويه ذلك إلا في الشعر، وأجازه الفراء في الكلامِ، وأمّا قوله:» لم أحفظْه «قد حَفِظَه غيرُه، حكاها المهدوي قراءةً عن سِعيد بن جبير أيضاً. قوله: {واستغفروا الله} » استغفر «يتعدَّى لاثنين أولُهما بنفسِه، والثاني» ب «مِنْ» ، نحو: استغفرتُ الله من ذنبي، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجر كقولِه: 890 - أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ مُحْصِيَه ... ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ هذا مذهبُ سيبويه وجمهورِ الناس. وقال ابن الطراوة: إنه يتعدَّى إليهما بنفسِه أصالةً، وإنما يتعدَّى ب «من» لتضمُّنه معنى ما يتعدَّى بها، فعنده «استغفرت الله من كذا» بمعنى تُبْت إليه من كذا، ولم يَجِىءْ «استغفر» في القرآن متعدِّياً إلاَّ للأولِ فقط، فأمَّا قولُه تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ} [غافر: 55] {واستغفري لِذَنبِكِ} [يوسف: 29] {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] فالظاهرُ أنَّ هذه اللامَ لامُ العلةِ

لا لامُ التعديةِ، ومجرورُها مفعولٌ من أجلِه لا مفعولٌ به. وأمّا «غَفَر» فَذُكِرَ مفعولُه في القرآنِ تارةً: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} [آل عمران: 135] ، وحُذِف أخرى: {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} [المائدة: 40] . والسين في «استغفر» للطلبِ على بابها. والمفعولُ الثاني هنا محذوفٌ للعلم به، أي: مِنْ ذنوبكم التي فَرَطَتْ منكم.

200

قوله تعالى: {مَّنَاسِكَكُمْ} : جمعُ «مَنْسَك» بفتحِ السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُهما، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً. والقُراء على إظهار هذا، وروى عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه الإِعرابِ بحركةِ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً «مناسككم» ولم يُدْغِم ما يُشْبِهه من نحو: {جِبَاهُهُمْ} [التوبة: 35] و {وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] قوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} الكافُ كالكاف في قوله {كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] إلاَّ في كونِها بمعنى «على» أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفت إليه. والجمهورُ على نصبِ «آباءكم» مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل. وقرأ محمد بن كعب: «آباؤكم» رفعاً، على أنَّ المصدرَ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه. ورُوِيَ عنه أيضاً: «أباكم» بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُد أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجري «أباك» ونحوَهُ مُجرى المقصورِ.

قوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} يجوزُ في «أشد» أن يكونَ مجروراً وأَنْ يكونَ منصوباً: فأمّا جَرُّه فذكروا فيه وجهين، أحدهما: أن يكونَ مجروراً عطفاً على «ذكِركم» المجرورِ بكافِ التشبيه، تقديرُه: أو كذكرٍ أشدَّ ذكراً، فتجعلُ للذكرِ ذِكْرَاً مجازاً، وإليه ذهب الزجاج، وتبعه أبو البقاء، وابن عطية. والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخفوض بإضافة المصدرِ إليه، وهو ضميرُ المخاطبين. قال الزمخشري: «أو أَشدَّ ذكراً في موضع جر عطفاً على ما أُضِيف إليه الذكر في قولِه:» كذكركم «كما تقول: كذكرِ قريشٍ آباءَهم أو قومٍ أشدَّ منهم ذِكْراً» وهذا الذي قاله الزمخشري معنى حسنٌ، ليس فيه تَجوُّزٌ بأَنْ يُجْعَل للذكْرِ ذِكْرٌ، لأنه جَعَلَ «أشد» من صفات الذاكرين، إلا أن فيه العطفَ على الضميرِ المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوعٌ عند البصريين ومَحَلُّ ضرورة. وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ، أحدُه: أن يكونَ معطوفاً على «آباءكم» قال الزمخشري، فإنه قال: «بمعنى أو أشدَّ ذكراً من آبائِكم، على أن» ذِكْراً «من فِعْلِ المذكور» وهذا كلامٌ يَحْتاج إلى تفسيرٍ، فقولُه: «هو معطوفٌ على آباءكم» معناه أنك إذا عَطَفْتَ «أشدّ» على «آباءكم» كان التقديرُ: أو قوماً أشدَّ ذكراً من آبائكم، فكان القومُ مذكورين، والذكرُ الذي هو تمييزُ بعد «أشدَّ» هو من فِعْلهم، أي: من فعلِ القوم المذكورين، لأنه جاء بعد «أَفْعَلَ» الذي

هو صفةٌ/ للقومِ، ومعنى «من آبائِكم» أي من ذكرِكم لآبائكم وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذكرُ ذاكراً. الثاني: أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في «كذكركم» لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: ذكراً كذكركم آباءكم أو أشدََّ، وجَعَلوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً كقولهم: شعرٌ شاعِرٌ، وهذا تخريجُ أبي علي وابن جني. الثالث: قاله مكي: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ، قال: «تقديرُه: فاذكروه ذكراً أشد من ذكركم لآبائكم، فيكونُ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ، أي: اذكروه بالغين في الذِّكْر. الرابع: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلِ الكون، قال أبو البقاء:» وعندي أنَّ الكلام محمولٌ على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشدَّ لله ذِكْراً منكم لآبائكم، ودلَّ على هذا المعنى قولُه: «فاذكروا الله» أي: كونوا ذاكِريه، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المجاز «يعني المجاز الذي تقدَّم ذكره عن الفارسي وتلميذه. الخامس: أن يكون» أشدَّ «نصباً على الحال من» ذِكْراً «لأنه لو تأخَّر عنه لكان صفةً له، كقوله: 891 - لميَّةَ موحشاًَ طَلَلٌ ... يَلُوح كأنه خِلَلُ » موحشاً «حالٌ من» طلل «، لأنه في الأصلِ صفةٌ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه

صفةً فَجُعِلَ حالاً، قاله الشيخ، فإنه قال بعد ذكره ثلاثةَ أوجه لنصبه ووجهين لجِرّه:» فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفة، والذي يتبادر إلى الذهنِ في الآية أنهم أُمروا بأَنْ يَذْكُروا الله ذكراً يُماثل ذكرَ آبائِهم أو أشدَّ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية عليه بوجهٍ، ذُهلوا عنه «، فَذَكَر ما تقدم. ثم جَوَّز في» ذِكْراً «والحالةُ هذه وجهين، أَحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في» كذكركم «. ثم اعترض على نفسِه في هذا الوجه بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف وهو» أو «وبين المعطوف وهو» ذِكْراً «بالحال» وهو «أشدَّ» ، وقد نصَّ النحويون [على] أن الفصلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطين، أحدُهُما: أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد. والثاني: أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً أو ظرفاً أو جاراً، وأحدُ الشرطين موجودٌ وهو الزيادة على حرفٍ والآخرُ مفقودٌ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدمة. ثم أجابَ بأن الحالَ مقدرةٌ بحرفِ الجر وشَبَّهه بالظرفِ فَأُجْرِيَت مُجْرَاهما. والثاني: من الوجهين في «ذِكْراً» أن يكونَ مصدراً لقوله: «فاذكروا» ويكون قولُه: «كذكركم» في محلِّ نصبٍ على الحال من «ذِكْراً» لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمت كانت في محلِّ حال، ويكون «أشدَّ» عطفاً على هذه الحالِ، وتقديرُ الكلام: فاذكروا الله ذكراً كذكركم، أي: مُشْبِهاً ذكركم أو أشدَّ، فيصيرُ نظيرَ: «اضربْ مثل ضربِ فلانٍ ضرباً أو أشد» الأصل: اضرب ضرباً مثلَ ضَرْبِ فلانٍ أو أشدَّ. و «ذِكْراً» تمييزٌ عند غير الشيخ كما تقدَّم، واستشكلوا كونَه تمييزاً منصوباً

وذلك أن أفعلَ التفضيلِ يجب أن تُضاف إلى ما بعدها إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها نحو: «وجهُ زيدٍ أحسنُ وجهٍ» ، «وعِلْمُهُ أكثرُ علم» وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها وجب نصبُه نحو: «زيد أحسنُ وجهاً وخالدٌ أكثرُ علماً» . إذا تقرَّرَ ذلكَ فقولُه: «ذِكْراً» هو من جنس ما قبلها فعلى ما قُرِّر كان يقتضي جَرَّه، فإنه نظيرُ: «اضربْ بكراً كضربِ عمرو زيداً أو أشدَّ ضربٍ» بالجرِّ فقط. والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأخوذٌ من الأوجه المتقدمة في النصبِ والجر المذكورين في «أشدَّ» من حيث أن يُجْعَل الذكرُ ذاكراً مجازاً كقولهم: «شِعْرٌ شاعرٌ» كما قال به الفارسي وصاحبُه، أو يُجْعَلَ «أشدَّ» من صفاتِ الأعيان لا من صفاتِ الإِذكار كما قال به الزمخشري، أو يُجْعَلَ «أشدَّ» حالاً من «ذِكْراً» أو ننصبَه بفعلٍ. وهذا كلُّه وإن كان مفهوماً مِمّا تقدَّم إلا أني ذكرتُه بالتنصيص، تسهيلاً للأمر فإنه موضعٌ يحتاج إلى نظرٍ وتأمل. وهذا نهايةُ القول في هذه المسألةِ بالنسبة لهذا الكتاب. و «أو» هنا قيل للإباحةِ، وقيل للتخيير، وقيل: بمعنى بل. قوله: {مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا} «مَنْ» مبتدأٌ، وخبرُه في الجارِّ قبله، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش، وأن تكونَ نكرةً موصوفة. وفي هذا الكلام التفاتٌ، إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ لقيل: «فمنكم» ، وحُمِل على معنى «مَنْ» إذ جاء جَمْعاً في قوله: «ربَّنا آتِنا» ، ولو حُمِل على لفظِها لقال «ربِّ آتني» . وفي مفعول «آتِنا» الثاني - لأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما غيرُ الأول - ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها: أنه محذوفٌ اختصاراً أو اقتصاراً، لأنه من باب «أعطى» ، أي: آتِنا ما نريد أو مطلوبنَا. والثاني: أن «في» بمعنى «مِنْ» أي: من الدنيا. والثالث: أنها زائدةُ، أي: آتِنا الدنيا، وليسا بشيء.

201

قوله تعالى: {فِي الدنيا حَسَنَةً} : يجوز في الجار وجهان، أحدهما: أن يتعلَّقَ بآتِنا كالذي قبله. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من «حسنةً» لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلما قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً. قوله: {وَفِي الآخرة حَسَنَةً} هذه الواوُ عاطفةٌ شيئين على شيئين متقدمين. ف «في الآخرة» عطفٌ على «في الدنيا» بإعادةِ العاملِ. و «حسنةً» عطفٌ على «حسنةٍ» . والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ على شيئين فأكثرَ. تقول: «أَعْلَمَ الله زيداً عمراً فاضلاً وبكراً خالداً صالحاً» اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين ففيها خلافٌ لأهلِ العربية وتفصيلٌ كثيرٌ يأتي في موضعِه إنْ شاء الله تعالى. وليس هذا كما زعم بعضهُم أنه من بابِ الفصلِ/ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد وبين المعطوفِ بالجار والمجرور، وجعله دليلاً على أبي علي الفارسي حيث منع ذلك إلا في ضرورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين كما ذكرتُ لك، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو: «أكرمت زيداً وعندك عمراً» . وإنما يُرَدُّ على أبي علي بقولِه: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ [بالعدل] } [النساء: 58] وقوله تعالى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] . وقوله: «قِنا» ممَّا حُذِفَ منه فاؤُه ولامُه من وقى يقي وقاية. أمَّا حذفُ فائه فبالحَمْلِ على المضارع لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ، وأمَّا حذفُ لامه فلأنَّه الأمرَ جارٍ مجرى المضارعِ المجزوم، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ

فكذلك الأمرُ منه، فوزن «قِنا» حينئذ: عِنا، والأصل: اوْقِنا، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغْنِي عن همزةِ الوصلِ فَحُذِفَتْ. و «عذاب» مفعولٌ ثانٍ.

202

قوله تعالى: {أولئك} : مبتدأ و «لهم» خبرٌ مقدم، و «نصيب» مبتدأ، وهذه الجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوز أن يكونَ «لهم» خبرَ «أولئك» ، و «نصيب» فاعلٌ به لِما تضمَّنه من معنى الفعلِ لاعتمادِه، والمشارُ إليه بأولئك فيه قولان، أظهرهُما: أنهما الفريقان: طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة. وقيل: بل للفريقِ الأخيرِ فقط، أعنى طالبَ الدنيا والآخرة. قوله: {مِّمَّا كَسَبُواْ} متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «نصيب» ، فهو في محلِّ رفعٍ. وفي «مِنْ» ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنها للتبعيض، أي: نصيب من جنس ما كسبوا. والثاني: أنها للسببيةِ، أي: من أجلِ ما كَسَبوا. والثالث: أنها للبيان. و «ما» يجوزُ فيها وجهان، أن تكونَ مصدريةً أي: مِنْ كَسْبِهم، فلا تحتاجُ إلى عائدٍ. والثاني: أنها بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ لاستكمال الشروط، أي: من الذي كسبوه.

203

قوله تعالى: {مَّعْدُودَاتٍ} : صفة لأيام، وقد تقدَّم أن صفةَ ما لا يعقل يَطَّرِد جَمْعُها بالألفِ والتاءِ. وقد طَوَّل أبو البقاء هنا بسؤال وجواب، أما السؤالُ فقال: إنْ قيل «الأيام» واحدُها «يوم» و «المعدودات» واحدتُها «معدودةٌ» ، واليومُ لا يُوَصَفُ بمعدودة لأنَّ الصفةَ هنا مؤنثة والموصوفُ مذكَّر، وإنما الوجهُ أن يقالَ: «أيامٌ معدودةٌ» فَتَصِفُ الجمع بالمؤنثِ، فالجوابُ أنه أَجْرى «معدودات» على لفظ أيام، وقابَلَ الجمعَ بالجمع مجازاً، والأصلُ معدودة، كما قال: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً

مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] ، ولو قيل: إن الأيام تَشْتمل على الساعات، والساعةُ مؤنثة فجاء الجمعُ على معنى ساعات الأيام، وفيه تنبيهٌ على الأمر بالذكر في كلِّ ساعاتِ هذه الأيامِ أو في معظمِها لكانَ جواباً سديداً. ونظيرُ ذلكَ الشهر والصيف والشتاء فإنَها يُجاب بها عن كم، [وكم] إنما يجابُ عنها بالعدد، وألفاظُ هذه الأشياءِ ليسَتْ عدداً وإنما هي أسماءُ المعدودات فكانت جواباً من هذا الوجهِ «وفي هذا السؤالِ والجوابِ تطويلٌ من غيرِ فائدةٍ، وقولُه» مفرد معدودات معدودة بالتأنيث «ممنوعٌ بل مفردُهَا» معدود «بالتذكير، ولاَ يضُرُّ جمعُه بالألفِ والتاء، إذ الجمع بالألفِ والتاءِ لاَ يسْتْدعي تأنيثَ المفرد، ألا ترى إلى قولِهم: حَمَّامات وسِجِلاَّت وسُرادِقات. قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} » مَنْ «يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطيةً، ف» تَعَجَّل «في محلِّ جزمٍ، والفاءُ في قولِه:» فلا «جوابُ الشرط، والفاءُ وما في حَيِّزها في محلِّ جزمٍ أيضاً على الجواب. والثاني: أنها موصولةٌ لا فلا محلَّ لتَعَجَّل لوقوعِه صلةً، ولفظه ماضٍ ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبالَ؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً فهذا حكمُه. والفاءُ في» فلا «زائدةُ في الخبرِ، وهي وما بعدها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ. و» في يومين «متعلق بتَعجَّل، ولا بد من ارتكابِ مجاز لأن الفعلَ الواقعَ في الظرفِ المعدودِ يستلزم أن يكونَ واقعاً في كلٍّ مِنْ معدوداتِه، تقولُ:» سِرْت يومين «لا بد وأَنْ يكونَ السيرُ وقع في الأول والثاني أو بعضِ الثاني، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ، ووجهُ المجاز: إمَّا من حيث إنه نَسَب الواقعَ في

أحدهما واقعاً فيها كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] و {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، والناسي أحدُهما، وكذلك المُخْرَجُ من أحدِهما، وإمَّا من حيث حَذْفُ مضافٍ أي: في تمامِ يومين أو كمالِهما. و» تعجَّل «يجوزُ أن يكونَ بمعنى استعجَلَ، كتكبَّر واستكبر، أو مطاوعاً لعجَّل نحو كَسَّرْتُه فَتَكَسَّر، أو بمعنى المجرد، وهو عَجِل، قال الزمخشري:» والمطاوعة أوفق، لقوله: «ومَنْ تأخَّر» ، كما هي كذلك في قوله: 892 - قد يُدْرِك المتأنِّي بعضَ حاجتِه ... وقد يكونُ مع المُسْتعجِلِ الزَّلَلُ لأجلِ قولِه «المتأني» . وتعجَّل واستعجل يكونان لازمين ومتعديين، ومتعلَّقُ التعجيلِ محذوفٌ، فيجوزُ أن تقدِّرَه مفعولاً صريحاً أي: من تعجَّل النَّفْر، وأن تقدِّرَه مجروراً أي: بالنفر، حَسَبَ استعمالِه لازماً ومتعدياً. وفي هذه الآيات من علمِ البديعِ: الطباقُ، وهو ذكرُ الشيء وضدِّه في «تعجَّل وتأخر» فهو كقوله: {هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 43] وهذا طباقٌ

غريب، من حيث جَعَل ضدَّ «تَعَجَّل» : «تأخَّر» ، وإنما ضدُّ «تعجَّل» : «تأنَّى» وضدُّ تأخَّر: تقدَّم، ولكنه في «تعجَّل» عَبَّر بالملزوم عن اللازم، وفي «تأخَّر» باللازم عن الملزومِ. وفيها من علم البيان: المقابلةُ اللفظية، وذلك أن المتأخِّرَ بالنَّفْر آتٍ بزيادةٍ في العبادة فله زيادةٌ في الأجر على المتعجِّل فقال في حقه أيضاً: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ليقابلَ قولَه أولاً: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ، فهو كقولِهِ: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] و {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] . وقرأ الجمهور {فلا إِثْمَ} بقطعِ الهمزةِ على الأصلِ، وقرأ سالم ابنَ عبد الله: «فلا اثمَ» بوصلِها وحَذْفِ ألفِ لا، ووجهُه أنه خَفَّف الهمزةَ بينَ بينَ فَقَرُبَتْ من الساكنِ فَحذَفَها تشبيهاً بالألف، فالتقى ساكنان: ألفُ لا وثاء «أثم» ، فَحُذِفت ألفُ «لا» لالتقاءِ الساكنين. وقال أبو البقاء: «ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسمَ ب» لا «حَذَفَ الهمزةَ تشبيهاً لها بالألف» يعني أنه لمَّا رُكِّبت «لا» مع اسمها صارا كالشيء الواحد، والهمزةُ شبيهةُ الألف، فكأنه اجتمعَ ألِفان فَحُذِفَت الثانيةُ لذلك، ثم حُذِفَت الألفُ لِما ذكرْتُ لك. قوله: {لِمَنِ اتقى} / هذا الجارُّ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حَسَبَ اختلافِهم في تعلُّقِ هذا الجارِّ من جهةِ المعنى لا الصناعة فقيل: يتعلَّقُ من جهةِ المعنى بقولِه: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فتُقَدِّر له ما يَليقُ به أي: انتفاءُ الإِثمِ لِمَن اتَّقى. وقيل: متعلِّقٌ بقولِه: «واذكروا» أي: الذكرُ لمَنِ اتقى. وقيل: متعلِّق بقولِه: «غفورٌ رحيم» أي: المغفرة لمن اتقى. وقيل:

التقديرُ: السلامة لمن اتقى. وقيل: التقديرُ: ذلك التخييرُ وَنفْيُ الإِثم عن المستعجلِ والمتأخرِ لأجلِ الحاجِّ المتَّقي، لئلا يتخالجَ في قلبِه شيءٌ منهما فيحسَبَ أنَّ أحدَهما يُرهِقُ صاحبَه إثماً في الإِقدامِ عليه، لأنَّ ذا التقوى حَذِرٌ متحرزٌ من كلِّ ما يُريبه. وقيل: التقديرُ: ذلكَ الذي مَرَّ ذكرهُ من أحكام الحج وغيرهِ لِمَنِ اتقى، لأنه هو المنتفعُ به دون مَنْ سِواه، كقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} [الروم: 38] . قال هذين التقديرين الزمخشري. وقال أبو البقاء: «تقديرُه: جوازُ التعجيل والتأخير لمن اتقى» . وكلُّها أقوالٌ متقاربة. ويجوز أن يكونَ «لمَن اتقى» في محلِّ نصب على أن اللامَ لامُ التعليل، وتيعلَّقُ بقولِه {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: انتقى الإِثمُ لأجلٍ المتَّقي، ومفعولُ: اتَّقى «محذوفٌ، أي: اتَّقى اللهَ، وقد جاءَ مصرَّحاً به في مصحفِ عبدِ الله وقيل: اتقى الصيدَ.

204

قولُه تعالى: {مَن يُعْجِبُكَ} : «مَنْ» يجوزُ أن تكونَ موصولةً، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، وقد تقدَّم نظيرُها أول السورة فيُنْظر هناك. والإِعجاب: استحسان الشيء والميلُ إليه والتعظيمُ له. والهمزةُ فيه للتعدي. وقال الراغب: «العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرِضُ للإِنسان [عند الجهل] بسبب الشيء، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةٌ. بل هو بحسَبِ الإِضافات إلى مَنْ يَعْرِف السبب ومَنْ لا يعرفه، وحقيقةُ أعجبني كذا: ظَهَر لي ظهوراً لم أَعْرِفْ سبَبه» . انتهى. ويقال: عَجِبْتُ من كذا، قال:

893 - عَجِبْتُ والدهرُ كثيرٌ عجبُهْ ... مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضْرِبُهْ قوله: {فِي الحياة} في وجهانِ، أحدهُما أن يتعلَّقَ ب «قوله» ، أي: يعجِبُك ما يقولُه في معنى الدنيا، لأنَّ ادِّعاءَه المحبةَ بالباطلِ يَطْلُب حظاً من الدنيا. والثاني: أن يتعلَّقَ ب «يعجِبُك» أي: قولُه حلوٌ فصيحٌ في الدنيا فهو يعجبُك ولا يعجبُك في الآخرة، لِمَا يُرْهِقُه في الموقف من الحَبْسَة واللُّكْنة، أو لأنه لا يُؤْذَنُ لهم في الكلامِ. قال الشيخ: «والذي يظهرُ أنه متعلق بيعجُبك، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري، بل على معنى أنك تستحْسِنُ مقالتَه دائماً في مدةِ حياته إذ لا يَصْدُرُ منه من القولِ إلا ما هو معجِبٌ رائقٌ لطيفٌ، فمقالتُه في الظاهرِ مُعْجِبَةٌ دائماً، لا تراه يَعْدِل عن تلك المقالةِ الحسنةِ الرائعة إلى مقالةٍ خَشِنَةٍ منافيةٍ» . قوله: {وَيُشْهِدُ الله} في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنها عطفٌ على «يُعْجِبَك» ، فهي صلةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب أو صفةٌ، فتكونُ في محلِّ رفعٍ على حَسَبِ القول في «مَنْ» . والثاني: أن تكونَ حاليةً، وفي صاحبِها حينئذٍ وجهان، أحدهُما: أنه الضميرُ المرفوعُ المستكنُّ في «يعجبك» ، والثاني: أنه الضميرُ المجرُور في «قوله» تقديرُه: يُعْجِبُك أَنْ يقولَ في أمر الدنيا، مُقْسِماً على ذلك. وفي جَعْلها حالاً نظرٌ من وجهين، أحدهُما: من جهةِ المعنى، والثاني من جهةِ الصناعة، وأمَّا الأول فلأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ الإعجابُ والقولُ مقيدين بحالٍ والظاهرُ خلافهُ. وأمَّا الثاني فلأنه مضارع مثبتٌ فلا يَقَعُ حالاً إلا في شذوذٍ، نحو: «قُمْتُ وأصُكُّ عينه، أو ضرورةً نحو: 894 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهُنُهم مالِكا

وتقديرُه مبتدأً قبلَه على خلافِ الأصلِ، أي: وهو يُشْهِدُ. والجمهورُ على ضَمِّ حرفِ المضارعة وكسرِ الهاء، مأخوذاً من أَشْهَدَ ونصبِ الجلالة مفعولاً به. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن بفتحهِما ورفعِ الجلالةِ فاعلاً، وقرأ أُبيّ:» يستشهد الله «. فأمَّا قراءةُ الجمهور وتفسيرُهم فإن المعنى: يَحْلف بالله ويُشْهده إنه صادق، وقد جاءَتِ الشهادةُ بمعنى القَسَم في آية اللِّعان، قيل: فيكونُ اسمُ الله منتصباً على حَذْفِ حرفِ الجر أي: يُقْسِمُ بالله، وهذا سهوٌ من قائِله، لأنَّ المستعملَ بمعنى القسَم» شَهِد «الثلاثي لا» أَشْهَد «الرباعي، لا تقولُ: أُشْهِد بالله، بل: أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءةِ الجمهور: يَطَّلِعُ الله على ما في قلبه، ولا يَعْلَمُ به أحدٌ لشدةِ تكتُّمِه وأمَّا تفسيرُ الجمهورِ فيحتاجُ إلى حَذْفِ ما يَصِحُّ به المعنى، تقديرُه: وَيْحْلِفُ بالله على خِلافِ ما في قلبه، لأنَّ الذي في قلبه هو الكفرُ، وهو لا يَحْلِفُ عليه، إنما يَحْلِفُ على ضدِّه وهو الذي يُعْجِبُ سامعَه، ويُقَوِّي هذا التأويلَ قراءةُ أبي حيوة؛ إذ معناها: وَيطَّلِعُ الله على ما في قلبه من الكفر. وأمَّا قراءة أُبيّ فيَحْتمل استَفْعَل وجهين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى أَفْعل فيوافِقَ قراءةَ الجمهور. والثاني: أنه بمعنى المجرد وهو شَهِد، وتكونُ الجلالةُ منصوبةً على إسقاطِ الخافضِ. قوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} الكلامُ في هذه الجملةِ كالتي قبلَها، ونزيد

عليها وجهاً آخرَ وهو أن تكونَ حالاً من الضميرِ في «يُشْهِدُ» . والأَلَدُّ: الشديدُ من اللَّدَدِ وهو شدةُ الخصومةِ، قال: 895 - إنَّ تحتَ الترابَ عَزْماً وحَزْما ... وخَصيماً أَلَدَّ ذا مِغْلاقِ ويقال: لَدِدْتُ بكسر العين ألَدُّ بفتحهِا، ولَدَدْتُه بفتح العَيْن ألُدُّ بضمها أي: غَلَبْتُه في ذلك فيكونُ متعدياً قال: 896 - تَلُدُّ أقرانَ الرجالِ اللَّدَدِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ورجلٌ أَلَدُّ وأَلَنْدَدٌ وَيَلَنْدَدٌ، وامرأةٌ لَدَّاءُ، والجمعُ لُدٌّ كحُمْر. وفي اشتقاقهِ أقوالٌ، أحدُها: من لُدَيْدَي العُنُق وهما صَفْحتاه قاله الزجاج، وقيل: مَن لُدَيْدَي الوادي وهما جانباه، سُمِّيا بذلك لاعوجاجهما وقيل: هو مِنْ لدَّه إذا حَبَسه فكأنه يَحْبِسُ خصمَه عن مفاوضِته. وفي «الخصامِ» قولان، أحدُهما: أنه جَمْعُ خَصْم/ بالفتح نحو: كَعْب وكِعاب وكَلْب وكِلاَب وبَحْر وبِحار، وعلى هذا فلا تَحْتاج إلى تأويلِ، والثاني: أنه مصدرٌ، يقال: خاصَمَ خِصاماً نحو: قاتَل قِتالاً، وعلى هذا فلا بد من مُصَحِّحٍ لوقوعِه خبراً عن الجثة، فقيل: في الكلام حذفٌ من الأولِ أي:

وخصامُه أشدُّ الخصامِ، وقيل: من الثاني: أي وهو أشدُّ ذوي الخصام. وقيل: [أُريد] بالمصدر اسمُ الفاعلِ كما يُوصَفُ به في قولِهم: رجلٌ عَدْلٌ. وقيل: «أفْعَلُ» هنا ليسَتْ للتفضيلِ، بل هي بمعنى لَديدُ الخِصام، فهو من بابِ إضافةِ الصفةِ المشبهةِ. وقال الزمخشري: «والخِصامُ المُخَاصَمَةُ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى» في «كقولِهم:» ثَبْتُ الغَدْر «يعني أن» أَفْعَل «ليس من بابِ ما أُضيف إلى ما هو بعضه بل هي إضافةٌ على معنى» في «قال الشيخ:» وهذا مخالِفٌ لِما يَزْعمه النحاةُ من أن أَفْعَل لا تُضاف إلا إلى ما هي بعضُه، وفيه إثباتُ الإِضافةِ بمعنى «في» وهو قولٌ مرجوحٌ. وقيل: «هو» ليس ضميرَ «مَنْ» بل ضميرُ الخصومة يفسِّرهُ سياقُ الكلامِ، أي: وخصامُه أشدُّ الخصام. وجعل أبو البقاء «هو» ضميرَ المصدر الذي هو «قوله» فإنه قال: «وَيجوزُ أن يكونَ» هو «ضميرَ المصدرِ الذي هو» قولُه «وقوله خِصام» .

205

قوله تعالى: {وَإِذَا تولى سعى} : «سَعَى» جوابُ إذا الشرطية وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وَجْهَيْنِ، أحدُهما: أن تكونَ عطفاً على ما قبلَها وهو «يُعْجِبُكَ» فتكون: إمَّا صلةً أو صفةً حسب ما تقدَّم في «مَنْ» ، والثاني أن تكونَ مستأنفةً لمجردِ الاخبارِ بحالِهِ، وقد تَمَّ الكلامُ عند قولِهِ: «ألدُّ الخصام» . والتولِّي والسَّعْيُ يحتملان الحقيقةَ أي: تولَّى ببدنِهِ عنكَ وسعى بِقَدَمَيْهِ، والمجازَ بأن يريدَ بالتولِّي الرجوعَ عن القولِ الأولِ، وبالسعي العملَ والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ، ومنه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ

مَا سعى} [النجم: 39] وقال امرؤُ القيس: 897 - فلو أنَّ ما أسْعى لأدنى معيشةٍ ... كفاني ولم أَطْلُبْ قليلٌ من المالِ ولكنَّمَا أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ ... وقد يُدْرِكُ المجدَ المؤثَّلَ أَمْثَالي وقال آخر: 898 - أسعى على حَيِّ بني مالِكِ ... كلُّ امرىءٍ في شَأْنِهِ ساعي والسَّعايَةُ بالقولِ ما يقتضي التفريقَ بين الأخِلاَّءِ، قال: 899 - ما قلتُ ما قال وشاةٌ سَعَوْا ... سَعْيَ عَدُوٍ بَيْنَنَا يَرْجُفُ قوله: {فِي الأرض} «متعلِّقٌ ب» سَعَىَ «، فإنْ قيل: معلومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكونُ إلاَّ في الأرضِ قيل: لأنه يُفيدُ العمومَ، كأنه قيل: أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرضِ أفسدَ فيه، فَيَدُلُّ لفظُ الأرضِ على كثرة فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المظروفِ، و» ليفسِدَ «متعلقٌ ب» سعى «علةً له. قوله: {وَيُهْلِكَ الحرث} الجمهورُ على:» يُهْلِكَ «بضم الياء وكسر اللامِ ونصبِ الكافِ.» الحَرْثَ «مفعولٌ به، وهي قراءةٌ واضحةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنصبُ عطفٌ على الفعِل قبلَهُ، وهذا شبيهٌ بقولِهِ تعالى: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] فإنَّ قولَه:» ليفسدَ «يشتملُ على أنه يُهْلكُ الحرثَ والنسلَ، فخصَّهُما

بالذكر لذلك. وقرأ أُبيّ:» وليُهْلِكَ «بإظهارِ لامِ العلة وهي معنى قراءةِ الجمهور، وقرأ أبو حيوة - ورُويت عن ابن كثير وأبي عمرو -» وَيَهْلِكَ الحرثُ والنَّسْلُ «بفتح الياء وكسرِ اللام من هَلَك الثلاثي، و» الحرث «فاعل، و» النسلُ «عطفٌ عليه. وقرأ قوم:» ويُهْلِكُ الحرثَ «من أَهْلَكَ، و» الحرث «مفعولٌ به إلا أنهم رفعوا الكافَ. وخُرِّجتْ على أربعةِ أوجهٍ: أن تكونَ عطفاً على» يُعْجِبُك «أو على» سَعَى «لأنه في معنى المستقبل، أو على خبر مبتدأٍ محذوفٍ أي: وهو يُهْلِكُ، أو على الاستئنافِ. وقرأ الحسن:» ويُهْلَكَ «مبنياً للمفعول،» الحَرْثُ «رفعاً، وقرأ أيضاً:» ويَهَلَكُ «بفتح الياء واللامِ ورفعِ الكافِ،» الحرثُ «رفعاً على الفاعلية، وفتحُ عينِ المضارعِ هنا شاذٌّ لفَتْحِ عينِ ماضِيهِ، وليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حلقٍ فهو مثلُ رَكَنَ يَ‍رْكَنُ بالفتحِ فيهما. و» ألحَرثُ «تقدَّم. والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل أي: خَرَجَ بسرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البعيرِ، ونَسَلَ ريشُ الطائِر أي: خَرَجَ وتطايَرَ، وقيل: النسلُ الخروجُ متتابعاً، ومنه:» نُسالُ الطائر «ما تتابعَ سقوطُهُ من ريشِهِ، قال امرؤُ القيس: 900 - وإنهْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مني خليقَةٌ ... فَسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ وقوله: {مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء: 96] يحتمِلُ المعنيين. و» الحرثَ والنسلَ «وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقعَ المفعولِ به.

206

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} : هذه الجملةُ

الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمَيْنِ في نظيرتِها، أعني كونَها مستأنفةً أو معطوفةً على «يُعْجِبُك» وقد تقدَّم أيضاً أولَ السورةِ عند قولِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} ما الذي قام مقامَ الفاعلِ؟ وخلافُ الناسِ فيه. قوله: «بالإِثمِ» في هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ للتعديةِ وهو قولُ الزمخشري فإنه قال: «أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَملْتُهُ عليه وأَلْزَمْتُهُ إياه أي: حَمَلَتْهُ العِزَّةُ على الإِثْمِ وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه» قال الشيخ: «وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازم نحو: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ، { [وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ] بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] ، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو:» صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ «أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخرَ. الثاني: أن تكونَ للسببيةِ بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخْذِ العِزَّةِ له كما في قوله: 901 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ والثالث: أن تكونَ للمصاحبةِ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفيها حينئذٍ وجهانِ، أحدُهما: أن تكونَ حالاً من» العزَّةُ «أي: ملتبسةً بالإِثمِ. والثاني: أن تكونَ حالاً من المفعولِ أي: أَخَذَتْهُ ملتبساً بالإِثمِ. وفي قوله» العزَّةُ بالإِثم «التَتْميم وهو نوعٌ من عِلْمِ البديعِ، وهو عبارةٌ عن إردافِ الكلمةِ بأُخْرَى تَرْفَعُ عنها اللَّبْسَ وتُقَرِّبُها من الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمومةً. فَمِنْ مجيئها محمودة: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] {

أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] ، فلو أُطْلِقَتْ لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمودةَ فقيل:» بالإِثم «تتميماً للمرادِ فَرُفِعَ اللَّبْسُ بها. قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} » حَسْبُهُ «مبتدأ و» جهنَّمُ «خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل:» جهنَّمُ «فاعلٌ ب» حَسْب «، ثم اختلف القائلُ بذلك في» حَسْب «فقيل: هو بمعنى اسم الفاعل، أي الكافي، وهو في الأصل مصدرٌ/ أريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَوِيَ» حَسْب «لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه معنى كلام أبي البقاء. وقيل: بل» حَسْب «اسمُ فعلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ: فقيل: اسمُ [فعلٍ] ماضٍ، أي: كفاهم، وقيل فعلُ أمرٍ أي: لِيَكْفِهم، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حروفِ الجر عليه يمنُع كونَه اسم فعلٍ. وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أن» حَسْب «هل هو بمعنى اسم الفاعل وأصلُه مصدرٌ أو اسمُ فعلٍ ماضٍ أو فِعْلُ أمر؟ وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافتِه إلى معرفةٍ، تقولُ، مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأ فيُجَرُّ بباء زائدة، وخبراً فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ وإنْ وقع صفةً لهذه الأشياء. و «جهنَّمُ» اخَتَلَفَ الناسُ فيها، فقيل: هي أعجميةٌ وعُرِّبتْ، وأصلُها كَهْنَام، فمنعُها من الصرفِ للعلمية والعُجْمَةِ. وقيل: بل هي عربيةُ الأصلِ، والقائلون بذلك اختلَفوا في نونِها: هل هي زائدةٌ أم أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ووزنُها «فَعَنَّل» مشتقةٌ من «رَكِيَّةٌ جَهْنام» أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم وهو الكراهةُ، وقيل: بل نونُها أصليَّةٌ ووزنُها فَعَلَّل كعَدَبَّس، قال:

لأن «فعنَّلاً» مفقودٌ في كلامِهم، وجعل «زَوْنَكاً» فَعَلَّلاً أيضاً، لأنَّ الواوَ أصلٌ في بناتِ الأربعةِ كوَرَنْتَل، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظ، قالوا: «ضَغَنَّط» من الضَّغاطة وهي الضخامة، و «سَفَنَّج» و «هَجَنَّف» للظَّلِيم، والزَّوْنَك: القصير سُمِّي بذلك لأنه يَنْزَوِكُ في مِشْيَتِهِ أي: يَتَبَخْتَرُ، قال حسان: 902 - أَجْمَعْتَ أَنَّك أنتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى ... في فُحْشِ زانيةٍ وَزْوكِ غُرابِ وهذا كلُّه يَدُلُّ على أنَّ النونَ زائدةٌ في «زَوْنَكَ» وعلى هذا فامتناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ. «ولَبِئْسَ المِهادُ» المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ «المِهاد» وقعَ فاصلةً، وقد تقدَّمَ الكلامُ على «بئس» وخلافِ الناسِ فيها. وحُذِفَ هذا المخصوصُ بذلك على أنه مبتدأ والجملةُ من نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواء تقدَّم أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاه خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأً محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كنا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأسْرِهَا من غَيْرِ أنْ ينوبَ عنها شيءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ من ذلك أنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها إذ ليس لها موضعٌ من الإِعرابِ، وليست معترضةً ولا مفسِّرةً ولا صلةً ولا مستأنفةً. والمِهَادُ فيه قولان، أحدُهماٌٌٌ: أنه جَمْعُ «مَهْد» وهو ما يوطأُ للنومِ والثاني: أنه اسمٌ مفردٌ، سُمِّيَ به الفراشُ المُوَطَّأُ للنومُ، وهذا من بابِ التهكم والاستهزاءِ، أي: جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشونه وهو كقولِهِ:

903 - وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بِخَيْلٍ ... تحيةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ أي: القائمُ لهم مقامَ التحيةِ الضربُ الوجيع.

207

قوله تعالى: {مَن يَشْرِي} : في «مَنْ» الوجهانِ المتقدِّمان في «مَنْ» الأولى، ومعنى يَشْري: يَبيع، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] ، إن أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخرة، وقال: 904 - وَشَرَيْتُ بُرْداً ليتني ... من بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ فالمعنى: يَبْذُل نفسَه في اللَّهِ، وقيل: بل هو على أصلِهِ من الشِّراء وذلك أَنَّ صُهَيْباً اشترى نفسَه من قريشٍ لمَّا هاجَرَ، والآيةُ نَزَلَتْ فيه. قوله: {ابتغآء} منصوبٌ على أنه مفعولٌ من أجله. والشروطُ المقتضيةُ للنصبِ موجودةٌ. والصحيحُ أنَّ إضافةَ المفعولِ له مَحْضَةٌ، خلافاً للجرمي والمبرد والرياشي وجماعةٍ من المتأخَّرين. و «مرضاة» مصدرٌ مبنيٌّ على تاء التأنيث كَمَدْعَاة، والقياسُ تجريدُهُ عنها نحو: مَغْزَى ومَرْمَى ووقَفَ حمزة عليها بالتاء، وذلك لوجهين: أحدهما أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ كما هي: وأنشدوا:

905 - دارٌ لسَلْمَى بعد حولٍ قد عَفَتْ ... بل جَوْزِ تيهاءَ كظهْرِ الجَحَفَتْ وقد حكى هذه اللغةَ سيبويه. والثاني: أن يكونَ وقف على نيةِ الإِضافة، كأنه نَوَى لفظَ المضافِ إليه لشدةِ اتِّصال المتضايفَيْنِ فأَقَرَّ التاءَ على حالِها مَنْبَهَةً على ذلك، وهذا كما أَشَمُّوا الحرفَ المضمومَ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها. وقد أمالَ الكسائي وورش «مَرْضات» . وفي قولِهِ: {بالعباد} خروجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إلى الاسمِ الظاهِرِ، إذ كان الأصلُ «رؤوف به» أو «بهم» ، وفائدةُ هذا الخروجِ أنَّ لفظَ «العباد» يُؤْذِنُ بالتشريفِ، أو لأنَّ فاصلةٌ فاخْتِير لذلك.

208

قولُه تعالى: {السلم} : قرأ هنا «السَّلْم» بالفتحِ نافعُ والكسائي وابن كثير، والباقون بالكَسْر، وأمَّا التي في الأنفال فلم يَقْرَأها بالكسر إلا أبو بكر وحدَه عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر وحدَه عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرَأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر أيضاً، وسيأتي. فقيل: هما بمعنىً وهو الصلحُ، ويُذَكَّر ويُؤَنَّث، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} ، وحَكَوْا: «بنو فلان سِلْمٌ وسَلْمٌ» ، وأصلُه من الاستسلام وهو الانقيادُ، ويُطْلَقُ على الإِسلامِ، قاله الكسائي وجماعة، وأنشدوا: 906 - دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ لَمَّا ... رأيُتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرِينا

يُنْشَد بالكسر، وقال آخر في المفتوح: 907 - شرائِعُ السَّلْم قد بانَتْ معالِمُها ... فما يَرى الكفرَ إلا مَنْ بِه خَبَلُ فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتين بمعنى الإِسلام، إلاَّ أنَّ الفَتْح فيما هو بمعنى الإِسلام قليلٌ. وقرىء «السَّلَم» بفتحِهِما، وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكسر الإِسلامُ وبالفتحِ الصلحُ. قوله: {كَآفَّةً} منصوبٌ على الحالِ، وفي صاحبِها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: وهو الأظهَرُ أنه الفاعلُ في «ادخُلوا» والمعنى: ادخُلُوا السِّلْم جميعاً. وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ، فإنَّ قولَكَ: «قام القومُ كافةً» بمنزلةِ: قاموا كلُّهم. والثاني: أنه «السِّلْم» ، قاله الزمخشري وأبو البقاء، قال الزمخشري: «ويَجُوزُ أن تكونَ» كافةً «حالاً من» السِّلْمِ «لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّث الحَرْبُ، قال الشاعر: 908 - السِّلْمُ تأخذُ منها ما رَضِيتَ به ... والحربُ يَكْفيكَ من أَنْفَاسِها جُرَعُ على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أن يدخُلُوا في الطاعاتِ كلِّها، ولا يَدْخُلوا في طاعةٍ دونَ طاعةٍ، قال الشيخ:» تعليلُه كونُ «كافةً» حالاً من «السِّلم» بقولِه: «لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب» ليس بشيء/ لأنَّ التاءَ في «كافة» ليست للتأنيثِ، وإن كان أصلُها أَنْ تَدُلُّ عليه، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إلى معنى

جميع وكل، كما صار قاطبةً وعامَّة إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً. فإذا قلت: «قامَ الناسُ كافً وقاطبةً» لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأنيث، كما لا يَدُلُّ عليه «كُلّ» و «جميع» . والثالثُ: أن يكونَ صاحبُ الحالِ هما جميعاً، أعني فاعلَ «ادخُلُوا» و «السِّلْم» فتكونُ حالاً من شيئين. وهذا ما أجازه ابنُ عطية فإنه قال: «وتَسْتَغْرِقُ» «كافة» حينئذٍ المؤمنين وجميعَ أجزاءِ الشرع، فتكونُ الحالُ مِنْ شيئين، وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 37] . ثم قال بعد كلامٍ: «وكافةً معناه جميعاً، فالمرادُ بالكافة الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها» . وقوله: «نحو قوله: تَحْمِلُه» يعني أنَّ «تَحْمِلُهُ» حالٌ من فاعل «أَتَتْ» ومِنَ الهاء في «بِهِ» . قال الشيخ: «هذا المثالُ ليس مطابقاً للحال من شيئين لأنَّ لفظَ» تَحْمِلُهُ «لا يحتمل شيئين، ولا تقع الحالُ من شيئين إلا إذا كان اللفظُ يحتملُهما، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذوي الحال مبتدأين، وجَعَل تلك الحالَ خبراً عنهما، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ نحو: 909 - وَعُلِّقْتُ سلمى وَهْيَ ذاتُ مُوَصَّدٍ ... ولم يَبْدُ للأتْرابِ من ثَدْيِها حَجْمُ صَغِيرَيْنِ نَرْعى البَهْم يا ليت أنَّنا ... إلى اليومِ لم نَكْبَر ولم تكْبَرِ البُهْمُ

فصغيرَيْنِ حالٌ من فاعل» عُلِّقْتُ «ومن» سلمى «لأنك لو قُلْت: أنا وسَلْمى صغيران [لَصَحَّ] ، ومثلُه قولُ امرىءِ القيس: 910 - خَرَجْتُ بها نمشي تَجُرُّ وراءَنا ... على أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ فنمشي حالٌ من فاعل» خَرَجْتُ «ومن» ها «في» بها «، لأنَّك لو قلت:» أنا وهي نمشي «لصَحَّ، ولذلك أَعْرب المُعْرِبون» نَمْشِي «حالاً منهما كما تَقَدَّم، و» تَجُرُّ «حالاً من» ها «في» بها «فقط، لأنه لا يصلح أن تجعل» تَجُرُّ «خبراً عنهما، لو قلت:» أنا وهي تَجَرُّ «لم يَصِحَّ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو» جارَّة «وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثنين لم يَصِحَّ فكذلك» تحمله «لا يَصْلُح أن يكونَ خبراً عن اثنين، فلا يَصِحُّ أن يكونَ حالاً منهما، وأمَّا» كافة «فإنها بمعنى» جميع «، و» جميع «يَصحُّ فيها ذلك، لا يُقال:» كافة «لا يَصحُّ وقوعُها خبراً لو قلتَ:» الزيدون، والعمرون كافة «لم يَجُزْ، فلذلك لا تقع حالاً على ما قَرَّرتُ؛ لأنَّ ذلك إنما هو بسبب التزام نصب» كافةً «على الحال، وأنها لا تتصرَّف لا من مانعِ معنوي، بدليلِ أنَّ مرادفها وهو» جميع «و» كل «يُخْبَرُ به، فالعارضُ المانِعُ ل» كافَّة «من التصرُّفِ لا يَضُرُّ، وقوله:» الجماعة التي تَكُفُّ مخالِفيها «يعني أنَّها في الأصلِ كذلك، ثم صار استعمالها بمعنى جميع وكُل» . واعلَمْ أنَّ أصلَ «كافة» اسمُ فاعل من كَفَّ يَكُفُّ أي مَنَع، ومنه: «كَفُّ الإِنسان» ، لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه، و «كِفّة الميزان» لجمعِها الموزون، والكُفَّة بالضم لكل مستطيلٍ، وبالكسر لكلِّ مستدير. وقيل: «كافة» مصدرٌ

كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة مِمَّا لَزِم نصبُهما على الحالِ فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ.

209

والجمهورُ على {زَلَلْتُمْ} : بفتح العين، وأبو السَّمَّال قرأها بالكسرِ، وهما لغتان كضَلَلْتُ وضَلِلْتُ. و «ما» في «مِنْ بعدِما» مصدريَّةٌ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وهي متعلِّقَةٌ ب «زَللْتُم» .

210

قولُه تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ} : «هل» لفظُهُ استفهامٌ والمرادُ به النفيُ كقوله: 911 - وهلْ أنا إلا مِنْ غُزَيَّةَ إنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وإنْ تَرْشُدْ غُزَيَّةُ أَرْشُدِ أي: ما ينظُرون، وما أنا، ولذلك وقَعَ بعدها «إلاَّ» كما تَقَعُ بعد «ما» . و «يَنْظُرون» هنا بمعنى يَنْتَظِرُون، وهو مُعَدَّىً بنفسِه، قال امرؤ القيس: 912 - فإنَّكما إنْ تَنْظُراني ساعةً ... من الدَّهْرَ يَنْفَعْني لدى أُمِّ جُنْدَبِ وليس المرادُ هنا بالنظرِ تَرَدُّدَ العينِ، لأنَّ المعنى ليس عليه. واستدّلَّ بعضُهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى بإلى، ويُضافُ إلى الوجه، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسِه، وليسَ مضافاً إلى الوجه، ويعني بإضافته إلى الوجهِ قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] فيكونُ بمعنى الانتظار. وهذا ليس بشيءٍ. أمَّا قولُه: «إنَّ الذي بمعنى البصر يتعدَّى بإلى

فمُسَلَّم، قوله:» وهو هنا متعدٍّ بنفسه «ممنوعٌ، إذ يُحتمل أن يكونَ حرفُ الجر وهو» إلى «محذوفاً، لأنه يَطَّرِدُ حَذْفُه مع» أَنْ «، إذا لم يكن لَبْسٌ، وأمَّا قولُه:» يُضافُ إلى الوجهِ «فممنوعٌ أيضاً، إذ قد جاء مضافاً للذاتِ. قال تعالى: {أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل} [الغاشية: 17] . والضميرُ في» ينظرون «عائدٌ على المخاطبين بقولِه:» زَلَلْتُم «فهو التفاتٌ. قولُه: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ} هذا مفعولُ» ينظرون «وهو استثناءٌ مفرَّغٌ أي: ما ينظرون إلا إتيان الله. قوله: {فِي ظُلَلٍ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّق بيأتِيَهم، والمعنى: يأتيهم أمرُه أو قُدْرَتُه أو عقابُه أو نحوُ ذلك، أو يكونُ كنايةً عن الانتقام؛ إذ الإتيان يمتنعُ إسنادُه إلى الله تعالى حقيقةً. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ، وفي صاحبها وجهان، أحدُهما: هو مفعولُ يأتيهم، أي: في حالِ كونِهم مستقرين في ظُلَل وهذا حقيقةٌ. والثاني: أنه الله تعالى بالمجاز المتقدَّم، أي: أمرُ الله في حال كونه مستقراً في ظُلَل. الثالث: أن تكونَ» في «بمعنى الباء، وهو متعلقٌ بالإِتيانِ، أي: إلاَّ أَنْ يأتيهم بظُلَل. ومِنْ مجيءِ» في «بمعنى الباءِ قوله: 913 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... خَبيرون في طَعْنِ الكُلى والأباهِرِ لأنَّ» خبيرين «إنَّما يتعدَّى بالباءِ كقوله: 914 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... خبيرٌ بأَدْواءِ النِّساء طَبيبُ

الرابع: أن يكونَ حالاً من» الملائكة «مقدَّماً عليها، والأصل: إلاَّ أَنْ يأتيَهم اللهُ والملائكةُ في ظُلَلٍ، ويؤيَّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك، وبهذا أيضاً يَقِلُّ المجازُ، فإنَّه والحالةُ هذه لم يُسْنَدْ إلى اللهِ تعالى إلا الإِتيانُ فقط بالمجازِ المتقدِّم. وقرأ أُبَيّ وقتادةُ والضحاكُ: في ظلالٍ، وفيها وجهان، أَحدُهما: أَنَّها جمع ظِلّ نحو: صِلّ وصِلال. والثاني: أنها جمعُ ظُلَّة كقُلَّة وقِلال، وخُلَّة وخِلال، إلاَّ أنَّ فِعالاً لا يَنقاس في فُعْلَة. قوله: {مِّنَ الغمام} فيه وجهانِ، أحدُهما: أنه متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «ظُلَل» التقدير: ظُلَلٍ كائنةٍ من الغَمام. و «مِنْ» على هذا للتبعيضِ. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «يأتيهم» ، وهي على هذا لابتداءِ الغاية، / أي: من ناحيةِ الغمام. والجمهور: «الملائكةُ» رفعاً عطفاً على اسم «الله» . وقرأ الحسن وأبو جعفر: «والملائكةِ» جراً وفيه وجهان، أحدُهما: الجر عطفاً على «ظُلَلٍ» ، أي: إلا أن يأتيهم في ظللٍ وفي الملائكة؛ والثاني: الجر عطفاً على «الغمام» أي: من الغمام ومن الملائكة، فتوصفُ الملائكة بكونِهَا ظُللاً على التشبيه. قوله: {وَقُضِيَ الأمور} الجمهور على «قُضِيَ» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على «يَأْتِيهم» وهو داخلٌ في حَيِّز الانتظار، ويكونُ ذلك من وَضْعِ الماضي موضعَ المستقبل، والأصل،

ويُقْضى الأمر، وإنما جِيء به كذلك لأنه محققٌ كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . والثاني: أن يكونَ جملةً مستأنفةً برأسِها، أَخْبر الله تعالى بأنه قد فَرَغَ من أمرهم، فهو من عطفِ الجملِ وليس داخلاً في حَيِّز الانتظار، وقرأ معاذ ابن جبل «وقضاء الأمر» قال الزمخشري: «على المصدرِ المرفوع عطفاً على الملائكة» . وقال غيرُه: بالمدِّ والخفض عطفاً على «الملائكة» قيل: «وتكون على هذا» في «بمعنى الباء» أي: بُظللٍ وبالملائكةِ وبقضاء الأمر، فيكونُ عن معاذ قراءتان في الملائكة: الرفعُ والخفضُ، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله: «وقُضي الأمر» . قوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} هذا الجار متعلِّقٌ بما بعدَه، وإنما قُدِّم للاختصاص، أي: لا تَرْجعُ إلا إليه دون غيره. وقرأ الجمهور: «تُرْجَعُ» بالتأنيث لجريان جمعِ التكسير مَجْرى المؤنث، إلاَّ أنَّ حمزةَ والكسائي ونافعاً قرؤوا ببنائِه للفاعل، والباقون ببنائِه للمفعول، و «رجع» يُستعمل متعدياً تارةً ولازماً أخرى. وقال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} [التوبة: 83] فجاءت القراءتان على ذلك، وقد سُمِع في المتعدي «أرجع» رباعياً وهي لغةٌ ضعيفة، ولذلك أَبَت العلماءُ أن تَجْعَل قراءَة مَنْ بناه للمفعول مأخوذةً منها. وقرأ خارجة عن نافع: «يُرْجَعُ» بالتذكير وببنائه للمفعول لأن تأنيثه مجازي، والفاعلُ المحذوفُ

في قراءةِ مَنْ بناه للمفعول: إمَّا اللهُ تعالى، أي: يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار، وإمَّا ذوو الأمور؛ لأنه لَمَّا كانت ذواتُهم وأحوالُهم شاهدةً عليهم بأنهم مَرْبوبون مَجْزِيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورَهم إلى خالقها.

211

قوله تعالى: {سَلْ} : قرأ الجمهور: «سَلْ» وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أَن تكونَ مِنْ لغة: سال يَسال مثل: خاف يخاف، وهل هذه الألفُ مُبْدَلَةٌ من همزة أو واو أو ياء؟ خلافٌ تقدَّم في قوله: {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} فحينذٍ يكونُ الأمر منها: «سَلْ» مثل «خَفْ» ، لَمَّا سكنت اللام حَمْلاً للأمر على المجزوم التقى ساكنان فَحُذِفت العين لذلك، فوزنُه على هذا فَلْ. والثاني: أن تكون من سأل بالهمز، والأصل: اسْأَلْ ثم أُلقيت حركة الهمزة على السين تخفيفاً، واعتدَدْنا بحركةِ النقلِ فاستَغْنينا عَنْ همزة الوصلِ فَحَذَفْنَاها ووزنُه أيضاً: فُلْ بحذفِ العين، وإن كان المأخَذُ مختلفاً. وروى عباس عن أبي عمرو: «اسأَلْ» على الأصْلِ من غير نَقْلٍ. وقرأ قومُ: «اسَلْ» بالنقلِ وهمزةِ الوصلِ، كأنهم لم يَعْتَدُّوا بالحركةِ المنقولةِ كقولِهم: «الحْمَر» بالهمز. وسيأتي لهذه المسائل مزيدُ بيانٍ في مواضِعها كما ستقفُ عليه إنْ شاء الله. و «بنى» مفعولٌ أولُ عند الجمهور. وقوله: {كَمْ آتَيْنَاهُم} في «كَمْ» وجهانِ، أحدُهما أنَّها في محل نصبٍ. واختُلف في ذلك فقيل: نصبُها على أنها مفعولٌ ثانٍ لآتيناهم على مذهبِ

الجمهور، وأولُ على مذهبِ السهيلي، كما تقدَّم تقريرُه. وقيل: يجوزُ أَن يَنْتَصِبَ بفعل مقدَّر يفسِّرهُ الفعلُ بعدَها تقديرُه: كم آتينا آتيناهم، وإنما قدَّرْنَا ناصبَها بعدَها لأنَّ الاستفهامَ له صدُر الكلامِ ولا يَعْمَلُ فيه ما قبلَه، قاله ابنُ عطية، يعني أنه عنده من بابِ الاشتغالِ. قال الشيخ: «وهذا غيرُ جائز إنْ كان» من آية «تمييزاً، لأن الفعلَ المفسِّر لم يعملْ في ضمير» كم «ولا في سببّها، وإذا لم يكن كذلك امتنع أن يكون من باب الاشتغال، إذ من شرطِ الاشتغال أن يعملَ المفسِّرُ في ضميرِ الأولِ أو في سببِّه. ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ:» زيداً ضربْتُ «ويكونُ من بابِ الاشتغال، وهذا ما لا يُجيزه أحدٌ. فإنْ قُلْنَا إنَّ مميِّزها محذوفٌ، وأُطْلِقَتْ» كم «على القوم جاز ذلك لأنَّ في جملةِ الاشتغالِ ضميرَ الأول، لأنَّ التقديرَ:» كم من قومٍ آتيناهُمْ «قلت: هذا الذي قاله الشيخُ مِنْ كونِه لا يتمشَّى على كونِ» من آية «تمييزاً قد صَرَّح به ابنُ عطية فإنه قال:» وقولُه «مِن آية» هو على التقديرِ الأولِ مفعولٌ ثانٍ لآتيناهم، وعلى الثاني في موضعِ التمييز «يعني بالأول نصبَها على الاشتغالِ، وبالثاني نصبَها بما بعدَها. والثاني من وَجْهَي كم: أن تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ والجملةُ بعدَها في محلِّ رفعٍ خبراً لها والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: كم آتيناهموها أو أتيناهم إياها، أجاز ذلك ابنُ عطية وأبو البقاء، واستَضْعَفَه الشيخ من حيث إنَّ حَذْفَ عائدِ المنصوبِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله.

915 - وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ... بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِل أي: وخالدٌ يحمَدُه/. وهذا نقلُ بعضِهم، وأمَّا ابنُ مالك فَنَقَل أنَّ المبتدأ إذا كانَ لفظَ «كُل» أو ما أشبهها في الانتقار والمعموم جازَ حَذْفُ عائده المنصوب اتفاقاً من البصريين والكوفيين، ومنه: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] في قراءة نافعٍ، وإذا كان المبتدأُ غيرَ ذلك فالكوفيون يَمْنَعُون ذلك إلاَّ في السَّعَةِ، والبصريُّون يُجيزونه بضعفٍ، ومنه: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] برفع «حكم» . فقد حَصَل أنَّ الذي أجازَه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين ضعيفٌ عند البصريين. وهل «كَمْ» هذه استفهاميةٌ أو خبريةٌ؟ الظاهرُ الأولُ، وجَوَّزَ الزمخشري فيها الوجهين، ومَنَعَه الشيخُ من حيث «إنَّ» كَمْ «الخبرية مستقلةٌ بنفسها غيرُ متعلقةٍ بالسؤال، فتكونُ مفلتةً مِمّا قبلها، والمعنى يؤدِّي إلى انصباب السؤال عليها، وأيضاً فَيَحْتَاج إلى حَذْفِ المفعول الثاني للسؤالِ تقديرُه: سَلْ بَنِي إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم قال: كثيراً من الآيات التي آتيناهم، والاستفهاميةُ لا تحتاجُ إلى ذلك. و» من آيةٍ «فيه وجهان، أحدُهما: أنها مفعولٌ ثانٍ على القولِ بأن» كم «منصوبةٌ على الاشتغال كما تقدَّم تحقيقُه، ويكون مميِّز» كم «محذوفاً، و» مِن «زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غيرُ موجب إذ هو استفهامٌ. وهذا إذا قلنا إنَّ» كم «استفهاميةٌ لا خبريةٌ، إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ، و» مِنْ «لا تُزادُ في

الواجب إلا على رأي الأخفش والكوفيين، بخلاف ما إذا كانت استفهاميةً. قال الشيخ:» فيمكن أن يجوزَ ذلك فيه لانسحابِ الاستفهام على ما بعده وفيه بُعْدٌ، لأنَّ متعلَّقَ الاستفهامِ هو المفعولُ الأول لا الثاني، فلو قلت: «كم من درهمٍ أعطيتهُ من رجلٍ» على زيادةِ «من» في «رجل» لكان فيه نظرٌ «انتهى. والثاني: أنها تمييزٌ، ويجوزُ دخولُ» مِنْ «على ممِّيِز» كم «استفهاميةٌ كانت أو خبريةً مطلقاً، أي: سواءً وليها مميِّزها أم فُصِل بينهما بجملةٍ أو ظرفٍ أو جارٍ ومجرورٍ، على ما قَرَّره النحاةُ. و» كم «وما في حَيِّزها في محلِّ نصب أو خفضٍ، لأنها في محلِّ المفعول الثاني للسؤال فإنه يتعدَّى لاثنين: إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ جَر: إمّا عن وإمَّا الباء نحو: سألته عن كذا وبكذا، قال تعالى: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] ، وقد جُمِع بينهما في قوله: 916 - فَأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما بِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد يُحْذَفُ حرفُ الجرِّ، فمِنْ ثَمَّ جاز في محلِّ» كم «النصبُ والخفضُ بحسَبِ التقديرين و» كم «هنا معلِّقةٌ للسؤال، والسؤالُ لا يُعَلَّقُ إلا بالاستفهامِ كهذه الآية، وقوله تعالى: {سَلْهُمْ: أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] وقوله:

917 - يا أيُّها الراكبُ المُزْجِي مَطِيَّتَه ... سائلْ بني أسدٍ ما هذه الصَّوْتُ وقال آخر: 918 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... واسألْ بمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ ما فَعَلا وإنما علَّق السؤالَ وإن لم يكن من أفعال القلوب، قالوا: لأنه سببٌ للعلمِ والعلمُ يُعَلَّق فكذلك سَبَبُه، وإذا كانوا قد أَجْرَوا نقيضه في التعليق مُجْراه في قوله: 919 - وَمَنْ أنتُمُ إنَّا نسِينا مَنَ أَنْتُمُ ... وريحُكمُ من أيِّ ريحِ الأَعاصِرِ فإجراؤهم سبَبَه مُجْراه أَوْلى. واختلفَ النحويون في «كم» : هل بسيطةٌ أو مركبةٌ من كافِ التشبيه وما الاستفهاميةُ حُذِفَتْ ألفُها لانجرارِها، ثم سُكِّنَتْ ميمُها، كما سُكِّنَّتْ ميمُ «لِمْ» من «لِمْ فَعَلْتَ كذا» في بعض اللغاتِ، فَرُكِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيحُ الأول. وأكثرُ ما تجيء في القرآنِ خبريةً مراداً بها التكثيرُ ولم يأتِ مميِّزُها في القرآنِ إلا مجروراً بِمِنْ. قوله: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء. وقد تقَدَّمَ الخلافُ في خبرِ اسمِ الشرطِ ما هو؟ ولا بُدَّ للتبديل من مفعولين: مُبَدَّل وبَدَل، ولم يَذْكر هنا إلا أحدَهما وهو المُبَدَّل، وحَذَفَ البَدَلَ، وهو المفعول

الثاني لفهمِ المعنى. وقد صَرَّح به في قوله: {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} [إبراهيم: 28] فكفراً هو المحذوفُ هنا. وكان قد تقدَّم عند قولِهِ تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 59] أن «بَدَّل» يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسه وهو البدلُ وهو الذي يكون موجوداً وإلى الآخر بحرفِ الجر وهو المُبَدَّلُ وهو الذي يكون متروكاً، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجَرِّ لفهمٍ المعنى فالتقدير هنا: «وَمَنْ يُبَدِّل بنعمتِهِ كفراً» ، فَحَذَفَ حرفَ الجر والبدل لفهمِ المعنى. ولا جائِزٌ أَنْ تُقَدِّر حرفَ الجر داخِلاً على «كفراً» فيكونَ التقديرُ: «وَمَنْ يُبَدِّل بالكفرِ نعمةَ الله» لأنه لا يترتَّبُ عليه الوعيد في قوله: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} . وكذلك قولُه: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] تقديرُهُ: بسيئاتهم حسناتٍ، ولا يجوز تقديرُه: «سيئاتِهِم بحسناتٍ» لأنه لا يترتَّبُ على قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ} . وقُرِىء: «يُبْدِل» مخففاً، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. و «ما» مصدريةٌ، والعائدُ من جملةِ الجزاءِ على اسمِ الشرطِ محذوفٌ لفهمِ المعنى أي: العقاب له، أو لأنَّ «أَلْ» نابَتْ منابَه عند الكوفيين.

212

قوله تعالى: {زُيِّنَ} : إنَّما لم تَلْحَقِ الفعلَ علامةُ تأنيثٍ لكونِهِ مؤنثاً مجازياً، وحَسَّن ذلك الفصلُ. وقرأ ابن أبي عبلة: «زُيِّنَتْ» بالتأنيث مراعاةً للفظِ. وقرأ مجاهد وأبو حيوة: «زَيَّنَ» مبنياً للفاعل، و «الحياة» مفعولٌ، والفاعلُ هو الله تعالى، والمعتزلةُ يقولون: إنه الشيطان. وقوله: {وَيَسْخَرُونَ} يَحْتَمِل أن يكونَ من باب عَطْفِ الجملةِ الفعلية على

الجملة الفعليةِ، لا من بابِ عطفِ الفعلِ وحدَه على فعلٍ آخرَ، فيكونُ من عطف المفردات، لِعَدَمِ اتِّحادِ الزمانِ. ويَحْتَمل أن يكونَ «يَسْخَرُون» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يَسْخَرُون فيكون مستأنفاً، وهو من عَطْفِ الجملةِ الاسمية على الفعلية. وجِيءَ بقولِهِ: «زُيِّن» ماضياً دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع وَفُرِغَ منه، وبقوله: «وَيَسْخَرُون» مضارعاً دلالةً/ على التَّجَدُّدِ والحدوثِ. قوله: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ} مبتدأٌ وخبرٌُ، و «فوق» هنا تَحْتَمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ ظرفَ مكانٍ على حقيقتِها، لأنَّ المتقين في أَعلى عَلِّيِّين، والكافرين في أسفلِ سِجِّين. والثاني: أن تكون الفوقيةُ مجازاً: إمَّا بالنسبة إلى نعيمِ المؤمنين في الآخرة ونعيمِ الكافرين في الدنيا. و «يوم» منصوب بالاستقرار الذي تعلَّق به «فوقهم» . قولُه: {مَن يَشَآءُ} مفعولُ «يشاء» محذوفٌ، أي: مَنْ يشاءُ أَنْ يَرزقَه. و «بغيرِ حساب» هذا الجارُّ فيه وجهان، أحدُهما: أنه زائدٌ. والثاني: أنه غيرُ زائدٍ، فعلى الأول لا تَعَلُّقَ له بشيء، وعلى الثاني هو متعلِّقٌ بمحذوف. فأمّا وجهُ الزيادةِ: فهو أنه تقدَّمه ثلاثةُ أشياءَ في قوله: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} الفعلُ والفاعلُ والمفعولُ، وهو صالحٌ لأنْ يتعَلَّقَ من جهةِ المعنى بكلِّ واحدٍ منها، فإذا تعلَّق بالفعلِ كان من صفاتِ الأفعالِ، تقديرُهُ: والله يرزق رزقاً غيرَ حساب، أي: غير ذي حساب، أي: أنه لا يُحْسَب ولا يُحْصَى لكثرتِهِ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والباءُ زائدةٌ. وإذا تَعَلَّقَ بالفاعل كان من صفاتِ الفاعلين، والتقديرُ: واللَّهُ يرزق غيرَ

محاسِبٍ بل متفضلاً أو غيرَ حاسِبٍ، أي: عادٍّ. ف «حساب» واقعٌ موقعَ اسمِ فاعلٍ من حاسَب أو من حَسَبَ، ويجوزُ أن يكونَ المصدرُ واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ، أي: الله يرزقُ غيرَ مُحَاسَبٍ أي: لا يحاسبه أحدٌ على ما يُعْطِي، فيكونُ المصدرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الفاعل، والباءُ فيه مزيدةٌ. وإذا تعلَّق بالمفعولِ كانَ من صفاتِهِ أيضاً والتقديرُ: والله يرزقُ مَنْ يشاء غيرَ محاسَبٍ أو غيرَ محسوبٍ عليه، أي: معدودٍ عليه، أي: إنَّ المرزوق لا يحاسِبُهُ أحدٌ، أو لا يَحْسُبُ عليه أي: لا يَعُدُّ. فيكونُ المصدرُ أيضاً واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ أو حَسَبَ، أو يكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي غيرَ ذي حساب أي: محاسبة، فالمصدرُ واقعٌ موقعَ الحالِ والباءُ أيضاً زائدةٌ فيه، ويحتمل في هذا الوجهِ أن يكونَ المعنى أنه يُرْزَق مِنْ حيثُ لا يَحْتَسِبُ، أي: من حيث لا يظنُّ أن يأتيَه الرزقُ، والتقديرُ: يرزقُه غيرَ محتسِب ذلك، أي: غيرَ ظانٍّ له، فهو حالٌ أيضاً. ومثلُه في المعنى {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] وكونُ الباء تُزادُ في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةً كقوله: 920 - فما رَجَعَتْ بخائبةٍ رِكابٌ ... حكيمُ بن المُسَيَّب مُنْتَهَاها وهذه الحالُ - كما رأيتَ - غيرُ منفيةٍ فالمنعُ من الزيادة فيها أَوْلى. وأمَّا وجهُ عدمِ الزيادةِ فهو أن تَجْعَلَ الباءَ للحالِ والمصاحبة. وصلاحيةُ وصفِ الأشياء الثلاثة - أعني الفعلَ والفاعلَ والمفعولَ - بقولِهِ: «بغير

حساب» باقيةٌ أيضاً، كما تقدَّم في القولِ بزيادَتِها. والمُراد بالمصدرِ المحاسبةُ أو العدُّ والإِحصاءُ أي: يرزقُ مَنْ يشاء ولا حسابَ على الرزقِ، أو ولا حسابَ للرازق، أو ولا حسابَ على المرزوق، وهذا أَوْلَى لما فيه من عدمِ الزيادةِ، التي الأصلُ عدمُها ولِما فيه من تَبَعِيَّة المصدرِ على حالِهِ، غيرَ واقعٍ موقع اسمِ فاعلٍ أو اسم مفعولٍ، ولِما فيه من عَدَمِ تقديرِ مضافٍ بعد «غير» أي: غيرَ ذي حساب. فإذاً هذا الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ لوقوعِه حالاً من أي الثلاثةِ المقتدِّمةِ شِئْتَ كما تقدَّم تقريرُه، أي: ملتبساً بغيرِ حسابٍ.

213

قولُه تعالى: {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} : حالان من «النبيين» . قيل: وهي حالٌ مقارنَةٌ، لأنَّ بعثَهم كان وقتِ البِشارة والنِّذارة. وفيه نظرٌ، لأنَّ البِشارةَ والنِّذارةَ بعدَ البعثِ. والظاهِرُ أنها حالٌ مقدَّرَةٌ. وقد تقدَّم معنى البشارة والنذارةِ في قولِهِ: {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 25] . قوله: {مَعَهُمُ} هذا الظرفُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بأنزلَ. وهذا لا بُدَّ فيه من تأويلٍ، وذلك أنه يلزَمُ من تعلُّقِهِ بأَنْزَلَ أن يكونَ النبيون مصاحِبين للكتابِ في الإِنزالِ، وهم لا يُوصَفُونَ بذلك لِعَدَمِهِ فيهم. وتأويلُهُ أنَّ المرادَ بالإِنزالِ الإِرسالُ، لأنه مُسَبِّبٌ عنه، كأنه قيل: وأرسلَ معهم الكتابَ فتصِحُّ مشاركتُهم له في الإِنزالِ بهذا التأويلِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب، وتكونُ حالاً مقدرةً أي: وأنزلَ مقدِّراً مصاحبتَه إياهم، وقدَّره أبو البقاء بقوله: «شاهداً لهم ومُؤَيِّداً» ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ. والألفُ واللامُ في «الكتاب» يجوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ بمعنى أنه كتابٌ

معينٌ كالتوراةِ مثلاً، فإنها أُنْزِلَتْ على موسى وعلى النبيين بعدَه، بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها، واستداموا على ذلك، وأَنْ تكونَ للجنس، أي: أنزلَ مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنسِ. وقيل: هو مفردٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الجَمْعِ، أي: وأَنْزَلَ معهم الكُتُبَ وهو ضعيفٌ. وهذه الجملةُ معطوفةٌ على قولِهِ: «فَبَعَثَ» لا يُقال: البشارة والنِّذارة ناشئةٌ عن الإِنزال فكيفَ قُدِّما عليه؟ لأنا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يكونَان بإنزالِ كتابٍ، بل قد يكونَانِ بوحيٍ من اللَّهِ تعالى غير مَتْلُوٍّ ولا مَكْتُوبٍ. ولئن سَلَّمنا ذلك، فإنَّما قُدِّما لأنهما حالان من «النبيين» فالأَوْلَى اتَّصالُهُما بهم. قوله: {بالحق} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ متعلِّقاً بمحذوف على أنه حالٌ من الكتابِ أيضاً عند مَنْ يُجَوِّزُ تعَدُّدَ الحالِ وهو الصحيحُ. والثاني: أن يتعلَّق بنفسِ الكتابِ لما فيه من معنى الفعلِ، إذ المرادُ به المكتوبُ. والثالث: أن يتعلَّق بأنزالَ، وهذا أَوْلَى لأنَّ/ جَعْلَه حالاً لا يَسْتَقِيم إلا أَنْ يكونَ حالاً مؤكدةً، إذ كُتُب اللَّهِ تعالى لا تكونُ ملتبسةً بالحقِّ، والأصلُ فيها أَنْ تكونَ منتقلةً، ولا ضرورةَ بنا إلى الخروج عن الأصلِ. ولأنَّ الكتابَ جارٍ مَجْرى الجوامِدِ. قوله: {لِيَحْكُمَ} هذا الجارُّ متعلقٌ بقوله: «أنزل» واللامُ للعلةِ. وفي الفاعلِ المضمرِ في «ليحكم» ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: وهو أظهرُها، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى لتقدُّمِهِ في قوله: «فَبَعَثَ الله» ولأنَّ نسبةَ الحكمَ إليه حقيقةٌ، ويؤيِّده قراءةُ الجَحْدَرِي فيما نقله عنه مكي: «لنحكمَ» بنون العظَمَةِ،

وفيه التفاتٌ من الغَيْبَةِ إلى التكلُّمِ. وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غَلِطَ في نَقْلِ هذه القراءةِ عنه وقال: «إنَّ الناسَ رَوَوْا عن الجحدري:» ليُحْكَمَ «على بناءِ الفعلِ للمفعولِ» ولا ينبغي أن يُغَلِّطَه لاحتمالِ أن يكونَ عنه قراءتان. والثاني: أنه يعودُ على «الكتاب» أي: ليحكم الكتابُ، ونسبةُ الحكم إليه مجازٌ كنسبةِ النطق إليه في قوله تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] ، ونسبةُ القضاء إليه في قوله: 921 - ضَرَبَتْ عليكَ العنكبُوتُ بنَسْجِها ... وقضى عليك به الكتابُ المُنَزَّلُ ووجهُ المجازِ أنَّ الحكمَ فيه فَنُسِبَ إليه. والثالثُ: أنه يعودَ على النبي، وهذا استضعَفَهُ الشيخُ من حيث إفرادُ الضميرِ، إذ كان ينبغي على هذا أن يُجْمَعَ ليطابِقَ «النبيين» . ثم قال: «وما قالَه جائزٌ على أَنْ يعودَ الضميرُ على إفراد الجمعِ على معنى: ليحكمَ كلُ نبي بكتابِهِ. و» بين «متعلق ب» يَحْكم «. والظرفيةُ هنا مجازٌ. وكذلك» فيما اختلفوا «متعلقٌ به أيضاً. و» ما «موصولةٌ، والمرادُ بها الدين، أي: ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين، بعد أن كانوا متفقين عليه. ويَضْعُفُ أن يُرَادَ ب» ما «النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنها لغير العقلاءِ غالباً. و» فيه «متعلِّقٌ ب» اختلفوا «، والضميرُ عائدٌ على» ما «الموصولةِ. قوله: {وَمَا اختلف فِيهِ} الضمير في» فيه «فيه أوجهٌ، أظهُرها: أنه عائدٌ على» ما «الموصولةِ أيضاً، وكذلك الضميرُ في» أوتوه «. وقيل: يعودان على الكتابِ، أي: وما اخْتَلَفَ في الكتاب إلا الذين أُوتوا الكتابَ. وقيل: يعودان

على النبيِّ قاله الزجاج. أي: وما اختلفَ في النبيّ إلا الذين أُوتوا علمَ نبوتِه. وقيل: يعودُ على عيسى للدلالةِ عليه. قوله: {مِن بَعْدِ} فيه وجهانِ، أحدُهما: وهو الصحيحُ، أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُهُ: اختلفوا فيه مِنْ بَعْد. والثاني: أنه متعلِّقٌ ب» اختلف «الملفوظِ به، قال أبو البقاء: ولا تَمْنَعُ» إلاَّ «من ذلك، كما تقول:» ما قام إلا زيدٌ يومَ الجمعة «. وهذا الذي أجازه أبو البقاء للنحاةِ فيه كلامٌ كثيرٌ. وملخَّصُه أن» إلا «لا يُسْتَثْنَى بها شيئان دونَ عطفٍ أو بدليةٍ، وذلك أنَّ» إلاَّ «مُعَدِّيَةٌ للفعلِ، ولذلك جازَ تَعَلُّقُ ما بعدها بما قبلَها، فهي كواوِ مع وهمزة التعدية، فكما أن واو» مع «وهمزة التعدية لا يُعَدِّيان الفعلَ لأكثرَ من واحدٍ، إلاَّ مع العطفِ، أو البدليةِ كذلك» إلا «. وهذا هو الصحيحُ، وإنْ كان بعضُهم خالَفَ. فإن وَرَدَ من لسانِهم ما يُوهم جوازَ ذلك يُؤَوَّل. فمنه قولُه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي} [النحل: 43-44] ثم قال:» بالبينات «، فظاهر هذا أن» بالبينات «متعلقٌ بأرسلنا، فقد استُثْنِيَ ب» إلا «شيئان، أحدُهما» رجالاً «والآخرُ» بالبينات «. وتأويلُه أنَّ «بالبينات» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لئلا يلزَمَ منه ذلك المحذورُ. وقد منع أبو الحسن وأبو علي: «ما أخذ أحدٌ إلا زيدٌ درهماً» و «ما ضربَ القومُ إلا بعضُهم بعضا» . واختلفا في تصحيحِها فقال أبو الحسن: «طريقُ تصحيحِها بأَنْ تُقَدِّم المرفوعَ الذي بعد» إلاَّ «عليها، فيقال: ما أخذَ أحدٌ زيدٌ إلا درهماً، فيكونُ» زيدٌ «بدلاً من» أحد «و» درهماً «مستثنى مفرغٌ من ذلك المحذوف، تقديرُهُ: ما أخذ أحدٌ زيدٌ شيئاً إلا درهماً» . وقال أبو علي: «طريقُ ذلك زيادةُ منصوبٍ

في اللفظ فَيَظْهَرُ ذلك المقدَّرُ المستثنى منه، فيقال:» ما أخذ أحدٌ شيئاً إلا زيدٌ درهماً «فيكونُ المرفوعُ بدلاً من المرفوعِ، والمنصوبُ بدلاً من المنصوب وكذلك: ما ضَرَبَ القومُ أحداً إلا بعضُهم بعضاً. وقال أبو بكر بن السراج: تقول:» أعطيت الناسَ درهماً إلا عُمَراً «جائز. ولو قلت:» أعطيتُ الناسَ درهماً إلا عمراً الدنانيرَ «لم يَجُزْ، لأنَّ الحرفَ لا يُسْتَثْنَى به إلا واحدٌ. فإنْ قُلْتَ:» ما أَعْطَيْتُ الناسَ درهماً إلا عَمْراً دانقاً «على الاستثناءِ لم يَجُزْ، أو على البدلِ [جاز] فَتُبْدِلُ» عمراً «من الناس، و» دانقاً «من» درهماً «. كأنك قلتَ:» ما أعطيت إلا عمراً دانقاً «يعني أنَّ الحصرَ واقعٌ في المفعولين. قال بعض المحققين:» وما أجازَه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ضعيفٌ، وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ من مُقارَنَتِهِ ب «إلاَّ» ، فَأَشْبَهَ العطفَ، فكما أنه لا يَقَعُ بعدَ حرفِ العطفِ معطوفان لا يَقَعُ بعدَ «إلاَّ» بدلان «. فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ وما قال الناسُ فيه كان إعرابُ أبي البقاء في هذه الآيةِ الكريمةِ من هذا البابِ، وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد وَقَعَ بعدَ» إلاَّ «الفاعلُ وهو» الذين «، والجارُّ والمجرورُ وهو» مِنْ بعد «، والمفعولُ من أجلِهِ وهو» بغياً «فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً. والمعنى: وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلاَّ من بعدِ ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بغياً. وإذا كان التقدير كذلك فقد اسْتُثْنِيَ ب» إلاَّ «شيئان دونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ من غيرِ عطفِ ولا بدليةٍ. وإنما استوفيتُ الكلام في هذه المسألة لكثرةِ دُوْرِها. قوله: {بَغْياً} في نصبِهِ وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ من أجلِهِ لاستكمالِ الشروطِ، هو علةٌ باعثةٌ. والعامِلُ فيه مضمرٌ على ما اخترناه،

وهو الذي تُعَلِّقُ به» فيه «و» اختلف «المفلوظُ به عند مَنْ يرى أنَّ» إلاَّ «يُسْتثنى بها شيئان. والثاني: أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ أي: باغين، والعامِلُ فيها ما تقدَّم. و «بينهم» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «بغياً» . أي: بَغْياً كائناً بينهم. قوله: {لِمَا اختلفوا فِيهِ} «لِما» متعلِّقٌ ب «هَدَى» وما موصولةٌ، والضمِيرُ في «اختلفوا» عائدٌ على «الذين أوتوه» ، وفي «فيه» عائدٌ على «ما» وهو متعلِّقٌ ب «اختلف» . و {مِنَ الحق} متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه في موضعِ الحالِ من «ما» في «لِما» . و «مَنْ» يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ وأن تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك تقديرُهُ: الذي هو الحق. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «مِنَ الحق» حالاً من الضميرِ في «فيه» والعامِلُ فيها «اختلفوا» . وزعم الفراء أنَّ في الكلامِ قَلْباً والأصلُ: «فَهَدى الله الذينَ آمنوا للحقِّ ممَّا اختلفوا» واختاره الطبري. وقال ابن عطية: «ودعَاه إلى هذا التقديرِ خَوْفُ أن يحتملَ اللفظُ أنهم اختلفوا في الحقِّ، فهدى الله المؤمنين لبعضِ ما اختلفوا فيه، وعَسَاهُ أن يكونَ غيرَ حقٍ في نفسِهِ» قال: «والقلبُ في كتابِ اللَّهِ دونَ ضرورةٍ تدفعُ إليه عجزٌ وسوءُ فهمٍ» انتهى. قلت: وهذا الاحتمالُ الذي جَعَلَه ابنُ عطية حاملاً للفراء على ادعاءِ القلبِ لا يُتَوَهَّمُ أصلاً. قوله: {بِإِذْنِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «الذين آمنوا» أي: مأذوناً لهم. والثاني: أن يكونَ متعلقاً بهدى مفعولاً به، أي: هداهم بأمرهِ.

214

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} : «أم» هذه فيها أربعةُ أقوالٍ: أنْ تكونَ منقطعةً فتتقدَّر ب «بل» والهمزةِ. ف «بل» لإِضرابِ انتقالٍ من إخبارٍ إلى إخبارٍ، والهمزةُ للتقريرِ. والتقديرُ/: بل أحَسِبْتُم. والثاني: أنها لمجردِ الإِضرابِ من غير تقديرِ همزةٍ بعدها، وهو قولُ الزجاج وأنشد: 922 - بَدَتْ مثل قَرْنِ الشمسِ في رَوْنَقِ الضحى ... وصورتِها أم أنتَ في العينِ أَمْلَحُ أي: بل أنت. والثالث: وهو قولُ بعض الكوفيين أنها بمعنى الهمزةِ فعلى هذا يُبْتَدَأُ بها في أولِ الكلامِ. ولا تحتاجُ إلى الجملةِ قبلَها يُضْرَبُ عنها. والرابع: أنها متصلةٌ، ولا يَسْتَقِيمُ ذلك إلا بتقديرِ جملةٍ محذوفةٍ قبلَها، فقدَّرَهُ بعضُهم: فَهَدَى اللَّهُ الذين آمنوا، فصَبَروا على استهزاءِ قومهم، أفتسلُكون سبيلَهم أم تحسَبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوكِ سبيلهِم. و «حَسِبْتُم» هنا من أخوات «ظنَّ» ، تنصبُ مفعولَيْن أصلُهما المبتدأ والخبرُ، و «أَنْ» وما بعدَها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويهِ، ومسدَّ الأولِ والثاني محذوفٌ عند أبي الأخفش، كما تقرَّر ذلك. ومضارِعُها فيه الوجهان: الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ. ولها من الأفعالِ نظائِرُ، سيأتي ذلك في آخرِ السورةِ، ومعناها الظنُّ، وقد تُسْتَعْمَلُ في اليقين قال: 923 - حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ ... رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلا

ومصدرُها: الحُسْبان. وتكون غيرَ متعديةٍ إذا كان معناها الشقرة، تقول: حَسِبَ زيدٌ، أي اشْقَرَّ، فهو أَحْسَبُ أي: أَشْقَرُ. قوله: {وَلَمَّا يَأْتِكُم} الواوُ للحالِ، والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ عليها، أي: غيرَ آتيكم مثلُهم. و «لَمَّا» حرفُ جزمٍ معناهُ النفي ك «لم» ، وهو أبلغُ من النفي ب «لم» ، لأنها لا تنفي إلا الزمانَ المتصلَ بزمانِ الحالِ. والفرقُ بينها وبين «لم» من وجوهٍ، أحدُها: أنه قد يُحْذَفُ الفعلُ بعدها في فصيحِ الكلام إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولِهِ: 924 - فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً وَلَمَّا ... فنادَيْتُ القبورَ فلم تُجِبْنَهْ أي: ولمَّا أكن بدءاً أي: مبتدئاً، بخلافِ «لم» فإنه لا يجوزُ ذلك فيها إلا ضرورةً. ومنها: أنَّها لنفيِ الماضي المتصلِ بزمانِ الحال و «لم» لنفِيهِ مطلقاً أو منقطعاً على ما مَرَّ. ومنها: أنَّ «لَمَّا» لاَ تَدْخُل على فعلِ شرطٍ ولا جزاءٍ بخلافِ «لم» . واختُلِفَ في «لمَّا» فقيل: بسيطةٌ، وقيل: مركبةٌ مِنْ لم و «ما» زيدَتْ عليها. وفي قولِه {مَّثَلُ الذين} حَذْفُ مضافٍ وحَذْفُ موصوفٍ تقديرُهُ: ولَمَّا يأتِكُمْ مَثَلُ محنةِ المؤمنينِ الذين خَلَوْا. و «مِنْ قبلِكم» متعلِّقٌ ب «خَلَوا» وهو كالتأكيدِ، فإنَّ الصلةَ مفهومةٌ من قولِهِ: «خَلَوا» . قوله: {مَّسَّتْهُمُ البأسآء} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها تفسيريةٌ أي: فَسَّرَتِ المَثَلَ وَشَرَحَتْهُ كأنه قيل:

ما كانَ مَثَلُهم؟ فقيل: مَسَّتهم البأساءُ. والثاني: أن تكونَ حالاً على إضمارِ «قد» جَوَّزَ ذلك أبو البقاء، وهي حالٌ من فاعلِ «خَلَوا» . وفي جَعْلِهَا حالاً بُعْدٌ. قوله: {حتى يَقُولَ} قرأ الجمهورُ: «يقولُ» نصباً، وله وجهان، أحدُهما: أنَّ «حتى» بمعنى «إلى» ، أي: إلى أن يقولَ، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزالِ، و «حتى» إنما يُنْصَبُ بعدها المضارعُ المستقبلُ، وهذا قد وقع ومَضَى. فالجوابُ: أنه على حكايةِ الحالِ، حكى تلك الحالَ. والثاني: أنَّ «حتى» بمعنى «كي» ، فتفيدُ العِلَّةَ، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنَّ قولَ الرسول والمؤمنين ليس علةً للمسِّ والزلزالِ، وإن كان ظاهرُ كلامِ أبي البقاء على ذلك فإنه قال: «ويُقْرَأ بالرفعِ على أن يكونَ التقديرُ: زُلْزِلُوا فقالوا: فالزَّلْزَلَةُ سببُ القولِ» و «أَنْ» بعد «حتى» مضمرةٌ على كِلا التقديرين. وقرأ نافع برفِعِهِ على أنَّه حالٌ، والحالُ لا يُنْصَبُ بعد «حتى» ولا غيرِها، لأنَّ الناصبَ يُخَلِّصُ للاستقبالِ فتَنَافيا. واعلم أنَّ «حتى» إذا وَقَعَ بعدها فعلٌ: فإمَّا أن يكونَ حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، فإنْ كان حالاً رُفِعَ نحو: «مَرِض حتى لا يَرْجونه» أي في الحال. وإن كان مستقبلاً نُصِبَ، تقول: سِرْتُ حتى أدخلَ البلدَ وأنت لم تدخُلْ بعدُ. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثم حكايتُك له: إمَّا أَنْ تَكونَ بحسَب كونِهِ مستقبلاً، فتنصبَه على حكايةِ هذه الحالِ، وإمَّا أن يكونَ بحسَبِ كونِهِ حالاً، فترفَعَهُ على حكايةِ هذه الحالِ، فيصدُقُ أن تقولَ في قراءةِ الجماعةِ: حكايةُ حالٍ، وفي قراءةِ نافع أيضاً: حكايةُ حالٍ. وإنَّما نَبَّهْتُ على ذلك لأنَّ عبارةَ بعضِهم

تَخُصُّ حكايةً الحالِ بقراءةِ الجمهورِ، وعبارَةَ آخرين تَخُصُّها بقراءةِ نافع. قال أبو البقاء في قراءةِ الجمهور: «والفعلُ هنا مستقبلٌ حُكِيت به حالُهم والمعنى على المُضِيِّ» وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفعَ بأنَّ «حتى» للتعليلِ. قوله: «معه» هذا الظرفُ يجوزُ أن يكونَ منصوباً بيقول، أي: إنهم صاحبوه في هذا القولِ وجامَعُوه فيه، وأن يكونَ منصوباً بآمنوا، أي: صاحبوه في الإِيمانِ. قوله: {متى نَصْرُ الله} «متى» منصوبٌ على الظرفِ فموضعُهُ رفعٌ خبراً مقدماً، و «نصرٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ. وقال أبو البقاء: «وعلى قولِ الأخفش موضعُه نصبٌ على الظرفِ و» نصرُ «مرفوعٌ به» . و «متى» ظرفُ زمانٍ لا يَتَصَرَّفُ إلا بجرِّه بحرفٍ. وهو مبنيٌّ لِتَضَمُّنِهِ: إما لِمَعْنَى همزة الاستفهام وإمَّا معنى «مَنْ» الشرطية، فإنه يكونُ اسمَ استفهامٍ، ويكونُ اسمَ شرطٍ فيجزمُ فعلين شرطاً وجزاءً. والظاهرُ أنَّ جملةَ {متى نَصْرُ الله} من قولِ المؤمنينَ، وجملةَ {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} من قولِ الرسولِ، فَنُسِبَ القولُ إلى الجميعِ إجمالاً، ودلالةُ الحالِ مبيِّنَةٌ للتفصيلِ المذكور. وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَم أَن في الكلامِ تقديماً وتأخيراً، والتقديرُ: حتى يقولَ الذين آمنوا {متى نَصْرُ الله} فيقولُ الرسولُ «إلا إنَّ» ، فَقُدِّمَ الرسولُ لمكانَتِهِ، وقُدِّم المؤمنون لتقدُّمِهِم في الزمان. قال ابن عطية: «هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلُ الكلامِ على غير وجهِهِ»

وهو كما قال. وقيل: الجملتانِ من قولِ الرسولِ والمؤمنين معاً، يعني أن الرسولَ قالَهما معاً، وكذلك أتباعُهُ قالوهما معاً، وقولُ الرسول {متى نَصْرُ الله} ليس على سبيلِ الشَّكِّ، إنما هو على سبيلِ الدعاء باستِعْجَال النصر. وقيل: إنَّ الجملةَ الأولى من كلام الرسولِ وأتباعه، والجملة الأخيرةَ من كلامِ اللَّهِ تعالى، أجابهُم بما سألوه الرسُلُ واستبطَأَهُ الأتباع. فالحاصل أن الجملتين في محل نصب بالقول.

215

قوله تعالى: {مَاذَا يُنْفِقُونَ} : قد تقدَّم أنَّ «ماذا» له ستة استعمالات/ وتحقيقُ القولِ فيه عند قولِه {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا} [البقرة: 26] . وهنا يجوزُ أَنْ تكونَ «ماذا» بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ بمعنى الاستفهام فتكونَ مفعولاً مقدَّماً، ويجوزُ أن تكونَ «ما» و «ذا» خبرَه، وهو موصولٌ. و «ينفقون» صلتُه والعائدُ محذوفٌ، و «ماذا» معلِّقٌ للسؤال فهو في موضعِ المفعولِ الثاني، وقد تقدَّم تحقيقُه في قوله: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم} [البقرة: 211] ، وجاء «ينفقون» بلفظ الغيبة؛ لأنَّ فاعلٌ الفعلِ قبلَه ضميرُ غَيْبَةٍ في «يسألونك» ، ويجوزُ في الكلامِ «ماذا ننفقُ» كما يجوزُ: أَقْسَمَ زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ في قولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] في المائدةِ. [قوله] : {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ لتوافق ما بعدها، ف «ما» في محلِّ نصبٍ مفعولٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديمِ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ. و «أنفقْتُمْ» في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، و «مِنْ خيرٍ» تقدَّم إعرابُه في قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] .

وقوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ} جوابُ الشرطِ، وهذا الجارُ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فمَصْرِفُه للوالدَيْن، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ: إمَّا مفردٌ وإمَّا جملةٌ على حَسَبِ ما ذُكِر من الخلافِ فيما مَضَى. وتكونُ الجملةُ في محلِّ جزمٍ بجوابِ الشرطِ. والثاني: أن تكونَ «ما» موصولةً، و «أنفقتم» صلتُها، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، أي: الذي أنفقتموه. والفاءُ زائدةٌ في الخبرِ الذي هو الجارُّ والمجرورُ. قال أبو البقاء في هذا الوجهِ: «ومِنْ خيرٍ يكونُ حالاً من العائدِ المحذوفِ» . وهم إنما سألوا عن المُنْفَقِ، فكيف أُجيبوا ببيانِ المَصْرِفِ للمُنْفِقِ عليه؟ فيه أجوبةٌ منها: أنَّ في الآيةِ حَذْفاً وهو المُنْفَقُ عليه فَحُذف، تقديره: ماذا ينفقون ولِمَنْ يُعْطونه، فجاء الجوابُ عنهما، فأجابَ عن المُنْفَقِ بقوله: «مِنْ خيرٍ» وعن المُنْفقِ عليه بقوله: «فللوالدَيْن» وما بعده. ومنها: أن يكون «ماذا» سؤالاً عن المَصْرِفِ على حَذْفِ مضافٍ، تقديرُه: مَصْرِفُ ماذا يُنْفقون؟ ومنها: أن يكونَ حَذَفَ من الأولِ ذِكْرَ المَصْرِفِ ومن الثاني ذِكْرَ المُنْفَقِ، وكلاهما مرادٌ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قولِه تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ} [البقرة: 171] . وقال الزمخشري: قد تضمَّن قولُه: {مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} بيانَ ما يُنفقونه. وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلامُ على ما هو أَهَمُّ وهو بيانُ المَصْرِفِ، لأنَّ النفقة لا يُعْتَدُّ بها أَنْ تقعَ موقِعَها. [قال] : 925 - إنَّ الصنيعة لا تكونُ صنيعةً ... حتى يُصابَ بها طريقُ المَصْنَعِ «

وأمَّا قولُه: {وَمَا تَفْعَلُواْ} ف» ما «شرطيةٌ فقط لظهورِ عملها الجزمَ بخلافِ الأولى. وقرأ علي رضي الله عنه:» وما يفعلوا «بالياء على الغَيْبَة، فيُحْتمل أن يكونَ من بابِ الالتفات من الخطابِ، وأن يكونَ مِنْ الإِضمارِ لدلالةِ السياقِ عليه، أي: وما يفعلِ الناسُ.

216

وقرىء: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال} : ببناءِ «كَتَب» للفاعل وهو ضميرُ اللهِ تعالى ونَصْبِ «القتال» . قوله: {وَهُوَ كُرْهٌ} هذه واوُ الحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها والظاهرُ أنَّ «هو» عائدٌ على القتالِ. وقيل: يعودُ على المصدرِ المفهومِ من كَتَب، أي: وكَتْبُه وفَرْضُه. وقرأ الجمهورُ «كُرْهٌ» بضمِّ الكافِ، وقرأ السلميُّ بفتحِها. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، أي: مصدران كالضَّعْف والضُّعْف، قاله الزجاج وتبعه الزمشخري. وقيل: المضمومُ اسمُ مفعولٍ والمفتوحُ المصدرُ. وقيل: المفتوحُ بمعنى الإِكراه، قالَه الزمخشري في توجيهِ قراءةِ السُّلَمي، إلا أنَّ هذا من بابِ مجيءِ المصدرِ على حَذْفِ الزوائدِ وهو لا ينقاسُ. وقيل: المفتوحُ ما أُكْرِهَ عليه المرءُ، والمضمومُ ما كَرِهَهُ هو. فإن كان «الكَرْهُ» و «الكُرْه» مصدراً فلا بُدَّ من تأويلٍ يجوزُ معه الإِخبار به عن «هو» ، وذلك التأويلُ: إمَّا على حَذْفِ مضاف، أي: والقتالُ ذو كُرْهٍ، أو على المبالَغَةِ، أو على وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول. وإنْ قُلْنا: إنَّ «كُرْهاً»

بالضمِّ اسمُ مفعولٍ فلا يُحْتاجُ إلى شيءٍ من ذلك. و «لكم» في محلِّ رفعٍ، لأنه صفةٌ لكُره، فيتعلَّقُ بمحذوفِ أي: كرهٌ كائِنٌ. قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ} «عسى» فعلٌ ماضٍ نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإِشفاق. وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبَر، ولا يكونُ خبرُها إلا فعلاً مضارعاً مقروناً ب «أَنْ» . وقد يجيءُ اسماً صريحاً كقوله: 926 - أَكْثَرْتَ في العَذْلِ مُلِحَّاً دائماً ... لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائِماً وقالَتِ الزبَّاء: «عسى الغُوَيْرُ أَبُؤسا» وقد يَتَجَرَّدُ خبرُها من «أَنْ» كقوله: 927 - عسى فَرَجٌ يأتي به اللهُ إنه ... له كلَّ يومٍ في خَلِقَتِهِ أَمْرُ وقال آخر: 928 - عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتَ فيه ... يكونُ وراءَه فرجٌ قَرِيبُ وقال آخر: 929 - فأمَّا كَيِّسٌ فَنَجا ولكِنْ ... عَسَى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئيمُ

وتكونُ تامة إذا أُسْنِدَتْ إلى «أَنْ» أو «أنَّ» ، لأنهما يَسُدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها، والأصحُّ أنها فعلٌ لا حرفٌ، لاتصالِ الضمائرِ البارزةِ المرفوعةِ بها، ووزنُها «فَعَل» بفتح العين، ويجوزُ كَسْرُ عينِها إذا أُسْنِدَتْ لضمير متكلمٍ أو مخاطبٍ أو نونِ إناثٍ، وهي قراءةُ نافعٍ، وستأتي: ولا تتصرَّفُ بل تلزم المضيَّ. والفرقُ بين الإِشفاقِ والترجِّي بها في المعنى: أنَّ الترجِّي في المحبوباتِ والإِشفاقَ في المكروهاتِ. و «عسى» من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإِشفاق مُحالان في حقَّه. وقيل: كلُّ «عسى» في القرآن للتحقيقِ، يَعْنُون الوقوعَ، إلا قولَه تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] الآية، وهي في هذه الآيةِ ليسَتْ ناقصةً فتحتاجُ إلى خبرٍ بل تامةٌ، لأنها أُسْنِدَتْ إلى «أَنْ» ، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مسدَّ الخبرين بعدها. وزعم الحوفي أن «أَن تكرهوا» في محلِّ نصب، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد. قوله: {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال/ وإنْ كانَتْ الحالُ من النكرةِ بغيرِ شرطٍ من الشروطِ المعروفةِ قليلةً. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ لشيئاً. وإنما دخلتِ الواوُ على الجملةِ الواقعةِ لأنَّ صورتَها صورةُ الحالِ. فكما تدخل الواوُ عليها حاليةً تدخلُ عليها صفةً، قاله أبو البقاء. ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشري في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ}

فَجَعل: «ولها كتابٌ» صفةً لقرية، قال: «وكان القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذه الواوُ بينهما كقولِه: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} وإنما توسَّطَتْ لتأكيدِ لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ، وما يُقال في الحالِ:» جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ، وعليه ثوبٌ «. وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا والزمخشري هناك هو رأيُ ابنِ جني، وسائرُ النَّحْويين يُخالِفونه.

217

قوله تعالى: {قِتَالٍ فِيهِ} : قراءةُ الجمهور: «قتالٍ» بالجر، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أنه خفضٌ على البدلِ من «الشهر» بدلِ الاشتمال؛ إذ القتالُ واقعٌ فيه فهو مشتملٌ عليه. والثاني: أنه خفضٌ على التكرير، قال أبو البقاء: «يريد أنَّ التقديرَ:» عن قتالٍ فيه «. وهو معنى قول الفراء، لأنه قال:» وهو مخفوضٌ ب «عَنْ» مضمرةً. وهذا ضعيفٌ جداً، لأنَّ حرفَ الجر لا يبقى عملُه بعد حذفِه في الاختيار «. وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين والكسائي والفراء، لأنَّ البدلَ عند جمهور البصريين على نِيَّةِ تكرار العامل، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي. وقوله: لأنَّ حرفَ الجرِّ لا يَبْقَى عملُه بعد حَذْفِه» إن أراد في غيرِ البدل فَمُسَلَّم، وإن أرادَ في البدلِ فممنوعٌ، وهذا هو الذي عناه الكسائي. الثالث: قاله أبو عبيدة: «أنه خفضٌ على الجِوار» . قال أبو البقاء: «وهو أَبْعَدُ من قولِهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأن الجِوار من مواضعِ الضرورةِ أو الشذوذِ فلا يُحْمَلُ عليه

ما وُجِدَتْ عنه مَنْدُوحة» . وقال ابن عطية: «هو خطأ» . قال الشيخ: «إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجِوار المصطلحَ عليه فهو خطأ. وجهةٌ الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أن يكونَ الشيءُّ تابعاً لمرفوعٍ أو منصوبٍ من حيثُ اللفظُ والمعنى فَيُعْدَلَ به عن تَبَعيِّتِه لمتبوعِه لفظاً، ويُخْفَضَ لمجاوَرَتِه لمخفوضٍ. كقولِهم:» هذا جُحْر ضَبًّ خَرِبٍ «بجرِّ» خرب «، وكان من حقِّه الرفعُ؛ لأنه من صفاتِ الجحر لا من صفاتِ الضبِّ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضِعه إن شاء الله تعالى، و» قتالٍ «هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ أو منصوب وجاور مخفوضاً فَخُفِض. وإن كان عَنَى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فَخَفْضُه بكونه جاور مخفوضاً، أي صار تابعاً له، لم يكنْ خطأً، إلا أنه أغْمَضَ في عبارته فالتبس بالمصطلحِ عليه. وقرأ ابن عباس والأعمش:» عن قتالٍ «بإظهارِ» عن «وهي في مصحفِ عبد الله كذلك،، وقرأ عكرمة:» قَتْلٍ فيه، قل قتلٌ فيه «بغير ألف. وقُرىء شاذاً:» قتالٌ فيه «بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ، وسَوَّغ الابتداء به وهو نكرةٌ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهامِ، تقديرُه: أقتالٌ فيه. والثاني: أنه مرفوعٌ باسم فاعل تقديرُه: أجائزٌ قتالٌ فيه، فهو فاعلٌ به. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجهِ بان يكونَ خبر مبتدأٍ محذوفٍ، فجاء رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ وإمَّا خبرُ مبتدأٍِ. قالوا: ويَظْهَرُ هذا من حيث إنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ

أم لا، وإنما كان سؤالُهم: هل يجوزُ القتالُ فيه أولا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين فهذه الجملةُ المُسْتَفْهَمُ عنها في محلِّ جرٍ بدلاً من الشهرِ الحرامِ، لأن «سأل» قد أخَذَ مفعولَيْه فلا تكونُ هي المفعولَ وإن كانت مَحَطَّ السؤالِ. وقوله: {فِيهِ} على قراءةِ خفضٍ «قتالٍ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ خفضٍ لأنه صفةٌ ل «قتال» . والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ لتعلُّقه بقتال لكونه مصدراً. وقال أبو البقاء: «كما يتعلَّقُ بقاتل» . ولا حاجة إلى هذا التشبيه، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعلِ. والضميرُ في «يسألونك» قيل للمشركين، وقيل للمؤمنين. والألفُ واللامُ في «الشهر» قيل: للعهدِ وهو رجب، وقيل: للجنسِ فَيَعُمُّ جميعَ الأشهرِ الحُرُمِ. قوله: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، مَحلُّها النصبُ بقُلْ، وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ: إمَّا الوصفُ، إذا جَعَلْنَا قولَه «فيه» صفةً له وإمَّا التخصيصُ بالعملِ إذا جَعَلْناه متعلقاً بقتال، كما تقدَّم في نظيرِه. فإنْ قيل: قد تقدَّم لفظُ نكرة وأُعيدت من غيرِ دخول ألفٍ ولامٍ عليها وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15-16] فقال أبو البقاء: «ليس المرادُ تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان، فعلى هذا» قتالٌ «الثاني غيرُ الأول» ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ المُعادِ أولاً لا تفيدُ

تعظيماً، بل إنما تفيدُ العهد في الاسمِ السابقِ. وأَحْسَنُ منه قَولُ بعضِهم: «إنَّ الثاني غيرُ الأولِ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبدِ الله بن جحش، وكان لنصرةِ الإِسلامِ. وخُذْلانِ الكفرِ فليس من الكبائرِ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غيرُ هذا، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ ونصرةُ الكفرِ، فاختير التنكيرُ في هذين اللفظين لهذه الدقيقةِ، ولو جِيء بهما معرفتين أو بأَحدِهما مُعَرَّفاً لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ» . قوله: {وَصَدٌّ} فيه وجهان، أحدُهما مبتدأٌ وما بعده عطفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرٌ عن الجميعِ. وجاز الابتداءُ بصدّ لأحدِ ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا لتخصيصِه بالوصفِ بقولِه: {عَن سَبِيلِ الله} وإمَّا لتعلُّقِه به، وإمَّا لكونِه معطوفاً، والعطفُ من المسوِّغات. والثاني: أنه عطفٌ على «كبيرٌ» أي: قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ، قاله الفراء. قال ابن عطية: «وهو خطأٌ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله:» وكفرٌ به «عَطْفٌ أيضاً على» كبيرٌ «، ويَجِيءُ من ذلك أنَّ إخراجَ أهلِ المسجدِ منه أكبرُ من الكفرِ، وهو بَيِّنٌ فسادُه» . وهذا الذي رَدَّ به قولَ الفراء غيرُ لازم له؛ إذ له أن يقول: إنَّ قولَه «وكفرٌ به» مبتدأٌ، وما بعده عطفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرٌ عنهما، أي: مجموعُ الأمرين أكبرُ من القتال والصدِّ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ. في الشهرِ الحرامِ. وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعولُه؛ إذ التقديرُ: وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ. و «كفرٌ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على «صَدّ» على قولنا بأن «

صداً» مبتدأٌ لا على قولنا بأنه خبرٌ ثان عن «قتال» ، لأنه يلزَمُ منه أن يكونَ القتالُ في الشهرِ الحرامِ كفراً وليس كذلك، إلا أَنْ يرادَ بقتالِ الثاني ما فيه هَدْمُ الإِسلامِ وتقويةُ الكفرِ كما تقدَّم ذلك عن بعضِهم، فيكونُ كفراً، فَيَصِحُّ عطفُه عليه مطلقاً، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط: أي: وكُفْرُكم. والثاني: أن يكونَ مبتدأً كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه. والضميرُ في «به» فيه وجهان، أحدُهما: / أنه يعودُ على «سبيل» لأنه المحدَّثُ عنه. والثاني أنه يعودُ على الله، والأولُ أظهرُ. و «به» فيه الوجهان، أعني كونَه صفةً لكفر، أو متعلقاً به، كما تقدَّم في «فيه» . قوله: {والمسجد الحرام} الجمهورُ على قراءته مجروراً. وقرىء شاذاً مرفوعاً. فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ، أحدها: - وهو قولُ المبرد وتبعه في ذلك الزمخشري وابنُ عطية، قال ابن عطية: «وهو الصحيحُ - أنه عطفٌ على» سبيلِ الله «أي: وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجد» . وهذا مردودٌ بأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي تقريرُه أنَّ «صداً» مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ والفعلِ و «أَنْ» موصولٌ، وقد جعلتم «والمسجدِ» عطفاً على «سبيلِ» فهو من تمام صلته، وفُصِل بينهما بأجنبي وهو «وكفرٌ به» . ومعنى كونِه أجنبياً أنه لا تعلُّق له بالصلةِ. فإن قيل: يُتَوَسَّعُ في الظرفِ وحرفِ الجر ما لم يُتَّسَعْ في غيرِهما. قيل: إنما قيل بذلك في التقديمِ لا في الفصلِ.

الثاني: أنه عطفٌ على الهاءِ في «به» أي: وكفرٌ به وبالمسجِد، وهذا يتخرَّج على قول الكوفيين. وأمَّا البصريون فيشترطون في العطفِ على الضميرِ المجرورِ إعادةَ الخافض إلا في ضرورة، فهذا التخريجُ عندهم فاسدٌ. ولا بد من التعرُّض لهذه المسألة وما هو الصحيحُ فيها. فأقولُ وبالله العون: اختلف النحاةُ في العطفِ على الضمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهبَ: أحدُها - وهو مذهبُ الجمهور من البصريين -: وجوبُ إعادةِ الجار إلا في ضرورةٍ. الثاني: أنه يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مطلقاً، وهو مذهبُ الكوفيين، وتَبِعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيين. والثالث: التفصيلُ، وهو إنْ أُكِّد الضميرُ جاز العطفُ من غيرِ إعادةِ الخافِض نحو: «مررت بك نفسِك وزيدٍ» ، وإلا فلا يجوزُ إلا ضرورةً، وهو قولُ الجَرْميّ. والذي ينبغي أنه يجوزُ مطلقاً لكثرةِ السماعِ الوارد به، وضَعْفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس. أما السَّماعُ: ففي النثرِ كقولِهم: «ما فيها غيرُه وفرسه» بجرِّ «فرسه» عطفاً على الهاء في «غيره» . وقوله: {تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} في قراءة جماعةٍ كثيرة، منهم حمزةُ، وستأتي هذه الآيةُ إن شاء الله، ومنه: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] ف «مَنْ» عطف على «لكم» في قولِه تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} وقولُه: {مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] عطف على «فيهِنّ» وفيما يُتْلى عليكم «. وفي النظم وهو كثيرٌ جداً، فمنه قولُ العباس بن مرداس: 930 - أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي ... أفيها كان حَتْفي أم سواها

ف» سواها «عطفٌ على» فيها «، وقولُ الآخر: 931 - تُعَلَّقُ في مثلِ السَّوارِي سيوفُنا ... وما بينها والأرضِ غَوْطٌ نَفانِفٌ وقول الآخر: 932 - هَلاَّ سَأَلْتَ بذي الجماجم عنهمُ ... وأبي نُعَيْم ذي اللِّواء المُحْرِقِ وقول الآخر: 933 - بنا أبداً لا غيرِنا تُدْرَكُ المُنَى ... وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخطوبِ الفَوادِحِ وقول الآخر: 934 - لو كانَ لي وزهيرٍ ثالثٌ وَرَدَتْ ... من الحِمامِ عِدانا شَرَّ مَوْرودِ وقال آخر: 935 - إذا أَوْقدوا ناراً لحربِ عَدُوِّهمْ ... فَقَدْ خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها وقال آخر: 936 - إذا بنا بل أُنَيْسانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ ... ظَلَّتْ مُؤَمَنَّةً مِمَّنْ يُعادِيها

وقال آخر: 937 - آبَكَ أيِّهْ بيَ أو مُصَدَّرِ ... من حُمُرِ الجِلَّةِ جَأْبٍ حَشُوَرِ وأنشد سيبويه: 938 - فاليومَ قَرَّبْتَ تهجُونا وَتشْتِمُنا ... فاذهبْ فما بك والأيام مِنْ عَجَبِ فكثرةُ ورودِ هذا وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ، فجاؤوا تارة بالواو، وأخرى ب» لا «، وأخرى ب» أم «، وأخرى ب» بل «دليلٌ على جوازِه. وأمّا ضَعْفُ الدليل: فهو أنهم منعوا ذلك لأنَّ الضميرَ كالتنوين، فكما لا يُعْطف على التنوين لا يُعْطَفُ عليه إلا بإعادة الجار. ووجهُ ضعفه أنه كان بمقتضى هذه العلةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضمير مطلقاً، أعنى سواءً كان مرفوعَ الموضعِ أو منصوبَه أو مجرورَه، وسواءً أُعيد معه الخافِضُ أم لا كالتنوين. وأمَّا القياسُ فلأنه تابعٌ من التوابعِ الخمسةِ فكما يُؤَكَّدُ الضميرُ المجرورُ ويُبْدَلُ منه فكذلك يُعْطَفُ عليه. الثالث: أن يكونَ معطوفاً على» الشهر الحرام «أي: يسألونَك عن الشهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام. قال أبو البقاء:» وضَعُفَ هذا بأنَّ القومَ لم يَسْأَلوا عن المسجدِ الحرام إذ لم يَشُكُّوا في تعظيمِه، وإنما سَأَلوا عن

القتالِ في الشهرِ الحرامِ لأنه وَقَعَ منهم، ولم يَشْعُروا بدخولِه فخافُوا من الإِثمِ، وكانَ المشركونَ عيَّروهم بذلك «ولا يَظْهَرُ ضَعْفُه بذلكَ لأنه على هذا التخريجِ يكونُ سؤالُهم عن شيئين، أحدُهما القتالُ في الشهر الحرامِ. والثاني: القتالُ في المسجد الحرام، لأنهم لم يَسْأَلوا عن ذات الشهر ولا عن ذاتِ المسجدِ، إنما سألوا عن القتالِ فيهما كما ذَكَرْتُم، فَأُجيبوا بأنَّ القتالَ في الشهرِ الحرامِ كبيرٌ وصَدُّ عن سبيلَ الله تعالى، يكون «قتال» أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله، وأُجيبوا بأنَّ القتالَ في المسجد الحرامِ وإخراجَ أهلِه أكبرُ من القتالِ فيه. وفي الجملةِ فَعَطْفُه على الشهرِ الحرامِ متكلَّفٌ جداً يَبْعُدُ عنه نَظمُ القرآنِ والتركيبُ الفصيحُ. الرابع: أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديرُه: ويَصُدُّون عن المسجدِ، كما قال تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] قاله أبو البقاء، وجَعَله جيداً. وهذا غيرُ جيد لأنه يَلْزَمُ منه حذفُ حرفِ الجرِ وإبقاءُ عملهِ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها، على خلافٍ في بعضها، ونصَّ النحويون على أنَّه ضرورةٌ كقوله: 939 - إذا قيل: أيُّ الناسِ شَرُّ قبيلةٍ ... أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ أي: إلى كليب فهذه أربعة أوجه، أجودها الثاني. وأمَّا رفعُه فوجهُه أنَه عَطْفٌ على «وكفرٌ به» على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه «وكفرٌّ بالمسجدِ» فَحُذِفَتْ الباءُ وأُضيف «كفرٌ» إلى المسجدِ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ولا يَخْفَى ما فيه من التكلُّفِ، إلا أنه لا تُخَرَّجُ هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرُ مِنْ ذلك.

قوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} عَطْفٌ على «كفرٌ» أو «صدٌ» على حَسَبِ الخلافِ المتقدَّمِ، وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه، وأُضيف إلى مفعولُه، تقديرُه: «وإخراجُكم أهلَه» . والضميرُ في «أهله» و «مِنه» عائدٌ على المسجدِ وقيل: الضميرُ في «منه» عائدٌ على سبيلِ الله، والأول أظهرُ و «منه» متعلِّقٌ بالمصدرِ. قوله: {أَكْبَرُ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ عن الثلاثةِ، أعني: صداً وكفراً وإخراجاً كما تقدَّم، وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ خبراً عن المجموعِ، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونَ خبراً عنها باعتبارِ كلِّ واحدٍ، كما تقول: «زيدٌ وبكرٌ وعمرٌ أفضلُ من خالدٍ» أي: كلُّ واحِدٍ منهم على انفرادِه أفضلُ من خالدٍ. وهذا هو الظاهرُ. وإنما أُفْرِد الخبرُ لأنه أفضلُ من تقديرِه: أكبر من القتال في الشهرِ الحرامِ. وإنِّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى. الثاني من الوجهين في «أكبر» : أن يكونَ خبراً عن الأخير، ويكون خبر «وصد» و «كفر» محذوفاً لدلالة خبر الثالث عليه تقديرُه: وصد وكفر أكبر. قال أبو البقاء/ في هذا الوجه: «ويجب أن يكونَ المحذوفُ على هذا» أكبر «لا» «كبير» كما قدَّره بعضهم؛ لأن ذلك يوجب أن يكون إخراج أهل المسجد منه حُذِفَ خبر «وصد» و «كفر» لدلالة خبر «قتال» عليه أي: القتال في الشهر الحرام كبير، والصد والكفر كبيران أيضاً، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشهر الحرام. ولا يلزم من ذلك أن يكونَ أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتى يلزمَ ما قاله من المحذور. قوله: {عِندَ الله} متعلِّق ب «أكبر» ، والعنديةُ هنا مجازٌ لِما عُرف. وصرح هنا بالمفضول في قوله: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حُذِفَ،

بخلاف الذي قبله حيث حُذِفَ. قوله: «حتى يَرُدُّوكم» حتى حرف جر، ومعناها يَحتمل وجهين: أحدهما: الغاية، والثاني: التعليل بمعنى كي، والتعليلُ أحسنُ لأن فيه ذِكْرَ الحامل لهم على الفعل، والغاية ليس فيها ذلك، ولذلك لم يَذْكر الزمخشري غيرَ كونِها للتعليل قال: «وحتى» معناها التعليل كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة «أي:» يقاتلونكم كي يردُّكم «ولم يذكر ابن عطية غير كونها غايةً قال:» ويردُّوكم «نصب ب» حتى «لأنها غاية مجردة» وظاهر قوله: «منصوب بحتى» أنه لا يُضْمِر «أَنْ» لكنه لا يريدُ ذلك وإن كان بعضهم يقول بذلك. الفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أن وجوباً. و «يزالون» مضارع زال الناقصة التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرطِ أَنْ يتقدَّمها نفيٌ أو نهي أو دعاء، وقد يُحْذف النافي بإطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جوابِ قسم وإلاَّ فسماعاً، وأحكامُها في كتب النحو، ووزنُها فَعِل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائي في مضارعها: يَزيل، وإن كان الأكثر يَزال، فأمَّا زال التامة فوزنها فَعَل بالفتح، وهي من ذوات الواو لقولِهم في مضارعها يَزُول، ومعناها التحول. و «عن دينكم» متعلق «بيردوكم» وقوله: «إن استطاعوا» شرط جوابه محذوف للدلالة عليه أي: إن استطاعوا ذلك فلا يزالون يقاتلونكم، ومَنْ رأى جوازَ تقديمِ الجواب جعل «لا يزالون» جواباً مقدماً، وقد تقدَّم الردُّ عليه بأنه كان ينبغي أَنْ تَجِبَ الفاَءُ في قولِهم: «أنت ظالم إنْ فعلت» .

قوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ} «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ، ولم يَقْرأ هنا أحدٌ بالإِدغام، وفي المائدة اختلفوا فيه، فنُؤَخِّر الكلامَ على هذه المسألةِ إلى هناك إن شاءَ اللهُ تعالى. وَيَرْتَدِدُ يَفْتَعِلُ من الردِّ وهو الرجوعُ كقولِه: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] : قال الشيخ: «وقد عَدَّها بعضُهم فيما يتعدَّى إلى اثنين إذا كانت عنده بمعنى صَيَّر، وَجَعَلَ من ذلك قولَه: {فارتد بَصِيراً} [يوسف: 96] أي: رَجَع «وهذا منه [سهو] ؛ لأنَّ الخلافَ إنما هو بالنسبةِ إلى كونِها بمعنى صار أم لا، ولذلك مثَّلوا بقوله:» فارتدَّ بصيراً «فمنهم مَنْ جَعَلها بمعنى» صار «، ومنهم مَنْ جَعَل المنصوبَ بعدَها حالاً، وإلا فأينَ المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عَدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى» صَيَّر «فهو رَدَّ لا ارتدَّ، فاشتبه عليه ردَّ ب» ارتَدَّ «. وصيَّر ب» صارَ «. و» منكم «متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في» يَرْتَدِدْ «، و» من «للتبعيض، تقديرُه: ومَنْ يَرْتَدِدْ في حالِ كونِه كائناً منكم، أي: بعضكم. و» عن دينه «متعلِّقٌ بيرتددْ. و» فَيَمُتْ «عطفٌ على الشرط والفاءُ مُؤْذِنَةٌ بالتعقيب. {وَهُوَ كَافِرٌ} جملةٌ حاليةٌ من ضميرِ» يَمُتْ «، وكأنها حالٌ مؤكِّدَةٌ لأنها لو حُذِفَتْ لفُهِم معناها، لأنَّ ما قبلَها يُشْعِرُ بالتعقيبِ للارتداد، وجيء بالحالِ هنا

جملةً، مبالغةً في التأكيدِ من حيث تكرُّرُ الضميرِ بخلافِ ما لو جِيء بها اسماً مفرداً. وقوله: {فأولائك} جوابُ الشرطِ. قالَ أبو البقاء: و» مَنْ في موضعِ مبتدأ، والخبرُ هو الجملةُ التي هي قولُه: «فأولئك حَبِطَتْ» ، وكان قد سَلَفَ له عند قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] أنَّ خبرَ اسم الشرطِ هو فعلُ الشرطِ لا جوابُه ورَدَّ على مَنْ يَدَّعي ذلك بما حَكَيْتُه عنه ثَمَّةَ، ويَبْعُدُ منه تَوَهُّمُ كونِها موصولةً لظهورِ الجزمِ في الفعلِ بعدها، ومثلُه لا يقعُ في ذلك. و «حَبِط» فيه لغتان: كسرُ العينِ - وهي المشهورةُ - وفَتْحُها، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميعِ القرآنِ، ورويتْ عن الحسنِ أيضاً. والحُبوط: أصلُه الفسادُ ومنه: «حَبِطَ بطنُه» أي: انتفخ، ومنه «رَجلٌ حَبَنْطَى» أي: منتفخُ البطنِ. وحُمِل أولاً على لفظِ «مَنْ» فَأَفْرَدَ في قوله: «يَرْتَدِدْ، فيمتْ وهو كافرٌ» وعلى معناها ثانياً في قولِه: «فأولئك» إلى آخره، فَجَمَع، وقد تقدَّم أن مثلَ هذا التركيبِ أحسنُ الاستعمالَيْنِ: أعني الحَمْلَ أولاً على اللفظِ ثم على المعنى. وقولُه «في الدنيا» متعلِّقٌ ب «حَبِطَتْ» . وقوله: {وأولائك أَصْحَابُ النار} إلى آخرِهِ تقدَّم إعرابُ نظيرتِها. واختلفوا في هذه الجملةِ: هل هي استئنافيةٌ، أي: لمجرَّدِ الإخبارِ بأنهم أصحابُ النارِ، فلا تكونُ داخلةٍ في جزاء الشرطِ، بل تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ، أو هيَ معطوفةً على الجوابِ فيكونُ محلُّها الجزم؟ قولان،

رُجِّع الأولُ بالاستقلالِ وعدمِ التقييدِ، والثاني بأنَّ عطفَها على الجزاءِ أقربُ من عطفِها على جملةِ الشرطِ، والقربُ مُرَجِّحٌ.

218

قولُه تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} : إنَّ واسمُها، و «أولئك» مبتدأ، و «يَرْجُون» خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّ» ، وهو أحسنُ من كونِ «أولئك» بدلاً من «الذين» و «يرجُون خبرٌ» إنَّ «. وجيء بهذه الأوصافِ الثلاثةِ مترتبةً على حَسَبِ الواقعِ، إذ الإيمانُ أولُ ثم المهاجَرةُ ثم الجهادُ. وأَفْرَدَ الإِيمانَ بموصولٍ وحدَه لأنه أصلُ الهجرةِ والجهادِ، وجَمَعَ الهجرةَ والجهادَ في موصولٍ واحدٍ لأنَّهما فَرْعانِ عنه، وأتى بخبرِ» إنَّ «اسمَ إشارة لأنه متضمِّنٌ للأوصافِ السابقةِ. وتكريرُ الموصولِ بالنسبةِ إلى الصفاتِ لا الذواتِ، فإنَّ الذوات متحدةٌ موصوفةٌ بالأوصافِ الثلاثةِ، فهو من بابِ عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض والموصوفُ واحدُ. ولا تقولُ: إنَّ تكريرَ الموصولِ يَدُلُّ على تَغايرِ الذواتِ والموصوفةِ لأنَّ الواقعَ كان كذلك. وأتى ب» يَرْجُون «لِيَدُلَّ على التجدُّدِ وأنهم في كلِّ وقتٍ يُحْدِثُون رجاءً. والمهاجَرةُ مُفاعَلَةٌ من الهَجْرِ، وهي الانتقالُ من أرضِ إلى أرضٍ، وأصلُ الهجرِ التركُ. والمجاهدةُ مفاعلةٌ من الجُهْدِ. وهو استخراجُ الوُسْع وبَذْلُ المجهود، والإِجهادُ: بَذْلُ المجهودِ في طَلَبِ المقصودِ، والرجاءُ: الطمعُ، وقال الراغب: وهو ظَنُّ يقتضي حصولَ ما فيه مَسَرَّةٌ، وقد يُطْلَقُ على الخوفِ، وأنشد: 940 - إذا لَسَعَتْه النحلُ لَم يَرْجُ لَسْعَها ... وخالَفَها في بَيْتِ نُوبٍ عَواسلِ

أي: لم يخف/، وقال تعالى: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 7] أي: لا يَخافون، وهل إطلاقُه عليه بطريقِ الحقيقةِ أو المجازِ؟ فزعم قومٌ أنَّه حقيقةٌ، ويكونُ من الاشتراك اللفظي، وزعم قومٌ أنه من الأضدادِ، فهو اشتراكٌ لفظي أيضاً. قال ابنُ عطية:» وليس هذا بجيدٍ «. يعني أن الرجاء والخوفَ ليسا بضدين إذ يمكنُ اجتماعُهما، ولذلك قال الراغب: - بعد إنشادِه البيتَ المتقدم -» ووجْهُ [ذلك] أن الرجاءَ والخوفَ يتلازمان «، وقال ابن عطية:» والرجاءُ أبداً معه خوفٌ، كما أن الخوفَ معه رجاءٌ «. وزعم قومٌ أنه مجازٌ للتلازمِ الذي ذكرناه عن الراغب وابنِ عطية. وأجاب الجاحظُ عن البيتِ بأنَّ معناه لَم يَرْجُ بُرْءَ لَسْعِها وزواله فالرجاءُ على بابه» . وأمَّا قولُه: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يَرْجُون ثوابَ لقائِنا، فالرجاءُ أيضاً على بابِه، قاله ابنُ عطية. وقال الأصمعي: «إذا اقترن الرجاءُ بحرفِ النفي كان بمعنى الخوفِ كهذا البيتِ والآيةِ. وفيه نظرٌ إذ النفيُ لا يُغَيِّر مدلولاتِ الألفاظِ. وكُتبت» رحمة «هنا بالتاءِ: إمَّا جرياً على لغةِ مَنْ يَقِفُ على تاءِ التأنيث بالتاءِ، وإمَّا اعتباراً بحالِها في الوصلِ، وهي في القرآن في سبعةِ مواضعَ كُتبت في الجميع تاءً، هنا وفي الأعراف: {إِنَّ رَحْمَةَ الله} [الأعراف: 56] ، وفي هود: {رَحْمَةُ الله

وَبَرَكَاتُهُ} [هود: 73] ، وفي مريم: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [مريم: 2] ، وفي الروم: {فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله} [الروم: 50] ، وفي الزخرف: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ. . . وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [الزخرف: 32] .

219

قوله تعالى: {عَنِ الخمر والميسر} : الخمرُ: المُعْتَصَرُ من العِنَبِ إذا غَلى وقَذَفَ بالزَّبَدِ، ويُطْلَقُ على ما غلى وقَذَف بالزَّبَد من غيرِ ماءِ العنب مجازاً. وفي تسميِتها «خمراً» أربعةُ أقوال، أحدُها: - وهو المشهورُ - أنها سُمِّيتْ بذلك لأنهَا تَخْمُر العقلَ أي تستُرُه، ومنه: خِمارُ المرأة لسَتْرِهِ وَجْهَها، و: «خامِري حَضاجِرُ، أتَاك ما تُحَاذِرُ» يُضْرَبُ للأحمقِ، وحضاجرُ عَلَمٌ للضبُع، أي: استتر عن الناس. ودخَل في خِمار الناس وغِمارهم. وفي الحديث: «خَمِّروا آنيتَكم» ، وقال: 941 - ألا يا زيدُ والضحاكَ سِيرا ... فَقَدْ جاوَزْتُما خَمَرَ الطرِيقِ أي: ما يَسُْرُكما من شجرٍ وغيرِه. وقال العَّجاج يصف مسير جيشٍ ظاهر:

942 - في لامعِ العِقْبَانِ لا يَمْشِي الخَمَرْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والثاني: لأنها تُغَطَّى حتى تُدْرَكَ وتشتدَّ، ومنه «خَمِّروا آنيتَكم» والثالث: - قال ابنُ الأنباري - لأنها تخامِرُ العقلَ أي: تخالِطُه، يقال: خامره الداءُ أي: خالَطَه. والرابع: لأنها تُتْرَكُ حتى تُدْرَكَ، ومنه: «اختمر العجينُ» أي: بَلَغَ إدراكُه، وخَمَّر الرأيَ أي: تركَه حتى ظهرَ له فيه وجهُ الصوابِ، وهذه أقوالٌ متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال كلِّها تكونُ الخمرُ في الأصل مصدراً مراداً به اسمُ الفاعلِ أو اسمُ المفعولِ. والمَيْسِرُ: القِمار، مَفْعِل من اليُسْر، يقال: يَسَرَ يَيْسِر. قال علقمة: 943 - لو يَيْسِرون بخيلٍ قد يَسَرْتُ بها ... وكلُّ ما يَسَرَ الأقَوامُ مَغْرومُ وقال آخر: 944 - أقولُ لهم بالشِّعْبِ إذ يَيْسِرونَني ... ألم تَيْئَسوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ وفي اشتقاقِه أربعةُ أقوال، أحدُها: من اليُسْر وهو السهولةُ، لأنَّ أَخْذَه سهل. الثاني: من اليَسار وهو الغنى، لأنه يَسْلُبه يساره، الثالثة: مِنْ يَسَر لي كذا أي: وَجَب، حكَاه الطبري عن مجاهد. وردَّ ابنُ عطية عليه. الرابع: من يَسَر إذا جَزَر، والياسرُ الجازرُ، وهو الذي يُجَزِّىء الجَزُور أجزاءً. قال ابن عطية: «وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً لأنَّها موضعُ

اليُسْرِ، ثم سُمِّيت السهامُ مَيْسِراً للمجاورة» واليَسَرُ: الذي يَدْخُل في الضربِ بالقِدَاح، ويُجْمع على أَيْسار، وقيل، بل «يُسَّر» جمع ياسِر كحارِس وحُرَّس وأَحْراس. وللميسر كيفيةٌ، ولسهامه - وتُسَمَّى القِداحَ والأزلامَ أيضاً - أسماءٌ لا بُدَّ من ذِكْرها لتوقَّفِ المعنى عليها. فالكيفيةُ أنَّ لهم عشرةَ أقداح وقيل أحدَ عشرَ، لسبعةٍ منها حظوظٌ، وعلى كل منها خطوطٌ، فالخطُّ يقدِّرُ الحَظَّ، وتلك القداحُ هي: الفَذُّ وله سهمٌ واحد، والتَّوْءَمُ وله اثنان، والرقيبُ وله ثلاثةُ، والحِلْسُ وله أربعةٌ، والنافِسُ وله خمسةٌ، والمُسْبِلُ وله ستةٌ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خطوطَ عليها وهي المَنِيح والسَّفِيح والوَغْدُ، ومَنْ زاد رابعاً سمَّاه المُضَعَّفُ. وإنما كَثُروا بهذه الأغفالِ ليختلطَ على الحُرْضَة وهو الضاربُ، فلا يميلُ مع أحدٍ، وهو رجلٌ عَدْلٌ عندهم، فيجثوا ويلتحِفُ بثوبٍ، ويُخْرِج رأسه، فيجعلُ تلك القداحَ في الرِّبابة وهي الخَريطةُ، ثم يُخَلْخِلُها ويُدْخِلُ يده فيها، ويُخْرِجُ باسم رجلٍ رجلٍ قَدَحاً فَمَنْ خَرَجَ على اسمه قدحٌ: فإنْ كانَ من ذوات السهام فاز بذلك النصيبِ وأخذَه، وإنْ كان من الأغفال غرِّم من الجَزور، وكانوا يفعلون هذا في الشَّتْوة وضيقِ العيش، ويُقَسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، ويفتخرون بذلك، ويسمون مَنْ لم يَدْخُل معهم فيه: البَرَم، والجَزورُ تُقْسَمُ عند الجمهور على عددِ القداحِ فتقسَمُ عشرةَ أجزاء، وعند الأصمعي على عددِ خطوط القداحِ، فتقسم على ثمانيةٍ وعشرين جزءاً. وخَطَّأ ابنُ عطية الأصمعيَّ في ذلك، وهذا عجيبٌ منه، لأنه يُحْتَمل أنَّ العربَ كانت تقسِّمُها مرةً على عشرةٍ ومرةً على ثمانية وعشرين/. وقولُه {عَنِ الخمر} لا بد من حذفِ مضافٍ، إذ السؤالُ عن ذَاتَيْ الخمرِ

والميسرِ غيرُ مُرادٍ. والتقدير. عن حكمِ الخمرِ والميسرِ حِلاًّ، وحُرْمَةً، ولذلك جاء الجوابُ مناسباً لهذا المُقَدَّرِ. قوله: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} الجارُّ خبرٌ مقدمٌ، و «إثمٌ» مبتدأٌ مؤخر، وتقديمُ الخبرِ هنا ليس بواجبٍ وإن كان المبتدأُ نكرةً، لأنَّ هنا مسوغاً آخر، وهو الوصفُ أو العطفُ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ أيضاً، أي: في تعاطِيهما إثمٌ، لأنَّ الإِثمَ ليس في ذاتِهما. وقرأ حمزةُ الكسائي: «كثيرٌ» بالثاء المثلثة، والباقونَ بالباء ثانيةِ الحروفِ. ووجهُ قراءةِ الجمهور واضح، وهو أن الإِثمَ يُوصف بالكِبرَ، ومنه آية {حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] . وسُمِّيت الموبِقات: «الكبائر» ، ومنه قولُه تعالى: {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} [الشورى: 37] ، وشربُ الخمرِ والقمارُ من الكبائرِ، فناسب وصفُ إثمهما بالكِبَر، وقد أجمعَتِ السبعةُ على قوله: «وإثْمهما أكبرُ» بالباء الموحَّدة، وهذه توافقها لفظاً. وأمَّا وجهُ قراءة الأَخَوَين: فإمَّا باعتبارِ الآثمين من الشاربين والمقامرين فلكلِّ واحدٍ إثمٌ، وإما باعتبارِ ما يترتب على تعاطيهما من توالي العقابِ وتضعيفه، وإمّا باعتبارِ ما يترتَّبُ على شُرْبها مِمَّا يصدُر من شاربها من الأقوال السيئة والأفعال القبيحةِ، وإمَّا باعتبار مَنْ يزاولها من لَدُنْ كانت عِنباً إلى أن شُربَتْ، فقد لَعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخمر، ولعن معها عشرةً: بائِعَها ومُبتاعَها، فناسَب ذلك أن يُوصَف إثمُها بالكثرةِ. وأيضاً

فإن قوله: «إثم» مقابلٌ ل «منافع» و «منافع» جمعٌ، فناسَبَ أن تُوصفَ مقابلةً بمعنى الجمعية وهو الكَثْرَةُ. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإِنسانُ في القرآن، وهو أن يَذْكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيفِ القراءة الأخرى كما فعل بعضهُم، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءَتَيْ: «مَلِكَ» و «مالِك» . وقال أبو البقاء: «الأحسنُ القراءةُ بالباء لأنه يُقال: إثمٌ كبير وصغير، ويُقال في الفواحش العظامِ» الكَبائرُ «، وفيما دونَ ذلك» الصغائرُ «وقد قُرىء بالثاءِ وهو جَيدٌ في المعنى، لأن الكثرةَ كِبر، والكثيرَ كبيرٌ، كما أنَّ الصغيرَ حقيرٌ ويَسيرٌ.

220

قوله تعالى: {فِي الدنيا} : فيه خمسةُ أوجهٍ، أظهرُها: أن يتعلَّقَ بيتفكرون على معنى يتفكرون في أمرهما، فيأخذونَ ما هو الأصلحُ، ويُؤْثِرُون ما هو أبقى نفعاً. والثاني: أن يتعلَّقَ ب «يبيِّن» ويُرْوَى معناه عن الحسن، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يُقَدَّر مضافٍ، أي: في أمرِ الدنيا والآخرة، ويُحْتَمل ألاَّ يقدَّرَ، لأنَّ بيانَ الآيات وهي العلاماتُ يظهرُ فيها. وجعل بعضُهم قولَ الحسن من التقديم والتأخير، ثم قال: «ولا حاجة لذلك، لحَمْلِ الكلام على ظاهره، يعني مِنْ تعلق في الدنيا ب» تتفكرون «. وهذا ليس من التقديم والتأخير في شيء، لأنَّ جملةَ الترجِّي جاريةٌ مَجْرى العلةِ فهي متعلقةٌ بالفعل معنى، وتقديمُ أحدِ المعمولاتِ على الآخرِ لا يقال فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، ويُحْتَمل أن تكونَ اعتراضيةً فلا تقديمَ ولا تأخيرَ. والثالث: ان تتعلَّق بنفسِ» الآيات «لِما فيها من معنى الفعل وهو ظاهرُ قول مكي فيما فهمه عنه ابنُ عطية. قال مكي:» معنى الآيةِ أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدنيا والآخرةِ يَدُلُّ عليها وعلى منزِلَتِها لعلهم يتفكرون في تلك الآيات «قال ابن عطية:» فقولُه: «في الدنيا» يتعلَّقُ على هذا التأويلِ بالآيات «وما قاله عنه ليس بظاهرٍ، لأنَّ شرحَهُ الآيةُ لا يقتضي تَعَلُّقَ الجار بالآيات. ثم إن عنى ابنُ عطية بالتعلُّق التعلُّق/ الاصطلاحي، فقال الشيخ:»

فهو فاسدٌ، لأنَّ «الآيات» لا تعملُ شيئاً البتة، ولا يتعلَّقُ بها ظرفٌ ولا مجرورٌ «وهذا من الشيخ فيه نظرٌ، فإن الظروفَ تتعلَّقُ بروائح الأفعال، ولا شك أن معنى الآياتِ العلاماتُ الظاهرةُ فيتعلَّق بها الظرفُ على هذا. وإن عنى التعلقَ المعنويَّ وهو كونُ الجارِّ من تمام معنى» الآيات «فذلك لا يكون إلا إذا جَعَلْنا الجارَّ حالاً من» الآيات «ولذلك قَدَّرَها مكي نكرةً فقال:» يبيِّن لهم آياتٍ في الدنيا «لِيُعْلِمَ أنها واقعةً موقعَ الصفةِ لآيات، ولا فرقَ في المعنى بين الصفةِ والحالِ فيما نحن بصدده، فعلى هذا تتعلق بمحذوفٍ لوقوعِها صفةً. الرابع: أن تكونَ حالاً من» الآيات «كما تقدَّم تقريرُه الآن. الخامسُ: أن تكون صلةً للآيات فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً، وذلك مذهبُ الكوفيين فإنهم يَجْعَلُون من الموصولات الاسمَ المعرَّفَ بأَل وأنشدوا: 946 - لَعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ ف» البيت «عندهم موصول، ولتقرير مذهبِهم والردِّ عليه موضعٌ هو أليقُ به. والتَّفكُّر: تَفَعُّل من الفِكْر، والفِكْر: الذهنُ، فمعنى تفكَّر في كذا: أجال ذهنَه فيه وردَّده. قوله: {إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} » إصلاحٌ «مبتدأ، وسَوَّغَ الابتداءَ به أحدُ شيئين: إمَّا وصفُه بقوله» لهم «، وإمَّا تخصيصُه بعملِه فيه، و» خيرٌ «خبرُه. و «إصلاحٌ» مصدرٌ حُذِفَ فاعلُهُ، تقديره: إصلاحُكم له، فالخيريَّةُ للجانبين أعني جانبَ المُصْلِحِ والمُصْلَح له، وهذا أَوْلى من تخصيصِ أحدِ الجانبين

بالإصلاح كما فَعَلَ بعضُهم. قال أبو البقاء: «فيجوزُ أن يكونَ التقديرُ:» خيرٌ لكم «، ويجوز أن يكونَ:» خيرٌ لهم «أي إصلاحُهم نافعٌ لكم» . و «لهم» : إمَّا في محلِّ رفعٍ على أنه صفةً ل «خير» ، أو نصبٍ على أنه متعلق به معمول له كما تقدم. وأجاز أبو البقاء فيه أن يكونَ حالاً من «خير» قُدِّم عليه، وكان أصلُه صفةً فلما قُدِّم انتصَبَ حالاً عنه، واعتذَرَ عن الابتداءِ بالنكرةِ حينئذٍ بأحد وجهينِ: إمَّا لأنَّ النكرةَ في معنى الفعلِ تقديرُه: أَصْلِحُوهم، وإمَّا بأنَّ النكرةَ والمعرفة هنا سواءٌ لأنَّه جنسٌ. قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} الفاء جوابُ الشرط، و «إخوانُكم» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: فهم إخوانُكم. والجملةُ ي محلِّ جزمٍ على جوابِ الشرط. والجمهورُ على الرفع، وقرأ أبو مُجْلز: «فإخوانَكم» نصباً بفعل مقدر، أي: فقد خالَطْتُم إخوانَكم. والجملةُ الفعلية أيضاً في محلِّ جزمٍ، وكأن هذه القراءة لم يَطَّلِعْ عليها أبو البقاء، فإنه قال: «ويجوزُ النصبُ في الكلام، أي: فقد خالطْتُم إخوانَكم» . وقوله: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} تقدَّم الكلام عليه في قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ} [البقرة: 143] ، والمُفْسِدُ والمُصْلِحُ جنسان هنا،

وليس الألف واللام لتعريفِ المعهود، وهذا هو الظاهرُ. وقد يجوز أن تكونَ للعهدِ أيضاً. وفي قوله: {تُخَالِطُوهُمْ} التفاتٌ من ضميرِ الغيبةِ في قولِهِ: «ويسألونك» إلى الخطابِ لينبِّه السامعَ إلى ما يُلْقَى إليه. ووقََع جوابُ السؤالِ بجملتين: إحداهما من مبتدأٍ وخبرٍ، وأُبْرِزَتْ ثبوتيةً مُنَكَّرَة المبتدإِ لتدلَّ على تناولِهِ كلَّ إصلاح على طريقِ البدليةِ، ولو أُضيفَ لَعَمَّ أو لكانَ معهوداً في إصلاحٍ خاص، وكلاهُما غيرُ مرادٍ، إمَّا العمومُ فلا يُمْكِنُ، وأمَّا المعهودُ فلا يتناولُ غيره؛ فلذلك أُوثر التنكيرُ الدالُّ على عمومِ البدل، وأُخْبِرَ عنه ب «خير» الدالِّ على تحصيل الثواب، ليتبادَرَ المسلمُ إليه. والآخرُ من شرطٍ وجزاءٍ، دالّ على جوازِ الوقوعِ لا على طلبه وندبيَّتِهِ. قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله} مفعولُ «شاءَ» محذوفٌ، أي: إعناتَكم. وجوابُ لو: «لأعنَتَكم» ، وهو الكثيرُ أعني ثبوتَ اللامِ في الفعلِ المُثْبَتِ. والمشهورُ قطعُ همزةِ «لأعنتكم» لأنها همزةُ قطعٍ. وقرأ البزي عن ابن كثير في المشهور بتخفيفِها بينَ بينَ، وليس من أصلِهِ ذلك، ورُوِيَ سقوطُها البتة، وهي كقراءة: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] شذوذاً وتوجيهاً. ونسبَ بعضُهم هذه القراءة إلى وَهْم الراوي، باعتبارِ أنه اعتقدَ في سماعِهِ التخفيفَ إسقاطاً، لكنَّ الصحيحَ ثبوتُها شاذةً. والمخالطةُ: الممازَجَةُ. والعَنَتُ: المشقةُ، ومنه «عَقَبَةٌ عَنَوُتٌ» ، أي: شاقةُ المَصْعَدِ.

221

قولُه تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ} : الجمهورُ على فتح تاءِ المضارعةِ، وقرأ الأعمش بضمِّها من: أنكَحَ الرباعي، فالهمزةُ فيه للتعديةِ، وعلى هذا فأحدُ المفعولين محذوفٌ، وهو المفعولُ الأولُ لأنه فاعلٌ معنىً تقديرُهُ: ولا تُنْكِحُوا أنفسَكم المشركاتِ. والنكاحُ في الأصلِ عند العرب: لزومُ الشيءِ والإِكبابُ عليه، ومنه: «نَكَح المطرُ الأرضَ» ، حكاه ثعلب عن أبي زيد وابن الأعرابي. وقيل: أصلُه المداخَلَةُ ومنه: تناكَحَت الشجر: أي تداخلت أغصانُها، ويُطْلق النكاح على العَقْد كقوله: 947 - ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها ... حرامٌ عليك فانِكحَنْ أو تأبَّدا أي: فاعقد أو توحَّشْ وتجَنَّبِ النساء. ويُطْلَقُ أيضاً على الوَطْءِ كقوله: 948 - البارِكينَ على ظهورِ نِسْوَتِهِمْ ... والناكحينَ بِشَطْءِ دجلةَ البَقَرَا وحكى الفراء «نُكُح المرأةِ» بضمِّ النونِ على بناء «القُبُل» و «الدُّبُر» ، وهو بُضْعُها، فمعنى قولِهم: «نَكَحَها» أي أصابَ ذلك الموضعَ، نحو كَبَده: أي أصابَ كَبِدَه، وقلَّما يقال: ناكحها، كما يقال باضَعَهَا. وقال أبو علي: «فَرَّقَتِ العربُ بين العَقْد والوطء بفرق لطيف، فإذا قالوا:» نكح فلانٌ فلانةً «أو ابنةَ فلان أرادوا عقدَ عليها، وإذا قالوا: نَكَحَ

امرأتَه أو زوجته فلا يريدون غير المجامعَةِ وهل إطلاقُهُ عليهما بطريق الحقيقةِ فيكونُ من باب الاشتراكِ أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظاهر: الثاني: فإنَّ المجازَ خيرٌ من الاشتراكِ، وإذا قيلَ بالحقيقةِ والمجاز فإنهما حقيقة: ذهب قومٌ إلى أنه حقيقةٌ في الوطء وذهبَ قومٌ إلى العكس. قال الراغب:» أصلُ النكاحِ للعقدِ ثم استُعِيرَ للجِماع، ومُحالٌ أن يكونَ في الأصلِ للجماعِ ثم استُعير للعقد، لأنَّ أسماءَ الجماعِ كلَّها كناياتٌ لاستقباحِهم ذِكْرَه كاستقباحِهم تعاطِيه، ومُحالٌ أن يستعير مَنْ لا يقصِدُ فُحشاً اسمَ ما يستفظعونه لِما يستحسنونه. قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] قوله: {حتى يُؤْمِنَّ} / «حتى» بمعنى «إلى» فقط، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار «أَنْ» أي: إلى أن يؤمنَّ، وهو مبنيٌّ على المشهورِ لاتصاله بنونِ الإِناث، والأصل: يُؤْمِنْنَ، فَأُدْغِمَت لامُ الفعلِ في نون الإِناث. قوله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ} سَوَّغَ الابتداءَ ب «أَمَة» شيئان: لامُ الابتداء والوصفُ «وأصل» أمة «: أَمَوٌ، فَحُذِفَت لامُها على غيرِ قياسٍ، وعُوِّضَ منها تاءُ التأنيث ك» قُلَة «و» ثُبَة «يدلُّ على أنَّ لامَها واوٌ رجوعُها في الجمع. قال الكلابي:

949 - أمَّا الإِماءُ فلا يَدْعُونني ولداً ... إذا تداعى بنون الإِمْوانِ بالعارِ ولظهورها في المصدرِ أيضاً، قالوا: أَمَةٌ بيِّنة الأُمُوَّة وأَقَرَّت له بالأُمُوَّة. وهل وزنُها» فَعَلة «بتحريكِ العين أو» فَعْلة «بسكونها؟ قولان، أظهرُهُما الأولُ، وكان قياسُها على هذا أن تُقْلَبَ لأمُها ألِفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها كفتاة وقَناة، ولكنْ حُذِفَتْ على غيرِ قياس. والثاني: قال به أبو الهيثم، فإنه زَعَمَ أنَّ جَمْعَ الأمة أَمْوٌ، وأنَّ وزنَها فعْلَة بسكون العين فيكون مثل نخل ونخلة فأصلها أَمْوَة، فحذفوا لامها إذ كانت حرف لين، فلمَّا جَمَعوها على مثل نَخْلة ونَخْل لَزِمَهُم أن يقولوا: أَمَة وأَم، فكَرهوا أن يَجْعَلُوها حرفين، وكَرِهُوا أن يَرُدُّوا الواوَ المحذوفَةَ لمَّا كانت [آخر] الاسمِ، فقدَّموا الواوَ وَجَعَلُوا ألفاً بين الهمزة والميم فقالوا: أام. وما زعَمه ليس بشيء إذ كان يلزَمُ أن يكونَ الإِعرابُ على الميمِ كما كان على لام «نَخْل» وراء «تمر» ، ولكنه على التاءِ المحذوفَةِ مقدَّرٌ كما سيأتي بيانُهُ. وجُمِعَت على «إمْوان» كما تقدَّم، وعلى إماء، والأصلُ: إماؤٌ، نحو رقبة ورِقاب، فَقُلِبَت الواوُ همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ككساء. وفي الحديث: «لا تَمْنَعُوا إماءَ اللَّهِ مساجدَ الله» وعلى آمِ، قال الشاعر: 950 - تَمْشِي بها رُبْدُ النَّعا ... مِ تَماشِيَ الآمِ الزوافِرْ والأصل «أَأْمُوٌ» بهمزتين، الأولى مفتوحةٌ زائدةٌ، والثانيةُ ساكنةٌ هي فاءُ

الكلمة نحو: أَكَمَةَ وأَأْكُم، فوقعت الواوُ طرفاً مضموماً ما قبلَها في اسمٍ معربٍ ولا نظيرَ له، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً والضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ، فصارَ الاسمُ من قبيلِ المنقوصِ. نحو: غازٍ وقاضٍ، ثم قُلِبَتِ الهمزةُ الثانيةُ ألِفاً لسكونِها بعد أخرى مفتوحةٍ، فتقولُ: جاء آمٌ ومررت بآمٍ ورأيت آمياً، تقدِّرُ الضمة والكسرة وتُظْهِرُ الفتحةَ، ونظيرُهُ في هذا القلبِ مجموعاً أَدْلٍ وأَجْرٍ جمعُ دَلْو وجَرْو، وهذا التصريفُ الذي ذكرناهُ يَرُدُّ على أبي الهيثم قولَه المتقدمَ، أعني كونَه زعمَ أن آمياً جمع أَمْوَة بسكونِ العينِ، وأنه قُلب، إذ لو كان كذلكَ لكانَ ينبغي أن يُقالَ جاء آمٌ ومررت بآمٍ ورأيت آماً، وجاء الأم ومررتُ بالآم، فَتُعْرَبُ بالحركاتِ الظاهرِةِ. والتفضيلُ في قوله: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكةٍ} : إمَّا على سبيلِ الاعتقادِ لا على سبيلِ الوجودِ، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافعَ أُخْرَوِيَّة ونكاحَ المشركةِ الحرة يشتملُ على منافعَ دنيويةٍ، هذا إذا التزمنا بأن «أَفْعَلَ» لا بد أن يَدُلَّ على زيادةٍ ما وإلاَّ فلا حاجةَ إلى هذا التأويلِ كما هو مذهبُ الفراء وجماعةٌ. وقوله: {مِّن مُّشْرِكَةٍ} يَحْتَمِلُ أن يكونَ «مشركةٍ» صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه مقابِلِهِ أي: مِنْ حرَّةٍ مشركةٍ، أو مدلول عليه بلفظِهِ أي: مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ، على حَسَبِ الخلافِ في قوله: «ولأمةٌ» هل المرادُ المملوكَةُ للآدميين أو مطلقُ النساء لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؟ وكذلك الخلافُ في قولِهِ: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} والكلامُ عليه كالكلامُ على هذا. قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} وقوله «ولو أَعْجَبَكم» هذه الجملةُ في محلِّ نصبِ على الحالِ، وقد تقدَّم أنَّ «لو» هذه في مثل هذا التركيبِ شرطيةٌ بمعنى «إنْ» نحو: «رُدُّوا السائلَ ولو بظَلْفٍ مُحْرقٍ» ، وأنَّ الواوَ للعطفِ على حالٍ

محذوفةٍ، التقديرُ: خيرٌ من مشركةٍ على كلِّ حالٍ، ولو في هذه الحال، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأحوالِ، وأنَّ ما بعدَ «لو» هذه إنما يأتي وهو مُنافٍ لِما قبلَه بوجهٍ ما، فالإِعجابُ منافٍ لحكمِ الخيريةِ، ومقتضٍ جوازَ النكاح لرغبةِ الناكحِ فيها. وقال أبو البقاء: «لو» هنا بمعنى «إنْ» ، وكذا كُلُّ موضعٍ وقع بعد «لو» الفعلُ الماضي، وكان جوابُها متقدماً عليها، وكونُها بمعنى «إنْ» لا يُشْتَرَطُ فيه تقدُّمُ جوابِها، ألا ترى أنَّهم قالوا في قولِهِ تعالى: {لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] إنها بمعنى «إنْ» مع أنَّ جوابَها وهو «خافوا» متأخِّرٌ عنها، وقد نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النساء قال في خافوا: «وهو جوابُ» لو «ومعناها» إنْ «. قوله: {والمغفرة} الجمهورُ على جَرَّ» المغفرة «عطفاً على» الجنة «و» بإذنه «متعلِّقٌ بيدعو، أي: بتسهيلهِ. وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَتِ» المغفرة «على الجنة: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد: 21] {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] ، وهذا هو الأصل لأنَّ المغفرةَ سببٌ في دُخُولِ الجنَّةِ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلَةِ، فإنَّ قبلَها» يدعو إلى النار «، فقدَّم الجنة ليقابِلَ بها النارَ لفظاً، ولتشُّوقِ النفوسِ إليها حين ذَكَرَ دعاءَ اللَّهِ إليها فأتى بالأَشْرَفِ. وقرأ الحسن» والمغفرةُ بإذنِهِ «على الابتداءِ والخبرِ، أي: حاصلةٌ بإِذنِهِ.

222

قولُه تعالى: {عَنِ المحيض} : مَفْعِلِ من الحَيْضِ، ويُراد به المصدرُ والزمانُ والمكانُ، تقولُ: حاضَتِ المرأَةُ تحيضُ حَيْضاً، ومَحِيضاً ومَحاضاً، فَبَنَوْه على مَفْعِل ومَفْعَل بالكسرِ والفتحِ. واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ اليائيها ثلاثةَ مذاهبَ، أحدُها: أنه كالصحيح، فتُفْتَحُ عينُه مراداً به المصدرُ، وتُكْسَرُ مراداً به الزمانُ والمكانُ. والثاني: أَنْ يُتَخَيَّرُ بين الفتحِ والكسر في المصدرِ خاصةً، كما جاء هنا: المَحيضُ والمَحاضُ، ووجهُ هذا القول أنه كَثُر هذان الوجهان: أعني الكسر والفتح فاقتاسا. والثالث: أن يُقْتَصَرَ على السماع، فيما سُمِع فيه الكسرُ أو الفتحُ لا يَتَعَدَّى. فالمحيضُ المرادُ به المصدرُ ليس بمقيس على المذهبين الأول والثالث، مقيسٌ على الثاني. ويقال: امرأَةٌ حائِضٌ ولا يُقال: «حائِضَةٌ» إلا قليلاً، أنشدَ الفراء: 951 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كحائِضَةٍ يُزْنَى بها غيرِ طاهرِ والمعروفُ أن النَّحويين فَرَّقوا بين حائض وحائضة: فالمجرد من تاء التأنيث بمعنى النَسَب أي: ذاتُ حيضٍ، وإنْ لم يكن عليها حَيْضٌ، والملتبسُ بالتاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعرِ ذلك، وهكذا كلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمؤنثِ نحو: طامِث ومُرْضِع وشبهِهما/. وأصلُ الحَيْض السَّيَلانُ والانفجار، يُقال: حاضَ السيلُ وفاضَ، قال الفراء: «حاضَت الشَجرةُ أي: سالَ صَمْغُها» ، قال الأزهري: «ومن هذا

قيل للحوضِ: حَيْضٌ، لأنَّ الماءَ يسيل إليه» والعربُ تُدْخِلُ الواو على الياءِ، والياءَ على الواو، لأنهما من حَيَّز واحدٍ وهو الهواء. والظاهرُ أن المحيض في هذه الآية يُراد به المصدرُ وإليه ذهب الزمخشري وابن عطية، قال ابن عطية: «والمحيضُ مصدرٌ كالحيضِ، ومثله:» المقيل «مِنْ قال يَقيل، قال الراعي: 952 - بُنِيَتْ مَرافِقُهُنَّ فوقَ مَزَلَّة ... لا يَسْتَطِيعُ بها القُرادُ مَقيلا وكذلك قال الطبري:» إنَّ المحيضَ اسمُ كالمعيش اسمُ العيشِ «وأنشد لرؤبة: 953 - إليك أشكو شدَّة المعيشِ ... ومَرَّ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي وقيل: المَحيضُ في الآية المرادُ به اسمُ موضعِ الدم وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً، ويؤيِّد الأول قولُه: {قُلْ هُوَ أَذًى} . وقد يجاب عنه بأنَّ ثَمَّ حذفَ مضافٍ أي: هو ذو أذىً، ويؤيِّدُ الثانيَ قولُه: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} . ومَنْ حَمَلَه على المصدر قَدَّر هنا حذف مضافٍ أي: فاعتزلوا وَطْءَ النساءِ في زمانِ الحَيْضِ، ويجوزُ أن يكونَ المحيضُ الأولُ مصدراً والثاني مكاناً. وقوله: {هُوَ أَذَى} فيه وجهان: أحدُهما قالَه أبو البقاء:» أن يكونَ

ضميرَ الوطءِ الممنوعِ «وكأنه يقول: إن السياقَ يَدُلُّ عليه وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ. الثاني: أن يعودَ على المحيض، قال أبو البقاء:» ويكون التقديرُ: «هو سببُ أذىً» ، وفيه نظرٌ، فإنَّهم فَسَّروا الأذى هنا بالشيء القذِرِ، فإذا أَرَدْنا بالمحيضِ نَفْسَ الدمِ كانَ شيئاً مُسْتَقْذَراً فلا حاجة إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ. وجاء: {وَيَسْأَلُونَكَ} ثلاثَ مرات بحرفِ العطفِ بعدَ قولِه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر} [البقرة: 21] وهي: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة: 219] ، و {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة: 320] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض} [البقرة: 222] . وجاء «يَسْأَلُونك» أربعَ مراتٍ من غيرِ عطفٍ. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} [البقرة: 189] {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام} [البقرة: 217] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر} [البقرة: 219] . فما الفرقُ؟ والجوابُ: أنَّ السؤالاتِ الأواخرَ وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ فَجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ وهو الواوُ، أمَّا السؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ، وجيء بها وحدها. قوله: {حتى يَطْهُرْنَ} «حتى» هنا بمعنى «إلى» والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنون الإِناثِ. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بتشديد الطاءِ والهاءِ، والأصلُ:

يَتَطَهَّرْنَ، فَأُدغم. والباقون: «يَطْهُرْنَ» مضارعُ طَهُر. قالوا: وقراءةُ التشديد معناها يَغْتَسِلْنِ. وقراءةُ التخفيف معناها يَنْقَطِعُ دَمُهُنَّ. ورجَّح الطبري قراءة التشديدِ وقال: «هي بمعنى يَغْتَسِلْنَ لإِجماع الجميع على تحريمِ قُرْبان الرجالِ امرأتَه بعد انقطاع الدم حتى تَطْهُرَ، وإنما الخلافُ في الطُهْر ما هو؟ هل هو الغُسْلُ أو الوضوءُ أو غَسْل الفرجِ فقط؟» قال ابنُ عطية: «وكُلٌّ واحدة من القراءتين تَحْتِمَل أن يُرادَ بها الاغتسالُ بالماءِ، وأن يُرادَ بها انقطاع الدمِ وزوالُ أذاه. قال:» وما ذَهَبَ إليه الطبري مِنْ أنَّ قراءَة التشديدُ مُضَمَّنُها الاغتسالُ، وقراءةُ التخفيف مُضَمَّنُها انقطاعُ الدم أمرٌ غيرُ لازم، وكذلك ادعاؤه الإِجماع «وفي رَدَّ ابنِ عطية عليه نظرٌ؛ إذ لو حَمَلْنَا القراءتين على معنىً واحدٍ لَزِم التكرارُ. ورجَّح الفارسي قراءةَ التخفيف لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمِثَ وهو ثلاثي. قوله: {مِنْ حَيْثُ} في» مِنْ «قولان، أحدُهما: أنُّها لابتداءِ الغايةِ، أي: من الجهة التي تنتهي إلى موضِعْ الحَيْض. والثاني: أن تكونَ [بمعنى] » في «، أي: في المكان الذي نُهيْتُم عنه في الحَيْض. ورَجَّح هذا بعضُهم بأنه ملائمٌ لقولِه: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} ، ونَظَّر بعضُهم هذه الآية بقولِهِ: {لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} [الجمعة: 9] {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40] أي: في يوم الجمعة

وفي الأرضِ. قال أبو البقاء:» وفي الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه: أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيانِ منه «يعني أنَّ المفعولَ الثاني حُذِفَ للدلالةِ عليه. وكَرَّر قولَه» يحب «دلالةً على اختلافِ المقتضي للمحبَّة فتختلفُ المحبَّةُ.

223

قولُه تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} : مبتدأٌ وخبرٌ. ولا بدَّ من تأويلٍ ليصحَّ الإِخبارُ عن الجثةِ بالمصدرِ. فقيل: على المبالغة، جُعِلوا نفس الفعل. وقيل: أراد بالمصدر اسم المفعول. وقيل: عَلى حَذْفِ مضافٍ من الأولِ، أي: وَطْءُ نسائِكم حَرْثٌ أي: كحَرْث، وقيل: من الثاني أي: نساؤكم ذواتُ حَرْثٍ. و «لكم» في موضِع رفعٍ لأنه صفةٌ لحَرْث، فيتعلَّق بمحذوفٍ. وإنما أفرد الخبرَ والمبتدأُ جمعٌ لأنه مصدرٌ والأفصحُ فيه الإِفرادُ والتذكيرُ حينئذٍ. قوله: {أنى شِئْتُمْ} «أنَّى» ظرفُ مكانٍ، ويُسْتَعْمَلُ شرطاً واستفهاماً بمعنى «متى» ، فيكونُ ظرفَ زمانٍ ويكونُ بمعنى كيف، وبمعنى مِنْ أين، وقد فُسِّرت الآية الكريمةُ بكلٍّ من هذه الوجوهِ. وقال النحويون: «أنَّى» لتعميم الأحوال. وقال بعضُهم: إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمرٍ له جهاتٌ، فهي على هذا أعمُّ مِنْ «كيف» ومِنْ «أين» ومِنْ «متى» . وقالوا: إذا كانت شرطيةً فهي ظرفُ مكانٍ فقط. واعلم انها مبنيةٌ لتضمُّنها: إمَّا معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهامِ، وهي لازمةُ النصب على الظرفيةِ. والعاملُ فيها هنا قالوا: الفعلُ قبلها وهو: «فأتوا» قال الشيخ: «وهذا لا يَصِحُّ، لأنَّها: إمَّا/ شرطيةٌ أو استفهاميةٌ، لا جائزٌ أن تكونَ شرطيةً لوجهين، أحدُهما: من جهة المعنى وهو أنَّها إذا كانَتْ شرطاً كانت ظرف مكانٍ كما تقدَّم، وحينئذ يقتضى الكلامُ الإِباحةَ في غير القُبُل وقد ثبت تحريمُ ذلك. والثاني: من جهةِ الصناعةِ. وهو أنَّ اسمَ الشرط لا يعملُ فيه ما قبله، لأنَّ له صدرَ الكلام، بل يعمل فيه فعلُ الشرط،

كما أنه عاملٌ في فعلِ الشرطِ الجزمَ. ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعملُ فيه ما قبلَه لأنَّ له صدرَ الكلام، ولأنَّ» أنَّى «إذا كانَتْ استفهاميةً اكتفَتْ بما بعدَها من فعلٍ واسم نحو: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101] {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] وهذه في هذه الآية مفتقرةٌ لِما قبلَها كما ترى، وهذا موضعٌ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ إلى تأمُّلٍ ونظرِ. ثم الذي يظهرُ أنها هنا شرطيةٌ ويكونُ قد حُذِف جوابُها: لدلالة ما قبله عليه، تقديرُه: أنَّى شِئْتُم فَأْتُوه، ويكون قد جُعِلَت الأحوالُ فيها جَعْلَ الظروفِ، وأُجْرِيَتْ مُجراها تشبيهاً للحالِ بظرفِ المكانِ ولذلك تُقَدَّرُ ب» في «، كما أُجْرِيت» كيف «الاستفهاميةُ مُجْرى الشرطِ في قولِهِ: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} [المائدة: 64] وقالوا: كيف تصنع أصنع، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً، فيكونُ ثَمَّ حَذْفٌ في قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي: كيف يشاء ينفق، وهكذا كلُّ موضعٍ يُشْبِهُه. وسيأتي له مزيدٌ بيانٍ. فإنْ قلتَ: قد أَخْرَجْتَ» أنَّى «عن الظرفيةِ الحقيقيةِ وجعلتَها لتعميمِ الأحوالِ مثل كيف، وقلت: إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرطِ، فهل الفعلُ بعدها في محلِّ جزمٍ اعتباراً بكونِها شرطيةً، أو في محلِّ رفعٍ كما تكونُ كذلك بعد» كيف «التي تُسْتَعْمَل شرطية؟ قلت: تَحْتَمِل الأمرين، والأرجحُ الأولُ لثبوتِ عمل الجزم، لأنَّ غايةَ ما في البابِ تشبيهُ الأحوالِ بالظروفِ للعلاقةِ المذكورةِ، وهو تقديرُ» في «في كلٍّ منهما» . ولم يَجْزِمْ ب «كيف» إلا بعضُهم قياساً لا سماعاً. ومفعولُ «شئتم» محذوفٌ أي: شِئْتُمْ إتيانَه بعد أن يكونَ في المحلِّ المُباح.

قوله: {وَقَدِّمُواْ} مفعولُه محذوفٌ أي: نيَّةَ الولدِ أو نيةَ الإِعفاف وذِكْرَ اللَّهِ أو الخيرِ، كقولِهِ: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} [البقرة: 110] و «لأنفسكم» متعلقٌ بقَدِّموا. واللامُ تحتملُ التعليلَ والتعدي. والهاءُ في «ملاقوه» يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي: ملاقو جزائِه، وأَن تعودَ على مفعولِ «قَدِّموا» المحذوفِ، على حَذْفِ مضافٍ أيضاً أي: ملاقُو جزاءِ ما قَدَّمتم، وأن تعودَ على الجزاءِ الدالِّ عليه مفعولُ «قَدِّموا» المحذوف. والضميرُ في «وبَشِّر» للرسول عليه السلام لِجَرْي ذِكْرِه في قوله: {يَسْأَلُونَكَ} قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلم لا يَحْتَاج أَنْ يُقالَ فيهما تَقدَّم ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما. ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة.

224

قوله تعالى: {لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ} : هذه اللامُ تحتملُ وجهينِ، أحدُهما: أن تكونَ مقويةً لتعديةِ «عُرْضة» تقديرُه: ولا تجعلوا اللَّهَ مُعَدَّاً ومَرْصَدَآً لحَلْفِكم. والثاني: ان تكون للتعليلِ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ أي: لا تَجْعلوه عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمانكم. قوله: {أَنْ تَبَرَّواْ} فيه ستةُ أوجهٍ، أحدُها وهو قولُ الزجاج والتبريزي وغيرهما، أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: أَنْ تَبَرُّوا وتتقوا وتُصْلِحُوا خيرٌ لكم مِنْ أَنْ تجعلوه عُرْضَةً لأَيْمانكم، أو بِرُّكم

أَوْلَى وأَمْثَلُ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاع هذه الجملةِ عمَّا قبلها، والظاهر تعلُّقُها به. الثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على أنها مفعولٌ من أجله، وهذا قولُ الجمهورِ، ثم اختلفوا في تقديرِه، فقيل: إرادةَ أن تَبَرُّوا، وقيل: كراهةَ أن تبروا، قاله المهدوي، وقيل: لترك أَنْ تَبروا، قال المبرد، وقيل: لئلا تبروا: قاله أبو عبيدة والطبري، وأنشدا: 954 -. . . فلا واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أي: لا تهبطُ، فحذف «لا» ومثله: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] أي: لئلا تضِلُّوا. وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ، وذلك أنَّ التقاديرَ التي ذكرتها بعدَ تقديرِ الإِرادة لا يظهرُ معناها، لِما فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِر، بل وقوع الحَلْف مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه: «إنْ حَلَفْتَ بالله بَرَرْتَ» لم يصحَّ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة، فإنه يُعَلِّل امتناعَ الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ، تقول: إنْ حَلَفْتَ لم تَبَرَّ وإنْ لم تَحْلِفْ بَرَرْتَ. الثالث، أنَّها على إسقاطِ حرف الجرِّ، أي: في أَنْ تَبَرُّوا، وحينئذ يَجِيء فيها القولان: قولُ سيبويه والفراء، فتكونُ في محلِّ نصبٍ، وقولُ الخليل والكسائي فتكونُ في محلِّ جرٍّ. وقال الزمخشري: «ويتعلَّقُ» أَنْ

تَبَرُّوا «بالفعلِ أو بالعُرْضَةِ، أي: ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأجلِ أيْمانكم عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا» . قال الشيخ: «وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصلِ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبي، وذلك أنَّ» لأيمانِكم «عنده متعلقٌ بتجعلوا، فوقع فاصلاً بين» عُرْضَة «التي هي العاملُ وبين» أَنْ تَبَرُّوا «الذي هو في أن تبروا، وهو أجنبيٌّ منهما. ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ:» امرُرْ واضربْ بزيدٍ هنداً، وهو غيرُ جائزِ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ/: «جاءني رجلٌ ذو فرسٍ راكبٌ أَبْلَقَ» أي رجلٌ ذو فرسٍ أبلقَ راكبٌ، لِما فيه من الفصلِ بالأجنبي. الرابع: أنها في محلِّ جَرٍّ عطفُ بيان لأَيْمانكم، أي للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوى والإِصلاحِ. قال الشيخ: «وهو ضعيفٌ لِما فيه من جَعْل الأيمان بمعنى المَحْلوف عليه» ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِر مِنْ كَوْنِها بمعنى المَحْلُوف عليه إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ، وهذا بخلافِ الحديثِ، وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا حَلَفْتَ على يمينٍ فرأيت غَيرها خيراً منها» فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة. الخامسُ: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍ على البدلِ من «لأَيْمانكم» بالتأويل

الذي ذكره الزمخشري، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ، فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام. السادس: - وهو الظاهرُ - أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر لا على ذلك الوجه المتقدم، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ، والمتعلَّقُ غيرُ المتعلَّقِ، والتقديرُ: «لأِقْسامِكِم على أَنْ تَبَرُّوا» ف «على» متعلقٌ بإقْسامكم، والمعنى: ولا تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتبدَّلاً لإِقسامكم على البرِّ والقتوى والإِصلاح التي هي أوصافٌ جميلةٌ خوفاً من الحِنْثِ، فكيف بالإِقسام على ما ليس فيه بِرٌّ ولا تقوى ‍!!! . والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنها فُعْلَة بمعنى مَفْعول من العَرْض كالقُطْبَة والغُرْفَة. ومعنى الآية على هذا: لاَ تَجْعَلُوه مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم: فلانٌ عُرْضَةٌ لكذا أي: مُعَرَّضٌ، قال كعب: 955 - من كلِّ نَضَّاخَة الذِّفْرَى إذا عَرِقَتْ ... عُرضَتُها طامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ وقال حبيب: 956 - متى كانَ سَمْعي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ ... وكيفَ صَفَتْ للعاذِلِين عَزائِمي وقال حسان: 957 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... هُمُ الأنصارُ عُرْضَتُها اللِّقاءُ

وقال أوس: 958 - وأَدْمَاءُ مثلُ الفَحْلِ يوماً عَرَضْتُها ... لرحلي وفيها هِزَّةٌ وتقاذُفُ فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا. والثاني: أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ، فيكونُ من: عَرَضَ العُودَ على الاناء فيعترضُ دونَه، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً، ومعنى الآية على هذا النَهْيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ على أنهم لا يَبَرُّون ولا يتقون ويقولون: لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأجلِ حَلْفِنَا. والثالث: أنَّها من العُرْضَة وهي القوة، يقال: «جَمَلٌ عُرْضَةَ للسفرِ» أي قويٌّ عليه، وقال ابن الزبير: 959 - فهذي لأيَّامِ الحروبِ وهذه ... لِلَهْوي وهَذي عُرْضَةٌ لارتحالِنا أي قوةٌ وعُدَّةٌ، ومعنى الآية على هذا: لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البّرِ. والأيمان: جمعُ يمين، وأصلُها العَضْوُ، واستُعْملت في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِين بتصافِحِ أَيْمانهم. واشتقاقُها من اليُمْن. واليمينُ أيضاً اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العضو فينتصبُ على الظرف، وكذلك اليسارُ تقول: زيدٌ يمينَ عمروٍ وبكرٌ يسارَه. وتُجْمَع اليمينُ على أَيْمُن وأَيْمان. وهل المرادُ بالأَيْمَان في الآية القسمُ نفسُه أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان، الأولُ أولى. وقد تقدَّمَ تجويزُ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عن ذلك.

قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} خَتَم بهاتين الصفتين لتقدُّم مناسبتهما، فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسمع، وإرادة البرِ من فِعْلِ القلبِ متعلقةٌ بالعِلْم. وقَدَّم السميع لتقدُّم متعلَّقِه وهو الحَلْفُ.

225

قوله تعالى: {باللغو} : متعلَّقٌ ب «يُؤاخِذُكم» . والباءُ معناها السببيةُ كقولِه تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40] ، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} [النحل: 61] . واللَّغْوُ: مصدرُ لَغا يَلْغو، يقال: لَغا يلغو لَغْواً، مثل غَزا يغزوا غزواً ولَغِي يَلْغَى لَغَىً مثل لَقِيَ يَلْقَى لَقَىً، ومن الثاني قولُه تعالى: {والغوا فِيهِ} واختُلِفَ في اللغُو: فقيل: ما سَبَقَ به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفراء، ومنه قول الفرزدق: 960 - ولَسْتَ بمأخوذٍ بلَغْوٍ تَقُوله ... إذا لم تُعَمِّدْ عاقِدَاتِ العَزائِمِ ويُحْكى أن الحسنُ سُئل عن اللغو وعن المَسْبِيَّة ذاتِ زَوْج، فنهض الفرزدق وقال: «ألم تَسْمَع مَا قُلْتُ، وأنشد: ولستَ بمأخوذ، وقوله: 961 - وذاتِ حليلٍ أَنْكَحَتْها رِماحُنا ... حلالٌ لِمَنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ فقال الحسنُ: ما أذكاك لولا حِنْثُك» . وقد يُطْلَقُ على كل كلامٍ قبيح «لَغْو» .

قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [مريم: 62] وقال: 962 - ورَبِّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ ... عن اللَّغَا ورفَثِ التكلُّمِ وقيل: ما يُطْرَحُ من الكلامِ استغناءً عنه، مأخوذٌ من قولِهِم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولادِ الإِبلِ في الدِيَةَ «لَغْوُ» ومنه: 963 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما أَلْغَيْتَ في الدِّيَة الحُوارا وقيل: هو ما لا يُفْهَمُ، من قولِهم: «لغا الطائرُ» صَوَّت: واللغوُ: ما لَهِجَ به الإِنسانُ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا. قال الراغب: «ولَغِي بكذا: أي لَهج به لَهَج العُصفور بِلَغاه، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فَرقةٌ لغة، لجعلها مشتقةً من لَغِي بكذا أي أولعَ به. وقال ابن عيسى: - وقد ذكر أن اللغةَ ما لا يفيدُ -:» ومنه اللغةُ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ «وقد غَلَّطوه في ذلك. قوله: {في أَيْمَانِكُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبلَه كقولك:» لغا في يمينِه «. الثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من اللغو، وتعرفه من حيث المعنى أنك

لو جعلتَه صلةً لموصولٍ، ووصفْتَ به اللغوَ لصَحَّ المعنى، أي: اللغوُ الذي في أَيْمانِكم. قوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم} وَقَعْت هنا» لكن «بين نقيضَيْنِ باعتبار وجودِ اليمينِ، لأنها لا تَخْلُوا: إمَّا أَنْ لا يقصِدَها القلبُ بل جَرَتْ على اللسانِ وهي اللغُو، وإمَّا أن يقصِدَها وهي المنعقدةُ. قوله {بِمَا كَسَبَتْ} متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه، والباءُ للسببيةِ كما تقدَّم. و» ما «يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مصدريةٌ لتقابِلَ المصدرَ وهو اللغوُ، أي: لا يؤاخِذُكم باللغوِ ولكنْ بالكَسْبِ. والثاني. أنها بمعنى الذي. ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ أي: كَسَبَته، ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى الذي أكثرُ منها مصدريةً. والثالثُ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً والعائدُ/ أيضاً محذوفٌ وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ تقديرُه: ولكنْ يُؤاخِذُكم في أَيْمانكم بما كَسَبَتْ قلوبُكم، فحَذَفَ لدلالةِ ما قبلَه عليه. والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُم إذا عَفَا مع قدرة، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر، وتَثَقَّبَ يَحْلَم بالفتح أي: فسد وتثقَّب قال: 964 - فإنَّك والكتابَ إلى عليٍّ ... كدابِغَةٍ وقد حَلِمَ الأَديمُ وأمَّا «حَلَم» أي رأى في نومِه فبالفتح، ومصدرُ الأولِ «الحِلْم» بالكسر قال الجَعْدي: 965 - ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له ... بوادرُ تَحْمي صَفْوَه أن يُكَدَّرا

ومصدرُ الثاني «الحَلَمُ» بفتحِ اللامِ، ومصدرُ الثَالثِ، «الحُلُم» و «الحُلْم» بضمِّ الحاءِ مع ضمِّ اللامِ وسكونِها.

226

قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ} : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وعلى رأي الأخفش من بابِ الفعلِ والفاعلِ لأنه لا يَشْتَرِط الاعتماد. و «من نسائهم» في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ يتعَلَّقَ بيُؤْلُون، قال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف عُدِّي بمِنْ وهو مُعَدَّى ب» على «؟ قلت: قد ضُمِّنَ في القَسَم المخصوص معنى البُعْد، فكأنه قيل: يَبْعُدُون من نسائِهم مُؤْلين أو مُقْسِمينَ» . الثاني: أنَّ «آلى» يتَعَدَّى بعلى وبمن، قاله أبو البقاء نقلاً عن غيرِه أنهُ يقال: آلى من امرأتِهِ وعلى امرأتِه. والثالث: أنَّ «مِنْ» قائمةٌ مقامَ «على» ، وهذا رأيٌ الكوفيين. والرابع: أنها قائمةٌ مقامَ «في» ، ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: على تَرْكِ وَطْءِ نسائِهم أو في تركِ وطءِ نسائِهم. والخامس: أنَّ «مِنْ» زائدةٌ والتقديرَ: يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزِلوا نساءَهم. والسادسُ: أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفِ، والتقديرُ: والذين يُؤْلُون لهم من نسائِهم تربُّص أربعةِ، فتتعلَّقَ بما يتعلق به «لهم» المحذوفُ، هكذا قَدَّره الشيخ وعَزاه للزمخشري، وفيه نظرٌ، فإنَّ الزمخشري قال: «ويجوزُ أن يُراد: لهم من نسائهم تربُّصُ، كقولك:» لي منك كذا «فقوله» لهم «لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً وهو لفظُ» لهم «إنما أرادَ أَنْ يعلِّق» مِنْ «بالاستقرار الذي تعلَّقَ به» للذين «غايةُ ما فيه أنه أتى بضمير» الذين «تبييناً للمعنى. وإلى هذا المنحى نحا أبو البقاء فإنه قال:» وقيل: الأصلُ «على» ولا يَجُوزُ أن تقومَ «

مِنْ» مقامَ «على» ، فعندَ ذلك تتعلَّقُ «مِنْ» بمعنى الاستقرار، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قولُه «للذين» ، وعلى تقدير تسليمِ أنَّ لَفظةَ «لهم» مقدرةٌ وهي مُرادةٌ فحينئذٍ إنما تكونُ بدلاً من «للذين» بإعادةِ العاملِ، وإلاَّ يبقَ قولُه «للذين يُؤْلُون» مُفْلَتاً. وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ. وأمَّا تقديرُ الشيخِ: «والذين يُؤْلون لهم من نسائهم تربُّصُ» فليس كذلك، لأنَّ «الذين لو جاء كذلك غيرَ مجرورِ باللام سَهُل الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام. ثم قال الشيخ:» وهذا كلَّه ضعيفٌ يُنَزَّه القرآنُ عنه، وإنما يتعلَّق بيُؤْلُون علَى أحدِ وجهين: إمَّا أنْ تكونَ «مِنْ» للسبب، أي يَحْلِفون بسببِ نسائِهم، وإمَّا أَنْ يُضَمَّنَ معنى الامتناع، فيتعدَّى ب «مِنْ» ، فكأنه قيل: للذين يمتنعون من نسائِهم بالإِيلاءِ، فهذان وَجْهان مع الستة المتقدمة، فتكونُ ثمانيةً، وإن اعتَبَرْتَ مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةً. والإِيلاءُ: الحَلْف، مصدرُ آلى يُولي نحو: أَكْرم يُكرِم إكراماً، والأصل: إإلاء، فأُبْدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً لسكونِها وانكسار ما قبلها نحو: «إيمان» . ويقال تَأَلَّى وايتَلى على افْتَعل، والأصلُ: اإتَلْى، فَقُلِبَتْ الثانيةُ لِما تقدَّم. والحَلْفَةُ: يُقال لها الأَلِيَّة والأَلُوَّة والأَلْوَةِ والإِلْوَة، وتُجْمَعُ الأَلِيَّةُ على «ألايا» كعَشِيَّة وعَشايا، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على «ألايا» كرَكُوبة ورَكائب. قال كُثَيِّر عزة: 966 - قليلُ الأَلايا حافظٌ ليمينِه ... إذا صَدَرَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيَّة وأَلايا عند قولِه: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] جمع خطيئة.

والتَّرَبُّصُ: الانتظارُ، وهو مقلوبُ التصبُّر. قال: 967 - تَرَبَّصْ بها رَيْب المنونِ لعلَّها ... تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها وإضافةُ التربُّصِ إلى الأشهرِ فيها قولان، أحدهُما: أنَّه من بابِ إضافةِ المصدر لمفعولِه على الاتساع في الظَّرْفِ حتى صارَ مفعولاً به فأُضيفَ إليه والحالةُ هذه. والثاني: أنه أضيفَ الحَدَثُ إلى الظرفِ من غيرِ اتِّساعِ. فتكونُ الإِضافةُ بمعنى «في» وهو مذهبٌ كوفي، والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: تربُّصُهم أربعةُ أشهرٍ. قوله: {فَآءُوا} ألفُ «فاء» منقلبةٌ عن ياءِ لقولِهم: فاء يفيءُ فَيْئَةً. رجَع. والفَيءُ: الظِلُّ لرجوعِه من بعد الزوال. وقال علقمة: 968 - فقلتُ لها فِيئي فما تَسْتَفِزُّني ... ذَواتُ العيونِ والبنانِ المُخَضَّبِ

227

قوله تعالى: {عَزَمُواْ الطلاق} : في نصبِ «الطلاق» وجهان، أحدُهما: أنه على إسقاطِ الخافضِ، لأنَّ «عزم» يتعدَّى ب «على» ، قال: 969 - عَزَمْتُ على إقامةِ ذي صباحٍ ... لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يسَودُ والثاني: أن تَضَمِّن «عزم» معنى نَوَى، فينتصبَ مفعولاً به. والعَزْم: عَقْدُ القلبِ وتصميمُه: عَزَمَ يَعْزِم عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة، وعَزِيمة وعِزاماً بالكسر. ويستعمل بمعنى القَسَمِ: عَزَمْتُ عليكَ لتَفعلَّنَّ.

والطلاقُ: إحلالُ العَقْدِ، يقال: طَلَقَتْ بفتح اللام - تَطْلُقُ فهي طالِقٌ وطالقَةٌ، قال الأعشى: 970 - أيا جارتا بيني فإنَّكِ طالِقَهْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وحكى ثعلب: «طَلُقت» بالضم، وأنكره الأخفش، والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً أو اسمَ مصدرٍ وهو التطليقُ. قوله: {فَإِنَّ الله} ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، وقال الشيخ: «ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي: فَلْيُوقِعوه. وقرأ عبد الله:» فإن فاؤوا فيهنَّ «وقرأ أبَيّ» فيها «، والضميرُ للأَشْهُرِ. وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطلاقَ إنما تكونُ بعد مضيِّ أربعة الأشهر، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يَرى بمذهبِ أبي حنيفة: وهو أنَّ الفَيْئَة في مدة أربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المقتدِّمَةُ احتاج إلى تأويلِ الآيةِ بما نصُّه.» فإنْ قلت: كيف موقعُ الفاءِ إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّص؟ قلت: موقعٌ صحيحٌ، لأنَّ قولَه: «فإنْ فاؤوا، وإنْ عَزَموا» تفصيلٌ لقولِه: «للذين يُؤْلُون مِنْ نسائِهِم، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّل، كما تقول:» أنَا نزيلُكم هذا الشهرَ فإنْ أَحْمَدْتُكم أقمتُ عندَكم إلى آخرِه، وإلاَّ لم أقُمْ إلاَّ ريثما أتحولُ «. قال الشيخ:» وليس بصحيحٍ، لأنَّ ما مثَّله ليس بنظيرِ الآيةِ، ألا ترى أنَّ المثالَ

فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حالُه، وهو قولُه: «أنا نزيلُكم هذا الشهر» ، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجوابِ الدالِّ على اختلافِ متعلَّقِ/ فعلِ الجزاء، والآيةُ ليسَتْ كذلك، لأنَّ الذين يُؤْلُون ليس مُخْبَراً عنهم ولا مُسْنَداً إليهم حكمٌ، وإنما المحكومُ عليه تربُّصُهم، والمعنى: تربُّص المُؤْلِين أربعةُ أشهر مشروعٌ لهم بعد إيلائِهم، ثم قال: فإنْ فاؤوا وإنْ عَزَموا «فالظاهرُ أنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأسْرِها، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها، لأنهَّ التقييدَ المغايرَ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقولَ:» للضيفِ إكرامُ ثلاثةِ أيامٍ، فإنْ أقامَ فنحن كرماءُ مُؤْثِرُون وإنْ عَزَم على الرحيلِ فله أنْ يَرْحَلَ «فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطينُ مُقَدَّران بعدَ إكرامِه» .

228

قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} : مبتدأٌ وخبرٌ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمرِ أي: ليترَبَّصْنَ، أو على بابها؟ قولان. وقال الكوفيون: إنَّ لَفظَها أمرٌ على تقدير لام الأمرِ، ومَنْ جَعَلَها على بابها قَدَّر: وحكمُ المطلقاتِ أَنْ يتربَّصْنَ، فَحَذَفَ «حكم» مِن الأول و «أنْ» المصدرية من الثاني، وهو بعيدٌ جداً. و «تَرَبَّص» يتعدَّى بنفسِه لأنه بمعنى انتظَر، وهذه الآيةُ تَحتَمِلُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ مفعول التربص محذوفاً وهو الظاهرُ، تقديرُه: يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ، ويكونُ «ثلاثة قروءٍ» على هذا منصوباً على الظرفِ، لأنَّه اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ، والثاني: أن يكونَ المفعولُ هو نفسَ «ثلاثةَ قروءٍ» أي ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قروء. وأمَّا قولُه: {بِأَنْفُسِهِنَّ} فيحتملُ وَجْهَيْن، أحدُهما وهو الظاهرُ: أَنْ يتعلَّق ب «يتربَّصْنَ» ، ويكونُ معنى الباءِ السببيةَ أي: بسبب أنفسِهنَّ: وذِكْرُ الأنفسِ أو الضميرِ المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤْتى بالضميرِ

المتصلِ، لو قيل في نظيرِه: «الهنداتُ يتربَّصْنَ بهنَّ» لم يَجُزْ لئلاَ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمرِ المنفصلِ إلى ضميرِه المتصلِ في غير الأبواب الجائز فيها ذلك. والثاني: أن يكونَ «بأنفسِهِنَّ» تأكيداً للمضمرِ المرفوعِ المتصلِ وهو النونُ، والباءُ زائدة في التوكيد، لأنه يجوزُ زيادتُها في النفسِ والعينِ مؤكَّداً بهما. تقولُ: جاء زيدٌ نفسُه وبنفسِه وعينُه وبعينِه. وعلى هَذا فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتِها. لا يقالُ: لا جائزُ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجِبُ أن تُؤكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ، لأنه لا يُؤَكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنفسِ والعينِ إلاَّ بعد تأكيدِه بالضميرِ المرفوعِ المنفصلِ فيقال: زيد جاء هو نفسُه عينُه، لأنَّ هذا المؤكَّد خَرَج عن الأصلِ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلات، فَخَرَج بذلك عن حكمِ التوابعِ فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التُزِمَ في غيرِه، ويُؤيِّد ذلك قولُهم: «أَحْسِنْ بزيدٍ وأَجْمِلْ» ، أي: به، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريين، والفاعلُ عندَهم لا يُحْذَفُ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرى الفَضَلاتِ بسبب جَرِّه بالحرفِ أو خَرَجَ عن أصلِ بابِ الفاعلِ، فلذلك جازَ حَذْفُه، على أنَّ أبا الحسنِ الأَخفشَ ذَكَر في «المسائل» أنهم قالوا: «قاموا أنفسُهم» من غير تأكيدٍ. وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرْنَ التربُّصَ هُنَّ، لا أنَّ غيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَربُّصَ، ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ. والقُروءُ: جَمْعُ كثرةٍ، ومِنْ ثلاثةٍ إلى عشرةُ يُمَيَّز بجموع القلةِ ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك إلا عند عدم استعمالِ جمعِ قلةٍ غالباً، وههنا فلفظُ جمعِ القلةِ موجودٌ وهو «أَقْراء» ، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمعِ الكثرةِ مع وجودِ جمع القلةِ؟ . فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه لَمَّا جَمَع المطلقاتِ جمعَ القُروء، لأنَّ كَلَّ مطلقةً تترَّبصُ ثلاثةَ أقراءٍ فصارَتْ كثيرةً بها الاعتبارِ.

الثاني: أنه من باب الاتساعِ ووضعِ أحدِ الجمعين موضعَ الآخر. والثالث: أنَّ قروءاً جمعُ قَرْءٍ بفتحِ القافِ، فلو جاءَ على «أَقْراء» لجاءَ على غير القياسِ لأنَّ أَفْعالاً لا يطَّرِدُ في فَعْل بفتح الفاء. والرابع - وهو مذهب المبرد -: أنَّ التقديرَ «ثلاثةً من قروء» ، فَحَذَفَ «مِنْ» . وأجاز: ثلاثة حمير وثلاثةَ كلابٍ، أي: مِنْ حمير ومِنْ كلاب. وقال أبو البقاء: «وقيل: التقديرُ ثلاثة أقراء مِنْ قروء» وهذا هو مذهبُ المبرد بعيِنه، وإنما فسَّر معناه وأَوْضَحَه. والقَرْءُ في اللغةِ قيل: أصلُه الوقتُ المعتادُ تردُّدُهُ، ومنه: قَرْءُ النجمِ لوقتِ طلوعِه وأُفولِه، يقال: «أَقْرأ النجمُ» أي: طَلَع أو أَفَل. [ومنه قيلَ لوقت] هبوبِ الريحِ: «قَرْؤُها وقارِئُها، قال الشاعر: 971 - شَنِئْتُ العَقْر عَقْرَ بني شُلَيْلٍ ... إذا هَبَّتْ لقارِئِها الرِّياحُ أي: لوقتها، وقيل: أصلُه الخروجُ من طُهْرٍ إلى حَيْضٍ أو عكسُه، وقيل: هو مِنْ قولِهم: قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ أي: جَمَعْتُهُ، وهو غَلَطٌ لأنَّ هذا من ذواتِ الياءِ والقَرْءُ مهموزٌ. وإذا تقرَّر ما ذَكَرْتُ لك فاعلمْ أنَّ أهلَ العلمِ اختلفوا في إطلاقِه على الحيضِ والطُّهر: هل هو من بابِ الاشتراكِ اللفظي، ويكونُ من الأضدادِ أو مِنَ الاشتراكِ المعنوي فيكونُ من المتواطِىء، كما إذا أَخَذْنا القَدْرَ المشتركَ: إمَّا الاجتماعَ وإمَّا الوقتَ وإمَّا الخروجَ ونحوَ ذلك. وقَرْءُ المرأةِ لوقتِ حَيْضِها وطُهْرِها، ويُقال فيهما: أَقْرأتْ المرأةُ أي: حاضَتْ أو طَهُرت. وقال

الأخفش: أَقْرَأَتْ أي: صارَتْ ذاتَ حيضٍ، وقَرَأَت بغير ألفٍ أي: حاضَتْ. وقيل: القَرْءُ: الحَيْضُ مع الطهرِ، وقيل: ما بَيْنَ الحَيْضَتين. وقيل: أصلُه الجمعُ، ومنه: قَرأْتُ الماءَ في الحوضِ: جَمَعْتُه، ومنه: قرأ القرآنَ: وقولُهم: ما أَقْرَأَتْ هذه الناقةُ في بطنِها سلاقِط، أي: لم تجمعْ فيه جنيناً، ومنه قولُ عمرو بن كلثوم: 972 - ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدماءَ بِكْرٍ ... هِجانِ اللونِ لَم تَقْرأْ جَنِينَا وعلى هذا إذا أُريد به الحيضُ فلاجتماعِ الدمِ في الرحمِ، وإذا أُريدَ به الطُّهرُ فلاجتماع/ الدم في البدنِ، ولكنَّ القائلَ بالاشتراكِ اللفظي وجَعْلِهما من الأضدادِ هم جمهورُ أهلِ اللسانِ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة. ومن مجيء القَرْء والمرادُ به الطُّهرُ قولُ الأعشى: 973 - أفي كلِّ عامٍ أنتَ جاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لأقْصاها عظيمَ عَزائِكا مُوَرِّثَةً عِزَّاً وفي الحي رفعةً ... لِما ضاعَ فيها مِنْ قُروءِ نِسائكا ومن مجيئِه للحيضِ قولُه: 974 - يا رُبَّ ذي ضِغْن عليَّ فارِضِ ... له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ أي: فسالَ دَمُه كدمِ الحائضِ. ويقال» قُرْء «بالضمِّ نقله الأصمعي، و» قَرْء «بالفتح نقله أبو زيد، وهما بمعنى واحدٍ.

وقرأ الحسن: «ثلاثَةَ قَرْوٍ» بفتحِ القافِ وسكونِ الراءِ وتخفيفِ الواوِ من غير همزٍ: ووجهُها أنه أضافَ العددَ لاسمِ الجنسِ، والقَرْو لغةً في القَرْءِ. وقرأ الزهري - ويُروى عن نافع -: «قُرُوّ» بتشديدِ الواوِ، وهي كقراءةِ الجمهورِ إلا أنه خَفَّفَ فَأَبْدَلَ الهمزةَ واواً وأَدْغَمَ فيها الواوَ قبلها. قوله: {لَهُنَّ} متعلَّقٌ ب «يَحِلُّ، واللامُ للتبليغِ، كهي في» قُلْتُ لك «. قوله: {مَا خَلَقَ} في» ما «وجهان، أظهرُهما: أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي، والثاني: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، وعلى كِلا التقديرين فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، والتقديرُ: ما خَلَقَه، و» ما «يجوزُ أن يُرَاد بها الجنينُ وهو في حكمِ غيرِ العاقلِ. فلذلك أُوقِعَتْ عليه» ما «وأَنْ يُرادَ بها دمُ الحيضِ. قوله: {في أَرْحَامِهِنَّ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بخَلق. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من عائِد» ما «المحذوفِ، التقديرُ ما خَلَقه الله كائناً في أرحامِهِنَّ، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرَةٌ قال أبو البقاء:» لأنَّ وقتَ خَلْقِه ليس بشيءٍ حتى يَتِمَّ خَلْقُه «. وقرأ مُبَشّر بن عُبَيْد:» في أرحامهنَّ «و» بردِّهُنَّ «بضمِّ هاءِ الكنايةِ، وقد تقدَّم أنه الأصلُ وأنه لغةُ الحجازِ، وأنَّ الكسرَ لأجلِ تجانسِ الياءِ أو الكسرةِ. قوله: {إِن كُنَّ} هذا شرطٌ، وفي جوابه المذهبانِ المشهورانِ: إمَّا محذوفٌ، وتقديرهُ مِنْ لفظِ ما تقدَّم لتقوى الدلالةُ عليه، أي: إن كُنَّ يُؤْمِنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يَحِلُّ لهنَّ أَنْ يكتُمْنَ، وإمَّا أنه متقدِّمٌ كما هو مذهبُ الكوفيين وأبي زيد، وقيل:» إنْ «بمعنى إذ وهو ضعيفٌ.

قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ} الجمهورُ على رفعِ تاءِ بعولتهن، وسَكَّنها مسلمة بن محارب، وذلك لتوالي الحركاتِ فَخُفِّف، ونظيرُه قراءةُ: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 30] بسكونِ اللامِ حكاها أبو زيد، وحكى أبو عمروٍ أنَّ لغةَ تميم تسكينُ المرفوعِ من» يُعَلِّمُهم «ونحوه، وقيل: أجرى ذلك مُجْرى عَضُد وعَجُز، تشبيهاً للمنفصِل بالمتصلِ. وقد تقدَّم ذلك بأشبع مِنْ هذا. و» أَحَقُّ «خبرٌ عن» بُعُولتهنّ «وهو بمعنى حقيقُون، إذ لا معنى للتفضيلِ هنا، فإنَّ غيرَ الأزواجِ لا حقَّ لهنَّ فيهن البتة، ولا حقَّ أيضاً للنساء في ذلك، حتى لو أَبَتْ هي الرَّجْعَةَ لم يُعْتَدَّ بذلك فلذلك قلت: إنَّ» أحقُّ «هنا لا تفضيلَ فيه. والبعولةُ: جَمْعُ» بَعْلٍ «وهو زوجُ المرأةِ. . .، قالوا: وسُمِّي بذلك. . . المستعلي على. . . ولِما علا من الأرض. . . فَشَرِبَ بعروقِه، بَعْلٌ، ويقال: بَعَلَ الرجلُ يَبْعَل كمَنَعَ يَمْنَعُ. والتاء في بعولة لتأنيثِ الجمعِ نحو فُحولة وذُكورة، ولا يَنْقاس هذا لو قلت: كَعْب وكُعوبة لم يَجُزْ. والبُعولة أيضاً مصدرُ بَعَل الرجلُ بُعولةً وبِعالاً، وامرأةٌ حسنةُ التَّبَعُّلِ، وباعَلَها كنايةُ عن الجِماع. قوله: {بِرَدِّهِنَّ} متعلِّقٌ بأحقّ. وأمَّا «في ذلك» ففيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ أيضاً بأحقّ، ويكونُ المشارُ إليه بذلك على هذا العِدَّةَ، أي تستحق

رَجْعَتَهَا ما دامَتْ في العِدَّة، وليس المعنى أنه أحقُّ أن يَرُدَّها في العِدَّة، وإنما يَرُدُّها في النكاح أو إلى النكاحِ. والثاني: أن تتعلَّقَ بالردِّ ويكونُ المشارُ إليه بذلك على هذا النكاحَ، قاله أبو البقاء. والضميرُ في «بُعولَتِهِنّ» عائدٌ على بعضِ المطلقات وهنَّ الرَّجْعِيَّات خاصةً. وقال الشيخ: «والأَولى عندي أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكمُ، أي: وبعولةُ رجعياتِهِنَّ» فعلى ما قاله الشيخُ يعودُ الضميرُ على جميعِ المطلقاتِ. قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ} خبرٌ مقدَّمٌ فهو متعلق بمحذوف، وعلى مذهبِ الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ. وهذا من بديعِ الكلامِ، وذلك أنه قد حِذِف من أوَّله شيءٌ أُثبت في آخره نظيرُه، وحُذِفَ من آخره شيءٌ أُثبتَ نظيرُه في الأولِ، وأصلُ التركيبِ. ولهنَّ على أزواجِهنَّ مِثْلُ الذي لأزواجِهِنَّ عليهنَّ، فَحُذِف «على أزواجهن» لإِثباتِ نظيرِه وهو «عليهنَّ» ، وحُذِفَتْ «لأزواجِهنَّ» لإِثباتِ نظيرِه وهو «لَهُنَّ» . قوله: {بالمعروف} فيها وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بما تعلَّقَ به «لَهُنَّ» من الاستقرار أي: استقرَّ لهن بالمعروفِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمثل، لأنَّ «مثل» لا يتعرَّفُ بالإِضافةِ، فعلى الأول هو في محلِّ نصبٍ، وعلى الثاني هو في محلِّ رفعٍ. قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ «للرجال» خبرٌ

مقدَّمٌ و «درجةٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، و «عليهنَّ» فيه وجهان على هذا التقديرِ: إمَّا التعلُّقُ بما تعلَّقَ به «للرجالِ» ، وإمَّا التعلقُ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «درجة» مقدَّماً عليها لأنه كان صفةً في الأصلِ فلمَّا قُدِّم انتصبَ حالاً. والثاني: أن يكونَ «عليهنّ» هو الخبرَ، و «للرجالِ» حالٌ من «درجة» لأنه يجوزُ أن يكونَ صفةً لها في الأصل، ولكنَّ هذا ضعيفٌ من حيث إنه يَلْزَمُ تقديمُ الحالِ على عامِلها/ المعنوي لأنَّ «عليهنَّ» حينئذٍ هو العاملُ فيها لوقوعه خبراً. على أنَّ بعضَهم قال: متى كانتِ الحالُ نفسُها ظرفاً أو جاراً ومجروراً قوي تقديمُها على عاملها المعنويّ، وهذا مِنْ ذاك، هذا معنى قول أبي البقاء. وقد رَدَّه الشيخُ بأنَّ هذه الحالَ قد تَقَدَّمَتْ على جُزْأَي الجملةِ فهي نظيرُ: «قائماً في الدارِ زيدٌ» ، قال: «وهذا ممنوعٌ لا ضعيفٌ، كما زعم بعضُهم، وجَعَلَ محلَّ الخلافِ فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العاملُ فيها المعنى - على جُزْأَي الجملةِ، بل تتوسَّطُ نحو:» زيدٌ قائماً في الدار «، قال:» فأبو الحسن يُجيزها وغيرُه يَمْنَعُها «.

229

قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} : مبتدأٌ وخبرٌ، والطلاقُ يجوزُ أَنْ يكونَ مصدرَ طَلَقَتْ المرأةُ طَلاقاً، وأن يكونَ اسمَ مصدر وهو التطليق كالسلام بمعنى التسليم. ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ ليكونَ المبتدأُ عين الخبرِ، والتقديرُ: عددُ الطلاقِ المشروعِ فيه الرَّجْعَةُ مرتان. والتثنية في «مرَّتان» حقيقةٌ يُراد بها شَفْع الواحد. وقال الزمخشري: «إنها من باب التثنية التي يُراد بها التكرير، وجعلها مثل: لَبَيَّك وسَعْديك

وَهَذَاذَيك» . وردَّ عليه الشيخ ذلك «بأنه مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر، أمّا المناقضةُ فإنه قال: الطلاقُ مرتان، أي: الطلاقُ الشرعي تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دونَ الإِرسال دفعةً واحدةً، فقولُه هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقية. وأمَّا المخالفة فلأنه لا يُراد أن الطلاقَ المشروعَ يقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر، بل مرتين فقط، ويَدُلُّ عليه قولُه بعدَ ذلك:» فإمساكُ «أي بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَة الثانية،» أو تسريحٌ «أي: بالطلقة الثالثة، ولذلك جاء بعده» فإن طلَّقها «. انتهى ما ردَّ به عليه، والزمخشري إنما قال ذلك لأجلِ معنى ذكره، فيُنْظَرُ كلامُه في» الكشاف «، فإنه صحيحٌ. والألفُ وللام في» الطلاق «قيل: هي للعهدِ المدلولِ عليه بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وقيل: هي للاستغراق، وهذا على قولنا: إن هذه الجملة مقتطعة مِمَّا قبلَها ولا تَعَلُّقَ لها بها. قوله: {فَإِمْسَاكٌ} في الفاء وجهان، أحدُهما: أنها للتعقيبِ، أي: بعد أن عرَّفَ حكم الطلاقِ الشرعي أنه مرتان، فيترتب عليه أحدُ هذين الشيئين. والثاني: أن تكونَ جوابَ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه: فإنْ أوقعَ الطَّلْقَتَيْنِ ورَدَّ الزوجةَ فإمساكُ. وارتفاعُ» إمساك «على أحدِ ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا مبتدأ وخبرُه محذوفٌ متقدماً، تقديرُه [عند] بعضِهم: فعليكم إمساكُ، وقَدَّره ابنُ عطية متأخراً، تقديرُه: فإمساكٌ أمثلُ أو أحسنُ. والثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فالواجبُ إمساكُ. والثالث: أن يكونَ فاعلَ فعلٍ محذوفٍ أي: فليكن إمساكٌ بمعروف.

قوله: {بِمَعْرُوفٍ} و» بإحسان «في هذه الباءِ قولان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ بنفسِ المصدرِ الذي يليه. ويكونُ معناها الإِلصاق. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لما قبلها، فتكونَ في محلِّ رفعٍ أي: فإمساكٌ كائنٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ كائنٌ بإحسان. والتسريحُ: الإِرسالُ والإِطلاقُ، ومنه قيل للماشيةِ: سَرْح، وناقة سُرُح، أي: سَهْلَةُ السير لاسترسالها فيه. قالوا: ويجوزُ في العربيةِ نَصْبُ» فإمساكُ «و» تسريحٌ «على المصدرِ، أي: فأمسكوهُنَّ إمساكاً بمعروفٍ أو سَرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان، إلا أنه لم يَقْرأ به أحدٌ. قوله: {أَن تَأْخُذُواْ} أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعلٌ يَحِلُّ، أي: ولا يَحِلُّ لكم أخْذُ شيءٍ مِمَّا آتيتموهنَّ. و «مِمَّا» فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ «تأخذوا» ، و «مِنْ» على هذا لابتداءِ الغايةِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «شيئاً» قُدِّمتَ عليه، لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً. و «مِنْ» على هذا للتبعيضِ. و «ما» موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: من الذي آتيتموهُنَّ إياه. وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حَذْفِ العائدِ المنصوبِ المنفصلِ عند قوله تعالى {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [يس: 54] . وهذا مثلُه فَلْيُلْتفتْ إليه. و «آتى» يتعدَّى لاثنين أولُهما «هُنَّ» والثاني هو العائدُ المحذوفُ. و «شيئاً» مفعولٌ به ناصبُه «تأخذوا» . ويجوزُ أن يكونَ مصدراً أي: شيئاً من الأخْذِ. والوجهانِ منقولانِ في قوله: {لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [البقرة: 3] قوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} هذا استثناءٌ مفرغٌ، وفي «أَنْ يخافا» وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِه، فيكونُ مسثتنىً من

ذلك العامِّ المحذوفِ، والتقديرُ: ولا يَحِلُّ لكم أن تأخُذوا بسبب من الأسباب إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حدودِ الله، وحُذِفَ حرفُ العلةِ لاستكمالِ شروطِ النصب، لا سيما مع «أَنْ» ، ولا يجيء هنا خلافُ الخليل وسيوبه: أهي في موضعِ نصبٍ أو جرّ بعد حَذْفِ اللامِ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّح به لنُصِبَ وهذا قد نصَّ عليه النحويون، أعني كونَ أَنْ وما بعدها في محلِّ نصبٍ بلا خلافٍ إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيكونُ مستثنىً من العامِّ أيضاً تقديرُه: ولا يحِلُّ لكم في كلَّ حالٍ من الأحوالِ إلا في حالِ خوفِ ألاَّ يقيما/ حدودَ الله. قال أبو البقاء: والتقديرُ: إلاَّ خائفين، وفيه حَذْفُ مضافٍ تقديرُه: ولا يَحِلُّ أَنْ تأخذوا على كلِّ حال أو في كلِّ حالٍ إلا في حالِ الخوفِ. والوجهُ الأولُ أحسنُ وذلك أنَّ «أَنْ» وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقع اسمِ الفاعلِ المنصوبِ على الحال، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً فكيف بما هو في تأويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ «أَنْ» المصدرية لا تقع موقعَ الحالِ. والألفُ في قوله «يخافا» و «يُقيما» عائدةٌ على صنفي الزوجين. وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلامِ لقيل: «ألاَّ أَنْ تَخافوا ألاَّ تقيموا بتاءِ الخطابِ للجماعةِ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله، ورُوي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبة وهو التفاتٌ إيضاً.

والقراءةُ في» يخافا «بفتحِ الياءِ واضحةٌ، وقرأها حمزة بضمِّها على البناء للمفعول. وقد استشكلها جماعة وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب. وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً. أحسنُها أَنْ يكونَ «أَنْ يقيما» بدلاً من الضميرِ في «يخافا» لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، تقديرُه: إلا أَنْ يُخاف عدمُ إقامتهما حدودَ الله، وهذا من بدلِ الاشتمال كقولك: «الزيدان أعجباني عِلْمُهما» ، وكان الأصلُ: إلا أن يخاف الولاةُ الزوجين ألاَّ يقيما حدودَ الله، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو «الوُلاةُ» للدلالة عليه، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وبقيتْ «أَنْ» وما بعدها في محلِّ رفعٍ بدلاً كما تقدَّم تقديرُه. وقد خَرَّجه ابن عطية على أنَّ «خاف» يتعدَّى إلى مفعولين كاستغفر، يعني إلى أحدِهما بنفسِه وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، وأَنْ وما في حَيِّزها هي الثاني، وجَعَل «أَنْ» في محلِّ جرٍ عند سيبويه والكسائي. وقد رَدَّ عليه الشيخ هذا التخريج بأنَّ «خافَ» لا يتعدَّى لاثنين، ولم يَعُدَّه النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعدَّى لاثنين، ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك: «خِفْتُ زيداً ضَرْبَه» ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به، فليس هو كالثاني في «استغفرت الله ذنباً» ، وبأن نسبة كَوْن «أَنْ» في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيح، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصب وتبعه الفراء، ومذهبُ الخليل أنها في محلِّ جر، وتَبِعه الكسائي. وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ.

وقال غيرُه كقولِه، إلاَّ أنَّه قَدَّر حرفَ الجرِّ «على» والتقدير: إلاَّ أن يَخاف الولاةُ الزوجين على ألاّ يقيما، فبُني للمفعولِ، فقام ضميرُ الزوجينِ مَقامَ الفاعلِ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ «أَنْ» ، فجاء فيه الخلافُ المتقدمُ بين سيبويه والخليلِ. وهذا الذي قاله ابنُ عطيةُ سَبَقَه إليه أبو علي، إلاَّ أنه لم يُنْظِّرْه ب «استغفر» . وقد استشكل هذا القراءةَ قومٌ وطَعَنَ عليها آخرون، لا علمَ لهم بذلك، فقال النحاس: «لا أعلمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحرفِ، لأنه لا يُوجِبه الإِعرابُ ولا اللفظُ ولا المعنى: أمّا الإِعرابُ فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ {إلاَّ أَنْ تخافوا ألاَّ يقيموا} فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه كان ينبغي أَنْ يُقال: {إلاَّ أَنْ يُخاف} . وأمَّا اللفظُ: فإنْ كان على لفظِ» يُخافا «وَجَبَ أَنْ يقال: فإن خيف، وإن كان على لفظ» خِفْتُم «وَجَب أن يقال: إلاَّ أَنْ تَخافوا. وأمَّا المعنى: فَأَسْتبعدُ أن يُقالَ:» ولا يَحِلُّ لكم أن تأخذوا مِمَّا آتيتموهُنَّ شيئاً إلا أن يَخاف غيرُكم، ولم يَقُلْ تعالى: ولا جُنَاح عليكم أن تَأْخُذوا له منها فديةً، فيكون الخَلْعُ إلى السلطان والفَرْضُ أنَّ الخَلْعَ لا يحتاج إلى السلطانِ «. وقد رَدَّ الناسُ على النحاس: أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله. وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ فإنه من باب الالتفاتِ كما قَدَّمْتُه

أولاً، ويَلْزَمُ النحاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يَقْرأ: «فإنْ خافا» ، وإنَّما هو في القراءتين من الالتفاتِ المستحسنِ في العربيةِ. وأمَّا من حيثُ المعنى فلأنَّ الولاةَ هم الأًصلُ في رفعِ التظالمِ بين الناس وهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء. ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله {إلا أن تَخافوا} وخَطَّأَهُ الفارسي وقال: «لم يُصِبْ، لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على» أَنْ «، وفي قراءة حمزةَ واقعٌ على الرجلِ والمرأةِ» . وهذا الذي خَطَّأَ به القرَّاء ليس بشيءٍ، لأنَّ معنى قراءةِ عبدِ الله: إلاَّ أَنْ تخافُوهُمَا، أي الأولياءُ الزوجين ألاَّ يُقيما، فالخوفُ واقعٌ على «أَنْ» وكذلك هي في قراءةِ حمزةَ: الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمَيْنِ: إمَّا على كونِها بدلاً من ضميرِ الزوجينِ كما تقدَّم تقريرُه، وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجَرِّ وهو «على» . والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ، فتكونُ «أَنْ» في قراءةِ غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ أو نصبٍ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ، إذ الأصلُ، مِنْ أَلاَّ يُقيما، أو في محلِّ نصبٍ فقط على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ كأنه قيل: إلاَّ أَنْ يَحْذَرَا عدَمَ إقامةِ حدودِ اللَّهِ. والثاني: أنه بمعنى العلمِ وهو قَوْلُ أبي عبيدة، وأنشد: 975 - فقلتُ لهم خافُوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَراتُهُمُ في الفارسِيِّ المُسَرَّدِ ومنه أيضاً:

976 - ولا تَدْفِنَنِّي في الفَلاةِ فإنَّني ... أخافُ إذا ما مِتُّ أَلاَّ أَذُوقُها/ ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعدَ أَنْ، وهذا لا يَصِحُّ في الآيةِ لظهورِ النصبِ. وأمَّا البيتُ فالمشهورُ في روايتِهِ «فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ» . والثالث: الظنَّ، قاله الفراء، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ: {إلاَّ أنْ يَظُنَّا} وأنشد: 977 - أتاني كلامٌ مِنْ نُصَيْبٍ يقولُه ... وما خِفْتُ يا سَلاَّمُ أنَّكَ عائِبي وعلى هذينِ الوجهينِ فتكونُ «أَنْ» وما في حَيِّزها سادةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويه ومسدَّ الأول والثاني محذوف عند الأخفش كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرة، والأولُ هو الصحيحُ، وذلك أَنَّ «خافَ» مِنْ أفعالِ التوقع، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَيْنِ، ولذلك قال الراغب: «الخوفُ يُقال لِما فيه رجاءٌ ما، ولذلك لا يُقال: خِفْتُ أَلاَّ أقدر على طلوعِ السماءِ أو نَسْفِ الجبالِ» . وأصلُ يُقيما: يُقْوِما، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها، ثم قُلِبَتْ الواوُ ياءً لسكونِها بعد كسرةٍ، وقد تقدَّم تقريرُه في قولِهِ: {الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5] وزعم بعضُهم أنَّ قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ} معترضٌ بين قولِهِ: {الطلاق مَرَّتَانِ} وبين قولِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} وفيه بُعْدٌ. قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} «لا» واسمُها وخبرُها، وقولُه: {فِيمَا افتدت بِهِ} متعلِّقٌ بالاستقرار الذي تضمَّنَهُ الخبرُ وهو: «عَلَيْهِما» . ولا جائزٌ أن يكونَ «

عليهما» متعلقاً «ب» جُنَاح «، و» فيما افتَدَتْ «الخبرَ، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ. والضميرُ في» عليهِما «عائدٌ على الزوجينِ، أي لا جُنَاحَ على الزوجِ فيما أَخَذَ، ولا على المرأةِ فيما أَعْطَتْ. وقال الفراء:» إنَّما يعودُ على الزوجِ فقط، وإنما أعادَهُ مُثَنَّى والمرادُ واحِدٌ كقولِهِ تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وقولُه: 978 - فإنْ تَزْجُرَاني يا بنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا وإنما يخرجُ من الملحِ، والناسي يُوشَعُ وحدَه، والمنادى واحدٌ في قوله: «يابنَ عفان» . و «ما» بمعنى الذي أو نكرةٌ موصوفة، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ مِنْ «به» عليها، إلا على رَأْيِ مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً كالأخفشِ وابنِ السراج و [مَنْ] تابَعهما. قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قولِهِ: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} إلى هنا. وقوله: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} أصلُه: تَعْتَدِيُوهَا، فاسْتُثْقِلَتِ الضمَّةُ على الياءِ؛ فَحُذِفَتْ فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضمير ساكنةٌ، فَحُذِفَت الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ، وضُمَّ ما قبلَ الواوِ لتصِحَّ، ووزنُ الكَلِمَةِ: تَفْتَعُوها.

قوله: {وَمَن يَتَعَدَّ} «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، وفي خبرِها الخلافُ المتقدِّمُ. وقوله: {فأولئك} جوابُها. ولا جائزٌ أَنْ تَكونَ موصولةً، والفاءُ زائدةً في الخبرِ لظهورِ عملِها الجزمَ فيما بعدَها. و «هم» من قوله: «فأولئك هم» يحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ فصلاً. والثاني: أن يكونَ بدلاً و «الظالمون» على هذين خبرُ «أولئك» والإِخبارُ بمفردٍ. والثالث: أن يكونَ مبتدأً ثانياً، و «الظالمونَ» خبرَه، والجملةُ خبرَ «أولئك» ، والإِخبارُ على هذا بجملةٍ ولا يَخْفى ما في هذه الجملةِ من التأكيدِ من حيثُ الإِتيانُ باسمِ الإِشارةِ للبعيدِ وتوسُّطُ الفصل والتعريفُ باللامِ في «الظالمون» أي: المبالغون في الظلم. وَحَمَل أولاً على لفظِ «مَنْ» فَأَفْرَد في قولِهِ «يَتَعَدَّ» ، وعلى معناها ثانياً فَجَمَعَ في قولِهِ: {فأولئك هُمُ الظالمون} .

230

قولُه تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} : أي: مِنْ بعدِ الطلاقِ الثالثِ، فلمَّا قُطِعَتْ «بعدُ» عن الإِضافةِ بُنِيَتْ على الضَّمِّ لِما تَقَدَّم تقريُرُه. و «له» و «مِنْ بعد» و «حتى» ثلاثتُها متعلقةٌ ب «يَحِلُّ» . ومعنى «مِنْ» ابتداءُ الغايةِ واللامُ للتبليغِ، وحتى للتعليل، كذا قال الشيخ، والظاهرُ أنها للغايةِ، لأنَّ المعنى على ذلك، أي: يمتدُّ عدمُ التحليلِ له إلى أَنْ تنكَحَ زوجاً غيرَه، فإذا طَلَّقها وانقَضَتْ عِدَّتُها منه حَلَّت للأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً، ويَدُلُّ على هذا الحذفِ فحوى الكلامِ. و «غيرَه» صفةٌ ل «زوجاً» ، وإن كان نكرةً، لأنَّ «غير» وأخواتِها لا تتعرَّفُ بالإِضافة لكونِها في قوةِ اسمِ الفاعلِ العاملِ. و «زوجاً» هل هو للتقييد

أو للتوطِئَةِ؟ وينبني على ذلكَ فائدةٌ، وهي أنه إنْ كان للتقييدِ: فلو كانت المرأةُ أَمَةً وطَلَّقها زوجُها ثلاثاً ووطئِها سَيِّدُها لم تَحِلُّ للأولِ لأنه ليس بزوجٍ، وإن كانت للتوطئةِ حَلَّتْ، لأنَّ ذِكْرَ الزوج كالمُلْغَى، كأنه قيل: حتى تنكِحَ غيره، وإنما أتى بلفظ «زَوْج» لأنه الغالبُ. قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الضميرُ المرفوعُ عائدٌ على «زوجاً» النكرةِ، أي: فإنْ طَلَّقها ذلك الزوجُ الثاني، وأتى بلفظِ «إنْ» الشرطية دونَ «إذا» تنبيهاً أنَّ طلاقَه يجبُ أن يكونَ باختياره من غيرِ أَنْ يُشترط عليه ذلك، لأنَّ «إذا» للمحققِ وقوعُه و «إنْ للمبهم وقوعُه أو المتحقَّقِ وقوعُه، المبهمِ زمانُ وقوعِه، نحو قولِهِ تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] قوله: {عَلَيْهِمَآ} الضميرُ في» عليهما «يجوزُ أن يعودَ على المرأةِ والزوجِ الأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً، أي: فإنْ طَلَّقَها الثاني وانقَضَتْ عِدَّتُها منه فلا جُنَاحَ على الزوجِ المُطَلِّقِ ثلاثاً ولا عليها أن يتراجَعَا. ويجوزُ أن يعودَ عليها وعلى الزوجِ الثاني، أي: فلا جُنَاحَ على المرأةِ ولا على الزوجِ الثاني أَنْ يتراجَعَا ما دامَتْ عِدَّتُها باقيةً، وعلى هذا فلا يُحْتَاجُ إلى حَذْفِ تلك الجملةِ المقدَّرَةِ وهي» وانقَضَتْ عِدَّتُها «وتكون الآيةُ قد أفادَتْ حكمينِ، أحدُهما: أَنها لا تَحِلُّ للأول إلاَّ بعدَ أن تتزوجَ بغيرِهِ، والثاني: أنه يجوزُ أَنْ يراجِعَها الثاني ما دامَتْ عِدَّتُها منه باقيةً، ويكونُ ذلك دفعاً لوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أنها إذا نَكَحَتْ غيرَ الأولِ حَلَّت للأولِ فقط ولم يكُنْ للثاني عليها رَجْعَةٌ. قوله: {أَن يَتَرَاجَعَآ} أي: في أَنْ، ففي محلِّها القولانِ المشهوران، و» عليهما «خبرُ» لا «، و» في أن «متعلِّقٌ بالاستقرارِ، وقد تقدَّم أنه لا يجوزُ أن يكونَ» عليهما «متعلقاً» ب «جُنَاح، والجارُّ الخبرُ، لما يَلْزَمُ من تنوينِ اسمِ» لا «، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً.

قولُهُ: «إنْ ظَنَّا» شرطٌ جوابُهُ محذوفٌ عند سيبويهِ لدلالةِ ما قبلَه عليه، ومتقدِّمٌ عند الكوفيين وأبي زيد. والظَّنُّ هنا على بابِهِ من ترجيحِ أحدِ الجانبين، وهو مُقَوٍّ أن الخوفَ المتقدِّمَ بمعنى الظَّنِّ. وزعم أبو عبيدة وغيرُهُ أنه بمعنى اليقين، وضَعَّفَ هذا القولَ الزمخشري لوجهين، أحدُهما من جهةِ اللفظِ وهو أَنَّ «أَنْ» الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففةِ منها، لا تقول: عَلِمْتُ أَنْ يقومَ زيدٌ/، إنما تقولُ: عَلِمْتُ أن يقومَ زيدٌ. والثاني من جهةِ المعنى: فإنَّ الإِنسانَ لا يتيقَّنُ ما في الغدِ وإنما يَظُنُّه ظناً. قال الشيخ: «أمَّا ما ذكرَهُ من أنه لا يقال:» علمت أن يقومَ زيد «فقد ذكره غيرُه مثل الفارسي وغيره، إلا أن سيبويه أجاز:» ما علْمتُ إلا أن يقومَ زيدٌ «فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي. قال بعضُهم: الجمعُ بينهما أنَّ» عَلِمَ «قد يُرَادُ بها الظَّنُّ القويُّ كقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وقوله: 979 - وأعلمُ علمَ حقٍ غيرِ ظنٍّ ... وتَقْوى اللَّهِ من خير العتادِ فقوله:» علمَ حق «يُفْهَمُ منه أنه قد يكونُ علمَ غيرِ حق، وكذا قولُه:» غيرِ ظَنٍّ «يُفْهَمُ [منه] أنه قد يكونُ عِلْمٌ بمعنى الظن. ومِمَّا يدلُّ على أنَّ» عَلِمَ «التي بمعنى» ظَنَّ «تعملُ في» أَنْ «الناصبةِ قولُ جرير:

980 - نرضَى عن الناسِ إنَّ الناسَ قد علموا ... أنْ لا يدانَينا مِنْ خَلْقِهِ أَحَدُ ثم قال الشيخ:» وَثَبَت بقولِ جرير وتجويز سيبويهِ أنَّ «عَلِمَ» تعملُ «أَنْ» الناصبةِ، فليسَ بوهمٍ من طريقِ اللفظِ كما ذكره الزمخشري. وأَمَّا قولُهُ: «لأنَّ الإِنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ» فليسَ كما ذَكَرَ، بل الإِنسانُ يعلمُ أشياءَ كثيرةً واقعةً في الغدِ وَيَجْزِمُ بها «وهذا الرَّدُّ من الشيخِ عجيبٌ جداً، كيف يُقال في الآية: إنَّ الظن بمعنَى اليقين، ثم يَجْعَل اليقينَ بمعنى الظن المسوغِ لعمِلِهِ في» أَنْ «الناصبةِ. وقولُهُ» لأنَّ الإِنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد «مُسَلَّمٌ، لكنْ ليس هذا منها. وقوله: {أَن يُقِيمَا} إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولَيْن، أو الأولِ والثاني محذوفٌ، على حَسَبِ المذهبين المتقدمين. قوله: {يُبَيِّنُهَا} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً بعد خبرٍ، عند مَنْ يرى ذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها» حدودُ الله «والعاملُ فيها اسمُ الإِشارة وقُرِىءَ:» نبيِّنها «بالنون، ويُروى عن عاصم، على الالتفاتِ من الغَيْبَةِ إلى التكلم للتعظيم. و» لقومٍ «متعلقٌ به. و» يعلمون «في محلِّ خفضٍ صفةً لقومٍ. وخَصَّ العلماءَ بالذكرَ لأنهم هم المنتفعون بالبيانِ دونَ غيرهم.

231

قولُه تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} : شرطٌ جوابُهُ «فَأَمْسِكُوهُنَّ» ، وقوله: «فبَلَغْنَ» عطفٌ على فعلِ الشرط. والبلوغُ: الوصولُ إلى الشيء: بَلَغَهُ يبلُغه بُلوغاً، قال امرؤ القيس:

981 - ومَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ ... ديارَ العدوِّ ذي زُهاءٍ وَأَرْكَانِ ومنه: البُلْغَةُ والبَلاغُ اسمٌ لِما يُتَبَلَّغُ به. قوله: {بِمَعْرُوفٍ} في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها: إمَّا الفاعلُ أي: مصاحبين للمعروف، أو المفعولُ أي: مصاحباتٍ للمعروف. قوله: {ضِرَاراً} فيه وجهان، أظهرهُما أنه مفعولٌ من أجِلِهِ أي: لأجلِ الضِّرارِ. والثاني: أنه مصدرٌ في موضِعِ الحالِ أي: حالَ كونِكُم مُضَارِّينَ لهنَّ. قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} أدغم أبو الحارث عن الكسائي اللامَ في الذالِ إذا كان الفعلُ مجزوماً كهذه الآية، وهي في سبعةِ مواضعَ في القرآن: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} في موضعين، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءِ} [آل عمران: 28] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً} [النساء: 30] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله} [النساء: 114] {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} [المنافقون: 9] . وجاز لتقارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا واشتراكِهِما في الانفتاحِ والاستفال والجَهْر. وتَحَرَّز من غيرِ المجزومِ نحوُ: يفعلُ ذلك. وقد طَعَنَ قومٌ على هذه الروايةِ فقالوا: لا تَصِحُّ عن الكسائي لأنها تخالِفُ أصولَه، وهذا غيرُ صوابٍ.

قوله: {لِّتَعْتَدُواْ} هذه لامُ العلة، وأجاز أبو البقاء: «أن تكونَ لامَ العاقبةِ، أي: الصيرورة، وفي متعلَّقِها وجهان، أحدُهما: أنه» لا تُمْسِكُوهُنَّ «. والثاني: أنه المصدرُ إنْ قلنا إنه حال، وإنْ قُلْنَا إنه مفعولٌ من أجله تعلَّقَتْ به فقط، وتكون علةً للعلةِ، كما تقول:» ضربت ابني تأديباً لينتفعَ «، فالتأديب علةٌ للضربِ والانتفاعُ علةٌ للتأديب، ولا يجوز أن تتعلَّقُ والحالةُ هذه ب» لا تُمْسِكُوهن «. و» تَعْتَدُوا «منصوبٌ بإضمارِ» أنْ «وهي وما بعدَها في محلِّ جر بهذه اللام، كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرةٍ. وأصل» تَعْتَدُوا «تَعْتَدِيُوا، فأُعِلَّ كنظائرِهِ، ولا يخفَى ذلك مِمَّا تَقدم. قوله: {عَلَيْكُمْ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ» النعمة «إن أريدَ بها الإِنعامُ، لأنها اسمُ مصدر كنبات من أَنْبَتَ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله: 982 - فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ ... عقابَكَ قد كانوا لنا كالموارِدِ فأعمل» رهبةٌ «في» عقابك «، وإنما المحذُور أن يعملَ المصدرُ الذي لا يُبْنَى عليها نحو: ضربٌ وضَرْبَةٌ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله: 983 - يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازِمٌ ... بضربةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وهْوَ راكِبُ بأنَّ المَلا وهو السراب منصوبٌ بفعلٍ مقدر لا بضربة. والثاني: ان يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من» نعمة «إنْ أريد بها المُنْعَمُ به، فعلى الأول

تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً إذا هي فاعلةٌ به وعلى الثاني في محلِّ جر لفظاً وتقديراً. قوله: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ عطفاً على «نعمة» أي اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم، فعلى هذا يكون قولُه «يَعِظُكُم» حالاً، وفي صاحبِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه الفاعلُ في «أنزل» وهو اسمُ الله تعالى، أي: أنزله واعظاً به لكم. والثاني: أنه «ما» الموصولةُ، والعاملُ في الحالِ اذكروا. والثالث: أنه العائد على «ما» المحذوفُ، أي: وما أنزلهُ موعوظاً به، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ أَنْزَل. والثاني: من وَجْهَي «ما» أن تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء، ويكون «يَعِظُكُم» على هذا في محلِّ رفعٍ خبراً لهذا المتبدإِ، أي: والمُنَزَّلُ عليكم موعوظُ به. وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ. قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلِّقٌ ب «أَنْزَلَ» . و «من الكتاب» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ، وفي صاحبِهِ وجهان، أحدُهما: أنه «ما» الموصولةُ. والثاني: «أنه عائدُها المحذوفُ، إذ التقدير: أنزله في حالِ كونِهِ من الكتاب. و» مِنْ «يجوز أن تكون تبعيضية وأن/ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك. والضمير في» به «يعودُ على» ما «الموصولةِ.

232

قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} : الآية. كالتي قبلها، إلاَّ أنَّ الخطابَ في «طَلَّقتم» للأزواجِ، وفي «فلا تعضُلُوهُنَّ» للأولياء. وقيل: الخطابُ فيهما للأولياءِ وفيهِ بَعْدٌ من حيث إنَّ الطلاقَ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيد، وهو أَنْ جَعَلَ تَسَبُّبهُمْ في الطلاق طلاقاً. وقيل: الخطابُ فيهما للأزواج ونُسِبَ العَضْلُ إليهم، لأنهم كذلك كانوا يفعلون، يُطَلِّقونَ ويأْبَوْنَ أن تتزوجَ المرأَةُ بعدَهم ظلماً وقهراً.

قوله: {أَزْوَاجَهُنَّ} مجازٌ لأنه إنْ أُريد المطلَّقون فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يَؤُولون إليه. والفاء [في] فلا تَعْضُلُوهُنَّ جوابُ «إذا» . والعَضْلُ قيل: المَنْعُ، ومنه: «عَضَلَ أَمَته» مَنَعَها من التزوَّجِ يَعْضِلُها بكسر العين وضَمِّها، قال ابن هرمز: 984 - وإنَّ قصائدي لك فاصطَنِعْني ... كرائمُ قد عُضِلْنَ عن النِّكاحِ وقال: 985 - ونحنُ عَضَلْنا بالرماحِ نساءَنا ... وما فيكُمُ عن حُرْمَةِ اللهِ عاضِلُ ومنه: «دجاجةٌ مُعْضِل» أي: احتبس بيضُها: وقيل: أَصلُه الضيقُ، قال أوس: 986 - تَرى الأرضَ منَّا بالفضاءِ مريضةً ... مُعَضَّلَةً منا بجيشٍ عَرَمْرم أي: ضيقةً بهم، وعَضَلَتِ المرأةُ أي: نَشَبَ ولدُها في بطنِها، وداءٌ عُضال أي: ضَيِّقُ العلاجِ، وقالت ليلى الأخيلية: 987 - شَفاهَا من الداءِ العُضالِ الذي بها ... غلامٌ إذا هَزَّ القَناةَ شَفاها والمُعْضِلات: المُشْكَلات لضِيق فَهْمها، قال الشافعي: 988 - إذا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي ... كَشَفْتُ حقائقَها بالنَّظَرْ

قوله: {أَن يَنكِحْنَ} فيه وجهان: أحدُهما: أنه بدلٌ من الضمير المنصوبِ في «تَعْضُلوهُنَّ» بدلُ اشتمال، فيكونُ في محلِّ نصبِ، أي: فلاَ تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ. والثاني: أن يكونَ على إسقاطِ الخافض، وهو إمَّا «مِنْ» أو «عَنْ» ، فيكونُ في محلِّ «أَنْ» الوجهانِ المشهوران: أعني مذهبَ سيبويه ومذهب الخليل. و «يَنْكِحْنَ» مضارعُ نَكَح الثلاثي وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه لأنَّ لامَه حرُف حلقٍ. قوله: {إِذَا تَرَاضَوْاْ} في ناصبِ هذا الظرفِ وجهان، أحدُهما: «ينكِحْنَ» أي: أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التراضي. والثاني: أن يكونَ «تعضُلوهنَّ» أي: لاَ تعضُلوهنَّ وقتَ التراضي، والأولُ أظهرُ. و «إذا» هنا متمحضةٌ للظرفية. والضميرُ في «تراضَوا» يجوزُ أن يعودَ إلى الأولياءِ وللأزواج، وأَنْ يعودَ على الأزواج والزوجاتِ، ويكونُ مِنْ تغليبِ المذكرِ على المؤنِثِ. قوله {بَيْنَهُمْ} ظرفُ مكانٍ مجازي، وناصبُه «تراضَوا» . قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه متعلقٌ بتراضَوا، أي: تراضَوا بما يَحْسُن من الدِّينِ والمروءةِ، والثاني: أن يتعلَّقَ ب «يَنْكِحْنَ» فيكونُ «ينكِحْنَ» ناصباً للظرفِ، وهو «إذا» ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً: والثالث: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ تراضَوا. والرابع: أنه نعتُ مصدر محذوف، دَلَّ عليه الفعلُ أي: تراضِياً كائناً بالمعروف. قوله: {ذلك} مبتدأُ. و «يُوعظ» وما بعدَه خبرُه. والمخاطَبُ: إمَّا الرسولُ عليه السلام أو كلُّ سامعٍ، ولذلك جِيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحدِ، وإمَّا الجماعةُ وهو الظاهرُ، فيكونُ ذلك بمعنى «ذلكم» ولذلك قال بعدَه: «منكم» . و «مَنْ كان» في محلِّ رفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ. وفي «كان» اسمُها يعودُ

على «مَنْ» ، و «يؤمِنُ» في محلِّ نصبٍ خبراً لها، و «منكم» : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعملُ في الظرفِ وشبهِه، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يؤمنُ. وأتى باسم إشارةِ البعيدِ تعظيماً للمشار إليه، لأنَّ المشارَ إليه قريبٌ، وهو الحكمُ المذكورُ في العَضْل. وأَلفُ «أزكى» عن واو. وقوله: {ذلكم} متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «أَزْكى» فهو في محلِّ رفع. وقولُه: «وَأَطْهَرُ» أي: لكم، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ للعلمِ أي: من العَضْلِ.

233

قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ} : كقوله: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} فَلْيُلتفتْ إليه. والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ جاريتانِ مَجْرى الجوامدِ، ولذلك لم يُذْكَرَ موصوفُهما. قوله {حَوْلَيْنِ} منصوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفُهما بكاملين رفعاً للتجوُّز، إذ قد يُطْلَقُ «الحولان» على الناقصين شهراً وشهرين. والحَوْلُ: السنةُ، سَمُيِّتْ لتحوُّلِها، والحَوْلُ أيضاً: الحَيْلُ ويقال: لا حولَ ولا قوة، ولا حَيْلَ ولا قوة. قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ، وتكونُ اللامُ للتعليلِ، و «مَنْ» واقعةٌ على الآباء، أي: الوالدات يُرْضِعْنَ لأجلِ مَنْ أَرادَ إتمام الرضاعةِ من الآباءِ، وهذا نظيرٌ قولِك: «أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه» . والثاني: أنها للتبيين، فتتعَلَّق بمحذوفٍ، وتكونُ هذه اللامُ كاللام في قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] ، وفي قولهم: «سُقْياً لك» . فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّتِ به، وذلك أنه لمّا ذَكَر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولينِ كاملينِ بيَّن أنَّ ذلكَ الحكمَ إنما هو لِمَنْ أرادَ أن يُتِمَّ الرَّضَاعَة. و «مَنْ» تحتمل حينئذ أن يُرادَ بها الوالداتُ فقط أو هُنَّ والوالدون معاً. كلُّ

ذلك محتملٌ. والثالث: أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدأ محذوفٌ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتقديرُ: ذلك الحكمُ لِمَنْ أرادَ. و «مَنْ» على هذا تكونُ للوالداتِ والوالدَيْنِ معا. قوله: {أَن يُتِمَّ الرضاعة} «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ نصب مفعولاً بأراد، أي: لمن أراد إتمامَها. والجمهور على «يُتمَّ الرَّضاعة» بالياء. المضمومة من «أتَمَّ» وإعمال أنْ الناصبة، ونصب «الرَّضاعة» مفعولاً به، وفتح رائها. وقرأ مجاهد والحسن وابن محيصن وأبو رجاء: «تَتِمَّ» بفتح التاء من تَمَّ، «الرضاعة» بالرفع فاعلاً وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما كَسَرا راء «الرضاعة» ، وهي لغةٌ كالحَضارة والحِضارة، والبصريون يقولون: فتحُ الراء مع هاء التأنيثِ وكسرُها مع عدمِ الهاء، والكوفيون يزعمون العكسَ. وقرأ مجاهد - ويُرْوى عن ابنِ عباس -: {أَنْ يُتِمُّ الرَّضاعة} برفع «يُتِمُّ» وفيها قولان، أحدُهما قولُ البصريين: أنها «أَنْ» الناصبة أُهْمِلت حَمْلاً على «ما» أختِها لاشتراكِهما في المصدرية، وأنشدوا على ذلك قوله: 989 - إني زعيمٌ يا نُوَيْ ... قَةُ إنْ أَمِنْتِ من الرَّزاحِ أنْ تهبطِين بلادَ قَوْ ... مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ وقولَ الآخر: 990 - يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما ... وحيثما كُنتما لُقِّيتما رَشَدا أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويَحْكُما ... مني السلامَ وألاَّ تُشْعِرا أَحَدا فأَهْملها ولذلك ثَبَتَتْ نونُ الرفع، وأَبَوأ أن يَجْعلوها المخففةَ من الثقيلةِ

لوجهين، أحد لوجهين، أحدُهما: أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملةِ الفعليةِ بعدَها، والثاني: أنَّ ما قبلَها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ. والثاني: وهو قولُ الكوفيين أنها المخففةُ من الثقيلة، وشَذَّ وقوعُها موقعَ الناصبةِ، كما شذَّ وقعُ «أَنْ» الناصبةِ موقعَها في قوله: 991 -. . . . . . . . . . . . قد علموا ... أَنْ لا يُدانِينَا في خَلْقهِ أحدُ وقرأ مجاهد: «الرَّضْعَة» بوزن القَصْعة. والرَّضْعُ: مَصُّ الثَّدْي: ويقال للَّئيم: راضعٌ، وذلك أنه يَخاف أن يَحْلُبَ الشاةَ فَيُسْمَعَ منه الحَلْبُ، فَيُطْلَبَ منه اللبنُ، فَيَرْتَضِعُ ثديَ الشاةِ بفَمِه. قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأ قولُه: «رِزْقُهن» ، و «أل» في المولودِ موصولةٌ، و «له» قائمٌ مقامَ الفاعل للمولودِ، وهو عائدُ الموصولِ، تقديرُه: وعلى الذي وُلِدَ له رِزْقُهُنَّ، فَحُذِف الفاعلُ وهو الوالداتُ، والمفعولُ وهو الأولادُ، وأُقيمَ هذا الجارُّ والمجرورُ مُقامَ الفاعلِ. وذَكَر بعضُ الناسِ أنه لا خلافَ في إقامةِ الجارِّ والمجرور مُقامَ الفاعلِ إلا السهيلي، فإنهَ مَنَع من ذلك. وليس كما ذَكَر هذا القائلُ، وأنا أبسُطُ مذاهبَ الناسِ في هذه المسألةِ، فأقول بعونِ الله: اختلف الكوفيون والبصريون في هذه المسألةِ فأجازها البصريون مطلقاً، وأما الكوفيون فقالوا: لا يَخْلو: إمَّا أن يكونَ حرفُ الجر زائداً فيجوزَ ذلك نحو: ما ضُرب من أحد، وإن كان غيرَ زائدٍ لم يَجُزْ ذلك عندَهم، ولا يجوزُ عندَهم أن يكونَ الاسمُ المجرورُ في موضعِ رفعٍ باتفاقٍ بينهم. ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاقِ في

القائمِ مقامَ الفاعل: فذهب الفراء إلى أنَّ حرفَ الجرِّ وحدَه في موضعِ رفعٍ، كما أنَّ «يقوم» من «زيد يقوم» في موضع رفعٍ. وذهب الكسائي وهِشام إلى أنَّ مفعولَ الفعلِ ضميرٌ مستترٌ فيه، وهو ضَميرٌ مبهمٌ من حيثُ أَنْ يرادَ به ما يَدُلُّ عليه الفعلُ من مصدر وزمانٍ ومكانٍ ولم يَدُلَّ دليلٌ على أحدِها، وذهب بعضُهم إلى أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرُ المصدرِ، فإذا قلت: «سِيرَ بزيدٍ» فالتقديرُ: سير هو، أي: السيرُ، لأنَّ دلالةَ الفعلِ على مصدرهِ قويةٌ، وهذا يوافِقُهم فيه بعضُ البصريين. ولهذه الأقوالِ دلائلُ واعتراضاتٌ وأجوبةٌ لا يحتملها هذا الموضوعُ فَلْيُطْلب من كتبِ النَّحْويين. قوله: {بالمعروف} يجوز أن يتعلَّقَ بكلٍّ مِنْ قولِه: «رزقُهنَّ» و «كسوتُهنَّ» على أن المسألة من بابِ الإِعمالِ، وهو على إعمالِ الثاني، إذ لو أُعْمِل الأولُ لأُضْمِر في الثاني، فكان يقال: وكسوتهنَّ به بالمعروفِ. هذا إنْ أُريد بالرزقِ والكسوةِ المصدران، وقد تقَدَّم أنَّ الرزقَ يكون مصدراً، وإنْ كانَ ابنُ الطراوةِ قد رَدَّ على الفارسي ذلك في قوله: {مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض} [النحل: 73] كما سيأتي تحقيقُه في النحل، وإنْ أريدَ بهما اسمُ المرزوقِ والمكسوِّ كالطِّحْن والرِّعْي فلا بدَّ من حذفِ مضافٍ، تقديرُه: اتِّصالُ أو دفعُ أو ما أشبهَ ذلك مِمَّا يَصِحُّ به المعنى، ويكونُ «بالمعروف» متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ منهما. وجَعَلَ أبو البقاء العاملَ في هذه الحالِ الاستقرار الذي تَضَمَّنه «على» . والجمهورُ على «كِسْوَتِهِنَّ» بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمها، وهما لغتان في المصدر واسم المكسوِّ، وفعلُها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولّيْ «

أعطى» في جوازِ حَذْفِهما أو حَذْفِ أحدِهما اختصاراً أو اقتصاراً. قيل: وقد يتعدَّى إلى وَاحدٍ وأنشدوا: 992 - وَأْركَبُ في الروعِ خَيْفانَةً ... كسا وجَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ ضَمَّنه معنى غَطَّى. وفيه نظرٌ لاحتمالِ أنه حُذِف أحدُ المفعولين للدلالةِ عليه، أي: كسا وجهَها غبارٌ أو نحوه. قوله: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} الجمهورُ على «تُكَلَّفُ» مبنياً للمفعولِ، «نفسٌ» قائمٌ مقامَ الفاعلِ وهو الله تعالى، «وُسْعَها» مفعولٌ ثانٍ، وهو استثناءٌ مفرغٌ، لأنَّ «كَلَّفَ» يتعدَّى لاثنين. قال أبو البقاء: «ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا لم يَجُزْ لأنه ليس ببدَلٍ» . وقرأ أبو رجاء: {لاَ تَكَلَّفُ نفسٌ} بفتح التاءِ والأصلُ: «تتكلف» فَحُذِفَتْ إحدى التاءين تخفيفاً: إمَّا الأولى أو الثانيةُ على خلافٍ في ذلك تقدَّم، فتكونُ «نفسٌ» فاعلاً، و «وُسْعَها» مفعول به، استثناء مفرغاً أيضاً. وَرَوى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً: {لا يُكَلِّفُ نفساً} بإسناد الفعلِ إلى ضميرِ الله تعالى، فتكونُ «نفساً» و «وُسْعَها» مفعولَيْنِ. والتكليفُ: الإِلزامُ، وأصلُه من الكَلَفِ، وهو الأثرُ من السَّوادِ في الوجهِ، قال:

993 - يَهْدِي بها أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبِرٌ ... من الجِمالِ كثيرُ اللَّحْمَ عَيْثُومُ وَفلانٌ كَلِفٌ بكذا: أي مُغْرىً به. وقوله: {لاَ تُضَآرَّ} / ابنُ كثير وأبو عمرو: «لا تضارُّ» برفع الراء مشددةً، وتوجيهُها واضحٌ، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يَدْخُلْ عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فَرُفِعَ، وهذه القراءةُ مناسِبَةٌ لِما قبلِهَا من حيث إنه عَطَفَ جملةً خبريةً على خبريةً لفظاً نَهْيِيَّةٌ معنى، ويدل عليه قراءةُ الباقين كما سيأتي. وقرأ باقي السبعة بفتح الراءِ مشددةً، وتوجيهُها أنَّ «لا» ناهيةٌ فهي جازمةٌ، فَسَكَنَتِ الراء الأخيرةُ للجزمِ وقبلَها راءٌ ساكنةٌ مدغمةٌ فيها، فالتقى ساكنان فَحَرَّكْنا الثانيةَ لا الأولى، وإنْ كان الأصلُ الإِدغامَ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً وإنْ كانَ أصلُ التقاءِ الساكنينِ الكسرَ لأجلِ الألفِ إذ هي أختُ الفتحةِ، ولذلك لَمَّا رَخَّمَتِ العربُ «إسحارّ» وهو اسمُ نباتٍ قالوا: «إسحارَ» بفتح الراء خفيفةً، لأنهم لمَّا حَذَفوا الراءَ الأخيرةَ بقيتِ الراءُ الأولى ساكنةً والألفُ قبلَها ساكنةٌ فالتقى ساكنان، والألفُ لا تقبلُ الحركَةَ فحَرَّكوا الثاني وهو الراءُ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً لأجلِ الألفِ قبلَها، ولم يَكْسِروا وإنْ كان الأصلَ، لما ذكرْتُ لك من مراعاةِ الألف. وقرأ الحسن بكسرِها مشددةً، على أصلِ التقاءِ الساكنين، ولم يُراعِ الألفَ، وقرأ أبو جعفرٍ بسكونِها مشددةً كأنه أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ فسكَّنَ، ورُوِي عنه وعن ابن هرمز بسكونِهَا مخففةً، وتَحْتمل هذه وجهين، أحدهما: أن يكونَ من ضارَ يَضير، ويكونُ السكونُ لإِجراءِ الوصلِ مُجْرى الوقف. والثاني: أن يكونَ من ضارَّ يُضارُّ بتشديد الراءِ، وإنما استثقل تكريرَ حرفٍ هو مكررٌ في نفسِه فَحَذَفَ الثانيَ منهما، وَجَمَع بين الساكنين - أعني الألفَ والراء - إمَّا إجراءً للوصلِ مُجْرى الوقفِ، وإمَّا لأنَّ الألفَ قائمةٌ مقامَ الحركةِ لكونِها حرفَ مَدٍّ.

وزعم الزمخشري «أن أبا جعفر إنما اختلس الضمة فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ، وليس كذلك» انتهى. وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] ونحوه. ثم قراءةُ تسكينِ الراء تحتملُ أَنْ تكونَ مِنْ رفعٍ فتكونَ كقراءةِ ابن كثير وأبي عمرو، وأن تكونَ من فَتْح فتكونَ كقراءةِ الباقين، والأولُ أَوْلى، إِذ التسكينُ من الضمةِ أكثرُ من التسكينِ من الفتحةِ لخفتها. وقرأ ابن عباس بكسر الراءِ الأولى والفكِّ، ورُوي عن عمر ابن الخطاب: «لا تضارَرْ» بفتح الراء الأولى والفك، وهذه لغةُ الحجاز أعني [فكَّ] المِثْلين فيما سَكَنَ ثانيهما للجزمِ أو للوقفِ نحو: لم تَمْرُرْ، وامرُرْ، وبنو تميم يُدْغِمون، والتنزيلُ جاء باللغتين نحو: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ} [المائدة: 54] في المائدةِ، قُرىء في السبعِ بالوجهين وسيأتي بيانُه واضحاً. ثم قراءةُ مَنْ شَدَّد الراءَ مضمومةً أو مفتوحةً أو مكسورةً أو مُسْكَّنةُ أو خَفَّفها تحتملُ أن تكونَ الراءُ الأولى مفتوحةً، فيكونُ الفعلُ مبنياً للمفعول، وتكونُ «والدةٌ» مفعولاً لم يُسَمَّ فاعله، وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْمِ به، ويؤيده قراءةُ عمرَ رضي الله عنه. وأَنْ تكونَ مكسورةً فيكونُ الفعلُ مبنياً للفاعلِ، وتكونُ «والدةٌ» حينئذ فاعلاً به، ويؤيده قراءةُ ابنِ عباس. وفي المفعولِ على هذا الاحتمالِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدهما - وهو الظاهر - أنه محذوفٌ تقديرُه: «لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها بسسبِ ولدِها بما لا يَقْدِرُ عليه من رزقٍ وكِسْوةٍ ونحو ذلك، ولا يضارِرْ مولودٌ له زوجتَه بسبب ولدِه

بما وَجَبَ لها من رزقٍ وكسوةٍ، فالباءُ للسببيةِ. والثاني: - قاله الزمخشري - أن يكونَ» تُضارَّ «بمعنى تَضُرُّ، وأن تكونَ الباءُ من صلتِه أي: لا تضرُّ والدةٌ بولِدها فلا تسيءُ غذاءه وتعهُّدَه ولا يَضُرُّ الوالدُ به بأن ينزِعه منها بعدما ألِفَها.» انتهى. ويعني بقولِه «الباءُ من صلته» أي: تكونَ متعلقةً به ومُعَدِّيةً له إلى المفعول، كهي في «ذهبت بزيدٍ» ويكونُ ضارَّ بمعنى أضرَّ فاعَلَ بمعنى أَفْعَل، ومثلُه: ضاعفْتُ الحِسابَ وأَضْعَفْتُه، وباعَدْته وأبعدْتُه، وقد تقدَّم أن «فاعَلَ» يأتي بمعنى أَفْعَل فيما تقدَّم، فعلى هذا نفسُ المجرور بهذه الباءِ هو المفعول به في المعنى، والباءُ على هذا للتعديةِ، كما ذكرْتُ في التنظيرِ بذَهَبْتُ بزيدٍ، فإنه بمعنى أَذْهبته. والثالث: أن الباءَ مزيدةٌ، وأنَّ «ضارَّ» بمعنى ضَرَّ، فيكون «فاعَلَ» بمعنى «فعَلَ» المجردِ، والتقديرُ: لا تَضُرُّ والدةٌ ولدَها بسوءِ غذائِه وعَدَم تعهُّدِه، ولا يَضُرُّ والدٌ ولدَه بانتزاعِه من أمه بعدما أَلِفهَا ونحوِ ذلك. وقد جاء «فاعَل» بمعنى فَعَل المجرد نحو: واعَدْته ووعَدْتُه، وجاوَزْته وجُزْته، إلا أنَّ الكثيرَ في فاعَل الدلالةُ على المشاركةِ بين مرفوعِه ومنصوبِه، ولذلك كان مرفوعهُ منصوباً في التقدير، ومنصوبُه مرفوعاً في التقدير، فمن ثَمَّ كانَ التوجيهُ الأولُ أرجحَ مِنْ توجيهِ الزمخشري وما بعدَه، وتوجيهُ الزمخشري أَوْجَهَ مِمَّا بعدَه. و «له» في محلِّ رفعٍ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ. وقوله: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} فيه دلالةٌ على ما يقولُه النحويون، وهو أنه إذا اجتمع مذكرٌ ومؤنثٌ، معطوفاً أحدُهما على الآخرِ كان حكمُ الفعلِ السابِق عليهما للسابِق منهما، تقول: قامَ زيدٌ وهندٌ، فلا تُلْحِقُ علامةَ تأنيثٍ، وقامَتْ هندٌ وزيدٌ، فتلحقُ العلامةَ، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل، ولا يُستثنى من ذلك

إلاَّ أَنْ يكونَ المؤنثُ مجازياً، فَيَحْسُنُ الاَّ يراعي المؤنثُ وإنْ تقدَّم كقوله تعالى: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9] . ولا يَخْفى ما في هذه الجملِ من علمِ البيان، فمنه: الفصلُ والوصلُ/ أمَّا الفصلُ وهو عدمُ العطفِ بين قولِه: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} وبين قوله: «لا تضارَّ» لأنَّ قوله: «لا تُضارَّ» كالشرحِ للجملةِ قبَلها، لأنه إذا لَمْ تُكَلَّفِ النفسُ إلا طاقَتَها لم يقع ضررٌ، لا للوالدة ولا للمولود له. وكذلك أيضاً لم يَعْطِف {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} على ما قبلَها، لأنها مع ما بعدَها تفسيرٌ لقوله «بالمعروفِ» . وأمَّا الوصلُ وهو العطفُ بين قوله: «والوالداتُ يُرْضِعْنَ» وبين قولِه: «وعلى المولودِ له رزقُهن» فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى. ومنه إبراز الجملةِ الأولى مبتدأ وخبراً، وجَعْلُ الخبرِ فعلاً، لأنَّ الإِرضاع إنما يتجدَّدُ دائماً. وأُضيفت الوالداتُ للأولاد تنبيهاً على شفقتهنَّ وحَثَّاً لهنَّ على الارضاع. وجيء بالوالدات بلفظِ العموم وإنْ كان جمعَ قلة، لأنَّ جمعَ القلةِ متى حُلِّي بأَل عمَّ، وكذلك «أولادَهُنَّ» عامٌّ، لإِضافته إلى ضمير العامِّ، وإنْ كان أيضاً جمع قلةٍ. ومنه إبرازُ الجملةِ الثانيةِ مبتدأً وخبراً، والخبرُ جارٌّ ومجرورٌ بحرفِ «على» الدالِّ على الاستعلاء المجازي في الوجوبِ وقُدِّم الخبرُ اعتناءً به. وقُدِّم الرزْقُ على الكسوةِ لأنه الأهمُّ في بقاءِ الحياةِ ولتكرره كلَّ يومٍ. وأُبرزت الثالثة فعلاً ومرفوعَه، وجُعِل مرفوعُه نكرةً في سياقِ النفي ليعمَّ ويتناولَ ما سبقَ لأجله من حكم الوالدات في الإِرضاع والمولود له في الرزق والكِسْوة الواجبَتَيْنِ عليه للوالدةِ، وأُبْرِزَت الرابعةُ كذلك لأنها كالإِيضاح لما قبلها والتفصيلِ بعد الإِجمال، ولذلك لم يُعْطَفْ عليها كما ذَكَرْتُه لك. ولَمَّا كان تكليفُ النفسِ فوق الطاقة ومُضَارَّةُ أحدِ الزوجينِ للآخر

مِمّ يتكرَّر ويتجدَّدُ أتى بهاتين الجملتين فعليتين وأَدْخَلَ عليهما حرف النفي وهو «لا» لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً. وأمَّا في قراءة مَنْ جَزَمَ فإنَّها ناهيةٌ، وهي للاستقبالِ فقط، وأضافَ الولدَ إلى الوالدة والمولودِ له تنبيهاً على الشفقةِ والاستعطافِ، وقدَّمَ ذِكْرَ عدم مُضَارَّةِ الوالد مراعاةً لِمَا تقدَّم من الجملتين، إذ قد بدأ بحكمِ الوالداتِ وثَنَّى بحكمِ الوالدِ. ولولا خوفُ السآمةِ وأنَّ الكتابَ غيرُ موضوعٍ لهذا الفنِّ لذكرْتُ ما تَحتمِلُه هذه الآية الكريمةُ من ذلك. قولُه: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، قَدَّم الخبرَ اهتماماً، ولا يَخْفَى ما فيها، وهي معطوفةٌ على قولِه: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتفسيرِ لقوله «بالمعروف» كما تقدَّم التنبيهُ عليه. والألفُ واللامُ في «الوارث» بدلٌ من الضميرِ عندَ مَنْ يَرى ذلك، ثم اختلفوا في ذلك الضمير: هل يعودُ على المولود له وهو الأبُ، فكأنه قيل: وعلى وارِثِه، أي: وارِثِ المولدِ له، أو يعودُ على الولدِ نفسه، أي: وارثِ الولد؟ وهذا على حَسَبِ اختلافِهم في الوارثِ. وقرأ يحيى بن يعمر: «الوَرَثَة» بلفظ الجمعِ، والمشارُ إليه بقوله «مثلُ ذلك» إلى الواجبِ من الرزق والكسوة، وهذا أحسنُ مِنْ قول مَنْ يقول: أُشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحدِ للاثنين كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وإنما كان أحسنَ لأنه لا يُحْوِج إلى تأويل، وقيل: المشارُ إليه

هو عَدَمُ المُضَارَّة، وقيل: أجرةُ المثلِ، وغيرُ ذلك. قوله: {عَن تَرَاضٍ} فيه وجهان، أحدُهما: - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو صفةٌ ل «فِصالاً» ، فهو في محلِّ نصبٍ أي: فصالاً كائناً عن تراضٍ، وقدَّره الزمخشري: صادراً عن تراضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونُه كوناً مقيَّداً. والثني: أنه متعلَّقٌ بأراد، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلاَّ بتكلفٍ. و «عن» للمجاوزة مجازاً لأنَّ التراضيَ معنىً لا عينٌ. و «تراض» مصدرُ تفاعَل، فعينُه مضمومةٌ وأصله: تفاعُل تراضُوٌ، فَفُعِل فيه ما فُعِل ب «أَدْلٍ» جمعَ دَلْوٍ، مِنْ قلبِ الواو ياءً والضمةِ قلبِها كسرةً، إذ لا يوجَدُ في الأسماءِ المعربةِ واوٌ قبلَها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويُفْعَلُ بها ذلك تخفيفاً. قوله {مِّنْهُمَا} في محلِّ جرٍّ صفةً ل «تَراضٍ» ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي تراضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما. و «مِنْ لابتداء الغايةِ. وقوله: {وَتَشَاوُرٍ} حُذِفَتْ لدلالةِ ما قبلَها عليها والتقدير: وتشاورٍ منهما، ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ التشاوُرُ من أحدِهما مع غيرِ الآخر لتتفق الآراءُ منهما ومِنْ غيرِهما على المصلحةِ. قوله: {فَلاَ جُنَاحَ} الفاءُ جوابُ الشرطِ، وقد تقدَّم نظيرُ هذه الجملة، ولا بُدَّ قبلَ هذا الجواب من جملةٍ قد حُذِفَت ليصحَّ المعنى بذلك تقديرُه: فَفَصَلاه أو فَعَلا ما تراضيا عليه فلا جُناحَ عليهما في الفِصال أو في الفَصْلِ.

قوله: {أَن تسترضعوا} أنْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب «أراد» وفي «استرضع» قولان للنحْويين، أحدُهما: أنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجرِّ، والتقديرُ: أَنْ تسترضعوا المراضعَ لأولادِكم، فَحُذِف المفعولُ الأول وحرفُ الجر من الثاني، فهو نظيرُ «أمرتُ الخيرَ» ، ذكرْتَ المأمورَ به لوم تَذْكُرِ المأمورَ، لأنَّ الثاني منهما غيرُ الأول، وكلُّ مفعولين كانا كذلك فأنتَ فيهما بالخيار بين ذِكْرِهما وحَذْفِهما، وذِكْرِ الأولِ، دونَ الثاني والعكس. والثاني: أنه متعدٍّ إليهما بنفسِه، ولكنه حُذِفَ المفعولُ الأولُ وهذا رأيُ الزمخشري، ونَظَّر الآية الكريمة بقولك: «أنجح الحاجة» واستَنْجَحَتْه الحاجة «وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ، لأنَّ الأصلَ/» رَضِعَ الولدُ «، ثم تقول:» أَرْضَعَت المرأةُ الولدَ «، ثم تقول:» استرضَعْتُها الولد «هكذا قال الشيخ. وفيه نظرٌ، لأنَّ قولَه» رضِع الولدُ «يُعتقدُ أنَّ هذا لازمٌ ثمَ عَدَّيْتَه بهمزةِ النقلِ، ثمَ عَدَّيْتَه ثانياً بسينِ الاستفعال، وليس كذلك لأنَّ» رَضِع الولدُ «متعدٍّ، غاية ما فيه أنَّ مفعولَه غيرُ مذكورٍ تقديرُه: رَضِع الولدُ أمَّه، لأنَّ المادةَ تقتضي مفعولاً به كضَربَ، وأيضاً فالتعديةُ بالسين قولٌ مرغوب عنه. والسينُ للطلبِ على بابها نحو: استسقيتُ زيداً ماءً واستطْعَمْته خبزاً، فكما أنَّ ماءٌ وخبزاً منصوبان لا على إسقاط الخافضِ كذلك» أولادكم «. وقد [جاء] استفعل للطلب وهو مُعَدَّى إلى الثاني بحرف جر، وإن كان» أَفْعَل «الذي هو أصلُه متعدِّياً لاثنين نحو:» أفهمني زيدٌ المسألةَ «واستفهمتُه عنها، ويجوز حَذْفُ» عن «، فلم يَجِىءْ مجيء» استَسْقَيْت «و» استطعمت «من كونِ ثانيهما منصوباً على لا على إسقاطِ الخافض.

وفي هذا الكلام التفاتٌ وتكوينٌ: أمَّا الالتفاتُ فإنه خروجٌ من ضميرِ الغَيْبةِ في قوله» فإنْ أرادوا «إلى الخطابِ في قولِه:» وإنْ أردْتُم «إذا المخَاطَبُ الباءُ والأمهاتُ. وأمَّا التكوينُ في الضمائِر فإنَّ الأول ضميرُ تثنيةٍ وهذا ضميرُ جمعٍ، والمرادُ بهما الآباءُ والأمهاتُ أيضاً، وكأنه رَجَعَ بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولودِ له، ولكنه غَلَّب المذكَّرَ وهو المولودُ له، وإنْ كان مفرداً لفظاً. و» فلا جُناحَ «جوابُ الشرط. قوله: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} » إذا «شرطٌ حُذِفَ جوابُه لدلالةِ الشرطِ الأولِ وجوابِه عليه، قال أبو البقاء:» وذلك المعنى هو العاملُ في «إذا» وهو متعلقٌ بما تَعَلَّق به «عليكم» . وهذا خطأٌ في الظاهرِ، لأنه جَعَلَ العاملَ فيها أولاً ذلك المعنى المدولَ عليه بالشرطِ الأولِ. وجوابِه، فقولُه ثانياً «وهو متعلقٌ بما تعلَّقَ به عليكم» تناقضٌ، اللهم إلا أن يُقالَ: قد يكونُ سقطت من الكاتب ألفٌ، وكان الأصلُ «أو هو متعلقٌ» فَيَصِحُّ، إلا أنه إذا كان كذلك تمحَّضَتْ «إذا» للظرفية، ولم تكنْ للشرطِ، وكلامُ هذا القائِل يُشْعر بأنها شرطيةٌ في الوجهينِ على تقدير الاعتذارِ عنه. وقرأ الجمهور: «آتيتم» بالمدِّ هنا وفي الروم: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً} [الروم: 39] ، وقَصَرَهما ابنُ كثير. ورُوي عن عاصم «أوتيتم» مبنياً للمفعول، أي: ما أَقْدَرَكم الله عليه. فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ لأنَّ آتى بمعنى أعطى فهي تتعدَّى لاثنين أحدُهما ضميرٌ يعودُ على «ما» الموصولةِ، والآخر ضميرٌ يعودُ على المراضعِ، والتقديرُ: ما آتيتموهنَّ إياه، ف «هُنَّ» هو المفعولُ الأول، لأنه فاعلٌ في المعنى، والعائدُ هو الثاني، لأنه هو المفعولُ في المعنى. والكلامُ على

حذفِ هذا الضمير وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإِشكال والجوابُ عند قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] فَلْيُلْتفتْ إليه. وأمَّا قراءةُ القصرِ فمعناها جِئْتم وفَعَلْتُم كقولِ زهير: 994 - وما كان مِن خيرٍ أَتَوْه فإنَّما ... توارَثَهُ آباءُ آبائِهم قَبْلُ أي: فعلوه، والمعنى إذا سَلَّمتم ما جِئْتُمُ وفَعَلْتُم، قال أبو علي: «تقديرُ: ما أتيتم نَقْدَه أو إعطاءه، فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهو عائدُ الموصول، فصار: آتيتموه أي جئتموه، ثم حُذِفَ عائدُ الموصولِ» . وأجاز أبو البقاء أن يكونَ التقديرُ: ما جِئْتُم به فَحُذِفَ، يعني حُذِف على التدريج، بأنَّ حُذِفَ حرف الجر أولاً فاتصل الضمير منصوباً بفعلٍ فَحُذِفَ. و «ما» فيها وجهان، أظهرهُما: أنها بمعنى الذي، وأجاز أبو عليّ فيها أن تكون موصولةً حرفيةً، ولكنْ ذَكَر ذلك مع قراءةِ القصرِ خاصة، والتقدير: إذا سَلَّمتم الإِتيان، وحينئذٍ يُسْتَغْنَى عن ذلك الضمير المحذوف. ولا يختصُّ ذلك بقراءة القصرِ، بل يجوزُ أن تكونَ مصدريةً مع المدِّ أيضاً على أَن المصدرَ واقعٌ موقع المفعولِ، تقديرُه: إذا سلَّمتم الإِعطاء، أي المُعْطَى والظاهرُ في «ما» أن يكونَ المرادُ بها الأجرةَ التي تُعْطاها المرضعُ، والخطابُ على هذا في قولِه: «سَلَّمتم» و «آتيتم» للآباء خاصةً، وأجازوا أن يكونَ المرادُ

بها الأولادَ، قاله قتادة والزهري. وفيه نظرٌ من حيث وقوعُها على العقلاء، وعلى هذا فالخطابُ في «سَلَّمتم» للآباء والأمهاتِ. وقرأ عاصم في رواية شيبان: «أُوتيتم» على البناء للمجهول ومعناه: ما آتاكم الله وأَقْدركم عليه من الأجرة، وهو في معنى قولِه تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] قوله: {بالمعروف} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق ب «سَلَّمْتم» أي: بالقولِ الجميلِ. والثاني: أنْ يتعلَّق ب «آتيتم» ، والثالثُ: أن يكونَ حالاً من فاعل «سَلَّمْتم» أو «آتيتم» ، فالعاملُ فيه حينئذٍ محذوفٌ أي: ملتبسين بالمعروفِ.

234

قولُه تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} الآية: فيه أوجهٌ: الأولُ: أَنَّ «الذين» مبتدأٌ لا خبرَ له، بل أَخْبر عن الزوجات المتصلِ ذِكْرُهُنَّ به، لأنَّ الحديثَ معهنَّ في الاعتدادِ، فجاء الخبرُ عن المقصود، إذ المعنى: مَنْ مات عنها زوجُها تربَّصت. وإليه ذهب الكسائي والفراء، وأنشد الفراء: 995 - لعَلِّيَ إنْ مَالَتْ بِيَ الريحُ مَيْلَةً ... على ابن أبي ذِبَّانَ أَنْ يتندَّما فقال: «لعلي» ثم قال: «أن يتندم» فأخبر عن ابن أبي ذبَّان، فترك

المتكلم، إذا التقديرُ: لعل ابن أبي ذبان أن يتندَّمَ إنْ مالت بي الريحُ ميلةً. وقال آخر: 996 - بني أسدٍ إنَّ ابن قَيسٍ وقَتْلَه ... بغيرِ دَمٍ دارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ فأخبرَ عن قتلِه بأنه دارُ مذلَّة، وتَرَكَ الإِخبار عن ابن قيس. وتحريرُ مذهبِ الكسائي والفراء أنه إذا ذُكِر اسمٌ، وذُكِر اسمٌ مضافٌ إليه فيه معنى الإِخبارِ تُرِك عن الأولِ وأُخْبِر عن الثاني/ نحو: «إنَّ زيداً وأخته منطلقةٌ» ، المعنى: أنَّ أخت زيد منطلقة، لكنَّ الآية الكريمة والبيتَ الأول ليسا من هذا الضربِ، وإنما الذي أورده تشبيهاً بهذا الضرب قوله: 997 - فَمَنْ يكُ سائِلاً عني فإني ... وجِرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ ولتحرير هذا المذهب والردِّ عليه وتأويلِ دلائِله كتابٌ غيرُ هذا. الثاني: أَنَّ له خبراً وهو «يتربَّصْن» ولا بُدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوعَ هذه الجملةِ خبراً عن الأول لخلوِّها من الرابط، والتقديرُ: وأزواجُ الذين يُتَوفَّوْن يتربَّصْنَ. ويدلُّ على هذا المحذوفِ قولُه: «ويَذَرون أزواجاً» فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليهُ مُقامَه لتلك الدلالةِ. الثالث أن الخبرَ أيضاً «يتربَّصْن» ولكن حُذِفَ العائدُ من الكلامِ لدلالةِ عليه، والتقدير: يتربصن بعدهم أو بعد موتِهم، قاله الأخفش. الرابع: أنَّ «يتربَّصْنَ» خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقديرُ: أزواجُهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملةُ خبرٌ عن الأول، قاله المبردُ. الخامس: أنَّ

الخبرَ محذوفٌ بجملتِه قبلَ المبتدأ، تقديرُه: فيما يُتْلى عليكم حكمُ الذين يُتَوَفَّوْن، ويكون قولُه «يتربَّصْنَ» جملةً مبيِّنَةً للحكم ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإِعرابِ، ويُعْزى هذا لسيبويه. قال ابن عطية: «وحكى المهدويُّ عن سيبويه أنَّ المعنى:» وفيما يُتْلَى عليكم الذين يُتَوَفَّون، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه، لأنَّ ذلك إنما يتَّجهُ إذا كان في الكلام لفظُ أمرٍ بعد المبتدأ نحو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا} [المائدة: 38] ، {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] ، وهذه الآيةُ فيها معنى الأمر لا لفظُه، فتحتاجُ مع هذا التقديرِ إلى تقديرِ آخر يُسْتغنى عنه إذا حَضَرَ لفظُ الأمرِ «. السادس: أنّ بعضَ الجملةِ قَام مَقام شَيءً مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقديرُ:» والذين يُتَوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصُ أزواجُهم «فَحُذِف» أزواجهُم «بجملته، وقامَتِ النون التي هي ضميرُ الأزواج مَقامَهُنَّ بقيدِ إضافتهنَّ إلى ضميرِ المبتدأ. وقراءةُ الجمهورِ «يُتَوَفَّوْنَ» مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه، وقرأ مير المؤمنين - ورواها المفضل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعل، ومعناها يَسْتوفون آجالَهم، قاله أبو القاسم الزمخشري. والذي يُحكى أن أبا الأسود كان خلفَ جنازةٍ فقال له رجل: مَن المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: اللهُ، وكان أحدَ الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أَنْ أمرَه بوضعِ كتابٍ في النحو. [وهذا] تُناقِضُه هذه القراءة. وقد تقدَّم احتمالات في قوله: «يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهن ثلاثةَ قُروء» وهل «

بأنفسهن» تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ «قروء» على الظرفِ أو المفعوليةِ؟ وهي جاريةٌ ههنا. قوله: {مِنكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ «يَتَوَفَّوْن» والعاملُ فيه محذوفٌ تقديره: حالَ كونِهم منكم. و «مِنْ» تحتمل التبعيض وبيانَ الجنسِ. قوله: {وَعَشْراً} إنما قال «عشراً» من غير تأنيثٍ في العدد لأحد أوجهٍ، الأولُ: أنَّ المراد «عَشْر ليال» . مع أيامِها، وإنما أوثرت الليالي على الأيام في التاريخ لسَبْقها. قال الزمخشري: «وقيل» عَشْراً «ذهاباً إلى الليالي، والأيامُ داخلةٌ فيها، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكيرَ ذاهبين فيه إلى الأيام، تقول:» صُمْت عشراً «، ولو ذكَّرْت خَرَجْتَ من كلامِهم، ومن البيِّن قولُه تعالى: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} [طه: 103] ، {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} [طه: 104] . والثاني - وهو قولُ المبرد -: أَنَّ حَذْف التاء لأجلِ أنَّ التقديرَ عشرُ مُدَدٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ، تقول العرب:» سِرْنا خمساً «أي: بين يوم وليلة قال: 998 - فطافَتْ ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ ... وكان النكيرُ أَنْ تُضِيفَ وتَجْأرا والثالث: أنَّ المعدودَ مذكرٌ وهو الأيام، وإنما حُذِفَت التاء لأنَّ المعدودَ

المذكَّر متى ذُكِرَ وَجَبَ لَحاقُ التاء في عدده، وإذا حُذِفَ لفظاً جاز في العددِ الوجهان: ذِكْرُ التاءِ وعدمُها. حكى الكسائي:» صُمْنَا من الشهرِ خمساً «، ومنه الحديث:» وأتبعَه بستٍّ من شوال «، وقال آخر: 999 - وإلاَّ فسيري مثلَ ما سار راكبٌ ... تيمَّمَ خَمْساً ليس في سيره أَمَمْ نَصَّ النحويون على ذلك. قال الشيخ:» فلا يُحْتَاج إلى تأويلها بالليالي ولا بالمُدَد كما قدَّره الزمخشري والمبرد على هذا «قال:» وإذا تقرر هذا فجاء قولُهُ: «وعشراً» على أحدِ الجائزين، وإنما حَسُنَ حذفُ التاءِ هنا لأنه مقطعُ كلامٍ فهو شبيهٌ بالفواصِلِ، كما حَسَّنَ قولَه: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} [طه: 103] كونُه فاصلةً، فقوله: «ولو ذَكَّرْتَ لخرَجْتَ من كلامهم» ليس كما ذكر، بل هو الأفصحُ. وفائدةُ ذكره «إن لبثتم إلاَّ يوماً» بعد قولِهِ «إلا عَشْراً» أنه على زعمِهِ أرادَ الليالي والأيامُ داخلةٌ معها، فقولُهُ «إلا يوماً» دليلٌ على إرادةِ الأيام «، قال الشيخ:» وهذا عندنا يَدُلُّ على أنَّ المرادَ بالعشر الأيامُ، لأنهم اختلفوا في مُدَّة اللَّبْث، فقال بعضُهم: «عشراً» وقال بعضُهم: «يوما» فدلَّ على أنَّ المقابَلَ باليومِ إنما هو أيام، إذ لا يَحْسُنُ في المقابَلَةِ أن يقولَ بعضُهم: عشرُ ليال، فيقول البعضُ: يومٌ «. قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ حالاً من فاعل «فَعَلْنَ» أي: فَعَلْنَ ملتبساتٍ بالمعروفِ ومصاحباتٍ له. والثاني: أنه مفعولٌ به أي: تكونُ الباءُ باءَ التعدية. والثالثُ: أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ أي:

فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف، أي: كائناً، ويجيءُ فيه مذهب/ سيبويه: أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ أي: فَعَلْنَه - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروفِ وهو الوجهُ الرابعُ. و «بما تعملون» متعلق ب «خبيرٌ» . وقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ. و «ما» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً وأن تكونَ بمعنى الذي أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ. وعلى هذين القولين فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأولِ لا يُحتاج إليه إلا على رأيٍ ضعيفٍ.

235

قوله تعالى: {مِنْ خِطْبَةِ النسآء} : في محل نصبٍ على الحالِ وفي صاحبها وجهان، أحدُهما: الهاءُ المجرورةُ في «به» ، والثاني: «ما» المجرورُة ب «في» ، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ، وقال أبو البقاء: «حالٌ من الهاءِ المجرورةِ، فيكونُ العاملُ فيه» عَرَّضْتم «. ويجوزُ أن يكونَ حالاً من» ما «فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ» . وهذا على ظاهره ليس بجيد، لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ على ما تقرَّر، إلا أَنْ تريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ فقد يجوزُ له ذلك. والخِطْبَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعول أي: من خِطْبَتِكم النساء، فَحُذِفَ الفاعلُ للعلم به. والخِطْبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْب، والخَطْب: الحاجة، ثم خُصَّت بالتماس النكاح لأنه بعضُ الحاجات، يقال: ما خطبُكَ؟ أي: ما حاجتُك. وقال الفراء: «الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب وهي من قولك: إنه لَحَسَنُ الجِلْسَةِ والقِعْدَةِ أي: الجلوس والقعود، والخُطْبَةُ -

بالضم - الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزجرِ، وكلاهما من الخَطْب الذي هو الكلام، وكانت سَجاحُ يُقال لها خِطْبٌ فتقول: نِكْحٌ. قوله: {أَوْ أَكْنَنتُمْ} » أو «هنا للإِباحةِ أو التخيير أو التفصيلِ أو الإِبهامِ على المخاطب، وأَكَنَّ في نفسِهِ شيئاً أي: أَخْفاه، وَكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوهِ: أي سَتَرَهُ به، فالهمزةُ في» أكنَّ «للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ كأشرَقَتْ وشَرَقَتْ. ومفعول» أكنَّ «محذوفٌ يعودُ على» ما «الموصولةِ في قوله:» فيما عَرَّضْتم «أي: أو أكننتموه. ف» في أنفسكم «متعلِّقٌ ب» أَكْنَنتم «، ويَضْعُفُ جَعْلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ. قوله: {ولكن} هذا الاستدراكُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه استدراكٌ من الجملةِ قبلَه، وهي قولُهُ:» ستذكرونَهُنَّ «، فإنَّ الذِّكْرَ يقع على أنحاءٍ كثيرةٍ ووجوهٍ متعددةٍ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهٌ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصوص، ولو لم يُسْتَدْرَك لكانَ من الجائز، لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ. وهو نظيرُ:» زيدٌ سيلقى خالداً ولكنْ لا يواجهُهُ بِشَرٍّ «. لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً، من جملتها مواجهتُه بالشرِّ، استُدْرِكَت هذه الحالةُ من بينِها. والثاني - قاله أبو البقاء - قاله الزمخشري - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل» لكنْ «تقديرُهُ:» فاذكروهُنَّ، ولكن لا تواعِدُوهُنَّ سراً «وقد تقدَّم أنَّ المعنى على

الاستدراكِ من الجملةِ قبلَه فلا حاجَةَ إلى حذفِ. . .، وإنما الذي يَحْتاجه ما بعدَ» لكن «وقوعُ ما قبلَها من حيثُ المعنى لا من حيثُ اللفظُ، لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشرِّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ. قوله: {سِرّاً} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مفعولاً ثانياً لتواعِدُوهُنَّ. والثاني أنه حالٌ من فاعلِ «تواعدوهُنَّ» أي: لا تواعدوهُنَّ مُسْتَخْفين بذلك. والثالث: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ أي: مواعدةً سراً. والرابعُ: أنه حالٌ من ذلكَ المصدرِ المُعَرَّفِ، أي: المواعدةَ مستخفيةً والخامس: أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ مجازاً أي: في سِرٍّ. وعلى الأقوالِ الأربعةِ فلا بُدَّ من حَذْفِ مفعولٍ تقديرُهُ: لا تواعدوهُنَّ نكاحاً. والسِّرُّ: ضدُّ الجَهْرِ، وقيل: يُطْلَقُ على الوَطْءِ وعلى الزِّنا بخصوصيةٍ، وأنشدوا للحُطَيئة: 1000 - ويَحْرُم سِرُّ جارتِهم عليهم ... ويأكلُ جارُهُمْ أُنُفَ القِصاعِ وقولَ الآخر - هو الأعشى -: 1001 - ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها ... حَرامٌ عليكَ فانكِحَنْ أو تَأَبَّدا قوله: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ} في هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لا يندرجُ تحت «سِرّ» على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه، به، كأنه [قال] : لكنْ قولوا قولاً معروفاً. والثاني: أنه متصلٌ وفيه تأويلان ذكَرهما الزمخشري

فإنه قال: «فإنْ قلتَ بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناءِ؟ قلت: ب» لا تواعِدُوهُنَّ «، أي: لا تواعِدُوهُنَّ مواعَدةً قط إلا مواعدةً معروفة غيرَ مُنْكَرةٍ، أو لا تواعِدُوهُنَّ إلا بِأَنْ تقولوا، أي: لا تواعدوهُنَّ إلاَّ بالتعريض، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من» سراً «لأدائِهِ إلى قولِكَ: لا تواعِدوهُنَّ إلا التعريضَ» انتهى. فَجَعَلَهُ استثناءً متصلاً مفرغاً على أحدِ تأويلين، الأولُ: أنه مستثنى من المصدرِ، ولذلك قَدَّره: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قط إلاَّ مواعدةً معروفةً. والثاني: أنه من مجرورٍ محذوفٍ، ولذلك قَدَّره ب «إلاَّ بأَنْ تقولوا» ، لأنَّ التقديرَ عنده: لا تواعِدُوهُنَّ بشيء إلا بِأَنْ تقولوا، ثم أَوْضَحَ قولَه بأنْ تقولوا بالتعريضِ، فلمَّا حُذِفَتْ الباءُ من «أَنْ» وهي باءُ السببيةِ بقي في «أَنْ» الخلافُ المشهورُ بعدَ حَذْفِ حرفِ الجرِّ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جر؟ وقولُهُ: «لأدائِهِ إلى قولِكَ إلى آخره» يعني أنه لا يَصِحُّ تسلُّط العاملِ عليه فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ، وأنت لو قلت: «لا تواعِدُوهُنَّ/ إلاَّ التعريض» لم يَصِحَّ لأنَّ التعريضَ ليس مواعداً. ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاستثناءَ المنقطعَ ليس مِنْ شرطِهِ صِحَّةُ تسلُّطِ العاملِ عليه بل هو على قسمين: قسمٍ يَصِحُّ فيه ذلك، وفيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً نحو: «ما جاء أحدُ ألا حماراً» ، ولغةُ تميم إجراؤه مُجْرى المتصلِ فيُجْرون فيه النصبَ والبدلية بشرطه، وقسم لا يَصِحُّ فيه ذلك نحو: «ما زادَ إلا ما نَقَصَ» ، و «ما نفَعَ إلا ما ضَرَّ» . وحكمُ هذا النصبُ عند العربِ قاطبةً، فالقسمان يشتركان في التقديرِ بلكن عند البصريين، إلاَّ أنَّ أحدَهما يَصِحُّ تسلُّط العاملِ عليه في قولك: «ما جاء أَحدٌ إلا حمار» لو قلت: «ما جاءَ إلا حمارٌ» صَحَّ بخلافِ القسمِ الثاني، فإنَّه

لا يتوجَّه عليه العاملُ «ولتحقيقِ هذا موضعٌ هو أليقُ به، وقد تقدَّمَ منه طرفٌ صالحٌ. قوله: {عُقْدَةَ} في نصبهِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه مفعولٌ به على أنه ضَمَّنَ «عَزَم» معنى ما يتعدَّى بنفِسِه وهو: تَنْووا أو تباشِروا ونحوُ ذلك. والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجر وهو «على» ، فإنَّ «عَزَم» يتعدَّى بها، قال: 1002 - عَزَمَتُ على إقامةِ ذي صباحٍ ... لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ وحذفها جائز كقول عنترة: 1003 - ولقد أبيتُ على الطَّوى وأظلُّه ... حتى أنالَ به كريمَ المَطْعَمِ أي: وأظلُّ عليه. الثالثُ: أنه منصوبٌ على المصدرِ، فإنَّ المعنى: ولا تَعْقِدُوا عقدةَ، فكأنه مصدرٌ على غير الصدرِ، نحو: قَعَدْتُ جلوساً، والعُقْدَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعولِ والفاعلُ محذوفٌ، أي: عُقْدَتَكم النكاحَ. قوله: {فاحذروه} الهاءُ في «فاحذَرُوه» تعودُ على اللَّهِ تعالى، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: فاحذَرُوا عقابَه. ويَحْتَمِلُ أَنْ تعودَ على «ما» في قوله {مَا في أَنْفُسِكُمْ} بمعنى ما في أنفسكم من العَزْمِ على ما لا يجوزُ، قاله الزمخشري.

236

قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} : في «ما» هذه ثلاثةُ

أقوالٍ، أظهرُها: أن تكونُ مصدريةً ظرفيةً، تقديرُهُ: مدةَ عدمِ المَسيس كقوله: 1004 - إني بحبلِكَ واصلٌ حَبْلِي ... وبريش نَبْلِكَ رائِشٌ نَبْلي ما لم أَجِدْكَ على هُدَى أَثَرٍ ... يَقْرُو مِقَصَّكَ قائِفٌ قَبْلي والثاني: أن تكونَ شرطيةً بمعنى إنْ، نقله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ، لأنه يكونُ حينئذٍ من بابِ اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ، فيكونُ الثاني قيداً في الأول نحو: «إنْ تأتِ إنُ تُحْسِنْ إليَّ أكرمْك» أي: إنْ أتيتَ مُحْسِناً، وكذا في الآيةِ الكريمة: إنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ غيرَ ماسِّين لَهُنَّ، بل الظاهرُ أنَّ هذا القائل إنما أرادَ تفسير المعنى، لأنَّ «ما» الظرفيةَ مُشَبَّهةُ بالشرطيةِ، ولذلك تقتضي التعميم. والثالث: أن تكونَ موصولة بمعنى الذي، وتكونُ للنساءِ؛ كأنه قيلَ: إنْ طَلَّقْتُمْ النساءَ اللائي لم تَمَسُّوهُنَّ، وهو ضعيفٌ، لأنَّ «ما» الموصولةَ لا يُوصَفُ بها، وإنْ كان يوصفُ بالذي والتي وفروعِهِا. وقرأ الجمهورُ: «تَمَسُّوهُنَّ» ثلاثياً وهي واضحةٌ. وقرأ حمزة والكسائي: «تماسُّوهُنَّ» من المفاعلَةِ، فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ فاعَلَ بمعنى فَعَل كسافر، فتوافِقَ الأولى، ويُحْتَمل أَنْ تكونَ على بابِها من المشاركَةِ، فإنَّ الفعلَ مِن الرجلِ والتمكينَ من المرأةِ، ولذلك قيلَ لها زانيةٌ. ورجَّح الفارسي

قراءة الجمهورِ بأنَّ أفعالَ هذا البابِ كلَّها ثلاثيةٌ نحو: نكح فرع سفد وضربَ الفحلُ. قوله: {أَوْ تَفْرِضُواْ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مجزومٌ عطفاً على «تَمَسُّوهُنَّ» ، و «أَو» على بابها من كونِها لأحدِ الشيئين، قاله ابن عطية. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار أَنْ عطفاً على مصدرٍ متوهمٍ، و «أو» بمعنى إلاَّ التقدير: ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أَنْ تَفْرِضُوا، كقولِهِم: لألزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي، قاله الزمخشري. والثالث: أنه معطوفٌ على جملةٍ محذوفةٍ تقديره: «فَرَضْتُم أو لم تَفْرِضُوا» فيكونُ هذا من بابِ حذفِ الجزمِ وإبقاءِ عمله، وهو ضعيفٌ جداً، وكأنَّ الذي حَسَّنَ هذا كونُ لفظِ «لم» موجوداً قبل ذلك. والرابع: أن تكونَ «أو» بمعنى الواو، و «تَفْرِضُوا» عطفاً على «تَمَسُّوهُنَّ» فهو مجزومٌ أيضاً. قوله: {فَرِيضَةً} فيها وجهان، أظهرُهما: أنها مفعولٌ به وهي بمعنى مفعولة، أي: إلاَّ أَنْ تَفْرِضُوا لهنَّ شيئاً مفروضاً. والثاني: أن تكونَ منصوبةً على المصدرِ بمعنى فَرْضاً. واستجود أبو البقاء الوجهَ الأولَ، قال: «وأَنْ يكونَ مفعولاً به وهو الجيدُ» والموصوفُ محذوفٌ تقديرُهُ: متعةً مفروضةً. قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} قال أبو البقاء: «وَمَتِّعُوهُنَّ معطوفٌ على فعلٍ محذوف تقديرُهُ: فَطَلِّقُوهُنَّ ومَتِّعُوهُنَّ» . وهذا لا حاجَةَ إليه، فإنَّ الضميرَ

المنصوبَ في «مَتِّعوهن» عائدٌ على المطلقاتِ قبل المسيسِ وقبلَ الفَرْضِ، المذكورَيْن في قولِه: {إِن طَلَّقْتُمُ النسآء} إلى آخرها. قوله: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ} ، جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وفيها قولان، أحدُهما: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، بل هي استئنافيَّةٌ بَيَّنَتْ حالَ المُطَلِّقِ بالنسبةِ إلى إيسارِهِ وإقتارِهِ. والثاني: أنها في موضعِ نصبٍ على الحالِ، وذو الحال/ فاعل «متِّعوهن» . قال أبو البقاء: «تقديرُهُ: بقَدر الوُسْع» ، وهذا تفسير معنىً. وعلى جَعْلِهَا حاليةً فلا بُدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها، وهو محذوفٌ تقديرهُ: على الموسِع منكم. ويجوزُ على مذهبِ الكوفيين ومَنْ تابعهم أن تكونَ الألفُ واللامُ قامَتْ مقامَ الضميرِ المضافِ إليه تقديرُهُ: «على مُوْسِعِكُم قَدَرُه» . وقرأ الجمهورُ: «المُوسِعِ» بسكونِ الواو وكسرِ السينِ اسمَ فاعِلٍ من أَوْسع يُوسع. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو والسين مشددة، اسمَ مفعولٍ من «وسَّعَ» . وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وحفص: «قَدَرَه» بفتحِ الدالِ في الموضعين، والباقون بسكونِها. واختلفوا: هل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش وأكبرُ أئمةِ العربيةِ إلى أنهما بمعنىً واحدٍ، حكى أبو زيد: «خُذْ قَدَر كذا وقَدْر كذا» ، بمعنى واحدٍ، قال: «ويُقْرَأُ في كتابِ اللَّهِ:» فسالتْ

أوديةٌ بقدَرها «و» قَدْرها «، وقال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الرعد: 17] ولو حُرِّكَت الدالُ لكان جائزاً. وذهبَ جماعةٌ إلى أنهما مختلفانِ، فالساكنُ مصدرٌ والمتحركُ اسمٌ كالعَدِّ والعَدَدِ والمَدِّ والمَدَد، وكأنَّ القَدْر بالتسكين الوُسْعُ، يقال:» هو يُنفق على قَدْرِهِ «أي وُسْعِهِ. وقيل: بالتسكين الطاقةُ، وبالتحريك المقدارُ. قال أبو جعفر:» وأكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحريكِ إذا كان مساوياً للشيءِ، يُقال: «هذا على قدَر هذا» . وقرأ بعضهم بفتحِ الراء، وفي نصبِه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ منصوباً على المعنى، قال أبو البقاء: «وهو مفعولٌ على المعنى، لأنَّ معنى» مَتِّعوهن «لِيُؤَدِّ كلٌّ منكم قدَرَ وُسْعِهِ» وشَرْحُ ما قاله أن يكونَ من باب التضمين، ضَمَّنَ «مَتِّعوهنَّ» معنى «أدُّوا» . والثاني: أن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ تقديرُهُ: فَأَوْجِبوا على الموسِعِ قَدَره. وجعله أبو البقاء أجودَ من الأول. وفي السجاوندي: «وقال ابن أبي عبلة:» قَدَرَه أي قَدَرَه الله «انتهى. وظاهِرُ هذا أنه قرأ بفتحِ الدالِ والراءِ، فيكونُ» قَدَرَه «فعلاً ماضياً، وجَعَلَ فيه ضميراً فاعلاً يعودُ على اللِّهِ تعالى، والضميرُ المنصوبُ يعود على المصدرِ المفهومِ من» مَتِّعوهن «. والمعنى: أنَّ الله قَدَرَ وكَتَبَ الإِمتاعَ على المُوسِعِ وعلى المُقْتِرِ.

قوله: {مَتَاعاً} في نصبِهِ وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ، وتحريرُه أنه اسمُ مصدرٍ، لأنَّ المصدرَ الجاريَ على صَدْرِهِ إنَّما هو التمتيعُ، فهو من بابِ: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . وقال الشيخ: «قالوا: انتصَبَ على المصدرِ، وتحريرُهُ أن المتاعَ هو ما يُمَتَّع به، فهو اسمٌ له، ثم أُطْلِقَ على المصدرِ على سبيلِ المجازِ، والعامِلُ فيه:» وَمَتِّعوهُنَّ «وفيه نظرٌ، لأنَّ المعهود أنْ يُطلَق المصدرُ على أسماءِ الأعيان كضَرْب بمعنى مَضْروب، وإمَّا إطلاقُ الأعيان على المصدرِ فلا يجوزُ، وإنْ كانَ بعضُهم جَوَّزه على قلةٍ نحو قولهم:» تِرْبَاً وَجَنْدلاً «و» أقائماً وقد قَعَدَ الناسُ «. والصحيح أن» تِرْباً «ونحوَه مفعولٌ به، و» قائماً «نصبٌ على الحالِ. والثاني من وَجْهَي» متاعاً «أن يَنْتَصِبَ على الحالِ. والعاملُ فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرورُ من معنى الفعلِ، وصاحبُ الحالِ ذلك الضميرُ المستكنُّ في ذلك العاملِ، والتقديرُ: قَدَرُ الموسِعِ يستقرُّ عليه في حالِ كونِهِ متاعاً. قوله: {بالمعروف} فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بمتِّعوهن فتكون الباءُ للتعديةِ. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمتاعا، فيكونَ في محلِّ نصبٍ، والباءُ للمصاحبةِ، أي: متاعاً ملتبساً بالمعروفِ. وجَوَّز الحوفي وجهاً ثالثاً وهو أنْ يتعلَّقَ بنفسِ» متاعاً «. قوله: {حَقّاً} في نصبِه أربعةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبله كقولِك:» هذا ابني حقاً «وهذا المصدرُ يَجبُ إضمارُ عامِله

تقديرُه: حَقَّ ذلك حقاً. ولا يجوزُ تقديمُ هذا المصدر على الجملةِ قبلَه. والثاني: أَنْ يكونَ صفةً لمتاعاً، أي: متاعاً واجباً على المحسنين. والثالث: أنه حالٌ مِمَّا كان حالاً منه» متاعاً «، وهذا على رأي مَنْ يجيز تعدُّد الحالِ. والرابعُ: أن يكونَ حالاً من» المعروف «، أي بالذي عُرِف في حالِ وجوبِه على المحسنين. و» على المحسنين «يجوزُ أن يتعلَّقَ بحقاً، لأنه بمعنى الواجبِ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له.

237

قولُه تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ} : هذه الجملةُ في موضع نصبٍ على الحالِ، وذو الحالِ يجوزُ أن يكونَ ضميرَ الفاعلِ، وأَنْ يكونَ ضميرَ المفعولِ لأنَّ الرابطَ موجودٌ فيهما. والتقديرُ: وإنْ طَلَّقتموهنَّ فارِضين لهن أو مفروضاً لهن، و «فريضة» فيهما الوجهان المتقدمان. والفاءُ في «فنصفُ» جوابُ الشرطِ، فالجملةُ في محلِّ جزمِ جواباً للشرطِ، وارتفاعُ «نصفُ» على أحدِ وجهين: إمَّا الابتداءُ والخبر حينئذ محذوفٌ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتُه قبله، أي: فعليكم أو فَلَهُنَّ نصفُ، وإنْ شِئْتَ بعدَه أي: فنصفُ ما فرضتُم عليكم - أو لَهُنَّ - وإمَّا على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: فالواجبُ نصفُ. وقرأ فرقة: «فنصفَ» بالنصبِ على تقدير: «فادْفَعُوا أو أَدُّوا» . وقال أبو البقاء: ولو قُرِىء بالنصبِ لكان وجهُه «فأَدُّوا نصفَ» فكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً مرويَّةً. والجمهورُ على كسر نونِ «نِصْف» . وقرأ زيد وعلي، ورواها

الأصمعي قراءةً عن أبي عمرو: «فَنُصف» بضمِّ النون هنا وفي جميع القرآن، وهما لغتان. وفيه لغةٌ ثالثة: «نَصيف» بزيادةِ ياءٍ، ومنه الحديث: «ما بَلَغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفه» و «ما» في «ما فرضتم» بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً/. قوله: {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} في هذا الاستثناءِ وجهان، أحدُهما: أن يكونَ استثناءً منقطعاً، قال ابن عطية وغيرُه: «لأنَّ عفوهُنَّ عن النصف ليس من جنسِ أَخْذِهِنَّ» . والثاني: أنه متصلٌ، لكنه من الأحوال، لأنَّ قولَه: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} معناه: فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُم في كلِّ حال إلا في حالِ عَفْوِهِنَّ، فإنه لا يَجِبُ، وإليه نحا أبو البقاء، وهذا ظاهرٌ، ونظيرُه: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] . قال الشيخ: «إلاَّ أَنْ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقع أَنْ وصلتُها حالاً كسيبويه فإنه يمنعُ ذلك، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً» . وقرأ الحسن «يَعْفُونَه» بهاء مضمومةٍ، وفيها وجهان، أحدهما: أنها ضميرٌ يعودُ على النصفِ. والأصلُ: إلاَّ أَنْ يَعْفُونَ عنه، فَحُذِف حرفُ الجرِّ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ. والثاني: أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ، وإنما ضَمَّها تشبيهاً بهاءِ الضميرِ كقول الآخر:

1005 - هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . على أحدِ التأويلين في البيت أيضاً. وقرأ ابن أبي إسحاق: «تَعْفُون» بتاءِ الخطابِ، ووجهُها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيْبة إلى الخطابِ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهِنَّ وأنه مندوبٌ. و «يَعْفُون» منصوبٌ بأَنْ تقديراً فإنَّه مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ الإِناثِ. هذا رأيُ الجمهور. وأمَّا ابن درستويه والسهيلي فإنه عندهما معربٌ. وقد فَرَّق الزمخشري وأبو البقاء بين قولك: «الرجالَ يَعْفُون» و «النساءُ يَعْفُون» وإنْ كان هذا من واضحاتِ النحو: بأنَّ قولك «الرجالُ يَعْفُون» : الواو فيه ضميرُ جماعة الذكورِ وحُذِفت قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل: يَعْفُوُون فاستُثْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ فبقيت ساكنة، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةً، فحُذِفت الواو الأولى لئلاَّ يتلقى ساكنان، فوزنُه يَفْعُون والنونُ علامة الرفعِ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ. وأنَّ قولك: «النساء يَعْفُون» الواوُ لامُ الكلمةِ والنونُ ضميرُ جماعةِ الإِناثِ، والفعلُ معها مبنيٌّ لا يَظْهَرُ للعامِل فيه أثرٌ. وقد ناقش الشيخُ الزمخشريَّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلمِ تُعْرَفُ، وبأنه لم يبيِّن حَذْفَ الواو من قولك «الرجال يعفون» وأنه لم يذكر خلافاً في بناء المضارع المتصل بنون الإِناث، وكلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُنَاقَشَ بمثلِه. قوله: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي} «أو» هنا فيها وجهان، أحدُهما: هي للتنويع. والثاني: أنها للتخييرِ. والمشهورُ فتحُ الواوِ عطفاً على المنصوبِ قبله. وقرأ

الحسن بسكونِها، استثقل الفتحةَ على الواوِ فقدَّرها كما يقدِّرُها في الألف، وسائرُ العرب على استخفافها، ولا يجوزُ تقديرُها إلا في ضرورةٍ كقوله - هو عامر بن الطفيل -: 1006 - فما سَوَّدَتْني عامِرٌ عن وراثةٍ ... أبى اللَّهُ أَنْ أَسْمو بأمٍّ ولا أَبِ ولَمَّا سَكَّن الواوَ حُذِفَتْ للساكن بعدَها وهو اللامُ من «الذي» . وقال ابنُ عطية: «والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرفةٍ قبلها متحركٌ لقلَّةِ مجيئِها في كلامِهم، وقال الخليلُ:» لم يَجِيء في الكلامِ واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلَها فتحةٌ إلا قولُهم: «عَفَوة» جمع عَفْو، وهو ولدُ الحِمار، وكذلك الحركةُ - ما كانت - قبلَ الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ «انتهى. قالَ الشيخ:» فقوله: لقلَّةِ مجيئها يعني مفتوحةً مفتوحاً ما قبلَها، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ، وذلكَ أنَّ الحركةَ قبلَهَا: إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً أو كسرةً أو فتحةً. فإنْ كانَتْ ضمةً: فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ، فإنْ كان في فعلٍ فهو كثيرٌ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارعِ الداخلِ عليها حرفُ نصبٍ نحو: «لَنْ يغزُوَ» ، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها نحو: «هلَ يَغْزُوَنَّ» ، وكذا الأمرُ نحو: «اغزُوَنَّ» ، وكذا الماضي على فَعُل في التعجِب نحو: سَرُوَ الرجل، حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجب فيقولون: «لَقَضُوَ الرجلُ» ، على ما أُحْكِم في بابِ التصريف. وإنْ كان ذلك في اسم: فإمَّا أن يكونَ مبنياً

على هاءِ التأنيث فيكثرُ أيضاً نحو: عَرْقُوة وتَرْقُوة وقَمَحْدُوَة. وإنْ كان قبلها فتحة فهو قليل كما ذكر الخليل، وإن كان قبلها كسرةٌ قُلِبت الواوُ ياءً نحو: الغازي والغازية، وشَذَّ من ذلك «أَفْرِوَة» جمع فَرِوَة وهي مَيْلَغَةُ الكلب، و «سواسِوَة» وهم: المستوون في الشر، و «مقاتِوَة» جمعُ مُقْتَوٍ وهو السائسُ الخادِمُ. وتلخَّص من هذا أنَّ المرادَ بالقليلِ واوٌ مفتوحةٌ متطرفةً ما قبلها في اسم غيرٍ ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ، فليس قولُ ابنِ عطية «والذي عندي إلى آخره» بظاهر. والمرادُ بقولِه: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} قيل: الزوجُ: وقيلَ: الوليُّ، وأل في النكاحِ للعهدِ، وقيد بدلٌ من الإِضافةِ، أي: نكاحُه كقوله: 1007 - لهمْ شَيمَةٌ لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم ... من الجودِ، والأحلامُ غيرُ عَوازِبِ أي أحلامُهم، وهذا رأيُ الكوفيين. وقال بعضُهم: في الكلامِ حذفٌ تقديره: بيده حلُّ عقدةِ النكاحِ، كما قيل ذلك في قوله: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} [البقرة: 235] أي عَقْدَ عقدة النكاح وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزوجُ/. قوله: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ} «أن تَعْفُوا» في محل رفع بالابتداء لأنه في تأويل «عَفْوُكم» ، و «أقربُ» خبره. وقرأ الجمهور «تَعْفُوا» بالخطاب، والمرادُ الرجالُ والنساءُ، فَغَلَّبَ المذكَّرَ، والظاهرُ أنه للأزواجِ خاصةً، لأنهم المخاطَبون في صدرِ الآيةِ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ، وهو قولُه: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} - على قولنا أنَّ المرادَ به الزوجُ وهو المختارُ - إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآيةِ. وقرأ

الشعبي وأبو نهيك: «يَعْفوا» بياء من تحت. قال الشيخ: «جعله غائباً، وجُمِع على معنى:» الذي بيدِه عقدةُ النكاح «لأنه للجنس لا يُراد به واحد» يعني أنَّ قولَه: «وأن يَعْفوا» أصله «يَعْفُوُون» فلمَّا دَخَل الناصبُ حُذِفَتْ نونُ الرفعِ ثم حُذِفَتِ الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ، وهذه الياءُ فيه هي ضميرُ الجماعةِ، جُمِعَ على معنى الموصولِ، لأنه وإنْ كان مفرداً لفظاً فهو مجموعٌ في المعنى لأنه جنسٌ. ويظهر فيه وجهٌ آخرُ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ، وفي هذا الفصلِ ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عقدةُ النكاحِ، إلا أنه قَدَّر الفتحة في الواوِ استثقالاً كما تقدَّم في قراءةِ الحسن، تقديرُه: وأَنْ يعفو الذي بيده عقدةُ. قوله: {للتقوى} متعلِّقٌ بأقرب، وهي هنا للتعديةِ، وقيل: بل هي للتعليلِ. و «أقربُ» تتعدَّى تارةً باللام كهذه الآيةِ، وتارةً بإلى كقولِه تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] . وليست «إلى» بمعنى اللام، وقيل: بل هي بمعناها، وهذا مذهبُ الكوفيين، أعني التجوُّزَ في الحروفِ. ومعنى اللامِ و «إلى» في هذا الموضعِ يتقارَبُ. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ في غيرِ القرآن:» أقربُ من التقوى وإلى التقوى «إلاَّ أنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على معنىً غير معنى» إلى «وغير معنى» مِنْ «، فمعنى اللامِ: العفو أقربُ من أجل التقوى، واللام تدلُّ على علة قرب العفو، وإذا قلت: أقربُ إلى التقوى كان المعنى: يقارب التقوى، كما تقول:

أنت أقربُ إليَّ، و» أقرب من التقوى «يقتضي أن يكونَ العفوُ والتقوى قريبَيْن، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوى، وليس معنى الآية على هذا» انتهى. فَجَعَلَ اللامَ للعلة لا التعديةِ، و «إلى» للتعديةِ. واعلمْ أنَّ فِعْلَ التعجب وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلُهما قبل أن يكونَ تعجباً وتفضيلاً نحو: «ما أزهدني فيه وهو أزهدُ فيه» ، وإنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ: فإن كان الفعلُ يُفْهِمُ علماً أو جَهْلاً تعدَّيا بالباءِ نحو: «هو أعلمُ بالفقه» ، وإنْ كان لا يُفْهِمُ ذلك تعدَّيا باللامِ نحو: «ما أضربَكَ لزيدٍ» ، و «أنت أضربُ لعمروٍ» إلاَّ في بابِ الحُبِّ والبغضِ فإنهما يتعدَّيان إلى المفعولِ ب «في» نحو: «ما أحبَّ زيداً في عمروٍ وأبغضه في خالدٍ، وهو أحبُّ في بكر وأبغض في خالد» وإلى الفاعل المعنوي ب «إلى» نحو: «زيدٌ أحبُّ إلى عمروٍ من خالد، وما أحبَّ زيداً إلى عمرو» ، أي: إنَّ عمراً يحبُ زيداً. وهذه قاعدةٌ جليلةٌ قَلَّ مَنْ يَضْبِطُها. والمُفَضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ، تقديرُه: أقربُ للتقوى من تَرْكِ العفوِ. والياءُ في التقوى بدلٌ من واو، وواوُها بدلٌ من ياءٍ لأنها من وَقَيْتُ أقِي وقايةً، وقد تقدَّم ذلك أول السورةِ. قوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل} الجمهورُ على ضَمِّ الواو مِنْ «تَنْسَوا» لأنها واوُ ضميرٍ. وقرأ ابن يعمر بكسرِها تشبيهاً بواو «لو» كما ضَمُّوا الواو من «لو» تشبيهاً بواوِ الضميرِ. وقال أبو البقاء «في واو» تَنْسَوا «من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] . وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ، فظاهرُ كلامِه عَوْدُها كلِّها إلى هنا، إلاَّ أنه لم يُنْقَلْ هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما.

وقرأ عليٌّ رضي الله عنه:» ولا تناسَوا «قال ابن عطية:» وهي قراءةُ متمكِّنةٌ في المعنى، لأنه موضعُ تناسٍ لا نسيانٍ، إلاَّ على التشبيه «. وقال أبو البقاء: على بابِ المفاعلة، وهي بمعنى المتاركةِ لا بمعنى السهو، وهو قريبٌ من قولِ ابنِ عطية. قوله: {بَيْنَكُمْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ ب» تَنْسَوُا «. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضلِ أي: كائناً بينكم. والأولُ أَوْلى لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغَ من فعلٍ لا يكونُ بينهم.

238

قوله تعالى: {حَافِظُواْ} : في «فاعَل» هنا قولان، أحدُهما: أنه بمعنى فَعِل كطارَقْتُ النعل وعاقَبْتُ اللصَّ. ولمَّا ضَمَّن المحافظةَ معنى المواظبةِ عَدَّاها ب «على» الثاني: أنَّ «فاعَل» على بابِها من كونِها بين اثنين، فقيل: بين العبدِ وربِّه، كأنه قيل: احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ. وقيل: بين العبدِ والصلاةِ أي: احفَظْها تحفَظْك. وقال أبو البقاء: «ويكون وجوبُ تكريرِ الحفظِ جارياً مَجْرى الفاعِلين، إذ كان الوجوبُ حاثَّاً على الفعلِ، فكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ، كما قالوا في {وَاعَدْنَا موسى} [البقرة: 51] فالوعدُ من اللهِ والقَبولُ من موسى بمنزلةِ الوعد. وفي» حافِظوا «معنىً لا يوجَدُ في» احفظوا «وهو تكريرُ الحفظ» وفيه نظر؛ إذ المفاعلةُ لا تَدُلُّ على تكريرِ فعلٍ البتةِ.

قوله: {والصلاة الوسطى} ذَكَر الخاصَّ بعد العامَّ، وقد تقدَّم فائدُته عند قولِه: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ} [البقرة: 98] ، والوُسْطى: فُعْلَى معناها التفضيلُ، فإنها مؤنثةٌ للأوسط، كقولِه - يمدح الرسول عليه السلام -: 1008 - يا أوسطَ الناسِ طُرَّاً في مفاخِرهمْ ... وأكرمَ الناسِ أمَّا بَرَّةً وأَبَا وهي [من] الوسطِ الذي هو الخِيارُ/ وليست من الوَسَطِ الذي معناه: متوسطٌ بين شيئين، لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل إلا ما يَقْبل الزيادةَ والنقصَ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسطِ بين الشيئين فإنه لا يَقْبَلُهما فلا يُبْنى منه أفعلُ التفضيل. وقرأ علي: «وعلى الصلاة» بإعادةِ حرفِ الجَرِّ توكيداً، وقَرَأَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - «والصلاةَ» بالنصبِ، وفيها وجهان، أحدُهما على الاختصاصِ، ذكرَه الزمخشري، والثاني على موضعِ المجرورِ، مثلُه نحو: مررتُ بزيدٍ وعَمْراً، وسيأتي بيانُه في المائدة. قوله: {قَانِتِينَ} حالٌ من فاعلِ «قوموا» . و «لله» يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ اللامُ بقوموا، ويجوزُ أنَ تتعلَّق بقانتين، ويدلُّ للثاني قولُه تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] . ومعنى اللامِ التعليلُ.

239

قوله تعالى: {فَرِجَالاً} : منصوبٌ على الحالِ، والعاملُ فيه محذوفٌ تقديرُه: «فَصَلُّوا رجالاً، أو فحافِظُوا عليها رِجالاً وهذا أَوْلَى لأنه

و» رجال «جَمْعُ راجِل كقائِم وقيام، وصاحِب وصِحاب، يُقال منه: رَجِل يَرْجَلُ رَجْلاً، فهو راجِلٌ ورَجُلٌ بوزن عَضُد، وهي لغةُ الحجازِ، يقولونَ: رَجِل فلانٌ فهو رَجُلٌ ويقال: رَجْلان ورَجِيل قال الشاعر: 1009 - عليَّ إذا لاقَيْتُ ليلى بخُفْيَةٍ ... أَنَ أزدارَ بيتَ اللهِ رَجْلانَ حافِيا كلُّ هذا بمعنى مَشَى على قدميه لعدمِ المركوبِ. ولهذا اللفظ جموعٌ كثيرة: رِجال كما تقدَّم، وقال تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] ، وقال 1010 - وبنو غُدانَةَ شاخِصٌ أبصارُهُمْ ... يَمْشُون تحتَ بُطونِهِنَّ رِجَالا ورَجِيل ورُجالى، وتُروى قراءةً عن عكرمة، ورَجالى ورَجَّالة ورُجَّال وبها قرأ عكرمةُ وابن مَخْلد، ورُجَّالى ورُجلان ورِجْلة ورَجْلَة بسكونِ الجيمِ وفتحِها وأَرْجِلَة وأراجِل وأراجِيل ورُجَّلاً بضم الراءِ وتشديد الجيمِ من غير ألفٍ، وبها قُرِىء شاذَاً. ورُكْبَان جمع راكِب، قيل: ولا يُقال إلاَّ لِمَنْ رَكِبَ جَمَلاً، فأمَّا راكبُ الفرسِ ففارسٌ، وراكبُ الحمار والبغل حَمَّار وبَغَّال، والأَجْوَدُ صاحبُ حمارٍ وبَغْلٍ. و» أو «هنا للتقسيمِ وقيلَ: للإِباحةِ، وقيل: للتخييرِ.

قوله: {كَمَا عَلَّمَكُم} الكافُ في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من ضميرِ المصدر المحذوفِ، ويجوزُ فيها أن تكونَ للتعليلِ أي: فاذكروه لأجلِ تعليمِهِ إياكم. و» ما «يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والمعنى: فصَلُّوا الصلاةَ كالصلاةِ التي عَلَّمكم، وعَبَّر بالذكر عن الصلاةِ، ويكونُ التشبيهُ بين هيئتي الصلاتين الواقعةِ قبلَ الخوفِ وبعدَه في حالةِ الأمنِ. قال ابنُ عطية:» وعلى هذا التأويلِ يكونُ قولُه: {مَّا لَمْ تَكُونُواْ} بدلاً من «ما» في «كما» وإلاَّ لَم يَتَّسِقْ لفظُ الآية «قال الشيخ:» وهو تخريجٌ ممكِنٌ، وأحسنُ منه أن يكونَ «ما لم تكونوا» بدلاً من الضمير المحذوفِ في «عَلَّمكم» العائدِ على الموصول، إذ التقديرُ: عَلَّمكموه، ونَصَّ النحويون على أنه يجوزُ: ضَرَبْتُ الذي رأيتُ أخاك «أي: رأيته أخاك، فأخاك بدلٌ من العائدِ المحذوف» .

240

قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ} فيه ثمانية أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأ، و «وصيةًٌ» مبتدأٌ ثانٍ، وسَوَّغَ الابتداءَ بها كونُها موصوفةً تقديراً، إذ التقديرُ: «وصيةٌ من الله» أو «منهم» على حَسَبِ الخلافِ فيها: أهي واجبةٌ من الله أو مندوبةٌ للأزواج؟ و «لأزواجِهم» خبرُ المبتدأ الثاني فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، والمبتدأُ الثاني وخبرُهُ خبرُ الأولِ. وفي هذه الجملةِ ضميرُ الأولِ. وهذه نظيرُ قولِهِم: «السمنُ مَنَوانِ بدرهمٍ» تقديرُهُ: مَنَوانِ منه، وجَعَلَ ابنُ عطية المسوِّغَ للابتداء بها كونَها في موضِعِ تخصيصٍ. قال: «كما حَسُنَ أَنْ يرتفعَ:» سلامٌ عليك «و» خيرٌ بين يديك «لأنها موضعُ دعاءٍ» وفيه نظرٌ.

والثاني: أن تكونَ «وصيةٌ» مبتدأٌ، و «لأزواجِهم» صفتَها، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُهُ: فعليهم وصيةٌ لأزواجِهم، والجملةُ خبرُ الأول. والثالث: أنها مرفوعةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: كُتِبَ عليهم وصيةٌ، و «لأزواجهم» صفةٌ، والجملةُ خبرُ الأولِ أيضاً. ويؤيِّد هذا قراءةُ عبدِ الله: «كُتِبَ عليهم وصيةٌ» وهذا من تفسيرِ المعنى لا الإِعرابِ، إذ ليس هذا من المواضعِ التي يُضْمَرُ فيها الفعْلُ. الرابع: «أن» الذينَ «مبتدأٌ على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ تقديرُهُ: ووصيةُ الذين. والخامسُ: أنه كذلك إلا أنه على حَذْفِ مضاف من الثاني: تقديرُهُ:» والذين يُتَوَفَّوْنَ أهلُ وصية «ذكر هذين الوجهين الزمخشري. قال الشيخ:» ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك «. وهذه الأوجُهُ الخمسةُ فيمنَ رَفَع» وصيةٌ «، وهم ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم، والباقونَ يَنْصِبُونها، وارتفاعُ» الذين «على قراءتهم فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه فاعلُ فعلٍ محذوفٍ تقديرُهُ: وَلْيُوصِ الذين، ويكون نصبُ» وصية «على المصدر. والثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مبني للمفعولِ يتعدَّى لاثنين، تقديرُه: وأُلْزِم الذين يُتَوَفَّوْنَ/ ويكونُ نصبُ» وصية «على أنها مفعولٌ ثانٍ لألْزِمَ، ذكره الزمخشري. وهو والذي قبلَه ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل. والثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُهُ محذوفٌ،

وهو الناصبُ لوصية تقديرُهُ: والذين يُتَوَفَّوْنَ يُوصُون وصيةً، وقَدَّرَهُ ابنُ عطية:» لِيوصوا «، و» وصيةً «منصوبةٌ على المصدرِ أيضاً. وفي حرفِ عبد الله:» الوصيةُ «رفعاً بالابتداء والخبرُ الجارُّ بعدها، أو مضمرٌ أي: فعليهم الوصيةُ: والجارُّ بعدَها حالٌ أو خبرٌ ثانٍ أو بيان. قوله: {مَّتَاعاً} في نصبِهِ سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ بلفظِ» وصية «لأنها مصدرٌ منونٌ، ولا يَضُرُّ تأنيثُها بالتاءِ لبنائِها عليها، فهي كقولِهِ: 1011 - فلولا رجاءُ النصر مِنْكَ ورهبةٌ ... عقابَك قد كانوا لنا كالموارِدِ والأصلُ: وصيةٌ بمتاعٍ، ثم حُذِفَ حرفُ الجَرِّ اتساعاً، فَنُصِبَ ما بعدَه، وهذا إذا لم تَجْعَلِ «الوصية» منصوبةً على المصدرِ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وإنما يجيء ذلك حالَ رفعِها أو نصبِها على المفعولِ كما تقدَّم تفصيلْهُ. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ: إمَّا من لفظِهِ أي: مَتِّعوهن متاعاً أي: تمتيعاً، أو من غير لفظهِ أي: جَعَل اللَّهُ لهنَّ متاعاً. والثالث: أنه صفةٌ لوصيةٍ، والرابع: أنه بدلٌ منها. الخامس: أنه منصوبٌ بما نصبَها أي: يُوصُون متاعاً، فهو مصدرٌ أيضاً على غير الصدر ك «قَعَدْتُ جُلوساً» ، هذا فيمن نَصَبَ «وصية. السادس: أنه حالٌ من الموصين: أي مُمَتَّعين أو ذوي مَتاعٍ. السابع: أنه حالٌ من أزواجهم، أي: ممتعاتٍ أو ذواتِ متاع، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانتِ الوصيةُ من الأزواج. وقرأ أُبَيّ:» متاعٌ لأزواجِهِم «بدلَ» وصيةٌ «، ورُوي عنه» فمتاعٌ «، ودخولُ

الفاءِ في خبرِ الموصولِ لشبهِهِ بالشرطِ، وينتصِبُ» متاعاً «في هاتين الروايتين على المصدرِ بهذا المصدر، فإنه بمعنى التمتيع، نحو:» يعجبني ضربٌ لك زيداً ضرباً شديداً «ونظيرُه: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] و» إلى الحَوْلِ «متعلِّقٌ ب» مَتاع «أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له. قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في نصبِهِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه نعتٌ ل» متاعاً «. الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه حالٌ من الزوجات أي: غيرَ مخرجاتٍ. الرابع: أنه حالٌ من الموصين، أي: غيرَ مُخْرَجين. الخامس: أنه منصوب على المصدر تقديرُهُ: لا إخراجاً قاله الأخفش. السادس: أنه على حذفِ حرفِ الجرِّ، تقديرُهُ: مِنْ غيرِ إخراجٍ، قاله أبو البقاء، وفيه نظر. قوله: {فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبرُ» لا «وهو» عليكم «من الاستقرارِ، والتقديرُ: لا جُنَاح مستقرٌّ عليكم فيما فَعَلْنَ في أنفسِهِنَّ. و» ما «موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ تقديرُهُ: فَعَلْنَهُ. و» مِنْ معروف «متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من ذلك العائِد المحذوفِ تقديرُهُ. فيما فَعَلْنَه كائناً من معروف. وجاء في هذه الآية» من معروفٍ «نكرةً مجرورةٌ ب» مِنْ «، وفي الآيةِ قبلها» بالمعروفِ «مُعَرَّفاً مجروراً بالباء لأنَّ هذه لامُ العهدِ، كقولك:» رأيتُ رجلاً فأكرمْتُ الرجلَ «إلاَّ أنَّ هذه وإنْ كانت متأخرةً في اللفظ فهي مُقَدَّمةٌ في التنزيل، ولذلك جَعَلَها العلماء منسوخةً بها إلا عند شذوذ. وتقدَّم نظائر هذه الجملِ، فلا حاجة إلى إعادةِ الكلامِ فيها.

243

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين} : هذه همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على حرفِ النفيِ، فَصَيَّرَتِ النفيَ تقريراً، وكذا كلُّ استفهامٍ دخَلَ على نفي نحو: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1] {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فيمكن أن يكونَ المخاطبُ عَلِمَ بهذه القصةِ قبلَ نزولِ هذه الآيةِ، فيكونُ التقريرُ ظاهراً أي: قد رأيتَ حالَ هؤلاء، ويمكن أنه لم يَعْلَمْ بها إلا مِنْ هذه الآيةِ، فيكون معنى هذا الكلامِ التنبيهَ والتعجُّبَ من حالِ هؤلاءِ، والمخاطَبُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َ أو كُلُّ سامِعٍ. ويجوزُ أن يكونَ المرادُ بهذا الاستفهام التعجبَ من حالِ هؤلاءِ، وأكثرُ ما يَرِدُ كذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً} [المجادلة: 14] {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45] ، وقالَ الشاعر: 1012 - ألم تَرَ أني كلما جِئْتُ طارِقاً ... وَجَدْتُ بها طِيباً وإنْ لم تَطَيَّبِ والرؤية هنا عِلْمية فكانَ من حَقِّها أن تتعدَّى لاثنين، ولكنها ضُمِّنَتْ معنى ما يتعدَّى بإلى، والمعنى: ألم ينته علمُك إلى كذا. وقال الراغب: «رأيت: يتعدَّى بنفسه دونَ الجارِّ، لكن لما استعيرَ قولُهم:» ألم تَرَ «بمعنى ألم تَنْظُر عُدِّيَ تعديتَه، وقَلَّما يُستعمل ذلك في غيرِ التقديرِ، لا يُقال: رأيت إلى كذا» . وقرأ السلمي: «تَرْ» بسكون الراء، وفيها وجهان، أحدُهما: أنه تَوَهَّم أن الراءَ لامُ الكلمةِ فسَكَّنَهَا للجزمِ كقولِهِ:

1013 - قالَتْ سُلَيْمَى اشترْ لنا سَوِيقاً ... واشترْ فَعَجِّل خادِماً لَبِيقا وقيل: هي لغة قوم، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلة. والثاني: أنه أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف، وهذا أَوْلى فإنه كثيرٌ في القرآنِ نحوُ: «الظنونا» و «الرسولا» و «السبيلا» و «لم يَتَسَنَّهْ» «وبهداهم اقتده» وقوله: «ونُصْلِهِ» و «نؤته» و «يُؤدّه» ، وسيأتي ذلك. قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} مبتدأٌ وخبرٌ، وهذه الجملةُ في [موضع] نصبٍ على الحال، وهذا أحسنُ مجيئِها، إذ قد جُمَعَ فيها بين الواوِ والضمير. و «أُلوفٌ» فيه قولان، أظهرُهُما: أنه جمعُ «أَلْف» لهذا العَدَدِ الخاصِّ وهو جَمْعُ كثرةٍ، وجمعُ القلةِ: آلاف كحُمول وأَحْمال. والثاني: أَنه جَمْعُ «آلِف» على فاعِل كشاهد وشُهود وقاعِد وقُعود. أي: خَرَجوا وهم مؤتلفون، قال الزمخشري: «وهذا من بِدَع التفاسير» . قوله: {حَذَرَ الموت} مفعولٌ من أجلِهِ، وفيه شروطُ النصبِ، أعني المصدريةَ واتحادَ الفاعلِ والزمانِ. /

قوله: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} فيه وجهانِ، أحدُهما: أنه معطوفٌ على معنى: فقالَ لهم اللَّهُ: موتوا، لأنه أَمْرٌ في معنى الخبرِ تقديرُهُ: فأماتَهُم اللَّهُ ثم أحياهُمْ. والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، تقديرهُ: فماتوا ثم أحياهم، و «ثم» تقتضي تراخي الإِحياءِ عن الإِماتَةِ. وألفُ «أحيا» عن ياء، لأنه من «حَيِيَ» ، وقد تقدَّم تصريفُ هذه المادةِ عند قولِه: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} [البقرة: 26] قوله: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} أَتَى بهذه الجملةِ مؤكَّدة ب «إنَّ» واللام، وأتى بخبرِ «إنَّ» : «ذو» الدالة على الشرفِ بخلافِ «صاحب» . و «على الناسِ» متعلقٌ بفَضْل. تقول: تَفَضَّل فلان عليَّ، أو بمحذوفٍ لأنه صفة له فهو في محل جر، أي: فضلٍ كائنٍ على الناس. وأل في الناسِ للعمومِ، وقيل للعهدِ، والمرادُ بهم الذين أماتهم. قوله: {ولكن أَكْثَرَ الناس} هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قولُهُ {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} ، لأنَّ تقديرَه: فيجِبُ عليهم أَنْ يشكُروا لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ والرزق، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ.

244

قولُه تعالى: {وَقَاتِلُواْ} : هذه الجملةُ فيها أقوالٌ، أحدُها: أنها عطفٌ على قولِهِ: «موتوا» وهو أمرٌ لِمَنْ أَحْيَاهُم اللَّهُ بعدَ الإِماتَةِ بالجهادِ، أي: فقال لهم: مُوتوا وقاتِلوا، رُوي ذلك عن ابنِ عباس والضحاك. قال الطبري: «ولا وجهَ لهذا القولِ» . والثاني: أنها معطوفةٌ على قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} وما بينهما اعتراضٌ. والثالث: أنها معطوفةٌ على محذوفٍ تقديرُهُ «فَأَطِيعُوا وقاتِلوا، أو فلا تَحْذَروا الموتَ كما حَذِرَهُ الذين مِنْ

قَبْلِكُمْ فلم يَنْفَعهم الحذرُ» ، قاله أبو البقاء. والظاهرُ أنَّ هذا أمرٌ لهذه الأمةِ بالجهادِ، بعد أَنْ ذَكَرَ أن قوماً لم ينفعْهم الحذرُ من الموتِ، فهو تشيجعٌ لهم، فيكونُ من عطفِ الجملِ فلا يُشْتَرَطُ التوافُق في أمرٍ ولا غيرِه.

245

قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} : «مَنْ» للاستفهام ومَحَلُّها الرفعُ على الابتداءِ، و «ذا» اسم إشارةٍ خبرُهُ، و «الذي» وصلتُهُ نعتٌ لاسمِ الإِشارةِ أو بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكونَ «مَنْ ذا» كلُّه بمنزلَةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولِكَ: «ماذا صَنَعْتَ» كما تقدَّم شرحُه في قوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله} [البقرة: 26] . ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفَرَّق بينه وبين قولِكَ: «ماذا» حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ «ما» أشدُّ إبهاماً مِنْ «مَنْ» لأنَّ «مَنْ» لمَنْ يَعْقِلُ. ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ «مَنْ ذا» حكمُ «ماذا» . ويجوز أن يكونَ «ذا» بمعنى الذي، وفيه حينئذٍ تأويلان، أحدُهما: أنَّ «الذي» الثاني تأكيدٌ له، لأنه بمعناه، كأنه قيل: مَنْ الذي الذي يُقْرِضُ؟ والثاني: أن يكونَ «الذي» خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، والجملةُ صلةُ ذا، تقديرهُ: «مَنْ الذي هو الذي يُقْرِضُ» وذا وصلتُه خبرُ «مَنِ» الاستفهامية. أجاز هذين الوجهين جمالُ الدين بن مالك، وهما ضعيفان، والوجهُ ما قَدَّمْتُهُ. وانتصَبَ «قرْضاً» على المصدرِ على حذفِ الزوائدِ، إذ المعنى: إقراضاً كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [البقرة: 26] ، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ: «يُقْرِض اللَّهَ مالاً وصدقةً» ، ولا بدَّ من حذفِ مضافًٍ تقديرهُ: يقرضُ

عبادَ اللَّهِ المحاويجَ، لتعاليه عن ذلك، أو يكونُ على سبيل التجوُّزِ، ويجوز أن يكونَ بمعنى المفعول نحو: الخَلْق بمعنى المخلوق، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ ل «يُقْرِض» . «وحَسَناً» يجوزُ أن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، إذ جعلنا «قَرْضاً» بمعنى مفعول أي: إقراضاً حسناً. قوله: {فَيُضَاعِفَهُ} قرأ عاصم وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر يشدِّد العينَ من غير ألفٍ. والباقون برفعِها، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ، فالرفعُ من وجهين، أحدُهما: أنه عطفٌ على «يقرضُ» الصلةِ. والثاني: أنه رفعٌ على الاستئناف أي: فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ. والنصبُ من وجهين، أحدُهما: أنه منصوبٌ بإضمارٍ «أَنْ» عطفاً على المصدر المفهومِ من «يقرضُ» في المعنى، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ: مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ من اللَّهِ، كقوله: 1014 - لَلُبْسُ عباءَةٍ وتَقرَّعيني ... أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ والثاني: أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهامِ في المعنى، لأنَّ الاستفهامِ وإنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً فهو عن الإِقراضِ. معنىً كأنه قال: أيقرضُ اللَّهَ أَحَدٌ فيضاعفَه.

قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهامِ على اللفظِ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللفظِ المُقْرِضُ أي الفاعلُ للقرضِ، لا عن القرضِ، أي: الذي هو الفعلُ» وقد مَنَعَ بعضُ النحويين النصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقعِ عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحكمِ، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرِها، كقوله: «مَنْ يستغفرُونِي فأغفرَ له، مَنْ يدعوني فأستجيبَ له» بالنصبِ فيهما. قال أبو البقاء: «فإنْ قيلَ: لِمَ لاَ يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ/ الذي هو» قرضاً «كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار» أَنْ «مثلَ قولِ الشاعر: 1015 - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّعَيْني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قيل: هذا لا يَصِحُّ لوجهين، أحدُهما: أنَّ» قرضاً «هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ، والمصدرُ المُؤَكِّدِ لا يُقَدَّرُ ب» أَنْ «والفعلِ. والثاني: أنَّ عَطْفَهُ عليه يُوجِبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ، ولا يَصِحُّ هذا في المعنى، لأن المضاعفَةَ ليستُ مُقْرِضَةً، وإنما هي فعلُ اللِّهِ تعالى، وتعليلُه في الوجهِ الأولِ يُؤْذِنُ بأنه يَشْتَرِط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرٍ يتقدَّر ب» أَنْ «والفعلِ، وهذا ليسَ بشرطٍ، بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ كقوله:

1016 - ولولا رجالٌ من رِزامٍ أَعِزَّةٍ ... وآلُ سبيعٍ أو أَسُوءَك عَلْقَما ف» أسوءَك «منصوبٌ بأنْ عطفاً على» رجالٌ «فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال: لو عُطِفَ على» قرضاً «لشاركه في عاملِهِ وهو» يُقْرض «فيصيرُ التقديرُ: مَنْ ذا الذي يقرض مضاعفةً، وهذا ليسَ صحيحاً معنىً. وقد تقدَّم أنه قرىء» يُضاعِفُ «و» يُضَعِّفُ «فقيل: هما بمعنىً، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد، نحو: عاقَبْت، وقيل: بل هما مختلفان، فقيل: إنَّ المضعَّفَ للتكثير. وقيل: إنَّ» يُضَعِّف «لِما جُعِلَ مثلين، و» ضاعَفَه «لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك. والقَرْضُ: القَطْعُ، ومنه:» المِقْراضُ «لِما يُقْطَع به، وقيل للقَرْض» قرض «لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ، هذا أصلُ الاشتقاقِ، ثم اختلف أهل العلم في» القَرْض «فقيل: هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ عليه. وقيل: أن تُعْطِيَ شيئاً ليرجِعَ إليك مثلُهُ. وقال الزجاج:» هو البلاءُ حَسَناً كان أو سيئاً «. قوله: {أَضْعَافاً} فيه ثلاثة أوجهٍ، أظهرُها: أنه حالٌ من الهاء في» يضاعِفُ «وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة، الظاهرُ أنها مُبَيِّنَةٌ، لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ، إلاَّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخرَ، فَفُهِمَ منها ما لا يُفْهَمُ من عاملِها، وهذا شأنُ المبيِّنة. والثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين» يضاعِفُ «معنى يُصَيِّر، أي: يُصَيِّره بالمضاعَفَةِ أضْعافاً. والثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ.

قال الشيخ: «قيل: ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضاعَفُ أو المضعَّفُ - بمعنى المضاعفَة أو التضعيف، كما أُطلِقَ العَطاء وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء. وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاصِ واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجزاء» وسَبَقَه إلى هذا أبو البقاء، وهذه عبارتُهُ، وأنشد: 1017 - أكفراً بعد ردِّ الموتِ عني ... وبعدَ عطائِكَ المئةَ الرِّتاعا والأَضْعافُ جمع «ضِعْف» ، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ متساويين. وقيل: مثلُ الشيء في المِقْدَارِ. ويقال: ضِعْفُ الشيء: مثلُهُ ثلاثَ مرات، إلاَّ أنه إذا قيل «ضعفان» فقد يُطْلَقُ على الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيث إنَّ كلَّ واحدٍ يُضَعِّفُ الآخرَ، كما يقال زَوْجان، من حيث إنَّ كلاً منهما زوجٌ للآخر. وقرأ أبو عمرو [وابن عامر وحمزة وحفص وقنبل] «وَيَبْسُطُ» بالسين على الأصلِ، والباقون بالصادِ لأجل الطاء. وقد تقدَّم تحقيقُه في «الصراط» .

246

قوله تعالى: {مِن بني} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه صلةٌ للملأ على مذهب الكوفيين، لأنهم يَجْعِلون المعرَّفَ بأل موصولاً ويُنْشِدُون:

1018 - لَعَمْرِي لأنتَ البيتُ أُكَرِمُ أهلَه ... وأَقْعُدُ في أفنائِهِ بالأصائِلِ فالبيت موصولٌ، فعلى هذا لا محلَّ لهذا الجارِّ من الإِعرابِ. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من الملأ، و «مِنْ» للتبعيض، أي: في حالِ كونِهم بعضَ بني إسرائيل. والملأ: الأشْرافُ، سُمُّوا بذلك لأنهم يَمْلَؤُون العيونَ هيبةً، [أو المجالسَ إذا حَضَروا] ، أو لأنهم مَليئون بما يُحْتاج إليهم فيه. وقال الفراء: «الملأُ: [الرجالُ في كلِّ القرآن، وكذلك] القومُ والرهطُ والنفرُ، ويُجْمع على أَمْلاء، قال: 1019 - وقالَ لها الأملاءُ من كلِّ مَعْشَرٍ ... وخيرُ أقاويل الرجالِ سديدُها وهو اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظه كالقومِ والرهطِ. و {مِن بَعْدِ موسى} متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الجارُّ الأولُ وهو الاستقرار، ولا يَضُرُّ اتحادُ الحرفينِ لفظاً لاختلافِهما معنىً، فإنَّ الأولى للتبعيض والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ. وقال أبو البقاء:» مِنْ بعدِ «متعلِّقٌ بالجار الأول، أو بما تعلَّق به الأول» يعني بالأول: «من بني» ، وجعله عاملاً في «مِنْ بعد» لِما تضمَّنه من الاستقرار، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه، وهذا على رأي بعضِهم، يَنْسِبُ العمل للظرفِ والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً، فتقول في نحو: «زيدٌ في الدار أبوه» أبوه: فاعلٌ بالجارِّ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق

به الجارُّ، وهو الوجهُ الثاني. وقَدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً. تقديرُه: مِنْ بعدِ موتِ موسى، ليصِحَّ المعنى بذلك. قوله: {إِذْ قَالُواْ} العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين، أحدُهما: أنه العاملُ في «مِنْ بعد» لأنَّه بدلٌ منه، إذ هما زمانان، قاله أبو البقاء والثاني: أنه «ألم تر» وكلاهما غيرُ صحيحٍ. أمَّا الأولُ فلوجهين. أحدُهما: من جهة اللفظِ، والآخرُ: مِنْ جهةِ المعنى. فأمّا الذي من جهةِ اللفظِ فإنه على تقدير إعادة «مِنْ» و «إذ» لا تُجَرُّ ب «مِنْ» . الثاني: أنه ولو كانَتْ «إذ» من الظروف التي تُجَرُّ ب «من» كوقت وحين لم يَصِحَّ ذلك أيضاً، لأنَّ العاملَ في «مِنْ بعد» محذوفٌ فإنه حالٌ تقديرُه: كائنين من بعد، ولو قلت: كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يَصِحَّ هذا المعنى. وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى «ألم تر» تقريرٌ للنفي، والمعنى: ألم ينته علمُك، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ، وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولِهم ذلك، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟ وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يَصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ، تقديرُه: ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديثِ الملأ أو ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها، فصار المعنى: ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ، ولا يَصِحُّ إلا به لِما تَقدَّم. قوله: {لِنَبِيٍّ} متعلِّقٌ ب «قالوا» ، فاللامُ فيه للتبليغ، و «لهم» متعلقٌ

بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي، ومحلُّه الجرُّ، و «ابعَثْ» وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ. و «لنا» الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ، واللامُ للتعليلِ أي: لأجلِنا. قوله: {نُّقَاتِلْ} الجمهورُ بالنونِ والجزمِ على جوابِ الأمر. وقرىء بالياء والجزمِ على ما تقدَّم، وابنُ أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللامِ على الصفةِ لملكاً، فمحلُّها النصبُ. وقُرىء بالنونِ ورفعِ اللام على أنها حالٌ من «لنا» فمحلُّها النصبُ أيضاً أي: ابعَثْه، لنا مقدِّرين القتال، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم: ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ. قوله: {هَلْ عَسَيْتُمْ} عسى واسمُها، وخبرُها {أَلاَّ تُقَاتِلُواْ} والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابُه محذوفٌ للدلالة عليه، وهذا كما توسَّط في قوله: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] ، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ «عسى» داخلةً على المبتدأ والخبرِ، ويقولُ إنَّ «أَنْ» زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين. وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعلٍ متعدٍ فيقولُ: «عَسَيْتم» فعلٌ وفاعلٌ، و «أَنْ» وما بعدَها مفعولٌ به تقديرُه: هل قَارَبْتُم عدم القتالِ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ، والأولُ هو المشهورُ. وقرأ نافع «عَسِيْتُم» هنا وفي القتال: بكسرِ السينِ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً/ ومع ن، ومع نونِ الإناثِ نحو: عَسِينا وعَسِين، وهي لغةُ الحجاز، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال: «عسى تُكْسَرُ مع المضمر» وأَطْلَقَ، بل كان ينبغي

له أن يُقَيِّدَ بما ذَكَرْتُ، إذ لا يقال: الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة. وقال الفارسي: «ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ:» هو عَسٍ بكذا «مثلَ: حَرٍ وشَجٍ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو: نَقَم ونَقِم، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ، فإنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال:» عَسِيَ زيدٌ «مثل:» رَضِي زيدٌ «. فإن قيل فهو القياسُ، وإنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره» فظاهر هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهرِ بطريق القياسِ على المضمرِ، وغيرُه من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً، وظاهرُ قوله «قولُ العرب: عسىٍ» أنه مسموعٌ منهم اسمُ فاعلها، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي، وقد نَصَّ النحويون على أن «عسى» لا تتصرَّف. واعلم أنَّ مدلولَ «عسى» إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق، فعلى هذا: فكيف دَخَلَتْ عليها «هل» التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى، قال الزمخشري: «والمعنى: هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا، يعني: هل الأمرُ كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقولَ: عَسَيْتُم ألاَّ تقاتلوا، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ، فأدخلَ» هل «مستفهماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ، وثَبَتَ أنّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه، كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] معناه التقريرُ»

وهذا من أَحسنِ الكلامِ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ، مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها، وبوقوعِها خبراً لإنَّ في قوله: 1020 - لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائماً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا لا دليلَ فيه لأنه على إضمار القولِ كقوله: 1021 - إنَّ الذين قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدَهمْ ... لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلكِم ناما ولذلك لا توصلُ بها الموصولات خلافاً لهشام. قوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله. و «ما» في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، ومعناها الاستفهامُ، وهو استفهامُ إنكارٍ. و «لنا في محلِّ رفع خبر ل» ما «. و» ألاَّ نقاتِلَ «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ، والتقديرُ: وما لَنا في ألاَّ نقاتل، أي: في تركِ القتالِ، ثم حُذِفَتْ» في «مع» أَنْ «فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه: أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو» لنا «، أو بما يتعلَّق هو به على حَسَبِ ما تقدَّم في {مِن بَعْدِ موسى} . والثاني: مذهبُ الأخفش أنَّ» أَنْ «زائدةٌ، ولا يَضُرُّ عملُهَا مع زيادتِها، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجرِ الزائدةِ، وعلى هذا فالجملةُ المنفيَّة بعدَها في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنه

قيل: ما لَنا غيرَ مقاتِلين، كقولِه: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} [المائدة: 84] وقول العرب:» مالك قائماً «، وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وهذا المذهبُ ضعيفٌ لأنَّ الأصلَ عدمُ الزيادة، فلا يُصارُ إليها دون ضرورةٍ. والثالث: - وهو أضعفُها - مذهبُ الطبري أنَّ ثَمَّ واواً محذوفةً قبلَ قولِه:» أن لا نقاتلَ «. قال:» تقديرُه: وما لنا ولأن لا نقاتلَ، كقولك: إياك أن تتكلَّمَ، أي: إياك وأن تتكلم، فَحُذِفَتْ الواوُ، وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً. وأمَّا قولُه: «إنَّ قولَهم إياك أَنْ تتكلم على حذفِ الواوِ» فليس كما زعم، بل «إياك» ضُمِّنتْ معنى الفعلِ المرادِ به التحذيرُ، و «أَنْ تتكلمَ» في محلِّ نصبٍ به تقديره: احذَرْ التكلمَ. قولُه: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والعاملُ فيها: «نقاتلُ» ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحالِ. وهذه قراءةُ الجمهورِ، أعني بناء الفعلِ للمفعولِ. وقرأ عمرو بن عبيد: «أَخْرَجَنا» على البناء للفاعل. وفيه وَجْهان، أحدُهما: أنه ضميرُ اللهِ تعالى، أي: وقد أَخرَجَنا الله بذنوبنا. والثاني: أنه ضميرُ العدوّ. «وأبنائنا» عَطْفٌ على «ديارنا» أي: ومن أبنائِنا، فلا بُدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه: «من بين أبنائِنا» كذا قدَّره أبو البقاء. وقيل: إنَّ هذا على القلبِ، والأصلُ: وقد أُخْرِجَ أبناؤنا منا، ولا حاجةَ إلى هذا.

قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} نصبٌ على الاستثناء المتصلِ من فاعل «تَوَلَّوا» والمستثنى لا يكونُ مبهماً، لو قلت: «قام القومُ إلا رجالاً» لم يَصِحَّ، وإنما صَحَّ هذا لأنَّ «قليلاً» في الحقيقةِ صفةٌ لمحذوفٍ، ولأنه قد تَخَصَّص بوصفِه بقولِه: «منهم» ، فَقَرُبَ من الاختصاصِ بذلك. وقرأ أُبَي: «إلاَّ أن يكونَ قليلٌ منهم» وهو استثناءٌ منقطعٌ، لأنَّ الكونَ معنىً من المعاني والمستثنى منه جُثَتٌ. وهذه المسألةُ/ تحتاجُ إلى إيضاحها لكثرة ِفائدتِها. وذلك أنّ العربَ تقول: «قام القومُ إلا أَنْ يكونَ زيدٌ وزيداً» بالرفع والنصبِ، فالرفعُ على جَعْلِ «كان» تامةً، و «زيدٌ» فاعلٌ، والنصبُ على جَعْلَهَا ناقصةً، و «زيداً» خبرُها واسمُها ضميرُ عائدٌ على البعض المفهومِ من قوةِ الكلامِ، والتقديرُ: قام القوم إلا أَنْ يكونَ هو - أي بعضُهم - زيداً، والمعنى: قام القوم إلا كونَ زيدٍ في القائمين، وإذا انتفى كونُه قائماً انتفى قيامُهُ. فلا فرقَ من حيث المعنى بين العبارتين، أعني «قام القوم إلا زيداً» و «قاموا إلا أن يكون زيداً» ، إلا أن الأولَ استثناءٌ متصلٌ، والثاني منقطعٌ لِما تقدَّم تقريرُه.

247

قوله تعالى: {طَالُوتَ مَلِكاً} : «مَلِكاً» حال من «طالوت» فالعاملُ في الحالِ «بَعَثَ» . و «طالوتُ» فيه قولان، أظهرهُما: أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصَرِفْ للعلتين، أعني العلمية والعجمة الشخصيةَ. والثاني: أنه مشتقٌ من الطُول، ووزنه فَعَلوت كرَهَبوت ورَحَموت، وأصلُه طَوَلُوت، فقُلِبت الواوُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها، وكأنَّ الحاملَ لهذا القائلِ بهذا القولِ ما روي في القصةِ أنه كان أطولَ رجلٍ في زمانه، إلا أنَّ هذا القولَ مردودٌ بأنه لو كان مشتقاً من الطول لكان ينبغي أن ينصرفَ، إذ ليس فيه

إلا العلميةُ. وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً ولكنه شبيه بالأعجمي، من حيث إنه ليس في أبنية العرب ما هو على هذه الصيغة، وهذا كما قالوا في حَمْدُون وسراويل ويعقوب وإسحق عند مَنْ جعلهما مِنْ سَحَقَ وعَقِب وقد تقدمَ. قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك} «أنَّى» فيه وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى كيف، وهذا هو الصحيحُ. والثاني: أنها بمعنى مِنْ أين، أجازه أبو البقاء، وليس المعنى عليه. ومحلُّها النصبُ على الحالِ، وسيأتي الكلام في عامِلها ما هو؟ و «يكون» فيها وجهان، أحدُهما: أنها تامةٌ، و «الملك» فاعلٌ بها و «له» متعلقٌ بها، و «علينا» متعلقٌ بالملك، تقول: «فلان مَلَك على بني فلان أمرَهم» فتتعدى هذه المادةُ ب «على» ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلْك» ، و «يكون» هي العاملةُ في «أنَّى» ، ولا يجوز أن يعملَ فيها أحدُ الظرفين، أعني «له» و «علينا» لأنه عاملٌ معنوي والعاملُ المعنوي لا تتقدَّمُ عليه الحالُ على المشهور. والثاني: أنها ناقصةٌ و «له» الخبر «، و» علينا «متعلقٌ: إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» المُلك «كما تقدَّم، والعاملُ في هذه الحالِ» يكون «عند مَنْ يُجيز في» كان «الناقصةِ أن تعملَ في الظرفِ وشبهِه، وإمَّا بنفس المُلْك كما تقدَّم تقريرُه، والعاملُ في» أنَّى «ما تعلَّق به الخبرُ أيضاً، ويجوز أن يكونَ» علينا «هو الخبر، و» له «نصبٌ على الحال، والعاملُ فيه الاستقرارُ المتعلِّقُُ به الخبرُ، كما تقدم تقريره، أو» يكون «عند مَنْ يُجيز ذلك في الناقصة. ولم أرَ مَنْ جَوَّز أن تكونَ» أنى «في محلِّ نصب خبراً ل» يكون «بمعنى» كيف يكون الملك علينا له «ولو قِيل به لم يمتنع معنىً ولا صناعةً.

قوله: {وَنَحْنُ أَحَقُّ} جملةٌ حاليةٌ، و «بالمُلْك» و «منه» كلاهما متعلقٌ ب «أحقُّ» . {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً} هذه الجملةُ الفعليةُ عطفٌ على الاسمية قبلها، فهي في محلِّ نصب على الحالِ، ودخلت الواوُ على المضارعِ لكونه منفياً و «سعةً» مفعولٌ ثانٍ ليُؤْتَ، والأولُ قَام مقامَ الفاعلِ. و «سَعَةً» وزنُها «عَلَة» بحذفِ الفاءِ وأصلُها «وُسْعَة» وإنما حُذِفَتِ الفاءُ في المصدر حَمْلاً على المضارع، وإنما حُذِفَتْ في المضارع لوقوعِها بين ياءٍ - وهي حرفُ المضارعة - وكسرةٍ مقدرة، وذلك أنَّ «وَسِع» مثلُ «وَثِق» ، فحقُّ مضارعهِ أن يجيء على يَفْعِل بكسرِ العين، وإنما مَنَعَ ذلك في «يَسَع» كونُ لامهِ حرف حلقٍ فَفُتِحَ عينُ مضارعهِ لذلك، وإنْ كان أصلُها الكسرَ، فَمِنْ ثَمَّ قلنا: بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرةٍ، والدليلُ على ذلك أنهم قالوا: وَجِلَ يَوْجَل فلم يَحْذفوها لمَّا كانت الفتحةُ أصليةً غير عَارِضةً، بخلاف فتحة «يَسَع» و «يَهَب» وبابِهما. فإن قيل: قد رأيناهم يَحْذِفُون هذه الواو وإنْ لم تَقَعْ بين ياءٍ وكسرةٍ، وذلك إذا كان حرفُ المضارعةِ همزة نحو: «أَعِدُ» أو تاءً نحو: «تَعِد» أو نوناً نحو: «نَعِد» ، وكذلك في الأمرِ والمصدر نحو: «عِدْ عِدة حسنةً» فالجوابُ أنَّ ذلك بالحَمْلِ على المضارع مع الياءَ طَرْداً لِلْبَاب، كما تقدَّم لنا في حذفِ همزةِ أَفْعَلَ إذا صار مضارعاً لأجلِ همزةِ المتكلمِ ثم حُمِل باقي البابِ عليه. وفُتِحَتْ سينُ «السَّعة» لَمَّا فُتِحَتْ في المضارعِ لأجل حرفِ الحلقِ، كما كُسِرت عينُ «عِدة» لَمَّا كُسِرَت في «يَعِد» إلا أنه يُشْكِلُ على هذا: وَهَبَ يَهَبُ هِبة، فإنهم كَسَروا الهاء في المصدرِ وإنْ كانت مفتوحةً في المضارعِ لأجْلِ أنَّ العينَ حرفُ حلقٍ، فلا فرقَ بين «يَهَب» و «يَسَع» في كونِ الفتحةِ عارضةً

والكسرةِ مقدرةً، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في «هِبة» ، وكان مِنْ حَقِّها الفتحُ لفتحِها في المضارع ك «سَعَة» . و «من المال» فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بيُؤْتَ. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسَعَة، أي: سَعَةً كائنةً من المالِ. قوله: {فِي العلم} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ ب «بَسْطَة» كقولِك: «بَسَطْتُ له في كذا» . والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «بَسْطَة» أي: بَسْطَة مستقرةً أو كائنة. و «واسعٌ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه على النسبِ أي: ذو سَعَةِ رحمةٍ، كقولهم: لابن وتامر أي: صاحبُ تمرٍ ولبنٍ. والثاني: أنه جاءَ على حذفِ الزوائدِ من أَوْسَع، وأصلُه مُوْسِع. وهذه العبارةُ إنما يتداولُها النحويون في المصادرِ فيقولون: مصدر/ على حذفِ الزوائدِ. والثالث: أنه اسمُ فاعلٍ من «وَسِع» ثلاثياً. قال أبو البقاء: فالتقديرُ على هذا: واسعُ الحلم، لأنك تقول وَسِعَ حلمُه «.

248

قوله تعالى: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} : «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً ل «إنَّ» ، تقديرُه: إنَّ علامَة مُلْكِه إيتاؤُكم التابوت. وفي «التابوتِ» قولان، أحدُهما: أنه فاعولٌ، ولا يُعْرَفُ له اشتقاقٌ، وَمَنَع قائلُ هذا أن يكون وَزْنُه فَعَلُوتاً مشتقاً من تابَ يَتوبُ كَمَلَكوت من المُلْكِ ورهَبوت من الرُّهْبِ، قال: لأنَّ المعنى لا يساعِدُ على ذلك. والقول الثاني: أن وزنَه فَعَلوت كمَلَكوت، وجَعَلَه مشتقاً من التَّوْب وهو الرجوعُ، وجَعَلَ معناه

صحيحاً فيه، لأنَّ التابوتَ هو الصندوقُ الذي توضع فيه الأشياءُ فيَرجع إليه صاحبُه عند احتياجِه إليه، فقد جعلنا فيه معنى الرجوعِ. والمشهورُ أن يوقَفَ على تائِه بتاءٍ من غير إبدالِها هاءً لأنها: إمَّا أصلٌ إنْ كان وزنُه فاعولاً، وإمَّا زائدةٌ لغيرِ التأنيثِ كمَلَكوت، ومنهم مَنْ يَقْلِبها هاءً، وقد قُرِىء بها شاذاً، قرأها أُبيّ وزيد بن ثابت وهي لغةُ الأنصار، ويحكى أنهم لمَّا كَتَبوا المصاحفَ زمنَ عثمانَ رضي الله عنه اختلفوا فيه فقالَ زيد: «بالهاء» ، وقال [أُبَيّ:] «بالتاء» ، فجاؤوا عثمان فقال: «اكتبوه على لغةِ قريش» يعني بالتاء. وهذه الهاءُ هل هي أصلٌ بنفسِها فيكونُ فيه لغتان، ووزنُه على هذا فاعول ليس إلا، أو بَدَلٌ من التاءِ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهَمْسِ، أو إجراءً لها مُجْرى تاءِ التأنيث؟ فقال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما وزنُ التابوت؟ قلت: لا يَخْلو أَنْ يكونَ فَعَلوتا أو فاعولا، فلا يكون فاعولا لقلةِ نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ» ، يعني أنَّ اتِّحاد الفاءِ واللامِ في اللفظِ قليلٌ جداً. «ولأنه تركيبٌ غيرُ معروفٍ» يعني في الأوزان العربية، ولا يجوز تَركُ المعروفِ [إليه] فهو إذاً فَعَلوت من التوبِ وهو الرجوعُ، لأنه ظرفٌ تُودَعُ فيه الأشياءُ فَيُرْجَعُ إليه كلَّ وقتٍ. وأَمَّا مَنْ قرأ بالهاءِ فهو فاعول عندَه، إلاَّ مَنْ يَجْعَلُ هاءَه بدلاً من التاءِ لاجتماعِهِما في الهَمْسِ، ولأنهما من حروفِ الزيادة، ولذلك أُبْدِلَتْ منه تاءِ التَّأنِيثِ.

قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ} يجوز أن يكونَ «فيه» وحدَه حالاً من التابوت، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، ويرتفعُ «سكينة» بالفاعلية، والعاملُ فيه الاستقرارُ والحالُ هنا من قبيلِ المفردات، ويجوزُ أن يكونَ «فيه» خبراً مقدماً. و «سكينةٌ» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والحالُ هنا من قبيلِ الجملِ. و «سكينةٌ» فعيلة من السكون، وهو الوقارُ. وقرأ أبو السَّمَّال بتشديدِ الكافِ، قال الزمخشري: «وهو غريبٌ» . قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «سكينة» ، ومحلُّه الرفعُ. ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به «فيه» من الاستقرار. و «مِنْ» يجوز أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأَنْ تكونَ للتبعيضِ. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: من سكيناتِ ربكم. و «بَقِيَّة» وزنها فَعِيلة والأصلُ: بَقِيْيَة بياءين، الأولى زائدةٌ والثانيةُ لامُ الكلمةِ، ثم أُدْغِمَ، ولا يُسْتَدَلُّ على أنَّ لامَ «بَقِيَّة» ياءٌ بقولهِم: «بَقِيَ» في الماضي، لأنَّ الواوَ إذا انكسَرَ ما قبلَهَا قُلِبَت ياءً، ألا ترى أنَّ «رَضِي» و «شَقِيَ» أصلهما من الواوِ: الشِّقْوَة والرِّضوان. و «مِمَّا تَرَك» في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل «بَقَيَّة» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: بقيةٌ كائنةٌ. و «مِنْ» للتبعيضِ، أي: من بَقِيَّاتِ ربكم، و «ما» موصولةٌ اسميةٌ، ولا تكونُ نكرةً ولا مصدريةً. و «آل» تقدَّم الكلامُ فيه، وقيل: هو هنا زائدٌ كقولِهِ: 1022 - بثينةُ من آلِ النساءِ وإنَّما ... يَكُنَّ لوصلٍ لا وصالَ لغائِبِ

يريدُ بُثَيْنَةُ من النساء. قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يريدَ: مِمَّا تَرَكَ موسى وهارون، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنِهِما، أي زائدٌ للتعظيمِ. واستشكل الشيخ كيفية إفادةِ التفخيمِ بزيادةِ الآل. و» هارون «أعجمي. قيل: لم يَرِدْ في شيءٍ من لغةِ العربِ، قاله الراغب، أي: لم تَرِدْ مادُتُه في لُغَتِهِم. قوله: {تَحْمِلُهُ الملائكة} هذه الجملةُ تحتملُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التابوتِ أي: محمولاً للملائكةِ وألاَّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ، إذ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل: كيف يأتي؟ فقيل: تَحْمِلُهُ الملائكةُ. وقرأ مجاهد» يَحْمِلُه «بالياء من أسفلَ، لأنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ فيجوزُ في فِعْلِهِ الوجهان. و» ذلك «مشارٌ به قيل: إلى التابوت. وقيل: إلى إتيانه، وهو الأحسنُ لتناسِبَ آخرُ الآيةِ أولَها. و» إنْ «الأظهَرُ فيها أنها على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ. وقيل: هي بمعنى» إذ «.

249

قوله تعالى: {فَصَلَ} : أي: انفصلَ، فلذلك كان قاصراً. وقيل: إنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكنه حُذِفَ، والتقديرُ: فَصَلَ نفسَه ثم كَثُرَ حَذْفُ هذا المفعولِ حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ. و «بالجنودِ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «طالوت» أي: مصاحباً لهم. وبين جملةِ قولِهِ «فلمَّا فَصَلَ» وبين ما قبلَها من الجملِ جملةٌ محذوفةٌ يَدُلُّ

عليها فحوى الكلامِ وقوتُه، تقديرُهُ: فجاءَهم التابوت، فَمَلَكُوا طالوتَ وتأهَّبوا للخروجِ وهي كقولِهِ: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} [يوسف: 45-46] . والجمهورُ على قراءةِ «بنهَر» بفتح الهاء وهي اللغةُ الفصيحةُ، وفيه لغةً أخرى: تسكينُ الهاء، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآنِ، وقد تقدَّم ذلك واشتقاقُ هذه/ اللفظة عند قولِهِ تعالى: {مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] . وأصلُ الياء في «مُبْتَلِيكُمْ» واوٌ لأنه من بَلاَ يَبْلُوا أي: اختبَرَ، وإنَّما قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلَها. وقوله: {فَلَيْسَ مِنِّي} أي: من أشياعي وأصحابي، و «من» للتبعيضِ، كأنه يجعلُ أصحابَه بعضَه، ومثلُه قولُ النابغة: 1023 - إذا حاوَلْتَ في أسدٍ فُجوراً ... فإني لَسْتُ منكَ ولَسْتَ مِنِّي ومعنى يَطْعَمْهُ: يَذُقْهُ، تقولُ العربُ: «طَعِمْتُ الشيءَ» أي: ذُقْتُ طَعْمَهُ قال: 1024 - فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكُمُ ... وإنْ شئتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا قوله: {إِلاَّ مَنِ اغترف} منصوبٌ على الاستثناء، وفي المستثنى منه وجهان، الصحيحُ أنه الجملة الأولى وهي: «فَمَنْ شَرِبَ منه فليس مني» ، والجملة الثانيةُ معترِضَةٌ بين المستثنى والمستثنَى منه، وأصلُها التأخيرُ، وإنَّما

قُدِّمَتْ لأنها تَدُلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهومِ، فإنَّه لَمَّا قال تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} فُهِمَ منه أنَّ مَنْ لم يَشربْ فإنَّه منه، فلمَّا كانَتْ مدلولاً عليها بالمفهومِ صارَ الفصلُ بها كَلا فصل. وقال الزمخشري: «والجملةُ الثانية في حكم المتأخرةِ، إلاَّ أنها قُدِّمَتْ للعنايةِ، كما قُدِّمَ» والصابئون «في قولِهِ: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون} [المائدة: 69] . والثاني: أنه مستثنى من الجملةِ الثانيةِ، وإليه ذهب أبو البقاء. وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أن المعنى: ومَنْ لم يَطْعَمْه فإنه مني إلاَّ مَنِ اغتَرَف بيدِهِ فإنه ليس مني، لأنَّ الاستثناءَ من النفي إثباتٌ، ومن الإِثباتِ نفيٌ، كما هو الصحيحُ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غَرفةً واحدةً. والاستثناء إذا تعقَّبَ الجملَ وصَلَحَ عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة أم لا؟ خلافٌ مشهورٌ، فإنْ دَلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجملِ عمِلَ به، والآيةُ من هذا القبيلِ، فإنَّ المعْنى يعود إلى عَوْدِه إلى الجملَةِ الأولى لا الثانيةِ لِمَا ذكرْتُ لك. وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو:» غَرفة «بفتحِ الغين والباقون بضمها. فقيل: هما بمعنى المصدرِ، إلاَّ أنهما جاءا على غيرِ الصدر كنبات من أَنْبَتَ،

ولو جاءَ على الصدرِ لقيل: اغترافاً. وقيل: هما بمعنى المُغْتَرَفِ كالأكل بمعنى المأكول. وقيل: المفتوحُ مصدرٌ قُصِدَ به الدلالة على الوَحْدَةِ فإنَّ «فَعْلَة» يدلُّ على المَرَّة، والمضِمُومُ بمعنى المفعول، فحيث جعلتهما مصدراً فالمفعولُ محذوفٌ، تقديرُهُ: إلاَّ من اغترف ماءً، وحيث جعلَتهما بمعنى المفعولِ كانا مفعولاً به، فلا يُحتاج إلى تقديرِ مفعولٍ. ونُقِلَ عن أبي عليّ أنه كان يُرَجِّح قراءة الضم لأنه في قراءةِ الفتح يَجْعلها مصدراً، والمصدرُ لا يوافق الفعلَ في بنائِهِ، إنما جاء على حَذْفِ الزوائد وجَعْلُها بمعنى المفعول لا يُحْوِج إلى ذلك فكانَ أرجَح. قوله: {بِيَدِهِ} يجوزُ أن يتعلَّق ب «اغَتَرف» وهو الظاهِرُ. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل «غُرْفة» ، وهذا على قولِنا بأن «غُرفة» ، بمعنى المفعولِ أظهرُ منه على قولِنَا بأنها مصدرٌ، فإنَّ الظاهرَ من الباءِ على هذا أَنْ تكونَ ظرفيةً، أي غُرفةً كائنةً في يدهِ. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} هذه القراءةُ المشهورةُ، وقرأ عبدُ الله وأُبَيّ «إلا قليلٌ» ، وتأويلُهُ أنَّ هذا الكلامَ وإن كان موجباً لفظاً فهو منفيٌّ معنىً، فإنه في قوةِ: لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم، فلذلك جَعَلَهُ تابعاً لِمَا قبله في الإِعراب. قال الزمخشري: «وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللفظِ جانباً، وهو بابٌ جليلٌ من علمِ العربيةِ، فلمَّا كان معنى» فَشَرِبُوا منه «في معنى»

فلم يُطيعوه «حَمَل عليه، ونحوُه قولُ الفرزدق:» لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ «يشير إلى قولِهِ: 1025 - وَعَضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدَعْ ... من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ فإنَّ معنى» لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتاً «لم يَبْقَ من المال إلا مُسْحَتٌ، فلذلك عَطَفَ عليه» مُجَلَّفُ «بالرفعِ مراعاةً للمعنى الذي ذكرْتُهُ لك. وفي البيت وجهان آخران، أحدُهما. . . . ولا بُدَّ من التعرُّضِ لهذه المسألةِ لعمومِ فائدِتهَا فأقولُ: إذا وَقَع في كلامِهِم استثناءٌ موجَبٌ نحو:» قام القومُ إلا زيداً «فالمشهورُ وجوبُ النصبِ على الاستثناءِ. وقال بعضُهم: يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ» إلا «ما قبلَها في الإِعراب فتقول:» مررت بالقومِ إلا زيدٍ «بجرّ» زيد «، واختلفوا في تابِعِيَّةِ هذا، فعبارةُ بعضِهم أنه نعتٌ لما قبلَه، ويقولُ: إنه يُنْعَتُ بإلاَّ وما بعدَها مطلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً أم نكرةً مضمراً أم ظاهراً، وهذا خارجٌ عن قياس باب النعتِ لِما قَد عَرَفْتَ فيما تقدَّم. ومنهم مَنْ قال: لا يُنْعَتُ بها إلا نكرةً أو معرفةً بأل الجنسيةِ لقربِها من النكرةِ. ومنهم مَنْ قال: قَوْلُ النَّحْوِيين هنا نعتٌ إنما يَعْنُون به عطفَ البيانِ. ومن مجيءِ الإِتباعِ بما بعد «إلاَّ» قولُهُ: 1026 - وكلُّ أَخٍ مفارقُه أخوه ... لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفرقدانِ قولُهُ: {جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ} «هو» ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ مؤكِّدٌ للضميرِ المستكنِّ في «جاوَزَ» .

وقوله: {والذين} يَحْتَمِلُ وجهين، أظهرُهُما: أنه عطفٌ على الضميرِ المستكنِّ في «جاوَزَ» لوجودِ الشرطِ، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضمير المنفصلِ. والثاني: أن تكونَ الواوُ للحالِ، قالوا: ويَلْزَمُ من الحالِ أن يكونوا جاوزوا معه، وهذا القائلُ يجعلُ «الذين» مبتدأ والخبرَ «قالوا: لا طاقة» فصارَ المعنى: «فلمَّا جاوزه والحالُ أنَّ الذين آمنوا قالوا هذه المقالة» والمعنى ليس عليه. ويجوز إدغامُ هاء «جاوزه» في هاء «هو» ، ولا يُعْتَدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ لأنها ضعيفةٌ، وإنْ كان بعضُهم استضعَفَ/ الإِدغامَ، قال: إلا أَنْ تُخْتَلَس الهاءُ «يعني فلا يبقى فاصلٌ. وهي قراءةُ أبي عمرو. وأَدْغَمَ أيضاً واوَ» هو «في واو العطف بخلافٍ عنه، فوجهُ الإِدغام ظاهرٌ لالتقاء مِثْلين بشروطِهِما. ومَنْ أظهر وهو ابنُ مجاهد وأصحابُهُ قال:» لأنَّ الواو إذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ، وإذا سَكَنَت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلَها ضمة، فصارَتْ نظيرَ: «آمنوا وكانوا» فكما لا يُدْغم ذاك لا يدغم هذا «. وهذه العلةُ فاسدةٌ لوجهين، أحدُهما: أنها [ما] صارَتْ مثلَ» آمنوا وكانوا «إلا بعد الإِدغام، فكيف يُقال ذلك؟ وأيضاً فإنهم أدغموا: {يَأْتِيَ يَوْمٌ} [البقرة: 254] وهو نظيرُ: {فِي يَوْمٍ} [إبراهيم: 18] و {الذى يُوَسْوِسُ} [الناس: 4] بعينِ ما عَلَّلوا به.

وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرفِ عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ كهذه الآيةِ، ومثله {هُوَ والملائكة} [آل عمران: 18] {هُوَ وَجُنُودُهُ} [القصص: 39] ، فلو سَكَنَتِ الهاءُ امتنع الإِدغامُ نحو: {وهو وليُّهم} [الأنعام: 127] ولو جرى فيه الخلاف أيضاً لم يكن بعيداً، فله أُسوة بقوله: {خُذِ العفو وَأْمُرْ} [الأعراف: 199] بل أَوْلى لأن سكونَ هذا عارضٌ بخلافِ: {العفو وَأْمُرْ} . قوله: {لاَ طَاقَةَ لَنَا} » لنا «هو خبرٌ» لا «فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. ولا يجوز أن يتعلَّقَ بطاقة، وكذلك ما بعدَه من قولِهِ» اليوم «و» بجالوت «لأنه حينئذٍ يَصير مُطَوَّلاً، والمُطوَّلُ ينصبُ منوناً، وهذا كما تراه مبنياً على الفتح، بل» اليوم «و» بجالوت «متعلِّقان بالاستقرارِ الذي تعلَّق به» لنا «. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ» بجالوت «هو خبرَ» لا «، و» لنا «حينئذٍ: إما تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لطاقة. والطاقَةُ: القدرةُ وعينُها واو، لأنها من الطَّوْق وهو القدرةُ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزوائِد، فإنَّها من» أَطَاق «ونظيرُها: أجاب جابةً، وأغار غارةً، وأطاع طاعةً.

و «جالوت» اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ، لا اشتقاقَ له، وليس هو فَعَلوتا من جال يَجُول كما تقدَّم في طالوت، ومثلُهما داود. قوله: {كَم مِّن فِئَةٍ} «كم» خبريةٌ فإنَّ معناها التكثيرُ، ويدل على ذلك قراءة أُبَيّ: «وكائن» وهي للتكثير ومحلُّها الرفعُ بالابتداء و «من فئةٍ» تمييزُها، و «مِنْ» زائدةٌ فيه. وأكثرُ ما يجيء مميِّزها ومميِّز «كائن» مجروراً بمِنْ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك، وقد تُحْذَفُ «مِنْ» فَيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصحيح، وقد يُنْصَبُ حَمْلاً على مميِّز «كم» . الاستفهامية، كما أنه قد يُجَرُّ الاستفهاميةِ حمْلاً عليها وذلك بشروط مذكورةٍ في النحو. ومِنْ مجيءِ مميِّز «كائن» منصوباً قولُ الشاعر: 1027 - اطرُدِ اليأسَ بالرجاءِ فكائِنْ ... آلماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ وأجازوا أن يكون «من فئةٍ» في محلِّ رفعٍ صفةً ل «كم» فيتعلَّقَ بمحذوفٍ. و «غَلَبَت» هذه الجملةُ هي خبرُ «كم» والتقديرُ: كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبةٌ الفئاتِ الكثيرةَ. وفي «فئة» قولان أحدُهما: أنها من فاء يَفِيء أي: رَجَعَ فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة. والثاني: أنها من فَأْوَتُّ رأسَه ي: كسرتُه، فحُذِفَت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة، إلاَّ أنَّ لامَ مئة ياءٌ ولامَ هذه واوٌ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ، فإنَّ الجماعَةَ من الناس يَرْجِعُ بعضُهم إلى بعضٍ، وهم أيضاً قطعةٌ من الناسِ كقِطَعِ الرأسِ الكسَّرة. قوله: {بِإِذْنِ الله} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ،

والتقدير: ملتبسين بتيسيرِ الله لهم. والثاني: أنَّ الباءَ للتعدية ومجرورُها مفعولٌ به في المعنى، ولهذا قال أبو البقاء: «وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مفعولاً به» . وقوله: {والله مَعَ الصابرين} مبتدأٌ وخبرٌ، وتَحْتَمِل وجهين، أحدُهما: أن يكونَ محلُّها النصبَ على أنها من مقولهم. والثاني: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، على أنها استئنافٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى بها.

250

قوله تعالى: {بَرَزُواْ لِجَالُوتَ} : في هذه اللام وجهان، أحدُهما: أنَّها تتعلَّق ببرزوا، والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنها ومجرورَها حالٌ من فاعلِ «بَرَزوا» قال أبو البقاء: «ويجوزُ أن تكونَ حالاً أي: برزوا قاصدين لجالوتَ» . ومعنى برزوا صاروا إلى بَراز من الأرض، وهو ما انكشَفَ منها واستوى، ومنه المُبَارَزَةُ في الحَرْبِ لظهورِ كلِّ قِرْن لصاحبهِ. وفي ندائِهِم بقولِهم: «رَبَّنا» اعترافٌ منهم بالعبودية وطلبٌ لإِصلاحهم لأنَّ لفظة «الرب» تُشْعر بذلك دونَ غيرها، وأتوا بلفظِ «على» في قولهم: «أَفْرِغ علينا» طلباً لأنْ يكونَ الصبرُ مستعلياً عليهم وشاملاً لهم كالظرفِ.

251

قوله تعالى: {وَالهَزْمُ} : أصلُه الكَسْر، ومنه «سِقاء مُتَهَزِّم» و «قَصَبٌ متهزِّمٌ» أي متكسِّر. قوله: «بإذنِ الله» فيه الوجهانِ المتقدِّمان أعني كونَه حالاً أو مفعولاً به. و «مِمَّا يشاء» فاعلٌ «يشاء» ضميرُ الله تعالى. وقيل: ضميرُ داود والاولُ أظهرُ. قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ} قرأ نافع هنا، وفي الحج: «دِفاع» والباقون: «

دَفْع» . فأمَّا «دَفْع» فمصدر دَفَعَ يَدْفَع ثلاثياً. وأمَّا «دفاع» فيحتمل وجهين: أحدُهما: أن يكونَ مصدر دَفَعَ الثلاثي أيضاً نحو: كَتَب كِتاباً، وأن يكونَ مصدرَ «دافع» نحو: قاتل قِتالاً، قال أبو ذؤيب: 1028 - ولقد حَرَصْتُ بأَنْ أدافعَ عنهُم ... فإذا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ و «فاعَل» هنا بمعنى فَعَل المجرد فتتَّحد القراءتان في المعنى. ومَنْ قرأ «دفاع» وقرأ في الحج {يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} [الآية: 38] وهو نافع، أو قرأ «دَفْع» وقرأ «يَدْفَع» - وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصلَه، فجاء بالمصدرِ على وَفْقِ الفعل. وأمَّا من قرأ هنا «دَفْع» وفي الحج «يُدافِع» وهم الباقون فقد جَمَعَ بين اللغتين، فاستعمل الفعلَ من الرباعي والمصدرَ من الثلاثي. والمصدرُ هنا مضافٌ لفاعِله وهو الله تعالى، و «الناسَ» مفعول أول، و «بعضهم» بدلٌ من «الناسِ» بدلٌ بعضٍ مِنْ كُلٍّ. و «ببعضٍ» متعلِّقٌ بالمصدرِ، والباءُ للتعديةِ، فمجرورُها المفعولُ الثاني في المعنى، والباءُ إنما تكون للتعديةِ في اللازمِ نحو: «ذَهَبَ به» فأمّا المتعدِّي لواحدٍ فإنما يتعدَّى بالهمزة تقول: «طَعِمَ زيدٌ اللحم وأَطْعَمْتُه اللحم» / ولا تقول: «طَعِمْته باللحم» فتعدِّيه إلى الثاني بالباءِ إلاَّ فيما شَذَّ قياساً وهو «دَفَع» و «صَكَّ» ، نحو: صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخر، ولذلك قالوا: صَكَكْتُ الحجرَيْنِ أحدَهما بالآخر. قوله: {ولكن الله} وجهُ الاستدراكِ أنه لَمَّا قسَّم الناسَ إلى مدفوعٍ ومدفوعٍ به، وأنه بهذا الدفعِ امتنع فسادُ الأرض فقد يَهْجِسُ في نفسِ مَنْ

غُلِب عمّا يريدُ من الفساد أنَّ الله غيرُ متفضِّلٍ عليه حيث لم يُبْلِغه مقاصده وطلبه، فاستدرك عليه أنَّه وإن لم يَبْلُغْ مقاصده أنَّ الله متفضلٌ عليه ومُحْسِنٌ إليه لأنه مندرجٌ تحت العالمين، وما مِنْ أحدٍ ألا ولله عليه فضلٌ وله فضلُ الاختراعِ والإِيجادِ. و «على» يتعلَّق ب «فَضْل» ، لأنَّ فعلَه يتعدَّى بها، وربما حُذِفَتْ مع الفعلِ. قال - فَجَمع بين الحذف والإِثبات -: 1029 - وجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً ... كفَضْلِ ابنِ المَخاض على الفَصيلِ أمّا إذا ضُعِّف فإنه لا تُحْذَفُ «على» أصلاً كقولِه: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [البقرة: 253] ، ويجوزُ ان تتعلَّقٌ «على» بمحذوفٍ لوقوعِها صفةً لفَضْل.

252

قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله} : مبتدأٌ وخبرٌ، و «نَتْلوها» فيه قولان، أحدُهما: أن تكونَ حالاً، والعاملُ فيها معنى الإِشارة. والثاني أن تكونَ مستأنفةً فلا محلَّ لها. ويجوزُ غيرُ ذلك، وأَخْذُه مِمّا مضى سَهْلٌ وأُشير إليها إشارةُ البعيدِ لِما تقدَّم في قولِه: {ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2] . قوله: «بالحقِّ» يجوزُ فيه أن يكونَ حالاً من مفعولِ «نَتْلوها» أي: ملتبسةً بالحق، أو مِنْ فاعِله؛ أي: نَتْلوها ومعنا الحقُّ، أو من مجرورِ «عليك» أي: ملتبساً بالحق.

253

قوله تعالى: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} : يجوزُ أن يكونَ حالاً من المشارِ إليه، والعاملُ معنى الإِشارةِ كما تقدَّم، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً، ويجوزُ أن يكونَ خيرَ «تلك» على أن يكونَ «الرسلُ» نعتاً ل «تلك» أو عطفَ بيانٍ أو بدلاً.

قوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} هذه الجملةُ تحتملُ وجهين، أحدهما: أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافِها. والثاني: أنها بدلٌ من جملةِ قوله «فَضَّلْنا» والجمهورُ على رفعِ الجلالة على أنه فاعلٌ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي: مَنْ كَلَّمه الله. وقُرِىء بالنصبِ على أنَّ الفاعلَ ضميرٌ مستترٌ وهو عائدٌ الموصولِ أيضاً، والجلالةُ نَصْبٌ على التعظيمِ. وقرأ أبو المتوكل وابن السَّمَيْفَع: «كالَمَ اللهَ» على وزن فاعَلَ ونصبِ الجلالة، و «كليم» على هذا معنى مكالِم نحو: جَلِيس بمعنى مُجالِس، وخليط بمعنى مخالط. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ لأنه خروجٌ من ضميرِ المتكلمِ المعظِّم نفسَه في قوله: «فَضَّلْنا» إلى الاسمِ الظاهرِ الذي هو في حكمِ الغائبِ. قوله: {دَرَجَاتٍ} في نصبِه ستةُ أوجهٍ، أحدها أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ. الثاني: انه حالٌ على حذفِ مضافٍ، أي: ذوي درجاتٍ. الثالث: أنه مفعول ثان ل «رفع» على أنه ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات. الرابع أنه بدلُ اشتمالٍ أي: رَفَع درجاتٍ بعضَهم، والمعنى: على درجاتِ بعض. الخامس: أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظِه، لأن الدرجةَ بمعنى الرَّفْعة، فكأنه قيل: ورَفَع بعضَهم رَفعاتٍ. السادس: أنه على إسقاطِ الخافضِ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يكونَ «على» أو «في» أو «إلى» تقديرُه: على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجاتٍ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده.

قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله} مفعولُه محذوفٌ، فقيل: تقديرُه: أَنْ لا تختلفوا وقيل: أَنْ لا تفشلوا، وقيل: أَنْ لا تُؤمروا بالقتال، وقيل: أَنْ يضطرَّهم إلى الإِيمانِ، وكلُّها متقاربة. و «مِنْ بعدِهم» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صلةٌ، والضميرُ يعودُ على الرسل. و {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ} فيه قولان، أحدُهما: أنه بدلٌ من قولِه: «مِنْ بعدِهم» بإعادةِ العاملِ. والثاني: أنه متعلقٌ باقتتل، إذ في البينات - وهي الدلالاتُ الواضحةُ - ما يُغْنِي عن التقاتلِ والاختلافِ. والضميرُ في «جاءتهم» يعودُ على الذين مِنْ بعدِهم، وهم أممُ الأنبياء. قوله: {ولكن اختلفوا} وجهُ هذا الاستدراكِ واضحٌ، فإنَّ «لكن» واقعةٌ بين ضدين، إذ المعنى: ولو شاءَ اللهُ الاتفاقَ لاتفقوا ولكنْ شاءَ الاختلافَ فاختلفوا. وقال أبو البقاء: «لكنْ» استدراكٌ لما دَلَّ الكلامُ عليه، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم، ثم بيَّن الاختلاف بقوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} فلا محلَّ حينئذٍ لقولِه: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ} . وقوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا} فيه قولان، أحدُهما: أنها الجملةُ الأولى كُرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري. والثاني: أنها ليست لتأكيدِ الأولى، بل أفادَتْ فائدةٌ جديدةً، والمغايَرةُ حَصَلَتْ بتغايرِ متعلَّقهما، فإنَّ متعلَّقَ الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئةِ الثانيةِ، والتقديرُ في الأولى: «ولو شاءَ الله أن يَحُولَ بينهم وبين القتال بأن يَسْلُبَهم القِوى والعقول، وفي الثاني: ولو شاءَ لم يأمرِ المؤمنين بالقتال، ولكن شاءَ أَمَرهم بذلك. وقوله: {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} هذا استدراكٌ أيضاً على المعنى، لأنَّ المعنى: ولو شاءَ الله لمنعَهم [

من ذلك] ، ولكنَّ اللهَ يفعل ما يريدُ مِنْ عدمِ منعِهم من ذلك أو يفعلُ ما يريدُ من اختلافِهم.

254

قوله تعالى: {أَنْفِقُواْ} : مفعولُه محذوفٌ، تقديرُه: شيئاً ممَّا رزقناكم فعلى هذا «ممَّا رزقناكم» متعلقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعِه صفةٌ لذلك المفعولِ، وإنْ لم تقدِّرْ مفعولاً محذوفاً فتكونُ متعلقةً بنفسِ الفعلِ. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: رزقناكُموه، وأن تكونَ مصدريةً فلا حاجةَ إلى عائدٍ، ولكن الرزقَ المرادَ به المصدرُ لا يُنفقُ، فالمراد به اسمُ المفعول، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قولِه: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] . قوله: {مِّن قَبْلِ} متعلقٌ أيضاً بأنفِقوا، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافِهما معنىً؛ فإنَّ الأولى للتبعيضِ والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ، و «أَنْ يأتي» في محلِّ جرٍ بإضافة «قبل» إليه أي: من قبلِ إتيانه. وقوله: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} إلى آخره: الجملةُ المنفيَّةُ صفةٌ ل «يوم» فمحلُّها الرفعُ. وقرأ/ «بَيْعٌ» وما بعدَه مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير، وتوجيهُ ذلك، مذكورٌ في قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 197] فليُنْظر ثَمَّةَ. والخُلَّة: الصداقة كأنها تتخلَّل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وَسْطَها. والخُلَّة: الصديقُ نفسه، قال:

1030 - وكان لها في سالفِ الدهرِ خُلَّةً ... يُسارِقُ بالطَّرْفِ الخِباءَ المُسَتَّرا وكأنه من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً، أو على حذفِ مضافٍ، أي: كان لها ذو خُلَّة. والخليلُ: الصديقُ لمداخَلَتِه إياك، ويَصْلُح أَنْ يكونَ بمعنى فاعل أو مفعول، وجَمْعُه «خُلاَّن» ، وفُعْلان جمعُ فَعيل نُقِل في الصفات، وإنما يَكْثرُ في الجوامِدِ نحو: «رُغفانٍ. وقوله:» هم الظالمون «يجوز أن يكونَ» هم «فصلاً أو مبتدأً وما بعده خبرٌ، والجملةُ خبرُ الأولِ.

255

قوله تعالى: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ [الحي] } : مبتدأٌ وخبرٌ. و «الحيّ» فيه سبعةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ خبراً ثانياً للجلالة. الثاني: أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف أي: هو الحيُّ. الثالث: أن يكونَ بدلاً من قوله: «لا إله إلا الله هو» فيكونَ في المعنى خبراً للجلالةِ، وهذا في المعنى كالأولِ، إلا أنه هنا لم يُخْبَرْ عن الجلالةِ إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلافِ الأول. الرابع: أن يكونَ بدلاً من «هو» وحدَه، وهذا يبقى من بابِ إقامةِ الظاهرُ مُقامَ المضمرِ، لأنَّ جملةَ النفي خبرٌ عن الجلالةِ، وإذا جعلتَه بدلاً حَلَّ محَلَّ الأولِ فيصيرُ التقدير: الله لا إله إلا اللهُ. الخامس: أن يكون مبتدأً وخبرُه {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} . السادس: أنه بدلٌ من «الله» السابع: أنه صفة لله، وهو أجودُها، لأنه قرىء بنصبِهما «الحيَّ القيومَ» على القطع، والقطعُ إنما هو في باب النعتِ، لا يقال في هذا الوجهِ الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بالخبرِ، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [تقول: زيدٌ قائمٌ العاقلُ] . و «الحيُّ» فيه قولان، أحدهما: أن أصله حَيْيٌ بياءين من حَيي يَحْيَا فهو حيٌّ، وهذا واضح، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أن أصلَه حَيْوٌ فلامه

واو، فَقُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها متطرفةً، وهذا لا حاجةَ إليه وكأنَّ الذي أَحْوجَ هذا القائلَ إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كونَ العينِ واللامِ من وادٍ واحد هو قليلٌ في كلامِهم بالنسبةِ إلى عَدَمِ ذلك فيه، ولذلك كتبوا «الحياة» بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصلِ، ويؤيده «الحيوان» لظهورِ الواو فيه. ولناصِر القول الأول أن يقول: قلبت الياءُ الثانيةُ واواً تخفيفاً، لأنه لمّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثُقْل المِثْلان. وفي وزنه أيضاً قولان، أحدُهما: أنه فَعْل، والثاني: أنه فَيْعِل فَخُفِّف، كما قالوا مَيْت وهَيْن، والأصل: هَيّن ومَيّت. والقَيُّوم: فَيْعُول من قام بالأمر يَقُوم به إذا دَبَّره، قال أمية: 1031 - لم تُخْلَقِ السماءُ والنجومُ ... والشمسُ معها قَمَر يَعُومُ قَدَّره مهيمنٌ قَيُّومُ ... والحشرُ والجنةُ والنعيمُ إلا لأمرٍ شأنُه عظيمُ ... وأصلُه قَيْوُوم، فاجتمعت الياءُ والواوُ وسَبَقَت إحداهما بالسكون فَقُلِبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياءُ فصارَ قَيُّوماً. وقرأ ابن مسعود والأعمش: «القَيَّام» ، وقرأ علقمة: «القَيِّم» وهذا كما يقولون: دَيُّور وديار ودَيِّر. ولا يجوز أن يكونَ وزنُه فَعُّولاً ك «سَفُّود» إذ لو كان كذلك لكان لفظُه قَوُّوما، لأن العينَ المضاعَفَةَ أبداً من جنس الأصلية

كسُبُّوح وقُدُّوس وضَرَّاب وقَتَّال، فالزائدُ من جنسِ العَيْنِ، فلمَّا جاء بالياء دونَ الواوِ علمنا أن أصله فَيْعُول لا فَعُّول؛ وعدَّ بعضُهم فَيْعُولاً من صيغ المبالغة كضَرُوب وضَرَّاب. قوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} في هذه الجملةِ خمسةُ أوجه، أحدُها: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحدِ أوجهِ رفعٍ الحيّ. الثاني: أنها خبرٌ عن الله تعالى عند مَنْ يُجيز تعدُّد الخبرِ. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في «القَيُّوم» كأنه قيل: يقوم بأمر الخلق غيرَ غافلٍ، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها استئنافٌ إخبارٍ، أخبر تعالى عن ذاتِه القديمة بذلك. الخامس: أنها تأكيدٌ للقَيُّوم لأن مَنْ جاز عليه ذلك استحالَ أن يكونَ قَيُّوماً، قاله الزمخشري، فعلى قولِه إنها تأكيدٌ يجوز أن يكونَ محلُّها النصبَ على الحالِ المؤكدة، ويجوز أن تكونَ استئنافاً وفيها معنى التأكيدِ فتصيرُ الأوْجُه أربعةً. والسِّنَةُ: النُّعاس، وهو ما يتقدَّم النومَ من الفتور، قال عديّ بن الرقاع: 1032 - وَسْنانُ أَقْصَدَه النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ ... في عينِه سِنَةٌ وليس بنائمِ وهي مصدرُ وَسَن يَسِنُ مثلَ: وَعَد يَعِد، وقد تقدَّم علةُ الحذفِ عند قوله {سَعَةً مِّنَ المال} [البقرة: 247] . وقال ابن زيد: «الوَسْنان: الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى إنه ربما جرَّد السيف على أهله» وهذا القولُ ليس بشيءٍ لأنه لا يُفْهَمُ من لغةِ العرب ذلك. وقال المفضَّل: «السِّنَةُ: ثِقَلٌ في الرأسِ، والنعاسُ في العينين، والنومُ في القلب» .

وكررت «لا» في قوله: «ولا نومٌ» تأكيداً، وفائدتها انتفاءُ كلِّ واحدٍ منهما، ولو لم تُذْكَرْ لاحتُمِلَ نفيُهما بقيدِ الاجتماعِ، ولا يَلْزَمُ منه نفيُ كلِ واحدٍ منهما على حِدَته، ولذلك تقول: «ما قامَ زيدٌ وعمروٌ بل أحدُهما» ، ولو قلت: «ما قامَ زيدٌ ولا عمرو بل أحدُهما» لم يَصِحَّ، والمعنى: لا يَغْفَلُ عن شيءٍ دقيقٍ ولا جليلٍ، فعبَّر بذلك عن الغفلةِ، لأنه سببها، فَأَطْلَقَ اسمَ السببِ على مُسَبَّبه. قوله: {لَّهُ مَا فِي السماوات} هي كالتي قبلها إلاَّ في كونِها تأكيداً و «ما» للشمولِ. واللامُ في «له» للمِلْك، وكرَّر «ما» تأكيداً، وذَكَر هنا المظروفَ دون الظرفِ لأنَّ المقصودَ نفيُ الإلهية عن غيرِ الله تعالى، وأنه لا ينبغي أَنْ يُعْبد إلا هو، لأنَّ ما عُبِد من دونِه في السماء كالشمس والقمر والنجوم أو في الأرض كالأصنامِ وبعضِ بني آدم، فكلُّهم مِلْكُه تعالى تحتَ قهرِه، واستغنى عن ذِكْر أنَّ السماواتِ والأرضَ مِلْكٌ له بذكرِه/ قبل ذلك أنه خالقُ السماوات والأرض. قوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} كقوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ} [البقرة: 245] و «مَنْ» وإن كان لفظُها استفهاماً فمعناه النفيُ، ولذلك دَخَلتْ «إلا» في قولِه «إلاّ بإذنه» . و «عنده» فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بيَشْفَع. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لكونِه [حالاً] من الضمير في «يَشْفع» أي يَشْفَعُ مستقراً عنده، وقوي هذا الوجهُ بأنه إذا لم يَشْفَعُ عنده مَنْ هو عنده وقريبٌ منه فشفاعةُ غيرِه أبعدُ. وضَعَّفَ بعضُهم الحالِيَّة بأنَّ المعنى: يَشْفَع إليه.

و «إلاَّ بإذنه» متعلقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ من فاعلِ «يَشْفَع» فهو استثناءٌ مفرَّغ، والباءُ للمصاحبةِ، والمعنى: لا أحدَ يشفعُ عندَه إلاَّ مأذوناً له منه، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به أي: بإذنه يَشْفعون كما تقول: «ضَرَب بسيفه» أي هو آلةٌ للضربِ، والباءُ للتعديةِ. و «يَعْلَمُ» هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ خبراً لأحدِ المبتدأين المتقدمين أو استئنافاً أو حالاً. والضميرُ في «أيديهم» و «خلفهم» يعودُ على «ما» في قوله: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إنه غَلَّبَ مَنْ يعقِلُ على غيرِه. وقيل: يعودُ على العُقَلاء ممَّن تضمَّنه لفظُ «ما» دونَ غيرِهم. وقيل: يعودُ على ما دَلَّ عليه «مَنْ ذا» من الملائكةِ والأنبياء. وقيل: من الملائكة خاصةً. قوله: {بِشَيْءٍ} متعلِّقٌ بيحيطون. والعلمُ هنا بمعنى المَعْلوم لأنَّ عِلْمَه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاتِه المقدَّسة لا يتبعَّضُ، ومِنْ وقوعِ العلم موقعَ المعلوم قولُهم: «اللهم اغفر لنا عِلْمَك فينا» وحديثُ موسى والخَضِر عليهما السلام «ما نَقَص عِلْمي وعلمُك من عِلمه إلاَّ كما نَقَص هذا العصفورُ من هذا البحر» ولكونِ العلمِ بمعنى المعلومَ صَحَّ دخولُ التبعيضِ، والاستثناءُ عليه. و «مِنْ علمه» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بيحيطون، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لشيء، فيكونَ في محلَّ جر. و «بما شاءَ» متعلِّقٌ بيُحيطون أيضاً، ولا يَضُرُّ تعلُّقُ هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأوَّلَيْن بإعادةِ العاملِ بطريقِ الاستثناءِ، كقولك: «ما مررت بأحدٍ إلا بزيدٍ» ومفعولُ «شاء» محذوفٌ تقديرُه: إلا بما شاء أن يُحيطوا به، وإنما قَدَّرتُه كذلك لدلالةِ قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} .

قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} الجمهورُ على «وَسِعَ» بفتح الواوِ وكسرِ السينِ وفتحِ العينِ فعلاً ماضياً. و «كرسيُّه» بالرفع على أنه فاعلُه، وقُرىء «وَسْعَ» سَكَّن عينَ الفعلِ تخفيفاً نحو: عَلْمَ في عَلِمَ. وقرىء أيضاً: «وَسْعُ كرسيِّه» بفتح الواو وسكونِ السين ورفعِ العين على الابتداء، «كرسيِّه» خفضٌ بالإِضافة، «السماواتُ» رفعاً على أنه خبرٌ للمبتدأ. والكُرْسِيُّ الياءُ فيه لغير النسب واشتقاقُه من الكِرْس وهو الجمع، ومنه الكُرَّاسة للصحائف الجامعةِ للعلمِ، ومنه قولُ العجاج: 1033 - يا صاحِ هل تَعْرِفُ رسماً مُكْرَساً ... قال نَعَمْ أعرِفُه وأَبْلَسا وجمعه كَرَاسيّ كبُخْتيّ وبَخَاتيّ، وفيه لغتان: المشهورةُ ضمُّ كافِه، والثانيةُ كسرُها، وكأنه كسرُ إتباع، وقد يُعَبَّر به عن المَلِك لجلوسه عليه تسميةُ للحالِّ باسم المَحَلِّ، ومنه: 1034 - قد عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلى القُدْسِ ... أنَّ أبا العباسِ أَوْلِى نَفْسِ في مَعْدِنِ المَلِكِ القديمِ الكُرْسي ... وعن العلمِ تسميةً للصفةِ باسمِ مكانِ صاحبِها، ومنه قيل للعلماء: «الكَراسيّ» قال:

1035 - يَحُفُّ بهم بيضُ الوجوه وعُصْبَةٌ ... كراسِيُّ بالأحداثِ حين تَنُوبُ وَصَفَهم بأنهم عالمونَ بحوادثِ الأمورِ ونوازِلِها ويُعَبَّرُ به عن السِّرِّ قال: 1036 - مالي بأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكاتِمُهُ ... ولا بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللَّهُ - مَخْلُوقِ وقيل: الكُرْسيُّ لكل شيء أصلُه. قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ} يقال: آدَه كذا أي: أَثْقله ولَحِقه منه مَشَقَّةٌ، قال: 1037 - ألا ما لسَلْمَى اليومَ بَتَّ جَدِيدُها ... وَضَنَّتْ وما كانُ النَّوالُ يَؤُودُها أي: يُثْقِلها، ومنه المَوْءُوْدَة للبنت تُدْفَنُ حيةً، لأنهم يثقلونها بالتراب. وقُرىء «يَوْدُه» بحذفِ الهمزة، كما تُحذف همزة «أناس» ، وقرىء «يَوُوده» بإبدال الهمزة واواً. و «حِفْظ» مصدرٌ مضافٌ لمفعولِهِ، أي لا يَؤُوْده أَنْ يحفظَهما. و «العليّ» أصلُه: عَلِيْوٌ فأُدْغم نحو: مَيِّت، لأنه من علا يعلو، قال: 1038 - فَلَمَّا عَلَوْنَا واستَوَيْنَا عليهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لنسرٍ وكاسِرِ والعظيمُ «تقدَّم معناها، وقيل: هو هنا بمعنى المُعَظَّم كما قالوا:» عتيق «بمعنى مُعَتَّق قال:

1039 - فكأنَّ الخمرَ العتيقَ من الإِسْ ... فَنْطِ ممزوجةً بماءٍ زُلالِ قيل: وأُنْكِرَ ذلك لانتفاء هذا الوصفِ قبل الخَلْقِ وبعد فنائِهم، إذ لا مُعَظَّم له حينئذٍ، وهذا فاسدٌ لأنه مستحقٌ هذا الوصفَ. وقيل في الجواب عنه: إنه صفة فعلٍ كالخَلْق والرِّزْق، والأولُ أصحُّ. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: كيف تَرَتَّبَتِ الجملُ في آيةِ الكرسي غير حرفِ عطفٍ؟ قلت: ما منها جملةٌ إلا وهي واردةٌ على سبيل البيانِ لما تَرَتَّبَتْ عليه، والبيانُ مُتَّحِدٌ بالمُبَيَّن، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب: «بين العصا ولِحائها» فالأُولى بيانٌ لقيامِهِ بتدبيرِ الخَلْق وكونِهِ مهيمناً عليه غيرَ ساهِ عنه، والثانيةُ لكونِهِ مالكاً لما يدبِّره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإِحاطته بأحوال الخلق وعِلْمِه بالمرتضى منهم، المستوجِب للشفاعةِ وغير المُرْتَضَى، والخامسةُ لسَعَةِ علمه وتعلُّقِهِ بالمعلوماتِ كلِّها أو لجلالِهِ وعِظَم قدرتِهِ «انتهى. يعني غالبَ الجملِ وإلاَّ فبعضُ الجملِ فيها معطوفة وهي قولُهُ:» ولا يُحيطُونَ «وقولُهُ» ولا يَؤُودُه «وقولُه: {وَهُوَ العلي العظيم} .

256

قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} : كقولِهِ: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] وقد تقدَّم. والجمهور على إدغام دالِ «قد» في تاءِ «تَبَيَّن» لأنها من مَخْرَجِها. ومعنى الإِكراه نسبتُهم إلى كراهةِ الإِسلام. قال الزجاجُ: «لا تَنْسُبوا إلى الكراهةِ مَنْ أسلم مُكْرَهاً» . يقال: «أَكْفَره» نَسَبَه إلى الكفرِ، قال:

1040 - وطائفةٌ قد أَكْفروني بحبِّهم ... وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومُذْنِبُ [وأل في «الدين» للعهدِ، وقيل: عِوَضٌ من الإِضافة أي «في دين الله» ] . والرُّشْدُ: مصدرُ رَشَدَ بفتح العين يَرْشُد بضمها. وقرأ الحسن «الرُّشُد» [بضمتين كالعُنُق، فيجوز أن يكونَ هذا أصلَه، ويجوزُ أَنْ يكونَ إتباعاً، وهي مسألةُ خلافٍ أعني ضَمَّ عينِ الفعلِ. وقرأ أبو عبد الرحمن] الرَّشَد بفتح الفاء والعينِ، وهو مصدرُ رشِد بكسرِ العينِ يَرْشَد بفتحها، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً: «الرَّشادُ» بالألف. /قوله {مِنَ الغي} متعلِّقٌ بتبيَّن، و «مِنْ» للفصلِ والتمييزِ كقولك: مَيَّزتُ هذا من ذاك. وقال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ على أنه مفعولٌ» وليس بظاهرٍ لأنَّ معنى كونِهِ مفعولاً به غيرُ لائقٍ بهذا المحلِّ. ولا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعرابِ، لأنها استئنافٌ جارٍ مجرى التعليلِ لعدَمِ الإِكراه في الدين. والغَيُّ: مصدرُ غَوَى بفتح العين قال: {فغوى} [طه: 121] ، ويقال: «غَوَى الفصيلُ» إذا بَشِمَ وإذا جاع أيضاً، فهو من الأضداد. وأصلُ الغَيّ: «غَوْيٌ» فاجتمعت الياء والواو، فَأُدْغِمَتْ نحو: مَيّت وبابِهِ. قوله: {بالطاغوت} متعلِّقٌ ب «يكْفر» ، والطاغوتُ بناء مبالغةٍ كالجَبَروت والملَكوت. واختُلِفَ واختُلِفَ فيه، فقيل: هو مصدرٌ في الأصلِ ولذلك يُوَحَّد ويُذَكَّر، كسائرِ المصادرِ الواقعةِ على الأَعْيَان، وهذا مذهبُ الفارسي، وقيل: هو اسمُ

جنسٍ مفردٍ، فلذلك لَزِمَ الإِفرادَ والتذكيرَ، وهذا مذهبُ سيبويه. وقيل هو جمعٌ، وهذا مذهبُ المبردِ، وهو مؤنثٌ بدليلِ قوله تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] . واشتقاقُه من طغَى يَطْغَى، أو من طَغَا يَطْغُو، على حَسَبِ ما تقدَّم أولَ السورة؟ هل هو من ذواتِ الواوِ أو من ذواتِ الياء؟ وعلى كِلا التقديرين فأصلُه طَغَيُوت أو طَغَوُوت لقولِهم «طُغْيان» في معناه، فَقُلِبَت الكلمةُ بأَنْ قُدِّمَتْ اللامُ وأُخِّرت العينُ، فتحرَّك حرفُ العلةِ وانفَتَحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً، فوزنه الآن فَلَعُوت، وقيل: تاؤُه ليسَتْ زائدةً، وإنما هي بدلٌ من لامِ الكلمة، ووزنُه فاعول. قال مكي: «وقد يَجُوز أن يكونَ أصلُ لامِهِ واواً فيكونُ أصلُه طَغَووتاً لأنه يقال: طَغَى يَطْغى ويَطْغو، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ، ومثلُه في القلب والاعتلال والوزن: حانوت، لأنه من حَنا يَحْنو وأصله حَنَوُوت، ثم قُلِب وأُعِلَّ، ولا يجوزُ أن يكونَ من: حانَ يَحِين لقولِهم في الجمع حَوانيت» انتهى. كأنَّه لمَّا رأى أَنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه وتُخَمَة وتُراث وتُكَأة، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً، وهذا ليسَ بشيءٍ. وقَدَّم ذِكْرَ الكفر بالطاغوتِ على ذِكْرِ الإِيمانِ باللَّهِ اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطاغوتِ، وناسَبَه اتصالُهُ بلفظٍ «الغَيّ» . والعُرْوَة: موضعُ شَدِّ الأيدي، وأصلُ المادةِ يَدُلُّ على التعلُّق، ومنه: عَرَوْتُه: أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً، واعتراه الهَمُّ: تعلَّق به. والوُثْقى: فُعْلى للتفضيل تأنيثَ الأوثق، كفُضْلى تأنيثَ الأفضل، وجَمْعُها على وُثَق نحو: كُبْرى وكُبَر، فأمَّا «وُثُق» بضمتين فجمع وَثِيق.

قوله: {لاَ انفصام لَهَا} كقولِهِ: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أن تكونَ استئنافاً فلا محلَّ لها حينئذٍ. والثاني: أنها حالٌ من العُرْوة، والعاملُ فيها «استمسَكَ» . والثالث: أنها حالٌ من الضميرِ المستترِ في «الوُثْقى» . و «لها» في موضِعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائنٌ لها. والانفصامُ - بالفاء - القَطْعُ من غير بَيْنُونة، والقصمُ بالقافِ قَطْعٌ ببينونةٍ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ.

257

قولُه تعالى: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ} : الذين مبتدأٌ أولُ، وأولياؤهم مبتدأٌ ثانٍ، والطاغوتُ: خبرُه، والجملةُ خبرُ الأول. وقرأ الحسن [ «الطواغيت» بالجمعِ، وإن كان أصلُه مصدراً لأنه لمَّا] أطلق على المعبودِ مِنْ دونِ الله اختلفَت أنواعُه، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضمير مَجْمُوعاً من قولِهِ: «يُخْرِجونهم» . قوله: {يُخْرِجُونَهُمْ} هذه الجملةُ وما قبلَها من قولِهِ: «يُخْرِجُهم» الأحْسنُ فيها ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، لأنهما خَرَجا مخرجَ التفسيرِ للولاية، ويجوزُ أن يكونَ «يُخْرِجُهم» خبراً ثانياً لقولِهِ: «الله» وأن يكونَ حالاً من الضمير في «وليُّ» ، وكذلك «يُخْرجونهم» والعامِلُ في الحال ما في معنى الطاغوت، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسي في قولِهِ: {نَزَّاعَةً} [المعارج: 16] إنها حالٌ العاملُ فيها «لَظَى» وسيأتي تحقيقُه. و «من» [و] «إلى» متعلقان بفعلي الإِخراج.

258

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي} : تقدَّم نظيرُه في قوله: {

أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ} [البقرة: 243] . وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: «تَرْ» بسكون الراء، وتقدَّم أيضاً توجيهُها. والهاءُ في «ربه» فيهما قولان، أظهرهُما: أنها تعودُ على «إبراهيم» ، والثاني: تعودُ على «الذي» ، ومعنى حاجَّه: أظهرَ المغالَبَة في حُجَّتِهِ. قوله: {أَنْ آتَاهُ الله} فيه وجهان، أظهرهُما: أنه مفعولٌ من أجله على حذفِ حرفِ العلةِ، أي: لأنْ آتاه، فحينئذٍ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهوران، أعني النصبَ أو الجرَّ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِ قبل «أَنْ» لأنَّ المفعول من أجله هنا نَقَّص شرطاً وهو عدمُ اتحادِ الفاعلِ، وإنما حُذِفَت اللام، لأنَّ حرفَ الجرِّ يطَّرد حَذْفُهُ معها ومع أنَّ، كما تقدَّم غيرَ مرة. وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ معنيان، أحدُهما: أنه من بابِ العكسِ في الكلام بمعنى أنه وَضَعَ المُحَاجَّة موضعَ الشكر، إذ كان من حَقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْك، ولكنه عَمِلَ على عكس القضية، ومنه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ، وتقول: «عاداني فلانٌ لأني أَحْسنت أليه» وهو باب بليغٌ. والثاني: أنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك، لأنه أورثه الكِبْرَ والبَطَرَ، فتسبَّب عنهما المُحاجَّةُ. الوجه الثاني: أنَّ «أَنْ» وما في حَيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزمان، قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ: حاجَّ وقتَ أَنْ آتاه» . وهذا الذي أجازه الزمخشري محلُّ نظرٍ، لأنه إنْ عنى أنَّ ذلكَ على حَذْفِ مضاف ففيه

بُعْدٌ من جهةِ أنَّ المُحاجَّةَ لم تقعْ وقتَ إيتاءِ اللهِ له المُلْكَ، إلا أنْ يُتَجَوَّزَ في الوقتِ، فلا يُحْمَل على الظاهِرِ، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَتْ ابتداءَ إيتاءِ المُلْك، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعتْ وقتَ وجودِ المُلْك، وإنْ عنى أَنْ «أَنْ» وما في حَيَّزها واقعةٌ موقعَ الظرفِ فقد نَصَّ النحويون على منعِ ذلك وقالوا: لا يَنْوب عن الظرفِ الزماني إلا المصدرُ الصريحُ، نحو: «أتيتُك صياحَ الديك» ولو قلت: «أن يصيح الديك» لم يَجُزْ. كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ، لأنه قال: «لا ينوبُ عن الظرفِ إلا المصدرُ الصريحُ» وهذا معارَضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ «ما» المصدريةَ تنوبُ عن الزمان، وليست بمصدرٍ صريحٍ. والضمير في «آتاه» فيه وجهان، أحدُهما - وهو الأظهرُ - أن يعودَ على «الذي» ، وأجاز المهدوي أن يعودَ على «إبراهيم» أي: مَلَكَ النبوة. قال ابن عطية: «هذا تحاملٌ من التأويل» وقال الشيخ: «هذا قولُ المعتزلة، قالوا: لأنَّ الله تعالى قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] والمُلْك عهدٌ، ولقولِهِ تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] . قوله: {إِذْ قَالَ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه معمولٌ لحاجَّ. الثاني: أن يكونَ معمولاً لآتاه، ذَكَرَهُ أبو البقاء. وفيه نَظَرٌ من حيث إنَّ وقتَ إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، إلا أن يتُجَوَّز في الظرفِ كما تقدَّم. والثالث: أن يكونَ بدلاً من «أنْ آتاه الله المُلْك» إذا

جُعِلَ بمعنى الوقت، أجازه الزمخشري بناءً منه على أنَّ «أَنْ» واقعةٌ موقعَ الظرفِ، وقد تقدَّم ضعفُهُ، وأيضاً فإن الظرفَيْنِ مختلفان كما تقدَّم إلا بالتجوزِ المذكورِ. وقال أبو البقاء: «وذكر بعضُهم أنه بدلٌ من» أَنْ آتاه «وليس بشيءٍ، لأنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ، فلو كانَ بدلاً لكانَ غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل» إذ «بمعنى» أَنْ «المصدرية، وقد جاء ذلك» انتهى. وهذا بناءٌ منه على أنَّ «أَنْ» مفعولٌ من أجله/ وليست واقعةً موقعَ الظرفِ، أمَّا إذا كانَتْ «أَنْ» واقعةً موقعَ الظرفِ فلا تكونُ بدلَ غلط، بل بدلُ كلٍ من كلٍ، كما هو قولُ الزمخشري وفيه ما تقدَّم، مع أنه يجوزُ أَنْ تكونَ بدلاً مِنْ «أَنْ آتاه» و «أن آتاه» مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ، لأنَّ وقتَ القولِ لاتساعِهِ مشتملٌ عليه وعلى غيره. الرابع: أنَّ العاملَ فيه «تَرَ» من قوله: «ألم ترَ» ذكره مكي، وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّ الرؤيةَ على كِلا التفسيرين المذكورين في نظيرتِها لم تكنْ في وقتِ قوله: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} . و {رَبِّيَ الذي يُحْيِي} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصب بالقول. قولُه: {قَالَ أَنَا أُحْيِي} مبتدأٌ وخبرٌ منصوبُ المحل بالقول أيضاً. وأخبر عن «أنا» بالجملةِ الفعلية، وعن «ربي» بالموصولِ بها، لأنه في الإِخبارِ بالموصولِ يُفيد الاختصاصَ بالمُخْبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإنه لم يَدَّعِ لنفسِهِ الخسيسةِ الخصوصيةَ بذلك. و «أنا» ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ، والاسمُ منه «أَنْ» والألفُ زائدةٌ لبيانِ

الحركةِ في الوقفِ، ولذلك حُذِفَتْ وصلاً، ومن العربِ مَنْ يُثبتها مطلقاً، فقيل: أُجري الوصلُ مُجْرى الوقف. قال: 1041 - وكيفَ أنا وانتحالِ القوا ... في بعدَ المشيبِ كفى ذاك عارَا وقال آخر: 1042 - أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني ... حَمِيداً قد تَذَرَّيْتُ السَّناما والصحيح أنه فيه لغتان، إحداهما: لغةُ تميمٍ، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإنه قرأ بثبوتِ الألفِ وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو: «أنا أُحيي» أو مفتوحةٍ نحو: {وَأَنَاْ أَوَّلُ} [الأعراف: 143] ، واخْتُلِفَ عنه في المكسورة نحو: {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ [نَذِيرٌ] } [الشعراء: 115] ، وقراءةُ ابن عامر: {لكنا هُوَ الله رَبِّي} على ما سيأتي، هذا أحسنُ من توجيهِ مَنْ يقول: «أَجْرِي الوصلُ مُجرى الوقف» . واللغةُ الثانية: إثباتُها وقفاً وَحَذْفُها وصلاً، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إلا ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل: بل «أنا» كلُّه ضمير. وفيه لغاتٌ: أنا وأَنْ - كلفظِ أَنْ الناصبةِ - وآن، وكأنه قَدَّم الألفَ على

النونِ فصار أان. قيل: إنَّ المرادُ به الزمانُ، [و] قالوا: أنَهْ وهي هاءُ السكت، لا بدلٌ من الألف: قال: «هكذا فَرْدِي أَنَهْ» وقال آخر: 1043 - إنْ كنتُ أدري فعليَّ بَدَنَهْ ... من كَثْرةِ التخليطِ فيَّ مَنْ أَنَهْ وإنما أثبت نافع ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللغتين، أو لأنَّ النطقَ بالهمزِ عَسِرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ. قوله: {فَإِنَّ الله} هذه الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ تقديرُه: قال إبراهيم إنْ زعمت أو مَوَّهت بذلك فإن الله، ولو كانت الجملةُ محكيةً بالقولِ لَمَا دَخَلَتْ هذه الفاءُ، بل كان تركيبُ الكلامِ: قال إبراهيم إنَّ الله يأتي. وقال أبو البقاء: «دخلَتِ الفاءُ إيذاناً بتعلُّق هذا الكلامِ بما قَبْلَه، والمعنى إذا أدَّعَيْت الإِحياء والإِماتَة ولم تَفْهَمْ فالحجةُ أنَّ الله يأتي، هذا هو المعنى» . والباءُ في «بالشمسِ» للتعديةِ، تقولُ: أَتَتِ الشمسُ، وأتى اللهُ بها، أي: أجاءها. و «من المشرق» و «مِن المغرب» متعلقان بالفعلَيْن قبلهما، وأجاز أبو البقاء فيهما بَعْدَ أَنْ منع ذلك أن يكونا حالَيْن، وجَعَلَ التقدير: مسخرةً أو منقادةً. وليته استمرَّ على مَنْعِه ذلك. قوله: {فَبُهِتَ} الجمهورُ: «بُهِتَ» مبنياً للمفعول، والموصولُ مرفوعٌ به، والفاعلُ في الأصل هو إبراهيمُ، لأنه المناظِرُ له. ويُحْتمل أن يكونَ الفاعلُ

في الأصل ضميرَ المصدرِ المفهوم من «قال» أي: فَبَهَته قولُ إبراهيم. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: «فَبَهَتَ» بفتحِ الباءِ والهاءِ مبنياً للفاعلِ، وهذا يَحْتَمِلُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ الفعلُ متعدِّياً، وفاعلُه ضميرٌ يعودُ على إبراهيم، و «الذي» هو المفعولُ، أي: فَبَهَت إبراهيمُ الكافرَ، أي غَلَبة في الحُجَّة، أو يكونُ الفاعلُ الموصولَ، والمفعولُ محذوفٌ وهو إبراهيمُ، أي: بَهَتَ الكافرُ إبراهيم أي: لَمّا انقطَع عن الحُجَّة بَهَته. والثاني: أن يكونَ لازماً والموصولُ فاعلٌ، والمعنى معنى بُهِت، فتتَّحدُ القراءتان، أو بمعنى أَتَى بالبُهْتان. وقرأ أبو حَيْوة: «فَبَهُتَ» بفتح الباء وضمِّ الهاء كظَرُفَ، والفاعلُ الموصولُ. وحكى الأخفش: «فَبُهِتَ» بكسر الهاء، وهو قاصرُ أيضاً. فيَحصُلُ فيه ثلاثُ لغاتٍ: بَهَتَ بفتحهما، بَهُت بضم العين، بَهِت بكسرها، فالمفتوحُ يكون لازماً ومتعدياً، قال: {فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء: 40] . والبَهْتُ: التحيُّر والدَّهَشُ، وباهَتَه وبَهَته واجهه بالكذبِ، ومنه الحديث: «إنَّ اليهودَ قومٌ بُهُتٌ» ، وذلك أن الكذب يُحَيِّر المكذوبَ عليه.

259

قوله تعالى: {أَوْ كالذي مَرَّ} : الجمهورُ على سكونِ واوِ «أو» وهي هنا للتفصيلِ، وقيل: للتخيير بين التعجب مِنْ شأنهما. وقرأ أبو سفيان ابن حسين «أوَ» بفتحِها، على أنها واوُ العطفِ، والهمزةُ قبلها للاستفهام.

وفي قوله: {كالذي} أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه عطفٌ على المعنى وتقديرُه عند الكسائي والفراء: هل رأيتَ كالذي حاجَّ إبراهيم أو كالذي مَرَّ على قرية، هكذا قال مكي، أمَّا العطفُ على المعنى فهو وإنْ كان موجوداً في لسانهم كقوله: 1044 - تقيٌّ نقيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً ... بِنَهْكَةِ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّدِ وقول الآخر: 1045 - أجِدَّكَ لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ ... ولا بَيْدَانَ ناجيةً ذَمُولا ولا متدارِكٍ والليلُ طَفْلٌ ... ببعضِ نواشغِ الوادي حُمُولا فإنَّ معنى الأولِ: ليسَ بمكثرٍ ولذلك عَطَفَ عليه «ولا بِحَقَلَّدِ» ومعنى الثاني: أَجِدَّك لستَ براءٍ، ولذلك عَطَفَ عليه «ولا متداركٍ» ، إلا أنهم نَصُّوا على عدمِ اقتياسِه. الثاني: أنه منصوبٌ على إضمارِ فعلٍ، وإليه نَحَا الزمخشري، وأبو البقاء، قال الزمخشري: «أو كالذي: معناه أو رَأَيْتَ مثلَ الذي» ، فَحُذِفَ

لدلالةِ «ألم تَرَ» لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ، لأنَّ الحذفَ ثابتٌ كثيرٌ بخلافِ العطفِ على المعنى. الثالث: انَّ الكافَ زائدةٌ كهي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقول الآخر: 1046 - فَصُيِّروا مثلَ كَعَصْفٍ مأكولْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والتقدير: ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مَرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ لأنَّ الأصلَ عدمُ الزيادةِ. والرابع: أنَّ الكافَ اسمٌ بمعنى مِثْل، لا حرفٌ، وهو مذهبُ الأخفش وهو الصحيحُ من جهةِ الدليل، وإنْ كان جمهورُ البصريين على خلافِه، فالتقديرُ: ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ، أو إلى مِثْل الذي مَرَّ وهو معنى حسنٌ. وللقولِ باسميةِ الكافِ دلائلُ مذكورةٌ في كتب القوم، ذَكَرْنَا أحسَنها في هذا الكتابِ، منها معادَلَتُها في الفاعليةِ ب «مثل» في قوله: 1047 - وإنّك لم يَفْخَرْ عليك كفاخرٍ ... ضعيفٍ ولم يَغْلِبْكَ مثلُ مُغَلَّبِ ومنها دخولُ حروف الجرِ، والإِسناد إليها. وتقدَّم الكلامُ في اشتقاقِ القرية.

قوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} هذه الجملةُ فيها/ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها أنْ تكونَ حالاً من فاعلِ «مَرَّ» والواوُ هنا رابطةٌ بين الجملةِ الحاليةِ وصاحبها، والإِتيانُ بها واجبٌ لخلوِّ الجملةِ من ضميرٍ يعودُ إليه. والثاني: أنها حالٌ من «قرية» : إمَّا على جَعْل «على عروشها» صفةً لقرية على أحدِ الأوجهِ الآتيةِ في هذا الجارِّ، أو على رأي مَنْ يجيزُ الإِتيانَ بالحالِ من النكرة مطلقاً، وهو ضعيفُ عند سيبويهِ. الثالث: أنها حالٌ من «عروشها» مقدَّمةٌ عليه، تقديرُه: مَرَّ على قرية على عروشِها وهي خاويةٌ. الرابع: أن تكونَ حالاً من «ها» المضافِ إليها «عروش» قال أبو البقاء: «والعاملُ معنى الإِضافة وهو ضعيفٌ مع جوازه» انتهى. والذي سَهَّل مجيءَ الحال من المضاف إليه كونُه بعضَ المضافِ، لأنَّ «العروش» بعضُ القريةِ، فهو قريبٌ من قولِه تعالى: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الأعراف: 43] . الخامس: أن تكونَ الجملةُ صفةً لقرية، وهذا ليسَ بمرتضى عندَهم، لأنَّ الواوَ لا تَدْخُلُ بين الصفةِ والموصوفِ، وإنْ كانَ الزمخشري قد أجازَ ذلك في قوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] فَجَعَل «ولَهَا كتابٌ» صفةً، قال: «وتوسَّطت الواوُ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف» وهذا مذهبٌ سبقه إليه أبو الفتح ابن جني في بعضِ تصانيفِه، وفيه ما تقدَّم، وكأنَّ الذي سَهَّل ذلك تشبيهُ الجملة الواقعة صفةً بالواقعَةِ حالاً، لأنَّ الحالَ صفةٌ في المعنى. ورتَّب أبو البقاء جَعْلَ هذه الجملة صفةً لقرية على جوازِ جَعْلِ «على عروشها» بدلاً من «قرية» على

إعادةِ حرفِ الجر ورتَّب جَعْلَ «وهي خاويةٌ» حالاً من العروش أو من القرية أو مِنْ «ها» المضافِ إليها على جَعْلِ «على عروشها» صفةً للقرية، وهذا نصُّه قد ذكرتُه ليتضِحَ لك، فإنه قال: «وقيل هو بدلٌ من القرية تقديرُه: مَرَّ على قرية على عروشها أي: مَرَّ على عروش القرية، وأعادَ حرفَ الجر مع البدلِ، ويجوز أن يكونَ» على عروشها «على هذا القول صفةً للقريةِ لا بدلاً، تقديرُه: على قريةٍ ساقطةٍ على عروشها، فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ» وهي خاويةٌ «حالاً من العروشِ وأن تكونَ حالاً من القرية لأنها قد وُصِفَتْ، وأن تكونَ حالاً من» ها «المضافِ إليه، وفي هذا البناءِ نظرٌ لا يخفى. قوله: {على عُرُوشِهَا} فيه أربعةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ بدلاً من» قرية «بإعادة العاملِ. الثاني: أن يكونَ صفةً ل» قرية «كما تقدَّم تحقيقُه، فعلى الأولِ يتعلَّقُ ب» مَرَّ «لأنَّ العاملَ في البدلِ العاملُ في المُبْدَلِ منه، وعلى الثاني يتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: ساقطةٍ على عروشِها. الثالث: أن يتعلَّقَ بنفسِ خاوية، إذا فَسَّرنا» خاوية «بمعنى متهدِّمة ساقطة. الرابع: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه المعنى، وذلك المحذوفُ قالوا: هو لفظُ» ثابتة «، لأنهم فَسَّروا» خاويةٌ «بمعنى: خاليةٌ مِنْ أهلِها ثابتةٌ على عروشِها، وبيوتُها قائمةٌ لم تتهدَّمْ، وهذا حَذْفٌ من غيرِ دليلٍ ولا يتبادَرُ إليه الذهن. وقيل:» على «بمعنى» مع «أي: مع عروشِها، قالوا: وعلى هذا فالمرادُ بالعروشِ الأبنيةُ. والخاوي: الخالي. يقال: خَوَتِ الدارُ تَخْوِي خَواءً بالمد، وخُوِيَّاً، وخَوِيَتْ أيضاً بكسرِ العينِ تَخْوَى خَوَىً بالقصر، وخَوْياً. والخَوَى: الجوعُ لخلوِّ البطنِ من الزاد. والخَوِيُّ على فَعِيل: البطنُ السهل من الأرض، وخَوَّى البعيرُ: جافى جَنْبَه عن الأرض. قال:

1048 - خَوَّى على مُسْتَوِيات خَمْسِ ... كِرْكِرَةٍ وثَفِناتٍ مُلْسٍ والعروشُ: جمعُ عَرْش، وهو سقفُ البيت، وكذلك كل ما هُيِّىء ليُسْتَظَلَّ به. وقيل: هو البنيانُ نفسُه، قال: 1049 - إنْ يَقْتُلوكَ فقد ثَلَلْتُ عروشَهُمْ ... بعُتيبةَ بنِ الحارثِ بِنْ شهابِ قوله: {أنى يُحْيِي هذه الله} في «أنِّى» وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ بمعنى «متى» قال أبو البقاء: «فعلى هذا تكونُ ظرفاً» والثاني: انها بمعنى كيف. قال أبو البقاء: فيكونُ موضعُها حالاً من «هذه» وتقدَّم لما فيه من الاستفهام، والظاهر انها بمعنى كيف، وعلى كلا القولين فالعاملُ فيها «يُحْيي» . و «بعد» أيضاً معمولٌ له. والإِحياءُ والإِماتةُ مَجازٌ إنْ أُريدَ بهما العمرانُ والخرابُ، أو حقيقةٌ إنْ قَدَّرْنا مضافاً أي: أنَّى يُحْيي أهلَ هذه القريةِ بعد مَوْتِ أهلِها، ويجوزُ أن تكونَ هذه إشارةً إلى عظامِ أهلِ القريةِ البالية وجثثهم المتمزقةِ، دَ‍لَّ على ذلك السياقُ. قوله: {مِئَةَ عَامٍ} قال أبو البقاء: «مئة عام ظرفٌ لأماتَه على المعنى، لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام، ولا يجوزُ أن يكونَ ظرفاً على ظاهر اللفظِ، لأنَّ الإِماتةَ تقعُ في أدنى زمان، ويجوزُ أن يكونَ ظرفاً لفعلٍ محذوف تقديرُه:» فأَماته اللهُ فلبِثَ مئة عام «، ويَدُلُّ على ذلك قولُه:» كم لَبِثْتَ «، ولا حاجَةَ إلى هذين التأويلين، بل المعنى جَعَلَه ميِّتاً مئة عام. و» مئة «عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامُها محذوفةٌ، وهي ياءٌ، يدُلُّ على

ذلك قولُهم:» أَمْأَيْتُ الدراهم «أي: صَيَّرْتُها مئةً، فوزنُها فِعَة ويُجْمَع على» مِئات «وشذَّ فيها مِئُون قال: 1050 - ثلاثُ مئينٍ للملوكِ وَفَى بها ... ردائي وَجَلَّتْ عن وجوه الأهاتِمِ كأنهم جَرَوها بهذا الجمعِ لِما حُذِفَ منها، كما قالوا: سِنون في سَنَة. والعامُ مدةٌ من الزمانِ معلومةٌ، وعينُهُ واوٌ لقولِهم في التصغير، عُوَيْم، وفي التكسير:» أَعْوَام «. وقال النقاش:» هو في الأصلِ مصدَرٌ سُمِّيَ به الزمانُ لأنه عَوْمَةٌ من الشمس في الفلك، والعَوْمُ: هو السَّبْح. وقال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فعلى هذا يكونُ العامُ والعَوْمُ كالقَوْل والقَال «. قوله: {كَمْ} منصوبٌ على الظرفِ، ومميِّزُها محذوفٌ تقديرُهُ: كم يوماً أو وقتاً. والناصبُ له» لَبِثْتَ «، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والظاهرُ أنَّ» أو «في قوله: {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بمعنى» بل «للإِضراب وهو قولٌ ثابتٌ، وقيل: هي للشك. وقوله: {قَالَ بَل لَّبِثْتَ} عَطَفَتْ» بل «هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ تقديرهُ: ما لبثتُ يوماً أو بعضَ يوم، بل لبثتُ مئةَ عام. وقرأ نافع وعاصم وابن كثير بإِظهارِ الثاء في جميع القرآن، والباقُون بالإِدغام. قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال. وزعم

بعضُهم أن المضارعَ المنفيَّ ب «لم» إذا وَقَع حالاً فالمختارُ دخولُ واوِ الحال وأنشد: / 1051 - بأَيْدي رجالٍ لم يَشِيْموا سيوفَهُمْ ... ولم تَكْثُر القَتْلى بها حينَ سُلَّتِ وزعم آخرون أنَّ الأَوْلَى نفيُ المضارعِ الواقعِ حالاً بما ولمَّا وكلا الزعمين غيرُ صحيحين. لأنَّ الاستعمالَيْنِ واردان في القرآنِ، قال تعالى: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] ، وقال تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] فجاء النفيُ ب لم مع الواوِ ودونِها. قيل: قد تقدَّم شيئاَن وهما «طعامِك وشرابِك» ولم يُعِدِ الضميرَ إلا مفرداً، وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ، أحدُها: أنهما لمَّا كانا متلازِمَيْنِ، بمعنى أنَّ أحدَهما لا يُكْتَفَى به بدونِ الآخر صارا بمنزلةِ شيءٍ واحدٍ حتى كأنه [قال:] فانظُرْ إلى غذائِك. الثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ إلى الشراب فقط، لأنه أقربُ مذكورٍ، وثَمَّ جملةٌ أخرى حُذِفَتْ لدلالةِ هذه عليها. والتقديرُ: وانظرْ إلى طعامِكَ لم يَتَسَنَّهْ وإلى شرابِك لم يَتَسَنَّهْ، أو يكونُ سكتَ عن تغيُّرِ الطعامِ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّرِ الشرابُ مع نَزْعَة النفس إليه فَعَدَمُ تغيُّر الطعامِ أَوْلَى، قال معناه أبو البقاء. والثالث: أنه أفردَ في موضِعِ التثنيةِ، قاله أبو البقاء وأنشد:

1052 - فكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ وليس بشيءٍ. وقرأ حمزةُ والكسائي: «لم يَتَسَنَّهْ» بالهاء وقفاً وبحذفها وصلاً، والباقون بإثباتِها في الحالين. فأمَّا قراءتهما فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فالهاء تحتملُ وجهين، أحدُهما: أن تكونَ أيضاً للسكتِ، وإنما أُثبتت وصلاً إجراء للوصلِ مُجْرى الوقفِ، وهو في القرآن كثيرٌ، سيمرُّ بك منه مواضعُ، فعلى هذا يكون أصلُ الكلمةِ: إمَّا مشتقاً من لفظ «السَّنة» على قولنا إنَّ لامَها المحذوفةَ واوٌ، ولذلكَ تُرَدُّ في التصغير والجمع، قالوا: سُنَيَّة وسَنَوات، وعلى هذه اللغة قالوا: «سانَيْتُ» أُبْدِلَتِ الواوُ ياءً لوقوعِها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ، فقلبوا الواوَ تاءً، والأصل أَسْنَوُوا، فأَبْدَلوها في تُجاه وتُخَمة كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفَتْ الألفُ جزماً، وإمَّا مِنْ لفظ «مَسْنون» وهو المتغيِّرُ ومنه {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] ، والأصل: يتَسَنَّنُ بثلاثِ نونات، فاسْتُثْقِلَ توالي الأمثال، فَأَبْدَلْنَا الأخيرةَ ياءً، كما قالوا في تَظَنَّنَ: تظَنَّى، وفي قَصَّصْت أظفاري: قَصَّيْت، ثم أَبْدَلْنَا الياء ألفاً لتحرُّكِها وانفتاح ما قبلَها، ثم حُذِفَتْ جزماً، قاله أبو عمرو، وخَطَّأَه الزجاج، قال: «لأنَّ المسنونَ المصبوبَ على سَنَنِ الطريق» . وحُكِيَ عن النقاش أنه قال: «هو مأخوذٌ من أَسِنَ الماءُ» أي تغيَّر، وهذا وإن كان صحيحاً معنىً فقد رَدَّ عليه النحويون قولَه لأنه فاسدٌ اشتقاقاً، إذ

لو كان مشتقاً من «أَسِنَ الماء» لكان ينبغي حين يُبْنَى منه تفعَّل أن يقال تأسَّن. ويمكن أَنْ يُجَابَ عنه أنه يمكنُ أن يكونَ قد قُلِبَت الكلمةُ بَنْ أُخِّرَتْ فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضِع لامِها فبقي: يَتَسَنَّأ بالهمزةِ آخِراً، ثم أُبْدِلَت الهمزةُ ألفاً كقولِهم في قرأ: «قَرَا» ، وفي استَهْزا «ثم حُذِفَتْ جزماً. والوجه الثاني: أن تكونَ الهاءُ أصلاً بنفسِها، ويكونُ مشتقاً من لفظ» سنة «أيضاً، ولكن في لغةِ من يَجْعَلُ لامَها المحذوفَةَ هاءً، وهم الحجازيون، والأصلِ: سُنَيْهَة، يَدُلُّ على ذلك التصغيرُ والتكسير، قالوا: سُنَيْهَة وسُنَيْهات وسانَهْتُ، قال شاعرهم: 1053 - وليسَتْ بِسَنْهَاء ولا رُجَّبِيَّةٍ ... ولكنْ عرايا في السنينِ الجوائِحِ ومعنى» لم يَتَسَنَّهْ «على قولِنا: إنه من لفظِ السَّنَة، أي: لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِه، وهذا أَوْلى من قولِ أبي البقاء في أثناءِ كلامه» من قولك أَسْنى يُسْنِي إذا مَضَتْ عليه سِنونَ «لأنه يَصِيرُ المعنى: لم تَمْضِ عليه سنونَ، وهذا يخالِفُهُ الحِسُّ والواقعُ. وقرأ أُبَيّ:» لم يَسَّنَّه «بإدغام التاء في السين، والأصل:» لم يَتَسَنَّه «

كما قرىء {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ} [الصافات: 8] ، والأصل: يَتَسَمَّعون فَأُدْغِم. وقرأ طلحة بن مصرف:» لمئة سنة «. قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده، تقديرُهُ: ولنجعلكَ فَعَلْنا ذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديرُهُ: فَعَلْنا ذلك لتعلَمَ قدرتَنا ولنجعلَكَ. الثالث: أن الواوَ زائدةٌ، واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلَها أي: وانظُرْ إلى حمارِك لنعجلَكَ. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم بعضُهم فقال: إنَّ قوله:» ولنجعلَكَ «مؤخر بعد قولِهِ:» وانظُرْ إلى العظامِ «، وأَنْ الأنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضُها على بعضٍ، فُصِل بينها بهذا الجار، لأنَّ النظرَ الثالثَ من تمامِ الثاني، فلذلك لم تُجْعَل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار» أَنْ «وهي وما بعدَها من الفعلِ في محلِّ جرٍ على ما سبَقَ بيانُهُ غيرَ مرةٍ. و» آية «مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى التصيير. و» للناس «صفةٌ لآية، و» أل «في الناسِ قيل: للعهدِ إنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ. وقيل: للجنس إنْ عَنَى جميعَ بني آدم. قوله: {كَيْفَ} منصوبٌ نصبَ الأحوالِ، والعاملُ فيها» نُنْشِزُها «وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في» نُنْشِزُها «، ولا يعملُ في هذه الحالِ» انظُرْ «، إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلامِ، فلا يعملُ فيه ما قبلَه، هذا هو القولُ في هذه المسألةِ ونظائِرها. وقال أبو البقاء: «كيف نُنْشِزُها في موضِعِ الحالِ من»

العظام «، والعامل في» كيف «ننشِزُها، ولا يجوز أن يعمل فيها» انظر «لأنَّ الاستفهامَ لا يعملُ فيه ما قبلَه، ولكن» كيف «و» نُنْشِزُها «جميعاً حالٌ من» العظام «، والعاملُ فيها» انظر «تقديره: انظرْ إلى العظامِ مُحْياةً وهذا ليس بشيء، لأن هذه جملة استفهام، والاستفهام لا يقع حالاً، وإنما الذي يقع حالاً وحدَه» كيف «، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادةِ حرفِ الاستفهامِ نحو:» كيف ضَرَبْتَ زيداً أقائماً أم قاعداً «؟ والذي يقتضيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألةِ وأمثالِها أَنْ تكونَ جملةُ» كيف نُنْشِزُها «بدلاً من» العظام «، فتكونَ في محلِّ نصبٍ، وذلك أنَّ» نظر «البصرية تتعدَّى ب» إلى «، ويجوزُ فيها التعليقُ كقولِهِ تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [هود: 21] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأن ما يتعدى بحرف الجر يكون ما بعده في محل نصب به. ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ لتصِحَّ البدليةُ، والتقديرُ: إلى حالِ العظام، ونظيرُهُ قولُهم:» عَرفْتُ زيداً: أبو مَنْ هو؟ فأبو مَنْ هو بدلٌ من «زيداً» ، على حذفٍ تقديرُهُ: «عَرَفْتُ قصةَ زيد» . والاستفهامُ في بابِ التعليقِ لا يُراد به معناه، بل جرى في لسانِهم مُعَلَّقاً عليه حكمُ اللفظِ دونَ المعنى، و [هو] نظيرُ «أيّ» في الاختصاص نحو: «اللهم اغفر لنا أَيَّتُها العِصابة» فاللفظُ كالنداء في جميعِ أحكامه، وليس معناه عليه. وقرأ أبو عمرو والحرميَّان: «نُنْشِرُها» بضم النون وكسر الشين والراءِ المهملةِ، والباقون كذلك إلاَّ أنها بالزاي المعجمة. وابنُ عباس بفتح النونِ وضَمِّ الشين والراء المهملةِ أيضاً/. والنخعي كذلك إلا أنها بالزاي المعجمةِ، ونُقِلَ عنه أيضاً ضَمُّ الياء وفتحِها مع الراءِ والزاي.

فَأَمَّا قراءة الحرميّين: فَمِنْ «أَنْشَرَ اللَّهُ الموتى» بمعنى أَحْيَاهم، وأمَّا قراءةُ ابنِ عباس فَمِنْ «نَشَر» ثلاثياً، وفيه حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ بمعنى أَفْعَلَ فتتحدَ القراءتان. والثاني: أَنْ يكونَ مِنْ «نَشَرَ» ضِدَّ طَوى أي يَبْسُطها بالإِحياءِ، ويكونُ «نَشَرَ» أيضاً مطاوعَ أَنْشَرَ، نحو: أَنْشَرَ الله الميت فَنَشَرَ، فيكونُ المتعدي واللازمُ بلفظٍ واحد، إلاَّ أنَّ كونَه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمةِ لتعدِّي الفعل فيها، وإنْ كان في عبارةٍ أبي البقاء في هذا الموضِعِ بعضُ إبهامٍ. ومِنْ مجيء «نشر» لازماً قوله: 1054 - حتى يقولَ الناسُ مِمَّا رَأَوا ... يا عجباً للميِّت الناشِرِ فناشِر مِنْ نَشَر بمعنى حَيِيَ. وأمَّا قراءةُ الزاي فَمِنْ «النَّشْز» وهو الارتفاعُ، ومنه: «نَشْزُ الأرضِ» وهو المرتفعُ، ونشوزُ المرأةِ وهو ارتفاعُها عن حالِها إلى حالةٍ أخرى، فالمعنى: يُحَرِّك العظامَ ويرفعُ بعضَها إلى بعضٍ للإحياء. قال ابنُ عطية: «وَيَقْلَقُ عندي أن يكونَ النشوزُ رَفْعَ العظامِ بعضِها إلى بعضٍ، وإنما النشوزُ الارتفاعُ قليلاً قليلاً» ، قال: «وانظُر استعمالَ العربِ تجدْه كذلك، ومنه:» نَشَزَ نابُ البعير «و» أَنْشَزُوا فَأَنْشَزوا «، فالمعنى هنا على التدرُّجِ في الفعلِ فَجَعَل ابنُ عطية النشوزُ ارتفاعاً خاصاً. ومَنْ ضَمَّ النونَ فَمِنْ» أَنْشَزَ «، ومَنْ فَتَحَها فَمِنْ» نَشَزَ «، يقال:» نَشَزه «و» أَنْشَزَه «بمعنىً. ومَنْ قرأ بالياءِ فالضميرُ لله تعالى. وقر أبُيّ» نُنْشِئُها «من

النَّشْأَة. ورجَّح بعضُهم قراءة الزاي على الراء بِأَنْ قال: العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ بل بانضمامِ بعضِها إلى بعضٍ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى، إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ، فالموصوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ، ولا يقال: هذا عَظمٌ حيٌّ، وهذا ليس بشيءٍ لقولِه: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 1] . ولا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ من قوله:» العِظام «أي العظامِ منه، أي: من الحمارِ، أو تكونُ» أل «قائمةً مقامَ الإِضافة أي عظامِ حمارِك. قوله: {لَحْماً} مفعولٌ ثانٍ ل» نَكْسُوها «وهو من بابِ أعطى، وهذا من الاستعارة، ومثلُه قولُ لبيد: 1055 - الحمدُ للَّهِ إذْ لم يَأْتِنِي أَجَلي ... حتى اكتسَيْتُ من الإِسلامِ سِرْبالا قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ} في فاعِل» تبيَّن «قولان، أحدُهما: مضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلام، تقديرُهُ: فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياء التي استقر بها. وقدَّره الزمخشري:» فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه «يعني من أَمْر إحياء الموتى، والأولُ أَوْلَى، لأنَّ قوة الكلامِ تَدِلُّ عليه بخلافِ الثاني. والثاني - وبه بدأ الزمخشري -: أن تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال، يعني أن» تَبَيَّن «يطلُبُ فاعلاً، و» أَعْلَمُ «يطلبُ مفعولاً، و {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يصْلُح أن يكونَ فاعلاً لتبيَّن، ومفعولاً لأعلَمُ، فصارَتِ المسألةُ من التنازعِ، وهذا نصُّه قال:» وفاعل «تبيَّن» مضمرٌ تقديرُه: فلمَّا تبيَّن له أن الله على كل شيء قدير

قال: أَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ على كل شيء قديرٌ، فَحُذِفَ الأولُ لدلالةِ الثاني عليه، كما في قولهم: «ضربني وضربتُ زيداً» فَجَعَله مِنْ بابِ التنازعِ كما ترى، وجَعَله من إعمال الثاني وهو المختارُ عند البصريين، فلمَّا أعملَ الثاني أَضْمَرَ في الأولِ فاعلاً، ولا يجوزُ أن يكونَ من إعمال الأولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول فكان يُقال: فلما تبيَّن له قال أَعلمُه أن الله. ومثلُه في إعمالِ الثاني: {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96] {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] . إلاَّ أنَّ الشيخَ ردَّ عليه بأنَّ شرطَ الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَيْنِ، وأَدْنى ذلك بحرف العطف - حتى لا يكونَ الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول نحو: «جاءني يضحكُ زيدٌ» فإنَّ «يضحك» حالٌ عاملُها «جاءني» فيجعل في «جاءني» أو في «يضحك» ضميراً حتى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً، ولا يَردُ على هذا جَعلُهُم {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} [المنافقون: 5] {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] من بابِ الإِعمال، لأنَّ هذه العواملَ مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراك، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العملِ، فإذا كان على ما نَصُّوا فليس العاملُ الثاني مشتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ ولا بغيره، ولا هو معمولٌ للأولِ بل هو معمولٌ لقال، و «قال»

جوابُ «لَمَّا» إنْ قلنا إنَّها حرفٌ، وعاملةٌ في «لَمَّا» إن قلنا إنها ظرفٌ، و «تبيَّن» على هذا القولِ مخفوضٌ بالظرفِ، ولم يذكر النحاةُ التنازعَ في نحو: «لو جاء قتلتُ زيداً» ولا «لَمَّا جاء ضربتُ زيداً» ولا «حين جاء قتلتُ زيداً» ولا «إذا جاء قتلت زيداً» ، ولذلك حَكَى النحاةُ أنَّ العربَ لا تقول: «أَكْرَمْتُ أهنتُ زيداً» - يعني لعدمِ الاشتراكِ بين العاملين - وقد ناقضَ قولَه حيث جَعَل الفاعلَ محذوفاً كما تقدَّم في عبارتِهِ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمارِ في قوله: «وفاعل تبيَّن مضمرٌ» الحذفَ فهو قول الكسائي، لأنه لا يُجيز إضمارَ المرفوع قبلَ الذكر فيدَّعي فيه الحذفَ ويُنْشِدُ: 1056 - تَعَفَّقَ بالأَرْطى لها وأرادَها ... رجالٌ فَبَذَّت نبلَهم وكَلِيبُ ولهذا تأويلٌ مذكورٌ، ورُدَّ عيه بالسماع قال: 1057 - هَوَيْنَنِي وهَوَيْتُ الخُرَّدَ العُرُبا ... أزمانَ كنتُ منوطاً بي هوىً وصِبا فقال: «هَوَيْنَنِي» فجاءَ في الأول بضمير الإِناث من غيرِ حذفٍ. انتهى ما رُدَّ به عليه، وفيه نَظَرٌ لا يَخْفى. وقرأ ابن عباس: «تُبُيِّن» مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ بعدَه. ابنُ السَّمَيْفَع «يُبَيِّن» من غيرِ تاءٍ مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَه ضميرُ كيفيةِ الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ.

قوله: {قَالَ أَعْلَمُ} الجمهورُ على «قال» مبنياً للفاعلِ. وفي فاعلِهِ على قراءةِ حمزة والكسائي: «اعْلَمْ» أمراً من «عَلِمَ» قولان، أظهرِهُما: أنه ضميرٌ يعودُ على اللِّهِ تعالى أو على المَلِكِ، أي: قال اللَّهُ أو المَلِكُ أو المَلِكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ. والثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسهِ، نَزَّلَ نفسَه منزلَةَ الأجنبي فخاطَبَهَا، ومنه: 1058 - وَدِّعْ هُرَيْرَةَ. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقوله] : 1059 - ألم تَغْتَمِضْ عيناك. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [قوله] : 1060 - تطاولَ ليلُك. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يعني نفسَه. قال أبو البقاء: «ما تقولُ لنفسِك: اعلمْ يا عبدَ الله، ويُسَمَّى هذا التجريدَ» يعني كأنه جَرَّد من نفسه مخاطباً يخاطِبُه. وأمَّا على قراءةِ غيرهما: «أعلمُ» مضارعاً للمتكلمِ ففاعلُ «قال» ضميرُ المارِّ، أي: قال المارُّ: أعلَمُ أنا.

وقرأ الأعمش: «قيل» مبنياً للمفعولِ. والقائمُ مقامَ الفاعلِ: إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ، وإمَّا الجملةُ التي بعده، على حَسَبَ ما تقدَّم في أولِ السورة. وقرأ حمزة والكسائي: «اعلمْ» على الأمر، والباقون: «أعلمُ» مضارعاً «والجعفي عن أبي بكر:» أَعْلِمُ «أمراً من» أَعْلَمَ «، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل» قال «ما هو؟ و» أنَّ الله «في محلِّ نصب، سادَّةً مسدَّ المفعولين، أو الأولِ/ والثاني محذوفٌ على ما تقدم من الخلاف.

260

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} : في العامل في «إذ» ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} أي: قال له ربُّه وقتَ قولِه ذلك. والثاني: أنه «ألم تَرَ» أي: ألم تر إذا قال إبراهيم. والثالث: أنه مضمرٌ تقديرُه: واذكر. ف «إذ» على هذين القولين مفعولٌ به لا ظرفٌ. و «ربِّ» منادى مضافٌ لياءِ المتكلم، حُذِفَتْ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها، وهي اللغةُ الفصيحةُ، وحُذِفَ حرفُ النداءِ. وقوله: {أَرِنِي} تقدَّم ما فيه من القراءاتِ والتوجيهِ في قوله: {وَأَرِنَا} [البقرة: 128] . والرؤيةُ هنا بصريةٌ تتعدَّى لواحدٍ، ولَمَّا دخلَتْ همزةُ النقلِ أكسبته مفعولاً ثانياً، والأول ياء المتكلم، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي معلقة للرؤية

و «رأى» البصرية تُعَلَّق كما تعلق «نظر» البصرية، ومن كلامهم: «أما تَرى أيُّ برقِ ههنا» . و «كيف» في محلِّ نصبٍ: إمَّا على التشبيه بالظرفِ، وإمَّا على التشبيهِ بالحال كما تقدَّم في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] . والعاملُ فيها «تُحْيي» وقَدَّره مكي: بأي حالٍ تُحْيي الموتى، وهو تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ. قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} في هذه الواوِ وجهان، أظهرُهما: أنها للعطفِ قُدِّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ لأنها لها صدرُ الكلامِ كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرةٍ، والهمزةُ هنا للتقريرِ، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي قَرَّره كقوله: 1061 - ألستُمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ المطايا ... وأندى العاملينَ بطونَ راحِ [و] : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1] ، المعنى: أنتم خيرُ، وقد شَرَحْنا. والثاني: أنها واوُ الحالِ، دَخَلَت عليها ألفُ التقريرِ، قاله ابن عطية، وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ كانَتِ الجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ، وإذا كانَتْ كذلك استدعَتْ ناصباً وليس ثَمَّ ناصبٌ في اللفظِ، فلا بدَّ من تقديرِه: والتقدير «أسألْتَ ولم تؤمِنْ» ، فالهمزةُ في الحقيقةِ إنما دَخَلَتْ على العاملِ في الحالِ. وهذا ليس بظاهرِ، بل الظاهرُ الأولُ، ولذلك أُجيبت ببلى، وعلى ما قالَ ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى. وقوله «بلى» جوابٌ

للجملةِ المنفيَّةِ وإنْ صارَ معناها الإِثباتَ اعتباراً باللفظِ لا بالمعنى، وهذا من قسمِ ما اعتُبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى، نحو: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] وقد تقدَّم تحقيقُه. قوله: {لِّيَطْمَئِنَّ} اللامُ لامُ كي، فالفعلُ منصوبٌ بعدها بإضمار «أَنْ» ، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ التوكيدِ، واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ بعد «لكنْ» تقديرُه: ولكنْ سألتك كيفية الإِحياء للاطمئنانِ، ولا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ آخرَ قبلَ «لكنْ» حتى يَصِحَّ معه الاستدراكُ والتقديرُ: بلى آمنْتُ وما سألتُ غيرَ مؤمنٍ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قلبي. والطُّمأنينة «السكونُ، وهي مصدرُ» اطمأنَّ «بوزن اقشعرَّ، وهي على غيرِ قياسِ المصادرِ، إذ قياسُ» اطمأنَّ «أَنْ يكونَ مصدرُه على الاطمئنان. واختُلِف في» اطمأنَّ «هل هو مقلوبٌ أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوبٌ من» طَأْمَنَ «، فالفاءُ طاءٌ، والعينُ همزةٌ، واللامُ ميمٌ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فوزنُه: افْلَعَلَّ بدليلِ قولهم: طامنتُه فتطامَنَ. ومذهب الجرمي أنه غيرُ مقلوبٍ، وكأنه يقولُ: إن اطمأنَّ وطَأْمَنَ مادتان مستقلتان، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء، فإنه قال:» والهمزةُ في «ليطمَئِنَّ» أصلٌ، ووزنه يَفْعَلِلُّ، ولذلك جاء {فَإِذَا اطمأننتم} [النساء: 103] مثل: اقْشَعْررتم «. انتهى. فوَزنُهُ على الأصلِ دونَ القلبِ، وهذا غيرُ بعيدٍ، ألا ترى أنهم في جَبَذَ وجَذَبَ قالوا: ليس أحدُهما مقلوباً من الآخرِ لاستواءِ المادَّتين في الاستعمالِ. ولترجيحِ كلٍّ من المذهبين موضعٌ غيرُ هذا.

قوله: {مِّنَ الطير} في متعلِّقه قولان، أحدُهما: أنه محذوفٌ لوقوعِ الجارِّ صفةً لأربعة، تقديرُه: أربعةً كائنةً من الطيرِ. والثاني: أنه متعلقٌ بخُذْ، أي: خُذْ من الطير. و» الطيرُ «اسمُ جمعٍ كرَكْب وسَفْر. وقيل: بل هو جمعُ طائرٍ نحو: تاجر وتَجْر، وهذا مذهبُ أبي الحسن. وقيل: بل هو مخففٌ من» طَيِّر «بتشديدِ [الياء] كقولِهم:» هَيْنَ ومَيْت «في: هَيِّن ومَيَّت. قال أبو البقاء:» هو في الأصلِ مصدرُ طارَ يطير، ثم سُمِّي به هذا الجنسُ «. فَتَحَصَّلَ فيه أربعةُ أقوالٍ. وجاء جَرُّه ب» مِنْ «بعد العددِ على أفصحِ الاستعمالِ، إذ الأفصحُ في اسمِ الجَمْعِ في بابِ العددِ أَنْ يُفْصَل بمِنْ كهذه الآيةِ، ويجوزُ الإِضافةُ كقولِه تعالى: {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] ، وقال: 1062 - ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... لقد جارَ الزمانُ على عيالي وزعم بعضهم أن إضافته نادرةٌ لا يُقاس عليها، وبعضُهم أَنَّ اسمَ الجمعِ لما يَعْقِل مؤنثٌ، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ، لما تقدَّم من الآيةِ الكريمةِ، واسمُ الجمع لما لا يَعْقِل يُذَكَّر ويؤنَّثُ، وهنا جاء مذكراً لثبوتِ التاءِ في عددِه. قوله: {فَصُرْهُنَّ} قرأ حمزة بكسر الصادِ، والباقونَ بضمِّها وتخفيفِ

الراء. واختُلِف في ذلك فقيل: القراءتان يُحتمل أَنْ تكونا بمعنىً واحدٍ، وذلك أنه يقال: صارَه يَصُوره ويَصِيره، بمعنى قَطَعه أو أماله فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين، والقراءتان تَحْتَمِلهما معاً، وهذا مذهبُ أبي عليّ. وقال الفراء:» الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين، وأمَّا الكسرُ فمعناه القطعُ فقط «. وقال غيرُه:» الكسرُ بمعنى القَطْعِ والضمُّ بمعنى الإِمالةِ «. ونُقِل عن الفراء أيضاً أنه قال:» صَارَه «مقلوبُ من قولهم:» صَراه عن كذا «أي: قَطَعه عنه. ويقال: صُرْتُ الشيءَ فانصار أي: قالت الخنساء: 1063 - فلو يُلاقي الذي لاقَيْتُه حَضِنٌ ... لَظَلَّتِ الشمُّ منه وَهْيَ تَنْصارُ أي: تَنْقَطِعُ. واختُلف في هذه اللفظةِ: هل هي عربيةٌ او مُعَرَّبة؟ فعن ابنِ عباس أنها مُعَرَّبةٌ من النبطية، وعن أبي الأسود أنها من السريانية، والجمهورُ على أنها عربيةٌ لا معرَّبةٌ. و «إليك» إنْ قلنا: إنَّ «صُرْهُنَّ» بمهنى أمِلْهُنَّ تعلَّق به، وإنَّ قلنا: إنه بمعنى قَطِّعْهُنَّ تعلَّقَ ب «خُذْ» . وقرأ ابن عباس: «فَصُرَّهُنَّ» بتشديد الراءِ مع ضَم الصادِ وكسرِها، مِنْ: صَرَّه يَصُرُّه إذا جَمَعه؛ إلا أنَّ مجيءَ المضعَّفِ المتعدِّي على يَفْعِل بكسر العين في المضارعِ قليلٌ. ونقل أبو البقاء عَمَّنْ شَدَّد الراءَ أنَّ منهم مَنْ يَضُمُّها، ومنهم مَنْ يفتَحُها، ومنهم مَنْ يكسِرُها مثل: «مُدَّهُنَّ» فالضمُّ على الإِتباعِ، والفتحُ للتخفيفِ، والكسرُ على أصلِ التقاءِ الساكنينِ.

ولمَّا فَسَّر أبو البقاء «فَصُرْهُنَّ» بمعنى «أَمِلْهُنَّ» قَدَّر محذوفاً بعده تقديرُه: فَأَمِلْهُنَّ إليك ثم قَطِّعْهُنَّ، ولمَّا فسَّره بقطِّعْهن قَدَّر محذوفاً يتعلَّق به «إلى» تقديرُه: قَطِّعْهُنَّ بعد أَنْ تُميلَهُنَّ [إليك] . ثم قال: «والأجودُ عندي أن يكونَ» إليك «حالاً من المفعولِ المضمرِ تقديرُه: فَقَطِّعْهُنَّ مُقَرَّبةً إليك أو ممالةً أو نحوُ ذلك. قوله: {ثُمَّ ا} » جَعَلَ «يُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِلقاء فيتعدَّى لواحدٍ وهو» جزءاً «، فعلى هذا يتعلَّقُ» على كل «و» منهنَّ «باجعَلْ، وأن يكونَ بمعنى» صَيَّر «فيتعدَّى لاثنين فيكونَ» جُزْءاً «الأولَ، و» على كل «هو الثاني، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و» منهنَّ «يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ على هذا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» جزءاً «لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً. وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ مفعولاً ل» اجْعَلْ «يعني إذا كانَت» اجْعَلْ «بمعنى» صَيِّر «فيكونُ» جزءاً «مفعولاً أول، و» منهنَّ «مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ، ويتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ. [ولا بد من حذفِ صفةٍ مخصِّصةٍ بعدَ] قولِه:» كلِّ جبلٍ «تقديرُه:» على كل جبلٍ بحضرتِك، أو يَليك «حتى يَصِحَّ المعنى. وقرأ الجمهورُ:» جُزْءاً «بسكونِ الزاي والهمزِ، وأبو بكر ضَمَّ الزايَ، وأبو جعفر شَدَّد الزايَ من غيرِ همزٍ، ووجهها أنه لَمَّا حَذَفَ الهمزةَ وقف على الزاي ثم ضَعَّفها كما قالوا:» هذا فَرَجّْ «، ثم أُجري الوصل مُجرى الوقفِ. وقد تقدَّم تقريرُ ذلك عند قولِه: {هُزُواً} [البقرة: 67] . وفيه لغةٌ أخرى وهي: كسرُ

الجيم. قال أبو البقاء:» ولا أعلم أحداً قرأ بها. والجزءُ: القطعةُ من الشيءِ، وأصلُ المادة يَدُلُّ على القطعِ والتفريقِ ومنه: التجزئةُ والأجزاءُ/. قوله: {يَأْتِينَكَ} جوابُ الأمر، فهو في محلِّ جزمٍ، ولكنه بُني لاتِصاله بنونِ الإِناثِ. قوله: «سَعْياً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من ضميرِ الطير، أي: يأتينك ساعياتٍ، أو ذواتِ سَعْي. والثاني: أن يكونَ حالاً من المخاطبِ، ونُقِل عن الخليلِ ما يُقَوِّي هذا، فإنه رُوِي عنه: «أن المعنى: يأتينك وأنت تسعى سعياً» فعلى هذا يكونُ «سعياً» منصوباً على المصدرِ، وذلك الناصبُ لهذا المصدرِ في محلِ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في «يأتينك» . قلت: والذي حَمَلَ الخليلَ - رحمه الله - على هذا التقديرِ انه لا يقال عنده: «سَعَى الطائرُ» فلذلك جَعَل السَّعَيَ من صفاتِ الخليلِ عليه السلام لا من صفةِ الطيورِ. والثالث: أن يكونَ «سَعْياً» منصوباً على نوعِ المصدرِ، لأنه نوعٌ من الإِتيان، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ، فكأنه قيل: يأتينك إتياناً سريعاً. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً، لأنَّ السعي والإِتيان يتقاربان» ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدرَ المؤكِّد لا يزيدُ معناه على معنى عامِله، إلاَّ أنه تَساهَلَ في العبارةِ.

261

قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ} : «مَثَلُ» مبتدأٌ، و «كمثلِ حبةٍ» خبرُه. ولا بُدَّ من حذفٍ حتى يَصِحَّ التشبيهُ، لأنَّ الذين ينفقون لا يُشَبَّهون بنفسِ الحبةِ. واختُلِفَ في المحذوفِ، فقيل: من الأول تقديرُه: وَمَثلُ مُنْفَقِ الذين أو نفقةِ الذين. وقيل: من الثاني تقديرُه: ومثل الذي ينفقون

كزارعِ حبةٍ؛ أو مِنَ الأولِ والثاني باختلافِ التقدير، أي: مَثَلُ الذين ينفقون ونفقتُهم كمثلِ حبةٍ وزارِعِها. وهذه الأوجهُ قد تقدَّم تقريرُها محررةً عند قولِه تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] بأتمِّ بيانٍ فليُراجَعْ. والقولُ بزيادةِ الكافِ أو «مثل» بعيدٌ جداً، فلا يُلْتفت إلى قائله. والحَبَّةُ: واحدةُ الحَبُّ، وهو ما يُزْرَعُ للاقتياتِ، وأكثرُ إطلاقِه على البُرّ قال المتلمس: 1064 - آليتُ حَبَّ العراقِ الدهرَ أَطْعَمُه ... والحَبُّ يأكلُه في القَرْيَةِ السُّوسُ و «الحِبَّة» بالكسر: بذورُ البَقْلِ مِمَّا لا يُقْتات [به] ، و «الحُبَّة» بالضم الحُبُّ. قوله: {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} هذه الجملةُ في محلِّ جرٍ لأنها صفةٌ لحبة، كأنه قيل: كمثل حبةٍ منبتةٍ. وأَدْغم تاءَ التأنيثِ في سين «سبع» أبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام. وأَظْهر الباقون، والتاءُ تقاربُ السينَ ولذلك أُبْدِلَتْ منها، قالوا: ناس ونات، وأكياس وأكيات، قال: 1065 - عمروَ بنَ يربوعٍ شرارَ الناتِ ... ليسوا بأجيادٍ ولا أَكْياتِ أي: شرار الناس ولا أكياس.

وجاء التمييزُ هنا على مِثال مَفاعِل، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألفِ والتاء، فقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: هلاَّ قيل» سبع سنبلات «على حَقِّه من التمييزِ بجمعِ القلة كما قال: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ} . قلت: هذا لِما قَدَّمْتُ عند قولِه:» ثلاثَةُ قروء «من وقوعِ أمثلةِ الجمعِ متعاورةً مواقعها» يعني أنه من بابِ الاتساعِ ووقوعِ أحدِ الجمعين موقعَ الآخرِ، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص ولا مُحَصِّلٍ، فلا بُدَّ من ذكرِ قاعدة مفيدةٍ في ذلك: اعلم أنَّ جمعي السلامةِ لا يميز بهما عدد إلا في موضعين، أحدهما: ألا يكونَ لذلك المفردِ جمعٌ سواه، نحو: سبع سماوات، وسبع بقرات، وتسع آيات، وخمس صلوت، لأنَّ هذه الأشياءَ لم تُجْمَعْ إِلا جمعَ السلامةِ، فأمَّا قولُه: 1066 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . فوقَ سَبْعِ سَمائيا فشاذٌّ منصوصٌ على قلتِهِ، فلا التفاتَ إليه. والثاني: أن يُعْدَلَ إليه لأجلِ مجاورة غيرهِ كقولِهِ: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خَضْرٍ} عَدَل من «سنابل» إلى «سنبلات» لأجلِ مجاورتِهِ «سبعِ بقرات» ، ولذلك إذا لم توجَدْ المجاورةُ مُيِّز بجمعِ التكسيرِ دونَ جمع السلامةِ، وإنْ كان موجوداً نحو: «سبع طرائق وسبع ليالٍ» مع جواز: طريقات وليلات. والحاصلُ أنَّ الاسمَ إذا كان له جمعان: جمعُ تصحيحٍ وجمعُ تكسيرٍ، فالتكسيرُ إمَّا للقلةِ أو للكثرةِ، فإنْ كان للكثرةِ: فإمَّا من بابِ مَفَاعِل أو من غيره، فإنْ كان من بابِ مفاعل أُوثر على

التصحيحِ، تقول: ثلاثة أحامد: وثلاث زيانب، ويجوز قليلاً: أحمدِين وزينبات. وإن كانَ من غيرِ بابِ مفاعِلِ: فإمَّا أَنْ يكثُرَ فيه غيرُ التصحيحِ وغيرُ جمعِ الكثرةِ أو يَقِلَّ. فإن كانَ الأولَ فلا يجوزُ التصحيحُ ولا جمعُ الكثرةِ إلا قليلاً نحو: ثلاثة زيود وثلاث هنود وثلاثة أفلس، ولا يجوزُ: ثلاثة زيدين، ولا ثلاث هندات، ولا ثلاثة فلوس، إلاَّ قليلاً. وإن كان الثاني أُوثِرَ التصحيحُ وجمعُ الكثرة نحو: ثلاث سعادات وثلاثة شُسُوع، وعلى قلةٍ يجوز: ثلاث سعائد، وثلاثة أَشْسُع. فإذا تقرَّر هذا فقولُهُ: «سبع سنابل» جاءَ على المختارِ، وأمَّا «سبعِ سنبلات» فلأجلِ المجاورةِ كا تقدَّم. والسنبلةُ فيها قولان، أحدهما: أنَّ نونَها أصليةٌ لقولِهِم: سَنْبَل الزرعُ «أي أخرجَ سنبلَه. والثاني: أنها زائدةٌ، وهذا هو المشهورُ لقولِهم:» أسبلَ الزرعُ «، فوزنُها على الأولِ: فُعْلُلَة وعلى الثاني: فُنْعُلَة، فعلى ما ثبت من حكايةِ اللغتين: سَنْبَلَ الزرعُ وأَسْبَلَ تكونُ من بابِ سَبِط وسِبَطْر. قوله: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ} هذا الجارُّ في محلِّ جر صفةً لسنابل، أو نصب صفةً لسبع، نحو: رأيتُ سبعَ إمَّاءٍ أحرارٍ وأحراراً، وعلى كِلا التقديرين فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. وفي رفعِ» مئة «وجهان، أحدُهما: بالفاعليةِ بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وَقَعَ صفةً. والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبلَه خبرُه، والجملةُ صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم، إلا أنَّ الوجهَ [الأول] أولى؛ لأنَّ

الأصلَ الوصفُ بالمفرداتِ دونَ الجملِ. ولا بد من تقديرِ حذفِ ضميرٍ أي: في كلِّ سنبلةٍ منها أي: من السنابِلِ. والجمهورُ على رفع» مئة «على ما تقدَّم، وقرىء بنصبَها. وجَوَّزَ أبو البقاء في نصبِها وجهينِ، أحدُهما: بإضمارِ فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ أو أَخْرَجَتْ. والثاني: أنها بدلٌ من» سبعُ «، وفيه نظرٌ، لأنه: إمَّا أنْ يكونَ بدلَ كلٍّ من كلَّ أو بعضٍ من كلٍ أو اشتمالٍ، فالأولُ لا يَصِحُّ لأنَّ المئة ليست نفسَ سبع سنابل، والثاني لا يَصِحُّ أيضاً لعدمِ الضميرِ الراجِعِ على المبدلِ منه، ولو سُلِّمَ عدم اشتراطِ الضميرِ فالمئة ليسَتْ بعضَ السبعِ، لأنَّ المظروفَ ليس بعضاً للظرفِ والسنبلةُ ظرفٌ للحبةِ، ألا تَرَى قولَه: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فَجَعَلَ السنبلةَ وعاءً للحَبِّ، والثالثُ أيضاً لا يَصِحُّ لعدمِ الضميرِ، وإنْ سُلَّمَ فالمشتملُ على» مئة حبة «هو سنبلة من سبع سنابَل، إلا أَن يقال إن المشتمل على المشتملِ على الشيء هو مشتملٌ على ذلك الشيءِ، فالسنبلةُ مشتملةٌ على مئة والسنبلة مشتمَل عليها سبعُ سنابلَ، فَلَزِمَ أنَّ السبعَ مشتملةٌ على» مئة حبة «. وأسهلُ من هذا كلِّه أن يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: حَبَّ سبعِ سنابل، فعلى هذا يكونُ» مئة حبة «بدلَ بعضٍ مِنْ كل.

262

قولُه تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ وخبرُهُ الجملةُ من قولِه: «لهم أجرُهم» ، ولم يُضَمَّن المبتدأُ هنا معنى الشرطِ فلذلك لم تَدْخُلَ الفاءُ في خبره، لأنَّ القصدَ بهذهِ

الجملةِ التفسيرُ للجملةِ قبلَها، لأنَّ الجملة قبلَها أُخْرِجَتْ مُخْرَجَ الشيءِ الثابت المفروغِ منه، وهو تشبيهُ نفقتِهم بالحَبَّةِ المذكورة، فجاءَتْ هذه الجملةُ كذلك، والخبرُ فيها أُخرج مُخْرَج الثابتِ المستقرِّ غيرِ المحتاجِ إلى تعليقِ استحقاقٍ بوقوعِ غيرِهِ ما قبله. والثاني: أنَّ «الذين» خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: / هم الذين يُنْفقون، وفي قوله: «لهم أجرُهم» على هذا وجهان، أحدُهما: أنَّها في محل نصبٍ على الحال. والثاني: - وهو الأَوْلَى – أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعرابِ، كأنها جوابُ سائِلٍ قال: هل لهم أَجْرٌ؟ وَعَطَفَ ب «ثم» جرياً على الأغلبِ، لأنَّ المتصدِّقَ لغيرِ وجهِ اللهِ لا يَحْصُل منه المَنُّ عقيبَ صدقَتِهِ ولا يؤذِي على الفور، فجرى هذا على الغالب، وإنْ كان حكمُ المنِّ والأذى الواقِعَيْن عقيبَ الصدقةِ كذلك. وقال الزمخشري: «ومعنى» ثُمَّ «إظهارُ التفاوتِ بين الإِنفاقِ وتَرْكِ المنِّ والأذى، وأنَّ تَرْكَهما خيرٌ من نفسِ الإِنفاقِ، كما جَعَلَ الاستقامَةَ على الإِيمانِ خيراً من الدخولِ فيه بقولِهِ: {ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] ، فَجَعَلَهَا للتراخي في الرتبةِ لا في الزمانِ، وقد تكرَّر له ذلك غيرَ مرةٍ. و» ما «مِنْ قولِهِ:» ما أَنْفَقُوا «يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً فالعائدُ محذوفٌ، أي: ما أنفقوه، وأن تكونَ مصدريةً فلا تحتاجُ إلى عائدٍ، أي:

لا يُتْبِعُون إنفاقَهم. ولا بُدَّ من حذفٍ بعد» مَنَّاً «أي: مَنَّاً على المُنْفِقِ عليه ولا أذى له، فَحُذِفَ للدلالة. والمَنُّ: الاعتدادُ بالإِحسانِ، وهو في الأصل: القَطْعُ، ولذلك يُطْلَقُ على النعمةِ، لأنَّ المُنْعِمَ يَقْطَعُ من مالِهِ قطعةً للمُنْعَمِ عليه. والمَنُّ: النقصُ من الحق، والمَنُّ: الذي يُوزن به، ويُقال في هذا» منا «مثل: عَصَا. وتقدَّمَ اشتقاقُ الأذى. و» مَنَّاً «مفعولٌ ثانٍ، و» لا أذى «عطفٌ عليه، وأبعدَ مَنْ جَعَلَ» ولا أذى «مستأنفاً، فَجَعَلَهُ من صفاتِ المتصدِّق، كأنه قال: الذين ينفقون ولا يتأذَّوْن بالإِنفاقِ، فكيونُ» أذى «اسمَ لا وخبرُها محذوفٌ، أي: ولا أذىً حاصلٌ لهم، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النهي، وهذا تكلُّفٌ، وحَقٌّ هذا القائلِ أن يقرأ» ولا أذى «بالألف غيرَ مُنَوَّنٍ، لأنه مبنيٌّ على الفتح على مشهورِ مذهبِ النحاةِ.

263

قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ وساغَ الابتداءُ بالنكرةِ لوصفِها وللعطفِ عليها. و «مغفرةٌ» عَطْفٌ عليه، وسَوَّغَ الابتداءَ بها العطفُ أو الصفةُ المقدَّرَةُ، إذ التقديرُ: ومغفرةٌ من السائلِ أو من اللِّهِ. و «خيرٌ» خبرٌ عنهما. [وقال أبو البقاء في هذا الوجهِ: «والتقديرُ: وسببُ مغفرة] ، لأنَّ المغفرةَ من الله تعالى، فلا تفاضُلَ بينها وبين فعلِ العبدِ، ويجوزُ أن تكونَ المغفرةُ مجاوزَةَ المزكِّي واحتمالَه للفقيرِ، فلا يكونُ فيه حذفُ مضافٍ» .

والثاني: أنَّ «قولٌ معروفٌ» مبتدأٌ وخبرُهُ محذوفٌ أي: أمثلُ أو أَوْلَى بكم، و «مغفرةٌ» مبتدأٌ، و «خيرٌ» خبرُها، فهما جملتان، ذَكَرَهُ المهدويّ وغيرُهُ. قال ابن عطية: «وهذا ذهابٌ برونقِ المعنى» . والثالث: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ: المأمورُ به قولٌ معروفٌ. قوله: {يَتْبَعُهَآ أَذًى} في محلِّ جرٍّ صفةً لصدقة، ولم يُعِدْ ذِكْرِ المَنِّ فيقولُ: يتبَعُها مَنٌّ وأذى، لأنَّ الأذى يشملُ المنَّ وغيرَه، وإنَّما ذُكِرَ بالتنصيصِ في قولِهِ: {لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى} لكثرةِ وقوعِهِ من المتصدِّقين وعُسْرِ تحَفُّظِهِمْ منه، ولذلك قُدِّمَ على الأذى.

264

قولُهُ تعالى: {كالذي} : «كالذي» الكاف في محلِّ نصبٍ، فقيل: نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: لا تُبْطِلُوها إبطالاً كإبطالِ الذي يُنْفِقُ رئاءَ الناسِ. وقيل: في محلِّ نصبٍ على الحالِ من ضمير المصدرِ المقدَّرِ كما هو رأيُ سيبويه، وقيل: حالٌ من فاعِلِ «تُبْطِلُوا» أي: لا تُبْطِلُوهَا مُشْبِهين الذي يُنْفِقُ رياءَ. و «رئاءَ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُهُ: إنفاقاً رئاءَ الناس، كذا ذكره مكي. والثاني: أنه مفعولٌ من أَجْلِهِ أي: لأجلِ رئاءِ الناسِ، واستكمل شروطَ النصبِ. والثالث: أنه في محلِّ حالٍ، أي: يُنْفِقُ مرائياً. والمصدرُ هنا مضافٌ للمفعولِ وهو «الناس» ، ورئاءَ مصدرٌ راءى كقاتَلَ قِتالاً، والأصلُ: «رِئايا» فالهمزةُ الأولى عينُ الكلمة، والثانيةُ بدلٌ من ياءٍ هي

لامُ الكلمة، لأنها وَقَعَتْ طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ. والمُفَاعَلَةُ في «راءى» على بابِها لأنَّ المُرائِيَ يُرِي الناسَ أعمالَهُ حتى يُرُوه الثناءَ عليه والتعظيم له. وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم -: «رِياء» بإبدالِ الهمزةِ الأولى ياءً، وهو قياسُ تخفيفِها لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ. قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ} مبتدأٌ وخبرٌ، ودَخَلَتِ الفاءُ، قال أبو البقاء: «لتربطَ الجملةَ بما قبلَها» وقد تقدَّم مثلُه، والهاءُ في «فَمَثَلُهُ» فيها قولان، أظهرهُما: أنها تعودُ على {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس} لأنه أقربُ مذكورٍ. والثاني: أنها تعودُ على المانِّ المُؤْذِي، كأنه تعالى شَبَّهه بشيئين: بالذي يُنْفِقُ رُئَاءَ وبصفوانٍ عليه ترابٌ، ويكونُ قد عَدَلَ من خطابٍ إلى غَيْبه، ومن جمعٍ إلى إفرادٍ. والصَّفْوان: حَجَرٌ كبيرٌ أملسُ، وفيه لغتان: أشهرهُما سكونُ الفاءِ والثانيةُ فَتْحُها، وبها قرأ ابن المسيَّبِ والزهري، وهي شاذَّةٌ، لأن «فَعَلان» إنَّما يكونُ في المصادرِ نحو: النَّزَوان والغَلَيَان، والصفاتِ نحو: رجلٌ طَغَيَان وتيسٌ عَدوَان، وأَمَّا في الأسماءِ فقليلٌ جداً. واختُلِفَ في «صَفْوَان» فقيل: هو جمعٌ مفردُهُ: صَفا، قال أبو البقاء: «وجَمْعُ» فَعَلَ «على» فَعْلاَن «قليلٌ» . وقيل: هو اسمُ جنسٍ، قال أبو البقاء: «وهو الأجودُ، ولذلك عادَ الضميرُ عليه مفرداً في قولِهِ:» عليه «وقيل: هو مفردٌ، واحدُ صُفِيٌّ قاله الكسائي، وأنكره المبردُ. قال:» لأنَّ صُفِيّاً جمعُ صفا نحو: عُصِيّ في عَصَا، وقُفِيّ في قَفَا «.

ونُقِلَ عن الكسائي أيضاً أنه قال:» صَفْوَان مفردٌ، ويُجْمع على صِفْوانٍ بالكسر. قال النحاس: «ويجوزُ أن يكونَ المسكورُ الصادِ واحداً أيضاً، وما قاله الكسائي غيرُ صحيحٍ بل صِفْوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصَفَا كوَرَل ووِرْلان، وأخ وإخْوان وكَرَى وكِرْوَان» . و «عليه ترابٌ» يجوزُ أن يكونَ جملةً من مبتدأٍ وخبرٍ، وقَعَتْ صفةً لصَفْوان، ويجوزُ أن يكونَ «عليه» وحدَه صفةً له، و «ترابٌ» فاعلٌ به، وهو أَوْلى لِمَا تَقَدَّم عند قولِهِ {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] . والترابُ مَعْرُوفٌ، ويُقال فيه تَوْراب، ويُقال: تَرِبَ الرجلُ: افتقَرَ. ومنه: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] كأنَّ جِلْدَه لَصِق به لفقرِه، وأَتْرَبَ: أي استغنى، كأنَّ الهمزةَ للسلب، أو صار مالُهُ كالترابَ. «فأصابَه» عطفٌ على الفعلِ الذي تَعَلَّقَ به قوله: «عليه» أي: استقرَّ عليه ترابٌ فأَصابَهُ. والضميرُ يعودُ على الصَّفْوان، وقيل: على الترابِ. وأمَّا الضميرُ في «فتركه» فعلى الصَفْوَانِ فقط. وألفُ «أَصابه» من واوٍ، لأنه من صَابَ يَصُوب. والوابِلُ: المطرُ الشديدُ، وبَلَتِ السماءُ تَبِل، والأرضُ مُوْبُولَة، ويقال أيضاً: أَوْبَلَ فهو مُوبِل، فيكونُ مِمَّا اتفقَ فيه فَعَل وأَفْعَلَ، وهو من الصفاتِ الغالبةِ كالأبطح، فلا يُحْتَاج معه إلى ذكرِ موصوفٍ. قال النضر بن شميل:

«أولُ ما يكونُ المطرَ رَشَّاً ثم طشَّاً. ثم طَلاَّ وَرذاذاً ثم نَضْحَاً، وهو قَطْرٌ بين قَطْرَين، ثم هَطْلاً وَتَهْتَاناً ثم وابِلاً وجُوداً. والوبيلُ: الوَخيمُ، والوبيلةُ: حُزْمَةُ الحطبِ، ومنه قيل للغليظَةِ: وَبِيلَةٌ على التشبيهِ بالحزمة. قوله: {فَتَرَكَهُ صَلْداً} كقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] . والصَّلْدُ: الأجردُ الأملسُ، ومنه:» صَلَدَ جبينُ الأصلعِ «: بَرَقَ، والصَّلِدُ أيضاً صفةٌ، يُقال: صَلِدَ بكسر اللام يَصْلَد بفتحهِا فهو صَلِد. [قال] النقاش:» الصَّلْدُ بلغةِ هُذَيل «. وقال أبان بن تغلب:» الصَّلْد: اللَّيِّن من الحجارةِ «وقال علي ابن عيسى:» هو من الحجارة ما لا خيرَ فيه، وكذلك من الأرضين وغيرِها، ومنه: «قِدْرٌ صَلُود» أي: بَطِيئة الغَلَيان «. قوله {لاَّ يَقْدِرُونَ} في هذه الجملة قولان، أحدهما: أنها استئنافية فلا موضع لها من الإِعراب. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من» الذي «في قولِه:» كالذي يُنْفِقُ «، وإنما جُمع الضميرُ حَمْلاً على المعنى، لأنَّ المرادَ بالذي الجنسُ، فلذلك جاز الحَمْلُ على لفظِه مرةً في قولِه:» ماله «و» لا يؤمِنُ «» فمثلُه «وعلى معناه أخرى. وصار هذا نظير قولِه: {كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} [البقرة: 17] ثم قال: {بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} [البقرة: 17] ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ في ذلك. وقد زَعَم ابن عطية أَنَّ مَهْيَعَ كلامِ العرب الحَمْلُ على اللفظِ أولاً ثم المعنى ثانياً، وأنَّ العكسَ قبيحٌ، وتقدَّم الكلامُ معه في ذلك. وقيل: الضميرُ في» يَقْدِرون «عائدٌ على المخاطبين بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ}

ويكونُ من بابِ الالتفاتِ من الخطابِ إلى الغَيْبة، وفيه بُعْدٌ. وقيل: يعودُ على ما يُفْهَم من السياقِ. أي: لا يَقْدِرُ المانُّون ولا المؤذون على شيء من نفع صدقاتهم. وسَمَّى الصدقة كسباً/. قال أبو البقاء:» ولا يجوزُ أن يكونَ «ولا يقدرون» حالاً من «الذي» لأنه قد فُصِل بينهما بقوله: «فمثلُه» وما بعدَه، ولا يَلْزَمُ ذلك، لأنَّ هذا الفصلَ فيه تأكيدٌ وهو كالاعتراض.

265

وقولُه تعالى: {وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ} : إلى قوله: «كَمَثَلِ حَبة» كقوله: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ. . . كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ} [البقرة: 261] في جميعِ التقاديرِ فليُراجَعْ. وقرأ الجحدريَّ «كمثلِ حبةٍ» بالحاءِ المهملة والباءِ. قوله: {ابتغآء} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجلِه، وشروطُ النصبِ متوفرةٌ. والثاني: أنه حالٌ، و «تثبيتاً» عطفٌ عليه بالاعتبارين: أي لأجلِ الابتغاء والتثبيتِ، أو مبتغين مُثَبِّتِين. ومنع ابنُ عطية أن يكونَ «ابتغاء» مفعولاً من أجلِه، قال: «لأنه عَطَفَ عليه» تثبيتاً «، وتثبيتاً لا يَصِحَّ أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، لأنَّ الإِنفاقَ لا يكونُ لأجلِ التثبيتِ، وحَكَى عن مكي كونه مفعولا من أجلِه، قال:» وهو مردودٌ بما بَيَّنَّاه «. وهذا الذي رَدَّه لا بُدَّ فيه من تفصيلٍ، وذلك أنَّ قولَه:» وتثبيتاً «إمَّا أنْ يُجْعَلَ مصدراً متعدياً أو قاصراً، فإن كان قاصراً، أو متعدياً وقَدَّرْنا المفعولَ هكذا:» وتثبيتاً من أنفسهم الثوابَ على تلك النفقة «، فيكونُ تثبيتُ الثواب وتحصيلُه من اللهِ حاملاً لهم على النفقةِ، وحينئذٍ يَصحُّ أَنْ يكونَ» تثبيتاً «

مفعولاً من أجلِه، وإنْ قَدَّرْنا المفعولَ غيرَ ذلك، أي: وتثبيتاً من أنفسِهم أعمالَهم بإخلاصِ النية، أو جَعَلْنَا» مِنْ أنفسهم «هو المفعول في المعنى، وأنَّ» مِنْ «بمَعْنَى اللام أي: لأنفسهم، كما تقولُ:» فَعَلْتُه كسراً مِنْ شهوتي «فلا يتضحُ فيه أن يكون مفعولاً من أجلِه. وأبو البقاء قد قَدَّر المفعولَ المحذوفَ» أعمالَهم بإخلاصِ النيةِ «، وجَوَّز أيضاً أن يكونَ» مِنْ أنفسهم «مفعولاً، وأن [تكونَ] » مِنْ «بمعنى اللام، وكان قَدَّم أولاً أنه يجوزُ فيهما المفعولُ من أجلِه والحالية، وهو غيرُ واضحٍ كما تقدَّم. وتلخَّص أنَّ في» من أنفسهم «قولين، أحدُهما: أنه مفعولٌ بالتجوُّز في الحرفِ، والثاني: أنه صفةٌ ل» تثبيتاً «، فهو متعلِّقٌ بمحذوفٍ، وتلخَّص أيضاً أن التثبيت يجوزُ أن يكونَ متعدّياً، وكيف يُقَدَّر مفعولُه، وأَن يكونَ قاصراً. فإن قيل:» تثبيت «مصدرَ ثَبَّت وثَبَّتَ متعدٍ، فكيفَ يكونُ مصدرُه لازماً. فالجوابُ أنَّ التثبيتَ مصدرُ تَثَبَّتَ فهو واقعٌ موقعَ التثبُّتِ، والمصادرُ تنوبُ عن بعضها. قال تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] والأصلُ:» تبتُّلا «ويؤيِّد ذلك قراءةُ مَنْ قرأ:» وَتَثَبُّتاً «، وإلى هذا نحا أبو البقاء. قال الشيخ:» ورُدَّ هذا القولُ بأنَّ ذلكَ لا يكونُ إلا مع الإِفصاح بالفعلِ المتقدِّم على المصدر، نحوُ الآيةِ، وأمَّا أَنْ يُؤْتى بالمصدرِ من غيرِ نيابةٍ على فعلٍ مذكورٍ فلا يُحْمَل

على غيرِ فعلِه الذي هو له في الأصل «ثم قال:» والذي نقول: إنَّ ثَبَتَ - يعني مخففاً - فعلٌ لازمٌ معناه تمكَّن ورَسَخَ، وثَبَّت معدَّى بالتضعيف، ومعناه مَكَّن وحَقَّق. قال ابن رواحة: 1067 - فَثَبَّتَ اللهُ ما أتاك مِنْ حَسَنٍ ... تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِروا فإذا كان التثبيتُ مُسْنَداً إليهم كانت «مِنْ» في موضِع نصب متعلقةً بنفس المصدرِ، وتكونُ للتبعيضِ، مثلُها في «هَزَّ من عِطْفِهِ» و «حَرَّك مِنْ نشاطِه» وإن كان مسنداً في المعنى إلى أنفسهم كانت «مِنْ» أيضاً في موضعِ نصبٍ صفة لتثبيتاً «. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: فما معنى التبعيضُ؟ قلت: معناه أنَّ مَنْ بَذَلَ مالَه لوجه الله فقد ثَبَّتَ بعضَ نفسه، ومَنْ بَذَلَ روحَه ومالَه معاً فقد ثَبَّت نفسَه كلَّها «. قال الشيخ:» والظاهرُ أنَّ نفسَه هي التي تُثَبِّته وتَحْمِلُه على الإِنفاق في سبيل الله ليس له مُحَرِّكٌ إلا هي، لِما اعتقدَتْه من الإِيمان والثواب «يعني فيترجَّح أنَّ التثبيتَ مسندٌ في المعنى إلى أنفسِهم» . قوله: {بِرَبْوَةٍ} في محلِّ جر لأنه صفةٌ لجنة. والباءُ ظرفيةٌ بمعنى «في» أي جنةٍ كائنةٍ في ربوةٍ. والربوةُ: أرضٌ مرتفعةٌ طيبةٌ، قالَه الخليلُ. وهي مشتقةٌ من رَبَا يَرْبُو أي: ارتَفَع، وتفسيرُ السدّي لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء. ويقال: رَبْوة ورَباوة بتثليثِ الراءِ فيهما، ويُقال أيضاً: رابية، قال:

1068 - وغيثٍ من الوَسْمِيّ حُوٍّ تِلاعُه ... أَجابَتْ روابيه النَّجاءَ هَواطِلُهُ وقرأ ابن عامر وعاصمِ «رَبْوة» بالفتح، والباقون الضمِّ، قال الأخفشُ: «ونختار الضمَّ لأنه لا يكاد يُسْمع في الجمع إلا الرُّبا» يعني فَدَلَّ ذلك على أن المفردَ مضمومُ الفاءِ، نحو بُرْمَة وبُرَم، وصورة وصُوَر. وقرأ ابن عباس «رِبْوَة» بالكسر، والأشهب العقيلي: «رَياوة» ، مثل رسالة وأبو جعفر: «رَبَاوة» مثل كراهة، وقد تقدَّم أنَّ هذه لغاتٌ. قوله: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} هذه الجملةُ فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها صفةٌ ثانيةٌ لجنة، وبُدىء هنا بالوصفِ بالجارِّ والمجرور ثم بالجملةِ، لأنه الأكثرُ في لسانهم لقُرْبهِ من المفرد، وبُدىء بالوصفِ الثابتِ المستقرِّ وهو كونُها بربوة، ثم بالعارضِ وهو إصابةُ الوابلِ. وجاء قولُه في وصف الصفوان - وصَفَهُ بقوله: {عَلَيْهِ تُرَابٌ} - ثم عَطَفَ على الصفةِ «فأصابه وابلٌ» وهنا لم يَعْطِفُ بل أَخْرَجَ صفةً. والثاني: أن تكونَ صفةً ل «ربوة» ، قال أبو البقاء: «لأنَّ الجنةَ بعضُ الربوة» كأنه يعني أنه يَلْزَمُ من وصفِ الربوة بالإِصابةِ وصفُ الجنةِ به الثالث: أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ لوقوعِه صفةً. الرابع: أن تكونَ حالاً من «جنة» ، وجاز ذلك لأنَّ النكرةَ قد تَخَصَّصتْ بالوصفِ، ولا بُدَّ من تقديرِ «قد» حينئذٍ، أي: وقد أصابها. قوله: {فَآتَتْ أُكُلَهَا} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: وهو الأصحُّ أنَّ «آتَتْ»

تتعدَّى لاثنين، حُذِفَ أولُهما وهو «صاحبها» أو «أهلَها» . والذي حَسَّن حَذفَه أنَّ القصدَ الإخبارُ عَمَّا تُثْمِرُ لا عمَّن تُثْمَرُ له، ولأنه مقدرٌ في قولِه: «كمثل جنةٍ» أي غارِس جنةٍ أو صاحبِ جنةٍ، كما تقدَّم. و «أُكُلَها» هو المفعولُ الثاني. و «ضِعْفَيْن» نصبٌ على الحال من «أُكُلَها. والثاني: أنَّ» ضِعْفِين «هو المفعول الثاني، وهذا سهوٌ من قائلِه وغَلَطٌ. والثالث: أنَّ» آتَتْ «هنا بمعنى أَخْرَجَت، فهو متعدِّ لمفعولٍ واحدٍ. قال أبو البقاء:» لأنَّ معنى «آتَتْ» : أَخْرَجَتْ، وهو من الإِتاء، وهو الرَّيْع «قال الشيخ:» لاَ نَعْلَم ذلك في لسان العرب «. ونسبة الإِيتاء إليها مجازٌ. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو» أُكْلها «بضمِّ الهمزة وسكونِ الكافِ، وهكذا كلُّ ما أُضِيف من هذا إلى مؤنثٍ، إلا أبا عمرو فإنه يُثَقِّل ما أُضيف إلى غير ضمير أو إلى ضمير المذكر، والباقون بالتثقيل مطلقاً، وسيأتي إيضاح هذا كلِّه. والأَكُلُ بالضم: الشيءُ المأكولُ، وبالفتحِ مصدرٌ، وأُضيف إلى الجنة لأنها محلُّهُ أو سببُه/. قوله: {فَطَلٌّ} الفاءُ جوابُ الشرطِ، ولا بُدَّ من حذفٍ بعدَها لتكمُلَ جملةُ الجوابِ. واختُلِفَ في ذلك على ثلاثة أوجه، فذهَب المبرد إلى أنَّ المحذوفَ خبرٌ، وقوله:» فَطَلٌّ «مبتدأٌ، والتقدير:» فَطَلٌّ يِصيبها «. وجاز الابتداء هنا بالنكرةِ لأنها في جوابِ الشرطِ، وهو من جملةِ المُسَوِّغات للابتداء بالنكرةِ، ومن كلامِهم:» إنْ ذَهَبَ غَيْرُ فَعَيْرٌ في الرِّباط «. والثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ

مضمرٍ، أي: فالذي يُصيبها طَلٌّ. والثالث: أنه فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: فيُصيبها طلٌّ، وهذا أَبْيَنُها. إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: - بعد ذِكْرِ الثلاثة الأوجهِ -» والأخير يحتاج فيه إلى حَذْفِ الجملةِ الواقعةِ جواباً وإبقاءِ معمولٍ لبعضها، لأنه متى دخلت الفاءُ على المضارعِ فإنما هو على إضمارِ مبتدأٍ كقولِه: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] أي: فهو ينتقمُ، فلذلك يُحتاج إلى هذا التقديرِ هنا، أي: فهي، أي: الجنةُ يُصيبها طَلُّ، وأمَّا في التقديرين السابقين فلا يُحتاج إلاَّ إلى حَذْفِ أحدِ جُزْئي الجملةِ «وفيما قاله نظرٌ، لأنَّا لا نُسَلِّم أن المضارع بعد الفاءِ الواقعةِ جواباً يَحْتَاجُ إلى إضمارِ مبتدأ. ونظيرُ الآية قوُ امرىء القيس: 1069 - ألا إنْ لا تَكُنْ إبِلٌ فمِعْزَى ... كأنَّ قُرونَ جِلَّتِها العِصِيُّ فقوله» فَمِعْزى «فيه التقاديرُ الثلاثةُ. وادَّعى بعضُهم أنَّ في هذه الآيةِ تقديماً وتأخيراً، والأصلُ:» أصابها وإبلٌ، فإنْ لم يُصِبْها وابلٌ فَطَلٌّ فآتَتْ أكلَها ضِعْفين «حتى يُجْعَلَ إيتاؤها الأُكُلَ ضعفينِ على الحالين من الوابلِ والطلِّ، وهذا لا حاجة إليه لاستقامة المعنى بدونِه، والأصلُ عدمُ التقديرِ والتأخيرِ، حتى يَخُصُّه بعضُهم بالضرورةِ. والطَّلُّ: المُسْتَدَق مِن القَطْرِ. وقال مجاهد: «هو الندى» وهذا تَجَوُّزٌ منه. ويقال: طَلَّه الندى، وأَطَلَّه أيضاً، قال:

1070 - ولَمَّا نَزَلْنَا منزلاً طَلَّه الندى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويُجْمع «طَلّ» على طِلال. قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قراءةُ الجمهورِ: «تَعْلَمون» خطاباً وهو واضحٌ، فإنه من الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ الباعثِ على فعلِ الإِنفاقِ الخالصِ لوجهِ اللهِ والزاجر عن الرياءِ والسُمْعَةِ. والزهري بالياء على الغَيْبَة، ويَحْتَمِل وجهين، أحدُهما: أن يعودَ على المنفقين، والثاني: ان يكونَ عاماً فلا يَخُصُّ المنفقين، بل يعودُ على الناسِ أجمعين، ليندرجَ فيهم المنفقونَ اندراجاً أولياً.

266

قوله تعالى: {مِّن نَّخِيلٍ} : في محلِّ رفعٍ صفةً لجنة، أي: كائنةٍ من نخيل. و «نخيل» فيه قولان، أحدُهما: أنه اسمُ جمعٍ. والثاني: أنه جمعُ «نخل» الذي هو اسمُ الجنسِ، ونحوه: كَلْب وكَلِيب. قال الراغب: «سُمِّي بذلك لأنه منخولُ الأشجار وصَفِيُّها، لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ» وذَكَرَ له منافَع وشَبَهاً من الآدميين. والأعناب: جمع عِنَبَة، ويقال: «عِنَباء» مثل «سِيرَاء» بالمدِّ، فلا ينصرفُ. وحيث جاء في القرآن ذِكْرُ هذين فإنما يَنُصُّ على النخلِ دونَ ثمرتِها وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم، لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثمرتُه دونَ باقِيه. [قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} هذه الجملةُ في محلِّها وجهان، أحدهما: أنَّها في محلِّ رفعٍ صفةً لجنة] . والثاني: أنها في محلِّ نصب، وفيه أيضاً

وجهان فقيل: على الحالِ من «جَنَّة» لأنها قد وُصِفَت. وقيل: على أنها خبرُ «تكون» نقله مكي. قوله: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} جملةٌُ من مبتدأٍ وخبرٍ، فالخبرُ قولُه: «له» و {مِن كُلِّ الثمرات} هو المبتدأُ، وذلك لا يَسْتَقِيم على الظاهر، إذ المبتدأ لا يكونُ جاراً ومجروراً فلا بدَّ من تأويلِه. واختُلف في ذلك، فقيل: المبتدأ في الحقيقةِ محذوفٌ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامَه، تقديرُه: «له فيها رزقٌ من كلِّ الثمراتِ أو فاكهةٌ من كلِّ الثمرات» فَحُذِف الموصوفُ وبقيت صفتُه: ومثله قولُ النابغة: 1071 - كأنَّك من جِمالِ بني أُقَيْشٍ ... يُقَعْقِعُ خلفَ رِجْلَيه بِشَنِّ أي: جَمَلٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ، وقولُه تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ [مَّعْلُومٌ] } [الصافات: 164] أي: وما منا أحدٌ إلا له مقامٌ. وقيل: «مِنْ» زائدةٌ تقديرُه: له فيها كلُّ الثمرات، وذلك عند الأخفش لأنه لا يَشْتَرِط في زيادتها شيئاً. وأمَّا الكوفيون فيشترطون التنكير، والبصريون يَشْتَرِطُونه وعدَم الإِيجاب، وإذا قلنا بالزيادة فالمرادُ بقوله: «كلّ الثمرات» التكثيرُ لا العمومُ، لأنَّ العمومَ متعذَّرٌ. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تكونَ» مِنْ «زائدةً لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفش، لأنَّ المعنى يصير: له فيها كلُّ الثمراتِ، وليسَ الأمرُ على هذا، إلاَّ أَنْ يُراد به هنا الكثرة لا الاستيعاب فيجوزُ عند الأخفش، لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ» مِنْ «في الواجب.

قوله: {وَأَصَابَهُ الكبر} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنَّ الواوَ للحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، و» قد «مقدرةٌ أي: وقد أَصابه، وصاحبُ الحال هو» أحدُكم «، والعاملُ فيها» يَودُّ «ونظيرُها: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] ، وقوله تعالى: {وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا} [آل عمران: 168] أي: وقد كُنتم، وقد قَعَدوا. والثاني: أن يكونَ قد وَضَع الماضي موضعَ المضارع، والتقديرُ «ويصيبه الكِبَر» كقوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ} [هود: 98] أي: فيوردهم. قال الفراء: «يجوزُ ذلك في» يودُّ «لأنه يُتَلَقَّى مرةً ب» أَنْ «ومرةً ب» لو «فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكانَ الآخر» . والثالث: أنه حُمِل في العطفِ على المعنى، لأنَّ المعنى: أيودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ فأصابه الكِبَرُ، وهذا الوجه فيه تأويلُ المضارع بالماضي ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه، عكسُ الوجهِ الذي قبلَه، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع. واستضعف أبو البقاء هذا الوجهَ بأنه يؤدي إلى تغيير اللفظ مع صحةِ المعنى. والزمخشري نَحَا إلى هذا الوجه أيضاً فإنه قال: «وقيل يقال: وَدِدْتُ لو كان كذا، فَحُمِل العطفُ على المعنى، كأنه قيل: أيودُّ أحدُكم لو كَانَتْ له جنةٌ وأصابَه الكِبَرُ. قال الشيخ:» وظاهرُ كلامِه أَنْ يَكونَ «أصابه» معطوفاً على متعلَّق «

أيودُّ» وهو «أَنْ تَكُونَ» لأنه في معنى «لو كانَتْ» ، إذ يقال: أيودُّ أحدُكم لو كانَتْ، وهذا ليس بشيءٍ، لأنه يَمْتَنِع من حيثُ المعنى أَنْ يكونَ معطوفاً على «كانت» التي قَبلها «لو» لأنه متعلَّق الوُدِّ، وأمَّا «أصابَه الكبر» فلا يمكنُ أن يكونَ متعلَّق الودِّ، لأنَّ «أصابه الكِبَرُ» لا يودُّه أحدٌ ولا يتمنَّاه، لكن يُحْمل قولُ الزمخشري على أنه لمّا كان «أيودُّ» استفهاماً معناه الإِنكارُ جُعِل متعلَّقُ الوَدادة الجَمْعَ بين الشيئين، وهما: كونُ جنة له وإصابةُ الكِبَر إياه، لا أنَّ كلَّ واحد منهما يكونُ مودوداً على انفرادِهِ، وإنما أنكروا وَدادة الجمع بينهما «. قوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في» وأَصابَه «. وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة. وقرىء» ضِعاف «، وضُعَفاءُ وضِعاف منقاسان في ضَعيف، نحو: ظَريف وظُرَفاء وظِراف، وشَريف وشُرَفاء وشِراف. وقوله: {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} هذه الجملةُ عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها، قاله أبو البقاء، يعني على قولِه:» مِنْ نخيل «وما بعدَه. وأتى في هذه الآيات كلِّها نحوُ» فأصَابه وابلٌ - وأَصابَه الكِبَر، فأصابها إعصارٌ «لأنه أبلغُ وأَدَلُّ على التأثيرِ بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيءِ، من أنه لم يُذْكَرْ بلفظ الإِصابة، حتى لو قيل:» وَبَل «و» كَبِر «» وأَعْصَرَتْ «لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ/. والإِعصارُ: الريحُ الشديدةُ المرتفعةُ، وتُسَمِّيها العامَّةُ: الزَّوْبعة. وقيل:

هي الريحُ السَّموم، سُمِّيتِ بذلك لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ، حكاه المهدوي. وقيل: لأنها تَعْصِر السحابَ، وتُجْمع على أعاصير، قال: 1072 - وبَيْنما المرءُ في الأحياءِ مغتبطٌ ... إذ هُوَ في الرَّمْسِ تَعْفُوه الأعاصِيرُ والإِعصار من بين سائرِ أسماءِ الريحِ مذكرٌ، ولهذا رَجَع إليه الضميرُ مذكَّراً في قولهِ: «فيه نارٌ» . و «نار» يجوز فيه الوجهانِ: أعني الفاعليةَ والجارُّ قبلَها صفةٌ لإِعصاراً، والابتدائيةُ والجارُّ قبلَها خبرُها، والجملةُ صفةُ «إعصار» ، والأولُ أَوْلى لِما تقدَّم من أنَّ الوصفَ بالمفردِ أَوْلى، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة. وقوله: {فاحترقت} أي: أَحْرَقها فاحتَرَقَتْ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي، وأمَّا «حَرَقَ» من قولِهم: «حَرَق نابُ الرجل» إذا اشتدَّ غيظهُ، فيُستعمل لازماً ومتعدياً، قال: 1073 - أَبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرِقُ نابَهُ ... عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ رُوي برفع «نابه» ونصبه. وقولُه «كّذلك يُبَيَّن» إلى آخرِه قد تقدَّم نظيرُه.

267

قوله تعالى: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} : في مفعولِ «أنفقوا» قولان، أحدُهما: أنه المجرورُ ب «مِنْ» ، و «مِنْ» للتبعيض أي: أنفقوا بعضَ ما رزقناكم. والثاني: أنه محذوفٌ قامَتْ صفتُه مقامَه، أي: شيئاً مِمَّا رزقناكم، وتقدَّم له نظائرُ. و «ما» يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسمية. والعائد محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، أي: كَسَبتموه، وأن تكونَ مصدريةً

أي: من طيباتَ كَسْبكم، وحينئذٍ لا بُدَّ من تأويلِ هذا المصدرِ باسمِ المفعولِ أي: مكسوبِكم، ولهذا كان الوجهُ الأولُ أَوْلى. و «مِمَّا اَخْرَجْنا» عطفٌ على المجرور ب «مِنْ» بإعادةِ الجارِ، لأحدِ معنيين: إمَّا التأكيدِ وإمَّا للدلالةِ على عاملٍ آخرَ مقدرٍ، أي: وأَنْفقوا مِمَّا أَخْرجنا. ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: ومن طيباتِ ما أَخْرَجنا. و «لكم» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» ، واللامُ للتعليلِ. و «مِنْ الأرض» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» أيضاً، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية. قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} الجمهورُ على «تَيَمَّموا» ، والأصلُ: تَتَيَمَّمُوا بتاءين، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً: إمَّا الأولى وإمَّا الثانيةُ، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ فيه عند قولِه: {تَظَاهَرُونَ} [البقرة: 85] . وقرأ البزي هنا وفي مواضع أُخَرَ بتشديدِ التاءِ، على أنه أَدْغم التاءَ الأولى في الثانيةِ، وجاز ذلك هنا وفي نظائِره؛ لأنَّ الساكنَ الأول حرفُ لينٍ، وهذا بخلاف قراءتِه {نَاراً تلظى} [الليل: 14] {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] فإنه فيه جَمَعَ بين ساكنين والأولُ حرفٌ صحيحٌ، وفيه كلامٌ أهلِ العربيةِ يأتي ذِكْرُه إن شاءَ اللهُ تعالى. وقرأ ابن عباس والزهري «تُيَمِّمو» بضم التاء وكسر الميمِ الأولى وماضيه: يَمَّم، فوزنُ «تُيَمِّموا» على هذه القراءة: تُفَعِّلوا من غيرِ حذفٍ، ورُوي عن عبد الله «تُؤَمِّموا» من أَمَّمْتُ أي قَصَدْتُ. والتيممُّ: القصدُ، يقال: أَمَّ كردَّ، وأَمَّمَ كأَخَّرَ، ويَمَّم، وتَيَمَّم بالتاء

والياء معاً، وتَأَمَّم بالتاء والهمزةِ، وكلُّها بمعنَى قَصَدَ. وفَرَّق الخليلُ - رحمه الله - بينها بفروقٍ لطيفة فقال: «أَمَّمْتُه قَصَدْتُ أَمامه، ويَمَّمْتُه: قصدْتُ. . . ويَمَّمْتُه: قصدتُه من أي جهة كان. والخبيثُ والطيبُ: صفتانِ غالبتان لا يُذْكَر موصوفُهما: قال: {والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} [الأعراف: 157] ، قال عليه السلام:» مِنَ الخُبْث والخَبائث « قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} » منه «متعلِّقٌ بتنفقون، وتُنْفِقُون في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل {تَيَمَّمُواْ} أي: لا تَقْصِدوا الخبيث منفقين منه، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرةٌ، لأن الإِنفاقَ منه يَقَعُ بعد القصد إليه، قاله أبو البقاء وغيره. والثاني: أنها حالٌ من الخبيث، لأن في الجملة ضميراً يعود إليه أي: لا تَقْصِدُوا مُنْفَقاً منه. والثالث: أنه مستأنفُ ابتداءِ إخبارٍ بذلك، وتَمَّ الكلامُ عند قولِه: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} ثم ابتدأ خبراً آخرَ، فقال: تُنفقون منه وأنتم لا تأخذُونه إلا إذا أَغْمضتم، كأن هذا عتابٌ للناسِ وتقريعٌ، وهذا يَرُدُّه المعنى. قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} فيها قولان، أحدُهما: أنها مستأنفة لا مَحَلَّ لها، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، ويَظْهَرُ

هذا ظهوراً قوياً عند مَنْ يرى أن الكلامَ قد تَمَّ عند قولِهِ: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} وما بعدَه استئنافٌ، وقد تقدَّم تفسيرُ معناه. والهاء في «بآخذِيه» تعودُ على «الخبيث» وفيها وفي نحوها من الضمائر المتصلةِ باسمِ الفاعلِ قولان مشهورانِ، أحدُهما: أنها في محلِّ جر وإن كام محلُّهَا منصوباً لأنها مفعولٌ في المعنى. والثاني: - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصب، وإنما حُذِفَ التنوينُ والنونُ في نحو: «ضاربيك» لِلَطافة الضمير، ومذهبُ هشام أنه يجوز ثبوتُ التنوينِ مع الضميرِ، فيجيز: «هذا ضارِبُنْك» بثبوتِ التنوين، وقد يَسْتَدِلُّ لمذهبه بقوله: 1074 - همُ الفاعلونُ الخيرَ والآمِرُونه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله الآخر: 1075 - ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فقد جَمَع بين النونِ النائبةِ عن التنوينِ وبين الضميرِ. ولهذه الأقوالِ أدلةٌ مذكورةٌ في كتبِ القومِ. قوله: {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ} الأصلُ: إلاَّ بأَنْ، فَحُذِف حرف الجر مع «أَنْ» فيجيءُ فيها القولان: أهي في محلِّ جر أم نصب؟ وهذه الباءُ تتعلَّقُ «تُيَمِّموا» «بآخذيه» . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ

على الحال، والعاملُ فيها «أخِذيه» . والمعنى: لَسْتم بآخذِيه في حالٍ من الأحوالِ إلا في حالِ الإِغماضِ، وقد تقدَّم أَنْ سيبويه لا يُجيز أن تقعَ «أَنْ» وما في حيِّزها موقعَ الحالِ. وقال الفراء: «المعنى على الشرطِ والجزاء؛ لأنَّ معناه: إنْ أَغْمضتم أَخَذْتم، ولكن لَمَّا وقعت» إلاَّ «على» أَنْ «فتحها، ومثلُه: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} [البقرة: 229] {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} [البقرة: 237] . وهذا قولٌ مردودٌ عليه في كتبِ النحو. والجمهورُ على» تُغْمِضوا «بضمِّ التاء وكسرِ الميمِ مخففةً من» أَغْمَض «وفيه وجهان، أحدُهما: أنه حُذِفَ مفعولُه، تقديرُه: تُغْمِضُوا أبصارَكم أو بصائرَكم. والثاني: في معنى ما لا يتعدَّى، والمعنى إلا أَنْ تُغْضُوا، مِنْ قولهم:» أَغْضَى عنه «. وقرأ الزهري:» تُغْمِّضوا «بضم التاءِ وفتحِ الغينِ وكسرِ الميمِ مشددةً ومعناها كالأولى. ورُوي عنه أيضاً» تَغْمَضوا «بفتحِ التاءِ وسكونِ الغَيْن وفتحِ الميمِ، مضارعُ» غَمِضَ «بكسر الميم، وهي لغةٌ في» أَغْمض «الرباعي، فيكونُ ممَّا اتفق فيه فَعِل وأَفْعل. ورُوي عن اليزيدي» تَغْمُضوا «بفتحِ التاءِ وسكونِ الغينِ وضمِّ الميمِ. قال أبو البقاء:» وهو من غَمُضَ يَغْمُضُ كظَرُف يظرُفُ، أي: خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه «. ورُوي عن الحسن:» تُغَمِّضُوا «بضمِّ التاءِ وفتحِ الغَيْنِ وفتحِ الميمِ

مشددةً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وقتادةُ كذلك إلا أنه خَفَّفَ الميم، والمعنى: / إلا أن تُحْمَلوا على التغافل عنه والمسامحِة فيه. وقال أبو البقاء في قراءةِ قتادة:» ويجوزُ أن يكونَ من أَغْمَضَ أي: صُودف على تلك الحالِ كقولِك: أَحْمَدْتُ الرجل أي: وَجَدْتُه محموداً «وبه قال أبو الفتح. وقيل فيها أيضاً: إنَّ معناها إلاَّ أَنْ تُدْخَلوا فيه وتُجْذَبوا إليه.

268

قوله تعالى: {الشيطان يَعِدُكُمُ} : مبتدأٌ وخبرٌ، وقد [تقدم] اشتقاقُ الشيطانِ وما فيه. ووزنُ يَعِدُكم: يَعِلُكم بحَذْفِ الفاءِ وهي الواوُ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ، وقرأ الجمهور: «الفَقْر» بفتح الفاء وسكونِ القافِ، وروى أبو حيوة عن بعضِهم: «الفُقْر» بضم الفاء وهي لغةٌ، وقرىء «الفَقَر» بفتحتين. قوله: «منه» فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه نعتٌ لمغفرة. والثاني: ان يكونَ مفعولاً متعلقاً بيَعِد أي: يَعِدُكم من تِلْقاءِ نفسِه. و «فَضْلاً» صفتُه محذوفةٌ أي: وفضلاً منه، وهذا على الوجهِ الأولِ، وأمَّا الثاني فلا حَذْفَ فيه.

269

قوله تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} : الجمهورُ على «يُؤْتِي» «ومَنْ يُؤْتَ» بالياءَ فيهما، وقرأ الربيع بن خيثم بالتاءِ على

الخطاب فيهما. وهو خطابٌ للباري على الالتفاتِ. وقرأ الجمهور: «ومن يُؤْتَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ ضميرُ «مَنْ» الشرطيةِ، وهو المفعولُ الأولُ، و «الحكمةَ» مفعولٌ ثانٍ. وقرأ يعقوب: «يُؤْتِ» مبنياً للفاعل، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى، و «مَنْ» مفعولٌ مقدمٌ، و «الحكمة» مفعولٌ ثان كقولِك؛ «يَّاً يُعْطِ زيدٌ درهماً أُعْطِه درهماً» . وقال الزمخشري: بمعنى «ومَنْ يُؤتِهِ اللهُ» . قال الشيخ: «إن أرادَ تفسيرَ المعنى فهو صحيحٌ، وإن أرادَ الإِعرابَ فليس كذلك، إذ ليس ثَمَّ ضميرُ نصبٍ محذوفٌ، بل مفعولٌ» يُؤْتِ «مَنْ الشرطيةُ المتقدمةُ. قلت: ويؤيِّدُ تقديرَ الزمخشري قراءةُ الأعمش: {ومَنْ يُؤْتِه الحكمةَ} بإثباتِ هاءِ الضمير، و» مَنْ «في قراءتِه مبتدأٌ لاشتغالِ الفعلِ بمعمولهِ، وعند مَنْ يجوِّزُ الاشتغالَ في أسماء الشرطِ والاستفهامِ يجُّوز في» مَنْ «النصبَ بإضمارِ فعلٍ، ويقدِّرُه متأخراً، والرفعُ على الابتداءِ، وقد تقدَّم تحقيق هذهِ في غضونِ هذا الإِعرابِ. وقوله: {أُوتِيَ} جوابُ الشرطِ، والماضي المقترنُ بقد الواقعُ جواباً للشرطِ تارةً يكونُ ماضيَ اللفظِ مستقبلَ المعنى كهذه الآية، فهو الجوابُ

حقيقةً، وتارةً يكونُ ماضيَ اللفظِ والمعنى نحو: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ} [فاطر: 4] فهذا ليسَ جواباً، بل الجوابُ محذوفٌ أي: فَتَسَلَّ فقد كُذِّبَتْ رسلٌ، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ. والتنكيرُ في» خيراً «قال الزمخشري:» يفيدُ التعظيمَ كأنه قال: فقد أُوتِي أيَّ خيرٍ كثير «. قال الشيخ:» وتقديرُه هكذا يُؤدي إلى حَذْفِ الموصوفِ ب «أي» وإقامةِ الصفةِ مُقامَه، فإنَّ التقديرَ: فقد أوتي خيراً أيَّ خيرٍ كثيرٍ، وإلى حذفِ «أيَّ» الواقعةِ صفةً، وإقامةِ المُضاف إليها مُقامَها، وإلى وصفِ ما يُضاف إليه «أي» الواقعةُ صفةً نحو: مَرَرْتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ كريمٍ، وكلُّ هذا يَحْتاج إثباتُه إلى دليل، والمحفوظُ عن العربِ أنَّ «أياً» الواقعةَ صفةً تُضاف إلى ما يُماثِلُ الموصوف نحو: «دَعَوْتُ أمرَأً أيَّ امرىءٍ، فأجابني» وقد يُحْذَفُ الموصوفُ بأيّ كقوله: 1076 - إذا حارَب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تقديرُهُ: منافقاً أيَّ منافقٍ، وهذا نادرٌ، وقد تقدَّم أَنَّ تقديرَ الزمخشري كذلك، أعني كونَه حَذَفَ موصوفَ أيّ. وأصلُ «يَذَّكَّرُ» : يَتَذَكَّر فَأَدْغَمَ.

270

قوله تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ} : كقولِهِ: {

مَا نَنسَخْ} [البقرة: 106] {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 197] وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيهما. وتقدَّم أيضاً مادة «نذر» في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] ، إلاَّ أنَّ النَّذْرَ له خصوصيةٌ: وهو عقدُ الإِنسانِ ضميره على شيءٍ والتزامُهُ، وفعلُهُ: نَذَرَ - بالفتح - ينذُرُ وينذِرُ: بالكسرِ والضَّمِّ في المضارع، يُقال: نَذَرَ فهو ناذِرٌ، قال عنترة: 1077 - الشاتِمَيْ عِرْضي ولَمْ أَشْتُمهما ... والناذِرين إذا لمَ ألقهما دَمي وقولُه: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} جوابُ الشرطِ إنْ كانَت «ما» شرطيةً، أو زائدةٌ في الخبرِ إنْ كانَتْ موصولةً. ووحَّد الضميرَ في «يَعْلَمُهُ» وإنْ كان قد تقدَّم شيئان: النَّفقةُ والنَّذْرَ لأنَّ العطفَ هنا ب «أو» ، وهي لأحدِ الشيئين، تقول: «إن جاء زيدٌ أو عمروٌ أكرمته» ، ولا يجوز: أكرمتهما، بل يجوز أَنْ تراعيَ الأولَ نحو: «زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ، أو الثانيَ نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقة، والآيةُ من هذا، ولا يجوزُ أَنْ يُقالَ: منطلقان. ولهذا تَأوَّل النحْويون: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] كما سيأتي. ومن مراعاةِ الأولِ قولُهُ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ، وبهذا الذي قررته لا يُحتاجُ إلى تأويلاتٍ ذكرها المفسرون هنا: فرُوي عن النحاس أنه قال:» التقديرُ: وما أنفقتم من

نفقةٍ فإن الله يعلَمُها، أو نَذَرْتُم من نَذْرٍ فإنَّ الله يعلَمُهُ، فَحُذِفَ، ونظَّره بقوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34] وقولِهِ: 1078 - نحنُ بما عندَنَا وأنت بما ... عندَكَ راضٍ والرأيُ مختلِفُ وقولِ الآخر: 1079 - رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي ... بريئاً ومن أجل الطَوِيِّ رماني وهذا لا يُحتاج إليه؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواوِ المقتضيةِ للجَمْع بين الشيئين، وأمَّا «أو» المقتضيةُ لأحدِ الشيئين فلا. وقال ابن عطية: «وَوَحَّدَ الضمير في» يَعْلَمُهُ «وقد ذَكَرَ شيئين من حيث إنه أراد ما ذَكَرَ أو ما نَصَّ، ولا حاجَةَ إلى هذا أيضاً لِمَا عَرَفَتْ من حكم» أو «.

271

قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} : الفاءُ جوابُ الشرط، و «نِعْمَ» فعلٌ ماضٍ للمدح نقيضُ بئس، وحكمُها في عدمِ التصرفِ والفاعلِ واللغاتِ حكمُ بئس كما تقدَّم فلا حاجَةَ إلى الإِطالة بتكررِهِ. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي هنا وفي النساء: «فَنَعِمَا» بفتحِ النونِ وكسرِ العينِ، وهذه على الأصلِ، لأنَّ الأصل على «فَعِل» كعَلِم وقرأ

ابن كثير وورش وحفص بكسر النونِ والعينِ، وإنما كَسْرُ النونِ إتباعاً لكسرةِ العينِ وهي لغةُ هُذَيْل. قيل: وَتَحْتمل قراءةُ كسرِ العين أن يكونَ أصلُ العينِ السكونَ، فلمَّا وقعتْ بعدَها «ما» وأَدْغَمَ ميم «نِعْم» فيها كُسِرَتْ العينُ لالتقاء الساكنين. وهو محتملٌ. وقرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر بكسرِ النون وإخفاء حركةِ العين. ورُوي عنهم الإِسكانُ أيضاً، واختاره أبو عبيد، وحكاه لغةً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نحو قولِهِ: «نِعْمَّا المالُ الصالحُ مع الرجلِ الصالحِ» والجمهورُ على اختيارِ الاختلاسِ على الإِسكانِ، بل بعضُهم يَجْعَلُهُ من وَهْم الرواة عن أبي عمرو، ومِمَّن أنكره المبرد والزجاج والفارسي قالوا: لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حَدِّهما. قال المبرد: «لا يَقْدِرُ أحدٌ أن ينطِقَ به، وإنما يرومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّكُ ولا يَشْعُر» وقال الفارسي: «لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سكوناً» . وقد تقدَّم الكلام على «ما» اللاحقةِ لنِعْم وبِئْس. و «هي» مبتدأ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حَذْف مضاف، أي: فنِعْم إبداؤها، ويجوز أَنْ لا يُقَدَّر مضافٌ، بل يعودُ الضميرُ على «الصدقات» بقيد صفةِ الإِبداء تقديرهُ: فنِعِمَّا هي أي: الصدقاتُ المُبْدَاةُ. وجملةُ المدحِ خبرٌ عن «هي» ، والرابطُ العمومُ، وهذا أَوْلى الوجوهِ، وقد تقدَّم تحقيقُها. والضميرُ في «وإنْ تخفوها» يعودُ على الصدقاتِ. فقيل: يعودُ عليها لفظاً ومعنىً. وقيل: يعودُ على الصدقاتِ لفظاً لا معنىً، لأنَّ المرادَ بالصدقاتِ

المبداةِ الواجبةُ، وبالمُخْفَاةِ: المتطوَّعُ بها، فيكونُ من باب «عندي درهمٌ ونصفُه» ، أي: ونصفُ درهمٍ آخرَ، وكقوله: 1080 - كأنَّ ثيابَ راكبِهِ بريحٍ ... خَرِيقٌ وهْي ساكنةُ الهُبوبِ أي: وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية. والفاءُ في قولِهِ: «فهو» جوابُ الشرط، والضميرُ يعودُ على المصدر المفهومِ من «تُخْفُوها» أي: فالإِخفاءُ، كقولِهِ: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] و «لكم» صفةٌ لخير، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «خير» يجوزُ أن يكون للتفضيلِ، فالمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ أي: خيرٌ من إبدائها، ويجوزُ أن يُرَادَ به الوصفُ بالخيريَّة أي: خيرٌ لكم من الخيورِ. وفي قوله: «إنْ تُبْدوا، وإن تُخْفُوها» نوعٌ من البديع وهو الطباق اللفظي. وفي قوله «وتُؤتوها الفقراء» طباقٌ معنوي، لأنه لا يُؤتي الصدقاتِ إلا الأغنياءُ، فكأنه قيل: إن يُبْدِ الأغنياءُ الصدقاتِ، وإنْ يُخْفِ الأغنياءُ الصدقاتِ، ويُؤْتُوها الفقراء، فقابلَ الإِبداءَ بالإِخفاءِ [لفظاً] ، والأغنياءَ بالفقراءِ معنىً. قوله: {وَيُكَفِّرُ} قرأَ الجمهورُ «ويُكَفِّرُ» بالواو، والأعمش بإسقاطِها والياءِ وجَزْم الراء. وفيها تخريجان، أحدُهما: أنه بدلٌ من موضِعِ قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنه جوابُ الشرط كأنَّ التقدير: وإنْ تخفوها يكنْ خيراً لكم

ويكفِّرْ. والثاني: أنه حَذَفَ حرفَ/ العطفِ فتكونُ كالقراءةِ المشهورةِ، والتقديرُ: «ويكفِّرُ» وهذا ضعيف جداً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالنونِ ورفعِ الراءِ، وقرأ نافع وحمزةُ والكسائي بالنونِ وجزمِ الراء، وابنُ عامر وحفصٌ عن عاصم: بالياء ورفع الراء، والحسنُ بالياء وجزمِ الراء، ورُوي عن الأعمش أيضاً بالياء ونصب الراء، وابن عباس: «وتُكَفِّرْ» بتاءِ التأنيثِ وجزمِ الراءِ، وعكرمة كذلك إلا أنه فَتَحَ الفاءَ على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، وابنُ هرمز بالتاءِ ورفعِ الراء، وشهر ابن حوشب - ورُويت عن عكرمة أيضاً - بالتاءِ ونصبِ الراءِ، وعن الأعمش أيضاً بالنونِ ونَصْبِ الراء، وعَن الأعمش أيضاً بالنونِ ونَصْبِ الراءِ، فهذه إحدى عشرةَ قراءةً، والمشهورُ منها ثلاثٌ. فَمَنْ قرأ بالياء ففيه ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه أَضْمَرَ في الفعل ضميرَ اللَّهِ تعالى، لأنه هو المكفِّر حقيقةً، وتَعْضُده قراءةُ النونِ فإنها متعيِّنةٌ له. والثاني: أنه يعودُ على الصرفِ المدلولِ عليه بقوةِ الكلامِ، أي: ويكفِّرْ صَرْف الصدقاتِ. والثالث: أنه يعودَ على الإِخفاءِ المفهومِ من قولِهِ: «وإنْ تُخْفُوها» ، ونُسِبَ التكفيرُ للصرفِ والإِخفاءِ مجازاً، لأنهما سببٌ للتكفير، وكما يجوزُ إسنادُ الفعلِ إلى فاعِلِهِ يجوزُ إسنادُهُ إلى سببه. ومَنْ قرأَ بالتاءِ ففي الفعلِ ضميرُ الصدقاتِ ونُسِبَ التكفيرُ إليها مجازاً كما تَقَدَّم. ومَنْ بناه للمفعولِ فالفاعلُ هو اللَّهِ تعالى أو ما تقدَّم. ومَنْ قرأ بالنون فهي نونُ المتكلمِ المعظِّم نفسَهُ. ومَنْ جَزَمَ الراءَ فللعطف على محلِّ الجملةِ الواقعةِ جواباً للشرطِ، ونظيرُهُ قولُه: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} في قراءةِ مَنْ جَزَمَ {وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186]

ومَنْ رفع فعلى ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً لا موضعَ له من الإِعرابِ، وتكونُ الواوُ عاطفةً جملةَ كلامٍ على جملةِ كلامٍ آخرَ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ، وذلك المبتدأ: إمَّا ضميرُ اللَّهِ تعالى أو الإِخفاءُ أي: وهو يُكَفِّر فيمَنْ قَرَأَ بالياء أو ونحن نكفِّر فيمن قرأ بالنون أو وهي تُكَفِّر فيمن قرأ بتاءِ التأنيث. والثالث: أنه عطفٌ على محلِّ ما بعد الفاءِ، إذْ لو وقع مضارعُ بعدَهَا لكانَ مرفوعاً كقولِهِ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] ونظيرُهُ {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [الأعراف: 186] في قراءةِ مَنْ رفع. ومَنْ نَصَبَ فعلى إضمار «أَنْ» عطفاً على مصدرِ مُتَوَهَّمٍ مأخوذٍ من قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، والتقديرُ: وإنْ تُخْفوها يكنْ أو يوجَدْ خيرٌ وتكفيرٌ. ونظيرُها قراءةُ مَنْ نَصَبَ: «فيغفرَ» بعد قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284] ، إلاَّ أنَّ تقديرَ المصدرِ في قوله: «يحاسِبْكم» أسهلُ منه هنا، لأنَّ ثمةَ فعلاً مصرَّحاً به وهو «يحاسبْكم» ، والتقديرُ: يَقَعُ محاسبةٌ فغفرانٌ، بخلافِ هنا، إذ لا فعلَ ملفوظٌ به، وإنما تَصَيَّدْنَا المصدرَ من مجموعِ قولِهِ: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} . وقال الزمخشري: «ومعناه: وإنْ تُخْفوها يكنْ خيراً لكم وأَنْ يُكَفِّر» قال الشيخ: «وظاهر كلامِهِ هذا أنَّ تقديرَه» وأَنْ يكفِّرَ «يكون مقدَّراً بمصدرٍ، ويكونُ معطوفاً على» خيراً «الذي هو خبر» يَكُنْ «التي قَدَّرَها، كأنه قال: يَكُنِ الإِخفاءُ خيراً لكم وتكفيراً، فيكونُ» أَنْ يكفِّر «في موضِعِ نصبٍ، والذي تقرَّر

عند البصريين أنَّ هذا المصدرَ المنسَبِكَ من» أَنْ «المضمرةِ مع الفعلِ المنصوبِ بها هو مرفوعٌ معطوفٌ على مصدرٍ متوهَّمٍ مرفوعٍ، تُقَدِّره من المعنى. فإذا قلت:» ما تأتينا فتحدثَنا «فالتقديرُ: ما يكون منك إتيانٌ فحديثٌ، وكذلك:» إنْ تجيءْ وتُحْسِنَ إليَّ أُحْسِنْ إليك «التقدير: إن يكنْ منك مجيء وإحسان أُحْسن إليك، فعلى هذا يكون التقديرُ: وإنْ تُخْفوها وتُؤْتوها الفقراءَ فيكونُ زيادةُ خيرٍ للإِخفاءِ على خيرِ الإِبداء وتكفيرٌ» . انتهى ولم أَدْرِ ما حَمَلَ الشيخ على العدولِ عن تقدير أبي القاسم إلى تقديرِهِ وتطويلِ الكلامِ في ذلك مع ظهورِ ما بين التقديرين؟ . وقال المهدوي: «هو مُشَبَّهٌ بالنصبِ في جوابِ الاستفهامِ، إذ الجزاءُ يَجِبُ به الشيءُ لوجوبِ غيرهِ كالاستفهامِ» . وقال ابنُ عطية: «الجزمُ في الراءِ أفصحُ هذه القراءاتِ لأنها تُؤْذِنُ بدخولِ التكفيرِ في الجزاء وكونِهِ مشروطاً إنْ وقع الإِخفاءُ، وأمَّا رفعُ الراء فليسَ فيه هذا المعنى» قال الشيخ: «ونقولُ إنَّ الرفعَ أبلغُ وأَعَمَُّ، لأنَّ الجزمَ يكونُ على أنه معطوفٌ على جوابِ الشرطِ الثاني، والرفعُ يدلُّ على أنَّ التكفير مترتِّبٌ من جهةِ المعنى على بَذْلِ الصدقاتِ أُبْدِيَتْ أو أخْفيت، لأنَّا نعلمُ أنَّ هذا التكفيرَ متعلِّقٌ بما قبلَه، ولا يختصُّ التكفيرُ بالإخفاءِ فقط، والجزمُ يُخَصِّصُهُ به، ولا يمكن أَنْ يقالَ إن الذي يُبدي الصدقاتِ لا يكفِّرْ من سيئاتِهِ، فقد صارَ التكفيرُ شاملاً للنوعَيْنِ من إبداءِ الصدقاتِ وإخفائِها وإنْ كانَ الإِخفاءُ خيراً» . قوله: {مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} في «مِنْ» ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: للتبعيض،

أي: بعضَ سيئاتكم، لأن الصدقاتِ لا تكفِّر جميعَ السيئاتِ، وعلى هذا فالمفعولُ في الحقيقةِ محذوفٌ، أي: شيئاً من سيئاتكم، كذا قَدَّرَهُ أبو البقاء. والثاني: أنها زائدةٌ وهو جارٍ على مذهبِ الأخفش وحكاه ابنُ عطية عن الطبري عن جماعةٍ، وجَعَلَهُ خطأً، يعني من حيث المعنى. ولثالث: أنها للسببيةِ، أي: مِنْ أَجْلِ ذنوبكم، وهذا ضعيفٌ. والسيئاتُ جمعَ سيِّئة، ووزنها فَيْعِلة وعينُها واوٌ، والأصلُ: سَيْوِءَة فَفُعِلَ بها ما فُعِلَ بميِّت، وقد تقدَّمَ.

272

قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} : «هُداهم» : اسم ليس وخبرُها الجارُّ والمجرورُ. و «الهُدَى» مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، أي: ليس عليك أن تهديَهم، ويجوز أن يكونَ مضافاً لفاعلِهِ، أي: ليس عليك أن يَهْتدَوا، يعني: ليس عليك أن تُلْجِئَهم إلى الاهتداء. وفيه طباقٌ معنويٌّ، إذ التقدير: هدى للضالين. وفي قوله: {ولكن الله يَهْدِي} مع قوله «هداهم» جناسٌ مغاير لأنَّ إحدى الكلمتين اسمٌ والأخرى فعلٌ. ومفعولُ «يشاءُ» محذوفٌ، أي: هدايَتَه. وقوله: {فَلأَنْفُسِكُمْ} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو لأنفسكم. وقوله «إلاَّ ابتغاءَ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجل ابتغاءِ وجهِ اللَّهِ، والشروطُ هنا موجودةٌ. والثاني: أنه مصدرٌ في محل الحالِ، أي: إلاَّ مبتغين، وهو في الحالَيْنِ استثناءٌ مفرَّغٌ، والمعنى: وما تُنْفِقُونَ نفقةً معتدّاً

بقَبولِهَا إلاَّ ابتغاءَ وجهِ [اللَّهِ] ، أو يكونُ الخاطَبُون بهذا ناساً مخصوصين، وهم الصحابةُ، لأنهم كانوا كذلك، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين لأنَّ كثيراً ينفق لابتغاءِ غير وجهِ الله. وقوله: {يُوَفَّ} جوابُ الشرط/، وقد تقدَّم أنه يقال: «وَفَّى» بالتشديدِ و «وفَى» بالتخفيفِ «و» أَوْفَى «رباعياً. وقوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في» إليكم «، والعاملُ فيها» يُوَفَّ «، وهي تشبهُ الحالَ المؤكِّدَةَ لأنَّ معناها مفهومٌ من قولِهِ:» يوفَّ إليكم «لأنهم إذا وُفُّوا حقوقَهم لم يُظْلَموا. ويجوز أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، أخبرَهم فيها أنه لا يقعُ عليهم ظلمٌ فيندرجُ فيه توفيةُ أجورِهم بسببِ إنفاقهِم في طاعةِ اللَّهِ تعالى اندراجاً أوَّليَّاً.

273

قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ} : في تعلُّقِ هذا الجارِّ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه سياقُ الكلامِ، واختلفت عباراتُ المُعْربين فيه، فقال مكي - ولم يذكُرْ غيرَه -: «أَعْطُوا للفقراءِ» وفي هذا نظرٌ، لأنه يلزمُ زيادةُ اللامِ في أحدِ مفعولَي أعطى، ولا تُزادُ اللامُ إلا لضعفِ العامل: «إمَّا بتقدُّمِ معمولِهِ كقولِهِ تعالى: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، وإمَّا لكونِه فرعاً نحو قولِهِ تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ويَبْعُد أن يُقالَ: لمَّا أُضْمِرَ العاملُ ضَعُفَ فَقَوِيَ باللامِ، على أنَّ بعضَهم يُجيز ذلك وإنْ لم يَضْعُفِ العاملُ، وجَعَلَ منه {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، وسيأتي بيانُهُ في موضعه

إن شاء الله تعالى: وقَدَّرَهُ أبو البقاء:» اعجبوا للفقراء «وفيه نظرٌ، لأنه لا دلالة من سياقِ الكلامِ على العَجَبِ، وقَدَّرَهُ الزمخشري:» اعْمدوا أو اجعَلوا ما تُنْفقون «والأحسنُ من ذلكَ ما قدَّره مكي، لكنْ فيه ما تقدَّم. الثاني: أنَّ هذا الجارَّ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُهُ: الصدقاتُ أو النفقاتُ التي تُنْفِقُونَهَا للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ، كأنهم لَمَّا حُثُّوا على الصدقاتِ قالوا: فلمَنْ هي؟ فَأُحِثُّوا بأنها لهؤلاء، وفيها فائدةُ بيانِ مَصْرِفِ الصدقاتِ. وهذا اختيارُ ابنِ الأنباري قال:» كما تقول: «عاقل لبيب» ، وقد تقدَّم وصفُ رجل، أي: الموصوفُ عاقلٌ، وتكتبون على الأكياس: «ألفان ومئتان» ، أي: الذي في الكيس ألفان. وأنشد: 1081 - تسأَلُنِي عن زوجِها أيُّ فتى ... خَبٌّ جَروزٌ وإذا جاعَ بكى يريد: هو خَبّ. الثالث: أنَّ اللامَ تتعلَّقُ بقولِهِ: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} [البقرة: 271] وهو مذهبُ القَفَّال، واستبعَدَه الناسُ لكثرةِ الفواصِلِ. الرابع: أنه متعلِّقٌ بقولِه: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} وفي هذا نظرٌ من حيث إنه يلزمُ فيه الفصلُ بين فعلِ الشرطِ وبين معمولهِ بجملةِ الجوابِ، فيصيرُ نظيرَ قولِك: «مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صَرَّح بالمنع من ذلك - مُعَلِّلاً بما ذَكرتُه - الوَاحديُّ فقال:» ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في هذه اللام «تنفقوا»

الأخيرَ في الآيةِ المتقدمةِ، لأنه لا يُفْصَلُ بين العاملِ والمعمولِ بما ليس منه كما لا يجوزُ: «كانت زيداً الحُمَّى تأخُذُ» . الخامس: أَنَّ «للفقراء» بدلٌ من قولِه: «فلأنفسِكم» ، وهذا مردودٌ قال الواحدي وغيرُه: «لأنَّ بدلَ الشيءِ من غيرهِ لا يكونُ إلا والمعنى مشتملٌ عليه، وليس كذلك ذِكْرُ النفسِ ههنا، لأنَّ الإِنفاقَ من حيث هو عائدٌ عليها، وللفقراءِ من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من بابِ {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] لأنَّ الأمرَ لازمٌ للمستطيع خاصةً» قلت: يعني أنَّ الفقراءَ ليسَتْ هي الأنفسَ ولا جزءاً منها ولا مشتملةً عليها، وكأن القائلَ بذلك توهَّم أنه من بابِ قولِه تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] في أحدِ التأويلين. والفقيرُ: قيل: أصلُه من «فَقَرَتْه الفاقِرة» أي: كَسَرَتْ فَقارَ ظهرِه الداهيةُ. قال الراغب: «وأصلُ الفقيرِ: هو المكسور الفَقار، يقال: فَقَرَتْه الفاقرةُ» أي: الداهية تكسِر الفَقار، و «أَفْقَرك الصيدُ فارمِه» أي أَمْكَنَكَ من فَقارِه. وقيل: هو من الفُقْرَة أي الحُفْرة، ومنه قيل لكل حفرةٍ يجتمع فيها الماءُ: فقيرٌ. وَفَقَرْتُ للغسيلِ حَفَرْتُ له حُفْرة: غرسْتُه فيها. قال: 1082 - ما ليلةُ الفقيرِ إلا شيطانْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . قيل: هو اسم بئر. وَفَقَرْتُ الخَرَزَ: ثقبتُه. وقال الهروي: يُقال «فَقَره»

إذا أصاب فَقَار ظهرِه نحو: رَأَسه أي: أصاب رَأْسَه، وَبَطَنه: أي أصاب بطنه. وقال الأصمعي: «الفَقْر: أَنْ يُحَزَّ أنفُ البعير حتى يَخْلُص الحَزُّ إلى العَظْمِ، ثم يُلْوى عليه جريرٌ يُذَلَّلُ به الصَّعْبُ من الإِبل، ومنه قيل: عَمِل به الفاقرِة» . والفِقَرات - بكسر الفاء وفتح القاف -: جمع فِقَرة: الأمورُ العظام، ومنه حديث السعي: «فِقَراتُ ابنِ آدم ثلاثُ: يوم وُلد ويومَ يموتُ، ويوم يُبْعَثُ» والفُقَر: بضمِّ الفاءِ وفتحِ القافِ - جمع فُقْرَة وهي الحَزُّ وخَرْم الخَطْم، ومنه قول أبي زياد: «يُفْتقَرُ الصَعبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خَطْمِه» ومنه حديثُ سعد: «فأشار إلى فُقَرٍ في أنفه» أي شَقٍّ وحَزٍّ/. وقد تقدَّم الكلام في الإِحصارِ، والفرقُ بين فَعَل وأَفْعَل منه. قوله: {فِي سَبِيلِ} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه فيكونَ ظرفاً له. والثاني: أن يكونَ متعلِّقَاً بمحذوفٍ على أنه حال من مرفوع «أُحْصِروا» أي: مستقرين في سبيلِ اللهِ. وقَدَّره أبو البقاء بمجاهِدين في سبيل الله «فهو تفسيرُ معنىً لا إعراب، لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّقُ إلا بالكونِ المطلقِ. قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} في هذه الجملةِ احتمالان، أظهرُهما: أنها

حالٌ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه» الفقراء «وثانيهما: أنه مرفوعُ» أُحْصِروا «. والاحتمالُ الثاني: أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعرابِ. و» ضرباً «مفعولٌ به، وهو هنا السفرُ للتجارةِ، قال: 1083 - لَحِفْظُ المالِ أيسرُ مِنْ بقاه ... وضربٌ في البلادِ بغير زاد يقال: ضَرَبْتُ في الأرض ضرباً ومَضْرِباً أي: سِرْتُ. قوله: {يَحْسَبُهُمُ} يجوزُ في هذه الجملةِ ما جازَ فيما قبلها من الحاليةِ والاستئنافِ، وكذلك ما بعدَها. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة:» يَحْسَبُ «- حيث ورد - بفتح السين والباقونَ بكسرِها. فأمَّا القراءةُ الأولى فجاءَتْ على القياسِ، لأنَّ قياسَ فَعِل بكسر العين يَفْعَل بفتحِها لتتخالفَ الحركتان فيخِفَّ اللفظُ، وهي لغةُ تميم والكسرُ لغةُ الحجاز، وبها قرأ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد شَذَّتْ ألفاظٌ أُخَرُ جاءت في الماضي والمضارع بكسرِ العينِ منها نَعِم يَنْعِم، وبَئِس يَبْئِسُ، ويَئِس يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة، وعَمِد يَعْمِد، وقياسُها كلُّها الفتحُ، واللغتان فصيحتان في الاستعمال، والقارىء بلغةِ الكسر اثنان من كبار النحاة أبو عمرو - وكفى به - والكسائي، وقارئا الحرمين نافع وابن كثير. والجاهلُ هنا: اسمُ جنسٍ لا يُراد به واحدٌ بعينه. و «أغنياءَ» هو المفعول الثاني. قوله: {مِنَ التعفف} في «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها سببية، أي: سَبَبُ حُسْبانِهم أغنياءَ تعفُّفُهم فهو مفعولٌ من أجله، وجَرُّه بحرفِ السبب هنا واجبٌ لفَقْدِ شرطٍ من شروطِ النصبِ وهو اتحادُ الفاعلِ، وذلك أنَّ فاعلَ

الحُسْبان الجاهلُ، وفاعلَ التعفف هم الفقراءُ، ولو كان هذا المفعولُ له مستكملاً لشروطِ النصبِ لكان الأحسنُ جَرَّه بالحرف لأنه معرَّفٌ بأل، وقد تقدَّم أنَّ جَرَّ هذا النوعِ أحسنُ من نصبِه، نحو: جئت للإكرام، وقد جاء نصبُه، قال: 1084 - لا أقعدُ الجُبْنَ عن الهيجاءِ ... ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ والثاني: أنها لابتداءِ الغايةِ، والمعنى أنَّ مَحْسَبَةَ الجاهلِ غِناهم نَشَأَتْ من تعفُّفهم لأنه لا يَحْسَب غناهم غنى تعففٍ، إنما يحسَبُه غنى مالٍ، فقد نشأَتْ مَحْسَبَتُه مِنْ تعفُّفهِم، وهذا على أنَّ تعفَّفَهم تعففٌ تام. والثالث: أنها لبيانِ الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال: «يكونُ التعففُ داخلاً في المَحْسَبة، أي: إنه لا يظهرُ لهم سؤالٌ بل هو قليلٌ، فالجاهلُ بهم مع علمِه بفقرِهم يحسَبُهم أغنياءَ عنه، ف» مِنْ «لبيانِ الجنس على هذا التأويلِ، قال الشيخ:» وليس ما قالَه من أنَّ «مِنْ» هذه في هذا المعنى لبيانِ الجنس المصطلحَ عليه، لأنَّ لها اعتباراً عند القائل بهذا المعنى وهو أن تتقدّرَ «مِنْ» بموصولٍ، وما دَخَلَت عليه يُجْعَلُ خبرَ مبتدأ محذوفٍ كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] يَصِحُّ أَنْ يُقال: الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا: «يَحْسَبهم الجاهلُ أغنياءَ الذي هو التعفف» لم يَصِحَّ هذا التقديرُ، وكأنه سَمَّى الجهةَ التي هم أغنياءُ بها بيانَ الجنسِ أي: بَيَّنَتْ بأيِّ جنسٍ وَقَع غناهم، أي غناهم بالتعففِ لا غنى بالمالِ، فَسَمَّى «مِنْ» الداخلةَ على ما يبيِّن جهة الغنى

ببيانِ الجنس، وليس المصطلحَ عليه كما قَدَّمناه، وهذا المعنى يَؤُول إلى أنَّ «مِنْ» سببية، لكنها تتعلق بأغنياء لا بيحسَبهم. انتهى «. وتتعلَّقُ» مِنْ «على الوجهين الأوَّلَيْنِ بيَحْسَبهم. قال أبو البقاء:» ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ بمعنى «أغنياء» لأنَّ المعنى يَصيرُ إلى ضد المقصود وذلك أنَّ معنى الآية أنَّ حالَهم يَخْفَى على الجاهلِ بهم فيظنُّهم أغنياءَ، ولو عُلِّقَتْ «مِنْ» بأغنياءَ صار المعنى أنَّ الجاهلَ يَظُنُّ أنهم أغنياءُ ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ في المال «. انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتملُ بحثاً. وأما على الوجه الثالث - وهو كونُها لبيانِ الجنس - فقد صَرَّح الشيخ بتعلُّقها بأغنياء، لأن المعنى يعودُ إليه، ولا يجوزُ تعلُّقها في هذا الوجهِ بالحُسْبان، وعلى الجملةِ فكونُها لبيانِ الجنسِ قَلِقُ المعنى. والتعفُّفُ: تَفَعُّل من العِفَّة، وهي تَرْكُ الشيء، والإِعراضُ عنه مع القدرةِ على تعاطِيه، قال رؤبة: 1085 - فَعَفَّ عن أسرارِها بعد الغَسَقْ ... ولم يَدَعْها بعد فَرْكٍ وعَشَقْ وقال عنترة: 1086 - يُخْبِرْكَ مَنْ شهدَ الوقيعةَ أنني ... أغشى الوغَى وأعِفُّ عند المَغْنَمِ ومنه: «عفيفُ الإِزار» كنايةٌ عن حصانته. / وعَرَّف التعففَ لأنه سَبق منهم مراراً فصار كالمعهود، ومتعلَّقٌ التعففِ، محذوفٌ اختصاراً. أي: عن السؤالِ، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ.

قوله: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} السِّيما - العلامةُ ويجوز مَدُّها وإذا مُدَّتْ فالهمزةُ فيها منقلبةٌ عن حرفٍ زائدٍ للإِلحاقِ: إمَّا واوٌ، وإمَّا ياء، فهي كعِلْباء ملحقةً بسِرْداح، فالهمزةُ للإلحاقِ لا للتأنيث وهي منصرفةٌ لذلك. و «سيما» مقلوبةٌ قٌدِّمَتْ عينُها على فائها لأنها مشتقةٌ من الوَسْم فهي بمعنى السِّمة أي العلامةُ، فلما وقَعَتْ الواوُ بعد كسرةٍ قُلبت ياءً، فوزنُ سيما: عِفْلا، كما يقال اضْمَحَلَّ، وامضَحَلَّ، [و] وو «خِيمة» و «خامة» ، وله جاه ووجَهْ، أي: وَجاهة. وفي الآيةِ طباقٌ في موضعينِ، أحدُهما: «أُحْصِروا» مع قوله: {ضَرْباً فِي الأرض} ، والثاني قوله «أغنياءَ» مع قوله «للفقراءِ» نحو: {أَضْحَكَ وأبكى} {وَأَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 43] . ويقال «سِيمِيا» بياء بعد الميم، وتُمَدُّ كالكيمياء. وأشد: 1087 - غلامٌ رماه اللهُ بالحُسْنِ يافعاً ... له سِيمِياءُ لا تَشُقُّ على البصَرْ والباءُ تتعلَّق ب «تَعْرِفهم» ومعناها السببية، أي: إنَّ سببَ معرفتِك إياهم هي سِيماهم. قوله: {إِلْحَافاً} في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: نصبُه على المصدرِ بفعلٍ مقدَّر أي: يُلْحِفون إلحافاً، والجملةُ المقدرةُ حالٌ من فاعل «يَسْألون» والثاني: أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، أي: لا يَسْألون لأجلِ الإِلحافِ. والثالث: أن يكونَ مصدراً في موضعِ الحالِ تقديرُه: لا يَسْألون مُلْحِفين.

واعلمْ أنَّ العربَ إذا نَفَتِ الحكمَ عن محكومٍ عليه فالأكثرُ في لسانِهم نَفْيُ ذلك القيدِ، نحو: «ما رأيتُ رجلاً صالحاً» ، الأكثرُ على أنك رأيت رجلاً ولكن ليسَ بصالحٍ، ويجوزُ أنَّكَ لم تَرَ رجلاً البتةَ لا صالحاً ولا طالحاً، فقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} المفهومُ أنهم يسألونَ لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكونَ المعنى: أنهم لا يَسْألون ولا يُلْحِفون، والمعنيان منقولان في التفسير. والأرجحُ الأولُ عندهم، ومثلُه في المعنى: «ما تأتينا فتحدثنا» يجوز أنه يأتيهم ولا يحدِّثُهم، ويجوزُ أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثُهم، انتفى السبب وهو الإِتيانُ فانتفى المُسَبَّبُ وهو الحديثُ. وقد شَبَّه الزجاج - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآيةِ الكريمة بمعنى بيت امرىء القيس وهو قوله: 1088 - على لاحِبٍ لا يُهْتدى بمَنارهِ ... إذا سافَه العَوْدُ النباطيُّ جَرْجَرا قال الشيخ: «تشبيهُ الزجاج إنما هو في مُطْلَقِ انتفاءِ الشيئين أي: لا سؤالَ ولا إلحافَ، وكذلك هذا: لا منارَ ولا هدايةَ، لا أنه مثلُه في خصوصية النفي، إذ كان يلزمُ أن يكون المعنى: لا إلحافَ فلا سؤالَ، وليس تركيبُ الآيةِ على هذا المعنى، ولا يَصِحُّ: لا إلحافَ فلا سؤالَ لأنه لا يلزمُ من نفي الخاص نفيُ العام، كما لَزِم من نفيِ المنارِ نفيُ الهداية التي هي من بعض لوازمِهِ، وإنما يُؤدِّي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان

التركيب:» لا يُلْحِفون الناسَ سؤالاً «لأنه يلزمُ من نفيِ السؤال نفيُ الإِلحافِ، إذ نفيُ العامِّ يَدُلُّ على نفيِ الخاص. فتلخَّص من هذا كلَّه أنَّ نَفْيَ الشيئين: تارةً تُدْخِلُ حرفِ النفي على شيءٍ فتنتفي جميعُ عوارضِه، وتُنَبِّهُ على بعضِها بالذكرِ لغرضٍ ما، وتارةً تُدْخِلُ حرفَ النفي على عارضٍ مِنْ عوارضِه، والمقصودُ نفيهُ فتنتفي لنفيهِ عوارضُه» . قلت: قد سَبَقه ابنُ عطية إلى هذا فقال: «تَشْبيهُه ليس مثلَه خصوصيةِ النفي، لأنَّ انتفاءَ المنارِ في البيتِ يَدُلُّ على نفي الهدايةِ، وليس انتفاءُ الإِلحاحِ يدلُّ على انتفاءِ السؤالِ.» وأطالَ ابنُ عطية في تقريرِ هذا وجوابُه ما تقدم: من أنَّ المرادَ نفيُ الشيئين لا بالطريقِ المذكورِ في البيتِ، وكان الشيخُ قد قال قبلُ ما حكيته عنه آنفاً: «ونظيرُ هذا: ما تَأْتينا فتحدِّثَنا» فعلى الوجه الأول يعني نفيَ القيدِ وحدَه: ما تأتينا مُحَدِّثاً، إنما تأتي ولا تحدِّثُ، وعلى الوجه الثاني يعني نفيَ الحكمِ بقيده ب «ما يكون منك إتيانٌ فلا يكونُ حديثٌ» ، وكذلك هذا: لا يقعُ منهم سؤالٌ البتَّةَ فلا يقعُ إلحاحٌ، ونَبَّه على نفي الإلحاحِ دونَ غيرِ الإِلحاح لقبحِ هذا الوصفِ، ولا يُرَادُ به نفيُ هذا الوصفِ وحدَه ووجودُ غيرِه؛ لأنه كانَ يَصيرُ المعنى الأول، وإنما يُراد بنفي هذا الوصفِ نفيُ المترتباتِ على المنفيِّ الأولِ، لأنه نَفَى الأولَ على سبيل العمومِ فتنتفي مترتِّباتُه، كما أنك إذا نَفَيْتَ الإِتيانَ فانتفى الحديثُ انتفى جميعُ مترتِّباتُ الإِتيانِ من المجالسةِ والمشاهدةِ والكينونةِ في محلٍّ واحد، ولكنَ نبَّه بذكرِ مترتِّب واحدٍ لغرضٍ ما على ذِكْرِ سائرِ المترتِّبات، قلت: وهو تقريرٌ لِمَا تَقدَّم.

وأمَّا الزمخشري فكأنه لم يَرْتَضِ تشبيهَ الزجاج، فإنه قال: «وقيل: هو نفيٌ للسؤالِ، والإِلحاف جميعاً كقوله: على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يريد نفيَ المنارِ والاهتداءِ به» . وطريقُ أبي إسحاق الزجاج هذه قد قَبِلها الناسُ ونَصَروها واستحسنوا تنظيرَها بالبيت كالفارسي وأبي بكر بن الأنباري، قال أبو علي: «لم يُثْبِتْ في قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} مسألةً فيهم، لأن المعنى: ليس منهم مسألةٌ فيكونَ منهم إلحافٌ، ومِثْلَ ذلك قولُ الشاعر: 1089 - لا يَفْزَعُ الأرنبُ أهوالَها ... ولا ترى الضَبَّ بها يَنْجَحِرْ أي: ليس فيها أرنبٌ فيفزعَ لهولِها ولا ضَبُّ فينجحرَ، وليس المعنى أنه ينفي الفزعَ عن الأرنبِ والانجحار عن الضب. وقال أبو بكر: «تأويلُ الآية: لا يسألون البتةَ فيخرجهم السؤالُ في بعض الأوقات إلى الإِلحافِ؛ فجَرى هذا مَجْرى قولِك: / فلان لا يُرْجى خيرُه أي: لا خيرَ عنده البتة فيُرْجى، وأنشد قول امرىء القيس: 1090 - وصُمٌّ صِلابٌ ما يَقِين من الوَجَى ... كأنَّ مكانَ الرَّدْفِ منه على رَالِ أي: ليس بهن وَجَى فيشتكينَ من أجله، وقال الأعشى: 1091 -

لا يَغْمِزُ الساقَ مِنْ أَيْنٍ ولا وَصَبٍ ... ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفه الصَّفَرُ معناه: ليس بساقِه أَيْنٌ ولا وصبٌ فيغمزَها. وقال الفراء قريباً منه فإنه قال:» نفى الإِلحاف عنهم وهو يريدُ جميعَ وجوهِ السؤال كما تقول في الكلام: «قَلَّ ما رأيتُ مثلَ هذا الرجل» ولعلك [لم تَرَ قليلاً ولا كثيراً من أشباهه] . جَعَل أبو بكر الآيةَ عند بعضِهم من بابِ حَذْفِ المعطوف، وأن التقدير: لا يسألونَ للناسَ إلحافاً ولا غيرَ إلحاف. كقوله تعالى: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبردَ. والإِلحافُ والإِلحاحُ واللَّجاجُ والإِحفاءُ، كلُّه بمعنى، يقال: ألحفَ وألحَّ في المسألةِ: إذا لَجَّ فيها. وفي الحديثِ: «مَنْ سَأَلَ وله أربعون فقد أَلْحَفَ» ، واشتقاقُه من اللِّحاف، لأنه يشتملُ الناسَ بمسألتِه ويَعُمُّهم. كما يشتملُ اللِّحافُ من تحتِه ويُغَطِّيه، ومنه قولُ ابن أحمر يصفُ ذَكَرَ نعامٍ يَحْضُن بيضَه بجناحَيه ويجعلُ جناحَه لها كاللحاف: 1092 - يظلُّ يَحُفُّهُنَّ بقَفْقَفَيْهِ ... ويَلْحَفُهُنَّ هَفْهافاً ثَخِينا وقال آخرُ في المعنى: 1093 - ثم راحوا عَبَقُ المِسْكِ بهم ... يُلْحِفُون الأرضَ هُدَّابَ الأَزُرْ أي: يُلْبِسونها الأرضَ كإلباسِ اللحافِ للشيءِ. وقيل: بل اشتقاقُ

اللفظةِ من «لَحْفِ الجبل» وهو المكانُ الخَشِنُ، ومجازُه أنَّ السائلَ لكثرة سؤالِه كأنه استعمل الخشونةَ في مسألتِه، وقيل: بل هي «من لحَفَني فلانٌ» أي أعطاني فَضْلَ ما عنده، وهو قريبٌ من معنى الأول.

274

قوله تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ} : مبتدأٌ، وخبرُه الجملةُ من قوله «فلهم أجرُهمْ» ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تضمَّنه الموصولُ من معنى الشرط. وقال ابنُ عطية: «وإنما يوجَدُ الشَّبَهُ - يعني بين الموصولِ واسمِ الشرط - إذا كان الموصولُ موصولاً بفعل، وإذا لم يَدْخُلْ على الموصول عاملٌ يُغَيِّر معناه» . قال الشيخ: «فَحَصَر الشبه فيما إذا كان» الذي «موصولاً بفعل، وهذا كلامُ غير مُحَرَّر، أمَّا قولُه» الذي «فلا يختصُّ ذلك ب» الذي «، بل كلُّ موصولٍ غيرِ الألفِ واللامِ حكمُه حكمُ» الذي «بلا خلافٍ، وفي الألفِ واللامِ خلاف، ومذهبُ سيبويه المنعُ من دخولِ الفاءِ. الثاني: قولُه» موصولاً بفعلٍ «فأَطْلَقَ الفعلَ واقتصرَ عليه، وليس كذلك، بل شرطُ الفعلِ أن يَصْلُحَ لمباشَرةِ أداةِ الشرط فلو قلت:» الذي سيأتيني - أو لمَّا يأتيني - أو ما يأتيني أو ليس يأتيني - فله درهمٌ لم يَجُزْ شيء من ذلك، لأنَّ أداةَ الشرطِ لا يَصِحُّ أن تَدْخُلَ على شيءٍ من ذلك، وأمَّا الاقتصارُ على الفعلِ فليس كذلك بل الظرفُ والجارُّ والمجرورُ في الوصلِ كذلك، متى كان شيءٌ منهما صلةً لموصولٍ جازَ دخولُ الفاءِ. وقوله: «وإذا لم يدخُلْ على» الذي «عاملٌ يغيِّر معناه» عبارةٌ غيرُ ملخَّصة، لأن العاملَ لا يُغَيِّر معنى الموصولِ، إنما يغيِّرُ معنى الابتداءِ، بأَنْ يُصَيِّره تمنياً أو تَرَجِّياً أو ظناً نحو: لعل الذي يأتيني - أو ليت الذي يأتيني، أو ظننت الذي يأتيني - فله درهمٌ، لا يجوزُ دخولُ الفاءِ لتغيُّرِ معنى الابتداءِ.

وكان ينبغي له أيضاً أن يقولَ: «ويُشْترط أن يكونَ الخبرُ مستحقاً بالصلةِ كالآية الكريمة، لأنَّ ترتُّبَ الأجرِ إنما هو على الإِنفاق. قلت: وقولُ الشيخِ أيضاً:» بل كلُّ موصولٍ «ليسَ الحكمُ أيضاً مقتصراً على كلِّ موصول، بل كلُّ نكرةٍ موصوفة بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخولِ الفاءِ أو ما أُضيف إلى تلك النكرةِ أو إلى ذلك الموصولِ أو الموصوفِ بالموصولِ حكمُه كذلك. وهذه المسألةُ قد قَدَّمْتُها متقنةً.

275

والرِّبا لامُه واوٌ لقولِهم: رَبا يَرْبو، فلذلك يُثَنَّى بالواوُ ويكتَبُ بالألفِ. وجَوَّز الكوفيون تثنيته بالياءِ وكذلك كتابتُه، قالوا لكسر أولِه ولذلك أمالوه، وليس هذا مختصاً بمكسور الأولِ، بل الثلاثي من ذواتِ الواوِ المكسورُ الأولِ أو المضمومُه نحو: «رِبا» و «عُلا» حكمُه ما ذكرته عنهم، فأمَّا المفتوحُ الأولِ نحو: عصا وقَفَا فلم يُخالفوا البصريين، وكُتب في القرآنِ بخطِ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ. والمادةُ تَدُلُّ على الزيادةِ والارتفاعِ ومنه الرَّبْوَةُ. وقال حاتم الطائي يصف رُمْحاً: 1094 - وأسمرَ خطِيَّاً كأن كعوبَه ... نَوَى القَسْبِ قد أَرْبَى ذِراعاً على العُشْرِ ... وقيل: إنما كُتِبَ بالواوِ لأنَّ أهلَ الحجازِ تَعَلَّموا الخطَّ من أهلِ الحِيرة، وأهلُ الحِيرةِ يقولونَ: «الرِّبو» بالواوِ «فكتبوها كذلك ونقلَها أهلُ الحجاز كذلك خَطَّاً لا لفظاً. وقد قرأ العدويُّ:» الرِّبَو «كذلك بواوٍ خالصة بعد فتحةِ

الباء. فقيل: هذا القارىءُ أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ، وذلك أنَّ من العربِ مَنْ يقلِبُ ألفَ المقصورِ واواً فيقول: هذه أَفْعَو، وهذا من ذاك، إلا أنه أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. وقد حكى أبو زيد ما هو أغربُ من ذلك فقال:» قرأ بعضُهم بكسرِ الراءِ وضمِ الباء وواوٍ بعدها «، ونَسَبَ هذه للغلط؛ وذلك لأنَّ لسانَ العرب [لا] يبقي واواً بعد ضمةٍ في الأسماءِ المعربة، بل إذا وُجد ذلك لم يُقَرَّ على حاله، بل تُقْلَبُ الضمةُ كسرةً والواوُ ياءً نحو: دَلْوٍ وأَدْلٍ، وجَرْوٍ وأَجْرٍ وأنشد أبو عليّ: 1095 - ليثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عند خِيسَتِه ... بالرَّقْمتينِ له أَجْرٍ وأَعْراسُ ونهايةُ ما قيلَ فيها أنَّ قارئها قَلَبَ الألفَ واواً كقولِهم في الوقف: أَفْعَو، ثم أُجْرِي مُجْرى الوقفِ في ذلك، ولم يَضْبِطِ الراوي عنه ما سَمِع فظنَّه بضمِّ الباء لأجلِ الواوِ فنقلها كذلك، وليت الناسَ أَخْلَوا تصانيفهم من مثلِ هذه القراءات التي لو سَمِعها العامةُ لمَجُّوها ومن تعاليلها، ولكن صارَ التاركُ لها يَعُدُّه بعضُهم جاهلاً بالاطلاع عليها. ويقال: رِبا ورِما، بإبدالِ بائِه ميماً، كما قالوا: كََثَم في كَثَب. والألفُ واللام في» الرِّبا «يجوز أن تكونَ للعهدِ، إذ المرادُ الربا الشرعيُّ، ويجوز أن تكونَ لتعريفِ الجنس/.

قوله: {لاَ يَقُومُونَ} الظاهرُ أنها خبرُ الموصولِ المتقدِّم. وقال بعضهم: إنها حالٌ، وهو سهوٌ، وقد يُتَكلَّفُ تصحيحُه بأن يُضْمَرَ الخبرُ كقراءة من قرأ {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} وقوله: 1096 -. . . لا أنا باغياً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في أحد الوجهين: قوله: {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ} فيه الوجهان المشهوران وهما: النصبُ على النعتِ لمصدرٍ محذوفٍ أي: لا يقومون إلا قياماً مثلَ قيامِ الذي يتخبطه الشيطانُ، وهو المشهورُ عند المعربين، أو النصبُ على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدرِ المقدَّرِ أي: لا يقومونَهُ أي القيامَ إلا مُشْبِهاً قيامَ الذي يتخبطه الشيطانُ، وهو رأي سيبويه، وقد قَدَّمْتُ تحقيقهما. و «ما» الظاهرُ أنها مصدريةٌ أي: كقيامِ. وجَوَّزَ بعضُهم أن تكون بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: إلا كالقيامِ الذي يقومه الذي يتخبَّطُه الشيطانُ، وهو بعيد. و «يتخبَّطه» يَتَفَعَّلُه، وهو بمعنى المجردِ أي يخبِطُه؛ فهو مثل: تَعدَّى الشيءَ وعَدَاه. ومعنى ذلك مأخوذٌ من خَبَط البعيرُ بأخفافِه: إذا ضرب بها الأرضَ. ويقال: فلان يَخْبِط خَبْطَ عَشْواء، قال علقمة: 1079 - وفي كل حَيًّ قد خَبَطْتَ بنعمةٍ ... فَحُقَّ لشَأْسٍ من نَداكَ ذَنُوبُ

وقال زهير: 1098 - رأيتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ ... تُمِتْه ومَنْ تُخْطِىءْ يُعَمَّر فَيَهْرَمِ قوله: {مِنَ المس} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهةِ الجنونِ، فيكونُ في موضعِ نصبٍ قاله أبو البقاء. والثاني: أنه يتعلَّقُ بقوله: «يقومُ» أي: لا يقومون من المسِّ الذي بهم إلا كما يقوم المصروع. الثالث: أنه يتعلَّقُ بقولِه: «يقومُ» أي: كما يقومُ المصروع من جنونِه. ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشري. قال الشيخ: «وكان قَدَّم في شرحِ المَسِّ أنه الجنونُ، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّقِ» من المس «بقوله» لا يقومون «ضعيفٌ لوجهين، أحدُهما: أنه قد شَرَحَ المسَّ بالجنون، وكان قد شَرَحَ أنَّ قيامَهم لا يكون إلا في الآخرة وهناك ليس بهم جنونٌ ولا مَسٌّ، ويَبْعُدُ أن يَكْنى بالمسِّ الذي هو الجنونُ عن أكلِ الربا في الدنيا، فيكونُ المعنى: لا يقومون يومَ القيامة أو من قبورهم من أجلِ أكلِ الرِّبا إلا كما يقومُ الذي يتخبَّطُهُ الشيطان، إذ لو أُريد هذا المعنى لكان التصريحُ به أَوْلَى من الكنايةِ عنه بلفظِ المَسِّ، إذ التصريحُ به أَبْلَغُ في الزجرِ والردعِ. والوجه الثاني: أنَّ ما بَعد.» إلاَّ «لا يتعلَّقُ بما قبلها إلا إنْ كان في حَيِّز الاستثناء، وهذا ليسَ في حَيَّز الاستثناء، ولذلك منعوا أَنْ يتعلَّقَ» بالبيناتِ والزبرِ «بقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً} [النحل: 44] وأنَّ التقديرَ: وما أرسلنا بالبيناتِ والزبرِ إلا رجالاً» .

قلت: أمَّا تضعيفُه المعنى فليس بجيدٍ، بل الكنايةُ في لسانِهم أَبْلَغُ وهذا مِمَّا لا يُخْتَلَفُ فيه. وأمَّا الوجهُ الثاني فإنه يُغتْفرُ في الجارِّ والظرفِ ما لا يُغْتَفَرُ في غيرِه، وشواهدُهُ كثيرةٌ. والمَسُّ عُبِّر به عن الجنونِ في لسانهم، قالوا: مُسَّ فهو مَمْسُوس، مثل: جُنَّ فهو مَجْنون، وأنشد أبو بكر: 1099 - أُعَلِّلُ نفسي بما لا يكونُ ... كذي المَسِّ جُنَّ ولم يُخْنَقِ وأصلُه أنَّهم يقولون: إنَّ الشيطانَ يَمَسُّ الإِنسانَ بيدِه ويُرْكِضُه برجلِه، ويُعَبَّرُ بالجنونِ عن النشاطِ والسرعةِ وخفةِ الحركةِ، لذلك قال الأعشى يصف ناقته: 1100 - وتُصبحُ عن غِبِّ السُّرى وكأنما ... أَلَمَّ بها مِن طائفِ الجنِّ أَوْلَقُ وقال آخر: 1101 - بَخِيلٍ عليها جِنَّةٌ عبقريةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} مبتدأٌ وخبرٌ، أي: ذلك التخبُّطُ، أو ذلك القيامُ بسبب افترائِهم هذا القولَ. وقيل: «ذلك» خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه: قيامُهم ذلك. قال الشيخ: «إلا أنَّ في هذا الوجهِ فصلاً بين المصدرِ ومتعلَّقِه الذي

هو» بأنهم «، على أنه لا يَبْعُدُ جوازُ ذلك لحذفِ المصدرِ، فلم يَظْهَرْ قُبْحٌ بالفصلِ بالخبرِ» . وقد جَعَلوا الربا أصلاً والبيعَ فرعاً حتى شَبَّهوه به، قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هلاَّ قيل: إنما الربا مثلُ البيع، لأنَّ الكلامَ في الربا لا في البيعِ. قلت: جِيء به على طريقةِ المبالغةِ، وهو أنهم قد بَلَغ من اعتقادهم في حِلّ الربا أنهم جَعَلوه أصلاً وقانوناً في الحِلِّ، حتى شَبَّهوا به البيع» . قلت: وهو بابٌ في البلاغةِ مشهورٌ، وهو أعلى رتب التشبيه، ومنه قوله: 1102 - ورَمْلٍ كأوراكِ العَذارى قَطَعْتُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} الظاهرُ أنه من كلامِ اللهِ تعالى، أَخْبر بأنه أَحَلَّ هذا وحَرَّم ذاك، وعلى هذا فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب. وقال بعضُهم: «هذه الجملةُ من تَتِمَّةِ قولِ الذين يأكلون الربا، فتكونُ في محلِّ نصبٍ بالقول عطفاً على المقول» وهو بعيدٌ جداً، نَقَلْتُه عن قاضي [القضاء عز الدين في درسه] . قوله: {فَمَن جَآءَهُ} يُحتمل أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً وعلى كِلا التقديرَيْنِ فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء. وقوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} هو الخبرُ، فإنْ كانَتْ شرطيةًَ فالفاءُ واجبةٌ، وإن

كانَتْ موصولةً فهي جائزةٌ، وسببُ زيادتِها ما تقدَّم مِنْ شَبَهِ الموصولِ لاسمِ الشرطِ. ويجوزُ حالَ كونها شرطيةً وجهٌ آخرُ وهو أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعدَه، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ، ويُقَدَّر الفعلُ بعدَها لأنَّ لها صدرَ الكلامِ، والتقديرُ: فأيُّ شخصٍ جاءَتِ الموعظةُ جاءته، ولا يجوزُ ذلك فيها موصولةً لأنَّ الصلةَ لا تُفَسِّر عاملاً، إذ لا يَصِحُّ تسلُّطها على ما قبلها، وشرطُ التفسيرِ صحةُ التسلُّطِ. وسَقَطَتِ التاءُ من الفعلِ لشيئين: الفصلُ بين الفعلِ وفاعلِه بالمفعولِ، وكونُ التأنيثِ مجازياً، وقرأ الحسن، «جاءَتْه» على الأصل. قوله: {مِّنْ رَّبِّهِ} يجوزُ أن تكونَ متعلقةً بجاءَتْه، وتكونُ لابتداءِ الغاية مجازاً، وأن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظة، أي: موعظةٌ من موعظاتِ ربه، أي بعضُ مواعِظه. وقوله: {فانتهى} نَسَقٌ على «جاءَتْه» عَطَفَه بفاءِ التعقيبِ أي: لم يتراخَ انتهاؤُه عن مجيء الموعظهِ. / وقوله: {وَمَنْ عَادَ} الكلامُ على «مَنْ» هذه في احتمالِ الشرطِ والموصولِ كالكلامِ على التي قبلها. والضميرُ في قولِه «فَأَمْرُه» يعودُ على «ما سَلَف» ، أي: وأمرُ ما سلَفَ إلى الله، أي: في العفوِ عنه وإسقاطِ التِّبِعَةِ منه. وقيل: يعودُ على المنتهي المدلولِ عليه بانتهى أي: فأمرُ المنتهي عن الربا إلى الله في العفوِ والعقوبةِ. وقيل: يعودُ على ذي الربا في أَنْ ينتبهَ على الانتهاءِ أو يعيدَه إلى المعصيةِ. وقيل: يعودُ على الرِبا أي: في عفو الله عمَّا شاء منه أو في استمرارِ تحريمِه.

276

قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي} : الجمهورُ على التخفيفِ في الفعلين من مَحَقَ وأَرْبى. وقرأ ابن الزبير: ورُويت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُمْحِّق ويُرَبِّي» بالتشديدِ فيهما من «مَحَّق ورَبَّى» بالتشديدِ فيهما. وقوله: {سَلَفَ} سَلَفَ بمعنى مَضَى وانقضى، ومنه: سالفُ الدهرِ، وله سَلَفٌ صالح: آباءٌ متقدِّمون. ومنه {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} أي: أمةً متقدمةً يَعتبر بهم مَنْ بعدهم. ويُجمع السَّلَفُ على: أَسْلاف وسُلوف. والسالِفَةُ والسُّلاف: المتقدِّمون في حربٍ أو سفرٍ. والسالفةُ من الوجه لتقدُّمها. قال: 1103 - ومَيَّةُ أحسنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً ... وسالفةً وأَحْسَنْه قَذالا وسُلافة الخمر قيل لها ذلك لتقدُّمها على العَصْرِ. والسُّلْفَةُ ما يُقَدَّم من الطعامِ للضيفِ. يُقال: «سَلِّفوا ضيفكم ولَهِّنوه» أي: بادِروه بشيء ما. ومنه: السَّلَفُ في الدَّيْن لأنه تقدَّمه مالٌ. وقوله: {عَادَ} أي: رَجَعَ، يُقال: عادَ يعود عَوْداً ومَعاداً، وعن بعضهم أنها تكونَ بمعنى صار، وعليه:

1104 - وبالمَحْضِ حتى عاد جَعْداً عَنَطْنَطَا ... إذا قام ساوى غاربَ الفَحْلِ غاربُه وأنشدوا 1105 - تُعِدُّ لكم جَزْرُ الجَزُورِ رماحُنا ... ويَرْجِعْنَ بالأسيافِ مُنْكَسِرَاتِ والمَحْقُ: النقصُ، يُقال: مَحَقْتُهُ فانمَحَقَ، وامتَحَقَ، ومنه المُحاق في القمر، قال: 1106 - يَزْداد حتى إذا ما تَمَّ أَعقَبهُ ... كَرُّ الجديدَيْنِ نَقْصاً ثم يَنْمَحِقُ وأنشد ابن السكيت: 1107 - وَأَمْصَلْتُ مالي كلَّه بحياتِهِ ... وماسُسْتَ من شيءٍ فَرَبُّكَ ماحِقُهْ ويقال: هَجِيرٌ ماحِقٌ: إذا نَقَصَ كلُّ شىءٍ بِحَرِّه. وقد اشتملَتْ هذه الآيةُ على نوعين من البديع، أحدُهما: الطباقُ في قولِه: «يَمْحَقُ ويُرْبي» فإنهما ضِدَّان، نحو: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] ، والثاني: تجنيسُ التغايرِ في قولِهِ: «الرِّبا ويُرْبى» إذ أحدُهما اسمٌ والآخرُ فِعْلٌ.

278

قوله تعالى: {وَذَرُواْ} : فُتِحَتِ العينُ من «ذَرْ» حَمْلاً على «دَعْ» إذ هو بمعناه، وفُتِحَتْ في «دَعْ» لأنه أمْرٌ من «يَدَعُ» وفُتِحَتْ من «يَدَعُ» وإنْ كان قياسُها الكسرَ لكونِ الفاءِ واواً كيَعِدُ لكونِ لامِهِ حرفَ حلقٍ.

ووزنُ «ذروا» : عَلوا لأنَّ المحذوفَ الفاءُ لا يُستعمل منه ماضٍ إلاَّ في لُغَيَّة، وكذلك «دَعْ» . وقرأ الحسن: «ما بَقَا» بقلبِ الكسرةِ فتحةً والياءِ الفاً، وهي لغةٌ لطيء ولغيرِهِم، ومنه قولُ علقمة التميمي: 1108 - زَهَا الشوقُ حتى ظَلَّ إنسانُ عينِهِ ... يَفِيضُ بمغمورٍ من الدَّمْعِ مُتْأَقِ وقال الآخر: 1109 - وما الدُّنيا بباقاةٍ علينا ... وما حَيٌّ على الدنيا بباقِ ويَقُولون في الناصيةِ: ناصاةٌ. وقرأ الحسنُ أيضاً: «بَقِيْ» بتسكين الياء، قال المبرد: «تسكينُ ياءِ المنقوصِ في النصب مِنْ أحسنِ الضرورةِ، هذا مع أنه مُعربٌ فهو في الفعلِ الماضي أحسنُ» قلت: وإذا كانوا قد حَذَفوها من الماضي صحيحَ الآخرَ فَأَوْلى من حرفِ العلةِ، قال: 1110 - إنما شِعْرِيَ قَيْدٌ ... قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ وقال جرير في تسكينِ الياء: 1111 - هو الخليفةُ فارضُوا ما رَضِيْ لكمُ ... ماضي العزيمةِ ما في حُكْمِهِ جَنَفُ

وقال آخر: 1112 - لَعَمْرُكَ لا أخشى التَّصَعْلكَ ما بقِي ... على الأرضِ قَيْسِيٌّ يسوق الأباعرا قوله: {مِنَ الربا} متعلِّقٌ ببقيَ كقولهم: «بَقِيَتْ منه بقيةٌ» ، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ «بقَى» ، أي: الذي بقي حالَ كونِهِ بعضَ الربا، فهي تبعيضيةٌ. ونَقَل ابنُ عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ «من الرِّبُو» بتشديدِ الراء مكسورةً، وضمِّ الباءِ بعدَها واوٌ. قلت: قد قَدَّمْتُ أن أبا السَّمَّال إنما قرأ «الربا» في أولِ الآيةِ بواوٍ بعد فتحةِ الباءِ، وأنَّ أبا زيدٍ حَكَى عن بعضِهم أنه ضَمَّ الباءَ، وقدَّمْتُ تخريجَهما على ضعفه. وقال ابن جني: «شَذَّ هذا الحرفُ في أَمْرين، أحدُهما: الخروجُ من الكسرِ إلى الضم بناءً لازماً، والآخر: وقوعُ الواوِ بعدَ الضمةِ في آخرِ الاسمِ، وهذا شيءٌ لم يأتِ إلا في الفعلِ نحو: / يَغْزُو وَيَدْعُو، وأَمَّا» ذو «الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً، ومنهم مَنْ يُغَيِّرُ واوَها إذا فارَقَ الرفعَ، فيقولُ:» رأيتُ ذا قام «، ووجهُ القراءةِ أنه لمَّا فَخَّم الألفَ انتحى بها الواوَ التي الألفُ بدلٌ منها، على حَدِّ قولهم: الصلاةُ والزكاةُ، وهي بالجملةِ قراءةٌ شاذةٌ» . قلت: غيرُهُ يقيِّدُ العبارَةَ فيقولُ: «ليسَ في الأسماء المُعْرَبَةِ واوٌ قَبْلَهَا ضمةٌ» حتى يُخرجُ عنه «ذو» بمعنى الذي و «هو» من الضمائر، وابنُ جني لم يَذْكِر القيدَ استثنى «ذو الطائية» ويَرِدُ عليه نحو «هو» ، ويَرِدُ على العبارةِ «ذو» بمعنى صاحب فإنَّها معربةٌ آخرِها واوٌ بعدَ ضمةٍ. وقد أُجيبَ عنه بأنها تتغيَّر إلى

الألفِ والياءِ فلم يُبالَ بها، وأيضاً فإنَّ ضمةَ الدالِ عارضةٌ، إذ أصلُها الفتحُ، وإنما ضُمَّت إتباعاً على ما قَرَّرتُهُ في إعرابِ الأسماءِ الستةِ في كتبِ النحوِ: وقوله: «بناءً لازماً» تحرُّزٌ من وجودِ الخروجِ من كسرٍ إلى ضم بطريقِ العَرَض نحو: الحِبُك فإنه من التداخُل، ونحوُ: «الرِّدُءْ» موقوفاً عليه، فالخروجُ من كسرٍ إلى ضَمٍّ في هاتين الكلمتينِ ليس بلازمٍ. وقوله: «مِنْهُم مَنْ يغيِّرُ واوَها» المشهورُ بناؤُهاعلى الواوِ مطلقاً، وقد تُعْرَب كالتي بمعنى صاحب وأنشدوا: 1113 - فإمَّا كِرامٌ مُوسِرُون لَقِيتُهمُ ... فَحَسْبي من ذي عندَهم ما كَفانيا ويُروى: «مِنْ ذو» على الأصلِ. قوله: {إِن كُنْتُمْ} شرطٌ وجوابُه محذوفٌ عند الجمهورِ أي: فاتَّقُوا وذَروا، ومتقدِّمٌ عند جماعةٍ. وقيل: «إنْ» هنا بمعنى إذ، وهذا مردودٌ مرغوبٌ عنه. وقيل: يُراد بهذا الشرطِ هنا الاستدامةُ.

279

قوله تعالى: {فَأْذَنُواْ} : قرأ حمزة وأبو بكر عن عاصمٍ: «فآذِنوا» بألف بعد الهمزةِ، والباقون بدونِ ألف، ساكنَ الهمزةِ.

فالأُولى من آذَنَه بكذا أي: أَعْلمه كقولِهِ: {فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ} [الأنبياء: 109] والمعنى: أَعْلِمُوا غيرَكم. أُمِرَ المخاطبون بتركِ الربا أَنْ يُعْلِمُوا غيرَهم مِمَّنْ هو على حالهم في المَقامِ بالرِّبا بمحاربةِ اللِّهِ ورسولِهِ، فالمفعولُ هنا محذوفٌ، وقد صَرَّحَ به الشاعرُ في قولِهِ: 1114 - آذَنَتْنَا بِبَيْنِها أسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ وفي قولِهِ تعالى: {آذَنتُكُمْ} . وقيل: الهمزةُ في «فَأْذَنُوا» للصيرورةِ لا للتعديةِ، والمعنى: صِيروا عالِمين بالحربِ، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ كبير. وقراءةُ الباقين أَمْرٌ من: أَذِنَ يَأْذَنُ أي عَلِمَ يَعْلَمُ أي: فاعلَموا يُقال: أَذِن به فهو أَذِين، أي: عَلِمَ به فهو عليم. ورجَّح جماعةٌ قراءةَ حمزةَ. قال مكيّ: «لولا أَنَّ الجماعَةَ على القصرِ لكان الاختيارُ المدَّ. ووجَّه ذلك أن آذَنَ بالمدِّ أَعَمُّ من أَذِنَ بالقصر، لأنهم إذا أَعلمُوا غيرَهم فقد عَلِموا هم ضرورةً، من غيرِ عكسٍ، أو يَعْلَمُون هم بأنفسِهم ولا يَعْلَمُ غيرُهُم» . قال: «وبالقصرِ قرأ علي بن أبي طالب وجماعةٌ» . وعَكَسَ أبو حاتمٍ فرجَّح قراءةَ القصرِ، واستبعدَ قراءةَ المَدِّ قال: «إذ الأمرُ فيه بالحربِ لغيرِهم والمرادُ هم؛ لأنهم المخاطَبون بتركِ الربا» وهذا الذي قالَه غيرُ لازمٍ؛ لأنك إذا كنتَ على حالةٍ فقلتُ لك يا فلان: «أعلِمْ فلاناً أنه

مرتكبُ قبيحاً» وهو شيءٌ مماثِلٌ لِما أنت عليه عِلِمْتَ قطعاً أنك مأمورٌ به أيضاً، بل هو أَبْلَغُ من أمري لك مواجهةً. وكذلك قال ثعلب، قال: «الاختيارُ قراءةُ العامة من الإِذن لأنه يُفَسِّر كونوا على إذْنٍ وعِلْمٍ، ولأنَّ الكلامَ يَجْرى به على وجهٍ واحدٍ وهو أَدَلُّ على المرادِ، وأقربُ في الأفهام» . وقال أبو عبيدة: «يقال: أَذِنْتُه بالشيء فَأَذِنَ به» ، أي: عَلِمَ، مثل: أَنْذَرْتُهُ بالشيء فَنَذِرَ به، فجعله مطاوعاً لأفْعَلَ. وقال أبو عليّ: «وإذا أُمرِوا بإعلامِ غيرِهم عَلِموا هم لا محالَةَ، ففي إعلامِهِم علمُهم، ليس في علمِهم إعلامُهم غيرَهم، فقراءةُ المدِّ أرجحُ لأنها أبلغُ وأكدُ. وقال الطبري:» قراءةُ القصرِ أَرْجَحُ لأنها تختصُّ بهم، وإنما أُمِرُوا على قراءةِ المدِّ بإعلام غيرِهم «. وقال الزمخشري:» وقُرِىء فآذِنُوا: فَأَعْلِموا بها غيرَكم، وهو من الإِذْن وهو الإِسماع، لأنه من طرق العلمِ. وقرأ الحسنُ: «فَأَيْقِنُوا» وهو دليلٌ لقراءةِ العامةِ «يعني بالقصرِ، لأنها نصٌّ في العلمِ لا في الإِعلام. وقال ابنُ عطية:» والقراءتان عندي سواءٌ، لأنَّ المخاطَبَ محصورٌ، لأنه كلُّ مَنْ لا يَذَرُ ما بقي من الربا. فإنْ قيل: «فَأْذَنوا» فقد عَمَّهم الأمرُ، وإنْ قيلَ «فآذِنُوا» بالمدِّ فالمعنى: أعلِمُوا أنفسَكم أو بعضكم بعضاً، وكأنَّ هذه

القراءةَ تقتضي فَسْحاً لهم في الارتياءِ والتثبُّتِ أي: فَأْعِلموا نفوسَكم هذا، ثم انظُروا في الأرجحِ لكم: تَركِ الربا أو الحربِ «. قوله: {بِحَرْبٍ} الباءُ في قراءةِ القصر قال الشيخ:» للإِلصاقِ، تقول أَذِنَ بكذا أي: عَلِمَ كذا، ولذلك قال ابنُ عباس وغيرُه: المعنى: فاستيقنوا بحربٍ من الله «قلت: قد قَرَّرْتُ أنَّ فعلَ العلمِ وإنْ كانَ في الأصلِ/ متعدياً بنفسِهِ فإنَّما يُعَدَّى بالباءِ لِما تَضَمَّنَ من معنى الإِحاطة فكذلك هذا، ويَظْهَرُ من كلامِ ابن عطية أنَّ هذه الباءَ ظرفيةٌ فإنه قال:» هي عندي من الإِذن، وإذا أَذِنَ المرءُ في شيءٍ فقد قَرَّره وبنى مع نفسِه عليه، فكأنه قيل لهم: قَرِّروا الحربَ بينكم وبين اللَّهِ ورسولهِ «فقوله:» وإذا أَذِنَ المرءُ في شيء «يقتضي تقديرَه:» فَأْذنوا في حربٍ، ولا يتأتَّى هذا إلا على قراءةِ القصرِ، وأمَّا الباءُ مع قراءةِ المَدِّ فهي مُعَدِّيةٌ للإِعلام بالطريقِ الذي قَدَّرْتُه. قوله: {مِّنَ الله} متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنَّه صفةٌ للنكرةِ قبلَه. و «مِنْ» فيها وجهان، أظهرهما: أنها لابتداءِ الغايةِ مجازاً، وفيه تهويلٌ وتعظيمٌ للحربِ حيث هو واردٌ من جهةِ اللَّهِ تعالى. والثاني: أنها تبعيضيةٌ أي: من حروبِ الله فهو على حَذْفِ مضاف. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هلاَّ قيل بحربِ اللَّهِ ورسولهِ قلت: هذا أَبْلَغُ؛ لأنَّ المعنى فَأْذَنوا بنوعٍ من الحربِ عظيمٍ من عندِ الله ورسولِهِ. انتهى. وإنما كان أبلغَ لأنَّه لو أُضِيفَ لاحتملَ إضافةَ المصدرِ إلى فاعلِهِ وهو المقصودُ، ولاحتملَ الإِضافةَ إلى مفعوله بمعنى أنكم تُحاربون اللَّهَ ورسولَه، والمعنى الأولُ أبلغُ، فلذلك تَرَكَ ما هو محتملٌ إلى ما هو نَصٌّ في المرادِ.

قولُهُ: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} فيها وجهان، أظهرهُما: أنها لا محلَّ لها لاستئنافِها، أخبرُهم تعالى بذلك أي: لا تَظْلِمُون غيرَكم بأَخْذِكُمْ الزيادةَ منه، ولا تُظْلمون أنتم أيضاً بضياع رؤوسِ أموالِكم. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في» لكم «والعاملُ ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرارِ لوقوعِهِ خبراً في رأي الأخفش. وقرأ الجمهورُ الأولَ مبنياً للفاعلِ والثاني مبنياً للمفعولِ. ورَوَى أبان والمفضَّلُ عن عاصم بالعكسِ. ورجَّح الفارسي قراءةَ العامةِ بأنها تناسِبُ قولَه: {وَإِنْ تُبْتُمْ} في إسنادِ الفعلين إلى الفاعلِ، فَتَظْلِمُون مبنياً للفاعل أَشْكَلُ بما قبله. وقال أبو البقاء:» يُقْرَأُ بتسمية الفاعل في الأول وتَرْكِ التسميةِ في الثاني. ووجهُه أنَّ مَنْعَهم من الظلمِ أهمُّ فبُدِىءَ به، ويُقرأ بالعكسِ، والوجهُ فيه أنه قَدَّمَ ما تطمئِنُّ به نفوسُهم من نفيِ الظلمِ عنهم، ثم مَنَعَهم من الظلمِ، ويجوزُ أن تكونَ القراءتان بمعنى واحدٍ لأنَّ الواوَ لا تُرَتِّبُ.

280

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} : في «كان» هذه وجهان، أحدُهما: - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حَدَثَ ووُجِدَ أي: وإن حَدَثَ ذو عسرةٍ فتكتفي بفاعلِها كسائرِ الأفعال، قيل: وأكثرُ ما تكونُ كذلك إذا كانَ مرفوعُها نكرةً نحو: «قد كان مِنْ مَطَرٍ» . والثاني: أنها الناقصةُ والخبرُ محذوفٌ. قال أبو البقاء: «تقديره: وإنْ كان ذو عسرة لكم عليه حَقٌّ أو نحوُ ذلك» وهذا مذهبُ بعضِ الكوفيين في الآية، وقَدَّر الخبر: وإنْ كان من غُرمائِكُمْ ذو عُسْرَةٍ. وقَدَّرَهُ بعضُهم: وإنْ كان ذو عسرةٍ غريماً.

قال الشيخ: «وَحَذْفُ خبرٍ كان» لا يُجيزه أصحابُنا لا اختصاراً ولا اقتصاراً، لعلةٍ ذكروها في النحو. فإنْ قيل: أليسَ أن البصريين لَمَّا استدَلَّ عليهم الكوفيون في أَنْ «ليس» تكونُ عاطفةً بقولِهِ: 1115 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إنما يَجْزِي الفتى ليسَ الجَمَلْ تأوَّلوها على حَذْفِ الخبر. وأنشدوا شاهداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه: 1116 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يبغى جِوارَك حين ليسَ مُجِيرُ وإذا ثبَتَ هذا ثَبَتَ في سائِرِ البابِ. فالجوابُ أن هذا مختصٌّ بليس، لأنها تُشْبِهُ لا النافيةَ، و «لا» يجوز حذفُ خبرها فكذا ما أَشْبهها، والعلةُ التي أشار إليها الشيخُ هي أنَّ الخبرَ تأَكَّد طلبُهُ من وجهين: أحدُهما: كونُ خبراً عن مُخْبَرٍ عنه، والثاني: كونُه معمولاً للفعلِ قبله، فلمَّا تَأَكَّدَتْ مطلوبيتُهُ امتنَعَ حَذْفُهُ. وتَقَوَّى الكفيون بقراءةِ عبدِ الله وأُبَيّ وعثمان: «وإن كان ذا عُسْرةٍ» أي: وإنْ كان الغريمُ ذا عسرةٍ. قال أبو عليّ: «في» كان «اسمُها ضميراً

تقديرُه: هو، أي الغريمُ، يَدُلُّ على إضمارِهِ ما تقدَّم من الكلامِ، لأنَّ المُرابي لا بُدَّ له مِمَّنْ يُرابيه» . وقرأ الأعمشُ: «وإنْ كان مُعْسِراً» قال الداني عن أحمد بن موسى: «إنها في مصحف عبد الله كذلك. ولكنَّ الجمهورَ على ترجيحِ قراءةِ العامةِ وتخريجِهم القراءةَ المشهورة. قال مكي:» وإنْ وقع ذو عسرةٍ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس، ولو نَصَبْتَ «ذا» على خبرِ «كان» لصار مخصوصاً في ناسٍ بأعيانِهم، فلهذه العلةِ أَجْمَعَ القُرَّاءُ المشهورون على رفع «ذو» . وقد أَوْضَحَ الواحدي هذا فقال: «أي: وإن وقع ذو عسرةٍ، والمعنى على هذا يَصِحُّ، وذلك أنه لو نُصِبَ فقيل: وإنْ كان ذا عسرةٍ لكان المعنى: وإنْ كان المشتري ذا عسرةٍ فنظرةٌ، فتكون النظرة مقصورةً عليه، وليس الأمرُ كذلك، لأن المشتريَ وغيرَه إذا كان ذا عسرةٍ فله النظرةُ إلى الميسرةِ» . وقال الشيخ: «مَنْ نصب» ذا عسرة «أو قرأ» مُعْسِراً «فقيل» : يختصُّ بأهلِ الربا، ومَنْ رفع فهو عامٌّ في جميعِ مَنْ عليه دَيْنٌ، قال: «وليس بلازمٍ، لأنَّ الآية إنما سيقت في أهلِ الربا وفيهم نَزَلَتْ» قلت: وهذا الجوابُ لا يُجْدِي، لأنه وإن كان السياقُ كذا فالحكمُ ليس خاصاً بهم. والعُسْرَةُ بمعنى العُسْر. قوله: {فَنَظِرَةٌ} الفاءُ جوابُ الشرط و «نَظِرةٌ» خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فالأمرُ أو فالواجِبُ، أو مبتدأٌ خبرُهُ محذوفٌ، أي: فعليكم نظرةٌ، أو فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ، أي: فتجِبُ نظرةٌ.

وقرأ العامة: «نَظِرة» بزنة «نَبِقَة» . وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء: «فَنَظْرة» بتسكين العين، وهي لغةٌ تميمية يقولون: «كَبْد» في «كَبِد» و «كَتْف» في «كَتِف» . وقرأ عطاء «فناظِرَة» على فاعِلَة، وقد خَرَّجَهَا أبو إسحاق على أنها مصدرٌ نحو: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةً} [الواقعة: 2] {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين} [غافر: 19] {أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] . وقال الزمخشري «فناظِرُهُ أي فصاحبُ الحقِ ناظرُه أي: منتظره، أو صاحبُ نظرته على طريقةِ النسب، كقولِهِم:» مكان عاشِب وباقل «بمعنى ذو عشبٍ وذو بَقْلٍ، وعنه:» فناظِرْهُ «على الأمرِ بمعنى: فسامِحْهُ بالنظرةِ وباشِره بها» فنقلُه عنه القراءةَ الأولى يقتضي أن تكونَ قراءتُهُ «ناظِر» اسمَ فاعل مضافاً لضميرِ ذي العُسْرَةِ بخلافِ القراءةِ التي قَدَّمْتُها عن عطاء، فإنها «ناظرةٌ» بتاء التأنيث، ولذلك خَرَّجها الزجاج على المصدرِ. وقرأ عبد الله، «فناظِرُوه» أمراً للجماعةِ بالنظرةِ، فهذه ستُ قراءاتٍ مشهورُها واحدٌ. وهذه الجملةُ لفظُها خبرٌ ومعناها الأمرُ، كقولِهِ: {والوالدات يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] وقد تقدَّم. والنظرةُ من الانتظارِ وهو الصبرُ والإِمهالُ. قوله: {إلى مَيْسَرَةٍ} قرأ نافع وحده: «مَيْسُرَة» بضم السين، والباقون

بفتحِها. والفتحُ هو المشهورُ إذ مَفْعَل ومَفْعَلَه بالفتحِ كثيرٌ، ومَفْعُلٌ بالضم معدومٌ إلا عند الكسائي، وسأُورد منه ألفاظاً، وأَما مَفْعُلة فقالوا: قليلٌ جداً وهي لغةُ الحجاز، وقد جاءَتْ منها ألفاظٌ نحو: المَسْرُقَة والمَقْبُرَةِ والمَشْرُبة، والمَسْرُبة والمَقْدُرَة والمَأْدُبَة والمَفْخُرَة والمَزْرُعة ومَعْوُلَة ومَكْرُمَة ومَأْلُكة. وقد رَدَّ النحاسُّ الضمَّ تجرُّؤاً منه، وقال: «لم تَأْتِ مَفْعُلة إلا في حروفٍ معدودةٍ ليس هذه منها، وأيضاً فإنَّ الهاءَ زائدةٌ ولم يأتِ في كلامِهِ مَفْعُل البتةَ» انتهى. وقال سيبويه: «ليس في الكلامِ مَفْعُل» قال أَبو علي: «يعني في الآحادِ» . وقد حَكَى عن سيبويه «مَهْلَك» مثلثَ اللام. وقال الكسائي: «مَفْعُل» في الآحادِ، وأوردَ منه: مَكْرُماً في قولِ الشاعر: 1117 - ليومِ رَوْعٍ أو فَعالِ مَكْرُمِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومَعْوُن في قولِ الآخر - وهو جميل -: 1118 - بُثَيْنُ الزمي «لا» إنَّ لا إنْ لَزِمْتِهِ ... على كثرةِ الواشين أيُّ مَعْونِ

ومَأْلُكاً في قول عديّ: 1119 - أَبْلِغِ النعمانَ عني مَأْلُكاً ... أنه قد طالَ حَبْسي وانتظاري وهذا لا يَرِدُ على سيبويهِ لوجهين، أحدُهما: أنَّ هذا جمعٌ لمَكْرُمَة ومَعُونَةَ وَمَأْلُكَة، وإليه ذهب البصريون والكوفيون خلا الكسائي، ونُقِلَ عن الفراء أيضاً. والثاني: أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل فيقول: «لم يَرِدْ كذا» وإن كان قد ورَدَ منه الحرفُ والحرفان، لعدمِ اعتدادِهِ بالنادر القليلِ. وإذا تقرَّر هذا فقد خَطَّأ النحويون مجاهداً وعطاءً في قراءتهما: «إلى مَيْسُرِهِ» بإضافة «مَيْسُر» مضمومَ السينِ إلى ضميرِ الغريم، لأنهم بَنَوْهُ على أنه ليسَ في الآحادَ مَفْعُل، ولا ينبغي أن يكونَ هذا خطأ، لأنه على تقديرِ تسليمِ أنَّ مَفْعُلاً ليس في الآحادِ، فَمَيْسُر هنا ليس واحداً، إنما هو جَمْعُ مَيْسُرَة كما قلتم أنتم: إن مَكْرُماً جمع مَكْرُمَة ونحوه، أو يكونُ قد حَذَفَ تاءَ التأنيثِ للإِضافةِ كقوله: 1120 - إنَّ الخليطَ أَجَدُّوا البَّيْنَ فانجردوا ... وأَخْلَفوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدوا أي: عِدة الأمر، ويَدُلُّ على ذلك أنهم نَقَلوا عنهما أنهما قرآ أيضاً: «إلى مَيْسَرِهِ» بفتح السينِ مضافاً لضميرِ الغريمِ، وهذه القراءةُ نَصٌّ فيما ذكرْتُهُ لك من حذفِ تاءِ التأنيثِ للإِضافةِ لتوافق قراءةَ العامةِ: «إلى مَيْسَرَة» بتاءِ التأنيث.

وقد خَرَّجها أبو البقاء على وجهٍ آخرَ، وهو أَنْ يكونَ الأصلُ: «ميسورِه» فَخُفِّفَ بحذفِ الواوِ اكتفاءً بدلالةِ الضمةِ عليها، وقد يتأيَّدُ ما ذَكَرَهُ على ضَعْفَهِ بقراءةِ عبد الله، فإنه قرأ: إلى مَيْسُوره «بإضافةِ» ميْسور «للضمير، وهو مصدرٌ على مفَعْول كالمَجْلود والمَعْقُول، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش، إذ أَثْبَتَ من المصادرِ زنة مَفْعُول، ولم يُثْبِتْه سيبويه. قوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ} قرأ عاصم بتخفيفِ الصاد، والباقون بتثقيلها. وأصلُ القراءتين واحدٌ، إذ الأصلُ: تَتَصَدَّقُوا، فَحَذَفَ عاصم إحدى التاءين: إمَّا الأولى وإما الثانيةِ، وتَقَدَّمَ تحقيقُ الخلافِ فيه، وغيرُهُ أدغم التاء في الصادِ، وبهذا الأصلِ قرأ عبد الله:» تَتَصَدَّقوا «. وحُذِفَ مفعولُ التصدُّقِ للعلمِ به، أي: بالإِنظار. وقيل: برأس المال على الغريم. و {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابُهُ محذوفٌ. و» أَنْ تَصَدَّقُوا «بتأويل مصدرٍ مبتدأٌ، و» خيرٌ لكم «خبرُهُ.

281

قوله تعالى: {تُرْجَعُونَ فِيهِ} : هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً للظرفِ. وقرأ أبو عمرو: «تَرْجِعُون» بفتح التاء مبنياً للفاعل، والباقون مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن: «يَرْجِعُون» بياء الغيبة على الالتفاتِ. قال ابن جني: «كأنَّ اللَّهَ تعالى رَفَقَ بالمؤمنين عن أَنْ يواجِهَهُم بذكرِ الرَّجْعَةِ إذ هي مِمَّا تتفطَّر لها القلوب فقال لهم:» واتقوا «ثم رَجَعَ في ذكرِ الرجعة إلى الغَيْبَةِ فقال:» يَرْجِعُون «.

قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ من» كلِّ نفس «وجُمِعَ اعتباراً بالمعنى، وأعادَ الضميرَ عليها أولاً مفرداً في» كَسَبَتْ «اعتباراً باللفظِ، وقُدِّمَ اعتبارُ اللفظ، لأنه الأصلُ، ولأنَّ اعتبارَ المعنى وَقَعَ رأسَ فاصلة فكان تأخيرُهُ أحْسَنَ. قال أبو البقاء:» ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضمير في: «يُرْجَعُون» على القراءةِ بالياء، ويجوزُ أن يكونَ حالاً منه أيضاً على القراءة بالتاء، على أنه خروجٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] ، ولا ضرورةَ تَدْعُوا إلى ما ذكر.

282

قوله تعالى: {إلى أَجَلٍ} : متعلِّقٌ بتدايَنْتُمْ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لدَيْن. و «مُسَمَّى» صفةٌ لدَيْن، فيكونُ قد قَدَّم الصفةَ المؤولةَ على الصريحةِ وهو ضعيفٌ، فكان الوجهُ الأولُ أوجَهَ. و «تَدَايَنَ» تفاعَلَ من الدَّيْن كتبايَعَ من البَيْع، يقال: داينْتُ الرجل أي: عاملْتُه بدَيْنٍ، وسواءً كنت معطياً أم آخذاً، قال رؤبة: 1121 - دايَنْتُ أَرْوى والديونُ تُقْضى ... فَمَطَّلَتْ بعضاً وأَدَّتْ بَعْضَا ويقال: دِنْتُ الرجلَ: إذا بِعْتُهُ بدَيْنٍ، وأَدِنْتُه أنا: أَخَذْتُ منه بدَيْن، فَفَرَّقوا بين فَعَل وأَفْعَلَ. قوله: {فاكتبوه} الضميرُ يعودُ على «بدَيْن» وإنما ذَكَرَ قولَه «بدَيْن» ليعيدَ عليه هذا الضميرَ، وإنْ كان الدَّيْن مفهوماً/ من قولِهِ: «تدايَنْتُم» ، أو لأنه قد

يُقال: تَداينوا أي: جازى بعضُهم بعضاً فقال: «بَدْينٍ» ليُزِيلَ هذا الاشتراكَ، أو ليدُل به على العمومِ، أي: أيِّ دين كان من قليلٍ وكثيرٍ. وقوله: {إِلَى اأَجَلٍ} على سبيلِ التأكيدِ، إذ لا يكونُ الدَّيْن إلاَّ مؤجَّلاً، وألفُ «مُسَمَّى» منقلبةٌ عن ياءٍ، تلك الياءُ منقلبةٌ عن واو، لأنه من التسميةِ، وقد تقدَّم أنَّ المادةَ مِنْ سما يسمو. قوله: {بالعدل} فيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ الجارُّ متعلقاً بالفعلِ قبلَه. قال أبو البقاء: «بالعدلِ» متعلِّقٌ بقولِهِ: فَلْيَكْتُبْ، أي: ليكتبْ بالحقِّ، فيجوزُ أَنْ يكونَ حالا أي: ليكتبْ عادِلاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به أي: بسببِ العَدْلِ «. قولُه أولاً:» بالعدلِ متعلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب «يريدُ التعلقَ المعنويَّ؛ لأنه قد جَوَّزَ فيه بعدَ ذلك أَنْ يكونَ حالاً، وإذا كانَ حالاً تعلَّقَ بمحذوفٍ لا بنفسِ الفعلِ. وقوله:» ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً «يعني فتتعلَّقُ الباءُ حينئذٍ بنفسِ الفعلِ. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ ب» كاتب «. قال الزمخشري:» متعلَّقٌ بكاتب صفةً له، أي: كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتب «وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابنُ عطية:» والباءُ متعلقةٌ بقولِهِ: «وَلْيَكْتُب» ، وليْسَتْ متعلقةً بقولِهِ «كاتبٌ» لأنه كان يَلْزَمُ ألاَّ يكتبَ وثيقةً إلا العدلُ في نفسِهِ، وقد يكتُبها الصبيُّ والعبدُ «. الثالث: أن تكونَ الباءُ زائدةً، تقديرُهُ: فَلْيكتب بينكم كاتبُ العدلِ.

قوله: {أَنْ يَكْتُبَ} مفعولٌ به أي: لا يأبَ الكتابَةَ. و» كما عَلَّمه الله «يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بقولِهِ:» أَنْ يَكْتُبَ «على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضميِرِ المصدرِ على رأيِ سيبويه، والتقدير: أَنْ يكتبَ كتابةً مثلَ ما عَلَّمه الله، أو أَنْ يكتبَهُ أي: الكَتْبَ مثلَ ما عَلَّمه الله. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بقوله» فَلْيَكْتُبْ «بعدَه. قال الشيخ: «والظاهرُ تعلُّق الكافِ بقولِهِ:» فَلْيَكْتُب «وهو قَلِقٌ لأجلِ الفاءِ، ولأجلِ أنه لو كانَ متعلِّقاً بقولِهِ:» فَلْيكتب «لكان النظمُ فَلْيكتب كما عَلَّمه الله، ولا يُحتاج إلى تقديمِ ما هو متأخرٌ في المعنى» . وقال الزمخشري: - بعد أَنْ ذكرَ تعلُّقَهُ بِأَنْ يكتُبَ، وب «فليكتب» - «فإنْ قلت: أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت: إنْ عَلَّقْتَه بأَنْ يكتب فقد نَهَى عن الامتناعِ من الكتابةِ المقيَّدةِ، ثم قيل له: فَلْيَكْتُب تلك الكتابةَ لا يَعْدِلُ عنها، وإنْ عَلَّقْته بقوله:» فَلْيكتب «فقد نَهَى عن الامتناعِ بالكتابة على سبيلِ الإِطلاق، ثم أَمَرَ بها مقيدةً» ويجوزُ أن تكونَ متعلقةً بقولِهِ: لا يَأْبَ، وتكونُ الكافُ حينئذٍ للتعليلِ. قالَ ابنُ عطية: «ويُحْتَمل أن يكونَ» كما «متعلقاً بما في قولِه» ولا يأْبَ «من المعنى أي: كما أَنْعَمَ الله عليه بعلمِ الكتابةِ فلا يَأْبَ هو، وَلْيُفْضِل كما أُفْضِلَ عليه» . قال الشيخ: «وهو خلافُ الظاهِرِ، وتكونُ الكافُ في هذا القولِ للتعليلِ» قلت: وعلى القولِ بكونِها متعلقةً

بقوله: «فَلْيكتب» يجوزُ أَنْ تكونَ للتعليلِ أيضاً، أي: فلأجلِ ما عَلَّمه اللَّهُ فليكتبْ. وقرأ العامةُ: «فَلْيكتب» بتسكينِ اللام كقولهم: «كَتْف» في كَتِف، إجراءً للمنفصلِ مُجْرى المتصلِ. وقد قرأَ الحسن بكسرِها وهو الأصلُ. قوله: {وَلْيُمْلِلِ} أمرٌ من أَمَلَّ يُمِلُّ، فلمَّا سَكَنَ الثاني جزماً جَرى فيه لغتان: الفكُّ وهو لغةُ الحجازِ، والإِدْغامُ وهو لغةُ تميم، وكذا إذا سَكَنَ وقفاً نحو: أملِلْ عليه وأَمِلَّ، وهذا مطَّرِدٌ في كلِّ مضاعفٍ وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قراءتَيْ: «مَنْ يَرْتَدِدْ، ويرتدَّ» في المائدةِ وعلَّة كلِّ لغةٍ. وقُرىء هنا شاذاً: «وَلْيُمِلَّ» بالإِدغامِ، ويقال: أَمَلَّ يُمِلُّ إملالاً، وأَمْلَى يُملي إملاءً. ومِنْ الأولى قولُه: 1122 - ألا يا ديارَ الحيِّ بالسَّبُعان ... أَمَلَّ عليها بالبِلَى المَلَوانِ ومن الثانيةِ قولُه تعالى: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ} [المائدة: 54] ، ويقال: أَمْلَلْتُ وَأَمْلَيْتُ، فقيل: هما لغتانِ، وقيل: الياءُ بدلٌ من أحدِ المِثْلَيْنِ، وأصلُ المادتين: الإِعادةُ مرةً بعد أخرى. و «الحقُّ» يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً، و «عليه» خبرٌ مقدمٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ

فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتمادِهِ على الموصولِ، والموصولُ هو فاعِلُ «يملل» ومفعولُه محذوفٌ أي: وَلْيُمْلِلُ الديَّانُ الكتابَ ما عليه من الحقِّ، فَحَذَفَ المفعولين للعلمِ بهما. ويتعدَّى ب «على» إلى أحدِاهما: فيُقال: أَمْلَلْتُ عليه كذا، ومنه الآيةُ الكريمة. قوله: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ} يجوزُ في «منه» أن يكونَ متعلقاً بيبخَسْ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، والضميرُ في «منه» للحقِّ. والثاني: أنها متعلقة بمحذوفٍ لأنها في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ، فلمَّا قُدِّمَتْ على النكرةِ نُصِبَتْ حالاً. و «شيئاً» : إمَّا مفعولٌ به وإمَّا مصدرٌ. والبَخْسُ: النَّقْصُ، يُقال منه: بَخَس زيدٌ عمراً حقَّه يَبْخَسُهُ بَخْسَاً، وأصلُهُ من: بَخَسْتُ عينه، فاستعيرَ منه بَخْسُ الحق، كما قالوا: «عَوَرْتُ حَقَّه» استعارةً مِنْ عَوَرِ العَيْنِ. ويقال: بَخَصْتُه بالصادِ. والتباخُسُ في البَيْعِ: التناقُصُ، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايِعَيْنِ يُنْقِصُ الآخرَ حَقَّه. قوله: {أَن يُمِلَّ هُوَ} أَن وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به، أي: لا يستطيعُ الإِملالَ، و «هو» تأكيدٌ للضميرِ المستتر. وفائدةُ التوكيِدِ به رَفْعُ المجازِ الذي كان يحتمِلُه إسنادُ الفعلِ إلى الضميرِ، والتنصيصُ على أنه غيرُ مستطيعٍ بنفسِه، قاله الشيخ. وقُرىء بإسكان هاء «هو» وهي قراءةٌ ضعيفة لأنَّ هذا الضميرَ كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلَها. ومَنْ سَكَّنَهَا أجرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في أول/ هذه السورة. قال الشيخ: «وهذا أشذُّ مِنْ قراءةِ

مَنْ قَرَأَ: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة} [القصص: 6] قلت: فَجَعَلَ هذه القراءةَ شاذةً وهذه أشدَّ منها، وليسَ بجيدٍ، فإنَّها قراءةٌ متواترةٌ قرأ بها نافع بن أبي نُعَيم قارىءُ أهلِ المدينة فيما رواه عنه قالُون، وهو أضبطُ رواتِهِ لحرفِهِ، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة. والهاء في» وَليُّه «للذي عليه الحقُّ إذا كان متَّصفاً بإحدى الصفاتِ الثلاثِ. وقولُه» بالعَدْل «كما تقدَّم في نظيرِهِ فلا حاجةَ إلى إعادتِهِ. وقوله: {واستشهدوا} يجوزُ أن تكونَ السينُ على بابِها من الطلب أي: اطلُبوا شهيدَيْن، ويجوزُ أن يكونَ استفعلَ بمعنى أَفْعَلَ، نحو: اسْتَعْجَلَ بمعنى أَعْجَل، واسْتيقن بمعنى أَيْقَنَ وفي قوله:» شهيدين «تنبيهٌ على أنه ينبغي أن يكونَ الشاهدُ ممَّن تتكرَّرُ منه الشهادةُ حيث أتى بصيغةِ المبالغة. قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} يجوزُ أن يتعلَّقَ باستشهِدوا، وتكونُ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لشهيدَيْن و» مِنْ «تبعيضيةٌ. قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} جَوَّزُوا في» كان «هذه أَنْ تكونَ الناقصةَ وأَنْ تكونَ التامَةَ، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى: فإنْ كانَتْ ناقصةً فالألفُ اسمُها، وهي عائدةٌ على الشهيدَيْن أي: فإن لم يكنِ الشاهدان رَجُلَيْن، والمعنى على هذا: إن أغْفَلَ ذلك صاحبُ الحق أو قصد أَنْ لا يُشْهِدَ رجلين لغرضٍ له، وإنْ كانَتْ تامةً فيكون» رجلين «نصباً على الحال المؤكِّدة كقولِهِ: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} [النساء: 176] ، ويكونُ المعنى على هذا أنه لا يُعْدَل إلى ما ذَكَرَ إلا عند عدمِ الرجال. والألفُ في» يكونا «عائدةٌ على» شهيدين «، تفيدُ الرجوليةَ، والتقديرُ: فإنْ لم يُوجَدِ الشهيدان رَجُلَيْن.

قوله: {فَرَجُلٌ وامرأتان} يجوزُ أَنْ يرتفعَ ما بعدَ الفاءِ على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ تقديرُهُ: فرجلٌ وامرأتان يَكْفُون في الشهادةِ، أو مُجْزِئون ونحوُه. وقيل: هو خبرٌ والمبتدأٌ محذوفٌ تقديرُهُ: فالشاهدُ رجلٌ وامرأتان وقيل: بل هو مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديرُهُ: فيكفي رجلٌ أي: شهادةُ رجلٍ، فَحُذِفَ المضافُ للعلمِ به، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه. وقيل: تقديرُه الفعلِ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ، وهو أحسنُ، إذ لا يُحْوِج إلى حذفِ مضافٍ، وهو تقديرُ أبي القاسم الزمخشري. وقيل: هو مرفوعٌ بكان الناقصةِ، والتقديرُ: فليكن مِمَّنْ يشهدون رجلٌ وامرأتان. وقيل: بل بالتامةِ وهو أَوْلى، لأنَّ فيه حذفَ فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ، وفي تقدير الناقصة حذفُها مع خبرِها، وقد عُرِفَ ما فيه، وقيل: هو مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، تقديرُهُ: فليُسْتَشْهَد رجلٌ. قال أبو البقاء: «ولو كان قد قُرىء بالنصبِ لكانَ التقديرُ: فاسْتَشْهِدُوا» قلت: وهو كلامٌ حسنٌ. وقرىء: «وامرأْتان» بسكون الهمزةِ التي هي لامُ الكلمة، وفيها تخريجان، أحدُهما: أنه أَبْدَلَ الهمزةَ ألفاً، وليس قياسُ تخفيفِها ذلك، بل بَيْنَ بينَ، ولمَّا أبدلَهَا ألفاً هَمَزَهَا كمَا هَمزتِ العربُ نحو: العَأْلَم والخَأْتم وقوله: 1123 - وخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَأْلَمِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة الفاتحة، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ إن شاء الله تعالى في قراءة ابنِ ذكوان: {مِنسَأَتَهُ} [الآية: 14] في سبأ.

وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجِهِ، ونَحا إلى القياسِ فقال: «ووجهُهُ أنه خَفَّفَ الهمزةَ - يعني بينَ بينَ - فَقَرُبَتْ من الألفِ، والمُقَرَّبَةُ من الألفِ في حكمِها؛ ولذلك لا يُبْتَدَأُ بها، فلمَّا صارَتْ كالألفِ قَلَبَها همزةً ساكنةً كما قالوا: خَأْتم وعَأْلم. والثاني: أن يكونَ قد استثقلَ تواليَ الحركاتِ، والهمزةُ حرفٌ يُشْبِهُ حرفَ العلةِ فَتُسْتثقل عليها الحركةُ فَسُكِّنَتْ لذلك. قال الشيخ:» ويمكن أَنْ سَكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ، وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزة في قول الشاعر: 1124 - يَقُولون جَهْلاً ليس للشيخِ عَيِّلٌ ... لَعَمْرِي لقد أَعْيَلْتُ وأْنَ رَقُوبُ يريدُ: وأنا رَقوب، فَسَكَّنَ همزة «أنا» بعد الواوِ، وحَذَفَ ألف «أنا» وصلاً على القاعدةِ. قلت: قد نَصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال: «ولا يجوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزةَ لأنَّ المفتوحَ لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفتحةِ» وهذا من أبي الفتح محمولٌ على الغالِبِ، وإلا فقد تقدَّمَ لنا آنفاً في قراءة الحسنِ «ما بَقِي من الربا» وقبلَ ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً، حتى في الحروف الصحيحةِ السهلةِ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفْلَةَ؟

قوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجل وامرأتين/. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ لأنه نعتٌ لشهيدين. واستضعف الشيخُ الوجهَ الأولَ قال: «لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن» شهيدين «، واستضعفَ الثاني أبو البقاء قال:» للفصلِ الواقعِ بينهما «. الوجهُ الثالث: أنه بَدَلٌ مِنْ قولِه «من رجالكم» بتكريرِ العاملِ، والتقديرُ: «واستشهِدوا شهيدَيْن مِمَّنْ تَرْضَوْن» ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفَه. وكان ينبغي أن يُضَعِّفَه بما ضَعَّفَ وجهَ الصفة، وهو للفصلِ بينهما، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشهيدين الرجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان. وفيه نظرٌ، لأنَّ هذا من بدلِ البعضِ إنْ أخذنا «رجالكم» على العمومِ، أو الكلِّ من الكِّل إن أخذناهم على الخصوصِ، وعلى كِلا التقديرين فلا ينفي ذلك عَمَّا عداه، وأمّا في الوصفِ فمسلَّمٌ، لأنَّ لها مفهوماً على المختارِ، الرابع: أن يتعلَّقَ باستشهدوا، أي: استشهدوا مِمَّن تَرْضَوْن. قال الشيخ: «ويكون قيداً في الجميعِ، ولذلك جاء متأخراً بعد الجميعِ» . قوله: {مِنَ الشهدآء} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من العائدِ المحذوفِ، والتقدير: مِمَّنْ تَرْضَوْنَه حالَ كونِه بعضَ الشهداء. ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ «مِنْ» بإعادةِ العاملِ، كما تقدَّم في نفسِ «مِمَّنْ تَرْضَوْن» ، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القولين في كلٍّ منهما. قوله: {أَن تَضِلَّ} قرأ حمزةُ بكسر «إنْ» على أنَّها شرطيةٌ، والباقون

بفتحِها، على أنَّها المصدريةُ الناصبةٌ، فأمَّا القراءةُ الأولى فجوابُ الشرطِ فيها قولُه «فتذكِّرُ» ، وذلك أنَّ حمزةَ رحمه الله يقرأ: «فَتُذَكِّرُ» بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ فَصَحَّ أن تكونَ الفاءُ وما في حَيِّزها جواباً للشرطِ، ورَفَعَ الفعلَ لأنه على إضمارِ مبتدأ أي: فهي تُذِكِّر، وعلى هذه القراءةِ فجملةُ الشرطِ والجزاءِ هل لها محلُّ من الإِعراب أم لا؟ فقال ابن عطيةَ: «إنَّ محلَّها الرفعُ صفةً لامرأتين» ، وكان قد تقدَّم أنَّ قولَه: «مِمَّنْ تَرْضَوْن» صفةٌ لقولِه «فرجلٌ وامرأتان» قال الشيخ: «فصار نظيرَ» جاءني رجلٌ وامرأتان عقلاءُ حُبْلَيَان «وفي جوازِ مثلِ هذا التركيبِ نظرٌ، بل الذي تقتضيه الأقيسةُ تقديمُ» حُبْلَيَان «على» عقلاء «؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ» ممَّنْ تَرْضَوْن «بدلٌ من رجالكم، أو متعلِّقٌ باستشهدوا فيتعذَّرُ جَعْلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصلِ بين الصفةِ والموصوف بأجنبي» . قلت: وابن عطية لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ، بل سَبَقَه إليه الواحدي فإنه قال: «وموضعُ الشرطِ وجوابُه رفعٌ بكونِهما وصفاً للمذكورين وهما» امرأتان «في قوله:» فرجلٌ وامرأتان «لأنَّ الشرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما، كما يُوصَلُ بهما في قولِه {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة} [الحجر: 41] . والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحكمِ، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأن قائلاً قال: ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيبَ بهذه الجملةِ. وأمَّا القراءةُ الثانيةُ ف «أَنْ» فيها مصدريةٌ ناصبةٌ بعدَها، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ، بخلافِها في قراءةِ حمزة، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغامِ في الثانية، والثانيةُ مُسَكَّنةٌ للجزم، ولا يمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ،

فَحرَّكْنا الثانيةَ بالفتحةِ هرباً من التقائِهما، وكانتِ الحركةُ فتحةً، لأنها أَخَفُّ الحركاتِ، وأَنْ وما في حَيَّزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعدَ حذفٍ حرفِ الجر، وهي لامُ العلة، والتقديرُ: لأنْ تَضِلَّ، أو إرادةَ أَنْ تَضِلَّ. وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه فِعْلٌ مضمرٌ دَلَّ عليه الكلامُ السابق، إذ التقديرُ: فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين لأنْ تَضِلَّ إحداهما، ودَلَّ على هذا الفعلِ قولُه: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} قالَه الواحدي، ولا حاجةَ إليه، لأنَّ الرافعَ لرجل وامرأتين مُغْنٍ عن تقدير شيءٍ آخرَ، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولِك: «فرجلٌ وامرأتان» إذ تقديرُ الأولِ: فَلْيَشْهد رجلٌ، وتقديرُ الثاني: فرجلٌ وامرأتان يشهدون لأَنْ تَضِلَّ، وهذان التقديرانِ هما الوجهُ الثاني والثالثُ من الثلاثةِ المذكورةِ. وهنا سؤالٌ واضحٌ جَرَتْ عادةُ المُعْرِبين والمفسِّرين يسألونَه وهو: كيف جُعِل ضلالُ إحداهما علةً لتطلُّبِ الإِشهاد أو مراداً لله تعالى، على حَسَبِ التقديرَيْن المذكورَيْن أولاً؟ وقد أجابَ سيبويه وغيرُه عن ذلك بأن الضلالَ لَمَّا كان سبباً للإِذكار، والإِذكارُ مُسَبَّباً عنه، وهم يُنَزَّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسِهما واتصالِهما كانَتْ إرادةُ الضلالِ المُسَبَّبِ عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكارِ. فكأنه قيل: إرادَةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهما الأخرى إنْ ضَلَّتْ، ونظيرُه قولُهم: «أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائطُ فأدعمَه، وأعدْدتُ السلاحَ ان يجيءَ عدوٌ فأدفعَه» فليس إعدادُك الخشبةَ لأَنْ يميلَ الحائطُ ولا إعدادُك السلاحَ لأنْ يجيءَ عدوٌ، وإنما هما للإِدغام إذا مالَ/ وللدفع إذا جاء العدوُ، وهذا مِمَّا يعدُ إليه المعنى ويُهْجَرُ فيه جانبُ اللفظَ.

وقد ذهب الجرجاني في هذه الآيةِ إل أنَّ التقديرَ: مخافةَ أَنْ تَضِلَّ، وأنشد قول عمروٍ: 1125 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَعَجَّلْنا القِرى أَنْ تَشْتِمُونا أي: مخافَةَ أَنْ تَشْتِمونا «وهذا صحيحٌ لو اقتُصِر عليه مِنْ غيرِ أَنْ يُعْطَفَ عليه قولُه» فَتُذَكِّرَ «لأنه كان التقديرُ: فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين مخافةَ أَنْ تضِلَّ إحداهما، ولكنَّ عَطْفَ قوله:» فتذكِّر «يُفْسِده، إذ يَصِيرُ التقديرُ: مخافةَ أَنْ تذكر إحداهما الأخرى، وإذكارُ إحداهما الأخرى ليس مخوفاً منه، بل هو المقصودُ، قال أبو جعفر:» سمعتُ عليَّ بن سليمان يَحْكي عن أبي العباس أن التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ «قال أبو جعفر:» وهو غلطٌ إذ يصيرُ المعنى: كراهةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهُما الأخرى «انتهى. وذهب الفراء إلى أغربَ مِنْ هذا كلِّه فَزَعَمَ أَنَّ تقديرَ الآيةِ الكريمة:» كي تذكِّر أحداهما الأخرى إنْ ضَلَّت «فلَّما قُدِّم الجزاءُ اتصلَ بما قبلَه ففُتِحَتْ» أَنْ «، قال:» ومثلُه من الكلامِ: «إنه ليعجبُني أَنْ يسألَ السائلُ فيُعْطى» معناه: إنه ليعجبني أَن يُعْطَى السائلُ إن سَأَلَ؛ لأنه إنما يُعْجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ،

فلمَّا قَدَّموا السؤالَ على العَطِيَّة أصحبوه أَنْ المفتوحة لينكشِفَ المعنى «، فعنده» أنْ «في» أَنْ تَضِلَّ «للجزاءِ، إلاَّ أنه قُدِّم وفُتِح وأصلُه التأخيرُ. وأنكر هذا القولَ البصريُّون وَردُّوه أبلغ ردٍّ. قال الزجاج: «لَسْتُ أدري لمَ صار الجزاءُ [إذا تقدَّم] وهو في مكانِه وغيرِ مكانِه وَجَبَ أن يَفْتَحْ أن» . وقال الفارسي: «ما ذَكَرَه الفراء دعوى لا دلالةَ عليها والقياسُ يُفْسِدُها، ألا ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العاملَ إذا تغيَّرت حركتُه لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عَملِهِ ولا معناه، وذلك ما رواه أبو الحسن من فتحِ اللامِ الجارَّةِ مع المُظْهَرِ عن يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر، فكما أنَّ هذه اللامَ لَمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ، كذلك» إنْ «الجزائيةُ ينبغي إذا فُتِحَتْ ألاَّ يتغيَّر عملها ولا معناها، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديمِ ولا بالتأخيرِ، ألا ترى لقولِك:» مررتُ بزيدٍ «ثم تقول:» بزيد مررت «فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها من تأخيرٍ» . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فَتُذِكِرَ» بتخفيفِ الكافِ ونصبِ الراءِ من أَذْكَرْتُه أي: جَعَلْتُه ذاكراً للشيءِ بعدَ نِسْيانِه، فإنَّ المرادَ بالضلالِ هنا النسيانُ كقولِه تعالى: {فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] وأنشدوا الفرزدق: 1126 - ولقد ضَلَلْتَ أباكَ يَدْعُو دارمِاً ... كضلالِ ملتمسٍ طريقَ وِبارِ فالهمزةُ في «أَذْكَرْتُه» للنقلِ والتعديةِ، والفعلُ قبلَها متعدٍّ لواحدٍ، فلا بُدَّ

من آخرَ، وليسَ في الآية إلا مفعولٌ واحدٌ فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثاني، والتقديرُ فَتُذْكِرَ إحداهما الأخرى الشهادةَ بعد نِسْيانِها إن نَسِيَتْهَا، وهذا التفسيرُ هو المشهورُ. وقد شَذَّ بعضُهم فقال: «معنى فَتُذْكِرَ إحداهما الأخرى أي: فتجعلَها ذَكَراً، أي: تُصَيِّرُ حكمَها حكمَ الذَّكَرِ في قَبولِ الشهادةِ. وروى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال:» فَتُذَكِّر إحداهما الأخرى بالتشديدِ فهو من طريقِ التذكير بعد النسيان، تقول لها: هل تَذْكُرين إذ شَهِدْنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ أو فلانة، ومَنْ قرأ «فَتُذْكِرَ» بالتخفيف فقال: إذا شَهِدَتِ المرأةُ ثم جاءَتِ الأخرى فَشَهِدَتْ معها فقد أَذْكَرَتْها لقيامِهما مقامَ ذَكَر «ولم يَرْتَضِ هذا من أبي عمرو المفسرون وأهلُ اللسان، بل لم يُصَحِّحوا روايةَ ذلك عنه لمعرفتِهم بمكانتِه من العلمِ، ورَدُّوه على قائله من وجوهٍ منها: أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلةَ الضلالِ المرادِ به النسيانُ بالإِذكار والتذكيرِ، ولا تناسُبَ في المقابلةِ بالمعنى المنقولِ عنه. ومنها: أنَّ النساءَ لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العَدَدِ لا بد معهنَّ مِنْ رجلٍ يَشْهَدُ معهم، فلو كان ذلك المعنى صحيحاً لذكَّرَتْها بنفسِها من غيرِ انضمامِ رجلٍ، هكذا ذَكَروا، وينبغي أَنْ يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأتينِ، وإلاَّ فقد نَجِدُ النساءَ يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انضمامِ رجلٍ إليهنَّ، ومنها: أنها لو صَيَّرَتْها ذَكَراً لكان ينبغي أَنْ يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ، ولا يُقْتَصرُ به على ما فيه. . . وفيه نظرٌ أيضاً، إذ هو مشتركٌ الإِلزامِ/ لأنه يُقال: وكذا إذا فَسَّرْتموه بالتذكير بعد النسيانِ لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها، فما أُجيب به فهو جوابُهم أيضاً.

وقال الزمخشري: «ومِنْ بِدَع التفاسيرِ:» فَتُذَكِّرَ «فتجعلَ إحداهما الأخرى ذَكَرَاً، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر» انتهى. ولم يَجْعَلْ هذا القولَ مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخْرى. وأمَّا نصبُ الراءِ فنسقٌ على «أَنْ تَضِلَّ» لأنَّهما يَقْرآن: «أَنْ تَضِلَّ» بأَنْ الناصبةِ، وقرأ الباقون بتشديدِ الكافِ من «ذَكَّرْتُه» بمعنى جَعَلْتُه ذاكِراً أيضاً، وقد تقدَّم أنَّ حمزةَ وحدَه هو الذي يَرْفع الراء. وخَرَجَ من مجموعِ الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ: فحمزة وحدَه: «إنْ تَضِلَّ فتذكَّرُ» بكسر «إنْ» وتشديدِ الكافِ ورفعِ الراء، وأبو عمرو وابنُ كثير بفتح «أنْ» وتخفيفِ الكافِ الراء، والباقون كذلك، إلا أنهم يُشَدِّدون الكافَ. والمفعولُ الثاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى، [نحو] : أَكْرَمْتُه وَكَرَّمته، وفَرَّحته وأَفْرحته. قالوا: والتشديدُ في هذا اللفظ أكثرُ استعمالاً من التخفيفِ، وعليه قولُه: 1127 - على أنني بعدَ ما قد مضى ... ثلاثونَ للهَجْرِ حَوْلاً كميلا يُذَكِّرُنِيك حنينُ العَجولِ ... ونَوْحُ الحمامةِ تَدعُو هَدِيلا وقرأ عيسى بن عمر والجحدري: «تُضَلَّ» مبنياً للمفعول، وعن

الجحدري أيضاً: «تُضِلَّ» بضمِ التاء وكسر الضاد من أَضَلَّ كذا أي: أضاعه، والمفعولُ محذوفٌ أي: تُضِلَّ الشهادة. وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد: «فَتَذْكُرُ» برفع الراء وتخفيف الكاف، وزيد بن أسلم: «فتُذاكِرُ» من المذاكرة. وقوله: {إِحْدَاهُمَا} فاعل «والأخرى» مفعول، وهذا مِمَّا يَجِبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعرابِ والمعنى نحو: ضَرَب موسى عيسى. قال أبو البقاء: ف «إحداهما» فاعلٌ، و «الأخرى» مفعول، ويَصِحُّ العكس، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النحويين في الإِعراب، لأنه إذا لم يظهر الإِعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ وَجَبَ تقديمُ الفاعل [فيما] يُخاف فيه اللَّبْسُ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جازَ تقديمُ المفعولِ كقولك: «كسر العصا موسى» ، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ لأنَّ النِّسْيَانِ والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما بل ذلك على الإِبهامِ، وقد عُلِم بقوله «فَتُذَكِّرَ» أنَّ التي تُذَكِّر هي الذاكرة والتي تُذَكَّرُ هي الناسية، كما علم من لفظ «كَسَر» مَنْ يَصِحُّ منه الكسرُ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل «إحداهما» فاعلاً، و «الأخرى» مفعولاً وأن تعكس «انتهى. ولَمَّا أَبْهَمَ الفاعلَ في قولِه: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} أَبْهَمَ أيضاً في قوله: «فَتُذَكِّر إحداهما» لأنَّ كلاً من المرأتين يجوزُ عليها ما يجوزُ على صاحبتِها من الإِضلالِ والإِذكارِ، والمعنى: إنْ ضَلَّتْ هذه أَذْكَرَتْها هذه، فَدَخَلَ الكلامَ معنَى العموم

قال أبو البقاء: «فإنْ قيل: لِمَ لَمْ يَقُلْ:» فتذكِّرها الأخرى «؟ قيل فيه وجهان، احدُهما: أنه أعاد الظاهرَ لِيَدُّلَّ على الإبهامِ في الذِّكْر والنسيان، ولو أَضْمَرَ لَتَعَيَّن عودُه على المذكور. والثاني: أني وَضَع الظاهرَ مَوْضِع المضمرِ، تقديرُه:» فتذكِّرها «وهذا يَدُلَّ على أن» إحداهما «الثانية مفعولٌ مقدمٌ، ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجهِ، لأنَّ المضمرَ هو المُظْهَرُ بعينه، والمُظْهَرُ الأول فاعل» تضِلَّ «فلو جعل الضمير لذلك المظهَرِ لكانت الناسيةُ هي المُذَكِّرَة، وذا مُحَالٌ» قلت: وقد يتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ الوجهينِ راجعانِ لوجهٍ واحدٍ قبلَ التأمُّلِ، لأنَّ قولَه: «أعادَ الظاهرَ» قريبٌ من قوله: «وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمرِ» . و «إحدى» تأنيثُ «الواحد» قال الفارسيّ: «أَنَّثُوه على غير بنائِه، وفي هذا نظرٌ، بل هو تأنيثُ» أَحَد «ولذلك يقابُلونها به في: أحد عشرَ وإحدى عَشَرَة [و] واحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين. وتُجْمَعُ» إحدى «على» إحَد «نحو: كِسْرَة وكِسَر. قال أبو العباس:» جَعَلَوا الألفَ في الإِحدى بمنزلةِ التاء في «الكِسْرة» فقالوا في جَمْعِها: إحَد كما قالوا: كَسْرة وكِسَر، كما جَعَلُوه مثلَها في الكُبْرَى والكُبَر، والعُلْيا والعُلى، فكما جَعَلوا هذه كظُلْمة وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر «قال:» وكما جعلوا الألفَ المقصورةَ بمنزلةِ التاءِ فيما ذُكِر جعلوا الممدودة أيضاً بمنزلتِها في قولِهم «قاصِعَاء وقواصِع» ودامّاء ودوامّ «يعني أن فاعِلَة نحو: ضارِِبَة تُجمع على ضوارب، كذا

فاعِلاء نحو: قاصِعاء وراهِطاء تُجْمَع على فَواعِل، وأنشد ابنُ الأعرابي على إحدى وإحَد قولَ الشاعر: 1128 - حتى استثاروا بيَ إحدى الإِحَدِ ... ليثاً هِزَبْراً ذا سلاحٍ مُعْتَدي قال: يقال: هو إحدى الإِحَدِ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ، وواحدُ الآحادِ، كما يقال: واحدٌ لا مِثْلَ له، وأنشد البيت. واعلَمْ أنَّ» إحدى «لا تُسْتعمل إلا مضافةً إلى غيرِها، فيقال: إحدى الإِحَدِ وإحداهما، ولا يقال: جاءَتْني إحدى، ولا رأيت إحدى، وهذا بخلافِ مذكَّره. و» الأُخْرى «تأنيث» آخَر «الذي هو أَفْعَلُ التفضيلِ، وتكونُ بمعنى آخِرة، كقولِه تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ} [الأعراف: 38] ، يُجْمَعُ كلُّ منهما على «أُخَر» ، ولكنَّ جمعَ الأولى ممتنعٌ من الصرفِ، وفي علتِه خلافٌ، وجَمْعُ/ الثانيةِ منصرفٌ، وبينهما فرقٌ في المعنى، وهذا كلُّه سأوضِّحه إن شاء الله تعالى في الأعرافِ فإنه أَلْيَقُ به. قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء} مفعولُه محذوفٌ لفهمِ المعنى، أي: لا يَأْبَوْن إقامةَ الشهادةِ، وقيل: المحذوفُ مجرورٌ لأنَّ «أبى» بمعنى امتنع، فيتعدَّى تعديتَه أي مِنْ إقامةِ الشهادة. و {إِذَا مَا دُعُواْ} ظرفٌ ل «يَأْبَ» أي: لا يَمْتنعون في وقتِ دَعْوَتهم

لأدائِها، أو لإِقامتها، ويجوزُ أن تكونَ متمحضةً للظرف، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً والجوابُ محذوفٌ أي: إذا دُعوا فلا يَأْبُوا. قوله: {أَن تَكْتُبُوهُ} مفعولٌ به والناصبُ له «تَسْأَموا» لأنه يتعدَّى بنفسِه قال: 1129 - سَئِمْتُ تكاليفَ الحياةِ ومَنْ يَعِشْ ... ثمانينَ حَوْلاً لا أبا لَكَ يَسْأَمِ وقيل: بل يتعدَّى بحرفِ الجر، والأصلُ: مِنْ أَنْ تكتبُوه، فَحَذَفَ حرفَ الجرِّ للعلمِ به فَيَجْري الخلافُ المشهور في «أَنْ» بعدَ حذفِه، ويَدُلُّ على تعدِّيه ب «مِنْ» قوله: 1130 - ولقد سَئِمْتُ من الحياةِ وطولِها ... وسؤالِ هذا الناسِ كيف لبيدُ والسَّأَم والسَّآمَةُ: المَلَلُ من الشيءَ والضَّجَرُ منه. والهاءُ في «تَكْتبوه» يجوزُ أَنْ تكونَ للدَّيْن في أول الآية، وأن تكونَ للحقّ في قولِه: «فإنْ كان الذي عليه الحقُّ» وهو أقربُ مذكورٍ، والمرادُ به «الدَّيْن» وقيل: يعودُ على الكتابِ المفهومِ من «يَكْتبوه» قاله الزمخشري. و «صغيراً أو كبيراً» حالٌ، أي: على أيّ حالٍ كان الدَّيْنُ قليلاً أو كثيراً، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتابُ مختصراً أو مُشْبَعاً، وجَوَّزَ السجاوندي انتصابَه على خبرِ «كان» مضمرةً، وهذا لا حاجةَ تَدْعُوا إليه، وليس من مواضعِ إضماره.

وقرأ السلمي: {ولا يَسْأَموا أَنْ يَكْتبوه} بالياءِ من تحتُ فيهما. والفاعلُ على هذه القراءةِ ضميرُ الشهداءِ، ويجوزُ أن يكونَ من بابِ الالتفاتِ، فيعودُ: إمَّا على المتعامِلِين وإمَّا على الكُتَّاب. قوله: {إلى أَجَلِهِ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي: أَنْ تكتبوه مستقراً في الذمَّةِ إلى أجلِ حُلولِه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بتكتبُوه، قاله أبو البقاء. وهذا قد ردَّه الشيخ فقال: «هو متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب» تكتبوه «لعدمِ استمرارِ الكتابةِ إلى أجلِ الدَّيْن إذ ينقضي في زمنٍ يسير، فليس نظيرَ:» سرت إلى الكوفةِ. والثالث: أن يتعلَّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاءِ، قاله أبو البقاء. قوله: {ذَلِكُمْ} مُشَارٌ به لأقربِ مذكورٍ وهو الكَتْب. وقيل إليه وإلى الإِشهاد، وقيل: إلى جميع ما ذُكِر وهو أحسنُ. و «أَقْسَطُ» قيل: هو من أَقْسَطَ إذا عَدَلَ، ولا يكونُ من قسَطَ، لأنَّ قَسَط بمعنى جار، وأَقْسَط بمعنى عَدَل، فتكونُ الهمزةُ للسَّلْبِ، إلا أنه يَلْزَمُ بناءُ أَفْعَل من الرباعي، وهو شاذٌّ. قال الزمخشري: «إنْ قلتَ مِمَّ بُنِي أَفْعلا التفضيلِ - أعني أَقْسَط وأَقْوم؟ - قلت: يجوزُ على مذهبِ سيبويه أَنْ يكونا مَبْنِيَّين مِنْ» أقسط «و» أقام «وأَنْ يكونَ» أَقْسَط «من قاسِط على طريقةِ النسبِ بمعنى: ذي قِسْطٍ؛ و» أقوم «من قويم» . قال الشيخ: لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعلَ التفضيلِ يُبْنَى من «

أَفْعل» ، إنما يُؤْخَذُ ذلك بالاستدلالِ، فإنه نصَّ في أوائلِ كتابِه على أنَّ «أَفْعَل» للتعجبِ يكونُ من فَعَل وفَعِل وفَعُل وأَفْعَل، وظاهرُ هذا أن «أَفْعَل» للتعجب يُبنى منه أَفْعل للتفضيل، فما اقتاسَ في التعجب اقتاسَ في التفضيلِ، وما شَذَّ فيه شَذَّ فيه شَذَّ فيه. وقد اختلف النحويون في بناءِ التعجبِ وأَفْعَل التفضيل من أَفْعَل على ثلاثةِ مذاهب: الجوازُ مطلقاً، والمنعُ مطلقاً، والتفضيلُ بين أَنْ تكونَ الهمزةُ للنقلِ فيمتنِعَ، أو لا فيجوزَ، وعليه يُؤَوَّل كلامُ سيبويه، حيث قال: «إنه يبنى من أَفْعَل» أي الذي همزتُه لغيرِ التعدية. ومَنْ مَنَعَ مطلقاً قال: «لم يَقُلْ سيبويه وأَفْعَلَ بصيغة الماضي» إنما قالها أَفْعِل بصيغةِ الأمر، فالتبس على السامعِ، ويعني أنه يكونُ فعلُ التعجب على أَفْعِلْ، بناؤُه من فَعَل وفَعِل وفعُل، وعلى أفعِل. ولهذه المذاهبِ موضوعٌ هو أليقُ بالكلامِ عليها. ونَقَل ابن عطية أنه مأخوذٌ من «قَسُط» بضمِّ السينِ نحو: «أَكْرَمَ» من «كَرُم» . وقيل: هو من القِسْط بالكسر وهو العَدْلُ، وهو مصدرٌ لم يُشْتَقَّ منه فِعْلٌ، وليس من الإِقساط؛ لأنَّ أفعَل لا يُبنى من «الإِفعال» . وهذا الذي قلته كلَّه بناءً منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجَوْر والرباعيَّ بمعنى العَدْل. ويُحكى أن سعيد بن جبير لَمَّا سأله الظالمُ [الحجَّاجُ] بن يوسف: ما تقول فِيَّ؟ فقال: «أقولُ إنك قاسِطٌ عادِلٌ» ، فلم يَفْطِن له إلا هو، فقال: إنه جعلني جائراً كافراً، وتلا قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] .

وأمَّا إذا جَعَلْناه مشتركاً بين عَدَلَ وبين جارَ فالأمرُ واضحٌ قال ابن القطاع: «قَسَط قُسوطاً وقِسْطاً: جارَ وعَدَل ضِدٌّ» . وحكى ابن السِّيد في كتابِ «الاقتضاب» له عن ابن السكيت في كتاب «الأضداد» عن أبي عبيدة: «قَسَط: جارَ، وقَسَط: عَدَل، وأَقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير. وقال أبو القاسم الراغب الأصبهاني:» القِسْطُ أن يأخذَ قِسْطَ غيرِه، وذلك جَوْرٌ، والإِقساطُ أن يُعْطِي قسطَ غيرِه، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقال: قَسَط إذا جار، وأَقْسَط إذا عَدَل «وسيأتي لهذا أيضاً مزيدُ بيانٍ في سورة النساءِ إن شاء الله تعالى. و «عند الله» / ظرفٌ منصوبٌ ب «أَقْسَط» أي: في حكمِه. وقوله «وَأَقْوَمُ» إنما صَحَّت الواوُ فيه لأنه أفعلُ تفضيلٍ، وأفعلُ التفضيلِ يَصِحُّ حملاً على فِعْل التعجب، وصَحَّ فعلُ التعجبِ لجريانه مَجْرى الأسماء لجمودِه وعدمِ تصرُّفِه. و «أَقْوَمُ» يجوزُ أن يكونَ من «أقام» الرباعي المتعدِّي؛ لكنه حَذَف الهمزةَ الزائدة، ثم أتى بهمزةِ أَفْعل كقولِه تعالى: {أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى} [الكهف: 12] فيكونُ المعنى: أَثْبَتُ لإِقامتِكم الشهادةَ، ويجوزُ أن يكونَ من «قام» اللازم ويكونُ المعنى: ذلك أثبتُ لقيامِ الشهادةِ، وقامَتِ الشهادةُ: ثَبَتَتْ، قاله أبو البقاء.

قوله: «للشهادةِ متعلِّق ب» أَقْوَم «، وهو مفعولٌ في المعنى، واللامُ زائدةٌ ولا يجوزُ حَذْفَها ونصبُ مجرورِها بعد أفعلِ التفضيلِ إلا ضرورةً كقوله: 1131 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القَوانِسا وقد قيلَ: إن» القوانسَ «منصوبٌ بمضمرٍ يَدُلُّ عليه أفعلُ التفضيلِ، هذا معنى كلام الشيخ، وهو ماشٍ على أنَّ» أَقْوَم «من أقام المتعدي، وأما إذا جعلته من» قَام «بمعنى ثَبَت فاللامُ غير زائدة. قوله: {أَلاَّ ترتابوا} أي: أقربُ، وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، فقيل: هو اللامُ أي: أَدْنى لئلاَّ ترتابوا، وقيل هو» إلى «وقيل: هو» من «أي: أَدْنى إلى أن لا ترتابوا وأدنوى مِنْ أن لا ترتابوا. وفي تقديرهم» مِنْ «نظرٌ، إذ المعنى لا يساعِدُ عليه. و» ترْتابوا «: تَفْتَعِلُوا من الرِّيبة، والصل:» تَرْتَيِبوا «، فَقُلِبَتِ الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها. والمفضَّلُ عليه محذوفٌ لفهم المعنى، أي: أَقْسطُ وأقومُ وأدنى لكذا مِنْ عدمِ الكَتْب، وحَسَّن الحذفَ كونُ افعلَ خبراً للمبتدأ بخلافِ كونِه صفةً أو حالاً. وقرأ السلمين: {أَنْ لا يرتابوا] بياء الغيبة كقراءةِ: {ولا يَسْأموا أَنْ يكتبوه} وتقدَّم توجيهُ ذلك. قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} في هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنه متصلٌ قال أبو البقاء:» والجملةُ المستثناةُ في موضعِ نصبٍ لأنه استثناءٌ من الجنس لأنه أمرٌ بالاستشهادِ في كلِّ معاملةٍ، واستثنى منها التجارة الحاضرةَ،

والتقديرُ: إلا في حالِ حضورِ التجارةِ «. والثاني: انه منقطعٌ، قال مكي ابن أبي طالب:» و «أَنْ» في موضعِ نصبٍ على الاستثناءِ المنقطعِ «قلت: وهذا هو الظاهرُ، كأنه قيل: لكنّ التجارةَ الحاضرةَ فإنه يجوزُ عدمُ الاستشهادِ والكَتْبِ فيها. وقرأ عاصم هنا» تجارةً «بالنصب، وكذلك» حاضرةً «لأنها صفتُها، وفي النساء وافقه الأخوان، والباقون قرؤوا بالرفعِ فيهما. فالرفعُ فيه وجهان، أحدُهما: أنها التامةُ أي: إلا أَنْ تَحْدُثَ أو تقعَ تجارةً، وعلى هذا فتكونُ» تُديرونها «في محلِّ رفعٍ صفةً لتجارةً أيضاً، وجاء هنا على الفصيحِ، حيث قَدَّم الوصفَ الصريحَ على المؤول. والثاني: ان تكونَ الناقصةَ، واسمُها «تجارةٌ» والخبرُ هو الجملةُ من قوله: «تُديرونها» كأنه قيل: إلا أن تكونَ تجارةٌ حاضرةٌ مدارةً، وسَوَّغ مجيءَ اسمِ كان نكرةً وصفُه، وهذا مذهبُ الفراء وتابعه آخرون. وأمَّا قراءةُ عاصم فاسمُها مضمرٌ فيها، فقيل: تقديرُه: إلا أَنْ تكونَ المعاملةُ أو المبايَعَةُ أو التجارةُ. وقَدَّره الزجاج إلاَّ أَنْ تكونَ المداينةُ، وهو أحسنُ. وقال الفارسي: «ولا يجوزُ أن يكونَ التداينُ اسمَ كان لأنَّ التداينَ معنىً، والتجارةُ الحاضرةُ يُراد بها العينُ، وحكمُ الاسمِ أن يكونَ الخبرَ في المعنى، والتدايُن حَقٌّ في ذمةِ المستدينِ، للمدين المطالبةُ به، وإذا كان

كذلك لم يَجُزْ أن يكونَ اسمَ كان لاختلافِ التداينِ والتجارةِ الحاضرةِ» وهذا الذي قاله الفارسي لا يَظْهَرُ رداً على أبي إسحاق، لأن التجارةَ أيضاً مصدرٌ، فهي معنىً من المعاني لا عينٌ من الأعيان، وبين الفارسي والزجاج محاورةٌ لأمرٍ ما. وقال الفارسيّ أيضاً: «ولا يجوزُ أيضاً أَنْ يكونَ اسمَها» الحقُّ «الذي في قوله:» فإن كان الذي عليه الحق «للمعنى الذي ذكرنا في التداين، لأنَّ ذلك الحقَّ دَيْنٌ، وإذا لم يَجُزْ هذا لم يَخْلُ اسمُ كان من أحدِ شيئين، أحدُهما: أنَّ هذه الأشياءَ التي اقتضَتْ من الإِشهادِ والارتهانِ قد عُلِم من فحواها التَبايعُ، فأضمرَ التبايعَ لدلالةِ الحالِ عليه كما أضمرَ لدلالةِ الحال فيما حكى سيبويه:» إذا كان غداً فأتني «ويُنْشَدُ على هذا» : 1132 - أعينيَّ هَلاَّ تبكِيان عِفاقا ... إذا كان طَعْناً بينهم وعِناقا أي: إذا كان الأمر. والثاني: أن يكونَ أضمرَ التجارة كأنه قيل: إلا أن تكونَ التجارةُ تجارةً، ومثلُه ما أنشدَه الفراء: 1133 - فَدىً لبني ذُهْلِ بن شيبانَ ناقتي ... إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْهَبَا وأنشد الزمخشري: 1134 - بني أسدٍ هل تَعْلَمُون بلاءنا ... إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْنَعا أي: إذا كان اليومُ يوماً. و «بينكم» ظرفٌ لتُديرونها.

قوله: {فَلَيْسَ} قال أبو البقاء: «دَخَلَتِ الفاءُ في» فليس «إيذاناً بتعلُّق ما بعدَها بما قبلَها» قلت: هي عاطفةٌ هذه الجملةَ على الجملةِ من قولِه: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} إلى آخرها، والسببيةُ فيها واضحةُ أي: بسببٍ عن ذلك رُفِع الجناحُ في عَدَمِ الكتابة. وقوله: {أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} أي: «في أن لا» ، فَحُذفَ حرفُ الجر فبقي في موضعِ «أَنْ» الوجهان: قوله: {إِذَا تَبَايَعْتُم} يجوزُ أن/ تكونَ شرطيةً، وجوابُها: إمَّا متقدم عند قومٍ، وإمَّا محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه تقديرُه: إذا تبايَعْتُم فَأَشْهِدوا، ويجوزُ أن تكونَ ظرفاً محضاً أي: افعلوا الشهادةَ وقتَ التبايعِ. قوله: {وَلاَ يُضَآرَّ} العامة على فتح الراء جزماً، و «لا» ناهيةٌ، وفُتِح الفعلُ لما تقدم في قراءةِ حمزةَ: «إن تَضِلَّ» . ثم هذا الفعلُ يحتملُ أن يكونَ مبنياً للفاعلِ، والأًصلُ: «يضارِرْ» بكسر الراءِ الأولى فيكونُ «كاتب» و «شهيد» فاعلَيْن نُهِيا عن مُضَارَّةِ المكتوبِ له والمشهودِ له، نُهِيَ الكاتبُ عن زيادةِ حرفٍ يُبْطل به حقاً أو نقصانِه، ونُهِيَ الشاهدُ [عن] كتمِ الشهادةِ، واختاره الزجاج، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال: {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ، ولا شك أنَّ هذا من الكاتبِ والشاهدِ فِسْقٌ، ولا يَحْسُنُ أن يكونَ إبرامُ الكاتبِ والشهيدِ والإِلحاحُ عليهما فسقاً. ونُقل في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وطاووس

هذا المعنى. ونَقَل الداني عن عمر وابن عباس ومجاهد وابن أبي إسحاق أنهم قرؤوا الراءَ الأولى بالكسرِ حين فَكُّوا. ويُحْتمل أن يكونَ الفعلُ فيها مبنياً للمفعول، والمعنى: أَنَّ أحداً لا يُضارِرُ الكاتبَ ولا الشاهدِ، ورُجِّح هذا بأنه لو كان النهيُّ متوجِّهاً نحو الكاتبِ والشهيدِ لقال: وإنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما، ولأنَّ السياقَ من أولِ الآيات إنما هو للمكتوبِ له والمشهودِ له. ونُقِل في التفسير هذا المعنى عن ابن عباس ومَنْ ذُكِر معه. وذكر الداني أيضاً عنهم أنهم قرؤوا الراءَ الأولى بالفتح. قلت: ولا غَرْوَ في هذا إذ الآيةُ عندهم مُحْتَمِلةٌ للوجهين فَسَّروا وقرؤوا بهذا المعنى تارةً وبالآخرِ أخرى. وقرأ أبو جعفر وعمرو بن عبيد: «ولا يُضارّ» بتشديد الراءِ ساكنةً وَصْلاً، وفيها ضعفٌ من حيث الجمعُ بين ثلاثِ سواكن، لكنه لمَّا كانت الألفُ حرفَ مدٍّ قام مَدُّها مقامَ حركةٍ، والتقاءُ الساكنين مغتفرٌ في الوقف، ثم أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقف في ذلك. وقرأ عكرمة/: «ولا يُضارِرْ كاتباً ولا شهيداً» بالفكِّ وكسرِ الراءِ الأولى، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق، ونَصْبِ «كاتباً» و «شهيداً» على المفعولِ به أي: لا يضارِرْ صاحبُ حقٍ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجْبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكتابة والشهادةِ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز. وقرأ ابن محيصن: «ولا يُضارُّ» برفع الراء، وهو نفيٌ فيكونُ الخبر بمعنى النهي كقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقْ} [البقرة: 197]

وقرأ عكرمة في رواية مُقْسِم: «ولا يُضارِّ» بكسر الراءِ مشددةً على أصلِِ التقاءِ الساكنين. وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذه الأشياءِ عند قولِه {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] . قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ} أي: تفعلوا شيئاً مِمَّا نَهَى اللهُ عنه، فَحُذِف المفعولُ به للعلمِ به. والضميرُ في «فإنه» يعودُ على الامتناع أو الإِضرار. و «بكم» متعلقٌ بمحذوفٍ، فقدَّرَه أبو البقاء: «لاحِقٌ بكم» وينبغي أن يُقَدَّر كوناً مطلقاً، لأنه صفةٌ ل «فسوق» أي: فسوقٌ مستقرٌّ بكم، أي: ملتبسٌ بكم ولاصقٌ بكم. قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الله} يجوزُ في هذهِ الجملةِ الاستئنافُ - وهو الظاهرُ - ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الفاعلِ في «اتَّقوا» قال أبو البقاء: «تقديره: واتقوا اللهَ مضموناً لكم التعليمُ أَو الهدايةُ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مقدَّرَة» . قلت: وفي هذينِ الوجهينِ نظرٌ لأنَّ المضارعَ المثبتَ لا تباشِرُه واوُ الحال، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذَلك يُؤَوَّلُ، لكنْ لا ضرورةَ تَدْعو إليه ههنا.

283

قوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} : العامةُ على «كاتباً» اسمَ فاعل. وقرأ أُبَيّ ومجاهد وأبو العالية: «كِتاباً» ، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ أي ذا كتابة. والثاني: أنه جَمْع كاتبٍ، كصاحب وصِحاب. ونقل الزمخشري هذه القراءة عن أُبَيّ وابن عباس فقط، وقال: «وقال ابن

عباس: أرأيتَ إن وجدتَ الكاتبَ ولم تَجِدْ الصحيفةَ والدَّواة» . وقرأ ابن عباس والضحاك: «كُتَّاباً» على الجمع، اعتباراً بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ. وقرأ أبو العالية: «كُتُباً» جمع كتاب، اعتباراً بالنوازلِ، قلت: قولُ ابن عباس: «أرأيتَ إنْ وجدت الكاتب الخ» ترجِيحٌ للقراءةِ المرويَّةِ عنه واستبعادٌ لقراءةِ غيرِه/ «كاتباً» ، يعني أن المرادَ الكتابُ لا الكاتبُ. قوله: {فَرِهَانٌ} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فيكفي [عن] ذلك رُهُنٌ مقبوضةٌ. الثاني: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: فرُهُن مقبوضة تكفي. الثالث: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: فالوثيقةُ أو فالقائمُ مقامُ ذلك رُهُنٌّ مقبوضةٌ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «فَرُهُنٌّ» بضم الراء والهاء، والباقون «فَرِهَانٌ» بكسر الراء وألف بعد الهاء، رُوي عن ابن كثير وأبي عمرو تسكينُ الهاءِ في رواية. فأمَّا قراءةُ ابن كثير فجمع رَهْن، وفَعل يُجْمع على فُعل نحو: سَقْف وسُقُف. ووقع في أبي البقاء بعد قوله: «وسَقْف وسُقُف، وأَسَد وأُسُد، وهو [وهم] » ولكنهم قالوا: إن فُعُلاً جَمعُ فَعْل قليل، وقد أورد منه الأخفش ألفاظاً منها: رَهْن ورُهُن، ولَحْد القبر ولُحُد، وقَلْب النخلة وقُلُب، ورجلٌ

ثَطٌّ وقومٌ ثُطٌّ، وفرس وَرْدٌ وخيلٌ وُرُدٌ، وسهم حَشْر وسهام حُشُر. وأنشد أبو عمرو حجةً لقراءتهِ قولَ قعنب: 1135 - بانَتْ سعادُ وأمسى دونَها عدنُ ... وَغلَّقَتْ عندَها مِنْ قبلِك الرُّهُنُ وقال أبو عمرو: «وإنما قَرَأت فَرُهُن للفصلِ بين الرهانِ في الخيلِ وبين جمع» رَهْن «في غيرها» ومعنى هذا الكلام أنما اخترتُ هذه القراءةَ على قراءة «رهان» ، لأنه لا يجوزُ له أَنْ يفعلَ ذلك كما ذَكَر دونَ اتِّباع روايةٍ. واختار الزجاجِ قراءتَه هذه قال: «وهذه القراءة وافَقَت المصحفَ، وما وافقَ المصحفَ وصَحَّ معناه، وقَرَأت به القُرَّاء فهو المختارُ» . قلت: إن الرسم الكريم «فرهن» دون ألفٍ بعد الهاء، مع أنَّ الزجاج يقول: «إنَّ فُعُلاً جمعَ فَعْلٍ قليلٌ» ، وحُكي عن أبي عمرو أنه قال: «لا أعرفُ الرِّهان إلا في الخيل لا غير» . وقال يونس: «الرَّهْنُ والرِّهان عربيان، والرُّهُنْ في الرَّهْنِ أكثرُ، والرِّهان في الخيلِ أكثرُ» وأنشدوا أيضاً على رَهْن ورُهُن قوله - البيت -: 1136 - آلَيْتُ لا نُعْطِيه من أَبْنائِنا ... رُهُناً فيُفْسِدَهم كَرَهْنٍ أَفْسدا

وقيل: إنَّ رُهُنا جمعُ رِهان، ورِهان جمعُ رَهْن، فهو جَمْعُ الجمع، كما قالوا في ثِمار جمعَ ثَمَر، وثُمُر جَمعُ ثِمار، وإليه ذهب الفراء وشيخه، ولكنَّ جَمْعَ الجمعِ غيرُ مطرَّدٍ عند سيبويه وجماهيرِ أتباعه. وأمَّا قراءةُ الباقين «رِهانِ فرِهان جمعُ» رَهْن «وفَعْل وفِعال مطردٌ كثير نحو: كَعْب/ وكِعَاب، وكَلْب وكِلاب، ومَنْ سَكَّن ضمةَ الهاءِ في» رُهُن «فللتخفيفِ وهي لغةٌ، يقولون: سُقْف في سُقُف جمعَ سَقْف. والرَّهْنُ في الأصل مصدُرَ رَهَنْتُ، يقال: رَهنْتُ زيداً ثوباً أَرْهَنُه رَهْناً أي: دفعتُه إليه رَهْناً عنده، قال: 1137 - يراهِنُني فَيَرْهَنُنِي بَنِيه ... وأَرْهَنُه بَنِيَّ بما أَقولُ وأرهنْتُ زيداً ثوباً أي: دفعتُه إليه ليرهنَه، فَفرَّقوا بين فَعَل وأَفْعَل. وعند الفراء رَهَنْتُه وأَرْهَنْتُه بمعنى، واحتجَّ بقولِ همام السلولي: 1138 - فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وأَرْهَنْتُهُمْ مالِكا وأنكر الأصمعيُّ هذه الروايةَ وقال:» إنما الروايةُ: وأَرْهنُهُم مالكا «، والواوُ للحالِ كقولِهِم:» قَمْتُ وأصُكُّ عينَه «وهو على إضمارِ مبتدأ.

وقيل: أرْهْنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتى أَخَذَها بكثيرِ الثمنِ ومنه قولُه: 1139 - يَطْوي ابنُ سلمى بها من راكبٍ بَعُداً ... عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فيها الدَّنانيرُ ويقال: رَهَنْتُ لساني بكذا، ولا يُقال فيه» أَرْهَنْتُ «وأنشدوا . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ثم أُطْلق الرَّهْنُ على المرهونِ من بابِ إطلاقِ المصدرِ على اسمِ المفعول نحو قولِه تعالى: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] ، و» درهَمٌ ضَرْبُ الأمير «، فإذا قلت:» رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً «فرَهْناً هنا مصدرٌ فقط، وإذا قلت» رهنْتُ زيداً رَهْناً «فهو هنا مفعولٌ به لأنَّ المرادَ به المرهونُ، ويُحتمل أن يكونَ هنا» رَهْناً «مصدراً مؤكداً أيضاً، ولم يَذْكرِ المفعولَ الثانيَ اقتصاراً كقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} [الضحى: 4] . و» رَهْن «مِمَّا استُغْنى فيه بجمعِ كثرتِه عن جمعِ قلَّته، وذلك أنَّ قياسَه في القلةِ أَفْعُل كفَلْس وأفلُس، فاستُغْنِيَ برَهْن ورِهان عن أَرْهُن. وأصلُ الرَّهْنِ: الثبوتُ والاستقرارُ، يقال: رَهَنَ الشيءُ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر، ونِعمة راهنة أي دائمة ثابتة. وأنشد ابن السكيت:

1140 - لا يَسْتَفيقون منها وَهْي راهِنةٌ ... إلا بهاتِ وإنْ عَلُّوا وإنْ نَهِلوا ويقال:» طعام راهن «أي: مقيم دائم، قال: 1141 - الخبزُ واللحمُ لهم راهِن ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: دائمٌ مستقرٌّ، ومنه سُمِّي المرهونُ» رَهْناً «لدوامهِ واستقرارهِ عند المُرْتَهِنِ. وقوله: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها عطفٌ على فعلِ الشرطِ أي:» وإنْ كنتم ولم تَجِدوا «فتكونُ في محلِّ جزمِ لعطفِها على ما هو مجزومٌ تقديراً. والثاني: أن تكونَ معطوفةٌ على خبرِ كان، أي: وإنْ كنتم لم تَجِدُوا [كاتباً} والثالث: أَنْ تكونَ الواوُ للحال، والجملةُ بعدَها نصبٌ على الحالِ فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلِّ نصب. قوله: {فَإِنْ أَمِنَ} قرأ أُبَيّ فيما نَقَلَه عنه الزمخشري «أُومِنَ» مبنياً للمفعول. قال الزمخشري: «أي أَمِنَه الناس ووصفوا المَدْيونَ بالأمانةِ والوفاء» . قلت: وعلامَ تنتصبُ «بعضاً؟ والظاهرُ نصبُه/ بإسقاط الخافض على حذفِ مضافٍ أي: فإن أومِنَ بعضُكم على متاعِ بعضٍ أو على دَيْنِ بعض. قوله: {فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن} إذا وُقِفَ على» الذي «وابتُديء بما بعدها قيل:» اوتُمِنَ «بهمزةٍ مضمومة بعدَها واو ساكنة، وذلك لأنَّ أصلَه أُأْتُمِنَ، مثل

اقْتُدِرَ بهمزتين: الأولى للوصلِ والثانيةُ فاءُ الكلمة، ووقعَتِ الثانيةُ ساكنةً بعد أخرى مثلِها مضمومةً وجب قَلْبُ الثانيةُ لمجانِسِ حركةِ الأولى فقلت: أُوْتُمِنَ. فأمَّا في الدَّرْج فتذهبُ همزةُ الوصلِ فتعود الهمزةُ إلى حالِها لزوالِ موجبِ قلبِها واواً بل تُقْلَبُ ياءً صريحةً في الوصلِ في رواية ورش والسوسي. ورُوي عن عاصم:» الذي اوتُمِن «برفعِ الألفِ ويُشيرِ بالضمة إلى الهمزة، قال ابن مجاهد:» وهذه الترجمةُ غلط «. ورَوى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضمَّ، وفي الإِشارة والإِشمامِ المذكورَيْن نظرٌ. وقرأ عاصم أيضاً في شاذِّة:» الَّذِتُّمِنَ «بإدغامِ الياء المبدلةِ من الهمزةِ في تاء الافتعال، قال الزمخشري:» قياساً على «اتَّسر» في الافتعال من اليُسْر، وليس بصحيحٍ لأنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ فهي في حكمِ الهمزةِ، واتَّزر عاميُّ، وكذلك «رُيَّا» في «رُؤْيا» قال الشيخ: «وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح وأن» اتَّزر «عامِّي - يعني أنه من إحداث العامة لا أصلَ له في اللغة - قد ذَكَره غيرُه أنَّ بعضَهم أَبْدَلَ وأدْغَمَ:» اتَّمَنَ واتَّزَرَ «وأنَّ ذلك لغةٌ رديئة، وكذلك» رُيَّا «في رُؤْيا، فهذا التشبيهُ: إمَّا أن يعودَ على قولِه:» واتَّزر عاميٌّ «فيكونُ إدغام» رُيَّا «عامياً، وإمَّا أَنْ يعودَ إلى قولِه» فليس بصحيحٍ «أي: وكذلك إدْغَامُ» رُيَّا «ليس بصحيحٍ، وقد حكَى الكسائي الإِدغمَ في» رُيَّا «.

وقولُه: {أَمَانَتَهُ} يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشيء المُؤْتَمَنِ عليه فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقولِه:» فليؤدِّ «، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلِها، وتكونُ على حَذْفِ مضاف، أي: فليؤدِّ دَينَ أمانتهِ. ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبةٌ على مصدرِ ائتُمِنَ. والضميرُ في» أمانتَه «يُحْتَمل أَنْ يعودَ على صاحبِ الحقِّ، وأَنْ يعودَ على الذي ائتُمِن. قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} في هذا الضمير وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الشأنِ والجملةُ بعدَه، مفسِّرٌ له. والثاني: أنه ضميرُ» مَنْ «في قولِه:» ومَنْ يَكتُمْها «وهذا هو الظاهرُ. وأمَّا «آثمٌ قلبُه» ففيه أوجهٌ: أظهرُها: أنَّ الضميرَ في «إنه» ضميرُ «مَنْ» و «آثمٌ» خبرُ إنَّ، و «قلبُه» فاعلٌ بآثم، نحو قولِك: زيدٌ إنه قائمٌ أبوه، وعَمَلُ اسمِ الفاعلِ هنا واضحٌ لوجودِ شروطِ الإِعمال. ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأن، لأنَّ ضميرَ الشأنَ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، واسمُ الفاعلِ مع فاعلِه عند البصريين مفردٌ، والكوفيون يُجيزون ذلك. الثاني: أن يكونَ «آثمٌ» خبراً مقدماً، و «قلبُه» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ خبرَ «إنَّ» ذكر ذلك الزمخشري وأبو البقاء وغيرُه، وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيين؛ لأنه لا يعودُ عندَهم الضميرُ المرفوعُ على متأخرٍ لفظاً، و «آثمٌ» قد تَحَمَّل ضميراً لأنه وَقَع خبراً، وعلى هذا الوجهِ فيجوزُ أن تكونَ الهاءُ ضميرَ الشأن وأَنْ تكونَ ضميرَ «مَنْ» . والثالث: أن يكونَ «آثم» خبرَ إنَّ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في «إنه» ، و «قلبُه» بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كل. الرابع: أن يكونَ «آثم» مبتدأً، و «قلبُه» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، والجملةُ

خبرُ إنَّ، قاله ابن عطية، وهو لا يجوزُ عند البصريين، لأنه لا يعملُ عندَهم اسمُ الفاعل إلا إذا اعتمد على نفيٍ أو استفهام نحو: ما قائمٌ أبواك، وهل قائمٌ أخواك، وما قائمٌ قومك، وهل ضاربٌ إخوتك. وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين والأخفشِ من البصريين، إذ يجيزان: قائمٌ الزيدان وقائمٌ الزيدون، فكذلك في الآية الكريمة. وقرأ ابنُ أبي عبلة: «قلبَه» بالنصب، نسبَها إليه ابن عطية. وفي نصبه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه بدلٌ من اسم «إنَّ» بدلُ بعض من كل، ولا محذورَ في الفصلِ بالخبر - وهو آثمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه، كما لا محذورَ في الفصل به بين النعتِ والمنعوتِ نحو: زيد منطلق العاقل، مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ، بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه/ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبْدَلِ منه. الثاني: أنه منصوبٌ على التشبيهِ بالمفعولِ به، كقولك: «مررت برجلٍ حسنٍ وجهُه» وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ، وهو ثلاثةُ مذاهبَ: الأول مذهب الكوفيين وهو الجواز مطلقاً، أعني نظماً ونثراً. الثاني: المنعُ مطلقاً، وهو مذهبُ المبرد. الثالث: مَنْعُه من النثر وجوازُه في الشعرِ، وهو مذهبُ سيبويه، وأنشدَ الكسائي على ذلك:

1142 - أَنْعَتُها إنِّيَ مِنْ نُعَّاتِها ... مُدارةَ الأخفْافِ مُجْمَرَّاتِها غُلْبَ الرِّقابِ وعَفَرْ نِياتِها ... كُومَ الذُّرى وادِقَةً سُرَّاتِها ووجه ضعفِه عند سيبويه في النثر تكرُّر الضمير. والثالث: أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكي وغيرُه، وضَعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً، وهذا عند البصريين، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه، ومنه عندهم: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 85] وأنشدوا: 1143 - إلى رُدُحٍ من الشِّيزى مِلاءٍ ... لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بالشِّهادِ وقرأ ابن أبي عبلة - فيما نقل عنه الزمخشري - «أَثِم قلبَه» جعل «أثم» فعلاً ماضياً مشدد العين، وفاعلُه مستترٌ فيه، «قلبه» مفعول به أي: جعل قلبَه آثماً أي: أثم هو، لأنه عَبَّر بالقلب عن ذاتِه كلها لأنه أشرفُ عضوٍ فيها. وقرأ أبو عبد الرحمن: «ولا يَكْتُموا» بياء الغَيْبَةِ، لأنَّ قبلَه غيباً وهم من ذَكَر في قولِه: {كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} ، وهو وإنْ كان بلفظِ الإِفراد فالمرادُ به الجَمْعُ، ولذلك اعتبَرَ معناه في قراءة أبي عبد الرحمن فجَمَعَ في قوله: «ولا يكتموا» .

وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على أنواع من البديعِ منها: التجنيسُ المغايرُ في «تدايَنْتُم بدَيْن» نظائره، والمماثلُ في قولِه: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا} والطباقُ في «تَضِلَّ» و «تذكِّر» و «صغيراً وكبيراً» ، وهي كثيرةٌ، وتؤخذ مِمَّا تقدَّم فلا حاجةَ إلى التكثير بذكرِها. وقرأ السلمي أيضاً: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} بالغيبة جرياً على قراءته بالغَيْبَة.

284

قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ} قرأ ابن عامر وعاصم برفع «يغفرُ» و «يعذبُ» ، والباقون من السبعةِ بالجزم. وقرأ ابنُ عباس والأعرج وأبو حيوة: «فيغفرَ» بالنصب. فأمَّا الرفعُ فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ، وفيه احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو يغفرُ. والثاني: أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ عُطِفَتْ على ما قبلها. وأمّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم. وأمَّا النصبُ فبإضمارِ «أَنْ» وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهَّم من الفعلِ قبلَ ذلك تقديره: تكنْ محاسبةٌ فغفرانٌ وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجهِ الثلاثة وهو: 1144 - فإنْ يَهْلِكْ أبو قابوسَ يَهْلِكْ ... ربيعُ الناسِ والبلدُ الحرامُ ونأخذْ بعدَه بذِنابِ عيشٍ ... أجَبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ بجزمِ «نأخذ» عطفاً على «يَهْلك ربيع» ونصبهِ ورفعِه، على ما ذكرتُه لك

في «فَيغفر» وهذه قاعدةٌ مطردةٌ: وهي أنه إذا وقع بعدَ جزاءِ الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جازَ فيه هذه الأوجُهُ الثلاثةُ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ جاز جزمُه ونصبُه وامتنع رفعُه نحو: إن تأتني فَتَزُرْني أو فتزورَني، أو وتزرْني أو وتزورَني. وقرأ الجعفيّ وطلحة بن مصرف وخلاد: «يَغْفِرْ» بإسقاطِ الفاء، وهي كذلك في مصحفِ عبد الله، وهي بدلٌ من الجوابِ كقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب} [الفرقان: 68-69] . وقال أبو الفتح: «وهي على البدلِ من» يُحاسِبْكم «فهي تفسيرٌ للمحاسبة» قال الشيخ: «وليس بتفسيرٍ، بل هما مترتِّبان على المحاسَبَةِ» . قال الزمخشري: «ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة الحساب لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّلِ، فهو جارٍ مجرى بَدَلِ البعضِ من الكلِ أو بدلِ الاشتمال، كقولك:» ضربتُ زيداً رأسه «و» أحببتُ زيداً عقله «، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه/ في الأسماءِ لحاجةِ القبيلين إلى البيان» . قال الشيخ: «وفيه بعضُ مناقشةٍ: أمَّا الأولُ فقولُه:» ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ «وليس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ، لأنَّ الحسابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئآتِه وحصرُها، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المحاسَبَة، فليست المحاسبةُ مفصَّلةً بالغفرانِ والعذابِ. وأمَّا ثانياً فلقوله بعد أَنْ ذَكَر بدلَ البعض

من الكل وبدلَ الاشتمال:» وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماء لحاجةِ القبيلين إلى البيان «أمَّا بدلُ الاشتمال فهو يمكنُ، وقد جاءَ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على الجنسِ وتحتَه أنواعٌ يشتمِلُ عليها، ولذلك إذا وَقَع عليه النفيُ انتفَتْ جميعُ أنواعه، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤ، فلا يُقال في الفعلِ له كل وبعض إلا بمجازٍ بعيدٍ، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يَسْتَحِيل وجود بدل البعض من الكل في حق الله تعالى، إذ الباري تعالى لا يتقسم ولا يتبعض. قلت: ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرةِ والعذابِ تفسيراً أو تفصيلاً للحساب، والحسابُ نتيجتُه ذلك، وعبارةُ الزمخشري هي بمعنى عبارة ابن جني. وأمَّا قولُه: «إنَّ بدلَ البعضِ من الكل في الفعلِ متعذرٌ، إذ لا يتحقق فيه تجزُّؤٌ» فليس بظاهرٍ، لأنَّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعِه، فإنَّ الجنسَ كلٌّ والنوعَ بعضٌ. وأمَّا قياسُه على الباري تعالى فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلامِ الزمخشري ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال: «وقرأ الأعمش:» يَغْفر «بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من» يحاسِبْكم «كقوله: 1145 - متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعدَ ذلك كما تقدَّم حكايتُه عنه؛ لأن البيت قد أُبْدِل فيه من فعلِ الشرط لا من جوابِه، والآية قد أُبْدل فيها من نفسِ الجواب، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له.

وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام والباقون بإظهارها. وأظهر الباءَ قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ عنه، وورش عن نافع، والباقون بالإِدغم. وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرو لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: «كيف يَقْرأ الجازم» ؟ قلت: يُظْهِر الراءَ ويُدْغِم الباء، ومُدْغِمُ الراءِ في اللامِ لا حنٌ مخطىء خطأً فاحشاً، وراويه عن أبي عمروٍ مخطىءٌ مرتين، لأنه يَلْحَنُ ويَنْسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يؤُذن بجهلٍ عظيم، والسببُ في هذه الروايات قلةُ ضبطِ الرواة، وسببُ قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية، ولا يَضْبِط نحوَ هذا إلا أهلُ النحو «قلت: وهذا من أبي القاسم غير مَرْضِيٍّ، إذ القُرَّاء مَعْنِيُّون بهذا الشأن، لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ بعد الحرفِ، فكيف يَقِلُّ ضبطُهم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعي، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللامِ والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتها، والأقوى لا يدغم في الأضعف، وهذا مَذهبُ البصريين: الخليل وسيبويه ومَنْ تَبِعهما، وأجاز ذلك الفراء والكسائي والرؤاسي ويعقوب الحضرمي ورأسُ البصريين أبو عمرو، وليس قولُه:» إن هذه الروايةَ غَلَطٌ عليه «بمُسَلَّم. ثم ذكر الشيخ نقولاً عن القراء كثيرةً هي منصوصة في كتبهم، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً، فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته، وكيف يُقال إن الراوي ذلك عن

أبي عمروٍ مخطىءٌ مرتين، ومن جملة رُواته اليزيديُّ إمامُ النحوِ واللغةِ، وكان ينازع الكسائي رئاسته، ومحلُّ مشهور بين أهلِ هذا الشأن.

285

قوله تعالى: {والمؤمنون} : يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه مرفوعٌ بالفاعليةِ عطفاً على «الرسول» فيكونُ الوقفُ هنا، ويَدُّلُّ على صحةِ هذا ما قرأ به أمير المؤمنين عليُّ ابن أبي طالب: «وآمن المؤمنون» ، فَأَظْهَر الفعلَ، ويكون قولُه: «كلُّ آمَن» جملةً من مبتدأٍ وخبر يَدُلُّ على أنَّ جميعَ مَنْ تقدَّم ذكرُه آمَنَ بما ذكر. والثاني: أن يكون «المؤمنون» مبتدأً، و «كلٌّ» مبتدأٌ ثانٍ، و «آمن» خبرٌ عَنْ «كل» وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأولِ، وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه، وهو محذوفٌ تقديرُه: «كلُّ منهم» وهو كقولهم: «السَّمْنُ منوانِ بدرهم» تقديرُه: منوانِ منه. قال الزمخشري: «والمؤمنون إْن عُطِفَ على الرسول كان الضميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في» كل «راجعاً إلى» الرسول «و» المؤمنون «أي: كلهم آمن بالله وملائكتِه وكتبهِ ورسلِه من المذكورين ووُقِفَ عليه، وإن كان مبتدأ كان الضميرُ للمؤمنين» . فإن قيل: هل يجوزُ أَنْ يكون «المؤمنون» مبتدأ، و «كلٌ» تأكيدٌ له، و «آمن» خبرُ هذا المبتدأ، فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجوزُ لأنهم نَصُّوا على أنَّ «كُلاَّ» وأخواتِها لا تَقَعُ تأكيداً للمعارف إلا مضافةً لفظاً لضميرِ الأول، ولذلك رَدُّوا قولَ مَنْ قال: «إنَّ كُلاَّ في قراءة من قرأ: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ} [غافر: 48] تأكيدٌ لاسم إنَّ.

وقرأ الأخَوَان هنا» وكتابِه «بالإِفراد والباقون بالجمعِ. وفي سورة التحريم قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم بالجمعِ والباقون بالإِفراد. فتلخَّص من ذلك أنَّ الأخوين يقرآن بالإِفراد في الموضعين، وأنَّ أبا عمرو وحفصاً يقرآن بالجمعِ في الموضعين، وأنَّ نافعاً وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصم قرؤوا بالجمعِ/ هنا وبالإِفرادِ في التحريم. فأمَّا الإِفرادُ فإنه يُراد به الجنسُ لا كتابٌ واحدٌ بعينِه، وعن ابن عباس:» الكتاب أكثر من الكتب «قال الزمخشري:» فإنْ قلت: كيف يكون الواحدُ أكثرَ من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أُريد بالواحدِ الجنسُ، والجنسيةُ قائمةٌ في وحدات الجنس كلِّها لم يَخْرُجْ منه شيء، وأمَّا الجمعُ فلا يَدْخُل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجموع «. قال الشيخ:» وليس كما ذكر لأنَّ الجمعَ متى أُضِيف أو دَخَلَتْه الألفُ واللامُ [الجنسية] صارَ عامَّاً، ودلالةُ العامِّ دلالةٌ على كلِّ فردٍ فردٍ، فلو قال: «أَعْتَقْتُ عبيدي» لشمل ذلك كلَّ عبدٍ له، ودلالةُ الجمعِ أظهرُ في العموم في الواحدِ سواءً كانت فيه الألفُ واللامُ أو الإضافةُ، بل لا يُذْهَبُ إلى العموم في الواحدِ إلاَّ بقرينةٍ لفظيةٍ كَأَنْ يُسْتَثْنَى منه أو يوصفَ بالجمعِ نحو: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 2] «أهلك الناسَ الدينارُ الصُّفر والدرهم البيض» أو قرينةٍ معنويةٍ نحو: «نيَّةُ المؤمنِ أبلغُ مِنْ عملِه» وأقصى حالِهِ أن يكونَ مثلَ الجمعِ العامِّ إذا أريد به العمومُ «قلت: للناس خلافٌ في الجمعِ المحلَّى بأَلْ أو المضافِ: هل عمومُه بالنسبةِ إلى مراتبِ الجموعِ أم إلى أعمَّ من ذلك، وتحقيقُه في علم الأصول.

قال الفارسي:» هذا الإِفرادُ ليس كإفراد المصادر وإنْ أريدَ بها الكثيرُ كقوله تعالى: {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 24] ولكنه كما تُفْرَدُ الأسماءُ التي يُرَاد بها الكثرةُ نحو: كَثُرَ الدينارُ والدرهمُ، ومجيئها بالألف واللامِ أكثرُ من مجيئها مضافةً، ومن الإِضافةِ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وفي الحديث: «مَنَعَتِ العراقُ درهمَها وقَفِيزها» يُراد به الكثيرُ، كما يُراد بما فيه لامُ التعريفُ «. قال الشيخ:» انتهى ملخصاً، ومعناه أنَّ المفردَ المحلَّى بالألفِ واللامِ يَعُمُّ أكثرَ من المفردِ المضافِ «. قلت: وليس في كلامه ما يدُلُّ على ذلك البتةَ، إنما فيه أنَّ مجيئها في الكلامِ مُعَرَّفةً بأل أكثرُ من مجيئها مضافةً، وليس فيه تَعَرُّضٌ لكثرةِ عمومٍ ولا قِلَّتِهِ. وقيل: المرادُ بالكتابِ هنا القرآن فيكونُ المرادُ الإِفرادَ الحقيقي. وأمَّا الجمعُ فلإِرادةِ كلِّ كتابٍ، إذ لا فرق بين كتابٍ وكتابٍ، وأيضاً فإنَّ فيه مناسبةً لِما قبلَه وما بعدَه من الجمعِ. ومَنْ قَرَأ بالتوحيدِ في التحريم فإنما أراد به الإِنجيلَ كإرادة القرآن هنا، ويجوزُ أن يُرادَ به أيضاً الجنسُ. وقد حَمَل على لفظ» كُل «في قوله:» آمن «فَأَفْرَدَ الضميرَ وعلى معناه فجمع في قوله:» وقالوا سَمِعْنَا «. قال الزمخشري:» ووحَّد ضمير «كل» في «آمَنَ» على معنى: كُلُّ واحدٍ منهم آمَنَ، وكان يجوزُ أن يُجْمَعَ كقولِه تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] .

وقرأ يَحْيى بن يَعْمر - ورُويت عن نافع - «وكُتْبِهِ ورُسْلِهِ» بإسكانِ العينِ فيهما. ورُوي عن الحسن وأبي عمرو تسكينُ سين «رُسْله» . قوله: {لاَ نُفَرِّقُ} هذه الجملةُ منصوبةٌ بقولٍ محذوف تقديرُه: يقولون لا نُفرِّق، ويجوز أن يكونَ التقديرُ: يقول، يعني يجوزُ أَنْ يراعى لفظُ «كل» تارةً ومعناها أخرى في ذلك القولِ المقدرِ، فَمَنْ قَدَّر «يقولون» راعى معناها، وَمَنْ قدَّر «يقول» راعى لفظَها، وهذا القَولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه خبرٌ بعد خبرٌ، قاله الحوفي. والعامَّةُ على «لا نفرِّقُ» بنون الجمعِ. وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب، ورُويت عن أبي عمرو أيضاً: «لا يُفَرِّقُ» بياء الغيبة حملاً على لفظ «كل» . وروى هارون أن في مصحف عبد الله «لا يُفَرِّقون» بالجمعَ حَمْلا على معنى «كل» ، وعلى هاتين القراءتين فلا حاجةَ إلى إضمارِ قولٍ، بل الجملةُ المنفيةُ بنفسِها: إمَّا في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وإمَّا في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً كما تقدَّم في ذلك القولِ المضمرِ. قوله: {بَيْنَ أَحَدٍ} متعلِقٌ بالتفريقِ، وأُضيف «بين» إلى أحد وهو مفرد، وإنْ كان يقتضي إضافَتَه إلى متعدد نحو: «بين الزيدين» أو «بين زيد وعمرو» ، ولا يجوزُ «بين زيد» ويَسْكُت: إمَّا لأنَّ «أحداً» في معنى العموم وهو «أحد» الذي لا يُسْتعمل إلا في الجَحْد ويُراد به العمومُ، فكأنه قيل: لا نفرِّقُ بين

الجميعِ من الرسل. قال الزمخشري: كقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ، ولذلكَ دَخَل عليه «بين» وقال الواحدي: «وبين» تقتضي شيئين فصاعداً، وإنما جاز ذلك مع «أحد» وهو واحدٌ في اللفظِ، لأنَّ «أحداً» يجوزُ أَنْ يُؤَدَّى عن الجميعِ، قال الله تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وفي الحديث: «ما أُحِلَّتْ الغنائمُ لأحدٍ سودِ الرؤوسِ غيرِكم» يعني فوصَفَه بالجمع، لأنَّ المرادَ به جمعٌ. قال: «وإنَّما جازَ ذلكَ لأن» أحداً «ليس كرجل يجوز أن يُثَنَّى ويُجْمع، وقولُك:» ما يفعل هذا أحدٌ «تريد ما يفعلُه الناسُ كلُّهم، فلمٌا كان» أحد «يؤدَّى عن الجميع جاز أَنْ يُسْتعمل معه لفظُ» بَيْن «وإنْ كان لا يجوز أَنْ تقولَ:» لا نفرِّقُ بين رجلٍ منهم «. قلت: وقد رَدَّ بعضُهم هذا التأويلَ فقال:» وقيل إنَّ «أحداً» بمعنى جميع، والتقديرُ: بين جميعِ رسلهِ «ويَبْعُدُ عندي هذا التقديرُ، لأنه لا ينافي كونَهم مفرِّقين بين بعضِ الرسلِ، والمقصودُ بالنفي هو هذا؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا يُفَرِّقون بين كلَّ الرسلِ بل البعضُ. وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ، بل معنى الآية: لا نفرِّق بين أحدٍ من رسلهِ وبين غيرهِ في النبوة، وهذا وإنْ كان في نفسه صحيحاً إلا أنَّ القائلين بكونِ» أحد «بمعنى جميع، وإنما يريدون في العمومِ المُصَحِّح لإِضافة» بين «إليه/، ولذلك يُنَظِّرونه بقولِه تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} وبقوله: 1146 - إذا أمورُ الناسِ دِيكَتْ دُوْكاً ... لا يَرْهَبُون أحداً رَأَوْكا فقال:» رَأَوْكَ «اعتباراً بمعنى الجميعِ المفهومِ من» أحد «.

وأمَّا لأن ثَمَّ معطوفاً محذوفاً لدلالةِ المعنى عليه، والتقديرُ:» لا نفرِّقُ بين أحدٍ من رسلهِ وبين أحدٍ، وعلى هذا فأحد هنا ليس الملازمَ للجحدِ ولا همزتُه أصليةٌ بل هو «أحد» الذي بمعنى واحد وهمزتُه بدلٌ من الواو، وحَذْفُ المعطوفِ كثيرٌ جداً [نحو] : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد، [وقوله] : 1147 - فما كانَ بين الخيرِ لو جاءَ سالماً ... أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قلائِلُ أي: بينَ الخيرِ وبيني. و «مِنْ رسله» في محلِّ جرٍ لأنه صفةٌ ل «أحد» ، و «قالوا» عطفٌ على «آمَنَ» ، وقد تقدَّم أنه حَمَل على معنى «كُل» . قوله: {غُفْرَانَكَ} منصوبٌ: إمَّا على المصدريةِ. قال الزمخشري: «منصوبٌ بإضمارِ فعلِه، يقال:» غفرانَك لا كُفْرانَك «أي: نَسْتغفرك ولا نَكْفرك» فقدَّره جملةً خبريةً، وهذا ليس مذهبَ سيبويه، إنما مذهبُه تقديرُ ذلك بجملةٍ طلبية كأنه قيل: «اغفْر غفرانَك» . ونَقَلَ ابنُ عطيَة هذا قولاً عن الزجاج، والظاهر أنَّ هذا من المصادرِ اللازمِ إضمارُ عاملِها لنيابتِها عنه، وقد اضطربَ فيها كلامُ ابن عصفور، فَعَدَّها تارةً مع ما يلزمُ فيه إضمارُ الناصبِ نحو: «سبحانَ الله ورَيْحَانَه» ، و «غفرانَك لا كفرانكَ» ،

وتارةً مع ما يجوزُ إظهارُ عاملهِ. والطلبُ في هذا البابِ أكثرُ، وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في أولِ الفتحة. والمصير: اسمُ مصدرٍ مِنْ صارَ يصير أي: رَجَعَ، وقد تقدَّم لك في قوله: {المحيض} [البقرة: 222] أنَّ في المَفْعِل من الفعلِ المعتلِّ العينِ بالياءِ ثلاثةَ مذاهبَ وهي: جريانُه مَجْرَى الصحيح، فيُبْنى اسمُ المصدرِ منه على مَفْعَل بالفتح، والزمانُ والمكانُ بالكسرِ نحو: ضَرَبَ يَضْرِبَ مَضْرِباً، أو يُكْسَرُ مطلقاً، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماعِ فلا يَتَعَدَّى وهو أعدلُهَا، ويُطلَق المصيرُ على المعنى، ويُجْمَعُ على مُصْران كرغيفَ ورُغْفان، ويُجْمَع مُصْران على مَصارين.

286

قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} : «وُسْعَها» مفعولٌ ثانٍ. وقال ابنُ عطية: «يُكَلِّفُ» يتعدَّى إلى مفعولَيْنِ، أحدُهما محذوفٌ، تقديرُه: عبادةً أو شيئاً «. قال الشيخ:» إن عَنى أنَّ أصلَه كذا فهو صحيحٌ، لأنَّ قولَه: «إلاَّ وُسْعَها» استثناءٌ مفرغٌ من المفعولِ الثاني، وإنْ عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصناعة فليس كذلك، بل الثاني هو «وُسْعَها» نحو: وما أعطَيْتُ زيداً إلا درهماً «و» ما ضربْتُ إلا زيداً «هذا في الصناعة هو المفعولُ وإن كان أصلُه: ما أعطيت زيداً شيئاً إلاّ درهماً» . والوُسْعُ: ما يَسَعُ الإِنسانَ، ولا يَضِيقُ عليه، ولا يَخْرج منه. وقرأ ابنُ أبي عَبْلَة: «إلا وَسِعَها» جَعَلَه فعلاً ماضياً، وخَرَّجُوا هذه القراءةَ على أنَّ الفعلَ فيها صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ تقديرُه: «إلاَّ ما وَسِعَها»

وهذا الموصولُ هو المفعولُ الثاني كما كان «وُسْعَها كذلك في قراءةِ العامةِ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين، بل عند الكوفيين، على أنَّ إضمارَ مثلِ هذا الموصولِ ضعيفٌ جداً إذ لا دلالةَ عليه، وهذا بخلافِ قولِ الآخر: 1148 - ما الذي دَأْبُه احتياطٌ وحَزْمٌ ... وهواهُ أَطاعَ يَسْتَوِيان وقول حسان أيضاً: 1149 - أَمَنْ يَهْجُو رسولَ الله منكم ... ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَواءٌ وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإِعراب أم لا؟ الظاهرُ الثاني لأنها سِيقَتْ للإِخبارِ بذلك، وقيل: بل محلُّها نصبٌ عطفاً على» سَمِعْنا «و» أَطَعْنَا «أي: وقالوا أيضاً: لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً. وقد خُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجهٍ آخرَ: وهو أَنْ تَجْعَلَ المفعولَ الثاني محذوفاً لفَهْمِ المعنى، وتَجْعَلَ هذه الجملة الفعلية في محلِّ نصبٍ صفةً لهذا المفعولِ، والتقديرُ: لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً شيئاً إلاَّ وَسِعَها. قال ابن عطية: وفي قراءةِ ابن أبي عبلة تَجَوُّزٌ لأنه مقلوبٌ، وكان وجهُ اللفظِ: إلا وَسِعَتْه كما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} [البقرة: 255] {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98] ، ولكن يجيءُ هذا من باب:» أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رأسي «. قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} هذه الجملةُ لا محلَّ لها لاستئنافِها وهي كالتفسيرِ لِما قبلها؛ لأنَّ عَدَم مؤاخذتِها بكسْبِ غيرِها واحتمالَها ما حَصَّلَتْهُ هي فقط من

جملةِ عدمِ تكليفِها بما لا تَسَعُه. وهل يظهرُ بين اختلافِ لفظَيْ فعلِ الكسبِ معنىً أم لا؟ فقال بعضُهم: نعم، وفَرَّقَ بأنَّ الكسبَ أَعَمُّ، إذ يقال:» كَسَب «لنفسِه ولغيرِه» ، و «اكتسب» أخصُّ؛ إذ لا يقال: «اكتسب لغيرِه» وأنشدَ قولَ الحطيئة: 1150 - أَلْقَيْتَ كاسِبَهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويقال: هو كاسبُ أهلهِ، ولا يُقالُ: مكتسبُ أهلِه. وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ خَصَّ الخيرَ بالكَسْب والشرَّ بالاكتسابِ؟ قلت: في الاكتساب اعتمالٌ، ولمَّا كان الشرُّ مِمَّا تَشْتهيه النفسُ وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به كانَتْ في تحصيلهِ أَعْمَلَ وآجَدَ فَجُعِلَتْ لذلك مكتسبةً فيه، ولمَّا لم تكنْ كذلكَ في بابِ الخيرِ وُصِفَتْ بما لا دلالةَ فيه على الاعتمالِ» . وقال ابنُ عطية: «وكَرَّر فعلَ الكسبِ فَخَالَفَ بين التصريف حُسْناً لنمطِ الكلامِ، كما قال تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ} [الطارق: 17] هذا وجهٌ، والذي يَظْهَرُ لي في هذا أنَّ الحسناتِ هيَ مما يُكْسَبُ دونَ تكلُّفٍ، إذ كاسبُها على جادَّةِ أمرِ الله ورَسْمِ شَرْعِهِ، والسيئاتُ تكتسب ببناء المبالَغَة، إذ كاسبُها يَتَكَّلفُ في أَمرِها خَرْقَ حجابِ نَهْيِ الله تعالى، ويَتجاوَزُ إليها/ فَحَسُنَ في الآية مجيءُ التصريفَيْنِ إحرازاً لهذا المعنى» . وقال بعضُهم: «لا فَرْقَ، وقد

جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ. قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] . وقال تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] ، وقال تعالى: {بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} [الأحزاب: 58] فقد استعمل الكَسْب والاكتسابَ في الشرِّ» . وقال أبو البقاء: «وقال قومٌ:» لا فَرْقَ بينهما، وذكر نحواً مِمَّا تقدَّم. وقال آخرون: «افتْعَلَ يَدُلُّ على شدَّة الكَلَفِة. وفعلُ السيئة شديدٌ لِما يَؤُول إليه» . وقال الواحدي: «الصحيحُ عند أهلِ اللغة أن الكسبَ والاكتسابَ واحدٌ لا فرقَ بينهما، قال ذو الرمة: 1151 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ألفَى أباه بذاك الكسبِ يَكْتَسِبُ قلت: وإنما أَتى في الكسبِ باللامِ وفي الاكتسابِ ب» على «؛ لأنَّ اللامَ تقتضي المِلْكَ والخيرَ يُحَبُّ ويُسَرُّ به، فجيء معه بما يَقْتَضِي المِلْكُ، ولَمَّا كان الشرُّ يُحْذَرُ وهو ثِقَلٌ ووِزْرٌ على صاحبهِ جِيءَ معه ب» على «المقتضيةِ لاستعلائِهِ عليه. وقال بعضَهم:» فيه إيذانٌ أَنَّ أَدْنى فعلٍ من أفعالِ الخير يكونُ للإنسان تكرُّماً من اللهِ على عبدهِ حتى يصلَ إليه ما يفعلُهُ معه ابنُ من غيرِ علمِه به،

لأنه من كسبهِ في الجملةِ، بخلافِ العقوبةِ فإنه فا يُؤَاخَذُ بها إلا مَنْ جَدَّ فيها واجتهَدَ «. وهذا مبنيٌّ على القولِ بالفرق بين البنائين وهو الأظهرُ. قوله: {لاَ تُؤَاخِذْنَا} يُقْرأ بالهمزةِ وهو من الأخْذ بالذَّنْبِ، ويُقْرَأُ بالواوِ، ويَحْتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ مِن الأخْذِ أيضاً، وإنما أُبْدِلَتِ الهمزةُ واواً لفتحِها وانضمامِ ما قبلها، وهو تخفيفٌ قياسي، ويَحْتمل أَنْ يكونَ من: واخذه بالواو، قاله أبو البقاء: وجاء هنا بلفظِ المفاعلةِ وهو فعلُ واحدٍ، لأنَّ المسيءَ قد أَمْكَنَ من نفسِه وطَرَقَ السبيلَ إليها بفعله، فكأنه أعانَ مَنْ يعاقِبُه بذَنْبِه، ويأخذُ به على نفسِه فَحَسُنَتْ المفاعَلَةُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ: سافرت وعاقبت وطارقت. وقرأ أُبَيّ:» ربَّنا ولا تُحَمِّلْ علينا إصْراً «بتشديد الميم. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: أَيُّ فرق بين هذه الشديدةِ والتي في» ولا تُحَمِّلْنا؟ قلت: هذه للمبالغةِ في حَمَّل عليه، وتلك لنقل «حَمَلَه» من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولَيْن «. انتهى يعني أنَّ التضعيفَ في الأولِ للمبالغةِ ولذلك لم يتعدَّ إلا لمفعولٍ واحدٍ، وفي الثانيةِ للتعدية، ولذلك تعدَّى إلى اثنين أولُهما» ن «والثاني {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} . والإِصْرُ: في الأصل الثِّقَلُ والشِّدَّة. وقال النابغة: 1152 - يا مانعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ ... والحاملَ الإِصرِ عنهم بعد ما عَرِقُوا

وأُطْلِقَ على العهدِ والميثاقِ لِثِقَلِهما، كقولِه تعالى: {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي: عَهْدِي. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] أي: التكاليف الشاقة ثم يُطْلَقُ على كل ما يَثْقُل، حتى يُرْوى عن بعضِهم أنه فسَّر الإِصرَ هنا بشماتةِ الأعداءِ وأنشد: 1153 - أَشْمَتَّ بيَ الأعداءَ حينَ هَجَرْتَني ... والموتُ دونَ شماتةِ الأَعْدَاءِ ويقال: الإِصْرُ أيضاً: العَطْفُ والقَرابةُ، يُقال:» ما يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ «أي: ما يَعْطِفُني عليه قرابةٌ ولا رَحِمٌ، وأنشد للحطيئة: 1154 - عَطَفُوا عليَّ بغير آ ... صِرَةٍ فقد عَظُمَ الأواصِرْ وقيل: الإِصرُ: الأمرُ الذي تُرْبَطُ به الأشياءُ، ومنه» الإِصارُ «للحبلِ الذي تُشَدُّ به الأحْمَال، يقال: أَصَرَ يأصِرُ أَصْراً بفتحِ الهمزةِ، فأما بكسرها فهو اسمٌ. ويُقال بضمِّها أيضاً، وقد قُرىء به شاذاً: وقرأ أُبَيّ: {وَلاَ تُحَمِّل عَلَيْنَآ} بالتشديدِ مبالغةً في الفِعْلِ. والطاقَةُ: القُدْرَةُ على الشيءِ وهي في الأصلِ، مصدرٌ، جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ، وكان مِنْ حقِّها» إطاقة «لأنها من أَطَاق، ولكن شَذَّتْ كما شَذَّتْ أُلَيفْاظٌ نحو: أَغار غارةً، وأَجابَ جابةً، قالوا:» ساء سمعاً فساءَ

جابة «؛ ولا ينقاسُ فلا يُقال: طال طالة. ونظيرُ أجابَ جابةً: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] وأعطى عَطاءً في قوله: 1155 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وبعدَ عطائِك المئةَ الرِّتاعا وقولُه تعالى: {مَوْلاَنَا} والمَوْلَى: مَفْعَل من وَلِي يَلِي، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ، فيجوز أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: صاحِبُ تولِّينا أي: نُصْرتِنا ولذلك قال:» فانصُرْنا «، والمَوْلَى يجوزُ أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ ايضاً واسمَ زمانٍ. وقوله تعالى: {فانصرنا} أتى هنا بالفاء إعلاماً بالسببيةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كانَ مولاهم ومالكَ أمورِهم وهو مُدَبِّرُهم تَسَبَّب عنه أَنْ دَعَوْه بأن يَنصُرَهم على أعدائِِهم كقولِك» أنت الجوادُ فتكرَّمْ عليَّ وأنت البطلُ فاحْمِ حَرَمَك «. وقد اشتملَتْ هذه السورةُ على أنواع كثيرةٍ من العلومِ، تقدَّم التبيهُ على غالبِها، والذكيُّ مستغنٍ عن التصريحِ بالتلويحِ.

آل عمران

قد تقدَّم الكلامُ على هذا مشعباً، ولكنْ نَقَل الجرجانيُّ هنا أن «ألم» إشارةٌ إلى حروفِ المعجمِ كأنه يقول: هذه الحروفُ كتابُك أو نحوُ هذا، ويدلُّ: {لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} [آل عمران: 2-3] على ما تَرَكَ ذِكْرَه من خبرِ هذه الحروفِ، وذلك في نَظْمِه مثلُ قولِه تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22] وتركَ الجوابَ لدلالةِ قولِه: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} [الزمر: 22] عليه تقديرُه: كَمَنْ قسا قلبُه، ومنه قَولُ الشاعر: 1156 - فلا تَدْفِنوني إنَّ دَفْني مُحَرَّمٌ ... عليكم ولكنْ خامِري أمُّ عامرِ أي: ولكن اتركوني للتي يقال لها «خامري أم عامر» . انتهى. قال ابنُ عطية: يَحْسُن في هذا القول - يعني قولَ الجرجاني - أن

يكون «نَزَّل» خبرَ قولِه «الله» حتى يرتبطَ الكلامُ إلى هذا المعنى. قال الشيخ «وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظرٌ، لأنَّ مُثُلَه ليست صحيحة الشبهِ بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتملٌ، ولكنَّ الأبرعَ في الآية أن» ألم «لا تَضُمُّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكونَ قولُه: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} [آل عمران: 2] كلاماً مبتدأً جزماً جملةً رادَّةً على نصارى نَجْران» . قلت: هذا الذي ردَّه الشيخ على القاضي الجرجاني هو الذي اختاره الجرجاني وتبجَّج به، وجَعَله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه «نظم القرآن» .

2

قوله تعالى: {لا إله إِلاَّ هُوَ} : يجوزُ أَنْ تكون هذه الجملةُ خبَر الجلالة و «نَزَّل عليك» خبرٌ آخرُ، ويجوزُ أن تكونَ {لا إله إِلاَّ هُوَ} معترضةً بين المبتدأ وخبرِه، ويجوزُ أن تكونَ حالاً. وفي صاحبها احتمالان، أحدهما: أن يكونَ الجلالةَ، والثاني: أن يكونَ الضميرَ في «نَزَّل» تقديره نزَّل عليكم الكتاب متوحِّداً بالربوبية. ذكره مكي. وأولُ الأقوال أَوْلاها. وقرأ جمهورُ الناس: «ألمَ الله» بفتح الميم وإسقاطِ همزةِ الجلالةِ، واختلفوا في فتحةِ هذه الميم [علىأقوالٍ] أحدُها: أنها حركةُ التقاءِ ساكنين، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ الناسِ. فإنْ قيلَ: أصلُ التقاءِ الساكنين الكسرُ فلِمَ عَدَلَ عنه؟ فالجوابُ أنهم لو كسروا لكانَ ذلك مُفْضِياً إلى ترقيقِ لامِ الجلالةِ والمقصودُ تفخيمُها للتعظيمِ فأُوثر الفتحُ لذلك. وأيضاً فقبلَ الميمِ ياءٌ وهي أختُ الكسرةِ، وأيضاً فقبل الياءِ كسرةٌ فلو كَسَرْنا

الميمَ الأخيرةَ لالتقاءِ الساكنينِ لتوالَى ثلاثةُ متجانساتٍ فحرَّكوها بالفتحِ كما حَرَّكوا في نحو «مِنَ الله» ، وأمَّا سقوطُ الهمزةِ فواضحٌ وبسقوطها التقى الساكنان. الثاني: أنَّ الفتحةَ لالتقاءِ الساكنين أيضاً، ولكنْ الساكنان هما الياء التي قبلَ الميمِ والميمُ الأخيرةُ، فحُرِّكت بالفتحِ لئلا يلتقي ساكنان، ومثلُه: أين وكيف وكَيْتَ وذَيْتَ وما أشبهه، وهذا على قولِنا إنه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروفِ المقطَّعة، وهذا بخلاِف القولِ الأولِ فإنّه مَنْوِيٌّ فيه الوقفُ على الحروفِ المقطَّعةِ فَسَكَنَتْ أواخُرها وبعدها ساكنٌ آخرُ وهو لامُ الجلالةِ، وعلى هذا القولِ الثاني ليس لإِسقاطِ الهمزةِ تأثيرٌ في التقاءِ الساكنين بخلافِ الأولِ فإنَّ التقاءَ الساكنينِ إنما نَشَأَ مِنْ حَذْفِها دَرْجاً. الثالث: أنَّ هذه الفتحةَ ليسَتْ لالتقاء الساكنين، بل هي حركةُ نقل أي: نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ التي قبلَ لامِ التعريفِ على الميمِ الساكنةِ نحو: {قَدَ أفلح} [المؤمنون: 1] وهي قراءةُ ورشٍ وحمزةَ في بعض طُرُقه في الوَقْفِ وهو مذهبُ الفراء، واحتجَّ على ذلك بأن هذه الحروفَ النيةُ بها الوقفُ، وإذا كان النيةُ بها الوقفَ فَتَسْكُنُ أواخُرها، والنيةُ بما بعدها الابتداءُ والاستئنافُ، فكأنَّ همزةَ الوصلِ جَرَتْ مجرىهمزةِ القطعِ إذ النيةُ بها الابتداءُ وهي تَثْبُتُ ابتداءً ليس إلاَّ، فلمَّا كانت الهمزةُ في حكمِ الثابتةِ وما قبلها ساكنٌ صحيحٌ قابلٌ لحركتها خَفَّفوها بأَنْ ألقَوا حركتها على الساكنِ قبلها. وقد رَدَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ وَضْع هذه الحروفِ على الوَقْف لا يُوجِبُ قَطْعَ ألفِ الوصلِ وإثباتها في المواضعِ التي تسقُط فيها، وأنتَ إذا

أَلْقَيْتَ حركتها على الساكنِ قبلَها فقد وَصَلْتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلَها وإنْ كان ما قبلها موضوعاً على الوقفِ، فقولُك: «ألقيتُ حركته عليه» بمنزلة قولِك «وصلتُه» ألا ترى أنك إذا خَفَّفْتَ «مَنْ أَبوك» قلت: «مَنَ بُوك» فوصَلْتَ، ولو وقفْتَ لم تُلْقِ الحركةَ عليها، وإذا وصلْتَها بما قبلها لَزِم إسقاطِها، وكان إثباتُها مخالفاً لأحكامِها في سائِر متصرَّفاتها. قلت: هذا الردُّ مردودٌ بأنَّ ذلك مُعَامَلٌ معاملة الموقوفِ عليه والابتداءُ بما بعده، لا أنه موقوفٌ عليه ومبتدأٌ بما بَعده حقيقةً حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره. وقد قَوَّى جماعةٌ قولَ الفراءِ بما حكاه سيبويه مِنْ قولهم: «ثَلَثَهَرْبَعَة» والأصلُ: ثلاثة أربعة، فلمَّا وُقِف على «ثلاثة» أُبْدِلَتِ التاءُ هاءً كما هو اللغةُ المشهورةُ، ثم أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقفِ، فَتَرَك الهاءَ على حالِها في الوصل، ثم نَقَل حركةَ/ الهمزةِ إلى الهاءِ فكذلك هذا. وقد رَدَّ بعضُهم هذا الدليلَ، وقال: الهمزةُ في «أربعة» همزةُ قطعٍ، فهي ثابتةٌ ابتداءً ودَرْجاً، فلذلك نُقِلَتْ حركتُها بخلافِ همزةِ الجلالة فإنها واجبةُ السقوطِ فلا تستحقُّ نَقْلَ حركتها إلى ما قبلها، فليس وِزان ما نَحْن فيه. قلتُ: وهذا من هذه الحيثيةِ صحيحٌ، والفرقُ لائحٌ؛ إلا أَنَّ حظَّ الفراء منه أنه أَجْرى فيه الوصلَ مُجْرى الوقفِ من حيث بقيت الهاءُ المنقلبةُ عن التاءِ وَصْلاً لا وقفاً واعتدَّ بذلك، ونَقَلَ إليها حركةَ الهمزةِ وإنْ كانَتْ همزةَ قطعٍ. وقد اختار الزمخشري مذهبَ الفراء، وسَأَلَ وأجابَ فقال: «ميم حقُّها أن يُوقَفَ عليها كما يُوقَفُ على ألف ولام، وأَنْ يُبتدأ ما بعدها كما تقول: واحدْ إثنان، وهي قراءةُ عاصم، وأمَّا فتحُها فهي حركةُ الهمزةِ أُلْقِيَتْ عليها حين

أُسْقِطَتْ للتخفيفِ. فإنْ قلت: كيف جازَ إلقاءُ حركتِها عليها وهي همزةُ وصلٍ، لا تَثْبُتُ في دَرْجِ الكلام فلا تَثْبُتُ حركتُها لأنَّ ثباتَ حركتِها كثباتِها؟ قلت: هذا ليسَ بدَرْجٍ، لأنَّ ميم في حكمِ الوَقْف والسكونِ، والهمزةُ في حكمِ الثابتِ، وإنما حُذفت تخفيفاً، وأُلْقِيَتْ حركتُها على الساكنِ قبلَها لتدلَّ عليها، ونظيره:» واحدِ اثنان «بإلقائهم حركةَ الهمزةِ على الدالِ» . قال الشيخ: «وجوابُه ليس بشيءٍ لأنه ادَّعى أنَّ الميمَ حين حُرِّكتْ موقوفٌ عليها، وأن ذلك ليس بدَرْجٍ؛ بل هو وقفٌ، وهذا خلافُ ما أَجْمعت عليه العربُ والنحاةُ من أنه لا يُوقف على متحركٍ البتةَ سواءً كانت حركتُه إعرابيةً أم بنائيةً أم نقليةً أم لالتقاءِ الساكنين أم للإِتباع أم للحكايةِ، فلا يجوزُ في» قد أفلح «إذا حَذَفْتَ الهمزة ونَقَلْتَ حركتها إلى دالِ» قد «أَنْ تَقِفَ على دال» قد «بالفتحةِ، بل تُسَكِّنها قولاً واحداً. وأمَّا قوله:» ونظيرُ ذلك «» واحدِ اثنان «بإلقاءِ حركة الهمزة على الدالِ، فإنَّ سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّونَ آخر» واحدٍ «لتمكُّنِه، ولم يَحِكْ الكسرَ لغةً، فإنْ صَحَّ الكسرُ فليس» واحد «موقوفاً عليه كما زعم الزمخشري، ولا حركتُه حركةُ نقلٍ من همزة الوصلِ، ولكنه موصولٌ بقولِهم: اثنان، فالتقى ساكنان: دالُ واحد وثاءُ اثنين فكُسِرتِ الدالُ لالتقاءِ الساكنين، وحُذِفتْ همزةُ الوصل لأنها لا تَثْبُتُ في الوصل» . قلت: ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يُوقف على ميم مِنْ: ألف لام ميم وهي متحركةٌ، حتى يُلْزِمَه بمخالفةِ إجماعِ العربِ والنحاةِ، وإنما ادَّعى الرجلُ أن هذا في نيةِ الموقوفِ عليه قبلَ تحريكِه بحركة النقلِ، لا أنه نُقِل إليه، ثم

وُقِف عليه، وهذا لم يَقُلْه البتةَ ولم يَخْطُرْ له، ثم قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هَلاَّ زعمتَ أنها حركةٌ لالتقاء الساكنين. قلت: لأنَّ التقاءَ الساكنين لا يُبالى به في بابِ الوقف، وذلك قولك: هذا إبراهيمُ وداود وإسحاق، ولو كان التقاء الساكنين في حالِ الوقفِ بوجِبُ التحريكَ لحُرِّكَ الميمان في ألف لام ميم لالتقاء الساكنين ولَما انتُظر ساكنٌ آخرُ» . قال الشيخ: «وهو سؤالٌ صحيحٌ وجوابٌ صحيحٌ، لكن الذي قال:» إنَّ الحركةَ هي لالتقاءِ الساكنين «لا يَتَوَهَّم أنه أرادَ التقاء الياء والميم من» ألم «في الوقفِ، وإنّما عَنَى التقاءَ الساكنين اللذيْن هما ميم ميم الأخيرة ولامُ التعريف كالتقاءِ نون» مِنْ «ولامِ الرجل إذا قلت: من الرجل» . قلت: هذا الوجهُ هو الذي قَدَّمُتْه عن بعضهم وهو مكيٌّ وغيرُه. ثم قال الزمخشري: «فإنْ قلت: إنما لم يُحَرِّكوا لالتقاء الساكنين في ميم؛ لأنهم أرادوا الوقفَ وأَمْكنهم النطقُ بساكنين، فإذا جاء ساكنٌ ثالثٌ لم يكن إلا التحريكُ فحرَّكوا. قلت: الدليلُ على أنَّ الحركةَ ليست لملاقاة الساكنِ أنه كان يمكِنُهم أَنْ يقولوا: واحدْ اثنان بسكونِ الدالِ مع طَرْحِ الهمزةِ فجمعوا بين ساكنين كما قالوا:» أُصَيْمٌّ «و» مُدَيْقٌّ «فلمّا حَرَّكوا الدالَ عُلِم أّنَّ حَرَكَتها هي حركةُ الهمزةِ الساقطة لا غيرُ، وأنها ليسَتْ لالتقاءِ ساكنين» . قال الشيخ: «وفي سؤاله تعميةٌ في قوله:» فإنْ قلتَ: لم يُحَرِّكوا

لالتقاءِ الساكنين «ويَعْني بالساكنين: الياء والميم، وحينئذٍ يجيءُ التعليلُ بقولِه:» لأنهم أردوا الوقفَ وأمكَنهم النطقُ بساكنين «يعني الياء والميم. ثم قال:» فإذا جاء ساكنٌ ثالثٌ يعني لامَ التعريف لم يكُنْ إلا التحريكُ يعني في الميم، فحرَّكوا يعني الميم لالتقائِها ساكنةً مع لامِ التعريفِ، إذ لو لم يحرِّكوا لاجتمعَ ثلاثةُ سواكنَ وهو لا يمكنُ. هذا شرحُ السؤال، وأمَّا جوابُ الزمخشري عن سؤالِه فلا يُطابق، لأنه استدلَّ على أنَّ الحركةَ ليسَتْ لملاقاةِ ساكنٍ بإمكانيةِ الجَمْعِ بين ساكنين في قولهم: واحدْ اثنان بأَنْ سكَّنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ وتسقطُ الهمزةُ، فعدَلوا عن هذا الإمكان إلى نقلِ حركةِ الهمزةِ على الدال، وهذه مكابرةٌ في المحسوسِ لا يمكنُ ذلك أَصْلاً، ولا هو في قدرةِ البشر أن يَجْمعوا في النطقِ بين سكونِ الدالِ وسكونِ الثاء وطرحِ الهمزة. وأمّا قوله: «فجَمعوا بين ساكنين» فلا يُمكن الجَمْعُ كما قلناه. وأمّا قوله كما قالوا: «أُصَيْمُّ ومُدَيْقٌّ» فهذا ممكنٌ، كما هو في: رادٌّ وضالٌّ؛ لأنَّ في ذلك التقاءَ الساكنين: على حدِّهما المشروطِ في النحوِ فَأَمْكَنَ ذلك، وليس مثلَ «واحدْ اثنان» ؛ لأنَّ الساكنَ الأولَ ليسَ حرفَ مد ولا الثاني مدغمٌ فلا يمكنُ الجمعُ بينهما. وأمَّا قولُه «فلمَّا حركوا الدالَ عُلِمَ أَّنَّ حركتها هي حركةُ الهمزةِ الساقطةِ لا غيرُ وليسَتْ لالتقاءِ الساكنين» لَمَّا بَنى على أنَّ الجمعَ بين الساكنين في «واحدْ اثنان» ممكنٌ، وحركةُ التقاءِ السكانين إنما هي فيما لا يمكِنُ أن يجتمعا فيه في اللفظ، ادَّعى أنَّ حركةَ الدالِ هي حركةُ الهمزةِ الساقطةِ. قلت: هذا الذي رَدَّ به عليه صحيحٌ، وهو معلومٌ بالضرورة إذ لا يمكن النطقُ بما ذَكَر. وقد انتصر بعضُهم لرأي الفرَّاء واختيارِ الزمخشري بأنَّ هذه الحروفَ جيء بها لمعنًى في غيرها كما تقدَّم في أولِ البقرة عند بعضهم

فأواخِرها موقوفةٌ، والنيةُ بما بعدها الاستئنافُ، فالهمزةُ في حكمِ الثَّباتِ كما في أنصاف الأبيات كقول حسان: 1157 - لَتَسْمَعَُنَّ وشيكاً في ديارِهُمُ ... أللهُ أكبرُ يا ثاراتِ عثمانا ورجَّحَهُ بعضُهم أيضاً بما حُكي عم المبردِ أنه يجيز: «الله أكبرَ الله أكبر» بفتحِ الراء الأولى قال: «لأنهم في نيةِ الوقف على» أكبر «والابتداءِ بما بعده، فلمَّا وصلوا مع قَصْدِهم التنبيهَ على الوقفِ على آخرِ كلِّ كلمةٍ من كلماتِ التكبير نقلوا حركةَ الهمزةِ الداخلةِ على لام التعريف إلى الساكنِ قبلها التفاتاً لما ذَكَر من قصدهم، وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في حركاتِ الإعرابِ وأتوا بغيرها مع احتياجهم إلى الحركةِ مِنْ حيثُ هي فلأنْ يفعلوا ذلك فيما كان موقوفَ الأخيرِ من بابٍ أَوْلى وأَحْرى. الرابع: أن تكونَ الفتحةُ فتحةَ إعرابٍ على أنه مفعولٌ بفعلٍ مقدر أي: اقرؤوا ألم، وإنما منعه من الصرفِ للعلَمِيَّةِ والتأنيثِ المعنوي إذا أُريد به اسمُ السورة نحو: قرأت هود، وقد قالوا هذا الوجهَ بعيِنِه في قراءةِ مَنْ قرأ:» صادَ والقرآن «بفتحِ الدال، فهذا يجوزُ أن يكونَ مثلَه. الخامس: أنَّ الفتحةَ علامةُ الجر والمرادُ بألف لام ميم أيضاً السورةُ، وأنها مُقسَمٌ بها، فَحُذِفَ حرفُ القسم وبقي عملُه امتنعَ من الصرفِ لِمَا تقدَّم، وهذا الوجهُ أيضاً مقولٌ في قراءةِ مَنْ قرأ: صادَ بفتح الدال، إلا أنَّ

القراءةَ هناك شاذةٌ وهنا متواترةٌ، والظاهرُ أنها حركةُ التقاءِ الساكنين؛ كماهو مذهبُ سيبويه وأتباعِه. السادس: قال ابن كيسان:» ألفُ الله، وكلُّ ألفِ مع لامِ التعريف ألفُ قطْعٍ بمنزلة «قد» ، وإنما وُصِلَتْ لكثرة الاستعمالِ، فَمَنْ حَرَّك الميمَ ألقى عليها حركةَ الهمزةِ التي بمنزلةِ القاف من «قد» من «الله» ففتحها بفتحةِ الهمزةِ، نقله عنه مكي. فعلى هذا هذه حركةُ نقلٍ من همزةِ قطع، وهذا المذهبُ هو مشهورٌ عن الخليلِ بن أحمد، حيث يَعْتقد أنَّ التعريف حَصَلَ بمجموعِ «أل» كالاستفهامِ يَحْصُل بمجموع هل، وأنَّ الهمزةَ ليست مزيدةً، لكنه مع اعتقادِه ذلك يوافِقُ على سقوطها في الدَّرْج إجراءً لها مُجْرى همزة الوصل لكثرة الاستعمالِ، ولذلك قد ثبتَتْ ضرورةً، لأنَّ الضرورةَ تَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها. وللبحثِ في ذلك مكانٌ هو أليقُ به منه منا. ولَمَّا نَقَل أبو البقاء هذا القولَ ولم يَعْزُه قال: «وهذا يَصِحُّ على قولِ مَنْ جَعَل أداةَ التعريف» أل «يعني الخليل لأنه هو المشهورُ بهذه المقالةِ. وقد تقدَّم النقلُ عن عاصم أنه يقرأ بالوقف على ميم، ويبتدىء بالله لا إله إلا هو، كما هو ظاهرُ عبارةِ الزمخشري عنه، وغيرُه يَحْكي عنه أنه يُسَكِّنُ الميمَ ويقطَعُ الهمزةَ من غير وقفٍ منه على الميم، كأنه يُجْري الوصلَ مُجْرى الوقفِ، وهذا هو الموافقُ لغالبِ نقلِ القُرَّاء عنه.

وقرأ عمرو بن عبيد فيما نَقَل الزمخشري، والرؤاسي فيما نَقَل ابن عطية، وأبو حيوة:» المِ الله «بكسرِ الميم. قال الزمخشري:» وما هي بمقبولةٍ «والعجبُ منه كيف تَجرَّأَ على عمرو بن عبيد وهو عندَه معروفُ المنزلة، وكأنه يريد وما هي مقبولةً عنه أي: لم تَصِحَّ عنه، وكأن الأخفش لم يَطَّلِعَ على أنها قراءةً فقال:» لو كُسِرَتْ الميمُ لالتقاءِ الساكنين فقيل: «ألمِ الله» لجاز «. قال الزجاج:» وهذا غلطٌ من أبي الحسن، لأنَّ قبلَ الميمِ ياءً مكسوراً ما قبلها فحقُّها الفتحُ لالتقاءِ الساكنين لِثقَل الكسرِ مع الياء، وهذا وإنْ كان كما قاله، إلاَّ أنَّ الفارسيّ انتصر لأبي الحسن، وردَّ على أبي إسحاق رَدَّه فقال: «كسرُ الميمِ لو وَرَدَ بذلك سماعُ لم يَدْفَعْه قياسٌ، بل كان يُثْبته ويُقَوِّيه لأنَّ الأَصلَ في التحريكِ لالتقاءِ الساكنين الكسرُ، وإنما يُبْدَلُ إلى غير ذلك لما يَعْرِضُ من علةٍ وكراهةٍ، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وجه لردِّه ولا مساغَ لدَفْعِه، وقولُ أبي إسحاق» إنَّ ما قبلَ الميم ياءٌ مكسورٌ ما قبلها فَحقُّها الفتحُ «منقوضٌ بقولِهم:» جَيْرِ «و» كان من الأمر ذَيْتِ وذِيْتِ وكَيْتِ وكِيْتِ «فَحُرِّك الساكنُ بعد الياءِ بالكسرِ، كما حُرِّكَ بعدَها بالفتحِ في» أَيْنَ «، وكما جاز الفتحُ بعد الياء في قولهم:» أَيْنَ «كذلك يجوز الكسرُ بعدها كقولهم جَيْر، ويدلُّ على جوازِ التحريكِ لالتقاءِ الساكنين بالكسرِ فيما كان قبله ياءٌ جوازٌ تحريكه بالضم نحو قولِهم: حيثُ، وإذا جازَ الضمُّ كان الكسرُ أجوزَ وأسهلَ.

3

قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} : العامَّةُ على التشديدِ في «نَزَّل» ونصبِ «الكتاب» . وقرأ الأعمش والنخعيّ وابن أبي عبلة: نَزَلَ بتخفيف الزاي ورفعِ الكتاب، فأمّا القراءة الأولى فقد تقدَّم أن هذه الجملةَ/ يُحتمل أن تكونَ خبراً وأن تكونَ مستأنفةً. وأمّا القراءةُ الثانيةُ فالظاهرُ أنَّ الجملة فيها مستأنفةٌ، ويجوزُ أن تكونَ خبراً، والعائدُ حينئذٍ محذوفٌ، تقديرُه: نَزَل الكتابُ من عنده. قوله: {بالحق} فيه وجهان، أحدُهما: أن تتعلَّق الباءُ بالفعل قبلها والباءُ حينئذٍ للسببية، أي: نَزَّله بسبب الحق. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ: إمَّا من الفاعلِ أي: نَزّله مُحِقّاً، أو من المفعولِ أي: نَزَّله ملتبساً بالحقِّ نحو: جاء بكرٌ بثيابه أي: ملتبساً بها. وقال مكيّ: «ولا تتعلَّقُ الباءُ بنَزَّلَ لأنه قد تَعَدَّى إلى مفعولين، أحدُهما بحرفٍ فلا يتعدى إلى ثالثٍ» وهذا الذي ذَكَرَه مكيٌّ غيرُ ظاهر، فإنَّ الفعلَ يتعدَّى إلى متعلِّقاته بحروفٍ مختلفة على حَسَب ما يكونُ، وقد تقدم أنَّ معنى الباء السببيةُ، فأيُّ مانع يمنع من ذلك؟ . قوله: {مُصَدِّقاً} فيه أوجه، أحدُهما: أَنْ يَنْتَصِبَ على الحالِ من «الكتاب» ، فإنْ قيل إنَّ «بالحق» حالٌ كانَتْ هذه حالاً ثانية عند مَنْ يُجيز تعدُّد الحالِ، وإنْ لم يُقَلْ ذلك كانت حالاً أولى. والثاني: أن ينتصِب على الحالِ على سبيلِ البدلية من محلِّ «بالحق» وذلك عند مَنْ يمنعُ تعدُّد الحالِ في غير عطفٍ ولا بدلية. الثالث: أن ينتصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في «بالحق» إذا جعلناه حالاً، لأنه حينئذٍ يتحمَّلُ ضميراً لقيامِه مقامَ الحالِ التي

تتحمَّلُه، وتكونُ حالاً متداخلةً أي: إنها حالٌ من حال، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حالٌ مؤكِّدةٌ، لأنه لا يكون إلا كذلك، فالانتقال غيرُ متصوَّرٍ فيه، وهو نظير قوله: 1158 - أنا ابنُ دارةَ معروفاً بها نسبي ... وهَلْ بدارَةَ يا لَلْناسِ مِنْ عارِ قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مفعولٌ لمصدِّقا، وزيدت اللامُ في المفعول تقويةً للعامل لأنه فرعٌ، إذ هو اسمُ فاعل كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وإنما ادَّعْينا ذلك لأنَّ هذه المادةَ متعدِّية بنفسِها. قوله: {التوراة والإنجيل} اختلفَ الناسُ في هاتين اللفظتين: هل يَدْخُلُهما الاشتقاق والتصريف أم لا يدخلانِهما لكونِهما؟ أعجميين؟ فذهب جماعةٌ كالزمخشري وغيرُه إلى الثاني. قالوا: لأنَّ هذين اللفظين اسمان عِبرانيَّان لهذينِ الكتابَيْنِ الشريفين. قال الزمخشري: «وتَكَلُّفُ اشتقاقِهِما من الوَرَىْ والنَّجْل، ووزنُهما بتَفْعِلة وإفْعِيل إنما يَثْبُتُ بعد كونهما عربيين» . [قال الشيخ: «وكلامُه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً وهو قوله: تَفْعِلَة، ولم يذكُرْ مذهب البصريين] وهو أنَّ وزنَها فَوْعَلة، ولم ينبِّه على تَفْعِلَة: هل هي بكسر العين أو فتحها» قلت: لم يَحْتج إلى التنبيه لشهرتِهما، وإنما ذكر المستغربَ. ويؤيدُ ما قاله الزمشخري من كونها أعجميةً ما نقله الواحدي،

وهو أنَّ التوراة والإِنجيل والزبور سريانيةُ فَعَرَّبوها قال: «ولذلك يقولون فيها بالسريانية: تُوري ايكليونُ زَفوتا» فعرَّبوها إلى ما ترى. ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا: فقال بعضُهم: التَوْرَاة مشتقة من قولهم: ورِي الزَّنْدُ إذا قَدَح فظهرَ منه نارٌ. يقال «وَرِيَ الزَّنْدُ» و «أَوْرَيْتُه أنا» . قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} [الواقعة: 71] فثلاثيُّهُ قاصرٌ ورباعيةُ متعدٍّ. وقال تعالى: {فالموريات قَدْحاً} [العاديات: 2] ، ويقال أيضا: «وَرَيْتُ بكل زِنادي» فاستُعْمِلَ الثلاثيُّ متعدياً، إلا أن المازني يزعم أنه لا يُتجاوز به هذا اللفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال: «وَرَيْتُ النارَ» مثلاً. إذا تقرر ذلك فلما كانت التوراة فيها ضياءٌ ونورٌ يُخْرَجُ به من الضلال [إلى] الهدى، كما يُخْرَج بالنور من الظلام إلى النور سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، وهذا هو قولُ الفراء، وهو مذهبُ جمهور الناس. وقال آخرون: بل هي مشتقةٌ من «وَرَّيْتُ في كلامي» من التورية وهي التعريض. وفي الحديث: «كان إذا أراد سفراً وَرَّى بغيره» وسُمِّيَت التوراة بذلك لأنَّ أكثَرها تلويحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهبَ المؤرج السدوسي وجماعة. وفي وزنها ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها: وهو قولُ الخليل وسيبويه أن

وزنَها فَوْعَلَة، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو: الدَّوْخَلة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعَة، والأصل: وَوْرَيَة بواوين، لأنها إمَّا من وَرِي الزَّنْدُ، وإمَّا من وَرَيْتُ في كلامي، فأُبدلت الواو الأولى تاءً وتحرَّك حرفُ العلةِ وانفتح ما قبلَه فقُلب ألفاً فصار اللفظُ: تَوْرَاة كما ترى، وكُتبت بالياءِ مُنْبَهَةً على الأصل، كما أُميلت لذلك، وقد أَبْدَلتْ العربُ التاءَ من الواو في ألفاظ نحو: تَوْلَج وتَيْقور وتُخَمَة وتُكَأَة وتُراث وتُجاه وتُكْلان من: الوُلوج والوَقار والوَخَامة والوِكاء والوِراثة والوَجْه والوَكالة. ونظيرُ إبدال الواو تاءً في التوراة إبدالُها أيضاً في قولهم لِما تَراه المرأة في الطهر بعد الحيض: «التَّرِيَّة» هي فَعِيْلَة من لفظ الوراء لأنها تُرى بعد الصُّفْرَة والكُدْرَة. الثاني: وهو قولُ الفراء أن وزنَها تَفْعِلَة بكسر العين، فأُبْدِلَت الكسرةُ فتحةً، وهي لغةٌ طائية، يقولون في الناصية: ناصَاة، وفي بَقِي: بَقَى قال الشاعر: 1159 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بحِرْبٍ كناصاة الأغَرِّ المُشَهَّرِ وقال آخر: 1160 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . .

نفوساً بُنَتْ على الكَرَمِ وأنشد الفراء: 1161 - وما الدنيا بباقاةٍ علينا ... وما حيٌّ على الدنيا بباقٍ وقد ردَّ البصريون ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ هذا البناءَ قليلٌ جداً أعني بناءَ تَفْعِلة بخلاف فَوْعَلة فإنه كثير، فالحَمْلُ على الأكثر أولى. والثاني: أنه يلزمُ منه زيادةُ التاءِ أولاً والتاء لم تُزَدْ أولاً إلا في مواضِعَ ليس هذا منها بخلافِ قَلْبِها في أولِ الكلمة فإنه ثابت، وذلك أنَّ الواو إذا وَقَعَتْ أولاً قُلِبَتْ: إمَّا همزةً نحو: أُجوه وأُقِّتَتْ وأَحَدَ وأَناة وإشاح وإعاء في: وجوه ووُقِّتَتْ ووَحَدَ ووَنَاة ووِشاح ووِعاء، وإمَّا تاء نحو: تُجاه وتُخَمة. . . الخ، فاتِّباع ما عَهِدَ أولى من اتِّباع ما لم يُعْهَدُ. الثالث: أنَّ وزنَها تَفْعَلَة بفتحِ العين وهو مذهبُ الكوفيين، كما يقولون في: تَتْفُلة بالضمِّ/ تَتْفَلَة بالفتح، وهذا لا حاجة إليه وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها. وأمال التوراةَ حيث وردَتْ في القرآن إمالة مَحْضَة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وأمالها بينَ بينَ حمزةُ وورش عن نافع، واختُلف عن قالون: فرُوِيَ عنه بينَ بينَ والفتحُ، وقرأها الباقون بالفتح فقط. وَوَجْهُ الإِمالة إن قلنا بأنَّ ألفَها منقلبةٌ عن ياء ظاهرٌ، وإنْ قلنا إنها أعجمية لا اشتقاق لها فوجهُ الإِمالة شبهُ ألفها لألف التأنيث من حيث وقوعُها رابعةً فسببُ إمالتها: إمَّا الانقلابُ وإما شبهُ ألفِ التأنيثِ.

والإِنجيل: قيل: إفعيل كإجْفيل. وفي وزنه أقوال، أحدها: أنه مشتقٌّ من النَّجْل وهو الماء الذي يَنُزُّ من الأرض ويَخْرُج منها، ومنه: النَّجْلُ للولد، وسُمِّي الإِنجيل لأنه مستخرجٌ من اللوح المحفوظ. وقيل: من النَّجْل وهو الأصلُ، ومنه «النَّجْلُ» للوالدِ فهو من الأضداد، إذ يُطْلق على الولد والوالد، قال الأعشى: 1162 - أَنْجَبَ أيَّامُ والِداهُ به ... إذ نَجَلاه فنِعْمَ ما نَجَلا وقيل: من النَّجَل وهو التوسِعَة، ومنه: العَيْنُ النجلاءُ لسَعَتها، وسُمِّي الإِنجيلُ بذلك؛ لأن فيه توسعةً لم تَكن في التوراة، إذ حُلِّل فيه أشياءُ كانت مُحَرَّمةً. وقيل: هو مشتقٌّ من التَناجل وهو التنازُع، يقال: تَنَاجل الناسُ أي: تنازعوا، وسُمِّي الإِنجيلُ بذلك لاختلاف الناسِ فيه قاله أبو عمرو الشيباني. والعامَّةُ على كَسْرِ الهمزةِ من «إنجيل» . وقرأ الحسنُ بفتحِها. قال الزمخشري: «وهذا يَدُلُّ على أنه أعجمي لأنَّ» أفعيلا «بفتح الهمزة عديمٌ في أوزان العرب» . قلت: بخلاف إفعيل بكسرها فإنه موجود نحو: إِجْفيل وإخْريط وإصْليت.

وفَرَّق الزمخشري بين «نَزَّل» و «أنزل» على عادتِه فقال: «فإنْ قلت: لِمَ قيل: نَزَّل الكتابَ، وأنزل التوراة والإِنجيل؟ قلت: لأن القرآن نَزَل منجَّماً ونَزَل الكتابان جملةً» . قال الشيخ: «قد تقدَّم الردُّ عل هذا القول في البقرة، وأنَّ التعديةَ بالتضعيف لا تَدُلُّ على التكثير ولا على التنجيم، وقد جاء في القرآن: أَنْزَل ونَزَّل، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} [النحل: 44] و {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} [آل عمران: 3] ويدلُّ على أنهما بمعنى واحد قراءةُ مَنْ قرأ ما كان من» يُنَزِّلُ «مشدداً بالتخفيف إلا ما استُثْنِيَ، ولو كان أحدُهما يدلُّ على التنجيم والآخر على النزولِ دفعةً واحدةً لتناقض الإِخبار وهو مُحالٌ» . قلت: وقد سَبَقَ الزمخشري إلى هذا الفرقِ بعينِه الواحديُّ.

4

قوله تعالى: {مِن قَبْلُ} : متعلِّقٌ بأَنْزَل، والمضافُ إليه الظرفُ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرهُ: مِنْ قبلِك ِأو من قبلِ الكتاب. والكتابُ غَلَب على القرآن كالثريا. وهو في الأصْلِ مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي: المكتوبَ، وذكَر المنزَّلَ في قوله «نَزَّل عليك» ولم يذكره في قوله: {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} تشريفاً لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله: {هُدًى} فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المفعولِ من أجله، والعاملُ فيه أنْزَل أي: أَنْزَلَ هذين الكتابين لأجلِ هداية. ويجوز أن يكونَ متعلقاً من حيث المعنى بنَزَّلَ وأنزل معاً، وتكونُ المسألةُ من بابِ التنازع على إعمال الثاني، والحذفُ من الأولِ تقديرُه: نَزَّلَ عليك له أي: للهدى،

فَحَذَفَه، ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بالفعلين معاً تعلُّقاً صناعياً لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علةً للفعلين معاً، كما تقول: «أكرمْتُ زيداً وضربْتُ عمراً إكراماً لك» يعني أن الإكرام علةٌ للإِكرامِ وللضرب. والثاني: ان ينتصِبَ على الحالِ من التوراةِ والانجيلِ، ولم يُثنَّ لأنه مصدرٌ وفيه الأوجُه المشهورةُ من حَذْف المضافِ أي: ذوي هدىً أو على المبالغةِ بأَن جُعِلا نفسَ الهُدَى أو على جَعْلِهما بمعنى هاديين. وقيل: إنه حال من الكتاب والتوارة والإِنجيل، وقيل: حالٌ من الإِنجيل فقط وحُذِف مِمَّا قبله لدلالة هذا عليه. وقال بعضُهم: تَمَّ الكلامُ عند قولِه تعالى: {مِن قَبْلُ} فَيُوقَفُ عليه ويُبْتَدَأُ قولِه {هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان} أي: وأَنْزَل الفرقانَ هدىً للناس. وهذا التقديرُ غيرُ صحيحٍ لأنه يُؤدِّي إلى تقديم المعمولِ على حرفِ النسقِ وهو ممتنعٌ، لو قلت: «قام زيد مكتوفةً وضُرِبَتْ هندٌ» تعني: «وضُرِبَت هند مكتوفةً» لم يَصِحَّ البتة فكذلك هذا. قوله: {لِّلنَّاسِ} يُحْتمل أن يتعلَّقَ بنفسِ «هُدَى» لأنَّ هذه المادة تتعدَّى باللامِ كقولِه تعالى: {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لهدىً. قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان} يُحْتَمل أن يرادَ به جميعُ الكتب السماوية، ولم يُجمع لأنه مصدرٌ بمعنى الفَرْق كالغفران والكفران، وهو يَحْتملُ أن يكونَ مصدراً واقعاً موقع الفاعلِ أو المفعول والأولُ أظهرُ. وقال الزمخشري: «أو كَرَّر/ ذِكْرَ القران بما هو نعتٌ له ومُدِحَ مِنْ كونِه فارقاً بين الحقِّ والباطل بعد ما ذكَره باسم الجنس تعظيماً لشأنِه وإظهاراً لفضلِه» . قلت: قد يعتقد معتقدٌ

أنّ في كلامِه هذا رَدَّاً لقولِه الأول حيث قال: «إن» نَزَّل «يقتضي التنجيم و» أنزل «يقتضي الإنزال الدَّفْعيَّ، لأنه جَوَّز أن يُراد بالفرقان القرآنُ، وقد جاء معه» أنزل «، ولكن لا ينبغي أَنْ يُعْتَقد ذلك لأنه لم يَقُل: إنَّ» أَنْزل «للإِنزال الدفعيِّ فقط، بل يقول إن» نَزَّل «بالتشديد يقتضي التفريق و» أَنْزل «يحتمل ذلك ويَحْتمل الإنزالَ الدفعيَّ. قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ} يَحْتمل أنْ يرتفع» عذابٌ «بالفاعليةِ بالجارِّ قبلَه لوقوعه خبراً عن» إنَّ «، ويُحْتمل أن يرتفع على الابتداء، والجملةُ خبرٌ» إنَّ «والأولُ أَوْلَى، لأنه من قبيلِ الإِخبار بما يَقْرُبُ من المفردات. وانتقام: افتعال من النِّقْمة وهي السَّطْوَةُ والتسلطُ، ولذلك عَبَّر بعضُهم عنها بالمعاقبة يقال: نَقَم ونَقِمَ، بالفتح وهو الأفصحُ وبالكسرِ، وقد قُرىء بهما، وسيأتي مزيدٌ بيانٍ في المائدة.

5

قوله تعالى: {فِي الأرض} : يجوز أنْ يتعلَّقَ ب «يَخْفَى» وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لشيء.

6

قوله تعالى: {فِي الأرحام} : يجوزُ أن يتعلَّق بَيُصَوِّرُكم وهو الظاهُر، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من مفعولِ «يُصَوِّركم» أي: يُصَوِّركم وأنتم في الأرحامِ مُضَغُ. وقرأ طاووس: «تَصَوَّركم» فعلاً ماضياً ومعناه صَوَّركم لنفسِه ولتعبُّدِه، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل كقولهم: «تأثَّلْثُ مالاً وأثَّلته» أي جعلتُه أَثْلَةً أي أصلاً، ونحُوه: وَلَّى وتَوَلَّى. والتصويرُ: تَفْعِيل من صارَه يَصُوره أي: أماله وثَنَاه، ومعنى صَوَّره أي: جعل له صورةً. والصورة: الهيئة يكون عليها الشيءُ من تأليفٍ خاصٍ وتركيبٍ منضبطٍ.

قوله: {كَيْفَ يَشَآءُ} في هذه الآية أوجهٌ، أظهُرها: أن «كيف» للجزاءِ، وقد جُوزي بها في لسانهم في قولِهم: «كيفَ تَصْنَعُ أصنعُ، وكيف تكونَ أكونُ» إلا أنه لا يجزم بها، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ ما قبلَها، وكذلك مفعولٌ «يشاء» لِما تقدَّم أنه لا يُذْكَرُ إلا لغرابةٍ، والتقديرُ: كيف يشاء تصويرَكم يصوِّرُكم، فَحُذِف «تصويركم» لأنه مفعولُ يشاء، و «يصوركم» لدلالة «يصوركم» الأول عليه، ونظيره قولُهم: «أنت ظالم إنْ فعلْتَ» تقديره: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يَجْعَلُ «يصوِّركم» المتقدم هو الجزاء. و «كيف» منصوبٌ على الحال بالفعلِ بعدَه، والمعنى: على أيِّ حال شاءَ أنْ يُصَوِّركم صوَّركم، وتقدَّم الكلام على ذلك في قولِه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] . ولا جائزٌ أن تكون «كيف» معمولةً ليُصَوِّركم لأنَّ لها صدرَ الكلام، وما له صدُر الكلام لا يعملُ فيه إلا أحدُ شيئين: إمَّا حرفُ الجر نحو: بمَنْ تمر؟ وإمَّا المضافُ نحو: «غلامُ مَنْ عندك؟» الثاني: أن تكون «كيف» ظرفاً ليشاء، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير اسم الله تعالى تقديرُه: يصوِّركم على مشيئة أي مريداً. الثالث: كذلك إلا أنه حالٌ من مفعول «يصوِّركم» تقديرُه: يصوركم متقلبين على مشيئته. ذَكَر الوجهين أبو البقاء، ولَمَّا ذَكَرَ غيُره كونَها حالاً من ضمير اسمِ الله قَدَّرها بقولِه: يُصَوِّركم في الأرحامِ قادراً على تصويركم مالكاً ذلك. الرَابعُ: أَنْ تكونَ الجملةُ في موضعِ المصدرِ، المعنى: يُصَوِّركم في الأرحام تصويرَ المشيئة وكما يشاء، هكذا قال الحوفي. وفي قوله: «الجملةُ في موضعِ المصدرِ» تسامحٌ لأنَّ الجملَ لا تقوم مقام المصادر، ومرادُه أنَّ «كيف» دالَّةٌ على ذلك،

ولكن لَمَّا كانَتْ في ضمن الجملةِ نَسَبَ ذلكَ إلى الجملة. وقوله {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ} : تحتملُ هذه الجملةُ أن تكونَ مستأنفةً سيقت لمجرد الإِخبار بذلك، وأن تكونَ في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لإِنَّ.

7

قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ} : يجوزُ أن تكونَ «آيات» رفعاً بالابتداء والجارُّ خبرُه. وفي الجملةِ على هذا وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من «الكتاب» أي: هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال أي: منقسماً إلى مُحْكَم ومتشابه، ويجوز أن يكونَ «منه» هو الحالَ وحدَه، و «آياتٌ» رفع به على الفاعلية. و {هُنَّ أُمُّ الكتاب} يجوز أن تكونَ الجملةُ صفةً للنكرة قبلها، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً، وأخْبر بلفظ الواحد وهو «أمُّ» عن جمع، وهو «هُنَّ» : إمَّا لأن المراد كلُّ واحدةٍ منه أمُّ، وإمَّا لأنْ المجموعَ بمنزلةِ آيةٍ واحدة كقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ، وإما لأنه مفردٌ واقعٌ موقعَ الجمعِ كقوله: {وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] و: 1163 - كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقوله] : 1164 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيب [وقال الأخفشْ: «وَحَّد» أمَّ الكتاب «بالحكاية على تقديرِ الجواب

كأنه قيل: ما أمُّ الكتاب؟» ] فقال: هُنَّ أمُّ الكتاب، كما يقال: مَنْ نظير زيد؟ فيقول قوم: «نحنُ نظيرُه» كأنهم حَكَوا ذلك اللفظَ، وهذا على قولهم: «دعني من تمرتان» أي: «مِمَّا يقال له تمرتان» . قال ابن الأنباري: «وهذا بعيدٌ من الصواب في الآية، لأن الإِضمارَ لم يَقُمْ عليه دليلٌ، ولم تَدْعُ إليه حاجةٌ» وقيل: لأنه بمعنى أصلِ الكتابِ والأصلُ يُوَحَّدُ. قوله: «وأُخَرُ» نسقٌ على «آيات» ، و «متشابهاتٌ» نعتُ لأُخَر، وفي الحقيقة «أُخَرُ» نعتٌ لمحذوف تقديره: وآياتٌ أُخَرٌ متشابهاتٌ. قال أبو البقاء: «فإنْ قيل: واحدةُ» متشابهات «متشابهة، وواحدة» أُخَر «أُخْرى، والواحدةُ هنا لا يَصِحُّ أن توصف بهذا الواحد فلا يُقال، أخرى متشابهة إلا أن يكونَ بعضُ الواحدةُ يُشبْه بعضاً، وليس المعنى على ذلك/ وإنما المعنى أنَّ كل آيةٍ تشبه آيةً أخرى، فكيف صَحَّ وصفُ هذا الجمعِ بهذا الجمعِ، ولم يَصِحَّ وصفُ مفردهِ بمفرده؟ قيل: التشابهُ لا يكون إلا بين اثنينِ فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياءُ المشابهةُ كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر، فلمَّا لم يَصِحَّ التشابُه إلا في حالةِ الاجتماع وَصَفَ الجمعَ بالجمع لأنَّ كلَّ واحدٍ منها يشابه باقيها، فأمَّا الواحدُ فلا يَصِحُّ فيه هذا المعنى، ونظيرُه قوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} [القصص: 15] فثنَّى الضميرَ وإن كان الواحدُ لا يَقْتَتِلُ. قلت: يعني أنه ليس من شرطِ صحةِ الوصفِ في التثنية أو الجمعِ صحةُ انبساطِ مفرداتِ الأوصاف على مفرداتِ الموصوفاتِ، وإنْ كان الأصلُ ذلك، كما أنه لا يُشْتَرط في إسناد الفعلِ إلى المثنَّى والمجموعِ صحةُ إسنادِه لى كلِّ واحدٍ على حِدَتِه. وقريب من ذلك قوله: {حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75] قيل: ليس لحافِّين مفردٌ

لأنه لو قيل: «حافّ» لم يَصِحَّ، إذ لا يتحقق الحُفوفُ في واحد فقط، وإنما يتحقق بجمعِ يُحيطون بذلك الشيء المحفوفِ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في موضعِهِ. قوله: {زَيْغٌ} يجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية لأنَّ الجارَّ قبله صلةٌ لموصول ويجوز أن يكونَ مبتدأ وخبُره الجارُّ قبله. والزَّيْغُ: قيل: المَيْلُ، وقال بعضُهم: هو أخصُّ مِنْ مُطْلق الميل، فإنَّ الزيغَ لا يُقال إلاَّ لِما كان من حقٍ إلى باطل. قال الراغب: «الزَّيْغُ: الميلُ على الاستقامةِ إلى أحدِ الجانبين، وزاغَ وزالَ ومالَ تتقارب، لكن» زاغ «لا يُقال إلا فيما كان عن حق إلى باطل» انتهى. يقال: زاغَ يزيغُ زَيْغاً وزيغوغَةً وزَيَغاناً وزُيوغاً. قال الفراء: «والعربُ تقول في عامةِ ذواتِ الياء مِمَّا يشبه زِغْتُ مثل: سِرْتُ وصِرْتُ وطِرْتُ: سَيْرورةً وصَيْرورةً وطَيْرورةً، وحِدْتُ حَيْدودة، ومِلْتُ مَيْلولة، لا أُحصي ذلك كثرةً، فأما ذوات الواو مثل: قُلت ورضِيت فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظ: الكَيْنونة والدَّيْمومة من دام، والهَيْعُوعة من الهُواع، والسَّيدودة من سُدْت» . ثم ذكر كلاماً كثيراً غيرَ متعلقٍ بما نحن فيه، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا المصدر، وما ذكر الناس فيه، وأنه قد سُمِع فيه الأصل وهو «كَيَّنونة» في قول الشاعر: 1165 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حَتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنونَهْ قوله: {مَا تَشَابَهَ} مفعولُ الاتباع، وهي موصولةٌ أو موصوفة، ولا تكون مصدريةً لعَوْدِ الضمير مِنْ «تَشَابَه» عليها إلاَّ على رأي ضعيفٍ. و «منه» حالٌ من فاعل «تشابه» أي: تشابه حالَ كونِه بعضَه.

قوله: «ابتغاءَ» منصوبٌ على المفعولِ له أي: لأجلِ الابتغاء، وهو مصدرٌ مضافٌ لمفعوله. والتأويلُ: مصدرُ أَوَّل يُؤَوِّل. وفي اشتقاقِه قولان أحدهما: أنه من آل يَؤُول أَوْلاً ومَآلاً. أي: عادَ ورجَع، و «آلُ الرجل» من هذا عند بعضِهم، لأنهم يَرْجِعون إليه في مُهِمَّاتهم، ويقولون: أَوَّلْتُ الشيءَ فآلَ، أي: صَرَفْتُه لوجهٍ لائقٍ به فانصرفَ، قال الشاعر: 1166 - أُؤَوِّلُ الحكمَ على وجهه ... ليس قضائي بالهَوى الجائر وقال بعضُهم: أَوَّلْتُ الشيءَ فتأوَّل، فجعل مطاوِعَه تَفَعَّل، وعلى الأول مطاوعه فَعَل، وأنشد للأعشى: 1167 - على أنها كانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّها ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابَ فَأَصْحَبَا يعني أنَّ حبَّها كان صغيراً قليلاً فآل إلى العِظَم، كما يَؤُول السَّقْبُ إلى الكِبَر. ثم قد يُطْلق على العاقبةِ والمَرَدِّ، لأنَّ الأمرَ يَصِير إليهما. والثاني: أنه مشتقٌ من: الإِيالة وهي السياسة. تقول العرب: «قد إلْنا وإيل علينا» أي: سُسْنا وساسَنا غيرُنا، وكأنَّ المؤوِّلَ للكلامِ سائِسُه والقادرُ عليه وواضعُه موضعَه، نُقل ذلك عن النضر بن شميل. وفَرَّق النَاس بين التأويل والتفسير في الاصطلاح: بأن التفسيرَ مقتصَرٌ به على ما لا يُعْلم إلا بالتوقيف كأسباب النزول ومدلولاتِ الألفاظ، وليس للرأي فيه مَدْخَلٌ، والتأويل يجوز لمَنْ حَصَلَتْ عنده صفاتُ أهلِ العلم وأدواتٌ يَقْدِرُ أن يتكلَّم بها إذا رَجَع بها إلى أصولٍ وقواعدَ.

وقوله: {والراسخون} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنه مبتدأ والوقفُ على الجلالة المعظمة، وعلى هذا فالجملةُ من قوله: «يقولون» خبرُ المبتدأ. والثاني: أنهم منسوقونٌ على الجلالةِ المعظمةِ، فيكونون داخلين في علم التأويل. وعلى هذا فيجوز في الجملةِ القولية وجهان، أحدُهما: أنها حالٌ أي: يعلمون تأويلَه حالَ كوِنهم قائلين ذلك، والثاني: أن تكون خبرَ مبتدأٍ مضمرٍ أي: هم يقولون. والرُّسوخ: الثُبوتُ والاستقرار ثبوتاً متمكِّناً فهو أخصُّ من مطلقِ الثبات قال الشاعر: 1168 - لقد رَسَخَتْ في القلبِ مني مودَّةٌ ... لِلَيْلَى أَبَتْ آياتُها أَنْ تُغَيَّرا و {آمَنَّا بِهِ} في محلِّ نصب بالقول، و «كل» مبتدأٌ، أي كله أو كلٌّ منه، والجارُّ بعده خبرهُ، والجملةُ نصبٌ بالقول أيضاً.

8

قوله تعالى: {لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} : العامَّةُ على ضَمِّ حرفِ المضارعة من: أزاغ يُزيغ. و «قلوبَنا» مفعول به. وقرأ أبو بكر وابن فايد والجراح «لا تَزِغ قلوبُنا» بفتح التاء ورفع «قلوبنا» ، وقرأه بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعلى القراءتين فالقلوب فاعلٌ بالفعل المنهيِّ عنه،

والتذكير والتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمعِ وتذكيرِه، والنهيُ في اللفظ للقلوب، وفي المعنى دعاءٌ لله تعالى، أي: لا تُزِغْ قلوبَنا فَتَزيغَ، فهو من باب «لا أُرَيَنَّك هَهنا» وقولِ النابغة: 1169 - لا أَعْرِفَنْ رَبْرَباً حُوراً مَدامِعُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} «بعد» منصوبٌ ب «لا تُزِغْ» و «إذ» هنا خَرَجَتْ عن الظرفيةِ للإِضافةِ إليها، وقد تقدَّم أنَّ تصرُّفَها قليلَ، وإذا خرجت عن الظرفية فلا يتغَّيرُ حكمُها من لزومِ إضافتها إلى الجملة بعدها كما لم يتغير غيرُها من الظروف في هذا الحكمِ، ألا ترى إلى قوله: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] و {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} [الانفطار: 19] في قراءة من رفع «يوم» في الموضعين، وقول الآخر: 1170 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . على حينِ الكرامُ قليلُ [وقوله] :

1171 - على حينِ مَنْ تَلْبَثْ عليه ذَنُوبُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقوله] : 1172 - على حينِ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقوله] : 1173 - ألا ليت أيامَ الصفاءِ جديدُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كيف خرجَتْ هذه الظروفُ من النَّصبِ إلى الرفعِ والجرِّ والنصبِ ب «ليت» ومع ذلك هي مضافةٌ للجملِ التي بعدها. قوله: {وَهَبْ} الهِبَةُ: العَطِيَّةُ، حُذِفَتْ فاؤها لِما تقدَّم في «عِدة» ونحوِها، كان حقُّ عينِ المضارع فيها كسرَ العين منه، إلا أنَّ ذلك مَنَعه كونُ العينِ حرفَ حلق، فالكسرةُ مقدرةٌ. فلذلك اعتُبِرت تلك الكسرةُ المقدرة، فحُذِفَت لها الواو، وهذا نحو: يَضَع ويَسَع لكونِ اللامِ حرفَ حلق. ويكون «هَبْ» فعلَ أمرِ بمعنى ظُنَّ، فيتعدَّى لمفعولين كقوله: 1174 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإلاَّ فَهَبْنِي أمرَأً هالِكاً

وحينئذ لا تتصرَّفُ. ويقال أيضاً: «وَهَبَني اللهُ فداكَ» أي: جَعَلَني، ولا تتصرَّفُ أيضاً عن الماضي بهذا المعهنى. قوله: {مِن لَدُنْكَ} متعلق ب «هَبْ» ، ولَدُنْ: ظرف وهي لأولِ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو: مِنْ لَدُن زيد، فليست مرادفةً ل «عند» بل قد تكون بمعناها، وبعضُهم يقيِّدها بظرف المكان، وتُضاف لصريح الزمان، قال: 1175 - تَنْتَهِضُ الرِّعْدة في ظُهَيْري ... من لَدُنِ الظُّهْرِ إلى العُصَيْرِ ولا تُقْطَعُ عن الإِضافةَ بحالٍ، وأكثرُ ما تضافُ إلى المفرداتِ، وقد تُضَافُ إلى «أن» وصلتها لأنهما بتأويلِ مفردٍ قال: 1176 - وُلِيْتَ فلم تَقْطَعْ لدُنْ أَنْ وَليْتَنَا ... قرابةَ ذي قُرْبى ولا حَقَّ مُسْلِمِ أي: لدنْ ولايتك إيانا، وقد تُضَاف إلى الجملةِ الاسمية كقوله: 1177 - تَذَكَّرُ نُعْماه لَدُنْ أنتَ يافعٌ ... إلى أنتَ ذو فَوْدَيْنِ أبيضَ كالنسرِ وقد تُضاف للفعلية كقوله: 1178 - لَزِمْنا لَدُنْ سالَمْتُمونا وفاقَكم ... فلايكُ منكمْ للخِلافِ جُنوحُ وقال آخر: 1179 - صريعُ غوانٍ رَاقَهُنَّ ورُقْنَه ... لدُنْ شَبَّ حتى شابَ سودَ الذوائبِ

وفيها لغتان: الإِعراب وهي لغةُ قيس. وبها قرأ أبو بكر عن عاصم: «مِنْ لَدُنهِ» بجر النون، وقوله: 1180 - من لَدْنِ الظهرِ إلى العُصَيْرِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا تخلوا مِنْ «مِنْ» غالبا، قاله ابن جني. ومِنْ غير الغالب ما تقدَّم من قوله «لَدُنْ أَنت يافع» «لَدُنْ سالمتمونا» . وإنْ وقع بعدها لفظُ «غدوة» خاصةً جاز نصبُها ورفعُها، فالنصبُ على خبرِ كان أو التمييزِ، والرفعُ على إضمار «كان» التامةِ، ولولا هذا التقديرُ لَزم إفرادِ «لَدُنْ» عن الإِضافة، وقد تقدَّم أنه لا يجوزُ، فَمِنْ نَصْبِ «غدوة» قولُه: 1181 - وما زال مُهْرِي مَزْجَرَ الكلبِ منهم ... لَدُنْ غدوةً حتى دَنَتْ لغروبِ واللغةُ المشهورةُ بناؤُها، وسببُه شَبَهُها بالحَرْف في لزومِ استعمالٍ واحد، وامتناعَ الإِخبار بها بخلافِ عند ولدى، فإنهما لا يَلْزَمان استعمالاً واحداً، إذ يكونان فَضْلةً وعُمْدةً وغايةً وغيرَ غاية بخلاف «لَدُن» . وقال بعضهم: «عِلَّةُ بنائِها كونُها دالةً على الملاصَقَةِ صفةً ومختصةً بها بخلافِ» عند «فإنها لا تدلُّ على الملاصقةِ، فصارَ فيها مَعنًى لا يَدُلُّ عليه الظرفُ، بل هو من قبيلِ ما يَدُلُّ عليه الحرفُ، فكأنها مُضَمَّنةٌ معنى حرفٍ، كانَ مِنْ حقِّه أن يُوضَعَ لذلك فَلم يُوْضَعْ، كما قالوا في اسم الإِشارة. واللغتان المذكورتان من الإِعراب والبناء مختصتان ب» لدن «المفتوحةِ اللامِ المضمومةِ الدالِ، الواقعِ آخرَها نونٌ، وأمَّا بقيةُ لغاتها على ما سنذكره

فإنها مبنيةٌ عند جميع العرب. وفيها عشرُ لغات: الأولى وهي المشهورة، ولدَن ولدِن بفتح الدال وكسرِها، ولَدْن ولُدْن بفتح اللام، وضمها مع سكونِ الدال وكسر النون، ولُدْنَ بالضم والسكون وفتح النون، ولَدْ ولُدْ بفتح اللام وضمها مع سكون الدال، ولَدُ بفتح اللام وضم الدال ولَتْ بإبدال الدالِ تاء ساكنة، ومتى أُضيفت المحذوفةُ النونِ إلى ضميرٍ وَجَبَ رَدُّ النونِ. قوله: {أَنْتَ الوهاب} يُحْتمل أن تكونَ مبتدأً وأَنْ تكونَ ضميرَ الفصلِ وأن تكون تأكيداً لاسمِ» إنَّ «.

9

قوله تعالى: {جَامِعُ الناس} : قرأ أبو حاتم: «جامعٌ الناسَ» بالتنوينِ والنصبِ. و {لِيَوْمٍ} اللامُ للعلة أي: لجزاءِ يوم، وقيل: هي بمعنى في، ولم يُذْكَرْ المجموعُ لأجلهِ. و {لاَّ رَيْبَ} صفةٌ ليوم، فالضميرُ في «فيه» عائدٌ عليه. وأبعد مَنْ جَعَلَه عائداً على الجمعِ المدلولِ عليه بجامعٍ، أو على الجزاءِ المدلولِ عليه بالمعنى أو على العَرْض. قوله: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} يجوزُ أن يكونَ من تمامِ حكاية قولِ الراسخين فيكونَ التفاتاً من خطابهِم للباري تعالى بغير الخطاب إلى الإِتيانِ بالاسمِ الظاهرِ دلالةً على تَعْظِيمه، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً من كلام اللهِ فلا التفاتَ حينئذٍ، والميعادُ: مصدرٌ، وياؤُه عن واو لانكسار ما قبلَها كميِقات.

10

قوله تعالى: {لَن تُغْنِيَ} : العامَّةُ على «تُغْني» بالتاء من

فوق مراعاةً لتأنيث الجمع. وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن بالياء مِنْ تحتِ بالتذكيرِ على الأصل، وسَكَّن الحسن ياء «تُغْني» استثقالاً للحركةِ على حرفِ العلة. وذهاباً به مذهبَ الألف، وبعضُهم يَخُصُّ هذا بالضرورةِ. قوله: {مِّنَ الله} في «من» هذه أربعة أوجه: أحدها: أنها لابتداءِ الغاية مجازاً أي: مِنْ عذاب الله وجزائه. الثاني: أنها بمعنى عند، قال أبو عبيدة: هي بمعنى عند كقوله: {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] أي: عندَ جوع وعند خوف، وهذا ضعيفٌ عند/ النحويين. الثالث: أنها بمعنى بدل. قال الزمخشري: «قوله» من الله مثلُ قوله: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} [يونس: 36] ، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعته شيئاً أي: بدلَ رحمتِه وطاعته وبدلَ الحق، ومنه «ولا يَنْفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ» أي: لا ينفعَهُ جَدُّه وحَظُّه من الدنيا بدلك، أي: بدلَ طاعتِك وما عندَك، وفي معناه قولُه تعالى: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} [سبأ: 37] ، وهذا الذي ذَكَره من كونِها بمعنى «بدل» جمهورُ النحاة يَأْباه، فإنَّ عامَّة ما أورده مجيزُ ذلك بتأولُه الجمهور، فمنه قولُه:

1182 - جاريةٌ لم تأْكِلِ المُرَقَّقا ... ولم تَذُقْ من البقولِ الفُسْتقا وقول الآخر: 1183 - أخذوا المَخَاضَ من الفصيلِ غُلُبَّةً ... ظُلْماً ويُكتبُ للأميرِ أَفِيلا وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} [الزخرف: 60] {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] . الرابع: أنها تبعيضيةٌ، ألاَّ أنَّ هذا الوجهَ لَمَّا أجازه الشيخ جعله مبنياً على إعرابِ «شيئاً» مفعولاً به، بمعنى: لا يَدْفع ولا يمنع. قالَ: فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ «مِنْ» في موضع الحال من شيئاً، لأنه لو تأخَّر لكان في موضع النعتِ له، فلمَّا تقدَّم انتصب على الحال، وتكن «مِنْ» إذ ذاك للتعبيض. وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ البتة، لأنَّ «مِنْ» التبعيضيَّةَ تُؤوَّلُ بلفظ «بعض» مضافةً لِما جَرَّته مِنْ، ألا ترى أنك إذا قلت: «رأيت رجلاً من بني تميم» معناه بعضَ بني تميم، و «أخذت من الدارهم» : بعضَ الدراهم، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصلاً، وإنما يَصِحُّ جَعْلُه صفةً لشيئاً إذا جعلنا «مِنْ» لابتداء الغايةى كقولك: «عندي درهم من زيد» أي: كائن أو مستقر من زيد، ويمتنع فيها التبعيضُ، والحالُ كالصفةِ في المعنى، فامتنعَ أن تكونَ «مِنْ» للتعبيض مع جَعْلِه «من الله» حالاً من «شيئاً» ، والشيخُ تَبعَ في ذلك أبا البقاء، إلاَّ أنَّ أبا البقاء حين قال ذلك

قَدَّرَ مضافاً صَحَّ به قَولُه، والتقدير: شيئاً من عذاب الله، فكان ينبغي أن يَتْبَعَه [في هذا الوجه مُصَرِّحاً بما يَدْفَعُ] هذا الردَّ الذي ذكرتُه. و «شيئاً» : إمَّا منصوبٌ على المفعولِ به، وقد تقدَّم تأويله، وإمَّا على المصدرية أي: شيئاً من الإِغناء. قوله: {وأولئك هُمْ وَقُودُ} هذه الجملةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ مستأنفةً. والثاني: أن تكونَ منسوقةً على خبر إنَّ، و «هم» يحتملُ الابتداءَ والفصلَ. وقرأ العامة: «وَقود» بفتح الواو، والحسن بضمِّها، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة، وأنَّ المصدريةَ مُحْتَمَلةٌ في المفتوحِ الواوِ أيضاً، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويلِه فلا حاجةً إلى إعادتِه هنا.

11

قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} : في هذه الكافِ وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه: دَأْبُهم في ذلك كدأبِ آلِ فرعون، وبه بدأ الزمخشري وابن عطية. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ وفي الناصب لها تسعةُ أقوال: أحدها: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والعاملُ فيه «كفروا» تقديره: «إنَّ الذين كفروا كفراً كدأبِ آل فرعون» ، أي: كعادَتِهم في الكفر، وهو رأيُ الفراء. وهذا القولُ مردودٌ بأنه قد أَخْبَرَ عن الموصول قبل تمام صلتِه، فَلَزِمَ الفصلَ بين أبعاضِ الصلةِ بالأجنبي، وهو لا يجوزُ. والثاني: أنه منصوبٌ بكفروا، لكنْ مقدَّراً لدلالةِ

هذا الملفوظِ به عليه. الثالث: أن الناصبَ مقدرٌ مدلولٌ عليه بقوله: «لَنْ تُغني» أي بَطَلَ انتفاعُهم بالأموال والأولادِ كعادةِ آل فرعون، في ذلك. الرابع: أنه منصوبٌ بلفظ «وقود» أي: تُوقد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون، كما تقول: «إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك» تريد: كظلمِ أبيك، قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ لأن الوَقودَ على القراءةِ المشهورةِ الأظهرُ فيه أنه اسمٌ لما يُوْقَدُ به، وإذا كان اسماً فلا عملَ له. فإنْ قيل: إنه مصدرٌ أو على قراءةِ الحسن صَحَّ. الخامس: أنه منصوبٌ بنفس «لن تُغْني» أي: لن تُغْنِي عنهم مثلَ ما لم تَغْنِ عن أولئك، ذَكَره الزمخشري، وضَعَّفه الشيخ بلزوم الفصلِ بين العامل ومعمولِه بالجملةِ التي هي قوله: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} ، قال: «على أيّ التقديرين اللذين قَدَّرْناهما فيها من أن تكونَ معطوفةً على خبر» إنَّ «أو على الجملةِ المؤكَّدةِ بإنَّ. قال:» فإنْ جَعَلْتهَا اعتراضيةً وهو بعيدٌ جاز ما قاله الزمخشري السادس: أن يكونَ العاملُ فيها فعلاً مقدراً مدلولاً عليه بلفظِ الوقودِ تقديرُه: يُوقد بهم كعادةِ آل فِرعون، ويكون التشبيهُ في نفسِ الاحتراق، قاله ابن عطية. السابع: أَنَّ العاملَ «يُعَذَّبون» كعادة آل فرعون، يَدُلُّ عليه سياقُ اكلام. الثامن: أنه منصوبٌ ب: «كَذَّبوا بآياتنا» ، والضميرُ في «كَذَّبوا» على هذا لكفار مكة وغيرِهم من معاصري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي: كَذَّبوا تكذيباً كعادةِ آل فِرعون في ذلك التكذيبِ. التاسع: أنَّ العاملَ فيه قوله {فَأَخَذَهُمُ الله} أي: فأخذهم الله أَخْذاً كأخذِه آلَ فرعون، وهذا مردودٌ، فإنَّ ما بعد الفاءِ العاطفةِ لا يَعْمل فيها قبلها، لا يجوزُ: «قُمْتُ زيداً

فضربْتُ» وأما «زيداً فاضربْ» فقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة. وقد حكى بعض النحويين عن الكوفيين أنهم يُجيزون تقديمَ المعمولِ على حرف العطف فعلى هذا يجوز هذا القول. وفي كلام الزمخشري سهوٌ فإنه قال: «ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ مَحَلُّ الكاف ب» لن تُغْني «أو» بخالدون «أي: لن تُغْنيَ عنهم مثلَ ما لم تُغْنِ عن أولئك، أو هم فيها خالدون كما يَخْلُدون» ، وليس في لفظ الآية الكريمة «خالدون» إنما نظْمُ القرآن: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} ويَبْعُدُ أَنْ يُقال أراد «خالدون» مقدَّراً يَدُلُّ عليه سياقُ الكلام. قوله: {والذين مِن قَبْلِهِمْ} يجوزُ أن يكونَ مجروراً نَسَقَاً على آل فرعون وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء، والخبرُ قولُه بعدَ ذلك: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً. وخَصَّ أبو البقاء جوازَ الرفعِ بكونِ الكافِ في محلِّ الرفعِ فقال: «فعلى هذا أي على كونِها مرفوعةَ المحلِّ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ يجوزُ في {والذين مِن قَبْلِهِمْ} وجهان أحدُهما: هو جرُّ بالعطفِ/ أيضاً، و» كَذَّبوا «في موضعِ الحالِ، و» قد «معه مضمرةٌ، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً لا موضعَ له، ذُكِر لشَرْحِ حالِهم، والوجهُ الآخرُ أن يكونَ الكلامُ تَمَّ على فرعون و» الذين مِنْ قبلِهم مبتدأُ، وكَذَبوا خبرُه «. والدَّأْبُ: العادَةُ، يقال: دَأَبَ يَدْأَبُ أي: واظبَ ولازَم، ومنه:» دَأَبا «أي: مداومةً. وقال امرؤ القيس:

1184 - كدَأْبِك من أمِّ الحُوَيْرث قبلها ... وجارتِها أمِّ الرَّبابِ بمَأْسَلِ ويقال: دَأَبَ يدأَبُ دؤُوبا، قال زهير: 1185 - لأرتَحِلَنْ بالفجر ثم لأدْأَبَنْ ... إلى الليلِ إلاَّ أن يُعَرِّجَني طِفْلُ وقال الواحدي: الدأَبُ: الإِجهاد والتعبُ، يقال: سار فلان يومه كلَّه يدأَبُ فيه فهو دائِبٌ، أي: أُجْهِدَ في سيره، هذا أصلُه في اللغة، ثم يصير الدأبُ عبارةً عن الحالِ والشأن والعادةِ، لاشتمالِ العمل والجُهْدِ على هذا كله، ولذا قال الزمخشري قال:» [الدأب] : مصدرُ دَأَب في العملِ إذا كَدَحَ فيه، فَوُضِعَ مََوْضِعَ ما عليه الإِنسان من شأنِه وحاله «ويقال: دَأْب ودَأَب، بسكون الهمزة وفتحها، وهما لغتان في المصدر كالضَّأْن والضَّأَن، والمَعْز والمَعَز. وقرأ حفص» سَبْعَ سنينَ دَأَبا «، بالفتح، قال الفراء:» والعربُ تُثَقِّل ما كان ثانيه من حروفِ الحلق كالنَّعْل والنَّعَل والنَّهْر والنهَر والشَّأْم والشَّأَم «وأنشد: 1186 - قد سار شرقيُّهم حتى أَتوا سَبَأً ... وانساح غربيُّهم حتى هوى الشَّأَما قوله: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ خبراً عن» الذين «إنْ قيل: إنه مبتدأٌ، وإنْ لم يكن مبتدأ فقد تقدَّم أيضاً أنه يكون بياناً للدأب وتفسيراً له كأنه قيل: ما فَعَلوا وما فُعِل بهم؟ فقيل: كَذَّبوا بآياتنا، فهو جوابُ سؤالٍ مقدر، وأن يكونَ حالاً. وفي قوله» بآياتنا «التفاتٌ؛ لأنَّ قبله» من الله «وهو اسمٌ ظاهر. والباءُ في» بذنوبهم «يجوز أن تكونَ للسببيةِ أي: أَخَذَهم بسبب ما اجترموا، وأن تكونَ للحال أي: أخذهم ملتبسين بالذنوبِ غيرَ تائبين منها.

[والذَّنْبُ في الأصل: التِلْوُ والتابعُ، وسُمِّيَتِ الجريمة ذنباً] لأنها يتلو أي يتبع عقابُها فاعلَها؛ والذَّنُوب: الدَّلْو لأنها تتلو الحبلَ في الجَذْب، وأصلُ ذلك من ذَنَبِ الحيوان لأنه يَذْنُبُه أي يَتْلو يقال: ذَنَبه يَذْنُبُه ذَنْباً أي: تَبِعه. قوله: {شَدِيدُ العقاب} كقوله: {سَرِيعُ الحساب} [البقرة: 202] أي: شديدٌ عقابهُ، وقد تقدَّم تحقيقه. وقد اشتملت هذه الآيات من أولِ السورةِ إلى ههنا أنواعاً من علمِ المعاني والبيان والبديع لا تَخْفى على متأمِّلها.

12

قوله تعالى: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} قرأ الأخَوان هذين الفعلين بالغَيْبة، والباقون بالخطاب، والغيبة والخطاب في مثل هذا التركيب واضحانِ كقولِك: «قل لزيد: قم» على الحكاية، وقل لزيد: يقوم، وقد تقدم نحوٌ من هذا في قولِه: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [البقرة: 83] . وقال الشيخ في قراءةِ الغَيْبة: «الظاهرُ أنَّ الضميرَ للذين كفروا، وتكونُ الجملةُ إذ ذاك ليست محكيةً بقل، بل محكيةٌ بقول آخر، التقديرُ: قُلْ لهم قَوْلي سَيُغْلَبُون وإخباري أنه ستقعُ عليهم الغَلَبَةُ، كما قال: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فبالتاءِ أخبرهم بمعنى ما أُخْبر به من أنهم سَيُغْلبون، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أُخبر به أنهم سَيُغْلبون» . وهذا الذي قاله سبقَه إليه الزمخشري فأخَذَه منه، ولكنَّ عبارةَ

أبي القاسم أوضحُ فَلْنوردها، قال رحمه الله: «فإنْ قلت: أيُّ فرق بين القراءتين من حيث المعنى؟ قلت: معنى القراءة بالتاء أي من فوق الأمرُ بأَنْ يُخْبرهم بما سَيَجْري عليهم من الغَلَبة والحَشْر إلى جهنم، فهو إخبار بمعنى سَتُغْلبون وتُحْشَرون فهو كائن من نفسِ المتوعَّدِ به، وهو الذي يدل عليه اللفظُ، ومعنى القراءةِ بالياء الأمرُ بأَنْ يحكي لهم ما أَخْبره به من وعيدِهم بلفظه كأنَّه قال: أدِّ إليهم هذا القولَ الذي هو قَوْلي لك سَيُغْلبون ويُحْشَرُون» . وجَوَّز الفراء وثعلب أن يكونَ الضميرُ في «سَيُغْلبون ويُحْشرون» لكفار قريش، ويرادُ بالذين كفروا اليهودُ، والمعنى: قُلْ لليهود: «سَتُغْلَبُ قريش» ، هذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط. قال مكي: «ويُقَوِّي القراءة بالياء أي: من تحت إجماعُهم على الياء في قوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ} ، قال:» والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ لإِجماع الحرميين وعاصم وغيرهم على ذلك «قلت: ومثلُ إجماعهم على قوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ} إجماعُهم على قولِه: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} [النور: 30] {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ} [الجاثية: 14] . وقال الفراء:» مَنْ قرأ بالتاء جَعَل اليهود والمشركين داخلين في الخطاب، ثم يجوزُ في هذا المعنى الياءُ والتاءُ، كما تقول في الكلام: «قل لعبد الله: إنه قائم وإنك قائم» ، وفي حرفِ عبد الله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن

يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} ، ومَنْ قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبةِ اليهود، وأنَّ الغلبةَ تقع على المشركين، كأنه قيل: قل يا محمد لليهود سَيُغْلَبُ المشركون ويُحْشرون، فليس يجوزُ في هذا المعنى إلا الياءُ لأنَّ المشركين غَيْبٌ. قوله: {وَبِئْسَ المهاد} المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: بئس المهاد جهنمُ. والحذفُ للمخصوصِ يدلُّ على صحةِ مذهبِ سيبويه من أنه مبتدأٌ والجملةُ قبلَه خبرُه، ولو كان كما قالَ غيرُه مبتدأً محذوفَ الخبرِ أو بالعكسِ لما حُذِف/ ثانياً للإِجحافِ بحَذْفِ سائِر الجملة.

13

قوله تعالى: {قَدْ كَانَ} : جوابُ قسمٍ محذوفٍ، و «آيةٌ» اسمُ كان، ولم يؤنِّث الفعلَ لأنَّ تأنيثَ الآيةِ مجازيٌّ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان، ولوجودِ الفصلِ ب «لكم» ، فإنَّ الفصلَ مُسَوِّغٌ لذلك مع كونِ التأنيث حقيقاً كقوله: 1187 - إنَّ امرَأً غَرَّه منكنَّ واحدةٌ ... بَعْدي وبعدكِ في الدنيا لمغرورُ وفي خبر «كان» وجهان أحدُهما: أنه «لكم» و «في فئتين» في محل رفع نعتاً لآية. والثاني: أنه «في فئتين» . وفي «لكم» حينئذ وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «آية» لأنه في الأصل صفةٌ لآية، فلما قُدِّم نُصِب حالاً. والثاني: أنه متعلِّقٌ بكان، ذكره أبو البقاء، وهذا عند مَنْ يرى أنها تعملُ في الظرف وحرف الجر، ولكنْ في جَعْلِ «في فئتين» الخبرَ إشكالٌ، وهو أن حكمَ اسمِ «كان» حُكْمُ المبتدأِ فلا يجوزُ أن يكونَ اسماً لها

إلاَّ ما جاز الابتداءُ به، وهنا لو جُعِلَتْ «آية» مبتدأً وما بعدها خبراً لم يَجُزْ، إذ لا مسوِّغَ للابتداء بهذه النكرة، بخلاف ما إذا جَعلْتَ «لكم» الخبرَ فإنه جائزٌ لوجودِ المسوِّغِ وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جر. قوله: {التقتا} في محلِّ جرٍ صفةً لفئتين أي: فئتين ملتقيتين. قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ} العامة على رفع «فئة» وفيها أوجهٌ، أحدها: أن يرتفعَ على البدلِ من فاعل «التقتا» ، وعلى هذا فلا بدَّ من ضمير محذوفٍ يعودُ على «فئتين» المتقدمتين في الذكر، ليسوغَ الوصفُ بالجملة، إذ لو لم يُقَدَّرْ ذلك لما صَحَّ، لخلوِّ الجملةِ الوصفيةِ من ضميرٍ، والتقديرُ: في فئتين التقَتْ فئةٌ منهما وفئةٌ أخرى كافرة. والثاني: أن يرتفعَ علىخبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: إحداهما فئةٌ تقاتِلُ، فقطع الكلامَ عن أولِه، واستأنفه. ومثلُه ما أنشده الفراء على ذلك: 1188 - إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفَيْنِ شامتٌ ... وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصنعُ أي: أحدُهما شامتٌ وآخرٌ مُثْنٍ، أي: وصنفٌ آخرُ مُثْنٍ، ومثلُه في القطع أيضاً قولُ الآخر: 1189 - حتى إذا ما استقلَّ النجمُ في غَلَسٍ ... وغُودر البقلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصودُ أي: بعضُه مَلْوِيٌّ وبعضُه مَحْصود. وقال أبو البقاء: «فإنْ قلت: فإذا قَدَّرْتَ في الأولى» إحداهما «مبتدأً كان القياسُ أن يكون والأخرى، أي: والفئةُ الأخرى

كافرةٌ. قيل: لَمَّا عُلِم أنَّ التفريقَ هنا لنفس الشيءِ المقدَّمِ ذكرُه كان التعريفُ والتنكير واحداً. قلت: ومثلُ الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيتُ المتقدم:» شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ «فجاء به نكرةً دون» أل «. الثالث: أن يرتفعَ على الابتداءِ وخبرُه مضمرٌ تقديرُه: منهما فئة تقاتل، وكذا في البيت اي: منهم شامتٌ ومنهم مُثْنٍ، ومثلُه قولُ النابغة: 1190 - تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها ... لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ رمادٌ ككحل العينِ لأْياً أُبينُه ... ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أثلمُ خاشع تقديره: منهنَّ أي: ومن الآيات رمادٌ، ومنهن نؤيٌ، ويَحْتَمل البيتُ أن يكونَ كما تقدم من تقديره مبتدأً، و «رمادٌ» خبرُه كما تقدَّم في نظيره. وقرأ الحسن ومجاهد وحميد: «فئةٍ تقاتل» بالجر على البدل من «فئتين» ، ويسمى هذا البدلُ بدلاً تفصيلاً كقولِ كثِّير عزة: 1191 - وكنتُ كذي رجلين رجلٍ صحيحةٍ ... ورجلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ وهو بدلُ بعضٍ من كل، وإذا كان كذلك فلا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على المبدل منه تقديره: فئةٍ منهما. وقرأ ابن السَّمَيْفَع وابن أبي عَبْلة «فئةً» نصباً. وفيه أربعة أوجه، أحدها: النصبُ بإضمارِ أعني. والثاني: النصبُ على المدح. وتحريرُ هذا القول أن يُقال على المدح في الأول، وعلى الذم في الثاني، وكأنه قيل: أَمْدَحُ

فئةً تقاتل في سبيل الله، وأذمُّ أخرى كافرةً. الثالث: أن ينتصبَ على الاختصاص جَوَّزه الزمخشري. قال الشيخ: «وليس بجيد؛ لأنَّ المنصوبَ [على الاختصاص] لا يكونُ نكرةً ولا مبهماً» قلت: لا يعني الزمخشري الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو «نحن معاشرَ الأنبياء لا نُوْرَثُ» إنما عنى النصبَ بإضمارِ فعلٍ لائقٍ، وأهلُ البيانِ يُسَمُّون هذا النحو اختصاصاً. الرابعُ: أن تنتصِبَ «فئةً» على الحالِ من فاعل «التقتا» كأنه قيل: التقتا مؤمنةً وكافرةً، فعلى هذا يكون «فئةً» و «أخرى» توطئةً للحال، لأن المقصود ذِكْرُ وصفها، وهذا كقولهم: جاءني زيدٌ رجلاً صالحاً، ومثلُه في باب الإِخبار: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] ونحوُه. قوله: {وأخرى كَافِرَةٌ} «أُخْرى» : صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ تقديره: «وفئةٌ أخرى كافرةٌ» . وقُرِئَتْ «كافرة» بالرفعِ والجَرِّ على حَسَبِ القراءتين المذكورتين في «فئة تقاتل» ، وهذه منسوقَةٌ عليها، وكان من حق/ من قرأ «فِئَةً تقاتل» نصباً أن يقرأ: «وأخرى كافرةً» نصباً عطفاً على الأولى، ولكني لم أحفظ فيها ذلك. وفي عبارة الزمخشري ما يُوْهم القراءةَ به فإنه قال: «وقُرىء فئة تقاتل وأخرى كافرة بالجرِّ على البدلِ من فئتين، وبالنصبِ على الاختصاص أو الحال» ، فظاهرُ قولِه: «وبالنصب» [أي: في جميعِ ما تقدم وهو: فئة تقاتل وأخرى كافرة] . وقد تقدَّم سؤال أبي البقاء وهو: لم يَقُلْ «والأخرى»

بالتعريفِ، أعني حالَ رفعِ «فئةُ تقاتل» على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: «إحداهما» ، والجوابُ عنه. والعامَّةُ على «تقاتل» بالتأنيثِ لإِسنادِ الفعلِ إلى ضميرِ المؤنث، ومتى أُسْنِدَ إلى ضميرِ المؤنث وَجَبَ تأنيثُه، سواءً كان التأنيثُ حقيقةً ِأم مجازاً نحو: «الشمس طَلَعَت» هذا جمهورُ الناسِ عليه، وخالَفَ ابن كيسان فأجاز: «الشمس طَلَع» مستشهداً بقوله الشاعر: 1192 - فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أبقلَ إبقالَها فقال: «أبقل» وهو مسندٌ لضميرِ الأرض ولم يَقُلْ: أبقلَتْ، وغيرُه يَخُصُّهُ بالضرورةِ. وقال هو: «لا ضرورةَ إذ كان يمكنُ أن يَنْقُلَ حركةَ الهمزةِ على تاءِ التأنيثِ الساكنة فيقول: ولا أرضَ أبقلتِ بْقالَها. وقد ردُّوا عليه بأن الضرورةَ ليس معناها ذلك، ولئن سَلَّمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان من لغتِه النقلُ، لأنَّ النقلَ ليس لغةً لكلِّ العرب. وقرأ مجاهد ومقاتل:» يقاتل «بالياء من تحت، وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابن كيسان ومقويةٌ له. قالوا: والذي حَسَّن ذلك كونُ» فئة «في معنى القومِ والناس؛ فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً. قوله: {يَرَوْنَهُمْ} قرأ نافع وحده من السبعةِ ويعقوب وسهل:» تَرَوْنهم «بالخطابِ، والباقون من السعبة بالغَيْبة. فأمَّا قراءةُ نافع ففيها ثمانية أوجه،

أحدُها: أن الضميرَ في» لكم «والمرفوعَ في» تَرَوْنهم «للمؤمنين، والضميرَ المنصوب في» تَرَوْنهم «والمجرورَ في» مِثْلَيْهم «للكافرين. والمعنى: قد كان لكم أيها المؤمنون آيةٌ في فئتين بأَنْ رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد وهو أبلغُ في القدرةِ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عددِ الكافرين، ومع ذلك انتصروا عليهم وغَلَبوهم وأَوْقَعوا بهم الأفاعيلَ. ونحُوه: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] واستبَعَدَ بعضُهم هذا التأويلَ لقوله تعالى في الأنفالِ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [الآية: 44] ، فالقصةُ واحدةٌ، وهناك تَدُلُّ الآية على أن الله تعالى قَلَّل المشركين في أعين المؤمنين لئلا يَجْبُنوا عنه، وعلى هذا التأويلِ المذكور هنا يكون قد كَثَّرهم في أعينهم. ويمكنُ أن يُجابَ عنه باختلافِ حالَيْنِ، وذلك أنه في وقتٍ أراهم إيَّاهم مثلي عددهم ليمتحنهم ويبتليهم، ثم قَلَّلهم في أعينهم ليقدُموا عليهم، فالإِتيانُ باعتبارين ومثلُه: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] مع: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] ، {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] مع: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35] . وقال الفراء:» المرادُ بالتقليل التهوينُ كقولِك: «رأيتُ كثيرَهم قليلاً» لهوانِهِم عندكَ، وليس من تقليلِ العدد في شيء «. الثاني: أن يكونَ الخطاب في» تَرَوْنهم «للمؤمنين أيضاً، والضميرُ المنصوبُ في» ترونهم «للكافرين أيضاً، والضميرُ المجرورِ في» مِثْلَيْهم «

للمؤمنين، والمعنى: تَرَوْن أيها المؤمنون الكافرين مثلي عددِ أنفسكم، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأيِ العين، وذلك أنَّ الكفارَ كانوا ألفاً ونَيِّفاً والمسلمونُ على الثلث منهم، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم، على ما قَرَّر عليهم من مقاومةِ الواحدِ للاثنين في قوله تعالى: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] بعد ما كُلِّفوا أن يقاومَ واحدٌ العشرةَ في قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] . قال الزمخشري: «وقراءةُ نافع لا تساعد عليه» عين على هذا التأويلِ المذكور، ولم يُبَيِّنْ وجه عدمِ المساعدةِ، وكأنَّ الوجَه في ذلك والله أعلم أنه كان ينبغي أن يكونَ التركيب: «تَرَوْنهم مثليكم» بالخطاب في «مثليكم» لا بالغَيْبة. وقال أبو عبد الله الفاسي بعد ما ذكرته عن الزمخشري: «قلت: بل يساعِدُ عليه إن كان الخطابُ في الآية للمسلمين، وقد قيل ذلك» انتهى، فلم يأتِ أبو عبد الله بجوابٍ، إذ الإِشكالُ باقٍ. وقد أجابَ بعضُهم عن ذلك بجوابين، أحدُهما: أنه من باب الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة وأن حقَّ الكلام: «مِثْلَيْكم» بالخطاب، إلا أنه التفتَ إلى الغَيْبة، ونظَّره بقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] . والثاني: أن الضميرَ في «مِثْلَيْهم» وإن كان المرادُ به المؤمنين إلا أنه عادَ على قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله} ، والفئةُ المقاتِلة هي عبارةٌ عن المؤمنين المخاطبينَ، والمعنى: تَرَوْن أيها المؤمنون الفئةَ الكافرة مِثْلَيْ الفئةِ المقاتلةِ في سبيل الله، فكأنه قيل: تَرَوْنَهم أيَها المؤمنون مِثْلَيْكُم. وهوَ جوابٌ حسنٌ ومعنى واضحٌ.

الثالث: أن يكونَ الخطاب في «لكم» وفي «تَرَوْنَهم» للكفار، وهم قريش، والضميرُ المنصوبُ والمجرور للمؤمنين، أي: قد كان لكم أيها المشركون/ آيةٌ حيث تَرَوْن المؤمنين مِثْلَي أنفسِهم في العدَدِ، فيكون قد كَثَّرهم في أعينِ الكفار ليجبنُوا عنهم، فيعودُ السؤالُ المذكور بين هذه الآية وآية الأنفال، وهي قوله تعالى: {وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] ، فكيف يقال هنا إنه كَثَّرهم فيعودُ الجواب بما تقدَّم من اختلافِ حالتين، وهو أنه قَلَّلهم أولاً ليجترىءَ عليهم الكفارُ، فلمَّا التقى الجمعان كَثَّرهم في أعيِنِهم ليحصُل لهم الخَورُ والفَشَلُ. الرابع: كالثالث، إلاَّ أنَّ الضميرَ في «مِثْلَيْهم» يعودُ على المشركين فيعودُ ذلك السؤال، وهو أنه كان ينبغي أن يُقال «مِثْليكم» ليتطابق الكلامُ فيعودَ الجوابان وهما: إمَّا الالتفاتُ من الخطاب إلى الغَيْبة، وإمَّا عودُه على لفظِ الفئة الكافرة، لأنها عبارةٌ عن المشركين، كما كان ذلك الضميرُ عبارةً عن الفئةِ المقاتلَةِ، ويكونُ التقديرُ: تَرَوْنَ أيها المشركون المؤمنين مِثْلَيْ فئتِكم الكافرة، وعلى هذا فيكونون قد رَأَوا المؤمنين مِثْلَي أنفسِ المشركين ألفين ونيفاً، وهذا مَدَدٌ من الله تعالى، حيث أرى الكفارَ المؤمنينَ مِثْلَي عددِ المشركين حتى فَشِلوا وجَبُنوا، فَطَمِعَ المسلمون فيهم فانتصروا عليهم، ويؤيِّده: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} فالإراءة هنا بمنزلة المَدَدِ بالملائكةِ في النصرةِ بكليهما، ويعودُ السؤالُ حينئذٍ بطريق الأَوْلى: وهو كيف كثَّرهم إلى هذه الغايةِ مع قولِهِ في الأنفال: {وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} ؟ ويعود الجواب. الخامس: أنَّ الخطابَ في «لكم» و «تَرَوْنهم» لليهود، والضميران المنصوبُ والمجرورُ على هذا عائدان على المسلمين على معنى: تَرَوْنَهم لو رأيتموهم مِثْلَيْهم، وفي هذا التقدير تكلُّفٌ لا حاجةً إليه، وكأن هذا القائلَ

اختار أن يكونَ الخطابُ في الآية المنقضية وهي قولُه: {قَدْ كَانَ لَكُمْ} لليهود، فَجَعَلهُ في «تَرَوْنَهم» لهم أيضاً، ولكنَّ الخروجَ من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أَوْلى من هذا التقدير المتكلَّفِ، لأنَّ اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ حتى يُخاطَبوا برؤيتِهم لهم كذلكَ. ويجوز على هذا القولِ أن يكونَ الضميرانِ المنصوبُ والمجرورُ عائِدَيْنِ على الكفار، أي: إنهم كَثَّر في أعينِهم الكفارَ حتى صاروا مِثْلي عددِ الكفارِ، ومع ذلك غلبَهم المؤمنون وانتصروا عليهم، فهو أَبْلَغُ في القدرةِ. ويجوزُ أنْ يعودَ المنصوبُ على المسلمين والمجرورُ على المشركين، أي: تَرَوْنَ أيها اليهودُ المسلمينَ مِثْلَي عددِ المشركين مهابةً لهم وتهويلاً لأمرِ المؤمنين، كما كان ذلك في حق المشركين فيما تقدَّم من الأقوال. ويجوز أن يعودَ المنصوبُ على المشركين والمجرورُ على المسلمين، والمعنى: تَرَوْنَ أيها اليهودُ لو رأيتم المشركينَ مِثْلَي عددِ المسلمين، وذلك أنهم قُلِّلُوا في أعينهم ليحصُل لهم الفزعُ والغَمُّ؛ لأنه كان يَغُمُّهُم قلةُ الكفارِ ويعجبُهم كثرتُهُم ونصرتُهم على المسلمين حسداً وَبَغْياً فهذه ثلاثة أوجهٍ مترتبةٌ على الوجه الخامسِ، فتصيرُ ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع. وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أنها كقراءةِ الخطاب، فكلُّ ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا، ولكنه جاء على بابِ الالتفاتِ أي: التفاتٌ من خطاب إلى غيبة. الثاني: أن الخطاب في «لكم» للمؤمنين، والضميرُ المرفوعُ في «يَرَوْنَهم» للكفار، والمنصوبُ والمجرورُ للمسلمين، والمعنى: يَرَى المشركون المؤمنين مِثْلَي عدد المؤمنين ستمئة ونيفاً وعشرين، أراهم الله مع قِلَّتهم إياهم ضِعْفَيْهم ليَهَابُوهم ويَجْبُنوا عنهم. الثالث: أنَّ الخطاب في «لكم» للمؤمنين أيضاً، والمرفوعُ في «يَرَوْنَهم» للكفار، والمنصوبُ للمسلمين والمجرورُ للمشركين، أي: يرى المشركونَ المؤمنين مِثْلَي عددِ المشركين، أراهم الله المؤمنينَ أضعافَهم لِما تَقدَّم في الوجه قبله.

الرابع: أن يعودَ الضميرُ المرفوع في «يَرَونهم» على الفئةِ الكافرة؛ لأنها جَمْعٌ في المعنى، والضميرُ المنصوب والمجرورُ على ما تقدم من احتمالِ عودِهما على الكافرينَ أو المسلمين أو أحدِهما لأحدِهم. والذي تَقَوَّى في هذه الآيةِ من جميعِ ما قَدَّمْتُهُ من حيِث المعنى أَنْ يكونَ مَدارُ الآيةِ على تقليلِ المسلمينَ وتكثيرِ الكافرين، لأنَّ مقصودَ الآية ومساقَها الدلالةُ على قُدْرَةِ الله الباهرةِ وتأييدِهِ بالنصر لعبادِه المؤمنين مع قلةِ عددِهم وخذلانِ الكافرين مع كثرةِ عددِهم، وتحزُّبهم، ليُعْلَمَ أنَّ النصرَ كلَّه من عند الله، وليس سببُه كثرتَكم وقلةَ عدوكم، بل سببُه ما فعلَه تبارك وتعالى من إلقاءِ الرعبِ في قلوبِ أعدائِكم، ويؤيِّده قولُه بعد ذلك/: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} وقال في موضع آخر: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} [التوبة: 25] . قال الشيخ أبو شامة بعد ذِكْره هذا المعنى وَجَعَلَهُ قوياً: «فالهاءُ في تَرَوْنَهم للكفارِ سواءً قُرىء بالغَيْبَةِ أم بالخطاب والهاءُ في» مثليهم «للمسلمين. فإنْ قلت: إن كان المرادُ هذا فهلا قيل: يَرَونْهَم ثلاثةَ أمثالهم. فكان أبلغَ في الآية، وهي نصرُ القليلِ على هذا الكثيرِ، والعُدَّةُ كانت كذلك أو أكثرَ. قلت: أخبرَ عن الواقعِ، وكان آيةً أخرى مضمومةً إلى آية البصرِ، وهي تقليلُ الكفارِ في أعينِ المسلمين وقُلِّلُوا إلى حدٍّ وُعِدَ المسلمونَ النصرَ عليهم فيه، وهو أن الواحدَ من المسلمين يَغْلِبُ الاثنين، فلم تكن حاجةٌ إلى التقليلِ بأكثرَ من هذا، وفيه فائدةٌ: وقوعُ ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه» انتهى. قلت: وإلى هذا المعنى ذهب الفراء، أعني أنهم يَرَوْنَهم ثلاثةَ أمثالهم، فإنه قال: «مِثْليهم: ثلاثةَ أمثالهم، كقول القائل:» عندي ألف وأنا محتاجٌ إلى

مثليها «وغَلَّطه أبو إسحاق في هذا، وقال:» مثلُ الشيء ما ساواه، ومِثْلاه ما ساواه مرتين «. قال ابن كيسان:» الذي أَوْقَع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا يومَ بدر ثلاثةَ أمثالِهم، فتوهَّمَ أنه لا يجوزُ أن يَرَوْهم إلا على عُدَّتهم، والمعنى ليس عليه، وإنما أراهم الله على غيرِ عُدَّتهم لجهتين، إحداهما: أنه رأى الصلاحَ في ذلك؛ لأن المؤمين [تُقَوَّى قلوبُهم بذلك، والأخرى] أنه آيةٌ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والجملةُ على قراءةِ نافع تَحْتَمِلُ أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، ويُحتُمل أن يكونَ لها محلٌّ، وفيه حينئذٍ وجهان، أحدُهما: النصبُ على الحال من «كم» في «لكم» أي: قد كان لكم حالَ كونِكم تَرَوْنهم. والثاني: الجرُّ نعتاً لفئتين، لأنَّ فيها ضميراً يَرْجِع عليهما، قاله أبو البقاء. وأمَّا على قراءةِ الغَيْبةِ فتحتملُ الاستئنافُ، وتحتملُ الرفعَ صفةً لإِحدى الفئتين، وتحتمل الجرَّ صفةً لفئتين أيضاً، على أَنْ تكونَ الواوُ في «يَرَوْنَهم» تَرْجِعُ إلى اليهود، لأنَّ في الجملة ضميراً يعودُ على الفئتين. وقرأ ابن عباس وطلحة «تُرَوْنَهم» مبنياً للمفعول على الخطاب. والسلمي كذلك، إلا أنه بالغيبة. وهما واضحتان مما تقدَّم تقريره، والفاعل المحذوفُ هو الله تعالى. وللناسِ في الرؤية هنا رأيان، أحدُهما: أنها البصرية، ويؤيد ذلك تأكيدُهُ بالمصدرِ الذي هو نصٌّ في ذلك. فهو مصدرٌ مؤكِّدٌ. قال

الزمخشري: «رؤيةٌ ظاهرةٌ مكشوفةٌ لا لَبْس فيها» وعلى هذا فتتعدَّى لواحد، و «مثلَيْهم» نصبٌ على الحال. والثاني: أنها من رؤيةِ القلب، فعلى هذا يكون «مِثْليهم» مفعولاً ثانياً. وقد رَدَّ أبو البقاء هذا فقال: «ولا يجوز أَنْ تكونَ الرؤيةُ من رؤيةِ القلب على كلِّ الأقوال لوجهين، أحدُهما: قولُه» رَأْيَ العين «، والثاني: أن رؤيَةَ القلب عِلْم، ومُحالٌ أن يُعْلَمَ الشيءُ شيئين» . وقد أُجيب عن الوجه الأول بأنَّ انتصابَه انتصابُ المصدر التشبيهي أي: رأياً مثلَ رأي العين، أي: يُشْبِهُ رأيَ العين، فليس إياه على التحقيقِ. وعن الثاني بأنَّ الرؤيةَ هنا يُرادُ بها الاعتقادُ، فلا يَلْزَمُ المُحالُ المذكور، قال: «وإذا كانوا قد أَطْلقوا العلمَ في اللغةِ على الاعتقادِ دونَ اليقينِ فلأَنْ يُطْلقوا عليه الرأيَ أَوْلَى» . ومن إطلاقِ العلمِ على الاعتقادِ قولُه تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] ؛ إذ لا سبيلَ إلى العلمِ اليقيني في ذلك، إذ لا يَعْلَمُهُ كذلك إلا اللهُ تعالى، فالمعنى: فإنْ اعتقدتموهن، والاعتقادُ قد يكونُ صحيحاً، وقد يكون فاسداً، ويَدُلُّ على هذا التأويلِ قراءةُ مَنْ قرأ: «تُرَوْنَهم» أو «يُرَوْنَهم» بالتاء أو الياء مبنياً للمفعول؛ لأنَّ قولَهم «أُرِيَ كذا» بضمِّ الهمزة يكون فيما عند المتكلمُ فيه شكٌّ وتخمينٌ لا يقينٌ وعلم، ولمَّا كان اعتقادُ التضعيف في جمع الكفار أو في جمع المؤمين تخميناً وظناً لا يقيناً دَخَلَ الكلاَم ضربٌ من الشك، وأيضاً كما يستحيل حَمْلُ الرؤيةِ هنا على العلِْمِ يستحيل أيضاً حَمْلُها على رؤيةِ البصر بعينِ ما ذَكَرْتُم من المُحالِ، وذلك كما أنه لا يقع

العلمُ غيرَ مطابقٍ للمعلوم كذلك لا يَقَعُ النظرُ البصريُّ غيرَ مطابقٍ لذلك الشيءِ المُبْصَرِ المنظورِ إليه، فكان المرادُ التخمينَ والظَّنَّ لا اليقينَ والعلمَ. كذا قيل، وفيه نظرٌ لأنا لا نُسَلِّم أنَّ البصر لا يخالِفُ المُبْصَرَ، لجوازِ أَنْ يَحْصُلَ خَلَلٌ فيه وسوءٌ في النظرِ فيتخيلُ الباصرُ الشيءَ شيئين فأكثرَ وبالعكس. وفي انتصابِ «رأيَ العين» ثلاثةُ أوجهٍ تقدَّم منها اثنان: النصبُ على المصدر التوكيدي أو النصبُ على المصدر التشبيهي كما عَرَفْتَ تحقيقَه. والثالث: أنه منصوبٌ على ظرفِ المكان، قال الواحدي: «كما تقول:» تَرَوْنَهُم أمامَكم «ومثلُه:» هو مني مَزْجَرَ الكلب ومناطَ العَيُّوق «، وهذا إخراجٌ للفظ عن موضوعِهِ مع عدمِ المساعدِ معنًى وصناعةً. و» رأى «مشتركٌ بين» رأى «بمعنى أَبْصَرَ، ومصدرُهُ الرَّأْي والرؤيةُ، وبمعنى اعتقد وله الرأي، وبمعنى الحُلْم وله الرؤيا كالدنيا، فوقع الفرقُ بالمصدر، فالرؤيةُ للبصرِ خاصة، والرؤيا للحُلْم فقط، والرأيُ مشترك بين البصريةِ والاعتقاديةِ يقال: هذا رأيُ فلان أي: اعتقادُهُ، قال: 1193 - رَأَى الناسَ إلا مَنْ رَأَى مثلَ رأيِهِ ... خوارجَ تَرَّاكِين قَصْدَ المَخَارِجِ قلت: وهذه الآية قد أكثرَ الناسُ فيها القولَ فتتبَّعْته وقَرَنْتُ كُلَّ شيء بما يُلاَئِمُهُ. قوله: {مَن يَشَآءُ} مفعولُ» يشاء «محذوفٌ أي: مَنْ يشاء تأييدَهُ، والباء/ سببية، أي: بسببِ تأييدِه وهو تفعيلٌ من الأََيْدِ وهو القوة. وقرأه ورش «يُوَيِّدُ» بإبدالِ الهمزةِ واواً محضة وهو تسهيلٌ قياسي قال

أبو البقاء وغيره «ولا يجوز أن تُجْعَلَ بينَ بينَ لقربِها من الألف، والألفُ لا يكون ما قبلَها إلا مفتوحاً، ولذلك لم تُجْعَلِ الهمزةُ المبدوءُ بها بينَ بينَ لا ستحالةِ الابتداءِ بالألِفِ» . قلت: مذهبُ سيبويه وغيره في الهمزةِ المفتوحةِ بعد كسرةٍ قَلْبُها ياءً محضةً وبعد الضمةُ قلبُها واواً محضةً للعلة المذكورة، وهي قُرْبُ الهمزةِ التي بينَ بينَ من الألِفِ، والألفُ لا تكونُ ضمةً ولا كسرةً. و {لأُوْلِي الأبصار} صفةً ل «عبرةً» أي: عبرةً كائنةً لأولي الأبصار. والعِبْرة: فِعْلة من العُبور كالرِّكبة والجِلْسة، والعُبور: التجاوزُ، ومنه: عَبَرْتُ النهر، والمَعْبَرُ: السفينة لأنَّ بها يُعْبَرُ إلى الجانبِ الآخر، وعَبْرَة العين: دمْعُها لأنها تجاوِزُهَا، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتِّعاظ والاستيقاظ لأن المُتَّعِظَّ يَعْبُر من الجهلِ إلى العلمِ ومن الهلاكِ إلى النجاة. والاعتبارُ افتعالٌ منه، والعبارة: الكلامُ الموصِلُ إلى الغرضِ لأنَ فيه مجاوزةً، وعَبَرْت الرؤيا وعَبَّرتها مخففاً ومثقلاً، لأنك نَقَلْتَ ما عندكَ من تأويلِها إلى رائيها.

14

قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} : العامةُ على بنائِهِ للمفعول، والفاعلُ المحذوفُ هو اللهُ تعالى؛ لِمَا رَكَّب في طباع البشر من حُبِّ هذه الأشياء، وقيل: هو الشيطانُ، عن الحسن: «مَنْ زَيَّنَها؟ إنما زيَّنها الشيطان لأنه لا أحدَ أبغضُ لها مِنْ خالقها» . وقرأ مجاهد: «زَيَّن» مبنياً للفاعل، «حُبَّ» مفعول به نصاً، والفاعلُ: إمَّا ضمير الله تعالى لتقدُّم ذكرِهِ الشريفِ في قوله تعالى: {والله يُؤَيِّدُ

بِنَصْرِهِ} [آل عمران: 13] ، وإمَّا ضميرُ الشيطان، أُضْمِرَ وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، لأنه أصلُ ذلك، فَذِكْرُ هذه الأشياءِ مؤذنٌ بِذِكْرِهِ. وأضافَ المصدرَ لمفعولِهِ في «حُبّ الشهوات» . والشَّهوات: جمعُ «شَهْوة» بسكون العين، فَحُرِّكَت في الجمع، ولا يجوزُ التسكينُ إلا في ضرورةٍ كقولهِ: 1194 - وَحُمِّلْتُ زَفْرَاتِ الضحى فَأَطَقْتُها ... ومالي بزَفْرَات العَشِيِّ يَدَانِ بتسكين الفاء. والشهوةُ: مصدرٌ يُراد به اسمُ المفعولِ أي: المُشْتَهَيَات فهو من باب: رجلٌ عَدْلٍ، حيث جُعِلَتْ نفسَ المصدر مبالغةً، والشهوة: مَيْلُ النفس، ويُجْمَعُ على «شَهَوات» ، كالآية الكريمة، وعلى «شُهَى» كغُرَف، قالت امرأة من بني نَضْر بن معاوية: 1195 - فلولا الشُّهَى واللهِ كنتُ جديرةً ... بأَنْ أتركَ اللَّذاتِ في كلِّ مَشْهَدِ وقال النحويون: لا تُجْمَعُ فَعْله المعتلة اللامِ يَعْنُون بفتحِ الفاء وسكون العين [على فًُعَل] إلا ثلاثةَ ألفاظ: كَوَّة وكُوَى فيمن فَتَحَ كاف «كَوَّة» وقَرْيَة وقُرَى ونَزْوَة ونُزَى، واستدرك الشيخ عليهم هذه اللفظة أيضاً فيَكُنَّ أربعة وأنشد البيت. وقال الراغب: «وقد يُسَمَّى المُشْتَهَى شهوةً، وقد

يُقال للقوةِ التي بها تَشْتَهي الشيءَ شهوةً، وقولُه تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} يحتمل الشهوتين. قوله: {مِنَ النساء} في محلِّ نصبٍ على الحال من» الشهوات «والتقدير: حالَ كونِ الشهواتِ من كذا وكذا فهي مفسرةٌ لها في المعنى، ويجوز أَنْ تكونَ» مِنْ «لبيان الجنس، ويَدُلُّ عليه قولُ الزمخشري:» ثم يُفَسِّره بهذه الأجناس «. قوله: {والقناطير} جمع قِنْطار. وفي نونِهِ قولان أحدُهما: وهو قولُ جماعة أنها أصليةُ، وأنَّ وزنَها فِعْلال كحِمْلاَق وقِرْطاس. والثاني أنها زائدةٌ ووزنه فِنعال كقِنْعَاس وهو الجَمَل الشديد، قيل: واشتقاقه من: قَطَرَ يَقْطُر إذا سال، لأنَّ الذهب والفضةُ يُشَبَّهان بالماء في سرعة الانقلابِ وكثرةِ التقلبِ. وقال الزجاج:» هو مأخوذٌ من قَنْطَرْتُ الشيءَ إذا عَقَدْتَه وأَحْكمته، ومنه: القَنْطَرَةُ لإِحكامِ عَقْدِها «. قوله: {مِنَ الذهب} كقولِهِ:» مِنْ النساء «وقد تقدَّم. والذهب مؤنَّثٌ، ولذلك يُصَغَّر على» ذُهَيْبة «، ويُجمع على ذَهاب وذُهوب. وقيل:» الذهب «جمعٌ في المعنى ل» ذَهَبة «، واشتقاقُه من الذَّهاب. الفضة يُجْمع على فِضَض. واشتقاقُها من انفضَّ الشيء إذا تفرَّق، ويقال: «رجل ذَهِب» بكسر الهاء، أي: رأى مَعْدِن الذهب فَدُهِش. قوله: {والخيل} عطفٌ على «النساء» قال أبو البقاء: «لا على الذهب والفضة لأنها لا تُسَمَّى قنطاراً» ، وتَوَهُّمُ مثلِ ذلك بعيدٌ جداً فلا حاجةً إلى التنبيهِ عليه.

والخيلُ فيه قولان، أحدُهما أنه جمعٌ ولا واحدَ له من لفظه بل مفردُهُ «فرس» فهو نظيرُ: قوم ورهط ونساء. والثاني: أنَّ واحدَه «خايل» فهو نظير راكب ورَكْب، وتاجِر وتَجْر، وطائِر وطَيْر، وفي هذا خلافٌ بين سيبويه والأخفش، فسيبويهِ يَجْعَلُهُ اسمَ جمعٍ، والأخفشُ يَجْعَلُهُ جمعَ تكسير. وفي اشتقاقِها وجهان، أحدُهُما: من الاختيال وهو العُجْبُ، سُمِّيت بذلك لاختيالِها في مِشْيتها وطولِ أذْنابِها. قال امرؤء القيس: 1196 - لها ذَنَبٌ مثلُ ذَيْلِ العرو ... سِ تَسُدَّ به فرجَها مِنْ دُبُرْ والثاني: من التخيُّل، قيل: لأنَّها تتخيَّلَ في صورة مَنْ هو أعظمُ منها. وقيل: / أصلُ الاختيالِ من التخيُّل، وهو التشبُّه بالشيء؛ لأنَّ المختالَ يتخيَّل في صورة مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كِبْراً، والأخيلُ: الشِّقْراقُ لأنه يَتَغَيَّر لونُهُ بحسَبِ [المَقام] مرةً أحمرَ، ومرة أخضَرَ، ومرة أصفرَ، وعليه قولُهُ: 1197 - كأبي براقِشَ كلَّ لَوْ ... نٍ لونُهُ يَتَخَيَّلُ وجَوَّز بعضُهم أَنْ يكون مخففاً من «خَيِّل» بتشديد الياء نحو: «مَيْت» في مَيِّت، و «هَيْن» في هَيِّن. وفيه نظرٌ لأنَّ كل ما سُمِع فيه التخفيف سُمِع [التثقيلُ، وهذا لم يُسْمع إلا مخففاً، وقد تقدَّم نظير] هذا البحثِ في لفظ «الغَيْب» .

وقال الراغب: «الخَيْلُ في الأصلِ للأفراسِ والفُرْسَان جميعاً، قال تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60] ، ويُستَعْمَل في كل واحدٍ منهما منفرداً، نحو ما رُوي:» يا خَيلَ اللهِ اركبي «فهذا للفُرْسان، وقوله عليه السلام:» عَفَوْتُ لكم عن صَدَقَة الخيل «يعني الأفراس وفيه نظرٌ؛ لأنَّ أهلَ اللغةِ نَصُّوا على أنَّ قوله عليه السلام:» يا خيل الله اركبي «: إمَّا مجازُ إضمار، وإمّا مجازُ علاقةٍ، ولو كان للفُرْسان بطريقِ الحقيقةِ لَمَا ساغَ قولُهم ذلك. قوله: {المسومة} أصل التسويم: التعليمُ، ومعنى مُسَوَّمة: مُعْلَمَة إمَّا بالكَيّ وإمَّا بالبُلْقِ كما جاءَ ذلك في التفسير. وقيل: بل هو من سَوَّم ماشِيَته أي: رعَاهَا، فمعنى مُسَوَّمة أي: مَرْعِيَّة، يقال:» أَسَمْتُ ماشيتي فسامَتْ «، قال تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] ، وسَوَّمْتها فاستامت، فيكونُ الفعل عُدِّي تارةً بالهمزة وتارةً بالتضعيف. وقيل: بل هو من السيمِياء وهي الحُسْن، فمعنى مُسَوَّمة أي: ذاتُ حسن، قاله عكرمة واختاره النحاس، قال:» لأنه من الوسم «. وقد رَدَّ عليه بعضُهم باختلافِ المادتين. قد أجابَ بعضُهم عنه بأنَّه من بابِ المقلوبِ فيصحُّ ما قاله. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قوله {يَسُومُونَكُمْ} [البقرة: 49] وقوله تعالى: {بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] .

قوله: {والأنعام} هي جمع نَعَم، والنَّعَمُ مختصةٌ بثلاثة أنواع: الإِبلِ والبقرِ والغنمِ وقال الهروي: النَّعَمُ تذكَّر وتؤنَّث، وإذا جُمع انطلق على الإِبل والبقر والغنم «. وظاهرُ هذا أنه قبلَ جمعِه على» أنعام «لا يُطْلق على الثلاثةِ الأنواع، بل يختصُّ بواحدٍ منها، وهذا الظاهر الذي أَشَرْتُ إليه قد صَرَّح به الفراء فقال:» النَّعَمُ الإِبلُ فقط، وهو مذكَّرٌ ولا يؤنَّثُ تقول: «هذا نَعَمٌ وارد، وهو جمعٌ لا واحدَ له من لفظه» وقال ابن قتيبة: «الأنعام: الإِبلُ والبقر والغنم، واحده نَعَم، وهو جمعٌ لا واحدَ له من لفظِه، سُمِّيت بذلك لنعومة مَشْيِها ولِينها» ، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماءِ الأجناس قليلٌ جداً. قوله: {والحرث} قد تقدَّم تفسيرُه، وهو هنا مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به، فلذلك وُحِّد ولم يُجْمَع كما جُمِعَت أخواتُه. ويجوزُ إدغام الثاءِ في الذال وإن كان بعضُ الناسِ ضَعَّفَه بأنه يَلْزَمُ الجمعُ بين ساكنين والأولُ ليسَ حرفَ لين، قال: «بخلاف» يَلْهَثُ ذلك «حيث أُدْغِم الثاءُ في الذالِ لانتفاءِ التقاءِ الساكنين، إذ الهاءُ قبلَ الثاءِ متحركةٌ» . وقد تَضَمَّنَتْ هذه الآية الكريمةُ أنواعاً من الفصاحةِ والبلاغةِ فمنها: الإِتيانُ بها مُجْمَلَةً، ومنها: جَعْلُه لها نفس الشهوات مبالغةً في التنفير عنها، ومنها: البَدَاءَةُ بالأهمِّ فالأهمِّ، فَقَدَّم أولاً النساءَ لأنهن أكثرُ امتزاجاً ومخالطةً بالإِنسانِ، وهُنَّ حبائِلُ الشيطان، قال عليه السلام: «ما تَرَكْتُ بعدي فتنةً أَضَرَّ على الرجالِ مِنَ النساءِ» «ما رأيتُ مِنْ ناقصاتِ عقلِ ودينٍ أَسْلَبَ لِلُبِّ الرجلِ منكُنَّ» ويُرْوى: «الحازمِ منكن» . وقيل: «فيهن فتنتان، وفي البنين

فتنةٌ واحدةٌ؛ وذلك أنهنَّ يَقْطَعْنَ الأرحامَ والصلات بين الأهلِ غالباً وهُنَّ سببٌ في جمع المال من حلالٍ وحرام غالباً، والأولاد يُجْمَع لأجلِهم المالُ، فلذلك ثَنَّى بالبنين، وفي الحديث:» الولد مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ «، ولأنهم فروع منهن وثمرات نشأن عنهن، وفي كلامهم:» المرءُ مفتونٌ بولدِه «. وقُدِّمَتْ على الأموال لأنها أحبُّ إلى المرءِ مِنْ ماله، وأمَّا تقديمُ المالِ على الولد في بعضِ المواضع فإنما ذلك في سياقِ امتنانٍ وإنعامٍ أو نصرةٍ ومعاونة وغلبة، لأنَّ الرجال تُستمال بالأموال، ثم أتى بذكرِ تمام اللذة وهو المركوبُ البهيُّ من بينِ سائر الحيوانات، ثم أتى بِذِكْر ما يَحْصُل به جَمالٌ حين تُريحون وحين تَسْرحون، كما تشهد به الآية الأخرى، ثم ذَكَرَ ما به قِوامُهم وحياةُ بنيهم وهو الزروع والثمار، ويشمل الفواكهَ أيضاً، ومنها: الإِتيانُ بفلظٍ يُشْعر بشدة حب هذه الأشياء حيث قال:» زُيِّن «، والزينةُ محبوبةٌ في الطباع. ومنها: بناءُ الفعلِ للمفعول؛ لأنَّ الغرضَ الإِعلامُ بحصول ذلك. ومنها: إضافةُ الحُبِّ للشهوات، والشهواتُ هي الميلُ والنزوع إلى الشيء. ومنها التجنيس: «القناطير المقنطرةِ» . ومنها: الجمعُ بين ما يشبه المطابقة في قوله: «والذهب والفضة» لأنهما صارا متقابلين في غالِب العُرف. ومنها: وصفُ القناطيرِ بالمقنطرة الدالةِ على تكثيرها مع كثرتها في ذاتها. ومنها: ذِكْرُ هذا الجنس بمادة الخيل لِما في/ اللفظ من الدلالة على تحسينه، ولم يقل: الأفراس، وكذا قوله: «والأنعام» ولم يَقُل الإبل والبقر والغنم، ولأنه أَخْضَرُ.

قوله: {ذلك مَتَاعُ} الإشارةُ ب «ذلك» للمذكور المتقدِّم، فلذلك وَحَّد اسمَ الإِشارة، والمشارُ إليه متعددٌ كقولِه تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] ، وقد تقدَّم شيئان. قوله: {المآب} هو مَفْعَل من: آب يؤوب أي رَجَع، والأصل: مَأْوَب فَنُقِلت حركةُ الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها، فَقُلِبت الواوُ ألفاً، وهو هنا اسمُ مصدرٍ أي: حَسَنُ الرجوعِ، وقد يقع اسم مكان أو زمان، تقول: آبَ يَؤُوب أَوْباً وإياباً ومآباً، فالأْوْب والإِياب مصدران والمآبُ اسمٌ لهما.

15

قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيقِ الأولى وتسهيل الثانية بينَ بينَ، على ما عُرِفَ من قواعدهم في أول البقرة، والباقون بالتخفيف فيهما. ومَدَّ بين هاتين الهمزتين بلا خلاف قالون عن نافع، وأبو عمرو وهشام عن بان عامر بخلاف عنهما، والباقون بغير مد، وهم على أصولِهم من تحقيقٍ وتسهيل، وورش على أصلِه من نَقْلِ حركة الهمزة إلى لام «قل» . واعلم أنه لا بُدَّ مِنْ ذِكْر اختلاف القراء في هذه اللفظةِ وشِبْهها وتحريرِ مذاهبهم فإنه موضعٌ عَسِرُ الضبط فأقول بعونِ الله تعالى: الواردُ من ذلك القرآن الكريم ثلاثةُ مواضعَ: أعني همزتين أولاهما مفتوحةٌ والثانيةُ مضمومة من كلمةٍ واحدة، الأولُ هذا الموضعُ، والثاني في ص: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] ، الثالث في القمر: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ} [القمر: 25] . والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتبَ، إحداها: مرتبة قالون، وهي تسهيلُ الثانيةِ بينَ بينَ، وإدخالُ ألفٍ بين الهمزتين بلا خلافٍ كذا رواه عن نافع. الثانية: مرتبة ورش وابن كثير، وهي

تسهيلُ الثانية أيضاً بينَ بينَ من غيرِ إدخال ألف بين الهمزتين بلا خلافٍ كذا روى ورش عن نافع. الثالثة: مرتبة الكوفيين وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غيرِ إدخال ألف بلا خلاف، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر. الرابعة: مرتبةُ هشام، وهي أنه رُوي عن ثلاثة أوجه: الأولُ التحقيقُ وعدمُ إدخالِ ألف بين الهمزتين في ثلاث السور. الوجه الثاني: التحقيقُ وإدخال ألف بينهما في ثلاث السور. والوجه الثالث: التفرقةُ بين السور الثلاث، وهو أنه يُحَقِّق ويَقْصُر في هذه السورة، ويُسَهِّل ويَمُدُّ في السورتين الأُخْرَيَين. الخامسة: مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخالِ الألف وعدمه. واجتزأْتُ عن تعليل التخفيف والمد والقصر واعزاً كلَّ واحد منها إلى لغةِ مَنْ تكلم به بما قدمته في أول البقرة، ولله الحمد. ونقل أبو البقاء أنه قُرىء: «أَوُنَبِّئكم» بواو خالصة بعد الهمزة لانضمامها، وليس ذلك بالوجهِ. وفي قوله «أؤنبئكم» التفاتٌ من الغَيْبَةِ في قوله: «للناس» إلى الخطاب تشريفاً لهم. قوله: {بِخَيْرٍ} متعلقٌ بالفعل، وهذا الفعلُ لَمَّا لم يُضَمَّنْ معنى «أَعْلم» تعدَّى لاثنين، الأولُ تعدَّى إليه بنفسه وإلى الثاني بالحرف، ولو ضُمِّن معناها لتعدَّى إلى ثلاثة. و {مِّن ذلكم} متعلِّقٌ بخير؛ لأنه على بابِه من كونِه أَفْعَلَ تفضيلٍ، والإِشارةُ بذلكم إلى ما تقدَّم من ذكرِ الشهوات، وتقدَّم تسويغُ الإِشارة بالمفرد إلى الجمع. ولا يجوزُ أن تكونَ «خير» ليست للتفضيل، ويكونُ المرادُ به خيراً من الخيور، وتكون «مِنْ» صفةً لقولِه: «خير» . قال أبو البقاء: «مِنْ» في

موضِع نصبٍ بخير تقديرُه: بما يَفْضُل ذلك، ولا يجوز أَنْ تكونَ صفةً لخير؛ لأن ذلك يوجبُ أن تكونَ الجنةُ وما فيها مِمَّا رَغِبوا فيه بعضاً لِما زهدوا فيه من الأموال ونحوها «وتابعه على ذلك الشيخ» . قوله: {لِلَّذِينَ اتقوا} [يجوز فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه متعلق بخير، ويكونُ الكلامُ قد تَمَّ هنا] ويرتفعُ «جنات» على خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: هو جنات، أي: ذلك الذي هوخيرٌ مِمَّا تقدم جناتٌ، والجملةُ بيانٌ وتفسيرٌ للخيريَّة، ومثلُه: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم} ثم قال: {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} [الحج: 73] ، ويؤيد ذلك قراءة «جنات» بكسر التاء على أنها بدل من «بخير» فهي بيانٌ للخير. والثاني: أن الجارَّ خبرٌ مقدم، و «جنات» مبتدأٌ مؤخرٌ، أو يكونُ «جناتٌ» فاعلاً بالجار قبله، وإنْ لم يعتمد عند مَنْ يرى ذلك. وعلى هذين التقديرين فالكلامُ تَمَّ عند قولِه: «من ذلكم» ، ثم ابتدأ بهذه الجملة وهي أيضاً مبيِّنةٌ ومفسرةٌ للخيرية. وأمَّا الوجهان الآخران فذكرهما مكي مع جر «جنات» ، يعني أنه لم يُجِز الوجهين، إلا إذا جَرَرْتَ «جنات» بدلاً مِنْ «بخير» . الوجه الأول: أنه متعلقٌ بأؤنبئكم. الوجه الثاني: أنه صفةٌ لخير. ولا بُدَّ من إيرادِ نصه فإنَّ فيه إشكالاً. قال رحمه الله: بعد أن ذَكَرَ أنَّ «للذين» خبرٌ مقدم و «جناتٌ» مبتدأ «ويجوزُ الخفضُ في» جنات «على البدلِ من» بخير «على أن تَجْعَلَ اللام في» للذين «متعلقةً بأؤنبئكم، أو تجعلَها صفةً لخير، ولو جَعَلْتَ اللامَ متعلقةً

بمحذوفٍ قامَتْ مقامَه لم يَجُزْ خَفْضُ» جنات «؛ لأن حروفَ الجرِّ والظروفَ إذا تعلَّقت بمحذوفٍ، وقامَتْ مقامَه صار فيها ضميرٌ مقدرٌ مرفوعٌ، واحتاجت إلى ابتداءٍ يعودُ إليه ذلك الضميرُ كقولك:» لزيدٍ مالٌ، وفي الدار رجلٌ وخلفَك عمروٌ «فلا بُدَّ من رفع» جنات «إذا تعلَّقت اللامُ بمحذوف، ولو تعلَّقت بمحذوف على أَنْ لا ضميرَ فيها لرفَعْتَ» جنات «بفعلِها، وهو مذهبُ الأخفشِ في رفعهِ ما بعدَ الظروفِ وحروفِ الخفض بالاستقرار، وإنما يَحْسُن ذلك عند حُذّاق النحويين إذا كانت الظروفُ أو حروفُ الخفضِ صفةً لما قبلها، فحينئذٍ يتمكَّن ويَحْسُن رَفْعُ الاسمِ بالاستقرار، وقد شرحنا لك وبَيَّنَّاه في أمثلة، وكذلك إذا كانت أحوالاً [مِمّا قبلها] » . انتهى فقد جَوَّز تعلُّق هذه اللام بأونبئكم أو بمحذوف على أنها صفةٌ لخير بشرط أن تُجَرَّ «جنات» ، على البدلِ من «بخير» ، وظاهرُه أنه لا يجوزُ ذلك مع رفعِ «جنات» وعَلَّل ذلك بأنَّ حروفَ الجر تُعَلَّقُ بمحذوفٍ وتُحَمَّلُ الضميرَ، فوجَب أن يؤتى له بمبتدأ وهو «جنات» ، وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزَمُ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: أُجُوِّزُ تعليقَ اللام بما ذكرْتُ من الوجهين مع رفع «جنات» على أنَّها خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، لا على الابتداءِ حتى يلزَم ما ذكرْتُ. ولكنْ الوجهانِ ضعيفان من جهةٍ أخرى: وهو أنَّ المعنى ليس واضحاً على ما ذكر، مع أنَّ جَعْلَه أنَّ اللامَ صفةٌ لخير أقوى مِنْ جَعْلها متعلقةً بأؤنبئكم إذ لا معنى له. وقوله: «في الظروف وحروفِ الجر أنها عند الحُذَّاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفاتٍ» وقوله: «وكذلك إذ كُنَّ أحوالاً» فيه قصورٌ؛ لأنَّ هذا الحكمَ مستقرٌ لها في مواضعَ، منها الموضعان اللذان ذكرهما. ثالثهما: أن يقَعا صلةً. رابعها: أن يقعا خبراً لمبتدأ. خامسها: أن يعتمدا على نفي. سادسها: أن يعتمدا على استفهامٍ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا، وإنَّما أَعدْتُه لبُعْدِ عَهْدِهِ. قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} فيه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنه في محل نصبٍ على

الحال من «جنات» لأنه في الأصل صفةٌ لها، فلمَّا قُدِّم نُصِبَ حالاً. الثاني: أنه متعلِّقٌ بما تَعَلَّق به «للذين» من الاستقرار إذا جعلناه خبراً أو رافعاً لجنات بالفاعلية، أمَّا إذا علَّقْتَه ب «خيرٍ» أو ب «أؤنبئكم» فلا، لعدمِ تضمُّنه الاستقرارَ. الثالث: أن يكونَ معمولاً لتجري، وهذا لا يساعِدُ عليه المعنى. الرابع: أنه متعلِّق بخير، كما تعلَّق به «للذين» على قولٍ تقدَّم. ويَضْعُفُ أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه «للذين اتقوا» ثم يُبْتدأ بقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} على الابتداء والخبرِ، وتكون الجملة مبينةً ومفسرةً للخيرية كما تقدَّم في غيرها. وقرأ يعقوب «جنات» بكسر التاء، وفيها ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها بدلٌ من لفظ «خير» فتكونُ مجرورةً، وهي بيانٌ له كما تقدم. والثاني أنها بدلٌ من محل «بخير» ومحلُّه النصب، وهو في المعنى كالأول/. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار أعني، وهو نظيرُ الوجهِ الصائرِ إلى رفعه على خبر ابتداءٍ مضمرٍ. قوله: {تَجْرِي} صفةٌ لجنات، فهو في محلِّ رفعٍ أو نصب أو جر على حَسَب القراءتين والتخاريج فيهما. و {مِن تَحْتِهَا} متعلِّقٌ بتجري، وجَوَّز فيه أبو البقاء أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الأنهار قال: «أي: تَجْرِي الأنهارُ كائنةً تحتها» ، وهذا يُشْبِهُ تهيئة العاملِ للعمل في شيء وقَطْعَه عنه. قوله: {خَالِدِينَ} حالٌ مقدَّرة، وصاحبُها الضميرُ المستكِنُّ في «للذين» والعاملُ فيها حينئذٍ الاستقرارُ المقدَّرُ. وقال أبو البقاء: «إنْ شِئْتَ من الهاء في» تحتها «. وهذا الذي ذكره إنما يتمشَّى على مذهبِ الكوفيين، وذلك أنَّ

جَعْلَها حالاً من» ها «في» تحتها «يؤدِّي إلى جريان الصفةِ على غيرَ مَنْ هي له في المعنى، لأن الخلودَ من أوصافِ الداخلين في الجنةِ لا مِنْ أوصافِ الجنة، ولذلك جَمَعَ هذه الحال جَمْعَ العقلاء، فكان ينبغي أن يُؤتى بضميرٍ مرفوعٍ بارز، هو الذي كان مستتراً في الصفةِ، نحو:» زيدٌ هندٌ ضاربها هو «، والكوفيون يقولون: إنْ أُمِنَ اللَّبْس كهذا لم يجب بروزُ الضميرِ، وإلاَّ يجبْ، والبصريون لا يُفَرِّقون، وتقدَّم البحثُ في ذلك. قوله: {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ} مَنْ رفع «جنات» كما هو المشهورُ كان عَطْفُ «أزواج» و «رضوان» سهلاً. ومَنْ كسر التاء فيجب حينئذٍ على قراءته أن يكونَ مرفوعاً على أنه مبتدأٌ خبرُه مضمرٌ، تقديرُه: ولهم أزواجٌ ولهم رضوان، وتقدَّمَ الكلامُ على {أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} في [البقرة: 25] . وفي «رضوان» لغتان: ضَمُّ الراءِ وهي لغةُ تميم، والكسرُ وهي لغةُ الحجاز، وبها قَرَأ العامة إلا أبا بكر عن عاصم فإنه قرأ بلغة تميم في جميع القرآن، إلا في الثانية مِنْ سورة المائدة، وهي: {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} [الآية: 16] فبعضُهم نَقَل عنه الجزَم بكسرها، وبعضُهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة. وهل هما بمعنًى واحدٍ أو بينهما فرقٌ؟ قولان، أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحدٍ لرَضي يَرْضَى. والثاني: أنَّ المكسور اسم ومنه: رِضْوان خازنُ الجنة صلى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته، والمضمومُ هو المصدر. و «مِن الله» صفةٌ لرضوان.

16

قوله تعالى: {الذين يَقُولُونَ} : يَحْتَمِلُ مَحَلُّه الرفعَ والنصبَ والجَّر، فالرفعُ من وجهين، أحدُهما: أنه مبتدأ محذوفٌ الخبرِ، تقديرُه: الذين يقولون كذا مستجابٌ لهم، أو لهم ذلك الخيرُ المذكورُ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، كأنه قيل: مَنْ هم هؤلاء المتقون؟ فقيل: الذينَ يقولون كَيْتَ وكيتَ. والنصبُ من وجهٍ واحد، وهو النصبُ بإضمار أَعْني أو أمدحُ، وهو نظيرُ الرفعِ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، ويُسَمَّيان الرفعَ على القطعِ والنصبَ على القطعِ. والجَرُّ مِنْ وجهين، أحدهما: النعتُ والثاني البدلُ، ثم لك في جَعْلِه نعتاً أو بدلاً وجهان، أحدُهُما: جَعْلُه نعتاً للذين اتقوا أو بدلاً منه. والثاني: جَعْلُه نعتاً للعباد أو بدلاً منهم. واستضعف أبو البقاء جَعْلَه نعتاً للعباد. قال: «لأنَّ فيه تخصيصاً لعلمِ الله تعالى، وهو جائزٌ على ضَعْفِهِ، ويكون الوجهُ فيه إعلامَهم بأنه عالمٌ بمقدار مشقتهم في العبادة فهو يُجازِيهم عليها كما قال: {والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} [النساء: 25] . والجملةُ من قوله:» واللهُ بصيرٌ «يجوز أن تكونَ معترضةً لا محلَّ لها إذا جَعَلْتَ {الذين يَقُولُونَ} تابعاً للذين اتقوا نعتاً أو بدلاً، وإنْ جَعَلْتَه مرفوعاً أو منصوباً فلا.

17

قوله تعالى: {الصابرين} : إنْ قَدَّرْتَ «الذين يقولون» منصوبَ المحل أو مجرورَه على ما تقدَّم كان «الصابرين» نعتاً له على كلا التقديرين، فيجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصب وأن يكون في محل جر، وإنْ قَدَّرْته مرفوع المحل تعيَّن نصب «الصابرين» بإضمار أعني.

والأسْحار جمع «سَحَر» بفتح العين وسكونها. واختلف أهل اللغة في السَّحَر: أيُّ وقتٍ هو؟ فقال جماعةٌ منهم الزجاج: «إنه الوقت قبل طلوع الفجر» ، ومنه «تَسَحَّر» أي أكل في ذلك الوقت، وأسْحَرَ إذا سار فيه، قال زهير: 1198 - بَكَرْنَ بُكوراً واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ ... فهنَّ ووادي الرَّسِّ كاليدِ للفَم قال الراغب: «السَّحَرُ: اختلاطُ ظلامِ آخر الليل بضياءِ النهار، وجُعِل اسماً لذلك الوقت، ويقال:» لَقيته بأعلى سَحَرَيْن «، والمُسْحِرُ: الخارجُ سَحَراً، والسَّحورُ: اسمُ للطعامِ المأكولِ سَحَراً، والتسَحُّرُ أكْلُه» . والمُسْتَحِرُ: الطائر الصَّيَّاحُ في السَّحَر، قال: 1199 - يُعَلُّ به بَرْدُ أنيابِها ... إذا غَرَّدَ الطائرُ المُسْتَحِرْ وقال بعضُهم: «أَسْحَرَ الطَائر أي: صاحَ وتحرَّك في صياحه» وأنشد البيت. وهذا وإنْ كان مطلقاً، وإنما يريد ما ذكرْتُه بالصِّياح في السحر، ويقال: أَسْحَر الرجل: أي دخل في وقتِ السَّحَر كأَظْهَرَ/ أي: دخل في وقت الظُّهر، قال: 1200 - وأَدْلَجَ مِنْ طِيْبَةٍ مسرعاً ... فجاءَ إلينا وقد أَسْحَرَا ومثلُه: «اسْتَحَرَ» أيضاً. وقال بعضُهم: «السَّحَرُ من ثلث الليل الأخير

إلى طلوع الفجر» وقال بعضهم أيضاً: «السَّحَرُ عند العرب من آخر الليل، ثمَ يَسْتمر حكمُه إلى الإِسفار، كلُّه يقال له: سَحَر» . قيل: وسُمِّي السَّحَرُ سَحَراً لخفائِه، ومنه قيل: للسِّحْر: سِحْرِ لِلُطْفِه وخَفَائه. والسَّحْر بسكون الحاء مُنْتهى قَصَبةِ الرئة، ومنه قولُ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «ماتَ بين سَحْري ونَحْري» سُمِّي بذلك لخفائِه، و «سَحَر» فيه كلام كثير، بالنسبةِ إلى الصرف وعدمه، والتصرفِ وعدمهِ، والإِعرابِ وعدمِه، يأتي تفصيلُها إن شاء الله تعالى عند ذِكْرِهِ إذ هو الأليقُ به. وقوله: {والصادقين} وما عُطِف عليه. إن قيل: كيف دَخَلَتِ الواوُ على هذه الصفاتِ وكلُّها لقبيلٍ واحد؟ ففيه جوابان، أحدُهما أنَّ الصفاتِ إذا تكرَّرت جازَ أن يُعْطَفَ بعضُها على بعضٍ بالواوِ، وإنُ كانَ الموصوفُ بها واحداً، ودخولُ الواوِ في مثل هذا تفخيمٌ، لأنه يُؤْذِنُ بأن كلَّ صفةٍ مستقلةٌ بالمدحِ. والجوابُ الثاني: أن هذه الصفاتِ متفرقةٌ فيهم، فبعضُهم صابرٌ، وبعضُهم صادِقٌ، فالموصوفُ بها متعدِّدٌ، هذا كلامُ أبي البقاء. وقال الزمخشري: «الواوُ المتوسطةُ بين الصفاتِ للدلالةِ على كمالهم في كلِّ واحدة منها» . قال الشيخ: «ولا نعلمُ العطفَ في الصفة بالواو يَدُّلُّ على الكمالِ» قلت: قد عَلِمَه علماءُ البيان، وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذه المسألةِ في أوائلِ سورة البقرة، وما أنشدْتُه على ذلك من لسانِ العرب. والباء في «بالأسحارِ» بمعنى في.

18

قوله تعالى: {شَهِدَ الله} : العامةُ على «شَهِدَ» فعلاً ماضياً مبنياً للفاعلِ، والجلالةُ الكريمةُ رفعٌ بهِ. وقرأ أبو الشعثاء: «شُهِدَ» مبيناً للمفعول، والجلالةُ المعظمةُ قائمةٌ مقامَ الفاعلِ، وعلى هذه القراءةِ، فيكونُ {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} في محلِّ رفع بدلاً من اسمِ اللهِ تعالى بدلَ اشتمالٍ، تقديرهُ: شَهِدَ وحدانيةَ اللهِ وألوهيتَه، ولمَّا كان المعنى على هذه القراءةِ كذا أَشْكَل عَطْفُ {والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} على الجلالةِ الكريمة، فَخُرِّج ذلك على عَدَمِ العطف، بل: إمَّا على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليه تقديرُه: والملائكةُ وأولو العلمِ يَشهدون بذلك، يَدُلُّ عليه قولُه تعالى: {شَهِدَ الله} ، وإمَّا على الفاعليةِ بإضمارِ محذوفٍ، تقديرُه: وشَهِدَ الملائكةُ وأولو العلم بذلك، وهو قريبٌ من قولهِ تعالى: {يُسَبَّح لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36] في قراءةِ مَنْ بناه للمفعول، وقوله: 1201 - لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في أحد الوجهين. وقرأ أبو المهلب عمُّ محارب بن دثار: «شهداءَ الله» جمعاً على فُعَلاء

كظُرَفاء منصوباً، ورُوي عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك، إلا أنه مرفوع، وفي كِلتا القراءتين مضافٌ للجلالة. فأمَّا النصبُ فعلى الحال، وصاحبُها هو الضميرُ المستتر في «المستغفرين» قاله ابن جني، وتَبِعَه غيرُه كالزمخشري وأبي البقاء. وأمَّا الرفعُ فعلى إضمارِ مبتدأ، أي: هم شهداءُ الله. و «شهداء» يَحْتمل أن يكونَ جمع شاهر كشاعِر وشُعَراء، وأَنْ يكونَ جمعَ شهيد كظريف وظُرَفاء. وقرأ أبو المهلب أيضاً في رواية: «شُهُداً اللهَ» بضم الشين والهاء والتنوين ونصبِ الجلالةِ المعظمةِ، وهو منصوبٌ على الحالِ، جمع شهيد نحو: نَذِير ونُذُر، واسمُ اللهِ منصوبٌ على التعظيم أي: يَشْهدون اللهَ أي: وحدانيتَه. ورَوى النقاش أنه قُرىء كذلك، إلا أنه قال: «برفعِ الدال ونصبها» والإِضافةُ للجلالةِ المعظمة. فالنصبُ والرفعُ على ما تقدَّم في «شهداء» ، وأما الإِضافةُ فتحتملُ أنْ تكونَ محضةً، بمعنى أنك عَرَّفْتهم بإضافتِهم إليه من غير تَعَرُّضٍ لحدوثِ فِعْلٍ، كقولك: عباد الله، وأَنْ تكونَ مِنْ نصبٍ كالقراءةِ قبلَها فتكونَ غيرَ محضةٍ. وقد نقل الزمخشري أنه قُرىء: «شُهَداء لله» جَمْعاً على فُعَلاء وزيادةِ لامِ جر داخلةً على اسمِ اللهِ، وفي الهمزةِ الرفعُ والنصبُ وخَرَّجهما على ما تقدَّم من الحالِ والخبر.

وعلى هذه القراءاتِ كلِّها ففي رفعِ «الملائكة» وما بعدَها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها الابتداءُ/ والخبرُ محذوفٌ. والثاني: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ وقد تَقدَّم تحريرُها. الثالث ذَكَره الزمخشري: وهو النسقُ على الضمير المستكنِّ في «شهداء الله» قال: «وجاز ذلك لوقوعِ الفاصلِ بينهما» . قوله: «أنه» العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ، وإنما فُتِحَتْ لأنها على حَذْفِ حرفِ، الجر، أي: شَهِدَ الله بأنه لا إله إلا هو، فَلَّما حُذِفَ الحرفُ جازَ أن يكونَ محلُّها نصباً وأن يكونَ محلُّها جَرَّاً كما تقدَّم تقديره. وقرأ ابن عباس: «إنه» بكسرِ الهمزةِ، وفيها تخريجان، أحدُهما: إجراءُ «شَهِدَ» مُجْرى القولِ لأنه بمعناه، وكذَا وقَعَ في التفسير: شَهِد الله أي: قال الله، ويؤيِّده ما نَقَله المؤرِّج أن «شَهِد» بمعنى «قال» لغةُ قيس بن عيلان. والثاني: أنها جملةُ اعتراضٍ بين العامل وهو شهد وبين معمولهِ وهو قولُه {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} ، وجازَ ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيدِ وتقويةِ المعنى، وهذا إنما يتجه على قراءةِ فَتْحِ «أَنَّ» من «أنَّ الدينَ» ، وأمَّا على قراءةِ الكسرِ فلا يجوزُ، فيتعيَّنُ الوجهُ الأولُ. والضميرُ في «أنه» يَحْتمل العَوْدَ على الباري لتقدُّمِ ذكرهِ، ويَحْتمل أن يكونَ ضميرَ الأمر، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله: {شَهِدَ الله أَنْ لا إلهَ إلا هو} فأَنْ مخففةٌ في هذه القراءةِ، والمخففةُ لا تعملُ إلاَّ في ضميرِ الشأنِ ويُحْذَفُ حينئذٍ، ولا تَعْمَلُ في غيرِه إلا ضرورةً.

وأَدْغم أبو عمرو بخلافٍ عنه واو «هو» في واوِ النسق بعدها وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألةِ في البقرة عند قوله: {هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [الآية: 249] . قوله: {قَآئِمَاً بالقسط} في نصبِه أربعةُ أوجه أحدُها: أنه منصوبٌ على الحالِ، واختلف القائلُ بذلك: فبعضُهم جَعَلَه حالاً من اسمِ الله، فالعاملُ فيها «شَهِدَ» . قال الزمخشري: «وانتصابهُ على أنَه حالٌ مؤكِّدةٌ منه كقوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً} . قال الشيخ:» وليس من بابِ الحالِ المؤكدةِ لأنه ليس من باب: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} [مريم: 15] ولا من باب «أنا عبدُ الله شجاعاً» فليس «قائماً بالقسط» بمعنى شَهِد، وليس مؤكداً لمضمونِ الجملةِ السابقةِ في نحو: أنا عبدُ الله شجاعاً وهو زيدٌ شجاعاً، لكنْ في هذا التخريجَ قَلَقٌ في التركيبِ، إذ يصير كقولك: «أَكلَ زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً» فَيَفْصِل بين المعطوفِ عليه والمعطوفِ بالمفعول، وبين الحالِ وذي الحال بالمفعولِ والمعطوفِ، لكنْ بمشيئةِ كونِها كلِّها معمولةً لعاملٍ واحدٍ «. انتهى. قلت: مؤاخَذَتُهُ له في قولِهِ:» مؤكدةُ «غيرُ ظاهرٍ، وذلك أنَّ الحالَ على قسمين: إمَّا مؤكدةٌ وإمَّا مُبَيِّنة، وهي الأصلُ، فالمُبَيِّنَةُ لا جائزٌ أن تكونَ ههنا، لأنَّ المبيِّنة تكونُ متنقلةً، والانتقالُ هنا مُحالٌ، إذ عَدْلُ اللهِ تعالى لا يتغيَّرُ، فإنْ قيل لنا قسمٌ ثالثٌ، وهي الحالُ اللازمةُ فكانَ للزمخشري مندوحةٌ عن قوله» مؤكدة «ألى قوله» لازمةٌ «فالجوابُ أنَّ كلَّ مؤكدةٍ لازمةٌ وكلَّ لازمةٍ مؤكدةٌ

فلا فرقَ بين العبارتين، وإنْ كان الشيخُ زَعَم أنَّ إصلاحَ العبارةِ يَحْصُل بقولِه:» لازمة «، ويَدُلُّ على ما ذكرتْهُ من ملازَمَةٍِ التأكيدِ للحالِ اللازمةِ وبالعكس الاستقراءُ. وقولُه: «ليس معنى قائماً بالقسط معنى شهد» ممنوعٌ بل معنى «شَهِد» مع متعلَّقهِ وهو أنه لا إله إلا هو مساوٍ لقولِه «قائماً بالقسط» لانَّ التوحيدَ ملازمٌ للعدلِ. ثم قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ جاز إفرادهُ بنصبِ الحالِ دون المعطوفَيْنِ عليه، ولو قلت:» جاءني زيدٌ وعمرو راكباً «لم يَجُزْ؟ قلت: إنما جازَ هذا لعدمِ الإِلباسِ كما جاز في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] إن انتصب» نافلةً «حالاً عن» يعقوب «ولو قُلْتَ:» جاءني زيدٌ وهند راكباً «جاز لتميُّزِه بالذُّكورة. قال الشيخ:» وما ذَكَره مِنْ قوله: «جاءني زيدٌ وعمروٌ راكباً» أنه لا يجوزُ ليس كما ذَكَر، بل هذا جائزٌ لأنَّ الحالَ قَيْدٌ فيمن وَقَعَ منه أو به الفعلُ أو ما أشبهَ ذلك، وإذا كان قيداً فإنه يُحْمَل على أقرب مذكورٍ، ويكون «راكباً» حالاً مِمَّا يَليه، ولا فرقَ في ذلك بين الحالِ والصفِة، لو قلت: «جاءني زيدٌ وعمروٌ الطويلُ» كان «الطويلُ» صفةً لعمرو، ولا تقولُ: لا تجوزُ هذه المسألةُ لِلَّبْس، إذ لا لَبْسَ في هذا وهو جائزٌ، وكذلك الحالِ. وأمَّا قولُه: «إنَّ نافلةً» انتصَب حالاً عن يعقوب «فلا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ حالاً عن يعقوب؛ إذ يُحتمل أَنْ يكونَ» نافلةً «مصدراً كالعاقبة والعافِية، ومعناه: زيادة، فيكونُ ذلك شاملاً/ لإِسحاق ويعقوب لأنهما زيدا لإِبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره» قلت: مرادُ الزمخشري بمنع «جاءني زيد وعمرو راكبا» إذ أُريد أَنَّ الحالََ منهما معاً، أمَّا

إذا أريد أنها حالٌ من واحدٍ منهما فإنَّما تُجْعَلُ لِما تليه، لعودِ الضميرِ على أَقْربِ مذكور، وبعضُهم جَعَلَه حالاً من «هو» قال الزمخشري: «فإنْ قلت: قد جَعَلْتَه حالاً من فاعل» شَهِدَ «فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ ينتصِبَ حالاً عن» هو «في» لا إله إلا هو «؟ قلت: نَعَمْ لأنها حالٌ مؤكدةٌ، والحالُ المؤكدةُ لا تَسْتَدْعي أن يكونَ في الجملةِ التي هي زيادةٌ في فائدتِها عاملٌ فيها كقولك:» أنا عبدُ الله شجاعاً «. انتهى. يعني أنَّ الحالَ المؤكِّدَة لا يَكونُ العاملُ فيها النصبَ شيئاً من الجملةِ السابقةِ قبلَها، إنما ينتصبُ بعاملٍ مضمرٍ، فإنْ كان المتكلمُ مُخْبِراً عن نفسه نحو:» أنا عبدُ الله شجاعاً «قَدَّرْتَه: أُحقُّ شجاعاً، مبنياً للمفعول، وإنْ كان مُخْبِراً عن غيره قَدَّرْتَه مبنياً للفاعل نحو:» هذا عبدُ الله شجاعاً «أي: أَحُقُّه، هذا هو المذهبُ المشهورُ في نصبِ مثلِ هذه الحالِ. وفي المسألةِ قولٌ ثانٍ لأبي إسحاق أنَّ العاملَ فيها هو خبرُ المبتدأ لِما ضُمِّنَ من معنى المشتقِ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى. وقولٌ ثالثٌ: أنَّ العاملَ فيها المبتدأ لِما ضُمِّن مِنْ معنى التنبيه، وهي مسألةٌ طويلةٌ. وبعضُهم جَعَلَه حالاً من الجميع على اعتبارِ كلِّ واحدٍ واحدٍ قائماً بالقسط، وهذا مناقضٌ لِما قاله الزمخشري من أنَّ الحالَ مختصةٌ باللهِ تعالى دونَ ما عُطِف عليه. وهذا المذهبُ مردودٌ بأنه لو جازَ ذلك لجازَ «جاء القومُ راكباً» أي: كلُّ واحدٍ منهم راكباً، والعربُ لا تقولُ ذلك البتَة، فَفَسَدَ هذا، فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في صاحبِ الحال. الوجهُ الثاني من أوجهِ نصبِ «قائماً» نصبُه على النعتِ للمنفيِّ بلا، كأنه قيل: لا إلَه قائماً بالقسطِ إلا هو. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هَلْي يجوزُ

أَنْ يكونَ صفةً للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسطِ إلا هو؟ قلت: لا يَبْعُدُ، فقد رَأَيْناهم يَتَّسِعون في الفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ» ثم قال: «وهو أَوْجَهُ مِن انتصابهِ عن فاعلِ» شَهِد «، وكذلك انتصابُه على المَدْح» . قال الشيخ: وكان الزمخشري قد مَثَّل في الفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ بقولِه: «لا رجلَ إلا عبدُ الله شجاعاً قال:» وهذا الذي ذَكَره لا يجوزُ لأنه فَصَلَ بين الصفةِ والموصوفِ بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما «والملائكةُ وأولوا العلم» وليسا معمولَيْنِ لشيءٍ من جملةِ «لا إله إلا هو» بل هما معمولان لشَهِدَ، وهو نظيرُ: «عَرَفَ زيدٌ أنَّ هنداً خارجةٌ وعمروٌ وجعفرٌ التميمية» فَيُفْصَلُ بين «هند والتميمية» بأجنبي ليس داخلاً في حَيِّز ما عمل فيها، وذل الأجنبيُّ هو «وعمرو وجعفر» المرفوعان المعطوفان على «زيد» . وأمَّا المثالُ الذي مَثَّل به وهو «لا رجلَ إلا عبدُ الله شجاعاً» فليس نظيرَ تخريجِهِ في الآية، لأنَّ قولَك «إلا عبدُ الله» بدلُ على الموضعِ من «لا رجلَ» فهو تابعٌ على الموضعِ، فليس بأجنبي، على أَنَّ في جوازِ هذه التركيبِ نظراً، لأنه بدلٌ و «شجاعاً» وصفٌ، والقاعدةُ أنه إذا اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ؛ وسَببُ ذلك أنه على نية تكرارِ العامل على الصحيح، فصار من جملة أخرى على هذا المذهب «. الوجهُ الثالثُ: نصبُه على المدحِ. قال الزمخشري:» فإن قلت: أليس من حقِّ المنتصبِ على المدح أن يكونَ معرفةً، كقولك: «الحمدُ لله الحميدَ» «إنَّا معاشرَ الأنبياء لا نُورَث» .

[وقوله] : 1202 - إنا بني نَهْشَلٍ لا نَدَّعي لأبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قلت قد جاء نكرة كما جاء معرفة، وأنشد سيبويه ممَّا جاءَ منه نكرةً قول الهذلي: 1203 - ويَأْوِي إلى نَسْوةٍ عُطَّّلٍ ... وشُعْثَاً مَراضيعَ مثلَ السَّعالِي انتهى. قال الشيخ: «انتهى هذا السؤال وجوابُه، وفي ذلك تخليط، وذلك أنه لم يُفَرِّق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم، وبين المنصوبِ على الاختصاص، وجَعَل حكمَهما واحداً، وأوردَ مثالاً من المنصوب على المدح وهو:» الحمدُ لله الحميدَ «ومثالين من المنصوبِ على الاختصاص وهما:» إنا معاشر الأنبياء لا نورث «» إنا بني نهشل لا نَدَّعي لأب «. والذي ذَكَره النحويون أنَّ المنصوبَ على المدحِ أو الذم أو الترحم قد يكونُ معرفةً، وقبله معرفةٌ تَصْلُح أن يكونَ تابعاً لها وقد لا تَصْلَحُ، وقد يكونُ نكرةً كذلك، وقد يكونُ نكرة وقبلها معرفةٌ فلا يصلُحُ أن يكونَ نعتاً لها، نحو قول النابغة:

1204 - أََقارعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها ... وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تجادِعُ فنصب» وجوه قرود «على الذَّمِّ وقبْلَه معرفةٌ وهي» أقارع عوفٍ «، وأمَّا المنصوبُ على الاختصاص/ فنصُّوا على أنه لا يكون نكرةً ولا مُبْهماً، ولا يكونُ إلا معرفاً بالألف واللامِ أو بالإِضافةِ أو بالعلميةِ أو لفظِ» أي «، ولا يكونُ إلا بعد ضمير مختص به أو مشاركٍ فيه، وربما أتى بعد ضميرِ مخاطبٍ» . قلت: إنما أراد الزمخشري بالمنصوبِ على الاختصاصِ المنصوبَ على إضمارِ فعلٍ لائقٍ، سواءً كان من الاختصاصِ المبوَّبِ له في النحو أم لا، وهذا اصطلاحُ أهْلِ المعاني والبيان، وقد تقدَّم التنبيهُ على ذلك غيرَ مرة. الوجه الرابع: نَصْبُه على القطع أي: إنه كان مِنْ حَقِّه أَنْ يَرْتفع نعتاً لله تعالى بعد تعريفِهِ بأل، والأصل: شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط، فلما نُكِّر امتنع إتباعُهُ فَقُطِعَ إلى النصب. وهذا مذهبُ الكوفيين، ونَقَلَهُ بعضُهم عن الفراء وحدَه، ومنه عندَهم قولُ امرىء القيس: 1205 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وعالَيْن قِنْوَاناً من البُسْر أحمرا الأصل: من البسر الأحمر، وقد تقدَّم ذلك محققاً. ويؤيد هذا الذاهبَ قراءةُ عبد الله «القائم بالقسط» برفع «القائم» تابعاً للجلالة. وخَرَّجه الزمخشري وغيرُهُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوف تقديره: هو القائمُ، [أو بدلاً

من هو] «. قال الشيخ:» ولا يجوزُ ذلك لأنَّ فيه فصلاً بين البدلِ والمبدلِ منه بأجنبي، وهو المعطوفان، لأنهما معمولان لغيرِ العاملِ في المبدلِ منه، ولو كان العاملُ في المعطوفِ هو العاملَ في المبدلَ منه لم يَجْزُ ذلك أيضاً؛ لأنه إذا اجتمع العطفُ والبدلُ قُدِّم البدلُ على العطف، لو قلت: «جاء زيدٌ وعائشةُ أخوك» لم يَجُزْ، إنما الكلامُ جاء زيدٌ أخوكَ وعائشةُ «. فتحصَّل في رفع» القائم «على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه: النعتُ والبدلُ وخبرُ مبتدأٍ محذوفٍ. ونُقِلَ عن عبد الله أيضاً أنه قرأ:» قائمٌ بالقسط «بالتنكير، ورفعُه من وجهي البدل وخبر المبتدأ. وقرأ أبو حنيفة: «قَيِّماً» بالنصبِ على ما تقدَّم. فهذه أربعةُ أوجه حَرَّرَتْها من كلام القوم. والظاهر أن رفع «الملائكةُ» وما بعدَهُ عطفٌ على الجلالة المعظمة. وقال بعضُهم: «الكلامُ تَمَّ عند قولِهِ: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وارتفَعَ» الملائكة «بفعل مضمرٍ تقديرُهُ: وشَهِدَ الملائكة وأولو العلم بذلك» وكأنَّ هذا الذاهبَ يرى أنَّ شهادة اللهِ مغايرةٌ لشهادة الملائكة وأولي العلم، ولا يُجِيزُ إعمال المشترك في معنييه فاحتاجَ من أجلِ ذلك إلى إضمارِ فعلٍ يُوافِقُ هذا المنطوقَ لفظاً ويخالِفُهُ معنى، وهذا يَجِيءُ نظيرُهُ في قوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] . قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هل دَخَلَ قيامُه بالقسط في حكمِ شهادةِ الله والملائكة وأولي العلم كما دَخَلَتْ الوحدانيةُ؟ قلت: نعم إذا جعلتَهُ

حالاً من» هو «أو نصباً على المدحِ منه، أو صفةً للمنفي، كأنه قيل: شَهِدَ الله والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط» . قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها مكررةٌ للتوكيد. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ كَرَّر قولَه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ؟ قلت: ذَكَرَه أولاً للدلالةِ على اختصاصِهِ بالوحدانيةِ، وأنه لا إله إلا تلك الذاتُ المتميِّزَة، ثم ذَكَرَهُ ثانياً بعد ما قَرَن بإثباتِ الوحدانية إثبات العدل للدلالةِ على اختصاصِهِ بالأمرين، كأنه قال: لا إله إلا هو الموصوفُ بالصفتين، ولذلك قَرَنَ به قولَه: {العزيز الحكيم} لتضمُّنِها معنى الوحدانية والعدل» . وقال بعضُهم: «ليس بتكريرٍ؛ لأنَّ الأولَ شهادةُ الله تعالى وحدَه، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم» ، وهذا كما تقدَّم عند مَنْ يرفع «الملائكة» بفعلٍ آخرَ مضمرٍ لِمَا ذكرتُهُ من أنه لا يرى إعمالَ المشترك، وأن الشهادتين متغايرتان، وهو مذهبٌ مرجوح. وقال الراغب: «إنما كرَّر لا إله إلا هو لأنَّ صفات التنزيهِ أشرفُ مِنْ صفاتِ التمجيد، لأنَّ أكثرَها مشاركٌ في ألفاظِها العبيدُ فيصِحُّ وَصْفُهم بها، ولذلك وَرَدَتْ ألفاظُ التنزيهِ في حَقِّه أكثرَ وأَبْلَغَ» . قوله: {العزيز الحكيم} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه بدلٌ من «هو» . الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ. الثالث: أنه نعتٌ ل «هو» ، وهذا إنَّما يتمَشَّى على مذهبِ الكسائي، فإنه يرى وصفَ الضمير الغائب، ويتقدَّم نحو هذا في قوله: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} [البقرة: 163] .

19

قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله} : قرأ الكسائي بفتحِ الهمزةِ والباقون بكسرِها. فأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فعلى الاستئنافِ، وهي مؤكدةٌ للجملة الأولى: قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما فائدةُ هذا التوكيدِ؟ قلتْ: فائدتُهُ أنَّ قولَه:» لا إله إلا هو «توحيدٌ، وقولَه:» قائماً بالقِسْطِ «تعديلٌ، فإذا أَردْفه قولَه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} فقد آذن أن الإِسلام هو العدلُ والتوحيد، وهو الدينُ عند الله، وماعداه فليس في شيء من الدين عنده» . وأمَّا قراءةُ الكسائي ففيها أوجهٌ، أحدُها: أنها بدلٌ من «أنه لا إله إلا هو» على قراءةِ الجمهور في «أنه لا إله إلا هو» وفيه وجهان، أحدهما: أنه من بدلِ الشيءِ من الشيء، وذلك أنَّ الدين الذي هو الإِسلام يتضمَّنُ العدْلَ والتوحيدَ وهو هو في المعنى. والثاني: أنه بدلُ اشتمالٍ لأنَّ الإِسلامَ يشتمِلُ على التوحيدِ والعَدْلِ. الثاني من الأوجه السابقة أن يكونَ «أنَّ الدين» بدلاً من قوله «قائماً بالقسط» ثم لك اعتباران، أحدُهما: أَنْ تَجْعَله بدلاً من لفظِهِ فيكونُ محلُّ «أنَّ الدين» الجرَّ. والثاني: أن تجعلَه بدلاً مِنْ مَوْضِعِه فيكونُ محلُّها نصباً. وهذا الثاني لا حاجةَ إليه وإن كان أبو البقاء ذكره، وإنما صَحَّ البدلُ في المعنى؛ لأنَّ الدينَ الذي هو الإِسلامُ قِسْطٌ وعَدْلٌ، فيكونُ أيضاً من بدلِ الشيءِ من الشيء، وهما لعينٍ واحدةٍ/. ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ اشتمال لأنَّ الدينَ مشتملٌ على القسطِ وهو العدلُ. وهذه التخاريجُ لأبي علي الفارسي، وتَبِعَهُ

الزمخشري في بَعْضِها. قال الشيخ: «وأبو علي معتزلي فلذلِكَ يشتمل كلامُه على لفظِ المعتزلةِ من العدلِ والتوحيد» قلت: ومَنْ يرغَبُ عن التوحيدِ والعدلِ من أهلِ السنةِ حتى يَخُصَّ به المعتزلَة؟ وإنما رأى في كلامِ الزمخشري هذه الألفاظَ كثيراً، وهو عنده معتزليٌّ، فَمَن تَكَلَّم بالتوحيدِ والعَدْلِ كان عندَه معتزلياً. ثم قال: «وعلى البدل من» أنه «خَرَّجه هو وغيرُه، وليس بجيد لأنه يُؤَدِّي إلى تركيبٍ بعيدٍ أَنْ يأتيَ مثلُه في كلامِ العربِ وهو:» عَرَف زيدٌ أنه لا شجاعَ إلا هو وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل الحامي أنَّ الخَصْلَةَ الحميدةَ هي البسالةُ «وتقريبُ هذا المثال:» ضرب زيدٌ عائشةً والعُمَران حَنِقاً أختَك «فَحَنِقاً حالٌ من زيد، وأختَك بدلٌ من عائشةً، ففصل بين البدلِ والمبدلِ منه بالعطفِ، وهو لا يجوزُ، وبالحالِ لغيرِ المُبْدَلِ منه، وهو لا يجوزُ، لأنه فُصِلَ بأجنبي بين المُبْدَلِ منه والبدل» انتهى. قوله: «عرف زيد» هو نظيرُ: «شهد الله» وقوله: «أنه لا شجاع إلا هو» نظير «أنه لا إله إلا هو» . وقوله: «وبنو دارم» نظير قوله: «والملائكة» . وقوله: «ملاقياً للحروب» نظيرُ قوله: «قائما بالقسط، وقوله» لا شجاع إلا هو «نظير قوله:» لا إله إلا هو «فجاء به مكرراً كما في الآية، وقوله:» البطل الحامي «نظيرُ قولهِ:» العزيز الحكيم «وقوله» أن الخصلة الحميدة هي البسالة «نظيرُ قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} ولا يَظْهَرُ لي مَنْعُ ذلك ولا عَدَمُ صحةِ تركيبه حتى يقول» ليس بجيد «وبعيد أن يأتي عن العرب مثله» . وما ادَّعاه بقولِهِ في المثال الثاني أنَّ فيه الفصلَ بأجنبي فيه نظرٌ، إذ هذه الجملُ صارَتْ كلُّها كالجملة الواحدة لِمَا اشتملت عليه من تقويةِ كلماتٍ

بعضِها ببعضٍ، وأبو عليّ وأبو القاسم وغيرُهُما لم يكونوا في محلِّ مَنْ يَجْهَلُ صحةَ تركيبِ بعضِ الكلامِ وفسادِهِ. ثم قال الشيخ: «قال الزمخشري: وقُرئا مفتوحين على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول كأنه قيل: شَهِدَ الله بأنَّ الدينَ عند الله الإِسلامُ، والبدلُ هو المبدلُ منه في المعنى، فكانَ بياناً صريحاً لأنَّ دينَ الإِسلام هو التوحيدُ والعدلُ» . قال: «فهذا نَقْلُ كلامِ أبي عليّ دونَ استيفاءٍ» . الثالث من الأوجه: أَنْ يكونَ «أنَّ الدينَ» معطوفاً على «أنه لا إله إلا هو» ، حُذِفَ منه حرفُ العطفِ، قاله ابن جرير، وضَعَّفَهُ ابنُ عطيَّة، ولم يبيِّن وجهَ ضَعْفِهِ. قال الشيخ: «وَجْهُ ضَعفِهِ أنه متنافِرُ التركيب مع إضمارِ حرفِ العطفِ، فَيُفْصَلُ بين المتعاطِفَيْنِ المرفوعَيْن بالمنصوبِ المفعولِ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوعِ وبجملتي الاعتراضِ، وصار في التركيبِ نظيرَ قولِك:» أكل زيدٌ خبزاً وعمروُ سمكاً «يعني فَفَصْلتَ بين» زيد «وبين» عمر «ب» خبزاً «، وفصلْتَ بين» خبزاً «وبين» سمكاً «بعمرٍو، إذ الأصلُ قبل الفصل:» أكل زيدٌ وعمر خبزاً وسمكاً «. الرابعُ: أَنْ يكونَ معمولاً لقولِهِ:» شهِدَ الله «أي: شَهِدَ الله بأنَّ الدينَ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ جازَ أَنْ يَحْكُمَ على موضِعِه بالنصب أو بالجرِّ. فإنْ قلت: إنما يتجهُ هذا التخريجُ على قراءةِ ابن عباس، وهي كسرُ إنَّ الأولى، وتكون حينئذٍ الجملةُ اعتراضاً بين» شَهِدَ «وبين معمولِهِ كما قَدَّمْتُهُ، وأمَّا على قراءةِ

فَتْحِ» أنَّ «الأولى، وهي قراءةُ العامة فلا يَتَجِهُ ما ذكرْتُهُ من التخريج، لأن الأولى معمولةٌ له استَغْنَى بها. فالجوابُ: أنَّ ذلك متجهٌ أيضاً مع فتحِ الأولى وهو أَنْ تَجْعَلَ الأولى على حَذْفِ لامِ العلة، تقديرُهُ: شهد الله أنَّ الدين عندَ اللهِ الإِسلامُ لأنه لا إله إلا هو، وكان يَحِيك في نفسي هذا التخريجُ مدةً، ولم أَرَهم ذكروه حتى رأيتُ الواحديَّ ذَكَرَه، وقال:» وهذا معنى قول الفراء حيث يقولُ في الاحتجاجِ للكسائي: «إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ» أنه «على الشرطِ، وجَعَلْتَ الشهادةَ واقعةً على قولِهِ: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} وتكونُ» أنَّ «الأولى يصلُح فيه الخَفْضُ كقولِك:» شهد اللهُ لوحدانيتِهِ أنَّ الدينَ عن اللهِ الإسلامُ «. وهو كلامٌ مُشْكِلٌ في نفسِهِ، ومعنى قولِهِ: «على الشرط» أي: العلة، سَمَّى العلةَ شرطاً لأنَّ المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقُّفِ المعلولِ على علتِهِ، فهو علَّةٌ، إلا أنه خلافُ اصطلاحِ النحويين. ثم اعترَضَ الواحديُّ على هذا التخريجِ بأنه لو كانَ كذلك لم يَحْسُنْ إعادةُ اسمِ الله ولكانَ التركيبُ {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} ، لان الاسمَ قد سَبَقَ فالوجهُ الكنايةُ، ثم أجاب بأنَّ العربَ ربما أعادت الاسمَ موضعَ الكناية وأنشد: 1206 - لا أَرَى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا يعني أنه من بابِ إيقاعِ الظاهِرِ موقعَ المضمرِ، ويزيدُهُ هنا حُسْناً أنه في/ موضِعِ تعظيمٍ وتفخيمٍ. الخامس: أَنْ تكونَ على حَذْفِ حرفِ الجر معمولةً لِلَفْظِ «الحكيم» كأنه

قيل: الحكيم بأن، أي: الحاكم بأن، فحكيم مثالُ مبالغةُ مُحَوَّلٌ من فاعِل، فهو كالعليم والخبير والبصير، أي: المبالِغُ في هذه الأوصاف، وإنما عَدَلَ عن لفظ «حاكم» إلى «حكيم» مع زيادةِ المبالغة لموافقةِ العزيز. ومعنى المبالغةِ تكرارُ حكمهِ بالنسبة إلى الشرائع أنَّ الدين عند الله هو الإِسلام، أو حَكَمَ في كلِّ شريعة بذلك. وهذا الوجهُ ذكره الشيخ وكأنه من تخريجه ثم قال: «فإن قلت: لِمَ حَمَلْتَ الحكيم على أنه مُحَوَّلٌ من فاعل إلى فعيل للمبالغة، وهلاَّ جَعَلْتَه فعيلاً بمعنى مُفْعِل، فيكون بمعنى مُحْكِم، كما قالوا: أليم بمعنى مُؤْلِم وسميع بمعنى مُسْمِع من قولِ الشاعر: 1207 - أَمِنْ ريحانَةَ الداعي السميعُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فالجوابُ أَنَّا لا نُسَلِّمُ أَنَّ فعيلاً بمعنى مُفْعِل، وقد يُؤَوَّل أليمِ وسميع علىغير مُفْعِل، ولئن سَلَّمْنَا ذلك فهو من النُّدورِ والشذوذ بحيث لا يَنْقَاسُ، بخلاف فَعيل مُحَوَّلٌ من فاعِل فإنه كثيرٌ جداً خارجٌ عن الحصرِ كعليم فإنَّ العربيَّ القُحَّ الباقي على سَجِيَّتِهِ لم يَفْهَمْ عن» حكيم «إلا أنه مُحَوَّلٌ من فاعل للمبالغةِ، ألا ترى أنه لَمَّا سَمِعَ قارئاً يقرأ:» والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيدَيهما جزاءً بما كَسَبَا نكالاً من الله والله غفور رحيم «أنكر أن تكونَ فاصلةُ هذا التركيبِ السابقِ:» والله غفور رحيم «فقيل له: التلاوةُ:» والله عزيز حكيم «، فقال: هكذا يكون: عَزَّ فحكم فقطع» فَفَهِمَ من حكيم أنه محولٌ للمبالغة السالفة من «حاكم» ، وفَهْمُ هذا العربي حجةٌ قاطعةٌ بما قلناه، وهذا تخريجٌ

سهل سائغُ جداً، يُزيل تلك التكلفاتِ والتركيباتِ العَقِدَةَ التي يُنَزَّه كتابُ الله عنها. وأمَّا على قراءة ابنِ عباس فكذلك نقول، ولا نجعل «أنَّ الدين» معمولاً ل «شهد» كما زَعَمُوا وأن «إنه لا إله إلا هو» اعتراضٌ يعني بين الحال وصاحبها وبين «شهد» ومعمولِهِ، وسيأتي إيضاحُ ذلك بل نقولُ: معمولُ «شَهِدَ» هو «إنه» بالكسرِ على تخريجِ مَنْ خَرَّجَ أنَّ «شهد» لَمَّا كان بمعنى القولِ كُسِرَ ما بعدَه إجراءً له مُجْرَى القولِ، أو نقول «إنه» معموله وعُلِّقَتْ، ولم تَدْخُلِ اللامُ في الخبر لأنه منفيٌّ، بخلافِ أَنْ لو كان مثبتاً فإنك تقول: «شهدت إنَّ زيداً لمنطلقٌ» فَتُعَلَّقُ بإنَّ مع وجودِ اللام لأنه لو لم تكن اللامُ لفَتَحْتَ «أنَّ» فقلت: شهدت أنَّ زيداً منطلق، فَمَنْ قرأ بفتح «أنه» فإنه لم يَنْوِ التعليق، ومَنْ كَسَرَ فإنَّه نوى التعليقَ ولم تدْخُل اللامُ في الخبرِ لأنه منفيٌّ كما ذكرنا «انتهى. وكان الشيخ لَمَّا ذَكَرَ الفصلَ والاعتراضَ بين كلماتِ هذه الآيةِ قال ما نصه:» وأما قراءةُ ابنِ عباس فَخُرِّجَ على {أنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} هو معمولُ شهد، ويكونُ في الكلامِ اعتراضان أحدُهما: بين المعطوفِ عليه والمعطوفِ، وهو «إنه لا إله إلا هو» ، والثاني: بين المعطوفِ والحالِ وبين المفعولِ لشَهِدَ وهو: «لا إله إلا هو العزيز الحكيم» وإذا

أعْرَبنا «العزيز الحكيم» خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ كان ذلك ثلاثةَ اعتراضات. فانظر إلى هذه التوجيهاتِ البعيدةِ التي لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يأتيَ بنظيرِهِنَّ من كلامِ العرب، وإنما حَمَل على ذلك العجمةُ وعدمُ الإِمعانِ في تراكيب كلام العرب وحفظِ أشعارها، وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب أنه لن يكفيَ النحوُ وحدَه في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بُدَّ من الاطلاع على كلامِ العرب والتطبُّع بطبَاعها والاستكثارِ من ذلك «. قلت: ونسبتُه كلامَ أعلامِ الأمة إلى العُجْمَةِ وعَدَمِ معرفتِهِم بكلام العرب وحَمْلُهم كلامَ الله على ما لا يجوز، وأنَّ هذا الوجه الذي ذكره هو تخريجُ سهل واضح غير مقبولةٍ ولا مُسَلَّمةٍ، بل المتبادرُ إلى الذهن ما نقله الناس، وتلك الاعتراضاتُ بين أثناء كلماتِ الآية الكريمة موجودٌ نظيرُها في كلامِ العرب، وكيف يَجْهل الفارسي والزمخشري والفراء وأضرابُهم ذلك، وكيف يتبَجَّح باطِّلاعه على ما لم يَطَّلِعْ عليه مثلُ هؤلاء، وكيف يَظُّنُّ بالزمخشري أنه لا يعرِفُ مواقعَ النَّظْم وهو المُسَلَّمُ له في علم المعاني والبيان والبديع، ولا يشك أحد أنه لا بد لمَنْ يتعرَّض إلى علم التفسير أن يعرف جملةً صالحةً/ من هذه العلوم، وانظر إلى ما حكى صاحب» الكشاف «في خطبته عن الجاحظ وما ذَكَرَهُ في حقِّ الجاهل بهذه العلومِ، ولكن الشيخَ يُنْكِرُ ذلك ويَدَّعِي أنه لا يُحْتَاجُ إلى هذه العلومِ البتة، فَمِنْ ثَمَّ صدر ما ذكرته عنه. قوله: {عِندَ الله} ظرفٌ، العاملُ فيه لفظ «الدين» لِمَاك تَضمَّنه من معنى الفعل. قال أبو البقاء: «ولا يكونُ حالاً، لأن» إنَّ «لا تعمل في الحال»

قلت: قد جَوَّزُوا في «ليت» وفي «كأنَّ» وفي «ها» أن تعملَ في الحالِ. قالوا: لِما تَضَمَّنَتْه هذه الأحرفُ من معنى التمني والتشبيه والتنبيه، فإنَّ للتأكيدِ فَلْتعمل في الحالِ أيضاً، فليسَتْ تتباعَدُ عن «ها» التي للتنبيه، بل هي أَوْلَى منها، وذلك أنها عاملةٌ و «ها» لَيْسَتْ بعاملةٍ فهي أقربُ لشِبْهِ الفعلِ من «ها» . قوله: {بَغْياً} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ من أجلِهِ، العامل فيه «اختلف» والاستثناءُ مفرغٌ. والتقدير: وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيرِهِ. والثاني: أنه مصدرٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «الذين» كأنه قيل: «ما اختلفوا إلاَّ في هذه الحالِ، وليس بقوي، والاستثناءُ مفرَّغٌ أيضاً. [الثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ والعامِلُ فيه مقدَّرٌ] كأنه لَمَّا قيل:» وما اختلف «دَلَّ على معنَى:» وما بَغَى «فهو مصدرٌ مؤكِّدٌ، وهذا قولُ الزجاج، والأولُ قولُ الأخفش، ورجَّحه أبو علي. ووقع بعد» إلا «مستثنيان وهما:» مِنْ بعدِ «و» بَغْياً «وقد تقدَّم تخريجُ ذلك وما ذَكَرَ الناسُ فيه. قوله: {وَمَن يَكْفُرْ} » مَنْ «مبتدأٌ، وفي خبره الأقوالُ الثلاثةُ، أعني فعلَ الشرطِ وَحْدَهُ، أو الجوابَ وحدَه، أو كلاهما. وعلى القولِ بكونِهِ الجوابَ وحده لا بدَّ من ضمير مقدَّرٍ أي: سريعُ الحسابِ له، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.

20

وفَتَح الياءَ مِنْ «وجهي» هنا وفي الأنعام نافع وابن عامر وحفص، وسَكَّنها الباقون. قوله: {وَمَنِ اتبعن} في محلِّ «مَنْ» أوجهٌ، أحدُها: الرفعُ عطفاً على

التاءِ في «أَسْلَمْتُ» ، وجاز ذلك لوجودِ الفصلِ بالمفعولِ، قاله الزمخشري وبه بَدَأَ، وكذلك ابنُ عطية. قال الشيخُ: «ولا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على ظاهِرِهِ؛ لأنه إذا عُطِفَ على الضميرِ في نحو:» أُكلتُ رغيفاً وزيدٌ «لَزِمَ مِنْ ذلك أَنْ يَكونا شريكَيْنِ في أكلِ الرغيف، وهنا لا يَسُوغُ [فيه] ذلك لأنَّ المعنى ليس على: أَسْلَمُوا هم وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجهَه الله، بل المعنى على أنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْلَمَ وجهَهُ لله، وهم أَسْلموا وجوهَهم لله، فالذي يَقوَى في الإِعرابِ أنه معطوفٌ على الضمير محذوفٌ منه المفعولُ، لا مشارِكٌ في مفعولِ» أَسْلَمْتُ «والتقديرُ:» وَمَنِ اتَّبَعَنِي وجهَه أو أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ، لدلالةِ المعنى عليه، والتقديرُ: ومَنِ اتَّبعني كذلك أي: أَسْلَموا وجوهَهم لله، كما تقول: «قَضَى زيدٌ نَحْبَهُ وعَمروٌ» أي: وعمروٌ كذلك، أي: قَضَى نَحْبَه «. قلت: إنَّما صَحَّ في نحوِ:» أكلتُ رغيفاً وزيدٌ «المشاركةُ لإِمكانِ ذلك، وأمَّا نحوُ الآيةِ الكريمةِ فلا يَتَوَهَّمُ أحدٌ فيه المشاركةَ. الثاني: أنه مرفوعٌ بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ كما تقدَّم تقريرُهُ. الثالث: أنه منصوبٌ على المعيَّة، والواوُ بمعنى مع، أي: أَسْلَمْتُ وجهيَ لله مع مَنِ اتَّبعني، قاله الزمخشري أيضاً. قال الشيخُ:» ومِن الجهة التي امتَنَعَ عَطْفُ «ومَنْ» على الضمير إذا حَمَلَ الكلامَ على ظاهِرِهِ دونَ تأويلٍ يمتنعُ كونُ «

مَنْ» منصوباً على أنه مفعولٌ معه، لأنَّك إذا قلت: «أكلتُ رغيفاً وعمراً» أي: مع عمرٍو دَلَّ ذلك على أنه مشارِكٌ لك في أَكْلِ الرغيف، وقد أجاز الزمخشري هذا الوجه، وهو لا يجوزُ لِما ذكرنا على كلِّ حال؛ لأنه لا يجوزُ حَذْفُ المفعولِ مع كونِ الواوِ واوَ «مع» البتة «. قلت: فَهْمُ المعنى وعَدَمُ الإِلباسُ يُسَوِّغُ ما ذكرَهُ الزمخشري، وأيُّ مانِعٍ من أنَّ المعنى: فقل: أسلمتُ وجهيَ لله مصاحباً لِمَنْ أسلمَ وجهَهُ لله أيضاً، وهذا معنًى صحيح مع القولِ بالمعية. الرابع: أنَّ محلَّ» مَنْ «الخفضُ نَسَقاً على اسمِ الله تبارك وتعالى، وهذا الإِعرابُ وإنْ كان ظاهرُهُ مُشْكلاً، فقد يُؤَوَّلَ على معنى: جَعَلْتُ مَقْصَدِي لله بالإِيمانِ به والطاعةِ له ولِمَنْ اتَّبعني بالحفظِ له، والتحفِّي بعلمه وبرأيه وبصحبته. وقد أثبت الياءَ في» اتَّبعني «نافع وأبو عمرو وصلاً وَحَذفاها وقفاً، والباقون حَذَفُوها فيهما موافقةً للرسم، وحَسَّن ذلك أيضاً كونُها فاصلةً ورأسَ آية نحو:» أَكْرَمَن وأهانَن «وعليه قولُ الأعشى: 1208 - وهل يَمْنَعُني ارتيادِي البلا ... دَ مِنْ حَذَرِ الموتِ أَنْ يَأْتِيَنْ وقال الأعشى أيضاً: 1209 - ومِنْ شانِىءٍ كاسِفٍ وجُهه ... إذا ما انْتَسَبْتُ له أَنْكَرَنْ قال بعضُهم: «يكثُرَ حذفُ هذه الياءِ مع نونِ الوقاية خاصة، فإنْ لم تكن نونٌ فالكثيرُ إثباتها» .

قوله: {أَأَسْلَمْتُمْ} صورتُه استفهامٌ ومعناهُ الأمرُ، أي: أَسْلَموا، كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أي: انتهوا، قال الزمخشري: «يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجِبُ الإِسلامَ ويقتضي حصولَه لا محالَة، فهل أسلمتم بعدُ، أم أنتم على كفركِم؟ وهذا كقولِك لِمَنْ لَخَّصْتَ له المسألةَ ولم تُبْقِ من طرق البيان والكشفِ طريقاً إلاَّ سَلَكْتَه: هل فهمتها أم لا، لا أُمَّ لك؟ ومنه قولُه عز وجل: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] بعدَ ما ذَكَرَ الصَّوارِفَ عن الخمرِ والميسرِ، وفي هذا الاستفهامِ استقصاءٌ وتعبيرٌ بالمعانَدَةِ وقِلَّةِ الإِنصافِ، لأنَّ المنصفَ إذا تجَلَّتْ لَه الحُجَّةُ لم يتوقَّف إذعانُه للحق» وهو كلامٌ حسنٌ جداً/ وقوله: {فَقَدِ اهتدوا} دَخَلَت «قد على الماضِي مبالغةً في تحقُّق وقوعِ الفعلِ وكأنَّه قد قَرُبَ من الوقوعِ.

21

قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ} : لَمَّا ضُمِّن هذا الموصولُ معنى الشرطِ دَخَلَتِ الفاءُ في خبرِه، وهو قولُه: فبشِّرْهُم، وهذا هو الصحيحُ، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأُ ب «إنَّ» فجوازُ دخولِ الفاءِ باقٍ، لأن المعنى لم يتغيَّرْ، بل ازدادَ تأكيداً، وخَالَف الأخفشُ فمنعَ دخولَها مع نَسْخِة ب «إنَّ» ، والسماعُ حُجَّةٌ عليه كهذِه الآية، وكقوله: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] الآية، وكذلك إذا نُسِخَ ب «لكنَّ» كقوله: 1210 - فوالله ما فَارَقْتُكُمْ عن مَلالةٍ ... ولكنَّ ما يُقْضَى فسوف يكون وكذلك إذا نُسِخَ ب «أنَّ» المفتوحة كقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ

مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ [خُمُسَهُ] } [الأنفال: 41] ، أمَّا إذا نُسِخَ بليت ولعل وكان امتنعتِ الفاءُ عند الجميعِ لتغيُّرِ المعنى. قوله: {وَيَقْتُلُونَ} قرأ حمزة «ويُقاتلِون» من المقاتلة، والباقون: «ويَقْتُلون» كالأولِ، فأمَّا قراءةُ حمزةَ فإنه غايَرَ فيها بين الفعلين وهي موافقةٌ لقراءةِ عبد الله: «وقاتِلوا» من المقاتلة، إلاَّ أنَّه أتى بصيغةِ الماضي، وحمزةُ يُحْتمل أن يكونَ المضارعُ في قراءتِه لحكاية الحالِ ومعناه المضيُّ. وأمَّا الباقون فقيل في قراءتهم: إنما كَرَّر الفعلَ لاختلافِ متعلَّقه، أو كُرِّر تأكيداً، وقيل: المرادُ بأحدِ القَتْلين تفويتُ الروحِ وبالآخرِ الإِهانةُ، فلذلك ذَكَر كلَّ واحدٍ على حِدَتِه، ولولا ذلك لكان التركيبُ «ويقتلون النبيين والذين يَأْمُرون» . وقرأ الحسن: «ويُقَتِّلون» بالتشديد ومعناه التكثيرُ، وجاء هنا «بغيرِ حق» مُنَكَّراً، وفي البقرة {بِغَيْرِ الحق} [الآية: 61] مُعَرَّفاً قيل: لأنَّ الجملةَ هنا أُخْرِجَتْ مُخْرَجَ الشرطِ، وهو عامٌ لا يتخصَّصُ فلذلك ناسَبَ أن تُنَكَّر في سياقِ النفي ليعُمَّ، وأمَّا في البقرةِ فجاءَتْ الآيةُ في ناسٍ مَعْهودين مُشَخَّصِين بأعيانِهم، وكانُ الحقُّ الذي يُقْتَلُ به الإِنسانُ معروفاً عندهم فلم يُقْصَدْ هذا العمومُ الذي هنا، فَجِيءَ في كلَّ مكان بما يناسِبُه. قوله: «من الناس» : إمَّا بيانٌ وإمَّا للتبعيض، وكلاهما معلومٌ أنهم من الناسِ، فهو جارٍ مَجْرى التأكيدِ.

22

وقرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن بفتحِ الباء: «حَبَطَتْ» وهي لغةٌ معروفةٌ.

23

قوله تعالى: {يُدْعَوْنَ} : في محلِّ نصب على الحالِ من «الذين أُوتوا» . وقولُه «ليحكُمَ» متعلقٌ بيُدْعَوْن. وقوله: «ثم يَتَوَّلى» عطفٌ على «يُدْعَوْن» و «منهم» صفةٌ لفريق. وقوله: {وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} يجوزُ أن تكونَ صفةً معطوفةً على الصفةِ قبلها فتكونُ الواوُ عاطفةً، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستتر في «منهم» لوقوعِهِ صفةً فتكونُ الواوُ للحالِ، [ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من «فريق» وجاز ذلك وإنْ كان نكرةً لتخصيصِه بالوصفِ قبلَه] وإذا كانَتْ حالاً فيجوزُ أَنْ تكونَ مؤكدةً، لأَنَّ التولَّيَ والإِعراضَ بمعنى، ويجوزُ أن تكونَ مبيِِّنةً لاختلافِ متعلَّقِهما، قالوا: لأنَّ التولِّيَ عن الداعي، والإِعراضَ عَمَّا دُعِي إليه. وُيحْتمل أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً لا محلَّ لها أَخبْر عنهم بذلك. وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري، «لِيُحْكَمَ» مبنياً للمفعول والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الظرفُ، أي: ليَقَعَ الحكمُ بينهم.

24

قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ} : يجوزُ في «ذلك» وجهان، أًصحُّهما: أنه مبتدأٌ والجارُّ بعده خبرهُ، أي: ذلك التولِّي بسببِ هذه الأقوالِ الباطلةِ التي لا حقيقةَ لها. والثاني: أن «ذلك» خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ ذلك، وهو قولُ الزجاج. وعلى هذا فقولُه: «بأنهم» متعلق بذلك المقدَّر، وهو الأمر ونحوه. وقال أبو البقاء: «فعلى هذا يكون قوله:» بأنهم «في موضعِ نصبٍ على الحال مِمَّا في» ذا «من معنى الإِشارة أي: ذلك الأمرُ مستحقاً بقولِهم» ، ثم قال: «وهذا ضعيفٌ» . قلت: بل لا يجوزُ البتة.

وجاء هنا «معدودات» بصيغة الجمع، وفي البقرة: {مَّعْدُودَةً} [الآية: 80] تفنُّناً في البلاغة، وذلك أنَّ جَمْعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يجوزُ أَنْ يعامَلَ معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً ومعاملةَ جمعِ الإِناث أخرى، فيقال: «هذه جبالٌ راسيةٌ» وإن شئت: «راسيات» ، و «جِمال ماشية» وإن شئت: «ما شيات» . وخُصَّ الجمعُ بهذا الموضعِ لأنه مكانُ تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا، فأتى بلفظِ الجمعِ مبالغةً في زَجْرِهم وزجرِ مَنْ يعملُ بعملهم. قوله: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} الغُرور: الخِداع، يقال منه: غَرَّه يَغِرُّه غُرورا فهو غارٌّ ومغرور، والغَرور بالفتح مثالُ مبالغة، كالضَّروب، والغِرُّ: الصغير، والغَريرة: الصغيرة لأنهما يَنْخَدِعَان والغِرَّةُ مأخوذة من هذا. يقال: «أخَذَه على غِرَّة» أي: تَغَفُّل وخداع، والغُرَّةُ: بياضٌ في الوجهِ، يقال منه: وَجْهٌ أَغرُّ ورجل [أغرُّ] وامرأة «غَرَّاء» ، والجمعُ القياسي: غُرٌّ، وغيرُ القياسي: غُرَّان. قال: 1211 - ثيابُ بني عوفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ ... وأوجُهُهم عند المَشاهِدِ غُرَّانُ والغُرَّةُ من كلِّ شيء: أَنْفَسُه، وفي الحديث: «وجَعَلَ في الجنين غُرَّةً عبداً أو أَمَة» وقيل: «الغُرَّةُ» الخِيارُ. وقال أبو عمرو بن العلاء في تفسير هذا الحديث: «إنه لا يكون إلا الأبيضُ من الرقيقِ» كأنَّه أَخَذَه من الغُرَّة وهي البياضُ في الوجه. قوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: الذي كانوا يَفْتَرُونه.

25

قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا} : «كيف» منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: كيف يكونُ حالُهم؟ كذا قدَّره الحوفي، وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ الكونُ تاماً، فيجيء في «كيف» الوجهان المتقدِّمان في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] من التشبيه بالحال أو الظرف، وأن تكونَ الناقصةَ فتكونَ «كيف» خبرَها، وقَدَّر بعضُهم الفعلَ فقال: «كيف يَصْنعون» ف «كيف» على ما تقدَّم من الوجهين، ويجوز أَنْ تكونَ «كيف» خبراً مقدَّماً، والمبتدأُ محذوفٌ، تقديرُه: فكيف حالُهم؟ . قوله: {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} ظرفٌ مَحْضٌ من غيرِ تضمينِ شرطٍ، والعاملُ فيه العاملُ في «كيف» إنْ قلنا إنَّها منصوبةٌ بفعلٍ مقدَّرٍ كما تقدَّم تقريرُه، وإنْ قلنا: إنَّها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ وهي منصوبَةٌ انتصابَ الظروفِ كانَ العاملُ في «إذا» الاستقرارَ العاملَ في «كيف» لأنها كالظرفِ. وإنْ قلنا: إنها اسمٌ غيرُ ظرفٍ، بل لمجردِ السؤالِ كان العاملُ فيها نفسَ المبتدأ الذي قَدَّرناه، أي: كيف حالُهم في وقت/ جَمْعِهم. قوله: {لِيَوْمٍ} متعلِّقٌ بجمعناهم «أي: لقضاء يومٍ أو لجزاء يوم و {لاَّ رَيْبَ فِيهِ} في صفةٌ للظرف.

26

قوله تعالى: {اللهم} : اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظة الكريمة. فقال البصريون: الأصلُ يا الله، فحُذِفَ حرفُ النداء، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة. وهذا خاصٌّ بهذا الاسمِ الشريف فلا يجوزُ تعويضُ الميمِ من حرفِ النداء في غيره، واستدلُّوا على أنَّها عوضٌ من «يا» أنهم لم يَجْمَعوا بينهما فلا يُقال: يا اللهمَّ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله:

1212 - وما عليكِ أَنْ تقولي كلما ... سَبَّحْتِ أو هَلَّلْتِ يا اللهم ما أرْدُدْ علينَا شَيْخَنا مُسَلَّما ... وقال الكوفيون: الميمُ المشددةُ بقية فعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «أُمَّنا بخير» أي: اقصُدْنا به، مِنْ قولك: «أمَّمْتُ زيداً» أي قصدتُه، ومنه: {ولا آمِّينَ البيت الحرام} [المائدة: 2] أي: قاصِديه، وعلى هذا فالجمعُ بينَ «يا» والميمِ ليس بضرورةٍ عندهم، إذ ليسَتْ عوضاً منها. وقد رَدَّ عليهم البصريون هذا بأنه قد سُمع «اللهم أُمَّنَا بخير» وقال تعالى: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ} [الأنفال: 32] فقد صَرَّح بالمدعوِّ به، فلو كانَتِ الميمُ بقيةَ «أمَّنا» لفسد المعنى فبان بطلانُه. وهذا من الأسماء التي لَزِمَت النداءَ فلا يجوزُ أَنْ يقعَ في غيرِه، وقد وَقَع في ضرورةِ الشعرِ كونُه فاعِلاً. أنشد الفراء: 1213 - كحَلْفَةٍ من أبي دِثار ... يَسْمَعُها اللهُمَ الكُبارُ فاستعملَه هنا فاعلاً بقوله: «يَسْمَعُها» ولا يجوزُ تخفيفُ ميمِه، وجَوَّزه الفراء وأنشد البيت: «يَسْمَعُها اللَهُمَ/ الكُبار» بتخفيفِ الميم؛ إذ لا يمكنُه استقامةُ الوزن إلاَّ بذلك. قال بعضُهم: «هذا خطأٌ فاحِشٌ، وذلك لأنَّ الميمَ بقيةُ» أُمَّنا «وهو رأيُ الفراء، فكيف يُجَوِّزُ الفراء؟ وأجاب عن البيت بأنَّ الروايةَ ليسَتْ كذلك، بل الروايةُ: يَسْمَعُها لاهُه الكُبارُ. قلت: وهذا [لا يُعارِضُ الروايةً الأخرى، فإنه كما صَحَّتْ هذه صَحَّتْ] تَيْكَ. وردَّ

الزجاج مذهبَ الفراء بأنه لو كان الأصل:» يا لله أُمَّنا «لَلُفِظَ به مَنْبَهَةً على الأصل كما قالوا في: وَيْلُمِّه: ويلٌ لأُمِه. ومن أحكام هذه اللفظةِ أيضاً أنها كَثُرَ دَوْرُها حتى حُذِفَتْ منها الألف واللامُ في قولِهم:» لاهُمَّ «أي: اللهم، وقال الشاعر: 1214 - لا هُمَّ إنَّ عامرَ بنَ جَهْمِ ... أَحْرَم حَجَّاً في ثيابٍ دُسْمِ وقال آخر: 1215 - لا هُمَّ إنَّ جُرْهُما عِبادُكا ... الناسُ طَرْفٌ وهمُ بِلادُكا وفي هذه الكلمةِ أبحاثُ كثيرةٌ موضِعُها غيرُ هذا. قوله: {مَالِكَ الملك} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من» اللهم «. الثاني: أنه عطفُ بيان. الثالث: أنه منادى ثانٍ، حُذِفت منه حرفُ النداء، أي: يا مالكَ المُلك، وهذا هو البدلُ في الحقيقةِ، إذ البدلُ على نيةِ تكرارِ العاملِ، إلاَّ أنَّ الفرقَ هذا ليسَ بتابعٍ. الرابع: أنه نعتٌ ل» اللهم «على الموضعِ فلذلك نُصِب، وهذا ليس مذهب سيبويه، فإنَّ سيبويه لا يُجِيزُ نَعْتَ هذه اللفظةِ لوجودِ الميم في آخِرها، لأنها أَخْرَجَتْها عن نظائرها من الأسماءِ، وأجازَ المبرد ذلك، واختارَه الزجاج قالا: لأنَّ الميمَ بدَلٌّ من» يا «

والمنادى مع» يا «لا يمتنعُ وَصْفُه فكذا مع ما هو عوضٌ منها، وأيضاً فإنَّ الاسمَ لم يتغيَّرْ عن حكمِه، ألا تَرَى إلى بقائه مبنياً على الضم كما كانَ مبنياً مع» يا «. وانتصرَ الفارسي [لسيبويه] بأنه ليسَ في الأسماءِ الموصوفةِ شيءٌ على حَدِّ «اللهم» فإذا خالَفَ ما عليه الأسماءَ الموصوفَةَ ودخل في حَيِّزِ ما لا يُوصَفُ من الأصواتِ وَجَبَ ألاَّ يوصَفَ، والأسماءُ المناداةُ المفردةُ المعرفةُ القياسُ ألاَّ توصفَ كما ذهب إليه بعضُ الناسِ لأنها واقعةٌ موقعَ ما لا يوصف. وكما أنه لمَّا وَقَع موقعَ ما لا يُعْرَبُ لم يُعْرَبْ، كذلك لَمَّا وَقَعَ مَوْقِعَ ما لا يُوْصَفُ لم يُوْصَفْ. فأما قوله: 1216 - يا حكمُ الوارثُ عن عبد الملكْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: 1217 - يا حَكَمُ بنَ المنذرِ بنَ الجارودْ ... سُرادِقُ المجدِ عليك مَمْدُودْ و [قوله] : 1218 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . يا عُمَرُ الجَوادا

فإنَّ الأولَ على «أنت» والثاني على نداءٍ ثانٍ، والثالثُ على إضمارِ «أعني» ، فلمَّا كان هذا الاسمُ الأصلُ فيه ألاَّ يوصَفَ لِمَا ذَكَرْنا كان «اللهم» أَوْلى ألاَّ يوصفَ، لأنه قبل ضمِّ الميمِ إليه واقعٌ موقعَ ما لا يوصفُ، فلَّما ضُمَّتْ إليه الميمُ صيغَ معَهَا صياغةً مخصوصةً، وصارَ حكمُه حكمَ الأصوات، وحكُم الأصواتِ ألاَّ توصَفَ نحو: «غاق» وهذا مع ما ضُمَّ إليه من الميمِ بمنزلةِ صوتٍ مضمومٍ إلى صوتٍ نحو: «حَيَّهَلَ» فحقُّه ألاَّ يوصفَ كما لا يُوصف «حيهل» . انتهى ما انتصر به أبو علي السيبويه وإن كان لا ينتهضُ مانعاً. قوله: {تُؤْتِي} هذه الجملةُ وما عُطِفَ عليها يجوزُ أنْ تكونَ مستأنفةً مُبَيِّنَةً لقوله: {مَالِكَ الملك} ويجوزُ أن تكونَ حالاً من المنادى، وفي انتصابِ الحالِ عن المنادى خلافٌ، الصحيحُ جوازُه، لأنه مفعولٌ به، والحالُ كما تكونُ لبيانِ هيئةِ الفاعل تكونُ لبيان هيئةِ المفعولِ، ولذلك أَعْرب الحُذَّاقُ قولَ النابغةَ: 1219 - يا دارمَيَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ ... أَقْوَت وطالَ عليها سالِفُ الأبدِ إن «بالعلياء» حالٌ من «دارمَيَّة» ، وكذلك «أَقْوت» . والثالث من وجوه «تُؤتي» أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر أي: أنت تُؤتي، فتكونُ الجلمةُ اسميةً، وحينئذ يجوز أن تكونَ مستأنفة وأن تكون حالية. وقوله: {تَشَآءُ} أي: تشاء إيتاءه، وتشاء انتزاعه، فحذف المفعول بعد المشيئة للعلم به/

قوله: {بِيَدِكَ الخير} [قيل: في الكلام حذفُ معطوف تقديره: والشر، فحذف كقوله] : {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبردَ، وكقوله: 1220 - كأنَّ الحَصَا مِنْ خلفِها وأمامِها ... إذا نَجَلْتهُ رِجْلُها خَذْفَ أَعْسَرا أي: ويدُها. وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف قال:» بيدِك الخيرُ «فذكرَ الخيرَ دونَ الشر؟ قلت: لأن الكلامِ إنما وقع في الخير الذي يسوقه الله إلى المؤمنين، وهو الذي أنكرَتْه الكفرةُ، فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءَك على رغمٍ مِنْ أعدائك» انتهى. وهذا جوابٌ حسنٌ جداً، ثم ذكر هو كلاماً آخرَ يُوافق مذهبَه لا حاجةَ لنا به، وقيل: هذا من آداب القرآن حيث لم يصرِّحْ إلا بما هو محبوبٌ لخَلْقِه، ونحوٌ منه قولُه: «والشرُّ ليس إليك» وقولُه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . والنَّزْعُ: الجَذْبُ، يقال: نَزَعَهُ يَنْزِعُه نَزْعاً إذا جَذَبَه عنه، ويُعَبَّر به عن المَيْلِ، ومنه: «نَزَعَتْ نفسُه إلى كذا» كأنَّ جاذباً جَذَبَها، ويُعَبَّر به عن الإِزالَةِ، «نَزَعَ الله عنك الشَّر» أي: أَزاله، {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] أي: أَزاله، وكهذه الآيةِ فإنَّ المعنى: ويُزِيلُ المُلْكَ.

27

قوله تعالى: {تُولِجُ} : كقولِهِ: «تُؤْتِي» وقد تقدَّم ما فيه، ويقال: وَلَجَ يَلِجُ وُلوجاً ولِجَةً كَعِدَةً ووَلْجاً كَوَعْدٍ، واتَّلَجَ يَتَّلِجُ اتِّلاجاً، والأصل:

اوْتَلَجَ يَوْتَلِجُ اوْتِلاَجاً، فَقُلِبَتْ الواوُ تاءً قبلَ تاءِ الافتعالِ نحو: اتَّعَدَ يَتَّعِدُ اتِّعاداً قال الشاعر: 1221 - فإنَّ القوافِي تَتَّلِجْنَ مَوالِجاً ... تضايَقُ عنها أَنْ تَوَلَّجَها الإِبَرْ والوُلوجُ: الدخولُ، والإِيلاجُ: الإِدْخال، ومعنى الآية على ذلك. وقول مَنْ قال معناه: النقص فإنما أراد أنه من باب اللازم، لأنه تبارك وتعالى إذا أَدْخَلَ مِنْ هذا في هذا فقد نَقَصَ من المأخوذِ منه المُدْخَلُ في ذلك الآخرِ، وزعم بعضُهم أن «تُولِج» بمعنى ترفع، وأن «في» بمعنى «على» وليس بشيء. قوله: {مِنَ الميت} اختلف القُرَّاء في هذه اللفظة على مراتب: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكرٍ عن عاصم لفظ «المَيْت» من غير تاء تأنيث مخففاً في جميع القرآن، وسواءً وُصِفَ به الحيوانُ نحو: {تُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} أو الجمادُ نحو قوله تعالى: {إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} [فاطر: 9] {لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} [الأعراف: 57] منكَّراً أو معرَّفاً كما تقدَّم ذكره إلا قولَه تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، وقولَه: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [الآية: 17] في إبراهيم، مما لم يَمُتْ بعدُ فإن الكلَّ ثَقَّلوه، وكذلك لفظُ «الميتة» في قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة} [يس: 33] دونَ الميتةِ المذكورةِ مع الدمِ فإنَّ تَيْكَ لم يشددها إلا بعضُ قُرَّاء الشواد، وقد تقدَّم ذكرُها في

البقرة، وكذلك قولُهُ: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} [الأنعام: 139] و {بَلْدَةً مَّيْتاً} [الزخرف: 11] و {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] فإنها مخففات عند الجميع. وثَقَّل نافع جميعَ ذلك، والأخوان وحفص عن عاصم وافقوا ابن كثير ومَنْ معه في الأنعام في قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الآية: 122] وفي الحجرات: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الآية: 12] ، و {الأرض الميتة} في يس، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، فجَمعوا بين اللغتين إيذاناً بأن كُلاًّ من القراءتين صحيحٌ، وهما بمعنًى، لأنَّ فَيْعِل يجوزُ تخفيفُه في المعتل بحذف إحدى يائيه فيقال: هَيْن وهيِّن ولَيْن وليِّن ومَيْت ومَيِّت، ومنه قولُ الشاعر فَجَمَعَ بين اللغتين: 1222 - ليسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بميْتٍ ... إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ إنما المَيْتُ مَنْ يعيشُ كئيباً ... كاسِفاً بالُهُ قليلُ الرَّجاءِ وزعم بعضهم أن «مَيْتاً» بالتخفيف لمَنْ وقع به الموت، وأنَّ المشدَّد يُستعمل فيمَنْ ماتَ ومَنْ لم يَمُتْ كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] وهذا مردودٌ بما تقدَّم من قراءةِ الأخَوين وحفص، حيث خَفَّفوا في موضعٍ لا يمكِنُ أن يرادَ به الموتُ وهو قولُهُ: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً} [الأنعام: 122] إذا المرادُ به الكفرُ مجازاً.

هذا بالنسبة إلى القُرَّاء، وإن شئت ضَبَطْتَه باعتبار لفظ «الميت» فقلت: هذا اللفظُ بالنسبة إلى قراءة السبعة ثلاثةُ أقسام: قسمٌ لا خلاف في تثقيله وهو ما لم يَمُتْ نحو {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} و {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} ، وقسمٌ لا خلافَ في تخفيفه وهو ما تقدم في قوله: {الميتة والدم} و {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} وقوله: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} وقوله {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} وقسمٌ فيه الخلافُ وهو ما عدا ذلك وقد تقدَّم تفصيلُهُ. وقد تقدَّم أيضاً أن أصلَ ميِّت: مَيْوِت فأدغم، وأن في وزنِهِ خلافاً: هل وزنه فَيْعِل وهو مذهب البصريين أو فَعِيل وهو مذهب الكوفيين، وأصله: مَوِيت، قالوا: لأنَّ فَيْعِلاً مفقودٌ في الصحيح فالمعتلُّ أَوْلى ألاَّ يوجَد فيه. وأجاب البصريون عن قولهم بأنه لا نظير له في الصحيح بأنَّ قَضاة في جمع «قاض» لا نظير له في الصحيح. وتفسيرُ هذا الجواب أنَّا لا نُسَلِّم أنَّ المعتل يلزم أن يكون له نظيرٌ من الصحيح، ويدل على عدمِ التلازم: «قُضاة» جمع قاضٍ، وفي «قضاة» خلافٌ طويل ليس هذا موضعَ ذكره. واعتراض البصريون عليهم بأنه لو كان وزنه فَعِيلاً لوجَبَ أن يَصِحَّ كما صَحَّتْ نظائره من ذواتِ الواو نحو: طَوِيل وعَوِيل وقَوِيم، فحيثُ اعتلَّ بالقلبِ والإِدغامِ، امتنَعَ أَنْ يُدَّعى أنَّ أصلَه فَعِيل لمخالَفَةِ نظائره. وهو ردٌّ حسنٌ. قوله: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل أي: ترزقه وأنت لم تحاسِبْه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول أي: غيرَ مُضَيِّقٍ عليه/. وقد تقدَّمَ الكلامُ على مثل هذا مشبعاً في البقرة عند قوله تعالى: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212] فَأَغْنَى عن إعادته. واشتملت هذه الآيةُ على أنواعٍ من البديع، منها: التجنيس المماثل في

قوله: «مالكَ المُلْك» تُؤتي المُلَكْ، وتَنْزِعُ الملك «ومنها: الطباقُ وهو الجمعُ بن متضادَّيْن أو شِبْهِهِمَا، وذلك في قوله:» تُؤْتي الملك وتَنْزِع «وفي» تُعِزُّ وتُذِلٌّ «، وفي قوله:» بيدك الخيرُ «أي: والشرُّ عند بعضهم، وفي قوله:» الليل والنهار «وفي قوله:» الحي والميت «. ومنها ردُّ الأعجازِ على الصدور، والصدور على الأعجاز في قوله: {وَتُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} وفي قولِهِ: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} ونحوُهُ: عاداتُ الساداتِ ساداتُ العاداتِ» . وتضمَّنَتِ من المعاني التوكيدَ: بإيقاعِ الظاهِرِ موقعَ المضمر في قوله: «تؤتى الملك إلخ» وفي تجوُّزِهِ بإيقاعِ الحرفِ مَكانَ ما هو بمعناه، والحذفُ لفهمِ المعنى.

28

قولُهُ تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون} : العامَّة على قراءتِهِ نهياً، وقرأ الضبي: «لا يتَّخِذُ» برفع الدال نفياً بمعنى لا ينبغي، أو هو خبر بمعنى النهي نحو: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} [البقرة: 233] و {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ} [البقرة: 282] فيمن رفع الراء. قال أبو البقاء وغيرُه: «وأجاز الكسائي رفعَ الراء على الخبر، والمعنى: لا ينبغي» وهذا موافِقٌ لِما قاله الفراء، فإنه قال: «ولو رُفع على الخبرِ كقراءةِ مَنْ قرأ:» لا تضارُّ والدة «جاز» . قال أبو إسحاق: «ويكون المعنى على الرفعِ أنه مَنْ كان مؤمناً فلا ينبغي أن يَتَّخِذَ الكافرُ ولياً» كأنهما لم يَطَّلِعا على قراءةِ الضبّي، أو لم تَثْبُتْ عندهما. و «يَتَّخِذُ» يجوز أن تكونَ المتعديةَ لواحد فيكونُ «أولياء» حالاً، وأن تكونَ المتعدية لاثنين، و «أولياء» هو الثاني.

قوله: {مِن دُونِ المؤمنين} فيه وجهان، أظهرهُما: أنَّ «مِنْ» لابتداء الغاية، وهي متعلقةٌ بفعلِ الاِّتخاذ. قال علي بن عيسى: «أي: لا تَجْعَلُوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دونَ مكانِ المؤمنين» وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله} [البقرة: 23] في البقرة. والثاني أجازه أبو البقاء أن يكونَ في موضِعِ نصبٍ صفةً لأولياء، فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ. قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أدغم الكسائي في رواية الليث عنه اللام في الذال هنا، وفي مواضعَ أُخَرَ تقدَّم التنبيه عليها وعلى علتِها في سورةِ البقرة. قوله: {مِنَ الله} الظاهِرُ أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحال من «شيء» لأنه لو تأخَّر لكانَ صفةً له. و «في شيء» هو خبرُ ليس، لأن به تستقبلُّ فائدةُ الإِسناد، والتقدير: فليس في شيء كائنٍ من الله، ولا بد من حذف مضاف أي: فليس من ولاية الله، وقيل: مِنْ دِينِ الله. ونَظَّر بعضُهم الآية الكريمة ببيت النابغة: 1223 - إذا حاوَلْتَ في أسدٍ فُجُوراً ... فإنِّي لَسْتُ منك ولَسْتَ مِنِّي قال الشيخ: «والتنظير ليس بجيدٍ، لأنَّ» منك «و» مني «خبر» ليس «، تستقل به الفائدة، وفي الآية: الخبرُ قولُه» في شيء «فليس البيت كالآية» . وقد نحا ابنُ عطيةَ هذا المَنْحَى الذي ذكرته عن بعضهم فقال: «

فليس من الله في شيء مَرْضِيٍّ على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» مَنْ غَشَّنا فليس منا «وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديرُهُ: فليس من التقرُّب إلى الله والثوابِ ونحو هذا، وقولُه:» في شيء «هو في موضِعِ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ الذي في قولِهِ:» ليس مِنَ الله «. قال الشيخ: «وهو كلامٌ مضطربٌ، لأنَّ تقديرَه: فليس من التقرب إلى الله يقتضي ألاَّ يكونَ» من الله «خبراً لليس، إذ لا يستقلُّ، وقوله:» في شيء «هو في موضعِ نصبٍ على الحال يقتضي ألاَّ يكونَ خبراً، فتبقى» ليس «على قوله ليس لها خبرٌ، وذلك لا يجوز، وتشبيهُهُ الآية الكريمة بقوله عليه السلام:» مَنْ غَشَّنَا فليس منا «ليس بجيدٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا من الفرق بين بيت النابغة وبين الآية الكريمة» . قلت: قد يُجاب عن قوله: «إنَّ» من الله «لا يكونُ خبراً لعدم الاستقلال» بأنَّ في الكلامِ حَذْفَ مضافٍ، تقديرُه: فليسَ من أولياء الله، أو ليس، لأنَّ اتخاذَ الكفارَ أولياءَ ينافي ولايةَ الله تعالى، وكذا قولُ ابن عطية: فليس من التقرب أي: من أهل التقرب، وحينئذ يكون التنظيرُ بين الآية والحديثِ وبيتِ النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما ذَكَر، ونظير تقدير المضاف هنا قوله تعالى: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] أي: ما أشياعي وأتباعي، وكذا قولُه تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] ، وقول العرب: «أنت مني

فرسخين» أي: من أشياعي، ما سِرْنا فرسخين. ويجوز أن يكون «من الله» هو خبرَ ليس، و «في شيء» يكون حالاً من الضمير في «ليس» كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً، وغيرُه إيماءً، وقد تقدَّم اعتراضُ الشيخ عليهما وجوابُه. قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ} هذا استثناءٌ مفرغٌ من المفعول [من أجله، والعامل فيه: لا يَتَّخِذُ أي] : لا يَتَّخِذُ المؤمنُ الكافر وليّاً لشيءٍ من الأشياء إلا للتَقِيَّة ظاهراً، أي يكونُ مُواليَه في الظاهر ومعادِيَه في الباطن، وعلى هذا فقولُه: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} وجوابُهُ معترضٌ بين العلة ومعلولِها. وفي قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ} التفاتٌ من غيبة إلى خطاب، ولو جرى على سَنَنِ الكلام الأولِ لجاء بالكلامِ غيبة، وأَبْدَوا للالتفاتِ هنا معنًى حسناً: وذلك أن موالاة الكفار لَمَّا كانت مستقبحةً لم يواجِه اللهُ عبادَه بخطابِ النهي، بل جاء به في كلام أُسْنِدَ الفعل المنهيُّ عنه لغيب، ولَمَّا كانَتِ المجامَلَةُ في الظاهر والمحاسنةُ جائزةً لعذرٍ وهو اتِّقاءُ شرِّهم حَسُنَ الإِقبالُ إليهم وخطابُهم بِرَفْع الحرج عنهم في ذلك. قوله: {تُقَاةً} في نصبِها ثلاثة أوجه وذلك مبنيٌّ على تفسير «تقاة» ما هي؟ أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدر والتقدير: تَتَّقوا منهم اتقاء، فتقاة واقعة موقع الاتقاء، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها، والأصل: أن تتقوا اتقاءً، نحو: تقتدروا اقتداراً، ولكنهم أَتَوْا بالمصدر على حذف الزوائد كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] والأصلُ إنبات ومثله: 1224 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وبعدَ عطائِك المئةَ الرَّتاعا

أي: إعطائك، ومن ذلك أيضاً قوله: 1225 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وليس بأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّباعا قول الآخر: 1226 - ولاحَ بجانب الجبلين منه ... رُكامٌ يَحْفِرُ الأرضَ احتفارا وهكذا عكس الآية، إذا جاء بالمصدر مزاداً فيه، والفعل الناصب له مجرَّد من تلك الزوائد. ومن مجيء المصدرِ على غيرِ المصدر قولُه تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] ، والأصل تََبَتُّلاً، ومثله: 1227 - وقد تَطَوَّيْتُ انطواءَ الحِضْبِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والأصلُ: تَطَوِّياً، وأصلُ تُقاة: «وُقَيَة» مصدرٌ على فُعَل من الوقاية، وقد تقدَّم تفسير هذه المادة في أول هذا الموضوع، ثم أُبْدلت الواوُ تاءً، ومثلُها تُخَمة وتُكَاة وتُجاه، وتَحَرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً، فصارَ اللفظُ «تُقاة» ، كما ترى، ووزنُها فُعَلة، ومجيءُ المصدرِ على فُعَل وفُعَلة قليل نحو: التُّخَمة والتُّهَمة والتُّؤَدة والتكَأَة، وانضمَّ إلى ذلك كونُها جاءت على غيرِ الصدر، والكثيرُ مجيءُ المصدرِ جاريةً على أفعالها قيل: وحَسَّن مجيءَ هذا

المصدرِ ثلاثياً كونُ «فُعَلة» قد حُذِفت زوائدُه في كثيرٍ من كلامهم نحو: تَقَى يَتْقِي ومنه: 1228 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تتلو وقد قَدَّمُتْ تحقيق ذلك في أول البقرة. الثاني: أنها منصوبةٌ على المفعولِ به، وذلك أن يكونَ «تَتَّقوا» بمعنى تخافوا، ويكون «تقاة» مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال: «إلا أَنْ تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه، وقُرىء» تَقِيَّة «، وقيل للمتقى: تُقاة وتَقِيَّة كقولهم» ضَرْب الأمير «لمضروبه» . انتهى فصار تقديرُ الكلام: إلا أن تخافوا منهم أمراً مُتَّقَىً. الثالث: أنها منصوبةٌ على الحال وصاحبُ الحال فاعل «تتقوا» وعلى هذا تكونُ حالاً مؤكدة، لأنَّ معناه مفهوم من عاملها كقوله: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] ، وهو على هذا جمعُ «فاعِل» وإن لم يُلْفظ بفاعل من هذه المادة فيكون فاعلاً وفُعَلَة نحو: رام ورُماة وغاز وغُزاة، لأنَّ فعلَه يَطَّرد جمعاً لفاعِل الوصفِ المعتلِّ اللامِ، وقيل: بل فُعَلَة جمعٌ لفعيل، أجازَ ذلك كلَّه أبو علي الفارسي. قلت: جمعُ فَعِيل على فُعَلة لا يجوزُ، فإن فَعِيلاً الوصفَ المعتلَّ اللامِ يُجْمع على أَفْعِلاء نحو: غَنِيّ وأغنياء، وتقيّ وأتقياء، وصَفِيّ وأَصْفِياء، فإن قيل: قد جاء فَعِيل الوصفُ مجموعاً على فُعَلة قالوا: كَمِيّ وكُمَاة، فالجواب: أنه من الندور بحيث لا يُقاس عليه.

وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو رجاء وقتادة وأبو حيوة ويعقوب وسهل وعاصم في رواية المفضل عنه: «تَتَّقوا منهم تَقِيَّة» بوزن «مَطِيًّة» وهي مصدرٌ أيضاً بمعنى «تُقَاة» ، يقال: اتّقى يتَّقي اتقاءً وتَقْوَى وتُقاة وتَقِيَّة وتُقَىً، فيجىء مصدر افْتَعل من هذه المادة على الافتعال وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزان، ويقال أيضاً: تَقَيْتُ أَتْقي ثلاثياً تَقِيَّة وتَقْوى وتُقاة وتُقَىً، والياء في جميعِ هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق. وأمال الأخوان «تُقاة» هنا، لأنَّ ألفَها منقلبة عن ياء كما تقدم تقريره، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في مَنْع الإِمالة لأنَّ السبب غير ظاهر، ألا ترى أن سببَ الإِمالة الياءُ المقدرة بخلافِ «غالب» و «طالب» و «قادم» فإنَّ حرف الاستعلاء عنا مؤثِّرٌ لكونِ سبب الإِمالة ظاهراً وهو الكسرة، وعلى هذا يقال: كيف يُوَثِّرُ مع السببِ الظاهر ولم يؤثِّرْ مع المقدر وكان العكسُ أَوْلى؟ والجوابُ أنَّ الكسرةَ سببٌ منفصل عن الحرف الممال ليس موجوداً فيه بخلاف الألف المنقلبة عن باءٍ فإنها نفسَها مقتضيةٌ للإِمالة، فلذلك لم يُقاومها حرفُ الاستعلاء. وأمال الكسائي وحده {حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ، فخرج حمزة عن أصله، وكان الفرق أَنَّ «تُقاة» هذه رُسِمت بالياء فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه، ولذلك قرأ بعضهم «تَقِيَّة» بوزن مطيَّة كما تقدم/ لظاهر الرسم، بخلافِ «حَقَّ تقاته» ، وإنما أمعنتُ في سبب الإِمالة هنا لأنَّ بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذ لأجل حرفِ الاستعلاء، وأنَّ سيبويه حكى عن قوم أنهم يُميلون شيئاً

لا يجوز إمالتُه نحو: «رأيت عِرْقَى» بالإِمالة، وليس هذا من ذاك لِما تقدَّم لك من أن سبب الإِمالة في «عِرْقى» كسرةٌ ظاهرة. وقوله: {مِنْهُمْ} متعلِّقٌ ب «تتقوا» ، أو بمحذوف على أنه حال من «تقاة» لأنه في الأصل يجوزُ أن يكونَ صفةً لها، فلما قُدِّم نُصِب حالاً. هذا إذا لم تجعل «تُقاة» حالاً، فأمّا إذا جَعَلْناها حالاً تعيَّن أن يتعلق «منهم» بالفعل قبله، ولا يجوز أن يكون حالاً من «تقاة» لفساد المعنى لأنَّ المخاطبين ليسُوا من الكافرين. قوله: {نَفْسَهُ} مفعولٌ ثان لحَذَّر؛ لأنه في الأصل متعدٍّ بنفسه لواحد فازدادَ بالتضعيفَ آخرَ، وقدَّر بعضُهم حَذْفَ مضافٍ أي: عقاب نفسه. وصَرَّح بعضُهم بعدم الاحتياج إليه، كذا نقله أبو البقاء عن بعضهم، وليس بشيء، إذ لا بدَّ من تقديرِ هذا المضافِ لصحة المعنى، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه في نحو قولك: «حَذَّرتك نفس زيد» أنه لا بد من شيء تُحَذِّر منه كالعقاب والسَّطْوة، لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّر الحذرُ منها نفسها، إنما يُتَصَوَّر من أفعالِها وما يَصْدُر عنها. وعَبَّر هنا بالنفسِ عن الذات جرياً على عادة العرب، كما قال الأعشى: 1229 - يَوْماً بأجودَ نائلاً منه إذا ... نفسُ الجَبانِ تَجَهَّمَتْ سُؤَّالها وقال بعضهم: الهاء في «نفسه» تعود على المصدر المفهوم من قوله: {لاَّ يَتَّخِذِ} أي: ويحذِّرُكم الله نفسَ الاتخاذ، والنفسُ عبارة عن وجود الشيء وذاته.

29

قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ} مستأنف، وليس منسوقاً على جواب الشرط، وذلك أنَّ عِلْمَه بما في السماوات وما في الأرض غيرُ متوقفٍ

على شرط فلذلك جِيء به مستأنفاً، وفي قوله {وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} من باب ذِكْرِ العام بعد الخاص وهو {مَا فِي صُدُورِكُمْ} . وقَدَّم هنا الإِخفاء على الإِبداء وجَعَلَ محلَّهما الصدورَ وجعل جواب الشرطِ العلمَ بخلافِ ما في البقرة، فإنه قَدَّم فيها الإِبداءَ على الإِخفاء، وجَعَل محملهما النفسَ، وجَعَل جوابَ الشرط المحاسبةً، وكلُّ ذلك تفنُّنٌ في البلاغة وتنوع في الفصاحة.

30

قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ} : في ناصِبة أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوب بقدير، أي قديرٌ في ذلك اليوم العظيم، لا يقال: يَلْزَمُ من ذلك تقييدُ قدرتِه بزمانٍ، لأنَّه إذا قَدَر في ذلك اليومِ الذي يَسْلُب كلَّ أحد قدرته فلأَنْ يَقْدِرَ في غيرِه بطريقٍ أولى وأَحْرى، وإلى هذا ذهب أبو بكر ابن الأنباري. الثاني: أنه منصوبٌ بيُحَذِّركم أي: يُخَوِّفكم عقابَه في ذلك اليوم، وإلى [هذا] نحا أبو إسحاق، ورجَّحه. ولا يجوز أن ينتصبَ بيحذِّركم المتأخرةِ. قال ابن الأنباري: «لأنه لا يجوزُ أن يكونَ» اليوم منصوباً بيحذِّركم المذكورِ في هذه الآية، لأنَّ واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبِه معترضاً، وهو كلامٌ طويل، والفصلُ بمثله مستبعدٌ، هذا من جهة الصناعة، وأما من جهة المعنى فلا يَصِحُّ، لأن التخويف موجودٌ، واليومَ موعودٌ فكيف يتلاقيان «. الثالث: أن يكونَ بالمصير، وإليه نحا الزجاج أيضاً وابن الأنباري

ومكي وغيرُهم، وهذا ضعيفٌ على قواعد البصريين، للزومِ الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بكلامٍ طويل، وقد يقال: إنَّ جُمَل الاعتراض لا نبالي بها فاصلةً، وهذا من ذاك. الرابع: أن ينتصبَ ب» اذكر «مقدراً مفعولاً به لا ظرفاً. وقَدَّر الطبري الناصبَ له» اتقوا «، وفي التقدير ما فيه من كونِه على خلافِ الأصل مع الاستغناء عنه. الخامس: أنَّ العامل فيه ذلك المضافُ المقدَّر قبل» نفسَه «أي: يحذركم الله عقابَ نفسِه يومَ تجد، فالعاملُ فيه» عقاب «لا» يحذركم «، قاله أبو البقاء. وفي قوله {لا يحذِّركم} فرارٌ مِمَّا أَوْردته على أبي إسحاق كما تقدّم تحقيقه. السادس: أنه منصوبٌ بتودُّ، قال الزمخشري:» يومَ تجد منصوب بتود، والضمير في «بينه» لليوم، أي: يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرَها وشرَّها [حاضرين] ، تتمنَّى لو أنَّ بينها وبين ذلك اليوم وَهوْلِهِ أمداً بعيداً «. وهذا الذي ذكره الزمخشري وجهٌ ظاهرٌ لا خفاء بحسنه، ولكنْ في هذه المسألة خلافٌ ضعيف: جمهور البصريين والكوفيين على جوازها، وذهب الأخفش والفراء إلى مَنْعها، وضابطُ هذه المسألة: أنه إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء متصلٍ بمعمول الفعل نحو: ثوبي أخويك يلبَسان» فالفاعلُ هو الألف، وهو ضمير عائد على «أخويك» المتصلين بمفعول يلبسان، ومثله: «غلامَ هند ضربَتْ» ففاعل «ضربَتْ» ضمير عائدٌ على «هند» المتصلةِ بغلام المنصوب بضرَبتْ، والآيةُ من هذا القبيل: فإن فاعل «تودُّ» ضميرٌ عائد على «

نفس» المتصلةِ بيوم لأنها في جملة، أُضيف الظرفُ إلى تلك الجملة، والظرفُ منصوبٌ بتودُّ، والتقدير: يوم وجدانِ كلِّ نفسٍ خيرَها وشَرَّها مُحْضَرين تَوَدُّ كذا. احتج الجمهور على الجواز بالسماع وهو قول الشاعر: 1230 - أَجَلُ المرءِ يستحِثُّ ولا يَدْ ... ري إذا يبتغي حصولَ الأماني ففاعل «يستحثُّ» ضمير عائد على «المرء» المتصل ب «أجَل» المنصوب ب «يستحثُّ» واحتج المانعون بأنَّ المعمول فَضْلة يجوز الاستغناء عنه، وعودُ الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزومَ ذِكْره فيتنافى هذان السببان، ولذلك أُجْمع على منع: «زيداً ضرب» و «زيداً ظَنَّ قائماً» أي: ضرب نفسه وظنها، وهو دليل واضح للمانع لولا ما يردُّه من السماع كما أنشدتك البيت آنفاً. وفي الفرق بين «غلام زيدٍ ضَرَبَ» وبين «زيداً ضرب» حيث جاز الأول وامتنع الثاني بمقتضى العلةِ المذكورة غموضٌ وعُسْرٌ ليس هذا محلَّ ذِكْرِه. قوله: {تَجِدُ} يجوزُ أَنْ تكون المتعديةَ لواحد بمعنى تصيب، ويكون «مُحْضراً» على هذا منصوباً على الحال، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن تكونَ عِلْميةً، فتتعدَّى لاثنين أولهما «ما عَمِلَتْ» والثاني: «مُحْضَراً» وليس بالقويِّ في المعنى. و «ما» يجوز فيها وجهان، أظهرُهما: أنها بمعنى الذي، فالعائدُ على هذا مقدَّرٌ أي: ما عملته، فَحُذِف لاستكمال الشروط، و «من خير» حالٌ: إمّا من الموصول وإمَّا من عائده، ويجوز أن تكون «من» لبيان الجنس. ويجوزُ أن تكونَ «ما» مصدريةً، ويكونُ المصدر حينئذ واقعاً موقعَ المفعول تقديرُه: يوم تجد كلُّ نفس عَمَلها أي: معمولها، فلا عائد حينئذ عند الجمهور.

قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ} : يجوزُ في «ما» هذه أن تكونَ منسوقةً على «ما» التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها أي: وتَجِدُ الذي عملته أو: وتجدُ عملَها أي: معمولَها من سوء، فإنْ جَعَلْنا «تجد» متعدية لاثنين فالثاني محذوفٌ، أي: وتجد الذي عملته من سوء محضراً، أو تجد عملها محضراً نحو: «علمت زيداً ذاهباً وبكراً» أي: وبكراً ذاهباً، فَحَذَفْتَ مفعوله الثاني للدلالة عليه بذكره مع الأول، وإنْ جعلناها متعديةً لواحدٍ فالحالُ من الموصول أيضاً محذوفةٌ أي: تجدُه مُحْضراً؛ أي: في هذه الحال، وهذا نظيرُ قولِك: «أكرمْتُ زيداً ضاحكاً وعمراً» أي: وعمراً ضاحكاً، حَذَفْتَ حالَ الثاني لدلالةِ حالِ الأول عليه، وعلى هذا فيكون في الجملةِ من قوله «تودُّ» وجهان، أحدهما: أن تكونَ في محل نصب على الحال من فاعل «عَمِلَتْ» أي: وما عَمِلَتْه حالَ كونها وادَّةً أي: متمنية البُعْدَ من السوء. الثاني: أن تكونَ مستأنفة، أَخْبر الله عنها بذلك، ويجوز أن تكونَ «ما» مرفوعةً بالابتداء، والخبرُ الجملةُ من قوله: «تود» أي: والذي عملته أو وعملُها تودُّ لو أن بينها وبينه أَمَداً بعيداً. والضمير في «بينه» فيه وجهان، أحدُهما وهو الظاهر عَوْدُه على «ما عَمِلَتْ» ، وأعادَه الزمخشري على «اليوم» قال الشيخ: «وأَبْعَدَ الزمخشري في عودِه على» اليوم «لأنَّ أحدَ القِسْمين اللذين أُحْضِروا في ذلك له هو الخيرُ الذي عمله، ولا يُطلب تباعُدُ وقتِ إحضارِ الخير إلا بتجوُّز، إذ كان يشتمل على إحضار الخير والشر فتودُّ تباعدَه لتسلم من الشر، ودَعْه لا يحصُل له الخيرُ، والأَوْلى عَوْدُه إلى ما عملت من السوء لأنه أقرب مذكور. ولأن المعنى: أن السوء يُتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدُ منه» .

فإن قيل: هل يجوز أن تكونَ «ما» هذه شرطيةً؟ فالجواب أن الزمخشري وابن عطية منعا من ذلك، وجَعَلا علة المنع عدم [جزم] الفعل الواقع جواباً وهو «تودُّ» ، وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّ الناس نَصُّوا علىأنه إذا وقع فعلُ الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان: الجزمُ والرفع، وقد سُمعا من لسان العرب، ومنه بيت زهير: 1231 - وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ لا غائِبٌ مالي ولا حَرِمُ ومن الجزم قولُه تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ} [هود: 15] ، {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] فدَّل ذلك على أن المانعَ من شرطيتها ليس هو رفع «تود» ، وأجاب الشيخ بانها ليست شرطيةً لا لما ذكره الزمخشري وابن عطية بل لعلةٍ أخرى. ولنذكر هنا ما ذكره قال: «كنت سُئِلْتُ عن قول الزمخشري» فذكره ثم قال: «ولنذكر ههنا ما تمسُّ إليه الحاجةُ بعد أن نُقَدِّم ما ينبغي تقديمُه في هذه المسألة فنقول: إذا كان فعلُ الشرط ماضياً وبعده مضارعٌ تَتِمُّ به جملة الشرط والجزاء جازَ في ذلك المضارعِ الجزمُ وجاز فيه الرفعُ، مثال ذلك:» إن قام زيد يقمْ ويقومُ وعمرو «فأما الجزم فعلى جواب الشرط، ولا نعلم في ذلك خلافاً وأنه فصيحٌ إلا ما ذكره صاحب كتاب» الإِعراب «عن بعض النحويين

أنه لا يجيء في الكلامِ الفصيح، وإنما يجيء مع» كان «كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ} لأنها أصل الأفعالِ ولا يجوز ذلك مع غيرها، وظاهر كلام سيبويه وكلامِ الجماعة أنه لا يختصُّ ذلك ب» كان «بل سائرُ الأفعال في ذلك مثلُ» كان «، وأنشد سيبويه للفرزدق: 1232 - دَسَّتْ رسولاً بأنَّ القوم إنْ قَدَروا ... عليك يَشْفُوا صدرواً ذاتَ توْغيرِ وقال أيضاً: 1233 - تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتني لا تخونُني ... نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان وأما الرفع فإنه مسموعٌ من لسان العرب كثيراً، وقال بعضُ أصحابنا: هو أحسنُ من الجزم، ومنه بيتُ زهير السابق إنشادُه، ومثله أيضاً قولُه: 1234 - وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجميعِ مخافةً ... نَقُولُ جِهارا وَيْلَكم لا تُنَفِّروا وقولُ أبي صخر: 1235 - ولا بالذي إنْ بان عنه حبيبُه ... يقولُ ويُخْفي الصبرَ إني لجازعُ وقال آخر: 1236 - وإن بَعُدُوا لا يأمَنُون اقترابَه ... تَشَوُّفَ أهلِ الغائبِ المُتَنَظَّرِ

وقال آخر: 1237 - فإنْ كان لا يُرضيك حتى تَردَّني ... إلى قطريٍّ لا إخالُك راضياً وقال آخر: 1238 - إنْ يَسْألوا الخيرَ يُعْطُوه وإنْ خَبِروا ... في الجَهْد أُدْرِكُ منهم طيبُ أَخْبارِ قلت: هكذا ساق هذا البيت في جملة الأبيات الدالةِ على رفع المضارع، ويدل على قصده ذلك أنه قال بعد إنشاده هذه الأبياتَ كلَّها: «فهذا الرفع كما رأيتُ كثيرٌ» انتهى، وهذا البيت ليس/ من ذلك في وِرْدٍ ولا صَدْر لأن [المضارع فيه مجزومٌ وهو «يُعْطُوه» وعلامة جزمِه سقوط النون فكان ينبغي] أن ينشده حين أنشد: «دَسَّت رسولاً» وقوله: «تَعالَ فإن عاهَدْتني» البيتين. ثم قال: «فهذا الرفعُ كثير كما رأيتَ، ونصوص الأئمة على جوازِهِ في الكلامِ وإن اختلفتْ تأويلاتُهم كما سنذكره، وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد ابن عبد النور بن رشيد المالَقي وهو مصنف كتاب» رصف المباني «رحمه الله:» لا أعلم منه شيئاً «جاء في الكلام، وإذا جاء فقياسُهُ الجَزْمُ، لأنه أصلُ العملِ

في المضارعِ، تقدَّم الماضي أو تأَخَّر» ، وتأوَّل هذا المسموعَ على إضمارِ الفاء وَجَعَلَهُ مثلَ قول الشاعر: 1239 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إنَّك إِنْ يُصْرَعْ أخوك تُصْرَعُ على مذهب مَنْ جعل أن الفاء منه محذوفةٌ. وأمَّا المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرفع: فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم وأن جواب الشرط ليس مذكوراً عنده. وذهب المبرد والكوفيون إلى أنه هو الجواب. وإنما حُذِفَتْ منه الفاء، والفاءُ ما بعدها كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] ، فأُعْطِيَتْ في الإِضمار حكمَها في الإِظهار. وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجواب بنفسه أيضاً كالقولِ قبله، إلا أنه ليس معه فاءٌ مقدّرة قالوا: لكنْ لمّا كان فعلُ الشرط ماضياً لا يظهر لأداة الشرط فيه عملٌ ظاهر استضعفوا أداةَ الشرط فلم يُعْملوها في الجواب لضعفها، فالمضارعُ المرفوعُ عند هذا القائلِ جوابٌ بنفسه من غير نيَّة تقديم ولا على إضمار الفاء، وإنما لم يُجْزَم لِما ذُكِرَ، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان. وتلخص من هذا الذي قلناه أنَّ رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً لكن امتنع أن يكونَ «وما عملت» شرطاً لعلة أخرى، لا لكون «تود»

مرفوعاً، وذلك على ما نقرره على مذهب سيبويه من أن النيةَ بالمرفوعِ التقديمُ، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجوابِ لا نفسَ الجواب فنقول: إذا كان «تود» منويّاً به التقديمُ أدَّى إلى تقدُّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية، ألا ترى أن الضمير في قوله «وبينه» عائدٌ على اسمِ الشرط الذي هو «ما» فيصيرُ التقدير: «تود كلُّ نفسٍِ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عَمِلت من سوء» فَلَزِمَ من هذا التقديرِ تقديمُ المضمر على الظاهر وذلك لا يجوز. فإن قلت: لِمَ لا يجوز ذلك والضميرُ قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت النيةُ به التقديمَ، فقد حَصَلَ عَوْدُ الضميرِ على الاسم الظاهرِ قبله، وذلك نظيرُ: «ضربَ زيداً غلامهُ» فالفاعلُ رتبته التقديم ووجب تأخُّره لصحةِ عَوْدِ الضمير؟ فالجواب أن اشتمالَ الدليل على ضميرِ اسم الشرط يوجب تأخيرَه عنه لعَوْدِ الضمير فيلزَمُ من ذلك اقتضاءُ جملة الشرط لجملة الدليل، وجملةُ الشرط إنما تقتضي جملةَ الجزاء لا دليلَه، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل، بل إنها تعمل في جملة الجزاء، وجملةُ الدليل لا موضعَ لها من الإِعراب، وإذا كان كذلك تدافعَ الأمرُ، لأنها من حيثُ هي جملةُ دليلٍ لا يقتضيها فعلُ الشرط، ومن حيث عَوْدُ الضميرِ على اسم الشرط اقتضاها فتدافَعا، وهذا بخلافِ «ضرب زيداً غلامهُ» فإنها جملةٌ واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً، فكلَّ واحدٍ منهما يقتضي صاحبَه، ولذلك جاز عند بعضِهم «ضرب غلامُها هنداً» لاشتراكِ الفاعل المضاف إلى الضميرِ والمفعولِ الذي عاد عليه الضمير في العامل، وامتنع «ضربَ غلامُها جارَ هِندٍ» لعدم الاشتراك في العامل، فهذا فرقُ ما بين المسألتين، ولا يُحْفظ من لسان العرب: «

أودُّ لو أَنْ أكرمَه أياً ضربَتْ هندٌ» لأنه يلزم منه تقديمُ المضمرِِ على مفسَّره في غير المواضِعِ التي ذكرها النحويون، فلذلك لا يجوز تأخيره. انتهى «. وقد جَوَّز أبو البقاء كونَها شرطيةً، ولم يَلْتَفِتْ لِما مَنعوا به ذلك فقال:» والثاني: أنها شرط، وارتفع «تودُّ» على إرادة الفاء. أي: فهي تودُّ، ويجوز أن يرتفعَ من غير تقديرِ حرف لأن الشرطَ هنا ماضٍ، وإذا لم يظهر في الشرطِ لفظُ الجزم جاز في الجزاء الوجهان: الجزمُ والرفع «. انتهى وقد تقدَّم تحقيق القول في ذلك، والظاهرُ موافقتُهُ للقول الثالث في تخريج الرفع في المضارع كما تقدَّم تحقيقه. وقرأ عبد الله وابنُ أبي عبلة» وَدَّت «بلفظ الماضي، وعلى هذه القراءةِ يجوزُ في» ما «وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطية، وفي محلِّها حينئذٍ احتمالان: الأولُ النصبُ بالفعلِ بعدها، والتقدير: أيَّ شيء عَمِلَتْ من سوء وَدَّتْ، فودَّتْ جوابُ الشرط. والاحتمالُ الثاني: الرفعُ على الابتداء، والعائدُ على المبتدأ محذوفٌ تقديرُهُ: وما عملته، وهذا جائزٌ في اسم الشرط خاصةً عند الفراء في فصيحِ الكلام، أعني حَذْفَ عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعلٍ نحو:» أيُّهم تَضْرِبْ أُكْرمه «برفع أيهم، وإذا كان المبتدأ غيرَ ذلك ضَعُفَ نحو:» زيدٌ ضربْتُ «. وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في موضعين من القرآن، أحدُهما قراءةُ مَنْ قرأ: {أَفَحُكْمُ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] . والثاني: {وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى} [الآية: 10] في الحديد، واختلافُ الناس في ذلك.

الوجه الثاني من وجهي «ما» أن تكون موصولةً بمعنى: الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ومَحَلُّها على هذا رفع بالابتِداء، و «وَدَّتْ» الخبرُ، واختاره الزمخشري فإنه قال: «لكنَّ الحملَ على الابتداءِ والخبرِ أوقعُ في المعنى لأنه حكايةُ الكائن في ذلك اليوم، وأَثْبَتُ لموافقةِ قراءة العامة» . انتهى. فإن قلت لِمَ لَمْ يمتنع أن تكونَ «ما» شرطيةً على هذه القراءة كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة؟ فالجوابُ أنَّ العلة إنْ كانت رفعَ الفعل وعَدَمَ جزمِهِ كما قال به الزمخشري وابن عطية فهي مفقودةٌ في هذه القراءة لأن الماضي مبنيٌّ اللفظ/ لا يظهر فيه لأداةِ الشرط عملٌ، وإن كانت العلةُ أنَّ النيةَ به التقديمُ فليزمُ عودُ الضميرِ على متأخرٍ لفظاً ورتبة، فهي أيضاً مفقودةٌ فيها؛ إذ لا داعي يدعو لذلك. و «لو» هنا على بابِها من كونِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره، وعلى هذا ففي الكلام حَذْفان، أَحدهما: حذفُ مفعولِ «يود» ، والثاني: حَذْفُ جواب «لو» ، والتقدير فيهما: تود تباعدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّتْ بذلك، أو لفرِحَتْ ونحوُهُ. والخلافُ في «لو» بعد فعل الوَدادة وما بمعناه أنها تكونَ مصدريةً كما تقدم تحريره في البقرة يَبْعُدُ مجيئُهُ هنا، لأنَّ بعدها حرفاً مصدرياً وهو أَنْ. قال الشيخ: «ولا يباشِر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] قلت: قوله» إلا قليلاً «يُشْعر بجوازه وهو لا يجوزُ البتة، فَأمَّا

ما أَوْرَدَهُ من الآية الكريمة فقد نصَّ النحاة على أن» ما «زائدةٌ. وقد تقدَّم الكلام في» أَنَّ «الواقعة بعد» لو «هذه: هل محلُّها الرفع على الابتداء والخبرُ محذوف كما ذهب إليه سبيويه، أو أنها في محل رفعٍ بالفاعلية بفعلٍ مقدر أي: لو ثَبَتَ أَنَّ بينها؟ وما قالَ الناس في ذلك. وقد زعم بعضُهم أَنَّ» لو «هنا مصدريةٌ، هي وما في حَيِّزها في موضع المفعول ل» تود «، أي: تود تباعُدَ ما بينها وبينه، وفيه ذلك الإِشكالُ، وهو دُخول حرف مصدري على مثله، ولكنَّ المعنى على تسلُّطِ الوَدادة على» لو «وما في حيِّزها لولا المانعُ الصناعي. والأَمَدُ: غايةُ الشيء ومنتهاه وجمعه آماد نحو: جَبَل وأَجْبال فَأُبْدِلَتْ الهمزة ألفاً لوقوعِها ساكنةً بعد همزة» أَفْعال «. وقال الراغب:» الأمدُ والأَبَدُ يتقاربان، لكنَّ الأَبَدَ عبارةٌ عن مدة الزمان التي ليس لها حَدٌّ محدودٌ، ولا يتقيَّد فلا يقال: أبدَ كذا، والأمدُ مدةٌ لها حَدٌّ مجهولٌ إذا أُطْلِقَ، وينحصِرُ إذا قيل: أمدَ كذا، كما يقال: زمانَ كذا، والفرق بين الأمد والزمان: أنَّ الأمدَ يُقال باعتبارِ الغاية، والزمانُ عام في المبدأ والغاية، ولذلك قال بعضُهم: المَدَى والأمد يتقاربان «.

31

قوله تعالى: {تُحِبُّونَ الله} : قرأ العامة: «تُحِبون» بضم حرف المضارعة مِنْ أَحَبَّ، وكذلك «يُحْبِبْكُم الله» . وقرأ أبو رجاء العطاردي: تَحُبُّون، يَحْببكم بفتح حرف المضارعة وهما لغتان: يقال حَبَّه يَحِبُّه

بضم الحاء وكسرها في المضارع، وأَحَبَّه يُحِبُّه، وقد تقدم القول في ذلك في البقرة. ونقل الزمخشري أنه قرىء «يَحِبَّكم» بفتح الباء والإِدغام وهو ظاهرٌ، لأنه متى سَكَّن المِثْلَيْنِ جزماً أو وقفاً جاز فيه لغتان: الفكُّ والإِدغام، وسيأتي تحقيق ذلك في المائدة. وقرأ الجمهور: «فاتِّبعوني» بتخفيف النون وهي للوقاية، وقرأ الزهري بتشديدها، وخُرِّجَت على أنه أَلْحَقَ الفعلَ نونَ التوكيد وأدغمها في نونِ الوقاية، وكان ينبغي له أن يَحْذِفَ واو الضمير لالتقاء الساكنين، إلا أنه شَبَّه ذلك بقوله: {أتحاجواني} [الأنعام: 80] وهو توجيهُ ضعيف، ولكنْ هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ. وقد طعن الزجاج على مَنْ روى عن ابي عمرو إدغامَ الراء من «يغفر» في لام «لكم» وقال: «هو خطأٌ وغلطٌ على أبي عمرو» وقد تقدَّم تحقيق ذلك وأنه لا خطأٌ ولا غلطٌ، بل هذه لغةٌ للعرب نقلَها الناس، وإن كان البصريون كما يقول الزجاج لا يُجيزون ذلك.

32

قوله تعالى: {فإِن تَوَلَّوْاْ} : هذا يَحْتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ مضارعاً والأصلُ: «تتولَّوا» فَحَذَفَ إحدى التاءين، وقد تقدم الكلامُ على ذلك، وعلى هذا فالكلامُ جارٍ على نسقٍ واحد وهو الخطاب. والثاني:

أن يكون فعلاً ماضياً مسنداً لضميرِ غيب، فيجوزُ أن يكونَ من باب الالتفات، ويكونُ المرادُ بالغيب المخاطَبين في المعنى، وهو نظيرُ قولِهِ تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] .

33

قوله: {وَنُوحاً} : «نوح» اسم أعجمي لا اشتقاق له عند محققي النحويين، وزعم بعضُهم أنه مشتق من النُّواح، وهذا كما تقدم لهم في آدم وإسحاق ويعقوب، وهو منصرفٌ وإن كان فيه علتان فرعيتان: العلمية والعجمة الشخصية لخفةِ بنائه بكونه ثلاثياً ساكنَ الوسط، وقد جَوَّزَ بعضهم منعَه قياساً على «هند» وبابِها لا سماعاً إذ لم يُسْمع إلا مصروفاً. وادَّعى الفراء أن في الكلام حذفَ مضاف تقديرُهُ: «إن الله اصطفى دين آدم» . قال التبريزي: «وهذا ليسَ بشيء، لأنه لو كان الأمر على ذلك لقيل:» ونوحٍ «إذ الأصل: دين آدمَ ودين نوحٍ، وهذه سَقْطَةٌ فاحشة من التبريزي، إذ لا يلزم أنه إذا حُذف المضافُ بقي المضاف إليه مجروراً حتى يَرُدَّ على الفراء بذلك، بل المشهورُ الذي لا تَعْرِفُ الفصحاء غيرَه إعرابُ المضاف إليه بإعرابِ المضاف حين حَذْفِه، ولا يجوز بقاؤُهُ على جَرِّه إلا في قليل من الكلام بشرطٍ ذُكِرَ في النحو، وسيأتي لك في الأنفال، وكان ينبغي على رأي التبريزي أن يكون قولُه تعالى: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] بجر» القرية «لأنَّ الكل هو وغيرُه يقولون: هذا على حَذْفٍ تقديرُه:» أهلَ القرية «.

و» عِمْران «اسم أعجمي/. وقيل: عربي مشتق من العَمْر، وعلى كلا القولين فهو ممنوعُ الصرف: إمَّا للعلَميَّة والعجمة الشخصية، وإمَّا للعلَمية وزيادة الألف والنون. قوله تعالى: {عَلَى العالمين} متعلقٌ باصطفى، فإن قيل: اصطفى يتعدَّى بمن نحو:» اصطفيتك مِنَ الناس «فالجواب أنه ضُمِّنَ معنى» فَضَّل «أي: فَضَّلهم بالاصطفاء.

34

قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً} : في نصبها وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على البدل مِمَّا قبلها، وفي المبدلِ منه على هذا ثلاثة أوجه، أحدها: أنها بدل من «آدم» ومَنْ عُطِفَ عليه، وهذا إنما يتأتى على قولِ مَنْ يطلق «الذرية» على الآباء وعلى الأبناء، وإليه ذهب جماعة. قال الجرجاني: «الآية تُوجِبُ أن يكونَ الآباء ذريةً للأبناء والأبناء ذريةً للآباء، وجاز ذلك لأنه من» ذَرَأَ الخَلْقَ «فالأبُ ذُرِيَ منه الولد، والولد ذُرِيَ من الأب» وقال الراغب: «الذرية تقال للواحد والجمع والأصلِ والنسل، كقوله: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] أي: آباءهم، ويقال للنساء: الذَّراري، فعلى هذين الوجهين يَصِحُّ جَعْلُ» ذرية «بدلاً من آدم ومن عُطِف عليه. قال أبو البقاء:» ولا يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية «وهذا الذي قاله ظاهرٌ إنْ أراد آدمَ وحدَهُ دونَ مَنْ عُطِفَ عليه، وإن أراد آدمَ ومَنْ ذُكِرَ معه فيكونُ المانع عنده عدمَ جوازَ إطلاق الذرية على الآباء. الثاني: من أوجه البدل: أنها بدلٌ من» نوح «ومَنْ عُطِفَ عليه، وإليه نحا

أبو البقاء. الثالث: أنها بدلٌ من الآلَيْن: أعني آل إبراهيم وآل عمران، وإليه نحا الزمخشري، يريد أن الآلَيْن ذريةٌ واحدة. الوجه الثاني من وجهي نصب» ذرية «: النَصْبُ على الحال، تقديره: اصطفاهم حالَ كونِهِم بعضَهم من بعض، والعاملُ فيها: اصطفى. وقد تقدَّم القول في اشتقاق هذه اللفظة ووزنِها ومدلولِها مشبعاً فأغنى عن إعادته. قوله: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} هذه الجملةُ في موضِع النصب نعتاً لذرية.

35

قولُه تعالى: {إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ} : في الناصبِ له أوجهٌ، أحدُها: أنه «اذكر» مقدراً، فيكونُ مفعولاً به لا ظرفاً أي: اذكر لهم وقتَ قول امرأة عمران كيتَ وكيتَ، وإليه ذهب أبو الحسن وأبو العباس. الثاني: أن الناصبَ له معنى الاصطفاء أي ب «اصطفى» مقدراً مدلولاً عليه باصطفى الأول، والتقدير: واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران، وعلى هذا يكون قوله: «وآلَ عمران» من باب عطفِ الجمل لا من باب عطف المفردات، إذا لو جُعِلَ من عَطْف المفردات لَزِمَ أن يكون وقتُ اصطفاء آدم وقتَ قول امرأة عمران كيتَ وكيتَ، وليس كذلك لتغايُرِ الزمانين، فلذلك اضطُررنا إلى تقديرِ عاملٍ غير هذا الملفوظِ به، وإلى هذا ذهبَ الزجاج وغيره.

الثالث: أنه منصوبٌ ب «سميع» وبه صَرَّح ابن جرير الطبري. وإليه نحا الزمخشري ظاهراً فإنه قال: «أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيِتها، و» إذ «منصوبٌ به» . قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ ذلك لأن قوله» عليم «: إمَّا أن يكونَ خبراً بعد خبر أو وصفاً لقوله:» سميع «، فإن كان خبراً فلا يجوزُ الفصلُ بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما، وإن كان وصفاً فلا يجوزُ أن يعملَ» سميع «في الظرف لأنه قد وُصف، واسمُ الفاعلِ وما جَرى مجراه إذا وُصف قبل أَخْذِ معمولِهِ لا يجوزُ له إذ ذاك أن يعملَ، على خلافٍ لبعض الكوفيين في ذلك، ولأنَّ اتصافَه تعالى بسميع عليم لا يتقيَّد بذلك الوقت» قلت: وهذا العُذْرُ غيرُ مانع لأنه يُتَّسع في الظرفِ وعديله ما لا يُتَّسع في غيره، ولذلك يُقَدَّم على ما في حيز «أل» الموصولة وما في حيز «أَنْ» المصدرية. الرابع: أن تكونَ «إذ» زائدةً وهو قول أبي عبيدة، والتقدير: قالت امرأة، وهذا عند النحويين غلطٌ، وكان أبو عبيدة يُضَعَّف في النحو. قوله: {مُحَرَّراً} في نصبه أوجه، أحدُها: أنه حالٌ من الموصول وهو «ما في بطني» ، فالعاملُ فيها «نَذَرْتُ» . الثاني: أنه حال من الضمير المرفوع بالجار لوقوعِهِ صلةً ل «ما» ، وهو قريبٌ من الأول، فالعامل في هذه الحال الاستقرارُ الذي تضمَّنه الجارُّ والمجرور. الثالث: أن ينتصِبَ على المصدر؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعولِ من الفعل الزائدِ على ثلاثةِ أحرفٍ، وعلى هذا فيجوز أن يكونَ في الكلامِ حَذْفُ مضاف تقديرُهُ:

نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير، ويحوز أن يكون ممَّا انتصب على المعنى؛ لأن معنى «نَذَرْتُ لك» حَرَّرْت ما في بطني تحريراً. ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قولُه تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] ، وقوله: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرَمٍ} [الحج: 18] في قراءة من فتح الراء، أي: كلَّ تمزيق، وفما له من إكرام، ومثله قول الشاعر: 1240 - ألم تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القوافي ... فلاعِيَّاً بهنَّ ولا اجْتِلاَبا أي: تسريحي القوافي. الرابع: أن يكونَ نعتَ مفعولٍ محذوفٍ تقديره: غلاماً محرراً، قاله مكي بن أبي طالب. وجَعَلَ ابنُ عطية في هذا القولِ نظراً. قلت: / وجهُ النظر فيه أن «نَذَرَ» قد أخذ مفعوله وهو قوله: {مَا فِي بَطْنِي} فلم يتعدَّ إلى مفعولٍ آخر؟ وهو نظرٌ صحيح. وعلى القولِ بأنها حالٌ يجوز أن تكونَ حالاً مقارنةً إن أريد بالتحرير معنى العِتْقِ، ومقدَّرةً إنْ أُريد به معنى خدمة الكنيسة كما جاء في التفسير. ووقف أبو عمرو والكسائي على «امرأة» بالهاء دون التاء، وقد كتبوا امرأة بالتاء وقياسُها الهاء هنا وفي يوسف: {امرأة العزيز} [الآية: 30] [في] موضعين،

و {امرأة نُوحٍ} [التحريم: 10] و {امرأة لُوطٍ} [التحريم: 10] و {امرأة فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] ، وأهلُ المدينة يقفون بالتاء اتِّباعاً لرسم المصحف، وهي لغةٌ للعرب يقولون في حمزة: حَمْزَتْ، وأنشدوا: 1241 - اللهُ نَجَّاكَ بكَفَّيْ مَسْلَمَتْ ... مِنْ بعدِما وبعدِما وبعدِمَتْ وقوله: {مَا فِي بَطْنِي} أتى ب «ما» التي لغير العاقِل لأن ما فيه بطنِها مُبْهَمٌ أمرُهُ، والمبهمُ أمرهُ يجوز أن يُعَبَّر عنه ب «ما» ، ومثاله إذا رأيت شيخاً من بعيد لا تدري أأنسانٌ هو أم غيرُه: ما هذا؟ ولو عرفت أنه إنسان وجَهِلْتَ كونَه ذَكراً أم أنثى قلت: ما هو. أيضاً، والآيةُ من هذا القبيل هذا عند مَنْ يرى أن «ما» مخصوصةٌ بغير العاقل، وأمَّا مَنْ يرى وقوعَها على العقلاء فلا يتأوَّل شيئاً. وقيل: إنه لما كان ما في البطن لا تمييزَ له ولا عقلَ عَبَّر ب «ما» التي لغير العقلاء.

36

قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} : الضمير في «وضعَتْها» يعود على «ما» من حيث المعنى، لأن الذي في بطنها أنثى في علم الله تعالى، فعاد الضميرُ على معناها، دونَ لفظها. وقيل: إنما أنَّثه حَمْلاً على معنى النَّسَمَةِ أو الحَبْلة أو النفسِ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية: «حَمْلاً على الموجودة [ورفعاً لِلَفْظِ» ما «في قوله: {ما في بطني] محرّراً} .

قوله: {أنثى} فيه وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على الحال وهي حال مؤكدة لأن التأنيثَ مفهومٌ من تأنيث الضمير، فجاءت» أنثى «مؤكدة، قال الزمخشري» فإنْ قلت: كيف جاز انتصاب «أنثى» حالاً من الضمير في «وضَعَتْها» وهو كقولك: «وضَعَتِ الأنثى أنثى» ؟ قلت: الأصل وضَعَتْه أنثى، وإنما أُنِّث لتأنيث الحال، لأن الحال وذا الحال لشيء واحد كما أَنَّث الاسمَ في «مَنْ كانت أمَّك» لتأنيث الخبر. ونظيرُه قولُه تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} [النساء: 176] ، وأمَّا على تأويل النَّسَمَة والحَبْلة فهو ظاهرٌ، كأنه قيل: إني وضَعْتُ الحَبْلَةَ والنَّسَمة أنثى «يعني أنَّ الحال على الجوابِ الثاني تكون مبيَّنةً لا مؤكدةً، وذلك لأن النسمة والحبلة تصدُق على الذَّكر وعلى الأنثى، فلمَّا حَصَل فيها الاشتراكُ جاءت الحالُ مبينة لها. ألاَّ أنَّ الشيخَ ناقشه في الجواب الأول فقال:» وآل قَوْلُه يعني الزمخشري إلى أنها حال مؤكدة، ولا يُخْرِجُه تأنيثُه لتأنيث الحال عن أن تكون حالاً مؤكِّدة. وأمَّا تشبيهُه ذلك بقوله: «مَنْ كانت أمَّك» حيث عادَ الضميرُ على معنى «مَنْ» فليس ذلك نظيرَ «وضَعَتْها أنثى» لأن ذلك حُمِل على معنى «مَنْ» إذ المعنى: أيةُ امرأة كانَتْ أمَّك، أي: كانت هي أي أمَّك، فالتأنيثُ ليس لتأنيث الخبر، وإنما هو من باب الحَمْل على معنى مَنْ، ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظيرَ «وضَعَتْها أنثى» لأنَّ الخبرَ تخصَّص بالإِضافة إلى الضميرِ، فاستُفيد من الخبرِ ما لا يُسْتفاد من الاسم، بخلافِ «أنثى» فإنه لمجردِ التوكيدِ. وأمَّا تنظيرُه بقولِهِ: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} فيعني أنه ثَنَّى الاسم لتثنيةِ الخبرِ، والكلامُ عليه يأتي في مكانه، فإنه من

المُشْكلات، فالأحسن أن يُجْعَلَ الضميرُ في «وضعَتْها أنثى» عائداً على النَّسَمَة أو النفس، فتكون الحالُ مبينةً لا مؤكدةً «. قلت: قوله» ليس نظيرَه، لأنَّ «مَنْ كانت أمَّك» حُمِل فيه على معنى [مَنْ] ، وهذا أُنِّث لتأنيث الخبر «ليس كما قال، بل هو نظيرهُ، وذلك أنه في الآية الكريمةُ حُمِل على معنى» ما «كما حُمِل هناك على معنى» مَنْ «، وقول الزمخشري:» لتأنيث الخبرِ «أي: لأنَّ المراد ب» مَنْ «التأنيثُ بدليل تأنيثِ الخبرِ، فتأنيثُ الخبرَ بيَّن لنا أن المراد ب» مَنْ «المؤنث، كذلك تأنيثُ الحال وهي أنثى بَيَّن لنا أن المراد ب» ما «في قوله: {ما في بطني} أنه شيء مؤنث، وهذا واضح لا يَحتاج إلى فكر. وأما قوله: «فقد استُفيد من الخبر ما لا يُسْتفاد من الاسم بخلاف» وضَعَتْها أنثى «فإنه لمجردِ التوكيد» فليس بظاهرٍ أيضاً؛ وذلك لأنَّ الزمخشري إنما أراد بكونه نظيرَه من حيث إنَّ التأنيث في كلٍّ من المثالَيْنِ مفهومٌ قبلَ مجيءِ الحال في الآية، وقبلَ مجيءِ الخبرِ في النظير المذكور. أمَّا كونُه يفارقه في شيء آخرَ لعارضٍ فلا يَضُرُّ ذلك في التنظيرِ، ولا يُخْرِجُه عن كونه يُشْبِهُه من هذه الجهة. وقد تحصَّل لك في هذه الحال وجهان، أحدُهما: أنها مؤكدةٌ إنْ قلنا إنَّ الضمير في «وضعَتهْا» عائدٌ على معنى «ما» . والثاني: أنها مبيِّنة إنْ قلنا: إنَّ الضميرَ عائدٌ على معنى الحَبْلة أو النَّسَمة أو النفس، لصِدْقِ كلٍّ من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكرِ والأنثى. الوجه الثاني من وجهي «أنثى» : أنها بدلٌ من «ها» في «وضَعَتْها» بدلُ كلٍ من كلٍ، قاله أبو البقاء، ويكونُ في هذا البدلِ بيانُ ما المرادُ بهذا

الضمير، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبةً. فإنْ كان الضمير مرفوعاً نحو: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] على أحدِ الأوجه، فالكلُّ يجيزون فيه البدلَ. وإنْ كان غيرَ مرفوعٍ نحو/: «ضربْتُه زيداً» ومَرَرْتُ به زيدٍ، فاخْتُلِف فيه، والصحيح جوازُه كقول الشاعر: 1242 - على حالةٍ لو أنَّ في القوم حاتماً ... على جودِه لضنَّ بالماءِ حاتمِ بجرِّ «حاتم» الأخيرِ، بدلاً من الهاء في «جودِه» . قوله: {بِمَا وَضَعَتْ} قرأ ابن عامر وأبو بكر: «وَضَعْتُ» بتاء المتكلم، وهو من كلام أم مريم عليها السلام خاطَبَتْ بذلك نفسها تَسَلِّياً لها، واعتذاراً لله تعالى حيث أتَتْ بمولود لا يَصْلُح لمِا نَذَرَتْه من سِدانة بيتِ المقدس. قال الزمخشري وقد ذكر هذه القراءة: «تعني ولَعلَّ لله تعالى فيه سراً وحكمة، ولعلَّ هذه الأنثى خيرٌ من الذكر تسليةً لنفسها» . وفي قولهِا {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة، إذ لو جَرَتْ على مقتضى قولِها: «ربِّ» لقالت: «وأنت أعلم» . وقرأ الباقون: «وضَعَتْ» بتاءُ التأنثي الساكنة على إسناد الفعل لضميرِ مريم عليها السلام، وهو من كلامِ الباري تبارك وتعالى، وفيه تنبيهٌ على عِظَمِ قَدْر هذا المولودِ، وأنَّ له شأْناً لم تعرفيه، ولم تَعْرفي إلا كونه أنثى لا غير، دونَ ما يَؤُول إليه من أمورٍ عظامٍ وآياتٍ واضحةٍ، قال الزمخشري: «

ولتكلُّمِها بذلك على وجه التَحزُّنِ والتحسُّرِ قال الله تعالى: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} تعظيماً لموضوعِها وتجهيلاً لها بقدْر ما وَهَبَ لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعَتْ وما عَلِق من عظائم الأمور، وأَنْ يجعلَه وولدَه آيةً للعالمين، وهي جاهلةٌ بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تَحَسَّرت» . وقد رجَّح بعضُهم القراءةَ الثانية على الأولى بقوله: {والله أَعْلَمُ} قال: «لو كان من كلامِ أم مريم لكانَ التركيبُ: وأنت أعلمُ» وقد تقدَّم جوابُ هذا وأنه التفات. وقرأ ابنُ عباس: «وضَعْتِ» بكسر التاء على أنها تاءُ المخاطبة، خاطبها الله تعالى بذلك بمعنى: أنك لا تعلمين قَدْر هذه المولودة، ولا قَدْر ما عَلِمه الله فيها من عظائم الأمور. قوله: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} هذه الجملةُ تحتمل أن تكونَ معترضة، وأن يكونَ لها محلٌّ، وذلك بحسَبِ القراءات المذكورة في «وضعت» ، كما سيمرُّ بك تفصيله. والألفُ واللام في «الذَّكَر» يُحْتمل أن تكونَ للعهد، والمعنى: ليس الذكرُ الذي طلبَتْ كالأنثى التي وُهِبَتْ لها. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: فما معنى قولِها:» وليس الذكر كالأنثى «؟ قلت: هو بيانٌ ل» ما «في قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} من التعظيم للموضوعِ والرفعِ منه، ومعناه: وليس الذكر الذي طَلَبَتْ كالأنثى التي وُهِبت لها، والألفُ واللام فيهما للعهد» وأن تكون للجنس على أن مرادها أنَّ الذكر ليس كالأنثى في الفَضْلِ والمزيَّة؛ إذ هو صالح لخدمةِ المُتَعبِّدات وللتحرير ولمخالطةِ الأجانب بخلاف

الأنثى، وكان سياقُ الكلام على هذا يَقْتضي أن يَدْخُلَ النفي على ما استقرَّ وحَصَلَ عندها وانتفَتْ عنه صفاتُ الكمالِ للغرضِ المقصودِ منه، فكان التركيب: وليس الأنثى كالذكر، وإنما عَدَلَ عن ذلك لأنها بَدَأَتْ بالأهمِّ بما كانت تريده. وهو المتلَجْلجُ في صدرِها والحائكُ في نفسها فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به فصار التقديرُ: وليس جنسُ الذكر مثلَ جنس الأنثى لِما بينهما من التفاوتِ فيما ذكَر. ولولا هذه المعاني التي استنبَطَها العلماءُ وفهموها عن الله تعالى لم يكنْ لمجردِ الإِخبارِ بالجملةِ الليسية معنًى؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلم أنَّ الذكرَ ليس كالأنثى. وقوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} هذه الجملةُ معطوفةٌ على قولِه: {إِنِّي وَضَعْتُهَآ} على قراءةِ مَنْ ضَمَّ التاء في قوله «وضَعْتُ» فتكونُ هي وما قبلها من محلِّ نصب بالقول، والتقدير: قالت إني وضعتُها، وقالت: والله أعلم بما وضعتُ، وقالَتْ: وليس الذكر كالأنثى، وقالت: إني سميتها مريم. وأما على قراءة مَنْ سكن التاء أو كسرها فيكون «إني سَمَّيْتُها» أيضاً معطوفاً على «إني وضعتُها» ، ويكون قد فَصَل بين المتعاطفين بجملتي اعتراض كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] قاله الزمخشري. قال الشيخ: «ولا يتعيَّن ما ذَكَر من كونِهما جملتين معترضتين، لأنه يُحْتمل أن يكون {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} في هذه القراءةِ مِنْ كلامِها، ويكون المعترضُ جملةً واحدة كما كان من كلامها في قراءة من قرأ:» وضعْتُ «بضم التاء، بل ينبغي أن يكونَ هذا المتعيِّن لثبوتِ كونه من كلامها في هذه القراءةِ، ولأنَّ في اعتراضِ جملتين خلافاً، مذهبُ أبي علي أنه لا تعْتَرِضُ جملتان،

وأيضاً تشبيهُه هاتين الجملتين اللتين اعترَض بهما على زَعْمِه بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ/ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} ليس تشبيهاً مطابقاً للآية لأنه لم تَعْتَرضْ جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعتُرِض بين القسمِ الذي هو: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} وبين جوابه الذي هو: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} بجملةٍ واحدة، وهي قولُه: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} لكنه جاء في جملة الاعتراضِ بين بعضِ أجزائهِ وبعضٍ اعتراضُ بجملة وهو قوله:» لو تعلمون «اعترضَ به بين المنعوتِ الذي هو» لقسمٌ «وبين نعتهِ الذي هو» عظيم «، فهذا اعتراضٌ في اعتراضٌ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} قلت: والمُشَاحَّةُ بمثل هذه الأشياء ليست طائلة، وقولُه:» ليس فصلاً بجملتي اعتراض «ممنوعٌ، بل هو فصلٌ بمجملتي اعتراض، وكونُه جاء اعتراضٌ في اعتراض لا يَضُرُّ ذلك ولا يَقْدَّحُ في قوله:» فَصَل بجملتين «. و» سَمَّى «يتعدَّى لاثنين. أحدُهما بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر، ويجوزُ حَذْفُه، تقول: سمَّيت ابني زيداً والأصل: يزيد، قال الشاعر فجمع بين الأصل والفرع: 1243 - وسُمِّيْتَ كَعْباً بشَرِّ العِظَامِ ... وكان أبوكَ يُسَمَّى الجُعَلْ أي: يُسَمَّى بالجُعَلْ. وقد تقدَّم الكلامُ في» مريم «واشتقاقِها ومعناها وكونِها من الشاذ عن نظائره. قوله: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا} عطفٌ على» إني سَمَّيْتُها «، وأتى هنا بخبرِ»

إنَّ «فعلاً مضارعاً دلالةً على طلبِها استمرارَ الاستعاذة دونَ انقطاعِها، بخلافِ قولِه:» وضَعْتُها وسَمَّيْتُها «حيث أتى بالخبرين ماضِيَيْن لانقطاعِهما، وقَدَّم المعاذَ به على المعطوف اهتماماً به. وفَتَح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزةِ المضمومةِ، وكذلك كلُّ ياء وقعَ بعدَها همزةٌ مضمومةً إلا موضعين، فإنَّ الكلَّ اتفقوا على سكونها فيهما: {بعهدي أُوفِ} [البقرة: 40] {آتوني أُفْرِغْ} [الكهف: 96] ، والباقي عشرة مواضع، هذا الذي في هذه السورة أحدها.

37

قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا} : الجمهور على «تَقَبَّلها» فعلاً ماضياً على تَفَعَّل بتشديدِ العين، و «ربُّها» فاعل بِهِ. وتفعَّل يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى المجرد أي: فَقَبِلها، بمعنى رَضِيها مكانَ الذَّكَر المنذور، ولم يَقْبَلْ أنثى منذورةً مثلَ مريم، كذا جاء في التفسير، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعِل مجرداً نحو: تَعَجَّب وعَجِب من كذا، وتبرَّأ وبَرِىء منه. والثاني: أن تفعَّل بمعنى استفعل، أي: فاستقبلها ربُّها يقال: استقبلْتُ الشيء أي: أخذْتُه أولَ مرة، والمعنى: أنَّ الله تولاها في أول أمرها وحين ولادتِها ومنه قوله هو القطامي: 1244 - وخيرُ الأمرِ ما استقبَلْتَ منه ... وليس بأَنْ تَتَبَّعَه اتِّباعاً

ومنه المَثَلُ: «خُذِ الأمر بقَوابله» . وتفعَّل بمعنى استفعل كثير نحو: تَعَظَّم واستعظم، وتكبَّر واستكبر، وتَقَصَّيْت الشيء، واستقصَيْتُه وتَعَجَّلَته واستَعْجَلْتُه. والباءُ في قولِه: {بِقَبُولٍ} فيها وجهان، أحدُهما. أنها زائدة أي: قَبولاً، وعلى هذا فينتصب، «قبولاً» على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد؛ إذ لو جاء على تقبُّل لقيل: تَقَبُّلا نحو: تكبَّر تكبُّرا. وقَبول من المصادر التي جَاءَتْ على فَعُول بفتح الفاء، وقد تقدَّم ذكرُها أول البقرة، يقال: قَبِلْتُ الشيء قَبولاً. وأجاز الفراء والزجاج ضمَّ القاف من «قبول» ، وهو القياسُ كالدُّخول والخُروج، وحكاها ابن الأعرابي عن العرب: قبلته قَبولاً وقُبولاً فتح القاف وضمِّها سماعاً عن العرب، و «على وجهه قُبول» لا غيرُ، يعني لم يُقَلْ هنا إلا بالضم، وأنشدوا: 1245 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . والوجه عليه القُبول بضم القاف كذا حكاهُ بعضُهم. وقال الزجاج: «إن» قبولاً هذا ليس منصوباً بهذا الفعل حتى يكون مصدراً على غير الصدر، بل هو منصوبٌ بفعل موافقٍ له أي: مجردٍ قال: «والتقدير: فتقبَّلَها يتقبُّل حسن وقَبِلها قَبولاً حسناً أي: رضيها وفيه بُعْدٌ.

والوجه الثاني: أن الباءَ ليست زائدةً، بل هي على حالها، ويكون المرادُ بالقَبول هنا اسماً لِما يُقْبل به الشيءُ نحو:» اللَّدود «لِما يُلَدُّ به، والسَّعوطِ: لما يُسْعَطُ به، والمعنى بذلك اختصاصهُ لها بإقامتها مقامَ الذكَرِ في النَّذْر. وقوله: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً} نبات أيضاً مصدرٌ على غير الصدر؛ إذ القياسُ: إنبات. وقيل: بل هو منصوبٌ بمضمرٍ موافقٍ له أيضاً تقديرُه: فنبتَتْ نباتاً حسناً. وقوله: {وَكَفَّلَهَا} قرأ الكوفيون:» وكَفَّلَها «بتشديد العين،» زكريا «بالقصر، إلا أبا بكر فإنه قرأه بالمدِّ كالباقين، ولكنه يَنْصِبُه، والباقون يرفعونه كما سيأتي. وقرأ مجاهد:» فتقبَّلْها «بسكون اللام،» ربَّها «منصوباً، و» أنبِتها «بكسر الباء وسكون التاء، و» كَفِّلْها «بكسر الفاء وسكون اللام، وقرأ أُبَيٌّ:» وأَكْفَلَها «ك» أَكْرَمَها «فعلاً ماضياً. وقرأ عبد الله المزني «وكَفِلَها» بكسر الفاء والتخفيف. فأمَّا قراءةُ الكوفيين فإنهم عَدَّوا الفعلَ بالتضعيف إلى مفعولين، ثانيهما «

زكريا» فَمَنْ قَصَره كالأخوين وحفص عنده مقدَّر النصبِ، ومن مدَّه كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة، وهكذا قَرَأْتُه. وأمَّا قراءة بقية السبعة فَكَفَلَ مخففٌ عندهم متعدٍّ لواحد وهو ضمير مريم، وفاعله «زكريا» ، ولا مخالفةَ بين القراءتين؛ لأنَّ الله لَمَّا كَفَّلها إياه كَفَلها، وهو في قراءتهم ممدودٌ مرفوعٌ بالفاعلية. وأمَّا قراءةُ «أَكْفَلَها» فإنه عَدَّاه بالهمزة كما عَدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو: خَرَّجْته/ وأَخْرجته، وكَرَّمته وأَكْرمته، وهذه كقراءة الكوفيين في المعنى والإِعراب، فإنَّ الفاعل هو الله تعالى، والمفعولُ الأول هو ضمير مريم والثاني هو «زكريا» . وأمَّا قراءة: «وكَفِلها» بكسر الفاء فإنها لغةٌ في كَفَلَ، يقال: كَفَلَ يَكْفُل، كَقَتَل يقتُل، وهي الفاشية، وكَفِلَ يَكْفَلَ كَعلِمَ يَعْلَم، وعليها هذه القراءة، وإعرابُها كإعرابِ قراءةِ الجماعة في كون «زكريا» فاعلاً. وأَمَّا قراءةُ مجاهد فإنها كلَّها على لفظِ الدعاءِ مِنْ أُمِّ مريم لله تعالى بأَنْ يفعلَ لها ما سألته. و «ربَّها» منصوب على النداء أي: فتقبَّلْها يا ربَّها وأَنْبِتْها وكَفِّلْها يا ربَّها. و «زكريا» في هذه القراءةِ مفعولٌ ثانٍ أيضاً كقراءةِ الكوفيين. وقرأ حفص والأخوان: «زكريا» بالقَصْرِ حيث وَرَدَ في القرآن، وباقي السبعة بالمدِّ، والمدُّ والقصرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهلِ الحجاز. وهو اسمٌ أعجمي فكانَ مِنْ حَقِّه أنْ يقولوا فيه: مُنِعَ من الصرفِ للعلَميَّة والعُجْمة كنظائره، وإنما قالوا: مُنع من الصرف لوجود ألف التأنيث فيه. إمَّا الممدودةِ كحَمْراء أو المقصورةِ كَحُبْلى، وكأن الذي اضطرهم إلى

ذلك أنهم رأَوْهُ ممنوعاً معرفةً ونكرةً، قالوا: فلو كان منعُه للعلمية والعجمة لانصرفَ نكرةً لزوالِ أحدِ سَبَبَيْ المنع، لكن العرب منَعَتْهُ نكرةً، فَعَلِمْنَا أنَّ المانعَ غيرُ ذلك، وليس معنا هنا ما يصلُح مانعاً من صرفه إلا ألفُ التأنيث، يَعْنُون التشبيهَ بألف التأنيث، وإلاَّ فهذا اسم أعجمي لا يُعْرف له اشتقاقٌ حتى يُدَّعى فيه أن الألفَ فيه للتأنيث. على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صرفه نكرةً، وكأنه لَحَظَ فيه ما قَدَّمتْهُ من العجمة والعلمية لكنهم غَلَّطوه وخَطَّؤوه في ذلك. وقال الفارسي فأَشْبع فيه القول: «لا يخلو من أن يكونَ الهمزة فيه: للتأنيث أو للإِلحاق أو منقلبةً، ولا يجوز أن تكونَ منقلبةً؛ لأنَّ الانقلاب لا يخلو من أن يكونَ من حرفٍ أصلي أو من حرفِ الإِلحاق، ولا يجوزُ أَنْ يكون من حرف أصلي لأنَّ الياء والواو لا يكونان أصلاً فيما كان على أربعة أحرف، ولا أَنْ يكونَ من حرف الإِلحاق لأنه ليس في الأصولِ شيءٌ يكونُ هذا ملحقاً به وإذا ثبت ذلك ثَبَتَ أنها للتأنيث، وكذلك القولُ في الألف المقصورة» . وهذا الذي قاله أبو علي صحيحٌ لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاقٌ ويَدْخله تصريفٌ، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجمية مُجْرى العربية بمعنى أن هذا لو وَرَدَ في لسانِ العرب كيف يكون حكمُهُ؟ وفيه بعد ذلك لغتان أُخْرَيان، إحداهما: زَكَرِيٌّ بياء مشددة في آخره فقد دونَ ألف، وهو في هذه اللغة منصرف. ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال: «القولُ فيه أنه حُذِفَ منه الياءان اللتانِ كانتا فيه ممدوداً ومقصوراً وما بعدهما وأَلْحَقَ ياءي النسب» قال: يَدُلُّ على ذلك صَرْفُ الاسم، ولو كانت الياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ للعجمة والتعريف «، وهذه اللغةُ التي

ذكرتُها لغةُ أهلِ نجد ومَنْ والاهم. والثانية:» زَكْرٍ «بزنة عَمْرٍو، حكاها الأخفش» . والكَفالَةُ: الضمان في الأصلِ، ثم يستعار للضم والأخذ، يقال منه: كَفَل يكفُل، وكَفِلَ يكفَل كعَلِمَ يعلَم كَفالة وكَفْلاً فهو كافِلٌ وكفيل. قوله: {المحراب} فيه وجهان مشهوران، أحدهما وهو مذهب سيبويه أنه منصوبٌ على الظرف، وشذَّ عن سائر إخوانه بعد «دخل» خاصة، يعني أن كلَّ ظرفِ مكان مختص لا يصل إليه الفعلُ إلا بواسطة «في» نحو: «صَلَّيْت في المحراب» ولا تقول: المحرابَ، ونمت في السوق، ولا تقول: السوقَ، إلا مع «دخل» خاصة، نحو: دَخَلْتُ السوقَ والبيت، وإلا ألفاظاً أُخَرَ ذكرْتُها في كتب النحو. والثاني: مذهب الأخفش، هو نصبُ ما بعد «دخل» على المفعول به لا على الظرف، فقولك: «دخلت البيت» كقولك: «هَدَمْتُ البيت» في نصب كلٍّ منهما على المفعول به. وهو قولٌ مرجوحٌ بدليل أنَّ «دخل» لو سُلِّط على غير الظرف المختص وجب وصولُه بوساطةِ «في» تقول: «دخلْتُ في الأمر» ولا تقول: دخلت الأمر، فدلَّ ذلك على عدم تعدِّيه للمفعول به بنفسه. والمحراب: قال أبو عبيدة: «هو أشرف المجالس ومقدَّمُها، وهو كذلك من المسجدِ» . وقال ابو عمرو بن العلاء: «هو القَصْرُ لعلوِّه وشَرَفِه» . وقال الأصمعي: «هو الغرفةُ» وأنشد لامرىء القيس:

1246 - وماذا عليه أَنْ ذكرتُ أوانساً ... كغِزْلانِ رملٍ في محاريبِ أَقْيالِ قالوا: معناه في غُرَفِ أقيال. وأنشد غيرُه لعمر بن أبي ربعية: 1247 - رَبَّةُ مِحْرابٍ إذا جئتُها ... لم أدْنُ حتى أَرْتَقِي سُلَّما وقيل: هو المحرابُ من المسجدِ المعهودِ وهو الأليقُ بالآية. وأمَّا ما ذكرْتُه عمَّن تقدَّم فإنما يَعْنُون به المحرابَ مِنْ حيث هو، وأمَّا في هذه الآية فلا يَظْهَرُ بينهم خلافٌ [في] أنه المحرابُ المتعارَفُ، قيل: واشتقاقه من الحَرْب لتحارُبِ الناس عليه. وأمال ابن ذكوان عن ابن عامر «المحراب» في هذه السورة موضعين بلا خلافٍ، لكونه قَوِيَ فيه سببُ الإِمالة، وذلك أن الألف تقدَّمَها كسرةٌ وتأخَّرت عنها كسرةٌ أخرى فقَوِيَ داعي الإِمالة، وهذا بخلاف/ «المحراب» غيرِ المجرور فإنه نُقِلَ عن ابن ذكوان فيه الوجهان: الإِمالةُ وعدمُها نحو قوله: {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21] ، فوجهُ الإِمالة تقدُّمُ الكسرة، ووجهُ التفخيمِ أنه الأصلُ، وقد تقدَّم لك الفرقُ بين كونِهِ مجروراً فلم يُخْبَرْ عنه فيه خلاف وبين كونِهِ غيرَ مجرورٍ فجرى فيه الخلافُ، وكذلك جرى عنه الخلاف أيضاً في «عمران» لِما ذكرْتُ لكل من تقدُّم الكسر. قوله: {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} هذه «وَجَدَ» بمعنى أصاب ولقي وصادف فتتعدَّى لواحدٍ وهو «رزقاً» ، و «عندَها» الظاهرُ أنه ظرفٌ للوِجْدَان. وأجاز

أبو البقاء أن يكونَ حالاً من «رزقاً» لأنه يصلُح أن يكونَ صفةً له في الأصل، وعلى هذا فيتعلَّقُ بمحذوف، و «وَجَدَ» هو الناصبُ لكلما، لأنها ظرفيةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُه. وأبو البقاء سَمَّاه جوابها؛ لأنها عنده تشبه الشرطَ كما سيأتي. قوله: «قال: يا مريم» فيه وجهان، أحدُهما: أنه مستأنف، قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من» وَجَدَ «لأنه ليس بمعناه» . والثاني: أنه معطوفٌ بالفاء، فَحُذِفَ العاطِفُ، قال أبو البقاء: «كما حُذِفَتْ في جواب الشرط كقوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، وكذلك قولُ الشاعر: 1248 - مَنْ يَفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكرها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا الموضِعُ يشبِهُ جوابَ الشرط؛ لأنَّ» كلما «تُشْبه الشرط في اقتضائِها الجواب» انتهى. قلت: وهذا الذي قاله فيه نظرٌ من حيث إنه تخيَّل أنَّ قوله تعالى {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أنَّ جوابَ الشرط هو نفس «إنكم لمشركون» حُذفت منه الفاء، وليس كذلك، بل جوابُ الشرط محذوفٌ، و «إنكم لمشركون» جوابُ قسمٍ مقدر قبل الشرط، وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألة، فليس هذا مِمَّا حُذِفَتْ منه فاءُ الجزاء البتَةَ، وكيف يَدَّعي ذلك ويُسَوِّيه بالبيت المذكور وهو لا يجوز إلا في ضرورة، ثم الذي يَظْهَرُ أنَّ الجملةَ من قوله: «وَجَدَ» في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «دخل» ، ويكون جوابُ «كلما» هو نفسَ «

قال» والتقدير: كلما دخل عليها زكريا واجداً عندها الرزقَ قال، وهذا بيِّنٌ جداً. ونَكَّر «رزقاً» تعظيماً له أو ليدلَّ به على نوعِ ما منه. قوله: {أنى لَكِ هذا} أنَّى خبر مقدم، و «هذا» مبتدأ مؤخر، ومعنى «أنى» هنا: مِنْ أين، كذا فَسَّرها أبو عبيدة، وقيل: ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية أي: كيف تهيَّأ لك هذا، قال الكميت: 1249 - أنَّى ومِنْ أين آبَكَ الطربُ ... مِنْ حيثُ لا صبوةٌ ولا رِيَبُ وجَوَّزَ أبو البقاء في «أَنَّى» أن ينتصِبَ على الظرف بالاستقرار الذي في «لك» ، و «لك» رافع ل «هذا» يعني بالفاعلية ولا حاجة إلى ذلك. وقد تقدّم الكلام على «أنَّى» في البقرة. {إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} تقدَّم نظيرُه، ويُحْتَمَلُ أن يكونَ مستأنفاً [مِنْ كلامِ اللهِ تعالى، وأن يكونَ من كلامِ مريم فيكونَ منصوباً] .

38

قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا} : «هنا» هو الاسمُ واللامُ للبعد والكافُ حرفُ، وهو وِزانُ «ذلك» ، وهو منصوبٌ على الظرفِ المكاني ب «دعا» ، أي: في ذلك المكان الذي رأى فيه ما رأى مِنْ أَمْرِ مريم، وهو ظرفٌ لا يتصرَّفُ بل يلزم النصبَ على الظرفية، وقد يُجَرُّ ب «مِنْ» و «إلى» قال الشاعر:

1250 - قد وَرَدَتْ مِنْ أَمْكِنَهْ ... مِنْ ههنا ومِنْ هُنَهْ وحكمُه حكمُ «ذا» مِنْ كونِهِ يُجَرَّد من حرف التنبيه ومن الكاف واللام نحو: هنا، وقد تصحبه «ها» التنبيه نحو: ههنا، ومع الكافِ قليلاً نحو: «ها هناك» ، ويمتنعُ الجمعُ بين ها واللام. وأخواتُهُ: هَنَّا بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها، وثَمَّ بفتح الثاء، وقد يقال هَنَّتْ، ولا يُشار بهذه إلا للبعيد خاصة، ولا يشار بهنالك وما ذُكِرَ معه إلا للأمكنة. وقد زعم بعضُهم أنَّ «هناك» و «هنالك» و «هَنَّا» للزمان، فمِنْ ورودِ «هنالك» بمعنى الزمان عند بعضِهم هذه الآية أي: في ذلك الزمان، ومثلُه: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] ومنه قولُ زهير: 1251 - هنالك إنْ يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والظاهر أنه على مكانِيَّتِه. ومن ورود «هناك» قوله: 1252 - وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشابَهَتْ ... فهناك يعترفون أين المفزَعُ ومن ورود هَنَّا قوله: 1253 - حَنَّتْ نَوارِ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وبدا الذي كانت نوارِ أَجَنَّتِ

لأن «لات» لا تعمل إلا في الأحيان، وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا. وفي عبارة السجاوندي أن «هناك» في المكان و «هنالك» في الزمان، وهو سهوٌ، لأنها للمكان سواءً تجردت أم اتصلت بالكاف واللام معاً أم بالكاف دون اللام. قوله: {مِن لَّدُنْكَ} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق ب «هَبْ» وتكونُ «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً أي: هَبْ لي من عندِك، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنه في الأصل صفةٌ لذرية، فلما قُدِّم عليها انتصبَ حالاً. وقد تقدَّم الكلامُ على لدن وأحكامِها ولغاتِها. وقوله: {سَمِيعُ الدعآء} مثالُ مبالغة مُحَوَّل من «سامِع» وليس بمعنى «مُسْمِع» لفسادِ المعنى. وقوله: {طَيِّبَةً} نْ أرادَ ب «ذرية» الجنسَ فيكونُ التأنيثُ في «طيبة» باعتبارِ تأنيثِ الجماعة، وإنْ أرادَ به ذَكَراً واحداً فالتأنيث باعتبار اللفظ. قال: الفراء: «وأَنَّث» طيبة «لتأنيثِ لفظِ» الذرية «كما قال الشاعر: 1254 - أبوكَ خليفةٌ وَلَدَتْهُ أخرى ... وأنت خليفةٌ، ذاك الكمالُ وهذا فيما لم يُقْصَدُ به واحدٌ معيَّنٌ، أمَّا لو قُصِدَ به واحدٌ معيَّنٌ امتَنَعَ اعتبارُ اللفظِ نحو: طلحة وحمزة، وقد جَمَعَ الشاعرُ بين التذكيرِ والتأنيث في قوله: 1255 - فما تَزْدَري من حَيَّةٍ جَبَلِيَّة ... سُكاتٍ إذا ما عَضَّ ليس بِأَدْرَدَا لأنَّ المرادَ بحيَّة اسمُ الجنسِ لا واحدٌ بعينه.

39

قولُه تعالى: {فَنَادَتْهُ الملائكة} : قرأ الأخَوان: «فناداه» من غيرِ تاء تأنيث، والباقون: «فنادَتْه» بتاء التأنيث. والتذكيرُ والتأنيث باعتبار الجمع المكسر، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكيرُ باعتبار الجمع، والتأنيثُ باعتبار الجماعة، ومثل هذا: {إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة} [الأنفال: 50] يُقرأ بالتاء والياء، وكذا قوله: {تَعْرُجُ الملائكة} [المعارج: 4] . قال الزجاج: «يَلْحقها التأنيثُ للفظ الجماعة، ويجوزُ أَنْ يُعَبِّر عنها بلفظ التذكير لأنه يقال: جَمْعُ الملائكة، وهذا كقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 30] انتهى وإنما حَسَّنَ الحذفَ هنا الفصلُ بين الفعلِ وفاعِله. وقد تَجَرَّأ بعضُهم على قراءة العامة فقال:» أكرهُ التأنيث لِمَا فيه من مو-افقة دعوى الجاهلية؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث. وتجرَّأ/ أبو البقاء على قراءة الأخوين فقال: «وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية، فلذلك قرأ مَنْ قرأ:» فناداه «بغير تاءٍ، والقراءةُ به غيرُ جيدة لأنَّ الملائكةَ جمعٌ، وما اعتلُّوا به ليس بشيء، لأنَّ الإِجماع على إثبات التاء في قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} [آل عمران: 42] . وهذان القولان الصادران من أبي البقاء وغيرِه ليسا بجيدين، لأنهما قراءتان متواترتان، فلا ينبغي أن تُرَدَّ إحداهما البتة.

والأخَوان على أصلِهما مِنْ إمالةِ» فناداه «، والرسمُ يَحتمل القراءتين معاً أعني التذكيرَ والتأنيثَ. والجمهورُ على أنَّ الملائكةَ المرادُ بهم واحدٌ وهو جبريلُ. قال الزجاج:» أتاه النداء من هذا الجِنس الذين هم الملائكةُ كقولِك: «فلان يركب السفنَ» أي: هذا الجنسَ «ومثلُه: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] وهم نعيم بن مسعود. وقوله» إنَّ الناس «يعني أبا سفيان، ولَمَّا كان جبريل رئيسَ الملائكة أَخْبَرَ عنه إخبارَ الجماعة تعظيماً له. وقيل:» الرئيس لا بُدَّ له من أتباع، فلذلك أَخْبَر عنه وعنهم، وإنْ كان النداءُ إنما صدر منه «، ويؤيِّدُ كونَ المنادى جبريلَ وحدَه قراءةُ عبدِ الله، وكذا في مصحفه:» فناداه جبريل «، والعطفُ بالفاء في قوله: {فَنَادَتْهُ} مُؤْذِنٌ بأنَّ الدعاء مُعْتَقِبٌ بالتبشير. قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} جملةٌ حالية من مفعولِ النداء، و» يصلي «يحتمل أوجهاً، أحدها: أن يكونَ خبراً ثانياً عند مَنْ يرى تعدُّدَهُ مطلقاً نحو:» زيدٌ شاعرٌ فقيه «. الثاني: أنه حالٌ ثانية من مفعول النداء، وذلك أيضاً عند مَنْ يُجَوِّز تعدُّدَ الحال. الثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في» قائم «فيكونُ حالاً من حال. الرابع: أن يكونَ صفةً لقائم. قوله: {فِي المحراب} متعلقٌ بيُصَلِّي، ويجوزُ أنْ يتعلَّقَ بقائم إذا جَعَلْنا» يُصَلِّي «حالاً من الضمير في» قائم «؛ لأنَّ العامِلَ فيه حينئذٍ وفي الحالِ شيءٌ واحدٌ فلا يلزَمُ منه فصلٌ، أمَّا إذا جَعَلْناهُ خبراً ثانياً أو صفةً لقائم أو حالاً من المفعولِ لَزِمَ الفصلُ بين العامِلِ ومعمولِه بأجنبي، هذا معنى كلامِ

الشيخ، والذي يظهر أنه يجوز أن تكونَ المسألةُ من باب التنازع، فإنَّ كلاً من قائم ويصلِّي يَصِحُّ أَنْ يتسَلَّطَ على» في المحراب «، وذلك جائِزٌ على أيِّ وجهٍ تَقَدَّم من وجوهِ الإِعرابِ. قوله: {إِنَّ اللَّهَ} قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر «إنَّ» ، والباقون بفتحها. فالكسرُ عند الكوفيين لإِجراء النداء مُجْرى القول فلْيُكْسَرْ معه، وعند البصريين على إضمارِ القول، أي: فنادَتْهُ فقالت. والفتح على حَذْفِ حرف الجر تقديرُهُ: فنادَتْهُ بأن الله، فلمَّا حُذِفَ الخافض جرى الوجهان المشهوران في محلها. وفي قراءة عبد الله «فنادَتْه الملائكة: يا زكريا» فقوله «يا زكريا» هو مفعولُ النداء، وعلى هذه القراءةِ يتعيَّنُ كسرُ «إنَّ» ولا يجوز فتحُها لاستيفاءِ الفعل معموليه، وهما: الضميرُ وما نُودِي به زكريا. قوله: «نُبَشِّرُك» قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة في هذه السورة: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} موضعان، وفي سورة الإِسراء: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين} [الآية: 9] ، وفي سورة الكهف: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين} [الآية: 2] أيضاً بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددةً من: بَشَّره يُبَشِّره. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ثلاثتهم كذلك في سورة الشورى وهو {ذَلِكَ الذي

يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ} [الآية: 23] ، وقرأ الجميع دون حمزة كذلك في سورة براءة: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} [الآية: 21] وفي أول الحجر في قوله: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الآية: 53] ، ولا خلاف في الثاني وهو قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] أنه بالتثقيل، وكذلك قرأ الجميع دون حمزة في سورة مريم موضعين: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} [مريم: 7] {لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين} [مريم: 97] ، وكلُّ مَنْ لم يُذْكَرْ مع هؤلاء مَنْ قرأ بالتقييد المذكور فإنه يَقْرأ بفتح حرف المضارعة وسكونِ الباء وضَمِّ الشين. وإذا أردت معرفة ضبطِ هذا الفصل فاعلَمْ أنَّ المواضعَ التي وقع فيها الخلافُ المذكور تسعُ كلمات، والقرَّاءُ فيها على مراتبَ: فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلوا الجميع وحمزة خَفَّف الجميع، وابن كثير وأبو عمرو ثَقَّلا الجميع إلا التي في سورة الشورى فإنهما وافقا فيها حمزة، والكسائي خَفَّف خمساً منها وثقَّل أربعاً، فخفَّف كلمتَيْ هذه السورة وكلماتِ الإِسراء والكهف والشورى. وقد تقدَّم أن في هذا الفعل ثلاثَ لغات: «بَشَّر» بالتشديد، وبَشَر بالتخفيف، وعليه ما أنشده الفراء: 1256 - بَشَرْتُ عيالي إذ رأيتُ صحيفةً ... أَتَتْكَ من الحَجَّاجِ يُتْلَى كتابُها والثالثة: «أَبْشَرْتُ» رباعياً، وعليه قراءةُ بعضهم «يُبْشِرُك» بضم الياء، ومن التبشير قول الآخر:

1257 - يا بِشْرُ حُقَّ لوجهِك التَّبْشِيرُ ... هَلاَّ غَضِبْت لنا وأنتَ أَميرُ وقد أُجْمِعَ على مواضعَ من هذه اللغات نحو: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} [آل عمران: 21] . {وَأَبْشِرُواْ} [فصلت: 30] ، {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] ، فلم يَرِدِ الخلافُ إلا في المضارعِ دونَ الماضي والأمرِ، وقد تقدَّمَ معنى البِشارَة واشتقاقُها في سورة البقرة. قوله تعالى: {بيحيى} متعلق ب يُبَشِّرُكَ، ولا بد من حذف مضاف أي: بولادة يحيى، لأن الذواتِ ليست متعلقةً للبشارة ولا بد في الكلامِ من [شيء] عادَ إليه السياقُ تقديرهُ: بولادةِ يحيى منك ومن امرأتِك، دَلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلام. و «يحيى فيه قولان أحدُهما: وهو المشهورُ عند أهل التفسير أنه منقولٌ من الفعلِ المضارع، وقد سَمُّوا بالأفعال كثيراً نحو: يعيش ويعمر ويَمُوت، قال قتادة:» سُمِّي يَحْيى لأنَّ الله أَحياه بالإِيمان «وقال الزجاج:» حَيِيَ بالعلم «وعلى هذا فهو ممنوعُ الصرف للعملية ووزن الفعل نحو:» يزيد ويشكر وتغلب «. والثاني: أنه أعجمي لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهرُ فامتناعُه للعمليةِ والعجمةِ الشخصية. وعلى كلا القولين فيُجْمع على يَحْيَوْن بحذف الألف نحو:» مُوسَوْن «بحذف الألف وبقاء الفتحة تدلُّ عليها. وقال الكوفيون:» إن كان عربياً منقولاً من الفعلِ فالأمرُ كذلك، وإنْ كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو وكُسِر ما قبل الياء إجراء له مُجْرى المنقوص نحو: جاء

القاضون، ورأيت القاضين «هذا نَقْلُ الشيخ عنهم. ونقل ابن مالك عنهم أن الاسم إنْ كانت ألفُه زائدةً ضُمَّ ما قبل الواو وكُسِر ما قبل الياء نحو: جاء حُبْلُون ورأيت حُبْلِين، وإن كانت أصليةً نحو:» رَجَوْن «وجب فتح ما قبل الحرفين، قالوا:» فإن كان أعجمياً جاز الوجهان، لاحتمالِ أن تكون ألفُه أصليةً أو زائدة، إذ لا يُعْرَفُ له اشتقاق «ويُصَغَّر يَحْيى على» يُحَيَّى «وأنشدت للشيخ أبي عمرو ابن الحاجب في ذلك: 1258 - أيُّها العالم بالتصريفِ لا زلت تُحَيَّا ... إنَّ يَحْيى إنْ يُصَغَّرْ فيُحَيَّا ... وأبى قومٌ وقالوا ليسَ هذا الرأيُ حَيّا ... إنما كان صواباً أَنْ يُجيبوا بيُحَيَّا ... كيف قد رَدُّوا يُحَيَّا ... والذي اختارُوا يُحَيَّا ... أتراهم في ضلالٍ أم ترى وجهاً يُحَيَّا ... قلت: هذا جارٍ مَجْرى الألغاز في تصغيرِ هذه اللفظةِ، وذلك يختلف بالتصريفِ والعمل، وهو أنه إذا اجتَمَع في آخر الاسم المصغَّر ثلاثُ ياءات

جَرَى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبة إلى الحذف والإِثبات وأصلُ المسألة تصغير» أَحْوى «وقد أتقنت هذه الأبيات وحرَّرْتُ مذاهب التصريفين فيها حين سُئِلت عنها في غير هذا الموضوع إذ لا يَحْتمله. ويُنْسَبُ إلى يَحْيى: يَحْيِيُّ بحذف الألف تشبيهاً لها بالزائد نحو: حُبْلِيّ في: حُبْلى، ويَحْيَويّ بالقلب لأنها أصلٌ كألف مَلْهَويٌّ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً، ويَحْياوي بزيادة ألف قبل قلب ألفه واواً. والنداء: رفعُ الصوت، يقال: نادى نُداءً ونداء بضم النون وكسرها، والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم نحو: البُكاء والصُّراخ والدُّعاء والرُّغاء. وقيل: المكسورُ مصدر والمضموم اسم، ولوعُكِسَ هذا لكان أَبْيَنَ لموافقتِه نظائرَه من المصادر. وقال يعقوب بن السكيت:» إذا ضَمَمْتَ نونَه قَصَرْتَه وإن كسرتها مددَته «وأصلُ المادةِ يَدُلُّ على الرفع. ومنه المُنْتدى والنادي لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم. وقالت قريش: دار الندوة، لارتفاعِ أصواتِهم عند المشاورة والمحاورةِ فيها، وفلان أَنْدى صوتاً من فلان أي: أَرْفَع، هذا أصلُه في اللغةِ، وفي العُرْف صار ذلك لأحسنِهما نغماً وصوتاً، والنَّدى: المطرُ، ومنه: نَدِيَ يَنْدَى، ويُعَبَّر به عن الجود، كما يُعَبَّر بالمطرِ والغيثِ وأخواتهِما عنه استعارةً. قوله: {مُصَدِّقاً} حالٌ من «يحيى» وهذه حالٌ مقدَّرة، وقال ابن عطية: «

هي حالٌ مؤكدة بحَسَب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام» . و «بكلمة» متعلِّقٌ ب «مصدقاً» . وقرأ أبو السَّمَّال: «بكِلْمَةٍ» بكسر الكاف وسكون اللام، وهي لغة فصيحة، وذلك أنه أَتْبَع الفاءَ للعين في حركتها فالتقى بذلك كسرتان، فَحَذف الثانيةَ لأجل الاستثقال. والكلمة قيل: المراد بها الجمع؛ إذ المقصودُ التوراةُ والإِنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المُنَزَّلة، فَعَبَّر عن الجمعِ ببعضه، ومثلُ هذا قوله عليه السلام: «أصدقُ كلمةٍ قالها الشاعر كلمةُ لبيد» يريدُ قولَه: 1259 - ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطِلُ ... وكلُّ نعيمٍ لا مَحَالَةَ زائِلُ وذُكِر لحسان رضي الله عنه الحُوَيْدِرة الشاعر فقال: «لعن الله كلمته» يعني قصيدته، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان عند قوله تعالى: {إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ} [آل عمران: 64] . قوله: {مِّنَ الله} في محلِّ جر صفة لكملة فيتعلَّقٌ بمحذوف أي: بكلمة كائنة من الله. و {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً} أحوالٌ أيضاً كمصدِّقاً. السيِّد فَيْعِل. والأصلُ: سَيْوِد فَفُعِل [به] ما فُعِل بميت، وقد تقدَّم كيفية ذلك، واشتِقاقُه من سادَ يسود سِيادة وسُؤْدُدَاً أي: فاقَ نُظَراءَه في الشرف والسؤُدد، ومنه قولهم: 1260 - نفسُ عصامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما ... وعَلَّمَتْه الكَرَّ والإِقداما وصَيَّرتَهُ بَطَلاً هُمَاما ...

وقال بعضهم: سُمِّي سيِّداً لأنه يَسُود سَوادَ الناس أي: عظيمهم وجُلَّهم، وجمعُه على فَعَلة شاذ قياساً فصيح استعمالاً، قال تعالى: {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا} [الأحزاب: 67] والأصل: سَوَدَة، و «فَعَلة» إنما يكثر لفاعِل نحو: كافِر وكَفَرة وفاجِر وفَجَرة وبار وبَرَرة. والحَصور فَعُول للمبالغة مُحَوَّلٌ من «حاصِر» كضَرُوب في قوله: 1261 - ضَروبٌ بنصْلِ السيفِ سُوقَ سِمانِها ... إذا عَدِموا زاداً فإنَّك عاقِرُ وقيل: بل هو فَعُول بمعنى مَفْعول أي: محصور، ومثله رَكوب بمعنى مركوب وحَلوب بمعنى مَحْلوب. والحَصُور: الذي يكتُم سِرَّه. قال جرير: 1262 - ولقد تَسَقَّطَني الوشاةُ فصادَفوا ... حَصِراً بسِرِّك يا أُمَيْمُ ضَنِيناً [وهو البخيل أيضاً] قال: 1263 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لا بالحَصورِ ولا فيها بِسَآَّرِ وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة، وأصلُه مأخوذٌ من المَنْع، وذلك أن الحَصُور هو الذي لا يأتي النساءَ: إمَّا لطَبْعِه على ذلك وإمَّا لمغالبتِه نفسَه. و «من الصالحين» صفةٌ لقوله «نبياً» فهو في محل نصب.

40

قوله تعالى: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} : يجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها حينئذ وجهان، أحدهما: «أنَّى» لأنها بمعنى كيف، أو بمعنى مِنْ أين: و «لي» على هذا تبيينٌ. والثاني: أنَّ الخبرَ الجار و «كيف» منصوبٌ على الظرف. ويجوزُ أَنْ تكونَ التامَّة فيكونُ الظرفُ والجار كلاهما متعلِّقَيْنِ ب «يكون» لأنه تام، أي: كيف يحدث لي غلام، ويجوز أن يتعلَّقَ/ بمحذوفٍ على أنه حال من «غلام» لأنه لو تأخَّر لكان صفةً له. وقوله: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} جملةُ حاليةٌ، وفي موضع آخرَ {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر} [مريم: 8] لأنَّ ما بَلَغَكَ فقد بَلَغْتَه. وقيل: لأنَّ الحوادثَ تَطْلُب الإِنسانَ. وقيل: هو من المَقْلوب كقوله: 1264 - مثلُ القنافِذِ هَدَّاجون قد بَلَغَتْ ... نجرانُ أو بُلِّغَتْ سَوْءاتِهِمْ هَجَرُ ولا حاجةَ إليه. وقدَّم في هذه السورة حالَ نفسه، وأخَّر حالَ امرأته، وفي مريم عَكَس، فقيل: صدرُ الآيات في مريم مطابِقٌ لهذا التركيبِ لأنه قَدَّمَ وَهْنَ عظمِه واشتعالَ شَيْبِه وخِيفَةَ مواليهِ من ورائه، وقال: {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} فلمَّا أعَاد ذِكْرهما في استفهامٍ آخر ذَكَر الكِبَر ليوافِق «عِتِيَّاً» رؤوسَ الآي، وهو باب مقصود في الفصاحة، والعطفُ بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانياً، فلذلك لم يُبالَ بتقديم ولا تأخير.

والغلامُ: الفتيُّ السنِّ من الناسِ وهو الذي. . . شاربُه، وإطلاقُه على الطفلِ وعلى الكهلِ مجاز، أمَّا الطفلُ فللتفاؤل بما يَؤُول إليه، وأمَّا الكهلُ فباعتبارِ ما كانَ عليه. قالت ليلى الأخيلية: 1265 - شَفاها من الداءِ العُضالِ الذي بها ... غلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها وقال بعضُهم: ما دام الولدُ في بطن أمه سُمِّي «جنيناً» . قال تعالى: {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} [النجم: 32] ، سُمِّي بذلك لاجتنانِه في الرَّحمِ، فإذا وُلِد سُمِّي «صبياً» فإذا فُطِمَ سُمِّي «غُلاماً» إلى سبع سنين، ثم سُمِّي يافعاً إلى أن يَبْلُغَ عشر سنين، ثم يُطْلق عليه «حزَوَّر» إلى خمس عشرة، ثم يصير «قُمُدَّاً» إلى خمسٍ وعشرين سنة، ثم، «عَنَطْنَطَا» إلى ثلاثين قال: 1266 - وبالجَعْدِ حتى صارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً ... إذا قامَ ساوى غاربَ الفحلِ غارِبُهْ ثم «حُمُلا» إلى أربعين ثم «كَهْلاً» إلى خمسين، ثم «شيخاً» إلى ثمانين ثم «هَمٌّ» بعد ذلك. واشتقاق الغُلام من الغُلْمة والاغتِلام، وهو طَلَبُ النكاح، لَمَّا كان مسبَّباً عنه أُخِذَ منه لفظُه، ويقال: «اغتَلَم الفحلُ» أي: اشتدَّتْ شهوتُه إلى طَلَبِ النكاح، واغتلَم البحر أي: هاجَ وتلاطَمَتْ أمواجه مستعار منه، وقياسُه في القلةِ أَغْلِمة، وفي الكثرة: غِلْمان، وقد جُمع على غِلْمَة شذوذاً، وهل هذه الصيغةُ جمعُ تكسير أم اسم جمع؟ قال الفراء: «يقال غلامٌ بيِّنُ الغُلومَة والغُلومِيَّة والغُلامِيَّة» قال: «والعربُ تجعلُ مصدرَ كلِّ اسمٍ ليسَ له فعلٌ

معروفٌ على هذا المثالِ، فيقولون: عَبْدٌ بَيِّنُ العُبودة والعُبودِيَّة والعُبادِيَّة» يعني لم تتكلم العرب من هذا بِفِعْلٍ. والكِبَرُ: مصدرُ كَبِرَ يكبَر كِبَراً أي: طَعَن في السن، قال: 1267 - صغيرَيْنِ نَرْعَى البَهْمَ يا ليتَ أَنَّنا ... إلى اليومِ لم نَكْبَرْ ولم تَكْبَر البَهْمُ قوله: {وامرأتي عَاقِرٌ} جملةٌ حاليةٌ: إمَّا من الياء في «لي» فتعدَّدُ الحالُ عند مَنْ يراه، وإمَّا من الياءِ في «بلغَنَي» . والعاقر: مَنْ لا يُولد له رجلاً كان أو امرأةً، مشتقاً من العَقْر وهو القتل، كأنهم تخيَّلوا فيه قَتْل أولادِه والفعل بهذا المعنى لازمٌ، وأمَّا عَقَرْتُ بمعنى نَحَرْتُ فمتعدٍّ، قال تعالى: {فَعَقَرُواْ الناقة} [الأعراف: 77] ، وقال: 1268 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... عَقَرْتَ بعيري يا امرأ القيسِ فانْزِلِ وقيل: «عاقِر» على النسب أي: ذاتُ عُقْر، وهي بمعنى مَفْعول أي: معقورة، ولذلك لم تُلْحَقْ تاءَ التأنيث. والعُقر العَقْر بضم العين وفتحها: أصلُ الشيء، ومنه: عُقْر الدار وعُقْر الحوض، وفي الحديث: «ما غُزِي قومٌ قط في عُقر دارِهم إلا ذُلُّوا» وعَقَرْتُه: أَصَبْتُ عُقْره أي: أصلَه نحو: رَأَسْته أي: أصبتُ رأسَه، والعُقْر أيضاً: آخر الولد، وكذلك بيضةُ العُقْر، والعُقار: الخمرُ لأنها تَعْقِر العقلَ مجازاً وفي

كلامهم: «رَفَعَ فلانٌ عقيرَتَه» أي: صوته، وذلك أنَّ رجلا عَقَر رجله فرفعَ صوتَه فاستُعير ذلك لكلِّ من رفَع صوَته. وقال بعضُهم: «يُقال: عَقُرَتْ المرأةَ تَعْقُر عَقْراً وعقارةً» أنشد الفراء: 1269 - أرزامُ بابٍ عَقُرَتْ أَعْواما ... فَعَلَّقَتْ بُنَيَّها تَسْماما ويقال: عَقَر الرجل وعَقُر وعَقِر إذا لم تَحْبَلْ زوجته فَجَعلوا الفعلَ المسندَ إلى الرجل أوسعَ من المسندِ إلى المرأة، قال الزجاج: «عاقِر» : بمعنى ذات عُقْر، قال: «لأنَّ فَعُلْتُ أسماءُ الفاعلين منه على فَعيلة نحو: طريفة وكريمة، وإنما» عاقر «على ذات عُقْر» قلت: وهذا نصٌّ في أن الفعلَ المسند للمرأةِ لا يُقال فيه إلا عَقُرت بضم القاف إذا لو جازَ فتحُها أو كسرُها لجاز منها «فاعِل» من غير تأويلٍ على النسب. ومن ورودِ «عاقر» وصفاً للرجل قولُ عامر بن الطفيل: 1270 - لَبِئْسَ الفتى إنْ كنُت أعوَر عاقِراً ... جَباناً فما عُذْري لدى كلِّ مَحْضَرِ قوله: {كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} في الكافِ وجهان: أحدهما: أنها في محلِّ نصب وفيه التخريجان المشهوران، أحدُهما وعليه أكثرُ المعربين أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه: يفعلُ الله ما يشاء من الأفعالِ العجيبة مثلَ ذلك الفعلِ، وهو خَلْقُ الولدِ بين شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقِرٍ.

والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر أي: يفعلُ الفعلَ حالَ كونه مِثلَ ذلك، وهو مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم إيضاحُه. والثاني: من وجهي الكاف أنَّها في محلِّ رفعٍ على أنها خبر مقدم، والجلالةُ مبتدأٌ مؤخرٌ، فقدَّره الزمخشري «على نحوِ هذه الصفة اللهُ» ، ويفعل ما يشاء بيانٌ له، وقدَّره ابن عطية: كهذه القدرة المستغرَبة هي قدرة الله، وقدَّره الشيخ فقال: «وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: صُنْعُ اللهِ الغريبُ مثلُ ذلك الصنعِ، فيكون» يفعل ما يشاء «شرحاً للإِبهامِ الذي في اسم الإِشارة» فالكلامُ على الأول جملةٌ واحدةٌ وعلى الثاني جملتان. وقال ابن عطية: «ويُحتمل أن تكونَ الإِشارةُ بذلك إلى حال زكريا وحالِ امرأته، كأنه قال: ربِّ على أيّ وجه يكونُ لنا غلامٌ ونحن بحالِ كذا؟ فقال له: كما أنتما يكون لكما الغلامُ، والكلامُ تامٌّ على هذا التأويلِ في قوله:» كذلك «وقولُه: {الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} جملةٌ مبينة مقرِّرةٌ في النفس وقوعَ هذ الأمر المستغرب» انتهى. وعلى هذا الذي ذكرَه يكون «كذلك» متعلقاً بمحذوفَ، و «الله يفعل» جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ وخبرٍ.

41

قوله تعالى: {اجعل لي آيَةً} يجوزْ أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنينِ أوَّلهما «آية» والثاني: الجارُّ قبلَه. والتقديمُ هنا واجبٌ، لأنه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرة وهي «آية» / لو انحلَّتْ إلى مبتدأ وخبر إلا تقدُّمُ هذا الجارِّ، وحكمُهما بعد دخول الناسخِ حكمُهما قبلَه، والتقديرُ: صَيِّرْ آيةً من الآياتِ لي. ويجوز أَنْ يكونَ بمعنى الخَلَقْ والاتِّخاذ

أي: اخلُقْ لي آيةً فتعدَّى لواحدٍ، وفي «لي» على هذا وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بالجَعْلِ، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «آية» لأنه لو تأخر لجازَ أن يقعَ صفةً لها، ويجوزُ أن يكونَ للبيانِ. وحَرَّك الياءَ بالفتح نافع وأبو عمرو، وأسكنها الباقون. قوله: {أَلاَّ تُكَلِّمَ} أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لقوله: «آيتُك» أي: آيتُك عدمُ كلامِك للناس. والجمهورُ على نصبِ «تُكَلِّم» بأَنْ المصدريةِ. وقرأ ابن أبي عبلة برفعِه، وفيه وجهان، أحدهما: أن تكونَ «أَنْ» مخففةً من الثقيلةِ، واسمُها حينئذٍ ضميرُ شأنٍ محذوفٍ، والجملةُ المنفيَّةُ بعدَها في محلِّ رفع خبراً ل «أَنْ» ، ومثلُه: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ} [طه: 89] {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [المائدة: 71] ، ووقعَ الفاصلُ بين أَنْ والفعلِ الواقعِ خبَرَها بحرف نفي، ولكنْ يُضْعِفُ كونَها مخففةً عدمُ وقوعِها بعد فعلِ يقين. الثاني: أَنْ تكونَ الناصبَةُ حُمِلَتْ على «ما» أختِها، ومثلُه: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] ، وأَنْ وما في حَيِّزها أيضاً في محلِّ رفعٍ خبراً ل «آيتُك» . قوله تعالى: {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} الصحيحُ أنَّ هذا النحوَ وهو ما كان من الأزمنة يستغرقُ جميعُه الحدثَ الواقعَ فيه منصوبٌ على الظرفِ خلافاً للكوفيين فإنَّهم يَنْصِبونه نصبَ المفعولِ به، وقيل: «وثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ تقديرُه: ثلاثةَ أيام وليالِيها، فحُذِفَ كقولِه تعالى: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ونظائِره،

يَدُلُّ على ذلك قولُه في سورة مريم: {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم: 10] ، وقد يُقَال: إنَّه يُؤْخَذُ المجموعُ من المجموعِ فلا حاجةَ إلى ادَّعاءِ حَذفٍ، فإنَّا على هذا التقديرِ الذي ذكرتموه نَحْتاجَ إلى تقديرِ معطوفٍ في. الآية الأخرى تقديرُه: ثلاثَ ليالٍ وأيامَها. قوله: {إِلاَّ رَمْزاً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ منقطع لأنَّ الرمزَ ليس من جنسِ الكلام، إذ الرمز: الإِشارةُ بعينٍ أو حاجبٍ، أو نحوهما، ولم يَذْكُر أبو البقاء غيرَه، واختارَه ابنُ عطية بادِئاً به فإنه قال:» والكلامُ المرادُ في الآية إنما هو النطقُ باللسان لا الإِعلامُ بما في النفسِ، فحقيقةُ هذا الاستثناءِ أنه استثناءٌ منقطعٌ «ثم قال:» وذهب الفقهاءُ إلى أنَّ الإِشارةَ ونحوَها في حكمِ الكلامِ في الأَيْمان ونحوِها، فعلى هذا يَجِيءُ الاستثناءُ متصلاً «. والوجه الثاني: أنه متصلٌ؛ لأنَّ الكلامَ لغةً يُطلقُ بإزاء معانٍ، الرمزُ والإِشارةُ من جملتها، وأنشدوا على ذلك: 1271 - إذا كَلَّمَتْني بالعيونِ الفواترِ ... رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ وقال آخر: 1272 - أرادَتْ كلاماً فاتَّقَتْ من رقيبها ... فلم يَكُ إلا وَمْؤُها بالحواجبِ وقد استعمل الناسُ ذلك فقال حبيب:

1273 - كَلَّمْتُه بجفونٍ غيرِ ناطقة ... فكانَ مِنْ رَدِّهِ ما قالَ حاجِبُهْ وبهذا الوجه بدأ الزمخشري مختاراً له قال: «لمَّا أُدِّي مُؤَدَّى الكلام وفُهِم منه ما يُفْهَمُ منه سُمِّي كلاماً، ويجوز أَنْ يكونَ استثناء منقطعاً» . والرَّمْزُ: الإِشارةُ والإِيماءُ بعينٍ أو حاجبٍ أو يَدٍ، ومنه قيلَ للفاجِرَةِ: الرامِزَة والرَّمَّازة، وفي الحديث: «نَهَى عن كَسْبٍ الرَّمَّازة» يقال فيه: رَمَزَت تَرْمُزُ وتَرْمِزِ بضم العين وكسرها في المضارع، وأصل الرَّمْز: التحرك يقال: رَمَزَ وارتَمَزَ أي: تحرَّك، ومنه قيل للبحر: الراموز لتحرُّكه واضطرابه. وقال الراغب: «الرَّمْز: إشارةُ بالشفة، والصوتُ الخفي والغمزُ بالحاجبِ، وما ارمازَّ أي: لم يتكلَّم رمزاً، وكتيبةَ رمَّازة: أي لم يُسْمَعْ منها إلا رمْزٌ لكثرتِها» قلت: ويؤيِّدُ كونَه الصوتَ الخفي كما قال الراغب ما جاء في التفسيرِ أنه كان ممنوعاً من رفعِ الصوتِ. والعامَّةُ قرؤوا: رَمْزاً بفتحِ الراءِ وسكونِ الميم. وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة بن قيس: «رُمُزاً» بضمِّهما وفيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدر على فُعْل بتسكينِ العينِ في الأصلِ، ثم ضُمَّتِ العينُ إتباعاً كقولهم: اليُسْر والعُسْر في: اليُسُر والعُسُر، وقد تقدَّم في هذا كلامٌ لأهلِ التصريف. والثاني: أنه جمعُ رَمُوز كرُسُل في جمع رسول، ولم يَذْكر الزمخشري غيره. وقال أبو البقاء: «وقُرِىء بضمِّها أي الراء وهو جمع رُمُزَة بضمتين، وأُقِرَّ ذلك في الجمعِ، ويجوز أَن يكونَ سَكَّن الميمَ في الأصل، وإنما أَتْبَعَ الضَّمَّ

الضَّمَّ، ويجوزُ أن يكونَ مصدراً غيرَ جمعٍ وضُمَّ إتباعاً كاليُسْر واليُسُر» قلت: قوله: «جمعُ رُمُزة» إلى قوله «في الأصل» كلام مُثْبَجٌ لا يُفْهَمُ منه معنًى صحيحٌ. وقرأ الأعمش: «رَمَزاً» بفتحِهِما. وخرَّجها الزمخشري على أنه جمعُ رامِزِ كخادِمِ وخَدَم. وانتصابُهُ على هذا على الحالِ من الفاعِلِ وهو ضميرُ زكريا، والمفعولِ معاً وهو الناس كأنه: إلا مترامزين كقوله: 1274 - متى ما تَلْقَني فَرْدَيْن تَرْجُفْ ... رَوانِفُ إليَتَيْكَ وتُسْتَطارا / وكقوله: 1275 - فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ ... أيِّي وأيُّك فارسُ الأَحْزَابِ قوله تعالى: {كَثِيراً} نعتٌ لمصدر محذوفٍ أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ وقد عُرِفَ. أو نَعْتٌ لزمانٍ محذوفٍ تقديرُهُ: ذِكْراً كثيراً أو زماناً كثيراً. والباءُ في قوله: {بالعشي} بمعنى «في» أي: في العشي والإِبكار. والعَشِيُّ يُقال من وقت زوال الشمس إلى مَغِيبِها، كذا قال الزمخشري. وقال الراغب: «العَشِيُّ: من زوال الشمس إلى الصباح» والأولُ هو المعروفُ. وقال الواحدي: «العَشِيُّ: جمع عَشِيَّة وهي آخر النهار» .

والعامة قرؤوا: «والإِبكار» بكسر الهمزة، وهو مصدرُ بَكَّر يُبَكِّر إبكاراً أي: خرج بُكْرة، ومثله بَكَر بالتخفيف وابْتَكَر. قال عمر بن أبي ربيعة: 1276 - أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فهذا من أَبْكر. وقال أيضاً: 1277 - أيها الرائحُ المُجِدُّ ابتكاراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال الآخر: 1278 - بَكَرْنَ بُكوراً واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ ... فهنَّ ووادي الرَّسِّ كاليدِ في الفم وقُرىء شاذاً: «والأَبْكار» بفتح الهمزةِ، وهو جمعُ «بَكَر» بفتح الفاء والعين. ومتى أُريد به هذا الوقتُ من يومٍ بعينِهِ امتنع من الصرف والتصرُّف فلا يُستعمل غيرَ ظرف. تقول: «أتيتُك يومَ الجمعة بَكَر» ، وسببُ منع صرفه التعريفُ والعدلُ من «أل» ، فلو أُريد به وقتُ مبهمٌ انصرفَ نحو: «أتيتكَ بَكَراً من الأبكار» ، ونظيره: سَحَرَ وأَسْحار في جميعِ ما تقدَّم، وهذه القراءةُ تناسِبُ قولَه «العشيّ» عند مَنْ يَجْعَلُهَا جمعَ «عَشِيََّة» ليتقابَلَ الجمعان. ووقتُ الإِبكارِ من طلوعِ الفجرِ إلى وقتِ الضُّحى وقال الراغب: «

أصلُ الكلمةِ هي البُكْرَةُ أولَ النهارِ، فاشْتُقَّ من لفظِهِ لفظُ الفعل فقيل: بَكَر فلانٌ بُكوراً إذا خَرَجَ بُكْرة، والبَكُور: المبالغُ في البُكور، وبَكَّر في حاجته وابتَكَر وباكَرَ، وتُصُوِّر فيها معنى التعجيل لتقدُّمِها على سائِر أوقاتِ النهار، فقيل لكل متعجِّلٍ: بَكِر» قلت: ظاهرُ هذه العبارة وكذا عبارةُ غيره أنَّ البَكَرَ مختصٌّ بطلوعِ الشمسِ إلى الضحى، فإنْ أريد به من أول طلوعِ الفجر إلى الضحى، فإنه على خلاف الأصلِ. وقد صَرَّح الواحدي بذلك فقال: هذا معنى الإِبكار، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجرِ إلى الضحى إبكاراً كما يُسَمَّى إصْباحاً.

42

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} : إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ هذا الظرفَ نَسَقاً على الظرفِ قبلَه وهو قولُهُ: {إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ} وإنْ شِئْتَ جَعَلْته منصوباً بمقدَّر قاله أبو البقاء. وقرأ عبدُ الله بن مسعود وابن عمر: «وإذ قال الملائكة» دونَ تاءِ تأنيث، وتوجيهُ ذلك تقدَّم في {فَنَادَاهُ الملائكة} . ومعمولُ القولِ الجملةُ المؤكَّدَةُ بإنَّ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الله اصطفاك} ، وكَرَّر الاصطفاءَ رفعاً مِنْ شأنِهِا. قال الزمخشري: «اصطفاكِ أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أُمِّك ورَبَّاك واخْتَصَّكِ بالكرامَةِ السَّنِيَّة، واصطفاكِ آخِراً على نساءِ العالمين بأَنْ وَهَبَ لكِ عيسى من غَيْرِ أَبٍ ولم يكنْ ذلك لأحدٍ من النساء» واصْطَفَى: افْتَعَلَ من الصَّفْوَة، أُبْدِلَتْ التاءُ طاءً لأجلِ حرفِ الإِطْبَاقِ

وقد تقدَّم تقريرُه في البقرة، وتقدَّم سببُ تعدِّية ب «على» ، وإن كان أصلُ تعديتِهِ ب «مِنْ» . وقال أبو البقاء: «وكَرَّر اصطفى: [إمَّا] توكيداً، وإمَّا ليبيِّن مَنِ اصطفاها عليهنَّ» ، وقال الواحدي: «وكَرَّر الاصطفاءَ لأنَّ كِلا الاصطفائين يختلفُ معناهما، فالاصطفاء الأول عمومٌ يدخُل فيه صوالحُ النساءِ، والثاني اصطفاء بما اختصَّتْ به من خصائِصِها.

44

قوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ} : يجوزُ فيه أوجه، أحدُها: أَنْ يكونَ «ذلك» خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ: الأمر ذلك. و «مِنْ أنباءِ الغيب» على هذا يجوزُ أن يكونَ مِنْ تتمةِ هذا الكلامِ حالاً من اسمِ الإِشارةِ، ويجوزُ أنْ يكونَ الوقفُ على «ذلك» ، ويكونُ «مِنْ أنباء الغيبِ» متعلِّقاً بما بعَده وتكونُ الجملةُ من «نوحيه» إذ ذاك: إمَّا مبينةً وشارحةً للجملةِ قبلَها وإمَّا حالاً. الثاني: أن يكونَ «ذلك» مبتدأً، و «من أنباء الغيب» خبرَه والجملةُ من «نوحيه» مستأنفةً، والضميرُ في «نوحيه» عائدٌ على الغيب، أي: الأمرُ والشأنُ أنَّا نوحي إليك الغيبَ ونُعْلِمُك به ونُظْهِرُكَ على قصصِ مَنْ تقدَّمك مع عدمِ مدارستكِ لأهلِ العلمِ والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في «نُوحيه» ، وهذا أحسنُ مِنْ عَوْدِهِ على «ذلك» ؛ لأنَّ عَوْدَهُ على الغيبِ يَشْمَلُ ما تقدَّم من القصص وما لَم يتقدَّمْ منها، ولو أَعَدْتَه على «ذلك» اختصَّ بما مضى وتقدَّم. الثالث: أن يكونَ «نوحيه» هو الخبرَ، و «من أنباء الغيب» على وجهيه المتقدِّمين مِنْ كَوْنِهِ حالاً من «ذلك» أو متعلِّقاً بنوحيه، ويجوز في وجهُ ثالثٌ على هذا/ وهو أَنْ يُجْعَلَ حالاً من مفعول «نوحيه» أي: نوحيه حالَ كونِهِ بعضَ أنباءِ الغيبِ.

قوله: {إِذْ يُلْقُون} فيه وجهان أحدُهما: وهو الظاهر أنه منصوب بالاستقرار العاملِ في الظرفِ الواقِعِ خبراً. والثاني وإليه ذهب الفارسي أنه منصوبٌ بكنت، وهو عجيبٌ منه لأنه يزعمُ أنَّها مسلوبةُ الدلالة على الحَدَثِ فكيف تعملُ في الظرفِ والظرفُ وِعاءٌ للأحداثِ؟ والذي يظهر أن الفارسي إنما جَوَّز ذلك بناءً منه على ما يَجُوزُ أَنْ يكونَ مراداً في الآية، وهو أَنْ تكونَ «كان» تامةً بمعنى: وما وُجِد في ذلك الوقتِ. والضميرُ في «لديهم» عائدٌ على المتنازِعَيْنِ في مريم وإنْ لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ، لأنَّ السياقَ قَد دَلَّ عليهم، وهذا الكلامُ ونحوُه كقولِهِ تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور} [القصص: 46] {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ} [يوسف: 102] وإن كانَ معلوماً انتفاؤه بالضرورةِ جارٍ مَجْرى التهكم بمنكري الوَحْي، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تعاصِرْ أولئك ولم تُدَارِس أحداً في العلمِ فلم يَبْقَ اطلاعُك عليه إلا مِنْ جِهَةِ الوحي. والأقلام جمع «قَلَم» وهو فَعَل بمعنى مفعول أي: مَقْلوم، والقَلْم القَطْع، ومثلُه القبض والنقص بمعنى المقبوض والمنقوص، وقيل له: قَلَم؛ لأنه يُقْلَمُ، ومنه «قَلَّمْتُ ظُفْرِي» أي: قَطَعْتُهُ وَسَوَّيْتُهُ، قال زهير: 1279 - لدى أَسَدٍ شاكي السلاحِ مُقَذَّفٍ ... له لِبَدٌ أضفارُهُ لمْ تُقَلَّمِ وقيل: سُمِّي القلمُ قَلَماً تشبيهاً له بالقُلامَةِ وهي نبتُ ضعيف؛ وذلك أنه يُرَقَّق فيضْعُفُ. وفي المرادِ بالأقلام هنا خلافٌ: هل هي التي يُكْتَبُ بها أو قِداحٌ يُسْتَهَمُ بها كالأزلام؟

قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} هذه الجملةُ منصوبةُ المَحَلِّ؛ لأنها متعلقة بفعلٍ محذوفٍ، ذلك الفعل في محلِّ نصبٍ على الحالِ تقديرُهُ: يُلْقونَ أقلامَهم يَنظُرون: أيُّهم يَكْفُل مريم أو يَعْلَمُون، وجَوَّز الزمخشري أن يُقَدَّر «يقولون» ، فيكونَ محكياً به، ودَلَّ على ذلك قولُه: {يُلْقُون} . وقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} كقوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون} .

45

قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الملائكة} : في هذا الظرفِ أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً بيختصمون. الثاني: أنه بدلٌ من «إذ يختصمون» وهو قولُ الزجاج. وفي هذين الوجهين بُعْدٌ، من حيثُ إنه يلزمُ اتحادُ زمانِ الاختصامِ وزمانِ قولِ الكلام، ولم يَكُنْ ذلك لأنَّ وقتَ الاختصامِ كان صغيراً جداً ووقتَ قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحيانٍ. وقد اسْتَشْعَرَ الزمخشري هذا السؤالَ فأجابَ بأنَّ الاختصامَ والبِشَارةَ وقعا في زمان واسعٍ كما تقول: «لَقِيتُهُ سنةَ كذا» يعني أنَّ اللقاء إنما يقع في بعض السنةِ فكذا هذا. الثالث: أن يكونَ بدلاً من «إذ قالت الملائكة» أولاً، وبه بدأَ الزمخشري كالمختارِ له، وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفاصلِ بين البدلِ والمُبْدَلِ منه. الرابع: نصبُه بإضمارِ فعلٍ. والوَحْيُ: الإِشارةُ السريعةُ، ولتضمُّنِ السرعةِ قيل: «أمرٌ وَحْيٌ»

وقيل: إلقاءُ معنى الكلام إلى مَنْ يريدُ إعلامَهُ، والوحيُ يكونُ بالرمز والإِشارة قال: 1280 - لأوْحَتْ إلينا والأنامِلُ رُسْلُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقولُه تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ} أي: أشارَ إليهم، ويكون بالكتابَةِ، قال زهير: 1281 - أتى العُجْمَ والآفاقَ منه قصائدٌ ... بَقَيْنَ بقاءَ الوَحْي في الحَجَر الأَصَمِّ ويُطْلَقُ الوَحْيُ على الشيءِ المكتوبِ، قال: 1282 - فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّي رَسْمُها ... خَلَقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها قيل: الوُحِيُّ جمعُ: وَحْي كَفَلْس وفُلُوس، وكُسِرَت الحاءُ إتباعاً. والوَحْيُ: الإِلهامُ: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] ، والوَحي للرسل يكون بأنواع مذكورةٍ في التفسير. قوله: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} في محلِّ جرٍ صفةً لكلمة، والمرادُ بالكلمة هنا عيسى، وسُمِّيَ كلمةً لوجودهِ بها وهو قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبَّب. و «اسمه» مبتدأ، و «المسيح» خبرُهُ. و «عيسى» بدلٌ منه أو عطفُ بيان. قال أبو البقاء: «ولا يكونُ خبراً ثانياً لأنَّ تَعَدُّدُ الأخبارِ يُوجِبُ

تعَدُّدَ المبتدأ، والمبتدأُ هنا مفردٌ، وهو قولُه:» اسمهُ «ولو كان عيسى خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها على تأنيث الكلمة» قلت: هذا على رأي، وأما من يجيز ذلك فقد أعرب عيسى خبراً ثانياً، وأعرَبه بعضُهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو عيسى، فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في «عيسى» ، ويجوز على الوجهِ الثالث وجهٌ رابعٌ وهو النصبُ بإضمار «أَعْني» لأنَّ كلَّ ما جازَ قَطْعُهُ رَفْعاً جازَ قطعُهُ نصباً. والألفُ واللامُ في «المسيح» للغلبَةِ كهي في الصَّعِق والعَيُّوق وفيه وجهان، أحدُهما: أنه فَعِيل بمعنى فاعِل مُحَوّل منه مبالغة، فقيل: لأنه مَسَحَ الأرض بالسِّياحة، وقيل: لأنه يَمْسَح ذا العاهة فيبرأُ، وقيل: بمعنى مَفْعول لأنه مُسِحَ بالبركةِ أو لأنه مَسِيحُ القدمِ، قال: 1283 - باتَ يُقاسيها غلامٌ كالزَلَمْ ... خَدَلَّجُ الساقَيْنِ ممسوحُ القَدَمْ أو لِمَسْحِ وجهِهِ بالمَلاحة، قال: 1284 - على وَجْهِ مَيٍّ مَسْحَةٌ من مَلاحة ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والثاني: أنَّ وَزْنَهُ مَفْعِل من السياحةِ وعلى هذا كله فهو منقولٌ من الصفة. وقال أبو عبيد: أصلُه بالعبرانية: «مسيخاً» فَغُيِّر، قال الشيخ: «

فعلى هذا يكونُ/ اسماً مرتجلاً ليس مشتقاً من المَسْح ولا من السِّياحة» قلت: قولُه «ليس مشتقاً» صحيحٌ، ولكنْ لا يَلْزَمُ من ذلك أن يكونَ مرتجلاً ولا بُدَّ، لاحتمالِ أن يكونَ في لغتِهِم منقولاً من شيء عندهم. وأتى بالضمير في قوله: «اسمُه» مذكَّراً وإنْ كان عائداً على الكلمة مراعاةً للمعنى، إذ المرادُ بها مذكر. و «ابنُ مريم» يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لعيسى، قال ابن عطية: «وعيسى خبرُ مبتدأٍ محذوف، ويَدْعُو إلى هذا كونُ قولِهِ» ابنُ مريم «صفةً لعيسى، إذ قد أَجْمَعَ الناسُ على كَتْبِه دونَ ألفٍ، وأمَّا على البدل أو عطفِ البيان فلا يجوزُ أن يكونَ» ابنُ مريم «صفةً لعيسى، لأنَّ الاسمَ هنا لم يُرَدْ به الشخصُ. هذه النزعةُ لأبي عليّ، وفي صدرِ الكلام نظَرٌ» انتهى. قلتُ: فقد حَتَّمَ كونَه صفةً لأجلِ كَتْبِهِ بدونِ ألف، ثم قال: «وأمَّا على البدلِ أو عطفِ البيان فلا يكونُ ابنُ مريم صفةً لعيسى» يعني بدلَ عيسى من المسيح، فَجَعَلَهُ غيرَ صفةٍ له مع وجودِ الدليلِ الذي ذكره وهو كَتْبُه بغير ألف. وقد مَنَعَ أبو البقاء أن يكونَ «ابنُ مريم» بدلاً أو صفة لعيسى قال: «لأنَّ ابنَ مريم ليس باسمٍ، ألا ترى أنَّك لا تقولُ:» هذا الرجلُ ابنُ عمرو «إلا إذا كان قد عَلِقَ عليه علماً» قلت: وهذا التعليلُ الذي ذكره إنما ينهَضُ في عَدَمِ كَوْنِهِ بدلاً، وأمَّا كونُه صفةً فلا يمنعُ ذلك، بل إذا كان اسماً امتنع كونُه صفةً، إذ يصيرُ في حكمِ الأعلامِ، والأعلامُ لا تُوصَفُ به، ألا ترى أنك إذا سَمَّيْتَ رجلاً بابن عمرو امتنعَ أن يقَع «ابن عمرو» صفةً والحالةُ هذه. وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ قيل: اسمُه المسيح عيسى ابن

مريم، وهذه ثلاثةُ أشياءَ: الاسمُ منها عيسى، وأمَّا المسيحُ والابنُ فَلَقَبٌ وصفةٌ؟ قلت: الاسمُ للمُسَمَّى علامةٌ يُعْرَفُ بها ويتميَّز مِنْ غيرِه، فكأنه قيل: الذي يُعْرف ويتميَّز مِمَّن سواه بمجموعِ هذه الثلاثةِ» انتهى فَظَهَرَ من كلامِهِ أَنَّ مجموعَ الألفاظ الثلاثةِ إخبار عن اسمِهِ، بمعنى أنَّ كلاً منها ليس مستقلاً بالخبرية بل هو من باب: هذا حلوٌ حامِض، وهذا أَعْسَرُ يَسَرٌ ونظيرُهُ قولُ الشاعر: 1285 - كيف أصبحْتَ كيف أمسَيْتَ مِمَّا ... يزرعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريمِ أي: مجموعُ كيف أصبحْتَ، وكيف أمسيْتَ، فكما جاز تعدُّدُ المبتدأ لفظاً مِنْ غيرِ عاطف والمعنى على المجموعِ فكذلك في الخبرِ، وقد أَنْشَدْتُ عليه أبياتاً كقوله: 1286 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . فهذا بَتِّي ... مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشَتِّي وقد زعم بعضُهم أنَّ «المسيح» ليس باسمِ لقبٍ له بل هو صفةٌ كالضارب والظريف، قال: «وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، إذا المسيح صفة لعيسى والتقدير: اسمُه عيسى المسيحُ» . وهذا لا يجوزُ، أعني تقديمَ الصفةِ على الموصوفِ، لكنه يعني هو صفةٌ له في الأصل، والعربُ إذا قَدَّمَتْ ماهو صفةٌ في الأصل جَعَلوه مبنيَّاً على العاملِ قبلَه وجعلوا الموصوفَ بدلاً مِنْ صفتِهِ في الأصلِ نحو قولِه:

1287 - وبالطوِيلِ العمْر ... عُمْراً حَيْدَرا الأصل: وبالعمرِ الطويلِ، هذا في المعارف، وأمَّا في النكراتِ فينصِبون الصفةَ حالاً. وقال الشيخ: «ولا يَصِحُّ أَنْ يكون» المسيح «في هذا التركيب صفةً لأن المُخْبَرَ به على هذا لُفِظَ، والمسيحُ من صفةِ المدلولِ لا من صفةِ الدالِّ، إذ لفظُ عيسى ليس المسيح، ومَنْ قال: إنهما اسمان قال: فَقُدِّمَ المسيحُ على عيسى لشهرتِهِ. قال ابن الأنباري:» وإِنَّما قُدِّمَ بُدِىء بلقبه لأن المسيحَ أشهرُ من عيسى لأنه قَلَّ أن يقعَ على سُمَىً يَشْتَبِهُ به، وعيسى قد يقع على عدد كثير فقدَّمه لشهرتِهِ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهرُ من أسمائِهِم «، فهذا يَدُلُّ على أنَّ المسيحَ عند ابن الأنباري [لقبٌ] لا اسمٌ. وقال أبو إسحاق:» وعيسى مُعَرَّبٌ من أَيْسوع وإنْ جَعَلْتَه عربياً لم تَصْرِفْهُ في معرفةٍ ولا نكرةٍ، لأنَّ فيه ألفَ التأنيث، ويكون مشتقاً مِنْ عاسَه يَعُوسه إذا سَاسَه، وقام عليه «، وقال الزمخشري:» ومُشْتَقُّهُما يعني المسيح وعيسى من المَسْح والعَيْس كالراقمِ على الماء «. وقد تقدَّم الكلامُ على عيسى ومريم واشتقاقِهما وما ذَكَرَ الناسُ في ذلك في سورة البقرة فَأَغْنى عن إعادته. قوله: {وَجِيهاً} حالٌ وكذلك قولُه: {وَمِنَ المقربين} .

46

قولُه: {وَيُكَلِّمُ} وقوله: {مِنَ الصالحين} فهذه أربعةُ أحوالٍ انتصبَتْ عن قوله «بكلمة» ، وإنما ذَكَّره الحالَ حَمْلاً على المعنى، إذ المرادُ بها الولَدُ والمُكَوَّن، كما ذكَّر الضميرَ في «اسمهُ» ، فالحالُ الأولى جِيء بها على الأصلِ اسماً

صريحاً، والباقيةُ في تأويِلِهِ: فالثانيةُ جار ومجرور، وأُتِيَ بها هكذا لِوُقوعِها فاصلةً في الكلامِ، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً لفاتَ مناسبةٌ الفواصلِ، والثالثة/ جملةٌ فعليةٌ، وعطفُ الفعلِ على الاسمِ لتأويله به وهو كقولِهِ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] أي: وقابضاتٍ، ومثلُه في عَطْفِ الاسمِ على الفعلِ لأنه في تأويلِهِ قولُ النابغة: 1288 - فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّه ... وبَحْرَ عطاءٍ يَسْتَخِفُّ المعابِرا ويقرب منه: 1289 - باتَ يُغَشِّيها بعَضْبٍ باتِرٍ ... يَقْصِدُ في أَسْوُقِها وجائِرُ إذ المعنى: مبيراً عدوَّه، وقاصدٍ، وجاءَ بالثالثةِ فعليةً لأنَّها في رتبتِها، إذ الحالُ وصفٌ في المعنى، وقد تقدَّم أنه إذا اجتمع صفاتٌ مختلفة في الصراحةِ والتأويلِ قُدِّم الاسمُ ثم الظرفُ أو عديلُه ثم الجملةُ، فكذا فَعَل هنا، قَدَّم الاسمَ وهو «وجيهاً» ثم الجارَّ والمجرورَ ثم الفعلَ، وأتى به مضارِعاً لدلالتِهِ على التجدُّد وقتاً فوقتاً، بخلافِ الوجاهةِ فإنَّ المرادَ ثبوتُها واستقرارُها والاسمُ مكتفِّلٌ بذلك، والجارُّ قريبٌ من المفردِ فلذلك ثَنَّى به إذ المقصودُ ثبوتُ تقريبه. والتضعيفُ في «المقرَّبين» للتعديةِ لا للمبالغةِ لِمَا تقدَّم من أنَّ التضعيفَ للمبالغةِ لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً، وهذا قد أَكْسَبَهُ مفعولاً كما ترى بخلافِ: «قَطَّعْتُ الأثوابَ» فإنَّ التعدِّيَ حاصلٌ قبلَ ذلك، وجيء بالرابعةِ بقوله {مِنَ الصالحين} مراعاةً للفاصلةِ كما تقدَّم في «المقرَّبين» والمعنى: أنَّ الله يُبَشِّركِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ.

وَمَنَع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من المسيح أو من عيسى أو من ابن مريم، قال: «لأنها أخبارٌ والعاملُ فيها الابتداءُ أو المبتدأُ أو هما، وليس شيءٌ من ذلك يَعْمَلُ في الحال» وَمَنَع أيضاً كونَها حالاً من الهاء في «اسمُه» قال: «للفصلِ الواقِعِ بينهما، ولعدمِ العاملِ في الحال» قلت: ومذهبُهُ أيضاً أنَّ الحالَ لا تجيءُ من المضافِ إليه وهو مرادُهُ بقولِهِ: «ولعدمِ العاملِ» وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالصفةِ بعدَها. وظاهرُ كلامِ الواحدي فيما نقلَهُ عن الفراء، أنه يجوزُ أن تكونَ أحوالاً من عيسى فإنَّه قال: «والفراء يُسَمِّي هذا قطعاً كأنه قال: عيسى ابن مريم الوجيهَ، قَطَعَ منه التعريفَ» فظاهِرُ هذا يُؤْذِنُ بأنَّ «وجيهاً» من صفة عيسى في الأصل فَقُطِعَ عنه، والحالُ وصفٌ في المعنى. قوله: {فِي الدنيا} متعلق بوجيهاً، لِما فيه من معنى الفعل. والوجيه: ذو الجاه وهو القوة والمَنَعَةُ والشرف، يقال: وَجُه الرجلُ يَوْجُه وَجَاهَةً، واشتقاقُهُ من الوجه لأنه أشرفُ الأعضاءِ، والجاه مقلوبٌ منه فوزنُه عَفَل. وقوله تعالى: {فِي المهد} : يجوزُ فيه وجهان: أحدهما: وهو الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الضميرِ في «يُكَلِّم» ِأي: يكلِّمُهم صغيراً وكهلاً، فَكَهْلاً على هذا نَسَقٌ على هذه الحالِ المؤولةِ. والثاني: أنه ظرفٌ للتكليم كسائرِ الفَضَلات، فَكَهْلاً على هذا نسق على وجيهاً فعلى هذا يكون خمسةُ أَحوالٍ. والكَهْلُ: مَنْ بَلَغَ سنَّ الكهولةِ وأولُها ثلاثون، وقيل: اثنان، وقيل: ثلاثٌ وثلاثون. وقيل: أربعون، وآخرُها ستون، ثم يدخُلُ في سن الشيخوخة واشتقاقه مِنْ اكْتَهَلَ النبات: إذا علا وَأَرْبَعَ، ومنه: الكاهلُ، وقال صاحب

المُجْمل: «اكتهل الرجلُ: وخَطه الشيب من قولهم: اكْتَهلت الروضةُ إذا عَمَّها النُّوْر، والمرأةُ: كَهْلَة» . وقال الراغب: «والكَهْلُ مَنْ وَخَطَه الشيبُ، واكتهلَ النبات: إذا شارف اليَبُوسة مشارَفَةَ الكَهْلِ الشيبَ، وأنشد قولَ الأعشى في وصفِ روضة: 1290 - يُضاحِكُ الشمسَ منها كوكبٌ شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ بعميمِ النبتِ مُكْتَهِلُ وقد تقدَّم الكلامُ في تنقُّلِ أحوالِ الوَلَد من لَدُنْ كونِهِ في البطن إلى شيخوختِهِ عند ذِكْرِ» غُلام «فلا نُعِيدُه. وقال بعضُهم:» ما دَامَ في بَطْنِ أمه فهو جنينٌ، فإذا وُلِدَ فَولِيد، فإذا لم يَسْتَتِمَّ الأسبوع فصديعٌ، وما دام يَرْضَعُ فَهُوَ رضيع، ثم هو فطيم عند الفِطام، وإذا لم يَرْضَع فَمَحوش، فإذا دَبَّ فدارج، فإذا سقطت رواضعُه فَثَغُور، فإذا نَبَتَتْ بعد إسقاطِهِ فَمَثْغور ومَتْغور، فإذا جاوَزَ العشرَ فمترعرعٌ وناشِىء، فإذا لم يبلُغ الحُلُمَ فيافعٌ ومراهق، فإذا احتلَمَ فَحَزُوُّرٌ، والغلامُ يُطْلَقُ عليه في جميعِ أحوالِهِ بعد الولادة، فإذا اخضرَّ شاربُهُ وسالَ عِذارُهُ فباقِلٌ، فإذا صارَ ذا لحيةٍ ففَتِيٌّ وشارِخٌ، فإذا مَا كَمَلَتْ لحيته فمتَجَمِّع، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شاب، ومن الأربعين إلى ستين كهل «ولأهلِ اللغةِ عباراتٌ مختلفة/ في ذلك، هذا أشهرُها.

فإنْ قيل: [المُسْتَغرَبُ إنما هو كلامُ الطفلِ في] المهدِ، وأمَّا كلامُ الكهولِ فغيرُ مُسْتَغرَبٍ، فالجوابُ أنهم قالوا: لم يتكلم صبيٌّ في المَهْدِ وعاش، أو لم يتكلَّمْ أصلاً بل يبقى أخرسَ أبداً، فبشَّر اللهُ مريم بأنَّ هذا يتكلم طفلاً ويعيشُ ويتكلم في حالِ كهولته، ففيه تطمينٌ لخاطِرها بما يخالِفُ العادةَ. وقال الزمخشَري:» بمعنى يُكلِّمُ الناسَ طفلاً وكهلاً، ومعناهُ يُكَلِّمُ الناسَ في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ من غير تفاوتٍ بين الحالتين: حالةِ الطفولة وحالةِ الكُهولة «. والمَهْدُ: ما يُهَيَّأُ للصبي أَنْ يُرَبَّى فيه، مِنْ مَهَّدْتُ له المكانَ أي: وَطَّأْته وَلَيَّنْتُه له، وفيه احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ أصلُه المصدرَ، فَسُمِّيَ به المكانُ، وأن يكونَ بنفسِه اسمَ مكانٍ غيرَ مصدرٍ، وقد قُرِيءَ مَهْداً ومِهاداً في طه كما سيأتي.

47

وقوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} : قد تقدَّم إعرابُ هذه الجملِ في قصةِ زكريا فلا معنى لإِعادتِهِ إلاَّ أنَّ هناك «يَفْعل ما يشاء» وهنا «يَخْلُق» قيل: لأنَّ قصتَّها أغربُ من قصتِهِ، وذلك أنه لم يُعْهَدْ ولدٌ مِنْ عذراءَ لم يَمَسَّها بشرٌ البَتَة، بخلافِ الولدِ بينَ الشيخِ والعجوزِ فإنه مستبعدٌ، وقد يُعْهَدُ مثلُه وإنْ كان قليلاً، فلذلك أتى بيخلُق المقتضي الإِيجادَ والاختراعَ من غيرِ إحالةٍ على سببٍ ظاهر، وإن كانتِ الأشياءُ كلُّها بخَلْقِهِ وإيجادِهِ وإنْ كان لها أسبابٌ ظاهرةٌ. والجملةُ من قولِهِ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي} حاليةٌ. [والبَشَرُ في الأصلِ مصدرٌ

كالخَلْق، ولذلك يَسْتوي فيه] المذكرُ والمؤنثُ والمفَردُ والمثنى والمجموعُ، تقولُ: هذه بَشَرٌ، وهذان بَشَرٌ، وهؤلاء بشر، كقولك: هؤلاء خَلْق. قيل: [واشتقاقُهُ من البَشَرة وهو ظاهرُ الجِلْد، لأنه الذي من شأنِهِ أَنْ يَظْهَرَ الفرحُ] والغَمُّ في بَشَرَتِهِ. «ويكون» يَحْتَمِلُ التمامَ والنقصَانَ، وقد تقدَّم تحريرُه، وتقدَّم أيضاً اختلاف القراء في «فيكون» وما ذُكِرَ في توجيهِه.

48

قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ} : قرأ نافع وعاصم: «ويُعَلِّمُه» بياء الغَيْبَة، والباقون بنونِ المتكلمِ المعظِّمِ نفسَه، وعلى كلتا القراءتين ففي محلِّ هذه الجملة أوجهٌ، أَحَدُها: أنها معطوفةٌ على «يُبَشِّرُكِ» أي: إن الله يبشرك بكلمةُ ويُعَلِّمُ ذلك المولودَ المعبَّرَ عنه بالكلمةِ. الثاني: أنها معطوفةٌ على «يَخْلُق» أي: كذلك اللهُ يَخْلُق ما يشاء ويعلمه، وإلى هذين الوجهين ذهب جماعةٌ منهم الزمخشري وأبو عليّ الفارسي. وهذا الوجهان ظاهران على قراءة الياء. وأمَّا قراءةُ النون فلا يظهرُ هذان الوجهان عليها إلا بتأويلِ الالتفاتِ من ضمير الغَيْبة إلى ضميرِ المتكلم إيذاناً بالفخامةِ والتعظيم. فأمَّا عطفُهُ على «يُبَشِّرُكِ» فقد استبعَدَه الشيخ جداً قال: «لطولِ الفصلِ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه» وأمَّا عطفُه على «يَخْلُق» فقال الشيخ: «وهو معطوفٌ عليه سواءً كانت يعني يخلق خبراً عن اللهِ تعالى أم تفسيراً لما قبلها، إذا أَعْرَبْتَ لفظ» الله «مبتدأً، وما قبلَه الخبرُ» يعني أنه قد تقدَّم في

إعرابِ «كذلك اللهُ» في قصة زكريا أوجهٌ أحدُها: ما ذَكر، ف «يُعَلِّمُه معطوفٌ على» يَخْلُق «بالاعتبارينِ المذكورينِ، إذ لا مانعَ من ذلك. وعلى هذا الذي ذكرَه الشيخُ وغيرُه تكون الجملةُ الشرطيةُ معترضةً بين المعطوفِ والمعطوف عليه، والجملةُ من» يُعَلِّمُهُ «في الوجهينِ المتقدِّمين مرفوعةُ المحلِّ لرفعِ محلِّ ما عَطَفَتْ عليه. الثالث: أَنْ يُعْطَفَ على» يُكَلِّمُ «فيكون منصوباً على الحالِ، والتقديرُ: يُبَشِّرُكِ بكلمةٍ مُكَلِّماً ومُعَلِّماً الكتابَ، وهذا الوجهُ جَوَّزه ابنُ عطية وغيره. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على» وجيهاً «لأنه في تأويلِ اسمٍ منصوب على الحالِ، كما تقدَّم تقريرُهُ في قوله:» ويكلِّم «. وهذا الوجهُ جَوزَّه الزمخشري واستبعدَ الشيخُ هذين الوجهين الأخيرين أعني الثالث والرابع قال:» لطولِ الفصلِ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، ومثلُه لا يُوجَدُ في لسانِ العرب «. الخامس: أَنْ يَكُون معطوفاً على الجملةِ المحكية بالقولِ، وهي:» كذلك الله يخلق «قال الشيخ:» وعلى كلتا القراءتين هي معطوفةٌ على الجملةِ المَقُولَةِ، وذلك أنَّ الضميرَ في قوله: «قال كذلك» الله تعالى، والجملةُ بعدَه هي المقولةُ، وسواءً كانَ لفظُ «الله» مبتدأً خبرُهُ ما قبلَه أم مبتدأً وخبرُه «يَخلق» على ما مَرَّ إعرابُهُ في «قال: كذلك اللهُ يفعل ما يشاء» فيكونُ هذا من المقولِ لمريم على سبيلِ الاغتباطِ والتبشيرِ بهذا الولدِ الذي يُوجِدُهُ اللهُ منها.

السادس: أن يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له من الإِعراب، قال الزمخشري بعد أَنْ ذَكَرَ فيه أنه يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على «نبشِّرك» أو «يَخْلُق» أو «وجيهاً» : «أو هو كلامٌ مبتدأٌ» يعني مستأنفاً. قال الشيخ: «فإنْ عنى أنه استنئافُ إخبار من الله أو عن الله على اختلاف القراءتين، فمن حيث ثبوتُ الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون ابتداءَ كلام، إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في» ويُعَلِّمه «فحينئذٍ يَصِحُّ أن يكونَ ابتداءَ كلام، وإنْ عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر فكان ينبغي أن يبيِّن ما عُطِفَ عليه، وأن يكونَ الذي عُطِفَ عليه ابتداءَ كلامٍ حتى يكونَ المعطوفُ كذلك» قلت: وهذا الاعتراضُ غيرُ لازمٍ لأنه لا يلزم مِنْ جَعْلِهِ كلاماً مستأنفاً أَنْ يُدَّعَى زيادةُ الواو، ولا أنه لا بد من معطوف عليه، لأنَّ النحْويين وأهلَ البيان نَصُّوا على أن الواو تكون للاستئناف، بدليلِ أنَّ الشعراءَ يأتُونَ بها في أوائلِ أشعارهم من غير تقدُّم شيء يكون ما بعدَها معطوفاً عليه، والأشعارُ مشحونةٌ/ بذلك، ويُسَمُّونَها واوَ الاستئنافِ، ومَنْ مَنَع ذلكَ قَدَّر أنَّ الشاعِرَ عَطَفَ كلامه على شيء مَنْوِيٍّ في نفسهِ، ولكنَّ الأولَ أشهرُ القولين. وقال الطبري: «قراءةُ الياءِ عَطْفٌ على قولِهِ» يَخْلُقُ ما يشاء «، وقراءةُ النونِ عطفٌ على قولِهِ» نُوحِيهِ إِلَيكَ «. قال ابن عطية:» وهذا القولُ الذي قاله في الوجهين مُفْسِدٌ للمعنى «ولم يبيِّن أو محمد جهةَ إفسادِ المعنى: قال الشيخ:» أمَّا قراءةُ النونِ فظاهِرٌ فسادٌ عطفِهِ على «نُوحيه» من حيثُ اللفظُ ومن حيثُ المعنى: أمَّا من حيث اللفظُ فمثلُه لا يَقْعُ في لسانِ العرب لبُعْدِ

الفصلِ المُفْرِطِ وتعقيدِ التركيبِ وتنافرِ الكلامِ، وأمَّا من حيث المعنى فإنَّ المعطوفَ بالواوِ شريكُ المعطوف عليه فيصيرُ المعنى بقوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} أي: إخبارُك يا محمد بقصةِ امرأةِ عمران وودلاتِها لمريم وكفالتِها زكريا، وقصتُه في ولادةِ يَحْيى له وتبشيرُ الملائكةِ لمريمَ بالاصطفاءِ والتطهيرِ، كلُّ ذلك مِنْ أخبارِ الغيب نُعَلِّمه، أي: نُعَلِّم عيسى الكتابَ، فهذا كلامٌ لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله. وأمَّا قراءةُ الياءِ وعطفُ «ويعلِّمه» على «يَخْلُق» فليست مُفسِدَةً للمعنى، بل هو أَوْلَى وأَصَحُّ ما يُحْمل عليه عَطْفُ «ويُعَلِّمه» لقرب لفظِهِ وصحةِ معناه، وقد ذَكَرْنَا جوازَهُ قبلُ، ويكونُ الله أَخْبَرَ مريمَ بأنه تعالى يَخْلُقُ الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادةُ بمثلِها مثلَ ما خلق لك ولداً من غير أبٍ، وأنه تعالى يُعَلِّم هَذا الولدَ الذي يَخْلُقه ما لم يُعَلِّمه مَنْ قَبْلَه مِن الكتاب والحكمة والتوراة والإِنجيل، فيكونُ في هذا الإِخبار أعظمُ تبشيرٍ لها بهذا الولدِ وإظهارٌ لبركته، وأنه ليس مُشْبِهاً أولادَ الناس من بني إسرائيل، بل هو مخالِفٌ لهم في أصلِ النشأةِ، وفيما يُعَلِّمه تعالى من العلمِ، وهذا يَظْهَرُ لي أنه أحسنُ ما يُحْمَلُ عَطْفُ «ويُعَلِّمه» . انتهى. وقال أبو البقاء: «ويُقْرَأُ بالنونِ حَمْلاً على قولِهِ: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ} ، ويُقْرَأُ بالياءِ حَمْلاً على» يُبَشِّرك «وموضعُهُ حالٌ معطوفَةٌ على» وجيهاً «. قال الشيخ:» وقالَ بعضُهم: ونُعَلِّمُه بالنون حَمْلاً على «نُوحيه» . إنْ عنى بالحَمْلِ العطفَ فلا شيءَ أبعدُ من هذا التقديرِ، وإنْ عنى بالحَمْل أنه من بابِ الالتفاتِ فهو صحيح «. قلت: يتعيَّن أَنْ يَعني بقولِهِ» حَمْلاً «الالتفاتَ ليس إلا، ولا يجوز أنْ يَعْني به العطفَ لقوله:» وموضعُهُ حالٌ معطوفةٌ

على وجيهاً «كيف يَسْتقيم أن يريدَ عطفَهُ على» نبشرك «أو» نوحيه «مع حُكْمِه. عليه بأنه معطوفٌ على» وجيهاً «؟ هذا ما لا يَسْتقيم أبداً.

49

قوله تعالى: {وَرَسُولاً} : في «رسول» وجهان، أحدُهما: أنه صفةٌ بمعنى مُرْسَل فهو صفةٌ على فُعُول كالصبور والشكور. والثاني: أنه في الأصلِ مصدرٌ، ومن مجيءِ «رسول» مصدراً قولُه: 1291 - لقد كَذَبَ الواشُون ما بُحْتُ عندَهم ... بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهمْ برسولِ أي: برسالة، وقال آخر: 1292 - أُبَلِّغْ أبا سلمى رسولاً تَرُوعه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: أُبَلِّغُه رسالةً، ومنه قولُه تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] على أحدِ التأولين، أي: إنَّا ذوا رسالةِ رب العالمين، وعلى الوجهين يترتَّبُ الكلامُ في إعراب «رسول» : فعلى الأولِ يكونُ في نصبهِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على «يُعَلِّمه» إذا أعربناه حالاً معطوفاً على «وجيهاً» إذ التقديرُ: وجيها ومُعَلِّماً ومُرْسَلاً، قاله الزمخشري وابن عطية. قال الشيخ: «وهو مَبْنِيٌّ على

إعراب» ويُعَلِّمه «، وقد بَيَّنَّا ضعفَ إعرابِ مَنْ يقولُ إنَّ» ويُعَلِّمه «معطوفٌ على» وجيهاً «للفصلِ المُفْرِطِ بين المتعاطِفَيْن» . الثاني: أن يكونَ نسقاً على «كَهْلاً» الذي هو حالٌ من الضميرِ المستتر في «ويُكَلِّم» أي: يُكَلِّم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيل، جَوَّز ذلك ابنُ عطية. واستبعده الشيخُ لطولِ الفصلِ بين المعطوف والمعطوف عليه. قلت: ويظهرُ أن ذلك لا يجوز من حيث المعنى، إذ يصيرُ التقديرُ: يُكَلِّمُ الناسَ في حالِ كونِه رسولاً إليهم، وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ، فإن قيل: هي حالٌ مقدَّرة كقولهم: «مررت برجل معه صقرٌ صائداً به غداً» وقوله: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] ، قيل: الأصلُ في الحالِ أن تكونَ مقارنةً، ولا تكونُ مقدرةً إلا حيث لا لَبْسَ. الثالث: أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ لائقٍ بالمعنى، تقديرُه: ونجعلُه رسولاً، لَمَّا رأَوه لا يَصِحُّ عَطْفُه على مفاعيلِ التعليم أضمروا له عاملاً يناسبه، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] وقوله: 1293 - يا ليتَ زوجَك قد غدا ... متقلِّداً سيفاً ورمحا وقول الآخر: 1294 - عَلَفْتُها تِبْناً وماءً باردا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله: 1295 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا أي: واعتقدوا الإِيمانَ، ومعتقلاً رمحاً، وسَقَيْتُها ماءً بارداً، وكَحَّلْنَ العيونَ، وهذا على أحدِ التأويلين في هذه الأمثلةِ. الرابع: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ من لفظِ «رسول» ، ويكون ذلك الفعلُ معمولاً لقولٍ مضمر أيضاً هو من قولِ عيسى. الخامس: أنَّ الرسولَ فيه معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم. ويُوَضِّح هذين الوجهين الأخيرين ما قاله الزمخشري، قاله رحمه الله: «فإن قلت: علامَ تَحْمِلُ» ورسولاً ومصدقاً «من المنصوبات المتقدمة، وقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} و {لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} يأبى حَمْلَه عليها؟ قلت: هو من المُضايِق، وفيه وجهان، أحدهما: أن تُضْمِرَ له» وأُرْسِلْتُ «على إرادة القول، تقديرُه: ويُعَلِّمه الكتابَ والحكمة ويقول: أُرْسِلْتُ رسولاً باني قد جئتكم ومُصَدِّقاً لِما بين يديَّ. والثاني: أن الرسول والمُصَدِّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم ومصدقاً لما بين يديّ «انتهى. إنما احتاج إلى إضمار ذلك كلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ، وذلك أنَّ ما قبله / من المنصوبات لا يَصِحُّ عطفُه عليه في الظاهر؛ لأنَّ الضمائر المتقدمة غيبٌ،

والضميران المصاحبان لهذين المنصوبين للمتكلم، فاحتاج إلى ذلك التقدير لتتناسَبَ الضمائرُ. قال الشيخ:» وهذا الوجهُ ضعيفٌ؛ إذ فيه إضمارُ شيئين: القولِ ومعمولهِ الذي هو «أُرْسِلْتُ» ، والاستغناءُ عنهما باسم منصوبٍ على الحال المؤكِّدة، إذ يُفْهَمُ من قوله «وأُرْسِلْتُ» أنه رسولٌ فهي حال مؤكِّدة «. واختار الشيخُ الوجَه الثالث قال:» إذ ليس فيه إلا إضمارُ فعلٍ يَدُلُّ عليه المعنى، ويكون قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} معمولاً لرسول أي: ناطقاً بأني قد جئتكم، على قراءة ِ الجمهور. السادس: أن يكونَ حالاً من مفعولِ «ويُعَلِّمه» وذلك على زيادة الواو، كأنه قيل: ويُعَلِّمه الكتابَ حالَ كونِه رسولاً، قاله الأخفش، وهذا على أصلِ مذهبهِ من تجويزِه زيادةَ الواوِ، وهو مذهبُ مرجوحٌ. وعلى الثاني في نصبِه وجهان، أنه مفعولٌ به عطفاً على المفعولِ الثاني ليُعَلِّمه أي: ويُعَلِّمه الكتابَ ورسالةً أي: يعلمه الرسالة أيضاً، والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، وفيه التأويلاتُ المشهورةُ في: رجلٌ عَدْلٌ. وقرأ اليزيدي: «ورسولٍ» بالجر، وخَرَّجها الزمخشري على أنها منسوقةٌ على قوله: «بكلمة» أي: نبشِّرك بكلمة وبرسولٍ. وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفصلِ بين المتعاطِفَيْنِ، ولكن لا يَظْهَر لهذه القراءةِ الشاذة غيرُ هذا التخريجِ.

وقوله: {إلى بني إِسْرَائِيلَ} فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يتعلَّقَ بنفس «رسولاً» إذ فعلُه يتعدَّى بإلى، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لرسولاً، فيكونَ منصوبَ المحلِّ في قراءةِ الجمهور، مجروره في قراءة اليزيدي. قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} قرأ العامة: «أني» بفتح الهمزة وفيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُهما: أنَّ موضعَها جر بعد إسقاطِ الخافض، إذ الأصل: بأني، ف «بأني» متعلِّقٌ برسولاً، وهذا مذهبُ الشيخين: الخليلِ والكسائي. والثاني: أن موضعَها نصبٌ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، الأول: أنه نصبٌ بعد إسقاط الخافض، وهو الباء، وهذا مذهب التلميذين: سيبويه والفراء. الثاني: أنه منصوبٌ بفعل مقدر أي: يذكر أني، فيذكرُ صفةٌ لرسولا، حُذِفَتِ الصفةُ وبقي معمولُها. الثالث: أنه منصوب على البدل من «رسولاً» أي: إذا جعلته مصدراً مفعولاً به، تقديرُه: ويُعَلِّمه الكتابَ ويعلِّمه أني قد جئتكم، جَوَّزه أبو البقاء وهو بعيد في المعنى. الثالث: من الأوجِهِ الأُوَلِ: أنَّ موضعَه رفعٌ على خبرِ متبدأٍ محذوفٍ أي: هو أني قد جِئْتُكم. وقرأ بعضُ القرَّاء بكسر هذه الهمزة وفيها تأويلان، أحدهما: أنها على إضمارِ القول أي: قائِلاً إني قد جئتكم، فَحَذَفَ القولَ الذي هو حالٌ في المعنى وأَبْقَى معمولَه. والثاني: أن «رسولاً» بمعنى ناطِق، فهو مُضَمَّنٌ معنى

القول، وما كان مُضَمَّناً معنى [القول] أُعْطِي حكمَ القولِ، وهذا مذهبُ الكوفيين. وقوله: {بِآيَةٍ} يُحتمل أن تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ على أنها حالٌ من فاعل «جئتكم» أي: جِئْتُكم ملتبساً بآية. والثاني: أنها متعلقةُ بنفسِ المجيءِ ِأي: إجاءَتَكم الآية. وقوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} صفةٌ لآية فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: بآيةٍ من عند ربكم، ف «مِنْ» للابتداءِ مجازاً، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ «من ربكم» بنفسِ المجيء أيضاً. وقَدَّر أبو البقاء الحال في قولِه {بِآيَةٍ} بقوله: محتجَّاً بآية، إنْ عنى من جهةِ المعنى صَحَّ، وإن عَنَى من جهة الصناعةِ لم يَصِحَّ، إذ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكنِ إلا الأكوان المطلقةُ. وقرأ الجمهور: «بآيةٍ» بالإِفرادِ في الموضِعَيْن، وابن مسعود: «بآياتٍ» جمعاً في الموضعين. قوله: {أني أَخْلُقُ} قرأ نافع بكسر الهمزة، والباقون بفتحها. فالكسرُ من ثلاثة أوجه، الأول: على إضمارِ القولِ أي: فقلت: إني أخلق. الثاني: أنه على الاستئناف. الثالث: على التفسير، فَسَّر بهذه الجملةِ قولَه: «بآية» كأنَّ قائِلاً قال: وما الآيةُ؟ فقال هذا الكلامَ، ونظيرُه ما سيأتي: «إنَّ مثل عيسى عند اللهِ كمثلِ آدمَ» ثم قال: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] فخلقه مفسرةٌ للمثل، ونظيرُه أيضاً قولُه تعالى: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} ثم فَسَّر الوعدَ بقولِه: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} [المائدة: 9] ، وهذا الوجهُ هو الوجه الصائرُ إلى الاستئنافِ، فإنَّ

المستأنَفَ يُؤْتى به تفسيراً لما قبله، إلا أنَّ الفرقَ بينه وبين ما قبله أنّ الوجهَ الذي قبلَه لا تَجْعَلُ له تعلُّقاً بما تقدَّم البتةَ، بل جيء به لمجردِ الإِخبارِ بما تضمَّنه، والوجه الثالث تقول: إنه متعلِّقٌ بما تقدَّمه، مُفَسِّر له. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ ففيها أربعةُ أوجهٍ أحدُها: أنها بدلٌ من «أني قد جئتكم» فيجيءُ فيها ما تقدَّم في تلك لأنَّ حكمَها حكمُها. الثاني: أنها بدلٌ من «آية» فتكونُ محلَّها، أي: وجئتكم بأني أخلقُ لكم، وهذا نفسُه آيةٌ من الآيات، وهذا البدلُ يَحْتمل أن يكونَ كلاً مِنْ كل إنْ أُريد بالآية شيءٌ خاص، وأَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ من كل إنْ أُريد بالآيةِ الجنس. الثالث: أنها خبرٌ مبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه: هي أني أخلق أي: الآيةُ التي جئت بها أني أخلُقُ، وهذه الجملةُ في الحقيقةِ جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر كأن قائلاً قال: وما الآيةُ؟ فقال: ذلك. الرابعُ: أن تكونَ منصوبةً بإضمارِ فعلٍ، وهو أيضاً جوابٌ لذلك السؤالِ كأنه قال: أعني أنِّي أخلق، وهذان الوجهان يلاقيان في المعنى قراءةَ نافع على بعضِ الوجوهِ فإنهما استئناف. و «لكم» متعلِّقٌ بأخلُقُ، واللامُ للعلة، أي: لأجلكم بمعنى: لتحصيل إيمانِكم ودَفْعِ تكذيبِكم إياي، وإلاَّ فالذواتُ لا تكونُ عِلَلاً بل أحداثُها. و «من الطين» متعلقٌ به أيضاً، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية، وقولُ مَنْ قال: إنها للبيان «تساهلٌ، إذ لم يَسْبِقْ منهم تبيُّنه. قوله: {كَهَيْئَةِ الطير} في موضع هذه الكافِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها نعتٌ لمفعول محذوف تقديره: أني أخلُق لكم هيئةً مثلَ هيئةِ الطير، والهيئةُ: إمَّا مصدرٌ في الأصل/ ثم أُطْلِقَتْ على المفعولِ أي المُهَيّأ كالخَلْق بمعنى المخلوق، وإمَّا اسمٌ لحال الشيء، وليست مصدراً، والمصدرُ: التهَيُّؤُ والتَّهْيِيءُ والتَّهْيِئَةُ، ويُقال: [هاءَ الشيءُ يَهِيْءُ هَيْئَاً وهَيْئَِةً إذا تَرَتَّب واستقرّ على

حالة مخصوصة] ، ويتعدَّى بالتضعيف، قال تعالى: {وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} [الكهف: 16] . والطينُ: معروف، طانَه الله على كذا وطامه بإبدال النون ميماً أي: جَبَله عليه، والنفخُ معروفٌ. الثاني: أنَّ الكافَ هي المفعولُ به لأنَّها اسمٌ كسائرِ الأسماءِ وهذا رأيُ الأخفشِ، يجعلُ الكافَ اسماً حيث وَقَعَتْ، وغيرُه من النحاة لا يقولُ بذلك إلا إذا اضْطُرَّ إليه كوقوعِها مجرورةً بحرفٍ أو بإضافةٍ أو تقع فاعلةً أو مبتدأ، وقد تقدَّمَ جميعُ أمثلةِ ذلك مسبوقاً فأغنى عن إعادتِه هنا. والثالث: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، قاله الواحدي نَقْلاً عن أبي علي بعد كلامٍ طويلٍ، قال» وتكونُ الكافُ في موضعِ نصبٍ على أنه صفةٌ للمصدرِ المُرَادِ، تقديرُه: أني أخلُق لكم من الطين خلقاً مثلَ هيئة الطير «. وفيما قالَه نظرٌ من حيث المعنى؛ لأنَّ التحدِّي إنَما يقعُ في أثرِ الخَلْق، وهو ما يَنْشأ عنه من المخلوقاتِ لا في نفس الخَلْق، اللهم إلا أن تقولَ: المرادُ بهذا المصدرِ المفعولُ به فَيَؤُول إلى ما تقدَّم. وقال الزمخشري:» إني أُقَدِّر لكم شيئاً مثلَ هيئةِ الطير «فهذا تصريحٌ منه بأنها صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ، وقولُه» أُقَدِّر «تفسيرٌ للخلق، لأن الخَلْق هنا التقدير، كقول الشاعر: 1296 - وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وَبعْ ... ضُ القوم يَخْلُق ثم لا يَفْري

إذ ليس المرادُ الاختراعُ فإنه مختص بالباري تعالى. وقرأ الزهري:» كَهَيَةِ «بنقلِ حركة الهمزة إلى الياء وهي فصيحةٌ. وقرأ أبو جعفر: كهيئة الطائرِ. قوله: {فَأَنفُخُ فِيهِ} في هذا الضميرِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه عائدٌ على الكافِ، لأنها اسمٌ عند مَنْ يَرى ذلك أي: أَنفُخ في مثلِ هيئةِ الطيرِ. الثاني: أنه عائدٌ على» هيئةِ «لأنها في معنى الشيءِ المُهَيَّأ، فلذلك عادَ الضميرُ عليها مذكَّراً، وإنْ كانَتْ مؤنثةً، اعتباراً بمعناها دونَ لفظِها، ونظيرُه قولُه تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة} [النساء: 8] ثم قال: {فارزقوهم مِّنْهُ} فأعادَ الضمير في:» منه «على القسمةِ لمَّا كانَتْ بمعنى المقسومِ. الثالث: أنه عائدٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ أي: فَأَنْفُخُ في ذلك الشيءِ المماثلِ لهيئة الطير. الرابع: أنه عائدٌ على ما وَقَعَتِ الدلالةُ عليه في اللفظ وهو «أني أخلقُ» ويكونُ الخَلْقُ بمنزلةِ المخلوق. الخامس: أنه عائدٌ على ما دَلَّت عليه الكافُ مِنْ معنى المِثْل، لأنَّ المعنى: أخلُق من الطين مثلَ هيئةِ الطير، وتكونُ الكافُ في موضعِ نصبٍ على أنه صفةٌ للمصدرِ المرادِ تقديرُه: أني أخلُق لكم خلقاً مثلَ هيئةِ الطيرِ، قاله الفارسي وقد تقَدَّم الكلامُ معه في ذلك. السادس: أنه عائدٌ على الطينِ قاله أبو البقاء. وهذا الوجهُ قد أفسده الواحدي فإنه قال: «ولا يجوزُ أَنْ تعودَ الكناية على الطينِ لأنَّ النفخَ إنما يكونُ في طينٍ مخصوص، وهو ما كانَ مُهَيَّأً منه، والطينُ المتقدِّم ذكرُه عام فلا تعودُ إليه الكناية، ألا ترى أنه لا ينفخ جميعَ الطين، وفي هذا الردِّ نظرٌ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: لا نُسَلِّم عمومَ الطينِ المتقدِّم، بل المرادُ بعضُه، ولذلك أدخلَ عليه» مِنْ «التي تقتضي التبعيضَ، وإذا صارَ المعنى:» أني أخلقُ بعض الطين «عاد الضميرُ عليه من

غير إشكال، ولكن الواحدي جَعَلَ» مِنْ «في» من الطين «لابتداءِ الغاية وهو الظاهرُ. قال الشيخ:» وقد قرأ بعضُ القراء: «فأنفخُها» أعادَ الضميرَ على الهيئة المحذوفة، إذ يكونُ التقدير: هيئةً كهيئةِ الطيرِ، أو على الكاف على المعنى، إذ هي بمعنى: مماثلةً هيئةَ الطيرِ، فيكونُ التأنيثُ هنا كما هو في آية المائدة في قوله: {فَتَنفُخُ فِيهَا} فتكونُ هذه القراءةُ قد حُذِفَ حرفُ الجرِّ منها كقولِه: 1297 - ما شُقَّ جيبٌ ولا قامَتْكَ نائحةٌ ... ولا بَكَتْكَ جيادٌ عند إسْلابِ وقول النابغة: 1298 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كالهِبْرِقيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الفَحْما يريد: ولا قامَتْ عليك، وينفخُ في الفحم، وقال: «وهي قراءةُ شاذة نقلها الفراء» ، وعجبت منه كيف لم يَعْزُها، وقد عَزاها صاحبُ «الكشاف» إلى عبد الله قال: وقرأ عبد الله: «فأنفخُها» وأنشد: «كالهِبْرِقيِّ تَنَحَّى» ... قوله: «فيكون» في «يكون» وجهان أحدُهما: أنها تامة أي: فيوجدُ

ويكونُ «طيراً» على هذا حالاً، والثاني: أنها الناقصةُ و «طيراً» خبرُها، وهذا هو الذي ينبغي أن يكونَ، لأنَّ في وقوعِ اسمِ الجنس حالاً بُعْداً مُحْوجاً إلى تأويلٍ، وإنما يظهرُ ذلك على قراءةِ نافع: «طائراً» لأنه حينئذ اسمٌ مشتقٌّ، وإذا قيل بنقصانِها فيجوزُ أن تكونَ على بابها ويجوزُ أن تكونَ بمعنى صار الناقصة كقولِهِ: 1299 - بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنَّها ... قَطا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخاً بيوضُها أي: صارَتْ، وقال أبو البقاء: «فيكون» أي: يصيرُ، فيجوزُ أَنْ تكونَ «كان» هنا التامة لأنَّ معناها «صار» ، وصار بمعنى انتقل، ويجوز أن تكونَ الناقصة، و «طائراً» على الأول حالٌ وعلى الثاني خبرٌ «. قلت: لا حاجةَ إلى جَعْلِه إياها في حالِ تمامِها بمعنى «صار» التامة التي معناها معنى انتقل، بل النحويون إنما يُقَدِّرون التامةَ بمعنى حَدَثَ ووَجَدَ وحَصَل وشبهِها، وإذا جَعَلُوها بمعنى «صار» فإنما يَعْنُون صارَ الناقصةَ. وقرأ نافع ويعقوب: «فيكون طائراً» هنا وفي المائدة، والباقون: «طَيْراً» في الموضعين. فأمَّا قراءةُ نافع فوجَّهَها بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحِيد، والتقديرُ: فكيونُ ما أنفخ فيه طائراً، ولا يُعْتَرض عليه بأنَّ الرسمَ الكريمَ إنما هو «طير» دون ألفٍ، لأنَّ الرسمَ يُجَوِّزُ حَذْفَ مثلِ هذه الألفِ تخفيفاً، ويَدُلُّ على ذلك أنه رُسِمَ قولُه تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] : «

ولا طيرٍ» دونَ ألف، ولم يقرَأْه أحدٌ إلا «طائر» بالألف، فالرسمُ محتملٌ لا منافٍ. وقال بعضُهم كالشارح لِما قَدَّمْتُه: «ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يَخْلُق غيرَ الخفاش» . وزعم آخرون أنَّ معنى قراءتِهِ: يكونُ كلُّ واحدٍ مما أنفخ فيه طائراً، قال: كقولِهِ تعالى: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] أي: اجلِدوا كلَّ واحدٍ منهم، وهو كثيرٌ في كلامهم. وأما قراءةُ الباقين فمعناها يُحتمل أَنْ يُراد به اسمُ الجنس، أي: جنسِ الطير، فيُحتْمل أَنْ يُرادَ به الواحدُ فما فوقَه، ويُحتمل أن يُرادَ به الجمعُ، ولا سيما عند مَنْ يرى أنَّ «طيراً» صيغتُه جمعٌ نحو: / رَكْب وصَحْب وتَجْر جمعَ راكب وصاحب وتاجر وهو الأخفش، وأمَّا سيبويه فهي عنده أسماءُ جموعٍ لا جموعٌ صريحةٌ، وقد تقدَّم لنا الكلامُ على ذلك في البقرة. وحَسَّنَ قراءةَ الجماعةِ موافقتُه لِما قبله في قوله: «من الطيرِ» ولموافقةِ الرسم لفظاً ومعنى. قوله: {بِإِذْنِ الله} يجوزُ أَنُ يتعلَّقَ ب «طائراً» وهذا على قراءةِ نافع، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به، لأِنَّ طيراً اسمُ جنسٍ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لطير، أي: طيراً ملتبساً بإذن اللهِ ِأي: بتمكينهِ وإقرارِهِ. وقال أبو البقاء: «متعلِّقٌ بيكون» ، وهذا إنَّما يَظْهَرُ إذا جَعَلَ «كان» تامةً، وأما إذا جَعَلها ناقصةً ففي تعلُّقِ الظرفِ بها الخلافُ المشهور. قوله: {وَأُبْرِىءُ الأكمه} وأُبْرىء عطفٌ على «أَخْلُق» فهو داخلٌ في حَيِّز «أني» ، ويقال: أَبْرَأْتُ زيداً من العاهةِ ومِن الدَّيْنِ، وبَرَّاتُكَ من الدَّين

بالتضعيف، وبَرِئْتُ من المرض أَبْرَأُ، وَبَرَأْتُ أيضاً، وأما بَرِئْتُ من الدَّين ومِن الذنب فبرِئْتُ لا غير. وقال الأصمعي: «بَرِئْتُ من المرض لغةُ تميم وَبَرَأْتُ لغة الحجاز» . وقال الراغب: «بَرَأْتُ من المرضِ وبَرِئْتُ، وبَرَأْتُ من فلان» فظاهر هذا أنه لا يقال الوجهان: أعني فتح الراء وكسرها إلا في البراءة من المرض ونحوه، وأمَّا الدَّيْنُ والذنب ونحوهما فالفتحُ ليس إلاَّ. والبراءَةُ: التغَصِّي من الشيء المكروهِ مجاوَزَتُه وكذلك: التبرِّي والبُرْء. والأكمهُ: مَنْ وُلِدَ أَعْمَى يقال: كَمِه يَكْمَهُ كَمَهَاً فهو أكمه قال رؤبة: 1300 - فارتدَّ عنها كارتدادِ الأكمهِ ... ويُقال كَمِهْتُها أنا أي: أعميتها. وقال الزمخشري والراغب وغيرهما: «الأكمهُ مَنْ وُلِدَ مطموسَ العَيْن» . قال الزمخشري: «ولم يُوجَدْ في هذه الأمةِ أكمَهُ غيرُ قتادةَ صاحبِ التفسير» . وقال الراغب: «وقد يُقال لمَنْ ذَهَبَتْ عينُه: أكمهُ، قال سويد: 1301 - كَمِهَتْ عيناه حتى ابْيَضَّتا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والبَرَصُ داءٌ معروفٌ وهو بياضٌ يَعْتَرِي الإِنسانَ، ولم تكن العرب تَنْفِرُ مِنْ شيءٍ نَفْرَتَها منه، يُقال: بَرِصَ يَبْرَصُ بَرَصاً، أي: أصابه ذلك، ويُقال لَه: الوَضَح، وفي الحديث:» وكان بها وضَح «والوضَّاح مِنْ ملوك العرب هابُوا أَنْ يقولوا له الأبرصَ، ويقال للقمر: أبرصُ لشدةِ بياضِهِ. وقال الراغب:» للنكتةِ التي عليه «وليس بظاهرٍ، فإنَّ النكتةَ التي عليه سوداءُ، والوَزَغُ: سامٌّ أبرصَ لبياضِهِ، والتبريص: الذي يلمع لَمَعان البرصِ ويُقارِبُ البصيصَ. قوله: {بِمَا تَأْكُلُونَ} يجوزُ في» ما «أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً أو نكرةً موصوفةً، فعلى الأولى والثالثِ يَحْتاج إلى عائدٍ بخلافِ الثاني عند الجمهورِ، وكذلك» ما «في قولِهِ:» وما تَدَّخِرُون «محتملةٌ لِما ذُكِرَ. وأَتَى بهذه الخوارِق الأربعِ بلفظِ المضارعِ دلالةً على تجدُّدِ ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه، وقَيَّد قولَهُ:» أني أخلُق «إلى آخرِهِ» بإذن الله «لأنه خارقٌ عظيمٌ، فأتى به دَفْعاً لتوهُّمِ الإِلهيةِ، ولم يأتِ به فيما عُطِفَ عليه في قوله:» وأُبْرِىء «، ثم قَيَّدَ الخارِقَ الثالثَ أيضاً» بإذنِ الله «لأنه خارقٌ عظيمٌ أيضاً، وعَطَفَ عليه قولَهُ:» وأنبِّئكم «من غيرِ تقييدٍ له مَنْبَهَةً على عِظَمِ ما قبلَه ودَفْعاً لوَهْمِ مَنْ يَتَوهَّم فيه الإِلهية، أو يكون قد حَذَفَ القَيْدَ من المعطوفَيْنِ اكتفاءً به في الأولِ، وما قَدَّمْتُه أحسنُ. وتَدَّخِرون: قراءةُ العامة بدالٍ مشددةٍ مهملةٍ، وأصلُه تَذْتَخِرُون تَفْتَعِلُون من الذُّخْر وهو التخبِئَةُ، يقال: ذَخَر الشيءَ يَذْخَرُه ذُخْراً فهو ذاخِر ومَذْخُور أي: خَبَّاه، قال الشاعر:

1302 - لها أَشَارِيرُ مِنْ لحمٍ تُتَمِّرُه ... من الثَّعالِي وذُخْرٌ من أَرانيها الذُّخْر: فُعْل بمعنى المَذْخور نحو: الأَكْل بمعنى المأكول، وبعضُ النحْويين يُصَحِّفُ هذا البيت فيقول:» وَوَخْزٌ «بالواو والزاي، وقوله:» من الثَّعالي وأَرانيها «يريدُ: من الثعالب وأرانبها، فَأَّبْدَلَ الباءً الموحدةَ ياءً بثِنْتَيْنِ من تحت، وَلمَّا كان أصلُهُ» تّذْتَخِرون «اجتمعت الذالُ المعجمةُ مع التاءِ أي تاءِ الافتعال أُبدِلَتْ تاءُ الافتعال دالاً مهملةً فالتقى بذلك متقاربانِ: الذالُ والدالُ، فَأَدْغَم الذالَ المعجمةَ في المهملةِ فصارَ اللفظُ: تَدَّخِرون كما ترى. وقد قرأ السوسي في رواية عن أبي عمرو: تَذْدَخِرون بقَلْبِ تاءِ الافتعالِ دالاً مهملةً من غيرِ إدغامٍ، وهو وإِنْ كانَ جائزاً إلاَّ أنَّ الإِدغامَ هو الفصيحُ. وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السَّمَّال وأيوب السختياني «تَذْخَرون» بسكونِ الذالِ المعجمةِ وفتحِ الخاءِ، جاؤوا به مجرداً على فَعَل، يقال: ذَخَرْتُه أي: خَبَّأْتُه، ومن العرب من يَقْلِبُ تاء الافتعال في هذا النحو ذالاً معجمة فيقول: اذَّخَر، يَذَّخِر بذالٍ معجمة مشددةٍ، ومثلُه اذَّكر فهو مُذَّكِر، وسيأتي إنْ شاء الله. وقال أبو البقاء: «والأصلُ في تَدَّخِرون: تَذْتَخِرون، إلاَّ أنَّ الذالَ مهجورةٌ والتاءَ مهموسةٌ فلم يجتمعا، فأُبدلت التاءُ دالاً لأنها من مَخْرَجها لتقربَ من الذالِ، ثم أُبدلت الذالُ دالاً وأُدْغِمَتْ» . و «في بيوتِكم» متعلِّقٌ بتدَّخرون.

قوله: {إِنَّ فِي ذلك} «ذلك» إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم من الخوارق، وأُشير إليها بلفظِ الأفراد وإنْ كانت جمعاً في المعنَى، بتأويل «ما ذُكِرَ ما تَقَدَّم» . وقد تقدَّم أن في مصحف عبد الله وقراءته: «لآياتٍ» بالجمع مراعاةً لِما ذكرته من معنى/ الجمع. وهذه الجملةُ تحتمل أَنْ تكون من كلامِ عيسى وأَنْ تَكُونَ من كلام الله تعالى. و {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} جوابُهُ محذوفٌ أي: إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيةِ وتدبَّرتموها. وقَدَّر بعضُهم صفةً محذوفة لآية، أي لآيةً نافعةً، قال الشيخ: «حتى يتَّجِه التعلُّقُ بهذا الشرط» وفيه نظرٌ، إذ يَصِحُّ التعلُّقُ بالشرطِ دونَ تقديرِ هذه الصفةِ.

50

قوله تعالى: {وَمُصَدِّقاً} : نَسَقٌ على محلِّ «بآية» ؛ لأنَّ «بآية» في محلِّ نصبٍ على الحال إذ التقديرُ: وجئتكم ملتبساً بآية ومصدقاً. وقال الفراء والزجاج: «نصب مصدقاً على الحال، المعنى: وجئتُكم مصدقاً لما بين يديَّ، وجاز إضمار» جئتُكم «لدلالةِ أولِ الكلامِ عليه، وهو قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ، ومثلُه في الكلام:» جئته بما يحب ومكرماً له «. قال الفراء:» ولا يجوزُ أَنْ يكون «ومصدقاً» معطوفاً على «وجيهاً» لأنه لو كان ذلك لقال: «ومُصَدِّقاً لِما بين يديه» يعني أنه لو كان معطوفاً عليه لأتى معه بضميرِ الغيبةِ لا بضمير التكلم، وكذلك ذَكَرَ غيرُ الفراء، ومَنَع أيضاً أن يكونَ منسوقاً على «رسولاً» قال: «لأنه لو كان مردوداً عليه لقال:» وَمُصَدِّقاً لِما بين يديك «لأنه خَاطَبَ بذلك مريم، أو قال: بين يديه» يعني أنه لو كان معطوفاً على «رسولاً» لكان ينبغي أن يُؤْتى بضميرِ الخطاب مراعاةً لمريم أو بضميرِ

الغَيْبة مراعاةً للاسم الظاهر. قال الشيخ: «وقد ذَكَرْنا أنه يجوزُ في» ورسولاً «أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ أي: وأُرْسِلْتُ رسولاً» فعلى هذا التقديرِ يكون «مصدقاً» معطوفاً على «رسولاً» . قوله: {مِنَ التوراة} فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من «ما» الموصولةِ أي: الذين بين يديَّ حالَ كونِهِ من التوراةِ، فالعامِلُ فيه «مصدقاً» لأنه عاملٌ في صاحبِ الحال، والثاني: أنه حالٌ من الضمير المستترِ في الظرفِ الواقِعِ صلةً، والعامِلُ فيه الاستقرارُ المضمرُ في الظرفِ أو نفسُ الظرفِ لقيامِهِ مقامَ الفعلِ. قوله: {وَلأُحِلَّ} فيه أوجه أحدها: أنه معطوفٌ على معنى «مصدقاً» إذ المعنى: جئتُكم لأصدِّقَ ما بين يديّ ولأُحِلَّ لكم، ومثلُه من الكلام: «جئتُه معتذراً إليه ولأجتلِبَ رضاه، أي: جئتُ لأعتذرَ ولأجتلبَ، كذا قال الواحدي وفيه نظرٌ، لأن المعطوفَ عليه حال، وهذا تعليلٌ. قال الشيخ بعد أَنْ ذَكَرَ هذا الوجهَ:» وهذا هو العطفُ على التوهُّمِ وليس هذا منه، لأن معقوليةَ الحالِ مخالفةٌ لمعقوليةِ التعليلِ، والعطفُ على التوهم لا بد أَنْ يكونَ المعنى مُتَّحِداً في المعطوفِ والمعطوفِ عليه، ألا ترى إلى قوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] كيف اتَّحد المعنى من حيث الصلاحيةُ لجوابِ التخضيض، وكذلك قولُه: 1303 - تَقِيٌّ نَقِيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً ... بنَهْكَةٍ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّدِ

كيف اتَّحد معنى النفي في قولِه: «لم يُكَثِّرْ» وفي قوله: «ولا بحقلَّد» أي: ليس بمكثرٍ ولا بحقلدٍ، وكذلك ما جاء منه «. قلت: ويمكن أَنْ يُريدَ هذا القائلُ أنه معطوفٌ على معنى «مصدقاً» أي: بسببِ دلالتِهِ على علةٍ محذوفةٍ هي موافقةٌ له في اللفظِ فَنَسَبَ العطفَ على معناه باعتبارِ دلالته على العلةِ المحذوفةِ لأنها تشاركه في أصلِ معناه، أعني مدلولَ المادةِ وإنْ كانت دلالةُ الحالِ غيرَ دلالةِ العلةِ. الثاني: أنه معطوفٌ على علةٍ مقدرةٍ أي: جئتُكم بآيةٍ لأوسِّعَ عليكم ولأُِحِلَّ، أو لأِخَفِّفَ عنكم ولأُِحِلَّ ونحوُ ذلك. الثالث: أنه معمولٌ لفعلٍ مضمرٍ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي: وجئتُكم لأُِحِلَّ، فحُذِفَ العاملُ بعد الواوِ. الرابع: أنه متعلِّقٌ بقولِهِ: {وَأَطِيعُونِ} والمعنى: اتِّبعوني لأُِحِل لكم، وهذا بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ. الخامس: أن يكونَ «ولأِحِلَّ» ردَّاً على قولِهِ: «بآية» ، قال الزمخشري: «ولأِحِلَّ» ردٌّ على قولِه: {بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي «جئتكم بآيةٍ من ربكم ولأِحلَّ» . قال الشيخ: «ولا يَسْتَقِيم أن يكونَ» ولإِحلَّ لكم «ردَّاً على» بآيةٍ «؛ لأنَّ» بآية «في موضِعِ حالٍ، و» لأِحِلَّ «تعليلٌ ولا يَصِحُّ عطفُ التعليلِ على الحالِ؛ لأنَّ العطفَ بالحرفِ المُشَرِّك في الحكم يُوجِبُ التشريكَ في جنسِ المعطوفِ عليه، فإنْ عَطَفْتَ على مصدرٍ أو مفعولٍ به أو ظرفٍ أو حالٍ أو تعَليلٍ أو غيرِ ذلك شارَكَهُ في ذلك المعطوفِ» قلت: ويُحتمل أن يكونَ جوابُه ما تقدَّم من أنه أرادَ رَدًّاً على «بآية» من حيث دلالتُها على عاملٍ مقدَّرٍ.

قوله: {بَعْضَ الذي حُرِّمَ} المرادُ ببعض مدلولُهُ الأصلي، وقال أبو عبيدة «إنها هنا بمعنى» كل «مستدلاً بقولِ لبيد: 1304 - تَرَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها ... أو يَرْتَبِطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها وقد رَدَّ الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الربا والسرقة والقتل لأنها كانت مُحَرَّمةً عليهم، فلو كان المعنى: ولأِحِلَّ لكم كلَّ الذي حُرِّم عليكم لأَحَلَّ لهم ذلك كله. واستَدَلَّ بعضُهم على أنَّ» بعضاً «بمعنى» كل «بقولِ الآخر: 1305 - أبا منذرٍ أَفْنَيْتَ فاستَبِقْ بعضَنَا ... حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ من بعضِ أي: أهونُ من كل الشرِّ، واستدلَّ آخرون بقولِ الآخر: 1306 - إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها ... دونَ الشيوخِ تَرى في بعضِها خَلَلا أي: في كلِّها خَلَلاً، ولا حاجةً إلى إخراجِ اللفظِ عن مدلولِهِ مع إمكان صحة معناه، إذ مرادُ لبيد ببعضٍ النفوس نفسُه هو، والتبعيضُ في البيتين الآخرين واضحٌ فإنَّ الشرَّ بعضُه أهونُ من بعضٍ آخرَ لا مِنْ كله، وكذلك ليس كلُّ أمرٍ دَبَّره الأحداثُ كان فيه خَلَلٌ، بل قد يأتي تدبيرُهُ أحسنَ من تدبيرِ الشيخ.

وقرأ العامةُ:» حُرِّمَ «مبنياً للمفعول والفاعلُ هو الله تعالى. وقرأ عكرمة:» حَرَّم «مبنياً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو الموصولُ في قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} لأنه كتابٌ مُنَزَّلٌ، أو موسى لأنه هو صاحبُ التوراةِ، فَأَضْمَر للدلالةِ عليه بِذِكْرِ كتابِهِ. وقرأ إبراهيم النخعي: «حَرُمَ» بوزن شَرُف وظَرُف، نَسَبَ الفعل إليه/ مجازاً للعلمِ أنَّ المُحَرِّم هو الله تعالى. قوله: {وَجِئْتُكُمْ} هذه الجملةُ يُحْتمل أن تكونَ تأكيداً للأولى لتقدُّم معناها ولفظِها قبلَ ذلك. قال أبو البقاء: «هذا تكريرٌ للتوكيد لأنه سَبَقَ هذا المعنى في الآيةِ التي قبلَها» ويُحْتَمل أَنْ تكونَ للتأسيس لاختلافِ متعلِّقِها ومتعلَّقِ ما قبلَها. قال الشيخ: «وجِئْتُكم بآيةٍ من ربكم للتأسيس لا للتوكيد لقوله:» قد جِئْتكم «، وتكون هذه الآيةُ قولَهُ: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} لأنَّ هذا القولَ شاهِدٌ على صحةِ رسالتِهِ؛ إذ جميعُ الرسلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجَعَلَ هذا القولَ آيةً وعلامةً لأنه رسولٌ كسائِرِ الرسلِ حيث هَداه للنظرِ في أدلةِ العقلِ والاستدلالِ، قاله الزمخشري.

51

وقرأ العامة: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} : بكسرِ الهمزةِ على الإِخبار المستأنفِ، وهذا ظاهِرٌ على قولِنا إنَّ «جئتكم» تأكيدٌ، أمَّا إذا جَعَلْتَه تأسيساً وَجَعَلْتَ الآيةَ هي قولَه: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} بالمعنى الذي ذَكَرْتُه أولاً فلا يَصِحُّ الاستئنافُ، بل يكونُ الكسرُ على إضمارِ القولِ وذلك القولُ بدلٌ من الآية، كأنَّ التقدير: وجئتُكم بآيةٍ من ربِّكم قَوْلي إنَّ الله، فقولي بدلٌ من «آية» ، و «إنَّ» وما في حَيِّزها معمولةٌ لقولي، ويكون قوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} اعتراضاً بين البدلِ والمبدلِ منه.

وقُرىء بفتحِ الهمزة وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من «آية» كأنَّ التقديرَ: وجِئْتُكم بأنَّ الله ربي وربكم، أي: جِئْتُكم بالتوحيدِ، وقوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} اعتراضٌ أيضاً. الثاني: أنَّ ذلك على إضمار لامِ العلة، ولامُ العلة متعلقةٌ بما بعدَها من قوله: «فاعبدوه» والتقديرُ: فاعبدوه لأنَّ الله ربي وربُّكم كقولِه تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] إلى أن قال «فَلْيعبدوا» إذ التقديرُ: فليعبدوا لإِيلافِ قريش، وهذا عند سيبويه وأَتْباعِهِ ممنوعٌ؛ لأنه متى كان المعمولُ أَنَّ وما في صلتِها امتنَع تقديمُها على عاملِها، لا يُجيزونَ: «أنَّ زيداً منطلقٌ عَرَفْتُ» تريد: «عَرَفْتُ أنَّ زيداً منطلقٌ» للقبحِ اللفظي، إذ تَصَدُّرُها لفظاً يقتضي كسرَها. الثالث: أن يكونَ «أن الله» على إسقاطِ الخافض وهو «على» و «على» يتعلِّق بآية نفسِها، والتقديرُ: وجِئْتُكم بآيةٍ على أن الله، كأنه قيل: بعلامةٍ ودلالةٍ على توحيدِ الله تعالى، قاله ابن عطية، وعلى هذا فالجملتان الأمريِتَّان اعتراضٌ إيضاً وفيه بُعْدٌ. وقوله: {هذا صِرَاطٌ} هذا إشارةُ إلى التوحيدِ المَدْلُولِ عليه بقولِهِ: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} أو إلى نفسِ «إنَّ الله» باعتبار هذا اللفظِ هو الصراطَ المستقيمَ.

52

قوله تعالى: {مِنْهُمُ} : فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بأحسَّ، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية، أي: ابتداءُ الإِحساسِ مِنْ جهتهم. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكفر أي: الكفرُ حالَ كونِه صادراً منهم.

والإِحساسُ: الإِدراكُ ببعضِ الحواسِّ الخمسِ وهي: الذوقُ والشمُّ واللمسُ والسمعُ والبصرُ، يقال: أَحْسَسْتُ الشيءَ وبالشَيءِ، وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به، ويقال: حَسَيْتُ بإبدال سينه الثانيةِ ياءً، وأحَسْت بحذف أولِ سينه، قال: 1307 - سِوى أنَّ العِتاقَ من المطايا ... أَحَسْنَ به فَهُنَّ إليه شُوسُ قال سيبويه: «وَمِمَّا شَذَّ من المضاعَفِ يعني في الحذفِ شبيهُ بباب أقمت وليس بمتلئِبٍّ، وذلك قولهم: أَحَسْتُ واَحَسْنَ، يريدون: أَحْسَسْتُ وأَحْسَسْنَ، وكذلك يُفْعَل بكل بناءٍ بُنِي الفعلُ فيه ولا تَصِلُ إليه الحركةُ، فإذا قلت: لم أُحِسَّ لم تَحذِفْ» . وقيل: الإِحساسُ: الوجودُ والرؤيةُ يقال: هل أَحْسَسْتَ صاحبكَ أي: وَجَدْتَه أو رأيته. قوله: {مَنْ أنصاري} أنصار جمع نصير نحو: شَريف وأَشْراف. وقال قوم: هو جمع «نَصْر» المرادُ به المصدر، ويَحتاج إلى حَذْف مضاف أي: مَنْ أصحابُ نُصْرَتي. و «إلى» على بابها، وتتعلَّق بمحذوف، لأنها حالٌ تقديرُه: مَنْ أنصاري مضافِين إلى الله، كذا قَدَّره أبو البقاء. وقال قوم: إنَّ «إلى» بمعنى مع أي: مع الله، قال الفراء: «وهو وجْهٌ حسن» . وإنما يجوز أَنْ تَجْعَل «إلى» في موضع مع إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء ما لم يكن معه

كقولِ العرب: «الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ إبل» أي: الذود، بخلافِ قولك: «قَدِمَ فلانٌ ومعه مال كثير» فإنه لا يصلح أَنْ تقولَ: وإليه مال، وكذا تقول: «قدم فلان مع أهله» ولو قلت: «إلى أهله» لم يصح، وجَعَلوا من ذلك أيضاً قولَه: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . وقد ردَّ أبو البقاء كونَها بمعنى «مع» فقال: «وليس بشيء فإنَّ» إلى «لا تصلُح أَنْ تكونَ بمعنى» مع «ولا قياسَ يَعْضُده» . وقيل: «إلى» بمعنى اللام أي: مَنْ أنصاري لله، كقوله: {يهدي إِلَى الحق} [يونس: 35] أي: للحقِّ، كذا قَدَّره الفارسي. وقيل: بل ضَمَّن «أنصاري» معنى الإِضافةِ أي: مَنْ يُضيف نفسَه إلى الله في نصرتي، فيكون «إلى الله» متعلقاً بنفسِ أنصاري، وقيل: متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من الياء في «أنصاري» أي: مَنْ أنصاري ذاهباً إلى الله متلجِئاً إليه، قاله الزمخشري. قوله: {الحواريون} جمع حوارِيّ وهو الناصرُ، وهو مصروفٌ وإنْ ماثل مَفَاعل، لأنَّ ياءَ النسب فيه عارضةٌ، ومثله حَوالِيٌّ وهو المحتال، وهذان بخلافِ: قَمَارِيّ وبَخاتِيّ، فإنهما ممنوعانِ من الصرفِ، والفرق أن الياءَ في حوارِيّ وحواليّ عارضةٌ بخلافِها في: «قَماريّ وبَخاتِيّ» فإنها موجودَةٌ قبل جَمْعِها في قولك: قُمْرِيّ وبُخْتِيّ. والحوارِيُّ: الناصِرُ كما تقدَّم، وذلك أنَّ عيسى عليه السلام مَرَّ بقومٍ فاستنصَرَهم ودَعاهم إلى الإِيمان فتبعوه وكانوا قَصَّارين للثيابِ، فَسُمِّيَ كلُّ مَنْ

تَبعَ نبياً ونَصَرَهُ: حواريَّاً تسميةً له/ باسمِ أولئك تشبيهاً بهم وإن لم يكن قَصَّاراً، وفي الحديث عنه عليه السلام في الزبير: «ابنُ عمتي وحواريّ من أمتي» ومنه أيضاً: «إنَّ لكل نبي حوارياً وحوارِيّ الزبير» هذا معنى كلام أبي عبيدة وغيرِه من أهل اللغة. وقيل: الحوارِيُّ هو صفوةُ الرجل وخالصتُه، واشتقاقُهُ من حُرْتُ الثوبَ أي: أَخْلَصْتُ بياضه بالغَسْل منه سُمِّيََ القَصَّارُ حواريَّاً لتنظيفه الثيابَ، وفي التفسير: أنَّ أتباعَ عيسى عليه السلام كانوا قصَّارين، قال أبو عبيدة: «سُمِّيَ أصحاب عيسى حواريين للبياض وكانوا قصَّارين، قال الفرزدق: 1308 - فقلتُ: إنَّ الحواريَّاتِ مَعْطَبَةٌ ... إذا تَفَتَّلْنَ من تحتِ الجلابيبِ يعني النساء» . قلت: يَعني أنَّ النساءَ لبياضِهِنَّ وصفاءِ لونهنَّ لا سيما المترفِّهاتُ يقال لهنَّ الحواريات، ولذلك قال الزمخشري: «والحوارِيُّ صفوَةُ الرجل وخالصتُه، ومنه قيل للنساء الحضريات: الحواريَّات لخلوصِ ألوانهن ونظافتهن، وأنشد لأبي جلدة اليشكري: 1309 - فَقُلْ للحوارِيَّاتِ يبكِينَ غيرَنا ... ولا يَبْكِنا إلا الكلابُ النوابِحُ انتهى. ومنه سُمِّيَت الحُور حُوراً لبياضِهِنَّ ونظافَتِهِنَّ. والاشتقاقُ من

الحَوَر وهو تبييضُ الأثواب وغيرِها. وقال الضحاك:» هم الغَسَّالون، وهم بلغةِ النَّبَط: هَواري بالهاء مكان الحاء «، قال ابن الأنباري:» فمن قال بهذا القول قال: هذا حرفٌ اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبط، وهو قول مقاتل بن سليمان: إن الحواريين هم القصارون «. وقيل: هم المجاهدون كذا نقله ابن الأنباري وأنشد: 1310 - ونحنُ أناسٌ تملأ البيضَ هامُنَا ... ونحن الحوارِيُّونَ يومَ نُزاحِفُ جماجِمُنَا يومَ اللقاء تَراسُنا ... إلى الموت نَمْشي ليس فينا تَجانُفُ قال الواحدي:» والمختارُ من هذه الأقوالِ عند أهل اللغة أن هذا الاسمَ لَزِمهم للبياض «، ثم ذكر ما ذكرْتُه عن أبي عبيد. وقال الراغب:» حَوَّرْتُ الشيءَ بَيَّضْتُه ودَوَّرْتُه، ومنه: الخبز الحُوَّاري، والحواريون: أنصار عيسى، وقيل: اشتقاقُهم من حار يَحُور أي: رَجَع، قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الإنشقاق: 4] أي: لن يرجِعَ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى، يقال: حار يَحُور حَوْراً أي: رَجَعَ، وحار يحور حَوْراً إذا تَرَدَّد في مكانٍ، ومنه: حارَ الماءُ في الغَدير، وحار في أمره وتحيَّر فيه وأصلُه: تَحَيْوَر، فَقُلِبَتْ الواوُ ياءً فوزنه تَفَيْعَل لا تَفَعَّل، إذ لو كان تَفَعَّل لقيل: تَحَوَّر نحو: تَجَوَّز، ومنه قيل للعُود الذي عليه البَكَرة: مِحْوَر لتردُّده، ومَحارة الأذنِ لظاهرِهِ المنقعر تشبيهاً بمَحَارة الماء لِتردُّد الهواء بالصوت فيه كتردد الماء

في المَحارة، والقومُ في حَوْر أي: في تردد إلى نقصان، ومنه: «نَعُوذُ باللهِ من الحَوْر بعد الكَوْر» وفيه تفسيران، أحدُهما: نعوذ بالله من التردد في الأمر بعد المُضَيَّ فيه، والثاني: نعوذُ بالله من نقصانِ وترددٍ في الحال بعد الزيادة فيها. ويقال: حارَ بعد ما كارَ، والمُحاورة: المُرادَّة في القول، وكذلك التحاورُ والحِوار، ومنه: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 34] {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} [المجادلة: 1] أي: ترادَّكما القولَ، ومنه أيضاً: كلَّمته فما رَجَع إلى حَوارٍ أو حَوِير أو مَحْوَرة وما يعيش بحَوْر أي: بعقل يرجع إليه، والحَوَرُ «: ظهورُ قليلِ بياضٍ في العينِ من السواد، وذلك نهايةُ الحسنِ في العَيْنِ يقال منه: أَحْوَرَتْ عينُه، والمذكرُ أحورُ، والمؤنثة حَوْراء، والجمعُ فيها حُور، نحو: حُمْر في جمع أحمر وحمراء، وقيل: سُمِّيت الحُور حُوراً لذلك وقيل: اشتقاقهم من نقاء القلب وخُلوصه وصِدْقه، قاله أبو البقاء، وهو راجع للمعنى الأول من خُلوصِ البياضِ، فهو مجازٌ عن التنظيفِ من الآثامِ وما يَشوب الدين. والياء في حَوارِيّ وحَواليّ ليست للنسب بل زائدةٌ كزيادتها في كرسيّ. وقراء العامة» الحواريُّون «بتشديد الياء في جميع القرآن، وقرأ الثقفي والنخعي بتخفيفِها في جميع القرآن، قالوا: لأن التشديدَ ثقيلٌ، وكان قياس هذه القراءةِ أَنْ يقالَ فيها: الحوارُون، وذلك أنه تستثقل الضمة على الياء المكسورة ما قبلها فَتُنْقَل ضمة الياء إلى ما قبلها فتسكُنُ الياءُ، فيلتقي ساكنان

فتحذفُ الياء لالتقاء الساكنين، وهذا نحوُ: جاء القاضُون، الأصل: القاضِيُون، ففُعِل به ما ذُكِرَ. قالوا: وإنما أُقِرَّتْ ضمةُ الياءِ عليها تنبيهاً على أن التشديد مرادُ لأن التشديدَ يَحْتمل الضمة كما ذهب الأخفش في» يستهزيون «إذ أَبْدَل الهمزةَ ياءً مضمومةً، وإنما بَقِيَتِ الضمةُ تنبيهاً على الهمزةِ.

53

وقولُه تعالى: {مَعَ الشاهدين} : حالٌ من مفعولِ «اكتبنا» وفي الكلامِ حذفٌ أي: مع الشاهدين لك بالوحدانية.

54

قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} : من بابِ المقابلةِ، أي: لا يجوزُ أَنْ يُوصفَ اللهُ بالمكر إلا لأجلِ ما ذُكر معه من لفظٍ آخرَ مسندٍ لِمَنْ يليقُ به، وهذا كما تقدَّم في الخِداع، هكذا قيل، وقد جاء ذلك من غيرِ مقابلة في قولِهِ: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله} [الأعراف: 99] . والمَكْرُ في اللغةِ أصلُه السَّتْرُ. يُقال: مَكَر اللَّيلُ: أي أَظْلَمَ وسَتَر بظلمته ما فيه، وقالوا: واشتقاقُه من المَكْر وهو شجر ملتفٌّ، تخيَّلوا فيه أنَّ المكرَ يلتفُّ بالممكورِ به ويشتمل عليه، وامرأةُ ممكورةُ الخَلْقِ أي: ملتفَّةُ الجسم، وكذا مَمْكُورة البطن، ثم أُطْلِقَ المَكْرُ على الخُبْث والخِداع، ولذلك عَبَّر عنه بعضُ أهلِ اللغةِ بأنه السعيُ بالفساد/. قال الزجاج: «هو مِنْ مَكَر الليلُ وَأَمْكَرَ أي أظلم» . وقد عَبَّر بعضُهم عنه فقال: هو صَرْفُ الغَيْرِ عَمَّا يَقْصِده بحيلةٍ، وذلك ضربان: محمودٌ وهو أَنْ يُتَحَرَّى به فِعْلٌ جميلَ، وعلى ذلك قولُه: {والله خَيْرُ الماكرين} ، ومذمومٌ وهو أَنْ يُتَحَرَّى به فعلٌ قبيحٌ نحو: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] .

55

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله} : في ناصبهِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: قوله: «وَمَكَرَ الله» أي وَمَكَر اللهُ بهم في هذا الوَقتِ. الثاني: أنه «خير الماكرين» . الثالث: اذكر مقدراً، فيكون مفعولاً به كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرةٍ. قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ الكلامَ على حالهِ من غيرِ ادِّعاءِ تقديمٍ وتأخيرٍ فيه، بمعنى: إني مستوفي أجلِك ومؤخِّرُك وعاصِمُك مِنْ أَنْ يقتُلَكَ الكفار إلى أن تموتَ حَتْفَ أنفِكَ من غيرِ أَنْ تُقْتَلَ بأيدي الكفارِ ورافعُكَ إلى سمائي. والثاني: أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، والأصلُ: رافُعك إليّ ومتوفيك لأنه رُفِع إلى السماء ثم يُتَوَفَّى بعد ذلك، والواوُ للجمعِ فلا فَرْقَ بين التقديم والتأخيرِ، قاله أبو البقاء وبدأ به، ولا حاجةَ إلى ذلك مع إمكانِ إقرارِ كلِّ واحدٍ في مكانِهِ بما تقدَّم من المعنى، إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ حَمَلَ التوفِّيَ على الموتِ، وذلك إنما هو بعدَ رَفْعِهِ ونزولِهِ إلى الأرض وحكمهِ بشريعةِ محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي قوله {والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمرِ، إذ الأصلُ: ومكرُوا ومكرَ اللهُ وهو خير الماكرين. قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} فيه قولان، أظهرُهُما: أنه خطابٌ لعيسى عليه السلام، والثاني: أنه خطابٌ لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكونُ الوقفُ على قوله: {مِنَ الذين كَفَرُواْ} تاماً، والابتداءُ بما بعده، وجاز هذا لدلالةِ الحالِ عليه. و {فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} ثاني مفعولَيْ جاعل لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط.

و {إلى يَوْمِ} متعلِّقٌ بالجَعْل، يعني أنَّ هذا الجَعْلَ مستمرٌّ إلى ذلك اليوم، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالاستقرار المقدَّرِ في «فوق» أي: جاعِلُهُم قاهرين لهم إلى يوم القيامة، يعني أنهم ظاهرون على اليهودِ وغيرِهم من الكفارِ بالغَلَبَةِ في الدنيا، فأمَّا يوْمُ القيامةِ فيحكُمُ اللهُ بينهم فيُدخِل الطائعَ الجنةَ والعاصيَ النارَ، وليس المعنى على انقطاعِ ارتفاعِ المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا وانقضائِها، لأنَّ لهم استعلاءً آخرَ غيرَ هذا الاستعلاء. وقال الشيخ: «والظاهرُ أنَّ» إلى «تتعلقُ بمحذوفٍ، وهو العاملُ في» فوق «، وهو المفعولُ الثاني لجاعل، إذ» جاعل «هنا مُصَيِّر، فالمعنى كائنين فوقَهم إلى يوم القيامة، وهذا على أنَّ الفوقيةَ مجازٌ، وأمَّا إن كانت الفوقيةُ حقيقيةً وهي الفوقيةُ في الجنة فلا تتعلَّق» إلى «بذلك المحذوفِ بل بما تقدَّم من» متوفِّيك «أو من» رافعك «أو من» مُطَهِّرك «إذ يَصِحُّ تعلُّقه بكلِّ واحدٍ منها، أمَّا تعلُّقُه برافِعُك، أو بمُطَهِّرُك فظاهرٌ، وأمَّا بمتوَفِّيْك فعلى بعضِ الأقوال» يعني ببعض الأقوال أنَّ التوفِّي يُراد به قابِضُكَ من الأرضِ من غيرِ موتٍ، وهو قولُ جماعةٍ كالحسن وابنِ زيد وابن جريج وغيرِهم، او يرادُ به ما ذَكَرَهُ الزمخشري، وهو مستوفي أجلك، ومعناه: إني عاصمُك من أن يقتلَك الكفارُ ومؤخِّرُك إلى أَجَلٍ كتبتُه لك، ومميتُك حَتْفَ أنفِكَ لا قتلاً بأيدي الكفار، وأمَّا على قولِ مَنْ يقول: إنه تُوُفِّي حقيقةً فلا يُتَصَوَّرُ تَعلُّقُه به لأن القائل بذلك لم يقل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة بل قائل يقول: إنه تُوُفِّي ثلاث ساعات، وآخرُ يقول: توفي سَبع ساعات بقدر ما رُفع إلى سمائه حتى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْر في اليقظة، وعلى هذا الذي ذكره الشيخ يجوز أن تكون المسألة من الإِعمال، ويكون قد تنازع في هذا الجارِّ ثلاثةُ عوامل، وإذا ضَمَمْنا إليها كونَ الفوقية مجازاً تنازع

فيه أربعةُ عواملَ، والظاهرُ أنه متعلِّقٌ بجاعل. وقد تقدَّم أن أبا عمرو يُسَكِّنُ ميم «أَحْكُمُ» ونحوِه قبلَ الباء.

56

قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} : في محلِّ هذا الموصولِ قولان، أظهرُهما: أنه مرفوعٌ على الابتداءِ، والخبرُ الفاءُ وما في حَيِّزها، والثاني: أنه منصوبٌ بفعل مقدر، على أن المسألة من باب الاشتغال، إذ الفعلُ بعدَه قد عَمِلَ في ضميره، وهذا وجهٌ ضعيف، لأنَّ «أمَّا» لا يليها إلا المبتدأُ، وإذا لم يَلِها إلا المبتدأُ امتنعَ حَمْلُ الاسم بعدها على إضمارِ فعلٍ. ومَنْ جَوَّزَ ذلك تَمَحَّل بأنه يُضْمِرُ الفعلُ متأخراً عن الاسم، ولا يُضْمِرُه قبلَه، قال: لئلا يَلِيَ «أمَّا» فعلٌ وهي لا يَليها الأفعالُ البتة فيقدِّرُ في قولك: «أمَّا زيداً فضَربتُه» : أمَّا زيداً ضربْتُ فضربتُه، وكذا هنا يُقَدِّرُ: فأمَّا الذين كفروا أعذَّب فأعذِّبهم، فيقدِّرُ العاملَ بعد الصلة، ولا يقدِّرُه قبل الموصولِ لِما ذكرت، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ لعدمِ الحاجةِ إليه مع ارتكاب وجهٍ ضعيفٍ جداً في أفصحِ كلام، وقد قرأ بعض قراء الشواذ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] بنصبِ «ثمود» واستضعفها الناس. وفي قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} إلى {كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} التفاتٌ من غيبة إلى خطاب، وذلك أنه قدَّم تعالى ذِكْرَ مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه وهم اليهود لُعنوا، وقَدَّم أيضاً ذِكْرَ مَنْ آمَنَ به وهم/ الحواريون رضي الله عنهم وقَضَى بعد ذلك بالإِخبار بأنه يجعلُ مُتَّبعي عيسى فوق مخالِفيه، فلو جاءَ النظمُ على السياقِ من غيرِ التفاتٍ لكانَ: ثم إليَّ مَرْجِعُهم فأَحْكُمُ بينهم فيما كانوا، ولكنه التفت إلى الخطاب لأنه أبلغُ في البِشارة وَأَزْجَرُ في النِّذارة.

وفي ترتيبِ هذه الأخبار الأربعة أعني مُتَوَفِّيك ورافعُك ومُطَهِّرك وجاعلُ هذا الترتيبَ معنًى حسنٌ جداً، وذلك أنه تعالى بَشَّره أولاً بأنه متوفِّيه ومتولِّي أمره فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ، ثم بَشَّره ثانياً بأنه رافعُه إليه أي: سمائهِ محلِّ أنبيائِهِ وملائكتِهِ ومحلِّ عبادتِهِ ليسكنَ فيها ويعبُدَ ربَّه مع عابِدِيه، ثم ثالثاً بتطهيرِهِ من أَوْضارِ الكفرةِ وأذاهم وما رَموه به، ثم رابعاً برفعهِ تابعيه على مَنْ خالفهم ليتِمَّ بذلك سرورُه، ويكملَ فرحُهُ، وقَدَّم البِشارَةَ بما يتعلَّقُ بنفسِهِ على البِشارة بما يتعلَّق بغيره؛ لأنَّ الإِنسانَ بنفسِهِ أَهَمُّ وبشأنها أَعْنى، {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] «ابدَأْ بِنَفْسِكَ ثم بِمَنْ تَعول» .

57

قوله تعالى: {وَأَمَّا الذين آمَنُوا} : الكلامُ فيه كالكلامِ في الموصول قبلَه، وقرأ حفص عن عاصم: «فيوفِّيهم» بياء الغَيْبة، والباقون بالنون، فقراءهُ حَفْص على الالتفاتِ من التَّكلمِ إلى الغيبة تفنُّناً في الفصاحة. وقراءةُ الباقين جاريةٌ على ما تقدَّم من اتِّساقِ النظم، ولكنْ جاءَ هناك بالمتكلِّم وحدَه وهنا بالمتكلِّم وحده المعظّمِ نفسَه اعتناءً بالمؤمنين ورفعاً مِنْ شأنهِمْ لَمَّا كانوا معظَّمين عنده.

58

قوله تعالى: {ذلك نَتْلُوهُ} : يجوز أّنْ يكونَ «ذلك» مبتدأً و «نتلوه» الخبرَ، و «من الآيات» حالٌ أو خبرٌ بعدَ خبرٍ، ويجوزُ أن يكونَ «ذلك» منصوباً بفعل مقدر يفسِّره ما بعدَه، فالمسألةُ من الاشتغال و «من الآيات» حالٌ أو خبرٌ مبتدأ مضمر أي: هُو من الآيات، ولكنَّ الأحسنَ الرفعُ بالابتداءِ، لأنه لا يُحْوج إلى إضمارٍ، وعندَهم: «زيدٌ ضربتُه» أحسنُ مِنْ «زيداً ضربته» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ «ذلكَ» خبرَ مبتدأ مضمر، يعني: الأمر ذلك، و «نَتْلوه» على

هذا حالٌ من اسم الإِشارة، و «من الآيات» حالٌ من مفعولٍ «نَتْلوه» ويجوزُ أَنْ يكونَ «ذلك» موصولاً بمعنى الذي، و «نَتْلوه» صلةٌ وعائدٌ، وهو مبتدأٌ خبرُه الجارُّ بعده، أي: الذي نتلوه عليك كائنٌ من الآيات أي: المعجزاتُ الدالَّةُ على نُبُوَّتِك، جَوَّز ذلك الزجاج وتَبِعه الزمخشري، وهذا مذهبُ الكوفيين، وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أن يكونَ اسمٌ من أسماء الإِشارة موصولاً إلا «ذا» خاصةً بشروط تقدَّم ذكْرُها، ويجوز أن يكونَ «ذلك» مبتدأً، و «من الآيات» خبره، و «نتلوه» جملةً في موضعِ نصب على الحال، والعاملُ معنى اسمِ الإِشارة. و «مِنْ» فيها وجهان، أظهرهما: أنها تبعيضية؛ لأن المتلوَّ عليه عليه السلام من قصة عيسى بعضُ معجزاتِه وبعضُ القرآن، وهذا وجهٌ واضح. والثاني: أنها لبيانِ الجنسِ، وإليه ذهب ابنُ عطية وبه بَدَأ، قال الشيخ: «ولا يتأتَّى ذلك هنا من جهةِ المعنى إلا بمجازٍ، لأنَّ تقديرَ» مِنْ «البيانية بالموصول ليس بظاهر، إذ لو قلت:» ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم «لاحتجْتَ إلى تأويلٍ، وهو أَنْ يُجْعَلَ بعضُ الآيات والذكرِ آياتٍ وذكراً وهو مجازٌ. والحكيمُ صيغةُ مبالغَةٍ مُحَوَّلٌ من فاعل كضريب من ضارب، ووُصِف الكتاب بذلك مجازاً، لأن هذه الصفة في الحقيقة لمُنْزِلِهِ والمتكلم به فَوُصِفَ بصفةِ مَنْ هو من سببِه وهو الباري تبارك وتعالى، أو لأنه ناطقٌ بالحكمةِ أو لأنه أَحْكَمُ في نظمه، وجَوَّزوا أن يكونَ بمعنى مُفْعِل أي: مُحْكِم لقوله تعالى: {

كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} إلاَّ أنَّ فَعِيلاً بمعنى مُفْعِل قليلٌ قد جاءَتْ منه أُلَيْفاظٌ قالوا: عَقَدْتُ العَسَلَ فهو عَقِيد ومُعْقَد، واحتبسْتُ الفرسَ في سبيلِ الله فهو حَبِيس ومُحْبَس. وفي قوله: {نَتْلُوهُ} التفاتٌ من غَيْبَة إلى تكلُّم، لأنه قد تقدَّمه اسمٌ ظاهرٌ، وهو قولُه: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ، إذ يُحْتمل أن يكونَ {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} جِيء بها اعتراضاً بين أبعاضِ هذه القصةِ. وقوله: {نَتْلُوهُ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه وإنْ كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنى أي: ذلكَ الذي قَدَّمْناه من قصةِ عيسى وما جَرَى له تَلَوْناه عليك كقولِه: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} [البقرة: 102] ، والثاني: على بابِه لأنَّ الكلامَ بعدُ لم يَتِمَّ، ولم يفرغ من قصة عيسى عليه السلام إذ بقي منها بقية.

59

قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى} : جملةٌ مستأنفةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها تعلُّقاً صناعياً بل معنوياً، وزعم بعضُهم أنَّها جوابٌ لقسم، وذلك القسمُ هو قولُه: {والذكر الحكيم} كأنه قيل: أٌقْسم بالذكرِ الحكيم إِنَّ مثلَ عيسى، فيكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه: «من الآيات» ثم استأنف قسماً، فالواوُ حرفُ جر لا حرفُ عطف، وهذا بعيدٌ أو ممتنعٌ، إذ فيه تفكيكٌ لنظمِ القرآن وإذهابٌ لرونقه وفصاحته. قوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} في هذه الجملة وجهان، أظهرهما: أنها مفسرةٌ لوجهِ التشبيه بين المَثَلين، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من آدمَ عليه السلام و «قد» معه مقدرةٌ، والعاملُ فيها معنى التشبيه، والهاءُ في «خَلَقه» عائدةٌ على آدم، ولا تعودُ على عيسى لفسادِ

المعنى، وقال ابن عطية: «ولا يجوزُ أن يكون» خلقه «صلةً لآدم ولا حالاً منه، / قال الزجاج:» إذ الماضي لا يكونُ حالاً أنت فيها، بل هو كلامٌ مقطوعٌ منه مُضَمَّنٌ تفسيرَ الشأن «قال الشيخ:» وفيه نظرٌ «، ولم يُبَيِّنْ وجهَ النظرِ، والظاهرُ من هذا النظرِ أنَّ الاعتراضَ وهو قولُه:» لا يكون حالاً أنت فيها «غيرُ لازم، إذ تقديرُ» قد «معه يقرِّبُه من الحال، وقد يَظْهَرُ الجواب عَمَّا قاله الزجاج من قول الزمخشري:» إنَّ المعنى: قَدَّره جسداً من طين ثم قال له: كن، أي أَنْشَأه بشراً «. قال الشيخ:» ولو كان الخَلْقُ بمعنى الإِنشاء لا بمعنى التقديرِ لم يأتِ بقولِه «كن» لأنَّ ما خُلِقَ لا يقال له: كُنْ، ولا يُنْشَأُ إلا إنْ كان معنى «ثم قال له كن» عبارةً عن نَفْخِ الروح فيه. «قلت: قد تعرَّض الواحدي لهذه المسألة فَأَتْقَنها فقال:» وهذا يعني قوله خلقه من تراب ليس بصلةٍ لآدم ولا صفةٍ، لأنَّ الصلة للمبهمات والصفةً للنكرات ولكنه خبرٌ مستأنفٌ على جهةِ التفسير لحالِ آدَمَ عليه السلام «قال:» قال الزجاج «وهذا كما تقولُ في الكلام:» مَثَلُك كمثلِ زيد «تريد أنك تُشْبهه في فِعْلٍ ثم تخبرُ بقصة زيد، فتقول: فعل كذا وكذا» . وقوله: {كُن فَيَكُونُ} اختلفوا في المقولِ له: كن، فالأكثرون على أنه آدم عليه السلام، وعلى هذا يقعُ الإِشكال في لفظ الآية، لأنه إنما يقول له: «كن» قبل أن يخلقَه لا بعده، وههنا يقولُ: «خَلَقه» ثم قال له: كن،

والجواب: أنَّ الله تعالى أخبرَنا أولاً أنه خَلَقَ آدمَ مِنْ غيرِ ذَكَرٍ ولا أنثى، ثم ابتدأَ خبراً آخرَ، أرادَ أَنْ يُخْبِرَنا به فقال: إني مخبرُكم أيضاً بعد خبري الأول أني قلت له: «كن» فكان، فجاء بثم لمعنى الخبرِ الذي تقدَّم والخبر الذي تأخر في الذكر، لأنَّ الخَلْقَ تقدَّم على قولِه «كن» ، وهذا كما تقول: «أُخْبِرُك أني أُعطيك اليوم ألفاً، ثم أُخبرك أني أعطتيك أمسِ قبلَه ألفاً» فأمس متقدِّمَ على اليوم، وإنما جاء بثم لأنَّ خبرَ اليوم متقدِّمٌ خبرَ أمسِ، وجاءَ خبرُ أمس بعد مُضِيِّ خبر اليوم، ومثله قوله: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] وقد خَلَقها بعد خَلْق زوجها، ولكن هذا على الخبر دون الخَلْق، لأنَّ التأويلَ: أخبركم أني قد خلقتكم من نفس واحدة؛ لأن حواء قد خُلقت من ضلعه، ثم أُخبركم أني خَلَقت زوجها منها، ومثلُ هذا مِمَّا جاء في الشعر قوله: 1311 - إنَّ مَنْ ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد سادَ قبل ذلك جَدُّهُ ومعلومٌ أنَّ الأبَ متقدِّمٌ له والجَدَّ متقدمٌ للأب، فالترتيبُ يعودُ إلى الخبر لا إلى الوجودِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ أنه خلقه قالباً من ترابٍ ثم قال له: كُنْ بَشَراً فيصِحُّ النَّظْمُ. وقال بعضُهم: المقولُ له كن: عيسى، ولا إشكالَ على هذا. وقوله: {فَيَكُونُ} يجوز أَنْ يكونَ على بابِه مِنْ كونِه مستقبلاً، والمعنى: فيكونُ كما يأمرُ الله فيكونُ حكايةً للحال التي يكونُ عليها آدم، ويجوز أن

يكون «فيكونُ» بمعنى «فكان» ، وعلى هذا أكثرُ المفسرين والنحويين، وبهذا فَسَّره ابنُ عباس رضي الله عنه. والمَثَلُ هنا: منهم مَنْ فَسَّره بمعنى الحال والشأن، قال الزمخشري: «أي: إنَّ شأنَ عيسى وحالَه الغريبة كشأنِ آدم» ، وعلى هذا التفسير فالكافُ على بابها من كونِها حرفَ تشبيه، وفَسَّر بعضُهم المَثَلَ بمعنى الصفة، قال ابن عطية: «وهذا عندي خطأ وضعفٌ في فَهْمِ الكلام، وإنما المعنى: أن المثلَ الذي تتصوَّرُه النفوسُ والعقولُ مِنْ عيسى هو كالمُتَصَوَّرِ من آدم، إذ الناسُ كلُّهم مُجْمِعُون [على] أنَّ اللهَ خَلَقَه مِنْ تراب من غيرِ فحلٍ، وكذلك قولُه: {مَّثَلُ الجنة} [الرعد: 35] عبارةٌ عن المتصوَّر منها، والكافُ في» كمثل «اسمٌ على ما ذكرناه من المعنى» . قال الشيخ: «ولا يَظْهَرُ لي فَرْقٌ بين كلامِه هذا وبين مَنْ جَعَلَ المَثَلَ بمعنى الشأن والحال وبمعنى الصفة» . قلت: قد تقدَّم في أولِ البقرة أنَّ المَثَل قد يُعَبَّر به عن الصفة وقد لا يُعَبَّر به عنها، فدلَّ ذلك على تغايُرهما، وقد مَرَّ تفسيرُه وعبارةُ الناسِ فيه، ويَدُلُّ على ذلك ما قاله صاحب «ريّ الظمآن» عن الفارسي قال: «قيل: المَثَلُ بمعنى الصفة، وقولك: صفةُ عيسى كصفة آدم كلامٌ مُطَّرد، على هذا جُلُّ اللغويين والمفسرين، وخالف أبو علي الفارِسي الجميعَ، وقال: المَثَلُ بمعنى الصفة لا يُمْكِنُ تصحيحُه في اللغة، إنما المَثَلُ التشبيهُ، على هذا تدورُ تصاريفُ

الكلمة، ولا معنى للوصفيةِ في التشابهِ، ومعنى المثل في كلامِهم أنها كلمةٌ يرسلُها قائلُها لحكمةٍ يُشَبِّه بها الأمورَ ويقابِلُ بها الأحوالَ» قلت: فقد فَرَّق بين لفظِ المثل في الاصطلاحِ وبين الصفة. وقال بعضُهم: إنَّ الكافَ زائدةٌ، وبعضُهم قال: إنَّ «مَثَلاً» زائد. فقد تحصَّل في الكاف ثلاثة أقوال، أظهرها: أنها على بابها من الحرفية وعدمِ الزيادة، وقد تقدَّم تحقيقه. وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب، ووُجِد آدمُ بغيرِ أب ولا أم؟ قلت: هو مثلُه في أحدٍ الطرفين، فلا يَمْنَعُ اختصاصُه دونَه بالطرفِ الآخرِ مِنْ تشبيهِه به، لأنَّ المماثلَة مشاركةٌ في بعضِ الأوصافِ، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ وهما في ذلك نظيران، ولأنَّ الوجود من غير أب وأم أغربُ وأخرقُ للعادةِ من الوجود بغير أب، فَشَبَّه الغريبَ بالأغرب ليكون أقطعَ للخصمِ وأَحْسَمَ لمادة شُبْهته. وعن بعضِ العلماء أنه أُسِر بالروم فقال لهم: لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أب له، قال: فآدم أولى لأنه لا أبوين له، قالوا: فإنه كان يحيي الموتى، قال: فحزقيل أَوْلى لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وحزقيل أحيا ثمانية آلاف. قالوا: كان يبرىء الأكمة والأبرص. قال: فجرجيس أولى لأنه طُبخ وأُحْرِقَ ثم خَرَج سالماً» . قوله: {مِن تُرَابٍ} في وجهان، أظهرُهما: أنه متعلِّقٌ ب «خلقه» أي: ابتداءُ خلقه من هذا الجنس، والثاني: أنه حالٌ من مفعول «خلقه» تقديره: خَلَقه كائناً مِنْ تراب، وهذا لا يساعِدُه المعنى.

60

قولُه تعالى: {الحق مِن رَّبِّكَ} : يجوز أَنْ تكونَ هذه جملةً مستقلةً برأسِها، والمعنى: أنَّ الحقَّ الثابتَ الذي لا يضمحل هو من ربك، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربك قصةُ عيسى وأمِّه فهي حَقٌ ثابتٌ، ويجوزُ أَنْ «الحق» خبرُ

مبتدأ محذوف، أي: هو، أي: ما قَصَصْنَا عليك من خبر عيسى وأمه. و «من ربك» على هذا فيه وجهان، أحدهما: أنه حال فيتعلق بمحذوف. والثاني: أنه خبرٌ ثان عندَ مَنْ يُجَوِّزُ ذلك، وتقدَّم نظيرُ هذه الجملة في البقرة والنهيُّ له عليه السلام عن الامتراءِ، ولم يكن ممترياً، [وهذا] من الإِلهاب والتهييج على الثبات على ماهو عليه من الحق، أو لأنَّ المرادَ به غيره.

61

قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ} : يجوز في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطيةً وهو الظاهر أي: إنْ حاجَّك أحدٌ فقلْ له: كيتَ وكيتَ، ويجوز أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لتضمُّنه معنى الشرط. والمُحاجَّة مُفاعلة وهي من اثنين، وكان الأمر كذلك. قوله: «فيه» متعلق بحاجَّك أي: جادَلك في شأنه، والهاء فيه وجهان، أظهرهما: عَوْدُها على عيسى عليه السلام. والثاني عَوْدُها على الحق، وقد يتأيَّد هذا بأنه أقربُ مذكورٍ، إلاَّ أنَّ الأول أظهرُ لأن عيسى هو المُحَدَّث عنه وهو صاحب القصة. قوله: {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} متعلِّقٌ بحاجِّك أيضاً، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسميةً، ففاعلُ «جاءك» ضميرٌ يعودُ عليها أي: من بعد الذي جاءك هو، و «من العلم» حالٌ/ من فاعل «جاءك» ، ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفية، وحينئذُ يقال: يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعل، أو عَوْدُ الضمير على الحرف، لأن «جاءك» لا بُدَّ له من فاعل، وليس معنا شيءٌ يَصْلُحُ عَودُه عليه إلا «ما» وهي حرفيةٌ. والجوابُ: أنه يجوزُ أن يكون الفاعلُ قولَه «من العلم» و «من» مزيدةٌ، أي بعد ما جاءك العلم أي: بعد مجيء العلم، وهذا إنما يتخرَّج على قول الأخفش لأنه لا يَشْترط في زيادتها شيئاً. و «مِنْ» في «

من العلم» يُحْتمل أن تكونَ تبعيضيَّةً وهو الظاهرُ وأَنْ تكونَ لبيان الجنس. قوله: {تَعَالَوْاْ} العامةُ على فتح اللام لأنه أمرق من تعالَى يَتَعالى، كترامى يترامى، وأصلُ ألفِه ياءٌ، وأصلُ هذه الياء واو، وذلك أنه مشتقٌ من العلوِّ وهو الارتقاعِ كما سيأتي بيانُه في الاشتقاق، والواوُ متى وقَعَتْ رابعةً فصاعداً قُلِبَتْ ياءً فصار تعالَوَ: تعالَيَ، فتحرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلِب ألفاً فصار: تعالَى كَترامى وتغازَى، فإذا أَمَرْتَ منه الواحدَ قلت: تعالَ يا زيدُ، بحَذْفِ الألف، وكذا إذا أَمَرْتَ الجمعَ المذكَّر قلت: تعالَوا؛ لأنك لمَّا حَذَفْتَ الألف لأجلِ الأمرِ أبقَيْتَ الفتحَة مُشْعرةً بها. وإن شئت قلت: الأصل: تعالَيُوا، وأصلُ هذه الياءِ واوٌ كما تقدَّم، ثم استُثْقِلت الضَّمةُ على الياءِ فَحُذِفَتْ ضمتُها فالتقى ساكنان، فحُذِف أولُهما وهو الياء لالتقاء الساكنين وتُرِكت الفتحةُ على حالِها. وإنْ شئت قلت: لَمَّا كان الأصلُ: تعالَيُوا تحرَّك حرف العلة وانفتح ما قبله وهو الياء فَقُلِب ألفاً فالتقى ساكنان، فحُذِف أولُهما وهو الألف وبقيت الفتحة دالة عليه. والفرقُ بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف في الوجه الأول حُذِفَت لأجل الأمر وإن لم تتصل به واو ضمير، وفي هذا حُذِفت لالتقائها مع واو الضمير. وكذلك إذا أَمَرْتَ الواحدة تقول لها «تعالَيْ» ، فهذه الياء هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر، والتصريفُ كما تقدم، إلا أنك تقول هنا: الكسرة على الياءَ بَدَلٌ الضمة هناك، وأمَّا إذا أَمَرْتَ المثنى فإن الياء تثبت فتقول: يا زيدان تعالَيا، ويا هندان تعاليا أيضاً، يَسْتوي فيه المذكران والمؤنثان، وكذلك أمرُ جماعة الإِناث تَثْبُت فيه الياء تقول: يا نسوة تعالَيْن، وقال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] إذ لا مقتضى للحذف ولا للقلبِ، وهو ظاهرٌ بما تمهَّد من القواعد.

وقرأ الحسن وأبو السمَّال وأبو واقد: «تعالُوا» بضم اللام، ووجَّهوها على أن الأصل: تعالَيُوا كما تقدم، فاستثقلت الضمة على الياء فنُقِلت إلى اللام بعد سَلْب حركتِها فبقي: تعالُوا بضم اللام. وقال الزمخشري في سورة النساء: «وعلى هذه القراءة قال الحمداني: 1312 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تعالِي أقاسمْك الهمومَ تعالِي بكسرِ اللام» ، وقد عابَ بعضُ الناسِ عليه في استشهاده بشعر هذا المُولَّدِ المتأخر، وليس بعيبٍ فإنه ذَكَرَه استئناساً وهذا كما تقدَّم في أولِ البقرة عندما أَنْشَدَ لحبيب: 1313 - هما أَظْلَمَا حالَيَّ ثَمَّتَ أَجْلَيا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . واعتذر هو عن ذلك بما قَدَّمْتُه عنه فكيف يُعابُ عليه شيءٌ عَرَفَه ونَبَّه عليه واعتَذَر عنه؟ والذي يَظْهَرُ في توجيهِ هذه القراءةُ أنهم تناسَوا الحرفَ المحذوف حتى كأنهم تَوَهَّمُوا أنَّ الكلمة بُنِيَتْ على ذلك، وأنَّ اللامَ هي الآخِرُ في الحقيقة فلذلكَ عُومِلَتْ معامَلَة الآخِر حقيقةً فَضُمَّت قبلَ واو الضميرِ وكُسِرَتْ قبل يائه كما ترى، ويَدُلُّ على ما قلتُه أنهم قالوا في «لَمْ أُبَلَهْ» : إنََّ الأصلَ: «أبالي» لأنه

مضارع بالَى، فلمَّا دخل الجازمُ حَذَفوا له حرفَ العلةِ على القاعدة ثم تناسَوا ذلك الحرفَ فَسَكَّنُوا للجازمِ اللامَ لأنها كالأخيرِ حقيقةً، فلما سكنت اللام التقى ساكنان: هي والألف قبلَها فَحُذِفَت الألف لالتقاء الساكنين، وهذا التعليلُ أَوْلَى لأنه يَعُمُّ هذه القراءةَ والبيت المذكور، وعلى مقتضى تعليله هو يقال: الأصل: تعالَيِي، فاستُثْقِلَت الكسرةُ على الياء، فَنُقِلَت إلى اللام بعد سَلْبِهَا حرَكَتَها، ثم حُذِفَتِ الياءُ لالتقاء الساكنين. وتعالَ: فعلٌ صريحٌ وليس باسمِ فعلٍ لاتصال الضمائر المرفوعة البارزة به. قيل: وأصلُهُ طَلَبُ الإِقبال من مكان مرتفع تفاؤلاً بذلك، وإدناءً للمدعوّ، لأنه من العلو والرفعة، ثم تُوُسِّع فيه فاستُعْمِلَ في مجرد طلب المجيء، حتى يُقالُ ذلك لمن يريدُ إهانَته كقولِك للعدوّ: تعالَ، ولمَنْ لا يَعْقِل كالبهائِمِ ونحوِها، وقيل: هو الدعاءُ لمكانٍ مرتفعٍ، ثم تُوُسِّع فيه حتى استُعْمِلَ في طَلَبِ الإِقبالِ إلى كل مكانٍ حتى المنخفضِ. و {نَدْعُ} جزمٌ على جوابِ الأمرِ إذ يَصِحُّ أَنْ يقالَ: إنْ تتعالَوا نَدْعُ. قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أتى بثم هنا تنبيهاً لهم على خطابِهم في مباهلته، كأنه يقولُ لهم: لا تعجلوا وَتَأنَّوا لعله أَنْ يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف/ التراخي. والابتهال: افتعالٌ من البُهْلَة، والبهلة بفتح الباء وضمها، وهي اللعنة، قال الزمخشري: «ثم نتباهل بأن نقول: لعنةُ الله على الكاذب منا ومنكم، والبهلة بالفتح والضم: اللعنة، وبَهَله الله: لعنه الله وأبعده من رحمته، من

قولك: أبهله إذا أهمله، وناقةً باهل: لا صِرار عليها، وأصل الابتهال هذا ثم استُعمل في كل دعاء يُجْتهد فيه وإن لم يكن التعاناً» قلت: ما أحسنَ ما جُعِلَ الافتعال هنا بمعنى التفاعل، لأن المعنى لا يَجيء إلا على ذلك، وتفاعَلَ وافْتَعَلَ أخَوان في مواضع نحو: اجتَوَروا وتجاوروا، واشْتَوروا وتشاوروا، ولذلك صَحَّت واو اجتَوَر واشْتَوَر، وقوله: «وإن لم يكن التعاناً» يعني أنه اشتهر في اللغة: فلان يَبْتَهِل إلى الله في قضاءِ حاجته، ويبتهل في كشف كربته. وقال الراغب: «أصل البَهْل: كونُ الشيءِ غيرَ مراعَ. والباهل: البعيرُ المُخَلَّى عن قَيْدِه أو عن سمةٍ، أو المُخَلَّى ضَرْعُها عن صِرار» ، وأنشد لأمراة: «أتيتُكَ باهِلاً غيرَ ذاتِ صِرار» ... وأَبْهَلْتُ فلاناً: خَلَّيْتُه وإرادتَه، تشبيهاً بالبعير الباهل، والبَهْل والابتِهال في الدعاء: الاسترسالُ فيه والتضرع نحو: «ثم نبتهلْ فنجعلْ» ، ومنْ فَسَّر الابتهالَ باللَّعْن فلأجلِ أنَّ الاسترسالَ في هذا المكانِ لأجل اللعنِ، قال الشاعر: 1314 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَظَرَ الدهرُ إليهم فابْتَهَلْ قلت: هذا الشطرُ للبيد، وأول البيت:

1315 - مِنْ قُرومٍ سادةٍ في قومِهم ... نَظَرَ الدهرُ إليهمْ فابْتَهَلْ وظاهِرُ هذا أنَّ الابتهالَ عامٌّ في كلِّ دعاءٍ لَعناً كانَ أو غيرَه، ثم خُصَّ في هذه الآيةِ بِاللَّعْنِ. وظاهِرُ عبارةِ الزمخشري أنَّ أصلَهُ خصوصيتُه باللَّعْنِ، ثم تُجُوِّزَ فيه فاستُعْمِلَ في اجتهادٍ في دعاءٍ لَعْناً كانَ أو غيرَه، والظاهِرُ من أقوالِ اللغويين ما ذكرَهُ الراغِبُ. وقال أبو بكر بن دريد في مقصورِته: 1316 - لم أَرَ كالمُزْنِ سَواماً بُهَّلا ... تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهِي سُدى بُهَّلاً: ج باهِلة أي: مهملة، وفاعِلة يُجْمع على فُعَّل نحو: ضُرَّب، والسُّدى: المهمل أيضاً. وقوله: {فَنَجْعَل} هي المتعديةُ لاثنين بمعنى: نُصَيِّر، و «على الكاذبين» هو المفعول الثاني.

62

قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص} : يجوزُ أَنْ يكونَ «هو» فصلاً، والقصصُ خبر «إنَّ» ، و «الحقُّ» صفتُهُ، ويجوزُ أنْ يكون «هو» مبتدأ و «القَصَصُ» خبرَه، والجملةُ خبرَ «إنَّ» ، والإِشارةُ بهذا إلى ما تقدَّم ذكرُه من أخبارِ عيسى عليه السلام، وقيل: بل هو إشارةٌ لِما بعدَه وهو قولُه: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} . وضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدُهما: أنَّ هذا ليس بقصص، والثاني:

أنه مقترنٌ بحرفِ العطفِ، وقد اعتذر بعضهم عن الأول فقال: إنْ أراد بالقصص الخبرَ فَيَصِحُّ على هذا، ويكون التقدير: إنَّ الخبر الحق أنه ما من إلا إلا الله، ولكن الاعتراض الثاني باقٍ لم يُجَبْ عنه. والقَصَصُ: مصدرُ قولهم: قَصَّ فلان الحديثَ يَقُصَّه قَصَّاً وقَصَصَاً. وأصلُه: تتبُّعُ الأثرِ، يقال: «فلان خَرَجَ يَقُصُّ أثرَ فلان» أي: يَتْبعه ليعرفَ أين ذَهَبَ؟ ومنه قولُه تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] أي: اتِّبعي أثره وكذلك القاصُّ في الكلام لأنه يتتَّبع خبراً بعد خبر. وقد تقدَّم التنبيه على قراءتَيْ: «لَهْو» بسكون الهاء وضمِّها، إجراءً له مُجْرَى عَضُد. قال الزمخشري: «فإنْ قلت لِمَ جاز دخول اللام على الفصل؟ قلت: إذا جاز دخولها على الخبر فدخولُها على الفصلِ أجوزُ، لأنها أقربُ إلى المبتدأ منه، وأصلُها أَنْ تدخُلَ على المبتدأ» . قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن «من إله» مبتدأ، و «مِنْ» مزيدةٌ فيه، و «إلا اللهُ» خبره تقديره: ما إله إلا اللهُ، وزيدت «مِنْ» للاستغراق والعموم. قال الزمخشري: «ومِنْ في قوله {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} بمنزلةِ البناءِ على الفتح في» لا إله إلا اللهَ «في إفادةِ معنى الاستغراقِ» قلت: الاستغراقُ في «لا إله إلا اللهُ» لم نَسْتفِدْه من البناء على الفتحِ بل استفدناه من «مِنْ» المقدرة الدالة على الاستغراق، نصَّ النَّحْويون على ذلك، واستدلَّوا عليه بظهورها في قول الشاعر:

1317 - فقام يذودُ الناسَ عنها بسيفِه ... فقال ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ والثاني: أن يكونَ الخبرُ مضمراً تقديرُه: وما من إلهٍ لنا إلا الله، و «إلا اللهُ» بدلٌ من مضع «من إله» لأن موضعَه رفعٌ بالابتداء، ولا يجوزُ في مثله الإِبدالُ من اللفظِ، لئلا يَلْزَمَ زيادةُ مِنْ في الواجب، وذلك لا يجوز عند الجمهور، ويجوز في مثل هذا التركيب نصبُ ما بعد «إلا» على الاستثناء، ولكنه لم يُقرأ به، إلا أنه جائز لغةً، تقول «لا إله إلا اللهُ» برفع الجلالة بدلاً من الموضع، ونصبِها على الاستثناء من الضميرِ المستكنِّ في الخبرِ المقدَّر، إذ التقديرُ: لا إله استقر لنا إلا الله. وقوله: {وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم} كقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص} .

63

قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} : / يجوزُ أَنْ يكونَ مضارعاً وحُذفت منه إحدى التاءين [تخفيفاً على حدّ] قراءة {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] و «تَذَكَّرون» ويؤيِّد هذا نَسَقُ الكلامِ ونظمُه في خطاب مَنْ تقدم في قوله تعالى «تعالوا» ثم جرى معهم في الخطاب إلى أَنْ قال لهم: فإنْ تَوَلَّوا. وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ مستقبلاً تقديرُه: فإنْ تتولَّوا، ذكره النحاس وهو ضعيف؛ لأنَّ حرفَ المضارعة لا يُحْذَفُ» قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَفُ في هذا النحو من غير خلاف، وسيأتي من ذلك طائفةٌ كثيرة، وقد أجمعوا على الحذف في قوله: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} [القدر: 4]

ويجوز أن يكونَ ماضياً أي: فإن تَوَلَّى وفدُ نجران المطلوبُ مباهلتُهم، ويكون على ذلك في الكلام التفاتٌ، إذ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبة. وقوله: {بالمفسدين} مِنْ وقوعِ الظاهرِ موقعَ المضمرِ تنبيهاً على العلة المقتضيةِ للجزاء، وكانَ الأصل: فإنَّ الله عليمٌ بكم، على الأول، وبهم، على الثاني.

64

قوله تعالى: {إلى كَلِمَةٍ} : متعلِّقٌ بتعالَوا فَذَكَرَ مفعول «تعالوا» بخلاف «تعالَوا» قبلَها فإنه لم يَذكُرْ مفعولَه، لأنَّ المقصودَ مجردُ الإِقبال، ويجوز أن يكونَ حَذْفُه للدلالةِ عليه تقديرُه: تعالوا إلى المباهلة. وقرأ العامة «كَلِمة» بفتح الكاف وكسر اللام، وهو الأصل. وأبو السمَّال «كِلْمة» بزنة سِدْرة، وكَلْمة كضَرْبة، وتقدم هذا قريباً. و «كلمةٍ» مفسَّرةٌ بما بعدها من قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} فالمرادُ بها كلامٌ كثير، وهذا مِنْ بابِ إطلاق الجزء، والمرادُ به الكل، ومنه تسميتُهم القصيدةَ جمعاً: قافية، والقافية جزءٌ منها، قال: 1318 - أُعَلِّمه الرمايةَ كلَّ يومٍ ... فلمَّا اشْتَدَّ ساعِدُه رماني وكم عَلَّمْتُه نظمَ القوافي ... فلمَّا قال قافيةً هجاني ويقولون: «كلمةُ الشهادة» يَعْنُون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمةُ لبيد» يريد قوله:

1319 - ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ... وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ وهذا كما يُسَمُّونَ الشيءَ بجزأيه في الأعيان لأنه المقصودُ منه، قالوا لربيبة القوم وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه عَيْن، فأطلقوا عليه عيناً. وقال بعضهم: وَضِعَ المفرد موضعَ الجمع، كما قال: 1320 - بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها ... فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ وقيل: أُطلقت الكلمة على الكلمات لارتباطِ بعضِها ببعضٍ، فصارت في قوة الكلمةِ الواحدةِ، إذا اختلَّ جزءٌ منها اختلَّت الكلمة، لأن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، هي كلماتٌ لا تتِمُّ النسبةُ المقصودةُ فيها مِنْ حَصْرِ الإِلهية في الله إلا بمجموعها. وقرأ العامة: «سواءٍ» بالجر نعتاً لكلمة بمعنى عدل، ويَدُلُّ عليه قراءةُ عبد الله: «ِإلى كلمة عدل» وهذا تفسيرٌ لا قراءة. و «سواء» في الأصل مصدر، ففي الوصف التأويلاتُ الثلاثة المعروفةَ، ولذلك لم يُؤَنَّث كما لم يُؤَنَّث ب «امرأة عدل» . وقرأ الحسن: «سواء» بالنصبِ وفيها وجهان، أحدهما: نصبُها على المصدر، قال الزمخشري: «بمعنى استوت استواءً» ، وكذا الحوفي. والثاني: أنه منصوبٌ على الحال، وجاءت الحالُ من النكرة، وقد نَصَّ سيبويه عليه واقتاسه، وكذا قال الشيخ، ولكنَّ المشهورَ غيرُه، والذي حَسَّن مجيئَها

من النكرةِ هنا كونُ الوصفِ بالمصدر على خلاف الأصل، والصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى، وكأن الشيخ غَضَّ من تخريج الزمخشري والحوفي فقال: «والحالُ والصفة متلاقيان من حيث المعنى، والمصدرُ يحتاج إلى إضمار عامل وإلى تأويل» سواء «بمعنى استواء، والأشهرُ استعمال» سواء «بمعنى اسم الفاعل أي:» مُسْتَوٍ «قلت: وبذلك فَسَّرها ابن عباس فقال:» إلى كلمةٍ مستوية «. قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} فيه ستةُ أوجه، أحدُها: أنه بدلٌ من» كلمة «بدلُ كلٍ من كل، الثاني: أنه بدلٌ من» سواء «، جَوَّزه أبو البقاء، وليس بواضح، لأنَّ المقصودَ إنما هو الموصوفُ لا صفتُه، فنسبةُ البدلية إلى الموصوف أولى. وعلى الوجهين فإنَّ وما حيزها في محل جر. الثالث: أنه في محل رفع خبراً لمبتدأ مضمر، والجملة استئنافُ جوابٍ لسؤال مقدر، لأنه لما قيل: تعالَوا إلى كلمة «قال قائل: ما هي؟ فقيل: هي أَنْ لا نعبد، وعلى هذه الأوجهِ الثلاثة ف» بين «منصوبٌ بسواء ظرفٌ له أي: يقع الاستواء في هذه الجهةِ، وقد صرَّح بذلك زهير حيث قال: 1321 - أرُونا خطةً لا غيبَ فيها ... يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ والوقفُ التام حينئذٍ عند قوله {مِّن دُونِ الله} لارتباطِ الكلام معنى وإعراباً. الرابع: أن تكونَ» أن «وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ الظرفُ قبله. الخامس: جَوَّز أبو البقاء أن يكونَ فاعلاً بالظرفِ قبلَه، وهذا إنما

يتأتى على رأي الأخفش، إذ لم يعتمدِ الظرفُ، وحينئذٍ يكون الوقفُ على» سواء «ثم يُبتدأ بقوله: {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ} وهذا فيه بُعْدٌ من حيث المعنى ثم إنهم جَعَلوا هذه الجملةَ صفةً لكلمة، وهذا غلطٌ لعدم رابِطٍ بين الصفة والموصوفِ وتقديرُ العائد ليس بالسهل، وعلى هذا فقولُ أبي البقاء:» وقيل: تَمَّ الكلام على «سواء» ثم استأنف فقال: {بيننا وبينكم أنْ لا نعبد} أي بيننا وبينكم التوحيدُ، فعلى هذا يكون «أن لا نعبد» مبتدأ، والظرف خبرَه، والجملةُ صفةً للكلمة «/ غيرُ واضح، لأنه من حيث جَعَلَها صفةً كيف يحسن أن يقولَ: تَمَّ الكلام على» سواء «ثم استأنف، بل كان الصواب على هذا الإِعراب أن تكون الجملةُ استئنافيةً كما تقدم. السادس: أن يكونَ» أن لا نعبد «مرفوعاً بالفاعلية بسواء، وإلى هذا ذهب الزماني فإنَّ التقدير عنده: إلى كلمةُ مُسْتَوفيها بيننا وبينكم عدمُ عبادة غير الله تعالى، قال الشيخ:» إلاَّ أنَّ فيه إضمارَ الرابط وهو «فيها» وهو ضعيف «. قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ} قال أبو البقاء:» هو ماض ولا يجوز أن يكون التقدير: «فإن تتولوا» لفسادِ المعنى لأن قوله: {فَقُولُواْ اشهدوا} خطابٌ للمؤمنين وتتولَّوا «للمشركين، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جوابُ الشرط والتقديرُ: فقولوا: لهم. وهذا الذي قاله ظاهرٌ جداً.

65

وقوله تعالى: {لِمَ تُحَآجُّونَ} : هي «ما» الاستفهامية دخل عليها حرفُ الجر فَحُذِفَت ألفها، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة، واللامُ متعلقةٌ بما بعدَه، وتقديمُها على عامِلِها واجبٌ لجَرِّها ما له صدرُ الكلامِ. وقوله: {في إِبْرَاهِيمَ} لا بدُّ من مضافٍ محذوف أي: في دينِ إبراهيم وشريعته، لأنَّ الذواتِ لا مجادَلَةَ فيها.

وقوله: {وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة} الظاهرُ أنَّ الواوَ كهي في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70] أي: كيف تُحاجُّون في شريعته والحالُ أن التوراةَ والإِنجيل متأخران عنه؟ وجَوَّزوا أن تكون عاطفةَ وليس بالبيِّن، وهذا الاستفهامُ للإِنكارِ والتعجب. وقولُه: {إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} متعلِّقٌ بأُنزلت، وهو استثناء مفرغ.

66

قوله تعالى: {هاأنتم هؤلاء} : الكلامُ على هذه الآيةِ فيه صعوبةٌ وإشكالٌ فيُحتاج من أجلِ ذلك إلى بَسْطٍ في العبارة، ولنبدأ أولاً بضبط قراءاتِها وتفسيرِ معناها، فإنَّ الإِعراب متوقف على ذلك، فأقولُ: القُرَّاء في ذلك على أربع مراتب، المرتبة الأولى للكوفيين، وابن عامر والبزي عن ابن كثير: «ها أنتم» بألف بعد الهاء وهمزةٍ مخففة بعدها. المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع: بألف بعد الهاء وهمزةٍ مسهلة بينَ بينَ بعدها. المرتبة الثالثة لورش وله وجهان، أحدهما: بهمزة مسهلة بينَ بينَ بعد الهاء دونَ ألفٍ بينهما، الثاني: بألف صريحة بعد الهاء من غير همز بالكلية. المرتبة الرابعة: لقنبل بهمزةٍ محققة بعد الهاء دون ألف. وأمَّا المعنى: فقال قتادة والسدي والربيع وجماعة كثيرة: إن الذي لهم به علم هو دينُهم الذي وجدوه في كتبهم وثبتَتْ صحتُه لديهم، والذي ليس لهم به علمٌ هو شريعةُ إبراهيم وما كان عليه مِمَّا ليس في كتبهم، ولا جاءَتْ به إليهم رسلُهم، ولا كانوا معاصِريه فَيَعْلَمُون دينه، فجدالُهم فيه مجردُ عنادٍ ومكابرة. وقيل: الذي لهم به علم أمر نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه موجودٌ عندهم في كتبِهم بنَعْتِه، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم عليه

السلام. وقال الزمخشري: «يعني ها أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيانُ حماقتكم وقلةِ عقولكم أنكم جادلم فيما لكم به علمٌ مِمَّا نطق به التوراة والإِنجيل، فلِمَ تُحاجُّونَ فيما ليس لكم به علمٌ ولا نَطَق به كتابكم مِنْ دينِ إبراهيم؟» . واختلف الناسُ في هذه الهاءِ فمنهم مَنْ قال: إنها ها التي للتنبيه الداخلةِ على أسماء الإِشارة، وقد كَثُرَ الفصلُ بينها وبين أسماء الإِشارة بالضمائر المرفوعةِ المنفصلة نحو: ها أنت ذا قائماً، وها نحن وها هم هؤلاء قائمون، وقد تُعاد مع الإِشارة بعد دخولها على الضمائر توكيداً كهذه الآية، ويَقِلُّ الفصلُ بغير ذلك كقوله: 1322 - تَعَلَّمَنْ هالعمرُ الله ذا قَسَماً ... قاقدِرْ بذَرْعِك وانظرْ أينَ تنْسَلِكُ وقال النابغة: 1323 - ها إنَّ تا عِذْرَةٌ إن لا تكن نَفَعَتْ ... فإنَّ صاحبَها قد تاهَ في البلد ومنهِم مَنْ قال: إنها مبدلةٌ من همزةِ استفهام، والأصلُ: أأنتم، وهو استفهامُ إنكار، وقد كَثُر إبدال الهمزةِ هاءً وإن لم ينقس، قالوا: هَرَقْت وهَرَحْت وهَبَرْت، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء وأبي الحسن الأخفش وجماعة، واستحسنه أبو جعفر، وفيه نظرٌ من حيث إنه لم يثبت ذلك في همزة الاستفهام، لم يُسْمع منهم: هَتَضْرِبُ زيداً بمعنى: أتضرب زيداً. وإذا

لم يثبت ذلك فكيف يُحمل هذا عليه؟ هذا معنى ما اعترض به الشيخ على هؤلاء الأئمة، وإذا ثَبَتَ إبدال الهمزة هاءً هانَ الأمر، ولا نظرَ إلى كونِها همزةَ استفهام ولا غَيرها. وهذا أعني كونَها همزةَ استفهام أُبدلت هاءَ ظاهرٌ على قراءة قنبل وورش لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة «أنتم» لأنَّ إِدخالَ الألف إنما كان لاستثقال توالي همزتين، فلمَّا أُبْدِلت الهمزةُ هاءً زال الثقل لفظاً، فلم يُحْتج إلى ألفٍ فاصلة، وقد جاءَ إبدالُ همزة الاستفهام هاءً قال: 1324 - وأتَى صواحِبُها يَقُلْنَ: هذا الذي ... مَنَحَ المودَة غيرَنا وجَفانا يريد: أذا الذي. ويَضْعُفُ جَعْلُها على قراءتهما ها التي للتنبيه لأنه لم يُحْفظ حَذْفُ ألفها، لا يقال: «هذا زيد» بحذفِ ألف «ها» كذا قيل، قلت: وقد حَذَفَها ابن عامر في ثلاثة مواضع، إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف، فقرأ في الوصل: {ياأيه الساحر} [الزخرف: 49] و {أَيُّهَ المؤمنون} [الآية: 31] في النور و {أَيُّهَ الثقلان} [الآية: 31] في الرحمن، لكن إنما فَعَل ذلك إتباعاً للرسم لأنَّ الألف حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة، وعلى الجملة فقد ثَبَت حَذْفُ ألف «ها» التي للتنبيه. وأَمَّا مَنْ أثبت الألف بين الهاء وبين همزة «أنتم» فالظاهر أن «ها» للتنبيه،

ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ بدلاً من همزةِ الاستفهامِ لِما تقدَّم من أَنَّ الألف إنما تدخلُ لأجلِ الثقل، والثقل قد زال بإبدالِ الهمزة هاء. وقال بعضُهم: «الذي يقتضيه النظرُ أَنْ تكونَ» ها «في قراءة الكوفيين والبزي وابن ذكوان للتنبيه، لأنَّ الألفَ في قراءتِهم ثابتةٌ، وليس من مذهبهم أن يَفْصِلوا بين الهمزتين بألفٍ، وأن تكونَ في قراءة قنبل وورش مبدلةً من همزة، لأن قنبلاً يَقْرأ بهمزة بعد الهاء، ولو كانت» ها «للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء، وإنما لم يُسَهِّل الهمزة كما سَهَّلها في» أأنذرتهم «ونحوِه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك، ولأن ورشاً فَعَل فيه ما فعل في» أأنذرتهم «ونحوه من تسهيلِ الهمزة وتَرْكِ إدخال الألف، وكأن الوجهَ في قراءتِه بالألف الحَمْلُ على البدلِ كالوجهِ الثاني في» أأنذرتهم «ونحوه. ومَنْ عدا هؤلاء المذكورين وهم أبو عمرو وقالون وهشام يُحْتمل أَنْ تكونَ» ها «للتنبيه، وأَنْ تكونَ بدلاً من همزةِ الاستفهام، أمَّا الوجهُ الأول فلأن» ها «التنبيه دَخَلَتْ على» أنتم «، فحقق هشام الهمزةَ كما حَقَّقها في» هؤلاء «ونحوه، وخفَّفها قالون وأبو عمرو لتوسُّطها بدخول حرف التنبيه عليها، وتخفيفُ الهمزة المتوسطة قوي. وأمّا الوجهُ الثاني فأَنْ تكونَ الهاءُ بدلاً من همزةِ الاستفهام لأنهم يَفْصِلون بين الهمزتين بألف، فيكونُ أبو عمرو وقالون على أصلهما في إدخال الألف والتسهيل، وهشام على أصله في إدخال الألف والتحقيق، ولم يُقرأْ بالوجه الثاني وهو التسهيل، لأن إبدالَ الهمزة الأولى هاء مُغْنٍ عن ذلك. وقال آخرون: «إنه يجوز أن تكون» ها «في قراءة الجميع مبدلةً من همزة، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على» أنتم «، ذَكَرَ ذلك أبو علي الفارسي

والمهدوي ومكي في آخرين. فأمَّا احتمال هذين الوجهين في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر فقد تقدَّم توجيهه وبيانه، وأمَّا احتمالُهما في قراءة غيرهم فأقول: أمَّا الكوفيون والبزي وابن ذكوان فقد تقدَّم توجيهُ كونِ» ها «عندهم للتنبيه، وأمَّا توجيهُ كونها بدلاً من الهمزة عندهم فأَنْ يكون الأصل: أأنتم فَفَصلوا بالألف على لغة من قال: 1325 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . أاأنت أَمْ أُمُّ سالمِ ولم يَعْبَؤوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً، لكون البدل فيها عارضاً، وهؤلاء وإنْ لم يكن من مذهبهم الفصلُ، ولكنهم جمعوا بين اللغتين. وأما توجيهُ كون» ها «بدلاً من الهمزة في قراءة قنبل وورش فقد تقدم. وأما توجيه كونِها للتنبيه في قراءتهما وإنْ لم يكن فيها ألفٌ فأن تكون الألفُ حُذفت لكثرة الاستعمال. وعلى قولِ مَنْ أبْدل كورش حُذِفَت إحدى الألفين لالتقاء الساكنين. وقال أبو شامة:» قلت: «الأَوْلى في هذه الكلمة على جميع القراءات فيها أن تكونَ» ها «للتنبيه، لأنَّا إنْ جعلناها بدلاً من همزة كانت تلك الهمزةُ همزةَ استفهام، و» ها أنتم «أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر لا للاستفهام، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل وحَذْفُ من حذف، أمَّا التسهيل، فقد سبق تشبيه بقوله: {لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] وشبهِه، أمَّا الحذفُ فيقول:»

ها «مثل:» أَما «كلاهما حرفُ تنبيه، وقد ثَبَتَ جوازُ حذفِ ألف» أما «فكذا حَذْفُ ألف» ها «وعلى ذلك قولُهم:» أمَ واللهِ لأفعلن «، وقد حمل البصريون قولَهم:» هَلُمَّ «على أنَّ الأصلَ:» هالمَّ «ثم حُذِفت ألفُ» ها «فكذا: ها أنتم» . قلت: وهو كلامٌ حسن، إلا أنَّ قولَه: «إنَّ ها أنتم حيث جاءت كانت خبراً لا استفهاماً» ممنوعٌ، بل يجوزُ ذلك ويجوزُ الاستفهام. انتهى. وذكر الفراء أيضاً هنا بحثاً بالنسبة إلى القصر والمد فقال: «مَنْ أثبتَ الألف في» ها «واعتقدها للتنبيه، وكانَ مِنْ مذهبه أن يَقْصُر في المنفصل فقياسُه هنا قَصْرُ الألف، حقق الهمزة أو سَهَّلها، وأمَّا مَنْ جعلها للتنبيه ومذهبهُ المدُّ في المنفصل أو جَعَلَ الهاءَ مبدلةً من همزة استفهام فقياسه أن يَمُدَّ، سواءً حقق الهمزة أو سَهََّلها» . وأمَّا ورش فقد تقدَّم عنه وجهان: إبدالُ الهمزةِ من «أنتم» ألفاً وتسهيلُها بينَ بينَ، فإذا أَبْدل مدَّ، وإذا سَهَّل قَصَر. وهذا كافٍ فيما يتعلق بالقراءاتِ وتفريعاتِ مذاهب القرَّاء عليها، وقد تكلَّموا بأكثرَ من ذلك، ولكن ليس هذا موضعَه. إذا عرفت جميع ما تقدم ففي إعراب هذه الآية أوجه، أحدها: أن «أنتم» مبتدأ و «هؤلاء» خبرُه، والجملةُ من قوله «حاججتم» جملةٌ مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيانُ حماقِتكم وقلةِ عقولكم أنكم جادلتم فيما لكم به علم بما نَطَقَ به التوراة والإِنجيل، فلِمَ تُحاجون فيما ليس لكم به علم؟ ذكر ذلك الزمخشري. الثاني: أن يكونَ «أنتم هؤلاء» مبتدأً وخبراً. والجملةُ من «حاجَجْتم»

في محلِّ نصبٍ على الحال. يَدُلُّ على ذلك تصريحُ العرب بإبقاء الحالِ موقعها في قولِهم: «ها أنا ذا قائماً» ، ثم هذه الحالُ عندهم من الأحوالِ اللازمةِ التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عنها/. الثالث: أَنْ يكونَ «أنتم هؤلاء على ما تقدم أيضاً، ولكن» هؤلاء «هنا موصولٌ لا يَتمُّ إلا بصفةٍ وعائدٍ، وهما الجملةُ مِنْ قوله:» حاجَجْتُم «ذَكَره الزمخشري، وهذا إنما يتجه عند الكوفيين، تقديرُه: ها أنتم الذين حاجَجْتُم. الرابع: أن يكونَ» أنتم «مبتدأ، و» حاججتم «خبرَه، و» هؤلاء «منادى، وهذا إنما يتجه عند الكوفيين أيضاً، لأنَّ حرف النداء لا يُحْذَفُ من أسماء الإِشارة، وأجازه الكوفيون وأنشدوا: 1326 - إنَّ الأُولى وُصِفوا قومي لهم فبِهِمْ ... هذا اعتصِمْ تَلْقَ مَنْ عاداكَ مَخذولا يريد: يا هذا اعتصم، وقول الآخر: 1327 - لا يَغُرَّنْكُمُ أولاءِ من القو ... مِ جُنوحٌ للسِّلْمِ فَهْو خِداعُ يريد: يا أولاء. الخامس: أَنْ يكونَ» هؤلاء «منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل، و» أنتم «مبتدأً و» حاجَجْتم «خبرَه، وجملةُ الاختصاصِ معترضةٌ. السادس: أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: ها أنتم مثل هؤلاء، وتكونُ الجملةُ بعدَها مُبَيِّنَةً لوجهِ التشبيه أَوْ حالاً، السابع: أن يكون» أنتم «خبراً مقدماً، و» هؤلاء «مبتدأ مؤخراً. وهذه الأوجه السبعة قد تقدم ذِكرُها وذِكْرُ مَنْ نُسِبت إليه والردُّ على بعضِ القائلين ببعضِها بما يُغْني عن إعادتِه في سورة

البقرة عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ} [البقرة: 85] ، وإنما أعدْتُه تَذْكِرَةً به فعليك بالالتفات إليه. قوله: {فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} :» ما «يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، ولا يجوزُ أَنْ تكنَ مصدرية لعَوْدِ الضمير عليها، وهي حرفٌ عند الجمهور،» ولكم «يجوز أن يكونَ خبراً مقدماً، و» علم «مبتدأ مؤخر، والجملة صلة ل» ما «أو صفة، ويجوز أن يكون» لكم «وحده صلةً أو صفة، و» علم «فاعلٌ به، لأنه قد اعتمد، و» به «متعلقٌ بمحذوف لأنه حال من» علم «، إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له، ولا يجوز أَنْ يتعلق بعِلْم لأنه مصدر، والمصدر لا يتقدَّم معمولُه عليه، فإنْ جَعَلْته متعلِّقاً بمحذوفٍ يفسِّره المصدر جاز ذلك وسُمِّي بياناً.

67

قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} : بدأ باليهود لأن شريعتهم أقدمُ، وكَرَّر «لا» في قوله {وَلاَ نَصْرَانِيّاً} توكيداً وبياناً أنه كان مُنْتَفِياً عن كل واحد من الدينين على حدته. وقوله: {وَلَكِن} استدراك لِما كان عليه، ووقعت هنا أحسنَ موقع، إذ هي بين نقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل، ولَمَّا كان الخطابُ مع اليهود والنصارى أتى بجملةِ نفي أخرى ليدُلَّ على أنه لم يكن على دينِ أحدٍ من المشركين كالعربِ عبدةِ الأوثان والمجوس عبدة الأوثان، والصابئة عبدةِ الكواكب، وبهذا يُطْرَحُ سؤالُ مَنْ قال: أيُّ فائدة في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} بعد قولِه «ما كان يهودياً ولا نصرانياً» ؟ وأتى بخبر «كان» مجموعاً فقال: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} لكونِه فاصلة، ولولا مراعاةُ ذلك لكانت المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قولِه: {يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} فيتناسبُ النفيان.

68

قوله تعالى: {بِإِبْرَاهِيمَ} : متعلِّقٌ ب «أَوْلى» ، وأولى: أفعلُ تفضيل من الوَلْي وهو القُرْب، والمعنى: أن أقربَ الناس به وأخصَّهم، فألفُه منقلبةٌ من ياء، لكونِ فائه واواً. قال أبو البقاء: «إذ ليس في الكلامِ ما لامُه وفاؤه واوان، إلا» واو «يعني اسم حرف التهجي، كالوسط من» قول «، أو اسم حرف المعنى كواو النسق، ولأهلِ التصريفِ خلافٌ من عينِه: هل هي واو أيضاً أو ياءٌ؟ وقد تَعَرَّضْتُ لها بدلائِلها في» شرح التسهيل «. و» لَلَّذين اتَّبعوه «خبرُ» إنَّ «، و» هذا النبي «نَسَقٌ على الموصول، وكذلك و» الذين آمنوا «، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون رضي الله عنهم وإنْ كانوا داخلين فيمَنْ اتَّبع إبراهيم، إلا أَنَّهم خُصُّوا بالذكر تشريفاً وتكريماً، فهو من باب {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . وحكى الزمخشري أنه قرىء:» وهذا النبيِّ «بالنصب والجر، فالنصبُ نسق على مفعول» اتبعوه «فيكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد اتَّبعه غيرُه كما اتبع إبراهيم، والتقدير: للذين اتبعوا إبراهيم وهذا النبيُّ: ويكون قوله:» والذين آمنوا «نسقاً على قوله:» للَّذين اتبعوه «. والجر نسقٌ على» إبراهيم «، أي: إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوه، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أَنْ يُثَنَّى الضمير في» اتبعوه «فيقال: اتبعوهما، اللهم إلا أن يقال: هو من باب {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] .

69

قوله تعالى: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب} : {مِّنْ أَهْلِ الكتاب} فيه وجهان: أحدهما: أنها تبعيضية وهو الظاهر. والثاني: أنها لبيان الجنس، قاله ابن عطية، ويعني أن المرادَ بطائفة جميعُ أهل الكتاب. قال الشيخ: «وهو بعيدٌ من دلالة اللفظ» . وهذا الجارُّ على القول/ بكونها تبعيضيةً في محلِّ رفع صفةً لطائفة، وعلى القول بكونها بيانية يتعلَّق بمحذوف، و «لو» تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكونَ على بابِها من كونها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره. وقال أبو مسلم الأصبهاني: «وَدَّ بمعنى تمنى، فيستعمل معها» لو «و» أن «وربما جُمِع بينهما، فيقال: وَدِدْت أن لو فعلت، ومصدره الوَدادة، والاسم منه وُدٌّ، وبمعنى أحَبَّ فيتعدى تعدِّيَ أَحَب، والمصدر: المَوَدَّة، والاسم منه وَدّ، وقد يتداخلان في المصدر والاسم» . وقال الراغب: «إذا كان بمعنى» أَحَبَّ «لا يجوزُ إدخال» لو «فيه أبداً» . وقال الرماني: «إذا كان وَدَّ بمعنى تمنى صَلَح للحال والاستقبال، وتجوز» لو «، وإذا كان بمعنى الماضي لم تجز» أَنْ «لأنْ» أَنْ «للاستقبال» وفيه نظر، لأنَّ «أنَّ» توصل بالماضي.

71

قوله تعالى: {لِمَ تَلْبِسُونَ} : قرأ العامة بكسر الباء من لَبَس عليه يَلْبِسُه أي خلطه. وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها جعله من لَبِسْت الثوب أَلْبَسُه على جهة المجاز، وقرأ أبو مجلز: «تُلبِّسُون» بضم التاءِ وكسر الباء وتشديدها من لَبَّس بالتشديد ومعناه التكثير. والباء في «بالباطل» للحال أي: ملتسباً بالباطل.

قوله: {وَتَكْتُمُونَ الحق} جملةٌ مستأنفة، ولذلك لم يَنْتَصِبْ بإضمار أَنْ في جواب الاستفهام، وقد أجاز الزجاج من البصريين، والفراء من الكوفيين فيه النصبَ من حيث العربيةُ، فتسقطُ النون، فينتصِبُ على الصرف عند الكوفيين، وبإضمار أَنْ عند البصريين، وقد مَنَع ذلك أبو علي الفارسي وأَنْكره، وقال: «الاستفهامُ واقعٌ على اللَّبْسِ فَحَسْب، وأما» تكتمُون «فخبرٌ حتم لا يجوز فيه إلا الرفعُ» ، يعني أنه ليس معطوفاً على «تَلْبِسون» بل هو استئناف، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق. ونقل أبو محمد بن عطية عن أبي عليّ أنه قال أيضاً: «الصرف ههنا يَقْبُح، وكذلك إضمارُ» أَنْ «، لأن» يكتمون «معطوف على موجب مقدر وليس بمستفهم عنه، وإنما استَفْهم عن السبب في اللبس، واللَّبْس موجب، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم:» لا تأكلِ السمكَ وتَشْرَب اللبن «وبمنزلةِ قولك:» أتقومُ فأقومَ «والعطفُ على الموجب المقرَّر قبيح متى نُصِب، إلا في ضرورةِ شعر كما رُوِي: 1328 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْحَقُ بالحجازِ فاستريحا وقد قال سيبويه في قولك:» أَسِرْتَ حتى تَدخُلَها؟ «لا يجوز إلا النصبُ في» تدخل «لأن السير مُسْتَفْهَمٌ عنه غيرُ موجَبٍ» ، وإذا قلنا: «أيُّهم سار حتى يدخُلها؟ رَفَعْتَ لأن السيرَ موجب والاستفهامُ إنما وقع عن غيره» .

قال الشيخ: وظاهرُ هذا النقلِ عنه معارضتُه لِما نُقل عنه قبله، لأنَّ ما قبلَه فيه أنَّ الاستفهامَ وَقَعَ عن اللَّبْسِ فحسب، وأمَّا «يكتُمون» فخبر حتم لا يجوزُ فيه إلا الرفع، وفيما نقله ابن عطية أنَّ «يكتمون» معطوفٌ على موجبٍ مقدَّرٍ وليس بمستفهم عنه، فيدُلُّ العطف على اشتراكهما في الاستفهامِ عن سبب اللَّبْس وسبب الكتم الموجبين، وفَرْقٌ بين هذا المعنى وبين أن يكون «يكتمون» إخباراً مَحْضاً لم يشترك مع اللَّبْس في السؤال عن السبب، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو عليّ من أنَّ الاستفهامَ إذا تَضَمَّن وقوعَ الفعلِ لا ينتصب الفعلُ بإضمار «أَنْ» في جوابه تبعه في ذلك جمال الدين بن مالك، فقال في «تسهيلِه» : «أو لاستفهامٍ لا يتضمَّنُ وقوعَ الفعل» فإنْ تضمَّن وقوعَ الفعل امتنع النصبُ عندَه نحو: «لِمَ ضربْتَ زيداً فيجاريك» لأنَّ الضربَ قد وقع. ولم يَشْتَرط غيرُهما من النحويين ذلك، بل إذا تعذَّر سَبْكُ المصدرِ مما قبله: إمَّا لعدم تقدُّمِ فعلٍ، وإمَّا لاستحالةِ سَبْكِ المصدرِ المرادِ به الاستقبالُ لأجلِ مُضِيٍِّ الفعل فإنما يُقَدَّر مصدرٌ مُقَدَّرٌ استقبالُه بما يَدُلُّ عليه المعنى، فإذا قلت: لِمَ ضربْتَ زيداً [فأضربك] فالتقديرُ: ليكنْ منك إعلامٌ بضرب زيد فمجازاةٌ منا. وأمَّا ما رَدَّ به أبو علي الفارسي على الزجاج والفراء فليس بلازم، لأنه قد منع أن يُراد بالفعل المضيُّ، إذ ليس نصاً في ذلك، إذ قد يمكن الاستقبال لتحقُّق صدورهِ لا سيَّما على الشخصِ الذي صَدَرَ منه أمثالُ ذلك، وعلى تقدير تحقُّق المُضِيّ فلا يَلْزَمُ الزجاجَ أيضاً، لأنه كما تقدَّم: إذا لم يمكن

سبك مصدرٌ مستقبلٌ من الجملةِ الاستفهاميةِ سَبَكْناه مِنْ لازِمها، ويَدُلُّ على إلغاء هذا الشرطِ والتأويلِ بما ذكرناه ما حكاه ابن كيسان مِنْ نصب المضارع بعد فعلٍ ماض محققِ الوقوعِ مستفهم عنه نحو: أين ذهب زيد فنتبعَه؟ ومن أبوك فنكرمَه؟ وكم مالُك فنعرفَه؟ كلُّ ذلك متأوَّلٌ بما ذكرت من انسباك المصدرِ المستقبلِ من لازمِ الجملِ المتقدمة فإنَّ التقدير: ليكنْ منك إعلامٌ بذهابِ زيد فاتِّباعٌ منا، وليكن منك إعلامٌ بأبيك فإكرامُ له منا، وليكن منك تعريفٌ بقَدْرِ مالك فمعرفةُ منا «وهذا البحث الطويل على تقدير شيء لم يقع، فإنه لم يُقرأ لا في الشاذ ولا في غيرِه إلا ثابت النون، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث تنقيحاً للذهن. ووراءَ هذا قراءةٌ مُشْكلةَ رَوَوها عن عبيد بن عمير وهي» لِمَ تَلْبِسوا وتكتُموا «بحذف النون من الفعلين، وهي قراءةٌ لا تبعد عن الغلط البَحْت، كأنه تَوَهَّمَ أنَّ» لِمَ «هي» لم «الجازمة فَجَزَمَ بها/ وقد نقل المفسرون عن بعض النحاة هنا أنهم يَجْزِمون ب» لِمَ «حملاً على لَمْ، نقل ذلك السجاوندي وغيرُه عنهم، ولا أظنُّ نحوياً يقول ذلك البتة، كيف يقول في جارٍ ومجرورٍ إنه يجزم!! هذا ما لا يتَفَوَّه به البتة ولا يَطيق سماعَه، فإن يَثْبُتْ هذا قراءةً ولا بد فليكُنْ مِمَّا حُذِفَ فيه نون الرفع تخفيفاً حيث لا مقتضى لحَذْفِها، ومن ذلك قِراءةُ بعضهم: {قَالُواْ ساحران تَظَّاهَرَا} [القصص: 48] بتشديدِ الظاءِ، والأصلُ: تتظاهران، فَأَدْغَمَ التاءَ في الظاء وحَذَفَ النون تخفيفاً، وفي الحديث:» والذي نفسي بيده لا تَدخُلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تُؤمِنوا حتى تَحابُّوا «يريد عليه السلام:

لاتخلون ولا تؤمنون، لاستحالة النهي معنى، وقال الشاعر: 1329 - أَبِيتُ أَسْرِي وتبيتي تَدْلُكِي ... وجَهكِ بالعنبرِ والمِسْكِ الذَّكي يريد: تبيتين وتدلكين، ومثلُه قولُ أبي طالب: 1330 - فإن يَكُ قومٌ سَرَّهُمْ ما صَنَعْتُمُ ... سَتَحْتَلِبُوها لاقِحاً غيرَ باهِلِ يريد: فستحتلبونها، ولا يجوزُ أن يُتَوَهَّم في هذا البيت أن يكونَ حَذَفَ النونَ لأجلِ جواب الشرط، لأنَّ الفاءَ مرادةٌ وجوباً، لعدمِ صلاحية» ستحتلبوهَا «جواباً لاقترانِهِ بحرف التنفيس. قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملةٌ حالية، ومتعلَّقُ العلمِ محذوفٍ: إمَّا اقتصاراً وإما اختصاراً، أي: وأنتم تعلمونَ الحقَّ من الباطل أو نبوَّة محمدٍ ونحوُ ذلك.

72

قوله تعالى: {وَجْهَ النهار} : منصوبٌ على الظرفِ لأنه بمعنى أول النهار، قال الربيع بن زياد العبسي: 1331 - مَنْ كان مسروراً بمقتلِ مالكٍ ... فَلْيَأْتِ نسوتَنا بوجهِ نهارِ أي بأوله. وفي ناصبِ هذا الظرفِ وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنهُ فعلُ الأمرِ مِنْ قولِهِ: «آمِنوا» ِأي: أَوْقِعوا إيمانَكم في أول النهار، وأوقعوا

كُفْرَكم في آخره. الثاني: أنه «أُنْزل» أي: آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار، وليس ذلك بظاهرٍ بدليلِ المقابلةِ في قولِهِ: {واكفروا آخِرَهُ} فإنَّ الضميرَ يعودُ على النهارِ، ومَنْ جَوَّزَ الوجهَ الثاني جَعَلَ الضميرَ يعودُ على الذي أُنْزِلَ، أي: واكفروا آخر المُنَزَّل، وأسبابُ النزولِ تخالف هذا التأويل. وفي هذا البيت الذي أنشدته فائدةُ رأيت ذِكْرَها، وذلك أنه من قصيدةٍ يرثي بها مالك بن زهير بن حريمة العبسي وبعده: يَجِدَ النساءَ حواسراً يَنْدُبْنَهُ ... يَلْطِمْنَ أوجُهَهُنَّ بالأسحارِ قَدْ كُنَّ يَخْبَأْنَ الوجوهَ تَسَتُّراً ... فاليومَ حين بَدَوْنَ للنُّظَّارِ ومعنى الأبياتِ يَحْتاجُ إلى معرفةِ اصطلاحِ العربِ في ذلك، وهو أَنَّهُمْ كانوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائِحَةٌ ولا تَنْدُبُهُ نادبةٌ حتى يُؤْخَذَ بثأره، فقال هذا: مَنْ سَرَّة قَتْلُ مالكٍ فَلْيَأْتِ في أولِ النهار يَجِدْنَا قد أَخَذْنَا بثأرِهِ، فَذَكَر اللازم للشيء، فهو من بابِ الكناية. ويُحْكَى أنَّ الشيباني سأل الأصمعيَّ: كيف تُنْشِدُ قولَ الربيع: حين بَدَأْنَ أو بَدَيْن؟ فردَّدَهُ بين الهمزة والياء. فقال الأصمعي: بَدَأْنَ، فقال: أخطأت، فقال: بَدَيْنَ، فقال: أخطأت فغضِبَ لها الأصمعي، وكان الصوابُ أن يقولَ: بَدَوْنَ بالواو، لأنه من بدا يبدو، أي: ظهر. فأتى الأصمعي يوماً للشيباني فقال له: كيف تُصَغِّرُ مختاراً؟ فقال: أقول مُخَيْتير، فضحك منه وصَفَّق بيديه وشَنَّع عليه في حَلَقته، وكان الصوابُ أن يقول: مُخَيِّر بتشديد الياء، وذلك أنه اجتمع زائدان: الميم والتاء، والميمُ أَوْلى بالبقاء لعلة ذكرها التصريفيون، فَأَبْقاها، وحَذَفَ التاءَ، وأتى بياءِ التصغير

فَقَلَبَ لأجلها الألفَ ياءً، وأَدْغَمها فيها، فصارَ «مُخَيِّراً» كما تَرَى، وهو يحتمل أن يكونَ اسمَ فاعل أو اسمَ مفعولٍ كما كان يحتملهما مُكَبَّرُه، وهذا أيضاً يُلْبَسً باسمِ فاعل خَيَّر يُخَيِّر فهو مُخيِّر، والقرائِنُ تُبيِّنُهُ. ومفعول «يَرْجِعُون» محذوفٌ أيضاً اقتصاراً أي: لعلهم يكونون مِنْ أهلِ الرجوع، أو اختصاراً أي: يَرْجِعُونَ إلى دينكم وما أنتم عليه.

73

قوله تعالى: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ} : في هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها زائدةٌ مؤكدةٌ، كهي في قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] أي: رَدِفَكم، وقول الآخر: 1332 - فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنَا قليلاً ... أَنَخْنا للكلاكِلِ فارتَمَيْنَا وقول الآخر: 1333 - ما كنتُ أخدَعُ للخليلِ بخُلَّةٍ ... حتى يكونَ لِيَ الخليلُ خَدُوعا أي: أَنَخْنَا الكلاكل، وأَخْدَعُ الخليلَ، ومثلُه: 1334 - يَذُمُّونَ للدنيا وهم يَرْضِعُونَها ... أَفاويقَ حتى ما يَدِرُّ لها ثَعْلُ يريد: يَذُمُّون الدنيا، ويروي «بالدنيا» بالباء، وأظن البيت: «يَذُمُّونَ لي

الدنيا» فاشتَبَه اللفظُ على السامعِ، وكذا رأيتُه في بعضِ التفاسيرِ، وهذا ليس بقويٍ. والثاني: أنَّ «أَمِنَ» ضُمِّنَ معنى أَقَرَّ واعترَفَ، فَعُدِّي باللام أي: ولا تُقِرُّوا ولا تَعْتَرِفوا إلا لِمَنْ تَبعَ دينكم، ونحوُه: {فَمَآ آمَنَ لموسى} [يونس: 83] {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] . وقال أبو علي: «وقد تعدَّى» آمَن «باللام في قولِهِ: {فَمَآ آمَنَ لموسى} {آمَنتُمْ لَهُ} [طه: 71] {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] فذَكَرَ أنه يتعدَّى بها من غيرِ تضمين. / والصوابُ ما قَدَّمْتُه من التضمينِ، وقد حَقَقْتُ هذا أولَ البقرة. وهذا اسثناءٌ مفرغ، وقال أبو البقاء:» إلاَّ لِمَنْ تَبع «فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ مِمَّا قبلَه، والتقديرُ: ولا تُقِرُّوا إلا لِمَنْ تَبع» فعلى هذا اللامُ غيرُ زائدةٍ، ويجوزُ أَنْ تكونَ زائدةً، ويكون محمولاً على المعنى أي: اجْحَدُوا كلَّ أحدٍ مَنْ تَبعَ، والثاني: أنَّ النيةَ به التأخيرُ والتقديرُ: ولا تُصَدِّقوا أنْ يؤتَى أحَدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلا مَنْ تَبع دينَكم، فاللامُ على هذا زائدَةٌ، و «مَنْ» في موضِعِ نصبٍ على الاستثناء من «أحد» . وقال الفارسي: «الإِيمانُ لا يتعدَّى إلى مفعولين فلا يتعلَّقُ أيضاً بجارَّيْن، وقد تُعَلَّق بالجارّ المحذوفِ مِنْ قولِهِ: {أَن يؤتى} فلا يتعلَّقُ باللامِ في قوله: {لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إلا أَنْ يُحمل الإِيمانُ على معناه، فيتعدَّى إلى

مفعولين، ويكونُ المعنى:» ولا تُقِرُّوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلا لمَنْ تَبعَ دينكم كما تقولُ: أَقْرَرَتُ لزيدٍ بألف، فتكونُ اللامُ متعلقةً بالمعنى، ولا تكونُ زائدةً على حدِّ {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] . قلت: فهذا تصريحٌ من أبي علي بأنه ضُمِّنَ آمَنَ معنى أَقَرَّ. قوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ} اعلم أنَّ في هذه الآية كلاماً كثيراً لا بد من إيرادِهِ عن قائليهِ ليتضحَ ذلك، فأقولُ وباللهِ العون: اختلفَ الناس في هذه الآيةِ على [وجوهٍ:] أحدُها: أنْ يكونَ {أَن يؤتى أَحَدٌ} متعلِّقاً بقوله: {وَلاَ تؤمنوا} على حذف حرفِ الجر، والأصلُ: «ولاتؤمنوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لِمَنْ تَبعَ دينَكم» فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجَرِّ جرى الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محل «أَنْ» ، ويكونُ قولُهُ: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} جملةً اعتراضيةً، قال الزمخشري في تقريرِ هذا الوجهِ وبه بدأ: «ولا تُؤْمِنُوا متعلِّقٌ بقولِهِ:» أَنْ يُؤْتَى أحد «، وما بينهما اعتراضٌ أي:» ولا تُظْهِرُوا إيمانكم بأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دونَ غيرِهم، أرادوا: أسِرُّوا تصديقَكم بأنَّ المسلمين قد أُوتوا مثلَ ما أوتيتم ولا تُفْشُوه إلا لأشياعِكم وحدَهم دونَ المسلمين، لئلا يَزيدَهم ثباتاً، ودونَ المشركين لئلا يَدْعُوهم إلى الإِسلام، أو يُحاجُّوكم عطفٌ على «أَنْ يُؤْتَى» . والضميرُ في «يُحاجُّوكم» لأحد لأنه في معنى الجميع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، فإن المسلمين يُحاجُّوكم عند ربكم بالحق، ويغالِبونُكم عند الله. فإنْ قلت: ما معنى الاعتراض؟ قلت: معناه أن الهدى هدى الله، مَنْ شاءَ أَنْ يلطف به حتى يُسْلِمَ أو يَزيدَ ثباتاً كان ذلك، ولم ينفع كَيْدُكم وحِيَلُكُم

وزيُّكُم تصديقكم عن المسلمين والكافرين، وكذلك قوله: {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} يريد الهدايةَ والتوفيق «. قلت: هذا كلامٌ حسن لولا ما يريد بباطنه، وعلى هذا يكونُ قولُه {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ} مستثنًى من شيءٍ محذوف، تقديره: ولا تُؤمِنُوا بأَنْ يُؤْتَى أحد مثلَ ما أوتيتم لأحدٍ من الناسِ إلا لأشياعكم دونَ غيرهم، وتكونَ هذه الجملةُ أعني قولَه: ولا تُؤْمِنُوا إلى آخرها، من كلامِ الطائفةِ المتقدِّمة، أي: وقالَتْ طائفةٌ كذا، وقالَتْ أيضاً: ولا تُؤمِنُوا، وتكونُ الجملةُ من قولِهِ: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} مِنْ كلام اللهِ لا غير. الثاني: أنَّ اللامَ زائدةٌ في» لِمَنْ تَبعَ «وهو مستثنى من أحد المتأخر، والتقديرُ: ولا تُصَدِّقوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا مَنْ تبع دينكم، فَمَنْ تَبعَ منصوبٌ على الاستثناء من» أحد «، وعلى هذا الوجه جَوَّز أبو البقاء في محل» أن يؤتى «ثلاثة أوجهٍ: الأول والثاني مذهبُ الخليل وسيبويه وقد تقدَّما. الثالث: النصبُ على المفعولِ مِنْ أجله تقديرُهُ: مخافَةَ أَنْ يُؤْتَى. وهذا الوجهُ الثاني لا يَصِحُّ من جهةِ المعنى ولا مِنْ جهةِ الصناعة: أمَّا المعنى فواضحٌ، وأَمَّا الصناعةُ فلأن فيه تقديمَ المستثنى على المستثنى منه وعلى عامله، وفيه أيضاً تقديمُ ما في صلةِ» أَنْ «عليها، وهو غيرُ جائز. الثالث: أَنْ يكونَ» أَنْ يُؤْتَى «مجروراً بحرفِ العلة وهو اللام، والمُعَلَّلُ محذوفٌ تقديرُه: لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه، لا لشيء آخرَ، وعلى هذا يكونُ كلامُ الطائفةِ قد تَمَّ عند قوله {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} ، ولنوضَّحْ هذا الوجه بما قاله الزمخشري. قال رحمه الله:» أو تمَّ الكلامُ عند قوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} ، على معنى: ولا تُؤمِنُوا هذا الإِيمانَ الظاهرَ

وهو إيمانهم وجهَ النهار إلا لِمَنْ تَبعَ دينكم، إلا لِمَنْ كانوا تابِعين لديِنكم مِمَّنْ أسلموا منكم، لأنَّ رجوعَهم كانَ أَرْجَى عندهم مِنْ رُجُوعِ مَنْ سِواهم، ولأنَّ إسلامَهم كان أغيظَ لهم، وقوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ} معناه: لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرْتموه لا لشيء آخر، يَعْني أن ما بكم من الحسد والبغي أَنْ يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم، والدليلُ عليه قراءة ابن كثير: «أَأَن يُؤْتَى أحد» بزيادةِ همزةِ الاستفهام للتقرير والتوبيخ بمعنى: ألأنْ يُؤْتَى أحدٌ؟ فإن قلت: فما معنى قوله «أو يُحاجُّوكم» على هذا؟ قلت: معناه دَبَّرْتُم ما دَبَّرْتُم لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلُ ما أُوتيتم ولِمَا يتصلُ به عند كُفْرِكُم به مِنْ مُحَاجَّتِهم لكم عند رَبِّكم «. الرابع: أن ينتصِبَ «أَنْ يُؤْتَى بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} كأنه قِيل: قل إنَّ الهدى هُدى الله فلا تُنْكروا أَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم، فلا تُنْكِرُوا ناصبٌ لأنْ وما في حَيِّزها، لأنَّ قولَه {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إنكار لأن يُؤْتَى أحد مثلَ ما أُوتوا. قال الشيخ:» وهذا بعيدٌ لأنَّ فيه حذفَ حرفِ النهي وحَذْفَ معمولِهِ، ولم يُحْفَظْ ذلك من لسانِهم «قلت: متى دَلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أيِّ حالةٍ كان. الخامس: أَنْ يكونَ» هدى الله «بدلاً من» الهدى «الذي هو اسمُ إنَّ، ويكون خبرُ إنَّ: {أَن يؤتى أَحَدٌ} ، والتقديرُ: قل إنَّ هدى الله أَنْ يُؤْتى أحدٌ، أي: إنَّ هدَى اللهِ إيتاءُ أحدٍ مثلَ ما أوتيتم، وتكونَ» أو «بمعنى» حتى «، والمعنى: حتى يُحاجُّوكم عند ربكم فيغلبوكم ويَدْحَضُوا حُجَّتكم عند الله، ولا يكون» أَوْ يُحاجُّوكم «معطوفاً على أَنْ يُؤتى وداخلاً في حَيِّزِ أَنْ. السادس: أَنْ يكونَ» أَنْ يُؤْتَى «بَدَلاً مِنْ هدى الله، ويكون المعنى: قل

إنَّ الهدى هدى الله وهو أَنْ يُؤْتَى أحدٌ كالذي جاءنا نحن، ويكونُ قولُه:» أو/ يُحاجُّوكم «بمعنى أو فليحاجوكم فإنهم يَغْلبونكم، قاله ابن عطية، وفيه نظرٌ، لأنه يُؤَدِّي إلى حَذْفِ حرفِ النهيِ وإبقاءِ عملِهِ. السابع: أَنْ تكونَ» لا «النافيةُ مقدرةً قبل» أَنْ يؤتى «فَحُذِفَتْ لدلالةِ الكلام عليها وتكونُ» أو «بمعنى إلاَّ أَنْ، والتقديرُ: ولا تؤمنوا لأحدٍ بشيء إلاَّ لِمَنْ تَبع دينكم بانتفاءِ أن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا مَنْ تبع دينكم، وجاء بمثله وعاضداً له، فإنَّ ذلك لا يُؤْتاه غيرُكم إلاَّ أنْ يُحاجُّوكم كقولِك: لألْزَمنَّك أو تقضيَني حقي، وفيه ضعفٌ من حيث حَذْفُ» لا «النافية، وما ذكروه من دلالةِ الكلامِ عليها غيرُ ظاهرٍ. الثامن: أَنْ يكونَ «أَنْ يُؤْتى» مفعولاً من أجله، وتحريرُ هذا القولِ أَنْ تجعلَ قولَه: {أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} ليس داخلاً تحتَ قولِه «قل» بل هو من تمامِ قول الطائفةِ متصلٌ بقولِه: ولا تُؤمِنُوا إلا لِمَنْ جاءَ بمثلِ دينِكم مخافَةَ أَنْ يُؤْتى أحدٌ من النبوةِ والكرامة مثلَ ما أوتيتم، ومخافَةَ أَنْ يُحاجُّوكُم بتصديقِكُم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه. وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكفرهم مع معرفتهم بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولَمَّا قَدَّر المبرد المفعولَ من أجله هنا قَدَّر المضاف: كراهَة أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أي: مِمَّن خالَفَ دينَ الإِسلام، لأن الله لا يَهْدِي مَنْ هو كاذب وكَفَّار، فهُدى الله بعيدٌ مِنْ غيرِ المؤمنين، والخطابُ في «أوتيتم» و «يُحاجُّوكم» لأمةِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واستضعف بعضُهم هذا وقال: كونُ مفعولاً من أجله على تقدير: «كراهةَ» يَحْتاج إلى تقديرِ عاملٍ فيه ويَصْعُبُ بتقديرُهُ، إذ قبلَه جملةٌ لا يظهرُ تعليلُ النسبةِ فيها بكراهةِ الإِيتاء المذكور.

التاسع: أنَّ «أَنْ» المفتوحَةَ تأتي للنفي كما تأتي «لا» نَقَل ذلك بعضُهم نصاً عن الفراء، وجَعَل «أو» بمعنى إلا، والتقدير: لا يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلاَّ أَنْ يُحاجُّوكُم، فإنَّ إيتاءَه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو مُحاجَّتِكُم عند ربكم، لأنَّ مَنْ آتاه اللهُ الوحيَ لا بد أن يُحاجَّهم عند ربهم في كونِهم لا يتَّبعونه، فقوله: «أو يُحاجُّوكم» حالٌ لازمةٌ مِنْ جهةِ المعنى، إذ لا يُوحي الله لرسولٍ إلا وهو مُحاجٌّ مخالفِيه. وهذا قولٌ ساقط إذ لم يثبت ذلك من لسانِ العرب. واختلفوا في الجملةِ مِنْ قولِهِ: «ولا تُؤْمِنُوا» هل هي مِنْ مقولِ الطائفة أم من مقول الله تعالى، على معنى أن الله تعالى خاطب به المؤمنين تثبيتاً لقلوبِهم وتسكيناً لجَأْشهم؛ لئلا يَشُكُّوا عند تَلَبُّس اليهود عليهم وتزويرهم؟ وقد نَقَلَ ابنُ عطية الإِجماعَ من أهلِ التأويل على أنه من مقول الطائفة، وليس بسديدٍ لما نَقَلَهُ الناسُ من الخلاف. و «أحد» يجوزُ أَنْ يكونَ في الآية الكريمة من الأسماء الملازمة للنفي وألاَّ يكون، بل يكون بمعنى واحد. وقد تقدَّم الفرق بينهما بأن الملازم للنفي همزتُهُ أصلية، والذي لا يلازم النفي همزته بدل من واو، فعلى جَعْلِهِ ملازماً للنفي يظهر عَوْدُ الضمير عليه جمعاً اعتباراً بمعناه، لأنَّ المراد به العموم، وعليه قوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] جَمَعَ الخَبَرَ لمَّا كان «أحد» في معنى الجميع، وعلى جَعْلِهِ غيرَ الملازم للنفي يكونُ جَمْعُ الضمير في «يُحاجُّوكُم» باعتبارِ الرسول عليه السلام وأتباعِهِ. وبعضُ الأوجهِ المتقدمة يَصِحُّ أَنْ يُجعل فيها «أحد» المذكورُ الملازمُ للنفي، وذلك إذا كان الكلامُ

على معنى الجَحْدِ، وإذا كان الكلام على معنى الثبوت كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنعُ جَعْلُه الملازمَ للنفي، والأمر واضحٌ مِمَّا تقدَّم. وقرأ ابن كثير: «أأن يؤتى» بهمزة استفهام وهو على قاعدتِهِ في كونه يُسَهِّل الثانية بينَ بينَ من غير مدٍّ بينهما. وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على أوجه، أحدها: أن يكون «أن يُؤتى» على حَذْفِ حرف الجر وهو لام العلة والمُعَلَّلُ محذوف، تقديره: أَلأنْ يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه. وقد قَدَّمَتْ تحقيقَ هذا فحينئذٍ يَسُوغُ في محلِّ «أَنْ» الوجهان: أعني النصبَ مذهبَ سيبويه، والجَرَّ مذهبَ الخليل. الثاني: أَنَّ «أَنْ يُؤتَى» في محلِّ رفعب بالابتداءِ والخبر محذوف تقديره: أأن يؤتى أحد يا معشر اليهود مثلَ ما أوتيتم من الكتاب والعلم تُصَدِّقون به أو تعترفون به أو تَذْكُرونه لغيركم أو تُشيعونه في الناس ونحوُ ذلك مِمَّا يَحْسُن تقديرُه، وهذا على قولِ مَنْ يقول: «أزيد ضربته» وهو وجه مرجوح، كذا قَدَّرَهُ الواحدي تَبَعاً للفارسي، وأحسنُ من هذا التقدير لأنه الأصل: أإتيان أحدٍ مثلَ ما أُوتيتم ممكنٌ أو مُصَدَّقٌ به. الثالث: أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدر يفسِّره هذا الفعلُ المضمرُ، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ والتقدير: أَتَذْكُرون أَنْ يُؤْتَى أحد تذكرونه، فتذكرونه مفسِّرٌ لتذكرون الأول على حَدِّ: «أزيداً ضربته» ثم حُذِفَ الفعلُ الأخير المفسِّر لدلالةِ الكلام عليه، وكأنه منطوقٌ به، ولكونِهِ في قوة المنطوق

به صَحَّ له أن يفسِّر مضمراً، وهذه المسألةُ منصوص عليها. وهذا أرجحُ من الوجه قبله، لأنه مثلُ: أزيداً ضربته، وهو راجحٌ لأجلِ الطالب للفعل، ومثلُ حَذْفِ هذا الفعلِ المقدَّرِ لدلالة ما قبلَ الاستفهامِ عليه حَذْفُ الفعل في قوله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} [يونس: 91] قيل: تقديره: الآن آمنت ورَجَعْتَ وتُبْتَ ونحو ذلك. قال الواحدي: «فإنْ قيل: كيف وُجِدَ دخولُ» أحد «في هذه القراءةِ وقد انقطَع من النفي والاستفهام، وإذا انقطع الكلامُ إيجاباً وتقريراً فلا يجوز دُخولُ» أحد «؟ قيل: يجوزُ أَنْ يكونَ» أحد «في هذا الموضع» أحداً «الذي في نحو: أحد وعشرين وهذا يقع في الإِيجاب، ألا ترى أنه بمعنى واحد. وقال أبو العباس:» إن أحداً ووحَدَاً وواحداً بمعنى «. وقوله:» أو يُحاجُّوكم «» أو «في هذه القراءةِ بمعنى حتى، ومعنى الكلام: أَأن يُؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يحاجُّكم عند ربكم. قال الفراء:» ومثلُه في الكلام/: تَعَلَّقْ به أو يُعْطِيَكَ حقك، ومثلُه قولُ امرىء القيس: 1335 - فَقُلْتُ له: لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنما ... نحاوِلُ مُلْكاً أو نموتَ فَنُعْذَرَا أي: حتى، ومِنْ هذا قولُه تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ

عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] قال: «فهذا وجه، وأجودُ منه أن تجعلَه عطفاً على الاستفهام، والمعنى: أأن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم أو يُحاجَّكم أحدٌ عند الله تُصَدِّقونه وهذا كله معنى قول الفارسي، ويجوز أن يكون» أن يؤتى أحد «منصوباً بفعل مقدر لا على سبيل التفسير، بل لمجرد الدلالة المعنوية تقديرُه: أتذكرون أو أَتَشِيعونَ أَنْ يُؤْتَى أحدٌ، ذكره الفارسي أيضاً، وهذا هو الوجهُ الرابع. الخامس: أَنْ يكونَ» أَنْ يؤتى «في قراءته مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قولِ الطائفة. وهو أظهرُ مِنْ جَعْلِهِ من قول الطائفة. وقد ضَعَّف الفارسي قراءةَ ابن كثير فقال:» وهذا موضِعٌ ينبغي أن تُرَجَّح فيه قراءةُ غير ابن كثير على قراءة ابن كثير، لأنَّ الأسماءَ المفردة ليس بمستمرٍ فيها أن تَدُلَّ على الكثرة «. وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة:» إنْ يؤتى «بكسر الهمزة، وخَرَّجها الزمخشري على أنها:» إنْ «النافية فقال:» على إن النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع

دينكم وقولوا لهم: ما يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم حتى يُحاجُّوكم عند ربكم، يعني لا يُؤْتَوْن مثلَه فلا يُحاجُّونكم «. وقال ابن عطية:» وهذه القراءةُ تحتمل أن يكونَ الكلامُ خطاباً من الطائفةِ القائلة، ويكونُ قولُها «أو يحاجُّوكم» بمعنى: أو فليحاجُّوكم وهذا على التصميمِ على أنه لا يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتي، أو تكون بمعنى: إلاَّ أَنْ يُحاجُّوكم، وهذا على تجويز أَنْ يؤتى أحدٌ ذلك إذا قامت الحجة له «فقد ظَهَرَ على ما ذَكَرَ ابن عطية أنه يجوزُ في» أو «في هذه القراءةِ أن تكونَ على بابِها مِنْ كونِها للتخيير والتنويع، وأَنْ تكونَ بمعنى» إلاَّ «، إلاَّ أنَّ فيه حَذْفَ حرفِ الجزم وإبقاءَ عمله، وهو لا يجوز، وعلى قولِ غيره تكونُ بمعنى حتى. وقرأ الحسن:» أَنْ يُؤْتى أحدٌ «على بناءِ الفعل للفاعل. ولَمَّا نقل هذه القراءةَ بعضُهم لم يتعرَّض ل» ان «بفتحٍ ولا كسرٍ كأبي البقاء، وتعرَّض لها بعضُهم فقيَّدها بكسرِ» إنْ «وفسَّرها ب» إنْ «النافية، والظاهر في معناها أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه، وهي خطابٌ من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته، والمفعولُ محذوف تقديره: إنْ يؤتي أحدٌ أحداً مثلَ ما أوتيتم، فحُذِفَ المفعولُ الأولُ وهو» أحداً «لدلالة المعنى عليه، وأُبْقِيَ الثاني. وهذا ما تلخَّص مِنْ كلام الناس في هذه الآية مع اختلافه ولله الحمد. قال الواحدي:» وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبهِ تفسيراً، ولقد تدبَّرْتُ أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية، فلم أَجِدْ قولاً يَطَّرِدُ في هذه الآية من أولِها إلى آخِرها مع بيان المعنى وصحة النظم.

75

قوله تعالى: {مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ} : مَنْ مبتدأٌ، و «من أهل»

خبره، قُدِّمَ عليه، و «مَنْ» : إما موصولة وإما نكرة، و «إِنْ تَأْمَنْهُ يُؤدِّه» هذه الجملة الشرطية: إمَّا صلةٌ فلا محلَّ لها، وإمَّا صفةٌ فمحلُّها الرفع. وقرأَ أُبَيّ: «تِئْمَنْهُ» في الحرفين، و {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا} [يوسف: 11] بكسر حرف المضارعة، وكذلك ابن مسعود والأشهب العقيلي، إلا أنهما أَبْدلا الهمزة ياء، وجَعَلَ ابن عطية ذلك لغةَ قريش، وغَلَّطه الشيخ. وقد تقدَّم لنا الكلامُ في كسرِ حرفِ المضارعة وشرطِ ذلك في سورة الفاتحة بكلامٍ مشبع فليُراجع ثمة. والدينار أصله «دِنَّار» بنونين، فاسْتُثْقِلَ توالي مِثْلِين فأبدلوا أولهما حرفَ علة تخفيفاً لكثرة دَوْره في لسانهم، ويَدُلُّ على ذلك رَدُّه إلى النونين تكسيراً وتصغيراً في قولهِم: دَنانير ودُنَيْنِير، مثله: قيراط: أصله قِرَّاط بدليل قراريط وقُرَيْرِيط كما قالوا: تَظَنَّيْت وقَصَّيْت أظفاري، يريدون تَظَنَّنْت وقَصَّصت بثلاث نونات وثلاث صادات. والدينار مُعَرَّب، قالوا: ولم يختلف وزنه أصلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً، كل قيراط ثلاث شُعيرات معتدلة، فالمجموعُ اثنتان وسبعون شُعَيْرة. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم: «يُؤَدِّهْ» بسكون الهاء في الحرفين، وقرأ قالون: يُؤَدِّه بكسر الهاء من دون صلة، والباقون بكسرها موصولة بياء، وعن هشام وجهان، أحدهما: كقالون، والآخر كالجماعة.

فأما قراءة أبي عمرو ومن ذُكِر معه فقد خَرَّجوها على أوجه أحسنها أنه سُكِّنت هاءُ الضمير إجراءً للوصل مُجْرى الوقف، وهو باب واسع مضى لك منه شيء نحو: {يَتَسَنَّهْ وانظر} [البقرة: 259] {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] وسيمر بك منه أشياء إن شاء الله تعالى، وأنشد ابن مجاهد على ذلك قوله: 1336 - وأشربُ الماءَ ما بي نحوه عطشٌ ... إلا لأنَّ عيونَه سيلُ وادِيها وأنشد الأخفش على ذلك أيضاً: 1337 - فَظَلْتُ لدى البيتِ العتيقِ أُخيلُه ... ومِطْواي مُشتاقان لَهُ أَرِقانِ إلاَّ أنَّ هذا يَخُصُّه بعضُهم بضرورة الشعر، وليس كما قال لما سيأتي. وقد طعن بعضهم على هذه القراءة فقال الزجاج: «هذا الإِسكان الذي رُوِي عن هؤلاء غلطٌ بَيِّنٌ، لأن الهاء لا ينبغي أن تُجْزم، وإذا لم تجزم فلا تسكن في الوصل، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فَغُلِط عليه كما غُلِطَ عليه في {بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ، وقد حَكَى عنه سيبويه وهو ضابطٌ لمثل هذا أنه كان يكسِر كسراً خفياً، يعني يكسر في» بارئكم «كسراً خفياً فظنَّه

الراوي سكوناً» . قلت: وهذا الردُّ من الزجاج ليس بشيء لوجوه منها: أنه فَرَّ من السكون إلى الاختلاس/، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نَصَّ على أن الاختلاس أيضاً لا يجوز، بل جَعَلَ الإِسكان في الضرورة أحسنَ منه في الاختلاس قال: «ليَجري الوصل مُجرى الوقف إجراءً كاملاً» ، وَجَعَلَ قولَه «عيونَهْ سيلُ واديها» أحسنَ من قوله: 1338 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ما حَجَّ ربَّه في الدنيا ولا اعتمرا حيث سَكَّن الأول واختلس الثاني. ومنها: أنَّ هذه لغةٌ ثابتةٌ عن العرب حَفِظَها الأئمة الأعلام كالسكائي والفراء، وحكى الكسائي عن بني عُقيل وبني كلاب: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع، ويقولون: «لَهْ مال ولَهُ مال» بالإِسكان والاختلاس. وقال الفراء: «مِن العرب مَنْ يجزم الهاءَ إذا تحرَّك ما قبلها فيقولون: ضربتهْ ضرباَ شديداً، فيسكنون الهاء كما يُسكنون ميم» أنتم «و» فمنهم «وأصلُها الرفع، وأنشد: 1339 - لمَّا رأى أَنْ لا دَعَهْ ولا شِبَعْ ... مالَ إلى أرطاةِ حِقْفٍ فالطَجَعْ قلت: وهذا عجيبٌ من الفراء كيف يُنْشد هذا البيتَ في هذه المَعْرِض

لأن هذه الهاء مبدلةٌ من تاء التأنيث التي كانت ثابتةً في الوصل فقلبها هاءً ساكنة في الوصل إجراءً له مُجْرى الوقف، وكلامُنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيث، لأنَّ هاء التأنيث لا حظَّ لها في الحركة البتة، ولذلك امتنع رَوْمُها وإشمامها في الوقفِ، نصوا على ذلك، وكان الزجاج يَضْعُف في اللغة، ولذلك رَدَّ على ثعلب في» فصيحه «أشياءَ أنكرها عن العرب، فردَّ الناس عليه ردَّه، وقالوا: قالتها العرب، فحفِظها ثعلب ولم يحفظْها الزجاج فَلْيكن هذا منها. وزعم بعضهم أن الفعل لَمَّا كان مجزوماً وحَلَّتِ الهاءُ محلَّ لامه جرى عليها ما يجري على لام الفعل من السكون للجزم وهو غير سديد. وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها: 1340 - لَهُ زَجَلٌ كأنه صوتُ حادٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقول الآخر: 1341 - أنا ابنُ كِلابٍ وابنُ أوسٍ فَمَنْ يَكُنْ ... قناعهُ مَغْطِيَّاً فإنِّي لَمُجْتَلِي وقول الآخر: 1342 - وأغبرُ الظَّهْرِ يُنْبي عن وَلِيَّتِه ... ما حَجَّ ربه في الدنيا ولا اعتمرا وقد تقدَّم أنها لغةُ عقيل وكلاب أيضاً.

وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ. وقرأ الزهري:» يُؤَدِّهو «بضم الهاء بعدها واو، وقد تقدَّم أن هذا هو الأصل في هاء الكناية، وقرأ سلام كذلك، إلا أنه ترك الواو فاختلس، وهما نظيرتا قراءَتَيْ:» يؤد هي ويؤده «بالإِشباع والاختلاس مع الكسر. واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعلٍ مجزوم أو أمر معتل الآخر جرى فيها هذه الأوجه الثلاثة أعني السكونَ والاختلاس والإِشباع وذلك: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] {يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] {نُوَلِّهِ مَا تولى} [النساء: 115] {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل: 28] ، وقد جاء ذلك في قراءة السبعة أعني الأوجه الثلاثة في بعض هذه الكلمات، وبعضها لم يأتِ فيه إلا وجهان، وسيأتي ذلك مفصَّلاً في سوره إن شاء الله تعالى، والسر فيه أن الهاء التي للكناية متى سَبَقها متحركٌ فالفصيحُ فيها الاشباعُ نحو: إنه، وبه، وله، وإنْ سَبَقها سكانٌ فالأشهرُ الاختلاسُ، وسواءً كان ذلك الساكن صحيحاً أو معتلاً نحو: فيه ومنه، وبعضُهم يُفَرِّق بين المعتل والصحيح، وقد أتقنت ذلك في أول الكتاب، إذا علم ذلك فنقول: هذه الكلماتُ المشارُ إليها إنْ نَظَرْنا إلى اللفظ فقد وَقَعتْ بعد متحركٍ فحقُّها أَنْ تُشْبَعَ حركتُها موصولةً بالياء أو الواو، وإن سَكَنَتْ فلِما تقدَّم من إجراءِ الوَصْلِ مُجْرى الوقف، وإنْ نظرنا إلى الأصلِ فقد سَبَقَها ساكنٌ وهو حرفُ

العلة المحذوف للجزم، فلذلك جاز الاختلاسُ، وهذا أصلٌ نافعَ يَطَّرِدُ معك عند قربِك في هذا الكتاب من هذه الكلماتِ. قوله: «بدينار» في هذه الباءِ أوجهٌ، أحدُها: أنها على أصلها من الإِلصاق وفيه قلقٌ، والثاني: أنها بمعنى في، ولا بُدَّ من حذف مضاف أي: في حفظِ دينارٍ وفي حفظ قنطار. والثالث: أن الباء بمعنى على، وقد عُدِّي بها كثيراً: {لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} [يوسف: 11] {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ} [يوسف: 64] وكذلك هي في «بقنطار» . قوله: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} استثناءٌ مفرغ من الظرف العام، إذا التقدير: لا يُؤدِّه إليك في جميع المدد والأزمنة إلا في مدة دوامك قائماً عليه متوكلاً به. ودُمْتَ هذه هي الناقصة/ ترفع وتنصب، وشرطُ إعمالها أَنْ يتقدمها «ما» الظرفيةُ كهذه الآية، إذ التقدير إلا مدةَ دوامك، ولا يتصرف، فأمَّا قولُهم، «يدومُ» فمضارع «دام» التامة بمعنى بقي، ولكونها صلةً ل «ما» الظرفية لَزِم أن تكونَ محتاجةً إلى كلام آخر لتعمل في الظرف نحو: «لا أصحبُك ما دمت باكياً» ، ولو قلت: «ما دام زيد قائماً» من غير شيء لم يكن كلاماً. وجَوَّز أبو البقاء في «ما» هذه أن تكونَ مصدرية فقط، وذلك المصدرُ المنسبك منها ومِنْ دام في محلِّ نصب على الحال، وهو استثناء مفرغٌ أيضاً من الأحوال المقدَّرة العامة، والتقدير: إلاَّ في حال ملازمتك له، وعلى هذا فتكون «دام» هنا تامةً لِما تقدم مِنْ أنَّ تقدُّم الظرفيةِ شرطٌ في إعمالها، وإذا كانت تامة انتصب «قائماً» على الحال. ويقال: دامَ يدوم كقام يقوم، ودُمت قائماً بضم الفاء وهذه لغة الحجاز،

وتميم يقولون: دِمت بكسرها، وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثاب والأعمش وطلحة والفياض بن غزوان، قال الفراء: «وهذه لغة تميم ويجتمعون في المضارع، فيقولون: يدوم» ، يعني أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارعَ مضموم العين، وكان قياس تميم أن تقول يَدام كخَاف يخَاف ومات يمات، فيكون وزنُها عند الحجاز: فَعَل بفتح العين، وعند التميميين: فَعِل بكسرها، وهذا نقلُ الفراء، وأمَّا غيرُه فنقل عن تميم أنهم يقولون: دِمْت أدام كخِفْت أخاف، نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني وأبي القاسم الزمخشري. وأصلُ هذه المادة الدلالةُ على الثبوت والسكون، يقال: «دام الماء» أي سكن، وفي الحديث: «لا يبولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ» وفي بعضه بزيادة «الذي لا يجرى» وهو تفسيرٌ له، وأَدَمْتُ القِدْرَ ودوَّمْتُها: سكَّنت غليانها بالماء، ومنه دام الشيء: إذا امتد عليه زمان، ودَوَّمَتِ الشمس: إذا وقفت في كبد السماء، قال ذو الرمة: 1343 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

والشمسُ حَيْرَى لها في الجَوِّ تَدْويمُ هكذا أنشد الراغب هذا الشطرَ على هذا المعنى، وغيرُه يُنْشِده على معنى أنَّ الدوام يُعَبَّر به عن الاستدارة حولَ الشيء، ومنه الدوامُ: وهو الدُّوار الذي يأخذ الإِنسان في دماغه فيرى الأشياءَ دائرة، وأنشد معه أيضاً قولَ علقمة بن عبدة: 1344 - تَشْفي الصُّداع ولا يُؤْذِيك صالِبُها ... ولا يُخالطُها في الرأسِ تدويم ومنه: دَوَّم الطائرُ إذا حَلَّق ودار. وقوله: {عَلَيْهِ} متعلِّقٌ بقائماً، والمعنى بالقيام: الملازمة لأن الأغلَب أنَّ المطالِب يقوم على رأس المطالَب، ثم جُعِل عبارة عن الملازمة وإن لم يكن ثمة قيام. قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ} مبتدأ وخبر، و «ذلك» إشارة إلى الاستحلال وعدمِ المؤاخذة في زعمهم، أي: ذلك الاستحلالُ مستحق أو جائز بقولِهم: «ليس علينا في الأميين سبيل» . قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا} يجوزُ أَنْ يكونَ في «ليس» ضميرُ الشأن وهو اسمها، وحينئذ يجوز أن يكون «سبيل» مبتدأ و «علينا» الخبرُ، والجملةُ خبرُ «ليس» ويجوز أن يكونَ «علينا» وحده هو الخبرَ، و «سبيل» مرتفعٌ به على الفاعلية، ويجوز أن يكونَ «سبيل» اسمَ ليس، والخبرُ أحد الجارَّيْن أعني علينا أو في الأميين ويجوزُ أن يتعلق «في الأميين» بالاستقرار الذي تعلق به «علينا» .

وجَوَّز بعضهم أن يتعلَّقَ بنفس «ليس» نقله أبو البقاء وغيرُه وفي هذا النقلِ نظرٌ، وذلك أنَّ هذه الأفعال النواقص في عملِها في الظروف خلافٌ، وبَنوا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدثِ فَمَنْ قال: تَدُلُّ على الحدَث جَوَّز إعمالَها في الظرف وشِبْهِه، ومن قال: لا تَدْلُّ على الحدَث مَنَع إعمالَها، واتفقوا على أن «ليس» لا تدل على حدثٍ البتة فكيف تعمل؟ هذا ما لا يُعْقَلُ. ويجوز أنَّ يتعلَّقَ «في الأميين» بسبيل، لأنه استُعْمِل بمعنى الحرج والضمان ونحوهما، ويجوز أن يكون حالاً منه، فيتعلق بمحذوف. وقوله: {عَلَى اللَّهِ الكذب} يجوز أن يتعلق «على الله» بالكذب وإن كان مصدراً؛ لأنه يُتَّسع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسع في غيرهما، ومن مَنَع علَّقه بيقولون متضمناً معنى يفترون فَعُدِّي تعديتَه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الكذب» . وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حالية، ومفعولُ العلم محذوف اقتصاراً أي: وهم من ذوي العلم، أو اختصاراً أي: يعلمون كذبهم وافتراءهم وهو أقبحُ لهم.

76

وقوله تعالى: {بلى} : جوابٌ لقولهم «ليس» وإيجابٌ لِما نَفَوه، وقد تقدَّم القول في نظيره، ومَنْ شرطية أو موصولة، والرابطُ من الجملة الجزائية أو الخبرية هو العمومُ في المتقيَّن، وعند مَنْ يرى الربط بقيام الظاهرِ مقامَ المضمر يقولُ ذلك هنا، وقيل: الجزاء أو الخبر محذوف تقديره: يحبه الله، ودلَّ على هذا المحذوفِ قولُه: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وفيه تكلفٌ لا حاجةَ إليه. و {بِعَهْدِهِ} يجوز أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعِله على أَنَّ الضمير يعودُ

على مَنْ، أو إلى مفعوله على أنه يعود على «الله» ، ويجوز أن يكون المصدرُ مضافاً للفاعل وإن كان الضمير لله تعالى/، وإلى المفعول وإنْ كان الضمير لِمَنْ، ومعناه واضح إذا تُؤُمِّل.

78

قوله تعالى: {يَلْوُونَ} : «صفةٌ ل» فريقاً «فهي في محل نصب، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى لأنه اسمُ جمع كالقَوْم والرهط، قال أبو البقاء:» ولو أُفْرد على اللفظ لجازَ «وفيه نظرٌ إذ لا يجوز:» القوم جاءني «. والعامة على» يَلوون «بفتح الياء وسكون اللام وبعدها واوٌ مضمومة ثم أخرى ساكنةٌ، مضارع لَوَى أي: فَتَل. وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نصاح، وأبو حاتم عن نافع: يُلَوُّون بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد الواو الأولى من لَوَّى مضعفاً، والتضعيفُ فيه للتكثير والمبالغة لا للتعدية، إذ لو كان لها لتعدَّى لآخرَ لأنه متعدٍّ لواحد قبلَ ذلك، ونسبها الزمخشري لأهل المدينة وهو كما قال: فإنَّ هؤلاء رؤساء قراء المدينة. وقرأ حميد:» يَلُون «بفتح الياء وضم اللام بعدها واو مفردة ساكنة، ونسبها الزمخشري لمجاهد وابن كثير، ووجَّهها هو بأن الأصلَ:» يَلْوُون «كقراءة العامة، ثم أُبْدِلَتِ الواو المضمومة همزةً، وهو بدلٌ قياسيّ كأجوه وأُقِّتت، ثم خُفِّفت الهمزة بإلقاء حركتها على الساكنِ قبلها وهو اللامُ وحُذِفَت الهمزة فبقي وزنُ يَلُون: يَفُون بحذف اللام والعين، وذلك أن اللام وهي الياء حُذفت لالتقاء الساكنين لأن الأصل:» يَلْوِيُون «كيَضْربون فاستُثْقلت الضمة

على الياء فَحُذفت فالتقى ساكنان: الياء وواو الضمير فَحُذفت الياء لالتقائمها، ثم حُذِفت الواو التي هي عينُ الكلمة بما قدمته لك. وألسنتهم: جمعُ لِسان وهذا على لغةِ مَنْ ذكَّر، وأما على لغة من يؤنثه فيقول: هذه لسان فإنه يُجْمع على ألسن نحو: ذِراع وأَذْرُع وكِراع وأَكْرُع، وقال الفراء:» لم نَسْمعه من العربِ إلا مذكراً «ويُعَبِّر باللسانِ عن الكلام لأنه يَنشأ منه وفيه، والمرادُ به ذلك أيضاً التذكيرُ والتأنيث. والَّليُّ: الفَتْلُ، يقال: لَوَيْتُ الثوبَ ولَوَيْتُ عنقه أي: فَتَلْتُه والمصدرُ الليُّ والليَّان، قال: 1345 - قد كُنْت دايَنْتُ بها حَسَّانا ... مخافةَ الإِفلاسِ واللَّيَّانا والأصل: لَوْي ولَوْيان، فأُعِلَّ وهو واضح بما تقدَّم في» ميِّت «وبابِه، ثم يُطْلَقُ الَّليُّ على الإِراغةِ والمراوغة في الحجج والخصومةِ تشبيهاً للمعاني بالأجرام. و {بالكتاب} متعلِّق بيَلْوُون وهو تعلُّقٌ واضح، وجَعَله أبو البقاء حالاً من الألسنة قال:» تقديرُه ملتبسةً بالكتاب أو ناطقة بالكتاب «، والضمير في {لِتَحْسَبُوهُ} يجوزُ أَنْ يعودَ على ما دَلَّ عليه ما تقدم من ذِكْر الليِّ والتحريف أي: لتحسَبوا المحرَّف من التوراة، ويجوز أن يعودَ على مضافٍ محذوف دَلَّ

عليه المعنى والأصل: يَلْوُون ألسنَتهم بشبه الكتاب لتحسَبوا شبه الكتاب الذي حرفوه من الكتاب، ويكون كقوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ} [النور: 4] ثم قال» يَغْشاه «والأصل: أو كذي ظلمات، فالضميرُ من» يغشاه «يعود على ذي المحذوف. و {مِنَ الْكِتَابِ} هو المفعول الثاني للحسبان. وقُرىء» ليحسبوه «بياء الغَيْبة والمراد بهم المسلمون أيضاً، كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة، والمعنى: ليحسَب المسملون أنَّ المحرَّف من التوراة.

79

قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ} : «أَنْ يؤتيَه» اسمُ كان و «لبشر» خبرُها. وقوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} عطفٌ على «يؤتيه» ، وهذا العطفُ لازمٌ من حيث المعنى، إذ لو سكت عنه لم يَصِحَّ المعنى، لأنَّ الله تعالى قد أتى كثيرا من البشر الكتابَ والحكم والنبوة، وهذا كما يقولون في بعض الأحوال والمفاعيل: إنها لازمة، فلا غرو أيضاً في لزوم المعطوف، وإما بَيَّنْتُ لك هذا لأجل قراءةٍ سأذكرها. ومعنى مجيء هذ النفيَ في كلام العرب نحو: «ما كان لزيد أن يفعل» ونحوه نفيُ الكونِ والمرادُ نفيُ خبرِه، وهو على قسمين: قسمٍ يكونُ النفي فيه من جهة الفعل، ويُعَبَّر عنه بالنفي التام نحو هذه الآية، لأنَّ الله تعالى لا يُعْطي الكتابَ والحكم والنبوة لمَنْ يقولُ هذه المقالةَ الشنعاء، ونحوُه: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145] ، وقسمٍ يكونُ النفي فيه على سبيل الانتقاء كقول أبي بكر «ما كان لابن أبي قحافة أن يقدَّم فيصلي بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، ويُعْرَفُ القسمانِ من السياق.

وقرأ العامة: «يقول» بالنصب نسقاً على «يؤتيه» ، وقرأ ابن كثير في رواية شبل بن عباد، وأبو عمرو في رواية محبوب: «يقول» بالرفع، وخرَّجوها على القطع والاستئناف، وهو مشكلٌ لِما قَدَّمته من أن المعنى على لزومِ ذكر هذا المعطوف، إذ لا يستقِلّ ما قبله لفساد المعنى فيكون يقولون على القَطع والاستئناف؟ / قوله: {عِبَاداً} قال ابن عطية: «ومِنْ جموعه عبيد وعِبِدَّى. قال بعض اللغويين: هذه الجموعُ كلها بمعنى، وقال بعضُهم: العِباد لله، والعبيد والعِبِدّى للبشر، وقال بعضهم: العِبِدَّى إنما يقال في العبد من العبيد كأنه مبالغةٌ تقتضي الإِغراق في العبودية، والذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع» عبد «متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دونَ أَنْ يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن، وانظر قوله: {والله رَؤُوفٌ بالعباد} [البقرة: 207] و {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] و {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] ، وقولَ عيسى في معنى الشفاعة والتعريض: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] ، وأمَّا العبيد فيستعمل في تحقيره، ومنه قول امرىء القيس:

1346 - قولا لدودانَ عبيدِ العَصا ... ما غَرَّكم بالأسدِ الباسلِ وقال حمزة بن عبد المطلب:» وهل أنتم إلا عبيدٌ لأبي «، ومنه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] لأنه مكان تشفيقٍ وإعلامٍ بقلة انتصارهم ومَقدِرتهم، وأنه تعالى ليس بظلامٍ لهم مع ذلك، ولما كانت لفظةُ العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أَنِس بها في قوله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] «فهذا النوعُ من النظر يَسْلُك بك سبيلَ العجائب في فصاحة القرآن العزيز على الطريقةِ العربية» قال الشيخ: «وفيه بعضُ مناقشة أمَّا قولُه: ومِنْ جموعِه عبيد وعِبدَّى» فأمَّا «عبيد» فالأصحُّ أنه جمع. وقيل: اسم جمع، «وأَما عِبِدَّى فاسم جمع، وألفه للتأنيث» قلت: لا مناقشة، فإنه إنما يعني جمعاً معنوياً ولا شك أنَّ اسمَ الجمعِ جمعٌ معنوي. ثم قال: «وأمَّا ما استقراه من أنَّ» عباداً «يُساقُ في معنى الترفع والدلالة على الطاعة دونَ أن يقترِنَ بها معنى التحقير والتصغير وإيرادُهُ ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد، وأَمَّا قوله:» وأمَّا العبيد فَيُستعمل في تحقير وأنشد بيتَ امرىء القيس وقولَ حمزة «وهل أنتم إلا عبيدُ أبي» وقوله تعالى {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فاستقراءُ ليس بصحيح، وإنما كَثُرَ استعمال «عباد» دون «عبيد» لأنَّ فِعالاً في جمع فَعْل غير اليائي العين قياسيٌّ مطرد، وجمع فَعْل على فَعيل لا يَطِّرد. قال سيبويه: «وربما جاء فَعِيلاً وهو قليل نحو: الكليب والعبيد» فلما كان فِعال مقيساً في جمع «عبد» جاء «عباد» كثيراً. وأما {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فَحَسَّن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيساً أنه جاء لتواخي الفواصل، ألا ترى أنَّ قبله {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ

بَعِيدٍ} وبعده {قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} فَحَسَّن مجيئَه بلفظ العبيد مراعاةُ هاتين الفاصلتين، ونظير هذا في سورة ق: {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [الآية: 29] لأنَّ قبله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} وبعده: «وتقول: هل من مزيد» . وأمَّا مدلُوله فمدلولُ «عِباد» سواءٌ. وأمَّا بيتُ امرىء القيس فلم يُفْهَمْ التحقيرُ من لفظ «عبيد» إنما فُهِمَ من إضافتهم إلى العصا ومن مجموعِ البيت، وكذلك قولُ حمزة: «هل أنتم إلا عبيدُ أبي» إنما فُهِمَ التحقير من قرينة الحال التي كان عليها، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين «. قلت: رَدُّه عليه استقراءَه من غير إتيانِهِ بما يخْرِمُ الاستقراء مردودٌ. وأمَّا ادِّعاؤه أن التحقير مفهومٌ من السياق دون لفظِ عبيد فممنوعٌ، ولأنه إذا دار إحالةٌ الحكم بين اللفظِ وغيره فالإِحالَةُ على اللفظ أَوْلَى. وقوله:» لي «صفةٌ لعباد، و» مِنْ دون «متعلِّقٌ بلفظِ» عباد «لِما فيه من معنى الفعل، يجوزُ أَنْ يَكونَ صفةً ثانيةً وأَنْ يكونَ حالاً لتخصُّص النكرة بالوصف. قوله: {ولكن كُونُواْ} أي: ولكن يقول كونوا، فلا بُدَّ من إضمار القول هنا. والرَّبَّانِيُّون جمع ربَّانِيّ، وفيه قولان، أحدهما أنه منسوب إلى الرَّبِّ، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة كرقبَاني وشَعْراني ولِحْياني للغليظ الرقبة والكثير الشعر والطويل اللحية، ولا تُفْرد هذه الزيادة عن النسب، أَمَّا إذا نَسَبوا إلى الرقبة والشعر واللحية من غير مبالغة قالوا: رَقَبي وشَعْري ولَحَوي، هذا معنى قول سيبويه. والثاني: أنه منسوب إلى

رَبَّان والربَّان هو المُعَلِّمُ للخير ومَنْ يسوس الناس ويُعَّرِّفهم أمرَ دينِهم، فالألفُ والنونُ دالَّتان على زيادةِ الوصفِ كهي في عَطْشان ورَيَّان وجَوْعَان ووَسْنان، وتكونُ النسبةُ على هذا في الوصف نحو أَحْمريّ، قال: 1347 - أطَرباً وأنت قِنَّسْرِيُّ ... والدهرُ بالإِنسانِ دَوَّارِيُّ وقال سيبويه: «زادوا ألفاً ونوناً في الرَّباني أرادوا تخصيصاً بعلم الرب دونَ غيره من العلوم، وهذا كما قالوا: شَعْراني ولِحْياني ورَقَباني» وفي التفسير: «كونوا فقهاء علماء» ، ولمَّا مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية: «مات اليوم رَبَّانيُّ هذه الأمة» . قوله: {بِمَا كُنتُمْ} الباء سببية أي: كونوا/ علما بسبب كونكم. وفي متعلَّق هذه الباءِ حينئذٍ أقوال أحدها: أنه متعلقة بكونوا، كذا ذكره أبو البقاء والخلاف مشهور. الثاني: أن تتعلق بربانيين، لأنَّ فيه معنى الفعل. الثالث: أن تتعلَّق بمحذوف على أنها صفة لربانيين ذكره أبو البقاء وليس بواضح المعنى. و «ما» مصدريةٌ، وظاهرُ كلام الشيخ أنه يجوز أن تكون غير ذلك، فإنه قال: «وما الظاهر أنها مصدريةٌ» فهذا يجوِّزُ غير ذلك، وجوازه فيه بُعْدٌ،

وهو أن تكون موصولةً، وحينئذٍ تحتاجُ إلى عائد وهو مقدَّر، أي: بسبب الذي تُعَلِّمون به الكتاب، وقد نقَص شرطُ وهو اتحاد المتعلَّق فلذلك لم يظهر جَعْلُها غيرَ مصدرية. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: «تَعْلَمُون» مفتوحٌ حرفُ المضارعة، ساكنُ العينِ مفتوحُ اللام من: عَلِمَ يَعْلَم، أي: تعرفون فيتعدى لواحد، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً، فيتعدى لاثنين أولهما محذوف، تقديره: تُعَلِّمون الناس والطالبين الكتابَ، ويجوز ألاَّ يُرادَ مفعول أي: كنتم من أهلِ تعليم الكتاب، وهو نظيرُ: «أطعم الخبز» المقصودُ الأهمُّ إطعامُ الخبزِ من غيرِ نظر إلى مَنْ يُطْعِمُه، فالتضعيف فيه للتعدية. وقد رَجَّح جماعة هذه القراءةَ على قراءة نافع بأنها أَبْلَغُ؛ وذلك أَنَّ كلَّ مُعَلِّمٍ عالمٌ، وليس كلُّ عالمٍ مُعَلماً، فالوصفُ بالتعليم أبلغُ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين، والربَّانيُّ يقتضي أَنْ يَعْلَمَ ويُعَلِّمَ غيره، لا أن يَقْتَصَر بالعلم على نفسه. ورجَّح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعولٌ واحدٌ والأصل عدم الحذف، والتخفيف مُسَوِّغٌ لذلك بخلاف التشديد، فإنه لا بد من تقدير مفعول، وأيضاً فهو أوفقُ لتدرُسون. والقراءتان متواترتان فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخرى، وقد قَدَّمت ذلك في أوائل هذا الموضوع.

وقرأ الحسن ومجاهد: «تَعَلَّمون» فتح التاء والعين واللام مشددة من «تعلَّم» والأصل: تتعلَّمون بتاءين فحُذِفَت إحداهما. {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} كالذي قبله. والعامة على «تَدْرُسون» بفتح التاء وضم الراء من الدَّرْس وهو مناسب لَتَعْلَمون من علم ثلاثياً، قال بعضهم: «كان حقُّ مَنْ قرأ» تُعَلِّمون «بالتشديد أن يقرأ:» تُدَرِّسون «بالتشديد» وليس بلازم، إذ المعنى: كنتم تُعَلِّمون غيركم ثم صرتم تدرسُون، وبما كنتم تدرسونه عليهم أي: تتلونه عليهم كقوله تعالى: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس} [الإسراء: 106] . وقرأ ابو حيوة في إحدى الروايتين عنه «تَدْرِسُون» بكسر الراء وهي لغة ضعيفة، يقال: دَرَسَ العلم يَدْرِسه بكسر العين في المضارع وهما لغتان في مضارع دَرَسَ، وقرأ هو أيضاً في رواية: «تُدَرِّسون» مِنْ دَرَّس بالتشديد، وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ التضعيف فيه للتكثير، فيكون موافقاً لقراءة تَعْلَمون بالتخفيف. والثاني: أن التضعيف للتعدية ويكون المفعولان محذوفين لفهم المعنى، والتقديرُ: تُدَرِّسون غيرَكم العلمَ أي: تَحْمِلُونهم على الدَّرْسِ. وقُرىء «تُدْرِسون» من أَدْرَسَ، كتُكْرِمُون مِنْ أَكْرَمَ على أنَّ أفعل بمعنى فَعَّل بالتشديد، فأَدْرَس ودَرَّس واحدٌ كأكرم وكرَّم وأَنْزَلَ ونَزَّل. والدَّرْس: التَّكرارُ والإِمانُ على الشيء ومنه: دَرَسَ زيدٌ الكتاب والقرآن يَدْرُسه ويدرِسه أي كرَّر عليه، ويقال: دَرَسْتُ الكتاب أي: تناوَلْتُ أثرَه بالحفظ.

ولمَّا كانَ ذلك بمداومَةِ القرآن عَبَّر عن إدامةِ القرآن بالدَّرْسِ، ودَرَسَ المنزل: ذَهَبَ أثرُهُ وطللُ عارفٍ ودارسٌ بمعنًى.

80

قوله تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} : قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب «يأمركم» والباقون بالرفع، وأبو عمرو على أصلِهِ من جواز تسكين الراء والاختلاسِ، وهي قراءة واضحة سهلة التخريج والمعنى، وذلك أنها على القطع والاستئناف، أخبر تعالى بأن ذلك الأمرَ لا يقع. والفاعل فيه احتمالان، أحدهما: هو ضميرُ الله تعالى، والثاني هو ضميرُ «بَشَر» الموصوف بما تقدَّم، والمعنى على عَوْدِهِ على «بَشَر» أنه لا يقع مِنْ بشر موصوفٍ بما وُصِف به أَنْ يَجْعَلَ نفسَه رباً فيُعْبَدَ، ولا يأمر أيضاً أن تُعْبَدَ الملائكة والأنبياءُ من دون الله، فانتقى أن يدعوَ الناس إلى عبادة نفسه وإلى عبادة غيره. والمعنى على عَوْده على الله تعالى أنه أخبر أنه لم يأمر بذلك فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادةِ غيره تعالى. وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها [أوجه،] أحدُها: قول أبي علي وغيره، وهو أن يكونَ المعنى: ولا له أن يأمرَكم، فقدَّروا «أَنْ» تُضْمر بعد «لا» وتكون «لا» مؤكِّدةً لمعنى النفي السابق كما تقول: «ما كان من زيد إتيانٌ ولا قيام» وأنت تريدُ انتفاءَ كلِّ واحدٍ منهما عن زيد، فلا للتوكيد لمعنى النفي السابق/، وبقي معنى الكلام: ما كانَ من زيدٍ إتيانٌ ولا منه قيام. الثاني: أن يكونَ نصبُه لنسقِهِ على «يُؤْتِيَه» قال سيبويه: «والمعنى: وما كان لبشرٍ أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة» . قال الواحدي: «ويُقَوِّي هذا

الوجه ما ذكرنا أن اليهود قالت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتريد يا محمد أن نتَّخذك رباً فَنَزَلَت» . الثالث: أن يكونَ معطوفاً على «يقول» في قراءة العامة قاله الطبري. قال ابن عطية: «وهذا خطأٌ لا يلتئم به المعنى» ولم ييبِّنْ أبو محمد وجهَ الخطأ ولا عدمَ التئام المعنى. قال الشيخ: «وجهة الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على» يقول «وجَعَل» لا «للنفي على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد فلا يمكن أن يقدِّر الناصبَ وهو» أنْ «إلا قبل» لا «النافية، وإذا قَدَّرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب» لا «مصدر منفيٌّ، فيصير المعنى: ما كان لبشرٍ موصوفٍ بما وُصف به انتفاءُ أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، وإذا لم يكن له انتفاءُ الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك، وهو خطأٌ بيِّن. أمَّا إذا جَعَل» لا «لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خطأ ولا عدم التئام المعنى، وذلك أنه يصير النفي منسحباً على المصدرين المُقَدَّرِ ثبوتُهما فينتفي قولُه {كُونُواْ عِبَاداً لِّي} وينتفي أيضاً أمرُه باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، ويوضِّح هذا المعنى وضعُ» غير «موضعَ» لا «فإذا قلت:» ما لزيد فقهُ ولا نحوٌ «كانت» لا «لتأكيد النفي وانتفى عنه الوصفان، ولو جعلت» لا «لتأسيس النفي كانت بمعنى غير، فيصير المعنى انتفاء الفقه عن وثبوتَ النحو له، إذ لو قلت:» ما لزيد فقه وغيرُ نحو «كانَ في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلت: ما له غيرُ نحو، ألا ترى أنك إذا قلت:» جئتُ بلا زادٍ «كان المعنى جئت بغير زادٍ، وإذا قلت:» ما جئت بغير زادٍ «معناه أنك جِئت بزاد، لأنَّ» لا «هنا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدمَ التئام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين، وهو أن تكون» لا «لتأسيس النفي لا لتأكيده، وأن يكون من عطف المنفي

بلا على المثبت الداخل عليه النفيُ نحو: ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم تريد: ما أريدُ أَنْ لا تتعلم» انتهى. وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف «يَأْمركم» على «يقول» وجَوَّز في «لا» الداخلةِ عليه وجهين، أحدُهما: أَنْ تكونَ لتأسيس النفي، والثاني: أنها مزيدةٌ لتأكيده، فقال: «وقُرىء» ولا يأمركم «بالنصب عطفاً على» ثم يقول «، وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تَجْعَلَ» لا «مزيدةً لتأكيد معنى النفي في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وتركِ الأندادِ، ثم يأمرَ الناسَ بأن يكونوا عباداً له ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً كقولك: ما كان لزيدٍ أن أكرمه ثم يهينَني ولا يستَخِفَّ بي. والثاني: أن تَجْعَلَ» لا «غيرَ مزيدة، والمعنى: أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينهى قريشاً على عبادةِ الملائكة، واليهودَ والنصارى عن عبادةِ عُزير والمسيح، فلمَّا قالوا له: أَنتخذك رَبّاً قيل لهم: ما كان لبشَر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء» . قلت: وهذا الذي أورده الزمخشري كلامٌ صحيح ومعنى واضح على كلا تقديري كونِ «لا» لتأسيسِ النفي أو تأكيدِهِ، فكيف يجعل الشيخ كلام الطبري فاسداً على أحد التقديرين وهو كونُها لتأسيس النفي؟ فقد ظهر والحمد لله صحة كلام الطبري بكلام أبي القاسم الزمخشري وظهر أن ردَّ ابن عطيةَ عليه مردود. وقد رَجَّحَ الناسُ قراءةَ الرفع على النصب قال سيبويه: «ولا يأمُركم منقطعة مما قبلهما؛ لان المعنى ولا يأمركم الله» ، قال الواحدي: «ومما يدلُّ على الانقطاع من الأول قراءةُ عبد الله:» ولَنْ يأمركم «. قالوا الفراء: «فهذا

دليلٌ على انقطاعِها من النسق وأنَّها مستأنفةٌ، فلمَّا وقعت [لا] موقعَ لن رَفَعَتْ كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} [البقرة: 119] وفي قراءة عبد الله:» ولن تُسْأل «وقال الزمخشري:» والقراءة بالرفع على ابتداءِ الكلام أظهرُ، ويَعْضِدُها قراءةُ عبد الله: «ولن يأمركم» . انتهى. وقد تقدَّم أنَّ الضميرَ في «يأمركم» يجوز أن يعود على «الله» وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم، والمرادُ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أعلمُّ من ذلك، سواءً قُرىء برفع «ولا يأمركم» أو بنصبه إذا جعلناه معطوفاً على «يؤتيه» ، وأما إذا جعلناه معطوفاً على «يقول» فإنَّ الضمير يعود لبشر ليس إلا، ويؤيد ما قلته ما قال بعضُهم: «ووجهُ القراءةِ بالنصب أن يكونَ معطوفاً على الفعلِ المنصوب قبله، فيكونُ الضميرُ المرفوع لبشر لا غير» يعني بما قبله «ثم يقولَ» . ولمَّا ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضميرَ عائداً على الله تعالى، ولم يذكر غيرَ ذلك، فيُحتمل أَنْ يكونَ هو الأَظهرَ عنده، ويُحتمل أنه لا يجوز غيرُه، والأولى أَوْلى. قال بعضهم: «في الضمير المنصوب في» يأمركم «على كلتا القراءتين خروجٌ من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفاتِ» قلت: كأنه تَوَهَّم أنه لمَّا [توهم] تقدَّم ذِكْرُ الناسِ في قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} كان ينبغي أن يكون النظم «ولا يأمرهم» جَرْياً على ما تقدم، وليس كذلك، بل هذا ابتداءُ خطابٍ لا التفاتَ فيه. قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} «بعد» متعلِّقٌ بيأمركم، و «بعد» ظرفُ زمانٍ

مضافٌ لظرفِ زمانٍ ماضٍ، وقد تقدَّم أنه لا يُضاف إليه إلا الزمان نحو: حينئذٍ ويومئذٍ، و {أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} في محلِّ خفضٍ بالإِضافة؛ لأنَّ «إذ» تُضاف إلى الجملة مطلقاً اسميةً كانت أو فعليةً.

81

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ} : في العامل في هذا الظرف أوجهٌ، أحدُها: «اذكر» إنْ كان الخطاب للنبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والثاني: «اذكروا» إن كان خطاباً لأهل الكتاب. الثالث: «اصطفى» فيكون معطوفاً على «إذ» المقدَّمةِ قبلها. وفيه بُعْدٌ، بل امتناعٌ لبُعْدِه. الرابع: أنَّ العامل فيه «قال» من قوله: «قال أأقررتم» وهو واضح جداً. و {مِيثَاقَ} يجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعله أو لمفعوله. وفي مصحف أُبي وعبد الله وقراءاتِهما: «ميثاقَ الذين أوتوا الكتاب» مثلَ ما آخر السورة، وعن مجاهد بن جبر كذلك، وقال: «أخطأ الكاتب» وهذا خطأٌ من قائله كائناً مَنْ كان، ولا أظنُّه يصِحُّ عن مجاهد، وفإنه قرأ عليه مثلُ ابنِ كثير وأبي عمرو ابن العلاء، ولم ينقلْ واحدٌ منهما عنه شيئاً من ذلك. والمعنى على القراءةِ الشهيرة صحيحٌ، وقد ذَكَر الناسُ فيها أوجهاً، أحدُها: أنَّ الكلامَ على ظاهره وأن الله تعالى أخذ الأنبياء مواثيق أنهم يُصَدِّقون بعضَهم بعضاً وينصرُ بعضُهم بعضاً، بمعنى أنه يوصي قومه أن ينصروا ذلك النبيَّ الذي بعدَه ولا يَخْذُلوه، وهذا مَرْوِيٌّ عن جماعة. الثاني: أن الميثاق مضاف لفاعله والموثَقُ عليه غيرُ مذكورٍ لفَهْمِ المعنى، والتقدير: ميثاقَ النبيين على أممهم، ويؤيده قراءةُ أُبيّ وعبد الله، ويؤيدُه أيضاً قولُه: {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك} . الثالث: أنه على حذف مضاف تقديرُه: ميثاقُ أمم الأنبياء أو أتباعِ، ويؤيده ما أيَّد ما قبله أيضاً وقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} .

الرابع: قال الزمخشري: «أَنْ يُراد أهلُ الكتاب، وأَنْ يَرُدَّ على زَعْمهم تهكماً بهم لأنهم كانوا يقولون: نحن أَوْلى بالنبوة من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنَّا أهل كتاب ومنا كان النبيون» وهذا الذي قاله بعيد جداً، كيف يُسَمِّيهم أنبياءً تهكماً بهم، ولم يكن ثَم قرينةٌ تبيِّن ذلك؟ قوله: {لَمَآ آتَيْتُكُم} العامةُ: «لَما» بفتح اللام وتخفيف الميم، وحمزةُ وحده على كسر اللام، وسعيد بن جبير والحسن: لَمَّا بالفتح والتشديد. فأمَّا قراءة العامة ففيها خمسة أوجه: أحدُها: أن تكون «ما» موصولةً بمعنى الذي وهي مفعولةٌ بفعل محذوف، وذلك الفعلُ هو جوابُ القسم، والتقدير: والله لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتابٍ، قال هذا القائل: لأنَّ لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دَلَّت هذه اللامُ على الفعل حُذِف، ثم قال تعالى: «ثم جاءكم رسول وهو محمد صلى الله عليه سلم» قال: «وعلى هذا التقدير يستقيم النظم» . قلت: «وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوزَ البتة، إذ يمتنع أن تقولَ في نظيرِه من الكلام:» واللهِ لزيداً «تريد: والله لتضرِبَنَّ زيداً. الوجه الثاني: وهو قول أبي عليّ وغيره أن تكونَ اللامُ في «لَما» جوابَ قوله: {مِيثَاقَ النبيين} لأنه جارٍ مَجْرَى القسم، فهي لامُ الابتداء المُتَلَقَّى بها القسمُ، و «ما» مبتدأةٌ موصولة و «آتيناكم» صلتُها، والعائد محذوف تقديره: آتيناكموه، فَحُذِفَ لاستكمال شروطه، و «من كتاب» حال: إمَّا من الموصول وإمَّا من عائده، وقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} عطفٌ على الصلة، وحينئذ فلا بُدَّ من رابطٍ يربطُ هذه الجملةَ بما قبلَها فإنَّ المعطوفَ على الصلة صلةٌ، واختلفوا في ذلك: فذهب بعضهم إلى أنه محذوفٌ تقديره: «ثم

جاءكم رسول به» فَحُذِف «به» لطول الكلام ولدلالة المعنى عليه، وهذا لا يجوزُ؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَفْ إلا بشروطٍ تقدَّمت، هي مفقودةٌ هنا، وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه، وفيه ما قد عرفته، ومنهم مَنْ قال: الربطُ حصل هنا بالظاهر، لأن هذا الظاهر وهو قوله: «لِما معكم» صادقٌ على قوله: «لِما آتيناكم» فهو نظير: «أبو سعيد الذي رَوَيْتُ عن الخِدْريّ، والحَجَّاج الذي رأيتُ ابنُ يوسف» ، وقال: 1348 - فيا رَبَّ ليلى أَنْتَ في كلِّ موطن ... وأنت الذي في رحمةِ اللهِ أَطْمَعُ يريدون: عنه ورأيته وفي رحمته، وقد وَقَع ذلك في المبتدأ والخبر نحو قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] وهذا رأي أبي الحسن وتقدَّم فيه بحث. ومنهم مَنْ قال: إنَّ العائدَ يكون ضميرَ الاستقرارِ العامل في «مع» ، و «لتؤمِنُنَّ به» جوابُ قسمٍ مقدرٍ، وهذا القسمُ المقدَّرُ وجوابهُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو «لَما آتيتكم» ، والهاء في به تعود على المبتدأ ولا تعودُ على «رسول» ، لئلا يلزَمَ خُلُوُّ الجملةِ/ الواقعةِ خبراً من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ. الثالث: كما تقدم إلا أن اللام في «لما» لامُ التوطئة، لأنَّ أَخْذَ الميثاق في معنى الاستحلاف، وفي «لتؤمِنُنَّ به» لامٌ جوابِ القسم، هذا كلام الزمخشري ثم قال: «وما» تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، و «لتؤمِنُنَّ» سادٌّ مسدَّ جوابِ القسم والشرط جميعاً، وأن تكون بمعنى «الذي» . وهذا الذي قاله فيه نظرٌ من حيث إنَّ لام التوطئة إنما تكون مع أدوات الشرط،

وتأتي غالباً مع «إنْ» ، أما مع الموصول فلا، فلو جَوَّز في اللام أن تكون موطئةً وأن تكونَ للابتداء، ثم ذكر في «ما» الوجهين لحَمَلْنَا كلَّ واحد على ما يليق به. الرابع: أن اللامَ هي الموطئة و «ما» بعدَها شرطيةٌ، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها وهو «آتيتكم» ، وهذا الفعلُ مستقبلٌ معنًى لكونِه في حَيِّز الشرط، ومَحلُّه الجزم والتقدير: والله لأَيَّ شيء آتيتُكم مِنْ كذا وكذا لتكونن كذا. وقوله: {مِّن كِتَابٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] وقد تقدَّم تقريرُه. وقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} عطفٌ على الفعلِ قبلَه فيلزُم أَنْ يكون فيه رابطٌ يربطُه بما عُطِف عليه. و «لتؤمِنُنَّ» جوابٌ لقوله: {أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} ، وجوابُ الشرط محذوفٌ سَدَّ جوابُ القسم مَسَدَّه، والضميرُ في «به» عائدٌ على «رسول» ، كذا قال الشيخ، وفيه نظر لأنه عَوْدُه على اسمِ الشرط، ويَسْتَغني حينئذ عن تقديره رابطاً، وهذا كما تقدَّم في الوجهِ الثاني، ونظيرهُ هذا من الكلام أن تقول: «أَحْلِفُ باللهِ لأَيَّهم رأيتُ ثم ذهب إليه رجلٌ قُرَشي لأُحْسِنَنَّ إليه» تريدُ إلى الرجل، وهذا الوجهُ هو مذهبُ الكسائي. وقال سأل سيبويه الخليلَ عن هذه الآية فأجابَ بأنَّ «ما» بمنزلة الذي، ودَخَلَتِ اللامُ على «ما» كما دخلت على «إنْ» حين قلت: واللهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لأفعلنَّ، فاللامُ التي في «ما» كهذه التي في إنْ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا «هذا نصٌّ الخليل. قال أبو علي:» لم يُرِد الخليل بقوله «

إنها بمنزلة الذي» كونَها موصولةً بل أنها اسمٌ كما أن الذي اسم، وقرر أن تكونَ حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة} [الزخرف: 35] وقال سيبويه: «ومثلُ ذلك: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18] إنما دَخَلَتْ اللامُ على نِيَّة اليمين» . وإلى كونِها شرطيةً ذهب جماعةٌ كالمازني والزجَّاج والزمخشري والفارسي، قال الشيخ: «وفيه حَدْسٌ لطيف، وحاصلُ ما ذكر أنهم إن أرادوا تفسيرَ المعنى فيمكن أن يُقال، وإنْ أرادوا تفسير الإِعراب فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ كلاً منهما أعني الشرط والقسم يطلُب جواباً على حِدة، ولا يمكن أن يكونَ هذا محمولاً عليهما؛ لأنَّ الشرطَ يقتضيه على جهة العملِ فيكونُ في موضع جزم، والقسمُ يطلبُه من جهة التعلق المعنوي به من غير عمل فلا موضع له من الإِعراب، ومُحالٌ أن يكونَ الشيء له موضعٌ من الإِعراب ولا موضع له من الإِعراب» قلت: تقدَّم هذا الإِشكالُ والجوابُ عنه. الخامس: أنَّ أصلَها «لَمَّا» بتشديدِ الميم فخففت، وهذا قول ابن أبي إسحاق، وسيأتي توجيهُ قراءة التشديد فَتُعْرَفُ مِنْ ثَمَّة. وقرأ حمزة: «لِما» بكسرِ اللامِ خفيفةَ الميم أيضاً، وفيها أربعةُ أوجه، أحدهما: وهو أغربُها أن تكونَ اللام بمعنى «بعد» كقوله النابعة:

1349 - تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها ... لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ يريد: فَعَرَفْتُها بعد ستة أعوام، وهذا منقولٌ عن صاحب النظم، ولا أدري ما حَمَله على ذلك؟ وكيف يَنْتظم هذا كلاماً، إذ يصير تقديرُه: وإذ أخذ اللهُ ميثاقَ النبيين بعدَما آتيناكم، ومَنِ المخاطبُ بذلك؟ الثاني: أن اللامَ للتعليل، وهذا الذي ينبغي ألاَّ يُحادَ عنه وهي متعلقة ب «لتؤمِنُنَّ» ، و «ما» حينئذٍ مصدريةٌ، قال الزمخشري: «ومعناه لأجلِ إيتائي إياكم بعضَ الكتابِ والحكمة، ثم لمجيء رسولٍ مصدِّقٍ لتؤمِنُنَّ به، على أنَّ» ما «مصدريةٌ، والفعلان معها أعني:» آتيناكم «و» جاءكم «في معنى المصدرين، واللامُ داخلةٌ للتعليل، والمعنى: أخَذَ الله ميثاقَهم لتؤمِنُنَّ بالرسول ولتنصُرُنَّه لأجل أن آتيتكم الحكمة، وأنَّ الرسول الذي أمركم بالإِيمان ونصرتِه موافقٌ لكم غيرُ مخالِفٍ. قال الشيخ:» ظاهر هذه التعليل الذي ذكره والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعلِ المُقْسَم عليه، فإنْ عَنَى هذا الظاهرَ فهو مُخالِفٌ لظاهر الآية، لأنَّ ظاهرَ الآيةِ يقتضي أن يكونَ تعليلاً لأخْذِ الميثاق لا لمتعلَّقه وهو الإِيمان، فاللامُ متعلقةٌ بأخذ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقةً بقوله: لتؤمِنُنَّ به «، ويمتنع ذلك من حيث إنَّ اللام المتلقَّى بها القسمُ لا يعمل ما بعدَها فيما قبلها، تقول: والله لأضربَنَّ زيداً، ولا يجوزُ: والله زيداً لأضربنَّ، فعلى هذا لا يجوزُ أن تتعلق اللام في» لِما «بقوله:» لتؤمِننَّ «. وقد أجاز بعضُ النحويين في معمول الجواب إذا كان ظرفاً أو مجروراً تقدُّمَه، وجَعَلَ من ذلك: 1350 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . .

عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ وقولَه تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله:» لَتُؤْمِنُنَّ «وفي هذ المسألةِ تفصيلٌ يُذْكَرُ في علم النحو، قلت: أمَّا تعلُّق اللامِ بلتؤمِنُنَّ من حيث المعنى فإنَّه أظهرُ مِنْ تعلُّقِها بأخذ، وهو واضحٌ فلم يَبْقَ إلاَّ ما ذَكَر مِنْ مَنْع تقديمِ معمولِ الجواب المقترنِ باللام عليه وقد عُرف، وقد يكون الزمخشري مِمَّن يرى جوازه. والثالث: أن تتعلَّقَ اللام بأخذ أي: لأجل إيتائي إياكم كيتَ وكيتَ أخذْتُ عليكم الميثاق، وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه: لرعاية ما أتيتكم. الرابع: أن تتعلَّقَ بالميثاق لأنه مصدر، أي توثَّقْنا عليهم لذلك. هذه الأوجهُ بالنسبة إلى اللام، وأمَّا [ما] ففيها ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أَنْ تكونَ مصدرية وقد تقدَّم تحريرُه عند الزمخشري. والثاني: أنها موصولة بمعنى الذي وعائدُها محذوفٌ و» ثم جاءكم «عطف على الصلة، والرابط لها بالموصول: إمَّا محذوفٌ تقديره:» به «وهو رأيُ سيبويه، وإمَّا لقيامِ الظاهر مقامَ المضمرِ وهو رأيُ الأخفش، وإِمَّا ضميرُ الاستقرار الذي تضمَّنه» معكم «وقد تقدَّم تحقيق ذلك. والثالث: أنها نكرةٌ موصوفة، والجملةٌ بعدها صفتُها وعائدُها محذوف، و» ثم جاءكم «عطفٌ على الصفة، والكلامُ في الرابطِ كما تقدَّم فيها وهي صلة، إلا أنَّ إقامة الظاهر مُقام الضمير في الصفة ممتنع، لو قلت:» مررت برجلٍ قام أبو عبد الله «على أن يكون» قام أبو عبد الله «صفة

لرجل، والرابطُ أبو عبد الله، إذ هو الرجل في المعنى لم يَجُز ذلك، وإن جاز في الصلة والخبر عند مَنْ يرى ذلك، فيتعيَّن عَوْدُ ضمير محذوف. وجوابُ قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ} قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} كما تقدم، والضمير فيه «به» عائدٌ على «رسول» ، ويجوز الفصلُ بين القسم والمقسم عليه بمثلِ هذا الجار والمجرور لو قلت «أقسمتُ للخير الذي بلغني عن عمرٍو لأحْسِنَنَّ إليه» جاز. وقوله: {مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} : إمَّا حالٌ من الموصول أو من عائده، وإمَّا بيانٌ له فامتنع في قراءةِ حمزة أن تكونَ «ما» شرطيةً كما امتنع في قراءة الجمهورِ أن تكونَ مصدريةً. وأمَّا قراءةُ سعيد والحسن ففيها أوجه، أحدها: أَنَّ «لَمَّا» هنا ظرفيةٌ بمعنى حين فتكونُ ظرفية. ثم القائلُ بظرفيتها اختلف تقديرُه في جوابها، فذهب الزمخشري إلى أن الجوابَ مقدرٌ من جنس جواب القسم فقال: «لَمَّا» بالتشديد بمعنى حين، أي: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدِّق وَجَبَ عليكم الإِيمانُ به ونصرتُه «. وقال ابن عطية:» ويظهر أن «لمَّا» هذه الظرفيةُ أي: لَمَّا كنتم بهذه الحالِ رؤساءَ الناس وأماثِلَهم أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يُؤْخَذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة «فقدَّر ابن عطية جوابَها من جنس ما سبقها، وهذا الذي ذهبا إليه مذهب مرجوح قال به الفارسي، والجمهور: سيبويه وأتباعُه على خلافه، وقد تقدم تحقيق هذا الخلاف فلا حاجة لذكره. وقال

الزجاج:» أي لَمَّا آتاكم الكتاب والحكمة أخذ عليكم الميثاق، وتكون «لمَّا» تَؤُول إلى الجزاء كما تقول: لَمّا جِئْتني أكرمتُك «وهذه العبارةُ لا يؤخذ منها كونُ» لَمّا «ظرفيةً ولا غير ذلك، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابَها من جنس ما تقدمها بخلاف تقدير الزمخشري. الثاني: أن» لَمَّا «حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ، وقد تقدَّم دليله وأنه مذهب سيبويه، وجوابُها كما تقدَّم مِنْ تقديري ابن عطية والزمخشري. وفي قول ابن عطية:» فيجيء على المعنى كالمعنى في قراءة حمزة «نظر؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل وهذه القراءةُ لا تعليل فيها، اللهم إلا أن يقال: لَمَّا كانت» لَمَّا «تحتاجُ إلى جوابٍ أشبه ذلك العلةَ ومعلولَها، لأنك إذا قلت:» لَمَّا جِئْتَني أكرمتُك «في قوةِ: أكرمتُك لأجلِ مجيئي إليك، فهي من هذه الجهةِ كقراءة حمزة. والثالث: أنَّ الأصلَ: لَمِنْ ما فأدغمت النون في الميم لأنها تقاربُها، والإِدغامُ هنا واجب، / ولما اجتمع ثلاثُ ميمات، ميمِ مِنْ، وميمِ» ما «والميمِ التي انقلبت من نون» من «لأجل الإِدغام فحصل ثقل في اللفظ. قال الزمخشري: «فحذفوا إحداها» . قال الشيخ: «وفيه إبهامٌ» ، وقد عَيَّنها ابن عطية بأن المحذوفة هي الأولى، قلت: وفيه نظر، لأنَّ الثقلَ إنما حصل بما بعد الأولى، ولذلك كان الصحيح في نظائره إنما هو حَذْفُ الثواني نحو: «تَنَزَّل» و «تَذَكَّرون» ، وقد ذكر أبو البقاء أنّ المحذوفة هي الثانية، قال: «لضَعْفها بكونِها بدلاً وحصولِ التكرير بها» .

و «مِنْ» هذه التي في «لَمِنْ ما» زائدة في الواجب على رأي أبي الحسن الأخفش. وهذا تخريج أبي الفتح، وفيه نظرٌ بالنسبة إلى ادعائه زيادة «مِنْ» فإن التركيب يقلق على ذلك، ويبقى المعنى غيرَ ظاهر. الرابع: أنَّ الأصل أيضاً: لَمِنْ ما، فَفُعِل به ما تقدم من القلب والإِدغام ثم الحذفِ، إلا أن «مِنْ» ليست زائدةً بل هي تعليليَّةٌ، قال الزمخشري: «ومعناه لمِنْ أجل ما أتيتكم لتؤمنُنَّ به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى» قلت: وهذا الوجه أوجهُ ممَّا تقدَّمه لسلامته من ادِّعاء زيادة «مِنْ» ولوضوح معناه. قال الشيخ: «وهذا التوجيهُ في غاية البُعْد ويُنَزَّه كلامُ العرب أن يَأْتيَ فيه مثلُه فكيف في كتاب اللهِ عز وجل! وكان ابن جني كثيرَ التمحُّلِ في كلام العرب، ويلزم في» لَمّا «هذه على ما قرره الزمخشري أن تكونَ اللامُ في» لِمنْ ما آتيناكم «زائدةً، ولا تكونُ اللامَ الموطئة، لأنَّ الموطئةَ إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر، لو قلت:» أٌقسم بالله لمِنْ أجلك لأضربن زيداً «لم يَجُزْ، وإنما سُمِّيت موطئةً لأنها تُوَطِّىء ما يَصْلُح أن يكونَ جواباً للشرط للقسم، فيصيرُ جوابُ الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالةِ جواب القسم عليه» قلت: قد تقدَّم له هو أنَّ «ما» في هذه القراءة يجوز أن تكونَ موصولة بمعنى الذي، وأن اللام معها موطئةٌ للقسمِ، وقد حصر هنا أنها لا تدخل إلا على أدوات الشرط فأحدُ الأمرين لازمٌ له، وقد قَدَّمْتُ أنَّ هذه هو الإِشكالُ على مَنْ جَعَلَ «ما» موصولةً وجَعَلَ اللامَ موطئةً. وقرأ نافع: «آتيناكم» بضميرِ المعظِّم نفسَه، والباقون: «آتيتكم»

بضميرِ المتكلم وحدَه، وهو موافقٌ لما قبله وما بعده من صيغة الإِفراد في قولِه: {وَإِذْ أَخَذَ الله} ، وجاء بعده «إصري» . وفي قوله «آتيتكم» أو «آتيناكم» على كلا القراءتين التفاتان أحدُهما: الخروجُ من الغيبة إلى التكلم في قوله آتينا أو آتيتُ، لأنَّ قبله ذِكْرَ الجلالة المعظمة في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله} ، والثاني: الخروجُ من الغَيْبَة إلى الخطاب في قوله: «آتيناكم» لأنه قد تقدَّمه اسم ظاهر وهو «النبيين» ، إذ لو جرى على مقتضى تقدُّم الجلالة والنبيين لكان التركيب: وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتاهم من كتاب كذا، قال بعضهم: «وفيهِ نظرٌ لأنَّ مثلَ هذا لا يسمى التفاتاً في اصطلاحِهم، وإنما يسمى حكايةً الحال، ونظيرُه قولُك: حلف زيد ليفعلنَّ ولأفعلن، فالغَيْبَةُ مراعاةً لتقدُّم الاسم الظاهر، والتكلُم حكايةً لكلامِ الحالفِ، والآية الكريمة من هذا» . وأصل لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنَّه: لتؤمنونَنّ ولتنصرونَنّ، فالنون الأولى علامة الرفع، والمشددة بعدها للتوكيد، فاستُثْقِلَ توالي ثلاثةِ أمثال فحذفوا نونَ الرفع لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد، فالتقى بحذفها ساكنان، فَحُذِفَت الواوُ لالتقاء الساكنين. وقرأ عبد الله: «مُصَدِّقاً» نصبٌ على الحال من النكرة، وقد قاسه سيبويه وإنْ كان المشهورُ عنه خلاَفهُ، وحَسَّن ذلك هنا كونُ النكرةِ في قوة المعرفة من حيث إنه أُريد بها شخصٌ معين وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واللام في «لَما» زائدةٌ لأنَّ العاملَ فرع وهو مُصَدِّق والأصل: مُصَدِّقٌ ما معكم. قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} : فاعلٌ «قال» يجوز أن يكونَ ضميرَ الله تعالى وهو الظاهر، وأن يكون ضَميرَ النبي الذي هو واحد النبيين، خاطب بذلك

أمته، ومتعلِّقٌ الإِقرارِ محذوفٌ، أي: أأقرتم بذلك كله، والاستفهامُ على الأولِ مجازٌ، إذ المرادُ به التقريرُ والتوكيدُ عليهم لاستحالتِهِ في حق الباري تعالى، وعلى الثاني هو استفهامٌ حقيقةً، و «إصْري» على الأول الياء لله تعالى وعلى الثاني للنبي. وقرأ العامة «إصري» بكسر الهمزة وهي الفصحى، وقرأ أبو بكر عن عاصم في رواية: «أُصْري» بضمها، ثم المضمومُ يُحتمل أن يكون لغةً في المكسور وهو الظاهر، ويحتمل أن يكونَ جمع إصار، ومثله أُزُر في جمع إزار، وقد تَقَدَّم في أواخر البقرة الكلامُ عليه مشبعاً. وقوله: {أَقْرَرْنَا} أي: بالإِيمان به وتبصرتِه. وفي الكلام حذفُ جملةٍ أيضاً، حُذِفَتْ لدلالةِ ما تقدَّم عليها، إذا التقديرُ: قالوا: أقررنا وأخذنا إصْرَكَ على ذلك كله. وقوله: {فاشهدوا} هذه الفاءُ عاطفة على جملة مقدرةٍ تقديره: قال: أأقررتم فاشهدوا، ونظيرُ ذلك: «أَلقِيتَ زيداً» ؟ قال: «لَقِيتُه» ، قال: «فَأَحسِنْ إِليه» ، والتقدير: أَلَقِيتَ زيداً فأحسن إليه، فما فيه الفاءُ بعضُ المقول، ولا جائز أن يكونَ كلَّ المقولِ لأجل الفاء، ألا ترى قولَه: «قال: أأقررتم» وقوله: «قالوا: أقررنا» لَمَّا كان كلَّ المقول لم يُدْخِلِ الفاء، قاله الشيخ، والمعنى واضح بدونه. قوله: {مِّنَ الشاهدين} هذا هو/ الخبرُ لأنَّه مَحَطُّ الفائدة، وأمَّا قوله: «معكم» فيجوزُ أن يكون حالاً أي: وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم، ويجوز

أن يكونَ منصوباً بالشاهدين ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويز ذلك، ويمتنع أن يكونَ هو الخبرَ إذ الفائدةُ به غيرُ تامة في هذا المقام، والجملةُ من قوله: {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} يجوز ألاَّ يكونَ لها محلٌّ لاستئنافِها، ويجوز أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «فاشْهدوا» .

82

قوله تعالى: {فَمَنْ تولى} : يجوز أنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً فالفاء في «فأولئك» جوابُها، وأن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ لشبه المبتدأ باسم الشرط، فالفعل بعدها على الأول في محل جزم، وعلى الثاني لا محلَّ له لكونِه صلةً، وأما «فأولئك» ففي محلِّ جزم أيضاً على الأول ورفعٍ على الثاني لوقوعِهِ خبراً، و «هم» يجوزُ أن يكونَ فصلاً وأن يكونَ مبتدأ، وهذه الأشياء واضحةٌ مِمَّا تقدَّم، فلذلك لم أُوغل في بيانها.

83

قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} : قد تقدم أن الجمهور يجعلون الهمزةَ مقدمةً على الفاء للزومِها الصدرَ، والزمخشري يُقِرُّها على حالِها ويقدِّرُ محذوفاً قبلها، وهنا جَوَّز وجهين، أحدُهما: أن تكونَ الفاءُ عاطفةً جملةً على جملة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون فغيَر دين الله يبغون، ثم توسَّطت الهمزةُ بينهما. والثاني: أن يُعْطَف على محذوفٍ تقديرُهُ: أيتولَّون فغيرَ دين الله يبغون، وقَدَّم المفعولَ الذي هو «غير» على فِعْلِهِ لأنه أهمُّ من حيثُ إنَّ الإِنكارَ الذي هو معنى الهمزة متوجهٌ إلى المعبودِ بالباطل، هذا كلامُ الزمخشري. قال الشيخ: «ولا تحقيقَ فيه لأنَّ الإِنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجَّه إلى الذوات، إنما يتوجَّه إلى الأفعال التي تتعلَّق بالذوات، فالذي أُنْكر إما هو الابتغاء الذى متعلَّقه غيرُ دين الله، وإنما جاء تقديمُ

المفعول من باب الاتساع، ولشبهِ يبغون بالفاصلة بآخر الفعل» قلت: وأين المعنى من المعنى؟ وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم: «يَبْغون» بالياءِ من تحت نَسَقاً على قوله: {هم الفاسقون} والباقون بياءِ الخطاب التفاتاً. قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات} جملةٌ حالية أي: كيف يَبْغُون غيرَ دينه والحالُ هذه؟ قوله: {طَوْعاً وَكَرْهاً} فيهما وجهان أحدُهما: أنهما مصدران في موضع الحال والتقدير: طائعين وكارهين. والثاني: أنهما مصدران على غير الصدر، قال أبو البقاء: «لأنَّ أسلم بمعنى انقاد وأطاع» ، وتابع الشيخ على هذا، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ هذا ماشٍ في «طوعاً» لموافقته لمعنى الفعل قبله، وأمَّا «كَرْهاً» فكيف يقال فيه ذلك، والقول بأنه يُغتفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائل غيرُ نافعٍ هنا. ويقال: طاع يَطُوع، وأطاع يُطيع بمعنى. وقيل: طاعة يَطُوعه انقادَ له، وأطاعه أي: رَضِي لأمره، وطاوَعَهُ أي: وافقه. وقرأ الأعمش: «كُرْهاً» بالضم، وسيأتي أنها قراءة للأَخوين في سورة النساء، وللكوفيين وابن ذكوان في الأحقاف، وهناك تكلَّمْنا عليها، وتقدم لنا أيضاً ذِكْرُ هذه المادة في البقرة.

قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً فلا محلَّ لها، وإنما سِيقت للإِخبار بذلك لتضمُّنها معنى التهديد العظيم والوعيدِ الشديد، ويجوزُ أن تكونَ معطوفةٌ على الجملةِ من قولِهِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ} فتكونُ حالاً أيضاً، ويكونُ المعنى أنه نَعَى عليهم ابتغاءَ غير دين مَنْ أسلم له جميعُ مَنْ في السماوات والأرض طائِعين ومُكْرَهين ومَنْ مَرجِعُهم إليه. وقرأ حفص عن عاصم: «يُرْجَعُون» بياء الغيبة ويَحْتَمِل ذلك وجوهاً. أحدها: أَنْ يعودَ الضميرُ على مَنْ أسلم وهو واضح. الثاني: أن يعود على مَنْ عاد عليه ضميرُ «يَبْغَون» في قراءة مَنْ قرأه بالغيبة، وهو أيضاً واضحٌ، ولا التفاتَ في هذين الوجهين. والثالث: أن يعودَ على مَنْ عاد إليه الضمير في «تَبْغَون» في قراءة الخطاب فيكون التفاتاً حينئذٍ. وقرأ الباقون: «تَبْغُون» بالخطاب، فَمَن قرأ «تبغون» بالخطاب فهو واضح، ومَنْ قرأه بالغيبة فيكون هذا التفاتاً منه، ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله: {مَنْ فِي السماوات والأرض} .

84

قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بالله} في هذه الآية احتمالان أحدُهما: أن يكونَ المأمورُ بهذا المقولِ وهو آمنَّا إلى آخره محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم في ذلك معنيان، أحدهما: أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك، وإنما حُذِف معطوفُه لفهم المعنى، والتقدير: قل يا محمد أنت وأمتك: آمنَّا بالله، وهذا تقديرُ ابن عطية. والثاني من المعنيين أنَّ المأمور هنا بذلك نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحدَه، وإنما خُوطب بلفظِ الجمع تعظيماً له. قال الزمخشري: «ويجوز أن يُؤْمَرَ بأَنْ يتكلَّم عن نفسِه كما تتكلم

الملوكُ إِجلالاً مِنَ الله لقَدْرِ نبيه» قلت: وهو معنًى حسن. والاحتمال الثاني: أن يكونَ المأمور بهذا المقولِ مَنْ تَقَدَّم، والتقدير: قل لهم قولوا آمنَّا، فآمنَّا منصوبٌ بقُل على الاحتمالِ الأول، وبقولوا المقدرِ على الثاني، وذلك القولُ المضمر منصوبٌ المحل. وهذه الآية شبيهةٌ بالتي في البقرة، إلاَّ أنَّ هنا تعديةَ أنزل بعلى، وهناك بإلى. فقال الزمخشري: «لوجودِ المعنيين جميعاً لأنَّ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل، فجاء تارةً بأحد المعنيين وأخرى بالآخر» وقال ابن عطية: «الإِنزالُ على نبي الأمة إنزالٌ عليها» ، وهذا لا طائل فيه بالنسبة إلى طلب الفرق. وقال الراغب: «إنَّما قال هنا» على «لأن ذلك لَمَّا كان خطاباً للنبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطةٍ بشريةٍ كان لفظُ» على «المختصُّ بالعلو أَوْلى به، وهناك لَمَّا كان خطاباً للأمة، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لفظُ» إلى «المختصُّ بالإِيصال أَوْلى، ويجوزُ أَنْ يقال:» أَنْزَلَ عليه «إنما يُحمل على ما أُمِرَ المُنَزَّلُ عليه أَنْ يُبَلِّغه غيرَه، و» أَنْزَل إليه «على ما خُصَّ به في نفسِه وإليه نهايةُ الإِنزال، وعلى ذلك قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] خُصََّ هنا بإلى لَمَّا كان مخصوصاً بالذكر [الذي] هو بيانُ المُنَزَّل، وهذا كلامٌ في الأَوْلى لا في الوجوب» .

وهذا الذي ذكره الراغب رَدَّهُ الزمخشري فقال: «ومَنْ قال: إنما قيل» علينا «لقوله» قل «، و» إلينا «لقوله» قولوا «تفرقةً بين الرسول والمؤمنين، لأنَّ الرسولَ يأتيه الوحيُ على طريقِ الاستعلام ويأتيهم على وجه الانتهاء فقد تَعَسَّف، [ألا ترى] إلى قوله {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} [المائدة: 48] وإلى قوله: {آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ} [آل عمران: 72] . وفي البقرة: {وَمَا أُوتِيَ النبيون} [الآية: 136] وهنا» والنبيون «لأنَّ التي في البقرةِ لفظُ الخطابِ فيها عامٌّ، ومِنْ حُكْمِ خطابِ العام البسطُ دونَ الإِيجاز بخلافِ الخطاب هنا فإنه خاصٌّ فلذلك اكتفى فيه بالإِيجاز دون الإِطناب. وباقي كلماتِ جملِ الآية تقدََّم الكلام عليها في البقرة.

85

قوله تعالى: {يَبْتَغِ غَيْرَ} : العامَّة على إظهار هذين المِثْلين؛ لأن بينهما فاصلاً فلم يلتقيا في الحقيقة، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم، ورُوي عن أبي عمرو فيها الوجهان: الإِظهارُ على الأصل ولمراعاةِ الفاصلِ الأصلي، والإِدغامُ مراعاةً للَّفظ، إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة، ولأنَّ ذلك الفاصل مستحقٌّ الحذفَ لعاملِ الجزم، وليس هذا مخصوصاً بهذه الآيةِ بل كلما التقى فيه مِثْلان بسببِ حذف حرف، لعلَّةٍ اقتضت ذلك جرى فيه الوجهان نحو: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] {وَإِن يَكُ

كَاذِباً} [غافر: 28] ، وقد استُشْكِلَ على هذا نحو: {ياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ} [غافر: 41] و {ياقوم مَن يَنصُرُنِي} [هود: 30] فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلافٌ في إدغامهما، وكان القياس يقتضي جوازَ الوجهين لأنَّ ياءَ المتكلم فاصلةً تقديراً. قوله: {دِيناً} فيه ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنه مفعولُ يَبْتَغِ، و {غَيْرَ الإسلام} حالٌ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلمَّا قُدِّمت عليه نُصِبَت حالاً. الثاني: أن يكونَ تمييزاً لغير لإِبهامها، فَمُيِّزَت كما مُيِّزَت «مثل» و «شبه» وأخواتهما، وسُمع من العرب: «إنَّ لنا غيرَها إبلاً وشاء» . والثالث: أن يكونَ بدلاً مِنْ «غير» ، وعلى هذين الوجهين فغيرَ الإِسلامِ هو المفعولُ به ليبتَغِ. وقوله: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} كقولِهِ: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} [البقرة: 130] في الإِعراب وسيأتي ما بينَهما في المعنى. وقيل: «أل» معرفةٌ لا موصولةٌ فلم يمنعْ من تعلُّق ما قبلها. بما بعدها، وهذه الجملة يجوزُ أَنْ لا يكونَ لها محلٌّ لاستئنافها، ويجوزُ أن تكونَ في محل جزم نسقاً على جواب الشرط وهو «فلن يُقْبل» ، ويكون قد ترتَّب على ابتغاء غير الإسلام ديناً عدمُ القبول والخسران.

86

قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي} كقولِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] وقيل الاستفهامُ هنا معناه النفي، وأنشد:

1351 - كيفَ نومي على الفراشِ وَلمَّا ... تَشْمَلِ الشامَ غارةٌ شَعْواءُ وقول الآخر: 1352 - فهذي سيوفٌ يا صُدَّيُّ بنُ مالكٍ ... كثيرٌ ولكن كيف بالسيفِ ضارِبُ قوله: {وشهدوا} في هذه الجملة ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها معطوفةٌ على «كفروا» و «كفروا» في محلِّ نصبٍ نعتاً لقوماً، أي: كيف يهدي مَنْ جَمَعَ بين هذين الأمرين، وإلى هذا ذهب ابنُ عطية والحوفي وأبو البقاء، إلا أنَّ مكيّاً قد رَدَّ هذا الوجهَ فقال: «لا يجوزُ عطفُ» شهدوا «على» كفروا «لفسادِ المعنى» ، ولم يُبَيِّن جهةَ الفسادِ فكأنه فَهِمَ الترتيبَ بين الكفر والشهادة، فلذلك فَسَدَ المعنى، وهذا غير لازمٍ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً، ولذلك قال ابن عطية: «المعنى مفهومٌ أنَّ الشهادةَ قبل الكفرِ والواوُ لا تُرَتِّب» . الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من واو «كفروا» ، والعاملُ فيها الرافعُ لصاحبِها، و «قد» مضمرةٌ معها على رأي، أي: كفروا وقد وقد شهدوا، وإليه ذهب جماعة كالزمخشري وأبي البقاء وغيرهما، قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون العامل» يَهْدي «لأنه يهدي مَنْ شَهِدَ أن الرسول حق، يعني أنه لا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من» قوماً «، والعاملُ في الحال» يَهْدِي «لِما ذَكَر من فساد المعنى/.

الثالث: أن يكونَ معطوفاً على» إيمانهم «لما تضمَّنه من الانحلال لجملةٍ فعلية، إذ التقدير: بعد أن آمنوا وشهدوا، وإلى هذا ذهب جماعة، قال الزمخشري:» أن يُعْطف على ما في «إيمانهم» من معنى الفعل، لأن معناه: بعد أن آمنوا، كقولِهِ تعالَى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] وقوله: 1353 - مشائيمُ ليسوا مُصْلِحين عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا بِبَيْنٍ غرابُها انتهى. وجهُ تنظيره ذلك بالآية والبيت تَوَهُّمُ وجودِ ما يُسَوِّغُ العطفَ عليه في الجملة، كذا يقول النحاة: جُزِم على التوهم أي: لسقوط الفاء، إذ لو سقطت لانجزم في جوابِ التحضيض، وكذا يقولون: تَوَهَّم وجودَ الباءِ فجَرَّ، وفي العبارة بالنسبة إلى القرآن سوءُ أدبٍ، ولكنهم لم يقصِدوا ذلك حاش لله، وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أَوْلى كقوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] ، إذ هو في قوة: إن الذين صدقوا وأقرضوا، وفي هذه الآيةِ بحثٌ سيمر بك إن شاء الله تعالى. وقال الواحدي: «عُطِف الفعلُ على المصدر؛ لأنه أراد بالمصدر الفعلَ تقديرُه: كفروا بالله بعد أَنْ آمنوا، فهوعطفٌ على المعنى كما قال: 1354 - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ معناه: لأِنْ ألبس وتقرَّ عيني» فظاهرُ عبارة الزمخشري والواحدي أن

الأولَ يُؤَوَّل لأجل الثاني، وهذا ليس بظاهر، لأنَّا إنما نحتاج إلى ذلك لكونِ الموضع يطلبُه فعلاً كقوله: {إِنَّ المصدقين} لأنَّ الموصول يَطْلُبُ جملةً فعلية فاحتْجنا أَنْ نتأوَّل اسمَ الفاعل بفعلٍ، وعَطَفْنا عليه «وأقرضوا» ، وإما «بعد إيمانهم» وقوله «للبس عباءة» فليس مكانُ الاسمِ محتاجاً إلى فعل، فالذي ينبغي: أن نتأول الثاني باسمٍ ليصِحَّ عطفُه على الاسم الصريح قبله، وتأويلُه بأن نأتي معه ب «أن» المصدرية مقدرةً، وتقديرُه: بعد إيمانهم وأَنْ شَهِدوا، أي: وشهادتهم، ولهذا تأوَّل النحويون قولَها: «لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ» : وأَنْ تقرَّ، إذ التقدير: وقرةُ عيني، وإلى هذا الذي ذكرته ذهب أبو البقاء فقال «التقدير: بعد أَنْ آمنوا وأن شهدوا، فيكونُ في موضعِ جَرٍّ» . انتهى، يعني أنه على تأويلِ مصدرٍ معطوفٍ على المصدرِ الصريح المجرور بالظرف، وكلام الجرجاني فيه ما يَشْهد لهذا ويَشْهَدُ لتقدير الزمخشري فإنه قال: قوله «وشَهِدوا» منسوقٌ على ما يُمكنُ في التقدير، وذلك أنَّ قولَه «بعد إيمانهم» يمكن أن يكونَ بعد «أن آمنوا» وأَنْ الخفيفة مع الفعلِ بمنزلةِ المصدرِ كقولهِ: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 184] أي: والصوم، ومثلُه مِمَّا حُمِل فيه على المعنى قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ} [الشورى: 51] فهو عطفٌ على قوله: {إِلاَّ وَحْياً} ، ويمكن فيه: إلا أن يُوحى إليه، فلما كان قوله {إِلاَّ وَحْياً} بمعنى: إلا أنْ يُوحَى إليه حَمَله على ذلك، ومثله من الشعر قوله: 1355 - فَظَلَّ طُهاةٌ اللحم من بين مُنْضِجٍ ... صَفيفَ شِواءٍ أو قديرٍ مُعَجَّلٍ

خَفَضَ قولَه «قدير» لأنه عَطْفٌ على ما يمكن في قوله «منضجٍ» لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف فَحَمَله على ذلك قلت: فإتْيانُه بهذا البيت نظيرُ إتيان الزمخشري بالآية الكريمة والبيت المتقدمين، لأنه جَرَّ «قدير» هنا على التوهم، كأنه تَوَهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله تخفيفاً فَجَرَّ على التوهم، كما تَوَهَّم الآخرُ وجودَ الباءِ في قوله: «ليسوا مصلحين» ، لأنها كثيراً ما تزاد في خبر ليس. وقوله: {أَنَّ الرسول} الجمهورُ على أنه وصف بمعنى المُرْسَل، وقيل: هو بمعنى الرسالة فيكون مصدراً وقد تقدَّم ذلك.

87

قوله تعالى: {جَزَآؤُهُمْ} : يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ مبتدأ ثانياً، و «أنَّ عليهم» إلى آخره في محلِّ رفعٍ خبراً لجزاؤهم، والجملةُ خبر لأولئك. والثاني: أن يكونَ «جزاؤهم» بدلاً من «أولئك» بدلَ اشتمال، و «أن عليهم» إلى آخره خبرُ أولئك. وقال هنا: {جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} وهناك {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 161] دون «جزاؤهم» قيل: لأنَّ هناك وَقَعَ الإِخبارُ عَمَّن توفي على الكفر، فمن ثَم حَتَّم الله عليه اللعنةَ بخلافه هنا، فإنَّ سببَ النزولِ في قومٍ ارتدُّوا ثم رجَعوا للإِسلام. ومعنى «جزاؤهم» أي: جزاءُ كفرِهم وارتدادهم. وتقدَّم قراءةُ الحسنِ {والناس أجمعون} [البقرة: 161] وتخريجُها.

88

قوله تعالى: {خَالِدِينَ} : حالٌ من الضمير في «عليهم» والعاملُ فيها الاستقرارُ أو الجارُّ لقيامه مقامَ الفعل وتقدَّمَتْ نظائرُه. والضمير في «فيها» للعنة. و {لاَ يُخَفَّفُ} جملةٌ حالية أو مستأنفة.

89

وقوله تعالى: {إِلاَّ الذين} : استثناءٌ متصلٌ.

90

قوله تعالى: {كُفْراً} : تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية،

والأصلُ: ثم ازداد كفرهُم، والدالُ الأولى بدلٌ من تاءِ الافتعالِ لوقوعِها بعد الزاي، كذا أعربه الشيخ، وفيه نظرٌ، إذ المعنى على أنه مفعول به، وذلك أنَّ الفعلَ المتعدِّيَ لاثنين إذا جُعِل مطاوعاً نَقَص مفعولاً، وهذا من ذاك، لأن الأصل: زِدْتُ زيداً خيراً فازداده، وكذلك أصلُ الآية الكريمة، زادهم الله كفراً فازدادوه. ولم يُؤْتَ هنا بالفاء داخلةً على «لن» وأتى بها في «لن» الثانيةِ. قيل: لأنَّ الفاءَ مُؤْذِنَةٌ بالاستحقاق بالوصفِ السابق، لأنه قد صَرَّح بقيدِ موتهم على الكفر/ بخلافِ «لن» الأولى فإنه لم يُصَرِّح معها به، فلذلك لم يُؤْتَ بالفاء. وقرأ عكرمة: «لن نقبل» بنونِ العظمة، «توبتَهم» بالنصب، فلذلك قرأ: «فلن نقبل مِنْ أحدِهم ملء» بالنصب. قوله: {وأولئك هُمُ الضآلون} في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ في محلِّ رفعٍ عطفاً على خبر إنَّ، أي: إنَّ الذين كفروا لن تُقْبل توبتُهم وإنهم أولئك هم الضالون. الثاني: أن تُجْعَلَ معطوفة على الجملة المؤكدة بإن، وحينئذٍ فلا محلَّ لها من الإِعرابِ لعطفِها على ما لا محلَّ له. الثالث: وهو أغربُها أن تكونَ الواو للحال، فالجملة بعدها نصب على الحال، والمعنى: لن تُقْبَل توبتُهم من الذنوب والحالُ أنهم ضالون، فالتوبةُ والضلال متنافيان لا يَجْتمعان، قاله الراغب، وهو بعيد في التركيب، وإنْ كانَ قريبَ المعنى. قال الشيخ: «ويَنْبو عن هذا المعنى هذا التركيبُ، إذ لو أُريد هذا المعنى لم يُؤْتَ باسم الإِشارة» .

وقوله: {فَلَن يُقْبَلَ} قد تقدم أن عكرمة [قرأ] «نقبل» بالنون، «ملءَ» بالنصب مفعولاً به، وقرأ بضعهم: فلن يَقبل بالياء من تحت على بنائه للفاعل وهو الله تعالى، و «ملءَ» بالنصب كما تقدم. وقرأ أبو جعفر وأبو السمَّال: «مِل الأرض» بطرح همزة «ملء» ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها، وبعضُهم يُدْغم نحو هذا، أي: لام «ملء» في لام «الأرض» بعروضِ التقائِهما. والملءُ مقدارُ ما يملأ الوعاءَ، والمَلْءُ بفتح الميم هو المصدر. يقال: «مَلأتُ القِرْبة أملؤها مَلْئَاً» ، والمُلاءة المِلْحَفة بضم الميم والمد. و «ذَهَبا» العامة على نصبه تمييزاً، وقال الكسائي: «على إسقاط الخافض» وهذا كالأول، لأنَّ التمييزَ مقدَّرٌ ب «مِنْ» واحتاجت «ملء» إلى تفسير لإِبهامها، لأنها دالةٌ على مقدار. كالقَفِيز والصَّاع. وقرأ الأعمش «ذهبٌ» بالرفع، قال الزمخشري: «رَدّاً على مِلْءُ» كما يقال: «عندي عشرون نفساً رجالٌ» يعني بالرد البدل، ويكون بدلَ نكرة من معرفة، قال الشيخ: «ولذلك ضَبَط الحُذَّاق قوله» لك الحمدُ ملءُّ السماوات «بالرفع، على أنه نعتٌ للحمد، واستضعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة» قلت: ولا يتعيََّنُ نصبُه على الحال حتى يلزَم ما ذكره من الضعف، بل هو منصوبٌ على الظرف، أي: إنَّ الحمد يقع مِلئاً للسماوات وللأرض. قوله: {وَلَوِ افتدى} الجمهورُ على ثبوتِ الواو وهي واو الحال، قال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف موقعُ قولِه: {وَلَوِ افتدى بِهِ} ؟ قلت: هو كلامٌ

محمولٌ على المعنى كأنه قيل: فَلَنْ يُقبل من أحدِهم فديةٌ ولو افتدى بملء الأرض» . انتهى. والذي ينبغي أن يُحْمل عليه أن الله تعالى أخبر أنَّ مَنْ ماتَ كافراً لا يُقْبل منه ما يَملأ الأرض من ذَهبٍ، على كل حال يَقْصِدُها ولو في حال افتدائه من العذاب، وذلك أنَّ حالة الافتداءِ حالةٌ لا يمتَنُّ فيها المفتدي على المفتدَى منه إذ هي حالةُ قهرٍ من المفتدَى منه للمفتدِي. قال الشيخ: «وقد قَرَّرنا من نحوِ هذا التركيب أنَّ» لو «تأتي مَنْبَهَةً على أَنَّ ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يُظَّنُّ أنها لا تندَرجُ فيما قبلها، كقوله عليه السلام:» اعطُوا السائل ولو جاء على فرس «و» رُدُّوا السائل ولو بِظِلْفٍ مُحْرَق «، كأنَّ هذه الأشياء كان ممَّا ينبغي أن لا يُؤْتى بها، لأنَّ كونَ السائلِ على فرسٍ يُشْعر بغناه فلا يناسبُ أَنْ يُعْطى، وكذلك الظِّلْفُ المُحرَقُ لا غناءَ فيه، فكان يناسِبُ ألاَّ يُرَدَّ به السائل» . وقيل: الواو هنا زائدةٌ، وقد يتأيَّد هذا بقراءة ابن أبي عبلة «لو افتدى به» دون واوٍ، ومعناها أنه جُعِل الافتداءُ شرطاً في عدم القبول فلم يتَعمَّمْ نَفْيُ وجود القبولِ. و «لو» قيل: هي هنا شرطية بمعنى إنْ، لا التي معناها لِما كان سيقع لوقوع غيره، لأنها مُعَلَّقة بمستقبل، وهو قوله: {فَلَن يُقْبَلَ} وتلك مُعَلَّقَةٌ بالماضي. وافتدى: افْتَعَلَ من لفظِ الفِدْيَة وهو متعدٍّ لواحدٍ لأنه بمعنى فَدَى، فيكونُ افْتَعَل فيه وفَعَل بمعنىً نحو: شَوَى واشتوى، ومفعولُه محذوف تقديره: افتدى نفسَه.

والهاءُ في «به» فيها أقوال، أظهُرها: عودُها على «ملء» لأنه مقدارُ ما يملؤها، أي: ولو افتدى بملء الأرض. والثاني: أن يعودَ على «ذهبا» قاله أبو البقاء، قال الشيخ: «ويوجد في بعضِ التفاسير أنها تعود على المِلء أو على الذهب، فقوله:» أو على الذهب «غلطٌ» قلت: كأن وجهَ الغلطِ فيه أنه ليس مُحَدَّثاً عنه/، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره فَضْلةً. الثالث: أن يعود على «مثل» محذوفٍ، قال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يُرادَ» ولو افتدى بمثله «كقوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} [المائدة: 36] والمِثلُ يُحذف في كلامهم كثيراً، كقولك «ضَرَبْتُ ضربَ زيدٍ» تريد مثلَ ضربه، أبو يوسف أو حنيفة «أي مثلُه، و: 1356 - لا هيثمَ الليلةَ للمَطيّ ... و» قضية ولا أبا حسنٍ لها «تريد: لا مثلَ هيثم ولا مثل أبي حسن، كما أنه يزاد في قولهم:» مثلُك لا يفعل كذا «يريدون: أنت لا تفعل، وذلك أن المثلين يَسُدُّ أحدهما مَسَدَّ الآخر، فكانا في حكم شيء واحد» . قال الشيخ: «ولا حاجةَ إلى تقدير» مثل «في قوله: {وَلَوِ افتدى بِهِ} ، وكأن الزمخشري تَخَيَّل أنَّ ما نُفِي أَنْ يُقْبَلَ لا يمكن أن يُفْتَدَى به فاحتاج إلى إضمار» مثل «حتى يُغايِرَ بين ما نُفِيَ قَبُوله وبين ما يُفْتَدَى به، وليس كذلك؛ لأن ذلك كما ذكرناه على سبيل الفَرَض والتقدير، إذ لا يمكن عادةً أنَّ أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً، بحيث إنه لو بَذَله علىأي جهة بَذَله لم يُقْبَلْ منه، بل لو كان ذلك مُمْكِناً لم يَحْتَجْ

إلى تقدير» مثل «لأنه نُفِي قبولُه حتى في حالة الافتداء، وليس ما قَدَّر في الآية نظيرَ ما مَثَّل به، لأَنَّ هذا التقدير لا يُحتاج إليه ولا معنى له، ولا في اللفظ ولا في المعنى ما يدل عليه فلا يُقَدَّر، وأما ما مَثَّل به من نحو: ضربت ضرب زيد، وأبو يوسف وأبو حنيفة» فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير «مثل» ، إذ ضربُك يستحيل أن يكون ضرب زيد، وذاتُ أبي يوسف يستحيل أن تكونَ ذات أبي حنيفة، وأما «لا هيثم الليلة للمطي» فَدَلَّ على حذف «مثل» ما تقرَّر في اللغة العربية أن «لا» التي لنفي الجنس لا تدخُل على الأعلام فتؤثِّر فيها فاحتيج إلى إضمار «مثل» لتبقى على ما تقرَّر فيها إذ تقرَّر فيها أنها لا تعملُ إلا في الجنس، لأن العَلَمية تنافي عمومَ الجنس، وأما قوله «كما يُزاد في نحو:» مثلُك لا يفعل «تريد أنت» فهذا قولٌ قد قِيل [به] ، ولكن المختارَ عند حُذَّاق النحويين «أنَّ الأسماء لا تزاد» . قلت: وهذا الاعتراضُ على طولِه جوابُه ما قاله أبو القاسم في خطبة كشافة: «فاللغوي وإن عَلَكَ اللغة بِلَحْيَيْه والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه إلى آخره» . قوله: {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يجوزُ أنْ يكونَ «لهم» خبراً لاسم الإِشارة، و «عذابٌ» فاعلٌ به، وعَمِل لاعتمادِه على ذي خبر، أي: أولئك استقر لهم عذاب، وأن يكونَ «لهم» خبراً مقدماً، و «عذاب» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ خبر عن اسم الإِشارة، والأولُ أحسنُ، لأنَّ الإِخبار بالمفرد أقربُ من الإِخبار بالجملة، والأول من قَبيلِ الإِخبار بالمفرد. قوله: {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} يجوزُ أَنْ يكونَ «من ناصرين» فاعلاً، وجاز

عَمَل الجار لاعتماده على حرف النفي أي: وما استقر لهم من ناصرين. والثاني: أنه خبر مقدم و «من ناصرين» مبتدأ مؤخر، و «مِنْ» مزيدةٌ على الإِعرابين لوجود الشرطين في زيادتها. وأتى بناصرين جمعاً لتوافِقَ الفواصلَ.

92

قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ} : النَّيْل: إدراكُ الشيء ولُحوقُه، وقيل هو العطية، وقيل: هو تناوُلُ الشيء باليد، يقال: نِلْتُه أناله نَيْلاً. قال تعالى: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} [التوبة: 120] . وأمَّا النَّوْلُ بالواو فمعناه التناول، يقال: نِلته أنوله أي: تناولته، وأنلته زيداً أَنوله إياه أي: ناولته إياه، كقولك: عَطَوْتُه أعطوه بمعنى تناولته، وأعطيته إياه إذا ناولته إياه. وقوله: {حتى تُنْفِقُواْ} بمعنى إلى أن، و «مِنْ» في {مِمَّا تُحِبُّونَ} تبعيضيةٌ، يدلُّ عليه قراءةُ عبد الله: «بعضَ ما تحبون» ، وهذه عندي ليست قراءةً بل تفسيرُ معنى. «ما» موصولةٌ وعائدها محذوف، والقولُ بكونها نكرةً موصوفة لا معنى له، وقد جَوَّز ذلك أبو البقاء فقال: [ «أو نكرةٌ موصوفة، ولا تكون مصدريةً لأنَّ المحبةَ لا تُنْفَقُ، فإنْ جُعِلَتِ المحبة بمعنى المفعول جاز على رأي عليّ» ] يعني يبقى التقدير: من الشيء المحبوب، وهذان الوجهان ضعيفان، والأول أضعف. وقوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ} تقدم نظيره في البقرة.

93

قوله تعالى: {حِلاًّ} : الحِلُّ: بمعنى الحلال وهو في الأصل مصدر لحَلَّ يَحِلُّ كقولك: عَزَّ يَعِزُّ عِزّاً، ثم يُطلق على الأشخاص مبالغة، ولذلك يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث كقوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} [الممتحنة: 10] ، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها: «كنت أُطَيِّبُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحِلّه ولحَرَمِه» أي: لإِحلاله ولإِحرامه، وهو كالحِرْم واللِّبْس بمعنى الحَرام واللباس، قال تعالى: «وحِرْمٌ» وقرىء «وحرام» . و «لبني» متعلق بحِلّ. قوله: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ} مستثنى/ من اسمِ كان. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ مستثنى من ضميرِ مستتر في «حِلاً» فقال: «لأنه استثناء من اسم كان، والعاملُ فيه» كان «، ويجوزُ أن يعملَ فيه» حِلاً «ويكون فيه ضميرٌ يكون الاستثناء منه؛ لأن حِلاً وحَلالاً في موضعِ اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح» . وفي هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنه متصل، والتقدير: إلا ما حَرَّم إسرائيلُ على نفسه، فَحُرِّم عليهم في التوراة، فليس فيها ما زادوه من محرمات وادعوا صِحَّة ذلك. والثاني: أنه منقطع، والتقدير: لكنْ حَرَّم إسرائيلُ على نفسِه خاصةً ولم يُحَرِّمْه عليهم، والأول هو الصحيح. قوله: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلقَ بحَرّم أي: إلا ما حَرَّم مِنْ قبلِ، قاله أبو البقاء. قال الشيخ: «ويَبْعُد ذلك، إذ هو من

الإِخبار بالواضح، لأنه معلومٌ أنَّ ما حَرَّم إسرائيل على نفسه هو مِنْ قبل إنزال التوراةِ ضرورةَ لتباعدِ ما بين وجود إسرائيل وإنزالِ التوراة» . والثاني: أنها تتعلَّقُ بقوله: كان حِلاً «قال الشيخ:» ويظهر أنه متعلّقٌ بقولِه {كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} أي: مِنْ قبلَ أَنْ تُنَزَّل التوراة، وفَصَل بالاستثناء إذ هو فصلٌ جائز، وذلك على مذهبِ الكسائي وأبي الحسن في جواز أَنْ يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو: «ما حُبِس إلا زيدٌ عندَكَ، وما أوى إلا عمروٌ إليك، وما جاء إلا زيدٌ ضاحكاً» وأجازَ الكسائي ذلك في المنصوبِ مطلقاً نحو: ما ضَرَب إلا زيدٌ عمراً، وأجاز هو وابن الأنباري ذلك في المرفوع نحو: ما ضَرَب إلا زيداً عمرو، وأمَّا تخريجُه على غيرِ مذهبِ الكسائي وأبي الحسن فيُقَدَّرُ له عاملٌ مِنْ جنسِ ما قبله، وتقديرُه هنا: حَلَّ من قبلِ أَنْ تُنَزَّل التوراة «.

94

قوله تعالى: {مِن بَعْدِ} : فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّق بافترى، وهذا هو الظاهرُ، والثاني: جَوَّزه أبو البقاء وهو أَنْ يتعلَّقَ بالكذب، يعني الكذبَ الواقعَ مِنْ بعد ذلك. وفي المشار إليه بذلك ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: استقرارُ التحريم المذكور في التوراة، إذ المعنى: إلاَّ ما حَرَّم إسرائيلُ على نفسِه ثم حَرَّمته التوراة عليهم عقوبةً لهم. الثاني: التلاوةُ، وجاز تذكيرُ اسمِ الإِشارة لأنَّ المرادَ بها بيانُ مذهبهم. والثالث: الحالُ بعد تحريمِ إسرائيل على نفسه. وهذه الجملةُ أعني قولَه {فَمَنِ افترى} يجوز أن تكون استئنافية فلا محلَّ لها من الإِعراب، ويجوز أن تكونَ منصوبةَ المحلِّ نسقاً على قوله: «فَأْتوا بالتوراة» فتندرجَ في المقول. و «مَنْ» يجوز أن تكون شرطية أو موصولة،

وحَمَل على لفظِها في قولِه: {افترى} فلذلك وَحَّد الضميرَ، وعلى معناها فَجُمِع في قولِه: {فأولئك} إلى أخره.

95

قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ الله} : أي: قل لهم. والعامةُ على إظهارِ لام «قُل» مع الصادِ، وقرأ أبان بن تغلب بإدغامِها فيه، وكذلك أدغمَ اللامَ في السين في قوله: {قُلْ سِيرُواْ} [الأنعام: 11] ، وسيأتي أنَّ حمزة والكسائي وهشاماً أَدْغموا اللامَ في السينِ مِنْ قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} [يوسف: 18] . قال أبو الفتح: «علةُ ذلك فُشُوُّ هذين الحرفين في الفَمِ وانتشارُ الصوتِ المنَبثِّ عنهما فقارَبَتا بذلك مَخْرَجَ اللامِ فجازَ إدغامُها فيهما وهو مأخوذٌ من كلامِ سيبويه، فإنَّ سيبويه قال:» والإِدغامُ يعني إدغامَ اللام مع الطاء والصاد وأخواتِهما جائزٌ وليس ككثرتِه مع الراء، لأنَّ هذه الحروفَ تراخَيْن عنها وهي من الثنايا «قال:» وجوازُ الإِدغام لأن آخرَ مخرجِ الام قريبٌ من مَخْرجها. انتهى «. وقال أبو البقاء عبارةً توضِّح ما تقدَّم وهي:» لأن الصاد فيها انبساطٌ وفي اللام انبساطٌ، بحيث يتلاقى طرفاهما فصارا متقاربين «وقد تقدَّم إعراب قولِه: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [البقرة: 135] فأغنى عن أعادته.

96

قوله تعالى: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} : هذه الجملة في موضعِ خفضٍ صفةً لبيت. وقرأ العامة: «وُضِع» مبنياً للمفعول، وعكرمة وابن السَّمَيفَع: «وَضَع» مبنياً للفاعل، وفي فاعله قولان، أظهرهما، أنه ضمير إبراهيم لتقدُّم ذكره، ولأنه مشهورٌ بعِمارته، والثاني: أنه ضميرُ الباري تعالى. و «للناس» متعلقٌ بالفعل قبله، واللامُ فيه للعلةِ، و «لَلَّذي بِبَكَّةَ» خبرٌ إنَّ، وأَخْبر هنا بالمعرفة وهو الموصول عن النكرة وهو «أولَ بيت» لتخصيص النكرة بشيئين: الإِضافةِ والوصفِ بالجملة بعده، وهو جائزٌ في باب إنَّ، ومن عبارةِ سيبويه: «إنَّ قريباً منك زيدٌ» لَمَّا تخصص «قريباً» بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرته لك، وزاده حُسناً هنا كونُه اسماً «إنَّ» ، وقد جاءَتِ النكرةُ اسماً لإِنَّ وإنْ لم يكن تخصيصٌ. قال: 1357 - وإنَّ حَراماً أَنْ أَسُبَّ مجاشعاً ... بآبائيَ الشُمِّ الكرامِ الخَضَارمِ و «ببكة» صلةٌ، والباءُ فيه ظرفيةٌ أي: في مكة، وبَكَّةُ فيها أوجه، أحدُها أنها مرادفةٌ لمكة فَأُبدلت ميمُها باءً، قالوا: والعربُ تُعاقِبُ بين الباء والميم في مواضع، قالوا: هذا عليَّ ضَرْبَةُ لازم ولازِب، وهذا أمرٌ راتِب وراتِم، والنَّمِيط والنَّبيط، وسَبَدَ رأسه وسَمَدَها، وِأَعْبطت الحُمَّى وأَعْمَطَت،

وقيل: اسمٌ لبطن مكة، وقيل: لمكان البيت، وقيل: للمسجدِ نفسِه، وأيَّدوا هذا بأن التباكَّ وهو الازدحام إنما يحصُل عند الطواف، يقال: تَبَاكَّ الناسُ أي: ازدحموا. وهذا القولُ يُفْسِده أَنْ يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه، كذا قال بعضُهم، وهو فاسدٌ لأنَّ البيتَ في المسجدِ حقيقةً، وسُمِّيت بَكَّة، لازدحام الناس، وقيل: لأنها تَبُكُّ أعناق الجبابرة، أي تَدُقُّها، وسُمِّيتْ مكة من قولهم: «تَمَكَّكْتُ المُخَّ من العظم» إذ استقصيتَه ولم تترك منه شيئاً، ومنه «امْتَكَّ الفصيلُ ما في ضَرْع أمه» إذا لم يترك فيه لبناً، ورُوي أنه قال: «لا تُمَكِّكُوا على غرمائِكم» . ثم في تسميتها بذلك أوجهٌ، فقال ابن الأنباري: «سُمِّيَتْ بذلك لقلة مائها وزرعها وقلة خِصْبها، فهي مأخوذةٌ من» مَكَكْتُ العظمَ «إذا لم تترك فيه شيئاً. وقيل: لأنَّ مَنْ ظلم فيها مَكَّه الله أي استقصاه بالهلاك. وقيل: لأنها وسط الأرضِ كالمخ وسطَ العظم، وهذا قولُ الخليل بن أحمد، وهو حسن. والمَكُّوك كأس يُشْرب به ويُكال به كالصُّواع. قوله: {مُبَارَكاً وَهُدًى} حالان: إمَّا من المضمرِ في» وُضِع «كذا أعربه أبو البقاء وغيرُه، وفيه نظرٌ، مِنْ حيث إنه يَلْزَمُ الفصلُ بين الحال وبين العامل فيها بأجنبي، وهو خبر إنَّ، وذلك غير جائز لأنَّ الخبرَ معمولٌ لإِنَّ، فإنْ أضْمَرْتَ عاملاً وهو» وُضِع «بعد» للذي ببكة «أي و» وُضِع «جاز، والذي حَمل على ذلك ما يعطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضع بهذا القيد.

والظاهرُ أنَّ «وهدى» نَسَقٌ على «مباركاً» . وزعم بعضُهم أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديره: وهو هدىً، وهو ساقطٌ الاعتبار به. والبركة: الزيادةُ، يقال: باركَ الله لك أي: زادَك خيراً، وهو متعدٍّ، ويَدُلُّ عليه: {أَن بُورِكَ مَن} [النمل: 8] ويُضَمَّنُ معنى [ما يتعدى] بعلى كقوله: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} [الصافات: 113] . و «تبارَكَ» لا يَتَصَرَّف ولا يُسْتعمل مسنداً إلا الله تعالى، ومعناه في حَقِّه تعالى: تزايَدَ خيرُه وإحسانه، وقيل: البَرَكَةُ ثبوتُ الخيرِ، مأخوذٌ من مَبْرَك البعير. وإمَّا من الضميرِ المستكنِّ في الجار، وهو «ببكة» لوقوعِه صلةً، والعاملُ فيها الجارُّ بما تضمَّنه من الاستقرارِ أو العاملُ في الجار، ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على إضمارِ فعلِ المدح أو على الاختصاصِ، ولا يَضُرُّ كونُه نكرةً، وقد تقدَّم دلائل ذلك. و «للعالمين» كقوله: {لِّلْمُتَّقِينَ} [الآية: 2] أولَ البقرة.

97

قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ} : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في محل نصبٍ على الحال: إمَّا من ضمير «وُضع» ، وفيه ما تقدَّم من الإِشكال، وإمَّا من الضميرِ في «ببكة» وهو واضحٌ، وهذا على رأي مَنْ يُجيز تعدُّد الحالِ لذي حالٍ واحدٍ، وإمَّا مِنَ الضمير في «للعالمين» ، وإمَّا من «هدى» ، وجازَ ذلك لتخصُّصهِ بالوصفِ، ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في «مباركاً» . ويجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ في محل نصب نعتاً لهدى بعد نعتِه بالجار قبلَه،

ويجوزُ أَنْ يكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، وإنما جيء بها بياناً وتفسيراً لبركتِه وهُداه، ويجوزُ أَنْ تكونَ الحالُ أو الوصفُ على ما مَرَّ تفصيله هو الجارَّ والمجرورُ فقط، و «آياتٌ» مرفوعٌ بها على سبيل الفاعلية، لأنّ الجارَّ متى اعتمد على أشياءَ ذكرتها في أولِ هذا الموضوعِ رَفَع الفاعل، وهذا أَرْجَحُ مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر، لأنَّ هذه الأشياءَ ِ أعني الحال والنعت والخبر أصلُها أَنْ تكونَ مفردةً فما قَرُب منها كان أولى، والجارُّ قريبٌ من المفرد، ولذلك تقدَّم المفردُ ثم الظرف ثم الجملةُ فيما ذَكَرْتُ، وعليه الآيةُ الكريمة: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] فقدَّم الوصف بالمفرد وهو «مؤمن» ، وثَنّى بما قَرُب منه وهو «من آل فرعون» ، وثَلَّث بالجملة وهي «يكتم إيمانه» ، وقد جاءَ في الظاهر عكسُ هذا، وسأُوضِّح هذه المسألة إنْ شاء الله عند قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ} [المائدة: 54] . قوله: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فيه أوجه، أحدها أنَّ «مقام» بدلٌ من «آيات» ، وعلى هذا يُقال: إنَّ النحويين نَصُّوا على أنه متى ذُكِرَ جمعٌ لا يُبْدَلُ منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع فتقول: «مررت/ برجالٍ زيدٍ وعمرٍو وبكر» لأنَّ أقلَّ الجَمْعِ الصحيح ثلاثةٌ، فإن لم يُوفِّ قالوا: وَجَبَ القطعُ عن البدلية: إمَّا إلى النصب بإضمارِ فعلٍ، وإمّا إلى الرفعِ على مبتدأٍ محذوفٍ الخبر، كما تقولُ في المثال المتقدم: «زيداً وعمراً» أي أعني زيداً وعمراً، أو «زيد وعمرو» أي: منهم زيد وعمرو، ولذلك أعربوا قولَ النابغة الذبياني: 1358 - تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها ... لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ

رَمادٌ ككحلِ العَيْن لأْياً أُبينه ... ونُؤْيٌ كجِذْم الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشعُ على القطع المتقدم، أي: فمنها رمادٌ ونُؤْيٌ، وكذا قَولُه تعالى: {حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج: 17-18] أي: أعني أو أذُمُّ فرعون وثمود، على أنه قد يقال: إنَّ المرادَ بفرعون وثمودَ هما ومَنْ تَبِعَهما مِنْ قومهما، فذكرُهما وافٍ بالجَمْعية، وفي الآيةِ الكريمةِ هنا لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان: المقَامُ وأَمْنُ داخلِه، فكيف يكلان بدلاً؟ وهذا الإِشكالُ أيضاً واردٌ على قول مَنْ جَعَلَه خبرَ مبتدأ محذوف أي: هي مقامُ إبراهيم كيف يُخْبِر عن الجمع باثنين؟ . وفيه أجوبةٌ، أحدُها: أنَّ أقلَّ الجمع اثنان كما ذهب إليه بعضهم، قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يُراد: فيه آيات: مقامُ إبراهيم وأمنُ مَنْ دخله، لأن الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة» . الثاني: أن «مقام إبراهيم» وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يَشْتمل على آياتٍ كثيرة، لأنَّ القدمين في الصخرةِ الصَمَّاءِ آيةٌ، وغَوْصُهُمَا فيها إلى الكعبين آية، وإلانَةُ بعضِ الصخرةِ دونَ بعض آية، وإبقاؤه على مَرّ الزمان، وحفظُه من الأعداء آية، واستمرارُه دون آيات سائر الأنبياء خلا نبيِّنا صلى الله عليه وعلى سائرهم آيةٌ، قال معناه الزمخشري. الثالث: أن يكونَ هذا من باب الطَيّ، وهو أن يُذْكَرَ جمعٌ ثم يُؤْتَى ببعضِه ويُسْكَتَ على ذِكْر باقيه لغرضٍ للمتكلم ويسمى طَيَّاً، وأنشد الزمخشري عليه قول جرير:

1359 - كانَتْ حُنَيْفَةُ أثلاثاً فثُلْثُهُمُ ... مِنَ العبيدِ وثُلْثٌ مِنْ مَواليها وأوردَ منه قولَه عليه الصلاة والسلام: «حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكم ثلاثٌ: الطِّيب والنساء، وقُرَّةُ عيني في الصلاة» ذَكَر اثنين وهما الطِّيب والنساءُ، وطَوَى ذِكْرَ الثالثة، لا يقال: إن الثالثة قوله: «وقُرَّةُ عيني في الصلاة» لأنها ليست من دُنْياهم، إنما هي من الأمورِ الأُخْروية، وفائدةُ الطيّ عندهم تكثير ذلك الشيء، كأنه تعالى لَمَّا ذكر جملة الآيات هاتين الآيتين قال: وكثيرٌ سواهما. وقال ابن عطية: «والأرجح عندي أن المَقام وأمنَ الداخلِ جُعلا مثالاً مِمَّا في حَرَم الله تعالى من الآيات، وخُصَّا بالذكر لعِظَمِهما وأنهما تقومُ بهما الحجةُ على الكفار، إذ هم مُدْرِكون لهاتين الآيتين بحواسِّهم» . الوجه الثاني: أن يكونَ «مقامُ إبراهيم» عطفَ بيان، قاله الزمخشري وردَّ عليه الشيخ هذا مِنْ جهةِ تَخَالُفِهما تَعْريفاً وتنكيراً فقال: «قوله مخالف لإِجماع البصريين والكوفيين فلا يُلتفت إليه، وحكمُ عطفِ البيان عند الكوفيين حكمُ النعتِ فَيُتْبِعون النكرةَ النكرةَ والمعرفةَ المعرفةَ، وتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي، وأمّا البصريون فلا يجوز عندهم إلا أن يكونا معرفتين، ولا يجوزُ أن يكونا نكرتين، وكلُّ شيء أورده الكوفيون مِمَّا يُوهم جوازَ كونِه عطفاً جعلَه البصريونَ بدلاً، ولم يَقُمْ دليلٌ للكوفيين» . قلت: وهذه المسألةُ ستأتي إنْ شاءَ

اللهُ محررةً عند قوله تعالى: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] وعند قوله تعالى: {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35] . ولَمّا أعرب الزمخشري مقامَ إبراهيم وأَمْنَ داخِله بالتأويل المذكور اعتَرَضَ على نفسِه بما ذكرْتُه مِنْ إبدال غيرِ الجمع من الجمعِ، وأجاب بما تقدَّم، واعترض أيضاً على نفسه، بأنه كيف تكون الجملةُ عطفَ بيان للأسماء المفردة؟ فقال: «فإنْ قلت: كيف أَجَزْتَ أن يكونَ مقامُ إبراهيم والأمنُ عطفَ بيان، وقولُه {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} جملةٌ مستأنفةٌ: إمَّا ابتدائيةٌ وإمَّا شرطيةٌ. قلت: أَجَزْتُ ذلك من حيث المعنى، لأن قوله {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} دلَّ على أَمْنِ مَنْ دخله، فكأنه قيل: «فيه آياتٌ بينات: مقامُ إبراهيم وأَمْنُ مَنْ دخله» ألا ترى أنك لو قلت: «فيه آيةٌ بَيِّنَةٌ: مَنْ دَخَله كان آمناً» صَحَّ، لأن المعنى: فيه آيةٌ بينةٌ أَمْنُ مَنْ دَخَلَه «. قال الشيخ:» وليس بواضحٍ لأنَّ تقديرَه وأَمْنُ الداخل هو مرفوعٌ عطفاً على/ «مقام إبراهيم» وفَسَّر بهما الآياتِ، والجملةُ من قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} لا موضعَ لها من الإِعراب فَتدافَعا، إلاَّ إن اعتقد أن ذلك معطوفٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه ما بعده، فيمكن التوجيهُ، فلا يُجْعَلُ قولُه {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} في معنى «وأَمْنُ داخِلِه» إلا من حيثُ تفسيرُ المعنى لا تفسيرُ الإِعراب «وهي مُشاحَّةٌ لا طائلَ تحتها، ولا تدافُعَ فيما ذَكَر، لأنَّ الجملة متى كانَتْ في تأويلِ المفردِ صَحَّ عطفُها عليه، ثم المختارُ أن يكونَ قولُه» مقام إبراهيم «خبرَ مبتدأ مضمرٍ، لا كما قَدَّروه حتى يلزمَ الإِشكالُ المتقدم، بل تقدِّرُه: أحدها مقام إبراهيم، وهذا هو الوجه

الثالث. و» مَنْ «يجوز أن تكونَ شرطيةً وأن تكون موصولة، ولا يَخْفى الكلام عليهما ممَّا تقدم. وقرأ أُبَيٌ وعمرُ وابن عباس وأبو جعفر ومجاهد:» آيةٌ بينة «بالتوحيد، وتخريجُ» مقام «على الأوجه المتقدمة سهلٌ: مِنْ كونها بدلاً أو بياناً عند الزمخشري، أو خبرَ مبتدأ محذوف، وهذا البدل متفق عليه؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرةِ مطلقاً، والكوفيون لا يُبْدِلون منها إلا بشرطِ وصفِها وقد وُصِفَتْ. قوله: {مَنِ استطاع} فيه ستة أوجه، أحدها أنَّ» مَنْ «بدلٌ من» الناس «بدلُ بعضٍ من كل، وبدلُ البعضِ وبدلُ الاشتمالِ لا بد في كلٍّ منهما مِنْ ضميرٍ يعودُ على المُبْدَلِ منه نحو: أَكْلْتُ الرغيفَ ثلثَه، وسُلِب زيدٌ ثوبُه، وهنا ليس ضميرٌ، فقيل: هو محذوفٌ تقديره: مَنْ استطاع منهم. الثاني: أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل، إذ المرادُ بالناس المذكورين خاصٌّ، والفرقُ بين هذا الوجهِ والذي قبله أنَّ الذي قبلَه يُقال فيه: عامٌّ مخصوصٌ، وهذا يُقالُ فيه: عامٌّ أُريد به الخاصُّ، وهو فرقٌ واضح، وهاتان العبارتان مأخوذتان مِنْ عبارة الإِمام الشافعي رضي الله عنه. الثالث: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هو مَنْ استطاع. الرابعُ: أنَّها مصدريةٌ بإضمارِ فعلٍ أي: أعني مَن استطاع، وهذان الوجهان في الحقيقة مأخوذان من وجهِ البدل، فإنَّ كلَّ ما جاز إبدالُه ممَّا قبله جاز قَطْعُه إلى الرفع أو النصب المذكورين آنفاً. الخامس: أنَّ» مَنْ «فاعلٌ بالمصدرِ وهو» حَجٌّ «والمصدرُ مضاف لمفعوله، والتقدير: ولله على الناس أن

يَحُجَّ من استطاع منهم سبيلاً البيتَ، وهذا الوجه قد رَدَّه جماعة مِنْ حيثُ الصناعةُ ومن حيث المعنى: أمَّا من حيثُ الصناعةُ فلأنه إذا اجتمع فاعلٌ ومفعولٌ مع المصدرِ العامل فيهما فإنما يُضاف المصدرُ لمرفوعِه دونَ منصوبِه فيقال: يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً، ولو قلت:» ضربُ عمرٍو زيدٌ «لم يَجُزْ إلا في ضرورة كقوله: 1360 - أَفْنَى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ القواقيزِ أفواهُ الأباريقِ يروى بنصب «أفواه» على إضافةِ المصدر وهو «قَرْع» إلى فاعله، وبالرفعِ على إضافته إلى مفعولِه، وقد جَوَّزه بعضُهم في الكلامِ على ضَعْفٍ، والقرآنُ لا يُحْمَلُ على ما في الضرورةِ ولا على ما فيه ضعف. وِأما من حيث المعنى فلأنه يؤدِّي إلى تكليفِ الناس جميعِهم مستطيعهم وغيرِ مستطعيعهم أن يَحُجَّ مستطيعُهم، فيلزمُ من ذلك تكليفُ غيرِ المستطيعِ بأن يَحُجَّ المستطيعُ وهو غيرُ جائزٍ، وقد التزم بعضُهم هذا، وقال: نعم نقول بموجبه، وأن الله تعالى كَلَّف الناسَ ذلك، حتى لو لم يُحَجَّ المستطيعون لَزِم غيرُ المستطيعين أن يأمروهم بالحج حَسْبَ الإِمكان؛ لأن إحجاج الناسِ إلى الكعبة وعرفَة فرضٌ واجبٌ. و «مَنْ» على الأوجهِ الخمسة موصولةٌ بمعنى الذي. السادس: أنها شرطيةٌ والجزاءُ محذوفٌ يدل عليه ما تقدَّم أو هو نفسُ المتقدمِ على رَأْي، ولا بُدَّ من ضميرٍ يعود مِنْ جملةِ الشرطِ على الناسِ

تقديرُه: مَنِ استطاعَ منهم إليه سبيلاً فلله عليه أن يَحُجَّ، ويترجَّحُ هذا بمقابلتِه بالشرطِ بعدَه وهو قولُه: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} . وقوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} جملةٌ من مبتدأ وخبر وهو قوله «لله» ، و «على الناس» متعلقٌ بما تَعَلَّق [به] الخبر/ أو متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجار، والعامل فيه أيضاً ذلك الاستقرار المحذوف، ويجوز أن يكونَ «على الناس» هو الخبرَ، و «لله» متعلقٌ بما تعلَّق به الخبرُ، ويمتنع فيه أن يكونَ حالاً من الضمير في «على الناس» وإن كان العكسُ جائزاً كما تقدم، والفرقُ أنه يلزم هنا تقديمُ الحالِ على العاملِ المعنوي، والحالُ لا تتقدَّم على العامل المعنوي بخلافِ الظرف وحرفِ الجر فإنهما يتقدَّمان على عامِلهما المعنوي للاتساع فيهما، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك يُجَوِّزُ تقديمها على العامل المعنوي إذا كانت هي ظرفاً أو حرف جر والعاملُ كذلك، ومسألتنا في الآيةِ الكريمةِ من هذا القبيل. وقرأ الأخوان وحفص عن عاصم: «حِج» بكسر الحاء، والباقون بفتحها، فقيل: لغتان بمعنى، والكسرُ لغة نجد والفتح لغة أهل العالية، وفَرَّق سيبويه فَجَعَلَ المكسور مصدراً أو اسماً للعمل، وأما المفتوحُ فمصدرٌ فقط. وقد تقدَّم في البقرة أنه قرىء في الشاذ بكسر الحاء، وتكلَّمْتُ هناك على هاتين اللفظتين وما ذَكَرَ الناسُ فيهما واشتقاقِ المادة فأغنى عن إعادتِهِ ولله الحمد والمِنَّةُ. وقد جِيء في هذه الآية بمبالغاتٍ كثيرة منها قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس

حِجُّ البيت} يعني أنه حَقٌّ واجبٌ عليهم لله في زمانهم لا ينفكُّون عن أدائِهِ والخروجِ عن عُهْدَتِهِ. ومنها أنه ذَكَرَ «الناس» ثم أَبْدل منهم {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} وفيه ضربان من التأكيدِ، أحدُهما: أنَّ الإِبدالَ تثنيةُ المرادِ وتكريرٌ له، والثاني: أن التفصيلَ بعد الإِجمال والإِيضاحَ بعد الإِبهام إيرادٌ في صورتين مختلفتين، قاله الزمخشري على عادةِ فصاحتِهِ وتخليصِهِ المعنى بأقرب لفظ. والألفُ واللام في «البيت» للعهدِ لتقدُّم ذِكْرِه، وهو عَلَمٌ بالغلَبَة كالثريا والصَّعِق، فإذا قيل «زار البيت» لم يتبادرِ الذهنُ إلا إلى الكعبة شَرَّفها الله تعالى، وقال الشاعر: 1361 - لَعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أهلَه ... وأَقْعُدُ في أَفْنَائِهِ بالأَصائلِ أنشد الشيخُ هذا البيتَ في هذا المَعْرِضِ وفيه نظرٌ، إذ ليس في الظاهرِ الكعبةُ. والضمير في «إليه» الظاهرُ عَوْدُهُ على الحج لأنه مُحَدَّثٌ عنه، والثاني: عَوْدُه على البيت «وإليه» متعلِّقٌ باستطاع، و «سبيلا» مفعولٌ به لأنَّ «استطاع» متعدٍّ، قال: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} [الأعراف: 197] إلى غيره من الآيات. قوله: {وَمَن كَفَرَ} يجوزُ أَنْ تكونَ الشرطيةَ وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ الموصولةَ، ودَخَلَتِ الفاءُ شَبهاً للموصولِ باسمِ الشرطِ وقد تقدَّم تقريرهُ غيرَ مرةٍ، ولا يَخْفَى حالُ الجملتين بعدَها بالاعتبارين المذكورين. ولا بُدَّ من رابطٍ بين

الشرطِ وجزائِهِ أو المبتدأ وخبرِهِ، ومَنْ جَوَّز إقامةَ الظاهِرِ مُقامَ المُضْمَرِ أكتفى بذلك في قوله: {فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} كأنه قال: غني عنهم.

99

قوله تعالى: {لِمَ تَصُدُّونَ} : «لِمَ» متعلقٌ بالفعلِ بعده، و «مَنْ آمن» مفعولٌ، وقولُه «يَبْغُونها» يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً أَخْبَرَ عنهم بذلك، وأَنْ تَكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال، وهو أظهرُ من الأول لأنَّ الجملةَ الاستفهاميةَ جِيء بعدها بجملةٍ حاليةٍ أيضاً وهي قوله: {وأنتم تَشْهَدون} فتتفقُ الجملتان في انتصابِ الحال عن كل منهما، ثم إذا قلنا بأنها حالٌ ففي صاحبِها احتمالان، أحدُهما: أنه فاعل «تَصُدُّون» ، والثاني: أنه «سبيل الله» وإنما جاز الوجهان لأن الجملةَ اشتملَتْ على ضميرِ كلٍّ منهما. والعامة على «تَصُدُّون» بفتح التاء من صَدَّ يَصُدُّ ثلاثياً، ويستعمل لازماً ومتعدياً. وقرأ الحسن: «تُصِدُّون» بضمِّ التاء من أَصَدَّ مثل أَعَدَّ، ووجهُه أَنَّ يكونَ عَدَّى «صَدَّ» اللازم بالهمزة، قال ذو الرمة: 1362 - أُناسٌ أَصَدُّوا الناسَ بالسيفِ عنهمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و «عِوَجا» فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به، وذلك أن يُراد تبغون: تَطْلُبون، قال الزجاج والطبري: «تطلبون لها اعوجاجاً، تقول العربُ:»

ابغِني كذا «بوصلِ. الألف أي: اطلبه لي و» أَبْغني كذا «بقطع الألف أي: أَعِنِّي على طلبه، قال الأنباري:» البَغْيُ يُقْتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك: بَغَيْتُ المال والأجر والثواب، وههنا أريد: يبغون لها عوجاً، فلمَّا سَقَطَتِ اللامُ عَمِلَ الفعلُ فيما بعدَها كما قالوا: «وَهَبْتُك درهماً» يريدون: وَهَبْتُ لك، ومثلُه: «صُدْتُكَ ظَبْياً» أي: صُدْتُ لك، قال الشاعر: 1363 - فَتَولَّى غلامُهمْ ثم نادى ... أَظَلِيماً أَصِيدُكم أَمْ حِمارا يريد: أَصِيدُ لكم ظَلِيماً ومثلُه: «جَنَيْتُكَ كَمْأَةً وجَنَيْتُك رُطَباً» والأصلُ: جَنَيْتُ لك، فَحَذَفَ ونَصَبَ «. والثاني: أنه حالٌ من فاعل» يَبْغُونَها «وذلك أَنْ يُرادَ ب» تَبْغُون «معنى تتعَدَّوْن، والبَغْيُ التعدِّي، والمعنى: تَبْغُون عليها أو فيها. قال الزجاج:» كأنه قال: تَبْغُونها ضالِّين «. والعِوَج بالكسر والعَوَج بالفتح المَيْلُ، ولكنَّ العرب فَرَّقوا بينهما، فَخَصُّوا المكسورَ بالمعاني والمفتوحَ بالأعيانِ، تقول: في دينه وكلامِه عِوَجٌ بالكسر، وفي الجِدارِ عِوَجٌ بالفتح. قال أبو عبيدة:» العِوَج بالكسر المَيْلُ في الدين والكلام والعمل، وبالفتح في الحائط والجذع «وقال أبو إسحاق:» بالكسر فيما لا ترى له شخصاً، وبالفتح فيما له شخصٌ وقال صاحب «المجمل» :

«بالفتح في كلِّ منتصبٍ كالحائط، والعِوج يعني بالكسر ما كان في بساطٍ أو دين أو أرض أو معاش» فقد جعل الفرقَ بينهما بغير ما تقدم. وقال الراغب: «العِوَجُ: العَطْفُ عن حالِ الانتصاب، يقال: عُجْتُ البعيرَ بزِمامه، وفلان ما يَعُوجُ عن شيءٍ يَهُمُّ به أي يَرْجَع، والعَوَج يعني بالفتح / يقال فيما يُدْرك بالبصر كالخشب المنتصِب ونحوه، والعِوَج يقال فيما يدرك بفكرٍ وبصيرة، كما يكون في أرض بسيطة عِوَج فيُعرف تفاوتُه بالبصيرة وكالدين والمعاش» قلت: وهذا قريبٌ من قول ابنِ فارس لأنه كثيراً ما يَأْخذ منه. وقد سأل الزمخشري في سورة طه عند قوله {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 107] حاصلُه يرجع إلى أنه كيف قيل: عِوَج بالكسر في الأعيان، وإنما يقال في المعاني؟ وأجاب هناك بجواب حسن سيأتي بيانه إن شاء الله، والسؤال إنما يجيء على قول أبي عبيدة والزجاج المتقدم، وأمَّا على قول ابن فارس والراغب فلا يَرِدُ. ومِنْ مجيءِ العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملةُ قولُه: 1364 - تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوجوا ... كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ وقولُ امرىء القيس: 1365 - عُوجا على الطَّلَلِ المُحيل لأننا ... نبكي الديارَ كما بكى ابنُ حِذَامِ

أي: ولم تميلوا، ومِيلا. وأَمَّا قولهم: «ما يَعيج زيدٌ بالدواء» أي: ما ينتفِعُ به فمِنْ مادةٍ أخرى ومعنى آخر. والعاجُ: هذا العظمُ ألفُه مجهولةٌ، لا نعلم: أمنقلبةٌ عن واو أو ياء، وفي الحديث: أنه قال لثوبان «اشترِ لفاطمةَ سِواراً من عاج» قال القتيبي: «العاجُ: الذَّبْلُ» ، وقال أبو خراش الهذلي في امرأة: 1366 - فجاءَتْ كخاصِي العَيْر لم تَحْلَ جاجةً ... ولا عاجةً منها تلوحُ على وَشْمِ قال الأصمعيّ: «العاجةُ: الذَّبْلَةُ، والجاجة: تخمينُ خرزةٍ ما يساوي فلساً، وقوله كخاصي العَيْر: هذا مَثَلٌ تقوله العرب لِمَنْ جاء مُسْتَحْيِياً من أمرٍ فيقال:» «جاء كخاصِي العَيْر» والعَيْر: الحِمار، يعنون جاء مستحيياً. ويقال: عاجَ بالمكانِ وعَوَج به أي: أقام وقطن وفي حديث اسماعيل عليه السلام: «ها أنتم عَائجون» أي مقيمون، وأنشدوا لجرير: 1367 - هَلَ انتم عائِجُونَ بِنَا لَغَنَّا ... نَرَى العَرَصاتِ أو أثرِ الخيامِ كذا أنشدَ هذا البيتَ الهرويُّ مستشهداً به على الإِقامةِ، وليس بظاهر، بل المرادُ بعائجون في البيت مائِلُون وملتفتون، وفي الحديث: «ثم عاجَ رأسَه إليها» أي التفت إليها.

و «ها» في «يَبْغُونها» عائدةٌ على سبيل، والسبيل يُذكَّر ويؤنَّث كما تقدَّم، ومن التأنيث هذه الآيةُ، وقوله تعالى: {هذه سبيلي} [يوسف: 108] وقول الآخر: 1368 - فلا تَبْعَدْ فكلُّ فتى أُناسٍ ... سيصبحُ سالكاً تلك السَّبيلا قوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ} حال: إمَّا من فاعلٍ «تَصُدُّون» وإمَّا من فاعل «تَبْغُون» ، وإمَّا مستأنفٌ، وليس بظاهرٍ، وتقدَّم أنَّ «شهداء» جمعُ شهيد أو شاهد.

100

قوله تعالى: {يَرُدُّوكُم} : «رَدَّ» يجوزُ أَنْ يُضَمَّنَ معنى «صَيَّر» فينصِبَ مفعولين، ومنه قولُ الشاعر: 1369 - رَمَى الحَِدْثانُ نسوةَ آلِ حرب ... بمِقْدَارٍ سَمَدْن له سُمودا فَرَدَّ شعورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... ورَدَّ وجوهَهن البِيضَ سُودا ويجوز ألاَّ يتضمَّن، فيكونُ المنصوبُ الثاني حالاً. وقوله: {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يجوز أن يكونَ منصوباً بيردُّوكم، وأَنْ يتعلَّق بكافرين، ويَصيرُ المعنى كالمعنى في قوله: {كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 90] .

101

قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله} : جملةٌ حالية من فاعل «تكفرون» ، وكذلك {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} أي: كيف يُوجَدُ منكم الكفرُ مع وجودِ هاتين الحالين؟

والاعتصام: الامتناعُ، يُقال: اعتصم واستعصم بمعنى واحد، واعتصم زيدٌ عمراً أي: هَيَّأَ له ما يَعْتَصِمُ به، وقيل: الاعتصام: الإِمساك، واستعصم بكذا: أي استمسك به، والعِصَّامُ: ما يُشَدُّ به القِرْبة، وبه يُسَمَّى الأشخاص، والعِصْمَةُ مستعملةٌ بالمعنيين لأنها مانعةٌ من الخطيئةِ وصاحبُها مستمسِك بالحقِّ، والعِصْمَةُ أيضاً: شِبْهُ السوار، والمِعْصَمُ: مَوْضِعُ العِصْمة، ويُسَمَّى البياضُ الذي في الرسغ «عُصْمة» تشبيهاً بها، وكأنهم جَعَلوا ضمةَ العينِ فارقةً، والأَعْصَمُ من الوُعولِ: ما في معاصِمِها بياضٌ وهي أشدُّها عَدْواً، قال: 1370 - لو أَنَّ عُصْمَ عَمايتين ويَذْبُلٍ ... سمعا حديثك. . . . . . . . . . . . . . . . . وفي الحديث في النساء: «لا يَدْخُلُ الجنةَ منهن إلا كالغراب الأَعْصم» وهو الأَبيضُ الرِّجلْلين. وقيل: الأبيضُ الجناحين، والمرادُ بذلك التقليلُ. وقوله: {فَقَدْ هُدِيَ} جوابُ الشرطِ، وجِيء في الجواب ب «قد» دلالةً على التوقُّعِ لأنَّ المعتصِمَ متوقعُ الهداية.

102

قوله تعالى: {حَقَّ تُقَاتِهِ} : فيه وجهان: / أَنَّ «تقاة» مصدرٌ، وهو من بابِ إضافة الصفةِ إلى موصوفها؛ إذ الأصلُ: اتقوا الله التقاةَ الحقَّ أي: الثابت كقولِك: «ضربْتُ زيداً أشدَّ الضَّرْبِ تريد: الضربَ الشديد، وقد تقدَّم تحقيقُ كون» تقاة «مصدراً في أولِ السورة، وزادَ ابن عطية هنا أن» تُقاة «يجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً، وهو في ذلك المخالِفِ

للإِجماع فقال:» ويَصِحُّ أن يكونَ «التقاة» في هذه الآيةِ جمعَ فاعل، وإنْ كان لم يتصَّرفْ منه فيكونُ كرماة ورامٍ، أو يكونُ جمعَ تَقِيّ، إذ فَعِيل وفاعل بمنزلة، ويكونُ المعنى على هذا: اتقوا اللهَ كما يَحِقُّ أن يكونَ مُتَّقُوه المختصُّون به، ولذلك أُضيفوا إلى ضمير الله تعالى «. قال الشيخ:» وهذا المعنى يَنْبُو عنه هذا اللفظ، إذ الظاهرُ مِنْ قولِهِ {حَقَّ تُقَاتِهِ} من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، كما تقول: «ضربْتُ زيداً شديدَ الضرب» أي الضربَ الشديدَ، وكذلك هذا أي: اتقوا اللهَ الاتقاءَ الحقَّ أي: الواجبَ الثابتَ، أمَّا إذا جَعَلْتَ التقاةَ جمعاً فإن المعنى يصيرُ مثل: اضرِبْ زيداً حقَّ ضِرابِهِ، فلا يَدُلُّ هذا التركيبُ على معنى: اضربْ زيداً كما يحِقُّ أن يكونَ ضِرابُه، بل لو صَرَّح بهذا التركيب لاحتيجَ في فهم معناه إلى تقديرِ أشياءَ يَصِحُّ بتقديرِها المعنى، والتقديرُ: اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يَحِقُّ أن يكونَ ضربُ ضِرابِه، ولا حاجةَ تَدْعو إلى تحميلِ اللفظِ غيرَ ظاهرِهِ وتكلُّفِ تقاديرَ يَصِحُّ بها معنىً لا يَدُلُّ عليها اللفظُ «. قوله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} هو نَهْيٌ في الصورة عن مَوْتهم إلاَّ على هذه الحالة، والمرادُ دوامُهم على الإِسلام، وذلك أن الموتَ لا بُدَّ منه، فكأنه قيل: دُوموا على الإِسلام إلى الموت، وقريبٌ منه ما حكى سيوبيه:» لا أُرَيَنَّك ههنا «أي لا تكنْ بالحضرةِ فتقَعَ عليك رؤيتي. والجملةُ مِنْ قولِهِ: {وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} في محل نصب على الحال والاستثناءُ مفرغٌ من الأحوالِ العامة أي: لا تموتُنَّ على حالةٍ من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنة، وجاء بها جملةً اسميةً لانها أبلغُ وآكد، إذ فيها ضميرٌ متكررٌ، ولو قيل:» إلاَّ مسلمين «لم يُفِدْ هذا التأكيدَ، وتقدَّم إيضاحُ هذا التركيب في البقرة عند قولِه

تعالى: {إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] .

103

قوله تعالى: {بِحَبْلٍ} : الحَبْلُ في الأصل هو السبَبُ، وكلُّ ما وصلك إلى شيء فهو حَبْل، وأَصلُه في الأجرام واستعمالُه في المعاني من باب المجاز، ويجوزُ أن يكونَ حينئذٍ من باب الاستعارة، ويجوز أن يكونَ من بابِ التمثيل، ومن كلامِ الأنصار رضي الله عنهم: «يا رسول الله إنَّ بيننا وبين القوم حبالاً ونحن قاطعوها» يَعْنُون العهود والحِلْف. قال الأعشى: 1371 - وإذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلةً ... أَخَذَتْ من الأخرى إليكَ حِبالَها يعني العهودَ، قيل: والسببُ فيه أنَّ الرجلَ كان إذا سافرَ خافَ فيأخذُ من القبيلةِ عهداً إلى أخرى، ويُعْطَى سهماً أو حبلاً يكونُ معه كالعلامةِ، فَسُمِّي العهدُ حبلاً لذلك، وهذا معنىً غيرُ طائلٍ، بل سُمِّي العهدُ حبلاً للتوصُّلِ به إلى الغرض. وقال آخر: 1372 - ما زِلْتُ معتصِماً بحبلٍ منكُم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والمرادُ بالحبل هنا القرآنُ، وفي الحديثِ الطويل: «هو حَبْلُ الله المتين» .

وقوله: «جميعاً» حالٌ من فاعل «اعتصموا» ، و «بحبل الله» متعلِّقٌ به. قوله: «ولا تَفَرَّقوا» قرأه البزي بتشديد التاء وصلاً، وقد تقدَّم توجيهُه في البقرة عند قولِه: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ} [البقرة: 267] ، والباقوُن بتخفيفها على الحَذْفِ. وقوله: {نِعْمَةَ الله} مصدرٌ مضاف لفاعله إذ هو المُنْعِم، و «عليكم» يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً بنفس «نعمة» لأنَّ هذه المادَة تتعدَّى ب «على» [نحو:] {للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] ويجوز أَن يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حال من «نعمة» فيتعلَّقُ بمحذوفٍِ أي: مستقرة وكائنة عليكم. قوله: {إِذْ كُنْتُمْ} «إذ» منصوبةٌ بنعمة ظرفاً لها، ويجوزُ أَنْ يكون متعلقاً بالاستقرارِ الذي تضمَّنه «عليكم» إذا قلنا: إنَّ «عليكم» حالٌ من النعمة، وأمَّا إذا عَلَّقْنا «عليكم» بنعمة تَعَيَّن الوجُه الأول. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ منصوباً باذكروا، يعني مفعولاً به لا أنه ظرفٌ له لفسادِ المعنى، إذ «اذكروا» مستقبلٌ، و «إذ» ماضٍ. قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ} أصبحَ من أخواتِ «كان» فإذا كانَتْ ناقصة كانت مثلَ «كان» في رفعِ الاسمِ ونَصْبِ الخبر، وإذا كانَتْ تامةً رفَعَتْ فاعلاً واستغنَتْ به، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح تقول: «أصبحَ زيد» أي دخل في الصباح، ومثلُها في ذلك «أمسى» ، قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وقوله: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137] وفي أمثالهم: «إذا سَمِعْتُ بسُرى القَيْن فاعلَمْ

أنَّه مُصبح» لأنَّ القَيْنَ وهو الحَدَّاد ربما قَلّت صناعته في أحياءِ العرب فيقول: أنا غداً مسافرٌ ليأتوه الناس بحوائجهم فيقيمُ ويتركُ السفر، فأخرجُوه مَثَلا لمن يقول/ قولاً ويخالفه، فالمعنى أنه مقيم في الصباح، وتكون بمعنى «صار» عملاً ومعنى كقوله: 1373 - فَأَصْبحوا كأنَّهم ورقٌ جَفْ ... فَ فَأَلْوَتْ به الصَّبا والدَّبُورُ أي: صاروا. «إخواناً» خبرُها، وجَوَّزوا فيها هنا أن تكون على بابِها من دلالتِها على اتِّصاف الموصوفِ بالصفة في وقت الصباح، وأن تكون بمعنى صار، وأن تكون التامة، أي: دخلتم في الصباح، فإذا كانت ناقصةً على بابها فالأظهرُ أن يكونَ «إخواناً» خبرَها. و «بنعمته» متعلِّقٌ ب «إخْواناً» ، لِما فيه مِنْ معنى الفعلِ أي: تآخيتم بنعمتِه، والباءُ للسببيةِ. وجَوَّز الشيخُ أَنْ يتعلَّق بأصبحتم، وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف، وجوَّز غيرُه أَنْ يَتَعلَّق بمحذوف على أنه حال من فاعل «أصبحتم» أي: فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته، أو حال من «إخواناً» لأنه في الأصل صفةٌ له. وجَوَّزوا أَنْ يكونَ «بنعمته» هو الخبرَ، و «إخواناً» حالٌ، والباءُ بمعنى الظرفية، وإذا كانت بمعنى «صار» جَرَى فيها ما تقدَّم من جميع هذه الأوجه، وإذا كانت تامةً فإخواناً حالٌ، و «بنعمتِه» فيه ما تقدَّم من الأوجهُ خلا الخبريةِ.

قال ابن عطية: «فأصبحتم» عبارةٌ عن الاستمرار، وإن كانت اللفظة مخصوصةً بوقت، وإنما خُصَّتْ هذه اللفظةُ بهذا المعنى من حيث هي مبدأُ النهار، وفيها مبدأُ الأعمالِ، فالحالُ التي يُحِسُّها المرءُ مِنْ نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومُه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع: 1374 - أَصْبَحْتُ لا أَحْمِلُ السِّلاح ولا ... أَمْلِكُ رأسَ البعيرِ إنْ نفرا قال الشيخ: «وهذا الذي ذكره مِنْ أَنَّ» أصبح «للاستمرار، وعَلَّله بما ذكره لم أَرَ أحداً من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تستعمل بالوجهين اللذيْنِ ذكرناهما» قلت: وهذا الذي ذكره ابنُ عطية معنىً حسنٌ، وإذا لم ينصَّ عليه النحويون لا يُدْفَعُ، لأَنَّ النحاةَ غالِباً إنما يتحدثون بِما يتعلَّقُ بالألفاظ، وأمَّا المعاني المفهومةُ من فحوى الكلامِ فلا حاجةَ لهم بالكلامِ عليها غالباً. والإِخْوان: جمع أَخٍ، وإخوة اسمُ جمعٍ عند سيبويه وعند غيرِه هي جمع. وقال بعضُهم: «إنَّ الأَخَ في النسَب يُجْمع على» إخوة «، وفي الدِّين على» إخْوان «، هذا أَغلبُ استعمالِهم، قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، ونفسُ هذه الآية تؤيد ما قاله لأن المراد هنا ليس إخوة النسب إنما المرادُ إخوةُ الدين والصداقة، قال أبو حاتم:» ثم قال أهلُ البصرة: الإِخوةُ في النسبِ والإِخْوان في الصداقة «قال:» وهذا غَلَط، يقال للأصدقاء والأنسباء

إخوة وإخوان، قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} لم يَعْنِ النسبَ، وقال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [النور: 61] وهذا في النسبِ «قلتُ: رَدُّ أبي حاتم يتَّجِهُ على هذا النقلِ المطلقِ، ولا يَرِدُ على النقلِ الأول لأنهم قَيَّدوه بالأغلبِ في الاستعمالِ. قوله: {على شَفَا} شفا الشيء: طرفُه وحَرْفُه، وهو مقصورٌ من ذواتِ الواو، يُثَنَّى بالواو نحو: شَفَوَيْن، ويُكتب بالألف، ويُجْمع على أَشْفاء، ويُستعمل مضافاً إلى أعلى الشيء وإلى أسفله، فمِن الأول: {شَفَا جُرُفٍ} [التوبة: 109] ومن الثاني هذه الآية، وأشفى على كذا أي: قَارَبه، ومنه أَشْفى المريضُ على الموت، قال يعقوب: «يُقال للرجلِ عند موتهِ، وللقمر عند محاقِه، وللشمسِ عن غروبها:» ما بَقي منه أو منها إلا شفا «أي: إلا قليلٌ» . وقال بعضهم: يُقال لِما بين الليلِ والنهارِ عند غروبِ الشمسِ إذا غاب بعضُها: شفا، وأنشد: 1375 - أَدْرَكْتُه بلا شَفا أو بشَفا ... والشمسُ قد كادَتْ تكونُ دَنِفا وقال الراغب: «والشفاءُ من المرضِ موافاةُ شَفا السلامة، وصار اسماً للبُرء، والشَّفا مذكَّرٌ» . وأمَّا عَوْدُ الضميرِ في «منها» ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنه عائدٌ على «حفرة» .

والثاني: أنه عائدٌ على «النار» قال الطبري: «إنَّ بعضَ الناسِ يُعيده على الشَّفا، وأنَّثَ مِنْ حيثُ كان الشَّفا مضافاً إلى مؤنث، كما قال جرير: 1376 - أرى مَرَّ السنين أَخَذْنَ مني ... كما أخَذَ السِّرارُ مِن الهلال قال ابن عطية:» وليس الأمر كما ذكروا، لأنه لا يُحتاج في الآية إلى مثل هذه الصناعة، إلا لو لم نجد للضمير معاداً إلا الشفا، أَما ومَعَنا لفظٌ مؤنثٌ يعودُ الضميرُ عليه/ ويَعْضُده المعنى المُتَكَلَّمُ فيه فلا يُحتاج إلى تلك الصناعةِ «قال الشيخ:» وأقول: لا يَحْسُنُ عَوْدُه إلاَّ على الشَّفا؛ لأنَّ كينونتَهم على الشَّفا هو أحدُ جُزْأَي الإِسناد، فالضميرُ لا يعودُ إلا عليه، وأمَّا ذِكْرُ الحفرةِ فإنما جاءَتْ على سبيل الإِضافةِ إليها، ألا ترى أنَّك إذا قلت: «كان زيدٌ غلامَ جعفر» لم يكن جعفر مُحَدَّثاً عنه، وليس أحدَ جُزْأَي الإِسناد، وكذا لو قلت: «زيد ضربَ غلامَ هندٍ» لم تُحَدِّث عن هندٍ بشيءٍ، وإنَّما ذكرْتَ جعفراً وهنداً مخصصاً للمُحَدَّث عنه، وأمَّا ذِكْرُ النارِ فإنما ذُكِر لتخصيصِ الحفرة، وليست أيضاً أحدَ جُزْأَي الإِسناد، وليست أيضاً مُحَدَّثاً عنها، فالإِنقاذ من الشفا أبلغُ من الإِنقاذِ من الحفرة ومِن النارِ، لأنَّ الإِنقاذَ من الشفا [يستلزم الإِنقاذَ من الحفرة ومن النار، والإِنقاذَ منهما لا يستلزِمُ الإِنقاذَ من الشفا] فعودُه على الشَّفا هو الظاهرُ من حيث اللفظُ ومن حيث المعنى «.

وقال الزجاج:» وقولُه: «منها» الكنايةُ راجعةٌ إلى النار إلى الشفا؛ لأنَّ القصدَ الإِنجاءُ من النار لا مِنْ شَفا الحفرة «. وقال غيرُه:» يعودُ على الحفرة، فإذا أنقذهم اللهُ من الحفرةِ فقد أَنْقذهم من شَفاها لأنَّ شَفاها منها «. قال الواحدي: «على أنه يجوزُ أَنْ يَذْكُرَ المضافُ والمضافُ إليه ثم تعودَ الكنايةُ إلى المضافِ إليه دونَ المضاف، كقول جرير:» أرى مرَّ السنين أخَذْنَ «البيت. فَذَكَر مَرَّ السنين، ثم أخبر عن السنين، وكذلك قول العَجَّاج: 1377 - طولُ الليالي أَسْرَعَتْ في نَقْضِِي ... طَوَيْنَ طولي وَطَوَيْنَ عَرْضي قال:» وهذا إذا كان المضافُ من جنسِ المضافِ إليه، فإنَّ مَرَّ السنين هو السنون، وكذلك شَفا الحفرة من الحُفْرَة، فَذَكَر الشَّفا وعادَتِ الكنايةُ إلى الحفرةِ «قلت: وهذان القولان نصٌّ في ردِّ ما قاله الشيخ، إلاَّ أنَّ المعنى الذي ذَكَره أَوْلَى، لأنه إذا أنقذَهم من طَرَفِ الحفرة فهو أبلغُ مِنْ إنقاذِهم من الحفرةِ، وما ذكره من الصناعةِ أيضاً واضحٌ. والإِنقاذُ: التخليصُ والتنحية، قال الأزهري:» يقال أَنْقَذْتُه ونَقَذْتُه واستنقَذْتُه وتَنَقَّذْتُه بمعنىً، ويقال: «فرسٌ نقيذٌ» إذا كان مأخوذاً من قومٍ آخرين لأنه استُنْقِذَ منهم، والحُفْرة: فُعْلَة بمعنى مَفْعُولة كغُرْفَة بمعنى مَغْروفة. وقوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله} نعتٌ لمصدرٍ محذوف أو حالٌ من ضميره أي:

يبيِّن لكم تبييناً مثلَ تبيينه لكم الآياتِ الواضحةَ. وقوله: {مِّنَ النار} صفة لحفرة فيتعلَّقُ بمحذوفٍ.

104

قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ} : يجوزُ أَنْ تكونَ التامةَ أي: وَلْتُوجد منكم أمةٌ، فتكون «أمة» فاعلاً، و «يَدْعُون» جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لأمة، و «منكم» متعلِّقٌ بتكن على أنها تبعيضيةٌ، ويجوز أن يكونَ «منكم» متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «أمة» إذ كان يجوز جَعْلُه صفةً لها لو تأخّر عنها، ويجوز أن تكون «مِنْ» للبيان لأن المُبَيَّن وإنْ تأخَّر لفظاً فهو مُقَدَّمٌ رتبةً، ويجوزُ أَنْ تكونَ الناقصةَ فأمه اسمها و «يَدْعُون» خبرها، و «منكم» متعلِّقٌ: إمَّا بالكون، وإمَّا بمحذوف على الحال من «أمة» . ويجوزُ أن يكونَ «منكم» هو الخبرَ و «يَدْعُون» صفةً لأمة، وفيه بُعدٌ. وقرأ العامة: «ولتكن» . وقرأ الحسن والزهري والسُّلمي بكسرها، وهو الأصل. وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} من باب ذكر الخاص بعد العلم اعتناءً به كقوله: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] لأن اسم الخير يقعُ عليهما بل هما أعظمُ الخيور. وقوله: {جَآءَهُمُ البينات} لم يؤنِّثِ الفعلَ للفصلِ ولكونِه غيرَ حقيقي بمعنى الدلائل.

106

قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ} في العاملِ في هذا الظرفِ وجوهٌ، أحدها: أنه الاستقرار الذي تضمَّنه «لهم» والتقديرُ: وأولئك استقر لهم عذابٌ يومَ تبيضُّ. وقيل: العامل فيه مضمر يَدُلُّ عليه الجملة السابقة تقديرُه: يُعََّذبون يومَ تبيضُّ وجوهٌ. وقيل: العاملُ فيه «عظيم» وضَعُف هذه بأنه يلزمُ تقييدُ عِظَمِه بهذا اليوم. وهذا التضعيفُ ضعيفٌ؛ لأنه إذا عَظُم في هذه اليومِ

ففي غيره أَوْلى، وأيضاً فإنه مسكوتٌ عنه فيما عدا هذا اليوم. وقيل: العاملُ «عذاب» . وهذا ممتنعٌ؛ لأن المصدر الموصوفَ لاَ يَعْمَلُ [بعدَ] وَصْفِه. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو نُهَيْك وأبو رزين العقيلي: «تِبْيَضُّ وتِسْوَدُّ» بكسر التاء وهي لغةُ تميم، وقرأ الحسن والزهري وابن محيصنِ وأبو الجوزاء: «تَبياضُّ وتَسوادُّ» بألف فيهما، وهي أبلغ فإنَّ «ابياضَّ» أدلُّ على اتصافِ الشيء بالبياضِ من ابيضَّ، ويجوز كسرُ حرفِ المضارعة أيضاً مع/ الألفِ، إلا أنِّي لا أَنْقُلُه قراءةً لأحد. قوله: {أَكْفَرْتُمْ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر، وذلك القولُ المضمرُ مع فاءٍ مضمرةٍ أيضاً هو جوابُ أمّا، وحَذْفُ الفاءِ مع القول مُطَّردٌ، وذلك أنَّ القولَ يُضمر كثيراً كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23-24] {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ} [الزمر: 3] {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} [البقرة: 127] وأمَّا حذْفُها دونَ إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورةٍ كقوله: 1378 - فأمَّا القتالُ لا قِتالَ لديكُمُ ... ولكنَّ سيراً في عِراضِ المواكبِ أي: فلا قتالَ.

وقال صاحب «أسرار التنزيل» : «بل قد اعتُرِض على النحاة في قولهم:» لَمَّا حُذِف «يُقال» حُذِفت الفاءُ «بقولِه تعالى: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} [الجاثية: 31] فَحَذَف» يُقال «ولم يَحْذِفِ الفاء، فلمَّا بَطَل هذا تعيَّن أن يكونَ الجوابُ في قوله: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فوقعَ ذلك جواباً له، ولقولِهِ: {أَكَفَرْتُم} ، ومِنْ نَظْمِ العربِ إذا ذَكَروا حرفاً يقتضي جواباً له أَنْ يَكْتَفُوا عن جوابهِ حتى يَذْكُروا حرفاً آخَر يقتضي جَواباً، ثم يَجْعَلُون له جواباً واحداً كما في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] ، فقوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جوابٌ للشرطين معاً، وليس» أفلم «جوابَ» أمَّا «بل الفاءُ عاطفةٌ على مقدَّرٍ، والتقدير: أأهملتكم فلم أتلُ عليكم آياتي» . قال الشيخ: «وهو كلامُ أديبٍ لا كلامُ نحوي، أمَّا قولُه:» قد اعتُرِض على النحاة «فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراضِ أنه اعتراضٌ على جميع النحاة، لأنه ما من نحوي إلاَّ ويَخْرِّج الآيةَ على إضمارِ فيقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فحوى الخطاب: وهو أن يكون في الكلام شيءٌ مقدرٌ لا يَسْتَغني المعنى عنه، فالقولُ بخلافِه مُخالِفٌ للإِجماع فلا التفاتَ إليه. فأمَّا ما اعترض به من قوله: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} وأنه قَدَّروه: فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فَحَذَف «فيقال» ولم يَحْذِف الفاءَ فَدَلَّ على بُطْلان هذه التقدير «فليس بصحيحٍ، بل هذه الفاءُ التي بعد الهمزة في» أفلم «ليست فاءَ» فيقال «التي هي جوابُ» أمَّا «حتى يُقَالَ حَذَف» يقال «وبقيت الفاءُ، بل الفاءُ التي هي

جواب» أمّا «و» يقال «بعدها محذوفٌ، وفاء» أفلم «تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون زائدة، وقد أنشد النحويون على زيادةِ الفاء قولَ الشاعر: 1379 - يموتُ أُناسُ أو يَشيبُ فتاهُمُ ... ويَحْدُثُ ناسٌ والصغيرُ فكيبُرُ أي: والصغيرُ يَكْبُرُ، وقولَ الآخر: 1380 - لَمَّا اتَّقى بيدٍ عظيمٍ جِرْمُها ... فَتركْتُ ضاحِي كَفِّه يَتَذَبْذَبُ أي: تركت، وقال زهير: 1381 - أراني إذا ما بِتُّ بِتُّ على هوى ... فَثُمَّ إذا أَمْسَيْتُ أَمْسَيْتُ غادِيا يريد: ثم إذا، وقال الأخفش:» وزعموا أنهم يقولون: «أخوك فوجَد» يريدون: أخوك وجَدَ «. والوجه الثاني: أن تكونَ الفاءُ تفسيريةً. والتقدير:» فيقالُ لهم ما يَسُوْءُهم فألم تكن آياتي «ثم اعتُنِي بحرف الاستفهام فقُدِّم على الفاءِ التفسيرية، فَقُدِّم كما تَقَدَّم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} [يوسف: 109] وهذا على رأي مَنْ يُثْبِتُ أنَّ الفاءَ تفسيرية نحو:» توضَّأ

زيدٌ فَغَسَل وجهَه ويديه إلى آخر أفعالِ الوضوء «فالفاءُ هنا ليسَتْ مُرَتِّبةً وإنَّما هي مفسِّرةٌ للوضوءِ، كذلك تكونُ في {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} مفسرةً للقولِ الذي يَسُوْءُهم. وقولُ هذا الرجلِ:» فَلَمَّا بَطَلَ هذا تعيَّن أن يكون الجوابُ: فذوقوا «أي تعيَّن بطلانُ حَذْف ما قدَّره النحويون من قوله» فيقال لهم «لوجودِ هذه الفاء في» أفلم تكن «وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل وأنه سواء في الآيتين، وإذا كان كذلك فجواب» أمَّا «هو:» فيقال «في الموضعين ومعنى الكلام عليه. وأمْا تقديره:» أأهملتكم فلم تكن آياتي تُتْلَى «فهذه بدعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشري يُقَدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يَصِح عطفُ ما بعدها عليه، ولا يَعْتقد أنَّ الفاء والواو وثم إذا دَخَلَتْ عليها الهمزةُ أَصلُهُنَّ التقديمُ على الهمزة، لكن اعتُنِيَ بالاستفهامِ فَقُدِّم على حرف العطف، كما ذهب إليه سيبويه وغيرُه من النحويين. وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة/ في ذلك، وبُطْلانُ قولِه الأول مذكورٌ في النحو، وقد تقدم في هذا الكتاب حكايةُ مذهبِ الجماعة في ذلك، وعلى تقدير قول هذا الرجل» أهملتكم «فلا بد من إضمارِ القولِ وتقديرِه: فيقال أأهملتكم، لأنَّ هذا المقدَّرَ هو خبر المبتدأ، والفاءُ جوابُ أمَّا، وهو الذي يدل عليه الكلامُ ويقتضيه ضرورةً، وقولُ هذا الرجل:» فوقع ذلك جواباً له ولقولِهِ: أكفرتم «يعني أنَّ» فذوقوا العذاب «جوابٌ ل» أمَّا «ولقولِهِ» أكفرتم «والاستفهامُ هنا لا جوابَ له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإِرذال بهم. وأمَّا قولُ هذا الرجل: «ومِنْ نظم العرب إلى آخره» فليس كلامُ العرب على ما زعم بل يُجْعل لكلٍّ جوابٌ، إن لا يكن ظاهراً فمقدرٌ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً. وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} الآية وزعمُه أنَّ قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}

جوابٌ للشرطين فقولٌ رُوِيَ عن الكسائي، وزعم بعضُ الناسِ أنَّ جوابَ الشرط الأول محذوفٌ تقديرُه: فاتبعوه، والصحيح أنَّ الشرط الثاني وجوابَه جوابُ الشرط الأول، وتقدَّمت هذه الأقوالُ الثلاثة عند قوله تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} انتهى. وقوله: {أَكْفَرْتُمْ} الهمزةُ فيه للإِنكارِ عليهم والتوبيخِ لهم والتعجيب من حالهم، وفي قوله: {أَكْفَرْتُمْ} نوعٌ من الالتفاتِ وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوينِ الخطاب، وذلك أنَّ قولَه: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} في حكم الغيبة، وقولُه بعد ذلك: {أَكْفَرْتُمْ} خطابُ مواجهة.

107

قوله تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ الله} : فيه وجهان: أحدُهما: أنَّ الجار متعلِّقٌ بخالِدون. و «فيها» تأكيدٌ لفظي للحرفِ، والتقديرُ: فهم خالدون في رحمةِ الله فيها، وقد تقرَّر أنه لا يُؤَكَّد الحرفُ تأكيداً لفظياً إلا بإعادةِ ما دَخَلَ عليه أو بإعادةِ ضميرِه كهذه الآيةِ، ولا يجوز أن يعودَ وحدَه إلا في ضرورةِ كقوله: 1382 - حَتَّى [تراها] وكأنَّ وكأنْ ... أعناقَها مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ كذا ينشدون هذا البيتَ، وأصرحُ منه في البابِ: 1383 - فلا واللهِ لا يُلْفَى لِما بي ... ولا لَلِما بهمْ أبداً دواءُ

ويَحْسُن ذلك إذا اختلف لفظُهما كقولِه: 1384 - فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَنِي عن بما به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . اللهم إلا أَنْ يكونَ ذلك الحرفُ قائماً مقامَ جملةٍ فيكرَّرُ وحدَه كحروف الجواب كنعم نعم وبلى بلى ولا لا. والثاني: أنَّ قولَه: {فَفِي رَحْمَةِ} خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ، والجملة بأسرها جوابُ «أمَّا» والتقديرُ: فهم مستقرون في رحمةِ الله، وتكون الجملَةُ بعدَه مِنْ قولِه: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} جملةً مستقلةً من مبتدأ وخبرٍ دَلَّتْ على أنَّ الاستقرارَ في الرحمةِ على سبيلِ الخلود، فلا تَعَلُّقَ لها بالجملةِ قبلَها من حيثُ الإِعرابُ. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيفَ موقعُ قولِه: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بعد قولِهِ: {فَفِي رَحْمَةِ الله} ؟ قلت: موقعُ الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يَظْعَنُون عنها ولا يموتون» . وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر «اسوادَّتْ وابياضَّتْ» بألف، وقد تقدَّم أن قراءتَهما: تَبياضُّ وتَسْوَادُّ وهذا قياسُها. وأصلُ افْعَلَّ هذا أن يكون دالاً على لون أو عيب حسي كاعْوَرَّ واسْوَدَّ واحْمَرَّ، وألاَّ يكون من مضعفٍ كأُحِمَّ، ولا معتلِّ اللام كَأَلْهى، وألاَّ يكونَ للمطاوعة، ونَدَر «أنهارَّ الليل» و «اشْعارَّ الرجل» أي تفرَّق شعره، إذ لا دلالة فيهما على عيب ولا لون، ونَدَرَ أيضاً «ارعَوَّى» فإنه معتلُّ اللام مطاوعٌ ل «رَعَوْتُه» بمعنى كففته، وليس دالاًّ على عيبٍ

ولا لونٍ، وأمَّا دخولُ الألف في افْعَلَّ هذا فدالٌّ على عُروض ذلك المعنى، وعدمُها دالٌّ على ثبوتِهِ واستقرارِهِ، فإذا قلت: اسودَّ وجهه دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عروض فيه، وإذا قلت «اسوادَّ» دلَّ على حدوثِهِ، هذا هو الغالب وقد يُعْكَسُ قال تعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 64] والقصدُ به الدلالةُ على لزومِ الوصفِ بذلك للجنتين، وقولُه تعالى: {تَزْوَرَّ عَن كَهْفِهِم} [الكهف: 17] القصدُ به العروضُ لازْوِرار الشمس لا الثبوتُ والاستقرار، كذا قيل، وفيه نظرٌ محتمل، لأنَّ المقصود وصفُ الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصة. وقوله: {فَذُوقُواْ} من بابِ الاستعارة، جَعَلَ العذابَ شيئاً يُدْرَكُ بحاسة الأكل والذوق تصويراً له بصورةِ ما يُذاق. وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ} الباءُ سببيةٌ، و «ما» مصدريةٌ ولا تكونُ بمعنى الذي لاحتياجِها إلى العائد، / وتقديرُهُ غيرُ جائزٍ لعدمِ الشروطِ المجوِّزَةِ لحَذْفِهِ.

108

قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله} : مبتدأ وخبر، و «نَتْلوها» جملة حالية، وقيل: {آيَاتُ الله} بدلٌ من «تلك» و «نتلوها» جملةٌ واقعةٌ خبراً للمبتدأ، و «بالحق» حالٌ من فاعل «نَتْلوها» أو مفعولِه، وهي حالٌ مؤكدة؛ لأنه تعالى يُنَزِّلها إلا على هذه الصفةِ. وقال الزجاج: «في الكلام حذفٌ تقديرُه: تلك آياتُ القرآن حُجَجُ اللهِ ودلائلُه» . قال الشيخ: «فعلى هذا الذي قَدَّره يكون خبرُ المبتدأ محذوفاً

لأنه عنده بهذا التقدير يَتِمُّ معنى الآية، وهذا التقديرُ لا حاجةَ إليه، إذ المعنى تامٌّ بدونِهِ» . والإِشارة ب «تلك» إلى الآياتِ المتقدمةِ المتضمنةِ تعذيبَ الكفارِ وتنعيمَ الأبرار. وقرأ العامة: «نَتْلوها» بنونِ العظمة وفيه التفاتٌ من الغَيْبة إلى التكلم. وقرأ أبو نُهَيك «يتلوها» بالياءِ من تحتُ، وفيه احتمالان، أحدهما: أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ الباري تعالى لتقدُّم ذِكْرِه قي قوله: {آيَاتُ الله} ولا التفاتَ في هذا التقديرِ بخلافِ قراءةِ العامة. والثاني: أن يكونَ الفاعل ضميرَ جبريل. قوله: {لِّلْعَالَمِينَ} اللامُ زائدةٌ لا تعلَّق لها بشيءٍ، زِيدت في مفعولِ المصدرِ وهو ظلم. والفاعلُ محذوفٌ، وهو في التقدير ضميرُ الباري تعالى، والتقدير: وما اللهُ يريد أن يَظْلِمَ العالمين، فزيدت اللامُ تقويةً للعامل لكونِه فرعاً كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وقيل: معنى الكلام: وما اللهُ يريدُ ظلمَ العالمين بعضَهم لبعض. ورُدَّ هذا بأنه لو كان المرادُ هذا لكان التركيبُ ب «مِنْ» أولى منه باللام، فكان يقال «ظُلماً من العالمين» فهذا معنى يَنْبُو عنه اللفظُ. ونَكَّرَ «ظلماً» لأنه سياقِ النفي، فهو يَعُمُّ كلَّ نوعٍ من الظلمِ.

110

قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} : في «كان» هذه ستةُ أقوال، أحدها: أنها ناقصةٌ على بابها، وإذا كانت كذلك فلا دلالةَ على مُضِيٍّ وانقطاع، بل تصلح للانقطاع نحو: «كان زيد قائماً» وتصلح للدوام نحو: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 16] {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ، فهي هنا بمنزلَةِ «لم يَزَلْ» وهذا بحسَبِ القرائن.

وقال الزمخشري: «كان» عبارةٌ عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإِبهام، وليس فيه دليلٌ على عَدَمٍ سابق ولا على انقطاع طارىء، ومنه قولُه تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كأنه قيل: «وُجِدْتُم خيرَ أمة» . قال الشيخ: قوله «لم تَدُلَّ على عدمٍ سابقٍ» هذا إذا لم تكن بمعنى «صار» فإذا كانت بمعنى «صار» دلَّت على عدمٍ سابقٍ، فإذا قلت: «كان زيد عالماً» بمعنى «صار زيد عالماً» دَلَّتْ على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم، وقولُه: «ولا على انقطاع طارىء» قد ذكرنا قبلُ أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يَدُلُّ لفظ المُضِيِّ منها على الانقطاع، ثم قد تُسْتعمل حيث لا انقطاعَ، وفَرْقٌ بين الدلالة والاستعمال، ألا ترى أنك تقول: «هذا اللفظُ يَدُلُّ على العموم» ثم قد يستعمل حيث لا يُرادُ العمومُ بل يرُاد الخصوصُ. وقوله: «كأنه قيل وُجِدْتُم خيرَ أمة» هذا يعارِضُ قولَه «إنها مثلُ قوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} لأن تقديرَه» وُجِدتم خير أمة «يَدُلُّ على أنها التامة وأن» خير أمة «حالٌ. وقوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} لا شك أنها هنا الناقصةُ فتعارضا» قلت: لا تعارُضَ لأنَّ هذا تفسيرُ معنًى لا تفسيرُ إعرابٍ. الثاني: أنها بمعنى «صِرْتُم» و «كان» تأتي بمعنى «صار» كثيراً كقوله: 1385 - بتيهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها ... قَطَا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخا بيوضُها أي: صارَتْ فراخاً. الثالث: أنها تامةٌ بمعنى وُجِدْتُم، و «خيرَ أمة» على هذا منصوبٌ على الحال أي: وُجدتم في هذه الحال.

الرابع: أنها زائدةٌ، والتقديرُ: أنتم خيرُ أمةٍ، وهذا قولٌ مرجوحٌ أوغَلَطٌ لوجهين، أحدُهما: أنها لا تُزاد أولاً، وقد نَقَلَ ابن مالك الاتفاقَ على ذلك. والثاني: أنها لا تعمل في «خير» مع زيادتِها، وفي الثاني نظرٌ، إذ الزيادةُ لا تنافي العملَ، وقد تقدَّم عليه دلائلُ في البقرة عند قولِه: {أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 246] . الخامس: أنها على بابِها، والمرادُ: كنتم في علمِ الله، أو في اللوح المحفوظ. السادس: أن هذه الجملةَ متصلةٌ بقوله: {فَفِي رَحْمَةِ الله} أي: فيُقال: لهم في القيامة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} ، وهو بعيدٌ جداً. قوله: {أُخْرِجَتْ} يجوزُ في هذه الجملة أن تكونَ في محلِّ جر نعتاً ل «أمة» وهو الظاهرُ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ نعتاً ل «خير» ، وحينئذٍ يكونُ قد رُوعي لفظُ الاسمِ الظاهر بعد ورودِهِ بعد ضمير الخطاب، ولو رُوعي ضميرُ الخطاب لكان جائزاً أيضاً، وذلك أنه إذا تقدَّم ضميرُ حاضرٍ متكلماً كان أو غائباً، ثم جاء بعده خبرُه اسماً ظاهراً، ثم جاء بعد ذلك الاسمِ الظاهرِ ما يصلُح أن يكونَ وصفاً له كان للعرب فيه طريقان، إحداهما: مراعاةُ ذلك الضميرِ السابق فيطابقهُ بما في تلك الجملةِ الواقعةِ صفةً للاسم/ الظاهر، والثانية: مراعاةُ ذلك الاسمِ الظاهر فيعيدُ الضميرَ عليه منها غائباً، وذلك [نحو] قولك: «أنتَ رجلٌ تأمرُ بمعروفٍ» بالخطابِ مراعاةً ل «أنت» ، و «يأمر» بالغَيْبَةِ مراعاةَ ل «رجل» ، «وأنا امرؤ أقولُ الحق» بالمتكلم مراعاةً ل «أنا» و «يقولُ الحقَّ» مراعاةً لامرىء. ومن مراعاةِ الضمير قولُه تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] ، {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] ، وقوله «وإنك امرؤٌ فيك جاهلية»

وقول الشاعر: 1386 - وأنت امرؤٌ قد كَثَّأَتْ لك لِحْيَةٌ ... كأنك منها قاعدٌ في جُوالِقِ ولو قيل في الآية الكريمة «أُخْرِجْتُم» مراعاة ل «كنتم» لكان جائزاً من حيث اللفظُ، ولكن لا يجوز أن يُقرأ به، لأن القراءةَ سنةٌ متبعة، فالأَولى أن تُجْعل الجملةُ صفةً ل «أمة» لا ل «خير» ليتناسبَ الخطابُ في قولِه: «تأمرون» . قوله: «للناسٍ» فيه أوجه، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ ب «أُخْرجت» ، والثاني: أن يتعلَّق ب «خير» والفرقُ بينهما من حيث المعنى أنه لا يلزَمُ أن يكونوا أفضلَ الأمم في الوجهِ الثاني من هذا اللفظ، بل من موضعٍ أخر. والثالث: أنه متعلقٌ من حيثُ المعنى لا من حيث الإِعراب ب «تأمرون» على أنَّ مجرورَها مفعولٌ به، فلمَّا قُدِّمَ ضَعُفَ العاملُ فَقَوِيَ بزيادةِ اللام كقوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أي: تَعْبُرون الرويا. قوله: «تأمرون» في هذه الجملةِ أوجهُ أحدُها: أنها خبرٌ ثان ل «كنتم» ، ويكون قد راعى الضميرَ المتقدم في «كنتم» ، ولو راعى الخبرَ لقال: «يأمرون» بالغيبةِ، وقد تقدَّم تحقيقُهُ. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، قاله الراغب وابن عطية. الثالث: أنها في محلِّ نصب نعتاً لخير أمة، وأتى بالخطابِ لِما تقدَّم، قاله الحوفي. الرابع: أنها مستأنفةٌ بَيَّنَ بها كونَهم خيرَ أمة، كأنه قيل: السببُ في كونِكم خيرَ الأممِ هذه الخصالُ الحميدة، وهذا أغربُ الأوجه.

قوله: {لَكَانَ خَيْراً} اسمُ «كان» ضميرٌ يعودُ على المصدرِ المدلولِ عليه بفعلِهِ، والتقديرُ: لكان الإِيمانُ خيراً كقولهم: «مَنْ كَذَبَ كان شراً له» ِأي: كان الكذبُ شَرَّاً له، ونحوُه: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] ، [وقوله] : 1387 - إذا نُهِي السَّفيهُ جَرَى إليه ... وخالفَ والسَّفِيهُ إلى خلافِ أي: جرى إليه السَّفَهُ. والمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ أي: خيراً لهم مِنْ كفرهم وبقائِهم على جهلهم. والمرادُ بالخيرية في زعمهِم: وقال ابن عطية: «ولفظةٌ» خير «صيغةُ تفضيل ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخيرِ، وإنما جاز ذلك لِما في لفظ» خير «من الشِّياع وتشعُّبِ الوجوهِ، وكذلك هي لفظة» أفضل «و» أحب «وما جرى مجراهما» . قال الشيخ: «وإبقاؤها على موضوعِها الأصلي أَوْلى إذا أَمْكَنَ ذلك، وقد أَمْكَنَ ذلك إذ الخيريةُ مطلقةٌ فتحصُلُ بأدنى مشاركة» . قوله: {مِّنْهُمُ المؤمنون} إلى آخره: جعل مستأنفة سِيقت للإِخبار بذلك.

111

قوله تعالى: {إِلاَّ أَذًى} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه متصلٌ، وهو استثناءٌ مفرغٌ من المصدر العام، كأنه قيل: لن يَضُرُّوكم ضرراً البتة

إلا ضرَر أذى لا يُبَالى به من كلمةِ سوءٍ ونحوِها. والثاني: أنه منقطع أي: لن يَضُرُّوكم بقتالٍ وغَلَبة، ولكن بكلمةِ أذى ونحوِها. قوله: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} مستأنفٌ، ولم يُجْزَمْ عطفاً على جواب الشرط، لأنه كان يتغير المعنى، وذلك أن الله تعالى أخبر بعدمِ نصرتهم مطلقاً، ولو عطفناه على جواب الشرط للزِم تقييدُه بمقاتلتِهم لنا، وهم غيرُ منصورين مطلقاً: قاتَلوا أَوْ لم يقاتلوا. وزعم بعضُ مَنْ لا تحصيلَ له أن المعطوف على جوابِ الشرط ب «ثم» لا يجوزُ جَزْمُه البتةَ، قال: «لأنَّ المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ، وجوابُ الشرطِ يقع بعدَه وعقيبَه، و» ثم «تقتضي التراخيَ فكيف يُتَصَوَّرُ وقوعُه عقيبَ الشرط؟ فلذلك لم يُجْزَم مع» ثم «. وهذا فاسدٌ جداً لقوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] ف» لا يكونوا «مجزومٌ نسقاً على» يستبدل «الواقعِ جواباً للشرط والعاطفُ» ثم «. و» الأدبارَ «مفعولٌ ثاني ليولُّوكم، لأنه تعدَّى بالتضعيف إلى مفعول آخرَ.

112

قوله تعالى: {أَيْنَ مَا ثقفوا} : أينما شرطٌ وهي ظرفُ مكان و «ما» مزيدةٌ فيها، ف «ثُقفوا» في محلِّ جزمٍ بها، وجوابُ الشرط: إمَّا محذوفٌ أي: أينما ثُقِفوا غُلِبوا وذُلُّوا، دلَّ عليه قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} ، وإمَّا نفسُ «ضُرِبَتْ» عند مَنْ يُجيز تقديمَ جواب الشرطِ عليه، ف {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} لا محلَّ له على الأول ومحلُّه الجزمُ على الثاني. قوله: {إِلاَّ بِحَبْلٍ} هذا الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحال، وهو استثناءٌ مفرغٌ من الأحوال العامة. قال الزمخشري: «وهو استثناءٌ من عامِّ أعمِّ الأحوال، والمعنى:» ضُرِبَتْ عليهم الذِّلَّةُ في عامة الأحوال إلاَّ في حال

اعتصامهم بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس «، وعلى هذا فهو استثناءٌ متصلٌ وقال الزجاج والفراء:» هو استثناءٌ منقطعٌ «. فقدَّره الفراء:» إلاَّ أَنْ يَعْتصموا بحبل من الله «، فَحَذَف ما يتعلَّق به الجارُّ، كما قال حميد بن ثور الهلالي: 1388 - رَأَتْني بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مخافةً ... وفي الحبلِ رَوْعاءُ الفؤادِ فَروقُ أراد: أقلبت بحبلَيْها، فَحَذَفَ الفعلَ للدلالة عليه. ونظَّره ابن عطية بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} [النساء: 92] قال:» لأن باديَ الرأي يُعْطي أنَّ له أن يَقْتُلَ خطأ، وأنَّ الحبل من الله ومن الناس يُزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنما في الكلام محذوف/ يدركه فهمُ السامعِ الناظرِ في الأمر، وتقديرُه في آيتنا: «فلا نجاة من الموت إلا بحبلٍ» قال الشيخ: «وعلى ما قَدَّره لا يكونُ استثناء منقطعاً لأنه مستثنى من جملة مقدرة وهي قوله:» فلا نجاة من الموت «وهو متصل على هذا التقدير، فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورةَ أنَّ الاستثناءَ الواحدَ لا يكونُ منقطعاً متصلاً، والاستثناءُ المنقطعُ كما تقرَّر في علمِ النحو على قسمين: منه ما يُمْكِنُ أَنْ يتسلَّط عليه العاملُ، ومنه ما لا يمكن في ذلك، ومنه هذه الآيةُ على تقديرِ الانقطاعِ، إذ التقديرُ: لكنَّ اعتصامَهم بحبلٍ من اللهِ وحبلٍ من الناس يُنْجِيهم من القتلِ والأسْر وسَبْيَ الذَّراري واستئصالِ أموالِهم، ويَدُلُّّ على أنه

منقطعٌ: الإِخبارُ بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [البقرة: 61] فلم يَسْتَثْنِ هناك» . وما بعدَ هذه الآيةِ قد تقدَّم إعرابه.

113

قوله تعالى: {لَيْسُواْ سَوَآءً} : الظاهرُ في هذه الآية أن الوقف على «سواء» تامٌ، فإنَّ الواوَ اسمُ «ليس» ، و «سواءً» خبر، والواو تعودُ على أهل الكتاب المتقدِّم ذكرُهم، والمعنى: أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر لقولِهِ: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] فانتفى استواؤُهم. و «سواء» في الأصلِ مصدرٌ فلذلك وُحِّد، وقد تقدَّم تحقيقُه أولَ البقرة. وقال أبو عبيدة: «الواو في» ليسوا «علامةٌ جمعٍ وليست ضميراً، واسمُ» ليس «على هذا» أمةٌ «و» قائمةٌ «صفتها، وكذا» يَتْلُون «، وهذا على لغة» أكلوني البراغيث «كقوله الآخر: 1389 - يَلُومونني في اشتراءِ النخي ... لِ أَهْلي فكلُّهمُ أَلْوَمُ قالوا:» وهي لغةٌ ضعيفةٌ «. ونازع السهيلي النحويين في كونها ضعيفةً، ونَسبَها بعضُهم لأزدِ شنوءة، وكثيراً ما جاء عليها الحديث، وفي القرآنِ مثلُها، وسيأتي تحقيقُ هذا في المائدة بزيادةِ بيان.

قال ابن عطية:» وما قاله أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ، ولم يُبَيِّن وجهَ الخطأ، وكأنه تَوَهَّم أنَّ اسم «ليس» هو «أمة قائمة» فقط، وأنه لا محذوف ثمَّ، إذ ليس الغرضُ تفاوتَ الأمةِ القائمة التالية، فإذا قُدِّر ثَمَّ محذوفٌ لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً، إلا أن بعضهم رَدَّ قوله بأنها لغة ضعيفة، وقد تقدم ما فيها والتقدير الذي يَصِحُّ به المعنى، أي: ليس سواءً من أهل الكتاب أمةٌ قائمةٌ موصوفةٌ بما ذُكِر وأمةٌ كافرة، فهذا تقديرٌ يَصِحُّ به المعنى الذي نحا إليه أبو عبيدة. وقال الفراء: «إنَّ الوقف لا يَتِمُّ على» سواء «، فجعل الواوَ اسمَ» ليس «و» سواءً «خبرها، كما قال الجمهور، و» أمة «مرتفعة ب» سواء «ارتفاعَ الفاعل، أي: ليس أهلُ الكتاب مستوياً منهم أمةٌ قائمةٌ موصوفةٌ بما ذُكِر وأمةٌ كافرة، فَحُذِفَتِ الجملةُ المعادِلة لدلالةِ القسمِ الأولِ عليها كقولِ الشاعر: 1390 - دعاني إليها القلبُ إني لأَِمْرِها ... سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها أي: أم غَيٌّ، فَحُذِف» الغَيّ «لدلالةِ ضدِّه عليه، ومثلُه قولُ الآخر: 1391 - أراكَ فما أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتَه ... وذو الهَمِّ قِدْماً خاشِعٌ مُتَضائِلُ أي: أَهَمٌّ هممته أم غيرُه، فَحُذِفَ للدلالةِ، وهو كثيرٌ، قال الفراء:» لأنَّ المساواة تقتضي شيئين كقولِهِ {سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد} [الحج: 25] ، وقوله {سَوَآءً

مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21] . وقد ضُعِّف قولُ الفراء من حيث الحذفُ ومن حيث وَضْعُ الظاهرِ موضِعَ المضمر، إذ الأصل: منهم أمةٌ قائمة، فَوُضِعَ «أهلِ الكتابِ» موضعَ الضمير. والوجه أن يكونَ «ليسوا سواءً» جملةً تامة، وقولُه: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ} جملةٌ برأسها، وقولُه: {يَتْلُونَ} جملةً أخرى مبيِّنَةً لعدم استوائِهم، كما جاءَتِ الجملةُ مِنْ قولِه: {تَأْمُرُونَ بالمعروف} [آل عمران: 110] إلخ مبيِّنَةً للخيرية. ويجوزُ أن يكونَ «يتلون» في محلِّ رفعٍ صفةً لأمة. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من «أمة» لتخصُّصِها بالنعتِ، وأن يكونَ حالاً من الضميرِ في «قائمة» ، وعلى كونِها حالاً من «أمة» يكونُ العامل فيها الاستقرارَ الذي تَضَمَّنه الجارُّ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في هذا الجارِّ لوقوعهِ خبراً لأمة. قوله: {آنَآءَ الليل} ظرفٌ ل «يتلون» . والآناء: الساعات، واحدها: «أنَى» بفتح الهمزة والنون بزنة «عَصَا» او «إنَى» بكسر الهمزة وفتح النون بزنة «مِعَى» ، أو «أَنْيٌ» بالفتح والسكون بزنة «ظَبْي» أو: إنْيٌ «بالكسر والسكون بزنة» نِحْي «، أو» إنْوٌ «بالكسر والسكون مع الواو بزنة» جِرْو «، فالهمزة في» آناء «منقلبةٌ عن ياء على الأقوالِ الأربعةِ كرِداء، وعن واوٍ على القولِ الأخير، نحو:» كِساء «وستأتي بقيةُ هذه المادةِ في مواضع. ولا يجوز ُ أن يكونَ» آناء الليل «ظرفاً ل» قائمة «قال أبو البقاء:» لأنَّ «قائمة» قد وُصِفَتْ فلا تعملُ فيهما بعد الصفة «وهذا على التقدير أن يكونَ»

يَتْلُون «وصفاً لقائمة، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى ليس على جَعْلِ هذه الجملةِ صِفةً لما قبلها، بل على الاستئنافِ للبيان المتقدم، وعلى تقديرِ جَعْلِها صفةً لِما قبلها فهي صفةً ل» أمة «لا ل» قائمة «لأنَّ الصفةَ لا تُوصَفُ، إلا أَنْ يكونَ معنى الصفةِ الثانيةِ لائقاً بما قبلها نحو:» مرَرْتُ برجلٍ ناطقٍ فصيحٍ «ف» فصيح «صفة لناطق، لأن معناه لائق به. وبعضهم يجعله وصفاً لرجل، وإنما المانعُ من تعلٌّقِ هذا الظرفِ ب» قائمة «ما ذكرْتُه من استئناف جملته. قوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} يجوزُ أن تكونَ حالاً من فاعلِ» يَتْلُون «أي: يَتْلُون القرآن وهم ساجِدون، وهذا قد يكونُ في شريعتِهم مشروعيةُ التلاوة في السجودِ بخلافِ شريعتنا، وبهذا يُرَجَّح قولُ مَنْ يقول: إنهم غيرُ أمةِ محمد. ويجوز أن تكونَ/ حالاً من الضمير في» قائمة «قاله أبو البقاء. وفيه ضعفٌ للاستئناف المذكور، ويجوز أن تكون مستأنفة.

114

قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ} . . إلى آخره: إمَّا استئنافٌ وإمَّا احوال، وجيء بالجملة الأولى اسميةً دلالةَ على الاستقرار، وصُدِّرت بضمير، وبُنِي عليه جملةٌ فعليةٌ ليتكرَّرَ الضميرُ فيزدادَ الكلامُ بتكرارِه توكيداً، وجيء بالخبرِ مضارعاً دلالةَ على تجدُّدِ السجود في كلِّ وقتٍ، وكذلك جيء بالجمل التي بعدها أفعالاً مضارعة، ويُحتمل أن يكون «يؤمنون» خبراً ثانياً لقوله: «هم» ، ولذلك تُرِك العاطفُ ولو ذُكِر لكان جائزاً. وقوله: {مِنَ الصالحين} يجوز في «مِنْ» أن تكونَ للتبعيض وهو الظاهر. وَجَعَلها ابنُ عطية لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ، إذ لم يتقدَّمْ مبهمٌ فتبيِّنْه هذه.

115

قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُواْ} : قرأ الأخوان وحفص: «يفعلوا» و «يُكْفَروه» بالغيبة، والباقون بالخطاب، فالغيبةُ مراعاةٌ لقوله: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} فَجَرى على لفظِ الغَيْبة، أَخْبَرَنَا تعالى أنَّ «ما يفعلوا» مِنْ خير بَقِي لهم غيرَ مكفورٍ. والخطابُ على الرجوعِ إلى خطاب أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قولِه: «كنتم» . ويجوزُ أَنْ يكون التفاتاً من الغَيْبة في قوله {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} إلى آخره إلى خطابهم، وذلك أنه آنَسَهم بهذا الخطابِ، ويؤيِّد ذلك أنه اقتَصَر على ذِكْر الخير دونَ الشرِّ ليزيدَ في التأنيسِ، ويدلُّ على ذلك قراءةُ الأَخَوين، فإنها كالنص في أنَّ المرادَ قولُه {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} . و «كَفَر» يتعدَّى لواحد، فكيف تعدَّى هنا لاثنين، أولُهما قام مقامَ الفاعل، والثاني: الهاءُ في «يُكْفروه» ؟ فقيل: إنه ضُمِّنَ معنى فعلٍ يتعدَّى لاثنين وهو «حَرَم» فكأنه قِيل: فَلَنْ تُحْرَمُوه، و «حَرَم» يتعدَّى لاثنين.

117

قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} : «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسمية، وعائدُها محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي: ينفقونه. وقوله: {كَمَثَلِ رِيحٍ} خبرُ المبتدأ، وعلى هذا الظاهِر أعني تشبيهَ الشيء المنفَق بالريحِ استُشْكِل التشبيهُ لأنَّ المعنى على تشبيهه بالحَرْث أي الزرعِ لا بالريح. وقد أُجيب عن ذلك بأحد أوجه: الأول: أنه من باب التشبيه المركب، بمعنى أنه يقابِلُ الهيئة الاجتماعية بالهيئة الاجتماعية، ولا يقابلُ الأفراد بالأفراد، وهذا قد مر تحقيقه أول البقرة عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ} [الآية: 17] ، وهذا اختيار الزمخشري. الثاني: أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين، فذَكَر أحدَ المُشَبَّهين

وتَرَك ذِكْر الآخر، وذَكَر أحد المشبهين به وترك ذكر الآخر، فقد حَذَف مِنْ كلِّ اثنين ما يَدُلُّ عليه نظيرُه، وقد مَرَّ نظيرُ هذا في البقرة عند قولِه تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} [الآية: 171] . واختار هذا ابن عطية، وقال «هذه غايةُ البلاغةِ والإِعجازِ» . الثالث: أنه على حَذْف مضاف: إمَّا من الأول تقديرُه: «مَثَلُ مَهْلِكِ ما ينفقونه» ، وإمَّا من الثاني تقديرُه: كمثل مَهْلِك ريح. وهذا الثاني أظهرُ؛ لأنه يؤدِّي في الأول إلى تشبيه الشيء المُنْفَقِ المُهْلَكِ بالريح، وليس المعنى عليه أيضاً، ففيه عَوْدٌ لِما فُرَّ منه. وقد ذكر الشيخ التقديرَ المشارَ إليه، ولم ينبِّه عليه، اللهم إلا أن يريد ب «مَهْلِك» اسمَ مصدر أي: مثلَ إهلاك ما ينفقون، ولكن يُحتاج إلى تقديرِ مثل هذا المضاف أيضاً قبل «ريح» تقديره: مَثَلٌ إهلاك ما ينفقون كمثلِ إهلاك ريح. ويجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مصدريةٌ، وحينئذ يكونُ قد شَبَّه إنفاقَهم في عدمِ نفعِه بالريحِ الموصوفةِ بهذه الصفة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس. قوله: {فِيهَا صِرٌّ} في محل جر نعتاً ل «ريح» ، ويجوز أن يكونَ «فيها صِرٌّ» جملةً من مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون «فيها» وحدَه هو الصفةَ، و «صِرُّ» فاعلٌ به، وجاز ذلك لاعتماد الجار على الموصوف، وهذا أحسنُ؛ لأنَّ الأصلَ في الأوصافِ الإِفرادُ، وهذا قريبٌ منه. والصِرُّ «قيل: البردُ الشديد المحرق، قال:

1392 - لا يَعْدِلَنَّ أتاوِيُّونَ تضرِبُهم ... نكباءُ صِرٌّ بأصحابِ المُحِلاَّتِ وقيل:» الصِرُّ «بمعنى الصَّرْصَر، وهو الشيء البارد، قالت ليلى الأخيلية: 1393 - ولم يَغْلِبِ الخَصْمَ الأَلَدَّ ويَمْلأ ال ... جِفانَ سَدِيفاً يومَ نكباءَ صرصرِ وأصلُهُ مأخوذٌ من الشَّدَّ والتعقيد، ومنه: الصُرَّة للعُقْدة، وأَصَرَّ على كذا: لَزِمه. وقال بعضُهم:» الصِرُّ «صوتُ لهيبِ النار، يكون في الريح مِنْ: صَرَّ الشيءُ يَصِرُّ صريراً أي: صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروفِ، ومنه: صرير الباب. قال الزجاج:» والصِرُّ: صوت النار التي في الريح «وإذا عُرِف هذا فإنْ قلنا: الصِرُّ: البردُ الشديد أو هو صوتُ النار أو صوتُ الريح، فظرفية الريحِ له واضحةٌ، وإنْ كان الصِرُّ صفةَ الريح كالصرصر فالمعنى: / فيها قِرَّةٌ صِرٌّ، كما تقول: برد بارد، وحُذِف الموصوفُ وقامت الصفةُ مَقَامَه، أو تكونُ الظرفيةُ مجازاً جُعِل الموصوفُ ظرفاً للصفة كما قال: 1394 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وفي الرحمنِ للضُّعفاء كافِي

ومنه قولُهم: «إنْ ضَيَّعني فلانٌ ففي اللهِ كافٍ» المعنى: الرحمن كافٍ، واللهُ كافٍ. وهذا فيه بُعْدٌ. قوله: «أصابَتْ» هذه الجملة في محل جر أيضاً صفةً ل «ريح» ، ولا يجوز أن تكونَ صفةً ل «صِرّ» لأنه مذكر. وبدأ أولاً بالوصف بالجار لأنه قريب من المفرد ثم بالجملة. هذا إنْ أعربنا «فيها» وحده صفةً، ورَفَعْنا به «صِر» أمَّا إذا أعربناه خبراً مقدماً و «صِرٌّ» مبتدأ فهما جملة أيضاً. قوله: «ظلموا» صفة ل «قوم» ، والضمير في «ظلمهم» يعود على القوم ذوي الحرث، أي: ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصيَ التي كانت سبباً في إهلاكه. وجَوَّز الزمخشري وغيره أن يعودَ على المنفقين، وإليه نحا ابنُ عطية، ورجَّحه بأنَّ أصحاب الحرث لم يُذْكَروا للردِّ عليهم ولا للتبيين ظلمهِم، بل لمجردِ التشبيه بهم. قوله: {ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} العامةُ على تخفيف «لكن» وهي استدراكيةٌ، و «أنفسَهم» مفعولٌ مقدم، قُدِّم للاختصاص أي: لم يقع وبالُ ظلمهم إلا بأنفسهم خاصةً لا يتخطَّاهم، ولأجلِ الفواصل أيضاً. وقرأها بعضهم مشددة، ووَجْهُها أن يكونَ «أنفسَهم» اسمها، و «يظلمون» الخبرُ، والعائدُ من الجملة الخبرية على الاسم محذوفٌ تقديرُه: ولكنَّ ِأنفسَهم يظلمونها، فحُذِف، وحَسَّن حذفَه كونُ الفعلِ فاصلة، فلو ذُكِرَ مفعولُه لفات هذا الغرضُ. وقد خَرَّجه بعضُهم على أن يكون اسمُها ضميرَ الأمر والقصة حُذِف للعلم به، و «أنفسَهم» مفعولٌ مقدَّمٌ ليظلمون كما تقدَّم، والجملةُ خبرٌ

لها، وقد رُدَّ هذا بأنَّ حَذْفَ اسمِ هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة كقوله: 1395 - إنَّ مَنْ يدخلِ الكنيسةَ يوماً ... يَلْقَ فيها جآذراً وظباءَ على أن بعضَهم لا يَقْصُره على الضرورة، مستشهداً بقوله عليه السلام: «إنَّ من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المُصَوِّرون» ، قال: «تقديره إنه» ، ويُعْزى هذا للسكائي، وقد ردَّه بعضهم، وخَرَّج الحديث على زيادة «مِنْ» والتقدير: إنَّ أشدَّ الناس. والبصريون لا يُجيزون زيادة «من» في مثل هذا التركيبِ لِما عُرِفَ غيرَ مرة إلا الأخفش.

118

قوله تعالى: {مِّن دُونِكُمْ} : يجوز أن يكون صفة ل «بِطانة» فيتعلَّقَ بمحذوف، أي: كائنةً من غيركم. وقدَّره الزمخشري: «من غيرِ أبناء جنسكم، وهم المسلمون» ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بفعل النهي. وجَوزَّ بعضُهم أن تكون «مِنْ» زائدةً، والمعنى: دونَكم في العمل والإِيمان. وبِطانة الرجل: خاصَّتُه الذين يُباطِنُهم في الأمور، ولا يُظْهر غيرَهم عليها مشتقةً من البَطْن، والباطنُ: دون الظاهر، وهذا كما استعاروا الشِّعار والدِّثار في ذلك. قال عليه السلام: «الناسُ دِثار والأنصارُ شِعار» والشِّعار

ما يلي جسدك من الثياب. ويقال: «بَطَن فلانٌ بفلان بُطوناً وبِطانة» . قال الشاعر: 1396 - أولئك خُلْصاني نَعَمْ وبِطانتي ... وهم عَيْبَتي مِنْ دونِ كلِّ قريب قوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} يقال: «أَلاَ في الأمر يَأْلُو فيه» أي: قَصَّر نحو: غزا يغزو، فأصلُه أن يتعدَّى بحرف الجر كما ترى. واختُلِف في نصب «خَبالا» على أوجهٍ. أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ. والضميرُ هو الأول، وإنما تَعَدَّى لاثنين للتضمين. قال الزمخشري: «يقال: ألا في الأمر يَأْلُو فيه أي: قَصَّر، ثم استُعْمِل مُعَدَّىً إلى مفعولين في قولهم:» لا آلوك نُصْحاً ولا ألوك جُهْداً «على التضمين، والمعنى: لا أمنعُك نُصْحاً ولا أَنْقُصُكه» . الثاني: أنه منصوبٌ على إسقاط حرفِ الجر، والأصل: لا يألونكم في خَبال أي: في تخبيلكم وهذا غيرُ منقاسٍ، بخلافِ التضمين فإنه منقاسٌ، وإنْ كان فيه خلافٌ واهٍ. الثالث: أن ينتصبَ على التمييز، وهو حينئذٍ تمييز منقول من المفعولية، والأصلُ: لا يَألون خبالكم أي: في خبالكم: ثم جُعِل الضميرُ المضاف إليه مفعولاً بعد إسقاط الخافض، فنُصِب «الخبال» الذي كان مضافاً تمييزاً، ومثله قولُه تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] أي: «عيون الأرضِ» فَفُعلِ به

ما تقدَّم، ومثلُه في الفاعلية: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] الأصل: «شيبُ الرأس» ، وهذا عند مَنْ يُثْبت كونَ التمييز منقولاً من المفعوليةِ. وقد مَنَعَه بعضُهم، وتأوَّل قولَه تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} على أنَّ «عيوناً» بدلُ بعضٍ من كل، وفيه حَذْفُ العائدِ أي: عيوناً منها. وعلى هذا التخريجِ يجوزُ أَنْ يكونَ «خبالاً» بدلَ اشتمال من «كم» ، والضميرُ أيضاً محذوفٌ أي: «خبالاً منكم» وهذا وجه رابع. الخامس: أنه/ مصدرٌ في موضع الحال أي: مُتَخَبِّلين. السادس: قال ابن عطية: معناه: لا يُقَصِّرون لكم فيما فيه من الفسادِ عليكم «، فعلى هذا الذي قَدَّره يكونُ المضمر و» خبالاً «منصوبين على إسقاطِ الخافض وهو اللام و» في «. وهذه الجملةُ فيها ثلاثةُ أوجه. أحدُها: أنها استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب، وإنما جيء بها وبالجملِ التي بعدَها لبيانِ حالِ الطائفةِ الكافرة حتى يَنْفِروا منها فلا يتخذوها بِطانةً، وهو وجه حسن. والثاني: أنها حالٌ من الضمير المستكنِّ في «مِنْ دونكم» على أنَّ الجارَّ صفةٌ ل «بطانة» . والثالث: أنها في محلِّ نصبٍ نعتاً ل «بطانة» أيضاً. والأَلْوُ بزنة «الغَزْو» التقصيرُ كما تقدَّم، قال زهير: 1397 - سَعَى بعدَهم قومٌ لكي يُدْرِكوهمُ ... فلم يَفْعَلوا ولم يُلِيموا ولم يَأْلُوا

وقال امرؤ القيس: 1398 - وما المرءُ ما دَامَتْ حُشاشَةُ نفسِه ... بمُدْرِكِ أَطْرافِ الخطوبِ ولا آلِ يقال: آلَى يُؤْلِي بزنة «أَكْرم» ، فأُبْدِلَتِ الهمزةُ الثانية ألفاً، وأنشدوا: 1399 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فما آلَى بَنِيَّ ولا أساؤوا ويقال: ائتلَى يَأْتَلي بزنة «اكتسب» يكتسب، قال امرؤ القيس: 1400 - ألا رُبَّ خصمٍ فيكِ أَلْوى رَدَدْتُه ... نصيحٍ على تَعْذالِه غيرُ مُؤْتَلِ فتيحدُ لفظُ «آلى» بمعنى قصَّر و «آلى» بمعنى حَلَف، وإنْ كان الفرقُ بينهما ثابتاً من حيث المادةُ؛ لأنَّ لامَه من معنى الحَلْف ياء، ومِنْ معنى التقصير واو. وقال الراغب: «وأَلَوْتُ فلاناً أي: أوْلَيْتُه تقصيراً نحو: كسبته أي: أوليته كَسْباً وما أَلَوْتُه جُهْداً أي: ما أَوْلَيْتُه تقصيراً بحسَبِ الجُهْد، فقولُك:» جُهْداً «تمييز. وقوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} منه، أي: لا يُقَصِّرون في طلبِ الخَبَال. وقال تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل} [النور: 22] قيل: هو يفتعل من أَلَوْت، وقيل: هو من آليت أي: حَلَفْتُ.

والخَبالُ: الفسادُ، وأصلُه ما يلحَقُ الحيوانَ من مرضٍ وفتورٍ فيورِثُه فساداً واضطراباً، يقال منه: خَبَله وخَبَّله بالتخفيف والتشديدِ فهو خابلٌ ومُخْبَلٌ ومَخْبول ومُخَبَّل. ويقال: خَبْل وخَبَل وخَبال. وفي الحديث:» مَنْ شرب الخمر ثلاثاً كان حقاً على اللهِ أن يَسْقِيَه من طينه الخَبال «وقال زهير ابن أبي سلمى: 1401 - هنالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلوا المالَ يُخْبِلوا ... وإنْ يَسْأَلوا يُعْطُوا وإنْ يَيْسِروا يُغْلُوا والمعنى في هذا البيت: أنهم ذا طُلِب منهم إفسادُ شيء من إبلِهم أفسدوه، وهذا كنايةٌ عن كرمِهم. قوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أَوْجَهُها: أن تكونَ مستأنفةً كما هو الظاهرُ فيما قبلها. والثاني: أنها نعتٌ ل» بِطانة «فمحَلُّها نصبٌ. والثالث: أنها حالٌ من الضمير في» يأْلونكم «. و» ما «مصدريةٌ، و» عَنِتُّم «صِلَتُها، وهي وصلتُها مفعولُ الوَدادة أي: عَنَتُكم أي: مَقْتكُم. وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظةِ في البقرةِ عند [قوله] {لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] . وقال الراغب هنا:» المعاندَةُ والمعانَتَهُ يتقاربان، لكنَّ المعاندة هي الممانعة، والمعانتةُ أَنْ يَتَحَرَّى مع الممانَعَةِ المَشَقَّةُ. قوله: {قَدْ بَدَتِ البغضآء} هذه الجملةُ كالتي قبلها، وقرأ عبد الله: «بدا» من غيرتاء، لأنَّ الفاعلَ مؤنثٌ مجازي ولأنَّها في معنى البغض. والبغضاء

مصدرٌ كالسَّراء والضَّرَّاء. يقال منه: بَغُض الرجل فهو بغيض كظَرُفَ فهو ظريف. وقوله: {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} متعلِّقٌ ب «بَدَتْ» و «مِنْ» لابتداء الغاية. وجَوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً أي: خارجةً من أفواههم. والأَفْواه: جمعُ فم، وأصلُه: فوه، فلامُه هاء، يَدُلُّ على ذلك جَمْعُه على «أفواه» ، وتصغيرُه على «فُوَيْه» ، والنسبُ إليه على فَوْهِيّ، وهل وزنُه فَعْل بسكون العين أو فعَل بفتحِها؟ . خلافٌ للنحويين، وإذا عَرَفْتَ ذلك فاعلَمْ أنهم حَذَفوا لامَه تخفيفاً فبقي آخرُه حرف علة فأَبْدَلوها ميماً لقُربها منها لأنهما من الشَّفَة، وفي الميم هَوِيٌّ في الفم يضارع المدَّ الذي في الواو، هذا كلُّه إذا أفردوه عن الإِضافةِ، فإنْ أضافوه لم يُبْدِلوا حرفَ العلة كقوله: 1402 - فُوهٌ كشَقِّ العَصا لأْياً تَبَيَّنُهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد عُكِس الأمرُ في الطرفين، فَأَتى بالميمِ في الإِضافةِ وبحرفِ العلةِ في القطعِ عنها، فمِنَ الأولِ قولُه: 1403 - يُصْبحُ ظمآنَ وفي البحرِ فَمُهْ ... وخَصَّه الفارسي وجماعةٌ بالضرورةِ، وغيرُهم جَوَّزه سَعَةً، وجَعَل منه

قولَه عليه السلام/: «لَخُلوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عند اللهِ مِنْ ريحِ المسك» ، ومِن الثاني قوله: 1404 - خالَطَ مِنْ سَلْمى خياشيمَ وفَا ... أي: «وفاها» ، وإنما جاز ذلك لأنَّ الإِضافةَ كالمنطوق بها، وقالت العرب: «رجلٌ مُفَوَّه» إذا كان يجيد القول، وهو أَفْوَهُ منه أي: أوسع فماً، وقال لبيد: 1405 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما فاهوا به أبداً مُقميمُ وفي الفم تسع لغات، وله أربعُ مواد: ف وه، ف م و، ف م ي، ف م م، بدليل أفواه وفَمَوَيْن وفَمَيَيْن وأفمام. قوله: {وَمَا تُخْفِي} يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ أي: تُخْفيه، فَحُذِف، وأَنْ تكونَ المصدريةَ أي: وإخفاءُ صدروهم، وعلى كِلا التقديرين ف «ما» مبتدأٌ، و «أكبرُ» خبرُه، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ أي: أكبرُ من الذي أَبْدَوه بأفواهِهم.

قوله: {إِنْ كُنْتُمْ} شرطٌ حُذِفَ جوابُه لدلالةِ ما تقدَّم عليه، أو هو ما تقدَّم عند مَنْ يرى جوازَه.

119

قوله تعالى: {هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ} : قد تقدَّم نظيرُه وتحقيقُه مرتين، ونزيد هنا أن يكونَ «أولاء» في موضعِ نصبٍ بفعل محذوف، فتكونُ المسألةُ من الاشتغال نحو: «أنا زيداً ضربته» وقوله: {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} يُحتمل أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ وأَنْ يكونَ جملةً حالية. و «الكتاب» يجوز أَنْ تكونَ الألفُ واللامُ للجنس، والمعنى بالكتبِ كلها، فاكتفى الواحد، ويجوزُ أن تكونَ للعهدِ، والمرادُ به كتابٌ مخصوصٌ. وقوله: «عليكم» . متعلِّقٌ ب «عَضُّوا» ، وكذلك: «من الغيظِ» . و «مِنْ» فيه لابتداءِ الغاية، ويجوز أَنْ تكونَ بمعنى اللام فتفيدَ العلة أي: من أجلِ الغَيْظِ. وجَوَّز أبو البقاء في «عليكم» وفي «من الغيظ» أن يكونا حالَيْن، فقال: «ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: حَنِقين عليكم،» من الغيظِ «متعلِّقٌ ب» عَضُّوا «أيضاً، و» مِنْ «لابتداء الغايةِ أي: من أجلِ الغيظِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي:» مغتاظين «انتهى. وقولُه:» ومِنْ لابتداء الغاية أي: من أجل الغيظ «كلامٌ متنافر، لأنَّ التي للابتداء لا تُفَسَّر بمعنى» من أجل «فإنه معنى العلة، والعلةُ والابتداء متغايران، وعلى الجملةِ فالحاليةُ فيها لا يَظْهَرُ معناها، وتقديرُه الحالَ ليس تقديراً صناعياً، لأنَّ التقديرُ الصناعِيَّ إنما يكون بالأكوان المطلقةِ. والعَضُّ: الأَزْمُ بالأسنانِ وهو تحامُلُ الأسنانِ بعضِها على بعضٍ. يقال: عَضِضْتُ بكسر العين في الماضي أعَضُّ بالفتحِ عَضَّاً وعَضيضاً. قال

امرؤ القيس: 1406 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كفَحْلِ الهجانِ يَنْتَحي للعضيضِ ويُعَبَّرُ به عن الندمِ المفرط، ومنه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] وإنْ لم يكن ثَمَّ عضٌّ حقيقةً. قال أبو طالب: 1407 - وقد صالَحُوا قوماً علينا أَشِحَّةً ... يَعَضُّون غيظاً خَلْفَنا بالأنامِلِ جَعَلَ الباءَ زائدةً في المفعول، إذ الأصلُ: يَعَضُّون خلفَنا الأنامل، وله نظائرُ مرت. وقال آخر: 1408 - قدَ افنى أنامِلَه أزْمُهُ ... فَأَمْسَى يَعَضُّ عليَّ الوَظِيفا وقال الحارث بن ظالم المُرِّي: 1409 - وأقتلُ أقواماً لِئاماً أذِلَّةً ... يَعَضَّون مِنْ غيظٍ رؤوسَ الأباهِمِ وقال آخر:

1410 - إذا رَأَوْني أطالَ اللهُ غيظَهُمُ ... عَضُّوا من الغيظِ أَطْرَافَ الأباهيم والعَضُّ كلُّه بالضادِ إلاَّ في قولِهم:» عَظَّ الزمانُ «ِأي اشتدَّ، وعَظَّتِ الحربُ، فإنهما بالظاءِ أختِ الطاء، وأنشد: 1411 - وعَظَّ زمانٍ يا بنَ مروانَ لم يَدَعْ ... من المالِ إلاَّ مُسْحتاً أو مُجَلَّفُ وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء:» وعَضُّ زمان «بالضاد. والعَضُّ: بضمِّ الفاء عَلَف من نوىً مرضوضٍ وغيرِه، ومنه: بعير عُضاضِيٌّ أي: سمينٌ كأنه منسوبٌ إليه، وأَعَضَّ القومُ: إذا أكلَتْ إبلُهم ذلك والعِضُّ بكسر الفاء الداهية من الرجال كأنهم تَصَوَّروا عَضَّه وشدته. وزمنٌ عضوضٌ أي: جَدْب، والتَّعْضُوضُ: نوعٌ من التمرِ سُمِّي بذلك لشدة مَضْغِه وصعوبتِه. والأناملُ: جمع أَنْمُلة وهي رؤوس الأصابع، قال الرماني: «واشتقاقُها من النملِ هذا الحيوانُ المعروف، شُبِّهَتْ به لدِقَّتها وسرعةِ تصرُّفها وحركتها ومنه قالوا للنمَّام: نَمِل ومُنْمِل لذلك قال: 1412 - ولستُ بذي نَيْرَبٍ فيهمُ ... ولا مُنْمِشٍ منهمُ مُنْمِلُ وفي ميمها الضم والفتح. والغَيْظُ: مصدر غاظَه يَغْيظه أي: أغضبه، وفَسَّره الراغب بأنه أشدُّ

الغضب قال:» وهو الحرارة التي يَجِدُها الإِنسان من ثَوَران دم قلبه «قال: وإذا وُصِف به اللهُ تعالى فإنما يُراد الانتقامُ. والتغيظ: إظهارُ الغيظ، وقد يكونُ مع ذلك صوتٌ. قال تعالى: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] . والجملةُ من قولِه:» وتؤمنون «معطوفةٌ على:» تُحِبُّونهم «ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة. / وقال الزمخشري:» والواو في «وتؤمنون» للحالِ وانتصابُها من «لا يُحِبُّونكم» أي: لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالُكم تُحِبُّونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم «قال الشيخ:» وهو حسنٌ، إلاَّ أنَّ فيه من الصناعة النحوية ما يَخْدِشُه، وهو أنه جعل الواوَ في «وتؤمنون» للحال وانتصابها من «لا يحبونكم» ، والمضارعُ المثبتُ إذا وَقَع حالاً لا تدخُلُ عليه واو الحال تقول: «جاء زيدٌ يضحك» ولا يجوز: «ويضحك» . فأمَّا قولُهم: «قمتُ وأَصُكُّ عينَه» ففي غاية الشذوذِ، وقد أُوَّلَ على إضمارِ مبتدأ أي: «وأنا أصُكُّ عينه» فتصيرُ الجملةُ اسميةً ويُحتمل هذا التأويلُ هنا أي: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتابِ كله، لكنَّ الأَوْلى ما ذكرناه من كونها للعطف «يعني فإنه لا يُحْوِج إالى حَذْفٍ بخلافِ تقدير مبتدأ فإنه على خلاف الأصل. وثَمَّ جملةٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها السياقُ، والتقدير: وتُؤمْنون بالكتاب كله ولا يُؤمنون هم به كلِّه، بل يقولون: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض. قوله: {بِغَيْظِكُمْ} يجوز أَنْ تكونَ الباءُ للحالِ أي: موتوا ملتبسين بغيظِكم لا يُزايلكم، وهو كنايةٌ عن كثرةِ الإِسلام وفُشُوِّه، لأنه كلما ازداد الإِيمان زاد غيظُهم. ويجوز أن تكونَ للسببية أي: بسبب غيظكم.

وقوله: {مُوتُواْ} صورتُه أمر ومعناه الدعاء، وقيل: معناه الخبر أي: إن الأمر كذلك، وقد قال بعضهم:» إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الدعاء لأنه لو أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة فإنَّ دعوته لا تُرَدُّ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآية، ولا يجوز أن يكونَ بمعنى الخبرِ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أَخْبَر ولم يؤمِنْ أحدٌ بعدُ، وإذا انتفى هذان المَعْنَيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ والتهديد، ومثله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] «إذا لم تَسْتَح فاصنع ما شئت» وهذا الذي قاله ليس بشيء؛ لأنَّ مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء إنْ قصد به الدعاء، ولا تحت الخبر إنْ قَصَدَ به الإِخبار.

120

وقرأ العامة: {إِن تَمْسَسْكُمْ} بالتأنيث، مراعاةً للفظ «حسنة» ، وقرأ أبو عبد الرحمن بالياء من تحت، لأن تأنيثها مجازي، وقياسُه أن يقرأ: «وإنْ يصبكم سيئة» بالتذكير أيضاً، ولا أحفظ عنه فيها شيئاً. قوله: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يُحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفةً، أخبر تعالى بذلك؛ لأنهم كانوا يُخْفُون غيظَهم ما أمكنهم، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد، ويحتمل أن تكون جملة المقول أي: قل لهم كذا وكذا فتكون في محل نصب بالقول. ومعنى قوله «بذات» أي: بالمضمرات ذواتِ الصدور، ف «ذات» هنا تأنيث «ذي» بمعنى صاحب، فَحُذِف الموصوف وأقيمت صفتُه مُقامه أي: عليم بالمضمراتِ صاحبةِ الصدور، وجُعِلَتْ صاحبةً للصدور لملازمتها لها وعدمِ انفكاكها عنها نحو: أصحاب الجنة، أصحاب النار.

واختلفوا على الوقف على هذه اللفظة: هل يُوقف عليها بالتاء أو بالهاء؟ فقال الأخفش والفراء وابن كيسان: «الوقفُ عليها بالتاء إتباعاً لرسم المصحف» . وقال الكسائيّ والجرميّ: «يُوقَفُ عليها بالهاء لأنها تاء تأنيث، كهي في» صاحبه «. وموافقةُ الرسم أَوْلى، فإنه قد ثَبَتَ لنا الوقفُ على تاء التأنيث الصريحة بالتاء، فإذا وقفنا هنا بالتاء وافقنا تلك اللغة والرسم، بخلاف عكسِه. قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو:» يَضِرْكم «بكسر الضاد وجَزْم الراء على جواب الشرط من ضاره يَضيره، ويقال أيضاً: ضاره يَضوره، ففي العين لغتان. ويقال: ضاره يضيرُه ضَيْراً فهو ضائر وهو مَضِير، وضاره يَضُوره ضَوْراً فهو ضائرٌ وهو مَضُور، نحو: قلتُه أقوله فأنا قائل وهو مقول. وقرأ الباقون:» يَضُرُّكم «بضم الضاد وتشديد الراء مرفوعة. وفي هذه القراءة أوجه، أحدها: أن الفعل مرتفع وليس بجواب للشرط، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط، وذلك أنه على نية التقديم، إذ التقدير: لا يَضُرُّكم أنْ تصبروا وتتقوا فلا يَضُرُّكم» ، فَحُذِف «فلا يضركم» الذي هو الجواب لدلالةِ ما تقدم عليه، ثم أُخِّر ما هو دليل على الجواب، وهذا الذي ذكرته هو تخريج سيبويه وأتباعِه. وإنما احتاجوا إلى ارتكاب هذه الشطط لِما رأوا من عدم الجزم في فعل/ مضارع لا مانعَ من إعمال الجازم فيه، ومثلُ هذا قولُ الآخر: 1413 - يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ ... إنَّك إنْ يَصْرَعْ أخوك تُصْرعُ

برفع «تُصْرع» الأخير، وكذلك قوله: 1414 - وإنْ أتاهُ خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ برفع «يقول» إلاَّ أنَّ هذا النوع مُطَّرِدٌ بخلافِ ما قبله، أعني كون فعلَيْ الشرطِ والجزاءِ مضارعين فإنَّ المنقولَ عن سيبويه وأتباعِه وجوبُ الجزم إلا في ضرورة كقوله: «إنْ يُصْرعَ أخوك تُصْرعُ» ، وتخريجُه هذه الآية على ما ذكرته عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورة فاعلم ذلك: الوجه الثاني: أنَّ الفعلَ ارتفعَ لوقوعه بعد فاء مقدرة هي وما بعدها الجواب في الحقيقة، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفع ليس إلا، كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] والتقدير: فلا يَضُرُّكم، والفاء حُذِفت في غير محل النزاع كقوله: 1415 - مَنْ يَفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها ... والشرُّ بالشر عند الله سِيَّانِ أي: فالله يشكرها. وهذا الوجهُ رأيت بعضَهم ينقله عن المبرد، وفيه نظر، من حيث إنهم لمَّا أنشدوا البيتَ المذكور نقلوا عن المبرد أنه لا يجيز حَذْفَ هذه الفاء البتة لا ضرورةً ولا غيرَها، وينقلون عنه أن كان يقول: «إنما الرواي في هذا البيت: منْ يفعلِ الخيرَ فالرحمنُ يَشْكُرُه ...

وَردُّوا عليه بأنه إذا صَحَّت روايةٌ فلا يَقْدَح فيها غيرُها. ورأيت بعضَهم ينقله عن الفراء والكسائي، وهذا أقرب. الوجه الثالث: أن الحركَة حركةُ إتباع، وذلك أن الأصل: لا يَضْرِرْكم بالفك لسكونِ الثاني جزماً، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخرِ فعلٍ سَكَن ثانيهما جزماً أو وفقاً فللعرب فيه مذهبان: الإِدغامُ وهو لغة تميم والفكُّ وهو لغة الحجاز، لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك، فاضطُررنا إلى تحريك المثلِ الثاني فَحَرَّكناه بأقرب الحركات إليه وهي الضمةُ التي على الحرفِ قبلَه، فحرَّكناه بها وأدغمنا ما قبله فيه فهو مجزوم تقديراً، وهذه الحركةُ في الحقيقة حركةُ إتباعٍ لا حركةُ إعراب بخلافها في الوجهين السابقين قبل هذا فإنها حركة إعراب. واعلم أنه متى أُدْغِم هذا النوع: فإمَّا أن تكونَ فاؤه مضمومةً أو مفتوحة أو مكسورة، فإن كانت مضمومة كالآية الكريمة وقولهم» مُدَّ «ففيه ثلاثة أوجه حالةَ الإِدغام: الضمُّ للإِتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين فتقول: مُدُّ ومُدَّ ومُدِّ، ورُدُّ ورُدَّ ورُدِّ. ويُنشْدون على ذلك قولَ جرير: 1416 - فَغُضِّ الطرفَ إنَّك من نُمَيْرٍ ... فلا كعباً بَلَغْتَ ولا كِلابا بضم الضاد وفتحها وكسرها على ما ذكرته لك، وسيأتي أنَّ الآية قرىء فيها بالأوجه الثلاثة. وإن كانت مفتوحة نحو: عَضَّ، أو مكسورة نحو: فِرَّ، كان في اللامِ وجهان: الفتح والكسرُ، إذ لا وجهَ للضم، لكن لك في نحو:» فِرَّ «

أن تقول الكسرُ من وجهين: إمّا الإِتباعِ وإمَّا التقاءِ الساكنين، وكذلك لك في الفتح نحو:» عَضَّ «وجهان أيضاً: إمَّا الإِتباعُ وإمَّا التخفيفُ، هذا كلُّه إذا لم يتصلْ بالفعلِ ضميرُ غائبٍ، فأمَّا إذا اتصل به ضمير غائب نحو:» رُدَّه «ففيه تفصيلٌ ولغاتٌ يكثُر القولُ فيها ولا يليقُ التعرُّضُ لذلك في هذا النوع. وقرأ عاصم فيما رواه عنه المفضَّل بضم الضاد وتشديد الراء مفتوحة على ما ذكرت لك من التخفيف/، وهي عندهم أَوْجَهُ من ضم الراء. وقرأ الضحاك بن مزاحم: «لا يَضُرِّكم» بضمِّ الضاد وتشديدِ الراء مكسورة على ما ذكرْتُه لك مِن التقاء الساكنين، وكأنَّ ابن عطية لم يحفَظْها قراءةً فإنه قال: «وأمَّا الكسرُ فلا أعرفُها قراءةً» . وعبارةٌ الزجاجِ في ذلك مُتَجَوَّزٌ فيها إذ يظهر من دَرْج كلامِه أنها قراءة. قلت: قد بَيَّنْتُ أنها قراءة كما قال الزجاج ولله الحمد. والكَيْدُ: المَكْرُ والاحتيالُ. وقال الراغب: «وهو نوع من الاحتيال، وقد يكونُ ممدوحاً، وقد يكون مذموماً، وإن كان يستعمل في المذموم أكثرَ» . قال ابن قتيبة: «وأصلهُ من المشقةِ مِنْ قَوْلِهِم:» فلان يكيدُ بنفسِه «أي يَجُوز بها غمرات الموت ومشتقاته» . ويقال: كِدْتُ فلاناً أَكِيده كبِعْتُه أَبيعهُ. قال: 1417 - مَنْ يَكِدْني بسيِّءٍ كنتُ منه ... كالشَّجا بين حَلْقِه والوَرِيد

وقرأ أُبَيٌّ: «لا يَضْرِرْكم» بالفكِّ وهي لغة الحجاز، وعليها قوله تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} . وقوله: «شيئاً» منصوبٌ نصبَ المصادر أي: شيئاً من الضرر، وقد تقدم نظيره، وقرأ العامة: «بما يعملون محيطٌ» بالغَيْبة وهي واضحة. وقرأ الحسن بالخطاب: إمَّا على الالتفاتِ وإمَّا على إضمارِ «قل لهم يا محمد» .

121

قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ} العامل في «إذ» مضمرٌ تقديرهُ: واذكر إذ غدوت، فينتصِبُ انتصابَ المفعول به لا على الظرف. وجَوَّز بعضُهم أَن يكونَ معطوفاً على «فئتين» في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} [آل عمران: 13] أي: قد كان لكم آيةٌ في فئتين وفي إذ غَدَوْتَ، وهذا لا ينبغي أن يُعَرَّج عليه. والغدوُّ: الخروجُ أولَ النهار يقال: غَدا يَغْدُو أي: خَرَجَ غُدْوَةً، ويُسْتعمل بمعنى صار عند بعضهم، فيكونُ ناقصاً يرفع الاسم وينصبُ الخبر، وعليه قولُه [عليه] السلام: «لو توكلتم على الله حَقَّ توكُّلهِ لرزقكم كما يَرزق الطيرَ تَغْدُو خِماصاً وتروُح بِطاناً» . وقوله: {مِنْ أَهْلِكَ} متعلق ب «غَدَوْتَ» وفي «من» وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية أي: من بين أهلك، قال أبو البقاء: «وموضعُه نصب تقديره: فارقْتَ أهلك» وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب ولا تفسير معنى، فإن المعنى على غير ما ذكر. والثاني: أنها بمعنى مع أي: مع أهلك، وهذا لا يساعده لا لفظٌ ولا معنى. قوله: {تُبَوِّىءُ} الجملة يجوز أن تكون حالاً من فاعل «غدوت» ، وهي

حال مقدرة أي: قاصداً تَبْوِئَةَ المؤمنين، لأنَّ وقت الغدو ليس وقتاً للتَبْوِئة. ويحتمل أن تكون مقارنةً؛ لأنَّ الزمان متسع. وتُبَوِّىءُ أي: تُنَزِّلُ فهو يتعدى لمفعولين إلى أحدهما نفسه وإلى آخر بحرف الجر، وقد يُحْذف كهذه الآية. ومِنْ عدم الحذف قولُه تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26] وأصله من المَبَاءة وهي المَرْجِعُ. قال: 1418 - وما بَوَّأ الرحمنُ بَيْتَك منزلاً ... بشرقيِّ أجيادِ الصَّفا والمُحَرَّمِ وقال آخر: 1419 - كم مِن أخٍ لي صَالحٍ ... بَوَّأْتُه بيدَيَّ لَحْدا وقد تقدَّم اشتقاق هذه اللفظة. وقيل: «اللام في قوله» لإِبراهيم «مزيدةٌ، فعلى هذا يكون متعدياً للاثنين بنفسه» . ومقاعد جمع «مَقْعَد» . والمراد به هنا مكانُ القُعودِ. وقعد قد يكون بمعنى صار في المَثَل خاصة. وقال الزمخشري: «وقد اتُّسِع في قعد وقام حتى أُجْريا مُجرى صار» . قال الشيخ: «أمَّا إجراء» قَعَد «مُجْرى» صار «

فقال بعض أصحابنا إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل في قولهم:» شَحَذَ شَفْرَته حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبة «، وكذلك نَقَد على الزمخشري تخريجَه قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} [الإسراء: 22] بمعنى: فتصيرَ، لأنه لا يَطِّرِدُ إجراء قَعَد مُجْرى صار» قلت: وهذا الذي ذكره الزمخشري صحيح من كون «قعد» يكون بمعنى صارَ في غير ما أشار إليه هذا القائل، حكى أبو عمر الزاهد عن ابن الأعرابي أن العرب تقول: «قَعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً» أي صار. ثم قال الشيخ: «وأمَّا إجراء» قام «مجرى» صار «فلا أعلم أحداً عَدَّها في أخوات» كان «، ولا جعلها بمعنى صار، إلا ابن هشام الخضرواي فإنه ذَكَر في قول الشاعر: / 1420 - على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ ... كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رماد أنها من أفعال المقاربة قلت: وغيرُه من النحويين يجعلُها زائدةً، وهو شاذ أيضاً. وقرأ العامة:» تُبَوِّىءُ «عَدَّوْه بالتضعيف. وعبد الله:» تُبْوِىءُ «بسكون الباء عَدَّاه بالهمزة، فهو مضارع أَبْوأَ كأكرم، وقرأ يحيى بن وثاب» تُبْوي «كقراءة عبد الله، إلا أنه سَهَّل الهمزة بإبدالها ياء فصار لفظه كلفظ» تُحْيي «كقولهم: تُقْري في تُقْرىء. وقرأ عبد الله:» للمؤمنين «بلام الجر كقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا

لإِبْرَاهِيمَ} [الحج: 26] . وتقدَّم أنَّ في هذه اللامِ قولين. والظاهرُ أنها مُعَدِّية؛ لأنه قبل التضعيفِ والهمزةِ غيرُ متعدٍّ بنفسه. ويحتمل أن يكونَ قد ضَمَّنه هنا معنى» تُهَيِّىء «، و» ترتِّب «. وقرأ الأشهب:» مقاعدَ القتالِ «بإضافتها للقتال. واللام في» للقتال «في قراءة الجمهور فيها وجهان، أظهرهما: أنها متعلقة ب» تُبَوِّىء «على أنها لام العلة، والثاني: أنها متعلقة بمحذوف لأنها صفة ل مقاعد أي: مقاعد كائنة ومهيئة للقتال، ولا يجوز تعلقها ب» مقاعد «وإن كانت مشتقةً، لأنها مكانٌ والأمكنة لا تعمل.

122

قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ} في هذا الظرف أوجه، أحدها: أنه بدلٌ من «إذ غَدَوْت» فالعامل فيه العامل في المبدل منه. الثاني: أنه ظرف ل «غَدَوْتَ» . الثالث: أنه ظرف ل «تُبَوِّىءُ» وهذه الأوجه تحتاج إلى نَقْل تاريخي في اتحاد الزمانيين. الرابع: أن الناصب له «عليم» وحدَه، ذكره أبو البقاء. الخامس: أن العامل فيه: إمَّا «سميع» وإما «عليم» على سبيل التنازع، وتكون المسألة حينئذ من إعمال الثاني، إذ لو أَعمل الأَول لأضمر في الثاني، ولم يَحْذف منه شيئاً كما قد عرفته غير مرة. وقال الزمخشري: «أو عمل فيه معنى» سميع عليم «. قال الشيخ» وهذا غيرُ مُحَرَّرٍ، لأنَّ العامل لا يكون مركباً من وصفين، فتحريره أن يقال: عمل فيه معنى سميع أو عليم، وتكونُ المسألة من التنازع «. قلت: لم يُرِدِ

الزمخشري بذلك إلاَّ ما ذكرتُه من إرادة التنازع، ويَصْدُق أَنْ يقول: عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور لا أنهما عَمِلا فيه معاً، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدِعاً قولاً، إذ الفراء يرى ذلك، ويقولُ في نحو:» ضربت وأكرمت زيداً «إنَّ» زيداً «منصوبٌ بهما وإنهما تسلَّطا عليه معاً، ولتنقيح هذه المسألةِ موضوعٌ غيرُ هذا حَرَّرتها فيه بحمد الله تعالى. والهمُّ: العَزْم. وقيل: بل هو دونَه، وذلك أن أوَّل ما يرم بقلبِ الإِنسان يسمى خاطراً، فإذا قَوِيَ سُمِّي حديثَ نفس، فإذا قوي سُمِّي هَمَّاً، فإذا قوي سُمِّي عزماً، ثم بعده إما قول أو فعل، وبعضهم يُعَبِّر عن الهَمِّ بالإِرادة، تقول العرب: هَمَمْت بكذا أهُمُّ به بضم الهاء، ويقال:» هَمْتُ «بميم واحدة، حذفوا إحدى الميمين تخفيفاً كما قالوا: مَسْتُ وظَلْت وحَسْت في مَسَسْتُ وظَلَلْتُ وحَسَسْت، وهو غير مقيس. والهمُّ أيضاً: الحُزْن الذي يذيب صاحبه وهو مأخوذٌ من قولهم:» هَمَمْتُ الشحم «أي: أذبته. والهمُّ الذي في النفس قريب منه؛ لأنه قد يؤثر في نفس الإِنسان كما يُؤَثِّر الحزن، ولذلك قال الشاعر: 1421 - وَهمُّك ما لم تُمْضِه لك مُنْصِبٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: إنك إذا هممت بشيء ولم تفعله، وجال في نفسك فأنت في تعب منه حتى تقضيه. قوله: {أَن تَفْشَلاَ} متعلق ب» هَمَّتْ «لأنه يتعدَّى بالباء، والأصل: بأن تفشلا، فيجري في محل» أَنْ «الوجهان المشهوران. والفَشَل: الجُبْن والخَوَر. وقال بعضهم:» الفشل في الرأي: العجز، وفي البدن: الإِعياء وعدم

النهوض، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر «والفعل منه» فَشِل «بكسر العين، وتفاشَل الماء إذا سال. وقوله: {وَعَلَى الله} متعلق بقوله:» فَلْيتوكل «قُدِّم للاختصاص ولتناسِب رؤوس الآي. وقد تقدَّم القولُ في نحو هذه الفاء. وقال أبو البقاء:» ودخلت الفاء لمعنى الشرط، والمعنى: إنْ فَشِلوا فتوكلوا أنتم، أو إن صَعُب الأمُر فتوكلوا.

123

قوله تعالى: {بِبَدْرٍ} : متعلق ب «نَصَرَكم» وفي الباء حينئذ قولان، أظهرهما: أنها ظرفية أي: في بدر كقولك: زيد بمكة أي: في مكة. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنها باءُ المصاحبة، فمحلُّها النصب على الحال أي: مصاحبين لبدْرٍ. وبدر اسم ماء بين مكة والمدينة سُمِّي بذلك لصفائِه كالبَدْر، وقيل: لاستدراته، وقيل: باسم صاحبه وهو بدر بن كلدة. وقيل: هو اسم واد. وقيل: اسم بئر. والتوكُّل: / تفعُّل: إمَّا من الوَكالة وهي تفويضُ الأمر إلى مَنْ تَثِق بحسن تدبيره ومعرفته في التصرف، وإمَّا مِنْ وَكَلَ أمره إلى فلان إذا عَجِز عنه. قال ابن فارس: «هو إظهارُ العَجْزِ والاعتمادُ على غيرك، يقال: فلانُ وَكَلَهٌ تُكَلَةٌ أي: عاجز يَكِل أمره إلى غيره» . والتاء في «تُكَلة» بدلٌ من الواو كتُخَمة وتُجاه. قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} في محلِّ نصب على الحال من مفعول «نصركم» . و «أَذِلَّة» جمع ذليل، وجُمِع جَمْعَ قلة إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة، وفعيل الوصفُ قياسُ جمعِه على فُعَلاء كظريف وظرفاء وشريف وشرفاء، إلا أنه تُرِك في المضعف تخفيفاً، أَلا ترى إلى ما يُؤدِّي إليه قولُك ذُلَلاء وخُلَلاء من الثقل من جمع ذليل وخليل.

124

قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ} : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن هذا الظرفُ بدلٌ من قولِه: «إذ هَمَّتْ» . الثاني: أنه منصوبٌ ب «نصركم» . الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار «اذكر» ، وهل هذه الجملةُ من تمام قصة بدر وهو قول الجمهور فلا اعتراضَ في هذا الكلام، أو من تمام أُحُد، فيكون قولُه {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله} مُعْترضاً بين الكلامين؟ خلافٌ مشهور. قوله: {أَن يُمِدَّكُمْ} فاعلُ «ألن يكفيكم» أي: ألن يكفيَكم إمدادُ ربكم. والهمزةُ لَمَّا دَخَلَتْ على النفي قَرَّرَتْه على سبيل الإِنكار، وجيء ب «لن» دونَ «لا» لأنها أبلغُ في النفي. وفي مصحف أُبَيّ: «ألا» ب «لا» دون «لن» كأنه قَصَدَ تفسير المعنى. و «بثلاثة» متعلق ب «يُمِدَّكم» . وقرأ الحسن البصري: «ثلاثَهْ آلاف» بهاء في الوصل ساكنة. وكذلك «بخسمهْ آلاف» كأنه أَجرى الوصل مُجرى الوقف، وهي ضعيفةٌ لكونها في متضايفين يقتضيان الاتصال. قال ابن عطية: «ووجهُ هذه القرءاة ضعيف، لأنَّ المضافَ والمضافَ إليه كالشيء الواحد فيقتضيان الاتصالَ والثاني كمالُ الأول، والهاء إنما هي أَمارةُ وقفٍ فيقلقُ الوقفُ في موضع إنما هو للاتصال، لكن جاء نحو هذا في مواضعَ للعرب، فمن ذلك ما حكاه الفراء من قولهم:» أكلت لحما شاة «يريدون:» لحمَ شاة «فَمَطلوا الفتحةَ حتى نشأت عنها ألفٌ كما قالوا في الوقفِ:» قالا «يريدون» قالَ «، ثم يَمْطُلون الفتحة في القوافي ونحوِها من مواضعِ الرويَّة والتثبُّت، ومن ذلك في الشعر قوله:

1422 - يَنْباع من ذِفْرى غضوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مثلِ الفنيق المُكْدَمِ يريد:» يَنْبَع «فمطَلَ، ومثلُه قول الآخر: 1423 - أقول إذ خَرَّتْ على الكَلْكال ... يا ناقتي ما جُلْت مِنْ مَجَال يريد» الكلكل «فمطَلَ، ومثلُه قول الآخر: 1424 - فأنتَ من الغوائلِ حين تُرْمَى ... ومن ذمِّ الرجال بمُنْتزاحِ يريد: بمنتزَح. قال أبو الفتح:» فإذا جاز أن يَعْتَرِضَ هذا التمادي بين أثناءِ الكلمة الواحدة جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه إذ هما اثنان «. قال الشيخ بعد كلام ابن عطية:» وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مُجرى الوقف، أَبْدلها [هاءً] في الوصل كما أَبْدلوها في الوقف، وموجودٌ في كلامهم إجراءُ الوصل مُجرى الوقف، وإجراءُ الوقفِ مُجْرى الوصل. وأما قوله: «لكن قد جاء نحوُ هذا للعرب في مواضع» وجميعُ ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة، وإشباعُ الحركةِ ليس نحوَ إبدالِ التاءِ هاءً في الوصل، وإنما نظيرُ هذا قولهم: «ثلثهَ اربعة» أَبْدل التاء هاء، ونقل حركة همزة «أربعة» إليها،

وحذفَ الهمزة، فأَجرى الوصلَ مُجرى الوقف في الإِبدال وأَجْرى الوصلَ مُجرى الوقف، إذا النقلُ لا يكون إلا في الوصل «. وقُرىء شاذاً أيضاً: «بثلاثةْ» بتاءٍ ساكنة وهي أيضاً من إجراء الوصل مُجرى الوقف من حيث السكونُ. واختُلف في هذه التاء الموقوف عليها الآن: أهي تاءُ التأنيث التي كانت فسكنت فقط، أو هي بدلٌ من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ وهو خلاف لا طائل تحته. وقوله: {مِّنَ الملائكة} يجوز أن تكون «مِنْ» للبيان، وأَنْ تكونَ «من» ومجرورُها في موضعِ الجر صفةً ل «ثلاثة» أو ل «آلاف» . قوله: {مُنزَلِينَ} صفةٌ لثلاثة آلاف، ويجوزُ أن تكونَ حالاً من «الملائكة» والأولُ أَظهرُ. وقرأ ابن عامر: «مُنَزَّلين» بالتضعيف، وكذلك شَدَّد قوله في سورة العنكبوت: {إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية} [الآية: 34] ، إلا أنه هنا اسم مفعول وهناك اسم فاعل. والباقون خففوهما. وقرأ ابن أبي عبلة هنا: «مُنَزِّلين» بالتشديد مكسور الزاي مبنياً للفاعل. وبعضهم قرأه كذلك إلا أنه خَفَّف الزاي، جَعَلَه من أنزل كأكرم، والتضعيف والهمزةُ كلاهما للتعدية، فَفَعَّل وأَفْعل بمعنى، وقد تقدَّم أن الزمخشري يجعل التشديد دالاً على التنجيم، وتقدَّم البحث معه في ذلك. وفي القراءتين الآخيرتين يكون المفعول/ محذوفاً أي: مُنْزِلين النصرَ على المؤمنين والعذاب على الكافرين. قوله: «بلى» حرفُ جواب وهو إيجاب للنفي في قوله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} وقد تقدم الكلام عليه مشبعاً. وجواب الشرط قوله: «يُمْدِدْكُم» .

والفَوْر: العجَلةُ والسرعة ومنه: «فارَت القِدْر» اشتدَّ غَلَيانها وسارع ما فيها إلى الخروج، يقال: فارَ يفُور فَوْراً، ويُعَبَّر به عن الغضب والحِدَّة؛ لأنَّ الغَضْبانَ يسارع إلى البطش بمَنْ يغضب عليه، فالفور في الأصل مصدرٌ ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا رَيْثَ فيها ولا تعريج عن شيء سواها.

125

قوله تعالى: {مُسَوِّمِينَ} : كقوله: مُنْزَلين «. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو على اسم الفاعل، والباقون بفتحها على اسم المفعول. فأما القراءة الأولى فتحتمل أن تكون من السَّوْم وهو تَرْكُ الماشية ترعى، والمعنى أنهم سَوَّموا خيلَهم أي: أعطَوها سَوْمَها من الجري والجوَلان وتركوها كذلك كما يَفْعل مَنْ يَسِيمُ ماشِيتَه في المَرْعى، ويحتمل أن يكون من السَّوْمَة وهي العلامة، على معنى أنهم سَوَّموا أنفسهم أو خيلهم، ففي التفسير أنهم كانوا بعمائَم بيضٍ إلا جبريلَ فبعمامةٍ صفراء، وروُي أنه كانوا على خيل بُلْق. ورجَّح ابن جرير هذه القراءة بما وَرَد في الحديث عنه عليه السلام يوم بدر» تَسوَّموا فإنَّ الملائكة قد سَوَّمَتْ «. وأما القراءة الثانية فواضحةٌ بالمعنيين المذكورين فمعنى السَّوْم فيها: أنَّ الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مُرْسَلين مِنْ عندِ الله لنصرةِ نبيِّه والمؤمنين. حكى أبو زيد: سَوَّم الرجل خيلَه: أي أرسلها، وحكى بعضهم:» سَوَّمْتُ غُلامي «أي: أرسلْتُه، ولهذا قال أبو الحسن الأخفش:» معنى مُسَوَّمين: مُرْسَلين «. ومعنى السَّومةِ فيها أنَّ الله تعالى سَوَّمَهم أي: جَعَل عليهم علامَةً وهي العمائم، أو الملائكةُ جَعَلوا خيلَهم نوعاً خاصاً وهي البُلْق، فقد سَوَّموا خيلَهم.

126

قوله تعالى: {إِلاَّ بشرى} : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله وهو استثناء مفرغ، إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبشرى، وشروطُ نصبِه موجودةٌ وهي اتحاد الفاعل والزمان وكونُه مصدراً سيق للعلة. والثاني: أنه مفعولٌ ثان لجَعَل على أنها تصييريةٌ. والثالث: أنها بدلٌ من الهاءِ في «جَعَله» قاله الحوفي، وجعل الهاءَ عائدةً على الوعدِ بالمَدَدِ. والبُشْرى مصدرٌ على فُعْلى كالرُّجْعَى. قوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على «بشرى» هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله، وإنما جُرَّت باللام لاختلالِ شرطٍ من شروطِ النصب وهو عَدَمُ اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ الجَعْل هو الله تعالى وفاعلَ الاطمئان القلوبُ، فلذلك نُصِب المعطوفُ عليه لاستكمال الشروط، وجُرَّ المعطوفُ باللام لاختلالِ شرطه، وقد تقدَّم، والتقدير: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة. والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوف ِأي: ولتطمئن قلوبُكم فَعَلَ ذلك، أو كانَ كيتَ وكَيتَ. وقال الشيخ: «وتطمئنَّ منصوبٌ بإضمار» أَنْ «بعد لام» كي «فهو من عطفِ الاسم على تَوَهُّم موضِع اسم آخر» . ثم نَقَل عن ابن عطية أنه قال: «واللام في» ولتطمئن «متعلقةٌ بفعلٍ مضمر يَدُلُّ عليه» جعله «» ، ومعنى الآية: «وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئنَّ به قلوبكم» . قال الشيخ: «وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أَنْ يُعْطَف» ولتطمئن «على» بشرى «على الموضع؛ لأنَّ مِنْ شرطِ العطف على الموضع عند أصحابنا أن يكون ثَمَّ مُحْرِزٌ للموضع، ولا مُحْرزَ هنا، لأنَّ عاملَ الجر مفقود، ومَنْ لم يشترطِ المُحْرز فيجوِّز ذلك، ويكونُ من باب العطف على التوهم» . قلت: وقد جعل بعضُهم

الواوَ في «ولتطمئن» زائدةً وهو لائقٌ بمذهب الأخفش، وعلى هذا فتتعلَّق اللامُ بالبشرى، أي: إن البُشْرى علةٌ للجَعْل، والطمأنينة علةٌ للبُشْرى فهي علة العلة. وقال الفخر الرازي: «في ذِكْر الإِمدادِ مطلوبان، أحدهما: إدخالُ السرور في قلوبِهم وهو المرادُ بقوله {إِلاَّ بشرى} والثاني: حصولُ الطمأنينة بالنصرِ فلا يَجْبُنوا، وهذا هو المقصود الأصلي ففرَّق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين، فعَطَفَ الفعلَ على الاسم، ولَمَّا كان الأقوى حصولَ الطمأنينة أَدْخَلَ حرفَ التعليل» . قال الشيخ: «ويناقَشُ في قوله» عَطْفُ الفعلِ على الاسم «إذ ليس من عطف الفعل/ على الاسم، وفي قوله:» أدخلَ حرفَ التعليل «وليس ذلك كما ذكر» . انتهى. قلت: إنْ عنى الشيخ أنه لم يُدْخِلْ حرفَ التعليل البتة فهوغيرُ مُسَلَّم ولا يمكنُ إنكارُه، وإنْ عَنَى أنه لم يُدْخِلْه بالمعنى الذي قصده الإِمام فيسهُلُ. وقال الجرجاني في «نَظْمه» : «هذا على تأويل: وما جعله الله إلا ليبشِّركم ولتطمئِنَّ، وَمَنْ أجازَ إقحامَ الواو وهو مذهب الكوفيين جعلها مقحمةً في» ولتطمئِنَّ «فيكونُ التقدير: وما جعله الله إلاَّ بُشْرى لكم لتطمئن قلوبكم به. والضميران في قوله:» وما «جعله» و «به» يعودان على الإِمداد المفهومِ من الفعل المتقدم وهو قوله: «يُمْدِدْكم» وقيل: يعودان على النصر، وقيل:

على التسويم. وقيل: على التنزيل. وقيل: على العَدَد، وقيل: على الوعد. وفي هذه الآية قال: «لكم» وتركها في سورة الأنفال لأن تيك مختصرُ هذه، وكأنَّ الإِطناب هنا أَوْلى، لأن القصة مُكَمِّلةٌ هنا فناسب إيناسُهم بالخطابِ المواجَهِ. وأخَّر هنا «به» وقَدَّم في سورة الأنفال؛ لأنَّ الخطابَ هنا موجودٌ في «لكم» فَأَتْبَعَ الخطابَ الخطابَ. وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله: {العزيز الحكيم} وجاء بهما في جملةٍ مستأنفةٍ في الأنفال في قوله: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الآية: 10] لأنه لمَّا خاطبهم هنا حَسُن تعجيلُ بِشارتهم بأنه عزيزٌ حكيم أي: لا يغالَبُ وأنَّ أفعالَه كلها متقنةٌ حكمةٌ وصوابٌ.

127

قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ} : في متعلَّق هذه اللام سبعةُ أوجه: أحدها: أنها متعلِّقة بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ} قاله الحوفي، وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصلِ. الثاني: أنها متعلقةٌ بالنصر في قوله: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} وفيه نظرٌ من حيث إنه قد فُصِل بين المصدر ومتعلَّقه بأجنبي وهو الخبر. الثالث: أنها متعلقة بما تعلق به الخبر وهو قوله: {مِنْ عِندِ الله} والتقدير: وما النصر إلا كائن أو إلا مستقر من عند الله ليقطع. والرابع: أنها متعلقة بمحذوف تقديره: أمدَّكم أو نصركم ليقطع. الخامس: أنها معطوفةٌ على قوله: «ولتطمئِنَّ» ، حَذَفَ حرف العطف لفهم المعنى كقوله: {ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ من قولِه: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} اعتراضيةً بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وهو ساقِطٌ الاعتبارِ. السادس: أنها متعلقةٌ بالجَعْل قاله ابن عطية. السابع: أنها متعلقةٌ بقولِه: «يُمْدِدْكم» ، وفيه بُعْدٌ للفواصلِ بينهما.

والطَّرَفُ: المرادُ به جماعة وطائفة، و «من الذين» يجوز أن يكون متعلقاً بالقطع فتكونَ «مِنْ» لابتداء الغاية. ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها وصفٌ ل «طرفاً» وتكون «مِنْ» للتبعيض. قوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} عطفٌ على «لِيقطعَ» . و «أو» قيل: على بابها من التفصيلِ أي: ليقطعَ طرفاً من البعضِ ويكبِتَ بعضاً آخرين. وقيل: بل هي بمعنى الواو أي: يجمع عليهم الشيئين. والكَبْتُ: الإِصابة بمكروهٍ. وقيل: هو الصَّرْعُ للوجهِ واليدين، وعلى هذين فالتاءُ أصليةٌ، وليست بدلاً من شيء بل هي مادةٌ مستقلة. وقيل: أصلُه مِنْ كَبَده إذا أصابه بمكروهٍ، أثَّر في كَبدِه وَجَعاً كقولك: رَأَسْتُه أي: أصبتُ رأسَه ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حميد: «أو يكبِدَهم» بالدال، والعربُ تُبْدِلُ التاءَ من الدال قالوا: هَرَتَ الثوبَ وهَرَده، وسَبَتَ رأسَه وسَبَدَه. وقد قيل: «إنَّ قراءةَ لاحِق أصلُها التاء، وإنما أُبْدِلَتْ دالاً كقولِهم: سَبَدَ رأسه وهَرَدَ الثوب، والأصلُ فيهما: التاء» . وقوله: {فَيَنقَلِبُواْ} مُرَتَّبٌ على ما تقدَّم. والخَيْبَةُ: عَدَمُ الظفر بالمطلوب، خاب يَخيب خَيْبَة. و «خائبين» نصب على الحال.

128

قوله تعالى: {أَوْ يَتُوبَ} : في نصبِه أوجهٌ، أحدها: أنه معطوفٌ على الأفعالِ المنصوبةِ قبلَه تقديرُه: ليقطعَ أو يكبِتَهم أو يتوبَ عليهم أو يعذِّبَهم، وعلى هذا فيكونُ قولُه «ليس لك من الأمرِ شيءٌ» جملةً اعتراضيةً بين المتعاطِفَيْنِ، والمعنى: أنَّ الله تعالى هو المالِكُ لأمرهم، فإنْ شاء

قطع طرفاً منهم أو هزمهم، أو يتوبَ عليهم إن أسلموا ورَجعوا، أو يعذبهم إن تمادَوا على كفرهم، وإلى هذا التخريجِ ذهب جماعة من النحاة كالفراء والزجاج. والثاني: أن «أو» هنا بمعنى «إلاَّ أَنْ» كقولِهم: «لألزَمَنَّك أو تقضِيَني حقي» أي: إلاَّ أَنْ تقضيني. الثالث: [أنّ] «أو» بمعنى «حتى» أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوبَ. وعلى هذين القولين فالكلامُ متصلٌ بقولِه: «ليس لك من الأمر شيء» والمعنى: / ليس لك من الأمر شيء إلاَّ أَنْ يتوب عليهم بالإِسلامِ فيحصُل لك سرورٌ بهدايتِهم إليه أو يعذبهم بقتلٍ أو نارٍ في الآخرةِ. فيتَشَفَّى بهم. ومِمَّنْ ذهب إلى ذلك الفراء وأبو بكر ابن الأنباري. قال الفراء: «ومثلُ هذا الكلامِ:» لأُذَمَّنَّك أو تعطيَني «على معنى: إلا أَنْ تعطيَني، وحتى تعطيني. وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول امرىء القيس: 1425 - فقلتُ له لاَ تبْكِ عينُك إنَّما ... تحاولُ مُلْكَاً أو تموتَ فَتُعْذَرا أراد: حتى تموتَ، أو: إلاَّ أن تموتَ» قلت: وفي تقديره بيتَ امرىء القيس ب «حتى» نظرٌ، إذ ليس المعنى عليه؛ لأنه لم يفعلْ ذلك لأجلِ هذه الغايةِ والنحويون لم يقدِّروه إلا بمعنى «إلاَّ» .

الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار «أَنْ» عطفاً على قوله: «الأمر» كأنه قيل: «ليس لك من الأمرِ أو من تَوْبته عليهم أو تعذيبِهم شيءٌ» ، فلمَّا كان في تأويلِ الاسم عُطفِ على الاسمِ قبلَه فهو من باب قولِه: 1426 - ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعِزَّةً ... وآلُ سُبَيْعٍ أو أَسُوْءَكَ علقما وقولها: 1427 - لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني ... أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوف الرابع: أنه معطوفٌ بالتأويلِ المذكور على «شيء» والتقدير: ليس لك من الأمرِ من شيءٌ أو توبةُ اللهِ عليهم أو تعذيبُهم أي: ليس لك أيضاً توبتُهم ولا تعذيبُهم، إنما ذلك راجعٌ إلى الله تعالى. وقرأ أُبَيّ: «أو يتوبُ، أو يعذِّبُهم» برفعهما على الاستئناف في جملةٍ اسميةٍ أضمر مبتدَؤُها أي: أو هو يتوبُ ويعذِّبُهم.

130

قوله تعالى: {أَضْعَافاً} : جمع ضِعْف، ولَمَّا كان جمعَ قلةٍ والمقصودُ الكثرةُ أتبعه بما يدلُّ على ذلك وهو الوصف بمضاعفة. وقال أبو البقاء: «أضعافاً» مصدرٌ في موضع الحال من «الربا» . وقد تقدَّم لنا

الكلامُ على «أضعاف» ومفردُه في البقرة. وقرأ ابن كثير وابن عامر: «مُضَعَّفَةً» مشدَّدَ العينِ دونَ ألف، والباقون بالتخفيف والألفِ. وقد تقدَّم الكلامُ أيضاً على التشديدِ والتخفيفِ في البقرة أيضاً.

133

قوله تعالى: {وسارعوا} : قرأ نافع وابن عامر: «سارعوا» دون واو. والباقون بواو العطف. فَمَنْ أَسْقطها استأنف الأخير بذلك، أو أراد العطفَ ولكنه حَذَفَ العاطفَ للدلالة كقوله تعالى: {ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] . وقد تقدَّم ضعفُ هذا المذهب. ومَنْ أثبت الواو عطفَ جملةً أمريةً على مثلها. وبعد اتِّباعِ الأثرِ في التلاوة اتَّبَع كلٌّ رسمَ مصحَفه فإنَّ الواو ساقطةٌ من مصاحف المدينة والشام ثابتةٌ فيما عداها. قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} صفةً ل «مغفرة» و «مِنْ» للابتداء مجازاً. وقوله: {عَرْضُهَا السماوات} لا بد من حذف أي: مثلُ عرض السماوات، يدل عليه قوله: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ} والجملةٌ في محلِّ جرِّ صفةً ل «جنة» . قوله: {أُعِدَّتْ} يجوزُ أَنْ يكونَ محلُّها الجرَّ صِفةً ثانية ل «جنة» ، ويجوز أن يكونَ محلُّها النَصبَ على الحال من «جنة» ؛ لأنها لَمَّا وُصِفَتْ تَخَصَّصَتْ فَقَرُبت من المعارف. قال أبو البقاء: «ويجوز أن تكون مستأنفة، ولا يجوز أن تكونَ حالاً من المضاف إليه لثلاثة أشياء، أحدها: أنه لا عامل، وما جاء من ذلك متأولٌ على ضعفه. والثاني: العَرْضُ هنا لاَ يُراد به المصدرُ الحقيقي بل

يُرادُ به المسافة. والثالث: أنَّ ذلك يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الحال وبين صاحبِ الحالِ بالخبر» معنى بالخبر قولَه «السماوات» وهو ردٌّ صحيح.

134

قوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ} : يجوزُ في محلِّه الألقابُ الثلاثةُ، فالجَرُّ على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ، والنصبُ والرفعُ على القطعِ المُشْعِر بالمدح. قوله: {والكاظمين} يجوزُ فيه الجَرُّ والنصبُ على ما تقدَّم فيما قبله. والكَظْمُ: الحَبْسُ. كَظَمَ غيظَه أي: حَبَسَه وكَظَم القِرْبة والسِّقاء: إذا شَدَّ فَمَوَيْهِما مانعاً من خروجِ ما فيهما، ومنه: الكِظامُ لِسَيْرٍ تُشَدُّ به القِرْبَةُ والسِّقاء كذلكَ. والكَظْمُ في الأصلِ: مَخْرَجُ النفس، يُقال: أخَذَ بَكَظْمِه أي: مَخْرَج نَفَسه. الكُظُوم: احتباسُ النَّفَس، ويُعَبَّر به عن السكون كقولهم: «فلان لا يتنفَّس» . والمَكْظُوم: الممتلِىءُ غيظاً وكأنه لغيظه لا يستطيع أن يتكلَّمَ ولا يُخْرِجَ نَفَسه، والكَظِيمُ: الممتلِىءُ أَسَفاً، قال أبو طالب: 1428 - فَحَضَضْتُ قومي واحتَسَبْتُ قتالَهم ... والقومُ من خوفِ المَنايا كُظَّمُ وكَظَم البعيرُ: إذا ترك الاجترارَ من ذلك، ومنه قولُ الراعي: 1429 - وأفَضْنَ بعدَ كُظومِهِنَّ بِجِرَّةٍ ... مِنْ ذي الأباطِحِ إذ رَعَيْنَ حَقِيلا

والحقيل: نبت، وقيل: موضع، فعلى الأول هو مفعولٌ به وعلى الثاني هو ظرف، ويكون قد شَذَّ عدمُ جرِّه ب «في» لأنه ظرفُ مكانٍ مختصٌّ، ويكون المفعولُ محذوفاً أي: إذ رَعَيْنَ الكَلأ في حَقيلٍ، ولا تَقْطَعُ الإِبلُ جِرَّتَها إلا عند الفزعِ، ومنه قولُ أعشى باهلة يصفُ رجلاً يُكْثِر نَحْرَ الإِبل: 1430 - قد تَكْظِمُ البُزْلُ منه حين تُبْصِرُه ... حتى تَقَطَّع في أَجْوافِها الجِرَرُ والجِرَرُ جمعُ جِرَّة. الكِظامَةُ: حَلْقَةٌ من حديدٍ تكونُ في طرف الميزان تُجْمَعُ فيها خيوطه، وهي أيضاً السَّيْر الذي يُوصل بوتَرِ القوس، والكَظَائِمُ: خُروقٌ بين اليدين يَجْري منها الماءُ إلى الأخرى، كلُّ ذلك تشبيهاً بمَجْرى النفس/.

135

قوله تعالى: {والذين إِذَا فَعَلُواْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على الموصولِ قبلَه، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة، وتكونُ الجملةُ من قولِه: {والله يُحِبُّ المحسنين} جملةً اعتراضٍ بين المتعاطِفَيْن، ويجوزُ أَنْ يكونَ «والذين» مرفوعاً بالابتداء، و «أولئك» مبتدأٌ ثانٍ، و «جزاؤهم» مبتدأٌ ثالثٌ، و «مغفرةٌ» خبرُ الثالث، والثالثُ وخبرُه خبرُ الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. وقوله: {إِذَا فَعَلُواْ} شرطٌ جوابُه «ذكروا» وقوله: {فاستغفروا} عطفٌ على الجواب، والجملةُ الشرطية وجوابُها صلةُ الموصولِ، والمفعولُ الأولُ لاستغفر محذوفٌ، أي: استغفروا اللهَ لذنوبِهِم. وقد تقدَّم الكلامُ على «استغفر» ، وأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر، وليس هو هذه اللامَ بل «مِنْ» ، وقد تُحْذَفُ، وقوله: {وَمَن يَغْفِرُ} استفهامٌ معناه النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناءُ.

وقوله: {إِلاَّ الله} بدلٌ من الضمير المستكنِّ في «يغفرُ» التقديرُ: لا يغفرُ أحدٌ الذنوبَ إلا اللهُ، والمختارُ هنا الرفعُ على البدلِ لكونِ الكلامِ غيرَ إيجاب، وقد تقدَّم تحقيقُه عند قولِه تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] . وقال ابو البقاء: «ومَنْ» مبتدأ، و «يغفر» خبرُه، و {إِلاَّ الله} فاعلٌ أو بدلٌ من المضمر وهو الوجه، لأنك إذا جَعَلْتَ اللهَ تعالى فاعلاً احتجْتَ إلى تقدير ضمير أي: ومَنْ يغفر الذنوبَ له غيرُ الله «وهذا الذي قاله أعني جَعْلَه الجلالَةَ فاعلاً يَقْرُب من الغلط فإنَّ الاستفهامَ هنا لا يُراد به حقيقتُه، إنما يُرادُ النفيُ، والوجهُ ما تقدَّم من كونِ الجلالةِ بدلاً من ذلك الضميرِ المستترِ العائدِ على» مَنْ «الاستفهامية. قوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ} يجوز أن تكونَ جملةً حاليةً من فاعلِ» استغفروا «أي: استغفروا غيرَ مُصِرِّين، ويجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ منسوقَةً على» فاستغفروا «أي: ترتَّب على فِعْلهم الفاحشةَ ذِكْرُ اللهِ تعالى والاستغفارُ لذنوبهم وعدمُ إصرارِهم عليها، وتكونُ الجملةُ مِنْ قوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} على هذين الوجهين معترضةً بين المتعاطفين على الوجه الثانَي، وبين الحالِ وذي الحالِ على الأول. قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يجوز أن تكونَ حالاً ثانيةً من فاعل» استغفروا «وأن تكونَ حالاً من فاعل» يُصِرُّوا «، ومفعولٌ» يَعْلَمُون «محذوفٌ للعلمِ به، فقيل: تقديرُه: يعلمونَ أنَّ الله يتوبُ على مَنْ تَابَ، قاله مجاهد. وقيل: يعلمون أنَّ تَرْكَه أَوْلى، قاله ابن عباس والحسن. وقيل: يَعْلَمُون المؤاخذةَ بها أو عَفْوَ اللهِ عنها. و» ما «في قوله: {على مَا فَعَلُواْ} يجوزُ أَنْ تكونَ اسميةً بمعنى الذي، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً.

والإِصرارُ: المداوَمةٌ على الشيء وتَرْكُ الإِقلاعِ عنه وتأكيدُ العزم على ألاَّ يتركَه، مِنْ صَرَّ الدنانيرَ: إذا رَبَطَ عليها، ومنه» صُرَّةُ الدارهم «لما يُرْبَطُ بها. وقال الحطيئة يصف خيلاً: 1431 - عوابِسُ بالشُّعْثِ الكُماةِ إذا ابْتَغَوْا ... عُلالَتَها بالمُحْصَداتِ أَصَرَّتِ أي: ثَبَتَتْ وأقامَتْ مداومةً على ما حُمِلَتْ عليه. وقال الشاعر: 1432 - يُصِرُّ بالليلِ ما تُخْفِي شواكِلُه ... يا ويحَ كلِّ مُصِرِّ القلبِ خَتَّارِ

136

قوله تعالى: {مِّن رَّبِّهِمْ} : في محلِّ رفعٍ نعتاً لمغفرة، و «مِنْ» للتبعيض أي: مِنْ مغفرات ربهم. قوله: {خَالِدِينَ} حال من الضمير في «جزاؤهم» لأنه مفعولٌ به في المعنى، لأنَّ المعنى: يَجْزيهم اللهُ جناتٍ في حالِ خلودِهم، وتكونُ حالاً مقدرةً. ولا يجوز أن تكون حالاً من «جنات» في اللفظِ وهي لأصحابِها في المعنى، إذ لو كان ذلك لبرز الضمير لجريانِ الصفةِ على غير مَنْ هي له. والجملةُ من قولِه {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في محلِّ رفعٍ نعتاً ل «جنات» . وتقدَّم إعرابُ نظيرِ هذه الجملةِ، والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ في قولهِ: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} تقديرُه: ونِعْمَ أجرُ العامِلين الجنةُ.

137

قوله تعالى: {مِن قَبْلِكُمْ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «خَلَتْ»

ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «سنن» ؛ لأنه في الأصلِ يجوز أَنْ يكونَ وصفاً فلمَّا قُدِّم نُصِبَ حالاً. والسُّنَنُ: جمع «سُنَّة» وهي الطريقةُ التي يكونُ عليها الإِنسانُ ويلازِمُها، ومنه «سنة الأنبياء» عليهم السلام. قال خالد الهذلي لخاله أبي ذؤيب: 1433 - فلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنت سِرْتَها ... فَأَوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَنْ يَسيرُها وقال أخر: 1434 - وإنَّ الأُلَى بالطَّفِّ مِنْ آلِ هاشمٍ ... تَأَسَّوا فَسَنُّوا للكرامِ التآسِيا وقال لبيد: 1435 - مِنْ أمةٍ سَنَّتْ لهم آباؤُهم ... ولكلِّ قومٍ سُنَّةٌ وإمامُها وقال المفضل: «السُّنَّةُ الأُمَّة» ، وأنشد: 1436 - ما عايَنَ الناسُ مِنْ فضلٍ كفضلكمُ ... ولا رُئِيْ مثلُه في سائِرِ السُّنَنِ ولا دليلَ فيه لاحتمالِه. وقال الخليل: «سَنَّ الشيءَ بمعنى صَوَّره» .

ومنه: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] أي: مُصَوَّر. وقيل: سَنَّ الماءَ والدرع إذا صَبَّهما، وقوله: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} يجوزُ أَنْ يكونَ منه، ولكنَّ نسبةَ الصبِّ إلى الطين بعيدةٌ. وقيل «مَسْنون» أي متغير. قال بعض أهل اللغة: «هي فُعْلَة من سَنَّ الماءَ يَسُنُّه إذا والى صَبَّه. والسَّنُّ: صَبُّ الماءِ والعرق ونحوهما، وأنشدَ لزهيرٍ: 1437 - نُعَوِّدها الطِّرادَ فكلَّ يومٍ ... تُسَنُّ على سنابِكها القُرونُ أي: يُصَبُّ عليها العرقُ. وقيل: سُنَّة: فُعْلَة بمعنى مفعول كالغُرْفَة والأُكْلَة. وقيل: اشتقاقُها من سَنَنْتُ النَّصْلَ أَسُنُّه سَنَّاً إذا حَدَدْتَه، والمعنى أن الطريقة الحسنة معتنىً بها كما يُعْتنى بالنصل ونحوه. وقيل: مِنْ سَنَّ الإِبلَ: أذا أحسن رَعْيَها. والمعنى: أَنَّ صاحبَ السنة يقومُ على أصحابهِ كما يقومُ الراعي على إبلِه، وقد مَضَى مِنْ ذلك جملةٌ صالحةٌ في البقرة. وقوله: {فَسِيرُواْ} جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلَها. والتسبيبُ في هذه الألفاظِ ظاهرٌ أي: سَبَبُ الأمرِ بالسير لينظُروا نَظَرَ اعتبارٍ خُلُوُّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم. وقال أَبو البقاء:» ودَخَلَتِ الفاء في «فسيروا» / لأنَّ المعنى على الشرطِ أي: إن شَكَكْتُم فسيروا. قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} «كيف» خبرٌ مقدم واجبُ التقديم؛ لتضمُّنِه معنى الاستفهامِ وهو مُعَلِّقٌ ل «انظروا» قبلَه، فالجملةُ في محل نصبٍ بعد إسقاطِ

الخافضِ إذ الأصل: انظروا في كذا.

138

قوله تعالى: {لِّلنَّاسِ} ؛ يجوز أن يتعلَّق بالمصدر قبلَه، ويجوز أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه وصفٌ له. قوله: {لِّلْمُتَّقِينَ} يجوز أنْ يكونَ وصفاً أيضاً ويجوزُ أن يتعلَّقَ بما قبله، وهو محتمِلٌ لأنْ يكونَ من التنازع، وهو على إعمالِ الثاني للحذفِ مِن الأول.

139

قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا} : الأصلُ: «تَوْهِنُوا» فَحُذِفَتِ الواوُ لوقوعها بين ياءٍ وكسرةٍ في الأصلِ، ثم أُجْرِيَتْ حروفُ المضارعةِ مُجْراها في ذلك. ويقال: وَهَنَ بالفتح في الماضي يَهِن بالكسر في المضارع. ونُقِل أنه يقال: وَهُن وَوهِن بضم الهاء وكسرِها في الماضي. وَوَهَن يُسْتعمل لازماً ومتعدياً تقول: وَهَن زيدٌ أي: ضَعُفَ، قال تعالى: {وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] ووهَنْتُه أي: أَضْعَفْتُه. ومنه الحديثُ: «وهَنَتْهُم حُمَّى يثرب» والمصدرُ على الوَهَن والوَهْنِ، بفتح العين وبسكونِها. وقال زهير: 1438 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فأصبحَ الحبلُ مِنْها واهِناً خَلَقَا أي: ضعيفاً. قوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} جملةٌ حاليةٌ من فاعل «تَهِنوا» أو «تحزنوا» والاستئنافُ فيها غيرُ ظاهرٍ. والأَعْلَوْن: جمعُ أَعْلى والأصل: أَعْلَيُون فتحرَّكت

الفاءُ وانفتح ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً فَحُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين وبقيت الفتحة لتدلَّ عليها، وإنْ شئت قلت: استُثْقِلَتْ الضمةُ على الياء فَحُذِفت فالتقى ساكنان أيضاً الياء والواو، فَحُذِفت الياء لالتقاء الساكنين، وإنما احتِجْنا إلى ذلك لأنَّ واوَ الجمعِ لا يكونُ ما قبلها إلاَّ مضموماً لفظاً أو تقديراً، وهذا مثالُ التقديرِ. قولُه: {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابُه محذوفٌ أي: فلا تَهِنُوا ولا تحَْزَنوا.

140

قوله تعالى: {قَرْحٌ} : قرأ الأخَوان وأبو بكر: «قُرْح» بضم القاف، وكذلك «القُرْح» معرَّفاً، والباقون بالفتح فيهما، فقيل: هما بمعنى واحد. ثم اختلف القائلون بهذا فقال بعضهم: «المرادُ بهما الجرحُ نفسه» . وقال بعضُهم: منهم الأخفش المرادُ بهما المصدرُ. يُقال قَرِحَ الجرحُ يَقْرَحُ قُرَحاً وقَرْحاً. قال امرؤ القيس: 1439 - وبُدِّلْتُ قَرْحاً دامياً بعد صحةٍ ... لعلَّ منايانا تَحَوَّلنَ أَبْؤُسَا والفتحُ لغةُ الحجاز، والضمُّ لغةُ غيرِهم فهما كالضَّعْف والضُّعْف والكَرْه والكُرْه. وقال بعضُهم: «المفتوح: الجُرحُ، والمضموم: ألمه» . وقرأ ابنُ السَّمَيْفَع بفتح القاف والراء وهي لغةٌ كالطَّرْد والطَّرَد. وقال أبو البقاء: هو مصدرُ قَرُحَ يَقْرُح إذا صار له قُرْحَة، وهو بمعنى دَمِي. وقرىء «قُرُح» بضمِّهما. قيل: وذلك على الإِتباع كاليُسْر واليُسُر والطُّنْب والطُّنُبِ.

وقرأ الأعمش: «إنْ تَمْسَسْكم» بالتاء من فوق، «قروحٌ» بصيغة الجمع، والتأنيث واضح. وأصلُ المادةِ الدلالةُ على الخُلوصِ ومنه: الماء القَراح أي: لا كُدروةَ فيه، قال: 1440 - فساغَ لي الشرابُ وكنتُ قبلاً ... أَكادُ أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ وأرضٌ قَرْحَة أي: خالصةُ الطين ومنه: قريحةُ الرجلِ لخالصِ طبعِهِ. وقال الراغب: «القَرْحُ: الأثَرُ من الجراحةِ، من شيءٍ يصيبُه من خارجٍ، والقُرْحُ يعني بالضم أثرُها مِنْ داخلٍ كالبَثْرةِ ونحوِها، يقال: قَرَحْتُه نحو: جَرَحْتُه. قال الشاعر: 1441 - لا يُسْلِمُون قريحاً حَلَّ وسطُهُمُ ... يومَ اللِّقاءِ ولا يُشْوُون مَنْ قَرَحُوا أي: جرحوا: وقَرِح: خرج به قَرْحٌ، وقَرَحَ الله قلبَه وأقرحه يعني: فَفَعَل وأفْعَل فيه بمعنى وفَرَسٌ قارح: إذا أصابَه أثرٌ من ظهورِ نابِه، والأُنثى: قارحةٌ، وروضةٌ قَرْحاءُ إذا كان في وسطها نَوْرٌ، وذلك تشبيهٌ بالفرس القَرْحاءِ. والاقتراحُ: الابتداعُ والابتكارُ. ومنه قالوا: اقترح عليه فلانٌ كذا، واقترحْتُ بئراً: استخرجْتُ منها ماءً قَراحاً، والقريحَةُ في الأصل: المكانُ الذي يَجْتمع فيه الماءُ المُسْتَنْبَطُ، ومنه استُعِيرَتْ قريحةُ الإِنسانِ» .

قوله: {فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ} للنحويين في مثل هذا تأويلٌ وهو أَنْ يُقَدِّروا شيئاً مستقبلاً، لأنه لا يكونُ التعليقُ إلا في المستقبلِ، وقوله {فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} ماضٍ محقق، وذلك التأويلُ هو التبيين: فقد تبيَّن مسُّ القَرْحِ للقوم، وسيأتي له نظائر/ نحو: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 26] . وقال بعضُهم «وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه:» فتأسَّوا «ونحوُ ذلك. وقال الشيخ:» مَنْ جَعَلَ جوابَ الشرط «فقد مَسَّ» فهو ذاهِلٌ «. قلت: غالبُ النحاةِ جَعَلوه جواباً متأوِّلين له بما ذَكَرْتُ. قوله: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا} يجوزُ في» الأيام «أَنْ تكونَ خيراً ل» تلك «. و» نُداوِلُها «جملةً حاليةٌ العاملُ فيها معنى اسم الإِشارة أي: أُشير إليها حالَ كونِها متداولةً. ويجوزُ أن تكونَ «الأيام» بدلاً أو عطفَ بيانٍ أو نعتاً لاسم الإِشارة، والخبرُ هو الجملةُ من قوله: {نُدَاوِلُهَا} ، وقد مَرَّ نحوُه في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا} [آل عمران: 108] إلا أَنَّ هناك لا يجيءُ القولُ بالنعتِ لِما عَرَفْتَ أنَّ اسمَ الإِشارة لا يُنْعَتُ إلا بذِي أل. و «بين» متعلقٌ ب «نُداوِلُها» . وجَوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من مفعولِ «نُداولها» وليس بشيءٍ. والمُدَاوَلَةُ: المناوَبَةُ على الشيء والمعاوَدَةُ وتَعَهُّدُه مرةً بعد أخرى. يقال: داوَلْتُ بينَهم الشيءَ فتداولوه، كأن «فاعَل» بمعنى «فَعَل» . قال الشاعر:

1442 - يَرِِدُ المياهَ فلا يزالُ مُداوِلاً ... في الناسِ بين تَمَثُّلٍ وسَمَاعِ وأدالَ فلانٌ فلاناً جَعَلَ له دَوْلَة، ويقال: دُولة ودَولة بضمِّ الفاء وفتحها، وقد قُرىء بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى. واختلف الناس: هل اللفظتان بمعنًى أم بينهما فرقٌ؟ فذهب بعضُهم كالراغب وغيرِه إلى أنهما سيَّان، فيكونُ في المصدر لغتان. وقال غيرُ هؤلاء: «بينهما فرقٌ» واختلفت أقوالُ هؤلاء فقال بعضُهم: «الدَّوْلة» بالفتح في الحربِ والجاهِ، وبالضمِّ في المالِ، وهذا تَرُدُّه القراءاتان في سورة الحشر. وقيل: بالضمِّ اسمُ الشيء المتداوَلِ، وبالفتح نفس المصدر وهذا قريب. وقيل: الدُّولة بالضم هي المصدر، وبالفتح الفِعْلَةُ الواحدة فلذلك يُقال «في دَوْلة فلان» لأنها مرة في الدهر. والدَّوْرُ والدول متقاربان في المعنى ولكن بينهما عموم وخصوص فإن الدور أعمُّ من الدَّوْل؛ لأن الدَّوْل باللام لا يكون إلا في الحظوظ الدنيوية. والدَّوَلْوَل: الداهيةُ، والجمعُ: دَأَليل. قوله: {وَلِيَعْلَمَ الله} ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين، قال: «أحدُهما: أنَّ اللامَ صلةٌ لفعلٍ مضمرٍ يَدُلُّ عليه أولُ الكلامِ بتقدير: ولِيعلمَ اللهُ الذين آمنوا نُداولها. والثاني: أنَّ العامل فيه» نُدَاولها «المذكورُ بتقديرِ: نُداوِلها بين الناسِ لنُظْهِرَ أمرَهم ولنبيِّن أعمالَهم، وليعلَم اللهُ الذين آمنوا، فلمَّا ظهرَ معنى اللام المضمرةِ في» ليُظْهِرَ «و» ليبيِّن «جَرَتْ مَجْرى الظاهرة فجاز العطفُ عليها. وجَوَّز أبو البقاء وجهاً وهو أن تكونَ الواوُ زائدةً، وعلى هذا فاللامُ

متعلقةٌ ب» نُداوِلُها «مِنْ غيرِ تقدير شيءٍ. ولكنَّ هذا لا حاجةَ إليه، ولم يَحْتَجْ إلى زيادة الواو إلا الأخفشُ في مواضعَ ليس هذا منها، وبعضُ الكوفيين يوافِقُه على ذلك. وقَدّره الزمخشري ب» فَعَلْنا ذلك ليكونَ كيتَ وكيتَ وليَعلَمَ «، فقدَّر عاملاً وعَلَّق به علةً محذوفة عَطَف عليها هذه العلةَ. قال الشيخ:» ولم يُعَيِّنْ فاعلَ العلةِ المحذوفةِ، إنما كَنَى عنه بكيت وكيت، ولا يُكْنى عن الشيء حتى يُعْرَف، ففي هذا الوجه حَذْفُ العلةِ وحَذْفُ عامِلِها وإبهامُ فاعِلها، فالوجهُ الأولُ أظهرُ إذ ليس فيه غيرُ حَذْفِ العامل «يعني بالوجهِ الأول أَنَّه قَدَّره:» وليَعْلَمَ اللهُ فَعَلْنا ذلك «وهو المداوَلَةُ أو نَيْلُ الكفار منكم. والعلمُ هنا يجوزُ أن يتعدَّى لواحدٍ قالوا: لأنه بمعنى عرف، وهو مُشْكِلٌ لأنه لا يجوزُ وصفُ الله تعالى بذلك لِما تقدَّم من أن المعرفة تستدعي جهلاً بالشيء، أو أنها متعلقة بالذوات دون الأحوال، ويجوز أن يكونَ متعدياً لاثنين، فالثاني محذوفٌ تقديرُه: وليعلم الذين آمنوا مميَّّزين بالإِيمان مِنْ غيرهم. وقُرِىء شاذاً: «يُداوِلُها» بياء الغَيْبة وهو موافِقٌ لِما قبله ولِما بعده. وقراءةُ العامةِ على الالتفاتِ المفيدِ للتعظيمِ. قوله: «منكم» الظاهرُ أنَّ «منكم» متعلقٌ بالاتخاذِ، وجَوَّزوا فيه أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «شهداء» لأنه في الأصلِ صفةٌ له.

141

وقوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ} : معطوفٌ على «لِيَعْلَمَ» وتكونُ الجملةُ من قولِه: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} جملةً معترضةً بين هذه

العللِ. والتمحيصُ: التخليص من الشيء، وقيل: المَحْص كالفحص، ولكنّ الفحصَ يقال في إبراز شيء من أثناء ما يَخْتلط به وهو منفصل، والمَحْصُ يُقال في إبرازه عمَّا هو متصلٌ به، يقال: مَحَصْتُ الذهبَ ومَحَّصْتُه إذا أزلتُ عنه ما يَِشُوبه من خَبَثٍ. ومَحَصَ الثوبَ: إذا أَزال عنه زِئْبَرَه، ومحص الحَبْلُ أي أخلق حتى ذهب عنه زِئْبَرُه، ومَحَص الظبيُ: عدا، فَمَحَصَ بالتخفيفِ يكون قاصراً ومتعدِّياً، هكذا رَوَى الزجاج هذه اللفظةَ: «الحَبْل» ، ورواها النقاش: «مَحَصَ الجملُ» إذا ذهبَ وَبَرُه/ وأَمْلَسَ، والمعنيان واضحان. وقال الخليل: «التمحيص: التخليصُ من الشيء المَعِيب. وقيل: هو الابتلاءُ والاختبارُ» وأنشد: 1443 - رأيْتُ فُضَيْلاً كان شيئاً مُلَفَّفَاً ... فكشَّفَه التمحيصُ حتى بداليا وروى الواحدي عن المبرد بسند متصلٍ: مَحَص الحبلُ يَمْحَصُ مَحْصاً إذا ذهب زِئْبَرُه حتى تَمَلَّص، وحَبْلٌ محيصٌ ومليص بمعنى واحد. قال: «يُسْتَحَبُّ في الفرس أن تَمَحَصَ قوائمُه أي: تَخْلُص، وأنشد ابن الأنباري على ذلك يصف فرساً:

1444 - صُمِّ النُّسورِ صِحاحٍ غيرِ عاثِرَةٍ ... رُكِّبْنَ في مَحِصاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ أي: في قوائمَ متجرداتٍ من اللحم ليس فيها إلا العَظْمُ والعَصَبُ والجِلْد. قال المبردُ:» ومعنى قولِ الناس: «مَحِّصْ عَنَّا ذنوبنا» أي أَذْهِبْ ما تعلَّق بنا من الذنوب «. قال الواحدي:» وهذا الذي قاله المبرد تأويلُ المَحَصِ بفتح الحاء وهو واقعٌ، والمَحْص بسكونِ الحاء مصنوعٌ، قال الخليل: «يقال مَحَصْتُ الشيءَ أَمْحَصُه مَحَصاً إذا أَخْلَصْتَه من كلِّ عيب» وفي جَعْلِه تسكينَ الحاءِ مصنوعاً نظرٌ، لأنَّ أهلَ اللغةِ نَقَلُوه ساكنها، وهو قياسُ مصدر الثلاثي. ومَحَصْتُ السيفَ والسِّنان: جَلَوْتُهما حتى ذهب صَدَؤُهما. قال أسامة الهذلي: 1445 - وشَقُّوا بمَمْحوص السِّنانِ فؤادَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: بمَجْلُوِّ، ومنه استعير ذلك في وَصْفِ الحبل بالملاسَةِ والبَريق. قال رؤبة يصف فرساً: 1446 - شديدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ السَّوَى ... والسَّواء: الظهر، قَصَره ضرورةً، سُمِع: «فَعَلْتُه حتى انقطع سَواي» أي ظهري. وقد تقدَّمت مادة «مَحَق» في البقرة.

142

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ} : في «أم» هذه

أوجهٌ أظهرُها: أنها منقطعةٌ مقدَّرة ب «بل» وهمزةِ الاستفهام، ويكون معناه الإِنكارَ. وقيل: «أم» بمعنى الهمزةِ وحدَها، ومعناه كما تقدَّم: التوبيخُ والإِنكارُ، وقيل: هذا استفهامٌ معناه النهيُ قاله أبو مسلم الأصفهاني. وقيل: هي متصلةٌ. قال ابن بحر: «هي عديلةُ همزةٍ تتقدَّر مِنْ معنى ما تقدَّم، وذلك أنَّ قولَه: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا} إلى آخر القصةِ يقتضي أن يَتَبَع ذلك: أتعلمون أنَّ التكليف يُوجِبُ ذلك أم حسبتم. و» حَسِبَ «هنا على بابها من ترجيحِ أحد الطرفين. و {أَن تَدْخُلُواْ} سادٌّ مسدَّ المفعولين على رأيِ سيبويه ومسدَّ الأولِ، والثاني محذوفٌ على رأيِ الأخفش. قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ} جملةٌ حالية. وقال الزمخشري:» ولَمَّا بمعنى «لم» إلاَّ أنَّ فيه ضَرْباً من التوقع، فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يُستقبل. وتقول: «وعدني أن يفعل كذا ولَمَّا» تريد: «ولَمْ يَفْعَلُ وأنا أتوقع فِعْلَه» . قال الشيخ: «وهذا الذي قاله في» لَمَّا «: أنها تَدُلُّ على توقُّع الفعلِ المنفيِّ بها فيما يُستقبل لا أَعْلَمُ أحداً من النحويين ذَكَره، بل ذكروا أنك إذا قلتَ:» لَمَّا يخرج زيد «دَلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نَفْيُه إلى وقت الإِخبار، أمَّا أنَّها تدلُّ على توقُّعِهِ في المستقبل فلا، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب ما قاله الزمخشري، قال:» لَمَّا «لتعريضِ الوجودِ بخلافِ» لم «» . قلت: «والنَّحْويون إنما فَرَّقوا بينهما مِنْ جهة أنَّ المنفيَّ ب لَمْ» هو فعلٌ غيرُ مقرونٍ ب «قد» و «لَمَّا» نفيٌ له مقروناً بها، وقد تَدُلُّ على التوقع، فيكونُ كلامُ الزمخشري صحيحاً من هذه الجهةِ، ويَدُلُّ على

ما قلته من كونِ «لم» لنَفْيِ فَعَل، و «لَمَّا» لنفي قد فَعَل نصُّ النحاة على ذلك: سيبويه فَمَنْ دونَه. وقد تقدم نظير هذه الآية في البقرة وتحقيقُ القول فيها بما يُغْني عن إعادتِه فعليك بالالتفات إليه. وقوله: «منكم» حالٌ من «الذين» . و {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} بكسرِ الميمِ على أصلِ التقاء الساكنين. وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها. وفيها وجهان. أحدهما: أنَّ الفتحةَ فتحةُ إتباعٍ، أتبعَ الميمَ للام قبلها والثاني: أنه على إرادةِ النونِ الخفيفةِ، والأصلُ: «ولَمَّا يَعْلَمَنْ» والمنفيُّ ب لَمَّا قد جاء مؤكداً بها كقوله: 1447 - يَحْسَبُه الجاهلُ ما لم يَعْلما ... شيخاً على كُرْسِيِّه مُعَمَّماً فلمَّا حَذَفَ النونَ بقي آخرُ الفعل مفتوحاً كقوله: 1448 - لا تُهِينَ الفقيرَ عَلَّك أَنْ تَرْ ... كَعَ يوماً والدهرُ قد رَفَعَهْ [وعليه تُخَرَّج قِراءةُ: «ألم نشرحَ] بفتح الحاء، وقولُ الآخر:

1449 - في أيِّ يَوميَّ من الموتِ أفِرْ ... أيومَ لم يُقْدَرَ أم يومَ قُدِرْ قوله:» ويَعْلَم «العامةُ على فتحِ الميم وفيها تخريجان، أشهرهما: أنَّ الفعلَ منصوبٌ. ثم هل نصبُه ب» أَنْ «مقدرةً بعد الواوِ المقتضيةِ للجمع كهي في قولِك:» لا تأكلِ السمكَ وتَشْربَ اللبن «أي: لا تجمع بينهما وهو مذهب البصريين، أو بواو الصرف، وهو مذهب الكوفيين، يَعْنُون أنه كان مِنْ حَقِّ هذا الفعل أن يُعْرَبَ بإعراب ما قبله، فلمَّا جاءت الواو صَرَفَتْه إلى وجهٍ آخرَ من الإِعراب. وتقرير المذهبين في غيرِ هذا الموضوع. والثاني: أنَّ الفتحةَ فتحةُ التاء ساكنين والفعلُ مجزومٌ، فلمَّا وقع بعده ساكنٌ آخرُ احتيج إلى تحريك آخره فكانت الفتحةُ أَوْلَى لأنها أخف وللإِتباع لحركة اللام، كما قيل ذلك في أحدِ التخريجين لقراءةِ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} بفتح الميم، والأولُ هو الوجه. وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة بكسرِ الميم عطفاً على» يَعْلَمِ «المجزوم ب» لم «. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بن العلاء:» وَيَعْلَمُ «بالرفع، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه مستأنفٌ، أخبر تعالى/ بذلك. وقال الزمخشري:» على أن الواو للحال، كأنه [قال] : ولَمَّا يُجاهِدوا وأنتم صابرون. قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ ما قال، لأنَّ واوَ الحال لا تدخل على المضارعِ،

لا يجوزُ:» جاء زَيدٌ ويضحك «وأنت تريد: جاء زيد يضحك، لأنَّ المضارع واقع موقع اسم الفاعل، فكما لا يجوز» جاء زيد وضاحكاً «كذلك لا يجوز: جاء زيد ويضحك، فإنْ أُوِّلَ على أنَّ المضارعَ خبرُ مبتدأ محذوف أَمْكَنَ ذلك التقديرُ أي: وهو يعلمُ الصابرين كما أَوَّلُوا قولَ الشاعر: 1450 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وَأَرْهُنُهمْ مالِكا ِأي: وأنا أَرْهُنُهم» قلت: قولُه: «لا تَدْخُل على المضارعِ» هذا ليس على إطلاقِه، بل ينبغي أن يقولَ: على المضارعِ المثبت أو المنفي ب «لا» لأنها تدخُل على المضارع المنفيِّ ب لم ولما، وقد عُرِف ذلك غير مرة.

143

قوله تعالى: {كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ} : قرأ البزي بخلاف عنه بتشديد تاء «تَّمَنَّوْنَ» ، ولا يمكنُ ذلك إلا في الوصلِ، وقاعدتُه أنه يَصِلُ ميم الجمعِ بواوٍ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] . والضميرُ في «تَلْقَوه» فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على الموت، والثاني: عَوْدُه على العدوِّ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ لدلالةِ الحالِ عليه. والجمهور على كسر اللام من «قبل» ؛ لأنها معربةٌ لإِضافتِها إلى أَنْ وما في حَيِّزها أي: مِنْ قبل لقائِه. وقرأ مجاهد بن جبر: «من قبلُ» بضم اللام وقطعها عن الإِضافة كقوله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] ، وعلى هذا ف «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على أنها بدلُ اشتمال من الموت أي:

تَمَنَّون لقاء الموتِ كقولك: «رَهَبْتُ العدوَّ لقاءَه» . وقرأ الزهري والنخعي: «تُلاقُوه» ومعناه معنى «تَلْقَوه» لأن «لَقِي» يستدعي أن يكونَ بين اثنين عادةً وإنْ لم يكن على المفاعلة. قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} الظاهرُ أن الرؤيةَ بصريةٌ فتكفي بمفعول واحد، وجَوَّزوا أن تكونَ عِلْمية فتحتاجَ إلى مفعول ثان هو محذوف أي: فقد علمتموه حاضراً أي: الموت، إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحد المفعولين في باب «ظن» ليس بالسهل، حتى إنَّ بعضَهم يَخُصُّه بالضرورة كقول عنترة: 1451 - وَلَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه ... مِنِّي بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ أي: فلا تَظُنِّي غيرَه واقعاً مني. قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} يجوزُ أَنْ تكونَ حاليةً، وهي حالٌ مؤكدة رَفَعَتْ ما تحتملُه الرؤيةُ من المجاز أو الاشتراك، أي: بينهما وبين رؤية القلب، ويجوزُ أن تكونَ مستأنفةً، بمعنى: وأنتم تنظرون في فِعْلِكم الآن بعد انقضاءِ الحرب هل وَفَّيْتُم أو خالَفتم؟ وقال ابن الأنباري: «رأيتموه» أي: قابَلْتُموه وأنتم تنظُرون بعيونكم، ولهذه العلةِ ذَكَرَ النظرَ بعد الرؤية حين اختلف معناهما، لأنَّ الأولَ بمعنى المقابلة والمواجهة، والثاني: بمعنى رؤيةِ العين «وهذا غيرُ معروفٍ عند أهل اللسان، أعني إطلاقَ الرؤيةِ على المقابلة والمواجهة، وعلى تقدير صحتِه فتكونُ الجملةُ من قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملةً حاليةً مبينِّة لا مؤكدةً؛ لأنها أفادَتْ معنىً زائداً على معنى عاملها، ويجوز أن يُقَدَّر

ل» ينظرون «مفعولاً، ويجوز ألاَّ يُقَدَّر، إذ المعنى: وأنتم من أهل النظر. واللهُ تعالى أعلمُ ولله الحمد والمِنَّة/.

144

قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} : «ما» نافيةٌ ولا عملَ لها هنا مطلقاً أعني على لغة الحجازيين والتميميين، لأنَّ التميميين لا يُعْملونها البتة، والحجازيون يُعْملونها بشروط منها: ألاَّ ينتقضَ النفيُ ب «إلا» ، إذ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله وهو شَبَهُها ب «ليس» في نفي الحال، فيكونُ «محمد» مبتدأً، و «رسول» خبرَه، هذا هو مذهب الجمهور، أعني إهمالَها إذا نُقِضَ نفيُها، وقد أجاز إعمالَها منتقضةً النفيِ بإلاَّ يونس وأنشد: 1452 - وما الدهرُ إلا منجَنوناً بأهلِه ... وما صاحبُ الحاجات إلا مُعَذَّبا فَنَصَبَ «منجنوناً» و «مُعَذَباً» على خبرِ «ما» ، وهما بعدَ «إلاَ» ، ومثلُه قول الآخر: 1543 - وما حَقُّ الذي يَعْتُو نهاراً ... ويَسْرِقُ ليلَه إلاَّ نَكالا ف «حق» اسمُ «ما» و «نَكالاً» خبرُها. وتأوَّلَ الجمهور هذه الشواهدَ على أنَّ الخبرَ محذوفٌ، وهذا المنصوبُ معمولٌ لذلك الخبر المحذوفِ

والتقديرُ: وما الدهرُ إلاَّ يدورُ دورانَ منجنون، فحُذِفَ الفعلُ الناصبُ ل «دوران» ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه في الإِعراب، وكذا «إلا معذباً» تقديره: يُعَذَّب تعذيباً، فَحُذِفَ الفعل وأُقيم «مُعَذَّباً» مُقامَ «تَعْذيب» كقولِه: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] أي: كلَّ تمزيق، وكذا «إلا نكالاً» وفيه التكلُّفِ ما ترى. قوله: {قَدْ خَلَتْ} في هذه الجملةِ وجهان، أظهرهما: أنها في محلِّ رفعٍ صفةً ل «رسولِ» . والثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في «رسول» ، وفيه نظرٌ لجريانِ هذه الصفةِ مَجْرى الجوامد فلا تتحمَّل ضميراً. و «من قبله» : فيه وجهان أيضاً، أحدهما: أنه متعلِّقٌ ب «خَلَتْ» . والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من «الرسل» مُقَّدَماً عليها، وهي حينئذٍ حالٌ مؤكدة، لأنَّ ذِكْرَ الخلوِّ يُشْعِرُ بالقبلية. وقرأ ابن عباس: «رسُل» بالتنكير. قال أبو الفتح: «ووجهُها أنه موضعُ تبشيرٍ لامر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر الحياة ومكانُ تسوية بينه وبين البشر في ذلك، وهكذا يُفْعل في أماكن الاقتصاد نحو: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] وقال أبو البقاء:» وهو قريب من معنى المعرفة «كأنه يُريدُ أنَّ المرادَ بالرسلِ الجنسُ، فالنكرةُ قريبةٌ منه بهذه الحيِثِيَّةِ، وقراءةُ الجمهور أَوْلى لأنَّها تَدُلُّ على تفخيمِ الرسل وتعظيمِهم.

قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ} الهمزةُ لاستفهام الإِنكار، والفاءُ للعطف ورتبتُها التقديمُ لأنها حرفُ عطف، وإنما قُدِّمَت الهمزة لأنَّها لها صَدْرُ الكلام، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، وأنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينهما فِعْلاً محذوفاً تَعْطِفُ الفاءُ عليه ما بعدَها. وقال ابن خطيب زَمَلَّكى: «الأوْجَهُ أَنْ يُقَدَّرَ محذوفٌ بعد الهمزة وقيل الفاء تكونُ الفاءُ عاطفةً عليه، ولو صرح به لقيل: أتؤمنون به مدةَ حياته فإنْ مات ارتدَدْتم فتخالِفوا سُنَنَ اتِّباع الأنبياءِ قبلَكم في ثباتِهم على مِلَلِ أنبيائِهم بعد مَوْتِهم» وهذا هو مذهب الزمخشري، إلاَّ أنَّ الزمخشري هنا عَبَّر بعبارةٍ لا تقتضي مذهبَه الذي هو حَذْفُ جملةٍ بعد الهمزةِ فإنه قال: «الفاءُ مُعَلَّقةٌ للجملةِ الشرطيةِ بالجملةِ قبلَها على معنى التسبيبِ، والهمزةُ لإِنكار أَنْ يَجْعَلُوا خُلُوَّ الرسلِ قبلَه سبباً لانقلابِهم على أَعْقابِهم بعدَ هلاكِه بموتٍ أو قَتْلٍ، مع عِلْمِهِم أَنَّ خُلُوَّ الرسلِ قبله وبقاءَ ديِنهم مُتَمَسَّكاً به يجبُ أَنْ يُجْعَلَ سبباً للتمسك بدين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا للانقلابِ عنه» فظاهرُ هذا الكلام أنَّ الفاءَ عَطَفَتْ هذه الجملةَ المشتملة على الإِنكارِ على ما قبلها من قوله: {قَدْ خَلَتْ} مِنْ غير تقديرِ جملةٍ أخرى. وقال أبو البقاء قريباً من هذا فإنَّه قال: «الهمزةُ عند سيبويه في موضِعها، والفاء تدلُّ على تعلُّقِ الشرطِ بما قبله» . انتهى. لا يقال: إنه جَعَل الهمزةَ في موضعِها فيُوهِمُ هذا أنَّ الفاءَ ليست مُقَدَّمَةً عليها لأنه جَعَلَ هذا مقابلاً لمذهبِ يونس، فإنَّ يونس يزعم أنَّ هذه الهمزةَ في مِثْلِ هذا التركيبِ داخلةٌ على جوابِ الشرط، فهي في مَذْهَبِه [في] غيرِ موضِعها. وسيأتي تحريرُ هذا كلِّه.

و «إنْ» شرطيةٌ. و «ماتَ» و «انقلبتم» شرطٌ وجزاءٌ، ودخولُ الهمزةِ على أداةِ الشرطِ لا يغيِّر شيئاً مِنْ حكمِها، وزَعَم يونس أنَّ الفعلَ الثاني الذي هو جزاءُ الشرطِ ليس بجزاءٍ للشرطِ، إنما هو المُسْتَفْهَمُ عنه، وأنَّ الهمزةَ داخلةٌ عليه تقديراً فيُنْوى به التقديمُ وحينئذ فلا يكونُ جواباً، بل الجوابُ محذوفٌ، ولا بد إذ ذاك من أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً، إذ لا يُحْذَفُ الجوابُ إلا والشرطُ ماضٍ، ولا اعتبارَ بالشعرِ فإنه ضرورةٌ، فلا يجوزُ عندَه أَنْ تقولَ: «أإنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك» [لا بجَزْمهما ولا بجزم الأول ورفع الثاني] لأنَّ الشرط مضارعٌ، ولا: «أإن أكرمتني أكرمْك» بجزم «أكرمْك» لأنه ليس الجوابَ بل دالاً عليه، والنيةُ به التقديمُ، فإنْ رَفَعْتَ «أكرمك» وقلت: «أإنْ أكرَمْتَني أكرمُك» صَحَّ عنده، فالتقديرُ عند يونس: آنقلبتم على أعقابِكم إنْ ماتَ محمدٌ؟ لأنَّ الغرضَ إنكارُ انقلابِهم على أعقابِهم بعد مَوْتِه. وبقولِ يونس قال كثيرٌ من المفسرين، فإنَّهم يقولون: ألفُ الاستفهامِ دَخَلَتْ في غير موضعها، لأنَّ الغرضَ إنما هو: أتنقلبون إنْ ماتَ محمد «. وقال أبو البقاء:» وقال يونُس: الهمزةُ في مثلِ هذا حَقُّها أَنْ تَدْخُلِ على جوابِ الشرطِ تقديرُه: «أتنقلبون إنْ مات» ؛ لأنَّ الغرضَ التنبيهُ أو التوبيخُ على هذا الفعلِ المشروط. ومذهبُ سيبويه الحقُّ لوجهينِ، أحدهما: أنك لو قَدَّمْتَ الجوابَ لم يكن للفاءِ وجهٌ إذ لا يَصِحُّ أَنْ تقولَ: «أتزورُوني فإنْ زُرْتُكِ» ، ومنه قولُه تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] ، والثاني: أنَّ الهمزةَ لها صدرٌ الكلام، و «إنْ» لها صدرُ الكلامِ، فقد وقعا في موضِعِهما، والمعنى يَتِمُّ بدخولِ الهمزةِ على جملةِ الشرط والجواب، لأنهما كالشيءِ

الواحد «انتهى. وقد رَدَّ النحويون على يونس بقوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} فإنَّ الفاءَ في قولِه:» فهم «تُعَيِّنُ أن يكون جواباً للشرط. ولهذه المسألةِ موضعٌ هو أليقُ بها من هذا الكتاب. وأتى هنا ب» إنْ «التي تقتضي الشك، والموتُ أمرٌ محقق، إلا أنه أُورد مَوْرِدَ المشكوك فيه للتردُّدِ بين الموتِ والقتلِ. قوله: {على أَعْقَابِكُمْ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه متعلِّقٌ ب» انقلبتم «. والثاني: أنه حالٌ من فاعلِ» انقلبتم «كأنه قيل: انقلبتم راجعين. وقرأ ابن أبي إسحاق:» ومَنْ ينقلِبْ علىعَقِبه «بالإِفراد. و» شيئاً «نُصِبَ على المصدرِ أي: شيئاً مِنَ الضررِ لا قليلاً ولا كثيراً. وقد تقدَّم نظيرُه.

145

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} : «أًَنْ تموتَ» في محل رفع اسماً ل «كان» . و: «لنفس» خبرٌ مقدم فيتعلَّقُ بمحذوف و {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} حالٌ من الضمير في «تموت» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، وهو استثناء مفرغ، والتقدير: وما كان لها أن تموت إلا مأذوناً لها، والباء للمصاحبة. وقال أبو البقاء: و {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} الخبر، واللامُ للتبيينِ متعلقةٌ ب «كان» . وقيل: هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: الموتُ لنفس، و «أن تموت» تبيينٌ للمحذوفِ، ولا يجوز أَنْ تتعلَّقَ اللامُ ب «تموت» لِما فيه من تقديمِ الصلةِ على الموصولِ «. وقال بعضُهم:» إنَّ «كان» زائدةٌ فيكونُ «أَنْ تموتَ» مبتدأ، و «لنفسٍ» خبره «. وقال الزجاج:» تقديرُه: وما كانت نفسٌ لتموتَ، ثم قُدِّمَتِ اللامُ «فجُعِل ما كان اسماً ل» كان «وهو» أن تموتَ «خبراً لها، وما كان خبراً وهو» لنفسٍ «اسماً لها. فهذه خمسةُ أقوالٍ، أظهرُها الأول.

أمَّا قولُ أبي البقاء» واللامُ للتبيين فتتعلَّقُ بمحذوفٍ «ففيه نظرٌ من وجهين، أحدُهما: أنَّ» كان «الناقصةَ لا تعمل في غيرِ اسمِها وخبرِها، ولئِنْ سُلِّم ذلك فاللامُ التي للتبيين إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ، وقد نَصُّوا على ذلك في نحوِ:» سُقياً لك «. وأمَّا مَنْ جَعَل» لنفسٍ «متعلقةً بمحذوفٍ تقديرُه:» الموتُ لنفسٍ «ففاسِدٌ لأنه ادَّعى حَذْفَ شيءٍ لا يجوزُ، لأنه إنْ جَعَل» كان «تامةً أو ناقصةً امتنع حَذْفُ مرفوعِها لأنَّ الفاعلَ لا يُحْذَفُ، وأيضاً فإنَّ فيه حَذْفَ المصدر وإبقاءَ معمولِه وهو لا يجوزُ. وكذلك قولُ مَنْ جَعَلَ» كان «زائدةً. وأمَّا قولُ الزجاجِ فإنَّه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ فتعودُ الأقوالُ أربعةً/. قوله: {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملة التي قبلَه، فعاملُه مضمرٌ تقديرُه:» كَتَب الله ذلك كتاباً «، نحو: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] {وَعْدَ الله} [النساء: 122] ، و {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] . والثاني: أنه منصوبٌ على التمييزِ. ذكره ابنُ عطية، وهذا غيرُ مستقيمٍ؛ لأنَّ التمييزَ منقولٌ وغيرُ منقولٍ، وأقسامُه محصورةٌ وليس هذا شيئاً منها. وأيضاً فأين الذاتُ المبهمةُ التي تحتاج إلى تفسير. والثالثُ: أنه منصوب على الإِغراءِ، والتقديرُ: الزَموا كتاباً مؤجلاً وآمِنوا بالقدر، وليس المعنى على ذلك. وقرأ ورش:» مُوَجَّلاً «بالواوِ بدلَ الهمزةِ وهو قياسُ تخفيفِها. قوله: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ} » مَنْ «مبتدأُ وهي شرطيةٌ. وفي خبرِ هذا المبتدأِ

الخلافُ المشهورُ. وأَدْغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلافٍ عنه دالَ» يُرِدْ «في الثاء، والباقون بالإِظهار. وقرأ أبو عمرو بالإِسكانِ في هاء «نؤتيه» في الموضعين وَصْلاً ووقفاً، وقالون وهشام بخلاف عنه بالاختلاسِ وَصْلاً، والباقون بالإِشباعِ وصلاً. فامَّا السكونُ فقالوا: إنَّ الهاء لَمَّا حَلَّتْ مَحَلَّ ذلك المحذوفِ أُعْطيت ما كان يَسْتَحِقُّه من السكون. وأمَّا الاختلاسُ فلاستصحابِ ما كانَتْ عليه الهاءُ قبلَ حذفِ لامِ الكلمة، فإنَّ الأصل: نُؤتيه، فَحُذِفَتْ الياءُ للجزم، ولم يُعْتَدَّ بهذا العارِض فبقيتِ الهاءُ على ما كانت عليه. وأمَّا الإِشباعُ فنظراً إلى اللفظِ لأنَّ الهاءَ بعد متحرِّكٍ في اللفظِ، وإنْ كانت في الأصلِ بعد ساكن وهو الياء التي حُذِفَتْ للجزم. والأَوْلى أَنْ يُقال: إن الاختلاسَ والإِسكانَ بعد المتحرك لغةٌ ثابتةٌ عن بني عُقَيْل وبني كلاب، حكى الكسائي: «لَهْ مالٌ وبِهْ داءٌ» بسكونِ الهاء، واختلاسِ حركتها، وبهذا يتبيَّنُ أنَّ قولَ مَنْ قال: «إسكانُ الهاءِ واختلاسُها في هذا النحو لا يجوزُ إلا ضرورةً» ليس بشيءٍ، أمَّا غيرُ بني عُقَيْل وبني كلاب فنعم لا يوجد ذلك عندهم إلا في ضرورةٍ كقولِه: 1454 - لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حادٍ ... إذا طَلَبَ الوسيقَةَ أو زميرُ باختلاسِ هاء «كأنه» ، وقول الآخر: 1455 - وأشربُ الماءَ ما بي نحوه عَطَشٌ ... إلاَّ لأنَّ عيونَهْ سَيْلُ وادِيها

بسكونِها. وجعل ابنُ عصفور أنَّ الضرورةَ في البيت الثاني أحسنُ منها في الأولِ قال: «لأنه إذهابٌ للحركةِ وصلتِها فهي جَرْيٌ على الضرورةِ إجراءً كاملاً» وإنما ذَكَرْتُ هذه التعليلاتِ لكثرة ورودِ هذه المسألة نحو {يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] و {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] . وقُرىء: «يُؤْتِه» بياء الغائب، والضميرُ لله تعالى، وكذلك: {وَسَيَجْزِي الشاكرين} بالنون والياء.

146

قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ} : هذه اللفظةُ قيل: مركبةٌ من كافِ التشبيه ومن «أيٍّ» ، وحَدَثَ فيه بعد التركيب معنى التكثيرِ المفهومُ من «كم» الخبرية، ومثلُها في التركيب وإفهامِ التكثير: «كذا» في قولِهم: «له عندي كذا كذا درهماً» والأصلُ: كاف التشبيه و «ذا» الذي هو اسمُ إشارةٍ، فلمَّا رُكِّبا حَدَثَ فيهما معنى التكثير، وكم الخبريةُ و «كأيِّن» و «كذا» كلُّها بمعنى واحد، وقد عَهِدْنا في التركيب إحداثَ معنى أخرَ، ألا تَرَى أنَّ «لولا» حَدَثَ لها معنىً جديد. وكأيِّن مِنْ حقِّها على هذا أَنْ يُوقَفَ عليها بغير نونٍ، لأنَّ التنوين يُحْذَفُ وقفاً، إلا أنَّ الصحابة كتبتها: «كأيِّن» بثبوتِ النونِ، فَمِنْ ثَمَّ وَقَفَ عليهما جمهورُ القراء بالنون إتباعاً لرسم المصحف. ووقف أبو عمرو وسَوْرة بن مبارك عن الكسائي عليها: «

كأي» من غير نونٍ على القياس. واعتلَّ الفارسي لوقفِ النونِ بأشياءَ طَوَّل بها، منها: أنَّ الكلمة لَمَّا رُكِّبت خَرَجَتْ عن نظائِرها، فَجُعِل التنوينُ كأنه حرفُ أصلي من بنية الكلمة. وفيها لغاتٌ خمس. أحدها: كَأَيِّنْ «وهي الأصل، وبها قرأ الجماعة إلاَّ ابنَ كثير. وقال الشاعر: 1456 - كَأَيِّنْ في المعاشِر من أُناسٍ ... أخوهُمْ فوقَهم وهمُ كِرامُ والثانية:» كائِنْ «بزنةِ» كاعِنْ «وبها قرأ ابن كثير وجماعةٌ، وهي أكثرُ استعمالاً من» كَأَيِّن «وإنْ كانت تلك الأصلَ. قال الشاعر: 1457 - وكائن بالأباطحِ مِنْ صديقٍ ... يَراني لو أُصِبْتُ هو المُصَابا وقال: 1458 - وكائِنْ رَدَدْنا عنكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . واختلفوا في توجيهِ هذه القراءة فنُقل عن المبرد أنها اسم فاعل من: كان يكون فهو كائن، واستبعده مكي قال:» لاتيانِ «مِنْ» بعده ولبنائِه على

السكون «. وكذلك أبو البقاء قال:» وهو بعيدُ الصحة، لأنه لو كان كذلك لكان مُعْرباً، ولم يكن فيه معنى التكثير «لا يقال: هذا يُحْمَلُ على المبرد، فإنَّ هذا لازمٌ لهم أيضاً، فإنَّ البناءَ ومعنى التكثير عارضان أيضاً، لأنَّ التركيبَ عُهِد فيه مثلُ ذلك كما تقدم في» كذا «و» لولا «ونحوِهما، وأمَّا لفظٌ مفردٌ يُنقل إلى معنى ويُبْنى من غير سبب فلم يُوجَدْ له نظير. وقيل: هذه القراءةُ أصلُها» كأيِّنْ «كقراءة الجماعة إلا أنَّ الكلمةَ دخلها القلبُ فصارَتْ» كائِن «مثل» جاعِن «. واختلفوا في تصييرها بالقلبِ كذلك على أربعةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه قُدِّمت الياءُ المشددة على الهمزةِ فصار وزنُها كَعْلَف لأنك قَدَّمْتَ العينَ واللامَ وهما الياءُ المشددة، ثم حُذِفَتِ الياءُ الثانية لثِقَلِها بالحركة والتضعيف كما قالوا في» أيُّهما «: أيْهُما، ثم قُلِبت الياءُ الساكنة ألفاً كما قَلَبُوها في نحو:» آية «والأصل: أَيَّة، وكما قالوا: طائي، والأصل: طَيْئِي، فصارَ اللفظُ: كائِن كجاعِن كما ترى، ووزنُه» كَعْفٍ «؛ لأنَّ الفاءَ أُخِّرت إلى موضعِ اللامِ، واللامُ قد حُذِفَتْ. الوجه الثاني: أنه حُذِفَتِ الياءُ الساكنةُ التي هي عينٌ وقُدِّمَتِ المتحركةُ التي هي لامٌ، فتأخَّرتِ الهمزةُ التي هي فاءٌ، وقُلِبَت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَ «كائِن» ووزنُه: كَلْفٍ. الوجه الثالث: ويُعْزى للخليل أنه قُدِّمَتْ إحدى الياءَين في موضع الهمزةِ فَحُرِّكت بحركة الهمزة وهي الفتحةُ، وصارَت الهمزةُ ساكنةً في موضعِ الياء، فتَحَرَّكتِ الياءُ وانفتح اما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى ساكنان: الألفُ المنقبلةُ

عن الياءِ والهمزةُ بعدها ساكنةٌ، فكُسِرت الهمزةُ على أصل التقاءِ الساكنين، وبقيت إحدى الياءين متطرفةً فأذهبها التنوينُ بعد سَلْبِ حركتِها كياءِ قاضٍ وغازٍ. الوجه الرابع: أنه قُدِّمَتِ الياءُ المتحركةُ فانقلبت ألفاً، وبقيت الأخرى ساكنةً فحذفها التنوينُ مثل قاضٍ، ووزنُه على هذين الوجهين أيضاً كَلْفٍ لِما تقدَّم مِنْ حَذْفِ العينِ وتأخيرِ الفاء، وإنما الأعمالُ تختلف. اللغة الثالثة: «كَأْيِن» بياء خفيفةٍ بعد الهمزة على مثالِ: كَعْيِن، وبها قرأ ابن محيصن والأشهب العقيلي، ووجْهُها أنَّ الأصلَ: كَأَيِّن كقراءة الجماعة: فَحُذِفَتْ الياء الثانيةٌ استثقالاً فالتقى ساكنان: الياءُ والتنوينُ، فكُسِرت الياءُ لالتقاءِ الساكنين ثم سَكَنَتِ الهمزةُ تخفيفاً لثقلِ الكلمةِ بالتركيبِ فصارَتْ كالكلمةِ الواحدةِ كما سَكَّنوا: «فهو» و «فهي» . اللغة الرابعة: «كَيْئِن» بياء ساكنةٍ بعدَها همزةٌ مكسورةٌ، وهذه مقلوبُ القراءةِ التي قبلَها، وقرأ بها بعضُهم. واللغةُ الخامسةُ: «كَئِنْ» على مثال كَعٍ، ونَقَلها الداني قراءةً عن ابن محيصن أيضاً. وقال الشاعر: 1459 - كَئِنْ مِنْ صديقٍ خِلْتُه صادقَ الإِخا ... أبانَ اختباري أنَّه لي مُداهِنُ وفيها وجهان أحدُهما: أنه حَذَفَ الياءَيْن دفعةً واحدةً لامتزاجِ الكلمتين بالتركيبِ، والثاني: أنه حَذَفَ إحدى الياءَيْن على ما تقدَّم تقريرُه، ثم حَذَف الأخرى لالتقائِها ساكنةً مع التنوينِ، ووزنُه على هذا: «كَفٍ» لِحَذْفِ العينِ واللامِ منه. /

واختلفوا في «أيٍّ» : هل هي مصدرٌ في الأصل أم لا؟ فذهب جماعةٌ إلى أنها ليسَتْ مصدراً وهو ظاهرُ قولِ أبي البقاء فإنه قال: «وكأيِّن الأصلُ فيه:» أي «التي هي بعض من كل، أُدْخِلَتْ عليها كافُ التشبيه» وفي عبارتهِ عن «أي» بأنها بعض من كلٍّ نظرٌ، لأنها ليست بمعنى بعض من كل، نعم إذا أُضيفت إلى معرفةٍ فحكمُها حكمُ «بعض» في مطابقةِ الخبرِ وَعُودِ الضميرِ نحو: أيُّ الرجلين قام؟ ولا تقول: «قاما» ، وليست هي التي «بعض» أصلاً. وذهب ابن جني أنها في الأصل مصدر «أَوَى يَأْوي» إذا انضمَّ واجتمع، والأصلُ: أَوْيٌ نحو: طَوَى يَطْوي طَيَّاً، الأصلُ: طَوْي، فاجتمعت الياءُ والواو وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَت الواوُ ياءً وأُدْمت في الياء، وكأنَّ ابن جني ينظر إلى معنى المادة من الاجتماعِ الذي يدل عليه «أيّ» فإنها للعمومِ، والعمومُ يستلزمُ الاجتماع. وهل هذه الكافُ الداخلةُ على «أي» تتعلَّق بشيء كغيرها من حروف الجرِّ أم لا؟ والصحيحُ أنها لا تتعلَّقُ بشيء أصلاً لأنَّها مع «أي» صارتا بمنزلةِ كلمةٍ واحدةٍ وهي «كم» ، فلم تتعلَّقْ بشيءٍ؛ ولذلك هُجِر معناها الأصلي وهو التشبيه. وزعم الحوفي أنها تتعلَّق بعاملٍ، ولا بُدَّ من إيراد نَصِّه لتقفَ عليه فإنه كلام غريب. قال: أما العاملُ في الكاف فإن جَعَلْنَاها على حكمِ الأصل فمحمولُ على المعنى، والمعنى: أصابَتْكم كإصابةِ مَنْ تقدَّم مِن الأنبياء وأصحابِهم، وإنْ حَمَلْنا الحكمَ على الانتقالِ إلى معنى «كم» كان العاملُ بتقديرِ الابتداء وكانت في موضعِ رفع، و «قُتِل» الخبر، و «مِنْ» متعلقة بمعنى

الاستقرار، والتقدير الأول أَوضحُ لحَمْل الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في «أي» وإذا كانَتْ «أي» على بابها من معاملة اللفظِ ف «مِنْ» متعلقةٌ بما تعلَّقت به الكافُ من المعنى المدلولِ عليه «. انتهى. واختار الشيخ أَنَّ» كأيِّنْ «كلمةٌ بسيطةٌ غيرُ مركبةٍ وأنَّ آخرَها نون هي من نفس الكلمة لا تنوينٌ، لأنَّ هذه الدَّعاوي المتقدمة لا يقومُ عليها دليل، والشيخُ سَلَكَ في ذلك الطريقَ الأسهلَ، والنحويون ذَكَروا هذه الأشياءَ محافظةً على أصولِهم، مع ما ينضَمُّ إلى ذلك مِنَ الفوائِدِ وتشحيذِ الذهن وتمرينِه. هذا ما يتعلَّق ب» كأيِّن «من حيث الإِفرادُ. أمَّا ما يتعلق بها من حيث التركيب فموضعُها رفعٌ بالابتداء وفي خبرِها أربعةُ أوجه، أحدُها: أنه» قُتِل «فإنَّ فيه ضميراً مرفوعاً به يعودَ على المبتدأ والتقدير: كثيرٌ من الأنبياء قتل. قال أبو البقاء:» والجيدُ أَنْ يعودَ الضميرُ على لفظِ «كأيِّنْ» كما تقولُ: «مئة نبي قُتِل» فالضميرُ للمئة، إذ هي المبتدأ. فإنْ قلت: لو كان كذلك لأنَّثْتَ فقلت: «قُتِلَتْ. قيل: هذا محمولٌ على المعنى، لأنَّ التقديرَ: كثير من الرجال قُتِل. انتهى» كأنه يعني بغير الجيد عَوْدَه على لفظ «نبي» ، فعلى هذا يكون «معه ربِّيُّون» جملةً في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «قُتِل» [وهو أَوْلَى لأنه من قبيلِ المفردات، وأصلُ الحالِ والخبرِ والصفة أن تكونَ مفردةً] . ويجوزُ أَنْ يكونَ «معه» وحده هو الحالَ و «رِبِّيُّون» فاعلٌ به، ولا يَحْتاج هنا إلى واوِ الحال لأنَّ الضمير هو الرابطُ، أعني الضمير في «معه» ، ويجوز أن يكونَ حالاً من «نبي» وإن كان نكرة لتخصيصه بالصفةِ حينئذ، ذكره مكي، وعَمِل الظرفُ هنا لاعتمادِه على ذي

الحال. قال الشيخ: «هي حكايةُ حالٍ ماضيةٍ فلذلك ارتفع» ربِّيُّون «بالظرف وإن كان العاملُ ماضياً لأنه حكى الحال الماضية كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] وهذا على رأي البصريين، وأما الكسائي فيُعْمِل اسمَ الفاعلِ العاري من أل مطلقاً» . وفيه نظرٌ لأنَّا لا نسلِّم أنَّ الظرفَ يتعلق باسم فاعل حتى يَلزمَ عليه ما قال من تأويله اسمَ الفاعل بحال ماضية، بل نَدَّعي تعلقَه بفعل تقديره: استقر معه ربيون. الوجه الثاني: أن يكون «قُتِل» جملةً في محل جر صفةً ل «نبي» و «معه ربيون» هو الخبر، ولك الوجهان المتقدمان في جعله حالاً، أعني إن شئت أن تجعل «معه» خبراً مقدماً و «ربيون» مبتدأً مؤخراً، والجملةُ خبر «كأين» ، وإن شئت أن تجعلَ «معه» وحدَه هو الخبرَ، و «ربيون» فاعلٌ به، لاعتمادِ الظرف على ذي خبر. الوجه الثالث: أن يكونَ الخبرُ محذوفاً تقديره: «في الدنيا» أو «مضى» او «صائر» ونحوه، وعلى هذا فقولُه: «قتل» في محلِّ جر صفة ل «نبي» ، و «معه ربيون» حال من الضمير في «قتل» على ما تقدم تقريره، ويجوز أن يكون «معه ربيون» صفةً ثانية ل «نبي» وُصِفَ بصفتين: بكونه «قتل» وبكونه «معه ربيون» . الوجه الرابع: أن يكون «قُتِل» فارغاً من الضمير مسنداً إلى «ربيون» ، وفي هذه الجملة حينئذ احتمالان، أَحدُهما: أن تكونَ خبراً ل «كائن» ، والثاني: أن تكونَ في محلِّ جر صفة ل «نبي» ، والخبر محذوف على ما تقدَّم، وادِّعاءُ حذفِ الخبرِ ضعيفٌ لاستقلال الكلام بدونه. وقال

أبو البقاء: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» قُتِل «صفة لربيين، فلا ضمير فيه على هذا، والجملة صفة» نبي «ويجوز أن تكون خبراً، فيصير في الخبر أربعةُ أوجه، ويجوزُ أن تكونَ صفة ل» نبي «والخبرُ محذوفٌ على ما ذكرنا» . أَمَّا قولُه «صفة ل» ربيين «يعني أن القتل من صفتهم في المعنى. وقوله:» فيصير فيه أربعة أوجه «يعني مع ما تقدَّم له من أوجهٍ ذكرَها. وقولُه: فلا ضميرَ فيه على هذا، والجملةُ صفةُ نبي» غلطٌ لأنَّه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ. فإنْ قلت: إنَّما يزعم هذا لأنهُ يُقَدِّر خبراً محذوفاً. قلت: قد ذَكَر هذا وجهاً آخرَ حيث قال: «ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل» نبي «والخبرُ محذوفٌ على ما ذكرنا» . ورَجَّح كونَ «قُتِل» مسنداً إلى ضميرِ النبي أنَّ القصةَ بسبب غزوة أحد وتجادل المؤمنين حين قيل: إنَّ محمداً قد مات مقتولاً، ويؤيِّدهُ قولُه: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] وإليه ذهب ابن عباسِ والطبري وجماعةٌ، وعن ابن عباس في قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] : «النبي يُقْتل فكيف لا يُخان. وذهب الحسن وابن جبير وجماعة إلى أنَّ القَتْلَ للربّيّين قالوا: لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حربٍ قط. ونَصَر الزمخشري هذا بقراءة» قُتِّل «بالتشديد، يعني أن التكثير لا يتأتَّى في الواحد وهو النبي. وهذا الذي ذَكَره الزمخشري سَبَقَهُ إليه ابن جني، وسيأتي تأويل هذا. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو:» قُتِل «مبنياً للمفعول، وقتادة كذلك

إلا أنه شدَّد التاء، وباقي السبعة:» قاتَل «، وكلٌّ مِنْ هذه الأفعال يَصْلُح أَنْ يرفعَ ضمير» نبي «وأن يرفعَ ربِّيِّين على ما تقدَّم تفصيلُه. وقال ابن جني:» إنَّ قراءة «قُتِّل» بالتشديد يتعيَّن أن يُسْنَدَ الفعل فيها إلى الظاهر، أعني ربيين. قال: «لأنَّ الواحدَ لا تكثيرَ فيه» . قال أبو البقاء: «ولا يمتنعُ أنْ يكونَ فيه ضمير الأول لأنه في معنى الجماعة» انتهى. يعني أنَّ «من نبي» المرادُ به الجنسُ فالتكثيرُ بالنسبة لكثرةِ الأشخاصِ لا بالنسبةِ إلى كلِّ فردٍ فردٍ، إذ القتلُ لا يتكثَّر في كلِّ فرد. وهذا الجوابُ الذي أجابَ به أبو البقاء استشعر به أبو الفتح وأجابَ عنه. قال: «فإِنْ قيل: يُسْنَدُ إلى» نبي «مراعاةً لمعنى» كم «فالجوابُ: أنَّ اللفظَ قد فَشَا على جهةِ الإِفرادِ في قوله: {مِّن نَّبِيٍّ} ، ودلَّ الضميرُ المفردُ في» معه «على أن المرادَ إنما هو التمثيلُ بواحدٍ، فخرج الكلامُ عن معنَى» كم «. قال:» وهذه القراءةُ تُقَوِّي قولَ مَنْ قال: إنَّ «قُتِل» و «قاتَل» يُسْندان إلى الربِّيِّين. قال الشيخ: «وليس بظاهر لأنَّ» كأين «مثلُ» كم «، وأنت إذا قلت:» كم مِنْ عانٍ فككتُه « [فأفرَدْتَ] راعَيْت لفظَها، ومعناها جَمعٌ، فإذا قلت:» فَكَكْتُهم «راعيتَ المعنى، فلا فرق بين» قُتل معه ربيون «و» قُتِل معهم رِبِّيُّون «، وإنما جاز مراعاةُ اللفظِ تارةً والمعنى أخرى في» كم «و» كأين «لأنَّ معناهما» جَمْعٌ «، و» جَمْعٌ «يجوزُ فيه ذلك، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 44-45] فراعى اللفظَ في قولِه «منتصِرٌ» والمعنى في قوله: «يُوَلُّون» .

ورجَّح بعضُهم قراءةَ «قاتل» لقوله بعد ذلك: {فَمَا وَهَنُواْ} قال: «وإذا قُتِلوا فكيف يُوصفون بذلك؟ إنما يُوصف بهذا الأحياءُ، والجوابُ: أنَّ معناه» قُتِل بعضُهم «، كما تقول:» قُتل بنو فلان في وقعة كذا ثم انتصروا «. وقال ابن عطية:» قراءةُ مَنْ قرأ «قاتل» أعمُّ في المدح، لأنه يدخُل فيها مَنْ قُتِل ومَنْ بقي، ويحسُنُ عندي على هذه القراءةِ إسنادُ الفعلِ إلى الربِّيِّين، وعلى قراءة «قُتِل» إسنادُه إلى «نبي» . قال الشيخ: «بل» قُتِل «أمدحُ/ وأبلغُ في مقصودِ الخطاب، فإنَّ» قُتِل «يستلزم المقاتلة من غير عكس» . وقوله: {مِّن نَّبِيٍّ} تمييز ل «كأيِّن» لأنها مثل «كم» الخبرية. وزعم بعضُهم أنه يلزمُ جَرُّه ب «مِن» ، ولهذا لم يَجِيءْ في التنزيل إلا كذا، وهذا هو الأكثرُ الغالِبُ كما قال، وقد جاء تمييزها منصوباً قال: 1460 - اطرُدِ اليأسَ بالرجاء فكائِنْ ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ وقال آخر: 1461 - وكائِنْ لنا فَضْلاً عليكم ورحمةً ... قديماً ولا تَدْرُون ما مَنُّ مُنْعِمِ وأمَّا جرُّه فممتنع لأنَّ آخرَها تنوينٌ وهو لا يَثْبُتُ مع الإِضافةِ. والربيُّون: جمعُ «رِبِّي» وهو العالمُ منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وإنما كُسرت راؤه تغييراً في النسب نحو: «إمْسِيّ» بالكسرِ منسوبٌ إلى «أَمْس» . وقيل: كُسِر للإِتباع، وقيل: لا تغييرَ فيه وهو منسوبٌ إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ. وهذه

القراءةُ بكسرِ الراء قراءة الجمهور، وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس والحسن: «رُبِّيُّون» بضمِّ الراء، وهو من تغيير النسب إنْ قلنا هو منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وقيل: لا تغييرَ وهو منسوب إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ، وفيها لغتانِ: الكسر والضم، وقرأ ابن عباس في رواية قتادة: «رَبِّيُّون» بفتحِها على الأصل، إنْ قلنا: منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وإلاَّ فَمِنْ تغييرِ النسب إنْ قلنا: إنَّه منسوبٌ إلى الرُّبَّة. قال ابن جني: «والفتحُ لغة تميم» . وقال النقاش: هم المُكْثِرون العلمَ من قولهم: «رَبا يربُو» إذا كَثُر «. وهذا سَهْوٌ منه لاختلافِ المادتين، لأنَّ تَيْكَ من راء وباء وواو، وهذه من راء وباء مكررةٍ. و» كثيرٌ «صفة ل» ربّيّون «وإنْ كان بلفظِ الإِفراد لأنَّ معناه جمعٌ. قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} الضميرُ في» وَهَنوا «يعودُ على الرِّبِّيين بجملتهم إنْ كان» قُتِل «مسنداً إلى ضمير النبي، وكذا في قراءة» قاتل «سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي أو إلى الربِّيِّين، وإنْ كان مسنداً إلى الربيين فالضميرُ يعودُ على بعضِهم، وقد تقدَّم ذلك عند الكلام في ترجيح قراءة» قاتل «. والجمهورُ على «وَهَنوا» بفتحِ الهاء، والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرِها، وهما لغتان: وَهَن يَهِنُ، كوعَد يَعِدُ، ووَهِنَ يَوْهَن كوَجِل يَوْجَل، ورُوِي عن أبي السَّمَّال أيضاً وعكرمة: «وَهْنوا» بكسونِ الهاء، وهو من تخفيفِ فَعِل لأنه حرفُ حلق نحو: نَعْم وشَهْد في: نَعِم وشَهِد. و «لَمَّا» متعلِّقٌ ب «وَهَنوا» ، و «وما» يجوزُ أَنْ تَكونَ موصولةً اسميةً أو مصدريةً أو نكرةً موصوفةً. والجمهورُ قرؤوا: «ضَعُفوا» بضمِّ العَيْن،

وقُرىء: «ضَعَفوا» بفتحها، وحكاها الكسائي لغةً. وقوله: {وَمَا استكانوا} فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنه استَفعل من الكونِ، والكونُ: الذُّلُّ، وأصلُه: اسْتَكْوَن، فَنُقِلَتْ حركةُ الواو على الكاف، ثم قُلِبَتِ الواوُ ألفاً. وقال الأزهري وأبو عليّ: «هو من قول العرب:» بات فلان بِكَيْنَةِ سوءٍ «على وزِن» جَفْنة «أي: بحالةِ سوءٍ» فألفُه على هذا من ياءِ، والأصلُ: اسْتَكْيَنَ، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها. الثالث: قال الفراء: «وزنُه افْتَعَل من السكون، وإنما أُشْبعت الفتحةُ فتولدُ منها ألفٌ كقوله: 1462 - أعوذُ باللهِ من العَقْرابِ ... الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ يريد: العَقْرَب الشائلةَ» . ورُدَّ على الفراء بأنَّ هذه الألفَ ثابتةٌ في جميع تصاريفِ الكلمةِ نحو: استكانَ يَسْتكين فهو مُسْتَكِين ومُسْتَكان إليه استكانةً، وبأنَّ الإِشباعَ لا يكونُ إلا في ضرورةٍ. وكلاهما لا يَلْزَمُه: أمَّا الإِشباعُ فواقعٌ في القراءاتِ السبعِ كما سيمرُّ بك، وأمَّا ثبوتُ الألفِ في تصاريف الكلمةِ فلا يَدُلُّ أيضاً؛ لأنَّ الزائد قد يلزَمُ ألا ترى أنَّ الميمَ في تَمَنْدل وتَمَدْرَعَ زائدةٌ، ومع ذلك هي ثابتةٌ في جميعِ تصاريفِ الكلمة قالوا: تَمَنْدل يَتَمَنْدَلُ تَمَنْدُلاً فهو مُتَمَنْدِلٌ ومُتَمَنْدَلٌ به، وكذا تَمَدْرَع، وهما من النَّدْل والدِّرْع. وعبارةُ أبي البقاء أحسنُ في الردِّ فإنه قال: «لأنَّ الكلمة في جميعِ تصاريفِها ثبتَتْ عينُها والإِشباعُ لا يكونُ على هذا الحدِّ» .

ولم يَذْكُر متعلِّقَ الاستكانة والضعف فلم يَقُل «فما ضَعُفُوا عن كذا، وما استكانوا لكذا» للعمل به أو للاقتصارِ على الفعلين نحو: {كُلُواْ واشربوا} [البقرة: 60] لِيَعُمَّ ما يَصْلُحُ لهما.

147

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} : الجمهورُ على نصبِ «قولَهم» خبراً مقدماً، والاسمُ هو «أَنْ» وما في حَيِّزها تقديرُه: وما كان قولَهم إلا قولُهم هذا الدعاءَ، أي: هو دَأْبُهم ودَيْدَنُهم. وقرأ ابن كثير وعاصم في روايةٍ عنهما برفع «قولُهم» على أنه اسم، والخبر «أَنْ» وما في حَيِّزها. وقراءةُ الجمهور أَوْلى؛ لأنه إذا اجتمعَ معرفتان فالأَوْلى أن يُجْعَل الأعرفُ اسماً، و «أن» وما في حَيِّزها أعرفُ، قالوا: لأنها تُشْبِهُ المُضْمَرَ مِنْ حيثُ إنها لا تُضْمَرُ ولا تُوصَفُ ولا يُوصف بها، و «قولهم» مضافٌ لمضمرٍ فهو في رتبة العَلَم فهو أقلُّ تعريفاً. ورَجَّح أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين، أحدهما هذا، والآخر: أنَّ ما بعد «إلاَّ» مُثْبَتٌ، والمعنى: كان قولُهم: ربنا اغفر لنا دَأْبَهم في الدعاء وهو حسن، والمعنى: وما كان قولُهم شيئاً من الأقوال إلا هذا القولَ الخاص. و {في أَمْرِنَا} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بالمصدر قبله يقال: أَسْرَفْت في كذا. والثاني: أنه يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حال منه أي: حالَ كونِه مستقراً في أمرنا، والأولُ أَوْجَهُ.

148

وقرأ الجحدري: {فأثابهم} : من لفظِ الثواب.

149

وقوله تعالى: {يَرُدُّوكُمْ} : جوابُ {إِن تُطِيعُواْ} . و {خَاسِرِينَ} حال.

150

قوله تعالى: {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ} : مبتدأ وخبر، وقرأ الحسن: «اللهَ» بنصب الجلالة على إضمار فعل يَدُلُّ عليه الشرط الأول، والتقدير: «لا تُطيعوا الذين كفروا بل أطيعوا الله» . و {مَوْلاَكُمْ} صفته. قال مكي: «وأجاز الفراء: بل اللهَ بالنصب» كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة.

151

قوله تعالى: {سَنُلْقِي} : الجمهورُ بنون العظمة وهو التفات من الغيبة في قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} ، وذلك لتنبيه على عِظَم ما يُلقيه تعالى. وقرأ أيوب السختياني: «سيُلقي» بالغيبة جَرْياً على الأصل. وقُدِّم المجرورُ على المفعول به اهتماماً بذكر المحلِّ قبل ذِكْرِ الحالِّ. والإِلقاء هنا مجاز لأن أصله في الأجرام، فاستعير هنا كقوله: 1463 - هما نَفَثا في فِيِّ مِنْ فَمَوَيْهِما ... على النابحِ العاوي أشدُّ رِجامِ وقرأ ابن عامر والكسائي: «الرُّعُب» و «رُعُباً» بالضم، والباقون بالإِسكان. فقيل: لغتان، وقيل: الأصلُ الضمُّ وخُفِّف، وهذا قياسٌ

مُطَّرد، وقيل: الأصلُ السكونُ، وضُمَّ إتباعاً كالصُّبْح والصُّبُح، وهذا عكسُ المعهودِ من لغةِ العرب. [والرعبُ: الخَوْفُ. يقال: رَعَبْتُه فهو مَرْعُوب، وأصلُه من الامتلاء، يقال: رَعَبْتُ الحوض أي: ملأتُه، وسيل راعِب، أي: ملأ الوادي. والسلطان: الحُجَّة والبرهان، واشتقاقُه: إمَّا مِنْ سَلِيط السِّراج الذي يُوقَدُ به. . . . . .، لإِنارتِه ووضوحه، وإمَّا من السَّلاطة وهي الحِدَّةُ والقَهْر] . و {فِي قُلُوبِ} متعلِّقٌ بالإِلقاءِ. وكذلك {بِمَآ أَشْرَكُواْ} ، ولا يَضُرُّ تعلُّق الحرفين لاختلافِ معناهما، فإنَّ «في» للظرفية والباءَ للسببية. و «ما» مصدريةٌ. و «ما» الثانيةٌ مفعولٌ به ل «أشْركوا» ، وهي موصولةٌ بمعنى الذي، أو نكرةٌ موصوفة. والراجعُ الهاءُ في «به» ، ولا يجوز أن تكونَ مصدريةً عند الجمهور لعَوْد الضمير عليها. وتَسَلَّط النفيُ على الإِنزال لفظاً والمقصودُ نفيُ السلطان، أي: الحُجَّة، كأنه قيل: لا سلطانَ على الإِشراكِ فَيُنَزَّلَ كقوله: 1464 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا تَرَى الضَبَّ بها يَنْجَحِرْ أي: لا ينجحر الضبُّ بها فيُرى، وقولِه: 1465 - على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمَنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: لا منارَ له فيُهْتدى به، فالمعنى على نفيِ السلطان والإِنزالِ معاً. و «سلطاناً» مفعول ل «يُنَزِّل» .

وقوله: {وَبِئْسَ مثوى الظالمين} المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: مثواهم، أو النار. والمَثْوى: مَفْعَل من ثَوَيْتُ أي: أَقَمْتُ، فلامه ياء، وقُدِّم المأوى وهو المكان الذي يَأْوي إليه الإِنسان على المَثْوى وهو مكانُ الإِقامةِ، لأنه على الترتيبِ الوجودي يأوي ثم يَثْوي، ولا يلزم من المأوى الإِقامةُ، بخلافِ عَكْسِه.

152

قوله تعالى: {صَدَقَكُمُ} : «صَدَقَ» يتعدَّى لاثنين، أحدهما بنفسِه والآخرُ بالحرفِ، وقد يُحْذَفُ كهذهِ الآيةِ، والتقدير: صَدَقَكم في وعدِه كقولهم: «صدقتُه الحديث» ، و «في الحديث» . و «إذ تَحُسُّونهم» معمولٌ ل «صَدَقَكم» أي: صَدَقَكم في ذلك الوقت، وهو وقتُ حَسِّهم أي قَتْلِهم. وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله: «وعدَه» ، وفيه نظرٌ لأنَّ الوعدَ متقدم على هذا الوقت. يقال: «حَسَسْتُه أَحُسُّه» أي: قتلتُه. وقرأ أبو عبيد: «تُحِسُّونهم» رباعياً أي: أذهبتم حِسَّهم بالقتل. و «بإذنه» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حال من فاعل «تُحِسُّونهم» أي: تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك/. قوله: {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} في «حتى» هذه قولان، أحدهما: أنها حرف جر بمعنى «إلى» وفي متعلَّقها حينئذ ثلاثة أوجه: أحدها: أنها متعلقةٌ ب «تَحُسُّونهم» أي: تقتلونهم إلى هذا الوقت. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «صدقكم» ، وهو ظاهرُ قول الزمخشري قال: «ويجوز أن يكونَ المعنى: صَدَقَكم اللهُ وعدَه إلى وقت فشلكم» . والثالث: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه السياق، قال أبو البقاء: «تقديره: دامَ لكم ذلك إلى وقتِ فشلكم» .

القول الثاني: أنها حرفُ ابتداءٍ داخلةٌ على الجملة الشرطية، و «إذا» على بابها من كونها شرطية، وفي جوابها حينئذ ثلاثة أوجه، أحدها: أنه «وتنازعتم» قال الفراء: «وتكونُ الواوُ زائدةً» . والثاني: أنه «ثُمَّ صَرَفَكُم» و «ثُمَّ» زائدةٌ، وهذا القولان ضعيفان جداً. والثالث وهو الصحيح: أنه محذوفٌ، واختلفت عبارتهم في تقديره، فقدَّره ابن عطية: «انهزمتم» ، وقَدَّره الزمخشري: «مَنَعَكم نَصْرَه» ، وقَدَّره أبو البقاء: «بان لكم أمرُكم» ، ودل على ذلك قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} ، وقَدَّره غيره: «امتُحِنْتُم» ، وقَدَّره الشيخ: «انقسمتم إلى قسمين، وَيَدُلُّ عليه ما بعده، وهو نظير: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: 32] . قال الشيخ:» لا يُقال كيف يقال: انقسمتم إلى مريدِ الدنيا وإلى مريد الآخرة فيمَنْ فَشِل وتنازع وعصى؛ لأنَّ هذه: الأفعالَ لم تصدُرْ من كلِّهم بل من بعضِهم «. واختلفوا في» إذا «هذه، هل هي على بابها أم بمعنى» إذ «؟ والصحيح الأول سواءً قلنا إنها شرطيةً أم لا. قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} عطفٌ على ما قبله، والجملتان من قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} اعتراضٌ بين المتعاطفين. وقال أبو البقاء:» ثم صرفكم «معطوفٌ على الفعل المحذوف» يعني الذي قَدَّره جواباً للشرط، ولا حاجة إليه. «وليبتليَكم» متعلِّقٌ ب «صرفكم» و «أََنْ» مضمرةٌ بعد اللام.

153

قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ} : العاملُ في «إذ» قيل: مضمر أي: اذكروا. وقال الزمخشري: «صَرَفَكم إذ ليبتلِيَكم» . وقال أبو البقاء: «ويجوز أن تكونَ ظرفاً ل» عَصَيْتُم «أو» تنازَعْتم «أو فَشِلتم» . وقيل: «هو ظرفٌ ل» عفَا عنكم «. وكلُّ هذه الوجوهِ سائغةٌ، وكونُه ظرفاً ل» صرفكم «جيدٌ من جهة المعنى، ول» عفا «جيدٌ من جهة القرب. وعلى بعض الأقوال تكونُ المسألة من باب التنازع، وتكون على إعمالِ الأخير منها لعدم الإِضمار في الأول، ويكون التنازُع في أكثر من عاملين. والجمهور على» تُصْعدون «بضم التاء وكسر العين من أصْعد في الأرض إذا ذهب فيها، والهمزة فيه للدخول نحو:» أصْبح زيدٌ «أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تَدْخُلون في الصُّعود، ويبيِّن ذلك قراءةُ أُبيّ:» تُصْعِدون في الوادي «. والحسن والسلمي:» تَصْعَدون «من صَعِد في الجبل أي رَقِي، والجمع بين القراءتين: أنهم أولاً أَصْعَدوا في الوادي، ثم لَمَّا حَزَبهم العدوُّ صَعِدوا في الجبل، وهذا على رأي مَنْ يفرِّقُ بين: أَصْعَدَ وصَعِد. وأبو حيوة:» تَصَعَّدُون «بالتشديد، وأصلها: تَتصَعَّدون، فحُذفت إحدى التاءين: إمَّا تاءُ المضارعة أو تاء تَفَعَّل، والجمع بين قراءته وقراءة غيره كما تقدم. والجمهور» تُصْعِدون «بتاء الخطاب، وابن محيصن ويروى عن ابن كثير بياء الغَيْبة على الالتفات وهو حسن، ويجوز أن يعود الضمير على المؤمنين أي: والله ذو فضل على المؤمنين إذ يُصْعِدون، فالعامل في إذ:» فَضْل «.

يقال: أصعد: أبعد في الذهاب، قال القتبي:» كأنه أبعد كإبعاد الارتفاع «قال الشاعر: 1466 - ألا أيُّهذا السائلي أينَ أَصْعَدَتْ ... فإنَّ لَها في أهل يَثْربَ مَوْعدا وقال آخر: 1467 - قد كُنْتِ تبكين على الإِصعادِ ... فاليومَ سُرِّحْتِ وصاح الحادي وقال الفراء وأبو حاتم:» الإِصعادُ: ابتداء السفر والمخرج، والصعود مصدر صَعِد [إذا] رَقِي من سُفْل إلى علوّ «ففرَّقوا هؤلاء بين صَعِد وأَصْعد. وقال المفضل:» صَعِد وصَعَّد وأَصْعد بمعنى واحد، والصعيدُ وجهُ الأرض «. {وَلاَ تَلْوُونَ} الجمهورُ على» تلْوون «بواوين. وقُرىء بإبدال الأولى همزة كراهيةَ اجتماعِ واوين، وليس بقياس لكونِ الضمَّةِ عارضةً، والواوُ المضمومةُ تُبْدَلُ همزةً بشروط تقدَّم ذكرها في البقرة: ألاَّ تكونَ الضمةُ عارضةً كهذه الكلمة، وألاَّ تكونَ مزيدة نحو:» تَرَهْوَك «، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها نحو:» سُوُر «و» نُوُر «جمعُ سِوار ونُوار لأنه يمكن تسكينها فتقول: سُوْر ونُوْر

فيخِفُّ اللفظ بها، وألاَّ يُدْغَم فيها نحو:» تَعَوُّد «مصدر تَعَوَّدَ، فنحُو» فُوُوج «يَطَّرد إبدالُه لاستكمال الشروط. ومعنى لا تَلْوون: لا تَرْجعون، يقال: «لَوَى به» [أي] : ذهب به، ولَوَى عليه: عَطَف. قال: 1468 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أخو الجَهْد لا يَلْوي على مَنْ تَعَذَّرا وأصل تَلْوون: تَلْوِيُون فأُعِلَّ بحذفِ اللام، وقد تقدَّم في قوله: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} [آل عمران: 78] . وقرأ الأعمش: ورُوِيَتْ عن عاصم «تُلْوون» بضم التاء. من أَلْوى وهي لغةٌ في «لَوَى» ففَعَل وأفْعَلَ بمعنىً. وقرأ الحسن: «تَلُون» بواو واحدة، وخَرَّجوها على أنه أَبدلَ الواوَ همزةً، ثم نَقَل حركةَ الهمزةَ على اللام ثم حَذَف الهمزةَ على القاعدة، فلم يَبْقَ من الكلمة إلا الفاءُ وهي اللامُ. وقال ابن عطية: «وحُذِفَتْ إحدى الواوين للساكنين» ، وكان قد قَدَّم أن هذه القراءةَ مركبةٌ على لغة مَنْ يهمزُ الواو وينقل الحركة، وهذا عجيبٌ بعد أَنْ يجعلَها من باب نَقْل حركة الهمزة كيف يعود يقول: حُذفت إحدى الواوين؟

ويمكنُ تخريجُ قراءةِ الحسن على وجهين آخرين، أحدُها: أَنْ يُقالَ: استُثْقِلَتِ الضمةُ على الواوِ لأنها أختُها، فكأنه اجتمعَ ثلاثةُ واوات، فَنُقلت الضمة إلى اللام فالتقى ساكنان: الواو التي هي عين الكلمة والواو التي هي ضمير، فحُذفت الأولى لالتقاء الساكنين، ولو قال ابن عطية هكذا لكان أَوْلى. والثاني: أن يكونَ «تَلُون» مضارَع «ولِيَ كذا» من الوِلاية، وإنما عُدِّي ب «على» لأنه ضُمِّن معنى العطف. وقرأ حميد بن قيس: «على أُحُد» بضمتين، يريد الجبل، والمعنى على مَنْ في جبل أحد، وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عطية: «والقراءةُ الشهيرة أقوى لأنه لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرَّ الناس عنه، وإصعادُهم إنما كان وهو يَدْعوهم» . قوله: {والرسول يَدْعُوكُمْ} مبتدأٌ وخبر في محلِّ نصب على الحال، العامل فيها: «تَلْوُون» . قوله: {فَأَثَابَكُمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على «تُصْعِدون» و «تَلْوون» ، ولا يَضُرُّكونُهما مضارعين، لأنهما ماضيان في المعنى، لأنَّ «إذ» المضافة إليهما صَيِّرتهما ماضيين، فكأن المعنى: إذا صَعِدتم وأَلْويتم. والثاني: أنه معطوفٌ على «صَرَفكم» . قال الزمخشري: «فأثابكم» عطفٌ على «صَرَفَكم» . وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصلِ. وفي فاعِله قولان، أحدُهما: أنه الباري تعالى، والثاني: أنه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يكونَ الضميرُ في» فأثابكم «للرسولِ، أي: فآساكم في الاغتمامِ، وكما غَمَّكم ما نَزَل به من كسرِ رباعيته غَمَّه ما نَزَل بكم من فَوْتِ الغنيمة.

و» غَمَّاً «مفعولٌ ثانٍ، و» بغمٍّ «يجوزُ في الباءِ أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ للسببية، على معنى أنَّ متعلَّق الغم الأول الصحابة، ومتعلَّق الغمِّ الثاني قَتْلُ المشركين يوم بدر، والمعنى: فأثابكم غَمَّاً بالغمِّ الذي أَوْقعه على أيديكم بالكفار يوم بدر. وقيل: «متعلَّقُ الغمِّ الرسولُ، والمعنى: أذاقكم الله غَمَّاً بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشَلِكم، أو فأثابكم الرسولُ، أي: آساكم غَمَّاً بسبب غمٍ اغتممتموه لأجله. والثاني: أن تكونَ الباءُ للمصاحبة أي: غَمَّاً مصاحباً لغَمٍّ، ويكون الغَمَّان للصحابة، فالغَمُّ الأول الهزيمة والقتل. والثاني: إشرافُ خالد بخيل الكفار، أو بإرجاف قتل الرسول عليه السلام، فعلى الأول تتعلَّق الباء ب» أَثَابكم «. قال أبو البقاء:» وقيل: المعنى بسبب غَمٍّ، فيكونُ مفعولاً به «. وعلى الثاني تتعلَّقُ بمحذوفٍ، لأنه صفةٌ لغَمّ، أي: غَمَّاً مصاحِباً لغَمٍّ، أو مُلْتَبِساً بغَمٍّ. وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ الباءُ بمعنى» بعد «أو بمعنى» بَدَل «، وجَعَلَها في هذين الوجهين صفةً ل غَمَّا» ، وكونُها بمعنى «بعد» و «بدل» بعيدٌ، وكأنه يريد تفسيرَ المعنى، وكذا قال الزمخشري: «غَمَّاً بعد غم» . وقوله: {فَأَثَابَكُمْ} هل هو حقيقةٌ أو مجاز؟ فقيل: مجاز، كأنه جَعَلَ الغَمَّ قائماً مقام الثواب/ الذي كان يحصُل لولا الفِرارُ، فهو كقوله: 1469 - أخافُ زياداً أَنْ يكونَ عَطاؤُه ... أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرا

وقوله: 1470 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تحيةُ بيْنِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ جعل القيودَ والسياطَ بمنزلة العطاء، والضربَ بمنزلة التحية. وقال الفراء: «الإِثابَةُ هنا بمعنى المعاقبة، وهو يَرْجِعُ إلى المجاز» . قوله: {لِّكَيْلاَ} هذه لامُ «كي» ، وهي لام جر، والنصبُ هنا ب «كي» لئلا يلزمَ دخولَ حرفِ جر على مثله. وفي متعلَّق هذه اللامِ قولان، أحدُهما: أنه «فأثابكم» ، وفي «لا» على هذا وجهان، أحدهما: أنها زائدةٌ، لأنه لا يترتَّبُ على الاغتمام انتفاءُ الحزنِ، والمعنى: أنه غَمَّهم ليُحْزِنَهم عقوبةً لهم على تركِهم مواقعَهم، قاله أبو البقاء. الوجه الثاني: أنها ليست زائدةً، فقال الزمخشري: «معناه: لكي لا تحزنوا لتتمرَّنوا على تَجَرُّعِ الغُموم، وتَضْرَوا باحتمالِ الشدائدِ فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع، ولا على مصيبٍ في المضارِّ» وقال ابن عطية: «المعنى: أنَّ ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم وَرَّطْتُم أنفسَكم، وعادةُ البشرِ أن يصبرَ للعقوبة إذا جنى، وإنما يكثُرُ قَلَقُه إذا ظَنَّ البراءةَ من نفسه. والثاني: أنَّ اللامَ تتعلَّق ب» عَفا «لأنَّ عَفْوَه أذْهَبَ كلَّ حزنٍ. وفيه بُعْدٌ من جهةِ طولِ الفصلِ.

154

قوله تعالى: {أَمَنَةً نُّعَاساً} : في نَصْبِ كلٍّ منهما أربعة

أوجه، الأولُ من وجوه «أَمَنَةً» : أنها مفعولُ «أَنْزَل» . الثاني: أنها حال من «نُعاساً» لأنها في الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّمتْ نُصِبَتْ حالاً. الثالث: أنها مفعولٌ من أجله، وهو فاسدٌ لاختلالِ شرطٍ وهو اتحادُ الفاعل، فإنَّ فاعل «أَنْزل» غيرُ فاعلِ الأمَنةِ. الرابع، أنه حالٌ من المخاطبين في «عليكم» ، وفيه حينئذٍ تأويلان: إمَّا على حَذْفِ مُضافٍ أي: ذوي أمنةٍ، وإمَّا أن يكونَ «أَمَنَةً» جمعَ «آمِن» نحو: بار وبَرَرة، وكافِر وكَفَرة. وأَمَّا «نُعاساً» فإنْ أَعْربنا «أمنةً» مفعولاً به كان بدلاً، وهو بدلُ اشتمال، لأنَّ كلاًّ مِنْ الأمنةِ والنعاس يشتمل على الآخر، أو عطفَ بيانٍ عند غيرِ الجمهور، فإنهم لا يشترطون جريانَه في المعارف، أو مفعولاً من أجلِه وهو فاسدٌ بما تقدَّم، وإنْ أَعْرَبْنا «أمنةً» حالاً كان مفعولاً ب «أَنْزل» عطفٌ على قولِه: «فأثابكم» ، وفاعلُه ضميرُ اللهِ تعالى، وأل في «الغمّ» للعهدِ، لتقدُّم ذِكْرِه. ورَدَّ الشيخ على الزمخشري كونَ «أمنةً» مفعولاً له بما تقدَّم، وفيه نظرٌ، فإنَّ الزمخشري قال: «أو مفعولاً له بمعنى: نَعِسْتُمْ أَمَنَةً» فقدَّر له عاملاً يتَّحِدُ فاعلُه مع فاعل «أمنةً» فكأنه استشعر السؤالَ، فلذلك قَدَّر عاملاً، على أنه قد يُقال: إنَّ الأمَنة من الله تعالى، بمعنى أنه أَوْقَعها بهم، كأنه قيل: أنزل عليكم النُّعاس ليُؤْمِنَكم به، و «أمنة» كما تكون مصدراً لمِنْ وَقَع به الأمن تكونُ مصدراً لِمَنْ أَوْقعه. وقرأ [الجمهور: «أَمَنَةً» بفتح الميم: إمَّا مصدراً بمعنى الأمن، أو جمع «آمِن» على ما تقدَّم تفصيله. والنخعي وابن محيصن] بسكون الميم، وهو مصدرٌ فقط، وكلاهما للمَرَّة.

قوله: {يغشى} قرأ حمزة والكسائي بالتاء من فوق، والباقون بالياء من تحت، وخَرَّجوا قراءةَ حمزة والكسائي على أنها صفةُ ل «أمَنَة» مراعاةً لها. ولا بُدَّ من تفصيلٍ وهو: إنْ أَعْرَبوا «نُعاساً» بدلاً أو عطفَ بيان أَشْكَلَ قولُهم مِنْ وجهين، أحدُهما: أنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أوعطفُ البيان، قُدِّمتِ الصفةُ وأُخِّر غيرُها. وهنا قد قَدَّموا البدلَ أو عطفَ البيانِ عليها. والثاني: أن المعروفَ في لغة العرب أن تُحَدِّث عن البدل لا عن المبدل منه تقول: «هندٌ حسنُها فاتِنٌ» ولا يجوزُ: «فاتنةٌ» إلا قليلاً، فَجَعْلُهم «نُعاساً» بدلاً من «أمنة» يَضْعُفُ بهذا، فإنْ قيل: قد جاءَ مراعاةُ المبدلِ منه في قوله: 1471 - فكأنه لَهِقُ السَّراةِ كأنه ... ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ فقال: «مُعَيَّن» مراعاةً للهاء في «كأنه» ، ولم يراعِ البدلَ وهو «حاجَبْيه» ومثلُه قولُه: 1472 - إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها ... تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْن الأعْضَبِ فقال: «تَرَكَتْ» مراعاةً للسيوف، ولو راعَى البدلَ لقال: «تركا» . فالجواب: أن هذا وإنْ كان قد قال به بعض النحويين مستنداً إلى هذين البيتين مؤولٌ بأنَّ «مُعَيَّن» خبرٌ عن «حاجبيه» لجريانهما مَجْرى الشيء الواحدِ في كلام العرب، وأنَّ نَصْبَ «غدوها ورواحها» على الظرفِ لا على البدل،

وقد تقدَّم لنا شيء من هذا عند قوله: {عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] . وإنْ أَعربوا «نُعاساً» مفعولاً من أجلِه لَزِم الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بالمفعولِ له، وكذا إنْ أَعْربوا «نعاساً» مفعولاً به، و «أَمَنَةً» حالاً يلزم الفصلُ أيضاً، وفي جوازه نظرٌ. والأحسنُ حينئذٍ أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: ما حكمُ هذه الأمَنَة؟ فأخبرَ بقوله «تَغْشى» ، ومَنْ قرأ بالياء أعاد الضمير على «نُعاساً» وتكون الجملةُ صفةً له. و «منكم» صفة ل «طائفة» فيتعلق بمحذوف. قوله: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} في هذه الواو ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها واوُ الحالِ، وما بعدها في محلِّ نصب على الحالِ، والعاملُ فيها «يغشى» والثاني: أنها واوُ الاستئنافِ، وهي التي عَبَّر عنها مكي بواوِ الابتداءِ، والثالث: أنها بمعنى «إذ» ذكره مكي وأبو البقاء وهو ضعيفٌ. و «طائفةٌ» مبتدأ، والخبرُ «قد أَهَمَّتْهُمْ أنفسُهم» ، وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأحد شيئين: إمَّا للاعتماد على واوِ الحال، وقد عَدَّه بعضُهم مُسَوِّغاً، وإنْ كان الأكثرُ لم يذكروه، وأنشد: 1473 - سَرَيْنا ونجمٌ قد أضاءَ فمذْ بدا ... مُحيِّاكِ أَخْفَى ضَوْءُه كلَّ شارِقِ وإمَّا لأنَّ الموضعَ موضعُ تفصيلٍ، فإنَّ المعنى: يَغْشى طائفةً، وطائفةٌ لم يَغْشَهم، فهو كقولِه:

1474 - إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصرَفَتْ له ... بشِقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ ولو قُرىء بنصب «طائفةً» على أن تكونَ المسألةُ من باب الاشتغال لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقل فإني لم أحفظه قراءة. وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجه، أحدها: أنه «قد أَهَمَّتْهُم» كما تقدم، الثاني: أنه «يظنون» والجملةُ قبلَه صفةٌ ل «طائفة» . الثالث: أنه محذوفٌ، أي ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل، والجملتان صفتان ل «طائفة» ، أو يكونُ «يظنون» حالاً من مفعول «أهمَّتْهم» أو مِنْ «طائفة» لتخصُّصه بالوصف، أو خبراً بعد خبر إنْ قلنا إنَّ «قد أهمتهم» خبرٌ أولُ، وفيه من الخلافِ ما مَضَى غيرَ مرة. الرابع: أنَّ الخبر «يقولون» ، والجملتان قبلَه على ما تقدَّم من كونهما صفتين أو خبرين، أو إحداهما خبرٌ والأخرى حالٌ، ويجوزُ أَنْ يكون «يقولون» صفةً، أو حالاً أيضاً إنْ قلنا: إنَّ الخبرَ الجملة التي قبله، أو قلنا إنَّ الخبرَ مضمر. وقوله: {يَظُنُّونَ} له مفعولان، فقال أبو البقاء: «غيرَ الحق» مفعولٌ أولُ أي: أمراً غير الحق، و «بالله» هو المفعول الثاني. وقال الزمخشري: «غير الحق» في حكم المصدر، ومعناه: يَظُنُّون باللهِ غيرَ الحق الذي يجب أن يُظَّنَّ به، و «ظنَّ الجاهلِية» ، بدلٌ منه، ويجوز أن يكونَ المعنى: «يظنون باللهِ ظَنَّ الجاهلِية» ، و «غيرَ الحق» تأكيدٌ ل «يظنون» كقولِك: «هذا القولُ غيرُ ما تقول» ، فَعَلى ما قال لا يتعدَّى «ظنَّ» إلى مفعولين، بل تكونُ الباءُ ظرفيةً للظن، كقولك: «ظننت بزيد» أي: جعلْتُه مكانَ ظنِّي «، وعلى هذا المعنى حَمَل النحويين قوله:

1475 - فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَراتُهمُ في الفارسِيِّ المُسَرَّدِ أي: اجعلوا ظنكم في أَلفَي مُدَجَّج. وتحصَّل في نصب» غير الحق «وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ أولُ ل» يظنون «. والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملةِ التي قبلَه بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشري. وفي نصب» ظنَّ الجاهليةَ «وجهان أيضاً: البدلُ من» غيرَ الحق «، أو أنه مصدرٌ مؤكد ل» يظنون «، و» بالله «: إمَّا متعلق بمحذوف على جَعْله/ مفعولاً ثانياً، وإمَّا بفعل الظن على ما تقدم وإضافةُ» الظن «إلى» الجاهلية «قال الزمخشري:» كقولك: «حاتمُ الجودِ، ورجلُ صدقٍ» يريد الظنَّ المختصَّ بالملةِ الجاهلية، ويجوز أن يراد: ظنَّ أهلِ الجاهلية «وقال غيرُه:» المعنى: المدة الجاهلية أي: القديمة قبل الإِسلام نحو: حَمِيَّة الجاهلية «. قوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} :» مِنْ «في» من شيء «زائدةٌ في المبتدأ، وفي الخبر وجهان، وأصحُّهما أنه» لنا «، فيكون» من الأمر «في محلِّ نصب على الحال من» شيء «لأنه نعت نكرةٍ قُدِّم عليها فينتصبُ حالاً. ويتعلق بمحذوف. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يكون» من الأمر «هو الخبر، و» لنا «تبيين، وبه تتِمُّ الفائدةُ كقولِه: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، وهذا ليس بشىء لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذ يتعلَّق بمحذوف، وإذا كان كذلك فيصير» لنا «من جملةٍ أخرى، فتبقى الجملة من المبتدأ أو الخبر غيرَ مستقلة بالفائدة، وليس نظيراً لقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} فإن» له «فيها متعلِّق بنفس» كفواً «لا بمحذوفٍ، وهو نظيرُ:» لم يكن أحد قائلاً لبكر «ف» لبكر «متعلق بنفس الخبر.

وهل هذا الاستفهامُ على حقيقتِه؟ فيه وجهان أظهرهما: نعم، ويعنون بالأمر: النصرَ والغلبةَ. والثاني: أنه بمعنى النفي، كأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر أي النصر شيءٌ، وإليه ذهب قتادة وابن جريج، ولكن يضعف هذا بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} فإنَّ مَنْ نَفَى عن نفسِه شيئاً لا يُجاب بأَنْ يُثْبَتَ لغيرِه، لأنه مُقِرٌّ بذلك، اللهم إلا أَنْ يُقَدِّر جملةً أخرى ثبوتيةً مع هذه الجملةِ فكأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر شيء، بل لِمَنْ أَكْرَهَنا على الخروج، وحَمَلَنا عليه، فحينئذ يَحْسُن الجواب بقوله {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} لقولهم هذا. وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراضٌ بين الجمل التي جاءت بعد قوله: {وَطَآئِفَةٌ} فإنَّ قولَه: {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم} وكذا «يقولون» الثانية: إمَّا خبرٌ عن «طائفة» أو حال مِمَّا قبلها. وقرأ الجماعة «كلَّه» بالنصب، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه تأكيدٌ لاسم «إن» . والثاني حكاه مكي عن الأخفش أنه بدلٌ منه، وليس بواضحٍ. و «لله» خبرُ «إنْ» . وقرأ أبو عمرو: «كلُّه» رفعاً وفيه وجهان، أشهرُهما: أنه رفع بالابتداء، و «لله» خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّ» نحو: «إنَّ مالَ زيد كلُّه عنده» . والثاني: أنه توكيدٌ على المحلِّ، ف «إنَّ» اسمُها في الأصل مرفوعٌ بالابتداء، وهذا مذهبُ الزجاج والجرميّ، يُجْرون التوابع كلها مُجْرى عطفِ النسق، فيكونُ «لله» خبراً ل «إنَّ» أيضاً. و «يُخْفون» : إمَّا خبرُ ل «طائفة» أو حالٌ مِمَّا قبله كما تقدم. وأما «يقولون» فيحتمل هذين الوجهين، ويحتمل أَنْ يكون تفسيراً لقوله «يُخْفون» فلا محلَّ له حينئذ. وقوله: {مَّا قُتِلْنَا} جوابُ «لو» ، وجاء على الأفصحِ: فإنَّ جوابَها إذا كان

منفياً ب «ما» فالأكثر عدمُ اللامِ، وفي الإِيجاب بالعكس. وقوله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ} كقوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} وقد عُرِف الصحيحُ من الوجهين. وقد أَعْرَب الزمخشري هذه الجملَ الواقعة بعد قوله: {وَطَآئِفَةٌ} إعراباً أفضى إلى خروجِ المبتدأ بلا خبر، ولا بد من إيراد نَصِّه ليتبيَّنَ ذلك، قال رحمه الله: «فإنْ قلت كيف مواقعُ هذه الجمل التي بعد قوله:» وطائفة «؟ قلت:» قد أهَمَّتْهُمْ «صفةٌ ل» طائفة «و» يظنون «صفةٌ أخرى أو حال، بمعنى: قد أهمَّتْهم أنفسهم ظانِّين، أو استئناف على وجه البيان للجملةِ قبلها، و» يقولون «بدلٌ من» يظنون «. فإن قلت: كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألةٌ عن الأمر بدلاً من الإِخبار بالظن؟ قلت: كانت مسألتهم صادرةً عن الظن فلذلك جاز إبدالُه منه، و «يُخفون» حال من «يقولون» ، و {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} اعتراضٌ بين الحال وذي الحال، و «يقولون» بدلٌ من «يُخْفون» ، والأجودُ أَنْ يكون استئنافاً «انتهى كلامه. وهذا من أبي القاسم بناءً على أن الخبر محذوف كما قَدَّمْتُ لك تقريرَه [في] :» ومنكم طائفةٌ «لأنه موضعُ تفصيل. قوله: {لَبَرَزَ} جاء على الأفصح، وهو ثبوت اللام في جوابها مثبتاً، والجمهورُ» لبرز «مخففاً مبيناً للفاعل، وأبو حيوة:» لبُرِّز «مشدداً مبنياً للمفعول، عدَّاه بالتضعيف. وقرىء» كَتَب «مبنياً للفاعل وهو الله تعالى،» القتلَ «مفعولاً به، والحسن:» القتالُ «رفعاً. قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ} فيه خمسةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلقٌ بفعلٍ قبله، تقديرُه: فَرَض اللهُ عليكم القتالَ ولم ينصُرْكم يومَ أُحد ليبتلي ما في صدوركم وقيل: بفعلٍ بعده، أي: ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء. وقيل: الواوُ زائدةٌ واللام متعلقة بما قبلها، وقيل:» وليبتلي «عطفٌ على» ليبتلي «الأولى، وإنما كُرِّرت لطولِ الكلام، فعُطِف عليه» وليمحِّص «قاله ابن بحر. وقيل: هو عطفٌ على علةٍ محذوفةٍ تقديرُه: ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي، وجَعَلَ متعلَّقَ الابتلاءِ ما انطوى عليه الصدورُ، والذي انطوى عليه الصدر هو القلب، لقوله: {القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] ، وجَعَل متعلَّقَ التمحيص وهو التصفية ما في

القلب وهو النيَّاتُ والعقائد.

155

وقوله تعالى: {الجمعان} : إنما ثُنِّي وإن كان اسمَ جمع وقد نَصَّ النحاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ إلا شذوذاً لأنه أُريد به النوعُ، فإنَّ المعنى: جَمْعُ المؤمنين وجَمْعُ المشركين، فلما أُريد به ذلك ثُنِّي كقوله: 1476 - وكلُّ رفيقَيْ كلِّ رحلٍ وإنْ هما ... تعاطَى القَنا قوماً هما أخَوان والسين في «استَنْزَلَهم» للطلب، والظاهرُ أن استفعل هنا بمعنى أَفْعَل لأنَّ القصةَ تَدُلُّ عليه، فالمعنى حَمَلَهم على الزلة، ويكون كاسْتَبَلَّ وأَبَلَّ.

156

قولُه تعالى: {إِذَا ضَرَبُواْ} : «إذا» ظرفٌ مستقبل فلذلك اضطربت أقوالُ المُعْرِبين هنا من حيث إنَّ العاملَ فيها: «قالوا» وهو ماضٍ، فقال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف قيل:» إذا ضَرَبوا «مع» قالوا «؟ قلت: هو حكايةٌ حالٍ ماضيةٍ كقولك» حين يضربون في الأرض «. وقال أبو البقاء

بعد قوله قريباً من قول الزمخشري:» ويجوز أن يكونَ «كفروا» و «قالوا» ماضيين، ويرادُ بهما المستقبلُ المحكيُّ به الحالُ، فعلى هذا يكون التقديرُ: يكفرون ويقولون «انتهى. ففي كِلا الوجهين حكايةٌ حالٍ، لكنْ في الأولِ حكايةٌ حالٍ ماضيةٍ، وفي الثاني مستقبلةٌ، وهو من هذه الحيثيَّةِ كقوله تعالى: {حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ} [البقرة: 214] وقد تقدَّم. ويجوزُ أَنْ يُراد ب» قال «الاستقبالُ لا على سبيلِ الحكاية، بل لوقوعِه صلةً لموصولٍ، وقد نَصَّ بعضُهم على أنَّ الماضيَ إذا وقَع صلةً لموصولٍ صَلَح للاستقبال نحو: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] ، وإلى هذا نحا ابن عطية، قال:» ودخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث «الذين» اسمٌ مُبْهَمٌ يَعُمُّ مَنْ قَال في الماضي ومَنْ يقول في الاستقبال، ومِنْ حيث هذه النازلةُ تُتَصَوَّرُ في مستقبلِ الزمان «يعني فتكون حكايةَ حالٍ مستقبلة. وقيل:» إذا «بمعنى» إذْ «وليس بشيء. وقَدَّرَ الشيخ مضافاً محذوفاً هو عاملٌ في» إذا «تقديرُه:» وقالوا لهلاكِ إخوانهم «أي مخافةَ أن يَهْلَكَ إخوانُهم إذا سافروا أو غزَوا، فقدَّر العاملَ مصدراً مُنْحَلاًّ ل» أَنْ «والمضارع حتى يكونَ مستقبلاً قال:» ولكنْ يصيرُ الضميرُ في قوله: {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} عائداً على «إخوانهم» في اللفظ وهو لغيرهم في المعنى أي: يعودُ على إخوانٍ آخرين وهم الذي تقدَّمَ موتُهم بسببِ سفرٍ أو غزو، وقَصْدُهم بذلك تثبيطُ الباقين، وهو نظيرُ: «درهمٌ ونصفه» ، {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] وقول النابغة:

1477 - قالَتْ: ألا ليتما هذا الحمامُ لنا ... إلى حمامتِنا ونصفُه فَقَدِ أي. نصفُ درهمٍ آخرَ، ومُعَمَّرٍ أخرَ، وحمامٍ آخرَ «. واللامُ في» لإِخوانهم «للعلةِ، وليسَتْ هنا للتبليغ كالتي في قولِك:» قلت لزيدٍ: افعل كذا «. والجمهورُ على» غُزَّى «بالتشديد جمع» غازٍ «وقياسُه: غُزَاة كرام ورُماة، ولكنهم حَمَلوا المعتلَّ على الصحيح في نحو: ضارِب وضُرَّب، وصائم وصُوَّم. والزهري والحسن:» غُزَى «بتخفيفها، وفيه وجهان: أنه خَفَّف الزايَ كراهيةَ التثقيلِ في الجمعِ. والثاني: أنَّ أصلَه» غُزاة «كقُضاة ورُماة، ولكنه حَذَفَ تاءَ التأنيث، لأنَّ نفسَ الصيغةِ دالَّة على الجمعِ، فالتاءُ مستغنىً عنها. وقال ابن عطية: وهذا الحذف كثيرٌ في كلامهم، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي: 1478 - أبى الذَّمُّ أخلاقَ الكسائي وانْتَحى ... به المجدُ أخلاقَ الأُبُوِّ السَّوابقِ يريد: «الأبوة» جمع أب، كما ان «العمومة» جمع عَمّ «، و» البُنُوَّة «جمعُ ابن، وقد قالوا: ابن وبُنُوّ. وقد رَدَّ عليه الشيخ هذا: بأنَّ الحَذْفَ ليس بكثيرٍ، وأنَّ قوله:» حُذِفَت التاءُ من «عُمومة» ليس كذلك، بل الأصل «عُموم»

من غير تاء/، ثم أَدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع، فما جاء على «فُعول» من غير تاءٍ فهو الأصلُ نحو: عُموم وفُحول، وما جاءَ فيه التاءُ فهو الذي يَحْتاج إلَى تأويِلِه بالجمعِ، لم يُبْنَ على هذه التاءِ حتى يُدَّعى حَذْفُها، وهذا بخلاف «قُضاة» وبابِه بُني عليها فيمكنُ ادِّعاءُ الحَذْفِ فيه، وأما «أُبُوّة» و «بُنُوّة» فليسا جَمْعَيْن بل مصدَرَيْن وأمَّا «أُبُوّ» في البيت فهو شاذ عند النحاةِ من جهةِ أنه كان مِنْ حَقِّه أَنْ يُعِلَّه فيقول: «أُبِيّ» بقلبِ الواوين ياءين نحو: عُصِيّ. ويُقال: غُزَّاء بالمدِّ أيضاً وهو شاذٌّ، وتَحَصَّل في «غازٍ» ثلاثةُ جموعٍ في التكسير: غُزاة كقُضاة، وغُزَّى كصُوَّم، وغُزَّاء كصُوّام، وجمعٌ رابع جمعُ سلامة، والجملةُ كلها في محل نصب بالقول. قوله: {لِيَجْعَلَ الله} في هذه اللام قولان، أحدهما: أنها لام «كي» والثاني: أنها لام العاقبة والصيرورة، وعلى القول الأول فبِمَ تتعلَّق هذه اللام؟ وفيه وجهان، فقيل: التقدير: أَوْقَعَ ذلك أي القول أو المُعْتَقَد ليجعلَه حسرةً، أو نَدَمُهم، كذا قَدَّره أبو البقاء، وأجاز الزمخشري: أن تتعلَّقَ بجملة النهي، وذلك على معنيين باعتبارِ ما يرُاد باسمِ الإِشارة على ما سيأتي بيانُه في كلامِه: أمَّا الاعتبارُ الأول فإنه قال: «يعني: لا تكونوا مثلَهم في النطق بذلك القول واعتقادِه ليجعله اللهُ حسرةً في قلوبِهم خاصة، ويصونَ منها قلوبَكم» فجعل «ذلك» إشارةً إلى القولِ والاعتقادِ. وأمَّا الاعتبارُ الثاني فإنه قال: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» ذلك «إشارةً إلى ما دَلَّ عليه النهيُ أي: لا تكونوا مثلَهم ليجعلَ اللهُ انتفاءَ كونكم مثلَهم حسرةً في قلوبهم، لأنَّ مخالَفَتهم فيما يقولون، ويعتقدون مِمَّا يَغُمُّهُمْ ويَغيظهم» .

وقد رَدَّ عليه الشيخ المعنى الأولَ بالمعنى الثاني الذي ذكره هو، ولا بد من إيراده ليتبيَّنَ لك. قال بعد ما حكى عنه ما نقلْتُه في المعنى الأول: «وهذا كلام مثبج لا تحقيقَ [فيه] لأَنَّ جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا. إنما يكونُ سبباً لحصولِ امتثالِ النهي، وهو انتفاء المماثلةِ، فحصولُ ذلك الانتفاء والمخالفةِ فيما يقولون ويعتقدون يَحْصُل عنه ما يَغيظهم ويَغُمُّهُمْ إذ لم يُوافِقُوهم فيما قالوه واعتَقَدُوه فلا تَضْرِبوا ولا تَغْزوا، فالتبس على الزمخشري استدعاءُ انتقاءِ المماثلةِ بحصولِ الانتفاء، وفَهْمُ هذا فيه خَفاءٌ ودِقَّةٌ» انتهى. ولا أدري ما وجهُ تثبيجِ كلام أبي القاسم، وكيفَ ردَّ عليه على زعمه بكلامه؟ وقال الشيخ أيضاً: «وقال ابنُ عيسى يعني الرماني وغيرُه اللامُ متعلقةٌ بالكون، أي لا تكونوا كهؤلاءِ ليجعلَ اللهُ ذلك حسرة في قلوبهم دونَكم، ومنه أخَذَ الزمخشري في قولِه، لكنَّ ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام، وذاك لم ينص، وقد بَيَّنَّا فسادَ هذا القول» . انتهى. وقوله: «وذلك لم ينصَّ» بل قد نَصَّ، وقال: «فإنْ قلت ما متعلَّقُ ليجعلَ؟ قلت:» قالوا «إلى آخره، أو بقوله:» لا تكونوا «، وأيُّ نصٍ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوزُ تَعَلُّق هذه اللامِ ومعناها التعليل ب» قالوا «لفساد المعنى، لأنهم لم يقولوه لذلك بل لتثبيطِ المؤمنينِ عن الجهاد. وعلى القولِ الثاني أعني كونَها للعاقبةِ تتعلَّقُ ب» قالوا «والمعنى: أنَّهم قالوا ذلك لغرضٍ من أغراضِهم، فكانَ عاقبةُ قولِهم ومصيرُه إلى الحسرةِ والنَّدامَةِ كقولِه: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] ، لم يلتِقطوه

لذلك، لكنْ كان مآلُه لذلك، ولكنَّ كونَها للصيرورةِ لم يَعْرِفْه أكثرُ النحويين، وإنما هو شيء يَنْسِبونَه للأخفش، وما وَرَدَ من ذلك يؤولونه عَلى العكسِ من الكلام نحو: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} [آل عمران: 21] ، وهذا رأي الزمخشري، فإنه شَبَّه هذه اللام باللام في {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} ، ومذهبُه في تَيْكَ أنها للعلة بالتأويل المذكور. والجَعْلُ هنا بمعنى التصيير، و» حسرةً «مفعولٌ ثانٍ، و» في قلوبهم «يجوزُ أن يتعلَّق بالجَعْل وهو أبلغُ أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ للنكرة قبله. واختُلف في المُشار إليه بذلك: فعن الزجاج: هو الظن، ظنوا أنهم لو لم يَحْضُروا لم يُقْتَلوا. وقال الزمخشري:» هو النطق بالقول والاعتقاد «. وقريبٌ منه قول ابن عطية، وأجاز ابن عطية أيضاً أن يكونَ للنهي والانتهاء معاً. وقيل هو مصدرُ» قال «المدلولِ عليه به. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي:» يَعْملون «بالغيبةَ ردَّاً على الذين كفروا، والباقون بالخطابَ ردَّاً على قوله: {لاَ تَكُونُواْ} فهو خطابٌ للمؤمنين. وجاء هنا بصفة البصر، قال الراغب:» عَلَّق ذلك بالبصر لا بالسمعِ، وإنْ كان الصادرُ منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً، لمَّا كان ذلك القولُ من الكافر قصداً منه إلى عمل يُحاوِلُه، فَخَصَّ البصرَ بذلك، كقولك لمَنْ يقولُ شيئاً وهو يَقْصِدُ فِعْلاً يُحاوله: أنا أرى ما تفعله «.

157

قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} : اللامُ هي الموطِّئةُ لقسمٍ

محذوف، وجوابُه قولُه: {لَمَغْفِرَةٌ} وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لسدِّ جوابِ القسمِ مَسَدَّه لكونِه دالاًّ عليه، وهو الذي عَنَاه الزمخشري بقوله: «وهو سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط» ولا يعني بذلك أنَّه من غيرِ حذفٍ. واللام لام الابتداء، وهي وما بعدها جواب القسم كما تقدم. و «مغفرةٌ» فيها وجهان، أظهرهُما: أنها مرفوعةٌ بالابتداء، والمسوِّغات هنا كثيرة: لام الابتداء والعطف عليها في قوله: {وَرَحْمَةٌ} ووصفُها، فإنَّ قوله: {مِّنَ الله} صفةٌ لها، ويتعلق حينئذٍ بمحذوف، و {خَيْرٌ} خبرٌ عنها. والثاني: أن تكونَ مرفوعة على خبر ابتداء مضمر، إذا أُريد بالمغفرةِ والرحمةِ القتلُ أو الموتُ في سبيل الله، لأنهما مقترنان بالموتِ في سبيلِ الله، فيكونُ التقدير: فذلك أي الموتُ أو القتلُ في سبيلِ الله مغفرةٌ ورحمةٌ خير، ويكون «خير» صفةً لا خبراً، وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال: «وتحتمل الآية أن يكونَ قولُه: {لَمَغْفِرَةٌ} إشارةً إلى الموت أو القتل في سبيل الله، فَسَمَّى ذلك مغفرةً ورحمة، إذ هما مقترنان به، ويجيء التقدير: فذلك مغفرةٌ ورحمة، وترتفعُ المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر، وقوله:» خير «صفةٌ لا خبرٌ ابتداء» انتهى. ولكنَّ الوجهَ الأولَ أظهرُ، و «خير» هنا على بابِها من كونِها للتفضيلِ، وعن ابن عباس: «خيرٌ من طِلاع الأرض ذهبةً حمراءَ» . وقوله: {وَرَحْمَةٌ} أي: ورحمةٌ من الله، فَحُذِفَتْ صفتُها لدلالة الأولى عليها، ولا بُدَّ من حَذْفٍ آخر مُصَحِّحٍ للمعنى، تقديرُه: لمغفرة من الله لكم ورحمةً منه لكم. وجاء بالمغفرةِ والرحمةِ نكرتين إيذاناً بأنَّ أَدنى خيرٍ وأقلَّ

شيء خيرٌ من الدنيا وما فيها الذي يجمعونه، وهو نظير {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] ، والتنكيرُ قد يُشْعِرُ بالتقليل، و «ما» في قولِه {مِّمَّا يَجْمَعُونَ} موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ أي: مِنْ جَمْعِكم المالَ ونحوه.

158

وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: {مُتُّم} و {مُتُّ} : وبابه بضم الميم، ووافقهم حفص هنا خاصة في الموضعين، والباقون بالكسر. فأمّا الضم فلأنه فَعَل بفتح العين من ذوات الواو، وكل ما كان كذلك فقياسه إذا أسند إلى ياء المتكلم وأخواتها أن تضم فاؤه: إمَّا من أول وهلة، وإمَّا بأن نبدلَ الفتحةَ ضمةً ثم نَنْقُلَها إلى الفاء على اختلاف بين التصريفيين، فيقال في «قام» وقال وطال: قُمت وقُمنا وقُمن وطُلت وطُلن وما أشبه، ولهذا جاء مضارعُه على يَفْعُل نحو: يَمُوت. وأما الكسر فالصحيح من قول أهل العربية أنه من لغة مَنْ يقول: مات يمات كخاف يخاف، والأصلُ: مَوِت بكسر العين كَخوِف فجاء مضارعه على يَفْعَل بفتح العين. قال الشاعر: 1479 - بُنَيَّتي سيدةَ البنات ... عِيشي ولا يُؤْمَنُ أَنْ تَماتي فجاء بمضارعه على يَفْعَل بالفتح، فعلى هذه/ اللغة يَلْزَم أن يقال في الماضي المسند إلى التاءِ وإحدى أخواتها: «مِتُّ» بالكسرِ ليس إلا، وهو أنَّا

نَقَلْنا حركةَ الواو إلى الفاء بعد سَلْبِ حركتِها دلالةً على بنيةِ الكلمة في الأصلِ. وهذا أَوْلى مِنْ قولِ مَنْ يقولُ: إنَّ «مِتَّ» بالكسر مأخوذٌ من لغة من يقول: «يَمُوت» بالضم في المضارع، وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال كالمازني وأبي علي الفارسي، ونقله بعضهم عن سيبويه صريحاً، وإذا ثَبَتَ ذلك لغةً فلا معنى إلى ادِّعاء الشذوذ فيه. وأمَّا حفص فجمع بين اللغتين. وقرأ الجماعة: «تَجْمَعُون» بالخطاب جرياً على قوله: «ولئن قُتِلتم» ، وحفص بالغيبة: إمَّا على الرجوع على الكفار المتقدمين، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين. وهذه ثلاثة مواضع: تقدَّم الموتُ على القتل في الأول منها وفي الأخير، والقتلُ على الموت في المتوسط، وذلك أنَّ الأول لمناسبةِ ما قبله من قوله: {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى} فرجعَ الموتُ لِمَنْ ضَرَب في الأرض، والقتلُ لِمَنْ غزا، وأما الثاني فلأنه مَحَلُّ تحريضٍ على الجهاد فَقَدَّم الأهمَّ الأعرفَ، وأمَّا الآخرُ فلأنَّ الموتَ أغلبُ. وقوله: {لإِلَى الله} اللامُ جوابُ القسم فهي داخلةٌ على {تُحْشَرُونَ} ، و «إلى الله» متعلقٌ به، وإنما قُدِّم للاختصاصِ أي: إلى الله لا إلى غيره يكونُ حشرُكُم، أو للاهتمام، وحَسَّنَه كونُه فاصلةً، ولولا الفصلُ لوجب توكيدُ الفعل بنونٍ، لأنَّ المضارعَ المثبت إذا كانَ مستقبلاً وَجَبَ توكيدُه مع اللام خلافاً للكوفيين، حيثُ يجيزون التعاقبَ بينهما، كقوله:

1480 - وقتيلِ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فجاءَ بالنونِ دونَ اللامِ، وقوله: 1481 - لِئَنْ تكُ قد ضَاقَتْ عليكم بيوتُكم ... لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسِعُ فجاء باللامِ دون النون، والبصريون يجعلونه ضرورةَ. فإنْ فُصِل بين اللام بالمعمول كهذه الآية أو ب «قد» نحو: «والله قد أقوم» وقوله: 1482 - كَذَبْتِ لقد أُصْبي على المَرْء عِرْسَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أو بحرفِ تنفيس نحو: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ} [الضحى: 4] فلا يجوزُ توكيده حينئذ بالنون. قال الفارسي: «دخلتِ النونُ فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء، ولامُ الابتداء لا تدخل على الفَضْلة، فبدخول لام اليمين على الفَضْلة حَصَلَ الفرقُ فلم يُحْتَجْ إلى النون، وبدخولِها على» سوف «حَصَل الفرقُ أيضاً فلا حاجةً إلى النونِ، ولامُ الابتداء لا تَدْخُل على الفعلِ إلا إذا كان حالاً، أمَّا مستقبلاً فلا» .

159

قوله تعالى: {فَبِمَا} : في «ما» وجهان، أحدهُما: أنها

زائدةٌ للتوكيدِ والدلالةِ على أن لِينَه لهم ما كان إلا برحمةٍ من الله، ونظيرُه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] . والثاني: أنها غيرُ مزيدةٍ، بل هي نكرة وفيها وجهان، أحدهُما: أنها موصوفةٌ برحمة، أي: فبشيء رحمةٍ والثاني: أنها غيرُ موصوفة، و «رحمةٍ» بدلٌ منها، نقله مكي عن ابن كيسان. ونقل أبو البقاء عن الأخفش وغيره أنها نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ، و «رحمةٍ» بدلٌ منها، كأنه أَبْهم ثم بَيَّن بالإِبدال. وجَوَّز بعضُ الناس وعَزاه الشيخ لابن خطيب الريّ أنَّ «ما» استفهاميةٌ للتعجب تقديرُه: فبأي رحمةٍ لِنْتَ لهم، وذلك فإنَّ جنايتَهم لَمَّا كانت عظيمة ثم إنه ما أظهر تغليظاً في القول ولا خشونةً في الكلام علموا أنَّ ذلك لا يتأتَّى إلا بتأييد ربَّاني قبلَ ذلك. وردَّ عليه الشيخ هذا بأنه لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ تُجْعَلَ «ما» مضافةً إلى «رحمة» ، وهو ظاهرُ تقديرِه كما حكاه عنه، فيَلْزَمُ إضافةُ «ما» الاستفهاميةِ، وقد نَصُّوا على أنه لا يُضاف من أسماءِ الاستفهام إلا «أيّ» اتفاقاً، و «كم» عند الزجاج، وإمَّا أَنْ لا تجعلَها مضافةً، فتكونُ «رحمةٍ» بدلاً منها، وحينئذ يلزمُ إعادةُ حرف الاستفهام في البدل كما تقرَّر في علم النحو، وأنحى عليه في كلامه فقال: «وليته كان يُغْنيه عن هذا الارتباكِ والتسلُّقِ إلى ما لا يُحْسِنُه قولُ الزجاج في» ما «هذه إنها صلةٌ فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين» انتهى. وليس لقائلٍ أن يقولَ له: أَنْ يجعلَها غيرَ مضافةٍ ولا يجعلَ «رحمة» بدلاً

حتى يلزمَ إعادةُ حرفِ الاستفهامِ بل يَجْعَلُها صفةً؛ لأنَّ «ما» الاستفهامية لا تُوصف، وكأنَّ مَنْ يَدَّعي فيها أنها غيرُ مزيدةً يَفِرُّ من هذه العبارة في كلام الله تعالى، وإليه ذهب أبو بكر الزبيدي، كان لا يُجَوِّزُ أن يقال في القرآن: «هذا زائدٌ» أصلاً. وهذا فيه نظرٌ، لأنَّ القائلين بكون هذا زائداً لا يَعْنُون أنه يجوزُ سقوطُه ولا أنه مهمل لا معنى له، بل يقولون: زائدٌ للتوكيد، فله أُسْوَةٌ بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن، و «ما» كما تزاد بين الباءِ ومجرورِها تزاد أيضاً بين «عَنْ» و «مِنْ» والكاف ومجرورها كما سيأتي. وقال مكي: «ويجوز أن ترتفعَ» رحمةٍ «على أَنْ تَجْعَلَ» ما «بمعنى الذي، وتُضْمِرَ» هو «في الصلة وتَحْذِفَها كما قرىء: {تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنُ} . وقولُه: «ويجوزُ» يعني من حيث الصناعةُ، وأمَّا كونُها قراءةً فلا أحفظها. والفَظَاظَة: الجَفْوَةَ في المُعاشرة قولاً وفعلاً. قال: 1483 - أَخْشَى فَظاظَة عَمٍّ أو جفاءَ أخٍ ... وكنتُ أَخْشَى عليها مِنْ أَذَى الكَلِمِ والغُِلْظُ: تكثير الأجزاء، ثم تُجُوِّز به في عدمِ الشفقةِ وكثرةِ القسوة في القلب قال:

1484 - يُبْكَى علينا ولا نَبْكي على أحدٍ ... لنحنُ أغلظُ أكباداً من الإِبلِ وقال الراغب: الفظُّ كريه الخُلُق وذلك مستعارٌ من الفَظِّ وهو ماءٌ الكَرِش، وذلك مكروه شربُه إلا في ضرورةٍ «، قال:» الغِلْظَةُ: ضدُّ الرِّقة، ويقال: غُلْظة وغِلْظة أي بالكسر والضم «وعن الغِلْظَة تنشأ الفظاظةُ فَلِمَ قُدِّمَتْ؟ فقيل: قُدِّم ما هو ظاهرٌ للحِسِّ على ما هو خافٍ في القلب، لأنه كما تقدَّم أنَّ الفَظاظةَ: الجَفْوَةُ في العِشْرَةِ قولاً وفِعْلاً، والغِلْظُ: قساوةُ القلب، وهذا أحسنُ مِنْ قولِ مَنْ جعلهما بمعنىً، وجُمِع بينهما تأكيداً. والانفضاضُ: التفرُّق في الأجزاءِ وانتشارُها ومنه:» فُضَّ خَتْمُ الكتابِ «ثم استُعير عنه» انفضاضُ الناسِ «ونحوِهم. وقوله: {فاعف عَنْهُمْ} إلى أخره جاء على أحسنِ النسق، وذلك أنه أَمَر أولاً بالعفوِ عنهم فيما يتعلَّقُ بخاصةِ نفسِه، فإذا انتهَوا إلى هذا المقام أُمِرَ أن يَسْتغفِرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاحَ عنهم التَّبِعَتان، فلمَّا صاروا إلى هذا أُمِر بأنْ يُشاوِرَهم في الأمر إذا صاروا خالصين من التَّبِعَتَيْن مُصَفَّيْن منهما، والأمرُ هنا وإنْ كان عاماً فالمرادُ به الخصوص، قال أبو البقاء:» إذ لم يُؤْمَرْ بمشاورتِهم في الفرائضِ، ولذلك قرأ ابن عباس: «في بعضِ الأمر» . وهذا تفسيرٌ لا تلاوة. وقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ} الجمهورُ على فتح التاء خطاباً له عليه السلام. وقرأ عكرمة وجعفر الصادق بضمها، على أنها لله تعالى على معنى: فإذا

أرشَدْتُك إليه وجَعَلْتُكَ تَقْصِدُه، وجاء قوله: {عَلَى الله} من الالتفات، إذ لو جاء على نَسَقِ هذا الكلامِ لقيل: فتوكَّلْ عليَّ، وقد نُسِبَ العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة: «ثم عَزَمَ الله لي» وذلك على سبيل المجاز. وقوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} جارٍ مَجْرى العلةِ الباعثةِ على التوكيلِ عند الأخْذِ في كلِّ الأمر/.

160

قوله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ} : شرطٌ وجوابُه. وقوله: {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} مثلُه، وهذا التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب، كذا قاله الشيخ، يعني من الغَيْبة في قوله: {لِنتَ لَهُمْ} و {لاَنْفَضُّواْ} و {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ} . وفيه نظرٌ. وجاء قولُه: {فَلاَ غَالِبَ} جواباً للشرط وهو نفيٌ صريح، وقولُه {فَمَن ذَا الذي} وهو متضمِّنٌ للنفي جواباً للشرط الثاني تلَطُّفاً بالمؤمنين حيث صَرَّح لهم بعدم الغَلَبةِ في الأولِ، ولم يُصَرِّحْ لهم بأنه لا ناصِرَ لهم في الثاني، بل أتى في صورةِ الاستفهامِ وإنْ كان معناه نفياً. وقوله: {فَمَن ذَا الذي} قد تقدَّم مثلُه في البقرة وأقوالُ الناس فيه. والهاءُ في «مِنْ بعدِه» فيها وجهان، أحدُهما وهو الأظهر أنها تعودُ على اللهِ تعالى، وفيه احتمالان، أحدُهما: أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ بعدِ خِذْلانِه. والثاني: أنه لا يُحتاج إلى ذلك، ويكون معنى الكلام: إنكم إذا جَوَّزْتموه إلى غيرِه وقد خَذَلكم فَمَنْ تجاوزون إليه وينصُركم؟ والوجه

الثاني: أن تعودَ على الخِذْلان المفهوم من الفعلِ وهو نظيرُ: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] . وقوله: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} إنَّما قَدَّم الجارَّ ليؤذن بالاختصاص أي: ليخُصَّ المؤمنون ربَّهم بالتوكُّل عليه والتفويضِ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواه، وهو معنىً حسن ذكره الزمخشري. وقرأ الجمهور: «ويَخْذُلْكم» بفتح الياء مِنْ «خَذَله» ثلاثياً، وقرأ عبيد بن عمير: «يُخْذِلْكم» بضمها مِنْ أخذل رباعياً، والهمزةُ فيه لجَعْل الشيءِ، أي: يَجْعَلْكم مخذولين.

161

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} : [ «أَنْ يَغُلًّ» في محلِّ رفعٍ اسمَ كان، و «لنبي» خبرٌ مقدم] أي: ما كان له غُلول أو إغْلال على حَسَبِ القراءتين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين مِنْ «غَلَّ» مبنياً للفاعل، ومعناه: أنه لا يَصِحُّ أن يقع من النبي غُلول لتنافِيهما، فلا يجوزُ أن يُتَوَهَّمَ ذلك فيه البتة. وقرأ الباقون «يُغَلَّ» مبنِيّاً للمفعول. وهذه القراءةُ فيها احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ من «غَلَّ» ثلاثياً، والمعنى: ما صَحَّ لنبيٍّ أَنْ يَخُونَه غيرُه ويَغُلَّه، فهو نفيٌ في معنى النهي أي: لا يَغُلُّه أحدٌ. والاحتمال الثاني: أَنْ يكونَ مِنْ أغلَّ رباعياً، وفيها وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ من أَغَلَّه: أي نَسَبه إلى الغُلول كقولِهم: أَكْذَبْتُه أي: نَسَبْتُه إلى الكذب، وهذا في المعنى كالذي قبله أي: نفيٌ في معنى النهي أي: لا يَنْسِبه أحدٌ إلى الغُلول. والثاني: أن يكونَ مِنْ أَغَلَّه أي وجده غالاًّ كقولهِم:

أَحْمَدْتُ الرجلَ وأَبْخَلْتُه وأجبنتُه أي: وجدته محموداً وبخيلاً وجباناً. والظاهر أن قراءة «يَغُلَّ» بالياء للفاعل لا يُقَدَّر فيها مفعولٌ محذوفٌ؛ لأنَّ الغَرَضَ نفيُ هذه الصفة عن النبي من غيرِ نظرٍ إلى تَعَلُّقٍ بمفعولٍ كقولك: «هو يعطي ويمنع» تريدُ إثباتَ هاتَين الصفتين. وقَدَّر له أبو البقاء مفعولاً فقال: «تقديرُه: أَنْ يَغُلَّ المالَ أو الغنيمةَ» . واختار أبو عبيد والفارسي قراءةَ البناء للفاعل قالا: لأنَّ الفعلَ الواردَ بعدُ «ما كان لكذا أن يفعل» أكثرُ ما يَجِيءُ منسوباً إلى الفاعل نحو: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} [آل عمران: 145] {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ} [آل عمران: 179] وبابه ورجَّحها بعضُهم بقولِه: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ} فهذا يُوافِقُ هذه القراءةَ، ولا حُجَّة في ذلك لأنها موافقةٌ للأخرى. والخَذْلِ والخِذْلاَنِ ضد النصر، وهو تَرْكُ مَنْ تَظُنُّ به النُّصْرة. وأصلُه منْ «خَذَلَتِ الظَّبْيَةُ ولدَها» أي: تركَتْه منفرداً، ولهذا قيل لها: خاذِل. ويقال للولدِ المتروك أيضاً: خاذِل، وهذا على النسب، والمعنى أنها مخذولةٌ، قال بُجَيْر: 1485 - بجيدِ مُغْزِلَةٍ أَدْماءَ خاذِلَةٍ ... من الظِّباءِ تُراعي منزلاً زِيَمَا

ويُقال له أيضاً: خَذول، فَعُول بمعنى مَفْعول. قال: 1486 - خَذُولٌ تُراعِي رَبْرَباً بخميلةٍ ... تَنَاولُ أطرافَ البَريرِ وترْتَدي ومنه يُقال: تَخاذَلَتْ رِجْلا فلانٍ «قال الأعشى: 1487 - بينَ مَغْلوبٍ تليلٍ خَدُّهُ ... وخذولِ الرِّجْلِ من غيرِ كَسَحْ ومعنى المادة: هذا الترك الخاص. والغُلول في الأصلِ: تَدَرُّع الخِيانَةِ وتوسُّطها، والغَلَلُ: تَدَرُّعُ الشيء وتوسُّطه، ومنه:» الغَلَلُ «للماءِ الجاري بين الشجرِ، والغِلُّ: الحِقْدُ لكُمونه في الصدر، وتَغَلْغَلَ في كذا: إذا دخَل فيه وتوسَّط، قال: 1488 - تَغَلْغَلَ حيث لم يَبْلُغْ شَرابٌ ... ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ فالغُلولُ الذي هو الأخْذُ في خُفْيَةٍ مأخوذٌ من هذا المعنى، ومنه: «أَغَلَّ الجازِرُ» إذا سرق أو ترك في الإِهاب شيئاً من اللحم. وفَرَّقت العربُ بين الأفعالِ والمصادرِ فقالوا: غَلَّ يَغُلُّ غُلولاً بالضَّمِّ في المصدر والمضارع إذا خان، وغل يَغِلُّ غِلاًَّ بالكسر فيهما. قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] أي حِقد.

قوله: {وَمَن يَغْلُلْ} الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب، وإنما جِيء بها للرَّدْع عن الإِغلالِ. وزعم أبو البقاء أنها يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً، ويكونُ التقديرُ: في حال علم الغَالِّ بعقوبةِ الغُلول، وهذا وإنْ كان محتَمَلاً ولكنه بعيدٌ. و «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ أي: غِلُّه، ويَدُلُّ على ذلك الحديثُ: «إنَّ أحدَهم يأتي بالشيء الذي أخذَه على رقبتِه» . ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً، وتكونُ على حَذْفِ مضاف أي: بإثمِ غلولِه. وقولُه: {ثُمَّ توفى} هذه الجملةُ معطوفةٌ على الجملة الشرطية، وفيها إعلامٌ أنَّ الغالَّ وغيرَه مِنْ جميعِ الكاسبين لا بُدَّ وأن يُجازوا فيندرجَ الغالُّ تحت هذا العموم أيضاً فكأنه ذُكِر مرتين. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هَلاَّ قيل:» ثم يُوَفَّى ما كسَب «ليتصلَ به. قلت: جِيء بعامٍّ دخَل تحتَه كلُّ كاسبٍ من الغالِّ وغيرِه فاتَّصل به من حيثُ المعنى، وهو أثبتُ وأبلغُ» .

162

قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} : الكلامُ على مثلِه قد تقدَّم مِنْ أنَّ الفاءَ النيةُ بها التقديمُ على الهمزةِ، وأن مذهبَ الزمخشري تقديرُ فعلٍ بينهما. قال الشيخ: «وتقديرُه في مثلِ هذا التركيبِ متكلَّفٌ جداً» . انتهى. والذي يَظْهَرُ من التقديرات: «أحَصَل لكم تمييزٌ بين الضالِّ والمُهْتدي، فَمَنِ اتَّبع رضوانَ اللهِ واهتدى ليس كَمَنْ باءَ بسخطِه وغلَّ» . لأنَّ الاستفهامَ هنا للنفي. و «مَنْ» هنا موصولةٌ بمعنى الذي في محلِّ رفع بالابتداء، والجارُّ والمجرورُ الخبرُ. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تكونَ شرطاً، لأنَّ»

كَمَنْ «لا يصلُح أن يكونَ جواباً» يعني لأنَّه كان يَجِبُ اقترانُه بالفاءِ، ولأنَّ المعنى يأْباه. و «بسَخَطٍ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعلِ أي: رَجَع بسَخَطِه، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً فيتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: رجَع مصاحباً لسَخَطه أو ملتبساً به. و «مِنَ الله» صفتُه. والسَّخَط: الغضبُ الشديد، ويقال: «سَخَط» بفتحتين وهو مصدرٌ قياسي، ويقال: «سُخط» بضمِّ السين وسكونِ الخاء، وهو غيرُ مقيسٍ، ويقال: «هو في سُخْطَةِ المَلِك» بالتاءِ أي: في كراهةٍ منه له. قوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} في هذه الجملةِ احتمالان: أن تكون مستأنفةً، أخبر أنَّ مَنْ باءَ بسَخَطِه أَوَى إلى جهنَّم. ويُفْهَمُ منه مقابله وهو: أنَّ مَنِ اتَّبع الرضوانَ كان مأواه الجنة، وإنما سَكَتَ عن هذا ونَصَّ على ذلك ليكونَ أبلغَ في الزجر، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ في هذه الجمل تقديرُه: أفَمَنْ اتبع ما يؤولُ به إلى رضا الله فباء برِضاه كَمَنِ اتَّبع ما يَؤُول به إلى سَخَطه. والثاني: أنها داخلةٌ في حَيِّز الموصولِ، فتكونُ معطوفةً على «باء بسخط» ، فيكونُ قد وَصَل الموصولَ بجملتين اسميةٍ وفعلية، وعلى كلا الاحتمالَيْن لا محلَّ لها من الإِعراب. والمخصوصُ بالذمِّ محذوف أي: وبئس المصيرُ جهنمُ. واشتملت هذه الآياتُ على الطباق في قوله: «يَنْصُرْكم ويَخْذُلْكم» ، وفي قولِه: «رضوان الله وسخطه» ، والتجنيسُ المماثِلُ في قولِه: «يَغْلُلْ» و «بما غلَّ» .

164

قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله} : جوابٌ لقسم محذوف.

وقرىء «لِمنْ مَنِّ الله» ب «مِنْ» الجارة، و «مَنِّ» بالتشديدِ مجرورٌ بها. وخَرَّجه الزمخشري على وجهين، أحدُهما: أَن يكونَ هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف تقديرُه: «لِمنْ مَنِّ الله على المؤمنين مَنُّه أو بَعْثُه إذ بعث، فحُذِف لقيام الدلالة، والثاني: أنه جُعِل المبتدأُ نفسَ» إذ «بمعنى وقت، وخبرُها الجارُّ قبلَها تقديرُه: لِمْن مَنِّ اللهِ على المؤمنين وقتُ بعثه، ونَظَّره بقولِهم:» أَخْطَبُ ما يكونُ الأميرُ إذا كان قائماً «. وهذان الوجهانِ في هذه القراءةِ مِمَّا يَدُلاَّن على رسوخِ قدمِه في هذا العلمِ. إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ عليه الوجَه الثاني بأنَّ» إذ «غيرُ متصرفةٍ، لا تكونُ إلا ظرفاً، أو مضافاً إليها اسمُ زمان، أو مفعولةً باذكر على قولٍ. ونَقَل قولَ أبي علي فيها وفي» إذا «أنهما لا تكونان فاعلين ولا مفعولين ولا مبتدأين. قال:» ولا يُحْفَظُ مِنْ كلامِهم: «إذ قام زيدٌ طويلٌ» يريد: وقتُ قيامِه طويلٌ، وبأنَّ تنظيرَه القراءةَ بقولِهم: «أخطبُ» إلى آخره خطأ، من حيث إنَّ المشبه مبتدأٌ والمُشَبَّه [به] ظرفٌ في موضعِ الخبرِ عند مَنْ يُعْرِبُ هذا الإِعرابَ، ومِنْ حيث إنَّ هذا الخبرَ الذي قد أبْرزه ظاهراً واجبُ الحذفِ لسدِّ الحالِ مسدَّه، نصَّ عليه النحويون الذين يُعْرِبونه هكذا فكيف يُبْرِزُه في اللفظِ «. وجوابُ هذا الردِّ واضحٌ، وليت أبا القاسم لم يَذْكُرْ تخريجَ هذه القراءةِ حتى كنا نسمع. والجمهورُ على ضَمِّ السين من» أنفسهم «أي: مِنْ جملتهم وجنسهم. وقرأت عائشة وفاطمة والضحاك ورواها أنس عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بفتح الفاء من النَّفاسة، وهي الشرف أي: أشرفِهم نسباً وخَلْقاً وخُلُقاً. وعن علي عنه عليه السلام:» أنا أَنْفَسُكم نَسَباً وحَسَباً وصِهْراً «. وهذا الجارُّ يَحْتمل وجهين أحدُهما: أَنْ يتعلَّق بنفس» بعث «. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه وصفٌ ل» رسولاً «فيكونُ منصوبَ المحلِّ، ويَقْوى هذا الوجهُ على قراءةِ فتح الفاء وقوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ} في محل حال أو مستأنف، وقد تقدَّم نظيرُها في البقرة. وقوله: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي} هي» إنْ «المخففةُ واللام فارقة، وقد تقدَّم الكلامُ على تحقيق هذا والخلافِ فيه. إلاَّ أنَّ الزمخشري ومكيّاً هنا حين جعلاها مخففةً قدَّرا لها اسماً محذوفاً، فقال الزمخشري:» تقديرُه: وإنَّ الشأنَ والحديثَ كانوا من قبل «. وقال مكي:» وأمَّا سيبويهِ فإنه يقول إنَّها محففةٌ واسمُها مضمرٌ «، والتقديرُ: على قولِه:» وإنهم كانوا «. وهذا ليس بجيد، لأنَّ» إنْ «المخففةَ إنما تعمل في الظاهرِ على غير الأفصحِ، ولا عمل لها في المضمر، ولا يُقَدَّرُ لها اسمٌ محذوفٌ البتَّةَ، بل تُهْمَلُ أو تعمل على ما تقدَّم، مع أنَّ الزمخشري لم يُصَرِّحْ بأنَّ اسمَها محذوفٌ، بل قال:» إنْ هي المخففةُ واللامُ فارقةٌ، وتقديرُه: وإنَّ الشأن والحديثَ كانوا «فقد يكونُ هذه تفسيرَ معنىً لا إعرابٍ. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ والثاني: في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعولِ في» يُعَلِّمُهم «وهو الأظهرُ.

165

قوله تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ} : الهمزةُ للإِنكار، وجَعَلَها ابن عطية للتقرير، والواوُ عاطفةٌ، والنيةُ بها التقديمُ على الهمزةَ على ما تقرر. وقال الزمخشري: «و» «لَمَّا» نصبٌ بقلتم، و «أصابَتْكم» في محل الجر بإضافة «لَمَّا» إليه، وتقديره، «قلتم حين أصابتكم» و «أنَّى» هذا نُصِب لأنه مقولٌ والهمزةُ للتقريعِ والتقريرِ. فإنْ قلت: علامَ عَطَفَتِ الواوُ هذه الجملةَ؟ قلت: على ما مضى من قصةِ أُحُد من وقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} ، ويجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على محذوفٍ تقديرُه: أفعلتم كذا وقلتم حينئذٍ كذا «انتهى. أمَّا جَعْلُه» لَمَّا «بمعنى» حين «أي ظرفاً فهو مذهبُ الفارسي، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين، وأمَّا قولُه:» عَطْفٌ على قصةِ أُحُد «؛ فهذا غيرُ مذهبِه؛ لأنَّ الجاريَ من مذهبه إنما هو تقديرُ جملةٍ يُعْطَفُ ما بعد الواوِ عليها أو الفاءِ أو ثم كما قَرَّره هو في الوجه الثاني. و» أنى هذا «أنَّى: بمعنى» مِنْ أين «كما تقدَّم في قولِه {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] . ويَدُلُّ عليه قولُه: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} و {مِنْ عِندِ الله} قاله الزمخشري. ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الظرفَ إذا وقَعَ خبراً لا يُقَدَّر داخلاً عليه حرفُ جر غيرُ» في «،» أمَّا أَنْ يُقَدَّرَ دَاخلاً عليه «مِنْ» فلا، لأنه إنما انتصبَ على إسقاطِ «في» ولذلك إذا أُضْمِر الظرفُ تعدَّى إليه [الفعلُ] ب «في» إلاَّ أَنْ يُتََّسَعَ فيه. قال: «فتقديرُه غيرُ سائغٍ واستدلاله بقولِه: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} {مِنْ

عِندِ الله} وقوفٌ مع مطابقةِ السؤالِ للجواب في اللفظِ وذُهولٌ عن هذه القاعدةِ» . واختار الشيخُ أنَّ «أَنَّى» بمعنى «كيف» قال: «وأنَّى سؤالٌ عن الحالِ هنا، ولا تناسِبُ أَنْ تكونَ بمعنى» أين «أو» متى «؛ لأنَّ الاستفهامَ لم يَقَعْ عن مكانٍ ولا زمانٍ هنا، إنما وقع عن الحالِ التي اقتضَتْ لهم ذلك، سألوا عنها على سبيل التعجُّبِ، وجاءَ الجوابُ من حيثُ المعنى لا من حيث اللفظُ في قولِه: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} . قال:» والسؤالُ «ب» أنَّى «سؤالٌ عن تعيين كيفيةِ حصولِ هذا الأمرِ، والجوابُ بقولِه: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} يضمَّن تعيين الكيفية، لأنه بتعيين السببِ تتعيَّن الكيفيةُ مِنْ حيث المعنى، لو قيل على سبيلِ التعجبِ: كيف لا يَحُجُّ زيدٌ الصالحُ!! فقيل في جوابه:» لعدم استطاعته «لحصل الجوابُ وانتظم من المعنى أنه لا يَحُجُّ وهو غيرُ مستطيعٍ» انتهى. أمَّا قولُه: «لا يُقَدَّر الظرفُ بحرفِ جرٍ غير» في «فالزمخشري لم يُقَدِّر» في «مع» أنَّى «حتى يلزَمَه ما قال، إنما جَعَل» أنَّى «بمنزلةِ» من أين «في المعنى. وأمَّا عدوله عن الجوابِ المطابقِ لفظاً فالعكسُ أولى. وقوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ} في محلِّ رفعٍ صفةً ل» مصيبة «. و» قلتم «على مذهبِ سيبويه جوابُ ل» لَمَّا «، وعلى مذهبِ الفارسي ناصبٌ لها، على حَسَبِ ما تقدَّم من مذهبيهما. والضميرُ في قوله» قل «هو راجع على المصيبة من حيث المعنى. ويجوز/ أن يكون على حذف مضاف مُرَاعَىً أي: سببُها، وكذلك الإِشارةُ بقولِه:» أنّى هذا «لأنَّ المرادَ المصيبةُ.

166

قوله تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ} : «ما» موصولةٌ بمعنى الذي في محلِّ رفعٍ بالابتداء. و {فَبِإِذْنِ الله} الخبر، وهو على إضمارٍ تقديرُه: فهو بإذنِ الله، ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط نحو: «الذي

يأتيني فله درهم» وهذا على ما قَرَّره الجمهورُ مُشْكِلٌ، وذلك أنهم قَرَّروا أنه لا يجوز دخولُ هذه الفاء زائدةً في الخبر إلا بشروط، منها أن تكون الصلة مستقبلة في المعنى، وذلك لأنَّ الفاء إنما دخلت للشبه بالشرط، والشرط إنما يكونُ في الاستقبالِ لا في الماضي، لو قلت: «الذي أتاني أمس فله درهم» لم يَصِحَّ، و «أصابَكم» هنا ماضٍ في المعنى لأنَّ القصةَ ماضيةٌ فكيف جاز دخولَ هذه الفاءِ؟ وأجابوا عنه بأنه يُحْمَلُ على التبيين أي: «وما تبَيَّن إصابته إياكم» كما تأوَّلوا: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} [يوسف: 27] أي: إنْ تَبَيَّن، وهذا شرطٌ صريح. قلت: وإذا صح هذا التأويل فَلتُجْعل «ما» هنا شرطاً صريحاً، وتكونُ الفاء داخلةً وجوباً لكونِها واقعة جواباً للشرط. وقال ابنُ عطية: «يَحْسُن دخولُ الفاءِ إذ1اكان سببَ الإِعطاءِ، وكذلك ترتيبُ هذه، فالمعنى إنما هو: وما أَذِن اللهُ فيه فهو الذي أصابكم، لكنْ قَدَّم الأهَمَّ في نفوسِهم والأقربَ إلى حِسِّهم. والإِذْنُ: التمكين من الشيء مع العلم به» وهذا حسنٌ مِِنْ حيث المعنى، فإنَّ الإِصابةَ مترتبةٌ على الإِذْن من حيث المعنى. وأشارَ بقولِه «الأهَمَّ والأَقربَ» إلى ما أصابَهم يوم التقى الجَمْعان. قوله: «وَلِيعٍلَمَ» في هذه اللامِ قَوْلان: أحدُهما: أنها معطوفةٌ على معنى قوله: {فَبِإِذْنِ الله} عطفَ سببٍ على سببٍ، فتتعلَّقُ بما تتعلَّق به الباءُ. والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي: ولِيَعْلَمَ فَعَلَ ذلك، أي: أصابكم والأول

أَوْلَى، وقد تقدَّم أنَّ معنى «ولِيَعْلَمَ اللهُ كذا» أي تمييزاً ويُظْهرَ للناسِ ما كان في عِلْمِه. وزعم بعضُهم أن ثم مضافاً أي: ليعلم إيمانَ المؤمنين ونفاق الذين، ولا حاجة إليه.

167

قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ} : هذه الجملةُ تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكونَ استئنافيةً، أخبر الله أنهم مأمورون: إمَّا بالقتالِ وإمَّا بالدَّفعِ أي: تكثيرِ سواد المسلمين: والثاني: أن تكون معطوفة على «نافقوا» ، فتكون داخلةً في حَيِّز الموصول أي: وليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقولُ بكذا، و «تعالوا» «وقاتِلوا» كلاهما قائمٌ مقام الفاعل ل «قيل» لأنه هو المقولُ، وقد تقدَّم ما فيه. قال أبو البقاء: «وإنما لم يَأْتِ بحرفِ العطفِ يعني بين تعالوا وقاتِلوا لأنه قَصَدَ أن تكونَ كلُّ من الجملتين مقصودةً بنفسِها، ويجوز أَنْ يُقال إنَّ المقصودَ هو الأمرُ بالقتال، و» تعالَوا «ذَكَر ما لو سَكَتَ عنه لكان في الكلام ما يَدُلُّ عليه، وقيل: الأمر الثاني حال» . يعني بقوله: «وتعالوا ذكرَ ما لو سَكَت» أي: المقصودُ إنما هو أمرُهم بالقتالِ لا مجيئُهم وحدَه، وجَعْلُه «قاتلوا» حالاً من «تعالوا» فاسدٌ؛ لأنَّ الجملة الحالية يُشْترط أن تكون خبريةً وهذه طلبيةٌ. قوله: {أَوِ ادفعوا} «أو» هنا على بابِها من التخييرِ والإِباحة. وقيل: بمعنى الواو لأنه طَلَبَ منهم القتالَ والدفعَ، والأولُ هو الصحيح. وقوله: «قالوا: لو نعلمُ» إنما لم يأتِ في هذه الجملةِ بحرفِ عطفٍ لأنها جوابٌ لسؤالِ سائلٍ: كأنه قيل: فما قالوا لَمَّا قيل لهم ذلك؟ فأُجيب بأنهم قالوا ذلك. و «نعلمُ» وإنْ كان مضارعاً فمعناه المُضِيُّ لأن «لو» تُخَلِّص المضارع إذ كانت لِما سيقع لوقوع غيره [للمضيّ] . ونكَّر «قتالاً» أي: لو عَلِمْنا بعضَ قتالٍ ما.

قوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ} «هم» مبتدأٌ و «أقربُ» خبرُه، وهو أفعلُ تفضيلٍ، و «للكفر» متعلقٌ به، وكذلك «للإِيمان» . فإنْ قيل: «لا يتعلَّقُ حرفا جر متحدان لفظاً ومعنىً بعامل واحدٍ، إلاَّ أن يكون أحدُهما معطوفاً على الآخر أو بدلاً منه، فكيف تعلَّقاً ب أقرب» ؟ فالجواب أنَّ هذا خاصٌّ بأفعلِ التفضيل قالوا: لأنه في قوة عاملين، فإنَّ قولَك: «زيدٌ أفضلُ من عمرو» معناه: يزيدُ فضلُه على فضل عمر. وقال أبو البقاء: «وجاز أن يعملَ» أقربُ «فيهما لأنهما يُشْبِهان الظرف، وكما عمل» أطيبُ «في قولهم:» هذا بُسْراً أطيبُ منه رُطباً «في الظرفينِ المقدَّرين، لأنَّ» أفعلَ «يَدُلُّ على معنيين: على أصل الفعل وزيادتِه، فيعملُ في كلِّ واحدٍ منهما بمعنى غيرِ الآخر، فتقديرُه: يَزيدُ قربُهم إلى الكفرِ على قُرْبِهم إلى الإِيمان» . ولا حاجة إلى تشبيه الجارَّيْنِ بالظرفين، لأن ظاهره أن المسوِّغَ لتعلُّقِهما بعاملٍ واحدٍ شِبْهُهُما بالظرفين، وليس كذلك، وقولُه: «الظرفين المقدرين» يعني أنَّ المعنى: هذا في أوانِ بُسْرِيَّتِه أطيبُ منه أوانَ رُطَبِيَّتِه. و «أقربُ» هنا من القُرْب الذي هو ضد البُعْد، ويتعدَّى بثلاثةِ حروفٍ: اللام و «إلى» و «مِنْ» ، تقولُ: قَرُبْتُ لك وإليك ومنك، فإذا قلت: «زيدٌ أقربُ من العلمِ من عمروٍ» ف «مِنْ» الأولى المُعَدِّيةُ لأصلِ معنى القرب، والثانيةٌ هي الجارة للمفضولِ. وإذا تقرَّر هذا فلا حاجةَ إلى ادِّعاء أنَّ اللامَ بمعنى إلى. و «يومئذ» متعلِّقٌ ب «أقربُ» ، وكذا «منهم» ، و «مِنْ» هذه هي الجارَّةُ للمفضولِ بعد أَفْعل، وليسَتْ هي المُعَدِّيةَ لأصلِ الفعل. ومعنى {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} أنهم كانوا قبلَ هذا الوقتِ كاتمين للنفاق، فكانوا

في الظاهرِ أبعدَ مِنَ الكفر، فلمَّا ظَهَرَ منهم ما كانوا يكتُمُونه صاروا أقربَ للكفر. و «إذ» مضافَةٌ لجملةٍ محذوفةٍ عُوِّضَ منها التنوينُ كما تَقَدَّم تقريرُه، وتقديرُ هذه الجملةِ، «هم للكفرِ يومَ إذ قالوا: لو نعلمُ قتالاً لاتَّبعناكم» وقيل: المعنى على حَذْفِ مضافٍ أي: هم لأهلِ الكفر أقربُ لأهلِ الإِيمان. وفُضِّلوا هنا على أنفسِهم باعتبارِ حالين ووقتين. ولولا ذلك لم يَجُزَ. تقولُ: «زيدٌ قاعداً أفضلُ منه قائماً» أو: «زيدٌ قاعداً اليومَ أفضلُ منه قاعداً غداً» ولو قلت: «زيدٌ اليومَ قاعداً أفضلُ منه اليومَ قاعداً» لم يجز. وحكى النقاش عن بعض المفسرين أنَّ «أقرب» هنا ليست من معنى القرب الذي هو ضد البعد، وإنما هي من القَرَب بفتح القاف والراء، وهو طَلَب الماء، ومنه «قاربَ الماء» ، ليلةُ القَرَب: ليلةُ الورود، فالمعنى: هم أطلبُ للكفر، وعلى هذا فتتعيَّن التعديةُ باللام، على حَدِّ قولك: «زيدٌ أضربُ لعمروٍ» . قوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في: «أقرب» أي: قَرُبوا للكفر قائلين هذه المقالة. وقوله: «بأفواهِهم» قيل: تأكيدٌ كقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] . والظاهرُ أنَّ القولَ يُطلق على اللسانيّ والنفسانيّ فتقييدُه بأفواههم تقييدُ لأحدِ محتملين، اللهم إلا أَنْ يُقال: إنَّ إطلاقَه على النفساني مجازٌ. قال الزمخشري: «وذِكْرُ القلوبِ مع الأفواه تصويرٌ لنفاقِهم، وأنَّ إيمانهم موجود في أفواههم فقط» وبهذا الذي قاله الزمخشري ينتفي كونُه للتأكيد لتحصيله هذه الفائدة.

168

قوله تعالى: {الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ} : جَوَّزوا في موضع «الذين» الألقابَ الثلاثة: الرفعَ والنصبَ والجرَّ، فالرفعُ من ثلاثة أوجه، أحدها: أَنْ يكونَ مرفوعاً على خبرِ مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين. الثاني: أنه بدل من واو «يكتمون» . الثالث: أنه مبتدأ، والخبرُ قولُه: {قُلْ فَادْرَءُوا} ولا بد من حَذْفِ عائدٍ تقديرُه: قل لهم فادرؤوا. والنصبُ من ثلاثة أوجه أيضاً، أحدُها: النصبُ على الذم أي أذُمُّ الذين قالوا. والثاني: أنه بدل من «الذين نافقوا» الثالث: أنه صفةٌ لهم. والجَرُّ من وجهين: البدل من الضميرِ في «بأفواهِهم» ، أو من الضمير في «قلوبِهم» كقولِ الفرزدق: 1490 - على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حاتماً ... على جودِه لضنَّ بالماءِ حاتمِ بجر «حاتم» على أنه بدلٌ من الهاءِ في «جوده» ، وقد تقدَّم الخلافُ في هذه المسألة. وقال الشيخ: وجَوَّزوا في إعرابِ «الذين» وجوهاً: الرفع على النعت ل «الذين نافقوا» ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو على أنه بدل من الواو في «يكتمون» ، والنصبُ فذكره إلى أخره. وهذا عجيبٌ منه لأنَّ «الذين نافقوا» منصوبٌ بقوله «وليعلَم» ، وهم في الحقيقة عَطْفٌ على «المؤمنين» ، وإنما كَرَّر العاملَ توكيداً، والشيخُ لا يَخْفى عليه ما هو أشكلُ من هذا، فيُحتمل أن يكونَ تبع غيره في هذا السهو، وهو الظاهر في كلامه، ولم يَنْظُر في الآية اتكالاً على ما رآه منقولاً، وكثيراً ما يقع الناس فيه، وأَنْ يُعْتَقَدَ أنَّ «الذين» فاعلٌ

بقوله: «وليعلَم» أي: «فَعَلَ الله ذلك ليَعْلم هو المؤمنين وليَعْلم المنافقون» ولكنَّ مثل هذا لا ينبغي أن يجوزَ البتة. قوله: {وَقَعَدُواْ} يجوز في هذه الجملة وجهان أحدهما: أن تكون حالية من فاعل «قالوا» و «قد» مرادةٌ، أي: وقد قعدوا، ومجيء الماضي حالاً بالواو وقد، أو بأحدهما، أو بدونهما ثابتٌ من لسان العرب. والثاني: أنها معطوفةٌ على الصلةِ فتكونُ معترضةً بين «قالوا» ومعمولِها وهو «لو أطاعونا» .

169

قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين} : مفعول أول، و «أمواتاً» مفعولٌ ثان، والفاعلُ: إمَّا ضميرُ كل مخاطب أو ضميرُ الرسول عليه السلام كما تقدَّم في نظائره. وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه «يَحْسَبَنَّ» بياء الغيبة. وفي الفاعلِ وجهان، أحدهما: أنه مضمرٌ: إمَّا ضميرُ الرسول، أو ضمير مَنْ يَصْلُح للحُسْبان أَيِّ حاسبٍ. والثاني: قاله الزمخشري وهو أن يكون «الذين قُتِلوا» قالِ: «ويجوزُ أَنْ يكون» الذين قُتِلوا «فاعلاً، والتقدير: ولا يَحْسَبَنَّهم الذين قتلوا أمواتاً أي: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. فإنْ قلت: كيف جاز حَذْفُ المفعول الأول؟ قلت: هو في الأصل مبتدأ فَحُذِف كما حُذِف المبتدأ في قوله:» بل أحياءٌ «أي: هم أحياءٌ، لدلالة الكلام عليهما. ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديمِ الضميرِ على مفسَّره، وذلك لا يجوزُ إلا في أبوابٍ محصورةٍ، وعدَّ باب: رُبَّه رجلاً، ونِعْم

رجلاً زيدٌ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأي سيبويه، والبدلُ على خلاف فيه، وضمير الأمر. قال:» وزاد بعضُ أصحابنا أن يكون [الظاهر] المفسِّر خبراً، وبأنّ حَذْفَ أحد مفعولي «ظن» اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليلٌ جداً، نَصَّ عليه الفارسي، ومَنَعه ابن ملكون البتة «. وهذا من تَحَمُّلاته عليه. أمَّا قولُه» يؤدي إلى تقديم المضمر إلى آخره «فالزمخشري لم يقدِّرْه صناعةً بل إيراداً للمعنى المقصود، ولذلك لَمَّا أراد أن يُقَدَّر الصناعة النحويةَ قَدَّره بلفظ» أنفسهم «المنصوبةِ وهي المفعول الأول، وأظنُ أنَّ الشيخَ تَوَهَّم أنها مرفوعةٌ تأكيدٌ للضمير في» قُتلوا «، ولم ينتبه أنه إنما قَدَّرها مفعولاً أولَ منصوبةً. وأمَّا تمشيتُه قولَه على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك، وما عليه من ابنِ مَلْكون؟ وستأتي مواضع يَضْطَرُّ هو وغيرُه إلى حَذْفِ أحد المفعولين كما ستقف عليه قريباً. وتقدَّم الكلام على مادة» حَسِب «ولغاتِها وقراءاتها. وقرأ ابن عامر:» قُتِّلوا «بالتشديد، وهشام وحده في» لو أطاعونا ما قُتِّلوا «، والباقون بالتخفيف. فالتشديد للتكثير، والتخفيف صالح لذلك.

وقرأ الجمهور» أحياءٌ «رفعاً على» بل هم أحياء «وقرأ ابن أبي عبلة:» أحياءً «وخَرَّجها أبو البقاء على وجهين، أحدهما: أن تكون عطفاً على» امواتاً «قال:» كما تقول: «ظننت زيداً قائماً بل قاعداً» . والثاني: وإليه ذهب الزمخشري أيضاً أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ تقديره: بل أحسَبُهم أحياءً «. وهذا الوجه سبق إليه أبو إسحاق الزجاج، إلاَّ أنَّ الفارسي رَدَّه عليه في» الإِغفال «قال:» لأنَّ الأمرَ تعيَّن فلا يجوزُ أن يُؤمر فيه بمحسبة، ولا يَصِحُّ أن يُضْمَرَ له إلا فعلُ المحسبة، فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن تُضْمِر فعلاً غيرَ المحسبة: اعتقِدْهم أو اجْعَلْهم، وذلك ضعيفٌ إذ لا دلالة في الكلام على ما يُضْمَر «انتهى. وهذا تحاملٌ من أبي عليّ. أمَّا قوله: «إنَّ الأمر تعيَّن» يعني أنَّ كونَهم أحياءً أمرٌ متيقن، فكيف يُقال فيه: «أَحْسَبُهم» بفعل يقتضي الشك؟ وهذا غيرُ لازم لأنَّ «حَسِبَ» قد تأتي لليقين. قال: 1491 - حَسِبْتُ التُّقَى والجودَ خيرَ تجارةٍ ... رَباحاً إذا ما المرءُ أَصبح ثاقِلا وقال آخر: 1492 - شهدْتِ وفاتوني وكنتُ حَسِبْتُني ... فقيراً إلى أَنْ يَشْهدوا وتَغِيبي ف «حَسِب» في هذين البيتين لليقين، لأنَّ المعنى على ذلك، وقوله: «وذلك ضعيف» يعني من حيث عدمُ الدلالةِ اللفظيةِ، وليس كذلك، بل إذا

أَرْشَد المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءٌ لدلالة المعنى عليه من غير ضَعْف، وإنْ كان دلالةُ اللفظِ أحسنَ. وأمَّا تقديرُه هو «أو اجْعَلْهم» قال الشيخ: «هذا لا يَصِحُّ البتة سواء جَعَلْتَ» أجْعَلْهم «بمعنى:» اخْلُقْهم أو صَيِّرهم أو سَمِّهم أو الْقَهُمْ «. قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُهما: أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ل» أحياءٌ «على قراءة الجمهور. الثاني: أن يكونَ ظرفاً ل» أحياء «لأنَّ المعنى: يَحْيَوْن عند ربِّهم. الثالث: أن يكونَ ظرفاً ل» يُرْزقون «أي: يقعُ رِزْقُهم في هذا المكانِ الشريف. الرابع: أن يكون صفةً ل» أحياء «، فيكونَ في محلِّ رفعٍ على قراءةِ الجمهورِ ونصبٍ على قراءة ابن أبي عبلة. الخامس: أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في» أحياء «والمرادُ بالعندية المجازُ عن قربهم بالتكرمة. قال ابن عطية:» هو على حَذْفِ مضاف إي: عند كرامةِ ربهم «ولا حاجةَ إليه، لأنَّ الأولَ أليق. قوله: {يُرْزَقُونَ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ خبراً ثالثاً لأحياء، أو ثانياً إذا لم تَجْعَلِ الظرفَ خبراً. الثاني: أنه صفةٌ ل» أحياء «بالاعتبارين المتقدمين، فإِنْ أعربنا الظرفَ وصفاً أيضاً فيكونُ هذا جاءَ على الأحسنِ، وهو أنه إذا وُصِف بظرفٍ وجملةٍ فالأحسنُ تقديمُ الظرفِ وعديلِه لأنه أقربُ إلى المفرد. الثالث: أنه حالٌ من الضمير في» أحياء «أي: يَحْيَون مرزوقين. والرابع: أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الظرف، والعاملُ فيه في الحقيقة العاملُ في الظرف. قال أبو البقاء في هذا الوجه:» ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الظرفِ إذا جَعَلْتَه صفةً «أي: إذا جَعَلْت الظرف، وليس ذلك مختصاً بجَعْلِه صفةً فقط، بل لو جَعَلْتَه حالاً جاز ذلك أيضاً، وهذه تُسَمَّى الحالَ

المتداخلة، ولو جَعَلْتَه خبراً كان كذلك.

170

قوله تعالى: {فَرِحِينَ} : فيه خمسةُ أوجه، أحدها: أن يكونَ حالاً من الضمير في «أحياءٌ» . الثاني: من الضمير في الظرف. الثالث: من الضمير في «يُرْزَقون» : الرابع أنه منصوب على المدح. الخامس أنه صفةٌ ل «أحياء» ، وهذا يختصُّ بقراءة ابن أبي عبلة. و «بما» يتعلَّقُ ب «فرحين» . قوله: {مِن فَضْلِهِ} في «مِنْ» وجهان، أحدُهما: أنَّ معناها السببيّة أي: بسبب فضله أي: الذي آتاهم الله متسبِّبٌ عن فضله. الثاني: أنها لابتداءِ الغاية، وعلى هذين الوجهين تتعلق بآتاهم. الثالث: أنها للتعبيضِ أي: بعضَ فضله، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف على أنها حال من الضمير العائد على الموصول، ولكنه حُذِف والتقدير: بما آتاهموه كائناً من فضله. قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ} فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكونَ من باب عطفِ الفعلِ على الاسم لكونِ الفعلِ في تأويلهِ، فيكونُ عطفاً على «فرحين» كأنه قيل: فَرِحين ومستبشرين، ونَظَّروه بقوله تعالى: {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] . والثاني: أنه أيضاً/ يكونُ من باب عطف الفعل على الاسم، لكنْ لأنَّ الاسم في تأويل الفعل. قال أبو البقاء: «هو معطوفٌ على» فرحين «؛ لأنَّ اسم الفاعل هنا يُشْبه الفعل المضارع» يعني أنَّ «فرحين» بمنزلة «يفرحون» ، وكأنه جعله من باب قوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] ، والتقديرُ الأولُ أَوْلى، لأنَّ الاسمَ وهو «فرحين» لا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نجعلَه في مَحلِّ فعلٍ مضارعٍ حتى نتأَوَّل الاسمَ به، والفعلُ فرعٌ عليه، فينبغي أن يُرَدَّ إليه،

وإنما فعلنا ذلك في الآيةِ لأنَّ أل الموصولةَ بمعنى الذي، و «الذي» لا تُوصَلُ إلا بجملة أو شبههِا، وذلك الشَّبَهُ في الحقيقةِ يِتأوَّل بجملة. الثالث: أَنْ يكونَ مستأنفاً، الواو للعطف عَطَفْت فعليةً على اسمية. الرابع: أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف أي: وهم يستبشرون، وحينئذ يجوز وجهان، أحدُهما: أن تكونَ الجملةُ حاليةً من الضمير المستكِنِّ في «فرحين» أو من العائد المحذوف من «آتاهم» ، وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جَعْلِنا إياها حالاً لأنَّ المضارع المثبت لا يجوز اقترانُه بواو الحال لِما تقدَّم غيرَ مرة. والثاني من هذين الوجهين: أن تكونَ استئنافية عَطَفَتْ جملةً اسميةً على مثلها. واستفعل هنا ليست للطلب، بل تكون بمعنى المجردِ نحو: «استغنى الله، واستمجد المَرْخ والعَفار» بمعنى غَنِي ومَجُد. وقد سمع «بَشِر الرجل» بكسر العين فيكون استبشر بمعناه، قاله ابن عطية. ويجوز أن يكونَ مطاوعَ أبشر نحو: «أكأنه فاستكان، وأراحه فاستراح، وأشلاه فاستشلى، وأَحْكمه فاستحكم» وهو كثير. وجَعَله الشيخ أظهرَ مِنْ حيث إنَّ المطاوعة تدلُّ على الانفعال عن الغير، فحصلت لهم البشرى بإبشار الله تعالى، وهذا لا يلزمُ إذا كان بمعنى المجرد. قوله: {مِّنْ خَلْفِهِمْ} في هذا الجارِّ وجهان، أحدهما: أنه متعلق

ب «يَلْحقوا» على معنى أنهم قد بَقُوا بعدهم، وهم قد تقدَّموهم. والثاني: أن يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حال من فاعل «يلحقوا» أي: لم يلحقوا بهم حالَ كونِهم مُتَخَلِّفين عنهم أي: في الحياة. قوله: {أَلاَّ خَوْفٌ} فيه وجهان أحدُهما: أنَّ «أَنْ» وما في حَيِّزها في محل جر بدلاً من «بالذين» بدلَ اشتمال أي: يستبشرون بعدم خوفهم وحزنهم فهم المُسْتَبْشَرُ به في الحقيقة لأنَّ الذواتِ لا يُسْتَبْشَر بها. والثاني: أنها في محل نصب على أنها مفعولٌ من أجله أي: لأنهم لا خوف. و «أَنْ» هذه هي المخففةُ، واسمها ضمير الشأن، وجملةُ النفي بعدها في محلِّ الخبر، والذواتُ لا يُسْتبشر بها كما تقدَّم فلا بد من حذف مضاف مناسبٍ، والتقدير: ويستبشرون بسلامةِ الذين، أو لُحوقهم بهم في الدرجة. وقال مكيّ بعد أَنْ حَكَى أنها بدلُ اشتمال: «ويجوز أن تكون» أَنْ «في موضع نصب على معنى» بأن لا «. وهذا هو بعينِه هو وجه البدلِ المتقدم، غايةُ ما في الباب أنه أعاد مع البدلِ العاملَ في تقديره، اللهم أَنْ يعني أنها وإنْ كانت بدلاً من» الذين «فليست في محلِّ جر بل في محلِّ نصب، لأنها سقطت منها الباءُ فإنَّ الأصل» بأَنْ لا «و» أَنْ «إذا حُذِف منها حرفُ الجر كانت في محلِّ نصب على رأي سيبويه والفراء. وهو بعيد.

171

قوله تعالى: {وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ} : قرأ الكسائي بكسر «إنَّ» على الاستئناف. وقال الزمخشري: «إنَّ قراءةَ الكسرِ اعتراضٌ»

واسشكل كونَها اعتراضاً، لأنَّها لم تقع بين شيئين متلازمين «ويمكن أن يُجاب عنه بأن» الذين استجابوا «يجوز أن يكون تابعاً ل» الذين لم يلحقوا «نعتاً أو بدلاً على ما سيأتي، فعلى هذا يُتَصَوَّرُ الاعتراض. ويؤيِّد كونَها للاستئنافِ قراءةُ عبد الله ومصحفه:» والله لا يُضيع «. وقرأ باقي السبعة بالفتح عطفاً على قوله:» بنعمةٍ «لأنها بتأويل مصدر أي: يستبشرون بنعمة من الله وفضلٍ منه وعدمِ إضاعةِ اللهِ أجرَ المؤمنين. وقوله: {يَسْتَبْشِرُونَ} من غيرِ حرف عطف فيه أوجه، أحدها: أنه استئنافٌ متعلِّق بهم أنفسِهم دونَ» الذين لم يلحقوا بهم «لاختلاف متعلَّق البشارتين. والثاني: أنه تأكيدٌ للأول لأنه قَصَد بالنعمة والفضل بيانَ متعلَّق الاستبشار الأول، وإليه ذهب الزمخشري. الثالث: أنه بدل من الفعل الأول، ومعنى كونه بدلاً أنه لَمَّا كان متعلَّقُه بياناً لمتعلَّق الأول حَسُن أن يقال: بدلٌ منه، وإلاَّ فكيف يُبْدَلُ فِعْلٌ مِنْ فعلٍ موافقٍ له لفظاً ومعنى؟ وهذا في المعنى يََؤُول إلى وجه التأكيد. والرابع: أنه حال من فاعل» يحزنون «، ويحزنون عامل فيه أي: ولاهم يحزنون حالَ كونهم مستبشرين بنعمة. وهو بعيدٌ لوجهين، أحدهما: أنَّ الظاهرَ اختلافُ مَنْ نَفَى عنه الحزن ومن استَبْشَر. والثاني: أنَّ نَفْيَ الحزن ليس مقيداً ليكون أبلغَ في البشارة، والحالُ قيدٌ فيه فيفوتُ هذا المعنى.

172

قوله تعالى: {الذين استجابوا} : فيه ستة أوجه، أحدها: أنه مبتدأ، وخبره قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ} . وقال مكيّ هنا: «وخبرُه {مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح} » . وهذا غلطٌ لأنَ هذا ليس

بمفيد البتة، بل «مِنْ بعد» متعلِّقٌ باستجابوا. والثاني: خبر مبتدأ مضمر أي: هم الذين. والثالث: أنه منصوبٌ بإضمار «أعني» . وهذان الوجهان يَشْملُهما قولُك «القطع» . الرابع: أنه بدل من «المؤمنين» . الخامس: أنه بدل من «الذين لم يلحقوا» قاله مكي. السادس: أنه بدلٌ من «المؤمنين» . ويجوز فيه وجهٌ سابع: وهو أن يكون نعتاً لقوله: «الذين لم يلحقوا» قياساً على جَعْلِه بدلاً منهم عند مكي. و «ما» في «بعدما أصابَهم» مصدريةٌ، و «للذين أحسنوا» خبرٌ مقدم. و «منهم» فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من الضمير في «أحسنوا» وعلى هذا ف «مِنْ» تكون تبعيضيةً. والثاني: أنها لبيان الجنس. قال الزمخشري: «مثلُها في قوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم} [الفتح: 29] لأنَّ الذين استجابوا قد أحسنوا كلُّهم واتقوا لا بعضُهم» . و «أجرٌ» مبتدأ مؤخر، والجملة من هذا المبتدأ وخبره: إمَّا مستأنفة أو حالٌ إن لم نُعْرِبْ الذين استجابوا مبتدأ، وإمَّا خبرٌ إنْ أعربناه مبتدأ كما تقدَّم تقريره.

173

قوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} : فيه من الأوجه ما تقدم في «الذين» قبله، إلاَّ في رفعه بالابتداء. قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} في فاعلِ «زاد» ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه ضمير يعود على المصدر المفهوم من «قال» أي: فزادهم القولُ بكيت وكيت إيماناً نحو: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] . والثاني: أنه يعودُ على المقولِ الذي

هو {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} كأنه قيل: قالوا لهم هذا الكلامَ فزادهم إيماناً. الثالث: أنه يعود على الناس، إذ أريد واحدٌ فردٌ كما نقل في القصة، وسبب النزول وهو نُعَيْم بن مسعود الأشجعي، نقل هذه الثلاثةَ الأوجهَ الزمخشري. واستضعف الشيخ الوجهين الأخيرين، قال: «مِنْ حيث إنَّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به لا هو في نفسه، ومن حيث إنَّ الثاني إذا أُطلْق على المفردِ لفظُ الجمع مجازاً فإنَّ الضمائرَ تَجْري على ذلك الجمعِ لا على المفرد. تقول:» مفارقُه شابَتْ «باعتبارِ الجمع، ولا يجوز:» مفارِقُه شاب «باعتبار: مَفْرِقُه شاب» . وفيما قاله الشيخ نظرٌ، لأنَّ المقولَ هو الذي في الحقيقة حَصَل به زيادةُ الإِيمان. وأمَّا قوله: «تَجرْي على الجمع لا على المفرد» فغير مُسَلَّم. ويَعْضُده أنهم نَصُّوا على أنه يجوزُ اعتبارُ لفظِ الجمعِ الواقعِ موقعَ المثنى تارةَ ومعناه أخرى فأجازوا: «رؤوس الكبشين قطعتُهُنَّ وقطعتهما» وإذا ثَبَتَ ذلك في الجمع الواقعِ موقعَ المثنى فليَجُزْ في الواقعِ موقع المفرد. ولقائلٍ أَنْ يُفَرِّق بينهما وهو أنه إنما جازَ أَنْ يُراعَى معنى التثنيةِ المُعَبَّرِ عنها بلفظ الجمع لقَرْبها منه، من حيث إنَّ كلاً منهما فيه ضَمُّ شيء إلى مثلِه بخلافِ المفردِ فإنه بعيدٌ من الجمعِ لعدَمِ الضمِّ فلا يَلْزَمُ مِنْ مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاةُ معنى المفرد.

قوله: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} عَطَفَ «قالوا» على «فزادهم» والجملةُ بعد القولِ في محلِّ النصب به. وقد تقدَّم أنَّ «حَسْب» بمعنى اسم الفاعل أي: «مُحْسِب» بمعنى الكافي، ولذلك كانت إضافتُه غيرَ محضةٍ عند قوله في البقرة: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [الآية: 206] . وقوله: {وَنِعْمَ الوكيل} / المخصوصُ بالمَدْحِ محذوفٌ أي الله.

174

قولُه تعالى: {بِنِعْمَةٍ} : فيه وجهان أحدهما: أنها متعلقةٌ بنفس الفعل على أنها باءُ التعدية. والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضميرِ في «انقلبوا» والباءُ على هذا للمصاحبةِ كأنه قيل: فانقلبوا ملتبسينَ بنعمةٍ ومصاحبين لها. قوله: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} هذه الجملةٌ في محل نصب على الحال أيضاً، وفي ذي الحال وجهان أحدهما: أنه فاعلُ «انقلبوا» أي: انقلبوا سالمين من السوء. والثاني: أنه الضميرُ المستكنُّ في «بنعمة» إذا كانت حلاً، والتقديرُ: فانقلبوا مُنَعَّمين بريئين من السوء، والعامل فيها العاملُ في «بنعمة» فهما حالان متداخلتان، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً ب «لم» وفيها ضميرُ ذي الحال جاز دخولُ الواو وعدمُه، فمِن الأول قولُه تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] وقولُ كعب: 1493 - لا تَأْخُذَنِّي بأقوالِ الوشاةِ ولم ... أُذْنِبْ وإنْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقاويلُ

ومن الثاني هذه الآيةُ وقَولُه: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} [الأحزاب: 25] ، وقولُ قيس بن الأسلت: 1494 - وأضرِبُ القَوْنَسَ يوم الوغى ... بالسيفِ لم يَقْصُرْ به باعِي وبهذا يُعْرف غلط الأستاذ ابن خروف حيث زعم أنه الواو لازمةٌ في مثل هذا، سواءً كان في الجملة ضميرٌ أم لم يكن. قوله: {واتبعوا} يجوز في ِهذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها عطف على «انقلبوا» . والثاني: أنها حال من فاعل «انقلبوا» أيضاً، ويكونُ على إضمار «قد» أي: وقد اتبعوا.

175

قوله تعالى: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان} : «إنما» حرف مكفوف ب «ما» عن العمل، وقد تقدَّم القول فيها أولَ هذا الكتاب. وفي إعراب هذه الجملةِ خمسةُ أوجه، أحدها: أن يكون «ذلكم» مبتدأ و «الشيطان» خبره، و {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} حالٌ بدليل قوع الحال الصريحة في مثل هذا التركيب نحو: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] . الثاني: أن يكونَ «الشيطانُ» بدلاً أو عطف بيان، و «يُخَوِّفُ» الخبر ذكره أبو البقاء. الثالث: أن كونَ «الشيطان» نعتاً لاسمِ الإِشارة، و «يُخَوِّفُ» الخبر، على أن يُراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان. ذكره الزمخشري. قال

الشيخ: «وإنما قال:» والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان «لأنه لا يكونُ نعتاً والمرادُ به إبليس لأنه إذ ذاك يكون علماً بالغلبة كالعَيُّوق، إذ هو في الأصل صفةٌ ثم غَلب على إبليس» وفيه نظر. الرابع: أن يكون «ذلكم» ابتداءً وخبراً، و «يُخَوِّف» جملةً مستأنفة بيانٌ لشيطنته، والمرادُ بالشيطان هو المُثَبِّط للمؤمنين. الخامس: أن يكون: «ذلكم» مبتدأ، و «الشيطانُ» مبتدأ ثانٍ، و «يُخَوِّف» خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأول قاله ابن عطية. وقال «وهذا الإِعرابُ خيرٌ في تناسق المعنى من أن يكون» الشيطان «خبر» ذلكم «لأنه يَجِيء في المعنى استعارةً بعيدة. وَردَّ عليه الشيخ هذا الإِعرابَ إنْ كان الضمير في» أولياءه «عائداً على الشيطان؛ لخلوِّ الجملة الواقعة خبراً مِنْ رابط يربطها بالمبتدأ وليست نفسَ المبتدأ في المعنى نحو:» هِجِّيرى أبي بكر: لا إله إلا الله «، وإن عاد على» ذلكم «ويُراد بذلكم غيرُ الشيطان جاز، ويصير نظيرَ:» إنما هند زيدٌ يضربُ عبدها «والمعنى: إنما ذلكم الركب أو أبو سفيان الشيطانُ يخوفكم أنتم أولياءَه أي: أولياءَ الركب أو أولياء أبي سفيان. والمشار إليه ب» ذلكم «هل هو عينٌ أو معنى؟ فيه احتمالان، أحدهما: أنه إشارة إلى ناس مخصوصين كنعيم وأبي سفيان وأشياعهما على ما تقدم. والثاني: أنه إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب وإرسال أبي سفيان وجَزَعِ مَنْ جَزَعَ، وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف مضاف أي: فِعْلَ

الشيطان، وقَدَّره الزمخشري:» قولَ الشيطان «أي: قولَه السابق وهو {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} وعلى كلا التقديرين أعني كون الإِشارة لأعيانٍ أو معان فالإِخبار بالشيطان عن» ذلكم «مجاز، لأنَّ الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعالِ الصادرة من الكفارِ ليست نفسَ الشيطان، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جاز ذلك. قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} قد تقدَّم ما محلُّه من الإِعراب، والتضعيفُ فيه للتعدية، فإنه قبل التضعيف متعدٍّ إلى واحدٍ وبالتضعيفِ يكتسب ثانياً، وهو من باب أعطى، فجوزُ حَذْفُ مفعوليه أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً، وهو في الآية الكريمة يَحْتمل أوجهاً، أحدها: أن يكون المفعولُ الأول محذوفاً تقديره: يُخَوِّفكم أولياءه، ويُقَوِّي هذا التقديرَ قراءةُ ابن عباس وابن مسعود هذه الآيةَ كذلك، والمراد بأوليائه هنا الكفارُ، ولا بد من حذف مضاف أي: شَرَّ أوليائه، لأنَّ الذواتِ لا يُخاف منها. والثاني: أن يكونَ المفعول الثاني هو المحذوف، و «أولياءه» هو الأول، والتقدير: يُخَوِّف أولياءه شر الكفار، ويكون المرادَ بأوليائه على هذا الوجه المنافقون ومَنْ [في] قلبه مرض مِمَّن تخلَّف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخروج، والمعنى: أنَّ تخويفه بالكفار إنما يَحْصُل للمنافقين الذي هم أولياؤه، وأما أنتم فلا يَصِل إليكم تخويفُه. والثالث ذكره بعضهم أن المفعولين محذوفان، و «أولياءه» نصب على إسقاطِ حرف الجر، والتقدير: يُخوِّفكم الشرَّ بأوليائه، والباء للسبب أي: بسبب أوليائه، فيكونون هم آلة التخويف، وكأن هذا القائل رأى قراءة أُبيّ والنخعي: «يُخَوِّف بأوليائه» فظنَّ أن قراءة الجمهور مثلُها في الأصل، ثم

حُذِفت الباء، وليس كذلك، بل تخريجُ قراءة الجمهور على ما تقدَّم، إذ لا حاجة إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له. وأمَّا قراءةُ أُبَيّ فتحتمل الباءُ أن تكون زائدةً كقوله: 1495 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ فتكونُ كقراءةِ الجمهورِ في المعنى، ويُحتمل أن تكونَ للسببِ والمفعولان محذوفان كما تقدَّم تقريرهُ. قوله: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} في الضمير المنصوبِ ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه يعودُ على أوليائِه أي: فلا تَخافوا أَولياءَ الشيطان، هذا إنْ أُريد بالأولياء كفارُ قريش. والثاني: أن يعود على «الناس» من قوله: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} إنْ كان المرادَ بأوليائه المنافقون. والثالث: أن يعودَ على الشيطان على المعنى. قال أبو البقاء: «إنما جُمِع الضميرُ لأنَّ الشيطانَ جنس» . والياءُ في قوله: «وخافونِ» من الزوائد، فأثبتها أبو عمرو وصلاً، وحذفَها وقفاً على قاعدتِه، والباقون يحذفونها مطلقاً. وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابُه محذوفٌ أو متقدِّم عند مَنْ يرى ذلك، وهذا من بابِ الإِلهاب والتهييج، وإلاَّ فهم متلبِّسون بالإِيمان.

176

قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين} : قرأ نافع «يُحْزِنْك» بضم حرف المضارعة من «أحزن» رباعياً في سائر القرِآن إلا التي

في قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] فإنه كالجماعة. والباقون بفتح الياء من حَزَنه ثلاثياً، فقيل: هما من باب ما جاء فيه فَعَل وأَفْعَل بمعنىً، وقيل: باختلافِ معنى، فَحَزَنَه جعل فيه حُزْناً نحو: دَهَنه وكَحَله أي: جعل فيه دُهْناً وكُحْلاً، وأحزنْتُه إذا جَعَلْتُه حزيناً، ومثلُ حَزَنَه وأَحْزَنَه: فَتنَه وأَفْتَنَه، قال سيبويه: «وقال بعضُ الأعرابِ: أَحْزَنْتُ الرجل وأفْتَنْتُه أي: جَعَلْتُه حزيناً وفاتناً» . وقيل: حَزَنْتُه أحدثْتُ له الحُزْنَ، وَأَحْزَنْتُه عَرَّضْتُه للحزن، قاله أبو البقاء. وقد تقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه اللفظة وما قيل فيها. وتقدَّم أيضاً أنه يُقال: حَزِن الرجلُ بالكسر، فإذا أرادوا تعديتَه عَدَّوْه بالفتحةِ فيقولون: «حَزَنْتُه» . ك «شَتِرَتْ عينه وشَتَرها الله» . والحقُّ أَنَّ حَرَنَه وأَحْزَنَه لغتان فاشيتان لثبوتهما متواترتين وإنْ كان أبو البقاء قال: «إنَّ أحزن لغةٌ قليلةٌ» . ومِنْ عجيبِ ما اتفق أن نافعاً رحمه الله يقرأ هذه المادة من «أحزن» إلا التي في الأنبياء كما تقدم، وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرؤها من «حَزَنه» ثلاثياً إلا التي في الأنبياء، وهذا من الجمع بين اللغتين، والقراءةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعةٌ. ويُقْرأ: «يُسارعون» بالفتحِ والإِمالةِ. وقرأ النحوي: «يُسْرعون» من أَسْرع في جميع القرآن. قال ابن عطية: «وقرءاةُ الجماعةِ أبلغُ، لأنَّ الذي

يُسارعُ غيرَه أشدُّ اجتهاداً/ مِن الذي يُسْرِعُ وحده. وقوله:» شيئاً «فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ أي: لا يَضُرُّونه شيئاً من الضرر. والثاني: أنه منصوب على إسقاط الخافض أي: لن يضروه بشيء، وهكذا كلُّ موضعٍ أشبهه ففيه الوجهان.

178

قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي} ؛ قرأ الجمهور «يَحْسَبَنَّ» بالغيبة، وحمزة بالخطاب، وحكى الزجاج عن خلقٍ كثير كقراءةِ حمزة إلا أنَّهم كسروا «إنما» ونصبوا «خيراً» وأنكرها ابن مجاهد، وسيأتي إيضاح ذلك، ويحيى بن وثاب بالغيبة وكسر «إنما» ، وحكى عنه الزمخشري أيضاً أنه قرأ بكسر «إنما» الأولى وفتح الثانية مع الغَيْبة. فهذه خمسُ قراءات. فأمَّا قراءةُ الجمهور فتخريجُها واضحٌ، وهو أنه يجوز أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إلى «الذين» ، و «أنَّ» وما اتصل بها سادٌّ مسدَّ المفعولين عند سيبويه ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش حَسْبما تقدم غير مرة. ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب يُراد به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي: ولا يحسبن النبيُّ عليه السلام، فعلى هذا يكون «الذين كفروا» مفعولاً أول، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة، فتتَّحِدُ هذه القراءةُ على هذا الوجه مع قراءة حمزة رحمه الله، وسيأتي تخريجها. و «ما» يجوز أَنْ

تكونَ موصولة اسمية، فيكونُ العائد محذوفاً لاستكمال الشروط، أي: أنَّ الذي نُمْليه، وأن تكونَ مصدرية أي: إملاءنَا، وهي اسم «أنَّ» و «خير» خبرُها. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تكونَ كافةً ولا زائدةً، إذ لو كانت كذلك لانتصَبَ» خيرٌ «ب» نُمْلي «، واحتاجت» أنَّ «إلى خبرٍ إذا كانت» ما «زائدةً، أو قُدِّر الفعلُ يليها، وكلاهما ممتنعٌ» . انتهى. وهو من الواضحات، وكتبوا «أنما» في الموضعين متصلةً، وكان من حقِّ الأولى الفصلُ لأنها موصولة. وأمَّا قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوالُ الناس وتخاريجُهم حتى إنه نُقِل عن أبي حاتم أنها لحن. قال النحاس: «وتابعه على ذلك خلقٌ كثير» وهذا لا يُلْتفت إليه لتواتُرها. وفي تخريجها ستةٌ أوجهٍ، أحدها: أن يكون فاعلُ «تحسَبَنَّ» ضميرَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و {الذين كَفَرُواْ} مفعولٌ أولُ، و {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} مفعولٌ ثانٍ. ولا بد على هذا التخريجِ مِنْ حَذْفِ مضافٍ: أمَّا من الأولِ تقديرُه: «ولا تَحْسَبَنَّ شأنَ الذين كفروا» ، وإمَّا من الثاني تقديرُه: «أصحابَ أنَّ إملاءنا خيرٌ لهم» ، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ «أنما نُمْلي» بتأويلِ مصدرٍ، والمصدرُ معنىً من المعاني لا يَصْدُق على الذين كفروا، والمفعولُ الثاني في هذا البابِ هو الأولُ في المعنى. الثاني: أن يكونُ {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} بدلٌ من {الذين كَفَرُواْ} وإلى هذا ذهب الكسائي والفراء وتَبِعهما جماعةٌ منهم الزمخشري والزجاج وابن الباذش. قال الكسائي والفراء: «وجهُ هذه القراءةِ التكريرُ والتأكيدُ، والتقدير: ولا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا ولا تحْسَبَنَّ أنما نُمْلي» . قال الفراء: «ومثلُه: {هَلْ

يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ} [الزخرف: 66] أي: ما ينظرون إلاَّ أَنْ تأتِيَهم» انتهى. وقد رَدَّ بعضُهُم قول الكسائي والفراء بأَنْ حَذْفَ المفعولِ الثاني في هذه الأفعالِ لا يجوزُ عند أحدٍ، وهذا الردُّ ليس بشيءٍ، لأنَّ الممنوعَ إنما هو حَذْفُ الاقتصارِ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وقال ابن الباذش: «ويكونُ المفعولُ الثاني حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه، ويكونُ التقديرُ:» ولا تحسبنُ الذين كفروا خيريةَ إملائنا لهم ثابتةً أو واقعةً «. وقال الزمخشري:» فإنْ قلت: كيف صَحَّ مجيءُ البدلِ ولم يُذْكَرْ إلا أحدُ المفعولين، ولا يجوزُ الاقتصارُ مِنْ فعلِ الحُسْبان على مفعولٍ واحدٍ؟ قلت: صَحَّ ذلك من حيث إنَّ التعويلَ على البدلِ، والمبدلُ منه في حُكمِ المُنَحَّى، ألا تراك تقول: «جعلت متاعك بعضه فوق بعضٍ» مع امتناعِ سكوتِك على «متاع» . وهل البدلُ بدلُ اشتمالٍ وهو الظاهرُ أو بدلُ كلٍ من كل فيكونُ على حذفٍ مضافٍ تقديرُه: «ولا تَحْسَبَنَّ إملاء الذين» فَحَذَف «إملاء» وأبدلَ منه «أنما نملي» ؟ قولان مشهوران. الثالث: وهو أغربُها أن يكونَ «الذين» فاعلاً ب «تَحْسَبَنَّ» على تأويلِ أَنْ تكونَ التاءُ في الفعلِ للتأنيثِ كقولِه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105] أي: «ولا تَحْسَبَنَّ القومَ الذين كفروا» و «الذين» وصفُ «القوم» كقوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ} [الأعراف: 137] فعلى هذا تَتَّحد هذه القراءةُ مع قراءة الغَيْبة، وتخريجُها كتخريجِها، ذكر ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيرِه المسمى:

ب «اللباب» . وفيه نظرٌ من حيث إنَّ «الذين» جارٍ مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، والجمعُ المذكرُ السالمُ لا يجوز تأنيثُ فعلِه عند البصريين، لا يجوزُ: قامت الزيدون، ولا: تقوم الزيدون. وأمَّا اعتذارُه عن ذلك بأنَّ «الذين» صفةٌ للقوم الجائزِ تأنيثُ فعلِهم وإنما حُذِفَ فلا ينفعه، لأنَّ الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ به لا بالمقدَّرِ، لا يُجيز أحدٌ من البصريين: «قامت المسلمون» على إرادة «القوم المسلمون» البتة. وقال أبو الحسن الحوفي: «أنَّ وما عَمِلَتْ فيه في موضعِ نصبٍ على البدلِ، و» الذين «المفعولُ الأولُ، والثاني محذوفٌ» ، وهو معنى قول الزمخشري المتقدم. الرابع: أن يكونَ {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} بدلاً من {الذين كَفَرُواْ} بدلَ الاشتمالِ أي: إملاءَنا، و «خيرٌ» بالرفعِ خبرُ مبتدأ محذوف أي: هو خيرٌ لأنفسهم، والجملةُ هي المفعولُ الثاني. نقل ذلك الشيخ شهاب الدين أبو شامة عن بعضهم، قال: قلت: ومثلُ هذه القراءة بيتُ الحماسة: 1496 - مِنَّا الأَناةُ وبعضُ القوم يَحْسَبُنا ... أنَّا بِطاءٌ وفي إبطائنا سَرَعُ كذا جاءت الرواية بفتح «أنَّا» بعد ذِكْر المفعولِ الأول، فعلى هذا يجوز أن تقول: «حَسِبْتُ زيداً أنه قائمٌ» أي: حَسِبْتُه ذا قيامٍ، فوجهُ الفتحِ أنها وقعت مفعولةً، وهي وما عَمِلَتْ فيه في موضعِ مفردٍ وهو المفعولُ الثاني لحسبت «انتهى. وفيما قاله نظر؛ لأن النحاة نصوا على وجوب كسر» إنَّ «إذا وقعت مفعولاً ثانياً والأولُ اسمُ عينٍ، وأنشدوا البيت المذكور على ذلك، وعللوا وجوبَ الكسر بأنَّا لو فَتَحْنا لكانت في محل مصدر فليزَمُ الإِخبارُ المعنى عن العين.

الخامس: أن يكون {الذين كَفَرُواْ} مفعولاً أولَ، و {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} في موضع المفعول الثاني، و {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر، اعترض به بين مفعولي» وَتحْسَبَنَّ «، وفي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، نُقِل ذلك عن الأخفش. قال أبو حاتم:» سمعت الأخفش يذكر فتحَ «أَنَّ» يحتجُّ بها لأهل القَدَر لأنه كان منهم، ويجعله على التقديمِ والتأخير، كأنه قال: «ولا تَحْسَبَنَّ الذين [كفروا] إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسِهم» انتهى. وإنما جاز أن تكون «أَنَّ» المفتوحة مبتدأً بها أولُ الكلامِ لأنَّ مذهب الأخفشِ ذلك، وغيرُه يمنع ذلك، فإنْ تَقَدَّم خبرُها عليها نحو: «في ظني أنك منطلقٌ» أو أمَّا التفصيلية نحو: «أما أنك منطلقٌ فعندي» جاز ذلك إجماعاً، وقولُ أبي حاتم: «يذكرُ فتحَ أنَّ» يعني بها التي في قولهِ: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} . ووجهُ تمسُّكِ القَدَريَّة به أنَّ الله تعالى لا يجوزُ أَنْ يُملي لهم إلا ماهو خيرٌ لأنفسِهم، لأنه يجبُ عندهم رعايةُ الأصلحِ. [السادس: قال المهدوي: «وقال قوم] قدَّم {الذين كَفَرُواْ} توكيداً، ثم حالَهم مِنْ قولِه: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} ردَّاً عليهم، والتقدير: ولا تحسبنُ أنَّ إملاءَنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم» انتهى. وأمَّا قراءة يحيى بكسر «إنما» مع الغيبة فلا يخلو: إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الفعلُ مسنداً إلى «الذين» أو إلى ضمير غائب، فإن كان الأولُ كانت «إنما» وما في حيزها معلِّقَةً ل «يحسبن» وإنْ لم تكن اللام في خبرها لفظاً فهي مقدرةٌ، فتكون «إنما» بالكسر في موضع نصب؛ لأنها معلقةٌ لفعلِ الحسبان مع نية اللام،

ونظيرُ ذلك تعليقُ أفعالِ القلوب عن المفعولين الصريحين لتقديرِ لامِ الابتداء في قولِه: 1497 - كذاك أُدِّبْتُ حتى صار مِنْ خُلُقي ... إني رأيتُ مِلاكُ الشيمةِ الأَدَبُ فلولا تقديرُ اللامِ لوجَبَ نصبُ «مِلاك» و «الأدب» ، وكذلك في الآية، لولا تقديرُ اللامِ لوجَبَ فتحُ «إنما» ، ويجوزُ أَنْ يكون المفعولُ الأولُ قد حُذِف وهو ضميرُ الأمرِ والشأنِ، وقد قيل بذلك في البيت وهو الأحسن فيه، والأصلُ: ولا يحسَبَنَّه أي: الأمرَ، و «إنما نُمْلِي» في موضع المفعول الثاني وفي المفسِّرة للضمير. وإن كان الثاني كان «الذين» مفعولاً أول، و «إنما نملي» في موضع الثاني. وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشري فقد خَرَّجها هو فقال: «على معنى: ولا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنَّ إملاءَنا لازدياد الإِثم كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويَدْخلوا في الإِيمان، وقوله {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} اعتراضٌ بين الفعلِ ومعمولِه، معناه: أنَّ إملاءَنا خيرٌ لأنفسِهم إنْ عَمِلوا فيه وَعَرَفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المُدَّة وتَرْكِ المعاجَلَة بالعقوبة» انتهى. فعلى هذا يكون «الذين» فاعلاً، و «أنما» المفتوحة سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو أحدِهما على الخلاف، واعتُرِض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله. قال النحاس: «وقراءةُ يحيى بن وثاب بكسر إنَّ» حسنةٌ، كما تقول: «حسبت عمراً أبو هـ خارجٌ» .

وأمَّا ما حكاه الزجاج قراءةً عن خلق كثير وهو نَصْبُ «خيراً» على الظاهر من كلامه فقد ذكر هو تخريجَها على أنَّ {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْراً لأَنْفُسِهِمْ} بدلٌ من «الذين» و «خيراً» مفعولٌ ثانٍ. ولا بُدَّ من إيرادِ نَصِّه ليظهرَ لك، قال رحمه الله: «مَنْ قَرَأَ» ولا تَحْسَبَنَّ «بالتاء لم يجز عن البصريين إلا كسرُ» إنَّ «والمعنى: لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا إملاؤنا خيرٌ لهم، ودخلت» إنَّ «مؤكدةً، فإذا فَتَحْتَ صار المعنى: ولا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا إملاءنا خيراً لهم قال:» وهو عندي يجوزُ في هذا الموضعِ على البدلِ من «الذين» المعنى: ولا تَحْسَبَنَّ إملاءَنا للذين كفروا خيراً لهم، وقد قرأَ بها خَلْقٌ كثير، ومثلُ هذه القراءةِ من الشعر: 1498 - فما كانَ قَيْسٌ هُلْكُه هلكَ واحدٍ ... ولكنه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما جَعَل «هُلْكُه» بدلاً من «قيس» المعنى: فما كان هُلْكُ قيسٍ هُلْكَ واحد يعني: «فهُلْك» الأول بدلٌ من المرفوع، فبقي «هُلْكَ واحدٍ» منصوباً خبراً ل «كان» ، كذلك {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} : «أن» واسمُها وهو «ما» الموصولةُ وصلتُها والخبرُ وهو «لهم» في محل نصبٍ بدلاً من الذين كفروا، فبقي «خيراً» منصوباً على أنه مفعولٌ ثانٍ ل «تحسبن» . إلاَّ أنَّ الفارسي قد رَدَّ هذا على أبي إسحاق بأنَّ هذه القراءةَ لم يَقرأ بها أحدٌ أعني نصبَ «خيراً» قال أبو عليّ الفارسي: «لا يَصِحُّ البدلُ

إلا بنصب» خير «من حيث كان المفعول الثاني ل» حسبت «، فكما انتصب» هلك واحدٍ «في البيت لَمَّا أبدلَ الأولَ من» قيس «بأنه خبرٌ لكان كذلك ينتصبُ» خيراً لهم «إذا أبدل الإِملاءَ من {الذين كَفَرُواْ} بأنه مفعولٌ ثانٍ لتحسَبَنَّ» قال: «وسألْتُ أحمدَ بن موسى عنها فَزَعم أنَّ أحداً لم يَقْرأ بها» يعني بأحمد هذا أبا بكر بن مجاهد الإِمامَ المشهور. وقال في «الحجة» له: «الذين كفروا في موضعِ نصبٍ بأنَّها المفعول الأول، والمفعولُ الثاني هو الأولُ في هذا الباب في المعنى، فلا يجوزُ إذاً فَتْحُ» أنَّ «في قولِه: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} لأنَّ إملاءَهم لا يكون إياهم» قال: «فإنْ قلت: لِمَ لا يجوزُ الفتحُ في» أنَّ «وتجعلُها بدلاً من {الذين كَفَرُواْ} كقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] وكما كان» أنَّ «من قولِه تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] . قيل: لا يجوزُ ذلك، وإلا لزمك أَنْ تَنْصِبَ» خيراً «على تقدير: لا تَحْسَبَنَّ إملاءَ الذين كفروا خيراً لأنفسهم، حيث كان المفعول الثاني ل» تحسبنَّ «، وقيل: إنه لم يقرأ به أحد، فإذا لم يُنْصَبْ عُلِم أنَّ البدلَ فيه لا يَصِحُّ وإذا لم يَصِحَّ البدلُ لم يَجُزْ إلا كسرُ» إنَّ «على أن تكون» إنَّ «وخبرُها في موضع المفعول الثاني من» تحسبن «انتهى ما رد به عليه، فلم يبقَ إلا الترجيحُ بين نقل هذين الرجلين، أعني الزجاج وابن مجاهد، ولا شك أن ابن مجاهد أَعْنى بالقراءات، إلا أن الزجاج ثقةٌ، ويقول:» قرأ بها خلق كثير «، وهذا يُبْعِدُ غَلَطه فيه، والإِثباتُ مقدَّمٌ على النفي. وما ذكره أبو علي من قولِه:» وإذا لم يَجُزْ البدلُ لم يَجُزْ إلا كسرُ إنَّ «إلى آخره، هذا أيضاً مِمَّا لم يقرأ به أحدٌ. قال مكي:» وجهُ القراءةِ لِمَنْ قَرَأ بالتاء يعني بتاءِ الخطاب أنْ يكسر «إنما» فتكونُ الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني ولم يَقْرأ به أحدٌ عَلِمْتُه «.

وقد نقل أبو البقاء نصبَ» خيراً «قراءةً شاذة قال:» وقد قِرِىء شاذاً بالنصبِ على أَنْ يكونَ «لأنفسهم» خبرَ «أنَّ» ، و «لهم» تبيينٌ أو حالٌ من «خيراً» يَعْني أنه لَمَّا جعل لأنفسهم الخيرَ جعل «لهم» : إمَّا تبييناً تقديرُه: أعني لهم، وإمَّا حالاً من النكرة المتأخرة، لأنه كان في الأصلِ صفةً لها، والظاهرُ على هذه القراءةِ ما قَدَّمْتُه مِنْ كونِ «لهم» هو الخبرَ، ويكونُ «لأنفسِهم» في محلِّ نصبٍ صفةً ل «خيراً» كما كانَ صفةً له في قراءةِ الجمهور، ونَقَلَ أيضاً قراءةَ كسر «إنَّ» وهي قراءة يحيى، وخَرَّجها على أنها جوابُ قسمٍ محذوف، والقسمُ وجوابُه يَسُدُّ مَسَدَّ المفعولين ولا حاجة إلى ذلك، بل تخريجُها على ما تقدَّم أولى، لأنَّ الأصلَ عدمُ الحذفِ. والإِملاء: الإِمهالُ والمَدُّ في العمر، ومنه: «مَلاَوَةُ الدهر» للمدة الطويلة، والمَلَوان: الليل والنهار، وقولهم «مَلاَك اللهُ بنعمةٍ» أي: مَنَحَكها عمراً طويلاً. وقيل: المَلَوان: تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشاعر: 1499 - نهارٌ وليلٌ دائمٌ مَلَواهُما ... على كلِّ حالِ المرءِ يَخْتلفان فلو كانا الليلَ والنهارَ لما أُضيفا إليهما، إذا الشيءُ لا يضاف إلى نفسِه. وقوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} أصلُ الياءِ واو، وإنما قُلِبَتْ ياءً لوقوعها رابعةً. قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا} قد تقدَّم أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذه، فيما نقله عنه الزمخشري، وتقدَّم تخريجُها، إلا أنَّ الشيخَ

قال: «إنه لم يَحْكِها عنه غيرُ الزمخشري، بل الذين نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسره للأولى فقط» قال: «وإنما الزمخشري لِوَلُوعه بمذهبه يرومُ رَدَّ كلِّ شيء إليه» . وهذا تحاملٌ عليه لأنه ثقة لا ينقل ما لم يُرْوَ. وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان، أحدهما: أنها جملة مستأنفة تعليلٌ للجملةِ قبلَها كأنه قيل: ما بالُهم يَحْسَبون الإِملاءَ خيراً؟ فقيل: إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً. و «إنَّ» هنا مكفوفةٌ ب «ما» ، ولذلك كُتِبَتْ متصلةً على الأصل، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً ولا حرفيةً؛ لأنَّ لام كي لا يَصِحُّ وقوعُها خبراً للمبتدأ ولا لنواسِخِه. والوجه الثاني: أنَّ هذه الجملةَ تكريرٌ للأولى. قال أبو البقاء: «وقيل» أنما «تكريرٌ للأولِ، و» ليزدادوا «هو المفعولُ الثاني ل» تَحْسَبَنَّ «هذا على قراءةِ التاء، والتقديرُ: لا تَحْسَبَنَّ يا محمد إملاءَ الذين كفروا خيراً ليزدادوا إثماً، بل ليزدادوا إيماناً، ويُرْوى أنَّ بعض الصحابة قرأه كذلك» انتهى. قلت: وفي هذا نظرٌ من حيث إنه جَعَل «ليزدادوا» هو المفعولَ الثاني، وقد تقدَّم أنَّ لامَ «كي» لا تقعُ خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه، ولأنَّ هذا إنما يَتِمُّ له على تقديرِ فتح الثانية، وقد تقدَّم أن أحداً لم ينقُلْها إلا الزمخشري عن يحيى، والذي يقرأ «تحسبن» بتاء الخطاب لا يفتحها البتة. واللامُ في «ليزدادوا» فيها وجهان: أحدُهما: أنها لامُ كي، والثانيةُ أنها لامُ الصيرورة. وقوله: {وَلَهْمُ عَذَابٌ} في هذه الواوِ قولان، أحدُهما: أنها للعطف، والثاني: أنها للحالِ. وظاهرُ قولِ الزمخشري أنها للحال في قراءة يحيى ابن

وثاب فقط، فإنه قال «فإنْ قلت: ما معنى هذه القراءة؟ يعني على قراءةِ يحيى التي نقلَها هو عنه قلت: معناه» ولا يَحْسَبَنَّ أنَّ إملاءَنا لزيادةِ الإِثمِ والتعذيبِ، والواوُ للحالِ، كأنه قيل: ليزدادوا إثماً مُعَدَّاً لهم عذابٌ مهين «قال الشيخ: بعد ما ذكر من إنكارِه عليه نقلَ فتحَ الثانية عن يحيى كما قدمته لك،» ولَمَّا قرَّر في هذه القراءة أنَّ المعنى على نهي الكافر أَنْ يَحْسَب أنما يُمْلي الله لزيادة الإِثم، وأنه إنما يملي لزيادةِ الخير كان قولُه: {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يَدْفَعُ هذا التفسيرَ، فَخَرَّج ذلك على أن الواوَ للحالِ ليزولَ هذا التدافُعُ الذي بين هذه القراءةِ وبين آخرِ الآية «. وأصل «ليزدادوا» : ليزتادوا بالتاء، لأنه افتعالٌ من الزيادة ولكنَّ تاء الافتعالِ تُقْلَبُ دالاً بعد ثلاثةِ أحرف: الزاي والذال والدال نحو: ادَّكر وادَّان. والفعلُ هنا متعدٍّ لواحدٍ وكانَ في الأصلِ متعدياً لاثنين نحو: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} [البقرة: 10] ، ولكنه بالافتعالِ ينقُص أبداً مفعولاً، فإنْ كان الفعلُ قبل بنائِه على افتعل للمطاوعةِ متعدياً لواحدٍ صار قاصراً بعد المطاوعةِ نحو «مدَدْتُ الحبل فامتدَّ» ، وإنْ كان متعدياً لاثنين صار بعد الافتعالِ متعدياً لواحدٍ كهذه الآيةِ. وخُتِمَتْ كلُّ واحدةٍ من هذه الآياتِ الثلاثِ بصفةٍ للعذاب غيرِ ما خُتمت به الأخرى لمعنى مناسب، وهو أنَّ الأولى تضمَّنَتْ الإِخبارَ عنهم بالمسارعةِ في الكفر، والمسارعةُ في الشيء والمبادرةُ إلى تحصيلِه تقتضي جلالته وعظمته، فجُعِل جزاءُهم «عذابٌ عظيمٌ» مقابلةً لهم، ويَدُلُّ ذلك على خساسةِ ما سارَعُوا فيه. وأمَّا الثانيةُ فتضمَّنَتْ اشتراءَهم الكفرَ بالإِيمان، والعادةُ سرورُ المشتري واغتباطُه بما اشتراه، فإذا خَسِرَ تألم، فخُتِمت هذه الآيةُ بألمِ العذابِ

كما يجدُ المُشتري المغبون ألم خسارته. وأمَّا الثالثةُ فتضمَّنَتْ الإِملاء وهو الإِمتاعُ بالمال وزينةُ الدنيا، وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّر والجبروتَ فخُتِمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانَتهم وذلتهم بعد عزهم وتكبُّرهم.

179

قوله تعالى: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ} : هذه تُسَمَّى لامَ الجحود، وينصبُ بعدَها المضارعُ بإضمار «أن» ولا يجوزُ إظهارها. والفرقُ بنيها وبين لام كي أنَّ هذه على المشهور شرطُها أن تكون بعد كونٍ منفي، ومنهم مَنْ يشترط مُضِيَّ الكونِ، ومنهم مَنْ لم يَشْترط الكون، ولهذه الأقوال دلائل واعتراضات مذكورة في كتب النحو استغنيت عنها هنا بما ذكرْتُه في «شرح التسهيل» . وفي خبر «كان» في هذا الموضع وما أشبهه قولان، أحدهما: وهو قول البصريين أنه محذوفٌ وأنَّ اللامَ مقويةٌ لتعديةِ ذلك الخبر المقدر لضعفِه، والتقدير: ما كان اللهُ مريداً لأنْ يَذَر، ف «أن يذر» هو مفعول «مُريداً» ، والتقديرُ: ما كانَ اللهُ مريداً تَرْكَ المؤمنين. والثاني قول الكوفيين: أنَّ اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي وأنَّ الفعلَ بعدها هو خبر «كان» ، واللامُ عندهم هي العاملةُ النصبَ في الفعلِ بنفسِها لا بإضمار «أَنْ» ، والتقديرُ عندهم: ما كان الله يَذَرُ المؤمنين. وضَعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنَّ النصبَ قد وُجِد بعد هذه اللامِ، فإنْ كان النصبُ بها نفسِها فليست زائدةً، وإن كان النصب بإضمار «أَنْ» فَسَدَ من جهة المعنى لأنَّ «أَنْ» وما في حَيِّزها بتأويل مصدر، والخبرُ في باب «كان» هو الاسمُ في المعنى فيلزم أن يكونَ المصدرُ الذي هو معنىً من المعاني صادقاً على اسمِها وهو مُحال «.

أمَّا قولُه:» إنْ كان النصبُ بها فليست زائدةً «فممنوعٌ؛ لأنَّ العمل لا يمنع الزيادةَ، ألا ترى أنَّ حروفَ الجر/ تُزاد وهي عاملةٌ، وكذلك» أَنْ «عند الأخفش و» كان «في قوله: 1500 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في غيرِ موضع. و» يَذَرُ «فعلٌ لا يَتَصرَّف ك» يَدَعُ «استغناءً عنه بتصرُّف مُرادفِه وهو» ترك «، وحُذِفَتِ الواوُ من» يَذَرُ «من غير موجبٍ تصريفي، وإنما حُمِلت على» يَدَعُ «لأنها بمعناها، و» يَدَعُ «حُذِفَتْ منه الواو لموجبٍ وهو وقوعُ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة، وأمَّا الواوُ في» يَذَرُ «فوقعت بين ياءٍ وفتحة أصلية، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه عند قوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} [البقرة: 278] . قوله: {حتى يَمِيزَ} » حتى «هنا قيل: للغاية المجردة بمعنى» إلى «، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار» أَنْ «، وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة. والغايةُ هنا مشكلةٌ على ظاهرِ اللفظِ؛ لأنه يصيرُ المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية وهي التمييزُ بين الخبيث والطيب، ومفهومُه أنه إذا وُجِدت الغايةُ تَرَك المؤمنين على ما أنتم عليه. وهذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية، وليس المعنى على ذلك قطعاً، ويصيرُ هذا نظيرَ قولِك: «لا أُكَلِّم زيداً حتى يَقْدُمَ عمروٌ» فالكلامُ منتفٍ إلى قدومِ عمرو. والجوابُ عنه: أن «حتى» غايةٌ لما يُفْهَمُ من معنى هذا الكلامِ، ومعناه أنه تعالى يُخَلِّص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أَنْ يَميزَ الخبيثَ من الطيب.

وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الأنفال: «يُمَيِّز» بالتشديد، والباقون بالتخفيف. وعن ابن كثير أيضاً «يُميز» من أماز، فهذه ثلاث لغات، يقال مازَه ومَيَّزه وأمازه. والتشديد والهمزة ليسا للنقل، لأنَّ الفعل قبلهما متعدٍ، وإنما فَعَّل بالتشديد وأَفْعَل بمعنى المجرد، وهل ماز ومَيّز بمعنى واحد أو بمعنيين مختلفين؟ قولان. ثم القائلون بالفرق اختلفوا، فقال بعضهم: لا يقال «ماز» إلا في كثير من كثير، فأما واحد من واحد فَمَيَّزت، ولذلك قال أبو معاذ: يقال: «مَيَّزْتُ بين الشيئين ومِزْتُ بين الأشياء» . وقال بعضُهم عكسَ هذا: مِزْتُ بين الشيئين ومَيَّزْتُ بين الأشياءِ، وهذا هو القياسُ، فإنَّ التضعيفَ يُؤْذِنُ بالتكثير وهو لائقٌ بالمتعددات. ورجَّح بعضُهم «مَيَّز» بالتشديد بأنه أكثر استعمالاً، ولذلك لم يُسْتعمل المصدرُ إلا منه فقالوا: التمييز، ولم يقولوا: «المَيْز» يعني لم يقولوه سماعاً وإلا فهو جائز قياساً. قوله: {وَلَكِنَّ الله} هذا استدراك من معنى الكلام المتقدم، لأنه لَمَّا قال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ} تُوُهِّم أنه لا يُطْلِعَ أحداً على غيبِه لعمومِ الخطابِ فاستدرك الرسلَ، والمعنى: ولكنَّ اللهَ يجتبي أي يصطفي مِنْ رسلِه من يشاء فيُطْلِعُه على الغيب، فهو ضدُّ لما قبلَه في المعنى، وقد تقدَّم أنها تقعُ بني ضِدِّيْنِ ونقيضين، وفي الخلافين خلافٌ. و «يَجْتَبي» : يَصْطَفي ويَخْتار، يَفْتَعل من جَبَوْتُ المالَ والماءَ وجَبَتْهُما لغتان، فالياءُ في «يَجْتَبي» يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ عَلى أصلِها، وأَنْ تكونَ منقلبةً من واوٍ لانكسارِ ما قبلَها.

ومفعول «يشاءُ» محذوفٌ، وينبغي أَنْ يُقَّدَّر ما يليقُ بالمعنى، والتقديرُ: مَنْ يشاءُ إطْلاعَه على الغيب.

180

قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} : قرأ حمزة بالخطاب، والباقون بالغيبة. فأمَّا قراءةُ حمزة ف «الذين» مفعولٌ أولُ، و «خيراً» هو الثاني، ولا بُدَّ من حذف مضاف لِيَصْدُقَ الخبرُ على المبتدأِ، تقديرُه: ولا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الذين يبخلون. قال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ لأنَّ فيه إضمارَ البخلِ قبل ذِكْر ما يَدُلُّ عليه» وفيه نظرٌ، لأنَّ الدلالةَ على المحذوف قد تكونُ متقدمةً وقد تكون متأخرةً، وليس هذا من بابِ الإِضمارِ في شيء حتى يُشْتَرَطَ فيه تقدُّمُ ما يَدُلُّ على ذلك الضميرِ. و «هو» فيه وجهان، أحدُهما: أنه فَصْلٌ بين مفعولي «تحسبن» . والثاني قاله أبو البقاء: أنه توكيدٌ، وهو خطأ، لأنَّ المضمر لا يُؤكِّد المُظْهَر، والمفعول الأول اسمٌ مظهر ولكنه حُذِف كما تقدم، وبعضُهم يُعَبِّر عنه فيقول: «أُضمر المفعولُ الأولُ» يعني حُذِفَ فلا يُغْتَرَّ بهذه العبارةِ، و «هو» في هذه المسألةِ يتعيَّن فَصْلِيَّتُه لأنه لا يخلو: إمَّا أَنْ يكونَ مبتدأً أو بدلاً أو توكيداً، والأولُ منتفٍ لنصبِ ما بعده وهو خيراً وكذا الثاني لأنه كان يلزمُ أَنْ يوافِقَ ما قبلَه في الإِعرابِ فكان ينبغي أَنْ يُقالَ إياه لا «هو» ، وكذا الثالثُ لِما تقدَّم. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فيجوزُ فيها أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إلى ضمير غائب:

إمَّا الرسولُ أو حاسِبٌ ما، ويجوزُ أَنْ يكونَ مسنداً إلى «الذين» ، فإنْ كان مسنداً إلى ضميرِ غائبٍ ف «الذين» مفعولٌ أولُ على حَذْفِ مضافٍ كما تقدَّم ذلك في قراءةِ حمزة أي: بخلَ الذين، والتقدير: ولا يَحْسَبَنَّ الرسولُ أو أحدُ بخلَ الذين يبخلون خيراً. و «هو» فصل كما تقدَّم، فتتحدُ القراءاتان معنىً وتخريجاً. وإنْ كان مسنداً ل «الذين» ففي المفعولِ الأولِ وجهان، أحدُهما: أنه محذوفٌ لدلالةِ «يبخلون» عليه كأنه قيل: «ولا يَحْسَبَنَّ الباخِلون بخلَهم هو خيراً لهم» و «هو» فصلٌ. قال ابن عطية: «ودَلَّ على هذا البخلِ» يبخلون «كما دَلَّ» السفيه «على» السَّفَه «في قوله: 1501 - إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه ... وخالَفَ والسفيهُ إلى خلافِ أي: جرى إلى السفة» . قال الشيخ: «وليست الدلالةُ فيها سواءً لوجهين، أحدُهما: أنَّ دلالةَ الفعلِ على المصدرِ أَقْوى مِنْ دلالةِ اسمِ الفاعلِ عليه وأكثرُ، ولا يوجَدُ ذلك إلا في هذا البيت أوغيرِه إن ورد. الثاني: أنَّ البيتَ فيه إضمارٌ لا حذفٌ، والآيةُ فيها حَذْفٌ. الوجه الثاني: أنَّ المفعولَ نفس» هو «، وهو ضميرُ البخل الذي دَلَّّ عليه» يبخلون «كقولِه: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] ، قاله أبو البقاء، وهو غلطٌ أيضاً؛ لأنه ينبغي أَنْ يأتِيَ به بصيغةِ المنصوب فيقول: «إياه» لكونِه منصوباً ب «يَحْسَبَنَّ» ، ولا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نَدَّعي أنه من بابِ استعارةِ ضميرِ الرفع

مكانَ النصبِ كقولِهم «ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا» فاستعار ضميرَ الرفعِ مكانَ ضميرِ الجر. وفي الآية وجهٌ آخرُ غريبٌ خَرَّجه الشيخ قال: «وهو أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال إذا جَعَلْنا الفعلَ مسنداً ل» الذين «، وذلك أنَّ» يَحْسَبَنَّ «يطلب مفعولين و» يَبْخلون «يطلبُ مفعولاً بحرفِ جر، فقولُه: {مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} يطلبه» يحسبن «مفعولاً أولَ ويكون» هو «فَصْلاً، و» خيراً «المفعولُ الثاني، ويطلبه» يبخلون «بتوسُّطِ حرفِ الجر، فأعملَ الثانيَ على الأفصحِ وعلى ما جاء في القرآن وهو» يبخلون «فَعُدِّي بحرف الجر، وأخذ معموله، وحَذَفَ معمول» يحسبن «الأولَ وبقي معمولُه الثاني، لأنه لم يُتنازع فيه، وإنما جاء التنازعُ في الأول، وساغ حذفُه وحدَه كما ساغ حَذْفُ المفعولين في مسألة سيبويه:» متى رأيت أو قلت: زيد منطلق «ف» رأيت «و» قلت «تنازعا في» زيدُ منطلقٌ «وفي الآيةِ لم يتنازعا إلا في الأولِ، وتقديرُ المعنى:» ولا يَحْسَبَنَّ ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناسُ الذي يَبْخلون به «فعلى هذا التقديرِ يكونُ» هو «فَصْلاً ل» ما آتاهم «المحذوفِ لا لبخلِهم المقدَّرِ في قول الجماعة، ونظيرُ هذا التركيب:» ظنَّ الذي مَرَّ بِهندٍ هي المنطلقةَ «المعنى: ظَنَّ هنداً الشخصُ الذي مَرَّ بها هي المنطلقةَ» فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأول، فاعمل الفعل الثاني فيه، وبقي الأولُ يطلبُه محذوفاً ويطلبُ الثانيَ مثبتاً إذ لم يقع فيه التنازعُ. انتهى «. ومع غرابة هذا التخريجِ وتطويلِه بالنظيرِ والتقدير فيه نظرٌ، وذلك أنَّ النحويينَ نَصُّوا على أنه إذا أعملنا الثانيَ، واحتاج الأولُ إلى ضمير المتنازع

فيه، فإنْ كان يطلبه مرفوعاً أُضْمِرَ فيه وإنْ كان يَطْلُبُه غيرَ مرفوعٍ حُذِف، إلاَّ أَنْ يكون أحدَ مفعولي» ظَنَّ «فلا يُحْذَفُ، بل يُضْمَرُ ويُؤَخَّر، وعَلَّلوا ذلك بأنه لو حُذِفَ لبقي خبرٌ دون مُخْبَرٍ عنه أو بالعكسِ، هذا مذهبُ البصريين، وفيه بحثٌ، فإنَّ لقائلٍ أن يقولَ: حُذِفَ اختصاراً لا اقتصاراً، وأنتم تجيزون حَذْفَ إحداهما اختصاراً في غيرِ التنازع فليَجُزْ في تنازعٍ إذ لا فارقَ، وحينئذ يَقْوى تخريجُ الشيخِ بهذا البحثِ أو يُلْتَزَمُ القولُ بمذهب الكوفيين فإنهم يُجيزون الحَذْفَ فيما نحن فيه. وذكر مكي ترجيحَ كلٍّ مِن القراءتين فقال: وميراث مصدرٌ كالمِيعاد، وياؤُه من واوٍ، قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلها وهي ساكنةٌ لأنَّها من الوارثةِ كالميقاتِ والميزانِ من الوقتِ والوزن. وقرأ أبو عمرو وابن كثير:» يَعْمَلُون «بالغَيْبة جرياً على قوله: {الذين يَبْخَلُونَ} ، والباقون بالخطاب، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه التفاتُ، فالمرادُ الذي يبخلون. والثاني: رَدّاً على قوله: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} .

181

قوله تعالى: {قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ} : العامل في «إنَّ» هو «قالوا» ف «إنَّ» وما في حَيِّزها/ منصوب المحل ب «قالوا» لا بالقول. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ المسألة من باب التنازع أعني بين المصدر وهو «قول» وبين الفعل وهو «قالوا» تنازعا في «أَنْ» وما في حَيِّزها، قال: «ويجوز أن يكون معمولاً ل» قول «المضافِ لأنه مصدرٌ، وهذا تخريجٌ على قول الكوفيين في إعمال الأول وهو قولٌ ضعيف، ويزداد هنا ضعفاً بأن الثاني فعلٌ والأولُ

مصدرٌ، وإعمالُ الفعل أقوى» . وظاهرُ كلامه أنَّ المسألةَ من التنازع، وإنما الضعف عنده من جهةِ إعمال الأول فلو قَدَّرْنا إعمالَ الثاني كان ينبغي أن يجوزَ عنده، لكنه يمنع من ذلك مانعٌ آخر وهو: أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ولا يجوزُ حذفُه، وهو هنا غير مذكور، فدل على [هذا] أنها عنده ليست من التنازع إلا على قول الكوفيين، وهو ضعيف كما ذكر. وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملةَ على ما أسندوه إليه تعالى وإلى عدمِ ذلك فيما أسندوه لأنفسِهم كأنه عند الناس أمرٌ معروف. قوله: {سَنَكْتُبُ} قرأ حمزة بالياء مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه، و «ما» وصلتُها قائمٌ مقامَ الفاعلِ. و «قَتْلُهم» بالرفعِ عطفاً على الموصولِ، و «يقول» بياء الغيبة. والباقون بالنون للمتكلم العظيم، ف «ما» منصوبةٌ المحلِّ، و «قتلَهم» بالنصبِ عطفاً عليها، و «نقولُ» بالنون أيضاً. وقرأ طلحة ابن مصرف: «سَتُكْتب» بتاءِ التأنيث على تأويلِ «ما قالوا» بمقالتهم. وقرأ ابن مسعود وكذلك هي في مصحفه: «سنكتب ما يقولون ويُقال» . والحسن والأعرج: «سَيَكْتب» بالغيبة مبنياً للفاعل أي: الله تعالى أو الملك، و «ما» في جميع ذلك يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً وهو الظاهر وحُذِفَ العائِدُ لاستكمالِ شروطِ الحذفِ تقديرُه: سنكتب الذي يقولونه. ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي: قولَهم، ويُراد به إذ ذاك المفعولُ به أي: مقولَهم، كقولهم: «ضَرْب الأمير» .

182

قوله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ} : مبتدأ وخبر تقديره: ذلك مستحق بما قَدَّمَتْ، كذا قدره أبو البقاء، وفيه نظرٌ تقدَّم مثله. و «ما»

يجوز فيها أن تكونَ موصولة وموصوفةً. و «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدَّم من عقابِهم. وهذه الجملةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ في محل نصب بالقول عطفاً على «ذُوقوا» كأنه قيل: ونقول لهم أيضاً: ذلك بما قَدَّمَتْ أيديكم، وُبِّخوا بذلك، وذَكَر لهم السببَ الذي أوجب لهم العقابَ. والثاني: ألاَّ تكونَ داخلةً في حكايةِ القول، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ نزولِ الآيةِ، وذُكِرت الأيدي لأن أكثرَ الأعمالِ تُزاوَلُ بها. قوله: {وَأَنَّ الله} عطفٌ على «ما» المجرورةِ بالباءِ أي: ذلك العقابُ حاصلٌ بسببِ كَسْبكم وعدمِ ظلمهِ لكم. وهنا سؤال: وهو أن «ظَلاَّماً» صيغةُ مبالغةٍ تقتضي التكثيرَ، فهي أخصُّ من «ظالمِ» ، ولا يَلْزَمُ من نفي الأخصِّ نفيُ الأعَمِّ، فإذا قلت: «زيدٌ ليس بظلاَّم» أي: ليس يُكْثِرُ الظلم، مع جوازِ أَنْ يكونَ ظالماً، وإذا قلت: «ليس بظالم» انتفى الظلمُ مِنْ أصلِه، فكيف قال تعالى: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ؟ وفي ذلك خمسَةُ أوجهٍ، ذكر أبو البقاء منها أربعة. الأول: أن «فَعَّالاً» قد لا يُراد به التكثيرُ كقوله طرفة: 1502 - ولَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاعِ لبيته ... ولكنْ متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أَرْفِدِ لا يُريد هنا أنه يَحُلُّ التلاعَ قليلاً؛ لأنَّ ذلك يَدْفَعُه آخرُ البيت الذي يَدُلُّ على نفي البخلِ على كلِّ حال، وأيضاً تمامُ المدحِ لا يَحْصُل بإرادة الكثرة. الثاني: أنه للكثرة، ولكنه لَمَّا كان مقابَلاً بالعباد وهم كثيرون ناسب أن يُقابَلُ الكثيرُ بالكثير. والثالث: أنه إذا نفى الظلم الكثير انتفى القليلُ

ضرورةً؛ لأن الذي يَظْلم إنما يَظْلِمُ لانتفاعِه بالظلمِ، فإذا تَرَكَ الظلمَ الكثيرَ مع زيادةِ نَفْعِه في حَقِّ مَنْ يجوزُ عليه النفعُ والضُّرُّ كان للظلمِ القليلِ المنفعةِ أتركَ. الرابع: أن يكونَ على النسبِ أي: لا يُنْسَبُ إليه ظلمٌ، فيكونُ من باب: بَزَّار وعَطَّار، كأنه قيل: ليس بذي ظلم البتة. والخامس: قال القاضي أبو بكر: «العذاب الذي تَوَعَّد أَنْ يفعلَه بهم لو كان ظلماً لكان عظيماً فنفاه على حَدِّ عظمته لو كان ثابتاً» . وقال الراغب بعد تفرقَتِه بين جَمْعَي «عَبْد» على عبيد وعِباد: فالعبيدُ إذا أُضيف إلى الله تعالى أَعَمُّ من العباد، ولهذا قال: {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فنبَّه على أنه لا يَظْلِمُ مَنْ تخصَّص بعبادتِه ومَنِ انتسَبَ إلى غيرِه مِن الذين تَسَمَّوْا بعبدِ الشمس وعبدِ اللات «، وكان الراغبَ قد قَدَّم الفرقَ بين» عبيد «و» عِباد «فقال:» وجَمْعُ العبدِ الذي هو مسترقٌّ «:» عبيد «، وقيل:» عِبِدَّى «، وجمعُ العبد الذي هو العابد» عِباد «. وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظةِ وجموعُها وما قيل فيها.

183

قوله تعالى: {الذين قالوا} : يجوزُ في مَحَلِّه الألقابُ الثلاثة: فالجَرُّ من ثلاثةِ ِأوجه، الأولُ: أنه صفةٌ ل «الذين» المخفوضِ بإضافة «قول» إليه. الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه صفةٌ ل «العبيد» أي: ليس بظلاَّم للعبيد الذين قالوا كيتَ وكيتَ، قاله الزجاج. قال ابنُ عطية: «وهذا مُفْسِدٌ للمعنى والرصفِ» . والرفعُ: على القطع بإضمار مبتدأ أي: هم الذين. وكذلك النصبُ على القطعِ أيضاً بإضمارِ فعلٍ لائقٍ أي «اَذُمُّ الذين» .

قولُه: {أَلاَّ نُؤْمِنَ} في «أَنْ» وجهان، أحدُهما: أنها على حذفِ حرفِ الجر، والأصلُ: في أن لا نؤمِنَ، وحينئذ يَجِيء فيها المذهبان المشهوران: أهي في محلِّ جر أو نصب. والثاني: أنها مفعولٌ بها على تضمينِ: «عهد» معنى أَلْزَمَ، تقول: «عَهِدْتُ إليه كذا» أي: أَلْزَمْته إياه، فهي على هذا في محلِّ نصب فقط. و «أَنْ» تُكتب متصلةً ومنفصلةً اعتباراً بالأصلِ أو بالإِدغام. ونَقَل أبو البقاء أنَّ منهم مَنْ يَحْذِفُها في الخطِّ اكتفاءً بالتشديد. وحكى مكيّ عن المبرد أنها إنْ أُدْغِمَتْ بغنةٍ كُتِبت متصلةً وإلاَّ فمنفصلةً، ونُقِل عن بعضِهم أنها إنْ كانت مخففةً كُتِبَتْ منفصلةً، وإنْ كانَتْ ناصبةً كُتِبَتْ متصلةً، والفرقُ أنَّ المخففةَ معها ضمير مقدرٌ، فكأنه فاصلٌ بينهما بخلافِ الناصبة، وقولُ أهل الخطِّ في مثل هذا: «تُكْتب متصلة» عبارةٌ عن حَذْفِها في الخطِّ بالكلية اعتباراً بلفظ الإِدغام لا أنَّهم يكتبونها متصلةً، ويُثْبتون لها بعضَ صورتِها فيكتبون: أَنْلا، والدليلُ على ذلك أنهم لَمَّا قالوا في «أم من» و «أم ما» ونحوِه بالاتصال إنما يعنون به كتابةَ حرفٍ واحد فيكتبون: أمّن وأمَّا. وفهم أبو البقاء أنَّ الاتصال في ذلك عبارةٌ عن كتابتهم لها بعضَ صورتها ملصقةً ب «لا» ، والدليلُ على أنه فَهِم ذلك أنه قال: «ومنهم مَنْ يَحْذِفُها في الخط اكتفاءً بالتشديد» فَجَعَلَ الحذف قسيماً للوصلِ والفصلِ، ولا يقولُ أحدٌ بهذا. وتَعَدَّى «نُؤْمِنُ» باللامِ لتضمُّنِه معنى الاعترافِ، وقد تقدَّم في أولِ البقرة.

وقرأ عيسى بن عمر: «بقُرُبان» بضمتين. قال ابن عطية: «إتباعاً لضمةِ القافِ، وليس بلغةٍ لأنه ليس في الكلام فُعُلان بضم الفاء والعين، وحكى سيبويه:» السُّلُطان «بضم اللام، وقال:» إن ذلك على الإِتباع «. قال الشيخ: ولم يَقُلْ سيبويه إنَّ ذلك على الإِتباع بل قال:» ولا نعلمُ في الكلامِ فِعِلان ولا فُعُلان ولكنه قد جاء فُعُلان وهو قليل، قالوا: «السُّلُطان» وهو اسمٌ «قال الشارحُ لكلام سيبويه» صاحبُ هذه اللغمة لا يُسَكِّن ولا يُتْبعُ «وكذا ذكر التصريفيون أنه بناءٌ مستقلٌ، قالوا ولم يجىء فُعُلان إلا اسماً وهو قليلٌ نحو:» سُلُطان «. قلت: أمَّا ابنُ عطية فَمُسَلَّمٌ أنه وَهِمَ في النقل عن سيبويه في «سُلُطان» خاصةً، ولكنَّ قولَه في «قُرُبان» صحيحٌ لأِنَّ أهلَ التصريفِ لم يَسْتَثْنُوا إلا السُّلُطان. والقُرْبان في الأصل مصدرٌ ثم سُمِّي به المفعول كالرَّهْنِ فإنه في الأصلِ مصدرٌ ولا حاجةَ إلى حذْفٍ مضاف. وزعم أبو البقاء أنه على حَذْفِ مضافٍ أي: بتقريبِ قُرْبانٍ، قال: «أي يُشَرِّع لنا ذلك» . و «تأكلُه النارُ» صفةٌ لقُرْبان، وإسنادُ الأكلِ إليها مجازٌ عَبَّر عن إفنائها الأشياءَ بالأكل. و «من قبلي» و «بالبينات» كلاهما متعلِّقٌ ب «جاءكم» ، والباء تحتملُ المعيةَ والتعديةَ أي: مصاحبين للآيات.

184

قوله تعالى: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ} : ليس جواباً للشرط، بل الجوابُ محذوفٌ أي: فَتَسَلَّ «ونحوُه، لأنَّ هذا قد مَضَى وتحقَّق، وفيه

كلامٌ طويلٌ تقدَّم لك نظيرُه. والجملةُ من» جاؤوا «في محلِّ رفعِ صفة ل» رُسُل «و» من قبلك «متعلقٌّ ب» كُذِّبَ «. والباءُ في» بالبينات «تحتملُ الوجهين كنظيرتِها. وقرأ جمهورُ الناس:» والزبرِ والكتابِ «مِنْ غيرِ ذكرِ باء الجر، وقرأ ابنُ عامر:» وبالزبرِ «بإعادتها، وهشامٌ وحدَه عنه:» وبالكتاب «بإعادتها أيضاً، وهي في مصاحف الشاميين كقراءة ابن عامر رحمه الله. والخَطْبُ فيه سهلٌ، فَمَنْ لم يأتِ بها اكتفى بالعطف، ومَنْ أتى بها كان ذلك تأكيداً/. والزُّبُر: جمع زَبُور بالفتح، ويقال: زُبور بالضم أيضاً، وهل هما بمعنىً واحد أو مختلفان؟ سيأتي الكلامُ عليهما في قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [الآية: 163] في النساء. واشتقاقُ اللفظةِ من» زَبَرْتُ «أي: كَتَبْتُ، وزَبَرْتُه قرأتُه، وزَبَرْتُه: حَسَّنْتُ كتابتَه، وزَبَرْتُه: زجرته، فَزَبور بالفتح فَعُول بمعنى مَفْعول كالرَّكوب بمعنى المركوبِ، والحَلوب بمعنى المَحْلوب، قال امرؤ القيس: 1503 - لِمَنْ طَلَلٌ أبصرْتُه فشَجاني ... كخَطِّ زَبورٍ في عَسيبِ يماني وقيل: اشتقاقُ اللفظِ من الزُّبْرَة، وهي قطعة الحديد المتروكة بحالها. و» المنير «اسم فاعل من أنار أي: أضاء.

185

قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} : مبتدأٌ وخبر، وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرةِ العمومُ أو الإِضافةُ. والجمهورُ على {ذَآئِقَةُ الموت} .

بخفض «الموت» بالإِضافة، وهي إضافةُ غيرُ محضةٍ لأنَّها في نيةِ الانفصالِ. وقرأ اليزيدي: «ذائقةٌ الموتَ» بالتنوين والنصبِ في «الموت» على الأصل. وقرأ الأعمش بعدمِ التنوين ونصبِ «الموت» ، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين وإرادته، وهو كقول الآخر: 1504 - فألفَيْتُه غيرَ مُسْتَغْتِبٍ ... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا بنصب الجلالة، وقراءة من قرأ: {قل هو الله أحدُ اللهُ} بحذف التنوين من «أحد» لالتقاء الساكنين. ونقل أبو البقاء فيها قراءةً غريبةً وتخريجاً غريباً قال: «ويُقْرأ أيضاً شاذاً: {ذَآئِقَةُ الموت} على جعل الهاء ضمير» كل «على اللفظ، وهو مبتدأ أو خبر» . انتهى. وإذا صَحَّتْ هذه قراءةً فيكونُ «كل» مبتدأً، و «ذائقُةُ» خبرٌ مقدمٌ، و «الموتُ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «كل» ، وأضيف «ذائق» إلى ضمير «كل» باعتبار لفظها، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأنَّ النفسَ هي التي تذوقُ الموتَ وليس الموتُ يذوقُها، وهنا جَعَلَ الموتَ هو الذي يذوق النفس قلباً للكلام لفهم المعنى، كقولهم: «عَرَضْتُ الناقة على الحوض» ، ومنه: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} [الأحقاف: 20] و «أَدْخَلْت القَلنسوة في رأسي» . وقوله:

1505 - مثلُ القنافِذِ هَدَّاجون قد بلغَتْ ... نجرانُ أو بُلِّغَتْ سواءِتهمْ هَجَرُ الأصلُ: عَرَضْتُ الحوض على الناقةِ، ويَوْم تُعْرَضُ النارُ عليهم، وأدخلت رأسي في القَلَنْسوة، وبُلِّغَتْ سوءاتُهم هجراً، فَقَلب، وسيأتي خلاف الناس في القلب بأشبعَ من هذا عند موضعِه، وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا أنَّ التأنيثَ في «ذائقة» إنما هو باعتبار معنى «كل» ، وقال: «لأنَّ كلَّ نفسٍ نفوسُ، ولو ذُكِّر على لفظِ» كل «جاز» ، يعني أنه لو قيل: «كلُّ نفس ذائقٌ كذا» جاز، وقد تقدَّم لك أو البقرةِ أنه يَجِبُ اعتبارُ لفظِ ما تُضاف إليه «كل» إذا كان نكرةً، ولا يجوزُ أن تَعْتَبِر «كلَ» ، وتحقيقُ هذه المسألةِ هناك. قوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} «ما» كافةٌ ل «إنَّ» عن العمل وقد تقدَّم مثلُها. وقال مكي: «ولا يجوزُ أَنْ تكونَ» ما «بمعنى الذي لأنه يلزم رفعُ» أجوركم «، ولم يَقْرأ به أحدٌ؛ لأنَّه يصير التقديرُ:» وإنَّ الذي تُوَفَّوْنه أجورُكم، كقولك: «إنَّ الذي أكرمتموه عمروٌ» وأيضاً فإنك تفرِّق بين الصلةِ والموصولِ بخبر الابتداء «يعني لو كانت» ما «موصولةً لكانت اسمَ» إنَّ «فيلزمُ حينئذٍ رفعُ» أجوركم «على خبرها كقولِه تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69] ، ف «ما» هنا يجوزُ أن تكونَ بمعنى الذي أو مصدريةً تقديرُه: إنَّ الذي صَنَعوه أو: إنَّ صُنْعَهم، ولذلك رُفِع «كيد» خبراً لها. وقولُه: «وأيضاً فإنَّك تفرِّقُ» يعني أن «يوم القيامة» متعلِّقٌ ب «تُوَفَّوْن» فهو من تمامِ الصلة، فلو كانت «ما» موصولةً لفَصَلْتَ بالخبرِ الذي هو «أجوركم» بين أبعاضِ الصلةِ التي هي الفعلُ ومعموله، ولا يُخْبَر عن موصولٍ إلا بعد تمام صلتِه، وهذا وإنْ كانَ من الواضحاتِ إلا أنَّ فيه تنبيهاً على أصولِ العلمِ.

وأدغم أبو عمرو الحاءَ من «زُحْزِحَ» في العينِ هنا خاصة قالوا: لطول الكلمةِ وتكريرِ الحاء، دونَ قولِه: {ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] {المسيح عِيسَى} [آل عمران: 45] ونُقِل عنه الإِدغامُ مطلقاً وعدمُه مطلقاً، والنحويون يمنعون ذلك، ولا يُجيزونه إلا بعد أنْ يَقْلبوا العينَ حاءً، ويُدْغِمون الحاءَ فيها قالوا: «لأنَّ الأقوى لا يُدْغَمُ في الأضعفِ، وهذا عكسُ الإِدغامِ، لأنَّ الإِدغامَ أَنْ تَقْلِبَ فيه الأولَ للثاني، إلا في مسألتين إحداهما: هذه، والثانية الحاء في الهاء نحو:» امدحْ هذا «لا تُقْلَبُ الهاء حاء أيضاً» ، ولذلك طَعَنَ بعضُهم على قراءةِ أبي عمرو، ولا يُلْتَفت إليه. والغُرور: [يجوزُ أَنْ يكون مصدراً وأَنْ يكونَ] جمعاً. وقرأ عبد الله بفتح الغين، وفُسِّر بالشيطان، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَعولاً بمعنى مَفْعول أي: متاع المغرور، أي: المَخْدوع، وأصل الغَرَر: الخَدْع.

186

قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ} : هذا جوابُ قسم محذوف تقديره: واللهِ لَتُبْلَوُنَّ. وهذه الواو هي واو الضمير، والواو التي هي لام الكلمة حُذِفت لأمر تصريفيّ، وذلك أن أصله: لَتُبْلَوُوْنَنَّ، فالنون الأولى للرفع حُذِفت لأجل نون التوكيد، وتَحَرَّكت الواو التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها فَقُلبت ألفاً، فالتقى ساكنان: الألف وواو الضمير، فَحُذفت الألف لئلا يلتقيا، وضُمَّت الواو دلالةً على المحذوف، وإنْ شئت قلت: استُثْقِلَت الضمةُ على الواو الأولى فَحُذِفت فالتقى ساكنان، فحذفت الواو الأولى، وحُرِّكت الواوُ بحركة مجانسةٍ دلالةً على المحذوف. ولا يجوز قلبُ مثلِ هذه الواو همزةً

لأنها حركةٌ عارضةٌ ولذلك لم تُقْلَبْ ألفاً وإنْ تحركت وانفتح ما قبلها. وأصلُ لَتَسْمَعُنَّ: تسمعونَنَّ، ففُعِل فيه ما تقدَّم، إلا أن. هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير لأنَّ قبلَها حرفاً صحيحاً.

187

قوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} : هذا جوابٌ لِما تضمَّنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بكر بالياء جرياً على الاسم الظاهر وهو كالغائبِ وحَسَّن ذلك قولُه بعدَه: «فنبذوه» . والباقون بالتاء خطاباً على الحكاية تقديرُه: «وقلنا لهم» ، وهذا كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 83] بالتاء والياء، وتقدَّم تحريره. وقوله: {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} يَحتمل وجهين، أحدهما: واو الحال، والجملةُ بعدَها نصبٌ على الحال أي: لتُبَيِّنُنَّه غيرَ كاتمين. والثاني: أنها للعطف، وأنَّ الفعلَ بعدها مقسمٌ عليه أيضاً، وإنما لم يُؤكَّد بالنون لأنه منفيٌّ، تقول: «واللهِ لا يقومُ زيد» من غيرِ نونٍ. وقال أبو البقاء: «ولم يأتِ بها في» تكتمونه «اكتفاءً بالتوكيدِ في الأول لأنَّ» تكتمونَه «توكيدٌ» ، وظاهرُ عبارتِه أنه لو لم يكن بعدَ مؤكَّدٍ بالنونِ لزم توكيدُه، وليس كذلك لِما تقدَّم. وقوله: «لأنه توكيدٌ» يعني أنَّ نَفْيَ الكتمان عنهم من قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} ، فجاءَ قولُه: {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} توكيداً في المعنى. واستحسن الشيخ هذا الوجهَ أعني جَعْلَ الواوِ عاطفةً لا حاليةً قال: «لأن هذا الوجه الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ بعد الواو حتى تصيرَ

الجملةُ اسميةً، لأنَّ المضارع المنفيّ ب» لا «لا يَصِحُّ دخولُ الواو عليه. وغيره يقول: إنها تمتنع إذا كان مضارعاً مثبتاً فيفهم من هذا أن المضارع المنفيَّ بكلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه. وقرأ عبد الله» لَتُبَيِّنُونه «من غير توكيد. قال ابن عطية:» وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد، قال سيبويه «انتهى. والمعروف من مذهب البصريين لزومُهما معاً، والكوفيون يجيزون تعاقبهما في سَعة الكلام، وأنشدوا: 1506 - وعَيْشِك يا سلمى لأُوقِنُ أنني ... لِما شِئْتِ مُسْتَحْلٍ ولو أنَّه القتلُ وقال آخر: 1507 - يميناً لأَبْغَضُ كلَّ امرىءٍ ... يُزَخْرِفُ قولاً ولا يفعلُ فأتى باللامِ وحدها، وقد تقدَّم هذا مرةً أخرى بأشبع من هذا الكلام. وقرأ ابن عباس:» ميثاقَ النبيين «. والضميرِ في قوله:» فنبذوه «يعود على الناس المبيَّن لهم، لاستحالةِ عوْدِه على النبيين، وكان قد تقدَّم لك في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم} [آل عمران: 81] أنه في أحد الأوجه على

حذف مضاف، أي: أولاد النبيين، فلا بُعْدَ في تقديرِه هنا، أعني قراءة ابن عباس.

188

قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «لاتَحْسَبَنَّ فلا يَحْسَبُنَّهم» بالياءِ فيهما ورفع باء «يَحْسَبُنَّهم» . وقرأ الكوفيون بتاء الخطاب وفتحِ الباء فيهما معاً، ونافع وابن عامر بياءِ الغَيْبة في الأولِ، وبالخطاب في الثاني، وفتح الباءِ فيهما. وقرىء شاذاً بتاءِ الخطابِ وضَمِّ الباء فيهما معاً. [وقُرىء فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما وفتح الباء فيهما أيضاً، فهذه خمس قراءات] . فأمَّا قراءةُ ابن كثير وأبي عمرو ففيها خمسة أوجه، وذلك أنه لا يخلو: إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الفعلُ الأولُ مسنداً إلى ضميرِ غائبٍ أو إلى الموصولِ، فإنْ جَعَلْناه مسنداً إلى ضميرِ غائب: إمَّا الرسولِ عليه السلام أو غيرِه ففي المسألة وجهان، أحدُهما: أنَّ/ «الذين» مفعولٌ أولُ، والثاني محذوفٌ لدلالةِ المفعولِ الثاني للفعلِ الذي بعده عليه وهو «بمفازة» ، والتقدير: لا يَحْسَبَنَّ الرسول أو حاسبٌ الذين يفرحون بمفازة، فلا يَحْسَبُنَّهم بمفازة، فأسند الفعلَ الثاني لضميرِ «الذين» ، ومفعولاه: الضميرُ المنصوبُ و «بمفازةٍ» . الوجه الثاني: أنَّ «الذين» مفعولٌ أولُ أيضاً، ومفعولهُ الثاني هو «بمفازة» الملفوظِ به بعد الفعل الثاني، ومفعول الفعل الثاني محذوفٌ لدلالةِ مفعولِ الأولِ عليه، والتقديرُ: لا يَحْسَبَنَّ الرسول الذين يفرحون بمفازةٍ فلا يَحْسَبُنَّهم كذلك، والعمل كما تقدم. وهذا بعيدٌ جداً للفصل بين المفعول الثاني للفعل

الأول بكلامٍ طويل من غير حاجةٍ. والفاءُ على هذين الوجهين عاطفةٌ، والسببية فيها ظاهرة. وإن جعلناه مسنداً إلى الموصولِ ففيه ثلاثة أوجه، أولها: أَنَّ الفعل الأول حُذِف مفعولاه اختصاراً لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما تقديره: لا يَحْسَبَنَّ الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يَحْسَبُنَّهم فائزين كقول الآخر: 1508 - بأيَّ كتابٍ أم بأيةِ سُنَّةٍ ... ترى حُبَّهم عاراً علي وتَحْسَبُ أي: وتَحْسَبُ حُبَّهم عاراً، فحَذَف مفعولي الفعل الثاني لدلالة مفعولي الأول عليهما، وهو عكسُ الآية الكريمة حيث حُذِف فيها من الفعل الأول. الوجه الثاني: أنَّ الفعلَ الأول لم يَحْتَجْ إلى مفعولين هنا. قال أبو علي: «يَحْسَبَنَّ» لم يقع على شيء، و «الذين» رفع به، وقد تجيء هذه الأفعالُ لغواً في حكم الجمل المفيدة كقوله: 1509 - وما خِلْتُ أَبْقَى بيننا من مودةٍ ... عِراضُ المَذَاكي المُسْنِفِاتِ القلائِصا وقال الخليل: «العربُ تقول: ما رأيتُ يقول ذلك إلا زيدٌ، وما ظننته يقول ذلك إلا عمرو» يعني أبو علي: أنها في هذه الأماكنِ ملغاة لا مفعولَ لها.

الثالث: أن يكونَ المفعولُ الأول محذوفاً. الثاني هو نفس «بمفازة» ويكون «فلا يَحْسَبُنَّهم» تأكيداً للفعل الأول. وهذا رأي الزمخشري، فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة: «على أنَّ الفعلَ اللذين يفرحون، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ على معنى:» لا يَحْسَبَنَّهم الذين يفرحون بمفازةٍ «بمعنى: لا يَحْسَبَنَّ أنفسَهم الذين يفرحون فائزين، و» فلا يَحْسَبُنَّهم «تأكيد انتهى. قال الشيخ: «وتقدَّم لنا الردُّ على الزمخشري في تقديره:» لا يَحْسَبَنَّهم الذين «في قوله: {لاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي} [آل عمران: 178] وأن هذا التقدير لا يَصِحُّ» . قلت: قد تقدم ذلك والجواب عنه بكلام طويل، لكن ليس هو في قوله: {لاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي} بل في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} [آل عمران: 169] في قراءةِ مَنْ قرأه بياء الغيبة، فهناك ردَّ عليه بما قال، وقد أَجَبْتُ عنه والحمد لله، وإنما نَبَّهْتُ على الموضع لئلا يُطْلَبَ هذا البحثُ من المكان الذي ذكره فلم يوجد. ويجوز أن يقال في تقرير هذا الوجه الثالث: إنه حَذَف من أحد الفعلين ما أثبتَ نظيرَه في الآخر، وذلك أن «بمفازة» مفعولٌ ثان للفعل الأول حُذِفَتْ من الفعل الثاني، و «هم» في: «فلا يَحْسَبُنَّهم» مفعولٌ أول للفعل الثاني، وهو محذوفٌ من الأول. وإذا عَرَفْتَ ذلك فالفعل الثاني على هذه الأوجه الثلاثة تأكيدٌ للأول. وقال مكي: «إن الفعل الثاني بدلٌ من الأول» ، وتسمية مثلِ هذا بدلاً

فيه نظر لا يخفى، وكأنه يريد أنَّه في حكم المكرِر، فهو يرجع إلى معنى التأكيد، ولذلك قال بعضُهم: «والثاني معادٌ على طريق البدل مشوباً بمعنى التأكيد» وعلى هذين القولينِ أعني كونَه توكيداً أو بدلاً فالفاءُ زائدةٌ ليسَتْ عاطفةً ولا جواباً. وقوله: «فَلاَ يَحْسَبُنَّهُمْ» أصله: يَحْسَبُونَنَّهم بنونين، الأولى نون الرفع والثانية للتأكيد، وتصريفُه لا يَخْفى من القواعد المتقدمة. وتعدَّى هنا فعلُ المضمرِ المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل، وهو خاصٌّ بباب الظن وب «عَدِمَ وفَقَد دونَ سائر الأفعالِ لو قلت:» أكرمتُني «أي:» أكرمت أنا نفسي «لم يَجُزْ، وموضعُ تقريرِه غير هذا. وأما قراءة الكوفيين فالفعلان فيها مسندان إلى ضمير المخاطب: إمَّا الرسولِ عليه السلام، أو كلِّ مَنْ يصلح للخطاب، والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثير، على قولنا: إن الفعل الأول مسندٌ لضمير غائب. والفعل الثاني تأكيدٌ للأول أو بدلٌ منه، والفاءُ زائدة كما تقدَّم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير على قولنا إن الفعلين مسندان للموصول لأن الفاعل فيها واحد. واستدلوا على أن الفاء زائدة بقوله: 1510 - لا تَجْزَعي إنْ مُنْفِساً أهلكتُه ... وإذا هَلَكْتُ فعند ذلك فاجْزَعي ويقول الآخر:

1511 - لَمَّا اتَّقى بيدٍ عظيم جِرْمُها ... فتركْتُ ضاحي كَفِّه يَتَذَبْذَبُ أي: تركت. وقولِ الآخر: 1512 - حتى تَرَكْتُ العائداتِ يَعُدْنَه ... فيقلن: لا يَبْعَدْ وقلت له: ابعَدِ إلا أن زيادةَ الفاء ليس رأيَ الجمهور، إنما قال به الأخفش. وأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر بالغيبة في الأول والخطاب في الثاني فوجْهُها أنهما غايرا بين الفاعلين، والكلام فيها يُؤْخَذُ مِمَّا تقدم، فيؤخذ الكلامُ في الفعل الأول من الكلام على قراءةِ أبي عمرو وابن كثير، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يَليق به، إلا أنه يَمْتنع هنا أن يكونَ الفعلُ الثاني تأكيداً للأول أو بدلاً منه لاختلافِ فاعليهما، فتكون الفاءُ هنا عاطفةً ليس إلا. وقال أبو علي في «الحجة» : «إنَّ الفاء زائدةٌ والثاني بدل من الأول» ، قال: «ليس هذا موضعَ العطفِ لأنَّ الكلامَ لم يتِمَّ، ألا ترى أنَّ المفعول الثاني لم يُذْكَر بعدُ» . وفيه نظر لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما. وأمَّا قراءةُ الخطاب فيهما مع ضَمِّ الباء فيهما فالفعلان مسندان لضميرِ المؤمنين المخاطبين، والكلامُ في المفعولين كالكلامِ فيهما في قراءة الكوفيين. وأمَّا قراءةُ الغيبة وفتحِ الباء فيهما فالفعلان مسندان إلى ضمير غائب أي: لا يَحْسَبَنَّ الرسولُ أو حاسِبٌ، والكلامُ في المفعولين للفعلين كالكلامِ

في القراءة التي قبلها. والثاني من الفعلين تأكيدٌ أو بدلٌ، والفاءُ زائدةٌ على هاتين القراءتين لاتحادِ الفاعل. وقرأ النخعي ومروان بن الحكم: «بما آتَوا» ممدوداً أي: أعطَوا. وقرأ أُبيّ «أُوتوا» مبنياً للمفعول. قوله: {مِّنَ العذاب} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مفازة» أي: بمفازةٍ كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنا «مفازة» مكاناً أي: بموضع فوز. قال أبو البقاء «لأنَّ المفازة مكانٌ، والمكانُ لا يعمل» ، يعني فلا يكونُ متعلقاً بها، بل بمحذوف على أنه صفةٌ لها، إلاَّ أنَّ جَعْلَه صفةً مشكلٌ، لأنَّ المفازة لا تتصف بكونِها من العذاب، اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوفُ الذي يتعلق به الجار شيئاً خاصاً [حتى يصح] المعنى، تقديرُه: بمفازةٍ منجيةٍ من العذاب، وفيه الإِشكالُ المعروفُ وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوفُ في مثلِه إلا كوناً مطلقاً. الوجه الثاني: أنه يتعلَّق/ بنفس «مفازة» على أنها مصدر بمعنى الفوز تقول: «فزت منه» أي: نَجَوْتُ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء لأنها مبنيةٌ عليها، وليست الدالَّةَ على التوحيد فهو كقوله: 1513 - فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ ... عقابَك قد كانوا لنا كالمَوارِدِ

فأعمل «رهبةٌ» في «عقابَك» وهو مفعول صريح فهذا أَوْلى. وقالَ أبو البقاء: «ويكون التقدير: فلا تَحْسَبَنَّهم فائزين، فالمصدر في موضع اسم الفاعل» انتهى. فإنْ أراد تفسير المعنى فذاك، وإنْ أراد أنه بهذا التقديرِ يَصِحُّ التعلُّقُ فلا حاجةَ إليه، إذ المصدرُ مستقل بذلك لفظاً ومعنى.

191

قوله تعالى: {الذين يَذْكُرُونَ} : فيه خمسة أوجه، أولها: أنه نعت ل «أُولِي» ، فهو مجرورٌ. وثانِيها: أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي: هم الذين. وثالثها: أنه منصوبٌ بإضمار «أعني» ، وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع، وقد تقدم ذلك مراراً. الرابع: أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: يقولون: ربَّنا. قاله أبو البقاء. وخامسها: أنه بدلٌ من «أُولي» ذكره مكي. وأول الوجوه هو الأحسن. و {قِيَاماً وَقُعُوداً} حالان من فاعل «يَذْكُرون» . و {وعلى جُنُوبِهِمْ} حالٌ أيضاً فيتعلَّقُ بمحذوف، والمعنى: يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين، فَعَطَفَ الحالَ المؤولة على الصريحة، عكسَ الآية الأخرى وهي قوله: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} [يونس: 12] ، حيث عطف الصريحةَ على المؤولة. و «قياماً» و «قعوداً» جمعان ل «قائم» و «قاعد» . وأُجيز أن يكونا مصدرين، وحينئذ يتأوَّلان على معنى ذوي قيام وقعود، ولا حاجةَ إلى هذا. قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ} فيه وجهان، أظهرُها: أنها عطف على الصلةِ فلا محلَّ لها. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال عطفاً على «قياماً» أي: يذكرونه متفكرين. فإنْ قيل: هذا مضارعٌ مثبت فكيف دخلت عليه الواوُ؟ فالجوابُ أن هذه واوُ العطف، والممنوعُ إنما هو واو الحال.

و «خَلْق» فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ على أصله أي: يتفكرون في صنعة هذه المخلوقات العجيبة، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله. والثاني: أنه بمعنى المفعول أي: في مخلوق السماوات والأرض، وتكون إضافتُه في المعنى إلى الظرف أي: يتفكرون فيما أودع الله هذين الظرفين من الكواكب وغيرِها. وقال أبو البقاء: «وأن يكون بمعنى المخلوق؛ ويكون من إضافةِ الشيءِ إلى ما هو في المعنى» وهذا كلامٌ متهافتٌ إذ لا يُضاف الشيءُ إلى نفسِه، وما أَوْهم ذلك يُؤَوَّل. قوله: «ربَّنا» هذه الجملة في محلِّ نصب بقول محذوف تقديره: يقولون. والجملةُ القولية فيها وجهان، أظهرهما: أنها حال من فاعل «يتفكرون» أي: يتفكرون قائلين: ربنا، وإذا أعربنا «يتفكرون» حالاً كما تقدم فتكونُ الحالان متداخلتين. والوجه الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً ل «الذين» على قولِنا بأنه مبتدأ، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء. و «هذا» في قوله: {مَا خَلَقْتَ هَذا} إشارةٌ إلى الخَلْق إن أريد به المخلوق. وأجاز أبو البقاء حالَ الإِشارة إليه ب «هذا» أن يكون مصدراً على حالِه لا بمعنى المخلوق. وفيه نظرٌ، أو إلى السماوات والأرض، وإنْ كانا شيئين كلٌّ منهما جَمْعٌ، لأنهما بتأويل: هذا المخلوق العجيب، أو لأنهما في معنى الجمع فأُشير إليهما كما يشار إلى لفظ الجمع. قوله: {بَاطِلاً} في نصبه خمسةُ أوجه، أحدها: نعت لمصدر محذوف أي: خلقاً باطلاً، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثلَ هذا حالاً من ضميرِ ذلك المصدر. الثاني: أنه حالٌ من المفعول به وهو «هذا» . الثالث: أنه على

إسقاطِ حرفٍ خافضٍ وهو الباء، والمعنى: ما خلتقهما بباطلٍ بل بحقٍّ وقُدرةٍ. الرابع: أنه مفعول من أجله، و «فاعِل» قد يجيء مصدراً كالعاقبةِ والعافيةِ. الخامس: أنه مفعول ثاني ب «خَلَق» قالوا: و «خلق» إذا كانت بمعنى جعل التي تتعدى لاثنين تعدَّت لاثنين، وهذا غير معروف عند أهل العربية، بل المعروف أنَّ «جَعَلَ» إذا كانت بمعنى «خَلَقَ» تعدَّتْ لواحد فقط. وأحسنُ هذه الأعاريبِ أن يكونَ حالاً من «هذا» ، وهي حالُ لا يُسْتغنى عنها، لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ، وهي كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الدخان: 38] . و {سُبْحَانَكَ} تقدم إعرابه وهو معترضٌ بين قوله: «ربنا» وبين قوله: «فَقِنا» ، وقال أبو البقاء: «دخلت الفاء لمعنى الجزاء، والتقدير: إذا نَزَّهناك أو وحَّدْناك فَقِنا» . وهذا لا حاجةَ إليه، بل التسبُّبُ فيها ظاهر، تسبَّب عن قولهم: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} طَلَبُهُمْ وقايةَ النار. وقيل: هي لترتيب السؤال على ما تضمَّنه «سبحان» من معنى الفعل أي: سبحانك فقِنا، وأبعدَ مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيبِ على ما تضمَّنه النداء.

192

قوله تعالى: {مَن تُدْخِلِ} : «مَنْ» شرطيةٌ مفعولٌ مقدَّم واجبُ التقديمِ لأنَّ له صدرَ الكلام، و «تُدْخِل» مجزوم بها. و {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} جوابُها. وحكى أبو البقاء عن بعضهم قولين غريبين. أحدهما: أن تكونَ «مَنْ» منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره قوله: «فقد أَخْزَيْتَه، وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّ مِنْ شرطِ الاشتغالِ صحةَ تسلُّط ما يُفَسِّر على ما هو منصوب، والجواب لا يعمل فيما قبل فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدَّم على الشرط. الثاني: أن» مَنْ «مبتدأ، والشرطُ

وجوابُه خبر هذا المبتدأ، وهذان الوجهان غَلَطٌ. والله أعلم. وعلى الأقوالِ كلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً ل» إنَّ «. ويُقال: خَزَيْتُه وأَخْزَيْتُه ثلاثياً ورباعياً، والأكثرُ الرباعي، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً إذا افتضح، وخَزاية إذا استحيا فالفعلُ واحد، وإنما يتميز بالمصدر كما تقدم. قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} » مِنْ «زائدة لوجود الشرطين، وفي مجرورها وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ وخبرُه الجارِّ قبله، وتقديمُه هنا جائزٌ لا واجبٌ لأنَّ النَّفْيَ مُسَوِّغ، وحَسَّنَ تقديمَه كونُ مبتدئِه فاصلةً. الثاني: أنه فاعلٌ بالجارِّ قبله لاعتمادِه على النفي، وهذا جائزٌ عند الجميع.

193

قوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي} : «سمع» إنْ دَخَلَتْ على ما يَصِحُّ أن يُسْمع نحو: «سمعت كلامك وقراءتك» تعدَّت لواحد، وإنْ دخلت على ما لا يَصِحُّ سماعُه بأنْ كان ذاتاً فلا يَصِحُّ الاقتصارُ عليه وحدَه، بل لا بد من الدلالةِ على شيء يُسْمع نحو: «سمعت رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم» . وللنحويين في هذه المسألة قولان، أحدُهما: أنها تتعدى فيه أيضاً إلى مفعولٍ واحد، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفةٌ إنْ كان قبلَها نكرةٌ، وحالاً إنْ كان معرفة. والثاني: قول الفارسي وجماعة تتعدَّى لاثنين الجملةُ في محلِّ الثاني منهما. فعلى قولِ الجمهور يكون «يُنادي» في محلِّ نصب لأنه صفةٌ لمنصوبٍ قبلَه، وعلى قول الفارسي يكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه مفعول ثان.

وقال الزمخشري: «تقول: سمعت رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم، فَتُوْقِعُ الفعلَ على الرجل، وتَحْذِف المسموع لأنك وَصَفْتَه بما يسمع أو جعلته حالاً منه فأغناك عن ذكره، ولولا الوصفُ أو الحالُ لم يكن منه بَدٌّ، وأن تقولَ: سَمِعْتُ كلامَ فلانٍ أو قولَه» . وهذا قولُ الجمهور الذي قَدَّمْتُ لك ذكرَه. إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض عليه فقال: «قوله: ولولا الوصفُ أو الحال إلى آخره ليس كذلك، بل لا يكونُ وصفٌ ولا حالٌ ومع ذلك تَدْخُل» سمع «على ذاتٍ لا على مسموع» كقوله تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء: 72] فأغنى ذكرُ ظرفِ الدعاءِ من المسموعِ «. وأجاز أبو البقاء في» يُنادي «أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من الضميرِ المستكن في» مناديا «. فإن قيل: فما الفائدة في الجَمْع بين» منادٍ «و» ينادي «؟ فأجاب الزمخشري بأنه ذَكَر النداء مطلقاً ثم مقيداً بالإِيمان تفخيماً لشأن المنادي لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ للإِيمان، وذلك أنَّ المنادِيَ إذا أطلق ذَهَب الوهمُ إلى منادٍ للحرب أو لإِطفاء الثائرة أو لإِغاثة المكروب أو لكفاية بعضِ النوازِل أو لبعضِ المنافعِ، فإذا قلت:» ينادِي للإِيمان «فقد رَفَعْتَ من شأن المنادي وفَخَّمته. وأجاب أبو البقاء عنه بثلاثة أجوبة/ أحدها: التوكيد نحو: قم قائماً. الثاني: أنه وُصِل به ما حَسَّن التكريرَ وهو» للإِيمان «. الثالث: أنه لو اقْتُصِر

على الاسمِ لجاز أن نسمع معروفاً بالنداء يَذْكُر ما ليس بنداء فلمَّا قال» يُنادِي «ثبتَ أنهم سمعوا نداءَه في هذه الحال. ومفعولُ» ينادي «محذوف أي: ينادي الناس. ويجوزُ ألاَّ يرادَ مفعول نحو: {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44] . و» نادى «و» دعا «يتعدَّيان باللام تارة وب» إلى «أخرى، وكذلك» ندب «. قال الزمخشري: «وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً» فاللامُ في موضِعها، ولا حاجةَ إلى أَنْ يقال: إنها بمعنى «إلى» ولا إنها بمعنى الباء، ولا إنها لام العلة أي: لأجل الإِيمان كما ذهب إلى ذلك بعضهم. قوله: {أَنْ آمِنُواْ} في «أَنْ» قولان، أحدهما: أنها تفسيرية لأنها وَقَعتْ بعد فعلٍ بمعنى القول لا حروفِه، وعلى هذا فلا موضعَ لها من الإِعراب. والثاني: أنها المصدريةُ وُصِلَتْ بفعل الأمر، وفي وصلها به نظرٌ من حيث إنها إذا انسبك منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ تفوتُ الدلالة على الأمرية، واستدلُّوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم: «كَتَبْتُ إليه بأنْ قم» فهي هنا مصرية ليس إلا، وإلاَّ يلزمْ تعليقُ حرف الجر. ولهذا موضعُ هو أليقُ به، وإذ قيل بأنها مصدرية فالأصل التعدِّي إليها بالباء أي: بأن آمنوا، فيكون فيها المذهبان المشهوران: الجر والنصب. وقوله: {فَآمَنَّا} عطف على «سمعنا» ، والعطفُ بالفاءِ مؤذنٌ بتعجيل القبول وتسبُّبِ الإِيمان عن السماع من غير مُهْلة، والمعنى: فآمَنَّا بربنا. قوله: {مَعَ الأبرار} ظرفٌ متعلِّق بما قبله أي: تَوَفَّنا معدودين في صحبتهم. وقيل: تُجُوَّز به هنا عن الزمان. ويجوز أن يكون حالاً من المفعول

فيتعلَّق بمحذوف، وأجاز مكي وأبو البقاء أن تكونَ صفةً لمحذوف أي: أبراراً مع الأبرار كقوله: 1514 - كأنَّك مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خلفَ رِجْلَيْه بشَنِّ أي: كأنك جَمَل من جمال. قال أبو البقاء: «ويكون» أبراراً «حالاً، ولا حاجة إلى دعوى ذلك. والأبرارُ يجوز أن يكون جمع» بارّ «كصاحِب وأَصْحاب، أو بَرّ بزنة» كَتِف «نحو: كَتِف وأكتاف.

194

قوله تعالى: {على رُسُلِكَ} : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه متعلق ب «وَعَدْتَنا» قال الزمخشري: «على» هذه صلةُ للوعد في قولك: «وعد الله الجنة على الطاعة» والمعنى: ما وَعَدْتنا في تصديقِ رسلك. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها حال من المفعول وقَدَّره الزمخشري بقوله: «مُنَزَّلاً على رسلك، أو محمولاً على رسلك؛ لأنَّ الرسل مُحَمَّلون ذلك: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} [النور: 54] . ورَدَّ الشيخ عليه بأن الذي قدَّره محذوفاً كون مقيد، وقد عُلِم من القواعد أن الظرف والجار إذا وقعا حالين أو وصفين أو خبرين أو صلتين تعلَّقا بكون مطلق، والجارُّ هنا وقع حالاً فكيف يُقَدَّر متعلَّقُه كوناً مقيداً وهو» مُنَزَّل «أو» محمول «؟ الثالث: ذكره أبو البقاء

أن تتعلق» على «ب» آتِنا «، وقَدَّر مضافاً محذوفاً فقال:» على ألسنة رسلك «وهو حسن. والميعاد: اسمُ مصدرٍ بمعنى الوعد. و» يوم القيامة «فيه وجهان، أحدهما: أنه مصوبٌ ب» لا تُخْزِنا «، والثاني: أجازه الشيخ أن يكون من باب الإِعمال؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً ب» لا تُخْزِنا «وب» آتِنا ما وعدتنا «إذا كان الموعودُ به الجنةَ. وقرأ الأعمش:» رُسْلِك «بسكون السين.

195

قوله تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ} : الجمهورُ على فتح «أَنَّ» والأصل: بأني، فيجيء فيها المذهبان. وقرأ أُبَيّ: «بأني» على هذا الأصل. وقرأ عيسى بن عمر بالكسرِ وفيه وجهان، أحدهما: أنه على إضمارِ القول أي: وقال إني. والثاني: أنه على الحكاية ب «استجاب» لأن فيه معنى القول، وهو رأي الكوفيين. و «استجاب» بمعنى أجاب، ويتعدَّى بنفسه وباللام، وتقدَّم تحقيق ذلك في قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} [البقرة: 186] . ونقل تاج القُرَّاء أن «أجاب» عام، و «استجاب» خاص في حصول المطلوب. والجمهورُ: «أُضيع» من أضاع وقرىء بالتشديد والتضعيف، والهمزةُ فيه للنقل كقوله:

1515 - كمُرْضِعَة أولادَ أُخرى وضَيَّعَتْ ... بني بَطْنِها، هذا الضلالُ عن القصدِ قوله: «منكم» في موضعِ جر صفةً ل «عامل» أي كائنٍ منكم. وأمَّا «مِنْ ذَكَرٍ» ففيه خمسة أوجه، أحدُها: أنها لبيان الجنس، بَيَّنَ جنس العامل، والتقدير: الذي هو ذكر أو أنثى، وإن كان بعضُهم قد اشترط في البيانية أن تدخل على مُعَرَّف بلام الجنس، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك. الثاني: أنها زائدة لتقدُّم النفي في الكلام، وعلى هذا فيكون «مِنْ ذَكَر» بدلاً من نفسِ «عامل» كأنه قيل: عاملٍ ذَكَرٍ أو أنثى، ولكنْ فيه نظرٌ من حيث إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه «مِنْ» . الثالث: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكنِّ في «منكم» ، لأنه لَمَّا وقع صفة تَحَمَّل ضميراً، والعاملُ في الحالِ العاملُ في «منكم» أي: عاملٍ كائن منكم كائناً من ذكر. الرابع: أَنْ يكونَ «مِنْ ذكرٍ» بدلاً مِنْ «منكم» ، قال أبو البقاء «وهو بدلُ الشيء من الشيء وهما لعينٍ واحدةٍ» يعني فيكونُ بدلاً تفصيلياً بإعادةِ العاملِ كقوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ} [الأعراف: 75] {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] . وفيه إشكالٌ من وجهين، أحدهما: أنه بدلٌ ظاهرٍ من حاضر في بدلِ كلٍّ من كل وهو لا يجوزُ إلا عند الأخفش. وقَيَّد بعضُهم جوازَه بأَنْ يفيدَ إحاطةَ كقوله: 1516 - فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مَقامِنا ... ثلاثتُنا حتى أُزيروا المنائيا

قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] فلمَّا أفادَ الإِحاطةَ والتأكيدَ جاز. واستدلَّ الأخفشُ بقوله: 1517 - بكمْ قريشٍ كُفِينا كلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأمَّ نهَجَ الهدى مَنْ كان ضِلِّيلا وقول الآخر: 1518 - وشَوْهاءَ تَعْدُو بي إلى صارخِ الوغَى ... بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفَنيق المُدَجَّل ف «قريش» بدلٌ من «كم» ، و «بُمْستلئم» بدل من «بي» بإعادة حرفِ الجرِّ، وليس ثَمَّ لا إحاطةٌ ولا تأكيدٌ، فمذهبه يمشي على رأيِ الأخفشِ دونَ الجمهور. الثاني: أنَّ البدل التفصيلي لا يكون ب «أو» ، وإنما يكون بالواو لأنها للجمع كقوله: 1519 - وكنت كذي رِجْلَيْن رِجْلٍ صحيحةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى منها الزمانُ فَشَلَّتِ وقد يُمكن أن يجابَ عنه بأن «أو» قد تأتي بمعنى الواو كقوله:

1520 - قومٌ إذا سمعوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ ... ما بينَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ ف «أو» بمعنى الواو، لأنَّ «بين» لا تَدْخُل إلا على متعدد، وكذلك هنا لَمَّا كان «عاملٍ» عامًّاً أُبدل منه على سبيل التوكيد، وعُطِف على أحد الجزأين ما لا بد منه، لأنه لا يؤكَّد العمومُ إلا بعموم. الخامس: أن يكون «مِنْ ذَكرٍ» صفةً «ثانية» ل «عامل» قَصَد بها التوضيحَ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ كالتي قبلها. قوله: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} مبتدأ وخبرٌ، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنَّ هذه الجملة استئنافيةٌ جيء بها لتبيين شِرْكَةِ النساء مع الرجال في الثواب الذي وَعَد الله به عبادَه العاملين، لأنه يُروى في الأسباب أنَّ أم سلمة رضي الله عنها سألَتْه عليه السلام عن ذلك فنزلت، والمعنى: كما أنكم من أصل واحد، وأنَّ بعضكم مأخوذٌ من بعض فكذلك أنتم في ثواب العملِ لا يُثاب رجلٌ عاملٌ دونَ امرأة عاملة. وعَبَّر الزمخشري عن هذا بأنها جملةٌ معترضةٌ. قال: «وهذه جلمةٌ معترضةٌ بُيِّنَتْ بها شِرْكةُ النساء من الرجالِ فيما وعَدَ اللهُ العاملين» ويعني بالاعتراضِ أنها جِيءَ بها بين قولِه {عَمَلَ عَامِلٍ} وبينَ ما فُصِّلَ به عملُ العاملِ مِنْ قولِه: {فالذين هَاجَرُواْ} ، ولذلك قال الزمخشري: «فالذين هاجروا تفصيلٌ لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم. والثاني: أن هذه الجملة صفة. الثالث: أنها حالٌ، ذكرهما أبو البقاء، ولم يعيِّن الموصوفَ ولا ذا الحال، وفيه نظر. قوله: {فالذين هَاجَرُواْ} مبتدأٌ، وقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ

تقديرُه: واللهِ لأكفِّرَنَّ، وهذا القسمُ وجوابُه خبرٌ لهذا المبتدأ، وفي هذه الآيةِ ونظائرِها من قوله: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ} [العنكبوت: 69] . وقول الشاعر: 1521 - جَشَأَتْ فقلتُ اللَّذْ خَشِيْتِ ليأتِيَنْ ... وإذا أتاكِ فلاتَ حين مَناصِ رَدٌّ على ثعلب حيث زعم أن الجملة القسمية لا تقع خبراً. وله أن يقول: هذه معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ هو الخبرُ، وله نظائر. والظاهرُ أنَّ هذه الجمل التي بعد الموصول كلُّها صلاتٌ له، فلا يكون الخبر إلا لِمَنْ جمع بين هذه الصفات: المهاجرة والقتل والقتال، ويجوز أن يكون ذلك على التنويع، ويكون قد حَذَف الموصولاتِ لفَهْم المعنى، وهو مذهب الكوفيين، وقد تقدَّم القول فيه، والتقدير: فالذين هاجروا، والذين أُخرجوا، والذين قاتلوا، فيكون الخبر بقوله: لأكفرنَّ عَمَّن اتصف بواحدة من هذه/. وقرأ جمهور السبعة:» وقاتَلوا وقُتِلوا «ببناء الأول للفاعل من المفاعلة، والثاني للمفعول، وهي قراءةُ واضحة. وابن عامر وابن كثير كذلك، إلا أنهما شَدَّدا التاء من» قُتِّلوا «للتكثير، وحمزة والكسائي بعكس هذا، ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل. وتوجيهُ هذه القراءةِ بأحدِ معنيين: إما أنَّ الواوَ لا تقتضي الترتيب فلذلك قُدِّم معها ما هو متأخرٌ في المعنى، هذا إن حملنا ذلك على اتِّحاد الأشخاص الذين صَدَر منهم هذان الفعلان. الثاني: أن

يُحْمل ذلك على التوزيع، أي: منهم مَنْ قُتِل ومنهم مَنْ قاتل. وهذه الآية في المعنى كقوله: {قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ} [آل عمران: 146] ، والخلافُ في هذه كالخلاف في قوله {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [الآية: 111] في براءة، والتوجيهُ هناك كالتوجيه هنا. وقرأ عمر بن عبد العزيز: «وقَتَلوا وقُتِلوا» ببناء الأول للفاعل من «فَعَل» ثلاثياً، والثاني للمفعول، وهي كقراءة الجماعة. وقرأ محارب بن دثار: «قَتَلوا وقاتلوا» ببنائهما للفاعل. وقرأ طلحة ابن مصرف: «وقُتِّلوا وقاتَلوا» كقراءةِ حمزة والكسائي، إلاَّ أنَّه شدَّد التاءَ، والتخريجُ كتخريج قراءتهما. ونقل الشيخ عن الحسن وأبي رجاء: «قاتلوا وقُتِّلوا» بتشديد التاء من «قُتِّلوا» ، وهذه هي قراءة ابن كثير وابن عامر كما تقدَّم، وكأنه لم يَعْرف أنها قراءتُهما. قوله: «ثواباً» في نصبه ثمانيةُ أوجه، أحدها: أنه نصب على المصدرِ المؤكَّدِ، لأنَّ معنى الجملة قبله يقتضيه، والتقدير: لأُثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً، فوضع «ثواباً» موضعَ أحدِ هذين المصدرين، لأنَّ الثواب في الأصل اسمٌ لِما يُثاب به كالعَطاء: اسمٌ لما يُعْطى، ثم قد يقعان موقع المصدر، وهو نظيرُ قولهِ: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] ، و {وَعْدَ الله} [النساء: 122] في كونهما مؤكِّدين. الثاني: أن يكونَ حالاً من «جنات» أي: مُثاباً بها، وجاز ذلك وإنْ كنت نكرةً لتخصُّصها بالصفة.

والثالث: أنه حال من ضميرِ المفعول أي: مُثابِين. الرابع: أنه حالٌ من الضمير في «تجري» العائدِ على «جنات» . وخَصَّص أبو البقاء كونَه حالاً بجَعْلِه بمعنى الشيء المُثابِ به. قال: «وقد يقع بمعنى الشيء المثاب بِه كقولك:» هذا الدرهَمُ ثوابُك «فعلى هذا يجوز أن يكون حالاً من ضمير الجنات أي: مُثاباً بها، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير المفعول به في لأَدْخِلنهم» . الخامس: نصبُه بفعلٍ محذوف أي: يُعطيهم ثواباً السادس: أنه بدلٌ من «جنات» ، وقالوا: على تضمين «لأدْخلنهم» . لأَعْطِيَنَّهم لَمَّا رأوا أن الثواب لا يَصِح أن يُنْسَبَ إليه الدخولُ فيه احتاجوا إلى ذلك. ولقائلٍ أن يقول: جَعَل الثوابَ ظرفاً لهم مبالغةً، كما قيل في قوله: {تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] . السابع: أنه نصب على التمييز وهو مذهب الفراء. الثامن: أنه منصوب على القطع، وهو مذهب الكسائي، إلاَّ أنَّ مكيّاً لمَّا نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحال، وعلى الجملةِ فهذان وجهان غريبان يُبْعُد فهمهما. و {مِّن عِندِ الله} صفةٌ له. وقوله: {والله عِندَهُ حُسْنُ} الأحسنُ أن يرتفعَ «حسن الثواب» على الفاعلية بالظرفِ قبله، لاعتماده على المبتدأ قبله، والتقدير: والله استقر عنده حسنُ الثواب، ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ والظرفُ قبلَه خبرُه، والجملة خبرُ الأول، وإنما كان الوجهُ الأولُ أحسنَ لأنَّ فيه الإِخبارَ بمفرد وهو الأصلُ، بخلافِ الثاني فإنَّ الإِخبار فيه بجملة.

196

وقرأ ابن أبي إسحاق: {لاَ يَغُرَّنَّكَ} : بتخفيف النون، وكذلك: {لاَ يَغُرَّنْكمْ} [فاطر: 5] و {فَلاَ يَصُدَّنْك} [طه: 16] و {وَلاَ يَصُدَّنْكم} [الزخرف: 62] .

197

قوله تعالى: {مَتَاعٌ} : خبرُ مبتدأ محذوف دَلَّ عليه الكلام تقديره: تَقَلُّبهم أو تَصَرُّفهم متاع قليل، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: ولبئسَ المهادُ جهنمُ.

198

قوله تعالى: {لَكِنِ الذين} : قرأ الجمهورُ بتخفيفِها، وأبو جعفر بتشديدِها، فعلى القراءةِ الأولى: الموصولُ رفعٌ بالابتداء، وعند يونس يجوز إعمالُ المخففة، وعلى الثانية في محل نصب. ووقعت «لكن» هنا أحسنَ موقع، فإنَّها وقعت بين ضدين: وذلك أن معنى الجملتين التي قبلها والتي بعدها آيلٌ إلى تعذيبِ الكفار وتنعيمِ المتقين، ووجهُ الاستدراك أنَّه لَمَّا وَصَفَ الكفارَ بقلةِ نفعِ تَقَلُّبهم في التجارة وتصرُّفهم في البلادِ لأجلها جازَ أن يَتَوَّهَّمَ متوهِّمٌ أن التجارة من حيث هي متصفةٌ بذلك فاستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يَضُرُّهم ذلك وأنَّ لهم ما وعدهم به. قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} هذه الجملة أجاز مكي فيها وجهين، أحدهما: الرفع على النعت ل «جنات» . والثاني: النصب على الحالِ من الضمير المُسْتكنِّ في «لهم» قال: «وإنْ شِئْتَ في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في» لهم «؛ إذ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إنْ رَفَعْتَ» جنات «بالابتداء، فإنْ رَفَعْتَها بالاستقرار لم يكن في» لهم «ضميرٌ

مرفوع إذ هو كالفعل المتقدم» . يعني أن «جنات» يجوز رفعُها من وجهين، أحدُهما: الابتداءُ والجارُّ قبلها خبرها والجملةُ خبر «الذين اتقوا» . والثاني: بالفاعليةِ لأنَّ الجارَّ قبلَها اعتمد بكونِه خبراً للذين اتقوا، وقد تقدَّم أنَّ هذه أَوْلى لقربِه من المفرد، فإنْ جَعَلْنا رفعَها بالابتداءِ جاز في {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وجهان: الرفعُ على النعت والنصبُ على الحالِ من الضمير المرفوعِ في «لهم» لِتحمُّلِه حينئذ ضميراً، وإنْ جَعَلْنا رفعَها بالفاعليِةِ تعيَّن أن تكونَ الجملةُ بعدَها في موضعِ رفعٍ نعتاً لها، ولا يجوزُ النصبُ على الحال؛ لأنَّ «لهم» ليس فيه حينئذ ضميرٌ لرفعِه الظاهرَ. و «خالدين» نصبٌ على الحالِ من الضميرِ في «لهم» ، والعاملُ فيه معنى الاستقرار. قوله: «نُزُلاً» النُّزْلُ: ما يُهيَّأ للنزيل وهو الضيف. قال أبو الشعراء الضبي: 1522 - وكنا إذا الجبارُ بالجيشِ ضافَنا ... جَعَلْنا القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا هذا أصلُه ثم اتُّسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء، وإنْ لم يكن لضيف، ومنه: {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 93] وفيه قولان: هل هو مصدر أو جمع نازل، نحو قول الأعشى: 1523 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

أو تَنْزِلون فإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ إذا عَرَفْتَ هذا ففي نصبه ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوب على المصدر المؤكِّد؛ لأنَّ معنى «لهم جنات» نُنْزلُهم جناتٍ نُزُلاً. وقَدَّره الزمخشري بقوله: «رزقاً وعطاءً من عند الله» . الثاني: نصبُه بفعل مضمر أي: جَعَلهم لهم نُزُلاً. الثالث: نصبُه على الحال من «جنات» لأنها تخصصت بالوصف. الرابع: أن يكون حالاً من الضمير في «فيها» أي: مُنَزَّلةً إذا قيل: بأن «نُزُلاً» مصدر بمعنى المفعول نقله أبو البقاء. الخامس: أنه حال من الضمير المستكنِّ في «خالدين» إذا قلنا إنه جمع نازل، قاله الفارسي في «التذكرة» . السادس وهو قول الفراء: نصبه على التفسير أي: التمييز، كما تقول: «هو لك هبةً أو صدقة» ، وهذا هو القول بكونه حالاً. والجهورُ على ضم الزاي. وقرأ الحسن والأعمش/ والنخعي بسكونها وهي لغة، وعليها البيت المتقدم، وقد تقدم لك أن مثل هذا يكون فيه المسكَّنُ مخففاً من المثقل أو بالعكس، والحق: الأول. قوله: {مِّنْ عِندِ الله} فيه ثلاثة أوجه، لأنك إنْ جَعَلْتَ «نُزُلاً» مصدراً كان الظرف صفةً له، فيتعلق بمحذوف أي: نزلاً كائناً من عند الله على سبيل التكريم، وإنْ جَعَلْتَه جمعاً كان في الظرفِ وجهان، أحدهما: جَعْلُه حالاً من الضمير المحذوف تقديره: نُزُلاً إياها. والثاني: أنه خبر محذوف أي: ذلك من عند الله، نقل ذلك أبو البقاء.

قوله: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ} : «ما» موصولةٌ، وموضعُها رفعٌ بالابتداء، والخبر: «خَيْر» ، و «للأبرار» صفة ل «خير» ، فهو في محلِّ رفع، ويتعلَّقُ بمحذوف. وظاهرُ عبارة الشيخ أنه متعلق بنفس «خير» فإنه قال: «وللأبرار» متعلق «بخير» . وأجاز بعضهم أن يكون «للأبرار» هو الخبرَ، و «خيرٌ» خبر ثان. قال أبو البقاء: «والثاني أي الوجه الثاني أن يكون الخبر» للأبرار «، والنية به التقديم، أي: والذي عند الله مستقر للأبرار، و» خير «على هذا خبرٌ ثان» ، وفي ادِّعاء التقديم والتأخير نظرٌ؛ لأنَّ الأصل في الأخبار أن تكونَ بالاسمِ الصريح، فإذا اجتمع خبرٌ مفردٌ صريحٌ وخبرٌ مؤول به بُدِىء بالصريحِ من غيرِ عكسٍ، كالصفة، فإذا وقعا في الآيةِ على الترتيبِ المذكورِ فكيف يُدَّعى فيهما التقديمُ والتأخير؟ . ونقل أبو البقاء عن بعضِهم أنه جَعَل «للأبرار» حالاً من الضمير في الظرف، و «خير» خبر المبتدأ، قال: «وهذا بعيدٌ، لأنَّ فيه الفصلَ بين المبتدأ وخبره بحالٍ هي لغيره، والفصلَ بين الحال وصاحبها بخبر المبتدأ، وذلك لا يَجُوز في الاختيار. وقال الشيخ:» وقيل: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: الذي عند الله للأبرارِ خيرٌ، قال: «وهذا ذهولٌ عن قاعدِة العربية: من أنَّ المجرورَ إذ ذاك يتعلق بما تعلَّق به الظرفُ الواقعُ صلةً للموصول، فيكون المجرور داخلاً في حيز الصلة، ولا يُخْبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها» . فإنْ عنى الشيخُ بالتقديمِ والتأخيرِ هذا الوجهَ أعني جَعْلَ «للأبرار» حالاً من الضمير

في الظرف فصحيحٌ، لأنَّ العاملَ في الحال حينئذ الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقعِ صلةً، فيلزَمُ ما قاله، وإنْ عنى به الوجهَ الأول أعني جَعْلَ «للأبرار» خبراً، والنيةُ به التقديمُ، وب «خير» التأخيرُ كما ذكر أبو البقاء فلا يَلْزَم ما قال، لأنَّ «للأبرار» حينئذٍ يتعلَّقُ بمحذوفٍ آخر غيرِ الذي تعلَّق به الظرف. و «خير» هنا يجوز أن تكون للتفضيل وأن لا تكون فإنْ كانت للتفضيل كان المعنى: وما عند الله خيرٌ للأبرار مِمَّا لهم في الدنيا، ويحتمل: خير لهم مما يَتَقَلَّب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ.

199

قوله تعالى: {لَمَن يُؤْمِنُ} : اللام لام الابتداء دَخَلَتْ على اسم «إنَّ» لتأخُّره عنها. و {مِنْ أَهْلِ} خبرٌ مقدم، و «مَنْ» يجوزُ أن تكونَ موصولةً، وهو الأظهرُ، وموصوفةً أي: لقوماً، و «يؤمِنْ» صلةٌ على الأول فلا محلَّ له، وصفةٌ على الثاني فمحلُّه النصب وأتَى هنا بالصلةِ مستقبلةً وإن كان ذلك قد مضى، دلالةً على الاستمرارِ والديمومة. قوله: {خَاشِعِينَ} فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه حالٌ من الضمير في «يؤمنُ» ، وجَمَعَه حَمْلاً على معنى «مَنْ» كما جَمَع في قوله: «إليهم» ، وبدأ بالحمل على اللفظ في «يُؤمِنُ» على الحمل على المعنى لأنه الأَوْلى. الثاني: أنه حالٌ من الضمير في «إليهم» ، فالعامل فيه «أنزل» . الثالث: أنه حالٌ من الضمير في «يَشْترون» ، وتقديمُ ما في حَيِّز «لا» عليها جائزٌ على الصحيح، وتقدَّم شيء من ذلك في الفاتحة. الرابع: أنه صفةٌ ل «مَنْ» إذ قيل بأنها نكرةٌ موصوفةٌ، وأمَّا الأوجهُ فجائزةٌ سواءً كانت موصولةً أو نكرةً موصوفة. قوله: «لله» فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «خاشعين» أي لأجلِ

الله. والثاني: أن يتعلَّقَ ب «لا يَشْتُرون» ذكره أبو البقاء، قال: «وهو في نيةِ التأخير، أي: لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله» . قوله: {لاَ يَشْتَرُونَ} كقولِه: «خاشعين» إلا في الوجه الثالث لتعذُّرِه، ونزيد عليه وجهاً آخرَ: وهو أن يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في «خاشعين» أي: غيرَ مشترين. وتقدَّم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل فيه وفي الباء في البقرة. قوله: {أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ} «أولئك» مبتدأ. وأمَّا {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون «لهم» خبراًً مقدماً، و «أجرهم» مبتدأ مؤخرٌ، والجملةُ خبر الأول، وعلى هذا فالظرف فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «أجرهم» ، والثاني: أنه حالٌ من الضمير في «لهم» وهو ضميرُ الأجرِ لأنه واقعٌ خبراً. الوجه الثاني: أن يرتفعَ «أجرُهم» بالجارِّ قبله، وفي الظرف الوجهان، إلاَّ أنَّ الحالَ من «أجرهم» الظاهرُ، لأنَّ «لهم» لا ضميرَ فيه حينئذٍ. الثالث: أنَّ الظرفَ هو خبرُ «أجرهم» و «لهم» متعلق بما تعلَّقَ به هذا الظرفُ من الثبوتِ والاستقرار. ومن هنا إلى آخر السورة تقدَّم إعراب نظائره.

النساء

قوله تعالى: {مِّن نَّفْسٍ} : متعلق ب «خَلَقكم» فهو في محل نصب. و «مِنْ» لابتداء الغاية. وكذلك «منها زوجَها» ، و «بَثَّ منهما» . وابن أبي عبلة: «واحدٍ» من غير تاء، وله وجهان، أحدهما: مراعاةُ المعنى، لأن المراد بالنفس آدم عليه السلام. والثاني: أن النفسَ تُذَكَّر وتؤنث، وعليه: 1524 - ثلاثةُ أنفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قوله: «وخَلَقَ» فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه عطفٌ على معنى «واحدة» لِما فيه من معنى الفعل كأنه قيل: «مِنْ نفسٍ وَحُدتْ» أي انفردت، يُقال: «وَحُد، يَحِد، وَحْداً وحِدَة» ، بمعنى انفرد. الثاني: أنه عطفٌ على محذوف، قال الزمخشري: «كأنه قيل: من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها وإنما حُذِف لدلالة المعنى عليه، والمعنى: شَعَبَكم من نفس واحدة هذه صفتُها» بصفةٍ هي بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيةِ خَلْقهِم منها. وإنما حَمَلَ الزمخشري والقائلَ الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيبِ الوجودي؛ لأنَّ خَلْقَ

حواء، وهي المُعَبَّرُ عنها بالزوجِ، قبل خلقنا، ولا حاجة إلى ذلك، لأنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح. الثالث: أنه عطفٌ على «خَلَقَكم» فهو داخلٌ في حَيِّز الصلةِ، والواوُ لا يُبالى بها، إذ لا تقتضي ترتيباً. إلا أن الزمخشري خَصَّ هذه الوجهَ بكونِ الخطابِ في {ياأيها الناس} لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال: «والثاني: أن يُعْطَفَ على» خلقكم «ويكون الخطابُ للذين بُعِث إليهم الرسول، والمعنى: خَلَقكم من نفس آدم، لأنَّهم مِنْ جملةِ الجنسِ المفرَّعِ منه، وخَلَقَ منها أُمَّكم حواء» . فظاهرُ هذا خصوصيَّةُ الوجهِ الثاني بكون الخطابِ للمعاصرين، وفيه نَظَرٌ. وقَدَّر بعضُهم مضافاً في «منها» أي: «مِنْ جنسِها زوجَها» ، وهذا عند مَنْ يرى أن حواء لم تُخْلق من آدم، وإنما خُلِقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم، وهذا قولٌ مرغوب عنه. وقرىء: «وخالِقٌ وباثٌّ» بلفظِ اسمِ الفاعل. وخَرَّجه الزمخشري على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: وهو خالقٌ وباثٌّ. يقال: بَثَّ وأَبَثَّ بمعنى «فَرَّق» ثلاثياً ورباعياً. وقوله: {كَثِيراً} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه نعتٌ ل «رجالاً» قال أبو البقاء: «ولم يؤنِّثْه حَمْلاً على المعنى، لأنَّ» رجالاً «عدد أو جنس أو جمع، كما ذكَّر الفعلَ المسندَ إلى جماعة المؤنث كقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 30] . والثاني: أنه نعت لمصدر تقديره: وبث منهما بَثّاً كثيراً. وقد تقدم أن

مذهب سيبويه في مثله النصبُ على الحال. فإن قيل: لِم خَصَّ الرجالَ بوصفِ الكثرة دون النساء؟ ففيه جوابان، أحدُهما: أنه حَذَفَ صفتَهنْ لدلالةِ ما قبلها عليها [أي] : ونساءً كثيرة. والثاني أنَّ الرجال لشهرتِهم يناسِبُهم ذلك بخلافِ النساء فإنَّ الألْيَقَ بهنَّ الخمولُ والإِخفاء. قوله: {تَسَآءَلُونَ} قرأ الكوفيون: «تَساءلون» بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً، والأصل: تَتَساءلون، وقد تقدَّم لنا الخلاف: هل المحذوفُ الأولى أو الثانية؟ وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين لأنها مقارِبَتُها في الهمس، ولهذا تُبْدَلُ من السين قالوا: «ست» والأصل: «سِدْسٌ» . وقرأ عبد الله: «تَسْأَلون» من سأل الثلاثي. وقرىء «تَسَلون» بنقل حركة الهمزة على السين. و «تَساءلون» على التفاعل فيه وجهان، أحدهما: المشاركة في السؤال. والثاني: أنه بمعنى فَعَل، ويَدُلُّ عليه قراءة عبد الله. قال أبو البقاء: «ودخَل حرف الجر في المفعول لأن المعنى: تتحالفون» يعني: أن الأصل كان تعدية «تسألون» إلى الضمير بنفسِه، فلما ضُمِّن معنى «تتحالفون» عُدِّي تَعْدِيَتَه.

قوله: {والأرحام} الجمهور/ على نصب ميم «والأرحام» وفيه وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة أي: واتقوا الأرحام أي: لا تقطعوها. وقَدَّر بعضهم مضافاً أي: قَطْعَ الأرحام، ويقال: «إنَّ هذا في الحقيقة من عطفِ الخاص على العام، وذلك أن معنى اتقوا الله: اتقوا مخالفَتَه، وقطعُ الأرحام مندرجٌ فيها» . والثاني: أنه معطوفٌ على محل المجرور في «به» نحو: مررت بزيد وعمراً، لَمَّا لَم يَشْرَكْه في الإِتباع على اللفظِ تبعه على الموضع. ويؤيد هذا قراءة عبد الله: «وبالأرحام» . وقال أبو البقاء: «تُعَظِّمونه والأرحام، لأنَّ الحَلْفَ به تعظيمٌ له» . وقرأ حمزة «والأرحامِ» بالجر، وفيها قولان، أحدهما: أنه عطفٌ على الضمير المجرور في «به» من غير إعادة الجار، وهذا لا يجيزه البصريون، وقد تقدَّم تحقيقُ القول في هذه المسألة، وأنَّ فيها ثلاثةَ مذاهب، واحتجاجُ كل فريق في قوله تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد} [البقرة: 217] . وقد طَعَنَ جماعة على هذه القراءة كالزجاج وغيره، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال: «حَدَّثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم قال:» والأرحامِ «بخفض الأرحام هو كقولهم:» أسألك بالله والرحمِ «قال:» وهذا قبيحٌ «لأنَّ العرب لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد كُنِيَ عنه» .

والثاني: أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور بل الواوُ للقسم وهو خفضٌ بحرفِ القسم مُقْسَمٌ به، وجوابُ القسم: «إنَّ الله كان عليكم رقيباً» . وضُعِّف هذا بوجهين، أحدهما: أن قراءتَيْ النصبِ وإظهار حرف الجر في «بالأرحام» يمنعان من ذلك، والأصل توافقُ القراءات. والثاني: أنه نُهِيَ أن يُحْلَف بغير الله تعالى والأحاديثُ مصرحةٌ بذلك. وقدَّر بعضُهم مضافاً فراراً من ذلك فقال: «تقديره: وربِّ الأرحام: قال أبو البقاء: وهذا قد أَغْنى عنه ما قبله» يعني الحلف بالله تعالى. ولقائل [أن يقول:] «إنَّ لله تعالى أن يُقْسِم بما شاء كما أقسم بمخلوقاتِه كالشمس والنجم والليل، وإن كنا نحن مَنْهيين عن ذلك» ، إلا أنَّ المقصودَ من حيث المعنى ليس على القسمِ، فالأَوْلى حَمْلُ هذه القراءةِ على العطفِ على الضمير، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ مَنْ طَعَن فيها، وحمزةُ بالرتبة السَّنِيَّة المانعةِ له مِنْ نقلِ قراءة ضعيفة. وقرأ عبد الله أيضاً: «والأرحامُ» رفعاً وهو على الابتداء، والخبر محذوفٌ فقدَّره ابن عطية: «أهلٌ أَنْ توصل» ، وقَدَّره الزمخشري: و «الأرحامُ مِمَّا يتقى، أو: مما يُتَساءل به» ، وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية والمعنوية، بخلاف الأول، فإنه للدلالة المعنوية فقط، وقَدَّره أبو البقاء: «والأرحامُ محترمة» أي: واجبٌ حرمتُها.

وقوله: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} جارٍ مجرىٍ التعليل. والرقيب: فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُب رَقْباً ورُقوباً ورِقْباناً إذا أحَدَّ النظرَ لأمر يريد تحقيقَه، واستعمالُه في صافت الله تعالى بمعنى الحفيظ، قال: 1525 - كمقاعِد الرُّقباءِ للضُّرَبَاءِ أيديهم نواهِدْ ... والرقيب أيضاً: ضرب من الحَيَّات. والرقيب: السهم الثالث من سهام الميسر وقد تقدمت في البقرة. والارتقاب: الانتظار.

2

قوله تعالى: {بالطيب} : هو المفعول الثاني ل «تتبدَّلوا» ، وقد تقدم في البقرة قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} [الآية: 59] أن المجرور بالباء هو المتروكُ والمنصوبَ هو الحاصل. وتفعَّل هنا بمعنى استفعل وهو كثير، نحو: تَعَجَّل وتأخر بمعنى استعجل واستأخر. ومن مجيء تبدّل بمعنى استبدل قول ذي الرمة: 1526 - فياكرَمَ السَّكْنِ الذين تَحَمَّلوا ... عن الدارِ والمُسْتَخْلِفِ المُتَبَدِّلِ أي: المستبدل. قوله: {إلى أَمْوَالِكُمْ} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن «إلى» بمعنى «مع»

كقوله: {إِلَى المرافق} [المائدة: 6] ، وهذا رأي الكوفيين. والثاني: أنها على بابها، وهي ومجرورها متعلقة بمحذوف على أنها حال، أي: مضمومةً أو مضافةً إلى أموالكم. والثالث: أن يضمَّن «تأكلوا» معنى «تَضُمُّوا» كأنه قيل: ولا تضمُّوها إلى أموالكم آكلين. قال الزمخشري: «فإن قلت: قد حَرَّم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلِمَ وَرَدَ النهيُّ عن أكلها معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رَزَقهم الله من الحلال، وهم مع ذلك يَطْمعون فيها كان القبحُ أبلغَ والذمُّ ألحقَ، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك، فنعى عليهم فِعْلَهم، وشنَّع بهم ليكون أزجر لهم» . قوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً} في الهاءِ ثلاثة أوجه، أحدها: أنها تعودُ على الأكلِ المفهوم من «لا تأكلوا» . والثاني: على التبدُّل المفهومِ من «لا تَتَبدَّلوا» . والثالث: عليهما، ذهاباً به مذهبَ اسمِ الإِشارة نحو: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] ، ومنه: 1527 - كأنَّه في الجِلْدِ تَوْليعُ البَهقْ ... وقد تقدم ذلك في البقرة، والأولُ أَوْلى، لأنه أقربُ مذكور. وقرأ الجمهور: «حُوباً» بضم الحاء. والحسن بفتحها، وبعضهم: «حَاباً» بالألف، وهي لغات في المصدر، والفتح لغة تميم. ونظير الحَوْب

والحاب: القول والقال، والطُّرد والطَّرْد وهو الإِثم وقيل: المضمومُ اسم مصدر. والمفتوحُ مصدر، وأصلُه مِنْ حَوْب الإِبل وهو زَجْرها، فَسُمِّي به الإِثم، لأنه يُزْجَر به، ويُطلق على الذنب أيضاً، لأنه يزجر عنه، ومنه قوله عليه السلام: «إن طلاقَ أمِّ أيوب لَحَوْب» أي: لذنب عظيم، يقال: حابَ يَحُوب حَوْباً وحُوباً وحاباً وحَوُوباً وحِيابة «. قال المخبَّل السعدي: 1528 - فلا يَدْخُلَنَّ الدهرَ قبرك حُوبٌ ... فإنَّك تلقاهُ عليك حَسِيبُ وقال الآخر: 1529 - وإنَّ مهاجِرَيْنِ تَكَنَّفاه ... غداتئذٍ لقد خَطِئا وحابا والحَوْبة: الحاجة، ومنه في الدعاء:» إليك أرفع حَوْبتي «وأوقع الله به الحَوْبة، وتحوَّب فلان: إذا خَرَجَ من الحَوْب، كتحرَّج وتأثَّم، فالتضعيف فيه للسَلْب.

3

قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ} : شرطٌ، وفي جوابه وجهان، أحدهما: أنه قوله: {فانكحوا} ، وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ والعشر ولا يقومون بحقوقهن، فلمَّا نزلت: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ} أخذوا يتحرَّجون من

ولاية اليتامى، فقيل لهم: إنْ خفتم من الجَوْر في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجَوْر في حقوق النساء فانكِحوا هذا العدد، لأنَّ الكثرة تُفْضي إلى الجور ولا تنفع التوبةُ من ذنبٍ مع ارتكاب مثله. والثاني: أنَّ الجوابَ قولُه: «فواحَدةً» والمعنى: أن الرجل منهم كان يتزوج اليتيمة التي في ولايته، فلمَّا نزلت الآية المتضمنة للوعيد على أكل مال اليتيم تحرَّجوا من ذلك، فقيل لهم: إنْ خفتم من نكاح النساء اليتامى فانحكوا ما طابَ من الأجنبيات، أي: اللاتي لسن تحت ولايتكم، فعلى هذا يَحْتاج إلى تقدير/ مضاف، أي: في نكاح يتامى النساء. فإن قيل: «فواحدةً» جواب لقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} فكيف يكون جواباً للأول؟ أُجيب عن ذلك بأنه أعادَ الشرط الثاني، لأنه كالأول في المعنى، لمَّا طال الفصلُ بين الأولِ وجوابِه، وفيه نظرٌ لا يخفى. على متأمله. والخوف هنا على بابه، فالمراد به الحَذَر، وقال أبو عبيدة: إنه بمعنى اليقين، وأنشد: 1530 - فقلتُ لهم خافوا بألفَي مُدَجَّجٍ ... سَراتُهُم في الفارسي المُسَرَّدِ أي: أيقِنوا، وقد تقدَّم تحقيق ذلك والردُّ عليه، وأنَّ في المسألة ثلاثة أقوالٍ عند قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229] . قوله: {أَلاَّ تُقْسِطُواْ} إنْ قَدَّرْتَ أنها على حذفِ حرف جر أي: «مِنْ أن لا» ففيها الخلافُ المشهورُ: أهي في محل نصب أو جر، وإنْ لم تقدِّر ذلك بل

وَصَل الفعل إليها بنفسه، كأنك قلت: «فإن حذرتم» فهي في محلِّ نصب فقط، كما تقدَّم في البقرة. وقرأ الجمهور: «تُقْسطوا» بضم التاء من «أقسط» إذا عدل، ف «لا» على هذه القراءة نافيةٌ، والتقديرُ: وإنْ خِفْتم عدم الإِقساط أي: العدل. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب بفتحِها من «قسط» ، وفيها تأويلان، أحدهما: أنَّ «قَسَط» بمعنى جار، وهذا هو المشهور في اللغة، أعني أنَّ الرباعي بمعنى عَدَل، والثلاثي بمعنى جار، وكأن الهمزةَ فيه للسَلْبِ، فمعنى «أقسط» أي: أزالَ القسط وهو الجور، و «لا» على هذا القول زائدةٌ ليس إلا، وإلاَّ يفسدِ المعنى، كهي في قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] . والثاني: حكى الزجاج: أن «قسط» الثلاثي يُستعمل استعمالَ «أقسط» الرباعي، فعلى هذا تكون «لا» غيرَ زائدة، كهي في القراءة الشهيرة، إلا أنَّ التفرقةَ هي المعروفة لغة. قال الراغب: «القِسْط» : أن يأخذ قِسْطَ غيرِه، وذلك جَوْرٌ، والإِقساط: أن يُعْطِيَ قِسْطَ غيره، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقال: «قَسَط الرجل إذا جار، وأقسط: إذا عَدَل، قال تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] ، وقال تعالى: {وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] . ومن غريبِ ما يحكى أن الحجَّاج لما أَحْضر الحَبْر الشهير سعيد ابن جبير، قال له: «ما تقول فِيَّ؟» قال: «قاسط عادل» ، فأعجب الحاضرين،

فقال لهم الحجاج: «ويلكم. لم تفهموا. عنه، إنه جعلني جائراً كافراً، ألم تسعموا قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} وقوله تعالى: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] وقد تقدم استيفاءُ الكلام في هذه المادة في قوله: {قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] . قوله: {مَا طَابَ} في» ما «هذه أوجه أحدُها: أنها بمعنى الذي، وذلك عند مَنْ يرى أنَّ» ما «تكون للعاقل، وهي مسألةٌ مشهورة، قال بعضُهم:» وحَسَّن وقوعَها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصاتُ العقول. وبعضهم يقول: هي لصفاتِ مَنْ يعقِل. وبعضُهم يقول: لنوعِ مَنْ يعقل، كأنه قيل: النوع الطيب من النساء، وهي عباراتٌ متقاربة، ولذلك لم نَعُدَّها أوجهاً. الثاني: أنها نكرةٌ موصوفة أي: انكِحوا جنساً طيباً، أو عدداً طيباً. الثالث: أنها مصدريةٌ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقع اسم فاعل تقديره: فانكحوا الطيب. وقال الشيخ هنا: «والمصدرُ مقدرٌ هنا باسم الفاعل، والمعنى: فانكحوا النكاح الذي طاب لكم» ، والأول أظهر. الرابع: أنها ظرفيةٌ، والظرفيةُ تستلزم المصدريةَ، والتقدير: فانكحوا مدةَ يطيب فيها النكاح لكم. إذا تقرر هذا فإن قلنا: إنها موصولةٌ اسمية أو نكرة موصوفة أو مصدرية والمصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعل كانت «ما» مفعولاً ب «انكحوا» . ويكون «من النساء» فيه وجهان، أحدهما: أنها لبيانِ الجنس المبهم في «ما» عند مَنْ يثبت لها ذلك. والثاني: أنها تبعيضية، أي: بعض النساء، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من «ما طاب» . وإن قلنا: إنها

مصدريةٌ ظرفية أو مصدرية محضة، ولم يُوقَعِ المصدرُ موقعَ اسم فاعل كما تقدمت حكايتُه عن الشيخ كان مفعول «فانكحوا» قوله «من نساء» ، نحو قولك: أكلت من الرغيف، وشربت من العسل «أي: شيئاً من الرغيف وشيئاً من العسل. فإنْ قيل: لِمَا لا تَجْعل على هذا» مَثْنى «وما بعدها مفعولَ» فانكحوا «أي: فانكحوا هذا العدد؟ فالجوابُ: أن هذه الألفاظ المعدولةَ لا تلي العوامل. وقرأ ابن أبي عبلة:» مَنْ طاب «وهو مرجِّحٌ كونَ» ما «بمعنى الذي للعاقل. وفي مصحف أبي بن كعب:» طِيب «بالياء، وهذا ليس بمبني للمفعول، لأنه قاصر، وإنما كتب كذلك دلالة على الإمالةِ وهي قراءة حمزة. قوله: {مَثْنى} منصوب على الحال من «ما طاب» . وجعله أبو البقاء حالاً من «النساء» . وأجاز هو وابن عطية أن يكونَ بدلاً من «ما» . وهذان الوجهان ضعيفان: أمَّا الأول فلأنَّ المُحَدَّث عنه إنما هو الموصول، وأتى بقوله: «من النساءِ» كالتبيين. وأما الثاني فلأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العامل، وقد تقدَّم أنَّ هذه الألفاظَ لا تباشر العواملَ. واعلم أن هذه الألفاظ المعدولةَ فيها خلافٌ، وهل يجوز فيها القياسُ أم يُقتصر فيها على السماع؟ قولان: قول البصريين عدمُ القياس، وقول الكوفيين وأبي إسحاق جوازُه، والمسموعُ من ذلك أحدَ عشر لفظاً: أُحاد ومَوْحَد، وثُناء ومَثْنى، وثُلاث وَمَثْلَث، ورُباع ومَرْبع، ومَخْمس، ولم يُسمع خُماس، وعُشار ومَعْشر. واختلفوا أيضاً في صرفها وعدمِه: فجمهورُ النحاةِ على منعة، وأجاز الفراء صرفها، وإن كان المنعُ عنده أَوْلى.

واختلفوا أيضاً في سببِ مَنْعِ الصرف فيها على أربعة مذاهب، أحدُها: مذهب سيبويه، وهو أنها مُنِعَتِ الصرفَ للعدل والوصف: أمَّا الوصفُ فظاهر، وأمَّا العدلُ فلكونها معدولةً من صيغة إلى صيغة، وذلك أنها معدولةٌ عن عددٍ مكرر، فإذا قلت: جاء القوم أحادَ أو مَوْحَدَ، أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ كان بمنزلة قولك: «جاؤوا واحداً واحداً/ وثلاثةً ثلاثة» . ولا يُراد بالمعدول عنه التوكيدُ، إنما يراد به تكريرُ العدد كقولهم: «عَلَّمْتُه الحسابَ باباً باباً» . والثاني: مذهب الفراء، وهو العدلُ والتعريف بِنِيَّةِ الألف واللام، ولذلك يَمْتنع إضافتُها عنده لتقديرِ الألف واللام، وامتنع ظهورُ الألف واللام عنده لأنها في نية الإِضافة. الثالث: مذهب أبي إسحاق: وهو عَدْلُها عن عددٍ مكرر، وعَدْلُها عن التأنيث. والرابع: نقله الأخفش عن بعضهم أنه تكرارُ العدل، وذلك أنه عُدل عن لفظ اثنين اثنين، وعن معناه لأنه قد لا يستعمل في موضع تُستعمل فيه الأعدادُ غيرُ المعدولةِ تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا تقول: «جاءني مَثْنى وثلاث» حتى يتقدَّم قبله جمعٌ، لأن هذا الباب جُعِل بياناً لترتيبِ الفعلِ. فإذا قلت: «جاء القوم مَثْنَى» أفادَ أنَّ مجيئَهم وقع من اثنينِ اثنين، بخلافِ غيرِ المعدولة، فإنها تفيدُ الإِخبار عن مقدارِ المعدودِ دونَ غيرِه، فقد بانَ بما ذكرنا اختلافُهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقومَ العلةُ مَقام علتين لإِيجابها حكمين مختلفين. انتهى. ولهذه المذاهبِ أدلةٌ واعتراضاتٌ وأجوبةٌ ليس هذا موضعَها.

وقال الزمخشري: «إنما مُنِعت الصرفَ لما فيها من العدل: عدلِها عن صيغتِها، وعدلِها عن تكررها، وهن نكراتٌ يُعَرَّفْنَ بلام التعريف، يقال:» فلان ينكح المَثْنى والثُلاث «. قال الشيخ:» وما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا أعلم أحداً قاله، بل المذاهب فيه أربعة «، وذكرها كما تقدم، وقد يقال: إن هذا هو المذهب الرابع، وعَبَّر عن العدل في المعنى بعدلِها عن تكررها. وناقشه الشيخ أيضاً في مثاله بقوله: «ينكح المثنى» من وجهين، أحدهما: دخول «أل» عليها، قال: «وهذا لم يَذْهب إليه أحد، بل لم تستعمل في لسان العرب إلا نكراتٍ» . الثاني: أنه أولاها العوامل، ولا تلي العوامل، بل يتقدمهما شيء يلي العواملَ، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام: «صلاةٌ الليلِ مَثْنى مثنى» ، أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة، أو صفاتٍ نحو قوله تعالى: {أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] ، وقوله: 1531 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ذئابٌ تَبَغَّى الناسَ مَثْنَى ومَوْحَدُ وقد وقعت إضافتُها قليلاً كقوله: 1532 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

بمَثْنى الزُّقاقِ المُتْرَعات وبالجُزُرْ وقد استدلَّ بعضُهم على إيلائها العواملَ على قلة بقوله: 1533 - ضربْتُ خُماسَ ضربةَ عبشمِيٍّ ... أدارُ سداسَ أن لا يستقيما ويمكنُ تأويله على حذف المفعول لفهمِ المعنى تقديرُه: ضربتهم خماسَ. ومن أحكام هذه الألفاظ ألاَّ تؤنَّثَ بالتاء، لا تقول: «مَثْناة» ولا «ثُلاثَة» ، بل تَجْري على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً. وقرأ النخعي وابن وثاب: «ورُبَعَ» من غير ألف. وزاد الزمخشري عن النخعي: «وثُلَثَ» أيضاً، وغيرُه عنه: «ثُنَى» مقصوراً من «ثُناء» . حَذَفوا الألف من ذلك كله تخفيفاً، كما حذفها الآخر في قوله: 1534 - وصِلِّيانا بَرِدا ...

يريد: بارداً. قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} شرط، جوابه: «فواحدة» ، وقد تقدم أن منهم مَنْ جعل «فواحدة» جواباً للأول، وكرر الثاني لما طال الفصل، وجعل قوله: {فانكحوا} جملةَ اعتراض، ويُعْزَى لأبي عليّ، ولعله لا يَصِحُّ عنه. قال الشيخ: «لأنه إذا أُنتج من الآيتين: هذه وقوله: {وَلَن تستطيعوا} [النساء: 129] ما أنْتَج من الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة أو يتسرَّى بما ملكَتْ يمينُه، ويبقى الفصلُ بجملةِ الاعتراض لا فائدةَ له، بل يكون لَغْواً على زعمِه» . والجمهور على نصبِ «فواحِدةَ» بإضمار فعلٍ أي: فانكحوا واحدة وطَؤُوا ما ملكت أيمانكم، وإنما قَدَّرْنا ناصباً آخر لمِلْكِ اليمين؛ لأن النكاح لا يقع في مِلْكِ اليمين إلا أن يريدَ به الوطْءَ في هذا والتزوج في الأول، فليزم استعمالُ المشتركِ في معنييه أو الجمعُ بين الحقيقة والمجاز، وكلاهما مقولٌ به، وهذا قريبٌ من قوله: 1535 - عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وبابِه. وقرأ الحسن وأبو جعفر: «فواحدةٌ» بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: الرفعُ بالابتداء، وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرة اعتمادُها على فاء الجزاء، والخبرُ

محذوف أي: فواحدةٌ كافية. الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: فالمُقْنِعُ واحدة. الثالث: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدر أي: فيكفي واحدة. و «أو» على بابها مِنْ كونِها للإِباحةِ أو التخيير. و «ما» في «ما مَلَكَتْ» كهي في قوله: «ما طابَ» . وأضافَ المِلْك لليمين لأنها محلُّ المحاسن، وبها تُتَلَقَّى راياتُ المجد. ورُوي عن أبي [عمرو] : «فما ملكت أيمانكم» ، والمعنى: إنْ لم يَعْدل في عُشْرةِ واحدةٍ فما ملكت يمينه. وقرأ ابن أبي عبلة: «أو مَنْ ملكت أيمانكم» . قوله: {ذلك أدنى} مبتدأ وخبر، و «ذلك» إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي. و «أَدْنى» أفعلُ تفضيل من دنا يدنو أي: قَرُب أي: أقربُ إلى عدِم العَوْل. و {أَن لاَ تَعُولُواْ} في محلِّ نصب أو جَرٍّ على الخلافِ المشهور في «أن» بعد حذف حرف الجر، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: «إلى» أي: أدنى إلى ألاَّ تعولوا. والثاني: «اللام» والتقدير: أدنى لئلا تعولوا. والثالث: وقَدَّره الزمخشري: مِنْ أن لا تميلوا، لأن أفعل التفضيل يَجْري مجرى فِعله، فما تعدَّى به فعلُه تعدَّى هو به، وأَدْنى من دنا، و «دنا» يتعدَّى ب إلى واللام ومِنْ. تقول: دَنَوْت إليه وله ومنه. وقرأ الجمهور: «تَعُولوا» مِنْ عالَ يَعُول إذا مال وجار، والمصدر: العَوْل

والعِيالة، وعالَ الحاكم أي: جار، قال أبو طالب في النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 1536 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... له حاكمٌ من نفسِه غيرُ عائِل وعالَ الرجل عيالَه يَعُولهم أي: مانَهم من المَؤُونة، ومنه: «ابدَأْ بنفسك ثم بمن تعول» ، وحكى ابن الأعرابي: عال الرجل يعول: كثر عياله، وعالَ يَعِيل افتقر وصار له عائلةٌ. والحاصل: أن «عال» يكونُ لازماً ومتعدياً، فاللازمُ يكون بمعنى مالَ وجارَ، ومنه «عال الميزانُ» ، وبمعنى كَثُر عيالُه، وبمعنى تفاقم الأمرُ، والمضارعُ من هذا كلِّه يعولُ، وعالَ الرجل، افتقر، وعالَ في الأرض ذهب فيها، والمضارع من هذين يَعِيل، والمتعدي يكون بمعنى أثقل وبمعنى مان من المؤونة وبمعنى غَلَب، ومنه «عيل صبري» /، ومضارع هذا كله: يَعُول، وبمعنى أعجز، تقول: أعالني الأمر أي: أعجزني، ومضارع هذا يَعيل، والمصدر عَيْل ومَعِيل. فقد تلخص من هذا أن «عال» اللازم يكون تارة من ذوات الواو وتارة من ذوات الياء باختلاف المعنى، وكذلك «عال» المتعدي أيضاً. وفَسَّر الشافعي «تَعُولوا» بمعنى: يكثرُ عيالُكم، وردَّ هذا القولَ جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب «النظم» . قال الرازي: «

هذا غلطٌ من جهة المعنى واللفظ: أما الأول فلإِباحة السراري مع أنه مَظَنَّة كثرة العيال كالتزوج، وأما اللفظ فلأن مادة» عال «بمعنى كَثُر عياله من ذوات الياء لأنه من العَيْلَة، وأما» عال «بمعنى جار فمِنْ ذواتِ الواو فاختلفت المادتان، وأيضاً فقد خالَفَ المفسرين» . وقال صاحب النظم: «قال أولاً» ألاَّ تعدلوا «فوجَبَ أن يكونَ ضدُّه الجورَ» . وقد ردَّ الناسُ على هؤلاء، أمَّا قولهم: التسرِّي أيضاً يكثُر معه العيال من أنه مباح «فممنوعٌ، وذلك لأنَّ الأمةَ ليست كالمنكوحةِ، ولهذا يَعْزِلُ عنها بغيرِ إذنها ويُؤْجرُها ويأخذ أُجرتها ينفقها عليه وعليها وعلى أولادها. وقال الزمخشري:» وجهُه أَنْ يُجعل من قولِك: «عالَ الرجل عِياله يعولهم» كقولك: مانَهم يَمُونهم أي: أنفق عليهم، لأنَّ مَنْ كثر عياله لزمه أن يَعُولهم، وفي ذلك ما يَصْعُب عليه المحافظة من كسبِ الحلال والأخذِ من طيب الرزق «ثم أثنى على الشافعي ثناءً جميلاً، وقال:» ولكنْ للعلماء طرقٌ وأساليبُ، فسلك في تفسير هذه الكلمة مَسْلَكَ الكنايات «. انتهى. وأمَّا قولُهم:» خالفَ المفسرين «فليس بصحيح، بل قاله زيد ابن أسلم وابن زيد. وأمَّا قولُهم» اختلف المادتان «فليس بصحيح أيضاً؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن الأعرابي عن العرب:» عال الرجل يَعُول: كثر عياله «، وحكاها الكسائي أيضاً، قال:» يقال: عال الرجل يَعُول، وأعال يُعيل: كَثُر عياله «ونقلها أيضاً الدوري المقرىء لغةً عن حِمْير وأنشد: 1537 - وإنَّ الموتَ يأخذُ كلَّ حَيٍّ ... بلا شك وإنْ أَمْشى وعَالا

أمشى: كثرت ماشيته، وعال: كَثُر عياله، ولا حجةَ في هذا؛ لاحتمال أن يكونَ» عال «من ذوات الياء، وهم لا يُنْكرون أنَّ» عال «يكون بمعنى كَثُر عياله، ورُوي عنه أيضاً أنه فسَّر» تَعُولوا «بمعنى تفتقروا، ولا يُريد به أنَّ تَعولوا وتَعيلوا بمعنى، بل قصدَ الكناية أيضاً، لأن كثرة العيال سببُ الفقر. وقرأ طلحة:» تَعيلوا «بفتح تاء المضارعة من عالَ يعيل: افتقر، قال: 1538 - وما يَدْري الفقيرُ متى غِناه ... وما يَدْري الغنيُّ متى يَعِيل وقرأ طاوس:» تُعيلوا «بضمها من أعال: كَثُر عياله، وهي تعضُد تفسيرَ الشافعي المتقدم من حيث المعنى. وقال الراغب:» عاله وغاله يتقاربان، لكن الغَوْل فيما يُهْلِك، والعَوْل فيما يُثْقِل، وعالت الفريضة: إذا زادت في القِسمة المسماة لأصحابها بالنصِّ «.

4

قوله تعالى: {صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} : مفعولٌ ثان، وهي جمع «صَدُقة» بفتحِ الصاد وضم الدال بزنة «سَمُرة» ، والمرادُ بها المَهْر، وهذه القراءةُ المشهورة، وهي لغةُ الحجاز. وقرأ قتادة: «صُدْقاتهن» بضم الصاد وإسكان الدال، جمعُ صُدْقة بزنة غُرْفة. وقرأ مجاهد وابن أبي عبلة بضمِّهما، وهي جمعُ صُدُقة بضم الصاد والدال، وهي تثقيلُ الساكنة الدالِ للإِتباع. وقرأ ابن وثاب والنخعي: «صُدُقَتَهُنَّ» بضمهما مع الإِفراد. قال

الزمخشري: «وهي تثقيل» صُدْقة «كقولهم في» ظُلْمة «:» ظُلُمة «. وقد تقدم لنا خلاف: هل يجوزُ تثقيل الساكنِ المضمومِ الفاءِ؟ وقرىء:» صَدْقاتِهن «بفتح الصاد وإسكان الدال، وهي تخفيف القراءة المشهورة كقولهم في عَضُد: عََضْد. وفي نصب» نِحْلة «أربعة أوجه، أحدُها: أنها منصوبة على المصدر والعامل فيها الفعل قبلها؛ لأن» آتُوهُنَّ «بمعنى انحِلوهُنَّ، فهي مصدرٌ على غير الصدرِ نحو:» قَعَدْت جلوساً «. الثاني: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال، وفي صاحب الحال ثلاثةُ احتمالات، أحدها: أنه الفاعل في» فآتُوهُنَّ «أي: فآتوهن ناحِلين. الثاني: أنه المفعولُ الأولُ وهو» النساء «. الثالث: أنه المفعولُ الثاني وهو» صدقاتهن «أي: منحولات. الوجه الثالث: أنها مفعول من أجله؛ إذا فُسِّرت بمعنى» شِرْعة «. الوجه الرابع: انتصابُها بإضمارِ فعلٍ بمعنى شَرَع، أي: نحل الله ذلك نِحْلة أي: شَرَعه شِرْعة وديناً. والنِّحْلة: العَطيَّةُ عن طِيبِ نفس، والنِّحْلة: الشِّرْعة، ومنه» نِحْلة الإِسلام خير النِحَل «، وفلان ينتحل بكذا أي: يَدِين به، والنِّحْلة: الفريضة. قال الراغب:» والنِّحْلة والنَّحْلة: العَطِيَّةُ على سبيلِ التبرع، وهي أخصُّ من الهِبة، إذ كل هبةٍ نِحْلة من غير عكس، واشتقاقُه فيما أرى من

النَّحْل نظراً إلى فِعله، فكأن «نَحَلْتُه» أعطيته عطيةَ النحل «ثم قال:» ويجوز أن تكونَ النِّحْلة أصلاً فسُمِّي النحلُ بذلك اعتباراً بفعله «وقال الزمخشري:» مِنْ نَحَله كذا: أعطاه إياه، ووهبَه له عن طيبِ نفسِه، نِحْلة ونَحْلاً، ومنه حديثُ أبي بكر رضي الله عنه: «إني كنت نَحَلْتُكِ جَدادَ عشرينَ وَسْقاً» . قوله: «منه» في محل جر، لأنه صفة ل «شيء» فيتعلق بمحذوف أي: عن شيء كائنٍ منه. و «مِنْ» فيها وجهان، أحدهما: أنها للتبعيض، ولذلك لا يجوز لها أن تَهَبَهُ كلَّ الصَّداق. وإليه ذهب الليث. والثاني: أنها للبيان، ولذلك يجوزُ أن تَهَبَه كل الصَّداق. قال ابن عطية: «و» مِنْ «لبيان الجنس ههنا، ولذلك يجوز أن تَهَبَ المهر كله، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك» . انتهى. وقد تقدَّم أن الليث يمنع ذلك فلا يُشْكِل كونها للتعبيض. وفي هذا الضمير أقوال، أحدها: أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه ب «صَدُقاتِهِنَّ» . الثاني: أنه يعود على «الصَّدُقات» لسدِّ الواحدِ مَسَدَّها، لو قيل: «صَداقَهُنَّ» لم يختلَّ المعنى، وهو شبيهٌ بقولِهم: «هو أحسنُ الفتيان وأجملُه» لأنه لو قيل: «هو أحسن فتىً» لصحَّ المعنى، ومثلُه: 1539 - وطابَ ألبانُ اللِّقاح وبَرَدْ ... في «برد» ضميرٌ يعود على «ألبان» لسدِّ «لَبَن» مسدَّها. الثالث: أنه يعودُ على «الصَّدُقات» أيضاً، لكن ذهاباً/ بالضمير مذهبَ الإِشارة، فإن اسم الإِشارة قد يُشار به مفرداً مذكراً إلى أشياء تقدَّمته كقولِه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ

مِّن ذلكم} [آل عمران: 15] بعد ذِكْرِه أشياءَ قبله، وقد تقدَّم لك في البقرة ما حُكِي عن رؤبة لَمَّا قيل له في قوله: 1540 - فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَقْ ... كأنَّه في الجلدِ تَوْليعُ البَهَقْ «أردْتُ ذلك» ، فَأَجْرى الضميرُ مجرى اسم الإِشارة. الرابع: أنه يعودُ على المال، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، لأنَّ الصَّدُقات تَدُلُّ عليه. الخامس: أنه يعودُ على الإِيتاء المدلول عليه ب «آتُوا» قال الراغب وابن عطية. السادس: قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يُذَكَّر الضمير لينصرف إلى الصَّداق الواحد، فيكون متناولاً بعضَه، ولو أُنِّث لتناول ظاهرُه هبةَ الصَّداق كلِّه، لأنَّ بعض الصَّدُقات واحد منها فصاعداً. وقال الشيخ:» وأقولُ حَسَّن تذكيرَ الضميرِ أنَّ معنى «فإنْ طِبْنَ» : فإنْ طابَتْ كلُّ واحدةٍ، فلذلك قال «منه» أي: مِنْ صَداقِها، وهو نظير: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} [يوسف: 31] أي: لكلِّ واحدةٍ، ولذلك أفردَ «مُتَّكأً» . قوله: «نَفْساً» منصوب على التمييز، وهو هنا منقولٌ من الفاعل، إذ الأصل: فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ، ومثله: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] ، وهذا منصوب عن تمام الكلام. وجِيء بالتمييز هنا مفرداً، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدمِ اللَّبْسِ، إذ من المعلوم أنَّ الكلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ في نفس واحدة، ومثله: «قَرَّ

الزيدون عيناً» ويجوز «أنفساً» و «أعيناً» . ولا بد من التعرُّضِ لقاعدةٍ يَعُمُّ النفعُ بها: وهي أنه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصبٍ عن تمامِ الكلام فلا يخلو: إمَّا أَنْ يكونَ موافقاً لِما قبله في المعنى أو مخالفاً له، فإن كان الأولَ وَجَبَتْ مطابقةُ التمييز لِما قبله نحو: «كَرُمَ الزيدون رجالاً» كما يطابقُه خبراً وصفةً وحالاً. وإن كان الثانيَ: فإمَّا أن يكونَ مفردَ المدلول أو مختلفَه، فإن كان مفردَ المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد: «كَرُم بنو زيد أباً أو أصلاً» ، أي: إنَّ لهم جميعاً أباً واحداً متصفاً بالكرم، ومثله: «كَرُم الأتقياءُ سَعْياً» إذا لم تقصدِ بالمصدرِ اختلافَ الأنواع لاختلاف مَحالِّه. وإنْ كان مختلفَ المدلول: فإما أَنْ يُلْبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أو لا، فإن أَلْبَسَ وَجَبَت المطابقة نحو: كَرُم الزيدون آباء، أي: أن لكل واحدٍ أباً غيرَ أب الآخر يتصفُ بالكرم، ولو أُفردت هنا لتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أب واحدِ، والغرضُ خلافه. وإنْ لم يُلْبِس جاز الأمران: المطابقةُ والإِفراد، وهو الأَوْلى، ولذلك جاءت عليه الآيةُ الكريمةُ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمعِ. وحَسَّن الإِفرادَ أيضاً هنا ما تقدَّم مِنْ مُحَسِّنِ تذكيرِ الضمير وإفرادِه في «منه» وهو أن المعنى: فإنْ طابت كلُّ واحدة نفساً. وقال بعض البصريين: «إنما أفردَ لأن المراد بالنفس هنا الهوى، والهوى مصدرٌ، والمصادرُ لا تُثَنَّى ولا تُجْمع» وقال الزمخشري: «ونفساً تمييزٌ، وتوحيدُها لأنَّ الغرضَ بيانُ الجنسِ، والواحدُ يدل عليه» . ونحا أبو البقاء نحوه، وشَبَّهه ب «درهماً» في قولك: «عشرون درهماً» .

واختلفَ النحاةُ في جوازِ تقديمِ التمييزِ على عاملِه إذا كان متصرفاً، فمنعَه سيبويه، وأجازه المبرد وجماعةٌ مستدلين بقولهم: 1541 - أَتَهْجُرُ ليلى بالفراقِ حبيبها ... وما كان نفساً بالفراقِ تَطِيب وقوله: 1542 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . إذا عِطْفاه ماءً تَحَلَّبا والأصل: تطيبُ نفساً، وتحلَّبا ماء. وفي البيتين كلامٌ طويل ليس هذا محلَّه. وحجةُ سيبويه في منع ذلك أنَّ التمييزَ فاعل في الأصل، والفاعل لا يتقدم فكذلك ما في قوته. واعتُرِض على هذا بنحو: «زيداً» من قولك: «أخرجْتُ زيداً» فإنَّ «زيداً» في الأصل فاعل قبل النقل، إذ الأصل: «خرج زيد» . والفرق لائح. وللتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم. والجارَّان في قولِه: «فإن طِبْنَ لكم عن شيءٍ متعلِّقان بالفعلِ قبلَهما مضمناً معنى الإِعراض، ولذلك عُدِّي ب» عَنْ «كأنه قيل: فإنْ أَعْرَضْنَ لكم عن شيءٍ طيباتِ النفوس. والفاء في» فَكُلوه «جوابُ الشرطِ وهي واجبةٌ، والهاءُ في» فَكُلوه «عائدةٌ على» شيء «.

قوله: {هَنِيئاً مَّرِيئاً} في نصبِ» هنيئاً «أربعةُ أقوال: أحدُها: أنه منصوبٌ على أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوف، تقديره: أكلاً هنيئاً. الثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من الهاء في» فكلوه «أي: مُهَنَّأً أي: سهلاً. الثالث: أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهارُه البتة، لأنه قَصَدَ بهذه الحال النيابةَ عن فعلها نحو:» أقائماً وقد قعد الناس «، كما ينوب المصدرُ عن فعلِه نحو:» سُقْياً له ورَعْياً «. الرابع: أنهما صفتان قامتا مقامَ المصدرِ المقصودِ به الدعاءُ النائبِ عن فعله. قال الزمخشري:» وقد يُوقف على «فكلوه» ويُبْتدأ «هنيئاً مريئاً» على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل: هَنْئاً مَرْءاً «. قال الشيخ: «وهذا تحريفٌ لكلام النحاة، وتحريفُه هو جَعْلُهما أٌقيما مُقام المصدر، فانتصابُهما انتصابَ المصدر، ولذلك قال:» كأنه قيل: هَنْئاً مَرْءاً، فصار كقولك «سُقْياً لك» و «رَعْياً لك» ، ويَدُلُّ على تحريفِه وصحةِ قولِ النحاة أنَّ المصادر المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر، لا تقول: «سقياً الله لك» ولا: «رعياً الله لك» وإن كان ذلك جائزاً في أفعالها، و «هنيئاً مريئاً» يرفعان الظاهرَ بدليل قوله: 1543 - هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مُخامِرٍ ... لعَزَّةَ مِنْ أَعْراضِنا ما استحَلَّتِ ف «ما» مرفوعٌ ب «هنيئاً» أو ب «مريئاً» على الإِعمال، وجاز ذلك وإنْ لم يكن بين العاملين ربطٌ بعطفٍ ولا غيرِه، لأنَّ «مريئاً» لا يُسْتعمل إلا تابعاً ل «هنيئاً» فكأنهما عاملٌ واحد، ولو قلت: «قام قعد زيد» لم يكن من الإِعمال إلا على نِيَّة حرف العطف «. انتهى.

إلاَّ أن في عبارة سيبويه ما يُرْشِدُ لِما قاله الزمخشري، فإنه قال:» هنيئاً مريئاً: صفتان نصبُهما نصبُ المصادرِ المدعُوِّ بها بالفعلِ غيرِ المستعملِ إظهارُه المختَزَلِ لدلالةِ الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثَبَت ذلك هنيئاً مريئاً «، فأولُ العبارةِ يساعدُ الزمخشري، وآخرُها وهو تقديرُه بقولِه:» كأنهم قالوا: ثَبَتَ ذلك هنيئاً «يُعَكِّر عليه. فعلى القولين الأوَّلَيْن يكونُ» هنيئاً مريئاً «متعلقَيْنِ بالجملةِ قبلَهما لفظاً ومعنى، وعلى الآخِرَيْن مقتطعين لفظاً، لأنَّ عاملَهما مقدرٌ من جملةٍ أخرى كما تقدَّم تقريره. واختلف النحويون في قولِك لِمَن قال:» أصاب فلان خيراً هنيئاً له ذلك «هل» ذلك «مرفوعٌ بالفعلِ/ المقدَّرِ تقديرُه: ثبت له ذلك هنيئاً فحَذف» ثبت «وقام» هنيئاً «الذي هو حالٌ مَقامه، أو مرفوعٌ ب» هنيئاً «نفسِه، لأنه لمَّا ق مقامَ الفعلِ رَفَع ما كان الفعلُ يرفعه، كما أنَّ قولَك:» زيدٌ في الدار «» في الدار «ضميرٌ كان مستتراً في الاستقرار، فلمَّا حُذِف الاستقرار وقامَ الجار مَقامَه رفعَ الضمير الذي كان فيه. ذهب إلى الأول السيرافي، وجعل في» هنيئاً «ضميراً عائداً على» ذلك «، وذهب إلى الثاني أبو علي، وجعل» هنيئاً «فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهرَ. وإذا قلت:» هنيئاً «ولم تقل» ذلك «، فعلى مذهب السيرافي يكون في» هنيئاً «ضميرٌ عائد على ذي الحال، وهو ضميرُ الفاعلِ الذي استتر في» ثَبَتَ «المحذوفِ، وعلى مذهب الفارسي يكون في» هنيئاً «ضميرٌ فاعل بها، وهو الضميرُ الذي كان فاعلاً ل» ثَبَتَ «، ويكونُ» هنيئاً «قد قام مقام الفعلِ المحذوفِ فارغاً من الضمير. وأمَّا نصبُ «مريئاً» فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنه صفة ل «هنيئاً» ، وإليه ذهب الحوفي. والثاني: أنه انتصب انتصاب «هنيئاً» ، وقد تقدَّم ما فيه من

الوجوه. ومنع الفارسي كونَه صفةً ل «هنيئاً» قال: «لأنَّ هنيئاً قام مقام الفعل والفعلُ لا يوصف، فكذا ما قامَ مقامَه» ، ويؤيِّد ما قاله الفارسي أنَّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلةَ المبالغة والمصادر إذا وُصِفت لم تَعْمَلْ عملَ الفعلِ. ولم يُستعمل «مريئاً» إلا تابعاً ل «هنيئاً» . ونَقَلَ بعضُهم أنه قد يَجيء غيرَ تابع، وهو مردودٌ، لأنَّ العرب لم تستعمِلْه إلا تابعاً. وهل «هنيئاً مريئاً» في الأصلِ اسما فاعلٍ على زنةِ المبالغةِ أم هما مصدران جاءا على وزِن فعيل كالصهيل والهدير؟ خلاف. نقل الشيخ القول الثاني عن أبي البقاء قال: «وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على وزن فَعيل كالصهيل والهدير، وليسا من باب ما يَطَّرد فيه فعيل في المصدر» . انتهى. وأبو البقاء في عبارته إشكالٌ فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها، قال: «هنيئاً جاء على وزن فَعِيل، وهو نعت لمصدرٍ محذوفٍ أي: أَكْلاً هنيئاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الهاء، والتقديرُ: مُهَنَّأً و» مريئاً «مثلُه، والمَرِيء فَعيل بمعنى مُفْعِل، لأنك تقول:» أمرأني الشيء «. ووجهُ الإِشكال: أنه بعد الحكم عليهما بالمصدرية كيف يجعلهما وصفين لمصدر محذوف، وكيف يفسِّر» مريئاً «المصدر بمعنى اسم الفاعل؟ وذهب الزمخشري إلى أنهما وصفان، قال:» الهَنِيءُ والمَرِيءُ صفتان من هَنُؤ الطعامُ ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه «. انتهى.

وهَنا يَهْنَا بغير همز لغة ثانيةٌ أيضاً. ويقال: هَنَأني الطعامُ ومَرَأني، فإن أفردت» مَرَأني «لم يُسْتعمل إلا رباعياً فتقول» أَمْرأَني «وإنما استُعمل ثلاثياً للتشاكلِ مع» هَنأَني «، وهذا كما قالوا:» أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث «بضم دال» حدث «مشاكلة ل» قَدُم «، ولو أُفرد لم يستعمل إلا مفتوح الدال، وله نظائر أخر. ويقال: هَنَأْتُ الرجل أَهْنِئُه بكسرِ العين في المضارع أي: أعطيته. واشتقاقُ الهنِيْء من الهِناءِ وهو ما يُطلى به البعيرِ من الجرب، قال: 1544 - مُتَبَذِّلاً تَبْدُو محاسِنُه ... يَضَع الهِناءَ مواضِعَ النُّقْبِ والمَرِيءُ: ما ساغ وسَهُل في الحلق، ومنه قِيل لمجرى الطعام من الحُلْقوم إلى فم المعدة: مَرِيء.

5

قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} أصل تُؤتوا: تُؤْتِيُوا مثل: تُكْرِموا، فاستثقلت الضمةُ على الياءِ، فَحُذِفت الضمة فالتقى ساكنان: الياء وواو الضمير، فَحُذِفت الياءُ لئلا يلتقيَ ساكنان. والسُّفهاء جمعُ سفيه، وعن مجاهد: «المراد بالسفهاء النساء» ، وضَعَّفه بعضُهم بأن فَعِيلة إنما تجمع على فَعائل أو فَعِيلات، قاله ابن عطية. وقد نَقل بعضُهم أنَّ سفيهة تُجْمع على سُفَهاء كالمذكر، وعلى هذا لا يَضْعُف قول مجاهد، وجمعُ فَعِيلة الصفةِ على فُعَلاء وإن كان نادراً إلا أنه نُقِل في هذا

اللفظِ خصوصاً، وتخصيصُ ابن عطية جمعَ فَعِيلة بفعائل أو فَعيلات ليس بظاهرٍ، لأنها يَطَّرد فيها أيضاً «فِعال» نحو: كَريمة وكِرام وظَرِيفة وظِراف، وكذلك إطلاقُه فَعِيلة وكان من حقه أَنْ يقيِّدها بألاَّ تكون بمعنى مَفْعولة تَحَرُّزاً من قتيلة فإنها لا تُجمع على فَعائِل. والجمهورُ على {التي جَعَلَ الله لَكُمْ} بلفظِ الإِفراد صفةً للأموال، وإنْ كانت جمعاً؛ لأنَّه تقدَّم غيرَ مرة أنَّ جمع ما لا يعقل في الكثرة، أو لم يكن له إلا جمعٌ واحدٌ، الأحسنُ فيه أن يُعامَل معاملةَ الواحدة المؤنثة، والأموال من هذا القبيل لأنها جمعُ ما لا يعقلِ، ولم تُجْمع إلا على أَفْعال، وإن كانت بلفظِ القلة لأنَّ المرادَ بها الكثرة. وقرأ الحسن والنخعي: «اللاتي» مطابقةً للفظِ الجمع، وكان القياسُ ألاَّ يوصفَ ب «اللاتي» إلا ما يُوصَفُ مفرده ب «التي» ، والأموال لا يُوصف مفردُها وهو «مال» ب «التي» . وقال الفراء: «العربُ تقولُ في النساء:» اللاتي «أكثرَ مِمَّا تقول» التي «، وفي الأموال:» التي «أكثر مما تقول» اللاتي «. وكلاهما في كليهما جائز. وقرىء:» اللواتي «وهي جمعُ اللاتي، فهي جمعُ الجمع، أو جمع» التي «نفسِها. قوله:» قياماً «إنْ قلنا إنَّ» جَعَلَ «بمعنى صَيَّر ف» قياماً «مفعول ثانٍ، والأولُ محذوفٌ وهو عائد الموصول، والتقدير:» التي جعلها «أي: صَيَّرها لكم قياماً. وإنْ قلنا إنَّها بمعنى» خَلَقَ «ف» قِياماً «حال من ذلك العائدِ المحذوفِ، التقديرُ: جَعَلَها أي: خلقها وأوجدها في حالِ كونها قياماً.

وقرأ نافع وابن عامر:» قِيَماً «وباقي السبعة:» قِياماً «وابن عمر:» قِواماً «بكسر القاف، والحسن وعيسى بن عمر:» قَواماً «بفتحها، ويروى عن أبي عمرو. وقرىء» قِوَماً «بزنة عِنَب. فأما قراءة نافع وابنِ عامر ففيها ثلاثة أوجه، أحدهما: أنَّ» قِيَماً «مصدرٌ كالقيام وليس مقصوراً منه، قال الكسائي والأخفش والفراء، فهو مصدر بمعنى القيام الذي يُراد به الثباتُ والدوامُ. وقد رُدَّ هذا القول بأنه كان ينبغي أن تَصِحَّ الواو لتحصُّنِها بتوسُّطِها، كما صَحَّت واو «عِوَض» و «حِوَل» . وأُجيب عنه بأنه تبع فعلَه في الإِعلال. فكما أُعِلَّ فعلُه أُعِلَّ هو، ولأنه بمعنى القِيام فَحُمِل عليه في الإِعلال. وحَكَى الأخفَشُ: قِيَماً وقِوَماً قال: «والقياسُ تصحيحُ الواو، وإنما اعتلَّت على وجهِ الشذوذِ كقولهم:» ثِيَرة «، وقولِ بني ضبة:» طِيال «في جمع طويل، وقولِ الجميع» جِياد «جمع جَواد، وإذا أعلُّوا» دِيَماً «لاعتلالِ» دِيْمة «فاعتلالُ المصدر لاعتلال فعلِه أَوْلى، ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلالِ مفردِه في معيشة ومعايش، ومقامة ومقاوِم، ولم يصححوا مصدراً أعلُّوا فِعْلَه. الثاني: أنه مقصورٌ من» قيام «، فحذفوا الألف تخفيفاً كما قالوا: خيَم في» خِيام «و» مِخْيَط «و» مِقْول «في:» مِخْياط «و» مِقْوال «. والثالث: أنه جمع» قِيمة «ك» دِيَم «في جمع دِيْمَة، والمعنى: أنَّ الأموالَ كالقيم للنفوس لأنَّ بقاءها بها. وقد رَدَّ الفارسي هذا الوجهَ، وإنْ كان

هو قولَ البصريين غيرَ الأخفش بأنه قد قُرِىء قوله تعالى: {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 161] وقوله: {البيت الحرام قِيَماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97] ولا يَصِحُّ معنى القِيَمة فيهما. وقد ردَّ عليه الناس بأنه لا يلزَمُ من عدم صحةِ معناه في الآيتين المذكورتين ألاَّ يصِحَّ هنا، إذ معناه هنا لائقٌ، وهناك معنىً آخرُ يليق بالآيتين المذكورتين كما سيأتي. وأمَّا قراءةُ باقي السبعة فهو مصدرُ» قام «والأصلُ قِوام، فَأُبْدلت الواوُ ياءً للقاعدةِ المعروفة، والمعنى: التي جَعَلَها الله سبب قيامِ أبدانكم أي: بقائِها. وقال الزمخشري:» أي تقومون بها وتنتعشون «. وأما قراءة عبد الله بن عمر ففيها وجهان، أحدهما: أنه مصدر قاوَمَ ك لاوَذَ لِواذاً، صحَّت الواو في المصدر/ كما صحت في الفعل. والثاني: أنه اسم لما يقوم به الشيء، وليس بمصدرٍ كقولهم: هذا مِلاك الأمر» أي ما يُمْلك به. وأما قراءة الحسن ففيها وجهان، أحدهما: أنه اسم مصدر كالكَلام والدوام والسلام. والثاني: أنه لغة في القِوام المراد به القامة، والمعنى: التي جعلها الله سببَ بقاءِ قاماتكم، يقال: جارية حسنةُ القِوام والقَوام والقَامة، كلُّه بمعنىً واحد. وقال أبو حاتم: «قَوام بالفتح خطأٌ» قال: «لأنَّ القوام امتداد القامة» ، وقد تقدَّم تأويل ذلك على أن الكسائي قال: «هو بمعنى القِوام» أي بالكسرِ، يعني أنه مصدر.

وأمَّا «قِوَماً» فهو مصدرٌ جاء على الأصلِ، أعني تصحيحَ العين كالحِوَل والعِوَض. قوله: «فيها» فيه وجهان، أحدُهما أنَّ «في» على بابها مِن الظرفية أي: اجْعَلوا رزقَهم فيها. والثاني: أنه بمعنى «مِنْ» أي: بعضها، والمراد: من أرباحِها بالتجارة.

6

قوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغُواْ} : في «حتى» هذه وما أشبهها أعني الداخلةَ على «إذا» قولان، أشهرُهما: أنها حرف غاية دَخَلَتْ على الجملةِ الشرطية وجوابِها، والمعنى: وابْتَلوا اليتامى إلى وقت بلوغِهم واستحقاقِهم دَفْعَ أموالِهم بشرطِ إيناس الرُّشْد، فهي حرف ابتداء كالداخلة على سائر الجمل كقوله: 1545 - وما زالَتِ القَتْلى تَمُجُّ دماءها ... بِدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ وقول امرىء القيس: 1546 - سَرَيْتُ بهم حتى تَكِلَّ مَطِيُّهم ... وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بِأَرْسانِ والثاني: وهو قول جماعة منهم الزجاج وابن دُرُسْتويه أنَّها حرف جر، وما بعَدها مجرور بها، وعلى هذا ف «إذا» تتمحَّض للظرفيةِ، ولا يكون فيها معنى الشرط، وعلى القولِ الأولِ يكونُ العاملُ في «إذا» ما تخلَّص من معنى جوابِها تقديرُه: إذا بلغوا النكاح راشِدين فادْفَعوا.

وظاهرُ عبارةِ بعضهم أنَّ «إذا» ليست بشرطية، قال: «وإذا ليست بشرطيةٍ لحصول ما بعدَها، وأجاز سيبويه أن يُجازى بها في الشعرِ، وقال:» فَعلوا ذلك مضطرين «، وإنما جُوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب، وبأنه يَليها الفعلُ ظاهراً أو مضمراً، واحتجَّ الخليل على عدمِ شرطيَّتِها بحصولِ ما بعدها، ألا ترى أنك تقول:» أجيئك إذا احمرَّ البُسْر «، ولا تقولُ:» إنْ احمرَّ «. قال الشيخ:» وكلامُه يدل على أنها تكونُ ظرفاً مجرداً ليس فيها معنى الشرط، وهو مخالفٌ للنحويين، فإنهم كالمجمِعين على أنها ظرفٌ فيها معنى الشرط غالباً، وإن وجد في عبارةِ بعضِهم ما يَنْفي كونَها أداةَ شرطٍ فإنما يعني أنها لا يُجْزم بها لا أنها لا تكون شرطاً «. وقَدَّر بعضهُم مضافاً قال:» تقديره: بلغوا حَدَّ النكاح أو وقتَه، والظاهرُ أنه لا يُحتاج إليه، إذ المعنى: صَلَحوا للنكاح. والفاءُ في قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ} جوابُ «إذا» ، وفي قولِه «فادْفَعُوا» جوابُ «إنْ» . وقرأ ابن مسعود: «فإن أحَسْتُم» والأصل: أحْسَسْتُم فَحَذَفَ إِحدى السينين، ويُحتمل أن تكونَ العينَ أو اللام، ومثلُه قول أبي زبيد: 1547 - سِوى أنَّ العِتاقَ من المَطايا ... حَسِيْنَ به فهنَّ إليه شوسُ وهذا حذفٌ لا ينقاس، ونَقَلَ بعضُهم أنها لغة سُلَيْم، وأنها مُطَّردة في عين كل فعلٍ مضاعفة اتصل به تاءُ الضمير أو نونُه. ونكَّر «رُشْداً» دلالةً على التنويعِ، والمعنى: أيُّ نوعٍ حَصَل من الرشدِ

كان كافياً. وقرأ الجمهور: «رُشْداً» بضمة وسكون، وابن مسعود والسلمي بفتحتين، وبعضُهم بضمتين. وسيأتي الكلامُ على ذلك في الأعراف مشبعاً إن شاء الله تعالى. وآنَسَ كذا: أحسَّ به وشَعَر، قال: 1548 - آنَسَتْ نَبْأَةً وأَفزعها القُن ... اصُ عَصْراً وقد دَنا الإِمساءُ وقيل: «وجد» عن الفراء، وقيل: «أبصر» . قوله: {إِسْرَافاً وَبِدَاراً} فيه وجهان، أحدُهما: أنهما منصوبان على المفعول من أجله أي: لأجلِ الإِسرافِ والبِدار. ونقل عن ابن عباس أنه قال: «كان الأولياء يستغنمون أكل مالِ اليتيمِ، لئلا يكبرَ، فينتزعَ المالَ منهم» . والثاني: أنَّهما مصدران في موضعِ الحال أي: مسرفين ومُبادرين. و «بِداراً» مصدرُ بادرَ، والمفاعَلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابِها، بمعنى «أنَّ الوليَّ يبادر اليتيم إلى أخذِ مالِه، واليتيم يبادِرُ إلى الكبر، ويجوزُ أن يكونَ من واحد بمعنى: أن فاعَلَ بمعنى فعل نحو: سافر وطارَقَ. قوله: {أَن يَكْبَرُواْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول بالمصدر أي: وبِداراً كِبَرُهم، كقولِه: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14-15] ، وفي إعمال

المصدرِ المنونِ خلافٌ مشهور. والثاني: أنه مفعول من أجله على حَذْفٍ، أي: مخافةَ أن يَكْبَروا، وعلى هذا فمفعولُ» بِداراً «محذوفٌ. وهذه الجملةُ النَّهْيِيَّة فيها وجهان، أصحُّهما: أنها استئنافية، وليست معطوفةً على ما قبلها. والثاني: أنها عطفٌ على ما قبلها وهو جوابُ الشرط ب» إنْ «أي: فادْفَعوا ولا تأكلوها، وهذا فاسدٌ، لأنَّ الشرطَ وجوابَه مترتِّبان على بلوغِ النكاح، وهو معارضٌ لقوله {وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} فيلزَمُ منه سَبْقُه على ما ترتَّبَ عليه وذلك ممتنع. قوله: {وكفى بالله حَسِيباً} في» كفى «قولان، أحدهما: أنها اسم فعل. والثاني: وهو الصحيح أنها فِعْلٌ، وفي فاعِلها قولان: أحدُهما وهو الصحيح أنه المجرورُ بالباءِ، والباءُ زائدةٌ فيه وفي فاعلِ مضارعه نحو: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} [فصلت: 53] باطِّراد. قال أبو البقاء:» زيدت لتدلَّ على معنى الأمرِ إذ التقدير: اكتفِ بالله «. والثاني: أنه مضمر، والتقدير: كَفَى الاكتفاءُ، و» بالله «على هذا في موضعِ نصب لأنه مفعول به في المعنى، وهذا رأيُ ابنِ السراج. ورُدَّ هذا بأنَّ إعمال المصدر المحذوف لا يجوزُ عند البصريين إلا ضرورةًَ كقوله: 1549 - هل تَذْكُرون إلى الدَّيْرَيْنِ هِجْرَتَكم ... ومَسْحَكم صُلْبَكُمْ رُحْمانَ قُرْبانا أي: قولَكم يا رُحمان. وقال الشيخ:» وقيل: الفاعل مضمر،

وهو ضمير الاكتفاء، أي: كفى هو، أي: الاكتفاء، والباءُ ليست زائدةً، فيكون في موضع نصب، ويتعلَّق إذ ذاك بالفاعل، وهذا الوجه لا يَسُوغ على مذهب البصريين؛ لأنه لا يجوزُ عندهم إعمالُ المصدرِ مضمراً وإنْ عَنَى بالإِضمارِ الحذفَ امتنع عندهم أيضاً لوجهين: حَذْفِ الفاعل، وإعمالِ المصدر محذوفاً وإبقاءِ معمولِه «. وفيه نظر، إذ لقائل أن يقول: إذا قلنا بأن فاعل» كفى «مضمرٌ لا نعلق» بالله «بالفاعلِ حتى يَلْزم ما ذَكَر، بل نعلِّقه بنفس الفعل كما تقدَّم، وهذا القول سبقه إليه مكي والزجاج فإنه قال:» دَخَلَتِ الباءُ في الفاعل، لأَنَّ معنى الكلام الأمرُ، أي: اكتفوا بالله «، وهذا الكلامُ يُشْعِرُ أنَّ الباءَ ليست بزائدة، وهو كلامٌ غيرُ صحيح، لأنه من حيث المعنى الذي قَدَّره يكون الفاعل هم المخاطبين، و» بالله «متعلقٌ به، ومِنْ حيث كونُ الباءِ دخلت في الفاعلِ يكونُ الفاعلُ هو اللهَ تعالى فتناقض. وفي كلامِ ابن عطية «نحوٌ من قولِه أيضاً، فإنه قال:» بالله «في موضعِ رفعٍ بتقديرِ زيادةِ الخافض، وفائدةُ زيادتِه تبيينُ معنى الأمر في صورةِ الخبر أي: اكتفوا بالله، فالباءُ تَدُلُّ على المرادِ من ذلك» ، وفي هذا ما رُدَّ به على الزجاج وزيادَةُ جعلِ الحرفِ زائداً وغيرَ زائدٍ. وقال ابن عيسى: «إنما دخلَتِ الباءُ في» كفى بالله «لأنه كان يتصل اتصالَ الفاعل، وبدخولِ الباءِ اتصل اتصالَ المضافِ واتصالَ الفاعل؛ لأن الكفايةَ منه تعالى ليست كالكفايةِ من غيرِه، فضوعف لفظُها لمضاعفةِ معناها» ويَحْتاج إلى فكر. قوله: {حسيباً} فيه وجهان، أصحُّهما: أنه تمييزٌ يَدُلُّ على ذلك صلاحيةُ دخولِ «مِنْ» عليه، وهي علامةُ التمييز. والثاني: أنه حال.

و «كفى» هنا متعديةٌ لواحدٍ، وهو محذوفٌ تقديرُه: وكفاكم اللهُ «. وقال أبو البقاء:» وكفى «تتعدَّى إلى مفعولين حُذِفا هنا تقديرُه: كفاك اللهُ شرَّهم بدليل قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] . والظاهر أنَّ معناها غيرُ معنى هذه. قال الشيخ بعد أَنْ ذكر أنها متعدية لواحدٍ:» وتأتي بغيرِ هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقولِه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} . وهو محلُّ نظر.

7

قوله تعالى: {مِّمَّا تَرَكَ الوالدان} : هذا الجارُّ في محل رفع لأنه صفةٌ للمرفوعِ قبلَه أي: نصيبٌ كائن أو مستقر، ويجوز أن يكون في محل نصبٍ متعلقاً بلفظ «نصيب» لأنَّه من تمامه. وقوله: {مِمَّا قَلَّ} في هذا الجارِّ أيضاً وجهان أحدُهما: أنه بدلٌ من «ما» الأخيرةِ في «مِمَّا ترك» بإعادة حرفِ الجر في البدل، والضميرُ في «منه» عائدٌ على «ما» الأخيرةِ، وهذا البدلُ مرادٌ أيضاً في الجملةِ الأولى حُذِفَ للدلالةِ عليه، ولأنَّ المقصودَ به التأكيدُ لأنه تفصيلٌ/ للعمومِ المفهومِ من قولِه: {مِّمَّا تَرَكَ} فجاءَ هذا البدلُ مفصِّلاً لحالتَيْه من الكثرةِ والقلة. والثاني: أنه حالٌ من الضمير المحذوف من «ترك» أي: مِمَّا تركه قليلاً أو كثيراً أو مستقراً مِمَّا قل. و «نصيباً» فيه أوجهٌ أحدها: أن ينتصِبَ على أنه واقعٌ موقعَ المصدر، والعاملُ فيه معنى ما تقَّدم، إذ التقديرُ: عطاءً أو استحقاقاً، وهذا معنى قولِ مَنْ يقولُ منصوبٌ على المصدرِ المؤكد. قال الزمخشري: «كقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} [النساء: 11] كأنه قيل: قسمةً مفروضةً» . وقد سَبَقه الفراء إلى هذا

قال: «نُصِبَ لأنه أُخْرِج مُخْرَج المصدرِ، ولذلكَ وَحَّده كقولك:» له عليَّ كذا حقاً لازماً «ونحوه: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} ولو كان اسماً صحيحاً لم يُنْصَبْ، لا تقول:» لك عليَّ حق درهماً «. الثاني: أنه منصوبٌ على الحال، ويُحتمل أن يكونَ صاحبُ الحال الفاعلَ في» قَلَّ أو كَثُر «، ويُحتمل أن يكونَ» نصيب «وإن كان نكرة لتخصُّصِه: إمَّا بالوصفِ وإمَّا بالعمل، والعاملُ في الحال الاستقرارُ الذي في قوله:» للرجالِ «. وإلى نصبِه حالاً ذهب الزجاج ومكي، قالا:» المعنى لهؤلاءِ أَنْصِباء على ما ذكرناها في حالِ الفرض «. الثالث: أنه منصوبٌ على الاختصاص، بمعنى: أعني نصيباً، قاله الزمخشري. قال الشيخ: إنْ عنى الاختصاصَ المصطلحَ عليه فهو مردودٌ بكونِه نكرةً، وقد نَصُّوا على اشتراطِ تعريفِه» . الرابع: النصبُ بإضمار فعلٍ أي: أُوجبت أو جُعِلت لهم نصيباً. الخامس: أنه مصدرٌ صريحٌ أي: نَصَبْتُه نصيباً.

8

قوله تعالى: {فارزقوهم مِّنْهُ} : في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: [أن] يعودَ على المالِ لأنَّ القسمةَ تدل عليه بطريقِ الالتزام. الثاني: أنْ يعودَ على «ما» في قولِه: «مِمَّا ترك» . الثالث أَنْ يَعودَ على نفسِ القسمةِ وإن كان مذكراً مراعاةً للمعنى، إذ المرادُ بالقسمةِ الشيءُ المقسوم، وهذا على رأي مَنْ يرى ذلك، وأمَّا مَنْ يقولُ: القسمةُ من الاقتسام كالخِبْرة من الاختبار، أو بمعنى القَسَم فلا يتأتَّى ذلك.

9

قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الذين} : قرأ الجمهورُ بسكون اللام في الأفعال الثلاثةِ. وهي لامُ الأمر، والفعلُ بعدها مجزومٌ بها. وقرأَ الحسن وعيسى بن عمر بكسرِ اللامِ في الأفعالِ الثلاثةِ، وهو الأصلُ، والإِسكانُ تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل، فإنهم شَبِّهوا «وَلْيخش» ب «كَتِف» وهذا كما تقدَّم الكلامُ في نحو: «وهي» و «لَهْي» في أول البقرة. و «لو» هذه فيها احتمالان، أحدُهما: أنَّها على بابِها مِنْ كونِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره، أو حرفَ امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين. والثاني: أنها بمعنى «إنْ» الشرطية. وإلى الاحتمال الأولِ ذهب ابن عطية والزمخشري. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما معنى وقوعِ» لو تركوا «وجوابِه صلةً ل» الذين «؟ قلت: معناه: وَلْيخش الذين صفتُهم وحالُهم أَنهم لو شارَفوا أَنْ يَتْرُكُوا خلفَهم ذريةً ضِعافاً، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياعَ بعدهم لذهابِ كافلهم وكاسبهم، كما قال القائل: 1550 - لقد زادَ الحياةَ إليَّ حُبَّاً ... بناتِي أنَّهن من الضِعافِ أُحاذِرُ أن يَرَيْنَ البؤس بعدي ... وأن يَشْرَبْنَ رنْقاً بعد صافي

وقال ابن عطية:» تقديرُه: لو تَرَكُوا لخافُوا، ويجوزُ حذفُ اللامِ من جواب لو «، ووجهُ التمسُّكِ بهذه العبارةِ أنه جَعَلَ اللامَ مقدرةً في جوابِها، ولو كانت» لو «بمعنى» إنْ «الشرطية لَما جاز ذلك، وقد صَرَّح غَيرُهما بذلك، فقال:» لو تركوا «» لو «يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، و» خافوا «جوابُ» لو «. وإلى الاحتمال الثاني ذهب أبو البقاء وابن مالك، قال ابن مالك:» لو «هنا شرطيةٌ بمعنى» إنْ «، فتقلِبُ الماضي إلى معنى الاستقبال، والتقدير: وَلْيخش الذين إنْ تركوا، ولو وقع بعد» لو «هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بعد» إنْ «وأنشد: 1551 - لا يُلْفِكُ الرَّاجوك إلا مُظْهِراً ... خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيما أي: وإنْ تكن عديماً. ومثلُ هذا البيتِ الذي أنشده قولُ الآخر: 1552 - قومٌ إذا حارَبُوا شدَّوا مآزِرَهُمْ ... دونَ النساءِ ولو باتَتْ بأطْهارِ والذي ينبغي: أن تكونَ على بابِها من كونِها تعليقاً في الماضي. وإنما حَمَل ابنَ مالك وأبا البقاء على جَعْلِها بمعنى» إنْ «توهُّمُ أنه لَمَّا أمر بالخشية والأمرُ مستقبل ومتعلَّقُ الأمر موصولٌ لم يَصِحَّ أن تكون الصلةُ ماضيةً على تقدير دلالتِه على العَدَمِ الذي يُنَافي امتثالَ الأمر، وحَسَّنَ مكانَ»

لو «لفظُ» إنْ «، ولأجلِ هذا التوَهُّمِ لم يُدْخِل الزمخشري» لو «على فعل مستقبل، بل أتى بفعلٍ ماضٍ مسندٍ للموصولِ حالةَ الأمر فقال:» وَلْيخش الذين صفتُهم وحالُهم أنهم لو شارَفُوا أن يتركوا «. قال الشيخ: «وهذا الذي توهَّموه لا يلزم، إلا إنْ كانت الصلةُ ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل، إذ معنى» لو تركوا من خلفهم «أي: ماتوا فتركوا مِنْ خلفهم، فلو كان كذلك لَلزم التأويلُ في» لو «أَنْ تكونَ بمعنى» إنْ «إذ لا يجامِعُ الأمرُ بإيقاعِ فعلٍ مَنْ مات بالفعل، أمَّا إذا كان ماضياً على تقديرٍ فيصِحُّ أن يقع صلةً. وأن يكونَ العاملُ في الموصولِ الفعلَ المستقبل، نحو قولِك: ليزُرْنا الذي لو مات أمسِ لبكيناه» انتهى. وأمَّا البيتان المتقدِّمان فلا يلزمُ مِنْ صحةِ جَعْلِها فيهما بمعنى «إنْ» أن تكونَ في الآيةِ كذلك. لأنَّا في البيتين نضطرُ إلى ذلك: أمَّا البيتُ الأولُ فلأنَّ جوابَ «لو» محذوفٌ مدلولٌ عليه بقولِه: «لا يُلْفِك» وهو نَهْيٌ، والنهيُ مستقبلٌ فلذلك كانت «لو» تعليقاً في المستقبل. أما البيتُ الثاني فلدخولِ ما بعدَها في حَيِّزِ «إذا» ، و «إذا» للمستقبل. ومفعول «وَلْيَخْشَ» محذوفٌ أي: وَلْيخش الله. ويجوزُ أَنْ تكون المسألةُ من بابِ التنازع، فإنَّ «وَلْيخش» يطلبُ الجلالةَ، وكذلك «فليتقوا» ، ويكونُ من إعمالِ الثاني للحذفِ من الأول. قوله: {مِنْ خَلْفِهِمْ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلِّقٌ ب «تركوا» ظرفاً له. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «ذرية» ، لأنَّه في الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً.

وأمال حمزةُ ألفَ «ضِعافاً» ولم يُبالِ بحرفِ الاستعلاءِ لانكسارِه، ففيه انحدارٌ فلم ينافِرِ الإِمالةَ. وقرأ ابن محيصن: «ضُعُفاً» بضمِّ الضاد والعين، وتنوين الفاء. والسلمي وعائشة: «ضعفاء» بضمِّ الضاد وفتح العين والمد، وهو جمع مقيس في فعيل صفةً نحو: ظَريف وظُرَفاء وكريم وكُرَماء. وقرىء «ضَعافَى» بالفتحِ والإِمالة نحو: سَكارى. وظاهر عبارةِ الزمخشري أنه قُرِىءَ: «ضُعافى» بضم الضاد مثل سُكارى، فإنه قال: «وقُرىء ضُعَفَاء وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى» فيُحتملِ أَنْ يريد أنه قُرِىء بضم الضاد وفتحِها، ويُحتمل أن يريدَ أنه قُرىء: «ضَعافى» بفتح الضاد دونَ إمالة، و «ضَعافَى» بفتحِها مع الإِمالة كسَكارى بفتحِ السين دونَ إمالة، وسَكارى بفتحها مع الإِمالة، والظاهرُ الأولُ، والغالبُ على الظن أنها لم تُنْقل قراءة. وأمال حمزة ألفَ «خاف» للكسرةِ المقدرةِ في الألف، إذ الأصل «خَوِف» بكسر العين بدليلِ فتحِها في المضارع نحو: «يخاف» ، وعَلَّل أبو البقاء ذلك بأنَّ الكسر قد يَعْرِض في حال من الأحوال، وذلك إذا أُسْنِدَ الفعل إلى ضمير المتكلم/ أو إحدى أخواته نحو: خِفْت وخِفْنا، والجملةُ من «لو» وجوابِها صلةُ «الذين» .

10

قوله تعالى: {ظُلْماً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ

من أجله، وشروطُ النصبِ موجودةٌ. والثاني: أنه مصدرٌ في محل نصب على الحال أي: يأكلونه ظالِمين، والجملةُ مِنْ قولِه: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ} في محلِّ رفعٍ خبراً ل «إنَّ» ، وفي ذلك دلالةٌ على وقوعِ خبر «إنَّ» جملةً مصدرةً ب «إنَّ» وفي ذلك خلافٌ. قال الشيخ: «وحَسَّنة هنا وقوعُ اسمِ» إنَّ «موصولاً فطال الكلامُ بصلةِ الموصولِ، فلمَّا تباعَدَ لم يُبالَ بذلك، وهذا أحسنُ مِنْ قولِك:» إنَّ زيداً إنَّ أباه منطلقٌ «. ولقائلٍ أن يقول:» ليس فيها دلالةٌ على ذلك؛ لأنَّها مكفوفةٌ ب «ما» ، ومعناها الحصرُ فصارت مثلَ قولِك في المعنى: «إنَّ زيداً ما انطلق إلا أبوه» وهو مَحَلُّ نظر. قوله: {فِي بُطُونِهِمْ} فيه وجهان أحدُهما: أنه متعلِّقٌ ب «يأكلون» أي: بطونُهم أوعيةٌ للنار: إمَّا حقيقةً بأن يَخلق اللهُ لهم ناراً يأكلونها في بطونِهم، أو مجازاً بأَنْ أطلق المُسَبَّبَ وأراد السببَ. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ مِنْ «ناراً» ، وكان في الأصلِ صفةً للنكرة فلمَّا قُدِّمَتْ انتصبَتْ حالاً. وذَكَر أبو البقاء هذا الوجهَ عن أبي علي في «تذكرته» ، وحَكَى عنه أنه منع أن يكونَ ظرفاً ل «يأكلون» ، فإنَّه قال: {فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} قد تقدَّم في البقرة منه شيءٌ، ويخصُّ هذا الموضع أن «في بطونهم» حالٌ من «ناراً» أي: ناراً كائنةً في بطونِهم، وليس بظرفٍ ل «يأكلون» ، ذكره في «التذكرة» . وفي قوله: «والذي يَخُصُّ هذال الموضع» فيه نظر، فإنه كما يجوز أن يكونَ «في بطونهم» حالاً من «نار» هنا يجوز أن يكونَ حالاً من «النار» في البقرة، وفي إبداء الفرقِ عُسْرٌ، ولم يظهر في منعِ أبي علي كونَ «في بطونهم» ظرفاً للأكل وجهٌ ظاهر.

قوله: {وَسَيَصْلَوْنَ} قرأ الجمهور بفتحِ الياء واللام، وابن عامر وأبو بكر بضمِّ الياء مبنياً للمفعول من الثلاثي. ويَحْتمل أن يكونَ من أصلى، فلمَّا بُني للمفعولِ قام الأولُ مقامَ الفاعلِ. وابن أبي عبلة بضمِّهما مبنياً للفاعلِ من الرباعي، والأصلُ على هذه القراءة: سيُصْلِيُون من أصلى مثل يُكْرِمون من أكرم، فاستثقِلَت الضمةُ على الياءِ فَحُذِفت فالتقى ساكنان، فحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبل الواو لتصِحَّ. و «أَصْلَى» : يُحتمل أَن ْ تكونَ الهمزةُ فيه للدخول في الشيء، فيتعدَّى لواحد وهو «سعيراً» وأن تكونَ للتعديةِ، فالمفعولُ محذوفٌ، أي: يُصْلُون أنفسَهم سعيراً. وأبو حيوة بضمِّ الياءِ وفتحِ الصاد، واللام مشددة، مبنياً للمفعول من «صَلَّى» مضعفاً. قال أبو البقاء: «والتضعيفُ للتكثيرِ» . والصِّلْيُ: الإِيقادُ بالنارِ، يقال: صَلِي بكذا بكسر العين، وقوله: {لاَ يَصْلاَهَآ} [الليل: 15] أي يَصْلَى بها. وقال الخليل: «صَلِي الكافرُ النارَ» قاسَى حَرَّها. وصلاه النارَ وأَصْلاه غيرُه، هكذا قال الراغب، وظاهرُ هذه العبارةِ أنَّ فَعِل وأَفْعَل بمعنىً، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ الجر، وقد يُحْذَف. وقال غيرُه: «صَلِيَ بالنارِ أي: تَسَخَّن بقربها» ، ف «سعيراً» على هذا منصوبٌ على إسقاط الخافض. ويَدُلُّ على أنَّ أصلَ «يَصْلاها» يَصْلَى بها قولُ الشاعر:

1553 - إذا أَوْقَدُوا ناراً لحربِ عَدُوِّهم ... فقد خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها وقيل: يُقال صَلَيْتُه النارَ: أَدْنَيْتُه منها، فيجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً مِنْ غيرِ إسقاطِ خافضٍ. والسعيرُ في الأصلِ: الجَمْرُ المشتعل، سَعَرْتُ النارَ: أَوْقَدْتُها، ومنه: «مُسْعِرُ حربٍ» على التشبيهِ. والمِسْعَرُ: الآلة التي تُحَرَّك بها النار.

11

قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر، يُحْتمل أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ ب «يُوصي» لأِنَّ المعنى: يَفْرض لكم، أو يُشَرِّع في أولادكِم، كذا قاله أبو البقاء، وهذا يَقْرُبُ من مذهبِ الفراء فإنه يُجْري ما كان بمعنى القولِ مُجْراه في حكايةِ الجملِ بعده. قال الفراء: «ولم يَعْمل» يُوصيكم «في» مِثْل «، إجراءً له مُجْرى القول في حكايةِ الجمل، فالجملةُ في موضع نصبٍ ب» يُوصيكم «. وقال مكي:» للذَّكَرِ مثلُ حظ «ابتداءٌ وخبر في موضع نصب، تبيينٌ للوصية وتفسيرٌ لها. وقال الكسائي:» ارتفع «مثل» على حذْفِ «إنَّ» تقديره: «أنَّ للذكرِ مثلَ حظ» . وبه قرأ ابن أبي عبلة. ويُحْتمل ألأَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، بل جِيءَ بها للبيانِ والتفسيرِ، فهي جملةٌ مفسِّرة للوصية، وهذا أحسنُ وجارٍ على مذهب البصريين، وهو ظاهرُ عبارةِ الزمخشري فإنَّه قال: «وهذا إجمالٌ تفصيلُه {لِلذَّكَرِ مِثْلُ

حَظِّ الأنثيين} . وقوله:» للذَّكر «لا بدَّ من ضمير [فيه] يعود على» أولادكم «من هذه الجملة، فيُحتمل أن يكون محذوفاً، أي: للذكر منهم نحو:» السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم «قاله الزمخشري. ويُحْتمل أن يكونَ قامَ مقامَه الألفُ واللامُ عند مَنْ يَرَى ذلك، والأصلُ: لِذَكَرِهم. و» مثلُ «صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: للذَّكرِ منهم حَظُّ مثلُ حَظِّ الأنثيين. و {في أَوْلاَدِكُمْ} قيل: ثَمَّ مضافٌ محذوف أي: في أولادِ موتاكم. قالوا: لأنه لا يَجُوزُ أَنْ يُخاطَبَ الحيُّ بقسمةِ الميراثِ في أولادِه ويُفْرََضَ عليه ذلك. وقال بعضُهم:» إنْ قلنا: إنَّ معنى «يُوصيكم» «يبيِّن لكم» لم يحتج إلى هذا التقدير «. وقَدَّر بعضُهم قبل» أولادكم «مضافاً أي: في شأنِ أولادِكم، أو في أمرِ أولادكم. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة:» يُوَصِّيكم «بالتشديد، وقد تقدَّم أنَّ أوصي ووصَّى لغتان. قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} الضميرُ في» كُنَّ «يعودُ على الإِناث اللاتي شَمَلَهُنَّ قولُه {في أَوْلاَدِكُمْ} . فإنَّ التقدير: في أولادكم الذكورِ والإِناثِ، فعادَ الضميرُ على أحدِ قِسْمَي الأولادِ، وإذا عاد الضمير على جمعِ التكسيرِ العاقلِ المرادِ به مَحْضُ الذكور في قوله عليه السلام:» وربَّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْن «كعَوْدِه على جماعةِ الإِناث، فَلأنْ يعودَ كذلك على جمع التكسيرِ الشاملِ للإِناثِ بطريقِ الأَوْلَى والأحرى، وهذا معنى قولِ الشيخ. وفيه نظرٌ لأنَّ عودَه هناك كضميرِ الإِناث إنما كان لمعنىً مفقودٍ هنا، وهو طلبُ المشاكلة

لأنَّ قبلَه» اللهم ربََّ السماوات ومَنْ أَظْلَلْنَ، وربَّ الأرضين وما أَقْلَلْنَ «ذَكَر ذلك النحويون. وقيل: الضمير يَعُود على المتروكات أي: فإنْ كانت المتروكات، ودَلَّ ذِكْرُ الأولاد عليه، قاله أبو البقاء ومكي. وقَدَّرَه الزمخشري: «فإنْ كان البنات أو المولودات» . فإذا تقرَّر هذا ف «كُنَّ» كان واسمُها، و «نساءً» خبرُها، و «فوق اثنتين» ظرف في محل نصب صفةً ل «نساء» وبهذه الصفةِ تحصُل فائدةُ الخبرِ، ولو اقتُصِر عليه لم تَحْصُلْ فائدةُ، ألا ترى أنه لو قيل: «إن كان الزيدون رجالاً كان كذا» لم يَكُنْ فيه فائدةٌ. وأجاز الزمخشري في هذه الآية وَجْهين غريبين، أحدهما: أن يكونَ الضميرُ في «كنَّ» ضميراً مبهماً، و «نساءً» منصوبٌ على أنه تفسيرٌ له يعني تمييزاً، وكذلك قال في الضمير الذي في «كانت» من قوله «وإنْ كانت واحدة» على أنَّ «كان» تامة. والوجهُ الآخر: أن يكونَ «فوق اثنتين» خبراً ثانياً ل «كُنَّ» ، ورَدَّهما عليه الشيخ: أمَّا الأولُ فلأنَّ «كان» ليسَتْ من الأفعالِ التي يكونُ فاعلُها مضمراً يُفَسِّره ما بعدَه، بل هذا مختصٌّ من الأفعالِ ب «نعم» و «بئس» وما جَرى مَجْراهما، وبابِ التنازع عند إعمالِ الثاني. وأما الثاني فلِما تقدَّم من الاحتياجِ إلى هذه الصفةِ؛ لأنَّ الخبرَ لا بُدَّ أَنْ تستقلَّ به فائدةُ الإِسنادِ، وقد تقدَّم أنه لو اقتَصَر على قولِه: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} لم يُفِدْ شيئاً، لأنه معلوم.

وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة: «ثُلْثا» و «الثلْث» و «النصْف» و «الرُّبْع» و «الثُّمْن» كلُّ ذلك بإسكان الوسط. والجمهور بالضم، وهي لغةُ الحجاز وبني أسد. قال النحاس: «من الثلث إلى العشر» . وقال الزجاج: «هي لغةٌ واحدة، والسكونُ تخفيف» . قوله: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً} قرأ نافع: «واحدةٌ» رفعاً على أنَّ «كان» تامة أي: وإنْ وُجِدَتْ واحدةٌ، والباقون «واحدة» نصباً على أنَّ «كانت» ناقصةً، واسمُها مستترٌ فيها يعودُ على الوارثة أو المتروكة، و «واحدةً» نصبٌ على خبرِ «كان» ، وقد تقدَّم أن الزمخشري أجاز أن يكونَ في «كان» ضميرٌ مبهمٌ مفسَّر بالمنصوب بعدُ. وقرأ السلمي: «النُّصف» بضم النون، وهي قراءةُ على وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة في قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [الآية: 237] . قوله: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس} «السدس» مبتدأ و «لأبويه» خبر مقدم، و «لكلِّ واحدٍ» بدلٌ من «لأبويه» وهذا ما نَصَّ عليه الزمخشري فإنه قال: «لكلَّ واحد منهما» بدل من «لأبويه» بتكريرِ العاملِ، وفائدةُ هذا البدلِ أنه لو قيل: «ولأبويه السدسُ» لكان ظاهرُه اشتراكهما فيه، ولو قيل: «

لأبويه السدسان» لأَوْهَمَ قسمةَ السدسين عليهما بالتسويةِ وعلى خلافِهما. فإنْ قلت: فهلا قيل: «ولكلِّ واحدٍ من أبويه السدس» وأيُّ فائدةٍ في ذِكْرِ الأبوين أولاً ثم في الإِبدالِ منهما؟ قلت: لأنَّ في الإِبدال والتفصيل بعد الإِجمال تأكيداً وتشديداً كالذي تراه في الجمعِ بين المفسَّر والتفسيرِ. و «السدس» مبتدأ، وخبره «لأبويه» ، والبدلُ متوسط بينهما للبيانِ «. انتهى. وناقَشَه الشيخ في جَعْلِه» لأبويه «الخبرَ دونَ قوله» بكلِّ واحد «قال:» لأنه ينبغي أن يكونَ البدلُ هو الخبرَ دونَ المبدلِ منه «يعني أنَّ البدلَ هو المعتمدُ عليه، والمبدلُ منه صارَ في حكمِ المُطَّرح، ونَظَّره بقولك:» إنًَّ زيداً عينُه حسنة «فكما أنَّ» حسنة «خبر عن» عينه «دون» زيد «لأنّه في حكم المُطَّرح فكذلك هذا، ونَظَّره أيضاً بقولك:» أبواك كلُّ واحد منهما يَصنع كذا «ف» يَصنع «خبرٌ عن» كل واحد «منهما، ولو قلت:» أبواك كلُّ واحدٍ منهما يَصْنعان كذا «لم يَجُزْ» . وفي هذه المناقشةِ نظرٌ لأنه إذا قيل لك: ما مَحَلُّ «لأبويه» من الإِعرابِ؟ نضطر إلى أَنْ نقولَ: في محلِّ رفعٍ خبراً مقدماً، ولكنه نَقَل نسبةَ الخبرية إلى «لكلِّ واحدٍ منهما» دونَ «لأبويه» . قال: «وقال بعضُهم» : «السدسُ» رفعٌ بالابتداء، و «لكلِّ واحدٍ» الخبرُ، و «لكلِّ» بدلٌ من الأبوين، و «منهما» نعتٌ لواحد، وهذا البدلُ هو بعضُ من كل، ولذلك أتَى معه بالضمير، ولا يُتَوَهَّمُ أنه بدلُ شيء من شيء وهما لعينٍ واحدة لجوازِ «أبواك

يَصْنعان كذا» وامتناع «أبواكَ» كلُّ واحدٍ منهما يصنعان كذا «بل تقول:» يَصْنع «. انتهى. والضميرُ في» لأبويه «عائدٌ على ما عادَ عليه الضمير في» ترك «، وهو الميتُ المدلولُ عليه بقوةِ الكلام. والتثنية في» أبويه «من التغليب، والأصلُ: لأبيه وأمه، وإنما غَلَّب المذكرَ على المؤنث كقولهم: القَمَران والعُمَران وهي تثنيةٌ لا تنقاس. قوله:» فلأِمه «قرأ الجمهور» فلإِمه «وقولُه: {في أُمِّ الكتاب} [الآية: 4] في سورةِ الزخرف، وقولُه: {حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا} [الآية: 59] في القصص، وقوله: {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} في [النحل: 78] و [الزمر: 6] ، وقوله: {أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [الآية: 61] في النور، و {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [الآية: 32] في النجم، بضم الهمزة من «أُمّ» وهو الأصلُ وقرأ حمزة والكسائي جميعَ ذلك بكسر الهمزة، وانفرد حمزة بزيادةِ كسرِ الميم من «أمَّهات» في الأماكنِ المذكورةِ، هذا كله في الدَّرْج. أمَّا في الابتداءِ بهمزةِ «الأم» و «الأمهات» فإنه لا خِلافَ في ضَمِّها. وأمَّا وجهُ قراءةِ الجمهور فظاهرٌ لأنه الأصلُ كما تقدَّم. وأمَّا قراءةُ حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا: لمناسبةِ الكسرةِ أو الياء التي قبل الهمزة، فكُسِرت الهمزةُ إتباعاً لِما قبلَها، ولاستثقالهم الخروجَ من كَسْرٍ أو شبهه إلى

ضم، ولذلك إذا ابتدآ بالهمزةِ ضمَّاها لزوالِ الكسر أو الياء. وأمَّا كسرُ حمزةَ الميمَ من «أمهات» في المواضع المذكورة فللإِتباعِ، أتبعَ حركةَ الميمِ لحركةِ الهمزةِ، فكسرةُ الميمِ تَبَع التبعِ، ولذلك إذا ابتدأ بها ضم الهمزة وفتح الميمَ لما تقدم من زوالِ موجب ذلك. وكسرُ همزة «أم» بعد الكسرة أو الياء حكاه سيبويه لغةً عن العرب، ونَسَبها الكسائي والفراء إلى هوازن وهذيل. قوله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} «إخوة» أعَمُّ من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً أو بعضهم ذكوراً وبعضهم إناثاً، ويكون هذا من باب التغليب. وزعم قوم أنَّ الإِخوةَ خاص بالذكور، وأن الأخوات لا يَحْجُبْنَ الأم من الثلث إلى السدس، قالوا: لأن إخوة جمع أخ، والجمهورُ على أنَّ الإِخوة وإنْ كانوا بلفظِ الجمع يَقَعُون على الاثنين، فيَحْجَبُ الأخوان أيضاً الأمَّ من الثلث إلى السدس، خلافاً لابن عباس فإن لا يَحْجُب بهما والظاهر معه. قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنه متعلق بما تقدَّمه من قسمةِ المواريث كلِّها لا بما يليه وحدَه، كأنه قيل: قسمةٌ هذه الأنْصباء من بعد وصيةٍ، قالَهَ الزمخشري، يعني أنه متعلِّقٌ بقوله {يُوصِيكُمُ الله} وما بعدَه. والثاني: ذكره الشيخ أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي: يَسْتَحِقُّون ذلك كما فُصِّل من بعد وصية. والثالث: أنه حال من السدس تقديره/ مستحِقاً من بعد وصية، والعاملُ الظرفُ، قاله أبو البقاء. وجَوَّزَ فيه وجهاً آخر قال: [ «ويجوز أن يكون ظرفاً] أي: يتسقر لهم ذلك بعد إخراجِ الوصيةِ، ولا بد من

تقديرِ حذف المضاف؛ لأنَّ الوصيةَ هنا المالُ الموصَى به، وقد تكونُ الوصيةُ مصدراً مثلَ الفريضة» . وهذان الوجهان لا يَظْهَرُ لهما وجهٌ. وقوله: «والعامل الظرف يعني بالظرف الجارَّ والمجرور في قوله {فَلأُمِّهِ السدس} فإنه شبيه بالظرفيةِ، وعَمِل في الحال لِما تضمَّنه من الفعلِ لوقوعِه خبراً. و» يوصي «فعل مضارع المرادُ به المضمر أي: وصيةٍ أوصَى بها. و» بها «متعلقٌ به، والجملةُ في محلِّ جرٍ صفةً ل» وصية «. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر» يُوصَى «مبنياً للمفعول في الموضعين، وافقهم حفص في الأخير، والباقون مبنياً للفاعل، وقُرىء شاذاً:» يُوَصَّى «بالتشديد مبنياً للمفعول، ف» بها «في قراءةِ البناءِ للفاعل في محلِّ نصب، وفي قراءة البناء للمفعول في محلِّ رفعٍ لقيامه مقامَ الفاعل. قوله: {أَوْ دَيْنٍ} «أو» هنا لأحدِ الشيئين. قال أبو البقاء «ولا تَدُلُّ على ترتيبٍ، إذ لا فرقَ بين قولك:» جاءني زيد أو عمرو «وبين قولك:» جاءني عمرو أو زيد «لأن» أو «لأحد الشيئين، والواحدُ لا ترتيب فيه، وبهذا يفسد قول من قال:» من بعد دَيْن أو وصية «، إنما يقع الترتيبُ فيما إذا اجتمعا فَيُقَدَّم الدينُ على الوصية» . وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: فما معنى» أو «؟ قلت: معناها الإِباحةُ، وأنه إنْ كان أحدُهما أو كلاهما قُدَّم على قِسمة الميراثِ كقولك:» جالسِ [الحسنَ] أو ابنَ سيرين «، فإنْ قلت: لِمَ قُدِّمَتِ الوصية على الدَّيْن، والدَّيْن

مُقَدَّم عليها في الشريعة؟ قلت: لَمَّا كانت الوصية مُشْبِهةً للميراث في كونِها مأخوذةً من غيرِ عوض كان إخراجُها مِمَّا يَشُّقُّ على الورثةِ بخلافِ الدَّيْن فإنَّ نفوسَهم مطمئنةٌ إلى أدائه، فلذلك قُدِّمت على الدَّيْن بعثاً على وجوبِها والمسارعةِ إلى إخراجها مع الدَّيْن؛ لذلك جِيء بكلمةٍ» أو «للتسويةِ بينهما في الوجوب» . قوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} مبتدأٌ، و «لا تَدْرُون» وما في حيِّزه في محلِّ الرفع خبراً له، و «أيُّهم» فيه وجهان، أشهرُهما عند المُعْرِبين أن يكونَ «أيُّهم» مبتدأ وهم أسمُ استفهامٍ، و «أقربُ» خبرُه، والجملة من هذا المبتدأ وخبرِه في محلِّ نصب ب «تَدْرون» لأنها من أفعالِ القلوبِ، فعلَّقها اسمُ الاستفهامِ عن أَنْ تعملَ في لفظِه؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَعْمل فيه ما قبلَه في غيرِ الاستثبات. والثاني: أنه يجوزُ أن تكونَ «أيُّهم» موصولةً بمعنى الذي، و «أقربُ» : خبرٌ مبتدأٍ مضمر هو عائدٌ الموصولِ، وجازَ حذفُه لأنه يجوز ذلك مع «أي» مطلقاً أي: أطالت الصلةُ أم لم تَطُلْ، والتقديرُ: أيُّهم هو أقربُ، وهذا الموصولُ وصلتُه في محلِّ نصب على أنه مفعول به، نصبَه «تَدْرون» ، وإنما بُني لوجودِ شرطَي البناءِ: وهما أَنْ تُضاف «أي» لفظاً وأَنْ يُحْذَفَ صدرُ صلتِها، وصارت هذه الآيةُ نظيرَ الآيةِ الأخرى وهي {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] فصارَ التقديرُ: لا تدرون الذي هو أقربُ. قال الشيخ: «ولم أرَهم ذكروه» يعني هذا الوجه. قلت: ولا مانعَ منه لا من جهةِ المعنى ولا من جهةِ الصناعةِ. فعلى القولِ الأولِ تكونُ الجملةُ سادَّةً مسدَّ المفعولين، ولا حاجةَ إلى تقدير حذف، وعلى الثاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مفعولاً أولَ،

ويكون الثاني محذوفاً، وبعدمِ الاحتياجِ إلى حَذْفِ المفعول الثاني يترجَّح الوجُه الأول. ثم هذه الجملةُ أعني قولَه: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ} لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها جملة اعتراضية. قال الزمخشري: بعد أن حكى في معانيها أقوالاً اختار منها الأولَ «لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضية، ومن حقِّ الاعتراضِ أَنْ يؤكِّد ما اعتَرَض بينه وبين ما يناسِبُه» يعني بالاعتراض أنها واقعةٌ من قصة المواريث، إلا أنَّ هذا الاعتراضَ غيرُ مرادِ النحويين، لأنهم لا يَعْنُون بالاعتراضِ في اصطلاحهم إلاَّ ما كان بين شيئين متلازمين كالاعتراضِ بين المبتدأ وخبره، والشرطِ وجزائه، والقسمِ وجوابه، والصلةِ وموصولها. ثم ذكر في معانيها أقوالاً أحدها: وهو الذي اختاره أَنْ جَعَلَها متعلقةً بالوصية فقال: «ثم أكَّد ذلك يعني الاهتمام بالوصية ورَغَّب فيه بقوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} أي: لا تَدْرُون مَنْ أنفعُ لكم من آبائكم وأبنائِكم الذين يَمُوتون، أَمَنْ أَوصى منهم أم من لم يوصِ، يعني أنَّ مَنْ أوصى ببعضِ مالِه فعرَّضكم لثوابِ الآخرةِ بإمضاء وصيته فهو أقربُ لكم نفعاً وأحضَرُ جدوى ممَّن ترك الوصيَّة فوفَّر عليكم عَرَض الدنيا، وجعل ثواب الآخرة أقربَ وأَحْضَرَ مِنْ عرض الدنيا، ذهاباً إلى حقيقة الأمر، لأن عَرَضَ الدنيا وإنْ كان قريباً عاجلاً في الصورة إلا أنه فانٍ، فهو في الحقيقةِ الأبعدُ الأقصى، وثوابُ الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باق، فهو في الحقيقةِ الأقربُ الأدنى» . وانتصبَ «نفعاً» على التمييز من «أقرب» ، وهو منقول من الفاعلية، واجبُ النصب، لأنه متى وقع تمييزُ بعد أَفْعلِ التفضيل: فإنْ صَحَّ أَنْ يصاغَ منها فعلٌ مسندٌ إلى ذلك التمييز على جهة الفاعلية وجب النصب كهذه الآية، إذ يصح أن يقال: أيُّهم قَرُبَ الكم نَفْعُه، وإن لم يصِحَّ ذلك وجَبَ جَرُّه نحو: «زيد أحسنُ

فقيه» بخلاف «زيد أحسنُ فقهاً» وهذه قاعدةٌ مفيدة. و «لكم» متعلق ب «أقرب» . قوله: {فَرِيضَةً} فيها ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمون الجملة السابقة من الوصية، لأنَّ معنى «يوصيكم» فرض الله عليكم، فصار المعنى: «يوصيكم الله وصيةَ فرض» فهو مصدر على غير الصدر. والثاني: أنها مصدر منصوب بفعل محذوف من لفظها. قال أبو البقاء: و «فريضةً» / مصدر لفعل محذوف أي: فرض الله ذلك فريضة «والثالث: قاله مكي وغيره أنها حالٌ لأنها ليست مصدراً، وكلامُ الزمخشري محتمل للوجهين الأَوَّلَيْن فإنه قال:» فريضة «نُصِبت نَصْبِ المصدر المؤكد، أي: فرض ذلك فرضاً» .

12

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً} : هذه الآية مما ينبغي أن يُطَوَّل فيها القول لإِشكالها واضطراب أقوال الناس فيها. ولا بد قبل التعرض للإِعراب من ذكر معنى الكَلالة واشتقاقِها واختلاف الناس فيها، ثم نعود بعد ذلك لإِعرابها، لأنه متوقفٌ على ما ذكرنا فنقول وبالله العون: اختُلِفَ في معنى الكَلالة فقال جمهور اللغويين وغيرهم: إنه الميت الذي لا وَلَدَ له ولا والد، وقيل: الذي لا والدَ له فقط. وقيل: الذي لا ولد له فقط، وقيل: هو مَنْ لا يَرثُه أب ولا أم، وعلى هذه الأقوالِ كلِّها فالكَلالةٌ واقعةٌ على الميت. وقيل: الكلالة: الوَرَثَةُ ما عدا الأبوين والولد، قاله قطرب، وسُمُّوا بذلك لأنَّ الميت بذهاب طَرَفَيْه تُكَلله الورثة أي: أحاطوا به من جميع نواحيه،

ويؤيد هذا القولَ بأنّ الآيةَ نزلت في جابر، ولم يكن له يومَ أُنْزِلَتْ أبٌ ولا ابن. وقل: الكلالة: المال الموروث. وقيل: الكلالة: القرابة، وقيل: هي الوراثة. فقد تلخص مِمَّا تقدم أنها: إمَّا الميتُ الموروثُ أو الوارثُ أو المال الموروث أو الإِرث أو القرابة. وأمَّا اشتقاقُها فقيل: هي مشتقة مِنْ تَكَلَّله الشيء أي: أحاط به، وذلك أنَّه إذا لم يَتْرك ولداً ولا والداً فقد انقطع طرفاه وهما عمودا نسبه وبقي مالُه الموروثُ لِمَنْ يتكلَّله نسبه أي: يحيط به كالإِكليل، ومنه «الروضة المُكَلَّلة» أي: بالزهر، وعليه قول الفرزدق: 1554 - وَرِثْتُمْ قناةَ المجدِ لا عن كَلالةِ ... عن ابنَيْ منافٍ عبدِ شمس وهاشمِ وقيل: اشتقاقها من الكَلال وهو الإِعياءُ، فكأنه يصير الميراث للوارث من بعد إعياء. وقال الزمخشري: «والكلالة في الأصل: مصدرٌ بمعنى الكَلال وهو ذهابُ القوة من الإِعياء. قال الأعشى: 1555 - فآليْتُ لا أَرْثي لها مِنْ كَلالةٍ ... ولا مِنْ وَحَىً حتى تُلاقِي مُحَمَّدا فاستُعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لأنها بالإِضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة» . وأجاز فيها أيضاً أن تكونَ صفةً على وزن فَعالة قال: «كالهَجاجَة والفَقاقَة للأحمق» .

إذا تقرر هذا فَلْنَعُدْ إلى الإِعراب فنقول والعون بالله: يجوز في «كان» وجهان أحدهما: أن تكون ناقصة، و «رجلٌ» اسمها، وفي الخبر احتمالان، أحدهما: أنه «كلالة» إن قيل: إنها الميت، وإن قيل إنها الوارث أو غيرَ ذلك فتُقَدِّر حذفَ مضاف أي: ذا كلالة، و «يُورثُ» حينئذٍ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «رجل» وهو فعلٌ مبني للمفعول، ويتعدَّى في الأصل لاثنين أُقيم الأول مقامَ الفاعل وهو ضمير الرجل، والثاني محذوف تقديره: يُورَثُ هو مالَه. وهل هذا الفعلُ من وَرِث الثلاثي أو أورث الرباعي؟ فيه خلافٌ، إلا أنَّ الزمخشري لَمَّا جعله من الثلاثي جعَله يتعدَّى إلى الأول من المفعولين ب «مِنْ» فإنه قال: «ويُوْرَثُ مِنْ ورث، أي: يورث منه» يعني أنه في الأصل يتعدَى ب «مِنْ» ، وقد تُحْذَفُ، تقول: «وَرِثْتُ زيداً مالَه» أي: مِنْ زيد، ولَمَّا جَعَلَه مَنْ «أورث» جَعَل الرجل وارثاً لا موروثاً فإنه قال: «فإنْ قلت: فإنْ جَعَلْت» يورَث «على البناء للمفعول من» أورث «فما وجهُه؟ قلت: الرجلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ» وقال الشيخ: «إنه من» أورث «الرباعي المبني للمفعول» ولم يقِّيْده بالمعنى الذي قيَّده الزمخشري. الاحتمال الثاني: أن يكونَ الخبرُ الجملةَ من «يُورَث» ، وفي نصب «كلالة» حينئذ أربعةُ أوجه، أحدها: أنها حال من الضمير في «يُورَث» إنْ أريد بها الميتُ أو الوارثُ، إلا أنه يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضاف أي: يُورَث ذا كلالة؛ لأن الكلالة حينئذ ليست نفسَ الضمير المستكنِّ في «يُورث» . قال أبو البقاء على جَعْلِها بمعنى الميت: «ولو قُرِىء» كلالةٌ «بالرفع على أنها صفة أو بدل من الضمير في» يُورث «لجاز، غير أني لم أعرف

أحداً قرأ به فلا يُقْرَأْنَ إلا بما نُقل» يعني بكونِها صفة أنها صفةٌ ل «رجل» . الثاني: أنها مفعولٌ من أجله إنْ قيل: إنها بمعنى القرابة أي: يورَثُ لأجل الكلالة. الثالث: أنه مفعول ثان ل «يورث» إنْ قيل إنها بمعنى المال الموروث. الرابعُ: أنها نعتٌ لمصدر محذوف إن قيل: إنها بمعنى الوراثة أي يورث وراثَة كلالة، وقدَّر مكي في هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ قال: «تقديرُه ذات كلالة» . وأجازَ بعضُهم على كونها بمعنى الوراثة أن تكونَ حالاً. والوجه الثاني من وجهي كان: أن تكونَ تامةً فيُكْتَفَى بالمرفوع أي: وإنْ وجد رجل، و «يُورَثُ» في محلِّ رفع صفةً ل «رجل» و «كلالة» منصوبةٌ على ما تقدَّم من الحال أو المفعولِ من أجله أو المفعول به أو النعت لمصدرٍ محذوفٍ على حَسَب ما قُرِّر من معانيها. وَيَخُصُّ هذا وجهٌ آخرُ ذكره مكي: وهو أن تكون «كلالة» منصوبة على التفسير، قال مكي: «كان أي: وقع، و» يورث «نعتٌ للرجل، و» رجل «رفع ب» كان «، و» كلالة نَصْبٌ على التفسير، وقيل: هو نصبٌ على الحال، على أن الكلالة هو الميت على هذين الوجهين «وفي جَعْلِها تفسيراً أي تمييزاً نظرٌ لا يَخْفى. وقرأ الجمهور:» يُورَثُ «مبنياً للمفعول وقد تقدَّم توجيهُه. وقرأ الحسن: «يُورِثُ» مبنياً للفاعل، ونُقِل عنه أيضاً وعن أبي رجاء كذلك، إلاَّ أنَّهما شَدَّدا الراء، وتوجيهُ القراءتين واضحٌ مِمَّا تقدَّم: وذلك أنه إنْ أُريد بالكلالةِ الميتُ فيكون المفعولان محذوفين، و «كلالةً» نصب على الحال أي: وإنْ كان رجلٌ يورِث وارثَه أو أهلَه مالَه في حال كونِه كلالةً، وإنْ أريد بها

القرابة فتكونُ منصوبة على المفعول من أجله، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما تقدَّم تقريره، وإنْ أريدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً، والأول محذوف أي: يورِث أهله ماله، وأنْ أريد بها الوارثُ فبالعكسِ أي يورِث مالَه أهلَه. وقوله: {أَو امرأة} عطفٌ على «رجلٌ» ، وحُذف منها ما أُثبت في المعطوف عليه للدلالة على ذلك، التقديرُ: أو امرأةٌ تورَثُ كلالةً، وإنْ كان لا يلزمُ من تقييدِ المعطوفِ عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس، إلا أنه هو الظاهر. وقوله: {وَلَهُ أَخٌ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبر في محلِّ نصب على الحال، والواوُ الداخلةُ عليها واوُ الحال، وصاحبُ الحالِ: إمَّا «رجل» إنْ كان «يورَثُ» صفةً له، وإمَّا الضميرُ المستتر في «يورَث» . ووحَّدَ الضمير في قوله: «وله» ؛ لأنَّ العطفَ ب «أو» وما وَرَدَ على خلاف ذلك أُوِّلَ عند الجمهور، كقوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] وإنما أَتَى به مذكراً لأنه يجوزُ إذا تقدَّم متعاطفان ب «أو» مذكرٌ ومؤنثٌ كنت بالخيار: بين أن تراعيَ المتقدِّمَ أو المتأخرَ فتقول: «زيدٌ أو هند قام» ، وإن شئت: «قامت» /، وأجاب أبو البقاء عن تذكيره بثلاثة أوجه، أحدها: أنه يعودُ على الرجل وهو مذكر مبدوءٌ به. الثاني: أنه يعود على أحدهما، ولفظ «أحد» مفرد مذكر. والثالث: أنه يعود على الميت أو الموروثِ لتقدُّم ما يدل عليه «. والضميرُ في قوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} فيه وجهان، أحدهما: أنه يعودُ على الأخِ والأخت. والثاني: أنه يعودُ على الرجل وعلى أخيه أو أختِه، إذا أريد بالرجل في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} أنه وارثٌ لا موروث، كما تقدَّمت

حكايتُه عن الزمخشري. قال الزمخشري بعد ما حكيناه عنه: فإنْ قلت: فالضميرُ في قوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} إلى مَنْ يرجِعُ حينئذ؟ قلت: على الرجل وعلى أخيه أو أخته، وعلى الأول: إليهما، فإنْ قلت: إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر للأنثى، فهل تبقى هذه الفائدة قائمةً في هذا الوجه؟ قلت: نعم لأَنَّك إذا قلت: السدس له، أو لواحدٍ من الأخ أو الأخت على التخييرِ فقد سَوَّيْتَ بين الذكر والأنثى» انتهى. وقرأ أُبي: «أخ أو أخت من الأم» . وقرأ سعد بن أبي وقاص: «من أم» بغيرِ أداة تعريف. وأجمع الناس على أن المراد بالأخ والأخت من الأم كقراءتهما، ولأنَّ ما في آخر السورة يدل على ذلك وهو كون: للأختِ النصفُ، وللأختين الثلثان، وللأخوة الذكور والإِناث للذَّكَر مثلُ حظ الانثيين. قوله: {فَإِن كانوا} الواوُ ضميرُ الإِخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله: {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} ، والمرادُ الذكورُ والإِناث، وأتى بضمير الذكور في قوله: «كانوا» وقوله «فهم» تغليباً للمذكر على المؤنث، و «ذلك» إشارةٌ إلى الواحد، أي: أكثر من الواحد، يعني: فإن كان مَنْ يرث زائداً على الواحد؛ لأنه لا يَصِحُّ أن يقال: «هذا أكثرُ من واحد» إلا بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد، وإلاَّ فالواحدُ لا كثرة فيه. وقوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى} قد تقدم إعراب ذلك وهذا مثلُه. قوله: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} «غيرَ» نصبٌ على الحال من الفاعل في «يوصَى»

وهو ضمير يعود على الرجل في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ} ، هذا إنْ أُريد بالرجلِ الموروثُ، وإن أريد به الوارث كما تقدم فيعود على الميت الموروث المدلولِ عليه بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام كما دل عليه في قولِه: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي: تَرَكَه الموروث، فصار التقدير: يوصَى بها الموروث، هكذا أعربه الناس فجعلوه حالاً: الزمخشري وغيره. إلا أن الشيخ رَدَّ ذلك بأنه يؤدِّي إلى الفصل بين هذه الحال وعامِلها بأجنبي منهما، وذلك أنَّ العاملَ فيها «يوصَى» كما تقرر، وقوله: {أَوْ دَيْنٍ} أجنبي لأنه معطوف على «وصية» الموصوفة بالعامل في الحال، قال: «ولو كان على ما قالوه مِن الإِعراب لكانَ التركيب:» مِنْ بعد وصيةٍ يُوصَى بها غيرَ مُضارٍّ أو دينٍ «. وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين: أعني بناءَ الفعلِ للفاعل أو المفعول، وتزيد عليه قراءةُ البناء للمفعول وجهاً آخرَ، وهو أَن صاحب الحال غيرُ مذكور، لأنه فاعلٌ في الأصل حُذِفَ وأقيم المفعول مُقامَه، ألا ترى أنك لو قلت:» تُرْسَلُ الرياح مبشِّراً بها «بكسر الشين، يعني:» يرسلُ اللهُ الرياحَ مبشِّراً بها «فحذفت الفاعل وأقمت المفعول مُقامَه، وجئت بالحال من الفاعل لم يَجُزْ فكذلك هذا» . ثم خَرَّجه على أحد وجهين: إمَّا بفعل يدل عليه ما قبله من المعنى؛ ويكون عامًّاً لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدين وتقديره: يلزم ذلك مالَه، أو يُوجبه فيه غيرَ مُضارٍّ بورثته بذلك الإِلزامِ أو الإِيجاب. وإمَّا بفعلٍ مبني للفاعل لدلالةِ المبني للمفعولِ عليه أي: يوصي غير مُضارٍّ، فيصير نظير قوله: {يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36-37] على قراءةِ منْ فتح الباء.

قوله: {وَصِيَّةً} في نصبها أربعة أوجه؛ أحدُها: أنها مصدر مؤكِّد، أي يوصيكم الله بذلك وصيةً الثاني: أنها مصدر في موضع الحالِ، والعامل فيها يُوصيكم. قاله ابن عطية، والثالث: أنها منصوبةٌ على الخروج: إمَّا من قولِه: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس} أو من قوله: {فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث} وهذه عبارةٌ تشبه عبارة الكوفيين. والرابع: أنها منصوبةٌ باسمِ الفاعل وهو «مُضارّ» ، والمُضارَّةُ لا تقع بالوصية بل بالورثة، لكنه لمَّا وصّى الله تعالى بالوَرَثة جَعَل المُضارَّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصية مبالغةً في ذلك، ويؤيد هذا التخريج قراءةُ الحسن: «غيرَ مُضارِّ وصيةٍ» بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز، وصارَ نظيرَ قولِهم: «يا سارقَ الليلةِ» التقدير: يا سارقاً في الليلة، ولكنه أضافَ اسم الفاعل إلى ظرفه مجازاً واتِّساعاً، فكذلك هذا، أصله: غيرَ مضارٍّ في وصيةٍ من الله، فاتُّسع في هذا إلى أن عُدِّي بنفسه من غيرِ واسطةٍ، لِما ذكرت لك من قصد المبالغة. وهذا أحسنُ تخريجاً من تخريج أبي البقاء فإنه ذكر في تخريج قراءة الحسن وجهين، أحدُهما: أنه على حذف «أهل» أو ذي أي: غيرَ مضارِّ أهلِ وصيةٍ أو ذي وصية. والثاني: على حذف وقت أي: وقتَ وصية قال: «وهو من إضافة الصفة إلى الزمان، ويقرب من ذلك قولُهم:» هو فارسُ حربٍ «أي: فارس في الحرب، وتقول:» هو فارسُ زمانه «أي: في زمانه، كذلك تقديرُ القراءة: غيرَ مضار في وقت الوصية. ومفعول» مُضارّ «محذوفٌ إذا لم تُجْعَلُ» وصيةً «مفعولةً أي: غيرَ مضارٍّ ورثتِه بوصية.

13

قوله تعالى: {يُدْخِلْهُ} : حَمَلَ على لفظ «مَنْ» فَأْفْرَدَ الضميرَ في قوله: «يُطِعْ» و «يُدْخِلْه» ، وعلى معناها فجمع في قوله «خالدين» . وهذا أحسنُ الحَمْلين، أعني الحملَ على اللفظ ثم المعنى، ويجوزُ العكس وإن كان ابن عطية قد منعه، وليس بشيء لثبوتِه عن العرب، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرةٍ وفيه تفصيلٌ، وله شروط مذكورةٌ في كتب النحو. وفي نصبِ «خالدين» وجهان، أظهرهما: أنه حال من الضمير المنصوبِ في «يُدْخِلُه» ، ولا يَضُرُّ تغايُرُ الحالِ وصاحِبها من حيث كانت جمعاً وصاحبُها مفرداً لِما تقدَّم من اعتبار اللفظ والمعنى، وهي مُقَدَّرة لأنَّ الخلود بعد الدخولِ. والثاني: أن يكونَ نعتاً ل «جنات» من باب ما جَرَى على موصوفِه لفظاً وهو لغيرِه معنىً نحو: مررت برجلٍ قائمةٍ أمه، وبامرأة حسنٍ غلامُها، ف «قائمة» و «حسنٍ» وإن كانا جارِيَيْنِ على ما قبلهما لفظاً فهما لِما بعدَهما معنىً، أجاز ذلك في الآية الكريمة الزجاج وتبعه التبريزي، إلاَّ أنّ الصفة إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وجب/ إبرازُ الضمير مطلقاً على مذهب البصريين: أَلْبس أو لم يُلْبِس. وأما الكوفيون فيفصِّلون فيقولون: إذا جرت الصفة على غير مَنْ هي له: فإن أَلْبس وجب إبراز الضمير كما هو مذهب البصريين نحو: «زيدٌ عمروٌ ضاربُه هو» إذا كان الضرب واقعاً من زيد على

عمرو وإن لم يُلْبِس لم يَجِبِ الإِبرازُ نحو: «زيدٌ هندٌ ضاربُها» ، إذا تقرَّر هذا فمذهب الزجاج في الآية إنما يتمشَّى على رأي الكوفيين، وهو مذهب حسن. واستدلَّ مَنْ نَصَر مذهبَ الكوفيين بالسماع، فمنه قراءةُ مَنْ قرأ: {إلى طَعَامٍ غَيْرِ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] بجر «غير» مع عدمِ بروزِ الضمير، ولو أَبْرزه لقال: «غيرِ ناظرين إناه أنتم» ومنه قولُ الآخَر: 1556 - قَوْمي ذُرا المجدِ بانُوها وقد عَلِمَتْ ... بكُنْهِ ذلك عدنانٌ وقَحْطانُ ولم يقل: بانُوها هم، وقد خَرَّج بعضُهم البيت على حذف مبتدأ تقديره: هم بانوها، ف «قومي» مبتدأ أول «و» ذرا «مبتدأ ثان، و» هم «مبتدأ ثالث، و» بانوها «خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. وقد منع الزمخشري كونَ» خالدين «و» خالداً «صفةً ل» جنات «و» ناراً «بعدم بروز الضمير فقال:» فإنْ قلت: هل يجوز أن يكونا صفتين ل «جنات» و «ناراً» ؟ قتل: لا، لأنهما جريا على غير مَنْ هما له، فلا بد من الضمير في قولك: «خالدين هم فيها، وخالداً هو فيها» . ومَنَع أبو البقاء ذلك أيضاً بعدم إبراز الضمير لكن مع «خالداً» ،

ولم يتعرض لذلك مع «خالدين» ، ولا فرق بينهما، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين، وهذا المنعُ على مذهبِ البصريين كما تقدم. وقرأ نافع وابن عامر هنا «نُدْخِلْه» في الموضعين، وفي سورة التغابن والطلاق والفتح بنونِ العظمة، والباقون بالياء، والضمير لله تعالى، وإنما جمع «خالدين» في الطائعين، وأَفْرَد «خالداً» في العاصين، قالوا: لأنّ أهلَ الطاعة أهلُ الشفاعة، فلمَّا كانوا يَدْخُلون هم والمشفُوعُ لهم ناسَبَ ذلك الجمعَ، والعاصي لا يَدْخُلُ به غيرُه النارَ فناسَبَ ذلك الإِفرادُ. والجملةُ من قولِه {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في محلِّ نصبٍ صفةً ل «جنات» وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ المنصوبَ بعد «دخل» من الظروف هل نصبُه نصبُ الظروف أو نصبُ المفعولِ به؟ الأول قول الجمهور، والثاني قول الأخفش، فكذلك «جنات» و «ناراً» .

15

قوله تعالى: {واللاتي} : اللاتي: جمع «التي» في المعنى لا في اللفظ؛ لأنَّ هذه صيغٌ موضوعةٌ للتثنية والجمع، وليست بتثنية ولا جمع حقيقةً. وقال أبو البقاء: «اللاتي جمع» التي «على غير قياس، وقيل: هي صيغة موضوعة للجمع» ومثل هذا لا ينبغي أَنْ يَعُدَّه خلافاً. ولها جموعٌ كثيرة: ثلاثَ عشرةَ لفظة، وهي: اللاتي واللواتي واللائي، وبلا ياءات فهذه ست، واللاي بالياء من غيرِ همزٍ، واللا من غير ياءٍ ولا همزٍ، واللَّواء بالمد، واللَّوا بالقصر، و «الأُلى» كقوله:

1557 - فأمَّا الأُلى يَسْكُنَّ غَوْرَ تهامةٍ ... فكلُّ فتاةٍ تترُكُ الحِجْلَ أَفْصَما إلا أنَّ الكثيرَ أن تكونَ جمْعَ «الذي» . و «اللاءاتِ» مكسوراً مطلقاً أو معرباً إعراب جمع المؤنث السالم كقوله: 1558 - أولئك إخواني الذين عَرَفْتُهُمْ ... وأخْدانُك اللاءاتُ زُيِّنَّ بالكَتَمْ برفعِ «اللاءات» . وفي محلِّ «اللاتي» قولان، أحدُهما: أنه رفعٌ بالابتداء، وفي الخبر حينئذٍ وجهان، أحدُها: الجملةُ مِنْ قوله: «فاسْتَشْهدوا» ، وجازَ دخولُ الفاءِ زائدةً في الخبرِ وإن لم يَجُزْ زيادتُها في نحو: «زيدٌ فاضرِبْ» على رأي الجمهور، لأنَّ المبتدأ أَشْبَهَ الشرطَ في كونِه موصولاً عاماً صلتُه فعلٌ مستقبل، والخبرُ مستحقٌ بالصلةِ. الوجه الثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ، والتقدير: «فيما يتلى عليكم حكُم اللاتي» ، فحُذفَ الخبرُ والمضافُ إلى المبتدأ للدلالة عليهما، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهذا نظيرُ ما فَعَله سيبويه في نحو: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] و {السارق والسارقة فاقطعوا} [المائدة: 38] أي: فيما يتلى عليكم حكمُ الزاينة، ويكونُ

قولُه «فاستشهِدوا» و «فاجْلدوا» دالاً على ذلك الحكم المحذوفِ لأنه بيانٌ له. والقول الثاني: أنَّ محلَّه نصبٌ، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ لدلالةِ السياقِ عليه لا على جهةِ الاشتغالِ لِما سنذكره، والتقدير: اقصِدوا اللاتي يأتين، أو تعمَّدوا. ولا يجوز أن ينتصَبَ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره قولُه «فاستشهدوا» فتكونُ المسألة من باب الاشتغال، لأنَّ هذا الموصولَ أشبهَ اسمَ الشرطِ كما تقدَّم تقريره، واسمُ الشرطِ لا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الاشتغالِ لأنه لا يعمل فيه ما قبله، فلو نصبناه بفعلٍ مقدرٍ لزم أن يعملَ فيه ما قبلَه. هذا ما قاله بعضهم، ويَقْرُبُ منه ما قاله أبو البقاء فإنه قال: «وإذا كان كذلك أي كونَه في حكم الشرط لم يَحْسُنِ النصبُ؛ لأنَّ تقديرَ الفعل قبل أداةِ الشرط لا يجوز، وتقديرُه بعد الصلةِ يحتاج إلى إضمارِ فعلٍ غيرِ قوله» فاستشهدوا «لأنَّ» استشهدوا «لا يَصِحُّ أن يعمل النصب في» اللاتي «وفي عبارِته مناقشةٌ يطول بذكرها الكتاب. والثاني: أنه منصوبٌ على الاشتغال/، ومَنْعُهم ذلك بأنه يلزُم أَنْ يعملَ فيه ما قَبلَه جوابُه أنَّا نقدِّرُ الفعلَ بعده لا قبله، وهذا خلافٌ مشهورٌ في أسماءِ الشرط والاستفهام: هل يَجْري فيها الاشتغال أم لا؟ فمنعَه قومٌ لِما تقدَّم، وأجازه آخرون مقدِّرين الفعل بعد الشرطِ والاستفهام، وكونُه منصوباً على الاشتغال هو ظاهر كلام مكي فإنه ذكر ذلك في قوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا

مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] والآيتان من وادٍ واحد، ولا بدَّ من إيراد نصَّه ليتَّضحَ لك قولُه، قال رحمه الله: «واللذانِ يأتيانِها» الاختيارُ عند سيبويه في «اللذان» الرفع، وإنْ كان معنى الكلامِ الأمرَ، لأنه لمَّا وَصَلَ بالفعلِ تمكَّن معنى الشرط فيه إذ لا يقع على شيءٍ بعينه، فلمَّا تمكَّن معنى الشرط والإِبهام جرى مَجْرى الشرطِ في كونه لم يَعْمل فيه ما قبله كما لا يعمل في الشرط ما قبله من مضمرٍ أو مظهر «. ثم قال:» والنصبُ جائزٌ على إضمارِ فعل لأنه إنما أشبه الشرطَ، وليس الشبيهُ بالشيء كالشيءِ في حكمه «. انتهى. وليس لقائل أن يقولَ: مرادُه النصبُ بإضمار فعل النصب لا على الاشتغال، بل بفعلٍ مدلولٍ عليه، كما تقدم نَقْلُه عن بعضِهم، لأنه لم يكن لتعليله بقوله:» لأنه إنما أشبه الشرط إلى آخره «فائدةٌ إذ النصبُ كذلك لا يَحْتاج إلى هذا الاعتذار. وقوله: {مِن نِّسَآئِكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل من» يِأْتِين «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: يأتين كائناتٍ من نسائكم. وأما قوله» منكم «ففيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلقَ بقوله:» فاستشهدوا «. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة ل» أربعة «، فيكون في محل نصبٍ تقديرُه: فاستشهدوا عليهنَّ أربعة كائنة منكم. قوله» حتى «،» حتى «بمعنى إلى، فالفعل بعدها منصوب بإضمار» أن «وهي متعلقة بقوله:» فأمسكوهن «غاية له. وقوله:» أو يجعلَ «فيه وجهان، أحدهما: أن تكون» أو «عاطفة فيكون الجَعْلُ غاية لإِمساكهن أيضاً، فينتصبُ» يجعلَ «بالعطف على» يتوفَّاهن «. والثاني: أن تكون» أو «بمعنى» إلا «كالتي في قولهم» لألزَمَنَّك أو تقضيَني حقي «على أحدِ المعنيين، والفعلُ بعدها

منصوبٌ أيضاً بإضمار» أن «كقوله: 1559 - فَسِرْ في بلادِ اللهِ والتمسِ الغِنَى ... تَعِشْ ذا يَسارٍ أو تموت فَتُعْذَرا أي: إلا أَنْ تموتَ. والفرقُ بين هذا الوجهِ والذي قبله أنَّ الجَعْلَ ليس غايةً لإِمساكِهِنَّ في البيوت. قوله:» لهن «فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلقٌ ب» يَجْعَلَ «. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه حال من» سبيل «، إذ هو في الأصلِ صفةُ نكرةِ قُدِّم عليها فَنُصِب حالاً، هذا إنْ جُعِل الجَعْلُ بمعنى الشرع أو الخلق، وإنْ جُعِل بمعنى التصيير فيكون» لَهُنَّ «مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأول وهو» سبيل «، وتقديمُه هنا واجبٌ لأنهما لو انْحَلاَّ لمبتدأ وخبرٍ وَجَبَ تقديمُ هذا الخبرِ لكونهِ جارَّاً، والمبتدأُ نكرةٌ لا مسِّوغَ لها غيرُ ذلك.

16

قوله تعالى: {واللذان} : الكلامُ عليه كالكلامِ على «اللاتي» إلا أنَّ في كلامِ أبي البقاء ما يُوهِمُ جوازَ الاشتغالِ فيه، فإنه قال: «الكلام في» اللذان «كالكلام في» اللاتي «، إلا أنَّ مَنْ أجاز النصبَ يَصِحُّ أن يقدِّرَ فعلاً من جنس المذكور تقديرُه: آذُوا اللذين، ولا يجوز أن يعملَ ما بعد الفاء فيما قبلها ههنا ولو عَرِي من الضمير؛ لأن الفاء هنا في حكم الفاء الواقعة في جواب الشرط، وتلك تقطع ما بعدها عما قبلها»

فقولُه: «مَنْ أجازَ النصبَ» يَحْتمل مَنْ أجاز النصب المتقدم في «اللاتي» بإضمارِ فعلٍ لا على سبيل الاشتغال كما قدَّره هو بنحو «اقصِدوا» ، ويَحْتمل مَنْ أجازَ النصبَ على الاشتغال من حيث الجملةُ، إلا أنَّ هذا بعيدٌ لأنَّ الآيتين من وادٍ واحدٍ فلا يُظَّنُّ به أنه يمنع في إحداهما ويجيز في الأخرى، ولا ينفع كونُ الآيةِ الأولى فيها الفعلُ الذي يفسِّر متعدٍ بحرفِ جر، والفعلُ الذي في هذه الآية مُتَعَدٍّ بنفسه فيكون أقوى إذ لا أثرَ لذلك في باب الاشتغال. والضميرُ المنصوب في «يأتِيانها» للفاحشة. وقرأ عبد الله: «يأتينَ بالفاحشةِ» أي يَجِئْنَ بها، ومعنى قراءةِ الجمهور «يَغْشَيْنَها ويخالطنها» . وقرأ الجمهور: «واللذانِ» بتخفيف النون، وقرأ ابن كثير: «واللذان» هنا، و «اللذين» في حم السجدة بتشديد النون. ووجهُها جَعَل إحدى النونين عوضاً من الياء المحذوفة التي كان ينبغي أن تبقى، وذلك أن «الذي» مثل «القاضي» ، و «القاضي» تثبت ياؤه في التثنية، فكان حقُّ ياء الذي والتي أن تثبت في التثنية ولكنهم حَذَفُوها: إمَّا لأنَّ هذه تثنيةٌ على غيرِ القياسِ، لأنَّ المبهماتِ لا تُثَنَّى حقيقةً، إذ لا يثنى إلا ما يُنَكَّر، والمبهمات لا تنكر، فجعلوا الحذفَ مَنْبَهَةً على هذا، وإمَّا لطولِ الكلامِ بالصلةِ. وزعم ابن عصفور أنَّ تشديدَ النونِ لا يجوزُ إلا مع الألفِ كهذه الآية، ولا يجوز مع الياء في الجر والنصب، وقراءةُ ابن كثير في حم السجدة: {أَرِنَا اللذيْنِّ أَضَلاَّنَا} [الآية: 29] حجةٌ عليه.

وقُرىء: «اللَّذَأَنِّ» بهمزةٍ وتشديدِ النون، ووجهُها أنه لَمَّا شَدَّد النونَ التقى ساكنان فَفَرَّ من ذلك بإبدالِ الألفِ همزةً، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في الفاتحة. وقرأ عبد الله: «والذين يَفْعَلُونه منكم» ، وهذه قراءةُ مشكلةٌ لأنها بصيغة الجمع، / وبعدَها ضميرُ تثنية، وقد يُتَكَلَّفُ لها تخريجٌ: هو أنَّ «الذين» لمَّا كان شاملاً لصنفي الذكورِ والإِناث عاد الضمير عليه مثنى اعتباراً بما اندرج تحته، وهذا كما عاد ضمير الجمع على المثنى الشامل لأفرادٍ كثيرة مندرجةٍ تحتَه كقوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] ، {هذان خَصْمَانِ اختصموا} [الحج: 19] كذا قال الشيخ وفيه نظر، فإنَّ الفرقَ ثابتٌ؛ وذلك لأنَّ «الطائفة» اسمٌ لجماعة وكذلك «خصم» ؛ لأنه في الأصلِ مصدرٌ فأُطْلِقَ على الجمعِ. وأصلُ فآذُوهما: فآذِيُوهما، فاستثقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت الياء التي هي لام، وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ.

17

قوله تعالى: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} : قد تقدَّم الكلام على «إنما» في أول البقرة وما قيل فيها. و «التوبة» مبتدأ، وفي خبرها وجهان، أظهرهما: أنه «على الله» أي: إنما التوبة مستقرة على فضل الله، ويكون «للذين» متعلقاً بما تعلَّق به الخبر. وأجاز أبو البقاء عند ذِكْرِه هذا الوجهَ

أن يكونَ «للذين» متعلقاً بمحذوف على أنه حال قال: «فعلى هذا يكون» للذين يعملون السوء «حالاً من الضمير في الظرف وهو» على الله «، والعاملُ فيها الظرفُ أو الاستقرار أي: كائنةً للذين، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في الحالِ التوبة لأنه قد فُصِل بينهما بالخبر» ، وهذا الذي قاله فيه تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه. الثاني: أن يكونَ الخبرُ «للذين» و «على الله» متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من شيء محذوف، والتقدير: «إما التوبةُ إذا كانت أو إذ كانت على الله للذين يعملون» ، ف «إذا» و «إذ» معمولان ل «الذين» ؛ لأنَّ الظرفَ يتقدم على عامله المعنوي. و «كان» هذه التامَّةُ وفاعلُها هو صاحب الحال. ولا يجوز أن تكون «على الله» حالاً من الضمير المستتر في «للذين» ، والعامل فيها «للذين» لأنه عامل معنوي، والحال لا تتقدم على عامِلها المعنوي. هذا ما قاله أبو البقاء، ونَظَّر هذه المسألةَ بقولِهم: «هذا بُسْراً أطيبُ منه رُطَباً» يعني أنَّ التقديرَ هنا: إذ كان بُسْراً أطيبُ منه إذْ كان رُطَباً، ففي هذه المسألة أقوال كثيرة مضطربة لا يحتملها هذا الكتاب. وقدَّر الشيخ مضافين حُذِفا من المبتدأ والخبر فقال: «التقديرُ: إنما قبولُ التوبةِ مترتبٌ على فضلِ الله، ف» على «باقيةٌ على بابها» يعني من الاستعلاء. قوله: {بِجَهَالَةٍ} فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل «يعملون» ، ومعناها المصاحبة أي: يعملون السوءَ ملتبسين بجهالةٍ أي: مصاحبين لها، ويجوز أن يكون حالاً من المفعولِ أي: ملتبساً بجهالة، وفيه بُعْدٌ وَتَجَوُّزٌ.

والثاني: أن يتعلق ب «يعملون» على أنها باء السببية. قال الشيخ: «أي: الحاملُ لهم على عملِ السوءِ هو الجهالة، إذ لو كانوا عالمين بما يترتَّب على المعصية متذكرين له حالَ عملها لم يَقْدُموا عليها كقوله:» لا يَزْني الزاني حين يزني وهو مؤمن «لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً. قوله: {مِن قَرِيبٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن تكون» من «لابتداءِ الغاية أي: تبتدىء التوبة من زمانٍ قريب من زمان المعصية لئلا يقعَ في الإِصرار، وهذا إنما يتأتَّى على قول الكوفيين، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون» مِنْ «لابتداء الغاية في الزمان، ويتأوَّلون ما جاء منه، ويكون مفهومُ الآية أنه لو تاب من زمانٍ بعيد لم يدخُلْ في مَنْ خُصَّ بكرامةِ قَبولِ التوبة على الله المذكورةِ في هذه الآية، بل يكون داخلاً فيمن قال فيهم» فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم «. والثاني: أنها للتبعيض أي: بعضَ زمانٍ قريب، يعني: أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فيه فهو تائب من قريب. وعلى الوجهين ف «مِنْ» متعلقة ب «يتوبون» ، و «قريب» صفة لزمان محذوف كما تقدَّم تقريره، إلا أنَّ حَذْفَ هذا الموصوف وإقامةَ هذه الصفةِ مُقامه ليس بقياسٍ، إذ لا ينقاس الحَذْفُ إلا في صور، منها أن تكونَ الصفةُ جَرَتْ مَجْرى الأسماء الجوامد كالأبطح والأبرق، أو كانت خاصةً بجنس الموصوف نحو مررت بكاتبٍ،

أو تقدَّم ذِكْرُ موصوفها نحو: «اسقِني ماءً ولو بارداً، وما نحن فيه ليس شيئاً من ذلك. وفي قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ} إعلامٌ بسَعَةِ عفوه، حيث أتى بحرف التراخي. والفاء في قوله» فأولئك «مؤذنةٌ بتسبُّبِ قَبول الله توبتَهم إذا تابوا من قريب. وضَمَّن» يتوب «معنى يَعْطِفُ فلذلك عَدَّى ب» على «.، وأمَّا قولُه: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} فراعَى المضافَ المحذوف إذ التقدير: إنما قبولُ التوبةِ على الله، كذا قال الشيخ وفيه نظر.

18

قوله تعالى: {حتى إِذَا} : حتى حرفُ ابتداء، والجملةُ الشرطية بعدها غايةٌ لِما قبلها أي: ليست التوبةُ لقومٍ يعملون السيئات، وغاية عَمِلهم إذا حضرهم الموتُ قالوا: كيت وكيت، وهذا وجه حسن، ولا يجوز في «حتى» أن تكونَ جارةً ل «إذا» أي: يعملون السيئات إلى وقت حضورِ الموت من حيث إنها شرطيةٌ، والشرطُ لا يعمل فيه ما قبله، وإذا جعلنا «حتى» جارةً تعلَّقت ب «يعملون» ، وأدواتُ الشرط لا يعمل فيها ما قبلها، ألا ترى أنه يجوزُ: «بمَنْ تمرر أمرر» ، ولا يجوز: مَرَرْتُ بمن يَقُمْ أكرمْه، لأنَّ له صدرَ الكلام، ولأن «إذا» لا تتصرف على المشهور كما تقدم تقريره في أول البقرة واستدلَّ ابن مالك على تصرُّفها بوجوه، منها: جَرُّها ب «حتى» نحو: {حتى

إِذَا جَآءُوهَا} [الزمر: 71] {حتى إِذَا كُنتُمْ} [يونس: 22] ، وفيه من الإِشكال ما ذكرته لك، وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله: {حتى إِذَا بَلَغُواْ} [النساء: 6] . قوله: {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ} «الذين» مجرورُ المحل عطفاً على قوله «للذين يعملون» أي ليست التوبةُ لهؤلاء ولا لهؤلاء، فَسَوَّى بين مَنْ مات كافراً وبين مَنْ لم يتب إلا عند معاينةِ الموتِ في عدم قبول توبتِه، والمرادُ بالعاملين السيئاتِ المنافقون. وأجاز أبو البقاء في «الذين» أن يكونَ مرفوعَ المحل على الابتداء، وخبرُه «أولئك» وما بعدَه، معتقداً أن اللام لام الابتداء، وليست ب «لا» النافية. وهذا الذي قاله من كونِ اللامِ لامَ الابتداء لا يَصِحُّ إلا أن يكون قد رُسِمَتْ في المصحف لامٌ داخلة على «الذين» فيصير «وللذين» ، وليس المرسوم كذلك، إنما هو لام وألف، وألف لام التعريف الداخلة على الموصول، وصورته: ولا الذين. قوله: «أولئك» مبتدأ، و «أَعْتَدْنا» خبرُه، و «أولئك» يجوز أن يكونَ إشارةً إلى «الذين يموتون وهم كفار/، لأنَّ اسم الإِشارة يَجْري مَجْرى الضميرِ فيعودُ لأقربِ مذكور، ويجوزُ أَنْ يُشارَ به إلى الصِّفتين: الذين يعملون السيئات والذين يَمُوتون وهم كفار. وأعتدنا أي: أَحْضَرْنا.

19

قوله تعالى: {أَن تَرِثُواْ} : في محلِّ رفعٍ على الفاعلية ب «يَحِلُّ» أي: لا يَحِلُّ لكم إرثُ النساءِ. وقرىء «لا تَحِلُّ» بالتاء من فوق

على تأويل أن ترثوا: بالوراثة، وهي مؤنثةٌ، وهذا كقراءة: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] بتأنيث «تكن» ونصبِ «فتنتهم» بتأويل «ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتُهم» ، إلا أن في آية الأنعامِ مسوغاً وهو الإِخبار عنه بمؤنث كما سيأتي. و «النساءَ» مفعول به: إمَّا على حَذْف مضاف أي: أن ترثوا أموال النساء إنْ كان الخطاب للأزواج؛ لأنه رُوي أن الرجل منهم إذا لم يكن له غرض في المرأة أمسكها حتى تموتَ فيرثَها، أو تَفْتَدِيَ منه بمالِها إنْ لم تمت. وإما من غير حذفٍ، على معنى أن يَكُنَّ بمعنى الشيء الموروث إنْ كان الخطابُ للأولياء أو الأقرباء الميت، فقد نُقل أنه إذا مات أحدُهم وتَرَكَ امرأة وابناً من غيرها كان أحقَّ بها مِنْ نفسها. وقيل: كان الوليُّ إنْ سبق وأَلْقى عليها ثوبَه كان أحق بها، وإنْ سَبَقَتْ إلى أهلها كانت أحقَّ بنفسِها، فنُهوا أن يجعلوهُنَّ كالأشياء المواريث، وعلى ما ذكرْتُ فلا يُحتاج إلى حَذْفِ أحدِ المفعولين: إمَّا الأول أو الثاني على جَعْلِ «أن ترثوا» متعدياً لاثنين كما فعل أبو البقاء قال: «والنساءَ فيه وجهان: أحدُهما: هُنَّ المفعول الأول، والنساء على هذا هن الموروثاتُ، وكانت الجاهليةُ تَرِثُ نساء آبائهم وتقول: نحن أحقُّ بنكاحِهِنَّ. والثاني: أنه المفعول الثاني والتقدير: أن ترثوا من النساء المالَ» انتهى. قوله: «هُنَّ المفعول الأول» يعني والثاني محذوف تقديرُه: أَنْ تَرِثوا من آباءكم النساء. و «كُرْهاً» مصدر في موضع نصب على الحال من النساء أي: أن ترثوهن كارهات أو مكرهات. وقرأ الأخوان «كرهاً» هنا وفي براءة

والأحقاف بضم الكاف، وافقهما عاصم وابن عامر من رواية ابن ذكوان عنه على ما في الأحقاف، والباقون بالفتح. وقد تقدَّم الكلام في الكُره والكَره: هل هما بمعنى واحد أم لا؟ في البقرة فأغنى عن إعادته. ولا مفهومَ لقوله «كرهاً» يعني فيجوز أن يرثوهن إذا لم يَكْرَهْن ذلك لخروجه مَخْرج الغالبِ. قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مجزوم ب «لا» الناهية، عَطَفَ جملةَ نهي على جملةٍ خبرية، فإنْ لم تُشْترط المناسبةُ بين الجمل كما مذهبُ سيبويه فواضحٌ، وإن اشترطنا ذلك كما هو رأيُ بعضِهم فلأنَّ الجملةَ قبلَها في معنى النهي، إذ التقديرُ: لا ترثِوا النساءَ كرهاً فإنه غيرُ حلالٍ لكم. وجعله أبو البقاء على هذا الوجهِ مستأنفاً، يعني أنه ليس بمعطوفٍ على الفعل قبله. والثاني: أجازه ابن عطية وأبو البقاء أن يكون منصوباً عطفاً على الفعل قبله. قال ابن عطية: «ويُحتمل أن يكونَ» تَعْضُلوهن «نصباً عطفاً على» تَرِثوا «، فتكون الواوُ مُشَرِّكةً عاطفة فِعْلاً على فعل» . وقرأ ابن مسعود: «ولا أَنْ تَعْضُلوهن» فهذه القراءة تُقَوِّي احتمال النصب وأنَّ العَضْل مِمَّا لا يَحِلُّ بالنص. ورَدَّ الشيخ هذا الوجه بأنك إذا

عطفت فعلاً منفياً ب «لا» على مثبت وكانا منصوبين فإنَّ الناصب لا يُقَدَّر إلا بعد حرف العطف لا بعد «لا» ، فإذا قلت: «أريدُ أن أتوبَ ولا أدخلَ النار» فإنَّ التقدير: أريد أن أتوبَ وأَنْ لا أدخلَ النار، لأنَّ الفعلَ يطلبُ الأولَ على سبيل الثبوت والثاني على سبيل النفي، فالمعنى: أُريد التوبةَ وانتفاء دخولي النارَ، فو كان الفعلُ المتسلطُ على المتعاطِفَيْنِ منفياً فكذلك، ولو قَدَّرْتَ هذا التقديرَ في الآية لم يَصِحَّ لو قت: «لا يَحِلُّ أن لا تَعْضُلوهُنَّ» لم يَصِحَّ إلا أن تجعل «لا» زائدة لا نافيةً، وهو خلاف الظاهر، وأما أَنْ تقدِّر «أَنْ» بعد «لا» النافية فلا يَصِحُّ، وإذا قَدَّرْتَ «أن» بعد «لا» كان من عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر، لا من باب عطف الفعل على الفعل، فالتبس على ابن عطية العطفان، وَظنَّ أنه بصلاحية تقدير «أَنْ» بعد «لا» يكونُ من عطفِ الفعل على الفعلِ، وفَرْقٌ بين قولِك: [لا] أريد أن تقومَ وأن لا تخرج «وقولك:» لا أريدُ أن تقومَ ولا أن تخرج «ففي الأول نفى إرادةَ وجودِ قيامِه، وأراد انتقاءَ خروجهِ فقد أرادَ خروجَه، وفي الثانية نَفَى إرادةَ وجودِ قيامِه ووجودِ خروجِه، فلا يريدُ لا القيامَ ولا الخروج. وهذا في فهمه بعضُ غموضٍ على منْ لم يتمرَّنْ في علم العربية» انتهى ما رَدَّ به. وفيه نظرٌ: من حيث إنَّ المثال الذي ذكره في قوله: «أريد أن أتوب ولا أدخل النار» فِإنَّ تقديرَ الناصب فيه قبل «لا» واجب من حيث إنه لو قُدِّر بعدها لفسد التركيب، وأمَّا في الآية فتقدير «أن» بعد «لا» صحيحٌ، فإنَّ التقدير يصير: لا يَحِلُّ لكم إرث النساء كَرْهاً ولا عَضْلُهن. [ويؤيد ما قلته وما ذهب إليه ابن عطية قولُ الزمخشري فإنه قال: فإن قلت:] تعضُلوهن ما وجهُ

إعرابه؟ قلت: النصبُ عطفاً على «أن ترثوا» و «لا» لتأكيدِ النفي أي: لا يَحِلُّ لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضُلوهن «، فقد صَرَّح الزمخشري بهذا المعنى وصَرَّح بزيادة» لا «التي جَعَلَها الشيخ خلاف الظاهر. وفي الكلام حذفٌ تقديرُه: «ولا تَعْضُلوهن من النكاح» إنْ كان الخطابُ للأولياء، أو: «ولا تعضُلوهن من الطلاق» إنْ كان الخطاب للأزواجِ. وتقدَّم معنى العَضْل في البقرة. قوله: {لِتَذْهَبُواْ} اللام متعلقةٌ ب «تَعْضُلوهن» ، والباء في «ببعض» فيها وجهان، أحدُها: أنها باءُ التعديةِ المرادفةُ لهمزتها اي: لِتَذْهَبُوا [بعضَ] ما آتيتموهن. والثاني: أنها للمصاحبةِ، فيكون الجارُّ في محلّ نصبٍ على الحال، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: لتذهبوا مصحوبين ببعض، و «ما» موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرة موصوفة، وعلى التقديرين فالعائدُ محذوفٌ، وفي تقديره إشكالٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه في البقرة عند قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الآية: 3] فليلتفت إليه. قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ} في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه منقطعٌ، فيكونُ «أن يأتينَ» في محلِّ نصب والثاني: أنه متصلٌ، وفيه حينئذ ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مستثنى من ظرف زمان عام تقديره: «ولا تعضُلوهنَّ في وقتٍ من الأوقات إلا وقتَ إتيانهنَّ بفاحشة. الثاني: أنه مستثنى من الأحوال العامة تقديره: لا تَعْضُلوهن في حال من الأحوال إلا في حالِ إتيانهن بفاحشة. الثالث: أنه مستثنى من العلة العامة تقديره: لا تعضُلوهن لعلةٍ من العلل إلا لإتيانهن بفاحشة. / وقال أبو البقاء بعد أن حكى فيه وجهَ

الانقطاع:» والثاني: هو في موضع الحال تقديرُه: إلاَّ في حالِ إتيانِهِنَّ بفاحشةٍ، وقيل: هو استثناء متصل، تقديرُه: ولا تَعْضُلوهن في حال إلا في حالِ إتيان الفاحشة «انتهى. وهذا الوجهان هما في الحقيقة وجهٌ واحد، لأنَّ القائلَ بكونِه منصوباً على الحال لا بُدَّ أن يقدِّر شيئاً عاماً يجعلُ هذه الحالَ مستثناةً منه. وقرأ ابنُ كثير وأبو بكر عن عاصم:» مُبَيَّنة «بفتح الياء اسمَ مفعول في جميع القرآن، أي: بَيَّنَها مَنْ يَدَّعيها وأوضحها. والباقون بكسرها اسمَ فاعل وفيه وجهان، أحدهما: أنه من» بيَّن «المتعدي، فعلى هذا يكون المفعول محذوفاً تقديره مبيِّنةً حالَ مرتكبها. والثاني: أنه من بَيَّن اللازم، فإنَّ» بَيَّن «يكون متعدياً ولازماً يقال: بانَ الشيء وأبان واستبان وبَيَّن وتبيَّن بمعنى واحد أي: ظَهَر. وقرأ بعضهم: مُبيِنَة بكسرِ الباءِ وسكونِ الياء اسم فاعل من» أبان «، وفيها الوجهان المتقدمان في المشددة المكسورة، لأنَّ» أبان «أيضاً يكون متعدياً ولازماً، وأمَّا» مُبَيِّنات «فقرأهن الأخَوان وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر الياء اسمَ فاعل، والباقون بفتحها اسمَ مفعول، وقد تقدَّم وجهُ ذلك. قوله: {بالمعروف} في الباء وجهان، أظهرُهما: أنها باءُ الحالِ: إمَّا من الفاعل أي: مصاحبين لهنَّ بالمعروف، أو من المفعول أي: مصحوباتٍ بالمعروف. والثاني: أنها باءُ التعدية. قال أبو البقاء: «بالمعروفِ» مفعول أو حالٍ «. قوله: {فعسى} الفاء جواب الشرط، وإنما اقترنت بها» عسى «لكونِها

جامدةً. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: مِنْ أيِّ وجهٍ صَحَّ أن يكون «فعسى» جزاءً للشرط؟ قلت: من حيث إنَّ المعنى: فإنْ كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة، فلعل لكم فيما تكرهون خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه «. وقرىء» ويَجْعَلُ «برفع اللام. قال الزمخشري:» على أنه حال «، يعني ويكونُ خبراً لمبتدأ محذوف؛ لئلا يلزمَ دخول الواو على مضارع مثبت. و» عسى «هنا تامةٌ لأنها رَفَعَتْ» أنْ «وما بعدها، والتقدير: فقد قَرُبَتْ كراهتكم، فاستغنت عن تقدير خبر، والضمير في» فيه «يعود على» شيء «أي: في ذلك الشيء المكروهِ وقيل: يعودُ على الكره المدلول عليه بالفعل. وقيل: يعود على الصبر وإن لم يَجْرِ له ذكر.

20

قوله تعالى: {مَّكَانَ زَوْجٍ} : ظرفٌ منصوبٌ بالاستبدال، والمرادُ بالزوج هنا الجمعُ أي: وإنْ أردتم استبدالَ أزواجٍ مكانَ أزواج، وجاز ذلك لدلالةِ جمعِ المستبدِلين، إذ لا يُتَوَهَّم اشتراك المخاطبين في زوجٍ واحد مكانَ زوجٍ واحد، ولإِرادة معنى الجمع عادَ الضميرُ من قوله: «إحداهُنَّ» على «زوج» جمعاً. والتي نَهَى عن الأخذ منها هي المستبدلُ مكانَها، لأنها آخذةٌ منه بدليل قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} وهذا إنما هو في القديمةِ لا المُسْتحدثةِ. وقال: {إِحْدَاهُنَّ} ليدلَّ على أن قوله: {وَآتَيْتُمْ} المراد منه: وآتى كلُّ واحد منكم إحداهن، أي: إحدى الأزواج، ولم يقل: «آتيتموهن قنطاراً» لئلا يُتَوَهَّم أن الجميع المخاطبين آتَوا الأزواج قنطاراً، والمراد: آتى كلُّ واحد زوجَه قنطاراً، فدل لفظ «إحداهن» على أن الضمير في «آتيتم» المرادُ منه كلُّ

واحدٍ واحدٍ كما دَلَّ لفظ {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} على أنَّ المرادَ استبدالُ أزواجٍ مكانَ أزواج، فأُريد بالمفرد هنا الجمعُ لدلالةِ {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ} . وأُريد بقوله {وَآتَيْتُمْ} كلُّ واحد واحد، لدلالة «إحداهن» وهي مفردة على ذلك. ولا يُدَلُّ على هذا المعنى البليغ بأوجزَ ولا أفصحَ من هذا التركيب. وتقدَّم معنى القنطار واشتقاقه في آل عمران. والضمير في «منه» عائد على «قنطاراً» . وقرأ ابن محيصن: «آتيتم احداهن» بوصل ألف «إحدى» كما قرىء: {إِنَّهَا لاحْدَى الكبر} [المدثر: 35] حَذَفَ الهمزة تخفيفاً كقوله: 1560 - إنْ لم أقاتِلْ فالبسوني بُرْقُعاً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وبهذا الذي ذكرته يتضح معنى الآية. وقد طَوَّل أبو البقاء فيها ولم يأت بطائل، ولا بد من التعرُّض لما قاله والتنبيه عليه. قال: «وفي قوله {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} إشكالان، أحدهما: أنه جَمَع الضميرَ والمتقدمُ زوجان. والثاني: أن التي يريد أن يُسْتبدل بها هي التي تكون قد أعطاها مالاً فينهاه عن أخذِه، فأما التي يريد أن يستحدِثها فلم يكن أعطاها شيئاً حتى ينهى عن أَخْذِه، ويتأيَّد ذلك بقولِه: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} . والجوابُ عن الأول: أنَّ المرادَ بالزوجِ الجمعُ، لأنَّ الخطاب لجماعة الرجال، وكلٌّ منهم قد يريد

الاستبدالَ، ويجوز أن يكونَ جُمِع لأن التي يريد أن يستحدِثَها يُفْضي حالُها إلى أن تكونَ زوجاً، وأن يريد أن يستبدلَ بها كما استبدل بالأولى فجُمِع على هذا المعنى. وأمَّا الإِشكال الثاني فييه جوابان أحدهما: أَنه وَضَعَ الظاهر مَوْضِعَ المضمر، والأصل: وآتيتموهن. والثاني: أنَّ المستبدلَ بها مبهمةٌ فقال» إحداهن «إذ لم تتعيَّن حتى يَرْجِع الضمير إليها، وقد ذكرنا نحواً مِنْ هذا في قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} [البقرة: 282] انتهى. وفي قوله: «وََضَع الظاهرَ موضعَ المضمر» نظرٌ، لأنَّه لو كانَ الأصل كذلك لأوهم أنَّ الجميعَ آتوا الأزواج قنطاراً كما تقدَّم، وليس كذلك. قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً} الاستفهام للإِنكار أي: أتفعلونه مع قُبْحِه. وفي نصب «بهتاناً وإثماً» وجهان: أحدهما: أنهما منصوبان على المفعول من أجلِه أي: لِبهتانكم وإثْمِكم. قال الزمخشري: «وإنْ لم يكن غَرَضاً كقولِك: قعدَ عن القتالِ جُنْباً» . والثاني: أنهما مصدران في موضع الحال، وفي صاحبها وجهان: أظهرهما: أنه الفاعل في «أتأخذونه» [أي] باهتين وآثمين. والثاني: أنه المفعول أي: أتأخذونه مُبْهِتاً مُحَيِّراً لشَنْعَتِه وقُبح الأُحدوثة عنه. وبُهْتان: فُعْلان من البَهْت، وقد تقدَّم معناه في البقرة، وتقدم أيضاً الكلام في «كيف» ومحلِّها من الإِعراب في البقرة أيضاً في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] .

21

قوله تعالى: {وَقَدْ أفضى} : الواو للحال، والجملة بعدها في محل نصب، وأتى ب «قد» لِيَقْرُبَ الماضي من الحال، وكذلك «أَخَذْنَ»

و «قد» مقدرةٌ معه لتقدُّمِ ذِكْرِها. و «منكم» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلقٌ ب «أَخَذْنَ» . وأجاز فيه أبو البقاء أن يكونَ حالاً من «ميثاقاً» قُدِّم عليه، كأنه لَمَّا رأى أنه يجوز أن يكونَ صفةً لو تأخَّر لجاز ذلك وهو ضعيف. و «أفضى» معناه ذهب إلى فضائِه أي: ناحيةٍ سَعَتِه، يقال: فَضَا يفضو، فألف «أَفْضى» عن ياءٍ أصلُها واو.

22

قوله تعالى: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} : في «ما» هذه قولان أحدهما: أنها موصولة اسمية واقعة على أنواعِ مَنْ يَعْقِل، كما تقدم ذلك في قوله {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] ، وهذا عند مَنْ لا يجيز وقوعَها على آحاد العقلاء. فأمَّا مَنْ يُجيز ذلك فيقول: إنها واقعة موقعَ «مَنْ» ، ف «ما» مفعول به بقوله {وَلاَ تَنكِحُواْ} ، والتقدير: ولا تتزوجوا مَنْ تزوج آباؤكم. والثاني: أنها مصدرية ِأي: ولا تَنْكحوا مثلَ نكاح آبائكم الذي كان في الجاهلية وهو النكاح الفاسد كنكاح الشِّغار وغيرِه، واختار هذا القولَ جماعة منهم ابن جرير الطبري قال: «ولو كان معناه: ولا تنكحوا النساء التي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضعُ» ما «» من «. انتهى. وتبيَّن كونُه حراماً أو فاسداً [من] قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً} . قوله: {مِّنَ النسآء} : تقدَّم نظيرُه أولَ السورة. قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه منقطعٌ، إذ الماضي لا يُجامع الاستقبال، / والمعنى: أنه لَمَّا حَرَّم عليهم نكاحَ ما نكح آباؤهم تطرَّق الوهمُ إلى ما مضى في الجاهلية ما حكمُه؟ فقيل: إلا ما قد سَلَفَ أي: لكن ما سلف فلا إثمَ فيه. وقال ابن زيد في معنى ذلك أيضاً:» إن

المراد بالنكاح العقدُ الصحيح «وحَمَل {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} على ما كا ن يتعاطاه بعضُهم من الزنا فقال:» إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء فذلك جائزٌ لكم زواجُهم في الإِسلام، وكأنه قيل: ولا تَعْقِدوا على مَنْ عَقَد عليه آباؤُكم إلا ما قد سلف مِنْ زِناهم، فإنه يجوزُ لكم أن تتزوَّجُوهم فهو استثناءٌ منقطع أيضاً. والثاني: أنه استثناءٌ متصل وفيه معنيان، أحدهما: أن يُحْمل النِّكاحُ على الوطء، والمعنى: أنه نهى أن يَطَأ الرجلُ امرأةً وَطِئها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة فإنه يجوز للابن تزويجها. نُقِل هذا المعنى عن ابن زيد أيضاً، إلا أنه لا بد من التخصيص في شيئين: أحدُهما قولُه: {وَلاَ تَنكِحُواْ} أي ولا تَطَؤوا وَطْئاً مباحاً بالتزويج. والثاني: التخصيص في قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} بوطء الزنا، وإلا فالوطء فيما قد سلف قد يكون وَطْئاً غيرَ زنا، وقد يكون زنا، فيصير التقدير: ولا تَطَؤوا ما وطِىء آباؤكم وطئاً مباحاً بالتزويج إلا مَنْ كان وَطْؤُها فيما مضى وطءَ زنا. ويجوز على هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن زيد أن يُراد بالنكاحِ الأولِ العقدُ، وبالثاني الوطءُ، اي: ولا تتزوجوا مَنْ وَطِئها آباؤكم إلا من كان وطؤها وطءَ زنا. والمعنى الثاني: «ولا تَنْكِحوا مثلَ نكاحِ آبائكم في الجاهلية إلا ما تقدَّم منكم مِنْ تلك العقودِ الفاسدةِ فمباحٌ لكم الإِقامةُ عليها في الإِسلام إذا كان مما يقِّرُ الإِسلامُ عليه» وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ «ما» مصدريةً وقد تقدَّم. وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف استثنى» ما قد سلف «من» ما نكح آباؤكم «؟ قلت: كما استثنى» غيرَ أنَّ سيوفهم «من قوله:» ولا عيبَ فيهم «يعني: إنْ أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يَحِلُّ لكم غيرُه،

وذلك غير ممكن، والغَرضُ المبالغةُ في تحريمه وسَدُّ الطريق إلى إباحته، كما تعلق بالمُحالِ في التأبيد في نحو قولهم:» حتى يَبْيَضَّ القارُّ «و» حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياط «. انتهى. أشار رحمه الله إلى بيت النابغة في قوله: 1561 - ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بِهِنَّ فُلولٌ من قِراعِ الكتائبِ يعني إنْ وُجِد فيهم عَيْبٌ فهو هذا، وهذا لا يَعُدُّه أحدٌ عيباً فانتفى العيب عنهم بدليله. ولكن هل الاستثناءُ على هذا المعنى الذي أبداه الزمخشري من قبيلِ المنقطعِ أو المتصل؟ والحقُّ أنه متصلٌ لأنَّ المعنى: ولا تَنْكِحوا ما نكح آباؤكم إلا اللائي مَضَيْنَ وفَنِين، وهذا مُحالٌ، وكونُه مُحالاً لا يُخْرِجُه عن الاتصال. وأمَّا البيتُ ففيه نظرٌ، والظاهر أن الاستثناءَ فيه متصلٌ أيضاً، لأنه جَعَلَ العيبَ شامِلاً لقولِه» غيرَ أنَّ سيوفَهم «بالمعنى الذي أراده. وللبحثِ فيه مجالٌ. وتَلَخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ المرادَ بالنكاحِ في هذه الآية العقدُ الصحيحُ أو الفاسدُ أو الوطء، أو: يُرادُ بالأول العقدُ وبالثاني الوَطْءُ، وقد تقدَّم القولُ في البقرةِ: هل هو حقيقةٌ فيهما أو في أحدِهما؟ واختلافُ الناسِ في ذلك. وزعم بعضُهم أنَّ في الآيةِ تقديماً وتأخيراً والأصلُ: ولا تَنْكِحوا ما نكح آباؤكم من النساء، إنه كان فاحشة ومَقْتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف. وهذا فاسدٌ من حيث الإِعراب ومن حيث المعنى: أمَّا الأولُ فلأنَّ ما في حَيِّز» إنَّ «لا يتقدَّم عليها، وأيضاً فالمستثنى لا يتقدَّمُ على الجملة التي هو من متعلَّقاتها سواءً كان متصلاً أم منقطعاً، وإنْ كان في هذا خلافٌ ضعيفٌ. وأما الثاني فلأنه

أَخْبر أنه فاحشةٌ ومَقْت في الزمان الماضي بقوله» كان «فلا يَصِحُّ أن يُسْتثنى منه الماضي، إذ يصير المعنى: هو فاحشةٌ في الزمانِ الماضي إلا ما وقع منه في الزمانِ الماضي فليس بفاحشة. والمَقْتُ: بُغْضٌ مقرونٌ باستحقارٍ فهو أخصُّ منه. والضمير في قوله» إنه «عائدٌ على النكاح المفهوم من قولِه: {وَلاَ تَنكِحُواْ} ، ويجوز أن يعودَ على الزنى إذا أريد بقوله {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} الزنى و» كان «هنا لا تدل على الماضي فقط لأن معناها هنا معنى لم يَزَلْ، وهذا المعنى هو الذي حَمَل المبردَ على قوله» إنها زائدة «. ورُدَّ عليه بوجودِ الخبر والزائدةُ لا خبرَ لها، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرته من كونها لا تَدُلُّ على الماضي فقط، فَعَبَّر عن ذلك بالزيادة. قوله: {وَسَآءَ سَبِيلاً} في «ساء» قولان، أحدهما: أنها جارية مَجْرى «بئس» في الذم والعمل، ففيها ضميرٌ مبهمٌ يُفَسِّره ما بعده وهو «سبيلاً» والمخصوصُ بالذم محذوف تقديره: «وساء سبيلاً سبيلُ هذا النكاحِ» كقوله: «بِئْسَ الشراب» أي: ذلك الماء. والثاني: أنها لا تَجْري مَجْرى «بِئْس» في العمل بل هي كسائر الأفعالِ، فيكونُ فيها ضميرٌ يَعُود على ما عاد عليه الضميرُ في «إنه» ، و «سبيلاً» على كلا التقديرين تمييزٌ. وفي هذه الجملة وجهان أحدهما: أنه لا محل لها بل هي مستأنفة، ويكون الوقفُ على قوله: «ومقتاً» ثم يستأنف «وساء سبيلاً» أي: وساءَ هذا

السبيل منْ نكاح مَنْ نكحهن من الآباء. والثاني: أن يكونَ معطوفاً على خبر «كان» ، على أَنْ يُجْعَلَ محكيّاً بقول مضمر، ذلك القولُ هو المعطوفُ على الخبر، والتقدير: ومَقُولاً فيه: ساء سبيلاً، هكذا قَدَّره أبو البقاء. ولقائلٍ أن يقولَ: يجوز أَنْ يكونَ عطفاً على خبر «كان» مِنْ غيرِ إضمارِ قول، لأنَّ هذه الجملةَ في قوة المفرد، ألا ترى أنه يقعُ خبراً بنفسه تقول: «زيدٌ ساءَ رجلاً» و «كان زيدا ساء رجلاً» ، فغاية ما في الباب أنك أتيت بأخبار «كان» أحدُهما مفردَ والآخرُ جملة، اللهم إلا أَنْ يُقالَ: إن هذه جملةٌ إنشائيةٌ، والإِنشائية لا تقع خبراً ل «كان» ، فاحتاج إلى إضمار القول وفيه بحث.

23

قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} : «أمهات» جمع «أم» فالهاءُ زائدةٌ في الجمع، فرقاً بين العقلاء وغيرهم. يقال في العقلاء: «أمهات» وفي غيرهم: «أُمَّات» كقوله: 1562 - وأُمَّاتِ أَطْلاءٍ صغارِ. . . . . ... هذا هو المشهور، وقد يقال: «أُمَّات» في العقلاء: و «أمهات» في غيرهم وقد جَمَع الشاعر بين الاستعمالين في العقلاء فقال: 1563 - إذا الأمَّهاتُ قَبُحْنَ الوجوهَ ... فَرَجْتَ الظلامَ بأُمَّاتِكا وقد سُمع «أُمَّهة» في «أُم» بزيادةِ هاء، بعدَها تاءُ تأنيث قال: 1564 - أُمَّهتي خِنْدِفُ والياسُ أبي ...

فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ «أمهات» جمعَ «أُمَّهة» المزيدِ فيها الهاء، والهاءُ قد أتت زائدةً في مواضع/ قالوا: هِبْلَع وهِجْرَع من البَلْعِ والجَرْع. قوله: {وَبَنَاتُكُمْ} عطفٌ على «أُمَّهاتكم» . وبنات جمع بنت، وبنت تأنيث ابن، وتقدَّم الكلامُ عليه وعلى اشتقاقِه ووزنِه في البقرة في قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [الآية: 40] ، إلا أن أبا البقاء حَكَى عن الفراء أنَّ «بنات» ليس جمعاً ل «بنت» يعني بكسرِ الباء بل جمع «بَنة» يعني بفتحِها، قال: وكُسِرت الباء تنبيهاً على المحذوف «. قلت: هذا إنما يجيء على اعتقادِ أنَّ لامها ياء، وقد تقدم لنا خلافٌ في ذلك وأن الصحيحَ أنها واو، وحَكَى عن غيره أن أصلها: بَنوَة، وعلى ذلك جاء جمعُها ومذكرها وهو بنون، قال:» وهو مذهبُ البصريين «قلت: لا خلاف بين القولينِ في التحقيق، لأنَّ مَنْ قال: بنات جمعُ» بَنة «بفتح الباء لا بد وأَنْ يعتقد أنَّ أصلها» بَنَوة «حُذِفَت لامُها وعُوِّض منها تاءُ التأنيث، والذي قال: بنات جمع» بَنَوة «لَفَظَ بالأصل فلا خلاف. واعلم أنَّ تاء» بنت «و» أخت «تاءُ تعويضٍ عن اللام المحذوفة كما تقدَّم تقريره، وليست للتأنيثِ، ويَدُلُّ على ذلك وجهان، أحدهما: أنَّ تاء التأنيث يلزَمُ فتحُ ما قبلها لفظاً أو تقديراً نحو: ثمرة وفتاة، وهذه ساكنٌ ما قبلَها. والثاني: أنَّ تاءَ التأنيث تُبْدَلُ في الوقفِ هاء، وهذه لا تُبْدَلُ بل تُقَرُّ على حالِها. وقال أبو البقاء:» فإنْ قيل: لِمَ رُدَّ المحذوف في «أخوات» ولم يُرَدَّ في «بنات» ؟ قيل: حُمِل كل واحد من الجمعين على مذكَّرِهِ، فمذكر «

بنات» لم يُرَدَّ إليه المحذوف بل قالوا فيه «بنون» ، ومذكر «أخوات» رُدَّ فيه محذوفه قالوا في جمع أخ: إخْوة وإخْوان «. وهذا الذي قاله ليس بشيء لأنه أَخَذَ جمع التكسير وهو إخوة وإخوان مقابلاً ل» أَخَوات «جمعَ التصحيح، فقال: رُدَّ في أخوات كما رُدَّ في إخوة، وهذا أيضاً موجود في» بنات «؛ لأنَّ مذكره في التكسير رُدَّ إليه المحذوف. قالوا: ابن وأبناء، ولَمَّا جمعوا أخاً جمع السلامة قالوا فيه «أَخُون» بالحذف، فردُّوا في تكسير ابن وأخ محذوفَهما، ولم يَرُدَّوا في تصحيحهما، فبان فساد ما قال. قوله: {وَخَالاَتُكُمْ} ألف «خالة» و «خال» منقلبة عن واو، بدليل جمعه على «أخوال» ، قال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ} [النور: 61] . قوله: {مِّنَ الرضاعة} : في موضعِ نصب على الحال فيتعلق بمحذوف تقديره: وأخواتُكم كائناتٍ من الرضاعة. وقرأ أبو حيوة: «من الرِّضاعة» بكسر الراء. {مِّن نِّسَآئِكُمُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه حال من «ربائبكم» تقديره: «وربائبكم كائناتٍ من نسائكم» . والثاني: أنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في قوله: {فِي حُجُورِكُمْ} لأنه لَمَّا وقع صلةً تَحَمَّل ضميراً، أي: اللاتي استَقْرَرْنَ في حُجُوركم. والربائب: جمع «ربيبة» وهي بنت الزوج أو الزوجة، والمذكر: ربيب، سُمِّيا بذلك؛ لأن أحد الزوجين يَرُبُّه كما يَرُبُّ ابنه. وقوله: {اللاتي فِي حُجُورِكُمْ} لا مفهومَ له لخروجه مخرج الغالب. الحُجُور: جمع «حِجْر»

بفتحِ الحاءِ وكسرها، وهو مقدَّمُ ثوبِ الإِنسان ثم استعملت اللفظُ في الحِفْظ والستر. قوله: {اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} صفةٌ ل «نسائكم» المجرورِ ب «مِنْ» ، اشترط في تحريم الربيبة أن يُدْخَلَ بأمها. ولا جائزٌ أن تكونَ صفة ل «نسائكم» الأولى والثانية لوجهين، أحدهما: من جهة الصناعة، وهو أن «نسائكم» الأولى مجرورةٌ بالإِضافة والثانية مجرورة ب «من» فقد اختلف العاملان، وإذا اختلفا امتنع النعت، لا تقول: «رأيت زيداً ومررت بعمرٍو العاقلين» على أن يكون «العاقلين» نعتاً لهما. والثاني من جهة المعنى: وهو أن أم المرأة تَحْرُم بمجردِ العَقْدِ على البنت دَخَلَ بها أو لم يَدْخُل بها عند الجمهور، والربيبةُ لا تَحْرُم إلا بالدخولِ على أمها. وفي كلام الزمخشري ما يلزم منه أنه يَجوز أَنْ يكونَ هذا الوصفُ راجعاً إلى الأولى في المعنى فإنه قال: {مِّن نِّسَآئِكُمُ} متعلق ب «ربائبكم» ومعناه: أن الربيبة من المرأةِ المدخولِ بها مُحَرَّمةٌ على الرجل حلالٌ له إذا لم يدخل بها. فإن قلت: هل يَصِحُّ أن يتعلق بقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} ؟ قلت: لا يخلو: إمَّا أَنْ يتعلَّقَ بهن وبالربائب فتكون حرمُتهن وحرمةُ الربائب غيرَ مبهمتين جميعاً، وإمَّا أَنْ يتعلَّق بهن دونَ الربائبِ، فتكونُ حرمتُهن غيرَ مبهمة وحرمةُ الربائب مبهمةً، ولا يجوز الأول لأن معنى «من» مع أحد المتعلقين خلافُ معناها مع الآخر، ألا تراك إذا قلت: «وأمهاتُ نسائكم من

نسائكم اللاتي دخلتم بهن» فقد جَعَلْتَ «مِنْ» لبيان النساء وتمييزاً للمدخولِ بهنَّ مِنْ غيرِ المدخول بهنَّ، وإذا قلت: «وربائبكم من نسائِكم اللاتي دَخَلْتُم بهن» فإنك جاعلٌ «مِنْ» لابتداءِ الغاية كما تقولُ: «بنات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خديجة» ، وليس بصحيحٍ أَنْ يَعْني بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيين مختلفين، ولا يجوز الثاني لأن الذي يليه هو الذي يستوجبُ التعليقُ به ما لم يَعْرِضْ أمرٌ لا يُرَدُّ، إلا أَنْ تَقول: أُعَلِّقُه بالنساء والربائب، وأجعل «من» للاتصال كقوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} [التوبة: 67] ، [وقال] : 1565 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإني لستُ مِنْكَ ولَسْتَ مِنِّي [وقوله] : 1566 - ما أنا من ددٍ ولا ددٌ مِنِي ... وأمهاتُ النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتُهن، كما أن الربائب متصلاتٌ بأمهاتهن لأنهن بناتُهن، هذا وقد اتفقوا على أن التحريم لأمهاتِ النساء مبهمٌ «. انتهى. ثم قال:» إلا ما رُوي عن علي وابن عباس وزيد وابن عمرو وابن الزبير أنهم قرؤوا «وأمهاتُ نسائكم اللاتي دَخَلْتُم بهن» فكان ابن عباس يقول: «واللهِ ما أُنزل إلا هكذا» فقوله: «أعلقه بالنساء والربائب» إلى

آخره يقتضي أن القيد الذي في الربائب وهو الدخول في أمهات نسائكم، كما تقدم حكايته عن علي وابن عباس. قال الشيخ: «ولا نعلم أحداً أثبتَ ل» مِنْ «معنى الاتصال، أما الآية والبيت والحديث فمؤولة. قوله: {وَحَلاَئِلُ} جمع» حليلة «وهي الزوجة، سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَحُلُّ مع زوجها حيث كان، فهي فَعِيلة بمعنى فاعلة، والزوج حليل كذلك، قال: 1567 - أغشى فتاةَ الحَيِّ عند حليلِها ... وإذا غَزَا في الجيشِ لا أَغْشاها وقيل: اشتقاقها من لفظ الحلال؛ إذ كلٌّ منهما حلال لصاحبه، وهو قول الزجاج وجماعة، ف» فَعِيل «بمعنى مفعول أي: مُحَلَّلة له وهو محللٌ لها، إلا أنَّ هذا يُضْعفُه دخولُ التأنيث، اللهم إلا أن يقال إنه جرى مَجْرى الجوامد/ كالنطيحة والذبيحة. وقيل: هما من لفظ» الحَلّ «ضد العَقْد؛ لأنَّ كلاً منهما يَحُلُّ إزارَ صاحبِه. و {الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} صفةٌ مبينة؛ لأنَّ الابن قد يُطْلق على المُتَبَنَّى به وليست امرأتُه حراماً على مَنْ تَبَنَّاه، وأمَّا الابن من الرضاع فإنه وإنْ كان حكمُه حكمَ ابن الصُّلْب في ذلك فمبيَّنٌ بالسنة فلا يَرِد على الآية الكريمة. وأَصْلاب: جمع» صُلْب «وهو الظهرُ، سُمِّي بذلك لقوته اشتقاقاً من الصَّلابة، وأفصحُ لغتَيْه: صُلْب بضمِ الفاء وسكون العين وهي لغة الحجاز،

وبنو تميم وأسد يقولون» صَلَباً بفتحهما، حكى ذلك الفراء عنهم في كتاب «لغات القرآن» له، وأنشد عن بعضهم: 1568 - في صَلَبٍ مثلٍ العِنانِ المُؤْدَمِ ... وحكى عنهم: «إذا أَقُوم اشتكى صَلَبي» . قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ} في محلِّ رفع عطفاً على مرفوع «حُرِّمت» أي: وحُرِّم عليكم الجمعُ بين الأختين، والمرادُ الجمعُ بينهما في النكاح، أمَّا في الملِْك فجائزٌ اتفاقاً، وأمَّا الوطءُ بمِلكْ اليمين ففيه خلافٌ ليس هذا موضعَه. قولُه: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناءٌ منطقع، فهو منصوبٌ المحل كما تقدَّم في نظيره أي: لكن ما مضى في الجاهلية فإن الله يَغْفِره. وقيل: المعنى إلا ما عَقَد عليه قبل الإِسلام، فإنه بعد الإِسلام يبقى النكاح على صحته، ولكن يَخْتار واحدةً منهما ويفارق الأخرى، وكان قد تقدَّمَ قريبٌ من هذا المعنى في {مَا قَدْ سَلَفَ} الأولِ ويكون الاستثناء عليه متصلاً، وهنا لا يتأتَّى الاتصال البتة لفساد المعنى.

24

قوله تعالى: {والمحصنات} : قرأ الجمهور هذه اللفظة سواء كانت معرفة ب «أل» أم نكرة بفتح الصاد، والكسائي بكسرها في الجمع إلا قوله {والمحصنات مِنَ النسآء} في رأس الجزء فإنه وافق الجمهور. فأمَّا الفتحُ ففيه وجهان، أشهرهما: أنه أَسْند الإِحصان إلى غيرهن، وهو إمَّا

الأزواج أو الأولياء، فإن الزوج يُحْصِنُ امرأته أي: يُعِفُّها، والوليَّ يُحصِنُها بالتزويجِ أيضاً والله يُحْصِنُها بذلك. والثاني: أن هذا المفتوحَ الصادِ بمنزلة المكسور، يعني أنه اسمُ فاعل، وإنما شَذَّ فتحُ عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظَ: أَحْصَنَ فهو مُحْصَن وأَلْقح فهو مُلْقَح، وأَسْهَب فهو مُسْهَب. وأمَّا الكسر فإنه أسند الإِحصان إليهن؛ لأنهن يُحْصِنَّ أنفسهن بعفافهن، أو يُحْصِنَّ فروجهن بالحفظ، أو يُحْصِنَّ أزواجهن. وأما استثناء الكسائي التي في رأس الجزء قال: «لأن المراد بهن المُزَوَّجات فالمعنى: أن أوزاجَهُنَّ أحصنوهن، فهن مفعولاتٌ» ، وهذا على أحدِ الأقوال في المحصنات هنا مَنْ هن؟ على أنه قد قرىء شاذاً التي في رأس الجزء بالكسر أيضاً، وإنْ أُريد بهن المزوَّجات؛ لأنَّ المراد أحصنَّ أزواجهنّ أو فروجهنّ، وهو ظاهر. وقرأ يزيد بن قطيب: و «المُحْصُنات» بضم الصاد، كأنه لم يَعْتَدَّ بالساكن فأتبعَ الصاد للميم كقولهم: «مُنْتُن» . وأصلُ هذه المادة الدلالةُ على المَنْعِ ومنه «الحِصْن» لأنه يُمْنع به، و «حِصان» للفرس من ذلك. ويقال: أَحْصَنَتِ المرأةُ وحَصُنَتْ، ومصدرُ حَصُنَت: «حُصْن» عن سيبويه و «حَصانة» عن الكسائي وأبي عبيدة، واسمُ الفاعلِ من أَحْصَنَتْ مُحْصَنة، ومن حَصُنت حاصِن، قال: 1569 - وحاصِنٍ من حاصناتٍ مُلْسِ ... مِن الأذى ومن قِراف الوَقْسِ

ويقال لها: «حَصان» أيضاً بفتح الحاء، قال حسان يصف عائشة رضي الله عنها: 1570 - حَصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ ... وتصبحُ غَرْثَى مِنْ لُحومِ الغَوافل والإِحصانُ في القرآن وَرَد، ويُراد به أحدُ أربعة معان: التزوج والعفة والحرية والإِسلام، وهذا تنفعك معرفته في الاستثناء الواقع بعده: فإن أُريد به هنا التزوُّجُ كان المعنى: وحُرِّمت عليكم المحصنات أي: المزوجات إلا النوعَ الذي ملكته أيمانكم: إما بالسَّبْي أو بمِلْكٍ مِنْ شَرْي وهبة وإرثٍ، وهو قولُ بعضِ أهل العلم، ويدلُ على الأول قولُ الفرزدق: 1571 - وذاتِ حَليلٍ أَنْكَحَتْها رماحُنا ... حَلالٌ لِمَنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ يعني: أنَّ مجردَ سبائِها أحلَّهَا بعد الاستبراءِ. وإنْ أُريد به الإِسلام أو العفةُ فالمعنى أنَّ المسلماتِ أو العفيفاتِ حرامٌ كلهن، يعني فلا يُزْنى بهن إلا ما مُلِك منهن بتزويجٍ أو مِلْك يمين، فيكون المرادُ ب {مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} التسلُّطَ عليهن وهو قَدْرٌ مشترك، وعلى هذه الأوجه الثلاثة يكونُ الاستثناء متصلاً. وإنْ أريد به الحرائرُ فالمرادُ إلا ما مُلِكت بمِلْكِ اليمينِ، وعلى هذا فالاستثناءُ منقطع. وقوله: {مِنَ النسآء} في محلِّ نصبٍ على الحالِ كنظيرِه المتقدم. وقال

مكي: «فائدةُ قولِه {مِنَ النسآء} أنَّ المُحْصَناتِ تقع على الأنفسِ، فقولُه {مِنَ النسآء} يرفعُ ذلك الاحتمال، والدليلُ على أنه يُراد بالمحصناتِ الأنفسُ قولُه: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] فلو أريد به النساءُ خاصة لَما حُدَّ مَنْ قذف رجلاً بنص القرآن، وقد أجمعوا على أنّ حَدَّه بهذا النصِّ» . انتهى. وهذا كلامٌ عجيب لأنه بعد تسليم ما قاله في آية النور كيف يَتَوهَّم ذلك هنا أحدٌ من الناس؟ قوله: {كِتَابَ الله} في نصبه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه منصوبٌ على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة قبله وهي قوله: «حُرِّمت» ، ونصبُه بفعل مقدر أي: كَتَبَ الله ذلك عليكم كتاباً. وأبعد عبيدة السلماني في جَعْلِه هذا المصدَر مؤكداً لمضمون الجملة من قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] . الثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراء ب «عليكم» والتقدير: عليكم كتابَ الله أي: الزموه كقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] ، وهذا رأي الكسائي ومَنْ تابعه، أجازوا تقديمَ المنصوب في باب الإِغراء مستدِلِّين بهذه الآيةِ، وبقولِ الآخر: 1572 - يا أيُّها المائحُ دَلْوي دونَكَا ... إني رأيْتُ الناسَ يَحْمَدونكا

ف «دلوي» منصوبٌ ب «دونَك» وقد تقدَّم. والبصريون يمنعون ذلك، قالوا: لأنَّ العاملَ ضعيف، وتأوَّلوا الآيةَ على ما تقدم، والبيتَ على أن «دلوي» منصوبٌ ب «المائح» أي: الذي ماح دَلْوي. والثالث: أنه منصوب بإضمار فعل أي: الزموا كتاب الله، وهذا قريبٌ من الإِغراء. وقال أبو البقاء في هذا الوجه: «تقديره: الزموا كتاب الله» و «عليكم» إغراء، يعني أن مفعوله قد حُذف للدلالة ب «كتاب الله» عليه، أي: عليكم ذلك، فيكون أكثر تأكيداً. وأمَّا «عليكم» فقال أبو البقاء: إنها على القول بأن «كتاب» مصدرٌ يتعلق بذلك الفعل المقدر الناصبِ ل «كتاب» ولا يتعلَّق بالمصدر «قال:» لأنه هنا فَضْله «. قال:» وقيل: يتعلَّق بنفسِ المصدر/ لأنه ناب عن الفعل، حيث لم يُذكر معه فهو كقولك: مروراً بزيد قلت: وأمَّا على القول بأنه إغراء فلا محلَّ له لأنه واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر، وأمَّا على القولِ بأنه منصوبٌ بإضمار فِعْلٍ أي: الزموا ف «عليكم» متعلِّقٌ بنفس «كتاب» أو بمحذوف على أنه حال منه. وقرأ أبو حيوة «كَتَبَ اللهُ» على أن «كتب» فعل ماض، و «الله» فاعل به، وهي تؤيد كونَه منصوباً على المصدر المؤكد. وقرأ ابن السَّمَيْفَع اليماني: «كُتُبُ الله» جعله جمعاً مرفوعاً مضافاً لله تعالى على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديره: هذه كتبُ الله عليكم. قوله: {وَأُحِلَّ} قرأ الأخوان وحفص عن عاصم: «أَحَلَّ» مبنياً للمفعول، والباقون مبنياً للفاعل، وكلتا القراءتين الفعلُ فيهما معطوفٌ على

الجملةِ الفعليةِ من قولِه: «حُرِّمَتْ» والمُحَرِّمُ والمُحَلِّلُ هو الله تعالى في الموضعين، سواءً صَرَّحَ بإسناد الفعلِ إلى ضميره أو حَذَف الفاعل للعلم به. وادَّعى الزمخشري أن قراءة «أُحِلَّ» مبنياً للمفعول عطفٌ على «حُرِّمت» ليُعْطَفَ فعلٌ مبني للمفعول على مثله، وأما على قراءة بنائه للفاعل فجعله معطوفاً على الفعل المُقدَّر الناصب ل «كتاب» كأنه قيل: كَتَب الله عليكم تحريمَ ذلك وأَحَلَّ لكم ما وراء ذلكم. قال الشيخ: «وما اختاره يعني من التفرقه بين القراءتين غيرُ مختار؛ لأنَّ الناصبَ ل» كتابَ الله «جملةٌ مؤكدة لمضمون الجملة من قوله» حُرِّمت «إلى آخره، وقوله» وأَحَلَّ لكم «جملةٌ تأسيسية فلا يناسِبُ أن تُعْطَفَ إلا على تأسيسية مثلِها لا على جملةٍ مؤكدة، والجملتان هنا متقابلتان، إذ إحداهما للتحريم والأخرى للتحليل، فالمناسب أن تُعطف إحداهما على الأخرى لا على جملة أخرىغيرِ الأولى، وقد فَعَلَ هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول فليكن هذا مثلَه» وفي هذا الردَّ نظر. و {مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مفعولٌ به: إمَّا منصوبُ المحل أو مرفوعُه على حَسَبِ القراءتين في «أحلَّ» . قوله: {أَن تَبْتَغُواْ} في محلِّه ثلاثةُ أوجه: الرفع والنصب والجر، فالرفعُ على أنه بدل من {مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} على قراءة «أُحِلَّ» مبنياً للمفعول؛ لأن «ما» حينئذ قائمةٌ مقامَ الفاعل، وهذا بدلٌ منها بدلُ اشتمال. وأمَّا النصبُ فالأجودُ أن يكون على أنه بدل من «ما» المتقدمة على قراءة «أَحَلَّ» مبنياً للفاعل، كأنه

قال: وأَحَلَّ الله لكم الابتغاء بأموالكم من تزويج أو مِلْك يمين. وأجاز الزمخشري أن يكونَ نصبُه على المفعول من أجله، قال «بمعنى: بَيَّن لكم ما يَحِلُّ مِمَّا يَحْرُم إرادةَ أن يكون ابتغاؤكم بأموالِكم التي جعل الله لكم قياماً في حال كونِكم محصنين» . وأنحى عليه الشيخ، وجَعَلَه إنما قصد بذلك دسيسةَ الاعتزال ثم قال: «وظاهرُ الآية غيرُ ما فهمه، إذ الظاهر أنه تعالى أَحَلَّ لنا ابتغاء ما سوى المحرماتِ السابقِ ذكرُها بأموالنا حالةَ الإِحصان لا حالةَ السِّفاح، وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يُعْرَبَ» أن تبتغوا «مفعولاً له، لأنه فات شرطٌ من شروطِ المفعولِ له وهو اتحادُ الفاعلِ في العامل والمفعول له، لأنَّ الفاعلَ ب» أحلَّ «هو الله تعالى والفاعلَ في» تبتغوا «ضميرُ المخاطبين فقد اختلفا، ولمَّا أحسَّ الزمخشري إن كان أحسَّ جعل» أن تبتغوا «على حذفِ» إرادة «حتى يتحدَ الفاعل في قوله» وأحلَّ «وفي المفعولِ له، ولم يجعل» أن تبتغوا «مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامتِه مقامَه، وهذا كلُّه خروج عن الظاهر» . انتهى. ولا أدري ما هذا التَحمُّلُ، ولا كيف يَخْفى على أبي القاسم شرطٌ اتحاد الفاعل في المفعول له حتى يقول «إن كان أحسَّ» !!! وأجاز أبو البقاء فيه النصبَ على حذف حرف الجر، قال أبو البقاء: «وفي» ما «يعني من قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وجهان، أحدُهما: هي بمعنى» مَنْ «، فعلى هذا يكون قوله» أن تبتغوا «في موضع جر أو نصب على تقدير: بأن تبتغوا أو لأنْ تبتغوا، أي: أُبيح لكم غيرُ مَنْ ذكرنا من النساء

بالمهور، والثاني: أن» ما «بمعنى الذي، والذي كنايةٌ عن الفعل أي: وأحَلَّ لكم تحصيلَ ما وراء ذلك الفعلِ المحرَّمِ، و» أن تبتغوا «بدلٌ منه، ويجوز أن يكونَ أصلُه بأن تبتغوا، أو لأن تبتغوا. وفي ما قاله نظر لا يخفى. وأمَّا الجرُّ فعلى ما ذكره أبو البقاء. وقد تقدَّم ما فيه. و {مُّحْصِنِينَ} حال من فاعل» تَبْتغوا «، و» غيرَ مسافحين «حالٌ ثانية، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضمير في» مُحْصِنين «، ومفعول محصنين ومسافحين محذوف أي: مُحْصِنين فروجَكم غير مسافحين الزواني، وكأنها في الحقيقة حال مؤكدة لأن المُحْصِن غيرُ مسافِحٍ. ولم يقرأ أحد بفتح الصاد من» محصنين «فيما علمت. قوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ} يجوزُ في» ما «وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطيةً. والثاني: أن تكونَ موصولةً. وعلى كلا التقديرين فيجوز أن يكونَ المرادُ بها النساءَ المستمتَع بهن أي: النوعَ المُسْتمتع به، وأن يراد بها الاستمتاعُ الذي هو الحدثُ. وعلى جميع الأوجه المتقدمة فهي في محل رفع بالابتداء، فإنْ كانت شرطيةً ففي خبرها الخلاف المشهور: هل هو فعلُ الشرط أو جوابُه أو كلاهما؟ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. وإن كانت موصولةً فالخبرُ قولُه: {فَآتُوهُنَّ} ، ودخلت الفاءُ لشبهِ الموصولِ باسم الشرط، وقد تقدَّم أيضاً تحقيقه. ثم إنْ أُريد بها النوعُ المستمتعُ به فالعائدُ على المبتدأ سواءً كانت» ما «شرطاً أو موصولةً الضميرُ المنصوب في» فآتوهن «، ويكون قد راعَى لفظَ» ما «تارة فأَفْرد في قوله» به «ومعناها أخرى، فَجَمع في قوله» منهن «

و» فآتوهن «، فيصيرُ المعنى: أيَّ نوع من النساء استمتعتم به فآتوهُنَّ، أو النوعَ الذي استمتعتم به من النساء فآتوهن، وإنْ أريد بها الاستمتاع فالعائدُ حينئذ محذوفٌ تقديره: فأيَّ نوع من الاستمتاع استمتعتم به من النساء فآتوهُنَّ أجورهن لأجلِه، أو: أيَّ نوع من الاستمتاع الذي استمتعتم به من النساء فآتوهن أجورهُنَّ لأجله. و «مِنْ» في «منهم» تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون للبيان. والثاني: أن تكون للتبعيض، ومحلُّها النصب على الحال من الهاء في «به» ولا يجوز في «ما» أن تكون مصدرية لفسادِ المعنى، ولعَوْدِ الضميرِ في «به» عليها. / والسِّفاح: الزنا، وأصله الصَبُّ، لأن الزاني يَصُبُّ فيه، وكانوا يقولون: سافحيني وماذيني. والمسافِحُ: مَنْ تظاهر بالزنا، ومتخذ الأخدان مَنْ تَسَتَّر فاتخذ واحدة خفية. قوله: {فَرِيضَةً} حالٌ من «أجورهن» أو مصدرٌ مؤكِّد أي: فرض الله ذلك فريضة، أو مصدرٌ على غير الصدر؛ لأن الإِيتاء مفروض فكأنه قيل: فآتوهُنَّ أجورَهنَّ إيتاءً مفروضاً.

25

قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ} : «مَنْ» شرطية وهو الظاهر، ويجوز أن تكون موصولةً. وقوله: «فممَّا ملكت» : إمَّا جوابُ الشرط وإما خبر الموصول، وشروطُ دخولِ الفاء في الخبر موجودةٌ. و «منكم» في محل نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «يستطِعْ» . وفي نَصْب «طَوْلاً» ثلاثة أوجه أظهرها: أنه مفعول ب «يستطع» ، وفي

قوله: «أن ينكحَ» على هذا ثلاثة أقوال، القول الأول: أنه في محلِّ نصب ب «طَوْلاً» على أنه مفعولٌ بالمصدر المنون؛ لأنه مصدر «طُلْت الشيء» أي: نِلْتُه، والتقدير: ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات. ومثلُه قول الفرزدق: 1573 - إن الفرزدق صخرةٌ ملمومَةٌ ... طالَتْ فليسَ ينالها الأوعالا أي: طالت الأوعال فلم تَنَلْها، وإعمالُ المصدر المنون كثير، قال: 1574 - بضربٍ بالسيوف رؤوسَ قومٍ ... أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيل وقولُ الله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا} [البلد: 14-15] ، وهذا الوجه ذهب [إليه] الفارسيّ. القول الثاني: أنَّ «أَنْ ينكحَ» بدلٌ من «طَوْلاً» بدلُ الشيء من الشيء؛ لأنَّ الطَّوْل هو القدرةُ أو الفَصْلُ، والنكاحُ قدرةٌ وفَصْلٌ. القول الثالث: أنَّه على حذفِ حرفِ الجر، ثم اختلف هؤلاء: فمنهم مَنْ قَدَّره ب «إلى» أي: طَوْلاً إلى أن ينكحَ، ومنهم مَنْ قَدَّره باللام، أي: لأنْ ينكِحَ، وعلى هذين التقديرين فالجارُّ في محل الصفة ل «طَوْلاً» فيتعلق بمحذوفٍ، ثم لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجر جاء الخلاف المشهور في محل «أَنْ» أنصبُ هو أم جر؟ وقيل: اللامُ المقدرة مع «أنْ» هي لامُ المفعول من أجله أي: طَوْلاً لأجل نكاحِهِنَّ.

الوجه الثاني مِنْ نصب «طولاً» أن يكونَ مفعولاً له على حذف مضافٍ أي: ومَنْ لم يستطعْ منكم لعدمِ طَوْل نكاح المحصنات، وعلى هذا ف «أن ينكح» مفعولٌ «يستطع» أي: ومَنْ لم يستطِعْ نِكاح المحصناتِ لعدمِ الطَّوْل. الوجه الثالث: أن يكونَ منصوباً على المصدر، قال ابن عطية: «ويَصِحُّ أن يكونَ» طَوْلاً «نصباً على المصدر، والعامل فيه الاستطاعة لأنهما بمعنى، و» أن ينكح «على هذا مفعولٌ بالاستطاعة أو بالمصدر» يعني أن الطَّوْل هو استطاعةٌ في المعنى فكأنه قيل: ومَنْ لم يستطع منكم استطاعةً. قوله: «فممَّا» الفاء قد تقدم أنها: إمَّا جوابُ الشرط، وإما زائدةٌ في الخبر على حَسَب القولين في «مَنْ» . وفي هذه الآية سبعة أوجه، أحدها: أنها متعلقة بفعل مقدر بعد الفاء تقديره: فلينكحْ مِمَّا مَلَكَتْه أيمانكم، و «ما» على هذا موصولةٌ بمعنى الذي، أي: النوعَ الذي ملكته، ومفعولُ ذلك الفعل المقدر محذوف تقديره: فلينكح امرأة أو أَمَةً مِمَّا ملكته أيمانكم، ف «مما» في الحقيقة متعلق بمحذوف؛ لأنه صفة لذلك المفعولِ المحذوفِ، و «مِنْ» للتبعيض نحو: أكلت من الرغيف، و «من فتياتكم» في محل نصب على الحال من الضمير المقدر في «مَلَكَتْ» العائدِ على «ما» الموصولة، و «المؤمناتِ» صفةٌ ل «فتياتِكم» . الثاني: أن تكونَ «مِنْ» زائدةً و «ما» هي المفعولةُ بذلك الفعل المقدر أي: فلينكح ما ملكَتْه أَيْمانكم. الثالث: أن «مِنْ» في «من فتياتكم» زائدة، و «فتياتِكم» هو مفعولُ ذلك الفعل المقدر أي: فلينكح فتياتِكم، و «مِمَّا ملكت» متعلقٌ بنفسِ الفعل، و «من» لابتداء الغاية، أو بمحذوفٍ على أنه حال من «فتياتكم» قُدِّمَ عليها، و «مِنْ» للتبعيض. الرابع: أن مفعول «فلينكح»

هو المؤمنات أي: فلينكح الفتيات المؤمنات، و «مِمَّا ملكت» على ما تقدم في الوجه قبله، و «من فتياتكم» حالٌ من ذلك العائد المحذوف. الخامس: أنَّ «مما» في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: فالمنكوحة مما ملكت. السادس: أن «ما» في «ممَّا» مصدريةٌ أي: فلينكح مِنْ مِلْك أيمانكم، ولا بد أن يكونَ هذا المصدرُ واقعاً موقع المفعول نحو: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] ليَصِحَّ وقوع النكاح عليه. السابع وهو أغربُها ونُقِل عن جماعة منهم ابن جرير «أن في الآية تقديماً وتأخيراً وأن التقدير: ومَنْ لم يستطع منكم طوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضُكم من بعض الفتيات، ف» بعضُكم «فاعل ذلك الفعل المقدر، فعلى هذا يكون قوله: {والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} معترضاً بين ذلك الفعل المقدر وفاعِله. ومثلُ هذا لا ينبغي أن يقال. قوله: {والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، وجيء بها بعد قوله {مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات} ليفيدَ أنَّ الإِيمان الظاهر كافٍ في نكاحِ الأَمَةِ المؤمنةِ ظاهراً، ولا يشترط في ذلك أَنْ يَعْلَمَ إيمانَها علماً يقيناً، فإنَّ ذلك لا يطَّلِعُ عليه إلا اللهُ تعالى، وفيه تأنيس أيضاً بنكاحِ الإِماء فإنهم كانوا يَنْفِرون من ذلك. قوله: {بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} مبتدأٌ وخبر أيضاً، جيء بهذه الجملة أيضاً تأنيساً بنكاح الإِماء كما تقدم، والمعنى: أن بعضكم من جنس بعض في النسب والدين، فلا يترفَّع الحُرُّ عن نكاح الأمةِ عند الحاجة إليه، وما أحسنَ قولَ أمير المؤمنين علي:» الناسُ من جهة التمثيل أَكْفاء، أبوهم آدم والأم حواء «. قوله: {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} متعلق ب» انكحوهن «، وقَدَّر بعضهم مضافاً محذوفاً أي بإذنِ أهل ولايتهن، وأهلُ ولايةِ نكاحهنَّ هم المُلاَّك. و «بالمعروف» فيه

ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه متعلق ب «آتوهُنَّ» أي: آتوهن مهورَهنَّ بالمعروف. / الثاني أنه حال من «أجورهن» أي: ملتبساتٍ بالمعروف يعني غيرَ ممطولةٍ. والثالث: أنه متعلق بقوله: «فانكِحوهن» أي: فانكِحوهن بالمعروف بإذن أهلهن ومَهْرِ مثلهن والإِشهاد عليه، وهذا هو المعروف. وقيل: في الكلام حذف تقديره: وآتوهُنَّ أجورهن بإذن أهلهن، فحذف من الثاني لدلالة الأولِ عليه نحوُ: {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات} [الأحزاب: 35] أي: الذاكرات اللهَ. وقيل: ثَمَّ مضافٌ مقدر أي: وآتوا مواليَهن أجورَهُنَّ، لأنَّ الأَمَة لا يُسَلَّمُ لها شيءٌ من المهر. قوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} حالان من مفعول «فآتوهن» ومحصنات على هذا بمعنى مُزَوَّجات. وقيل: محصنات حالٌ من مفعول «فانكحوهن» ، ومحصنات على هذا بمعنى عفائفَ أو مسلمات، والمعنى: فانكحوهن حالَ كونهن محصناتٍ لا حالَ سِفاحِهن واتخاذِهِنَّ للأخْدان. وقد تقدَّم أن «محصنات» بكسرِ الصادِ وفتحِها، وما معناها، وأنَّ «غيرَ مسافحين» حالٌ مؤكدة. {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ} عطفٌ على الحال قبله. والأخْدان مفعول ب «متخذات» لأنه اسمُ فاعل، وأخدان جمع «خِدْن» ، ك: عِدل وأَعْدال، والخِدْن: الصاحب، وقد تقدَّم أن المسافح هو المجاهر بالزنى ومتخذَ الأخدانِ هو المستترُ به، وكذلك هو في النساء، وكان الزنى في الجاهلية منقسماً إلى هذين القسمين. قوله: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «أُحْصِنَّ» بضم الهمزة وكسر الصاد على البناء للمفعول، والباقون

بفتحهما على البناء للفاعل، فمعنى الأولى: «فإذا أُحْصِنَّ بالتزوج» فالمُحْصِنُ لهنّ هو الزوج، ومعنى الثانية: «فإذا أَحْصَنَّ فروجَهن أو أزواجَهن» وهو واضح مما تقدم. والفاء في «فإنْ» جواب «إذا» وفي «فعليهن» جواب «إنْ» ، فالشرطُ الثاني وجوابه مترتِّبٌ على وجود الأول، ونظيره: «إن أكلت فإنْ ضربت عمراً فأنت حر» لا يُعْتق حتى يأكلَ أولاً ثم يضربَ عمراً ثانياً، ولو أسقطت الفاء الداخلة على «إن» في مثل هذا التركيب انعكس الحكمُ، ولزم أن يَضْرب أولاً ثم يأكل ثانياً. وهذا يُعْرف من قواعد النحو، وهو أن الشرط الثاني يُجعل حالاً فيجب التلبُّسُ به أولاً. قوله: {مِنَ العذاب} متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في صلةِ «ما» وهو «على» ، فالعاملُ فيها معنوي، وهو في الحقيقةِ ما تعلَّق به هذا الجار، ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً من «ما» المجرورةِ بإضافة «نصف» إليها؛ لأنَّ الحالَ لا بد أن يعمل فيها ما يعمل في صاحبها، و «نصفُ» هو العامل في صاحبِها الخفضَ بالإِضافة، ولكنه لا يعمل في الحال لأنه ليس من الأسماء العاملة، إلاَّ أن بعضهم يَرى أنه إذا كان جزءاً من المضافِ جازَ ذلك فيه، والنصفُ جزءٌ فيجوز ذلك. قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ} «ذلك» مبتدأ، و «لِمَنْ خشي» جارٌّ ومجرور خبرُه، والمشار إليه ب «ذلك» إلى نكاح الأمة المؤمنة لِمَنْ عَدِم الطَّوْلَ. والعَنَتْ في الأصل انكسارُ العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة، وأُريد به هنا ما يَجُرُّ إليه الزنى من العقاب الدنيوي والأخروي، و «منكم» حالٌ من الضمير

في «خَشِي» أي: في حالِ كونه منكم. ويجوز أن تكونَ «مِنْ» للبيان. قوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} مبتدأ وخبر لتأوُّلِه بالمصدر وهو كقوله: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] .

26

قوله تعالى: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ} : في مثلِ هذا التركيبِ للناسِ مذاهبُ: مذهب البصريين أن مفعول «يريد» محذوف تقديره: يريد الله تحريمَ ما حَرَّمَ وتحليلَ ما حَلَّل وتشريعَ ماتقدَّم لأجلِ التبيين لكم، ونَسَبه بعضُهم لسيبويه، فمتعلَّقُ الإِرادة غيرُ التبيين وما عُطِف عليه، وإنما تأولوه بذلك لئلا يلزَم تعدِّيَ الفعلِ إلى مفعولِه المتأخر عنه باللام وهو ممتنعٌ، وإلى إضمارِ «أَنْ» بعد اللام الزائدة. والمذهب الثاني: ويعزى أيضاً لبعض البصريين أَنْ يُقَدَّر الفعلُ الذي قبل اللام بمصدرِ في محل رفع بالابتداء، والجار بعده خبره، فيقدر {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ} إرادةُ الله للتبيين، وقوله: 1575 - أريدُ لأنْسَى ذِكْرَها. . . . . . . . ... أي: إرادتي، وقوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} أي: أُمِرْنا بما أُمِرْنا [به] لنسلمَ، وفي هذا القولِ تأويلُ الفعل بمصدر من غير حرف مصدر، وهو ضعيف نحو: «تَسْمَعُ بالمُعَيْدَيِّ خيرٌ مِنْ تراه» قالوا: تقديره: «أنّْ تسمعَ» فلمَّا حَذَفَ «أن» رَفَع الفعل، وهو في تأويل المصدر لأجل الحرف

المقدر فكذلك هذا، فلامُ الجر على الأول في محل نصب لتعلُّقها ب «يريد» وعلى هذا الثاني في محلِّ رفع لوقوعها خبراً. الثالث: وهو مذهب الكوفيين أن اللامَ هي الناصبة بنفسها من غير إضمار «أَنْ» ، وهي وما بعدها مفعول الإِرادة، ومنع البصريون ذلك؛ لأن اللامَ ثَبَت لها الجر في الأسماء، فلا يجوز أن يُنْصَبَ بها، فالنصب عندهم بإضمار «أن» كما تقدم. الرابع: وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء أن اللامَ زائدة، و «أَنْ» مضمرة بعدها، والتبيينُ مفعولُ الإِرادة. قال الزمخشري: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ} يريد اللهُ أن يبيِّن، فزيدت اللامُ مؤكدة لإِرادة التبيين، كما زيدت في «لا أبا لك» لتأكيد إضافة الأب «. وهذا كما رأيت خارجٌ عن أقوال البصريين والكوفيين، وفيه أنَّ» أنْ «تضمر بعد اللام الزائدة، وهي لا تُضْمر فيما نص النحويون بعد لامٍ وتلك اللامُ للتعليل أو للجحود. وقال بعضهم: اللامُ هنا لام العاقبة كهي في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] ، ولم يَذْكُر مفعولَ التبيين، بل حَذَفه للعلم به، فقدَّره بعضهم:» ليبين لكم ما يقرِّبكم «، وبعضُهم:» أن الصبر عن نكاح الأماء خيرٌ «، وبعضُهم:» ما فَصَّل من الشرائع «، وبعضهم:» أمرَ دينكم «وهي متقاربة. ويجوز في الآية وجهٌ آخرُ حسنٌ: وهو أَنْ تكونَ المسألةُ من باب الإِعمال: تنازع» يبيِّن «و» يَهْدي «في {سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ} ؛ لأنَّ كلاً منهما يَطْلبه من جهة المعنى، وتكونُ المسألة من إعمال الثاني، وحَذَفَ الضميرَ من

الأول تقديرُه: ليبيِّنهَا لكم ويهديَكم سنن الذين من قبلكم، والسُّنَّة: الطريقة، ويؤيد هذا أن المفسرين نقلوا أنَّ كل ما بَيَّن لنا تحريمَه وتحليلَه من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكمُ كذلك أيضاً في الأمم السالفة، أو أنه بَيَّن لكم المصالحَ؛ لأنَّ الشرائعَ وإنْ كانت مختلفةً في نفسِها إلا أنها متفقةٌ في المصلحة.

27

وزَعم بعضُهم أنَّ في قوله تعالى: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} : تكريراً لقولِه: {يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} المعطوفَ على «ليبين» . قال ابن عطية: «وتكرارُ إرادة الله للتوبة على عباده تقويةٌ للإِخبار الأول، وليس القصدُ في الآيةِ إلا الإِخبارَ عن إرادة الذين يتَّبعون الشهوات، فَقُدِّمت إرادةُ اللهِ توطئةً مُظْهِرَةً لفسادِ إرادةِ مُتَّبعي الشهوات» . وهذا الذي قاله إنما يتمشَّى على أنَّ المجرور باللام في قوله «ليبين» مفعول به للإِدارة لا على كونِه علةٍ، وقد تقدَّم أن ذلك قولُ الكوفيين وهو ضعيف وقد ضَعَّفه هو أيضاً. وإذا تقرَّر هذا فنقولُ: لا تكرار في الآية؛ لأنَّ تعلُّقَ الإِرادة بالتوبة في الأولِ على جهة العِلَّيَّة، وفي الثاني على جهةِ المفعولية، فقد اختلف المتعلَّقان. قوله: {وَيُرِيدُ الذين} بالرفعِ عطفاً على «والله يريد» عَطَفَ جملةً فعلية على جملة اسمية، ولا يجوز أن يتنصِبَ لفساد المعنى، إذ يصير التقدير: «والله يريدُ أن يتوبَ ويريدُ أن يريدَ الذين» . واختار الراغب أن الواوَ للحال تنبيهاً على أنه يريد التوبةَ عليكم في حال ما يريدون أن تَميلوا، فخالف بين الإِخبارين في تقديمِ المُخْبَرِ عنه في الجملة الأولى وتأخيره في الثانية،

ليبين أنَّ الثاني ليس على العَطفِ «. وقد رُدَّ عليه بأن إرادةَ اللَّهِ التوبةَ ليست مقيدةً بإرادةِ غيرِه الميلَ، وبأن الواوَ باشَرَتِ المضارعَ المثبت. وأتى بالجملةِ الأولى اسميةً دلالةً على الثبوتِ، وبالثانيةِ فعليةً دلالةِ على الحُدوث.

28

قوله تعالى: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ} : في هذه الجملة احتمالان أحدهما: وهو الأصحُّ أنها مستأنفة لا محل لها من الإِعراب. والثاني: أنها حالٌ من قوله: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ} العامل فيها «يريد» أي: واللهُ يريدُ أن يتوبَ عليكم يريد أن يخفف عنكم. وفي هذا الإِعرابِ نظرٌ من وجهين، أحدُهما: أنه يؤدِّي إلى الفصل بين الحال وبين عاملها بجملةٍ معطوفة على جملةِ العامل في الحال ضِمْنَ تلك الجملة المعطوف عليها، والجملةُ المعطوفة وهي «ويريد الذين يتبعون» جملةٌ أجنبية من الحال وعامِلها. والثاني: أن الفعل الذي وقع حالاً رفع الاسم الظاهرَ فوقعَ الربطُ بالظاهر، لأنَّ «يريد» رفَعَ اسم الله/ وكان من حقه أن يرفع ضميرَه، والربطُ بالظاهر إنما وقع في الجملة الواقعة خبراً أو صلة، أما الواقعةُ حالاً وصفةً فلا، إلا أَنْ يَرِدَ به سماع، ويصير هذا الإِعراب نظيرَ: «بكر يخرج يضربُ بكر خالداً» . ولم يذكر مفعولَ التخفيف فهو محذوفٌ فقيل: تقديرُه: يخفف عنكم تكليفَ النظرِ وإزالةَ الحيرة. وقيل: إثمَ ما ترتكبون. قوله: «ضعيفاً» في نصبه أربعة أوجه، الأظهر: أنه حال من «الإِنسان» وهي حال مؤكدة. الثاني: أنه تمييز قالوا: لأنه يَصْلُح لدخول «مِنْ» وهذا غلط. الثالث: أنه على حذف حرف الجر، والأصل: خُلِق من شيء ضعيف أي: من ماء مهين أو من نطفة، فلما حُذف الموصوف وحرف الجر وَصَل الفعل إليه بنفسه فنصبه. والرابع: وإليه أشار ابن عطية أنه منصوبٌ على

أنه مفعول ثان ب «خلق» ، قالوا: ويَصِحُّ أن يكون «خُلِق» بمعنى «جُعِل» فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين، فيكون قوله «ضعيفاً» مفعولاً ثانياً، وهذا الذي ذكره غريبٌ لم نرهم نصُّوا على أن «خلق» يكون ك «جعل» فيتعدى لاثنين مع حَصْرهم للأفعال المتعدية لاثنين، بل رأيناهم يقولون: إن «جعل» إذا كانت بمعنى «خلق» تَعَدَّتْ لواحد.

29

قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ} : في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: وهو الأصح أنه استثناء منقطع لوجهين، أحدهما: أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل حتى يستثنى عنها، سواء فَسَّرت الباطل بغير عوض أو بغير طريق شرعي. والثاني: أن المستثنى كون، والكونُ ليس مالاً من الأموالِ. والثاني: أنه متصلٌ، واعتلَّ صاحب هذا القول بأن المعنى: لا تأكلوها بسببٍ إلاَّ أَنْ تكونَ تجارةً. قال أبو البقاء: «وهو ضعيف، لأنه قال:» بالباطل «، والتجارةُ ليست من جنس الباطل، وفي الكلام حذفُ مضاف تقديره: إلا في حال كونِها تجارةً أو في وقت كونِها تجارةً» . انتهى. ف «أن تكون» في محلِّ نصبٍ على الاستثناء وقد تقدَّم لك تحقيقُ ذلك. وقرأ الكوفيون: «تجارةً» نصباً على أنَّ «كان» ناقصة، واسمُها مستتر فيها يعود على الأموالِ، ولا بد من حذف مضاف من «تجارة» تقديره: إلا أن تكونَ الأموال أموالَ تجارة، ويجوز أن يُفَسَّر الضمير بالتجارة بعدها أيَ: أن تكون التجارةُ تجارةً كقوله: 1576 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْنعا

أي: إذا كان اليومُ يوماً، واختار أبو عبيد قراءة الكوفيين. وقرأ الباقون «تجارةٌ» رفعاً على أنها «كان» التامة. قال مكي: «الأكثرُ في كلام العرب أنَّ قولهم: {إِلاَّ أَن تَكُونَ} في الاستثناء بغيرِ ضمير فيها، على معنى يَحْدُث ويَقَعُ» . وقد تقدم القول في ذلك في البقرة. و {عَن تَرَاضٍ} متعلق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «تجارة» ، فموضعه رفع أو نصب على حَسَبِ القراءتين. وأصل «تراض» «تراضِوٌ» بالواو، لأنه مصدر تراضى تفاعلَ من رَضِي، ورَضِي من ذوات الواو بدليل الرُّضوان، وإنما تطرَّفت الواو بعد كسرة فقلبت ياء فقلت: تراضياً. و «منكم» صفة ل «تراضٍ» فهو في محل جر، و «من» لابتداء الغاية. وقرأ علي رضي الله عنه: «تُقَتِّلوا» بالتشديد على التكثير، والمعنى: لا يقتلْ بعضكم بعضاً.

30

قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ} : «مَنْ» شرطية مبتدأ، والخبر: «فسوف» ، والفاء هنا واجبة لعدم صلاحية الجواب للشرط، و «ذلك» إشارةٌ إلى قَتْل الأنفس. و «عدواناً وظلماً» حالان أي: معتدياً ظالماً أو مفعولٌ من أجلِها، وشروطُ النصب متوفرة. وقرىء: «عِدواناً» بكسر العين. وقرأ الجمهور «نُصْليه» من أصلى والنون للتعظيم. وقرأ الأعمش: «نُصَلِّيه» مشدداً، وقرىء «نَصليه» بفتح النون، من صَلَيْتُه النار. ومنه «شاة مَصْلِيَّة» . و «يَصْليه» بياء الغيبة. وفي الفاعلِ احتمالان، أحدُهما: أنه ضمير الباري تعالى. والثاني: أنه ضمير عائد على ما أشير ب «ذلك» إليه من القتل، لأنه سببٌ في ذلك. ونَكَّر «ناراً» تعظيماً.

31

وقرأ ابن جبير وابن مسعود {كبير} : بالإِفراد، والمراد به الكفر. وقرأ المفضل «يُكَفِّرْ» و «يُدْخِلْكم» بياء الغيبة لله تعالى. وابن عباس «مِنْ سيئاتكم» بزيادة «من» . وقرأ نافع وحده هنا وفي الحج: «مَدْخَلاً» بفتح الميم، والباقون بضمها، ولم يختلفوا في ضم التي في الإِسراء. فأما المضمومُ الميمِ فإنه يحتمل وجهين، أحدهما: أنه مصدر، وقد تقرَّر أن اسم المصدر من الرباعي فما فوقَه كاسمِ المفعول، والمَدْخول فيه على هذا محذوفٌ أي: ويُدْخِلْكم الجنة إدخالاً. والثاني: أنه اسم مكان الدخول، وفي نصبِه حينئذ احتمالان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على الظرف، وهو مذهبُ سيبويه. والثاني: أنه مفعولٌ به وهو مذهب الأخفش. وهكذا كلُّ مكان مختص بعد «دخل» فإن فيه هذين المذهبين وهذه القراءةُ واضحةٌ؛ لأنَّ اسم المصدر والمكان جاريان على فعليهما. وأمَّا قراءة نافع فتحتاج إلى تأويل، وذلك لأن المفتوح الميم إنما هو من الثلاثي، والفعلُ السابق لهذا كما رأيت رباعي، فقيل: إنه منصوب بفعلٍ مقدر مطاوع لهذا الفعل، والتقدير: يُدْخلكم فتدخلون مَدْخلاً، و «مَدْخلاً» منصوب على ما تقدم: إمَّا المصدريةِ وإمَّا المكانيةِ بوجهيها.

وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] على أحد القولين.

32

و {ما} في قوله تعالى: {مَا فَضَّلَ الله} : موصولةٌ أو نكرة موصوفة، والعائدُ الهاءُ في «به» . و «بعضَكم» مفعول ب «فَضَّل» و «على بعض» متعلق به. قوله: {واسألوا} : الجمهورُ على إثباتِ الهمزة في الأمر من السؤال الموجَّه نحو المخاطب إذا تقدَّمه واو أو فاء نحو: {فَاسْأَلِ الذين} [يونس: 94] {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] . وابن كثير والكسائي بنَقْل حركةِ الهمزة إلى السين تخفيفاً لكثرةِ استعماله. فإنْ لم تتقدَّمه واو ولا فاء فالكل على النقل نحو: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 211] ، وإن كان لغائب فالكل على الهمز نحو: {وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} [الممتحنة: 10] . ووهم ابن عطية فنقل اتفاقَ القراء على الهمز في نحو: {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ} [الممتحنة: 10] وليس اتفاقهم في هذا بل في {وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} كما تقدم. وتخفيفُ الهمز لغة الحجاز، ويحتمل أن يكون ذلك من لغةِ مَنْ يقول: «سال يسال» بألفٍ محضة، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة عند «سَلْ بني إسرائيل» فعليك بالالتفات إليه، وهذا إنما يتأتَّى في «سل» و «فسل» وأما «وسَلوا» فلا يتأتَّى فيه ذلك؛ لأنه كان ينبغي أن يُقال: سالوا كخَافوا، وقد يقال: إنه التزَم الحذفَ لكثرةِ الدَّوْر.

وهو يتعدَّى لاثنين، والجلالةَ مفعول أول، وفي الثاني قولان، أحدهما: أنه محذوف فقدَّره ابن عطية: «أمانيَّكم» ، وقدره غيره: شيئاً من فضله، فحذف الموصوف وأبقى صفته نحو: «أطعمته من اللحم» أي: شيئاً منه، و «مِنْ» تبعيضية. والثاني: أن «مِنْ» زائدة، والتقدير: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} ، وهذا إنما يتمشى على رأي الأخفش لفقدانِ الشرطين، وهما تنكيرُ المجرور وكونُ الكلام غيرَ موجَبٍ.

33

قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} : فيه ستة أوجه، وذلك يستدعي مقدمة قبله، وهو أن «كل» لا بُدَّ لها من شيءٍ تُضاف إليه. واختلفوا في تقديره: قيل: تقديرُه: «ولكلِّ إنسانٍ» ، وقيل: لكل مال، وقيل: لكل قوم، فإنْ كان التقدير: «لكلِّ إنسان» ففيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: «ولكلِّ إنسانٍ موروثٍ جعلنا مواليَ» أي: وُرَّاثاً مِمَّا ترك، ففي «ترك» ضمير عائد على «كل» وهنا تم الكلام، ويتعلق «مِمَّا ترك» ب «مواليَ» لِما فيه من معنى الوراثة، أو بفعل مقدَّرٍ أي: يَرِثون مما. «مواليَ» مفعول أول ل «جعل» بمعنى صَيَّر، و «لكل» جارٌ ومجرور هو المفعول الثاني قُدِّم على عامِلِه، ويرتفع «الوالدان» على خبر مبتدأ محذوف، أو بفعل مقدر أي: يَرِثون مما، كأنه قيل: ومَنْ الوارث؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون، والأصل: «وجعلنا لكلِّ ميتٍ وُرَّاثاً يَرِثون ممَّا تركه هم الوالدان والأقربون. والثاني: أنَّ التقديرَ:» ولكلِّ إنسانٍ موروثٍ جَعَلنا وُرَّاثاً مما ترك ذلك الإِنسان «ثم بَيَّن الإِنسانَ المضافَ إليه» كل «بقوله: الوالدان، كأنه قيل: ومَنْ هو هذا الإِنسانُ الموروث؟ فقيل: الوالدان والأقربون. والإِعرابُ كما تقدَّم في الوجهِ قبله. وإنما الفرق بينهما أن الوالدين في الأول وارثون، وفي الثاني

مَوْروثون، وعلى هذين الوجهين فالكلام جملتان، ولا ضمير محذوف في» جعلنا «، و» موالي «مفعول أول، و» لكل «مفعول ثان. الثالث: أن يكون التقدير: ولكل إنسان وارثٍ مِمَّنْ تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي: موروثين، فيُراد بالمَوْلى الموروثُ، ويرتفع» الوالدان «ب» ترك «، وتكون» ما «بمعنى» مَن «، والجار والمجرور صفةٌ للمضافِ إليه» كل «، والكلامُ على هذا جملةٌ واحدة، وفي هذا بُعْدٌ كبير. الرابع: وإنْ كان التقدير:» ولكل قوم «فالمعنى: ولكل قوم جعلناهم مواليَ نصيبٌ مِمَّا تركه والدُهم وأقربوهم، ف» لكل «خبر مقدم، و» نصيب «مبتدأٌ مؤخر، و» جَعَلْناهم «صفةٌ لقوم، والضمير العائد عليهم مفعولُ» جَعَل «و» مواليَ «: إمَّا ثانٍ وإمَّا حالٌ، على أنها بمعنى» خلقنا، و «مِمَّا ترك» صفة للمبتدأ، ثم حُذِف المبتدأ وبقيت صفتُه، وحُذِف المضاف إليه «كل» وبقيت صفتُه أيضاً، وحُذِف العائد على الموصوفِ. ونظيرُه: «لكلِّ خلقه الله إنساناً مِنْ رزق الله» أي: لكل أحد خلقه الله إنساناً نصيبٌ من رزق الله. الخامس: وإنْ كان التقدير: «ولكلِّ مال» فقالوا: يكون المعنى: ولكلِّ مال مِمَّا تركه الولدان والأقربون جعلنا مواليَ أي: وُرَّاثاً يَلُونه ويَحُوزونه، وجعلوا «لكل» متعلقةً ب «جعل» ، و «مما ترك» صفة ل «كل» ، الوالدان فاعلٌ ب «ترك» فيكون الكلام على هذا وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً، وهذا وإن كان حسناً إلا أن فيه الفصلَ بين الصفة والموصوف بجملةٍ عاملةٍ في الموصوف. قال الشيخ: «وهو نظير قولك:» بكلِّ رجلٍ مررت تميميٍ «وفي جواز ذلك نظر» . قلت: ولا يحتاج إلى نظر؛ لأنه قد وُجد الفصلُ بين الموصوف وصفته بالجملة العاملة في المضاف إلى الموصوف، كقوله تعالى: {

قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات} [الأنعام: 14] ف «فاطر» صفةٌ ل «الله» ، وقد فُصِل بينهما ب «أتَّخِذُ» العامل في «غير» فهذا أولى. السادس: أَنْ يكونَ «لكلِّ مال» مفعولاً ثانياً ل «جعل» على أنها تصييرية، و «مواليَ» مفعول أول، والإِعراب على ما تقدم. وهذا نهايةُ ما قيل في هذه الآية فلله الحمد. قوله: {والذين عَاقَدَتْ} في مَحَلِّه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه مبتدأ والخبر قوله: «فآتوهم» . الثاني: أنه منصوب على الاشتغال بإضمار فعل، وهذا أرجحُ من حيث إنَّ بعده طَلَباً. والثالث: أنه مرفوعٌ عطفاً على «الوالدان والأقربون» فإنْ أريد بالوالدين أنهم موروثون عادَ الضميرُ مِنْ «فآتوهم» على «موالي» ، وإنْ أُريد أنهم وارثون جازَ عَوْدُه على «مواليَ» وعلى الوالدين وما عُطف عليهم. الرابع: أنه منصوبٌ عطفاً على «مواليَ» ، قال أبو البقاء: «أي وَجَعَلْنا الذين عاقَدَتْ وُرَّاثاً، وكان ذلك ونُسِخ» ، وَردَّ عليه الشيخ بفساد العطفِ، قال: «إذ يصير التقدير: ولكلِّ إنسان، أو لكل شيءٍ من المالِ جَعَلْنا وُرَّاثاً والذين عاقَدَتْ أَيْمانكم» ثم قال: «فإنْ جُعِل من عطفِ الجمل وحًُذِفَ المفعولُ الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أي: جَعَلْنا وُرَّاثاً لكلِّ شيء من المالِ، أو لكلِّ إنسانٍ، وجَعَلْنا الذين عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً، وفيه بعد ذلك تكلفٌ» . انتهى. وقرأ الكوفيون: «عَقَدَتْ» والباقون: «عاقَدَتْ» بألف، ورُويَ عن

حمزة التشديد في «عَقَّدت» . والمفاعلة هنا ظاهرة لأن المراد المحالفةُ. والمفعولُ محذوفٌ على كلٍّ من القراءات، أي: عاقَدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم ونسبةُ المعاقدةِ أو العقدِ إلى الأيمان مجازٌ، سواءً أُريد بالأيمان الجارحةُ أم القَسَم. وقيل: ثَمَّ مضاف محذوف أي: عقدت ذوو أيمانكم.

34

وقوله تعالى: {عَلَى النسآء} : متعلِّقٌ ب «قَوَّامون» وكذا «بما» ، والباء سببية، ويجوز أن تكونَ للحال، فتتعلَّق بمحذوف؛ لأنها حال من الضمير في «قَوَّامون» تقديرُه: مستحقين بتفضيل الله إياهم. و «ما» مصدريةٌ وقيل: بمعنى الذي. وهو ضعيفٌ لحَذْفِ العائد من غير مُسَوِّغ. والبعضُ الأولُ المرادُ به الرجال والبعضُ الثاني النساء، وعَدل عن الضميرين فلم يَقُلْ: بما فَضَّلهم الله عليهنَّ للإِبهام الذي في «بعض» . و «بما أنفقوا» متعلقٌ بما تعلَّق به الأولُ. و «ما» يجوز هنا أن تكونَ بمعنى الذي من غيرِ ضَعْفٍ؛ لأنَّ للحذف مسوغاً أي: وبما أنفقوه مِنْ أموالِهم. و {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} متعلقٌ ب «أَنْفَقوا» ؛ أو بمحذوف على أنه حال من الضمير المحذوف. قوله: {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ} «الصالحات» : مبتدأ وما بعده خبران له. و «للغيب» متعلق ب «حافظات» . وأل في «الغيب» عوضٌ من الضمير عند الكوفيين كقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] أي: رأسي وقوله: 1577 - لَمْياءُ في شَفَتيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللِّثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ أي: لِثاتِها: والجمهورُ على رفع الجلالة من «حَفِظ اللهُ» . وفي «ما» على هذه

القراءةِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها مصدريةٌ والمعنى: بحِفْظِ الله إياهن أي: بتوفيقِه لهن أو بالوصية منه تعالى عليهن. والثاني: أن تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف أي: بالذي حفظه الله لهنَّ مِنْ مهورِ أزوجِهِنَّ والنفقة عليهن قاله الزجاج. والثالثُ: أن تكونَ «ما» نكرة موصوفةً، والعائد محذوف أيضاً كما تقرر في الموصولة بمعنى الذي. وقرأ أبو جعفر بنصبِ الجلالة، وفي «ما» ثلاثةُ أوجهً أيضاً، أحدُها: أنها بمعنى الذي، والثاني: نكرة موصوفة، وفي «حَفِظ» ضميرٌ يعود على «ما» أي: بما حَفِظ من البر والطاعة. ولا بد من حذف مضافٍ تقديرُه: بما حفظ دينَ الله أو أَمْرَ الله، لأنَّ الذاتَ المقدسةَ لا يحفظها أحد. والثالث: أن تكونَ «ما» مصدريةً، والمعنى بما حفظن الله في امتثال أمره، وساغَ عودُ الضميرِ مفرداً على جمعِ الإِناثِ لأنهن في معنى الجنس، كأنه قيل: مِمَّنْ صَلَحَ، فعادَ الضميرُ مفرداً بهذا الاعتبار، ورد الناسُ هذا الوجهَ بعدم مطابقة الضمير لما يعود عليه وهذا جوابه. وجعله ابن جني مثلَ قول الشاعر: 1578 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّ الحوادِثَ أودى بها أي: أَوْدَيْنَ، وينبغي أن يقال: الأصلُ بما حَفِظَتِ اللهَ، والحوادث أَوْدَت؛ لأنها يجوز أن يعود الضمير على جمع الإِناث كعوده على الواحدة منهن، تقول: «النساءُ قامت» ، إلا أنَّه شَذَّ حذف تاء التأنيث من الفعل المسند إلى ضمير المؤنث.

وقرأ عبد الله وهي في مصحفه كذلك «فالصوالحُ قوانتٌ حوافظٌ» بالتكسير. قال ابن جني: «وهي أشبهُ بالمعنى لإِعطائها الكثرةَ، وهي المقصودةُ هنا» ، يعني أنَّ فواعل من جموع الكثرة، وجمعُ التصحيحِ جمعُ قلة ما لم يَقْتَرِنْ بالألفِ واللام. وظاهرُ عبارة أبي البقاء أنه للقلة وإن اقترن ب «أل» فإنه قال: «وجَمْعُ التصحيح لا يَدُلُّ على الكثرة بوضعه، وقد استُعْمل فيها كقوله تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] . وفيما قاله أبو الفتح وأبو البقاء نظرٌ، فإنَّ» الصالحات «في القراءة المشهورة معرفةٌ بأل، وقد تقدَّم أنه تكونُ للعموم، إلا أنَّ العمومَ المفيدَ للكثرةِ ليس مِنْ صيغةِ الجمع، بل من» أل «، وإذا ثبت أن الصالحات جمعُ كثرة لزم أن يكون» قانتات «و» حافظات «للكثرة لأنه خبرٌ عن الجميع، فيفيدُ الكثرة، ألا ترى أنك إذا قلت:» الرجال قائمون «لَزِم أن يكونَ كلُّ واحدٍ من الرجال قائماً، ولا يجوز أن يكون بعضهم قاعداً، فإذاً القراءة الشهيرة وافية بالمعنى المقصود. قوله: {فِي المضاجع} فيه وجهان، أحدهما: أن» في «على بابها من الظرفية متعلقة ب» اهجروهن «أي: اتركوا مضاجعتهن أي: النومَ معهن دونَ كلامِهن ومؤاكلتهن. والثاني: أنها للسبب قال أبو البقاء:» واهجروهُنَّ بسبب المضاجع كما تقول: «في هذه الجنايةِ عقوبةٌ» وجَعَل مكي هذا الوجه متعيناً، ومنع الأول، قال: «ليس» في المضاجع «ظرفاً للهجران، وإنما

هو سبب لهجران التخلف، ومعناه: فاهجروهن من أجلِ تخلُّفِهِنَّ عن المضاجعة معكم» . وفيه نظرٌ لا يَخْفى وكلامُ الواحدي يُفْهِم أَنه يجوز تعلُقه ب «نشوزهن» فإنه قال بعدما حكى عن ابن عباس كلاماً: «والمعنى على هذا: واللاتي تخافون نشوزهن في المضاجع» ، والكلامُ الذي حكاه عن ابن عباس هو قوله: «هذا كلُّه في المضجع إذا هي عَصَتْ أن تضطجع معه» ولكن لا يجوزُ ذلك؛ لئلا يلزَم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي. وقَدَّر بعضُهم معطوفاً بعد قوله: «واللاتي تخافون» أي: واللاتي تخافون نشوزهن ونَشَزْنَ، كأنه يريد أن لا يجوز الإِقدامُ على الوعظ وما بعده بمجردِ الخوفِ. وقيل: لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأن الخوفَ بمعنى اليقين، وقيل: غلبةُ الظنِّ في ذلك كافية/. قوله: {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} في نصب «سبيلا» وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به، والثاني: أنه على إسقاط الخافض، وهذان الوجهان مبنيان على تفسير البغي هنا ما هو؟ فقيل: هو الظلم من قوله: {فبغى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] ، فعلى هذا يكون لازماً، و «سبيلاً» منصوبٌ بإسقاط الخافض أي: بسبيل. وقيل: هو الطلب من قولهم: بَغَيْتُه أي طلبته. وفي «عليهن» وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «تبغوا» . والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «سبيلاً» لأنه في الأصل صفةُ النكرة قُدِّم عليها.

35

قوله تعالى: {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} : فيه وجهان، أحدهما: أن الشقاق مضاف إلى «بين» ومعناها الظرفية، والأصل: «شقاقاً بينهما» ولكنه

اتُّسِعَ فيه فَأُضيف الحدث إلى ظرفه، وظرفيتهُ باقيةٌ نحو: سَرَّني مسير الليلة، ومنه {مَكْرُ الليل} [سبأ: 33] . والثاني: أنه خرج عن الظرفية، وبقي كسائر الأسماء كأنه أريد به المعاشرةُ والمصاحبة بين الزوجين، وإلى هذا مَيْلُ أبي البقاء قال: «والبَيْنُ هنا الوصلُ الكائنُ بين الزوجين» . و {مِنْ أَهْلِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ ب «ابعثوا» فهي لابتداءِ الغاية. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ للنكرةِ أي: كائناً من أهلِه فهي للتبعيضِ. قوله: {إِن يُرِيدَآ} الضميران في «يُريدا» و «بينهما» يجوز أن يعودا على الزوجين أي: إنْ يُرِدِ الزوجان إصلاحاً يُوَفِّق الله بين الزوجين، وأَنْ يعودا على الحكمين، وأَنْ يعودَ الأول على الحكمين، والثاني على الزوجين، وأن يكونَ بالعكس، وأُضْمِر الزوجان وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة ذِكْرِ الرجال والنساء عليهما. وجَعَل أبو البقاء الضمير في «بينهما» عائداً على الزوجين فقط، سواءً قيل بأن ضمير «يريدا» عائد على الحكمين أو الزوجين.

36

قوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} : تقدَّم نظيرتها في البقرة، إلا أنَّ هنا قال: {وَبِذِي القربى} بإعادة الباء، وذلك لأنها في حَقِّ هذه الأمةِ فالاعتناءُ بها أكثرُ، وإعادةُ الباءِ يَدُلُّ على زيادة تأكيد فناسب ذلك هنا بخلافِ آية البقرة فإنها في حق بني إسرائيل. وقرأ ابن أبي عبلة «إحسانٌ» بالرفع، على أنه مبتدأٌ وخبرُه الجار قبله، والمرادُ بهذه الجملةِ الأمرُ بالإِحسان وإن كانت خبريةً كقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 83] .

قوله: {والجار ذِي القربى} الجمهورُ على خفضِ «الجار» والمراد به القريبُ النسب، وبالجارِ الجَنْبِ البعيدُ النسب. وعن ميمون بن مهران: «والجارِ ذي القربى أريد به الجار القريب» قال ابن عطية: «وهذا خطأٌ لأنه على تأويله جمع بين» أل «والإِضافة، إذ كان وجه الكلام» وجارِ ذي القربى «. ويمكنُ تصحيحُ كلام ابن مهران على أن» ذي القربى «بدلٌ من» الجار «على حذف مضاف أي: والجار جارِ ذي القربى كقوله: 1579 - نَضَر اللهُ أعظماً دفنوها ... بسجستانَ طلحةِ الطَّلَحاتِ أي: أعظمَ طلحة، ومِنْ كلامهم:» لو يعلمون: العلمُ الكبيرةِ سنةٌ «أي: علم الكبيرة سنة، فحَذَف البدلَ لدلالةِ الكلام عليه. وقرأ بعضُهم:» والجارَ ذا القربى «نصباً. وخَرَّجه الزمخشري على الاختصاص كقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] . والجُنُب صفةٌ على فُعُل نحو: ناقة سُرُح، ويستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع مذكراً ومؤنثاً نحو: رجال جُنُب، قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً} [المائدة: 6] ،

وبعضُهم يُثَنِّيه ويجمعه، ومثله: شُلُل. وعن عاصم:» والجار الجَنْب «بفتح الجيم وسكون النون، وهو وصفٌ أيضاً بمعنى المجانب كقولهم: رجلٌ عَدْل وألفُ الجار عن واو لقولهم: تجاوروا وجاوَرْتُه، ويُجمع على جِيرة وجيران. والجَنابة: البُعْد. قال: 1580 - فلا تَحْرِمَنِّي نائلاً عن جَنابةٍ ... فإني أمرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ لأنَّ الإِنسان يُتْركُ جانباً، ومنه: {واجنبني وَبَنِيَّ} [إبراهيم: 35] . قوله: {بالجنب} يجوز في الباء وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى» في «. والثاني: أن تكونَ على بابها وهو الأولى، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بمحذوف لأنها حال من الصاحب. و {وَمَا مَلَكَتْ} يجوز أن يريد غيرَ العبيد والإِماء ب» ما «، حَمْلاً على الأنواع كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وأن يكونَ أُريدَ جميعُ ما ملكه الإِنسان من الحيواناتِ فاختلط العاقل بغيره فأتى ب» ما «.

37

قوله تعالى: {الذين يَبْخَلُونَ} : فيه سبعةُ أوجه، أحدها: أن يكون منصوباً بدلاً من «مَنْ» وجُمع حَمْلاً على المعنى. الثاني: أنه نصب على البدل من «مختالاً» وجُمع أيضاً لما تقدم. الثالث: أنه نصب على الذم. الرابع: أنه مبتدأ وفي خبره قولان، أحدهما: أنه محذوف، فقدَّره بعضهم: «مُبْغَضُون لدلالة {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ} ، وبعضهم:» معذبون «لقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً} ، وقَدَّره الزمخشري:» أَحِقَّاء بكل مَلامة «، وقَدَّره

أبو البقاء:» أولئك قرناؤهم الشيطان «. والثاني: أن قوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ} ويكون قوله: {والذين يُنْفِقُونَ} عطفاً على المبتدأ والعائد محذوف، والتقدير: الذين يبخلون، والذين يُنْفقون أموالَهم رئاءَ الناس، إن الله لا يظلمهم مثقال ذرة، أو مثقال ذرة لهم، وإليه ذهب الزجاج، وهذا متكلفٌ جداً لكثرةِ الفواصل، ولقلق المعنى أيضاً. الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هم الذين. السادس: أنه بدلٌ من الضمير المستكنِّ في» فخوراً «، ذكره أبو البقاء، وهو قلقٌ. السابع: أنه صفةٌ ل» مَنْ «، كأنه قيل: لا يُحِبُّ المختال الفخورَ البخيلَ. و» بالبخل «فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلق ب» يأمرون «فالباءُ للتعدية على حَدِّ: أمرتك بكذا. والثاني: أنها باء الحالية، والمأمور محذوف، والتقدير: ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل، فيكون في المعنى كقول الشاعر: 1581 - أجْمَعْتَ أَمْرَيْنِ ضاعَ الحَزْمُ بينهما ... تِيْهَ الملوكِ وأفعالَ المماليكِ والمُخْتال: التيَّاه الجَهُول، والمُخْتال اسمُ فاعل من اختال يختال أي: تكبَّر وأُعجب بنفسه، وألفه عن ياءٍ لقولِهم: الخُيَلاء والمَخْيِلة، وسُمِع أيضاً: خَالَ الرجلُ يَخال خَوْلاً بالمعنى الأول، فيكون لهذا المعنى مادتان: خَيَل وخَوَل. والفخر: عَدُّ مناقبِ الإِنسان ومحاسنِه، وفخور صيغة مبالغة. وفي البخل أربع لغات: فتح الخاء والباء وبها قرأ حمزة والكسائي،

ويضمهما، وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر، وبفتح الباء وسكون الخاء وبها قرأ قتادة وابن الزبير، وبضم الباء وسكون الخاء وبها قرأ جمهور الناس. والبُّخْل والبَخَل كالحُزْن والحَزَن والعُرْب والعَرَب. و {مِن فَضْلِهِ} يجوز أن يتعلَّق ب» آتاهم «أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» ما «أو مِنَ العائدِ عليها.

38

قوله: {والذين يُنْفِقُونَ} : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مرفوعاً عطفاً على «الذين يبخلون» والخبر {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ} ، وقد تقدم ذلك وضَعْفُه. الثاني: أنه مجرور عطفاً على «الكافرين» أي: أعتدنا للكافرين وللذين ينفقون أموالهم رئاءَ الناس، قاله ابن جرير. الثالث: أنه مبتدأُ وخبرهُ محذوف أي: مُعَذَّبون، أو: قرينهم الشيطان، فعلى الأوَّلين يكونُ من عطفِ المفردات، وعلى الثالث مِنْ عطفِ الجمل. قوله: {رِئَآءَ الناس} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله، وشروطُ النصب متوفرة. والثاني: أنه حالٌ من فاعل «ينفقون» يعني مصدراً واقعاً موقعَ الحال أي: مُرائين. والثالث: أنه حالٌ من نفسِ الموصولِ ذكره المهدوي. و «رئاءَ» مصدرٌ مضاف إلى المفعول. قوله: {وَلاَ يُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مستأنف. والثاني: أنه عطف على الصلة، وعلى هذين الوجهين فلا محلَّ له من الإِعراب. والثالث: أنه حالٌ من فاعل «ينفقون» . إلا أن هذين الوجهين الأخيرين أعني العطفَ على الصلة والحالية يمتنعان على الوجه المحكي عن المهدوي، وهو كونُ «رئاءَ» حالاً من نفس الموصول؛ لئلا يلزَم الفصلُ بين أبعاضِ الصلة أو بين الصلةِ ومعمولِها بأجنبي وهو «رثاءَ» ؛ لأنه حالٌ من الموصولِ لا تعلُّقَ له بالصلة، بخلاف ما إذا جَعَلْناه مفعولاً له أو حالاً من فاعل «ينفقون» فإنه على الوجهين معمولٌ ل «ينفقون» فليس أجنبياً، فلم يُبالَ بالفصل به.

وفي جَعْلِ {وَلاَ يُؤْمِنُونَ} حالاً نظرٌ من حيث/ إنَّ بعضَهم نصَّ على أن المضارع المنفيَّ ب «لا» كالمثبت في أنه لا تدخل عليه واو الحال، وهو محلُّ تَوَقُّف. وكررت «لا» في قوله: «ولا باليوم» وكذا الباء إشعاراً بأن الإِيمان منتفٍ عن كلِّ على حِدَتِه لو قلت: «لا أضرب زيداً وعمراً» احتمل نفيَ الضرب عن المجموع، ولا يلزم منه نفيُ الضربِ عن كلِّ واحدٍ على انفراده، واحتمل نفيَه عن كل واحد بانفرادِه، فإذا قلت: «ولا عمراً» تعيَّن هذا الثاني. قوله: {فَسَآءَ قِرِيناً} في «ساء» هذه احتمالان أحدهما: أنها نُقِلَتْ إلى الذمِّ فجرت مجرى «بئس» ، ففيها ضميرٌ فاعل لها مفسَّرٌ بالنكرة بعده، وهي «قريناً» ، والمخصوصُ بالذم محذوف أي: فساء قريناً هو، وهو عائدٌ: إما على الشيطان وهو الظاهر، وإما على «من» وقد تقدَّم حكمُ نعم وبئس. والثاني: أنها على بابها فهي متعدية ومفعولُها محذوفٌ، و «قريناً» على هذا منصوبٌ على الحال أو على القطع، والتقديرُ: فساءَه أي: فساءَ الشيطانُ مُصَاحِبَه. واحتجوا للوجه الأول، بأنه كان ينبغي أن يَحْذِف الفاءَ من «فساء» أو تقترن به «قد» ؛ لأنه حينئذ فعل متصرفٌ ماض، وما كان كذلك ووقع جواباً للشرط تجرَّدَ من الفاءِ أو اقترن ب «قد» ، هذا معنى كلام الشيخ. وفيه نظرٌ لقولِه تعالى: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ} [النمل: 90] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] فما يُؤَوَّلُ به هذا ونحوُه يتأوَّل به هذا. ومِمَّنْ ذهب إلى أنَّ «قريناً» منصوبٌ عل الحالِ ابنُ عطية، ولكن يحتمل أن يكونَ قائلاً بأنَّ «ساء» متعديةٌ، وأن يكونَ قائلاً برأي الكوفيين، فإنهم ينصبون ما بعد نعم وبئس على الحال.

والقرينُ: المصاحِبُ الملازمُ، وهو فَعِيل بمعنى مُفاعل كالخليط والجليس. والقَرْنُ: الحبل، لأنه يُقْرن به بين البعيرين قال: 1582 - وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

39

قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} : قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها، وهذا يَحْتَمِل أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ هنا أي: وأيُّ شيء عليهم في الإِيمان بالله، أو: وماذا عليهم من الوبالِ والعذابِ يومَ القيامة، ثم استأنَفَ بقولِه: {لَوْ آمَنُواْ} ويكونُ جوابُها محذوفاً أي: لحصلت لهم السعادةُ. ويُحْتمل أن يكونَ تمامُ الكلام ب «لو» وما بعدها، وذلك على جَعْلِ «لو» مصدريةً عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك أي: وماذا عليهم في الإِيمان، ولا جوابَ لها حينئذٍ. وأجازَ ابنُ عطية أن يكون {َمَاذَا عَلَيْهِمْ} جواباً ل «لو» فإنْ أرادَ مِنْ جهةِ المعنى فَمُسَلَّم، وإن أراد من جهةِ الصناعةِ ففاسدٌ؛ لأنَّ الجوابَ الصناعيَّ لا يتقدم عند البصريين، وأيضاً فالاستفهامُ لا يُجابُ به «لو» . وأجاز أبو البقاء في «لو» أن تكونَ بمعنى «إنْ» الشرطية كما جاء في قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] أي: وأيُّ شيءٍ عليهم إنْ آمنوا، ولا حاجةَ إلى ذلك.

40

قوله تعالى: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي: لا يَظْلم أحداً ظلماً وزنَ ذرة، فحذف المفعول والمصدر وأقام نعتَه مُقامه. ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ

قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً قال: «تقديرُه: ظلماً قَدْرَ مثقالِ ذرة، فَحَذَفَ المصدرَ وصفته، وأقام المضافَ إليه مُقامهما» . ولا حاجة إلى ذلك لأنَّ المثقالَ نفسَه هو قَدْر من الأقدار، جُعِل معياراً لهذا القَدْر المخصوصِ. والثاني: أنه منصوب على أنه مفعول ثان ل «يَظْلم» والأول محذوف، كأنهم ضَمَّنوا «بظلم» معنى «بغضب» و «بنقص» فَعَدَّوه لاثنين، والأصل: إنَّ الله لا يظلم أحداً مثقال ذرة. قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} حُذِفت النون تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وهذه قاعدة كلية، وهو أنه يجوز حذفُ نون «يكون» مجزومةً، بشرطِ ألاَّ يليَها ضميرٌ متصل نحو: «لَم يَكُنْه» وألاَّ تُحَرَّك النون لالتقاء الساكنين نحو: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} [البينة: 1] خلافاً ليونس، فإنه أجاز ذلك مستدلاً بقوله: 1583 - فإنْ لم تَكُ المِرْآةُ أَبْدَتْ وَسامةً ... فقد أَبْدَتِ المرآةُ جَبْهَةَ ضَيْغَمِ وهذا عند سيبويه ضرورةٌ، وإنما حُذفت النون لغُنَّتِها وسكونها فأشبهت الواو، وهذا بخلاف سائر الأفعال نحو: «لم يَضِنَّ» و «لم يَهُنْ» لكثرة استعمال «كان» ، وكان ينبغي أن تعود الواو عند حَذْفِ هذه النون؛ لأنها إنما حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين وقد زال ثانيهما وهو النونُ إلا أنها كالملفوظ بها. وقرأ الجمهور «حسنةً» نصباً على خبر «كان» الناقصة، واسمها مستتر فيها

يعود على «مثقال» وإنما أَنَّث ضميرَه حملاً على المعنى؛ لأنه بمعنى: وإنْ تكن زنةَ ذرة حسنة، أو لإِضافته إلى مؤنث فاكتسب منه التأنيث. وقرأ ابن كثير ونافع «حسنة» رفعاً على أنها التامة أي: وإنْ تقع أو توجد حسنة. وقرأ ابن كثير وابن عامر: «يُضَعِّفْها» بالتضعيف، والباقون «يضاعفها» . قال أبو عبيدة: «ضاعفه» يقتضي مراراً كثيرة، و «ضَعَّفَ» يقتضي مرتين، وهذا عكسُ كلام العرب؛ لأن المضاعفة تقتضي زيادة المثل، فإذا شدَّدْتَ دَلَّت البُنْية على التكثير، فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة بحسَبِ ما يكون من العدد. وقال الفارسي: «هما لغتان بمعنًى، يدل عليه قولُه {نُضَعِّفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] {فَيُضَعِّفُهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] وقد تقدم لنا الكلام على هذا بأبسطَ منه هنا. وقرأ ابن هرمز:» نضاعِفْها «بالنون، وقرىء» يُضْعِفْها «بالتخفيف مِنْ أضعفه مثل أكرم. قوله: {مِن لَّدُنْهُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب» يُؤْتِ «و» من «للابتداء مجازاً. والثاني: يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من» أجراً «فإنه صفةُ نكرةٍ في الأصلِ قُدِّم عليها فانتصب حالاً.

41

قوله تعالى: {فَكَيْفَ} : فيها ثلاثة أقوال، أحدها: أنها في

محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف أي: فكيف حالُهم أو صنعُهم؟ والعامل في «إذا» هو هذا المقدر. والثاني: أنها في محلِّ نصب بفعل محذوف أي: فيكف تكونون أو تَصْنَعون؟ ويَجْري فيها الوجهان: النصب على التشبيه بالحالِ كما هو مذهبُ سيبويه، أو على التشبيه بالظرفية كما هو مذهب الأخفش، وهو العاملُ في «إذا» أيضاً. والثالث: حكاه ابن عطية عن مكي أنها معمولةٌ ل «جئنا» ، وهذا غلط فاحش. قوله: {مِن كُلِّ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «جئنا» . والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «شهيد» ، وذلك على رأي مَنْ يجوُّزُ تقديمَ حالِ المجرور بالحرف عليه، وقد تقدم تحريره. والمشهودُ عليه محذوفٌ أي: بشهيد على أمته/. والمِثْقال: مِفْعَال من الثِّقَل وهو زِنَةُ كل شيء، والذَّرَّة: النملة الصغيرة، وقيل: رأسُها، وقيل: الخَرْدَلة، وقيل: جزء الهَباءَة، وعن ابن عباس: أنه أَدْخَلَ يده في التراب ثم نَفَخَها وقال: «كلُّ واحدةٍ منه ذرةٌ» والأولُ هو المشهور؛ لأن النملة يُضْرَبُ بها المثل في القلة، وأصغرُ ما تكون إذا مَرَّ عليها حَوْلٌ، قالوا لأنها حينئذ تَصْغُر جداً، قال حسان: 1584 - لو يَدِبُّ الحَوْلِيُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ ... رِ عليها لأنْدَبَتْها الكُلُومُ

وقال امرؤ القيس: 1585 - مِن القاصِراتِ الطَرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أظهرها: أنها في محل جر عطفاً على «جئنا» الأولى أي: فكيف تصنعون في وقت المجيئين؟ . والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، و «قد» مرادةٌ معها، والعامل فيها «جئنا» الأولى أي: جئنا من كل أمة بشهيد وقد جئنا، وفيه نظر. والثالث: أنها مستأنفة فلا محل لها. قال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً، ويكون الماضي بمعنى المستقبل» . انتهى. وإنما احتاج إلى ذلك لأنَّ المجيءَ بعدُ لم يقع، فادَّعى ذلك، والله أعلم. و {على هؤلاء} متعلق ب «شهيداً» و «على» على بابها وقيل: هي بمعنى اللام وفيه بُعْدٌ، وأجيز أن تكون «على» متعلقةً بمحذوف على أنها حالٌ من «شهيداً» ، وفيه بُعْدٌ، و «شهيداً» حالٌ من الكاف في «بك» .

42

قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} : فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه معمول ل «يود» أي: يَوَدُّ الذين كفروا يوم إذ جئنا. والثاني: أنه معمولٌ ل «شهيداً» قاله أبو البقاء، قال «وعلى هذا يكون» يود «صفةً ل» يوم «، والعائد محذوف تقديره: فيه، وقد ذكر ذلك في قوله {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي} [البقرة: 48] وفيما قاله نظرٌ لا يَخْفى. والثالث: أن» يوم «مبني لإضافته إلى» إذ «قاله الحوفي، قال: لأنَّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤُه معه. و» إذ «هنا اسمٌ؛ لأنَّ الظروفَ

إذا أُضيف إليها خَرَجَتْ إلى معنى الاسمية من أجل تخصيصِ المضاف إليها كما تُخَصَّصُ الأسماءُ، مع استحقاقِها الجر، والجرُّ ليس من علامات الظروف» . والتنوينُ في «إذ» تنوينُ عوضٍ على الصحيح، فقيل: عوض من الجملة الأولى في قوله {جِئْنَا مِن كُلِّ} أي: يومَ إذْ جِئْنا من كل أمة بشهيد، وجِئْنا بك على هؤلاء شهيداً، والرسولُ على هذا اسم جنس. وقيل: عوضٌ من الجملةِ الأخيرة، وهي «وجِئْنا بك» ، ويكون المراد بالرسول محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان النظم «وعَصَوْك» ولكنْ أُبْرِزَ ظاهراً بصفةِ الرسالةِ تنويهاً بقَدْرِهِ وشَرَفِه. وفي قوله: {وَعَصَوُاْ} ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها جملة معطوفة على «كفروا» فتكونُ صلةً، فيكونون جامعين بين كفرٍ ومعصية. وقيل: بل هي صلةٌ لموصول آخر فيكونون طائفتين. وقيل: هي في محل نصب على الحال من «كفروا» و «قد» مرادةٌ أي: وقد عصوا. وقرأ يحيى وأبو السمَّال: «وعَصَوا الرسول» بكسر الواو على الأصل. قوله: {لَوْ تسوى} إنْ قيل: إنَّ «لو» على بابها كما هو قول الجمهور فمفعول «يود» محذوف أي: يود الذين كفروا تسويةَ الأرض [بهم] ، ويدلُّ عليه: {لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} وجوابها حينئذ محذوف أي: لَسُرُّوا بذلك. وإنْ قيل: إنها مصدرية كانت هي وما بعدها في محل مفعول «يود» ولا جوابَ لها حينئذٍ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} [البقرة: 96] قال أبو البقاء «

وعَصَو الرسول» في موضع الحال، و «قد» مرادةٌ، وهي معترضةٌ بين «يود» وبين مفعولِها وهو «لو تُسَوَّى» ، و «لو» بمعنى «أَنْ» «المصدرية» . انتهى. وفي جَعْلِه الجملةَ الحاليةَ معترضةً بين المفعولِ وعاملِه نَظَرٌ لا يَخْفَى، لأنها مِنْ جملةِ متعلقات العامل الذي هو صلةٌ للموصولِ، وهذا نظير ما لو قلت: «ضَرَبَ الذين جاؤوا مُسْرِعين زيداً» فكما لا يقال إنَّ «مسرعين» معترض به فكذلك هذه الجملة. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم «تُسَوَّى» بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي: تَسَوَّى بفتحِها والتخفيفِ، ونافع وابن عامر بالتثقيل. فأما القراءة الأولى فمعناها: أنهم يَوَدُّون أن الله تعالى يُسَوِّي بهم الأرض: إمَّا على أن الأرض تنشق وتبتلعهم، وتكون الباء بمعنى «على» ، وإمَّا على أنهم يَوَدُّون أن لو صاروا تراباً كالبهائم، والأصل: يَوَّدون أن الله يُسَوِّيهم بالأرض، فَقُلِب إلى هذا كقولهم: «أدخلت القَلَنْسوة في رأسي» ، وإمَّا على أنهم يودُّون لو يُدْفَنون فيها، وهو كمعنى القولِ الأول، وقيل: لو تُعْدَلُ بهم الأرض أي: يُؤْخَذُ ما عليها منهم فديةً. وأمَّا القراءة الثانية فأصلُها «تَتَسَوَّى» بتاءين، فحذفت إحداهما. وفي الثالثة حُذِفت أحداهما. ومعنى القراءتين ظاهرِ مِمَّا تقدَّم، فإن الأقوال الجارية في القراءةِ الأولى جاريةٌ في القراءتين الأُخْرَيَيْن، غايةُ ما في الباب أنه نَسَب الفعلَ إلى الأرض ظاهراً. قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ} فيه ستةُ أوجهٍ، وذلك أنَّ هذه الواوَ تحتمل أن تكونَ للعطفِ وأن تكون للحالِ: فِإنْ كانت للعطفِ احتمل أن يكون من عطف المفردات، وأن يكونَ من عطف الجمل، إذا تقرر هذا فيجوز أن [يكون] {وَلاَ يَكْتُمُونَ} عطفاً على مفعول «يود» أي: يَوَدُّون تسويةَ الأرض بهم وانتفاءَ

كتمان الحديث، و «لو» على هذا مصدريةٌ، ويَبْعُدُ جَعْلُها حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيرِه، ويكونُ «ولا يكتمون» عطفاً على مفعول «يَوَدُّ» المحذوفِ. فهذان وجهان على تقدير كونِه من عطفِ المفردات. ويجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على جملة «يَوَدُّ» ، أَخْبَرَ تعالى عنهم بخبرين أحدُهما: الوَدادة لكذا، والثاني: أنهم لا يَقْدِرُون على الكتم في مواطنَ دونَ مواطنَ، و «لو» على هذا مصدريةٌ، ويجوزُ أن تكونَ «لو» حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيره، وجوابُها محذوفٌ، ومفعولُ «يود» أيضاً محذوفٌ، ويكون «ولا يكتمون» عطفاً على «لو» وما في حَيِّزها، ويكونُ تعالى قد أخْبَرَ عنهم بثلاثِ جمل: الوَدادةِ وجملةِ الشرط ب «لو» وانتفاءِ الكتمان، فهذان أيضاً وجهان على تقدير كونه من عطف الجمل. وإنْ كانَتْ للحالِ جاز أن تكونَ حالاً من الضمير في «بهم» ، والعامل فيها «تُسَوَّى» ، ويجوزُ في «لو» حينئذٍ أَنْ تكونَ مصدريةً وأن تكون امتناعيةً، والتقديرُ: يَوَدُّون تسويةَ الأرضِ بهم غيرَ كاتمين، أو: لو تُسَوَّى بهم غيرَ كاتمين لكان بغيتَهم، ويجوز أن تكون حالاً من {الذين كَفَرُواْ} ، والعاملُ فيها «يود» ، ويكونُ الحال قيداً في الوَدادةِ، و «لو» على هذا مصدريةٌ في محلِّ مفعولِ الودادة، والمعنى: يومئذ يود الذين كفروا تسوية الأرض بهم غير كاتمين الله حديثاً، ويبعد أن تكون «لو» على هذا الوجه امتناعيةً للزوم الفصل بين الحال وعاملها بالجملة. و «يكتمون» يتعدى لاثنين، والظاهر أنه يصل إلى أحدهما بالحرف، والأصل: ولا يكتمون من الله حديثاً.

43

قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة} : فيه وجهان، أحدهما: أن في الكلامِ حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: مواضعَ الصلاة، والمراد بمواضعها المساجدُ، ويؤيدُ هذا قولُه بعد ذلك: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} في أحد التأويلين. والثاني: أنه لا حذفَ، والنهي عن قربان نفسِ الصلاة في هذه الحالة.

قوله: {وَأَنْتُمْ سكارى} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «تقربوا» . وقرأ الجمهورُ: «سُكارى» بضم السين وألف بعد الكاف، وفيه قولان، أحدهما: وهو الصحيح أنه جمع تكسير، نص عليه سيبويه، قال: «وقد يُكَسِّرون بعضَ هذا على فُعالى، وذلك كقولِ بعضِهم» سُكارى «» وعُجالى «. والثاني: أنه اسمُ جمع، وزعم ابنُ الباذش أنه مذهب سيبويه، قال:» وهو القياسُ لأنه لم يأت من أبنيةِ الجمع شيءٌ على هذا الوزن «. وذكر السيرافي الخلافَ، ورجَّح كونه تكسيراً. وقرأ الأعمش:» سُكْرى «بضم السين وسكون الكاف/، وتوجيهُها أنها صفةٌ على فُعْلى كحُبْلى، وقعت صفةً لجماعةٍ أي: وأنتم جماعةٌ سُكْرى. وحَكى جناح بن حبيش:» كُسْلى وكَسْلى «بضم الكاف وفتحها. قاله الزمخشري. وقرأ النخعي:» سَكْرى «بفتح السين وسكون الكاف، وهذه تحتمل وجهين، أحدُهما: ما تقدَّم في القراءة قبلها وهو أنها صفةٌ مفردةٌ على فَعْلى كامرأةٍ سَكْرى وُصِفَ بها الجماعة. والثاني: أنها جمعُ تكسيرٍ كجَرْحى ومَوْتى وهَلْكى، وإنما جَمْعُ سَكْران على» فَعْلى «حملاً على هذه؛ لِما فيه من الآفةِ اللاحقةِ للفعلِ، وقد تقدَّم لك شيء من هذا في قولهِ في البقرة عند قولِه: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى} [الآية: 85] ، وقُرىء» سَكارى «بفتحِ السينِ، والألفِ، وهذا جمعُ تكسيرِ نحو: نَدْمان ونَدامى وعَطْشان وعَطاشَى. والسُّكْر لغةً: السَّدُّ، ومنه قيل لِما يَعْرِضُ للمرءِ مِنْ شرب المُسْكِر؛ لأنه

يَسُدُّ مابين المرء وعقله، وأكثرُ ما يقال السُّكْرُ لإِزالة العقلِ بالمُسكِر، وقد يُقال ذلك لإِزالتِه بغضبٍ ونحوِه من عشقٍ وغيرِه قال: 1586 - سُكْرانِ سُكْرُ هوىً وسُكْرُ مُدامَةٍ ... أنَّى يُفيقُ فتىً به سُكْرانِ والسَّكْرُ بالفتح وسكون الكاف حَبْسُ الماءِ، وبكسرِ السينِ نفسُ الموضعِ المسدودِ، وأمَّا» السَّكَر «بفتحهما فما يُسْكَرُ به من المشروبِ، ومنه {سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] ، وقيل: السُّكْر بضمِّ السين وسكون الكاف السَّدُّ أي: الحاجزُ بين الشيئين قال: 1587 - فما زِلْنَا على السُّكْرِ ... نُداوي السُّكْرِ بالسُّكْرِ والحاصلُ: أنَّ أصلَ المادة الدلالةُ على الانسدادِ، ومنه» سَكِرتْ عينُ البازي «إذا خالَطَها نومٌ، و» سَكِر النهرُ «إذا لم يَجْرِ، وسَكَرْتُه أنا. قوله: {حتى تَعْلَمُواْ} » حتى «جارةٌ بمعنى» إلى «، فهي متعلقة بفعلِ النهي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار» أَنْ «، وتقدَّم تحقيقُه. و «ما» يجوزُ فيها ثلاثة أوجه: أن تكونَ بمعنى الذي، أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على هذين القولين محذوفٌ أي: يقولونه، أو مصدريةً فلا حَذْفَ إلا على رأيِ ابنِ السراجِ ومَنْ تَبِعه. قوله: {وَلاَ جُنُباً} نصبٌ على أنه معطوفٌ على الحال قبله، وهو قوله {وَأَنْتُمْ سكارى} ، عَطَفَ المفردَ على الجملةِ لَمَّا كانَتْ في تأويلِه، وأعادَ معها «

لا» تنبيهاً على أنَّ النهيَ عن قربانِ الصلاةِ مع كل واحدة من هذين الحالين على انفرادِهما، فالنهيُ عنها مع اجتماعِ الحالين آكدُ وأَوْلى. والجُنُبُ: مشتقٌ من الجَنابة وهي البُعْد قال: 1588 - فلا تَحْرِمَنِّي نائلاً عن جَنابَةٍ ... فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ وسُمِّي الرجلُ جُنُباً لبُعْده عن الطهارة، أو لأنه ضاجَعَ بجَنْبه ومَسَّ به، والمشهورُ أنه يُستعمل بلفظٍ واحد للمفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، ومنه الآيةُ الكريمة. قال الزمخشري: «لجَرَيانه مَجَرى المصدر الذي هو الإِجْناب» ومن العرب مَنْ يُثَنِّيه فيقول: «جُنُبان» ويجمعه سَلامَةً فيقول: «جُنُبون» وتكسيراً فيقول: «أَجْناب» ، ومثله في ذلك: «شُلُل» وتقدَّم تحقيق ذلك. قوله: {إِلاَّ عَابِرِي} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على الحال، فهو استثناء مفرغ، والعامل فيها فعل النهي، والتقدير: لا تقربوا الصلاةَ في حال الجنابة، إلا في حال السفر أو عبور المسجد، على حَسَب القولين. وقال الزمخشري: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} استثناءٌ من عامة أحوالِ المخاطبين، وانتصابُه على الحالِ. فإنْ قلت: كيف جَمَع بين هذه الحالِ والحالِ التي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاةَ في حالِ الجنابة إلا ومعكم حالٌ أخرى تُعْذَرُون فيها وهي حال السفر، وعبُور السبيلِ عبارةٌ عنه «. والثاني: أنه منصوب على أنه صفةٌ لقوله:» جُنُباً «وصفَة ب» إلا «بمعنى» غير «فظهر الإِعرابُ فيما بعدها، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ عند قولِه تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ

آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] كأنه قيل: لا تَقْرَبوها جُنُباً غيرَ عابري سبيل أي: جُنُباً مُقِيمين غيرَ مَعْذُورين، وهذا معنى واضح على تفسيرِ العبورِ بالسفر. وأمَّا مَنْ قَدَّر مواضع الصلاة فالمعنى عنده: لاتقْربوا المساجدَ جُنُباً إلا مجتازين لكونهِ لا ممرَّ سواه، أو غيرِ ذلك بحَسَبِ الخلاف. والعُبور: الجوازُ، ومنه:» ناقةٌ عُبْرُ الهَواجِر «قال: 1589 - عَيْرانَةٌ سُبُحُ اليدينِ شِمِلَّةٌ ... عُبْرُ الهواجرِ كالهِزَفِّ الخاضِبِ وقوله: {حتى تَغْتَسِلُواْ} كقوله: {حتى تَعْلَمُواْ} فهي متعلقةٌ بفعلِ النهي. قوله: {أَوْ على سَفَرٍ} في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبر» كان «وهو» مَرْضَى «وكذلك قوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ} {أَوْ لاَمَسْتُمُ} وفيه دليلٌ على مجيء خبرِ» كان «فعلاً ماضياً من غيرِ» قد «، وادِّعاء حذفِها تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه، كذا استدلَّ به الشيخ، ولا دليلَ فيه لاحتمال أن يكونَ» أو جاء «عطفاً على» كنتم «تقديرُه:» وإنْ جاء أحد «، وإليه ذهب أبو البقاء وهو أظهرُ من الأول، والله أعلم. و «منكم» في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل «أحد» ، فيتعلق بمحذوف و «من الغائط» متعلِّقٌ ب «جاء» ، فهو مفعولُه. وقرأ الجمهور: «الغائِط» بزنة فاعِل، وهو المكانُ المطمئِنُّ من الأرض، ثم عَبَّر به عن نفسِ الحدثِ كنايةً للاستحياء مِنْ ذكره، وفَرَّقت العرب بين الفعلين منه، فقالت: «غاطَ في

الأرض» أي: ذهب وأبعد إلى مكانٍ لا يراه فيه إلا مَنْ وَقَفَ عليه، وتغوَّط: إذا أَحْدَثَ. وقرأ ابن مسعود: «من الغَيْطِ» وفيه قولان، أحدُهما: وإليه ذهب ابن جني أنه مخفف من فَيْعِل كهَيْن ومَيْت في: هيّن وميّت. والثاني أنه مصدرٌ على وزن فَعْلَ قالوا: غاط يغيط غَيْطاً، وغاط يَغُوط غَوطاً. وقال أبو البقاء: «هو مصدرُ» يَغُوط «فكان القياس» غَوْطاً «فَقَلبَ الواوَ ياءً وإنْ سَكَنَتْ وانفتَحَ ما قبلَها لِخفَّتها» كأنه لم يَطَّلع على أنَّ فيه لغةً أخرى من ذواتِ الياء حتى ادَّعى ذلك. وقرأ الأخوان هنا وفي المائدة: «لَمَسْتم» والباقون: «لامستم» فقيل: «فاعِل» بمعنى فَعَل، وقيل: لمَس: جامَع، ولامسَ لما دون الجماع. قوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ} الفاءُ عَطَفَتْ ما بعدهَا على الشرط. وقال أبو البقاء: «على جاء» ، لأنه جَعَل «جاء» عطفاً على «كنتم» فهو شرط عنده. والفاءُ في قوله «فتيمَّموا» هي جوابُ الشرط، والضمير في «تَيَمَّموا» لكلِّ مَنْ تقدَّم من مريضٍ ومسافرٍ ومتغوِّط وملامس أو لامس، وفيه تغليبٌ للخطابِ على الغَيْبَةِ، وذلك أنه تقدَّم غيبة في قوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ} وخطابُ في «كنتم» و «لمستم» فَغَلَّب الخطابَ في قوله «كنتم» وما بعده عليه. وما أحسنَ ما أتى هنا بالغيبة لأنه كنايةٌ عما يُسْتحيا منه فلم يخاطِبْهم به، وهذا من محاسِنِ الكلام، ونحُوه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . و «وَجَد» هنا بمعنى «لَقِي» فتعدَّت لوَاحد.

و «صعيداً» مفعولٌ به لقوله: «تَيمَّموا» أي: اقصِدوا، وقيل: هو على إسقاطِ حرف أي: بصعيدٍ، وليس بشيء لعدمِ اقتياسِه. و «بوجوهكم» متعلِّقٌ ب «امْسَحوا» وهذه الباءُ تحتمل أَنْ تكون زائدة، وبه قال أبو البقاء، ويحتمل أن تكون متعدية، لأن سيبويه حكى: «مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه» فيكون من باب: نصحته ونصحت له. وحُذِفَ الممسوحُ به، وقد ظهَر في آية المائدة في قوله «منه» فَحُمِلَ عليه هذا.

44

قوله تعالى: {مِّنَ الكتاب} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلق بمحذوفٍ إذ هو صفةٌ ل «نصيباً» فهو في محل نصب، والثاني: أنه متعلق ب «أوتوا» أي: أوتوا من الكتابِ نصيباً. و «يَشْتَرُون» حالٌ وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه واو «أوتوا» ، والثاني: أنه الموصولُ، وهي على هذا حالٌ مقدرة، والمشترى به محذوف أي: بالهُدى، كما صَرَّح به في مواضعَ. و «يريدون» عطفٌ على «يشترون» . وقرأ النخعي: «ويُريدون أَنْ تَضُلُّوا» بتاءِ الخطاب، والمعنى: وتريدون أيها المؤمنون أن تَدَّعوا الصوابَ/. وقرأ الحسن: «أن تُضِلُّوا» من «أضلَّ» . وقرىء: «أَنْ تُضَلُّوا السبيل» بضم التاء وفتح الضاد على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. و «السبيل» مفعول به كقولك: «أخطأ الطريق» ، وليس بظرفٍ، وقيل: يتعدَّى ب «عَنْ» تقول: «ضَلَلْتُ السبيل، وعن السبيل» .

45

قوله تعالى: {وكفى بالله} : قد تقدَّم الكلامُ على هذا التركيبِ أولَ السورةِ فَأَغْنى عن إعادتِه، وكذلك تقدَّم الكلامُ في المنصوبِ بعده.

46

قوله تعالى: {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ} : فيه سبعةُ أوجهٍ أحدها: أَنْ يكونَ «مِن الذين» خبراً مقدماً، و «يُحَرِّفون» جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لموصوف محذوف هو مبتدأ، تقديره: «من الذين هادوا قومٌ يُحَرِّفون» وحَذَفُ الموصوفِ بعد «مِنْ» التبعيضية جائزٌ، وإنْ كانت الصفةُ فعلاً كقولهم: «منا ظَعَن ومنا أَقام» أي: فريق ظعن، وهذا هو مذهبُ سيبويه والفارسي، ومثلُه: 1590 - وما الدهرُ إلا تارتانِ فمِنْهما ... أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ أي: فمنهما تارةً أموت فيها. الثاني: قول الفراء وهو أنَّ الجارَّ والمجرور خبرٌ مقدم أيضاً، ولكنَّ المبتدأَ المحذوفَ يقدِّرُه موصولاً تقديره: «من الذين هادوا مَنْ يحرفون» ، ويكون قد حَمَل على المعنى في «يُحَرِّفون» ، قال الفراء: «ومثله: 1591 - فَظَلُّوا ومنهم دَمْعُه سابقٌ له ... وآخرُ يَثْني دمعةً العينِ باليدِ قال:» تقديرُه: «ومنهم مَنْ دمعُه سابقٌ له» . والبصريون لا يجيزون

حَذْفَ الموصولِ لأنه جزءُ كلمة، وهذا عندهم مؤولٌ على حذف موصوف كما تقدم، وتأويلُهم أَوْلَى لعطفِ النكرة عليه وهو «آخر» ، و «أخرى» في البيتِ قبلَه، فيكونُ في ذلك دلالةٌ على المحذوفِ، والتقديرُ: فمنهم عاشقٌ سابقٌ دمعُه له وآخرُ. الثالث: أنَّ «مِن الذين» خبرُ مبتدأ محذوف أي: هم الذين هادوا، و «يُحَرِّفون» على هذا حالٌ من ضمير «هادوا» . وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ يكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قوله «نصيراً» . الرابع: أن يكونَ «من الذين» حالاً من فاعل «يريدون» قاله أبو البقاء، ومَنَع أن يكونَ حالاً من الضمير في «أوتوا» ومن «الذين» أعني في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ} قال: «لأنَّ الحال لا تكونُ لشيءٍ واحد إلا بعطفِ بعضِها على بعض» . قلت: وهذه مسألةٌ خلافٍ، من النحويين مَنْ مَنَع، ومنهم مَنْ جَوَّز وهو الصحيح. الخامس: أنَّ «مِن الذين» بيانٌ للموصولِ في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ} لأنهم يهودٌ ونصارى فبيَّنهم باليهودِ، قال الزمخشري، وفيه نظرٌ من حيث إنه قد فُصِل بينهما بثلاثِ جمل وهي: «والله أعلم» إلى آخره، وإذا كان الفارسي قد مَنَعَ الاعتراضَ بجملتين فما بالُك بثلاث!! قاله الشيخ، وفيه نظرٌ فإنَّ الجمَلَ هنا متعاطفةٌ، والعطفُ يُصَيِّر الشيئين شيئاً واحداً.

السادس: أنه بيانٌ لأعدائِكم، وما بينهما اعتراض أيضاً وقد عُرِف ما فيه. السابع: أنه متعلِّقٌ ب «نصيراً» ، وهذه المادةُ تتعدَّى ب «من» . قال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} [غافر: 29] على أحدِ تأويلين: إمَّا على تضمينِ النصرِ معنى المنع أي: منعناه من القوم، وكذلك: وكفى بالله مانعاً بنصرِه من الذين هادوا، وإمَّا على جَعْلِ «مِنْ» بِمعنى «على» والأولُ مذهبُ البصريين. فإذا جعلنا «من الذين» بياناً لِما قبله فبِمَ يتعلَّق؟؟ والظاهرُ أنه يتعلق بمحذوف، ويَدُلُّ على ذلك أنهم قالوا في «سُقيْاً لك» : إنَّ «لك» متعلق بمحذوف لأنه بيانٌ. وقال أبو البقاء: «وقيل: هو حالٌ من» أعدائكم «أي: واللهُ أعلمُ بأعدائِكم كائنين من الذين هادوا، والفصلُ بينهما مُسَدِّد فلم يمنعْ من الحال» . فقوله هذا يُعْطي أنه بيانٌ لأعدائكم مع إعرابِه له حالاً فيتعلَّق بمحذوف، لكن لا على ذلك الحذفِ المقصودِ في البيان. وقد ظهر مِمَّا تقدَّم أنَّ «يُحَرِّفون» : إمَّا لا محلَّ له، أو له محلُّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسْبِ ما تقدم. وقرأ أبو رجاء والنخعي: «الكلام» وقرىء «الكِلْم» بكسر الكاف وسكون اللام جمع «كِلْمة» مخففة من كَلِمة، ومعانيهما متقاربةٌ. و {عَن مَّوَاضِعِهِ} متعلِّقٌ ب «يُحَرِّفون» ، وذكَّر الضمير في «مواضعه» حَمْلاً على «الكَلِم» لأنها جنسٌ.

وجاء هنا: {عَن مَّوَاضِعِهِ} ، وفي المائدة: {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [الآية: 41] قال الزمخشري: «أمَّا» عن مواضِعه «فَعَلى ما فَسَّرناه من إزالته عن مواضِعه التي أَوْجَبَتْ حكمةُ اللهِ وَضْعَه فيها بما اقتضَتْ شهواتُهم من إبدالِ غيره مكانَه، وأما {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قَمِنٌ بأن يكونَ فيها، فحين حَرَّفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارِّه، والمعنيان متقاربان» . قال الشيخ: «وقد يقال إنهما سِيَّان، لكنه حُذِف هنا وفي أول المائدة {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [الآية: 41] ؛ لأنَّ قولَه» عَنْ مَّواضِعِه «يدلُّ على استقرارِ مواضعَ له، وحُذِف في ثاني المائدة» عن مواضِعِه «لأنَّ التحريفَ من بعد مواضعه يدل على أنه تحريفٌ عن مواضعِه، فالأصلُ: يُحَرِّفون الكلمَ من بعد مواضعِه عنها، فَحَذَف هنا البعدية وهناك» عنها «توسُّعاً في العبارةِ، وكانت البداءةُ هنا بقوله» عن مواضعِه «لأنه أخصرُ، وفي تنصيصٌ باللفظِ على» عن «وعلى المواضعِ وإشارةٌ إلى البعدِيَّة» . وقال أيضاً: «والظاهرُ أنهم حيث وُصِفوا بشدةِ التمرُّدِ والطغيانِ وإظهارِ العداوةِ واشتراءِ الضلالةِ ونَقْضِ الميثاق جاء {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} كأنهم حَرَّفوها من أولِ وهلةٍ قبل استقرارها في مواضعها وبادَرُوا إلى ذلك، ولذلك جاء أَوَّلُ المائدة كهذهِ الآيةِ حيث وصفهم بنقضِ الميثاق وقسوةِ القلوب، وحيث وُصِفوا باللين وترديدِ الحكم إلى الرسول جاء {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} كأنهم لم يبادِروا إلى التحريفِ، بل عرض لهم بعد استقرارِ الكلمِ في مواضعِها فهما سياقان مختلفان» .

وقوله: {وَيَقُولُونَ} عطفٌ على «يُحَرِّفون» ، وقد تقدَّم، وما بعده في محلِّ نصبٍ به. قوله: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} في نصبه وجهان أحدهما: أنه حالٌ، والثاني: أنه مفعولٌ به، والمعنى: اسمَعْ غيرَ مُسْمَع كلاماً ترضاه، فسمعُك عنه نابٍ. قال الزمخشري بعد حكايتِه نصبَه على الحالِ وذكرِه المعنى المتقدم: «ويجوز على هذا أن يكون» غيرَ مُسْمَع «مفعول» اسمَعْ «أي: اسْمَعْ كلاماً غيرَ مسمعٍ إياك لأنَّ أذنك لا تَعِيه نُبُوّاً عنه» . وهذا الكلامُ ذو وجهين: يعني أنَّه يحتمل المدح والذم فبإرادة المدحِ تقدِّرُ: «غيرَ مُسْمِعٍ مكروهاً» ، فيكونُ قد حذف المفعولَ الثاني، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، وبإرادة الذمِّ تقدِّر: «غير مُسْمع خيراً» ، وحُذِفَ المفعولُ الثاني أيضاً. وقال أبو البقاء: «وقيل: أرادوا غيرَ مسموعٍ منك» ، وهذا القولُ نَقَله ابن عطية عن الطبري، وقال: «إنه حكايةٌ عن الحسن ومجاهد» . قال ابن عطية: «ولا يساعِدُه التصريف» يعني أن العرب لا تقول: «أَسْمَعْتُك» بمعنى قَبْلْتُ منك، وإنما تقول: «أسْمَعْتُه» بمعنى سَبَبْتُه، و «سمعت منه» بمعنى: قَبِلْتُ منه، يُعَبِّرون بالسماع لا بالإِسماع عن القَبولِ مجازاً، وتقدَّم القولُ في {رَاعِنَا} [الآية: 104] في البقرة. قوله: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً} فيهما وجهان أحدهما: أنهما مفعولٌ من أجله ناصبُهما: «ويقولون» . والثاني: أنهما مصدران في موضع الحال أي: لاوينَ وطاعنِين. وأصل لَيّاً: «لَوْيٌ» من لوى يَلْوي، فأُدْغِمَتِ الواوُ في الياء

بعد قَلْبِها ياءً فهو مثل «طَيّ» مصدر طَوَى يَطْوي. و «بألسنتِهم» و «في الدين» متعلقان بالمصدرين قبلهما. و {لَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ} تقدَّم الكلامُ على ذلك في البقرة بأشبعِ قول. قوله: {لَكَانَ خَيْراً} فيه قولان، أظهرُهما: أنه بمعنى أفعل، ويكونُ المفضَّلُ عيه محذوفاً، أي: لو قالوا هذا الكلامَ لكان خيراً من ذلك الكلامِ. والثاني: أنه لا تفضيلَ فيه، بل يكون بمعنى جيد وفاضل، فلا حَذْفَ حينئذ، والباءُ في «بكفرِهم» للسببية. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} فيه ثلاثةُ أوجه: أحدُها: أنَّه منصوبٌ على الاستثناءِ من «لَعَنَهم» أي: لَعَنَهم الله إلا قليلاً منهم، فإنهم آمنوا فلم يَلْعَنْهم. والثاني: أنه مستثنى من الضميرِ في «فلا يؤمنون» والمرادُ بالقليلِ عبد الله بن سلام وأضرابه. ولم يستحسن مكي هذين الوجهين: أمَّا الأول قال: لأنَّ مَنْ كَفَر ملعون لا يستثنى منهم أحدٌ. وأمَّا الثاني: فلأنَّ الوجهَ الرفعُ على البدلِ؛ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ «. والثالث: أنه صفةٌ/ لمصدرٍ محذوفٍ أي: إلا إيماناً قليلاً، وتعليلُه هو أنهم آمنوا بالتوحيدِ وكفروا بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشريعته. وعَبَّر الزمخشري وابن عطية عن هذا التقليل بالعدمِ، يعني أنهم لا يؤمنون البتة، كقوله:

1592 - قليلٌ التشكِّي للمُهِمِّ يُصيبه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قال الشيخ: «وما ذكراه من أن التقليلَ يُراد به العَدَمُ صحيح، غير أنَّ هذا التركيبَ الاستثنائي يأباه، فإذا قلت:» لم أقم إلا قليلاً «فالمعنى: انتفاء القيام إلا القليلَ فيوجد منك، لا أنه دال على انتفاء القيامِ البتةَ بخلافَ» قَلَّما يقولُ ذلك أحدٌ إلا زيدٌ «و» قَلَّ رجلٌ يفعل ذلك «فإنه يَحْتمل القليل المقابل للتكثير، ويحتمل النفيَ المحض، أمَّا أنك تنفي ثم توجب، ثم تريد بالإِيجاب بعد النفي نفياً فلا، لأنه يلزم أَنْ تجيءَ» إلاَّ «وما بعدها لغواً من غيرِ فائدة، لأنَّ انتفاءَ القيام قد فُهِم من قولك:» لم أقم «فأيُّ فائدةٍ في استثناء مثبت يراد به انتفاءٌ مفهومٌ من الجملة السابقة؟ وأيضاً فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعدَ» إلا «موافقاً لِما قبلها في المعنى، والاستثناءُ يلزم أن يكون ما بعد» إلاَّ «مخالفاً لِما قبلها فيه» .

47

قوله تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ} : متعلقٌ بالأمر في قوله: «آمنوا» ، و «نَطْمِس» يكون متعدياً، ومنه هذه الآية، ومثلُها: {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} [المرسلات: 8] لبنائِه للمفعولِ من غيرِ حرفِ جرٍّ، ويكون لازماً يقال: «طمس المطرُ الأعلامَ» و «طَمَست الأعلامُ» ، قال كعب: 1593 - من كلِّ نَضَّاخةِ الذِّفْرى إذا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُها طامِسُ الأعلامِ مجهولُ وقرأ الجمهور: «نَطْمِس» بكسر الميم، وأبو رجاء بضمها، وهما لغتان

في المضارع. وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي: عيونَ وجوهٍ، ويُقَوِّيه أنَّ الطمسَ للأعينِ، قال تعالى: {لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] . وقوله: {على أَدْبَارِهَآ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلق ب «نَرُدَّها» . والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف؛ لأنه حال من المفعول في «نردَّها» قاله أبو البقاء، وليس بواضح. قوله: «أو نلعَنهم» عطفٌ على «نَطْمِسَ» ، والضميرُ في «نلعنهم» يعودُ على الوجوه، «على حَذْفِ مضافٍ إليه» ، أي: وجوه قوم، أو على أن يُرادَ بهم الوُجَهاءُ والرؤساءُ، أو يعودُ على الذين أوتوا الكتاب، ويكون ذلك التفاتاً من خطابٍ إلى غيبة، وفيه استدعاؤُهم للإِيمان، حيث لم يواجِهْهم باللعنةِ بعد أَنْ شَرَّفهم بكونهم من أهل الكتاب. وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله} : أمرٌ واحدٌ أُريد به الأمورُ. وقيل: هو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به أي: مأمورُه أي: ما أَوْجَدَه كائنٌ لا محالةَ.

48

وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} : مستأنفٌ، وليس عطفاً على «يَغْفر» الأولِ لفسادِ المعنى. والفاعل في «يشاء» ضميرٌ عائد على الله تعالى، ويُفْهَمُ مِنْ كلامِ الزمخشري أنه ضميرٌ عائدٌ على «مَنْ» في «لِمَنْ» ؛ المعنى عنده: إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ الشرك لمن لا يشاء أن يغفر له، بكونهِ مات على الشرك غيرَ تائبٍ منه، ويغفرُ ما دونَ ذلك لمَنْ يشاءُ أَنْ يغفرَ له بكونهِ مات تائباً من الشرك «، و» لِمَنْ يشاء «متعلقٌ ب» يغفر «.

49

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} : تقدَّم مثلُه، و «بل» إضرابٌ عن

تزكيتهم أنفسَهم. وقَدَّر: أبو البقاء قبل هذا الإِضراب جملةً قال: «تقديره: أخطؤوا بل الله يزكي من يشاء. وقوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ} يجوز أن يكونَ حالاً مِمَّا تقدَّم، وأَنْ يكونَ مستأنفاً، والضميرُ في» يُظْلمون «يجوز أن يعودَ على مَنْ يشاء» أي: لا يُنْقِصُ من تزكيتهم شيئاً، وإنما جَمَع الضميرَ حَمْلاً على معنى «مَنْ» ، وأن يعودَ على الذين يُزَكُّون، وأن يعود على القبيلين: مَنْ زكَّى نفسَه ومَنْ زكَّاه الله، فذاك لا يُنْقِصُ من عقابِه شيئاً، وهذا لا يُنْقِصُ من ثوابِه شيئاً. والأولُ أظهرُ؛ لأن «مَنْ» أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ «بل» إضرابٌ منقطعٌ ما بعدها عَمَّا قبلها. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً أي: مَنْ زَكَّى نفسَه، ومَنْ زَكَّاه الله» انتهى، فَجَعَلَ عود الضميرِ على الفريقين بناءً على وجهِ الاستئنافِ، وهذا غيرُ لازمٍ، بل يجوزُ عَوْدُه عليهما والجملةُ حاليةٌ. و {فَتِيلاً} مفعولُ ثانٍ، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، كما تقدَّم تقريرُه في {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] . والفتيل: خيط رقيق في شِقِّ النَّواة، يُضْرب به المَثَلُ في القلة، وقيل: هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفَّيْك من الوسخ حين تفتلهما، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقد ضَرَبَتِ العربُ المثلَ في القلة التافهة بأربعة أشياء اجتمعن في النواة، وهي: الفتيل والنقير وهو النُّقْرة التي في ظَهر النَّواة والقِطْمير وهو القشر الرقيق فوقها وهذه الثلاثةُ واردةٌ في الكتابِ العزيز، والثُّفْروق وهو ما بين النواة والقِمْع الذي يكون في رأس التمرة كالعِلاقة بينهما.

50

قوله تعالى: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ} : كيف منصوبٌ ب «يَفْتَرون» وتقدَّم الخلافُ فيه، والجملةُ في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافضِ، لأنها معلقةٌ ل «انظر» و «انظر» يتعدَّى ب «في» لأنَّها هنا ليست بصريةً. و «على الله» متعلقٌ ب «يفترون» وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الكذب» قُدِّم عليه قال: «ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالكذبِ؛ لأنَّ معمولَ المصدرِ لا يقتدَّم عليه، فإنْ جُعِل على التبيين جاز» وجَوَّز ابنُ عطية أن تكونَ «كيف» مبتدأً، والجملةُ من قولِه «يفترون» الخبرُ، وهذا فاسدٌ لأنَّ «كيف» لا تُرْفَعُ بالابتداء، وعلى تقديرِ ذلك فأين الربطُ بينها وبين الجملةِ الواقعة خبراً عنها؟ ولم تكن نفسَ المبتدأ حتى تَسْتغني عن رابط. و «إثْماً» تمييزٌ، والضميرُ في «به» عائدٌ على الكذب، وقيل: على الافتراءِ، وجَعَله الزمخشري عائداً على زعمِهم، يعني مِنْ حيث التقديرُ.

51

قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ} : فيه وجهان، أحدُهما: انه حالٌ: إمَّا من «الذين» ، وإمَّا من واو «أُوتوا» . و «بالجِبْتِ» متعلق به، «ويقولون» عطفٌ عليه، و «للذين» متعلِّقٌ ب «يقولون» واللام: إمَّا للتبليغ وإمَّا للعلِة كنظائرِها. «وهؤلاء أَهْدَى» مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ بالقول. و «سبيلاً» تمييزٌ. والثاني: أنَّ «يؤمنون» مستأنف، وكأنه تعجَّبَ مِنْ حالِهم، إذ كان ينبغي لِمَنْ أُوتي نصيباً من الكتاب ألاَّ يفعلَ شيئاً مِمَّا ذُكِر فيكونُ جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: ألا تعجَبُ من حالِ الذين أوتوا نصيباً من الكتاب؟ فقيل: وما حالُهم؟ فقال: يؤمنون ويقولون، وهذان منافيان لحالِهم. والجِبْتُ: هو الجِبْسُ بالسينِ المهملةِ، أُبْدِلَتْ تاءً، كالنات والأكيات وست

في: الناس والأكياس وسِدْس، قال: 1594 -. . . . . . . . . . . ... شرارُ الناتِ ليسوا بأجوادٍ ولا أَكْياتِ والجِبْس: هو الذي لاخيرَ عنده، يُقال: رجلٌ جِبْسٌ وجِبْتٌ أي: رَذْل، قيل: وإنَّما ادَّعَى قلبَ السينِ تاءً لأنَّ مادة جَ بَ تَ مهملةٌ، وهذا قولُ قطرب، وغيره يجعلُها مادةً مستقلة، وقيل: الجِبْت: الساحر بلغةِ الحبشة، ويُطلق الجبتُ على كل ما عُبِد مِنْ دونِ الله، ولدلك سَمَّوا به صنماً بعينِه. والطاغوتُ تقدَّم تفسيرُه وتصريفُه.

53

قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ} : «أم» هذه منقطعةٌ لفواتِ شرطِ الاتصال، وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة، فتتقدَّر ب «بل» والهمزِة التي يُراد بها الإنكارُ، وكذلك هي في قولِه {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} [النساء: 54] وقوله: «فإذَنْ» حرفُ جوابٍ وجزاءٍ ونونُها أصليةٌ، قال مكي: «وحُذَّاق النحويين على كَتْب نونِها نوناً، وأجاز الفراء أن تُكْتَبَ ألفا» وما قاله الفراء هو قياسُ الخطِ؛ لأنه مبني على الوقف، والوقفُ على نونِها بالألف، وهي حرفٌ ينصِبُ المضارعَ بشروطٍ تقدَّمت، ولكن إذا وَقَعَتْ بعد عاطف فالأحسنُ الإهمال، وقد قرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما هنا بأَعمالها فحذفا النون من قوله «لا يؤتون» وقال أبو البقاء: «ولم يَعْمل هنا من أجل حرف العطف وهو الفاء، ويجوز في غير القرآن أن يعمل مع الفاءِ وليس المبطلُ» لا «لأنَّ»

لا «يتخطَّاها العامل، فظاهرُ هذ العبارةِ أولاً أن المانعَ حرفُ العطف، وليس كذلك بل المانعُ التلاوةُ، ولذلك قال أخيراً» ويجوز في غيرِ القرآن «وقد تقدَّم قراءةُ عبد الله وعبد الله.

55

والضمير في قولِه: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ} : عائدٌ على إبراهيم أو على القرآنِ أو على الرسول محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو على ما أوتيه إبراهيم عليه السلام. وقرأ الجمهور: «صَدَّ» بفتح الصاد، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعكرمة «صُدَّ» بضمها. وقرأ أبو رجاء وأبو الجوزاء بكسرها، وكلتا القراءتين على البناء / للمفعول، إلاَّ أَنَّ المضاعف الثلاثي كالمعتلِّ العينِ منه، فيجوزُ في أولِه ثلاثُ لغات: إخلاصُ الضم، وإخلاصُ الكسر، والإِشمامُ. و «سعيراً» تمييز، فإنْ كان بمعنى التهاب واحتراق فلا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: كفى بسعيرِ جهنم سعيراً، إلاَّ أَنَّ توقُّدَها والتهابَها ليس إياها، وإنْ كان بمعنى «مُسْعِر» فلا يَحْتاج إلى حذف.

56

وقرأ الجمهور: {نُصْلِيهِمْ} : بضم النون من أصلَى، وحميد بفتحها من صَلَيْتُ ثلاثياً، وسلام ويعقوب: نُصْلِيهُم «بضم الهاء وهي لغة الحجاز وتقدم تقرير ذلك. قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ} قد تقدم الكلامُ على» كلما «وأنها ظرفُ زمانٍ، والعاملُ فيها» بَدَّلْناهم «والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المنصوبِ في» نُصْليهم «ويجوز أن يكونَ صفة ل» ناراً «والعائدُ محذوف وليس بالقوي،» وليذوقوا «متعلق ب» بَدَّلناهم «.

57

قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ} : فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره «سَنُدْخِلُهم» والثاني: أنه في محل نصب عطفاً على اسم «إن» وهو «الذين كفروا» ، والخبر أيضاً «سندخلهم جناتٍ» ويصيرُ هذا نظيرَ

قولك: «إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً قاعدٌ» فعطفت المنصوب على المنصوب والمرفوع على المرفوع.: والثالث: أن يكون في محلِّ رفعٍ عطفاً على موضع اسم «إنَّ» لأنَّ محلَّه الرفع، ذكر ذلك أبو البقاء وفيه نظرٌ من حيث الشناعةُ اللفظية حيث يقال: «والذين آمنوا» في موضع نصب عطفاً على «الذين كفروا» ، وأتى بجملة الوعيد مؤكدةً ب «إنَّ» تنبيهاً على شدة ذلك، وبجملةِ الوعدِ خاليةً منه لتحقُّقها وأنه لا إنكار لذلك، وأَتَى فيها بحرفِ التنفيس القريبِ المدةِ تنبيهاً على قرب الوعد. و {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في محلِّ نصبٍ صفةً ل «جنات» وقرأ بالنخعي «سَيُدْخِلُهم» وكذلك «ويُدْخِلُهم ظِلاًّ» بياء الغَيْبة، رَدَّاً على قوله: {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً} والجمهورُ بالنون رَدًّاً على قوله {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} و «خالدين» يجوزُ فيه ثلاثة أوجه، أحدهما: أنه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في «سَنُدْخِلُهم» ، والثاني: أجازه أبو البقاء أن يكونَ حالاً من «جنات» قال: «لأنَّ فيها ضميراً لكل واحدٍ منهما، يعني أنه يجوزُ أن يكونَ حالاً من مفعول» سندخلهم «كما تقدم، أو من» جنات «لأن في الحال ضميرين أحدُهما: المستتر في» خالدين «العائدُ على الذين آمنوا، والآخر: المجرور ب» في «العائد على» جنات «فصحَّ أن يُجعل حالاً من كل واحد لوجود الرابط وهو الضمير. وهذا الذي قالَه فيه نظرٌ لا يَخْفى من وجهين، أحدهما: أنه يصيرُ المعنى: أنَّ الجناتِ خالداتٌ في أنفسِها، لأنَّ الضميرَ في» فيها «عائدٌ عليها، فكأنه قيل: جناتٌ خالداتٌ في الجناتِ أنفسِها. والثاني: ان هذا الجمعَ شرطُه العقلُ، ولو أُريد ذلك لقيل: خالدات. والثالث. أن يكون صفةً

ل» جنات «أيضاً. قال أبو البقاء» على رأي الكوفيين «، يعين أنه جَرَتِ الصفةُ على غير مَنْ هي له في المعنى، ولم يَبْرُز الضمير، وهذا مذهبُ الكوفيين، وهو أنه إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وأُمِنَ اللَّبْسَُ لم يَجِبْ بروزُ الضميرِ كهذه الآية. ومذهبُ البصريين وحوبُ بروزِه مطلقاً، فكان ينبغي أَنْ يُقالَ على مذهبهم» خالدين هم فيها «ولَمَّا لم يَقُلْ كذلك دَلَّ على فسادِ هذا القولِ، وقد تقدَّم لك تحقيقُ ذلك. فإنْ قلت: فلْتكُنْ المسألةُ الأولى كذلك، أعني أنك إذا جعلت «خالدين» حالاً من «جنات» فيكونُ حالاً منها لفظاً وهي لغيرِها، معنى، ولم يَبْرُز الضميرُ عل رأي الكوفيين، ويَصِحُّ قولُ أبي البقاء فالجواب أن هذا لو قيل به لكان جيداً، ولكن لا يَدْفَعُ الردَّ عن أبي البقاء، فإنه خصص مذهبَ الكوفيين بوجه الصفة دون الحال. وقوله {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ} مبتدأ وخبر، ومحلُّ هذه الجملة: إمَّا النصبُ أو الرفع، فالنصبُ: إمَّا على الحال من «جنات» أو من الضمير في «سندخلهم» ، وإمَّا على كونها صفةً ل «جنات» بعد صفة. والرفعُ على أنه خبر بعد خبر.

58

قوله تعالى: {أَن تُؤدُّواْ} : منصوبُ المحلِّ: إمَّا على إسقاط حرف الجر؛ لأنَّ حَذْفَه يَطَّرِدُ مع «أنْ» ، إذا أُمِنَ اللَّبْسُ لطولِهما بالصلة، وإمَّا لأن «أَمَر» يتعدَّى إلى الثاني بنفسِه نحو: «أمرتك الخير» . فعلى الأول يجري الخلافُ في محلِّها: أهي في محلِّ نصبٍ أم جر، وعلى الثاني: هي في محلِّ نصبٍ فقط. وقُرئ «الأمانةَ» . والظاهرُ أنَّ قوله: {أَن تَحْكُمُواْ} معطوفٌ على أَنْ تُؤَدُّوا «أي: يأمركم بتأديةِ الأماناتِ وبالحكمِ بالعدلِ، فيكونُ قد فصل بين حرف العطف

والمعطوف بالظرف، وهي مسألة خلاف: ذهب الفارسي الى مَنْعِها إلا في الشعر، وذهب غيره إلى جوازها مطلقاً. ولننقِّحْ محلِّ الخلاف أولاً فأقول: إنَّ حرف العطف إذا كان على حرف واحد كالواو والفاء: هل يجوزُ أن يُفْصَلَ بينه وبين ماعَطَفه بالظرفِ وشِبْهِهِ أم لا؟ ذهب الفارسي إلى مَنْعِه مستدلاً بأنه إذا كان على حرف واحد فقد ضَعُف، فلا يتوسَّط بينه وبين ما عطفه شيءٌ إلا في ضروة كقوله: 1595 - يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال ... عَضْب ويوماً أَدِيمَها نَغِلا تقديره:» وترى أديمها نَغِلاً يوماً «فَفَصَل ب» يوماً. وذهب غيرُه إلى جوازِه مُسْتَدِلاًّ بقوله: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} [يس: 9] {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سموات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنّ} [الطلاق: 12] {أَن تُؤدُّواْ الأمانات. . . . .} الآية. وقال صاحب هذا القول: إن المعطوف عليه إذا كان مجروراً بحرف أُعيد ذلك الحرفُ مع المعطوفِ نحو: «امرُرْ بزيدٍ وغداً بعمروٍ» وهذه الشواهدُ لا دليلَ فيها: أمَّا «في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً» وقوله: «وجَعَلْنَا من بينِ أيديهم» فلأنَّه عَطَفَ شيئين على شيئين: عَطَفَ «الآخرة» على «الدنيا» بإعادة الخافضِ، وعَطَفَ «حسنةً» الثانيةَ على «حسنةً» الأولى،

وكذلك عطف «مِنْ خلفهم» على «من بين» ، و «سداً» على «سداً» وكذلك البيت عطف فيه «أَدِيمَها» على المفعولِ الأولِ ل «تَراها» و «نَغِلا» على الثاني وهو «كشِبْه» و «يوماً» الثاني على «يوماً» الأول، فلا فصلَ فيه حينئذ، وحينئذ يقال: ينبغي لأبي عليّ أن يمنعَ مطلقاً، ولا يَسْتثني الضرورة، فإن ما استشهد به مؤولٌ عل ما ذَكَرْتُ. فإنْ قيل: إنَّما لم يجعلْه أبو علي من ذلك لأنه يؤدِّي إلى تخصيصِ الظرفِ الثاني بما وَقَعَ في الأولِ، وهو انه تراها كشِبْه أردية العَضْب في اليوم الأول والثاني؛ لأنَّ حكمَ المعطوف حكمُ المعطوفِ عليه فهو نظيرُ قولك: «ضربت زيداً يوم الجمعة ويوم السبت، ف» يومَ السبت «مقيَّدٌ بضربِ زيد كما يُقيَّد به يوم الجمعة، لكن الغرض أن اليوم الثاني في البيت مُقَيَّدٌ بقيد آخر وهو رؤية أَديمِها نَغِلا، فالجواب: انه لو تُرِكنا والظاهرَ من غيرِ تقييد الظرف الثاني بمعنى آخر كان الحكمُ كما ذكرت؛ لأنه الظاهرُ كما ذكرت في مثالك:» ضربت زيداً يوم الجمعة ويوم السبت «أمَّا إذا قَيَّدْته بشي آخر فقد تُرك ذلك الظاهرُ لهذا النصِّ، ألا تراكَ تقول:» ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً يوم السبت «فكذلك هذا، وهو موضعٌ يحتاج لتأمل. وأمَّا «فبشَّرناها بإسحاق» ف «يعقوب» ليس مجروراً عطفاً على «إسحاق» بل منصوباً بإضمار فعل أي: ووهبا لها يعقوب، ويدل عليه قراءة الرفع فإنها مؤذنةٌ بانقطاعِه من البشارة به، كيف وقد تقدَّم أنَّ هذا القائَل يقول: إنه متى كان المعطوفُ عليه مجروراً؟ أُعيد مع المعطوفِ الجارُّ. وأمَّا {أَن تُؤدُّواْ الأمانات} فلا دلالة فيها أيضاً لأنَّ «إذا» ظرفٌ لا بدل له من عامل، وعاملُه: إمَّا «أَنْ تَحْكُموا» وهو الظاهرُ / من حيث المعنى، وإمَّا «يأمُركم» ، فالأول ممتنعٌ وإنْ كان المعنى عليه؛ لأنَّ ما في حَيِّزِ الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند

البصريين، وأما الكوفيون فيُجيزون ذلك، ومنه الآيةُ عندهم، واستدلُّوا بقوله: 4596 - كان جَزائي بالعصا أَنْ أُجْلَدا ... وقد جاء ذلك في المفعول الصريح في قوله: 1597 -. . . . . . . . . . . . ... وشفاءُ غَيِّك خابراً أَنْ تَسْألي فكيف بالظرفِ وشبهِه؟ والثاني ممتنعٌ أيضاً لأنَّ الأمرَ ليس واقعاً وقت الحكم، كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ، وإذا بَطَل هذان فالعامل فيه مقدرٌ يفسِّره ما بعدَه تقديُره: وأَنْ تحكموا إذا حكمتم، و «أن» تحكموا «الآخيرةُ دالةٌ على الأولى. قوله: {بالعدل} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق ب» تحكموا «فتكونَ الباءُ للتعدية. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل» تَحْكُموا «فتكونَ الباءُ للمصاحبَة اي: ملتبسين بالعدل مصاحبين له، والمعنيان متلازمان. قوله: {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} قد تقدَّم الكلامُ على» ما «المتصلة ب» نعم «وبئس» وما ذكر الناسُ فيها فعليك بمراجعته. إلا أن ابن عطية

نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُد مِنْ وَهْمٍ، فلا بُدَّ من ذكره قال: و «ما» المردفةُ على «نِعْم» إنما هي المهيئةُ لاتصالِ الفعل بها، كما هي في «ربما» و «مِمَّا» في قولِه: «وكان رسولُ الله عليه السلام مِمَّا يحرِّك شفتيه» وكقوله: 1598 - وإنَّا لَمِمَّا نضربُ الكبشَ ضربةً ... على رأسِه تُلْقي اللسانَ من الفم وفي هذا هي بمنزلة «ربما» ، وهي لها مخالفةٌ في المعنى، لأن «ربما» للتقليل و «مِمَّا» للتكثير، ومع أن «ما» موطئة فهي بمعنى الذي، وما وَطَّأتْ إلا وهي اسم، ولكنَّ القصدَ إنما هو لِما يليها من المعنى الذي في الفعل «قال الشيخ:» وهذا متهافتٌ؛ لأنه من حيث جَعَلَها موطئةً مهيئةً لا تكون اسماً، ومِنْ حيثُ جَعلَها بمعنى «الذي» يلزم أن تكونَ اسماً فتدافعا «.

59

قوله تعالى: {مِنْكُمْ} : في محلِّ نصبٍ على الحال من «أُولي الأمر» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: وأولي الأمرِ كائنين منكم، و «مِنْ» تبعيضية. قوله: «إنْ كنتم» شرطٌ جوابُه محذوفٌ عند جمهور البصريين أي: فَرُدُّوه إلى الله. وهو متقدمٌ عند غيرِهم. و «تأويلاً» نصبٌ على التمييز.

60

{يَزْعُمُونَ} : مثلُ ظنَّ وأخواتها بشرطِ ألاَّ تكونَ بمعنى كَفِل ولا كذب ولا سَمِن ولا هَزَل، و «أنَّ سادَّةٌ مسدَّ مفعوليها،. وقرأ الجمهور:» أُنْزل إليك وما أُنْزل من قبلك «مبنياً للمفعول، وقرئا مبنيين

للفاعل وهو الله تعالى. والزعم - بفتح الزاي وضمها وكسرها - مصدرُ زَعَم، وهو قولٌ يقترن به اعتقاد ظني قال: 1599 - فإنْ تَزْعُميني كنتُ أجهلُ فيكُمُ ... فإني شَرَيْتُ الحِلْمَ بعدَك بالجَهْل قال ابنُ دريد:» أكثرُ ما يقع على الباطل «وقال عليه السلام:» بئس مطيةُ الرجلِ زعموا «وقال الأعشى: 1600 - ونُبِّئْتُ قيساً ولم أَبْلُه ... كما زعموا خيرَ أهلِ اليمنْ فقال الممدوح:» وما هو إلا الزعم «وحرمه ولم يُعْطِه شيئاً. [وذكر صاحبُ» العين «أنها تقع غالباً على» أنَّ «قال:» وقد تقع في الشعر على الاسم «وأنشد بين أبي ذؤيب، وقول الآخر] : 1601 - زَعَمَتْني شيخاً ولستُ بشيخٍ ... إنما الشيخُ مَنْ يَدِبُّ دبيباً وتكون» زعم «بمعنى» ظَنَّ «فتتعدَّى لاثنين، وبمعنى» كفِل «فتتعدى لواحد، ومنه {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وبمعنى» رَأس «وبمعنى سَمِن» و «هَزَل» فلا تتعدى.

قوله: {يُرِيدُونَ} حالٌ من فاعل «يَزْعُمون» أو من «الذين يزعمون» وقوله: {وَقَدْ أمروا} حال من فاعل «يريدون» فهما حالان متداخلان، و «أن يكفروا» في محلِّ نصب فقط إنْ قَدَّرْتَ تعدية «أمر» إلى الثاني بنفسِه، وإلا ففيها الخلافُ المشهور، والضمير في «به» عائد على الطاغوت، وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويؤنث، وما قال الناس فيه في البقرة. وقرأ عباس بن الفضل: «ان يكفُروا بهنَّ» بضمير جميع التأنيث. قوله: {أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً} في «ضلالاً» ثلاثة أقوال، أحدهما: أنه مصدر على غير الصدر نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 3] والأصل «إضلال» و «إنبات» فهو اسمٌ مصدر لا مصدر. والثاني: أنه مصدرٌ لمطاوع «أَضلَّ» أي: أضَلَّهم فضلُّوا ضلالاً. والثالث: أن يكون من وَضْعِ أحد المصدرين موضعَ الآخر. وقد تقدم الكلامُ على «تعالوا» في آل عمران وما قال الناس فيها، وقراءةِ الحسن وتوجيهِها فعليك بالالتفات إليه.

61

قوله تعالى: {رَأَيْتَ} : فيها وجهان، أحدُهما: أنها من رؤية البصر أي: مجاهرة وتصريحاً. والثاني: انها من رؤية القلب أي: «علمت» ، ف «يصدُّون» في محل نصب على الحال القول الأول، وفي محلِّ المفعول الثاني على الثاني. و «صدوداً» فيه وجهان، احدهما: أنه اسم مصدر، والمصدر إنما هو الصدُّ، وهذا اختبار ابن عطية، وعزاه مكي

للخليل بن أحمد. والثاني: انه مصدر بنفسه يقال: صد صَدًّاً وصُدوداً، وقال بعضُهم: «الصُّدود: مصدر» صَدَّ «اللازم، والصَّدُّ مصدر» صد «المتعدي، نحو: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} [النمل: 24] ، والفعل هنا متعدِّ بالحرف لا بنفسِه، فلذلك جاء مصدرُه على» فُعُول «لأنَّ فُعولاً غالباً للازم» وهذا فيه نظرٌ، إذ لقائلٍ أَنْ يقولَ: هو هنا متعد، غايةُ ما فيه أنه حَذَف المفعول أي: يَصُدُّون غيرهم - أو المتحاكمين عندك - صدوداً، وأمَّا فُعول فاء في المتعدي نحو: لزمه لُزوماً وفتنة فُتوناً.

62

قوله تعالى: {فَكَيْفَ} : يجوز في «كيف» وجهان، أحدهما: انها في محل نصب، وهو قول الزجاج قال: «تقديره: فكيف تراهم» والثاني: أنها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي: فكيف صنيعُهم في وقت إصابة المصيبة إياهم؟ و «إذا معمولةٌ لذلك المقدر بعد» كيف «، والباء في» بما «للسببية، و» ما «يجوز أن تكونَ مصدريةً أو اسمية، فالعائدُ محذوف. قوله: {يَحْلِفُونَ} حال من فاعل» جاؤوك «و» إنْ «نافية أي: ما أردنا و» إحسانا «مفعول به، أو استثناء على حسب القولين في المسألة.

63

قوله تعالى: {في أَنْفُسِهِمْ} : فيه أوجه: أَوْجهُها: أن يتعلق ب «قل» وفيه معنيان، الأولُ: قل لهم خالياً لا يكون معهم أحد، لأنَّ ذلك أَدْعى إلى قَبول النصحية. الثاني: قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يَبْلُغ بهم ما يَزْجُرهم عن العَوْدِ إلى النفاق. الثاني من الأوجهِ أَنْ يتعلَّق ب «بليغاً» أي: قولاً مؤثِّراً في قلوبِهم يغتمُّون به اغتماماً، ويستشعرون به استشعاراً، قال معناه الزمخشري، ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ هذا مذهبُ

الكوفيين، إذ فيه تقديمُ معمولِ الصفة على الموصوف، لو قلت: «جاء زيداً رجلٌ يضربُ» لم يجز عند البصريين؛ لأنه لا يتقدم المعمولُ إلا حيث يجوز تقديم العامل، والعامل هنا لا يجوزُ تقديمه؛ لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف، والكوفيون يجيزون تقديم معمولَ الصفة على الموصوف، وأمَّا قول البصريين: إنه لا يتقدم المعمول إلا حيث يتقدم العامل ففيه بحث، وذلك أنَّا وجدنا هذه القاعدة منخرمةً في قوله: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9 - 10] ف «اليتيم» معمول «ل» تقهر «، و» السائل «معمول ل» تنهر «وقد تقدًّما على» لا «الناهية، والعاملُ فيهما لا يجوز تقديمُه عليها إذ، المجزوم لا يتقدَّم على جازمه، فقد تقدَّم المعمول حيث لا يتقدم العامل، وكذلك قالوا في قوله: 1602 - قنافِذُ هَدَّاجون حولَ بيوتِهم ... بما كان إيَّاها عطيَّةُ عَوَّدا خَرَّجوا هذا البيتَ على أنَّ في» كان «ضميرَ الشان، و» عَطِيَّةُ «مبتدأ و» عَوَّدَ «خبرُه، حتى لا يَليَ» كان «معمولُ خبرها، وهو غيرُ ظرفٍ ولا شِبْهِه، فلزمهم من ذلك تقديمُ المعمول وهو» إياهم «حيث لايتقدمَ العاملُ؛ لأن الخبرَ متى كان فعلاً رافعاً لضمير مستتر امتنع تقديمه على المبتدأ / لئلا يلتبسَ بالفاعل نحو:» زيد ضرب عمراً «وأصلُ منشأ هذا البحث تقديمُ خبرِ» ليس «عليها، أجازه الجمهور لقوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] ووجه الدليلِ أنَّ» يوم «معمولٌ ل» مصروفاً «، وقد تقدَّم على» ليس «وتقديمُ

المعمولِ يُؤْذِنُ بتقديم العامل، فَعُورضوا بما ذ‍َكَرْتُ لك، وللنظر في هذا البحثِ مجالٌ ليس هذا محلَّه، وقد أتقنت ذلك في كتابي» الشرحُ الكبير: شرح تسهيل الفوائد «فعليك به. الثالث: ونُقِل عن مجاهد ولا أظنُّه يَصِحُّ عنه - أنه متلعق ب» مصيبة «فهو التقديم والتأخير، والقرآن يُنَزَّهُ عن ذلك، وإنما ذَكَرْتُه تنبيهاً على ضَعْفه.

64

قوله تعالى: {لِيُطَاعَ} هذه لام كي، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» وهذا استثناءٌ مفرغ من المفعول له، والتقدير: وما أرسلنا من رسولٍ لشيءٍ من الأشياء إلا للطاعة. «وبإذن الله» فيه ثلاثة أوجه، أحدهما: [أنه] متعلقٌ ب «يُطاع» ، والباء للسببية، وإليه ذهب أبو البقاء، قال: «وقيل: هو مفعولٌ به أي: بسبب أمر الله» . الثاني: أن يتعلق ب «أرسلنا» أي: وما أَرْسلنا بأمر الله أي: بشريعته. الثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من الضمير في «يطاعَ» ، وبه بدأ أبو البقاء. وقال ابن عطية: «وعلى التعليقين: أي: تعليِقِه ب» يُطاعَ «أو ب» أَرْسلنا «فالكلامُ عامُّ اللفظِ خاصُّ المعنى؛ لأنَّا نقطعُ أن الله تعالى قد أراد من بعضِهم ألاَّ يُطيعوه، ولذلك تَأوَّلَ بعضُهم الإِذنَ بالعلم وبعضُهم بالإِرشاد» قال الشيخ: «ولا يُحتاج لذلك لأن قوله» عامُّ اللفظ «ممنوعُ، وذلك أن» يُطاع «مبني للمفعول، فيقدَّر ذلك الفاعلُ المحذوفَ خاصاً، وتقديره:» إلا ليطيعَه مَنْ أراد اللَّهُ طاعتَه «. قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ} قد تقدَّم الكلامُ على» أنَّ «الواقعةِ بعد» لو «و» إذ «ظرفٌ معمولٌ لخبر» أنَّ «وهو» جاؤوك «وقال: {واستغفر لَهُمُ الرسول} ولم يَقُلْ» واستغفرت «خروجاً من الخطاب إلى الغَيْبة؛ لِما في هذا

الاسم الظاهر من التشريفِ والتنويه بوصف الرسالة. و» وجَد «هنا يُحْتَملُ أن تكونَ العِلْمية فتتعدى لاثنين، والثاني» تواباً «وأن تكون غيرَ العِلْمية فتتعدى لواحد، ويكون» تواباً «حالاً. وأمَّا» رحيماً «فيحتمل أن يكون حالاً من ضمير» تَوَّاباً «وأن يكون بدلاً من» تواباً «ويُحتمل أن يكونَ خبراً ثانياً في الأصل بناء على تعدُّد الخبر وهو الصحيح، فلمَّا دخل الناسخُ نُصِبَ الخبرُ المتعدد تقول:» زيدٌ فاضلٌ شاعرٌ فقيه عالم «ثم تقول:» علمتُ زيدا فاضلاً شاعراً فقيهاً عالماً «إلا أنه لا يَحْسُن أن يقال هنا:» وشاعراً: مفعول ثالث، وفقيهاً: رابع، وعالماً: خامس «.

65

قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} : في هذه المسألةِ أربعة أقوال، أحدها: وهو قول ابن جرير أنَّ «لا» الأولى رَدٌّ لكلام تقدَّمها، تقديرُه: «فلا تعقِلون، أو: ليس الأمرُ كما يزعمون من أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف قسماً بعد ذلك، فعلى هذا يكون الوقف على» لا «تاماً. الثاني: أن» لا «الأولى قُدِّمَتْ على القسم اهتماماً بالنفي، ثم كُرِّرت توكيداً، وكان يَصِحُّ إسقاطُ الأولى ويبقى [معنى] النفي ولكن تفوتُ الدلالةُ على الاهتمامِ المذكورِ، وكان يَصِحُّ إسقاطُ الثانيةِ ويبقى معنى الاهتمامِ، ولكن تفوتُ الدلالةُ النفي، فجُمع بينهما لذلك. الثالث: أن الثانيةَ زائدةٌ، والقَسَمُ معترِضٌ بين حرفِ النفي والمنفي، وكأنَّ التقديرَ: فلا يؤمنون وربِّك. الرابع: أن الأولى زائدة، والثانيةَ غيرُ زائدةٍ، وهو اختيارُ الزمخشري فإنه قال:» لا «مزيدةٌ لتأكيد معنى القسم كما زيدت في {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] لتأكيدِ وجوبِ العلمِ، و» لا يؤمنون «جوابُ القسم، فإنْ قلت: هَلاَّ زعمت أنها زِيدت لتظاهر» لا «في» لا يؤمنون «قلت: يأبى ذلك استواءُ النفيِ والإثبات فيه، وذلك قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ

وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 38] يعني أنه قد جاءت» لا «قبل القسم حيث لم تكن» لا «موجودةً في الجواب، فالزمخشري يرى ان» لا «في قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون} [الحاقة: 38] أنها زائدةٌ أيضاً لتأكيدِ معنى القسم، وهو أحدُ القولين، والقولُ الآخر كقول الطبري المتقدم، ومثلُ الآية في التخاريج المذكورة قولُ الآخر: 1603 - فلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي ... ولا لَلِما بهم أبداً دواءُ قوله {حتى يُحَكِّمُوكَ} :» حتى «غايةٌ متعلقة بقوله» لا يؤمنون «أي: ينتفي عنهم الإيمانُ إلى هذه الغاية وهي تحكيمك وعدمُ وجدانِهم الحرجَ وتسليمُهم لأمرك. والتفت في قوله» ربِّك «من الغَيْبة في قوله {واستغفر لَهُمُ الرسول} رجوعاً إلى قوله» ثم جاؤوك «وقرأ أبو السَّمَّال:» شَجْر «بسكون الجيم هرباً من توالي الحركات وهي ضعيفةٌ، لأنَّ الفتحَ أخو السكون. و» بينهم «ظرف منصوب ب» شجر «هذا هو الصحيح، وأجاز أبو البقاء فيه أن يكونَ حالاً وجعل في صاحب هذه الحال احتمالين، أحدُهما: أن يكون حالاً من» ما «الموصولة، والثاني: أنه حال من فاعل» شجر «وهو نفس الموصول أيضاً في المعنى، فعلى هذا يتعلق بمحذوف، و» ثم لا يجدوا «عطفٌ على ما بعد» حتى «،» ويَجِدُوا «يَحْتمل أن تكون المتعديةَ لاثنين، فيكونُ الأول» حرجاً «والثاني الجارُّ قبلَه فيتعلَّقُ بمحذوف، وأن تكونَ المتعدية لواحد فيجوز في» في أنفسهم «وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب» يجدوا «تعلُّقَ الفَضَلات.

والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «حَرَجاً» لأنَّ صفةَ النكرةِ لَمَّا قُدِّمَتْ عليها انتصبَتْ حالاً. و {مِّمَّا قَضَيْتَ} فيه وجان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بنفس «حرجاً» ؛ لأنك تقول: «خَرَجْتُ من كذا» والثاني: أنه متعلق بمحذوف، فهو في محلِ نصبٍ لأنه صفة ل «حرجاً» و «ما» يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكون بمعنى الذي، أي: حرجاً من قضائك، أومن الذي قضيته، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، فالعائدُ على هذين القولين محذوف.

66

قوله تعالى: {أَنِ اقتلوا} : «أن» فيها وجهان، أحدُهما: أنها المفسرةُ؛ لأنها أتت بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه، وهذا أَظْهَرُ. والثاني: أنها مصدريةٌ، وما بعدها من فعل الأمر صلتُها وفيه إشكال من حيث إنه أذا سُبِكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ فاتت الدلالة على الأمر، ألا ترى أنك إذا قلت: «كتبت إليه أَنْ قم» فيه من الدلالة على طلبِ القيامِ بطريقِ الأمر ما لا في قولِك: «كتبت إليه القيامَ» ولكنهم جَوَّزوا ذلك، واستدلُّوا بقولهم «كتبت إليه بأَنْ قم» ، ووجهُ الدلالةِ أنَّ حرفَ الجَرِّ لا يُعَلَّق، وتحريرُ المبحثِ في ذلك في «الشرح الكبير للتسهيل» . وقرأ أبو عمرو بكسرِ نون «أَنْ» ، وضم واو «أو» وكسرهما حمزة وعاصم، وضَمَّهما باقي السبعة، فالكسرُ على أصل التقاء الساكنين، والضمُّ للإتباع للثالث، إذ هو مضمومٌ ضمةً لازمة، وإنما فَرَّق أبو عمرو لأن الواوَ أختُ الضمةِ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة عند قوله: {فَمَنِ اضطر} [الآية: 173] .

قوله: {مَّا فَعَلُوهُ} الهاء يُحْتمل أن تكون ضمير مصدر «اقتلوا» أو «اخرجوا» أي: ما فعلوا القتل أو ما فعلوا الخروج. وقد أبعد فخر الدين الرازي حيث زعم أنها تعودُ إليهما معاً، لنُبُوِّ الصناعة عنه. [وأجاز أبو البقاء وجهاً رابعاً] : وهو أن يعودَ على المكتوبِ ودَلَّ عليه «كتبنا» . قوله: {إِلاَّ قَلِيلٌ} رفعُهُ من وجهين، أحدهما: أنه بدلٌ من فاعل «فَعَلوه» وهو المختارُ على النصب؛ لأن الكلامَ غيرُ موجبٍ، الثاني: أنه معطوفُ على ذلك الضمير المرفوع، و «إلاَّ» حرفُ عطف، وهذا رأي الكوفيين، ولهذه المسألةِ موضوعٌ غير هذا. وقرأ ابن عامر وجماعة: «إلا قليلاً» نصباً وفيه وجهان، أشهرُهما: أنه نصب على الاستثناء وإن كان الاختيارُ الرفَع؛ لأنَّ المعنى موجودٌ معه كما هو موجود مع النصب، ويَزيدُ عليه بموافقة اللفظ. والثاني: أنه صفة لمصدر محذوف تقديرُه: «إلا فعلاً قليلاً» قاله الزمخشري، وفي نظرٌ، إذ الظاهرُ أنَّ «منهم» صفةٌ ل «قليلاً» ومتى حُمِل القليلُ على غير الأشخاص يَقْلَق هذا التركيب، إذلا فائدةَ حينئذ في ذِكْرِ «منهم» . قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ} قد تقدَّم الكلام على نظير هذه المسألة في مواضع، «وما» في «ما يوعظون» موصولةٌ اسمية. والباءُ في «به» تحتمل أن تكونَ المعدِّيةَ دخلت على الموعوظ به، والموعوظُ به على هذا هو التكاليف من الأوامر والنواهي، وتُسَمَّى أوامرُ اللَّهِ تعالى ونواهيه مواعظَ لأنها مقترنةٌ

بالوعد والوعيد، وأَنْ تكونَ للسبية، والتقدير: ما يوعظون بسببه أي: بسبب تَرْكِه، ودلَّ على التَرْكِ المحذوفِ قولُه: «ولو أنهم فعلوا» واسمُ كان ضميرٌ عائد على الفعلِ المفهوم من قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواُْ} أي: لكان فعلُ ما يُوعظون به، و «خيراً» خبرها، و «تثبيتاً» تمييز ل «أشد» .

67

و {وَإِذاً} : حرفُ جوابٍ وجزاءٍ. وهل هذان المعنيان لازِمان لها، أو تكونُ جواباً فقط؟ قولان، الأول قول الشلوبين تَبَعاً لظاهر قول سيبويه. والثاني: قول الفارسي، فإذا قال القائل: «أزورُك غداً» فقلت: «إذن أكرمَك» فهي عنده جواب وجزاء، وإذا قلت «إذاً أظنَّك صادقاً» كانت حرفَ جواب فقط، وكأنه أخذ هذا من قرينة الحال، وقد تقدَّم أنها من النواصِب للمضارع بشروطٍ ذُكِرت. وقال أبو البقاء: «وإذَنْ جوابٌ ملغاةٌ» فظاهرُ هذه العبارةِ موافقٌ لقول الفارسي، وفيه نظرٌ، لأن الفارسيَّ لا يقول في مثلِ هذه الآية إنها جواب فقط، وكونُها جواباً يحتاجُ إلى شيءٍ مقدَّرٍ. قال الزمخشري: وإذن جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل: وماذا يكون لهم بعد التثبيتِ أيضاً فقيل: لو تثبتوا لآتيناهم لأنَّ «إذَنْ» جوابٌ وجزاء. و «مِنْ لَدُنّا» فيه وجهان أظهرُهما: أنه متعلقٌ ب «آتيناهم» والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه حالٌ من «أجراً» ؛ لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها، و «أجراً» مفعولٌ ثانٍ ل «آتيناهم» .

68

و {صِرَاطاً} : مفعولٌ ثانٍ ل «هدَيْناهم» .

69

قوله تعالى: {مِّنَ النبيين} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه بيانٌ للذين أَنْعَم الله عليهم. والثاني: أنه حالٌ من الضميرِ المجرور في «

عليهم» ، والثالث: أنه حالٌ من الموصولِ وهو في المعنى كالأول، وعلى هذين الوجهين فيتعلَّق بمحذوفٍ أي: كائنين من النبيين. والرابع: أن يتعلَّق ب «يُطِعِ» قال الراغب: «اي: ومَنْ يُطِع الله والرسول من النبيين ومن بعدهم، ويكونُ قوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} إشارةً إلى الملأ الأعلى، ثم قال: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} ويُبَي‍ِّن ذلك قولُه عليه السلام عند الموت:» اللهم أَلْحِقْني بالرفيق الأعلى «وهذا ظاهرٌ» انتهى. وقد أفسده الشيخ من جهة لامعنى ومن جهة الصناعة. أمَّا مِنْ جهةِ المعنى فلأِنَّ الرسولَ هنا هو محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أَخْبَرَ تعالى أنه مَنْ يُطِعِ الله ورسوله فهو مع ذُكر، ولو جُعل «مِن النبيين» متعلِّقاً ب «يُطِع» لكان «من النبيين» تفسيراً ل «مَنْ» الشرطية «فيلزم أن يكونَ في زمانه عليه السلام أو بعده أنبياءُ يطيعونه، وهذا غيرُ ممكنٍ لقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النبيين} [الأحزاب: 30] وقوله عليه السلام:» لا نبيَّ بعدي «وأمَّا مِنْ جهةِ الصناعةِ فلأِنَّ ما قبل الفاء الواقعةِ جواباً للشرط لا يعمل فيما بعدها، لو قلت:» إنْ تضرب يقم عمروٌ زيداً لم يَجُزْ «وهل هذه الأوصافُ الأربعةُ لصنفٍ واحدٍ من الناس أو لأصنافٍ مختلفة؟ قولان. قوله: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} في نصبِ» رفيقاً «قولان، أحدهما: أنه تمييزٌ، والثاني: أنه حالٌ، وعلى تقديرِ كونِه تمييزاً في احتمالان، أحدُهما: أن

يكونَ منقولاً من الفاعلية وتقديرهُ:» وحِسُنَ رفيقُ أولئك «فالرفيقُ على هذا غيرُ المميِّز، ولا يجوزُ دخولُ» مِنْ «عليه. والثاني: ألاَّ يكونَ منقولاً، فيكونُ نفسَ المميِّز، وتدخل عليه» مِنْ «وإنما أتى به هنا مفرداً لأحدِ معنيين: إمَّا لأنَّ الرفيقَ كالخليطِ والصديق في وقوعِها على المفردِ والمثنى والمجموع بلفظٍ واحدٍ، وإمَّا اكتفاءً بالواحد عن الجمعِ لفَهْمِ المعنى، وحَسَّن ذلك كونُه فاصلةً. ويجوز في» أولئك «أن يكونَ إشارةً إلى النبيين ومَنْ بعدهم، وأَنْ يكونَ إشارةً إلى مَنْ يُطِع اللَّهَ ورسولَه، وإنَّما جَمَع على معناها، وعلى هذا فيُحتمل أَنْ يقال: إنه راعى لفظ» مَنْ «فأفردَ في قوله» رفيقاً «ومعناها فجمع في قوله» أولئك «، إلا أن البَداءَةَ في ذلك بالحَمْل على اللفظ أحسنُ، وعلى هذا فيكونُ قد جَمَعَ فيها بين الحملِ على اللفظ في» يُطِعْ «ثم على المعنى في» أولئك «ثم على اللفظ في» رفيقاً «. والجمهورُ على فتح الحاء وضم السين من «حَسُن» وقرأ أبو السمَّال بفتحِها وسكونِ السينِ تخفيفاً نحو «عَضْد» في «عَضُد» وهي لغة تميم، ويجوز: «وحُسْن» بضم الحاء وسكون السين، كأنهم نقلوا حركة العينِ إلى الفاء بعد سَلْبِها حركتَها وهذه لغةُ بعض قيس. وجَعَل الزمخشري هذا من بابِ التعجب فإنه قال: «فيه معنى

التعجب كأنه قيل: وما أَحْسَنَ أولئك رفيقاً، ولاستقلاِله بمعنى التعجب قُرئ» وحَسْنَ «بسكون السين، يقول المتعجب:» حَسُنَ الوجهُ وجهُك «و» حَسْن الوجهُ وجهك «بالفتح والضم مع التسكين» قال الشيخ: «وهو تخليطٌ وتركيب مذهبٍ على مذهبٍ، فنقول: اختلفوا في» فَعُل «المرادِ به المدحُ: فذهب الفارسي وأكثر النحويين، إلى جواز إلحاقهِ بباب نعم وبئس فقط فلا يكون فاعلُه إلا ما يكونُ فاعلاً لهما. وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فيُجْعَلُ فاعلُه كفاعِلهما، وذلك إذا لم يَدْخُلْه معنى التعجب، وإلى جواز ألحاقه بفعلِ التعجبِ فلا يَجْرِي مَجْرى نعم وبئس في الفاعل ولا في بقية أحكامهما، فتقول:» لَضَرُبَتْ يَدُكَ «و» لَضَرُبَتِ اليدُ «، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش، والتمثيل من مذهب الفارسي، فلم يَتَّبع مذهباً من المذهبين. وأمَّا جَعْلُه التسكينَ والنقلَ دليلاً على كونِه مستقلاً بالتعجبِ فغيرُ مُسَلَّمٍ؛ لأنَّ الفراء حكى ذلك لغةً في غيرِ ما يُراد به التعجب» .

70

قوله تعالى: {ذلك الفضل مِنَ الله} : «ذلك» مبتدأ، وفي الخبر وجهان، أحدُهما: أنه «الفضلُ» والجارُّ في محلِّ نصب على الحال، والعاملُ فيها معنى الإِشارة والثاني: أنه الجارُّ، و «الفضلُ» صفةٌ لاسم الإِشارة، ويجوز أن يكون الفضلُ والجارُّ بعدَه خبرين ل «ذلك» على رأي مَنْ يُجيزه قوله: {وكفى بالله عَلِيماً} . قال ابن عطية «ولذلك دخلت الباءُ

على اسمِ الله لتدلَّ على الأمر» /، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المسألة مستوفى.

71

(والحَذَر والحِذْر) لغتان بمعنىً. قيل: ولم يُسْمَعْ في هذا التركيبِ إلا: «خُذْ حِذْرك» بالكسر لا «حَذَرك» قوله: «ثُباتٍ» نصب على الحال، وكذا [ «جميعاً» ، والمعنى: انفروا جماعاتٍ في تفرقةٍ سَرِيَّةً بعد سرية أو مجتعين كوكبةً واحدة] قال الشيخ: ولم يُقْرأ فيما عَلِمْتُ إلا بكسر التاء «. انتهى. وهذه هي اللغة الفصيحة. وبعضُ العرب ينصِبُ جمعَ المؤنثِ السالم، إذا كان معتلِّ اللام معوَّضاً منها تاءُ التأنيثِ بالفتحة، وأنشد الفراء. 1604 - فلمَّا جَلاها بالأُيام تَحيَّزَتْ ... ثباتاً عليها ذُلُّها واكتئابُها وقرئ شاذاً:» ويَجْعلون لله البناتَ «بالفتحة. وحُكِي:» سمعتُ لغاتَهم «وزعم الفارسي أنَّ الوارد من ذلك مفردٌ رُدَّتْ لامُه؛ لأنَّ الأصلَ:» لُغَوَة «فلمَّا رُدَّتِ اللامُ قُلِبَتْ ألفاً، وقد رُدَّ على الفارسي بأنه يلزمه الجمعُ بين العوض والمعوض منه، ويَرُدُّ عليه أيضاً القراءةُ المتقدمةُ في» البناتَ «لأنَّ

المفردَ منه مكسورُ الفاء، وهذه المسألةُ قد أوْضَحتُها في كتابي» شرح التسهيل «غايةَ الإِيضاح. و» ثباتٍ «جمعُ ثُبَة ووزنُها في الأصلِ: فُعَلة كحُطَمة، وإنما حُذِفت لامُها وعُوِّض منها تاءُ التأنيث، وهل لامُها واو أو ياء؟ قولان حجة القول الأول أنها مشتقة من ثَبا يَثْبوا كخلا يَخْلو أي: اجتمع، وحجةُ الثاني أنها مشتقةٌ من ثَبَيْتُ على الرجل إذا أثنيتُ عليه كأنك جمعت محاسنَة، وتُجمع بالألف والتاء وبالواو والنون، ويجوز في فائِها حين تُجمع على» ثُبين «الضمُّ والكسرُ، وكذا كل أشبهَها نحو:» قُلة «و» بُرة «ما لم تُجْمَعْ جمع تكسير. والثُّبَةُ: الجماعةُ من الرجال تكون فوق العشرة. وقيل: الاثنان والثلاثة، وتُصَغَّرُ على» ثُبَيَّة «بردِّ المحذوفِ، وأمَّا» ثُبَةُ الحوضِ «وهي وسَطُه فالمحذوفُ عينُها لأنها من باب يَثُوب الماءُ أي يَرْجِعُ، تُصَغَّر على» ثُوَيْبة «كقولك في تصغير سَنَة:» سُنَيْهة «. والنَّفَر: الفَزَعُ، يقال: نَفَر إليه أي: فَزِع إليه، وفي مضارعه لغتان: ضمُّ العينِ وكسرُها، وقيل: يُقال: نَفَر الرجل يَنْفِر بالكسر، ونَفَرت الدابةُ تنفُر بالضم فَفَرَّقوا بينهما في المضارع، وهذا الفرق يَرُدُّه قراءة الأعمش» فانفُروا «» أو انفُروا «بالضم فيهما. والمصدرُ: النَّفير والنُّفور والنَّفْر، والنَّفَر: الجماعةُ كالقوم والرهط. قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} » منكم «خبر مقدم ل» إنَّ «واسمُها» لَمَنْ «دخلت اللام على الاسم تأكيداً لَمَّا فُصِل بينه وبينها بالخبر،» ومَنْ «يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، واللامُ في» لَيُبَطِّئَنْ «فيها قولان، أصحُّهما: انها

جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديره: أقسم الله ليبطِّئَن، والجملتان - أعني القسمَ وجوابه - صلةٌ ل» مَنْ «أو صفةٌ هلا على حَسَبِ القولين المتقدمين، والعائدُ على كلا التقديرين هو الضمير المرفوعُ ب» ليبطِّئن «والتقديرُ: وإنَّ منكم للذي - أو لفريقاً» واللَّهِ ليبطِّئن. واستدلَّ بعضُ النحاةِ بهذه الآيةِ على أنه يجوز وصلُ الموصولِ بجملةِ القسمِِ وجوابِه إذا عَرِيَتْ جملةُ القسمِ من ضمير عائد على الموصول نحو: «جاء الذي أحلفُ باللَّهِ لقد قام أبوه» وجَعَلَه ردَّاً على قدماء النحاةِ حيث زعموا منعَ ذلك، ولا دَلالةً في ذلك، إذ لقائلٍ أن يقول: ذلك القسمُ المحذوفُ لا أقدِّرُه إلا مشتملاً على ضميرٍ عائدٍ الموصول. والقول الثاني - نقله ابن عطية عن بعضِهم - أنها لام التأكيد بعد تأكيد، وهذا خطأُ من قائله. والجمهورُ على «لَيُبَطِّئَنْ» بتشديد الطاء، ومجاهد بالتخفيف، وعلى كلتا القراءتين يحتمل أن يكون الفعل لازماً ومتعدياً، يقال: أَبْطَأَ وبَطَّأَ بمعنى بَطُؤَ أي: تكاسل وتثبَّط، فهذان لازمان، وإنْ قَدَّر أنهما متعدِّيان فمفعولُهما محذوفٌ أي: ليبطِّئَنْ غيرَه أي: يُثَبِّطه ويُجْبِنُه عن القتال. و «إذا لم أكن» ظرفٌ ناصبُه «أنعم الله» .

73

قوله تعالى: {لَيَقُولَنَّ} : الجمهورُ على فتحِ لام «ليقولَنَّ» لأنه فعل مسند إلى ضميرِ «مَنْ» مبنيُّ على الفتح لأجل نون التوكيد. وقرأ الحسن بضمها، فأسند الفعل إلى ضمير «مَنْ» أيضاً لكنْ حملاً له على معناها، والأصلُ: ليقولونَنَّ، وقد تقدَّم تصريفه. قوله: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ} هذه «كَأَنْ» المخففةُ من الثقيلة، وعملُها باقٍ عند

البصريين، وزعم الكوفيون أنَّها حين تخفيفِها لا تعمل كما لا تعمل «لكن» مخففةً عند الجمهور، وإعمالُها عند البصريين غالباً في ضمير الأمرِ والشأنِ وهو واجبُ الحذفِ، ولا تعملُ عندَهم في ضميرٍ غيرِه ولا في اسمٍ ظاهرٍ إلا ضرورةً كقوله: 160 - 5- وصدرٍ مشرقِ النَّحْرِ ... كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ وقول الآخر: 160 - 6- ويوماً تُوافينا بوجهٍ مُقَسَّمٍ ... كأنْ ظبيةٍ تَعْطُوا إلى وارِق السَّلَمْ في إحدى الروايات، وظاهرُ كلام سيبويه أنها تعمل في غير ضمير الشأن في غير الضرورة، ونَصُّه يُطالَعُ في كتابه. والجملة المنفية بعدها في محلِّ رفع خبر لها، والجملةُ بعدها إن كانت فعلية فَتُتَلَقَّى ب «قدر» كقوله: 160 - 7- لا يَهُولَنْكَ اصطلاُؤكَ للحَرْ ... بِ فمحذورُها كَأَنْ قد أَلَمَّا

أو ب «لم» كهذه الآيةِ، وقولُه: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} [يونس: 24] وقد تُلُقِّيَتْ ب «لَمَّا» في قولِ عَمَّارِ الكلبي: 160 - 8- بَدَّدَتْ منها الليالِي شَمْلَهمْ ... فكأنْ لمَّا يكونوا قبلُ ثَمّْ قال الشيخ: «ويَحْتاج مثلُ هذا إلى سماعٍ من العَرَبِ» وقال ابن عطية: «و» كَأَنْ «مضمنةٌ معنى التشبيهِ، ولكنها ليست كالثقيلة في الاحتياجِ إلى الاسمِ والخبرِ، وإنما تَجِيءُ بعدَها الجملُ» وظاهرُ هذه العبارة أنها لا تعمل حين تخفيفِِها، وقد تقدَّم أنَّ ذلك قولُ الكوفيين لا البصريين، ويُحْتمل أنه أراد بذلك أنَّ الجملةَ بعدها لا تتاثرُ بها لفظاً لأنَّ اسمَها محذوفٌ والجملةُ خبرٌ لها. وقرأ ابن كثير وحفص «يَكُنْ» بالياءِ، لأن المودة في معنى الودِّ، ولأنه قد فُصِل بينها وبين فِعْلِها، والباقون بالتاء اعتباراً بلفظِها. و «يكون» تحتمل أنْ تكونَ تامةً، فيتعلق الظرفُ بها أو بمحذوف؛ لأنه حالٌ من «مودة» إذ هو في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها، وأَنْ تكونَ ناقصةً فيتعلَّقُ الظرفُ بمحذوفٍ على أنه خبرها. واختلف الناسُ في هذه الجملةِ - على ثلاثةِ أقوال: الأول: أنها

لا محلَّ لها من الإِعراب اعتراضيةٌ، وعلى هذا فما المُعْتَرَضُ بينهما؟ وجهان الأول منهما: أنها معترضةٌ بين جملةِ الشرطِ التي هي «فإنْ أصابَتْكم» وبين جملةِ القسم التي هي «ولَئِنْ أصابَتْكم» والتقديرُ: «فإنْ أصابَتْكم مصيبةٌ قال: قد أَنْعَمَ اللَّهُ عليَّ إذ لم أَكُنْ معهم شهيداً، كأَنْ لم تكن بينكم وبينه مودةٌ، ولَئِنْ أصابكم فضلٌ، فأُخِّرت الجملةُ المعتَرضُ بها أعني قولَه: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ} والنيةُ بها التوسطُ، وهذا قول الزجاج وتبعه الماتريدي. وردَّ الراغب الأصبهاني هذا القول بأنه مستقبح / لأنه لا يُفْصَلُ بين بعضِ الجملة وبعضِ ما يتعلَّق بجملةٍ أخرى. قلت: هذا من الزجاج كأنه تفسير معنى لا إعراب، يدل على ذلك ما أذكُره عنه من تفسير الإِعراب. الثاني من الوجهين: أن تكونَ معترضةً بين القولِ ومفعولِه، والأصل: «ليقولَنَّ يا ليتني كنتُ معهم كأن لم تَكُنْ» وعلى هذا أكثر الناس، ولكن اختلفَتْ عبارتُهم في ذلك، ولا يظهر المعنى إلا بنقل نصوصِهم فَلْنَنْقلها. فقال الزمخشري: «اعتراضٌ بين الفعل الذي هو» ليقولَنَّ «وبين مفعولِه وهو» ياليتني «والمعنى: كأن لم يتقدم له معكم مودةٌ؛ لأن المنافقين كانوا يُوادُّون المؤمنين في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائلَ في الباطن، والظاهر أنه تهكمُ لأنهم كانوا أَعْدَى عدوٍّ للمؤمنين وأشدَّهم حسداً لهم، فيكف يُوصَفُون بالمودةِ إلا على وجه العكس والتهكم؟» وقال الزجاج: «هذه الجملةُ اعتراضٌ أخبرَ تعالى بذلك؛ لأنهم كانوا يُوادُّون المؤمنينَ» وقال ابن عطية: «المنافِقُ يعاطِي

المؤمنين المودةَ ويعاهِدُ على التزامِ كلفِ الإِسلام، ثم يتخلَّفُ نِفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسولِه، ثم يتمنَّى عندما ينكشِفُ الغَيْبُ الظفَر للمؤمنين، فعلى هذا يجيء قولُه تعالى: {كَأَن لَّمْ تَكُن} التفاتةً بليغةً واعتراضاً بين القول والمقول بلفظٍ يُظْهِرُ زيادةً في قُبْحِ فِعْلِهم» . وقال الرازي: «هو اعتراض في غاية الحسنِ لأنَّ مَنْ أحبَّ إنساناً فَرِحَ لفرحِه وحزن لحزنه، فإذا قلب القضية فذلك إظهارٌ للعداوةِ، فحكى تعالى سرورَ المنافقِ عند نكبة المسلمين، ثم أراد أن يَحْكِي حُزْنَه عند دَوْلِة المسلمين بسببِ فواتِه الغنيمَةَ، فَقَبْلَ أن يَذْكُرَ الكلامَ بتمامِه ألقى قوله:» كأن لم تكن «والمراد التعجب، كأنه يقول: انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق كَأَنْ لم تَكُنْ بينكم وبينه مودةٌ ولا مخالطةٌ أصلاً، والذي حَسَّن الاعتراضَ بهذه الجملة - وإنْ كان محلُّها التأخيرَ - كونُ ما بعدها فاصلةً وهي ليست بفاصلة» وقال الفارسي: «هذه الجملة من قولِ المنافقين للذين أَقْعدوهم عن الجهادِ وخَرَجوا هم كأن لم تكن بينكم وبينه أي وبين الرسول عليه السلام [مودةٌ] فيُخْرِجَكم معه لتأخذوا من الغنيمة، ليُبْغِضُوا بذلك الرسولَ إليهم» فأعاد الضميرَ في «بينه» على النبيّ عليه السلام. وتبع الفارسي في ذلك مقاتلاً، قال مقاتل: «معناه: كأنه ليس من أهل مِلَّتكم ولا مودةَ بينكم» يريد أن المبطئَ قال لِمَنْ تخلَّف عن الغزو من المنافقين وضَعَفَةِ المؤمنين ومَنْ تخلَّف بإذْن: كَأَنْ لم تكن بينكم وبين محمدٍ مودةٌ فَيُخْرِجْكم إلى الجهادِ فتفوزا بما فاز. الثاني: من الأقوال: أنها في محل نصب بالقول، فيكون تعالى قد حكى بالقول جمليتن: جملةَ التشبيه وجملة التمني، وهذا ظاهرٌ على قول مقاتل والفارسي حيث زعما أنَّ الضمير في «بينه» للرسول عليه السلام.

الثالث: انها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستتر في «ليقولَنَّ» كما تقول: «مررت بزيدٍ وكأَنْ لم يكنْ بينك وبينه معرفةٌ فضلاً عن مودةٍ» ونُقل هذا عن الزجاج، وتبعه أبو البقاء في ذلك. وإنما أطلْتُ النفَسَ في هذه الآيةِ لأني رأيتُ أقوالَ الناسِ فيها منتشرةً فضَمَمْتُها. و «يا» فيها قولان أحدُهما: - وهو قولُ الفارسيّ - أنها لمجردِ التنبيه فلا يُقَدَّر منادى محذوفٌ، ولذلك باشَرَتِ الحرفَ. والثاني: أن المنادى محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاء ليتني، وهذا الخلاف جارٍ فيها إذا باشرت حرفاً أو فعلاً، كقراءة الكسائي: «ألا يا اسْجُدوا» وقوله: 160 - 9- ألا يا اسقياني قبل غارةِ سنجالِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: 161 - 0- يا حبَّذا جَبَلُ الريَّانِ من جبلٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . على القول بفعليةِ «حَبَّذا» ولا يُفعل ذلك إلا ب «يا» خاصةً دونَ سائر حروفِ النداء لأنها أمُّ البابِ، وقد كَثُرَتْ مباشرتُها ل «ليت» دونَ سائرِ الحروف.

قوله: {فَأَفُوزَ} الجمهور على نصبه في جواب التمني، والكوفيون يزعمون نصبَه بالخلاف، والجَرْميُّ يزعم نصبَه بنفسِ الفاء، والصحيح الأول، لأن الفاء تَعْطِفُ هذا المصدر المؤول مِنْ «أن» والفعلِ على مصدر متوهم، لأن التقدير: يا ليت لي كوناً معهم أو مصاحبتَهم ففوزاً، ولهذه المذاهبِ تصحيحاً وإبطالاً موضوعٌ غيرُ هذا قد نَبَّهْتُ عليه غيرَ مرةٍ. وقرأ الحسن «فأفوزُ» رفعاً على أحد وجهين: إمَّا الاستئنافِ أي: فأنا أفوزُ، أو عطفاً على «كنت» فيكون داخلاً في حيِّز التمني أيضاً، فيكون الكون معهم والفوزُ العظيم مُتَمَنَّيْن جميعاً.

74

قوله تعالى: {الذين يَشْرُونَ الحياة} : فاعل بقوله: {فَلْيُقَاتِلْ} و «يَشْرون» يحتمل وجهين، أحدُهما: أن يكون بمعنى يشترون. فإنْ قيل: قد قررت أن الباء إنما تدخُل على المتروك، والظاهرُ هنا أنها دَخَلَتْ على المأخوذِ. فالجوابُ: أنَّ المرادَ بالذين يشترون المنافقون المبطِّئُون عن الجهاد أمَروا بأَنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاق، ويُخْلِصوا الإِيمانَ باللَّهِ ورسولِه، ويجاهدوا في سبيلِ الله، فلم تَدْخُلْ إلا على المتروك؛ لأنَّ المنافقين تاركون للآخرة آخذون للدنيا. والثاني: أنَّ «يشرون» بمعنى يَبيعون، ويكون المرادَ بالذين يَشْرُون: المؤمنون المتخلفون عن الجهاد المُؤْثِرون الآجلةَ على العاجلة، ونظيرُ هذه الآية في كون «شرى» تحتمل الاشتراء والبيع باعتبارين قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] وسيأتي. وقد تقدَّم لك شيءٌ من هذا في أول البقرة.

والجمهورُ على سكون لام «فَلْيقاتل» لأنها وقعت بعد الفاء فأشبهت اللفظة كتفاً. وقُرئ بكسرها وهو الأصل. والجمهور على بناء «فيُقْتل» للمفعول، ومحارب بن دثار ببنائه للفاعل، والأول أظهرُ، لقوله: «أو يَغْلِب» ويُقْتَلْ «ويُغْلِب» عطفٌ على الشرط، والفاء في «فسوف» جوابه، لا يجوز حذفها. والمشهورُ إظهار هذه الباء عند الفاء، وأدغمها أبو عمرو والكسائي وهشام وخَلاَّد بخلاف عنه. والجمهور على «نُؤْتيه» بنون العظمة، وطلحة بن مصرف والأعمش بياء الغيبة، وهما ظاهرتان. وقدَّم قولَه: {فَيُقْتَلْ} لأنها درجةُ شهادة وهي أعظمُ من غيرها، وثَنَّى بالغَلَبة وهي تشمل نوعين: قتلَ أعداءِ الله والظفرَ بالغنيمة، والأولى أعظمُ من الثانية.

75

قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ} : هذا استفهامٌ يُراد به التحريضُ والأمرُ بالجهاد. و «ما» مبتدأٌ، «و» لكم «خبرُه، أي: أيُّ شيء استقرَّ لكم. وجملةُ قولِه» لا تقاتلون «فيها وجهان، أظهرهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال أي: ما لكم غيرَ مقاتلين، أَنْكَرَ عليهم أن يكونوا على غير هذه الحالة، وقد صَرَّح بالحال بعد هذا التركيب في قوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] ، وقالوا في مثل هذه الحال: إنها لازمةٌ / لأنَّ الكلامَ لايتم دونها، وفيه نظر. والعاملُ في هذه الحال الاستقرارُ المقدَّر كقولِك: ما لك

ضاحكاً؟ والوجه الثاني: أن الأصل:» وما لكم في ألا تقتلوا «فَحُذِفَتْ» في «فبقي» أَنْ لا تقاتلوا «فجرى فيها الخلافُ المشهور، ثم حُذِفَتْ» أَنْ «الناصبة فارتفع الفعل بعدها كقولهم:» تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيّ خيرٌ من أن تراه «وقوله: 161 - 1- ألا أيُّهذا الزاجري أحضُرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . في إحدى الروايتين، وهذا يؤيد كونَ الحالِ ليس بلازمةٍ. قوله: {والمستضعفين} فيه ثلاثة أوجه. أظهرُها: أنه مجرورٌ عطفاً على اسم الله تعالى أي: وفي سبيل المستضعفين. والثاني: وإليه ذهبَ الزجاج والمبرد أن يكونَ مجرواً عطفاً على نفس» سبيل «. قال أبو البقاء بعد أَنْ حكاه عن المبرد وحده:» وليس بشيء «كأنه لم يظهر لأبي البقاء وجهُ ذلك، ووجهُ أنَّ تقديرَه:» وفي خلاص المستضعفين «والثالث وإليه ذهب الزمخشري: أن يكونَ منصوباً على الاختصاص تقديره: وأَخُصُّ من سبيلِ الله خلاصَ المستضعفين، لأنَّ سبيلَ اللَّهِ عامٌّ في كلِّ خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخيور. والجمهورُ على» والمستضعفين «بواو العطف، وقرأ ابن شهاب:» في سبيل الله المستضعفين «وفيها تخريجان، أحدُهما: أن يكونَ حرفُ العطف مقدراً كقولهم:» أكلت لحماً تمراً سمكاً «والثاني: أن يكونَ بدلاً من» سبيل الله «أي: في سبيلِ الله سبيلِ المستضعفين، لأنَّ سبيلَهم سبيلُ الله تعالى. قوله: {مِنَ الرجال} فيه وجهان، أحدهما: أنه حال من المستضعفين.

والثاني: أنَّ» مِنْ «لبيان الجنس، والوِلْدان قيل: جمع» وليد «وقيل: جمع وَلَد، كوَرَل ووِرْلان. والمراد بهم: الصبيان وقيل: العبيد والإِماء، يقال للعبد» وليد «وللأمة» وليدة «، فغلَّب المذكر على المؤنث لأندارجِه فيه. و» الذين يقولون «فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ مجروراً على أنه صفةٌ: إمَّا للمستضعفين وإمَّا للرجال ومَنْ بعدَهم، وغَلَّب المذكرَ على المؤنث. وقال أبو البقاء» الذين يقولون «في موضع جر صفةً لِمَنْ عقل من المذكورين» كأنه تَوَهَّم أن الوِلْدان [هم] الصبيانُ، والصبيانُ لا يَعْقِلون، فَجَعَله نعتاً لِمَنْ عقل من المذكورين وهم الرجال والنساء دونَ الوِلْدان، لأنَّ جَمْعَ السلامة في المذكَّر يُشْترط فيه العقلُ، «والذين» جارٍ مجراه، وهذه غَفْلةٌ؛ لأنَّ مرادَ النَّحْويين بالعاقلِ ما كان من جنس العقلاء وإنْ كان مسلوبَ العقلِ، ويَدُلُّ عليه قولُه تعالى: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ} [النور: 31] فالمرادُ هنا بالطفل الصبيانُ الصغار، ومع ذلك وَصَفَهم بالذين. والثاني: أن يكونَ منصوباً على الاختصاص. قوله: {الظالم أَهْلُهَا} «الظالم» صفةٌ للقرية، و «أهلُها» مرفوعٌ به على الفاعلية. و «أل» في «الظالم» موصولةٌ بمعنى التي، أي: التي ظَلَم أهلها. فالظلمُ جارٍ على القرية لفظاً وهو لِما بعدها معنى، ومثلُه: «مَرَرْتُ برجلٍ حسن غلامُه» قال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ ذكَّر» الظالم «وموصوفُه مؤنثٌ؟ قلت: هو وصفٌ للقرية إلا أنه مستندٌ إلى أهلها فأُعْطِي إعرابَ» القرية «لأنه صفتها وذُكِّر لإِسنادِه إلى الأهل، كما تقول: مِنْ هذه القريةِ التي ظَلَم أهلُها، ولو أُنِّث فقيل:» الظالمةُ أهلُها «لجازَ، لا لتأنيثِ الموصوفِ، بل لأن

الأهلَ يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ. فإن قلت: هل يجوزُ: مِنْ هذه القريةِ الظالمين أهلُها؟ قلت: نَعَمْ كما [تقول] :» التي ظَلَموا أهلها «على لغة» أكلوني البراغيث «ومنه: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] . انتهى وهذه قاعدةٌ كلية: أنَّ الصفة إذا جَرَتْ على غيرِ مَنْ هي له سواءً كانت خبراً أم نعتاً أم حالاً يُنْعَتُ ما قبلَها في اثنين من خمسة: واحدٍ من ألقاب الإِعراب، وواحد من التنكير والتعريفِ، وأمَّا بالنسبةِ إلى التذكير والتأنيث والإِفراد وضدَّيه فيُحْسَبُ المرفوعُ بها كالفعل، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرة. ويجبُ أيضاً إبرازُ الضميرِ منها مطلقاً أعني سواءً أَلْبس أم لم يُلْبِس وأمَّا إذا كان المرفوعُ بها اسماً ظاهراً فلا حاجةَ إلى رَفْعها الضميرَ، إلا أنه لا بد من راجعٍ يرجِع إلى الاسمِ الموصوف بها لفظاً كهذه الآية. وقد أوضحتُ ذلك وَبيَّنْتُه في هذا الكتاب وفي شرحي للتسهيل، وهذا بخلافِ الفعلِ إذا وُصِف به أو أُخْبر به أو وقع حالاً لشيء لفظاً وهو لغيره معنى، فإن الضميرَ لا يُبْرَزُ منه بل يَسْتَتِرُ نحو:» زيدٌ هندٌ يضرُبها «و» هند زيدٌ تضربه «عن غيرِ ضميرٍ بارز لقوة الفعل وضَعْفِ الاسم في العمل، وسواءً لم يُلْبِس كما تقدَّم تمثيله أو أَلْبس نحو:» زيدٌ عمروٌ يضربه «إذا قَصَدْتَ أن زيداً هو الضاربُ لعمرو، هذا مقتضى مذهبِ البصريينَ، نصَّ عليه مكي وغيره، إلا أنَّه قال قبل ذلك:» إلا أنَّ اسم الفاعل إذا كان خبراً أو صفة أو حالاً لغير مَنْ هو له لم يَسْتَتِرْ فيه ضميرٌ ولا بد من إظهاره، وكذلك إنْ عُطِف على غير مَنْ هو له «قلت: هذه الزيادةُ لم يذكرها النحوييون وتمثيلُها عَسِرٌ. وأمَّا ابنُ مالك فإنه سَوَّى بين الفعل والوصف، يعني

إنْ أَلْبس وجب الإِبرازُ حتى في الفعل نحو:» زيدٌ عَمْروٌ يضربه هو «وإن لم يُلْبِس جاز نحو:» زيد هند يضربها «وهذا مقتضى مذهبِ الكوفيين فإنهم عَلَّلوا باللبس، وفي الجملة ففي المسألة خلافٌ.

77

قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ} : «إذا» هنا فجائية، وقد تقدم أن فيها ثلاثةَ مذاهب، أحدها- وهو الأصح: أنها ظرف مكان، والثاني: انها زمان، والثالث: أنها حرفٌ، ولهذه المذاهبِ موضوعٌ غير هذا، وقد قيل في «إذا» هذه إنها فجائية مكانية، وأنها جواب ل «لَمَّا» في قوله {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ} ، وعلى هذا ففيها وجهان، أحدهما: أنها خبر مقدم، و «فريق» مبتدأ و «منهم» صفةٌ ل «فريق» ، وكذلك «يَخْشَون» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ «يخشون» حالاً من «فريق» لاختصاصِه بالوصفِ، والتقديرُ: «فبالحضرةِ فريقٌ كائنٌ منهم خاشون أو خاشين» . والثاني: أن يكونَ «فريقٌ» مبتدأً، و «منهم» صفتَه «وهو المسوِّغُ للابتداءِ به، و» يَخْشَوْن «جملةٌ خبريةٌ وهو العاملُ في» إذا «، وعلى القولِ الأول العاملُ فيها محذوفٌ على قاعدِة الظروف الواقعةِ خبراً. وقيل: إنها هنا ظرفُ زمانٍ، وهذا فاسدٌ؛ لأنها إذ ذاك لا بد لها مِنْ عاملٍ، وعاملُها إمَّا ما قبلها وإمَّا ما بعدها، لا جائز أن يكون ما قبلها، لأن ما قبلها وهو» كُتب «ماض لفظاً ومعنى وهي للاستقبال، فاستحال ذلك. فإن قيل: تُجْعَلُ هنا للمُضِيِّ بمعنى» إذ «قيل: لا يجوز ذلك لأنه يَصيرُ التقدير: فلمَّا كُتِب عليهم القتال في وقتِ خشيةِ فريقٍ منهم، وهذا يفتقرُ إلى جواب» لَمَّا «ولا جوابَ لها، ولا جائزٌ أن يكونَ ما بعدها؛ لأنَّ العاملَ فيها إذا كان بعدها كان جواباً لها، ولا جوابَ لها هنا، وكان قد تقدَّم أولَ البقرة أنَّ في» لَمَّا «قولين / قولَ سيبويه: إنها

حرف وجوب لوجوب، وقولَ الفارسي: إنها ظرفُ زمانٍ بمعنى» حين «وتقدَّم الردُّ عليه هناك بأنها أُجيبت ب» ما «النافيةِ وإذا الفجائيةِ، وأنَّ ما بعدها لا يعمل فيها قبلها فَأَغْنى عن إعادتهِ، ولا يجوزُ أن يَعمل ما يليها فيها؛ لأنه في محلِّ خفض بالإِضافة على زَعْمِه والمضافُ إليه لا يعمل في المضاف. وقد أجابَ بعضُهم بأنَّ العاملَ فيها هنا معنى» يَخْشَوْن «كأنه قيل: جَزِعوا، قال:» وجَزعوا هو العاملُ في «إذا» وهذه الآيةُ مشكلةٌ؛ لأنَّ فيها ظرفين أحدُهما لِما مضى والآخرُ لِما يُسْتقبل «. انتهى. قوله: {كَخَشْيَةِ الله} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها وهو المشهور عند المُعْربين: انها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: خشيةً كخشية الله. والثاني وهو المقرر من مذهب سيبويه غيرَ مرة: أنها في محل نصب على الحال من ضمير الخشية المحذوف أي: يخشونها الناسَ، أي: يخشون الخشيةَ الناسَ مشبهةً خشيةَ الله. والثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من الضمير في «يَخْشَوْن» أي: يَخْشَون الناسَ مثلَ أهل خشية الله أي: مشبهين لأهل خشية الله أو أشدَّ خشية أي: أشدَّ خشيةً من أهل خشية الله. و «اشدَّ» معطوف على الحال، قاله الزمخشري. ثم قال: «فإنْ قلت: لِمَ عَدَلْتَ عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدِّرْه: يَخْشَوْن خشيةً [مثل خشية] الله بمعنى: مثلَ ما يخشى الله. قلت: أَبَى ذلك قولُه {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} ؛ لأنه وما عُطِفَ عليه في حكمٍ واحدٍ، ولو قلت:» يخشون الناسَ أشدَّ خشيةً «لم يكن إلا حالاً من ضميرِ الفريقِ، ولم ينتصِبْ انتصابَ المصدر لأنك لا تقول:» خَشِي فلانٌ أشدَّ

خشيةً «فتنصِبُ» خشية «وأنت تريد المصدر، إنما تقول» أشدَّ خشيةٍ «فتجرُّها، وإذا نَصَبْتَها لم يكن» أشدَّ خشيةً «إلا عبارةً عن الفاعلِ حالاً منه، اللهم إلا أن تَجْعَلَ الخشيةَ خاشيةً على حدِّ قولِهم:» جَدَّ جَدُّه «فتزعم أنَّ معناه: يخشون الناسَ خشيةً مثل خشيةٍ أشدَّ خشيةً من خشية الله، ويجوز على هذا أن يكونَ محلُّ» أشدُّ «مجروراً عطفاً على» خشية الله «تريد كشخية الله أو كشخيةٍ أشدَّ منها» . انتهى. ويجوز نصبُ «خشيةً» على وجه آخر وهو العطف على محل الكاف، وينتصب «أشدَّ» حينئذ على الحال من «خشية» لأنه في الأصلِ نعتُ نكرةٍ قُدِّم عليها، والأصل: يخشون الناسَ مثلَ خشيةِ الله أو خشيةً أشدَّ منها. فلا ينتصب «خشية» تمييزاً حتى يلزم منه ما ذكره الزمخشري ويُعْتذر عنه، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا عند قوله {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200] . والمصدرُ مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف أي: كخشيتهم اللَّهَ. و «أو» تحتمل الأوجه المذكورة في قوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ، ويجوز أن تكونَ للتنويع: يعني أن منهم مَنْ يخشاهم كخشية الله، ومنهم مَنْ يخشاهم أشدَّ خشية من خشية الله. و «لولا أخَّرْتَنا» «لولا» تحضيضةٌ. وقرأ ابن كثير والأخَوان: «لا يُظْلَمون» بالغيبة جرياً على الغائبين قبله، والباقون بالخطاب التفاتاً. و «فَتيلاً» قد تقدَّم إعرابُه.

78

قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ} : «أين» اسم شرط يجزم فعلين و «ما» زائدة على سبيل الجواز مؤكدةٌ لها، و «أين» ظرف مكان و «تكونوا»

مجزومٌ بها، و «يُدْرِكْكم» جوابُه. والجمهورُ على جزمه؛ لأنه جواب الشرط، وطلحة بن سليمان: «يدرِكُكم» برفعه، فخرَّجه المبرد على حَذْفِ الفاء أي: فيدرككم الموت. ومثلُه قولُ الآخر: 161 - 2- يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ ... إنك إنْ يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ وهذا تخريج المبرد، وسيبويه يزعم أنه ليس بجواب، إنما هو دالٌّ على الجواب والنيةُ به التقديمُ. وفي البيت تخريجٌ آخر وهو أن يكون «يصرعُ» المرفوعُ خبراً ل «إنك» والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابُه ما دَلَّ عليه قوله «إنك تُصْرَعُ» كقوله: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] وخَرَّجه الزمخشري على التوهَّم فإنه قال: «ويجوز أن يقال: حُمِل على ما يقع موقعَ» أينما تكونوا «وهو» أينما كنتم «كما حُمِل» ولا ناعبٍ «على ما يقع موقع ليسوا مصلحين وهو» ليسوا بمصلحين «فرَفَع كما رفع زهير: 1613 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... يقول لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ

وهو قولُ نحويّ سِيبيّ، يعني منسوب لسيبويه، فكأنه قال:» أينما كنتم «وفعلُ الشرط إذا كان ماضياً لفظاً جازَ المضارعِ الرفعُ والجزمُ كقول زهير: وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ. . . . . . . . . . . . . . . وفي رفعه الوجهان المذكوران عن سيبويه والمبرد. ورَدَّ عليه الشيخ بأن العطفَ على التوهم لا ينقاس، ولأنَّ قوله يؤدِّي إلى حذف جواب الشرط، ولا يُحْذَفُ إلا إذا كان فعل الشرط ماضياً، لو قلت:» أنت ظالمُ إنْ تفعل «لم يجز. وهذا كما رأيتَ مضارعٌ. وفي هذا الردِّ نظرٌ لا يَخْفَى. » ولو كنتم «قالوا: هي بمعنى» إنْ «وجوابُها محذوف أي: لأدرككم. وذكر الزمخشري فيه قولاً غريباً من عند نفسِه فقال:» ويجوزُ أن يتصل بقوله {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: لا تُنقَضون شيئاً مِمَّا كُتِب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحمِ حروب أو غيرها، ثم ابتدأ بقوله: {يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} ، والوقف على هذا الوجه [على] «أينما تكونوا» . انتهى. وردَّ عليه الشيخ فقال: «هذا تخريجُ ليس بمستقيمٍ لا من حيث المعنى ولا من حيث الصناعة النحوية: أمَّا من حيث المعنى فإنه لا يناسِبُ أن يكون متصلاً بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} لأنَّ انتفاءَ الظلم ظاهراً إنما هو في الآخرة لقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى} وأما من حيث الصناعةُ النحوية فإنَّ ظاهرَ كلامِه يَدُلُّ على أن» أينما تكونوا «متعلقٌ بقولِه: {ولا تُظْلمون} بمعنى ما فَسَّره، وهذا لا يجوز لأن أسماءَ الشرط لها صدرُ الكلام فلا يتقدَّم عامُلها

عليها، فإنْ وَرَدَ مثلُ:» اضربْ زيداً متى جاء «قُدِّر له عاملٌ يدلُّ عليه» اضرب «لا نفسُ» اضرب «المتقدم. فإن قيل: فكذلك يُقَدِّر الزمخشري عاملاً يدلُّ عليه «ولا تُظْلمون» تقديره: «أينما تكونوا فلا تظلمون» فحذف «فلا تظلمون» لدلالةِ ما قبله عليه، فيخلُصُ من الإِشكال المذكور. قيل: لا يمكن ذلك لأنه حينئذ يُحذف جواب الشرط وفعلُ الشرط مضارع، وقد تقدم أنه لايكون إلا ماضياً «وفي هذا الردِّ نظرٌ، لأنه أراد تفسير المعنى. قوله:» ولا يناسب أن يكون متصلاً بقوله: «ولا تظلمون» ممنوعُ، بل هو مناسب، وقد أوضحه الزمخشري بما تقدَّم أحسنَ إيضاح. والجملة الامتناعية في محلِّ نصب على الحال أي: أينما تكونوا من الأمكنة يدركْكم الموت، ولو كانت حالُكم أنكم في هذه البروج فيُفْهَمُ أن إداركَه لهم في غيرها بطريق الأَوْلى والأَحْرى، وقريبٌ منه: «أعطُوا السائل ولو على فرسٍ» والجملةُ الشرطية تحتمل وجهين، أحدهما: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها استئنافُ إخبارٍ، أخبر تعالى أنه لا يفوتُ الموتَ أحدٌ ومنه قولُ زهير: 1614 - ومَنْ هابَ أسبابَ المنايا يَنَلْنَه ... ولو رامَ أسباب السماء بسُلَّمِ والثاني: أنها في محل نصب بالقول قبلها / أي: قُلْ متاعُ الدنيا قليل، وقل أيضاً: أينما تكونوا. والجمهور على «مُشَيَّدة» بفتح الياء اسم مفعول. ونعيم بن ميسرة بكسرها، نسَبَ الفعلَ إليها مجازاً كقولهم: «قصيدةٌ شاعرة» ، والموصوفُ بذلك أهلُها، وإنما عَدَلَ إلى ذلك مبالغةً في الوصف.

والبُروج: الحصونُ مأخوذةٌ من «التبرُّج» وهو الإِظهارُ، ومنه: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ} [النور: 60] ، والبَرَجُ في العين سَعَتُها، ومنه قولُ ذي الرمة: 1615 - بيضاءُ في بَرَجٍ صفراءُ في غَنجٍ ... كأنَّها فِضةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ وقولهم: «ثوبٌ مُبَرَّجٌ» أي: عليه صورُ البروج كقولهم: «مِرْطٌ مُرَجَّل» أي: عليه صورُ الرجال، يروى بالجيم والحاء. والمشيَّدة: المصنوعة بالشِّيد وهو الجِصُّ، ويقال: «شاد البناء وشَيَّده» كَرَّرالعين للتكثير. ومن مجيء «شاد» قولُ الأسود: 1616 - شادَه مرمراً وجَلَّله كِلْ ... سَاً فللطير في ذُراه وكُورُ ويقال: «أشاد» أيضاً فيكون فَعَل وأَفْعل بمعنى. ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على «ما» في قوله «فما لهؤلاء» وفي قوله: {مَالِ هذا الرسول} [الفرقان: 7] وفي قوله: {مَالِ هذا الكتاب} [الكهف: 49] ، وفي قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [المعارج: 36] . والباقون على اللام التي للجرِّ دون مجرورها إتباعاً للرسم، وهذا ينبغي أن لا يجوز أعني الوقفين لأنَّ الأول

يُوقف فيه على المبتدأ دونَ خبرِه، والثاني يُوقف فيه على حرفِ الجَرِّ دونَ مجرورِه، وإنما يجوزُ ذلك لضرورة قطعِ النفَس أو ابتلاءٍ.

79

قوله تعالى: {َمَّآ أَصَابَك} : في «ما» هذه قولان، أحدهما: أنها شرطيةٌ وهو قول أبي البقاء وضَعَّف أن تكونَ موصولةً قال: «ولا يَحْسُن أن تكونَ بمعنى الذي؛ لأنَّ ذلك يقتضي أن يكون المصيبُ لهم ماضياً مخصَّصاً، والمعنى على العمومِ والشرطيةُ أشبهُ، والمرادُ بالآيةِ الخِصْب والجَدْب ولذلك لم يَقُلْ: ما أصبت» ، انتهى. يعني أنَّ بعضَهم يقول: إنَّ المرادَ بالحسنة الطاعةُ وبالسيئةِ المعصيةُ، ولو كان هذا مراداً لقال: «ما أصَبْتَ» لأنه الفاعلُ للحسنةِ والسيئة جميعاً، فلا تضاف إليه إلا بفعلِه لهما. والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي وإليه ذهب مكي، ومَنَع أن تكونَ شرطية قال: «وليسَتْ للشرطِ لأنها نزلت في شيءٍ بعينه وهو الجّدْب والخِصْب والشرطُ لا يكون إلا مبهماً، يجوزُ أَنْ يقع وألاَّ يقعَ، وإنما دخلت الفاءُ للإِبهام الذي في» الذي «مع أن صلتَه فعلٌ، فدلَّ ذلك على أنَّ الآيةَ ليست في المعاصي والطاعات كما قال أهلُ الزَّيْغ، وأيضاً فإنَّ اللفظَ» ما أصابَك «ولم يقل» ما أَصَبْتَ «انتهى. والأولُ أظهرُ؛ لأنَّ الشرطيةَ أصلٌ في الإِبهام - كما ذكر أبو البقاء - والموصولةُ فبالحمل عليها. وقولُ مكيّ:» لأنها نَزَلَتْ في شيء بعينه «هذا يقتضي ألاَّ يُشَبَّه الموصولُ بالشرطِ؛ لأنه لا يُشَبَّه به حتى يرادَ به الإِبهامُ لا شيءَ بعينه، وإلاَّ فمتى أُريد به شيءٌ بعينه لم يُشَبَّه بالشرط فلم تَدْخُلِ الفاءُ في خبره، نَصَّ النحويون على ذلك، وفي المسألةِ خلافٌ منتشر، ليس هذا موضعَه. فعلى الأول» أصابَك «في محلِّ جزم بالشرط، وعلى الثاني لا مَحَلَّ له لأنه صلة.

و» من حسنةٍ «الكلامُ فيه كالكلامِ في قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] وقد تقدَّم والفاءُ في» فَمِنَ الله «جوابُ الشرط على الأولِ وزائدةٌ على الثاني، والجارُّ بعدها خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديرُه: فهو من الله، والجملةُ: إمَّا في محلِّ جزمٍ أو رفعٍ على حَسَبِ القولين. واخُتِلفَ في كافِ الخطاب: فقيل: المرادُ كلُّ أحدٍ، وقيل: الرسول والمرادُ أمتُه: وقيل: الفريقُ في قولِه» إذا فريقٌ «وذلك لأن» فريقاً «اسمُ جمعٍ فله لفظٌ ومعنىً، فراعَى لفظَه فَأَفْرَدَ، كقوله: 1617 - تفرَّق أهلانا بِبَيْنٍ فمنهمُ ... فريقٌ أقامَ واستقلَّ فريقُ وقيل في قوله {فَمِن نَّفْسِكَ} : إنَّ همزةَ الاستفهام محذوفةٌ تقديرُه: أفمِنْ نفسِك، وهو كثير كقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} [الشعراء: 22] وقوله تعالى: {بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي} [الأنعام: 77] ومنه: 1618 - رَفَوْني وقالوا: يا خُوَيْلِدُ لا تُرَعْ ... فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ هُمُ هُمُ وقوله:

1619 - أفرحُ أَنْ أُرْزَأ الكرامَ وأنْ ... أُورَثَ ذَوْدَاً شَصائِصاً نَبْلاً تقديره: وأتلك، وأهذا ربي، وأهمُ هُم، وأأفرحُ» وهذا لم يُجِزْه من النحاة إلا الأخفشُ، وأمَّا غيره فلم يُجِزْه إلا قبل «أم» كقوله: 1620 - لَعَمْرُكَ ما أدري وإنْ كنت؟ ُ دارِياً ... بسبعِ رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمانِ وقيل: ثَمَّ قولٌ مقدر أي: لا يكادونَ يَفْقهون حديثاً يقولون: ما أصابك. وقرأت عائشة: «فَمَنْ نفسُك» بفتح ميم «من» ورفع السين، على الابتداء والخبر، أي: أيُّ شيءٍ نفسُك حتى يُنْسَب إليها فِعْلٌ؟ قوله: «رسولاً فيه وجهان، أحدهما: أنه حال مؤكدة والثاني: أنه مصدر مؤكِّدٌ بمعنى إرسال، ومن مجيء» رسول «مصدراً قوله: 1621 - لقد كَذَبَ الواشون ما بُحْتُ عندهم ... بِسِرِّ ولا أَرْسَلْتُهمْ برسولِ أي بإرسال، بمعنى رسالة. و» للناس «يتعلق ب» أرسلناك «واللام للعلة. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ حالاً من» رسولاً «كأنه جَعَله في الأصل صفةً للنكرة فَقُدِّم عليها، وفيه نظر.

80

و {حَفِيظاً} : حال من كاف «أرسلناك» و «عليهم» متعلق ب «حفيظاً» وأجاز فيه أبو البقاء ما تقدم في «للناس» .

81

قوله تعالى: {طَاعَةٌ} : في رفعِه وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: «أمرنا طاعةٌ» ولا يجوز إظهارُ هذا المبتدأ لأن الخبر مصدر بدلٌ من اللفظ بفعلِه. والثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوف أي: مِنَّا طاعة، أو: عندنا طاعةٌ. قال مكي: «ويجوز في الكلامِ النصبُ على المصدر» . وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء «بَيَّت» في طاء «طائفة» لتقارُبِهما، ولم يَلْحَقِ الفعلَ علامةُ تأنيث لكونه مجازياً. و «منهم» صفةٌ ل «طائفة» ، والضمير في «تقول» يحتمل أن يكون ضمير خطاب للرسول عليه السلام أي: غيرَ الذي تقول وترسم به يا محمد. ويؤيِّده قراءة عبد الله: «بَيَّتَ مُبَيِّتٌ منهم» وأن يكونَ ضميرَ غَيْبة للطائفة أي: تقول هي. وقرأ يحيى ابن يعمر: «يقول» بياء الغيبة، فيحتمل أن يعود الضميرُ على الرسول بالمعنى المتقدم، وأن يعود على الطائفة. ولم يؤنث الضميرَ لأن الطائفة في معنى الفريق والقوم. و «ما» في «ما يبيِّتون» يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفة أو مصدرية.

82

وقرأ ابن محيصن: {يَتَدَبَّرُونَ} : بإدغام التاء في الدال، والأصل: يَتَدبرون [وهي مخالفةٌ للسواد] ، والضميرُ من «فيه»

يُحتمل أن يعودَ على القرآن وهو الظاهر، وأن يعود على ما يخبره الله تعالى به ممَّا يُبَيِّتون ويُسِرُّون، يعني أنه يخبرهم به على حَدِّ ما يقع.

83

قوله تعالى: {أَذَاعُواْ بِهِ} : جواب إذا، وعَيْنُ أذاع ياء لقولهم: ذاع الشيءَ يذِيع، ويُقال: أذاع الشيء أيضاً بمعنى المجرد، ويكونُ متعدياً بنفسه وبالباء، وعليه الآيةُ الكريمة، وقيل: ضَمَّن «أذاع» معنى «تَحَدَّثَ» فَعدَّاه تعديتَه أي: تحدَّثوا به مذيعين له. والإِذاعة: الإِشاعةُ، قال أبو الأسود: 162 - 2- أذاعُوا به في الناسِ حتى كأنه ... بِعَلْياءِ نار أُوقِدَتْ بثَقُوب والضميرُ في «به» يجوزُ أن يعودَ على الأمر، وأن يعودَ على الأمن أو الخوفِ؛ لأنَّ العطفَ ب «أو» ، والضميرُ في «رَدُّوه» للأمر فقط. والاستنباط: الاستخراج، وكذا الإِنباط قال: 162 - 3- نَعَمْ صادقاً والفاعلُ القائلُ الذي ... إذا قال قَوْلاً أنبطَ الماءَ في الثَّرى / ويقال: نَبَطَ الماءُ يَنْبطُ بفتحِ الباءِ وضَمِّها، والنَّبَط: الماءُ الذي يَخْرج من البئرِ أولَ حَفْرِها. والنَّبَط أيضاً «جيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك لأنهم يستخرجون المياه والنبات. ويقال في الرجل الذي يكون بعيد العِزِّ والمنعة:» ما يَجِدُ عدوُّه له نَبَطاً «قال كعب: 162 - 4-

قريبٌ ثَراه ما ينال عدوُّه ... له نَبَطاً، آبيْ الهوانِ قَطُوبُ و» منهم «حال: إمَّا من الذين، أو من الضمير في» يستنبطونه «فيتعلق بمحذوف. وقرأ أبو السمَّال:» لَعَلْمه «بسكون اللام، قال ابن عطية:» هو كتسكين {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] . وليس مثله؛ لأن تسكين فَعِل بكسر العين مقيسٌ، وتسكينَ مفتوحِها شاذٌّ، ومثلُ تسكين «لَعَلْمه» قوله: 162 - 5- فإنْ تَبْلُه يَضْجَرْ كما ضَجْرَ بازِلٌ ... من الأُدْمِ دُبْرَتْ صَفْحَتاه وغارِبُه أي: دَبِرت، فسكَّن. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} فيه عشرةُ أوجه، أحدها: أنه مستثنى من فاعل «اتَّبعتم» أي: لاتبعتم الشيطانَ إلا قليلاً منكم، فإنه لم يَتَّبع الشيطان، على تقديرِ كونِ فَضْل الله لم يأتِه، ويكونُ أراد بالفضل إرسالَ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك القليلُ كقِسِّ بن ساعدة الإيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، مِمَّن كان على دين المسيح قبل بعثة الرسول. وقيل: المرادُ مَنْ لم يبلغ التكليفَ، وعلى هذا التأويل قيل: فالاستثناء منقطع؛ لأن المستثنى لم يدخل تحت الخطاب، وفيه نظر يظهر في الوجه العاشر. الثاني: أنه مستثنى

من فاعل «أذاعوا» أي: أظهروا أمرَ الأمن او الخوف إلا قليلاً. الثالث: أنه مستثنى من فاعل «عَلِمه» أي: لعلمه المستنبطون منهم إلا قليلاً. الرابع: أنه مستثنى من فاعل «لوجدوا» أي لوجدوا فيما هو من غير الله التناقضَ إلا قليلاً منهم، وهو مَنْ لم يُمْعِنِ النظرَ، فيظنَّ الباطلَ حقاً والمتناقضَ موافقاً. الخامس: أنه مستثنى من الضمير المجرور في «عليكم» وتأويلُه كتأويل الوجه الأول. السادس: أنه مستنثى من فاعل «يستنبطونه» وتأويله كتأويل الوجه الثالث. السابع: أنه مستثنى من المصدر الدالِّ عليه الفعلُ، والتقدير: لاتَبَعْتُمْ الشيطانَ إلا اتباعاً قليلاً، ذكر ذلك الزمخشري. الثامن: أنه مستثنى من المتَّبع فيه، والتقدير: لاتبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها، فالمعنى: لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا في قليلٍ من الأمور، فإنكم كنتم لا تتبعونه فيها، وعلى هذا فهو استثناء مفرغ، ذكر ذلك ابن عطية، إلا أنَّ في كلامِه مناقشةً وهو أنه قال «أي: لاتبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها» فجعله هنا مستثنى من المتَّبعِ فيه المحذوف على ما تقدم تقريره، وكان قد تقدَّم أنه مستثنى من الإتِّباع، فتقديرُه يؤدي إلى استثنائِه من المتَّبع فيه، وادعاؤه أنه استثناء من الاتباع، وهما غَيْران. التاسع: أن المراد بالقلة العدمُ، يريد: لاتبعتم الشيطان كلكم وعدم تخلُّفِ أحدٍ منكم، نقله ابن عطية عن جماعة وعن الطبري، ورَدَّه بأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي دخولَها، قال: «وهذا كلامٌ قلق ولا يشبه ما حكى سيبويه من قولهم:» هذه أرضٌ قَلَّ ما تنبت كذا «أي لا تنبت شيئاً.

وهذا الذي قاله صحيح، إلا أنه كان تقدم له في البقرة في قوله تعالى {وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 46] أن التقليل هنا بمعنى العدم، وتقدَّم الردُّ عليه هناك فَتَنَبَّهَ لهذا المعنى هنا ولم يتنبهْ له هناك. العاشر: أن المخاطبَ بقوله» لاتبعتم «جميعُ الناس على العموم، والمرادُ بالقليلِ أمةُ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، وأيَّد صاحبُ هذا القولِ قولَه بقولِه عليه السلام» ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالرَّقْمة البيضاء في الثور الأسود «.

84

قوله تعالى: {فَقَاتِلْ} : في هذه الفاءِ خمسةُ أوجه، أحدها: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملةِ قوله {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} [النساء: 74] . الثاني: أنها عاطفتها على جملةِ قوله {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان} [النساء: 76] . الثالث: أنها عاطفتها على جملة قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ} [النساء: 75] . الرابع: أنها عاطفتها على جملة قوله {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 74] . الخامس: أنها جوابُ شرط مقدر أي: إنْ أردت فقاتِل، وأولُ هذه الأقوال هو الأظهر. قوله: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} في هذه الجملة قولان، أحدهما: أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «فقاتِلْ» أي: فقاتِلْ غيرَ مُكَلِّفٍ إلا نفسَك وحدَها. والثاني: أنها مستأنفة أخبره تعالى أنه لايكلِف غيرَ نفسه. والجمهور على «تُكَلَّفُ» بتاء الخطاب ورفع الفعل مبنياً للمفعول، و «نفسَك» هو المفعول الثاني. وقرأ عبد الله بن عمر: «لا تُكَلِّفْ» كالجماعة إلا أنه

جزمه، فقيل: على جواب الأمر، وفيه نظر، والذي ينبغي أن يكون نهياً. وهي جملة مستأنفة. ولا يجوز أن تكون حالاً في قراءة عبد الله؛ لأنَّ الطلب لا يكون حالاً. وقرئ «لا نُكَلِّف» بنون العظمة ورفعِ الفعل وهو يحتمل الحال والاستئناف المتقدمين. والتحريض: الحَثُّ على الشيءِ، قال الراغب: «كأنه في الأصل إزالةُ الحَرَضْ نحو:» قَذِّيْتُه «أي: أزلت قذاه، وأَحْرضته: أَفْسَدْتُه كأقذيته أي: جَعَلْتُ فيه القذى، والحَرَضُ في الأصل ما لا يُعْتَدُّ به ولا خير فيه، ولذلك يقال للمشرف على الهلاك:» حَرَض «قال تعالى: {حتى تَكُونَ حَرَضاً} [يوسف: 85] وأَحْرَضَه كذا، قال: 162 - 6- إني امرؤٌ رابني هَمٌّ فَأَحْرضني ... حتى بُليِتُ وحتى شَفَّني السَّقَمُ و» بأساً وتنكيلاً «تمييزٌ، والتنكيل: تفعيلٌ من النَّكْل وهو القيد، ثم استعمل في كل عذاب.

85

{والكِفْلُ} : النصيب، إلاَّ أنَّ استعمالَه في الشر أكثر، عكسَ النصيب، وإنْ كان قد استُعْمِل الكِفْلُ في الخير، قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} وأصلُه قالوا: مستعارٌ مِنْ كِفْلِ البعير وهو كساء يدار حول سَنامِه ليُرْكَبَ، سُمِّي بذلك لأنه لم يَعُمَّ ظهرَه كله بل نصيباً منه، ولغلبةِ استعمالِه في الشر واستعمالِ النصيب في الخير غاير بينهما في هذه الآية الكريمة، إذ أتى بالكِفْل مع السيئة، والنصيب مع الحسنة. و «منها» الظاهر أن «

مِنْ» هنا سببية أي: كِفْلٌ بسببها ونصيب بسببها، ويجوز أن تكونَ ابتدائيةً. والمُقِيت: المقتدر قال: 152 - 7- وذي ضِغْن كَفَفْتُ الودَّ عنه ... وكنتُ على إساءته مُقيتا أي: مقتدراً، ومنه: 162 - 8- ليت شِعْري وأَشْعُرَنَّ إذا ما ... قَرَّبوها منشورةً ودُعِيتُ ألِيَ الفضلُ أم عليَّ إذا حو ... سِبْتُ؟ إني على الحسابُ مُقيتُ / قال النحاس: «هو مشتقٌّ من القُوت، وهو مقدارُ ما يُحْفَظ به بدنُ الإِنسان من الهلاك» فأصل مُقيت: مُقوِت كمقيم.

86

والتحية في الأصل: المُلْك. قال: 126 - 9- أَؤمُّ بها أبا قابوسَ حتى ... أُنيخَ على تَحِيَّته بجُندي وقال آخر: 163 - 0-

ولكل ما نال الفتى ... قد نلتُه إلا التحِيَّهْ ويقال: التحية: البقاء والمُلْك، ومنه: «التحيات لله» ثم استُعملت في السلام مجازاً، ووزنها تَفْعِلة، والأصل: تَحْيِيَة فأدغمت، وهذا الإِدغامُ واجبٌ خلافاً للمازني، وأصل الأصل تَحْيِيٌّ، لأنه مصدر حَيّا، وحَيّا: فَعَّل، وفَعَّل مصدرُه على التفعيل، إلا أن يكون معتلَ اللام نحو: زكَّى وغَطَّى [فإنه تحذف إحدى الياءين] ويعوض منها تاء التأنيث فيقال: تزكية وتغطية، إلا ما شَذَّ من قوله: 163 - 1- باتَتْ تُنَزِّي دلوَها تَنْزِيَّاً ... كما تُنَزِّي شَهْلَةٌ صبيَّاً إلا أن هذا الشذوذَ لا يجوزُ مثلُه في نحو «حَيّا» لاعتلالِ عينه ولامه بالياء، وألحق بعضُم ما لامُه همزةٌ بالمعتلِّها نحو: «نَبّأ تنبئة» و «خَبّأ تخبئة» . ومثلُها: أَعْيِيَة وأَعِيَّة، جمع عَيِيٌّ. وقال الراغب: «وأصلُ التحيَّة من الحَياة، ثم جُعِل كلُّ دعاءٍ تحيةً لكون جميعِه غيرَ خارجٍ عن حصولِ الحياةِ أو سببِ الحياة. وأصل التحية أن تقول:» حَيَّاك الله «ثم استُعْمِل في عُرْفِ الشرعِ في دعاء مخصوصٍ. وقوله تعالى: {أَوْ رُدُّوهَآ} أي: رُدُّوا مثلَها؛ لأنَّ ردَّ عينها مُحالٌ، فحُذِفَ

المضافُ نحو: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] وأصلُ» حَيُّوا «حَيِّيُوا، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ، فَحُذِفت الضمةُ فالتقى ساكنان: الياءُ والواوُ فحُذِفت الياءُ وضُمَّ ما قبل الواو. وقوله» بأحسنَ «اي: بتحيةٍ أحسنَ من تلك التحيةِ الأولى.

87

قوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} : جوابُ قسمٍ محذوف، وفي جملةِ هذا القسم مع جوابِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لقوله «اللَّهُ» ، و «لا إلهَ إلا هو» جملةُ خبر أول. والثاني: انها خبر لقوله: «الله» أيضاً، و «لا إله إلا هو» جملة اعتراضٍ بين المبتدأ وخبره. والثالث: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب. وقد تقدم إعراب {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [الآية: 255] و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [الآية: 3] في البقرة. قوله: {إلى يَوْمِ القيامة} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها على بابِها من انتهاءِ الغايةِ، قال الشيخ: «ويكونُ الجمعُ في القبور، أو تُضمِّن» ليجمعنَّكم «معنى ليحشرنَّكم» فيُعَدَّى ب «إلى» يعني أنه ضُمِّن الجمعُ معنى الحَشْر لم يَحْتج إلى تقدير مجموع فيه. وقال أبو البقاء - بعد أَنْ جَوَّز فيها أن تكونَ بمعنى «في» - «وقيل: هي على بابها أي: ليجمعنَّكم في القبور، فعلى هذا يجوز أن يكون مفعولاً به، ويجوز أن يكونَ حالاً أي: ليجمعنَّكم مُفْضِين إلى حساب يوم القيامة» يريد بقوله «مفعولاً به» أنه فَضْلَةٌ كسائرِ الفَضَلات نحو: «سرت إلى الكوفة» ولكن لا يَصِحُّ ذلك إلا بأَنْ يُضَمَّنَ الجمعُ معنى الحشر كما تقدم، وأمَّا تقديرُه الحالَ ب «مُفَضِين» فغيرُ جائزٍ لأنه

كونٌ مقيِّدٌ. والثاني: أنها بمعنى «في» أي: في يوم القيامة، ونظيرُه قولُ النابغة: 163 - 2- فلا تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني ... إلى الناسِ مَطْلِيُّ به القارُ أَجْرَبُ أي: في الناس. والثالث: أنها بمعنى «مع» ، وهذا غيرُ واضح المعنى. والقيامة بمعنى القِيام كالطَّلابة والطِّلاب، قالوا: ودَخَلَتْ التاءُ فيه للمبالغة كعَلاَّمة ونَسَّابة لشدةِ ما يقع فيه من الهَوْل، وسُمِّي بذلك لقيامِ الناس فيه للحسابِ، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} [المطففين: 6] . والجملةُ من قوله: «لا ريب فيه» فيها وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ نصب على الحال من «يوم» فالضمير في «فيه» يعودُ عليه، والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوف دَلَّ عليه «ليجمعنَّكم» أي: جمعاً لا ريبَ فيه، والضميرُ يعود عليه والأولُ أظهرُ. «ومَنْ أصْدَقُ» تقدَّم نظيرُ هذه الجملة. و «حديثاً» نصبٌ على التمييز. وقرأ الجمهور «أَصْدَقُ» بصاد خالصة، وحمزة والكسائي بإشمامها زاياً، وهكذا كلُّ صادٍ ساكنةٍ بعدها دالٌ، نحو: «تَصْدُقون» و «تَصْدِيَةً» وهذا كما فعل حمزة في {الصراط} [الفاتحة: 6] و {بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] للمجانسةِ قَصْدَ الخِفَّةِ.

88

قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ} : مبتدأ وخبر. و «في المنافقين» فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه متعلقٌ بما تعلَّق به الخبرُ وهو «لكم» أي: أيُّ شيءٌ كائنٌ لكم - أو مستقر لكم - في أمر المنافقين. والثاني: أنه متعلق

بمعنى فئتين، فإنه في قوة «ما لكم تفترقون في أمور المنافقين» فحُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه. والثالث: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «فئتين» لأنه في الأصل صفةٌ لها، تقديرُه: فئتين مفترقتين في المنافقين، وصفةُ النكرة إذا قُدِّمت عليها انتصبَتْ حالاً. وفي «فئتين» وجهان، أحدُهما: أنها حالٌ من الكاف والميم في «لكم» ، والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به «لكم» ومثلُه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] ، وقد تقدَّم أنَّ هذه الحالَ لازمةٌ؛ لأن الكلامً لا يَتِمُّ دونَها، وهذا مذهبُ البصريين في كل ما جاء من هذا التركيب والثاني - وهو مذهب الكوفيين-: أنه نصبٌ على خبر «كان» مضمرةً، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين، وأجازوا: «ما لك الشاتمَ» أي: ما لك كنت الشاتمَ، والبصريون لا يجيزون ذلك لأنه حالٌ والحالُ لا تتعرَّف، ويدلُّ على كونه حالاً التزامُ مجيئه في هذا التركيب نكرةً، وهذا كما قالوا في «ضربي زيداً قائماً» إن «قائماً» لا يجوز نصبُه على خبر «كان» المقدرةِ، بل على الحال لالتزامِ تنكيره. وقد تقدَّم اشتقاقُ «الفئة» في البقرة. قوله: {والله أَرْكَسَهُمْ} مبتدأ وخبر، وفيها وجهان أظهرهما: أنها حالٌ: إمَّا من المنافقين - وهو الظاهرُ - وإمَّا من المخاطبين، والرابطُ الواوُ، كأنه انكرَ عليهم اختلافَهم في هؤلاء، والحال أن الله قد ردَّهم إلى الكفر. والثاني: أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى عنهم بذلك. و «بما كَسَبوا» متعلقٌ ب «أَرْكَسهم» والباء سببية أي: بسبب كَسْبهم، و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ على الثاني لا [على] الأولِ على الصحيح.

والإِركاس: الردُّ والرَّجْعُ، ومنه الرِّكْس للرجيع، قال عليه السلام في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها: «إنها رِكْس» وقال أمية بن أبي الصلت: 163 - 3- فَأُرْكِسوا في جحيم النار إنَّهمُ ... كانوا عصاةً وقالو الإفْكَ والزورا أي: رُدُّوا، وقال الراغب: «الرِّكْس والنِّكْس: الرِّذْلُ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ، لأن النِّكَس ما جُعِل أعلاه أسفله، والرِّكس ما صار رجيعاً بعد أن كان طعاماً. وقيل: أَرْكسه أَوْبقَه، قال: 163 - 4- بشُؤْمِك أَرْكَسْتَني في الخَنا ... وأَرْمَيْتَني بضروبِ العَنا وقيل: الإِركاس: الإِضلال، ومنه: 136 - 5- وأَرْكَسْتَنِي عن طريق الهدى ... وصَيَّرْتَنِي مَثَلاً للعِدى وقيل: هو التنكيسُ، ومنه: 163 - 6- رُكِّسوا في فتنةٍ مظلمةٍ ... كسوادِ الليلِ يَتْلُوها فِتَنْ ويقال: أَرْكس وَرَكَّس بالتشديد ورَكَس بالتخفيف: ثلاث لغات بمعنى واحد، وارتكس هو أي: رجَع. وقرأ عبد الله: «ركَسَهم» ثلاثياً، وقرئ «

رَكَّسهم - رُكِّسوا» بالتشديد فيهما. وقال أبو البقاء: «وفيه لغةٌ أخرى» رَكَسه الله «من غير همز ولا تشديد، ولا أعلم أحداً قرأ به» قلت: قد تقدَّم أن عبد الله قرأ «والله ركسهم» من غير همز ولا تشديد، وكلام أبي البقاء مُخّلِّصٌ فإنه إنما ادَّعى عدمَ العلمِ بأنها قراءةٌ لا عدمَ القراءة بها. قال الراغب: «إلا أن» أركسه «أبلغُ من» رَكَسه «كما أنَّ أَسْفَله أبلغُ من سُفْلَه» وفيه نظر.

89

قوله تعالى: {لَوْ تَكْفُرُونَ} : «لو» يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ مصدرية. والثاني: أنها على بابها من كونِها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، فعلى الأول تتقدَّر مع ما بعدَها بمصدر، وذلك المصدرُ في محل المفعول ل «وَدُّوا» ، وحينئذ فلا جوابَ لها، والتقدير: وَدُّوا كفركم، وعلى الثاني يكون مفعولُ «وَدَّ» محذوفاً «، وجوابُ» لو «أيضاً» محذوف، لدلالةِ المعنى عليهما، والتقدير: وَدُّوا كفركم لو تكفرون كما كفروا لسُرُّوا بذلك. و «كما كفروا» نعتٌ لمصدر محذوف تقديره: كفراً مثلَ كفرهم، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدر كما هو مذهب سيبويه، / و «فتكونوا» عطف على «تكفرون» والتقدير: وَدُّوا كفركم فكونَكم مستوين معهم في شَرْعهم. قال الزمخشري: «ولو نُصِب على جوابِ التمني لجاز» وجعل الشيخ فيه نظراً من حيث إن النصبَ في جواب التمني إذا كان التمني بلفظ الفعل يَحْتاج إلى سماع من العرب، بل لو جاء لم تتحقَّقَ فيه الجوابيةُ، لأنَّ «ودَّ» التي بمعنى التمني متعلقها المصادر لا الذوات، فإذا نصب الفعل بعد الفاء لم يتعيَّنْ أن

تكون فاءَ جواب، لاحتمال أن يكونَ من باب عطف المصدر المقدر على المصدر الملفوظ به فيكون من باب: 163 - 7- لَلُبْس عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يعني كأنَّ المصدر المفعولَ ب «يود» ملفوظٌ به، والمصدرُ المقدَّرُ ب «أن» والفعلِ عطفٌ عليه، فَجَعَلَ المصدرَ المحذوفَ ملفوظاً به في مقابلةِ المقدِّرِ ب «أَنْ» والفعلِ، وإلاَّ فالمصدرُ المحذوفُ ليس ملفوظاً به إلا بهذا التأويلِ المذكورِ، بل المنقولُ أنَّ الفعلَ ينتصبُ على جوابِ التمني إذا كان بالحرفِ نحو «ليت» ، و «لو» و «ألا» إذا أُشْربتا معنى التمني. وفيما قاله الشيخ نظر؛ لأن الزمخشري لم يَعْنِ بالتمني المفهومَ من فعل الوَدادةِ، بل المفهومَ من لفظ «لو» المشعرةِ بالتمني، وقد جاء النصب في جوابها كقوله: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ} [الشعراء: 102] ، وقد قَدَّمْتُ تحقيقَ هذه المسألةِ، فقد ظَهَر ما قاله الزمخشري من غير توقُّفٍ. «وسواءً» خبر «تكونون» وهو في الأصل مصدرٌ واقعٌ موقعَ اسمِ الفاعلِ بمعنى مُسْتوين؛ ولذلك وُحِّد نحو: «رجال عَدْلٌ» .

90

قوله تعالى: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} : فيه قولان، أظهرُهما: أنه استثناءٌ متصلٌ، والمستثنى منه قولُه {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} والمُسْتَثْنَوْن على هذا قومٌ كفارٌ، ومعنى الوَصْلةِ هنا الوَصْلَةُ بالمعاهَدَةِ والمهادَنَةِ، وقال أبو عبيد: «هو اتصالُ النسب» وغَلَّطة النحاس بأن النسبَ كان ثابتاً بين النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم والصحابة وبين المشركين، ومع ذلك لم يَمْنَعْهم ذلك من قتالهم. والثاني: أنه منقطعٌ - وهو قول أبي مسلم الأصفهاني، واختيار

الراغب - قال أبو مسلم: «لَمَّا أوجبَ اللَّهُ الهجرةَ على كلِّ مَنْ أسلمَ استثنى مَنْ له عذرٌ فقال: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} وهم قوم قصدوا الهجرة إلى الرسول ونصرتَه، وكان بينهم وبين المسلمين عَهْدٌ فأقاموا عندهم إلى أن يمكِّنهم الخلاصُ، واستثنى بعد ذلك مَنْ صار إلى الرسول وإلى أصحابِه لأنه يَخافُ اللَّهَ فيه، ولا يقاتِلُ الكفارَ أيضاً لأنهم أقاربُه، أو لأنه يخاف على أولاده الذين هم في أيديهم» فعلى هذا القولِ يكون استثناءً منقطعاً، لأن هؤلاء المستثنين لم يدخُلوا تحت قولِه: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} والمستثَنْون على هذا مؤمنون. و {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} يجوز أن يكونَ جملةً من مبتدأ وخبر في محل جرِّ صفةً ل «قوم» ، ويجوز أن يكونَ «بينكم» وحده صفةً ل «قوم» فيكونَ في محلِّ جر ويتعلَّقُ بمحذوفٍ، و «ميثاق» على هذا رفعٌ بالفاعلية؛ لأنَّ الظرفَ اعتمد على موصوفٍ، وهذا الوجهُ أقربُ؛ لأنَّ الوصفَ بالمفردِ أصلٌ للوصفِ بالجملة. قوله: {أَوْ جَآءُوكُمْ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على الصلة، كأنه قيل: أو إلا الذين جاؤوكم حَصِرَتْ صدورُهم، فيكون المستثنى صنفين من الناس، أحدهما واصلٌ إلى قومٍ معاهِدين، والآخر مَنْ جاء غَيْر مقاتِلٍ للمسلمين ولا لقومِه. والثاني: أنه عطفٌ على صفةِ «قوم» وهي قولُه {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} فيكون المستثنى صنفاً واحداً يختلف باختلافِ مَنْ يصل إليه من معاهِدٍ وكافرٍ. واختار الأولَ الزمخشري وابن عطية، قال الزمخشري: «الوجهُ العطفُ على الصلةِ لقوله: {فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} بعد قوله: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} فقرَّر أنَّ كفَّهم عن القتال أحدُ سببي استحقاقِهم لنفي

التعرُّض لهم، وتَرْكِ الإِيقاع. بهم. فإن قلت: كلُّ واحد من الاتصالين له تأثيرٌ في صحة الاستثناء استحقاقِ تَرْكِ التعرضِ للاتصال بالمعاهِدين والاتصالِ بالكافِّين، فهلا جَوَّزْتَ أن يكون العطفُ على صفةِ» قوم «ويكون قولُه: {فَإِنِ اعتزلوكم} تقريراً لحكمِ اتِّصالهم بالكافِّين واختلاطِهم بهم وجَرْيهم على سُنَنِهم؟ قلت: هو جائز، ولكنّ الأولَ أظهرُ وأجْرى على أسلوب الكلام» انتهى. وإنما كان أظهرَ لوجهين، أحدهما من جهة الصناعة، والثاني من جهة المعنى: أمَّا الأولُ فلأنَّ عطفَه على الصلة لكون النسبة فيه إسناديةً، وذلك أن المستثنى مُحَدَّثٌ عنه محكومٌ له بخلاف حكم المستثنى منه، فإذا قَدَّرْتَ العطفَ على الصلة كان مُحَدَّثاً عنه بما عَطَفْتَه بخلاف ما إذا عَطّفْتَه على الصفة، فإنه يكونُ تقييداً في «قوم» الذين هم قيدٌ في الصلةِ المُحَدَّثِ عن صاحبها، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسناديةً وبين أن تكون تقييدية كان جعلُها إسناديةً أَوْلى لاستقلالها. والثاني من جهة المعنى: وذلك أنَّ العطفَ على الصلة يؤدي إلى أنَّ سببَ تَرْكِ التعرُّض لهم تركُهم القتالَ وكَفُّهم عنه، وهذا سببٌ قريب، والعطفُ على الصفة يؤدي إٍلى أنَّ سببَ تركِ التعرضِ لهم وصولُهم إلى قوم كافِّين عن القتال وهذا سببٌ بعيدٌ، وإذا دار الأمرُ بين سببٍ قريبٍ وآخرَ بعيدٍ فاعتبارُ القريبِ أَوْلَى. والجمهورُ على إثبات «أو» ، وفي مصحف أُبَيّ: «جاؤوكم» من غير «أو» وخَرَّجها الزمخشري على أحد أربعة أوجه: إمَّا البيانِ ل «يَصِلون» ، أو البدلِ منه، أو الصفةِ لقومٍ بعد صفة، أو الاستئنافِ.

قال الشيخ: «وهي وجوهٌ محتملةٌ وفي بعضِها ضعفٌ وهو البيانُ والبدلُ، لأنَّ البيانَ لا يكون في الأفعال، ولأن البدل لا يتأتَّى لكونِه ليس إياه ولا بعضَه ولا مشتملاً عليه» . انتهى. ويحتاج الجوابُ عنه إلى تأمُّل ونظر. قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} فيه سبعة أوجه، أحدها: أنه لا محلَّ لهذه الجملة، بل جيء بالدعاء عليهم بضيقِ صدورهم عن القتال، وهذا منقولٌ عن المبرد، إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ عليه بأنَّا مأمورُون بأَنْ ندعوَ على الكفارِ بإلقاءِ العداوة بينَهم فنقولُ: «اللهم أَوْقِعِ العداوةَ بين الكفار» لكن يكونُ قوله: {أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} نَفْيَ ما اقتضاه دعاءُ المسلمين عليهم. وقد أجابَ عن هذا الردِّ بعضُ الناس، فقال ابن عطية: «يُخَرَّجُ قولُ المبرد على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيزٌ لهم، والدعاءُ عليهم بأن لا يقاتِلوا قومَهم تحقيرٌ لهم أي: هم أقلُّ وأحقرُ ومستغنىً عنهم، كما تقول إذا أردت هذا المعنى:» لا جعل الله فلاناً عليَّ ولا معي «معنى أسْتغنِي عنه وأستقلُّ دونَه» وأجابَ غيرُه بأنه يجوزُ أن يكونَ سؤالاً لموتهم على أنَّ قولَه «قومهم» قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ ليسوا منهم، بل عن مُعادِيهم «. الثاني: أنَّ» حَصَرِت «حالٌ من فاعل» جاؤوكم «وإذا وقعت الحال فعلاً ماضياً ففيها خلافٌ: هل يَحْتاج إلى اقترانهِ ب» قد «أم لا؟ والراجحُ عدمُ الاحتياجِ لكثرة ما جاء منه، فعلى هذا لا تُضْمَرُ» قد «قبل» حَصِرَتْ «ومَنِ اشترط ذلك قَدَّرها هنا. والثالث: أَنَّ» حَصِرَتْ «صفةٌ لحالٍ محذوفةٍ تقديرُه: أو جاؤوكم قوماً حَصِرَتْ صدورُهم. وسَمَّاها أبو البقاء حالاً مُوَطِّئَة، وهذا

الوجهُ يُعْزَى للمبرد أيضاً/ الرابع: أن يكون في محل جَرٍّ صفةً لقوم بعد صفة، و «أو جاؤوكم» معترضٌ. قال أبو البقاء: «يَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ أسقط» أو «وهو أُبَيُّ، كذا نقله عنه الشيخ، والذي رأيتُه في إعرابه إسقاطُ» أو جاؤوكم «جميعه وهذا نَصُّه قال:» أحدهما: هو جَرٌّ صفةً لقوم وما بينهما صفة أيضاً، و «جاؤوكم» معترضٌ، وقد قرأ بعضُ الصحابة بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم، بحذف «أو جاؤوكم» هذا نَصُّه، وهو أوفق لهذا الوجهِ. الخامس: أن يكونَ بدلاً من «جاؤوكم» بدلَ اشتمال لأن المجيء مشتملٌ على الحَصْر وغيرِه، نقله الشيخ عن أبي البقاء أيضاً. السادس: أنه خبرٌ بعد خبر، وهذه عبارة الزجاج، يعني أنها جملة مستأنفة، أَخْبر بها عن ضيقِ صدور هؤلاء عن القتال بعد الإِخبار عنهم بما تقدَّم. قال ابن عطية بعد حكاية قولِ الزجاج: «يُفَرَّق بين الحال وبين خبر مستأنف في قولك:» جاء زيد ركب الفرسَ «أنك إذا أردت الحال بقولك» رَكَب الفرس «قَدَّرْتَ» قد «، وإن أردت خبراً بعد خبر لم تحتج إلى تقديرها» السابع: أنه جواب شرط مقدر تقديره: إن جاؤوكم حصرت، وهو رأي الجرجاني، وفيه ضَعْفٌ لعدم الدلالة على ذلك. وقرأ الجمهور: «حَصِرَتْ» فعلاً ماضياً، والحسن وقتادة ويعقوب: «

حَصِرةً» نصباً على الحال بوزن «نَبَقَة» وهي تؤيد كونَ «حَصِرت» حالاً، ونقلها المهدوي عن عاصم في رواية حفص، ورُوي عن الحسن أيضاً: «حَصِراتٍ» و «حاصراتٍ» . وهاتان القراءتان تحتملان أن تكونَ «حَصِراتٍ» و «حاصراتٍ» نصباً على الحال، أو جراً على الصفة ل «قوم» ، لأنَّ جمع المؤنث السالم يستوي جَرُّه ونصبه إلا أنَّ فيهما ضعفاً من حيث إنَّ الوصف الرافعَ لظاهرٍ الفصيحُ فيه أن يُوَحَّد كالفعلِ أو يُجْمَعَ جَمْعَ تكسير ويَقِلُّ جمعُه تصحيحاً، تقول: مررت بقومٍ ذاهب جواريهم، أو قيام جواريهم، ويَقَلُّ: «قائماتٍ جواريهم» وقرئ «حَصِرةٌ» بالرفع على أنه خبر مقدم، و «صدوُرهم» مبتدأ، والجملة حال أيضاً. وقال أبو البقاء. «وإن كان قد قرئ» حصرةٌ «بالرفع، فعلى أنه خبر، و» صدورهم «مبتدأ، والجملةُ حال» . قوله: {أَن يُقَاتِلُونَكُمْ} أصلُه: عن أَنْ، فلمَّا حُذِف حرف الجر جرى الخلاف المشهور: أهي في محل جر أو نصب؟ والحَصْرُ: الضيق، وأصلُه في المكان ثم تُوُسِّع فيه، قال: 163 - 8- ولقد تَسَقَّطَني الوشاة فصادَفُوا ... حَصِراً بسِرِّكِ يا أُميمُ ضَنِيناً وقوله: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} اللام جواب «لو» لعطفِه على الجواب، وقال ابن عطية: «هي لامُ المحاذاة والازدواج بمثابةِ الأولى، لو لم تكن الأولى كنت تقول» لقاتلوكم «وهي تسميةٌ غريبة، وقد سبقه إليها مكي. والجمهور على»

فَلَقاتلوكم «من المُفاعلة. ومجاهد وجماعة:» فَلقتلوكم «ثلاثياً والحسن والجحدري:» فلقتَّلوكم «بالتشديد وقرأ الجحدري:» السَّلْم «بفتحِ السين وسكوِن اللام، والحسنُ بكسرها وسكون اللام. قوله: {لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} » لكم «متعلق ب» جَعَل «و» سبيلاً «مفعولُ» جَعَل «و» عليهم حالٌ من «سبيلاً» لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُد‍ِّم عليها، ويجوز أن تكونَ «جعل» بمعنى «صَيَّر» فيكونُ «سبيلاً» مفعولاً أولَ، و «عليهم» مفعولٌ ثان قُدِّم.

91

والسين في {سَتَجِدُونَ} : للاستقبال على أصلها. قالوا: وليست هنا للاستقبال بل للدلالةِ على الاستمرار، وليس بظاهر. وقرأ عبد الله: «رُكِسوا» فيها ثلاثياً مخففاً، ونقل ابن جني عنه «رُكِّسُوا» بالتشديد.

92

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن} : قد تقدَّم نظيرُ هذا التركيب: {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} [البقرة: 114] . و «إلا خَطَأً» فيه أربعة أوجه، أحدُها: أنه استثناء منقطع وهو قولُ الجمهور إنْ أُريد بالنفي معناه، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ متصلاً إذ يصير المعنى: إلا خطأ فله قتلُه. والثاني: أنه متصلٌ إنْ أريد بالنفي التحريمُ، ويصير المعنى: إلا خطأ بأن عَرَفَه كافراً فقتله ثم كَشَف الغيبُ أنه كان مؤمناً. الثالث: أنه استثناء مفرغ، ثم في نصبهِ ثلاثة احتمالات، الأول: أنه مفعولٌ له أي: ما ينبغي له أن يقتلَه لعلة من العلل إلا لخطأِ وحدَه، الثاني: أنه حال أي: ما ينبغي له أن يقتلَه في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ. الثالث: أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي: إلا قَتْلاً خطأ، ذكر

هذه الاحتمالاتِ الزمخشري. الرابع من الأوجه: أن تكونَ «إلا» بمعنى «ولا» والتقدير: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأ، ذَكَره بعضُ أهل العلم، حكى أبو عبيدة عن يونس قال: «سألتُ رؤبة بن العجاج عن هذه الآيةِ فقال:» ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأ «فأقام» إلا «مقامَ الواوِ، وهو كقول الشاعر: 1639 - وكلُّ أخٍ مفارِقُه أخوه ... لَعَمْرُ أبيك إلا الفرقدانِ إلا أن الفراء ردَّ هذا القولَ بأن مثل ذلك لا يجوزُ، إلا إذا تقدَّمه استثناء آخر فيكونُ الثاني عطفاً عليه كقوله: 1640 - ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا وهذا رأي الفراء، وأمَّا غيرُه فيزعم أن» إلا «تكون عاطفة بمعنى الواو من غير شرط، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين} [البقرة: 150] . والجمهور قرأ» خَطَأً «مهموزاً بوزن» نبأ «والزهري:» خَطَا «بوزن عصا، وفيها تخريجان، أحدهما: أنه حذف لام الكلمة تخفيفاً، كما حذفوا لام دم ويد وأخ وبابِها. والثاني: أنه خَفَّف الهمزة بإبدالها ألفاً، فالتقت مع

التنوينِ فَحُذِفت لالتقاء الساكنين، كما يُفْعَل ذلك بسائر المقصور، والحسن قرأ:» خَطاءً «بوزن» سَماء «. قوله: {فَتَحْرِيرُ} الفاء جواب الشرط، أو زائدةٌ في الخبر إنْ كانت» مَنْ «بمعنى الذي، وارتفاعُ» تحريرُ «: إمَّا على الفاعلية، أي: فيجبُ عليه تحريرُ وإما على الابتدائية والخبر محذوف أي: فعليه تحريرُ، أو بالعكس أي: فالواجبُ تحريرُ. والدِّيَةُ في الأصل مصدر، ثم أُطْلِقَ على المال المأخوذ في القتل، ولذلك قال:» مُسَلَّمَةٌ إلى أهله «والفعلُ لا يُسَلَّمُ بل الاعيان، تقول: وَدَى يَدِي دِيةً ووَدْياً كوشَى يشي شِيَةً، فحذفت فاء الكلمة، ونظيره في الصحيح اللام» زِنة «و» عِدة «و» إلى أهله «متعلق ب» مُسَلَّمة «تقول: سَلَّمت إليه كذا، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل» مُسَلَّمة «وفيه ضعفٌ. و «خطأ» في قوله: «من قتل مؤمناً خطأ» منصوبٌ: إمَّا على المصدر أي: قتلاً خطأ، وإمَّا على أنه مصدرٌ في موضع الحال أي: ذا خطأ أو خاطئاً. قوله: {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} فيه قولان، أحدهما: أنه استثناء منقطع. والثاني: أنه متصلٌ، قال الزمخشري: «فإنْ قلت: بمَ تَعَلَّق» أَنْ يصَّدَّقوا «وما محلُّه؟ قلت: تَعَلَّق ب» عليه «أو بِ» مُسَلَّمَةٌ «كأنه قيل: وتَجِبُ عليه الدِّية أو يسلِّمها إلا حين يتصدقون عليه، ومحلُّها النصب على الظرف بتقديرِ حذف الزمان، كقولهم:» اجِلسْ ما دام زيد جالساً «ويجوز أن يكون حالاً من» أهله «بمعنى إلا متصدقين» . وخَطَّأه الشيخ في هذين التخريجين/، أما الأول فلأنَّ النحويين نَصُّوا على منع قيام «أَنْ» وما بعدَها مقامَ الظرف، وأنَّ ذلك ما تختص به «ما» المصدريةُ لو قلت: «آتيك أن يصيحَ الديك» أي: وقت صياحِه لم يجز. وأما الثاني فنصَّ سيبويه على منعه أيضاً قال في قول

العرب: «أنت الرجل أن تنازلَ، أو أن تخاصمَ» أي: أنت الرجل نزالاً ومخاصمة: «إنَّ انتصابَ هذا انتصابَ هذا انتصابُ المفعول من أجله، لأنَّ المستقبل لا يكون حالاً» فكونُه منقطعاً هو الصوابُ. وقال أبو البقاء: «وقيل: هو متصلٌ، والمعنى: فعليه دِيَةٌ في كل حال إلا في حال التصدُّق عليه بها» . والجمهور على «يَصَّدَّقوا» بتشديد الصاد، والأصل يتصدَّقوا، فأدغمت التاء في الصاد. ونقل عن أُبيّ هذا الأصلُ قراءةً، وقرأ أبو عمرو في روايةِ عبد الوراث - وتُعْزى للحسن وأبي عبد الرحمن -: «تَصَدَّقوا» بتاء الخطاب والأصل: تَتصدقوا بتاءين، فَأُدغمت الثانية. وقُرئ: «تَصْدُقوا» بتاء الخطاب وتخفيف الصاد، وهي كالتي قبلها، إلا أنَّ تخفيفَ هذه بحذفِ إحدى التاءين: الأولى أو الثانيةِ على خلاف في ذلك، وتخفيفَ الأولى بالإِدغام. قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} مفعولُه محذوفٌ أي: فَمَنْ لم يجِدْ رقبة، وهي بمعنى وجدان الضالّ، فلذلك تَعَدَّتْ لواحدٍ. وقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} ارتفاعُه على أحدِ الأوجه المذكورة في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقد مَرَّ. أي: فعليه صيامُ أو: فيجبُ عليه صيام أو فواجبُه صيام. قال أبو البقاء: «ويجوزُ في غير القرآنِ النصبُ على» فليصم صومَ شهرين «. وفيه نظرٌ لأنَّ الاستعمالَ المعروفَ في ذلك أَنْ يُقالَ» «صمتُ شهرين ويومين» ولا يقولون: صمتُ صومَ - ولا صيامَ - شهرين. قوله: {تَوْبَةً} في نصبه ثلاثة أوجه، أحدهم: أنهما مفعول من أجله تقديره: شَرَعَ ذلك توبةً منه. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون العامل»

صوم «إلا على حذف مضاف، أي: لوقوعِ توبة أو لحصول توبة» يعني أنه إنما احتاج إلى تقدير ذلك المضاف ولم يقل إن العامل هو الصيام؛ لأنه اختلَّ شرطٌ من شروطِ نصبه؛ لأنَّ فاعل الصيام غير فاعلَ التوبة. الثاني: أنها منصوبةً على المصدر أي: رجوعاً منه إلى التسهيل حيث نَقَلكم من الأثقلِ إلى الأخفِّ، أو توبة منه أي: قَبُولاً منه، مِنْ تاب عليه إذا قَبِل توبته، فالتقدير: تابَ عليكم توبةً. الثالث: أنها منصوبةٌ على الحال ولكن على حذف مضافٍ تقديرُه: فعليه كذا حالَ كونِه صاحبَ توبةٍ، ولا يجوز ذلك من غيرِ تقدير هذا المضافِ لأنك لو قلتَ: «فعليه صيامُ شهرين تائباً من الله» لم يَجُزْ «ومِن الله» في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ ل «توبة» فيتعلَّقُ بمحذوف.

93

و {مُّتَعَمِّداً} : حالٌ من فاعل «يَقتلْ» وروي عن الكسائي سكون التاء كأنه فَرَّ من توالي الحركات. و «خالداً» نصب على الحال من محذوف، وفيه تقديران، أحدهما: «يُجْزاها خالداً فيها» فإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من الضمير المنصوب أو المرفوع، والثاني: «جازاه» بدليل «وغضب الله عليه ولعنَه» فعطفَ الماضي عليه، فعلى هذا هي حالٌ من الضمير المنصوب لا غيرُ، ولا يجوز أن تكون حالاً من الهاء في «جزاؤه» لوجهين، أحدهما: أنه مضاف إليه، ومجيء الحال من المضاف إليه ضعيفٌ أو ممتنع. والثاني: أنه يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو خبرُ المبتدأ الذي هؤ «جهنم» .

94

قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُواْ} : قرأ الأخوان من التثبُّت، والباقون من البيان، قيل: هما متقاربان لأن مَنْ تَثَّبت في الشيء تبينه، قاله

أبو عبيد، وصَحَّحه ابن عطية وقال الفارسي: «التثبُّت هو خلاف الإِقدام والمراد التَّأنِّي، والتثبت أشد اختصاصاً بهذا الموضع، يدل عليه قوله: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء: 66] أي: أشدُّ وقعاً لهم عَمَّا وُعِظوا به بأَنْ لا يقدُموا عليه» فاختارَ قراءة الأخوين. وعكس قومٌ فرجَّحوا قراءة الجماعة قالوا: لأن المثبِّت قد لا يتبيَّن، وقال الراغب: «لأنه قلَّ ما يكون إلا بعد تثبُّت، وقد يكون التثبت ولا تبيُّنَ، وقد قوبل العجلة في قوله عليه السلام:» التبيُّن من الله والعجلةُ من الشيطان «قلت: فهذا يقوي قراءة الأخوين أيضاً. وتَفَعَّل في كلتا القراءتين بمعنى استفعل الدال على الطلب أي: اطلبوا التثبيت أو البيان. وقوله: {لِمَنْ ألقى} اللام للتبليغ هنا، و» مَنْ «موصولة. أو مفصولةٌ، و» ألقى «هنا ماضي اللفظِ، إلا أنه بمعنى المستقبل أي: لمن يُلْقي، لأنَّ النهيَ لا يكونُ عَمَّا وقع وانقضى، والماضي إذا وقع صلة صَلَح للمضيِّ والاستقبال. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة:» السَّلَم «بفتح السين واللام من غير ألف، وباقي السبعة:» السلام «بألف، ورُوي عن عاصم:» السِّلْم «بكسر السين وسكون اللام. فأما» السلام «فالظاهر أنه التحية. وقيل: الاستسلام والانقياد، والسَّلَم - بفتحهما - الانقياد فقط، وكذا {السلم} [الآية: 208] بالكسر والسكون. والجحدري بفتحها وسكون اللام، وقد تَقَدَّم القول فيها في البقرة فعليك بالالتفات إليه. والجملة من قوله» لست مؤمناً «في محل

نصب بالقول. والجمهور على كسر الميم الثانية من» مؤمناً «اسم فاعل وأبو جعفر بفتحها اسمَ مفعول أي: لانُؤَمِّنك في نفسك، وتُروى هذه القراءة عن علي وابن عباس ويحيى بن يعمر. قوله {تَبْتَغُونَ} في محل نصب على الحال من فاعل» تقولوا «أي: لا تقولوا ذلك مبتغين. قوله:» كذلك «هذا خبر ل» كان «قُدِّم عليها وعلى اسمها أي: كنتم من قبل الإِسلام مثلَ مَنْ أقدم ولم يَتَثَبَّتْ. وقوله {فَمَنَّ الله} الظاهر أن هذه الجملة من تتمة قوله {كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ} فهي معطوفة على الجملة قبلها. وقيل: بل هي من تتمة قوله» تبتغون «والأولُ أظهر: وقوله:» فتبيِّنوا «قرئت كالتي قبلها فقيل: هي تأكيد لفظي للأولى، وقيل: ليست للتأكيد لاختلاف متعلقهما، فإنَّ تقدير الأول:» فتبيَّنوا في أمر مَنْ تقتلونه «، وتقدير الثاني: فتبينوا نعمةَ الله، أو تثبَّتوا فيها، والسياقُ يدل على ذلك، ولأنَّ الأصل عدم التأكيد. والجمهور على كسر همزة» إنَّ الله «، وقرئ بفتحها على أنها معمولة ل» تبينَّوا «أو على حذف لام العلةِ، وإن كان قد قرئ بالفتح مع التثبيت فيكونُ على لام العلة لا غير. والمغانم: جمع» مَغْنَم «وهو يصلح للمصدر والزمان والمكان، ثم يُطلق على [كل] ما يؤخذ من مال العدو في الغزو، إطلاقاً للمصدر على اسم المفعول نحو:» ضَرْب الأمير «.

95

قوله تعالى: {مِنَ المؤمنين} : متعلق بمحذوف لأنه حال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه القاعدون، فالعامل في الحال في الحقيقة يستوي، والثاني: أنه الضمير المستكنُّ في «القاعدون» لأن «أل» بمعنى الذي، أي: الذين قعدوا في هذه الحال، ويجوز أن تكون «مِنْ» للبيان.

قوله {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم «غير» بالرفع، والباقون بالنصب، والأعمش بالجر. والرفع من وجهين، أظهرهما: أنه على البدل من «القاعدون» وإنما كان هذا أظهرَ لأن الكلام نفي، والبدلُ معه أرجحُ لِما قُرِّر في عمل النحو. والثاني: أنه رفع على الصفة ل «القاعدون» ، ولا بد من تأويل ذلك لأن «غير» لا تتعَرَّفُ بالإِضافة، ولا يجوز اختلافُ النعت والمنعوت تعريفاً وتنكيراً، وتأويله: إمَّا بأن القاعدين لَمَّا لم يكونوا ناساً بأعيانهم بل أُريد بهم الجنسُ أَشْبَهوا النكرة فَوُصِفوا كما توصف، وإمَّا بأن «غير» قد تتعر‍َّف إذا وقعت بين ضدَّين، وهذا كله كما تقدم في إعراب {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] في أحد الأوجه، وهذا كلُّه خروج عن الأصول المقررة فلذلك اخترت الأول، ومثله: 164 - 1- وإذا اُقْرِضْتَ قَرْضاً فاجْزِهِ ... إنما يَجْزي الفتى غيرُ الجَمَلْ برفع «غير» كذا ذكره أبو علي، والراوية «ليس الجمل» عند غيره. والنصبُ على أحد ثلاثة أوجه، الأول: النصبُ على الاستثناء من «القاعدون» وهو الأظهرُ لأنه المحدَّثُ عنه. والثاني: من «المؤمنين» وليس بواضحِ، والثالث: على الحال من «القاعدون» والجر‍ُّ على الصفة للمؤمنين، وتأويلُه كما تقدم في وجه الرفع على الصفة. وقوله: {فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ} كِلا الجارَّيْن متعلقٌ ب «المجاهدون» و «المجاهدون» عطف على «القاعدون» قوله: {دَرَجَةً} فيها أربعة أوجه، أحدها: أنها منصوبة على المصدر لوقوع «درجة» موقعَ المَرَّة من التفضيل كأنه

قيل: فَضَّلهم تفضيلةً نحو: «ضربته سوطاً» الثاني: أنها حال من «المجاهدين» أي: ذوي درجة. الثالث: أنها منصوبة انتصابَ الظرف أي: في درجة ومنزلة. الرابع: انتصابها على إسقاط الخافض أي: بدرجة. قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} «كلاً» مفعول أول ل «وعد» مقدماً عليه، و «الحسنى» مفعول ثان. وقرئ: «وكلُّ» على الرفع بالابتداء، والجملة بعده خبره، والعائد محذوف أي: وعده، وهذه كقراءة ابن عامر في سورة الحديد {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [الآية: 10] . قوله «أجراً» في نصب أربعة أوجه، أحدهما: النصب على المصدر من معنى الفعل الذي قبله لا من لفظه؛ لأن معنى «فَضَّل الله» آجرَ. الثاني: النصب على إسقاطِ الخافض أي: فضَّلهم بأجر. الثالث: النصب على أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنه ضَمَّن «فضَّل» أعطى، أي: أعطاهم أجراً تَفَضُّلاً منه. الرابع: أنه حال من «درجات» قال الزمخشري: «وانتصب» أجراً «على الحال من النكرة التي هي» درجات «مقدَّمةً عليها» وهو غير ظاهر؛ لأنه لو تَأَخَّر عن «درجات» لم يجز أن يكون نعتاً ل «درجات» لعدم المطابقة، لأنَّ «درجات» جمع، و «أجر» مفرد. كذا ردَّه بعضهم، وهي غفلة، فإنَّ «أجراً» مصدرٌ، والأفصحُ فيه أن يُوَحَّدَ ويُذَكَّر مطلقاً.

96

قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ} : فيه ستة أوجه: الأربعة المذكورة في «درجة» ، والخامس: أنه بدلٌ من «أجراً» السادس: - ذكره ابن عطية - أنه منصوبٌ بإضمار فعل على أن يكون تأكيداً للأجر كما تقول: «لك عليَّ

ألفُ درهمٍ عُرْفاً» كأنك قلت: أعرفها عُرْفاً، وفهي نظر. و «مغفرة ورحمة» عطف على درجات، ويجوز فيهما النصب بفعلهما أي: وغفر لهم مغفرةً ورحمهم رحمةً.

97

قوله تعالى: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ} : «توفَّاهم» يجوز أن يكون ماضياً، وإنما لم تلحق علامة التأنيث للفعل لأن التأنيث مجازي، ويدل على كونِه فعلاً ماضياً قراءةُ «توفَّتْهم» بتاء التأنيث، ويجوز أن يكون مضارعاً حُذِفت إحدى التاءين منه، والأصلُ: تتوفاهم. و «ظالمي» حالٌ من ضمير «توفَّاهم» والإِضافةُ غير محضة، إذ الأصل: ظالمين أنفسَهم. وفي خبر «إنَّ» هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه محذوفٌ تقديرُه: إنَّ الذين توفَّاهم الملائكةُ هَلَكوا، ويكون قوله: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} مبيِّناً لتلك الجملةِ المحذوفةِ. الثاني: أنه {فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} ودخلت الفاءُ زائدةً في الخبر تشبيهاً للموصول باسمِ الشرط، ولم تمنع «إنَّ» من ذلك، والأخفش يمنعه، وعلى هذا فيكون قولُه: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} إمَّا صفةً ل «ظالمي» أو حالاً للملائكة، و «قد» معه مقدرةٌ عند مَنْ يشترط ذلك، وعلى القول بالصفة فالعائد محذوف أي: ظالمين أنفسَهم قائلاً لهم الملائكة. والثالث: أنه «قالوا فيم كنتم» ، ولا بد من تقدير العائد أيضاً أي: قالوا لهم كذا، و «فيم» خبر «كنتم» وهي «ما» الاستفهامية حُذِفت ألفها حين جُرَّتْ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك عند قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله} [البقرة: 91] والجملة من قوله: «فيمَ كنتم» في محل نصب بالقول. «وفي الأرض» متعلقٌ ب «مستضعفين» ،

ولا يجوز أن يكون «في الأرض» هو الخبرَ، و «مستضعفين» حالاً، كما يجوز ذلك في نحو: «ان زيدٌ قائماً في الدار» لعدمِ الفائدةِ في هذا الخبر. قوله: {فَتُهَاجِرُواْ} منصوبٌ في جوابِ الاستفهام، وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وقال أبو البقاء: «ألم تكن» استفهام بمعنى التوبيخ، «فتهاجروا» منصوبٌ على جواب الاستفهام، لأنَّ النفيَ صار إثباتاً بالاستفهام «انتهى قولُه:» لأنَّ النفي «إلى آخره لا يَظْهر تعليلاً لقوله» منصوبٌ على جواب الاستفهام «لأن ذلك لا يَصِحُّ، وكذا لا يَصِحُّ جَعْلُه علةً لقوله» بمعنى التوبيخ «. و» ساءت «: قد تقدم القول في {ساء} ، وأنها تجري مَجْرى» بِئْس «فيُشْترط في فاعلها ما يُشترط في فاعل تيك. و» مصيراً «تمييز.

98

قوله تعالى: {إِلاَّ المستضعفين} : في هذا الاستثناءِ قولان، أحدهما: أنه متصلٌ، والمستثنى منه قولُه: {فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} . والضمير يعودُ على المتوفَّيْن ظالمي أنفسِهم، قال هذا القائل: كأنه قيل: فأولئك في جهنم إلا المستضعفين، فعلى هذا يكون استثناء متصلاً. والثاني - وهو الصحيح - أنه منقطعٌ؛ لأن الضمير في «مَأواهم» عائد على قوله: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ} وهؤلاء المتوفَّوْن: إمَّا كفارٌ أو عصاة بالتخلف، على ما قال المفسرون، وهم قادرون على الهجرة فلم يندرجْ فيهم المستضعفون فكان منقطعاً. و «من الرجال» حالٌ من المستضعفين، أو من الضمير المستتر فيهم، فيتعلَّقُ بمحذوف. قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} في هذه الجملة أربعة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ جوابٌ لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: ما وجهُ استضعافِهم؟ فقيل: كذا.

والثاني: أنها حالٌ. قال أبو البقاء: «حالٌ مبيِّنة عن معنى الاستضعاف» قلت: كأنه يشير إلى المعنى الذي قَدَّمتْهُ في كونها جواباً لسؤال مقدر. والثالث: أنها مفسرةٌ لنفسِ المستضعفين؛ لأنَّ وجوه الاستضعاف كثيرة فبيَّن بأحد محتملاتِه كأنه قيل: إلا الذين استُضْعِفوا بسبب عجزهم عن كذا وكذا. والرابع: أنها صفة للمستضعفين أو للرجال ومَنْ بعدَهم، ذكره الزمخشري، واعتذر عن وَصْف ما عُرِّف بالألف واللام بالجمل التي في حكم النكرات بأن المُعَرَّف بهما لما لم يكن مُعَيَّناً جاز ذلك فيه كقوله: 164 - 2- ولقد أَمُرُّ على اللئيم يَسُبُّني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد قَدَّمْتُ تقرير المسألة مراراً.

100

و {مُهَاجِراً} : نصبٌ على الحال من فاعل «يَخْرج» قوله: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ} الجمهورُ على جزم «يدركْه» عطفاً على الشرط قبله، وجوابه «فقد وقع» ، وقرأ الحسن البصري بالنصب. قال ابن جني: «وهذا ليس بالسهل وإنما بابُه الشعر لا القرآنُ وأنشد: 164 - 3- وسأترُكُ منزلي لبني تميم ... وألحقُ بالحجازِ فاستريحا

والآيةُ أقوى من هذا لتقدُّم الشرط قبل المعطوف» ، يعني أن النصب بإضمار «أن» إنما يقع بعد الواو والفاء في جواب الأشياء الثمانية أو عاطفٍ، على تفصيلٍ موضوعه كتب النحو، والنصبُ بإضمار «أن» في غير تلك المواضع ضرروةٌ كالبيتِ المتقدم، وكقول الآخر: 164 - 4-. . . . . . . . . . . . . . . ... ويَأْوي إليها المستجيرُ فيُعْصَما وتبع الزمخشري أبا الفتح في ذلك، وأنشد البيت الأول. وهذه المسألة جَوَّزها الكوفيون لمدركٍ آخرَ وهو أن الفعلَ الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم إذا وقع بعد الواو والفاء، واستدلُّوا بقول الشاعر: 164 - 5- ومَنْ لا يُقَدِّمْ رِجْلَه مطمئنةً ... فَيُثْبِتَها في مستوى القاعِ يَزْلَقِ وقول الآخر: 164 - 6- ومَنْ يَقْتَرِبْ منا ويخضع نُؤْوِه ... ولا يَخْشَ ظلماً ما أقامَ ولا هَضْما وإذا ثبت ذلك في الواو والفاء فليَجُزْ في «ثم» لأنها حرف عطف. وقرأ

النخعي وطلحة بن مصرف برفع الكاف، وخَرَّجها ابن جني على إضمار مبتدأ أي: «ثم هو يدركُه الموت» ، فعطفَ جملةً اسمية على فعلية، وهي جملة الشرط: الفعلُ المجزومُ وفاعلُه، وعلى ذلك حَمَل يونس قولَ الأعشى: 164 - 7- إنْ تركَبوا فركوبُ الخيل عادتُنا ... أو تَنْزِلون فإنَّا معشرٌ نُزُلُ أي: وأنتم تنزلون، ومثله: 164 - 8- إنْ تُذْنِبوا ثم تأتيني بَقِيَّتُكُمْ ... فما عليَّ بذنبٍ عندكم حُوبُ أي: ثم أنتم تأتيني. قلتُ: يريدُ أنه لايُحْملُ على إهمالِ الجازمِ فيُرْفَعُ الفعلُ بعدَه، كما رُفِعَ في «أليم يأتيك» فلم يَحْذِفِ الياء، وهذا البيت أنشده النحويون على أنَّ علامَةَ الجزمِ حَذْفُ الحركةِ المقدرة في حرفِ العلة، وضَمُّوا إليه أبياتاً أُخَرَ، أمَّا أنهم يزعمون أنَّ حرف الجزم يُهمل ويَسْتدلون بهذا البيت فلا. ومنهم مَنْ خَرَّجها على وجه آخر، وهو أنه أراد الوقفَ على الكلمة فنقلَ حركةَ هاءِ الضمير إلى الكافِ الساكنةِ للجزم، كقولِ الآخر: 164 - 9- عَجِبْتُ والدهرُ كثيرٌ عَجَبُهْ ... مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضْرِبُهْ

يريد «لم أَضْرِبْه» بسكون الباء للجازم، ثم نَقَلَ إليها حركة الهاء فصار اللفظُ «ثُم يُدْرِكُهْ» ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ فالتقى ساكنان فاحتاج إلى تحريك الأولِ وهو الهاءُ، فَحَرَّكها بالضمِّ؛ لأنه الأصلُ وللإِتباعِ أيضاً، وهذه الأوجهُ تَشْحَذُ الذِّهنَ وتنقِّحُه.

101

قوله تعالى: {أَن تَقْصُرُواْ} : هذا على حذفِ الخافض أي: في أَنْ تَقْصُروا، فيكونُ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهوران، وهذا الجارُّ يتعلقُ بلفظِ «جُناح» أي: فليس عليكم جُناحٌ في قَصْرِ الصلاة. والجمهور على «تَقْصُروا» من «قَصَر» ثلاثياً. وقرأ ابن عباس: «تُقْصِروا» من «أَقْصر» وهما لغتان: قَصَر وأقصر، حكاهما الأزهري، وقرأ الضبي عن رجاله بقراءة ابن عباس. وقرأ الزهري: «تُقَصِّروا» مشدداً على التكثير. قوله: {مِنَ الصلاة} في «مِنْ» وجهان، أظهرُهما: أنها تبعيضيةٌ، وهذا معنى قول أبي البقاء وزعم أنه مذهبُ سيبويه وأنها صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: شيئاً من الصلاة. والثاني: أنها زائدةٌ وهذا رأي الأخفش فإنه لا يشترط في زيادتِها شيئاً. و «أن يَفْتِنَكم» مفعول «خِفْتم» وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي: «من الصلاة أن يَفْتنكم» بإسقاط الجملة الشرطية، و «أَنْ يفْتنكم» على هذه القراءة مفعولٌ من اجله، ولغةُ الحجاز «فَتَن» ثلاثياً، وتميم وقيس: «أفتن» رباعياً. و «لكم» متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه حالٌ من «عَدُوّاً» فإنه في الأصل صفةُ

نكرةٍ ثم قُدِّم عليها، وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّق ب «كان» ، وفي المسألةِ خلافٌ مرَّ تفصيلُه. وأفرد «عَدُواً» وإن كان المرادُ به الجمعَ لِما تقدَّم تحقيقُه في البقرة، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدل عليه ما قبله. وقيل: الكلامُ تَمَّ عند قولِه {مِنَ الصلاة} ، والجملةُ الشرطيةُ مستأنفةٌ، حتى قيل: إنها نزلت بعد سنةٍ من نزول ما قبلها، وحينئذ فجوابُه أيضاً محذوفٌ، لكن يُقَدَّرُ مِنْ جنس ما بعده، وهذا قولٌ ضعيفٌ، وتأخيرُ نزولها لا يقتضي استئنافاً.

102

والضمير في «فيهم» يعودُ على الضاربين في الأرض، وقيل: على الخائفين، وهما محتملان، والضميرُ في «وليأخذوا» الظاهر عَوْدُه على «طائفة» لقُربه منها، ولأنَّ الضمير في قوله {سَجَدُواْ} لها. وقيل: يعود على طائفة أخرى وهي التي تحرس المُصَلِّية. واختار الزجاج عَوْدَه على الجميع قال: «لأنه أَهْيَبُ للعدو» . والسلاح: ما يُقاتَل به وجمعُه أَسْلِحَة وهو مذكر، وقد يُؤَنَّث باعتبار الشوكة، قال الطرماح: 165 - 0- يَهُزُّ سِلاحاً لم يَرِثْها كَلالةً ... يشكُّ بها منها غموضَ المَغَابِنِ فأعاد الضميرَ عليه كضمير المؤنثة، ويقال: سِلاح كحِمار، وسِلْح كضِلْع، وسُلَح كصُرَد، وسُلْحان كسُلْطان نقله أبو بكر بن دريد والسَّلِيح نبت إذا رَعَتْه الإِبل سَمِنَتْ وغَزُرَ لبنُها، وما يُلْقيه البعير من جوفه يقال له «

سُلاح» بزنة غُلام، ثم عُبِّر به عن كل عَذِرة حتى قيل في الحُبارى: «سِلاحُه سُلاحه» . قوله: {لَمْ يُصَلُّواْ} الجملة في محل رفع لأنها صفة ل «طائفة» بعد صفةٍ، ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال؛ لأنَّ النكرة قبلها تخصَّصت بالوصف بأخرى. وقرأ الحسن: «فَلِتَقُمْ» بكسر لام الأمر، وهو الأصل. وقرأ أبو حيوة «وليأت» بناء على تذكير الطائفة. ورُوي عن أبي عمرو الإِظهار والإِدغامُ في «ولتأت طائفة» ووجوهُ هذه واضحة. وفي قوله {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} مجازٌ حيث جعل الحِذْر - وهو معنى من المعاني- مأخوذاً مع الأسلحة فجَعَلَه كالآلة، وهو كقوله تعالى: {تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] في أحدِ الأوجه. وقد تقدَّم الكلامُ في «لو» الواقعةِ بعد {وَدَّ} [الآية: 109] هنا وفي البقرة وقرئ «أَمْتِعاتِكم» وهو الشذوذِ من حيث إنه جمع الجمعِ كقولهم: أَسْقِيات وأَعْطِيات. وقوله: {أَن تضعوا} كقولِه: {أَن تَقْصُرُواْ} وقد تقدم.

103

قوله تعالى: {قِيَاماً وَقُعُوداً} : حالان من فاعل «اذكروا» ، وكذلك «وعلى جُنوبكم» فإنه في قوة مُضطجعين، فيتعلق بمحذوف. وقوله: {فَإِذَا اطمأننتم} قد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة في البقرة واختلافُ الناس فيها، وهل هي مقلوبةٌ أم لا؟ وصَرَّح أبو البقاء هنا

بأنَّ الهمزة أصلٌ وأن وزن الطُّمَأْنينة: فُعَلِّيلَة، وأن «طأمن» أصل آخر برأسه، وهذا مذهبُ الجرميّ. و «موقوتاً» صفةٌ ل «كتاباً» بمعنى محذوداً بأوقات، فهو من وَقَت مخففاً كمضروب من ضرب، ولم يقل «مَوْقوتة» بالتاء مراعاة ل «كتاب» فإنه في الأصل مصدر.

104

قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ} : الجمهورُ على كسر الهاء، والحسن فتحها من «وَهِن» بالكسر في الماضي، أو من وَهَن بالفتح، وإنما فُتِحت العين لكونِها حلقيةً فهو نحو: يَدَع. وقرأ عبيد بن عمير: «تُهانوا» من الإِهانة مبنياً للمفعولِ ومعناه: لا تَتَعاطَوا من الجبنِ والخَورَ ما يكون سبباً إهانتِكم كقولهم: «لا أُرَيَنَّك ههنا» والأعرج: «أن تكونوا» بالفتح على العلة. وقرأ يحيى بن وثاب ومنصور بن المعتمر «تِئْلمون فإنهم يِئْلمون كما تِئْلمون» بكسر حرف المضارعة، وابن السَّمَيْفَع بكسر تاء الخطاب فقط وهذه لغة ثابتة، وكنت قد قَدَّمْتُ في الفاتحة أنًَّ مَنْ يكسِرُ حرفَ المضارعة يستثنى التاء، وذكرت شذوذ «تِيجل» ووجهَه، فعليك بالالتفات إليه، وزاد أبو البقاء في قراءةِ كسر حرف المضارعة قَلْبَ الهمزةِ ياء، وغيرُه أطلق ذلك.

105

قوله تعالى: {بالحق} : في محلِّ نصبٍ على الحال

المؤكِّدة فيتعل‍َّق بمحذوفٍ، وصاحبُ الحالِ هو الكتابُ أي: أنزلناه ملتبساً بالحق. و «لتحكمْ» متعلق ب «أَنْزلنا» و «أراك» متعدٍّ لاثنين أحدهما العائدُ المحذوفُ، والثاني كافُ الخطابِ أي: بما أراكه الله. والإِراءَةُ هنا يجوزُ أن تكون من الرأي كقولك: «رأيتُ رَأْيَ الشافعي» أو من المعرفة، وعلى كلا التقديرين فالفعلُ قبلَ النقل بالهمزة متعدٍّ لواحد وبعدَه متعدٍّ لاثنين كما عَرَفْتَ. و «للخائنين» متعلِّق ب «خصيماً» واللامُ للتعليلِ على بابها، وقيل: هي بمعنى «عن» ، وليس بشيء لصحة المعنى بدون ذلك. ومفعولُ «خصيماً محذوفٌ تقديرُه:» خصيماً البرآء «وخصيم يجوز ان يكون مِثالَ مبالغةٍ كضريب، وأن يكون بمعنى مُفاعِل نحو: خَلِيط وجَلِيس بمعنى مُخاصِم ومُخالط ومُجالِس.

108

و {يَسْتَخْفُونَ} : فيها وجهان، أظهرهما: أنها مستأنفة لمجرد الإخبار بأهم يطلبون التستُّر من الله تعالى بجهلهلم. والثاني: أنها في محلِّ نصب صفةً ل «مَنْ» في قوله: {لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} وجُمع الضمير اعتباراً بمعناها إنْ جَعَلْتَ «مَنْ» نكرةً موصوفة، أو في محل نصب على الحال مِنْ «مَنْ» إنْ جَعَلْتَها موصولة، وجُمِعَ الضميرُ باعتبار معناها أيضاً. «وهو معهم» جملة حالية: إمّا من الله تعالى أو من المُسْتَخْفِين، و «إذ» منصوبٌ بالعاملِ في الظرف الواقع خبراً وهو «معهم» .

109

وتقدَّم الكلامُ في نحو {هَا أَنْتُمْ هؤلاء} : وقولُه: {فَمَن يُجَادِلُ} مَنْ استفهامية في محل رفع بالابتداء، و «يجادل» خبره، و «أم» منقطعة وليست بعاطفة. وظاهرُ عبارة مكي أنها عاطفة فإنه قال: «وأم من يكونُ مثلُها عطف عليها» أي: مثلُ «مَنْ» في قوله: {فَمَن يُجَادِلُ} وهو في محلِّ نظرٍ، لأنَّ في المنقطعة خلافاً: هل تُسَمَّى عاطفة أم لا؟ .

112

قوله تعالى: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} : في هذه الهاءِ أقوالٌ، أحدها: أنها تعود على «إثماً» ، والمتعاطفان ب «أو» : يجوز أن يعودَ الضمير على المعطوف كهذه الآية، وعلى المعطوف عليه كقوله {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] . والثاني: أنها تعودُ على الكَسْب المدلول عليه بالفعلِ نحو: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] . الثالث: أنها تعود على أحد المذكورين الدالِّ عليه العطفُ ب «أو» فإنه في قوة «ثم يَرْمِ بأحد المذكورين» . الرابع: أنَّ في الكلام حذفاً، والأصل: «ومَنْ يكسِبْ خطيئة ثم يرم بها، وهذا كما قيل في قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34] أي: يكنزون الذَهب ولا ينفقونه. و» أو «هنا لتفصيلِ المُبْهَمِ، وتقدَّم له نظائرُ. وقرأ معاذ بن جبل:» يَكِسِّبْ «بكسر الكاف وتشديد السين، وأصلها: يَكْتَسِبْ فأدغمت تاءُ الافتعال في السينِ وكُسِرت الكافُ إتباعاً، وهذا شبيه ب {يَخْطَفُ} [البقرة: 20] ، وقد تقدَّم توجيهُه في البقرةِ. والزهري:» خَطِيَّة «بالتشديد وهو قياسُ تخفيفِها. قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} في جواب» لولا «وجهان، أظهرهما: أنه مذكورٌ وهو قولُه:» لَهَمَّتْ «والثاني: أنه محذوفٌ أي: لأضلُّوك، ثم استأنف جملةً فقال:» لَهَمَّتْ «أي: لقد هَمَّتْ. قال أبو البقاء في هذا الوجه:» ومثلُ حذفِ الجوابِ هنا حَذْفُه في قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله

تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10] وكأنَّ الذي قَدَّر الجوابَ محذوفاً استشكل كونَ قولِه «لهمَّتْ جواباً لأنَّ اللفظَ يقتضي انتفاءَ هَمِّهم بذلك، والغرضُ أنَّ الواقع كونُهم هَمُّوا على ما يُروى في القصة فلذك قَدَّره محذوفاً، والذي جعله مثبتاً أجابَ عن ذلك بأحدِ وجهين: إمَّا بتخصيص الهَمِّ أي: لَهَمَّتْ هَمَّاً يؤثِّر عندك، وإمَّا بتخصيص الإِضلال أي: يضلونك عن دينِك وشريعتِك، وكلا هذهين الهمَّيْنِ لم يقع. و» اَنْ يُضِلُّونك «على حذف الباء أي: بأن يُضِلُّوك، ففي محلِّها الخلافُ المشهور، و» مِنْ «في» من شيء «زائدةٌ، و» شيء «يراد به المصدرُ أي: وما يَضُرُّونك ضرراً قليلاً ولا كثيراً.

114

قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} : في هذا الاستثناءِ قولان، أحدهما: أنه متصلٌ، والثاني: أنه منقطعٌ، وهما مبنيان على أن النجوى يجوز أن يُرادَ بها المصدرُ كالدَّعْوى فتكون بمعنى التناجي، وأَنْ يُرادَ بها القومُ المتناجُون إطلاقاً للمصدرِ على الواقع منه مجازاً نحو: «رجلٌ عَدْل وصَوْم» فعلى الأول يكون منقطعاً لأنَّ مَنْ أَمَر ليس تناجياً، فكأنه قيل: لكنْ مَنْ أَمَر بصدقةٍ ففي نجواه الخيرُ، والكوفيون يقدِّرون المنقطع ب «بل» ، وجَعَلَ بعضُهم الاستثناءَ متصلاً وإنْ أُريد بالنجوى المصدرُ، وذلك على حَذْفِ مضافٍ كأنه قيل: إلا نجوى مَنْ أَمَر، وإنْ جعلنا النجوى بمعنى المتناجين كان متصلاً. وقد عَرَفْتَ مِمَّا تقدَّم أن المنقطع منصوبٌ أبداً في لغة الحجاز، وأنَّ بني تميم يُجْرونه مُجْرى المتصل بشرط توجُّهِ العاملِ عليه، وأنَّ الكلامَ إذا كان نفياً أو شبهَه جاز في المستثنى الإِتباعُ بدلاً وهو المختار والنصبُ على أصل الاستثناء، فقوله {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} : إما منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع إنْ جَعَلْتَه منقطعاً في لغة الحجاز، أو على أصلِ الاستثناءِ إنْ جَعَلْتَه متصلاً، وإمَّا مجرورٌ على البدلِ من «كثير» أو مِنْ «نجواهم» أو صفةٌ لأحدهما: كما تقول: «لا تَمُرَّ

بجماعة من القوم إلا زيد» إنْ شئتَ جَعَلْتَ زيداً تابعاً للجماعةِ أو للقومِ. ولم يَجْعلْه الزمخشري تابعاً إلا «لكثير» قال: «إلا نَجْوَى مَنْ أمر على أنه مجرورٌ بدلٌ من» كثير «كما تقولُ:» لا خيرَ في قيامِهم إلا قيامِ زيدٍ «وفي التنظير بالمثالِ نظرٌ لا تَخْفَى مباينتُه للآية، هذا كله إنْ جَعَلْنَا الاستثناءَ متصلاً بالتأويلين المذكورين أو منقطعاً على لغة تميم. وتلخَّص فيه ستة أوجه: النصب على الانقطاع في لغةِ الحجاز أو على أصل الاستثناءِ، والجرُّ على البدل من» كثير «أو مِنْ» نجواهم «أو على الصفةِ لأحدهما. و {مِّن نَّجْوَاهُمْ} متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل» كثير «فهو في محلِّ جر، والنجوى في الأصلِ مصدرٌ كما تقدم، وقد يُطْلَقُ على الأشخاص مجازاً [قال تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإِسراء: 47]] ، ومعناها المُسَارَّة، ولا تكون إلا من اثنين فأكثرَ، وقال الزجاج: النجوى ما تَفَرَّد به الاثنانُ فأكثرُ سراً كان أو ظاهراً. وقيل: النجوى جمع نَجِيّ نقله الكرماني. قوله:» بين «يجوز ان يكون منصوباً بنفس» إصلاح «تقول:» أصلحت بين القوم «قال تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . وأَنْ يتعلق / بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل» إصلاح «و» ابتغاءَ «مفعولٌ من أجله. وألف» مرضاة «عن واوٍ، وقد تقدم تحقيقه. وقرأ أبو عمرو وحمزة:» فسوف يُؤتيه «بالياءِ نظراً إلى الاسم الظاهر في قوله {مَرْضَاتِ الله} والباقون بالنون نظراً لقوله بعدُ:» نُولِّه ونُصْلِه «وهو أوقعُ للتعظيمِ.

115

{وَمَن يُشَاقِقِ} تقدَّم أنّ المضارعَ المجزوم والأمرَ من

نحو «لم يَرْدُدْ» و «رَدَّ» يجوزُ في الإِدغامُ وتركُه على تفصيلٍ في ذلك وما فيه من اللغات في آل عمران، وكذلك حكُم الهاء في قوله: «نُؤْته» و «نُصْلِه» وتقدَّم قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] . وخُتمت تيك بقوله «فقد افترى» وهذه بقوله: «فقد ضَلَّ» لأنَّ ذلك في غاية المناسبة، فإن الأولى في شأن أهل الكتاب من أنهم عندهم علمٌ بصحة ثبوته، وأن شريعتَه ناسخةٌ لجميع الشرائعِ، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك فافتروا على الله تعالى، وهذه في شأنِ قومٍ مشركين غير أهلِ كتابٍ ولا علمٍ فناسَب وصفُهم بالضلال، وأيضاً فقد تقدَّم ذكر الهدى وهو ضدُّ الضلال.

117

قوله تعالى: {إِلاَّ إِنَاثاً} : في هذه اللفظة تسعُ قراءات: المشهورةُ وهي جمع أُنْثى نحو رِباب جمعُ رُبّى. والثانية: وبها قرأ الحسن «أنثى» بالإِفراد والمرادُ به الجمع. والثالثة: - وبها قرأ ابن عباس وأبو حيوة وعطاء والحسن أيضاً ومعاذ القارئ وأبو العالية وأبو نهيك-: «إلا أُنُثا» كرُسُل، وفيها ثلاثةُ أوجه، أحدها: - وبه قال ابن جرير - أنه جمعُ «إناث» كثِمار وثُمُر، وإناث جمع أنثى فهو جمع الجمع، وهو شاذ عند النحويين. والثاني: أنه جمع «أنيث» كقليب وقُلُب وغدير وغُدُر، والأنيث من الرجال المُخَنَّثُ الضعيفُ، ومنه «سيف أنيث وميناث وميناثة» أي: غير قاطع

قال صخر: 165 - 1- فتخْبِرَه بأنَّ العقلَ عندي ... جُرازٌ لا أَفَلُّ ولا أَنيثُ والثالث: أنه مفردٌ أي: يكون من الصفات التي جاءت على فُعُل نحو امرأة حُنُثٌ. والرابعة: - وبها قرأ سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو الجوزاء - «وثَنا» بفتح الواو والثاء على أنه مفرد يراد به الجمع. والخامسة - وبها قرأ سعيد بن المسيب ومسلم بن جندب وابن عباس أيضاً - «أُثُنا» بضم الهمزة والثاء، وفيها وجهان، أظهرهما: أنه جمع وثَنَ نحو: «أسَد وأُسُد» ثم قَلَبَ الواوَ همزةً لضمِّها ضماً لازِماً، والأصلُ: «وثُنُ» ثم أُثُن. والثاني: أن «وَثَناً» المفردَ جُمِع على «وِثان» نحو: جَمَل وجِمال، وجَبَل وجِبال، ثم جُمِع «وِثان» على «وُثُن» نحو: حِمار وحُمُر، ثم قُلبت الواوُ همزةً لِما تقدَّم فهو جمعُ الجَمْعِ. وقد رَدَّ ابن عطية هذا الوجه بأنَّ فِعالاً جمعُ كثرة، وجموعُ الكثرة لا تُجْمع ثانياً، إنما يجمعُ من الجموع ما كان من جموعِ القلة. وفيه مناقشة من حيث إن الجمع لا يُجمع إلا شاذاً سواءً كان من جموعِ القلة أم من غيرها. والسادسة - وبها قرأ أيوب السختياني -: وُثُنا وهي أصل القراءة التي قبلها. والسابعة والثامنة: «أُثْنا ووُثْنا» بسكونِ الثاء مع الهمزة والواو، وهي تخفف فُعُل كسُقُف. والتاسعة - وبها قرأ أبو السوار،

وكذا وُجِدَتْ في مصحف عائشة: «إلا أَوْثاناً» جمع «وَثَن» نحو: جَمَل وأَجْمال وجَبَل وأَجْبال. وسُمِّيتْ أصنامهم إناثاً لأنهم كانوا يُلْبسونها أنواعَ الحُلِيّ ويسمونها بأسماءِ المؤنثات نحو: اللات والعزى ومَناةَ. وقد رُدَّ هذا بأنهم كانوا يُسَمَّون بأسماء الذكور نحو: هُبَل وذي الخَلَصة، وفيه نظر، لأن الغالب تسميتهم بأسماء الاناث. و «مريداً» فعيل من «مَرَدَ» أي تَجرَّد للشر‍ِّ، ومنه «شجرة مَرْداء» أي: تناثر ورقُها، ومنه: الأمْرَدُ لتجرُّدِ وجهِه من الشعر، والصَّرْحُ الممرَّد الذي لا يعلوه غبار من ذلك. وقرأ أبو رجاء - ويُرْوى عن عاصم - «تدْعُون» بالخطاب. قوله: {لَّعَنَهُ الله} فيه وجهان. أظهرُهما: أنَّ الجملة صفة ل «شيطاناً» فهي في محلِّ نصب، والثاني: أنها مستأنفةٌ: إمَّا إخبار بذلك، وإمَّا دعاء عليه. وقوله: «وقال» فيه ثلاثة أوجه: الصفةُ أيضاً، أو الحالُ على إضمار «قد» أي: وقد قال، أو على الاستناف. و «لأتَّخِذَنَّ» جوابُ قسم محذوف. و «من عبادك» يجوزُ أَنْ يتعلق بالفعل قبله أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «نصيباً» لأنه في الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها.

119

ومفعولاتُ الأفعال الثلاثة محذوفةٌ للدلالةِ عليها أي: وَلأُضِلَّنَّهم عن الهدى ولأُمَنِّيَنَّهم بالباطل ولآمُرَنَّهم بالضلال، كذا قدَّره أبو البقاء والأحسنُ أن يُقَدَّر المحذوفُ من جنس الملفوظِ به أي: ولآمُرَنَّهم بالبَتك، ولآمُرَنّهم بالتغيير. وقرأ أبو عمرو فيما نَقَل عنه ابن عطية: «ولامُرَنَّهم» بغيرِ ألفٍ وهو قصرٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه، ويجوز ألاَّ يُقَدَّر

شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ القصدَ الإِخبارُ بوقوعِ هذه الأفعال من غيرِ نظرٍ إلى متعلِّقاتها نحو: {كُلُواْ واشربوا} [الطور: 19] . والبتَكُ: القَطْعُ والشقُّ، والبِتْكَةُ: القطعة من الشيء جَمْعُها بِتَك: 165 - 2- حتى إذا ما هَوَتْ كَفُّ الغلام لها ... طارَتْ وفي كفِّه مِنْ ريشها بِتَكُ ومعنى ذلك: أنَّ الجاهلية كانوا يَشُقُّون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن آخرُها ذَكَر.

120

وقُرِىء: {يَعِدُهُمْ} : بسكونِ الدال تخفيفاً لتوالي الحركات، ومفعولُ الوعدِ محذوفٌ أي: يعِدهُم الباطل أو السلامة والعافية. {إِلاَّ غُرُوراً} يُحْتمل أن يكونَ مفعولاً ثانياً، وأن يكونَ مفعولاً من أجله، وأن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي: وعداً ذا غُرور، وأَنْ يكونَ مصدراً على غير الصدرِ لأنَّ «يَعِدُهم» في قوةِ يَغُرُّهم بوعدِه.

121

و {عَنْهَا} : يجوز أن يتعلَّق بمحذوف: إمَّا على الحال من «محِيصاً» لأنه في الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها، وإمَّا على التبيين أي: أعني عنها، ولا يجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ؛ لأنه لا يتعدَّى ب «عن» ولا ب «محيصاً» ، وإنْ كان المعنى عليه لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّمُ معمولُه عليه، ومَنْ يُجَوِّزُ ذلك يُجَوِّزُ تَعَلُّق «عن» به. والمحيصُ: اسمُ مصدر من حاصَ يَحِيص إذا خَلَص ونَجا، وقيل: هو الزَّوَغَان بنُفُور، ومنه قولُه: 165 - 3-

ولم نَدْرِ إنْ حِصْناً من الموت حَيْصَةً ... كم العمرُ باقٍ والمَدَى مُتَطاوِلُ ويروي: «جِضْنا» بالجيم والضاد المعجمة، ومنه: «وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ» وحاصَ باصَ، أي: وقعوا في أمرٍ يَعْسَرُ التخلُّص منه، ويقال: مَحِيص ومَحاص قال: 165 - 4- أتَحِيصُ من حُكْمِ المَنِيَّةِ جاهداً ... ما للرجال عن المَنونِ مَحاصُ ويقال: حاصَ يَحُوص حَوْصاُ وحِياصاً أي: زَايَل المكانَ الذي كان فهي، والحَوْصُ: ضيق مؤخر العين ومنه الأحْوَصُ.

122

وقوله تعالى: {والذين آمَنُواْ} : يجوزُ فيه وجهان: الرفع على الابتداءِ، والخبر «سَنُدْخِلُهم» والنصبُ على الاشتغال أي: سَنُدْخِل الذين آمنوا سندخلهم، وقرئ: «سيُدْخِلُهم» بياء الغيْبة. وانتصب «وعد الله» على المصدرِ المؤكِّد لنفسِه «وحقاً» على المصدرِ المؤكِّد لغيرِه، ف «وعدَ» مؤكدٌ لقولِه «سندخلهم» ، وهو مفهومٌ مما قبله، و «حقاً» مؤكِّدٌ لقوله: {وَعْدَ الله} و «قيلا» نصبٌ على التمييز. والقيل والقول والقال مصادرُ بمعنى واحدٍ، ومنه قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يارب} [الزخرف: 88] .

123

قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} : في «ليس» ضميرٌ هو اسمُها، وفيه خلافٌ: فقيل: يعودُ على ملفوظٍ به، وقيل: يعودُ على ما دَلَّ عليه اللفظُ من الفعلِ، وقيل: يَدُلُّ عليه سببُ الآية. فأمَّا عَوْدُه على ملفوظٍ به

فقيل: هو الوعدُ المتقدِّم في قوله {وَعْدَ الله} وهذا ما اختاره الزمخشري قال: «في ليس ضميرُ وعدَ الله أي: ليس يُنالُ ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا بأماني أهل الكتاب. والخطابُ للمسلمين لأنه لايُؤمن بوعِد الله إلا مَنْ آمَن به» وهذا وجهٌ حسنٌ. وأمَّا عودُه على ما يَدُلُّ عليه اللفظ فقيل: هو الإِيمان المفهومُ من قوله: «والذين آمنوا» وهو قولُ الحسنِ وعنه: «ليس الإِيمانُ بالتمني» وأمّا عودُه على ما يَدُلُّ عليه السببُ فقيل: يعودُ على مجاورةِ المسلمين مع أهلِ الكتاب، وذلك أنَّ بعضَهم قال: «دينُنا قبلَ دينكم، ونبينا قبلَ نبيكم، فنحن أفضلُ» وقال المسلمون: «كتابُنا يقضي على كتابكم، ونبينا خاتمُ الآنبياء» فنزلت وقيل: يعودُ على الثواب والعقاب أي: ليس الثوابُ على الحسنات ولا العقابُ على السيئات بأمانيكم. وقيل: قالت اليهودُ نحن أنبياء الله وأحبَّاؤه، ونحن أصحاب الجنة، وكذلك النصارى. وقالت كفار قريش: لا نُبْعَثُ، فنزلت أي: ليس ما ادعيتموه يا كفارَ قريش بأمانيِّكم. وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبةُ بن نصاح والحكم والأعرج: «أمانِيكم» «ولا أمانِي» بالتخفيف كأنَّهم جَمَعُوه على فعالِل دون فعاليل كما قالوا: قَرْقور وقراقير وقراقِر، والعرب تُنْقص من فعاليل الياء، كما تَزيدُها في فعالِل نحو قوله: 165 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . تَنْقادَ الصياريفِ

وقوله: {مَن يَعْمَلْ} جملة مستأنفة مؤكدةٌ لحكم الجملة قبلها. وقرأ الجمهور «ولا يَجِدْ» جزماً، على عطفه على جواب الشرط، وروي عن ابن عامر رفعُه، وهو على القطع عن النسق. ثم يُحْتمل أن يكون مستأنفاً وأن يكونَ حالاً، كذا قيل، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ المضارع المنفي ب «لا» لا يقترن بالواوِ إذا وقع حالاً. قوله: {مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ} «من» الأولى للتبعيض لأنَّ المكلَّف لا يطيق عمل كل الصالحات. وقال الطبري: «هي زائدة عند قوم» وفيه ضعفٌ لعدمِ الشرطين. و «مِنْ» الثانية للمتبين. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً، وفي صاحبِها وجهان أحدُهما: أنه الضميرُ المرفوع ب «يعمل» ، والثاني: أنه الصالحات أي: الصالحات كائنةً من ذكر أو أنثى، وقد تقدَّم إيضاح هذا في قوله: {لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} [آل عمران: 195] والكلامُ على «أو» أيضاً «وقوله:» وهو مؤمن «جملة حالية من فاعل» يعمل «وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بكر عن عاصم:» يُدْخَلون «هنا وفي مريم وأول غافر بضم حرف المضارعة وفتح الخاء مبنياً للمفعول، وانفردَ ابنُ كثير وأبو بكر بثانية غافر، وأبو عمرو بالتي في فاطر والباقون بفتحِ حرفِ

المضارعة وضَمِّ الخاء مبنياً للفاعل، وذلك للتفنُّنِ في البلاغَةِ، وقد يظهرُ فروقٌ لا يَسَعُها هذا الكتابُ.

125

قوله تعالى: {مِمَّنْ أَسْلَمَ} متعلِّقٌ ب «أَحْسَنُ» فهي «مِنْ» الجارة للمفضول، و «لله» متعلقٌ ب «أَسْلَم» وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ من «وجهه» وفيه نظرٌ لا يخفى. «وهو مُحْسِنٌ» حالٌ من فاعل «أَسْلم» و «اتَّبع» يجوز أن يكون عطفاً على «أسلم» وهو الظاهر، وأن يكونَ حالاً ثانية من فاعل «أسلم» بإضمار «قد» عند مَنْ يشترط ذلك، وقد تقدَّم الكلام على {حَنِيفاً} [الآية: 135] في البقرة، إلا أنه يجوزُ هنا أن يكونَ حالاً من فاعلِ «اتّبع» . قوله: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فيه وجهان، وذلك أن اتَّخذ «إنْ عَدَّيْناها لاثنين كان مفعولاً ثانياً وإلا كانَ حالاً، وهذه الجملة عطف على الجملةِ الاستفهاميةِ التي معناها الخبرُ نَبَّهَتْ على شرف المتبوع وأنه جديرٌ بأن يُتَّبع لاصطفاءِ الله له بالخُلّة، ولا يجوز عطفها على ما قبلها لعدم صلاحيتِها صلةً للموصول. وجعلها الزمخشري جملةً معترضة قال:» فإنْ قلت ما محلُّ هذه الجملةِ؟ قلت: لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مِنْ جمل الاعتراضاتِ نحو ما يجيء في الشعر من قولهم «والحوادثُ جَمَّةٌ» فائدتُها تأكيدُ وجوبِ اتِّباع مِلَّته، لأنَّ مَنْ بَلَغ من الزُّلفى عند الله أَن اتَّخذه خليلاً كان جديراً بأن يُتَّبع «فإنْ عنى بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس ثَمَّ اعتراضٌ، إذ الاعتراضُ بين متلازمين كفعلٍ وفاعل مبتدأ وخبر

وشرط وجزاء وقسم وجواب، وإن عَنَى غيرَ ذلك احتُمِل، إلا أنَّ تنظيرَه بقولهم:» والحوادثُ جَمَّةٌ «يُشْعِر بالاعتراض المصطلح عليه؛ فإن قولهم» والحوادث جمة «وَرَدَ في بيتينِ، أحدُهما بين / فعل وفاعل كقوله: 165 - 6- وقد أَدْرَكَتْني والحوادثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةُ قومٍ لا ضعافٍ ولا عُزْلِ والآخرُ يحتمل ذلك، على أن تكونَ الباءُ زائدةً في الفاعل كقوله: 165 - 7- ألا هل أتاها والحوادثُ جَمَّةٌ ... بأنَّ امرأ القيس بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرا ويحتمل أن يكونَ الفاعلُ ضميراً دلَّ عليه السياق أي: هل أتاها الخبر بأن امرأ القيس، فيكون اعتراضاً بين الفعل ومعموله. والخليلُ: مشتق من الخَلَّة بالفتح وهي الحاجة، أو من الخُلَّة بالضم، وهي المودة الخالصة، أو من الخَلَل. قال ثعلب:» سُمِّي خليلاً لأن مودته تَتَخَلَّلُ القلبَ «وأنشد: 165 - 8- قد تَخَلَّلْتَ مسلكَ الروحِ مني ... وبه سُمِّي الخليلُ خليلا وقال الراغب:» الخَلَّة - أي بالفتح- الاختلالُ العارضُ للنفس: إمَّا لشَهْوَتِها لشيء أو لحاجتِها إليه، ولهذا فَسَّر الخَلّة بالحاجة، والخُلّة - أي

بالضم - المودة: إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها، وإما لأنها تُخِلُّ النفسَ فتؤثِّر فيها تأثيرَ السهم في الرميَّة، وإمَّا لفَرْطِ الحاجة إليها «.

127

قوله تعالى: {وَمَا يتلى} : فيه سبعة أوجه، وذلك أن موضع «ما» يحتمل أن يكون رفعاً أو نصباً أو جراً. فالرفعُ من ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مرفوعاً عطفاً على الضمير المستكنِّ في «يُفتيكم» العائدِ على الله تعالى، وجاز ذلك للفصل بالمفعول والجار والمجرور مع أن الفصلَ بأحدِهما كافٍ. والثاني: أنه معطوفٌ على لفظ الجلالة فقط، كذا ذكره أبو البقاء وغيرُه، وفيه نظر، لأنه: إمَّا أَنْ يُجعلَ من عطف مفردٍ على مفرد فكان يجب أن يُثَنَّى الخبرُ وإنْ توسط بين المتعاطفين فيقال: «يُفْتِيانكم» ، إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز، ومَنِ ادَّعى جوازه يَحْتاج إلى سماع من العرب فيقال: «زيد قائمان وعمرو» ومثلُ هذا لا يجوز، وإم‍َّا أَنْ يُجْعَلَ من عطف الجمل بمعنى أنَّ خبرَ الثاني محذوفٌ أي: وما يتلى عليكم يُفْتيكم، فيكون هذا هو الوجهَ الثالث - وقد ذكروه - فيلزم التكرار. والثالث من أوجه الرفع: أنه رفع بالابتداء وفي الخبر احتمالان، أحدهما: أنه الجار بعده وهو «في الكتاب» والمرادُ بما يتلى القرآنُ، وبالكتابِ اللوحُ المحفوظ، وتكون هذه الجملةُ معترضةً بين البدل والمبدل منه على ما سيأتي بيانُه. وفائدةُ الاخبارِ بذلك تعظيمُ المتلوِّ ورفعُ شأنِه، ونحوه: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] . والاحتمال الثاني: أن الخبر محذوف: أي: والمتلوُّ عليكم في الكتاب يُفْتيكم أو يبيِّن لكم أحكامَهن، فهذه أربعة أوجه. وكلام الزمخشري يحتمل جميع الأوجه، فإنه قال: «ما يُتْلى» في محل الرفع أي: اللهُ يُفْتيكم والمتلوُّ في الكتاب في معنى اليتامى، يعني قولَه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} [النساء: 3]

وهو من قولك: «أعجبني زيدٌ وكرمه» انتهى. يعني أنه من بابِ التجريد، إذ المقصودُ الإِخبارُ بإعجاب كرمِ زيدٍ، وإنما ذُكِر زيدٌ ليُفيدَ هذا المعنى الخاص لذلك المقصود أنّ الذي يُفْتيهم هو المتلو في الكتاب، وذُكِرت الجلالةُ للمعنى المشار [إليه] ، وقد تقدَّم تحقيق التجريد في أول البقرة عند قوله {يُخَادِعُونَ الله} [الآية: 9] . والجر من وجهين، أحدهما: أن تكون الواو للقسم، وأقسمَ اللهُ بالمتلوِّ في شأن النساء تعظيماً له كأنه قيل: وأُقْسم بما يُتْلى عليكم في الكتاب، ذكره الزمخشري والثاني: أنه عطفٌ على الضمير المجرور ب «في» أي: يُفْتيكم فيهنَّ وفيما يتلى، وهذا منقولٌ عن محمد بن أبي موسى قال: «أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم يَسْألوا» إلا أنَّ هذا ضعيف من حيث الصناعةُ، لأنه عطفٌ على الضميرِ المجرورِ من غير إعادة الجار وهو رأي الكوفيين، وقد قَدَّمْتُ ما في ذلك من مذاهب الناس ودلائلهم مستوفى عند قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] فعليك بالالتفات إليه. قال الزمخشري: «ليس بسديدٍ أن يُعْطَف على المجرور في» فيهنَّ «لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى» وهذا سبَقَه إليه أبو إسحاق قال: «وهذا بعيدٌ بالنسبةِ إلى اللفظِ وإلى المعنى: أمَّا اللفظُ فإنه يقتضي عطفَ المُظْهَر على المضمرِ، وأما المعنى فلأنه ليس المرادُ أنَّ اللهَ يفتيكم في شأنِ ما يُتْلى

عليكم في الكتاب، وذلك غيرُ جائزٍ كما لم يَجُزْ في قوله {تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] يعني من غيرِ إعادةِ الجار. وقد أجاب الشيخ عما ردَّ به الزمخشري والزجاج بأن التقدير: يُفْتيكم في متلوِّهنَّ وفيما يُتْلى عليكم في الكتابِ في يتامى النساء، وحُذِف لدلالة قوله {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} وإضافةُ» متلوّ «إلى ضمير» هُنَّ «سائغةٌ، إذ الإِضافةُ تكون بأدنى ملابسةٍ لمَّا كان متلواً فيهن صَحَّتِ الإِضافةُ إليهن، كقوله: {مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] لمَّا كان المكرُ يقع فيهما صَحَّتْ إضافُته إليهما، ومثله قول الآخر: 165 - 9- إذا كوكبُ الخَرْقاءِ لاحَ بِسُحْرَةٍ ... سهيلٌ أذاعَتْ غَزْلَها في الغرائب وفي هذا الجواب نظرٌ. والنصبُ بإضمار فعل أي: ويبيِّن لكم ما يُتْلى، لأنَّ» يُفْتيكم «بمعنى يبيِّن لكم. واختار الشيخ وجهَ الجرِّ على العطفِ على الضمير، مختاراً لمذهب الكوفيين وبأنَّ الأوجه كلَّها تؤدي إلى التأكيد، وأمَّا وجهُ العطف على الضمير فيجعلُه تأسيساً قال:» وإذا دار الأمرُ بينهما فالتأسيسُ أَوْلى «وفي جَعْلِه هذا الوجهَ منفرداً بالتأسيس دونَ بقية الأوجه نظرٌ لا يَخْفى. قوله: {فِي الكتاب} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه متعلق ب» يُتْلى «والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في» يتلى «والثالث: أنه خبر» ما يتلى «على الوجه الصائر إلى أنَّ» ما يتلى «

مبتدأ، فيتعلق بمحذوف أيضاً، إلاَّ أنَّ محلَّه على هذا الوجهِ رفعٌ، وعلى ما قبله نصبٌ. قوله: {فِي يَتَامَى} فيه خمسة أوجه، أحدُها: أنه بدل من» الكتاب «وهو بدلُ اشتمالٍ، ولا بد مِنْ حذفِ مضافٍ أي في حُكْم يتامى، ولا شك أن الكتابَ مشتملٌ على ذكرِ أحكامهن. والثاني: أن يتعلق ب» يتلى «فإن قيل: كيف يجوزُ تعلُّقُ حَرْفَيْ جر بلفظ واحد ومعنى واحد؟ فالجوابُ أنَّ معناهما مختلف، لأنّ الأولى للظرفيةِ على بابها، والثانية بمعنى الباء للسببية مجازاً أو حقيقةً عند مَنْ يقولُ بالاشتراك. وقال أبو البقاء: كما تقولُ» جئتُك في يوم الجمعة في أَمْرِ زيد «والثالث: أنه بدل من» فيهن «بإعادة العامل، ويكون هذا بدل بعض من كل. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: بِمَ تعلَّق قوله «في يتامى النساء؟» قلت: في الوجه الأول هو صلةُ «يُتْلى» أي: يُتْلى عليكم في معناهن، ويجوز أن يكونَ «في يتامى» بدلاً من «فيهنَّ» ، وأمّا في الوجهين الأخيرين فبدلٌ لا غير «انتهى. يعني بالوجه الأول أن يكونَ «ما يتلى» مرفوعَ المحل. قال الشيخ: «أمَّا ما أجازه في وجَهْ الرفع من كونه صلة» يتلى «فلا يجوزُ إلاَّ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ» في الكتاب «أو تكون» في «للسببية، لئلا يتعلق حرفا جر بلفظ واحد ومعنى واحد بعاملٍ واحد، وهو ممتنعٌ إلا في البدل والعطف، وأمَّا تجويزُه أن يكونَ بدلاً من» فيهن «فالظاهرُ أنه لا يجوز للفصل بين البدلِ والمبدلِ منه بالمعطوفِ، ويصير هذا نظيرَ قولك:» زيدٌ يقيمُ في الدار وعمروٌ في كِسْرٍ منها «فَفَصَلْتَ بين» في الدار «وبين» في كِسْر «ب» عمرو «والمعهودُ في مثل هذا / التركيب: زيدٌ يقيمُ في الدار في

كِسْرٍ منها وعمروٌ» الرابعُ: أَنْ يتعلَّق بنفس الكتاب أي: فيما كَتَب في حكم اليتامى. الخامس: أنه حال فيتعلَّق بمحذوفٍ، وصاحبُ الحالِ هو المرفوعُ ب «يُتْلى» أي: كائناً في حكم يتامى النساء، وإضافةُ «يتامى» إلى النساء من بابِ إضافةِ الخاص إلى العام لأنهن ينقسمن إلى يتامى وغيرهن. وقال الكوفيون: هو من إضافةِ الصفة إلى الموصوف، إذا الأصلُ: في النساء اليتامى، وهذا عند البصريين لا يجوز، ويؤولون ما وَرَدَ من ذلك. وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: إضافة اليتامى إلى النساء ما هي؟ قلت: هي إضافةٌ بمعنى» مِنْ «نحو: سُحْقِ عمامةٍ. قال الشيخ:» والذي ذكره النحويون من ذلك إضافة الشيء إلى جنسه نحو: «خاتمُ حديدٍ» ويجوزُ الفصل إمَّا بإتباع نحو: «خاتمٌ حديدٌ» أو تنصبَه تمييزاً نحو: «خاتمٌ حديداً» أو تجرُّه ب «مِنْ» نحو: خاتم من حديد «قال:» والظاهر أن إضافة «سُحْق عمامةٍ» و «يتامى النساء» بمعنى اللامِ، ومعنى اللام الاختصاص «وهذا الردُّ ليس بشيء فإنهم ذكروا ضابط الإِضافة التي بمعنى» مِنْ «أن تكونَ إضافةَ جزءٍ إلى كل بشرطِ صدقِ اسمِ الكل على البعض، ولا شك أن» يتامى «بعض من النساء، والنساء يَصْدُق عليهنَّ، وتحرَّزْنا بقولنا» بشرطِ صدقِ الكل على البعض، من نحو «يد زيد» فإنَّ زيداً لا يَصْدُقُ على اليد وحدَها. وقال أبو البقاء: «في يتامى النساء» أي: في اليتامى منهن «وهذا تفسيرُ معنى لا إعرابٍ. والجمهور على» يتامى «جمع يتيمة. وقرأ أبو عبد الله المدني:»

ييامى «بياءين مِنْ تحتُ، وخَرَّجه ابن جني على أن الأصل» أَيامى «فأَبْدَل من الهمزة ياءً، كما قالوا:» فلانٌ ابنُ أعصر ويَعْصر «، والهمزةُ أصلٌ، سُمِّي بذلك لقوله: 166 - 0- أبْنَيَّ إنَّ أباكَ غَيَّر لونَه ... كَرُّ الليالي واختلافُ الأعْصُرِ وهم يُبْدلون الهمزةَ من الياء كقولهم: «قطع الله أَدَاهُ» يريدون: يَده، فلذلك يُبْدِلون منها الياءَ، و «أيامى» جمع «أَيِّم» بوزن فَيْعِل، ثم كُسِّر على أيايم كسيِّد وسيايد، ثم قُلِبَتِ اللامِ إلى موضعِ العين، والعين إلى موضع اللام فصار اللفظ «أَيامي» ثم قُلِبت الكسرةُ فتحةً لخفتِها، فتحركت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فصار: «أيامى» فوزنه فيالع. وقال أبو الفتح أيضاً: «ولو قيل إنه كُسِّر أيِّم على فَعْلى كسَكْرى ثم كُسِّر ثانياً على» أيامى «لكان وجهاً حسناً. وسيأتي تحقيق هذه اللفظة عند قوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] إنْ شاء الله تعالى. وقرئ:» ما كَتَبَ اللَّهُ لهنَّ بتسمية الفاعل. قوله: {وَتَرْغَبُونَ} فيه أوجه، أحدُهما: - وهو الظاهر- أنه معطوفٌ على الصلةِ عطفَ جملةٍ مثبتةٍ على جملةٍ منفية أي: اللاتي لا تؤتونهن واللاتي ترغبون أن تنكوحوهُن، كقولك: «جاء الذي لا يَبْخَلُ ويكرم الضيفان» والثاني: أنه معطوفٌ على الفعلِ المنفيِّ ب «لا» أي: لا تؤتونهن ولا ترغبون والثالث: أنه حالٌ من فاعل «تؤتونهن» أي: لا تؤتونهن وأنتم راغبون في نكاحهن. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وفيهما نظر: أمّا الأولُ فلخلافِ الظاهر، وأما الثاني فلأنه مضارع مثبت، فلا تدخل عليه الواو إلا بتأويلٍ لا حاجة لنا به ههنا. و {أَن تَنكِحُوهُنَّ} على حَذْفِ حرفِ الجر ففيه الخلاف المشهور: أهي في محل نصب أم جر؟ واختُلِفَ في تقدير حرف الجر فقيل: هو «في» أي: ترغبون في

نكاحهن لجمالِهِنَّ ومالِهنَّ، وقيل: هو «عن» أي: ترغبون عن نكاحهن لقُبْحِهن وفقرهنَّ، وكان الأولياء كذلك: إن رَأَوها جميلة موسِرَةً تزوجها وليُّها، وإلاَّ رغبَ عنها. والقول الأول مرويُّ عن عائشة وطائفة كبيرة. وهنا سؤال: وهو أنَّ أهلَ العربية ذكروا أن حرف الجر يجوز حذفُه باطراد مع «أَنْ» و «أنَّ» بشرط أَمْنِ اللبس، يعني أن يكون الحرفُ متعيناً نحو: «عجبت أن تقوم» أي: من أن تقوم، بخلاف «مِلْتُ إلى أن تقوم» أو «عن أن تقوم» والآيةُ من هذا القبيل. والجواب: أن المعنيين صالحان يدل عليه ما ذكرت لك من سببِ النزولِ فصار كلُّ من الحرفين مراداً على سبيلِ البدل. قوله: {والمستضعفين} فيه ثلاثة أوجه الأول - وهو الظاهر- أنه معطوفٌ على «يتامى النساء» أي: ما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين، والذي تُلي عليهم فيهم قوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] ، وذلك أنهم كانوا يقولون: لا نُوَرِّثُ إلا مَنْ يحمي الحَوْزة ويَذُبُّ عن الحرَمِ فيَحرمون المرأة والصغيرَ فنزلت. والثاني: أنَّه في محلِّ جر عطفاً على الضمير في «فيهن» وهذا رأيٌ كوفي. والثالث: أنه منصوب عطفاً على موضع «فيهن» أي: ويبيِّن حالَ المستضعفين. قال أبو البقاء: «وهذا التقديرُ يَدْخُلُ في

مذهبِ البصريين مِنْ غيرِ كَلَفَةٍ» يعني أنه خير من مذهب الكوفيين، حيث يُعْطَفُ على الضمير المجرور مِنْ غير إعادَةِ الجار. قوله: {وَأَن تَقُومُواْ} فيه خمسةُ أوجه: الثلاثة المذكورة فيما قبله فيكون هو كذلك لعطفِه على ما قبلَه، والمتلوُّ عليهم في هذا المعنى قولُه: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ونحوه. والرابع: النصبُ بإضمار فعل. قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار» يأمركم «بمعنى: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطابٌ للأئمة بأَنْ ينظروا إليهم ويستوفوا لهم حقوقهم ولا يَدَعوا أحداً يهتضم جانبهم» فهذا الوجه من النصبِ غيرُ الوجهِ الذي ذكرته فيما قبلُ والخامس: أنه مبتدأ وخبره محذوفٌ أي: وقيامُكم لليتامى بالقسطِ خيرُ لكم. وأولُ الأوجُهِ أوجَهُ.

128

قوله تعالى: {وَإِنِ امرأة} : «امرأةٌ» فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ واجبِ الإِضمار، وهذه من باب الاشتغال، ولا يجوزُ رفعُها بالابتداء لأنَّ أداةَ الشرطِ لا يليها إلا الفعلُ عند جمهور البصريين خلافاً للأخفش والكوفيين، والتقديرُ: «وإنْ خافت امرأة خافت» ونحوهُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} [التوبة: 6] . واستدلَّ البصريون على مذهبهم بأن الفعل قد جاء مجزوماً بعد الاسم الواقع أداة الشرط في قول عدي: 166 - 1- ومتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي

و {مِنْ بعلها} يجوزُ أن يتلعَّق ب «خافت» وهو الظاهر، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «نُشوزاً» إذ هو الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها تعذَّر جَعْلُه صفةً فنُصِب حالاً. و «فلا» جوابُ الشرط. قوله: {أَن يُصْلِحَا} قرأ الكوفيون: / «يُصْلِحا» من أصلح، وباقي السبعة «يَصَّالحا» بتشديد الصاد بعدها ألف، وقرأ عثمان البتي والجحدري: «يَصَّلِحا» بتشديد الصاد من غير ألف، وعبيدة السلماني: «يُصالِحا» بضمِّ الياءِ وتخفيفِ الصادِ وبعدَها ألفٌ من المفاعلة، وابن مسعود والأعمش: «أن اصَّالحا» فأمّا قراءةُ الكوفيين فواضحةٌ، وقراءةُ باقي السبعة أصلُهَا «يتصالحا» فأُريد الإِدغام تخفيفاً فَأُبْدِلت التاءُ صاداً وأُدْغِمت، وأمَّا قراءةُ عثمان فأصلُها: «يَصْطَلِحا» فَخُفِّفَ بإبدالِ الطاء المبدلةِ من تاءِ الافتعال صاداً وإدغامهما فيما بعدها. وقال أبو البقاء: «وأصلُه::» يَصْتَلِحا «فأُبْدِلت التاء صاداً وأُدْغِمت فيها الأولى» وهذا ليس بجيدٍ، لأنَّ تاءً الافتعال يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحرف الأربعة كما تقدَّم تحقيقُه في البقرة، فلا حاجة إلى تقديرها تاءً، لأنه لو لُفِظ بالفعلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتاء إلا بياناً لأصلِهِ. وأمَّا قراءةُ عبيدة فواضحةٌ لأنها من المصالحة. وأما قراءة «يصطلحا» فأوضحُ. ولم يُخْتلف في «صُلْحاً» مع اختلافِهم في فعلِه. وفي نصبِه أوجهٌ: فإنه على قراءة الكوفيين يَحْتمل أن يكونَ مصدراً،

وناصبُه: إمَّا الفعلُ المتقدمُ وهو مصدرٌ على حذف الزوائد، وبعضُهم يعبِّر عنه بأنه اسمُ مصدرٍ كالعطاءِ والنبات، وإمَّا فعلٌ مقدرٌ أي: فيُصْلِحُ حالهما صلحاً. وفي المفعولِ على هذين التقديرين وجهان، أحدُهما: أنه «بينهما» اتُسِّع في الظرف فجُعِل مفعولاً به. والثاني: أنه محذوف «وبينهما» ظرفٌ أوحالٌ مِنْ «صلحا» فإنه صفةٌ له في الأصل. ويُحْتمل أن يكونَ نصبُ «صلحاً» على المفعول به إن جعلته اسماً للشيء المصطلح عليه كالعَطاء بمعنى المُعْطى، والنبات بمعنى المُنْبَت. وأمَّا على بقيةِ القراءات فيجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً على أحدِ التقديرين المتقدمين: أعني كونَه اسمَ المصدرِ، أو كونَه على حَذْفِ الزوائد، فيكون واقعاً موقعَ «تصالحا أو اصطلاحاً أو مصالحةً» حَسْبَ القراءات المتقدمة، ويجوزُ أَنْ يكون منصوباً على إسقاطِ حرفِ الجرِ أي: بصلح أي بشيء يقعُ بسببِ المصالحة، إذا جَعَلْناه اسماً للشيء المصطلح عليه. والحاصلُ أنه من بقية القراءات ينتفي عنه وجهُ المفعولِ به المذكورِ في قراءة الكوفيين، وتبقى الأوجهُ الباقيةُ جائزةً في سائر القراءات. قوله: {والصلح خَيْرٌ} مبتدأ وخبر، وهذه الجملة قال الزمخشري فيها وفي التي بعدها: «إنهما اعتراضٌ» ولم يبيِّنْ ذلك، وكأنه يريد أن قولَه: «وإنْ يَتفَرَّقا» معطوفٌ على قوله: «فلا جناح» فجاءت الجملتان بينهما اعتراضاً، هكذا قال الشيخ وفيه نظر، فإن بعدهما جملاً أُخَرَ فكان ينبغي أن يقول الزمخشري في الجميع: إنها اعتراض، ولا يخص: «والصلح خير» «وأُحْضِرَت الأنفسُ» بذلك، وإنما يريد الزمخشري بذلك الاعتراضَ بين قوله: {وَإِنِ امرأة} وقوله: {وَإِن تُحْسِنُواْ} فإنهما شرطان متعاطفان، ويَدُلُّ عليه تفسيرُه

له بما يفيد هذا المعنى فإنه قال: «وإن تحسنوا بالإِقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن وتتقوا النشوزَ والإِعراضَ» انتهى. والألفُ واللام في «الصلح» يجوزُ أن تكونَ للجنس وأن تكونَ للعهد لتقدُّمِ ذكره نحو: {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 16] . و «خير» يُحْتمل أن تكون للتفضيل على بابها والمفضَّلُ عليه محذوفٌ فقيل: تقديرُه: من النشوز والإِعراض، وقيل: خيرٌ من الفرقة، والتقدير الأولُ أَوْلى للدلالة اللفظية، ويُحْتمل أن تكون صفةً مجردةً أي: والصلحُ خيرٌ من الخيور، كما أنَّ الخصومةَ شرُّ من الشرور. قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} «حَضَر» يتعدى إلى مفعول، واكتسب بالهمزة مفعولاً ثانياً، فلمَّا بُني للمفعول قامَ أحدُهما مقامَ الفاعل فانتصبَ الآخرُ. والقائمُ مقامَ الفاعلِ هنا يَحْتمل وجهين أظهرهما - وهو المشهورُ مِنْ مذاهب النحاة - أنه الأول وهو «الأنفس» فإنه الفاعل في الأصل، إذ الأصل: «حضرت الأنفسُ الشحَّ» والثاني: أنه المفعول الثاني، والأصل: وحضر الشحُّ الأنفسَ، ثم أحضر اللَّهُ الشحَّ الأنفسَ، فلما بُني الفعل للمفعول أٌقيم الثاني - وهو الأنفسُ- مقامَ الفاعل، فأُخِّر الأول وبقي منصوباً، وعلى هذا يجوز أن يقال: «أُعْطِي درهمٌ زيداً» و «كُسِي جبةً عمراً» والعكس هو المشهورُ كما تقدَّم، وكلامُ الزمخشري يَحْتمل كونَ الثاني هو القائمَ مقامَ الفاعلِ فإنه قال: «ومعنى إحضارِ الأنفس الشحَّ أنَّ الشح جُعِل حاضراً لها لا يَغيب عنها أبداً ولا ينفك» يعني أنها مطبوعةٌ عليه، فأُسْنِدَ الحضورُ إلى الشح كما ترى، ويحتمل أنه جَعَله من باب القلب فنسَب الحضورَ إلى الشحِّ وهو في الحقيقة منسوب إلى الأنفس. وقرأ العدوي: «

الشِحَّ» بكسر الشين وهي لغة. والشُّحُّ: البخل مع حرص فهو أخص من البخل.

129

قوله تعالى: {كُلَّ الميل} : نصبٌ على المصدرية، وقد تقرر أن «كل» بحسَبِ ما تُضاف إليه، إنْ أضيفت إلى مصدر كانت [مصدراً] ، أو ظرفٍ أو غيره فكذلك. قوله: {فَتَذَرُوهَا} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب بإضمارِ «أَنْ» في جواب النهي، والثاني: أنه مجزوم عطفاً على الفعل قبله أي: فلا تذروها، ففي الأول نَهْيٌ عن الجمع بينهما، وفي الثاني نهيٌ عن كلٍّ على حِدَتِه وهو أبلغُ، والضميرُ في «تَذَروها» يعود على المميلِ عنها لدلالة السياق عليها. قوله: {كالمعلقة} حال من «ها» في «تَذَروها» فيتعلق بمحذوف أي: فتذروها مشبهةً المعلقة، ويجوز عندي أن يكون مفعولاً ثانياً لأن قولك: / «تذر» بمعنى «تترك» وتَرَكَ «يتعدَّى لاثنين إذا كان بمعنى صيَّر.

131

قوله تعالى: {وَإِيَّاكُمْ} : عطف على «الذين أُوتوا» وهو واجبُ الفصلِ هنا لتعذُّرِ الاتصال. واستدلَّ بعضُهم على أنه إذا قُدِر على الضمير المتصل يجوز أن يُعْدَلَ إلى المنفصل بهذه الآية، لأنه كان يمكن أن يقال: «ولقد وَصَّيْناكم والذين أوتوا» وكذلك استُدِلَّ بقوله تعالى: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] ، إذ يمكن أن يقالَ: يخرجونكم والرسولَ. وهذا ليس يَدُلّ له، أمَّا الآيةُ الأولى فلأنَّ الكلامَ فيها جاء على الترتيب الوجودي، فإنَّ وصية مَنْ قبلَنا قبلَ وصيتنا، فلمَّا قَصَدَ هذا المعنى استحال - والحالةُ هذه- أَنْ يُقْدَر عليه متصلاً. وأما الآية الثانية فلأنه قصد فيها تقدُّمَ ذِكْرِ الرسول تشريفاً له وتشنيعاً على مَنْ تجاسر على مثلِ ذلك الفعل الفظيع، فاستحال - والحالة هذه - أن يُجاء به متصلاً. «ومِنْ قبلكم» يجوزُ أَنْ يتعلق ب «أوتوا» ويجوز أَنْ يتعلَّق ب «وَصَّيْنا» والأولُ أظهرُ.

قوله: {أَنِ اتقوا} يجوزُ في «أن» وجهان، أحدهما: أن تكونَ مصدريةً على حَذْفِ حرفِ الخفض تقديره: بأن اتَّقوا، فلما حُذِف الحرفُ جَرى فيها الخلافُ المشهور. والثاني: أن تكون المفسرةَ لأنها بعد ما هو بمعنى القول لا حروفِه وهو الوصية. والظاهر أن قوله: {وَإِن تَكْفُرُواْ} جملة مستأنفة للإِخبار بهذه الحال ليست داخلة في معمول الوصية. وقال الزمخشري: «وإنْ تكفروا فإن لله» عطفٌ على «اتقوا» لأنَّ المعنى: أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقُلْنا لهم ولكم إنْ تكفروا «وفي كلامِه نظرٌ، لأنَّ تقديرَه القولَ ينفي كونَ الجملةِ الشرطيةِ مندرجةً في حَيِّزِ الوصيةِ بالنسبة إلى الصناعة النحوية، وهو لم يقصد تفسيرَ المعنى فقط، بل قَصَدَه هو وتفسيرَ الإِعرابِ بدليل قوله:» عطف على «اتقوا» و «اتقوا» داخلٌ في حَيِّز الوصيةِ، سواءً أَجَعَلْتَ «أن» مصدريةً أم مفسرة.

133

قوله تعالى: {بِآخَرِينَ} : آخرين صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ مِنْ جنسِ ما تقدَّمه تقديرُه: بناسٍ آخرين يعبدون الله، ويجوز أن يكونَ المحذوفُ من غير جنس ما تقدَّمه. قال ابن عطية: «يحتمل أن يكون وعيداً لجميع بني آدم، ويكونُ الآخرون من غير نوعهم، كا رُوي أنه كان ملائكةٌ في الأرض يعبدون الله. وقال الزمخشري:» أو خلقاً آخرين غيرَ الإِنس «وكذلك قال غيرهما. وقد رَدَّ الشيخ هذا الوجه بأنَّ مدلولَ آخر وأخرى وتثنيتَهما وجمعَهما نحو مدلول» غير «إلا أنه خاصُّ بجنسِ ما تقدَّمه، فإذا قلت:» اشتريت فرساً وآخرَ، أو: ثوباً وآخر، أو: جارية وأخرى، أو: جاريتين وأُخْريين، أو جواري وأُخَرَ «لم يكن ذلك كلُه إلا من جنس

ما تقدم، حتى لو عنيت» وحماراً آخر «في الامثلة السابقة لم يَجُزْ، وهذا بخلافِ» غير «فإنَّها تكون من جنسِ ما تقدَّم ومِنْ غيرِه، تقول» اشتريت ثوباً وغيره «لو عنيت:» وفرساً غيره «جاز. قال:» وقَلَّ مَنْ يعرف هذا الفرق «وهذا الفرقُ الذي ذكره وَردَّ به على هؤلاء الأكابرِ غيرُ موافَقٍ عليه، لم يستند فيه إلى نَقْل، ولكن قد يُرَدُّ عليهم ذلك من طريق أخرى، وهو أن» آخرين «صفةٌ لموصوف محذوف، والصفةُ لا تقوم مقامَ موصوفِها إلا إذا كانت خاصةً بالموصوف نحو:» مررت بكاتبٍ «أو يدل عليه دليل، وهنا ليست بخاصةٍ، فلا بد وأن تكونَ من جنسِ الأولِ لتحصُلَ بذلك الدلالةُ على الموصوفِ المحذوفِ.

134

قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ} : «مَنْ» يجوز فيها وجهان، أظهرهما: أنها شرطية، وجوابُها قولُه: {فَعِندَ الله} ولا بد من ضمير مقدر في هذا الجواب يعودُ على اسم الشرط لِما تقرر قبل ذلك، والتقدير: فعند الله ثوابُ الدنيا والآخرةِ له إنْ أراده، وهذا تقدير الزمخشري. قال: «حتى يتعلَّق الجزاءُ بالشرط» وجَوَّز الشيخ - وجعله الظاهرَ- أنَّ الجواب محذوف تقديره: من كان يريد ثواب الدنيا فلا يَقْتصر عليه، وليطلبِ الثوابين، فعند الله ثوابُ الدارين. والثاني: أنها موصلةٌ ودخلت الفاءُ في الخبر تشبيهاً له باسم الشرط، ويُبْعِده مُضِيُّ الفعلِ بعدَه [والعائدُ محذوفٌ كما تقرَّر تمثيلُه] .

135

قوله تعالى: {شُهَدَآءِ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه خبر ثان ل «كان» وهذا فيه خلافٌ قد مَرَّ ذكره. والثاني: أنه حال من الضمير

المستكن في «قَوَّامين» فالعاملُ فيها «قَوَّامين» وقد رَدَّالشيخ هذا الوجهَ بأنه يلزمُ منه تقييدُ كونِهم قوامين بحال الشهادة، وهم مأمورون بذلك مطلقاً، وهذا الردُّ ليس بشيء، فإن هذا المعنى نحا إليه ابن عباس قال - رضي الله عنه -: «كونوا قَوَّامين بالعدلِ في الشهادة على مَنْ كانَتْ» وهذا هو معنى الوجهِ الصائرِ إلى جَعْلِ «شهداء» حالاً. قوله: {وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ} «لو» هذه تحتمل أَنْ تكونَ على بابها من كونِها حرفاً لما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه وجوابُها محذوفٌ أي: ولو كنتم شهداءَ على أنفسكم لوجب عليكم أن تَشْهدوا عليها. وأجاز الشيخ أن تكونَ بمعنى «إن» الشرطية، ويتعلَّقُ قولُه «على أنفسكم» بمحذوفٍ تقديرُه: وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله، هذا تقديرُ الكلام، وحَذْفُ «كان» بعد «لو» كثير، تقول: ائتِني بتمر ولو حَشَفاً «أي: وإن كان التمر حشفاً فأتني به» . انتهى وهذا لا ضرورةَ تدعو إليه، ومجيءُ «لو» بمعنى «إنْ» شيءْ أثبته بعضُهم على قلة فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآنُ عليه. وقال ابن عطية: «على أنفسكم» متعلِّقٌ ب «شهداء» قال الشيخ «فإنْ عنى ب» شهداء «الملفوظَ به فلا يَصِحُّ، وإنْ عَنَى به ما قَدَّرْناه نحن فيصِحُّ» يعني تقديرَه «لو» بمعنى «إنْ» وحَذْفَ «كان» واسمِها وخبرِها بعد «لو» وقد تقدَّم أن ذلك قليلٌ، فلم يبق إلا أن ابن عطيةَ يريد «شهداء» محذوفةً كما قَدَّرْتُه لك أولاً نحو: «ولم كنتم شهداء» على أنفسكم لوجَبَ عليكم أن تشهدوا.

وقال الزمخشري: «ولو كانَتِ الشهادةُ على أنفسكم» فَجَعَل «كان» مقدرةً، وهي تحتملُ في تقديرِه التمام والنقصان: فإنْ قَدَّرْتَها تامةً كان قولُه «على أنفسكم» / متعلقاً بنفسِ الشهادة، ويكون المعنى: «ولو وُجِدَتِ الشهادةُ على أنفسكم، وإنْ قَدَّرْتَها ناقصةً فيجوزُ أَنْ يكونَ» على أنفسكم «متعلقاً بمحذوفٍ على أنه خبرها، ويجوز أن يكونَ متعلقاً بنفس الشهادة، وحينئذ يكون الخبر مقدراً، والمعنى:» ولو كانَتِ الشهادةُ على أنفسِكم موجودةً، إلا أنه يلزمُ مِنْ جَعْلِنا «على أنفسكم» متعلقاً بالشهادة حَذْفُ المصدرِ وأبقاءُ معمولِه وهو قليلٌ أو ممتنع. وقال أيضاً: «ويجوز أن يكون المعنى:» وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم «ورَدَّ عليه الشيخ هذين الوجهين فقال:» وتقديرُه: ولو كانت الشهادة على أنفسكم ليس بجيد؛ لأن المحذوف إنما يكون مِنْ جنسِ الملفوظِ به ليدلَّ عليه، فإذا قلت: «كن محسناً ولو لمَنْ أساء إليك» فالتقدير: ولو كنت محسناً لمَنْ أساء، ولو قَدَّرْته «ولو كان إحسانك» لم يكن جيداً لأنك تحذف ما لا دلالةَ عليه بلفظٍ مطابقٍ «وهذا الردُّ ليس بشيء، فإن الدلالة اللفظية موجودةٌ لاشتراكِ المحذوفِ والملفوظِ به في المادة، ولا يَضُرُّ اختلافُهما في النوع. وقال في الوجه الثاني: «وهذا لا يجوز لأن ما تعلق به الظرف كونٌ مقيدٌ، والكونُ المقيد لا يجوزُ حَذْفُه بل المطلقُ، لو قلت:» [كان] زيدٌ فيك «تعني: محباً فيك لم يجز» وهذا الرد أيضاً ليس بشيء لأنه قَصَد تفسير المعنى، ومبادئُ النحو لا تَخْفى على آحاد الطلبة فكيف بشيخِ الصناعة؟ . قوله: {فالله أولى بِهِمَا} إذا عُطف ب «أو» كان الحكمُ في عَوْدِ الضمير والإِخبارِ وغيرِهما لأحدِ الشيئين أو الأشياء، ولا يجوز المطابقةُ تقول: «زيد

أو عمرو أكرمته» ولو قلت: أكرمتها لم يَجُزْ، وعلى هذا يقال: كيف ثَنَّى الضميرَ في الآية الكريمة والعطفُ ب أو؟ لا جرم أن النحويين أختلفوا في الجوابِ عن ذلك على خمسةِ أوجه. أحدها: أنَّ الضميرَ في «بهما» ليس عائداً على الغني والفقير المذكورين أولاً، بل على جنسَيْ الغني والفقير المدلولِ عليهما بالمذكورَيْن، تقديرُه: وإنْ يكنِ المشهودُ عليه غنياً أو فقيراً فليشهد عليه، فاللَّهُ أَوْلى بجنسَي الغني والفقير، ويَدُلُّ على هذا قراءة أُبَيّ: «فالله أوْلَى بهم» أي بالأغنياء والفقراءِ مراعاةً للجنس على ما قَرَّرته لك، ويكون قوله: {فالله أولى بِهِمَا} ليس جواباً للشرط، بل جوابُه محذوفٌ كما قد عرفته، وهذا دالٌّ عليه. الثاني: أنَّ «أو» بمعنى الواو، ويُعْزى هذا للأخفش، وكنت قدَّمْتُ أولَ البقرة أنه قولُ الكوفيين وأنه ضعيفٌ. الثالث: أن «أو» للتفصيل أي: لتفصيلِ ما أُبْهم. وقد أوضح ذلك أبو البقاء فقال: «وذلك أنَّ كلَّ واحد من المشهود عليه والمشهود له قد يكون غنياً وقد يكون فقيراً. وقد يكونان غنيين وقد يكونان فقيرين، وقد يكون أحدهما غنياً والآخر فقيراً. فلما كانتِ الأقسام عند التفصيل على ذلك أُتِي ب» أو «لتدل على التفصيل، فعلى هذا يكون الضمير في» بهما «عائداً على المشهود له والمشهودِ عليه على أيِّ وصفٍ كانا عليه» انتهى. إلاَّ أنَّ قولَه: «وقد يكون أحدهما غنياً والآخر فقيراً» مكررٌ لأنه يُغْني عنه قولُه «وذلك أنَّ كلَّ واحد» إلى آخره. الرابع: أنَّ الضمير يعود على الخصمين تقديره: إن يكنِ الخصمان غنياً أو فقيراً فالله أَوْلى بذينك الخصمين. الخامس: أنَّ الضميرَ يعودُ على الغِنى والفقرِ المدلول عليهما بلفظِ الغني والفقير. والتقديرُ: فاللَّهُ أولى بغِنى الغَني وفَقْر الفقير. وقد أساء ابنُ عصفور العبارةَ هنا بما يُوقَفُ عليه في كلامه. وعلى أربعةِ الأوجهِ الأخيرة

يكونُ جوابُ الشرطِ ملفوظاً به وهو قولُه: {فالله أولى بِهِمَا} بخلافِ الأول فإنه محذوفٌ وقرأ عبد الله: «إن يكنْ غنيٌ أو فقيرٌ» برفعِهما، والظاهرُ أنَّ «كان» في قراءته تامةٌ، أي: وإنْ وُجِد غني أو فقير، نحو: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] . قوله: {أَن تَعْدِلُواْ} فيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: فلا تَتَّبِعوا الهوى محبةَ أَنْ تَعْدِلوا، أو إرادةَ أَنْ تَعْدِلوا أي: تَعْدِلوا عن الحق وتَجُوروا. وقال أبو البقاء في المضافِ المحذوف: «تقديرُه: مخافةَ أَنْ تَعْدِلوا عن الحق» وقال ابن عطية: «يُحْتمل أن يكونَ معناه: مخافةَ أن تَعْدِلوا، ويكون العدلُ هنا بمعنى / العُدول عن الحق، ويُحْتمل أن يكونَ معناه: محبةَ أَنْ تَعْدِلوا، ويكونُ العدلُ بمعنى القسط، كأنه يقول: انتهوا خوفَ أَنْ تجوروا، أو محبةَ أَنْ تُقْسِطوا، فإنْ جَعَلْتَ العامل» تتبعوا «فيحتمل أَنْ يكونَ المعنى محبةَ أَنْ تَجُورا» انتهى. فتحصَّل لنا في العاملِ وجهان: الظاهرُ منهما أنه نفسُ «تتبَّعوا» والثاني: أنه مضمر وهو فعلٌ مِنْ معنى النهي كما قَدَّره ابنُ عطية، كأنه يزعم أنَّ الكلامَ تَمَّ عند قولِه: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} ثم أضْمَرَ عاملاً، وهذا ما لا حاجةَ إليه. الثاني: أنه على إسقاطِ حرفِ الجر وحَذْفِ «لا» النافية، والأصل: فلا تَتَّبعوا الهوى في ألاَّ تَعْدِلوا أي: في تَرْكِ العدل، فَحَذف «لا» لدلالة المعنى عليها، ولَمَّا حَذَفَ حرفَ الجر من «أن» جرى القولان الشهيران. الثالث: أنه على

حَذْفِ لام العلة تقديرُه: فلا تتبعوا الهوى لأنْ تَعْدِلوا. قال صاحب هذا القول: «والمعنى: لا تتبعوا الهوى لتكونوا في اتِّباعكموه عدولاً تنبيهاً [على] أن اتباعَ الهوى وتَحَرِّي العدالةِ متنافيان لا يجتمعان، وهو ضعيفٌ في المعنى. قوله: {وَإِن تَلْوُواْ} قرأ ابن عامر وحمزة» تَلُوا «بلامٍ مضمومةٍ وواوٍ ساكنة، والباقون بلامٍ ساكنةٍ وواوين بعدها، أولاهما مضمومة. فأمَّا قراءةُ الواوينِ فظاهرةٌ لأنه من لَوَى يَلْوي، والمعنى: وإنْ تَلْووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل، والأصل: تَلْوِيُون كتَضْرِبون، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فَحُذفت، فالتقى ساكنان: الياء وواو الضمير فحُذِف أولُهما - وهو الياء - وضُمَّت الواوُ المكسورةُ التي هي عين لأجل واوِ الضمير فصار تَلْوُون، وتصريفُه كتصريف» تَرْمُون «. وأما قراءة حمزة وابن عامر ففيها ثلاثة أقوال، أحدها: وهو وقول الزجاج والفراء والفارسي في إحدى الروايتين عنه - أنه من لَوَى يَلْوي كقراءة الجماعة، إلاَّ أنَّ الواوَ المضومةَ قُلِبَتْ همزةً كقلبها في» أُجوه «و» أُقِّتتْ «ثم نُقِلت حركةُ هذه الهمزةِ إلى الساكنِ قبلها وحذفت فصار» تَلُون «كما ترى. الثاني: أنه من لَوَى يَلْوي أيضاً. إلا ان الضمةَ استُثْقِلَتْ على الواو الأولى فنُقِلت إلى اللام الساكنة تخفيفاً، فالتقى ساكنان وهما الواوان / فحُذِفت الأول منهما، ويُعْزى هذا للنحاس. وفي هذين التخريجين نظرٌ، وهو أنَّ لامَ الكلمة قد حُذِفَت أولاً كما قررته فصار وَزْنُه: تَفْعُوا، بحذف اللام، ثم حُذِفت العينُ ثانياً فصار وزنُه: تَفُوا، وذلك إجْحاف

بالكلمة. الثالث- ويُعْزى لجماعة منهم الفارسي- أن هذه القراءة مأخوذة من الولاية بمعنى: وإنْ وُلِّيتم إقامةَ الشهادة أو وُلِّيْتُم الأمرَ فتعدلوا عنه، والأصل: «تَوْلِيُوا» فحذفت الواوُ الأولى لوقوعِها بين حرفِ المضارعةِ وكسرةٍ، فصار «تَلِيُوا» كتَعِدُوا وبابه، فاستثقلت الضمةُ على الياءِ ففُعِل بها ما تقدَّم في «تَلْوُوا» وقد طَعَنَ قومٌ على قراءة حمزة وابن عامر - منهم أبو عبيد - قالوا: لأنَّ معنى الولاية غيرُ لائق بهذا الموضع. قال أبو عبيد: «القراءةُ عندنا بواوين مأخوذةٌ من» لَوَيْتُ «وتحقيقه في تفسيرِ ابن عباس: هو القاضي يكونُ لَيُّه وإعراضُه عن أحد الخصمين للآخر. وهذا الطعنُ ليس بشيء لأنها قراءةٌ متواترةٌ ومعناها صحيح، لأنه إنْ أَخَذْناها من الولاية كان المعنى على ما تقدم، وإن أخذناها من الليِّ فالأصلُ» تَلْوُوا «كالقراءة الأخرى، وإنما» فُعِل بها ما تقدم من قَلْبِ الواوِ همزةً ونَقْلِ حركتها، أو من نَقْلِ حركتها من غير قَلْبٍ فتتفق القراءتان في المعنى.

136

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} : أي: داواموا على الإِيمان، أو يُراد بالذين آمنوا جميعُ الناس، وذلك يوم أخذ عليهم الميثاقَ. وقرأ نافع والكوفيون: «والكتابِ الذي نَزَّل على رسوله والكتاب الذي أَنْزل من قبل» على بناء الفعلين للفاعل، وهو الله تعالى، والباقون على بنائهما للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل ضمير الكتاب. وقال الزمخشري. «فإن قلت: لِمَ قال:» نَزَّل على رسوله، وأَنْزل من قبل؟ قلت: لأنَّ القرآنَ نَزَلَ منجَّماً مفرَّقاً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله «وقد تقدَّم [البحثُ] معه في ذلك، وأن التضعيف في» نَز‍َّل «للتعدية مرادفٌ للهمزة لا للتكثير.

وقوله:» فقد ضَلَّ ضلالاً «ليس جواباً للأشياء الثلاثة، بل المعنى: ومَنْ يكفرْ بواحدٍ منها.

137

وقوله تعالى: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ} : كقوله: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين} [آل عمران: 179] ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه ومذاهبُ الناس وأن لام الجحود تفيدُ التوكيدَ، والفرق بين قولِك: «ما كان زيدٌ يقوم» و «ما كان ليقومَ.

139

والفاءُ في قوله تعالى: {فَإِنَّ العزة} : لِما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى: إن تبتغوا من هؤلاء عزةً. و «جميعاً» حال من الضمير المستكنِّ في قوله «لله» لوقوعه خبراً. قوله: {الذين يَتَّخِذُونَ} يجوز فيه النصبُ والرفعُ، فالنصب من وجهين، أحدهما: كونُه نعتاً للمنافقين. والثاني: أنه نصب بفعل مضمر أي: أذمُّ الذين، والرفع على خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين.

140

قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ} قرأ الجماعة: «نُزِّل» مبنياً للمفعول، وعاصم / قرأه مبنياً للفاعل، وأبو حيوة وحميد «نَزَل» مخففاً مبنياً للفاعل، والنخعي «أُنْزِل» بالهمزة مبنياً للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الجماعة والنخعي هو «أَنْ» وما في حَيِّزها أي: وقد نَزَّل عليكم المنعَ من مجالستهم عند سماعِكم الكفرَ بالآيات والاستهزاءَ بها. وأمّا في قراءةِ عاصم ف «أَنْ» مع ما بعدها في محل نصب مفعولاً به ب «نزَّل» والفاعل ضميرُ الله تعالى كما تقدم. وأما في قراءة أبي حيوة وحميد فمحلُّها رفع بالفاعلية ل «نزل» مخففاً، فمحلها: إمّا نصب على قراءة عاصم أو رفع على قراءة غيره، ولكن الرفع مختلف. و «أن» هذه هي المخففةُ من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر

والشأن، أي: أنَّ الأمر والشأن إذا سمعتم الكفر والاستهزاء فلا تقعدوا. قال الشيخ «وما قَدَّره أبو البقاء من قوله:» أنكم إذا سمعتم «ليس بجيد، لأن» أن «المخففة لا تعمل إلاَّ في ضمير الشأن، إلا في ضرورة كقوله: 166 - 2- فلو أَنْكِ في يومِ الرخاءِ سَأَلْتِني ... طلاقَك لم أبخَلْ وأنتِ صديقُ هكذا قال، ولم أَرَه أنا في إعراب أبي البقاء إلا أنه بالهاء دون الكاف والميم. والجملةُ الشرطية المنعقدةُ من» إذا «وجوابها في محل رفع خبراً ل» أَنْ «ومن مجيء الجملة الشرطية خبراً ل» أنْ «المخففة قوله: 166 - 3- فعلمْتُ أَنْ ما تَتَّقُوه فإنه ... جَزْرٌ لِخامعةٍ وفَرْخِ عقابِ ف» ما «شرطيةٌ و» فإنه «جوابُها، والجملةُ خبرٌ ل» أن «المخففةِ. قوله: {يُكَفَرُ بِهَا} في محلِّ نصبٍ على الحال من الآيات، و» بها «في محلِّ رفعٍ لقيامِه مقامَ الفاعلِ، وكذلك في قولِه {وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} والأصل: يَكفر بها أحدٌ، فلمَّا حُذِف الفاعلُ قام الجارُّ والجرورُ مقامه، ولذلك رُوعي هذا الفاعلُ المحذوف، فعاد عليه الضميرُ من قوله» معهم «» حتى يخوضوا «كأنه قيل: إذا سمعتم آياتِ الله يَكْفُر بها المشركون ويستهزئ بها المنافقون فلا تَقْعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيرِه أي: غيرِ حديث الكفر والاستهزاء، فعاد الضمير في» غيره «على ما دلَ عليه المعنى. وقيل: الضمير

في» غيره «يجوزُ أَنْ يعود على الكفر والاستهزاء المفهومَيْن من قوله» يكفر بها «و» يستهزأ بها «وإنما أفرد الضمير وإن كان المراد به شيئين لأحد أمرين: إمَّا لأنَّ الكفرَ والاستهزاء شيءٌ واحدٌ في المعنى، وإمَّا لإِجراءِ الضميرِ مُجْرى اسمِ الإشارةِ نحو: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] و [قوله:] 166 - 4- كأنَّه في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ ... وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. و «حتى» غايةٌ للنهي، والمعنى: أنه يجوز مجالستهم عند خوضِهم في غيرِ الكفر والاستهزاء. وقوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} «إذنْ» هنا مُلْغَاةٌ لوقوعها بين مبتدأ وخبر. والجمهور على رفعِ اللام في «مثلُهم» على خبرِ الابتداء. وقرئ شاذاً بفتحها، وفيها تخريجان، أحدهما: - وهو قولُ البصريين- أنه خبر أيضاً، وإنما فُتِح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] بفتح اللام، وقول الفرزدق: 166 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . وإذما مثلَهم بشرُ في أحدِ الأوجه. والثاني: - وهو قولُ الكوفيين- أن «مثل» يجوز

نصبُها على المحل أي الظرف، ويجيزون: «زيد مثلك» بالنصب على المحل أي: زيدٌ في مثلِ حالك. وأفرد «مثل» وإن أخبر به عن جمع ولم يُطابق به كما طابق ما قبله في قوله: {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] ، وقوله {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ} [الواقعة: 22 - 23] : قال أبو البقاء وغيرُه: «لأنه قَصَدَ به هنا المصدرَ فوحَّد كما وحَّد في قوله: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] . وتحرير المعنى: أن التقدير: إن عصيانكم مثلُ عصيانهم، إلا أنَّ تقدير المصدرية في قوله» لبشر مثلنا «قلق.

141

قوله تعالى: {الذين يَتَرَبَّصُونَ} : فيه ستة أوجه، أحدها: أنه بدلٌ من قوله: {الذين يَتَّخِذُونَ} فيجيء فيه الأوجه المذكورة هناك. الثاني: أنه نعتٌ للمنافقين على اللفظ فيكون مجرورَ المحل. الثالث: أنه تابعٌ لهم على الموضعِ فيكونُ منصوبَ المحلِّ، وقد تقرر أنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ إذا أُضيفَ إلى معمولِه جاز أن يُتْبَعَ معمولُه لفظاً وموضعاً، تقول: «هذا ضاربٌ هندٍ العاقلةِ والعاقلةَ» بجرِّ العاقلة ونصبِها. الرابع: أنه منصوبٌ على الشتم. الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمر أي: هم الذين. السادس: - وذكره أبو البقاء - أنه مبتدأ والخبرُ قولُه: «فإنْ كان لكم فتحُ» وهذا ضعيفٌ لنبوِّ المعنى عنه ولزيادةِ الفاءِ في غيرِ محلِّها، لأنّ هذا الموصولَ غيرُ ظاهرِ الشبهِ باسم الشرط. قوله: {وَنَمْنَعْكُمْ} الجمهورُ على جزمه عطفاً على ما قبله. وقرأ ابن

أبي عبلة بنصب العين وهي ظاهرةٌ، فإنه على إضمار «أن» بعد الواو المقتضية للجمع في جوابِ الاستفهام كقول الحطيئة: 166 - 6- ألم أكُ جارَكمْ ويكونَ بيني ... وبينكمُ المودةُ والإخاءُ وعَبَّر ابنُ عطية بعبارة الكوفيين فقال: «بفتحِ العين على الصرف» ويعنون بالصرف عدمَ تشريكِ الفعلِ مع ما قبلَه في الإِعراب. وقرأ أُبَي: «ومنعناكم» فعلاً ماضياً وهي ظاهرةٌ أيضاً لأنه حُمِلَ على المعنى، فإن معنى «ألم نستحوذ» : إنَّا قد استحوذنا، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على نفي قَرَّره، ومثلُه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا} [الشرح: 1 -2] لَمَّا كان «ألم نشرح» في معنى «قد شرحنا» عُطِفَ عليه «ووضَعْنا» . ونستحوذ واستحوذ مِمَّا شَذَّ قياساً وفَصُحَ استعمالاً / لأنَّه مِنْ حقه نَقْلُ حركةِ حرفِ علتِه إلى الساكن قبلها، وقَلْبُها ألفاً كاستقام واستبان وبابه، وقد قدمت تحقيق هذا في قوله: {نَسْتَعِينُ} [الآية: 5] في الفاتحة، وقد شَذَّت معه الفاظُ أُخَرُ نحو: «أَغْمَيتْ وأَغْيلتْ المرأة وأَخْيلت السماء» قصرها النحويون على السماع، وقاسَها أبو زيد. والاستحواذ: التغلُّب على الشيء والاستيلاءُ عليه. ومنه: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} [المجادلة: 19] . ويقال: «حاذَ وأحاذ» بمعنى، والمصدُر الحَوْذ.

وقوله: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} قيل: هنا معطوفٌ محذوف أي: وبينهم كقوله: 166 - 7- فما كانَ بين الخيرِ لو جاء سالماً ... أبو حُجُرٍ إلا ليالٍ قلائِلُ أي: وبيني، والظاهرُ أنه لا يَحْتاج لذلك، لأن الخطاب في «بينكم» شاملٌ للجميع، والمرادُ المخاطبون والغائبون، وإنما غَلَّبَ الخطاب لِما عَرَفْتَ من لغة العرب. قوله: {عَلَى المؤمنين} يجوز أن يتعلقَ بالجَعْلِ، ويجوز أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ ل «سبيلا» فلمَّا قُدِّم عليه انتصبَ حالاً عنه.

142

وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ} : قد تقدَّم اشتقاقُه ومعنى المفاعلة فيه اول البقرة قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فيها ثلاثةُ أوجه أحدها: - ذكره أبو البقاء- وهو أنَّها نصبُ على الحال. والثاني: أنها في محل رفع عطفاً على خبر «إنَّ» والثالث: أنها استئناف إخبار بذلك. قال الزمخشري: «وخادِع» اسمُ فاعل من خادَعْتُه فَخَدَعْتُه إذا غلبتَه وكنتَ أخدعَ منه. قوله: «وإذا قاموا» عطفٌ على خبرِ «إنَّ» أخبر عنهم بهذه الصفاتِ الذَّميمة. و «كُسالى» نصبٌ على الحال من ضمير «قاموا» الواقع جواباً. والجمهورُ على ضم الكاف، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ الأعرج بفتحها، وهي لغةُ تميم وأسدٍ، وقرأ ابن السَّمَيْفَع: «كَسْلى» وَصَفَهم بما تُوصف به

المؤنثة المفردةُ اعتباراً بمعنى الجماعة كقوله: {وتَرَى الناسَ سَكْرى} والكسلُ: الفتورُ والتواني، وأَكْسَل: إذا جامَعَ وفَتَر ولم يُنْزِل. قوله: {يراؤون} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنها حالٌ من الضمير المستتر في «كُسالى» الثاني: أنها بدلٌ من «كُسالى» ذكره أبو البقاء، فيكونُ حالاً من فاعل «قاموا» وفيه نظرٌ، لأنَّ الثاني ليس الأولَ ولا بعضه ولا مشتملاً عليه. الثالث: أنها مستأنفةٌ أَخْبر عنهم بذلك. وأصلُ يُراؤُون: يُرائِيوُن فأُعِلَّ كنظائرِه. والجمهور على «يُراؤُون» من المفاعلةِ قال الزمخشري: فإنْ قلت: ما معنى المراءاة وهي مُفَاعَلَة من الرؤية؟ قلت: لها وجهان أحدها: أنَّ المرائِيَ يُريهم عمله وهم يُرُوْنه الاستحسانَ. والثاني: أنْ تكونَ من المفاعلة بمعنى التفعيل، يقال: نعَّمه وناعمه، وفَنَّقه وفانَقَه، وعيش مُفَانِق، وروى أبو زيد: «رأَّت المَرْأةُ المِرْآة» إذا أَمْسَكَتْها له ليرى وجهه، ويدل عليه قراءةُ ابن أبي اسحاق: «يُرَؤُّونهم» بهمزةٍ مشددةٍ مثلَ: يُدَعُّونهم، أي: يُبَصِّرونهم ويُرَاؤُوْنهم كذلك، يعني أنّ قراءةَ «يُرَؤُّونَهم» مِنْ غير ألفٍ بل بهمزةٍ مضمومةٍ مشددةٍ توضِّح أنَّ المُفَاعلةَ هنا بمعنى التفعيل. قال ابن عطية: «وهي - يعني هذه القراءة - أقوى من» يراؤون «في المعنى؛ لأنَّ معناها يَحْمِلُون الناسَ على أَنْ يَرَوْهم، ويتظاهرون لهم بالصلاة ويُبْطُنون النفاقَ» وهذا منه ليس بجيد؛ لأنَّ المفاعلة إنْ كانت على

بابها فهي أبلغُ لِما عُرِفَ غيرَ مرة، وإنْ كانت بمعنى التفعيل فهي وافيةٌ بالمعنى الذي أرداه، وكأنه لم يعرف أنَّ المفاعلة قد تجيء بمعنى التفعيل. ومتعلِّقُ المراءاةِ محذوفٌ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءَى به. والأحسن أن تُقَدِّر يُراؤون الناسَ بأعمالهم. وقوله: {قَلِيلاً} نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو لزمان محذوف أي: ذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً، والقلةُ هنا على بابِها، وجَوَّز الزمخشري وابن عطية أن تكون بمعنى العَدَم، ويأباه كونُه مستثنى، وقد تقدَّم الردُّ عليهما في ذلك. وقوله: {وَلاَ يَذْكُرُونَ} يجوز أن يكونَ عطفاً على «يُراؤُون» وأن يكون حالاً من فاعل «يُراؤون» وهو ضعيفٌ لأنَّ المضارع المنفي ب «لا» كالمثبت، والمُثْبَتُ إذا وَقَع حالاً لا يَقْتَرِنُ بالواوِ، فإنْ جَعَلَها عاطفةً جاز.

143

قوله تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما: أنه حال مِنْ فاعل «يُراؤون» الثاني: أنه حالٌ من فاعل «ولا يَذْكَرُون» الثالث: أنه منصوبٌ على الذمّ والجمهور على «مذبذّبين» بميمٍ مضمومة وذالين معجمتين ثانيتهما مفتوحةٌ على أنه اسم مفعول، من ذبذبته فهو مُذَبْذَب أي: متحيِّر. وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد بكسر الذال الثانيةِ اسمَ فاعل، وفيه احتمالان، أحدهما: أنه من «ذَبْذَبَ» متعدِّياً فيكونُ مفعولُه محذوفاً أي: مُذَبْذِبين أنفسهم أو دينَهم أو نحوَ ذلك. والثاني: أنه بمعنى تَفَعْلَل نحو: «صَلْصَلَ» فيكون قاصراً، ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أُبَيّ وما في مصحف عبد الله: «مُتَذّبْذِبين» فلذلك يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابنِ عباس بمعنى متذبذبين. وقرأ الحسن البصري «مَذَبْذَبِين» بفتح الميم. قال ابن عطية:

«وهي مردودة» ولَعَمْري لقد صدق، ولا ينبغي أن تَصِحَّ عنه. واعتذر الشيخ عنها لأجل فصاحة الحسن واحتجاج الناس بكلامه بانَّ فتح الميم لأجل إتباعها بحركة الذال قال: «وإذا كانوا قد اتبعوا في» مِنْتِن «حركة الميم بحركة التاء مع الحاجز بينهما، وفي نحو» منحدْر «أتبعوا حركة الدال بحركة الراء حال الرفع مع أنَّ حركةَ الإِعرابِ غيرُ لازمة فَلأَنْ يُتْبعوا في نحو» مَذَبذبين «أولى. وهذا فاسدٌ لأن / الإِتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائرها إنما هو إذا كانت الحركةُ قويةً وهي الضمةُ والكسرةُ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ فلم يُتْبِعُوا لأجلها. وقرأ ابن القعقاع بدالين مهملين من الدُّبَّة وهي الطريقة، يقال:» خَلَّني ودُبَّتي «أي: طريقتي قال: 166 - 8- طَها هُذْرُبانٌ قَلَّ تغميضُ عيِنِه ... على دُبَّةٍ مثلِ الخَنيفِ المُرَعْبَلِ وفي حديث ابن عباس:» اتَّبِعوا دُبَّة قريش «أي: طريقها، فالمعنى على هذه القراءة: أنْ يأخذَ بهم تارةً دُبَّةً وتارة دُبَّةً أخرى، فَيَتْبَعُون متحيِّرين غيرَ ماضين على طريق واحد. ومُذّبْذَب وشبهُه نحو: مُكَبْكَب ومُكَفْكَف مِمَّا ضُعِّف أولُه وثانيه وصَحَّ المعنى بإسقاط ثالثِه فيه مذاهبٌ، أحدُهما: - وهو قولُ جمهورِ البصريين - أنَّ الكلَّ أصولٌ، لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ وليس أحدُ المكررين أَوْلى بالزيادةِ من الآخر. الثاني - ويُعْزَى للزجاج - أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدةٌ. الثالث: - وهو قول الكوفيين - أن الثالث بدل من تضعيف الثاني، ويزعمون أن أصل كفكف: كَفَّفَ بثلاث فاءات، وذبذب: ذَبَّب بثلاث باءات فاستُثْقِل توالي

ثلاثةِ أمثالٍ فَأَبْدَلوا الثالثَ من جنس الأول، ولهذه المذاهب موضوعٌ غيرُ هذا حَرَّرْتُ مباحثَهم فيه، أمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بحذفِ الثالث نحو: سِمْسم ويُؤْيؤ ووعْوَع فإنَّ الكلَّ يزعمون أصالةَ الجميعِ. والذبذبة في الأصل: الاضطرابُ والتردُّد بين حالتين. قال النابغة: 166 - 9- ألم تَرَ أنَّ اللهَ أَعْطاك سُورةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ وقال آخر. 167 - 0- خيالٌ لأمِّ السَّلْبيل ودونَها ... مسيرةُ شهرٍ للبعيرِ المُذَبْذِبِ بكسر الذال الثانية. قال ابن جني: «أي القَلِق الذي لا يستقر» قال الزمخشري: «وحقيقةُ المذبذب الذي يُذَبُّ عن كلا الجانبين أي يُذاد ويُدْفع فلا يقرُّ في جانبٍ واحد، كما يقال:» فلان يُرْمَى به الرَّحَوان «إلا أنَّ الذبذبة فيها تكريرٌ ليس في الذَبِّ، كأنَّ المعنى: كلما مالَ إلى جانبٍ ذَبَّ عنه» . و «بين» معمولٌ لقوله: «مُذَبْذَبين» و «ذلك» إشارةٌ إلى الكفر والإِيمان المدلولِ عليهما بذكر الكافرين والمؤمنين ونحو: 167 - 1-

إذا نُهِي السفيهُ جَرَى إليه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: إلى السَّفَهِ لدلالةِ لفظ السفيه عليه. وقال ابن عطية: «أشير إليه وإن لم يَجْزِ له ذِكْرٌ لتضمن الكلام له نحو: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] يعني توارَت الشمسُ وكلُّ مَنْ على الأرض. قال الشيخ:» وليس كذلك، بل تقدَّم ما يَدُلُّ عليه «وذكر ما قَدَّمْتُه. وأشير ب» ذلك «وهو مفردٌ لاثنين لِما تقدَّم في قوله {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] قوله: {لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} » إلى «في الموضعين متعلقةٌ بمحذوف، وذلك المحذوفُ هو حالٌ حُذِفَ لدلالةِ المعنى عليه، والتقدير: مُذَبْذَبين لا منسوبين إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء، فالعاملُ في الحال نفسُ» مُذَبْذَبين «قال أبو البقاء:» وموضعُ «لا إلى هؤلاء» نصبٌ على الحالِ من الضمير في مذبذبين أي: يتذبذبون متلوِّنين «وهذا تفسير معنى لا إعراب.

144

قوله تعالى: {سُلْطَاناً} : السلطان يُذّكَّرُ ويؤنث، فتذكيرُه باعتبار البرهان، وتأنيثُه باعتبار الحجة، إلا أن التأنيث أكثرُ عند الفصحاء، كذا قاله الفراء، وحكى: «قَضَتْ عليك السلطان» «وأَخَذَتْ فلاناً السلطانُ» وعلى هذا فكيف ذُكِّرت صفته فقيل: مبيناً دون: مبينة؟ والجواب أن الصفة هنا رأسُ فاصلة فلذلك عَدَلَ إلى التذكير دون التأنيث. وقال ابن عطية ما يخالف ما حكاه الفراء فإنه قال: «والتذكيرُ أشهرُ، وهي لغة القرآن حيث

وقع» . «وعليكم» يجوزُ تعلُّقه بالجَعْل «أو بمحذوف على أنه حال من» سلطانا «؛ لأنه صفة له في الأصل وقد تقدَّم نظيره.

145

قوله تعالى: {فِي الدرك} : قرأ الكوفيون - بخلاف عن عاصم - بسكونِ الراء، والباقون بفتحِها، وفي ذلك قولان، أحدُهما: أنَّ الدَّرْك والدَّرِكِ لغتان بمعنى واحدٍ كالشَّمْع والشَّمَع، والقَدْر والقَدَر. والثاني: أنَّ الدَّرَك بالفتح جمعُ «دَرَكة» على حدِّ بَقَر وبَقَرة، واختار أبو عبيد الفتحَ قال: «لأنه لم يَجِىءْ في الآثار ذِكْرُ» الدَّرَك «إلا بالفتحِ، وهذا غيرُ لازمٍ لمجيء الأحاديثِ بإحدى اللغتين. واختار بعضُهم الفتحَ لجَمْعِه على أَفْعال، قال الزمخشري:» والوجهُ التحريكُ لقولِهم «أدراك جهنم» يعني أنَّ أفعالاً منقاسٌ في فَعَل بالفتحِ دونَ فَعْل بالسكون، على أنه قد جاء أَفْعال في فَعْل بالسكون نحو: فَرْخ وأَفْراخ، وزَنْد وأَزْناد، وفَرْد وأَفْراد. وقال أبو عبد الله الفاسي في شرحِ القصيد: «وقال غيرُه - يعني غيرَ عاصم - محتجَّاً لقراءة الفتح قولُهم في جَمْعِه:» أَدْراك «يَدُلُّ على أنه» دَرَك «بالفتح، ولا يَلْزم ما قال أيضاً، لأنَّ فَعَلاً بالتحريك قد جُمِع على أَفْعاله كقَلَم وأَقْلام، وجَبَل وأَجبال» انتهى، وهذه غفلةٌ منه لأنه المتنازعَ فيه إنما هو فَعْل بالتسكين: هل يُجْمَعُ على أَفْعال أم لا؟ وأما فَعَلَ بالتحريك فأفْعال قياسُه، وكأنه قَصَدَ الردَّ على الزمخشري فوقَع في الغلطِ، كان ينبغي له أن يقول: وقد جُمِع فَعْل بالسكون على أَفْعال نحو: فَرْخ وأَفْراخ كما ذكرته لك. وحُكِي عن عاصم / أنه قال «لو كان» الدرَك «بالفتح لكان ينبغي أن يقال السُّفْلى لا الأسفل» قال بعض النحويين: «يعني أن الدرَك بالفتح جمع» دَرَكة «كبَقَر جمع بَقَرَة، والجمعُ يُعامل معاملةَ المؤنثة. وهذا غيرُ لازمٍ لأنَّ اسمَ الجنسِ الفارقُ بين واحدِه

وجمعِه تاءُ التأنيث يجوز تذكيرُه وتأنيثُه إلا ما استُثْنيَ وجوبُ تذكيرِه أو تأنيثه، والدرَك ليس منه، فيجوز فيه الوجهان، هذا بعد تسليم كون» الدرك «جمع» دَرَكة «بالسكون كا تقدم. والدَّرَكُ مأخوذٌ من المُدراكة وهي المتابعةُ، وسُمِّيت طبقاتُ النار» دَرَكات «لأنَّ بعضَها مدارك لبضع أي: متتابعة. قوله: {مِنَ النار} في محلِّ نصب على الحال، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه» الدرك «والعامل فيها الاستقرار، والثاني: أنه الضميرُ المستتر في» الأسفل «لأنه صفةٌ فيتحمل ضميراً.

146

قوله تعالى: {إِلاَّ الذين} : فيه ثلاثةُ أوجه، احدُها: أنه منصوبٌ على الاستثناء مِنْ قوله: {إِنَّ المنافقين} الثاني: أن مستثنى من الضميرِ المجرورِ في «لهم» الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبرُه الجملةُ من قوله: {فأولئك مَعَ المؤمنين} قيل: «ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ لشبهِ المبتدأ باسم الشرط قال أبو البقاء ومكي وغيرُهما:» مع المؤمنين «خبرُ» أولئك «والجملةُ خبر» إلا الذين «والتقدير: فأولئك مؤمنون مع المؤمنين، وهذا التقديرُ لا تقتضيه الصناعة، بل الذي تقتضيه الصناعة أن يُقَد‍َّر الخبرُ الذي يتعلق به هذا الظرف شيئاً يليق به، وهو» فأولئك مصاحبون أو كائنون أو مستقرون «ونحوه، فتقدِّرُه كوناً مطلقاً أو مايقاربه. قوله: {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله} رُسِمت» يؤت «دون» ياء «وهو مضارعٌ مرفوع فحقُّ يائه أن تثبت لفظاً وخطاً، إلا أنها حذفت لفظاً في الوصل لالتقاء الساكنين فجاءُ الرسم تابعاً للفظ، وله نظائر تقدم بعضها. والقراءُ يقفون عليه دون ياء أتِّباعاً للخط الكريم، إلا يعقوبَ فإنه يقف بالياء نظراً إلى الأصل، ورُوي ذلك أيضاً عن الكسائي وحمزة. وقال أبو عمرو:» ينبغي أن لا يُوقَفَ

عليها، لأنه إنْ وُقف عليها كما في الرسم دون ياء خالف النحويين، وإن وقف بالياء خالف رسم المصحف «ولا بأسَ بما قال، لأن الوقف ليس ضرورياً، فإن اضْطُرَّ إليه واقفٌ لقَطْعِ نَفَس ونحوه فنيبغي أن يُتابَع الرسمُ، لأنَّ الأطرافَ قد كَثُر حَذْفُها، ومِمَّا يشبه هذا الموضعَ قولهُ: {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ} [غافر: 9] فإنه رسم» تَقِ «بقافٍ دون هاءِ سكت، وعند النحويين أنه إذا حُذِف من الفعل شيءٌ حتى لم يبق منه إلا حرفٌ واحد ووُقِف عليه وَجَبَ الإِتيانُ بهاء السكت في آخره جبراً له نحو:» قِهْ «و» لم يقه «و» عِه «و» لم يَعِه «، ولا يُعْتَدُّ بحرف المضارعة لزيادتِه على بنية الكلمة فإذا تقرر هذا فنقول: ينبغي ألاَّ يوقف عليه؛ لأنه إنْ وُقِف بغير هاءِ سكت خالف الصناعة النحوية، وإنْ وُقِفَ بهاء خالف رسمَ المصحفَ.

147

قوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} : في «ما» وجهان، أحدهما: أنها استفهامية فتكون في محل نصب ب «يفعل» وإنما قُدِّم لكونه له صدر الكلام. والباءُ على هذا سببيةٌ متعلقةٌ ب «يفعل» ، والاستفهام هنا معناه النفي، والمعنى: أنّ الله لا يفعل بعذابكم شيئاً؛ لأنه لا يجلب لنفسِه بعذابِكم نفعاً ولا يدفع عنها به ضراً، فأيُّ حاجة له في عذابكم؟ والثاني: أن «ما» نافية كأنه قيل: لا يعذبكم الله، وعلى هذا فالباء زائدة ولا تتعلق بشيء. وعندي أن هذين الوجهين في المعنى شيءٌ واحدٌ، فينبغي أن تكون سببية في الموضعين أو زائدة فيهما، لأن الاستفهام بمعنى النفي فلا فرق، والمصدر هنا مضاف لمفعوله وقوله: {إِن شَكَرْتُمْ} جوابه محذوف لدلالةِ ما قبله عليه أي: إنْ شكرتم وآمنتم فما يفعلُ بعذابكم؟

148

قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء} : «بالسوء» متعلق بالجهر، وهو مصدر معرف ب «أل» استدل به الفارسي على جوازِ

إعمالِ المصدر المعرف بأل. قيل: ولا دليلَ فيه لأنَّ الظرف والجار يعمل فيهما روائح الأفعال. وفاعلُ هذا المصدرِ محذوفٌ أي: الجهر أحد، وقد تقدم أن الفاعل يَطَّرد حَذْفُه في صورٍ منها المصدر، ويجوز أن يكون الجهرُ مأخوذاً من فِعْل مبني للمفعول على خلاف في ذلك، فيكون الجار بعده في محل رفع لقيامه مقام الفاعل، لأنك لو قلت: لا يحب الله أن يُجهر بالسوء، كان «بالسوء» قائماً مقامَ الفاعل ولا تعلُّقَ له حينئذٍ به. و «من القول» حال من «السوء» . قوله: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه متصل والثاني: أنه منقطع، وإذا قيل بأنه متصل فقيل: هو مستثنى من «أحد» المقدرِ الذي هو فاعلٌ للمصدر، فيجوز أن تكون «مَن» في محلِّ نصبٍ على أصل الاسثناء أو رفعٍ على البدل من «أحد» وهو المختار، ولو صُرِّح به لقيل: لا يحبُّ الله أن يَجْهَر أحدٌ بالسوء إلا المظلومُ، أو المظلومَ رفعاً ونصباً، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء وغيرُهما. قال الشيخ: «وهذا مذهب الفراء، أجاز في» ما قام إلا زيدٌ «أن يكون» زيد «بدلاً من» أحد «وأمَّا على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي فُرِّغ له العامل فيكون مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر، وحَسَّنَ ذلك كونُ الجهر في حَيِّز النفي، كأنه قيل: لا يَجْهَرُ بالسوء من القول إلا المظلومُ» انتهى. والفرقُ ظاهر بين مذهب الفراء وبين هذه الآية، فإن النحويين إنما لم يَرَوا بمذهب الفراء قالوا: لأن المحذوف صار نَسْياً منسياً، وأما فاعل المصدر هنا فإنه كالمنطوقِ به ليس منسياً فلا يلزمُ من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعلِ المقدر أن يكونوا تابعين لمذهب الفراء لِما ظهر من الفرق. وقيل: هو مستثنى مفرغ، فتكون «

مَنْ» في محل رفع بالفاعلية كما تقدَّم تقريرُه في كلام الشيخ، والتفريغُ لا يكون إلا في / نفي أو شهبه، ولكنْ لَمَّا وقع الجهر متعلقاً للحبِّ الواقعِ في حَيِّز النفي ساغ ذلك. وقيل: هو مستثنى من الجَهْر على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: إلا جَهْرَ مَنْ ظُلِم، فهذه ثلاثة أوجه على تقديرِ كونه متصلاً، تحصَّل منها في محل «مَنْ» أربعةُ أوجه: الرفع من وجهين وهما البدل من «أحد» المقدر، أو الفاعلية على كونه مفرغاً، والنصبُ على أصلِ الاستثناء من «أحد» المقدَّر أو من الجهر على حَذْفِ مضاف. والثاني: أنه استثناءٌ منقطعٌ، تقديرُه: لكنْ مَنْ ظُلِم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازي ظلامتَه فتكون «مَنْ» في محل نصب فقط على الاستثناء المنقطع. والجمهورُ على «إلاَّ مَنْ ظُلِمَ» مبنياً للمفعول، وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عباس وابن عمر وابن جبير والحسن: «ظَلَم» مبنياً للفاعل، وهو استثناء منقطع، فهو في محل نصب على أصل الاستثناء المنقطع، واختلفت عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء، وحاصل ذلك يرجع إلى أحد تقديرات ثلاثة: إمَّا أن يكون راجعاً إلى الجملة الأولى كأنه قيل: لا يحب اللَّهُ الجهرَ بالسوء، لكنَّ الظالمَ يحبه فهو يفعله، وإما أَنْ يكونَ راجعاً إلى فاعل الجهر أي: لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَر أحدٌ بالسوء، لكن الظالم يَجْهر به، وإمَّا أن يكون راجعاً إلى متعلق الجهر وهو «مَنْ يُجاهَرُ ويُواجَه بالسوء» أي: لا يحب الله أن يُجْهَر بالسوء لأحد لكن الظالم يُجْهَرُ له به، أي: يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه، لعله أن يَرْتدع. وكونُ هذا المستثنى في هذه القراءة منصوبَ المحل على الانقطاع هو الصحيح، وأجاز ابن عطية والزمخشري أن

يكونَ في محلِّ رفع على البدلية، ولكن اختلف مدركُهما فقال ابن عطية: «وإعراب» مَنْ «يحتمل في بعض هذه التأويلات النصبَ، ويحتمل الرفع على البدل من» أحد «المقدر» يعني احداً المقدرَ في المصدر كما تقدَّم تحقيقُه. وقال الزمخشري: و «يجوز أن يكون» مَنْ «مرفوعاً كأنه قيل: لا يحبُّ اللَّهُ الجهرَ بالسوء إلا الظالمُ، على لغةِ مَنْ يقول:» ما جاءني زيدٌ إلا عمروٌ «بمعنى: ما جاءني إلا عمرو، ومنه {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65] . ورد الشيخ عليهما فقال:» وما ذكره - يعني ابن عطية - من جواز الرفع على البدل لا يَصِحُّ، وذلك أن المنقطع قسمان: قسمٌ يتوجه إليه العامل نحو: «ما فيها أحدٌ إلاِ حمار» فهذا فيه لغتان: لغة الحجاز وجوب النصب، ولغةُ تميم جوازُ البدل، وإن لم يتوجه عليه العامل وجب نصبُه عند الجميع نحو: «المالُ ما زاد إلا النقصَ» أي: لكن حصل له النقص، ولا يجوز فيه البدل، لأنك لو وجهت إليه العامل لم يصح «قال:» والآية من هذا القسمِ، لأنك لو قلت: «لا يحبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ بالسوءِ إلا الظالمُ» فتسلِّطُ «يجهر» على «الظالم» لم يصح وقال: «وهذا الذي جَوَّزه - يعني الزمخشري- لا يجوز لأنه لا يمكن أن يكون الفاعلُ لغواً ولا يمكن أن يكونَ الظالمُ بدلاً من» الله «ولا» عمرو «بدلاً من» زيد «لأنَّ البدلَ في هذا الباِبِ يَرْجِع إلى بدل بعض من كل حقيقة نحو:» ما قام القومُ إلا زيدٌ «أو مجازاً نحو:» ما فيها أحدٌ إلا حمارٌ، والآيةٌ لا يجوز فهيا البدلُ حقيقةً ولا مجازاً، وكذا المثالُ المذكور، لأن الله تعالى عَلَمٌ وكذا زيدٌ فلا عمومَ فيهما ليُتَوَهَّمَ دخولُ شيءٍ فيهما فيُسْتثنى، وأمَّا ما يجوزُ فيه البدلُ من الاسثناء المنقطع فلأنَّ ما قبله عامٌّ يُتَوَهَّم دخولُه فيه فيُبْدل ما قبله مجازاً، وأمَّا قولُه على

لغةِ مَنْ يقول: «ما جاءني زيد إلا عمروٌ» فلا نعلمُ هذه لغةً إلا في كتاب سيبويه بعد أَنْ أنشد أبياتاً في الاستثناء المنقطع آخرُها. 167 - 2- عَشِيَّةَ ما تُغْني الرماحُ مكانَها ... ولا النبلُ إلا المشرفيُّ المُصَمَّمُ ما نصُّه: «وهذا يقوِّي:» ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ، وما أعانَه إخوانُكم إلا إخوانُه «لأنها معارفُ ليست الأسماء الآخرة بها ولا بعضَها» ولم يصرِّح ولا لَوَّح أن «ما أتاني زيدٌ إلا عمرو» من كلام العرب، قال مَنْ شَرَح كلام سيبويه: «فهذا يُقَوِّي» ما أتاني زيدٌ إلا عمرو «أي: ينبغي أن يَثْبُتَ هذا من كلام العرب لأن النبلَ معرفةٌ ليس بالمشرفي، كما أن زيداً ليس بعمرو، كما ان إخوة زيد ليسوا إخوتك. قال الشيخ:» وليس ما أتاني زيدٌ إلا عمرو «نظيرَ البيت؛ لأنّه قد يُتَخَيَّل عمومٌ في البيت إذ المعنى: لا يُغْني السلاح، وأمَّا» زيد «فلا يُتَوهم فيه عموم على أنه لو ورد من كلامهم:» ما أتاني زيدٌ إلا عمرو «لأمكن أن يَصِح على» ما أتاني زيد ولا غيره إلا عمروٌ «فحُذِف المعطوفُ لدلالة الاستثناء عليه، أمَّا أن يكونَ على إلغاء الفاعل أو على كون» عمرو «بدلاً من» زيد «فإنه لا يجوز، وأمَّا الآية فليست مِمَّا ذَكَر، لأنه يحتمل أن تكونَ» مَنْ «مفعولاً بها، و» الغَيبَ «بدلٌ منها بدلُ اشتمال، والتقديرُ: لايعلم غيبَ مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلا اللَّهُ أي: سِرَّهم وعلانيتهم لاَ يَعْلَمها إلا الله، ولو سُلِّم أنَّ» مَنْ «مرفوعةٌ المحل فيتخيل فيها عمومٌ فيُبدل منها» الله «مجازاً كأنه قيل: لا يَعْلَمُ الموجودون الغيبَ إلا اللَّهُ، أو يكونُ على سبيلِ المجازِ في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى، إذ جاء ذلك عنه في القرآنِ والسنة

نحو: {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض} [الأنعام: 3] {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله} [الزخرف: 84] ، قال:» أين الله «قالت:» في السماء «ومِنْ كلامِ العرب:» لاوذو في السماءِ بيتُه «يعنون اللَّهَ، وإذا احتملت الآيةُ هذه الوجوه لم يتعين حملُها على ما ذكره» انتهى ما رَدَّ به عليهما. أمَّا ردُّه على ابن عطية فواضحٌ، وأمَّا ردُّه على الزمخشري / ففي بعضه نظر، أما قوله «لا نعلمها لغةً إلى في كتاب سيبويه» فكفى به دليلا على صحة استعمالِ مثله، ولذلك شرح الشراح لكتاب سيبويه هذا الكلامَ بأنه قياسُ كلام العرب لِما أَنْشد من الأبيات. وأمَّا تأويلُه «ما أتاني زيدٌ إلا عمروٌ» ب «ما أتاني زيد ولا غيرُه» فلا يتعيَّن ما قاله، وتصحيحُ الاستثناء فيه أنَّ قولَ القائل «ما أتاني زيد» قد يُوهم أن عمراً أيضاً لم يَجِئه فنفى هذا الوهمَ، وهذا القَدْر كافٍ في الاستثناء المنقطع، ولو كان تأويل «ما أتاني زيد إلا عمروٌ» على ما قال لم يكن استثناءً منقطعاً بل متصلاً، وقد اتفق النحويون على ان ذلك من المنقطع، وأمّا تأويلُ الآية بما ذكره فالتجوُّزُ في ذلك أمرٌ خطرٌ، فلا ينبغي أن يُقْدَمَ على مِثْله.

149

قوله تعالى: {أَوْ تُخْفُوهْ} : الظاهرُ أنَّ الضميرَ المنصوبَ في «تُخْفوه» عائد على «خيراً» والمرادُ به أعمالُ البر كلها. وأجاز بعضُهم أن يعودَ على «السوء» أي: أو تُخْفوا السوء، وهو بعيدٌ.

150

قوله تعالى: {بَيْنَ ذلك} : أُشير ب «ذلك» وهو للمفرد، والمراد به البينية أي: بين الكفر والإِيمان، وقد تقدَّم نظيرُه في البقرة و «بين يجوز أن

يكونَ منصوباً ب» يتخذ «وأن يكونَ منصوباً بمحذوف إذ هو حال من» سبيلاً «.

151

قوله تعالى: {حَقّاً} : فيه أوجهٌ، أحدُهما: أنه مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملة قبله فيجب إضمارُ عامِله وتأخيره عن الجملة المؤكِّد لها، والتقدير: أَحُقُّ ذلك حقاً، وهكذا كلُّ مصدر مؤكد لغيره أو لنفسه والثاني: أنه حالٌ من قوله: {هُمُ الكافرون} قال أبو البقاء: أي: «كافرون غير شك» وهذا يشبه أن يكونَ تفسيراً للمصدر المؤكد. وقد طَعَن الواحدي على هذا التوجيه فقال: «الكفرُ لا يكون حقا» بوجه من الوجوه «. والجوابُ: أنَّ الحق هنا ليس يُراد به ما يقابل الباطل، بل المرادُ به أنه ثابتٌ لا محالةَ وأنَّ كفرهم مقطوع به. الثالث: أنه نعت لمصدر محذوف أي: الكافرون كفراً حقاً، وهو أيضاً مصدر مؤكد، ولكن الفرق بينه وبين الوجه الأول أنَّ هذا عاملُه مذكورٌ، وهو اسمُ الفاعل وذاك عاملُه محذوفٌ كما تقدم.

152

قوله تعالى: {بَيْنَ أَحَدٍ} : قد تقدَّم الكلامُ على دخول «بين» على {أَحَدٍ} [الآية: 136] في البقرة فَأَغنى عن إعادته. وقرأ الجمهور: «سوف نُؤتيهم» بنونِ العظمة على الالتفاف ولموافقة قوله: «وأَعْتدنا» وقرأ حفص عن عاصم بالياء، أعاد الضمير على اسم الله تعالى في قوله: {والذين آمَنُواْ بالله} وقولُ بعضهم: قراءة النون أولَى لأنها أفخم، ولمقابلة «وأعتدنا» ليس بجيد لتواتر القراءتين.

153

قوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُواْ} : في هذه الفاءِ قولان، أحدهما: أنها عاطفةٌ على جملة محذوفة، قال ابن عطية: «تقديره: فلا تبال يا محمد بسؤالِهم وتشطيطهِم فإنها عادتُهم، فقد سألوا موسى أكبرَ من ذلك. والثاني: أنها جوابُ شرطٍ مقدر، قال الزمخشري أي: إنْ استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا» و «أكبَرَ» صفةٌ لمحذوف أي: سؤالاً أكبر من ذلك. والجمهور: «أكبرَ» بالباء الموحدة، وقراءة الحسن «أكثر» بالثاء المثلثة. وقوله: {فقالوا أَرِنَا} هذه الجملةُ مفسرةٌ لكبر السؤال وعظمته. و {جَهْرَةً} [البقرة: 55] تقدَّم الكلام عليها، إلا أنه هنا يجوز أن تكون «جهرةً» من صفةِ القول أو السؤالِ أو مِنْ صفة السائلين أي: فقالوا مجاهرين أو: سألوا مجاهرين، فتكون في محلِّ نصبٍ على الحال أو على المصدر. وقرأ الجمهور «الصاعقةُ» وقرأ النخعي: «الصَّعْقةُ» وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة «وبظلمِهم» الباءُ فيه سببيةٌ، وتتعلق بالأخذ.

154

قوله تعالى: {فَوْقَهُمُ} : فيه وجهان، الظاهرُ منهما أنه متعلق ب «رَفَعْنا» وأجاز أبو البقاء وجهاً ثانياً وهو أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الطور. و «بميثاقهم» متعلقٌ أيضاً بالرفع، والباءُ للسببية، قالوا: وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه: بنقض ميثاقهم وقال الزمخشري: «بميثاقِهم» بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه «وظاهر هذه العبارة أنه لايُحتاج

إلى حذف مضاف، بل أقول: لا يجوز تقدير هذا المضاف لأنه يقتضي أنهم نقضوا الميثاق فرفَع اللَّهُ الطورَ عليم عقوبةً على فِعْلهم النقضَ، والقصةُ تقتضي أنَّهم هَمُّوا بنقضِ الميثاق، فرفعَ اللَّهُ عليهم الطور، فخَافوا فلم يَنْقُضوه، وإن كانوا قد نَقَضوه بعد ذلك. وقد صَرَّح أبو البقاء بأنهم نقضوا الميثاق، وأنه تعالى رفع الطور عقوبةً لهم فقال:» تقديرُه: بنقض ميثاقهم، والمعنى: ورَفَعْنا فوقَهم الطور تخويفاً، لهم بسببِ نقضهم الميثاقَ «وفيه ذلك النظرُ المتقدم، ولقائل أن يقول: لَمَّا هَمُّوا بنقضه وقاربوه صح أن يقال: رَفَعْنا الطور فوقهم لنقضهم الميثاق أي: لمقاربتم نقضَه، لأنَّ ما قارب الشيء أُعْطِي حكمَه، فتصِحُّ عبارةُ مَنْ قدَّر مضافاً كأبي البقاء وغيره. والميثاق مصدر مضاف لمفعوله. و» سُجَّداً «حالٌ من فاعل» ادخلوا «. قوله: {لاَ تَعْدُواْ} قرأ الجمهور» تَعْدُوا «بسكون العين وتخفيفِ الدال مِنْ عَدا يعدو، كغزا يغزو، والأصل:» تَعْدُوُوا «بواوين: الأولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعلين، فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فَحُذِفَتْ، فالتقى بِحَذْفِها ساكنان، فحُذِفَ الأول وهو الواو الأولى، وبقيت واو الفاعلين، فوزنه: تَفْعَوا. وقرأ نافع بفتح العين وتشديد الدال، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالون عن نافع: فرووا عنه تارة بسكون العين سكوناً محضاً، وتارة إخفاء فتحة العين. فأما قراءة نافع فاصلها: تَعْتَدوا، ويدل على ذلك إجماعهم / على: {اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت} [البقرة: 65] كونِه من الاعتداء وهو افتعالٌ من العدوان، فأُريد إدغامُ تاء الافتعال في الدال فنُقِلَتْ حركتُها إلى العين وقُلبت دالاً وأدغمت. وهذه قراءةٌ واضحة. وأما ما يُروى عن قالون من السكون المحض فشيءٌ لا يراه النحويون لأنه جَمْعٌ بين ساكنين على غيرِ حَدِّهما. وأمَّا الاختلاسُ.

فهو قريب للإِتيان بحركة ما، وإن كانت خفيَّةً، إلا أنَّ الفتحةَ ضعيفةٌ في نفسِها فلا ينبغي أن تُخْفى لِتُزادَ ضعفاً، ولذلك لم يُجزِ القراء رَوْمَها وقفاً لضعفِها. وقرأ الأعمش:» تَعْتَدُوا «بالأصل الذي أدغَمُه نافع.

155

قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} : في «ما» هذه وجهان، أحدهما: أنها زائدةٌ بين الجار ومجروره تأكيداً، والثاني: أنها نكرة تامة، و «نقضِهم» بدلٌ منه، وهذا كما تقدَّم في {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 159] . و «نقض» مصدرٌ مضاف لفاعله، و «ميثاقهم» مفعوله، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ ل «ما» هذه وجهان، أحدهما: أنه «حَرَّمنا» المتأخر في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا} [النساء: 160] وعلى هذا فيقال: «فبظلمٍ» متعلق ب «حَرَّمنا» أيضاً فيلزم أن يتعلق حرفا جر متحدان لفظاً ومعنى بعامل واحد، وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل. وأجابوا عنه بأن قولَه «فبظلمٍٍ» بدل من قوله «فبما» بإعادة العامل. فيقال: لو كان بدلاً لما دخلت عليه فاء العطف؛ لأن البدل تابع بنفسِه من غير توسُّط حرف عطف. وأُجيب عنه بأنه لَمَّا طال الكلام بين البدل والمبدل منه أعادَ الفاء للطول، ذكر ذلك ابو البقاء والزجاج والزمخشري وأبو بكر وغيرهم. وقد رَدَّه الشيخ بما معناه أن ذلك لايجوز لطول الفصل بين المبدل والبدل، وبأنَّ المعطوفَ على السبب سببٌ فيلزمُ تأخُّرُ بعض أجزاء السبب الذي

للتحريم في الوقت عن وقت التحريم، فلا يمكن أن يكون سبباً أو جزءَ سببٍ إلا بتأويل بعيد، [وذلك أن قولهم: «إنَّا قتلنا المسيحَ» وقولهم على مريم] البهتانَ إنما كان بعد تحريم الطيبات. قال: «فالأَوْلى أن يكونَ التقدير: لعنَّاهم. وقد جاء مصرَّحاً به في قولِه: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} . والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، فقَّدره ابنُ عطية لعنَّاهم وأَذْلَلْناهم وختمنا على قلوبهم. قال:» وحَذْفُ جوابِ مثلِ هذا الكلام بليغٌ «وتسميةُ مثل هذا» جواب «غيرُ معروف لغةً وصناعة. وقَدَّره أبو البقاء:» فبما نقضهم ميثاقهم طُبع على قلوبهم، أو لُعِنوا. وقيل: تقديرُه: فبما نقضِهم لا يؤمنون، والفاء زائدةٌ «انتهى. [وهذا الذي أجازه أبو البقاء تعرض له الزمخشري وردَّه فقال:» فإنْ قالت: فهلاَّ زَعَمْتَ أنًَّ المحذوف الذي تعلَّقَتْ به الباء] ما دل عليه قولُه «بل طَبَع اللَّهُ، فيكون التقديرُ: فبما نقضِهم طَبَع اللَّهُ على قلوبهم، بل طَبَع الله عليها بكفرهم ردُّ وإنكارٌ لقولهم:» قلوبُنا «غُلْفٌ» فكانَ متعلقاً به «قال الشيخ:» وهو جوابٌ حسنٌ، ويمتنع من وجهٍ آخرَ وهو أنَّ العطفَ ب «بل» للإِضرابِ، والإِضرابُ إبطالٌ أو انتقالٌ، وفي كتابِ الله في الإِخبار لا يكون إلا للانتقال، ويُسْتفاد من الجملةِ الثانية ما لايُسْتفاد من الأولى، والذي قَدَّره الزمخشري لا يَسُوغ فيه الذي قررناه، لأنَّ قولَه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله} هو مدلولُ الجملة

التي صَحِبتها «بل» فأفادَتِ الثانية ما أفادت الأولى، ولو قلت: «مَرَّ زيد بعمرو، بل مَرَّ زيد بعمرو» لم يَجُزْ «وقَدَّره الزمخشري» فَعَلْنا بهم ما فعلنا «. قوله: {بَلْ طَبَعَ} هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدم أي: ليس الأمرُ كما قالوا مِنْ قولهم: «قلوبُنا غلف» وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بل في «طبع» إلا الكسائي فأدغم من غير خلاف، وعن حمزة خلاف. والباء في بكفرهم «يُحتمل أن تكون للسببية، وأن تكون للآلة كالباء في» طبعت «بالطين على الكيس» يعني أنه جعل الكفر كالشيء المطبوع به أي مُغَطِّياً عليها، فيكونُ كالطابع. وقوله: «إلا قليلاً» يحتمل النصبَ على نعت مصدر محذوف أي: إلا إيماناً قليلاً: ويحتمل كونَه نعتاً لزمان محذوف أي: زماناً قليلاً، ولا يجوزُ أن يكونَ منصوباً على الاستثناءِ من فاعل «يؤمنون» أي: قليلاً منهم فإنهم يؤمنون، لأنَّ الضمير في «لا يؤمنون» عائدٌ على المطبوع على قلوبهم، ومن طَبَع على قلبه بالكفر فلا يقع منه الإِيمان.

156

قوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوف على «ما» في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} فيكونُ متعلقاً بما تعلق به الأول. الثاني: أنه عطفٌ على «بكفرهم» الذي بعد «طبع» وقد أوضح الزمخشري ذلك غايةَ الإِيضاح، واعترض وأجابَ بأحسنِ جواب، فقال: «فإنْ قلت: علامَ عَطَفَ قولَه» وبكفرهم «؟ قلت: الوجهُ أن يُعْطَفَ على» فبما نقضِهم «ويُجْعَلَ قولُه:» {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} كلاماً يَتْبع قوله: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} على وجهِ الاستطراد، ويجوز عطفُه على ما يله من قوله «بكفرِهم» فإنْ قلت: فما معنى المجيءِ بالكفر معطوفاً على ما فيه ذِكْرُه؟ سواءً عطف على ما قبل الإِضراب، أو على ما بعده، وهو قوله: {وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ

الله} وقوله «بكفرهم» قلت: قد تكرر منهم الكفر؛ لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمدٍ، فعطف بعضَ كفرِهم على بعض، أو عَطَف مجموعَ المطعوفِ على مجموعِ المعطوف عليه، كأنه قيل: فبجمعهم بين نقضِ الميثاقِ، والكفر بآيات الله، وقتلِ الأنبياء، وقولِهم: قلوبنا غلف، وجمعِهم بين كفرهم وبُهْتِهِم مريمَ وافتخارِهم بقتل عيسى عاقبناهم، أو بل طبع الله عليها بكفرِهم وجمعِهم بين كفرهم كذا وكذا «. قوله: {بُهْتَاناً} في نصبِه خمسةُ أوجه، أظهرُها: أنه مفعول به، فإنه مُضَمَّنٌ معنى» كلام «نحو: قلت خطبة وشعراً. الثاني: أنه منصوبٌ على نوع المصدر كقولهم:» قَعَد القرفصاء «يعني أن القول يكون بُهتاناً وغيرَ بهتان. الثالث: أن ينتصبَ نعتاً لمصدر محذوف أي: قولاً بُهتاناً، وهو قريبُ من معنى الأول الرابع: أنه منصوبٌ بفعل مقدرٍ من لفظه أي: بَهَتوا بُهْتاناً. الخامس: أنه حال من الضمير المجرور في قولهم أي: مباهتين، وجازَ مجيء الحال من المضاف إليه لأنه فاعل معنًى، والتقدير: وبأن قالوا ذلك مباهتين.

157

وقوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ} : عطفٌ على «وكفرهم» و «عيسى» بدلٌ من «المسيح» أو عطفُ بيان، وكذلك «ابن مريم» ويجوز أن يكونَ صفةً أيضاً، وأجاز أبو البقاء في «رسول الله» هذه الأوجهَ الثلاثةَ، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليل. وقد يُقال: إنَّ «رسول الله» جرى مَجْرى الجوامد / وأجازفيه أن يَنْتصب بإضمارِ «أعني» ، ولا حاجةَ إليه. قوله «شُبِّه لهم» : «شُبِّه» مبني للمفعول وفيه وجهان، أحدهما: أنه مسند للجار بعده كقولك: «حِيل إليه، ولُبس عليه» . والثاني: أنه مسندٌ لضمير المقتول الذي دَلَّ عليه قولهم: «إنَّا قتلْنا» أي: ولكن شُبِّه لهم مَنْ قتلوه. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يعودَ على المسيح؟ فالجواب أن المسيح مشبه به لا مشبه.

[قوله] : «لفي شك منه» : «منه» في محلِّ جرٍ صفة ل «شك» يتعلَّقُ بمحذوف، ولا يجوز أن تتعلَّق فَضْله بنفس «شك» ؛ لأن الشك إنما يتعدَّى ب «في» لا ب «من» ، ولا يقال: إنَّ «مِنْ» بمعنى «في» فإن ذلك قولٌ مرجوح، ولا ضرورةَ لنا به هنا. وقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} يجوز في «علم» وجهان، أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية والعاملُ أحد الجارَّيْن: إمّا «لهم» وإما «به» ، وإذا جُعِل أحدُهما رافعاً له تعلَّق الآخر بما تعلَّق به الرفع من الاستقرارِ المقدر. و «مِنْ» زائدةٌ لوجودِ شرطَي الزيادةِ. والوجه الثاني: أَن يكونَ «من علم» مبتدأ زِيدت فيه «من» أيضاً، وفي الخبر احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ «لهم» فيكون «به» : إمَّا حالاً من الضمير المستكنّ في الخبر، والعاملُ فيها الاستقرارُ المقدر، وإمَّا حالاً من «عِلْم» وإنْ كان نكرةً لتقدُّمها عليه ولاعتمادِه على نفي. فإن قيل: يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرور بالحرف عليه وهو ضرورةٌ لا يجوزُ في سَعة الكلام. فالجوابُ أنَّا لا نُسَلِّم ذلك، بل نقل أبو البقاء وغيره أنَّ مذهب أكثر البصريين جوازُ ذلك، ولئِنْ سلَّمنا أنه لا يجوز إلا ضرورة لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جر زائد، والزائد في حكم المُطَّرَح، وأمَّا أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيان أي: أعني به، ذكره أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، ولا يجوزُ أن يتعلقَ بنفس «علم» لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه. والاحتمال الثاني: أن يكون «به» هو الخبر، و «لهم» متعلق بالاستقرار كما تقدم، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنة مخصصة كالتي في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] . وهذه الجملةُ المنفية تحتمل ثلاثة أوجه: الجر على أنها صفةٌ ثانية ل «شك» أي:

غيرِ معلوم. الثاني: النصب على الحالِ من «شك» وجازَ ذلك وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِه بالوصف بقوله «منه» الثالث: الاستئناف، ذكره أبو البقاء، وهو بعيد. قوله: {إِلاَّ اتباع الظن} في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: وهو الصحيح الذي لم يذكر الجمهورُ غيرَه أنه منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، ولم يُقْرأ فيما علمت إلا بنصبِ «اتِّباع» على أصل الاستثناء المنقطع، وهي لغةُ الحجاز، ويجوزُ في تميم الإِبدالُ من «علم» لفظاً فيجرُّ، او على المضع فيُرفَعُ لأنه مرفوعُ المحل كما قَدَّمته لك، و «من» زائدة فيه. والثاني - قال ابن عطية-: أنه متصل قال: «إذ العلم والظن يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين، يقول الظانُّ على طريق التجوُّز:» علمي في هذا الأمر كذا «إنما يريد ظني» انتهى. وهذا غيرُ موافَقِ عليه لأن الظنَّ ما ترجَّح فيه أحد الطرفين، واليقين ما جُزِم فيه بأحدهما، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظن ليس من جنس العلم، بل هو غيره، فهو منقطع أيضاً أي: ولكنَّ اتباعَ الظن حاصلٌ لهم. قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} الضمير في «قتلوه» فيه أقوال أظهرها أنه لعيسى، وعليه جمهور المفسرين. والثاني: - وبه قال ابن قتيبة والفراء - انه يعودُ على العلم أي: ما قتلوا العلم يقيناً، على حد قولهم: «قتلت العلم والرأي يقيناً» و «قتلته علماً» ووجه المجاز فيه أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء، فكأنه قيل: وما كان علمهم علماً أُحيط به، إنما كان عن ظن وتخمين. الثالث - وبه قال ابن عباس والسدي وطائفة كبيرة - أنه يعود

للظن تقول: «قتلت هذا الأمر علماً ويقيناً» أي: تحققت، فكأنه قيل: وما صَحَّ ظنهم عندهم وما تحققوه يقيناً ولا قطعوا الظن باليقين. قوله: {يقيناً} فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه نعت مصدر محذوف أي: قتلاً يقيناً. الثاني: أنه مصدر من معنى العامل قبله كما تقدم مجازه، لأنه في معناه أي: وما تيقنوه يقيناً. الثالث: أنه حال من فاعل «قتلوه» أيك وما قتلوه متيقنين لقتله. الرابع: أنه منصوب بفعل من لفظه حُذِف للدلالة عليه. أي: ما تيقَّنوه يقينا، ويكون مؤكداً لمضمون الجملة المنفية قبله. وقدّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتاً فقال: «تقديره: تيقنوا ذلك يقنيا» وفيه نظر. الخامس - ويُنْقل عن ابي بكر بن الأنباري- أنه منصوبٌ بما بعد «بل» من قوله: {رَّفَعَهُ الله} وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً أي: بل رفعه الله إليه يقيناً، وهذا قد نَصَّ الخليل فمَنْ دونه على منعِه، أي: إن «بل» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فينبغي ألا يَصِحَّ عنه، وقوله: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} ردُّ لما ادَّعَوْه مِنْ قتله وصلبه. والضمير في «إليه» عائد على «الله» على حَذْفِ مضاف أي: إلى سمائِه ومحلِّ أمره ونهيه.

159

قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب} : «إنْ» هنا نافيةٌ بمعنى «ما» و «من أهل» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه صفة لمبتدأ محذوف، والخبرُ الجملةُ القسمية المحذوفة وجوابها، والتقدير: وما أحد من أهل الكتاب إلا واللهِ ليؤمِنَنَّ به، فهو كقوله: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ [مَّعْلُومٌ] } [الصافات: 164] . أي: ما أحدٌ منا، وكقوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي: ما أحد منكم إلا ورادُها، هذا هو الظاهر، والثاني: - وبه قال الزمخشري وأبو البقاء - أنه في

محلِّ الخبر، قال الزمخشري: «وجملة» ليؤمِنَنَّ به «جملةٌ قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإنْ من أهل / الكتابِ أحدٌ إلا ليؤمنن به، ونحوه: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] والمعنى: وما من اليهود أحدٌ إلا ليؤمن» قال الشيخ: «وهو غلطٌ فاحش، إذ زعم أن» ليؤمنن به «جملة قسيمة واقعةٌ صفةً لموصوف محذوف إلى آخره، وصفة» أحد «المحذوف إنما [هو] الجار والمجرور كما قَدَّرناه، وأمّا قوله:» ليؤمنن به «فليست صفةً لموصوف ولا هي جملة قسيمة، إنما هي جملة جواب القسم، والقسم محذوف، والقسمُ وجوابُه خبر للمبتدأ إذ لا ينتظم من» أحد «والمجرور إسناد لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإِسناد بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو محطُّ الفائدة، وكذلك أيضاً الخبرُ هو» إلاَّ له مقام «، وكذلك» إلا واردها «إذ لا ينتظم مما قبل» إلا «تركيب إسنادي» وهذا - كما ترى - قد أساء العبارة في حق الزمخشري بما زعم أنه غلط وهو صحيح مستقيم، وليت شعري كيف لا ينتظم الإِسناد من «أحد» الموصوفِ بالجملة التي بعده ومن الجارِّ قبله؟ ونظيرُه أن تقول: «ما في الدار رجلٌ إلا صالحٌ» فكما أن «في الدار» خبر مقدم، و «رجل» مبتدأ مؤخر، و «إلا صالحٌ» صفته، وهو كلامٌ مفيد مستقيم، فكذلك هذا، غايةُ ما في الباب أنَّ «إلا» دَخَلَتْ على الصفة لتفيدَ الحصر. وأما ردُّه عليه حيث قال: جملةٌ قسمية، وإنما هي جوابُ القسم فلا يَحْتاج إلى الاعتذار عنه ويكفيه مثلُ هذه الاعتراضات. واللام في «ليؤمِنَنَّ» جوابُ قسمٍ محذوف كما تقدَّم. وقال أبو البقاء: «ليؤمِنَنَّ جواب قسم محذوف، وقيل: أكَّد بها في غير القسم كما جاء في النفي والاستفهام» فقوله: «وقيل إلى آخره» إنما يستقيم ذلك إذا أعَدْنا

الخلاف إلى نونِ التوكيد؛ لأنَّ نون التوكيد قد عُهِد التأكيدُ بها في الاستفهام باطَّراد، وفي النفي على خلاف فيه، وأما التأكيدُ بلام الابتداء في النفي والاستفهام فلم يُعْهَد البتة. وقال أيضاً قبل ذلك: «وما مِنْ أهل الكتاب أحدٌ، وقيل: المحذوف» مَنْ «وقد مرَّ نظيره، إلا أنَّ تقديرَ» مَنْ «هنا بعيدٌ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسم، و» مَنْ «الموصولة والموصوفة غيرُ تمامة» يعني أنَّ بعضَهم جعل ذلك المحذوفَ لفظَ «مَنْ» فيقدِّر: وإنْ مِنْ أهل مَنْ إلا ليؤمِنَنَّ، فجعل موضع «أحد» لفظَ «مَنْ» وقوله: «وقد مر نظيره» يعني قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} [آل عمران: 199] ومعنى التنظير فيه أنه قد صَرَّح بلفظ «مَنْ» المقدَّرة ههنا. وقرأ أُبَي: {ليؤمِنُنَ به قبل موتهم} بضم النون الأولى مراعاة لمعنى «أحد» المحذوف، وهو إن كان لفظه مفرداً فمعناه جمع. والضمير في «به» لعيسى. وقيل: لله تعالى، وقيل: لمحمد عليه السلام. وفي «موته» لعيسى. ويُروى في التفسير أنه حين ينزل إلى الأرض يؤمن به كلُّ أحد حتى تصيرَ الملةُ كلها إسلاميةً. وقيل: يعود على «أحد» المقدر، أي: لا يموتُ كتابي حتى يؤمن بعيسى، وينقل عن ابن عباس ذلك، فقال له عكرمة: «أفرأيت إنْ خَرَّ من بيت أو احترق أو أكله سَبُعٌ» قال: لا يموتُ حتى يُحَرِّكَ بها شفتيه أي: بالإِيمان بعيسى. وقرأ الفياض بن غزوان: «وإنَّ من أهل الكتاب» بتشديد «إنَّ» وهي قراءةٌ مردودةٌ لإِشكالها. قوله: {وَيَوْمَ القيامة} العامل فيه «شيهداً» وفيه دليلٌ على جوازِ تقدُّم خبرِ «كان» عليها، لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤْذِن

بتقديمِ العامل. وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً ب «يكون» وهذا على رَأْي مَنْ يجيز ل «كان» أن تعمل في الظرفِ وشبهِه. والضميرُ في «يكون» لعيسى، وقيل: لمحمد عليه السلام.

160

قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ} : هذا الجارُّ متعلق ب «حَرَّمنا» والباء سببية، وإنما قُدِّم على عامِله تنبيهاً على قبح سبب التحريمِ، وقد تقدَّم أنَّ قولَه: «فبظلمِ» بدلٌ من قولِه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} وتقد‍َّم الردُّ على قائله أيضاً فأغنى عن إعادته. و «من الذين» صفة ل «ظلم» أي: ظلمٍ صادرٍ من الذين هادُوا. وقيل: ثَمَّ صفةٌ للظلم محذوفةٌ للعمل بها أي: فبظلمٍ أيِّ ظلم، أو فبظلمٍ عظيمٍ كقوله: 167 - 3- فلا وأبى الطيرِ المُرِبَّةِ بالضحى ... على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ أي: لحم عظيم. قوله: {أُحِلَّتْ لَهُمْ} هذه الجملةُ صفةٌ ل «طيبات» فمحلُّها نصبٌ، ومعنى وصفِها بذلك أي: بما كانت عليه مِنَ الحِلِّ، ويوضَّحه قراءة ابن عباس: {كانت أُحِلَّتْ لهم} قوله: «كثيراً» فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه مفعول به أي: بصدِّهم ناساً أو فريقاً أو جمعاً كثيراً. وقيل: نصبُه على المصدرية أي: صَدَّاً كثيراً. وقيل: على ظرفيه الزمان أي: زماناً كثيراً، والأول أولى، لأنَّ المصادرَ بعدها ناصبةٌ لمفاعيلها، فيجري البابُ على سَننٍ واحدٍ، وإنما أعيدت الباءُ في قوله: {وَبِصَدِّهِمْ} ولم تَعُدْ في قوله: «وأَخْذِهم» وما بعده لأنه قد فُصِل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولاً

للمعطوف عليه، بل بالعامل فيه وهو «حَرَّمْنا» وما تعلق به، فلمَّا بَعُد المعطوف من المعطوف عليه بالفصلِ بما ليس معمولاً للمعطوف عليه أُعيدت الباءُ لذلك، وأمَّا ما بعده فلم يُفْصَل فيه إلا بما هو معمولٌ للمعطوفِ عليه وهو «الربا» .

161

والجملةُ من قوله تعالى: {وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} : في محلِّ نصب لأنها حاليةٌ، ونظير ذلك في إعادة الحرفِ وعدمِ إعادتِه ما تقدَّم في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] الآية. و «بالباطل» يجوز أن يتعلق ب «أَكْلِهم» على أنها سببيةٌ أو بمحذوفٍ على أنها حال من «هم» في «أكلهم» أي: ملتبسين بالباطل.

162

قوله تعالى: {لكن الراسخون} : جيء هنا ب «لكن» لأنها بين نقيضين، وهما الكفارُ والمؤمنون. و «الراسخون» مبتدأ، وفي خبره احتمالان، أظهرُهما: أنه «يؤمنون» ، والثاني: أنه الجملة من قوله: «أولئك سنؤتيهم» و «في العلم» متعلقٌ ب «الراسخون» . و «منهم» متعلق بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في «الراسخون» . قوله: «المؤمنون» عطفٌ على «الراسخون» وفي خبره الوجهان المذكوران في خبر «الراسخون» ، ولكن إذا جَعَلْنا الخبرَ «أولئك سنُؤتيهم» فيكون / يؤمنون ما محلُّه؟ والذي يَظْهر أنه جملة اعتراض لأنَّ فيه تأكيداً وتسديداً للكلام، ويكون «يؤمنون» يعود على «الراسخون» و «المؤمنون» جميعاً، ويجوز أن تكون حالاً منهما، وحينئذ لا يُقال: إنها حال مؤكدة لتقدُّم عاملٍ مشاركٍ لها لفظاً؛ لأنَّ الإِيمانَ فيها مقيدٌ، والإِيمانُ الأولُ مطلقٌ، فصار فيها فائدةٌ لم تكن في عاملها، وقد يُقال: إنها مؤكدة بالنسبة لقوله: «يؤمنون» غيرُ مؤكدة بالنسبةِ لقولِه: «الراسخون» .

قوله: والمقيمين «قراءةُ الجمهورِ بالياء، وقرأ جماعة كثيرة» والمقيمون «بالواو منهم ابن جبير وأبو عمرو بن العلاء في رواية يونس وهارون عنه، ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش، وعمرو بن عبيد، والجحدري وعيسى بن عمر وخلائق. فأما قراءة الياء فقد اضطربت فيها اقوال النحاة، وفيها ستةُ أقوال، أظهرهما: وعزاه مكي لسيبويه، وأبو البقاء للبصريين - أنه منصوبٌ على القطع، يعني المفيدَ للمدح كما في قطع النعوت، وهذا القطعُ مفيدٌ لبيان فضل الصلاة فَكَثُر الكلامُ في الوصفِ بأن جُعِل في جملة أخرى، وكذلك القطعُ في قوله {والمؤتون الزكاة} على ما سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضاً، لكن على هذا الوجه يجب أن يكونَ الخبرُ قولَه:» يؤمنون «ولا يجوز أن يكون قوله {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ} لأن القطع إنما يكونَ بعد تمامِ الكلام. قال مكي:» ومَنْ جَعلَ نَصْبَ «المقيمين» على المدحِ جَعَلَ خبرَ «الراسخين» : «يؤمنون» ، فإنْ جَعَل الخبر «أولئك» سنؤتيهم «لم يجز نصب» المقيمين «على المدح، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام» وقال الشيخ: «ومَنْ جعل الخبرَ: أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيفٌ» قلت: هذا غيرُ لازمٍ، لأنه هذا القائلَ لا يَجْعَلُ نصبَ «المقيمين» حينئذٍ منصوباً على القطع، لكنه ضعيفٌ بالنسبةِ إلى أنه ارتكبَ وجهاً ضعيفاً في تخريج «المقيمين» كما

سيأتي. وحكى ابنُ عطية عن قومٍ مَنْعَ نصبه على القطع من أجلِ حرف العطف، والقطعُ لا يكونُ في العطف، إنما ذلك في النعوت، ولما استدلَّ الناسُ بقول الخرنق: 167 - 4- لا يَبْعَدَن قومي الذين همُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ النازلين بكلِّ معتَركٍ ... والطيبون معاقدَ الأزْرِ على جواز القطع فَرَّق هذا القائلُ بأن البيت لا عطفَ فيه؛ لأنها قطعت «النازين» فنصبته، و «الطيبون» فرفعَتْه عن قولِها «» قومي «، وهذا الفرقُ لا أثرَ له؛ لأنه في غيرِ هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف، أنشد سيبويه: 167 - 5- ويَأْوي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ ... وشُعْثاً مراضيعَ مثلَ السَّعالِي فنصب» شعثاً «وهو معطوف. الثاني: أن يكونَ معطوفاً على الضمير في» منهم «أي: لكن الراسخون في العلمِ منهم ومن المقيمين الصلاة. الثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في» إليك «أي: يؤمنون بما أُنْزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياء. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على» ما «في» بما أُنْزِل «أي: يؤمنون» بما أنزل إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالمقيمين، ويُعْزَى هذا الكسائي. واختلفت

عبارة هؤلاء في «المقيمين» فقيل: هم الملائكة قال مكي: «ويؤمنون بالملائكة الذين صفتُهم إقامةُ الصلاةِ كقوله: {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] . وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المسلمون، ويكون على حَذْفِ مضافٍ أي: وبدين المقيمين. الخامس: أن يكونَ معطوفاً على الكاف في» قبلك «أي: ومِنْ قبلِ المقيمين، ويعني بهم الأنبياءَ أيضاً. السادس: أن يكونَ معطوفاً على نفسِ الظرف، ويكونَ على حَذْفِ مضاف أي: ومن قبل المقيمين، فحُذِف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامه. فهذا نهايةُ القولِ في تخريجِ هذه القراءةِ. وقد زعم قومٌ لا اعتبارَ بهم أنهم لحنٌ، ونقلوا عن عائشة وأبان بن عثمان أنها خطأ من جهةِ غلط كاتبِ المصحف، قالوا: وأيضاً فهي في مصحفِ ابن مسعود بالواو فقط نقله الفراء، وفي مصحف أُبيّ كذلك، وهذا لا يَصحُّ عن عائشة ولا أبان، وما أحسن قولَ الزمخشري رحمه الله:» ولا يُلتفت إلى ما زعموا مِنْ وقوعِه لَحْناً في خط المصحف، وربما التفت إليه مَنْ لم ينظر في الكتاب الكتاب ومَنْ لم يعرف مذاهبَ العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغَبِيَ عليه أنَّ السابقين الأولين الذين مَثَلُهم في التوراة ومثلُهم في الانجيل كانوا أبعدَ همةً في الغَيْرة عن الاسلام وذَبَّ المطاعنِ عنه من ان يقولوا ثُلْمَةً في كتاب اله ليسُدَّها مَنْ بعدهم، وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يلحق بهم «وأمَّا قراءةُ الرفعِ فواضحةٌ. قوله: {والمؤتون} فيه سبعةُ أوجهٍ أيضاً. أظهرها: أنه على إضمار مبتدأ، ويكون من باب المدحِ المذكورِ في النصب. الثاني: أنه معطوفٌ على» الراسخون «،

وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأنه إذا قُطِع التابعُ عن متبوعِه لم يَجُزْ أن يعودَ ما بعده إلى إعراب المتبوع فلايُقال:» مررت بزيدٍ العاقلَ الفاضلِ «بنصب» العاقل «وجر» الفاضل «فكذلك هذا. الثالث: أنه عطفٌ على الضمير المستكنِّ في «الراسخون» ، وجاز ذلك للفصل. الرابع: أنه مطعوفٌ على الضمير في «المؤمنون» الخامس: أنه معطوفٌ على الضمير في «يؤمنون» السادس: أنه معطوفٌ على «المؤمنون» ، السابع: أنه مبتدأ وخبره «أولئِك سنؤتيهم» فيكون «أولئك» مبتدأ، و «سنؤتيهم» خبره، والجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوزُ في «أولئك» أن ينتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفس‍ِّرُه ما بعده فيكونَ من باب الاشتغال، إلا أنَّ هذا الوجهَ مرجوحٌ من جهةِ أنَّ «زيدٌ ضرتبه» بالرفع أجودُ مِنْ نصبه، لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولأنَّ لنا خلافاً في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنفيس في نحو «سأضربُ زيداً» مَنَعَ بعضهم «زيداً سأضرب» ، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّط العامل على ما قبله، فالأَوْلى أَنْ نَحْمِلَه على ما خلاف فيه. وقرأ حمزة: «سيؤتيهم» بالياء مراعاةً للظاهر في قوله: {والمؤمنون بالله} والباقون بالنون على الالتفات تعظيماً، ولمناسبةِ قوله: «وأعتدْنا» وهما واضحتان.

163

قوله تعالى: {كَمَآ أَوْحَيْنَآ} : / الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: إيحاءً مثلَ إيحائنا، أو على أنه حالٌ من ذلك المصدر المحذوف المقدَّرِ معرفاً أي: أوحيناه أي: الإِيحاء حالَ كونِه مشبهاً لإِيحائنا إلى مَنْ ذكر. وهذا مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم تحقيقه. و «ما» تحتمل وجهين: أنه تكونَ مصدريةً فلا تفتقر إلى عائدٍ على الصحيح، وأن تكونَ بمعنى الذي، فيكونُ العائدُ محذوفاً أي: كالذي أوحيناه إلى نوح. و «من بعده»

متعلقٌ ب «أوْحينا» ، ولا يجوز أن تكونَ «من» للتبيين، لأنَّ الحالَ خبرٌ في المعنى، ولا يُخبر بظرف الزمان عن الجثة إلا بتأويل ليس هذا محلِّه. وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس «النبيين» ، يعني أنه في معنى الفعل كأنه قيل: «والذين تنبَّؤوا مِنْ بعدِه» وهو معنى حسن. وفي «يونس» ستُ لغاتٍ أفصحُها: واو خالصةٌ ونون مضمومة، وهي لغةُ الحجاز، وحُكِي كسرُ النونِ بعد الواو، وبها قرأ نافع في رواية حبان، وحُكِي أيضاً فتحها مع الواو، وبها قرأ النخعي وهي لغة لبعض عقيل، وهاتان القراءتان جَعَلَهما بعضهم منقولتين من الفعلِ المبني للفاعل أو للمفعول، جَعَل هذا الاسمَ مشتقاً من الأنس، وإنما أُبدلت الهمزةُ واواً لسكونِها وانضمامِ ما قبلها، ويدلُّ على ذلك مجيئُه بالهمزةِ على الأصل في بعض اللغات كما سيأتي، وفيه نظرٌ، لأنَّ هذا الاسمَ أعجمي، وحُكِي تثليث النون مع همز الواو، كأنهم قلبوا الواوَ همزةً لانضمامِ ما قبلها نحو: 167 - 6-أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى ... . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم تقريرُه، وحُكي أنَّ ضمَّ النونِ مع الهمزة لغةُ بضع بني أسد، إلا أني لا أعلم أنه قُرئ بشيء من لغات الهمز. هذا إذا قلنا: إن هذا الاسمَ ليس منقولاً من فِعْلٍ مبني للفاعل أو للمفعول حالةَ كسر النون

أو فتحِها، أمَّا إذا قلنا بذلك فالهمزةُ أصليةٌ غيرُ منقلبةٍ من واو لأنه مشتق من الأنس، وأمَّا مع ضمِّ النونِ فينبغي أن يُقال بأن الهمزة بدلٌ من الواو لانتفاء الفعلية مع ضم النون. قوله: {زَبُوراً} قراءةُ الجمهور بفتح الزاي، وحمزة بضمها، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها، أنه جمعُ «زَبْر» قال الزمخشري: «جمعَ» زَبْر «، وهو الكتاب، ولم يَذْكر غيرَه، يعني أنه في الأصل مصدر على فَعْل، ثم جُمع على فُعول نحو: فَلْس وفُلوس، وقَلْس وقُلُوس، وهذا القول سبقه إليه أبو علي الفارسي في أحد التخريجين عنه. قال أبو علي:» ويحتمل أن يكونَ جمْعَ زَبْرٍ وقع على المزبور، كما قالوا: ضَرْب الأمير ونَسْج اليمن، كما سُمِّي المكتوب كتاباً «يعني أبو علي أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به كما مثَّله والثاني: أنه جمع» زَبُور «في قراءة العامة، ولكنه على حَذْفِ الزوائد، يعني حُذِفت الواوُ منه فصار اللفظ: زَبُر، وهذا التخريجُ الثاني لأبي عليّ، قال أبو علي:» كما قالوا: ظريف وظُروف، وكَرَوان وكَرْوان، وَوَرَشان ووِرْشان على تقدير حذف الياء والألف «وهذا لا بأس به، فإنَّ التكسير والتصيغر يَجْريان غالباً مجرىً واحداً، وقد رأيناهم يُصَغِّرون بحذفِ الزوائد نحو:» زُهَيْر وحُمَيْد «في أزهر ومحمود، ويسميه النحويون» تصيغر الترخيم «، فكذلك التكسيرُ. الثالث: أنه اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ جاءَ على فُعول كالدُّخول

والقُعود والجُلوس، قاله أبو البقاء وغيره. وفيه نظر من حيث إن الفُعول يكون مصدراً للازم، ولا يكون للمتعدي إلا في ألفاظ محفوظةٍ نحو: اللُّزوم والنُّهوك، وزَبَر - كما ترى - متعدٍ، فيضعفُ جَعْلُ الفُعُول مصدراً له، وقد تقدم معنى هذه المادة.

164

قوله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ} : الجمهور على نصب «رسلاً» وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه منصوب على الاشتغال لوجود شروطه، أي: وقصصنا رسلاً، والمعنى على حَذْف مضاف أي: قصصنا أخبارهم، فيكون «قد قصصناهم» لا محلَّ له لأنه مفسرٌ لذلك العاملِ المضمر، ويُقَوِّي هذا الوجهَ قراءةُ أُبي: «ورسل» بالرفعِ في الموضعينِ، والنصبُ هنا أرجحُ من الرفع؛ لأن العطف على جملةٍ فعلية وهي: «وآتينا داودَ زبوراً» الثاني: أنه منصوب عطفاً على معنى «أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح» أي: أَرْسَلْنا وَنبَّأْنا نوحاً ورسلاً، وعلى هذا فيكون «قد قَصَصْناهم» في محل نصب لأنه صفةٌ ل «رسلاً» الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعل اي: وأرسلنا رسلاً، وذلك أنَّ الآية نزلت رادَّة على اليهود في إنكارهم إرسالَ الرسل وإنزال الوحي، كما حكى اللَّهُ عنهم في قوله: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91] والجملةُ أيضاً في محل الصفة. وقرأ أُبي: «ورسلٌ» بالرفع في الموضعين، وفيه تخريجان، أظهرُهما: أنه مبتدأ وما بعده خبرُه، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لأحدِ شيئين: إمَّا العطفِ كقولِه: 167 - 7-

عندي اصطبارٌ وشكوى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا وإما التفصيلِ كقوله: 167 - 8- فأقبلتُ زحفاً على الركبتينِ ... فثوبٌ لَبِسْتٌ وثوبٌ أَجُرّْ وكقوله: 167 - 9- إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له ... بشقٍ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ والثاني: - وإليه ذهب ابن عطية - أنه ارتفعَ على خبر ابتداء مضمر أي: وهم رسلٌ، وهذا غير واضح. والجملة بعد «رسل» على هذا الوجه تكون في محلِّ رفع لوقوعها صفةً للنكرة قبلها. قوله: {وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ} / كالأول. وقوله: {وَكَلَّمَ الله موسى} الجمهور على رفع الجلالة، وهي واضحة. و «تكليماً» مصدر مؤكد رافعٌ للمجاز، وهي مسألةٌ يبحث فيها الأصوليون، تحتمل كلاماً كثيراً ليس هذا موضعَه، على أنه قد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز كقول هند بنت النعمان بن بشير في زوجِها روحِ بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان: 168 - 0- بكى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنكَر جِلْدَه ... وعَجَّتْ عجيجاً مِنْ جُذامَ المطارِفُ تقول: إنَّ زوجها رَوْحاً قد بكى ثيابُ الخَزِ من لُبْسه، لأنه ليس من أهل

الخز، وكذلك صرخت صراخاً من جُذام - وهي قبيلة رَوْح- ثيابُ المطارف، تعني أنهم ليسوا من أهل تلك الثياب، فقولها: «عَجَّت المطارف» مجازٌ لأن الثياب لا تعجُّ، ثم رَشَّحَتْه بقولها عجيجاً. وقال ثعلب: «لولا التأكيدُ بالمصدر لجاز ان يكونَ كما تقول:» كَلَّمْتُ لك فلاناً «أي: أرسلت إليه، أو كتبت له رُقْعةً. وقرأ يحيى بن وثاب والنخعي:» وكَلَّم اللَّهَ موسى «بنصب الجلالة، وهي واضحةٌ أيضاً.

165

قوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ} : فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه بدل من «رسلاً» الأول في قراءة الجمهور، وعَبَّر الزمخشري عن هذا بنصبه على التكرير، كذا فهم عنه الشيخ الثاني: انه منصوبٌ على الحال الموطئة، كقولك: «مررت بزيدٍ رجلاً صالحاً» ومعنى الموطئة أي: إنَّها ليست مقصودةً، إنما المقصودُ صفتُها، ألا ترى ان الرجولية مفهومة من قولك «بزيد» وإنما المقصودُ وصفُه بالصلاحية. الثالث: أنه نُصب بإضمار فعل أي: أَرْسَلْنا رسلاً. الرابع: أنه منصوبٌ على المدح، قَدَّره أبو البقاء ب «أعني» ، وكان ينبغي أن يقدِّره فعلاً دالاً على المدح نحو: «أمدح» وقد رجَّح الزمخشري هذا الأخير فقال: «والأوجَهُ أن ينتصِبَ» رسلاً «على المدح» . قوله: {لِئَلاَّ} هذه لام كي، وتتعلَّقُ ب «منذرين» على المختار عند البصريين، وب «مبشِّرين» على المختار عند الكوفيين، فإنه المسألةَ من التنازع، ولو كان من إعمالِ الأول لأضمرَ في الثاني من غير حذفٍ فكان

يُقال: مبشِّرين ومنذرين له لئلا، ولم يَقُلُّ كذلك فدلَّ عل مذهب البصريين، وله في القرآن نظائرُ تقدَّم منها جملة صالحة. وقيل: اللام تتعلقُ بمحذوف أي: أرسلناهم لذلك. و «حُجَّةٌ اسمُ» كان «، وفي الخبر وجهان، أحدُهما: هو» على الله «و» للناس «حال، والثاني، أن الخبرَ» للناس «و» على الله «حال، ويجوز أن يتعلق كلُّ من الجارِّ والمجرور بما تعلَّقَ به الآخرُ إذا جَعَلْناه خبراً، ولا يجوزُ أن يتعلقَ على الله ب» حجة «، وإنْ كان المعنى عليه؛ لأنَّ معمولَ المصدر لا يتقدَّم عليه. و» بعد الرسل «متلعقٌ ب» حجة «، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه صفةٌ ل» حُجَّة «لأنَّ ظروف [الزمان] تُوصَفُ بها الأحداثُ كما يُخْبر بها عنها نحو:» القتالُ يوم الجمعة «.

166

قوله تعالى: {لكن الله يَشْهَدُ} : هذه الجملة الاستداركية لايبتدأ بها، فلا بد من جملة محذوفة، وتكون هذه الجملةُ مستدركة عنها، والجملة المحذوفة هي ما رُوي في سبب النزول أنه لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} [النساء: 163] قالوا: ما نشهد لك بهذا أبداً، فنزلت: {لكن الله يَشْهَدُ} وقد أحسن الزمخشري هنا في تقدير جملةٍ غيرُ ما ذكرتُ، وهو: «فإنْ قلت: الاستدراكُ لا بُدَّ له من مستدرَك، فأين هو في قوله: {لكن الله يَشْهَدُ} ؟ قلت: لَمَّا سأل أهلُ الكتاب إنزالَ الكتاب من المساء وتعنَّتوا بذلك، واحتجَّ عليهم بقوله: إنَّا أوحينا إليك» قال: «لكن اللَّهُ يشهد» بمعنى أنهم لا يشهدون لكن اللَّهُ يَشْهد ثم ذكر الوجهَ الأول. وقرأ الجمهور بتخفيفِ «لكن» ورفعِ الجلالة. والسُّلمي والجراح الحكمي بتشديدها نصبِ الجلالة، وهما كالقراءتين في {ولكن الشياطين}

وقد تقدَّم حكمه. والجمهور على «أَنْزله» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، والحسن قرأه «أُنزل» مبنياً للمفعول، وقرأ السلمي «نَزَّله بعلمه» مشدداً. والباء في «بعلمه» للمصاحبة أي: ملتبساً بعلمه، فالجار والمجرور في محل نصب على الحال. وفي صاحبها وجهان، أحدهما: الهاءُ في «أنزله» والثاني: الفاعل في «أنزله» أي: أنزله عالماً به. و «الملائكةُ يشهدون» مبتدأ وخبر، يجوز أن تكونَ حالاً أيضاً من المفعول في «أنزله» أي: والملائكةُ يشهدون بصدقه، ويجوز ألاَّ يكونَ لها محل، وحكمه حينئذٍ كحكم الجملةِ الاستدراكية قبله. وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قوله: {كفى بالله} [النساء: 6] ، وعلى قوله: {لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 168] وأن الفعل مع هذه اللامِ أبلغُ منه دونَها. والجمهور على «وصَدُّوا» مبنياً للفاعل، وقرأ عكرمة وابن هرمز: «وصُدُّوا» مبنياً للمفعول، وهما واضحتان، وقد قرئ بهما في المتواتر في قوله: {وَصُدُّواْ} [الآية: 33] في الرعد، {وَصُدَّ عَنِ السبيل} [الآية: 37] في غافر.

169

وقوله تعالى: {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} : فيه قولان، أحدهما: أنه استثناءٌ متصل لأنَّ المرادَ بالطريقِ الأولِ العمومُ فالثاني من جنسه، والثاني: أنه منقطعٌ إنْ أُريد بالطريقِ شيءٌ مخصوصٌ وهو العمل الصالح الذي توصَّلون به إلى الجنة. «وخالدين» حالٌ مقدَّرة.

170

وقوله تعالى: {بالحق} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه

متعلق بمحذوفٍ، والباء للحال أي: جاءكم الرسولُ ملتبساً بالحق أو متكلماً به. والثاني: أنه متعلقٌ بنفس «جاءكم» أي: جاءكم بسببِ إقامةِ الحق. و «من ربكم» فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بمحذوف على أنه حال أيضاً من «الحق» والثاني: أنه متلعقٌ ب «جاء» أي: جاء من عند الله أي: أنه مبعوثٌ لا متقوِّل. قوله: {خَيْراً لَّكُمْ} في نصبه أربعة أوجه، أحدها - وهو مذهب الخليل وسيبويه - أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ واجبِ الإِضمار تقديره: وأتوا خيراً لكم، لأنه لَمَّا أمرهم بالإِيمان / فهو يريدُ إخراجَهم من أمر وإدخالَهم فيما هو خيرٌ منه، ولم يذكر الزمخشري غيره قال: «وذلك أنه لمَّا بعثهَم على الإِيمان وعلى الانتهاءِ من التثليث علم أنه يَحْمِلُهم على أمر فقال: خيراً لكم، أي: اقصِدوا وأتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثلث» . الثاني: - وهو مذهب الفراء- أنه نعت لمصدر محذوف أي: فآمنوا إيماناً خيراً لكم. وفيه نظر، من حيث أنه يُفْهِم أنَّ الإِيمان منقسم إلى خير وغيره، وإلاَّ لم يكنْ لتقييده بالصفةِ فائدةٌ، وقد يُقال: إنه قد يكون لا يقول بمفهوم الصفة، وأيضاً فإن الصفة قد تأتي للتأكيد وغيره ذلك. الثالث: - وهو مذهب الكسائي وأبي عبيد - أنه منصوبٌ على خبرِ «كان» المضمرةِ تقديرُه: يكنِ الإِيمانُ خيراً. وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهب بأن «كان» لا تُحْذَف مع اسمها دونَ خبرها إلا فيما لا بد له منه، ويزيد ذلك ضعفاً أنَّ «يكن» المقدرةَ جوابُ شرط محذوف فيصير المحذوفَ الشرطُ وجوابُه، يعني أنَّ التقديرَ: إنْ تؤمنوا يكنِ

الإِيمانُ خيراً، فَحَذفْتَ الشرطَ وهو «إنْ تؤمنوا» وجوابَه، وهو «يكن الإِيمان» ، وأبقيتَ معمولَ الجواب وهو «خيراً» وقد يقال: إنه لا يُحتاج إلى إضمار شرطٍ صناعي وإن كان المعنى عليه، لأنَّا نَدَّعي أن الجزم في «يكن» المقدرةِ إنما هو بنفس جملة الأمر التي قبله وهو وقوله: {فَآمِنُواْ} من غير تقدير حرفِ شرط ولا فعلٍ له، وهو الصحيح في الأجوبة الواقعة لأحد الأشياء السبعة، تقول: «قم أكرمْك» ف «أكرمك» جواب مجزوم بنفس «قم» لتضمُّن هذا الطلبِ معنى الشرط من غير تقدير شرط صناعي. الرابع: - والظاهرُ فساده- أنه منصوبٌ على الحال، نقله مكي عن بعض الكوفيين، قال: «وهو بعيد» ونقله أبو البقاء أيضاً ولم يَعْزُه.

171

قوله تعالى: والغُلُوُّ: تجاوزُ الحدِّ، ومنه: «غَلْوة السهم» و «غَلاء السعر» قوله: {إِلاَّ الحق} هذا استثناء مفرغ، وفي نصبه وجهان، أحدهما: أنه مفعول به لأنه تضمَّن معنى القول نحو: «قلت خطبةً» والثاني: أنه نعتُ مصدر محذوف أي: إلا القولَ الحق، وهو قريب في المعنى من الأول. وقرأ جعفر بن محمد: «المِسِّيح» بوزن «السِّكِّيت» كأنه جَعَله مثالَ مبالغة نحو: شِرِّيبٌ العسلَ «و» المسيح «مبتدأ بعد» إنَّ «المكفوفة، و» عيسى «بدل منه أو عطف بيان، و» ابن مريم «صفته و» رسول الله «خبر المبتدأ، و» كلمتُه «عطف عليه. و» ألقاها «جملةٌ ماضية في موضع الحال، و» قد «معها مقدرةٌ. وفي عاملِ الحال ثلاثةُ أوجه نَقَلها أبو البقاء. أحدها: أنه معنى» كلمة «لأنَّ معنى

وصف عيسى بالكلمة: المكونُ بالكلمة من غير أب، فكأنه قال: ومنشؤه ومبتدعُه. والثاني: أن يكون التقدير: إذ كان ألقاها، ف» إذا «ظرفُ زمانٍ مستقبل، و» كان «تامة، وفاعلها ضمير الله تعالى. و» ألقاها «حالٌ من ذلك الفاعل، وهو كقولهم:» ضربني زيداً قائماً «والثالث: أن يكونَ حالاً من الهاء المجرورة، والعاملُ فيها معنى الإِضافة تقديره: وكلمةُ اللَّهِ مُلْقِياً إياها» انتهى. أمّا جعله العاملَ معنى «كلمة» فصحيح، لكنه لم يبين في هذا الوجه من هو صاحبُ الحال؟ وصاحبُ الحال الضميرُ المستتر في «كَلِمتُه» العائدُ على عيسى لم تَضمَّنَتْه من معنى المشتق نحو: «مُنشَأ ومُبتدَع» ، وأمّا جَعْلُه العاملَ معنى الإِضافة فشيء ضعيف، ذهب إليه بعض النحويين. وأمَّا تقديرُه الآيةَ بمثل «ضربي زيدا قائماً» ففاسد من حيث المعنى. والله أعلم. و «روحٌ» عطفٌ على «كلمة» و «منه» صفة ل «روح» ، و «من» لابتداء الغاية مجازاً، وليست تبعيضيةً. ومن غريب ما يحكى أن بعض النصارى ناظَرَ علي بن الحسين بن واقد المروزي وقال: «في كتاب الله ما يَشْهد أنَّ عيسى جزءٌ من الله» وتلا: «وروح منه» ، فعارضه ابن واقد بقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} [الجاثية: 13] ، وقال: «يلزم أن تكون تلك الأشياء جزءاً من الله تعالى وهو مُحالٌ بالاتفاق» فانقطع النصراني وأسلم. و «ثلاثةٌ» خبر مبتدأ مضمر، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل نصب بالقول أي: ولا تقولوا: «آلهتنا ثلاثةٌ» يدلُّ عليه قوله بعد ذلك: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} وقيل: تقديره: الأقانيمُ ثلاثة أو المعبود ثلاثة. وقال

الفارسي: «تقديره: الله ثالث ثلاثة، ثم حُذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مُقامه، يريد بذلك موافقةَ قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] . وقوله: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} نصب» خيراً «هنا كنصبه فيما تقدم في جميع وجوهِه نسبته إلى قائليه. و» أن يكون له ولد «تقديره: من أن يكون، أو: عن أن يكون، لأنَّ معنى» سبحان «التنزيهُ، فكأنه قيل: نَزَّهوه عن أن يكون، أو من أن يكون له ولد، فيجيء في محل» ان «الوجهان المشهوران. و» واحد «نعت على سبيل التوكيد، وظاهر كلام مكي أنه نعتٌ لا على سبيل التوكيد، فإنه قال:» والله «مبتدأ، و» إله «خبره،» واحد «نعت تقديره: إنما الله منفرد في إلهيتَّه» وقيل: «واحدٌ تأكيد بمنزلة {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51] ، ويجوز أن يكون» إله «بدلاً من» الله «و» واحد «خبره، تقديره: إنما المعبودُ واحدٌ. وقوله: {أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} تقدم نظيره وقرأ الحسن:» إنْ يكونُ «بكسرِ الهمزة ورفع» يكون «على أن» إنْ «نافية أي: ما يكون له ولد، فعلى قراءته يكون هذا الكلامُ جملتين، وعلى قراءة العامة يكون جملة واحدة.

172

قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً} : قرأ عليُّ: «عُبَيْداً» على التصغير وهو مناسبٌ للمقام. وقوله: {وَلاَ الملائكة}

عطف على «المسيح» أي: ولن يستنكف الملائكة أن يكونوا عبيداً لله. وقال الشيخ: ما نصُّه: «وفي الكلام حذف، التقدير: ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله، فإنْ ضُمِّن» عبداً «معنى» مِلْكاً لله «لم يَحتجْ إلى هذا التقديرِ: ويكونُ إذ ذاك» ولا الملائكة «من باب عطف المفردات، بخلاف ما إذا لُحِظَ في» عبد «معنى الوِحْدة، فإن قوله:» ولا الملائكة «يكون من عطف الجمل لاختلاف الخبر، وإنْ لُحِظ في قوله:» ولا الملائكة «معنى:» ولا كل واحد من الملائكة «كان من باب عطف المفردات» وقال الزمخشري: «فإن قلت: علام عُطِفَ و» الملائكة «؟ قتل: إمَّا أن يُعْطَفَ على» المسيح «أو اسمِ» يكون «أو على المستتر في» عبداً «لِما فيه من معنى الوصف لدلالته على العبادة، وقولك:» مررت برجلٍ عبدٍ أبوه «فالعطفُ على المسيح هو الظاهرُ لأداء غيره إلى ما فيه بعضُ انحرافٍ عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنفُ أن يكونَ هو لا مَنْ فوقه موصوفين بالعبودية أو أن يَعْبد الله هو ومن فوقه» قال الشيخ: «والانحرافُ عن الغرض الذي أشار إليه كونُ الاستنكافِ يكون مختصاً بالمسيح والمعنى التام إشراك الملائكة مع المسيح في انتفاءِ الاستنكافِ عن العبودية، ويظهرُ أيضاً مرجوحيةُ الوجهين مِنْ جهةِ دخولِ» لا «إذ لو أُريد العطفُ على الضمير في» يكون «أو في» عبدا «لم تَدْخُل» لا «، بل كان يكون التركيب بدونها، تقول:» ما يريد زيدٌ أن يكونَ هو وأبوه قائمين «و» ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو «فهذان التركيبان ليسا من مَظَنَّةِ دخولِ [لا] وإنْ وُجد منه شيءٌ أُوِّلَ» انتهى. فتحصَّل في رفع «الملائكة» ثلاثة أوجه، أوجَهُها الأول.

والاستنكافُ: استفعال من النَّكْف، والنَّكْفُ: أن يُقال له سوء، ومنه: «وما عليه في هذا الأمر نَكْفٌ ولا وَكْف» قال أبو العباس: «واستفعل هنا بمعنى دَفَع النَّكْفَ عنه» وقال غيره: «هو الأَنَفَةُ والترفع» ومنه: «نَكَفْتُ الدَّمعَ بإصبعي» إذا منعتُه من الجري على خَدِّك، قال: 168 - 1- فبانوا فلولا مَا تَذَكَّرُ منهمُ ... من الحِلْفِ لم يُنْكَفْ لعَيْنَيْك مَدْمَعُ قوله {فَسَيَحْشُرُهُمْ} الفاءُ يجوز ان تكونَ جواباً للشرط في قوله: {وَمَن يَسْتَنْكِفْ} فإنْ قيل: جواب «إنْ» الشرطية واخواتِها غيرَ «إذا» لا بد أن يكونَ محتملاً للوقوع وعدمه، وحشرُهم إليه جميعاً لا بد منه، فكيف وقع جواباً لها؟ فقيل في جوابه وجهان، أحدهما: - وهو الأصح - أن هذا كلامٌ تضمَّن الوعدَ والوعيد، لأنَّ حَشْرَهم يقتضي جزاءَهم بالثوابِ أو العقاب، ويَدُلُّ عليه التفصيلُ الذي بعده في قوله: «فأمَّا الذين» إلى آخره، فيكونُ التقدير: وَمَنْ يستنكِفْ عن عبادته ويستكبرْ فيعذبُه عند حَشْرِه إليه، ومَنْ لم يستنكف ولم يستكبر فيثيبه. والثاني: أنَّ الجوابَ محذوف أي: فيجازيه، ثم أخبر بقوله: {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} وليس بالبيِّن. وهذا الموضوع محتمل أن يكون مِمَّا حُمِل على لفظةِ «مَنْ» تارة في قوله: يستنكف «ويستكبر» فلذلك أفرد الضمير، وعلى معناها أخرى في قوله: فسيحشرهم «ولذلك جَمَعه، ويَحْتمل أنه أعاد الضمير في فسيحشرهم» على «مَنْ» وغيرِها، فيندرجُ المستنكفُ في ذلك، ويكون الرابطُ لهذه الجملةِ باسم الشرط العموم المشار إليه. وقيل: بل حَذَفَ معطوفاً لفهم المعنى، والتقدير: فسيحشرهم أي: المستنكفين وغيرَهم، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد.

و «جميعاً» حالٌ أو تأكيدٌ عند مَنْ جَعَلها ك «كل» وهو الصحيح. وقرأ الحسن: «فسنحشرهم» بنونِ العظمة، وتخفيفِ باء «فيعذبهم» وقرئ: «فسيحشرهم» بكسرِ الشين وهي لغةٌ في مضارع «حَشَر» .

173

قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين} : قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها. ولكن هنا سؤالٌ حسن قاله الزمخشري وهو: «فإن قلت: التفصيل غيرُ مطابق للمفصَّل، لأنه اشتمل على الفريقين، والمفصَّل على فريق واحد. قلت: هو مثلُ قولك:» جَمَعَ الإِمام الخوارج: فمن لم يخرج عليه كساه حُلَّةً ومَنْ خرج عليه نَكَّل به «وصحةُ ذلك لوجهينِ، أحدُهما: أنه يُحذف ذِكُر أحدِ الفريقين لدلالةِ التفصيل عليه، ولأنَّ ذِكْرَ أحدهما يدل على ذكرِ الثاني كما حذف أحدَهما في التفصيل في قوله عقيب هذا: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ} والثاني: وهو أن الإِحسان إلى غيرهم ما يَغُمُّهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم، فكأنه قيل: ومن يستنكفْ عن عبادتِه ويستكبرْ فسيعذُبهم بالحسرة إذا رأوا أجور العاملين وبما يصيبهم من عذاب الله» انتهى. يعني بالتفصيل قولَه: «فأما» و «أما» وقد اشتمل على فريقين أي: المثابين والمعاقبين، وبالمفصَّل قولَه قبل ذلك: «ومَنْ يستنكف» ، ولم يشتمِلْ إلا على فريق واحد هم المعاقبون.

174

قوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلق بمحذوف لأنه صفةٌ ل «برهان» أي: برهانٌ كائن من ربكم. «ومِنْ» يجوز أن تكونَ لابتداء الغاية مجازاً، أو تبعيضية أي: من براهين ربكم. والثاني: أنه متعلقٌ بنفسِ «جاء» و «مِنْ» لابتداء الغاية كما تقدم.

175

قوله تعالى: {صِرَاطاً} : مفعول ثان ل «يهدي» لأنه يتعدى لاثنين كما تقدم تحريره. وقال جماعة منهم مكي: إنه مفعول بفعلٍ محذوف دَلَّ عليه «يهديهم» ، والتقدير: «يُعَرِّفهم» وقال أبو البقاء قريباً من هذا إلا أنه لم يُضْمِرْ فعلاً، بل جَعَلَه منصوباً ب «يهدي» على المعنى، لأنَّ المعنى يُعَرِّفهُم. قال مكي في الوجه الثاني: «ويجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً ل» يَهْدي «أي: يهديهم صراطاً مستقيماً إلى ثوابه وجزائه» ولم اَدْرِ لِمَ خَصَّصوا هذا الموضع دونَ الذي في الفاتحة، واحتاجوا إلى تقدير فعل أو تضمنيه معنى «يُعَرِّفهم» ؟ وأجاز أبو عليّ أن يكون منصوباً على الحال من محذوف فإنه قال: «الهاءُ في» إليه «راجعةٌ إلى ما تقدم من اسم الله، والمعنى: ويهديهم إلى صراطه، فإذا جعلنا» صراطاً مستقيماً «نصباً على الحال كانت الحالُ من هذا المحذوفِ» انتهى. فتحصَّل في نصبه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه مفعول ب «يهدي» من غير تضمين معنى فعل آخرَ. الثاني: أنه على تضمين معنى «يُعَرفهم» الثالث: أنه منصوبٌ بمحذوفٍ. الرابع: أنه نصبٌ على الحال، وعلى هذا التقديرِ الذي قَدَّره الفارسي تقْرُب من الحالِ المؤكدة، وليس كقولك: «تبسَّم ضاحكاً» لمخالفتِها لصاحبِها بزيادةِ الصفةِ وإن وافقته لفظاً. والهاءُ في «إليه» إمَّا عائدةٌ على «الله» بتقدير حذف مضاف كما تقدم من نحو: «ثوابه» أو «صراطه» ، وإمَّا على الفضلِ والرحمة لأنهما في معنى شيءٍ واحد، وإما عائدةٌ على الفضلِ لأنه يُراد به طريق الجنان.

176

قوله تعالى: {فِي الكلالة} : متعلق ب «يُفْتيكم» على إعمال الثاني، وهو اختيار البصريين، ولو أَعْمل الأولَ لأضمرَ في الثاني، وله

نظائرُ في القرآن: {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} [المنافقون: 5] {والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} [البقرة: 39] . وقد تقدَّم الكلام فيه بأشَبع من هذا في سورة البقرة فليراجَعْ. وتقد‍َّم أيضاً اشتقاقُ الكلالة أول هذه السورة. وقوله: {إِن امرؤ} كقوله: {وَإِنِ امرأة} [النساء: 128] . و «هلك» جملةٌ فعليةٌ في محلّ رفع صفة ل «امرؤ» . و «ليس له ولدٌ» جملةٌ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ثانية، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمير في «هلك» ولم يذكر غيره. ومع الزمخشري أن تكونَ حالاً، ولم يبيِّنْ العلةَ في ذلك، ولا بيَّن صاحبَ الحال أيضاً: هل هو «امرؤ» أو الضمير في «هلك» ؟ قال الشيخ: «ومَنَعَ الزمخشري أن يكونَ قولُه:» ليس له ولد «جملةً حالية من الضمير في» هلك «فقال:» ومحلُّ ليس له ولد الرفعُ على الصفةِ لا النصبُ على الحال «انتهى. والزمخشري لم يَقُلْ كذلك أي: لم يمنع كونَها حالاً من الضمير في» هلك «، بل منع حاليَّتَها على العموم كما هو ظاهرُ قوله، ويحتمل أنه أراد مَنْعَ حاليتها من» امرؤ «لأنه نكرةٌ، لكنَّ النكرة هنا قد تخصَّصت بالوصف، وبالجملةِ فالحالُ من النكرة أقلُّ مه من المعرفة والذي ينبغي امتناعُ

حاليتها مطلقاً كما هو ظاهر عبارته، وذلك أنَّ هذه الجملةَ المفسِّرةَ للفعل المحذوف لا موضِعَ لها من الإِعراب فأشبهت الجملَ المؤكدة، وأنت إذا أتبعت أو أخبرتَ فإنما تريدُ ذلك الاسمَ المتقدِّمَ في الجملة المؤكدة السابقة لا ذلك الاسمَ المكرَر في الجملة الثانية التي جاءت تأكيداً، لأنَّ الجملةَ الأولى هي المقصودةُ بالحديثِ، فإذا قلت:» ضربتُ زيداً ضربت زيداً الفاضلَ «ف» الفاضل «صفةُ» زيداً «الأول لأنه في الجملة المؤكَّدَة المقصودُ بالإِخبار، ولايَضُرُّ الفصلُ بين النعتِ والمنعوت بجملة التأكيد، فهذا المعنى يَنْفي كونَها حالاً من الضمير في» هلك «وأما ما ينفي كونَها حالاً من» امرؤ «فلِما ذكرته لك من قلةِ مجيء الحال من النكرةِ في الجملة. وفي هذه الآيةِ على ما اختاروه من كونِ» ليس له ولد «صفةً دليلٌ على الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة للمحذوف في باب الاشتغال، ونظيرُه:» إنْ رجلٌ قام عاقلٌ فأكرمْه «ف» عاقل «صفةٌ ل» رجل «فُصِل بينهما ب» قام «المفسِّرٍ ل» قام المفسَّر. وقوله: {وَلَهُ أُخْتٌ} كقوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ، والفاء في «فلها» جوابُ «إنْ» وقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَآ} لا محلَّ لهذه الجملة من الإِعراب لاستئنافِها، وهي دالةٌ على جواب الشرط، وليست جواباً خلافاً للكوفيين وأبي زيد. وقال أبو البقاء: «وقد سَدَّتْ هذه الجملة مسدَّ جوابِ الشرط» يريد أنها دالةٌ كما تقدَّم، وهذا كما يقول النحاة: إذا اجتمع شرط وقسم أُجيب سابقُهما، وجعل ذلك الجواب ساداً مسدَّ جواب الآخر. والضميران من قوله: «وهو يرثها» عائدان على لفظ امرئ وأخت دونَ معناهما، فهو من باب قوله: 168 - 2- وكُلُّ أناسٍ قاربوا قيدَ فَحْلِهمْ ... ونحن خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ

وقولهم: «عندي درهمٌ ونصفه» وقوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} وإنما احتيج إلى ذلك لأنَّ الحيةَ لا تُورَثُ والهالكَ لا يرثُ فالمعنى: وامرأً آخرَ غيرَ الهالك يرثُ أختاً له أخرى. قوله: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} الألفُ في «كانتا» فيها أقوال أحدُهما: أنها تعودُ على الأختين يدلُّ على ذلك قولُه: «وله أخت» أي: فإن كانتِ الأختان اثنتين. وقد جَرَتْ عادةُ النحويين أن يسألوا هنا سؤالاً وهو أنَّ الخبر لا بد أن يفيد ما لا يفيده المبتدأ، وإلاَ لم يكن كلاماً، ولذلك مَنَعوا: «سيدُ الجارية مالكُها» لأن الخبر لم يَزِدْ على ما أفاده المبتدأ، والخبرُ هنا دَلَّ على عدد ذلك العدد مستفادٌ من الألف في «كانتا» وقد أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ منها: ما ذكره أبو الحسن والأخفش وهو أنَّ قولَه «اثنتين» يدلُّ على مجرد الاثنيية من غير تقييدٍ بصغير أو كبير أو غير ذلك من الأوصاف، يعني أن الثلثين يُستَحقان بمجرد هذا العدد من غير اعتبار قيدٍ آخر، فصار الكلام بذلك مفيداً «. وهذا غيرُ واضحٍ لأنَّ الألفَ في» كانتا «تدل أيضاً على مجرد الاثنيية من غير قيد بصغير أو كبير أو غيرهما من الأوصاف، فقد رجعَ الأمرُ إلى أنَّ الخبر لم يُفِدْ غيرَ ما أفاده المبتدأ. ومنها: ما ذكره مكي عن الأخفش أيضاً، وتبعه الزمخشري وغيره وهو الحَمْلُ على معنى» مَنْ «وتقريره ما ذكره الزمخشري، قال رحمه الله:» فإن قلت: إلى مَنْ يرجع ضميرُ التثنية والجمع في قوله: {فَإِن كَانَتَا اثنتين، وَإِن كانوا إِخْوَةً} قلت: أصلُه: فإن كان مَنْ يرث بالأخوَّة اثنتين، وإن كان [من] يرث بالأخوَّة ذكوراً وإناثاً، وإنما قيل: «فإن

كانتا، وإن كانوا» كما قيل: «مَنْ كانت امَّك» فكما أَنَّث ضميرَ «مَنْ» لمكان تأنيث الخبر كذلك ثَنَّى وجمع ضميرَ مَنْ يرث في «كانتا» و «كانوا» لمكانِ تثنية الخبر وجمعِه «/ وهو جوابٌ حسن. إلا أن الشيخَ إعترضه فقال: «هذا تخريجٌ لا يَصِحُّ، وليس نظيرَ» مَنْ كانت أمَّك «لأنه قد صَرَّح ب» مَنْ «ولها لفظ ومعنى، فمن أنَّث راعى المعنى، لأن التقدير: أيةُ أُمٍّ كانت أمكَ» ومدلول ُ الخبر في هذا مخالفٌ لمدلول الاسم، بخلافِ الآية فإن المدلولين واحد، ولم يؤنث في «مَنْ كانت أمك» لتأنيثِ الخبر، إنما أنث لمعنى «من» إذ أراد بها مؤنثاً ألا ترى أنك تقول «مَنْ قامت» فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردْتَ السؤال عن مؤنث، ولا خبر هنا فيؤنَّثَ «قامت لأجلهِ» انتهى وهو تحاملٌ منه على عادته، والزمخشري وغيره لم ينكروا أنه لم يُصَرَِّح في الآية بلفظِ «مَنْ» حتى يُفَرِّقَ لهم بهذا الفرقِ الغامض، وهذا التخريجُ المذكورُ هو القولُ الثاني في الألف. والظاهرُ أنَّ الضميرَ في «كانتا» عائدٌ على الوارثتين. و «اثنتين» خبرُه، و «له» صفةٌ محذوفة بها حَصَلت المغايرة بين الاسم والخبر، والتقدير: فإنْ كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات، وهذا جوابٌ حسن، وحَذْفُ الصفةِ لفهمِ المعنى غيرُ منكرٍ، وإن كان أقلَّ من عكسه، ويجوز أن يكونَ خبرُ «كان» محذوفاً، والألفُ تعودُ على الاختين المدلولِ عليهما بقوله: «وله أخت» كما تقدَّم ذكرُه عن الأخفش وغيرِه، وحينئذ يكونُ قولُه: «اثنتين» حالاً مؤكدة، والتقديرُ: وإنْ كانت الأختان له، فَحَذَفَ «له» لدلالةِ قوله: «وله أخت» عليه فهذه أربعةُ أقوال. و «إنْ كانوا» في هذا الضمير ثلاثة أوجه أحدها: أنه عائد على المعنى «مَنْ» المقدرة تقديرُه: «فإن كان مَنْ يرث إخوة» كا تقدَّم تقريره عن

الزمخشري وغيره. الثاني: أنه يعود على الإِخوة، ويكون قد أفاد الخبر بالتفصيل، فإنَّ الإِخوة يشمل الذكورَ والإِناث، وإن كان ظاهراً في الذكور خاصة فقد أفاد الخبر ما لم يُفِدْه الاسم، وإن عاد على الوارث فقد أفاد ما لم يُفِدْه الاسم إفادة واضحة، وهذا هو الوجهُ الثالث. وقوله: «فللذكرِ» أي: منهم فحُذِفَ لدلالة المعنى عليه. قوله: {أَن تَضِلُّواْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها: أن مفعول البيان محذوفٌ، و «أن تَضِلُّوا» مفعولٌ من أجله على حَذْفِ مضاف تقديره: يبيِّن اللَّهُ أمرَ الكلالة كراهةَ أن تَضِلوا فيها، أي: في حكمها، وهذا تقديرُ المبرد. والثاني: - قول الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين- أنَّ «لا» محذوفةٌ بعد «أن» والتقدير: لئلا تضلوا. قالوا: «وحَذْفُ» لا «شائع ذائعٌ كقوله: 168 - 3- رأينا ما رأى البُصَراءُ فيها ... فآلينا عليها أَنْ تُباعَا أي: أن لا تُباع. وقال أبو إسحاق الزجاج:» هو مثلُ قولِه تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] أي: لئلا تزولا. وقال أبو عبيد: «رَوَيْتُ للكسائي حديثَ ابن عمر وهو:» لا يَدْعُوَنَّ أحدُكم على ولدِه أن وافقَ من الله إجابةَ «فاسنحسنه أي: لئلا يوافق. ورجَّح الفارسي قولَ المبرد بأنَّ حَذْفَ المضاف أشيعُ من حذف» لا «النافية. الثالث: أنه مفعول» يبين «والمعنى: يبيِّن الله لكم الضلالة فتجتنبونَها، لأنه إذا بَيِّن الشر اجتُنِبَ، وإذا بَيَّن الخيرَ ارتُكِب.

المائدة

هذه السورة مدنية. بسم الله الرحمن الرحيم. قد تقدَّم نظيرُ قوله تعالى: [آية 1] {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ} والبهيمة: كلُّ ذات أربع في البر أو البحر. وقل: ما أَبْهم من جهة نقص النطق والفهم. وكل ما كان على وزن فعيل أو فعلية حلقيَّ العين جاز في فائه الكسر إتباعاً لعينه نحو: بيهمة وشعيرة وصغيرة وبحيرة «والأنعام تقدَّم بيانها في آل عمران. قوله: {إِلاَّ مَا يتلى} هذا مستثنى من بهيمة الأنعام، والمعنى: ما يتلى عليكم تحريمه، وذلك قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] . [وفيه قولان، أحدهما: أنه مستثنى متصل، والثاني:] أنه منقطعٌ حَسْبَ ما فُسِّر به المتلوُّ عليهم كا سيأتي بيانه، وعلى تقديرِ كونه استثناء متصلاً يجوز في محله وجهان، أظهرهما: أنه منصوبٌ لأنه استثناء متصل من موجب، ويجوز أن يُرْفَع على أنه نعتٌ ل» بهيمة «على ما قُرَّر في علم النحو. ونَقَل ابن عطية عن الكوفيين وجهين آخرين، أحدهما: أنه

يجوزُ رفعه على البدل من» بهيمة «والثاني: أنَّ» إلا «حرف عطف وما بعدها عطف على ما قبلها، ثم قال:» وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو: «جاء الرجالُ إلا زيدٌ» كأنك قلت: غيرُ زيد «وقوله:» وذلك «ظاهرُه أنه مشارٌ به إلى وجهي الرفع: البدلِ والعطف. وقوله:» إلا من نكرة «غيرُ ظاهر، لأن البدل لا يجوز البتة من موجب عند أحد من الكوفيين والبصريين. ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً. وأمَّا العطفُ فذكره بضع الكوفيين، وأما الذي اشترط في البصريون التنكيرَ أو ما قاربه فإنما اشترطوه في النعت ب» إلا «فيُحتمل أنه اختلط على أبي محمد شرطُ النعت فجعله شرطاً في البدل، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمُه قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] إلى آخره، وإنْ أريد به الأنعامُ والظباء وبقرُ الوحش وحُمُرهُ فيكون منقطعاً بمعنى» لكن «عند البصريين وبمعنى» بل «عند الكوفيين، وسيأتي بيانُ هذا المنقطع بأكثرَ من هذا عند التعرُّض لنصب» غير «عن قرب. قوله تعالى:» غيرَ «في نصبه خمسة أوجه/، أحدها: أنه حال من الضمير المجرور في» لكم «وهذا قول الجمهور، وإليه ذهب الزمخشري وابن عطية وغيرهما، وقد ضُعِّف هذا الوجهُ بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام لهم بحالِ كونهم غيرَ مُحِلِّي الصيد وهم حرم، إذ يصير معناه:» أُحِلَّتْ لكم بهيمة الأنعام في حال كون انتفاء كونكم تُحِلّون الصيدَ وأنتم حرم «، والغرض أنهم قد أُحِلَّتْ لهم بهيمة الأنعام في هذه الحال وفي غيرها، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعامِ الأنعامُ نفسها، وأما إذا غُنِي بها الظباءُ وحمر الوحش وبَقَره على ما فَسَّره بعضم فيظهر للتقييدِ بهذه الحال فائدةٌ، إذ يصير المعنى: أُحِلت

لكم هذه الأشياء حالَ انتفاء كونكم تُحِلُّون الصيد وأنتم حرم فهذا معنى صحيح، ولكن التركيب الذي قَدَّرته لك فيه قلقٌ. ولو أُريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه. الوجه الثاني: - وهو قولُ الأخفشِ وجماعةٍ - أنه حالٌ من فاعل «أوْفوا» والتقدير: أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم مُحِلِّين الصيد وأنتم حرم. وقد ضَعَّفوا هذا المذهبَ من وجهين، الأول: أنه يلزم منه الفصلُ بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية، ولا يجوز الفصل إلا بجمل الاعتراض، وهذه الجملةُ وهي قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} ليست اعتراضيةً، بل هي منشئةٌ أحكاماً ومُبَيِّنَةٌ لها، وجملةُ الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسديداً. والثاني: أنه يلزمُ منه تقييد الأمر بإيفاء العقود بهذه الحالة فيصيرُ التقدير كما تقدَّم، وإذا اعتبرنا مفهومَه يصير المعنى: فإذا انتفت هذه الحالُ فلا تُوفوا بالعقود، والأمرُ ليس كذلك، فإنهم مأمورون بالإِيفاءِ بالعقودِ على كلِّ حالٍ من إحرامٍ وغيرِه. الوجه الثالث: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضمير المجرور في «عليكم» أي: إلاَّ ما يُتْلى عليكم حالَ انتفاءِ كونكم مُحِلِّين الصيد. وهو ضعيفٌ أيضاً بما تقدَّم من أنَّ المتلوَّ عليهم لا يُقَيَّد بهذه الحالِ دون غيرها بل هو متلو عليهم في هذه الحال وفي غيرها. الوجه الرابع: أنه حالٌ من الفاعل المقدَّر، يعني الذي حُذف وأقيم المفعولُ مُقامه في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ} فإن التقدير عنده: أَحَلَّ الله لكم بهيمة الأنعام غيرَ محلٍ لكم الصيد وأنتم حرم. فحذفت الفاعلَ وأقامَ المفعولَ مقامه، وترك الحال من الفعل باقية. وهذا الوجهُ فيه ضعفٌ من وجوه. الأول أن الفاعلَ المنوبَ عنه صار نسياً منسيَّاً غيرَ ملتفَتٍ إليه، نصُّوا

على ذلك، لو قلت: «أُنْزِلَ الغيث مجيباً لدعائهم» وتجعل «مجيباً» حالاً من الفاعل المنوبِ عنه، فإنَّ التقدير: «أَنْزل اللهُ الغيثَ حالَ إجابته لدعائهم» لم يَجُزْ فكذلك هذا، ولا سيما إذا قيل: بأن بنْية الفعلِ المبني للمفعولِ بنيةٌ مستقلة غيرُ محلولةٍ من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين وجماعة من البصريين. الثاني: أنه يلزم منه التقييدُ بهذه الحالِ إذا عَنَى بالأنعام الثمانية الأزواج، وتقييدُ إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلالِه الصيدَ وهم حرمٌ، واللهُ تعالى قد أَحَلَّ لهم هذه مطلقاً. والثالث: أنه كُتب «مُحِلِّي» بصيغة الجمع فيكف يكون حالاً من الله؟ وكأن هذا القائل زعم أن اللفظَ «مُحِلّ» من غير ياء، وسياتي ما يشبه هذا القول. الوجه الخامس: أنه منصوبٌ على الاستثناء المكرر، يعني أنه هو وقولَه «إلا ما يتلى» مستثنيان من شيء واحد، وهو «بيهمة الأنعام» نَقَل ذلك بعضُهم عن البصريين قال: «والتقديرُ: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيدَ وأنتم محرمون، بخلاف قوله تعالى: {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [الحجر: 58] على ما يأتي بيانُه، قال هذا القائل:» ولو كان كذلك لوَجَبَ إباحةُ الصيد في الإِحرام لأنه مستثنى من الإِباحة. وهذا وجه ساقط، فإذن معناه: أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعام غيرَ محلّي الصيد وأنتم حُرُمٌ إلا مايُتلى عليكم سوى الصيدِ «انتهى. وقال الشيخ:» إنما عَرْضُ الإِشكالِ مِنْ جَعْلم «غير محلّي الصيد» حالاً من المأمورين بإيفاء العقود، أو مِن المحلِّل لهم وهو الله تعالى، أو من

المتلوِّ عليهم، وغَرَّهم في ذلك كونُه كتب «محلِّي» بالياء، وقدَّروه هم أنه اسم فاعل من «أحلِّ» وأنه مضاف إلى الصيد إضافةَ اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى المفعول، وأنه جَمْعٌ حُذِف منه النونُ للإِضافة، وأصلُه: «غيرَ محلين الصيد» إلا في قولِ مَنْ جعله حالاً من الفعل المحذوف فإنه لا يُقَدِّر حذفَ نون، بل حذفَ تنوين. وإنما يزول الإِشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله «مُحِلّي الصيد» من باب قولهم «حسان النساء» ، والمعنى: النساء الحسان فكذلك هذا، أصلُه: غيرَ الصيدِ المُحِلّ، والمُحِلُّ صفة للصيد لا للناس ولا للفاعل المحذوف. ووصفُ الصيد بأنه مُحِلُّ على وجهين، أحدهما: أن يكون معناه دَخَل في الحل، كما تقول: «أَحَلَّ الرجلُ» إذا دخل في الحِلِّ، وأَحْرم إذا دخل في الحرم. الوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حِلّ، أي: حَلالاً بتحليلِ الله، وذلك أنَّ الصيدَ على قسمين: حلالٌ وحرام، ولا يختصُّ الصيدُ في لغةِ العرب / بالحلال لكنه يختصُّ به شرعاً، وقد تَجَوَّزت العربُ فأطلقت الصيد على ما لا يوصف بحِلٍّ ولا حُرْمة كقوله: 168 - 4- لَيْثٌ يعَثَّرَ يصطادُ الرجالَ إذا ... ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه صَدَقَا وقولِ الآخر: 168 - 5- وقد ذَهَبَتْ سَلْمَى بعقلِك كلِّه ... فهل غيرُ صيدٍ أَحْرَزَتْهُ حبائِلُهْ

وقولِ امرئ القيس: 168 - 6- وهِرُّ تصيدُ قلوبَ الرجالِ ... وأَفْلَتَ منها ابنُ عمروٍ حُجُرْ ومجيءُ «أَفْعَل» على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لسان العرب، فمِنْ مجيء افعل لبلوغِ المكان ودخولِه قولُهم: أحرمَ الرجلُ وأَعْرق وأَشْأَم وأَيْمن وأَتْهم وأَنْجد، إذا بلغ هذه الأمكان وحَلَّ بها، ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم: «أعشبت الأرض، وأبقلت، وأَغَدَّ البعير، وأَلْبنت الشاة وغيرها، وأَجْرت الكلبة، وأَصْرم النخل، وأَتْلَت الناقة، وأَحْصَدَ الزرع، وأَجْرب الرجل، وأنجبت المرأة» وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكون مُحِلاًّ باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بَلَغ أو صار ذا حِلّ اتضح كونُه استثناء ثانياً ولا يكون استثناء من استثناء. إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكمِ، لأنَّ المستثنى من المُحَلَّل مُحَرَّم، والمستثنى من المحرم مُحَلَّل، بل إنْ كن المعنيُّ بقوله «بيهمة الأنعام» الأنعامَ أنفسها فيكونُ استثناء منقطعاً، وإن كان المرادُ الظباءَ وبقرَ الوحش وحمره، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المُحِلّ، استثنى الصيد الذي بلغ الحِلَّ في حال كونهم مُحْرمين. فإن قلت: ما فائدةُ هذا الاستثناءِ بقيدِ بلوغِ الحِلِّ، والصيد الذي في الحرم لا يَحِلُّ أيضاً؟ قلت: الصيدُ الذي في الحَرَم لا يَحِلُّ للمحرم ولا لغير المحرم، وإنما يَحِلُّ لغير المحرم الصيدُ الذي في الحِلّ، فنبَّه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحِلِّ على المُحْرِم - وإن كان حلالاً لغيره - فأحرى أن يَحْرُم عليه

الصيدُ الذي هو بالحَرَم، وعلى هذا التفسير يكون قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} إنْ كان المراد به ما جاء بعده من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ} الآية استثناءً منقطعاً، إذ لا تختص الميتة وما ذُكِر معها بالظباء وبقرِ الوحش وحمره فيصير: «لكن ما يتلى عليكم - أي: تحريمُه - فهو مُحَرَّم» ، وإن كان المرادُ ببهيمة الأنعامِ الأنعامَ والوحوشَ فيكون الاستثناءان راجِعَيْن إلى المجموع على التفصيل فيرجع «ما يتلى عليكم» إلى ثمانية الأزواج، ويرجع «غيرَ مُحِلّي الصيد» إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول، وإذا لم يمكن ذلك وأمكن رجوعه إلى الأول بوجهٍ ما رجع إلى الأول، وقد نص النحويون أنه إذا لم يمكن استثناءُ بعضِ المستثنيات من بعض جُعِل الكلُّ مستثنًى من الأول نحو: «قام القومُ إلا زيداً إلا عمرواً إلا بكراً» فإن قلت: ما ذكرته من هذا التخريج وهو كونُ المُحِلِّ من صفة الصيد لا من صفة الناس ولا من صفة الفاعل المحذوف يأباه رسمه في في المصحف «مُحِلّي» بالياء، ولو كان من صفته الصيد دون الناس لكتب «مُحِلّ» من غير ياء، وكونُ القراء وقفوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك. قلت: لا يعكر ذلك على التخريج، لأنهم قد رسموا في المصحف الكريم أشياءَ تخالف النظق بها ككتابتهم {لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] {ولأَوْضَعُواْ} [التوبة: 47] ألفاً بعد لام الألف، وكتابتم «بأَيْيد» بياءين بعد الهمزة، وكتابتهم «أولئك» بزيادة واو، ونقصِ ألفٍ بعد اللام، وكتابتهم «الصالحات» ونحوه بسقوط الألفين إلى غير ذلك. وأمَّا وقفُهم عليه بالياء فلا يجوزُ، إذ لا يوقف على المضافِ دون المضاف إليه، وإنْ وقف واقف فإنَّما يكون لِقَطْع نَفَسٍ أو اختبار، وعلى أنه يمكن توجيهُ كتابته بالياء

والوقف عليه بها وهو أنَّ لغةَ الأزد يقفون فيها على «بزيدٍ» بزيدي، بإبدال التنوين ياءً فكتب «مُحِلِّي» على الوقف على هذه اللغة بالياء، وهذا توجيهُ شذوذٍ رَسْمي، ورسمُ المصحف مما لا يقاس عليه «انتهى. وهذا الذي ذكره واختاره وغَلَّط الناس فيه ليس بشيء، وما ذكره من توجيه ثبوت الياء خطاً ووقفاً فخطأ محض؛ لأنه على تقدير تسليم ذلك في تلك اللغة فأين التنوينُ الذي في «مُحِل» ؟ وكيف يكون فيه تنوين وهوم ضاف حتى يقول: إنه قد يُوَجَّه بلغة الأزد، وما ذكره من كونه يحتمل مما يكونون قد كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة فشيء لا يُعَوَّل عليه، لأنَّ خط المصحف سُنَّةٌ متبعة لا يقاس عليه فكيف يقول: يحتمل أن يقاس هذا على تلك الأشياء؟ وأيضاً فإنهم لم يُعْربوا «غير» إلا حالاً، حتى نقل بعضهم الإِجماع على ذلك، وإنما اختلفوا في صاحب الحال، فقوله: إنه استثناء ثان مع هذه الأوجه الضعيفة خرقٌ للإِجماع، إلا ما تقدم نَقْلَه عن بعضهم من أنه استثناء ثان، وعزاه للبصريين، لكن لا على هذا المَدْرَك الذي ذكره الشيخ. وقديماً وحديثاً استشكل الناسُ هذه الآية. قال ابن عطية: «وقد خَلَط الناس في هذا الموضع في نصب» غير «وقدَّروا تقديمات وتأخيرات، وذلك كله غير مُرْضِ، لأنَّ الكلام على اطراده فيمكن استثناء بعد استثناء» وهذه الاية مما اتضح للفصحاء البلغاء فصاحتُها وبلاغتها، حتى يُحْكَى أنه قيل للكندي: «أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن» فقال: «نعم أعملُ لكم مثلَ بعضِه» ، فاحتجب أياماً كثيرة، ثم خَرَجَ فقال: «واللهِ لا يَقْدِرُ أحد على ذلك، إنني فتحت المصحفَ فخرجت سورةُ المائدة / فإذا هو قد نَطَقَ بالوفاء ونهى عن

النكث وحَلَّل تحليلاً عاماً ثم استثنى استثناءً بعد استثناء، ثم أَخْبَرَ عن قُدْرَتِه وحكمته في سطرين» . والجمهور على نصب «غير» ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه نعت ل «بهيمة الأنعام» والموصوف ب «غير» لا يلزم فيه أن يكونَ مماثلاً لما بعدها في جنسه، تقول: مررت برجلٍ غير حمار «هكذا قالوه، وفيه نظر، ولكن ظاهر هذه القراءة يدلُّ لهم. والثاني: أنه نعتٌ للضمير في» يُتْلى «قال ابن عطية:» لأنَّ «غير محلي الصيد» في المعنى بمنزلة «غير مُسْتَحَلٍ إذا كان صيداً» وقيه تكلُّفٌ. والصيد في الأصل مصدر صاد يصيد ويُصاد، ويُطْلق على المصيد ك «درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ» وهو في الآية الكريمة يحتمل الأمرين: أعني مِنْ كونِه باقياً على مصدريته، كأنه قيل: أَحَلَّ لكم بهيمةَ الأنعام غيرَ محلِّين الاصطيادَ وأنتم مُحْرِمون، ومن كونه واقعاً موقع المفعول أي: غيرَ محلِّين الشيء المصيدَ وأنتم مُحْرمون. وقوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال، وما هو صاحبُ هذه الحال؟ فقال الزمخشري: «هي حال عن» مُحِلّي الصيد «كأنه قيل: أَحْلَلْنا لكم بعضَ الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم مُحْرِمون لئلا نتحرَّج عليكم» قال الشيخ «وقد بَيَّنَّا فساد هذا القول بأنَّ الأنعامَ مباحةٌ مطلقاً لا بالتقيد بهذه الحال» . وهذا الردُّ ليس بشيء لأنه إذا أَحَلَّ لهم بعضَ الأنعام في حالِ امتناعِهم من الصيد فأنْ يُحِلِّها لهم وهم غيرُ

مُحْرِمين بطريقِ الأولى. و «حُرُم» جمعَ حرام بمعنى مُحْرِم قال: 168 - 7- فقلْتُ هلا فيئي إليك فإنني ... حَرَامُ وإني بعد ذاك لبيبُ أي: مُلَبٍّ، وأَحْرَمَ: إذا دَخَل في الحَرَم أو في الإِحرام. وقال مكي بن أبي طالب: «هو في موضع نصب على الحال من المضمر في» محلي «وهذا هو الصحيح، وأما ما ذكره أبو القاسم فلا يَظْهَرُ وفيه مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة. وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم والحسن:» حُرْم «بسكون الراء، قال أبو الحسن:» هي لغة تميم «يعني يسكِّنون ضم» فُعُل «جمعاً نحو:» رُسْل «.

2

قوله تعالى: {وَلاَ القلائد} : ولا ذوات القلائد، ويجوز أن يكونَ المرادُ القلائدَ حقيقة، ويكون فيه مبالغةٌ في النهي عن التعرض للهَدي المقلَّد، فإنه إذا نَهَى عن قِلادته أن يُتَعَرَّض لها فبطريق الأَوْلى أن يَنْهى عن التعرض للهَدْي المُقَلَّد بها، وهذا كما قال تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} لأنه إذا نَهَى عن إظهار الزينة فما بالك بمواضعها من الأعضاء. وقوله: ولا آمِّيْنَ «أي: ولا تُحِلُّوا قوماً آمِّين، ويجوز ان يكون على حذف مضاف أي: لا تُحِلُّوا قتالَ قوم أو أذى قوم آمِّين. وقرأ عبد الله ومَنْ تبعه:» ولا آمِّي البيتِ «بحذف

النون وإضافةِ اسم الفاعل إلى معموله. و» البيت «نصبٌ على المفعول به ب» آمّين «أي قاصدين البيتَ، وليس ظرفاً. وقوله: {يَبْتَغُونَ} حالٌ من الضمير في» آمِّين «أي: حالَ كون الآمِّين مبتغين فَضْلاً، ولا يجوزُ أن تكونَ هذه الجملة صفة ل» آمّين «لأن اسم الفاعل متى وُصف بَطَل عمله على الصحيح، وخالف الكوفيون في ذلك، وأعرب مكي هذه الجملةَ صفةً ل» آمِّين «وليس بجيد لِما تقدم، وكأنه تبع في ذلك الكوفيين. وهنا سؤال: وهو أنه لِم لا قيل بجوازِ إعماله قبل وصفِه كما في هذه الآية قياساً على المصدر فإنه يَعْمل قبلَ أن يُوصف نحو: يعجبني ضربٌ زيداً شديدٌ؟ والجمهور على» يبتغون «بتاء الخطاب، على أنه خطاب للمؤمنين وهي قَلِقة لقوله: {مِّن رَّبِّهِمْ} ولو أريد خطاب المؤمنين لكان تمامُ المناسبة:» تبتغون فضلاً من ربكم «و» من ربهم «يجوز أن يتعلق بنفس الفعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل» فضلاً «أي: فضلاً كائناً من ربهم. وقد تقدم الخلاف في ضم راء» رضوان «في آل عمران. وإذا عَلَّقنا» من ربهم «بمحذوفٍ على أنه صفة ل» فضلاً «فيكون قد حَذَفَ صفة» رضوان «لدلالةِ ما قبله عليه أي: ورضواناً من ربهم، وإذا عَلَّقناه بنفس الفعل لم يَحْتَجْ إلى ذلك. قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} قُرئ:» أَحْللتم «وهي لغة في» حَلَّ «،

ويقال:» أحَلَّ من إحْرامِه «كما يقال: حَلَّ وقرأ الحسن بن عمران وأبو واقد ونبيح والجراح بكسر الفاء العاطفة، وهي قراءةٌ ضعيفة مشكلة، وخَر‍َّجها الزمخشري على أن الكسر في الفاء بدلٌ من كسر الهمزة في الابتداء. وقال ابن عطية:» هي قراءةٌ مشكلة، ومن توجيهها أن يكونَ راعى كسر ألف الوصل إذا ابتدأ، فكسرَ الفاءَ مراعاةً وتذكُّراً لكسر ألف الوصل «. وقال الشيخ:» وليس عندي هو كسراً محضاً بل هو إمالة محضةٌ لتوهُّم وجود كسرة همزة الوصل، كما أمالوا فاء «فإذا» لوجود كسر الهمزة «. قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} قرأ الجمهور: «يَجْرِمَنَّكم» بفتح الياء من «جرم» ثلاثياً «ومعنى» جَرَمَ «عند الكسائي وثعلب: حمل، يقال:» جَرَمه على كذا «أي: حمله عليه، فعلى هذا التفسير يتعدَّى» جرم «لواحد، وهو الكاف والميم، ويكون قوله: {أَن تَعْتَدُواْ} على إسقاطِ حرف الخفض وهو» على «أي: ولا يَحْملنكم بُعْضكم لقوم على اعتدائكم عليهم، فيجيء في محلِّ» أَنْ «الخلافُ المشهور، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة. ومعناه عند أبي عبيد والفراء كسب، ومنه» فلان جريمةُ أهله «أي: كاسبهُم، وعن

الكسائي أيضاً: أنَّ جرم وأجرم بمعنى كَسَب غيره، وعلى هذا فيحتمل وجهين، أحدهما: أنه متعد لواحد. والثاني: أنه متعد لاثنين، كما أن» كَسَب «كذلك، وأما في الآية الكريمة فلا يكون إلا متعدياً لاثنين أولُهما ضميرُ الخطاب. الثاني:» أن تعتدوا «أي: لا يَكْسِبَنَّكم بغضُكم لقومٍ الاعتداءَ عليهم. وقرأ عبد الله:» يُجْرِمَنَّكم «بضم الياء من أجرم رباعياً، وقيل: هو بمعنى جَرَم كا تقدم نَقْلُه عن الكسائي، وقيل:» أجرم «منقول من» جرم «بهمزة التعدية. قال الزمخشري:» جَرَم يجري مجرى كسب في تعديتِه إلى مفعول واحد وإلى اثنين، تقول: «جَرَمَ ذنباً» نحو: كَسبه، وجرمته ذنباً أي: كَسَبته إياه، ويقال: أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كقولك: «أكسبته ذنباً» وعليه قراءةُ عبد الله: «ولا يُجْرمنكم» ، وأولُ المعفولين على القراءتين / ضميرُ المخاطبين، والثاني: «أَنْ تعتدوا» انتهى وأصلُ هذه المادةِ - كما قال ابن عيسى الرماني - القطعُ، فجرم «حَمَل على الشيء» لقطعِه عن غيره، وجَرَم «كَسَب» لانقطاعه إلى الكسب، وجَرَم بمعنى «حَقّ» لأن الحق يُقطع عليه. قال الخليل: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] أي: لقد حق، هكذا قال الرماني، فجَعَل بين هذه الألفاظ قَدْراً مشتركاً، وليس عنده من باب الاشتراك اللفظي. و «شَنآنُ: معناه بُغْض، وهو مصدر شَنِئ أي: أبغض. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم:» شَنْآن «بسكونِ النون، والباقون بفتحها، وجَوَّزوا في كل

منهما أن يكونَ مصدراً وأن يكون وصفاً، حتى يُحْكى عن أبي عليّ أنه قال:» مَنْ زَعَم أن «فَعَلان» إذا سَكَنت عينه لم يكن مصدراً فقد أخطأ إلا ان فَعْلان بسكون العين قليلٌ في المصادر نحو: «لَوَيْتُه دينه لَيَّاناً» بل هو كثير في الصفات نحو سَكْران وبِابِه، وفَعَلان بالفتح قليلٌ في الصفات قالوا: حمارٌ قَطَوان أي عَسِر السير، وتيس عَدَوان قال: 168 - 8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كَتَيْسِ ظِباء الحُلَّبِ العَدَوانِ ومثله قولُ الآخر: - أنشده أبو زيد - 168 - 9- وقبلَك ما هابَ الرجالُ ظُلامتي ... وفَقَّأْتُ عينَ الأَشْوَسِ الأَبَيَانِ بفتح الباء والياء، بل الكثيرُ أن يكونَ مصدراً نحو: «الغلَيان والنزوان» فإنْ أُريد بالشنآن الساكنِ العين الوصفُ فالمعنى: ولا يَجْرمنكم بغيضُ قوم، وبغيض بمعنى مُبْغض اسم فاعل من أبغض وهو متعدّ، ففعيل بمعن الفاعل كقدير ونصير، وإضافته لقوم على هذا إضافةُ بيان أي: إنَّ البغيض من بينهم، وليس مضافاً لفاعل ولا مفعول، بخلاف ما إذا قَدَّرْته مصدراً فإنه يكون مضافاً إلى مفعوله أو فاعله كما سيأتي. وقال صاحبُ هذا القول: «يقال: رجلٌ شَنْآن وامرأة شنْآنة كَنْدمان وندمانة، وقياسُ هذا أن

يكون من فِعْلٍ متعدّ» وحكى: رجل شنآن وامرأة شَنْأى كَسكْران وسكرى، وقياسُ هذا أن يكون من فِعْلٍ لازم، ولا بُعْدَ في ذلك، فإنهم قد يشتقون من مادة واحة القاصر والمتعدي، قالوا: «فَغَرْتُ فاه وفَغَر فُوه» أي: فتحه فانفتح، وإنْ أُريد به المصدرُ فواضحٌ، ويكون مضافاً إلى مفعولِه أي: بغضُكم لقومٍ، فحُذِف الفاعل، ويجوز أن يكون مضافاً إلى فاعله أي: بغضُ قوم إياكم فحذف معفوله، والأول أظهر في المعنى، وحكم «شنآن» بفتح النون مصدراً وصفةً حكمُ الساكنِها، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، ومن مجيءِ «شَنآن» الساكنِ العينِ مصدراً قول الأحوص: 169 - 0- وما الحبُّ إلا مَا تَلذُّ وتَشْتَهي ... وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنَانِ وفَنَّدا أراد الشنْآن بسكونِ النونِ فنقلَ حركةَ الهمزة إلى النون الساكنة، وحذف الهمزة، ولولا سكونُ النونِ لما جاز النقل، ولو قال قائل: إن الأصل «الشنآن» بفتح النون، وخفف الهمزة بحذفها رأساً، كما قرئ {إنها لاحْدى الكُبَر} [المدثر: 35] بحذفِ همزة «إحدى» لكان قولاً يسقط به الدليل لاحتماله. والشنآن بالفتح مِمَّا شَذَّ عن القاعدة الكلية، قال سيبويه: «كلُّ بناء من المصادر على وزن فَعَلان بفتح العين لم يتعدَّ فعلُه إلا أن يَشِذَّ شيءٌ كالشَّنآن» يعني أنه مصدرٌ على فَعَلان بالفتح ومع ذلك فعلُه متعدٍّ، وفعلُه أكثر الأفعال مصادِرَ، سُمِع له ستةَ عشرَ مصدراً قالوا: شَنِئَ يَشْنَأُ شَنْئَاً وشَنآناً مثلثي الشين فهذه ست

لغات. وقرأ ابن وثاب والحسن والوليد عن يعقوب: «يَجْرِمَنْكم» بسكون النون، جَعَلوها نونَ التوكيد الخفيفةَ، والنهي في الفظ للشنآن وهو في المعنى للمخاطَبين نحو: «لا أُرَينَّك ههنا» {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] قال مكي. قوله تعالى: {أَن صَدُّوكُمْ} قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر «إنْ» والباقون بفتحها، فمَنْ كسر فعلى أنها شرطية، والفتح على أنها علة للشنآن أي: لا يكسبنَّكم أولا يَحْمِلَنَّكم بغضُكم لقوم لأجل صَدِّهم إياكم عن المسجد الحرام، وهي قراءةٌ واضحة. وقد استشكل الناسُ قراءة الأبوين من حيث إنَّ الشرط يقتضي أنَّ الأمر المشروط لم يقع، والفرض أنَّ صَدَّهم عن البيت الحرام كان وقد وقع، ونزولُ هذه الآية متأخرٌ عنه بمدة، فإنَّ الصدَّ وقع عامَ الحديبية وهي سن ست، والآية نزلت سنة ثمان، وأيضاً فإنَّ مكةَ كانت عام الفتح في أيديهم فكيف يُصَدون عنها؟ قال ابن جريج والنحاس وغيرهما: «هذه القراءة منكرةٌ» واحتجوا بما تقدم من الإِشكال، ولا إشكالَ في ذلك. فالجواب عما قالوه من وجهين، أحدهما: أنَّا لا نُسَلِّم أن الصدَّ كان قبل نزول الآية فإنَّ نزولها عام الفتح ليس مُجْمعاً عليه. وذكر اليزيدي أنها نزلت قبل

الصدِّ فصار الصدُّ أمراً منتظراً، والثاني: أنه وإنْ سَلَّمنا أن الصدَّ كان متقدماً على نزولها فيكون المعنى: إنْ وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع زمن الحديبية - أو يستديموا ذلك الصدَّ الذي وقع منهم - فلا يجرمنكم، قال مكي: «ومثلُه عند سيبويه قول الشاعر - وهو الفرزدق -: 169 - 1- أتغضَبُ إنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وذلك شيءٌ قد كان ووقع، وإنما معناه: إنْ وقع مثلُ ذلك الغضب، وجواب الشرِط ما قبله» يعني: وجوابُ الشرط دلَّ عليه ما قبلَه، لأن البصريين يمنعون تقديمَ الجوابِ إلا أبا زيد. وقال مكي أيضاً: «ونظيرُ ذلك أنَّ يقول رجل لامرأته» أنت طالق إنْ دخلت الدار «بكسر» إن «لم تَطْلُق عليه بدخولها الأول لأنه أمر يُنْتَظَر، ولو فتح لَطَلَقَتْ عليه، لأنه أمرٌ كان ووقع، ففتحُ» أن «لما هو علة لما كان ووقع، وكَسْرُها إنما هو لأمرٍ يُنْتظر، والوجهان حَسَنان على معنييهما» وهذا الذي قاله مكي فَصَّل فيه الفقهاء بين مَنْ يعرف النحو وبين مَنْ لا يعرفه. ويؤد قراءَة الأبوين قراءة عبد الله بن مسعود: «إنْ يَصُدُّوكم» قال أبو عبيد: «حَدَّثنا حجاج عن هرون قال: قرأ ابن مسعود فذكرها، قال: وهذا لا يكونُ إلا على استئنافِ الصدِّ، يعني إنْ وقع صَدُّ آخرُ مثلُ ما تقدم عام الحديبية. ونَظْمُ هذه الآيات على ما هي عليه مِنْ أبلغ ما يكون وأفصحِه، وليس فيها تقديمٌ ولا تأخير كما زعم بعضهم فقال: / أصلُ تركيب الآية الأولى:»

غيرَ محلي الصيد وأنتم حرم، فإذا حَلَلْتم فاصطادوا «وأصل تركيب الثانية: {ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} ونَظَّره بآيةِ البقرة يعني: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ} [الآية: 67] ، وهذا لا حاجةَ إليه مع أنَّ التقديم والتأخير عند الجمهور من ضرائر الشعر فيجبُ تنزيه القرآن عنه، وليست الجملةُ أيضاً من قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} معترضةً بين قوله: {ولا آمِّينَ البيت الحرام} وبين قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} بل هي مؤسسةٌ ومنشئةٌ حكماً، وهو حِلُّ الاصطياد عند التحلُّل من الإِحرام، والجملةُ المعترضةُ إنما تفيد توكيداً وتسديداً، وهذه مفيدةٌ حكماً جديداً كما تقدم. وقوله: {أَن تَعْتَدُواْ} قد تقدَّم أنه من متعلقات «لا يجرمنكم» على أنه مفعولٌ ثانٍ أو على حذف حرف الجر، فَمَنْ كسر «إن صدوكم» يكونُ الشرطُ وجوابُه المقدر في محلِّ جر صفة ل «قوم» اي شنآن قوم هذه صفتُهم، ومَنْ فتحها فمحلُّها الجرُّ أو النصب، لأنها على حَذْفِ لام العلة كما تقدم. قال الزمخشري: «والمعنى: ولا يكسبنكم بغضُ قوم لأنْ صَدُّوكم الاعتداءَ ولا يَحْملنكم عليه» قال الشيخ: وهذا تفسيرُ معنى لا تفسير إعراب، لأنه يمتنع أن يكونَ مدلولُ «جرم» حمل وكَسَب في استعمال واحد لاختلافِ مقتضاهما، فيمتنعُ أن يكونَ « [أن] تعتدوا» في محلِّ مفعول به ومحلِّ مفعولٍ على إسقاط حرف الجر «وهذا الذي قال لا يُتَصَوَّر أن يتوهَّمه مَنْ له أدنى بصر بالصناعة حتى يُنَبِّه عليه. وقد تقدَّم قراءة البزي في نحو:» ولا تَّعاوَنُوا «وأنَّ الأصل:» تتعاونوا «

فأدغم، وحَذف الباقون إحدى التاءين عند قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] .

3

وتقدَّم أيضاً إعرابُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} : وأصلُها وقدم هنا لفظَ الجلالة في قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} وأُخِّرت هناك، لأنها في البقرة فاصلةٌ أو تشبه الفاصلة بخلافِها هنا، فإنها بعدَها معطوفاتٌ. والموقوذة: هي التي وُقِذَت أي: ضُربت بعصا ونحوها حتى ماتت، مِنْ: وَقَذَه أي: ضَرَبه حتى استرخى، ومنه: «وقَذَه النعاس» أي: غَلَبه، ووقَذْه النعاس «أي: غَلَبه، ووقَذه الحُلُم أي: سكنه، وكأن المادة دالة على سكون واسترخاء. والمُتَرَدِّيَةُ: مِنْ تَرَدَّى أي: سقط من عُلُوٍّ فهلك، ويقال:» ما يَدْري أين رَدَى «أي: ذهب، وَرَدَى وَتَردَّى بمعنى هَلك، والنَّطيحة: فعيلة بمعنة مفعولة، وكان مِنْ حقها ألاَّ تدخلها تاءُ التأنيث كقتيل وجريح، إلا أنها جَرَتْ مَجْرى الأسماء أو لأنها لم يُذْكَر موصوفها، كذا قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ، لأنهم إنما يُلحقون التاء إذا لم يُذْكر الموصوف لأجلِ اللَّبس نحو:» مَرَرْتُ بقتيلة بن فلان «لئلا يُلْبِس المذكرُ بالمؤنث، وهنا اللبسُ منتفٍ، وأيضاً فحكمُ الذكر والأنثى في هذا سواءٌ. و» ما أكل السَّبُعُ «:» ما «بمعنى الذي وعائده محذوف أي: وما أكلَه السبع، ومحلُّ هذا الموصولِ الرفعُ عطفاً على ما لم يُسَمَّ فاعله، وهذا غيرُ ماشٍ على ظاهرة لأنَّ ما أكله السبع وفرغ منه لا يُذ‍َكَّى، ولذلك قال أبو القاسم الزمخشري:» وما أكل بعضَه السبُع «وقرأ الحسن والفياض وأبو حيوة:»

السَّبْع «بسكون الباء وهو تسكين للمضموم. ونُقل فتح السين والباء معاً، والسَّبُع: كل ذي ناب ومِخْلب كالأسد والنمر، ويُطْلَقُ على ذي المخلب من الطيور أيضاً، قال: 169 - 2- وسِباعُ الطيرِ تَغْدُو بِطاناً ... تتخطَّاهُمُ فما تَسْتَقِلُّ قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فيه قولان، أحدهما: أنه مستثنى متصل، والقائلون بأنه استثناء متصل اختلفوا: فمنهم مَنْ قال: هو مستثنى من قوله: {والمنخنقة} إلى قوله: {وَمَآ أَكَلَ السبع} وقال أبو البقاء:» والاستثناءُ راجعٌ إلى المتردية والنطيحة وأكيلة السَّبعُ «وليس إخراجُه المنخنقة منه بجيدٍ. ومنهم مَنْ قال:» هو مستثنى مِنْ «ما أكل السَّبُع» خاصة. والقول الثاني: أنه منقطعٌ أي: ولكن ما ذَكَّيْتم من غيرها فحلال، أو فكلوه، وكأنَّ هذا القائلَ رأى أنها وَصَلَتْ بهذه الأسباب إلى الموت أو إلى حالةٍ قريبة منه فلم تُفِدْ تَذْكِيتُها عندَه شيئاً. والتذكية: الذَّبْحُ، وذَكَت النارُ: ارتفعَتْ، وذَكَى الرجلُ: أَسَنَّ، قال: 169 - 3- على أعراقهِ تَجْري المَذاكي ... وليس على تقلُّبِه وجُهْدِهْ قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} رُفِع أيضاً عطفاً على «الميتة» واختلفوا في النصبِ فقيل: هي حجارةٌ كانوا يَذْبحون عليها ف «على» هنا واضحةٌ، وقيل: هي للأصنام لأنها تُنصَب لتُعْبَدَ، فعلى هذا في «على» وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى اللام أي: وما ذُبِحَ لأجل الأصنام. والثاني: هي على

بابها، ولكنها في محلِّ نصب على الحال أي: وما ذبح مُسَمَّى على الأصنام، كذا ذكره أبو البقاء وفهي النظر المعروف وهو كونه قدَّر المتعلق شيئاً خاصاً. والجمهور على «النُّصُب» بضمتين فقيل: هو جمع «نِصاب» وقيل: هو مفرد، ويدل له قول الأعشى: 169 - 4- وذا النُّصُبَ المنصوبَ لا تَقْرَبَنَّه ... ولا تَعْبُدِ الشيطانَ واللَّهَ فاعبُدا وفيه احتمالٌ. وقرأ طلحة بن مصرف بضمِّ النون وإسكان الصاد وهي تخفيف القراءة الأولى. وقرأ عيسى بن عمر: «النَصَب» بفتحتين، قال أبو البقاء: «وهو اسمٌ بمعنى المنصوب كالقبَض والنقَص بمعنى المقبوض والمنقوص، والحسنُ:» النَّصْب «بفتح النون وسكون الصاد، وهو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به، ولا يجوز أن تكون تخفيفاً لقراءة عيسى بن عمر لأنَّ الفتحة لا تُخَفَّفُ. /قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} » أن «وما في حيزها في محلِّ رفع عطفاً على» المتية «والأزلام: القِداح، واحدُها» زَلْم «و» زُلْم «بفتح الزاي وضمها. والقِداح: سهام كانت العرب تطلب بها معرفة ما قُسم لها من خير وشر، مكتوبٌ على أحدها:» أمرني ربي «وعلى الآخر:» نهاني ربي «، والآخر غُفْل. وقيل: هي سهام الميسر أي: القِمار، ووجهُ ذكرها مع هذه المطاعم أنها كانت تُرفع عند البيت معها.

قوله: {ذلكم فِسْقٌ} مبتدأُ وخبر، واسمُ الإِشارة راجع إلى الاستقسام بالأزلام خاصة، وهو مرويٌ عن ابن عباس. وقيل: إلى جميع ما تقدَّم، لأنَّ معناه: حَرَّم عليكم تناولَ الميتة وكذا، فرجعَ اسمُ الإِشارة إلى هذا المقدَّر. قوله: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ} » اليوم «ظرفٌ منصوبٌ ب» يئس «والألفُ واللام فيه للعهدِ، قيل: أرادَ به يوم عرفة، وهو يوم الجمعة عامَ حجة الوداع، نزلَتْ هذه الآيةُ فيه بعد العصر. وقيل: هو يومَ دخولِه عليه السلام مكة سنة تسع، وقيل: ثمان وقال الزجاج - وتبعه الزمخشري - إنها ليست للعَهد، ولم يُرد باليوم معيناً، وإنما أراد به الزمانَ الحاضر وما يدانيه من الأزمنة الماضية والآتية كقولك:» كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب «لا تريد بالأمس الذي قبل يومك، ولا باليوم الزمنَ الحاضر فقط، ونحوه:» الآن «في قول الشاعر: 169 - 5- الآن لَمَّا ابيضَّ مَسْربتي ... وعَضَضْتُ مِنْ نابي على جِذْمِ ومثلُه أيضاً قول زهير: 169 - 6- وأَعلم ما في اليومِ والأمسِ قبلَه ... ولكنني عن علمِ ما في غَدٍ عَمِ لم يُرِد بهذه حقائقَها. والجمهورُ على» يَئِس «بالهمز، وقرأ يزيد

ابن القعقاع:» يَيِس «بياءين من غير همزة، ورُويت أيضاً عن أبي عمرو، يقال يَئِس يَيْئَس ويَيْئِسُ بفتح عين المضارع وكسرِها وهو شاذ، ويقال:» أَيِس «أيضاً مقلوب من يئس فوزنه عَفِل، ويدل على القلب كونُه لم يُعَل، إذ لو لم يقدر ذلك للزم إلغاء المقتضي وهو تحرُّكُ حرف العلة وانفتاحِ ما قبله، لكنه لما كان في معنى ما لم يُعَلَّ صح. واليأس: انقطاع الرجاء، وهو ضد الطمع. و «من دينكم» متعلق ب «يئس» ومعناها ابتداءُ الغاية، وهو على حَذْف مضاف أي: من إبطال أمر دينكم. والكلامُ في قوله: {اليوم أَكْمَلْتُ} كالكلامِ على «اليوم» قبله. و «عليكم» متعلقٌ ب «أَتْممت» ، ولا يجوزُ تعلُّقه ب «نعمتي» وإن كان فعلُها يتعدَّى ب «على» نحو: {أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه، إلا أَنْ ينوبَ منابَه، قال أبو البقاء: «فإنْ جَعَلْته على التبيين، أي: أتممت أعني عليكم جازَ» ولا حاجةَ إلى ما ادَّعاه. قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} في «رَضي» وجهان، أحدهما: أنه متعدٍّ لواحدٍ وهو الإِسلام. و «ديناً» على هذا حالٌ. وقيل: هو مُضَمَّن معنى صَيَّر وجَعَل، فيتعدَّى لاثنين أولهما «الإِسلام» ، والثاني: «ديناً» . و «لكم» يجوز فيه وجهان، أحدهما:: أنه متعلق ب «رضي» ، والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حال من الإِسلام، ولكنه قُدِّم عليه. قوله: «فمن اضطر» قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآيةِ وما قرئ فيها في البقرة فأغنى عن إعادته. و «في مَخْمَصَةٍ» متعلقٌ ب «اضْطُرَّ» ، والمَخْمَصَةُ: المجاعة لأنها تَخْمُصُ لها البطونُ أي: تَضْمُرُ، وهي صفةٌ محمودةٌ في النساء، يقال: رجلٌ خُمْصان

وامرأةٌ خُمْصانة، ومنه: أَخْمَصُ القدمِ لدقتها، ويُستعمل في الجوع والغَرْث قال: 169 - 7- تَبيتون في المَشْتى مِلاءً بطونُكم ... وجارتُكم غَرْثَى يَبِتْنَ خمائصا وقال آخر: 169 - 8- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكم زمنٌ خَميصُ وُصِف الزمانُ بذلك مبالغةً كقولهم: «نهارهُ صائم وليله قائم» و «غيرَ» نصب على الحال. والجمهور على «متجانِفٍ» بألف وتخفيفِ النون من تَجانَفَ وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي «مُتَجَنِّف بتشديد النون دون ألف. قال أبو محمد بن عطية:» وهي أبلغُ مِنْ «متجانف» في المعنى لأنَّ شدَّة العين تدلُّ على مبالغةٍ وتوغلٍ في المعنى «و» لإِثم «متعلق ب» متجانف «واللامُ على بابها، وقيل: هي بمعنى» إلى «أي: غيرُ مائل إلى إثم، ولا حاجةَ إليه، وقد تقدَّم معنى هذه اللفظة واشتقاقُها عند قوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} [البقرة: 182] وقوله: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} جملةٌ: إمَّا في محلِّ جزم أو رفع على حسب ما قيل في» من «، وكذلك القولُ في الفاء: إما واجبةٌ أو جائزةٌ، والعائد على كلا التقديرين محذوف أي: فإن الله غفور له.

4

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} : قد تقدَّم الكلام

على «ماذا» وما قيل فيها فَلْيلتفت إليه. وقوله: «لهم» بلفظ الغيبة لتقدُّم ضمير الغَيْبة في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ} [البقرة: 215] ، ولو قيل في الكلام: «ماذا أُحِلَّ لنا» لكانَ جائزاً على حكاية الجملة كقولك: «أقسم زيدٌ ليضربن ولأضربن» بلفظِ الغَيْبة والتكلمِ، إلاَّ أنَّ ضميرَ المتكلم يقتضي حكايةَ ما قالوا، كما أنَّ «لأضربنَّ» يقتضي حكايةَ الجملةِ المُقْسَمِ عليها، و «ماذا أحِلَّ» هذا الاستفهامُ مُعلِّقٌ للسؤال وإن لم يكن السؤال من أفعال القلوب، إلا أنَّه كان سبب العلمِ، والعلمُ يُعَلَّق، فكذلك سبُبه، وقد تقدَّم تحريرُ القول فيه في البقرة. وقال الزمخشري هنا: «في السؤالِ معنى القولِ، فلذلك وقعَ بعدَه» ماذا أُحِلَّ لهم «، كأنه قيل: يقولون ماذا أحل لهم؟ ولا حاجةَ إلى تضمين السؤال معنى القول لما تقدَّم من أنَّ السؤالَ يُعَلَّق بالاستفهام كمسببه. وقال ابن الخطيب:» لو كان حكاية لكلامِهم لكانوا قد قالوا: ماذا أحل لهم، ومعلومٌ أنَّ ذلك باطل لا يقولونه، وإنما يقولون: ماذا أحِلَّ لنا، بل الصحيح أنه ليس حكايةً لكلامهم بعبارتهم، بل هو بيانُ كيفية الواقعة «. قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} في» ما «هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، العائدُ محذوف أي: ما عَلَّمْتموه، ومحلها الرفع عطفاً على مرفوعِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه أي وأُحِلَّ لكم صيدٌ أو أخذُ ما عَلَّمتم، فلا بد من حذف هذا المضاف. والثاني: أنها شرطية فمحلُّها رفع بالابتداء، والجوابُ قولُه:» فكُلوا «قال الشيخ:» وهذا أظهرُ لأنه لا إضمار فيه «والثالث: أنها موصولة أيضاً ومحلُّها الرفعُ بالابتداء، والخبر قوله:» فكُلوا، وإنما دخَلَتِ الفاء تشبيهاً للموصول باسم الشرط.

وقوله: {مِّنَ الجوارح} في محلِّ نصبٍ على الحال / وفي صاحبها وجهان، أحدُهما: أنه الموصول وهو «ما» والثاني: أنه الهاء العائدةٌ على الموصول، وهو في المعنى كالأول. والجوارح: جمع «جارحة» ، والهاءُ للمبالغة سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَجْرَحُ الصيدَ غالباً أو لأنها تَكْسَبُ، والجَرْحُ: الكَسْبُ ومنه: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60] . والجارحَةُ: صفةٌ جارية مجرى الأسماء لأنها لم يذكر موصوفها غالباً. وقرأ عبد الله بن عباس وابن الحنفية: «عُلِّمتم» مبنياً للمفعول، وتخريجها أن يكون ثَمَّ مضافٌ محذوف أي: وما عَلَّمكم الله من أمر الجوارح. «مكلِّبين» حالٌ من فاعل «عَلَّمتم» ، ومعنى «مكلِّبين» مؤدبين ومُضْرِين ومُعَوِّدين قال الشيخ «وفائدةٌ هذه الحالِ - وإنْ كانت مؤكدةً لقولِه:» عَلَّمتم «فكان يَسْتغنى عنها - أن يكون المعلمُ ماهراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به» انتهى، وفي جَعْلِه هذه الحالِ مؤكدةً نظرٌ، بل هي مؤسسةٌ. واشتُقَّت هذه الحالُ من لفظ «الكَلْب» هذا الحيوانِ المعروفِ وإن كانت الجوارحُ يندرج فيها غيرُه حتى سباعُ الطيور تغليباً له، لأنَّ الصيدَ أكثرُ ما يكون به عند العرب. أو اشتقت من «الكَلَب» وهو الضراوة، يقال: هو كَلِبٌ بكذا أي: حريص، وبه كَلَبٌ أي: حرص، وكأنه أيضاً مشتق من الكَلْبِ هذا الحيوانِ لحرصه، أو اشتقت الكَلْب، والكَلْبُ يُطْلق على السَّبُع أيضاً، ومنه الحديثُ: «اللهم سَلِّط عليه كَلْباً من كلابك» فأَكَله الأسد. قال الشيخ: وهذا الاشتقاقٌ لا يَصحُّ لأنَّ كونَ الأسدِ كلباً هو وصف فيه، والتكليبُ من

صفة المعلِّم، والجوارحُ هي سباعٌ بنفسها وكلاب بنفسِها لا بجَعْلِ المُعَلِّمِ «ولا طائلَ تحت هذا الرد وقرئ:» مُكْلِبين «بتخفيفِ اللام، وفَعَّل وأَفْعل قد يشتركان في معنى واحد، إلا أن» كَلَّب «بالتشديد معناه عَلَّمها وضَرّاها، و» أَكْلب «معناه صار ذا كِلاب، على أن الزَّجاج قال: رجلُ مُكَلِّب - يعني بالتشديد - ومُكْلِب يعني من أكلب، وكَلاَّب يعني بتضعيف اللام أي: صاحب كلاب» . وجاءَتْ جملةُ الجوابِ هنا فعليةً وجملةُ السؤال اسمية وهي: ماذا أُحِل؟ فيه جوابٌ لها من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ؛ إذ مل يتطابقا في الجنس. قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ} فيه أربعة أوجه، أحدها: أنها جملة مستأنفة. الثاني: أنها جملة في محلِّ نصب على أنها حال ثانية من فاعل «عَلَّمتم» ومَنَع أبو البقاء ذلك لأنه لا يُجيز للعامل أن يَعْمل في حالين، وتقدَّم الكلامُ في ذلك. الثالث: أنها حال من الضمير المستتر في «مُكَلِّبين» فتكون حالاً من حال وتسمى المتداخلة، وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكدة، لأن معناها مفهوم من «عَلَّمْتُمْ» ومن «مُكَلِّبين» والرابع: أن تكون جملة اعتراضية، وهذا على جَعْل «ما» شرطية، أو موصولة خبرها «فكلوا» فيكون قد اعترض بين الشرط وجوابه أو بين المبتدأ وخبره. فإن قيل: هل يجوز وجهٌ خامس، وهو أن تكون هذه الجملةُ حالاً من الجوارح أي: من الجوارحِ حالَ كونِها تُعَلِّمونهن، لأنَّ في الجملةِ ضميرَ ذي الحال «فالجوابُ أن ذلك لا يجوز، لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى الفصل بين هذه الحال وبين صاحِبها بأجنبي وهو» مكلِّبين «الذي هو حالٌ من فاعل» عَلَّمتم «.

قوله: {مِمَّآ أَمْسَكْنَ} في» مِنْ «وجهان، أظهرُهما: أنها تبغيضيةٌ، وهي صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، هو مفعولُ الأكل، أي: فكلوا شيئاً مما أمسكنه عليكم. والثاني: أنها زائدةٌ وهو قياسُ قولِ الأخفش، فعلى الأول تتعلَّق» مِنْ «بمحذوفٍ، وعلى الثاني لا تَعَلُّقَ لها، و» ما «موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفة، والعائدُ محذوفٌ، وعلى كلا التقديرين أي: أَمْسَكَتْه كما تقدم. والنونُ في «أمسكن» للجوارح. و «عليكم» متعلق ب «أمسكن» والاستعلاءُ هنا مجازٌ. قوله: «عليه» في هذه الهاء ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها تعود على المصدرِ المفهومِ من الفعل وهو الأكلُ كأنه قيل: واذكروا اسم الله على الأكلِ، ويؤيده ما في الحديث «سَمِّ الله، وكُلْ مِمَّا يَليك» والثاني: أنه يعود على «ما عَلَّمْتم» أي: اذكروا اسمَ الله على الجوارح عند إرسالِها على الصيد، وفي الحديث: «إذا أَرْسَلْت كلبك وذكرت اسمَ الله» والثالثُ: أنَّها تعودُ على «ما أَمْسَكْن» أي: اذكروا اسمَ الله ما أَدْركتم ذكاته مما أَمْسَكَتُه عليكم الجوارح.

5

وقوله تعالى: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ} : الكلامُ فيه كالكلامِ فيما قبله. وزعمَ قومٌ أنَّ المرادَ بثلاثةِ الأيام المذكورةِ هنا وقتٌ واحدٌ، وإنما كرره توكيداً، ولاختلافِ الأحداثِ الواقعةِ فيه حَسُنَ تكريره، وليس بشي. وادَّعى بعضُهم أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، وأن الأصل: «فاذكروا اسم اللهِ عليه وكلُوا مِمَّا أَمْسَكْن عليكم» وهذا يُشْبه قولَ مَنْ يعيدُ الضميرَ على الجوارحِ المرسلة.

قوله: {وَطَعَامُ الذين} فيه وجهان، الصحيحُ منهما أنه مبتدأ، وخبرُه «حِلُّ لكم» أبرز الإِخبارَ بذلك في جملةٍ اسميةٍ اعتناءً بالسؤال عنه. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ مرفوعاً عطفاً على مرفوع ما لم يُسَمِّ فاعلُه وهو «الطيبات» وجَعَل قولَه «حِلٌّ لكم» خيرَ مبتدأ محذوف، وهذا يَنْبغي ألاَّ يجوزَ البتة لتقدير ما لا يُحْتاج إليه مع ذهابِ بلاغةِ الكلامِ. وقوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} مبتدأ وخبر، وقياسُ قولِ أبي البقاء أن يكونَ «طعام» عطفاً على ما قبله، و «حِلٌّ» خبر مبتدأ محذوف، ولم يَذْكره كأنه استشعر الصواب. قوله: {والمحصنات} في رفعه أيضاً وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي: المُحْصَنات حِلُّ لكم أيضاً، وهذا هو الظاهر. واختار أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على «الطيبات» فإنه قال: «مِن المؤمنات» حالٌ من الضمير في «المُحْصَنات» أو من نفس «المحصنات» إذا عَطَفَتْها على «الطيبات» و «حِلٌّ» : مصدر بمعنى الحال فلذلك لم يُوَنَّث ولم يُثَنَّ ولم يُجْمع، لأنه أحسن الاستعمالين في المصادر الواقعة صفةً للأعيان، ويُقال في الإِتباع: حِلُّ بِلُّ «وهو كقولهم:» حَسَن بَسَن «و» عَطْشان نَطْشان «و» من المؤمنات «حالٌ كما تقدم: إمَّا من الضمير في» المحصنات «أو من» المحصنات «/. وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه اللفظة واختلافِ القُرَّاء فيها في سورة النساء. قوله: {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} ظرفٌ العاملُ فيه أحدُ شيئين: إمَّا» أُحِلَّ «وإمَّا» حِلُّ «المحذوفُ على حَسَب ما قُرِّرَ. والجملة بعده في محلِّ خفضٍ

بإضافته إليها، وهي هنا لمجرد الظرفية. ويجوز أن تكونَ شرطيةً وجوابُها محذوف، أي: إذا آتيتموهن أجورَهن حَلَلْنَ لكم، والأولُ أظهر. و» مُحْصِنين «حال، وعاملُها أحد ثلاثة أشياء: إمَّا» آتيتموهُنَّ «، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المرفوعُ، وإمَّا» أُحِلَّ «المبني للمفعول، وإمَّا» حِلٌّ «المحذوفُ كما تقدم. وغيرَ» يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن ينتصب على أنه نعت ل «محصنين» والثاني: أنه يجوزُ نصبُه على الحال، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر في «مُحْصِنين» والثالث: أنه حالٌ من فاعل آتيتموهن «على أنها حالٌ ثانيةٌ منه، وذلك عند مَنْ يُجَوِّز ذلك وقوله: {وَلاَ متخذي} يجوزُ فيه الجر على أنه عطفٌ على» مسافحين «وزيدت» لا «تأكيداً للنفي المفهوم من» غير «، والنصبُ على أنه عطفٌ على» غير «باعتبارِ أَوْجهها الثلاثة، ولا يجوز عطفُهُ على» مُحْصِنين «لأنه مقترنٌ ب» لا «المؤكدةِ للنفي المتقدمِ ولا نفيَ مع» محصنين «وتقدَّم معاني هذه الألفاظ. وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} تقدَّم له نظائر. وقيل: المراد بالإِيمان المؤمَنُ به، فهو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول ك «درهم ضَرْبُ الأمير» وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوف أي: بموجِبِ الإِيمان وهو الباري تبارك وتعالى. قوله: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} الظاهرُ أنَّ الخبرَ قوله: «من الخاسرين» فيتعلَّقُ قولُه «في الآخرة» بما تعلَّق به هذا الخبر. وقال مكي: «العاملُ في الظرفِ محذوفٌ تقديرُه:» وهو خاسر في الآخرةِ «ودَلَّ على المحذوفِ قولُه:» من الخاسرين «. فإن جعلة الألف واللام في» الخاسرين «ليستا بمعنى الذين جاز أن يكونَ العامل في الظرف» من الخاسرين «يعني أنه لو كانَتْ موصولةً لامتنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، لأنَّ الموصولَ لا يتقدم

عليه ما في حَيِّزه، وهذا كما قالوا في قوله: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الشعراء: 168] {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20] ، وتقديرُ مكي متعلِّق هذا الظرف وهو» خاسر «إنما هو بناء على كون» أل «موصولةً بدليل قولِه:» فإنْ جعلت الألف واللام ليستا بمعنى «الذين» وبالجملة فلا حاجة إلى هذا التقدير: بل العاملُ فيه كما تقدم العاملُ في الظرفِ الواقعِ خبراً وهو الكون المطلق، ولا يجوز أن يكونَ «في الآخرة» هو الخبر، و «من الخاسرين» متعلِّقٌ بما تعلَّق به لأنه لا فائدة في ذلك، فإنْ جُعِل «من الخاسرين» حالاً من ضميرِ الخبر وتكونُ حالاً لازمةً جاز، وهو ضعيفٌ في الإِعراب، وقد تقدَّم وقد تقدَّم نظيرُ هذه الآية في البقرة عند قوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} [الآية: 130] .

6

قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} : قالوا تقديرُه: إذا أردتم القيامَ كقولِه: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ} [النحل: 98] ، وهذا من إقامة المسبِّب مقام السبب، وذلك أنَّ القيامَ متسبِّبٌ عن الإِرادة والإِرادة سببه. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ جازَ أن يُعَبِّر عن إرادة الفعل بالفعل» قلت: لأن الفعل يوجَدُ بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهي قصدُه إليه وميلُه وخلوصُ داعيتهِ، فكما غَبَّر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: «الإِنسانُ لا يطير، والأعمى لا يبصر» أي: لا يَقْدران على الطير والابصار، ومنه قولُه تعالى: {نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] أي: قادرين على الإِعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل؛ وذلك لأن الفعل مُسَبِّب عن

القدرة، فأقيم المُسَبَّب مُقام السببِ للملابسةِ بينهما ولإِيجاز الكلام «. وقيل: تقديره: إذا قَصَدْتُم الصلاةَ؛ لأنَّ مَنْ توجَّه إلى شيءٍ وقام إليه كان قاصدا له فعبَّر بالقيام عن القصدِ. والجمهورُ قَدَّروا حالاً محذوفة من فاعل» قمتم «، أي: إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثين، إذ لا وضوءَ على غير المحِدث، وإن كان قال به جماعة، قالوا: ويدُلُّ على هذه الحالِ المحذوفة مقابلتُها بقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} فكأنه قيل: إنْ كنتم مُحْدِثين الحدثَ الأصغر فاغسِلو كذا وامسَحوا كذا، وإنْ كنتم مُحْدثين الحدثَ الأكبر فاغسلوا الجسدَ كله، وهو مَحَلُّ نظر. قوله: {إِلَى المرافق} في» إلى «هذه وجهان، أحدهما: أنها على بابها من انتهاء الغاية، وفيها حنيئذ خلاف، فقائلٌ: إنَّ ما بعدها لا يدخل فيما قبلها، وقائلٌ بعكس ذلك، وقائل: لا تَعَرُّضَ لها في دخولٍ ولا عدَمِه، وإنما يدور الدخولُ والخروج مع الدليل وعدمه. وقائل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم وإلا فلا، ويُعْزى لأبي العباس. وقائل: إنْ كان ما بعدَها من غير جنس ما قبلها لم يَدْخُل، وإن كان من جنسِه فيحتمل الدخولَ وعَدَمه، وأول هذه الأقوالِ هو الأصحُّ عند النحاة. قال بعضُهم: وذلك أنَّا حيث وَجَدْنا قرينةً مع» إلى «فإن تلك القرينةَ تقتضي الإِخراجَ مما قبلها، فإذا وَرَدَ كلامٌ مجردٌ عن القرائن فينبغي أن يُحْمَلَ على الأمر الفاشي الكثير وهو الإِخراج، وفَرَّق هذا القائل بين» إلى «و» حتى «فجعل» حتى «تقتضي الإِدخالَ، و» إلى «تقتضي الإِخراج بما تقدم من الدليل، وهذه الأقوالُ دلائلها في غيرِ هذا الكتاب، وقد أوضَحْتُها في كتابي» شرح التسهيل «والقول الثاني: أنها بمعنى» مع «أي: مع المرافق، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك عند قوله: {إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . والمرافقُ: جمع» مَرْفِق «بفتح الميم وكسر الفاء

على الفصيح من اللغة، وهو مِفْصَلٌ ما بين العَضْد والمِعْصَم. قوله: {بِرُؤُوسِكُمْ} في هذه الباء ثلاثةٌ أوجه، أحدها: أنها للإِلصاق أي: أَلْصِقوا المسحَ برؤوسكم. قال الزمخشري: «المراد إلصاقُ المسحِ بالرأس، وماسحُ بعضِه ومستوعبُه بالمسح كلاهما مُلْصِقٌ المسحَ برأسه» قال الشيخ: «وليس كما ذكر» يعني أنه لا يُطلق على الماسح بعضَ رأسِه أنه ملصقٌ المسحَ برأسِه/. وهذه مُشاحَّةٌ لا طائل تحتها. والثاني: أنها زائدةٌ، كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] ، وقوله: 169 - 9-. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ وهو ظاهرُ كلام سيبويه، فإنه حكى: «خَشَّنْتُ صدرَه وبصدره» و «مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه» بمعنَى واحد، وقال الفراء: «تقول العرب:» خُذِ الخِطامَ وبالخطام «و» هَزَّه وهَزَّ به «و» خُذْ برأسِه ورأسَه «والثالث: أنها للتعيضِ كقوله: 170 - 0- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا قولٌ ضعيف، وقد تقدَّم القولُ في ذلك أولَ البسملة. قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم:»

أرجلكم «نصباً، وباقي السبعة: وأرجلكم» جراً، والحسن بن أبي الحسن: «وأرجلُكم» رفعاً، فأمَّا قراءة النصب ففيها تخريجان، أحدُهما: أنها معطوفةٌ على «ايديكم» فإنَّ حكمَها الغُسْلُ كالأوجه والأيدي، كأنه قيل: «واغسلوا أرجلكم» إلا أنَّ هذا التخريجَ أفسده بعضُهم بأنه يلزم منه الفصلُ بين المتعاطِفَيْنِ بجملةٍ غير اعتراضية لأنها مُنْشِئَةٌ حمكاً جديداً فليس فيها تأكيد للأول. وقال ابن عصفور- وقد ذكر الفصلَ بين المتعاطِفَيْن -: «وأقبحُ ما يكونُ ذلك بالجمل» فدلَّ قولُه على أنه لا يجوزُ تخريجُ الآية على ذلك. وقال أبو البقاء عكسَ هذا فقال: «وهو معطوفٌ على الوجوه» ثم قال «وذلك جائزٌ في العربية بلا خلاف» وجَعَلَ السنِّيَّة الواردة بغسل الرجلين مقويةً لهذا التخريج، وليس بشيء، فإنَّ لقائل أن يقول: يجوز أن يكون النصب على محلِّ المجرور وكان حكمُها المسحَ ولكن نُسِخ ذلك بالسنَّة وهو قولٌ مشهورٌ للعلماء. والثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على محل المجرور قبله، كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك. وأمَّا قراءةُ الجر ففيها أربعةُ تخاريجَ، أحدها: أنه منصوبٌ في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة، وإنما خُفض على الجوار، كقولهم: «هذا جُحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ» بجر «خرب» وكان مِنْ حَقِّه الرفعُ لأنه صفة في المعنى للجحر لصحة اتصافه به، والضَّبُّ لا يوصف به، وإنما جَرُّه على الجوار، وهذه المسألة عند النحويين لها شرط وهو أن يُؤْمَنَ اللبس كما تقدم تمثيله، بخلاف: «قام غلام زيد العاقل» إذا جعلت «العاقل» نعتاً للغلام امتنع جَرُّه على الجوار لأجل اللَّبْس، وأنشد أيضاً قول الشاعر: 170 - 1-

كأنما ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعينِها ... قُطْناً بمستحصِدِ الأوتارِ مَحْلوجِ وقول الآخر: 170 - 2- فأياكم وَحيَّةَ بَطْنِ وادٍ ... هموزٍ النابِ ليس لكم بِسِيِّ وقول الآخر: 170 - 3- كأن ثَبيراً في عرانينِ وَبْلِه ... كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ وقول الآخر: 170 - 4- كأنَّ نَسْجَ العنكبوتِ المُرْمَل ... بجر «محلوج» وهو صفةٌ ل «قطنا» المنصوبِ، وبجر «هموز» وهو صفة ل «حية» المنصوبِ، وبجر «المزمل» وهو صفة «كبير» لأنه بمعنى الملتف، وبجرِّ «المُرْمل» وهو صفة «نَسْج» ، وإنما جُرَّت هذه لأجلِ المجاورِة، وقرأ الأعمش: {إنَّ الله هو الرزاقُ ذو القوةِ المتينِ} بجر المتين مجاورَةً ل «القوة» وهو صفةٌ ل «الرزاق» ، وهذا وإن كان وارداً، إلا ان التخريجَ عليه ضعيفٌ لضَعْفِ الجوارِ من حيث الجملةُ، وأيضاً فإنَّ الخفضَ على الجوارِ إنما وَرَدَ في

النعتِ لا في العطف، وقد وَرَدَ في التوكيدِ قليلاً في ضرورة الشعر، قال: 170 - 5- يا صاحِ بَلَّغ ذوي الزوجاتِ كلِّهمِ ... أَنْ ليسَ وَصْلٌ إذا انْحَل‍َّتْ عُرَى الذَّنَبِ بجر «كلهم» وهو توكيدٌ ل «ذوي» المنصوب، وإذا لم يَرِد إلا في النعت أو ما شَذَّ من غيره فلا يينبغي أن يُخَرَّج عليه كتاب الله تعالى، وهذه المسألةُ قد أوضَحْتُها وذكرت شواهدها في «شرح التسهيل» وممن نَصَّ على ضعفِ تخريجِ الآية على الجوارمكي بن أبي طالب وغيرُه، قال مكي: «وقال الأخفش وأبو عبيدة:» الخفضُ فيه على الجوار، والمعنى للغسل «وهو بعيد لا يُحْمل القرآن عليه» وقال أبو البقاء «وهو الإِعرابُ الذي يقال: هو على الجوار، وليس بممتنع أن يقع في القرآن لكثرته فقد جاء في القرآن والشعر، فَمِنَ القرآن قولُه تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] على قراءة مَنْ جَرَّ، وهو معطوفٌ على قوله: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} وهو مختلفُ المعنى، إذ ليس المعنى: يَطُوف عليهم وِلْدان مخلَّدون بحورٍ عين. وقال النابغة: 170 - 6- لم يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غيرُ مُنْفَلِتٍ ... أو مُوْثَقٍ في حبال القومِ مَجْنُوبِ والقوافي مجرورةٌ، والجوارُ مشهورٌ عندهم في الإِعراب» ثم ذكر أشياء

كثيرةً زعم أنها مقويةٌ لمُدَّعاه، منها: قَلْبُ الإِعراب في الصفات كقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} [هود: 84] واليومُ ليس بمحيطٍ، وإنما المحيط [هو] العذابُ، ومثلُه قولُه تعالى: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] و «عاصف» ليس في صفة اليوم بل من صفة الريحِ. ومنها: قَلْبُ بعض الحروف إلى بعض كقول عليه السلام: «ارجَعْنَ مَأْزوارتٍ غيرَ مأجورات» والأصل: «مَوْزورات» ، ولكنْ أُريد التواخي، وكذلك قولُهم: «إنه ليأتينا بالغدايا والعَشايا» ويعني أنَّ الأصلَ: «بالغَدَاوى» لأنها من الغُدْوة، ولكن لأجل «ياء» العشايا «جاءت بالياء دون الواو. ومنها: تأنيثُ المذكر كقوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فحذف / التاءَ منْ «عشر» وهي مضافةٌ إلى الأمثال وهي مذكرةٌ، ولكنْ لَمَّا جاورت الأمثالُ ضميرَ المؤنث أَجْرى عليها حكمَه، وكذلك قوله: 170 - 7- لَمَّا أتى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ ... سورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ وقولهم: «ذَهَبَتْ بعضُ أصابعِه» يعني أنَّ «سور» مذكرةٌ «و» بعض «أيضاً كذلك، ولكنْ لَمَّا جاورا المؤنثَ أُعْطيا حكَمه. ومنها:» قامت هند «لَمَّا لم يَفْصِلوا أتوا بالتاء، ولمَّا فَصَلوا لم يأتوا بها، ولا فرق إلا المجاورةُ وعدمُها: ومنها: استحسانُهم النصبَ في الاشتغال بعد جملةٍ فعلية في قولهم:» قام زيدٌ وعمراً كلمته «لمجاورةِ الفعل. ومنها: قَلْبُهم الواوَ المجاورَة للطرفِ همزةً نحو:» أوئل «بخلاف» طواويس «لبُعْدِها من مجاورةِ الطرف. قال:»

وهذا موضعٌ يَحْتمل أن يكتب فيه أوراقٌ من الشواهدِ، قد بَوَّب النحويون له باباً ورتَّبوا عليه مسائلَ وأصَّلوه بقوله: «هذا جُحْرِ ضبٍ خربٍ» حتى اختلفوا في جواز جر التثنية والجمع، فأجاز الاتباعَ فيهما جماعة من حُذَّاقهم قياساً على المفرد المسموع، ولو كان لا وجهَ له بحالٍ لاقتصروا فيه على المسموع فقط، ويتأيد ما ذكرناه أنَّ الجرَّ في الآية قد أجيز غيره - وهو الرفع والنصب - والرفع والنصب غير قاطعين ولا ظاهرين على أنَّ حكمَ الرِجْلين المسحُ، فكذلك الجرُّ يجب أن يكونَ كالنصب والرفعِ في الحكم دون الإِعراب «انتهى. أمَّا قوله:» إنَّ {وَحُورٌ عِينٌ} من هذا الباب فليس بشيء، لأنه: إمَّا [أن] يقدَّر عطفهُما على ما تقدم بتأويلٍ ذكره الناس كما سيتأتي أو بغير تأويل، وإما أن لا يعطفَهما، فإنْ عَطَفَهما على ما تقدم وجب الجر، وإن لم يعطفهما لم يَجُز الجر، وأمّا جَرُّهما على ما ذكره الناس فقيل: لعطفهما على المجرور بالباء قبلهما على تضمين الفعلِ المتقدم «يتلذذون ويَنْعَمون بأكواب وكذا وكذا» أولا يُضَمَّن الفعلُ شيئاً ويكون لطواف الوالدانِ بالحورِ العين على أهل الجنة لذاذة لهم بذلك، والجواب إنما يكونُ حيث يستحقُ الاسمُ غيرَ الجر فيُجَرُّ لمجاورةِ ما قبله، وهذا - كما ترى - قد صَرَّح هو به أنه معطوفٌ على «بأكواب» غايةُ ما في الباب أنه جَعَلَه مختلفَ المعنى، يعنى أنه عنده لا يجوزُ عطفُهما على «بأكواب» إلا بمعنى آخرَ وهو تضمينُ الفعل، وهذا لا يَقدَحُ في العطفية. وأما البيتُ فجرُّ «موثقٍ» ليس لجواره «ل» منقلتٍ «وإنما هو مراعات للمجرور ب» غير «، لأنهم نَصُّوا على أنك إذا جئت بعد» غير «ومخفوضها بتابعٍ جاز أن يَتْبع لفظَ» غير «وأن يَتبع المضاف إليه، وأنشدوا البيت، ويروى:» لم يبق فيها طريدٌ غيرُ منفلتٍ «وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليست من المجاوره التي تؤثر في تغيير الإِعراب، وقد تقدَّم أن النحويين خَصَّصوا ذلك بالنعت وأنه قد جاء في التوكيد ضرورةً.

التخريج الثاني: أنه معطوفٌ على «برؤوسكم» لفظاً ومعنى، ثم نُسِخ ذلك بوجوبِ الغسل، أو هو حكمٌ باقٍ، وبه قال جماعة، أو يُحمل مسحُ الأرجلِ على بعضِ الأهوال وهو لُبْسُ الخفِّ، ويُعزى للشافعي. التخريج الثالث: انها جُرَّت مَنْبَهَةً على عدم الإِسراف باستعمال الماء لأنها مَظَنَّةٌ لصبِّ الماءِ كثيراً، فَعَطَفَتْ على الممسوح، والمرادُ غَسْلُها لِما تقدم، وإليه ذَهَب الزمخشري. قال: «وقيل:» إلى الكعبين «فجيء بالغاية إماطة لظنَّ ظانَّ يَحْسَبُها ممسوحة، لأنَّ المسح لم تُضْرب له غايةٌ في الشريعة» وكأنه لم ترتضِ هذا القول الدافعَ لهذا الوهمِ وهو كما قال. التخريج الرابع: أنها مجرورةٌ بحرفِ جرٍ مقدرٍ دَلَّ عليه المعنى، ويتعلَّق هذا الحرفُ بفعلٍ محذوفٍ أيضاً يليق بالمحل، فيُدَّعى حذفُ جملةٍ فعلية وحَذْفُ حرفِ جر، قالوا: وتقديرُه: «وافعَلُوا بأرجلِكم غسلاً» . قال أبو البقاء: «وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ الجرِ جائزٌ كقوله: 170 - 8- مشائيمُ ليسوا مُصْلِحينَ عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا بِبَيْنٍ غرابُها وقال الآخر: 170 - 9- بدا ليَ أنِّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائِيا

فجُرَّ بتقديرِ الباء، وليس بموضعِ ضرورةٍ، وقد أَفْرَدْتُ لهذه المسألةِ كتاباً» قوله: «وإبقاء الجر» ليس على إطلاقهِ، وإنما يَطَّرد منه مواضعُ نصَّ عليها أهلُ اللسانِ ليس هذا منها، وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النحاة يسمى «العطف على التوهُّم» يعني كأنه توهَّم وجودَ الباء زائدةً في خبر «ليس» لأنها يكثُر زيادتُها، ونَظَّروا ذلك بقوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] بجزم «أَكُنْ» عطفاً على «فأصَّدَّق» على توهُّم سقوط الفاء من «فأصَّدَّق» نَصَّ عليه سيبويه وغيرُه، فظهرَ فساد هذا التخريج. وأمَّا قراءةُ الرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي: وأرجلُكم مغسولةٌ أو ممسوحة على ما تقدم في حكمها. والكلام في قوله: «إلى الكعبين» كالكلام في «إلى المرفقين» . والكعبان فيهما قولان مشهوران، أشهرهما: أنهما العَظْمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، في كل رِجْلٍ كعبان. والثاني: أنه العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شِراك النعل، ومرادُ الآية هو الأول. والكعبة: كلُّ بيتٍ مربع، وسيأتي بيانُه في موضعِه. قوله: «منه» في محلِّ نصبٍ متعلِّقاً ب «امسحوا» و «مِنْ» فيها وجهان أظهرهما: أنها للتبعيض. والثاني: انها لا بتداء الغايةِ، ولهذا لا يُشْترط عند هؤلاء أن يتعلق باليد غبارٌ. وقوله: «ليجعلَ» الكلامُ في هذه اللامِ كالكلامِ عليها في قوله: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] ، إلا أنَّ مَنْ جَعَلَ مفعولَ الإِرادة محذوفاً وعَلَّقَ به اللامَ مِنْ «ليجعلَ» زاد «مِنْ» في الإِيجاب في قوله «من حرج» ، وساغَ ذلك لأنه في حَيِّز النفي وإن لم يكن النفيُ واقعاً على فعل الحرج. و «من حرج» مفعول «ليجعل» والجعلُ

يحتمل أنه بمعنى الإِيجاد والخَلْق فيتعدى لواحد وهو «من حرج» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه، كما تقدم، ويتعلق عليكم حينئذ بالجعل / ويجوز أن يتعلق ب «حرج» فإن قيل: هو مصدرٌ، والمصدرُ لا يتقدَّم معمولُه عليه. قيل: ذلك في المصدر المؤول بحرفٍ مصدري وفعل لأنه بمعنى الموصول، وهذا ليس مؤولاً بحرف مصدري، ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير فيكون «عليكم» هو المفعولَ الثاني. قوله: {عَلَيْكُم} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه متعلق ب «يتم» . والثاني: «أنه متعلقٌ ب» نعمته «والثالث: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» نعمته «ذكر هذين الوجهين الأخيرين أبو البقاء وهذه الآيةُ بخلاف التي قبلَها في قوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] حيث امتنع تعلُّقُ الجارِّ بالنعمةِ لتقدُّم معمول المصدر عليه كما تقدَّم بيانه. قال الزمخشري» وقرئ فَأَطْهِروا أي: أَطْهروا أبدانَكم، وكذلك: «ليُطْهِركم» يعين أنه قُرِئ: «أَطِهِروا» أمراً من أَطْهَر رباعياً كَأَكْرم، ونسب الناسُ القراءة الثانية - أعني قوله «لِيُطهِرَكم» لسعيد بن المسيب.

7

قوله تعالى: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا} : «إذا» فيه ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها: أنه منصوبٌ ب «واثقكم» الثاني: أنه منصوبٌ على الحال من الهاء في «به» الثالث: أنه حالٌ مِنْ «ميثاقه» وعلى هذين الوجهين الأخيرين يتعلق بمحذوفٍ على القاعدة المقررةِ، و «قلتم» في محلِّ خفضِ بالظرف، و «سَمِعْنا» في محل نصب بالقول.

8

قوله تعالى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ} : تقدَّم نظيرُها في النساء إلا أنه هناك قَدَّم لفظة «القسط» وهنا أُخِّرت، وكأن الغرضَ في ذلك - والله أعلمُ - أنَّ آية النساء جيء بها معرض الإِقرار على نفسِه ووالديه وأقاربه فبُدِىء فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباةِ نَفْس ولا والدٍ ولا قرابة والتي هنا: جِيء بها في معرض تكر العداوة فبُدِئ فيها بالأمر بالقيام لله؛ لأنه أردعُ للمؤمنين، ثم ثَنَّى بالشهادة بالعدل، فجيء في كل مَعْرِضٍ بما يناسِبُه. وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُم} [المائدة: 2] تقدَّم مثله، وظهورُ حرفِ الجر هنا يرجِّع تقديرَه قبلُ. «هو أقرب» : «هو» ضمير المصدر المفهوم من الفعل أي: العدل، وقد تقدَّم له نظائُر كثيرة.

9

قوله تعالى: {وَعَدَ الله} : «وعد» يتعدَّى لاثنين أولهما الموصول، والثاني محذوفٌ أي: الجنةَ، وقد صَرًَّح بهذا المفعولِ في غير هذا الموضع وعلى هذا فالجملة من قوله: «لهم مغفرة» لا محل لها لأنها مفسرةٌ لذلك المحذوفِ تفسيرَ السبب للمسبب، فإن الجنةَ مسببةٌ عن المغفرةِ وحصولِ الأجر العظيم، والكلامُ قبلها تام بنفسه. وذكر الزمخشري في الآية احتمالاتٍ أخَرَ، أحدها: أنَّ الجملةَ من قوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} بيانٌ للوعد، كأنه قال: قَدَّم لهم وعداً، فقيل: أيَّ شيء وعده؟ فقال: لهم مغفرة وأجر عظيم، وعلى هذا فلا محلَّ لها أيضاً، وهذا أَوْلى من الأول لأن تفسيرَ الملفوظِ به أَوْلى من ادِّعاء تفسير شيء محذوف. الثاني: أنَّ الجملةَ منصوبةٌ بقولٍ محذوفٍ كأنه قيل: وَعَدهم وقال لهم مغفرة. الثالث: إجراءُ

الوعد مُجرى القول لأنه ضَرْبٌ منه، ويجعل «وعد» واقعاً على الجملة التي هي قوله: «لهم مغفرة» كما وقع «تَرَكْنا» على قوله: {سَلاَمٌ على نُوحٍ} [الصافات: 79] ، كأنه قيل: وعدهم هذا القول، وإذا وعدهم مَنْ لا يُخْلِفُ الميعادَ فقد وعدهم مضمونَة من المغفرة والأجر العظيم، وإجراءُ الوعدِ مُجْرى القولِ مذهبٌ كوفي.

10

قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ} : مبتدأ، و «أولئك» مبتدأ ثان، و «أصحاب» خبره، والجملة خبر الأول، وهذه الجملة مستأنفة أُتي بها اسميةً دلالة على الثبوت والاستقرار، ولم يُؤْتَ بها في سياق الوعيد كما أتى بالجملة قبلها في سياق الوعد حسماً لرجائهم، وأجاز بعضُهم أن تكونَ هذه الجملةُ داخلةً في حَيِّز الوعد، على ما تقدَّم تقريرُه في الجملةِ قبلَها، قال: «لأنَّ الوعيد اللاحقَ بأعدائهم مِمَّا يَشْفي صدروَهم، ويُذْهب ما كانوا يَجِدونه من أذاهم، ولا شك أن الأذى اللاحقَ للعدوِّ مِمَّا يَسُرُّ، ويُفْرِحُ ما عند عدوه» وفيه نظرٌ، فإنَّ الاستئناف وافٍ بهذا المعنى؛ فإنَّ الإِنسانَ إذا سمع خبراً يسوءُ عدوَّه سُرَّ بذلك، وإن لم يُوعَدْ به، وقد يَتَقوّى صاحبُ هذا القول المتقدم بأن الزمخشري قد نَحا إلى هذا المعنى في سورة سبحان، قال: «فإن قلت: علامَ عطف {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [الإِسراء: 10] ؟ قلت: على {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإِسراء: 9] ، على أنه بَشَّر المؤمنين ببشارتين اثنتين: بثوابِهم وبعقابِ أعدائهم، فجعل عقابَ أعدائِهم داخلاً في حَيِّز البِشارة، فالبشارةُ هناك كالوعدِ هنا.

11

وقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّق ب «نعمة» وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ منها. و «إذ هم» ظرفٌ، ناصبُه النعمة أيضاً أي: اذكروا نعمته عليكم في وقتِ هَمِّهم، ويجوز أن يتعلقَ هذا الظرفُ

بما تعلّق به «عليكم» إذا جعلتَه حالاً من «نعمة» ، ولا يجوزُ أَنْ يكون منصوباً ب «اذكروا» لتنافي زمنيهما، فإنَّ «إذ» للمضي، و «اذكروا» مستقبل. و «أن يَبْسُطوا» على إسقاط الباء أي: هَمُّوا بأن يبسطوا، ففي موضع «أَنْ» الخلافُ المشهور.

12

قوله تعالى: {مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} : «منهم» يجوز أن يتعلق ب «بَعَثْنا» وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ «اثني عشر» لأنه في الأصلِ صفةُ له، فلما قُدُّمِ نُصِب حالاً. وقد تقدَّم الكلامُ في تركيب «اثني عشر» وبنائه وحَذْفِ نونِه في البقرة فَأَغْنى عن إعادته. و «ميثاق» يجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً إلى المفعول - وهو الظاهر - أي: إن الله تعالى واثَقَهم، وأَنْ يكونَ مضافاً لفاعله: أي: إنهم واثقوه تعالى. والمفاعلة يجوز نسبةُ الفعلِ فيها إلى كلِّ من المذكورَيْنِ. والنقيب: فعيل، قيل: بمعنى فاعِل مشتقاً من النَّقْب وهو التفتيس، ومنه: {فَنَقَّبُواْ فِي البلاد} [ق: 36] وسُمِّي بذلك لأنه يفتشُ عن أحوالِ القوم وأسرارهم. وقيل: هو بمعنى مفعول، كأن القوم اختاره على علمٍ منهم تفتيشٍ على أحواله. وقيل: هو للمبالغةِ كعليم وخبير. قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} هذه اللامُ هي الموطئة للقسم، والقسم معها محذوفٌ، وقد تقدَّم أنه إذا اجتمع شرطٌ وقسمٌ أجيب سابقهما، إلا أن يتقدَّم ذو خبرٍ فيُجاب الشرطُ مطلقاً. وقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} هذه اللام هي جوابُ القسم لسبقه، وجوابُ الشرط محذوفٌ / لدلالة جواب القسم عليه، وهذا معنى قول الزمخشري أنَّ قوله «لأكفرنَّ» سادٌّ مسد جوابي القسم والشرط، لا كما فهمه بعضُهم، وردَّ عليه ذلك. ويجوز أن يكون «لأكفرن» جواباً لقوله تعالى قبل

ذلك: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ} لِما تَضَمَّنه الميثاقُ من معنى القسم، وعلى هذا فتكون الجملتان - أعني قوله: «وبعثنا» «وقال الله» - فيهما وجهان، أحدهما: أنهما في محلِّ نصبٍ على الحال، والثاني: أن تكونا جملتي اعتراض، والظاهرُ أنَّ قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} جوابُه: «لأكفرنَّ» كم تقدم، وجملةُ هذا القسمِ المشروطِ وجوابُه مفسرةٌ لذلك الميثاق المتقدم. والتعزير: التعظيم، قال: 171 - 0- وكم من ماجدٍ لهُمُ كريمٍ ... ومِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ وقيل: هو الثناء بخير، قال يونس، وهو قريب من الأول. وقيل: هو الردُّ عن الظلم قاله الفراء. وقال الزجاج: «هو الردع والمنع» فعلى القولين الأولين يكون المعنى: «وعَظَّمْتُموهم وأثنيتم عليهم خيراً» وعلى الثالث والرابع يكون المعنى: «وردَدْتم وردَعْتم سفهاءَهم عنهم. قال الزجاج:» عزرت فلاناً «: فَعَلْتُ به ما يردعه عن القبيح، مثل نَكَّلت، فعلى هذا يكون» عَزَّرْتُموهم «رَدّدْتم عنهم اعداءهم» وقرأ الحسن البصري: «برسْلي» بسكون العين حيث وقع. وقرأ الجحدري: «وعَزَرْتموهم» خيفيفةَ الزاي وهي لغة. وقرأ في الفتح: «وتَعْزُوروه» بفتح حرف المضارعة وسكون العين وضم الزاي، وهي موافقة لقراءته هنا.

وقوله: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً} تقدَّم الكلام في «قَرْضا» وفي نصبه في البقرة.

13

قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم} تقدم الكلام على نظيره، وكذلك {سَوَآءَ السبيل} [النساء: 155] . وقرأ الجمهور: «قاسيةً» اسم فاعل من قسا يقسو، وقرأ الأَخَوان: - وهي قراءة عبد الله - «قَسِيَّةً» بفتح القاف وكسر السينِ وتشديدِ الياء. واختلفَ الناسُ في هذه القراءةِ: فقال الفارسي: «ليست في ألفاظِ العربِ في الأصل، وإنما هي كلمةٌ أعجميه معرَّبة» يعني أنها مأخوذةٌ من قولِهم: «دِرْهم قِسِيّ» أي: مَغْشُوش، شَبَّه قلوبَهم في كونِها غيرَ صافيةٍ من الكَدَر بالدارهم المغشوشةِ غير الخالصةِ، وأنشدوا قولَ أبي زبيد: 171 - 1- لها صَواهِلُ في صُمِّ السِّلام كما ... صاحَ القَسِيَّات في أَيْدي الصياريفِ وقوله الآخر: 171 - 2- وما زَوَّدوني غيرَ سَحْقِ عِمامةٍ ... وخمسَ مِئٍ منها قِسِيُّ زائفُ وقال صحاب الكشاف: «وقرأ عبد الله:» قَسِيَّة «أي: رديئة مغشوشة

مِنْ قولِهم:» درهم قَسِيّ «وهو من القسوة؛ لأنَّ الذهبَ والفضة الخالصين فهيما لينٌ، والمغشوشُ فيه صلابةٌ ويُبس، والقسي والقاسح - بالحاءِ المهملة - أَخَوانِ في الدلالة على اليُبْس» وهذا القول سبقه إليه المبردُ فإنه قال: «يُسَمَّى الدرهمُ المغشوشُ قَسِيّاً لصلابته وشدتِه للغشِّ الذي فيه» ، وهو يَرْجِعُ للمعنى الأول، والقاسي والقاسح، بمعنى واحد، وعلى هذين القولين تكوت اللفظةُ عربية، وقيل: بل هذه القراءة توافِقُ قراءةُ الجماعة في المعنى والاشتقاق، لأنه فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد فكذلك قاسٍ وقسِيّ، وإنما أُنِّث على معنى الجماعةِ. وقرأ الهَيْصم بن شداخ: «قُسِيَّة» بضم القاف وتشديد الياء. وقرئ «قِسَّية» بكسر القاف إتباعاً، وأصل القراءتين: قاسِوَة وقَسِيوة لأنَّ الاشتقاق من القسوة. قوله: {يُحَرِّفُونَ} في هذه الجملة أربعة أوجه، أنها مستأنفة بيانٌ لقسوة قلوبهم، لأنه لا قسوةَ أعظمُ من الافتراء على الله تعالى. والثاني: أنها حال من مفعول «لعنَّاهم» أي: لعنَّاهم حالَ اتصافهم بالتحريف. والثالث: - قال أبو البقاء - أنه حال من الضمير المستتر في «قاسية» ، وقال: «ولا يجوزُ أن يكون حالاً من القلوب، لأن الضمير في» يُحَرِّفون «لا يرجع إلى القلوب» وهذا الذي قاله فيه نظر، لأنه من حيث جَوَّز أن يكونَ حالاً من الضمير في «قاسية» يلزَمُه أن يُجَوِّز أن يكون حالاً من «القلوب» لأنَّ الضميرَ المسترر في «قاسية» يعودُ على القلوب، فكما يمتنع أن يكونَ حالاً مِنْ ظاهره،

يمتنع أن يكونَ حالاً من ضميرِه، وكأن المانع الذي توهَّمه كونُ الضمير - وهو الواو في «يُحَرِّفون - إنما يعود على اليهود بجملتِهم لا على قلوبهم خاصةً، فإنَّ القلوبَ لا تُحَرِّف، إنما يحرِّف أصحاب القلوب، وهذا لازمٌ له في تجويزه الحاليةَ من الضمير في» قاسية «. ولقائل أن يقولَ: المرادُ بالقلوبِ نفسُ الأشخاص، وإنما عَبَّر عنهم بالقلوب لأن هذه الأعضاءَ هي محلُّ التحريف أي: إنه صادرٌ عنها بتفكُّرها فيه، فيجوزُ على هذا أن يكونَ حالاً من القلوب. والرابع: أن تكون حالاً من «هم» قال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ» يعني لأنَّ الحالَ من المضاف إليه لا تجوزُ، وغيرُه يجوِّزُ ذلك في مثلِ هذا الموضعِ؛ لأنَّ المضاف بعضُ المضاف إليه. / وقرأ الجمهورُ بفتح الكافِ وكسرِ اللامِ وهو جمعُ «كلمة» وقرأ أبو رجاء: «الكِلْمِ» بكسر الكافِ وسكونِ اللام، وهو تخفيفُ قراءة الجماعة، وأصلُها أنه كَسَرَ الكافَ إتباعاً ثم سكَّن العينَ تخفيفاً، وقرأ السُلمي والنخغي: «الكلام» بالألف. «وعن مواضِعه» قد ذُكِر مثلُه في النساء. قوله: {على خَآئِنَةٍ} في «خائنة» ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها اسمُ فاعل والهاء للمبالغة كراوية ونسَّابة أي: على شخص خائن، قال الشاعر: 171 - 3- حَدَّثْتَ نفسَك بالوفاءِ ولم تَكُنْ ... للغدرِ خائنةً مُغِلَّ الإصبَعِ الثاني: أن التاء للتأنيث، وأُنِّث على معنى طائفة أو نفس أو فَعْلَة خائنة. الثالث: أنها مصدرٌ كالعافية والعاقبة، ويؤِّيد هذ الوجه قراءةُ

الأعمش: {على خيانة} وأصل خائِنة: خاونة، وخيانة: خِوانة، لقولهم: تَخَوَّن وخَوَّان وهو أَخْوَن، وإنما أُعِلاَّ إعلالَ «قائمة وقيام» و «منهم» صفة ل «خائنة» إن أريد بها الصفة، وإن أريد بها المصدرُ قُدِّر مضافٌ أي: من بعض خياناتهم. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} منصوبٌ على الاستثناء، وفي المستنثى منه أربعةُ أقوالٍ، أظهرُها: أنه لفظ خائنة، وهمُ الأشخاصُ المذكورون في الجملة قبله أي: لا تزالُ تَطَّلع على مَنْ يَخْون منهم إلى القليلَ، فإنه لا يخون فلا تَطَّلِعُ عليه، وهؤلاء هم عبد الله بن سلام وأصحابه. قال أبو البقاء «ولو قرئ بالجر على البدل لكان مسقيماً» يعني على البدل من «خائنة» فإنه في حَيِّز كلام غير موجب. والثاني: ذكره ابن عطية أنه الفعل أي: لا تزال تطَّلع على فِعْل الخيانة إلا فعلاً قليلاً، وهذا واضح إنْ أُريد بالخيانة أنها صفة للفعلة المقدرة كما تقدَّم، ولكن يُبْعِدُ ما قاله ابنُ عطية قولُه بعدَه «منهم» ، وقد تقدَّم لنا نظيرُ ذلك في قوله {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] ، حيث جَوَّز الزمخشري فيه أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ. الثالث: أنه «قلوبهم» في قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} قال صاحبُ هذا القول: «والمرادُ بهم المؤمنون لأن القسوة زالَتْ عن قلوبهم» وهذا فيه بُعْدٌ كبير، لقوله «لعنَّاهم» الرابع: أنه الضمير في «منهم» مِنْ قوله تعالى: {على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} قاله مكيّ.

14

قوله تعالى: {وَمِنَ الذين قَالُواْ} : فيه خمسةُ أوجه،

أحدهما: - وهو الظاهر- أنَّ «مِنْ» متعلقة بقوله «أخذنا» والتقدير الصحيح فيه أن يقال: تقديرُه: «وأَخَذْنا من الذين قالوا: إنَّا نصارى ميثاقهم» فتوقع «الذين بعد» أَخَذْنا «وتؤخِّر عنه» ميثاقهم «ولا يجوز أن تقدِّر» وأَخَذْنا ميثاقَهم من الذين «فتقدم» ميثاقَهم «على» الذين قالوا «وإنْ كان ذلك جائزاً من حيثُ كونُهما مفعولين، كلُّ منهما جائزُ التقديم والتأخيرِ، لأنه يلزم عودُ الضميرِ على متأخر لفظاً ورتبة، وهو لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ، نصَّ على ذلك جماعةٌ منهم مكي وأبو البقاء الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ قامَتْ صفتُه مَقامه، والتقدير:» ومن الذين قالوا إنّا نصارى قومٌ أخذنا ميثاقهم «فالضمير في» ميثاقهم «يعود على ذلك المحذوف. والثالث: أنه خبر مقدم أيضاً، ولكن قَدَّروا المبتدأ موصولاً حُذِف وبقيت صلتُه، والتقدير:» ومن الذين قالوا: إنَّا نصارى مَنْ أخذنا ميثاقهم «فالضمير في» ميثاقهم «عائد على» مَنْ «والكوفيون يجيزون حَذْفَ الموصول، وقد تقدم لنا معهم البحث في ذلك. ونقل مكي مذهب الكوفيين هذا، وقَدَّره عندهم:» ومن الذين قالوا: إنَّ نصارى مَنْ أخذنا «وهذا التقدير لايؤخذ منه أن المحذوف موصول فقط، بل يجوز أن تكونَ» مَنْ «المقدرةُ نكرةً موصوفةً حُذِفت وبقيت صفتُها، فيكون كالمذهب الأول. الرابع: أن تتعلِّق» مِنْ «ب» أخذنا «كالوجه الأول، إلا أنه لا يلزَمُ فيه ذلك التقديرُ، وهو أن توقع» من الذين «بعد» أخذنا «وقبل» ميثاقهم «، بل يجوز أن يكون التقدير على العكسِ، بمعنى أنَّ الضميرَ في» ميثاقهم «يعودُ على بني إسرائيل، ويكون المصدرُ من قوله» ميثاقهم «مصدراً تشبيهياً، والتقدير: وأخذنا من النصارى ميثاقاً مثلَ ميثاق بني إسرائِيل كقولك:» أخَذْتُ من زيد ميثاق عمرو «أي: ميثاقاً

مثل ميثاق عمرو، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري فإنه قال:» أَخَذْنا من النصارى ميثاقَ مَنْ ذُكِر قبلَهم من قوم موسى أي: مثل ميثاقِهم بالإِيمان بالله والرسل. الخامس: أنَّ «من الذين» معطوف على «منهم» من قوله تعالى: «ولا تزال تَطَّلِعُ على خائنةٍ منهم أي: من اليهود، والمعنى: ولا تزال تَطَّلع على خائنةٍ من اليهود ومن الذين قالوا إنَّا نصارى، ويكون قوله: {اأَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} على هذا مستأنفاً. وهذا ينبغي ألاَّ يجوز لوجهين، أحدهما: الفصلُ غيرُ المغتفر. والثاني: أنه تهيئةٌ للعامل في شيء وقطعه عنه، وهو لا يجوز. قوله: {بَيْنَهُمُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه ظرفٌ ل «أغرينا» . والثاني: أنه حالٌ من «العداوة» فيتعلق بمحذوف، ولا يجوز أن يكون ظرفاً للعداوة، لأنَّ المصدر لا يتقدم معموله عليه. «وإلى يوم القيامة» أجاز فيه أبو البقاء أن يتعلَّق بأغرينا، أو بالعداوة، أو بالبغضاء، أي: أغرينا إلى يوم القيامة بينهم العداوة والبغضاء، أو أنهم يتعادَون إلى يوم القيامة، أو يتباغضون إلى يوم القيامة. وعلى مأ أجازه أبو البقاء تكونُ المسألةُ من باب الإعمال، ويكون قد وُجد التنازع بين ثلاثة عوامل، ويكون من إعمال الثالث للحذف من الأول والثاني، وتقدم تحرير ذلك. و «أغرينا» مِنْ أغراه بكذا أي: ألزمه إياه، وأصلُه من الغِراء الذي يُلْصَقُ به ولامه واو، فالأصل: أَغْرَوْنا، وإنما قُلِبت الواو ياء لوقوعها رابعة كأغوينا، ومنه قولُهم: «سَهْمٌ مَغْرُوُّ» أي معمول بالغِراء، يقال «غَرِيَ بكذا يَغْرى غَرَاء وغِراء، فإذا أريد / تعديتُه عُدِّي بالهمزة، فقيل:» أغريته بكذا «. والضميرُ في» بينهم «يحتمل أن يعود على» الذين قالوا إنَّا نصارى «وأن يعودَ على اليهود المتقدمين الذكر، وبكلٍ قال جماعةٌ، وهذا الكلامُ معطوف على الكلام قبله من قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ}

أي: ولقد أخذ اللهُ ميثاقَ بين إسرائيل، وأخذنا مِنَ الذين قالوا.

15

قوله تعالى: {يُبَيِّنُ} في محلِّ نصبٍ على الحال من «رسولنا» أي: جاءكم رسولنا في هذه الحالة. و «ممَّا» يتعلق بمحذوف لأنه صفة ل «كثيراً» و «ما» موصولةٌ اسميةٌ، و «تُخْفون» صلتُها والعائد محذوف أي: من الذين كنتم تخفونه. «ومن الكتاب» متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من العائد المحذوف. وقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} لا محلِّ له لاستئنافِه، والضميرُ في «يبيِّن» و «يَعْفُو» يعود على الرسول، وقد جَوِّز قوم أَنْ يعودَ على الله تعالى، وعلى هذا فلا محلِّ لقوله: «يبيِّن» من الإِعراب. ويمتنع أن يكونَ حالاً من «رسولنا» لعدمِ الرابط، وصفة «كثير» محذوفةٌ للعلم بها تقديرُه: عن كثير من ذنوبكم، وحَذْفُ الصفة قليل. وقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله} لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافها، و «من الله» يجوز أَنْ يتعلَّق ب «جاء» وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حال من «نور» قُدِّمَتْ صفةُ النكرة عليها فنُصِبَتْ حالا.

16

قوله تعالى: {يَهْدِي} : فيه خمسة أوجه، أظهرها: انه في محل رفع لأنه صفة ثانية ل «كتاب» وَصَفه بالمفرد ثم بالجملة وهو الأصل. الثاني: أن يكون صفة أيضاً لكن ل «نور» ذَكَره أبو البقاء، وفيه نظر، إذ القاعدة انه إذا اجتمعت التوابعُ قُدِّم النعتُ على عطف النسق تقول: «جاء زيدٌ العاقلُ وعمرو» ولا تقول: «جاء زيدٌ وعمرو العاقل» ولأن فيه إلباساً أيضاً. الثالث: أن يكونَ حالاً من «كتاب» لأنَّ النكرة لَمَّا تخصصت بالوصفِ قَرُبَتْ من المعرفة، وقياسُ قول أبي البقاء أنه يجوز أن يكونَ حالاً من «نور» كما جاز أن يكون صفة له. الرابع: أنه حال من «رسولنا» بدلاً من الجملة الواقعة حالاً له وهي قوله «يبين» الخامس: أنه حالٌ من الضمير في «يبيِّن» ذكرهما

أبو البقاء ولا يَخْفى ما فيها من الفصل، ولأنَّ فيه ما يُشْبه تهيئة العامل للعمل وقطعَه عنه. والضميرُ في «به» يعودُ على مَنْ جَعَلَ «يَهْدي» حالاً منه أو صفة له، قال أبو البقاء: «فلذلك أُفْرِد، أي: إنَّ الضمير في» به «أتى به مفرداً، وقد تقدَّمه شيئان، وهما نورٌ وكتابٌ، ولكنْ لَمَّا قَصَد بالجملة من قوله» يهدي «الحالَ أو الوصفَ من أحدهما أفردَ الضمير، وقيل: الضمير في» به «يعودُ على الرسول. وقيل: يعودُ على السلام، وعلى هذين القولين لا تكونُ الجملة من قوله» يهدي «حالاً ولا صفةً لعدم الرابط. و» مَنْ «موصولةٌ أو نكرة موصوفة، وراعى لفظَها في قوله» اتَّبع «فلذلك أفرد الضمير، ومعناها، فلذلك جَمَعَه في قوله: {وَيُخْرِجُهُمْ} . وقرأ عبيد بن عمير ومسلم بن جندب والزهري:» بهُ «بضمِّ الهاء حيث وقع، وقد تقدم أنه الأصل. وقرأ الحسن:» سُبْل «بسكون الباء، وهو تخفيف قياسي به كقولهم في» عُنُق «:» عُنْق «، وهذا أولى لكونه جمعاً، وهو مفعول ثاني ل» يهدي «على إسقاط حرف الجر أي: إلى سبل، وتقدم تحقيق نظيره، ويجوز أن ينتصب على أنه بدلٌ من» رضوانه «: إمَّا بدلُ كل مِنْ كل؛ لأن» سبل السلام «هي رضوان الباري تعالى، وإمَّا بدل اشتمال لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام، أو لأنها مشتملة على رضوان الله تعالى، وإما بدل بعض من كل، لأنَّ سبل السلام بعض الرضوان. و» بإذنه «متعلق

ب» يخرجهم «أي بتيسيره أو بأمره، والباء للحال أي: مصاحبين لتيسيره، أو للسببية، أي: بسببِ امره المنزل على رسوله.

17

قوله تعالى: {فَمَن يَمْلِكُ} : الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملة مقدرة قبلها، والتقديرُ: قل كذبوا - أوليس الأمر كذلك - فمن يملك؟ وقوله: «من الله» في احتمالان، أظهرهما: أنه متعلق بالفعل قبله. والثاني: ذَكَره أبو البقاء أنه حال من «شيئاً» يعني من حيث إنه كان صفةً في الأصل للنكرة فقُدِّم عليها فانتصب حالاً، وفيه بٌعْدٌ أو منعٌ. وقوله: {فَمَنْ} استفهامُ توبيخ وتقرير، وهو دالٌ على جواب الشرط بعده عند الجمهورِ. وقوله: {وَمَن فِي الأرض} من باب عطف العام على الخاص حتى يبالِغَ في نفي الإِلهية عنهما، فكأنه نصَّ عليهما مرتين مرة بذكرهما مفردين، ومرةً باندراجِهما في العموم و «جميعاً» حالٌ من المسيح وأمه ومَنْ في الأرض، أو من «مَنْ» وحدها لعمومها، ويجوز أن تكونَ منصوبةً على التوكيد مثل «كل» ، وذكرها بعض النحويين من ألفاظ التوكيد. وقوله: {يَخْلُق} جملةٌ لا محلَّ لها لاستئنافها.

18

قوله تعالى: {فَلِمَ} : هذه الفاءُ جوابُ شرط مقدر وهو ظاهرُ كلام الزمخشري فإنه قال: «فإن صَحَّ أنكم أبناء الله وأحباؤه فلِمَ تُذْنبون وتُعَذَّبون؟» ويجوز أن تكون كالفاء قبلها في كونها عاطفة على جملة مقدرة أي: كَذَبْتُمْ فلِمَ يعذبكم؟ والباء في «بذنوبكم» سببية. و «مِمَّن خلق» صفةٌ ل «بشر» فهو في محل رفع متعلق بمحذوف.

19

قوله تعالى: {يُبَيِّنُ لَكُمْ} : تقدَّم نظيره. وقوله: «على فترة» فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلقٌ ب «جاءكم» أي: جاءكم / على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي، ذكره الزمخشري والثاني: أنه حال من فاعل «يبين» أي: يبين في حال كونه على فترة. والثالث: أنه حال من الضمير المجرور في «لكم» فيتعلَّق على هذين الوجهين بمحذوفٍ. و «من الرسل» صفةٌ ل «فترة» على أن معنى «من» ابتداءُ الغاية أي: فترةٍ صادرة من إرسال الرسل. قوله: {أَن تَقُولُواْ} مفعول من أجله، فقدَّره الزمخشري: «كراهة أن تقولوا» وأبو البقاء: مخافةَ أن تقولوا، والأول أَوْلى. وقوله: «يبيِّن» يجوز ألاَّ يُرادَ له مفعول البتة، والمعنى: يبذل لكم البيانَ، ويجوز أن يكون محذوفاً: إمَّا لدلالة اللفظ عليه وهو ما تقدَّم من قوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً} [المائدة: 15] وإمَّا لدلالة الحال أي: يبيِّن لكم ما كنتم تختلفون فيه. «ومن بشير» فاعل، زِيْدَتْ فيه «مِنْ» لوجود الشرطين و «لا نذير» عطف على لفظه، ولو قرئ برفعه مراعاةً لموضعه جاز. وقوله: {فَقَدْ جَاءَكُمْ} عطف على جملة مقدرة أي: لا تعتذروا فقد جاءكم. وما بعد هذا من الجمل واضحُ الإِعرابُ لِما تقدم من نظائره.

21

قوله تعالى: {على أَدْبَارِكُمْ} : حالٌ من فاعل «ترتدَّوا» أي: لا ترتدَّوا منقلبين، ويجوز أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله، وقوله: {فَتَنْقَلِبُوا} فيه وجهان أظهرهما: أنه مجزومُ عطفاً على فعل النهي. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار «أنْ» بعد الفاء في جواب النهي. و «خاسرين» حال. وقرأ ابن

محيصن هنا وفي جميع القرآن: {يا قومُ} مضمومَ الميم، ويُروى قراءةً عن ابن كثير، ووجهُها أنها لغةٌ في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم كقراءة: {قل ربُّ احكمْ بالحق} وقد بَيَّنْتُ هذه المسألة قبل ذلك. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: {يا قوميَ ادخلوا} بفتح الياء.

22

قوله تعالى: {فَإِنَّا دَاخِلُونَ} : أي: فإنَّا داخلون الأرضَ حَذَفَ المفعولَ للدلالة عليه.

23

قوله تعالى: {مِنَ الذين يَخَافُونَ} : هذا الجارُّ والمجرور في محل رفعٍ صفةً ل «رجلان» ، ومفعولُ «يخافون» محذوفٌ، تقديرُه: يخافون اللَّهَ أو يخافون العدوَّ، ولكن ثَبَّتهما الله تعالى بالإِيمان والثقة به حتى قالوا هذه المقالةَ، ويؤِّيد التقديرَ الأول التصريحُ بالمفعول في قراءة ابن مسعود: {يخافون الله} ، وهذان التأويلانِ بناءً على ما هو المشهور عند الجمهور مِنْ كَوْنِ الرجلين القائلَيْن ذلك مِنْ قومَ موسى وهما يُوشع وكالب، وقيل: الرجلان من الجبارين، ولكن أنعم الله عليهما بالإِيمان حتى قالا هذه المقالة يُحَرِّضهم على قومهم لمعاداتهم لهم في الدين، وعلى هذا القول فيحتمل أن يكونَ مفعولُ «يخافون» كما تقدَّم، أي: يخافون الله أو العدو، والمعنى كما تقدَّم، ويحتمل أن يكون المفعول ضميراً عائداً على الموصول ويكونُ الضميرُ المرفوع في «يخافون» ضميرَ بني اسرائيل، والتقدير: من الذين يخافهم بنو اسرائيل، وأيَّد الزمخشري هذا التأويل بقراءة مَنْ قرأ «يُخافون» مبنياً للمفعول، وبقوله أيضاً: {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} فإنه قال: «وقراءةُ

مَنْ قرأ» يُخافون «بالضم شاهدة له، ولذلك أنعم الله عليهما، كأنه قيل: مِنْ المُخَوَّفين» انتهى. والقراءة المذكورة مرويةٌ عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد، وأبدى الزمخشري أيضاً في هذه القراءةِ احتمالاً آخرَ وهو أن تكون من الإِخافة، ومعناه: من الذين يُخَوَّفُون من الله بالتذكرة والموعظةِ أو يُخَوِّفهم وعيدُ الله بالعقاب. وتحتملُ القراءةُ أيضاً وجهاً آخر: وهو أن يكونَ المعنى: «يُخافون» أي: يُهابون ويُوَقَّرون، ويُرْجَعُ إليهم لفضلِهم وخيرِهم، ومع هذين الاحتمالين الأخيرين فلا ترجيحَ في هذه القراءة لكونِ الرجيلن من الجبارين. وأما قوله: وكذلك «أنعم الله عليهما» أي: في كونه مرجِّحاً أيضاً لكونهما من الجبارين فغيرُ ظاهرٍ، لكون هذه الصفةِ مشتركةً بين يوشع وكالب وبين غيرِهما مِمَّن أنعمَ الله عليه. قوله: {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} في هذه الجملةِ خمسةُ أوجه، أظهرهم: أنها صفةٌ ثانيةٌ فمحلُّها الرفعُ، وجِيء هنا بأفصحِ الاستعمالين من كون قَدَّم الوصفَ بالجارِّ على الوصف بالجملةِ لقُربه من المفرد. والثاني: أنها معترضةٌ، وهو أيضاً ظاهرٌ. الثالث: أنها حالٌ من الضمير في «يَخافون» قاله مكي. الرابع: أنها حالٌ من «رجلان» وجاءت الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالوصفِ. الخامس: أنها حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِّ، وهو «مِنَ الذين» لوقوعِه صفةً لموصوف، وإذا جَعَلْتَها حالاً فلا بُدَّ من إضمارِ «قد» مع الماضي على خلافٍ سلف في المسألة.

24

قوله تعالى: {مَّا دَامُواْ فِيهَا} : «ما» مصدريةٌ ظرفيةٌ، و «داموا» صلتُها، وهي «دام» الناقصةُ، وخبرُها الجارُّ بعدَه، وهذا الظرفُ بدل من «أبداً» وهو بدلُ بعضٍ من كل؛ لأنَّ الأبَدَ يَعُمُّ الزمنَ المستقبل كلَّه، ودوامُ

الجبارين فيها بعضُه، وظاهرُ عبارة الزمخشري يحتمل أن يكون بدلَ كل من كل أو عطفَ بيان، والعطفُ قد يقع بين النكرتين على كلامٍ فيه تقدَّم، قال الزمخشري: «وأبداً» تعليقٌ للنفي المؤكد الدهر المتطاول، و «ما داموا فيها» بيانُ الأمر «فهذه العبارة تحتمل أنه بدلُ بعضٍ من كل، لأنَّ بدلَ البعض من الكل مبيِّنٌ للمراد نحو:» أكلت الرغيف ثلثه «ويَحْتمل أن يكون بدلَ من كل فإنه بيانٌ أيضاً للأولِ وإيضاحٌ له، نحو:» رأيت زيداً أخاك «، ويحتمل أن يكونَ عطفَ بيان. قوله: {وَرَبُّكَ} فيه أربعة أوجه، أحدهما: أنه مرفوع عطفاً على الفاعل المستتر في» اذهب «وجازَ ذلك للتأكيد بالضمير. الثاني: أنه مرفوعٌ بفعل محذوف أي: وليذهب ربك، ويكون من عطف الجمل، وقد تقدم لي نقلُ هذا القول والردُّ عليه ومخالفتهُ لنصِّ سيبويه عند قوله تعالى: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35] . الثالث: أنه مبتدأ والخبرُ محذوفُ والواوُ للحالِ. الرابع: أن الواوَ للعطفِ وما بعدها مبتدأ محذوفُ الخبرِ أيضاً، ولا محلَّ لهذه الجملة لكونِها دعاءً، والتقدير: وربُّك يعينُك. قوله:» ههنا قاعدون «» هنا «وحدَه هو الظرف المكاني الذي لا يتصر‍َّفُ إلا بجرِّه ب» مِنْ «و» إلى «، و» ها «قبله للتنبيه كسائر أسماءِ الإِشارة، وعاملُه» قاعدون «وقد أُجيز أن يكونَ خبرَ» إنَّ «،» وقاعدون «خبرٌ ثان وهو بعيدٌ، وفي غير القرآن إذا اجتمع ظرف يصلح الإِخبار به مع وصفٍ آخرَ يجوزُ أن يُجْعَلَ الظرفُ خبراً والوصفُ حالاً، وأن يكونَ الخبرُ الوصفَ والظرفُ منصوبٌ به كهذه الآية.

25

قوله تعالى: {وَأَخِي} : في ستة أوجه أظهرها: أنه منصوب عطفاً على «نفسي» والمعنى: ولا أملك إلا أخي مع مِلْكي لنفسي دون غيرنا.

الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على اسمِ «إنَّ» ، وخبرُه محذوفٌ للدلالة اللفظية عليه أي: وإنَّ أخي لا يملك إلا نفسَه. الثالث: أنه مرفوعٌ عطفاً على محل اسم «إنَّ» لأنه بعد استكمالِ الخبر، على خلافٍ في ذلك، وإن كان بعضُهم قد ادَّعى الإِجماعَ على جوازِه. الرابع: أنه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ للدلالة المتقدمة، ويكون قد عَطَف جملةً غيرَ مؤكدة على جملة مؤكَّدة ب «إنَّ» الخامس: انه مرفوع عطفاً على الضمير المستكنِّ في «أملك» ، والتقدير: ولاَ يَمْلِكُ أخي إلا نفسَه، وجاز ذلك للفصلِ بقوله: {إِلاَّ نَفْسِي} وقال بهذا الزمخشري ومكي وابن عطية وأبو البقاء وردَّ الشيخ هذا الوجهَ بأنه يلزم منه أن موسى وهرون لا يملكان إلا نفسَ موسى فقط، وليس المعنى على ذلك «. وهذا الردُّ ليس بشيءٍ، لأنه القائلَ بهذا الوجهِ صرَّح بتقدير المفعول بعد الفاعل المعطوف، وأيضاً اللَّبْسُ مأمونٌ، فإنَّ كلَّ أحدٍ يتبادر إلى ذهنه انه يملك أمرَ نفسِه. السادس: أنه مجرورٌ عطفاً على الياء في» نفسي «أي: إلا نفسي ونفسَ أخي، وهو ضعيفٌ على قواعد البصريين للعطف على الضمير المجرور مِنْ غيرِ إعادةِ الجارّ وقد تقدَّم ما فيه. والحسن البصري يقْرأ فتحِ ياء» نفسي «و» أخي «وقرأ يوسف ابن

داود وعبيد بن عمير:» فافرِقْ «بكسرِ الراء وهي لغة: فَرَق يفرِق كيضرِب. قال الراجز: 171 - 4- يا ربِّ فافرُقْ بينه وبيني ... أشدَّ مَا فرَّقْتَ بين اثنَيْنِ وقرأ ابن السَّمَيْفَع:» فَفرَّقْ «مضعفاً وهي مخالفةٌ للرسم. و» بين «معمولةٌ ل» افْرُق «، وكان مِنْ حَقِّها ألاَّ تُكَرَّر في العطف، تقول: المال بين زيد وعمرو» وإنما كُرِّرت للاحتياج إلى تكرُّرِ الجار في العطف على الضمير المجرور، وهو يؤيِّدُ مذهبَ البصريين.

26

قوله تعالى: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} : فيه وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ ب «مُحَرَّمة» فإنه رُوي في القصة أنهم بعد الأربعين دَخَلوها فيكون قد قَيَّد تحريمَها عليهم بهذه المدةِ، وأخبر أنهم يتيهون، ولم يبيِّن كمية التيه، وعلى هذا ففي «يتيهون» احتملان، أحدهما: أنه مستأنفٌ، والثاني: أنه حالٌ من الضمير في «عليهم» الوجه الثاني: أنَّ «أربعين» منصوبٌ ب «يتيهون» فيكونُ قد قَيَّد التيه بالأربعين، وأمَّا التحريمُ فمطلقٌ، فيحتمل أن يكونَ مستمراً وأن يكونَ منقطعاً، وأنها أُجِّلتْ لهم، وقد قيل بكلِّ من الاحتمالين، رُوي أنه لم يَدْخُلْها أحد مِمَّن كان في التيه ولم يَدْخُلْها إلا أبناؤهُم، وأما الآباءُ فماتوا. وما أدري ما الذي حَمَل أبا محمد ابن عطية على تجويزِه أن يكونَ العاملُ في «أربعين» مضمراً يفسِّره «يتيهون» المتأخر، ولا ما اضطره إلى ذلك من مانعٍ صناعي أو معنوي؟ وجوازُ الوقف والابتداء بقوله: «عليهم» و «يتيهون» مفهومان ممَّا تقدَّم من الإِعراب.

والتِّيه: الحَيْرةُ، ومنه: «أرضٌ تَيْهاء» لحَيْرة سالكها، قال: 171 - 5- بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها ... قَطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً بيوضُها ويقال: «تاه يتيه» و «هو أَتْيَهُ منه» و «تاه يَتُوه» و «هو أتْوَهُ منه» فقولُ مَنْ قال: «يتيه» و «تَوَّهْتُه» من التداخل. ومثله «:» طاح «في كونِه سُمع في عينِه الوجهان، وأنَّ فيه التداخلَ أيضاً، فإنَّ مَنْ قال» يطيح «قال» طَوَّحته «و» هو أَطْوَحُ منه «. والأسى: الحُزْن، يقال: أَسِي - بكسر العين - يَأْسَى، بفتحها ولامُ الكلمة تحتمل أن تكونَ من واوٍ، وهو الظاهرُ لقولهم:» رجل أَسْوان «بزنة سَكْران، أي: كثير الحزنِ، وقالوا في تثنية الأسى: أَسَوان، وإنما قُلبت الواوُ في» أَسِيَ «ياءً لانكسارِ ما قبلَها، ويُحْتمل ان تكون ياءً فقد حُكى» رجل أسْيان «أي: كثيرُ الحزن، فتثنيتُه على هذا» أَسَيان «. وعادةُ الناسِ يسْأَلُون هنا سؤالاً: وهو - كما قال الزمخشري -» كيف نُوَفِّقُ بين قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} وبين قوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ؟ وأجابَ بوجهين، أحدُهما: أن يكونَ كَتَبها لهم بشرط أن يجاهدوا فلم [يجاهدوا] ، والثاني: أنَّ التحريم كان مؤقتاً بمدة الأربعين، فلما انتهت دَخَلُوها/.

27

قوله تعالى: {بالحق} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه حال من فاعل «اتلُ» أي: اتلُ ذلك حالَ كونِك ملتبساً بالحق أي: بالصدق.

الثاني: أنه حالٌ من مفعولِه وهو «نبأ» أي: اتلُ نبأَهما ملتبساً بالصدق موافقاً لِما في كتب الأولين لتثبتَ عليهم الحجةُ برسالتك. الثالث: أنه صفةٌ لمصدرِ «اتلُ» أي: اتل ذلك تلاوةً ملتبسةً بالحقِّ والصدق، وكأنه اختيار الزمخشري إذ به بدأ، وعلى الأوجهِ الثلاثةِ فالباء للمصاحبة، وهي متعلقةٌ بمحذوفٍ. وقرأ أبو عمرو بسكون الميم من «آدم» قبل باءِ «بالحق» ، وكذا كلُّ ميمٍ قبلها متحركٌ وبعدها باءٌ. قوله: {إِذْ قَرَّبَا} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وبه بدأ الزمخشري وأبو البقاء - أن يكونَ متعلقاً بنفسِ النبأ، أي: قصتُهما وحديثهما في ذلك الوقتِ، وهذا واضحٌ. الثاني: أنه بدلٌ من «نبأ» على حذف مضافٍ تقديرُه: واتلُ عليهم النبأَ نبأَ ذلك الوقتِ، كذا قَدَّره الزمخشري. قال الشيخ: «ولا يجوزُ ما ذَكَر لأنَّ» إذ «لا يُضافُ إليهما إلا الزمانُ، و» نبأ «ليس بزمان. الثالث: ذكَره أبو البقاء - أنه حالٌ من» نبأ «وعلى هذا فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، لكن هذا الوجهَ غيرُ واضحٍ، قال أبو البقاء:» ولا يكونُ ظرفاً ل «اتلُ» قلت: لأنَّ الفعلَ مستقبل و «إذ» وقتٌ ماضٍ فيكف يتلاقيان؟ والقُرْبان: فيه احتملان، احدُهما: وبه قال الزمخشري - أنه اسمٌ لِما يُتَقَرَّب به، قال: «كما أنَّ الحُلْوان اسم ما يُحَلِّي أو يُعْطي يقال:» قَرَّبَ

صدقةً وتقرَّب بها «لأن» تقرَّب «مطاوعُ» قَرَّب «قال الأصمعي:» تَقَرَّبوا قِرْفَ القِمَع «فيُعَدَّى بالباء حتى يكون بمعنى قَرَّب» أي: فيكونُ قوله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} يَطْلُبُ مطاوعاً له، فالتقدير: إذ قَرَّباه فتقرَّبا به، وفيه بُعْدٌ. قال الشيخ: «وليس» تقرَّب بصدقة «مطاوع» قَرَّب صدقة «لاتحاد فاعلِ الفعلين، والمطاوعةُ يختلف فيها الفاعل يكونُ من أحدِهما فعلٌ ومن الآخر انفِعال نحو: كَسَرْتُه فانكسر وفَلَقْتُه فانقلق، فليس قَرَّب صدقته وتقرَّب بها من هذا الباب، فهو غلط فاحش» . وفيما قاله الشيخ نظرٌ، لأنَّا لا نسَلِّم هذه القاعدة. والاحتمال الثاني: أن يكونَ في الأصلِ مصدراً ثم أُطلق على الشيء المتقرَّب به كقولهم: «نَسْج اليمن» و «ضَرْب الأمير» ويؤيِّد ذلك أنه لم يُثَنَّ والموضعُ موضعُ تثنية؛ لأنَّ كلاً من قابيل وهابيل له قُرْبان يَخُصُّه، فالأصلُ: إذ قَرَّبا قربانين وإنما لم يُثَنَّ لأنه مصدرٌ في الأصل. وللقائل بانه اسمُ ما يُتَقَرَّب [به] لا مصدرٌ أن يقولَ: إنما لم يُثَنَّ،. لأنَّ المعنى - كما قاله أبو علي الفارسي - إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قرباناً كقوله تعالى: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] أي: كلَّ واحدٍ منهم. وقوله: {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ} أي: قال الذي لم يُتَقَبَّلْ منه للمقبول منه. وقرأ الجمهور: «لأقتلنَّك» بالنون الشديدة. وهذا جوابُ قسم محذوف، وقرأه زيد بالخفيفة. قال: إنما يتقبَّل الله «مفعولُه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه أي: قرابينَهم وأعمالَهم، ويجوز ألاَّ يُراد له مفعول كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أعطى

واتقى} [الليل: 5] هذه الجملة قال أبو محمد بن عطية:» قبلها كلامٌ محذوف، تقديره: لِمَ تَقْتُلني وأنا لم أَجْنِ شيئاً ولا ذنبَ لي في تقبُّل الله قرباني دونَ قربانِك؟ «وذكَر كلاماً كثيراً. وقال غيرُه:» فيه حذْفٌ يَطُول «وذكرَ نحوه، ولا حاجة إلى تقدير ذلك كلِه، إذ المعاني المفهومةُ من فَحْوى الكلام إذا قُدِّرَتْ قصيرةً كان أحسنَ، والمعنى هنا: قال لأقلنك حسداً على تقبُّل قربانك فعرّض له بأنَّ سببَ التقبُّل التقوى. وقال الزمخشري:» فإنْ قلت: كيف كان قولُه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} جواباً لقوله: «لأقتلنَّك» ؟ قلت: لَمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تقبُّل قربانه هو الذي حَمَله على توعُّدِه بالقتل، قال: إنما أُتيت مِنْ قِبل نفسك لانسلاخِها من لباس التقوى «انتهى. وهذا ونحوه من تفسير المعنى لا الإِعراب. وقيل: إن هذه الجملةَ اعتراضٌ بين كلام القاتل وبين كلام المقتول. والضمير في» قال «إنما يعود على الله تعالى، أي: قال الله ذلك لرسوِله فيكونُ قد اعترضَ بقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله} بين كلامِ قابيل وهو:» قال لأقتلنَّك «وبين كلامِ هابيل، وهو» لئن بَسَطْتَ «إلى آخره، وهو في غاية البُعْد لتنافِرِ النظم.

28

واللامُ في قوله: {لَئِن} : هي الموطئةُ. وقوله: {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ} جوابُ القسم المحذوف، وهذا على القاعدة المقرَّرة من أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ أُجيب سابقُهما إلا في صورته تقدَّم التنبيه عليها. وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ جاء الشرطُ بلفظِ الفعلِ، والجزاء بلفظِ اسمِ الفاعلِ وهو قوله: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ} ؟ قلت: ليفيدَ أنه

لا يفعلُ هذا الوصفَ الشنيعَ، ولذلك أكَّده بالباء المفيدة لتأكيد النفي» وناقشه الشيخ في قوله: {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ} «جزاءٌ للشرط» قال: «لأنَّ هذا جوابٌ للقسمِ لا للشرطِ» قال: «لأنه لو كان جواباً للشرطِ لَزِمَتْه الفاءُ لكونِه منفياً ب» ما «والأداةُ جازمةٌ، ولَلَزِم أيضاً خَرْمُ تلك القاعدة، وهو كونُه لم / يُجَبِ الأسبقُ منهما» وهذا ليس بشيء لأن أبا القاسم سَمَّاه جزاء للشرط لَمَّا كان دالاً على جزاء الشرط، ولا نكير في ذلك، مُغْرَى بأَنْ يُقال: قد اعترض على الزمخشري: وقال أيضاً: «وقد خالفَ الزمخشري كلامَه هنا بما ذكَره في البقرة في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ} [الآية: 145] من كونِه جَعَله جواباً للقسم ساداً مسدَّ جوابِ الشرط، وله معه هناك كلامُ قد قَدَّمته عنه في موضعِه فَلْيُراجَعْ.

29

قوله تعالى: {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ} : فيه ثلاثة تأويلات، أحدها: أنه على حَذْفِ همزةِ الاستفهام، وتقديرُه: أإني أريد، وهو استفهام إنكارٍ لأنَّ إرادة المعصيه قبيحةٌ، ومن الأنبياء أقبحُ؛ فهم معصومون عن ذلك، ويؤيِّد هذا التأويل قراءةُ مَنْ قرأ: «أنَّي أريد» بفتح النون وهي أنَّى التي بمعنى «كيف» أي: كيف أريد ذلك. والثاني: أنَّ «لا» محذوفة تقديره: إني أريدُ أن لا تبوء كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] أي: أن لا تضلوا، وأَنْ لا تميد، وهو مستفيضٌ، وهذا أيضاً فرارٌ من إثبات الإِرادة له. وضَعَّفَ بعضهم هذا التأويلَ بقوله عليه السلام: «لا تُقْتَلُ

نفسٌ ظلماً إلا كان على ابنِ آدم الأولِ كِفْلٌ من دمِها؛ لأنه أولُ مَنْ سَنَّ القتل» فثبت بهذا أنَّ الإِثم حاصلٌ، وهذا الذي ضَعَّفَه به غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ قائل هذه المقالة يقول: لا يلزم من عدمِ إرادته الإِثمَ لأخيه عدمُ الإِثم، بل قد يريد عدَمَه ويقع. والثالث: أن الإِرادة على حالِها، وهي: إمَّا إرادةٌ مجازية أو حقيقةٌ على حَسَبِ اختلاف أهلِ التفسير في ذلك، وجاءت إرادةُ ذلك به لمعانٍ ذكروها، مِنْ جملتها أنه ظَهَرَتْ له قرائنُ تَدُلُّ على قرب أجلِه وأنَّ أخاه كافر وإرادةُ العقوبةِ بالكافرِ حسنةٌ. وقولُه: «بإثمي» في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «تَبُوء» أي: ترجعُ حاملاً له وملتبساً به، وتقدَّم نظيرُه في قوله {فَبَآءُو بِغَضَبٍ} [البقرة: 90] . وقالوا: للا بُدَّ من مضافٍ، فقدَّره الزمخشري: «بمثلِ إثْمي» قال: «على الاتساعِ في الكلام كما تقول: قرأتُ قراءة فلانٍ، وكتبت كتابتَه» وقَدَّره بعضُهم: بإثم قتلي. وقوله: {وَذَلِكَ جَزَآءُ} يَحْتَمل أَنْ يكونَ من كلامِه وأن يكونَ مِنْ كلامِ اللَّهِ تعالى.

30

قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ} : الجمهورُ على «طَوَّعت» مشددَ الواو من غير ألفٍ بمعنى «سَهَّلَتْ وبعثت» قال الزمخشري: «وسَّعَتْه وَيسَّرَتْه من» طاع له المرتعُ «إذا اتسع» انتهى. والتضعيفُ فيه للتعدية لأنَّ الأصلَ: طاعَ له قتلُ أخيه، أي: انقادَ، من الطواعية فَعُدِّي بالتضعيف، فصار الفاعلُ مفعولاً كحالِه مع الهمزة. وقرأ الحسن وزيد بن علي وجماعةٌ كثيرة: «فطاوعت» ، وأبدَى الزمخشري فيها احتمالين، أحدُهما: أن يكونَ

مِمَّا جاء فيه فاعَلَ لغير مشاركه بين شيئين، بل بمعنى فَعَّل نحو: ضاعفتُه وضَعَّفْته وناعمته ونَعَمْتُه، وهذان المثالان من أمثلةِ سيبويه، قال: «فجاؤوا به على مثال عاقَبْتُه» قال: «وقد تجيء فاعَلْتُ لا تريد بها عملَ اثنين، ولكنهم بَنَوا عليه الفعلَ كما بَنَوه على أَفْعَلْتُ» وذكر أمثلةً منها «عافاه الله» وقَلَّ مَنْ ذَكَر أنَّ فاعَلَ يَجيءُ بمعنى فَعَّلْتُ. والاحتمال الثاني: أن تكن على بابها من المشاركة وهو أنَّ قَتْلَ أخيه كأنه دعا نفسَه إلى الإِقدامِ عليه فطاوَعَتْه «انتهى. وإيضاحُ العبارةِ في ذلك أَنْ يُقال: جَعَل القتلَ يدعو إلى نفسه لأجل الحَسَدِ الذي لحق قابيل، وجَعَلَتِ النفسُ تَأْبى ذلك وتشمئز منه، فكلُّ منهما - أعني القتلَ والنفسَ - كأنه يريد من صاحبه أن يطيعَه إلى أن غَلَب القتلُ النفسَ فطاوعته. و» له «متعلقٌ ب» طَوَّعت «على القراءتين. قال الزمخشري: و» له «لزيادة الربط، كقولك: حَفِظْتُ لزيدٍ مالَه» يعني أنه الكلام تام بنفسه لو قيل: فَطَوَّعَتْ نفسُه قتلَ اخيه، كما كانَ كذلك في قولك «حَفِظْتُ مالَ زيد» فأتى بهذه اللامِ لقوةِ ربطِ الكلام. وقال أبو البقاء «وقال قوم: طاوَعَتْ تتعدَّى بغير لام، وهذا خطأ، لأنَّ التي تتعدى بغير اللام تتعدَّى لمفعولٍ واحد، وقد عَدَّاه هنا إلى قَتْل أخيه، وقيل: التقدير: طاوعَتْه نفسُه على قَتْلِ أخيه، فزادَ اللامَ وحَذَفَ» على «أي: زاد اللام في المفعولِ به وهو الهاء، وحَذَفَ» على «الجارَّة ل» قتل أخيه «.

31

قوله تعالى: {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي} : هذه اللامُ يجوز فيها وجهان، أحدهما: انها متعلقةٌ ب «يبحث» أي: يَنْبُشُ ويُثير الترابَ للإِراءة،

الثاني: انها متعلقةٌ ب «بَعَثَ» ، و «كيف» معمولةٌ ل «يُوارِي» ، وجملةُ الاستفهامِ معلقةٌ للرؤيةِ البصريةِ، فهي في محلِّ المفعولِ الثاني سادةٌ مسدَّه، لأن «رأى» البصرية قبل تعدِّيها بالهمزةِ متعديةٌ لواحد فاكتسبت بالهمزةِ آخرَ، وتقدَّم نظيرُها في قوله: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] والسَّوْءَةُ هنا المرادُ بها ما الا يَجُوز أن ينكشِفَ مِنْ جسِده، وهي الفضيحة أيضاً قال: 171 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . ... يالقَومي لِلسَّوْءَة السَّوْآءِ ويجوزُ تخفيفُها بإلقاءِ حركةِ الهمزة على الواوِ وهي قراءةُ الزهري، وحينئذ فلا يجوزُ قَلْبُ هذه الواوِ ألفاً وإنْ صَدَقَ علَيها أنها حرفُ علةٍ متحركٌ منتفحُ ما قبلَه، لأنَّ حركتَها عارضةٌ، ومثلُها: «جَيَلَ» «وتَوَم» مخفَّفَيْ جَيْئَل وتَوْءَم، يجوزُ أيضاً قلْبُ هذه الهمزةِ واواً، وإدغام ما قبلها فيها تشبيهاً للأصلي بالزائد وهي لغةٌ، يَقُولون في «شيء» و «ضوء» : شيّ، وضوّ، قال: 171 - 7- وإنْ يَرَاوسَيَّةً طاروا بها فَرحاً ... مني وما سَمِعُوا من صالحٍ دفَنُوا

وبهذا الوجهِ قرأ أبو جعفر. قوله: {يَاوَيْلَتَا} قلب ياءَ المتكلم ألفاً وهي لغةٌ فاشية في المنادى المضافِ إليها، وهي إحدى اللغاتِ الست، وقد تقدَّم ذكرها، وقُرئ كذلك على الأصل، وهي قراءةُ الحسن البصري. والنداء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإِقبالُ وهم العقلاءُ، إلا أن العرب تتجَوَّز فتنادي ما لا يعقل، والمعنى: يا ويلتي احْضُري فهذا أوانُ حضورك، ومثله: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] /، و {ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ} [الزمر: 56] . وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو في رواية الدوري ألف «حسرتا» والجمهورُ قرأ «أعَجْزْتَ» بفتح الجميم وهي اللغة الفصحية يقال: «عَجَزت» - بالفتح في الماضي - «أعجِزُ» بكسرِها في المضارع. وقرأ الحسن والفياض وابن مسعود وطلحة بكسرها وهي لُغَيَّةٌ شاذة، وإنما المشهور أن يقال: «عَجِزت المرأة» بالكسر، أي كَبُرت عجيزتُها. و «أن أكون» على اسقاطِ الخافضِ أي عَنْ أكونَ، فلمَّا حُذِف جَرَى فيه الخلافُ المشهور. قوله: {فَأُوَارِيَ} قرأ الجمهورُ بنصب الياء، وفيها تخريجان أصحُّهما: أنه عطفٌ على «أكونَ» المنصوبةِ «ب» أَنْ «منتظماً في سلكه أي: أعجَزْت عن كوني مشبهاً للغراب فموارياً. والثاني: - ولم يذكر الزمخشري غيره - أنه منصوبٌ على جواب الاستفهام في قوله:» أعجَزْتُ يعني فيكونُ من باب

قوله: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ} [الأعراف: 53] وهذا الذي ذكره أبو القاسم رَدَّه أبو البقاء بعد أن حكاه عن قوم، قال: «وذَكَر بعضُهم أنه يجوزُ أن ينتصِبَ على جواب الاستفهام وليس بشيء، إذ ليس المعنى: أيكونُ مني عجزٌ فمواراةٌ، ألا تَرى أنَّ قولَك:» أين بيتُك فأزورَك «معناه: لو عَرَفْتُ لزرتُ، وليس المعنى هنا لو عَجَزت لَوارَيْتَ» قلت: وهذا الردُّ على ظاهرِه صحيحٌ، وبَسْطُ عبارةِ أبي البقاء أنَّ النحاةَ يشترطون في جوازِ نَصْبِ الفعلِ بإضمار «أنْ» بعد الأشياء الثمانية - غير النفي - أن ينحلَّ الكلامُ إلى شرطٍ وجزاء، فإنْ انعقدَ منه شرطٌ وجزاءٌ صَحَّ النصبُ، وإلاَّ امتنعَ، ومنه: «أين بيتك فأزورَك» [أي:] إن عَرَّفْتَني بيتك أزرُك، وفي هذا المقام لو حَلَّ منه شرط وجزاء لفسدَ المعنى، إذ يصير التقديرُ: إنْ عَجَزْت وارَيْتَ، وهذا ليس بصحيح، لأنه إذا عَجَز كيف يواري. وردَّ الشيخ على أبي القاسم بما تقدَّم، وجعله غلطاً فاحِشاً، وهو مسبوقٌ إليه كما رأيت، فأساءَ عليه الأدبَ بشيءٍ نقله عن غيرِه، اللَّهُ أعلمُ بصحتِه. وقرأ الفياضُ بن غزوان وطلحة بن مصرف بسكون الياء، وخَرَّجَها الزمخشري على أحدِ وجهين: إمَّا القطعِ، أي: فأنا أواري، وإمَّا على التسكين في موضعِ النصب تخفيفاً. وقال ابن عطية: «هي لُغَيَّةٌ لتوالي الحركاتِ» قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ أَنْ تعلل القراءة بهذا ما وُجِد عنه

مندوحةٌ، إذ التسكينُ في الفتحة لا يجوزُ إلا ضرورةً، وأيضاً فلم تتوالَ حركاتٌ» . وقوله: {فَأَصْبَحَ} بمعنى صار، قال ابنُ عطية: «قوله:» فأصبح «عبارةٌ عن جميعِ أوقاته أٌقيم بعضُ الزمانِ مُقامَ كله، وخُصَّ الصباحُ بذلك لأنه بَدْءُ النهارِ والانبعاثِ إلى الأمور ومَظَنَّةُ النشاط، ومنه قولُ الربيع: 171 - 8- أصبحتُ لا أحملُ السلاح ولا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقولُ سعد بن أبي وقاص:» ثم أَصْبحت بنو أسد تعذرني على الإِسلام «إلى غير ذلك» . قال الشيخ: «وهذا التعليلُ الذي ذكره لكونِ» أصبح «عبارةً عن جميعِ أوقاته وإنما خُصَّ الصباحُ لكونِه بدءَ النهار ليس بجيدٍ، لأنَّ العربَ استعملت أضحى وبات وأمْسى بمعنى صار، وليس شيءٌ منها بدءَ النهار» وكيف يَحْسُنُ أَنْ يرُدَّ على أبي محمد بمثل هذا؟ وهو لم يَقُلْ إنها لَمَّا أُقيمت مُقامَ أوقاتِه للعلةِ التي ذَكَرها تكونُ بمعنى صار حتى يلزمَ بأخواتِها ما نقضه عليه.

32

قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذلك} : فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلق ب «كتبنا» ، و «ذلك إشارةٌ إلى القتل، والأجْلُ في الأصل هو الجناية، يقال: أَجَلَ الأمر إجْلاً وأَجْلاً بفتح الهمزة وكسرها إذا جَناه وحدَه ومنه قولُ زهير: 171 - 9-

وأهلِ خباءٍ صالحٍ ذاتُ بينِهم ... قد احتربوا في عاجلٍ أنا آجِلُهْ أي: جانيه، ومعنى قول الناس:» فَعَلْتُه من أجْلِك ولأجلك «أي: بسببك، يعني مِنْ أَنْ جَنَيْتَ فَعْلَه وأوجبته، وكذلك قولهم:» فَعَلْتُه من جَرَّائك «أصله مِنْ أَنْ جَرَرْتُه، ثم صار يستعمل بمعنى السبب، ومنه الحديث:» مِنْ جَرَّاي «أي من أجلي. و» من «لابتداء الغاية أي: نشأ الكَتْبُ وابتدأ من جناية القتل، ويجوزُ حَذْفُ» مِنْ «واللام وانتصابُ» أَجْل «على المفعول له إذا استكمل الشروط، قال: 172 - 0- أَجْلَ أنَّ اللهَ قد فَضَّلكمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والثاني - أجازَه بعضُ الناس - أن يكونَ متعلقاً بقوله:» مِن النادمين «أي: ندم من أجل ذلك: أي: قَتْلِه أخاه، قال أبو البقاء:» ولا تتعلق ب «النادمين» لأنه لا يحسن الابتداء ب «كتبنا» هنا، وهذا الرد غير واضح، وأين عدمُ الحسنِ بالابتداء بذلك.؟ ابتدأ الله إخباراً بأنه كَتَب ذلك، والإِخبارُ متعلق بقصة ابنَيْ آدم، إلا أنَّ الظاهرَ خلافُه كما تقدم. والجمهورُ على فتح همزة «أجل» ، وقرأ أبو جعفر بكسرها، وهي لغة كما تقدم، ورُوي عنه حذفُ الهمزة وإلقاءُ حركتها وهي الكسرة على نون «من» ، كما ينقل ورش فتحتها إليها. والهاء في «أنه» ضمير الأمر والشأن،

و «مَنْ» شرطيةٌ مبتدأ، وهي خبرُها في محل رفع خبراً ل «أن» . قوله: «بغير نفسٍ» فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بالقتل قبلها. والثاني: أنه في محلِّ حالٍ من ضمير الفاعل في «قَتَل» أي: قتلها ظالماً، ذكره أبو البقاء. قوله: {أَوْ فَسَادٍ} الجمهور على جره، عطفاً على «نفس» المجرور بإضافةِ «غير» إليها. وقرأ الحسن بنصبه، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوبٌ على المفعولِ به بعاملٍ مضمرٍ يَليقُ بالمحلِّ أي: أو أتى - أو عمل - فساداً والثاني: أنه مصدرٌ، والتقدير: أو أَفْسَدَ فساداً بمعنى إفساداً، فهو اسمُ مصدرٍ كقوله: 172 - 1-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وبعد عطائِكَ المئةَ الرِّتاعا ذكره أبو البقاء و «في الأرض» متعلقٌ بنفس «فساد» لأنك تقول: «افسد في الأرض» إلا في قراءةِ الحسن بنصبه، وخَرَّجناه على النصب على المصدريةِ - كما ذكره أبو البقاء - فإنه لا يتعلَّقُ به، لأنه مصدر مؤكد فقد نَصُّوا على أن المؤكِّدة لا يعمل، فيكون «في الأرض» متعلقاً بمحذوف على أنه صفةٌ ل «فساداً» والفاء في: «فكأنما» في الموضعين جواب الشرط واجبةُ الدخولِ، و «ما» كافةٌ لحرفِ التشبيه، والأحسن / أَنْ تُسَمَّى هنا مهيئةً لوقوعِ الفعلِ بعدها. و «جميعاً» إمَّا حال أو توكيد. قوله: {بَعْدَ ذلك فِي الأرض} هذا الظرفُ والجارُّ بعده يتعلقان بقولِه: «لمُسْرِفون» الذي هو خبر «إنَّ» ولا تَمْنَعُ من ذلك لامُ الابتداء فاصلةً بين

العامل ومعمولِه المتقدِّم عليه، لأنَّ دخولها على الخبر على خلافِ الأصل، إذ الأصلُ دخولُها على المبتدأ، وإنما مَنَع منه دخولُ «إنَّ» و «ذلك» إشارةٌ إلى مجيء الرسل بالبينات.

33

قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين} : مبتدأٌ، وخبرُه: «أن يُقَتَّلوا» وما عُطف عليه، أي: إنما جزاؤهم التقتيل أو التصليب أو النفي. وقوله: {يُحَارِبُونَ الله} أي: يحاربون أولياءَه، كذا قَدَّره الجمهور. وقال الزمخشري: «يحاربون رسولَ الله، ومحاربةُ المسلمين في حكم محاربته» يعني أنَّ المقصودَ أنْ يخبرَ بأنهم يحاربون رسولَ الله، وإنما ذَكَر اسمَ الله تبارك وتعالى تعظيماً وتفخيماً لِمَنْ يُحارَبُ، كقوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك وتقديرُه عند قوله: {يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا} [البقرة: 9] . وقيل: معنى المحاربةِ المخالفةُ لأحكامهما، وعلى هذه الأوجهِ لا يلزَمُ في قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} الجمعُ بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، ومَنْ يُجِزْ ذلك لم يحتجْ إلى تأويلٍ من هذه التأويلات، بل يقول: تُحْمَلُ محاربتُهم لله تعالى على معنى يليق بها وهي المخالفة مجازاً، ومحاربتُهم لرسولِ على المقاتلة حقيقة. قوله: {فَسَاداً} في نصبه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه مفعول من أجلِه أي: يحاربُون ويَسْعون لأجل الفاسد، وشروطُ النصبِ موجودة الثاني: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال، أي: ويسعون في الأرض مفسدين، أو ذوي فساد، أو جُعِلوا نفسَ الفساد مبلغة، ثلاثةٌ مذاهبَ مشهورةٌ تقدَّم تحريرها. الثالث: أنه منصوبٌ على المصدر اي: إنه نوع من العامل قبله، فإن معنى «يَسْعَون» هنا

يفسدون، وفي الحقيقة ففساد اسمُ مصدر قائمٌ مقامَ الإِفساد، والتقدير: ويُفْسِدون في الأرض بسعيهم إفساداً. «وفي الأرض» الظاهرُ أنه متعلق بالفعل قبله، كقوله: {سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ} [البقرة: 205] ، وقد أُجيز أن يكونَ في محل نصب على الحال؛ لأنه يجوزُ أَنْ لو تأخَّرت عنه ان يكونَ صفةً له، وأُجيز أيضاً أن يتعلق بنفس «فساداً» وهذا إنما يتمشَّى إذا جَعَلْنا «فساداً» حالاً، أما إذا جَعَلْناه مصدراً امتنع ذلك لتقدُّمه عليه، ولأنَّ المؤكِّد لا يعمل. وقرأ الجمهور: «أَنْ يُقَتَّلوا» وما بعده من الفعلين بالتثقيل، ومعناه التكثير بالنسبة إلى مَنْ تقعُ به هذه الأفعالُ. وقرأ الحسن وابن محيصن بتخفيفِها. قوله: «من خِلافٍ» في محلِّ نصب على الحال من «أيديهم» و «أرجلُهم» أي بقَطْعٍ مختلِف، بمعنى أن تُقْطَعَ يَدُه اليمنى ورجلُه اليسرى. والنفي: الطرد، والأرض: المراد بها هنا ما يريدون الإِقامة بها، أو يُرادُ مِنْ أرضهم، وأل عوضٌ من المضاف إليه عند مَنْ يراه. قوله: {ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا} : «ذلك» [إشارةٌ إلى الخبر المتقدم أيضاً] ، وهو مبتدأُ. وقوله: {لَهُمْ خِزْيٌ} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكونَ «لهم» خبراً مقدماً، و «خِزْيٌ» مبتدأ مؤخراً و «في الدنيا» صفةً له، فيتعلَّق بمحذوف، أو يتعلق بنفس «خزي» على أنه ظرفُه، والجملةُ في محل رفع خبراً ل «ذلك» الثاني: أن يكون «خزي خبراً ل» ذلك «، و» لهم «متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من» خِزْي «؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ له، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً. وأما «في الدنيا» فيجوزُ فيه الوجهان المتقدمان مِنْ كونِه صفةً ل «خزي» أو متعلقاً به، ويجوز فيه أن يكونَ متعلقاً بالاستقرار الذي تعلَّق به «لهم» الثالث: أنه يكونَ «لهم»

خبراً ل «ذلك» و «خزي» فاعل، ورَفَع الجارُّ هنا الفاعلَ لَمَّا اعتمد على المبتدأ، و «في الدنيا» على هذا فيه الأوجهُ الثلاثة.

34

قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على الاستثناء من المحاربين، وللعلماءِ خلافٌ في التائبِ من قطاع الطريق: هل تسقط عنه العقوبات كلها أو عقوبةُ قطعِ الطريق فقط، وأما ما يتعلق بالأموال وقَتْلِ الأنفس فلا تَسْقُطُ، بل حكمُه إلى صاحب المال وولي الدم؟ والظاهر الأول. الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر قوله: {أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والعائدُ محذوف أي غفور لهم، ذكر هذا الثاني أبو البقاء، وحينئذ يكون استثناء منقطعاً بمعنى: لكن التائب يُغفر له.

35

قوله تعالى: {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} : في «إليه» ثلاثة أوجه، أحدها: أنه متعلقٌ بالفعل قبله. الثاني: أنه متعلقٌ بنفس الوسيلة. قال أبو البقاء: «لأنها بمعنى المتوسَّل به، فلذلك عِمَلَتْ فيها قبلها» يعني أنها ليسَتْ بمصدرٍ حتى يمتنَع أَنْ يتقدَّم معمولُها عليها. الثالث: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الوسيلة» وليسَ بذاك.

36

قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} : قد تقدَّم الكلامُ على «أنَّ» الواقعة بعد «لو» وأنَّ فيها مذهبين، و «لهم» خبر ل «أَنَّ» و «ما في الأرض» اسمُها، «وجميعاً» توكيد له أو حالٌ منه. و «مثلَه» في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على اسم «أنَّ» وهو «ما» الموصولة. والثاني: أنه منصوبٌ على المعية وهو رَأْيُ الزمخشري وسيأتي ما يَرِدُ على ذلك والجوابُ عنه.

و «معه» ظرفٌ موقعَ الحال، واللام في «ليفتدوا» متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو «لهم» و «به» و «مِنْ عذاب» متعلِّقان بالافتداءِ، والضميرُ في «به» عائدٌ على «ما» الموصولة، وجيء بالضمير مفرداً وإنْ تقدَّمه شيئان وهما: «ما في الأرض» و «مثلَه» إمَّا لتلازُمِهما، فهما في حكمٍ شيء واحد، وإمَّا لأنه حذف من الثاني لدلالةِ ما في الأول عليه كقولهِ: 172 - 2-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ أي: لو أنَّ لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه ليفتدوا به، وإمَّا لإِجراء الضمير مُجْرى اسم الإِشارة كقوله: 172 - 3- كأنَّه الجِلْدِ. . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد تقدَّم في البقرة. و «عذاب» بمعنى تعذيب، وبإضافته إلى «يوم» خَرج «يوم» عن الظرفية. و «ما» نافيةٌ، وهي جوابُ «لو» / وجاء على الأكثر من كونِ الجوابِ المنفيِّ بغير لام، والجملةُ الامتناعية في محل رفعٍ خبراً ل «إنَّ» . وجَعَل الزمخشري توحيدَ الضيمرِ في «به» لمَدْركٍ آخرَ، وهو أن الواوَ في «ومثلَه» واوُ «مع» ، قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين: «ويجوز أن تكونَ الواوُ في» ومثلَه «بمعنى» مع «فيتوحَّد المرجوع إليه. فإن قلت: فبِمَ يُنْصَبُ المفعول معه؟ قلت: بما تستدعيه» لو «من الفعل، لأن التقدير: لو ثبت أن لهم ما في الأرض» يعني أن حكمَ ما قبل المفعول معه في الخبر والحالِ

وعودِ الضمير حكمُ لو لم يكن بعده مفعولٌ معه، تقول: «كنتُ وزيداً كالأخ» قال: 172 - 4- وكان وإيَّاها كحَرًَّان لم يُفِقْ ... عن الماءِ إذ لاقَاه حتى تَقَدَّدا فقال: «كحَرَّان» بالإِفراد، ولم يَقُلْ «كحرَّانَيْنِ» وتقول: «جاء زيد وهنداً ضاحكاً في داره» وقد أجاز الأخفش أن يُعْطَى حكمَ المتعاطفين، يعني فيطابقُ الخبرَ، والحالُ والضميرُ له ولما بعده، فتقول: «كنتُ وزيداً كالأخوين» . قال بعضُهم: «والصحيحُ جوازُه على قلة» . وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم وطَوَّل معه، فلا بُدَّ من نَقْل نَصِّه قال: «وقولُ الزمخشري:» ويجوزُ أَنْ تكونَ الواوُ بمعنى «مع» لأنه يصيرُ التقدير: مع مثلِه معه أي: مع مثلِ ما في الأرض مع ما في الأرض، إنْ جَعَلْتَ الضميرَ في «معه» عائداً على «ما» يكون «معه» حالاً من مثلَه «، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثلُه معه ضرورةً، فلا فائدة ي ذِكْر» معه «لملازمةِ معيَّة كلٍّ منهما للآخر، وإنْ جَعَلْتَ الضمير عائداً على» مثله «أي: مع مثلِه مع ذلك المثلِ، فيكونُ المعنى مع مثلين، فالتعبير في هذا المعنى بتلك العبارة عِيُّ، إذ الكلامُ المنتظمُ أَنْ يكونَ التركيب إذا أُريد ذلك المعنى مع مِثْلَيْه، وقول الزمخشري:» فإنْ قلت «إلى آخرِ الجواب هذا السؤالُ لايَرِدُ، لأنَّا قد بَيَّنَّا فسادَ أن تكونَ الواو واوَ مع، وعلى تقديرِ ورودِه فهذا بناءً منه على أن» أنَّ «إذا جاءت بعد» لو «كانت في محل رفع بالفاعلية، فيكون التقدير على

هذا: لو ثبت كينونةُ ما في الأرض مع مثلِه لهم ليفتدوا به، فيكونُ الضمير عائداً على» ما «فقط. وهذا الذي ذكره هو تفريعٌ منه على مذهب المبرد في أنَّ» أنَّ «بعد» لو «في محلِّ رفع على الفاعلية، وهو مذهب مرجوح، ومذهبُ سيبويه أنَّ» أنَّ «بعد» لو «في محل مبتدأ والذي يظهرُ في كلام الزمخشري هنا وفي تصانيفه أنه ما وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألةِ، وعلى المفرع على مذهبِ المبرد لا يجوز أن تكون الواوُ بمعنى مع، والعاملُ فيها» ثَبَتَ «المقدَّر لِما تقدَّم مِنْ وجودِ لفظةِ معه، وعلى تقديرِ سقوطِها لا يَصِحُّ، لأن» ثبت «ليس رافعاً ل» ما «العائدِ عليها الضميرُ، وإنما هو رافعٌ مصدراً منسبكاً من أنَّ وما بعدها وهو كونٌ، إذ التقدير: لو ثبت كونُ ما في الأرض جميعاً لهم ومثلِه معه ليفتدوا به، والضميرُ عائدٌ على ما دونَ الكون، فالرافع للفاعل غيرُ الناصب للمفعول معه، إذ لو كان إياه لَلَزِمَ من ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل، والمعنى على كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل لا على ثبوت ذلك مصاحباً للمثْل، وهذا فيه غموضٌ، وبيانه: إذا قلت:» يعجبني قيامُ زيدٍ وعمراً «جعلت» عمراً «مفعولاً معه، والعامل فيه» يعجبني «لَزِم من ذلك أنَّ عمراً لم يَقُم، وأعجبك القيامُ وعمروٌ، وإنْ جعلت العاملَ فيه القيامَ كان عمروٌ قائماً، وكان الإِعجابُ قد تعلَّق بالقيام مصاحباً لقيامِ عمرو، فإن قلت: هل كان» ومثلَه معه «مفعولاً معه، والعامل فيه هو العامل في» لهم «إذ المعنى عليه» قلت: لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجودِ «معه» في الجملة، وعلى تقديرِ سقوطها لا يَصِحُّ، لأنهم نَصُّوا على أنَّ قولك: «هذا لك وأباك» ممنوعٌ في الاختيار، قال سيبويه: «وأما هذا لك وأباك» فقبيحٌ لأنه لم يَذْكر فعلاً ولا حرفاً فيه معنى فعل، حتى يصيرَ كأنه قد تكلم بالفعل «فأصبح سيبويه

بأن اسمَ الإِشارة وحرفَ الجر المتضمِّن لمعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه، وقد أجاز بعضُ النحويين في حرفِ الجر والظرف أن يعملا في المفعول معه نحو:» هذا لك وأباك «فقولُه:» وأباك «يكون مفعولاً معه والعامل الاستقرار في» لك «انتهى. ومع هذا الاعتراضِ الذي ذكره فقد يظهرُ عنه جواب وهو أنَّا نقول: نختار أن يكونَ الضميرُ في قوله: {معه} عائداً على «مثلَه» ويصيرُ المعنى: مع مِثْلين، وهو أبلغُ من أَنْ يكونَ مع مثل واحد، وقوله: «تركيبٌ عِيُّ» فَهْمٌ قاصر. ولا بد من جملة محذوفة قبل قوله: {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} تقديره: «وبذلوه أو وافتدوا به» ليصِحَّ الترتيب المذكور، إذ لا يترتب على استقرار ما في الأرض جميعاً ومثلِه معه لهم عدمُ التقبل، إنما يترتب عدمُ التقبل على البذل والافتداء. والعامةُ على «تُقُبِّل» مبنياً للمفعول حُذِف فاعله لعظمته وللعلم به. وقرأ يزيد بن قطيب: «ما تَقَبَّل» مبنياً للفاعل، وهو ضميرُ الباري تبارك وتعالى. قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ} مبتدأٌ وخبرُه مقدَّم عليه. و «أليم» صفتُه بمعنى مُؤْلم. وهذه الجملةُ أجازُوا فيها ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ حالاً، وفيه ضَعْفٌ مِنْ حيثُ المعنى. الثاني: أَنْ تكونَ في محل رفع عطفاً على خبر «أنَّ» أخبر عن الذين كفروا بخبرين: لو استقر لهم جميع ما في الأرض مع مثله فبذلوه لم يُتَقَبَّلْ منهم، وأن لهم عذاباً أليماً. الثالث أن تكون معطوفةً على الجملة من قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} وعلى هذا فلا محلَّ لها لعطفها على ما محلَّ له.

37

وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ} : كقوله: {يُرِيدُ الله

أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] ، وقد تقدَّم. والجمهورُ على «أن يخرجوا» مبنياً للفاعل، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي: «يُخْرَجوا» مبنياً للمفعول، وهما واضحتا التخريج.

38

قوله تعالى: {والسارق والسارقة} : قراءةُ الجمهور بالرفعِ، وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة بالنصبِ، ونُقِل عن أُبَي: «والسُّرَّقُ والسُّرَّقةُ» بضم السين وفتح الراء مشددتين. قال الخفاف: «وجَدْتُه في مُصحف أُبي كذلك» ومِمَّنْ ضبطَهما بما ذكرت أبو عمرو، إلا أن ابن عطية جَعَل هذه القراءة تصحيفاً فإنه قال: «ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط، لأنَّ قراءة الجماعة إذا كُتِبت:» والسارق «بغير ألف وافقت في الخط هذه» قلت: ويظهر توجيهُ هذا القراءة بوجه ظاهر وهو أن السُّرَّق جمع سارق، فإنَّ فُعَّلاً يطَّرد جمعاً لفاعل صفةً نحو: ضارب وضُرَّب، والدليل على أن المرادَ الجمعُ قراءةُ عبد الله: «والسارقون والسارقات» بصيغتي جمع السلامة، فدلَّ على أن المرادَ الجمع، إلا أنه يُشْكل علينا في هذا شيءٌ وهو أن فُعَّلاً يكون جمعَ فاعِل وفاعِله أيضاً، تقول: «نساء ضُرَّب» كما تقول: «رجالٌ ضُرَّب» ولا يدخلون عليه تاء التأنيث حين يراد به الإِناث، والسُّرَّقة هنا - كما رأيت - في هذه القراءة بتاء التأنيث حين أريد ب «فُعَّل» جمع فاعله، فهو مُشْكل من هذه الجهة، لا يقال: إن هذا التاء يجوز أن تكونَ لتأكيدِ الجمع، لأنَّ ذلك محفوظٌ لا يقاس عليه نحو: «حِجارة» .

فأمَّا قراءةُ الجمهورِ ففيها وجهان، أحدُهما- وهو مذهبُ سيبويه والمشهورُ من أقوالِ البصريين - أنَّ «السارقُ» مبتدأُ محذوفُ الخبر، تقديره: «فيما يتلى عليكم - أو فيما فُرِضَ -» السارقُ «والسارقة، أي حكمُ السارق، ويكون قولُه:» فاقْطَعُوا «بياناً لذلك الحكمِ المقد‍َّر، فما بعد الفاءِ مرتبطٌ بما قبلها، ولذلك أُتِي بها فيه لأنه هو المقصودُ، ولم يأتِ بالفاء لتُوُهِّم أنه أجنبي، والكلام على هذا جملتان: الأولى خبرية، والثانية أمريةٌ. والثاني - وهو مذهبُ الأخفش، ونُقِل عن المبرد وجماعةُ كثيرة - أنه مبتدأُ أيضاً، والخبر الجملة الأمرية من قوله: {فاقطعوا} وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لأنه يُشْبه الشرطَ، إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي، والصفةُ صلتُها فيه في قوة قولك:» والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا «وأجاز الزمخشري الوجهين، ونسب الأول لسيبويه، ولم يَنْسُبِ الثاني، بل قال:» ووجهٌ آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء، والخبر «فاقطعوا» . وإنما اختار سيبويه أنَّ خبرَه محذوف كما تقدَّم تقديرُه دون الجملة الطلبية بعده لوجهين، أحدُهما: أنَّ النصبَ في مثله هو الوجه في كلام العرب نحو: «زيداً فاضربه» لأجلِ الأمر بعده، قال سيبويه في هذه الآية: «الوجهُ في كلامِ العربِ النصبُ، كما تقول:» زيداً فاضربه «ولكن أَبَت العامةُ إلا الرفعَ» والثاني: دخولُ الفاءِ في خبره، وعنده أن الفاءَ لا تدخلُ إلا في خبر الموصول الصريح كالذي و «مَنْ» بشروط أُخَرَ ذكرْتُها في كتبي النحوية؛ وذلك لأنَّ الفاءَ إنما دخلت لشبه المبتدأ بالشرط، واشتَرطوا في صلتِه أَنْ تصلح لأداة الشرط من كونها جملةً فعلية مستقبلة المعنى، أو ما يقوم مقامَها من ظرفٍ

وشبهه، ولذلك إنها إذا لم تصلح لأداةِ الشرط لم يَجُزْ دخولُ الفاء في الخبر، وصلةُ «أل» لا تصلح لمباشرة أداةِ الشرط فلذلك لا تدخُلُ الفاءُ في خبرها، وأيضاً ف «أل» وصلتُها في حكمِ اسمٍ واحدٍ ولذلك تَخَطَّاها الإِعرابُ. وأمَّا قراءةُ عيسى بن عمر وإبراهيم فالنصبُ بفعلٍ مضمر يفسِّره العامل في سببِّيهما نحو: «زيداً فأكرم أخاه» والتقدير: فعاقبوا السارق والسارقة، تقدِّره فعلاً من معناها نحو: «زيداً ضربْتُ غلامه» أي: أهنتُ زيداً، ويجوز أن يقدَّرَ العاملُ موافقاً لفظاً لأنه يُساغ أَنْ يقال: «قطعت السارق» وهذه قراءةٌ واضحةٌ لمكانِ الأمر بعد الاسم المشتغل عنه. قال الزمخشري «وفَضَّلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر؛ لأنَّ» زيداً فاضربه «أحسنُ مِنْ» زيدٌ فاضربه «وفي نقله تفضيلَ النصب على قراءة العامة نظر، ويظهر ذلك بنصِّ سيبويه، قال سيبويه:» الوجه في كلام العرب النصبُ كما تقول: «زيداً اضربه» ولكن أَبت العامة إلا الرفعَ «، وليس في هذا ما يقتضي تفضيلَ النصب، بل معنى كلامه أن هذه الآية ليست في الاشتغال في شيء، إذ لو كانت من باب الاشتغال لكن الوجهُ النصبَ، ولكن لم يَقْرأها الجمهورُ إلا بالرفع، فدلَّ على أن الآية محمولةٌ على كلامَيْنِ كما تقدَّم، لا على كلامٍ واحدٍ، وهذا ظاهرٌ. وقد ردَّ الفخر الرازي على سبيويه بخمسة أوجه، وذلك أنه فَهم كما فهم صاحب» الكشاف «من تفضيل النصب، قال الفخر الرازي،» الذي ذهبَ إليه سيبويه ليس بشيء، ويدلُّ على فساده وجوهٌ، الأول: أنه طعن في القراءة المتواترة المنقولةِ عن الرسول وعن أعلام الأمة، وذلك باطلٌ قطعاً، فإن قال سيبويه: لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة، ولكني أقول: القراءةُ بالنصب أَوْلى، فنقول: رديء أيضاً لأنَّ ترجيحَ قراءةٍ لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءةِ الرسول وجميعِ الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمرٌ منكرٌ وكلامٌ مردودٌ. الثاني: لو كانت القراءةُ بالنصبِ أَوْلى لوجَبَ أن يكونَ في القراء مَنْ يقرأ {واللذان يأتيانِها منكم فآذوهما} بالنصب، ولمَّا لم يوجد في القُرَّاء مَنْ يقرأ كذلك عَلِمْنا سقوطَ هذه القول. الثالث: أنَّا إذا جعلنا «السارق والسارقة» مبتدأً وخبرُه مضمرٌ وهو الذي يقدِّره: «فيما يتلى عليكم» بقي شيء آخر تتعلَّق به الفاء في قوله: {فاقطعوا} فإنْ قال:

الفاء تتعلق بالفعل الذي دلَّ عليه قولُه: «والسارق والسارقة» يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده، فنقول: إذا احتجت في آخر الأمر [أن تقول] : السارق والسارقة [تقديرُه] : مَنْ سرق، فاذكر هذا أولاً حتى لا تحتاج إلى الإِضمار الذي ذكرته. الرابع: أنَّا إذا اختَرْنا القرءاةَ بالنصب لم تدلَّ على أنَّ السرقةَ علةٌ لوجوب القطع، وإذا اخترنا القراءةَ بالرفع افادت الآيةُ هذا المعنى، ثم إنَّ هذا المعنى متأكدٌ بقوله: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا} فثبت أنَّ القراءةَ بالرفعِ أَوْلى. الخامس: أن سيبويه قال: «وهم يقدِّمون الأهمَّ والذي هم ببيانِه أَعْنى» فالقراءةُ بالرفعِ تقتضي تقديمَ ذِكْرِ كونه سارقاً على ذِكْرِ وجوب القطع، وهذا يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث إنه سارق، وأما القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكونَ العنايةُ بيان القطع أتمَّ من العناية بكونه سارقاً، ومعلوم أنه ليس كذلك فإن المقصود في هذه الآية تقبيحُ السرقة والمبالغةُ في الزجر عنها، فثبت أن القراءة بالرفع هي المتعينة «انتهى ما زعم أنه ردُّ على إمام الصناعة. والجوابُ عن الوجه الأول ما تقدَّم جواباً عما قاله الزمخشري، وقد تقدم، ويؤيده نص سيبويه فإنه قال:» وقد يَحْسُن ويستقيم: «عبدُ الله فاضربه»

إذا كان مبنياً على مبتدأ مُظْهَرٍ أو مضمر، فأمَّا في المُظْهَرِ فقولُه: «هذا زيدٌ فاضرِبْه» وإن شئت لم يظهر هذا ويعمل كعمله إذا كان مظهراً، وذلك قولك: «الهلالُ واللَّهِ فانظرْ إليه» فكأنك قلت: «هذا الهلال» ثم جئت بالأمر، ومن ذلك قولُ الشاعر: 172 - 5- وقائلةٍ: خَوْلانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ ... وأُكْرومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هِيا هكذا سُمع من العربِ تُنْشدُه «يعني برفع» خولان فمع قوله: «يحسن ويستقيم» كيف [يكونُ] طاعناً في الرفع؟ وقولُه: «فإنْ قال سيبويه إلى آخره» فسيبويه لا يقول ذلك، وكيف يقوله وقد رجَّح الرفعَ بما أوضحته، وقوله: «لم يقرأ بها إلا عيسى» ليس كما زعم، بل قرأ بها جماعة كإبراهيم ابن أبي عبلة، وأيضاً فهؤلاء لم يَقْرَؤُوها من تلْقاء أنفسِهم، بل نقلوها إلى أن تتصل بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غايةُ ما في الباب أنها ليست في شهرة الأولى. وعن الثاني: أن سيبويه لم يَدَّعِ ترجيحَ النصبِ حتى يُلْزمَ بما قاله، بل خَرَّج قراءة العامة على جملتين، لِما ذكرت لك فيما تقدم من دخول الفاء، ولذلك لمَّا مَثَّل سيبويه جملةَ الأمرِ والنهي بعد الاسمِ مثَّلهما عاريتين من الفاء، قال: «وذلك قولك:» زيداً اضربْه «» وعمراً امرُرْ به «وعن الثالث: ما تقدم من الحكمةِ المقتضية للمجيء بالفاء وكونها رابطة للحكم بما قبله، وعن الرابع: بالمنع أن يكون بين الرفع والنصب فَرْقٌ بأنَّ الرفعَ يقتضي العلةَ، والنصبَ لا يقتضيه، وذلك أن الآية من باب التعليل بالوصفِ المُرَتَّب عليه الحكمُ، ألا ترى أن قولك:» اقطع السارق «يفيد العلةَ، أي: إنه جَعَلَ علةً

القطعِ اتصافَه بالسرقةِ، فهذا يشعر بالعلةِ مع التصريحِ بالنصبِ، وعن الخامس: انهم يُقَدِّمون الأهمَّ حيث اختلفت النسبَةُ الإِسناديةُ كالفاعِل مع المفعولِ، وَلْنَسْرُدْ نصَّ سيبويه ليتبيِّن ما ذكرناه، قال سيبويه:» فإنْ قَدَّمْتَ [المفعول] وأخَّرت الفاعلَ جرى اللفظُ كما جرى في الأول «يعني في:» ضرب عبدُ الله زيداً «قال:» وذلك: ضرب زيداً عبدُ الله، لأنك إنما أردت به مؤخراً ما أردت به مقدماً، ولم تُرِد أن يشتغل الفعلُ بأولَ منه وإن كان مؤخراً في اللفظ، فمِن ثَمَّ كان حَدُّ اللفظِ أن يكونَ فيه مقدماً وهو عربي جيدٌ كثير، كأنهم يُقَدَّمون الذي بيانُه اهمُّ لهم، وهم ببيانِه أَعْنَى، وإن كانا جميعاً يُهِمَّانِهم ويَعْنِيانهم «والآية الكريمة ليست من ذلك. قوله: {أَيْدِيَهُمَا} جمعٌ واقعٌ موقعَ التثنيةِ لأمْنِ اللَّبْس، لأنه معلومٌ أنه يُقْطَعُ مِنْ كلِّ سارقٍ يمينه، فهو من باب {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، ويدل على ذلك قراءةُ عبد الله: «فاقطعوا أيمانَهما» واشترط النحويون في وقوعِ الجمع موقعَ التثنية شروطاً، ومن جملتها: ان يكون ذلك الجزءُ المضافُ مفرداً من صاحبِه نحو: «قلوبكما» و «رؤوس الكبشين» لأمن الإِلباس بخلافِ العينين واليدين والرجلين، لو قلت: «فَقَأْتُ أعينَهما» / وأنت تعني عينيهما، و «كَتَّفْتُ أيديَهما» وأنت تعني «يديهما» لم يَجُزْلِلَّبْسِ، فلولا أنَّ الدليل دَلَّ على أن المراد اليدان اليمنيان لَما ساعَ ذلك، وهذا مستفيضٌ في لسانهم - أعني وقوعَ الجمعِ موقعَ التثنيةِ بشروطِه - قال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] . وَلْنذكر المسألةَ فنقول: كلُّ جزأين أضيفا إلى كُلَّيْهما لفظاً أو تقديراً وكانا مفردَيْنِ من صاحبيهما جازَ فيهما ثلاثةُ أوجهٍ: الأحسنُ الجمعُ، ويليه

الإِفرادُ عند بعضِهم، وليله التثنيةُ، وقال بعضُهم: الأحسنُ الجمعُ ثم التثينةُ ثم الإِفرادُ نحو: «قَطَعْتُ رؤوسَ الكبشين ورأسَ الكبشين ورأسَيْ الكبشين» ، قال: 172 - 6- ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ ... ظهراهُما مثلُ ظهورِ التُّرْسَيْنْ فقولي: «جزآن» تَحَرُّزٌ من الشين المنفصلين، لو قلت: قبضت دارهمكما «تعني: دِرْهميكما لم يَجُزْ لِلَّبْس، فلو أُمِنَ جاز كقوله: اضرباه باسيافِكما» «إلى مضاجعكما» وقولنا «أُضيفا» تحرُّزٌ من تفرُّقهما كقوله: {على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 78] ، وقولنا «لفظاً مثالُه: فإنَّ الإِضافةَ فيه لفظيةٌ. وقولُنا» أو تقديراً «نحو قوله: 172 - 7- رأيت بني البكري في حومة الوغى ... كاغِرَي الأفواهِ عند عَرِين فإنَّ تقديره: كفاغري أفواهما. وقولنا «مفردين» تحرزٌ من العينين ونحوهما: إنما اختير الجمع على التثنية وإن كانت الأصل لاستثقال توالي تثنيتين، وكان الجمعُ أولى من المفرد لمشاركةِ التثنيةِ في الضم، وبعده المفردُ لعدم الثقل، هذا عند بعضِهم قال: «لأنَّ التثنيةَ لم تَرِدْ إلا ضرورةً كقوله: 172 - 8- هما نَفَثا في فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِما ... على النابحِ العاوي أشدَّ رِجامِ

بخلافِ الإِفراد فإنه وَرَدَ في فصيحِ الكلامِ، ومنه:» مَسَح أذنيه ظاهرَهما وباطنَهما «. وقال بعضُهم:» الأَحسنُ الجمعُ ثم التثنيةُ ثم الإِفراد كقوله: 172 - 9- حمامةَ بطنِ الواديَيْن تَرَنَّمي ... سَقاكِ من الغُرَِّ الغوادِي مطيرُها وقال الزمخشري: «أيديهما: يديهما، ونحوه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] اكتفى بتثنيةِ المضاف إليه عن تثنيةِ المضاف، وأريد باليدين اليُمْنَيان، بدليلِ قراءة عبد الله:» والسارقون والسارقات فقطعوا أَيْمانهم «وردَّ عليه الشيخ بأنهما ليسا بشيئين، فإنَّ النوعَ الأول مطردٌ فيه وضعُ الجمعِ موضعَ التثينةِ، بخلافِ الثاني فإنه لا ينقاس، لأن المتبادَرَ إلى الذهن من قولك:» قَطَعْتُ آذانَ الزيدين: أربعة الآذان «وهذا الردُّ ليس بشيءٍ لأنَّ الدليلَ دَلَّ على أن المراد اليمنيان. قوله: {جَزَآءً} فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مقدر أي: جازوهما جزاءً. الثاني: أنه مصدر أيضاً لكنه منصوب على معنى نوع المصدر، لأنه قوله:» فاقطعوا «في قوة: جازُوهما بقطع الأيدي جزاء» الثالث: أنه منصوب على الحال، وهذه الحالُ يُحْتمل أن تكونَ من الفاعل أي: مُجازِين لهما بالقطع بسببِ كسبِهما، وأن تكونَ من المضافِ إليه في «أيديهما» أي: في حالِ كونها مجازَيْن، وجاز مجيءُ الحالِ من المضاف

إليه لأن المضاف جزؤه كقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] . الرابع: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجلِ الجزاءِ، وشروطُ النصبِ موجودةٌ. و «نَكالاً» منصوبٌ كما نُصِب «جزاء» ولم يذكر الزمخشري فيهما غيرَ المفعولِ من أجله. قال الشيخ: «تَبع في ذلك الزجاج» ثم قال: «وليس بجيدٍ، إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ فيكون ذلك طريق البدلِ، وأما إذا كان متباينين فلا يجوز ذلك إلى بوساطة حرف العطف» قلت: النكالُ نوعٌ من الجزاء فهو بدل منه، [على أن الذي ينبغي أن يُقال هنا إن «جزاء» مفعول من أجله، العاملُ فيه] «فاقطعوا» فالجزاءُ علةٌ للأمر بالقطع، و «نَكالاً» مفعول من أجله أيضاً، العاملُ فيه «جزاء» والنكال علة للجزاء، فتكون العلة معللةً بشيء آخرَ فتكونُ كالحال المتداخلة، كما تقول: «ضربته تأديباً له إحساناً إليه» فالتأديبُ علةٌ للضرب والإِحسان علة للتأديب، وكلامُ الزمخشري والزجاج قبله لا يُنافي ما ذكرته، فإِنه لا منافاة بين هذا وبين قولهما «جزاء» مفعولٌ من أجله، وكذلك «نكالاً» فتأمَّلْه، فإنه وجه حسن، فطاحَ الاعتراضُ على الزمخشري والزجاج، والتفصيلُ المذكورُ في قوله: «إلا إذا كان الجزاءُ هو النكال» ثم ظَفِرت بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له أن يَنْصِبَ مفعولاً له آخرَ [يكون علة] فيه، وذلك أنَّ المُعْرِبين أجازوا في قوله تعالى {أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً} [البقرة: 90] أن يكون «بغياً» مفعولاً له، ثم ذكروا في

قوله: «أَنْ يُنَزِّل الله» أنه مفعول له ناصبه «بغياً» فهو علةٌ له، صَرَّحوا بذلك فظهر ما قلت؟ و «بما» متعلق ب «جزاء» و «ما» يجوز أن تكون مصدرية أي: بكسبِهما، وأن تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ لاستكمال الشروطِ أي: بالذي كَسَباه، والباء سببية.

39

قوله تعالى: {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} : متعلق ب «تاب» و «ظلم» مصدرٌ مصافٌ إلى فاعله أي: من بعد أَنْ ظَلَمَ غيرَه بأخذِ ماله، وهذا واضحٌ، وأجاز بعضُهم أن يكونَ مضافاً للمفعول أي: من بعد أن ظلم نفسَه، وفي جوازِ هذا نظرٌ، إذ يصير التقديرُ: مِنْ بعد أن ظلمه، ولو صَرَّح بهذا الأصلِ لم يجز لأنه يؤدي إلى تعدِّي فعلِ المضمر إلى ضميره المتصل، وذلك لا يجوز إلا في باب ظن وفَقَدَ وعَدِم، كذك قاله الشيخ، وفي نظره نظر، لأنَّا إذا حَلَلْنا المصدرَ لحرف مصدري وفعل فإنما يَأتي بعد الفعل بما يَصِحُّ تقديرُه، وهو لفظُ النفسِ، أي من بعدِ أن ظلَم نفسَه.

41

قوله تعالى: {لاَ يَحْزُنكَ الذين} : قد تقدَّم أنَّ «يحزن» يُقرأ بفتحِ الياءِ وضَمِّها وأنهما لغتان، وهل هما بمعنًى أو بينهما فرقٌ؟ والنهيُ للذين في الظاهر وهو من بابِ قوله: «لا أُرَيَنَّكَ ههنا» أي: لا تتعاطَ أسباباً يحصُل لك بها حزنٌ من جهتهم، وتقدم لك تحقيق ذلك مراراً، وقول أبي البقاء في «يحزنك» : «والجيد فتح الياء وضم الزاي، ويُقرأ بضم الياء وكسر الزاي من أحزنني وهي لغة» ليس بجيد، لأنها قراءةٌ متواترةٌ، وقد تقدَّم

دليلها في آل عمران و «يُسارعون» من المسارعة، و «في الكفر» متعلق بالفعل قبله، وقد تقدَّم نظيرُها في آل عمران. قوله: {مِنَ الذين قالوا} يجوز أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل في «يُسارعون» أي: يُسارعون حالَ كونِهم / بعضَ الذين قالوا، ويجوز أن يكونَ حالاً من نفس الموصول وهو قريبٌ من معنى الأول، ويجوز أن تكونَ «مِنْ» بياناً لجنس الموصول الأول وكذلك «مِنْ» الثانية، فتكون تبييناً وتقسيماً للذين يُسارعون في الكفر، ويكون «سَمَّاعون» على هذا خبرَ مبتدأ محذوف. و «آمنَّا» منصوبٌ ب «قالوا» وب «أفواههم» متعلق ب «قالوا» لا ب «آمنًّا» بمعنى أنه لم يُجَاوِزْ قولُهم أفواهَهم، إنما نطقوا به غيرَ معتقدين له بقلوِبهم وقوله: {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} جملةٌ حالية. قوله: {وَمِنَ الذين هِادُواْ} فيه وجهان، أحدُهما: ما تقدم، وهو أن يكونَ معطوفاً على «من الذين قالوا» بياناً وتقسيماً. والثاني: ان يكونَ خبراً مقدماً، و «سَمَّاعون» مبتدأ والتقدير: «ومن الذين هادوا قومٌ سَمَّاعون» فتكونُ جملةً مستأنفة، إلا أنَّ الوجه الأول مُرَجَّح بقراءة الضحاك: «سَمَّاعين» على الذم بفعل محذوف، فهذا يدل على أن الكلامَ ليس جملةً مستقلة، بل قوله: {وَمِنَ الذين هِادُواْ} عطفٌ على «من الذين قالوا» . وقوله «سَمَّاعون» مثال مبالغة، و «للكذب» فيه وجهان، أحدُهما أن اللامَ زائدةٌ، و «الكذب» هو المفعول، أي: سَمَّاعون الكذب، وزيادةُ اللامِ هنا مطردةٌ لكونِ العاملِ فَرْعاً فَقَوِي باللام، ومثلُه: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] . والثاني: على بابها من التعليل، ويكون مفعول «سَمَّاعون» محذوفاً، أي: سَمَّاعون أخباركم وأحاديثم ليكذبوا فيها بالزيادةِ والنقصِ والتبديلِ بأَنْ يُرْجِفوا بقتل المؤمنين في السرايا كما

نُقِل من مخازيهم. وقوله: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ} يجوز ان تكون هذه تكريراً للأولى، فعلى هذا يجوز أَنْ يتعلَّقَ قولُه «لقوم» بنفس الكذب أي: يَسْمعون ليكذبوا لأجل قوم، ويجوزُ أن تتعلق اللام بنفس «سَمَّاعون» أي: سَمَّاعون لأجلِ قومٍ لم يأتوك لأنهم لبغضِهم لا يقربون مجلسَك وهم اليهودُ، و «لم يأتوك» في محلِّ جرٍّ لأنه صفة ل «قوم» . قوله: {يُحَرِّفُونَ} يجوز أن يكونَ صفةً ل «سَمَّاعون» أي: سَمَّاعون مُحَرِّفون، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «سَمَّاعون» ويجوز أن يكون مستأنفاً لا محل له، ويجوز أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف أي: هم مُحَرِّفون، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ جر صفة ل «قوم» أي: لقوم محرفين. و «من بعد مواضعِه» قد أتقنته في النساء و «يقولون» ك «يحرفون» ويجوز أن يكون حالاً من ضمير «يحرفون» . والجملة الشرطية من قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ} مفعولةٌ بالقول، و «هذا» مفعولٌ ثان لأوتيتم، والأول قائمٌ مقامَ الفاعل، والفاءُ جوابُ الشرطِ وهي واجبةٌ لعدم صلاحيةِ الجزاء لأن يكونَ شرطاً، وكذلك الجملةُ من قوله: {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} وقوله: {وَمَن يُرِدِ} «مَنْ» مفعول مقدم وهي شرطية. وقوله: {فَلَن تَمْلِكَ} جوابه، والفاء أيضاً واجبةٌ لما تقدم، و «شيئاً» مفعولٌ به أو مصدر. و «من الله» متعلقٌ ب «تملكَ» ، وقيل: هو حالٌ من «شيئاً» لأنه صفتُه في الأصل. قوله: {أولئك} مبتدأ، و {لَمْ يُرِدِ الله} جملة فعلية خبره.

42

وقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} : يجوز أَنْ يكونَ مكرراً للتوكيد إن كان من وصفِ المنافقين، وغيرَ مكرر إنْ كان مِنْ وصف بني إسرائيل، وإعرابُ مفرداته تقدَّم، ورفعُه على خبر ابتداء مضمر، أي: هم سَمَّاعون وكذلك أكَّالون. و «للسحتِ» في اللام الوجهان المذكوران في قوله: «للكذب» و «السَّحْتُ» الحرامُ، سُمِّي بذلك لأنه يُذْهِبُ البركة ويُمْحَقُها،

يقال: سَحَته الله وأسحته، أي: أهلكه وأذهبه، وقد قرئ قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُم} [طه: 61] بالوجهين من سحته وأَسْحته. وقال الفرزدق. 173 - 0- وعضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدَعْ ... من المالِ إى مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ وعن الفراء: «السُّحْتُ: كلبُ الجوع» وهو راجعٌ للهلكة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: «السُّحْت» بضم السين وسكون الحاء، والباقون بضمهما، وزيد بن علي وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون وقُرئ بفتحتين، فالضمتان اسم للشيء المسحوت، والضمة والسكون تخفيفُ هذا الأصل، والفتحتان والكسر والسكونُ اسمٌ له أيضاً، وأمَّا المفتوحُ السين الساكنُ الحاءِ فمصدرٌ أريد به اسمُ المفعول كالصيد بمعنى المصيد، ويجوز أن يكون تخفيفاً من المفتوح وهو ضعيف.

43

قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} : كقوله: {كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] وقد تقدَّم قولُه: {وَعِنْدَهُمُ التوراة} الواوُ للحالِ، و «التوراة» يجوز أن يكونَ متبدأً والظرفُ خبرُه، ويجوز أَنْ يكونَ الظرفُ حالاً و «التوراة» فاعلٌ به لاعتمادِه على ذي الحال، والجملةُ الاسميةُ أو الفعلية في محل نصب على الحال. وقوله: {فِيهَا حُكْمُ الله} «فيها» خبرٌ مقدم و «حكم» مبتداٌ أو فاعلٌ كما تقدَّم في «التوراة» والجملةُ حال من «التوراة» أو الجار وحده، و «حكم»

مصدرٌ مضافٌ لفاعله. وأجاز الزمخشري ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، بل هي مبيِّنة لأنَّ عندهم ما يُغْنيهم عن التحكيمِ، كما تقولُ: «عندكَ زيدٌ ينصحك ويُشير عليك بالصواب فما تصنعُ بغيرِه؟» وقوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} معطوفٌ على «يحكِّمونك» فهو في سياقِ التعجبِ المفهومِ من «كيف» .

44

قوله تعالى: {فِيهَا هُدًى} : يحتملُ الوَجْهين المذكورين في قوله: {وَعِنْدَهُمُ التوراة} ف «هُدَى» مبتدأٌ أو فاعلٌ، والجملةُ حالٌ من التوراة. وقوله: {يَحْكُمُ بِهَا} يجوز أن تكونَ جملةً متسأنفة، ويجوز أن تكون منصوبةً المحلِّ على الحال: إمَّا من الضميرِ في «فيها» وإمَّا من التوارة. وقوله: {الذين أَسْلَمُواْ} صفةٌ ل «النبيون» وصفهم بذلك على سبيل المدحِ والثناء لا على سبيلِ التفصيلِ فإنَّ الأنبياءَ كلَّهم مسلمون، وإنما أثنى عليهم بذلك كما تَجْري الأوصافُ على أسماءِ اللَّهِ تعالى. قال الزمخشري: «أُجْرِيَتْ على النبيين على سبيلِ المدحِ كالصفات الجاريةِ على القديم سبحانه لا للتفصلة والتوضيح، وأُريد بإجرائِها التعريضُ باليهود وأنهم بُعَداءُ من ملةِ الإِسلام الذي هو دينُ الأنبياء كلِّهم في القديم والحديث، فإنَّ اليهودَ/ بمعزل عنها، وقوله: {الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} منادٍ على ذلك» أي دليلٌ على ما ادِّعاه. قوله: {لِلَّذِينَ هَادُواْ} في هذه اللامِ ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُهما: أنها متعلقةٌ ب «يحكم» فعلى هذا معناها الاختصاصُ، وتشمل مَنْ يحكم له ومَنْ يحكم عليه، ولهذا ادَّعى بعضُهم أنَّ في الكلام حَذْفاً تقدره: «يحكم بها النبيون

للذين هادوا وعليهم» ذكره ابن عطية وغيره. والثاني: أنها متعلقةٌ بأنزلنا، أي: أنزلنا التوراةَ للذين هادُوا يحكمُ بها النبيون. والثالث: أنها متعلقةٌ بنفسِ «هُدى» أي: هدى ونور للذين هادوا، وهذا فيه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه، وعلى هذا الوجهِ يجوز ان يكون «للذين هادوا» صفةً ل «هدى ونور» أي: هدى ونور كائن للذين هادوا، وأولُ هذه الأقوالِ هو المقصودُ. قوله: {والربانيون} عطفٌ على «النبيون» أي: إنَّ الربانيين - وقد تقدَّم تفسيرُهم في آل عمران - يَحْكُمون أيضاً بمقتضى ما في التوراةِ. والأحبارُ: جمع «حَبرْ» بفتح الحاء وكسرها وهو العالم، وأنكر أبو الهيثم الكسر، والفراء والفتح، وأجاز أبو عبيد الوجهين، واختار الفتحَ، فأمَّا «الحِبْر» الذي يُكْتَبُ به فالبكسر فقط، وأصلُ المادةِ الدلالةُ على التحسين والمسرَّة، وسُمِّي ما يكتب به حِبراً لتحسينِ الخط، وقيل: لتأثيره، ويدلُّ للأول قولُه تعالى: {أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70] أي: تفرحون وتُزَيَّنون وقال أبو البقاء: «وقيل الربانيون [مرفوع] بفعل محذوف أي: ويحكم الربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا» انتهى. يعني أنه لَمَّا اختلف متعلَّقٌ الحكم غاير بين الفعلين أيضاً فإنَّ النبيين يحكمُون بالتوارة، والأحبارُ والربانيون يحكمون بما ساتحفظهم اللهُ، وهذا بعيدٌ عن الصواب؛ لأنَّ الذي استحفظهم الله هو مقتضى ما في التوراة، فالنبيون والربانيون حاكمون بشي واحد، على أنه سيأتي أنَّ الضميرَ في «استُحْفِظوا» عائدٌ على النبيين فَمَنْ بعدهم. قوله: {بِمَا استحفظوا} أجاز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنَّ «

بما» بدلٌ من قوله «بها» بإعادةِ العامل لطول الفصل، قال: «وهو جائزٌ وإنْ لم يَطُلْ» أي: يجوزُ إعادةُ العامل في البدل وإن لم يَطُلْ، قلت: وإنْ لم يُفْصَلْ أيضاً: الثاني: أن يكون متعلقاً بفعلٍ محذوفٍ، أي: ويحكم الربَّانيون بما استُحْفِظوا، كما قدمته عنه. والثالث: أنه مفعولٌ به أي: يَحْكُمون بالتوارةِ بسبب استحفاظهم ذلك، وهذا الوجهُ الأخير هو الذي نَحَا إليه الزمخشري فإنه قال: «بما استُحْفِظوا بما سألهم أنبياؤهم حِفْظَه من التوراة، أي: بسبب سؤالِ أنبيائِهم إياهم أَنْ يحفَظُوه من التبديلِ والتغيير» وهذا على أن الضميرَ يعودُ على الربانيين والأحبار دون النبيين، فإنه قَدَّر الفاعلَ المحذوف «النبيين» ، وأجازَ أن يعودَ الضميرُ في «استُحْفِظوا» على النبيين والربانيين والأحبار، وقَدَّر الفاعلَ المنوبَ عنه الباري تعالى أي: بما استحفظهم الله، يعني بما كلَّفهم حِفْظَه. وقوله: {مِن كِتَابِ الله} قال الزمخشري: «و» مِنْ «في» مِنْ كتاب الله «للتبين» يعني أنها لبيانِ الجنسِ المبهمِ في «بما» فإن «ما» يجوز أن تكونَ موصولةً اسمية بمعنى الذي والعائد محذوف أي: بما استحفظوه، وأن تكونَ مصدريةً أي: باستحفاظهم. وجَوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من أحدِ شيئين: إمَّا من «ما» الموصولةِ أو مِنْ عائدها المحذوفِ، وفيه نظرٌ من حيث المعنى. وقوله: «وكانوا» داخل في حَيِّز الصلة أي: وبكونِهم شهداءَ عليه أي: رُقَبَاء لئلا يُبَدِّل، ف «عليه» متعلقٌ ب «شهداء» والضميرُ في «عليه» يعودُ على «كتاب الله» وقيل: على الرسولِ، أي: شهداءَ على نبوتِه ورسالتِه، وقيل: على الحُكْم، والأولُ هو الظاهرُ.

45

قوله تعالى: {أَنَّ النفس بالنفس} : الآية. «عليهم»

الضمير للذين هادُوا، و «فيها» للتوراةِ و «أن النفس بالنفس» : «أن» واسمُا وخبرُها في محلِّ نصبٍ على المفعولية ب «كتبنا» والتقدير: وكتبنا عليهم أَخْذَ النفسِ بالنفس. وقرأ الكسائي و «العينُ» وما عطف عليها بالرفع، وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب الجميع، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر بالنصب فيما عدا «الجروح» فإنهم يرفعونها. فأما قراءة الكسائي فوجَّهَها أبو علي الفارسي بثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ الواوُ عاطفةً جملةً اسية على جملةٍ فعليةٍ فَتَعْطِفُ الجملَ كما تعطِفُ المفردات، يعني أنَّ قولَه: «والعين» مبتدأ، و «بالعين» خبره، وكذا ما بعدها والجملةُ الاسميةُ عطفٌ على الفعليةِ من قولِه: «وكتبنا» وعلى هذا فيكون ذلك ابتداءَ تشريع، وبيانَ حكمٍ جديد غير مندرجٍ فيما كتب في التورة، قالوا: وليست مشركة للجملة مع ما قبلها لا في اللفظ ولا في المعنى. وعَبَّر الزمخشري عن هذا الوجه بالاستئناف، قال: «أو للاستنئافِ، والمعنى: فَرَضْنا عليهم أنَّ النفسَ مأخوذةٌ بالنفسِ مقتولةٌ بها إذا قَتَلتْها بغيرِ حقٍّ، وكذلك العينُ مفقوءةٌ بالعينِ، والأنفُ مجدوعٌ بالأنف، والأذنُ مصلومةٌ أو مقطوعة بالأذن، والسنُّ مقلوعةٌ بالسن، والجروحُ قصاصٌ وهو المُقاصَّة» وتقديرُه: أنَّ النفسَ مأخوذةٌ بالنفس، سبقه إليه الفارسي، إلا أنه قَدَّر ذلك في جميعِ المجروراتِ، أي: والعينُ مأخوذةٌ بالعين إلى آخره، والذي قَدَّره الزمخشري مناسبٌ جداً، فإنه قَدَّر متعلَّق كلِّ مجرور بما يناسِبُه: فالفَقْءُ للعينِ، والقلعُ للسنِّ، والصَّلْمُ للأذن، والجَدْعُ للأنف. إلا أنَّ الشيخ كأنه غَضَّ منه حيث قَدَّر الخبرَ تعلَّق به المجرورُ كوناً مقيداً. والقاعدةُ في ذلك إنما يقدِّر كوناً مطلقاً، قال: «وقال الحوفي:» بالنفس «يتعلَّقُ بفعلٍ

محذوفٍ تقديرُه يجب أو يستقر، وكذا العينُ بالعينِ وما بعدها، فقدَّر الكونَ المطلقَ، والمعنى: يستقر قَتْلُها بقتل النفس» إلا أنه قال قبلَ ذلك: «وينبغي أَنْ يُحمل قولُ الزمخشري على تفسيرِ المعنى لا تفسيرِ الاعراب» ثم قال: «فقدَّر - يعني الزمخشري - ما يقرب من الكونِ المطلق وهو:» مأخوذٌ «فإذا قلت:» بعت الشياه شاةً بدرهم فالمعنى: مأخوذة بدرهم، وكذلك الحر بالحر أي: مأخوذ «. الوجه الثاني من توجيه الفارسي: أن تكونَ الواوُ عاطفةً جملةً اسمية على الجملة من قوله: {أَنَّ النفس بالنفس} لكنْ من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ، فإنَّ معنى» كَتَبْنا عليهم أنَّ النفس بالنفس «قلنا لهم النفس بالنفس، فالجملُ مندرجةٌ تحت الكَتْبِ من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ. وقال ابنُ عطية: «ويُحْتمل أن تكونَ الواوُ عاطفةً على المعنى، وذكر ما تقدم، ثم قال:» ومثلُه لَمَّا كان المعنى في قوله: {يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعين} يُمْنحون عَطَفَ «وحوراً عينا» عليه، فنظَّر هذه الآية بتلك لا شتراكِهما في النظرِ إلى المعنى دونَ اللفظِ وهو حسنٌ. قال الشيخ: «وهذا من العطف على التوهُّم، إذ توهَّم في قوله {أَنَّ النفس بالنفس} : النفسُ بالنفسِ / وضعَّفه بأن العطفَ على التوهُّمِ لا ينقاس. والزمخشري نحا إلى هذا المعنى، ولكنه عَبَّر بعبارةٍ آخرى فقال:» الرفع [للعطف] على محلِّ «أنَّ النفسَ» لأن المعنى: «وكتبنا عليهم النفسُ: إمَّا لإِجراء» كتبنا «» مُجْرى «قُلْنا، وإمَّا أن معنى الجملة التي هي» النفس بالنفس «مِمَّا يقع عليه الكَتْب كما تقع عليه القراءة

تقول: كَتَبْتُ: الحمدُ لله، وقرأت: سورةٌ أَنْزلناها، ولذلك قال الزجاج:» لو قُرئ إنَّ النفسَ بالنفسِ بالكسر لكانَ صحيحاً «قال الشيخ:» هذا هو [الوجهُ] الثاني من توجيه أبو عليّ، إلا أنه خَرَج عن المصطلح حيث جَعَله من العطفِ على المحلِّ وليس منه، لأنَّ العطف على المحل هو العطفُ على الموضعِ، وهو محصورٌ ليس هذا منه، ألا ترى أنَّا لا نقول: «أنَّ النفسَ بالنفس» في محلِّ رفعٍ لأنَ طالبَه مفقودٌ، بل «أن» وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ لفظُه وموضعُه نصبٌ، إذ التقديرُ: كَتَبْنا عليهم أَخْذَ النفسِ «قلت: والزمخشري لم يَعْنِ أنَّ» انَّ «وما في حَيِّزها في محل رفع فعطف عليها المرفوعَ حتى يُلْزِمَه الشيخُ بأنَّ لفظها ومحلَّها نصبٌ، إنما عَنَى أنَّ اسمَها محلُّه الرفعُ قبلَ دخولِها، فراعى العطفَ عليه كما راعاه في اسم» إنَّ «المكسورة. وهذا الردُّ ليس للشيخِ، بل سَبَقَه إليه أبو البقاء فأخذه منه. قال أبو البقاء:» ولا يجوز أن يكونَ معطوفاً على «أَنَّ» وما عملت فيه؛ لأنها وما عملت فيه في موضع نصب «انتهى. وليس بشيءٍ لما تقدم. قال الشيخ شهاب الدين أو شامة:» فمعنى الحديثِ: قُلْنا لهم: النفسُ بالنفسُ، فَحَمَل «العين بالعين» على هذا، لأنَّ «أنَّ» لو حُذِفت لاستقام المعنى بحذفِها كما اسقام بثبوتِها، وتكون «النفس» مرفوعةً فصارت «أنَّ» هنا ك «إنَّ» المكسورة في أنَّ حَذْفَها لا يُخِلُّ بالجملةِ، فجاز العطفُ على محل اسمِها كما يجوزُ على محلِّ اسم المكسورة، وقد حُمِل على ذلك: {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] قال الشيخ أبو عمرو - يعني أن الحاجب - ورسولُه بالرفع معطوف على اسم «انَّ» وإنْ كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة،

وهذا موضعٌ لم يُنَبِّه عليه النحويون «قلت: بلى قد نَبَّه النحويون على ذلك واختلفوا فيه، فجوَّزه بعضهم وهو الصحيحُ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد» علم «أو ما في معناه كقوله: 173 - 1- وإلا فاعلموا أنَّا وأنتمْ ... بُغاةٌ ما بَقِينا في شقاق وقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله} [التوبة: 3] الآية؛ لأنَّ الأذانَ بمعنى الإِعلام. الوجه الثالث: أنَّ «العين» عطفٌ على الضمير المرفوع المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً، إذ التقديرُ: أنَّ النفسَ بالنفس هي والعينُ، وكذا ما بعدها، والجارُّ والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبينةً للمعنى، إذ المرفوعُ هنا مروفوعٌ بالفاعلية لعطفِه على الفاعل المستتر، وضُعِّفَ هذا بأنّ هذه أحوالٌ لازمةٌ، والأصلُ أن تكون منتقلةً، وبأنه يلزَمُ العطفُ على الضميرِ المرفوع المتصلِ من غير فصلٍ بين المتعاطفينِ ولا تأكيدٍ ولا فصلٍ ب «لا» بعد حرف العطف كقوله: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلا ضرورةً، قال أبو البقاء: «وجاز العطفُ من غيرِ توكيدٍ كقوله: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] قلت: قام الفصلُ ب» لا «بين حرف العطف والمعطوف مقامَ التوكيدِ فليس نظيرَه. وللفارسي [بحثٌ في قوله: {ما أشركنا ولا آباؤنا} مع سيبويه، فإنَّ سيبويه يجعلُ طولَ الكلامِ ب» لا «عوضاً عن التوكيد بالمنفصل،

كما طال] الكلامُ في قولهم:» حضر القاضيَ اليومَ امرأةٌ «قال الفارسي:» هذا يستقيمُ إذا كان قبل حرف العطف، أما إذا وقع بعده فلا يَسُدُّ مسدَّ الضمير، ألا ترى أنك لو قلت: «حضر امرأة القاضي اليوم» لم يُغْنِ طولُ الكلامِ في غير الموضعِ الذي ينبغي أن يقع فيه «. قال ابنُ عطية:» وكلامُ سيبويهِ متجهٌ على النظرِ النحوي وإن كان الطول قبل حرفِ العطف أَتَمَّ، فإنه بعد حرفِ العطفِ مؤثِّرٌ لا سيما في هذه الآيةِ لأن «لا» رَبَطتِ المعنى، إذ قد تَقدَّمها نفيٌ ونَفَتْ هي أيضاً عن الآباءِ فيمكن العطفُ «. واختار أبو عبيد قراءةَ رفعِ الجميع، وهي روايةٌ الكسائي، لأن أَنَساً رواها قراءةً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورَوَى أنس عنه السلام أيضاً» أنْ النفسُ بالنفس «تبخفيف» أَنْ «ورفعِ النفس وفيها تأويلان، أحدهما: أَنْ تكونَ» أَنْ «مخففةً من الثقيلة واسمُها ضميرُ الأمر والشأن محذوفٌ، و» النفسُ بالنفس «مبتدأ وخبر، في محلِّ رفع خبراً ال» أَنْ «المخففة، كقوله: {أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] ، فيكون المعنى كمعنى المشددة. والثاني: أنها» أَنْ «المفسرةُ لأنها بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه وهو» كَتَبْنا «والتقديرُ: أي النفسُ بالنفس، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزَمُ من الأولِ وقوعُ المخففةِ بعد غيرِ العلمِ وهو قليل أو ممنوعٌ، وقد يُقال: إن» كتبنا «لَمَّا كان بمعنى» قضينا «قَرُبَ من أفعال اليقين. وأمَّا قراءةُ نافع ومَنْ معه فالنصبُ على اسم «أَنَّ» لفظاً وهي النفس والجارُّ بعدَه خبرُه، و «قصاصٌ» خبر «الجروح» أي: وأنَّ الجروحَ قصاص، وهذا من عطفِ الجملِ، عَطَفنا الاسمَ على الاسم والخبرَ على الخبر،

كقولك «إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً منطلق» عطفْتَ «عمراً» على «زيداً» و «منطلق» على «قائم» ويكون الكَتْبُ شاملاً للجميع، إلاَّ أنَّ في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكونَ «قصاص» خبراً على المنصوباتِ أجمعَ فإنه قال: «وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصبِ ذلك كلِّه، و» قصاص «خبرُ أَنَّ» وهذا وإنْ كان يَصْدُقُ أنَّ أَخْذَ النفسِ بالنفسِ والعينَ بالعينِ قصاص، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصاً بالجروح، وهو محلُّ نظر. وأمَّا قراءة أبي عمرو ومَنْ معه فالمنصوبُ كما تقدَّم في قراءة نافع، لكنهم لم يَنْصِبُوا «الجروح» قطعاً له عَمَّا قبله، وفيه أربعة أوجه: الثلاثة المذكورة في توجيهِ قراءة الكسائي، وقد تقدَّم إيضاحُه. والرابع: أنه مبتدأ وخبره «قصاص» يعني أنه ابتداءُ تشريعٍ، وتعريفُ حكمٍ جديد، قال أبو عليّ «فأمَّا والجروحُ قصاص: فمن رفعه يَقْطَعْه عما قبله، فإنه يحتمل هذه الأوجهَ الثلاثةَ التي ذكرناها في قراءة مَنْ رفع» والعينُ بالعين «ويجوز أن يُستأنف:» والجروحُ قصاص «ليس على أنه مما كُتِب عليهم في التوراة، ولكنه على الاستئناف وابتداءِ تشريع» انتهى. إلا أنَّ أبا شامة قال: قبل أن يَحْكي عن الفارسي هذ الكلامَ - «ولا يستقيم في رفع الجروح الوجهُ الثالث وهو أنه عطفٌ على الضمير الذي في خبر» النفس «وإنْ جاز فيما قبلها، وسببُه استقامةُ المعنى في قولك: مأخوذةٌ هي بالنفس، والعينُ هي مأخوذة بالعين، ولا يَسْتقيم: والجروحُ مأخوذةٌ قصاص، وهذا معنى قولي» لَمَّا خلا قولُه «الجروح قصاص» عن الباءِ في الخبر خالَف الأسماءَ التي قبلها فخولِفَ

بينهما في الاعراب «قلت: وهذا الذي قاله واضح، ولم يتنبَّه لم كثيرٌ من المُعْرِبين. وقال بعضُهم:» إنما رُفِع «الجروح» ولم يُنْصَبْ تَبَعاً لِما قبله فرقاً بين المجملِ والمفسرِ «يعني أنَّ قَولَه» النفس بالنفس والعينَ بالعين «مفسَّرٌ غيرُ مجملٍ، بخلاف» الجروح «فإنها مجملةٌ؛ إذ ليس كلُّ جرح يَجْرَي فيه قصاصٌ: بل ما كان يُعْرَفُ فيه المساواةُ وأمكن ذلك فيه، على تفصيل معروف في كتب الفقه. وقال بعضُهم: خُولِف في الإِعراب لاختلافِ الجراحات وتفاوتِها، فإذن الاختلافُ في ذلك كالخلاف المشارِ إليه، وهذان الوجهان لا معنى لهما، ولا ملازمةَ بين مخالفة الإِعراب ومخالفةِ الأحكامِ المشار إليها بوجهٍ من الوجوهِ، وإنما ذَكَرْتُها تنبيهاً على ضَعْفِها. وقرأ نافع: «والأذْن بالأذْن» سواء كان مفرداً أم مثنى كقوله: {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} [لقمان: 7] بسكون الذال وهو تخفيفٌ للمضوم كعُنْق في «عُنُق» والباقون بضمِّها، وهوا لأصل، ولا بد من حذف مضاف في قوله: {والجروح قِصَاصٌ} : إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني، وسواءً قُرئ برفعه أو بنصبِه تقديرُه: وحكمُ الجروحِ قصاصٌ، أو: والجروحُ ذاتُ قصاص. والقِصاص: المُقاصَّةُ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة وقرأ أُبي بنصب «النفس» والأربعة بعدها و «أنِ الجروحُ» بزيادة «أن» الخفيفة، ورفع «الجروحُ، وعلى هذه القراءة يتعيِّن أَنْ تكونَ المخففةَ، ولا يجوز أن تكونَ المفسرةَ، بخلافِ ما تقدَّم من قراءةِ أنس عنه عليه السلام بتخفيف» أن «ورفعِ»

النفس «حيث جَوَّزْنا فيها الوجهين، وذلك / لأنه لو قَدَّرْتها التفسيريةَ وجَعَلْتَها معطوفةً على ما قبلَها فَسَدَ من حيث إنَّ» كتبنا «يقتضي أَنْ يكونَ عاملاً لأجل» أنَّ «المشددة غيرُ عامل لأجل» أَنْ «التفسيرية، فإذا انتفى تسلُّطُه عليها انتفى تشريكُها مع ما قبلها، لأنه إذا لم يكن عملٌ فلا تشريكٌ، فإذا جعلتها المخففةَ تسلَّط عملُه فاقتضى العملُ التشريكَ في انصبابِ معنى الكَتْب عليهما. وقرأ أبيّ:» فهو كفارتُه له «أي: التصدُّق كفارةٌ، يعني الكفارة التي يستحفها له لا ينقصُ منها، وهو تعظيمٌ لِما فَعَلَ كقوله: {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40] . قوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} أي: بالقصاصِ المتعلِّق بالنفس أو بالعين أو بما بعدَها، فهو أي: فذلك التصدقُ عاد الضمير على المصدر لدلالة فعلِه عليه، وهو كقوله تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] . والضميرُ في» له «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وهو الظاهر -: أنه يعود على المتصدِّق والمرادُ به مَنْ يستحِقُّ القِصاصَ مِنْ مصابٍ أو وليّ، أي: فالتصدقُ كفارةٌ لذلك المتصدِّق بحقه، وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من الصحابة فمَنْ بعدَهم. والثاني: أنَّ الضميرَ يُراد به الجاني، والمراد بالمتصدِّق كما تقدم مستحقُ القصاص، والمعنى: انه إذا تصدَّق المستِحقُّ على الجاني كان ذلك التصدُّقُ كفارةً للجاني حيث لم يُؤَاخَذْ به. قال الزمخشري:» وقيل: فهو كفارةٌ له أي: للجاني إذا تجاوز عنه صاحبُ الحق سَقَط عنه ما لَزِمه «وإلى هذا ذهب ابن عباس في آخرين. والثالث: أن الضميرَ يعودُ على المتصدِّق أيضاً، لكن المرادَ به الجاني نفسه، ومعنى كونِه متصدِّقاً أنه إذا جنى جنايةً ولم يَعْرِفْ به أحدٌ فَعَرَّف هو بنفسه كان ذلك الاعترافُ بمنزلةِ التصدُّق الماحي لذنبِه وجنايِته، قاله

مجاهد، ويُحْكى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه فلم يَعْرف الرجلُ مَنْ أصابه، فقال له عروة:» أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير، فإنْ كان يعنيك شيءٌ فيها أنا ذا «، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون» تصدَّق «من الصدَقة وأن يكون من الصِدْق. قلت: الأول واضح، والثاني معناه أنه يتَكَلَّفُ الصدق، لأن ذلك مما يَشُقُّ. وقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم} يجوزُ في «مَنْ» أن تكونَ شرطيةٌ، وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، والفاءُ في الخبر زائدةٌ لشبهِه بالشرط. و «هم» في قوله: {هُمُ الكافرون} ونظائرهُ فصلٌ أو مبتدأٌ، وكلُّه ظاهرٌ مِمَّا تقدَّم في نظائره.

46

قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى} : قد تقدَّم معنى «قَفَّينا» وأنه من قفا يقفو أي: تبع قفاه في البقرة. وقوله: {على آثَارِهِم بِعَيسَى} كِلا الجارَّيْن متعلقٌ به على تضمينِه معنى «جئْنا به على آثارهم قافياً لهم» وتقدَّم أيضاً أن التضعيفَ فيه ليس للتعديةِ لعلة ذُكِرت هناك. وإيضاحُها أنَّ «قَفا» متعدٍ لواحدٍ قبلَ التضعيفُ، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإِسراء: 36] ف «ما» موصولةٌ بمعنى الذي هي مفعول، وتقول العربُ: «قَفا فلانٌ أثرَ فلانٍ» أي: تَبِعه، فلو كان التضعيف للتعدِّي لتَعَدَّى إلى اثنين، فكان التركيبُ يكون: «ثم قَفَّيْنا هم عيسى بن مريم» ف «هم» مفعول ثاني و «عيسى» أول، ولكنه ضُمِّن كما تقدم، فلذلك تعدَّى بالباء و «على» . قال الزمخشري: «قَفْيْتُه» مثل: عَقَّبْتُه إذا أتبعته، ثم يقال: «قَفَّيْتُه بفلان» مثل: عَقَّبْتُه به، فتعدِّيه إلى الثاني بزيادةِ الباء. فإنْ قلت: أين المفعولُ الأول؟ قلت: هو محذوفٌ

والظرفُ الذي «على آثارهم» كالسادِّ مسدِّه، لأنه إذا قَفَّى به على اثرِه فقد قَفَّى به إياه «فكلامُه هنا ينحو إلى أنَّ» قَفَّيه «مضعفاً كقفوتُه ثلاثياً ثم عَدَّاه بالباء، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث إنَّ فَعًّل قد جاء بمعنى فَعَل المجرد كقَدَّر وقَدَر، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعديةَ المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلىثاني بالباء، لا تقول في» طعم زيد اللحمَ «:» أطعمتُ زيداً باللحم «ولكنَّ الصوابَ أنه قليل غيرُ ممتنعٍ، جاءت منه ألفاظٌ قالوا:» صَكَّ الحجُر الحجرَ «ثم يقولون: صككتُ الحجرَ بالحجرِ، و» دفع زيدٌ عمراً «ثم: دَفَعْتُ زيداً بعمرو، أي: جعلتُه دافعاً له، فكلامُه: إما ممتنع أو محمولٌ على القليل، وقد أشَرْتُ إلى منعِ أدِّعاء حذفِ المفعول من نحو: {َقَفَّيْنَا} [الآية: 87] في البقرة فليُطلب ثَمَّة. وناقشَه الشيخ في قوله:» فقد قَفَّى به إياه «من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل، فيقول:» قَفَّيْتُه به «قال:» ولو قلت: زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه «لم يجز إلا في ضرورة شعر، بل ضربتُه بسوط» وهذا ليس بشيء، لأن ذلك من باب قوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] وقد تقدَّم تحقيقه. والضمير في «آثارهم» إمَّا للنبيين لقولِه: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} ، وإمَّا لِمَنْ كُتبت عليهم تلك الأحكام، والأول أظهر لقوله في موضع آخر: {بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [الحديد: 27] و «مصدقاً» حال من «عيسى» قال ابن

عطية «وهي حالٌ مؤكدة» وكذلك قال في «مصدقاً» الثانية، وهو ظاهرٌ فإنَّ مِنْ لازم الرَّسول والإِنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدِّقَيْن. و «لِما» متعلق به، وقوله: {مِنَ التوراة} حال: إمَّا من الموصول وهو «ما» المجرورةُ باللام، وإمَّا من الضمير المستكنِّ في الظرف لوقوعِه صلةً، ويجوز ان تكونَ لبيانِ جنس الموصول. قوله: {وَآتَيْنَاهُ} يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ عطفاً على قوله: {وَقَفَّيْنَا} فلا يكونُ لها محلُّ، كما أنا المعطوف عليه لا محلَّ له، ويجوز أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ عطفاً على «مصدقاً» الأول إذا جُعل «مصدقاً» الثاني حالاً مِنْ «عيسى» أيضاً كما سيأتي، ويجوز ان تكون الجملةُ حالاً وإنْ لم يكن «مصدقاً» الثاني حالاً من «عيسى» . وقوله: {فِيهِ هُدًى} يجوزُ أَنْ يكونَ «فيه» وحدَه حالاً من الإِنجيل «، و» هُدى «فاعل به، لأنه لَمَّا اعتمد على ذي الحال رَفَعَ الفاعل، ويجوز أن يكون» فيه «خبراً مقدماً، و» هدى «مبتدأ مؤخرٌ والجملةُ حال،» ومصدقاً «حالٌ عطفاً على محل» فيه هدى «بالاعتبارين: أعني اعتبار أنيكون» فيه «وحدَه هو الحالَ فعطفْتَ هذه الحال عليه، وأن يكون» فيه هدى «جملةً اسميةً محلُّها النصب، و» مصدقاً «عَطْفٌ على محلها، وإلى هذا ذهب ابن عطية، إلا أنَّ هذا مرجوحٌ من وجهين، أحدهما: أنَّ أصلَ الحال أن تكونَ مفردةً والجارُّ أقربُ إلى المفرد من الجمل. الثاني: أنَّ الجملةَ الاسمية والقعة حالاً الأكثرُ أَنْ تأتيَ فيها بالواوِ وإنْ كان فيها ضميرٌ، حتى زعم / الفراء - وتَبِعه الزمخشري - أنَّ ذلك لا يجوز إلا شاذاً وكونُ» مصدقاً «هذا حالاً مِنَ» الإِنجيل «هو الظاهرُ وأجاز

مكي بن أبي طالب - وتبعه أبو البقاء - أن يكون» مصدقاً «الثاني حالاً أيضاً من» عيسى «كُرِّر توكيداً. قال ابن عطية:» وهذا فيه قلقٌ من جهة اتِّساق المعاني «قلت: إذا جعلنا» وآتيناه «حالاً منه، وعَطَفْنا عليها هذه الحالَ الأخرى فلا أدري وجهَ القلق من الحيثية المذكورة؟ وقوله: {وَهُدًى} الجمهورُ على النصب وهو على الحال: إمَّا من الإِنجيل، عطفْتَ هذه الحال على ما قبلها، وإمَّا من» عيسى «أي: ذا هدى وموعظة أو هادياً، أو جُعِل نفسُ الهدى مبالغة. وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعول من أجله، وجعل العاملَ فيه قولَه تعالى: {آتيناه} قال:» وأَنْ نتصِبا مفعولاً لهما لقوله: {وليحكمَ} كأنه قيل: وللهدى وللموعظةِ آتنياه الإِنجيل وللحكم. وجَوَّز أبو البقاء وغيرُه أن يكونَ العاملُ فيه: «قَفَّينا» أي: فقينا للهدى والموعظة، وينبغي إذا جُعِلا مفعولاً من أجله أَنْ يُقَدَّر إسنادها إلى الله تعالى لا إلى الإِنجيل ليصِحَّ النصبُ، فإنَّ شرطَه اتحادُ المفعول له مع عاملِه فاعلاً وزماناً، ولذلك لَمَّا اختلف الفاعلُ في قوله: «وليحكم أهل الإِنجيل» عُدِّي إليه باللام، ولأنه خالفَة أيضاً في الزمان، فإنَّ زمنَ الحكم مستقبلٌ وزمنَ الأنبياءِ ماضٍ، بخلاف الهداية والموعظة فإنهما مقارنان في الزمان للإِيتاء. و «للمتقين» يجوز أن يكونَ صفة ل «موعظة» ويجوز ان تكونَ اللامُ زائدةً مقويةً، و «المتقين» مفعول «ب» موعظة، ولم تمنع تاءُ التأنيث من عمله لأنه مبنيٌّ عليها كقوله: 173 - 2-. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ورهبةٌ ... عقابَك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم الكلام على «الإِنجيل» واشتقاقُه وقراءةُ الحسن فيه بما أغنى عن إعادته. وقرأ الضحاك بن مزاحم: «وهدى وموعظة» بالرفع، ووجهُها أنها خبرُ ابتداء مضمر أي: وهو هدى وموعظة.

47

قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ} : قرأ الجمهورُ بسكونِ اللامِ وجزمِ الفعل بعدها على أنها لامُ الأمر سُكِّنَتْ تشبيهاً ب «كَتْف» وإن كان أصلها الكسرَ، وقد قرأ بعضُهم بهذا الأصلِ. وقرأ حمزة - رحمه الله - بكسرِها ونصبِ الفعل بعدها، جعلها لامَ كي، فنصبَ الفعلَ بعدها بإضمار «أن» على ما تقرر غيرَ مرة، فعلى قراءة الجمهور والشاذ تكونُ جملةً مستأنفة، وعلى قراءة حمزة يجوز أن تتعلق اللام ب «آتينا» أو ب «قَفَّيْنا» إن جعلنا «هدى وموعظة» مفعولاً لهما أي: قَفَّيْنا للهدى والموعظة وللحكم، أو آتيناه الهدى والموعظةَ والحكم، وإنْ جعلناهما حالين معطوفين على «مصدقاً» تعلَّق «وليحكم» في قراءته بمحذوف دلَّ عليه اللفظ كأنه قيل: وللحكمِ آيتناه ذلك. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: فإنْ نَظَّمْتَ» هدى وموعظة «في سِلْك» مصدقاً «فما تصنعُ بقوله:» وليحكم «؟ قلت: أصنعُ به ما صنعت ب» هدى وموعظة «حيث جعلتُهما مفعولاً لهما فأقدِّر:» وليحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه «وقال ابن عطية قريباً من الوجه الأول - أعني كون» وليحكم «

مفعولاً له عطفاً على» هدى «والعاملُ» آتيناه «الملفوظُ به - فإنه قال:» وآيتناه الإِنجيل ليتضمِّن الهدى والنورَ والتصديق وليحكم أهل الإِنجيل «قال الشيخ:» فعطفَ «وليحكم» على توهُّم علةٍ، ولذلك قال: «ليتضمن» وذكر الشيخُ قولَ الزمخشري السابقَ، وجعله أقربَ إلى الصواب من قول ابن عطية، قال: «لأنَّ الهدى الأول والنور والتصديق لم يؤتَ بها على أنها علةٌ، إنما جيء بقوله {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً، وهذا معنى الحال، والحالُ لا تكونُ علةً، فقوله:» ليتضمَّن كيتَ وكيت وليحكم «بعيدٌ. وقد خُتِمت الآيةُ الأولى ب» الكافرون «والثانية ب» الظالمون «والثالثة ب» الفاسقون «لمناسباتٍ ذكرَها الناس، وأحسنُ ما قيل فيها ما ذكره الشعبي من أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، وذلك أنَّ قبل الأولى» فإنْ جاؤوك فاحكُمْ «وكيف» يُحَكِّمونك «ويَحْكُم بها النبيون» وقبل الثانية: «وكَتَبْنا عليهم» وهم اليهود، وقبل الثالثة: «وليحكم أهل الإِنجيل» وهم النصارى، فكأنه خصَّ كلَّ واحدة بما يليه. وقرأ أُبيّ: «وأن ليحكم» بزيادة «أن» ، وليس موضعَ زيادتِها.

48

قوله تعالى: {بالحق} : الباء يجوزُ أن تكونَ للحال من «الكتاب» أي: ملتبساً بالحق والصدق، وهي حالٌ مؤكدة، ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل أي: مصاحبِين للحق، أو حالاً من الكاف في «إليك» أي: وأنت ملتبسٌ بالحق. و «من الكتاب» تقدَّم نظيرُه. و «أل» في الكتاب الأول للعهدِ وهو القرآنُ بلا خلافٍ، وفي الثاني: يُحْتمل أن تكونَ للجنس، إذ المرادُ الكتبُ السماوية. وجَوَّز الشيخ أن تكونَ للعهد؛ إذ المراد نوعٌ

معلومٌ من الكتاب، لا كلُّ ما يقع عليه هذا الاسمُ، والفرق بين الوجهين أنَّ الأولَ يحتاج إلى حذف صفة أي: الكتاب الإِلهي، وفي الثاني لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ العهدَ في الاسم يتضَّمنه بجميعِ صفاته. قوله: {وَمُهَيْمِناً} الجمهورُ على كسر الميم الثانية، اسمَ فاعل وهو حال من «الكتاب» الأول لعطفِه على الحال منه وهي «مصدقاً» ، ويجوز في «مصدقاً» و «مهيمناً» أن يكونا حالين من كافِ «إليك» وسيأتي تحقيقُ ذلك عند ذِكْرِ قراءةِ مجاهد رحمه الله. و «عليه» متعلق «بمهيمِن» والمهيمِن: الرقيب: قال: 173 - 3- إنَّ الكتابَ مهيمِنٌ لنبيِّنا ... والحقُّ يعرِفُه ذَوُو الأَلْبابِ والحافظ أيضاً، قال: 173 - 4- مليكٌ على عرشِ السماء مهيمِنٌ ... لعزته تَعْنُو الوجوهُ وتَسْجُدُ وهو الشاهد أيضاً. واختلفوا فيه: هل هو أصلٌ بنفسه أي: ليس مبدلاً من شيء، يقال: هَيْمَن يُهَيْمن فهو مُهَيْمِن، كبَيْطَر يُبَيْطِر فهو مُبَيْطر قال أبو عبيدة: «لم يَجِيءْ في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعةُ ألفاظ:» مبيطِر ومُسَيْطر ومُهَيْمِن ومُحَيْمِر «وزاد أبو القاسم الزجاجي في شَرْحه

لخطبة» أدب الكاتب «لفظاً خامساً وهو:» مُبَيْقِر، اسمَ فاعل مِنْ بَيْقَر يُبَيْقِرُ أي خَرَج من أفق إلى أفق، أو البُقَّيْرى وهي لعبةٌ معروفة للصبيان، وقيل: إنَّ هاء مبدلة من همزة وأنه اسمُ فاعل من آمنَ غيرَه من الخوفِ، والأصلُ: «مُأَأْمِن» بهمزتين / أُبْدِلت الثانيةُ ياءً كراهيةَ اجتماعِ همزتين ثم أُبْدلت الأولى هاءً ك هراق وهَراح وهَبَرْتُ الثوب في: أراق وأراح وأَبَرْت الثوب، وهذا ضعيفٌ أو فيه تكلفٌ لا حاجةَ إليه، مع أنَّ له أبنيةً يمكنُ إلحاقه بها كمُبَيْطِر وإخوانِه، وأيضاً فإن همزة «مُأَأْمِن» اسمَ فاعل من «آمن» قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أُثْبِتَتْ ثم أُبْدِلَت هاءً، هذا ما لا نظير له. وقد سقطَ ابنُ قتيبة سقطةً فاحشة حيث زعم أن «مُهَيْمِناً» مصغرٌ، وأن أصله «مُؤَيْمِن» تصغيرُ «مُؤْمن» اسمَ فاعل، ثم قُلبت همزتُه هاء كهَراق، ويُعْزى ذلك لأبي العباس المبرد أيضاً. إلاَّ أنَّ الزجاج قال: «وهذا حسنٌ على طريقِ العربية، وهو موافقٌ لِما جاء في التفسير من أنَّ معنى مُهَيْمن: مُؤْمن» وهذا الذي قال الزجاج [واستحسنه أنكره الناسُ عليه وعلى المبرد ومَنْ تَبِعَهما] ، ولما بلغ أبا العباس ثعلباً هذا القولُ أنكره أشدَّ إنكار وأنحى على ابن قتيبة وكتب إليه: أَنِ اتقِ الله فإن هذا كفرٌ أوما أشبهه، لأن أسماء الله تعالى لا تُصَغَّر وكذلك كل اسمٍ معظَّم شرعاً. وقال ابن عطية: «إن النقاش حَكَى أنَّ ذلك لَمَّا بلغ ثعلباً فقال: إنَّ ما قاله ابنُ قتيبة رديءٌ باطل، والوثوبُ على القرآن شديد، وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف، وإنما جمع الكتب من هَوَسٍ غلبه» [وقال أبو البقاء: «وأصل مُهَيْمن: مُؤْيْمِن لأنه مشتق من

الأمانة لأن المهيمنَ الشاهدُ، وليس في الكلام» هَيْمن «حتى تكون الهاء أصلاً» وهذا الذي قاله لي بشيء لِما تقدم من حكايةِ أهلا للغة هَيْمَن] وغايةُ ما في الباب أنهم لم يَسْتعملوه إلا مزيداً فيه الياءُ كبَيْطر وبابِه. وقرأ ابن محيصن ومجاهد: «ومُهَيْمَنا» بفتح الميم الثانية على أنه اسمُ معفولٍ بمعنى أنه حوفظ عليه من التبديل والتغيير، والفاعل هو الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أو لحافظ له في كل بلد، حتى إنه إذا غُيِرت منه الحركةُ تنبَّه لها الناسُ ورَدُّوا على قارئِها بالصواب، والضمير في «عليه» على هذه القراءة عائد على الكتاب الأول، وعلى القراءةِ المشهورة عائد على الكتاب الثاني. وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال: «معناه: محمد مُؤْتَمَنٌ على القرآن» قال الطبري: «فعلى هذا يكون» مهيمناً «حالاً من الكاف في» إليك «وطَعَن على هذا القول لوجود الواو في» ومهيمنا «لأنها عطف على» مصدقاً «و» مصدقاً «حال من الكتاب لا حال من الكاف؛ إذ لو كان حالاً منها لكان التركيب:» لما بين يديك «بالكاف. قال الشيخ:» وتأويلُه على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيدٌ عن نظم القرآن، وتقديره: «وجعلناك يا محمد مهيمناً» أبعدُ «يعني أن هذين التأويلين يصلحان أن يكونا جوابين عن قول مجاهد، لكن الأول بعيدٌ والثاني

أبعدُ منه. وقال ابن عطية هنا بعد أن حكى قراءةَ مجاهد وتفسيرَه محمداً عليه السلام أنه أمين على القرآن:» قال الطبري: وقولُه ومهيمناً على هذا حالٌ من الكاف في قوله «إليك» قال: وهذا تأويلٌ بعيدٌ من المفهوم «قال:» وغَلِط الطبري في هذه اللفظةِ على مجاهد، فإنه فَسَّر تأويلَه على قراءة الناس: «مهيمناً» بكسر الميم الثانية فَبَعُدَ التأويل، ومجاهد - رحمة الله - إنما يقرأ هو وابن محيصن: «ومهيمَنا» بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول، وهو حالٌ من الكتاب معطوف على قوله: «مصدقاً» وعلى هذا يتجه أنَّ المؤتَمَنَ عليه هو محمد عليه السلام. قال: و «كذلك مشى مكي رحمه الله» قلت: وما قاله أبو محمد ليس فيه ما يَرُدُّ على الطبري، فإنَّ الطبري استشكل كونَ «مهيمنا» حالاً من الكاف على قراءة مجاهد، وأيضاً فقد قال ابن عطية بعد ذلك: «ويحتمل أن يكون» مصدقاً ومهيمناً «حالَيْن من الكاف في» إليك «، ولا يَخُصُّ ذلك قراءةَ مجاهد وحده كما زعم مكي، فالناس إنما استشكلوا كونَهما حالين من كاف» إليك «لقلق التركيب، وقد تقدَّم ما فيه وما نقله الشيخُ من التأويلين، وقوله:» لا يخص ذلك «كلامٌ صحيح، وإنْ كان مكي التزمه وهو الظاهر. و» عليه «في موضع رفع على قراءة ابن محيصن ومجاهد لقيامِه مقامَ الفاعل، كذا قال ابن عَطية، قلت: هذا إذا جعلنا» مهيمناً «حالاً من الكتاب، أمَّا إذا جعلناه حالاً من كاف» إليك «فيكونُ القائمُ مقامَ الفاعلِ ضميراً مستتراً يعودُ على النبي عليه السلامِ، فيكون» عليه «أيضاً في محلِّ نصبٍ كما لو قُرِئ به اسمَ فاعل. قوله: {عَمَّا جَآءَكَ} فيه وجهان، أحدهما: -

وبه قال أبو البقاء - أنه حال أي: عادلاً عما جاءك، هذا فيه نظرٌ من حيث إنَّ» عن «حرفُ جر ناقص لا يقع خبراً عن الجثة، فكذا لا يقع حالاً عنها، وحرفُ الجر الناقص إنما يتعلق بكون مطلق لا بكونٍ مقيدٍ، لكنَّ المقيدَ لا يجوز حَذْفُه. والثاني: أنَّ» عَنْ «على بابها من المجاوزة، لكن بتضمين» تَتَّبعْ «معنى» تتزَحْزَحْ وتنحرف «أي: لا تحرف متبعاً. قوله: {مِنَ الحق} فيه أيضاً وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في» جاءك «والثاني: أنه حالٌ من نفس» ما «الموصولة، فيتعلق بمحذوفٍ، ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ. قوله:» لكل «» كل «مضافة لشيء محذوف، وذلك المحذوفُ يُحتمل أن يكونَ لفظة» أمة «أي: لكل أمة، ويراد بهم جميعُ الناس من المسلمين واليهود والنصارى، ويحتمل أن يكونَ ذلك المحذوفُ» الأنبياء «أي: لكل الأنبياء المقدَّمِ ذكرُهم. و» جَعَلْنا «يُحتمل أن تكونَ متعديةً لاثنين بمعنى صَيَّرْنا، فيكون» لكل «مفعولاً مقدماً، و» شِرْعة «مفعولٌ ثان. وقوله: {منكم} متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: أعني منكم، ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ ل» كل «لوجهين، أحدُهما: أنه يلزمُ منه الفصلُ بين الصفة والموصوف بقوله» جَعَلْنا «وهي جملةٌ أجنبية ليس فيها تأكيدٌ ولا تسديدٌ، وما شأنه كذلك لا يجوز الفصلُ به. والثاني: أنه يلزم منه الفصلُ بين «جَعَلْنا» وبين معمولِها وهو «شِرْعةً» قاله أبو البقاء وفيه نظر، فإن العامل في «لكل» غيرُ أجنبي، ويدل على ذلك قوله: {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ} [الأنعام: 14] ففصل بين الجلالة وصفتِها بالعمل في المفعول الأول، وهذا نظيره. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: «شَرْعة» بفتح الشين، كأن المكسور

للهيئة والمفتوح مصدر. والشِرْعة في الأصل: السُّنَّةُ، ومنه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين} [الشورى: 13] أي: سَنَّ والشارع: الطريق، وهو من الشريعةِ التي هي في الأصل الطريقُ المُوصِلُ إلى الماء، ومنه قوله: 173 - 5- وفي الشرائعِ منْ جِلاَّنَ مُقْتَنِصٌ ... بالي الثيابِ خَفيُّ الصوتِ مُنْزَرِبُ والمِنْهاج: مشتق من الطريق النَّهْج وهو الواضح، ومنه قولُه 173 - 6- مَنْ يَكُ ذا شَكٍّ فهذا فَلْجُ ... ماءٌ رُواءٌ وطريقٌ نَهْجُ أي: واضحٌ، يُقال: طريق مَنْهَجٌ ونَهْجٌ. وقال ابن عطية: «مِنْهاج مثالُ مبالغةٍ من نَهَج» يعني نحو قولهم: «إنه لمِنْحار بوائكَها» / وهو حسن، وهل الشرعةُ والمنهاجُ بمعنى، كقوله: 173 - 7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وهند أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ

[وكقوله:] 173 - 8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا أو مختلفان؟ فالشِّرْعة ابتداءُ الطريق، والمِنْهاج الطريق المستمر، قاله المبرد، أو الشِرْعَةُ الطريقُ واضحاً كان أو غيرَ واضح، والمنهاج الطريق الواضح فقط، فالأول أعمُّ، قاله ابن الأنباري، أو الدين والدليل؟ خلاف مشهور. قوله: {ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ} متعلقٌ بمحذوف فقدَّره أبو البقاء «ولكنْ فَرَّقكم ليبلوكَم» وقدَّره غيرُه: «ولكن لم يَشَأْ جَعْلَكم أمةً واحدة» وهذا أحسنُ لدلالة اللفظ والمعنى عليه. و «جميعاً» حال من «كم» في «مرجعكم» ، والعاملُ في هذه الحال: إمَّا المصدرُ المضافُ إلى «كم» فإنَّ «كم» يحتمل أَنْ يكونَ فاعلاً، والمصدرُ يَنْحَلُّ لحرف مصدري وفعل مبنيٍ للفاعل، والأصلُ: «تَرْجعون جميعاً» ويحتمل أن يكونَ معفولاً لم يُسَمَّ فاعله على أن المصدر ينحلُّ لفعل مبني للمفعول أي: يُرْجِعُكم الله، وقد صُرِّح بالمعنيين في مواضع، وإمَّا أن يعملَ فيها الاستقرارُ المقدرفي الجار وهو «إليه» ، و «إليه مَرْجِعُكم» يُحتمل أن يكونَ من بابِ الجمل الفعلية أو الجمل الاسمية، وهذا واضحٌ بما تقدَّم في نظائره، و «فَيُنَبِّئُكم» هنا من «نَبَّا» غيرَ متضمنةٍ معنى «أعلم» فلذلك تَعَدَّت لواحدٍ بنفسها وللآخر بحرف الجر.

49

قوله تعالى: {وَأَنِ احكم} : فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنَّ محلَّها النصبُ عطفاً على الكتاب، أي: وأَنْزلنا إليكم الحكمَ. والثاني: أنها في محلِّ جرٍ عطفاً على «بالحق» أي: أَنْزلناه بالحقِّ وبالحكم «وعلى هذا

الوجهِ فيجوزُ في محلِّ» أَنْ «النصبُ والجرُّ على الخلافِ المشهور. والثالث: أنَّها في محلِّ رفعٍ على الابتداء وفي تقديره خبره احتملان أحدُهما: أنْ تقدِّر متأخراً أي: حكمُك بما أنزلَ اللهُ أمرُنا أو قولنا، والآخر: أن تقدِّره متقدماً أي: ومن الواجبِ أن احكم أي: حكمُك. والرابع: أنها تفسيريةٌ، قال أبو البقاء:» وهو بعيدٌ لأن الواو تمنع من ذلك، والمعنى يُفْسِدُ ذلك، لأنَّ «أَنْ» التفسيريةَ ينبغي أن يَسْبِقها قولٌ يُفَسَّر بها «أمَّا ما ذكره مِنْ مَنْعِ الواو أَنْ تكون» أَنْ «تفسيريةً فواضح، وأمَّا قولُه:» يسبِقُها قولٌ «إصلاحُه أن يقولَ:» ما هو بمعنى القول لا حروفه «ثم قال:» ويمكنُ تصحيحُ هذا القولِ بأن يكون التقدير: وأمرناك، ثم فَسَّر هذا الأمرَ ب «احكم» ومنع الشيخُ من تصحيحِ هذا القول بما ذكره أبو البقاء، قال: «لأنه لم يُحْفَظْ من لسانِهم حذفُ الجملةِ المفسَّرة ب» أَنْ «وما بعدها» وهو كما قال. وقراءتا ضمِّ نونِ «أن» وكسرِها واضحتان مِمَّا تقدَّم في البقرة: الضمة للإِتباع والكسر على أصل التقاء الساكنين. والضميرُ في «بينهم» : إمَّا لليهود خاصةً وإمَّا لجميع المتحاكمين. قوله: {أَن يَفْتِنُوكَ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه معفولٌ من أجله أي: احْذَرهم مخافةَ أَنْ يَفْتِنوك. والثاني: أنها بدلٌ من المفعول على جهةِ الاشتمال كأنه [قال] : «واحْذَرْهُمْ فتنتهم» كقولك: «أعجبني زيد علمُه» وقوله: {فَإِن

تَوَلَّوْاْ} قال ابن عطية: «قبلَه محذوفٌ يدل عليه الظاهرُ تقديرُه: لا تتبعْ واحذَرْ، فإنْ حَكَّموك مع ذلك واستقاموا لك فنعِمَّا ذلك، وإن تَوَلَّوا فاعَلْم» ويَحْسُن أن يُقَدَّر هذا المحذوفُ المعادلُ بعد قولِه: «لفاسقون» والذي ينبغي إلاَّ يقال في هذا النوع ثَمَّ حذفٌ؛ لأن ذلك من بابِ فحو الخطاب، والأمرُ فيه واضح.

50

قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ} : الجمهورُ على ضم الحاء وسكون الكاف ونصب الميم، وهي قراءةٌ واضحة. «حكمَ» مفعول مقدم، و «يبغون» فعل وفاعل، وهو المستفهم عنه في المعنى، والفاءُ فيها القولان المشهوران: هل هي مؤخرة على الهمزة وأصلُها التقديمُ، أو قبلَها جملةٌ عطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره: أَيَعْدِلون عن حكمِك فيبغون حكمَ الجاهلية؟ وقرأ ابن وثاب الأعرج وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن برفع الميم، وفيها وجهان، أظهرُهما: - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنه مبتدأ، و «يبغون» خبره، وعائد المبتدأ محذوفٌ تقديرُه: «يَبْغُونه» حملاً للخبرِ على الصلة. إلا أن بعضهم جعلَ هذه القراءة خطأً، حتى قال أبو بكر بن مجاهد: «هذه القراءةُ خطأ» وغيرُه يجعلُها ضعيفةً، ولا تبلغُ درجة الخطأ، قال ابن جني في قول ابن مجاهد: «ليس كذلك، ولكنه وَجْهُ غيرِه أقوى منه، وقد جاء في الشعر، قال أبو النجم: 173 - 9- قد أصبحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي ... عليَّ ذنباً كلُّه لم أَصْنَعِ

أي: لم أصنعه» قال ابن عطية: «هكذا الراويةُ وبها ويتم المعنى الصحيح، لأنه أرادَ التبرُّؤ من جميع الذنوب، ولو نَصَب» كل «لكان ظاهرُ قوله أنه صنع بعضَه» قالت: هذا الذي ذكره أبو محمد معنى صحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان، واستشهدوا على ذلك بقوله عليه السلام حين سأله ذو اليدين فقال: «أَقَصَرْتَ الصلاة أم نسيت؟ فقال:» كلُّ ذلك لم يكن «أرادَ عليه السلام انتفاءَ كلِّ فردٍ فردٍ، وأفاد هذا المعنى تقديمُ» كل «قالوا: ولو قال:» لم يكن كلُ ذلك «لاحتمل الكلام أن البعض غيرُ منفيّ، وهذه المسألة تُسَمَّى عمومَ السلب، وعكسُها نحو:» لم أصنعْ كلَّ ذلك «يُسَمَّى سلبَ العموم، وهذه مسألةٌ مفيدة فأتقنتُها، وإن كان بعضُ الناسِ قد فهم عن سيبويه غيرَ ما ذكرت لك. ثم قال ابن عطية:» وهو قبيحٌ - يعني حَذْفَ العائد من الخبر - وإنما يُحْذَفُ الضمير كثيراً من الصلة، ويُحْذَفُ أقلَّ من ذلك من الصفة، وحَذْفُه من الخبرِ قبيحٌ «ولكن رجَّح البيتَ على هذه القراءةِ بوجهين، أحدُهما: أنه ليس في صدرِ قوله ألفُ استفهام تطلب الفعل كما هي في» أفحكم «، والثاني: أن في البيت عوضاً من الهاء المحذوفة / وهو حرفُ الاطلاق، أعني الياء في» اصنعي «فتضعفُ قراءة مَنْ قرأ» أفحكمُ الجاهلية يبغون «وهذا الذي ذكره ابن عطية في الوجه الثاني كلامٌ لا يعبأ به، وأمَّا الأول فهو قريبٌ من الصواب، لكنه لم ينهضْ في المنعِ ولا في التقبيح، وإنما ينهضُ دليلاً عن الأحسنيَّة أوعلى أن غيرَه أَوْلى منه، وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهم الخلافَ فيها بالنسبة إلى

نوعٍ، ونَفَى الخلافَ فيها - بل حكى الإِجماع على الجواز - بالنسبة إلى نوع آخر، فحكى الإِجماعَ فيما إذا كان المبتدأُ لفظَ» كل «أو ما أشبهها في العموم والافتقار، فأمَّا» كل «فنحو:» كلُّ رجلٍ ضربت «وتقويه قراءةُ ابن عامر: {وكلُّ وعد الله الحسنى} ويريد بما أشبه» كلا «نحو:» رجلٌ يقولُ الحقَّ انصرْ «أي: انصُرْه، فإنه عامٌّ ويفتقر إلى صفة، كما أن» كلاً «عامةٌ وتفتقر إلى مضاف إليه، قال:» وإذا لم يكن المبتدأُ كذلك فالكوفيون يَمْنعون حذفَ العائد، بل ينصبون المتقدم مفعولاً به، والبصريون يُجيزون: «زيدٌ ضربتُ» أي ضربته، وذكره القراءةَ. وتعالى بعضُهم فقال: «لا يجوزُ ذلك» وأطلق، إلا في ضرورة شعر كقوله: 174 - 0- وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ... بالحقِّ، لا يُحْمَدُ بالباطلِ قال: «لأنه يؤدي إلى تهيئةِ العامل للعمل وقطعه عنه» ، وقد أَتْقَنْتُ هذه المسألةَ وما نُقل فيها في كتابي «شرح التسهيل» فعليك بالالتفات إليه. والوجه الثاني من التوجيهين المتقدمين أن يكونَ «يبغون» ليس خبراً للمبتدأ، بل هو صفةٌ لموصوفٍ محذوف وذلك المحذوفُ هو الخبر، والتقدير: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} وحَذْفُ العائِد هنا أكثرُ لأنه كما تقدَّم يكثُر حَذْفُه من الصلةِ، ودونَه من الصفةِ، ودونَه من الخبر، وهذا ما اختاره ابنُ عطية وهو تخريجٌ ممكنٌ، ونَظَّره بقوله تعالى: {مِّنَ الذين

هَادُواْ يُحَرِّفُونَ} [النساء: 46] أي: قومٌ يُحَرِّفون «يعني في حذف موصوفٍ وإقامة صفتِه مُقامه، وإلا فالمحذوفُ في الآية المنظَّرِ بها مبتدأٌ، ونظَّرها أيضاً بقوله: 174 - 1- وما الدهرُ إلا تارتانِ: فمنهما ... أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ أي: تارةً أموت فيها. وقال الزمخشري:» وإسقاطُ الراجع عنه كإسقاطِه في الصلة، كقوله: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] وعن الصفةِ: «في الناس رجُلان: [رجلٌ] أهنْتُ، ورجلٌ أكرمت» أي: رجلٌ أهنته ورجلٌ أكرمته، وعن الحالِ في نحو: «مررت بهند يضرب زيد» قال الشيخ: «إنْ عَنَى التشبيه في الحذف والحسن فليس كذلك لِما تقدَّم ذكرُه، وإن عنى في مطلق الحذفِ فَمَسَلَّم» . وقرأ الأعمش وقتادة: «أَفَحَكَمَ» بفتح الحاء والكاف ونصب الميم، وهو مفردٌ يراد به الجنس لأن المعنى: أحُكَّامَ الجاهلية، ولا بد من حذف مضاف في هذه القراءة هو المُصَرَّحُ به في المتواترة تقديره: أَفَحُكْمَ حُكَّام الجاهليةِ. والقُرَّاء غيرَ ابنِ عامر على «يَبْغُون» بياء الغيبة نسقاً على ما تقدَّم من الأسماء الغائبة. وقرأ هو بتاء الخطاب على الالتفاتِ ليكون أبلغَ في زَجْرهم

وَرَدْعِهِم ومباكتته لهم، حيث واجهَهم بهذا الاستفهام الذي يَأْنَفُ منه ذَوُو البصائِر. و «حُكْماً» نصباً على التمييز. وقوله: {لقوم} في هذه [اللام] ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أن يتعلَّقَ بنفسِ «حكماً» إذ المعنى أنَّ حكمَ اللَّهِ للمؤمن على الكافر، والثاني: أنا للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوف كهي في «سُقْياً لك» {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] وهو رأي الزمخشري، وابن عطية قال شيئاً قريباً منه، وهو أن المعنى: «يُبَيِّن ذلك ويُظْهِرُه لقوم» الثالث: أنها بمعنى «عند» أي: عند [قوم] وهذا ليس بشي. ومتعلَّقُ «يوقنون» يجوز أن يُراد، وتقديرُه: يوقنون بالله وبحكمه، أو بالقرآن، ويجوز ألاَّ يُرادَ على معنى وقوع الإِيقان، وإليه ميلُ الزجاج فإنه قال: «يوقنون: يتبيِِّنون عَدْلَ اللِّهِ في حكمه» .

51

قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} : مبتدأ وخبر، وهذه الجملة لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ، سيقت تعليلاً للنهي المتقدم، وزعم الحوفي أنَّها في محلِّ نصبٍ نعتاً ل «أولياء» ، والأولُ هو الظاهر، والضمير في «بعضهم» يعودُ على اليهود والنصارى على سبيل الإِجمال، والقرينة تبيِّن أنّ بعضَ اليهودِ أولياءُ بعض، وأنَّ بعضَ النصارى أولياء بعضٍ، وبهذا التقريرِ لا يُحتاج كما زعم بعضُهم إلى تقدير محذوف يَصِحُّ به المعنى وهو: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، قال: لأنَّ اليهود لا يتولَّوْن النصارى، والنصارى لا يتوَلَّوْن اليهود، وقد تقدَّم جوابه.

52

قوله تعالى: {فَتَرَى الذين} : الجمهورُ على «ترى» بتاء الخطاب، و «الذين» مفعول، فإن كانت الرؤيةُ بصريةً أو عُرْفانية - فيما نقله

أبو البقاء وفيه نظرٌ - فتكونُ الجملةُ من «يُسارعون» في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصول، وإنْ كانت قلبية فيكون «يسارعون» مفعولاً ثانياً. وقرأ النخعي وابن وثاب: «فيَرى» بالياء وفيها تأويلان، أظهرُهما: أنَّ الفاعل ضميرٌ يعودُ على الله تعالى، وقيل: على الرأي من حيثُ هو، و «يُسارعون» بحالتِها، والثاني: أن الفاعل نفسُ الموصول والمفعول هو الجملةُ من قوله: {يُسَارِعُونَ} وذلك على تأويل حَذْفِ «أَنْ» المصدرية، والتقدير: ويرى القمُ الذين في قلوبهم مرض أَنْ يُسارعو، فلمَّا حُذِفَتْ «أَنْ» رُفِع كقوله: 174 - 2- ألا أيُّهذا الزاجري أَحْضُرُ الوَغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أجازَ ذلك ابن عطية إلا أنَّ هذا غيرُ مقيس، إذ لا تُحْذَف «أن» عند البصريين إلا في مواضعَ محفوظة. وقرأ قتادة والأعمش: «يُسْرِعون» من أسرع. و «يقولون» في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «يسارعون» ، و «نخشى» في محلِّ نصب بالقول، و «أن تصيبنَا» في محل نصب بالمفعول أي: نخشى إصابتَنا. والدائرة صفة غالبة لا يُذْكر موصوفُها، والأصل: داوِرَة، لأنها من دار يدور. قوله: {أَن يَأْتِيَ} في محلِّ نصب: إمَّا على الخبر ل «عسى» وهو رأي الأخفش، / وإمَّا على أنها مفعولٌ به وهو رأيُ سيبويه لئلا يلزمَ الإِخبارُ عن الجثة بالحَدَث في قولك: «عسى زيدٌ أَنْ يقومَ» وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «أن يأتي» في محلِّ رفعٍ على البدل من اسم «عسى» وفيه نظر.

قوله: {فَيُصْبِحُواْ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه منصوب عطفاً على «يأتِيَ» المنصوب ب «أَنْ» والذي سَوَّغ ذلك وجودُ الفاءِ السببية، ولولاها لم يجز ذلك، لأن المعطوف على الخبر خبر، و «أن يأتي» خبر عسى وفيه راجعٌ عائدةٌ على اسمها، وقوله: {فَيُصْبِحُواْ} ليس فيه ضميرٌ يعود على اسمها فكان من حقِّ المسألةِ الامتناعُ لكنَّ الفاءَ للسببية، فَجَعَلَتْ الجمليتن كالجملة الواحدة وذلك جارٍ في الصلة نحو: «الذي يطير فيغضب زيدٌ الذبابُ» والصفةِ نحو: «مررت برجل يبكي فيضحكُ عمرو» والخبرِ نحو: «زيد يبكي فيضحك خالد» ولو كانَ العاطفُ غيرَ الفاء لم يَجُز ذلك: والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار «أَنْ» بعد الفاء في جواب التمني قالوا: «لأنَّ عسى تمنٍّ وترجِّ في حق البشر» و «على ما أسَرُّوا» متعلق ب «نادمين» ، و «نادمين» خبرُ «أصبح» .

53

قوله تعالى: {وَيَقُولُ} : قرأ أبو عمرو والكوفيون بالواو قبل «يقول» والباقون بإسقاطها، إلا أنَّ أبا عمرو ونصب الفعل بعد الواو، وروى عنه علي بن نصر الرفع كالكوفيين، فتحصَّل فيه ثلاثُ قراءات: «يقول» من غير واو «ويقول» بالواو والنصب، و «يقول» بالواو والرفع. فأمَّا قراءةُ مَنْ قرأ «يقول» من غير واو فهي جملةٌ مستأنفة سِيقَتْ جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه لمَّا تقدَّم قولُه تعالى: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} إلى قوله: {نَادِمِينَ} سأل سائل فقال: ماذا قال المؤمنون حنيئذ؟ فأجيبَ بقوله تعالى: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ} إلى آخره، وهو واضح، والواو ساقطةٌ في مصاحف مكة والمدينة والشام، والقارئ بذلك هو صاحبُ هذه المصاحف، فإن القارئين بذلك ابنُ كثير المكي وابن عامر الشامي ونافع المدني، فقراءتُهم موافقةٌ لمصاحفهم، وليس في هذا

أنهم إنما قرؤوا كذلك لأجلِ المصحف فقط، بل وافَقَتْ روايتُهم مصاحفَهم على ما بيَّنَتْهُ غيرَ مرة. وأمَّا قراءة الواو والرفع فواضحة أيضاً لأنها جملة ابتُدئ بالإِخبار بها، فالواوُ استئنافيةٌ لمجرد عطف جملة على جملة، فالواو ثابتة في مصاحف الكوفة والمشرق، والقارئُ بذلك هو صاحبُ هذا المصحف، والكلام كما تقدَّم أيضاً. وأمَّا قراءةُ أبي عمرو فهي التي تحتاج إلى فَضْلِ نظر، واختلف الناسُ في ذلك على ثلاثةِ أوجه، أحدُها: أنه منصوب عطفاً على «فيصحبوا» على أحد الوجهين المذكورين في نصبِ «فيُصْبحوا» وهو الوجه الثاني، أعني كونَه منصوباً بإضمار «أَنْ» في جوابِ الترجِّي بعد الفاء إجراءً للترجِّي مُجْرى التمني، وفيه خلافٌ مشهور بين البصريين والكوفيين، فالبصريون يمنعونَه والكوفيون يُجيزونه مستدلِّين على ذلك بقراءِة نافع: {لعله يزَّكى أو يَذَّكَّرُ فتنفعَه} بنصب «تنفعه» وبقراءة عاصم في رواية حفص: «لعلي أبلغُ الأسبابَ أسبابَ السماواتِ فأطَّلِعَ» بنصب «فأطَّلِعَ» وسيأتي الجوابُ عن الآيتين الكريمتين في موضعِه. وهذا الوجهُ - أعني عطفَ «ويقول» على «فيصبحوا» قال الفارسي وتبعه جماعةٌ، ونقله عنه أبو محمد بن عطية، وذكرَه أبو عمرو بن الحاجب أيضاً، قال الشيخ شهابُ الدين أبو شامة بعد ذكره الوجهَ المتقدِّم: «وهذا وجهٌ جيد أفادنيه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب ولم أَرَه لغيرِه، وذكروا وجوهاً كلُّها بعيدةٌ متعسِّفة» انتهى. قلت: وهذا - كما رأيتَ -

منقولٌ مشهور عن أبي علي الفارسي، وأمَّا استجادتُه هذا الوجهَ فإنما يتمشى على قول الكوفيين، وهو مرجوحٌ كما تقرر في علم النحو. الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على المصدر قبلَه وهو الفتحُ كأنه قيل: فعسى اللَّهُ أن يأتِيَ بالفتحِ وبأَنْ يقولَ، أي: وبقولِ الذين آمنوا، وهذا الوجهُ ذكره أبو جعفر النحاس، / ونظَّره بقول الشاعر: 174 - 3- لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوفِ وقول الآخر: 174 - 4- لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثويتُه ... تَقَضِّي لُباناتٍ ويَسْأَمَ سائِمُ وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوجه، أحدُها: أنه يؤدِّي ذلك إلى الفصل بين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي، وذلك أنَّ الفتحَ على قوله مؤولٌ ب «أَنْ» والفعلِ تقديرُه: أَنْ يأتِيَ بأن يفتحَ وبأَنْ يقولَ، فيقعُ الفصلُ بقوله: {فيُصبحوا} وهو أجنبي لأنه معطوفٌ على «يأتي» الثاني: أن هذا المصدرَ - وهو الفتح - ليس يُراد به انحلالُه لحرفٍ مصدري وفعلٍ، بل المرادُ به مصدرٌ غيرُ مرادٍ به ذلك نحو: يعجبني ذكاؤك وعلمك. الثالث: أنه وإنْ سُلِّم انحلالُه لحرف مصدري وفعل فلا يكون المعنى على: «فعسى الله أن يأتيَ بأَنْ يقولَ الذين آمنوا» فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً. الثالث- من أوجه نصبِ «ويقول» -: أنه منصوبٌ عطفاً على قوله: «

يأتي» أي: فعسى اللَّهُ أَنْ يأتيَ ويقولَ، وإلى ذلك ذهب الزمخشري ولم يَعْتَرض عليه بشيء، وقد رُدَّ ذلك بأنه يلزمُ عطفُ ما لا يجوز أن يكون خبراً على ما هو خبر، وذلك أنَّ قولَه: {أن يأتيَ} خبرُ عسى وهو صحيحٌ، لأنَّ فيه رابطاً عائداً على اسم «عسى» وهو ضميرُ الباري تعالى، وقولُه: «ويقول» ليس فيه ضميرٌ يعودُ على اسم «عسى» فكيف يَصِحُّ جَعْلُه خبراً؟ وقد اعتذر مَنْ أجازَ ذلك عنه بثلاثة أوجه، أَحدُها: أنه من باب العطفِ على المعنى، والمعنى: فَعَسى أَنْ يأتي الله بالفتح وبقولِ الذين آمنوا، فتكون «عسى» تامةً لإِسنادها إلى «أَنْ» وما في حَيِّزها، فلا تحتاجُ حينئذ إلى رابط، وهذا قريبٌ من قولهم «العطف على التوهم» نحو: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] . الثاني أنّ {أَنْ ياتي} بدلٌ من اسم الله لا خبرٌ، وتكونُ «عسى» حينئذ تامةً، كأنه قيل: فعسى أن يقولَ الذين آمنوا، وهذان الوجهان منقولان عن أبي عليّ الفارسيّ؟ إلا أنَّ الثاني لا يَصِحُّ لأنهم نَصُّوا على أنَّ عسى واخلولق وأوشك من بين سائر أخواتها يجوز أن تكونَ تامةً بشرطِ أن يكونَ مرفوعُها: «أن يفعل» قالوا: ليوجَدَ في الصورةِ مسندٌ ومسندٌ إليه، كما قالوا / ذلك في «ظن» وأخواتِها: إنَّ «أَنْ» و «أَنَّ» تسدُّ مسدَّ مفعوليها. والثالث: أن ثم ضميراً محذوفاً هو مصحِّحٌ لوقوعِ «ويقول» خبراً عن عسى، والتقدير: ويقولُ الذين آمنوا به أي: بالله، ثم حُذِفَ للعلم به، ذكر ذلك أبو البقاء، وقال ابن عطية بعد حكايتِه نصبَ «ويقولَ» عطفاً على «يأتي» : «وعندي في منع» عسى الله أن يقول المؤمنون «نظرٌ، إذ الله تعالى يُصَيِّرهم يقولون ذلك بنصرِه وإظهاره دينه»

قلت: قولُ ابن عطية في ذلك يشبه قولَ أبي البقاء في كونِه قَدَّره ضميراً عائداً على اسم «عسى» يَصِحُّ به الربط. وبعضُ الناسِ يُكْثِرُ هذه الأوجه ويوصلُها إلى سبعة وأكثر، وذلك باعتبار تصحيحِ كلِّ وجهٍ من الأوجه الثلاثة التي ذكرتها لك، ولكن لا يخرج حاصلُها عن ثلاثة، وهو النصبُ: إمَّا عطفاً على «أن يأتي» وإما على «فيصبحوا» وإمَّا على «بالفتح» ، وقد تقدَّم لك تحقيقها. قوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في انتصابِه وَجْهان، أظهرُهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ ناصبُه «أَقْسموا» فهو من معناه، والمعنى: أَقْسَموا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين. والثاني - أجازُه أبو البقاء وغيره - أنه منصوبٌ على الحالِ كقولهم: «افعَلْ ذلك جَهْدَك» أي: مجتهداً، ولا يُبالي بتعريفه لفظاً فإنه مؤولٌ بنكرة على ما ذكرته لك، وللنحْويين في هذه المسألة أبحاث، والمعنى هنا: أقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم. قوله: {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} هذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإِعراب فإنها تفسيرٌ وحكاية لمعنى القسم لا لألفاظِهم، إذ لو كانَتْ حكايةً لألفاظهم لقيل: إنَّا معكم، وفيه نظرٌ، إذ يجوزُ لك أن تقول: «حَلَفَ زيدٌ لأفعَلَنَّ» أو «ليفعلن» ، فكما جاز أن تقولَ: «لَيَفْعَلنَّ» جاز أن يقال: «إنهم لمعكم» على الحكايةِ. قوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها جملةٌ مستأنفة والمقصودُ بها الإِخبارُ من الباري تعالى بذلك. الثاني: أنها دعاءٌ عليهم بذلك وهو قولُ الله تعالى نحو: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] . الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ لأنها من جملة قول المؤمنين، ويَحْتمل معنيين كالمعنيين في الاستئناف، أعني كونَه إخباراً أو دعاءً. الرابع: أنها في محل رفعٍ على أنَّها خبرُ المبتدأ وهو «هؤلاء» وعلى هذا فيحتمل قوله {الذين أَقْسَمُواْ} وجهين،

أحدُهما: أنه صفةٌ لاسمِ الإِشارة، والخبر: «حَبِطَتْ أعمالُهم» . والثاني: أنَّ «الذين» خبرٌ أولُ، / و «حَبِطت» خبرٌ ثانٍ عند مَنْ يُجيز ذلك. وجَعَلَ الزمخشري «حَبِطَتْ أعمالُهم» مُفْهِمَةً للتعجب. قال: «وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالَهم ما أخسرَهم» وأجاز مع كونِه تعجباً أن يكونَ من قولِ المؤمنين، فيكونَ في محل نصب، وأن يكونَ من قولِ الباري تعالى، لكنه أَوَّلَ التعجبَ في حق الله تعالى بأنه عجيب، قال: «أو مِنْ قول الله عز وجل شهادةً لهم بحبوط الأعمال وتعجباً من سوء حالهم» وقرأ أبو واقد والجراح: «حَبَطت» بفتح الباء، وهما لغتان، وقد تقدم ذلك وقوله تعالى: {فأصبحوا} وجهُ التسبُّبِ في هذه الفاءِ ظاهرٌ.

54

قوله تعالى: {مَن يَرْتَدَّ} : «مَنْ» شرطيةٌ فقط لظهورِ أثرها، وقوله تعالى: {فسوف} جوابُها، وهي مبتدأة، وفي خبرها الخلاف المشهور، وبظاهره يتمسَّك مَنْ لا يشترط عودَ ضميرٍ على اسم الشرط من جملة الجواب، ومَنْ التزم ذلك قَدَّر ضميراً محذوفاً تقديره: «فسوف يأتي الله بقوم غيرهم» ف «هِم» في «غيرهم» يعودُ على «مَنْ» على معناها. وقرأ ابن عامر ونافع: «يَرْتَدِدْ» بدالين. قال الزمخشري: «وهي في الإِمام - يعني رسمَ المصحف - كذلك» ولم يبيِّنْ ذلك، ونَقَل غيرُه أنَّ كلَّ قارئ وافقَ مصحفَه، فإنها في مصاحف الشام والمدينة، «يرتدد» بدالين، وفي الباقية: «يرتدَّ» وقد تقدَّم أنَّ الإِدغام لغة تميم، والإِظهارَ لغةُ الحجاز، وأنَّ

وجهَ الإِظهارِ سكونُ الثاني جزماً أو وقفاً، ولا يُدْغَمُ إلا في متحرك، وأنَّ وجهَ الإِدغام تحريكُ هذا الساكن في بعضِ الأحوال نحو: رُدَّا، رُدُّوا، رُدِّي، ولم يَرُدَّا، ولم يَرُدُّوا، واردُدِ القوم، ثم حُمِل «لم يردَّ» و «رُدَّ» على ذلك، فكأن التميميين اعتبروا هذه الحركة العارضة، والحجازيين لم يَعْتبروها، و «منكم» في محل نصبٍ على الحال من فاعل «يرتد» و «عن دينه» متعلِّقٌ ب «يرتدَّ» . قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ} في محلِّ جر لأنها صفة ل «قوم» و «يُحِبُّونه» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه معطوفٌ على ما قبلَه، فيكون في محلِّ جرٍّ أيضاً فوصفَهم بصفتين: وصفَهم بكونِه تعالى يحبُّهم وبكونهم يحبونه. والثاني أجازه أبو البقاء: أن يكون في محل نصب على الحال من الضمير المنصوب في «يحبهم» قال: «تقديره: وهم يحبونه» قلت: وإنما قَدَّر أبو البقاء لفظة «هم» ليخرجَ بذلك من إشكال: وهو أن المضارعَ المثبتَ متى وقع حالاً وجب تَجَرُّدُه من الواو نحو: «قمت أضحك» ولا يجوز: «وأضحك» وإنْ وَرَدَ شيء أُوِّل بما ذكره أبو البقاء كقولهم: «قمت وأصك عينه» وقوله: 174 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهنُهُمْ مالِكا أي: وأنا أصك، وأنا أَرْهنُهم، فَتُؤَوَّلُ الجملةُ إلى جملة اسمية فيصِحُّ اقترانها بالواو، ولكن لا ضرورةَ في الآية الكريمة تَدْعُو إلى ذلك حتى يُرْتَكَب، فهو / قولٌ مرجوح. وقُدِّمَتْ محبةُ الله تعالى على محبتهم لشرفها وسَبْقِها، إذ محبتُه تعالى لهم عبارةٌ عن إلهامِهم فعلَ الطاعةِ وإثابتِه إياهم عليها. قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} هاتان صفتان أيضاً لقوم، واستدلَّ بعضُهم على جوازِ تقديمِ الصفة غير الصريحة على الصفة

الصريحة بهذه الآيةِ، فإنَّ قوله: {يُحِبُّهم} صفةٌ وهي غير صريحة، لأنها جملة مؤولة بمفرد، وقوله «أذلة - أعزة» صفتان صريحتان لأنهما مفردتان، وأمَّا غيره من النحويين فيقول: متى اجتمعت صفة صريحة وأخرى مؤولة وجبَ تقديمُ الصريحةِ إلا في ضرورة شعر كقولِ امرئ القيس: 174 - 6- وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ ... أثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلة المُتَعَثْكِلِ فقدم قوله «يُغَشِّي» - وهو جملة - على «أسود» وما بعده وهن مفردات، وعند هذا القائل أنه يُبدأ بالمفرد ثم بالظرف أو عديلِه ثم بالجملة، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] ، وهذه الآية حجةٌ عليه، وكذا قوله تعالى: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] . قال الشيخ: «وفيها دليلٌ على بطلان مَنْ يعتقد وجوب تقديم الوصفِ بالاسم على الوصف بالفعل إلا في ضرورة» ثم ذَكَرَ الآيةَ الأخرى. قلت: وليس في هاتين الآيتين الكريمتين ما يَرُدُّ قولَ هذا القائل. أما هذه الآية فيحتمل أن يكون قولُه تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} جلمةَ اعتراض لأنَّ فيها تأكيداً وتسديداً للكلام، وجملةُ الاعتراض تقعُ بين الصفةِ وموصوفِها كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] ف «عظيم» صفةٌ ل «قَسَم» وقد فَصَل بينهما بقولُه: {لَّوْ تَعْلَمُونَ} فكذلك فَصَلَ هنا بين قوله «بقوم» وبين صفتهم وهي «أذلة - أعزة» بقولِه {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فعلى هذا لا يكون لها محلُّ من الإِعراب. وأمَّا {وهذا كِتَابٌ

أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} فلا نسلِّم أن «مبارك» صفةٌ، بل يجوزُ أن يكونَ خبراً عبد خبر، ويجوز أن يكون خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو مبارك، ولو استدل على ذلك بآيتين غير هاتين لكان أقوى، وهما قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ} [الشعراء: 5] ، فقدَّم الوصفَ بالجارِّ على الوصف بالصريح، ويحتمل أَنْ يُقال: لا نُسَلِّم أن «مِنْ ربهم» و «مِنَ الرحمن» صفتان لجواز أَنْ يكونا حالين مُقَدَّمَيْن من الضمير المستترِ في «مُحْدَثٍ» أي: مُحْدَثٍ إنزالُه حالَ كونه من ربهم. وأَذِلَّة جمعُ ذليل بمعنى متعطف، ولا يراد به الذليل الذي هو ضعيف خاضع مُهان، ولا يجوز أن يكون جمع «ذَلُول» لأنَّ / ذلولاً يجمع على «ذُلُل» لا على «أَذِلة» وإن كان كلام بعضهم يوهم ذلك. قال الزمخشري: «ومَنْ زعم أنه من الذُّل الذي هو نقيض الصعوبة فقد غَبِي عنه أن ذَلُولا لا يُجمع على أَذِلة» وأَذِلّة وأَعِزة جمعان لذليل وعزيز وهما مثالا مبالغة، وعَدَّى «أذلة» ب «على» وإن كان أصلُه أن يتعدى باللام لِما ضُمِّن من معنى الحُنُوِّ والعطف، والمعنى: عاطفين على المؤمنين على وجهِ التذلُّلِ لهم والتواضعِ، ويجوزُ أَنْ يكون المعنى: أنهم مع شرفهم وعلوِّ طبقتهم وفَضْلِهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ونحوه قولُه تعالى: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ذكر هذين الوجهين أبو القاسم الزمخشري. قال الشيخ: «قيل: أو لأنه على حَذْفِ مضاف، التقدير: على فَضْلِهم على المؤمنين،

والمعنى: أنهم يَذِلُّون ويَخْضَعُون لِمَنْ فُضِلوا عليه مع شَرَفِهم وعلوِّ مكانتِهم» وذَكَر آية الفتح. قتل: وهذا هو قولُ الزمخشري بعينِه، إلا أنَّ قولَه «على حَذْفِ مضاف» يُوهم حذفَه وإقامةَ المضافِ إليه مُقامه، وهنا حَذَ ف «على» الأولى وحَذَفَ المضافَ والمضافَ إليه معاً، ولا أدري ما حَمَله على ذلك؟ ووقع الوصفُ في جانب المحبة بالجملةِ الفعلية لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، هو مناسبٌ فإنَّ محبَّتهم للهِ تعالى تُجَدِّدُ طاعاتِه وعبادتَه كلَّ وقتٍ، ومحبةُ اللهِ إياهم تُجَدِّدُ ثوابَه وإنعامَه عليهم كل وقت. ووقع الوصفُ في جانبِ التواضعِ للمؤمنين والغِلْظَةِ على الكافرين بالاسم الدالِّ على المبالغة دلالةً على ثبوتِ ذلك واستقراره وأنه عزيزٌ فيهم، والاسمُ يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ، وقَدَّم الوصفَ بالمحبة منهم ولهم على وصفِهم بأذلَّة وأَعِزِّة لأنهما ناشِئتان عن المحبتين، وقَدَّم وصفَهم المتعلِّق بالمؤمنين على وصْفِهم المتعلق بالكافرين لأنه آكدُ وألزمُ منه، ولشرفِ المؤمنِ أيضاً. والجمهورُ على جَرِّ «أَذِلَّة - أَعِزَّة» على الوصفِ كما تقدم، قال الزمخشري: «وقُرئ» أَذِلَّةً وأَعِزِّةً «بالنصبِ على الحال» قلت: الذي قرأ «أَذِلَّة» هو عبد الله بن مسعود، إلا أنه قرأ بدل «أعزة» : «غُلَظاءَ على الكافرين» وهو تفسيرٌ، وهي حالٌ من «قوم» وجاز ذلك وإن كان «قوم» نكرةً لقُرْبِه من المعرفة إذ قد تخصَّص بالوصف. قوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ} يحتمل ثلاثة أَوجه، أحدها: أن يكونَ صفةً أخرى ل «قوم» ولذلك جاء بغيرِ واو، كما جاءَتِ الصفتان قبلَه بغيرها. الثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المسكن في «أعزة» أي: يَعُزُّون مجاهدين، قالَه أبو البقاء، وعلى هذا فيجوزُ أن تكونَ حالاً من الضمير في «

أَذِلَّة» أي: يتواضعون للمؤمنين حالَ كونِهم مجاهدين، أي: لا يَمْنعَهُم الجهادُ في سبيل الله من التواضعِ للؤمنين، وحاليَّتُها من ضمير «أعزة» أظهر من حاليَّتِها مِمَّا ذكرت، ولذلك لم يَسُغْ أن تُجْعَلَ المسألةُ من التنازع. الثالث: ان يكونَ مستأنفاً سِيق للإِخبارِ بأنهم يجاهِدون في نصرة دين الله تعالى. قوله تعالى: {وَلاَ يَخَافُونَ} فيه أوجه، أحدها: أن يكون / معطوفاً على «يُجاهِدُون» فتجري فيه الأوجهُ السابقة فيما قبله. الثاني: أن تكونَ الواوُ للحال، وصاحبُ الحالِ فاعلٌ «يجاهدون» قال الزمخشري: أي: يجاهِدُون وحالُهم في المجاهدةِ غيرُ حالِ المنافقين «وتَبِعه الشيخ ولم يُنْكِرْ عليه، وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نصُّوا على أن المضارع المنفي ب» لا «أو» ما «كالمثبت في أنه لا يجوز أن تباشِرَه واوُ الحال، وهذا كما ترى مضارعٌ منفي ب» لا «إلا أَنْ يُقال: إن ذلك الشرطَ غير مُجْمَعٍ عليه، لكنَّ العلةَ التي مَنَعوا لها مباشرةَ الواوِ للمضارع المثبتِ موجودةٌ في المضارعِ المنفيِّ» ب «لا» و «ما» وهي: أنَّ المضارعَ المثبتَ بمنزلةِ الاسمِ الصريحِ، فإنك إذا قلت: «جاز زيدٌ لا يضحكُ» [كان] في قوةِ «ضاحكاً» ، و «ضاحكاً» لا يجوز دخولُ الواوِ عليه فكذلك ما أشبهه وهو في قوتِه، وهذه موجودةٌ في المنفي، فإنَّ قولك «جاء زيدٌ لا يضحك» في قوةِ «غيرَ ضاحك» و «غيرَ ضاحك» لا تدخلُ عليه الواوُ، إلاَّ أن هذا يُشْكِلْ بأنهم نَصُّوا على أن المنفي ب «لم» و «لما» يجوزُ فيه دخولُ الواو، مع أنه في قولِك: «قام زيد لم يضحكْ» بمنزلةِ «غيرَ ضاحك» ومِنْ دخول الواو قولُه تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم} [البقرة: 214] ونحوُه. الثالث: أن تكون الواوُ للاستئنافِ، فيكونَ ما بعدها جملةً مستأنفة مستقلة بالإِخبار،

وبهذا يحصُل الفرقُ بين هذا الوجهِ وبين الوجهِ الذي جَوَّزْتُ فيه أن تكون الواو عاطفةً مع اعتقادِنا أنَّ «يجاهدون» مستأنفٌ وهو واضح. واللَّوْمَةُ: «المَرَّةُ من اللَّوْم، قال الزمخشري» وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يَخافون شيئاً قَطُّ من لومِ أحدٍ من اللُّوُّام، و «لومة» مصدرٌ مضافٌ لفاعله في المعنى، فإن قيل: هل يجوزُ أن يكونَ مفعولُه محذوفاً، أي: لا يخافون لومةَ لائمٍ إياهم؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز عند الجمهور، لأنَّ المصدرَ المحدودَ بتاء التأنيث لا يعملُ، فلو كان مبنياً على التاء عَمِلَ كقوله: 174 - 7- فولا رجاءُ النصر منك ورهبةٌ ... عقابَك قد كانوا لنا بالموارِدِ فأعمل «رهبةٌ» لأنه مبنيُّ على التاء، ولا يجوز أن يعملَ المحدودُ بالتاء إلا في قليلٍ من كلامِهم كقوله: 174 - 8- يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازمٌ ... بضربةِ كَفَّيهِ المَلا وَهُو راكِبُ يصفُ رجلاً سقى رجلاً ماءً فأحياه به وتيمَّم بالتراب، والمَلا: التراب، فنصب «الملا» ب «ضربة» وهو مصدرٌ محدودٌ بالتاء. وأصل لائم: لاوِم، لأنه من اللَّوْم فأُعِلَّ كقائم. و «ذلك» في المشار إليه به ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنه جميع ما تقدَّم من الأوصافِ التي وُصِف بها القومُ من المحبةِ والذلةِ والعزةِ والمجاهدة في سبيلِ

الله وانتفاءِ خوفِ اللائمة من كلِّ أحدٍ، واسمُ الإِشارة يَسُوغ فيه ذلك، أعني أنه يقعُ بلفظِ الإِفراد مشاراً به لأكثر مِنْ واحدٍ، وقد تقدَّم تحقيقُه في قولِه تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . والثاني: أنه مشارٌ به إلى حُبِّ الله لهم وحُبِّهم له. والثالث: أنه مشارٌ به إلى قوله: «أَذِلَّة» أي: لِين الجانب وتَرْكُ الترفُّع، وفي هذين تخصيصٌ غيرُ واضحٍ، وكأنَّ الحاملَ على ذلك مجيءُ اسمِ الإِشارة مفرداً. و «ذلك» مبتدأٌ، و «فَضْلُ الله» خبرُه، و «يؤتيه» يحتملُ ثلاثةَ أوجه، أظهرُها: أنه خبرٌ ثاني، والثاني: أنه مستأنف والثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على الحال كقوله. {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 89] .

55

قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله} : مبتدأٌ وخبرٌ، و «رسولهُ» و «الذين» عطفٌ على الخبر. قال الزمخشري: قد ذُكِرَتْ جماعةٌ فهلاً قيل: إنما أولياؤُكم. وأجابَ بأنَ الوِلايةَ بطريقِ الأصالةِ لله تعالى، ثم نَظَّم في سلكِ إثباتها لرسوله وللمؤمنين، ولو جيء به جمعاً فقيل: «إنما أولياؤُكم» لم يكنْ في الكلامِ أصلٌ وتَبَعٌ «. قلت: ويَحْتمل وجهاً آخرَ وهو أنَّ» وَلِيَّ «بزنة فَعِيل، وفعيل وقد نصَّ عليه أهلُ اللسان أنه يقعُ للواحدِ والاثنين والجماعة تذكيراً وتأنيثاً بلفظ واحد، يقال:» الزيدون صديقٌ، وهند صديقٌ «وهذا مثلُه، غايةُ ما فيه أنه مقدَّمٌ في التركيب، وقد أجابَ الزمخشري وغيرُه بذلك في قوله تعالى {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} [هود: 89] ، وذكر وجهَ ذلك وهو شِبْهُه بالمصادر وسيأتي تحقيقُه. وقرأ ابن مسعود:» إنما مَوْلاكم «وهي تفسير لا قراءة. قوله تعالى: {الذين يُقِيمُونَ الصلاوة} في خمسةُ أوجه، أحدها: أنه

مرفوعٌ على الوصفِ لقوله» الذين آمنوا «وَصَفَ المؤمنين بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وذكرهاتين العبادتين دونَ سائرِ فروعِ الإِيمان لأنهما أفضلُها. الثاني: أنه مرفوعٌ على البدلِ من» الذين آمنوا «الثالث: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هم الذين. الرابع: أنه عطفُ بيانٍ لما قبله؛ فإنَّ كلَّ ما جاز أن يكونَ بدلاً جاز أن يكون بياناً إلا فيما استُثْي وقد ذكرْتُه فيما تقدم. الخامس: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ، وهذا الوجهُ والذي قَبله من باب القطع عن التبعية. قال الشيخ: - بعد أن نقلَ عن الزمخشري وَجْهَيْ البدلِ وإضمارِ المبتدأ فقط -» ولا أَدْري ما الذي مَنَعه من الصفةِ، إذ هو المتبادَرُ إلى الذهن، ولأنَّ المُبْدَلَ منه على نية الطرحِ، وهو لا يَصِحُّ هنا / لأنه هو الوصفُ المترتِّب عليه [صحةُ] ما بعده من الأوصاف «قلت: لا نسلِّمُ أنَّ المتبادرَ إلى الذهن الوصفُ بل البدلُ هو المتبادرُ، وأيضاً فإنَّ الوصفَ بالموصولِ على خلافِ الأصل؛ لأنه مؤولٌ بالمشتقِّ وليس بمشتقٍ، ولا نُسَلِّم أنَّ المبدلَ منه على نيةِ الطَرْحِ، وهو المنقولُ عن سيبويه. قوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنها معطوفةٌ على ما قبلَها من الجملِ فتكونُ صلةً للموصولِ، وجاء بهذه الجملةِ اسميةً دونَ ما قبلَها، فلم يَقُلْ» ويركعون «اهتماماً بهذا الوصفِ؛ لأنه أظهرُ أركانِ الصلاة. والثاني: أنها واوُ الحال وصاحبُها هو واو» يُؤْتون «والمرادُ بالركوعِ الخضوعُ أي: يؤتون الصدقة وهم متواضِعُون للفقراءِ الذين يتصدَّقون عليهم، ويجوز أَنْ يُرادَ به الركوع حقيقةً؛ كما رُوي عن علي أميرِ المؤمنين أنه تصدَّقَ بخاتَمِة وهو راكعٌ.

56

قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ} : «مَنْ شرطٌ في محل رفع بالابتداءِ، وقولُه: {فَإِنَّ حِزْبَ الله} يحتمل أن يكونَ جواباً للشرط، وبه يحتجُّ مَنْ لا يشترطُ عَوْدَ ضميرٍ على اسم الشرط إذا كان مبتدأ، ولقائل أن يقولَ: إنما جازَ ذلك لأنَّ المرادَ بحزب الله هو نفس المبتدأ، فيكون من بابِ تكرارِ المبتدأ بمعناه، وفيه خلافٌ: الأخفشُ يُجيزه فإنَّ التقدير: ومَنْ يتولَّ اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فإنه غالبٌ، فوضَع الظاهرَ موضعَ المضمرِ لفائدةٍ وهي التشريفُ بإضافةِ الحزب إلى الله تعالى، ويحتمل أن يكونَ الجوابُ محذوفاً لدلالةِ الكلام عليه أي: ومَنْ يتولَّ اللهَ ورسولَه والذين آمنوا يَكُنْ من حزبِ الله الغالبِ أو يُنْصَرْه ونحوه. ويكون قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ الله} دالاً عليه، وعلى هذين الاحتمالين فلا دلالة في الآية على عدمِ اشتراط عَوْدِ ضميرٍ على اسم الشرط. وقوله: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} في محلِّ جزم إنْ جعلناه جواباً للشرط، ولا محلَّ له إن جعلناه دالاًّ على الجواب. وقوله:» هم «يحتمل أن يكون فصلاً وأن يكونَ مبتدأ و» الغالبون «خبرُه، والجملة خبر» إنَّ «وقد تقدَّم الكلام على ضمير الفصل وفائدته. والحِزْبُ: الجماعة فيها غلظةٌ وشدةٌ، فهو جماعةٌ خاصة.

57

قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ} : الآية، فالذين وصلته هو المفعولُ الأول لقولِه: {ولا تتَّخِذوا} والمفعول الثاني هو قوله: «أولياء» و «دينَكم» مفعولٌ أولُ ل «اتخذوا» و «هُزُوا» مفعول ثان، وتقدَّم ما في «هُزْءاً» من القراءات والاشتقاق. وقوله: {مِّنَ الذين أُوتُواْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محل نصب على الحال، وصاحبها فيه وجهان أحدُهما: أنه الموصولُ / الأول. والثاني: أنه فاعل «اتَّخذوا» الثاني من

الوجهين الأولين أنه بيان للموصول الأول، فتكونُ «مِنْ» لبيانِ الجنس، وقوله: {مِن قَبْلِكُمْ} متعلق «ب» أوتوا «؛ لأنهم أُوتوا الكتابَ قبل المؤمنين، والمرادُ بالكتابِ الجنسُ. قوله: {والكفار} قرأ أبو عمرو والكسائي:» والكفارِ «بالخفض، والباقون بالنصب، وهما واضحتان، فقراءةُ الخفض عَطْفٌ على الموصول المجرور ب» من «ومعناها أنه نهاهم أن تيخذوا المستهزئين أولياءَ، وبيَّن أن المستهزئين صنفان: أهلُ كتاب متقدم وهم اليهود والنصارى، وكفارٌ عبدةُ أوثان، وإن كانَ اسمُ الكفر ينطلق على الفريقين، إلا أنه غَلَب على عبدة الأوثان: الكفار، وعلى اليهود والنصارى: أهل الكتاب. قال الواحدي:» وحجةُ هذه القراءة من التنزيلِ قولُه تعالى: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} [البقرة: 105] اتفقوا على جَرِّ «المشركين» عطفاً على أهل الكتاب، ولم يُعْطَفْ على العامل الرافعِ «يعني بذلك أنه قد أَطْلَق الكفار على أهل الكتاب وعلى عبدة الأوثان: المشركين، ويدل على أنَّ المرادَ بالكفار في آية المائدة المشركون قراءةُ عبد الله: {ومن الذين أشركوا} ورُجِّحت قراءةُ أبي عمرو وأيضاً بالقرب، فإن المعطوفَ عليه قريبٌ، ورُجِّحت أيضاً بقراءة أُبَيّ:» ومن الكفار «بالإِتيان ب» من «وأمَّا قراءةُ الباقين فوجهُها أنه عطفٌ على الموصول الأول أي: لا تتخذوا المستهزئين ولا الكفار أولياء، فهو كقوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} [آل عمران: 28] ، إلا أنه ليس في هذه القراءة تعرُّضٌ للإِخبار باستهزاءِ المشركين» ، وهم مستهزئون أيضاً،

قال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين} [الحجر: 95] ، والمراد بهم مشركو العربِ، ولوضوحِ قراءةِ الجرِّ قال مكي بن أبي طالب: «ولولا اتفاقٌ الجماعة على النصب لاخترت الخفضَ لقوتِه في المعنى، ولقربِ المعطوف من المعطوف عليه» .

58

والضمير في: {اتخذوها} : يجوز أن يعودَ على الصلاة - وهو الظاهر- ويجوز أن يعودَ على المصدرِ المفهومِ من الفعل أي: اتخذوا المناداةَ، ذكره الزمخشري، وفيه بُعْدٌ، إذ لا حاجةَ تدعو إليه مع التصريحِ بما يَصْلُح أن يعودَ عليه الضميرُ بخلاف قوله تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] /. وقوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ} مبتدأٌ وخبر أي: ذلك الاستهزاءُ مستقر بسبب عدم عَقْلِهم.

59

قوله تعالى: {تَنقِمُونَ} : قراءة الجمهور بكسر القاف، وقراءة النخعي وابن أبي عبلة وأبي حيوة بفتحها، وهاتان القراءتان مُفَرَّعتان على الماضي وفيه لغتان: الفصحى - وهي التي حكاها ثعلب في فصيحه - نَقَم بفتح القاف يَنْقِم بكسرها، والأخرى: نَقِم بكسر القاف ينقَم بفتحها، وحكاها الكسائي، ولم يُقْرأ في قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ} [البروج: 8] إلا بالفتح. وقوله: {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا} مفعولٌ ل «تنقمون» بمعنى: تكرهون وتَعيبون وهو استثناء مفرغ. و «منا» متعلقٌ به، أي: ما تكرهون من جهِتنا إلا الإِيمانَ، وأصلُ «نَقَم» أن يتعدَّى ب «على» تقول: «نَقَمْتُ عليه كذا» وإنما عُدِّي هنا ب «مِنْ»

لمعنى سأذكره. وقال أبو البقاء: «ومِنَّا مفعولُ تَنْقِمون الثاني، وما بعد» إلا «هو المفعولُ الأول، ولا يجوزُ أن يكونَ» منَّا «حالاً مِنْ» أَنْ «والفعل لأمرين، أحدُهما: تقدُّم الحالِ على» إلاّ «، والثاني: تقدُّم الصلة على الموصول، والتقدير: هل تكرهون منا إلا إيمانَنا» انتهى. وفي قوله مفعولٌ أولُ وثانٍ نظرٌ، لأنَّ الأفعالَ التي تتعدَّى لاثنين إلى أحدهما بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر محصورةٌ كأمر، واختار، واستغفر، وصَدَّق، وسَمَّى، ودعا بمعناه، وزَوَّج، ونبَّأ وأنبأ، وخَبَّر، وأَخْبر، وحَدَّث غيرَ مضمَّنةٍ معنى أعلم، وكلُّها يجوز فيها إسقاطُ الخافضِ والنصبُ، وليس هذا منها. وقوله: «ولا يجوز أن يكونَ حالاً» يعني أنه لو تأخَّر بعد «أن آمنَّا» لفظةُ «منا» لجازَ أن تكونَ حالاً من المصدر المؤولِ من «أَنْ» وصلتِها، ويصير التقديرُ: هل تَكْرهون إلا الإِيمان في حال كونِه منا، لكنه امتنع مع تقدُّمِه على «أن آمنَّا» للوجهين المذكورين، أحدُهما: تقدُّمه على «إلاَّ» ويعني بذلك أن الحال لا تتقدم على «إلاَّ» ولا أدري ما يمنع ذلك؟ لأنه إذا جَعَل «منَّا» حالاً من «أَنْ» وما في حَيِّزها كان عاملُ الحال مقدراً، ويكونُ صاحبُ الحال محصوراً، وإذا كان صاحبُ الحال محصوراً وجبَ تقديمُ الحالِ عليه، فيقال: «ما جاء راكباً زيد» و «ما ضَرَبْتُ مكتوفاً إلا عمراً» ف «راكباً» و «مكتوفاً» حالان مقدمان وجوباً لحصرِ صاحبَيْهما فهذا مثلُه. وقوله: «والثاني: تقدُّم الصلة على الموصول» لم تتقدَّمْ صلةٌ على موصول، بيانه: أن الموصول هو «أن» والصلة «آمنا» و «منَّا» ليس متعلقاً بالصلة بل هو معمول لمقدر، ذلك المقدَّرُ في الحقيقة منصوبٌ ب «تَنْقِمون» فما أدري ما توهَّمه حتى قال ما قال؟ على أنه لا يجوزُ أن يكونَ حالاً لكن لا لِما ذَكر بل لأنه / يؤدِّي إلى أنه يصير التقديرُ: هل تَنْقِمون إلا إيمانَنا منا، فَمِنْ نفسِ قوله «إيماننا» فُهِم أنه منَّا، فلا فائدةَ فيه حينئذ. فإن قيل: تكون حالاً

مؤكدة. قيل: خلافُ الأصل، وليس هذا من مظانِّها، وأيضاً فإنَّ هذا شبيهٌ بتهيئة العامل للعمل وقَطْعِه عنه، فإنَّ «تَنْقِمون» يطلب هذا الجار طلباً ظاهراً. وقرأ الجمهور «وما أُنْزِل إلينا وما أُنْزِل» بالبناء للمفعول فيهما، وقرأ أبو نهيك: «أَنْزل، وأَنْزل» بالبناء للفاعل، وكلتاهما واضحة. قوله تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} قرأ الجمهورُ: «أَنَّ» مفتوحةَ الهمزة، وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها. فأمَّا قراءةُ الجمهور فتحتمل «أنَّ» فيها أنْ تكونَ في محل رفع أو نصب أو جر، فالرفعُ من وجه واحد وهو أن تكونَ مبتدأً والخبر محذوف. قال الزمخشري: «والخبر محذوف أي: فسقُكم ثابت معلومٌ عندكم، لأنكم علمتم أنَّا على الحق وأنتم على الباطل، إلا أنَّ حبَّ الرئاسة وجمع الأموال لا يَدَعُكم فتنصفوا» فقدَّر الخبر مؤخراً. قال الشيخ: «ولا ينبغي أن يُقَدَّر الخبرُ إلا مقدماً لأنه لا يُبْتَدَأ ب» أَنَّ «على الأصحِّ إلا بعد» أمَا «انتهى. ويمكن أن يقال: يُغْتفر في الأمور التقديرية ما لايُغْتفر في اللفظية، لاسيما أن هذا جارٍ مَجْرى تفسير المعنى، والمرادُ إظهار ذلك الخبر كيف يُنْطَق به، إذ يقال إنه يرى جواز الابتداء ب» أنَّ «مطلقاً، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير. وأمَّا النصبُ فمِنْ ستة أوجه، أحدها: أن يُعْطَفُ على» أن آمَنَّا «، واستُشْكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقديرُ: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَ أكثرهم، وهم لا يَعْترفون بأن أكثرَهم فاسقون حتى يكرهونه وأجيب عن ذلك، فأجاب الزمخشري وغيرُه بأنَّ المعنى: وما تنقمون منا إلا الجمعَ بين

أيماننا وبين تَمَرُّدكم وخروجكم عن الإِيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفَتكم حيث دَخَلْنا في دين الإِسلام وأنتم خارجون منه» . ونقل الواحدي عن بعضهم أنَّ ذلك من باب المقابلة والازدواج، يعني أنه لَمَّا نقم اليهود عليهم الإِيمان بجميع الرسل وهو مما لا يُنْقَم ذكَرَ في مقابلته فِسْقَهم، وهو مِمَّا يُنْقِم، ومثلُ ذلك حسنٌ في الازدواج، يقول القائل: «هل تنقم مني إلا أني عَفَوْتُ عنك وأنك فاجر» فَيَحْسُن ذلك لإِتمامِ المعنى بالمقابلة. وقال أبو البقاء: «والمعنى على هذا: إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم، أي: كرهتم مخالفتَنا إياكم، وهذا كقولك للرجل: ما كرهتَ مني إلا أني مُحَبِّبٌ للناس وأنك مُبْغَضٌ» وإن كان لا يعترف بأنه مُبْغَض. وقال ابن عطية: وأنَّ أكثركم فاسقون / هو عند اكثر المتأوِّلين معطوفٌ على قوله: {أَنْ آمَنَّا} فيدخُل كونُهم فاسقين فيما نَقَموه، وهذا لا يتِّجِهُ معناه «ثم قال بعد كلام:» وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة: هل تَنْقِمون منا إلا مجموعَ هذه الحال من أنَّا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} مِمَّا قَرَّره المخاطب لهم، وهذا كما تقولُ لِمَنْ يخاصِمُ: «هل تَنْقِم عليَّ إلا أن صدقتُ أنا وكَذَبْتَ أنت» وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب ولا يَنْقِم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تَنْقِم إلا مجموعَ هذه الحال «وهذا هو مجموعُ ما أجاب به الزمخشري والواحدي. الوجه الثاني من أوجه النصب: أن يكونَ معطوفاً على» أن آمنَّا «أيضاً، ولكنْ في الكلامِ مضافٌ محذوفٌ لصحةِ المعنى، تقديرُه:» واعتقادَ أن أكثركم فاسقون «وهو معنى واضح، فإنَّ الكفار يِنقِمون اعتقاد المؤمنين انهم فاسقون، الثالث: أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر تقديرُه: هل تنقمون منا إلا إيمانا، ولا تنقمون

فِسْقَ أكثركم. الرابع: أنه منصوبٌ على المعية، وتكونُ الواوُ بمعنى» مع «تقديرُه: وما تَنْقِمون منا إلا الإِيمانَ مع أن أكثرَكم فاسقون. ذَكَر جميعَ هذه الأوجه أبو القاسم الزمخشري. والخامس: أنه منصوبٌ عطفاً على» أنْ آمنَّا «و» أن آمنَّا «مفعولٌ من أجله فهو منصوب، فعَطَفَ هذا عليه، والأصلُ:» هل تَنْقِمون إلا لأجْلِ إيماننا، ولأجل أنَّ أكثرَهم فاسقون «، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر من» أن آمنَّا «بقي منصوباً على أحدِ الوجهين المشهورين، إلا أنه يقال هنا: النصبُ ممتنعٌ من حيث إنه فُقِد شرطٌ من المفعول له، وهو اتحاد الفاعلِ، والفاعلُ هنا مختلفٌ، فإنّ فاعل الانتقام غير فاعل الإِيمان، فينبغي أن يُقَدَّر هنا محلُّ» أن آمنَّا «جراً ليس إلا، بعد حذفِ حرفِ الجر، ولا يَجْري فيه الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محلِّ» أنْ «إذا حُذِف منها حرفُ الجر، لعدمِ اتحاد الفاعل. وأُجيب عن ذلك بأنَّا وإن اشترطنا اتحادَ الفاعلِ فإنَّا نجوِّزُ اعتقادَ النصبِ في» أَنْ «و» أَنَّ «إذا وقعا مفعولاً من أجله بعد حَذْفِ حرفِ الجر لا لكونِهما مفعولاً من أجله، بل من حيث اختصاصُهما من يحث هما بجواز حذف حرف الجر لطولِهما بالصلةِ، وفي هذه المسألةِ بخصوصِها خلافٌ مذكور في بابِه، ويدلُّ على ذلك ما نقلَه الواحدي عن صاحبِ» النظم «فإن صاحب» النظم «ذَكَر عن الزجاج معنًى، وهو: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَكم، أي: إنما كرهتم إيمانَنا وأنتم تعلمون أنَّا على حقٍّ لأنكم فسقتم بأنْ أقمتم على دينِكم، وهذا معنى قولِ الحسن، فعلى هذا يجب أن يكونَ موضعُ» أَنَّ «في قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ} نصباً بإضمار اللام على تأويل» ولأنَّ أكثرَكم «والواوُ زائدةٌ، فقد صَرَّح صاحبُ» النظم «بما ذكرته. الوجه السادس: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعول من أجله لتنقِمون، والواوُ زائدةٌ كما تقدَّم

تقريرُه. وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير ليُفْهَم معناه، قال الشيخ بعد ذِكْرِ ما نَقَلْتُه من الأوجه المتقدمةِ عن الزمخشري: «ويظهرُ وجهٌ ثامن ولعله يكون الأرجحَ، وذلك، أن» نَقَم «أصلُه أن يتعدَّى ب» على «تقول:» نَقَمت عليه «ثم تبني منه افْتَعَل إذ ذاك ب» من «ويُضَمَّن معنى الإِصابة بالمكروه، قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] ، ومناسَبَ التضمين فيها أنَّ مَنْ عاب على شخصٍ فِعْلَه فهو كارهٌ له، ومصيبُه عليه بالمكروه، فجاءت هنا فَعَل بمعنى افْتَعَل كقَدَرَ واقتدر، ولذلك عُدِّيت ب» مِنْ «دون» على «التي أصلُها أن تتعدَّى بها، فصار المعنى: وما تنالون منا وما تصيبوننا بما نَكْرَهُ إلا أن آمنا، أي: إلاَّ لأنْ آمنَّا» فيكون «ان آمنَّا» مفعولاً من أجله، ويكون «وأنَّ أكثركم فاسقون» معطوفاً على هذه العلة، وهذا - والله أعلم - سببُ تعديتِه ب «مِنْ» دون «على» انتهى ما قاله، ولم يُصَرِّحْ بكونِه حينئذ في محلِّ نصبٍ أو جر، إلاَّ أنَّ ظاهر حالِه أن يُعْتَقَد كونُه في محلِّ جرِّ، فإنه إنما ذُكِر أوجه الجر. وأمَّا الجرُّ فمن ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه عطفٌ على المؤمَنِ به، قال الزمخشري: «أي: وما تَنْقِمون منا إلا الإِيمانَ بالله وبما أُنْزِل، وبأن أكثركم فاسقون» وهذا معنى واضح، قال ابن عطية: «وهذا مستقيمُ المعنى، لأنَّ إيمانَ المؤمنين بأنَّ أهلَ الكتابِ المستمرين على الكفر بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَقه هو مما ينقمونه» الثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على علةٍ محذوفةٍ

تقديرها: ما تَنْقِمون منا إلا الإِيمان لقلة إنصافِكم وفسقِكم وإتباعِكم شهواتِكم، ويدلُّ عليه تفسيرُ الحسن البصري «بقسقِكم نَقَمتم علينا» ويُروى «لفسقهم نَقَموا علينا الإِيمان» الثالث: أنه في محلِّ جرِّ عطفاً على محل «أنْ آمنَّا» إذا جعلناه مفعولاً من أجله، واعتقَدْنا أنَّ «أنَّ» في محل جر بعد حذف الحرف، وقد تقدَّم ما في ذلك في الوجه الخامس، فقد تحصَّل في قولِه تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أحدَ عشرَ وجهاً، وجهان في حال الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر: هل يٌقَدَّرُ مُقدَّماً وجوباً أو جوازاً، وقد تقدَّم ما فيه، وستةُ أوجه في النصب، وثلاثةٌ في الجر. وأمَّا قراءةُ ابن ميسرة فوجهها أنها على الاستئنافِ، أخبر أنَّ أكثرَهم فاسقون، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ لعطفِها على معمول القول، أمرَ نبيَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقولَ لهم: هل تنقِمون إلى آخره، وأن يقول لهم: إنَّ أكثركم فاسقون، وهي قراءة جَلِيَّةٌ واضحة.

60

قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} : المخاطب في «أنبئِّكُم» فيه قولان، أحدهما - وهو الذي لا يَعْرِف أكثرُ / أهلِ التفسير غيرَه: أنه يُراد به أهلُ الكتاب الذين تقدَّم ذكرُهم. والثاني: أنه للمؤمنين، قال ابن عطية: «ومَشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أُمَر أَنْ يقول لهم:» هل أنبئِّكم «هم اليهودُ والكفار المتَّخذون دينَنا هزواً ولعباً، قال ذلك الطبري، ولم يُسْنِد في ذلك إلى متقدِّم شيئاً، والآية تحتمل أن يكونَ القولُ للمؤمنين» انتهى، فعلى كونِه ضميرَ المؤمنين واضحٌ، وتكونُ أَفْعَلُ التفضيل - أعني «بشرّ» - على بابِها، إذ يصير التقدير: قل هل أنبِّئكم يا مؤمنون بشرٍّ من حال هؤلاء الفاسقين؟ أولئك أسلافُهم الذين لعنهم الله، وتكون الإِشارةُ ب «ذلك» إلى حالِهم، كذا قَدَّره ابنُ عطية، وإنما قَدَّر مضافاً، وهو حال

ليصِحَّ المعنى، فإن «ذلك» إشارةٌ للواحدِ، ولو جاءَ مِنْ غيرِ حَذْفِ مضافٍ لقيل: بشرٍّ من أولئكم بالجمع. وقال الزمخشري: «ذلك» إشارةٌ إلى المنقومِ، ولا بد من حذفِ مضافٍ قبلَه أو قبل «من» تقديرُه: بشرٍّ من أهل ذلك، أو دينِ مَنْ لَعَنَه [الله] «انتهى. ويجوزُ ألاَّ يقدَّرَ مضافٌ محذوفٌ لا قبلُ ولا بعدُ، وذلك على لغةِ مَنْ يُشير للمفردِ وللمثنى والمجموع تذكيراً وتانيثاً بإشارةِ الواحدِ المذكر، ويكون» ذلك «إشارةً إلى الأشخاصِ المتقدِّمين الذين هم أهلُ الكتابِ، كأنه قيل: بشرٍّ من أولئك، يعني أن السلف الذي لهم شَرٌّ من الخَلَفِ، وعلى هذا يجيء قولُه {مَن لَّعَنَهُ} مفسِّراً لنفس» ذلك «، وإنْ كان ضميرَ أهلِ الكتاب وهو قولُ عامةِ المفسرين فيُشْكِل ويحتاج إلى جواب. ووجهُ الإِشكالِ أنه يصيرُ التقديرُ:» هل أنبِّئكم يا أهلَ الكتاب بشرٍّ من ذلك، و «ذلك» يُراد به المنقومُ وهو الإِيمان، وقد عُلِم أنه لا شرَّ في دينِ الإِسلام البتةَ، وقد أجابَ الناسُ عنه، فقال الزمخشري عبارةً قَرَّر بها الإِشكالَ المتقدمَ، وأجابَ عنه بعد أَنْ قال: «فإنْ قلت: المثوبةُ مختصةٌ بالإِحسان فكيف وَقَعَتْ في الإِساءةِ؟ قلت: وُضِعَتْ موضعَ عقوبةٍ فهو كقوله: 174 - 9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تحيةُ بينِهم ضَربٌ وَجيعُ ومنه {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ، وتلك العبارةُ التي ذكرتُها لك هي أن قال:» فإنْ قلت: المعاقَبُ من الفريقين هم اليهودُ، فلِمَ شُورك بينهم في العقوبة؟ قلت: كان اليهودُ - لُعِنوا - يزعمون أن المسلمين ضالُّون مستوجبون

للعقوبة، فقيل لهم: مَنْ لعنه الله شرٌّ عقوبةً في الحقيقة واليقينِ من أهل الإِسلام في زعمكم ودعواكم «وفي عبارته بعضُ علاقة وهي قوله:» فلِمَ شُورك بينهم «أي: بين اليهود وبين المؤمنين، وقوله:» من الفريقين «يعني بهما أهلَ الكتاب المخاطبين ب» أنبِّئكم «ومَنْ لعنه الله وغَضِب عليه، وقوله» في العقوبة «أي: التي وَقَعَت المثوبةُ / موقعَها، ففسَّرها بالأصل، وفَسَّر غيرُه المثوبةَ هنا بالرجوعِ إلى الله تعالى يومَ القيامة، ويترتَّب على التفسيرين فائدةٌ ستظهرُ لك قريباً. و «مثوبةً» نصبٌ على التمييز، ومميِّزُها «شَرٌّ» وقد تقدم في البقرة الكلامُ على اشتقاقِها ووزنِها فَلْيلتفت إليه. وقوله: {عِندَ الله} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بنفسِ «مَثُوبة» إنْ قُلْنا إنها بمعنى الرجوع، لأنك تقول: «رَجَعْتُ عنده» والعندية هنا مجازية. والثاني: أنه متعلق بمحذوف لأنه صفة ل «مثوبة» ، وهو في محلِّ نصبٍ إنْ قلنا: إنها اسمٌ محض، وليست بمعنى الرجوع بل بمعنى عقوبة. وقرأ الجمهور: {أُنَبِّئكم} بتشديد الباء من «نَبَّأ» وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: «أُنْبِئُكم» بتخفيفها من «أنبأ» وهما لغتان فصيحتان. والجمهور أيضاً على «مَثُوبة» بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ الأعرج وابن بريدة ونبيح وابن عمران: «مَثْوبة» بسكون الثاء وفتح الواو،

وجعلها ابن جني في الشذوذ كقولهم «فاكهة مَقْوَدَةٌ للأذى» بسكون القاف وفتح الواو، يعني أنه كان من حقها أن تُنْقَلَ حركةُ الواو إلى الساكن قبلها، وتٌقْلَبَ الواوُ ألفاً، فيقا: مثابة ومَقادة كما يقال: «مَقام» والأصل: «مَقْوَم» . قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ} في محل [ «مَنْ» ] أربعة أوجه، أحدها: أنه في محل رفع على خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو مَنْ لعنه الله، وقَدَّر مكي قبله مضافاً محذوفاً، قال: «تقديرُه: لَعْنُ مَنْ لعنه الله» ثم قال: وقيل: «مَنْ» في موضعِ خفضٍ على البدلِ مِنْ «بشرِّ» بدلِ الشيء من الشيء وهو هو، وكان ينبغي له أن يقدِّر في هذا الوجه مضافاً محذوفاً كما قَدَّره في حالة الرفع، لأنه إنْ جَعل «شراً» مراداً به معنًى لزمه التقدير في الموضعين، وإن جعله مراداً به الأشخاصُ لَزمه ألاَّ يُقَدِّر في الموضعين. الثاني: أنه في محل جر كما تقدَّم بيانُه عن مكي. الثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من محل «بشر» . الرابع: أنه في محلِّ نصبٍ على منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر يدل عليه «أُنَبِّئكم» تقديره: أُعَرِّفكم مَنْ لعنه الله، ذكره أبوالبقاء، و «مَنْ» يُحْتَمل أن تكونَ موصولة وهو الظاهرُ، ونكرةً موصوفة. فعلى الأول لا محلَّ للجملة التي بعدها، وعلى الثاني لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على «مَنْ» بأحد الأوجه السابقة، وقد حَمَل على لفظِها أولاً في قوله «لعنه» و «عليه» ثم على معناها في قوله: {مِنْهُمُ القردة} ، ثم على لفظها في قوله: {وَعَبَدَ الطاغوت} ثم على لفظِها في قوله: {أولئك} فجَمَع في الحمل عليها أربع مرات. و «جَعَل» هنا بمعنى «صَيَّر» فيكون «منهم» في محل نصب مفعولاً ثانياً، قُدِّم على الأول فيتعلق بمحذوف أي صَيَّر القردة والخنازير كائنين منهم،

وجعلَها الفارسي في كتاب «الحجة» له بمعنى خلق. قال ابن عطية «وهذه منه - رحمه الله - نزعةٌ اعتزالية لأنه قوله: {وَعَبَدَ الطاغوت} تقديره: ومَنْ عبد الطاغوت» والمعتزلة لا ترى أن الله تعالى يصيِّر أحداً عابدَ طاغوت «انتهى. والذي يُفَرٌّ منه في التصيير هو بعينه موجودٌ في الخلق، وللبحث فيه موضع غير هذا تعرضت له في التفسير الكبير. وجَعَلَ الشيخ قوله تعالى» مَنْ لعنَه الله «إلى آخره مِنْ وَضْعِ الظاهر موضعَ المضمرِ تنبيهاً على الوصف الذي به حصل كونهم شراً مثوبةً، كأنه قيل: قل هل أنبِّئكم بشرٍّ من ذلك عند الله مثوبة؟ أنتم، أي: هم أنتم، ويَدُلُّ على هذا المعنى قوله بعد: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا} فيكون الضميرُ واحداً، وجَعَل هذا هو الذي تقتضيه فصاحةُ الكلام. وقرأ أُبَيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود:» مَنْ غَضِب الله عليهم وجعلَهم قردةً «وهي واضحةٌ. قوله: {وَعَبَدَ الطاغوت} في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءةً اثنتان في السبع، وهما» وعَبَد الطاغوتَ «على أن» عَبَد «فعلٌ ماضٍ مبني للفاعل، وفيه ضميرٌ يعودُ على» مَنْ «كما تقدم، وهي قراءة جمهور السبعة غيرَ حمزة. والثانية: و» عَبُدَ الطاغوتِ «بضم الباء وفتح الدال وخفض الطاغوت، وهي قراءةُ حمزة - رحمه الله - والأعمش ويحيى بن وثاب. وتوجيههُا كما قال الفارسي وهو أن» عَبُداً «واحدٌ يُراد به الكثرةُ مثلَ قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ

نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وليس بجمع» عبد «لأنه ليس في أبنيةِ الجمعِ مثلُه. قال:» وقد جاء على فَعُل لأنه بناء يُراد به الكثرةُ والمبالغةُ في نحو يَقُظ ونَدُس كأنه قد ذهب في عبادة الطاغوت كلَّ مذهب، وبهذا المعنى أجاب الزمخشري أيضاً، قال - رحمه الله تعالى -: «معناه الغلُوُّ في العبودية كقولهم:» رجل حَذُر وفَطُن «للبليغ في الحذر والفطنة، وأنشدَ لطَرَفة: 175 - 0- أبني لُبَيْنَى إنَّ أمَّكُمُ ... أَمَةٌ، وإنَّ أباكُمُ عَبُدُ وقد سَبَقهما إلى هذا التوجيهِ أبو إسحاق، وأبو بكر بن الأنباري، قال أبو بكر:» وضُمَّتِ الباءُ للمبالغةِ كقولِهم للفَطِن: «فَطُن» وللحَذِر: «حَذُر» ، يَضُمُّون العين للمبالغة، قال أوس بن حجر: -أبني لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ ... أَمَةٌ، وإنَّ أباكُمُ عَبُدُ فضمَّ الباء، قلت: كذا نَسَب البيتَ لابن جحر، وقد قَدَّمْتُ أنه لطرفة، ومِمَّنْ نَسَبه لطرفةَ الشيخُ شهاب الدين أبو شامة. وقال أبو إسحاق: «ووجْهُ قراءِة حمزةَ أنَّ الاسمَ بُنِي على فَعُل كما تقول:» رجلٌ حَذُر «وتأويلُه أنه مبالغٌ في الحذر / فتأويلُ» عَبُد «أنَّه بَلَغ الغايةَ في طاعة الشيطان، وكأنَّ هذا اللفظَ لفظٌ واحدٌ يَدُلُّ على الجمعِ كما تقول للقوم» عَبُد العَصا «تريدُ عبيد العصا،

فأخذ أبو عليّ هذا وبَسَطه بما ذَكَرْتُه عنه، ثم قال» وجاز هذا البناءُ في عَبْد لأنه في الأصلِ صفةٌ، وإن كان قد استُعْمِل استعمالَ الأسماءِ، لا يُزيل ذلك عنه حكمَ الوصفِ كالأبطح والأبرق استُعْمِلا استعمالَ الأسماءِ حتى جُمِعا جَمْعَها في قولهم: أبارق وأباطح كأجادِل جمع الأجْدَل ثم لم يُزِلْ ذلك عنهما حكمَ الصفة، يَدُلُّك على ذلك مَنْعُهم له الصرفَ كأحمر، وإذا لم يَخْرج العبدُ عن الصفة لم يمتنعْ أَنْ يُبنى بناءَ الصفات على فَعُل نحو: «يَقُظ» ، وإنما أَشْبَعْتُ العبارةَ هنا لأن بعض الناس طَعَن على هذه القراءة ونسب قارئها إلى الوهم كالفراء والزجاج وأبي عبيد ونصير الرازي النحوي صاحب الكسائي. قال الفراء: «إنما يجوز ذلك في ضرورةِ الشعر - يعني ضمَّ باء» عَبُد «فأمَّا في القراء فلا» وقال أيضاً: «إنْ تكن لغةً مثلَ حَذُر وعَجُل جاز ذلك، وهو وجهٌ، وإلاَّ فلا تجوزُ في القراءة» وقال الزجاج: «هذه القراءةُ ليست بالوجهِ لأنَّ عَبُداً على فَعُل، وهذا ليس من أمثلةِ الجمعِ» وقال أبو عبيد: «إنما معنى العَبُد عندهم الأعبُد، يريدون خدَمَ الطاغوتِ، ولم نجد هذا يَصِحُّ عن أحد من فصحاء العرب أن العَبْد يقال فيه عَبُد وإنما هو عَبْد وأَعْبُد» وقال نصير الرازي «هذا وَهْمٌ مِمَّن قرأ به فليتقِ الله مَنْ قرأ به، وليسألْ عنه العلماء حتى يوقفَ على أنه غير جائز» قلت: قد سألوا عن ذلك العلماءَ ووجدوه صحيحاً في المعنى بحمد الله تعالى، وإذا تواتر الشيء قرآناً فلا التفاتَ إلى مُنْكرِه لأنه خَفِيَ عنه ما وَضَح لغيره.

وأمَّا القراءاتُ الشاذةُ فقرأ أُبَيّ: و «عَبَدُوا» بواوِ الجمع مراعاةً لمعنى «مَنْ» وهي واضحةٌ. وقرأ الحسن البصري في رواية عَبَّاد و «عَبْدَ الطاغوت» بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من «الطاغوت» وخَرَّجها ابن عطية على وجهين احدهما: أنه أراد: «وعَبْداً الطاغوت» فحذف التنوينَ من «عبداً» لالتقاء الساكنين كقوله: 175 - 1-. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا والثاني: أنه أراد «وعبَد» بفتح الباء على أنه فعلٌ ماضٍ كقراءة الجماعة إلا أنه سَكَّن العينَ على نحوِ ما سَكَّنها في قول الآخر: 175 - 2- وما كلُّ مغبونٍ ولو سَلْفَ صَفْقُهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بسكون اللام، ومثله قراءةُ أبي السمال: {ولُعْنوا بما قالوا} بسكون العين، قلت: ليس ذلك مثلَ «لُعْنوا» لأنَّ تخفيف الكسر مقيس بخلاف الفتح ومثلُ «سَلْفَ» قولُ الآخر: 175 - 3- إنما شِعْريَ مِلْحٌ ... قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ

من حيث إنه خَفَّف الفتحة. وقال الشيخ - بعد أن حكى التخريج الأول عن ابن عطية -: «وهذا التخريجُ لا يَصِحُّ لأنَّ عَبْداً لايمكن أن ينصبَ الطاغوت، إذ ليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعل، فالتخريجُ الصحيح أن يكونَ تخفيفاً من» عَبَدَ «ك» سَلْف «في» سَلَفْ «قلت: لو ذكر التخريجين عن ابن عطية، ثم استشكلَ الأولَ لكان إنصافاً لئلا يُتَوَهَّم أن التخريجَ الثاني له. ويمكن أن يقال: إنَّ» عَبْداً «لِما في لفظه من معنى التذلل والخضوعِ دَلَّ على ناصبٍ للطاغوت حُذِفَ، فكأنه قيل: مَنْ يعبُد هذا العبدَ؟ فقيل: يعبُد الطاغوتَ، وإذا تقرَّر أنَّ» عَبْدَ «حُذِفَ تنوينُه فهو منصوبٌ عطفاً على القردة، أي: وجعلَ منهم عَبْداً للطاغوت. وقرأ الحسن أيضاً في روايةٍ أخرى كهذه القراءة، إلا أنه جَرَّ» الطاغوت «وهي واضحةٌ فإنه مفرد يُراد به الجنسُ أُضيف إلى ما بعده. وقرأ الأعمش والنخعي وأبو جعفر:» وعُبِد «مبنياً للمفعول،» الطاغوتُ «رفعاً. وقرأ عبد الله كذلك إلا أنَّه زادَ في الفعلَ تاءَ التأنيث، وقرأ:» وعُبِدَتِ الطاغوتُ «والطاغوت يذكر ويؤنث، قال تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] ، وقد تقدَّم في البقرة قال ابن عطية:» وضَعَّفَ الطبري هذه القراءةَ، وهي متجهةٌ «يعني قراءةَ البناءِ للمعفول، ولم يبيِّنْ وجهَ الضعفِ ولا توجيهَ القراءة، ووجهُ الضعفِ أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصلةِ من رابطٍ يربُطها

بالموصولِ، إذ ليس في» عُبِد الطاغوتُ «ضميرٌ يعودُ على {مَن لَّعَنَهُ الله} لو قلت: أكرمت الذين أهنتُم وضُرِب زيدٌ» على أن يكون «وضُرِب» عطفاً على «أكرمت» لم يَجُزْ، فكذلك هذا. وأمَّا توجيهُها فهو كما قال أبو القاسم الزمخشري: «إنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُه:» وعُبِد الطاغوتُ فيهم أو بينهم «. وقرأ ابن مسعود في روايةِ عبد الغفار عن علقمة عنه: {وعَبُدَ الطاغوتُ} بفتح العين وضمِّ الباء وفتحِ الدالِ ورفعِ الطاغوت، وفيها تخريجان، أحدُهما: - ما ذكرَه ابن عطية - وهو أن يصيرَ له أَنْ عُبِد كالخُلُقِ والأمرِ المعتاد المعروف، فهو في معنى فَقُه وشَرُف وظَرُف، قلت: يريد بكونِه في معناه أي: صار له الفقهُ والظرفُ خُلُقاً معتاداً معروفاً، وإلاَّ فمعناه مغايرٌ لمعاني هذه الأفعالِ والثاني: - ما ذكرَه الزمخشري - وهو أَنْ صارَ معبوداً من دونِ الله ك» أمُر «أي: صار أميراً، وهو قريبٌ من الأولِ وإنْ كان بينهما فرقٌ لطيفٌ. وقرأ ابن عباس في رواية عكرمة عنه ومجاهد / ويحيى بن وثاب: و {وعُبُدَ الطاغوتِ} بضم العين والباء وفتح الدال وجر «الطاغوت» وفيها أقوال، أحدها: وهو قول الأخفش - أنَّ عُبُداً جمع عبيد، وعبيد جمعُ عَبْد فهو جمعٌ الجمعِ، وأنشد: 175 - 4- أنسُبِ العبدَ إلى آبائِه ... أسودَ الجِلْدَةِ من قومٍ عُبُدْ

وتابعه الزمخشري على ذلك، يعني أنَّ عبيداً جمعاً بمنزلة رغيف مفرداً فيُجْمع جمعَه كما يُقال: رغيف ورُغُف. الثاني - وهو قولُ ثعلب - أنه جمعُ عابد كشارف وشُرُف، وأنشد: 175 - 5- ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ ... فهنَّ مُعَقِّلاتٌ بالفِناءِ والثالث: أنه جَمْعُ عَبْد كسِقْف وسُقُف ورَهْن ورُهُن. والرابع: أنه جمع عِباد، وعِباد جمعُ «عَبْد» فيكونُ أيضاً جمعَ الجمعِ مثل «ثِمار» هو جمع «ثَمَرة» ثم يُجْمع على «ثُمُر» وهذا لأنَّ عِباداً وثِماراً جمعين بمنزلة كتاب مفرداً، وكتاب يجمع على كُتُب فكذلك ما وازَنَه. وقرأ الأعمش: «وعُبَّدَ» بضمِّ العينِ وتشديدِ الباءِ مفتوحةً وفتحِ الدال، «الطاغوت» بالجرِّ، وهي جمع عابِد كضُرَّب في جمع ضارِب وخُلَّص في جمع خالِص. وقرأ ابنُ مسعود أيضاً في رواية علقمة: {وعُبَدَ الطاغوت} بضمِّ العين وفتح الباء والدالِ. و «الطاغوتِ» جَرَّا، وتوجيهُها أنه بناءُ مبالغةٍ كحُطَم ولُبَد وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ يُراد به الجمعُ، والقولُ فيه كالقول في قراءةِ حمزة وقد تقدَّمَتْ. وقرأ ابن مسعود في رواية علقمةَ أيضاً: و {وعُبَّدَ الطاغوتَ} بضمِّ العين وبشد الباء مفتوحة وفتح الدال ونصب «الطاغوت» وخَرَّجها ابن عطية على

أنها جمعُ عابد كضُرِّب في جمع ضارب، وحَذَف التنوين من «عبدا» لالتقاء الساكنين كقوله: 175 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا قال: «وقد تقدَّم نظيرُه» يعني قراءةَ: {وعَبْدَ الطاغوتَ} بفتح العين والدال وسكونِ الباءِ ونصبِ التاء، وكان ذَكَر لها تخريجين، أحدُهما هذا، والآخرُ لا يمكنُ وهو تسكينُ عينِ الماضي. وقرأ بريدة الأسلمي فيما نقلَه عنه ابنُ جرير: «وعابِد الشيطانِ» بنصبِ «عابد» وجَرِّ «الشيطان» بدلَ الطاغوت وهو تفسيرٌ لا قراءةٌ. وقرأ أبو واقد الأعرابي: {وعُبَّاد} بضمِّ العينِ وتشديدِ الباءِ بعدها ألف ونصبِ الدال، والطاغوتِ بالجر، وهي جمعُ عابد كضُرًَّاب في ضارب. وقرأ بعضُ البصريين: «وعِبادَ الطاغوتِ» بكسرِ العين، وبعد الباء المخففة ألف، ونصب الدال وجَر‍ِّ «الطاغوت» وفيها قولان: أحدهما: أنه جمع عابِد كقائِم وقِيام، وصائِم وصِيام. والثاني: أنها جمعُ عَبْد، وأنشد سيبويه: 175 - 7- أتوعِدُني بقومِك يابنَ حَجْلٍ ... أُشاباتٍ يُخالُون العِبادَا قال ابن عطية: «وقد يجوزُ أن يكونَ جمعَ» عَبْد «، وقلما يأتي»

عِباد «/ مضافاً إلى غيرِ الله تعالى، وأَنْشَد سيبويه:» أتُوْعِدُني «البيت قال أبو الفتح: يريد عبادَ آدم عليه السلام، ولو أراد عباد الله فليس ذلك بشيء يُسَبُّ به أحدٌ، فالخَلْقُ كلُّهم عبادُ الله» قال ابن عطية: «وهذا التعليقُ بآدم شاذٌّ بعيدٌ والاعتراضُ باقٍ، ولي هذا مِمَّا تخيَّل الشاعرُ قصدَه، وإنما أرادَ العبيد فساقَتْه القافيةُ إلى العباد، إذ قد يُقال لِمَنْ يملكه مِلْكاً ما، وقد ذكر أن عربَ الحيرة سُمُّوا عِباداً لدخولهم في طاعةِ كِسْرى فدانَتْهم مملكتُه» قلت: قد اشْتَهَر في ألسنةِ الناس أن «عَبْدا» المضافَ إلى الله تعالى يُجْمَعُ على «عِباد» وإلى غيره على «عبيد» ، وهذا هو الغالبُ، وعليه بنى أبو محمد. وقرأ عون العقيلي في روايةِ العَبَّاس بن الفضل عنه: «وعابِدُ الطاغوتِ» بضمِّ الدالِ وجَرِّ الطاغوت كضاربِ زيدٍ. قال أبو عمرو: تقديرُه: «وهم عابدُ الطاغوت» قال ابن عطية: «فهو اسمُ جنسٍ» قلت: يعني انه أرادَ ب «عابِد» جماعةً، قتل: وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها: «وعابدو الطاغوت» جَمْعَ عابد جمعَ سلامةٍ، فلمَّا لَقِيت الواوُ لامَ التعريف حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، فصار اللفظُ بدالٍ مضمومةٍ، ويؤيِِّد فَهْمَ هذا أنَّ أبا عمرو قَدَّر المبتدأ جَمْعاً فقال: «تقديرُه: هم عابدو» اللهم إلا أَنْ ينقلُوا عن العقيلي أنه نَصَّ علي قراءتِه أنها بالإِفراد، أو سمعوه يقف على «عابد» أو رَأَوْا مصحفَه بدالٍ دونَ واوٍ، وحينئذ تكونُ قراءتُه كقراءةِ ابن عباس: {وعابدو}

بالواوِ، وعلى الجملة فقراءتُهما متحدةٌ لفظاً، وإنَّما يَظْهَرُ الفرقُ بينهما على ما قالُوه في الوقفِ أو الخطِّ. وقرأ ابنُ عباس في روايةٍ أخرى لعكرمة: «وعابِدُوا» بالجمعِ، وقد تقدَّم ذلك. وقرأ ابن بُرَيْدة: «وعابد» بنصبِ الدالِ كضاربِ زيدٍ، وهو أيضاً مفردٌ يُراد به الجنسُ. وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة: {وعَبَد الطاغوتِ} بفتحِ العينِ والباءِ والدال وجَرِّ الطاغوت، وتخريجُها أنَّ الأصلَ: «وعبدةً الطاغوت» وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة كفاجِر وفَجَرة، وكافِر وكَفَرة، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإِضافة كقوله: 175 - 8- قام وُلاها فسقَوْه صَرْخَدا ... أي: ولاتُها، وكقوله: 175 - 9-. . . . . . . . . . . . . . . ... وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدُوا أي: عدةَ الأمر، ومنه: {وَإِقَامَ الصلاوة} [الأنبياء: 73] أي: إقامةِ الصلاة، ويجوزُ أَنْ يكونَ «عَبَدَ» اسمَ جنسٍ لعابد كخادِم وخَدَم / وحينئذ فلا حَذْفَ تاءِ تأنيثٍ لإِضافة. وقُرِئ: «وعَبَدَة الطاغوت» بثبوتِ التاء وهي دالَّةٌ على حَذْفِ التاء للإِضافة في القراءةِ قبلَها، وقد تقدَّم توجيهُها أنَّ فاعِلاً يُجْمَعُ على «فَعَلَة» كبارّ وبَرَرة وفاجِر وفَجَرة. وقرأ عبيد بن عمير: «وأعْبُد الطاغوت» جمع عبد كفَلْس وأَفْلُس وكَلْب وأَكْلُب. وقرأ ابن عباس: «وعبيد الطاغوت» جمع عبدٍ كفَلْس وأَفْلُس وكَلْب وأَكْلُب. وقرأ ابن عباس: «وعبيد الطاغوت» وجمعَ عبدٍ ايضاً وهو نحو: كلب وكليب «قال: 176 - 0-

تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها ... رجالٌ فَبَذَّتْ نبلَهُمْ وكَلِيبُ وقُرئ أيضاً:» وعابدي الطاغوت «وقرأ عبد الله بن مسعود:» ومَنْ عَبَدوا «فهذه أربعٌ وعشرون قراءةً، وكان ينبغي ألاَّ يُعَدَّ فيها:» وعابد الشيطان «لأنها تفسيرٌ لا قراءة. وقال ابن عطية:» وقد قال بعضُ الرواة في هذه الآية: إنها تجويزٌ لا قراءةٌ «يعني لَمَّا كَثُرت الرواياتُ في هذه الآيةِ ظنَّ بعضُهم أنه قيل على سبيلِ الجواز لا أنها منقولةٌ عن أحدٍ، وهذا لا ينبغي أَنْ يُقال ولا يُعْتقدَ فإنَّ أهلَها إنما رَوَوْها قراءةً تَلَوها على مَنْ أخذوا عنه، وهذا بخلاف و» عابد الشيطان «فإنَّه مخالفٌ للسواد الكريم. وطريقُ ضبطِ القراءةِ في هذا الحرفِ بعدَما عُرِفَ القراء أن يقال: سبع قراءات مع كونِ» عَبَد «فعلاً ماضياً وهي: وعَبَد وعَبَدُوا ومَنْ عَبَدوا وعُبِد وعُبِدَت وعَبُدَ وعَبْدَ في قولِنا: إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفاً كسَلْفَ في سَلَف، وتسعُ قراءاتٍ مع كونِه جمعَ تكسيرٍ وهي: وعُبُدَ وعُبَّد مع جَرِّ الطاغوت وعُبَّد مع نصبه وعُبَّاد وعِباد وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإِضافةِ وعَبَدَة وأَعْبُد وعبيد، وست مع المفرد: وعَبُدَ وعُبَدَ وعابدَ الطاغوت وعابدُ الطاغوت بضم الدال وعابد الشيطان وعَبْدَ الطاغوت، وثنِتان مع كونه جمعَ سلامة: وعابِدوا بالواو وعابدي بالياء. فعلى قراءةِ الفعل يجوز في الجملةِ وجهان، أحدهما: أن تكونَ معطوفةً على الصلة قبلها والتقدير: مَنْ لعنَه الله وعَبَد الطاغوت. والثاني: أنه ليس داخلاً في حَيِّز الصلةِ، وإنما هو على تقديرِ مَنْ أي: ومَنْ عَبَد، ويدلُّ له قراءة عبد الله بإظهارِ» مَنْ «إلاَّ أنَّ هذا - كما قال الواحدي - يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه، وهو ممنوعٌ عند البصريين، جائزٌ عند

الكوفيين، وسيأتي جميعُ ذلك في قولِه تعالى: {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46] أي: وبالذي أُنْزل. وعلى قراءةِ جمع التكسير فيكون منصوباً عطفاً على القردة والخنازير أي: جَعَلَ منهم القردةَ وعِباد وعُبَّاد وعبيد، وعلى قراءةِ الإِفراد كذلك أيضاً، ويجوز النصبُ فيها أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو العطفُ على» مَنْ «في {مَن لَّعَنَهُ الله} إذا قلنا بأنه منصوبٌ على ما تقدَّم تحريرُه قبلُ، وهو مرادٌ به الجنس، وفي بعضِها قُرئ برفعه نحو:» وعابدُ الطاغوت، وتقدَّم أن أبا عمرو يُقَدِّر له مبتدأ أي: هم عابد، وتقدَّم ما في ذلك، وعندي أنه يجوزُ ان يرتفعَ على أنه معطوفٌ على «مَنْ» في قولِه تعالى {مَن لَّعَنَهُ الله} ويَدُلُّ لذلك أنهم أجازوا في قراءِة عبدِ الله: «وعابدُو» بالواوِ هذين الوجهين فهذا مثله. وأما قراءة جمع السلامة فَمَنْ قرأ بالياء فهو منصوبٌ عطفاً على القردةِ، ويجوزُ فيه وجهان آخران، أحدُهما: أنه منصوبٌ عطفاً على «مَنْ» في {مَن لَّعَنَهُ الله} إذا قلنا إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ. والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على {مَن لَّعَنَهُ الله} أيضاً إذا قُلنا بأنَّها في محلِّ جر بدلاً من «بشرِّ» كما تقدمَّ إيضاحُه. وهذه أوجهٌ واضحةٌ عَسِرة الاستنباطِ واللهُ أعلمُ. ومَنْ قَرأ بالواو فرفعُه: إمَّا على إضمارِ مبتدأ أي: هم عابدُو الطاغوت، وإمَّا نسقٌ على «مَنْ» في قولِه تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله} كما تقدَّم. قوله تعالى: {أولئك شَرٌّ} مبتدأ وخبر، و «مكاناً» نصب على التمييز، نَسَب الشَّر للمكان وهو لأهلِه، كنايةً عن نهايتهِم في ذلك، و «شرّ» هنا على بابه من التفضيل، والمفضَّل عليه فيه احتمالان، أحدهما: أنهم المؤمنون، فيقال: كيف يُقال ذلك والمؤمنون لا شَرَّ عندهم البتة؟ فَأُجيب بجوابين، أحدُهما: - ما ذكره النحاس - وهو أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ

المؤمنين في الدنيا لِما يلحقُهم فيه من «الشر» يعني من الهمومِ الدنيويةِ والحاجةِ والإِعسار وسماعِ الأذى والهَضْم من جانبهم قال: «وهذا أحسنُ ما قيل فيه» لعَمْري لقد صدق فطالما يَلْقَى المؤمن من الأذى ويذوقُ من الحاجة كلَّ صابٍ وعَلْقم. والثاني من الجوابين: أنه على سبيل التنزيل والتسليم للخصم على زعمه إلزاماً له بالحجة، كأنه قيل: شَرٌّ من مكانهم في زعمكم، فهو قريب من المقابلة في المعنى. والثاني من الاحتمالين أنَّ المفضَّل عليه هم طائفة من الكفارِ، أي: أولئك الملعونون المغضوبُ عليهم المجعولُ منهم القردةُ والخنازيرُ العبادون الطاغوتَ شرٌّ مكاناً من غيرهم مِنَ الكفرة الذين لم يَجْمعوا بين هذه الخصالِ الذميمةِ.

61

قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ} : الضميرُ المرفوعُ لليهودِ المعاصرين، فحينئذ لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي: وإذا جاءكم ذريتُهم أو نَسْلُهم؛ لأنَّ أولئك المجعولَ منهم القردة والخنازير لم يَجيئوا، ويجوزُ ألاَّ يقدَّر مضافٌ محذوفٌ، وذلك على أن يكونَ قولُه {مَن لَّعَنَهُ الله} إلى أخره عبارةً عن المخاطبين في قوله: {يَا أَهْلَ الكتاب} وأنه مِمَّا وُضِع فيه الظاهرُ موضعَ المضمر، وكأنه قيل: أنتم، كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ فإنه لا بدَّ من تقدير مضافٍ في قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة} تقديرُه: وجَعَلَ من آبائِكم أو أسلافكم أو من جنسكم، لأن المعاصرين ليسوا مجعولاً منهم بأعيانِهم، فسواءً جَعَله مِمَّا ذَكَر أم لا، لا بد من حذف مضاف. قوله تعالى: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر} هذه جملةٌ حاليةٌ / وفي العامل فيها وجهان أحدُهما: وبه بدأ أبو البقاء - أنه «قالوا» أي: قالوا كذا في حالِ دخولِهم كفرةً وخروجِهم كفرةً وفيه نظرٌ، إذ المعنى يَأباه. والثاني: أنه «آمنَّا» ،

وهذا واضحٌ أي: قالوا آمنَّا في هذه الحال. و «قد» في «وقد دَخَلُوا» «وقد خَرَجُوا» لتقريب الماضي في الحال. وقال الزمخشري: «ولمعنًى آخرَ وهو أنَّ أماراتِ النفاقِ كانت لائحةً عليهم فكان الرسولُ عليه السلام متوقعاً لإِظهار الله تعالى ما كتموه، فدخَلَ حرفُ التوقعِ، وهو متعلِّقٌ بقولِه» قالوا آمنا «أي: قالوا ذلك وهذه حالُهم» يعني بقوله: «وهو متعلِّقٌ» أي: والحال، وقوةُ كلامِه تُعْطي أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقول. و «بالكفر» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من فاعلِ «دَخَلوا» فيه حال من حالٍ أي: دَخلوا ملتبسين بالكفرِ أي: ومعَهم الكفرُ كقولِهم: «خرج زيدٌ بثابه» وقراءةِ مَنْ قرأ: {تَنْبُتُ بالدُّهْن} أي: وفيها الدهن، ومنه ما أنشدَ الأصمعي: 176 - 1- ومُسْتَنَّةٍ كاسْتنانِ الخَرُو ... فِ قد قَطَعَ الحَبْل بالمِرْوَدِ أي: ومرودُه فيه، وكذلك «به» أيضاً حالٌ من فاعلِ «خرجوا» . وقوله: {وهم} مبتدأٌ، و «قد خَرَجُوا» خبرُه، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على الحالِ قبلَها، وإنما جاءتِ الأولى فعليةً والثانيةُ اسميةً تنبيهاً على فرطِ تهالكِهم في الكفر، وذلك أنهم كان ينبغي لهم إذا دخلوا على الرسولِ عليه السلام أَنْ يُؤمنوا، لِما يَرَوْن من حسنِ سَمْتِه وهَيْبَته وما يظهرُ على يديهِ

الشريفة من الخوارقِ والمعجزات، ولذلك قال بعض الكفرة: «رأيت وجهَ مَنْ ليس بكذَّاب» فلمَّا [لم] ينجَعْ فيهم ذلك أكَّد كفرهَم الثاني بأَنْ أبْرَز الجملةَ اسميةً صدرُها اسمٌ وخبرها فعلٌ، ليكونَ الإِسنادُ فيها مرتين. وقال ابن عطية: «وقولُه» «وهم» تخليص من احتمالِ العبارةِ أن يدخُلَ قومٌ بالكفرِ ثم يؤمنوا ويخرجَ قومٌ وهم كفرة، فكان ينطبِقُ على الجميع وهم قد دَخَلوا بالكفر وقد خَرَجوا به، فأزال اللهُ الاحتمالَ بقوله: «وهم قد خَرَجوا به» أي: هم بأعيانِهم «وهذا المعنى سَبَقه إليه الواحدي فبسَطَه ابنُ عطية، قال الواحدي:» وهم قد خَرَجوا به «أكَّد الكلامَ بالضمير تعييناً إياهم بالكفرِ وتمييزاً لهم عن غيرِهم» وقال بعضُهم: «معنى» هم «التأكيدُ في إضافة الكفر إليهم، ونفى أن يكونَ من الرسولِ ما يوجِبُ كفرَهم مِنْ سوءِ معاملتِه لهم، بل كان يلطفُ بهم ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ، فالمعنى: أنهم هم الذين خَرَجوا بالكفر باختيارِ أنفسهم، لا أنك أنت الذي تسبَّبْبَ لبقائِهم في الكفر» وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وقد كانوا خَرَجُوا به» ولا معنى لهذا التأويلِ. والواوُ في قوله تعالى: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ} تحتمل وجهين أحدهما: أن تكونَ عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلِها، والثاني: أن تكونَ هي نفسُها واوَ الحال، وعلى هذا يكونُ في الآية الكريمة حجةٌ لمن يُجيز تعدُّدَ الحالِ لذي حالٍ مفردٍ من غير عطف ولا بدل إلا في أفعلِ التفضيل، نحو: «جاء زيدٌ ضاحكاً كاتباً» وعلى الأول لا يجوزُ ذلك إلا بالعطفِ أو البدلِ، وهذا شبيهٌ بالخلاف في تعدُّد الخبر.

62

وقوله تعالى: {وترى} : يجوز أن تكونَ بصريةً فيكونَ «يُسارعون» حالاً، وأن تكونَ العِلْمية أو الظنيَّة فينتصب «يسارعون» مفعولاً ثانياً.

و «منهم» في محلِّ نصب على أنه صفةٌ ل «كثيراً» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائناً منهم أو استقرَّ منهم. وقرأ أبو حيوة: «العِدوان» بالكسر. وأَكْلِهم «هذا مصدرٌ مضافٌ لفاعله. والسحتَ مفعولُه، وقد تقدَّم ما فيه قبلَ ذلك وقوله:» لبئسما «قد تَقَدَّم ايضاً حكمُ» ما «مع بئس ونِعْم أولَ هذا الكتاب فأَغْنى عن إعادته.

63

وقوله تعالى: {لَوْلاَ} : حرفُ تحضيضٍ ومعناه التوبيخ. وقرأ الجراح وأبو واقد: «الِّربيُّون» مكان الربانيين. وقرأ ابن عباس «بئسما» بغير لام قسم. و «قولِهم» مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه، «والإِثْمَ» مفعولُه.

64

وقرأ أبو السمَّال: «ولُعنوا» بسكون العين، وحَسَّن تخفيفَها هنا كونُها كسرةً بين ضمتين، ومثلُه قولُ الآخر: 176 - 2- لو عُصْرَ منه البانُ والمسكُ انعصَرْ ... والظاهر أن الضميرَ في «كانوا» عائدٌ على الأحبار والرهبان، ويجوز أن يعودَ على المتقدمين. وقول تعالى حكايةً عن اليهود: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} فيه قولان، أحدُهما:

أنه خبرٌ مَحْضٌ. وزعم بعضُهم أنه على تقديرِ همزةِ استفهام تقديره: «أيدُ اللَّهِ مغلولةٌ» ؟ قالوا ذلك لَمَّا قَتَّر عليهم معيشتهم، ولا يحتاجون إلى هذا التقدير. و «بما قالوا» الباء للسببية أي: لُعنوا بسببِ قولِهم، و «ما» مصدريةٌ، ويجوزُ أن تكونَ موصولةً اسمية والعائدُ محذوف. وغَلُّ اليدِ وبسطُها هنا استعارةٌ للبخل والجود، وإن كان ليس ثَمَّ يدٌ ولا جارحة، وكلامُ العرب ملآنُ من ذلك. قالت العرب: «فلانٌ ينفق بكلتا يديه» قال: 176 - 3- يداك يدا مجدٍ، فكفٌّ مفيدةٌ ... وكفٌ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ وقال آخر هو ابو تمام: 176 - 4- تعوَّد بَسْطَ الكفِّ حتى لَوَ أنَّه ... دعاها لقَبْضٍ لم تُطِعْه أنامِلُهْ وقد استعارت العربُ ذلك حيث لا يدَ البتة، ومنه قولُ لبيد: 176 - 5-. . . . . . . . . . . . . . ... إذْ أصبحَتْ بيدِ الشَمالِ زِمامُها وقال آخر: 176 - 6- جادَ الحِمَى بَسْطُ اليدين بوابلٍ ... شَكَرتْ نداه تِلاعُه ووِهادُهْ وقالوا: «بَسَطَ اليأسُ كفَّيه في صدري» واليأسُ معنًى لا عينٌ، وقد

جعلوا له كَفَّين مجازاً. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ ثُنِّيت اليد في» بل يداه مبسوطتان «وهي في» يَدُ اللَّهِ مغلولةٌ «مفردةٌ؟ قلت: ليكونَ ردُّ قولِهم وإنكارُه أبلغَ وأدلَّ على إثباتِ غايةِ السخاء له ونَفْيِ البخل عنه، وذلك أنَّ غايةَ ما يبذله السخيُّ من ماله بنفسِه أن يعطيَه بيديه جميعاً فبنى المجازَ على ذلك» وقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ} يحتمل الخبرَ المحضَ، ويحتمل أن يُرادَ به الدعاءُ عليهم. وفي مصحف عبد الله: «بُسُطان» يقال: «يدٌ بُسُط» على زنة «ناقة سُرُح» و «أُحُد» و «مِشْية سُجُع» ، أي: مبسوطة بالمعروف، وقرأ عبد الله: «بسيطتان» يقال: يد بسيطة أي: مُطْلَقَةٌ بالمعروف. قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} في هذه الجملة خمسةُ أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنْ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مستأنفة والثاني: أنها في محلِّ رفع لأنها خبر ثان ل «يداه» والثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من الضميرِ المستكنِّ في «مبسوطتان» وعلى هذين الوجهين فلا بُدَّ من ضمير مقدَّرٍ عائدٍ على المبتدأ، أو على ذي الحال أي: ينفق بهما، وحَذْفُ مثلِ ذلك قليلٌ. وقال أبو البقاء: «ينفق كيف يشاء» مسأنفٌ، ولا يجوزُ ان يكونَ حالاً من الهاء - يعني في «يداه» - لشيئين، أحدُهما: أنَّ الهاءَ مضاف إليها. والثاني: أنَّ الخبرَ يَفْصِل بينهما: ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً من اليدين، إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما «قلت: قوله:» أحدُهما: أنَّ الهاء مضاف إليها «ليس ذلك بمانع؛ لأن الممنوع إنما هو مجيءُ الحال من المضافِ إليه إذا لم يكن

المضاف جزءاً من المضافِ إليه أو كجزئه أو عاملاً فيه وهذا من النوع الأول فلا مانع فيه. وقوله:» والثاني: أن الخبرَ يَفْصِل بينهما «هذا أيضاً ليس بمانع، ومنه: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] إذا قلنا إن» شيخاً «حالٌ من اسم الإِشارة، والعاملُ فيه التنبيه. وقوله:» إذ ليس فيها ضمير «قد تقدَّم أن العائِدَ يُقَدَّر، أي: ينفق بهما. الرابع: أنها حالٌ من» يداه «وفيه خلافٌ - أعني مجيءَ الحال من المبتدأ - ووجهُ المنعِ أنَّ العامل في الحالِ هو العاملُ في صاحبها، والعاملُ في صاحبها أمرٌ معنوي لا لفظيٌ وهو الابتداء، وهذا على أحدِ الأقوال في العاملِ في الابتداء. الخامس: أنها حال من الهاء في» يداه «ولا اعتبارَ بما منعه أبو البقاء لِمَا تقدَّم من تصحيحِ ذلك. و» كيف «في مثلِ هذا التركيبِ شرطيةٌ نحو:» كيف تكون أكون «ومفعولُ المشبه محذوفٌ، وكذلك جوابُ هذا الشرط أيضاً محذوفٌ مدلولٌ عليه بالفعلِ السابق ل» كيف «والمعنى: ينفق كما يشاء أن ينفق ينفق، ويبسطُ في السماء كيف يشاء أن يبسطَه يبسطه، فحذف مفعول» يشاء «وهو» أَنْ «وما بعدها، وقد تقدم أن مفعول» يشاء «و» يريد «لا يُذْكران إلا لغرابتهِمها، وحَذَفَ أيضاً جوابَ» كيف «وهو» ينفق «المتأخرُ» ويبسط «المتأخرُ لدلالة» ينفق ويبسط «الأولين، وهو نظيرُ قولك:» أقوم إنْ يقم زيد «، ولا جائزٌ أن يكونَ» ينفق المتقدُم عاملاً في «كيف» لأنَّ لها صدرَ الكلامِ،

ومالَه صدرُ الكلام لا يعمل فيه إلا حرفُ الجر أو المضاف. وقال الحوفي: «كيف» سؤالٌ عن حال، وهي نصبٌ ب «يشاء» قال الشيخ «ولا يُعْقَلُ هنا كونُها سؤالاً عن حال» قلت: وقد تقدم الكلام عليها مشبعاً عند قولِه: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} [آل عمران: 6] ، وذكرنا عبارةَ الناس فيها. قوله: {مَّآ أُنزِلَ} «ما» هنا موصولةٌ اسمية في محل رفع، لأنها فاعل بقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ} ولا يجوزُ ان تكونَ «ما» مصدريةً، و «إليك» قائمٌ مقام الفاعل ل «أُنْزل» ويكون التقديرُ: «وليزيدَنَّ كثيراً الإِنزالُ إليك» لأنه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّل، والذي يزيدهم إنما هو المُنَزَّل لا نفسُ الإِنزال. وقوله: «منهم» صفةٌ ل «كثيراً» فيتعلَّقُ بمحذوف و «طغياناً» مفعولٌ ثان ل «يَزيد» وقوله: {إلى يَوْمِ القيامة} متعلقٌ ب «أَلْقينا» ، ويجوز أن يتعلَّق بقوله: «والبغضاء» اي: إنَّ التباغضَ بينهم إلى يوم القيامة، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بالعداوةِ لئلا يَلْزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالأجنبي وهو المعطوفُ، وعلى هذا فلا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازع، لأن شرطَه تسلُّطُ كلٍ من العاملين، والعاملُ الأولُ هنا لو سُلِّط على المتنازع فيه لم يَجُزْ للمحذورِ المذكور. وقد نَقَل بعضُهم أنه يجوز التنازع في فِعْلَي التعجب مع التزامِ إعمالِ الثاني؛ لأنه لا يُفْصَلِّ بين فعل التعجب ومعمولِه، وهذا مثلُه، أي: يُلْتَزَمُ إعمالُ العامل الثاني، وهو خارج عن قياسِ التنازع، وتقدَّم لك نظيره. والفرقُ بين العداوة والبغضاء أن العداوة كل شيء مشتهر يكون عنه عملٌ وحرب، والبغضاء لا تتجاوزُ النفوس، قال ابن عطية وقال الشيخ: «العداوةُ أخَصُّ من البغضاء لأنَّ كل عدو مُبْغَضٌ، وقد يُبْغَضُ مَنْ ليس بعدو» .

قوله: {لِّلْحَرْبِ} فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ ب «أوقدوا» أي: أوقدوها لأجل الحرب. والثاني: أنه صفة ل «نارا» فيتعلق بمحذوف، وهل الإِيقادُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ قولان. و «أطفأها الله» جواب «كلما» وهو أيضاً حقيقة أو مجاز على حَسَب ما تقدم. وقوله: {فَسَاداً} [المائدة: 33] قد تقدم نظيره، وأنه يجوز أن يكونَ مصدراً من المعنى، وحينئذ لك اعتباران، أحدهما: ردُّ الفعل لمعنى المصدر. والثاني: ردُّ المصدر لمعنى الفعل، وأن يكون حالاً أي: يَسْعَوْن سَعْيَ فساد، أو: يفسدون بسعيهم فساداً، أو: يَسْعَوْن مفسدين، وأن يكونَ مفعولاً من أجله: أي: يَسْعَوْن لأجل الفساد. والضميرُ في «بينهم» يجوز أن يعود على اليهودِ وحدَهم لأنه فِرَقٌ مختلفةٌ وطوائفُ متشعبةٌ، وأَنْ يعودَ على اليهود والنصارى لتقدُّم ذكرهم في قولِه تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى} [المائدة: 51] ، ولا ندراجِ الصنفين في قوله: {قُلْ ياأهل الكتاب} [المائدة: 59] ، والألفُ واللام في «الأرض» يجوزُ أن تكونَ للجنس وأن تكون للعهد.

65

وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ} : تقدَّم الكلامُ على نظيرِ هذا التركيب.

66

قوله تعالى: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} : مفعولُ الأكلِ هنا محذوفٌ اقتصاراً، أي لوُجِد منهم هذا الفعلُ، و «من فوقهم» متعلقٌ به أي: لأكلوا من الجهتين. وقال أبو البقاء: «إنَّ» من فوقهم «صفةٌ لمفعول محذوف أي: لأكلُوا رِزْقاً كائناً مِنْ فوقِهم» وقوله «منهم» خبر مقدم، و «أمةٌ» مبتدأ، و «مقتصدةٌ» صفتُها، وعلى رأي الأخفش يجوز أن تكون «أمة» فاعلاً

بالجار. وقوله: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ} تنويعٌ في التفصيل، فأَخْبر في الجملة الأولى بالجار والمجرور، ووصفَ المبتدأ بالاقتصاد، ووصفَ المبتدأ في الجملة الثانية ب «منهم» ، وأخبر عنه بجملة قوله: {سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} وذلك لأنَّ الطائفةَ الأولى ممدوحةٌ فُوصفوا بالاقتصاد، وأخبر عنهم بأنهم من جملة أهل الكتاب فإنَّ الوصفَ ألزمُ من الخبر، فإنهم إذا أسلموا زال عنهم هذا الاسم، وأما الطائفة الثانية فإنهم وصفوا بكونهم من أهل الكتاب فإنَّ الوصفَ ألزمُ وهم كفار فهم منهم، وأخبر عنهم بالجملة الذَّمِّيَّة فإن الخبرَ ليس بلازم، وقد يُسْلِم منهم ناس فيزول عنهم الإِخبار بذلك. و «ساءَ» هذه يجوزُ فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ تعجباً كأنه قيل: ما أسوأ عملَهم، ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجه، ولكن النحاة لَمَّا ذكروا صيغَ التعجب لم يَعُدُّوا فيها «ساء» ، فإن أراد من جهةِ المعنى لا من [جهة] التعجب المبوبِ له في النحو فقريب. الثاني: أنها بمعنى «بِئْس» فتدلُّ على الذ‍‍‍َّمِّ كقوله تعالى: {سَآءَ مَثَلاً القوم} وعلى هذين القولين ف «ساءَ» غيرُ متصرفة، لأن التعجب والمدح والذم لا تتصرَّفُ أفعالُهما. الثالث: أن تكون «ساء» المتصرفة نحو: ساء يسوء، ومنه {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} [الإِسراء: 7] {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك: 27] ، والمتصرفةُ متعديةٌ، قال تعالى: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} فأين مفعولُ هذه؟ قيل: هو محذوفٌ تقديره: ساء عملُهم المؤمنين، والتي بمعنى «بئس» لا بد لها من مميِّز، وهو هنا محذوفٌ تقديره: ساء عملاً الذي كانوا يعملونه. والحرب مؤنثةٌ، وهي في الأصل مصدر، وقد تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة.

67

قوله تعالى: {ياأيها الرسول} : ناداه بأشرفِ الصفات البشرية. وقوله: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} وهو قد بَلَّغَ!! فأجاب الزمخشري بأن المعنى: جميعَ ما أُنْزل إليك، أي: أيَّ شيء أُنْزل غيرَ مراقِبٍ في تبليغه أحداً ولا خائفٍ أن ينالكَ مكروهٌ «وأجاب ابن عطية بقريب منه، قال:» أَمَر رسولَه بالتبليغِ على الاستيفاء والكمال، لأنه كان قد بلَّغ «، وأجابَ غيرُهما بأنَّ المعنى على الديمومة كقوله: {يا أَيُّهَا النبي اتق الله} [الأحزاب: 1] {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136] ، وإنما ذكرْتُ هذا لأنه ينفعُ في سؤالٍ سيأتي. وقوله: {ما} يحتملُ أن تكونَ اسميةً بمعنى الذي، ولا يجوز أن تكون موصوفةً لأنه مأمورٌ بتبليغِ الجميع كما مَرَّ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك فإن تقديرها:» بَلِّغْ شيئاً أُنزل إليك «وفي» أُنزل «ضمير مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقامَ الفاعل، وتحتمل على بُعْدٍ أن تكون» ما «مصدريةً، وعلى هذا فلا ضميرَ في» أُنْزل «لأنَّ» ما «المصدريةَ حرفٌ على الصحيح فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ وهو الجارُّ بعده، وعلى هذا فيكونُ التقديرُ: بَلِّغِ الإِنزالَ، ولكنَّ الإِنزال لا يُبَلِّغُ فإنه معنى، إلا أن يُراد بالمصدر أنه واقعٌ موقعَ المفعول به، ويجوز أن يكونَ المعنى:» اعلَمْ بتبليغِ الإِنزالِ «فيكونُ مصدراً على بابه. قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: وإنْ لم تفعل التبليغَ، فحذَف المفعولَ به ولم يقل:» وإن لم تبلِّغْ فما بَلَّغت «لِما تقدم في قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} [الآية: 24] في البقرة، والجوابُ لا بد أن يكون مغايراً للشرط لتحصُل الفائدةُ، ومتى اتَّحدا اختلَّ الكلام، لو قلت:» إن أتى زيد فقد

جاء «لم يَجُزْ، وظاهرُ قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ} اتحادُ الشرطِ والجزاء، فإن المعنى يَؤُول ظاهراً إلى: وإن لم تفعل لم تفعلْ. وأجابَ الناس عن ذلك بأجوبةٍ أسَدُّها ما قاله الأستاذ أبو القاسم الزمخشري، وقد أجابَ بجوابين، أحدُهما: أنه إذا لم يمتثل أمرَ اللهِ في تبليغِ الرسالاتِ وكَتْمِها كلِّها كأنه لم يُبْعَثْ رسولاً كان أمراً شنيعاً لاخفاءَ بشناعته، فقيل: إنْ لم تبلغ أدنى شيء وإن كلمةً واحدةً فكنت كمن ركب الأمرَ الشنيع الذي هو كتمانُ كلِّها، كما عَظَّم قَتْل النفسِ في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} [المائدة: 32] . والثاني: أَنْ يُراد: وإنْ لم تفعلْ ذلك فلك ما يُوجِبُ كتمانَ الوحي كلِّه من العقاب فوضَع السببَ موضعَ المُسَبِّب، ويؤيده:» فأوحى الله إليَّ إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عَذَّبْتُك «. وأجاب ابن عطية فقال:» أي: وإن تركت شيئاً فقد تركت الكل وصار ما بَلَّغْت غيرَ معتد به، فمعنى «وإن لم تفعل» : «وإن لم تستوفِ» نحوُ هذا قولُ الشاعر: 176 - 7- سُئِلْتَ فلم تبخَلْ، ولم تُعْطِ نائلاً ... ، فسِيَّان لا حمدٌ عليك ولا ذَمٌّ أي: فلم تعطِ ما يُعَدُّ نائلاً، وإلا يتكاذَبِ البيتُ، يعني بالتكاذب أنه قد قال: «فلم تبخل» فيتضمن أنه أعطى شيئاً، فقوله بعد ذلك: «ولم تُعْطِ نائلاً» لو لم يقدِّر نائلاً يُعْتَدُّ به تكاذَبَ. وفيه نظر فإنه قوله «لم تبخل ولم تُعْطِ» لم يتواردا على محلِّ واحد حتى يتكاذَبا، فلا يلزمُ من عدمِ التقدير الذي قَدَّره ابن عطية كَذِبُ البيت، وبهذا الذي ذكرتُه يتبيِّنُ فسادُ قولِ مَنْ زعم أنَّ هذا

البيتَ مِمَّا تنازَعَ فيه ثلاثةُ عواملَ: سُئِلت وتَبْخَلْ وتُعْطِ، وذلك لأنه قوله: «ولم تَبْخَلْ» على قولِ هذا القائلِ متسلطٌ على «طائل» فكأنه قيل: فلم تبخل بطائل، وإذا لم يبخل به فقد بذله وأعطاه فيناقضه قوله بعد ذلك. و «لم تُعْطِ نائلاً» . وقد أفسد ابن الخطيب الرازي الجوابَ المتقدم واختار جواباً مِنْ عنده فقال: «أجاب الجمهور ب» إنْ لم تبلِّغ واحداً منها كنت كمن لم يبلِّغْ شيئاً «وهذا ضعيفٌ، لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتى بالبعض فإن قيل: إنه تَرَكَ الكلَّ كان كذباً، ولو قيل: إن مقدارَ الجُرْم في ترك البعض مثلُ الجرم في ترك الكل فهذا هو المُحالُ الممتنع، فسقط هذا الجوابُ، والأصحُّ عندي أن يقالَ: خَرَجَ هذا الجوابُ على قانون قوله: 176 - 8- أنا أبو النجمِ وشِعْري شِعْري ... ومعناه: أنَّ شعري قد بَلَغَ في الكمال والفصاحة والمتانة إلى حيث متى قيل إنه شعري فقد انتهى مدحُه إلى الغاية التي لا يزاد عليها، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامةَ من هذا الوجه، فكذا هنا كأنه قال: فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه فما بلَّغْتَ رسالاته، يعني أنه لا يمكن أن يوصفَ تَرْكُ التبليغ بتهديدٍ أعظمَ من أنه تَرَكَ التبليغَ، فكان ذلك تنبيهاً على غايةِ التهديد والوعيد. قال الشيخ:» وما ضَعَّفَ به جوابَ الجمهور لا يضعف به لأنه قال: «فإنْ قيل إنه تركَ الكل كان كذباً» ولم يقولوا ذلك، إنما قالوا إنَّ بعضها ليس أَوْلى بالأداء من بعضٍ، فإن لم تؤدِّ فكأنك أَغْفَلتَ أداءَها جميعَها، كما

أن مَنْ لم يؤمِنْ ببعضِها كان كمن لم يؤمنْ بكلِّها لإِدلاء كل منها بما يُدْلي به غيرُها، وكونُها كذلك في حكم شيءٍ واحدٍ، والشيءُ الواحد لا يكون مبلِّغاً غير مبلَّغ مؤمناً به غيرَ مؤمن به، فصار ذلك التبليغُ للبعضِ غيرَ معتدٍّ به «قلت: هذا الكلام الأنيق أعني ما وقع به الجواب عن اعتراض الرازي كلامُ الزمخشري أَخَذَه ونقله إلى هنا. وتمامُ كلام الزمخشري أن قال بعد قوله: «غير مؤمَنٍ» وعن ابن عباس رضي الله عنه: «إنْ كتمت آيةً لم تبلِّغْ رسالاتي» وروى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «بَعَثَني الله برسالاته فضِقْتُ بها ذَرْعاً، فأوحى الله إليّ إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عَذَّبْتُك وضَمِن لي العِصمةَ فقويتُ» قال الشيخ: «وأما ما ذكر من أن مقدار الجُرم في تَرْكِ البعضُ مثلُ الجرم في ترك الكل مُحال ممتنع فلا استحالةَ فيه؛ لأن الله تعالى أن يرتِّب على الذنب اليسير العقابَ العظيم وبالعكس، ثم مَثَّل بالسارق الآخذِ خفيةً يُقْطَع ويُرَدُّ ما أخذ، وبالغاضبِ يؤخذ منه ما أخذ دونَ قطعٍ. وقال الواحدي:» أي: إنْ يتركْ إبلاغَ البعضِ كان كَمَنْ لم يبلِّغْ، لأنَ تَرْكه البعضَ محبطٌ لإِبلاغِ ما بلَّغ، وجرمَه في كتمان البعض كجرمه في كتمان الكل في انه يستحقٌّ العقوبة مِنْ ربِّه، وحاشا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكتُمَ شيئاً مِمَّا أَوْحى الله إليه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: «مَنْ زَعَم أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَم شيئاً من الوحي فقد أَعْظَمَ على الله الفِرْيَةَ، والله تعالى يقول: {ياأيها الرسول بَلِّغْ} ولو كَتَم رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً من الوحي لكتم قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} » [الأحزاب: 37] الآية. وهذا قريب من الأجوبة المتقدمة. هذا ما وقفتُ عليه في الجواب في هذه الآية الكريمةِ. ونظيرُ هذه الآيةِ في السؤال المتقدمِ الحديثُ

الصحيح عن عمر بن الخطاب: «فَمَنْ كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله» فإنَّ نفس الجواب هو نفسُ الشرط، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقديرٍ تحصُل به المغايرةُ فقالوا: «تقديره: فَمَنْ كانت هجرتُه إلى الله ورسوله نيةً وقصداً فهجرتُه إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً، ويمكن أن يأتي فيه جوابُ الرازي الذي اختاره. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر:» رسلاتِه «جمعاً، والباقون:» رسالتَه «بالتوحيد، ووجهُ الجمع أنه عليه السلام بُعِث بأنواع شتى من الرسالة كأصول التوحيد والأحكام على اختلاف أنواعها، والإِفرادُ واضحٌ لأنَّ اسمَ الجنسِ المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك، وقد قال بعض الرسل: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} [الأعراف: 62] ، وبعضُهم قال: {رِسَالَةَ رَبِّي} [الأعراف: 79] اعتباراً للمعنيين.

69

قوله تعالى: {والصابئون} : الجمهور على قراءته بالواو وكذلك هو في مصاحف الأمصار. وفي رفعةِ تسعة أوجه، أحدها: وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة: الخليل وسيبويه وأتباعِهما - أنه مرفوع بالابتداء وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأول عليه، والنيةُ به التأخيرُ، والتقدير: إنَّ الذين آمنوا والذين هادُوا مَنْ آمنَ بهم إلى آخره والصابئون كذلك، ونحوه: «إن زيداً وعمروٌ قائمٌ» أي: إنَّ زيداً قائم وعمرو قائم، فإذا فَعَلْنا ذلك فهل الحذفُ من الأول / أي: يكونُ خبرُ الثاني مثبتاً، والتقدير: إنَّ زيداً قائمٌ وعمروٌ قائم، فحذف «قائم» الأول أو بالعكس.؟ قولان مشهوران وقد وَرَد كلٌّ منهما: قال: 176 - 9-

نحنُ بما عِنْدنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ أي: نحن رضوان، وعكسه قوله: 177 - 0-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإني وقَيَّار بها لَغَريبُ التقدير: وقيارٌ بها كذلك، فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً؟ فالجوابُ أنه يلزم من ذلك دخولُ اللام في خبر المبتدأ غيرِ المنسوخِ ب «إنَّ» وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضرورة شعر، فالآية يجوز فيها هذان التقديران على التخريج. قال الزمخشري: «والصابئون: رفعٌ على الابتداء، وخبرُه محذوفٌ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز» إنَّ «من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كذلك والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك: 177 - 1- وإلاَّ فاعلَمُوا أنَّا وأنتمْ ... بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ أي: فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنتم كذلك» ثم قال بعد كلام: «فإنْ قلت: فقوله» والصابئون «معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قتل: هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} إلى آخره، ولا محلَّ لها كما لا محلَّ للتي عَطَفَتْ عليها. فإن قلت: فالتقديمُ والتأخير لا يكون إلا لفائدةً فما هي؟ قلت: فائدتُه التنبيه على أن الصابئين يُتاب عليهم إنْ صَحَّ منهم الإِيمان والعملُ الصالحُ فما الظنُّ بغيرهم؟ وذلك أنَّ الصابئين

أبينُ هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدُّهم عتياً، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَؤوا على الأديان كلها أي: خَرَجوا، كما أن الشاعر قدَّم قولَه:» وأنتم «تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغي من قومِه، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو» بُغاةٌ «؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغي قبلهم مع كونِهم أوغَل فيه منهم وأثبت قدماً. فإن قلت: فلو قيل:» والصابئين وإياكم «لكانَ التقديمُ حاصلاً. قلت: لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه، وإنما يُقال مقدمٌ ومؤخرٌ للمُزال لا للقارِّ في مكانه، وتجري هذه الجملة مَجْرى الاعتراض» . الوجه الثاني: أن «إنَّ» بمعنى نعم فهي حرفُ جوابٍ، ولا محلَّ لها حينئذ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفع، وخبرُ الجميع قوله: {مَنْ آمَنَ} إلى آخره، وكونُها بمعنى «نعم» قولٌ مرجوح، قال به بعضُ النحويين، وجَعَل من ذلك قول تعالى: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] في قراءةِ مَنْ قرأه بالألف، وفي الآية كلامٌ طويل يأتي إنْ شاء الله تعالى في موضعِه، وجعل منه أيضاً قولَ عبد الله بن الزبير: «إنَّ وصاحبُها» جواباً لمن قال له: «لَعَن الله ناقة حملتني إليك» أي: نعم وصاحبُها، وجَعَلَ منه قولَ الآخر: 177 - 2- بَرَزَ الغواني في الشبا ... بِ يَلُمْنَني وألومُهُنَّهْ ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ

أي: نعم والهاءُ للسكت، وأُجيب بأنَّ الاسمَ والخبرَ محذوفان في قولِ ابن الزبير، وبقي المعطوفُ على الاسمِ دليلاً عليه، والتقدير: إنها وصاحبها معلونان، وتقدير البيت: إنه كذلك، وعلى تقديرِ أن تكونَ بمعنى «نعم» فلا يَصِحُّ هنا جَعْلُها بمعناها؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيء تكون جواباً له، و «نعم» لا تقع ابتداءَ كلام، إنما تقع جواباً لسؤال فتكونُ تصديقاً له. ولقائل أن يقولَ: «يجوزُ أن يكونَ ثَمَّ سؤالٌ مقدر، وقد ذكروا ذلك في مواضع كثيرةٍ منها قولُه تعالى: {لاَ أُقْسِمُ} [القيامة: 1] {لاَ جَرَمَ} [هود: 22] ، قالوا: يُحتمل أن يكونَ رَدَّاً لقائلِ كيتَ وكيتَ. الوجه الثالث: / أن يكون معطوفاً على الضميرِ المستكنِّ في» هادوا «أي: هادوا هم والصابئون، وهذا قول الكسائي، ورَدَّه تلميذه الفراء والزجاج قال الزجاج:» هو خطأ من جهتين «إحداهما: أن الصابئ في هذا القول يشارك اليهودي في اليهودية، وليس كذلك، فإن الصابئ هو غيرُ اليهودي، وإن جُعِل» هادوا «بمعنى تابوا من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] لا من اليهودية، ويكون المعنى: تابوا هم والصابئون، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى» الذين آمنوا «في هذه الآية إنما هو إيمانٌ بأفواههم لأنه يريد به المنافقين، لأنه وصفُ الذين آمنوا بأفواهِهم ولم تؤمِنْ قلوبُهم، ثم ذَكَر اليهود والنصارى فقال: مَنْ آمنَ منهم بالله فله كذا، فجعَلَهم يهوداً ونصارى، فلو كانوا مؤمنين لم يحتجْ أَنْ يقال:» مَنْ آمنَ فلهم أجرهم «. قلت: هذا على

أحدِ القولين أعني أن» الذين آمنوا «مؤمنون نفاقاً. ورَدَّه أبو البقاء ومكي ابن أبي طالب بوجهٍ آخرَ وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعطوفِ عليه. قلت: هذا لا يلزمُ الكسائي، لأنَّ مذهبَه عدمُ اشتراط ذلك، وإنْ كان الصحيحُ الاشتراطَ، نعم يلزم الكسائي من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحة، والله أعلم. وهذا القولُ قد نقله مكي عن الفراء، كما نَقَله غيرُه عن الكسائي، وردَّ عليه بما تقدَّم، فيحتمل أن يكونَ الفراء كان يوافق الكسائي ثم رجَع، ويحتمل أن يكون مخالفاً له ثم رجع إليه، وعلى الجملةِ فيجوز أن يكونَ في المسألة قولان. الوجه الرابع: أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم «إنَّ» لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء، فلمَّا دخلَتْ عليه لم تغيِّر معناه بل أكَّدته، غايةُ ما في الباب أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً، ولذلك اختصَّتْ هي و «أن» بالتفح، ولكن على رأي بذلك دون سائر أخواتها لبقاء معنى الابتداء فيها، بخلافِ ليت ولعل وكأن، فإنه خَرَج إلى التمني والتَّرَجي والتشبيه، وأجرى الفراء البابَ مُجرى واحداً، فأجاز ذلك في ليت ولعل، وأنشد: 177 - 3- يا ليتني وأنتِ يا لميسُ ... في بلدٍ بها أنيسُ فأتى ب «أنت» ، وهو ضميرُ رفعٍ نسقاً على الياء في «ليتني» ، وهل يَجْري غيرُ العطف من التوابع مَجْراه في ذلك؟ فذهَبَ الفراء ويونس إلى جوازِ

ذلك وجَعَلا منه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب} [سبأ: 48] فرفعُ «عَلاَّم» عندهما على النعت ل «ربي» على المحلِّ، وحكوا «إنهم أجمعون ذاهبون» ، وغَلَّط سيبويه مَنْ قال مِن العرب: إنهم أجمعون ذاهبون «فقال:» واعلم أنَّ قوماً من العرب يغْلَطون فيقولون: «إنهم أجمعون ذاهبون» وأخذ الناس عليه في ذلك من حيث إنه غَلَّط أهل اللسان، وهم الواضعون او المتلقُّون من الواضع، وأُجيب بأنهم بالنسبةِ إلى عامة العرب غالطون وفي الجملة فالناسُ قد رَدُّوا هذا المذهبَ، أعني جوازَ الرفعِ عطفاً على محلِّ اسم «إنَّ» مطلقاً، أعني قبلَ الخبرِ وبعده، خَفِي إعرابُ الاسمِ أو ظهر. ونقل بعضُهم الإِجماع على جوازِ الرفعِ على المحلِّ بعد الخبر، وليس بشيء، وفي الجملةِ ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ: مذهبُ المحققين: المنعُ مطلقاً، ومذهبُ بعضهم، التفصيل قبل الخبر فيمتنع، وبعده فيجوز، ومذهب الفراء: إنْ خَفِي إعرابُ الاسم جاز ذلك لزوال الكراهية اللفظية، وحُكِي من كلامهم: «إنك وزيد ذاهبان» الرابع: مذهب الكسائي: وهو الجوازُ مطلقاً ويَسْتدل بظواهرِ قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} الآية، وبقوله: - وهو ضابئ البرجمي - 177 - 4- فَمَنْ يَكُ أمسى بالمدينةِ رحلُه ... فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ وبقوله: 177 - 5- يا ليتنا وهما نَخْلُو بمنزلةٍ ... حتى يَرى بعضُنا بعضاً ونَأْتَلِفُ

وبقوله: 177 - 6- وإلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت، / وبقوله: 177 - 7- يا ليتني وأنتِ يا لميسُ ... وبقولهم: «إنك وزيدٌ ذاهبان» وكلُّ هذه تَصْلُح أن تكونَ دليلاً للكسائي والفراء معاً، وينبغي أن يوردَ الكسائي دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعرابِ الاسم نحو: «إنَّ زيداً وعمروٌ قائمان» وردَّ الزمخشري الرفع على المحل فقال: «فإنْ قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطف على محل» إنَّ «واسمها. قلت: لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: «إنَّ زيداً وعمرو منطلقان» فإنْ قلت: لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ، وكأنك قلت: إنَّ زيداً منطلق وعمرو؟ قلت: لأني إذا رفعته رفعتُه على محل «إنَّ» واسمِها، والعاملُ في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخبر؛ لأنَّ الابتداءَ ينتظم الجزأين في عمله، كما تنتظِمُها «إنَّ» في عمِلها، فلو رَفَعْتَ «الصابئون» المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء وقد رفَعْتَ الخبرَ ب «إنَّ» لأَعْمَلْتَ فيهما رافعين مختلفين «وهو واضحٌ فيما رَدَّ به إلا أنه يُفْهِمُ كلامُه أن يُجيز ذلك بعد استكمال الخبر، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم نَقَل الإِجماعَ على جوازِه. الخامس: قال الواحدي:» وفي الآيةِ قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية: وهو أَنْ تُضْمِرَ خبرَ «إنَّ» وتبتدئ «الصابئون» والتقدير: «إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا يُرْحَمُون» على قولِ مَنْ يقولُ إنَّهم مسلمون، و «يُعَذَّبون» على قولِ مَنْ يقول إنهم كفار، فيُحْذَفُ الخبرُ إذ عُرِف موضِعُه، كما حُذِف مِنْ قولِه: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ

بالذكر} [فصلت: 41] أي: «يُعاقَبون» ثم قال الواحدي: «وهذا القولُ قريبٌ من قولِ البصريين، غيرَ أنَّهم يُضْمِرون خبرَ الابتداءِ، ويَجْعلون» مَنْ آمن «خبرَ» إن «، وهذا على العكس من ذلك لأنه جَعَل» مَنْ آمَن «خبرَ الابتداء وحَذَفَ خبرَ» إنَّ «قلت: هو كما قال، وقد نَبَّهْتُ على ذلك في قولي أولاً: إنَّ منهم مَنْ يُقَدِّر الحذفَ مِن الأول، ومنهم مَنْ يعكس. السادس: أنَّ» الصابئون «مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ كمذهب سيبويه والخليل، إلا انه لا يُنْوى بهذا المبتدأِ التأخيرُ، فالفرقُ بينه وبين مذهبِ سيبويه نيةُ التأخيرِ وعدمُها. قال أبو البقاء» وهو ضعيفٌ أيضاً؛ لِما فيه من لزومِ الحذفِ والفصلِ «أي: لِما يلزمُ من الجمع بين الحذفِ والفصلِ، ولا يَعْني بذلك أنَّ المكانَ من مواضع الحذف اللازمِ، لأنَّ القرآنَ يلزمُ أَنْ يُتْلَى على ما أُنْزِل، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ. السابع: أنَّ» الصابئون «منصوبٌ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرث وغيرِهم الذين يَجْعَلون المثَّنى بالألفِ في كل حال نحو:» رأيت الزيدان ومررت بالزيدان «نقلَ ذلك مكي بن أبي طالب وأبو البقاء، وكأنَّ شبهةَ هذا القائلِ على ضَعْفِها أنه رأى الألفَ علامةَ رفعِ المثنى، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغةِ نائبةً رفعاً ونصباً وجراً، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً، فيبقى في حالةِ النصب والجر كما بَقِيت الألف، وهذا ضعيفٌ بل فاسدٌ.

الثامن: أنَّ علامةَ النصبِ في «الصابئون» فتحةُ النون، والنونُ حرفُ الإِعراب كهي في «الزيتون» و «عربون» قال أبو البقاء: «فإنْ قيل: إنما أجاز أبو علي ذلك مع الياءِ لا مع الواوِ قيل: قد أجازه غيرُه، والقياسُ لا يَدْفَعُه» قلت: يشير إلى مسألة وهو: أن الفارسي أجازَ / في بعضِ جموع السلامة وهي ما جَرَتْ مَجْرى المكسِّر كبنين وسنين أن يَحُلَّ الإِعرابُ نونَها، بشرطِ أن يكونَ ذلك مع الياءِ خاصةً دونَ الواوِ فيقال: «جاء البنينُ» قال: 177 - 8- وكان لنا أبو حسن عليٌّ ... أباً بَرّاً ونحنُ له بنينُ وفي الحديث: «اللهم اجْعَلْها عليهم سنيناً كسنينِ يوسف» . وقال: 177 - 9- دعانيَ مِنْ نجدٍ فإنَّ سنينَه ... لَعِبْنَ بنا شِيباً وشَيَّبْنَنا مُرْدَا فأثْبَتَ النونَ في الإِضافة، فلمَّا جاءت هذه القراءةُ ووجِّهت بأن علامة النصبِ فتحةُ النونِ، وكان المشهورُ بهذا القولِ إنما هو الفارسي، سأل أبو البقاء هذه المسألةَ. وأجاب بأنَّ غيرَه يُجيزه حتى مع الواو، وجعل أنَّ القياسَ لا يأباه. قلت: القياسُ يأباه، والفرقُ بينه حالَ كونه بالياء وبين كونِه بالواوِ ظاهرٌ قد حَقَّقْته في «شرح التسهيل» نعم إذا سُمِّي بجمعِ المذكرِ السالمِ جاز فيه خمسةُ أوجه، أحدُها: أَنْ يُعْرَبَ بالحركاتِ مع الواوِ، ويصيرَ

نظيرَ «الَّذُوْن» فيقال: «جاء الزيدون ورأيت الزيدون ومررت بالزيدون» ك «جاء الذون ورأيت الذون ومررت بالذون» هذا إذا سُمِّي به، أمَّا ما دام جمعاً فلا أحفظُ فيه ما ذكره أبو البقاء، ومن أَثْبَتَ حجةٌ على مَنْ نفى لا سيما مع تقدُّمِه في العلم والزمان. التاسع: قال مكي: «وإنما رفع» الصابئون «لأن» إنَّ «لم يظهر لها عملٌ في» الذين «فبقي المعطوفُ على رفعه الأصلي قبل دخول» إنَّ «على الجملةَ» قلت: هذا هو بعينه مذهب الفراء، أعني أنه يجيز العطف على محل اسم «إنَّ» إذا لم يظهر فيه إعراب، إلا أن عبارة مكي لا توافق هذا ظاهراً. وقرأ أُبي بن كعب وعثمان بن عفان وعائشة والجحدري وسعيد بن جبير وجماعة: «والصابئين» بالياء، ونقلها صاحب «الكشاف» عن ابن كثير، وهذا غير مشهور عنه، وهذه القراءة واضحةُ التخريجِ عطفاً على لفظِ اسم «إنَّ» وإن كان فيها مخالفةٌ لسوادِ المصحفِ فهي مخالفةٌ يسيرة، ولها نظائرُ كقراءة قنبل عن ابن كثير: {سراط} وبابِه بالسين، وكقراءة حمزة إياه في روايةٍ بالزاي، وهم مرسومٌ بالصاد في سائر المصاحف، ونحو قراءةِ الجميع: {إيلافهم} بالياء، والرسم بدونها في الجميع. وقرأ الحسن البصري والزهري: {والصابِيُون} بكسر الباء بعدها ياء خالصة، وهو تخفيف للهمزة كقراءة من قرأ {يَسْتهزِيُون} بخلوص الياء، وقد تقدم قراءة نافع في

البقرة. وأما «النصارى» فهو منصوب عطفاً على لفظ اسمِ «إنَّ» ولا حاجةَ إلى ادِّعاء كونِه مرفوعاً على ما رفع به «الصابئون» لكلفةِ ذلك. قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ} يجوز في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أنها شرطيةٌ، وقوله: «فلا خوفٌ» إلى آخره جواب الشرط، وعلى هذا ف «آمن» في محل جزم بالشرط، و «فلا خوف» في محل جزم بكونه جوابَه، والفاءُ لازمةٌ. والثاني: أن تكونَ موصولةً والخبر «فلا خوف» ، ودخلت الفاءُ لشبهِ المبتدأ بالشرطِ، ف «آمَنَ» على هذا لا محلَّ له لوقوعه صلةً، و «فلا خوفٌ» محلُّه الرفعُ لوقوعِه خبراً، والفاءُ جائزةُ الدخولِ لو كان في غير القرآن، وعلى هذين الوجهين فمحلُّ «مَنْ» رفعٌ بالابتداء، ويجوز على كونِها مصولةً أن تكونَ في محل نصب بدلاً من اسم «إنَّ» وما عُطِف عليه، أو تكون بدلاً من المعطوف فقط، وهذا الخلافِ في «الذين آمنوا» : هل المرادُ بهم المؤمنون حقيقةً، أو المؤمنون نفاقاً؟ وعلى كلِّ تقدير من التقادير المتقدمة فالعائدُ من هذه الجملة على «مَنْ» محذوفٌ تقديرُه: مَنْ آمَنَ منهم «كما صَرَّح به في موضعٍ آخرَ وتقدَّم إعرابُ باقي الجملة فيما مضى.

70

قوله تعالى: {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ} : قد تقدَّم الكلام على «كلما» مشبعاً فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري: «كلما جاءهم رسول» جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةً ل «رسلاً» والراجعُ محذوفٌ أي: رسول منهم «، ثم قال:» فإنْ قلت: أين جوابُ الشرط، فإنَّ قولَه: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} ناب عن الجواب، لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقين، ولأنه

لا يحسُن أن تقولَ: «إن أكرمت أخي أخاك أكرمت» ؟ قلت: هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} كأنه قيل: كلما جاءَهم رسولٌ ناصَبُوه، وقوله: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ} جواب مستأنف لقائلٍ يقول: كيف فَعَلُوا برسلهم؟ «قال الشيخ:» وليس «كلما» شرطاً، بل «كلَّ» منصوبٌ على الظرف و «ما» مصدرية ظرفية، ولم يجزم العرب ب «كلما» أصلاً، ومع تسليم أن «كلما» شرط فلا يمتنع لِما ذكر، أما الأول فلأنَّ المرادَ ب «رسول» الجنسُ لا واحدٌ بعينه، فيصح انقسامُه إلى فريقين نحو: «لا أصحبك ما طَلَعَ نجمٌ» أي: جنس النجوم، وأما الثاني فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه، وهذا الذي منعه إنما منعه الفراءُ وحدَه، وأما غيرُه فأجاز ذلك، وهذا مع تسليم أنَّ «كلما» شرط، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في «كلما» تقول: «كلما جئتني أخاك أكرمتُ» قلت: هذا واضحٌ من أنها ليست شرطاً، وهذه العبارةُ تكثُر في عبارة الفقهاء دونَ النحاة. وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشري فإنه قال: «وكَذَّبوا» جواب «كلما» «وفريقاً» مفعول ب «كَذَّبوا» و «فريقاً» منصوب ب «يقتلون» وإنما قدَّمَ مفعولَ «يقتلون» لتواخي رؤوسِ الآي، وقَدَّم مفعولَ «كَذَّبوا» مناسبة لما بعده. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟ قلت: جِيء ب» يقتلون «على حكايةِ الحالِ الماضية استفظاعاً للقتلِ، واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للعجبِ منها» انتهى. وقد يقال: فلِمَ لا حُكِيت حالُ التكذيب أيضاً فيُجاء بالفعل مضارعاً لذلك؟ ويُجاب بأنَّ

الاستفظاعَ في القتلِ وشناعتِه أكثرُ / من فظاعةِ التكذيب، وأيضاً فإنه لمَّا جِيء به مضارعاً ناسَبَ رؤوس الآي.

71

قوله تعالى: {أَلاَّ تَكُونَ} : قرأ البصري والأَخَوان برفع النون، والباقون بنصبها. فَمَنْ رفع ف «أَنْ» عنده مخففةٌ من الثقيلة، واسمها ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ تقديرُه: أنه، و «لا» نافية، و «تكون» تامة، و «فتنةٌ» فاعلها، والجملةُ خبر «أن» وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن، وعلى هذا ف «حَسِب» هنا لليقين لا للشكِّ، ومن مجيئِها لليقين قولُ الشاعر: 178 - 0- حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ ... رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلاً أي: تيقَّنْتُ لأنه لا يلِيقُ الشكُّ بذك، وإنما اضطرِرْنا إلى جَعْلِها في الآية الكريمة بمعنى اليقين لأنَّ «أَنْ» المخففةَ لا تقع إلا بعد يقين، فأمَّا قوله: 178 - 1- أرجو وآمُل أَنْ تدنُو مودتُها ... وما إخالُ لدينا منكِ تنويلُ فظاهرُه أنها مخففةٌ لعدم إعمالها وقد وقعت بعد «أرجو» و «آمل» وليسا بيقينٍ. والجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنَّ «أَنْ» ناصبة، وإنما أُهْمِلَتْ

حملاً على «ما» المصدرية، ويَدُلُّ على ذلك انها على ذلك أنها لو كانَتْ مخففةً لفُصِل بينها وبين الجملةِ الفعليةِ بما سنذكره، ويكون هذا مثلَ قولِ الله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] ، وكقوله: 178 - 2- يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما ... وحيثما كنتما لُقِّيتُما رَشَدا أَنْ تَحْمِلا حاجةً لي خَفَّ مَحْمَلُها ... تستوجبا نعمةً عندي بها ويَدا أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويحكما ... مني السلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحدا فقوله: «أَنْ تقرآن» بدلٌ من «حاجة» وقد أَهْمل «أن» ومثلُه قوله: 178 - 3- إني زعيمٌ يا نُوَيْ ... قَةُ إن نجوْتِ من الرَّزاحِ ونجوتِ من وَصَبِ العدو ... و [من الغدو] إلى الرَّواحِ أَنْ تهبطين بلادَ قَوْ ... مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ وكيفما قُدِّر فيما ذكرته من الأبيات يلزم أحد شذوذين قد قيل باحتمال كل منهما: إمَّا إهمالُ «أَنْ» وإمَّا وقوع المخففة بعد غير علم، وعدمُ الفصل بينها وبين الجملة الفعلية. والثاني من وجهي الجواب: أنَّ رجاءه وأملَه قَوِيا حتى قربا من اليقين فأجراهما مُجْراه في ذلك. وأما قول الشاعر: 178 - 4-

عَلِموا أَنْ يُؤَمَّلون فجادُوا ... قبلَ أَنْ يُسْألوا بأعظمِ سُؤْلِ فالظاهرُ أنها المخففة، وشَذَّ عدمُ الفصلِ، ويُحتمل أن تكونَ الناصبةَ شَذَّ وقوعُها بعد العلمِ وشَذَّ إهمالُها، ففي الأولِ شذوذٌ واحدٌ وهو عدم الفصلِ، وفي الثاني شذوذان: وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ، وإهمالُها حملاً على «ما» أختِها. وجاء هنا على الواجبِ - عند بعضِهم - أو الأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين «أَنْ» الخفيفةِ وبين خبرِها إذا كان جملةً فعلية متصرفة غيرَ دعاءٍ، والفاصلُ: إمَّا نفيٌ كهذه الآية، / وإمَّا حرفُ تنفيس كقوله تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} [المزمل: 20] ، ومثلُه: «عَلِمْت أن سوف تقومُ» وإمَّا «قد» كقوله تعالى: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113] وإمَّا «لو» - وهي غريبة - كقوله: {وَأَلَّوِ استقاموا} [الجن: 16] {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب} [سبأ: 14] . وتَحرَّزْتُ بالفعلية من الاسمية فإنها لا تحتاج إلى فاصل، كقولِه تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] وكقوله: 178 - 5- في فتيةٍ كسيوفِ الهندِ قد عَلِموا ... أَنْ هالِكٌ كلُّ مَنْ يَخْفَى ويَنْتَعِلُ

وبالمصترفةِ من غيرِ المتصرفة فإنه لا تَحْتاج إلى فاصلٍ، كقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ} [الأعراف: 185] ، وبغيرِ دعاءٍ من الواقعةِ دعاءً كقولِه تعالى: {أَنَّ غَضَبَ الله} [النور: 9] في قراءة نافع. ومَنْ نصب «تكونَ» ف «أَنْ» عنده هي الناصبة للمضارع دخلت على فعل منفي ب «لا» ، و «لا» لا يمنعُ أن يعملَ ما بعدها فيما قبلها من ناصبٍ ولا جازم ولا جارّ، فالناصبُ كهذه الآية، والجازم كقوله تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 73] {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} [التوبة: 40] ، والجارُّ نحو:: جئت بلا زادٍ «. و» حَسِب «هنا على بابها من الظن، فالناصبة لا تقع بعد علم، كما أنَّ المخففة لا تقع بعد غيرِه، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبة بعد يقين وهو نصٌّ فيه كقوله: 178 - 6- نَرْضَى عن الناسِ إنَّ الناسَ قد عَلِموا ... أَنْ لا يدانِيَنا من خَلْقِه بشرُ وليس لقائلٍ أن يقول: العلمُ هنا بمعنى الظن، إذ لا ضرورةَ تدعو إليه، والأكثرُ بعد أفعالِ الشكِّ النصبُ ب» أَنْ «ولذلك أُجْمِع على انصب في قوله تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} [العنكبوت: 2] ، وأمَّا قولُه تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} [طه: 89] فالجمهورُ على الرفع، لأنه الرؤية تقعُ على العلمِ.

والحاصلُ أنه متى وَقَعَتْ بعد علم وَجَبَ أن تكونَ المخففةَ، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلمٍ ولا شك وَجَبَ أَنْ تكونَ الناصبةَ، وإن وقعت بعد فعلٍ يحتمل اليقين والشك جاز فيها وجهان باعتبارين: إنْ جعلناه يقيناً جعلناها المخففةَ ورفعنا ما بعدها، وإنْ جعلناه شكّاً جعلناها الناصبةَ ونصبنا ما بعدها، والايةُ الكريمةُ من هذا الباب، وكذلك قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِم} [طه: 89] وقوله: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} [العنكبوت: 2] ، لكن لم يُقرأ في الأولى إلا بالرفع، ولا في الثاينة إلا بالنصب، لأن القراءة سنةٌ متبعة. وهذا تحريرٌ العبارة فيها، وإنما قلت ذلك لأن بعضَهم يقول: يجوزُ فيها بعد أفعال الشك وجهان فيوهمُ هذا أنه يجوزُ فيها أن تكونَ المخففةَ والفعلُ قبلها باقٍ على معناه من الشك، لكن يريد ما ذكرتُه لك من الصلاحيةِ اللفظيةِ بالاعتبارين المتقدمين، ولهذا قال الأستاذ الزمخشري:» فإنْ قلت: كيف دخل فعلُ الحسبان على «أَنْ» التي هي للتحقيق «قلت: نَزَّل حسبانَهم لقوته في صدروهم منزلةَ العلم» والسببُ المقتضي لوقوعِ المخففةِ بعد اليقين، والناصبةِ بعد غيره، وجوازِ الوجهين فيما تردَّد: ما ذكروه وهو «أَنْ» المخففة تَدُلُّ على ثباتِ الأمرِ واستقرارِه لأنها التوكيدِ كالمشددة، والعلمُ وبابُه كذلك فناسَبَ أَنْ تُوقِعَها بعد اليقين للملائمةِ بينهما، ويدلٌّ على ذلك وقوعُها مشددةً بعد اليقين كقوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 25] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} [البقرة: 107] إلى غير ذلك، والنوعُ الذي لا يدلُّ على ثبات واستقرارٍ / تقع بعده الناصبة كقوله تعالى: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ

لِي} [الشعراء: 82] {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة: 52] {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80] {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} [المجادلة: 13] إلى غير ذلك، والنوعُ المحتمل للأمرين تقع بعده تارة المخففةُ وتارةً الناصبةُ كما تقدم من الاعتبارين، وعلى كلا التقديرين أعني كونَها المخففةَ أو الناصبةَ فهي سادَّةٌ مسدَّ المفعولين عند جمهورِ البصريين، ومسدَّ الأولِ والثاني محذوفٌ عند أبي الحسن، أي: حَسِبوا عدمَ الفتنةِ كائناً أو حاصلاً. وحكى بعض النحويين أنه ينبغي لِمَنْ رفع أن يَفْصِل «أن» من «لا» في الكتابة؛ لأنها الهاء المضمرةَ حائلةٌ في المعنى، ومَنْ نَصَبَ لم يَفْصِل لعدمِ الحائل بينهما. قال أبو عبد الله: «هذا ربما ساغَ في غيرِ المصحفِ، أمَّا المصحفُ فلم يُرْسَمْ إلى على الاتصال» انتهى. قلت: «وفيه هذه العبارة تجوُّز إذ لفظُ الاتصالِ يُشْعر بأَنْ تُكْتب» أنلا «فتوصلَ» أن «ب» لا «في الخط، فينبغي أن يقال: لا تُثْبَتُ لها صورةٌ، أو تُثْبَتُ لها صورةٌ منفصلة. قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} في هذا الكتاب خمسة أوجه، أحدها: أنَّ الواوَ علامةُ جمع الفاعل، كما يَلْحق الفعلَ تاءُ التأنيث ليدلَّ على تأنيث الفاعل، ك» قامت هند «وهذه اللغة جاريةٌ في المثنى وجمعِ الإِناث أيضاً فيقال:» قاما أخواك، وقمن أخواتك «كقوله: 178 - 7-. . . . . . . . . . . . . ... وقد أَسْلَماه مُبْعَدٌ وحَميمٌ

وقوله: 178 - 8- ولكنْ دِيافِيٌّ أبوه وأمُّه ... بِحَوْرانَ يَعْصِرنَ السَّليطَ أقاربُهْ واستدلَّ بعضُهم بقولِه عليه السلام:» «يتعاقبون فيكم ملائكة» ويعبِّر النحاة عن هذه اللغةِ بلغةِ «أكلوني البراغيث» ولكنَّ الأفصحَ ألاَّ تلحقَ الفعلَ علامةٌ، وفَرَّق النحويون بين لَحاقِه علامةَ التأنيث وعلامةَ التثنية والجمع بأنَّ علامةَ التأنيث ألزمُ؛ لأن التأنيث في ذاتِ الفاعل بخلاف التثنيةِ والجمعِ فإنه غيرُ لازمٍ. الوجه الثاني: أنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورين العائدِ عليهم واو «حسبوا» و «كثير» بدلٌ من هذا الضمير، كقولك: «إخوتك قاموا كبيرُهم وصغيرُهم» ونحوه. الوجه الثالث: أن الواو ضمير أيضاً، و «كثيرٌ» بدلٌ منه، والفرقُ بين هذا الوجه والذي قبله أن الضمير في الوجهِ الأولِ مفسَّر بما قبلَه وهم بنو إسرائيل، وأمَّا في هذا الوجه فهو مفسَّر بما بعده، وهذا أحدُ المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعده، وهو أن يُبْدَلَ منه ما يفسِّرهُ، وهي مسألةُ خلاف وقد تقدم تحريرها. الوجه الرابع: أن الضميرَ عائدٌ على مَنْ تقدَّم، و «كثير» خبر مبتدأ محذوف، وقَدَّره مكي تقديرين، أحدهما: قال: «تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثير منهم» والثاني: العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم، ودلَّ على ذلك قوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} فعلى تقديره الأول: يكون «كثير» صادقاً عليهم و «منهم» صفة ل «كثير» ، وعلى التقدير الثاني يكون «كثير» صادقاً على العَمَى

والصَّمَمِ لا عليهم، و «منهم» صفةٌ له بمعنى أنه صادر منهم، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ. وقدَّره الزمخشري فقال: «أولئك كثير منهم» الوجه الخامس: أنَّ «كثير» مبتدأٌ والجملةُ الفعلية قبله خبرٌ، ولا يُقال: إنَّ الفعلَ متى وقع خبراً وجَبَ تأخيرُه لأنَّ ذلك مشروطٌ بكونِ الفاعل مستتراً نحو: «زيدٌ قام» لأنه لو قُدِّم فقيل: قام زيدٌ لألبس بالفاعل، فإنْ قيل: وهذا أيضاً يُلْبس بالفاعل في لغة «أكلوني البراغيث» فالجواب أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها. وضَعَّفَ أبو البقاء هذا الوجه بمعنى آخرَ فقال: «لأنَّ الفعلَ قد وَقَع في موضِعِه فلا يُنْوَى به غيرُه» وفيه نظرٌ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وَقَع موقعَه، وإنما كان واقعاً موقعَه لو كان مجرداً من علامةٍ. ومثلُ هذه الآية أيضاً قولُه تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبيا: 3] . والجمهورُ على «عَمُوا وَصمُّوا» بفتح العين والصاد، والأصل: عَمِيُوا وصَمِمُوا كشَرِبُوا، فأُعِلَّ الأولُ بالحذفِ، والثاني: بالإِدغام. وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من «عَمُوا» قال الزمخشري: «على تقدير / عماهم الله وصَمَّهم أي: رماهم وضربهم بالعَمَى والصَّمم، كما يقال: نَزَكْتُه إذا ضربته بالنَّيْزَك وَركَبْتُه إذا ضربته بركبتِك» ولم يَعْترض عليه الشيخ، وكان قد قال قبل ذلك بعد أَنْ حكى القراءة: «جَرَتْ مَجْرى زُكِم الرجلُ وأَزْكَمَه الله، وحُمَّ وأَحَمَّه الله، ولا يقال: زَكَمه الله ولا حمَّه، كما لا يقال: عَمَيْتُه ولا صَمَمْته، وهي أفعالٌ جاءت مبنيةً

للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهي متعدِّيةٌ ثلاثية، فإذا بُنيت للفاعلِ صارَتْ قاصرة فإذا أَرَدْتَ بناءَها للفاعلِ متعديةً أَدْخَلْتَ همزة النقل، وهي نوع غريب في الأفعال» انتهى. فقوله: «كما لا يُقال عَمَيْتُه ولا صَمَمْتُه» يقتضي أن الثلاثي منها لا يتعدَّى، والزمخشري قد قال على تقدير: «عَماهُم الله وصَمَّهم» فاستعمل ثلاثِيَّةُ متعدياً، فإن كان ما قاله الشيخ صحيحاً فينبغي أن يكونَ كلام أبي القاسم فاسداً أو بالعكس. وقرأ ابن أبي عبلة «كثيراً» نصباً على أنه نعت لمصدر محذوف، وتقدم غيرَ مرة أنه عند سيبويه حالٌ. وقال مكي: «ولو نَصَبْتَ» كثيراً «في الكلام لجازَ أن تجعلَه نعتاً لمصدر محذوف، أي: عمًى وصمماً كثيراً» قلت: كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً، أو لم تَصِحَّ عنده لشذوذها. وقوله: {فَعَمُواْ} عطفَه بالفاء وقوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} عطفه ب «ثم» ، وهو معنى حسن، وذلك أنهم عَقِيبَ الحسبانِ حَصَل لهم العَمَى والصَّمَمُ مِنْ غير تراخٍ، وأسند الفعلين إليهم، بخلافِ قولِه: {فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله: {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} وعطف قوله: {ثُمَّ عَمُواْ} بحرفِ التراخي دلالةً على أنهم تمادَوا في الضلالِ إلى وقت التوبة.

73

قوله تعالى: {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} : معناه أحدُ الثلاثة، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنْصَبَ ما بعده، لا تقول: ثالثٌ ثلاثةً ولا رابعٌ أربعةً، قالوا: لأنه اسمُ فاعلٍ ويعملُ عمل فعله، وهنا لا يقع موقعَه فعلٌ فعلٌ إذ لا يقال: ربَّعْتُ

الأربعة ولا ثلَّثْتُ الثلاثة، وأيضاً فإنه أحدُ الثلاثة فيلزم أن يعمل في نفسه، وأجاز النصبَ بمثل هذا ثعلب، وردَّه عليه الجمهور بما ذكرته لك، أمَّا إذا كان من غيرِ لفظِ ما بعده فإنه يجوزُ فيه الوجهان: النصب والإِضافة نحو: رابعٌ ثلاثةَ، وإن شئت: ثلاثةٍ. واعلم أنه يجوز أن يُشتقَّ من واحد إلى عشرة صيغةُ اسمِ فاعل نحو: «واحد» ويجوز قبله فيقال: حادي وثاني وثالث إلى عاشر، وحينئذ يجوز أن يستعمل مفرداً فيقال: ثالث ورابع، كما يقال: ثلاثة وأربعة من غير ذكر مفسرٍ، وأن يستعملَ استعمالَ أسماءِ الفاعلين إنْ وقع بعده مغايرُه لفظاً، ولا يكونُ إلا ما دونه برتبةٍ واحدٍ نحو عاشرُ تسعةٍ، وتاسعُ ثمانيةٍ، فلا يجامعُ ما دونَه برتبتين نحو: عاشرُ ثمانيةٍ ولا ثامنُ أربعةٍ، ولا يُجامِعُ ما فوقه مطلقاً فلا يقال: تاسعُ عشرةٍ ولا رابعُ ستةٍ، إذا تقرر ذلك فيعطى حكمَ اسمَ الفاعلِ فلا يعملُ إلا بشروطه، وأمَّا إذا جامع موافقاً له لفظاً وجبت إضافتُه نحو: ثالثُ ثلاثةٍ وثاني اثنين، وتقدَّم خلاف ثعلب، ويجوز أن يُبْنى أيضاً من احد عشر إلى تسعة عشر فيقال: حادي عشر وثالث عشر، ويجوز أَنْ يُستعمل مفرداً كما ذكَرْتُه لك، ويجوز أن يُسْتَعْمل مجامعاً لغيره ولا يكونُ إلا موافقاً، فيقال: حادي عشر أحد عشرَ، وثالثَ عشرَ ثلاثَة عشرَ، ولا يقال: ثالثَ عشرَ اثني عشرَ، وإن كا بعضهم خالف، وحكمُ المؤنثِ كحكمِه في الصفاتِ الصريحةِ فيقال: ثالثة ورابعة، وحاديةَ عشرةَ، وثالثةَ عشرةَ ثلاثَ عشرةَ، وله أحكامٌ كثيرة استوفيتُها في «شرح التسهيل» . قوله: {وَمَا مِنْ إله} «مِنْ» زائدة في المبتدأ لوجود الشرطين، وهما كونُ الكلامِ غيرَ إيجابٍ، وتنكيرُ ما جَرَّتْهُ، و «إلهٌ» بدل من محل «إلهٍ» المجرورِ

ب «مِنْ» الاستغراقية، لأن محلَّه رفعٌ كما تقدم، والتقدير: وما إلهٌ في الوجودِ إلا إلهٌ متصفٌ بالواحدانية. قال الزمخشري: «من» في قوله: «مِنْ إله» للاستغراقِ، وهي المقدرةُ مع «لا» التي لنفي الجنس في قولك: «لا إلهَ إلا اللَّهُ» والمعنى، وما من إله قط في الوجود إلا إلهٌ متصفٌ بالوحدانية وهو الله تعالى «. فقد تحصَّل مِنْ هذا أن» مِنْ إله «وخبرُه محذوفٌ، و» إلا إلهٌ «بدلٌ على المحل. قال مكي:» ويجوزُ في الكلام النصبُ: «إلا إلهاً» على الاستثناء «قال أبو البقاء ولو» قُرئ بالجرِّ بدلاً من لفظ «إله» لكان جائزاً في العربية «قتل: ليس كما قال، لأنه يلزمُ زيادةُ» مِنْ «في الواجب، لأن النفيَ انتقضَ ب» إلاَّ «لو قلت:» ما قامَ إلا من رجلٍ «لم يَجُزْ فكذا هذا، وإنما يجوزُ ذلك على رأي الكوفيين والأخفشِ، فإنَّ الكوفيين يشترطون تنكيرَ مجرورها فقط، والأخفشُ لا يشترط شيئاً. قال مكي: «واختار الكسائي الخفضَ على البدل من لفظ» إله «وهو بعيدٌ لأنَّ» مِنْ «لا تُزَاد في الواجب» . قلت: ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ قوله «إلا إلهٌ» خبر المبتدأ، وتكونُ المسألة من الاستثناءِ المفرغِ، كأنه قيل: ما إلهٌ إلا إلهٌ متصفٌ بالواحدِ لَمَا ظهر له منعٌ، لكني لم أرَهم قالوه. وفيه مجالٌ للنظر. قوله: {لَيَمَسَّنَّ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه، والتقديرُ: واللَّهِ إنْ لم ينتهوا ليمسَّنَّ، وجاء هذا على القاعدةِ التي قَرَّرْتُها: وهو أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ أُجيب سابقُهما ما لم يسبقْهما ذو خبر، وقد يجابُ الشرطُ مطلقاً، وقد تقدَّم أيضاً أن فعلَ الشرطِ حينئذ لا يكون

إلا ماضياً لفظاً، أو معنًى لا لفظاً كهذه الآية، فإنْ قيل: السابقُ هنا الشرطُ، اذ القسمُ مقدرٌ فيكون تقديرُه متأخراً فالجوابُ أنه لو قُصِد تأخُّرُ القسمِ في التقدير لأُجيبَ الشرط، فلمَّا أُجيب القسمُ عُلِم أنه مقدَّرُ التقديمِ، وعَبَّر بعضُهم عن هذا فقال: «لام التوطئِة للقسمِ قد تُحْذَفُ ويُراعى حكمُها كهذه الآيةِ، إذ التقدير:» ولئن لم «كما صَرَّح بهذا في غير موضع كقوله: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} [الأحزاب: 60] ، ونظيرُ هذه الآية قوله: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ} [الأعراف: 23] {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، وتقدَّم أنَّ هذا النوع من جواب القسم يَجِبُ أن يُتَلَقَّى باللامِ وإحدى النونين عند البصريين، إلاَّ ما قَدَّمْت لك استثناءَه» قال الزمخشري: «فإنْ قلت: فهلاَّ قيل: لَيَمسُّهُم عذاب. قلت في إقامة الظاهرُ مقامَ المضمرِ فائدةٌ، وهي تكريرُ الشهادة عليهم بالكفر» . وقوله: {مِنْهُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال. قال أبو البقاء: «إمَّا من الذين، وإمَّا من ضميرِ الفاعل في» كفروا «قلت: لم يتغير الحكمُ في المعنى، لأنَّ الضميرَ الفاعل هو نفسُ الموصول، وإنما الخلاف لفظي. وقال الزمشخري:» مِنْ «في قوله: {لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} للبيانِ كالتي في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] قلت: فعلى هذا يتعلقُ» منهم «بمحذوفٍ، فإنْ قلت: هو على جَعْلِه حالاً متعلقٌ أيضاً بمحذوفٌ. قلت: الفرقُ بينهما أنَّ جَعْلَه حالاً يتعلَّقُ بمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الحالُ في

الحقيقة، وعلى هذا الوجهِ يتعلَّقُ بفعلٍ مفسِّرٍ للموصولِ الأولِ، كأنه قيل: أعني منهم، ولا محلِّ ل» أعني «لأنها جملةٌ تفسيرية. وقال الشيخ:» ومِنْ «في» منهم «للتبعيض أي: كائناً منهم، والربطُ حاصلٌ بالضمير، فكأنه قيل: كافرُهم، وليسوا كلَّهم بَقُوا على الكفر» انتهى. يعني: هذا تقديرٌ لكونِها تبعيضيةً وهو معنى كونِها في محلِّ نصبٍ على الحال.

74

وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ} : تقدَّم نظيره مراراً وأنَّ فيه رأيين: رأيُ الجمهورُ تقديمُ حرفِ العطف على الهمزة تقديراً، ورأيُ أبي القاسم بقاؤُه على حالِه وحَذْفُ جملةٍ معطوفٍ على عليها، والتقديرُ: أيثبتون على كفرِهم فلا يَتُوبون، والاستفهامُ فيه قولان / أظهرُهما: أنه للتعجيب من حالهم: كيف لا يتوبون ويستغفرون من هذه المقالةِ الشنعاء؟ والثاني: أنه بمعنى الأمر وهو رأي ابن زياد الفراء، كأنه قال: تُوبوا واستغفروا من هاتين المقالتين، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] . كلامُ ابن عطية يُفْهِم أنه للتحضيضِ، قال: «رَفَقَ جلَّ وعلا بهم بتحضيضِه إياهم على التوبة وطلبِ المغفرة» يعني بذلك من حيث المعنى، وإلاَّ فَفَهْمُ التحضيضِ من هذا اللفظ غيرُ مُسَلَّمٍ، وكيف يُعْقَلُ أنَّ حرف العطف فَصَلَ بين الهمزة ولا المفهمةِ للتحضيضِ؟ فإنْ قلت: هذا إنما يُشْكِلُ على قولِنا: إنَّ «ألا» التحضيضيةَ بسيطةٌ غيرُ مركبةٍ، فلا يُدَّعى فيها الفصل بحرفِ العطف، أما إذا قلنا إنها همزة الاستفهامِ دَخَلَتْ على «لا» النافيةِ وصارَ معناهما التحضيضَ فلا يَضُرُّ الفصلُ بحرف العطف، لأنه عُهِد في «لا» النافيةِ الداخلِ عليها همزةُ الاستفهام، فالجواب: أنه لا يجوزُ مطلقاً؛ لأنَّ ذلك المعنى قد انسلخَ وحَدَثَ

معنىً آخرُ وهو التحضيضُ، فلا يلزُم من الجوازِ في الأصلِ الجوازُ بعد حدوثِ معنًى جديدٍ.

75

قوله تعالى: {مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ} : كقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران: 144] . و «قد خَلَتْ» صفةٌ له كما في الآيةِ الأخرى. وتقدَّم معنى الحصرِ. وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} ابتداءٌ وخبرٌ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب. و «صِدِّيقَةٌ» تأنيثُ «صِدِّيق» وهو بناء مبالغة ك «فَعّال» و «فَعُول» إلا أنه لا يعمل عملَ أمثلةِ المبالغة، فلا يقال: «زيدٌ شِرِّيبٌ العسلَ» كما يقال: «شَرَّابٌ العسلَ» وإن كان القياس إعمالَه، وهل هو مِنْ «صَدَق» الثلاثي أو من «صَدَّق» مضعفاً؟ القياسُ يقتضي الأولَ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تَطَّرِدُ من الثلاثي دونَ الرباعي، فإنه لم يَجيء منه إلا القليلُ. وقال الزمخشري: «انه من التصديق» وكذا ابنُ عطية، إلا أنَّه جَعَله محتملاً، وهذا واضحٌ لقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا} فقد صَرَّح بالفعلِ المسند إليها مضعفاً. وقوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} لا محلَّ له لأنه اسئنافٌ وبيان لكونِهما كسائرِ البشرِ في احتياجِهما إلى مايَحْتاج إليه كلُّ جسمٍ مُولَدٍ، والإلهُ الحقُّ منزَّهٌ عن ذلك. وقال بضعهم: «هو كناية عن احتياجهما إلى التغَوُّطِ» ولا حاجة إليه. قوله: «كيف» منصوب بقوله: «نُبَيِّن» بعده، وتقدم ما فيه في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] وغيرِه، ولا يجوز أن يكونَ معمولاً لِما قبله لأن له صدرَ الكلام، وهذه الجملةُ الاستفهامية في محلِّ نصب لأنها معلقةٌ للفعل قبلها. وقوله: {ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ} كالجملةِ قبلَها، «وأَنَّى» بمعنى كيف، و «يُؤْفكون» ناصبٌ ل «أنَّى» ويُؤْفكون: بمعنى يُصْرَفُون.

76

قوله تعالى: {مَا لاَ يَمْلِكُ} : يجوز أن تكونَ «ما» بمعنى الذي، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، والجملةُ بعدها صلةٌ فلا محلَّ لها، وصفةٌ فمحلُّها النصبُ، وفي وقوعِ «ما» على العاقلِ هنا لأنه أُريد به عيسى وأمُّه وجوهٌ، أحدها: أنه أُتِي ب «ما» مراداً به العاقلُ لأنها مبهمةٌ تقعُ على كل شيء، كذا قالَه سيبويه، أو أُريد به النوعُ كقوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] أي: النوعَ الطيب، أو أُريد به العاقلُ مع غيره لأنَّ أكثرَ ما عُبِد مِنْ دونَ [اللَّهِ] غيرُ عاقلٍ كالأصنامِ والأوثانِ والكواكبِ والشجرِ، أو شبهُهُ على أولِ أحوالِه، لأنه في أولِ حالِه لا يُوصَفُ بعقلٍ فيكف يُتَّخذ إلهاً معبوداً؟ وفي تكريرِ الأمر بقوله: «انظُرْ» «ثم انظر» دلالةٌ على الاهتمام بالنظر، وأيضاً فقد اختَلف متعلَّقُ النظرين، فإنَّ الأولَ أمرٌ بالنظر في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآياتِ وبيانِها بحيث إنه لا شكَّ فيها ولا ريبَ، والأمرُ الثاني بالنظر في كونِهم صُرِفوا عن تدبُّرها والإِيمان بها، أو بكونِهم قُلِبوا عمَّا أُريد بهم. قال الزمخشري: «فإنْ قتل: ما معنى التراخي في قولِه:» ثم انظرْ «؟ قلت: معناه ما بينَ التعجبين، يعني أنه بَيَّن لهم الآياتِ بياناً عجباً، وأنَّ إعراضَهم عنها أعجُب منه» انتهى. يعني أنه من بابِ التراخي في الرُّتَبِ لا في الأزمنةِ، ونحوُه: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] وسيأتي. قوله: {والله هُوَ السميع العليم} «هو» : يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ثانياً، و «السميعُ» خبرُه، و «العليمُ» خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ، والجملةُ خبرُ الأول، ويجوزُ أَنْ يكونَ فصلاً، وقد عُرِف ما فيه، ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً. وهذه الجملةُ الظاهرُ فيها أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، ويحتمل أن تكونَ في محلِّ نصبٍ

على الحالِ من فاعلِ «تَعْبُدون» أي: أتعبدون غيرَ الله والحالُ أن الله هو المستحقُّ للعبادة لأنه يَسْمع كل شيء ويعلمه، وإليه ينحو كلامُ الزمخشري فإن قال: {والله هُوَ السميع العليم} متعلق ب «أتعبدون» أي: أتشركون بالله ولا تَخْشَوْنه، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون؟ أتعبدون العاجزَ واللَّهُ هو السميع العليم؟ انتهى. والرابطُ بين الحالِ وصاحبِها الواوُ، ومجيءُ هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة، فإنَّ السميع يسمع ما يُشْكَى إليه من الضُّرِّ وطلب النفع ويعلم مواقعَهما كيف يكونان؟

77

قوله تعالى: {غَيْرَ الحق} : فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف أي: لا تَغْلُوا في دينكم غُلُوَّاً غيرَ الحق أي: غلوَّاً باطلاً، ولم يذكر الزمخشري غيره. الثاني: أنه منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعل في «تَغْلُوا» أي: لا تَغْلوا مجاوزينَ الحق، ذكره أبو البقاء الثالث: أنه حالٌ من «دينكم» أي: لا تغلوا فيه وهو باطل، بل اغلُوا فيه وهو حَقٌّ، ويؤيد هذا ما قاله الزمخشري فإنه قال: «لأنَّ الغلوَّ في الدين غُلُوَّان: حقٌّ وهو أَنْ يُفْحص عن حقائِقه ويفتَّشَ عن أباعدِ معانيه ويُجْتَهَدَ في تحصيله حُجَجَه، وغلوٌ باطل: وهو أن يَتَجاوز الحقَّ ويتخطاه بالإِعراض عن الأدلة» . الرابع: أنه منصوبٌ على الاستثناء المتصل. الخامس: على الاستثناءِ المنقطع. ذكرَ هذين الوجين الشيخُ عن غيره، واستبعدهما فإنه قال: «وأبعدَ مَنْ ذهب إلى أنها استثناءٌ متصل، ومَنْ ذهب إلى انها استثناءٌ

منقعطع ويقدِّره ب» لكن الحقَّ فاتبعوه «قلت: والمستثنى منه يَعْسُر تعيينُه، والذي يظهر فيه أنه قوله: {فِي دِينِكُمْ} كأنه قيل: لا تَغْلُوا في دينكم إلا الدين الحق فإنه يجوز لكم الغلوُّ فيه، ومعنى الغلو فيه ما تقدم من تقرير الزمخشري له. وذكر الواحدي فيه الحالَ والاستثناء فقال:» وانتصابُ «غيرَ الحق» من وجهين، احدُهما: الحالُ والقطعُ من الدين كأنه قيل: لا تغُلُوا في دينكم مخالفين للحقِّ، لأنهم خالفوا الحقَّ في دينهم ثم غَلَوا فيه بالإِصرار عليه. والثاني: أن يكونَ منصوباً على الاستثناء، فيكون «الحق» مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه بأَنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حق على معنى اتباعِه والثباتِ عليه. وهذا نصٌّ فيما ذكرْتُ لك من أنَّ المستثنى هو «دينُكم» . وتقدَّم معنى الغلوِّ في سورة النساء وظاهرُ هذه الأعاريب المتقدمةِ أنَّ «تَغْلُوا» فعلٌ لازم، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء، إلا أن أهلَ اللغةِ يفسِّرونه بمعنى متعدٍّ، فإنهم قالوا: معناه لا تتجاوزوا الحد. قال الراغب: «الغلو تجاوزُ الحَدِّ، يقال ذلك إذا كان في السعر» غلاءً «وإذا كان في القَدْر والمنزلة» غُلُوَّا «وفي السهم» غَلْوا «وأفعالها جميعاً غلا يغلو، فعلى هذا يجوز أن ينتصب» غير الحق «مفعولاً به أي: لا تتجازوا في دينِكم غير الحق، فإنْ فَسَّرنا» تغلوا «بمعنى تتباعدوا من قولهم:» غلا السهمُ «أي: تباعدَ كانَ قاصراً، فيحتمل أن يكونَ مَنْ قال بأنه لازم أخذه من هذا لا من الأول. قوله: {كَثِيراً} في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه / مفعولٌ به، وعلى هذا اكثرُ المتأوِّلين، فإنهم يفسِّرونه بمعنى: وأضَلُّوا كثيراً منهم أو من المنافقين.

والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرية أي: نعت لمصدر محذوف أي: إضلالاً كثيراً، وعلى هذا فالمفعول محذوف أي: أضَلُّوا غيرهم إضلالاً كثيراً.

78

قوله تعالى: {مِن بني إِسْرَائِيلَ} : في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها: إمَّا «الذين» وإمَّا «واو» كفروا «وهم بمعنًى واحدٍ. وقوله: {على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى} المرادُ باللسانِ الجارحةُ لا اللغةُ، كذا قال الشيخ يعني أنَّ الناطقَ بِلَعْنِ هؤلاء لسانُ هذين النبيين، وجاء قولُه {على لِسَانِ} بالإِفراد دون التثنيةِ والجمعِ فلم يَقُلْ:» على لسانَيْ «ولا» على ألسنةِ «لقاعدةٍ كليةٍ، وهي: أن كلَّ جزأين مفردين من صاحبيهما إذا أُضيفا إلى كليهما من غيرِ تفريقٍ جازَ فيهما ثلاثةُ أوجهٍ، لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ - ويليه التثنيةُ عند بعضِهم، وعند بعضِهم الإِفرادُ مقدمٌ علة التثنيةِ، فيقال:» قَطَعْتُ رؤوسَ الكبشين «وإنْ شئت: رأسَي الكبشين، وإن شئت: رأسَ الكبشين، ومنه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، فقولي» جزأين «تحرُّزٌ من شيئين ليسا بجزأين نحو:» درهميكما «وقد جاء:» من بيوتِكما وعمائمكما وأسيافمكا «لأَمْنِ اللَّبْسِ، وبقولي:» مفردين «من نحو:» العينين واليدين «فأمَّا قولُه تعالى: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ففُهِم بالإِجماع وبقولي:» من غيرِ تفريق «تحرُّزٌ من نحو: قَطَعْتُ رأسي الكبشين: السمينِ والكبشِ الهزيل» ، ومنه هذه الآية فلا يجوزُ إلا الإِفرادُ وقال بعضهم: «وهو مختارٌ» أي: فيجوز غيرُه. وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ في سورة المائدة بكلامٍ طويٍ فعليك بالالتفاتِ إليه. وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ، ويؤيد ذلك ما قاله

الزمخشري فإنه قال: «نَزَّل اللهُ لَعْنَهم في الزبور على لسانِ داود، وفي الإِنجيل على لسانِ عيسى وقوةُ هذا تَأْبى كونَه الجارحةَ، ثم أني رأيتُ الواحدي ذكرَ عن المفسرين قولين، ورجَّح ما قلته قال - رحمه الله -:» وقال ابن عباس: يريد في الزبور وفي الإِنجيلِ، ومعنى هذا أنَّ اللَهَ تعالى لَعَنَ في الزبور مَنْ يكفر من بني إسرائيل وكذلك في الإِنجيل، وقيل: على لسان داود وعيسى؛ لأنَّ الزبورَ لسانُ داود والإِنجيلَ لسانُ عيسى «فهذا نصٌّ في أن المراد باللسانِ غيرُ الجارحة، ثم قال:» وقال الزجاج: «وجائزٌ أن يكون داود وعيسى عَلِما أنَّ محمداً نبيٌّ مبعوثٌ، وأنهما لَعَنا مَنْ يكفر به» والقول هو الأول، فتجويزُ الزجاجِ لذلك ظاهرٌ أنه يُراد باللسانِ الجارحةُ ولكن ليس قولاً للمفسرين. و «على لسانِ» متعلِّقٌ ب «لعن» قال أبو البقاء: «كما يُقال: جاء زيدٌ على فرس» . وفيه نظرٌ إذ الظاهر أنه حالٌ. وقولُه: «ذلك بما عَصَوْا» قد تقدَّم نظيره قوله: {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} في هذه الجملة الناقصةِ وجهان، أظهرهما: أن تكونَ عطفاً على صلةِ «ما» وهو «عَصَوْا» أي: ذلك بسب عصيانِهم وكونِهم معتدين. والثاني: أنها استئنافيةٌ أي: أخبر الله تعالى عنهم بذلك. قال الشيخ: «ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشرحِ له، وهو قولُه: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ} .

79

وقوله تعالى: {عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} : متعلِّقٌ ب «يَتَناهَوْن» و «فعلوه» صفةٌ ل «منكر» . قال الزمخشري: «ما معنى وصفِ المنكرِ

بفعلوه، ولا يكونُ النهيُ بعد الفعلِ؟ قلت: معناه لا يتناهَوْن عن معاودةِ منكرٍ فَعَلُوه، أو عن مِثْلِ منكرٍ فَعَلوه، أو عن منكرٍ أرادُوا فِعْلَه، كما ترى أماراتِ الخوضِ في الفسقِ وآلاتِه تُسَوَّى وتُهَيَّأُ، ويجوز أن يُرادَ: لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكرٍ فعلوه، بل يُصِرُّون عليه ويُداومون، يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه» .

80

وقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا} : و «بئسما قَدَّمَتْ قد تقدَّم إعرابُ نظيرِ ذلك فلا حاجةَ إلى إعادته، وهنا زيادةٌ أخرى لخصوصِ التركيب وستعرِفُها. قوله: {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} في محلِّه أوجهٌ، أحدها: أنه مرفوعٌ على البدلِ من المخصوصِ بالذم، والمخصوصُ قد حُذِفَ وأُقيمت صفتُه مُقامه فإنه تُعْرِبُ» ما «اسماً تاماً معرفةً في محلِّ رفعٍ بالفاعلية بفعلِ الذمِّ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، و» قَدَّمت لهم انفُسُهم «جملة في محلِّ رفعٍ صفةً له، والتقديرُ لبئس الشيءُ شيءٌ قَدَّمَتْهُ لهم أنفُسُهم، ف» أَنْ سَخِط اللهُ عليهم «بدلٌ من» شيء «المحذوفِ، وهذا هو مذهبُ سيبويه كما تقدَّم تقريرُه. الثاني: أنه المخصوصُ بالذمِّ فيكونُ فيه ثلاثةُ الأوجهِ المشهورةِ، أحدُها: أنه مبتدأٌ والجملةُ قبلَه خبرُه، والرابطُ على هذا العمومُ عند مَنْ يَجْعَلُ ذلك أو لا يَحْتاج إلى رابط لأن الجملةَ عينُ المبتدأ، الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ لأنك لَمَّا قلت:» بِئْسَ الرجل «قيل لك: مَنْ هو؟ فقلت: فلان، أي: هو فلان. الثالث: أنه مبتداٌ خبرُه محذوفٌ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، وإلى كونه مخصوصاً بالذمِّ ذهب جماعةٌ كالزمخشري ولم يذكر غيرَه، قال: {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} هو المخصوص بالذمِّ كأنه قيل: لِبئْس زادُهم إلى الآخرة سُخْطُ اللهِ عليهم، والمعنى: موجِبُ سُخْطِ الله» قلت: وفي تقديرِ هذا

المضاف من المحاسنِ ما لا يَخْفى على متأمِّله، فإنَّ نفسَ السخطِ المضافَ إلى الباري تعالى لا يُقال هو المخصوص بالذم، إنما المخصوصُ بالذم أسبابُه، وذهبَ إليه أيضاً الواحدي ومكي وأبو البقاء إلاَّ أنَّ الشيخ بعد أَنْ حكى هذا الوجهَ عن أبي القاسم الزمخشري قال: «ولم يَصِحَّ هذا الإِعرابُ إلا على مذهبِ الفراء والفارسي/ في جَعْلِ» ما «موصولةً، أو على مذهبِ مَنْ يجعلُ» ما «تمييزاً، و» قَدَّمَتْ لهم «صفتها، وأمَّا على مذهبِ سيبويه فلا يتأتَّى ذلك ثم ذَكَر مذهبَ سيبويه. والوجه الثالث من أوجهِ» أَنْ سَخِطَ «: أنه في محل رفع على البدلِ من» ما «وإلى ذلك ذهب مكي وابنُ عطية، إلا أن مكِّيّاً حكاه عن غيره، قال:» وقيل: في موضعِ رفعٍ على البدلِ من «ما» في «لبئس» على أنها معرفةٌ «قال الشيخ - بعد ما حكى هذا الوجهَ عن ابن عطية -: ولا يَصِحُّ هذا سواءً كانت» ما «تامةً أو موصولةً لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدلِ منه، و» أَنْ سَخِطَ «لا يجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً ل» بِئْسَ «لأنَّ فاعل» بِئْس «لا يكونُ أَنْ والفعل» وهو إيرادٌ واضِحٌ كما قاله. الوجه الرابع: أنه في محلِّ نصبٍ على البدلِ من «ما» إذا قيل بأنها تمييزٌ، ذَكَر مكي وأبو البقاء، وهذا لا يجوزُ البتة؛ وذلك لأنَّ شرطَ

التمييز عند البصريين ان يكونَ نكرةً، و «أَنْ» وما في حَيِّزها عندهم من قبيلِ أعرفِ المعارفِ لأنَّها تُشْبِهُ المُضْمَرَ، وقد تقدم تقريرُ ذلك فيكف يَقعُ تمييزاً لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه؟ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك لأنَّهم لا يُجيزون التمييزَ بكلِّ معرفةٍ خصوصاً أَنْ والفعل. الخامسُ: أنه في محلِّ نصبٍ على البدلِ من الضمير المنصوبِ ب «قَدَّمَتْ» العائدِ على «ما» الموصولة أو الموصوفة على حَسَبِ ما تقدَّم، والتقديرُ: قَدَّمَتْه سُخْط الله، كقولك: «الذي رأيت زيداً أخوك» وفي هذا بحثٌ في موضعِه. السادس: أنه موضع نصب على إسقاطِ الخافضِ، إذ التقديرُ: لأَنْ سَخِط، وهذا جارٍ على مذهبه سيبويه والفراء لأنهما يَزْعُمان أنَّ محلَّ «أَنْ» بعد حَذْفِ الخافض في محلِّ نصب. السابع: أنه في محلِّ جر بذلك الخافضِ المقدَّرِ، هذا جارٍ على مذهبِ الخليلِ والكسائي لأنهما يُزْعُمان أنَّهما في محل جر، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرةٍ، وعلى هذا فالمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي: لَبِئْسما قَدَّمَتْ لهم أنفسُهم عملُهم أو صُنْعُهم، ولامُ العلةِ المقدرةُ معلَّقَةٌ إمَّا بجملةِ الذمِّ أي: سببُ ذَمِّهم سخطُ اللهِ عليهم أو بمحذوفٍ بعده، أي: لأَنْ سَخِطَ اللهُ عليهم كان كيتَ وكيتَ.

81

وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا} : الظاهرُ أنَّ اسم «كان» وفاعل «اتخذوهم» عائدٌ على «كثيراً» من قوله: {ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ} والضميرُ المنصوب في «اتِّخذوهم» يعودُ على «الذين كفروا» في قوله: {يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} وأجاز القفال أن يكون اسمُ «كان» يعودُ على «الذين كفروا» وكذلك الضميرُ المنصوبُ في «اتِّخذوهم» والضميرُ المرفوعُ في «اتخذوهم» يعودُ على اليهودِ، والمرادُ بالنبي محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتقدير: ولو كان

الكافرون المُتَوَلِّون مؤمنين بمحمد والقرآن ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياءَ، والأولُ أَوْلى لأن الحديثَ عن كثيرٍ لا عن المتولَّيْن، وجاء الجواب «لو» هنا على الأفصح وهو عدمُ دخولِ اللام عليه لكونه منفياً، ومثله قول الآخر: 178 - 9- لو أنَّ بالعلمِ تُعْطَى ما تعيشُ به ... لَمَا ظَفِرْت من الدنيا بثُفْرُوْقِ و «ترى» يجوز أَنْ تكونَ مِنْ رؤية البصر، ويكونُ المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن تكونَ العِلْمية، والكثيرُ على هذا أَسْلافُهم، فمعنى «تَرى» تَعْلَمُ أخبارَهم وقصصهم بإخبارِنا إياك، فعلى الأول يكون قولُه «يَتَولَّون» في محلِّ نصب على الحال، وعلى الثاني يكون في محلِّ نصبٍ على المفعول الثاني: وقولُه: {ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ} هذا الاستدراكُ واضحٌ بما تقدَّم. وقولُه: «كثيراً» هو من إقامةِ الظاهر مُقامَ المضمرِ لأنه عبارةٌ عن «كثيراً منهم» المتقدِّمِ، فكأنه قيل: ترى كثيراً منهم ولكنَّ ذلك الكثيرَ، ولا يريدُ: ولكنَّ كثيراً من ذلك الكثيرِ فاسقون.

82

قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس} : قد تقدَّم إعرابُ هذا في نحو قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياوة} [البقرة: 96] ، فَأَغَنَى عن إعادته / وقال ابنُ عطية: «اللامُ للابتداءِ» ، وليس بشيء، بل هي لامٌ يُتَلَقَّى بها القسمُ. و «أشدَّ الناس» مفعول أول، و «عداوةً» نصب على التمييز. و «للذين» متعلقٌ بها، قَوِيَتْ باللامِ لَمَّا كانت فرعاً في العمل على الفعل، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء لأنها مبنيةٌ عليها، فهي كقولهِ: 179 - 0-. . . . . . . . . . .

ورهبةٌ ... عقابَك. . . . . . . . . . . . . . ويجوزَ أن يكونَ «للذين» صفةً ل «عداوة» فيتعلَّقَ بمحذوف، و «اليهودَ» مفعولٌ ثانٍ. وقال أبو البقاء: «ويجوُ أن يكونَ اليهود هو الأولَ، و» أشدَّ «هو الثاني، وهذا هو الظاهرُ، إذ المقصودُ أَنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركين بأنَّهم أشدٌّ الناسِ عداوة للمؤمنين، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناسِ مودةً لهم، وليس المرادُ أَنْ يخبرَ عن أشدِّ الناس وأقربهم بكونِهم من اليهودِ والنصارى. فإن قيل: متى استويا تعريفاً وتنكيراً وَجَب تقديمُ المفعولِ الأولِ وتأخيرُ الثاني كما يجب في المبتدأ والخبرِ وهذا من ذاك. فالجوابُ: أنه إنما يجب ذلك حيث أَلْبس، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك جاز التقديمُ والتأخيرُ ومنه قوله: 179 - 1- بَنُونا بنو أبنائِنا، وبناتُنا ... بنوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ ف» بنوا أبناء «هو المبتدأ، و» بَنُونا «خبره، لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء، ومثلُه قول الآخر: 179 - 2- قبيلةٌ ألأَمُ الأحياءِ أكرمُها ... وأَغْدُر الناسِ بالجيرانِ وافِيها أكرمُها» هو المبتدأُ، و «ألأمُ الأحياءِ» خبرُه، وكذا «وافيها» مبتدأ و «أغدرُ الناس» خبره، والمعنى على هذا، والآيةُ من هذه القبيلِ فيما ذَكَرْتُ لك.

وقوله: {والذين أَشْرَكُواْ} عطفٌ على اليهود، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها. و «ذلك بأنَّ» مبتدأٌ وخبرُ، وتقدم تقريره، و «منهم» خبر «أنَّ» و «قسيسين» اسمها، وأن واسمُها وخبرها في محل جَرِّ بالباء، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر «ذلك» والقسيسين جمع «قِسِّيس» على فِعِّيل، وهو مثالُ مبالَغَة ك «صِدِّيق» وقد تقدَّم وهو هنا رئيسُ النصارى وعابُدهم، وأصلُه من تَقَسِّسَ الشيءَ إذا تَتَّبَعَه وطَلَبه بالليل، يقال: «تقسَّسْتُ أصواتَهم» أي: تَتَبَّعْتُها بالليلِ، ويُقال لرئيس النصارى: قِسّ وقِسّيس، وللدليلِ بالليل: قَسْقَاس وقَسْقَس، قاله الراغب، وقال غيرُه: القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ، ومنه سُمِّي عالُم النصارى لتتبُّعِه العلمَ. قال رؤبه بن العجاج: 179 - 3- أَصْبَحْنَ عن قَسِّ الأذى غَوافِلا ... يَمْشِين هَوْناً خُرُداً بَهالِلا ويقال: قَسَّ الأثرَ وقَصَّه بالصاد أيضاً، ويقال: قَسّ وقِسّ بفتح القاف وكسرها، وقِسِّيس. وزعم ابن عطية أنه أعجمي مُعَرَّب. وقال الواحدي: «وقد تكلمت العرب بالقَسّ والقِسّيس» وأنشد المازني: 179 - 4- لو عَرَضَتْ لأيْبُلِيٍّ قَسِّ ... اشعثَ في هيكلهِ مُنْدَسِّ حَنَّ إليها كحنينِ الطَسِّ ...

وأنشد لأمية بن أبي الصلت: 179 - 5- لو كان مُنْفَلَتٌ كانت قساوسةٌ ... يُحْيِيهم الَّهُ في أَيْديهم الزُّبُرُ هذا كلامُ أهل اللغة في القِسّيس، ثم قال: «وقال عروة بن الزبير:» ضَيَّعَتِ النصارى الإِنجيل وما فيه، وبقي منهم رجلٌ يُقال له قسيساً «يعني بقي على دينِه لم يُبَدِّلْه، فَمَنْ بقي على هديِة ودينِه قيل له» قِسِّيس «وقال قطرب:» القَسّ والقِسّيس: العالم بلغة الروم، قال ورقة: 179 - 6- لما خَبَّرْتَنا مِنْ قولِ قَسٍّ ... من الرهبانِ أكرُه أَنْ يَبُوحا فعلى هذا القَسُّ والقِسٍيس مما اتفق فيه اللغتان. قلت: وهذا يُقَوّي قولَ ابن عطية، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ «القُس» بضم القاف لا مصدراً ولا وصفاً، فأما قُسّ بن ساعدة الإِيادي فهو عَلمَ فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّر بطريق العلَمية، ويكون أصلُه قَسّ أو قِسّ بالفتح أو الكسر كما نَقَله ابن عطية وقُسُّ بن ساعدة كان أعلمَ أهلِ زمانه، وهو الذي قال فيه عليه السلام: «يُبْعَثُ أمةً وحدَه» وأمَّا جمعُ قِسّيس فجمعُ تصحيحٍ كما في الآية الكريمة. قال الفراء: «ولو جُمِع» قَسُوساً «كان صواباً لأنهما في معنى واحد» يعني: «قِسّاً» و «قسِيساً» قال: «ويُجْمَعُ القِسّيس على» قساوِسَة «جمعوه على مثال المَهالِبَة، والأصلُ: قساسِسَة، فكثُرت السينات / فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً، وأنشدوا لأمية:» لو كان مُنْفَلَتٌ كانت قساوسةٌ «البيت. قال الواحدي:»

والقُسوسة مصدرُ القِسّ والقِسِّيس «قلت: كأنه جَعَل هذا المصدرَ مشتقاً من هذا الاسمِ كالأبوّة والأخوّة والفتوّة من لفظ أب وأخ وفتى، وكنتُ قد قَدَّمْتُ أن القَسّ بالفتحِ في الاصل هو المصدرُ، وأنَّ العالِمَ سُمِّي به مبالغةً، ولا أدري ما حملَ مَنْ قال: إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما عَرَفْتَه مِمَّا تقدم؟ والرُّهْبان: جمعُ راهبٍ كراكب ورُكْبان، وفارِس وفُرْسان. وقال أبو الهيثم.» إنَّ رهباناً يكون واحداً ويكون جمعاً «وأنشد على كونِه مفرداً قولَ الشاعر: 179 - 7- لو عايَنَتْ رهبانَ دَيْرٍ في القُلَلْ ... لأَقْبَلَ الرُّهبانُ يَعُدُوا ونَزَلْ ولو كان جمعاً لقال:» يَعُدُون «و» نَزَلُوا «بضمير الجمع. وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنه قد عادَ ضميرُ المفرد على الجمعِ الصريحِ لتأوُّله بواحدٍ كقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] فالهاء في» بطونه «تعود على الأنعام، وقال: 179 - 8- وطابَ البانُ اللِّقاحِ وبَرَدْ ... في» برد «ضميرٌ يعودُ على» أَلْبان «وقالوا:» هو أحسنُ الفتيانِ وأجملُه «. وقال الآخر: 179 - 9-

لو أنَّ قوميَ حين أَدْعُوهمْ حَمَلْ ... على الجبالِ الشُّمِّ لانهدَّ الجَبَلْ إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذِكْرُه، ومن مجيئِه جمعاً الآيةُ، ولم يَرِدْ في القرآن الكريم إلا جَمْعاً، وقال كثّير: 180 - 0- رُهْبانُ مَدْيَنَ والذين عَهِدْتُهُمْ ... يبكون من حَذَرِ العقابِ قُعودا لو يَسْمعون كما سَمِعْتُ كلامَها ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجودا قيل: ولا حُجَّة فيه لأنه قال: «والذين» فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمع لأجلِ هذا الجمعِ لا لكونِ رُهبان «جمعاً، وأصرحُ مِنْ هذا قولُ جرير: 180 - 1- رُهبانُ مَدْيَنَ لو رَأَوْكِ تَنَزَّلُوا ... والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفادِرِ قال ابن الهيثم:» وإن جُمِع الرهبان الواحدُ «رَهابين ورهابِنة» جاز، وإنْ قلت: رهبانيون كان صواباً كأنك تَنْسُبُه إلى الرهبانية، والرهبانية من الرَّهْبَة وهي المخافَةُ، وقال الراغب «» والرُهبانُ يكونَ واحداً وجمعاً، فَمَنْ جَعَلَه واحداً جَمَعَه على رَهابين، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ «يعني أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ

في الجمع كالفرازِنَة والموازِجَة والكيالِجة وقال الليث:» الرهبانيِّةُ مصدرُ الراهبِ والترهُّبِ: التعبُّد في صومعة «، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدم في ان القَسْوَسة مصدرٌ من القَسّ والقِسّيس، ولا حاجةَ إلى هذا بل الرهبانيةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّب وهو التعبد أو من الرَّهَب وهو الخوف، ولذلك قال الراغب:» والرهبانيةُ غلوُّ مَنْ تحمَّل التعبُّدَ مِنْ فرطِ الرَّهْبَة «وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] . قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} نسقٌ على» أنَّ «المجرورةِ بالباء أي: ذلك بما تقدَّم وبأنَّهم لا يستكبرون.

83

وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ} «إذا» شرطيةٌ جوابُها «تَرى» وهو العاملُ فيها، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان، أظهرُهما: أنَّ محلِّها الرفعُ نسقاً على خبر «أنَّهم» الثانيةِ، وهو «لا يستكبرون» أي: ذلك بأنَّ منهم كذا وأنهم غيرُ مستكبرين وأنهم إذا سمعوا، فالواو عَطَفَتْ مفرداً على مثله. والثاني: أنَّ الجملةَ استئنافية أي: أنه تعالى أَخْبر عنهم بذلك. والضميرُ في «سمعوا» ظاهرُه أَنْ يعودَ على النصارى المتقدِّمين لعمومِهم، وقيل: إنما يعودُ لبعضِهم وهم مَنْ جاء مِن الحبشة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عطية: «لأنَّ كلَّ النصارى ليسوا كذلك» . و «ما» في «ما أُنْزل» تحتمل الموصولةَ والنكرةَ الموصوفةَ، و «ترى» بصَريةٌ، فيكون قولُه «تَفيض من الدمع» جملةً في محلِّ نصب على الحال.

وقُرئ شاذاً «تُرى» بالبناء للمفعول، «أعينُهم» / رفعاً، وأسند الفيضَ إلى الأعينِ مبالغةً، وإن كان القائضُ إنما هو دمعُها لا هي، كقول امرئ القيس: 180 - 2- ففاضَتْ دموعُ العينِ مني صَبابةً ... على النَّحْرِ حتى بَلَّ دَمْعِيَ مَحْمِلي والمرادُ المبالغةُ في وصفِهم بالبكاءِ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهم تمتلئ حتى تفيضَ، لأنَّ الفيضَ ناشىءٌ عن الامتلاءِ كقوله: 180 - 3- قوارِصُ تأتيني وتَحْتَقِرُونها ... وقد يَمْلأَ الماءُ الإِناءَ فَيَفْعُمُ وإلى هذين المعنيين نحا أبو القاسم، فإنه قال: «فإنْ قلت:» ما معنى «تَفيض من الدمع» ؟ قلت: معناه تَمْتَلِئ من الدمع حتى تفيض، لأنَّ الفيض أَنْ يمتلئَ الإِناءُ حتى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه، فوضع الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء، وهو من إقامةِ المسبب مُقام السببِ، أو قَصَدْتَ المبالغةَ في وصفِهم بالبكاء، فجَعَلْتَ أعينهم كأنها تفيض بأنفسها، أي: تسيل من الدمع من أجلِ البكاء من قولك: «دَمَعَتْ عينُه دمعاً» . و «من الدمع» فيه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلِّقٌ ب «تَفيض» ، ويكون معنى «مِنْ» ابتداءَ الغاية، والمعنى: تَفِيضُ من كثرة الدمع. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعلِ في «تفيضُ» قالهما أبو البقاء،

وقَدَّر الحالَ بقولك: «مملوءةً من الدمع» وفيه نظر، لأنه كونٌ مقيدٌ، ولا يجوزُ ذلك، فبقي ان يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً أي: تفيض كائنً من الدمع، وليس المعنى على ذلك، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي. فإن قيل: هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكونَ «من الدمع» تمييزاً، لأنهم لا يَشْترطون تنكيرَ التمييز، والأصل: تفيض دمعاً، كقولك: «تَفَقَّأ زيدٌ شحماً» فهو من المتصبِ عن تمام الكلام؟ فالجوابُ أن ذلك لا يجوزُ، لأنَّ التمييز إذا كان منقولاً من الفاعلية امتنع دخولُ «مِنْ» عليه، وإن كانت مقدرةً معه، فلا يجوز: «تَفَقَّأ زيدٌ من شحم» وهذا - كما رأيتَ - مجرورٌ ب «من» فامتنع أن يكونَ تمييزاً، إلا أن ابا القاسم في سورة براءة جعله تمييزاً في قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} [التوبة: 92] ، ولا بد من نقلِ نصه لتعرفه، قال رحمه الله تعالى: «تفيضُ من الدمعِ كقولك:» تفيضُ دمعاً «وهو أبلغ من قولِك: يفيضُ دمعُها، لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائض، و» من «للبيان، كقولك:» أَفْديك من رجلٍ «ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز» وفيه ما قد عَرَفْتَه من المانِعَيْنِ، وهو كونُه معرفةً، وكونُه جُرَّ ب «مِنْ» وهو فاعلٌ في الأصل، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ، فعلى هذا تكونُ هذه الآيةُ كتلك عنده، وهو الوجهُ الثالث. الرابع: انَّ «مِنْ» بمعنى الباء، أي: تفيضُ بالدمع، وكونُها بمعنى الباءِ رأيٌ ضعيف، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] أي: بطرف، كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى مِنْ، كقوله: > 180 - 4- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ ... متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ

أي: من ماءِ الجر. قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} «مِنْ» الأولى لابتداءِ الغاية وهي متعلقةٌ ب «تَفِيضُ» والثانيةُ يُحْتمل أن تكونَ لبيانِ الجنس، أي: بَيَّنت جنسَ الموصولِ قبلَها، ويُحتمل أن تكونَ للتبعيضِ، وقد أوضح أبو القاسم هذا غايةَ الإِيضاح، قال رحمه الله: «فإنْ قلت: أيُّ فرقٍ بينَ» مِنْ «و» مِنَ «في قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} ؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية، على أنَّ الدمع ابتدأ ونَشَأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببِه، والثانيةُ لبيان الموصول الذي هو» ما عرفوا «وتحتمل معنى التبعيض، على أنهم عَرَفوا بعضَ الحقِّ فأبكاهم وبَلَغَ منهم، فكيف إذا عَرَفوه كلَّه وقرؤوا القرآن وأحاطُوا بالسنة» انتهى. ولم يتعرض لما يتعلَّق به الجارَّان وهو يمكن أَنْ يُؤْخَذَ من قوةِ كلامه، وَلْنزد ذلك إيضاحاً و «مِنْ» الأولى متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حال من «الدمع» أي: في حالِ كونه ناشئاً ومبتدئاً من معرفةِ الحق، وهو معنى قول الزمخشري، على أنَ الدمعَ ابتدأ ونشَأَ من معرفة الحق، ولا يجوزُ أَنْ يتعلق ب «تفيض» لئلا يلزَم تعلُّقُ حرفين مُتَّحِدَيْن، لفظاً ومعنىً بعامل واحد، فإنَّ «مِنْ» في «من الدمع» لابتداءِ الغاية كما تقدَّم، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ «مِنْ» في «من الدمع» للبيانِ، أو بمعنى الباء فقد يجوز ذلك، وليس معناه في الوضوحِ كالأول. وأمَّا «من الحق» فعلى جَعْلِه أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف أي: أعني من كذا، وعلى جَعْلِه أنها للتبعيض تتعلق ب «عَرَفوا» وهو معنى قولِه: «عَرَفوا بعض الحق» . وقال أبو البقاء في «مِن الحق» إنه حالٌ من العائد المحذوف «على الموصول، أي: مِمَّا عرفوه كائناً من الحق، ويجوزُ أن تكون» من «في قوله

تعالى: {مِمَّا عَرَفُواْ} تعليلةً، أي: إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانهم الحقَّ، ويؤيِّدُه قول الزمخشري:» وكان مِنْ أجله وبسببه «فقد تحصل في» مِنْ «الأولى أربعةُ أوجه، وفي الثالثةِ ضَعْفٌ أو منعٌ كما تقدم، وفي» مِنْ «الثانية أربعةٌ أيضاً: وجهان بالنسبة إلى معناها: هل» من «ابتدائية أو تعليليةٌ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلق به: هل هو» تفيض «أو محذوفٌ على أنها حالٌ من الدمع، وفي الثالثة خمسة، اثنان بالنسبة إلى معناها: هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ؟ وثلاثةُ بالنسبة إلى متعلِّقها: هل هو محذوفٌ وهو» أعني «أو نفسُ» عَرَفوا «أو هو حالٌ، فتتعلق بمحذوفٍ أيضاً كما ذكره أبو البقاء. قوله: {يَقُولُونَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مستأنف فلا محل له، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ، الثاني: أنها حال من الضمير المجرور في» أعينهم «، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه لأنَّ المضافَ جزؤهُ فهو كقولِه تعالى: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] . الثالث: أنه حالٌ من فاعل» عَرَفوا «والعاملُ فيها» عرفوا «قال الشيخ لَمَّا حكى كونَه حالاً:» كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يُبَيِّنا ذا الحال ولا العاملَ فيها «قلت: أمَّا أبو البقاء فقد بَيَّنَ ذا الحال فقال:» يقولون «حالٌ من ضميرِ الفاعل في» عَرَفوا «فقد صَرَّح به، ومتى عُرِف ذو الحال عُرِف العاملُ فيها، لأنَّ العاملَ في الحال من العامل في صاحبها، فالظاهر أنه أطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاء سقط منها ما ذكرته لك، ثم إنَّ الشيخَ رَدَّ كونَها حالاً من الضمير في» أعينهم «بما معناه أن الحَال لا تَجيءُ من المضافِ إليه وإن كان

المضافُ جُزْأَه، وجعله خطأً، وأحالَ بيانَه على بعضِ مصنفاتِه، ورَدَّ كونَها حالاً أيضاً من فاعل» عرفوا «بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتِهم الحقَّ بهذه الحال، وهم قد عرفوا الحق في هذه الحالِ وفي غيرها، قال:» فالأَوْلى أن يكون مستأنفاً «أمَّا ما جعله خطأً فالكلامُ معه في هذه المسألة في موضوع غير هذا، وأمَّا قوله» يلزم التقييدُ «فالجوابُ أنه إنما ذُكِرت هذه الحالُ لأنها أشرفُ أحوالهم فَخَرَجَتْ مخرجَ المدح لهم. وقوله:» ربَّنا آمنَّا «في محل نصب بالقول، وكذلك: {فاكتبنا} إلى قوله: {الصالحين} .

84

قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} : «ما» استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء، و «لنا» جارٌّ ومجرورٌ خبرُه، تقديرُه: أيُّ شيء استقر لنا، و «لا نؤمن» جملة حالية. وقد تقدَّم نظيرُ هذه الآية والكلامُ عليها، وأنَّ بعضَهم قال: إنها حال لازمة لا يتمُّ المعنى إلا بها نحو: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] ، وتقدَّم ما قلتُه فيه فأغنى ذلك عن إعادتِه. وقال الشيخ هنا: «وهي المقصودُ وفي ذكرِها فائدةُ الكلام، وذلك كما تقول:» جاء زيدٌ راكباً «لِمَنْ قال: هل جاء زيدٌ ماشياً أو راكباً؟ . قوله: {وَمَا جَآءَنَا} في محلِّ» ما «وجهان، أحدهما: أنه مجرور نسقاً على الجلالة أي: بالله وبما جاءَنا، وعلى هذا فقوله:» من الحق «فيه احتملان، أحدُهما: أنه حالٌ من فاعل» جاءنا «أي: جاء في حال كونِه من جنسِ الحقِّ. والاحتمال الآخر: أن تكونَ» مِنْ «لابتداء الغاية، والمرادُ بالحقِّ الباري تعالى، وتتعلَّقُ» مِنْ «حينئذ ب» جاءنا «كقولك» جاءَنا فلانُ من عند زيد «، والثاني: أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء، والخبر قوله: {مِنَ الحق} والجملةُ في موضع الحال، كذا قاله أبو البقاء ويصيرُ التقدير: وما لنا لا نؤمِنْ بالله

والحالُ أنَّ الذي جاءنا كائنٌ من الحق،» والحقُّ «يجوز أن يُراد به القرآنُ فإنه حقُّ في نفسه، ويجوزُ أن يُراد به الباري تعالى - كما تقدَّم - والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تضمَّنه قولُه» لنا «. قوله: {وَنَطْمَعُ} في هذه الجملة ستة اوجه، أحدها: أنها منصوبة المحلِّ نسقاً على المحكيِّ بالقَول قبلَها أي: يقولون كذا ويقولون نطمع وهو معنىً حسن. / الثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً وهو» لنا «لأنه تضمَّنَ الاستقرارَ، فرفع الضمير وعَمِلَ في الحال، وإلى هذا ذهبَ أبو القاسم فإنه قال:» والواو في «ونطمعُ» واو الحال، فإنْ قلت: ما العاملُ في الحال الأولى والثانية؟ قلت: العاملُ في الأولى ما في اللام من معنى الفعلِ كأنه قيل: أيُّ شيء حَصَل لنا غيرَ مؤمنين، وفي الثانية معنى هذا الفعل ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أَزَلْتَها وقلت: «ما لنا ونطمعُ» لم يكنْ كلاماً «. وفي هذا الكلامِ نظرٌ وهو قولُه:» لأنَّك لو أَزَلْتَها إلى آخره «لأنَّا إذا أَزَلْناها وأتينا ب» نطمع «لم نأتِ بها مقترنةً بحرفِ العطف، بل مجردةٌ منه لنحُلَّها محلَّ الأولى، ألا ترى أنَّ النحويين إذا وضعوا المعطوفَ موضعَ المعطوف عليه وضعوه مجرداً من حرفِ العطف، ورأيتُ في بعض نسخ الكشاف:» ما لنا نطمعُ «من غير واوٍ مقترنةٍ ب» نطمعُ «ولكن أيضاً لا يَصِحُّ لأنك لو قلت:» ما لنا نطمعُ «كان كلاماً كقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] ، ف «نطمع» واقعٌ موقعَ مفردٍ هو حال، كما لو قلت: ما لك طامعاً، وما لنا طامعين. وردَّ الشيخ عليه هذا الوجه بشيئين، أحدهما: أن العامل لا يقتضي أكثرَ من حالٍ واحدة إذا كان صاحبُه مفرداً دونَ بدل أو عطف إلا أفعلَ التفضيل على الصحيح.

والثاني: أنه يلزم دخولُ الواو على مضارع مثبت. وذلك لا يجوزُ إلا بتأويل تقدير مبتدأ أي: ونحن نطمع. الثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من فاعل «نؤمن» فتكون الحالان متداخلتين. قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون» ونطمع «حالاً من» لا نؤمن «على معنى: أنهم أَنْكروا على أنفسهم انهم لا يوحِّدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين» وهذا فيه ما تقدم من دخول واو الحال على المضارع المثبت، وأبو البقاء لَمَّا أجاز هذا الوجهَ قَدَّر مبتدأ قبل «نطمع» ، وجعل الجملةَ حالاً من فاعل «نؤمن» ليخلصَ من هذا الإِشكال فقال: «ويجوز أن يكون التقديرُ:» ونحن نطمع «، فتكون الجملةُ حالاً من فاعل لا نؤمن» الرابع: أنها معطوفةٌ على «لا نؤمن» فتكون في محلِّ نصب على الحال من ذلك الضميرِ المستترِ في «لنا» ، والعاملُ فيها هو العاملُ في الحال قبلها. فإنْ قلت: هذا هو الوجه الثاني المتقدم، وذكرتَ عن الشيخِ هناك أنه منع مجيء الحالين لذي حال واحدة، وبأنه يلزمُ دخولُ الواو على المضارع فما الفرق بين هذا وذاك؟ فالجواب أنَّ الممنوعَ تعدُّدُ الحال دون عاطف، وهذه الواوُ عاطفةٌ، وأن المضارعَ إنما يتمنع دُخولُ واوِ الحال عليه وهذه عاطفةٌ لا واوُ حالٍ فحصل الفرقُ بينهما من جهةِ الواو، حيث كانت في الوجه الثاني واوَ الحال وفي هذا الوجه واوُ عطف، وهذا وإن كان واضحاً فقد يَخْفى على كثير من المتدربين في الإِعراب، ولَمَّا حكى أبو القاسم هذا الوجهَ أبدى له معنيين حسنين فقال - رحمه الله -: «وأن يكونَ معطوفاً على» لا نؤمن «على معنى: وما لنا نجمعُ بين التثليث وبين الطمعِ في صحبةِ الصالحين، أو على معنى: وما لنا لا نجمعُ بينهما بالدخولِ في الإِسلام، لأنَّ الكافرَ

ما ينبغي له أن يطمعَ في صحبة الصالحين» . الخامس: أنها جملة استئنافية. قال الشيخ: «الأحسنُ والأسهلُ أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ منهم بأنهم طامعون في إنعامِ الله عليهم بإدخالهم مع الصالحين، فالواوُ عاطفةُ هذه الجملةَ على جملة» وما لنا لا نؤمن «قلت: وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفةً على المَحْكِيِّ بالقول قبلها شيءٌ واحدٌ، فإن فيه الإِخبارَ عنهم بقولهم كيتَ وكيتَ. السادس: أن يكون «ونطمعُ» معطوفاً على «نؤمن» أي: وما لنا لا نطمع. قال الشيخ هنا: «ويظرُ لي وجهُ غيرُ ما ذكروه وهو أن يكونَ معطوفاً على» نؤمن «التقدير: وما لنا لا نؤمنُ ولا نطمعُ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانتفاء إيمانهم وانتفاءِ طمعهم مع قدرتِهم على تحصيلِ الشيئين: الإِيمانِ والطمعِ في الدخول مع الصالحين» قلت: قوله: «غيرُ ما ذكروه» ليس كما ذكره، بل ذكر أبو البقاء فقال: «ونطمعُ يجوز أن يكونَ معطوفاً على» نؤمن «أي: وما لنا لا نطمع» ، فقد صَرَّح بعطفه على الفعل المنفي ب «لا» غايةُ ما في الباب أن الشيخَ زاده بسطاً. والطمع قال الراغب: «هو نزوعُ النفسِ إلى الشيء شهوة له» ثم قال: ولَمَّا كان أكثرُ الطمعِ من جهة الهوى قيل: الطَمَعُ طَبَعٌ والطَمَعُ يدنِّس الإِهابَ «وقال الشيخ:» الطمعُ قريبٌ من الرجاء / يقال منه: طَمِع يطمَعُ طَمَعاً، قال تعالى: {خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة: 16] وطَماعَة وطماعِيَة كالكراهية، قال: 180 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . ...

طَماعيةً أَنْ يغفرَ الذنبَ غافرُهْ فالتشديدُ فيها خطأ، واسمُ الفاعل منه طَمِع ك «فَرِح» و «أَشِر» ولم يَحْكِ الشيخُ غيرَه، وحكى الراغب: طَمِعٌ وطامعٌ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين كقولِهم «فَرِح» لمن شأنه ذلك، و «فارح» لمن تجدَّد له فرحٌ. قوله: {أَن يُدْخِلَنَا} أي: في أن، فمحلُّها نصب أو جر على ما تقدَّم غيرَ مرة. و «مع» على بابِها من المصاحبة، وقيل: هي بمعنى «في» ولا حاجةَ إليه لاستقلالِ المعنى مع بقاءِ الكلمةِ على موضوعها.

85

وقرأ الحسن: {فآتاهم} : مِنْ آتاه كذا أي: أعطاه، والقراءةُ الشهيرةُ أَوْلى؛ لأنَّ الإِثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجلِ عملٍ، بخلاف الإِيتاء، فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره. وقوله: {جَنَّاتٍ} مفعول ثان ل «أثابَهم» أو ل «آتاهم» عل حَسَبِ القراءتين. و «تجري من تحتها الأنهار» في محلِّ نصبٍ صفةً ل «جنات» . و «خالدين» حالٌ مقدرةٌ، وقوله: {وذلك جَزَآءُ} مبتدأٌ وخبرٌ، وأُشير ب «ذلك» إلى الثوابِ أو الإِيتاء. و «المحسنين» يُحتمل أن يكونَ من بابِ إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمر، والأصل: «وذلك جزاؤُهم» وإنما ذُكِر وصفُهم الشريف مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَة محصِّلة جزائهم بالخير، ويُحتمل أن يرادَ كلُّ محسنٍ، فيندرجون اندراجاً أولياً.

88

قوله تعالى: {حَلاَلاً} : فيه ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه مفعولٌ به أي: كُلوا شيئاً حلالاً، وعلى هذا الوجهِ ففي الجارِّ وهو قوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ} وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من «حلالا» لأنه في الأصل صفةٌ لنكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها انتصبَ حالاً. والثاني: أنَّ «مِنْ» لابتداء الغاية في الأكل أي: ابتدئوا أكلكم الحلالَ من الذي رزقه الله لكم. الوجه الثاني من

الأوجه المتقدمة أنه حالٌ من الموصول أو من عائده المحذوف أي: «رَزَقكموه» فالعاملُ فيه «رزقكم» الثالث: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف أي: أَكْلاً حلالاً وفيه تجوُّزٌ.

89

قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ} : إلى آخره، تقدم إعرابُ ذلك في سورة البقرة واشتقاقُ المفردات. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «عَقَدْتُمْ» بتخفيف القاف دون ألف بعد العين، وابن ذكوان عن ابن عامر: «عاقدتم» بزنة فاعلتم، والباقون: «عَقَّدتم» بتشديد القاف. فأمَّا التخفيفُ فهو الأصل، وأمَّالتشديدُ فيحتمل أوجهاً، أحدها: أنه للتكثيرِ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ. والثاني: أنه بمعنى المجردِ فيوافِقُ القراءةَ الأولى، ونحوه: قَدَّر وقَدَر. والثالث: أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين نحو: «واللهِ الذي لا إله إلا هو» . والرابع: أنه يدل على تأكيد العزم بالالتزام. الخامس: أنه عوضٌ من الألف في القراءة الأخرى، ولا أدري ما معناه، ولا يجوز أن يكونَ لتكرير اليمين فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمرةٍ واحدةٍ. وقد تَجَرَّأ أبو عبيد على هذه القراءةِ وزيَّفَها فقال: «التشديد للتكرير [مرةً] من بعد مرة، ولست آمنُ أن توجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفارةِ في اليمين الواحدة لأنها لم تكرَّرْ» وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك، وذكروا تلك المعاني المتقدمة، فَسَلِمَتِ القراءةُ تلاوةً ومعنى ولله الحمدُ. وأمَّا «عاقدت» فيُحتملُ أن يكونَ بمعنى المجردِ نحو: «جاوزت الشيء وجُزْتُه» وقال الفارسي: «عاقَدْتم» يحتمل أمرين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى

فَعَل، كطارقت النَّعْل وعاقبتُ اللص، والآخر: أن يُراد به فاعَلْتُ التي تقتضي فاعلين، كأن المعنى: بما عاقدتم عليه الأيمانَ، عَدَّاه ب «على» لَمَّا كان بمعنى عاهد، قال: {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله} [الفتح: 10] كما عَدَّى: {نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 58] ب «إلى» وبابُها أن تقول: ناديت زيداً [نحو:] {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور} [مريم: 52] لَمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا، قال: {مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} [فصلت: 33] ثم اتُّسِع فحُذِف الجارُّ ونُقِل الفعل إلى المفعول، ثم حُذِف الضمير العائد من الصلة إلى الموصول إذ صار: {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} كما حُذِف من قوله: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] قلت: يريد - رحمه الله - أن يبيِّن معنى المفاعلة فأتى بهذه النظائر للتضمين ولحذفِ العائدِ على التدريج، والمعنى: بما عاقَدْتُم عليه الأيمان وعاقَدَتُم الأيمان عليه، فَنَسَب المعاقدةَ إلى الأيمان مجازاً. ولقائل أن يقول: قد لانحتاجُ إلى عائد حتى نحتاج إلى هذا التكلُّفِ الكثير، وذلك بأن نجعلَ «ما» مصدريةً والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: بما عاقدتم غيرَكم الأيمانَ، أي: بمعاقدتكم غيرَكم الأيمانَ، ونخلص من مجازٍ آخر وهو نسبةُ المعاقدةِ إلى الأيمان، فإنَّ في هذا الوجه نسبةَ المعاقدة للغير وهي نسبةٌ حقيقة، وقد نَصَّ على ذلك - أعني هذا الوجه - جماعةٌ. وقد تعقَّب الشيخُ على أبي علي كلامَه / فقال: «قوله: إنه مثل» طارَقْتُ النعل «و» عاقبت اللص «ليس مثلَه، لأنك لا تقول: طَرَقْتُ

ولا عَقَبْتُ، وتقول: عاقَدْت اليمين وعَقَدْتُها» وهذا غيرُ لازم لأبي علي لأنَّ مرادَه أنه مثلُه من حيث إنَّ المفاعلةَ بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه كانتفائها من عاقَبْتُ وطارَقْتُ، أمَّا كونُه يقال فيه أيضاً كذا فلا يَضُرُّه ذلك في التشبيه. وقال أيضاً: «تقديرُه حَذْفَ حرفِ الجر ثم الضمير على التدرج بعيدٌ، وليس بنظير:» فاصدَعْ بما تؤمر «لأن» أمر «يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرف الجر أخرى، وإن كان الأصلُ الحرفَ، وأيضاً ف» ما «في» فاصدَعْ بما «لا يتعيَّن أن تكونَ معنى الذي، بل الظاهر أنها مصدريةٌ، وكذلك ههنا الأحسنُ أن تكونَ مصدريةً لمقابلتِها بالمصدرِ وهو اللَّغْوُ» . وقد تقدَّم في سورة النساء قولُه تعالى: {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [الآية: 33] و «عَاقَدْت» وذكرت لك ما فيهما فصارَ في ثلاثُ قراءاتٍ في المشهور، وفي تِيْكَ قراءاتان، وكنت قد ذَكَرْتُ أنه رُوي عن حمزة في سورة النساء: «عَقَّدت» بالتشديد، فيكون فيها أيضاً ثلاث قراءات، إلا أنه اتفاقٌ غريبٌ فإنَّ حمزة من أصحاب التخفيف في هذه السورة، وقد رُوي عنه التثقيلُ في النساء. قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} مبتدأ وخبر، والضميرُ في «فكفارته» فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه يعودُ على الحِنْثِ الدالِّ عليه سياقُ الكلام، وإنْ لم يَجْرِ له ذكرٌ، أي: فكفَّارةُ الحِنْثِ. الثاني: أنه يعود على «ما» إنْ جَعَلْناها موصولةً اسميةً، وهو على حذفِ مضافٍ، أي: فكفارة نُكْثه، كذا قدَّره الزمخشري والثالث: أنه يعودُ على العَقْدِ لتقدُّمِ الفعلِ الدالِّ عليه. الرابع: أن يعودَ على اليمين، وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى الحَلْف، قالهما أبو البقاء، وليسا بظارهرين. و «إطعامُ» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله وهو مقدَّرٌ

بحرفٍ وفعل مبني للفاعل أي: فكفارته أن يُطْعِمَ الحانثُ عشرةً، وفاعلُ المصدر يُحذف كثيراً، ولا ضرورة تَدْعوا إلى تقديرِه بفعلٍ مبني للمفعولِ أي: أن يُطْعَمَ عشرةٌ، لأنَّ في ذلك خلافاً تقدَّم التنبيه عليه، فعلى الأول يكونُ محلُّ «عشرة» نصباً، وعلى الثاني يكون محلُّها رفعاً على ما لم يُسَمِّ فاعله، ولذلك فائدةٌ تَظْهر في التابع، فإذا قلت: «يعجبني أكلُ الخبزِ» فإن قدرته مبنياً للفاعل فتتبع «الخبز» بالجرِّ على اللفظِ والنصبِ على المحلِّ، وإنْ قَدًّرْتَه مبنياً للمفعول أَتْبعته جراً ورفعاً، فتقول، يعجبني أكلُ الخبزِ والسمنِ والسمنَ والسمنُ، وفي الحديث: «نَهَى عن قتلِ الأبتر وذو الطُّفْيَتَيْنِ» برفع «ذو» على معنى: أن يُقْتل الأبتر. قال أبو البقاء «والجيد أن يُقَدِّر- أي المصدر - بفعلٍ قد سُمِّي فاعلُه، لأنَّ ما قبله وما بعده خطابٌ» قلت: فهذه قرينةٌ تُقَوِّي ذلك، لأنَّ المعنى: فكفَّارته أَنْ تُطْعِموا أنتم أيها الحالفون، وقد قَدَّمْتُ لك أَنَّ تقديرَه بالمبني للفاعل هو الراجحُ، ولو لم تُوجَدْ قرينةٌٌ لأنه الأصلُ. قوله: {مِنْ أَوْسَطِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ يبيِِّنه ما قبلَه تقديرُه: طعامُهم في أوسطِ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عند قوله: {مساكين} وسيأتي إيضاحُ هذا بزيادةٍ قريباً إن شاء الله تعالى. والثاني: أنه في موضعِ نصبٍ لأنه صفةٌ للمفعول الثاني، والتقديرُ: قوتاً أو طعاماً كائناً من أوسط، وأما المفعول الأول فهو «عشرة» المضافُ إليه المصدرُ، و «ما» موصولة اسميةٌ والعائد محذوفٌ أي: من أوسطِ الذي تطعمونه، وقَدَّره

أبو البقاء مجروراً ب «مِنْ» فقال: «الذي تطعمون منه» وفيه نظرٌ لأنَّ من شرط العائد المجرور في الحذف أَنْ يتَّحِدَ الحرفان والمتعلَّقان، والحرفان هنا وإن اتفقا وهما «مِنْ» و «مِنْ» إلا أنَّ العامل اختلف، فإنَّ «مِنْ» الثانية متعلقةٌ ب «تُطْعِمُون» والأولى متعلقةٌ بمحذوفٍ وهو الكون المطلق لأنها وقعت صفة للمفعول المحذوف، وقد يُقال: إنَّ الفعل لَمَّا كان مُنْصَبّاً على قوله: {مِنْ أَوْسَطِ} فكأنه عاملٌ فيه، وإنما قدِّرْنا مفعولاً لضرورة الصناعة، فإن قلت: الموصولُ لم ينجرَّ «مِنْ» إنما انجرَّ بالإِضافةِ فالجواب أنَّ المضافَ إلى الموصول كالموصولِ في ذلك نحو: «مُرَّ بغلام الذي مررت» . و «أهليكم» مفعولٌ أول ل «تُطْعِمُون» والثاني محذوف كما تقدم أي: تُطْعمونه أهليكم. «وأهليكم» جمعُ سلامةٍ ونقصه من الشروط كونُه ليس علماً ولا صفةً، والذي حَسَّن ذلك أنه كثيراً ما يُستعمل استعمال «مستحق لكذا» في قولِهم: «هو أهلُ لكذا» أي: مستحق له فأشبه الصفاتِ فجُمع جمعَها. وقال تعالى: {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] ، وفي الحديث: «إنَّ لله أهلين» قيل: يا رسول الله: مَنْ هم؟ قال: قُرَّاء القرآن هم أهل الله وخاصَّتُه «فقوله:» أهلُوا الله «جمعٌ حُذِفَتْ نونُه للإِضافة، ويُحتمل أن يكونَ مفرداً فيكتب:» أهلُ الله «فهو في اللفظِ واحدٌ. وقرأ جعفر الصادق:» أهالِيكم «بسكونِ الياءِ، وفيه تخريجان / أحدُهما: أنَّ» أهالي «جمعُ تكسيرٍ ل» أَهْلَة «فهو شاذٌّ في القياس

ك» لَيْلة ولَيال «. قال ابن جني:» أَهال «بمنزلةِ» ليَال «واحدها أَهْلاة ولَيْلاة، والعربُ تقول: أهلٌ وأَهْلَة، قال الشاعر: 180 - 6- وأَهْلَةُ وُدٍّ قد سُرِرْتُ بوُدِّهم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقياسُ قولِ أبي زيد أن تجعلَه جمعاً لواحدٍ مقدرٍ نحو: أحاديث وأعاريض وإليه يشير قولُ ابن جني:» اهل بمنزلة ليال «واحدُها أَهْلاة ولَيْلاة، فهذا يحتمل أن يكون بطريقِ السماع، ويحتملُ أن يكونَ بطريقِ القياس كما يقول أبو زيد. والثاني: أنَّ هذا اسمُ جمعٍ لأَهْل. قال الزمخشري: «كاليالي في جمع ليلة والأراضي في جمع أرض» قوله «في جمع ليلة وجمع أرض» أرادَ بالجمعِ اللغويَّ لأنَّ اسمَ الجمع جمعٌ في المعنى، ولا يريد أنه جمعُ «ليلة» و «أرض» صناعةً، لأنه قد فَرَضَه أنه اسمُ جمعٍ فكيف يجلعُه جمعاً اصطلاحاً؟ وكان قياسُ قراءةِ جعفر تحريكَ الياءِ بالفتحة لخفتها، ولكنه شَبَّه الياء بالألف، فقدَّر فيها الحركةَ، وهو كثيرٌ في النظم كقول النابغة: 180 - 7- رَدَّتْ عليه أقاصِيه ولَبَّده ... ضَرْبُ الوليدةِ بالمِسْحاةِ في الثَّأَدِ

وقول الآخر: 180 - 8- كأنَّ أيدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ ... أيدي جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِقْ وقد مضى ذلك بأشبعَ من هذا. قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه نسقٌ على «إطعام» أي: فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسوة تلك العشرة. والثاني: أنه عطفٌ على محل «من أوسط» كذا قاله الزمخشري، وهذا الذي قاله إنما يتمشَّى على وجهٍ سَبَقَ لك في قوله «من أوسط» وهو أن يكونَ «من أوسط» خبراً لمبتدأ محذوفٍ يَدُلُّ عليه ما قبلَه، تقديرُه: طعامُهم من أوسط، فالكلامُ عنده تامٌّ على قولِه: {عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} ثم ابتدأَ إخباراً آخرَ بأن الطعامَ يكونُ من أوسطِ كذا، وأمَّا إذا قلنا: إنَّ «مِنْ أوسط» هو المفعولُ الثاني فيستحيل عطف «كسوتهم» عليه لتخلفهما إعراباً. وقرأ الجمهور: «كِسوتهم» بكسر الكاف. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن المسيب بضمها، وقد تقدم في البقرة أنهما لغتان في المصدر وفي الشيء المكسوِّ، قال الزمخشري: «كالقِدوة في القُدوة، والإِسوةُ في الأُسوة، إلا أن قرأ في البقرة بضمِّها هو طلحة فلم يذكروه هنا، ولا ذكروا هؤلاء هناك.

وقرأ سعيد بن جبير وابن السَّمَيْفَع:» أو كأُسْوَتِهم «بكاف الجر الداخلة على» أُسْوة «قال الزمخشري:» بمعنى: أو مثلُ ما تطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيراً، لا تُنْقصونهم عن مقدارِ نفقتِهم، ولكن تواسُون بينهم. فإنْ قلت: ما محلُّ الكاف؟ قلت: الرفعُ: تقديرُه: أو طعامُهم كأسوتِهم، بمعنى: كمثل طعامِهم إن لم يُطْعموهم الأوسطَ «انتهى. وكان قد تقدم أنه يَجْعل» من أوسط «مرفوعَ المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوف، فتكونُ الكاف عنده مرفوعةً عطفاً على» مِنْ أوسطِ «وقال أبو البقاء قريباً من هذا فإنه قال:» فالكافُ في موضعِ رفعٍ أي: أو مثلُ أسوةِ أهليكم «وقال الشيخ:» إنه في موضعِ نصبٍ عطفاً على محلِّ «مِنْ أوسط» ، لأنه عنده مفعولٌ ثان. إلاَّ أنَّ هذه القراءة تنفي الكسوةَ من الكَفَّارة، وقد اجمع الناس على أنها إحدى الخصالِ الثلاث، لكن لصاحبِ هذه القراءةِ أن يقول: «استُفيدت الكسوةُ من السنَّة» أمَّا لو قام الإِجماع على أن مستندَ الكسوة في الكفارة من الآية فإنه يَصِحُ الردُّ على هذا القارئ. قوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} عطف على «إطعامُ» وهو مصدر مضاف لمفعوله، والكلامُ عليه كالكلامِ على «إطعامُ عشرة» من جوازِ تقديره بفعلٍ مبني للفاعل أو للمفعول وما قيل في ذلك. وقوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} كقوله في النساء: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [الآية: 92] وقد تقدَّم ذلك مُحَرَّراً. قوله: {إِذَا حَلَفْتُمْ} قال أبو البقاء: «منصوبٌ على الظرف وناصبُه» كفارة «أي: ذلك الإِطعامُ، / أو ما عُطِف عليه يُكَفِّر عنكم حِنْثَ اليمينِ وقتَ

حَلْفِكم» وقال الزمخشري: «وذلك المذكورُ كفارة، ولو قيل:» تلك كفارةُ «لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء، أو التأنيث للكفارة، والمعنى:» إذا حلفتم حَنِثْتُم فترك ذِكْرَ الحِنْثِ لوقوع العلم بأن الكفارة إنما تَجِبُ بالحِنْثِ بالحَلِف لا بنفس الحَلِف «. ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشري وهو تقديرُ الحِنْث، ولذلك عيب على أبي البقاء قوله:» العامل في «إذا» كفارةُ أَيْمانكم، لأن المعنى: ذلك يُكَفِّر أَيْمانكم وقتَ حَلْفكم «فقيل له: الكفارةُ ليست واقعةً في وقت الحَلْف فكيف يَعْمل في الظرف ما لا يقع فيه؟ وظاهرُ الآية أنَّ» إذا «ممتحِّضَةُ الظرفية، وليس فيها معنى الشرط، وهو غيرُ الغالبِ فيها، وقد يجوزُ أن تكونَ شرطاً، ويكونُ جوابُها محذوفاً على قاعدةِ البصريين يَدُلُّ عليه ما تقدَّم، أو هو نفسُ المتقدم عند أبي زيد والكوفيين، والتقدير: إذا حَلَفْتُم وحَنِثُتم فذلك كفارةُ إثمِ أيْمانكم، كقولهم:» أنتَ ظالمٌ إنْ فَعَلْتَ «والكافُ في قوله: {كذلك يُبَيِّنُ} نعت لمصدر محذوفٍ عند جماهيرِ المُعْربين، أي: يبيِّن الله آياتِه تبييناً مثلَ ذلك التبيين، وعند سيبويه أنه حالٌ من ضميرِ ذلك المصدرِ على ما عُرِفَ غيرَ مرةٍ.

90

قوله تعالى: {رِجْسٌ} : خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدمة فيقال: «كيف أخبر عن جمع بمفرد؟ فأجاب الزمخشري بأنه على حَذْف مضاف اي: إنما شأنُ الخمرِ، وكذا وكذا، ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضميرِ في» فاجتنبوه «كما سيأتي، وكذا قَدَّره أبو البقاء فقال:» لأنَّ التقديرَ: إنما عَمَلُ هذه الأشياءِ «قال الشيخ بعد حكايتِه كلامَ الزمخشري:» ولا حاجة إلى

هذا، بل الحكمُ على هذه الأربعةِ أنفسِها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف كقوله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] . وهو كلامٌ حسن، وأجاب أبو البقاء أيضاً بأنه يجوزُ أَنْ يكونَ «رجس» خبراً عن «الخمر» وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ لدلالةِ خبرِ الأولِ عليها «. قلت: وعلى هذا فيجوزُ أن يكونَ خبراً عن الآخِر وحُذِفَ خبرُ ما قبلَه لدلالةِ خبرِ ما بعده عليه؛ لأنَّ لنا في نحو قولِه تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] هذين التقديرين، وقد تقدَّم تحقيقُهما غيرَ مرةٍ. والأنصابُ جمع» نَصَب «، وقد تقدم ذلك أول السورة والأزلام تقدمت أيضاً، والرِّجْسُ قال الراغب:» هو الشيء القَذِرُ، رجل رِجْس، ورجالٌ أَرْجاس «ثم قال:» وقيل: رِجْس ورِجْز للصوت الشديد، يقال: بعير رَجَّاس: شديد الهدير، وغمام راجِس ورجَّاس: شديد الرعد «وقال الزجاج:» وهو اسمُ لك ما استُقذر من عمل قبيح، يقال: رَجِس ورَجَس بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساُ إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصلح من الرِّجْس بفتح الراء وهو شدة صوت الرعد، قال: 180 - 9- وكلُّ رَجَّاسٍ يسوقُ الرَّجْسا ...

وفَرَّق ابن دريد بين الرِّجْس والرِّجْز والرِّكْس، فجعل الرِّجْسَ: الشر، والرِّجْز: العذاب، والرِّكْس: العَذِرة والنَّتْن، ثم قال: «والرِّجْسُ يقال للاثنين» ، فتحصَّل من هذا أنه اسمٌ للشيءِ القَذِرِ المنتن أو أنه في الأصل مصدرٌ. وقوله: {مِّنْ عَمَلِ الشيطان} في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل «رجس» والهاء في «فاجتَنُبِوه» تعودُ على الرجس أي: فاجتنبوا الرجسَ الذي أخبر به عَمَّا تقدَّم من الخمر وما بعدها. وقال أبو البقاء: «إنها تعود على الفعل» يعني الذي قَدَّره مضافاً إلى الخمر وما بعدها، وإلى ذلك نحا الزمخشري أيضاً، قال: «فإنْ قلت: إلامَ يَرْجِعُ الضمير في قوله:» فاجتنبوه؟ قلت: إلى المضافِ المحذوف، أو تعاطِيهما أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} وقد تقدَّم أن الأحسن أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرجس مبالغة.

91

قوله تعالى: {فِي الخمر} : فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه متعلق ب «يوقع» اي: يُوقع بينكم هذين الشيئين في الخَمْر أي: بسبب شربها، و «في» تفيد السببية كقوله عليه السلام «إنَّ امرأةً دخلت النار في هِرَّةٍ» الثاني: أنها متعلقة بالبغضاء لأنه مصدر معرف بأل /. الثالث: أنه متعلقٌ ب «العَداوة» وقال أبو البقاء: «ويجوز أن تتعلَّق» في «بالعداوة

أو ب» البغضاء «أي: أَنْ تتعادَوْا وأَنْ تتباغضوا بسبب شربِ الخمر» وعلى هذا الذي ذكره تكونُ المسألةُ من باب التازع وهو الوجهُ الرابع، إلاَّ أنَّ في ذلك إشكالاً وهو أَنَّ من حق المتنازعين أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعمل، وهذا العاملُ الأولُ وهو العداوة لو سُلِّط على المتنازع فيه لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو المعطوف، وقد يقال: إنه في بعضِ صورِ التنازع يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني، وذلك في فِعْلَي التعجب إذا تنازعا معمولاً فيه، وقد تقدَّ هذا مشبعاً في البقرة. قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر أي: انتهوا، ولذلك لَمَّا فهم عمر بن الخطاب الأمرية، قال: «انتهَيْنا يا رب انتهينا يا رب» ويدلُّ على ذلك أيضاً عطفُ الأمرِ الصريح عليه في قوله «وأطيعوا» كأنه قيل: انتهو عن شرب الخمر وعن كذا وأطيعوا، فمجيءُ هذه الجملةِ الاستفهاميةِ المصدَّرِة باسمٍ مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعل دالٍّ على ثبوتِ النهي واستقراره أبلغُ من صريحِ الأمر. قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ جُمع الخمرُ والميسرُ مع الأنصابِ والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً؟ قلت: لأنَّ الخطابَ مع المؤمنين، وإنما نهاهم عَمَّا كانوا يتعاطَوْنه من شرب الخمرِ واللعبِ بالميسرِ وذِكْرِ الأنصابِ والأزلام لتأكيدِ تحريمِ الخمر والميسر وإظهارِ أنَّ ذلك جميعاً من أعمال أهل الجاهلية وأهل الشرك» انتهى. ويظهرُ شيءٌ آخرُ وهو أنه لم يُفْرِدِ الخمرَ والميسرَ بالذكر آخراً، بل ذَكَر معهما شيئاً يلزُم منه عدمُ الأنصاب والأزلام فكأنه ذكر الجميع آخراً، بيانه أنه قال: «في الخمر والميسر ويَصُدُّكم عن ذكر الله» بعبادة الأنصاب أو بالذبح عليها للأصنام على حَسَبِ ما تقدم تفسيره أول السورة، و «عن الصلاة» باشتغالِكم بالأزلام، وقد تقدَّم تفسيرها أيضاً، فَذِكْرُ الله والصلاة مُنَبِّهان على الأنصاب والأزلام، وهذا وجه حسن.

93

قوله تعالى: {إِذَا مَا اتقوا} : ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَم من الجملة السابقة وهي: «ليس» وما في حَيِّزها، والتقدير: لا يَأْثمون ولا يُؤاخَذُون وقت اتِّقائهم، ويجوزُ أن يكونَ ظرفاً محضاً، وأن يكونَ فيه معنى الشرط، وجوابه محذوف أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ.

94

قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} : جوابُ قسم محذوف أي: واللَّهِ ليبلونكم، وقد تقدَّم أنه تَجِبُ اللامُ وإحدى النونين في مثلِ هذا الجواب. قوله: {بِشَيْءٍ} متعلِّقٌ ب «ليبلونَّكم» أي: ليختبرنَّكم بشيءٍ. وقوله: {مِّنَ الصيد} : في محلِّ جرٍّ صفةً ل «شيء» فيتعلَّقُ بمحذوف، و «من» الظاهرُ أنها تبعيضيةٌ لأنه لم يُحَرِّم صيدَ الحلال ولا صيد الحِلّ ولا صيد البحر. وقل: إنها لبيان الجنس. وقال مكي: «وقيل» من «لبيان الجنس، فلما قال» بشيء «لم يُعْلَم من أيِّ جنسٍ هو فبيَّن فقال:» من الصيدِ «كما تقولُ: و» لأَعطينَّك شيئاً من الذهبِ «وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ثم قال:» وقيل: إنها للتبعيضِ «. وكونُها للبيان فيه نظرٌ، لأنَّ الصحيحَ أنها لا تكونُ للبيان، والقائلُ بأنها للبيانِ يُشْترط أن يكونَ المُبَيَّنُ بها معرفاً بأل الجنسية كقولِه: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ، وبه قال ابنُ عطية أيضاً، والزجاج هو الأصل في ذلك فإنه قال:» وهذا كما تقولُ: «لامتحِنَتَّك بشيءٍ من الرِّزْقِ» وكما قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] . قوله: {تَنَالُهُ} في محلِّ جر لأنه صفةٌ ثانيةٌ ل «شيء» ، وأجاز أبوالبقاء

أن يكونَ حالاً: إمَّا من الصيد، وإمَّا من «شيء» وإن كان نكرة لأنه قد وُصِفَ فتخصَّص، واستبعدَ الشيخُ جَعْلَه حالاً من الصيد، ووجهُ الاستبعادِ أنه ليس المقصودَ بالحديث عنه. وقرأ الجمهور: {تناله} بالمنقوطةِ فوقُ لتأنيثِ الجمعِ، وابن وثاب والنخعي / بالمنقوطةِ من تحتُ لأنَّ تأنيثَه غيرُ حقيقي. وقوله: {ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ} [المائدة: 93] للناس فيه قولان، أحدُهما: أنَّ هذا من بابِ التوكيد، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك، وهذا كقولِه تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 34] ، حتى إنَّ الشيخَ جمالَ الدين بن مالك يَجْعَلُ هذا من التوكيدِ اللفظي المبوبِ له في النحو: والثاني: أنه ليس للتأكيد بل للتأسيس، إلا أنَّه جَعَل التغايرَ حاصلاً بتقديرِ المتعلقاتِ، فمنها أنَّ التقدير: اتَّقَوا الشرك وآمَنوا إيماناً كاملاً ثم اقتوا وآمَنوا أي: ثم ثَبَتُوا على التقوى والإِيمان المتقدمين، واستمروا على هذه الحال ثم اتقوا ثم تناهَوْا في التقوى وتوغلوا فيها، وأحسنوا للناسِ وواسَوْهم بأموالِهم، وإليه نحا أبو القاسم الزمخشري بعبارةٍ قريبةٍ من هذا المعنى. قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ الله} اللامُ متعلقةٌ ب «لَيبلونَّكم» والمعنى: ليتميَّزَ أو ليظهرَ لكم، وقد مضى تحقيقُه في البقرة، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي، وقرأ بعضُهم: «لِيُعْلِم» بضم الياء وكسر اللام من أعلم، والمفعول الأول على هذه القراءة محذوفٌ أي: لِيُعْلِم اللَّهُ عبادَه، والمفعول الثاني هو قوله: {مَن يَخَافُهُ} ف «أَعْلَمَ» منقولةٌ بهمزة التعدية من «علم» المتعدية لواحد بمعنى «

عَرَف» قوله: {بالغيب} في محل نصب على الحال من فاعلِ «يَخافُه» أي: يخافُه ملتبساً بالغيبِ، وقد تقدم معناه في البقرة. وجَوَّز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه، أحدها: ما ذكرته، والثاني: أنه حالٌ من «مَنْ» في «من يخافه» ، والثالث: أنَّ الباءَ بمعنى «في» والغيب مصدرٌ واقعٌ موقعَ غائبٍ أي: يخافه في المكانِ الغائبِ عن الخَلْقِ، فعلى هذا يكونُ متعلقاً بنفس الفعل قبله، وعلى الأَوَّلَيْن يكونُ متعلقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف.

95

قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} : في محل نصب على الحال من فاعل «تقتلوا» ، و «حُرُمٌ» جمع حَرام، وحَرام يكون للمُحْرِم وإنْ كان في الحِلِّ ولِمَنْ في الحَرَم وإنْ كان حلالاً، وهما سيَّان في النهي عن قتل الصيد، وقد تقدم الكلامُ على هذه اللفظة. قوله: {منكم} في محلِّ نصب على الحال من فاعل «قَتَله» أي: كائناً منكم. وقيل: «مِنْ» للبيان وليس بشيء، لأنَّ كلَّ مَنْ قَتَل صيداً حكمُه كذلك. فإن قلت: هذا واردٌ أيضاً على جَعْلِه حالاً. قلتُ: لم يُقْصَدْ لذلك مفهومُ حتى إنه لو قتَله غيرُكم لم يكن عليه جزاءٌ، لأنه قصد بالخطابِ معنىً آخرَ وهو المبالغةُ في النهي عن قَتْلِ الصيد. قوله: {مُّتَعَمِّداً} حالٌ أيضاً من فاعل «قَتَلَه» فعلى رَأْي مَنْ يجوِّزُ تعدُّدَ الحال يُجيز ذلك هنا، ومَنْ مَنَعَ يقول: إنَّ «منكم» للبيانِ حتى لا تتعدَّد الحالُ، و «مَنْ» يُجَوِّزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، وموصولةً، والفاءُ لشبهِها بالشرطيةِ، ولا حاجةَ إليه وإنْ كانوا فعلوه في مواضع. قوله: «فجزاء» الفاءُ جوابُ الشرطِ أو زائدةٌ لشبه المبتدأ بالشرط، فعلى الأول الجملةُ بعدها في محلِّ جزمٍ، وعلى الثاني في محلِّ رفعٍ، وما بعد «مَنْ» على الأولِ في محلِّ

جزمٍ لكونِه شرطاً، وعلى الثاني لا محلَّ له لكونه صلةً. وقرأ أهلُ الكوفة: «فجزاءٌ مثلُ» بتنوين جزاء ورفعه ورفع «مثل» ، وباقي السبعة برفعه مضافاً إلى «مثل» ، ومحمد بن مقاتل بتنوين «جزاءً» ونصبِه ونصب «مثلَ» والسُلمي برفع «جزاء» منوناً ونصبِ «مثل» ، وقرأ عبد الله: {فجزاؤُه} برفع «جزاء» مضافاً لضمير «مثل» رفعاً. فأمَّا قراءةُ الكوفيين فلأنَّ «مثل» صفةٌ ل «جزاء» أي: فعليه جزاءٌ موصوفٌ بكونه «مثلَ ما قتله» أي مماثِلَه. وجَوَّز مكي وأبو البقاء وغيرُهما أَنْ يرتفعَ «مثل» على البدلِ، وذكر الزجاج وجهاً غريباً وهو أن يرتفعَ «مثل» على أنه خبرٌ ل «جزاء» ويكونُ «جزاء» مبتدأً قال: «والتقديرُ: فجزاءُ ذلك الفعلِ مثلُ ما قتل» قلت: ويؤيد هذا الوجهَ / قراءةُ عبد الله: «فجزاؤُه مثلُ» إلا أن الأحسنَ أن يقدِّر ذلك المحذوفُ ضميراً يعودُ على المقتول لا أَنْ يُقَدِّره: «فجزاءُ ذلك الفعل» و «مثل» بمعنى مماثل قاله جماعةٌ: الزمخشري وغيره، وهو معنى اللفظِ، فإنِّها في قوةِ اسمِ فاعل، إلاَّ أنَّ مكّياً تَوَهَّم أنَّ «مِثْلاً» قد يكون بمعنى غير مماثل فإنه قال: «ومثل» في هذه القراءة - يعني قراءة الكوفيين - بمعنى مُماثِل، والتقديرُ: فجزاءٌ مماثلٌ لِما قَتَل يعني في القيمةِ أو في الخِلْقة على اختلافِ العلماء، ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفظه لصار

المعنى: فعليه جزاءٌ مثلُ المقتولِ من الصيد، وإنما يلزمه جزاء المقتول بعينِه لا جزاءٌ مثلُه، لأنه إذا وَدَى جزاءً مثلَ المقتول صار إنما وَدَى جزاءَ ما لم يُقْتَل؛ لأنَّ مثلَ المقتول لم يَقْتُلْه، فصَحَّ أن المعنى: فعليه جزاءٌ مماثِلٌ للمقتول، ولذلك بَعُدَتِ القراءةُ بالإِضافة عند جماعة. قلت: «مثل» بمعنى مُماثِل أبداً فكيف يقول «ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفظه» ؟ وأيضاً فقوله: «لصار المعنى إلى آخره» هذا الإِشكالُ الذي ذكره لا يُتَصَوَّرُ مجيئُه في هذه القراءةِ أصلاً، وإنما ذَكَره الناسُ في قراءةِ الإِضافة كما سيأتي، وكأنه نَقَل هذا الإِشكالَ من قراءةِ الإِضافة إلى قراءةِ التنوين. وأمَّا قراءةُ باقي السبعة فاستبعَدها جماعةٌ، قال الواحدي: «ولا ينبغي إضافةُ الجزاءِ إلى المِثْلِ لأنَّ عليه جزاءَ المنقولِ لا جزاءَ مثله فإنه لا جزاءَ عليه لَمَّا لم يقتلْه» وقال مكي بعد ما قَدَّمْتُه عنه: «ولذلك بَعُدَت القراءةُ بالإِضافة عند جماعةٍ لأنها تُوجِبُ جزاءً مثلَ الصيدِ المقتول» قلت: ولا التفاتَ إلى هذا الاستبعادِ فإنَّ أكثرَ القراء عليها. وقد أجاب الناسُ عن ذلك بأجوبةٍ سديدةٍ، لَمَّا خفيت على أولئك طَعَنوا في المتواتر، منها: أنَّ «جزاء» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله تخفيفاً، والأصل: فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل، أي: أن يَجزي مثلَ ما قتل، ثم أُضيف، كما تقول: «عجبت من ضربٍ زيداً» ثم «من ضرب زيدٍ» ذَكَر الزمخشري وغيره، وبَسْطُ ذلك أنَّ الجزاءَ هنا بمعنى القضاء والأصل: فعليه أن يُجْزَى المقتولُ من الصيد مثلَه من النعم، ثم حُذِف المفعولُ الأول لدلالة الكلامِ عليه وأُضيف المصدرُ إلى ثانيهما، كقولك: «زيدٌ فقيرٌ ويعجبني إعطاؤك الدرهمَ» أي: إعطاؤك إياه. ومنها: أنَّ «مثل» مقحمةٌ كقولهم: «مِثْلُك لا يفعل ذلك» أي: أنت لا تفعل ذلك، ونحو

قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] أي: بما آمنتم [به] وكقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ف «مثل» زائدةٌ، وهذا خلاف الأصلِ، فالجوابُ ما قَدَّمْتُه. و «ما» يجوزُ أْن تكونَ موصولةً اسمية أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ محذوفٌ على كِلا التقديرين أي: مثلُ ما قتله من النعم. فَمَنْ رفع «جزاء» فيه أربعة أوجه، أحدُها: أنه مرفوع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: فعليه جزاء. والثاني: أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديرُه: فالواجبُ جزاءُ: والثالث: أنه فاعلٌ بفعل محذوف أي: فيلزَمُه أو يَجِبُ عليه جزاءٌ. الرابع: أنه مبتدأ وخبره «مثل» ، وقد تقدَّم أن ذلك مذهبُ أبي إسحاق الزجاج، وتقدم أيضاً رفع «مثل» في قراءة الكوفيين على أحدِ ثلاثةِ أوجه: النعتِ والبدلِ والخبرِ حيث قلنا: «جزاء» مبتدأٌ عند الزجاج. وأمَّا قراءةُ {فجزاؤه مثلُ} فظاهرةٌ أيضاً. وأمَّا قراءة «فجزاءٌ مثلَ» برفع «جزاء» وتنوينه ونصب «مثل» فعلى إعمال المصدر المنونِ في مفعولِه، وقد تقدَّم أنَّ قراءةَ الإِضافةِ منه، وهو نظيرُ قولِه تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 1415] وفاعلُه محذوف أي: فجزاءُ أحدِكم أو القاتلِ، أي: أن يُجْزى القاتلُ للصيد. وأما قراءة: «فجزاءً مثلَ» بنصبهما فجزاءً منصوب على المصدر أو على المفعول به، «ومثلَ» صفتُه بالاعتبارين، والتقدير: فليَجْزِ جزاءً مثلَ، أو: فليُخْرِجْ جزاءً، أو فليُغَرَّم جزاءً مثلَ. قوله: {مِنَ النعم} فيه ثلاثةُ وجه، أحدُها: أنه صفةٌ ل «جزاء» مطلقاً، أي: سواءً رُفِع أم نُصِبَ، نُوِّن أم لم يُنَوَّنْ، أي: إنَّ ذلك الجزاء يكونُ من

جنسِ النَّعم، فهذا الوجهُ لا يمتنع بحالٍ. الثاني: أنه متعلق بنفسِ «جزاء» لأنه مصدرٌ، إلا أنَّ ذلك لا يجوزُ إلا في قراءة مَنْ أضاف «جزاء» إلى «مثل» فإنه لا يلزَمُ منه محذورٌ، بخلافِ ما إذا نَوَّنْتَه وجعلتَ «مثلَ» صفتَه أو بدلاً منه أو خبراً له فإنَّ ذلك يمتنع حينئذ، لأنَّك إنْ جَعَلْتَه موصوفاً ب «مثل» كان ذلك ممنوعاً من وجهين، أحدُهما: أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعملُ وهذا قد وُصِفَ. الثاني: أنه مصدر فهو بمنزلةِ الموصولِ والمعمولُ من تمامِ صلتِه، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبَعُ الموصولُ إلا بعد تمام صلته لئلا يلزمَ الفصلُ بأجنبي. وإنْ جَعَلْتَه بدلاً لَزِم أن يُتْبَعَ الموصولُ قبل تمام صلته، وإنْ جَعَلْتَه خبراً لزم الإِخبار عن الموصولِ قبلَ تمامِ صلتِه، وذلك كلُّه لا يجوزُ. الثالث: ذكره أبو البقاء وهو أَنْ يكونَ حالاً من عائدِ الموصولِ المحذوفِ فإنَّ التقدير: فجزاءً مثلَ الذي قتله حالَ كونه من النَّعم، وهذا وهمٌ لأنه الموصوف بكونِه من النَّعم إنما هو جزاءُ الصيد المقتولِ، وأمَّا الصيدُ نفسُه فلا يكونُ من النعم، والجمهورُ على فتحِ عين «النَّعَم» ، وقرأ الحسن بسكونها، فقال ابنُ عطية: {هي لغة} وقال الزمخشري: «استثقلَ الحركةَ على حرفِ الحلق كما قالوا:» الشَّعْر «في» الشَّعَر «. قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا} في موضعِ رفعٍ صفةً ل» جزاء «أو في موضع نصبٍ على الحال منه أو على النعتِ ل» جزاء «فيمَنْ نَصَبه، وخَصَّصَ أبو البقاء كونَه صفةً بقراءةِ تنوين» جزاء «والحالَ بقراءةِ إضافته، ولا فرقَ،

بل يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ نعتاً أو حالاً بالاعتبارين؛ لأنه إذا أُضيف إلى» مثل «فهو باقٍ على تنكيرِه لأنَّ» مِثْلاً «لا يتعرَّفُ بالإِضافة، وكذا خصَّص مكي الوصفَ بقراءةِ إضافةِ الجزاء إلى» مِثْل «فإنه قال:» ومِن النَّعم في قراءةِ مَنْ أضاف الجزاء إلى «مِثْل» صفةً لجزاء، ويَحْسُنُ أَنْ تتعلَّق [من] بالمصدرِ فلا تكونُ صفةً، وإنما المصدرُ مُعَدَّى إلى «من النعم» ، وإذا جَعَلْتَه صفةً ف «مِنْ» متعلقةٌ بالخبرِ المحذوف وهو «فعلية» وفي هذا الكلامِ نظرٌ مِنْ وجهين، أحدُهما: قد تقدَّم وهو التخصيصُ بقراءةِ الإِضافة. والثاني: أنه حين جَعَلَ «من النَّعم» صفةً عَلَّقها بالخبرِ المحذوفِ لِما تضمَّنه مِن الاستقرار، وليس كذلك؛ لأنَّ الجارَّ إذا وَقَع صفةً تعلَّق بمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الوصفُ في الحقيقةِ، وهذا الذي جَعَلَه متعلِّقاً لهذه الصفةِ ليس صفةً للموصوف في الحقيقةِ بل هو خبرٌ عنه، ألا ترى أنك لو قلت: «عندي رجلٌ من بني تميم» أنَّ «مِنْ بين» متعلِّقٌ بوصفٍ محذوفٍ في الحقيقة لا بقولِك «عندي» ويمكن أَنْ يقال: - وهو بعيدٌ جداً - إنه أراد التعلُّقَ المعنوي، وذلك أنَّ العاملَ في الموصوفِ عاملٌ في صفتِه، و «عليه» عاملٌ في «جزاء» فهو عاملٌ في صفتِه، فالتعلقُ من هذه الحيثيةِ، ولكن إنما يتأتَّى ذلك حيث جَعَلْنا الخبرَ عاملاً في المبتدأ، أو قلنا: إنَّ الجارَّ يرفع الفاعلَ ولو لم يعتمدْ، وإنما أذكرُ هذه التوجيهاتِ لأنَّ القائلين بذلك مِمَّنْ لا يُلْغَى قولُهم بالكلية. والألفُ في «ذوا» علامةٌ الرفعِ مثَّنى، وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاقِ هذه اللفظةِ وتصاريفِها وقرأ الجمهورُ: {ذَوا} بالألف، وقرأ محمد بن جعفرٍ الصادقٍ /: «ذو» بلفظِ الإِفراد قالوا: «ولا يريدُ بذلك الوحدةَ بل يريدُ:

يحكم به مَنْ هو مِنْ أهلِ العدل. وقال الزمخشري:» وقيل: أرادَ الإِمام «فعلى هذا تكونُ الوِحْدَةُ مقصودةً. و» منكم «في محلِّ رفعٍ صفةً ل» ذوا «أي إنهما يكونان من جنسكم في الدين، ولا يجوزُ أن تكونَ صفةً ل» عَدْل «لأنه مصدرٌ قاله أبو البقاء، يعني أن المصدرَ ليس مِنْ جنسِهم فكيف يُوصف بكونِه منهم؟ قوله: {هَدْياً} فيه ستةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه حالٌ من الضمير في» به «قال الزجاج:» وهو منصوبٌ على الحالِ، المعنى: يحكم به مقدراً أن يُهْدَى «يعني أنه حال مقدرةٌ ولا مقارنةٌ، وكذا قال الفارسي كقولِك:» معه صقرٌ صائداً به غداً «أي مُقَدِّراً الصيدَ. الثاني: أنه حالٌ من «جزاء» سواءً قُرئ مرفوعاً أم منصوباً، منوناً أم مضافاً. وقال الزمخشري «» هَدْياً «حالٌ من» جزاء «فيمَنْ وصَفَه بمثل، لأنَّ الصفةَ خَصَّصَتْه فَقَرُبَ من المعرفة، وكذا خَصَّصه الشيخ، وهذا غير واضح، بل الحاليةُ جائزةٌ مطلقاً كما تقدَّم. الثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ أي: يُهديه هَدْياً، ذكره مكي وأبو البقاء الرابع: أنه منصوبٌ على التمييزِ، قاله أبو البقاء ومكي، إلا أنَّ مكياً قال:» على البيان «، وهو التمييز في المعنى، وكأنهما ظَنَّا أنه تمييزٌ لِما أُبْهِم في المِثْلية، إذ ليس هنا شيءٌ يَصْلُحُ للتمييزِ غيرَها. وفيه نظرٌ من حيث إنَّ التمييزَ إنما يرفع

الإِبهامَ عن الذوات لا عن الصفاتِ، وهذا كما رايتَ إنما رفع إبهاماً عن صفة، لأن الهدى صفةٌ في المعنى إذ المرادُ به مُهْدَى. الخامس: أنه منصوبٌ على محلِّ» مثل «فيمَنْ خَفَضَه، لأنَّ محلَّه النصبُ بعملِ المصدرِ فيه تقديراً كما تقدَّم تحريرُه. السادس: أنه بدلٌ من» جزاء «فيمَنْ نصبَه. و» بالغ الكعبة «صفةٌ ل» هَدْيا «ولم يتعرَّفْ بالإِضافة لأنه عاملٌ في الكعبة النصبَ تقديراً، ومثلُه، {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] وقولُ الآخرِ: 181 - 0- يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يَطْلُبُكُمْ ... لاقَى مباعَدةً منكم وحِرْمانا في أنَّ الإِضافةَ فيها غيرُ مَحْضَةٍ. وقرأ الأعرج:» هَدِيَّاً «بكسر الدال وتشديد الياء. قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطفٌ على قولِه: {فَجَزَآءٌ} و» أو «هنا للتخييرِ، ونُقِل عن ابن عباس أنها ليسَتْ للتخيير، بل للترتيب، وهذا على قراءةِ مَنْ رفع» فجزاءٌ «وأمَّا مَنْ نَصَبَه فقال الزمخشري» جَعَلَها خبرَ مبتدأ محذوفٍ كأنه قيل: أو الواجبُ عليه كفارةٌ، ويجوزُ أَنْ تُقَدِّر: فعليه ان يَجْزي جزاءً أو كفارةً، فتَعْطِفَ «كفارة» على «أَنْ يَجْزي» يعني أنَّ «عليه» يكونُ خبراً مقدماً، وأَنْ يَجْزي «مبتدأً مؤخراً، فَعَطَفْتَ» الكفارة «على هذا المبتدأ. وقرأ نافع وابن عامر بإضافة {كفارة} لِما بعدها، والباقون بتنوينِها ورفعِ ما بعدها.

فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ، ورفعُ» طعام «على أحد ثلاثة أوجه، أحدها: أنه بدل من» كفارة «إذ هي من جنسِه. الثاني: أنه بيانٌ لها كما تقدَّم، قاله الفارسي وردَّه الشيخ بأنَّ مذهبَ البصريين أختصاصُ عطفِ البيان بالمعارفِ دونَ النكراتِ. قلت: أبو علي يُخالِفُ في ذلك ويستدل بأدلة، منها: {شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35] ، ف» زيتونةٍ «عنده عطف بيان ل» شجرة «، وكذا قولُه تعالى: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] ، ف» صديد «عنده بدلٌ من» ماء «والبدلُ فيهما محتملٌ فلا حُجَّةَ له، والبدلُ قد يجيء للبيان. الثالث: أنه خبر مبتداً محذوف. أي: هي طعام أي: تلك الكفارة. وأمَّا قراءة نافع وابن عامر فوجهُها أنّ الكفارة لَمَّا تنوَّعت إلى تكفير بالطعام وتكفير بالجزاء المماثل وتكفير بالصيام حَسُن إضافتها لأحدِ أنواعها تبييناً لذلك، والإِضافةُ تكون بأدنى ملابسه كقوله: 181 - 1- إذا كوكبُ الخَرْقاءِ لاحَ بسُحْرَةٍ ... سهيلٌ أذاعَتْ غَزْلَها في القَرائبِ أضاف الكوكبَ إليها لقيامِها عند طلوعِه فهذا أَوْلَى. ووجَّهَها الزمخشري فقال: «وهذه الإِضافة مبيِّنة، كأنه قيل: أو كفارةٌ مِنْ طعام مساكين، كقولك:» خاتمُ فضةٍ «بمعنى مِنْ فضة» . قال الشيخ: «

أمَّا ما زعمه فليس من هذا البابِ لأنَّ» خاتم فضة «من باب إضافةِ الشيء إلى جنسه والطعامُ ليس جنساً للكفارةِ إلا بتجوُّزٍ بعيداً جداً» انتهى. قلت: كان مِنْ حَقِّه أَنْ يقولَ: والكفارةُ ليست جنساً للطعام لأنَّ الكفارةَ في التركيب نظيرُ «خاتم» في أنَّ كلاً منهما هو المضافُ إلى ما بعده، فكما أن «خاتماً» هو الضافُ إلى جنسه ينبغي أَنْ يُقال: الكفارةُ ليست جنساً للطعام لأجل المقابلةِ، لكن لا يمكنُ أَنْ يُقال ذلك فإنَّ الكفارةَ كما تقدَّم جنسٌ للطعامِ والجزاءِ والصومِ، فالطريقُ في الردِّ على أبي القاسم أن يُقال: شرطُ الإِضافة بمعنى «مِنْ» أن يُضاف جزءٌ إلى كل بشرطٍ صِدْقٍ اسمِ الكلِ على الجزءِ نحو: «خاتمُ فضة» و «كفارة طعامٍ» ليس كذلك، بل هي إضافة «كل» إلى جزء. وقد استشكل جماعةٌ هذه القراءة من حيث إنَّ الكفارةَ ليست للطعام إنما هي لقتلِ الصيد، كذا قاله أبو علي الفارسي وغيره، وجوابُه ما تقدَّم. ولم يخلتفِ السبعةُ في جمع «مساكين» هنا وإن اختلفوا في البقرة، قالوا: والفرقُ بينهما أنَّ قَتْل الصيد لا يُجْزيء فيه إطعامُ مسكينٍ واحد. على أنه قد قرأ عيسى بن عمر والأعرج بتنوين «كفارة» ورفع «طعام مسكين» بالتوحيد، قالوا: ومرادُهما بيانُ الجنسِ لا التوحيدُ. قوله: {أَو عَدْلُ} نسقٌ على «فجزاء» والجمهورُ على فتحِ العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرِها، وقد بَيَّنْتُ معناهما في أولَ هذا التصينف عند قوله تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] . و «ذلك» إشارةٌ إلى الطعام، وكيفيتُه مذكورةٌ في «التفسيرِ الكبيرِ» . و «صياماً» نصبٌ على التمييزِ لأنَّ المعنى: أو قَدْرُ ذلك صِياماً فهو كقولك: «لي مِلْؤُه عسلاً» وأصلُ «صِياماً» : «صِواماً» فَأُعِلَّ لِما عُرِف غيرَ مرة.

قوله: {لِّيَذُوقَ} فيه ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ ب «جزاء» قاله الزمشخري، قال الشيخ: «إما يتأتَّى ذلك حيث يضاف إلى» مثل «أو يُنَوِّن» جزاء «ويُنْصًبُ» مثل «وعَلَّل ذلك بأنه إذا رفع مثلاً كان صفةً للمصدر، وإذا وُصِف المصدرُ لم يعمل إلا أن يتقدم المعمول على وصفِه نحو: يعجبني الضربُ زيداً الشديدُ» فيجوز. قلت: وكذا لو جَعَلَه بدلاً أيضاً أو خبراً لِما تقدم من أنه يلزمُ أن يُتَبع الموصول أو يخبرَ عنه قبل تمامِ صلتِه وهو ممنوعٌ، وقد أَفْهَمَ كلامُ الشيخ بصريحه أنه على قراءةِ إضافة الجزاءِ إلى «مثل» يجوزُ ما قاله أبو القاسم، وأنا أقول: لا يجوزُ ذلك أيضاً لأنَّ «ليذوقَ» من تمامِ صلةِ المصدرِ، وقد عُطِف عليه قولُه «أو كفارةٌ أو عَدْلٌ» فيلزمُ أَنْ يُعْطَفَ على الموصولِ قبل تمام صلتِه، وذلك لا يجوزُ لو قلت: «جاء الذي ضَرَبَ وعمروٌ زيداً» لم يَجُزْ للفصل بين الصلة - أو أبعاضِها - والموصولِ بأجنبي، فتأمَّلْه فإنه موضعٌ حسن. الثاني: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ كأنه قيل: جُوزي بذلك ليذوقَ. الثالث: أنه متعلقٌ بالاستقرار المقد‍َّرِ قبل قولِه: {فجزاء} إذ التقديرُ فعليه جزاءٌ ليذوقَ. الرابع: أنه متعلق ب «صيام» أي: صومُه ليذوقَ الخامس: أنه متعلِّقٌ ب «طعام» أي: طعام ليذوقَ، ذكره هذه الأوجهَ الثلاثةَ أبو البقاء وهي ضعيفةٌ جداً، وأجودُها الأولُ. السادسُ: أنها تتعلَّقُ ب «عَدْل ذلك» نَقَله الشيخ عن بعضِ المُعْرِبين قال: - وهو كما قال - «غلطٌ» .

والوَبالُ: سوءُ العاقبةِ وما يُخاف ضررُه، قال الراغب: «والوابل» المطرُ الثقيلُ القطر، ولمراعاة الثِّقَلِ قيل للأمر الذي يُخاف ضررُه: وبال، قال تعالى: {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [الحشر: 15] ، ويقال: «طعامٌ وَبيلٌ» و «كلأ وبيل» يُخاف وبالُه، قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل: 16] . وقال غيره: «والوبالُ في اللغةِ ثِقَلُ الشيءِ في المكروهِ، يقال:» مرعىً وبيل «إذا كان / يُسْتَوْخَمُ، و» ماء وبيلٌ «إذا كان لا يُسْتَمْرأ، واستوَبَلْتُ الأرضَ: كرهتُها خوفاً من وبالِها، والذوقُ هنا استعارةٌ بليغة. قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ} » مَنْ «يجوز أن تكونَ شرطيةً، فالفاءُ جوابُها، و» ينتقمُ «خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو ينتقمُ، ولا يجوز الجزمُ مع الفاءِ البتة، ويجوز أن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ في خبر المتبدأ لَمَّا اشبه الشرطَ، فالفاءُ زائدةٌ، والجملةُ بعدها خبرٌ، ولا حاجة إلى إضمارِ مبتدأ بعد الفاءِ بخلافِ ما تقدَّم. قال أبو البقاء:» حَسَّن دخولَ الفاءِ كونُ فعلِ الشرط ماضياً لفظاً «.

96

قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ} : نسقٌ على «صيد» أي: أُحِلَّ لكم الصيدُ وطعامهُ، فالصيدُ الاصطيادُ، والطعامُ الإِطعام أي: إنه اسم مصدر، ويُقَّدَّرُ المفعولُ حينئذٍ محذوفاً أي: إطعامُكم إياه أنفسَكم، ويجوز أن يكون الصيدُ بمعنى المَصِيد. والهاءُ في «طعامُه» تعودُ على البحر على هذا أي: أُحِلَّ لكم مصيدُ البحر وطعامُ البحر، فالطعام على هذا غير الصيد، وفيه خلافٌ بين أهل التفسير ذكرْتُه في موضعه، ويجوز أن تعود الهاء على هذا الوجهِ أيضاً على الصيد بمعنى المصيد، ويجوز أن يكونَ «طعام» بمعنى

مَطْعوم، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ ابن عباس وعبد الله بن الحرث: «وطَعْمُه» بضم الميم وسكون العين. قوله: {مَتَاعاً} في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدر وإليه ذهب مكي وابن عطيَة وأبو البقاء وغيرهم، والتقدير: مَتَّعكم به متاعاً تنتفعون وتَأْتَدِمون به، وقال مكي: «لأنَّ قولَه» «أُحِلَّ لكم» بمعنى أَمْتَعْتُكم به إمتاعاً، كقوله: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] . والثاني: أنه مفعول من أجله، قال الزمشخري: «أي: أحلَّ لكم تمتيعاً لكم، وهو في المفعول له بمنزلة قولِه تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] في باب الحالِ، لأنَّ قوله {مَتَاعاً لَّكُمْ} مفعولٌ له مختصٌّ بالطعام كما أنَّ» نافلةً «حالٌ مختص بيعقوب، يعني أُحِلَّ لكم طعامُه تمتيعاً لتنائكم تأكلونَه طريَّا ولسيَّارتكم يتزودونه قَديداً» انتهى. فقد خصَّص الزمخشري كونه مفعولاً له بكون الفعلِ وهو «أُحِلَّ مسنداً لقوله: {وَطَعَامُهُ} وليس علة لحِلِّ الصيد، وإنما علةٌ لحِلِّ الطعام فقط، وإنما حَمَلَه على ذلك مذهبُه - وهو مذهبُ أبي حنيفة - من أنَّ صيدَ البحرِ منقسمٌ إٍلى ما يُؤْكل وإلى ما لا يؤكل، وأنَّ طعامَه هو المأكولُ منه، وأنه لا يقع التمثيلُ إلا المأكول منه طريّاً وقديداً، وقوله» نافلةً «يعني أنَّ هذه الحالَ

مختصةٌ بيعقوب لأنه وَلَدُ وَلَدٍ بخلاف إسحاق فإنه ولدُه لصلبه، والنافلةُ إنما تُطْلَقُ على ولد الولد دونَ الولد، فكذا» متاعاً «إلاَّ أنَّ هذا يؤدِّي إلى أنَّ الفعل الواحدَ يُسْنَدُ لفاعلين متعاطفين يكونُ في إسناده إلى أحدهما معللاً وإلى الآخر ليس كذلك، فإذا قلت:» قام زيد وعمرو إجلالاً لك «فيجوز أن يكونَ» قيام زيد «هو المختصَّ بالإِجلال أو بالعكس، وهذا فيه إلباسٌ، وأمَّا ما أورده من الحالِ في الاية الكريمة فثَمَّ قرينةٌ أَوجَبَتْ صَرْفَ الحالِ إلى أحدِهما بخلافِ ما نحن فيه من الآية الكريمة، وأمَّا غيرُ مذهبِه فإنه يكونُ مفعولاً له غيرَ مختصٍّ بأحدِ المتعاطفين وهو ظاهرٌ جَلِيٌّ. و» لكم «إنْ قلنا» متاعاً «مصدرٌ فيجوز أن يكونَ صفةً له، ويكونُ مصدراً مبيناً لكونه وُصِف، إن قلنا إنه مفعولٌ له فيتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ، أي: أعني لكم نحو:» قمتُ إجلالاً لك «، ويجوز أن تكونَ اللامُ مقويةً لتعدية المصدر، إذ التقديرُ: لأنْ أمتِّعَكم، ولأنْ أُجِلَّك، وهكذا ما جاء من نظائره. قوله: {مَا دُمْتُمْ} «ما» مصدريةٌ «، و» دمتم «صلتُها وهي مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: حُرِّم عليكم صيدُ البر مدةَ دوامِكم مُحْرمين. والجمهور على ضمِّ دال» دمتم «من لغة من قال: دام يدوم. وقرأ يحيى: {دِمتم} بكسرها من لغة مَنْ يقول: دام يدام كخاف يخاف، وهما كاللغتين في مات يموتُ ويَمات، وقد تقدَّم والجمهورُ على» وحُرِّم «مبنياً للمفعول،» صيدُ «رفعاً على قيامه مَقامَ الفاعل، وقرئ:» وحَرَّم «مبنياً» للفاعل، «صيدَ» نصباً على المفعول به. والجمهورُ أيضاً على «حُرُماً» بضم الحاء والراء جمعُ «حَرام» بمعنى مُحْرِم «ك» قَذال «و» قُذُل «. وقرأ ابن عباس {حَرَماً} بفتحهما، أي: ذوي حَرَم أي

إحرام، وقيل: جَعَلهم بمنزلة المكان الممنوع منه، والأحسنُ أن يكون من باب» رجل عدل «جعلهم نفسَ المصدرِ فإنَّ» حَرَما «بمعنى إحرام، وتقدم أن المصدر يقع للواحدِ فما فوقُ بلفظٍ واحد. والبَرُّ معروفٌ، قال الليث:» ويستعمل نكرة يقال: جلست بَرَّا وخرجْتُ براً «قال الأزهري:» وهو من كلام المولِّدين «وفيه نظر لقول سلمان الفارسي:» إنَّ لكلِّ امرئ جَوَّانِيَّا وبَرَّانياً «أي باطنٌ وظاهرٌ، وهو من تغييرِ النسب، وقد تقدم استيفاء هذه المادةِ في البقرة. وقَدَّم» إليه «على» تُحْشرون «للاختصاص أي: تُحشرون إليه لا إلى غيره، أو لتناسُبِ رؤوس الآي.

97

قوله تعالى: {جَعَلَ الله} : فيها وجهان، أحدهما: أنها بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لاثنين، أولهما «الكعبة» والثاني «قياماً» والثاني: أن تكون بمعنى خلق فتتعدى لواحد، وهو «الكعبة» و «قياماً» نصبٌ على الحال. وقال بعضهم: إنَّ «جعل» هنا بمعنى «بَيَّن» و «حَكَم» ، وهذا ينبغي أن يُحْمل على تفسير المعنى لا تفسير اللغة؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية أنها تكونُ بمعنى بَيَّن ولا حَكَم، ولكن يلزم من الجَعْلِ البيانُ، وأمَّا «البيتَ» فانتصابُه على أحد وجهين: إما البدلِ وإما عطفِ البيان، وفائدةُ ذلك أن بعض الجاهلية - وهم خثعم- سَمَّوْا بيتاً الكعبةَ اليمانية فجيء بهذا البدلِ أو البيانِ تبييناً له من غيره. وقال الزمخشري: «البيتَ الحرامَ» عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفةُ كذلك «واعترض عليه الشيخ بأن شرطَ البيانِ الجمودُ، والجمودُ لا يُشْعر بمدح، وإنما يُشْعر به

المشتقُّ، ثم قال:» إلا أَنْ يريدَ أنه لَمَّا وُصِف البيت بالحرام اقتضى المجموعُ ذلك فيمكنُ «. والكعبة لغةً: كلُّ بيت مربع، وسُمِّيَتْ الكعبةُ كعبةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكَعْب الذي هو أحد أعضاء الآدمي. قال الراغب:» كَعْبُ الرجل « [العظم] الذي عند مُلْتقى الساق والقدم، والكعبة كلُّ بيتٍ على هيئتِها في التربيع، وبها سُمِّيَتِ الكعبة، وذُو الكَعَبات: بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة، وامرأة كاعِب: تكعَّب ثدياها» وقد تقدَّم القولُ في هذه المادةِ أولَ السورة. والجمهور قرؤوا هنا: «قياماً» بألفٍ بعد الياء، وابن عامر: «قِيَماً» دون ألف بزنة «عِنَب» ، والقيام هنا يحتمل أن يكون مصدراً ل «قام - يقوم» والمعنى: أنَّ اللَّهَ جعل الكعبةَ سبباً لقيامِ الناس إليها، أي: لزيارتِها والحجِّ إليها، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهم ودنياهم، فيها يَقُومون، ويجوزُ أَنْ يكونَ القيامُ بمعنى القِوام فَقُلبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها، كذا قالَ الواحدي، وفيه نظرٌ إذ لا موجبَ لإِعلاله إذ هو ك «السِّواك» فينبغي أن يقال: إن القِيام والقِوام بمعنى واحد، قال: 181 - 2- قِوامُ دنيا وقِوامُ دينِ ... فأمَّا إذا دخَلَها تاءُ التأنيث لَزِمَتِ الياءُ نحو: «القيامة» وأمَّا قراءةُ

ابنِ عامر فاستشكلها بعضُهم بأنه لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يكونَ مصدراً على فِعَل، وإما أن يكونَ على فِعال، فإنْ كان الأول فينبغي أن تصِحُّ الواو ك «حِوَل» و «عَوَر» وإن كان الثاني فالقصر لا يأتي إلا في شعر. وقرأ الجحدري: «قَيِّماً» بتشديد الياء وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة، وقد تقدَّم تحقيقُه أول النساء. قوله: {والشهر الحرام والهدي والقلائد} عطف على «الكعبة» ، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ لفهم المعنى أي: جَعَلَ الله أيضاً الشهرَ والهَدْيَ والقلائدَ قياماً. و «ذلك» فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: الحُكْمُ الذي حَكَمْناه ذلك لا غيرُه. والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف أي: ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره. الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه السِّياقُ أي: شَرَعَ اللَّهُ ذلك، وهذا أقواها لتعلُّقِ لام العلة به. و «تعلموا» منصوبٌ بإضمار «أَنْ» بعد لام كي، لا بها. و «أَنَّ الله» وما في حَيِّزها سادَّةٌ مسدَّ المفعولين أو أحدِهما على حَسَبِ الخلاف المتقدم. و {وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} نسقٌ على «أنَّ» قبلها/.

99

وقوله تعالى: {إِلاَّ البلاغ} : في رفعه وجهان، أحدهما: أنه فاعل بالجارِّ قبله لاعتماده على النفي، أي: ما استقرَّ على الرسول إلا البلاغ. والثاني أنه مبتدأ، وخبرُه الجارُّ قبله وعلى التقديرين فالاستثناء مفرَّغٌ.

100

وقوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ} : جوابُها محذوف أي: ولو أُعجَبك كثرة الخبيثِ لَما استوى مع الطيب، أو: لَما أجدى شيئاً في المساواة. والبلاغُ يُحتمل أن يكون مصدراً ل «بَلَّغ» مشدداً أي: ما عليه إلا التبليغُ، فجاء على حذف الزوائد، ك «نبات» بعد «أنبت» ويحتمل أن يكونَ

مصدراً ل «بَلَغ» مخففاً بمعنى البلوغ، ويكون المعنى: ما عليه إلا البلوغُ بتبليغه، فالبلوغُ مستلزِمٌ فعبَّر باللازم عن الملزومِ.

101

قوله تعالى: {عَنْ أَشْيَآءَ} : متعلق ب «تَسْألوا» واختلف النحويون في «اشياء» على خمسة مذاهب، أحدها - وهو رَأْي الخليل وسيبويه والمازني وجمهور البصريين -: أنها اسمُ جمعٍ من لفظ «شيء» فيه مفردةٌ لفظاً جمعٌ معنى، كطَرْفاء وقَصْباء وأصلُها: شَيْئاء بهمزتين بينهما ألف ووزنها فَعْلاء ك «طَرْفاء» فاستثقلوا اجتماعَ همزتين بينهما ألفٌ، لا سيما وقد سَبَقها حرفُ علة وهي الياءُ، وكَثُر دَوْر هذه اللفظةِ في لسانهم فَقَلبوا الكلمةَ بأَنْ قَدَّموا لامَها، وهي الهمزةُ الأولى على فائها وهي الشين فقالوا أَشْياء فصارَ وزنُها لَفْعاء، ومُنِعت من الصرف لألف التأنيث الممدودة. ورُجِّح هذا المذهبُ بأنه لم يلزْم منه شيءٌ غيرُ القلب، والقلبُ في لسانِهم كثيرٌ كالجاه والحادي والقِسِيّ وناءَ وآدُرٌ وآرام وضِئاء في قراءة قنبل وأَيِس. والأصل: وجه وواحد وقُووس ونَأَى وأَدْوُرُ وأَرْآم وضياء ويَئِس. واعترضَ بعضُهم على هذا بأن القلب على خلافِ الأصل، وأنه لم يَرِدْ إلا

ضرورةً أو في قليلٍ من الكلام، وهذا مردودٌ بما قَدَّمْتُه من الأمثلةِ، ونحن لا نُنْكِرُ أنَّ القلبَ غير مطَّرد، وأما الشادٌّ القليل فنحو قولِهم: «رَعَمْلي» في «لَعَمْري» و «شَواعي» في «شوايع» قال: 181 - 3- وكان أَوْلاها كِعابُ مُقامِرٍ ... ضُرِبَتْ على شَزَنٍ فهنَّ شَواعِي يريد شوائع. وأمَّا المذاهبُ الآتية فإنه يَرِدُ عليها إشكالاتٌ، هذا المذهب سالمٌ منها فلذلك اعتبره الجمهورُ دونَ غيره. المذهب الثاني - وبه قال الفراء -: أن أشياء جمع ل «شيء» والأصل في شيء: شَيِّئ على فَيْعِل ك «لَيِّن» ثم خُفِّف إلى «شيء» ما خففوا لَيّناً وهَيّناً ومَيّتاً إلى لَيْن وهَيْن ومَيْت، ثم جَمَعَه بعد تخفيفِه، وأصله أَشْيِئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياءٍ بزنة أَفْعِلاء فاجتمع همزتان: لام الكلمة والتي للتأنيث، والألف تشبه الهمزة والجمع ثقيل: فَخَفَّفُوا الكلمة بأن قلبوا الهمزة الأولى ياءً لانكسار ما قبلها، فيجتمع ياءان أولاهما مكسورة، فحذفوا الياء التي هي عينُ الكلمة تخفيفاً فصارت أَشْياء، ووزنها الآن بعد الخلاف أَفْلاء، فمَنْعُ الصرفِ لأجل ألف التأنيث، وهذه طريقة بعضِهم في تصريف هذا المذهب كمكي بن أبي طالب. وقال بعضهم كأبي البقاء: لَمَّا صارت إلى أَشْيئاء حُذِفت الهمزة الثانية التي هي لام الكلمة لأنَّها بها حَصَلَ الثِّقَلُ،

وفُتِحَتِ الياءُ المسكورةُ لتسلمَ ألف الجمعِ فصار وزنُها: أَفْعاء. المذهب الثالث - وبه قال الأخفش -: انَّ أَشْياء جمعُ «شَيْء» بزنة فَلْس، أي: ليس مخففاً من شَيِّئ كما يقوله الفراء، بل جمع شيء وقال «إن فَعْلاً يجمع على أَفْعِلاء فصار أَشِْيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء، ثم عُمِل فيه ما عُمِل في مذهب الفقراء، والطريقان المذكوران عن مكي وأبي البقاء في تصريف/ هذا المذهب جاريان هنا، وأكثر المصنفين يذكرون مذهب الفراء عنه وعن الأخفش قال مكي:» وقال الفراء والأخفش والزيادي: أَشْياء وزنها أَفْعِلاء، وأصلها أَشْيِئاء، كهيِّن وأَهْوِناء، لكنه خُفِّف «ثم ذَكر تصريفَ الكملةِ إلى آخر. وقال ابو البقاء: «وقال الأخفشُ والفراء: أصلُ الكلمةِ شَيِّئ مثل هَيِّن، ثم خُفِّف بالحذف» ، وذكر التصريف إلى آخره فهؤلاء نقلوا مذهبهما شيئاً واحداً، والحق ما ذكرته عنهما، ويدل على ما قلته ما قاله الواحدي فإنه قال: «وذهب الفراء في هذا الحرف مذهب الأخفش» غير أنه خَلَط حين ادَّعى أنها كهيْن ولَيْن حين جمعا على أَهْوناء وأَلْيِناء، وهَيْن تخفيف «هيِّن» فلذلك جاز جمعُه على أَفْعِلاء، وشَيء ليس مخففاً من «شَيِّئ» حتى يُجْمع على أَفْعِلاء، وهذان المذهبان - أعني مذهب الفراء والأخفش - وإن سَلِما من منع الصرف بغيرِ علة فقد رَدَّها الناس، قال الزجاج: «وهذا القولُ غلطٌ لأنَّ» شَيْئاً «فَعْل، وفَعْل لا يجمع على أَفْعِلاء،

فأما هَيِّن ولَين فأصلُه: هَيين ولَيين، فجُمع [على] أَفْعِلاء، كما يُجمع فعيل على أَفعْلاء مثل: نصيب وأَنْصباء» قلت: وهذا غريبٌ جداً، أعني كونَه جَعَل أنَّ أصلَ هيّن هَيين بزنةَ فَعِيل، وكذا لَيّن ولَيِين، ولذلك صرح بتشبيههما بنصيب، والناس يقولون: إن هَيِّناً أصله هَيْوِن، كميِت أصلُه مَيْوِت ثم أُعِل الإِعلالَ المعروف، وأصلُ لَيّن: لَيْيين بياءين، الأولى ساكنة والثاينة مكسورة، فأُدْغمت الأولى، والاشتقاقُ يساعدهم، فإن الهيِّن من هانَ يهون، ولأنهم حين جمعوه على أَفْعلاء أظهروا الواوَ فقالوا: أَهْوِناء. وقال الزجاج: «إن المازني ناظر الأخفش في هذه المسألة فقال له: كيف تُصَغَّر اشياء؟ قال: أقول فيها أُشَيَّاء. فقال المازني: لو كانت أَفْعالاً لرُدَّت في التصغير إلى واحدها وقيل: شُيَئْات مثل شُعَيْعات، وإجماعُ البصريين أن تصغير أصدقاء إن كان لمؤنث» صُدّيَّقات «، وإن كان لمذكر:» صُدَيِّقون «فانقطع الأخفش» . قلت: وبَسْطُ هذا أنَّ الجمعَ المكسَّرَ إذا صُغِّر: فإمَّا أن يكون من جموعِ القلة وهي أربعٌ على الصحيح: أَفْعِلة وأَفْعُل وأَفْعال وفِعْلة، فيُصَغَّرُ على لفظة، وإن كان من جموع الكثرة فلا يُصغَّر على لفظِه على الصحيح، وإنْ وَرَدَ منه شيءٌ عُدَّ شاذاً ك «أُصَيْلان» تصغير «أُصْلان» جمع «أَصيل» بل يُرَدُّ إلى واحدِه. فإنْ كان من غير العقلاء صُغِّر وجُمِع بالألفِ والتاءِ فتقول في تصغير حُمُر جمع حمار: «حُمَيْرات» ، وإن كان من العقلاء صُغِّر وجُمع بالواو والنون، فتقول في تصغير «رجال» : «رُجَيْلون، وإن كان اسم جمع ك» قوم «و» رهط «اسم جنس ك» قمر «و» شجر «صُغِّر على لفظه كسائر المفردات. رجَعْنا إلى أشياء فتصيغرُهم لها على لفظِها يَدُلُّ على أنها اسم جمع، لأن اسم الجمع يُصِغَّر على لفظه نحو: «رُهَيْط» و «قُوَيْم» وليست بجمع تكسر إذ هي من جموعِ الكثرة ولم ترَدَّ إلى واحدها، وهذا لازمٌ للأخفش لأنه بصري، والبصري لا بدَّ

وأن يفعل ذلك، وأُصَيْلان عنده شاذ فلا يقاس عليه، وفي عبارة مكي قال: «وأيضاً فإنه يَلْزمهم أن يصغِّروا أشياء على شُوَيَّات أو على شُيَيْئات وذلك لم يَقُلْه أحد» قلت: قوله «شُوَيَّات» ليس بجيد، فإنه هذا ليس موضعَ قلبِ الياء واواً/، ألا ترى أنك إذا صَغَّرت بيتاً قلت: بُيَيْتاً لا بُوَيْتاً، إلا أن الكوفيين يُجيزون ذلك فيمكن أن يرى رأيهم وقد ردَّ مكي أيضاً مذهبَ الفراء والأخفش بشيئين، أحدهما: أنه يلزم منه عدمُ النظير إذ لم يقع أَفْعِلاء جمعاً ل فَيْعِل فيكون هذا نظيرَه، وهَيّن وأهْوناء شاذٌّ لا يقاس عليه. والثاني: أن حذفَه واعتلالَه مُجْرى على غير قياس، فهذا القولُ خارجٌ في جمعه اعتلالِه عن القياس والسماع «. المذهب الرابع - وهو قول الكسائي وأبي خاتم - أنها جمع شيء على أَفْعال ك» بَيْت «و» أبيات «و» ضيف «و» أضياف «واعترض الناس هذا القول بأنه يَلْزَم منه منعُ الصرف بغير علته إذ لو كان على» أَفْعال «لا نصرفَ كأبيات. قال الزجاج:» أجمع البصريون وأكثر الكوفيين على أن قولَ الكسائي خطأ، وألزموه ألاَّ يَصْرف أنباء وأسماء «قلت: والكسائي قد استشعر بهذا الردِّ فاعتذر عنه ولكن بما لا يُقبل، قال الكسائي - رحمه الله-:» هي - أي أَشْياء - على وزن أَفْعال ولكنها كَثُرت في الكلام فَأَشْبهت فَعْلاء فلم تُصْرَفْ كما لم يُصْرَفْ حَمْراء «قال:» وجَمَعوها أَشاوَى كما جمعوا عَذْراء وعذارى، وصَحْراء وصحارى، وأَشْياوات كما قيل حَمْراوات «، يعني أنهم عامَلوا» أَشْياء «وإن كانت على أفعال معاملةَ حَمْراء وعَذْراء في جمعي التكسير والتصحيح. إلا أن

الفراء والزجاج اعترضا على هذا الاعتذار، فقال الفراء:» لو كان كما قال لكان أملكَ الوجهين أَنْ تُجْرَى، لأن الحرف إذا كَثُر في الكلام خَفَّ وجاز أن يُجْرَى كما كَثُرت التسمية ب «يزيد» ، وأَجْروه في النكرة وفيه ياءٌ زائدة تَمْنَعُ من الإِجراء «قلت: يعني بالإِجراء الصرف. وقال الزجاج:» أجمع البصريون وأكثر الكوفيين «وقد تقدم آنفاً. وقال مكي:» وقال الكسائي وأبو عبيد: لم تَنْصَرف - أي أشياء- لأنها أشبهت «حمراء» لأن العرب تقول: أَشْياوات «كما تقول: حَمْراوات، قال:» ويلزمهما ألاَّ يَصْرِفا في الجمع أسماء وأبناء، لقول العرب فيهما: أسماوات وأبناوات «قلت: قد تقدم شرح هذا، ثم إنَّ مكّيّاً بعد أن ذكر عن الكسائي ما قَدَّمْتُه ونقل مذهب الأخفش والفراء قال:» قال أبو حاتم: أَشْياء أَفْعال جمع شيء كأبيات «فهذا يُوهم أن مذهب الكسائي المتقدم غيرُ هذا المذهب، وليس كذلك بل هو هو قلت: وقد أجاب بعضهم عن الكسائي بأن النحويين قد اعتبروا في بابِ ما لا ينصرف الشبهَ اللفظيَّ دون المعنوي، يَدُلُّ على ذلك مسألة سراويل في لغةِ مَنْ يمنعُه فإنَّ فيه تأويلين، أحدهما: أنه مفردٌ أعجمي حُمِل على مُوازِنه في العربية، أي صيغة مصابيح مثلاً، ويَدُلُّ له أيضاً أنهم أَجْروا ألفَ الإِلحاق المقصورة مُجرى ألف التأنيث المقصورة، ولكن مع العلمية، فاعتبروا مجردَ الصورة، ولولا خوفُ الإِطالة لذكرت له نظائر كثيرة. المذهب الخامس: أنَّ وزنها أَفْعِلاء ايضاً جمعاً ل «شَيِيْءٌ بزنة ظريف، وفَعيل يجمع على أَفعلاء ك نَصيب وأنْصِباء، وصَدِيق وأًصْدقاء، ثم حُذِفت الهمزة الأولى التي هي لامُ الكلمة، وفُتحت الياءُ لتسلمَ ألفُ الجمع فصارت أَشْياء ووزنُها بعد الحذف أَفْعاء، وجعله مكياً في التصريف

كتصريف مذهب الأخفش من حيث إنه تُبدل الهمزة ياءً ثم تُحْذف إحدى الياءين. قال: - رحمه الله -:» وحَسَّن الحذفَ في الجمع حَذْفُها في الواحد، وإنما حُذفت من الواحد تخفيفاً لكثرة الاستعمال إذ «شيء» يقع على كل مسمَّى من عَرَضٍ أو جوهرٍ أو جسمٍ فلم ينصرف همزةِ التأينث في الجمع. قال: «وهذا قولٌ حسنٌ جارٍ في الجمع وتُرِكَ الصرفُ على القياس، لولا أنَّ التصغير يعترضه كما اعترض الأخفش» قلت: قوله «هذا قول حسن» فيه نظر لكثرة ما يَرِد عليه وهو ظاهر ممَّا تقدم، ولمَّا ذكر الشيخ هذا المذهب قال في تصريفه: «ثم حذفت الهمزة الأولى/ وفتحت ياء المد لكون ما بعدها ألفاً» قال: «وزنُها في هذا القول ألى أفياء، وفي القول قبله إلا أَفْلاء» كذا رأيته «أفياء» بالياء، وهذا غلط فاحش، ثم إني جَوَّزتُ أن يكون هذا غلطاً عليه من الكاتب، وإنما كانت أَفْعاء بالعين فصحَّفها الكاتب إلى أَفْياء. وقد ردَّ الناس هذا القول: بأنَّ أصل شيء: شَيِيْء بزنة صديق دعوى من غير دليل، وبأنه كان ينبغي ألاَّ يُصَغَّر على لفظه، بل يُرَدُّ إلى مفرده كما تقدم تحريره. وقد تلخص القول في أشياء: أنها هل هي اسم جمع وأصلها شَيْئاء كطَرْفاء، ثم قُلِبت لامُها قبل فائِها فصارَ وزنُها لَفْعاء أو جمعٌ صريح؟ وإذا قيل بأنها جمع صريح فهل أصلها أَفْعِلاء، ثم تحذف، فتصير إلى أَفْعاء أو أَفلاء، أو أنَّ وزنَها أفعال كأبيات. ولولا خلف الخروج عن المقصود لذكرت المسألة بأطرافِها متسوفاةً، ولكنَّ في هذا كفايةً لائقةً بهذا الموضوع. قوله تعالى: {إِن تُبْدَ} شرط، وجوابه «تَسُؤكم» ، وهذه الجملة الشرطية في محل جر صفة ل «أشياء» ، وكذا الشرطية المعطوفة ايضاً. وقرأ ابن عباس: «إن تَبءدُ لكم تَسُؤْكم» ببناء الفعلين للفاعل مع كون حرف

المضارعة تاءً مثناة من فوق، والفاعل ضمير «أشياء» . وقرأ الشعبي - فيما نقله عنه أبو محمد ابن عطية: {إنْ يَبْدُ} بفتح الياء مت تحت وضم الدال، «يَسُؤْكم» بفتح الياء من تحت، والفاعل ضمير عائد على ما يليق تقديره بالمعنى، أي: إن يَبْدُ لكم سؤالكم أو سؤلكم يسؤكم، ولا جائز أن تعود على «أشياء» لأنه جارٍ مجرى المؤنث المجازي، ومتى أسند فعلٌ إلى ضمير مؤنث مطلقاً وَجَبَ لَحاقُ العلامة على الصحيح، ولا يُلتفت لضرورة الشعر، ونقل غيره من الشعبي أنه قرأ: {يُبْدَ لكم يَسُؤْكم} بالياء من تحت فيهما إلا أنه ضمَّ الياء الأولى وفتح الثانية، والمعنى إنْ يُبْدَ - أي يظْهَر - السؤال عنها يَسُؤكم ذلك السؤالُ أي جوابه، أو هو، لأنه سببٌ في لك والمُبْدِية هو اللَّهُ تعالى. والضميرُ في «عنها» يحتمل أن يعودَ على نوعِ الأشياءِ المَنْهِيَّ عنها لا عليها أنفسِها، قاله ابن عطية، ونقله الواحدي عن صاحبِ «النظم» ونظَّره بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] يعني آدم، «ثم جَعَلْناه» قال «يعني ابن آدم» فعاد الضميرُ على ما دل عليه الأول، ويحتمل أن يعود عليها أنفسها، قال الزمخشري بمعناه. قوله: {حِينَ يُنَزَّلُ القرآن} في هذا الظرف احتمالان، احدهما: - وهو الذي يَظْهَرُ، ولم يَقُل الزمخشري - غيرَه-: أنه منصوبٌ ب «تسألوا» ، قال الزمخشري: «وإنْ تَسْألوا عنها: عن هذه التكاليفِ الصعبةِ، حين يُنَزَّلُ القرآن: في زمانِ الوَحْي، وهو ما دام الرسولُ بين أَظْهُرِكم يُوحى إليه تَبْدُ لكم تلك التكاليفُ التي تَسُؤكم وتُؤْمروا بتحمُّلها. فَتُعَرِّضوا أنفسَكم لغضبِ اللَّهِ

لتفريطِكم فيها» ومن هنا قلت لك: إنَّ الضمير في «عنها» عائدٌ على الأشياءِ الأوَلِ لا على نوعِها. والثاني: أنَّ الظرفَ منصوبٌ ب «تُبْدَ لكم» أي: تَظْهَرْ لكم لتك الأشياءُ حين نزولِ القرآن. قال بعضهم: «في الكلام تقديمُ وتأخيرٌ، لأنَّ التقديرَ: عن أشياْاء إنْ تُسْأَلوا عنها تُبْدَ لكم حين نزولِ القرآن، وإن تُبْدَ لكم تَسُؤْكم» ولا شك أن المعنى على هذا الترتيب، إلا أنه لا يُقال في ذلك تقديمُ وتأخيرٌ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً فلا فرقَ، ولكن إنما قُدِّم هذا أولاً على قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ} لفائدةٍ وهي الزجرُ عن السؤالِ فإنه قدَّم لهم أنّ سؤالهم عن أشياءَ متى ظهرت أساءَتْهم قبل أن يُخْبرَهم بأنهم إنْ سألوا عنها بَدَتْ لهم لينزجروا، وهو معنىً لائقٌ. قوله: {عَفَا الله عَنْهَا} فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ جر لأنه صفةٌ أخرى ل «أشياء» والضميرُ على هذا في «عنها» يعود على «أشياء» ولا حاجةَ إلى ادِّعاء التقديمِ والتأخير في هذا كما قال بعضهم، قال: «تقديرُه: لا تَسْأَلوا عن اشياءَ عفا الله عنها إنْ تُبْدَ لكم إلى آخر الآية/، لأنَّ كلاً من الجملتين الشرطيتين وهذه الجملة صفةٌ ل» أشياء «فمن أين أنَّ هذه الجملة مستحقةٌ للتقديم على ما قبلَها؟ وكأنَّ هذا القائل إنَّما قَدَّرها متقدمةً ليتضحَ أنها صفةٌ لا مستأنفةٌ. والثاني: أنها لا محل لها لاسئنافِها، والضميرُ في» عنها «على هذا يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها ب» لا تَسْألوا «ويجوزُ أَنْ تعودَ على» أشياء «وإنْ كان في الوجه الأولِ يتعيَّن هذا لضرورة الربطِ بين الصفةِ والموصوفِ.

102

قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا} : الضميرُ في «سألها» ظاهرُه يعود على «أشياء» لكن قال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف قال: لا تَسْالوا عن أشياء، ثم قال:» قد سَألَها «ولم يقل سَألَ عنها؟ قلت: [الضميرُ في

سألها] ليس يعودُ على أشياءَ حتى يَتَعدَّى إليها ب» عن «، وإنما يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها بقوله:» لا تَسْألوا «أي: قد سأل المسألةَ قومٌ، ثم أصبحوا بها - أي بمرجوعِها - كافرين» ونحا ابن عطية مَنْحاه. قال الشيخ: «ولا يتجه قولُهما إلى حذف مضاف، وقد صَرَّح به بعضُ المفسرين، أي: قال سأل أمثالَها أي: أمثالَ هذه المسألة أو أمثالَ هذه السؤالات» . وقال الحوفي في «سألها» : «الظاهرُ عَوْدُ الضميرِ على» أشياء «ولا يتجه حَمْلُه على ظاهرِه لا مِنْ جهة اللفظ العربي ولا من جهةِ المعنى، أمَّا من جهة اللفظ فلأنه كان ينبغي أن يُعْدَّى ب» عن «كما عُدِّي في الأول، وأمَّا من جهةِ المعنى فلأن المسؤولَ عنه مختلِفٌ قطعاً، فإنَّ سؤالهم غيرُ سؤالِ مَنْ قبلهم، فإنَّ سؤالَ هؤلاء مثلُ مَنْ سأل: أين ناقتي وما بطن ناقتي، وأين أبي وأين مَدْخَلي؟ وسؤالُ أولئك غيرُ هذا نحو: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً} [المائدة: 114] {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] {اجعل لَّنَآ إلها} [الأعراف: 138] ونحوه. وقال الواحدي: - ناقلاً عن الجرجاني -» وهذا السؤالُ في الايات يخالِفُ معنى السؤال في قوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ} {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} ألا ترى أنَّ السؤال في الآية الأولى قد عُدِّي بالجار، وها هنا لم يُعَدَّ بالجار، لأن السؤالَ ها هنا طَلَبٌ لعينِ الشيء نحو: «سَأَلْتُك درهماً» أي طلبته منك، والسؤالُ في الآية الأولى سؤالٌ عن حالِ الشيء وكيفيتِه، وإنما عَطَفَ بقوله {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} على ما قبلَها وليست بمثلِها في التأويل، لأنه إنما نَهاهم عن تكليف ما لم يُكَلَّفوا، وهو مرفوعٌ

عنهم «قلت: ويجوز أن يعودَ على» أشياء «لفظاً لا معنىً كما قال النحويون في مسألة:» عندي درهمٌ ونصفُه «أي: ونصفُ درهمٍ آخرَ، ومنه: 181 - 4- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ قوله: {مِّن قَبْلِكُم} متعلق بقوله: {سَأَلَهَا} فإنْ قيل: هل يجوزُ أن يكونَ صفةً لقوم؟ قلت: منعَ من ذلك جماعةٌ معتلِّين بأنَّ ظرف الزمان لا يقعُ خبراً ولا صفةً ولا حالاً عن الجثة، وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في أولِ البقرة عند قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [الآية: 21] ، فإنَّ الصلةَ كالصفة، و» بها «متعلق ب» كافرين «وإنما قُدِّم لأجلِ الفواصلِ. والنخعي قرأ:» سالها «بالامالة من غير همزٍ وهما لغتان، ومنه يَتَساولان فإمالتُه ل» سأل «كإمالة حمزة» خاف «وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرةِ عند {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} [الآية: 61] و {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} [الآية: 211] .

103

قوله تعالى: {مِن بَحِيرَةٍ} : «مِنْ» زائدةٌ لوجودِ الشرطين المعروفين «وجَعَلَ» يجوز أن يكونَ بمعنى «سَمَّى» ويتعدى لمفعولين، أحدهما محذوف، والتقدير: ما جعَلَ - أي ما سَمِّى - اللهُ حيواناً بَحِيرةً.

قاله أبو البقاء وقال ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء: «إنها تكونُ معنى شَرَعَ ووضع. أي: ما شَرَع اللهُ ولا أمره» وقال الواحدي - بعد كلامٍ طويل - «فمعنى ما جعل اللهُ مِنْ بَحيرةٍ: ما أوجبَها ولا أمر بها» وقال ابن عطية: «وجَعَلَ في هذه الآيةِ لا تكون بمعنى» خلق «لأنَّ الله خَلَق هذه الأشياء كلها، ولا بمعنى» صَيَّر «لأن التصيير لا بد له من مفعول ثان، فمعناه: ما سَنَّ الله ولا شَرَع. ومنع الشيخ هذه النقولاتِ كلِّها بأنَّ» جَعَل «لم يَعُدَّ اللغويون من معانيها شرع، وخَرَّج الآية على التصيير، ويكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً أي: ما صَيَّر الله بحيرةً مشروعةً. والبَحيرة: فَعِلية بمعنى مَفْعولة، فدخولُ تاءِ التأنيث عليها/ لا ينقاس، ولكن لَمَّا جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ الجوامدِ أُنِّثت، وهذا قد أوضَحْتُه في قولِه {والنطيحة} [المائدة: 3] . واشتقاقُها من البَحْر، والبَحْر: السَّعَةُ، ومنه» بَحْرُ الماءِ «لسَعَتِه. واختلف أهلُ اللغة في البَحِيرة عند العرب ما هي؟ اختلافاً كثيراً. فقال أبو عبيد:» هي الناقةُ التي تُنْتِج خمسةَ أبطنٍ في آخرها ذَكَرٌ فتُشَقُّ أذنُها وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مَرْعَى ولا ماءٍ، وإذا لَقِيها المُعْيي لم يركبها. وروي ذلك عن ابن عباس، إلا أنه لم يذكر في آخرها ذكَرا وقال بعضهم: «إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن نُظر في الخامس: فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه، وإن كان أنثى شَقُّوا أذنها وتركوها تَرْعى وتَرِدُ ولا تُرِكَبُ

ولا تُحلب فهذه هي البحيرة» ورُوِي هذا عن قتادة. وقال بعضهم: «البحيرة: الأنثى التي تكون خامسَ بطنٍ كما تقدَّم بيانُه، إلا أنها لا يَحِلُّ للنساء لحمها ولا لبنها، فإنْ ماتت حَلَّت لهن» وقال بعضهم: «البحيرة: بنت السائبة» وسأتي تفسير السائبة، فإذا وَلدت السائبة أنثى شقوا أذنها وتركوها مع امها ترعى وتَرِدُ ولا تكرب حتى للمُعْيّي، وهذا قولُ مجاهد بن جبر. وقال بعضُهم: «هي التي مُنِع دَرُّها - أي لَبَنُها - لأجل الطواغيت، فلا يَحْلِبُها أحدٌ. وقال بهذا سعيد بن المسيب. وقيل: هي التي تُتْرَكُ في المَرْعى بلا راعٍ، قاله أبنُ سيده وقيل: إذا وَلَدَتْ خمسَ إناث شَقُّوا أذنَها وتركوها. وقال بعضُهم - ويُعْزَى لمسروق -:» إنها إذا وُلِدت خمساً أو سبعاً شَقُّوا أذنَها «وقيل: هي الناقةُ تَلِدُ عشرةَ أبطن فَتُشَقُّ أذنُها طولاً بنصفين، وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مرعى ولا ماء، وإذا ماتَتْ حَلَّ لحمُها للرجال دون النساء» ، نقله ابن عطية، وكذا قاله أبو القاسم الراغب. وقيل: البحيرة السِّقْبُ إذا وُلِد نحروا أذنه، وقالوا: اللهم إن عاش فَقَنِيّ وإن مات فَذَكيّ، فإذا مات أكلوه. ووجه الجمع بين هذه الأقوالِ الكثيرةَ أنَّ العربَ كانت تختلف أفعالُها في البحيرة. والسائبة قيل: كان الرجلُ إذا قَدِم من سفر أو شكر نعمة سَيِّبَ بعيراً فلم يُرْكَبْ ويفعل به ما تقدم في البحيرة، وهذا قول أبي عبيد. وقيل: هي

الناقة تُنْتِجُ عشر إناث فلا تُرْكب ولا يَشْرب لبنها إلا ضيفٌ أو ولدٌ، قاله الفراء وقيل: ما تُرِك لآلهتهم، فكان الرجل يجيء بماشيته إلى السدنة فيتركه عندهم ويسيل لبنه. وقيل: هي النقة تُتْرك ليُحَجَّ عليها حَجَّة، ونُقِل ذلك عن الشافعي. وقيل: هوالعبدُ يُعْتَقُ ألاَّ يكونَ عليه ولاءٌ ولا عقلٌ ولا ميراثٌ. والسائِبَةُ هنا: فيها قولان، أحدُهما: أنها اسم فاعل على بابه من ساب يَسِيب أي يَسْرَح، كسَيِّب الماء، وهو مطاوعُ سِبْتُه، يقال: سَيَّبْتُه فساب وانساب. والثاني: أنه بمعنى مَفْعول نحو: «عيشةٌ راضية» ومجيءُ فاعِل بمعنى مَفْعول قليلٌ جداً نحو: «ماء دافق» والذي ينبغي أَنْ يُقال: إنه فاعل بمعنى ذي كذا أي: بمعنى النسب، نحو قولهم: لابن أي: صاحبُ لبن، ومنه في أحدِ القولين: «عيشةٌ راضية وماء دافق» أي: ذات رضى وذا دفق، وكذا هذا، أي: ذات سَيْبٍ. والوصيلةُ هنا فَعِيلة بمعنى فاعِله على ما سيأتي تفسيره، فدخول التاءِ قياسٌ. واختلف أهلُ اللغةِ فيها هل هي من جنسِ الغنم أو من جنس الإِبل؟ ثم اختلفوا بعد ذلك أيضاً، فقال الفراء: «هي الشاةُ تُنْتِجُ سبعةَ أبطن عَنَاقَيْن عَناقَيْن، فإذا وَلَدَت في آخرها عَناقاً وجَدْياً قيل: وصلت أخاها فَجَرّتْ مَجْرى السائبة» وقال الزجاج: «هي الشاة إذا وَلَدتْ ذكراً كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم» وقال ابن عباس: - رضي الله عنه - هي الشاةُ تُنْتِجُ سبعة أبطن، فإذا كان السابع أنثى لم تنتفع النساءُ منها بشيء، إلا أَنْ تموتَ فيأكلَها الرجال والنساء، وإنْ كانت ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً، وإنْ كان

ذكراً وأنثى قالوا: وَصَلت أخاها فيتركونها معه لا تُذْبَحُ ولا ينتفع بها إلا الرجالُ دونَ النساء، فإنْ ماتَتْ اشتركنْ مع الرجال فيها «. وقال ابن قتيبة:» إن كان السابع ذكراً ذُبح وأكله الرجال دونَ النساء، وقالوا: «خالصةٌ لذكورِنا ومُحَرَّمٌ على أزواجِنا» وإنْ كان أنثى تُرِكَتْ في الغنم، وإن كان ذكراً وأنثى فكقول ابن عباس: وقيل: «هي الشاة تنتج عشر إناثٍ متواليِاتٍ في خمسة أبطن ثم ما وَلَدت بعد ذلك فاللذكور دون الإِناث، وبهذا قال أبو اسحاق وأبو عبيدة، إلا ان أبا عبيدة قال:» وإذا ولدت ذكراً وأنثى معاً قالوا: وَصَلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها «. وقيل: هي الشاة تنتج خمسةَ أبطن أو ثلاثةً، فإن كان جَدْياً ذبحوه، وإن كان أنثى أَبْقَوْها، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها هذا كلُّه عند مَنْ يَخُصُّها بجنس الغنم. وأما من قال إنها من الإِبل فقال: «هي الناقة تبتكر فتلد أنهى ثم تُثَنَّي بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم، ويقولون: قد وَصَلَت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر» . والحامي: اسمُ فاعل من حَمَى يَحْمي أي: منع، واختلف فيه تفسير أهل اللغة، فعن الفراء: «هو الفحل يُولد لولدِ ولدِه» فيقولون: قد حَمَى ظهرَه، فلا يُرْكب ولا يُستعمل ولا يُطْرَدُ عن ماء ولا شجر «وقال بعضهم:» هوالفحل يُنْتِجُ من يبن أولاده ذكورها وإناثها عشرَ إناث «روى ذلك ابن عطية وقال بعضُهم:» هوالفحل يولَدُ من صلبِه عشرةُ أبطن، فيقولون قد حمى ظهره، فيتركونه كالسائبة فيما تقدم، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود

وإليه مال أبو عبيدة والزجاج ورُوِي عن الشافعي أنه الفحل يَضْرِب في مال صاحبه عشرَ سنين. وقال ابن زيد: «هو الفحل يُنتج له سبع إناث متواليات فيحمي ظهرَه فيُفْعل به ما تقدم. وقد عرفت منشأ خلاف أهل اللغة في هذه الأشياء أنه باعتبار اختلاف مذاهب العرب وآرائهم الفاسدة فيها. وقد أنشدوا في البَحِيرة قوله: 184 - 5- مُحَرَّمَةٌ لا يَطْعَمُ الناسُ لحمَها ... ولا نحن في شيءٍ كذاك البحائرُ وأنشد في السائبة قوله: 181 - 6- وسائبةٍ لله مالي تشكُّرا ... إنِ اللهُ عافَى عامراً أو مجاشعا وأنشدوا في الوصيلة لتأبط شراً: 181 - 7- أجِدَّك أمَّا كنت في الناسِ ناعقاً ... تراعي بأَعْلى ذي المجازِ الوَصايلا وأنشدوا في الحامي قوله: 181 - 8- حَماها أبو قابوسَ في عِزِّ ملكِه ... كما قد حَمَى أولادَ أولادهِ الفحلُ

104

قوله تعالى: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} : «حسبنا» مبتدأ وقد تقدم أنه في الأصل مصدرٌ والمرادُ به اسم الفاعل أي: كافينا، وتفسيرُ ابن عطية له ب «كفانا» تفسيرُ معنىً لا إعراب. و «ما وَجَدْنا» هو الخبر، و «ما» ظاهرُها أنها موصولة اسمية، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة أي: كافينا الذي وجدنا، و «وجد» يجوز أن يكون بمعنى المصادفة، ف «عليه» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «وجدنا» وأنه متعدٍ لواحد. والثاني: أنه حال من «آباءنا» أي وجدناهم مستقرين عليه، ويجوز أن يكونَ بمعنى العلم فيتعدى لاثنين ثانيهما «عليه» . وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ} قد تقدم إعراب هذا في البقرة وما قالوا فيه: وأنَّ «لو» هنا معناها الشرط وأنَّ الواوَ للحال، وتقدم تفسيرُ ذلك كله فأغنى عن إعادته، إلا أنَّ ابنَ عطية قال هنا. «ألف التوقيف دخلت على واو العطف» قلت: «تسميةُ هذه الهمزةِ للتوقيف فيه غرابةٌ في الاصطلاح. وجَعَل الزمخشري هذه الواوَ للحال، وابنُ عطية جعلها عاطفةً، وتقدَّم الجمعُ بين كلامهما في البقرة فعليك بالالتفات إليه، واختلاف الألفاظ في هاتين الآيتين - أعني أية البقرة وآية المائدة - من نحو قولِه هناك:» اتبعوا «وهنا» تعالَوْا «وهناك» أَلْفَيْنا «وهنا» وجدنا «من باب التفنّن في البلاغة، فلا تُطْلَبُ له مناسبةٌ، وإن كنتُ قد تكلَّفْتُ ذلك ونقلته عن الناس في كتاب» التفسير الكبير «.

105

قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} : الجمهورُ على نصب «أنفسكم» وهو منصوب على الإِغراء ب «عليكم» ؛ لأنَّ «عليكم» هنا اسمُ فعل

إذ التقدير: الزموا أنفسَكم أي: هدايتَها وحِفْظَها مِمَّا يؤذيها، ف «عليكم» هنا يرفع فاعلاً تقديره: عليكم أنتم، ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه مرفوع نحو: «عليكم أنتم وزيدٌ الخيرَ» كأنك قلت: الزموا أنتم زيدٌ الخيرَ. واختلف النحاة في الضميرِ المتصلِ بها وبأخواتِها نحو: إليك ولديك ومكانك، فالصحيح أنه في موضعِ جر كما كان قبلَ تُنْقَلَ الكلمة إلا الإِغراء، وهذا مذهب سيبويه واستدل له الأخفش بما حكى عن العرب «على عبدِ الله» بجرِّ «عبد الله» وهو نص في المسألة. وذهب الكسائي إلى أنه منصوب المحل وفيه بُعْدٌ لنصب ما بعدهما، أعني «على» وما بعدها كهذه الآية. وذهب الفراء إلى انه مرفوعُه، وقد حَقَّقْتُ هذه المذاهبَ بدلائلها مبسوطة في «شرح التسهيل» . وقال أبو البقاء: - بعد أن جعل «كم» في موضع جر ب «على» بخلافِ رُوَيدَكم فإن الكاف هناك للخطاب ولا موضعَ لها، فإن «رويد» قد استُعْمَلِتْ للأمر المواجَهِ من غير كاف الخطاب، وكذا قولُه تعالى: {مَكَانَكُمْ} [يونس: 28] «كم» في محل جر «. قلت: في هذه المسألة كلامٌ طويل، صحيحُه أنَّ» رويد «تارةً يكون ما بعدها مجرورَ المحلِّ وتارةً منصوبَه، وليس هذا موضعه، وقد قَدَّمْتُ في سورةِ النساءِ الخلافَ في جواز تقديم معمول هذا الباب عليه. وقرأ نافع بن أبي نعيم:» أنفسُكم «رفعاً فيما حكاه عنه صاحب» الكشاف «وهي مُشْكَلِةٌ وتخريجُها على أحد وجهين: إما الابتداء، و» عليكم «خبره مقدم عليه، والمعنى على الإِغراء أيضاً، فإن الإِغراء قد جاء بالجملة الابتدائية، ومنه قراءةُ بعضِهم {ناقةُ الله وسُقْياها} [الشمس: 13] وهذا تحذيرٌ

وهو نظيرُ الإِغراء، والثاني من الوجهين: أن تكون توكيداً للضمير المستترِ في» عليكم «لأنه كما تقدم قائمةٌ مقامَ الفعل، إلا أنه شَذَّ توكيدُه بالنفس من غير تأكيد بضمير منفصل، والمفعول على هذا محذوفٌ، تقديرُه: عليكم أنتم أنفسُكم صلاح حالكم وهدايتكم. قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ} قرأ الجمهور بضم الراء مشددة. وقرأ الحسن البصري: {لا يَضُرْكم} بضم الضاد وسكون الراء، وقرأ إبراهيم النخعي: {لا يَضِرْكم} بكسر الضاد وسكون الراء، وقرأ أبو حيوة: {لا يَضْرُرُكم} بسكون الضاد وضم الراء الأولى والثانية. فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ الفعلُ فيها مجزوماً على جواب الأمر في» عليكم «وإنما ضُمَّت الراءُ إتباعاً لضمةِ الضاد، وضمةُ الضادِ هي حركةُ الراء الأولى نُقِلَتْ للضادِ لأجلِ إدغامها في الراء بعدها، والأصل: {لا يَضْرُرْكم} ، ويجوز أن يكونَ الجزمُ لا على وجه الجواب للأمرِ، بل على وجهِ أنه نهيٌ مستأنف، والعملُ فيه ما تقدَّم، وينصُر جوازَ الجزم هنا على المعنيين المذكورَيْن من الجواب والنهي قراءةُ الحسن والنخعي فإنهما نَصٌّ في الجزم ولكنهما محتملتان للجزمِ على الجوابِ أو النهي. والوجه الثاني: أن يكونَ الفعلُ مرفوعاً وليس جواباً ولا نهياً، بل هو مستأنفٌ سِيقَ للإِخبار بذلك، وينصرُه قراءةُ أبي حيوة المتقدمة. وأمَّا قراءةُ الحسنِ فَمِنْ {ضارَه يَضُوره} كصانَه يصونه. وأما قراءة النخعي فمِنْ {ضاره يضيره} كباعة يَبيعه، والجزم فيهما على ما تقدم في قراءة العامة من الوجهين. وحَكَى أبو البقاء: «لا يَضُرَّكم» بفتح الراء، ووجهها على الجزم، وأن الفتح للتخفيف وهو واضح، والجزم على ما تقدم أيضاً من

الوجهين. وهذه كلُّها لغاتٌ قد تقدَّم التنبيهُ عليها في آل عمران. و {مَّن ضَلَّ} فاعل، و «إذا» ظرفٌ ناصبُه «يَضُرُّكم» أي: لا يَضُرَّكم الذي ضلَّ وقتَ اهتدائِكم، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ الكلام عليه. وقال أبو البقاء: «ويبعد أن تكون ظرفاً ل» ضَلَّ «لأنَّ المعنى لا يَصِحُّ معه» . قلت: لأنه يصير المعنى على نفي الضرر الحاصل مِمَّن يضل وقت اهتدائهم، فقد يُتَوَهَّم أنه لا ينفي عنهم ضرر مَنْ ضَلَّ في غيرِ وقتِ اهتدائهم، ولكنَّ هذا لا ينفي صِحَّة المعنى بالكليةِ كما ذَكَرَه.

106

قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} : هذه الآية وما بعدها من أشكلِ القرآنِ حُكْماً وإعراباً وتفسيراً، ولم يَزَلِ العلماء يستشكلونها ويَكِعَّون عنها حتى قال مكي بن أبي طالب - رحمه الله- في كتابه المسمى بالكشف: «هذه الآيةُ في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامِها من أصعب آيٍ في القرآن وأشكلِها، قال:» ويحتمل أن يُبْسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر «قال: وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد» . وقال ابن عطية: «وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها، وذلك بَيِّنٌ من كتابه» وقال السخاوي: «لم أر أحداً من العلماء تَخَلَّص كلامُه فيها من أولها إلى آخرها» . وقال الواحدي: «وهذه الآية وما بعدها من أغوص

ما في القرآن معنى وإعراباً» قلت: وأنا أستعين الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفة تأليفها مِمَّا يختصُّ بهذا الموضوع، وأمَّا بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبه في كتابي «تفسير القرآن العزيز» إنْ شاء الله، وبه الحول والقوة. قرأ الجمهور {شهادةُ بينكم} برفع «شهادة» مضافة ل «بينكم» . وقرأ الحسن والأعرج والشعبي برفعها منونة، «بينَكم» نصباً. والسلمي والحسن والأعرج - في رواية عنهما - «شهادةً» منونةً منصوبة، «بينَكم» نصباً. فأمَّا قراءة الجمهور ففي تخريجهما خمسة أوجه، أحدها: أنها مرفوعةٌ بالابتداء، وخبرُها «اثنان» ولا بد على هذا الوجهِ من حذف مضافٍ: إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني، فتقديرُه من الأول: ذوا شهادةِ بينكم اثنان، أي صاحبا شهادةِ بينكم اثنان، وتقديرُه من الثاني: شهادةُ بينِكم شهادُة اثنين، وإنما اضطررنا إلى حذفٍ من الأول أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبر على شيء واحد، لأنَّ الشهادةَ معنًى والاثنان جثتان، ولا يجيء التقديران المذكوران في نحو: «زيدٌ عدلٌ» وهما جعله نفسَ المصدر مبالغةً أو وقوعُه اسم الفاعل، لأنَّ المعنى يأباهما هنا، إلا أنَّ الواحدي نقل عن صاحب «النظم» أنه قال: «شهادة» مصدرٌ وُضِع مَوْضِع الأسماء «يريد بالشهادة الشهود، كما يقال: رجلٌ عَدْلٌ ورِضا، ورجالٌ عدلٌ ورِضا وزَوْر، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشهود كان على حذف المضاف، ويكون المعنى: عدةُ شهودٍ بينكم اثنان، واستشهد بقوله: {الحج أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] أي: وقت الحج، ولولا ذلك لنصب أشهراً على تأويل: الحج في اشهر» . قلت فعلى ظاهر أنه جَعَلَ المصدر نفسَ الشهود مبالغةً، ولذلك مَثَّله ب «رجال عدل» وفيه نظر. الثاني: أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها

محذوف يَدُلُّ عليه سياق الكلام، و «اثنان» على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو «شهادة» والتقدير: فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، كذا قَدَّره الزمخشري وهو أحد قولي الزجاج، وهو ظاهرُ جداً، و «إذا» على هذين الوجهين ظرف ل «شهادة» أي ليُشْهَد وقت حضور الموت - أي أسبابه - و «حين الوصية» على هذه الأوجه فيه ثلاثة أوجه، أوجهها: أنه بدلٌ من «إذا» ولم يذكر الزمخشري غيره، قال: «وفي إبدالِه منه دليلٌ على وجوبِ الوصية» . الثاني: أنه منصوبٌ بنفسِ الموت أي: يقع الموت وقت الوصية، ولا بُدَّ من تأويله بأسبابِ الموت؛ لأنَّ وقتَ الموت الحقيقي لا وصيةَ فيه. الثالث: انه منصوبٌ ب «حَضَر» أي: حَضَر أسبابَ الموت حين الوصية. الثالث: أنَّ «شهادةُ» مبتدأ وخبره: «إذا حضر» أي وقوعُ الشهادة في وقتِ حضور الموت/، و «حين» على ما تقدم فيه من الأوجه الثلاثة آنفاً، ولا يجوزُ فيه والحالةُ هذه أن يكونَ ظرفاً للشهادة لئلا يلزَم الإِخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صلتِه وهو لا يجوز، وقد عرفت شرح ذلك مِمَّا مَرًَّ. ولَمَّا ذكر الشيخ هذا الوجهَ لم يستدرك هذا، وهو عجيب منه. الرابع: أنَّ «شهادة» مبتدأُ، وخبرُها «حين الوصية» و «إذا» على هذا منصوبٌ بالشهادة، ولا يجوز أن ينتصِبَ بالوصية وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ المصدرَ المؤولَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريين ولو كان ظرفاً، وأيضاً فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديمِ العامل والعاملُ لا يتقدَّم فكذا معمولُه، ولم يجوِّزوا تقديمَ معمولِ المضاف إليه على

المضاف إلا في مسألة واحدة وهي: إذا كان المضافُ لفظة «غير» ، وأنشدوا: 181 - 9- إنَّ أمرأً خَصَّني عمداً مودَّتَه ... على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ ف «عندي» منصوبُ ب «مكفور» ، قالوا: لأنَّ «غير» بمنزلة «لا» ، و «لا» يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها. وقد ذكر الزمشخري ذلك آخرَ الفاتحة، وذكر أنه يجوزُ «أنا زيداً غيرُ ضارب» دون «أنا زيداً مثلُ ضارب» . و «اثنان» على هذين الوجهين الآخيرين يرتفعان على أحدِ وجهين: إمَّا الفاعليةِ أي: «يشهد اثنان» يدل عليه لفظ «شهادة» وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف مدلولٍ عليه ب «شهادة» أيضاً أي: الشاهدان اثنان. الخامس: أنَّ «شهادةُ» مبتدأ، و «اثنان» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، ذكره أبو البقاء وغيره وهو مذهبُ الفراء، إلا أنَّ افراء قَدَّر الشهادةَ واقعةً موقعَ فعلِ الأمر كأنه قال: «ليشهد اثنان» فجعله من باب نيابةِ المصدرِ عن فعل الطلب، وهو مثل «الحمدُ لله» و {قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] من حيث المعنى، وهذا مذهبٌ لبعضهم في نحو: «ضَرْبي زيداً قائماً» يَدَّعي أن الياء فاعل سَدَّتْ مسد الخبر، وهذا مذهب ضعيفٌ ردَّه النحويون، ويخصون ذلك بالوصفِ المعتمدِ على نفي أو استفهام نحو: «قام أبواك» وعلى هذا المذهب ف «إذا» و «حين» ظرفان منصوبان على ما تقرَّر فيهما في غير هذا الوجه. وقد تحصَّلْنا

فيما تقدَّم أن رفع «شهادة» من وجه واحد وهو الابتداء، وفي خبرها خمسة أوجه تقدَّم ذكرُها مفصلةً، وأنَّ رفع «اثنان» من خمسة أوجه، الأول: كونه خبراً لشهادة بالتأويل المذكور، الثاني: أنه فاعل ب «شهادة» ، الثالث: أنه فاعل ب «يشهد» مقدراً، الرابع: أنه خبر مبتدأ أي: الشاهدان اثنان. الخامس أنه فاعل سَدَّ مسدَّ الخبر. وأنَّ في «إذا» وجهين: إمَّا النصبَ على الظرفية، وإمَّا الرفعَ على الخبرية ل «شهادة» ، وكل هذا بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبل. وقراءةُ الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدم في قراءة الجمهور من غير فرق. وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وإليه ذهب ابن جني -: أنها منصوبةٌ بفعل مضمر، و «اثنان» مرفوع بذلك الفعل، والتقدير: لِيُقِمْ شهادةَ بينكم اثنان، وتبعه الزمشخري على هذا فذكره. وقد ردَّ الشيخ هذا بأن حَذْفَ الفعل وإبقاء فاعله لم يُجِزْه النحويون إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 3637] في قراءة ابن عامر وأبي بكر أي: يسبحه رجال، ومثله،: 182 - 0- ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيح الطَّوائِحُ وفيه خلافٌ: هل يُنْقاسُ أو لا؟ أو يُجاب به نفي كقوله: 182 - 1- تَجَلَّدْتُ حتى قيل: لم يَعْرُ قلبَه ... من الوجدِ شيءٌ قلتُ: بل أعظمُ الوَجْدِ

أي: بل عراه أعظمُ الوجد، أو يُجاب به استفهامٌ كقوله: 182 - 2- ألا هَلْ أتى أمَّ الحويرثِ مُرْسِلي ... نعم خالدٌ إنْ لم تُعِقْه العوائِقُ أي: بل أتاها أو يَأْتيها، وما نحن فيه ليس من الأشياء الثلاثة. الثاني: أن «شهادةً» بدل من اللفظ بفعل أي: إنها مصدر ناب مناب الفعل فيعملُ عملَه، والتقدير: لِيَشْهد اثنان، ف «اثنان» فاعل بالمصدر لنيابته منابَ الفعلِ، أو بذلك الفعلِ المحذوفِ على حَسَبِ الخلاف في أصل المسألة، وإنما قَدَّرْتُه «ليشهد اثنان» فأتيتُ به فعلاً مضارعاً مقروناً بلام الأمر، ولم أقدِّرْه فعلَ أمرٍ بصيغة «افعل» كما يُقَدَّرُه النحويون في نحو: «ضرباً زيداً» أي: اضرِبْ، لأنَّ هذا قد رَفَع ظاهراً وهو «اثنان» وصيغةُ «افعل» لا ترفع إلا ضميراً مستتراً إن كان المأمور واحداً، ومثلُه قوله: 182 - 3-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالِبِ ف «زريق» يجوز أن يكون منادى أي: يا زرق، والثاني: أنه مرفوع ب «ندلاً» على أنه واقعٌ موقع «ليندلْ» وإنما حُذِف تنوينه/ لالتقاء الساكنين على حَدِّ قوله: 182 - 4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلا قليلا الثالث: أنَّ «شهادةً» بدل من اللفظ بفعل أيضاً، إلا أنَّ هذا الفعل خبري وإن كان أقلَّ من الطلبي نحو: «حمداً وشكراً لا كفراً» و «اثنان» أيضاً فاعلٌ به تقديرُه: يشهد شهادةً

اثنان، وهذا أحسن التخاريج المذكورة في قول امرئ القيس: 182 - 5- وقوفاً بها صَحْبي عليَّ مَطِيَّهم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . «وقوفاً» مصدرٌ بدلٌ من فعل خبري رفع «صحبي» ونصب «مطيهم» تقديره: وقف صحبي، وقد تقدَّم أنَّ الفراء في قراءة الرفع قَدَّر أن «شهادة» واقعةٌ موقعَ فعل، وارتفع «اثنان» بها، وتقدم أنَّ ذلك يجوز أن يكونَ مِمَّا سَدَّ فيه الفاعل مسدَّ الخبر. و «بينكم» في قراءةِ مَنْ نوَّن «شهادة» نصبٌ على الظرف وهي واضحةٌ. وأمَّا قراءةُ الجر فيها فَمِنْ باب الاتساع في الظروف أي بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ لذلك الفعلِ، ومثلُه: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] وكقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] فيمن رفع قال الشيخ: «وقال الماتريدي - وتبعه الرازي إنَّ الأصلَ» ما بينكم «فحذف» ما «. قال الرازي:» وبينكم «كنايةٌ عن التنازع، لأنه إنما يُحتاج إلى الشهود عند التنازع، وحَذْفُ» ما «جائزٌ عند ظهورِه، ونظيرُه كقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكَمْ} في قراءة من نصب» . قال الشيخ: «وحَذْفُ» ما «الموصولة غيرُ جائز عند البصريين، ومع الإِضافة لا يَصِحُّ تقدير» ما «البتة، وليس قولُه {هذا فِرَاقُ بَيْنِي} نظيرَ {لقد تقطَّع بينكم} لأن هذا مضافٌ، وذلك باقٍ على ظرفيتِه فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ» ما «بخلاف» هذا

فراقُ بيني «و» شهادةُ بينكم «فإنه لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ» ما «لأنَّ الإِضافة أخْرَجَتْه عن الظرفية وصَيَّرَته مفعولاً به على السعة» قلت: هذا الذي نقله الشيه عنهما قاله أبو علي الجرجاني بعينه قال - رحمه الله -: «قولُه شهادةُ بينكم» أي: ما بينكم، و «ما بينكم» كناية عن التنازع والتشاجر، ثم اضاف الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحُتاج إليهم في التنازع الواقعِ فيما بين القوم، والعربُ تضيف الشيء إلى الشيء إذا كان منه بسبب كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِِ} [الرحمن: 46] أي: مقامه بين يدي ربه، والعربُ تَحْذِفُ كثيراً ذِكْرَ «ما» و «مَنْ» في الموضع الذي يُحتاج إليهما فيه كقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الإِنسان: 20] أي: ما ثَمَّ، وكقوله: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} و {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي ما بيني، وما بينكم «، وقول الشيخ» لا يُتَخَيَيَّل فيه تقدير «ما» إلى آخره «ممنوعٌ لأنَّ حالة الإِضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول المحذوف، ولا يَلْزم من ذلك أَنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى لا من حيث الإِعرابُ نظراً إلى الأصلِ، وأمَّا حَذْفُ الموصولِ فقد تقدَّم تحقيقُه. وقوله: {ذوا} صفةٌ لاثنين أي: صاحبا عدل، وكذلك قولُه» منكم «صفة أيضاً لاثنين، وقوله: {أَوْ آخَرَانِ} نسقٌ على اثنين، و» من غيركم «صفةٌ لآخَرَين والمراد ب» منكم «من قرابِتكم وعِتْرَتِكم، ومن غيركم من المسلمينَ الأجانبِ وقيل:» منكم «من أهل دينكم،» ومن غيركم «من أهل الذمة. ورجَّح النحاسُ الأولَ، فقال:» هذا يَنْبني على معنىً غامضٍ في العربية، وذلك أنَّ معنى «آخر» في العربية من جنس الأولِ تقولُ: «مررت بكريمٍ وكريم آخر» ولا يجوز «وخسيس آخرَ» ولا: «مررت بحمارٍ ورجلٍ آخرَ» ، فكذا هنا يجب أن يكون «أو آخَران» : أو عَدْلان آخران، والكفارُ لا يكونون عُدولاً.

وردَّ الشيخ ذلك فقال: «أمَّا ما ذكره من المُثُل فصحيح لأنه مَثًَّل بتأخير» آخَر «وجَعَلَه صفة لغير جنس الأول، وأمَّا الآية فمن قبيل ما يُقَدَّم فيه» آخر «على الوصف واندرج» آخر «في الجنس الذي قبلَه، ولا يُعْتَبرُ وصفُ جنس الأول، تقول:» مررتُ برجلٍ مسلمٍ وآخرَ كافرٍ، واشتريت فرساً سابقاً وآخرَ بطيئاً «ولو أخَّرْتَ» آخر «في هذين المثالين فقلت:» مررتُ برجل مسلم وكافر آخر «لم يَجُزْ، وليس الآية من هذا لأن تركيبَها» اثنان ذوا عَدْل منكم أو آخران من غيركم «ف» آخران «من جنسِ قوله» اثنان «ولا سميا إذا قَدَّرْته:» رجلان اثنان «ف» آخران «هما من جنس» رجلان اثنان «، ولا يُعتبر وصفُ قولِه:» ذوا عدل منكم «وإن كان مغايراً لقوله» من غيركم «، كما لا يُعتبر وصفُ الجنس في قولك:» عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران «، إذ ليس من شرطِ» آخر «إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بقيد وصفِه، وعلى ما ذكرته جاء لسان العرب قال الشاعر: 182 - 6- كانوا فريقين يُصْفون الزِّجاجَ على ... قُعْسِ الكواهلِ في أَشْداقِها ضَخَمُ وآخَرين تَرَى الماذِيَّ فوقَهُمُ ... مِنْ نَسْجِ داودَ او ما أَوْرَثَتْ إرَمُ التقدير: كانوا فريقين: فريقاً - أو ناساً - يُصْفون الزجاج، ثم قال: وآخرين ترى الماذِيَّ، ف «آخرين» من جنس قولك «فريقاً» ولم يعتبره بوصفه بقوله «يصفون الزجاج» لأنه قَسَّم مَنْ ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين بالجنس. قال: «وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يفهمه فضلاً عَمَّنْ يعرفه» .

وقوله: {أو} الظاهرُ أنها للتخيير، وهو واضحٌ على القول بأن معنى «من غيركم» . من غير أقاربكم من المسلمين، يعني الموصي مخيِّرٌ بين أَنْ يُشْهِد اثنين من أقاربه أو من الأجانبِ المسلمين، وقيل: «أو» للترتيب أي: لا يُعْدَلُ عن شاهدَيْن منكم إلا عند فَقْدِهما، وهذا لايجيء إلا إذا قلنا «من غيركم» : من غير أهل مِلَّتكم. قوله: {إِنْ أَنتُمْ} «أنتم» مرفوعٌ محذوفٍ يفسِّره ما بعده وهي مسألة الاشتغال، والتقديرُ: إنْ ضَرَبْتُم، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ، وهذا مذهبُ جمهور البصريين، وذهب الأخفشُ منهم والكوفيون إلى جواز وقوعِ المبتدأ بعد «إنْ» الشرطية كما أجازوه بعد «إذا» أيضاً، ف «ضربتم» لا محلَّ له عند الجمهور لكونه مفسِّراً، ومحلُّه الرفعُ عند الكوفيين والأخفش لكونه خبراً، ونحوُه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} [التوبة: 6] ، {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] . وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدل عليه قوله تعالى: {اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ} ولكنَّ تقديرَ هذا الجوابِ يتوقف على خلافٍ في هذا الشرط: هل هو قيدٌ في أصلِ الشهادة أو قيدٌ في «آخران مِنْ غيركم» فقط؟ بمعنى أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة على الوصية إلى أهلِ الذمةِ إلا بشرطِ الضربِ في الأرض وهو السفر. فإن قيل: هو شرطٌ في أصلِ الشهادةِ فتقديرُ الجوابِ: إنْ ضَرَبْتُم في الأرضِ فليشهد اثنانِ منكم أو مِنْ غيركم، وإنْ كان شَرَطاً في العدول إلى آخَرَين من غير الملَّة فالتقدير: فأشْهِدُوا آخَرَيْن من غيركم، أو فالشاهد آخران من غيركم، فقد ظهر انَّ الدالَّ على جواب الشرط:

إمَّا مجموعُ قوله: «اثنان ذوا عدل إلى آخره» على القولِ الأول، وإمَّا «أو آخران من غيركم» فقط على القولِ الثاني. والفاء في «فأصابتكم» عاطفةٌ هذه الجملةَ على نفس الشرط، وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا} فيه وجهان: أحدُهما: أنها في محلِّ رفع صفةَ ل «آخران» وعلى هذا فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفِها، فإنَّ قوله «تَحْبسونهما» صفةٌ لقوله «آخران» وإلى هذا ذهب الفارسي ومكي بن أبي طالب والحوفي وأبو البقاء وابن عطية وقد أوضح الفارسي ذلك بعبارةٍ خاصةٍ فقال: «تحبسونهما صفةُ ل» آخران «واعترض بقوله: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} وأفاد الاعتراضُ أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة أو القرابة حَسَبَ اختلاف العلماء فيه إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه، واستغنى عن جواب» إنْ «لِما تقدَّم في قولِه» آخران من غيركم «قلت: فقد ظهر من كلامه أن يجعلُ الشرطَ قيداً في» آخران من غيركم «فقط لا قيداً في أصل الشهادة، فتقديرُ الجوابِ على رأيه كما تقدم:» فاستشهدوا آخَرَين من غيركم «أو» فالشاهدان آخران من غيركم «. والثاني: أنه لا محلَّ له لاستئنافِه، وإليه ذهب الزمخشري قال: «فإنْ قلت: ما موقعُ قولِه: {تَحْبِسُونَهُمَا} ؟ قلت: هو استئناف كلام، كأنه قيل: بعد اشتراطِ العدالة فيهما: فكيف نعمل إنْ ارتَبْنا فيهما؟ فقيل: تَحْبِسونهما» . وهذا الذي ذكرَه أبو القاسم أوفقُ للصناعة؛ لأنه يلزمُ في الأولِ الفصلُ بكلام

طويل بين الصفةِ وموصوفِها، وقال: «اشتراطِ العدالة» بناءً على مختاره في قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: أو عَدْلان من الأجانب. قال الشيخ: «في قوله:» إن أنتم ضربتم «إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، إذ لو جَرَى على لفظ» إذا حضَر أحدَكم الموتُ «لكان التركيب: إن هو ضرب في الأرض فاصابته، وإنما جاء الالتفات جمعاً لأنَّ» أحكم «معناه: إذا حضر كلَّ واحد منكم الموتُ» . وفيه نظرٌ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطاب الأول من قوله: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى آخره. وقال ابن عباس: «في الكلامِ حذفٌ تقديرُه: فأصابتكم مصيبةُ الموت وقد أشهدتموهما على الإِيصاءِ» . وعن سعيد بن جبير: تقديره «وقد أوصيتم» . قال بعضُهم: «هذا أَوْلى لأنَّ الوصِيَّ يحلف والشاهدَ لا يَحْلِفُ» . والخطابُ في «تحبسونهما» لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خوطب بإصابتِه الموتَ لأنه يتعذَّر ذلك فيه. و «من بعد» متعلق ب «تحبسونهما» ومعنى الحَبْسِ: المنعُ، يقال: حَبَسْتُ وأَحَبَسْتُ فرسي في سبيل الله فهو مُحْبَسٌ وحبيس. ويقال لمصنعِ الماءِ: «حَبَسْ» لأنه يمنعه، ويقال: «حَبَّست» بالتشديد ايضاً بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير في الفعل نحو: «حَبَّسْتُ الرجال» والأف واللام في «الصلاة» فيها قولان، أحدهما: أنها للجنس أي: بعد أيِّ صلاة كانت. والثاني - وهو الظاهر- أنها للعهد، فقيل: العصر، وقيل غيرُ ذلك. قوله: {فَيُقْسِمَانِ} في هذه الفاء وجهان، أظهرهما: انها عاطفة هذه الجملةَ على جملةِ قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا} فتكون في محل رفع، أو لا محلَّ لها حَسْبما تقدَّم من الخلاف. والثاني: فاءُ الجزاءِ أي: جوابُ شرطٍ مقدرٍ.

قال الفارسي: «وإنْ شئتَ لم تَجْعَلِ الفاءَ لعطفِ جملة، بل تجعلُه جزاءً كقوله ذي الرمة: 182 - 7- وإنسانٌ عيني يَحْسِر الماءُ تارةً ... فيبدو، وتاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ تقديرُه عندهم: إذا حَسَرَ بدا، وكذا في الآية: إذا حَبَسْتموهما أقسما. وقال مكي نحوه، فإنه قال: و» يجوزُ اَنْ تكونَ الفاءُ جوابَ جزاءٍ لأن «تحسبونهما» معناه الأمر بذلك، وهو جواب الأمر الذي دلَّ عليه الكلامُ كأنه قل: إذا حبستموهما أَقْسَما «قلت: ولا حاجةَ داعية إلى شيء من تقديرِ شرطٍ محذوفٍ، وأيضاً فإنه يحوج إلى حذفِ مبتدأ قبل قولِه {فَيُقْسِمَانِ} أي: فهما يُقْسمان، وأيضاً ف» إنْ تحبسوهما «تقدَّم أنها صفةٌ فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر، والطلب لا يقع وصفاً؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليّ فَخَرَّجَه النحويون على ان» يَحْسِر الماءُ تارة «جملةٌ خبرية، وهي إن لم يكن فيها رابط فقد عُطِف عليها جملةٌ فيها رابط بالفاء السببية، وفاءُ السببية جَعَلَتِ الجملتين شيئاً واحداً. و» بالله «متعلِّقٌ بفعلِ القسم، وقد تقدَّم أنه لا يجوز إظهار فعل القسمِ إلا معها لأنها أمُّ. الباب. وقوله: {لاَ نَشْتَرِي بِهِ} جواب القسمِ المضمرِ في» يُقْسِمان «فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به. وقوله: {إِنِ ارتبتم} شرطٌ/ وجوابُه محذوفٌ تقديرُه: إن ارتبتم فيهما فحلِّفوهما، وهذا الشرط وجوابُه المقدَّرُ معترضٌ بين القسمِ وجوابِه، وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ وقسمٌ فأُجيب سابقُهما،

وحُذِفَ جوابُ الآخرِ لدلالةِ جوابه عليه؛ لأنَّ تلكَ المسألةَ شرطُها أن يكونَ جوابُ القسمِ صالحاً لأن يكون جوابَ الشرط حتى يَسُدَّ مسدَّ جوابه نحو:» واللهِ إن تقم لأكرمنَّك «لأنك لو قَدَّرْتَ» إن تقم أكرمتك «صَحَّ، وهنا لا يُقَدَّر جوابُ الشرط ما هو جوابٌ للقسم، بل يُقَدَّر جوابُه قِسْماً برأسِه، ألا ترى أنَّ تقديره هنا:» إن ارتبتم حَلِّفوهما «ولو قَدًّرْته: إن ارتبتم فلا نشتري لم يَصِحَّ، فقد اتفق هنا أنه اجتمع شرطٌ وقسمٌ وقد أُجيب سابقهما، وحُذِفَ جواب الآخر وليس من تيك القاعدةِ. وقال الجرجان:» إنَّ ثم قولاً محذوفاً تقديرُه يٌقْسِمان بالله ويقولان هذا القولَ في أيمانِهما، والعرب تُضْمِرُ القولَ كثيراً، كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 2324] أي: يقولون سلام عليكم «. ولا أدري ما حمله على إضمارِ هذا القولِ؟ قوله:» به «في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ، إحدُهما: أنها تعودُ على الله تعالى الثاني: أنها تعودُ على القسمِ. الثالث: - وهو قول أبي علي - أنها تعودُ على تحريفِ الشهادةِ، وهذا قَويٌّ من حيث المعنى. وقال أبو البقاء» تعودُ على اللهِ أو القسمِ أو الحَلْفِ أو اليمينِ أو تحريفِ الشهادةِ أو على الشهادِة لأنها قولٌ. قلت: قوله «أو الحَلْف أو اليمين» لا فائدةٌ فيه إذ هما شيءٌ واحدٌ، وكذلك قولُ مَنْ قال: إنه تعودُ على الله تعالى، لا بد أن يقدِّر مضافاً محذوفاً أي: لا نشتري بيمينِ الله أو قسمِه ونحوِه، لأن الذاتَ المقدسة لا يُقال فيها ذلك. وقال مكي: «وقيل: الهاءُ تعودُ على الشهادة لكن ذُكِّرَتْ لأنها قولُ كما قال: {فارزقوهم مِّنْهُ} [النساء: 8] فردَّ الهاءَ على المقسومِ لدلالة القسمة على

ذلك» . والاشتراءُ هنا هل باقٍ على حقيقتِه أو يُراد به البيع؟ قولان، أظهرُهما الأولُ، وبيانُ ذلك مبنيٌّ على نصبِ «ثمناً» وهو منصوبٌ على المفعولية، قال الفارسيّ: وتقديره: لا نشتري به ذا ثمن، ألا ترى انَّ الثمن لا يُشْترى، وإنما يُشْترى ذو الثمن، قال: «وليس الاشراءُ هنا بمعنى البيع وإنْ جاء لغةً، لأنَّ البيعَ إبعادٌ عن البائعِ، وليس المعنى عليه، إنما معناه التمسُّكُ به والإِيثارُ له على الحقِّ» . وقد نَقَل الشيخُ هذا الكلامَ بعينِه ولم يَعْزُه لأبي علي. وقال مكي: «معناه ذا ثمن، لأنَّ الثمن لا يُشْترى، وإنما يُشْتَرى ذو الثمن، وهو كقوله: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً} [التوبة: 9] أي ذا ثمن» . وقال غيرُه: «إنه لا يَحْتاج إلى حذف مضاف» قال أبو البقاء: «ولا حَذْفَ فيه لأنَّ الثمنَ يُشْترى كما يُشْتَرَى به، وقيل: التقدير: ذا ثمن» ، وقال بعضُهم: «لا نَشْتري: لا نبيعُ بعهدِ الله بغرضٍ ناخذُه، كقولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] ، فمعنى {لاَ نَشْتَرِي بِهِ} لا نأخذُ ولا نستبدِلُ، ومَنْ باع شيئاً فقد اشترى، ومعنى الآية: لا نأخذُ بعهدِ الله ثمناً بأن نبيعَه بعَرَضٍ من الدنيا. قال الواحدي:» ويُستغنى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي علي، وهذا معنى قولِ القتيبي والجرجاني «. قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قولِه: {أَوَلَوْ كَانَ

آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [الآية: 170] في البقرة من أنها يحتمل أن يقال عاطفةٌ أو حاليةٌ، وانَّ جملةَ الامتناعِ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ مقدرةٍ كقوله:» أعطُوا السائلَ ولو على فَرَسٍ «فكذا هنا تقديرُه: لا نَشْتري به ثمناً في كل حال ولو كانَ الحالُ كذا، واسمُ» كان «مضمرٌ فيها يعودُ على المشهودِ له: أي: ولو كانَ المشهودُ له ذا قرابةٍ. قوله: {وَلاَ نَكْتُمُ} الجمهورُ على رفعِ ميم» نكتُم «على أنَّ» لا «نافية، والجملةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: - وهو الظاهرُ- كونُها نسقاً على جواب القسمِ فتكونُ ايضاً مقسماً عليها. والثاني: أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتُمون الشهادة، ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشعبي:» ولا نَكْتُمْ «على النهي، وهذه القراءةُ جاءت على القليل من حيث إنَّ دخولَ» لا «الناهية على فعلِ المتكلم قليلٌ، ومنه. 182 - 8- إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ ... بها أبداً ما دامَ فيها الجَراضِمُ والجمهورُ على «شهادة الله» بالإِضافة، وهي مفعولٌ بها، وأُضيفت إليه تعالى لأنه هو الآمرُ بها وبحفظِها وأَنْ لا تُكْتَمَ ولا تُضَيِّعَ. وقرأ عليُّ أميرُ المؤمنين ونعيم بن ميسرة والشعبي في رواية: «شهادة الله» بتنوين شهادة ونصبِها ونصبِ الجلالة، وهي واضحةٌ، ف «شهادة» مفعول ثان، والجلالةُ نصبٌ على التعظيمِ وهي الأول. والأصلُ: ولا نكتُم اللهَ شهادةً، وهو كقولِه: {

وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] وإنما قُدَِّمَتْ هنا للاهتمامِ بها، فإنها المحدِّثُ عنها. وفيها وجهٌ ثانٍ - نقله الزهراوي - وهو أن تكون الجلالةُ نصباً على إسقاطِ حرفِ القسم، والتقديرُ: ولا نكتمُ شهادةً واللهِ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر نُصِب المقسُم به، ولا حاجةَ إليه لأنه يَسْتدعي حذفَ المفعولِ الأولِ للكتمان، أي: ولا نكتمُ أحداً شهادةً والله، وفيه تكلفٌ، وإليه ذهبَ أبو البقاء أيضاً قال: «على أنه منصوبٌ بفعلِ القسم محذوفاً» . وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين والسلمي والحسن البصري: «شهادةً» بالتنوين والنصب، «الله» بمدِّ الألفِ التي للاستفهام دَخَلَتْ للتقرير وتوقيف نفوسِ الحالفين، وهي عوضٌ من حرفِ القسمِ المقدَّرِ، وهل الجرُّ بها أم بالحرف المحذوف خلافٌ؟ وقرأ الشعبي في رواية وغيره: «شهادة» بالهاء ويقف عليها، ثم يَبْتدئ «آللهِ» بقطع همزة الوصل وبمدِّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدم، وجَرِّ الجلالة، وهمزةً القطعِ تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة، تقول: «يا زيدُ آللهِ لأفعلن» ، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ثلاثةٌ: ألفُ الاستفهامِ وقطعُ همزةِ الوصلِ وها التي لتنبيه، نحو: «ها اللَّهِ» ويجوزُ مع «ها» قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها. وهل الجرُّ بالحرف المقدر أو بالعوض؟ تقدَّم أنَّ فيه خلافاً، ولو قال قائل: إن قولَهم «أللهِ لأفعلنَّ» بالجر وقطع الهمزة بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قولُه. فإن قيل: همزةُ الاستفهام إذا دخلت على همزة الوصل التي مع لام التعريف أو ايمن في القسم وجب ثبوت همزة الوصل، وحينئذ إمَّا: أَنْ تُسَهَّلَ وإمَّا أَنْ تُبْدَلَ الفاً، وهذه لم تَثْبُتْ بعدَها همزةُ وصل فتعيَّن أن تكونَ همزةَ وصل قُطِعَتْ عوضاً عن حرف القسم. فالجواب: أنهم إنما أَبْدلوا ألفَ

الوصلِ أو سَهَّلوها بعد همزةِ الاستفهام فرقاً بين الاستفهام والخبر، وهنا اللَّبْسُ مأمونٌ فإنَّ الجر في الجلالة يؤذن بذلك فلا حاجةَ إلى بقاءِ همزةِ الوصلِ مُبْدَلةً أو مُسَهَّلَةً، فعلى هذا قراءة: الله وآلله بالقصر والمد تحتمل الاستفهامَ، وهو تخريجٌ حسن. قال ابن جني في هذه القراءة: «الوقفُ على» شهادة «بسكون الهاء واستئنافُ القسم، حسن، لأنَّ استئنافَه في أولِ الكلام أَوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً مِنْ يدخُلَ في عَرَضِ القول» ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني ألله بقطع الألفِ من غير مَدِّ وجرِ الجلالة - عن أبي بكر عن عاصم وقرئ: شهادةً اللهِ «بنصب الشهادة منونة وجر الجلالة موصولة الهمزةِ، على أن الجر بحرفِ القسمِ المقدِّرِ من غير عوضٍ منه بقطعٍ ولا همزةِ استفهام، وهو مختصٌّ بذلك. وقوله تعالى: {إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين} هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها استئنافيةٌ، أخبروا عن أنفسِهم بأنهم من الآثمين إنْ كتموا الشهادة، ولذلك أتوا ب» إذَنْ «المؤذنة بالجزاء والجواب. وقرأ الجمهور: {لمن الآثمين} من غير نقل ولا إدغام. وقرأ ابن محيصن والأعمش: {لَمِلاَّثِمين} بإدغام نون» من «في لام التعريف بعد أن نقل إليها حركة الهمزة في» آثمين «فاعتدَّ بحركة النقل فأدغم، وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ: {عَاداً الأولى} بالإِدغام، وهناك إن شاء الله يأتي تحقيق ذلك وبه القوة.

107

قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ} : مبني للمفعول، والقائمُ مقامَ فاعِله الجارُّ بعدَه، أي: فإنِ اطُّلِعَ على استحقاقِهما الإِثمَ يقال: [عَثَر الرجلُ

يعثُر] عُثوراً: إذا هَجَم على شيء لم يَطَّلِعْ عليه غيرُه، وأعثرتُه على كذا: أطلعتُه عليه، ومنه قولُه تعالى: {أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] . قال أهلُ اللغة: «وأصلُه من» عَثْرة الرجل «وهي الوقوع، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُر بشي كان لا يَراه، فإن عَثَر به اطِّلع عليه ونَظَر ما هو، فقيل لكل أمر كان خَفِيّاً ثم اطُّلِع عليه:» عُثِر عليه «وقال الليث:» عَثَر يَعْثُر عُثوراً هجم على أمرٍ لم يهجم عليه غيرُه، وعَثَر يَعْثُر عَثْرَةً وقع على شيء، ففرَّق بين الفعلين بمصدريهما. وفَرَّق أبو البقاء بينهما بغير ذلك فقال: «عَثَر مصدرُه العُثور، ومعناه اطَّلع، فأمَّا» عَثَر «في مَشْيِة ومنطقه ورأيه فالعِثارُ» والراغب جَعَل المصدرين على حَدِّ سواء فإنه قال: «عَثَر الرجلُ بالشيء يَعْثُر عُثوراً وعِيثاراً: إذا سَقَط عليه، ويُتَجَوًَّزُ به فيمن يَطِّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه، يقال:» عَثَرْتُ على كذا «وقوله: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] أي: وَقَّفْناهم عليهم من غير أَنْ طَلَبوا» . قوله تعالى: {فَآخَرَانِ} فيه أربعةُ أوجه، [الأول] : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره: فالشاهدان آخران، والفاء جواب الشرط، دَخَلَتْ على الجملة الاسمية، والجملةُ من قوله: {يقومان} محلِّ رفعٍ صفةً ل آخران. الثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: فليشهد آخران، ذكره مكي وأبو البقاء وقد تَقَدَّم أن الفعلَ لا يُحْذَفُ وحدَه إلا في مواضعَ ذكرتُها عند قوله: {حِينَ الوصية اثنان} [المائدة: 106] . الثالث: أنه خبرٌ مقدم، و «الأَوْلَيان» مبتدأٌ

مؤخرٌ، والتقدير: فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران يَقُومان مقامَهان ذكر ذلك أبو عليّ. قال: «ويكونُ كقولك:» تميمي أنا «الرابع: أنه متبدأٌ، وفي الخبرِ حينئذٍ احتمالات، أحدُها: قولُه: {مِنَ الذين استحق} وجاز الابتداءُ به لتخصُّصِه بالوصف وهو الجملة من» يَقُومان «، والثاني: أنَّ الخبرَ» يَقُومان «و» من الذين استحَقَّ «صفةُ المتبدأ، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به اعتمادُه على فاءِ الجزاء. وقال أبو البقاء لَمَّا حَكَى رفعَه بالابتداء:» وجازَ الابتداءَ هنا بالنكرةِ لحصولِ «الفائدةِ» فإنْ عَنَى أنَّ المسوِّغَ مجردُ الفائدةِ من غيرِ اعتبارِ مسوِّغٍ من المُسَوِّغات التي ذكرتُها فغيرُ مُسَلَّم الثالث: أنَّ الخبرَ قولُه: «الأَوْليَان» نقله أبو البقاء، وقوله «يَقُومان» و «مِن الذين استَحَقَّ» كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً ل «آخران» ويجوزُ ان يكونَ أحدُهما صفةً والآخرُ حالاً، وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالوصفِ. وفي هذا الوجهِ ضعفٌ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ المعرفةَ محدِّثاً عنها والنكرةَ حديثاً، وعكسُ ذلك قليلٌ جداً أو ضرروةٌ كقوله: 182 - 9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكونُ مزاجَها عسلٌ وماءُ [وكقوله] : 183 - 0- وإنَّ حراماً أَنْ أسُبَّ مجاشِعاً ... بآبائي الشمِّ الكرامِ الخَضارمِ

وقد فَهِمْتَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملةَ من قوله «يقومان» والجارَّ من قوله: {مِنَ الَّذينَ} : إمَّا مرفوعٌ المحلِّ صفةً ل «آخَران» أو خبرٌ عنه، وإمَّا منصوبة على الحالِ: إمَّا من نفس «آخران» ، أو مِنَ الضمير المستكنِّ في «آخران» ويجوزُ في قولِه {مِنَ الذين} أَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ «يَقُومان» . قوله: {استحق} قرأ الجمهورُ: «استُحِقَّ» مبنياً للمفعول، «الأَوْليان» رفعاً، وحفص عن عاصم: «اسْتَحَقَّ» مبنياً للفاعل، «الأوليان» كالجماعة، وهي قراءة عبد الله بن عباس وأمير المؤمنين علي رضي الله عنهم، ورُوِيَتْ عن ابن كثير أيضاً، وحمزة وأبو بكر عن عاصم: «استُحِقَّ» مبنياً للمفعول كالجماعة، «الأَوَّلِين» جمعَ «أَوَّل» جمعَ المذكرِ السالم، والحسن البصري: «اسْتَحَقَّ» مبنياً للفاعل، «الأوَّلان» مرفوعاً تثنية «أَوَّل» وابن سيرين كالجماعة، إلا أنه نصب الأوْلَيَيْن تثنيةَ «أَوْلى» وقرئ: «الأَوْلَيْنَ» بسكون الواو وفتح اللام وهو جمع «أَوْلى» كالأعلَيْنَ في جمعِ «أَعْلى» ولما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الموضوع: قال: «هذا موضع من أصعب ما في القرآن إعراباً» قلت: ولَعَمْري إنّ القول ما قالت حَذامِ، فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسنَ تلخيصٍ، ولا بد من ذِكْرِ شيءٍ من معاني الآية لنستضيء به على الإِعراب فإنه خادِمٌ لها. فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فرفُع «الأَوْلَيان» فيها من اوجه، أحدها: أنه مبتدأ، وخبره «آخران» تقديره: فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران، وقد تقدَّم شرحُ هذا. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هما الأَوْلَيان، كأنَّ سائلاً سأل فقال: «مَنِ الآخران» ؟ فقيل: هما الأَوْلَيان. الثالث: أنه بدلٌ من «آخران» وهو بدلٌ في

معنى البيان للمبدلِ منه، نحو: «جاء زيدٌ أخوك» وهذا عندهمْ ضعيفٌ لأنَّ الإِبدالَ بالمشتقاتِ يَقِلُّ. الرابع: أنه عطفُ بيان ل «آخران» بَيَّن الآخَرَيْن بالأَوْلَيَيْنِ. فإن قلت: شرطُ عطفِ البيان أن يكونَ التابعُ والمتبوعُ متفقين في التعرفِ والتنكيرِ، على أنَّ الجمهورَ على عدمِ جريانِه في النكرةِ خلافاً أبي علي، و «آخران» نكرةٌ، و «الأَوْلَيَان» معرفةٌ. قلت: هذا سؤال صحيح، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ ويلزم الزمخشريَّ جوازُه: أمَّا الأخفش فإنه يُجيز اَنْ يكونَ «الأَوْلَيان» صفةً ل «آخران» بما سأقرره عنه عند تعرُّضي لهذا الوجهِ، والنعت المنعوت يُشترط فيهما التوافقُ، فإذا جاز في النعت فَلْيَجُزْ فيما هو شبيه به، إذ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت. وأمَّا الزمخشري فإنه لا يشترط ذلك - أعني التوافق - وقد نَصَّ هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [الآية: 97] عطفُ بيان لقوله {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} و {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} نكرةٌ لكنها لَم‍َّا تخصَّصَتْ بالوصفِ قَرُبَتْ من المعرفة، كما قَدَّمْتُه عنه في موضعِه، وكذا «آخَران» قد وُصِف بصفتين فَقَرُب من المعرفة أشدَّ من «آياتٌ بيناتٌ» من حيث وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة. الخامس: أنه بدلٌ من فاعلِ «يَقُومان» . السادس: أنه صفةٌ ل «آخران» ، أجازَ ذلك الأخفشُ قال أبو عليّ: «وأجازَ أبو الحسن فيها شيئاً آخرَ، وهو أن يكونَ» الأَوْلَيان «صفةً ل» آخران «لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّص، فَمِنْ أجلِ وصفِه وتخصيصِه وُصِفَ بوصف المعارف» قال الشيخ: «وهذا ضعيفٌ لاستلزامِه هَدْمَ ما كادوا أن

يُجْمعوا عليه من أنَّ النكرةَ لا تُوصف بالمعرفةِ، ولا العكسِ» قلت: لا شكَّ أنَّ تخالفَهما في التعريفِ والتنكيرِ ضعيفٌ، وقد ارتكبوا ذلك في مواضعَ، فمنها محكاه الخليل: «مَرَرْتُ بالرجلِ خيرٍ منك» في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ ومنها {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] على القولِ بأنَّ «غير» صفةُ «الذين أنعمت عليهم» وقوله: 183 - 1- ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمًّتَ قُلْتُ لا يَعْنيني وقولُه تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] ، على أنَّ «يَسُبُّني» و «نَسْلَخُ» صفتان لِما قبلَها فإنَّ الجملَ نكراتٌ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه، فإنها تُؤَوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة، وما نحن فيه جعلنا النكرةَ فيه كالمعرفةِ، إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ، ويجوز أن يكون ما نحن فيه من هذه المُثُلِ باعتبار أنَّ «الأَوْلَيَيْنِ» لَمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان قَرُبا من النكرةِ فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي، فصار في ذلك مسوِّغان: قربُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ، وقربُ المعرفةِ من النكرة بالإِبهام، ويدلُّ لِما قلتُه ما قال أبو البقاء: «والخامسُ أن يكون صفة ل» آخران «لأنه وإنْ كان نكرةً قد وُصِفَ والأَوْلَيان لم يَقْصِدْ بهما قصدَ اثنين بأعيانِهما» . السابع: أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ب «استُحِقَّ» إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا قَدَّره قبلَه مضافاً محذوفاً. واختلفت تقديراتُ المُعْرِبين، فقال:

مكي: «تقديرُه: استُحِقَ عليهم إثمُ الأَوْلَيَيْن» وكذا أبو البقاء وقد سبَقَهما إلى هذا التقديرِ ابنُ جرير الطبري وقَدَّره الزمخشري فقال: «مِن الذين استُحِقَّ عليهم انتداب الأَوْلَيَيْن منهم للشهادةِ لاطِّلاعِهم على حقيقةِ الحال» ، ومِمَّن ذهبَ إلى ارتفاع «الأَوْلَيَيْنِ» ب «استُحِقَّ» أبو علي الفارسي ثم منَعه، قال: «لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنما يكون الوصية أو شيئاً منها، وأمَّا الأَوْلَيان بالميتِ فلا يجوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّا فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما» قلت: إنما منع أبو عليّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ فإنَّ الأَوْلَيَيْنِ لم يستحقَهما أحدٌ كما ذكر، ولكنْ يجوزُ أَنْ يُسْنَدَ «استُحِقَّ» إليهما بتأويلِ حذفِ المضافِ المتقدم. وهذا الذي منعه الفارسي ظاهراً هو الذي حَمَل الناسَ على إضمار ذلك المضافِ، وتقديرُه الزمخشري ب «انتداب الأوليين» أحسنُ من تقدير غيرِه، فإنَ المعنى يُساعِدُه، وأمَّا إضمارُ «الإِثم» فلا يَظْهر أصلاً إلا بتأويل بعيدٍ. وأجازَ ابن عطية أن يرتفعَ «الأَوْلَيان» ب «استُحِقَّ» أيضاً، ولكنْ ظاهرُ عبارتِه أنه لم يُقَدِّر مضافاً فإنه استشعر باستشكالِ الفارسي المتقدم فاحتالَ في الجوابِ عنه وهذا نَصُّه، قال ما ملخصُه: إنه «حُمِل» استُحِقَّ «هنا على الاستعارة فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً لقوله: {استحقآ إِثْماً} وإنما معناه أنَهم غَلَبوا على المالِ بحكمِ انفرادِ هذا الميت وعدمِه لقرابته أو أهلِ دينهِ فَجَعَل تسوُّرَهم عليه استحقاقاً مجازاً، والمعنى: من الجماعة التي غابت وكان مِنْ حَقِّها أَنْ تُحْضِرَ وليِّها، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصي استحقَت هذه

الحال، وهذان الشاهدان من غير أهل الدين والولاية وأَمْرِ الأَوْلَيَيْنِ على هذه الجماعة، فبُنِي الفعلُ للمفعولِ على هذا المعنى إيجازاً، ويُقَوِّي هذا الفرضَ تعدِّي الفعلِ ب» على «لَمَّا كان باقتدارٍ وحَمْلٍ هَيَّأَتْه الحالُ، ولا يُقال: استحَقَّ منه أو فيه إلا في الاستحقاقِ الحقيقي على وجههِ، وأمَّا» استحَقَّ عليه «فبالحملِ والغلَبِة والاستحقاقِ المستعارِ» انتهى، فقد أسند «استحق» إلى الأوْليان «من غيرِ تقديرِ مضافٍ متأوِّلاً له بما ذَكَر، واحتملتُ طولَ عبارتِه لتتَّضحَ. واعلم أنَّ مرفوعَ» استُحِقَّ «في الأوجهِ المتقدِّمة - أعني غير هذا الوجهِ وهو إسنادُه إلى» الأَوْلَيان «- ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أوسياقاً، واختلفت عباراتُهم، فيه، فقال الفارسي والحوفي وأبو البقاء والزمخشري: أنه ضميرُ الإِثم، والإِثمُ قد تقدَّم في قوله: {استحقآ إِثْماً} وقال الفارسي والحوفي ايضاً:» استحق هو الإِيصاءُ أو الوصيةُ «قالت: إضمارُ الوصية مُشْكِلٌ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ إلى ضميرِ المؤنثِ مطلقاً وَجَبَتِ التاءُ إلا في ضرورة، ويونس لا يَخُصُّه بها، ولا جائز أَنْ يقال أَضْمرا لفظَ الوصية لأنَّ ذلك حُذِفَ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ. وقال النحاس مستحسناً لإِضمارِ الإِيصاء:» وهذا أحسنُ ما قيل فيه؛ لأنه لم يُجْعل حرفٌ بدلاً من حرفٍ «يعني أنه لا يقولُ إنَّ» على «بمعنى» في «، ولا بمعنى» مِنْ «كما قيل بهما، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وقد جَمَع الزمخشري غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإِعرابِ والمعنى بأوجزِ عبارةٍ فقال: «ف» آخران «أي: فشاهدان آخَران يَقُومان مقامَهما من الذين

استُحِقَّ عليهم أي: [من الذين] استُحِقَّ عليهم الإِثمُ، ومعناه: من الذين جُنِي عليهم وهم أهلُ الميتِ وعشيرتُه والأَوْلَيان الأَحقَّان بالشهادة لقرابتِهما ومعرفتِهما، وارتفاعُهما على:» هما الأَوْلَيان «كأنه قيل: ومَنْ هما؟ فقيل: والأَوْلَيان، وقيل: هما بدلٌ من الضميرِ في» يَقُومان «أو من» آخران «ويجوزُ أَنْ يرتفِعَا ب» استُحِقَّ «أي: من الذين استُحِقَّ عليهم انتدابُ الأَوْلَيَيْنِ منهم للشهادة لاطّلاعهم على حقيقة الحال» . وقوله {عَلَيْهِمُ} : في «على» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها على بابها، قال ابو البقاء: «كقولك:» وَجَبَ عليه الاثمُ «وقد تقدَّم عن النحاس أنه لَمَّا أَضْمر الإِيصاء بَقَّاها على بابها، واستحسن ذلك. والثاني: أنها بمعنى» في «أي: استُحِقَّ فيهم الإِثمُ فوقَعَتْ» على «موقعَ» في «كما تقعُ» في «موقعَها كقوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي: على جذوعِ، وكقولِه: 183 - 2- بَطَلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعالَ السِّبْتِ ليس بتوءمِ أي: على سَرْحةٍ. وقَدَّره أبو البقاء فقال:» أي استُحِقَّ فيهم الوصية «والثالث: أنها بمعنى» من «أي: استُحِقَّ منهم الإِثمُ، ومثلُه قولُه تعالى: {إِذَا

اكتالوا عَلَى الناس} [المطففين: 2] أي: من الناسِ. وقَدَّره أبو البقاء فقال:» اي استُحِقَّ منهما الأوْلَيان، فحين جَعَلها بمعنى «في» قَدَّر «استُحِقَّ» مسنداً للوصية، وحين جعلها بمعنى «من» قَدَّره مُسْنداً ل «الأَوْلَيان» وكان لَمَّا ذَكَر القائمَ مقامَ الفاعلِ لم يذكر إلا ضميرَ الإِثم والأوليان. وأجاز بعضُهم أَنْ يُسْندَ «استُحِقَّ» إلى ضمير المال أي: استُحِقَّ عليهم المالُ الموروث، وهو قريبٌ. فقد تقرَّر أنَّ في مرفوع «استُحِقَّ خمسةَ أوجه، أحدُها:» الأَوْلَيان «، الثاني: ضميرُ الإِيصاء، الثالث: ضيرُ الوصية، وهو في المعنى كالذي قبلَه وتقدَّم إشكالُه، الرابع: أنه ضميرُ الإِثمِ، الخامس: انه ضميرُ المال، ولم أَرَهم أجازوا أن يكونَ» عليهم «هو القائمَ مقامَ الفاعلِ نحو: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً. وأمَّا قراءةُ حفص ف {الأَوْلَيان} مرفوعٌ ب» استُحَقَّ «ومفعولُه محذوفٌ، قَدَّره بعضهم» وصيتَهما «وقَدَّره الزمخشري ب» أن يجرِّدوهما للقيام بالشهادة «فإنه قال:» معناه من الورثة الذين استَحَقَّ عليهم الأَوْلَيان من بينهم بالشهادة أن يُجَرِّدوهما للقيام بالشهادة، ويُظْهِروا بها كذبَ الكاذبين «وقال ابنُ عطية:» الأَوْلَيان «رفعٌ ب» اسَتَحَقَّ «وذلك أن يكون المعنى: من الذين استَحَقَّ عليهم مالَهم وتَرِكَتهم شاهدا الزور فسُمِّيا أَوْلَيَيْنِ أي: صَيَّرهما عدمُ الناس أَوْلَيَيْنِ بالميتِ وتَرِكَتِه فخانا وجارا فيها، أو يكونُ المعنى: مِن الذين حَقَّ

عليهم أَنْ يكونَ الأَوْلَيان منهم، فاستَحَقَّ بمعنى حَقَّ كاستعجب وعجب، أو يكون استحقَّ بمعنى سعى واستوجب فالمعنى: من القوم الذين حَضَر أَوْلَيان منهم فاستَحَقَّا عليهم أي: استحقا لهم وسَعَيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقُرْبانهما» قال الشيخ - بعد أَنْ حكى عن الزمخشري وأبي محمد ما قَدَّمْتُه عنهما -: «وقال بعضُهم: المفعولُ محذوفٌ تقديرُه: الذين استَحَقَّ عليهم الأَوْلَيان وصيتَهما» قلت: وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قولَي أبي القاسم وأبي محمد وقد بَيَّنْتُهما ما هما فهو عند الزمخشري قولُه: «أَنْ يُجَرِّدُوهما للقيامِ بالشهادة» وعند ابن عطية هو قولُه: {ما لَهم وتَرِكَتَهم} ، فقولُه: «وقال بعضهم: المفعولُ محذوفٌ» يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضاً. وممن ذهبَ إلى أن «استَحَقَّ» بمعنى «حَقَّ» المجردِ الواحدي فإنه قال: واستحقَّ هنا بمعنى حَقَّ، أي وَجَبَ، والمعنى: فآخران من الذين وَجَبَ عليهم الإِيصاءُ بتوصيته بينهم وهم وَرَثَتُه «وهذا التفسير الذي ذكره الواحدي أوضحُ من المعنى الذي ذكره ابو محمد على هذا الوجهِ وهو ظاهرٌ. وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بكر فمرفوعُ» استُحِقَّ «ضميرُ الإِيصاء أو الوصية أو المال أو الإِثم حَسْبما تقدَّم، وأمَّا» الأَوَّلين «فجمعُ» أوّل «المقابِل ل» آخِر «وفيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مجرورٌ صفةً ل» الذين «. الثاني: أنه بدلٌ منه وهو قليلٌ لكونِه مشتقاً. الثالث: أنه بدلٌ من الضميرِ في» عليهم «، وحَسَّنَه هنا وإنْ كان مشتقاً عدمُ صلاحية ما قبلَه للوصف، نَقَل هذين الوجهين الأخيرين مكي الرابع: أنه منصوبٌ على المدح، ذكره الزمخشري، قال:» ومعنى الأوَّلِيَّة التقدُّمُ على الأجانب في الشهادة لكونِهم أحقَّ بها «، وإنما

فَسَّر الأوَّلِيَّة بالتقدُّمِ على الأجابِ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره: أو آخرَان مِنْ غيرِكم أنَّهما من الأجانبِ لا من الكفارِ. وقال الواحدي:» وتقديرُه مِنَ الأَوَّلين الذين استُحِقَّ عليهم الإِيصاءُ أو الإِثم، وإنما قيل لهم «الأَوَّلين» من حيث كانوا أَوَّلِين في الذِّكْرِ، ألا ترى أنه قد تقدَّم: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} وكذلك {اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} ذُكِرا في اللفظ قبل قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} وكان ابنُ عباس يختارُ هذه القراءةَ ويقول: «أرأيت إن كان الأَوْلَيان صغيرين كيف يَقُومان مقامَهما» ؟ أراد أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقامَ الحانثين. ونحا ابن عطية هذا المنحى قال: «معناه من القوم الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهم أي: غُلِبوا عليه، ثم وصفَهم بأنهم أَوَّلون أي: في الذكر في هذه الآية» . وأمَّا قراءة الحسن فالأولان مرفوعان ب «استَحَقَّ» فإنه يقرؤه مبنياً للفاعل. قال الزمخشري: و «يَحْتَجُّ به مَنْ يرى ردَّ اليمين على المُدِّعي» ، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلان، والمرادُ بهما الاثنان المتقدِّمان في الذكر. وهذه القراءةُ كقراءةِ حفص، فيُقَدَّر فيها ما ذُكِر، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفعولِ. وأما قراءة ابن سيرين فانتصابُها على المَدْحِ ولا يجوزُ فيها الجر، لأنه: إمَّا على البدل وإمَّا على الوصف بجمع، والأَوْلَيَن في قراءته مثنى فتعذر فيها ذلك. وأمَّا قراءة «الأَوْلَيْن» كالأعلَيْن فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذة لم يَعْزُها، قال: «ويُقْرأ» الأَوْلَين «جمعَ الأَوْلَى، وإعرابه كإعراب الأَوْلَين» يعني في قراءة حمزة، وقد تقدَّم أنّ فيها أربعةَ أوجه وهي جارية هنا.

قوله: «فيُقْسِمان» نسقٌ على «يَقُومان» والسبيَّةُ فيها ظاهرةٌ. و «لَشهادتُنا أحقُّ» : هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله: «فيُقْسِمان» و «ذلك أَدْنَى» لامحلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيلِه، أي: ما تقدَّم ذكرُه من الأحكام أقربُ إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي. وقيل المشارُ إليه الحَبْس بعد الصلاة، وقيل: تحليفُ الشاهدين. و «أَنْ يأتوا» أصلُه إلى أن يأتوا. وقَدَّره أبو البقاء ب «من» أيضاً، أي: أَدْنَى مَنْ أَنْ يأتُوا. وقَدَّره مكي بالباء أي: بأَنْ يأتُوا، وليسا بواضحين، ثم حَذَفَ حرفَ الجر فَنَشَأ الخلافُ المشهور. و «على وجهها» متعلقٌ ب «يأتُوا» . وقيل: في محلِّ نصبٍ على الحال منها، وقَدَّره أبو البقاء ب «محقّقة وصحيحة» وهو تفسيرُ معنى؛ لِما عرفت غير مرة من أنّ الأكوانَ المقيدة لا تُقَدَّر في مثله. قوله: {أَوْ يخافوا} في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوب عطفاً على «يَأْتوا» وفي «أو» على هذا تأويلان، أحدُهما: أنها على بابِها من كونِها لأحدِ الشيئين، والمعنى: ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي أو خوفِ رَدِّ الأيمان إلى غيرِهم فتسقطُ أَيْمانهم. والتأويلُ الآخر: أن تكونَ بمعنى الواو، أي: ذلك الحكم كله أقربُ إلى أَنْ يأتُوا، وأقربُ إلى أن يَخافوا، وهذا مفهومٌ من قول ابن عباس. الثاني من وجهي النصب: أنه منصوبٌ بإضمار «أَنْ» بعد «أو» ومعناها «إلا» كقولهم: «لألزمنَّك أو تقضيَني حَقِّي» تقديره: إلاَّ أَنْ تقضِيني، ف «أو» حرفُ عطفٍ على بابها، والفعلُ بعدَها

منصوبٌ بإضمار «أَنْ» وجوباً، و «أَنْ» وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ، ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر متوهَّم من الفعل قبله، فمعنى: لألزمنَّك أو تقضيَني حقي: ليكوننَّ مني لزومٌ لك أو قضاؤك لحقي، وكذا المعنى هنا أي: ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادة على وجهها؛ وإلاَّ خافوا ردَّ الأَيْمان، كذا قَدَّره ابن عطية بواوٍ قبل «إلا» وهو خلافٌ تقدير النحاة، فإنهم لا يقدِّرون «أو» إلا بلفظ «إلا» وحدها دون واو. وكأن «إلا» في عبارته على ما فهمه الشيخ ليسَتْ «إلا» الاستثنائيةَ، بل أصلُها «إنْ» شرطيةً دَخَلَتْ على «لا» النافيةِ فأُدغمت فيها، فإنه قال: «أو تكون» أو «بمعنى» إلاَّ إنْ «، وهي التي عَبَّر عنها ابن عطية بتلك العبارةِ من تقديرِها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاء انتهى. وفيه نظرٌ من وجهين، أحدُهما: أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ، أعني كونَ» أو «بمعنى الشرط. والثاني: انه بعد أَنْ حَكَم عليها بأنها بمعنى» إلاَّ إنْ «جَعَلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه. و {أَن تُرَدَّ} في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به اي: أو يَخافُوا رَدَّ أَيْمانهم. و» بعد أَيْمانهم «إمَّا ظرفٌ ل» تُرَدَّ «أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل» أَيْمان «وجُمِع الضميرُ في قولِه» يَأْتُوا «وما بعده وإنْ كان عائداً في المعنى على مثَّنى وهو الشاهدان، فقيل: هو عائدٌ على صنفي الشاهدين. وقيل: بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كلِّهم، معناه: ذلك أَوْلى وأجدرُ أَنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ فيَتَحَرَّوا في شهادتِهم خوفَ الشناعةِ عليهم والفضحيةِ في رَدِّ اليمين على المُدَّعي. وقوله: {واتقوا الله} لم يذكرْ معلِّق التقوى: إمَّا للعلمِ به أي: واتقوا اللَّهَ في شهادتِكم وفي الموصِين عليهم بأن لا تَخْتَلِسوا لهم شيئاً؛ لأن القصةَ كانت بهذا السببِ، وإمَّا قصداً لإِيقاعِ التقوى، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقى

منه. وكذا مفعولُ» اسمعوا «إنْ شئتَ حذفتَه اقتصاراً أو اختصاراً أي: اسمعوا أوامَره ونواهَيه من الأحكام المتقدمة، وما أفصحَ ما جيء بهاتين الجملتين الأمريتين، فتباركَ اللَّهُ أصدقُ القائلين.

109

قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ} : في نصبِه أحدَ عشرَ وجهاً، أحدها: أنه منصوبٌ ب «اتقوا» أي: اتقوا اللَّهَ في يومِ جَمْعِه الرسلَ قاله الحوفي، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ لأنَّ أمرَهم بالتقوى في يوم القيامة لا يكون، إذ ليس بيومِ تكليفٍ وابتلاء، ولذلك قال الواحدي: ولم «يُنْصَب اليوم الظرفِ للاتقاء، لأنهم لم يُؤْمَروا بالتقوى في ذلك اليوم، ولكن على المفعول به كقوله: {واتقوا يَوْماً} [البقرة: 48] . الثاني: أنه منصوب ب» اتقوا «مضمراً يدل عليه» واتقوا الله «قال الزجاج:» هو محمول على قوله: «واتقوا الله» ثم قال: «يوم يجمع» أي: واتقوا ذلك اليوم «، فدلَّ ذِكْرُ الاتقاء في الأول على الاتقاء في هذه الآية، ولا يكون منصوباً على الظرف للاتقاء لأنهم لم يُؤْمروا بالاتقاء في ذلك اليوم، ولكن على المفعول به كقوله تعالى: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] . الثالث: أنه منصوب بإضمار» اذكروا «الرابع: بإضمار» احذروا «الخامس: أنه بدل اشتمال من الجلالة. قال الزمخشري:» يوم يجمع «بدلٌ من المنصوب في» واتقوا الله «وهو من بدلِ الاشتمال كأنه قيل: واتقوا الله يوم جَمْعِه» انتهى، ولا بد من حذفِ مضافٍ على هذا الوجهِ حتى تَصِحَّ له هذه العبارةُ التي ظاهرها ليس بجيدٍ، لأنَّ الاشتمالَ لا يُوصَفُ به الباري تعالى أيِّ مذهبٍ فَسَّرناه من مذاهبِ النحويين في الاشتمالَ، والتقديرُ: واتقوا عقابَ الله يومَ يجمعُ رسلَه، فإنَّ العقابَ مشتملٌ على زمانِه، أو زمانه مشتملٌ عليه، أو عاملُها مشتملٌ عليهما على حَسَبِ الخلافِ في

تفسيرِ البدلِ الاشتمالي، فقد تبيَّن لك امتناعُ هذه العباراتِ بالنسبةِ إلى الجلالةِ الشريفة. واستبعد الشيخ هذا الوجهَ بطولِ الفصلِ بجملتين، ولا بُعْدَ فإنَّ هاتين الجملتين من تمامِ معنى الجملةِ الأولى. السادسُ: أنَّه منصوبٌ ب «لا يَهْدي» قال الزمخشري وأبو البقاء. قال الزمخشري: «أي: لا يهديهم طريقَ الجنة يومئذ كما يُفْعَلُ بغيرهم» . وقال أبو البقاء: «أي: لا يهديهم في ذلك اليومِ إلى حُجَّة أو إلى طريق الجنة» . السابع: أنه مفعولٌ به وناصبُه «اسمعوا» ولا بد من حذف مضاف حينئذ لأنَّ الزمان لا يسمع، فقدَّره أبو البقاء: «واسمعوا خبر يوم يجمع» ولم يذكر أبو البقاء غيرَ هذين الوجهين وبدأ بأولهما. وفي نصبِه ب «لا يَهْدي» نظر من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا، أعني المحكومَ عليهم بالفسق، وفي تقدير الزمخشري «لايهديهم إلى طريق الجنة» نُحُوٌّ إلى مذهبه من أنّ نَفْي الهداية المطلقة لا يجوز على الله تعالى، ولذلك خَصَّص المُهْدَى إليه ولم يذكر غيره، والذي سَهَّل ذلك عنده أيضاً كونُه في يومٍ لا تكليفَ فيه، وأما في دار التكليف فلا يُجيز المعتزلي أن يُنْسَبَ إلى الله تعالى نَفْيُ الهدايةِ مطلقاً البتة. الثامن: أنه منصوبٌ ب «اسمعوا» قاله الحوفي، وفيه نظرٌ لأنهم ليسوا مكلِّفين بالسماعِ في ذلك اليومِ، إذ المرادُ بالسماع السماعُ التكليفي. التاسع: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ متأخرٍ أي: يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرسلَ كان كيتَ وكاتَ، قاله الزمخشري. العاشر: قلت: يجوز أن تكونَ المسألة من باب الإِعمال، فإنَّ كُلاً من هذه العوامل الثلاثة المتقدمة

يَصِحُّ تسلُّطُه عليه بدليل أنَّ العلماء جَوَّزوا فيه ذلك، وتكون المسألةُ مِمَّا تنازع فيها ثلاثةُ عواملَ وهي «اتقوا» و «اسمعوا» و «لا يَهْدي» ، ويكون من إعمال الأخير لأنه قد حُذِفَ من الأَوَّلِين ولا مانع يمنع من الصناعة، وأمَّا المعنى فقد قَدَّمْتُ أنه لا يظهر نصب «يوم» بشيء من الثلاثة لأنَّ المعنى يأباه، وإنما أجَزْتُ ذلك جرياً على ما قالوه وجَوَّزوه، لاسيما أبو البقاء فإنه لم يذكر غيرَ كونِه منصوباً ب «اسمعوا» أو ب «لايهدي» ، وكذا الحوفي جَوَّز أن ينتصب ب «اتقوا» وب «اسمعوا» الحادي عشر: أنه منصوب ب «اقولوا: لا علمَ لنا» أي: قال الرسل يوم جمعهم وقول الله لهم ماذا أُجبتم. واختاره الشيخ على جميع ما تقدم، قال: «وهو نظيرُ ما قلناه في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ} [البقرة: 30] وهو وجه حسن. قوله: {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} فيه أربعةُ أقوال، أحُدها: أنَّ» ماذا «بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، فَغَلَب فيه جانبُ الاستفهام ومحلُّه النصبُ على المصدرِ بما بعده، والتقديرُ: أيَّ إجابةٍ أُجِبْتُم. قال الزمشخري:» ماذا أُجِبْتُم «منتصبٌ انتصابَ مصدرهِ على معنى: أيَّ إجابة أُجِبْتُم، ولو أُريد الجوابُ لقيل: بماذا أُجبتم» أي: لو أُريد الكلامُ المجابُ لقيل: بماذا. ومِنْ مجيء «ماذا» كلِّه مصدراً قوله: 183 - 3- ماذا يَغِيرُ ابنَتَيْ ربعٍ عويلُهما ... لا تَرْقُدانِ ولا بُؤْسَ لِمَنْ رَقَدا الثاني: أن «ما» استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء و «ذا» خبره، وهي

موصولةٌ بمعنى الذي لاستكمال الشرطين المذكورين، و «أُجِبْتُم» صلتُها، والعائدُ محذوفٌ أي: ما الذي أُجِبْتم به، فَحَذَف العائدَ، قاله الحوفي. وهذا لايجوزُ، لأنه لا يجوزُ حَذْفُ العائدِ المجرورِ إلا إذا جُرَّ الموصولُ بحرف مثلِ ذلك الحرفِ الجارِّ للعائدِ، وأَنْ يَتَّحِدَ متعلَّقاهما: نحو: «مررتُ بالذي مررتَ» أي به، وهذا الموصولُ غير مجرورٍ، لو قلت: «رأيت الذي مررتَ» أي: مررتَ به لم يجز، اللهم إلا أَنْ يُدَّعى حَذْفُه على التدريج بأن يُحَذَفَ حرفُ الجر فيصلَ الفعل إلى الضمير فيحذفَ كقوله: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69] أي: في أحد أوجهه، وقوله: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] في أحد وجهيه، وعلى الجملةِ فهو ضعيف. الثالث: أنَّ «ما» مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ، لَمَّا حُذِف بقيت في محل نصب، ذكره أبو البقاء وضَعَّف الوجه الذي قبله - أي كونَ ذا موصولةً - فإنه قال: «ماذا» في موضعِ نصبٍ ب «أُجِبْتُم» وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، و «ما» و «ذا» هنا بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، ويَضْعُفُ أَنْ تُجْعَلَ «ما» بمعنى الذي لأنه لا عائدَ هنا، وحذفُ العائدِ مع حرفِ الجَرِّ ضعيفٌ «قلت: أمَّا جَعْلُه حذفَ العائدِ المجرورِ ضعيفاً فصحيحٌ تقدَّم شرحُه والتنبيهُ عليه، وأمَّا حذفُ حرفِ الجر وانتصابُ مجرورِه فهو ضعيفٌ أيضاً، لا يجوزُ إلا في ضرورة كقولِه: 183 - 4- فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنَنِي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله: 183 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأُخْفي الذي لولا الأَسَى لقَضاني وقوله: 183 - 6- تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوجُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم تحقيق ذلك واستنثاءُ المطَّرِد منه، فقد فَرَّ من ضعيفٍ ووقع في أضعفَ منه. الرابع: قال ابن عطية» «معناه: ماذا أجابت به الأمم» فَجَعَل «ماذا» كنايةً عن المجابِ به لا المصدرٍ، وبعد ذلك، فهذا الكلامُ منه محتملٌ أَنْ يكونَ مثلَ ما تقدَّم حكايتُه عن الحوفي في جَعْلِه «ما» مبتدأً استفهاميةً، و «ذا» خبره على أنها موصولةٌ، وقد تقدَّم التنبيه على ضعفه، ويُحْتمل أن يكون «ماذا» كلُّه بمنزلة اسمِ استفهام في محلِّ رفع بالابتداء، وأُجِبْتُم «خبرُه، والعائدُ محذوفٌ كما قَدَّره هو، وهو أيضاً ضعيفٌ، لأنه لا يُحْذَفُ عائدُ المبتدأِ وهو مجرورٌ إلا في مواضعَ ليس هذا منها، لو قلت:» زيدٌ مررتُ «لم يجز، وإذا تبيَّن ضعفُ هذه الأوجهِ رُجِّح الأول. والجمهور على» أُجِبْتم «مبنياً للمفعول، وفي حذف الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ كُنهُه من الفصاحة والبلاغة حيث اقتصر على خطاب رسله غيرَ مذكورٍ معهم غيرُهم، رفعاً من شأنهم وتشريفاً واختصاصاً. وقرأ ابن عباس

وأبو حيوة» أَجَبْتم «مبنياً للفاعل والمفعول محذوف أي: مذا أَجَبْتم أممكم حين كَذَّبوكم وآذَوْكم، وفيه توبيخٌ للأمم، وليست في البلاغةِ كالأولى. وقوله: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} كقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم} [الآية: 32] في البقرة. والجمهورُ على رفع» عَلاَّمُ الغيوب «وقرئ بنصبِه وفيه أوجهٌ ذَكَرها أبو القاسم وهي: الاختصاصُ والنداءُ وصفةٌ لاسم» إنَّ «قال:» وقُرئ بالنصب على أنّ الكلامَ تَمَّ عند قوله «إنك أنت» أي: إنك الموصوف بأوصافِك المعروفة من العلم وغيرِه، ثم انتصَبَ «عَلاَّم الغيوب» على الاختصاصِ أو على النداء أو هو صفةٌ لاسم «إنَّ» قال الشيخ: «وهو على حَذْفِ الخبر لفهم المعنى، فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله» إنك أنتَ «اي: إنَّك الموصوفُ بأوصافِك المعروفةِ من العلم وغيره» ثم قال: «قال الزمخشري: ثم انتصب فذكره إلى آخره» فزعم أنَّ الزمخشري قَدَّر ل «إنك» خبراً محذوفاً، والزمخشري لا يريد ذلك البتةَ ولا يَرْتضيه، وإنما يريد أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو الدالُّ على تلك الصفات المذكورة لا انفكاكَ لها عنه، وهذا المعنى هو الذي تقضيه البلاغةُ والذي غاص [عليه أبو القاسم، لا ماقدَّره] الشيخُ مُوِهماً أنه أتى به من عنده. ويعني بالاختصاص النصبَ على المدحِ لا الاختصاصَ الذي هو شبيه بالنداء، فإنَّ شرطه ان يكون حشواً، ولكنَّ الشيخَ قد رَدَّ على أبي القاسم قوله «إنه يجوز أن يكون صفةً لاسم» إنَّ «بأنَ اسمها هنا ضمير مخاطب، والضمير لا يوصف مطلقاً عند البصريين، ولا يوصَف منه عند الكسائي إلا ضميرُ الغائبِ لإِبهامه في قولهم» مررت به

المسكينِ «مع إمكان تأويله بالبدل وهو ردٌّ واضح، على أنه يمكن أن يقال أرادَ بالصفةِ البدلَ وهي عبارة سيبويه، يُطْلِقُ الصفةَ ويريد البدل فله أُسْوَةٌ بإمامه واللازم مشترك، فما كان جواباً عن سيبويه كان جواباً له، ولكن يبْقَى فيه البدلُ بالمشتق وهو اسهلُ من الأول. ولم أَرَهُم خرَّجُوها على لغة مَنْ ينصِبُ الجزأين ب» إنَّ «وأخواتِها كقولِه: 1837 - إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزاً ... [وقوله] : 183 - 8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . إنَّ حُرَّا سَنا أُسْدا [وقوله] : 183 - 9- ليتَ الشبابَ هو الرَّجِيعُ على الفتى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقوله] : 184 - 0- كأنَّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا ... قادِمةً أو قَلَماً مُحْرَّفا

ولو قيل به لكان صواباً و» عَلاَّمُ «مثالُ مبالغة فهو ناصب لما بعده تقديراً، وبهذا ايضاً يُرَدُّ على الزمخشري على تقدير تسليم صحة وصف الضمير من حيث إنه نكرة؛ لأن إضافَته غيرُ محضة وموصوفَه معرفةٌ. والجمهور على ضمِّ العين من» الغيوب «وهو الأصل، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو:» البيوت والجيوب والعيون والشيوخ «وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر {البيوت} [الآية: 189] ، وستأتي كلٌّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سورها إن شاء الله تعالى. وجُمِع الغيبُ هنا وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعِه، وإن أريد به الشيء الغائب، أو قلنا إنه مخففٌ من فَيْعِل كما تقدم تحقيقه في البقرة فواضح.

110

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله} : فيها أوجه، أحدها: أنه بدل من «يوم يجمع» قال الزمخشري: «والمعنى: أنه يوبخ الكافرين بسؤال الرسل عن إجابتهم، وبتعديد ما أَظْهر على أيديهم من الآيات العِظام فكذَّبهم بعضُهم وسَمَّوهم سحرةً، وتجاوزَ بعضُهم الحَدَّ فجعله وأمه إليهن» . ولمَّا ذَكَر ابو البقاء هذا الوجهَ تأوَّلَ فيه «قال» ب «يقول» وأنَّ «إذ» وإنْ كانت للماضي فإنما وَقَعَتْ هنا على حكاية الحالِ. الثاني: أنه منصوبٌ ب «اذكر» مقدراً، قال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ: إذ يقول» ، يعني أنه لا بد من تأويل الماضي بالمستقبلِ، وهذا كما تقدَّم له في الوجهِ قبله، وكذا

ابن عطية تأوَّله ب «يقول» فإنه قال: «تقديرُه: اذكر يا محمد إذ» و «قال» هنا بمعنى «يقول» لأنَّ ظاهرَ هذا القولِ إنما هو في يوم القيامة تقدمه لقوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} الثالث: أنه في محل رفعٍ خبراً لمتبدأ مضمر، أي: ذلك إذ قال، ذكره الواحدي وهذا ضعيفٌ، لأن «إذ» لا يُتَصَرَّف فيها، وكذلك القولُ بأنها مفعول بها بإضمار «اذكر» وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، اللهم إلا أَنْ يريدَ الواحدي بكونِه خبراً أنه ظرفٌ قائمٌ مقامَ خبرٍ نحو: «زيدٌ عندك» فيجوز. قوله: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ} تقدَّم الكلام في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها و «ابن» صفة ل «عيسى» نُصِب لأنه مضاف، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفة الظاهرَ الضمةِ إذا وُصف ب «ابن» أو ابنة ووقع الابن أو الابنة بين علمين أو اسمين متفقين في اللفظ ولم يُفْصَل بين الابن وبين موصوفه بشيء تثبت له أجكامٌ منها: أنه يجوزُ إتباعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نون «ابن» فيُفتح نحو: «يا زيدَ بن عمرو، ويا هندَ ابنة بكر» بفتح الدال من «زيد» و «هند» وضمِّها، فلو كانت الضمةُ مقدرةً نحو ما نحن فيه، فإنَّ الضمة مقدرة على ألف «عيسى» فهل يُقَدَّر بناؤه على الفتح إتباعاً كما في الضمة الظاهرة؟ خلاف: الجمهورُ على عَدَمِ جوازِه، إذ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للإِتباع وهذا المعنى مفقود في الضمة المقدرة. وأجاز الفراء ذلك إجراءً للمقدر مُجْرى الظاهر، وتبعه أبو البقاء فإنه قال: «يجوز أن يكونَ على الألف من» عيسى «فتحةٌ، لأنه قد وُصِف ب» ابن «وهو بين عَلَمين، وأن يكونَ علهيا ضمةٌ، وهو مثلُ قولِك:» يا زيد بن عمرو «بفتح الدال وضمها» . وهذا الذي قالاه غيرُ بعيدٍ، ويَشْهَدُ له مسألة عند الجميعِ:

وهو ما إذا كان المنادى مبنياً على الكسرِ مثلاً نحو: «يا هؤلاء» فإنهم أجازوا في صفتِه الوجهين: الرفعَ والنصبَ فيقولون: «يا هؤلاء العقلاءِ والعقلاءُ» بنصب العقلاء ورفعها، قالوا: والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدرة على «هؤلاء» فإنه مفرد معرفة، والنصب على محله، فقد اعتبروا الضمةَ المقدرةَ في الإِتباع، وإنْ كان ذلك فائتاً، في اللفظ. وقد يُفَرَّقُ بأنَّ «هؤلاء» نحن مضطرون فيه إلى تقدير تلك الحركةِ لأنه مفرد معرفةٌ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا. وقال الواحدي في «يا عيسى» : ويجوزُ أن يكونَ في محل النصب [لأنه في نية الإِضافة، ثم جَعَلَ الابنَ توكيداً له، وكل ما كان] مثلَ هذا جاز فيه الوجهان نحو: «يا زيد بن عمرو» وأنشد: 184 - 1- يا حَكَمُ بنُ المنذرِ بن الجارودُ ... أنتَ الجوادُ بنُ الجوادِ بنُ الجودْ سُرادِقُ المجدِ عليك ممدودْ ... بنصب الأول ورفعه على ما بَيَّنَّا. وقال التبريزي: «الأظهر عندي أنَّ موضع» عيسى «نصب؛ لأنك [تجعلُ الاسم مع نعتِه إذا أضفته إلى العلم] كالشيء الواحد المضافِ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلامَ النحاةِ أصلاً، بل يقولون: الفتحةُ للإِتباع ولم يُعْتَدَّ بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصينٍ، كذا قال الشيخ. قلت: قد قال الزمخشري - وكونه ليس من النحاة مكابرةٌ في

الضروريات - عند قوله: {إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 112] :» عيسى في محل النصب على إتباع حركته حركةَ الابن كقولك: «يا زيدَ بنَ عمرو» وهي اللغة الفاشية، ويجوزُ أن يكونَ مضموماً كقولِك «يا زيدُ بنَ عمرو» والدليل عليه قوله: 184 - 2- أحارِ بن عمروٍ كأني خَمِرْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلا في المضمومِ انتهى. فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ الضمة، واستشهد لها بالبيتِ لمخالفتِها اللغةَ الشيهرة. وقولي: «المفرد» تحرُّزٌ من المُطَوَّل. وقولي «المعرفة» تحرز من النكرة نحو: «يا رجلاً ابن رجل» إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه. وقولي: «الظاهرَ الضمةِ» تحرُّزٌ من نحو: «يا موسى بن فلان» وكالآية الكريمة. وقولي: ب «ابن» تحرُّزٌ من الوصف بغيرِه نحو: «يا زيدُ صاحبَنا» وقولي: «بين علمين أو متفقين لفظاً» تحرُّزٌ من نحو: «يا زيد بن أخينا» وقولي: «غيرَ مفصولٍ» تحرُّزٌ من نحو: «يا زيدُ العاقلُ ابنَ عمرو» فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضم. وقولي: «أحكام» قد تقدَّمتْ منها ما ذكرتُه من جوازِ فتحِه إتباعاً، ومنها: حَذْفُ ألفِه خطاً، ومنها: حَذْفُ تنويِنه في غيرِ النداء؛ لأنَّ المنادَى لا تنوينَ فيه. وقولي: «وصفٌ» تحرُّزٌ من أن يكون الابن خبراً لا صفة نحو: «زيدٌ ابنُ عمرو» وهل يجوزُ إتباعُ «ابن» فيُضمَّ نحو: «يا زيد بن ُ عمرو» بضم «ابن» ؟ فيه خلافٌ.

وفي قوله: {ابن مَرْيَمَ} ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه صفةٌ كما تقدم، والثاني: أنه بدلٌ والثالث: أنه بيانٌ، وعلى الوجهين الأخيرين لا يجوزُ تقديرُ التفحةِ إتباعاً إجماعاً، لأنّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً، وقد تقدم أنَّ ذلك شرطٌ. قوله: {إِذْ أَيَّدتُّكَ} في «إذ» أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ ب «نعمتي» كأنه قيل: اذكرُ إذ أنعمتُ عليك وعلى أمِّك في وقت تأييدي لك. والثاني: أنه بدلٌ من «نعمتي» بدلُ اشتمال، وكأنه في المعنى تفسيرٌ للنعمة. والثالث: أنه حالٌ من «نعمتي» قاله أبوالبقاء والرابع: أن يكون مفعولاً به على السِّعَة قاله أبو البقاء أيضاً. قلت: هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ - وقرأ الجمهور «أيَّدتك» بتشديد الياء، وغيرهم «آيَدْتُك» وقد تقدَّم الكلام على ذلك وعلى مَنْ قرأ بها وما قاله الزمخشري وابن عطية والشيخ في سورة البقرة فليُنْظر ثَمَّ. قوله: {تُكَلِّمُ الناس فِي المهد} إلى آخرها: تقدَّم ايضاً في آل عمران، وما فائدةُ قوله: {فِي المهد وَكَهْلاً} إلا أنَّ هنا بعضَ زياداتٍ لابدَّ من التعرض لها. قرأ ابن عباس: «فتنفخُها» بحذف حرف الجر اتساعاً. والجمهور: «فتكونُ» بالتاء منقوطةً فوق، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ، أي: فيكونُ المنفوخ فيه. والضمير في «فيها» قال ابن عطية: «اضطربت فيه أقوال المفسرين» قال مكي: «هو في آل عمران عائدةٌ على الطائر، وفي المائدة عائدٌ على الهيئة» قال: «وَيصِحُّ عكس هذا» . وقال غير مكي: «الضمير المذكور عائد على الطين» . قال ابن عطية: «ولا يَصِحُّ عودُ هذا الضمير على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة، لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطين على هيئته لا يُنْفَخُ فيه البتةَ، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصة به، وكذلك الطينُ إنما هو الطينُ العام ولا نفخَ في ذلك» . وقال الزمخشري: «ولا يَرْجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها لأنها ليست مِنْ خَلْقِه ولا مِنْ نفخِه في شيء، وكذلك الضميرُ في» فتكون «. ثم قال ابن عطية:»

والوجهُ عودُ ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآيةُ ضرورةً أي: صوراً أو أشكالاً أو اجساماً، وعودُ الضميرِ المذكِّر على المخلوقِ المدلولِ عليه ب «تخلقُ» ثم قال: «ولك أن تعيدَه على ما تَدُلُّ عليه الكاف من معنى المثل لأنَّ المعنى: وإذ تَخْلُق من الطينِ مثلَ هيئِته، ولك أن تعيدَه على الكاف نفسِها فتكونَ اسماً في غيرِ الشعر» انتهى. وهذا القولُ هو عينُ ما قبله، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مِثْل، وكونُها اسماً في غير الشعرِ لم يَقُلْ به غيرُ الأخفش. استشكل الناسُ قولَ مكي المتقدم كما قَدَّمْتُ حكايتَه عن ابن عطية، ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه بأنَّ قولَه «عائدٌ على الطائر» لا يريدُ به الطائر الذي أُضيفت إليه الهيئةُ بل الطائرُ المُصَوَّرُ، والتقدير: وإذ تخلق من الطين طائراً

صورةَ الطائرِ الحقيقي فتنفخُ فيه فيكونُ طائراً حقيقياً، وأنَّ قوله «عائدٌ على الهيئة» لا يريدُ الهيئةَ المجرورةَ بالكاف، بل الموصوفةَ بالكاف، والتقدير: وإذ تخلُق من الطينِ هيئةً مثلَ هيئة الطائر فتنفخُ فيها أي: في الموصوفة بالكافِ التي نُسِب خَلْقُها إلى عيسى. وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مذكر على هيئةٍ وضميرٌ مؤنثٌ عل الطائرِ لأنَّ قوله: «ويجوز عكسُ هذا» يؤدي إلى ذلك «فجوابُه أنه جازَ بالتأويل، لأنه تُؤَوَّلُ الهيئةُ بالشكل ويُؤَوَّل الطائرُ بالهيئةِ فاستقام، وهو موضعُ تأولٍ وتأنٍ. وقال هنا» بإذني «أربعَ مراتٍ عَقِيب أربع جمل، وفي آل عمران» بإذن الله «مرتين؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ فناسَبَ الإِيجازَ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ فناسبَ الإِسهابَ؛ وقوله:» بإذني «حالٌ: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول. قوله: {إِلاَّ سِحْرٌ} قرأ الأخَوان هنا وفي هود وفي الصف» إلا ساحر «اسم فاعل، والباقون:» إلا سحرٌ «مصدراً في الجميع، والرسمُ يحتمل القراءتين، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فتحتمل أن تكون الإِشارة إلى ما جاءَ به من البينات أي: ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارقِ إلى سحرٌ، ويُحْتمل ان تكونَ الإِشارةُ إلى عيسى، جَعَلُوه نفسَ السحر مبالغةً نحو:» رجلٌ عدلٌ «، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: إلا ذو سحر. وخَصَّ مكي هذا الوجهَ بكون المرادِ بالمشارِ إليه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:» ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تقدير حَذْفِ مضافٍ أي: إنْ هذا إلا ذو سحر «. قلت: وهذا جائزٌ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو لم يكن في زمنِ عيسى

والحواريين حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيد» وأمَّا قراءةُ الأخوين فتحتمل أن يكون «ساحر» اسم فاعل والمشارُ إليه «عيسى» ، ويُحتمل أن يكون المرادُ به المصدرَ كقولهم: «عائذاً بك وعائذاً بالله مِنْ شَرِّها، والمشارُ إليه ما جاء به عيسى من البيِّنات والإِنجيل، ذَكَر ذلك مكي، وتَبِعه أبو البقاء، إلا أنَّ الواحدي مَنَع مِنْ ذلك فقال - بعد أَنْ حَكى القراءتين -» وكلاهما حَسَنٌ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَه قد تقدَّم، غير أَنَّ الاختيار «سحر» لجوازِ وقوعِه على الحَدِثِ والشخص، وأمَّا وقوُعه على الحدث فسهلٌ كثير، ووقُوعه على الشخصِ يريدُ ذو سحر كقوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] وقالوا: «إنما أنت سيرٌ» و «ما أنت إلا سيرٌ» و: 184 - 3-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ قلت: وهذا يرجِّحُ ما قَدَّمْتُه من أنه أَطْلق المصدر على الشخص مبالغةً نحو: «رجل عدل» ثم قال: «ولا يجوزُ أَنْ يُراد بساحر السحر، وقد جاء فاعِل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير نحو:» عائذاً بالله من شره «أي: عياذاً، ونحو» العافِية «ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيث يسوغُ القياس عليها»

111

قوله تعالى: {أَنْ آمِنُواْ} : في «أَنْ» وجهان، أظهرهما: أنها تفسيرية لأنها وردت بعدما هو بمعنى القول لا حروفِه. والثاني: انها

مصدرية بتأويلٍ متكلف أي: أَوْجَبْتُ إليهم الأمر بالإِيمان، وهنا قالوا «آمنَّا» ولم يُذْكر المُؤْمَنْ به، وهناك {آمَنَّا بالله} [آل عمران: 52] فذكره، والفرق أنَّ هناك تقدَّم ذِكْرُ الله تعالى فقط فأُعيدَ المؤمَنْ به فقيل: «بالله» وهنا ذُكِر شيئان قبل ذلك وهما: {أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} فلم يُذْكَر ليشمل المذكورين، وفيه نظرٌ. وهنا «بأنَّنا» وهناك «بأنَّا» بالحذف، وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ هذا هو الأصل، وإنما جِيء هنا بالأصل لأنَّ المُؤْمَنَ به متعدِّدٌ فناسَبَه التأكيد. قوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ} قرأ الجمهورُ «يَسْتَطيع» بياء الغيبة «ربك» مرفوعاً بالفاعلية، والكسائي: «تَسْتَطيع» بتاء الخطاب لعيسى، و «ربَّك» بالنصب على التعظيم، وقاعدتُه أنه يُدْغِم لام «هل» في أحرف منها هذا المكان، وبقراءة الكسائي قرأت عائشة، وكانت تقول: «الحواريُّونَ أعرفُ بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربك» كأنها - رضي الله عنها - نَزَّهَتْهم عن هذه المقالةِ الشنيعة أَنْ تُنْسَبَ إليهم، وبها قرأ معاذ أيضاً وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين، وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة: هل تحتاجُ إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ فجمهورالمُعْربين / يقدِّرون: هل تستطيعُ سؤالَ ربك، وقال الفارسي: «وقد يمكن أَنْ يُسْتغنى عن تقدير» سؤالَ «على أن يكون المعنى: هل تستطيع أن يُنَزَّل ربُّك بدعائك، فيُرَدُّ المعنى - ولا بد - إلى مقدَّر يدل عليه ما ذُكِر من اللفظ» قال الشيخ: «وما قاله غيرُ ظاهرٍ لأنَّ فعلَه تعالى وإنْ كان مسبباً عن الدعاءِ فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى» واختار أبو عبيد هذه القراءةَ قال: «لأنَّ القراءةَ الأخرى تُشْبه أن يكونَ الحواريُّون شاكِّين، وهذه لا تُوهِمُ ذلك» . قلت: وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمنين، وهذا هو الحقُّ.

قال ابن الأنباري: «لا يجوزُ لأحد أن يتَوَهَّم على الحواريين أنهم شَكُّوا في قدرة الله تعالى» وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشري أنهم ليسا مؤمنين ليس بجيدٍ وكأنه خارقٌ للإِجماع. قال ابن عطية: «ولا خلاف أحفظُه أنهم كانوا مؤمنين» . وأمَّا القراءةُ الأولى فلا تَدُلُّ له لأن الناس أجابوا عن ذلك باجوبةٍ منها: أنَّ معناه: هل يَسْهُل عليك أن تسأل ربَّك، كقولِك لآخر: هل تستطيع أن تقومَ؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك. ومنها: أنهم سألوه سؤالَ مستخبرٍ: هل يُنَزَّل أم لا، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا. ومنها: أن المعنى هل يفعلُ ذلك وهل يقع منه إجابةٌ لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زيد: هل تستطيعُ أن تُرَيَني كيف كان رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ؟ أي هل تُحِبُّ ذلك؟ وقيل: المعنى: هل يطلب ربُّك الطاعة من نزول المائدة؟ قال أبو شامة: «مثلُ ذلك في الإِشكال ما رواه الهيثم - وإن كان ضعيفاً - عن ثابت عن أنس» أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عادَ أبا طالب في مرض فقال: يا بنَ أخي ادعُ ربَّك الذي تعبده فيعافيَني. قال: اللهم اشفِ عمي، فقام أبو طالب كأنما نَشِط من عِقال. فقال: يابنَ أخي إنّ ربك الذي تعبدُ لَيطيعُك. قال: وأنت يا عَمَّاه لو أَطَعْتَه، أو: لئن أطعتَ اللهَ ليطيعَنَّك اي: لَيجيبَنَّك إلى مقصودك «. قلت: والذي حَسَّن ذلك المقابلةُ منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للفظِ عَمِّه كقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] وقيل: التقدير: هل يُطيع؟ فالسينُ زائدة كقولهم: استجاب وأجاب، قال: 184 - 4- وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى ... فلم يَسْتِجَبْه عند ذاك مُجيبُ

وبهذه الأجوبةِ يُستغنى عن قولِ مَنْ قال:» إنَّ يستطيع زائدةٌ «والمعنى: هل يُنَزَّل ربُّك، لأنه لا يُزال من الأفعال إلا» كان «بشرطينِ وشَذَّ زيادةُ غيرِها في مواضعَ عَدَدْتُها في غيرِ هذا الكتاب، على أنَّ الكوفيين يُجيزون زيادةَ بعض الأفعال مطلقاً، حَكَوْا: قَعَدَ فلانٌ يتهكَّم بي» ، وأنشدوا: 184 - 5- على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ وحكى البصريون على وجه الشذوذ: «ما اصبحَ أبردَها وما أمسى أدفأَها» يعنون الدنيا. قوله {أَن يُنَزِّلَ} في قراءةِ الجماعة في محل نصب مفعولاً به أي: الإِنزالَ. وقال أبو البقاء: «والتقدير: على أن ينزَّل، أو في أن ينزَّل، ويجوز ألاَّ يُحتاجَ إلى حرف جر على أن يكون» يَسْتطيع «بمعنى» يُطيق «. قلت: إنما احتاج إلى تقديرِ حَرْفَي الجرِّ في الأول لأنه حَمَل الاستطاعةَ على الإِجابة، وأمَّا قولُه أخيراً» إنَّ يستطيع بمعنى يُطِيق «فإنما يَظْهَرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشري من كونهم ليسوا بمؤمنين. وأمَّا في قراءةِ الكسائي فقالوا: هي في محلِّ نصبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر أي: هل يستطيع أنت أن تسألَ ربَّك الإِنزالَ، فيكون المصدرُ المقدرُ مضافاً لمفعوله الأول وهو» ربّك «فلمَّا حُذِفَ المصدرُ انتصب. وفيه نظرٌ من أنهم أعملوا المصدرَ مضمراً، وهو لا يجوزُ عند البصريين، يُؤَوِّلون ما ورد ظاهرُه ذلك. ويجوز أن يكونَ» أن

ينزَّل «بدلاً من» ربك «بدلَ اشتمالٍ، والتقدير: هل تستطيع أي: هل تُطيق إنزالَ الله تعالى مائدةً بسبب دعائك؟ وهو وجهٌ حسن. و» مائدة «مفعول» يُنَزِّلُ «والمائدة: الخِوُان عليه طعامٌ، فإن لم يكن عليه طعامٌ فليست بمائدةٍ، هذا هو المشهور، إلا أن الراغب قال:» والمائدةُ: الطبقُ الذي عليه طعام، ويقال لكل واحدٍ منها مائدةٌ «وهو مخالِفٌ لما عليه المُعْظَمُ، وهذه المسألة لها نظائرٌ في اللغة، لا يقال للخِوان مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ وإلا فهو خِوان، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ وإلا فهي قَدَحٌ، ولا يقال ذَنوب وسَجْل إلا وفيه ماء، وإلا فهو دَلْو، ولا يقال جِراب إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهاب، ولا قَلَمٌ إلا وهو مَبْرِيٌّ وإلا فهو أنبوب. واختلف اللغويون في اشتقاقها فقال الزجاج: «هي من مادَ يَميدُ إذ تحرك، ومنه قوله: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] ومنه: مَيْدُ البحر» وهو ما يُصيب راكبَه، فكأنها تَميد بما عليها من الطعام، قال: «وهي فاعِله على الأصل» وقال أبو عبيد: «هي فاعلة بمعنى مَفْعولة مشتقةٌ من مادَهُ بمعنى أعطاه، وامتادَهُ بمعنى استعطاهُ فهي بمعنى مَفْعولة» قال: «كعِيشة راضِية» وأصلُها أنها مِيدَ بها صاحبُها أي: أُعْطِيها، والعربُ تقول: ما دَني فلان يَميدني إذا أحسنَ إليَّ وأعطاني «وقال أبو بكر بن الأنباري:» سُمِّيت مائدةً لأنها غياثٌ وعطاءٌ، من قولِ العرب: مادَ فلانٌ فلاناً إذا أَحْسَنَ إليه، وأنشدَ: 184 - 6-

إلى أميرِ المؤمنين المُمْتادْ ... أي: المُحْسِنُ لرعيَّته، وهي فاعِلَة من المَيْد بمعنى مُعْطِية فهو قريب من قولِ أبي عبيد في الاشتقاق، إلا أنَّ‍ها عنده بمعنى فاعِله على بابها. وابنُ قتيبة وافق أبا عبيد في كونها بمعنى مفعولة، قال: «لأنها يُمادُ بها الآكلون أي يُعْطَوْنها» . وقيل: هي من المَيْد وهو الميل، وهذا هو معنى قول الزجاج. قوله: «من السماء» يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، وأَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ ل «مائدة» أي: مائدةً كائنةً من السماء أي: نازلةً منها.

114

قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً} : في «تكون» ضمير يعود على «مائدة» هو اسمُها، وفي الخبرِ احتمالان، أظهرُهما: أنه عيد، و «لنا» فيه وجهان أحدهما: أنه حال من «عيدا» لأنها صفة له في الأصل، والثاني: أنها حال من ضمير «تكون» عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الحال. والوجه الثاني: أنَّ «لنا» هو الخبر، و «عيداً» حال: إمَّا من ضمير «تكونُ» عند مَنْ يرى ذلك، وإمَّا من الضمير في «لنا» لأنه وقعَ خبراً فتحمَّل ضميراً، والجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً لمائدة. وقرأ عبد الله: {تَكُنْ} بالجزم على جواب الأمر في قوله: «أَنْزل» قال الزمخشري: «وهما نظير {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} [مريم: 6] يريد قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} بالرفع صفةً، وبالجزم جواباً، ولكنْ القراءتان هناك متواترتان، والجزمُ هنا في الشاذ.

والعِيد مشتق من العَوْد لأنه يعود كل سنة، قاله ثعلب عن ابن الأعرابي. وقال ابن الأنباري:» النحويون يقولون: يوم العيد، لأنه يعود بالفرح والسرور، وعند العرب لأنه يعد بالفرح والحزن، وكل ما عاد إليه في وقت فهو عِيد، حتى قالوا للطَّيْفِ عيد «قال الأعشى: 184 - 7- فواكبدي من لاعجِ الحُبِّ والهَوى ... إذا اعتاد قَلْبي من أُمَيْمَة عيدُها أي: طيفُها، وقال تأبَّط شراً: 184 - 8- يا عيدُ ما لكَ مِنْ شوقٍ وإيراقِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال: 184 - 9- عادَ قلبي من الطويلةِ عيدُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال الراغب:» والعيديُ حالةٌ تعاوِدُ الإِنسانَ، والعائدة: كل نفع يرجع إلى الإِنسان بشيء، ومنه «العَوْدُ» للبعيرِ المسنِّ: إمَّا لمعاودته السيرَ والعملَ فهو بمعنى فاعِل، وإمَّا لمعاودةِ السنين وإياه ومَرِّها عليه فهو بمعنى مفعول، قال: امرؤ القيس: 185 - 0-

على لاحِبٍ لا يُهْتَدى بمنارِه ... إذا سافَه العَوْدُ النباطِيُّ جَرْجَرا وصَغَّره على «عُيَيْد» وكَسَّروه على «أعياد» وكانَ القياسُ عُوَيْد وأَعْود، لزوالِ موجبِ قَلْبِ الواوِ ياءً، لأنها إنما قُلِبت لسكونِها بعد كسرةٍ ك «ميزان» ، وإنما فَعَلوا ذلك قالوا: فرقاً بينه وبين عودِ الخشب. قوله: {لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} فيه وجهان أحدُهما: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه وقعَ صفةً ل «عيداً» الثاني: أنه بدلٌ من «ن» في «لنا» قال الزمخشري: «لأولنا وآخرنا» بدلٌ من «لنا» بتكرير العاملِ «ثم قال:» وقرأ زيد بن ثابت والجحدري لأَولانا وأُخْرانا والتأنيثُ على معنى الأمة. «وخَصَّص أبو البقاء كلَّ وجه بشيء وذلك أنه قال:» فأمَّا «لأولنا وآخرنا» فإذا جعلت «لنا» خبراً وحالاً من فاعل «تكون» فهو صفةٌ ل «عيداً» ، وإن جعلت «لنا» صفة ل «عيد» كان «لأولنا» بدلاً من الضمير المجرور بإعادة الجارِّ «. قلت: إنما فعل ذلك لأنه إذا جعل «لنا» خبراً كان «عيداً» حالاً، وإن جعله حالاً كان «عيداً» خبراً، فعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ «لأولنا» بدلاً من «لنا» لئلا يلزَم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه: إمَّا بالحال وإما بالخبر وهو «عيد» بخلافِ ما إذا جُعِل «لنا» صفةً ل «عيد» ، هذا الذي يظهر في تخصيصِه ذلك بذلك، ولكن يُقال: قولُه «فإنْ جعلت لنا صفة لعيداً كان لأولنا بدلاً» مُشْكل أيضاً، لأنَّ الفصلَ فيه موجود، لا سيما أنَّ قولَه لا يُحْمل على ظاهره لأنَّ «لنا» ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة، ولكنه نظر إلى الأصل، وأنَّ التقدير: عيداً لنا لأوَّلنا،

فكأنه لا فصلَ، والظاهرُ جوازُ البدل، والفصلُ بالخبر أو الحال لا يَضُرُّ لأنه من تمامِه فليس بأجنبي. واعلم أن البدلَ من ضميرِ الحاضر سواءً كان متكلماً أم مخاطباً لا يجوز عند جمهورِ البصريين من بدلِ الكل من الكلّ لو قلت: «قمتُ زيدٌ» يعني نفسَك، و «ضربتُك عَمْراً» لم يَجُزْ، قالوا: لأنَّ البدلَ إنما يؤتي به للبيانِ غالباً، والحاضرُ متميِّزٌ بنفسِه فلا فائدةَ في البدلِ منه، وهذا يَقْرُبُ من تعليلِهم في منعِ وصفِه. وأجازَ الأخفشُ ذلك مطلقاً مستدِلاً بظاهر هذه الآية وبقوله: 185 - 1- أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني ... حُمَيْداً قد تَذَرَّيْتُ السِّناما ف «حُمَيْداً» بدل من ياء اعرفوني، وقولِ الآخر: 185 - 2- وشوهاءَ تَغْدو بي إلى صارخ الوغى ... بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفنيق المُدَجَّلِ وقوله: 185 - 3- بكم قريشٍ كُفينا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأَمَّ نهج الهُدى مَنْ كان ضِلِّيلا وفي الحديث: «أتينا النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفرٌ من الأشعريين»

والبصريون يُؤَوِّلون جميع ذلك، أمَّا الآية الكريمة فعلى ما تقدم في الوجه الأول، وأما «حُمَيْداً» فمنصوب على الاختصاص، وأمَّا «بمُسْتلئم» فمن باب التجريد وهو شيءٌ يعرفه أهلُ البيان، يعني أنه جَرَّد من نفسه ذاتاً متصفةً بكذا، وأمَّا «قريش» فالروايةُ بالرفعِ على أنه منادى نُوِّن ضرورةً كقولِه: 185 - 4- سلامُ اللَّهِ يا مطرٌ عليها ... وليسَ عليك يا مطرُ السَّلامُ وأمَّا «نفرٌ» فخبر مبتدأ مضمر أي: نحن، ومنع ذلك بعضُهم إلا أَنْ يُفيدَ البدلُ توكيداً وإحاطةَ شمولٍ فيجوزُ، واستدلَّ بهذه الآية وبقول الآخر: 185 - 5- فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مقامِنا ... ثلاثتِنا حتى أُزيروا المَنائِيَا بجر «ثلاثتنا» بدلاً من «ن» ، ولا حُجَّة فيه لأنَّ «ثلاثتنا» توكيدٌ جارٍ مَجْرى «كل» .

113

وقرأ الجمهور: {ونَعْلَمَ} : و «نكون» بنون المتكلم مبنياً للفاعل، وقرأ ابن جبير - فيما نقله عنه ابن عطية - «وتُعْلَم» بضم التاء على أنه مبني للمفعول، والضميرُ عائدٌ على القلوب أي: وتُعْلَمَ قلوبُنا، ونُقل عنه «ونُعْلَم» بالنون مبنياً للمفعول، وقرئ: «يُعْلم» بالياء مبنياً

للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل: «أَنْ قد صدقتنا» أي: ويُعْلَمَ صِدْقُك لنا، ولا يجوز أن يكونَ الفعلُ في هذه القراءةِ مسنداً لضميرِ القلوب لأنه جارٍ مَجْرى المؤنثِ المجازي، ولا يجوزُ تذكيرُ فعلِ ضميرِه. وقرأ الأعمش: و «تَعْلَم» بتاء والفعل مبني للفاعل، وهو ضمير القلوب، ولا يجوزُ أن تكونَ التاءُ للخطاب لفسادِ المعنى، ورُوي: «وتِعْلَم» بكسر حرف المضارعة، والمعنى على ما تقدَّم وقُرئ: و «تَكون» بالتاء والضمير للقلوب. وأَنْ «في» أَنْ قد صَدَقْتَنا «مخففةٌ واسمُها محذوفٌ، و» قد «فاصلةٌ لأنَّ الجملة الواقعةَ خبراً لها فعليةٌ متصرفةٌ غيرُ دعاءٍ، وقد عَرَفْتَ ذلك مما تقدم في قوله: {أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [المائدة: 71] ، و» أن «وما بعده سادَّةٌ مسدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول فقد والثاني محذوف. و» عليها «متعلقٌ بمحذوف يَدُلُّ عليه» الشاهدين «ولا يتعلَّقُ بما بعده لأن» أل «لا يَعْمل ما بعدَها فيما قبلَها عند الجمهورِ، ومَنْ يُجيز ذلك يقول:» هو متعلقٌ بالشاهدين، قُدِّم للفواصل «. وأجاز الزمخشري أن تكونَ» عليها «حالاً فإنه قال:» أو نكونُ من الشاهدين لله بالواحدنية ولك بالنبوةِ عاكفين عليها، على أن «عليها» في موضع الحال «قلت: قوله» عاكفين «تفسيرُ معنىً؛ لأنه لا يُضْمر في هذه الأماكن إلا الأكوانُ المطلقة، وبهذا الذي قلته لا يَرد عليه ما قاله الشيخ فإنه غاب عليه ذلك، وجعله متناقضاً من حيث إنه لَمَّا علَّقه ب» عاكفين «كان غير حال؛ لأنه إذا كان حالاً تعلَّق بكون مطلق، ولا أدري ما معنى التناقض وكيف يَتَحَمَّلُ عليه إلى هذا الحَدِّ؟

قوله تعالى: {وَآيَةً} : عطف على «عيداً» ، و «منك» صفتها. وقرأ اليماني: «وإنَّه» ب «إنَّ» المشددة، والضمير: إما للعيد وإما للإِنزال.

115

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم: {مُنَزِّلُهَا} : بالتشديد، فقيل: إنَّ أَنْزَل ونَزَّل بمعنى، وقد تقدم تحقيق ذلك. وقيل: التشديد للتكثير، ففي التفسير أنها نَزَلت مراتٍ متعددة، وأما نُنَزِّلُ فقُدِّم تحقيق الخلاف فيه. قوله تعالى: {بَعْدُ} : متعلق ب «يكفر» ، وبُني لقَطْعِه عن الإِضافة، إذ الأصل: بعد الإِنزالِ. و «منكم» متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حال من فاعل «يَكْفُرْ» وقوله: {عَذَاباً} فيه وجهان، أظهرهما: أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب، أو مصدرٌ على حَذْفَِ الزوائد نحو: «عطاء ونبات» ل «أعطى» وأنبت «، وانتصابُه على المصدرية بالتقديرين المذكورين. والثاني - أجازه أبو البقاء - أن يكون مفعولاً به على السِّعَة، يعني جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به مبالغةً، وحينئذ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعولِ به عند النحاة ثلاثةُ أنواع: معمولُ الصفةِ المشبهة، والمصدرُ، والظرفُ المتسع فيهما، أمَّا المصدرُ فكما تقدَّم، وأمَّا الظرفُ فنحو:» يوم الجمعة صُمتُه «، ومنه قوله: 185 - 6- ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامراً ... قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافِلُهْ

قال الزمخشري:» ولو أُريد بالعذاب ما يُعَذَّب به لكان لا بد من الباء «قلت: إنما قال ذلك لأنَّ إطلاقَ العذاب على ما يُعَذَّب به كثير، فخاف أن يُتَوهَّم ذلك، وليس لقائلٍ أن يقولَ: كان الأصلُ: بعذاب، ثم حَذَفَ الحرف فانتصب المجرورُ به، لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ مع» أَنْ «بشرطِ أَمْنِ الَّبْسِ. قوله: {لاَّ أُعَذِّبُهُ} الهاءُ فيها ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها عائدة على» عذاب «الذي تقدم أنه بمعنى التعذيب، التقدير: فإني أعذَّبه تعذيباً لا أعذِّبُ مثلَ ذلك التعذيب أحداً، والجملة في محلِّ نصب صفة ل» عذاباً «وهذا وجه سالم من تَكَلُّفٍ ستراه في غيره. ولَمَّا ذكره أبو البقاء هذا الوجه - أعني عودَها على» عذاباً «المتقدم - قال:» وفيه على هذا وجهان، أحدُهما: على حَذْفِ حرف الجر، أي: لا أعذب به أحداً، والثاني: أنه مفعولٌ به على السَّعة. قلت: أمَّا قوله «حُذِف الحرف» فقد عرفت أنه لا يجوز إلا فيما استثني. الثاني من أوجه الهاء: أنها تعود على «مَن» المتقدمة في قوله: {فَمَن يَكْفُرْ} والمعنى: لا أعذَّبُ مثلَ عذاب الكافر أحداً، ولا بد من تقدير هذين المضافين ليصِحَّ المعنى. قال أبو البقاء في هذا الوجه: «وفي الكلام حذفٌ أي: لا أعذب الكافر أي: مثل الكافر، أي: مثل عذاب الكافر» الثالث: أنها ضمير المصدر المؤكد نحو: «ظَنَنْتُهُ زيداً قائماً» ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ اعترض على نفسِه فقال: «فإنْ قلت:» لا أعذِّبه «صفةٌ ل» عذاب «وعلى هذا التقدير لا يعودُ من الصفة على الموصوف شيءٌ. قيل: إنَّ الثاني لما كان واقعاً موقعَ المصدرِ والمصدرُ جنس و «عذاباً» نكرةٌ كان الأول داخلاً في

الثاني، والثاني مشتملٌ على الأول وهو مثل: «زيد نعم الرجل» انتهى، فجعل الرابطَ العمومَ، وهذا الذي ذكره من أنَّ الربط بالعموم إنما ذكره النحويون في الجملةِ الواقعةِ خبراً لمبتدأ، ولذلك نَظَّره أبو البقاء ب «زيد نِعْم الرجل» وهذا لا ينبغي أن يُقاسَ عليه، لأن الربطَ يحصُل في الخبر بأشياءَ لا تجوز في الجملة الواقعةِ صفةً، وهذا منها، ثم هذا الاعتراضُ الذي ذَكَره واردٌ عليه في الوجه الثاني؛ فإنَّ الجملة صفة ل «عذاباً» وليس فيها ضميرٌ، فإنْ قيل: ليست هناك بصفةٌ، قيل: يفسد المعنى بتقدير الاستئناف، وعلى تقديرِ صحته فلتكنْ هنا أيضاً مستأنفةً. «وأحداً» منصوبٌ على المفعول الصريحِ. و «من العالمين» صفةٌ ل «أحداً فيتعلَّق بمحذوف.

116

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ الله} هل هذا القولُ وقعَ وانقضَى أو سيقع يومَ القيامة؟ قولان للناس، فقال بعضُم: لَمَّا رفعه إليه قال له ذلك، وعلى هذا ف «إذ» و «قال» على موضوعهما من المُضِيِّ وهو الظاهر. وقال بعضُهم: سيقولُه له يوم القيامة وعلى هذا ف «إذا» بمعنى «إذا» ، «وقال» بمعنى «يقول» وكونُها بمعنى «إذا» أهونُ من قول أبي عُبيد إنها زائدة؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء ليست بالسهلة. قوله: {أَأَنتَ قُلتَ} دَخَلَتِ الهمزةُ على المبتدأ فائدةٍ ذكرها أهل البيان وهو: أن الفعلَ إذا عُلِم وجودُه وشُكَّ / في نسبته إلى شخص أُولِي الاسمُ المشكوكُ في نسبة الفعل إليه للهمزة فيقال: «أأنت ضرب زيداً» فَضَرْبُ زيدٍ قد صدر في الوجود وإنما شُكَّ في نسبته إلى المخاطب، وإنْ شُكَّ في اصل وقوع الفعل أُولِي الفعلُ للهمزة فيقال: «أضربْتَ زيداً» لم تَقْطَعْ بوقوعِ الضرب بل شَكَكْتَ فيه، والحاصل: أنَّ الهمزةَ يليها المشكوك فيه، جئنا إلى الآية الكريمة فالاستفهامُ فيها يُراد به التقريعُ والتوبيخُ بغيرِ عيسى عليه السلام

وهم المتَّخذون له ولأمة الهين، دَخَل على المبتدأ لهذا المعنى الذي قد ذكرته، لأن الاتخاذَ قد وقع لا بد. واللام في «للناس» للتبليغ فقط، و «اتخذوني» يجوز أن تكون بمعنى «صَيَّر» فتتعدَّى لاثنين ثانيهما «إلهين» وأن تكونَ المتعدية لواحد ف «إلهين» حالٌ. و «من دون الله» فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلقٌ بالاتخاذ وأجاز أبو البقاء - وبه بدأ - أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «آلهين» . قوله: {سُبْحَانَكَ} أي: تنزيهاً، وتقدَّم الكلامُ عليه في البقرة مشبعاً، ومتعلَّقُه هنا محذوفٌ فقدَّره الزمخشري: سبحانك من أن يكونَ لك شريكٌ «وقَدَّره ابن عطية:» عن أَنْ يُقال هذا وينطق به «ورجَّحه الشيخ لقوله بعد: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ} قوله: {أَنْ أَقُول} في محلِّ رفع لأنه اسمُ» يكون «، والخبرُ في الجار قبله، أي: ما ينبغي لي قولُ كذا. و» ما «يجوزُ أن تكونَ موصولةً أن نكرةً موصوفة. والجملةُ بعدها صلةٌ فلا محلَّ لها، أو صفةٌ فمحلُّها النصبُ، فإنّ» ما «منصوبةٌ ب» اقول «نصبَ المفعول به لأنها متضمنةٌ لجملة فهو نظيرُ» قلت كلاماً «، وعلى هذا فلا يُحتاج أن يُؤَوَّل» أقول «بمعنى أَدَّعِي أو أذكر، كما فعله أبو البقاء. وفي» ليس «ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمُها، وفي خبرِها وجهان، أحدهما: أنه» لي «أي: ما ليس مستقراً لي وثابتاً، وأمَّا» بحق «على هذا ففيه ثلاثةُ أوجه، ذكر أبو البقاء منها وجهين، احدُهما أنه حالٌ من الضمير في» لي «قال: والثاني: أن يكونَ مفعولاً به

تقديره: ما ليسَ يَثْبُتُ ليس بسببِ حق، فالباءُ متعلقةٌ بالفعلِ المحذوف لا بنفسِ الجارِّ، لأنَّ المعاني لا تعمل في المفعول به» . قلت: وهذا ليس بجيدٍ لأنه قَدَّر متعلَّق الخبرِ كوناً مقيداً ثم حَذَفه وأبقى معموله. الوجه الثالث: أنَّ قوله «بحق» متعلقٌ بقوله: «عَلِمْتَه» ويكون الوقف على هذا على قوله «لي» والمعنى: فقد عَلِمْتَه بحق. وقد رُدَّ هذا بأن الأصل عدم التقديم والتأخير، وهذا لاينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا، بل الذي منع من ذلك أنَّ معمولَ الشرطِ أو جوابِه لا يتقدَّم على أداة الشرط لا سيما المرويُّ عن الأئمة القُرَّاء الوقفُ على «بحق» ، ويَبْتدئون ب «إنْ كنت قلتُه» وهذا مَرِويٌّ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فوجَبَ اتِّباعه] والوجهُ الثاني في خبرِ «ليس» أنه «بحق» ، وعلى هذا ففي «لي» ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه «يتبين» كما في قولهم: «سُقْياً له» أي: فيتعلَّقُ بمحذوف، والثاني: أنه حال من «بحق» لأنه لو تأخَّر لكانَ صفةً له، قال أبو البقاء: «وهذا يُخَرَّج على قولِ مَنْ يجوِّزُ تقديمَ حالِ المجرور عليه» قلت: قد تقدم لك خلافُ الناسِ فيه وما أوردوه من الشواهِد، وفيه أيضاً تقديمُ الحال على عامِلها المعنوي: فإنَّ «بحق» هو العاملُ إذ «ليس» لا يجوز أن تعملَ في شيء، وإنْ قلنا: إنَّ «كان» أختها قد تعمل لأن «ليس» لا حدَثَ لها بالإِجماع. والثالث: أنه متعلِّقٌ بنفسِ «حق» لأنَّ الباءَ زائدةٌ، وحَقّ بمعنى مُسْتحق أي: ما ليس مستحِقَّاً لي. قوله: {إِن كُنتُ} : «كنت» وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى، والتقدير: إن تَصِحَّ دعواي لِما ذُكر، وقَدَّره الفارسي بقوله: «إن أكن الآن قلتُه فيما مضى» لأنَّ الشرطَ والجزاء لايقعان إلا في المستقبل «وقولُه: {فَقَدْ عَلِمْتَهُ} أي: فقد تبيَّن وظهرَ عِلمُك به كقوله: {فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26]

و {فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] و {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90] . قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً، لأنَّ العرفان كما قَدَّمْتُه يستدعي سَبْقَ جهل، او يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ، أي: تعلمُ ما في نفسي كائناً وموجَداً على حقيقتِه لا يَخْفَى عليك منه شيءٌ، وأمَّا:» ولا أعلم «فيه وإنْ كان يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً، إلا أنها لَمَّا صارَتْ مقابلةً لما قبلها ينبغي أن يكونَ مثلَها، والمرادُ بالنفسِ هنا على ما قاله الزجاج» انها تُطْلَقُ ويُراد بها حيققةُ الشي، والمعنى في قوله {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} إلى آخره واضحٌ، وقال: «المعنى: تعلمُ ما أُخْفيه من سِرِّي وغيبي، أي: ما غابَ ولم أُظْهِرْه، ولا أعلمُ ما تُخفِيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه، فذكرالنفس مقابلةً وازداجاً، وهذا منتزع من قول ابن عباس، وعليه حام الزمخشري فإنه قال:» تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومَك «، وأتى بقوله: {مَا فِي نَفْسِكَ} على جهةِ المقابلةِ والتشاكلِ لقوله: {مَا فِي نَفْسِي} فهو كقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] ، وكقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 1415] .

117

قوله تعالى: {إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي} : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ «ما» منصوبةٌ بالقول؛ لأنها وما في حَيِّزها في تأويلِ مقول. وقَدَّر ابو البقاء القولَ بمعنى الذكرِ والتأديةِ. و «ما» يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً.

قوله: {أَنِ اعبدوا} في «أَنْ» سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في «به» والتقديرُ: ما قلتُ إلا ما أمرتَني بأن اعبدوا، وهذا الوجهُ سيأتي عليه اعتراض. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار «أعني» ، أي: إنه فَسَّر ذلك المأمورَ به. والثالث: أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ «به» في «ما أمرتني به» لأن محلِّ المجرور نصب. والرابع: أن موضعَها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ الخامس: أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به، السادس: أنها بدلٌ من «ما» نفسِها أي: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا. السابع: أنَّ «أَنْ» تفسيرية، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي. وممن ذهب إلى جوز أَنَّ «أَنْ» بدلٌ مِنْ «ما» فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مِن الهاء فتكونُ مجرورتَه أبو إسحق الزجاج، وأجاز أيضاً أن تكونَ تفسيريةً لا محلَّ لها. وهذه الأوجهُ قد منع بعضَها الزمخشري، وأبو البقاء منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي، وبدلاً من «ما» أو من الهاء في «به» . قال - رحمه الله -: «أنْ» في قوله: {أَنِ اعبدوا الله} إنْ جَعَلْتَها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر، والمفسِّر: إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر، وكلاهما لا وجهَ له: أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يَتَوسَّط بينه وبين محكيَّه حرفُ تفسير، وأما فعل الأمر فمستنِدٌ إلى ضمير الله عز وجل، فلو فِسَّرْتَه ب «اعبدوا الله ربي وربكم» لم يستقم لأن الله لا يقول: «اعبدوا الله ربي وربكم، وإنْ جَعَلْتَها بدلاً لم يخلُ

مِنْ أَنْ تجعلَها بدلاً من» ما «في» ما أمرتني به «أو من الهاء في» به «وكلاهُما غيرُ مستقيم؛ لأنَّ البدلَ هو الذي يقوم مقامَ المبدلِ منه، ولا يُقال: ما قلتُ لهم إلا أَنِ اعبدوا الله، أي: ما قلتُ لهم إلا عبادتَه لأنَّ العبادةَ لا تقال، وكذلك لو جَعَلْتَها بدلاً من الهاء، لأنك لو أَقَمْتَ» أن اعبدوا «مُقامَ الهاء فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلتِه، فإن قلت: كيف تصنع؟ قلت: يُحْمل فعلُ القول على معناه، لأنَّ معنى» ما قلت لهم إلا ما أمرتني به «: ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به، حتى يستقيمَ تفسيره ب» أن اعبدوا الله ربي وربكم «، ويجوزُ أن تكونَ» أَنْ «موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً. وتعقَّب عليه الشيخ كلامَه فقال: «أمَّا قولَه» وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع وقوله: «لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم» فإنما لم يستقمْ لأنه جَعَلَ الجملةَ وما بعدها مضمومةً إلى فعلِ الأمر، ويستقيم أن يكونَ فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله: «اعبدوا الله» ويكون «ربي وربكم» من كلام عيسى على إضمار «أعني» أي: «أعني ربي وربكم» ، لا على الصفة التي فَهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عندَه، وأمَّا قولُه: «لأنّ العبادة لا تُقال» فصحيحٌ، لكن يَصِحُّ ذلك على حَذْفِ مضاف أي: ما قلت لهم إلا القولَ الذي امرتني به قولَ عبادة الله أي: القولَ المتضمن عبادة الله، وأمَّا قوله «لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته» فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ المبدل منه، «ألا ترى إلى تجويز النحويين:» زيد مررت به أبي عبدِ الله «ولو قلت:» زيدٌ مررت بأبي عبد الله «لم يجز إلا على رأي الأخفش. وأما قولُه» عطفاً على بيان

الهاء «ففيه بُعْد، لأن عطفَ البيان أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ. وما اختاره الزمخشري وجَوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ، لأنها جاءت بعد» إلا «، وكلُّ ما كان بعد» إلا «المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكونَ له موضعٌ من الإِعراب، و» أن «التفسيرية لا موضعَ لها من الإِعراب» . انتهى. قلت: أمَّا قوله: «إنّ ربي وربكم من كلام عيسى» ففي غايةِ ما يكون من البُعْد عن الأفهام، وكيف يَفْهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ «ربي» تابعٌ للجلالة؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك، وهذا أشدٌّ من قولهم «يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطع عنه» فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ «اعبدوا الله» من كلام الله تعالى و «ربي وربكم» من كلام عيسى، وكلاهما مفسِّرٌ ل «أمرتَ» المسند للباري تعالى. وأمَّا قولُه «يَصِحُّ ذلك على حَذْف مضاف» ففيه بعض جودة، وأما قولُه: «إنَّ حلولَ البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم» واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلِّم، لأنَّ هذا معارَضٌ بنصِّهم، على أنه لا يجوز «جاء الذي مررت به أبي عبد الله» بجرِّ «عبد الله» بدلاً من الهاء، وعَلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قَدَّمْتُ التنبيه عليه، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل: «لا يجوزُ هذا لأنّ البدل يَحُلُّ محل المبدل منه» فيجعلون ذلك علةً مانعةً، يَعْرف ذلك مَنْ عانى كلامَهم، ولولا خوفُ الإِطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى. وأمَّا قوله: «وكلُّ ما كان بعد» إلا «المستثنى به إلى آخره» فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعى تسلُّط ما قبلها على ما بعدها. ويجوز في «أَنْ» الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإِتباع، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى مَنْ قرأ به في قوله: {فَمَنِ اضطر} [الآية: 173] في

البقرة. و «ربي» نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإِتباع رفعاً أو نصباً، فهذه خمسةٌ أوجهٍ تقدَّم إيضاحُها. قوله: {شَهِيداً} خبر «كان» و «عليهم» متعلق به، و «ما» مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان، و «دام» صلتها، ويجوز فيها التمامُ والنقصان، فإنْ كانت تامةً كان معناها الإِقامةَ، ويكون «فيهم» متعلقاً بها، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال، والمعنى: وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم، فلم يُحْتج هنا إلى منصوب، وتكون حينئذٍ متصرفةً، وإنْ كانت الناقصةَ لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع، فيكون «فيهم» في محلِّ نصب خبراً لها، والتقديرُ: مدةَ دوامي مستقراً فيهم، وقد تقدم أنه يقال: «دِمْتَ تَدام» كخِفْتَ تَخاف. قوله: {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ} يجوز في «أنت» أن تكون فصلاً وأن تكونَ تأكيداً. وقرئ «الرقيب» بالرفع على أنه خبر ل «أنت» والجملةُ خبرٌ «ل كان» ، كقوله: 185 - 7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وكنتَ عليها بالمَلا أنْتَ أَقْدَرُ وقد تقدَّم اشتقاقُ {الرقيب} و «عليهم» متعلِّق به. و «على كلِّ شيء» متعلِّق ب «شهيد» قُدِّم للفاصلة.

118

قوله تعالى: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} : تقدَّم نظيره، وهي في قراءةِ الناس ومصاحفِهم «العزيزُ الحكيم» وفي مصحف ابن مسعود - وقرأ بها جماعة -: «الغفورُ الرحيم» ، وقد عبِث بعض مَنْ لا يفهم كلامَ العرب بهذه الآيةِ، وقال: «إنما كان المناسب ما في مصحف ابن مسعود» وخَفِي عليه أنَّ المعنى متعلق بالشرطين جميعاً، ويوضِّح هذا ما قاله أبو بكر بن الأنباري، فإن نَقَل هذه القراءة عن بعض الطاعنين ثم قال: «ومتى نُقِل ما قاله هذا الطاعن ضَعُفَ معناه، فإنه ينفرد» الغفور الرحيم «بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلُّقٌ، وهو على ما أنزل الله وعلى ما أجمع على قراءته المسلمون معروف بالشرطين كليهما: أولهما وآخرهما، إذ تلخيصه: إنْ تعذبهم فأنت العزيز الحكيم، وإن تغفرْ لهم فأنتَ العزيزُ الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران، فكأنَّ» العزيز الحكيم «أليقُ بهذا المكان لعمومه وأنه يجمع الشرطين، ولم يصلُحْ» الغفور الرحيم «أَنْ يحتمل من العموم ما احتمله» العزيز الحكيم «قلت:» وكلامُه فيه دقةٌ، وذلك أنه لا يريد بقوله «إنه معروف بالشرطين إلى آخره» أنه جوابٌ لهما صناعةً، لأنَّ ذلك فاسدٌ من حيث الصناعةُ العربية؛ فإنَّ الأول قد أخذ جوابَه وهو «فإنهم عبادُك» وهو جوابٌ مطابِقٌ فإنَّ العبدَ قابل ليصرّفه سيدُه كيف شاء، وإنما يريد بذلك أنه متعلق بهما من جهة المعنى. وقد أكثر الناسُ في الكلامِ على هذه الآية بما لا يحتمله هذا الموضوع، وإنما تعرَّضْتُ لبعضِها لتعلُّقِه بالقراءة الشاذة والرسم الشاذ.

119

قوله تعالى: {يَوْمُ يَنفَعُ} : الجمهور على رفعه من غير تنوين، ونافع على نصبه من غير تنوين، ونقل الزمخشري عن الأعمش «يوماً» بنصبه منوناً، وابن عطية عن الحسن بن عياش الشامي: «يوم» برفعه منوناً، فهذه أربع قراءات. فأما قراءة الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر، والجملةُ في محل نصب بالقول. وأمَّا قراءة نافع ففيها أوجه، أحدها: أنَّ «هذا» مبتدأ، و «يوم» خبره كالقراءة الأولى، وإنما بُنِي الظرفُ لإِضافتِه إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلُّوا عليه بهذه القراءةِ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون البناء إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماض، وعليه قولُ النابغة: 185 - 8- على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا ... فقلتُ: أَلمَّا أًصْحُ والشيبُ وازعُ وخَرَّجوا هذه القراءةَ على أن «يوم» منصوبٌ على الظرف، وهو متعلق في الحقيقةِ بخبر المبتدأ أي: واقعٌ أو يقع في يوم ينفع، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضاً في المعنى، ومنهم مَنْ خَرَّجه على أنَّ «هذا» منصوبٌ ب «قال» وأُشير به إلى المصدرِ فنصبُه على المصدر، وقيل: بل أُشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ:

هل هو منصوبٌ نصبَ المفعول به أو نصبَ المصادر؟ لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلاماً نحو: «قلت شهراً وخطبة» جَرَى فيه هذا الخلاف، وعلى كلِّ تقدير ف «يوم» منصوبٌ على الظرف ب «قال» أي: قال الله هذا القولَ أو هذه الأخبارَ في وقتِ نفع الصادقين، و «ينفع» في محلِّ خفضٍ بالإِضافة، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل، وأنه أحد ثلاثةِ أشياء، وأمَّا قراءةُ التنوين فرفعُه على الخبريةِ كقراءة الجماعة، ونصبُه على الظرفِ كقراءة نافع، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محل الوصفِ لِما قبلها، والعائدُ محذوفٌ، وهي نظيرَةُ قولِه تعالى: {يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] ، فيكونُ محلُّ هذه الجملةُ إما رفعاً أو نصباً. قوله: {صِدْقُهُمْ} مرفوع بالفاعلية، وهذه قراءة العامة، وقُرِئ شاذاً بنصبه وفيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على المفعول من أجله، أي: ينفعهم لأجلِ صِدْقِهم، ذكر ذلك أبو البقاء وتبعه الشيخ وهذا لا يجوزُ لأنه فاتَ شرطٌ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ النفعِ غيرُ فاعلِ الصدقِ، وليس لقائلٍ أن يقولَ: «يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل: الذين يَصْدُقون لأجل صدقهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل» لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه، وللقولِ فيه مجال. الثاني: على إسقاطِ حرف الجر أي: بصدقِهم، وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه أيضاً من أنّ حَذْف الحرفَ لا يطَّرد. الثالث: أنه منصوب على المفعول به، والناصب له اسم الفاعل في «الصادقين» أي: الذين صَدَقوا صدقهم، مبالغةً نحو: «صَدَقْت القتال» كأنك وَعَدْتَ القتالَ

فلم تَكْذِبْه، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له، والعامل فيه اسم الفاعل قبله. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل: الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول: «صَدَق الصدقَ» وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ «ينفع» ضميرٌ يعود على الله تعالى وقوله تعالى: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ} معناه الدعاءُ وباقي السورة ظاهرُ الإِعراب مِمَّا تقدَّم مِنْ نظائرِه ولله الحمدُ.

الأنعام

قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات} : «جعل» هنا تتعدى لمفعول واحد لأنها بمعنى خلق، هكذا عبارة النحويين، ظاهرها أنهما مترادفان. إلا أن الزمخشري فرَّق بينهما فقال: «الفرق بين الخَلْق والجَعْل أنَّ الخَلْق فيه معنى التقدير و [في] الجعل معنى التصيير كإنشاء شيء من شيء، أو تصييرِ شيءٍ شيئاً، أو نقلِه من كان إلى مكان، ومن ذلك: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] {وَجَعَلَ الظلمات والنور} لأنَّ الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار» انتهى. وقال الطبري: «جَعَل» هنا هي التي تتصرف في طَرَف الكلام كما تقول: جعلت أفعل كذا، فكأنه: «وجعل إظلامَها وإنارتَها» وهذا لا يشبه كلام أهل اللسان. ولكونها عند

أبي القاسم ليست بمعنى «خلق» فسَّرها هنا بمعنى أحدث وأنشأ. وكذا الراغب جعلها بمعنى أوجد. ثم إن الشيخ اعترض عليه هنا لمَّا استطرد، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر، ومثَّل بقوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] فقال: «وما ذَكَره من أنَّ» جَعَل «بمعنى صَيَّر في قوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة} لا يَصِحُّ لأنهم لا يُصَيِّرهم إناثاً، وإنما ذكر بعض النحويين أنها هنا بمعنى سمَّى» قلت: ليس المرادُ بالتصيير التصييرَ بالفعل، بل المراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، وسيأتي لهذا - إن شاء الله - مزيدُ بيان في موضعه. وقد ظهر الفرق بين تخصيص السماوات والأرض بالخَلْق والظلمات والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري. وإنما وَحَّد النور وجَمَع الظلمات لأن النورَ مِنْ جنس واحد وهو النار، والظلمات كثيرة، فإنَّ ما من جِرْمٍ إلا وله ظلُّ، وظلُّه هو الظلمة، وحَسَّن هذا أيضاً أن الصلةَ التي قبلها تقدَّم فيها جَمْعٌ ثم مفردٌ فعطفْتَ هذه عليها كذلك وقد تقدَّم في البقرة الحكمة في جمع السماوات وإفراد الأرض. وقُدِّمت «الظلمات» في الذِّكر لأنه مُوافِقٌ في الوجود؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور. قوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ} «ثم» هذه ليست للترتيب الزماني، وإنما هي للتراخي بين الرتبتين، والمراد اسبتعادُ أن يَعْدِلوا به غيرَه مع ما أوضح من

الدلالات. وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله «الحمد لله» وإما على قوله: «خلق السماوات» قال الزمخشري: «فإن قلت: فما معنى» ثم «؟ قلت: استبعاد أن يَمْتَرُوا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم وميتهم وباعثهم» وقال ابن عطية: «ثم» دالة على ما قُبْح فِعْل الذين كفروا؛ فإنَّ خَلْقه للسماوات والأرض وغيرهما قد تَقَّرر، وآياتِه قد سَطَعَتْ، وإنعامه بذلك قد تبيَّن، ثم مع هذا كله يَعْدِلون به غيره «. قال الشيخ: «ما قالاه من انها للتوبيخ والاستبعاد ليس بصحيح، لأنها لم تُوضَعْ لذلك، والاستبعادُ والتوبيخُ مستفادٌ من السياق لا من» ثم «، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك، بل» ثم «هنا للمُهْلة في الزمان، وهي عاطفةٌ جملةً اسمية على جملة اسمية» . يعني على «الحمد لله» . ثم اعترض على الزمخشري في تجويزه أن تكون معطوفةً على «خَلَق» بأنَّ «خَلَق» صلة، فالمعطوفُ عليها يُعطى حكمَها، ولكن ليس ثَمَّ رابطٌ يعود منها على الموصول. ثم قال: «إلا أن يكون على رأيِ مَنْ يَرى الرَّبْطَ بالظاهر كقولهم: أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري» وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أن يُحملَ عليه كتابُ الله «. قلت: الزمخشري إنما يريد العطف ب» ثم «لتراخي ما بين الرتبتين، ولا يريد التراخي في الزمان كما قد صرَّح به هو فيكف يَلْزمُه ما ذَكَرَ مِنَ الخلوِّ عن الرابط، وكيف يَتَخيَّل كونَها للمهلة في الزمان كما ذكر الشيخ؟ قوله: {بِرَبِّهِمْ} يجوز أن يتعلَّق ب» كفروا «فيكون» يُعْدِلون «بمعنى يَميلون عنه، من العُدول، ولا مفعولَ له حينئذ، ويجوز أن يتعلَّ ب» يعدِلون «

وقُدِّم للفواصل، وفي الباء حينئذ احتمالان، أحدهما: ان تكون بمعنى عن، و» يَعْدِلون «من العُدول وأيضاً، أي يعدِلون عن ربهم إلى غيره. والثاني: أنها للتعدية، ويَعْدِلون من العَدْل وهو التسوية بين الشيئين، أي: ثم الذين كفروا يُسَوُّوْن بربهم غيرَه من المخلوقين، فيكون المفعول محذوفاً.

2

قوله تعالى: {مِّن طِينٍ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلِّقٌ ب «خَلَقكم» و «مِنْ» لابتداء الغاية. والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال، وهل يُحتاج في هذا الكلام إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ خلاف: ذهب جماعة كالمهدويِّ ومكي وجماعة إلى أنه لا حَذْفَ، وأن الإِنسان مخلوقٌ من الطين، وروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من مولودٍ يولد إلا ويُذَرُّ على النطفة من تراب حفرته» . وقيل: إن النطفة أصلها الطين. وقال غالب المفسرين: ثمَّ محذوفٌ أي: خَلَقَ أَصْلَكم أو أباكم من طينٍ، يعنون آدم وقصته المشهورة. وقال امرؤ القيس: 185 - 9- إلى عِرْقِ الثَّرى رَسَخَتْ عُروقي ... وهذا الموتُ يَسْلُبُني شبابي قالوا: أراد بعِرقْ الثرى آدم عليه السلام لأنه أصلُه. قوله: {ثُمَّ قضى} إن كان «قضى» بمعنى أظهر ف «ثُمَّ» للترتيب الزماني على أصلها؛ لأنَّ ذلك متأخرٌ عن خَلْقِنا وهي صفة فعل، وإن كان بمعنى كَتَب وقَد‍َّر فهي للترتيب في الذِّكْر؛ لأنها صفة ذات، وذلك مُقَدَّم على خَلْقِنا. قوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} مبتدأ وخبر، وسوَّغ الابتداء هنا شيئان، أحدهما: وَصْفُه، والثاني: عَطْفُه، ومجرَّدُ العطف من المسوغات، قال: 186 - 0-

عندي اصْطِبارٌ وشَكْوى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا والتنكير في الأجلين للإِبهام. وهنا مُسَوِّغٌ آخر وهو التفصيل كقوله: 186 - 1- إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له ... بشِقٍ وشِقٌ عندنا لم يُحَوَّلِ ولم يَجِبْ هنا تقديمُ الخبر وإن كان المبتدأ نكرةً والخبر ظرفاً؛ قال الزمخشري: لأنه تخصَّص بالصفةِ فقارَبَ «المعرفةَ، قال الشيخ:» وهذا الذي ذكره من كَوْنِه مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لا يتعيَّن، لجواز أن يكون المسوِّغُ التفصيلَ، ثم أنشد البيت: إذا ما بكى «قلت: الزمخشري لم يقلْ إنه تعيَّن ذلك حتى يُلْزِمَه به، وإنما ذكر أشهرَ المسوِّغات فإنَّ العطفَ والتفصيل قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات. قال الزمخشري:» فإن قلت: الكلامُ السائرُ أن يُقال: «عندي ثوب جيِّدٌ، ولي عبدٌ كيِّس» فما أوجب التقديم؟ قلت: أوجبه أن المعنى: وأيُّ أجل مسمَّى عنده، تعظيماً لشأن الساعة، فلمَّا جرى فيه هذا المعنى أوجب التقديم «. قال الشيخ: وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان التقدير: وأيُّ أجل مسمى عنده كانت» أيّ «صفةً لموصوف محذوف تقديره: وأجلٌ أيُّ أجلٍ مسمَّى عنده، ولا يجوز حَذْفُ الصفةِ إذا كانت» أيَّاً «ولا حَذْفُ موصوفِها وإبقاؤها لو قلت: مررت بأيِّ رجل، تريد برجلٍ أيِّ رجل لم يَجُزْ» قلت: ولم أَدْرِ كيف يُؤاخَذُ مَنْ فسَّر معنى بلفظٍ لم يَدَّعِ أن ذلك اللفظَ هو أصل الكلام المفسَّر، بل قال: معناه كيت وكيت، فكيف يَلزمه أن يكون ذلك

الكلام الذي فسَّر به هو أصل ذلك المفسَّر؟ على أنه قد وَرَدَ حذفُ موصوفِ «أيّ» وإبقاؤها كقوله: 186 - 2- إذا حارب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ ... عَلاه بسيفٍ كلما هَزَّ يقطعُ قوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} قد تقدَّم الكلامُ على «ثم» هذه. وتمترون تَفْتَعُون من المِرْيَة، وتقدَّم معناها في البقرة عند قوله: {مِنَ الممترين} [الآية: 147] وجَعَلَ الشيخ هذا من باب الالتفات، أعني قوله: «خَلَقَكم ثم أنتم تَمْتَرون» يعني أن قوله {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ} غائبٌ، فالتفت عنه إلى قوله: «خلقكم ثم أنتم» . ثم كأنه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ لا يختصُّ به الكفار، بل المؤمنون مثلُهم في ذلك. وأجاب بأنه إنما قصد الكفار تنبيهاً لهم على خَلْقِه لهم وقدرتَه وقضائه لأجالهم. قال: «وإنما جَعَلْتُه من الالتفات؛ لأن هذا الخطابَ وهو {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} لايمكن أن يندرجَ فيه مَنْ اصطفاه الله بالنبوَّة والإِيمان» . وأصل مُسَمَّى: مُسَمَّوٌ لأنه من مادة الاسم، وقد تقدَّم ذلك فقلبت الواو ياءً، ثم الياء ألفاً. وتمترون أصله تَمْتَرِيُون فأُعِلَّ كنظائر له تقدَّمَتْ.

3

قوله تعالى: {وَهُوَ الله فِي السموات} : في هذه الآية أقوالٌ كثيرة لخَّصْتُ جميعها في اثني عشر وجهاً؛ وذلك أن «هو» فيه قولان، أحدهما: هو ضمير اسم الله تعالى يعود على ما عادت عليه الضمائر قبله والثاني: أنه ضمير القصة، قال أبو عليّ. قال الشيخ: «وإنما فَرَّ إلى هذا

لأنه لو أعاده على الله لصار التقدير: الله الله، فتركَّب الكلام من اسمين متَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى لا نسبةَ بينهما إسنادية» قلت: الضمير إنما هو عائد على ما تقدَّم من الموصوف بتلك الصفاتِ الجليلة وهي خَلْقُ السماوات والأرض، وجَعْلُ الظلمات والنور، وخَلْق الناس من طين إلى آخرها، فصار في الإِخبار بذلك، فائدةٌ من غير شك، فعلى قول الجمهور يكون «هو» مبتدأ و «الله» خبره، و «في السماوات» متعلق بنفس الجلالة لما تَضَمَّنَتْه من معنى العبادة كأنه قيل: وهو المعبود في السماوات، وهذا قول الزجاج وابن عطية والزمخشري. قال الزمخشري: «في السماوات» متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل: وهو المعبود فيها - ومنه: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله} [الزخرف: 84]- أو هو المعروف بالإِلهيَّة والمتوحِّد بالإِلهيَّة فيها، أو هو الذي يقال له «الله» لا يَشْرَكُه في هذا الاسمِ غيره «. قلت: إنما قال:» أو هو المعروف أو هو الذي يقال له الله «لأن هذا الاسم الشريف تقدَّم لك فيه خلاف: هل هو مشتق أو لا؟ فإن كان مشتقاً ظهر تعلُّق الجار به، وإن كان ليس بمشتق: فإمَّا أن يكون منقولاً أو مرتجلاً، وعلى كلا التقديرين فلا يعمل؛ لأن الأعلام لا تعمل فاحتاج أنْ يَتَأوَّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة، فقوله» المعبود «راجع للاشتقاق، وقوله» المعروف «راجع لكونه عَلَماً منقولاً، وقوله» الذي يقال له اللهُ «راجع إلى كونه مرتجلاً، وكأنه -رَحِمه الله - استشعر بالاعتراض المذكور. والاعتراضُ منقولٌ عن الفارسي، قال:» وإذا جَعَلْتَ الظرف

متعلقاً باسم الله جاز عندي على قياس مَنْ يقول إن الله أصله الإِله، ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب أن لا يتعلق به عنده إلا ان تُقَدِّر فيه ضرباً من معنى الفعل «فكأن الزمخشري - والله أعلم - أخذ هذا من قول الفارسيِّ وبَسَطه. إلا أن أبا البقاء نقل عن أبي علي أنه لا يتعلَّق» في «باسم الله لأنه صار بدخول الألف واللام، والتغييرِ الذي دخله كالعلمَ، ولهذا قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] . فظاهرُ هذا النقلِ أنه يمنع التعلُّق به وإن كان في الأصل مشتقاً. وقال الزجاجُ: «هو متعلِّقٌ بما تضمَّنه اسم الله من لمعاني كقولك» أميرُ المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب «. قال ابن عطية:» هذا عندي أفضل الأقوال وأكثرُها إحرازاً لفصاحة اللفظ، وجزالة المعنى. وإيضاحُه أنه أراد أن يَدَلَّ على خَلْقه وآثارِ قدرته وإحاطته واستيلائه نحو هذه الصفات، فَجَمع هذه كلِّها في قوله: {وَهُوَ الله} أي: الذي له هذه كلُّها في السماوات وفي الأرض، كأنه قال: وهو الخالق والرازق والمُحْيي والمحيط في السماوت والأرض، كما تقول: «زيد السلطان في الشام والعراق» فلو قصدت ذات زيد لكان محالاً، فإذ كان مقصدُ قولك: [زيد] الآمرُ الناهي الذي يولِّي ويَعْزِل كان فصيحاً صحيحاً، فأقمت السلطنة مُقامَ هذه الصفات، كذلك في الآية الكريمة أقمت «الله» مقام تلك الصفات «. قال الشيخ:» ما ذكره الزجاج، وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث

المعنى، لكن صناعة النحو تساعد عليه؛ لأنهما زعما أن «في السماوات» متعلق باسم الله لِما تَضَمَّنه من تلك المعاني، ولو صرح بتلك المعاني لم تعمل فيه جميعها، بل العمل من حيث اللفظُ لواحدٍ منها، وإن كان «في السماوات» متعلقاً بجميعها من حيث المعنى، بل الأوْلى أن يتعلَّق بلفظ «الله» لِما تضمَّنه من معنى الألوهية، وإن كان عَلَماً لأن العلمَ يَعْمَلُ في الظرف لِما يتضمنه من المعنى كقوله: 186 - 3- أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأحيانْ ... ف «بعضَ» نصب بالعلمَ لأنه في معنى أنا المشهور «. قلت: قوله» لو صُرِّح بها لم تعمل «ممنوعٌ، بل تعمل ويكون عملُها على سبيل التنازع، مع أنه لو سكت عن الجواب لكان واضحاً، ولما ذكر الشيخ ما قاله الزمخشري قال:» فانظر كيف قَدَّر العاملَ فيها واحداً لا جميعَها «يعني أنه استنصر به فيما رَدَّ به على الزجاج وابن عطية. الوجه الثاني: أن» في السموات «معلِّقٌ بمحذوف هو صفة لله تعالى حُذِفَتْ لفَهْمِ المعنى، فقدَّرها بعضهم، وهو الله المعبود، وبعضهم: وهو الله المدبِّر، وحَذْفُ الصفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلا موضعُ يسيرةٌ على نَظَرٍ فيها، فمنها {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66] أي المعانِدون، {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أي الناجين فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه. الوجه الثالث: قال النحاس:» وهو أحسنُ ما قيل فيه - إن الكلام

تمَّ عند قوله: {وَهُوَ الله} والمجرور متعلِّقٌ بمفعول «يَعْلَم» وهو «سِرَّكم وجَهْرَكم» [أي:] يَعْلَم سِرَّكم وجَهْركم فيهما «وهذا ضعيفٌ جداً لِما فيه من تقديم معمول المصدر عليه وقد عرف ما فيه. الوجه الرابع: أن الكلام تمَّ أيضاً عند الجلالة، ويتعلق الظرف بنفس» يعلم «وهذا ظاهر، و» يعلم «على هذين الوجهين مستأنف. الوجه الخامس: أن الكلام تمَّ عند قوله {فِي السموات} فيتعلق {فِي السموات} باسم الله، على ما تقدَّم، ويتعلَّق «في الأرض» ب «يعلم» . وهو قول الطبري قال أبو البقاء «وهو ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى معبود في السماوات وفي الأرض، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض، فلا تتخصَّص إحدى الصفتين بأحد الظرفين» وهو رَدٌّ جميل. الوجه السادس: أنَّ «في السماوات» متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من «سرَّكم» ثم قُدِّمَت الحالُ على صاحبها وعلى عاملها. السابع: أنه متعلق ب «يَكْسِبون» وهذا فاسد من جهة أنه يلزم منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول؛ لأن «ما» موصولة اسمية أو حرفية، وأيضاً فالمخاطبون كيف يكسِبون في السماوات؟ ولو ذهب هذا القائل إلى أن الكلام تمَّ عند قوله «في السماوات» وعلَّق «في الأرض» ب «يَكْسِبون» لسَهُلَ الأمرُ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ. الثامن: أن «الله» خبر أول، و «في السماوات» خبر ثان. قال الزمخشري: «على معنى: أنَّه الله وأنه في السماوات وفي الأرض، وعلى

معنى: أنه عالمٌ بما فيها لا يخفى عليه شيء، كأنه ذاته فيهما» قال الشيخ: «وهذا ضعيفٌ لأن المجرور ب» في «لا يدل على كون مقيد، إنما يدل على كونٍ مُطْلَق» وهذا سهلُ الجواب لتقدُّمِه مراراً. التاسع: أن يكون «هو» مبتدأ و «الله» بدل منه، و «يَعْلَمُ» خبره، و «في السماوات» على ما تقدَّم. العاشر: أن يكون «الله» بدلاً أيضاً، و «في السماوات» الخبرُ بالمعنى الذي قال الزمخشري. الحادي عشر: أن «هو» ضمير الشأن في محل رفع بالابتداء، والجلالة مبتدأ ثان، وخبرها «في السماوات» بالمعنى المتقدَّم أو «يَعْلَمُ» والجملة خبر الأول - وهو الثاني عشر - مفسرةً له. وأمَّا «يَعْلَمُ» فقد عَرَفْت تفاصيل ما تقدَّم أنه يجوز أن يكون مستأنفاً، فلا محلَّ [له] ، أو في محل رفع خبراً، أو في محل نصب على الحال، و «سِرَّكم وجهرَكم» : يجوز أن يكونا على بابهما من المصدرية ويكونان مضافين للفاعل. وأجاز أبو البقاء أن يكونا واقعين موقع المفعول به أي مُسَرَّكم ومَجْهوركم، واستدل بقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] ولا دليلَ [فيه] لأنه يجوز أن تكون «ما» مصدرية. و «ما» في «ما تكسبون» يحتمل أن تكون مصدريةً - وهو الأليق لمناسبة المصدَرَيْن قبلها - وأن تكون بمعنى الذي.

4

قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} : «مِنْ آية» فاعل زيدت

فيه «مِنْ» لوجود الشرطين فلا تَعَلُّق لها. و «من آيات» صفة ل «آية» فهي في محل جرٍّ على اللفظ أو رفعٍ على الموضع. ومعنى «مِنْ» التبعيض. قوله: {إِلاَّ كَانُواْ} هذه الجملةُ الكونيَّةُ في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه الضمير في «تأتيهم» والثاني: أنه «من آية» وذلك لتخصُّصِها بالوصف. «وتأتيهم» يحتمل أن يكون ماضيَ المعنى لقوله «كانوا» ويحتمل أن يكون «كانوا» مستقبلَ المعنى لقوله «تأتيهمْ» . واعلمْ أن الفعل الماضي لا يقع بعد «إلا» إلا بأحد شرطين: إمَّا وقوعِه بعد فعلٍ كهذه الآية الكريمة، أو يقترن ب «قد» نحو: ما زيدٌ إلا قد قام «. وهنا التفات من خطابه بقوله:» خلقكم «إلى آخره إلى الغَيْبة بقوله:» وما تأتيهم «.

5

قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ} : الفاء هنا للتعقيب، يعني أن الإِعراض عن الآيات أعقبه التكذيب. وقال الزمخشري: «فقد كذَّبوا» مردودٌ على كلامٍ محذوف، كأنه قيل: إن كانوا مُعْرِضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظمُ آيةٍ وأكبرها «. قال الشيخ:» ولا ضرورةَ تدعو إلى هذا مع انتظام الكلام «، وقوله» بالحق «من إقامة الظاهر مُقام المضمر، إذ الأصل: فقد كذَّبوا بها، أي بالآية. والأنباء جمع نبأ، وهو ما يَعْظُم وَقْعُه من الأخبار. وفي الكلام حذف، أي يأتيهم مضمون الأنباء. و» به «متعلق بخبر» كانوا «و» لمَّا «حرفُ وجوب أو ظرف زمان، والعامل فيه» كَذَّبوا «. » وما يجوز أن تكون موصولة اسمية، والضمير في «به» عائدٌ عليها،

ويجوز أن تكونَ مصدرية، قال ابن عطية، أي أنباء كونهم مستهزئين، وعلى هذا فالضمير لا يعود عليها لأنها حرفية، بل يعود على الحق، وعند الأخفش يعود عليها لأنها اسم عنده.

6

قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا} : يجوز في «كم» أن تكون استفهامية وخبرية، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلِّقةٌ للرؤية عن العمل، لأن الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في ذلك، ولذلك أُعْطِيت أحكامَها من وجوب التصدير وغيره. والرؤيةُ هنا عِلْميَّة، ويَضْعُفُ كونها بصرية، وعلى كلا التقديرين فهي معلَّقة عن العمل، لأنَّ البَصَرية تجري مجراها، فإن كانت عِلْميَّةً ف «كم» وما في حيِّزها سادَّةٌ مَسدَّ مفعولين، وإن كانت بصرية فمسدَّ واحد. و «كم» يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص فتكونَ معفولاً بها ناصبها «أَهْلَكْنا» و «مِنْ قَرْنٍ» على هذا تمييز لها، وأن تكون عبارةً عن المصدر فتنتصبَ انتصابَه بأهْلَكْنا، أي إهلاكاً، و «مِنْ قرن» على هذا صفةٌ لمفعول «أَهْلَكْنا» أي أهلكنا قوماً أو فوجاً من القرون؛ لأنَّ قرناً يراد به الجمع، و «مِنْ» تبعيضية، والأُولى لابتداء الغاية. وقال الحوفي: «من» الثانية بدل من «مِنْ» الأولى وهذا لا يُعْقل فهو وَهْمٌ بَيِّنٌ، ويجوز أن تكون «كم» عبارة عن الزمان فتنتصب على الظرف. قال أبو البقاء: «تقديره: كم أزمنةٍ أهلكنا فيها» وجعل أبو البقاء على هذا الوجه «من قرن» هو المفعول به و «مِنْ» مزيدة

فيه وجاز ذلك لأن الكلام غير موجب والمجرور نكرة. إلا أن الشيخ منع ذلك بأنه لا يقع إذ ذاك المفردُ موقعَ الجمع لو قلت: [ «كم أزماناً ضربتُ رجلاً، أو كم مرةً ضربتُ رجلاً» لم يكن مدلولُ رجل رجالاً] ، لأن السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة أو المرات التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس [موضعَ زيادة «مِنْ» لأنها لا تُزاد في الاستفهام] ، إلا وهو استفهام مَحْضٌ أو يكونُ بمعنى النفي، والاستفهام هنا ليس مَحْظَاً ولا مُراداً به النفيُ. [انتهى. والجواب عمَّا قاله: لا نُسَلِّم ذلك] . قوله: {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} في موضع جر صفةً ل «قَرْن» وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبار معناه، قاله أبو البقاء والحوفي، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ «مِنْ قرن» تمييز ل «كم» ف «كم» هي المحدِّث عنها بالإِهلاك، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتمكين لا ما بعدها، إذ «من قرن» يجري مجرى التبيين، ولم يُحَدَّثْ عنه. وجَوَّز الشيخ أن تكون هذه الجملة استنئافاً جواباً لسؤالٍ مقدَّر، قال كأنه قيل: ما كان من حالهم؟ فقيل: مكَّنَّاهم، وجعله هو الظاهر. وفي نظر، فإن النكرة مفتقرةٌ للصفة فَجَعْلُها صفةً أَلْيَق. والفرق بين قوله {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} [وقوله] : «ما لم نمكِّن لكم» أنَّ «

مَكَّنه في كذا» : أَثْبته فيها، ومنه: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] وأمَّا مكَّن له فمعناه جعل له مكاناً ومنه، {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} [الكهف: 84] {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} [القصص: 57] ، ومثله: «أَرَضَ له» أي جعل له أرضاً، هذا قول الزمخشري. وأمَّا الشيخ فإنه يظهر من كلامه التسوية بينهما فإن قال: «وتَعَدِّي مَكَّن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر، والأكثرُ تعديتُه باللام: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف: 21] {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ} [الكهف: 84] {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} [القصص: 57] . وقال أبو عبيدة:» مكَّنَّاهم ومكَّنَّاهم لهم: لغتان فصيحتان نحو: نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له «. [قلت: وبهذا قال] أبو علي والجرجاني. قوله: {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} في» ما «هذه خمسة أوجه، أحدها: أن تكون موصولةً بمعنى الذي، وهي حينئذ صفة لموصوف محذوف، والتقدير: التمكين الذي لم نمكِّن لكم، والعائد محذوف أي: الذي لم نمكَّنه لكم. الثاني: أنها نكرةٌ صفةٌ لمصدر محذوف تقديره: تمكيناً ما لم نمكِّنه لكم، ذكرهما الحوفي. وردَّ الشيخ الأول بأن» ما «بمعنى الذي لا تكون صفةً لمعرفة وإن

كان» الذي «يقع صفة لها، ولو قلت:» ضربت الضرب ما ضَرَبَ زيدٌ «تريد الضربَ الذي ضربه زيد، لم يجز، فإن قلت:» الضرب الذي ضربه زيد «جاز. ورَدَّ الثاني بأن» ما «النكرة التي تقع صفةً لا يجوز حَذْفُ موصوفِها، لو قلت:» قمت ما وضربت ما «وأنت تعني: قمت قياماً ما، وضرباً ما، لم يجز» . الثالث: أن تكون مفعولاً بها ل «مَكَّن» على المعنى، لأن معنى مكَّنَّاهم: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ، ذكره أبو البقاء قال الشيخ: «هذا تضمينٌ، والتضمين لا ينقاس» الرابع: أن تكون «ما» مصدريةً، والزمان محذوف، أي: مدةَ ما لم نمكِّن لكم، والمعنى: مدة انتفاء التمكين لكم. الخامس: أن تكون نكرةً موصوفة بالجملة المنفيَّة بعدها والعائد محذوف، أي: شيئاً لم نمكِّنْه لكم، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال الشيخ في الأخير: «وهذا أقرب إلى الصواب» قلت: ولو قدَّره أبو البقاء بخاص لكان أحسن من تقديره بلفظ شيء فكان يقول: مكنَّاهم تمكيناً لم نمكنه لكم. والضمير في «يروا» قيل: عائد على المستهزئين، والخطاب في «لكم» راجع إليهم أيضاً فيكون على هذا التفاتاً فائدتُه التعريض بقلَّة تمكُّن هؤلاء ونَقْصِ أحوالهم عن حال أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهلاك فكيف وأنتم أقلُّ منهم تمكيناً وعَدَداً؟ وقال ابن عطية: «والمخاطبة في» لكم «هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم ولسائر الناس كافة، كأنه قيل:

ما لم نمكِّن يا أهل هذا العصر لكم، ويحتمل أن يُقَدِّر معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال: يا محمد قل لهم: ألم يروا كم أهلكنا الآية، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أَمَرْتَ أن يقال - فَلَكَ في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيءَ بلفظ المخاطبة، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغيبة دون الخطاب» . انتهى ومثاله: «قلت لزيد: ما أكرمك، أو ما أكرمه» . والقَرْن: لفظ يقع على معانٍ كثيرة، فالقرن: الأمَّة من الناس، سمُّوا بذلك لاقترانهم في مدة من الزمان، ومنه قوله عليه السلام: «خيرُ القرون قرني» . وقال الشاعر: 186 - 4- أُخَبِّرُ أخبارَ القُرونِ التي مَضَتْ ... أَدِبُّ كاني كلما قُمْتُ راكِعُ وقال قس بن ساعدة: 186 - 5- في الذاهبين الأوَّلِي ... نَ من القرون لنا بصائِرْ وقيل: أصله الارتفاع، ومنه قَرْنُ الثور وغيره، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السنِّ. وقيل: لأن بعضهم يُقْرَن ببعض ويُجعل مجتمعاً معه، ومنه القَرَن للحَبْلِ يُجمع به بين البعيرين، ويُطلق على المدة من الزمان أيضاً. وهل إطلاقه على الناس والزمان بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز؟ الراجح الثاني؛ لأن المجازَ خيرٌ من الاشتراك. وإذا قلنا بالراجح فإنها الحقيقة، الظاهر أنه القوم لأنَّ غالبَ ما يُطلق عليهم، والغَلَبة مؤذنةٌ بالأصالة

غالباً. وقال ابن عطية: «القرن أن يكون وفاة الأشياخ وولادة الأطفال، ويَظْهر ذلك من قوله تعالى: {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} فجعله معنى، وليس بواضح. وقيل: القرن: الناس المجتمعون، قلَّت السنون أو كَثُرت، واستدلوا بقوله عليه السلام:» خيرُ القرونِ قَرْني «وبقوله: 186 - 6- في الذاهبين الأوَّلي ... نَ من القرون لنا بصائرْ وبقوله: 186 - 7- إذا ذَهَبَ القومُ الذي كنتَ فيهمُ ... وخُلِّفْتَ في قَرْن فأنت غريبُ فأطلقوه على الناس بقيد الاجتماع. ثم اختلف الناس في كمية القرن حالة إطلاقه على الزمان فالجمهور أنه مئة سنة، واستدلوا له بقوله عليه السلام:» يعيش قرناً «فعاش مائة سنة. وقيل: مئة وعشرون قاله إياس بن معاوية وزارة بن أبي أوفى. وقيل: ثمانون نقله صالح عن ابن

عباس: وقيل: سبعون قاله الفراء. وقيل: ستون لقوله عليه السلام:» معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين «وقيل: أربعون، حكاه محمد بن سيرين، يرفعه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك الزهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: ثلاثون حكان النقاش عن أبي عبيدة، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة. وقيل: عشرون، وهو رأي الحسن البصري. وقيل: ثمانية عشر عاماً. وقيل: هو المقدار الوسط من أعمار أهل ذلك الزمان، واستحسن هذا بأنَّ أهل الزمن القديم كانوا يعيشون أربع مئة سنة وثلاث مائه وألفاً وأكثر وأقل. وقدَّر بعض الناس في قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} أهلاً، أي: أهل قرن؛ لأنَّ القرنَ الزمانُ، ولا حاجة إلى ذلك إلا على اعتقاد أنه حقيقةٌ فيه، مجاز في الناس، وقد قدَّمْتُ أن الراجحَ خلافُه. قوله: {مَّدْرَاراً} حال من «السماء» إن أريد بها السحابُ، فإنَّ السحابَ يوصفُ بكثرة التتابع أيضاً، وإن أريد به الماء فكذلك. ويدلُّ على أنه يراد به الماءُ قولُه في الحديث «في أثر سماء كانت من الليل» ويقولون: ما نزلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، ومنه: 186 - 8- إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قومٍ ... رَعَيْناه وإن كانوا غضابا أي: رَعَيْنا ما ينشأ عنه. وإن أريد بها هذه المِظَلَّةُ فلا بد من حذف مضافٍ حينئذ أي: مطر السماء، ويكون «مدراراً» حالاً منه. ومدرار مِفْعال

وهو للمبالغة كامرأة مِذْكار ومِئْناث. قالوا: وأصله مِن «دَرِّ اللبن» وهو كثرةُ ورودِه على الحالِب ومنه: «لا درَّ درُّه» في الدعاء عليه بقلة الخير. وفي المثل: «سبقَتْ دِرَّتُ غِرارَه» وهي مثلُ قولهم: «سبقَ سيلُه مَطَرَه» . واستدَّرت المِعْزى كناية عن طلبها الفحل، قالوا: لأنَّها إذا طَلَبَتْه حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّت. قوله: {تَجْرِي} إنْ جعلنا «جَعَلَ» تصييرية كان «تجري» مفعولاً ثانياً، وإن جعلناها إيجادية كان حالاً. و «من تحتهم» يجوز فيه أوجه: أن يكون متعلقاً ب «تجري» ، وهذا هو الذي ينبغي أن لا يُعْدَلَ عنه، وأن يكون حالاً: إمَّا من فاعل «تجري» أو من «الأنهار» وأن يكون مفعولاً ثانياً ل «جعلنا» ، و «تجري» على هذا حال من الضمير في الجار، وفيه ضعف لتقدُّمها على العامل المعنوي، ويجوز أن يكون «من تحتهم» حالاً من «الأنهار» كما تقدَّم، و «تجري» حال من الضمير المستكنِّ فيه، وفيه الضعف المتقدم. قوله: {مِن بَعْدِهِمْ} متعلق ب «أنشأنا» قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون حالاً من» قرن «لأنه ظرف زمان» يعني أنه لو تأخر عن قرن لكان يُتَوَهَّم جوازُ كونه صفةً له، فلما قُدِّم عليه قد يوهم أن يكون حالاً منه، لكنه منع ذلك كونُه ظرفَ زمان، والزمان لا يُخبر به عن الجثث ولا يوصف به، وقد تقدم لك أنه يصِحُّ ذلك بتأويلٍ ذكرته في البقرة عند قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [الآية: 21] . و «آخرين» صفة ل «قَرْن» لأنه اسم جمعٍ كقوم ورهط، فلذلك

اعتُبر معناه، ومن قال: إنه الزمان قَدَّر مضافاً أي: أهل قرن آخرين، وقد قَدَّمْتُ أنَّه مرجوح.

7

قوله تعالى: {فِي قِرْطَاسٍ} : يجوز أن يتعلق بمحذوف على انه صفة لكتاب، سواء أريد بكتاب المصدرُ أم الشيء المكتوب. ويجوز أن يتعلَّق بنفس «كتاباً» سواء أريد به المصدر أم الشيء المكتوب. ومن مجيء الكتاب بمعنى مكتوب قوله: 186 - 9-. . . . . . . . . . . . . . . صحيفةً ... أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها وفي النفس مِنْ جَعْلِ «كتاباً» في الآية الكريمة مصدراً شيء؛ لأن نفس الكتاب لا تُوصف بالإِنزال إلا بتجوُّز بعيد، ولكنهم قد قالوه هنا، ويجوز أن يتعلَّق «في قرطاس» ب «نَزَّلْنا» . والقِرْطاس: الصحيفة يُكتب فيها تكون من رَقَّ وكاغد، بكسر القاف وضمها، والفصيح الكسر، وقرئ بالضم شاذاً نقله أبو البقاء والقِرْطاس: اسم أعجمي معرَّب، ولا يقال قرطاس إلا إذا كان مكتوباً وإلا فهو طِرْس وكاغَد، وقال زهير: 187 - 0- لها أخاديدُ مِنْ آثارِ ساكنها ... كما تردَّدَ في قِرْطاسِه القلمُ قوله: {فَلَمَسُوهُ} الضمير المنصوب يجوز أن يعود على القِرْطاس، وان يعود على «كتاب» بمعنى مكتوب. و «بأيديهم» متعلق ب «لَمَسَ» . والباء للاستعانة كعملت بالقَدُوم. و «لقال» جواب لو، جاء على الأفصح من اقتران جوابها المثبت باللام. قوله: {إِنْ هاذآ} «إنْ» نافية، و «هذا» مبتدأ، و «إلا سحرٌ» خبره

فهو استثناء مفرغ، والجملةُ المنفيَّة في محل نصب بالقول، وأوقع الظاهرَ موقع المضمر في قوله «لقال الذين كفروا» شهادةً عليهم «بالكفر. والجملة الامتناعية لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافها.

8

قوله تعالى: {وَقَالُواْ لولا} : الظاهر أن هذه الجملة مستأنفة سِيْقَتْ للإِخبار عنهم بفرط تعنُّتِهم وتصلُّبهم في كفرهم. قيل: ويجوز أن تكون معطوفةً على جواب «لو» أي: لو نَزَّلْنا عليك كتاباً لقالو كذا، ولقالوا: لولا أُنْزِل عليه مَلَك. وجيء بالجواب على أحد الجائزين، أعني حذف اللام من المثبت. وفيه بُعْدٌ؛ لأن قولهم «لولا أُنْزل» ليس مترتباً على قوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا} و «لولا» هنا تحضيضية. والضمير في «عليه» الظاهر عودُه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: يجوز أن يعود على الكتاب أو القرطاس، والمعنى: لولا أُنْزل على الكتاب مَلَك لشهد بصحته، كما يُرْوى في القصة أنه قيل: له لن نؤمن حتى تعرجَ فتأتي بكتاب، ومعه أربعة ملائكة يشهدون، وهذا يَظْهر على رأي مَنْ يقول: إن الجملة من قوله: {وقالوا: لولا أُنْزل} معطوفةٌ على جواب لو، فإنه يتعلق به من حيث المعنى حينئذ.

9

قوله تعالى: {مَّا يَلْبِسُونَ} : في «ما» قولان، أحدهما: أنها موصولة بمعنى الذي أي: ولَخَلَطْنَا عليهم ما يخلطون على أنفسهم أو على غيرهم، قاله أبو البقاء وتكون «ما» حينئذ مفعولاً بها. الثاني: أنها مصدرية أي: ولَلَبَسْنا عليهم مثل ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم. وقرأ ابن محيصن: «ولَبَسْنا» بلام واحدة هي فاء الفعل، ولم يأت بلام في الجواب اكتفاءً بها في المعطوف عليه. وقرأ الزُّهري «ولَلَبَّسْنا» بلامين وتشديد الفعل على التكثير.

10

قوله تعالى: {وَلَقَدِ استهزىء} : قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو بكسر الذال على أصل التقاء الساكنين، والباقون بالضم على الإِتباع، ولم يبالَ بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصين، وقد قرَّرْتُ هذه القاعدة بدلائلها في البقرة عند قوله: {فَمَنِ اضطر} [الآية: 173] . و «برسلٍ» متعلق ب «استهزئ» . و «مِنْ قبلك» صفة لرسل، وتأويلُه ما تقدَّم في وقوع «من قبل» صلة. قوله: {فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ} فاعل حاق: «ما كانوا» و «ما» يجوز أن تكون موصولةً اسمية، والعائد الهاء في «به» و «به» يتعلق ب «يستهزئون» و «يستهزئون» خبر ل «كان» ، و «منهم» متعلق بسخروا، على أنَّ الضمير يعود على الرسل، قال تعالى: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} [هود: 38] ، ويجوز أن يتعدَّى بالباء نحو: سَخِرْت به، ويجوز أن يتعلَّق «منهم» بمحذوف أنَّه حال من فاعل «سَخِروا» ، والضمير في «منهم» يعود على الساخرين. وقال أبو البقاء: «على المستهزئين» وقال الحوفي: «على أُمَمِ الرسلِ» . وقد رَدَّ الشيخ على الحوفي بأنه يلزم إعادته على غير مذكور وجوابُه أنه في قوة المذكور، وردَّ على أبي البقاء بأنه يصير المعنى: فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين، فلا حاجةَ إلى هذه الحال لأنها مفهومةٌ من

قوله «سخروا» وجوَّزوا أن تكون «ما» مصدرية، ذكره الشيخ، ولم يتعرَّض للضمير في «به» والذي يظهر أنه يعود على الرسل الذي يتضمَّنه الجمع، فكأنه قيل: فحاق بهم عاقبةُ استهزائهم بالرسول المندرج في جملة الرسل، وأمَّا على رأي الأخفش وابن السراج فتعود على «ما» مصدرية لأنها اسم عندهما. وحاق ألفه منقلبة عن ياء بدليل يَحِيق، كباع يبيع، والمصدر حَيْق وحُيُوق وحَيَقان كالغَلَيان والنَّزَوان. وزعم بعضهم أنه من الحَوْق، وهو المستدير بالشيء، وبعضهم أنه من الحقّ، فأُبْدِلت إحدى القافين ياءً كتظنَّنْتُ، وهذان ليسا بشيء، أمَّا الأول فلاختلاف المادة إلا أن يريدوا الاشتقاق الأكبر، وأما الثاني فلأنها دعوى مجردة من غير دليل. ومعنى حاق أحاط، وقيل: عاد عليه وبالُ مَكْرِه، قال الفراء. وقيل: دار، والمعنى يدور على الإِحاطة والشمول، ولا تستعمل إلا في الشر. قال الشاعر: 187 - 1- فأوطأ جُرْدُ الخيلِ عُقْرَ ديارهمْ ... وحاقَ بهم من بأسِ ضَبَّةَ حائقُ وقال الراغب: «قيل وأصله حَقَّ، فقلب نحو: زلَّ وزال، وقد قرئ:» فأزلَّهما وأزلَهما «وعلى هذا ذمَّة وذامه» وقال الأزهري: «جعل أبو إسحاق» «حاق» بمعنى أحاط، وكأن مأخذه من الحَوْق وهو ما استدار بالكَمَرَة «قال:» وجائز أن يكون الحَوْق فعلاً من حاق يحيق، كأنه في

الأصل: حُيْق، فقلبت الياء واواً لانضمام ما قبلها «وهل يحتاج إلى تقدير مضاف قبل» ما كانوا «؟ نقل الواحدي عن أكثر المفسرين ذلك أي: عقوبة ما كانوا، أو جزاء ما كانوا، ثم قال:» وهذا إذا جعلت «ما» عبارة عن القرآن والشريعة وما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن جعلْتَ «ما» عبارةً عن العذاب الذي كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوعدهم به إن لم يؤمنوا استغْنَيْتَ عن تقدير المضاف، والمعنى: فحاق بهم العذابُ الذي يستهزئون به وينكرونه. والسُّخْرِيَّة: الاستهزاء والتهكم، يقال: سَخِر منه وبه، ولا يقال إلا استهزاءً به فلا يتعدَّى ب «مِنْ» وقال الراغب: «سَخَرْتُهُ إذا سَخَّرْتَه للهُزْء منه، يقال: رجل سُخَرَة بفتح الخاء إذا كان يَسْخَر من غيره، وسُخْرة بسكونها إذا كان يُسْخر منه، ومثله: ضُحَكة وضُحْكة، ولا ينقاس. وقوله: {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} [المؤمنون: 110] يحتمل أن يكون من التسخير، وأن يكون من السُّخْرية» . وقد قرئ سُخرياً وسِخرياً بضمِّ السين وكسرها. وسيأتي له مزيد بيان في موضعه إن شاء الله تعالى.

11

قوله تعالى: {ثُمَّ انظروا} : عطف على «سيروا» ولم يجئ في القرآن العطفُ في مثل هذا الموضع إلا بالفاء، وهنا جاء ب «ثم» فيحتاج إلى فرق، فذكر الزمخشري الفرق وهو: أَنْ جَعَل النظر مسبِّباً عن السير في قوله: {انظروا} كأنه قيل: «سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سيرَ الغافلين» وهنا معناه إباحةُ السَّيْر في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبَّه على ذلك ب «ثم» لتباعد ما بين الواجب «والمباح» .

قال الشيخ: «وما ذكره أولاً متناقض لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السير، فكان السير سبباً للنظر، ثم قال: فكأنه قيل: سيروا لأجلِ النظر، فجعل السيرَ معلولاً بالنظر، والنظرُ سببٌ له فتناقضا، ودعوى أن الفاء سببية دعوى لا دليلَ عليها، وإنما معناها التعقيب فقط، وأمَّا:» زنى ماعِزٌ فَرُجم «ففَهْمُ السببية من قرينةٍ غيرِها» قال: «وعلى تقدير تسليم إفادتها السببَ فلِمَ كان السيرُ هنا سيرَ إباحة وفي غيره سيرَ إيجاب؟ قلت: هذا اعتراضٌ صحيح إلا قولَه» إن الفاء لا تفيد السببية «فإنه غير مُرْضٍ، ودليلُه في غير هذا الموضوع. ومثل هذا المكان في كون الزمخشري جعل شيئاً علة ثم جعله معلولاً ما سيأتي إن شاء الله في أول الفتح ويأتي هناك جوابه. قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} » كيف «خبر مقدَّم و» عاقبة «اسمها، ولم يُؤَنَّثْ فعلُها لأن تأنيثها غير حقيقي، ولأنها بتأويل المآل والمنتهى، فإنَّ العاقبة مصدرٌ على وزن فاعِله، وهو محفوظ في ألفاظ تقدَّم ذِكْرُها وهي منتهى الشيء وما يصير إليه. والعاقبة إذا أُطْلِقَتْ اختصت بالثواب. قال تعالى: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] ، وبالإِضافة قد تستعمل في العقوبة كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواأى} [الروم: 10] {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار} [الحشر: 17] فصَحَّ أن تكون استعارة مِنْ ضدِّه كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] . و» كيف «معلِّقة للنظر فيه في محل نصب على إسقاط الخافض؛ لأنَّ معناه هنا التفكُّر والتدبُّر.

12

قوله تعالى: {لِّمَن مَّا فِي السموات} : «لمَنْ» خبرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم؛ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام فإنَّ «مَنْ» استفهامية والمبتدأ «ما» وهي بمعنى الذي، والمعنى: لمن استقر الذي في السماوات. وقوله: {قُل للَّهِ} قيل: إنما أمَرَه أن يجيب وإن كان المقصود أن يُجيب غيرُه؛ ليكون أولَ مَنْ بادر الاعتراف بذلك، وقيل: لمَّا سألهم كأنهم قالوا: لمن هو؟ فقال الله: قل لله، ذكره الجرجاني. فعلى هذا قوله: «قل لله» جواب للسؤال المضمر الصادر من جهة الكفار، وهذا بعيدٌ، لأنهم لم يكونوا يشكُّون في أنه لله، وإنما هذا سؤال تبكيت وتوبيخ، ولو أجابوا لم يَسَعْهم أن يُجيبوا إلا بذلك. وقوله «لله» خبر مبتدأ محذوف، أي هو أو ذلك لله. قوله: {كَتَبَ على نَفْسِهِ} أي قضى وأوجب إيجابَ تَفَضُّلٍ لا أنه مستحق عليه تعالى. وقيل: معناه القسم، وعلى هذا فقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} جوابُه؛ لِما تضمن من معنى القسم، وعلى هذا فلا توقُّفَ على قوله «الرحمة» قال الزجاج: «إن الجملة من قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} في محل النصب على أنها بدل من» الرحمة «، لأن فَسَّر قوله {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} بأنه أمهلكم وأمدَّ لكم في العمر والرزق مع كفركم، فهو تفسير للرحمة. وقد ذكر الفراء هذين الوجهين: أعني أن الجملة تَمَّتْ عند قوله» الرحمة «أو أن» ليجمعنكم «بدلٌ منها فقال:» إن شئت جعلت الرحمة غايةَ الكلام ثم استأنفت بعدها «ليجمعنكم» وإن شِئْتَ جَعَلْتَها في موضع نصب كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ} [الأنعام: 54] . قلت: واستشهاده بهذه الآيةِ حسن جداً.

ورَدَّ ابن عطية هذا بأنه يلزم دخولُ نونِ التوكيد في الإِيجاب قال: «وإنما تدخل على الأمر والنهي وجواب القسم» . ورَدَّ الشيخ حصر ابن عطية وردَ نون التوكيد فيما ذكر. وهو صحيح، وردَّ كونَ «ليجمعنَّكم» بدلاً من الرحمة بوجه آخر، وهو أنَّ «ليجمعنَّكم» جوابُ قسمٍ، وجملة الجواب وحدها لا موضع لها من الإِعراب، إنما يُحْكَمُ على موضع جملتي القسم والجواب بمحلِّ الإِعراب «. قلت: وقد خلط مكي المذهبين وجعلهما مذهباً واحداً فقال:» ليجمعنَّكم «في موضع نصبٍ على البدل من» الرحمة «واللام لام القسم. فهي جواب» كتب «لأنه بمعنى: أوجب ذلك على نفسه، ففيه معنى القسم، وقد يظهر جوابٌ عما أورده الشيخ على غير مكي، وذلك أنهم جعلوا» ليجمعنَّكم «بدلاً من» الرحمة «، يعني هي وقسيمها المحذوف، واستغنوا عن ذكر القسم بها؛ لأنها مذكورةٌ في اللفظ، فكأنهم قالوا: وجملة القسم في محل نصب بدلاً من الرحمة، وكما يقولون جملة القسم ويستغنون به عن ذِكْرِهم جملةَ الجواب كذلك يستغنون بالجواب عن ذكر القسم لاسيما وهو غير مذكور. وأمَّا مكي فلا يظهر هذا جواباً له؛ لأنه نصَّ على أنه جوابٌ ل «كَتَبَ» فَمِنْ حيث جعله جواباً لكَتَبَ لا محلَّ له، ومن حيث جَعَلَه بدلاً كان مَحَلُّه النصب فتنافيا. والذي ينبغي في هذه الآية أن يكون الوقفُ عند قوله «الرحمة، وقوله» ليجمعنَّكم «جواب قسم محذوف، اي: والله ليجمعنكم، والجملة القسمية لا تعلُّق لها بما قبلها من حيث الإِعراب، وإن تعلَّقَتْ به من حيث المعنى. و» إلى «على بابها أي: ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة. وقيل: هي

بمعنى اللام كقوله: {إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} [آل عمران: 9] وقيل: بمعنى» في «أي: ليجمعنَّكم في يوم القيامة. وقيل: هي زائدة أي: ليجمعنكم يوم القيامة، وقد يشهد له قراءة من قرأ {تهوى إليهم} بفتح الواو أنه ضرورةَ هنا إلى ذلك. قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} تقدم نظيره في أول البقرة. والجملة حال من» يوم «، والضمير في» فيه «يعود على اليوم، وقيل: يعود على الجمع المدلول عليه بالفعل لأنه رَدٌّ على منكري الحشر. قوله: {الذين خسروا} فيه ستة أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ بإضمار» أذمُّ «وقدَّره الزمخشري ب أريد، وليس بظاهر. الثاني: أنه مبتدأ أخبر عنه بقوله {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وزيدت الفاءُ في خبره لِما تضمَّن من معنى الشرط، قاله الزجاج كأنه قيل: مَنْ يخسرْ نفسه فهو لا يؤمن. الثالث: أنه مجرور على أنه نعت للمكذبين. الرابع: أنه بدل منهم، وهذان الوجهان بعيدان. الخامس: أنه منصوبٌ على البدل من ضمير المخاطب، وهذا قد عَرْفْتَ ما فيه غيرَ مرَّةٍ، وهو أنه هل يُبْدَل من ضمير الحاضر بدلُ كل من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا؟ ومذهب الأخفش جوازه، وقد ذكرْنا دليل الجمهور ودلائله وما أُجيب عنها فأغنى عن إعادتها. وردَّ المبرد عليه مذهبه بأنه البدل من ضمير الخطاب لا يجوز، كما لا يجوز:» مررت بك زيدٍ «وهذا عجيب؛ لأنه استشهد بمحل النزاع وهو: مررت بك زيدٍ. ورَدَّ ابنُ عطية ردَّه فقال:»

ما في الآية مخالفٌ للمثال؛ لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني، فإذا قلت: «مررت بك زيدٍ» فلا فائدة في الثاني، وقوله {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} يصلح لمخاطبة الناس كافةً فيفيدنا إبدال «الذين» من الضمير أنهم هم المختصُّون بالخطاب، وخُصُّوا على جهة الوعيد، ويجيء هذا إبدالَ البعض من الكل «. قال الشيخ:» هذا الردُّ ليس بجيد لأنه إذا جَعَلْنا «ليجمعنَّكم» صالحاً لخطاب جميع الناس كان «الذين» بدل بعض، ويحتاج إذ ذاك إلى ضميرٍ، تقديره: خسروا أنفسهم منهم. وقوله «فيفيدنا إبدال الذين من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخُصُّوا على جهة الوعيد» وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل، فتناقض أول كلامه مع آخره؛ لأنه من حيث الصلاحيةُ بدل بعض، ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدلَ كل فتناقضا «. قلت: ما أبعدَه عن التناقض، لأن بدل البعض من الكل من جملة المخصِّصات كالتخصُّص بالصفة والغاية والشرط، نصَّ أهل العلم على ذلك، فإذا تقرر هذا فالمبدل منه بالنسبة إلى اللفظ في الظاهر عام، وفي المعنى ليس المراد به إلا ما أراده المتكلم فإذا ورد:» اقتلوا المشركين بني فلان «مثلاً فالمشركون صالح لكل مشرك من حيث اللفظ، ولكنَّ المراد به بنو فلان، فالعموم في اللفظ والخصوص في المعنى، فكذا قول أبي محمد يَصْلُح لمخاطبة الناس، معناه أنه يَعُمُّهم لفظاً. وقوله» فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره «هذا هو المخصِّص فلا يجيء تناقضٌ البتةَ، وهذا مقرر في علم أصول الفقه. السادس: أنه مرفوع على الذمِّ، قاله الزمخشري، وعبارته فيه وفي الوجه الأول:» نصبٌ على الذمِّ أو رفعٌ، أي: أريد الذين خسروا أنفسهم،

أو أنتم خسروا أنفسهم «انتهى. قلت: إنما قَدَّر المبتدأ» أنتم «ليرتبط مع قوله» ليجمعنَّكم «وقوله» خسروا أنفسهم «من مراعاة الموصول، ولو قال:» أنتم الذين خسروا أنفسهم «مراعاةً للخطاب لجاز، تقول: أنت الذي قعد، وإن شئت: قَعَدْت.

13

قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ} : جملة من مبتدأ وخبر، وفيها قولان، أظهرهما: أنها استئناف إخبار بذلك. والثاني: أنها في محل نصب نسقاً على قوله «لله» أي على الجملة المحكية ب قل أي: قل: هو لله وقل: له ما سكن. و «ما» موصولة بمعنى الذي، ولا يجوز غيرُ / ذلك. و «سَكَنْ» قيل: معناه ثبت واستقر، ولم يذكر الزمخشري غيره. وقيل: هو مِنْ سَكَن مقابل تَحَرَّك، فعلى الأول لا حَذْفَ في الآية الكريمة، قال الزمخشري: «وتَعَدِّيه ب في كما في قوله: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ} [إبراهيم: 45] . ورجَّح هذا التفسيرَ ابن عطية. وعلى الثاني اختلفوا، فمنهم مَنْ قال: لا بد من محذوفٍ لفهم المعنى، وقدَّر ذلك المحذوفَ معطوفاً فقال: تقديره: وله ما سكن وما تحرك، كقوله في موضع آخر: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد، وحَذْفُ المعطوف فاشٍ في كلامهم، وأنشد: 187 - 2- كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأمامِها ... إذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرا 187 - 3- فما كان بين الخيرِ لو جاء سالماً ... أبو حُجُرٍ إلا ليلٍ قلائلُ

يريد: رجلها ويدها، وبين الخير وبيني. ومنهم مَنْ قال: لا حَذْفَ؛ لأنَّ كل متحرك قد يُسَكَّن. وقيل: لأن المتحرك أقلُّ والساكن أكثر، فلذلك أوثر بالذكر.

14

قوله تعالى: {أَغَيْرَ الله} : مفعول أول ل «أتَّخِذُ» و «وليَّاً» مفعولٌ ثاني، وإنما قَدَّم المفعول الأول على فعله لمعنى: وهو إنكار أن يُتَّخَذَ غيرُ اللَّهِ ولياً لا اتخاذ الوليّ، ونحوُه قولك لمن يهين زيداً وهو مستحقٌّ للإِكرام: «أزيداً أهنت» ، أَنْكَرْتَ أن يكون مثله مُهاناً. وقد تقدَّم هذا موضحاً في قوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] ومثله: {أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً} [الأنعام: 114] {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] {ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} [الأنعام: 13] وهو كثير. ويجوز أن يكون «أتخذ» متعدياً لواحد فيكون «غيرَ» منصوباً على الحال من «وليَّاً» لأنه في الأصل صفة له، ولا يجوز أن يكون استثناءً البتة، كذا منعه أبو البقاء، ولم يُبَيِّنْ وجهَه. والذي يظهر أنَّ المانع تقدُّمه على المستثنى منه في لامعنى وهو «وليَّاً» ، وأما المعنى فلا يأبى الاستثناء، لأن الاستفهام لا يُراد به حقيقته، بل يُراد به الإِنكار، فكأنه قيل: لا أتَّخذ ولياً غير الله، ولو قيل كذا لكان صحيحاً، فظهر أن المانع عنده إنما هو التقديم على المستثنى منه، لكن ذلك جائز، وإن كان قليلاً ومنه: 187 - 4- وما ليَ آل أحمدَ شيعةٌ ... وما لي إلا مَشْعبَ الحقِّ مَشْعَبُ

وقرأ الجمهور «فاطرِ» بالجر، وفيها تخريجان، أحدهما - وبه قال الزمخشري والحوفي وابن عطية - صفة للجلالة المجرورة ب «غير» ، ولا يَضُرُّ الفصل بين الصفة والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها؛ لأنها ليست بأجنبية، إذ هي عاملة في عامل الموصوف. والثاني - وإليه نحا أبو البقاء - أنه بدلٌ من اسمِ الله، وكأنه فرَّ من الفصل بين الصفة وموصوفها، فإن قيل: هذا لازمٌ له في البدل، فإنه فَصَل بين التابع ومتبوعِه أيضاً. فيقال: إن الفصل بين البدلِ والمبدلِ أسهلُ؛ لأنَّ البدل على نية تكرار العامل فهو أقرب إلى الفصل، وقد ترجَّح تخريجُه بوجهٍ آخرَ: وهو أنَّ «فاطر» اسم فاعل، والمعنى ليس على المضيِّ حتى تكون إضافتُه غيرَ محضة فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنكرة لأنه في نية الانفصال من الإِضافة، ولا يقال: الله فاطر السماوات والأرض فيما مضى، فلا يُراد حال ولا استقبال؛ لأن كلام الله تعالى قديم متقدِّمٌ على خلق السماوات، فيكون المراد به الاستقبال قطعاً، ويدلُّ على جواز كونه في نية التنوين ما سأذكره عن أبي البقاء قريباً. وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، وتخريجه سهل، وهو أنه خبر مبتدأ محذوف. وخَرَّجه ابن عطية على أنه مبتدأ فيحتاج إلى تقدير خبر، الدلالةُ عليه خفيةٌ بخلاف تقدير المبتدأ فإنه ضمير الأول أي: هو فاطر: وقرئ شاذاً بنصبه، وخرَّجه أبو البقاء على وجهين، أحدهما: أنه بدل من «وليَّاً» قال: «والمعنى على هذا أجعلُ فاطر السماوات والأرض غيرَ الله» كذا قدَّر وفيه نظر؛ فإنه جعل المفعول الأول وهو «غير الله» مفعولاً ثانياً، وجعل البدل المفعول الثاني مفعولاً أول، فالتقدير عكسُ التركيب الأصلي. والثاني: أنه صفةٌ ل «وليَّاً» قال: «

ويجوز أن يكون صفة ل» وليَّاً «والتنوينُ مرادٌ» قلت: يعني بقوله: «التنوين مراد» أن اسم الفاعل عامل تقديراً / فهو في نية الانفصال، ولذلك وقع وصفاً للنكرة كقوله: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] . وهذا الوجه لا يكاد يَصِحُّ إذ يصير المعنى: أأتخذ غيرَ الله وليَّاً فاطر السماوات إلى آخره، فيصفُ ذلك الولي بأنه فاطر السماوات. وقرأ الزهري: «فَطَر» على أنه فعل ماضٍ وهي جملة في محل نصب على الحال من الجلالة كما كان «فاطر» صفتها في قراءة الجمهور. ويجوز على رأي أبي البقاء أن تكون صفة ل «ولياً. ولا يجوز أن تكون صفةً للجلالة، لأن الجملة نكرة. والفَطْر: الشَّقُّ مطلقاً، وقيَّده الراغب بالشق وقيَّده الواحدي بشَقِّ الشي عند ابتدائه. والفَطْر: الإِبداع والاتخاذ على غير مثال، ومنه» فاطر السماوات «أي أوجدها على غير مثالٍ يُحتذى. وعن ابن عباس:» ما كنت أدري ما معنى فَطَر وفاطِر، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: «أنا فَطَرْتُها» أي: أنشأتها وابتدأتها. ويقال: فَطَرْتُ كذا فَطْر هو فُطوراً، وانفطر انفطاراً وفَطَرْتُ الشاة: حَلَبْتُها بأصبعين، وفَطَرْت العجين: خبزته مِنْ وقته، وقوله تعالى: {فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} [الروم: 30] إشارةً منه إلى ما فَطَر أي أبدع وركَّز في الناس من معرفته، ففطرةُ الله ما رُكِّز من القوة المُدْرِكة لمعرفته، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] ، وعليه: «كلُّ مولودٍ يَوْلَدُ على الفطرة. . .» الحديث، وهذا أحسنُ ما سمعت في تفسير «فطرة الله» في الكتاب والسنة.

قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} القراءة المشهورة ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول، والضمير لله تعالى، والمعنى: وهو يَرْزق ولا يُرْزَق، وهو موافقٌ لقوله تعالى: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] . وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه: «ولا يَطْعَمُ» بفتح الياء والعين بمعنى ولا يأكل، والضمير لله تعالى. وقرأ ابن أبي عبلة ويمان العماني: ولا يُطْعِم، بضم الياء وكسر العين كالأول، فالضميران - أعني هو والمستكنُّ في «يطعم» - عائدان على الله تعالى، والضمير في ولا يُطْعِم للوليّ. وقرأ يعقوب في رواية ابن المأمون. «وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم» ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، على عكس القراءة المشهورة، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترَيْنِ في الفعلين للولي فقط، أي: وذلك الوليُّ يُطْعمه غيره ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزه. وقرأ الأشهب: {وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم} ببنائهما للفاعل. وذكر الزمخشري فيها تخريجين ثانيهما لنفسه، فإنه قال - بعد أن حكى القراءة -: «وفُسِّر بأن معناه وهو يُطْعِم ولا يَسْتَطْعِم» . وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى استطعمت، ونحوه: أَفَدْت، ويجوز أن يكون المعنى: وهو يُطْعِم تارة ولا يُطْعم أخرى على حسب المصالح كقولك: هو يعطي ويمنع ويَقْدِر ويبسط ويغني ويفقر «قلت: [هكذا ذكر الشيخ هذه القراءة، وقراءةُ الأشهب هي] كقراءة ابن أبي عبلة والعماني سواء، لا تخالُفَ بينهما،

فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كلِّهم، وإلاَّ يوهمْ هذا أنهما قراءتان متغايرتان وليس كذلك. وقرئ شاذاً: {يَطْعَم} بفتح الياء والعين، ولا يُطْعِم بضم الياء وكسر العين أي: وهو يأكل ولا يُطْعِم غيره، ذكر هذه القراءةَ أبو البقاء وقال:» والضمير راجع على الولي الذي هو غير الله. فهذه ست قراءات وفي بعضها - وهي تَخَالُفُ الفعلين - من صناعة البديع تجنيس التشكيل: وهو أن يكون الشكل فارقاً بين الكلمتين، وسمَّاه أسامة بن منقذ تجنيس التحريف، وهو تسمية فظيعة، فتسميتُه بتجنيس التشكيل أَوْلى. قوله: {مَنْ أَسْلَمَ} «مَنْ» يجوز أن تكون نكرةً موصوفة واقعةً موقعَ اسمِ جمع، أي: أول فريق أسلم، وأن تكون موصولة أي: أول الفريق الذي أسلم. وأفرد الضمير في «اسلم» إمَّا باعتبار لفظ «فريق» المقدَّر، وإمَّا باعتبار لفظ «مَنْ» وقد تقدَّم الكلام على «أول» وكيف يُضاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في البقرة. قوله: {وَلاَ تَكُونَنَّ} فيه تأويلان، أحدهما على إضمار القول أي: وقيل لي: لا تكونَنَّ، قال أبو البقاء: «ولو كان معطوفاً على ما قبله لفظاً لقال: و» أنْ لا أكون «وإليه نحا أبو القاسم الزمخشري فإنه قال:» ولا تكونَنَّ: وقيل لي لا تكونَنَّ ومعناه: وأُمرت بالإِسلام ونُهيت عن الشرك «والثاني: أنه معطوف على معمول» قل «حملاً على المعنى، والمعنى: قل إني قيل لي:

كن أولَ مَنْ أسلم ولا تكونن من المشركين [فهما] جميعاً محملان على القول، لكن أتى الأول بغير لفظ القول وفيه معناه، فحمل الثاني على المعنى. وقيل] : هو عطف على» قل «أُمِرَ بأن يقول كذا ونهى عن كذا.

15

قوله تعالى: {إِنْ عَصَيْتُ} : شرط حُذِفَ جوابه لدلالة ما قبله عليه، ولذلك جيء بفعل الشرط ماضياً، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان، أحدهما: أنه معترضٌ بين الفعل وهو «أخاف» وبين مفعوله وهو «عذاب» . والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال. قال الشيخ: «كأنه قيل: إني أخاف عاصياً ربِّي» وفيه نظرٌ، إذ المعنى يأباه. و «أخاف» وما في حَيِّزه. خبر ل «إنَّ» وما في حيزها في محل نصب ب «قل» .

16

قوله تعالى: {مَّن يُصْرَفْ} : «مَنْ» شرطية، ومحلُّها يحتمل الرفع والنصب كما سيأتي بيانه بعد ذِكْر القراءتين فنقول: قرأ الأخوان وأبو بكر عن عاصم: «يَصْرِف» بفتح الياء وكسر الراء على تسمية الفاعل. والباقون بضمِّ الياء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله. فأمَّا القراءة الأولى ف «مَنْ» فيها تحتمل الرفع والنصب: فالرفع من وجه واحد وهو الابتداء، وخبرها فعل الشرط أو الجواب أو هما، على حسب الخلاف، وفي مفعول «يَصْرِف» حينئذ احتمالان، أحدهما: أنه مذكور وهو «يومئذ» ، ولا بد من حذف مضاف أي: يَصْرِف الله عنه هَوْل يؤمئذ - أو عذاب يومئذ - فقد رحمه، فالضمير في «يَصْرِف» يعود على الله تعالى، ويدلُّ عليه قارءة أُبَيّ بن كعب «مَنْ يَصْرِف اللَّهُ» بالتصريح به. والضميران في «عنه» و «رَحِمَة» ل «مَنْ» والثاني: أنه محذوف لدلالة ما ذكر

عليه قبل ذلك أي: مَنْ يَصْرف اللَّهُ عنه العذابَ. و «يومئذ» منصوبٌ على الظرف. وقال مكي: «ولا يَحْسُن أن تقدَّرَ هاءً؛ لأن الهاء إنما تُحْذف من الصلات» . قلت: يعني أنه لا يُقَدَّرُ المفعولُ ضميراً عائداً على عذاب يوم؛ لأن الجملة الشرطية عنده صفةٌ ل «عذاب» والعائد منها محذوف، لكنَّ الحذف إنما يكون من الصلة لا من الصفة، وهذا معنى قول الواحدي أيضاً، إلا أنَّ قولَ مكيّ «إنما يُحْذف من الصلات» يريد في الأحسن، وإلاَّ فيحذف من الصفات والأخبار والأحوال، ولكنه دون الصلة. والنصب من وجهين أحدهما: أنه مفعول مقدَّمٌ ل «يَصْرِف» والضمير في «عنه» على هذا يتعيَّن عَوْدُه على العذاب المتقدم، والتقدير: أيَّ شخص يَصْرِف اللَّهُ عن العذاب. والثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعل مضمر لا يبرز، يفسره هذا الظاهر من معناه لا من لفظه، والتقدير: مَنْ نُكْرِمْ أو مَنْ نُنَجِّ يَصْرِفِ الله. والضمير في «عنه» للشرطية. وأمَّا مفعول «يَصْرِفْ» على هذا فيحتمل الوجهين المتقدمين، أعني كونه مذكوراً وهو «يومئذ» على حذفِ مضاف، أو محذوفاً اختصاراً. وأمَّا القراءة الثانية ف «مَنْ» تحتمل وجهين، أحدهما: أنها في محل رفعٍ بالابتداء، وخبره ما بعده على ما تقدَّم، والفاعل المحذوف هو الله تعالى، يدلُّ عليه قراءة أبي المتقدمة، وفي القائمِ مَقامَه أربعةُ أوجه، أحدهما: أنه ضمير العذاب، والضمير في «عنه» يعود على «مَنْ» فقط، والظرف فيه حينئذ ثلاثة أوجه، أحدها: أنه منصوب ب «يُصْرَف» الثاني: أنه منصوب بالعذاب أي: الذي قام ضميره مقام الفاعل، قاله أبو البقاء، ويلزم

منه إعمال المصدر مضمراً، وقد يقال: يُغْتفر ذلك في الظروف. الثالث: قال أبو البقاء: «إنه حال من الضمير» قلت: يعني الضمير الذي قام مقام الفاعل، وجاز وقوعُ الحال ظرف زمان لأنها عن معنًى لا عن جثة. الثاني من الأوجه الأربعة: أن القائم الفاعل ضمير «مَنْ» والضمير في «عنه» يعود على العذاب، والظرف منصوب: إمَّا ب «يُصْرف» ، وإمَّا على الحال من هاء «عنه» . والثالث من أوجه العامل في «يومئذ» متعذ‍َّر هنا وهو واضح، والتقدير: أي شخصٍ يُصْرف هو عن العذاب. الثالث: أن القائم مقام الفاعل «يومئذ» إمَّا على حذف مضاف أي: من يُصرف عنه فَزَعُ يومئذ أو هول يومئذ، وإمَّا على قيام الظرف دون مضاف كقولك: «سير يوم الجمعة» وإنما بُني «يومئذ» على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن، ولو قرئ بالرفع لكان جائزاً في الكلام، وقد قرئ: {ومِنْ خزي يؤمئذ} فتحاً وجراً بلاعتبارين، وهما اعتباران متعايران، فإن قيل: يلزمُ على عدم تقدير حذف المضاف إقامةُ الظرف غير التام مقامَ الفاعل، وقد نصُّوا على أن الظرف المقطوع عن الإِضافة لا يُخبر به ولا يقوم مقام فاعل، لو قلت: «ضُرب قبلُ» لم يجز، والظرف هنا في حكم المقطوع عن الإِضافة فلا يجوز قيامه مقام / الفاعل إلا على حذف مضاف، فالجواب أن هذا في قوة الظرف المضاف، إذ التنوين عوضٌ عنه، وهذا ينتهض على رأي الجمهور، أما الأخفش فلا، لأن التنوين عنده تنوين صَرْفٍ والكسر كسر إعراب، وقد أوضحت ذلك إيضاحاً شافياً في غير هذا الموضوع.

الرابع: أن القائم مَقامَه «عنه» والضمير في «عنه» يعود على «مَنْ» و «يومئذ» منصوب على الظرف، والعامل فيه «يُصْرَفْ» ولا يجوز الوجهان الأخيران، أعني نصبَه على الحال؛ لأنَّ الضميرَ للجُثَّة، والزمانُ لا يقع حالاً عنهما كما لا يقع خبراً، وأعني كونَه معمولاً للعذاب، إذ ليس هو قائماً مقام الفاعل. والثاني من وجهي «مَنْ» : أنها في محل نصب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده، وهذا إذا جعلنا «عنه» في محل نصب بأَنْ يُجْعَلَ القائم مقام الفاعل: إمَّا ضميرَ العذاب وإمَّا «يومئذ» والتقدير: مَنْ يكرم اللَّهُ أو من يُنَجِّ يُصْرف عنه العذابُ أو هولُ يومئذ، ونظيره: «زيدٌ مُرَّ به مرورٌ حسن» ، أقمت المصدر فبقي «عنه» منصوب المحل، والتقدير: جاوزت زيداً مُرَّ به مرورٌ حسن. وأمَّا إذا جُعل «عنه» قائماً مقام الفاعل تعيَّن رَفْعُه بالابتداء. واعلم أنه متى قلت: منصوب على الاشتغال فإنما يُقَدَّر بعد «مَنْ» لأنَّ لها صدر الكلام، ولذلك لم أُظْهِره إلا مؤخراً، ولهذه العلَّةِ منه بعضهم الاشتغالَ فيما له صدر الكلام كالاستفهام والشرط. والتنوين في «يومئذ» عوض عن جملة محذوفة تضمَّنها الكلام السابق، التقدير: يوم إذ يكون الجزاء، وإنما قلت كذلك لأنه لم يتقدَّم في الكلام جملةٌ مُصَرَّحٌ بها يكون التنوين عوضاً منها، وقد تقدَّم خلاف الأخفش. وهذه الجملة الشرطية يجوز فيها وجهان: الاستئناف والوصف ل «عذاب يوم» ، فحيث جعلنا فيها ضميراً يعود على عذاب يوم إمَّا مِنْ «يُصْرف» وإمَّا مِنْ «عنه» جاز أن تكونَ صفةً وهو الظاهر، وأن تكونَ مستأنفةً، وحيث لم نجعلْ فيها ضميراً يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تَعَيَّن أن تكون مستأنفة، ولا يجوز أن تكون صفةً لخلوِّها من الضمير. وقد تكلَّم الناس في ترجيح إحدى هاتين القراءتين على الأخرى، وذلك

على عادتهم، فقال أبو علي الفارسي: «قراءة» يَصْرِفْ «يعني المبنيَّ للفاعل أحسن لمناسبة قوله» رحمه «. يعني أن كلاً منهما مبني للفاعل ولم يقل» فقط رُحِمَ «. واختارها أبو حاتم وأبو عبيد، ورجَّح بعضهم قراءة المبني للمفعول بإجماعهم على قراءة قوله: {ليس مصروفاً عنهم} يعني في كونه أتى بصيغة اسم المفعول المسند إلى ضمير العذاب المذكور أولاً. ورجَّحها محمد بن جرير بأنها أقلُّ إضماراً ومكي - رحمه الله - تلعثهم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين وأتى بأمثلةٍ فاسدةٍ في كتاب» الهداية «له، قاله ابن عطية. وقد قدَّمْتُ أول الكتاب عن العلماء ثعلب وغيره أن ذلك - أعني ترجيحَ إحدى القراءات المتواترة على الأخرى بحيث تُضَعَّفُ الأخرى - ولا يجوز. والجملة من قوله: {يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} في محل جزم على جواب الشرط، والفاء واجبة. قوله: {وَذَلِكَ الفوز} مبتدأ وخبر جيء بهذه الجملة مقرِّره لما تقدَّم من مضمون الجملةِ قبلها، والإِشارة ب» ذلك «إلى المصدر المفهوم من قوله» يُصْرف «أي ذلك الصرف. و» المبين «يحتمل أن يكون متعدِّياً فيكون المفعول محذوفاً أي: المبين غيرَه، وأن يكون قاصراً بمعنى يبين، وقد تقدَّم أن» أبان «يكون قاصراً بمعنى ظهر، ومتعدياً بمعنى أظهر.

17

قوله تعالى: {بِضُرٍّ} : الباء هنا للتعدية وكذا في «بخير» والمعنى: وإن يمسسك الله الضرَّ أي: يجعلك ماسَّاً له، وإذا مسست الضر

فقد مَسَّك، إلا أنَّ التعدية بالباء في الفعل المتعدي قليلة جداً، ومنه قولهم: صَكَكْتُ أحد الحجرين بالآخر. وقال الشيخ: «ومنها قوله:» ومنها قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة: 251] . وقال الواحدي: «إن قيل: إنَّ المسَّ من صفة الأجسام فكيف قال: وإن يمسَسْك الله؟ فالجواب أن الباء للتعدية والباء والألف يتعاقبان في التعدية، والمعنى: إن أَمَسَّك الله ضراً أي: جعله ماسَّك فالفعل للضرّ وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى كقولك:» ذهب زيد بعمرو «وكان الذهاب فعلاً لعمرو، غير أنَّ زيداً هو المسبب له والحامل عليه، كذلك ههنا المسُّ للضرِّ والله تعالى جعله ماسَّاً. قوله: {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ} » له «: خبر لا، وثَمَّ محذوف تقديره: فلا كاشفَ له عنك، وهذا المحذوفُ ليس متعلقاً ب» كاشف «إذ كان يلزم تنوينه وإعرابه بل يتعلق بمحذوف أي: أعني عنه. و» إلا هو «فيه وجهان: أحدهما: أنه بدل من محل» لاكاشف «فإن محله الرفع على الابتداء، والثاني: أنه بدل من الضمير المستكنِّ في الخبر، ولا يجوز أن/ يرتفع باسم الفاعل وهو» كاشف «لأنه يصير مطولاً ومتى كان مطوَّلاً أُعْرب نصباً، وكذلك لا يجوزُ أن يكونَ بدلاً من الضمير المستكنِّ في» كاشف «للعلة المتقدمة، إذ البدل يحلُّ محل المبدل منه. فإن قيل: المقابل للخير هو الشر فكيف عَدَلَ عن لفظ الشر؟ والجواب أنه أراد تغليب الرحمة على ضدها فأتى في جانب الشر بأخص منه وهو الضرُّ، وفي جانب بالعام الذي هو الخير تغليباً لهذا الجانب. قال

ابن عطية:» ناب الضرُّ هنا مناب الشرُّ وإن كان الشر أعمَّ منه فقابل الخير، وهذا من الفصاحة عدول عن [قانون التكليف والصيغة، فإن باب التكليف وصيغ الكلام] أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقةً أو مضاهاة، فمن ذلك: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى} [طه: 118119] فجاء بالجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس: 187 - 5- كأنّيَ لم أركبْ جواداً لِلَّذةٍ ... ولم أَتَبَطَّنْ كاعِباً ذاتَ خَلْخال ولم أَسْبَأ الزِّقَّ الرَّويَّ ولم أقْلْ ... لخيلي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفالِ ولم يوضح ابن عطية ذلك. وإيضاحه في آية طه اشتراك الجوع والعري في شيء خاص وهو الخلوُّ، فالجوع خلوٌّ وفراغ في الباطن، والعريُّ خلوٌّ وفراغ في الظاهر، واشتراك الظمأ والضحى في الاحتراق، فالظمأ احتراق في الباطن ولذلك تقول: «بَرَّد الماء حرارة كبدي وأوام عطشي» ، والضحى: احتراق الظاهر. وأمَّا البيتان فالجماع بين الركوب للَّذة وهو الصيد وتبطُّن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والقهر والاقتناص والظفر بمثل هذا المركوب، ألا ترى تسميتهم هَنَ المرأة «رَكَباً» بفتح الراء والكاف وهو فَعَل بمعنى مَفْعول كقوله: 187 - 6- إنَّ لها لَرَكَباً إرْزَبَّا ... كأنه جبهةُ ذَرَّى حَبَّا

وأما البيت الثاني فالجامعُ بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل، فشراء الخمر بَذْل المال، والرجوع بعد الانهزام بذل الروح. وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضرِّ على مسِّ الخير لمناسبة اتصال مسِّ الضر بما قبله من الترهيب المدلول عليه بقوله: إن أخاف. وجاء جواب الشرط الأول بالحصر إشارةً إلى استقلاله بكشف الضر دون غيره، وجاء الثاني بقوله {فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} إشارةً إلى قدرته الباهرة فيندرجُ فيها المَسُّ بخير وغيره، على أنه لو قيل: إن جواب الثاني محذوف لكان وجهاً أي: وإنْ يَمْسَسْك فلا رادَّ لفضله للتصريح بمثله في موضع آخرَ.

18

قوله: {فَوْقَ} : فيه أوجه أظهرها: أنه منصوب باسم الفاعل قبله. والفوقيَّةُ هنا عبارة عن الاستعلاء والغلبة. والثاني: أنه مرفوع على أنه خبر ثان، أخبر عنه بشيئين أحدهما: أنه قاهرٌ، والثاني: أنه فوق عباده بالغلبة والقهر. الثالث: أنه بدلٌ من الخبر. الرابع: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضمير في «القاهر» كأنه قيل: وهو القاهرُ مُسْتعلياً أو غالباً، ذكره المهدوي وأبو البقاء الخامس: أنها زائدةٌ، والتقدير وهو: القاهر عباده، ومثلُه: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} [الأنفال: 12] وهذا مردودٌ، لأن الأسماء لا تُزاد.

19

قوله تعالى: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ} : مبتدأ وخبر، وقد عَرَفْتَ مما مرَّ «أيَّاً» بعضُ ما تضاف إليه، فإذا كانت استفهاميةً اقتضى الظاهرُ أن تكون مسمَّى باسم ما أضيفت إليه. قال أبو البقاء: «وهذا يوجب أن يُسَمَّى الله تعالى» شيئاً «فعلى هذا تكون الجلالةُ خبرَ مبتدأ محذوف أي: ذلك الشيء

هو الله تعالى. ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: الله أكبر شهادة. و» شهيد «على هذين القولين خبرُ مبتدأ محذوف أي: هو شهيد بيني وبينكم. والجملة من قوله: {قُلِ الله} على الوجهين المتقدمين جواب ل» أيّ «من حيث اللفظ والمعنى. ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ، و» شهيد «خبرها، والجملة على هذا جوابٌ ل» أيّ «من حيث المعنى أي: إنها دالة على الجواب وليست به. قوله: {شَهَادةً} نصبٌ على التمييز، وهذا هو الذي لا يَعْرِفُ النحاةُ غيرَه. وقال ابن عطية:» ويَصِحُّ على المفعول بأن يُحْمَلَ «أكبر» على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل «. وهذا ساقطٌ جداً. إذ نصَّ النحويون على أن معنى شبهها باسم الفاعل في كونها تؤنث وتثنَّى وتجمع، وأفعلُ مِنْ لا يؤنَّثُ ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع فلم يُشْبِه اسم الفاعل، حتى إن الشيخ نسب هذا الخِباط إلى الناسخ دون أبي محمد. قوله: {بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} متعلِّقٌ ب» شيهد «وكان الأصل: قل الله شهيد بيننا فكُرِّرَتْ» بين «توكيداً، وهو نظير قوله: 187 - 7- فأيِّي ما وأيُّك كان شراً ... فَسِيقَ إلى المَقامةِ لا يراها وقوله: 187 - 8- يا ربَّ موسَى أظلمي وأَظْلَمُهْ ... فاصْبُبْ عليه ملِكاً لا يَرْحَمُهْ وقوله: 187 - 9-

فلئِنْ لَقِيْتُك خالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ ... أيِّي وأيُّك فارسُ الأحزابِ والجامع بينها أنه لَمَّا أضاف إلى الياء وحدها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون» بيني «متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفة لشهيد فيكون في محل رفع، والظاهر خلافه. قوله: {وَأُوحِيَ} الجمهور على بنائه للمفعول وحُذِف الفاعلُ للعِلْمِ به وهو الله تعالى.» والقرآن «رفع به. وقرأ أبو نهيك والجحدري وعكرمة وابن السَّمَيْفَع.» وأَوْحَى «ببنائه للفاعل،» القرآن «نصباً على المفعول به. و» لأنذركم «متعلِّقٌ ب» أُوحِي «قيل: وثَمَّ معطوف حُذف لدلالة الكلام عليه أي: لأنذركم به وأبَشِّركم به، كقوله: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] وتقدَّم منه جملةٌ صالحة. وقيل: لا حاجة إليه لأن المَقام مَقامُ تخويف. قوله: {وَمَن بَلَغَ} فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه في محل نصب عطفاً على المنصوب في» لأُنْذِرَكم «وتكون» مَنْ «موصولة والعائدُ عليها مِنْ صلتها محذوف أي: ولأنذَر الذي بلغه القرآن. والثاني: أنَّ في «بَلَغ» ضميراً مرفوعاً يعود على «مَنْ» ويكون المفعولُ محذوفاً، وهو منصوب المحل أيضاً نسقاً على مفعول «لأنذركم» ، والتقدير: ولأنذر الذي بَلَغ الحُلُمَ، فالعائد هنا مستتر في الفعل. والثالث: أن «مَنْ» مرفوعةُ المحلِّ نَسَقاً على الضمير المرفوع في «لأنذرَكم» وجاز ذلك لأنَّ الفصلَ بالمفعول والجارِّ والمجرور أغنى عن تأكيده، والتقدير: لأنذركم به ولينذركم الذي بلغه القرآن. قوله: {أَئِنَّكُمْ} الجمهور على القراءة بهمزتين أولاهما للاستفهام، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخ، وقد تقدَّم الكلام في قراءاتٍ مثلِ هذا. قال

الشيخ: «وبتسهيل الثانية وبإدخال ألفٍ بين الهمزة الأولى والهمزةِ المُسَهَّلَة، روى هذا الأخيرةَ الأصمعيُّ عن أبي عمرو ونافع» . انتهى. وهذا الكلام يُؤذن بأنها قراءة مستغربة وليس كذلك، بل المرويُّ عن أبي عمرو المدُّ بين الهمزتين، ولم يُخْتَلَفْ عن قالون في ذلك. وقرئ بهمزة واحدة وهي محتملة للاستفهام وإنما حُذفت لفهم المعنى، ودلالة القراءة الشهيرة عليها، وتحتمل الخبر المحض. ثم هذه الجملة الاستفهامية يحتمل أن تكون منصوبةَ المحلِّ لكونها في حيز القول وهو الظاهر، كأنه أُمِرَ أن يقول: أيُّ شيء أكبرُ شهادةً، وأن يقول: أإنكم لتشهدون. ويحتمل أن لا تكونَ داخلةً في حيِّزه فلا محلَّ لها حينئذ. و «أخرى» صفةٌ ل «آلهة» لأنَّ ما لا يَعْقِل يُعامَل جمعُه معاملةَ الواحدةِ المؤنثة كقوله: {مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] و {الأسمآء الحسنى} [الأعراف: 180] . قوله: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} يجوز في «ما» هذه وجهان، أظهرهما: أنها كافة ل «إنَّ» عن عملها، و «هو» مبتدأ، و «إله» خبر و «واحد» صفته. والثاني: أنها موصولة بمعنى الذي و «هو» مبتدأ «وإليه» خبره، وهذه الجملةُ صلةٌ وعائد، والموصول في محل نصب اسماً ل «إن» ، و «واحد» خبرها. والتقدير: إن الذي هو إله واحد، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيفٌ، ويدلُّ على صحة الوجه الأولِ تعيُّنُه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} [النساء: 171] ، إذ لا يجوز فيه أن تكون موصولة لخلوِّ الجملة من ضمير الموصول. وقال أبو البقاء: - في هذا الوجه - «وهو أليقُ مما قبله» ولا أدري ما وجه ذلك؟ .

20

قوله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} : الموصول مبتدأ، و «يَعْرِفونه» خبره والضميرُ المنصوبُ يجوز عَوْدُه على / الرسول أو على القرآن لتقدُّمه في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن} أو على التوحيد لدلالة قوله: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أو على كتابهم أو على جميع ذلك. وأَفْرد الضمير باعتبار المعنى كأنه قيل: يعرفون ما ذَكَرْنا وقصصنا. وقد تقدَّم إعراب هذه الجملة في البقرة. قوله: {الذين خسروا} في محله أربعة أوجه، أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره الجملة من قوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ودخلت الفاء لما عَرَفْتَ من شبه الموصول بالشرط. الثاني: أنه نعت للذين آتيناهم الكتاب. قال الزجاج الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين خسروا. الرابع: أنه منصوبٌ على الذم، وهذان الوجهان فرعان على النعت لأنهما مقطوعان عنه، وعلى الأقوال الثلاثة الأخيرة يكون {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} من باب عَطْفِ جملة اسمية على مثلها، ويجوز أن يكونَ عطفاً على «خسروا» وفيه نظرٌ من حيث إنَّه يؤدِّي إلى ترتُّب عدم الإِيمان على خسرانهم. والظاهر أن الخُسْران هو المترتِّبُ على عدم الإِيمان، وعلى الوجه الأول يكون الذين خسروا أعمَّ من أهل الجاحدين من المشركين، وعلى غيره خاصاً بأهل الكتاب، والتقدير: الذين خسروا أنفسهم منهم أي: من أهل الكتاب. واسْتُشْكِل على كونه نعتاً الاستشهادُ بهم على كفار قريش وغيرهم من العرب، يعني كيف يُسْتشهد بهم ويُذَمُّون في آية واحدة؟ فقيل: إن هذا سِيق للذمِّ لا للاستشهاد. وقيل: بل سيق للاستشهاد وإن كان في بعض الكلام ذمٌّ

لهم، لأن ذلك بوجيهن واعتبارين. قال ابن عطية: «فصَحَّ ذلك لاختلاف ما استشهد بهم فيه وما ذُمُّوا فيه، وأنَّ الذمَّ والاستشهاد ليسا من جهة واحدة» .

22

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} فيه خمسة أوجه، احدها: أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ بعده، وهو على ظرفيَّته، أي: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، وحُذِفَ ليكونَ أبلغَ في التخويف. والثاني: أنه معطوف على ظرفٍ محذوف، وذلك الظرف معمول لقوله: {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} والتقدير: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم، قاله محمد بن جرير. الثالث: أنه منصوب بقوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} وفيه بُعْدٌ لعبده من عامله بكثرة الفواصل. الرابع: أنه مفعول به باذكر مقدراً. الخامس. أنه مفعول به أيضاً، وناصبه احذروا أو اتقوا يوم نحشرهم، كقوله: {واخشوا يَوْماً} [لقمان: 33] وهو كالذي قبله فلا يُعَدُّ خامساً. وقرأ الجمهور «نَحْشرهم» بنون العظمة وكذا «ثم نقول» وقرأ حميد ويعقوب بياء الغيبة فيهما وهو الله تعالى. والجمهور على ضم الشين من «نَحْشُرهم» وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المضارع. والضمير المنصوب في «نحشرهم» يعود على المفترين الكذب، وقيل: على الناس كلهم فيندرج هؤلاء فيهم، والتوبيخ مختص بهم. وقيل: يعود على المشركين وأصنامهم، ويدل عليه قوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22] . و «جميعاً» حال من مفعول «نحشُرهم» . ويجوز أن يكونَ توكيداً عند مَنْ أثبته من النحويين كأجمعين. وعطف هنا ب «ثُمَّ» للتراخي الحاصل

بين الحشر والقول. ومفعولا «تَزْعُمون» محذوفان للعِلْمِ بهما أي: تزعمونهم شركاء أو تزعمون أنهما شفعاؤكم. وقوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ} إن جَعَلْنا الضمير في «نحشرهم» عائداً على المفترين الكذبَ كان ذلك من باب إقامة الظاهرِ مُقام المضمر، إذ الأصل: ثم نقول لهم وإنما أُظِهِرَ تنبيهاً على قبح الشرك.

23

قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} : قرأ حمزة والكسائي: «يكن» بالياء من تحت، «فتنتهم» نصباً، وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم: «تكن» بالتاء من فوق، «فتنتُهم» رفعاً. والباقون بالتاء من فوق أيضاً، «فتنتهم» نصباً. فأمَّا قراءة الأخوين فهي أفصحُ هذه القراءات لإِجرائها على القواعد من غير تأويل، وستعرفه في القراءتين الأُخْرَيَيْن، وإعرابها ظاهر. وذلك أن «فتنتهم» خبر مقدم، و «أَنْ قالوا» بتأويل اسم مؤخر، والتقدير: ثم لم تكن فتنتهم إلا قولُهم، وإنما كانت أفصحَ لأنه إذا اجتمع اسمان، أحدهما: أعرفُ، فالأحسنُ جَعْلُه اسماً مُحَدَّثاً عنه والآخر خبراً حديثاً عنه، و «أَنْ قالوا» يشبه المضمر، والمضمر أعرف المعارف، وهذه القراءة جُعِل الأعرفُ/ فيها اسماً ل «كان» وغيرُ الأعرف خبرَها، ولم يؤنَّث الفعل لإِسناده إلى مذكر. وأما قراءة ابن كثير ومَنْ تبعه ف «فتنتُهم» اسمها، ولذلك أُنِّثَ الفعلُ لإِسناده إلى مؤنث. و «إلا أَنْ قالوا» خبرها، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسماً والأعرفَ خبراً، فليست في قوة الأولى. وأمَّا قراءةُ الباقين ف «فتنتَهم» خبر مقدم، و «إلا أن قالوا» اسمٌ مؤخَّرٌ، وهذه القراءةُ - وإن كان فيها جَعْلُ الأعرفِ اسماً - كالقراءة الأولى، إلا أن

فيها لَحاقَ علامة تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل ولكنه بتأويل. فقيل: لأن قوله: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} في قوة مقالتهم. وقيل: لأنه هو الفتنة في المعنى، وإذا أخبر عن الشيء بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً فعومل معاملته، وجعل أبو علي منه {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] لما كانت الأمثال هي الحسنات في المعنى عومل معاملةَ المؤنث فسقطت التاء من عدده. ومثلُ الآيةِ قولُه: 188 - 0- ألم يكُ غَدْراً ما فَعَلْتُم بسَمْعَلٍ ... وقد خاب مَنْ كانَتْ سريرتَه الغَدْرُ ف «كانت» مسند إلى الغدر وهو مذكَّر، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعْلَه، ومثله قول لبيد: 188 - 1- فمضى وقدَّمها وكانت عادةً ... إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها قال أبو علي: «فأنَّث الإِقدام لما كان العادة في المعنى» قال: «وقد جاء في الكلام:» ما جاءت حاجتَك «فأنّث ضمير» ما «حيث كانت الحاجة في المعنى، ولذلك نصب» حاجتك «. وقال الزمشخري:» وإنما أنَّث «أن قالوا» لوقوع الخبر مؤنثاً كقولهم: من كانت أمَّك «. وقال الشيخ:» وكلام الزمخشري مُلَفَّقٌ من كلام أبي علي، وأمَّا «من كانت أمَّك» فإنه حَمَلَ اسمَ «كان» على معنى «مَنْ» فإن لها لفظاً مفرداً مذكراً، ولها معنى بحسب ما تريد من إفارد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، وليس الحَمْلُ

على المعنى لمراعاة الخبر، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر، كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] [وقوله] : 188 - 2-. . . . . . . . . . . . . . . ... نكن مثلَ مَنْ يا ذئب يَصْطحبان قلت: ليت شعري ولأي معنى خصَّ الزمخشريَّ بهذا الاعتراض فإنه وارد على أبي علي أيضاً؟ إذ لقائلٍ أن يقول: التأنيث في «جاءت» للحمل على معنى «ما» فإن لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مثل «مَنْ» على أنه يقال: للتأنيث علَّتان، فذكرا إحداهما. ورجَّح أبو عبيد قراءَة الأخوين بقراءة أُبَيّ وبان مسعود: «وما كان فتنتُهم إلا أن قالوا» فلم يُلْحِقْ الفعلَ علامةَ تأنيث. ورجَّحها غيره بإجماعهم على نصب «حُجَّتَهم» من قوله تعالى: {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] . وقرئ شاذاً: {ثم لم يكنْ فتنتُهم إلا أن قالوا «بتذكير» يكنْ «ورفع» فتنتهم «ووجهُ شذوذِها سقوطُ علامةِ التأنيثِ والفاعلُ مؤنثٌ لفظاً وإن كان غيرَ حقيقي، وجَعْلُ غير الأعرف اسماً والأعرفِ خبراً، فهي عكس القراءة الأولى من الطرفين، و» أن قالوا «ممَّا يجب تأخيرُه لحَصْره سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً. قوله: {رَبِّنَا} قرأ الأخَوان: {ربَّنا} نصباً والباقون جراً. ونصبه: إمَّا على النداء وإمَّا على المدح، قاله ابن عطية، وإمَّا على إضمار» أعني «قاله

أبو البقاء والتقدير: يا ربنا. وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملة معترضةٌ بين القسم وجوابه وهو قوله {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وخفضُه في ثلاثةِ أوجهٍ: النعتِ والبدلِ وعطفِ البيان. وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين: {واللَّهُ ربُّنا} برفعهما على المبتدأ والخبر. قال ابن عطية:» وهذا على تقديمٍ وتأخير، كأنهم قالوا: واللَّهِ ما كنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنا «قلت: يعني أن ثَمَّ قَسَماً مضمراً.

24

قوله تعالى: {كَيْفَ كَذَبُواْ} : «كيف» منصوب على حدِّ نَصْبها في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] وقد تقدَّم بيانه. و «كيف» وما بعدها في محل نصب ب «انظر» لأنها معلِّقة بها عن العمل. و «كَذَبوا» وإن كان معناه مستقبلاً لأنه في يوم القيامة، فهو لتحقُّقِه أبرزه في صورة الماضي. وقوله: «وضَلَّ» يجوز أن يكونَ نَسَقاً على «كَذَبوا» فيكون داخلاً في حَيِّز النظر، ويجوز أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ فلا يندرجُ في حَيِّزِ المنظور إليه، وقوله: «ما كانوا» يجوز في «ما» أن تكون مصدرية أي: وضلَّ عنهم افتراؤهم، وهو قولُ ابن عطية. ويجوز أن تكونَ موصولةً اسمية، أي: وضَلَّ عنهم الذين كانوا يفترونه، فعلى الأول لا يُحْتاج إلى ضمير عائد على «ما» عند الجمهور، وعلى الثاني لا بد من ضمير عند الجميع.

25

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ} : راعى لفظَ «مَنْ» فأفردَ، ولو راعى المعنى لَجَمَع كقوله في موضع آخر: {وَمِنْهُمْ مَّن

يَسْتَمِعُونَ} [يونس: 42] وقوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} إلى آخره، حُمِل على معناها. قوله: {وَجَعَلْنَا} «جَعَلَ» هنا يحتمل أن يكونَ للتصيير فيتعدى لاثنين، أَوَّلُهما «أكنَّةً» ، والثاني الجار قبله، فيتعلَّق بمحذوف، أي: صَيَّرنا الأكِنَّةَ مستقرَّةً على قلوبهم. ويحتمل أن يكون بمعنى خلق فيتعدَّى لواحد، ويكون الجارُّ قبله حالاً فيتعلَّق بمحذوف، لأنه لو تأخر لوقع صفةً ل «أَكِنَّة» ويُحتمل أن يكونَ بمعنى «ألقى» فتتعلق «على» بها كقولك: «ألقيت على زيدٍ كذا» وقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] . وهذه الجملةُ تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها مستأنفة سيقت للإِخبار بما تضمَّنَتْه من الخَتْم على قلوبهم وسمعهم. ويُحْتمل أن تكون في محلِّ نصب على الحال، والتقدير: مَنْ يستمع في حال كونه مجعولاً على قلبه كِنانٌ وفي أذنه وَقْرٌ، فعلى الأول يكون قد عطف جملةً فعلية على اسمية، وعلى الثاني تكون الواو للحال، و «قد» مضمرة، بعدها عند مَنْ يقدِّرها قبل الماضي الواقع حالاً. والأَكِنَّة: جمع كِنان وهو الوعاء الجامع. قال: 188 - 3- إذا ما انْتَضْوها في الوغَى مِنْ أكنَّةٍ ... حَسِبْتَ بروقَ الغيث تأتي غيومُها وقال بعضهم: «الكِنُّ - بالكسر - ما يُحْفَظُ فيه الشي، وبالفتح المصدر. يقال: كنَّنْتُه كِنَّاً أي: جعلتُه في كِنّ، وجُمِعَ على أَكْنان قال تعالى: {مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} [النحل: 81] . والكِنانُ: الغِطاء الساتر، والفعل من هذه المادة

يُستعمل ثلاثياً ورباعياً، يقال: كَنَنْتُ الشيء وأكنَنْتُه كِنَّاً وأكناناً، إلا أنَّ الراغبَ فرَّقَ بين فَعَل وأَفْعل فقال:» وخُصَّ كَنَنْتُ بما يَسْتُرُ من بيتٍ أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام، قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 49] وأكنَنْتُ بما يُسْتَرُ في النفس، قال تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] . قلت: ويَشْهد لما قال قوله أيضاً: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 7778] وقوله تعالى: {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [القصص: 69] . وكِنانُ يُجْمع على أكِنَّة في القلة والكثرة لتضعيفه، وذلك أن فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمع في القلة على أَفْعِله كأَحْمِرَة واقْذِلة وفي الكثرة على فُعُل كحُمُر وقُذُل، إلا أن يكونَ مضاعفاً ك «بَتَات» و «كِنان» أو معتلَّ اللام كخِباء وقَباء فيُلْتَزَمَ جَمْعُه على أَفْعِلة، ولا يجوز على فُعُل إلا في قليلٍ من الكلام كقولهم عُنُن وحُجُج في جمع عِنان وحِجاج. قوله: {أَن يَفْقَهُوهُ} في محلِّ نصب على المفعول من أجله، وفيه تأويلان سَبَقا، أحدهما: كراهةَ أن يفقهوه، وهو رأيُ البصريين، والثاني: حَذْفُ «لا» أي: أن لا يفقهوه، وهو رأيُ الكوفيين.

قوله: {وَقْراً} عطفٌ على «أَكِنَّة» فينصبُ انتصابَه، أي: وجَعَلْنا في آذانهم وقراً. و «في آذانهم» كقوله «على قلوبهم» وقد تقدَّم أنَّ «جَعَل» يَحْتمل معانيَ ثلاثةً فيكونُ هذا الجار مبنيَّاً عليها مِنْ كونه مفعولاً ثانياً قُدِّمَ، أو متعلقاً بها نفسِها أو حالاً. والجمهور على فتح الواو من «وَقْراً» وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها والفرق بين الوَقْر والوِقْر أنَّ المفتوح هو الثِّقل في الأذن، يُقال منه: وَقَرِتْ أذنه بفتح القاف وكَسْرِها، والمضارع تَقِر وتَوْقَر بحسب الفعلين ك تَعِد وتَوْجَل. وحكى أبو زيد: أذنٌ مَوْقورة، وهو جارٍ على القياس، ويكون فيه دليلٌ على أن وَقَر الثلاثي يكون متعدِّياً، وسُمِع «أذن مُوْقَرَة» والفعل على هذا أَوْقَرْتُ رباعياً كأكرم. والوِقْر - بالكسر - الحِمْل للحمار والبغل ونحوهما، كالوسَق للبعير، قال تعالى: {فالحاملات وِقْراً} [الذاريات: 2] فعلى هذا قراءةُ الجمهور واضحة أي: وجَعَلْنا في آذانهم ثِقَلاً أي: صَمَماً. وأمَّا قراءةُ طلحة فكأنه جَعَلَ آذانهم وَقِرت من/ الصَّمَم كما تُوْقَرُ الدابة بالحِمْل، والحاصل أن المادَّة تدلُّ على الثِّقَل والرِّزانة، ومنه الوَقار للتُّؤَدة والسَّكينة، وقوله تعالى: {وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} فيه الفصلُ بين حَرْفِ العطف وما عَطَفه بالجار مع كونِ العاطف على حرفٍ واحد وهي مسألة خلافٍ تقدَّم تحقيقُها في قوله: {أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] والظاهر أن هذه الآيةَ ونظائرها مثلُ قوله: {آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] ليس مما فُصِل فيه بين العاطِف ومعطوفِه. وقد حقَّقْتُ جميع ذلك في الموضعِ المُشارِ إليه. قوله: {حتى إِذَا جَآءُوكَ} قد تقدَّم الكلام في «حتى» الداخلة على «إذا»

في أول النساء. وقال أبو البقاء هنا: «إذا» في موضع نصب بجوابها وهو «يقول» وليس ل «حتى» هنا عملٌ وإنما أفادَتْ معنى الغاية كما لا تعمل في الجمل «. وقال الحوفي:» حتى «غاية، و» يُجادلونك «حال، و» تقولُ «جوابُ» إذا «وهو العامل في» إذا «وقال الزمخشري:» هي «حتى» التي تقع بعدها الجمل، والجملةُ قولُه: {حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ} ، و «يجادلونك» في موضع الحال، ويجوزُ أن تكونَ الجارَّةَ، ويكون «إذا جاؤوك» في محل الجَرِّ بمعنى: حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله: {يَقُولُ الذين كفروا} تفسير له، والمعنى: أنه بلغ تكذيبُهم الآياتِ إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسَّر مجادلتهم بأنهم يقولون: إنْ هذا إلا أساطير الأولين. قال الشيخ: «وقد وُفِّق الحوفي وأبو البقاء وغيرُهما للصواب في ذلك، ثم ذكر عبارة أبي البقاء والحوفي. وقال أيضاً:» و «حتى» إذا وقع بعدها «إذا» يُحْتمل أن تكونَ بمعنى الفاء، ويُحتمل أن تكون بمعنى إلى أن، فيكون التقدير: فإذا جاؤوك يجادلونك يقول، أو يكون التقدير: وجَعَلْنا على قلوبهم أَكِنَّة، وكذا إلى أَنْ قالوا: إنْ هذا إلا أساطير الأولين، وقد تقدَّم أن «يُجادِلونك» حالٌ من فاعل «جاؤوك» و «يقول» : إمَّا جواب «إذا» وإمَّا مفسِّرةٌ للمجيء كما تقدَّم تقريره. و «أساطير» فيه أقوال، أحدها: أنه جمع لواحد مقدر، واختُلِفَ في ذلك المقدَّر فقيل: أُسْطورة، وقيل: أَسْطارة، وقيل: أُسْطور، وقيل: أَسْطار،

وقيل: إسْطير وقال بعضهم: بل لُفِظَ بهذه المفردات. والثاني: أنه جمعُ جمعٍ، فأساطير جمع أَسْطار، وأَسْطار جمع سطَر بفتح الطاء، وأما سَطْر بسكونها فجمعُه في القلة على أَسْطُر، وفي الكثرة على سُطور كفَلْس وأَفْلُس وفُلوس. والثالث: أنه جَمْعُ جَمْعِ الجمع، فأساطير جمع أَسْطار، وأَسْطار جمع أَسْطُر، وأَسْطُر جمع سَطْر. وهذا مرويٌّ عن الزجاج. وهذا ليس بشيء، فإنَّ «أَسْطار» ليس جمعَ أَسْطُر، بل هما مثالا جمع قلة. الرابع: أنه اسم جمع، قال ابن عطية: «وقيل: هو اسم جمعٍ لا واحد له من لفظه» وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ النحويين قد نصُّوا على أذا كان على صيغة تَخُصُّ الجموعَ لم يُسمُّوه اسم جمع بل يقولون هو جمعٌ كعباديد وشماطيط. وظاهر كلام الراغب أن أساطير جمع سَطَر بفتح الطاءِ فإنه قال: «وجمعُ سَطَر - يعني بالفتح - أسطار وأساطير» ووقال المبرد: «هي جمع أُسْطورة نحو أُرْجوحة وأراجيح وأُحْدُوثه وأحاديث» ومعنى الأساطير الأحاديث الباطلة والتُرَّهات ممَّا لا حقيقةَ له.

26

قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} : في الضميرين - أعني هم وهاء «عنه» - أوجه، أحدها: أن المرفوع يعود على الكفار، والمجرور يعود على القرآن، وهو أيضاً الذي عاد عليه الضميرُ المنصوب من «يَفْقهوه» ، والمشارُ إليه بقولهم: «إنْ هذا» والثاني: أنَّ «هم» يعود على مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم مِن الكفار، وفي «عنه» يعود على الرسول، وعلى هذا فقيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة، فإن قوله: {جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} خطاب للرسول، فخرج

من هذا الخطاب إلى الغَيْبة. وقيل: يعود على المرفوع على أبي طالب وأتباعه. وفي قوله {يَنْهَوْنَ} و {وَيَنْأَوْنَ} تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهَوْن انفردت بالهاء، ويَنْأَوْن بالهمزة، ومثله قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} [الكهف: 104] {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ. . . . . . وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] وقوله عليه السلام: «الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ» وبعضهم يسمِّيه «تجنيس التحريف» وهو الفرق بين كلمتين بحرف، وأنشدوا: 188 - 4- إنْ لم أشُنَّ على أبن حرب غارةً ... لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ وذكر غيره أن تجنيسَ التحريف هو أن يكون الشكل فرقاً بين كلمتين، وجعل منه «اللُّهى تفتح اللَّهى» وقد تقدم تحقيق ذلك. وقرأ الحسن البصري «ويَنَوْن» بإلقاء حركة الهمزة على النون وحذفها، وهو تخفيف قياسي. والنَّأيُ: البُعْد، قال: 188 - 5- إذا غيَّر النأيُ المُحِبِّين لم يَزَلْ ... رَسِيسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يبرحُ وقال آخر: 188 - 6- ألا حَبَّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ ... وهندٌ أتى مِنْ دونها النأيُ البعدُ

عطف الشيء على نفسه للمغايرة اللفظية، يقال: نأى زيد يَنْأى نأياً، ويتعدَّى بالهمزة فيقال: أَنْأيْتُه، ولا يُعَدَّى بالتضعيف، وكذا كلُّ ما كان عينه همزة. ونقل الواحدي أنه يقال: نَأَيْتُه بمعنى نَأَيْتُ عنه، أنشد المبردِ: 188 - 7- أعاذِلُ إن يُصْبحْ صَداي بقَفْرَةٍ ... بعيداً نآني صاحبي وقريبي أي: نأى عني. وحكى اللَّيث: «نَأَيْت الشيء» أي: أبعدته، وأنشد: 188 - 8- إذا ما التَقَيْنا سالَ من عَبَراتنا ... شآبيب يُنْآى سَيْلُها بالأصابع فبناه للمفعول أي: يُنَحَّى ويُبْعَد. والحاصلُ أن هذه المادةَ تدلُّ على البُعْد، ومنه: أَتَنَأَّى أي: أفتعلُ النَّأيَ. والمَنْأى: الموضع البعيد، قال النابغة: 188 - 9- فإنَّك كالموتِ الذي هو مُدْرِكي ... وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتأى عنك واسعُ وتناءَى: تباعَدَ، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرة التي حول الخِباء لتُبْعِدَ عنه الماء. وقُرِئ: {وناءَ بجانبه} وهو مقلوبٌ مِنْ نأى، ويدل على ذلك أن الأصلَ هو المصدرُ وهو النَّأْيُ بتقديم الهمزة على حرف العلة. قوله: {وَإِن يُهْلِكُونَ} «إنْ» نافيةٌ كالتي في قوله: {إِنْ هاذآ} [الأنعام: 25] ، و «أنفسهم» مفعولٌ، وهو استثناء مفرغ، ومفعول «يَشْعرون» محذوف: إمَّا اقتصاراً وإمَّا اختصاراً، أي: وما يشعرون أنهم يُهْلكون أنفسَهم.

27

قوله تعالى: {وَلَوْ ترى} : جوابها محذوف لفَهْمِ

المعنى، التقدير: لرأيت شيئاً عظيماً وهَوْلاً مُفْظِعاً. وحَذْفُ الجواب كثيرٌ في التنزيل وفي النظم، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} [الرعد: 31] وقول الآخر: 189 - 0- وجَدِّك لو شيءٌ أتانا رسولُه ... سِواك ولكن لم نَجِدْ لك مَدْفَعا وقوله: 189 - 1- فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعةً ... ولكنها نفسٌ تساقَطُ أنفُسَا وقوله: 189 - 2- كَذَبَ الغواذِلُ لو رَأَيْنَ مُنَاخَنَا ... بحَزيزِ رامةَ والمَطِيُّ سَوَامي وحَذْفُ الجواب أبلغُ: قالوا: لأنَّ السَّامع تَذْهَبُ نفسُه كلَّ مذهب، فلو صُرِّح له بالجواب وَطَّن نفسَه عليه فلم يَخْشَ منه [كثيراً، ولذلك قال كثير: 189 - 3- فقلتُ لها يا عَزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ لها النفسُ ذَلَّتِ] و «ترى» يجوز أن تكونَ بَصَريةً ومفعولُها محذوف، أي: ولو ترى حالَهم، ويجوز أن تكونَ القلبيةَ، والمعنى: ولو صَرَفْتَ فكرَك الصحيح لأن تَتَدبَّر حالَهم لازْدَدْتَ يقيناً. وفي «لو» هذه وجهان، أظهرهما: أنها الامتناعية فينصرف المضارع بعدها للمضيِّ، ف «إذ» باقية على أصلها من دلالتها على الزمن الماضي،

وهذا وإن كان لم يقعْ بعدُ لأنه سيأتي يوم القيامة إلا أنه أُبْرِزَ في صورة الماضي لتحَقُّقِ الوعد. والثاني: أنها بمعنى «إنْ» الشرطية «و» إنْ «هنا تكون بمعنى» إذا «والذي حَمَلَ هذا القائلَ على ذلك كونُه لم يقعْ بعدُ، وقد تقدَّم تأويله. وقرأ الجمهور: {وُقِفُوا} مبنياً للمفعول من وقف ثلاثياً. و» على «يُحْتمل أن تكونَ على بابها وهو الظاهر أي: حُبِسوا عليها، وقيل: يجوز أن تكون بمعنى في، وليس بذاك. وقرأ ابن السَّمَيْفَع وزيد بن علي:» وَقَفوا «مبنياً للفاعل. و» وقف «يتعدَّى ولا يتعدَّى، وفرَّقَتِ العرب بينهما بالمصدر، فمصدرُ اللازم على فُعول، ومصدرُ المتعدِّي على فَعْل، ولا يقال: أَوْقَفْتُ. قال أبو عمرو بن العلاء:» لم أسمعْ شيئاً في كلام العرب: أوقفت فلاناً، إلا أَنِّي لو رأيت رجلاً واقفاً فقلت: له: «ما أوقفك ههنا» لكان عندي حسناً «وإنما قال كذلك لأنَّ تعدِّيَ الفعل بالهمزة مقيس نحو: ضحك زيد وأضحكته أنا، ولكن سَمِعَ غيره في» وقف «المتعدي أوقفته. قال الراغب:» ومنه - يعني من لفظِ وَقَفْتُ القومَ - استُعير وَقَفْتُ الدابة إذا سَبَلْتُها «فَجَعَل الوقفَ حقيقةً في مَنْع المشي وفي التسبيل مجازاً على سبيل الاستعارة، وذلك أن الشيء المُسْبَل كأنه ممنوع من الحركة، والوَقْفُ لفظُ مشترك بين ما تقدَّم وبين سِوار من عاج، ومنه:» حمار مُوَقَّفٌ بأرساغه مِثْلُ الوَقْف من البياض «. قوله: {ياليتنا} قد تقدَّم الكلام في» يا «المباشِرة للحرف والفعل. وقرأ: «ولا نُكَذِّبُ» و «نكونُ» برفعهما نافع وأبو عمرو وابن كثير والكسائي،

وبنصبهما حمزةُ عن عاصم، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر وأبو بكر. ونقل الشيخ عن ابن عامر أنه نصبَ الفعلين، ثم قال بعد كلام طويل «قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر/ في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر: {ولا نكذِّبُ} بالرفع، و» نكون «بالنصب» . فأما قراءة الرفع فيهما ففيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن الرفع فيهما على العطف على الفعل قبلهما وهو «نُرَدُّ» ، ويكونون قد تمنَّوا ثلاثة اشياء: الردَّ إلى دار الدنيا، وعدمَ تكذيبهم بآيات ربهم، وكونَهم من المؤمنين. والثاني: أن الواو واو الحال، والمضارع خبر مبتدأ مضمر، والجملة الاسمية في محصل نصب على الحال من مرفوع «نُرَدُّ» ، والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين وكائنين من المؤمنين، فيكونُ تمنِّي الرد مقيَّداً بهاتين الحالَيْن، فيكونُ الفعلان أيضاً داخلَيْن في التمني. وقد استشكل الناسُ هذين الوجهين: بأن التمني إنشاء، والإِنشاء لا يدخله الصدق ولا الكذب، وإنما يدخلان في الإِخبار، وهذا قد دخله الكذبُ لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه أحدها - ذكره الزمشخري - قال: «هذا تمنِّ تضمَّنَ معنى العِدَة فجاز أن يدخلَه التكذيبُ كما يقول الرجل:» ليت اللَّهَ يرزقني مالاً فأُحْسِنَ إليك، وأكافئَك على صنيعك «فهذا مَتَمَنِّ في معنى الواعد، فلو رُزِق مالاً ولم يُحْسِنْ إلى صاحبه ولم يكافئه كذَّبَ، وصَحَّ أن يقال له كاذب، كأنه قال: إن رزقني الله مالاً أحسنت إليك.

والثاني: أن قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ليس متعلِّقاً بالمتمنَّى، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تعالى بأنهم دَيْدَنهم الكذب وهِجِّيراهم ذلك، فلم يدخل الكذب في التمني. وهذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح. والثالث: أنَّا لا نُسَلِّم أن التمنِّي لا يَدْخُله الصدق والا الكذب، بل يدخلانه، وعُزِي ذلك إلى عيسى بن عمر. واحتجَّ على ذلك بقول الشاعر: 189 - 4- مُنَىً إن تكن حقاً يكنْ أحسنَ المنى ... وإلاَّ فقد عِشنا بها زمناً رغْدا قال:» وإذا جاز أن توصف المنى بكونها حقاً بجاز أن توصف بكونها باطلاً وكذباً «وهذا الجواب ساقط جداً، فإن الذي وُصِفَ بالحق إنما هو المنى، والمُنى جمع مُنْيَة والمُنْيَةُ توصف بالصدق والكذب مجازاً؛ لأنها كأنها تَعِد النفس بوقوعها فيُقال لِما وقع منها صادق ولِما لم يقع منها كاذب، فالصدق والكذب إنما دخلا في المُنْيَةِ لا في التمني. والثالث من الأوجه المتقدمة ان قوله» ولا نكذِّبُ «خبر لمبتدأ محذوف، والجملة استنافية لا تعلُّقَ لها بما قبلها، وإنما عُطِفَتْ هاتان الجملتان الفعليَّتان على الجملة المشتملة على أداة التمني وما في حَيِّزها فليسَتْ داخلةً في التمني أصلاً، وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم أَخْبروا عن أنفسهم بأنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم، وأنَّهم يكونون من المؤمنين، فتكون هذه الجملة وما عُطِف عليها في محل نصبٍ بالقول، كأنَّ التقديرَ: فقالوا: يا ليتنا نُرَدُّ وقالوا: نحن لا نُكَذِّبُ ونكونُ من المؤمنين واختار سيبويه هذا الوجه، وشبَّهه بقولهم:» دعني ولا أعودُ «أي وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني، أي: لا أعود على كل حال، كذلك معنى الآية أَخْبروا أنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال، رُدُّوا أو لم يُرَدوا.

وهذا الوجه وإن كان الناسُ قد ذكروه ورجَّحوه واختار سيبويه - كما مرَّ - فن بعضهم استشكل عليه إشكالاً وهو: أنَّ الكذبَ لا يقع في الآخرة فكيف وُصِفوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم «ولا نكذِّب ونكون» ؟ وقد أُجيب عنه بوجهين، أحدهما: أن قوله {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} استيثاقٌ لذَمِّهم بالكذب، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّم ذلك آنفاً. والثاني: أنهم صَمَّموا في تلك الحال على أنهم لو رُدُّوا لَمَا عادوا إلى الكفر لِما شاهدوا من الأهوال والعقوبات، فأخبر الله تعالى أنَّ قولَهم في تلك الحال: «ولا نكذِّبُ» وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغيَّر على تقدير الرد ووقوع العَوْد، فيصير قولهم: «ولا نكذب» كذباً، كما يقول اللص عند ألم العقوبة: «لا أعود» ، ويعتقد ذلك ويصمم عليه، فإذا خُلِّص وعادَ كان كاذباً. [وقد أجاب مكي أيضاً بجوابين، أحدهما] قريبٌ مما تقدَّم، والثاني لغيره، فقال: «أي: لكاذبون في الدنيا في تكذيبهم الرسل وإنكارهم البعثَ للحال التي كانوا عليها وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوعَ التكذيب في الآخرة لأنهم ادَّعَوا أنهم لو رُدُّوا لم يكذِّبوا بآيات الله، فعلمَ اللَّهُ ما لا يكون لو كان كيف يكون، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكذَّبوا بآيات الله، فأكذبهم الله في دعواهم» . وأمَّا نَصْبُهما فبإضمار «أَنْ» بعد الواو التي بمعنى مع، كقولك: «ليت لي مالاً وأنفقَ منه» فالفعل منصوب بإضمار «أن» و «أنْ» مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدرٌ، والواوُ حرف عطف فيستدعى معطوفاً عليه، وليس قبلها في الآية إلا فعلٌ فكيف يُعْطَفُ اسمٌ على فعل؟ فلا جَرَمَ أنَّا نقدِّر مصدراً

متوهماً يُعْطَفُ هذا المصدر المنسبك من «أَنْ» وما بعدها عليه، والتقدير: يا ليتنا لنا رَدُّ وانتفاءُ تكذيب بآيات ربنا وكون من المؤمنين، أي: ليتنا لنا ردُّ مع هذين الشيئين، فيكون عدمُ التكذيب والكونُ من المؤمنين مُتَمَنَّيَيْنِ أيضاً، فهذه الثلاثةُ الأشياءِ: أعني الردَّ وعدمَ التكذيب والكونَ من المؤمنين متمنَّاةٌ بقيد الاجتماع، لا أنَّ كلَّ واحدٍ متمنَّى وحدَه؛ لأنه كما قَدَّمْتُ لك: هذه الواوُ شرطُ إضمار «أنْ» بعدها: أن تصلح «مع» في مكانها، فالنصبُ يُعَيِّنُ أحدَ محتملاِتها في قولك «لا تأكلِ السمك وتشرب اللبن» وشبهه، والإِشكالُ المتقدم وهو إدخال التكذيب على التمني واردٌ هنا، وقد تقدم جواب ذلك، إلا أن بعضَه يتعذَّر ههنا: وهو كون لا نكذِّبُ، ونكونُ «متسأنَفَيْن سِيقا لمجرد الإِخبار، فبقي: إمَّا لكون التمني دخله معنى الوعد، وإمَّا أن قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ليس راجعاً إلى تمنِّيهم، وإمَّا لأنَّ التمنِّي يدخله التكذيب، وقد تقدَّم فساده. وقال ابن الأنباري: «أَكْذَبَهم في معنى التمني؛ لأن تمنِّيَهم راجعٌ إلى معنى:» نحن لا نكذِّب إذا رُدِدْنا «فغلَّب عزَّ وجل تأويلَ الكلام فأكذبهم، ولم يُسْتعمل لفظ التمني» وهذا الذي قاله ابن الأنباري تقدَّم معناه بأوضح من هذا. قال الشيخ: «وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أنَّ هذه الواوَ المنصوبُ بعدها هو على جواب التمني، كما قال الزمخشري:» وقرئ: ولا نكذِّبَ ونكونَ بالنصب بإضمار أَنْ على جواب التمني، ومعناه: إنْ رُدِدْنا لم نكذِّبْ ونكنْ من المؤمنين «. قال:» وليس كما ذكر، فإنَّ نَصْبَ الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب؛ لأنَّ الواوَ لا تقع [في] جواب الشرط فلا ينعقد

ممَّا قبلها ولا ممَّا بعدها شرط وجواب، وإنما هي واو «مع» يُعْطَفُ ما بعدها على المصدر المتوهَّم قبلها، وهي واو العطف يتعيَّنُ مع النصب أحدُ محامِلها الثلاثة: وهي المعيَّةُ ويُمَيِّزها من الفاء تقديرُ «مع» موضعها، كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعلٌ منصوب ميِّزها تقدير شرطٍ قبلها أو حال مكانها. وشُبْهَةُ مَنْ قال إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهَّم أنها جواب. وقال سيبويه: «والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، والواو والفاء معناهما مختلفان، ألا ترى: 189 - 5- لا تَنْهَ عن خلق وتأتيَ مثله ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لو دخلت الفاءُ هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد: لا تجمع النهيَ والإِتيان وتقول:» لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبن «لو أَدْخَلْتَ الفاء فَسَدَ المعنى» قال الشيخ: «ويوضِّح لك أنها ليست بجوابٍ انفرادُ الفاءِ دونها بأنها إذا حُذِفت انجزم الفعلُ بعدها بما قبلها لِما تضمَّنه من معنى الشرط إلا في النفي، فإن ذلك لا يجوز» . قلت: قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج شيخُ الجماعة. قال أبو إسحاق: «نصبٌ على الجواب بالواو في التمني كما تقول:» ليتك تصير إلينا ونكرمَك «المعنى: ليت مصيرَك يقع وإكرامَنا، ويكون المعنى: ليت ردَّنا وقع وأن لا نكذِّب» . وأمَّا كونُ الواو ليست بمعنى الفاء فصحيحٌ، على ذلك جمهورُ النحاة. إلى أني رأيت أبا بكر ابن الأنباري خرَّج النصب على وجهين، أحدهما: أن

الواو بمعنى الفاء. قال أبو بكر: «في نصب» نكذِّبَ «وجهان، أحدهما: أن الواو مُبْدَلةٌ من الفاء، والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ، فتكون الواو هنا بمنزلة الفاء في قوله: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} [الزمر: 58] يؤكد هذا قراءةُ ابنِ مسعود وابن أبي إسحاق:» يا ليتنا نردُّ فلا نكذبَ «بالفاء منصوباً. والوجه الآخر: النصب على الصرف ومعناه الحال، أي: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين/. وأمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأول ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم؛ لأنَّ الأولَ يرتفع على حدِّ ما تقدَّم من التأويلات، وكذلك نصبُ الثاني يتخرَّج على ما تقدَّم، ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التمني أو استأنفه، إلا أنَّ المنصوبَ يحتمل أن يكون من تمام قوله» نُرَدُّ «أي: تَمَنَّوا الردَّ مع كونهم من المؤمنين، وهذا ظاهر إذا جَعَلْنا» ولا نكذِّب «معطوفاً على» نردُّ «أو حالاً منه. وأما إذا جَعَلْنا» ولا نكذِّبُ «مستأنفاً فيجوز ذلك أيضاً ولكن على سبيل الاعتراض، ويحتمل أن يكونَ من تمامِ» ولا نكذِّب «أي: لا يكونُ منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين، ويكون قوله» ولا نكذب «حينئذ على حاله، أعني مِنْ احتماله العطفَ على» نُرَدُّ «أو الحالية أو الاستئناف، ولا يخفى حينئذٍ دخولُ كونِهم مع المؤمنين في التمني وخروجُه منه بما قرَّرْتُه لك. وقُرئ شاذاً عكسَ قراءة ابن عامر، أي: بنصب» نكذبَ «ورفع» نكون «وتخريجها على ما تقدم، إلا أنها يضعف فيها جَعْلُ» ونكونُ من المؤمنين «حالاً لكونه مضارعاً مُثْبَتاً إلا بتأويل بعيد كقوله: 189 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالكاً أي: وأنا أَرْهَنُهم، وقولهم:» قمتُ وأصكُّ عينه «، ويدل على حذف هذا المبتدأ قراءةُ أُبيٍّ:» ونحن نكونُ من المؤمنين «.

28

قوله تعالى: {بَلْ بَدَا} : «بل» هنا لانتقالٍ من قصة إلى أخرى وليست للإِبطالِ، وعبارةُ بعضهم توهم أن فيها إبطالاً لكلام الكفرة فإنه قال: «بل» رَدٌّ لِما تمنَّوه، أي: ليس الأمر على ما قالوه لأنهم لم يقولوا ذلك رغبةً في الإِيمان، بل قالوه إشفاقاً من العذاب وطمعاً في الرحمة. قال الشيخ: «ولا أدري ما هذا الكلام؟» . قلت: ولا أدري ما وَجْهُ عدمِ الدراية منه؟ وهو كلام صحيح في نفسه، فإنهم لمَّا قالوا: يا ليتنا كأنهم قالوا تمنَّيْنا، ولكن هذا التمنِّيَ ليس بصحيح، لأنهم إنما قالوه تقيَّةً، فقد يتمنى الإِنسان شيئاً بلسانه وقلبه فارغ منه. وقال الزجَّاج «بل» هنا استدراكٌ وإيجابُ نفي كقولهم: ما قام زيد بل قام عمرو «. قال الشيخ:» ولا أدري ما النفيُ الذي سَبَق حتى توجَبه «بل» ؟ قلت: الظاهرُ أنَّ النفي الذي أراده الزجاج هو الذي في قوله: {وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} إذا جعلناه مستأنفاً على تقدير: ونحن لا نكذِّبُ، والمعنى: بل إنهم مُكَذِّبون. وفاعلُ «بدا» قوله: {مَّا كَانُواْ} و «ما» يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً وهو الظاهر، أي: ظهر لهم الذي كانوا يُخْفونه. والعائد محذوف. ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي ظهر لهم إخفاؤهم، أي: عاقبته، أو أُطْلِق المصدرُ على اسم المفعول، وهو بعيد، والظاهر أن الضميرين: أعني المجرورَ والمرفوعَ في قوله {بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} عائدان على شيء واحد، وهم الكفار أو اليهود والنصارى خاصة، وقيل: المجرورُ للأتباع والمرفوعُ للرؤساء، أي: بل بدا للأتباع ما كان الوجهاء المتبعون يُخْفُونه. قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ} قرأ الجمهور بضم الراء خالصاً. وقرأ الأعمش

ويحيى بن وثاب وإبراهيم: «رِدُّوا» بكسرها خالصاً. وقد عَرَفْتَ أن الفعلَ الثلاثي المضاعف العين واللام يجوز في فائه إذا بُني للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في فاء المعتل العين إذا بُني للمفعول نحو: قيل وبيع، وقد تقدَّم ذلك. وقال الشاعر: 189 - 7- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلمائِنا ... ولا قائلُ المعروف فينا يُعَنَّفُ بكسر الحاء. قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} تقدَّم الكلام على هذه الجملة: هل هي مستأنفة أو راجعة إلى قوله {يا ليتنا} ؟

29

قوله تعالى: {وقالوا} : هل هذه الجملة معطوفة على جواب «لو» والتقدير: ولو رُدُّوا لعادوا ولقالوا، أو هي مستأنفة ليست داخلةً في حَيِّز «لو» ، / أو هي معطوفةٌ على قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ؟ ثلاثة أوجه، ذكر الزمخشري الوجهين الأول والآخِر فإنه قال: «وقالوا عطف على» لعادوا «أي: لو رُدُّوا لكفروا ولقالوا: إنْ هي إلا حياتنا الدنيا، كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، ويجوز أن يُعْطف على قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} على معنى: وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء» . والوجهُ الأولُ منقول عن ابن زيد، إلا أن ابن عطية ردَّه فقال: «وتوقيفُ اللَّهِ لهم في الآية بعدها على البعث والإِشارة إليه في قوله {أَلَيْسَ هذا بالحق} [آل عمران: 30] يردُّ على هذا التأويل» . وقد يُجاب عن هذا باختلاف حالين: فإنَّ إقرارَهم بالبعث حقيقةً إنما هو في الآخرة، وإنكارَهم ذلك إنما هو الدنيا بتقدير عَوْدِهم إلى الدنيا، فاعترافهم به في الدار الآخرة غيرُ منافٍ لإِنكارهم إياه في الدنيا.

قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا} «إنْ» نافية و «هي» مبتدأ، و «حياتُنا» خبرها، ولم يكتفُوا بمجرَّد الإِخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفيٍ وإثبات، و «هي» ضمير مُبْهَم يفسِّره خبره، أي: ولا نعلم ما يُراد به إلا بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة، وقد قَدَّمْتُ ذلك عند قوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] ، وكونُ هذا ممَّا يفسِّره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظرٌ، إذ لقائل أن يقول «هي» تعود على شيء دلَّ عليه سياقُ الكلام، كأنهم قالوا: إنَّ العادةَ المستمرة أو إن حالتنا وما عَهِدْنا إلا حياتنا الدنيا، واستند هذا القائل إلى قولِ الزمخشري: «هذا ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُراد به إلا بِذِكْر ما بعده» ومثَّل الزمخشري بقول العرب: «هي النفس تتحمَّل ما حَمَلَتْ» و «هي العرب تقول ما شاءت» . وليس فيما قاله الزمخشري دليل له؛ لأنه يعني أنه لا يُعلم ما يعود عليه الضمير إلا بذكر ما بعده، وليس في هذا ما يدلُّ على أن الخبر مفسِّرٌ للضمير، ويجوز أن يكون المعنى: إنِ الحياة إلا حياتنا الدنيا، فقوله {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} دالٌّ على ما يفسِّر الضمير وهو الحياة مطلقاً، فَصَدَقَ عليه أنه لا يعمل ما يُراد به إلا بذكر ما بعده من هذه الحيثية لا من حيثيَّة التفسيرِ، ويدلُّ على ما قلتُه قولُ أبي البقاء: «هي كنايةٌ عن الحياة، ويجوز أن يكون ضميرَ القصة» . قلت: أمَّا أولُ كلامِه فصحيحٌ، وأمَّا آخرُه وهو قوله: «إن هي ضمير القصة» فليس بشيء؛ لأن ضمير القصة لا يفسِّر إلا بجملةٍ مصرَّحٍ بجزْأَيْها. فإن قلت: الكوفي يجوِّزُ تفسيره بالمفرد فيكون نحا نحوَهم. فالجوابُ أن الكوفيَّ إنما يُجَوِّزه بمفرد عامل عملَ الفعل نحو: «إنه قائم زيد» «وظنتُه قائِماً زيدٌ» لأنه في صورة الجملة، إذ في الكلام مسندٌ ومسندٌ إليه. أما نحو «

هو زيد» فلا يُجيزه أحدٌ، على أن يكونَ «هو» ضميرَ شأنٍ ولا قصة، والدنيا صفة الحياة، وليست صفةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً، يعني أن ثَمَّ حياةً غيرَ دنيا يُقِرُّون بها، لأنهم لا يَعْرفون إلا هذه، فهي صفةٌ لمجرد التوكيد، كذا قيل، ويَعْنون بذلك أنها لا مفهومَ لها، وإلاَّ فحقيقةُ التوكيد غير ظاهرةٍ بخلاف {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] . والباء في قوله «بمبعوثين» زائدةٌ لتأكيد الخبر المنفي، ويحتمل مجرورها أن يكونَ منصوبً المحلِّ على أنَّ «ما» حجازيةٌ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية.

30

قوله تعالى: {على رَبِّهِمْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه من باب الحذف، تقديره: على سؤال ربهم أو ملك ربهم أو جزاء ربهم. والثاني: أنه من باب المجاز؛ لأنه كنايةٌ عن الحَبْسِ للتوبيخ، كما يوقَفُ العبدُ بين يدي سيِّده ليعاتبَه، ذكر ذلك الزمخشري، ورجَّح المجاز على الحذف لأنه بدأ بالمجاز، ثم قال: «وقيل [وقُفوا] على جزاء ربهم» . وللناس خلافٌ في ترجيح أحدهما على الآخر. وجملة القول فيه أن فيه ثلاثةَ مذاهب، أشهرُها: ترجيحُ المجاز على الإِضمار، والثاني عكسُه، والثالث: هما سواء. قوله: {قَالَ أَلَيْسَ} في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها استفهاميةٌ أي: جواب سؤال مقدر، قال الزمشخري: «قال» مردودٌ على قولِ قائلٍ قال: ماذا قال لهم ربُّهم إذا وُقِفوا عليه؟ فقيل: قال لهم: أليس هذا بالحق «. والثاني: أن تكون الجملة حالية، وصاحبُ الحال» ربُّهم «كأنه قيل: وُقِفوا عليه قائلاً: أليس هذا بالحق. والمشارُ إليه قيل: هو ما كانوا يكذِّبون به من البعث. وقيل: هو العذاب يدلُّ عليه {فَذُوقُواْ العذاب} .

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ} يجوز أن تكونَ» ما «موصولةً اسميةً والتقدير: تكفرونه، والأصل: تكفرون به، فاتصل الضمير بالفعل بعد حذف الواسطةِ، ولا جائزٌ أن يُحْذَف وهو مجرور بحاله، وإن كان مجروراً بحرفٍ جُرَّ بمثله الموصولُ لاختلاف المتعلَّق، وقد تقدَّم إيضاحُه غيرَ مرة. والأَوْلَى أن تُجْعَلَ» ما «مصدرية ويكون متعلَّق الكفر محذوفاً، والتقدير: بما كنتم تكفرون بالعبث أو بالعذاب أي بملاقاته أي بكفركم بذلك.

31

قوله تعالى: {بَغْتَةً} : في نصبها أربعة أوجه، أحدها: أنها مصدرٌ في موضع الحال من فاعل «جاءَتْهم» أي: مباغتةً، وإمَّا من مفعوله أي: مَبْغوتين. الثاني: أنها مصدرٌ على غير الصدر؛ لأنَّ معنى «جاءتهم» بَغَتَتْهُمْ بغتة، فهو كقولهم: «أتيته رَكْضاً» . الثالث: أنَّها منصوبةٌ بفعلٍ محذوف من لفظها، أي: تَبْغَتُهم بَغْتة. الرابع: بفعلٍ من غير لفظها، أي: أتتهم بغتة. والبَغْتُ والبَغْتةُ مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتدادٍ به ولا جَعْلِ بالٍ منه حتى لو استشعر الإِنسانُ به ثم جاءه بسرعةٍ لا يُقال فيه بَغْتَة، ولذلك قال الشاعر: 189 - 8- إذا بَغَتَتْ أشياءُ قد كان قبلها ... قديماً فلا تَعْتَدَّها بَغَتَاتِ والألف واللام في «الساعة» للغلبة كالنجم والثريا، لأنها غلبت على يوم القيامة، وسمِّيَتِ القيامةُ ساعةً لسرعة الحساب فيها على الباري تعالى. وقوله «قالوا» هو جواب «إذا» . قوله: {ياحسرتنا} هذا مجازٌ، لأنَّ الحسرةَ لا يتأتَّى منها الإِقبال، وإنَّما

المعنى على المبالغة في شدة التحرُّ، وكأنهم نادوا التحسُّر، وقالوا: إن كان لكِ وقتٌ فهذا أوان حضورك. ومثله: «يا ويلتا» ، والمقصودُ التنبيهُ على خطأ المنادي حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء. قوله: {على مَا فَرَّطْنَا} متعلقٌ بالحَسْرة، و «ما» مصدريةٌ، أي: على تفريطنا. والضمير في «فيها» يجوز أن يعود على الساعة، ولا بد من مضاف أي: في شأنها والإِيمان بها، وأن يعود على الصفقة المتضمَّنة في قوله: {قَدْ خَسِرَ الذين} قاله الحسن، أو يعود على الحياة الدنيا وإن لم [يَجْرِ] لها ذِكْرٌ لكونها مَعْلومةً، قاله الزمخشري. وقيل: يعود على مازلهم في الجنة إذا رأَوْها. وهو بعيدٌ. والتفريطُ: التقصيرُ في الشيء مع القدرة على فعله. وقال أبو عبيد: «هو التضييع» وقال ابن بحر: «هو السَّبْق، منه الفارط أي السابق للقوم، فمعنى فرَّط بالتشديد خلَّى السبق لغيره، فالتضعيف فيه للسَّلْب كجلَّدْتُ البعير ومنه {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [الإِسراء: 79] . قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ} الواو للحال، وصاحب الحال الواو في» قالوا «أي: قالوا: يا حَسْرَتَنا في حالةِ حَمْلِهم أوزارَهم. وصُدِّرت هذه الجملة بضمير مبتدأ ليكون ذِكْرُه مرتين فهو أبلغُ، والحَمْلُ هنا قيل: مجازٌ عن مقاساتهم العذابَ الذي سببُّه الأوزارُ، وقيل: هو حقيقةٌ. وفي الحديث:» إنه يُمَثَّل له عملُه بصورةٍ قبيحةٍ مُنْتِنَةِ الريح فيحملها «وخُصَّ الظهرُ لأنه يُطِيق من الحمل ما لا يُطِيقه غيره من الأعضاء كالرأس والكاهل، وهذا كما تقدَّم في {

فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] ؛ لأن اليدَ أقوى في الإِدراك اللمسي من غيرها. الأوزار: جمع وِزْر كحِمْل وأَحْمال وعِدْل وأعدال. والوِزْر في الأصل الثقل، ومنه: وَزِرْتُهُ أي: حَمَّلْته شيئاً ثقيلاً، ووزير المَلِك من هذا لأنه يتحمَّل أعباءَ ما قلَّده الملك من مؤونة رعيتَّه وحَشَمَتِه، ومنه أوزار الحرب لسلاحها وآلاتها، قال: 189 - 9- وأعدَدْتُ للحرب أوزارَها ... رماحاً طِوالاً وخيلاً ذُكروا وقيل: الأصل في ذلك الوَزَر بفتح الواو الزاي، وهو الملجأ الذي يُلْتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11] ثم قيل للثقل وِزْرٌ تشبيهاً بالجبل، ثم استُعير الوِزْرُ للذَّنبِ تشبيهاً به في ملاقاة المشقة منه، والحاصل أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزانةِ والعِصْمة. قوله: {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} «ساء» هنا تحتمل أوجهاً ثلاثة، أحدُها: أنها «ساء» المتصرفةُ المتعدِّية، ووزنها حينئذ فَعَل فتح العين، ومفعولُها حينئذ محذوف، وفاعلها «ما» ، و «ما» تحتمل ثلاثة أوجه: أن تكونَ موصلةً اسمية أو حرفية أو نكرة موصوفة وهو بعيدٌ، وعلى جَعْلِها اسميةً أو نكرة موصوفة تُقَدِّر لها عائداً، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور. والتقدير: ألا ساءَهم الذي يَزِرُونه أو شيء يزرونه أو وِزْرُهم. وبدأ ابن عطية بهذا الوجه قال: «كما تقول: ساءني هذا الأمر، والكلام خبر مجرد كقوله: 190 - 0- رَضِيْتَ خِطَّةَ خَسْفٍ غيرَ طائلةٍ ... فساءَ هذا رِضَىً يا قيسَ عيلانا

قال الشيخ:» ولا يتعيَّن أن تكون «ما» في البيت خبراً مجرداً بل تحتمل الأوجهَ الثلالثة «انتهى وهو ظاهر. الثاني: أن تكون للتعجُّبِ فتنتقل من فَعَل بفتح العين إلى فَعُل بضمها، فتُعْطى حكمَ فعل التعجب: من عدم التصرُّفِ والخروج من الخبر المحض إلا الإِنشاء، إن قلنا: إن التعجب إنشاءٌ وهو الصحيح، والمعنى: ما أسوأ - أي أقبح- الذي يَزِرُونه أو شيئاً يَزِرُونه أو وِزْرُهم، الثالث: أنها بمعنى بئس فتكون للمبالغةِ في الذم فتُعْطى أحكامَها أيضاً، ويجري الخلاف في» ما «الواقعةِ بعدها حَسْبما ذكر في {بِئْسَمَا اشتروا} [البقرة: 90] . وقد ظهرالفرقُ بين هذه الأوجه الثلاثة فإنها في الأول متعدية متصرفة والكلام معها خبرٌ محض، وفي الأخيرين قاصرة جامدة إنشائية. والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا يُشْترط في فاعلها ما يشترط في فاعل بئس. وقال الشيخ:» والفرقُ بين هذا الوجهِ - يعني كونها بمعنى بئس - والوجه الذي قبله - يعني كونَها تعجبيَّةً - أنه لا يُشترط فيه ما يُشترط في فاعل «بئس» من الأحكام ولا هو جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ وخبر، وإنما هو منعقدٌ من فعل وفاعل «. انتهى. وظاهرهُ لا يَظْهر إلا بتأويل وهو أن الذمَّ لا بد فيه من مخصوصٍ بالذم وهو مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقدَ من هذه الجملةِ متبدأٌ وخبر، إلا أنَّ لقائلٍ أن يقول: إنما يتأتَّى هذا على أحد الأعاريب في المخصوص، وعلى تقدير التسليم فلا مَدْخَل للمخصوص بالذم في جملة الذم بالنسبة إلى كونها فعليةً فحينئذ لا يظهر فرقٌ بينهم وبين التعجبية في أنَّ كلاً منها منعقدة في فعلٍ وفاعل.

32

قوله تعالى: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ} : يجوز أن يَكون من المبالغة جَعْلُ الحياة نفس اللعب واللهو كقولها: 190 - 1-. . . . . . . . . . . . . . ... فإنما هي إقبالٌ وإدبار وهذا أحسن، ويجوز أن يكون في الكلام حذف أي: وما أعمال الحياة، وقال الحسن البصري: «وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب» فقدَّر شيئين محذوفين. واللَّهْو: صَرْفُ النفس عن الجدِّ إلى الهزل. ومنه لو يلهو. وأمَّا لَهِي عن كذا فمعناه صَرَفَ نفسَه، والمادةُ واحدةٌ انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها نحو: شَقِي ورضي. وقال المهدوي: «الذي معناه الصرفُ لامُه ياء بدليل قولهم لَهْيان، ولام الأول واو» . قال الشيخ: «وليس بشيء؛ لأن الواو في التثنية انقلبت ياءً فليس أصلها الياء، ألا ترى إلى تثنية شَجٍ: شَجِيان وهو مِن الشَّجْوِ» انتهى. يعني أنهم يقولون في اسم فاعله: لَهٍ كشجٍ، والتثنيةُ مبنيَّةٌ على المفرد، وقد أنقلبت في المفرد فَلْتنقلب في المثنى [ولنا فيه بحثٌ أَوْدَعْناه في «التفسير الكبير» ولله الحمد] وبهذا يَظْهَرُ فسادُ رَدِّ المهدوي على الرماني، فإنَّ الرماني قال: «اللعب عَمَلٌ يُشْغِلُ النفسَ عما تنتفعُ به، واللَّهْوُ صَرْفُ النفسِ من الجدِّ إلى الهزل، يقال: لَهَيْتُ عنه أي صرفْتُ نفسي عنه» قال المهدوي: «وفيه ضعفٌ وبُعْدٌ؛ لأنَّ الذي فيه معنى الصرف لامه ياء، بدليل قولهم في التثنية ليهان» انتهى. وقد تقدَّم فسادُ هذا الردِّ وقال الراغب: «اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإِنسانَ عما يَعْنيه ويَهُمُّه، يقال: لَهَوْتُ بكذا

أو لهيت عن كذا اشتغلْتُ عنه بلَهْوٍ» وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حَمَلَ المهدوي على التفرقة بين المادتين. قوله: {وَلَلدَّارُ الآخرة} قرأ الجمهور بلامَيْن، الأُوْلى لام الابتداء، والثانية للتعريفِ، وقرؤوا «الآخرةُ» رفعاً على أنها صفةٌ للدار، و «خيرٌ» خبرُها. وقرأ ابن عامر: «ولَدارُ» بلامٍ واحدة هي لامُ الابتداء، و «الآخرةِ» جرٌّ بالإِضافة. وفي هذه القراءة تأويلان أحدُهما قولُ البصريين وهو انه من باب حَذْف الموصوف وإقامةِ الصفةِ مُقامه، والتقدير: ولَدارُ الساعةِ الآخرة، أو لَدار الحياة الآخرة، يدلُّ عليه «وما الحياة الدنيا» ومثله قولهم: «حبة الحمقاء ومسجد الجامع وصلاة الأولى ومكان الغربي» التقدير: حبة البقلة الحمقاء، ومسجد المكان الجامع، وصلاة الساعة الأولى، ومكان الجانب الغربي. وحَسَّن ذلك أيضاً في الآية كونُ هذه الصفةِ جَرَتْ مَجْرى الجوامد في إيلائِها العواملَ كثيراً، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّم فيه إضافةُ الموصوفِ إلى صفته، وإنما احتاجوا إلى ذلك لِئلاً يَلْزَمَ إضافةُ الشيء إلى نفسه وهو ممتنع؛ لأن الإِضافة: إمَّا للتعريف أو للتخصيص، والشيء لا يُعْرِّف نفسه ولا يخصِّصُها. والثاني: وهو قول الكوفيين - أنه إذا اختلف لفظ الموصوف وصفته جازت إضافته إليها، وأوردوا ما قدَّمْته من الأمثلة قال الفراء: «هي إضافةُ الشيء إلى نفسِه كقولك: بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين» . وقراءةُ ابن عامر موافقةٌ لمصحفه؛ فإنها رُسِمَتْ في مصاحف الشاميين بلامٍ واحدة، واختارها بعضُهم لموافقتها لما أُجْمِع عليه

في يوسف: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} [يوسف: 109] ، وفي مصاحف الناسِ بلامَيْنِ. و «خيرٌ» يجوز أن يكون للتفضيل، وحُذِف المفضَّلُ عليه للعلم به أي: خيرٌ من الحياة الدنيا، ويجوز أن يكونَ لمجرَّدِ الوَصْف بالخَيْرية كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] . و {لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «خير» والذي ينبغي - أو يتعيَّن- أن تكونَ اللامُ للبيان، أي: أعني للذين، وكذا كلُّ ما جاء مِنْ نحوه، نحو: {خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] . قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} قد تقدَّم الكلامُ في مثل هذه الهمزةِ الداخلةِ على الفاء وأختِها الواوِ وثم وقرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم: {تَعْقِلُون} خطاباً لمن كان بحضرته عليه السلام وفي زمانه. والباقون بياء الغيبة رَدَّاً على ما تقدَّم من الأسماء الغائبة، وحُذِفَ مفعول «تَعْقِلون» للعلمِ به، أي: فلا تَعْقلون أنَّ الأمرَ كما ذكر فتزهَّدوا في الدنيا، أو أنها خير من الدنيا.

33

قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ} : «قد» هنا حرف تحقيق. وقال الزمخشري والتبريزي: «قد نعلم: بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله: 190 - 2-. . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ

قال الشيخ:» وهذا القول غير مشهور للنحاة، وإن قال به بعضهم مستدلاً بقوله: 190 - 3- قد أَتْرُكُ القِرْن مُصْفرَّاً أناملُه ... كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفِرصادِ وقول الآخر: أخي ثقةٍ لا تُتْلِفُ الخمرُ مالَه ... ولكنه قد يُهْلك المالَ نائلُه والذي يَظْهر أن التكثيرَ لا يُفْهَمُ من «قد» إنما فُهم من سياق الكلام؛ إذ التمدُّحُ بقتل قِرْن واحد غيرُ طائل، وعلى تقدير ذلك هو متعذِّر في الآية؛ لأنَّ علمه تعالى لا يقبل التكثير «. قلت: قد يُجاب عنه بأنَّ التكثير في متعلَّقات العلم لا في العلم، ثم قال:» وقولُه بمعنى «ربما» التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهورُ أنَّ «رُبَّ» للتقليل لا للتكثير، وزيادةُ «ما» عليها لا يُخْرجها عن ذلك بل هي مهيِّئة لدخولِها على الفعل، و «ما» المهيِّئة لا تزيلُ الكلمة عن معناها الأصلي، كما لا تزيل «لعلَّ» عن الترجِّي ولا «كأنَّ» عن التشبيه ولا «ليت» عن التمني. وقال ابن مالك «» قد «ك» ربما «في التقليل والصَّرف إلى معنى المضيّ، وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله} [الصف: 5] وقوله: 190 - 4- وقد تُدْرِكُ الإِنسانَ رحمةُ ربِّه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا / وقد تخلُو من التقليل وهي صارفةٌ لمعنى المضيِّ نحو قوله: {قَدْ نرى

تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} [البقرة: 144] . وقال مكي:» قد «هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه. و» نعلم «بمعنى عَلِمْنا، وقد تقدَّم الكلام في هذا الحرف وأنها متردِّدةٌ بين الحرفيةِ والاسميةِ. وقال الشيخ هنا:» قد حرف توقع، إذا دخلت على مستقبلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلم كقولك: «قد ينزل المطرُ شهرَ كذا» ، وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى المضيِّ كان التوقُّع عند السامع، وأمَّا المتكلمُ فهو موجِبُ ما أخبر به، وعَبَّر هنا بالمضارع إذا المرادُ الاتِّصافُ بالعلم واستمراره، ولم يَلْحَظْ فيه الزمانَ كقولهم: «هو يعطي ويمنع» . و {إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} سادٌّ مَسَدَّ المفعولين فإنها معلِّقة عن العمل، وكُسِرت لدخول اللام في خبرها. وتقدَّم الكلامُ في «لَيَحْزُنك» وأنه قرئ بفتح الياء وضمِّها من حَزَنه وأَحْزنه في آل عمران. «والذي يقولون» فاعلٌ وعائده محذوف، أي: الذي يقولونه مِنْ نسبتهم إلى ما لا يليق به، والضمير في «إنه» ضمير الشأن والحديث، والجملة بعده خبر مفسِّرةً له، ولا يجوزُ في هذا المضارعِ أن يُقَدَّر باسم فاعلٍ رافعٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّرُ في قولك: «إنَّ زيداً يقوم أبوه» لئلا يلزمَ تفسير ضمير الشأن بمفرد، وقد تقدَّم أنَّه ممنوعٌ عند البصريين. قوله: {لاَ يُكَذِّبُونَكَ} قرأ نافع والكسائي: {لا يَكْذِبُونك} مخففاً من أَكْذَبَ، والباقون مثقَّلاً مِنْ كذَّب، وهي قراءة علي وابن عباس. واختلف الناس في ذلك، فقيل: هما بمعنى واحد مثل: أَكْثَر وكثَّر ونَزَّل وأنزل،

وقيل: بينهما فرق، قال الكسائي: العرب تقول «كذَّبْتُ الرجلَ» بالتشديد، إذا نَسَبْتَ الكذبَ إليه، و «أَكْذَبْتُه» إذا نسبْتَ الكذبَ إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه، ويقولون أيضاً: أَكْذَبْتُ الرجل إذا وجدْتُه كاذباً كأَحْمَدْتُه إذا وجدته محموداً، فمعنى «لا يُكْذِبونك» مخفَّفاً: لا يَنْسِبون الكذبَ إليك ولا يجدونك كاذباً، وهو واضحٌ. وأمَّا التشديدُ فيكونُ خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه. فإن قيل: هذا مُحالٌ؛ لأنَّ بعضهم قد وُجِد منه تكذيبٌ ضرورةً. فالجاب أن هذا وإن كان منسوباً إلى جمعيهم، أعني عدمَ التكذيب فهو إنما يراد به بعضُهم مجازاً كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} [الشعراء: 16] وإن كان فيهم مَنْ لم يُكَذِّبْه فهو عامٌّ يُرادُ به الخاص. والثاني: أنه نفى التكذيب لانتقاء ما يترتَّب عليه من المَضَارِّ، فكأنه قيل: فإنهم لا يُكَذِّبونك تكذيباً يُبالى به ويَضُرَّك لأنك لست بكاذب، فتكذيبُهم كلا تكذيب، فهو مِنْ نفي السبب لانتفاءِ مُسَبِّبه. وقال الزمخشري: «والمعنى أنَّ تَكْذيبَك أمرٌ راجع إلى الله لأنك رسولُه المصدَّق، فهم لا يكذِّبونك في الحقيقة، إنما يكذبون الله بجحود آياته فانْتَهِ عن حزنك كقول السيدِ لغلامه: - وقد أهانه بعض الناس - لن يُهِينُوك وإنما أهانوني، وعلى هذه الطريقة: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] . قوله: {بِآيَاتِ الله} يجوز في هذا الجارِّ وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ ب» يَجْحَدون «، وهو الظاهرُ الذي لاينبغي أن يُعْدَلَ عنه وجَوَّز أبو البقاء أن

يتعلَّق بالظالمين، قال:» كقوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} [الإِسراء: 59] وهذا الذي قاله ليس بجيد، لأن الباءَ هناك سببيةٌ، أي: ظلموا بسببها، والباء هنا معناها التعدية، وهنا شيءٌ يتعلق به تعلُّقاً واضحاً، فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه. وفي هذه الآية إقامةُ الظاهرِ مُقامَ المضمر، إذ الأصل: ولكنهم يَجْحدون بآيات الله، ولكنه نَبَّه على أن الظلمَ هو الحاملُ لهم على الجُحود. والجُحود والجَحْد نَفْيُ ما في القلب ثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه. وقيل: الجَحْد: إنكار المعرفة فليس مرادفاً للنفي من كل وجه.

34

قوله تعالى: {مِّن قَبْلِكَ} : متعلَّقٌ ب «كَذَّبَتْ» ومنع أبو البقاء أن يكون صفةً لرسل لأنه زمانٌ، والزمان لا يُوصف به الجثث، وقد تقدَّم البحث في ذلك غيرَ مرةٍ وأَتْقَنْتُه في البقرة وذكرته قريباً هنا في قوله: {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً} [الأنعام: 6] . قوله: {وَأُوذُواْ} يجوز/ فيه أربعة أوجه أظهرها: أنه عطفٌ على قوله «كُذِّبَتْ» أي: كُذِّبَت الرسلُ وأُوْذُوا فصبروا على كل ذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على «صَبَروا» أي: فصبروا وأُوْذُوا. والثالث: - وهو بعيدٌ- أن يكونَ معطوفاً على «كُذِّبوا» فيكون داخلاً في صلة الحرف المصدري والتقدير: فصَبروا على تكذيبهم وإيذائهم. والرابع: أن يكون مستأنفاً قال أبو البقاء: «ويجوز أن يكون القف تَمَّ على قوله» كُذِّبوا «ثم استأنف فقال:» أُوْذوا «.

وقرأ الجمهور: {وأُوْذُوا} بواو بعدَ الهمزةِ من آذى يؤذي رباعياً. وقرأ ابن عامر في روايةٍ شاذةٍ:» وأُذوا «من غير واو بعد الهمزة، وهو من أَذَيْتُ الرجل ثلاثياً لا من» آذيت «رباعياً. قوله: {حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} الظاهر أن هذه الغايةَ متعلقةٌ بقوله:» فصبروا «أي: كان غايةُ صبرهم نَصْرَ الله إياهم، وإن جَعَلْنا» وأوذوا «عطفاً عليه كانت غايةً لهما، وهو واضح جداً. وإن جعلناه مستأنفاً كانت غايةً له فقط، وإن جَعَلْناه معطوفاً على» كُذِّبَتْ «فتكون الغاية للثلاثة. والنصر مضافٌ لفاعله ومفعوله محذوف، أي: نَصْرُنا إياهم. وفيه التفاتٌ من ضمير الغيبة إلى التكلُّم، إذ قلبه» بآيات الله «فلو جاء على ذلك لقيل: نَصْرُه. وفائدةُ الالتفات إسناد النصر إلى ضمير المتكلم المُشْعر بالعظمة. قوله: {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} في فاعل» جاء «وجهان، أحدهما: هو مضمر، واختلفوا فيما يعود عليه هذا الضمير، فقال ابن عطية:» الصواب عندي أن يقدر: «جَلاء، وبيان» . وقال الرماني: «تقديره: ولقد جاءك نبأ» وقال الشيخ: «الذي يظهر لي أنه يعود على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة، أي: ولقد جاءك هذا الخبرُ من تكذيبِ أَتْباع الرسل للرسل والصبر والإِيذاء إلى أن نُصِروا» . وعلى هذه الأقوال يكون «من نبأ المرسلين» في محل نصب على الحال من ذلك الضمير، وعاملها هو «جاء» لأنه عاملٌ في صاحبها. والثاني: أنَّ «من نبأ» هو الفاعل، ذكره الفارسي، وهذا إنما يتمشَّى له على رأي الأخفش؛ لأنه

لا يَشْترط في زيادتها شيئاً وهذا - كما رأيت - كلامٌ موجَبْ، والمجرور ب «مِنْ» معرفة. وضُعِّفَ أيضاً من جهة المعنى بأنه لم يَجِئْه كلُّ نبأ للمرسلين لقوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] ، وزيادة «مِنْ» تؤدي إلى أنه جاءه جميع الأنباء؛ لأنه اسم جنس مضاف، والأمر بخلافِه. ولم يتعرَّض الزمخشري للفاعل إلا أنه قال: «ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعضُ أبنائهم وقصصهم» وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، إذ «مِنْ» لا تكون فاعلة، ولا يجوز أن يكون «من نبأ» صفةً لمحذوف هو الفاعل، أي: ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين، لأن الفاعلَ لا يُحْذَفُ بحالٍ إلا في مواضع ذُكِرت، كذا قالوا. قال أبو البقاء: «ولا يجوز عند الجميع أن تكون» مِنْ «صفةً لمحذوف، لأن الفاعلَ لا يُحْذف، وحرف الجر إذا لم يكن زائداً لم يصحِّ أن يكون فاعلاً لأنَّ حرف لاجر يُعَدِّي، وكل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدٍّ» يعني بقولِهِ «لم يصحَّ أن يكونَ فاعلاً» لم يَصِحَّ أن يكون المجرور بذلك الحرف، وإلاَّ فالحرفُ لا يكونُ فاعلاً البتة.

35

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ} : هذا شرطٌ، جوابه الفاء الداخلة على الشرط الثاني، وجواب الثاني محذوف تقديره: فإن استطعت أن تبتغي فافعلْ، ثم جُعِل الشرطُ الثاني وجوابُه جواباً للشرط الأول، وقد تقدَّم مِثْلُ ذلك في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم. . . . . فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ} [البقرة: 38] . وتقدَّم تحرير القول فيه، إلا أن جواب الثاني هناك مُظْهَرٌ. و «كان» في اسمها وجهان، أحدهما: أنه «إعراضهم» و «كَبُرَ» جملة فعلية في محل نصب خبراً

مقدماً على الاسم، وهي مسألة خلاف: هل يجوزُ تقديمُ خبرِ كان على اسمها إذا كان فعلاً رافعاً لضمير مستتر أم لا؟ وأمَّا إذا كان خبراً للمبتدأ فلا يجوزُ البتةَ، لئلا يلتبسَ بباب الفاعل واللَّبْسُ هنا مَأْمون. وَوَجْهُ المَنْع استصحابُ الأصل. و «كَبُر» إذا قيل: إنه خبر «كان» فهل يُحتاج إلى إضمار «قد» أم لا؟ والظاهر أنه لا يحتاج، لأنه كثر وقع الماضي خبراً لها من غير «قد» نظماً ونثراً بعضهم يَخُصُّ ذلك ب «كان» ويمنعه في غيرها من أخواتها إلا ب «قد» ظاهرةً أو مضمرةً ومن مجيء ذلك في خبر أخواتها قولُ النابغة: 190 - 5- أمسَتْ خَلاءً وأمسى أهلُها احَتَمَلُوا ... أَخْنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ والثاني: أن يكونَ اسمُها ضميرَ الأمر والشأن، والجملة الفعلية مفسِّرةٌ له في محل نصب على الخبر، فإعراضُهم مرفوعٌ ب «كَبُر» وفي الوجه الأول ب «كان» ، ولا ضمير في «كَبُر» على الثاني، وفيه ضمير على الأول. ومثلُ ذلك في جواز هذين الوجهين قوله تعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137] {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن: 4] ، ففرعون يحتمل أن يكون اسماً، وأن يكون فاعلاً وكذلك «سفيهُنا» ومثلُه أيضاً قولُ امرئ القيس. 190 - 6- وإنْ تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ ... فَسُلِّي ثيابي مِنْ ثيابك تَنْسُلِ فخليقة يحتمل الأمرين. وإظهار «قد» هنا يرجَّح قولَ مَنْ يشترطها، وهل يجوز في مثل هذا التركيب التنازعُ؟ وذلك أن كلاً من «كان» وما بعدها من الأفعال المذكورة في هذه الأمثلةِ يطلب المرفوع من جهة المعنى، وشروط الإِعمال موجودة. وكنت قديماً سألت الشيخ عن ذلك فأجابَ بالمنع، محتَّجاً

بأنَّ شرط الإِعمال أن لا يكونَ أحدُ المتنازعين مفتقراً إلى الآخر، وأن يكونَ من تمام معناه، و «كان» مفتقرةٌ إلى خبرها وهو من تمام معناها. وهذا الذي ذكره من المنع وترجيحِه ظاهرٌ، إلا أن النَّحْويين لم يذكروه في شروط الإِعمال. وقوله: {وَإِن كَانَ كَبُرَ} مؤولٌ بالاستقبال وهو التَبيُّن والظهور فهو كقوله: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} [يوسف: 26] أي: إنْ تبيَّن وظَهَر، وإلاَّ فهذه الأفعالُ قد وقعتْ وانقضتْ فكيف تقع شرطاً؟ وقد تقدَّم أنَّ المبردَ يُبْقي «كان» خاصةً على مضيِِّها في المعنى مع أدوات الشرط، وليس بشيء. وأمَّا: «فإن استطعتَ» فهو مستقبلٌ معنى لأنه لم يقعْ بخلافِ كونه كَبُر عليه إعراضُهم وقَدِّ القميص «وأن تبتغي» مفعولُ الاستطاعة. «ونَفَقاً» مفعول الابتغاء. والنَّفَقُ: السَّرَب النافذ في الأرض وأصله في جُحْرة اليربوع ومنه النافقاء والقاصِعاء، وذلك أن اليربوعَ يَحْفِر [في] الأرض سَرَباً ويجعل له بابين، وقيل: ثلاثة؛ النَّافِقاء والقاصعاء والدَّابِقاء، ثم يَرِقُّ بالحفر ما تقارب وجه الأرض، فإذا نابه أمرٌ دفع تلك القشرةَ الرقيقةَ وخرجَ، وقد تقدَّم لك استيفاء هذه المادة عند ذكر {يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] و {المنافقين} [النساء: 61] . وقوله {فِي الأرض} ظاهرُه أنه متعلقٌ بالفعل قبله، ويجوز أن يكون صفةً ل «نَفَقاً» فيتعلَّقَ بمحذوف، وهي صفة لمجرد التوكيد إذ النفق لا يكون إلا في الأرض. وجوَّز أبو البقاء مع هذين الوجهين أن يكونَ حالاً من فاعل «تَبْتغي» أي: وأنت في الأرض، قال: «وكذلك في السماء» يعني مِنْ جوازِ الأوجه الثلاثة، وهذا الوجهُ الثالث ينبغي أن لا يجوز لخُلُوِّه عن الفائدة.

والسُّلَّم: قيل: المِصْعَد، وقيل: الدَّرَج، وقيل: السبب، تقول العرب: اتَّخِذْني سُلَّماً لحاجتك أي: سبباً، قال كعب بن زهير: 190 - 7- ولا لكما مَنْجَىً من الأرض فابغِيا ... بها نَفَقاً أو في السماوات سُلَّماً وهو مشتقٌّ من السَّلامة، قالوا: لأنه يُسْلَمُ به إلى المصعد. والسُّلَّم مذكر، وحكى الفراء تأنيثه، قال بعضهم، ليس ذلك بالوضع، بل لأنه بمعنى المِرْقاة كما أنَّث بعضهم الصوت في قوله: 190 - 8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سائِلْ بني أَسَدٍ ما هذه الصَّوْتُ لمَّا كان في معنى الصرخة.

36

قوله تعالى: {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} : فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرها: أنها جملة من مبتدأ وخبر سِيْقَتْ للإِخبار بقدرته، وأنَّ مَنْ قَدَرَ على بعث الموتى يَقِدْرُ على إحياء قلوب الكفرة بالإِيمان فلا تتأسَّفْ على مَنْ كفر. والثاني: أن «الموتى» منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده، ورُجِّح هذا الوجهُ على الرفع بالابتداء لعطف جملة الاشتغال على جملةٍ فعلية قبلها فو نظير: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإِنسان: 31] بعد قوله: {يُدْخِل} والثالث: أنه مرفوع نسقاً على الموصول قبله، والمراد بالموتى الكفار أي: إنما يَسْتجيب المؤمنون السامعون من أول وهلة، والكافرون الذين يُجيبهم الله تعالى بالإِيمان ويوفقهم له، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله: {يَبْعَثُهُمُ الله} في محل نصب على الحال، إلا أن هذا القولَ يُبْعده قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} إلا أن يكون من ترشيح المجاز. وتقدَّمت له نظائر.

وقرئ {يَرْجِعون} مِنْ رَجَع اللازم.

37

قوله تعالى: {مِّن رَّبِّهِ} : فيها وجهان، أحدهما: أنها متعلقة ب «نُزِّل» والثاني: أنها متعلِّقةٌ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل «آية» أي: آية كائنة من ربه. وتقدَّم الكلام على «لولا» وأنها تحضيضية.

38

قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ} : «مِنْ» زائدة لوجود الشرطين وهي مبتدأ، و «إلا أممٌ» خَبُروها مع ما عُطِفَ عليها. وقوله «في الأرض» صفةٌ لدابَّة، فيجوز لك أن تجعلَها في محلِّ جر باعتبار اللفظ، وأن تجعلها في محصل رفع باعتبار الموضع. قوله: {وَلاَ طَائِرٍ} الجمهور على جرِّه نسقاً على لفظ «دابة» ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه نسقاً على موضعها. وقرأ ابن عباس: «ولا طيرٍ» من غير ألف. وقد تقدَّم الكلامُ فيه: هل هو جمع أو اسم جمع؟ وقوله: {يطير} في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون في محلِّ جر باعتبار لفظه، ويحتمل أن يكون في محل رفع باعتبار موضعه. وأمَّا على قراءة ابن أبي عبلة ففي محل رفع ليس إلا. وفي قوله «ولا طائر» ذكرُ خاصٍ بعد عام، لأنَّ الدابَّةَ تَشْمل كلَّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره فهو كقوله: {وملائكته. . . . . وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] وفيه نظر إذ المقابلة هنا تنفي أن تكون الدابة تشمل الطائر. قوله: {بِجَنَاحَيْهِ} فيه قولان، أحدهما: أن الباء متعلقة ب «يطير» وتكونُ الباءُ للاستعانة. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها حال وهي حال مؤكدة، وفيها رفعُ مَجازٍ يُتَوَهَّم؛ لأنَّ الطيران يُستعار في السرعة قال: 190 - 9-

قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم ... طاروا إليه زَرافاتٍ ووِحْدانا ويُطلق الطيرُ على العمل، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإِسراء: 13] . وقوله: {إِلاَّ أُمَمٌ} خبر المبتدأ، وجُمع وإن لم يتقدَّمْهُ إلا شيئان، لأن المراد بها الجنس. و «أمثالكم» صفة لأُمَم، يعني أمثالهم في الأرزاق والآجال والموت والحياة والحشر والاقتصاص لمظلومها من ظالمها. وقيل: في معرفة الله وعبادته. قوله: {مِن شَيْءٍ} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن «مِنْ» زائدة في المفعول به والتقدير: ما فرَّطْنا شيئاً، وتضمَّنه «فرَّطنا» معنى تركنا وأغفلنا، والمعنى: ما أَغْفَلْنا ولا تَرَكْنا شيئاً. ثم اختلفوا في الكتاب: ما المراد به؟ فقيل: اللوح المحفوظ، وعلى هذا فالعموم ظاهر لأن الله تعالى أثبت ما كان وما يكون فيه. وقيل: القرآن، وعلى هذا فهل العمومُ باقٍ؟ منهم من قال: نعم، وأن جميع الأشياء مثبتة في القرآن. إمَّا بالصريح وإمَّا بالإِيماء، ومنهم من قال: إنه يُراد به الخصوص، والمعنى: من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفون. والثاني: أن «مِنْ» تبعيضيةٌ أي: ما تركْنا ولا أَغْفَلْنا في الكتاب بعضَ شيء يَحْتاج إليه المكلَّف. الثالث: أنَّ «من شيء» في محل نصب على المصدر و «من» زائدة فيه أيضاً. ولم يُجِزْ أبو البقاء غيره، فإنه قال: «مِنْ» زائدة، و «شيء» هنا واقع موقع المصدر أي تفريطاً. وعلى هذا التأويل لا يَبْقى في الآية حجةٌ لمن ظنَّ أن الكتابَ يَحْتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً. ونظير ذلك: {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120] ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لأنَّ «فرَّطْنا» لا يتعدى بنفسه بل

بحرف الجر، وقد عُدِّيَتْ إلى الكتاب ب «في» فلا يتعدَّى بحرف آخر، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء، لأن المعنى على خلاف فبان التأويل بما ذكرنا «انتهى. قوله:» يحتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً «لم يَقُلْ به أحدٌ لأنَّه مكابرة في الضروريات. وقرأ الأعرج وعلقمة:» فَرَطْنا «مخفَّفاً، فقيل: هما بمعنى. وعن النقاش: فَرَطْنا: أخَّرْنا كما قالوا:» فَرَط الله عنك المرض «أي: أزاله.

39

قوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ} : مبتدأٌ وما بعده الخبرُ. ويجوز أن يكون «صمٌّ» خبرَ مبتدأ محذوف، والجملة خبر الأول، والتقدير: والذين كذَّبوا بعضُهم صمٌّ وبعضُهم بُكْمٌ، وقال أبو البقاء: «صمٌّ وبُكْمٌ الخبرُ، مثل حلو حامض، والواو لا تمنع من ذلك» . قلت: هذا الذي قاله لا يجوزُ مِنْ وجهين، أحدهما: أنَّ ذلك إنما يكون إذا كان الخبران في معنى خبر واحد لأنهما في معنى مُزّ، وهو أَعْسَرُ يَسَرٌ بمعنى أضبط، وأمَّا هذان الخبران فكلُّ منهما مستقلٌّ بالفائدة. والثاني: أن الواو لا تجوز في مثل هذا إلا عند أبي علي الفارسي وهو وجه ضعيف. قوله: {فِي الظلمات} فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكون خبراً ثانياً لقوله: {والذين كَذَّبُواْ} ويكون ذلك عبارةً عن العَمَى، ويصير نظيرَ الآيةِ الأخرى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] فَعَبَّر عن العمى بلازمه، والمراد بذلك عَمَى البصيرة. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في الخبر تقديرُه: ضالُّون حال كونهم مستقرين في الظلمات. الثالث: أنه صفةٌ ل «بُكْم» فيتعلَّق أيضاً بمحذوف أي بُكم كائنون في الظلمات. الرابع: أن يكون ظرفاً

على حقيقته وهو ظرف ل «صُمُّ» أو ل «بُكْم» قال أبو البقاء: «أو لِما ينوبُ عنهما في الفعل» أي: لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل. قوله: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أنها مبتدأ وخبرها ما بعدها، وقد عُرِف غير مرة. ومفعول «يشأ» محذوف أي: مَنْ يشأ الله إضلاله. والثاني: أنه منصوب بفعل مضمر يفسِّره ما بعده من حيث المعنى، ويقدِّر ذلك الفعل متأخراً عن اسم الشرط لئلا يلزمَ خروجه عن الصدر، وقد تقدَّم التنبيهُ على ذلك وأن فيه خلافاً، والتقدير: مَنْ يُشْقِ اللهُ يَشَأْ إضلاله ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايته. فإن قلت: هل يجوز أن تكون «مَنْ» مفعولاً مقدَّماً ل «يشأ» ؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز لفساد المعنى. فإن قلت: أُقَدِّرُ مضافاً هو المفعول حُذِفَ وأقيمت «مَنْ» مُقامه تقديره: إضلال مَنْ يشاء وهداية من يشاء، ودلَّ على هذا المضاف جوابُ الشرط. فالجوابُ أنَّ الأخفشَ حكى عن العرب أنَّ اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى سام الشرط لا بد أن يكون في الجزاء ضمير يعود عليه أو على ما أُضيف إليه، فالضمير في «يُضْلِلْه» و «يِجْعَلُه» إمَّا أن يعود على المضاف المحذوف ويكونَ كقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور: 40] فالهاء في «يغشاه» تعود على المضاف أي: كذي ظلمات يَغْشاه، وإمَّا أن يعود على اسم الشرط، والأول ممتنع، إذ يصير التقدير: إضلال مَنْ يشأ الله يُضْلِلْه أي: يُضِلُّ الإِضلال، وهو فاسدٌ. والثاني: أيضاً ممتنعٌ لخلوِّ الجوابِ من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط. فإن قيل: يجوز أن يكون المعنى: مَنْ يشأ الله بالإِضلال وتكون «مَنْ» مفعولاً مقدماً؛ لأنَّ «شاء» بمعنى أراد، و «أراد» يتعدى بالباء قال: 191 - 0-

أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ ... عَراراً لعَمْري بالهَوان فقد ظَلَمْ قيل: لا يلزم من كون «شاء» بمعنى «أراد» أن يتعدَّى تعديته، ولذلك نجد اللفظ الواحد تختلف تعديتُه باختلافِ متعلَّقِه تقول: دخلت الدار ودخلت في الأمر، ولا تقول: دخلتُ الأمرَ، فإذا كان ذلك في اللفظ الواحد فما بالك بلفظين؟ ولم يُحفظ عن العرب تعديةُ «شاء» بالباء وإن كانت في معنى أراد.

40

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم} : يجوز نَقْلُ حركة همزة الاستفهام إلى لام «قُلْ» وتحذف الهمزة تخفيفاً وهي قراءة ورش، وهو تسهيل مطرَّد، وأرأيتكم هذه بمعنى أَخْبِرْني، ولها أحكام تختص بها، اضطربت أقوال الناس فيها، وانتشر خلافهم فلا بد من التعرُّض لذلك فأقول: «أرأيْتَ» إن كانت البصَريَة أو العِلْميةَ الباقيةَ على معناها أو التي لإِصابة الرئة كقولهم: «رَأَيْتُ الطائر» أي: أصبت رِئَته، لم يَجُزْ فها تخفيفُ الهمزةِ التي هي عينُها، بل تُحَقَّق ليس إلا، أو تُسَهَّل بينَ بينَ من غير إبدال ولا حذف، ولا يجوز أن تَلْحَقَها كافٌ على أنها حرف خطاب، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أولَ ويكون مطابقاً لما يُراد به من تذكير وتأنيثٍ وإفراد وتثنية وجمع، وإذا اتَّصَل‍َتْ بها تاءُ خطاب لَزِم مطابقتُها لما يُراد بها ممَّا ذُكِر، ويكون ضميراً فاعلاً نحو: أرأيتم، أرأيتما أرأيتنَّ، ويدخلها التعليق والإِلغاء. وإن كانت العِلْميَّةَ التي ضُمِّنَتْ معنى «أخبرني» اختصَّتْ بأحكامٍ أُخَرَ منها: أنه يجوز تسهيل همزتها بإبدالها ألفاً، وهي مَرْوِيَّةٌ عن نافع من طريق ورش، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُون إبدالَ هذه الهمزةِ ألفاً، بل المشهورُ عندهم تسهيلُها بين بين، وهي الرواية المشهورة عن نافع، لكنه قد نَقَل الإِبدالَ

المحض قطربٌ وغيرُه من اللغويين. قال بعضهم: «هذا غَلَطٌ غُلِطَ عليه» أي على نافع. وسببُ ذلك أن يؤدِّي إلى الجمع بين ساكنين فإن الياء بعدها ساكنة. ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافع وغيرهما من أهل المدينة أنهم يُسْقطون الهمزة، ويَدِّعون أن الألف خَلَفٌ منها. قلت: وهذه العبارة تُشْعر أن هذه الألف ليست بدلاً عن الهمزة، بل جيء بها عوضاً عن الهمزة الساقطة. وقال مكي، بن أبي طالب: «وقد رُوي عن ورش إبدالُ الهمزة ألفاً، لأن الرواية عنه أنه يَمُدُّ الثانية، والمدُّ لا يتمكَّن، إلا مع البدل، وحسَّن جوازُ البدلِ في الهمزة وبعدها ساكنٌ أنَّ الأولَ حرفُ مَدٍّ ولين، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقومُ مقامَ حركةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى النطق بالساكن» وقد تقدَّم لك شيءٌ من هذا عند قوله «أأنذرتهم» . ومنها: أن تُخْذَفَ الهمزة التي هي عين الكلمة، وبها قرأ الكسائي، وهي فاشيةٌ نظماً ونثراً، فَمِنَ النظم قوله: 191 - 1- أرَيْتَ ما جاءت به أُمْلُودا ... مُرَجَّلاً ويلبسُ البُرودا أقائِلُنَّ أحضِروا الشهودا ... وقال آخر: 191 - 2- أرَيْتُكَ إذ هُنَّا عليك الم تَخَفْ ... رقيباً وحولي مِنْ عَدُوِّك حُضَّرُ

وأنشد الكسائي لأبي الأسود: 191 - 3- أَرَيْتَ امرَأً كنت لم أَبْلُهُ ... أتاني فقال اتَّخِذْني خليلا وزعم الفراء أن هذه اللغة لغة أكثر العرب، قال: «في أَرَأيْتَ لغتان ومعنيان، أحدهما: أن يسأل الرجل: أرأيت زيداً، أي: أعلمت، فهذه مهموزة، وثانيهما: أن تقول: أرأيت بمعنى أَخْبِرْني، فههنا تُتْرك الهمزة إن شِئْتَ وهو اكثرُ كلامِ العرب، تُوْمِئ إلى تَرْك الهمزِ للفرق بين المعنيين» انتهى. وفي كيفيَّةِ حَذْفِ هذه الهمزة ثلاثةُ أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنه اسْتُثْقِلَ الجمعُ بين همزتين في فِعْلٍ اتصل به ضمير، فَخَفَّفَه بإسقاط إحدى الهمزتين، وكانت الثانيةُ أَوْلى لأنها حَصَل بها الثقلُ، ولأنَّ حَذْفَها ثابتٌ في مضارع هذا الفعل نحو أرى، ويرى، ونرى، وترى، ولأنَّ حذف الأولى يُخلُّ بالتفاهم إذ هي للاستفهام والثاني: أنه أبدل الهمزة ألفاً كما فَعَلأ نافعٌ في رواية ورش فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الألف، والثالث: أنه أبدلها ياءً ثم سكَّنها ثم حَذَفَها لالتقاء الساكنين، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ، ثم قال: «وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مستقبل هذا الفعل» يعني في يرى وبابه. ورجَّح بعضُهم مذهبَ الكسائيّ بأن الهمزة قد اجتُرِئ عليها بالحذف، وأنشد: 191 - 4- إنْ لم أُقاتِلْ فالبِسَوني بُرْقُعا ... وأنشد لأبي الأسود: 191 - 5- يابا المُغِيرةِ رُبَّ أمرٍ مُعْضِلٍ ... فرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها وقولهم: {وَيْلُمِّه} وقوله: 191 - 6-

وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دَمِها ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وأخلافٌ وتَبْديلُ وأنشد أيضاً: 191 - 7- ومَنْ رَاْ مثلَ مَعْدانَ بِن سعدٍ ... إذا ما النِّسْعُ طال على المَطِيَّةْ أي: ومن رأى ومنها: أنه لا يدخلها تعليقٌ ولا إلغاء لأنها بمعنى أخبرني، و «أخبرني» لا يُعَلَّقُ عند الجمهور. قال سيبويه: «وتقول: أَرَأَيْتَك زيداً أو مَنْ هو؟ لا يَحْسُنُ فيه إلا النصبُ في» زيد «ألا ترى أنك لو قلت:» أرأيت أو مَنْ انت؟ «لم يحسن، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني» وقد خالف سيبويه غيرَه من النحويين وقالوا: كثيراً ما تُعَلَّق «أرأيت» وفي القرآن من ذلك كثيرٌ، واستدلُّوا بهذه الآيةِ التي نحن فيها، وبقوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يَعْلَم} [العلق: 1314] ، وبقوله: 191 - 8- أرَيْتَ ما جاءَتْ به أملودا ... وهذا لا يَرِد على سيبويه، وسيأتي تأويل ذلك قريباً. ومنها: أنها تَلْحَقُها التاءُ فَيُلْتَزَمُ إفرادها وتذكيرها ويستغنى عن لحاق علامة الفروع بها بلحاقها بالكاف بخلاف التي لم تُضَمَّن معنى «أخبرني» فإنها تطابق فيها - كما تقدَّم - ما يُراد بها. ومنها: أنه يَلْحَقُها كافٌ هي حرفُ خطاب تطابق ما يُراد بها من إفراد وتذكير وضدَّيهما. وهل هذه التاء فاعل والكاف حرف خطاب تُبَيِّن أحوالَ

التاء، كما تُبَيِّنه إذا كانت ضميراً، أو التاء حرف خطاب والكاف هي الفاعل، واستعير ضميرُ النصبِ في مكان ضمير الرفع، أو التاءُ فاعلٌ أيضاً، والكاف ضمير في مضوع المفعول الأول؟ ثلاثة مذاهبَ مشهورة، الأولُ قولُ البصريِّين، والثاني قول الفراء، والثالثُ قولُ الكسائي. ولنقتصر على بعضِ أدلةِ كلِّ فريق. قال أبو علي: «قولهم» : «أَرَأَيْتَكَ زيداً ما فعل» بفتح التاء في جميع الأحوال، فالكافُ لا يَخْلو أن يكون للخطاب مجرداً، ومعنى الاسميةِ مخلوعٌ منه، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالته على الخطاب، ولو كان اسماً لوجبَ أن يكونَ الاسمُ الذي بعده هو هو، لأن هذه الأفعالَ مفعولُها الثاني هو الأول في المعنى، لكنه ليس به، فتعيَّنَ أن يكون مخلوعاً منه الاسميةُ، وإذا ثبت أنه للخطاب مُعرَّى من الاسمية ثبت أن التاء لا تكون لمجرَّد الخطاب. ألا ترى أنه ينبغي أن يَلْحق الكلمةَ علامتا خطاب، كما لا يلحقها علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام، فلمَّا لم يَجُز ذلك أُفْرِدَت التاء في جميع الأحوال لَمَّا كان الفعل لا بد له من فاعل، وجُعِل في جميع الأحوال على لفظ واحد استغناءً بما يلحق الكاف، ولو لحق التاءَ علامةُ الفروع لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يلحق التاء، وممَّا كان يلحق الكاف، فلما كان ذلك يؤدِّي إلى ما لا نظيرَ له رُفِضَ وأُجْري على ما عليه سائر كلامهم «. وقال الزجاج عبد حكايته مذهبَ الفراء:» وهذا القول لم يَقْبله النحويون القدماء وهو خطأٌ؛ لأنَّ قولَك: «أرأيتك زيداً ما شأنه» لو تَعَدَّت الرؤية إلى الكاف وإلى زيد لصار المعنى: أَرَأَتْ نَفْسُك زيداً ما شأنُه،

وهذا مُحالٌ «ثم ذكر مذهبَ البصريين. وقال مكي بن أبي طالب بعد حكايته مذهبَ الفراء:» وهذا مُحالٌ؛ لأنَّ التاءَ هي الكاف في أرأيتكم، فكان يجب أن تَظْهر علامةُ جمع التاء، وكان يجب أن يكون فاعلاً لفعلٍ واحد وهما لشيء واحد، ويجب أن يكون معنى قولك أرأيتَك زيداً ما صنع: أرأيْتَ نفسَك زيداً ما صنع، لأن الكاف هو المخاطب، وهذا مُحَالٌ في المعنى ومتناقض في الإِعراب والمعنى، لأنك تستفهم عن نفسه في صدر السؤال، ثم تَرُدُّ السؤالَ إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً، ثم تأتي بغائب آخر، أو لأنه يصير ثلاثة مفعولين لرأيت، وهذا كلُّه لا يجوزُ، ولو قلت: «أرأيتك عالماً بزيد» لكان كلاماً صحيحاً وقد تعدَّى «رأى» إلى مفعولين «. وقال ابو البقاء بعدما حكى مذهب البصريين:» والدليل على ذلك أنها - أي الكاف - لو كانت اسماً لكانت: إمَّا مجرورةً - وهو باطل، إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مرفوعةً، وهو باطلٌ أيضاً لأمرين، أحدهما: أن الكافَ ليسَتْ من ضمائرِ الرفع، والثاني: أنها لا رافعَ لها، إذ ليست فاعلاً لأن التاء فاعل، ولا يكون لفعلٍ واحد فاعلان، وإمَّا أن تكون منصوبةً وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه، أحدُها: أن هذا الفعلَ يتعدَّى إلى مفعولين كقولك: «أرأيت زيداً ما فعلَ» فلو جُعِلَت الكافُ مفعولاً لكان ثالثاً. والثاني: أنه لو كان مفعولاً لكان هو الفاعل في المعنى، وليس المعنى على ذلك، إذ ليس الغرضُ أرأيت نفسك، بل أرأيت غيرك. ولذلك قلت: أرأيت زيداً، وزيداً غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث: أنه لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرَتْ علامةُ التثنية والجمعِ والتأنيث في التاء فكنت تقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم،

أرأيتكنَّ «ثم ذكر مذهبَ الفراء ثم قال:» وفيما ذَكَرْنا إبطالٌ لمذهبه «. وقد انتصر أبو بكر بن الأنباري لمذهب الفراء بأن قال:» لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع بالتاء، كما يقعان بها عند عدم الكاف، فلمَّا فُتِحت التاءُ في خطاب الجمع ووقع مِيْسَم الجمع لغيرها كان ذلك دليلاً على أن الكافَ غيرُ توكيد. ألا ترى أن الكاف لو سَقَطَت لم يَصْلُحْ أن يُقال لجماعة: أرأيت، فوضح بهذا انصرافُ الفعلِ إلى الكاف وأنها واجبةٌ لازمةٌ مفتقر إليها «. وهذا الذي قاله أبو بكر باطل بالكاف اللاحقةِ لاسمِ الإِشارة، فإنها يقع عليها مِيْسَمُ الجمعِ، ومع ذلك هي حرف. وقال الفراء:» موضعُ الكاف نصب، وتأويلها رفع؛ لأن الفعل يتحول عن التاء إليها، وهي بمنزلة الكاف في «دونك» إذا أغري بها، كما تقول: «دونكَ زيداً» فتجد الكاف في اللفظ خَفْضاً وفي المعنى رفعاً، لأنها مأمورةٌ، فكذلك هذه الكافُ موضعُها نصبٌ وتأويلها رفع «. قلت: وهذه الشبهةُ باطلةُ مما تقدم، والخلاف في» دونك «و» إليك «وبابِهما مشهورٌ تقدَّم التنبيهُ عليه غيرَ مرة. وقال الفراء أيضاً كلاماً حسناً رأيت أن أذكره فإنه مُبين نافع، قال:» للعرب في «أرأيْتَ» لغتان ومعنيان، أحدُهما رؤيةُ العين، فإذا أردت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المخطاب ويتصرَّف تصرُّفَ سائرِ الأفعال، تقول للرجل: «أرأيتك على غير هذه الحال» تريد: هل رأيتَ نفسَك، ثم تثنِّي وتجمع فتقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ، والمعنى الآخر: أن تقول «أرأيتك» وأنت تريد معنى أخبرني، كقولك: أرأيتك إنْ فَعَلْتَ كذا ماذا تفعل أي: أخبرني، وتترك التاء - إذا أردت هذا المعنى - موحدةً على كل حال تقول:

أرأيتكما، أرأيتكم، أرأيتكنَّ، وإنما تركَتِ العربُ التاءَ واحدةً؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعاً من المخاطب على نفسه فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في المكان، وتركوا التاء على التذكير والتوحيد إذا لم يكن الفعل واقعاً «؟ قال: والرؤيةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المخاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل: ظنتُني وأريتُني، ولا يقولون ذلك في الأفعال التامة، لا يقولون للرجل: قتلتَك بمعنى: قتلتَ نفسَك، ولا أحسنتَ إليك، كما يقولون: متى تظنُّك خارجاً؟ وذلك أنَّهم أرادوا الفصلَ بين الفعل الذي قد يُلغى وبين الفعلِ الذي لا يجوزُ إلغاؤه، ألا ترى أنك تقول:» أنا أظنُّ خارجٌ «فتلغي» أظن «وقال الله تعالى: {أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 7] ولم يَقُلْ: رأى نفسه. وقد جاء في ضرورة الشعر إجراءُ الأفعال التامة مُجْرى النواقص: قال جران العود: 191 - 9- لقد كان لي عن ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُني ... وعَمَّا أُلاقي منهما مُتَزَحْزِحُ والعرب تقول: عَدِمْتني ووَجَدْتُني وفَقَدْتُني وليس بوجه الكلام «انتهى. واعلم أن الناس اختلفوا في الجملة الاستفهامية الواقعة بعد المنصوب بأرأيتك نحو: أرأيتك زيداً ما صنع؟ فالجمهور على أن» زيداً «مفعول أول، والجملة بعده في محصل نصب سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني. وقد تقدم أنه لا يجوز التعليق فيه هذه وإن جاز في غيرها من أخواتها نحو: علمت زيداً أبو مَنْ هو؟ وقال ابن كَيْسان:» إن الجملة الاستفهامية في رأيتك زيداً ما صنع بدل من أرأيتك «وقال الأخفش:» إن لا بد بعد «أرأيت» التي بمعنى أخبرني من الاسم المستَخْبَرِ عنه، ويلزمُ الجملةَ التي بعده الاستفهامُ لأن «

أخبرني» موافق لمعنى الاستفهام «وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها فتكون بمعنى» أما «أو» تنبَّه «، وحينئذ لا يكون لها مفعولان ولا مفعول واحد، وجعل من ذلك: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت} [الكهف: 63] . وهذا ينبغي أن لا يجوز لأنه إخراج للَّفْظَة عن موضوعها من غير داعٍ إلى ذلك. إذا تقرَّر هذا فليُرْجع إلى الآية الكريمة فنقول وبالله التوفيق: اختلف الناس في هذه الآية على ثلاثة أقوال، أحدُها: أن المفعولَ الأولَ والجملةَ الاستفهامية التي سَدَّت مَسَدَّ الثاني محذوفان لفهم المعنى، والتقدير: أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعُكم» أو اتِّخاذَكم غيرَ الله إلهاً هل يَكْشِفُ ضُرَّكم؟ ونحو ذلك: فعبادَتَكُمْ أو اتِّخاذَكم مفعول أول، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ مَسَدَّ الثاني: والتاء هي الفاعل، والكاف حرف خطاب. الثاني: أن الشرط وجوابه - سيأتي بيانه - قد سَدَّا مَسَدَّ المعفولين لأنهما قد حَصَّلا المعنى المقصود، فلم يَحْتج هذا الفعل إلى مفعولٍ، وليس بشيء؛ لأن الشرط وجوابه لم يُعْهد فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعولي ظن، وكونُ الفعلِ غيرَ محتاجٍ لمفعولٍ إخراجٌ له عن وضعه، فإنْ عَنَى بقوله: «سَدَّا مَسَدَّه» أنَّهما دالاَّن عليه فهو المدَّعى. والثالث: أن المفعول الأول محذوفٌ، والمسألةُ من باب التنازع بين أرأيتكم وأتاكم، والمتنازَعُ فيه هو لفظُ «العذاب» . وهذا اختيار الشيخ، ولنوردْ كلامه ليظهرَ فإنَّه كلامٌ حسن قال: «فنقول: الذي نختاره: أنها باقية على حكمها في التعدِّي إلى اثنين، فالأول منصوب والثاني لم نجده بالاستقراء إلا جلمة استفهامية أو قسمية. فإذا تقرَّر هذا فنقول: المفعول الأول في هذه الآية محذوف، والمسألة من باب التنازع، تنازع «أرأيتكم» والشرط

على «عذاب الله» ، فأعمل الثاني وهو «أتاكم» فارتفع «عذاب» به، ولو أعمل الأول لكان التركيب: «عذاب» بالنصب، ونظير ذلك: «اضرب إنْ جاءك زيد» على إعمال «جاءك» ولو نصب لجاز، وكان من إعمال الأول. وأمَّا المفعول الثاني فهو الجملة من الاستفهام: «أغيرَ الله تَدْعُون» والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول المحذوف محذوف تقديره: أغيرَ الله تَدْعُنن لكَشْفِه، والمعنى: قل أرأيتكم عذابَ الله إنْ أتاكم - أو الساعة إن أتتكم - أغيرَ الله تَدْعُون لكشفه أو لكشف نوازلها «انتها. والتقدير الإِعرابيُّ الذي ذكره يحتاج إلى بعض إيضاح، وتقديره: قل أرأيتَكموه أو أرأيتَكم إياه إن أتاكم عذاب الله، فلذلك الضمير هو ضمير العذاب لمَّا عمل الثاني في ظاهره أُعطي المُلْغَى ضميرَه، وإذا أُضْمِرَ في الأول حُذِف ما لم يكن مرفوعاً أو خبراً في الأصل، وهذا الضمير ليس مرفوعاً ولا خبراً في الأصل، فلأجل ذلك حُذِف ولا يَثْبُتُ إلا ضرورةً. وأمَّا جوابُ الشرط ففيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه محذوفٌ، فقدَّره الزمخشري:» إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون «قال الشيخ:» وإصلاحُه أن يقول: «فَمَنْ تدعون» بالفاء، لأن جوابَ الشرطِ إذا وقع جملةً استفهاميةً فلا بتد فيه من الفاء. الثاني: أنه «أرأيتكم» ، قاله الحوفي، وهو فاسِدٌ لوجهين، أحدهما: أن جوابَ الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين، إنما جوَّزَه الكوفيون وأبو زيدٍ والمبردُ والثاني: أن الجملةَ المصدَّرَةَ بالهمزة لا تقع جواباً للشرط البتة، إنما يقع من الاستفهام ما كان ب «هل» أو اسمٍ من أسماء الاستفهام، وإنما لم تقع الجملة المصدرة بالهمزة جوباً لأنه لا يخلو: أن تأتي معها بالفاء أو لا تأتي بها، لا جائز أن لا تأتي بها؛ لأنَّ كلَّ ما لا يَصْلح شرطاً

يجب اقترانه بالفاء إذا وقع جواباً، ولا جائز أن تأتي بها لأنك: إمَّا أن تأتي بها قبل الهمزة نحو: إن قمت فأزيد منطلق «، أو بعدها نحو:» أفزيد منطلق «، وكلاهما ممتنعٌ، أمَّا الأول فلتصدُّر الفاء على الهمزة، وأما الثاني فلأنه يؤدي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجب فيه الإِتيانُ بها، وهذا بخلاف» هل «فإنك تأتي بالفاء قبلها فتقول: إن قمت فهل زيد قائم، لأنه ليس لها تامُ التصدير الذي تستحقُّه الهمزةُ، ولذلك تَصَدَّرَتْ على بعضِ حروف العطف وقد تقدَّم مشروحاً غير مرة. الثالث: أنه» أغير الله «وهو ظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال:» ويجوز أن يتعلَّق الشرطُ بقولِه: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} كأنه قيل: أغير الله تَدْعُون إن أتاكم عذاب الله «قال الشيخ:» ولا يجوز أن يتعلَّق الشرط بقوله: «أغير الله» ؛ لأنه لو تعلَّق به لكان جواباً له، لكنه لا يقع جواباً؛ لأنَّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يقع إلا ب «هل» وذَكَر ما قدَّمْتُه إلى آخره، وعزاه الأخفش عن العرب ثم قال: «ولا يجوز أيضاً من وجه آخر، لأنَّا قد قَرَّرْنا أنَّ» أرأيتك «متعدِّية إلى اثنين، أحدهما في هذه الاية محذوفٌ، وأنه من باب التنازع، والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعَة، فلو جَعَلْتها جواب الشرط لبقيَتْ» أرأيتَكم «متعدية إلى واحد وذلك لا يجوز» قلت: وهذا لا يلزم الزمخشري فإنه لا يرتضى ما قاله من الإِعراب المشار إليه. قوله «يلزم تعدِّيها لواحد» قلنا: لا نسلِّم بل يتعدَّى لاثنين محذوفين ثانيهما جملة استفهام، كما قدَّره غيرُه: بأرأيتكم عبادتَكم هل تنفعكم، ثم قال: «وأيضاً التزامُ العرب في الشرط الجائي بعد» أرأيت «مُضِيَّ الفعل دليلٌ على أن جواب الشرط محذوف، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلا عند مُضِيِّ فِعْلِه، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله} [الأنعام: 47] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله} [الأنعام: 46] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله} [القصص: 71] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله} [القصص: 72] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} [يونس: 50] {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء: 205] {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} [العلق: 13] إلى غير ذلك من الآيات. وقال الشاعر: 192 - 0- أَرَيْتَ إنْ جاءت به أمْلودا ... وأيضاً مجيءُ الجملة الاستفهامية مُصَدَّرةً بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جوابَ الشرط، إذ لا يَصحُّ وقوعُها جواباً للشرط» . انتهى. ولما جَوَّزَ الزمخشري أن الشرطَ متعلِّقٌ بقوله: {أغير الله} سأل سؤالاً وأجابَ عنه، قال: «فإنْ قلت: إنْ عَلَّقْتَ الشرطَ بِه فما تصنعُ بقوله:» فيكشِفُ ما تَدْعُون إليه «مع قوله: {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكشفِ المشيئةَ وهو قوله» إنْ شاء «إيذاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وجهٌ من الحكمة، إلا أنه لا يَفْعلُ لوجهٍ آخرَ من الحكمةِ أرجحَ منه» قال الشيخ: «وهذا مبنيٌّ على أن

الشرط متعلقٌ ب» أغير الله «. وقد استَدْلَلْنا على أنه لا يجوز» قلت: تَرَك الشيخُ التبنيهَ على ماهو أهمُّ من

ذلك وهو قوله: «إلا أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحكمة أرجحَ منه» وهذا أصل فاسد من أصول المعتزلة يزعمون أن أفعاله تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحِكمٍ يترجَّح مع بعضها الفعلُ ومع بعضها التركُ، ومع بعضها يجب الفعل أو الترك، تعالى الله عن ذلك بل أفعاله لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض، لا يُسأل عما يَفعل، وموضوع هذه المسألةِ غيرُ هذا الموضوع، ولكني نبَّهْتُك علهيا إجمالاً. الرابع: أنَّ جواب الشرط محذوف تقديره: إن أتاكم عذابُ الله أو أَتَتْكم الساعةُ دَعَوْتم، ودَلَّ عليه قوله: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} الخامس: أن محذوف أيضاً، ولكنه مقدَّرٌ من جنس ما تقدَّم في المعنى، تقديرُه: إنْ أتاكم عذاب الله أو أَتَتْكم الساعة فأخبروني عنه أَتَدْعُون غير الله لكشفِه كما تقول: «أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به» أي: إن جاءَك فأخبرني عنه، فحُذِفَ الجوابُ لدلالة «أخبرني» عليه، ونظيرُه: أنت ظالمُ إن فعلت، أي: فأنت ظالم، فحذف «فأنت ظالمٌ» لدلالةِ ما تقدَّم عليه. وهذا ما اختاره الشيخ. قال: «وهو جارٍ على قواعد العربية» وادَّعى أنه لم يَرَه لغيره. قوله: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} «غيرَ» مفعول مقدم ل «تَدْعون» وتقديمُه: إمَّا للاختصاص كما قال الزمشخري: «بَكَّتهم بقوله: أغير الله تَدْعُون، بمعنى، أَتَخُصُّون آلهتَكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرٌّ أم تدعون اللَّهَ دونها، وإمَّا للإِنكارِ عليهم في دعائهم للأصنام؛ لأن المُنْكَرَ إنما هو دعاءُ الأصنامِ لا نفسُ الدعاء، ألا ترى أنك إذا قلت» أزيداً تضربُ «إنما تُنْكِرُ كونَ» زيد «مَحَلاً للضرب ولا تُنْكر نفسَ الضرب، وهذا من قاعدةٍ بيانية قَدَّمْتُ التنبيهَ عليها عند قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} [المائدة: 116] .

قوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} جوابُه محذوف لدلالة الكلام عليه وكذلك معمولُ» صادقين «والتقدير: إن كنتم صادقين في دعواكم أنَّ غيرَ الله إلهٌ فهل تَدْعُونه لكشْف ما يَحُلُّ بكم من العذاب؟

41

قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} : «بل» حرفُ إضرابٍ وانتقال لا إبطالٍ، لِما عَرَفْتَ غيرَ مرة من أنها في كلام الله كذلك. و «إياه» مفعول مقدَّم للاختصاص عند الزمخشري، ولذلك قال: «بل تَخُصُّونه بالدعاء، وعند غيره للاعتناء، وإن كان ثَمَّ حَصْرٌ واختصاص فِمِنْ قرينة أخرى.» وإياه «ضمير منصوب منفصل تقدَّم الكلامُ عليه مشبعاً في الفاتحة وقال ابن عطية:» هنا «إيَّا» اسم مضمر أُجري مُجرى المظهرات في أنه مضاف أبداً «قال الشيخ:» وهذا خلافُ مذهبِ سيبويه، فإنَّ مذهب سيبويه أن ما بعد «إيَّا» حرفٌ يُبَيِّن أحوال الضمير، وليس مضافاً لما بعده، لئلاَّ يلزمَ تعريفُ الإِضافةِ، وذلك يستدعي تنكيره، والضمائر لا تَقْبَلُ التنكير فلا تقبل الإِضافة. قوله: {مَا تَدْعُونَ} يجوز في «ما» أربعةُ أوجه، أظهرها: أنها موصولة بمعنى الذي أي: فتكشف الذي تَدْعون، والعائد محذوف لاستكمال الشروط أي: تَدْعونه. الثاني: أنها ظرفية، قال ابن عطية. وعلى هذا فيكون مفعول «يكشفُ» محذوفاً تقديره: فيكشف العذاب مدةَ دعائكم أي: ما دُمْتُمْ داعِيه.

قال الشيخ: «وهذا ما لا حاجةَ إليه مع أنَّ فيه وَصْلَها بمضارعٍ، وهو قليلٌ جداً تقولُ:» لا أُكَلِّمك ما طلَعت الشمس «ويضعف: ما تطلع الشمس» قلت: قوله بمضارع «كان ينبغي أن يقول مثبت؛ لأنه متى كان منفياً ب» لم «كَثُر وَصْلُها به نحو قوله: 192 - 1- ولَنْ يَلْبَثَ الجُهَّالُ أن يَتَهَضَّموا ... أخا الحلم ما لم يَسْتَعِنْ بجَهول ومِنْ وَصْلها بمضارعٍ مثبت قولُه: 192 - 2- أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثم آوي ... إلى أمَّا ويَرْويني النقيعُ وقول الآخر: 192 - 3- أُطَوِّفُ ما أُطّوِّفُ ثم أوي ... إلى بيتٍ قعيدَتُهُ لَكاعِ ف» أُطَوِّفُ «صلةُ ل» ما «الظرفية. الثالث: أنها نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء، والعائد أيضاً محذوف أي: فيكشفُ شيئاً تَدْعونه أي: تَدْعون كَشْفَه، والحذفُ من الصفةِ أقلُّ منه من الصلة. الرابع: أنها مصدرية، قال ابن عطية:» ويَصِحُّ أن تكون مصدرية على حذف في الكلام «قال الزجاج:» وهو مثل: {وَسْئَلِ

القرية} [يوسف: 82] . قلت: والتقدير: فيكشف سبب دعائكم وموجبه قال الشيخ «وهذه دعوى محذوف غيرِ معين وهو خلاف الظاهر» وقال أبو البقاء: «وليست مصدرية إلا أَنْ تجعلَها مصدراً بمعنى المفعول» يعني يصير تقديره: فيكشف مَدْعُوَّكم أي: الذي تَدْعُون لأجله، وهو الضُّرُّ ونحوه. قوله: {إِلَيْهِ} فيما يتعلق به وجهان، أحدهما: أن يتعلق ب «تَدْعون» ، والضمير حينئذ يعود على «ما» الموصولة أي: الذي تدعون إلى كَشْفِه، و «دعا» بالنسبة إلى متعلِّق الدعاء يتعدى ب «إلى» أو اللام. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} [فصلت: 33] {وَإِذَا دعوا إِلَى الله} [النور: 48] وقال: 192 - 4- وإن أُدْعَ للجُلَّى أكنْ مِنْ حُماتها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال: 192 - 5- وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ ... يوماً سَراةَ كرامِ الناس فادْعِينا وقال: 192 - 6- دعوتُ لِما نابني مِسْوَراً ... فَلَب‍ِّيْ فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ والثاني: أن يتلعَّق ب «يَكْشِفُ» قال أبو البقاء: «أي: يرفعه

إليه» انتهى. والضميرُ على هذا عائد على الله تعالى، وذكر ابو البقاء وجهَي التعلق ولم يَتَعرَّضْ للضمير وقد عَرَفْتَه. وقال ابن عطية: «والضمير في» إليه «يُحتمل أن يعودَ إلى الله بتقدير: فيكشف ما تدعون فيه إليه» قال الشيخ: «وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ» دعا «يتعدى لمفعول به دون حرف جر: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] {إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] ومن كلام العرب:» دعوتُ الله سميعاً «قلت: ومثلُه: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} [الإِسراء: 110] {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً} [الأعراف: 55] قال: ولا تقول بهذا المعنى:» دعوت إلى الله «بمعنى: دعوت الله، إلا أنه يمكن أن يُصَحَّح كلامُه بمعنى التضمين، ضمَّن» تدعون «معنى» تلجَؤون فيه إلى الله «إلا أنَّ التضمين ليس بقياس، لا يُصارُ إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورةَ تدعو إليه هنا» . قلت: ليس التضمين مقصوراً على الضرورة، وهو في القرآن أكثر من أن يُحْصَر، تقدَّم لك منه جملةٌ صالحة، وسيأتي لك إن شاء الله مثلُها، على أنه قد يقال تجويزُ أبي محمد عَوْدَ الضمير إلى الله تعالى محمولٌ على أن «إليه» متعلق بيكشف، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء وأن معناه «يرفعه» فلا يلزم المحذورُ المذكور، لولا أنه يُعَكِّر عليه تقديرُه بقوله «تدعون فيه إليه» فتقديره «فيه» ظاهره أنه يزعمُ تعلُّقَه ب «تَدْعُون» . قوله: {إِنْ شَآءَ} جوابه محذوف لفهم المعنى، ودلالة ما قبله عليه، أي: إنْ شاء أن يكشِفَ كشف، وادِّعاءُ تقديمِ جواب الشرط هنا واضحٌ

لاقترانه بالفاء، فهو أحسنُ مِنْ قوله: «أنت ظالم إن فعلت» لكن يمنع مِنْ كونها جواباً هنا أنها سببيَّةٌ مرتبة أي: أنها أفادَتْ ترتُّبَ الكشفِ على الدعاء، وأن الدعاءَ سببٌ فيه، على أن لنا خلافاً في فاء الجزاء: هل تفي السببيَّة أو لا؟ قوله: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} الظاهر في «ما» أن تكون موصولةً اسمية، والمرادُ بها ما عُبِد مِنْ دون الله مطلقاً: العقلاءُ وغيرُهم، إلا أنه غَلَّب غيرَ العقلاء عليهم كقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات} [النحل: 49] والعائدُ محذوفٌ أي ما تُشْركونه مع الله في العبادة. وقال الفارسي: «الأصلُ: وتَنْسَون دعاءَ ما تشركون، فحذف المضاف» ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وحينئذ لا تحتاج إلى عائد عند الجمهور. ثم هل هذا المصدر باق على حقيقته؟ أي: تَنْسَون الإِشراكَ نفسَه لِما يلحقُكم من الدَّهْشَة والحَيْرة، أو هو واقعٌ موقعَ المعفول به، أي: وتنسَوْن المُشْرَك به وهي الأصنام وغيرها، وعلى هذا فمعناه كالأول وحينئذٍ يحتمل السياقُ أن يكون على بابه من الغفلة، وأن يكون بمعنى الترك، وإن كانوا ذاكرين لها أي للأصنام وغيرها.

42

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ} : في الكلام حَذْفٌ تقديره: أَرْسَلْنا رسلاً إلى أمم فكذَّبوا فأخذناهم، وهذا الحذفُ ظاهرٌ جداً، و «مِنْ قبلك» متعلِّق بأَرْسلنا، وفي جعله صفةً لأمم كلامٌ تقدَّم غير مرة، وتقدَّم تفسيرُ البأساء والضرَّاء، ولم يُلْفَظْ لهما بمذكَّر على أَفْعَل.

43

قوله تعالى: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} : «إذ» منصوب ب «تَضرَّعوا» فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز

حتى في المفعول به، تقول: «لولا زيداً ضَرَبْتَ» وتقدَّم أن حرف التحضيض مع الماضي يكون معناه التوبيخ. والتضرُّع: تفعُّل من الض‍‍َّراعة، وهي الذِّلَّة والهيئة المسبِّبة عن الانقياد إلى الطاعة يقال: ضَرَع يَضْرَعُ ضَراعة فهو ضارعٌ وضَرِع قال: 192 - 7- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومَةٍ ... ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائِحُ وللسهولة والتذلُّل المفهومة من هذه المادة اشتقُّوا منها للثدي اسماً فقالوا له «ضَرْعاً» قوله: {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} «لكنْ» هنا واقعة بين ضدين، وهما اللين والقسوة؛ وذلك أن قولَه «تَضَرَّعوا» مُشْعِرٌ باللين والسهولة، وكذلك إذا جَعَلْتَ الضراعةَ عبارة عن الإِيمان، والقسوة عبارة عن الكفر، وعَبَّرت عن السبب بالمسبِّب وعن المسبِّب بالسبب، ألا ترى أنك تقول: «آمَنَ قلبُه فتضرَّع، وقسا قلبه فكفر» وهذا أحسن من قول أبي البقاء: «ولكن» استدراك على المعنى، أي ما تضرَّعوا ولكن «يعني أن التحضيض في معنى النفي، وقد يترجَّح هذا بما قاله الزمخشري فإنه قال:» معناه نَفْيُ التضرُّعِ كأنه قيل: لم يتضرعوا إذ جاءهم بأْسُنا، ولكنه جاء ب «لولا» ليفيد أنه لم يكنْ لهم عذرٌ في ترْك التضرُّع إلا قسوةُ قلوبِهم وإعجابُهم بأعمالهم التي زيَّنها الشيطان لهم «. قوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ} هذه الجملة تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون استنافيةً، أخبر تعالى عنهم بذلك.» والثاني: وهو الظاهر -: أنها داخلةٌ في حَيِّز

الاستدارك فهي نسقٌ على قوله: {قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وهذا رأيُ الزمخشري فإنه قال: «لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التضرع إلا قسوةُ قلوبهم وإعجابُهم بأعمالهم» وقد تقدَّم ذلك. و «ما» في قوله: {مَا كَانُواّ} يحتمل أن تكونَ موصولةً اسمية أي: الذي كانوا يعملونه وأن تكونَ مصدرية، أي: زَيَّن لهم عملَهم، كقوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] ويَبْعُد جَعْلُها نكرةً موصوفة.

44

قوله تعالى: {فَتَحْنَا} : قرأ الجمهور «فَتَحْنا» مخفَّفاً، وابن عامر «فتَّحنا» مثقلاً، والتثقيلُ مُؤْذِنٌ بالتكثير؛ لأنَّ بعده «أبواب» فناسب التكثير، والتخفيف هو الأصل. وقرأ ابنُ عامر أيضاً في الأعراف: {لَفَتَحْنَا} [الآية: 96] وفي القمر: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ} [الآية: 11] بالتشديد أيضاً، وشدَّد أيضاً {فُتِحَتْ يَأْجُوجُ} [الأنبياء: 96] والخلاف أيضاً في {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الآيتين: 71، 73] في الزمر في الموضعين، {وَفُتِحَتِ السمآء} [الآية: 19] في النبأ، فإن الجماعة وافقوا ابن عامر على تشديدها، ولم يَقْرَأْها بالتخفيف إلا الكوفيون، فقد جرى ابن عامر على نمطٍ واحد في هذا الفعل، والباقون شدَّدوا في المواضع الثلاثة المشارِ إليها، وخفَّفوا في الباقي جَمْعاً بين اللغتين. قوله: {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} «إذا» هي الفجائية وفيها ثلاثة مذاهب

مذهب سيبويه أنها ظرف مكان، ومذهب جماعة منهم والرياشي أنها ظرفُ زمانٍ، ومذهب الكوفيين أنها حرف. فعلى تقدير كونها ظرفاً مكاناً أو زماناً الناصبُ لها خبر المبتدأ، أي أُبْلِسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها. والإِبلاسُ: الإِطراق، وقيل: هو الحُزْن المعترض من شدة البأس، ومنه اشْتُقَّ «إبليس» وقد تقدَّم في موضعه وأنه هل هو أعجمي أم لا؟ قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ} الجمهور على «فَقُطِع» مبنيّاً للمفعول. «دابر» مرفوع به. وقرأ عكرمة: «قطع» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، «دابر» مفعول به، وفيه التفاتٌ، إذ هو خروج من تكلم في قوله: «أخذناهم» إلى غيبة. والدابِرُ: التابع من خلف، يقال: دَبَر الولدُ والدَه، ودَبَر فلان القوم يَدْبُرُهم دُبُوراً ودَبْراً. وقيل: الدابِر: الأصل، يقال: قطع الله دابِرَه أي: أصله، قال الأصمعي. وقال أبو عبيد: «دابرُ القوم آخرُهم» ، وأنشدوا لأميَّة بن ابي الصلت: 192 - 8- فاستُؤْصِلوا بعذابٍ حَصَّ دابِرَهُمْ ... فما استطاعوا له صَرْفاً ولا انتصروا ومنه: دَبَر السهمُ الهدفَ أي: سقَط خلفَه.

46

قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله} : المفعول الأول محذوف تقديره: أرأيتم سَمْعَكم وأبصاركم إن أخذها الله، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني، وقد تقدم أنَّ الشيخ يجعلُه من التنازع، وجواب الشرط محذوف على نحو ما مرَّ. وقال الحوفي: «وحرفُ الشرط وما اتصل به في موضع نصبٍ على الحال، والعالمُ في الحال» أرأيتم «كقولك:» اضربه إن خرج «أي خارجاً، وجواب الشرط ما تقدَّم مِمَّا دخلَتْ عليه همزة

الاستفهام» وهذا إعرابٌ لا يَظْهر. ولم يُؤْتَ هنا بكاف الخطاب وأُتي به هناك؛ لأنَّ التهديدَ هناك أعظم فناسب التأكيد بالإِتيان بكاف الخطاب، ولمَّا لم يُؤْتَ بالكافِ وجب بروزُ علامةِ الجمع في التاء لئلا يلتبسَ، ولو جيء معها بالكاف لا ستُغْنِي بها كما تقدَّم، وتوحيد السمع وجَمْعُ الأبصارِ مفهومٌ ممَّا تقدَّم في البقرة. قوله: {مَّنْ إله} مبتدأ وخبر، و «مَنْ» استفهامية، «وغيرُ الله» صفةٌ ب «إلهٌ» و «يأتيكم» صفةٌ ثانية، والهاء في «به» على سمعكم. وقيل: تعود على الجميع. وَوُحِّد ذهاباً به مذهب اسم الإِشارة وقيل: تعود على الهَدْي المدلول عليه بالمعنى. وقيل: يَعودُ على المأخوذ والمختوم المدلول عليهما بالأَخْذ والخَتْم. والاستفهام هنا للإِنكار. قوله: {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ} «كيف» معمولةٌ لنصرِّف، ونصبُها: إمَّا على التشبيه بالحال أو التشبيه بالظرف، وهي مُعَلِّقةٌ ل «انظر» فهي في محل نصب بإسقاط حرف الجر، وهذا كله ظاهر مِمَّا تقدم. «ويَصْدِفون» معناه يُعْرِضُون، يقال: صَدَف عن الشيء صَدْفاً وصُدُوفاً وصدافِيَةً قال عدي بن الرقاع: 192 - 9- إذا ذكرْنَ حديثاً قُلْنَ أحسنَه ... وهُنَّ عن كل سوءٍ يُتَّقى صُدُفُ «صُدُف» جمع صَدُوف ك صُبُر في جمع صبور، وقيل: معنى صدف: مالَ، مأخوذ من الصَّدَف في البعير وهو أن يَميل خِفُّه من اليد إلى الرِّجْل من الجانب الوحشي. والصَّدَف جمع صَدَفة وهي المَحارة التي تكون فيها الدُّرَّة قال: 193 - 0-

وزادَها عَجَباً أَنْ رُحْتُ في سُبُلٍ ... وما دَرَتْ دَوَرَان الدُّرِّ في الصَّدَفِ والصَّدَف والصُّدُف بفتح الصاد والدال وضمهما، وضم الصاد وسكون الدال ناحية الجبل المرتفع، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان. والجمهور: «به انظر» بكسر الهاءِ على الاصل، وروى المُسَيِّبي عن نافع: «بهُ انظر» بضمها نظراً إلى الأصل: وقرأ الجمهور أيضاً: {نُصَرِّف} مضعَّفاً، وقُرِئ شاذاً: «نَصْرِف» بكسر الراء من صرف ثلاثياً. قوله: {هَلْ يُهْلَكُ} هذا استفهامٌ بمعنى النفي؛ ولذلك دخلت «إلاَّ» ، وهو استثناءٌ مفرَّغٌ، والتقدير: ما يُهْلك إلا القوم الظالمون. وهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ل «أرأيتكم» والأولُ محذوفٌ، وهذا من التنازع على رأي الشيخ كما تقدَّم تقريره. وقال أبو البقاء: «الاستفهامُ ههنا بمعنى التقرير، فلذلك ناب عن جواب الشرط أي: إن أتاكمْ هَلَكْتم، والظاهرُ ما قَدَّمْتُه، ويجيء هنا قول الحوفي المتقدم في الآية قبلها من كون الشرط حالاً. وقرأ ابن محيصن: {هل يَهْلَكُ} مبنياً للفاعل. وتَقَدَّم الكلام أيضاً على» بَغْتة «اشتقاقاً وإعراباً» .

48

قوله تعالى: {إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} : حال من «المرسلين» وفي هذه الحال معنى الغَلَبة أي: لم نُرْسِلْهم لأن تُقْتَرَحَ عليهم

الآيات، بل لأن يُبَشِّروا ويُنْذِرُوا. وقرأ إبراهيم ويحيى: «مُبْشِرين» بالتخفيف وقد تقدَّم أن «أَبْشَر» لغةٌ في «بَشَّر» . قوله: {فَمَنْ آمَنَ} يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطية، وأن تكونَ موصولةً، وعلى كلا التقديرين فمحلُّها رفعٌ بالابتداء والخبر: «فلا خوف» : فإن كانت شرطية فالفاء جواب الشرط، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط، وعلى الأول يكون محلُّ الجملتين الجزمَ، وعلى الثاني لا محلَّ للأولى، ومحلُّ الثانية الرفع، وحُمِل على اللفظ فأفردَ في «آمن» و «اصلَح» ، وعلى المعنى فجمع في {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ويُقَوِّي كونَها موصولةً مقابلتُها بالموصول بعدها في قوله: {والذين كَذَّبوا} .

49

وقرأ علقمة: {نُمسُّهم} : بنونٍ مضمومة من «أَمَسَّه كذا» «العذابَ» نصباً، والأعمش ويحيى بن وثاب: «يَفْسِقون» بكسر السين، وقد تقدَّم أنها لغة. و «ما» مصدريةٌ على الأظهر، أي: بفِسْقِهم.

50

قوله: {ولا أَعْلَمُ الغيب} في محلِّ هذه الجملة وجهان، أحدهما: النصب عطفاً على قوله «عندي خزائنُ الله» لأنه من جملة المقول، كأنه قال: لا أقول لكم هذا القولَ ولا هذا القولَ، قاله الزمشخري، وفيه نظرٌ من حيث إنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير: ولا أقول لكم لا أَعْلَمُ الغيب، وليس بصحيحٍ. والثاني: أنه معطوف على «لا أقول» لا معمولٌ له، فهو أمَرَ أن يُخْبِرَ عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة

للأمر الذي هو «قل» ، وهذا تخريجُ الشيخ، قال بعد أن حكى قول الزمخشري: «ولا يتعيَّنُ ما قاله، بل الظاهرُ أنه معطوفٌ على» ألاَّ أقول «إلى آخره» .

52

قوله: {بالغداة} : قرأ الجمهور: «بالغداة» هنا وفي الكهف وابن عامر: {بالغُدْوة} بضم الغين وسكون الدال وفتح الواو في الموضعين، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومالك بن دينار وأبو رجاء العطاردي ونصر بن عاصم الليثي. والأشهر في «الغُدْوة» أنها معرفة بالعلمية، وهي علميَّة الجنس كأسامة في الأشخاص ولذلك مُنِعت من الصرف قال الفراء: «سمعت أبا الجراح يقول: ما رأيت كغدوة قط، يريد: غداة يومه» قال: «ألا ترى أن العرب لا تضيفها، فكذا لا يدخلها الألف واللام، إنما يقولون: جئتك غداة الخميس» وقال الفراء في كتاب «المعاني» في سورة الكهف: «قرأ عبد الرحمن السلمي: {بالغُدْوَة والعَشِي} ولا أعلم أحداً قرأ بها غيره، والعرب لا تُدْخل الألف واللام في» الغدوة «لأنها معرفة بغير ألف ولام» فذكره إلى آخره.

وقد طعن أبو عبيد القاسم بن سلام على هذه القراءة فقال: «إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة إتباعاً للخط، وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظُهما على تَرْكها، وكذلك الغداة، على هذا وجدنا العرب» . وقال الفارسيُّ: «الوجه قراءة العامة بالغداة، لأنها تستعمل نكرة ومعرفة بالام، فأمَّا» غُدْوَة «فمعرفة وهو عَلَمٌ وُضِع للتعريف، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف، كما لا تَدْخُل على سائر الأعلام، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو لأنها لا تدلُّ على ذلك. ألا ترى الصلاة والزكاة بالواو ولا تُقرآن بها، فكذلك الغداة. قال سيبويه:» غُدْوة وبُكْرة جُعِل كلُّ واحد منهما اسماً للحين، كما جعلوا «أم حُبَيْن» اسماً لدابَّةٍ معروفة «. إلا أنَّ هذا الطعنَ لا يُلتفت إليه، وكيف يُظَنُّ بمَنْ تَقَدَّم أنهم يَلْحنون، والحسن البصري ممن يُسْتَشْهد بكلامِه فضلاً عن قراءته، نصر بن عاصم شيخ النحاة أخذ هذا العلمَ عن أبي الأسود ينبوعِ الصناعة، وابن عامر لا يَعْرف اللحن لأنه عربي، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة، ولكن أبا عبيد - رحمه الله - لم يعرف أن تنكير» غدوة «لغةُ ثانية عن العرب حكاها سيبويه والخليل. قال سيبويه:» زعم الخيل أنه يجوز أن تقول: «أَتيتُكَ اليوم غُدْوةً وبُكْرة» فجعلها مثل ضَحْوة، قال المهدوي: «حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضَهم يُنَكِّر فيقول» غُدْوةً «بالتنوين، وبذلك قرأه ابن عامر، كأنه جعله نكرة، فأدخل عليها الألف واللام» وقال أبو علي الفارسي: «وجه دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت معرفةً أن تُنَكِّر، كما حكى أبو زيد» لقيته فَيْنَةَ «

غير مصروفة» والفَيْنَةَ بعد الفينة «أي: الحين بعد الحين، فألحق لام التعريف ما استعمل معرفة، ووجه ذلك أنه يُقَدَّر فيه التنكير والشيوع كما يُقَدَّر فيه ذلك إذا بني» . وقال أبو جعفر النحاس: «قرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار وابن عامر:» بالغُدْوة «قال:» وباب غُدْوة أن يكون معرفة إلا أنه يجوز تنكيرها كما تُنَكَّر الأسماءُ الأعلام، فإذا نُكِّرَتْ دَخَلَتْها الألف واللام للتعريف «وقال مكي بن أبي طالب:» إنما دَخَلَت الألف واللام على «غداة» لأنها نكرة، وأكثر العرب يَجْعل «غُدوة» معرفةً فلا ينوِّنها، وكلهم يجعل «غداة» نكرةً فينوِّنها، ومنهم مَنْ يجعل «غُدْوة» نكرة وهم الأقل «فثبت بهذه النقولِ التي ذكرْتُها عن هؤلاء الأئمةِ أن قراءة ابن عامر سالمةٌ من طعن أبي عبيد، وكأنه - رحمه الله - لم يحفظها لغةً. وأما» العَشِيُّ «فنكرةٌ وكذلك» عَشِيَّة «وهل العَشِيُّ مرادِفٌ لعِشِيَّة؟ أي: إن هذا اللفظَ فيه لغتان: التذكير والتأنيث أو أن عَشِيّاً جمعُ عَشِيَّة في المعنى على حدِّ قمح وقمحة وشعير وشعيرة، فيكون اسم جنس، خلاف مشهور، والظاهر الأول لقوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات} [ص: 31] ، إذ المرادُ هنا عشيَّة واحدة، واتفقت مصاحف الأمصار على رسم هذه اللفظة» الغدوة «بالواو وقد تقدَّم لك أن قراءة ابن عامر ليست مستندة إلى مجرد الرسم بل إلى النقل، وثَمَّ ألفاظ اتُّفِقَ ايضاً على رسمها بالواو، واتُّفق على قراءتها بالألف وهي: الصلاة والزكاة ومَنَاة ومِشْكاة والربا والنجاة والحياة، وحرفٌ اتٌّفِق على رسمه بالواو واختلف في قراءة بالألف والواو وهو» الغداة «. وأصل غداة: غَدَوَة، تحرَّكَت الواو وانفتح ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً. وقرأ ابن أبي عبلة»

بالغَدَوات والعَشِيَّات «جمع غداة وعشية، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً» بالغدوِّ «بتشديد الواو من غير هاء. قوله: {يُرِيدُونَ} هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحال من فاعل» يَدْعون «أو مِنْ مفعلوله، والأول هو الصحيح، وفي الكلام حَذْفٌ أي: يريدون بدعائهم في هذين الوقتين وجهَه. قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} » ما «هذه يجوز أن تكونَ الحجازيةَ الناصبة للخبر فيكون» عليك «في محل النصب على أنه خبرها، عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الخبر المقدَّم إذا كان ظرفاً أو حرف جر، وأمَّا إذا كانت تميميةً أو متعيَّناً إهمالُه في الخبر المقدم مطلقاً كان» عليك «في محل رفع خبراً مقدماً، والمبتدأ هو» مِنْ شيء «زِيْدت فيه» مِنْ «. وقوله: {مِنْ حِسَابِهِم} قالوا: «مِنْ» بتعيضية وهي في محلِّ نصب على الحال، وصاحبُ الحال هو «مِنْ شيء» لأنها لو تأخرت عنه لكانت صفةً له، وصفةُ النكرة متى قُدِّمَتْ انتصبت على الحال، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ، والعامل في الحال الاستقرار في «عليك» ، ويجوز أن يكون «من شيء» في محلِّ رفعٍ بالفاعلية ورافعُه «عليك» لاعتماده على النفي، و «مِنْ حسابهم» حالٌ أيضاً من «شيء» العمل فيها الاستقرار، والتقدير: ما استقرَّ عليك شيء من حسابهم. وأُجيز أن يكون «من حسابهم» هو الخبر: إمَّا ل «ما» وإمَّا للمبتدأ، «وعليك» حال من «شيء» ، والعامل فيها الاستقرار، وعلى هذا فيجوز أن يكون «من حسابهم» هو الرافع للفاعل على ذاك الوجه، و «عليك» حال أيضاً كما تقدم تقريره، وكون «من حسابهم» هو الخبر، و «عليك» هو الحال غيرُ واضح لأنَّ مَحَطَّ الفائدة إنما هو «عليك» . وقوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ} كالذي قبله، إلا أنَّ هنا

يمتنع بعض ما كان جائزاً هناك، وذلك أن قوله «من حسابك» لا يجوز أن يُنْصَبَ على الحال لأنه يلزمُ تقدُّمه على عامله المعنوي، وهو ضعيفٌ أو ممتنع، لا سيما وقد تقدَّمَتْ هنا على العامل فيها وعلى صاحبها، وقد تقدَّم لك أن الحال إذا كانت ظرفاً أو حرفَ جر كان تقديمُها على العامل المعنويِّ أحسنَ منه إذا لم يكن كذلك، فحينئذ لك أن تجعل قوله «مِنْ حسابك» بياناً لا حالاً ولا خبراً حتى تخرجَ من هذا المحذورِ، وكَوْنُ «مِنْ» هذه تبعيضيةً غيرُ ظاهر، وقدَّم خطابَه عليه السلام في الجملتين تشريفاً له، ولو جاءت الجملة الثانية على نَمَط الأولى لكان التركيب: «وما عليهم مِنْ حسابك من شيء» فتقدَّم المجرور ب «على» كما قَدَّمه في الأولى، لكنه عَدَل عن ذلك لما تقدم. وفي هاتين الجملتين ما يُسَمِّيه أهل البديع: ردَّ الأعجاز على الصدور، كقولهم: «عادات السادات سادات العادات» ، ومثله في المعنى قول الشاعر: 193 - 1- وليس الذي حَلَّلْتَه بمُحَلَّلٍ ... وليس الذي حَرَّمْتَه بمُحَرَّم وقال الزمخشري: - بعد كلامٍ قَدَّمَه في معنى التفسير - «فإن قلت أما كفى قولُه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} حتى ضمَّ إليه {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيءٍ} قلت: قد جُعِلَتِ الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقُصِد بهما مُؤدَّىً واحدٌ وهو المَعْنِيُّ بقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] ، ولا يَسْتَقِلُّ بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل: لا تُؤاخَدُ أنت ولا هم بحسابِ صاحبه» . قال الشيخ: «قوله: لا تُؤاخَذُ أنت إلى آخره» تركيبٌ غير عربي،

لا يجوزُ عَوْدُ الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً، لأنه إنْ عاد غائباً فلم يتقدَّمْ له اسمٌ مفرد غائب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله «هم» ولا يمكن العَوْدُ عليه على اعتقادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع، لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم، وإنْ أُعيد مخاطباً فلم يتقدم مخاطب يعود عليه، إنما تقدَّم قولُه «لا تُؤاخذ أنت» ولا يمكن العَوْدُ إليه، فإنه ضميرٌ مخاطب فلا يعودُ عليه غائباً، ولو أَبْرَزْته مخاطباً لم يَصِحَّ التركيب ايضاً، فإصلاحُ التركيبِ أن يقال: «لا يُؤاخذُ كلُّ واحدٍ منك ولا منهم بحسابِ صاحبه، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم» فتُغَلِّب الخطابَ على الغيبة كما تقول: «أنت وزيد تضربان» والذي يظهر أن كلامَ الزمخشري صحيحٌ، ولكنْ فيه حذفٌ وتقديره: لا يؤاخذ كل واحد: أنت ولا هم بحساب صاحبه، وتكون «انت ولا هم» بدلاً من كل واحد، والضمير، في «صاحبه» عائد على قوله «كل واحد» ، ثم إنه وقع في محذور آخر مما أَصْلَحَ به كلام أبي القاسم، وذلك أنه قال: «أولا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم» وهذا التركيبُ يُحتمل أن يكونَ المرادُ - بل هو الظاهر - نفيَ المؤاخذة بحساب كل واحد بالنسبة إلى نفسه هو، لا أن كلَّ واحد غير مؤاخذ بحساب غيره، والمعنى الثاني هو المقصود. والضمائر الثلاثة، أعني التي في قوله: {مِنْ حِسَابِهِم} و «عليهم» و «فتطردهم» الظاهر عَوْدُها على نوعٍ واحد وهم الذين يَدْعُون ربهم، وبه قال الطبري، إلا أنه فسَّر الحساب بالرزقِ الدنيويِّ. وقال الزمخشريّ وبان عطية: «إن الضميرَيْن الأوَّلَيْن يعودان على المشركين، والثالث يعود

على الداعين» . قال الشيخ: «وقيل: الضميرُ في» حسابهم «و» عليهم «عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضاً بين النهي وجوابه» ، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعتراضاً إلا على اعتقاد كون الضميرين «في حسابهم» و «عليهم» عائدَيْن على المشركين، وليس الأمرُ كذلك، بل هما اعتراضٌ بين النهي وهو «لا تَطْرُدِ» وبين جوابِه وهو فتكونَ «وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك في» فتكون «:» وجوَّزوا أن يكون جواباً للنهي في قوله {وَلاَ تَطْرُدِ} وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه «فجعلهما اعتراضاً مطلقاً من غير نظر إلى الضميرين. ويعني بالجملتين «وما عليك من حسابهم مِنْ شيء» و «ما من حسابك عليهم من شيء» وبجواب الأول قوله {فَتَطْرُدَهُمْ} . قوله تعالى: {فَتَطْرُدَهُمْ} فيه وجهان، أحدهما: منصوب على جواب النهي بأحد معنيين فقط، وهو انتفاءُ الطَّرْدِ لانتفاء كون حسابهم عليه وحسابه عليهم، لأنه ينتفي المُسَبِّب بانتفاء سببه، ويتوضَّح ذلك في مثال وهو «ما تأتينا فتحدِّثنا» بنصب «فتحدِّثَنا» وهو يحتمل معنيين، أحدُهما: انتفاءُ الإِتيان وانتفاء الحديث، كأنه قيل: ما يكون منك إتيانٌ فكيف يقع منك حديث؟ وهذا المعنى هو مقصود الآية الكريمة أي: ما يكون مؤاخذةٌ كلِ واحدٍ بحساب صاحبه فيكف يقع طرد؟ والمعنى الثاني: انتفاء الحديث وثبوت الإِتيان كأنه قيل: ما تأتينا مُحَدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدِّث. وهذا المعنى لا يليق بالآية الكريمة، والعلماء - رحمهم الله - وإن أطلقوا قولهم إنه منصوبٌ على جواب النفي، فإنما يريدون المعنى الأول دون الثاني: والثاني: أن يكون منصوباً على جواب النهي.

وأما قوله «فتكونَ» ففي نصبه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب عطفاً على «فتطردَهم» والمعنى: الإِخبار بانتفاء حسابهم، والطرد والظلم المسبب عن الطرد. قال الزمخشري: «ويجوز أن تكون عطفاً على» فتطردَهم «على وجه السبب، لأنَّ كونَه ظالماً مُسَبِّبٌ عن طردهم» . والثاني من وجهي النصب: أنه منصوب على جواب النهي في قوله: «ولا تَطْرد» ولم يذكر مكي ولا الواحدي ولا أبو البقاء غيره. قال الشيخ: «وجوَّزوا أن يكون» فتكونَ «جواباً للنهي في قوله» لا تَطْرِدِ «كقوله: {لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} [طه: 61] ، وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه» قلت: قد تقدَّم أن كونَهما اعتراضاً لا يتوقف على عَوْد الضميرين في قوله «مِنْ حسابهم» و «عليهم» على المشركين كما هو المفهوم من قوله ههنا، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حَكَيْتُه عنه يُشْعر بذلك.

53

قوله تعالى: {وكذلك فَتَنَّا} : الكاف في محصل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير: ومثل ذلك الفُتُون المتقدِّم الذي فُهم من سِياق أخبار الأمم الماضية فَتَنَّا بعضَ هذه الأمةِ ببعض، فالإِشارةُ بذلك إلى الفتون المدلول عليه بقوله: {فَتَنَّا} ولذلك قال الزمخشري: «ومِثْل ذلك الفَتْن العظيم فُتِن بعض الناس ببعض» فجعلَ الإِشارة لمصدر «فتنَّا» ،

وانظر كيف لم يتلفظ هو بإسناد الفتنة إلى الله تعالى في كلامه، وإن كان الباري تعالى قد أَسْندها، بل قال: «فُتِن بعضُ الناس» فبناه للمفعول على قاعدة المعتزلة. وجعل ابنُ عطية الإِشارةَ إلى طلب الطرد فإنه قال بعد كلام يتعلق بالتفسير: «والإِشارة بذلك إلا ما ذُكِرَ مِنْ طلبهم أنْ يطرد الضعفة» . قال الشيخ: «ولا ينتظم هذا التشبيه، إذ يصير التقدير: مثل طلب الطرف فتنَّا بعضهم [ببعض] ، والمتبادر إلى الذهن من قولك:» ضربْتُ مثل ذلك «المماثلةُ في الضرب، أي: مثل ذلك الضرب لا أن تقع المماثلة في غير الضرب، وقد تقدم غير مرة أن سيبويه يجعل مثل ذلك حالاً من ضمير المصدر المقدر. قوله: {ليقولوا} في هذه اللام وجهان، أظهرهما: - وعليه أكثر المعربين والمفسِّرين - أنها لام كي، والتقدير: ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابتلاءً منا وامتحانا. والثاني: أنها لام الصيرورة أي العاقبة كقوله: 193 - 2- لِدُوا للموتِ وابنُوا للخراب ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} [القصص: 8] ويكونُ قولهم» أهؤلاء «إلى آخره، صادراً على سبيل الاستخفاف.

قوله: {أهؤلاء} يجوز في وجهان، أظهرهما: أنه منصوب المحل على الاشتغال بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّره الفعل الظاهر، العامل في ضميره بوساطة» على «، ويكون المفسِّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والتقدير: أفَضَّلَ الله هؤلاء منَّ عليهم، أو اختار هؤلاء مَنَّ عليهم، ولا محلَّ لقوله: {مَنَّ الله عَلَيْهِم} لكونها مفسرة، وإنما رجَّح هنا إضمار الفعل لأنه وقع بعد أداةٍ يغلب إيلاءُ الفعلِ لها. والثاني: أنَّه مرفوع لامحل على أنه مبتدأ والخبر: مَنَّ الله عليهم، وهذا وإن كان سالماً من الإِضمار الموجود في الوجه الذي قبله، إلا أنه مرجوحٌ لما تقدم، و» عليهم «متعلِّقٌ ب» مَنَّ «. و {مِّن بَيْنِنَآ} يجوز أن يتعلَّق به أيضاً، قال أبو البقاء:» أي: ميَّزهم علينا، ويجوز أن يكون حالاً «قال أبو البقاء أيضاً:» أي: مَنَّ عليهم منفردين، وهذان التفسيران تفسيرا معنى لا تفسيرا إعراب، إلا أنه لم يَسُقْهما إلا تفسيرَيْ إعراب، والجملة من قوله: {أهؤلاء مَنَّ الله} في محلِّ نصب بالقول. وقوله: {بِأَعْلَمَ بالشاكرين} الفرق بين التاءين أو الأولى لا تعلُّق لها لكونها زائدةً في خبر ليس، والثانية متعلقة بأعلم، وتَعدِّي العِلْم بها لِما ضُمِّن من معنى الإِحاطة، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارة العلماء فيقولون: عَلِم بكذا، والعِلْم بكذا، لما تقدم.

54

قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَكَ} : «إذا» منصوب بجوابه أي: فقلْ: سَلامٌ عليكم وقتَ مجيئهم أي: أوقع هذا القول كلَّه في وقت مجيئهم إليك، وهذا معنى واضح. وقال أبو البقاء: «العامل في» إذا «معنى الجواب

أي: إذا جاؤوك سلِّمْ عليهم» ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى، لأن كونه يبلَّغهم السلام والإِخبارَ بأنه كتب على نفسه الرحمة، وأنه من عَمِل سوءاً بجهالة غفر له، لا يقوم مقامَه السَّلامُ فقط، وتقديره يُفْضي إلى ذلك. وقوله: {سَلاَمٌ} مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرةً لأنه دعاءٌ، والدعاء من المسوِّغات. وقال أبو البقاء: «لما فيه من معنى الفعل» وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين إنما هو شيء نُقل عن الأخفش: أنه إذا كانت النكرة في معنى الفعل جاز الابتداء بها ورَفْعُها الفاعل وذلك نحو: قائمٌ أبواك، ونَقَل ابن مالك أن سيبويه أومأ إلى جوازه، واستدل الأخفش بقوله: 193 - 3- خبيرٌ بنو لِهْبٍ فلاتك مُلْغِياً ... مقالةَ لِهْبِيِّ إذا الطيرُ مَرَّتِ ولا دليلَ فيه؛ لأنَّ فَعيلاً يقع بلفظ واحد للمفرد وغيره، ف «خبير» خبرٌ مقدَّمٌ، واستدلَّ له أيضاً بقول الآخر: 193 - 4- فخيرٌ نحنُ عند الناسِ منكمْ ... إذا الداعي المثوِّبُ قال يالا فخير مبتدأ، و «نحن» فاعل سدَّ مَسَدَّ الخبر، فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون «خير» خبراً مقدماً، «ونحن» مبتدأ

مؤخر؟ قيل: لئلا يلزم الفصلُ بين أفعل و «مِنْ» بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً، فإن الفاعلَ كالخبر بخلاف المبتدأ، وهذا القدرُ في هذا الموضع كافٍ والمسألةُ قد قرَّرتُها في غير هذا الموضوع، و «عليكم» خبرُه، و «سلام عليكم» أبلغُ من «سلاماً عليكم» . بالنصب، وقد تقرَّر هذا في أول الفاتحة عند قراءة «الحمدُ» و «الحمدَ» . وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ} في محل نصب بالقول لأنه كالتفسير لقوله {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} . قوله {أنَّه، فأنَّه} قرأ ابن عامر وعاصم بالفتح فيهما، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالكسر فيهما، ونافع بفتح الأولى وكسر الثاينة، وهذه القاراءتُ الثلاثُ في المتواتر، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكسَ قراءة نافع، هذه رواية الزهراوي عنه وكذا الداني. وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافع، فيحتمل أن يكون عن روايتان. فأمَّا القراءة الأولى فَفَتْحُ الأولى فيها مِنْ أربعة أوجه، أحدها: أنها بدل من الرحمة بدل شيء من شيء والتقدير: كتب على نفسه أنه من عمل إلى آخره، فإنَّ نفس هذه الجملِ المتضمنةِ للإِخبار بذلك رحمة. والثاني: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ، والخبر محذوف أي: عليه أنه من عمل إلى آخره. والثالث: أنها فتحت على تقدير حذف حرف الجر، والتقدير: لأنه مَنْ عمل، فلما حُذِفت اللامُ جرى في محلها الخلاف المشهور. الرابع: أنها مفول ب «كتب» و «الرحمة» مفعول من أجله، أي: كتب أنه مَنْ عَمِل لأجل رحمته إياكم. قال الشيخ: «

وينبغي أن لا يجوز لأن فيه تهيئة العامل للعمل وقَطْعَه منه» . وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه، أحدها: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ والخبر محذوف أي: فغفرانُه ورحمتُه حاصلان أو كائنان، أو فعليه غفرانه ورحمته. وقد أجمع القرَّاء على فتح ما بعد فاء الجزاء في قوله: {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّه} [الحج: 4] كما أجمعوا على كسرها في قوله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] الثاني: أنها في محل رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: فأمرُه أو شأنه أنه غفور رحيم. الثالث: أنها تكريرٌ للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلام وعُطِفت عليها بالفاء، وهذا منقولٌ عن أبي جعفر النحاس. وهذا وهمٌ فاحش لأنه يلزم منه أحد محذورين: إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خير أو شرط بلا جواب، وبيان ذلك أن «مِنْ» في قوله: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ} لا تخلو: إمَّا أن تكون موصولةً أو شرطية، وعلى كلا التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء، فلو جعلنا «أن» الثانية، معطوفة على الأولى لزم عدم خبر المبتدأ وجواب الشرط، وهو لا يجوز. قد ذكر هذا الاعتراضَ وأجاب عنه الشيخ شهاب الدين أو شامة فقال: «ومنهم مَنْ جعل الثانيةَ تكريراً للأولى لأجل طول الكلام على حد قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] ودخلت الفاء في»

فأنه غفورٌ «على حَدِّ دخولها في {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} [آل عمران: 188] على قول مَنْ جعله تكريراً لقولَه: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ} [آل عمران: 188] إلا أن هذا ليس مثلَ» أيعدكم أنَّكم «؛ لأنَّ هذه لا شرطَ فيها وهذه فيها شرط، فيبقى بغير جواب. فقيل: الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: غفر لهم» انتهى. وفيه بُعْدٌ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاء، وكان ينبغي أن يجيب به هنا لكنه لم يفعلْ، ولم يظهرْ فرقٌ في ذلك. الرابع: أنها بدل من «أنَّ» الأولى، وهو قول الفراء والزجاج وهذا مردودٌ بشيئين، أحدهما: أنَّ البدلَ لا يَدْخُل فيه حرفُ عطف، وهذا مقترنٌ بحرفِ العطف، فامتنع أن يكون بدلاً. فإن قيل: نجعل الفاء زائدةً. فالجواب أن زيادتها غيرُ جائزة، وهي شيء قال به الأخفش، وعلى تقدير التسليم فلا يجوز ذلك من وجهٍ آخر: وهو خلوٌّ المبتدأ أو الشرط عن خبر أو جواب. والثاني من الشيئين: خلوُّ المبتدأ أو الشرط عن الخبر أو الجواب، كما تقدَّم تقريره: فإن قيل: نجعل الجوابَ محذوفاً - كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي شامة - قيل: هذا بعيدٌ عن الفَهْم. الخامس: أنها مرفوعةٌ بالفاعلية، تقديره: فاستقرَّ له أنه غفورٌ أي: استقرَّ له وثَبَتَ غُفرانه، ويجوز أن نُقَدِّر في هذا الوجه جارَّاً رافعاً لهذا الفاعلِ عند الأخفش تقديره: فعليه أنه غفور، لأنه يُرْفَعُ به وإن لم يَعْتمد، وقد تقدَّم تحقيقهُ غيرَ مرَّة.

وأما القراءة الثانية: فكسْرُ الأولى من ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفة وأن الكلام تام قبلها، وجيء بها وبما بعدها كالتفسير لقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} والثاني: أنها كُسِرَتْ بعد قولٍ مقدَّر أي: قال الله ذلك، وهذا في المعنى كالذي قبله. والثالث: أنه أجرى «كتب» مُجْرى «قال» فكُسِرَتْ بعده كما تُكْسرُ بعد القول الصريح، وهذا لا يتمشَّى على أصول البصريين. وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين، أحدهما: أنها على الاستئناف، بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبراً ل «مَنْ» الموصولة، أو جواباً لها إن كانت شرطاً. والثاني: أنها عطفٌ على الأولى وتكرير لها، ويُعْترض على هذا بأنه يلزم بقاءُ المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جزاء، كما تقدَّم ذلك في المفتوحتين. وأجاب أبو البقاء هنا عن ذلك بأن خبر «مَنْ» محذوفٌ دلَّ عليه الكلام، وقد قدَّمْتُ لك أنه كان ينبغي أن يُجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى أو بدلاً منها، ثم قال: «ويجوزُ أن يكونَ العائدُ محذوفاً أي: فإنه غفورٌ له» قلت: قوله «ويجوز» ليس بجيدٍ، بل كان ينبغي أن يقول ويجب، لأنه لا بد من ضمير عائد على المبتدأ من الجملة الخبرية، أو ما يقوم مقامه إن لم يكنْ نفسَ المبتدأ. وأمَّا القراءةُ الثالثة: فيؤخذُ فتحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم مِنْ كسرِها وفتحها بما يليق من ذلك، وهو ظاهر. وأمَّا القراءة الرابعة فكذلك وقال أبو شامة: «وأجاز الزجاجُ كَسْرَ

الأولى وفَتْحَ الثانية وإن لم يُقرأ به» قلت: قد قدَّمْتُ أن هذه قراءةُ الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الداني نقلاها، عنه فكأن الشيخ لم يَطِّلِعْ عليها وقَدَّمْتُ لك أيضاً أنَّ سيبويه لم يَرْوِ عن الأعرج إلا كقراءة نافع، فهذا ممَّا يصلح أن يكون عذراً للزجاج، وأما أبو شامة فإنه متأخر، فعدمُ اطِّلاعِه عجيب. والهاء في «أنَّه» ضمير الأمر والقصة. و «مَنْ» يجوز أن تكون شرطيةً وأن تكون موصولة، وعلى كل تقدير فهي مبتدأَةٌ، والفاءُ وما بعدها في محل جزم جواباً إن كانت شرطاً، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصولة، والعائد محذوف أي: غفول له. والهاء في «بعده» يجوز أن تعود على «السوء» وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] ، والأولى أولى لأنه أصرح، و «منكم» متعلِّقٌ بمحذوف إذ هو حالٌ من فاعل «عمل» ، ويجوز أن تكون «مِنْ» للبيان فيعمل فيها «أعني» مقدراً. وقوله {بِجَهَالَةٍ} فيه وجهان، أحدهما: أنه يتعلَّق ب «عمل» على أن الباءَ للسببيةِ أي: عملُه بسبب الجهل. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضح. والثاني - وهو الظاهر - أنها للحال أي: عملُه مصاحباً للجهالة. «ومِنْ» في «مِنْ بعده» لابتداء الغاية.

55

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ} : الكاف أمرُها واضحٌ من كونها نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه، والإِشارة ب «ذلك» إلى التفصيل السابق، تقديره: مثل ذلك

التفصيل البيِّنِ، وهو ما سَبَقَ من أحوال الأمم نفصِّل آيات القرآن. وقال ابن عطية: «والإِشارة بقوله» وكذلك «إلى ما تقدَّم، من النَّهْي عن طَرْد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك، وتفصيل الآ يات تبيينُها وشَرْحُها» . وهذا شبيهٌ بما تقدم له في قوله: {وكذلك فَتَنَّا} [الأنعام: 53] وتقدَّم أنه غير ظاهر. قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ} قرأ الأخوان وأبو بكر: «وليستبين» بالياء من تحت، «سبيلُ» بالرفع ونافع: «ولتستبين» بالتاء من فوق، «سبيلَ» بالنصب، والباقون: بالتاء من فوق، «سبيل» بالرفع. وهذه القراءات دائرة على تذكير «السبيل» وتأنيثه وتَعَدَّي «استبان» ولُزِومه. وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم تذكير «السبيل» وعليه قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146] ، لغةُ الحجاز التأنيث، وعليه: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] وقوله: 193 - 5- خَلِّ السبيل لمَنْ يبني المنار بها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأمَّا «استبانَ» فيكونُ متعدِّياً نحو: استَبَنْتُ الشيءَ «ويكون لازماً نحو:» استبان الصبح «بمعنى بأن، فَمَنْ قرأ بالياء من تحت ورَفَع فإنه أسند الفعل إلى» السبيل «فرفْعُه على أنه مذكَّرٌ وعلى أن الفعل لازم، ومن قرأ بالتاء من فوق فكذلك ولكن على لغة التأنيث. ومن قرأ بالتاء من فوق ونصب» السبيلَ «فإنه أسند الفعلَ إلى المخاطب ونصب» السبيل «على المفعولية وذلك على

تعدية الفعل أي: ولتستبين أنت سبيل المجرمين، فالتاء في» لتستبينَ «مختلفةُ المعنى، فإنها في إحدى القراءتين للخطاب وفي الأخرى للتأنيث، وهي في كلا الحالين للمضارعة، و» تستبين «منصوب بإضمار» أن «بعد لام كي، وفيما تتعلَّق به هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها معطوفة على علة محذوفة، وتلك العلة معمولةٌ لقوله: {نفَصِّلُ} والمعنى: وكذلك نفصل الآيات لتستبين لكم ولتستبين. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف مقدر بعدها أي: ولتستبين سبيل المجرمين فصَّلناها ذلك التفصيل. وفي الكلام حذفُ معطوف على رأيٍ، أي: وسبيل المؤمنين، كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] . وقيل: لا يُحتاج إلى ذلك، لأن المقام إنما يقتضي ذِكْرَ المجرمين فقط، إذ هم الذين أثاروا ما تقدَّم ذِكْره.

56

قوله تعالى: {أَنْ أَعْبُدَ} : في محل «أَنْ» الخلاف المشهور، إذ هي على حَذْفِ حرف تقديره: نُهِيْتُ عن أن أعبدَ. وقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ} «إذن» حرف جواب وجزاء لا عمل لها هنا لعدم فعلٍ تعمل فيه، والمعنى: «إن اتَّبَعْتُ أهواءَكم ضَللْت وما اهتدَيْت» فهي في قوة شرط وجزاء. والجمهور: {ضَلَلْتَ} بفتح اللام الأولى. وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى وطلحة بكسرها، وقد تقدَّم أنها لغة. ونقل صاحب التحرير [عن يحيى وابن أبي ليلى أنها قرآ] هنا وفي ألم السجدة: {أَإِذَا ضَلَلْنَا} بصاد غير

معجمة. يقال: صَلَّ اللحمُ أي: أنتن، وهذا له بعض مناسبة في آية السجدة، وأما هنا فمعناه بعيدٌ أو ممتنعٌ. وروى العباس عن ابن مجاهد في «الشواذ» له: «صُلِلْنا في الأرض» أي دُفِنَّا في الصَّلَّة وهي الأرضُ الصُلْبة. وقوله: {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين} تأكيد لقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ} وأتى بالأولى جملةً فعلية ليدلَّ على تجدد الفعل وحُدوثهِ، وبالثانية اسميةً ليدلَّ على الثبوت.

57

قوله تعالى: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} : في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سيقت للإِخبار بذلك. والثاني: أنها في محصل نصب على الحال، وحينئذ هل يُحتاج إلى إضمار «قد» أم لا؟ والهاء في «به» يجوز أن تعود على «ربي» وهو الظاهر. وقيل: على القرآن لأنه كالمذكور. وقيل على «بَيِّنَة» لأنها في معنى البيان. وقيل: لأن التاء فيها للمبالغة، والمعنى: على أمرٍ بَيِّنٍ من ربي، و «من ربي» في محل جر صفة ل «بينة» قوله: {يَقُصُّ الحق} قرأ نافع وابن كثير وعاصم: «يقص» بصاد مهملة مشددة مرفوعة، وهي قراءة ابن عباس، والباقون بضاد معجمة مخففة مكسورة، وهاتان في المتواتر. وقرأ عبد الله وأُبَيّ ويحيى بن وثاب والنخعي والأعمش وطلحة: «يقضي بالحق» من القضاء. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد: «يقضي بالحق وهو خير القاضين» فأمَّا قراءة «يقضي» فمِن القضاء. ويؤيده قوله: «وهو خير الفاصلين» فإنَّ الفصل يناسب القضاء، ولم يُرْسَم إلا بضاد، كأن الباء حُذِفَتْ خَطَّاً كما حذفت لفظاً لالتقاء الساكنين، كما حذفت من نحو: {فَمَا تُغْنِ النذر} [القمر: 5] ، وكما حُذِفَتْ الواو في {سَنَدْعُ

الزبانية} [العلق: 18] {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] لما تقدم. وأمَّا نصب «الحق» بعده ففيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي: يقضي القضاء الحق. والثاني: أنه ضمَّن «يقضي» معنى يُنْفِذ، فلذلك عدَّاه إلى المفعول به، الثالث: أن «قضى» بمعنى صنع فيتعدَّى بنفسه من غير تضمين، ويدل على ذلك قوله: 193 - 6- وعليهما مَسْرُودتان قضاهُما ... داودُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: صَنَعَهما. الرابع: أنه على إسقاط حرف الجر أي: يقضي بالحق، فلما حذف انتصب مجروره على حَدِّ قوله: 193 - 7- تمرُّون الدِّيار فلم تَعْوجوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . ويؤيد ذلك: القراءةُ بهذا الأصل. وأما قراءة «يَقُصُّ» فمِنْ «قَصَّ الحديث» أو مِنْ «قصَّ الأثر» أي: تَتَبَّعه. وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] . ورجحَّ أبو عمرو بن العلاء القراءة الأولى بقوله: «الفاصلين» ، وحُكي عنه أنَّه قال: «أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحقَّ أو يقضي الحق» فقالوا: «يقصُّ» فقال: «لو كان» يقص «لقال:» وهو خير القاصِّين «اقرأ أحدٌ بهذا؟ وحيث قال: {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} فالفصل إنما يكون في القضاء» وكأن أبا عمرو لم يَبْلُغْه «وهو خير القاصِّين»

قراءةً. وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره ابن العلاء فقال: «القصصُ هنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول أيضاً قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [طارق: 13] وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] . وقال تعالى: {وَنُفَصِّلُ الآيات} [التوبة: 11] فقد حمل الفَصْل على القول، واستُعمل معه كما جاء مع القضاء فلا يلزم» من الفاصلين «أن يكون مُعَيِّناً ليقضي.

58

وقوله تعالى: {والله أَعْلَمُ بالظالمين} : من باب إقامة الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على استحقاقهم ذلك بصفةِ الظلم، إذا لو جاء على الأصل لقال: «والله أعملُ بكم» .

59

قوله تعالى: {مَفَاتِحُ} : فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه جمعُ مِفْتح بكسر الميم والقصر، وهو الآلة التي يُفتح بها نحو: مُنْخُل ومَنَاخل. والثاني: أنه جمع مَفْتَح بفتح الميم، وهو المكان، ويؤيده تفسير ابن عباس هي خزائن المطر. والثالث: أنه جمع مِفتاح بكسر الميم والألف، وهو الآلة أيضاً، إلا أنَّ هذا فيه ضعفٌ من حيث إنه كان ينبغي أن تُقلب ألف المفرد ياء فيقال: مفاتيح كدنانير، ولكنه قد نُقِل في جمع مصباح مصابح، وفي جمع مِحْراب مَحارِب، وفي جمع قُرْقُرر قراقِر، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مَدَّةَ في مفرده كقولهم: دراهيم وصياريف في جمع دِرْهَم وصَيْرَف، قال: 193 - 8- تَنْفي يداها الحصى في كل هاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدارهيمِ تَنْقادُ الصَّياريفِ

وقالوا: عيِّل وعَياييل. قال: 193 - 9- فيها عياييلُ أُسودٌ ونُمُرْ ... الأصل: عيايل ونمور، فزاد في ذلك ونَقَّصَ مِنْ هذا. وقد قُرِئ «مفاتيح» بالياء وهي تؤيد أنَّ مفاتح جمع مفتاح، وإنما حُذِفَتْ مدَّتْه. وجَوَّز الواحدي أن يكون مفاتح جمع مَفْتَح بفتح الميم على أنه مصدر، قال بعد كلام حكاه عن أبي إسحاق: «فعلى هذا مفاتح جمع المَفْتح بمعنى الفتح» ، كأن المعنى: «وعنده فتوح الغيب» أي: هو يفتح الغيب على مَنْ يشاء من عباده. وقال أبو البقاء: «مفاتح جمع مَفْتَح، والمَفْتَحُ الخزانة، فأمَّا ما يُفتح به فهو المفتاحُ، وجمعه مفاتيح وقد قيل مَفْتح أيضاً» انتهى. يريد جمع مَفتح أي بفتح الميم. وقوله: «وقد قيل: مَفْتَح يعني أنها لغة قليلة في الآلة والكثير فيها المدُّ، وكان ينبغي أن يوضِّح عبارته فإنها موهمة ولذلك شرحتها. قوله: {لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} في محل نصب على الحال من» مفاتح «، والعامل فيها الاستقرار الذي تضمَّنه حرف الجر لوقوعه خبراً. وقال أبو البقاء:» نفسُ الظرف إنْ رَفَعْتَ به مفاتح «أي: إنْ رفعته به فاعلاً، وذلك على رأي الأخفش، وتضمُّنه للاستقرار لا بد منه على كل قول، فلا فرق بين أن ترفعَ به الفاعل أو تجعله خبراً.

قوله: {مِن وَرَقَةٍ} فاعل» تَسْقُط «و» مِنْ «زائدة لاستغراق الجنس، وقوله: {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} حالٌ من» ورقة «وجاءت الحال من النكرة لاعتمادِها على النفي، والتقدير: ما تسقط من ورقة إلا عالماً هو بها كقولك:» ما أكرمْتُ أحداً إلا صالحاً «ويجوز عندي أن تكونَ الجملة نعتاً ل» ورقة «وإذا كانوا أجازوا في قوله {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] أن تكون نعتاً لقرية في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة الواو، فأَنْ يجيزوا ذلك هنا أولى، وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جر على اللفظ أو رفع على المَحَلَّ. قوله: {وَلاَ حَبَّةٍ} عطفٌ على لفظ «ورقةٍ» ولو قُرِئ بالرفع لكان على الموضع. و «في ظلمات» صفة لحبة. وقوله: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} معطوفان أيضاً على لفظ «ورقة» وقرأهما ابن السميفع والحسن وابن أبي إسحاق بالرفع على المحل، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن يكونا مبتدأين، والخبر قوله {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ونقل الزمخشري أن الرفع في الثلاثة أعني قوله: «ولا حبةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ» وذكر وجهي الرفع المتقدِّمين، ونظَّر الوجه الثاني بقولك: «لا رجلٌ منهم ولا امرأة إلا في الدار» . قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} في هذا الاستثناء غموض، فقال الزمخشري: «وقوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} كالتكرير لقوله: {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} لأن معنى» إلاَّ يعلمها «ومعنى» إلا في كتاب مبين «واحد، والكتاب علم الله

أو اللوح» وأبرزه الشيخ في عبارة قريبة من هذه فقال: «وهذا الاستثناء جارٍ مجرى التوكيد لأن قوله:» ولا حبةٍ ولا رطب ولا يابس «معطوف على» مِنْ ورقة «والاستثناءُ الأولُ منسحبٌ عليها كما تقول:» ماجاءني من رجلٍ إلا أكرمته ولا أمرأةٍ «فالمعنى: إلا أكرمتها، ولكنه لَمَّا طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد، وحَسَّنه كونُه فاصلة» انتهى. وجعل صاحب «النظم» الكلامَ تاماً عند قوله: {ولا يابس} ثم استأنف خبراً آخر بقوله {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} بمعنى: وهو في كتاب مبين أيضاً. قال: «لأنك لو جَعَلْتَ قوله {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} متصلاً بالكلام الأول لفسَدَ المعنى، وبيان فساده في فصل طويل ذكرناه في سورة يونس في قوله:» ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين «انتهى. قلت: إنما كان فاسدَ المعنى من حيث اعتقد أنه استثناءٌ آخرُ مستقلٌّ، وسيأتي كيف فسادُه، أمَّا لو جعله استثناء مؤكداً للأول كما قاله أبو القاسم لم يفسد المعنى، وكيف يُتَصَوَّرُ تمام الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ يَابِسٍ} ويُبْتَدَأ ب» إلا «وكيف تقع» إلا «هكذا؟ وقد نحا أبو البقاء لشيءٍ مِمَّا قاله الجرجاني فقال:» إلا في كتاب مبين «أي: إلا هو في كتاب مبين، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه» يَعْلمها «؛ لأنَّ المعنى يصير: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في كتاب، فينقلب معناه إلى الإِثبات أي: لا يعلمها في كتاب، وإذا لم يكن إلا في كتاب وجب أن يعلمها في الكتاب، فإذن يكون الاستثاءُ الثاني بدلاً من الأول أي: وما تسقط من ورقة إلا هي في كتاب وما يَعْلَمُها» انتهى. وجوابه ما تقدم من

جَعْلِ الاستثناء تأكيداً، وسيأتي هذا مقرَّراً إن شاء الله في سورة يونس لأنَّ له بحثاً يخصُّه.

60

قوله تعالى: {بالليل} : متعلق بما قبله على أنه ظرف له، والباء تأتي بمعنى «في، وقد قدَّمْتُ منه جملةً صالحة. وقال أبو البقاء هنا:» وجاز ذلك لأنَّ الباء للإِلصاق، والملاصِقُ للزمان والمكان حاصل فيهما «يعني فهذه العلاقَةُ المجوِّزةُ للتجوُّز، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن ينوبَ حرفٌ مكان آخر، بل نقول: هي هنا للإِلصاق مجازاً نحو ما قالوه في» مررت بزيد «وأسند التوفِّيَ هنا إلى ذاته المقدسة لأنه لا يُنْفَرُ منه هنا، إذ المرادُ به الدَّعة والراحة، وأسنده إلى غيره في قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] {يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] لأنه يُنْفَرُ منه، إذ المرادُ به الموت. وقوله: {مَا جَرَحْتُم} الظاهر أنها مصدريةٌ، وإن كان كونُها موصولةً اسميةً أكثرَ، ويجوز أن تكونَ نكرةً موصوفةً بما بعدها، والعائد على كلا التقديرين الآخرين محذوف، وكذا عند الأخفش وابن السراج على القول الأول. و» بالنهار «كقوله: {بالليل} والضمير في» فيه «عائد على النهار. هذا هو الظاهر قال الشيخ:» عاد عليه لفظاً «والمعنى: في يوم آخر، كما تقول: عندي درهم ونصفه» قلت: ولا حاجةَ في الظاهر إلى عوده على نظير المذكور، إذ عَوْدُه على المذكور لا محذورَ فيه، وأمَّا من نحو: «درهم ونصفه» فلضرورة انتفاء العيِّ من الكلام، قالوا: لأنك إذا قلت: «عندي درهم» عُلِمَ أن عندك نصفَه ضرورةً، فقولك بعد ذلك: «ونصفه» تضطر إلى

عَوْدِه إلى نظير ما عندك بخلاف ما نحن فيه. وقيل: يعود على الليل. وقيل: يعود على التوفِّي وهو النوم أي: يُوقظكم في خلال النوم. وقال الزمخشري: «ثم يَبْعثكم مِن القبور في شأن الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكَسْبِ الآثام بالنهار» انتهى. وهو حسن. وخصَّ الليل بالتوفي والنهار بالكسب وإن كان قد يُنام في هذا، ويُكسَبُ في الآخر اعتباراً بالحال الأغلب. وقَدَّم التوفِّيَ بالليل لأنه أبلغ في المِنَّة عليهم، ولا سيما عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكَسْب الشر دون الخير. قوله: {ليقضى أَجَلٌ} الجمهور على «لِيُقْضَى» مبنياً للمفعول و «أجلٌ» رفع به، وفي الفاعل المحذوف احتمالان، أحدهما: أنه ضمير الباري تعالى. والثاني: أنه ضمير المخاطبين، أي: لتقضوا أي: لتستوفوا آجالكم. وقرأ أبو رجاء وطلحة: «ليقضي» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، «أجلاً» مفعول به، و «مُسَمَّى» صفة، فهو مرفوع على الأول ومنصوب على الثاني، ويترتب على ذلك خلافٌ للقراء في إمالة ألفهِ قد أوضحته في «شرح القصيد» واللام في «لِيُقْضَى» متعلقةٌ بما قبلها من مجموعِ الفعلين أي: يتوفَّاكم ثم يبعثكم لأجل ذلك.

61

قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ} : فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه عطفٌ على اسم الفاعل الواقع صلة لأل، لأنه في معنى يفعل، والتقدير: وهو الذي يقهر عباده ويرسل، فعطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله، ومثلُه عند بعضهم: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] قالوا: فأقرضوا عطف على «مصدقين» الواقعِ صلةً لأل، لأنه في معنى: إنَّ الذين صدَّقوا وأقرضوا،

وهذا ليس بشيء، لأنه يلزم من ذلك الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبيّ وذلك أن «وأقرضوا» من تمام صلة أل في «المصِّدِّقين» وقد عطف على الموصول قوله «المصدقات» وهو أجنبي، وقد تقرر غيرَ مرة أنه لا يُتْبَعُ الموصول إلا بعد تمام صلته. وأمَّا قوله تعالى: {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] فيقبضن في تأويل اسم أي: وقابضات. ومن عطف الاسم على الفعل لكونه في تأويل الاسم قولُه تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت} [الأنعام: 95] وقوله: 194 - 0- فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّهُ ... ومُجْرٍ عطاءً يستخفُّ المعابرا والثاني: أنها جملة فعلية عُطِفَتْ على جملة اسمية وهي قوله: {وَهُوَ القاهر} والثالث: أنها معطوفة على الصلة وما عُطِف عليها وهو قوله: يتوفَّاكم ويعلم، وما بعده، أي: وهو الذي يتوفَّاكم ويرسل. الرابع: أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة في محل نصب على الحال. وفي صاحبها وجهان، أظهرهما: أنه الضميرُ المستكنُّ في «القاهر» والثاني: أنها حال من الضمير المستكنِّ في الظرف، كذا قال أبو البقاء، ونقله عن الشيخ وقال: «وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاريب» وقولهما «الضمير الذي في الظرف» ليس هنا ظرفٌ يُتَوهَّم كونُ هذه الحالِ من ضميرٍ فيه إلا قولَه «فوق عباده» ولكن بأي طريق يَتَحَمَّل هذا الظرفُ ضميراً؟ والجواب أنه قد تقدم في الاية المشبهة لهذه أن «فوق عباده» فيه خمسة أوجه، ثلاثة منها تَتَحَمَّلُ فيها ضميراً وهي: كونه خبراً ثانياً أو بدلاً من

الخبر أو حالاً، وإنما اضطررنا إلى تقدير مبتدأ قبل «يُرْسِلُ» لأن المضارعَ المثبتَ إذا وقع حالاً لم يقترنْ بالواو، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا غيرَ مرة. والخامس: أنها مستأنفةٌ سِيقت للإِخبار بذلك، وهذا الوجهُ هو في المعنى كالثاني. وقوله: {عَلَيْكُم} يحتمل ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلق بيرسل، ومنه: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} [الرحمن: 35] {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} [الأعراف: 133] {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً} [الفيل: 3] إلى غير ذلك. والثاني: أنه متعلق ب «حَفَظَة» . يقال: حَفِظْتُ عليه عمله، فالتقدير: ويُرْسل حَفَظَة عليكم. قال الشيخ: «أي يحفظون عليكم أعمالهم كما قال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] كما تقول: حَفِظْتُ عليك ما تعمل» فقوله: «كما قال: إن عليكم لحافظين» تشبيه من حيث المعنى لا أن «عليكم» تعلق بحافظين؛ لأن «عليكم» هو الخبر ل «إن» فيتعلق بمحذوف. والثالث: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من «حفظة» إذ لو تأخَّر لجاز أن يكون صفةً لها. قال أبو البقاء: «عليكم» فيه وجهان أحدهما: هو متعلِّق بيرسل، والثاني: أن يكون في نية التأخير وفيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّقَ بنفس «حَفَظة» والمفعول محذوف أي: يرسل عليكم مَنْ يحفظ أعمالكم. والثاني: أن يكون صفةً ل «حَفَظة» قُدِّمَتْ فصارت حالاً «انتهى. قوله:» المفعول محذوف «يعني مفعول» حفظة «إلا أنه يُوهم أنَّ تقديرَ المفعول خاصٌّ بالوجه الذي ذكره، وليس كذلك بل لا بد من تقديره على كل وجه، و» حَفَظَة «إنما

عمل في ذلك المقدَّر لكونه صفةً لمحذوف، تقديره: ويرسل عليكم ملائكة حفظة، لأنه لا يعمل إلا بشروطٍ هذا منها، أعني كونه معتمداً على موصوف. و» حَفَظَة «جمع حافظ، وهو منقاسٌ في كل وصف على فاعِل صحيح اللام، لعاقل مذكر ك» بارّ «و» بَرَة «و» فاجِر «و» فَجَرة «و» كامل «و» كَمَلة «، ويَقِلُّ في غير العاقل كقولهم: غراب ناعق وغربان نَعَقَه. وتقدَّم مثل قوله:» حتى إذا جاء « قوله: {تَوَفَّتْهُ} قرأ الجمهور: {توفَّتْه} ماضياً بتاء التأنيث لتأنيث الجمع. وقرأ حمزة: {توفَّاه} من غير تاء تأنيث، وهي تحتمل وجهين أظهرهما: أنه ماضٍ وإنما حَذَفَ تاء التأنيث لوجهين، أحدهما: كونه تأنيثاً مجازياً، والثاني: الفصلُ بين الفعل وفاعله بالمفعول. والثاني: أنه مضارع، وأصله: تتوفاه بتاءين، فحذفت إحداهما على خلاف في ايتهما ك» تَنَزَّلُ «وبابه. وحمزةُ على بابه في إمالة مثل هذه الألف. وقرأ الأعمش: {يتوفَّاه} مضارعاً بياء الغَيْبة، اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً أو للفصل، فهي كقراءة حمزة في الوجه الأول من حيث تذكيرُ الفعل، وكقراءته في الوجه الثاني من حيث إنه أتى به مضارعاً. وقال أبو البقاء:» وقرئ شاذاً: {تتوفَّاه} على الاستقبال ولم يذكر بياء ولا تاء. قوله: {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} هذه الجملة تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها حال من «رسلنا» والثاني: أنها استئنافية سيقت للإِخبار عنهم بهذه الصفة، والجمهور على التشديد في «يُفْرِّطون» ومعناه لا يُقَصِّرون. وقرأ عمرو بن

عبيد والأعرج: «يُفْرِطون» مخففاً من أفرط، وفيها تأويلان أحدهما: أنها بمعنى لا يجاوزون الحدَّ فيما أُمِروا به. قال الزمخشري: «فالتفريط: التواني والتأخير عن الحدِّ، والإِفراط: مجاوزة الحدِّ أي: لا يُنْقصون ممَّا أمروا به ولا يَزيدون» والثاني: أن معناه لا يتقدمون على أمر الله، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ أفرط بمعنى فَرَّط أي تَقَدَّم. وقال الجاحظ قريباً من هذا فإنه قال: «معنى لا يُفْرِطون: لا يَدَعون أحداً يفرُط عنهم أي: يَسْبقهم ويفوتهم» وقال أبو البقاء: «ويُقرأ بالتخفيف أي: لا يزيدون على ما أُمِروا به» وهو قريب مِمَّا تقدم.

62

قوله تعالى: {مَوْلاَهُمُ الحق} : صفتان لله. وقرأ الحسن والأعمش: «الحقَّ» نصباً، وفيه تاويلان، أظهرهما: أنه نعت مقطوع. والثاني: أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي: رَدُّوا الردَّ الحقَّ لا الباطل. وقرئ: {رِدُّوا} بكسر الراء، وتقدَّم تخريجها مستوفى. والضمير في «مولاهم» فيه ثلاثة أوجه، أظهرهما: أنه للعباد في قوله {فَوْقَ عِبَادِهِ} فقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم} التفاتٌ، إذا الأصل: ويرسل عليهم وفائدة هذا الالتفات التنبيهُ والإِيقاظ. والثاني: أنه يعود على الملائكة المعنيِّين بقوله: «رسلنا» ، يعني أنهم يموتون كما يموت بنو آدم ويُرَدُّون إلى ربهم. والثالث: أنه يعود على «أحد» في قوله: {إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت} إذ المراد به الجمع لا الإِفراد.

63

قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ} : قرأ السبعة هذه مشددة، {قل الله ينجيكم} : قرأها الكوفيون وهشام بن عمار عن ابن عامر مشددة

كالأولى، وقرأ الثِّنتين بالتخفيف من «أنجى» حميدُ بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقِّلون في الموضعين وأن حميداً ومَنْ معه يُخَففون فيهما، وأن نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وأبن ذكوان عن ابن عامر يُثْقِّون الأولى ويُخَفِّفون الثانية، والقراءاتُ واضحة فإنها من نجَّى وأَنْجى، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية، فالكوفيون وهشام التزموا التعدية بالتضعيف، وحميد وجماعته التزموها بالهمزة، والباقون جمعوا بين التعديتين جمعاً بين اللغتين كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] . والاستفهام للتقرير والتوبيخ، وفي الكلام حذف مضاف أي: مِنْ مَهالِك ظلمات أو من مخاوفها، والظلمات كناية عن الشدائد. قوله: {تَدْعُونَهُ} في محل نصب على الحال: إمَّا من مفعول «ينجيكم» وهو الظاهر، أي: يُنَجيكم داعين إياه، وإمَّا من فاعله أي: مَدْعُوَّاً مِنْ جتهكم. قوله: {تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} يجوز فيهما وجهان، أحدهما: أنها مصدران في موضع الحال أي: تَدْعُونه متضرِّعين ومُخْفِين. والثاني: أنهما مصدران من معنى العامل لا من لفظه كقوله: قَعَدْتُ جلوساً. وقرأ الجمهور: {خُفْية} بضم الخاء. وقرأ أبو بكر بكسرها وهما لغتان كالعُدوة والعِدوة، والأُسوة والإِسوة. وقرأ الأعمش: {وخيفة} كالتي في الأعراف وهي من الخوف، قُلِبَتْ الواو ياء لانكسار ما قبلها وسكونها، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يأباه «تضرُّعاً» من المعنى.

قوله: {لَّئِنْ أَنجَانَا} الظاهر أن هذه الجملةَ القسمية تفسير للدعاء قبلها، ويجوز أن تكون منصوبةَ المحلِّ على إضمار القول، ويكونه ذلك القول في محل نصب على الحال من فاعل «تَدْعُونه» أي: تدعونه قائلين ذلك، وقد عرفت ممَّا تقدَّم غيرَ مرة كيفيةَ اجتماع الشرط والقسم. وقرأ الكوفيون: «أَنْجانا» بلفظ الغيبة مراعاةً لقوله: {تَدْعُونَهُ} والباقون «» أَنْجَيْتنا «بالخطاب حكايةً لخطابهم في حالة الدعاء، وقد قرأ كلُّ بما رُسِم في مصحفه، فإنَّ في مصاحف الكوفة:» أنجانا «، وفي غيرِها:» أَنْجَيْتنا «. قوله: {مِنْ هذه} متعلِّقٌ بالفعل قبله، و» مِنْ «لابتداء الغاية، و» هذه «إشارةٌ إلى الظلمات؛ لأنها تجري مَجْرى المؤنثة الواحدة، وكذلك في» منها «تعود على الظلمات لِما تقدم.

64

وقوله: {وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} : عطف على الضمير المجرور بإعادة حرف الجر وهو واجبٌ عند البصريين وقد تقدم.

65

قوله: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} : يجوز أن يكون الظرف متعلقاً ب «نبعث» ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل «عذاباً» أي: عذاباً كائناً من هاتين الجهيتن. قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ} عطف على «يَبْعَث» والجمهور على فتح الياء من «يَلْبسكم» وفيه وجهان، أحدهما: أنه بمعنى يخلطكم فِرَقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة مشايعة لإِمام، ومعنى خَلْطِهم إنشابُ القتال بينهم فيختلطوا في ملاحكم القتال كقول الحماسي: 194 - 1-

وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ ... حتى إذا التبسَتْ نَفَضْتُ لها يدي فَتَرَكْتُهمْ تَقِصُ الرماحُ ظهورَهم ... ما بين مُنْعَفِرٍ وآخرَ مُسْنَدِ وهذه عبارة الزمخشري، فجعله من اللَّبس الذي هو الخلط، وبهذا التفسير الحسن ظهر تعدِّي «يلبس» إلى المفعول. و «شيعاً» نصب على الحال. وهي جمع شِيْعة كسِدْرة وسِدَر. وقيل: «شيعاً» منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول أي: إنه مصدر على غير الصدر كقعدت جلوساً. قال الشيخ: «ويحتاج في جعله مصدراً إلى نَقْلٍ من اللغة» . ويجوز على هذا أيضاً أن يكونَ حالاً كأتيته ركضاً أي: راكضاً أو ذا ركض. وقال أبو البقاء: «والجمهور على فتح الياء أي: يلبس عليكم أموركم، فحذف حرف الجر والمفعول، والأجودُ أن يكون التقدير: أو يلبس أموركم، فحُذِف المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامه» ، وهذا كلُّه لاحاجةَ إليه لِما عَرَفْتَ من كلام الزمخشري. وقرأ ابو عبد الله المدني: «يُلبسكم» بضم الياء من «ألبس» رباعياً، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره: أو يلبسكم الفتنة. و «شيعاً» على هذا حال أي: يُلْبِسكم الفتنة في حال تفرُّقكم وشتاتكم. والثاني: أن يكون «شِيعاً» هو المفعولُ الثاني كأنه جعل الناسَ يلبسون بعضَهم مجازاً كقوله: 194 - 2- لَبِسْتُ أناساً فَأَفْنَيْتُهمْ ... وأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا

والشيعة: مَنْ يتقوَّى بهم الإِنسان، والجمع: «شِيَع» كما تقدم، وأشياع كذا قاله الراغب، والظاهر أن أشياعاً جمع شِيَع كعِنَب وأعناب وضِلَع وأضلاع، وشِيَع جمع شِيْعة، فهو جمع الجمع. قوله: {وَيُذِيقَ} نسق على «يَبْعَث» والإِذاقة: استعارة، وهي فاشية: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] {ذُقْ إِنَّكَ} [الدخان: 49] {فَذُوقُواْ العذاب} [الأنعام: 30] ، وقال: 194 - 3- أَذَقْناهُمْ كؤوسَ الموت صِرْفاً ... وذاقوا من أَسِنَّتنا كؤوسا وقرأ الأعمش: {ونذيق} بنون العظمة، وهو التفاتٌ فائدتُه تعظيم الأمر والتحذير من سطوته.

66

قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ} : الهاء في «به» تعود على العذاب المتقدم في قوله {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قاله الزمخشري، وقيل: تعود على القرآن، وقيل: تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة. وقيل: على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا بعيدٌ لأنه خوطب بالكاف عَقِيبَه، فلو كان كذلك لقال: «وكذَّب به قومك، وادِّعاء الالتفات فيه أبعدُ وقيل: لا بد من حذف صفة هنا أي: وكذَّب به قومك المعاندون، أو الكافرون، لأن قومه كلهم لم يكذِّبوه كقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] ، أي: الناجين. وحَذْفُ الصفة وبقاءُ الموصوف قليل جداً بخلاف العكس. وقرأ ابن عبلة.

{وكَذِّبَتْ} بتاء التأنيث، كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} [القمر: 33] . باعتبار الجماعمة قوله: {وَهُوَ الحق} في هذه الجملةِ وجهان، الظاهر منهما: أنها استئناف، والثاني: أنها حال من الهاء في» به «أي: كذَّبوا به في حال كونه حقاً، وهو أعزم في القبح. قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلق بما بعده وهو توكيد وقدَّم لأجل الفواصل، ويجوز أن يكون حالاً من قوله» بوكيل «؛ لأنه لو تأخر لجاز أن يكون صفةً له، وهذا عند مَنْ يُجيز تقديمَ الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو اختيار جماعة، وأنشدوا عليه: 194 - 4- غافلاً تُعْرَضُ المَنِيَّةُ للمَرْ ... ءِ فيُدْعَى ولات حين إباءُ فقدَّم» غافلاً «على صاحبها وهو» المرء «وعلى عاملها وهو» تُعرض «فهذا أَوْلى. ومنه: 194 - 5- لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادياً ... إليَّ حبيباً إنها لحبيبُ أي: إليَّ هيمان صادِياً، ومثله: 194 - 6- فإن يك أذوادٌ أُصِبْنَ ونسوةٌ ... فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقتل حبالِ »

فرغاً «حال من» بقتل «و» حبال «بالمهملة اسم رجل، مع أن حرف الجر هنا زائدة فجوازه أولى من ما ذكرنا.

67

قوله تعالى: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} : يجوز رفع «نبأ» بالابتدائية وخبرُه الجارُّ قبله، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله، ويجوز أن يكونَ «مستقر» اسمَ مصدرٍ أي استقرار، أو مكان أو زمان.

68

قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ} : «إذا» منصوب بجوابها وهو «فأعرضْ» أي: أعرضْ عنهم في هذا الوقت، و «رأيت» هنا تحتمل أن تكون البَصرية وهو الظاهر ولذلك تعدَّت لواحد. قال الشيخ: «ولا بد من تقدير حالٍ محذوفة أي: رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهم خائضون فيها، أي: وإذا رأيتم ملتبسين بالخوض فيها» انتهى. قلت: ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ قوله «يخوضون» مضارع والراجح حاليَّتُه، وأيضاً فإن «الذين يخوضون» في قوة الخائضين، واسم الفاعل حقيقةٌ في الحال بلا خلاف، فيُحمل هذا على حقيقته، فيُستغنى عن حذف هذه الحال التي قَدَّرها وهي حال مؤكدة. ويحتمل أن تكون عِلْميَّة، وضعَّفه الشيخ بأنه يلزم منه ح‍َذْفُ المفعول الثاني، وحذفه: إمَّا اقتصارٌ وإمَّا اختصار، فإن كان الأول فممنوعٌ انفاقاً، وإن كان الثاني فالصحيح المنع حتى منع ذلك بعض النحويين. قوله: {غَيْرِهِ} الهاء فيها وجهان، أحدهما: أنه تعود على الآيات، وعاد مفرداً مذكراً؛ لأن الآيات في معنى الحديث والقرآن. وقيل: إنها تعود على الخوض أي: المدلول عليه بالفعل كقوله: 194 - 7- إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه ... وخالف والسفيهُ إلى خلافِ أي: جرى إلى السَّفه، دل عليه الصفة كما دل الفعل على مصدره أي:

حتى يخوضوا في حديث غيرِ الخوض. قوله: {يُنسِيَنَّكَ} قراءة العامة: «يُنْسِيَنَّك» بتخفيف السين من «أنساه» كقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} [الكهف: 63] {فَأَنْسَاهُ الشيطان} [يوسف: 42] . وقرأ ابن عامر بتشديدها مِنْ «نَسَّاه» والتعدّي جاء في هذا الفعلِ بالهمزة مرةً وبالتضعيف أخرى كما تقدم في أنجى ونجَّى، وأمهل ومهَّل. والمفعول الثاني محذوف في القراءتين، تقديره: وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان الذكرَ أو الحق. والأحسنُ أن تقدِّر ما يليق بالمعنى أي: وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان ما أُمِرْت به من تَرْك مجالسه الخائضين بعد تذكيرك فلا تقعد بعد ذلك معهم، وإنما أبرازهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظلم، وجاء الشرط الأول ب «إذا» لأنَّ خوضهم في الآيات محقق، وفي الشرط الثاني ب «إنْ» لأنَّ إنساءَ الشيطان له ليس أمراً محققاً بل قد يقع وقد لا يقع وهو معصومٌ منه. ولم يَجِيءْ مصدرٌ على فِعْلى غيرُ «ذكرى» وقال ابن عطية: «وإمَّا» شرط، ويلزمُها في الأغلب النون الثقيلة، وقد لا تلزم، كقوله: 194 - 8- إمَّا يُصيبْكَ عدوٌّ في مُنَاوَأَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا الذي ذكره مِنْ لزوم التوكيد هو مذهب الزجاج، والناس على خلافه وأنشدوا ما أنشده ابن عطية وأبياتاً أُخَرَ ذكرتها في «شرح التسهيل» كقوله: 194 - 9-

إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ ... على أني قد ضممت كثيراً من أطراف هذه المسألة في أوائل البقرة، إلا أن أحداً لم يقل يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة، وإن كان ظاهر عبارة أبي محمد ذلك.

69

قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الذين} : يجوز أن تقدِّر «ما» حجازية فيكون «من شيء» اسمَها، و «من» مزيدة فيه لتأكيد الاستغراق، و {عَلَى الذين يَتَّقُونَ} خبرها عند مَنْ يُجيز إعمالَها مقدَّمَةَ الخبر مطلقاً أو يرى ذلك في الظرف وعديله. و {مِنْ حِسَابِهِم} حال من «شيء» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفة له، ويجوز أن تكون مهملةً: إمَّا على لغة تميم وإمَّا على لغة الحجاز لفواتِ شرطٍ وهو تقديم خبرها وإن كان ظرفاً، وتحقيق ذلك ممَّا تقدم في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 52] . قوله: {ولكن ذكرى} فيه أربعة أوجه، أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدر بفعلٍ مضمر، فقدَّره بعضهم أمراً أي: ولكن ذكِّروهم ذكرى، وبعضهم قدَّره خبراً أي: ولكن يذكرونهم ذكرى. الثاني: أنه مبتدأ خبره محذوف اي: ولكن عليهم ذكرى، أو عليكم ذكرى أي: تذكيرهم. الثالث: أنه خبر لمبتدأ محذوف أي: هو ذكرى اي: النهي عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى الرابع: أنه عطف على موضع «شيء» المجرور ب «مِنْ» أي: ما على المتِّقين من حسابهم شيء ولكن عليهم ذكرى فيكون من عطف المفردات، وأما على الأوجه السابقة فمن عطف الجمل، وقد رَدَّ الزمخشري هذا الوجهَ الرابعَ، وردَّه عليه الشيخ، فلا بد من إيراد قولهما. قال أبو القاسم: «ولا يجوز أن

يكون عطفاً على محل» من شيء «كقولك:» ما في الدار من أحد ولكن زيد «لأن قوله» من حسابهم «يأبى ذلك. قال الشيخ:» كأنه تخيَّل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو «من حسابهم» فهو قيد في «شيء» ، فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على «من شيء» على الموضع؛ لأنه يصير التقدير عنده: ولكن ذكرى من حسابهم، وليس المعنى على هذا، وهذا الذي تخيَّله ليس بشيء، لا يلزم في العطف ب «ولكن» ما ذكر، تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجلُ صدق، وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل، فعلى هذا الذي قَرَّرناه يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدَّم، وأن يكون من عطف المفردات، والعطف بالواو، و «لكن» جيء بها للاستدراك «. قلت: قوله» تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق «إلى آخر الأمثلة التي ذكرَها لا يَرُدُّ على الزمخشري؛ لأنَّ الزمخشري وغيرَه من أهل اللسان والأصوليين يقولون: إن العطف ظاهر في التشريك، فإن كان في المعطوف عليه قيدٌ فالظاهر تقيُّد المعطوف بذلك القيد، إلا أن تجيء قرينةٌ صارفة فيُحال الأمر عليها. فإذا قلت: ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضرب مقيداً بيوم الجمعة فإن قلت: «وعمرا يوم السبت» لم يشاركه في قيده، والآية الكريمة من قبيل النوع الأول أي: لم يؤت مع المعطوف بقرينةٍ تُخْرِجه؛ فالظاهر مشاركته للأول في قيده، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزمخشري، وأمَّا الأمثلةُ التي أوردها فالمعطوف مقيد بغير القيد الذي قُيِّد به الأول، وإنما كان ينبغي أن يأتي بأمثلةٍ هكذا فيقول: ما عندما رجل سوء ولكن امرأة، وماعندنا رجل من تميم ولكن

صبيُّ، فالظاهر من هذا أن المعنى: ولكنْ امرأة سوء، ولكن صبي من قريش، وقول الزمخشري «عطفاً على محل» من شيء «ولم يقل عطفاً على لفظه لفائدة حسنة يَعْسُر معرفتها: وهو أن» لكن «حرف إيجاب، فلو عطف ما بعدها على المجرور ب» مِنْ «لفظاً لزم زيادة» من «في الواجب، وجمهورُ البصريين على عدم زيادتها فيه، ويدلُّ على اعتبار الإِيجاب في» لكن «أنهم إذا عطفوا بعد خبر ما الحجازية، أبطلوا النصب؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي، و» بل «ك» لكن «فيما ذكرت لك.

70

قوله تعالى: {اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} : «اتخذوا» يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنها متعدية لواحد على أنها بمعنى اكتسبوا وعملوا، و «لهواً ولعباً» على هذا مفعول من أجله أي: اكتسبوه لأجل اللهو واللعب. والثاني: أنها المتعدية إلى اثنين أوَّلُهما «دينهم» وثانيهما «لعباً ولهواً» قال الشيخ: «ويظهر من بعض كلام الزمخشري وكلام ابن عطية أن» لعباً ولهواً «هو المفعول الأول، و» دينهم «هو المفعول الثاني. قال الزمخشري:» أي: دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تبحير البحائر وتسويب السوائب من باب اللهو واللعب واتِّباع هوى النفس وما هو من جنس الهَزْل لا الجد، وأو اتخذوا ما هو لعبٌ ولهو من عبادة الأصنام ديناً لهم، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفوه وهو دين الإِسلام لَعِباً ولهواً حيث سخروا به قال: «فظاهرُ تقديرِه الثاني يدلُّ على ما ذكرنا» . وقال ابن عطية: «وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً، ويحتمل أن يكون المعنى: اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً

ولهواً، فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه» انتهى. قلت: وهذا الذي ذكراه إنما ذكراه تفسيرَ معنى لا إعراب، وكيف يَجْعلان النكرةَ مفعولاً أولَ والمعرفةَ معفولاً ثانياً من غير داعية إلى ذلك مع أنهما من أكابر أهل هذا الشأن، وانظر كيف أبرزا ما جعلاه مفعولاً أولَ معرفةً وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامهما ليَخِدوا على كلام العرب فكيف يُظَنُّ بهما أن يجعلا النكر محدَّثاً عنها والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى؟ وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ} أي بالقرآن، يدلُّ له قوله: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وقيل: يعود على حسابهم. وقيل: على الذين وقيل: هذا ضميرٌ يُفسِّره ما بعده وسيأتي إيضاحُه. وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الحياوة} تحتمل وجهين. أحدهما: أنها مستأنفةٌ والثاني: أنها عطفٌ على صلةِ الذين أي: الذي اتخذوا وغَرَّتْهُم وقد تقدم معنى الغرور في آخر آل عمران وقيل: هنا غَرَّتهم من «الغَرّ» بفتح العين أي: ملأت أفواههم وأشبعتهم، وعليه قول الشاعر: 195 - 0- ولمَّا التَقَيْنا بالحُلَيْبَةِ غَرَّني ... بمعروفِهِ حتى خرجْتُ أفوقُ قوله: {أَن تُبْسَلَ} : في هذا وجهان، المشهور- بل الإِجماع - على أنه مفعول من أجله وتقديره: مخافة أن تُبْسَل، أو كراهة أن تُبْسَلَ، أو أن لا تبسل والثاني: قال الشيخ: - بعد أن نقل الاتفاق على المفعول من أجله - «ويجوز عندي أن يكون في موضعِ جرِّ على البدل من الضمير،

والضميرُ مفسَّرٌ بالبدل، ويُضْمر الإِبسالُ لما في الإِضمار من التفخيم، كما أضمروا ضمير الأمر والشأن، والتقدير: وذكِّرْ بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا:» اللهم صلِّ عليه الرؤوفِ الرحيمِ «وقد أجاز ذلك سيبويه قال:» فإن قلت: «ضربت وضربوني قومك» نصبت، إلا في قول مَنْ قال: أكلوني البراغيث، أوتحملُه على البدل من المضمر. وقال أيضاً: «فإن قلتَ:» ضربني وضربتُهم قومُك «رَفَعْتَ على التقديم والتأخير، إلا أن تَجْعَلَ ههنا البدل كم جعلته في الرفع» انتهى. وقد روي قوله: 195 - 1-. . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . فاستاكَتْ به عُودِ إسْحِلِ بجر «عُود» على البدل من الضمير. قلت: أمَّا تفسيرُ الضميرِ غيرِ المرفوع بالبدل فهو قول الأخفش وأنشد عليه هذا العجز وأوله: إذا هي لم تَسْتَكْ بعودِ أراكةٍ ... تُنُخَّلَ فاستاكَتْ به عودِ إسحلِ والبيتُ لطُفَيل الغَنَويّ، يُروى برَفْع «عود» وهذا هو المشهور عند النحاة، ورفعُهُ على إعمالِ الأولِ وهو «تُنُخِّل» وإهمال الثاني وهو «فاستاكَتْ» فأعطاه ضميرَه، ولو أَعْمَلَه لقال: «فاستاكَتْ بعود إسحل» ولا يمكن لانكسار البيت، والروايةُ الأخرى التي استشهد بها ضعيفةٌ جداً لا يعرفها أكثر المُعْربين، ولو استشهد بما لا خلاف فيه كقوله: 195 - 2- على حالةٍ لو أن في القوم حاتِماً ... على جوده لضَنَّ بالماءِ حاتمِ

بجرِّ «حاتم» بدلاً من الهاء في «بجوده» والقوافي مجورة لكان أَوْلَى والإِبسال: الارتهان، ويقال: أَبْسَلْتُ ولدي وأهلي أي ارْتَهَنْتُهُمْ قال: 195 - 3- وإبسالي بَنِيَّ بغير جُرْمٍ بَعَوْناه ولا بدمٍ مُراق ... بَعَوْنا: جَنَيْناَ، والبَعْوُ: الجناية. وقيل: الإِبسال: أن يُسْلِمَ الرجل نفسه للهلكة. وقال الراغب: «البَسْلُ: ضَمُّ الشيء ومَنْعُه، ولتضمُّنهِ معنى الضمِّ استُعير لتقطُّب الوجه فقيل: هو: باسل ومُتْبَسِلُ الوجه، ولتضمينه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتَهَن:» بَسْلٌ «ثم قال:» والفرقُ بين الحرام والبَسْل أنَّ الحرامَ عامٌ فيما كان ممنوعاً منه بالقهر والحكم، والبَسْلُ هو الممنوع بالقهر، وقيل للشجاعة بسالة: إمَّا لِما يُوْصَفُ به الشجاع من عُبوسِ وجهه أو لكونه مُحَرَّماً على أقرانه أو لأنه يمنع ما في حوزته وما تحت يده من أعدائه، والبُسْلَةُ أجرة الراقي، مأخوذة من قول الراقي: أَبْسَلْتُ زيداً أي: جَعَلْتُه محرَّماً على الشيطان أو جَعَلْتُه شجاعاً قوياً على مدافعته، وبَسَل في معنى أَجَلْ وبَسْ «أي: فيكون حرفَ جواب كأجل، واسمَ فعل بمعنى اكتف ك» بس «. وقوله: {بِمَا} متعلّقٌ ب» تُبْسَل «أي: بسبب، و» ما «مصدرية أو بمعنى الذي، او نكرة، وأمرها واضح. قوله: {لَيْسَ لَهَا} هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه، أحدها: وهوالظاهر أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإِخبار بذلك. والثاني: أنها في محل رفع صفة ل» نفس «والثالث: أنها في محل نصب حالاً من الضمير في» كسبت «.

قوله: {مِن دُونِ} في «مِنْ» وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية، والثاني: أنها زائدةٌ، نقله ابن عطية بشيء؛ وإذا كانت لابتداء الغاية ففي ما يتعلَّق به وجهان، أحدهما: أنها حال مِنْ «وليّ» لأنها لو تأخَّرَتْ لكانَتْ صفةً له، فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال. والثاني: أنها خبر «ليس» فتتعلق بمحذوف أيضاً هو خبر ل «ليس» وعلى هذا فيكون «لها» متعلقاً بمحذوف على البيان. وقد مرَّ نظائره، و {مِن دُونِ الله} فيه حذفُ مضافٍ أي: من دون عذابِهِ وجزائه. قوله: {كُلَّ عَدْلٍ} منصوبٌ على المصدرية لأنَّ «كل» بحسب ما تُضاف إليه، هذا هو المشهور، ويجوز نصبُه على المفعول به أي: وإن تَفْدِ يداها كلَّ ما تَفْدِي به لا يُؤخَذُ، فالضميرُ في «لا يُؤْخَذُ» على الأول: قال الشيخ: «عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام، ولا يعود إلى المصدر، لأنه لا يُسْنَدُ إليه الأخذ، وأمَّا في {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] فمعنى المَفْدِيِّ به فيصح» انتهى. أي: إنه إنما أَسْنَدَ الأخْذَ إلى العدل صريحاً في البقرة، لأنه ليس المرادُ المصدرَ بل الشيءُ المَفْدِيُّ به، وعلى الثاني يعود على «كل عدل» لأنه ليس مصدراً فهو كآية البقرة « قوله: {أولئك الذين أُبْسِلُواْ} يجوز أن يكون» الذين «خبراً» ولهم شراب «خبراً ثانياً، وأن يكون» لهم شراب «حالاً: إمَّا من الضمير في» أُبْسِلوا «وإمَّا من الموصول نفسه، و» شرابٌ «فاعل لاعتماد الجارِّ قبله على ذي الحال، ويجوز أن يكون» لهم شراب «مستأنفاً فهذه ثلاثة أوجه في» لهم شراب «ويجوز أن يكون» الذين «بدلاً من» أولئك «أو نعتاً لهم فيتعيَّنُ أن تكون الجملة من» لهم شرابٌ «خيراً للمبتدأ، فتحصَّل في الموصول أيضاً ثلاثة

أوجه: كونه خبراً أو بدلاً أو نعتاً، فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه في هذه الآية. و» شراب «يجوز رفعُه مِنْ وجهين: الابتدائية والفاعلية عند الأخفش، وعند سيبويه أيضاً على أن يكون» لهم «هو خبر المبتدأ أو حالاً حيث جعلناه حالاً، و» شراب «مرتفعٌ به لاعتماده على ما تقدَّم، و» من حميمٍ «صفةٌ ل» شراب «فهو في محلِّ رفع ويتعلق بمحذوف. و» شراب «فَعَال بمعنى مَفْعول، وفَعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم وشراب بمعنى مشروب لا ينقاس لا يقال: أَكال بمعنى مأكول، ولا ضَراب بمعنى مضروب. والإِشارة ب» ذلك «في قول الزمخشري والحوفي إلى الذين اتخذوا، فلذلك أتى بصيغة الجمع، وفي قول ابن عطية وأبي البقاء إلى الحبس المفهوم من قوله» أن تُبْسَلَ نَفْسٌ «إذ المرادُ به عمومُ الأنفسِ فلذلك أُشير إليه بالجمع.

71

قول تعالى: {أَنَدْعُواْ} : استفهام توبيخ وإنكار، والجملة في محل نصب بالقول، و «ما» مفعولةٌ ب «ندعو» وهي موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفة، و «مِنْ دون الله» متعلِّقٌ ب «ندعو» قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في» يَنْفَعنا «ولا معمولاً ل» ينفعنا «لتقدُّمِه على» ما «والصلةُ والصفةُ لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف،» قوله «من الضمير في يَنْفعنا» يعني به المرفوعَ العائدَ على «ما» وقوله: «لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف» يعني أن «ما» لا تخرج عن هذين القسمين، ولكن يجوز أن يكون «من دون» حالاً من «ما» نفسها على قوله: إذ لم يجعل المانعَ

من جَعْلِه حالاً من ضميره الذي في «ينفعنا» إلا صناعياً لا معنوياً، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى أنه إذا جاز أن يكون حالاً من ظاهر جاز أن يكون حالاً من ضميره، إلا أن يمنع مانع. قوله: {وَنُرَدُّ} فيه وجهان أظهرهما: أنه نسقٌ على «ندعو» فهو داخلٌ في حيِّز الاستفهام المتسلط عليه القول. والثاني: أنه حال على إضمار مبتدأ أي: ونحن نُرَدُّ. قال الشيخ بعد نقله عن أبي البقاء: «وهو ضعيفٌ لإِضمار المبتدأ، ولأنها تكون حالاً مؤكدة» وفي كونها مؤكِّدةً نظر، لأنَّ المؤكِّدةَ، ما فُهِم معناها من الأول وكأنه يقول مِنْ لازم الدعاء «من دون الله» الارتداد على العَقِب. قوله: {على أَعْقَابِنَا} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «نُرَدٌّ» والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من مرفوع «نُرَدُّ» أي: نُرَدٌّ راجعين على أَعقابنا أو منقلبين أو متأخرين، كذا قدَّره وهو تفسيرُ معنى، إذ المقدَّر في مثله كون مطلق، وهذا يحتمل أن يُقال فيه إنه حال مؤكدة، و «بعد إذ» متعلق ب «نُرَدٌّ» . قوله: {كالذي استهوته} في هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنه نعت مصدر محذوف أي: نُرَدٌّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من مرفوع «نرد» أي: نُرَدُّ مشبهين الذي استهوته الشياطين، فمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال جَعَلَها حالاً ثانية إن جعل «على أعقابنا» حالاً، ومَنْ لم يُجَوِّزْ ذلك جَعَلَ هذه الحالَ بدلاً من الحالِ الأولى، ألم يجعل «على أعقابنا» حالاً بل متعلقاً ب «نُرَدٌّ» والجمهورُ على «اسْتَهْوَتْهُ» بتاء التأنيث وحمزة «استهواه» وهو على

قاعدِته من الإِمالة، الوجهان معروفان ممَّا تقدَّم في: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] . وقرأ ابو عبد الرحمن والأعمش: «استهوَتْه الشيطان» بتأنيث الفعل والشيطان مفردٌ قال الكسائي: «وهي كذلك في مصحف ابن مسعود» وتوجيهُ هذه القراءة أنها نُؤوِّل المذكر بمؤنث كقولهم: «أتته كتابي فاحترقها» أي: صحيفتي، وتقدم له نظائر. وقرأ الحسن البصري: «الشياطون» وجعلوها لحناً ولا تصل إلى اللحن، إلا أنها لُغَيَّةٌ رديئةٌ، سُمِع: حول بستان فلانٍ بساتون، وله سَلاطون، ويحكى أنه لمَّا حُكِيَتْ قراءة الحسن لحَّنه بعضهم، فقال الفراء: «أَيْ والله يُلحِّنون الشيخ، ويستشدون بقول رؤبة» ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك. والمراد بالذي الجنس، ويحتمل أن يُراد به الواحدُ الفذُّ. قوله: {فِي الأرض} فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه متعلقٌ بقوله: {استهوته} الثاني: أنه حال من مفعول «استهوته» الثالث: أنه حال من «حَيْران» الرابع: أنه حال من الضمير المستكنّ في «حيران» و «حَيْران» حال: إمَّا من هاء «اسْتَهْوَتْه» على أنها بدل من الأولى أو عند مَنْ يُجيز تَعَدُّدها، وإمَّا من «الذي» وإمَّا من الضمير المستكنِّ في الظرف، وحيران مؤنَّثُه حَيْرى، ولذلك لم ينصرف والفعل حار يحار حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورة. قوله: {لَهُ أَصْحَابٌ} جملة في محصل نصب صفة لحيران، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في حيران وأن تكون مستأنفةً و «إلى الهدى» متعلِّقٌ ب «يَدْعُونه» وفي مصحف ابن مسعود وقراءته: «أتينا» بصيغة الماضي، و «إلى الهدى» على هذه القراءة متعلِّقٌ به، وعلى قراءة الجمهورِ: الجملة

الأمريَّة في محل نصب بقول مضمر اي: يقولون ائتنا، والقول المضمر في محلِّ صفةٍ لأصحاب وكذلك «يدعونه» . قوله: {لِنُسْلِمَ} في هذه اللام أقوال، أحدها: - وهو مذهب سيبويه - أن هذه اللامَ بعد الإِرادة والأمر وشبهِهِما متعلقة بمحذوف على أنه خبر للمبتدأ وذلك المبتدأ هو مصدر من ذلك الفعل المتقدم، فإذا قلت: أردْتَ لتقوم، وأمرت زيداً ليذهب كان التقدير: الإِرادة للقيام والأمر للذهاب، كذا نقل الشيخ ذلك عن سيبويه وأصحابه وفيه ضعفٌ قد قَد‍َّمْتُه في سورة النساء عند قوله: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [الآية: 26] . الثاني: أن مفعول الأمر والإِرادة محذوف، وتقديره: وأُمِرْنا بالإِخلاص لنُسْلِمَ الثالث: قال الزمخشري: «هي تعليل للأمر بمعنى: أُمِرْنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نُسْلم» الرابع: أن اللام زائدة أي: أُمِرْنا أن نُسِلمَ الخامس: أنها معنى الباء أي: بأَنْ نُسْلِمَ. السادس: أن اللام وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع «أن» أي أنهما يتعاقبان فتقول: أمرتُك لتقومَ وأن تقوم، وهذا مذهب الكوفيين. وقال ابن عطية: «ومذهبُ سيبويه أنَّ» لنُسْلِمَ «في موضع المفعول وأنَّ قولك:» أُمِرْت لأقومَ وأَنْ أقومَ «يجريان سواء وقال الشاعر: 195 - 4- أُريد لأَنْسى حبَّها فكأنَّما ... تَمثَّلُ لي ليلى بكل طريقِ

وهذا ليس مَذْهَبَ سيبويه إنما مذهبُه ما تقدَّم، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة في السورةِ المشارِ إليها قبلُ.

72

قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُواْ} : فيه أقوال أحدها: أنها في محل نصب بالقول نسقاً على قوله: إنَّ هُدَى الله هو الهدى أي: قل هذين الشيئين. والثاني: أنه نسقٌ على «لِنُسْلَم» والتقدير: وأمرنا بكذا للإِسلام ولنقيم الصلاة، و «أن» توصل بالأمر كقولهم: «كتبت إليه بأن قم» حكاه سيبويه وهذا رأي الزجاج، والثالث: أنه نسق على «ائتنا» قال مكي: «لأن معناه أن ائتنا» وهو غير ظاهر. والرابع: أنه معطوف على مفعول الأمر المقدَّر والتقدير: وأُمِرْنا بالإِيمان وبإقامة الصلاة، قاله ابن عيطة. قال الشيخ: «وهذا لا بأسَ به إذ لا بد من التقدير المفعول الثاني ل» أُمِرْنا «ويجوز حَذْفُ المعطوف عليه لفهم المعنى، تقول: أضربت زيداً؟ فيجيب: نعم وعمراً، التقدير: ضربته وعمراً. وقد أجاز الفراء:» جاءني الذي وزيد قائمان «التقدير: الذي هو وزيدٌ قائمان، فحذف» هو «لدلالة المعنى عليه» وهذا الذي قال إنه لا بأس به ليس من أصول البصريين. وأمَّا «نَعَمْ وعَمْراً» فلا دلالة فيه لأنَّ «نَعَمْ» قامَتْ مقامَ الجملة المحذوفة. وقال مكي قريباً من هذا القول إلا أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه فإنه قال: «وأن في موضع نصب بحذفِ الجارِّ تقديرُه: وبأَنْ أَقيموا» فقوله: وبأن أقيموا هو معنى قول ابنِ عطية، إلا أن ذاك أوضحه بحذف المعطوف عليه.

وقال الزمخشري: «فإن قلت: علام عطف قوله {وَأَنْ أَقِيمُواْ} ؟ قلت: على موضع» لِنُسْلِمَ «كأنه قيل: وأُمِرْنا أن نسلم وأن أقيموا» قال الشيخ: «وظاهر هذا التقدير أنَّ» لنسلم «في موضع المفعول الثاني ل» أُمِرْنا «وعُطِفَ عليه» وأَنْ أقيموا «فتكون اللام على هذا زائدة وكان قد قدَّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه، لأن ما يكون علةً يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله:» أن نسلَم في موضع المفعول الثاني «قوله بعد ذلك» ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وأُمِرْنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإِسلام ولإِقامة الصلاة، وهذا قول الزجاج، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول لاتَّحد قولاه وذلك خُلْف «. وقال الزجاج:» أن أقيموا عطف على قوله «لِنُسْلِمَ» تقديره: وأُمِرْنا لأن نُسْلِمَ وأن أقيموا «قال ابن عطية:» واللفظ يمانعه لأنَّ «نُسْلِمَ» مُعْربٌ و «أقيموا» مبني وعطف المبنيِّ على المعرب لا يجوز؛ لأنَّ العطفَ يقتضي التشريك في العامل «. قال الشيخ» وما ذُكِرَ من أنه لا يُعْطف المبني على المعرب ليس كما ذكر، بل يجوز ذلك نحو: «قام زيد وهذا» وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] ، غاية ما في الباب أنَّ العمل يؤثر في المعرب ولا يؤثر في المبني، وتقول: «إنْ قام زيد ويقصدْني أُكرمه» ف «إن» لم تؤثر في «قام» لأنه مبنيٌّ وأثَّرت في «يقصِدْني» لأنه معرب «ثم قال ابن عطية:» اللَّهم إلا أن

تجعل العطف في «إنْ» وحدها، وذلك قلق، وإنما يتخرَّج على أن يقدَّر قوله «وأن أقيموا» بمعنى «ولنقم» ثم خرجَتْ بلفظ الأمرِ لما في ذلك جزالةِ اللفظ، فجاز العطف على أن يُلغى حكم اللفظ ويُعَوَّلَ على المعنى، ويُشْبه هذا من جهةِ ماحكاه يونس عن العرب: «ادخلوا الأول فالأول» وإلاَّ فلا يجوز إلا: الأولَ فالأولَ بالنصب « قال الشيخ:» وهذا الذي استدركه بقوله «اللهم إلا» إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه، وهو أنَّ «أَنْ أقيموا» معطوفٌ على «أن نُسْلِمَ» وأنَّ كليهما علة للمأمور به المحذوف؛ وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء «أن أقيموا» على معناها من موضوع الأمر وليس كذلك، لأنَّ «أَنْ» إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر، وإذا انسبك منهما مصدر زال معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبوبه وغيره أن تُوْصَلَ أَنْ المصدرية الناصبةُ للمضارع بالماضي والأمر. قال سيبويه: «وتقول: كتبت إليه بأَنْ قم، أي بالقيام» فإذا كان الحكم كذا كان قوله «لنُسْلِمَ و» أَنْ أقيموا «في تقدير: للإِسلام ولإِقامة الصلاة، وأمَّا تشبيه ابن عطية له بقوله:» ادخلوا الأولُ فالأولُ «بالرفع فليس بشبيهٍ لأن» ادخلوا «لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده بخلاف» أَنْ «فإنها توصلُ بالأمر فإذن لا شبه بينهما» انتهى. أمَّا قولُ الشيخ «وإنما قَلِقَ عند ابن عطية لأنه أراد بقاء» أَنْ أقيموا «على معناها من موضوع الأمر» فليس القلقُ عنده لذلك فقط كما حصره الشيخ، بل لأمرٍ آخر من جهة اللفظ وهو أنَّ السِّياقَ التركيبي يقتضي على ما قاله الزجاج

أن يكون «لنسلم» وأن نقيم، فتأتي في الفعل الثاني بضمير فلما لم يقل ذلك قلق عنده، ويدلُّ على ما ذكرته قول ابن عطية «بمعنى ولنقم، ثم خرجت بلفظ الأمر» إلا آخره. والخامس: أنه محمول على المعنى، إذ المعنى: قيل لنا: أسْلِموا وأن أقيموا.

73

قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن} : في «يوم» ثمانية أوجه أحدها - وهو قول الزجاج - أنه مفعول به لا ظرف وهو معطوف على الهاء في «اتقوه» أي: واتقوا يومَ أي عقابَ يومِ يقول أو هَوْلَه أو فَزَعَه، فهو كقوله تعالى في موضع آخر: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي} [البقرة: 48] على المشهور في إعرابه. الثاني: أنه مفعول به أيضاً ولكنه نسق على «السماوات والأرض» أي: وهو الذي خلق يوم يقول. الثالث: أنه مفعولٌ لا ذكْرُ مقدراً. الرابع: أنه منصوبٌ بعامل مقدَّرٍ، وذلك العامل المقدر مفعول فعل مقدر أيضاً، والتقدير: واذكروا الإِعادة يوم يقول: كن أي: يوم يقول الله للأجساد كوني معادةً. الخامس: أنه عطف على موضع قوله «بالحق» فإنَّ موضعه نصب ويكون «يقول» بمعنى «قال» ماضياً كأنه قيل: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم قال لها: كن. السادس: أن يكون «يوم يقول» خبراً مقدماً، والمبتدأ «قوله» و «الحق» صفته، أي: قوله الحق في يوم يقول كن فيكون، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: «قوله الحق مبتدأ ويوم يقول خبره مقدماً عليه، وانتصابه بمعنى الاستقرار كقولك» يوم الجمعة القتال «واليوم بمعنى الحين، والمعنى: أنه خلق

السماوات والأرض قائماً بالحكم وحين يقول لشيء من الأشياء كن، فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة. السابع: أنه منصوب على الظرف، والناصب له معنى الجملة التي هي» قوله الحق «أي: حق قوله في يوم يقول كن الثامن: أنه منصوب بمحذوف دلَّ عليه» بالحق « قال الزمخشري:» وانتصابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله «بالحق» كأنه قيل: وحين يكونّ ويقدّر يقوم بالحق «قال الشيخ:» وهذا إعراب متكلف «. قوله: {فَيَكُونُ} هي هنا تامة، وكذلك قوله: {كن} فتكتفي بمرفوع ولا تحتاج إلى منصوب، وفي فاعلها أربعة أوجه، أحدها: أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة، كذا قَيَّده أبو البقاء بيوم القيامة. وقال مكي:» وقيل: تقدير المضمر في «فيكون» جميع ما أراد «فأطلق ولم يقيِّدْه، وهذا أولى وكأن أبا البقاء أخذ ذلك من قرينة الحال. الثاني: أنه ضمير الصور المنفوخ فيها، ودلَّ عليه قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} الثالث: هو ضمير اليوم أي: فيكون ذلك اليوم العظيم. الرابع: أن الفاعل هو» قولُه «و» الحق «صفته أي: فيوجَدُ قوله الحق، ويكون الكلام على هذا تاماً على» الحق «. قوله: {قَوْلُهُ الحق} فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه مبتدأ و» الحق «نعته، وخبره قوله» يوم يقول «والثاني: أنه فاعل لقوله» فيكون «» والحق «نعته أيضاً، وقد تقدَّم هذان الوجهان،. الثالث: أنَّ «قولُه» مبتدأ، و «الحقٌّ» خبره، أَخْبَرَ عن قوله بأنه لا يكون إلا حقاً. الرابع: أنه مبتدأ أيضاً و «ألحق» نعته، و «يوم يُنْفخ» خبره، وعلى هذا ففي قوله «وله الملك» ثلاثة أوجه أحدها: أن

تكونَ جملةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب. والثاني: ان يكون «الملك» عطفاً على «قوله» وأل فيه عوضٌ عن الضمير، «وله» في محل نصب على الحال من «الملك» العامل فيه الاستقرار والتقدير: قولُه الحقُّ وملكه كائناً له يوم يُنفخ، فأخبرت عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنان في يوم ينفخ في الصور. الثالث: أنَّ الجملة من «وله الملك» في محل نصب على الحال، وهذا الوجه ضعيف لشيئين، أحدهما: أنها تكون حالاً مؤكدة، والأصل: أن تكون مؤسسةً. الثاني: أن العاملَ فيها معنويٌّ؛ لأنه الاستقرار المقدَّر في الظرف الواقع خبراً، ولا يجيزه إلا الأخفشُ ومَنْ تابعه. وقد تقرَّر مذهبُه غيرَ مرة بدلائله. قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ} فيه ثمانية أوجه، أحدها: أنه خبر لقوله «قول الحق» وقد تقدَّم هذا بتحقيقه، الثاني: أنه بدل من «يوم يقول» فيكون حكمه حكمَ ذاك. الثالث: أنه ظرف ل «تُحْشَرون» أي: وهو الذي إليه تُحشرون في يوم ينفخ في الصور. الرابع: أنه منصوب بنفس الملك أي: وله الملك في ذلك اليوم فإن قلت: يلزم من ذلك تقيُّد الملك بيوم النفخ والملك له كل وقت. فالجواب ما أُجيب به في قوله {لِّمَنِ الملك اليوم؟ لله} [غافر: 16] وقوله: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] وهو أن فائدةَ الإِخبار بذلك أنه أَثْبَتَ المُلْك والأمر في يوم لا يمكن أحد أن يدِّعي فيه شيئاً من ذلك فكذلك هذا. الخامس: أنه حال من الملك، والعامل فيه «له» تضمَّنه من معنى الفعل. السادس: انه منصوبٌ بقوله «يقول» السابع: أنه منصوب بعالم الغيب بعده. الثامن: أنه منصوب بقوله «قول الحق» فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانيةُ أوجه، ولله الحمد. والجمهور على «يُنْفَخُ» مبنيَّاً للمفعول بياء الغيبة، والقائم مقام الفاعل

الجارُّ بعده. وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوراث: «ننفخ» بنون العظمة مبنياً للفاعل. والصُّور: الجمهورُ على قراءته ساكنَ [العين] وقرأه الحسن البصري بفتحها، فأمَّا قراءة الجمهور فاختلفوا في معنى الصُّور فيها، فقال جماعة: الصُّور جمع صُورة كالصُّوف جمع صُوفة، والثُّوم جمع ثومة، وهذا ليس جمعاً صناعياً وإنا هو اسم جنس، إذ يُفَرَّق بينه وبين واحده بتاء التأنيث، وأيَّدوا هذا القولَ بقراءة الحسنِ المتقدمة. وقال جماعةٌ: إن الصُّور هو القَرْن، قال بعضهم: هي لغة اليمنِ وأنشد: 195 - 5- نحن نَطَحْناهُمْ غَداة الجَمْعَيْنْ ... بالشامخات في غبار النَّقْعَيْنْ نَطْحاً شديداً لا كنطح الصُّوْرَيْن ... وأيَّدوا ذلك بما ورد الأحاديث الصحيحة، قال عليه السلام: «كيف أَنْعَمُ وصاحبُ القَرْن قد التقمه» وقيل: في صفته إنه قَرْنٌ مستطيل فيه أبخاش، وأن أرواحَ الناس كلهم فيه، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجَتْ روحُ كلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش. وأنحى أبو الهيثم على مَنْ ادَّعى أن الصُّور جمع صُوره فقال: «وقد اعترض قومٌ فأنكروا أن يكون الصُّور قرناً كما أنكروا العرش والميزان والصراط، وادَّعَوا أن الصور جمع الصورة كالصوف جمع الصوفة، ورَوَوْا ذلك عن أبي عبيدة، وهذا خطأٌ فاحشٌ وتحريفٌ لكلام الله عز وجل عن مواضعه لأن الله قال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] {وَنُفِخَ

فِي الصور} [الكهف: 99] فَمَنْ قرأها:» ونُفِخ في الصُّوَرِ «أي بالفتح، وقرأ» فَأَحْسَنَ صُوْرَكم «أي بالسكون فقد افترى الكذبَ على الله، وكان أبو عبيد صاحبَ أخبارٍ وغريب ولم يكن له معرفة بالنحو» قال الأزهري: «قد احتجَّ أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غيرُ ما ذهب إليه وهو قول أهل السنة والجماعة» أنتهى، ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم. وقال الفراء: «يُقال: نَفَخ في الصور ونَفَخَ الصورَ» وأنشد: 195 - 6- لولا ابنُ جَعْدَةَ لم يُفْتَح قُهَنْدُزُكُمْ ... ولا خراسانُ حتى يُنْفَخَ الصُّورُ وفي المسألة كلامٌ أكثرُ من هذا تركتُه إيثاراً للاختصار. قوله: {عَالِمُ الغيب} في رفعه أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكون صفةً للذي في قوله: {وَهُوَ الذي خَلَقَ} وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بأجنبيٍّ. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هو عالم. الثالث: أنه فاعلٌ لقوله: {يقول} أي: يوم يقول عالم الغيب. الرابع: أنه فاعل بفعلٍ محذوف يدل عليه الفعلُ المبنيُّ للمفعول؛ لأنه لمَّا قال «يُنفخ في الصور» سأل سائِلٌ فقال: من الذي يَنْفُخ؟ فقيل: «عالم الغيب» أي: «يُنْفخ فيه عالمُ الغيب أي: يأمر بالنفخ فيه، كقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 3637] أي يُسَبِّحُه، ومثله أيضاً قول الآخر: 195 - 7-

ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائح أي: مَنْ يَبْكيه؟ فقيل: ضارع، أي: يبكيه ضارع ومثله:» وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قَتْلُ أولادِهم شركاؤُهم «في قراءة مَنْ بني» زُيِّن «للمفعول ورفع» قَتْلُ «و» شركاؤهم «كأنه قيل: مَنْ زيَّنه لهم؟ فقيل: زيَّنه شركاؤهم. والرفع على ما تقدَّم قراءة الجمهور، وقرأ الحسن البصري والأعمش:» عالمِ «بالجر وفيها ثلاثة أوجه، أحسنها: أنه بدل من الهاء في» له «الثاني: أنه بدل من» رب العالمين «وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه. الثالث: أنه نعت للهاء في» له «وهذا إنما يتمشَّى على رأي الكسائيّ حيث يجيز نعت المضمر بالغائب وهو ضعيفٌ عند البصريين والكوفيين غيرَ الكسائي.

74

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ} : «إذ» منصوبٌ بفعل محذوف أي: اذكر، وهو معطوفٌ على «أقيموا» قاله أبو البقاء. و «قال» في محل خفض بالظرف «. قوله: {آزَرَ} الجمهور: آزرَ بزنة آدم، مفتوح الزاي والراء، وإعرابه حينئذ على أوجه، أحدها: أنه بدل من» أبيه «أو عطف بيان له إن كان آزر لقباً له، وإن كان صفةً بمعنى المخطئ كما قال الزجاج، أو المعوجّ كما قاله الفراء، أو الشيخ الهرم كما قاله الضحاك، فيكون نعتاً ل» ابيه «أو حالاً منه بمعنى: وهو في حالة اعوجاج أو خطأ، ويُنْسَبُ للزجاج. وإن قيل: إن آزر

اسم صنم كان يعبده أبوه، فيكون إذ ذاك عطفَ بيان لأبيه أو بدلاً منه، ووجهُ ذلك أنه لما لازم عبادته نُبِزَ وصار لَقَباً له كما قال بعض المُحْدَثين. 195 - 8- أُدْعى بأسماءَ نَبْزاً في قبائِلها ... كأنَّ أسماءَ أَضْحَتْ بعضَ أسمائي كذا نسبه الزمخشري: إلى بعض المُحْدَثين، ونسبه الشيخ لبعض النحويين، قال الزمخشري:» كما نُبِزَ ابن قيس بالرُّقَيَّات اللاتي كان يشبِّبُ بهنَّ فقيل: ابن قيس الرُّقَيَّات «أو يكون على حذف مضاف أي: لأبيه عابد آزر، ثم حُذِفَ المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامَه، وعلى هذا فيكون عابد صفة لأبيه أُعْرِبَ هذا بإعرابه أو يكون منصوباً على الذمّ. وآزر ممنوع الصرف واختلف في علةِ مَنْعِه فقال الزمخشري:» والأقربُ أن يكون وزن آزر فاعَل كعابَر وشالَخ وفالَغ، فعلى هذا هو ممنوع للعلمية والعجمة. وقال أبو البقاء: «ووزنه أفعل ولم ينصرف للعجمة والتعريف على قول من لم يشتقَّه من الأزر أو الوزر، ومَن اشتقَّه من واحدٍ منهما قال: هو عربيٌّ ولم يَصْرِفْه للتعريف ووزن الفعل» وهذا الخلاف يشبه الخلاف في آدم، وقد تقدم ذلك وأن اختيار الزمخشري فيه أنه فاعلَ كعابَر، وما جرى على ذاك، وإذا قلنا بكونِه صفةً على ما قاله الزجاج بمنى المخطئ أو بمعنى المعوجّ أو بمعنى الهَرِم، كما قاله الفراء والضحاك فَيُشْكل مَنْعُ صرفِه، ويَشْكل ايضاً وقوعُه صفة للمعرفة.

وقد يُجاب عن الأول بأن الإِشكال يندفع بادِّعاء وزنه على أَفْعَل فيمتنع حينئذ للوزن والصفة كأحمر وبابه، وأمَّا على قول الزمخشري فلا يتمشَّى ذلك، وعن الثاني بأنه لا نُسَلِّم أنه نعت ل «أبيه» حتى يلزم وصفُ المعارف بالنكرات بل هو منصوبٌ على الذم أو أنه على نية الألف واللام، قالهما الزجاج والثاني ضعيف، لأنَّ حذف أل وإرادة معناها إمَّا أن يؤثر مَنْعَ صرف [كما] في «سحر» ليوم بعينه ويسمَّى عَدْلاً، وإمَّا أن يؤثر بناءً ويسمى تضمُّناً كأمس، وفي سحر وأمس كلامٌ طويلٌ ليس هذا مقامه، ولا يمكن أن يقال إن «آزَر» امتنع من الصرف كما امتنع «سحر» أي للعدل عن أل، لأن العدلَ يُمْنع فيه مع التعريف، فإنه لوقتٍ بعينه، بخلاف هذا فإنه وصفٌ كما قرضتم. وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب وعبد الله بن عباس والحسن ومجاهد في آخرين بضمِّ الراء على أنه منادى حُذِفَ حرفُ ندائِه كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ} [يوسف: 29] وكقوله: 195 - 9- ليُبْك يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في أحد الوجهين أي: يا يزيد، ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ: يا آزر بإثبات حرفه، وهذا إنما يَتَمشَّى على دعوى أنه عَلَم، وأمَّا على دعوى وصفيَِّتِه فيضعف؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ النداء يَقِلُّ فيها كقولهم: «افتدِ مخنوقُ» و «صاحِ شَمِّرْ» وقرأ ابن عباس في روايةٍ: «أَأَزْراً تتخذ» بهمزتين مفتوحتين وزاي ساكنة

وراء منونة منصوبة، «تتخذ» بدون همزة استفهام، ولمَّا حكى الزمخشري هذه القراءة لم يُسْقط همزة الاستفهام من «أتتخذ» فأم‍َّا على القراءة الأولى فقال ابن عطية مفسراً لمعناها: «أعضداً وقوة ومظاهرةً على الله تتخذ، وهو من قوله {اشدد بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] انتهى. وعلى هذا فيحتمل» أزراً «أن ينتصب من ثلاثة اوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله، و» اصناماً آلهة «منصوب بتتخذ على ما سيأتي بيانه، والمعنى أتَّتخذ أصناماً آلهةً لأجل القوة والمظاهرة. والثاني: أن ينتصبَ على الحال لأنها في الأصل صفةُ لأصناماً، فلما قُدِّمَتْ عليها وعلى عاملها انتصَبْت على الحال. والثالث: أنْ ينتصب على أنه مفعول ثان قُدِّم على عامله، والأصل: أتتخذ أصناماً آلهة أزْراً أي قوة ومظاهرة. وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقال الزمخشري:» هو اسم صنم ومعناه: أتعبد أزْراً، على الإِنكار، ثم قال: تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخلٌ في حكم الإِنكارِ لأنه كالبيان له «فعلى هذا» أزْراً «منصوب بفعل محذوف يدل عليه المعنى، ولكن قوله» وهو داخلٌ في حكم الإِنكار «يقوِّي أنه لم يُقرأ:» أَتَتَّخِذُ «بهمزة الاستفهام لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاً بالإِنكار، ولم يحتج أن يقول: هو داخلٌ في حكمِ الإِنكارِ لأنه كالبيان له. وقرأ ابن عباس ايضاً وأبو إسماعيل الشامي:» أَإزراً «بهمزة استفهام بعدها همزةٌ مكسورة ونصب الراء منونةً، فجعلها ابن عطية بدلاً من واو

اشتقاقاً من الوزر كإسادة وإشاح في: وسادة ووشاح. وقال أبو البقاء:» وفيه وجهان، أحدهما: أن الهمزة الثانية فاء الكلمة وليست بدلاً من شيء ومعناه الثقل «وجعله الزمخشري اسمَ صنم، والكلامُ فيه كالكلام في» أزراً «المفتوح الهمزة وقد تقدم. وقرأ الأعمش:» إزْراً تَتَّخِذُ «بدون همزةِ استفهام، ولكن بكسر الهمزة وسكونِ الزاي ونصب الراء منونة، ونصبُه واضح مما تقدم، و» تتخذ «يُحتمل أن تكونَ المتعدية لاثنين بمعنى التصييرية، وأن تكون المتعديةَ لواحدٍ لأنَّها بمعنى عمل، ويحكى في التفسير أن أباه كان ينحتها ويصنعها، والجملة الاستفهامية في محل نصب بالقول، وكذلك قوله {إني أَرَاكَ} و» أراك «يحتمل أن تكون العِلْميَّة وهو الظاهر فتتعدَّى لاثنين وأن تكون بصرية وليس بذاك، ف» في ضلال «حالٌ، وعلى كلا التقديرين يتعلَّق بمحذف إلا أنه في الأول أحدُ جُزْأَي الكلام، وفي الثاني فَضْلة. و «مبين» اسم فاعل من «أبان» لازماً بمعنى ظهر، ويجوز أن يكون من المتعدِّي والمفعول محذوف، أي: مبين كفرُكم بخالقكم، وعلى هذا فقولُ ابن عطية «وليس بالفعلِ المتعدِّي المنقول من بان يبين» غيرُ مُسَلَّم، وجعلَ الضلالَ ظرفاً محيطاً بهم مبالغةً في اتِّصافهم به فهو أبلغُ مِنْ قوله «أراكم ضالين» .

75

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} : في هذه الكاف ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها للتشبيه، وهي في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، فقَدَّره الزمخشري: «ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرِّفُ إبراهيم ونبصره ملكوت» وقدَّره المهدوي: «وكما هديناك يا محمد أرينا إبراهيم» . قال الشيخ: «وهذا بعيد من دلالة اللفظ» قلت: إنما كان بعيداً لأن المحذوف من غير الملفوظ به ولو قدَّره بقوله: «وكما أَرَيْناك يا محمد الهداية» لكان قريباً لدلالة اللفظ والمعنى معاً عليه. وقدَّره أبو البقاء بوجهين، أحدهما: قال «هو نصب على إضمار أريناه، تقديرُه: وكما رأى أباه وقومه في ضلال مبينٍ أريناه ذلك، أي: ما رآه صواباً بإطلاعنا إياه عليه. والثاني قال:» ويجوز أن يكون منصوباً ب «نُري» التي بعده على أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوف تقديره: نريه ملكوت السماوات والأرض رؤية كرؤية ضلال أبيه «انتهى. قلت: فقوله» على إضمار أريناه «لا حاجةَ إليه البتة ولأنَّه يقتضي عدمَ ارتباط قوله» نُري إبراهيم ملكوت «بما قبله. الثاني: أنها للتعليل بمعنى اللام أي: ولذلك الإِنكارِ الصادرِ منه عليهم، والدعاءِ إلى الله في زمن كان يُدْعَى فيه غير الله آلهة نريه ملكوت. الثالث: أن الكاف في محل رفع على خبر ابتداء مضمر أي: والأمر كذلك أي: ما رآه من ضلالتهم، نقل الوجهين الأخيرين أبو البقاء وغيره. » ونُري «هذا مضارعٌ، والمراد به حكاية حال ماضية، ونري يحتمل أن تكون المتعدِّية لاثنين، لأنها في الأصل بَصَريَّة، فأكسَبَتْها همزةُ النقل معفولاً ثانياً، وجعلها ابن عطية منقولة مِنْ رأى بمعنى عرف، وكذلك

الزمخشري فإنه قال فيما قدَّمت/ حكايته عنه» ومثل ذلك التعريف نعرِّف «. قال الشيخ بعد حكايته كلام ابن عطية:» ويَحْتاج كونُ «رأى» بمعنى عرف ثم يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى نَقْلِ ذلك عن العرب، والذي نقل النحويون أن «رأى» إذا كانت بصَرية تعدَّتْ لمفعول، وإذا كانت بمعنى «علم» الناصبة لمفعولين تَعَدَّتْ إلى مفعولين «قلت: العجبُ كيف خَصَّ بالاعتراضِ ابنَ عطية دون أبي القاسم. وهذه الجملةُ المشتملةُ على التشبيه أو التعليل معترضة بين قوله» وإذ قال إبراهيم «مُنْكِراً على أبيه وقومه عبادة الأصنام وبين الاستدلال عليهم بوحدانية الله تعالى، ويجوز أن لا تكون معترضة إن قلنا إنَّ قولَه» فلمَّا «عطف على ما قبله وسيأتي. والمَلَكوت مصدر على فَعَلوت بمعنى الملك، وبُني على هذه الزنة، والزيادة للمبالغة وقد تقدَّم ذلك عند ذكر الطاغوت. والجمهور على مَلَكوت بفتح اللام، وقرأ أبو السَّمَّال بسكونها وهي لغةٌ.

76

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ} : يجوز أن تكون هذه الجملة نسقاً على قوله {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} عطفاً للتدليل على مدلوله، فيكون {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ} معترضاً كما تقدم، ويجوز أن تكونَ معطوفةً على الجملة من قوله {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ} قال ابن عطية: «الفاءُ في قوله:» فلمَّا «رابطةٌ جملةَ ما بعدها بما قبلها، وهي ترجِّحُ أن المرادَ بالملكوت التفصيل المذكور في هذه الآية» والأولُ أحسنُ وإليه نحا الزمخشري. وجَنَّ: سَتَر، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ عند ذِكْر {الجنة} [البقرة: 35] . وهنا خصوصيةٌ لذِكْر الفعل المسند إلى الليل يقال: جَنَّ عليه الليل وأجنّ عليه، بمعنى أظلم، فيُستعمل قاصراً، وجنَّه وأجنّه فيُستعمل متعدياً فهذا مما اتَّفق فيه فَعَل وأَفْعَل لزوماً وتعدِّياً، إلا أن الأجود في الاستعمال: جنَّ عليه الليل وأجنَّه الليل فيكون الثلاثي لازماً، وأفعل متعدياً، ومن مجيء الثلاثي متعدياً قوله: 1961 - ... وماءٍ وَرَدَتْ قُبَيْلَ الكَرَى وقد جَنَّه السَّدَفُ الأدهَمُ ... ومصدره جَنٌّ وجَنان وجُنون، وفرَّق الراغب بين جَنَّه وأَجَنَّه، فقال: «جنَّه إذا ستره، وأجنَّه جعل له ما يَجُنُّه كقولك: قَبَرْتُه وأقبرته وسَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه» وقد تقدَّم لك شيء من هذا عند ذِكْرِ حزن وأحزن، ويُحتمل أن يكون «جنَّ»

في الآية الكريمة متعدياً حذف المفعول منه تقديره: جنَّ عليه الأشياءَ والمبصرات. قوله: «رأى كوكباً» هذا جواب «لمَّا» ، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين خلاف كبير بالنسبة إلى الإِمالة وعدمها فلأذكرْ ذلك ملخِّصاً له وذاكراً لعلله فأقول: أمَّا «رأى» الثابت الألف فأمال راءه وهمزته إمالةً محضة الأخوان وأبو بكر عن عاصم وابن ذكوان عن ابن عامر، وأمال الهمزةَ منه فقط دون الراءِ أبو عمرو بكماله، وأمال السُّوسي بخلاف عنه عن أبي عمرو الراء أيضاً، فالسوسي في أحد وجهيه يوافق الجماعة المتقدمين، وأمال ورش الراء والهمزة بين بين من هذا الحرفِ حيث وقع هذا كلُّه ما لم يتصل به ضمير نحو ما تقدم، فأمَّا إذا/ اتصل به ضمير نحو {فَرَآهُ فِي سَوَآءِ} [الصافات: 55] {فَلَمَّا رَآهَا} [النمل: 10] {وَإِذَا رَآكَ الذين} [الأنبياء: 36] فابن ذكوان عنه وجهان، والباقون على أصولهم المتقدمة. وأما «رأى» إذا حذفت ألفه فهو على قسمين: قسمٍ لا تعود فيه البتةَ لا وَصْلاً ولا وقفاً نحو: {رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ} [الفرقان: 12] {رَأَوُاْ العذاب} [يونس: 54] فلا إمالة في شيء منه، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو: {رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإِنسان: 20] ، وقسمٍ حُذِفَتْ ألفُه لالتقاء السَّاكنين وَصْلاً، وتعود وقفاً نحو: {رَأَى القمر} [الأنعام: 77] {رَأَى الشمس} [الأنعام: 78] {وَرَأَى المجرمون النار} [الكهف: 53] {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ} [النحل: 85] فهذا فيه

خلافٌ أيضاً بين أهلِ الإِمالة اعتباراً باللفظ تارةً وبالأصل أخرى، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو بكر عن عاصم والسوسي بخلافٍ عنه وحده. وأمَّا الهمزة فأمالها مع الراء أبو بكر والسوسي بخلافٍ عنهما. هذا كله إذا وصلْتَ، أمَّا إذا وَقَفْتَ فإنَّ الألفَ ترجع لعدم المقتضي لحَذْفِها، وحكمُ هذا الفعلِ حينئذٍ حكمُ ما لم يتصل به ساكن فيعود فيه التفصيل المتقدم، كما إذا وقفت على رأى مِنْ نحو: {رَأَى القمر} [الأنعام: 77] . فأمَّا إمالة الراء من «رأى» فلإٍِتباعها لإِمالةِ الهمزة، هكذا عبارتهم، وفي الحقيقة الإِمالة إنما هي للألف لانقلابها عن الياء، والإِمالة كما عَرَفْتَ أن تنحى بالألف نحو الياء، وبالفتحة قبلها نحو الكسرة، فمن ثَمَّ صَحَّ أن يقال: أُميلَتْ الراءُ لإِمالة الهمزة. وأمَّا تفصيل ابنِ ذكوان بالنسبة إلى اتصاله بالضمير وعدمه فوجهُه أنَّ الفعلَ لمَّا اتصل بالضمير بَعُدَتْ ألفُه مِنَ الطرف فلم تُمَلْ، ووجهُ مَنْ أمال الهمزةَ في «رأى القمرَ» مراعاةُ الألف وإن كانت محذوفةً إذ حَذْفُها عارضٌ، ثم منهم مَنْ اقتصر على إمالة الهمزة لأنَّ اعتبارَ وجودِها ضعيف، ومنهم مَنْ لم يَقْتصر إعطاءً لها حكمَ الموجودةِ حقيقةً فأتبع الراء للهمزة في ذلك. والكَوْكَبُ: النجم، ويقال فيه كَوْكبة، وقال الراغب: «لا يقال فيه أي في النجم كوكب إلا عند ظهوره» . وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه من مادة «وكب» فتكون الكافُ زائدة، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني، قال رحمه الله: «حَقُّ كوكب أن يُذكر في مادة» وَكب «عند حُذَّاق

النحويين فإنها وَرَدَتْ بكافٍ زائدة عندهم، إلا أنَّ الجوهريَّ أوردها في تركيب ك وك ب، ولعله تبع في ذلك الليثَ فإنه ذكره في الرباعي، ذاهباً إلى أن الواو أصلية، فهذا تصريحٌ من الصَّغاني بزيادة الكاف، وزيادةُ الكاف عند النحويين لا تجوز، وحروفُ الزيادة محصورةٌ في تلك العشرة. فأمَّا قولُهم» هِنْدِيٌّ وهِنْدِكيّ «بمعنى واحد وهو المنسوبُ إلى الهند، وقول الشاعر: 1962 - ومُقْرَبةٍ دُهْمٍ وكُمْتٍ كأنَّها ... طَماطِمُ من فوق الوفازِ هَنادِكُ فظاهره زيادة الكاف، ولكن خَرَّجها النحويون على أنه من باب سَبْط وسِبَطْر أي مما جاء فيه لفظان أحدهما أطول من الآخر وليس بأصلٍ له، فكما لا يقال الراء زائدة باتفاق، كذلك هذه الكاف، ولذلك قال الشيخ،» وليت شعري: مِنْ حُذَّاق النحويين الذين يرون زيادتها لا سيما أول الكلمة «والثاني: أن الكلمة كلها أصول رباعية، مما كُرِّرَتْ فيها الفاء فوزنها فَعْفَل ك» فَوْفَل «وهو بناءٌ قليل. والثالث: ساق الراغب أنه من مادة: كبَّ وكَبْكب فإنه قال:» والكَبْكَبَةُ تدهور الشيء في هُوَّة يقال: كَبَّ وكَبْكَبَ نحو: كفَّ وكَفْكَفَ، وصَرَّ الريحُ وصرصر، والكواكب النجوم البادية «فظاهر هذا السياق أن الواو زائدة والكاف بدل من إحدى الياءين وهذا غريبُ جداً. قوله: «قال هذا ربِّي» في «قال» ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنه استئنافٌ

أخبر بذلك القولِ أو استفهم عنه على حسب الخلاف. والثاني: أنه نعت ل «كوكباً» فيكون في محل نصب، وكيف يكون نعتاً ل «كوكباً» ولا يساعد من حيث الصناعةُ ولا من حيث المعنى؟ أمَّا الصناعةُ فلعدمِ الضميرِ العائد من الجملة الواقعة صفةً إلى موصوفها، ولا يقال: إن الرابطَ حصل باسم الإِشارة لأنَّ ذلك خاص بباب المبتدأ والخبر، ولذلك يكثر حذف العائد من الصفة ويقلُّ من الخبر، فلا يلزمُ مِنْ جواز شيء في هذا جوازُه في ذلك، وادِّعاء حذفِ ضميرٍ بعيدٌ، أي: قال فيه: هذا ربي. وأمَّا المعنى فلا يؤدي إلى أن التقدير: رأى كوكباً متصفاً بهذا القول، وذلك غير مراد قطعاً. والثالث: أنه جواب «فلما جَنَّ، وعلى هذا فيكون قوله» رأى كوكباً «في محلِّ نصب على الحال أي: فلمَّا جَنَّ عليه الليل رائياً كوكباً. و» هذا ربي «محكيٌّ بالقول، فقيل: هو خبرٌ مَحْضٌ بتأويلٍ ذكره أهل التفسير، وقيل: بل هو على حذف همزة الاستفهام أي: أهذا ربي، وأنشدوا: 1963 - لعَمْرَك ما أدري وإن كنتُ داريا ... بسبعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمان وقوله: 1964 - أفرحُ أن أُرْزَأ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شصائِصاً نَبْلا وقوله: 1975 - ... طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ ولا لَعِباً مني وذو الشيب يلعبُ ...

وقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيّ} [الشعراء: 13] قالوا: تقديره: أبسبع، وأأفرح، وأذو، وأتلك. قال ابن الأنباري:» وهذا لا يجوز إلا حيث يكون ثَمَّ فاصلٌ بين الخبر والاستفهام، يعني إنْ دلَّ دليل لفظي كوجود «أم» في البيت الأول بخلاف ما بعده. والأًُفول: الغَيْبَةُ والذهاب، يقال: أَفَلَ يأفُل أُفولاً، قال ذو الرمَّة: 1966 - ... مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودُها نجومٌ ولا بالآفلاتِ شُموسُها ... والإِفَالُ: صغارُ الغنم، والأَفيل: الفصيل الضئيل.

77

قوله تعالى: {بَازِغاً} : حال من القمر. والبزوغ: الطلوع، يقال: بَزَغَ بفتح الزاي يبزُغ بضمِّها بُزوغاً، ويستعمل قاصراً ومتعدياً، يقال: بَزَغ البَيْطار الدابَّة أي: أسال دَمَهَا فَبَزَغ هو أي: سال، هذا هو الأصل، ثم قيل لكل طُلوع: بُزوغ، ومنه: بَزَغَ ناب الصبي والبعير تشبيهاً بذلك، والقمرُ معروفٌ، سُمِّي بذلك لبياضه وانتشار ضوئه، والأقمر: الحمار الذي على لون الليلة القمراء، والقَمْراء ضوء القمر، وقيل: سُمِّي قمراً لأنه يَقْمُر ضوء الكواكب ويفوز به، والليالي القُمْر: ليالي تَدَوُّرِ القمر وهي الليالي البيض، لأن ضوء القمر يستمرُّ فيها إلى الصباح، قيل: ولا يُقال له قمر إلا بعد امتلائه في ثالث ليلة وقبلها هلال، على خلاف بين أهل اللغة قَدَّمُتْه في البقرة عند قوله {عَنِ الأهلة} [البقرة: 189] ، فإذا بلغ بعد العشر ثالثَ ليلةٍ قيل له «بدر» إلى خامسَ عشر، ويقال: قَمِرْتُ فلاناً كذا اي خَدَعته عنه، وكأنه مأخوذ من قَمِرَتْ القِرْبَةُ فَسَدَت بالقَمْراء.

78

قوله تعالى: {هذا رَبِّي} : إنما ذكَّر اسم الإِشارة والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه: إمَّا ذهاباً بها مذهب الكوكب، وإمَّا ذهابها مذهب الضوء والنور، وإمَّا بتأويل الطالع أو الشخص أو الشيء، أو لأنه لمَّا أخبر عنها بمذكر أُعْطِيَتْ حكمه، تقول: هند ذاك الإِنسان وتِيْكَ الإِنسان، قال: 1967 - تبيت نُعْمَى على الهِجْران غائبةً ... سُقْياً ورُعْياً لذاك الغائبِ الزاري فأشار إلى «نُعمى» وهي مؤنث إشارةَ المذكر لوَصْفِها بوَصْف الذكور أو لأن فيها لغتين التذكير والتأنيث، وإنْ كان الأكثرُ التأنيثَ فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فأنَّثَ في قوله «بازغة» وذكَّر في قوله «هذا» . وقال الزمخشري: «جَعَل المبتدأَ مثلَ الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومَنْ كانت أمك، و {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] وكان اختيارُ هذه الطريقة واجباً لصيانة الربِّ عن شبهة التأنيث، ألا تراهم قالوا في صفة الله: عَلاَّم، ولم يقولوا عَلاَّمة، وإن كان أبلغَ، احترازاً من علامة التأنيث» . قلت: هذا قريبٌ مما تقدَّم في قولي: إن المؤنث إذا أُخبر عنه بمذكر عومل معاملة المذكر نحو: «هند ذاك الإِنسان» . وقيل: لأنها بمعنى هذا النيِّر أو المرئيُّ. قال الشيخ: «ويمكن أن يُقال: إن أكثر لغةِ الأعاجم لا يُفَرِّقون في

الضمائر ولا في الإِشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث، بل المذكر والمؤنث سواء، فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلامَ إبراهيم بما يُشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنث بفَرْجٍ لم يكن له عَلامَةٌ تَدُلُّ عليه في كلامهم، وحين أخبر تعالى عنهم بقوله» بازغة «و» أَفَلتْ «أَتَتْ على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية» انتهى. وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بعينه في لغتهم، أمَّا شيءٌ يُعَبَّر عنه بلغة العرب ويُعطَى حكمَه في لغة العجم فهو محلُّ نظر. قوله: «مِمَّا يُشْرِكون» «ما» مصدرية أي: بريء من إشراككم أو موصولةٌ أي: من الذين يشركونه مع الله في عبادته، فحذف العائد، ويجوز أن تكونَ الموصوفة، والعائدُ أيضاً محذوف، إلا أنَّ حذف عائد الصفة أقلُّ من حذف عائد الصلة، فالجملةُ بعدها لا محلَّ لها على القولين الأوَّلَيْن، ومحلُّها الجر على الثالث.

79

قوله تعالى: {لِلَّذِي فَطَرَ} : قدَّروا قبله مضافاً أي: وجَّهْتُ وجهي لعبادته ولرضاه، كأنهم نَفَوْا بذلك وَهْمَ مَنْ يَتَوَهَّم الجهة. و «حنيفاً» حال من فاعل «وَجَّهْتُ» ، وقد تقدَّم تفسيرُ هذه الألفاظِ، و «ما» يُحتمل أن تكون الحجازيةَ، وأن تكون التميمية.

80

قوله تعالى: {أتحاجواني} : قرأ نافع وابن ذكوان وهشام بخلافٍ عنه بنون خفيفة، والباقون بنون ثقيلة، والتثقيلُ هو الأصل؛ لأن النون الأولى نون الرفع في الأمثلة الخمسة، والثانية نون الوقاية، فاسْتُثْقِل اجتماعهما،

وفيها لغات ثلاث: الفكُّ وتركهما على حالهما، والإِدغام، والحذف، وقد قرء بهذه اللغات كلها في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] ، وهنا لم تقرأ إلا بالحذف أو الإِدغام، وفي سورة الحجر: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] ، كذلك، فقراءة ابن كثير بالإِدغام ونافع بالحذف، والباقون يفتحون النون لأنها عندهم نون رفع، وفي سورة النحل: {تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] ، يُقرأ بفتح النون عند الجمهور لأنها نونُ رفع، ويقرؤه نافع بنونٍ خفيفة مكسورةٍ على الحذف، فنافعٌ حَذَفَ إحدى النونين في جميع هذه المواضع التي ذكرتها لك، فإنه/ يقرأ في الزمر أيضاً بحذف إحداهما، وقوله تعالى: {أتعدانني} [الأحقاف: 17] ، قرأه هشام بالإِدغام، والباقون بالإِظهار دون الحذف. واختلف النحاةُ في أيَّتهما المحذوفة: فمذهب سيبويه ومَنْ تبعه أن المحذوفةَ هي الأُولى، ومذهب الأخفش ومَنْ تبعه أن المحذوفة هي الثانية، استدلَّ سيبويه على ذلك بأنَّ نونَ الرفع قد عُهِد حَذْفُها دون ملاقاة مِثْلٍ رفعاً، وأُنْشِد: 1968 - فإنْ يكُ قومٌ سَرَّهمْ ما صنعتُمُ ... سَتَحْتَلبوها لاقِحاً غير باهِلِ أي: فستحتلبونها، لا يقال إن النون حُذِفَتْ جزماً في جواب الشرط؛ لأنَّ الفاء هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطاً، وإذا تقرَّر وجوبُ الفاء، وإنما حُذِفت ضرورةً ثبت أن نون الرفع كان مِنْ حقها الثبوت

إلا أنها حُذِفَتْ ضرورة، وأنشدوا أيضاً قوله: 1969 - أبيتُ أَسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكي ... وجهكِ بالعنبرِ والمِسْك الذكي أي: تبيتين وتَدْلُكين، وفي الحديث: «والذي نفسي بيده لا تَدْخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا» ف «لا» الداخلة على «تدخلوا» و «تؤمنوا» نافية لا ناهية، لفساد المعنى عليه، وإذا ثَبَتَ حَذْفُها دون ملاقاةِ «مثل» رَفْعاً فلأنْ تُحْذَفَ مع ملاقاة «مثل» استثقالاً بطريق الأَوْلى والأحرى، وأيضاً فإن النون نائبة عن الضمة، والضمةُ قد عُهِد حَذْفُها في فصيح الكلام كقراءةِ أبي عمرو: {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] و {يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] و {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] وبابِه بسكون آخر الفعل، وقوله: 1970 - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحقِبٍ ... إثماً من اللهِ ولا واغِلِ وإذا ثبت حَذْفُ الأصلِ فَلْيَثْبُتْ حَذْفُ الفرع لئلا يلزمَ تفضيل فرع على أصله، وأيضاً فإنَّ ادَّعاء حذف نون الرفع لا يُحْوِج إلى حذف آخر، وحذف نون الوقاية قد يحوج إلى ذلك، وبيانه أنه إذا دخل جازم أو ناصب على أحد هذه الأمثلة فلو كان المحذوف نون الوقاية لكان ينبغي أن تُحْذَفَ هذه النونُ لأنها نون رفع وهي تسقط للناصب والجازم، بخلاف ادِّعاءِ حَذْفِ نون الرفع، فإنه لا يحوج إلى ذلك لأنه لا عملَ له في التي للوقاية. ولقائلٍ أن يقول: لا يلزم من جواز حَذْفَ الأصل حَذْفُ الفرع، لأنَّ في

الأصل قوةً تقتضي جواز حذفه بخلاف الفرع، وعلى الآخر له أن يقول: هذا مُعارَضٌ بإلغاء العامل: وذلك أنه لو كان المحذوفُ نونَ الرفع لأجل نون الوقاية ودخل الجازم والناصب لم يجد له شيئاً يحذفه؛ لأن النون حُذِفت لعارض آخر. واستدلوا لسيبويه أيضاً بأن نون الوقاية مكسورة، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغييرٌ بخلاف ما لو ادَّعَيْنا حَذْفها فإنَّا يلزمنا تغييرُ نون الرفع من فتح إلى كسر، وتقليلُ العمل أولى، واستدلوا أيضاً بأنها قد حذفت مع مثلها وإن لم يكن نون وقاية كقوله: 1971 - كل له نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحبِهِ ... بنعمةِ الله نَقْلِيْكُمْ وتَقْلُونا أي: وتَقْلُوننا، فالمحذوفُ نونُ الرفع لا نونُ «ن» لأنها بعض ضمير، وعُورض هذا بأن نون الرفع أيضاً لها قوةٌ لدلالتها على الإِعراب، فَحَذْفُها أيضاً لا يجوز، وجعل سيبويه المحذوفةَ من قول الشاعر: 1972 - تراه كالثَّغامِ يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْني نونَ الفاعل لا نونَ الوقاية، واستدلَّ الأخفش بأنَّ الثقل إنما حصل بالثانية، ولأنه قد اسْتُغْنِي عنها، فإنه إنما أُتِيَ بها لتقِيَ الفعلَ من الكسر، وهو مأمونٌ لوقوع الكسر على نون الرفع، ولأنها لا تدلُّ على معنى بخلاف نون الرفع، وأيضاً فإنها تُحْذَفُ في نحو: ليتني فيقال: ليتي، كقوله: 1973 - كمُنْيَةِ جابر إذ قال ليتي ... أُصادِفُه وأُتْلِفُ بعضَ مالي واعلم أن حذف النون في هذا النحو جائز فصيح، ولا يُلتفت إلى قول

مَنْ مَنَع ذلك إلا في ضرورةٍ أو قليلٍ من الكلام، ولهذا عِيْبَ على مكي ابن أبي طالب حيث قال: «الحَذْفُ بعيدٌ في العربية قبيح مكروه، وإنما يجوز في الشعر للوزن، والقرآن لا يُحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه» . وتجاسر بعضهم فقال: «هذه القراءة أعني تخفيف النون لحنٌ» وهذان القولان مردودان عليهما لتواتر ذلك، وقد قَدَّمْتُ الدليل على صحته لغةً، وأيضاً فإن الثقاتِ نقلوا أنها لغةٌ ثابتةٌ للعرب وهم غطفان فلا معنى لإِنكارها. و «في الله» متعلِّقٌ ب «أتحاجُّوني» لا ب «حاجَّه» ، والمسألةُ من باب التنازع، وأعمل الثاني لأنه لما أضمر في الأول حذف، ولو أَعْمل الأول لأضْمر في الثاني من غير حذفٍ، ومثله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176] ، كذا قال الشيخ، وفيه نظر، من حيث/ إن المعنى ليس على تَسَلُّط «وَحَاجَّهُ» على قوله «في الله» ؛ إذ الظاهر انقطاعُ الجملة القولية ممَّا قبلها. وقوله «في الله» أي في شأنه ووحدانيته. قوله: «وَقَدْ هَدَاني» في محلِّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان أظهرهما: أنه التاء في «أتحاجونني» أي: أتجادلونني فيه حال كوني مَهْدِيّاً مِنْ عنده. والثاني: أنه حال من «الله» أي: أتخاصمونني فيه حال كونه هادياً لي، فحجَّتكم لا تُجْدي شيئاً لأنها داحضة. قوله: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} هذه الجملة يجوز أن تكونَ مستأنفة، أخبر عليه السلام بأنه لا يخاف ما تشركون به ربَّه ثقةً به، وكانوا قد خوَّفوه مِنْ ضررٍ يحصُل له بسبب سَبِّ آلهتهم، ويحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصبٍ على الحال باعتبارين أحدهما: أن تكونَ ثانيةً عطفاً على الأولى، فتكون الحالان

من الياء في «أتحاجونِّي» . والثاني: أنها حال من الياء في «هداني» فتكون جملةً حالية من بعض جملة حالية فهي قريبة من الحال المتداخلة، إلا أنه لا بد من إضمار مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع، لما تقدَّم من أن الفعل المضارع ب «لا» حكمُه حكمُ المثبت من حيث إنه لا تباشره الواو. و «ما» يجوز فيها الأوجه الثلاثة: أن تكونَ مصدريةً، وعلى هذا فالهاء في «به» لا تعود على «ما» عند الجمهور، بل تعود على الله تعالى، والتقدير: ولا أخاف إشراكَكم بالله، والمفعول محذوف أي: ما تشركون غير الله به، وأن تكون بمعنى الذي، وأن تكون نكرةً موصوفة، والهاء في «به» على هذين الوجهين تعود على «ما» ، والمعنى: ولا أخاف الذي تشركون الله به، فحذف المفعول أيضاً كما حذفه في الوجه الأول، وقدَّر أبو البقاء قبل الضمير مضافاً فقال: «ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على» ما «أي: ولا أخاف الذي تشركون بسببه» ، ولا حاجةَ إلى ذلك. قوله: «إلا أَنْ يشاء» في هذا الاستثناء قَوْلان، أظهرهما: أنه متصل، والثاني: أنه منقطع، والقائلون بالاتصال: اختلفوا في المستثنى منه، فجعله الزمخشري زماناً فقال: «إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف، فحذف الوقت، يعني: لا أخاف معبوداتِكم في وقتٍ قط؛ لأنها لا تقدر على منفعةٍ ولا مَضَرَّة إلا إذا شاء ربي» . وجَعَلَه أبو البقاء حالاً فقال: تقديره إلا في حال مشيئة ربي أي: لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال. وممَّن ذهب إلى انقطاعه ابن عطية والحوفي وأبو البقاء في أحد الوجهين، فقال الحوفي: «تقديره: لكن مشيئة الله إياي بضرٍّ أخاف» ، وقال ابن عطية: «استثناء ليس من الأول

ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه في أن يريده بضر. قوله:» شيئاً «يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب على المصدر تقديره: إلا أن يشاء ربي شيئاً من المشيئة، والثاني: أنه مفعول به ليشاء، وإنما كان الأولُ أظهرَ لوجهين، أحدهما: أن الكلام المؤكد أقوى وأثبتُ في النفس من غير المؤكد. والثاني: أنه قد تقدم أن مفعول المشيئة والإِرادة لا يُذْكران إلا إذا كان فيهما غرابة كقوله: 1974 - ولو شِئْتُ أَنْ أبكي دماً لبَكَيْتُه ... . . . . . . . . . . . . . . قوله: «عِلْماً» فيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب على التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن الفاعل تقديره: وَسِع علمُ ربي كلَّ شيء، كقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] . والثاني: أنه منصوبٌ على المفعول المطلق؛ لأن معنى وَسِعَ عَلِم. قال أبو البقاء: «لأنَّ ما يَسَعُ الشيء فقد أحاط به، والعالم بالشيء محيطٌ بعلمه» وهذا الذي ادَّعاه من المجاز بعيد. و «كل شيء» مفعول لوسع على كلا التقديرين. و «أفلا تتذكرون» جملة تقرير وتوبيخ، ولا محلَّ لها لاستئنافها.

81

قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ} : قد تقدَّم الكلام على «كيف» في أول البقرة، وهذه نظيرتها. و «ما» يجوز فيها ثلاثة الأوجه، أعني كونها موصولةً اسميةً أو نكرة موصوفة أو مصدرية، والعائد على الأوَّلين محذوف أي: ما أشركتموه بالله أو إشراككم بالله غيره. وقوله: «ولا تخافون» يجوز في هذه الجملة أن تكون نسقاً على «

أخاف» فتكون داخلةً في حَيِّز التعجب والإِنكار، وأن تكون حالية أي: وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين عاقبة إشراككم، / ولا بد من إضمارِ مبتدأ قبل المضارع المنفيِّ ب لا، لِما تقدم غيرَ مرة أي: كيف أخاف الذي تُشْركون أو يُخاف إشراككم حال كونكم آمنين مِنْ مَكْرِ الله الذي أَشْركتم به غيره. وهذه الجملةُ وإن لم يكن فيها رابطٌ يعود على ذي الحال لا يضرُّ ذلك لأن الواو بنفسها رابطةٌ، وانظر إلى حسن هذا النظم السويّ حيث جعل متعلق الخوف الواقع منه بالأصنام، ومُتَعَلَّق الخوف الواقع منهم إشراكهم بالله غيرَه تَرْكاً لأن يعادَلَ الباري تعالى بأصنامهم، لو أبرز التركيب على هذا فقال: «ولا تخافون الله» مقابلةً لقوله «وكيف أخاف معبودتكم» . وأتى ب «ما» في قوله «ما أشركتم» وفي قوله {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} لأنهم غير عقلاء، إذ هي جمادٌ أحجارٌ، وحيث كانوا ينحتونها ويعبدونها. قوله: «ما لم يُنَزِّلْ» مفعول ل «أَشْرَكْتُم» وهي موصولة اسمية أو نكرة، ولا تكون مصدرية لفساد المعنى، و «به» و «عليكم» متعلقان ب «يُنَزِّل» ، ويجوز في «عليكم» وجهٌ آخر: وهو أن يكون حالاً من «سلطاناً» لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكونَ صفةً. وقرأ الجمهور «سُلْطاناً» ساكنَ اللام حيث وقع. وقرئ بضمها، وقيل: هي لغة مستقلة فيثبت بها بناء «فُعُل» بضم الفاء والعين، أو هي إتباع حركةٍ لأخرى. وقوله: «فأيُّ الفريقين أحقُّ» لم يقل: أيُّنا أحقُّ نحن أم أنتم إلزاماً لخصمه بما يدَّعيه عليه، ولأنه لا يزكِّي القائلُ نفسه، وهذا بخلاف قول الآخر:

1975 - فلئِنْ لقيتُكَ خالِيَيْنِ لتعلمَنْ ... أيّي وأيُّك فارسُ الأحزابِ فللَّهِ فصاحةُ القرآن وآدابه. وقوله: «إن كنتم» جوابه محذوف، أي: فأخبروني، ومُتَعَلَّقُ العلم محذوف، ويجوز أَنْ لا يُرادَ له مفعولٌ أي: إن كنتم من ذوي العلم.

82

قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ} : هل هو من كلام إبراهيم أو من كلام قومه أو من كلام الله تعالى؟ ثلاثة أقوال للعلماء وعليها يترتب الإِعراب، فإن قلنا: إنها من كلام إبراهيم جواباً عن السؤال في قوله: «فأيُّ الفريقين» وكذا إن قلنا: إنها من كلام قومه، وأنهم أجابوا بما هو حجةٌ عليهم، كأن الموصولَ خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هم الذين آمنوا، وإن جَعَلْنَاهُ من كلام الله تعالى وأنه أَمَرَ نبيه بأن يجيب به السؤال المتقدم فكذلك أيضاً، وإنْ جَعَلْنَاهُ لمجرد الإِخبار من الباري تعالى كان الموصول مبتدأ، وفي خبره أوجه أحدها: أنه الجملة بعده فإن «أولئك» مبتدأ ثان، و «الأمن» مبتدأ ثالث، و «لهم» خبره، والجملة خبر «أولئك» و «أولئك» وخبره خبر الأول. الثاني: أن يكون «أولئك» بدلاً أو عطف بيان، و «لهم» خبر الموصول، و «الأمنُ» فاعلٌ به لاعتماده. الثالث: كذلك، إلا أنَّ «لهم» خبرٌ مقدم، و «الأمن» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الموصول. الرابع: أن يكون «أولئك» مبتدأ ثانياً، و «لهم» خبره و «الأمن» فاعل به، والجملة خبر الموصول. الخامس: وإليه ذهب أبو جعفر النحاس والحوفي أن «لهم الأمن» خبر الموصول، وأن «أولئك» فاصلة وهو غريب، لأن الفصل من شأن الضمائر لا من شأن أسماء الإِشارة، وأمَّا على قولنا بأن «الذين» خبر مبتدأ محذوف فيكون «أولئك» مبتدأً فقط، وخبره الجملة بعده أو الجارُّ وحده، و «الأمنُ» فاعلٌ به، والجملة الأولى على هذا منصوبة بقول مضمر أي: قل هم الذين آمنوا إن كانت من كلام

الخليل، أو قالوا هم الذين إن كانت من كلام قومه. وقوله «ولم يَلْبسوا» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنها معطوفة على الصلة فلا محلَّ لها حينئذٍ، والثاني: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها في محل نصب على الحال أي: آمنوا غير مُلْبِسين إيمانهم/ بظلم وهو كقوله تعالى: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] ولا يُلتفت إلى قول ابن عصفور حيث جعل وقوع الجملة المنفيَّة حالاً قليلاً، ولا إلى قول ابن خروف حيث جعل الواو واجبة الدخول على هذه الجملة وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال. والجمهور على «يَلْبِسُوا» بفتح الياء بمعنى يَخْلطونه، وقرأ عكرمة بضمها من الإِلباس. «وهم مهتدون» يجوز استئنافها وحاليتها.

83

قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ} : «تلك» إشارة إلى الدلائل المتقدمة في قوله: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 75] إلى قوله: {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 79] . ويجوز في «حُجَّتنا» وجهان، أحدهما: أن يكون خبر المبتدأ وفي «آتيناها» حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإِشارة، ويدل على ذلك التصريحُ بوقوع الحال في نظيرتها كقوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] . والثاني: أنه في محل رفع على أنه خبرٌ ثانٍ أخبر عنها بخبرين، أحدهما مفرد والآخر جملة. والثاني من الوجهين الأولين: أن تكون «حُجَّتنا» بدلاً أو بياناً لتلك، والخبر الجملة الفعلية. وقال الحوفي: «إن الجملة مِنْ» آتَيْناها «في موضع النعت ل» حُجَّتنا «على نية الانفصال، إذ التقدير: حجة لنا» ، يعني الانفصال من الإِضافة

ليحصُلَ التنكيرُ المسوِّغُ لوقوعِ الجملة صفةً لحُجَّتنا، وهذا لا ينبغي أن يقال، وقال أيضاً: «إن» إبراهيم «مفعول ثان لآتيناها، والمفعول الأول هو» ها «، وقد قدَّمْتُ لك في أوائل البقرة أن هذا مذهب السهيلي عند قوله {آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} [البقرة: 53] ، وأنَّ مذهبَ الجمهورِ أن تَجْعل الأولَ ما كان عاقلاً والثاني غيرَه، ولا تبالي بتقديمٍ ولا تأخير. قوله:» على قومه «فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ ب» آتينا «قاله ابن عطية والحوفي أي: أظهرناها لإِبراهيم على قومه. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال أي: آتيناها إبراهيم حجةً على قومه أو دليلاً على قومه، كذا قدَّره أبو البقاء، ويلزم من هذا التقدير أن تكون حالاً مؤكدة، إذ التقدير: وتلك حُجَّتنا آتيناها له حجةً. وقدَّرها الشيخ على حذف مضاف فقال:» أي آتيناها إبراهيم مستعليةً على حجج قومه قاهرة لها «وهذا حسن. ومنع أبو البقاء أن تكون متعلِّقةً بحجتنا قال:» لأنها مصدر، وآتيناها خبر أو حال، وكلاهما لا يُفْصل به بين الموصول وصلته «. ومنع الشيخ ذلك أيضاً، ولكن لكون الحجَّة ليست مصدراً قال:» إنما هو الكلام المُؤَلَّفُ للاستدلال على الشيء «ثم قال:» ولو جعلناها مصدراً لم يجز ذلك أيضاً، لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه. وفي مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء ذلك نظرٌ، لأنَّ الحال

وإن كانَتْ جملةً ليسَتْ أجنبيةً حتى يُمْنَعَ الفصل بها لأنها من جملة مطلوبات المصدر، وقد تقدَّم لي نظيرُ ذلك بأشبع من هذا. قوله: «نرفع» فيه وجهان الظاهر منهما: أنها مستأنفة لا محل لها من الإِعراب. الثاني: جوَّزه أبو البقاء وبدأ به أنها في موضع الحال من «آتيناها» يعني من فاعل «آتيناها» ، أي: في حال كوننا رافعين، ولا تكون حالاً من المفعول إذ لا ضمير فيها يعود إليه. ويُقْرأ «نرفع» بنون العظمة وبياء الغيبة، وكذلك «يشاء» . وقرأ أهل الكوفة «درجات» بالتنوين وكذا التي في يوسف، والباقون بالإِضافة فيهما، فقراءة الكوفيين يحتمل نَصْبُ «درجات» فيها من خمسة أوجه أحدها: أنها منصوبةٌ على الظرف و «مَنْ» مفعول «نرفع» أي: نرفع مَنْ نشاء مراتب ومنازل. والثاني: أن ينتصبَ على أنه مفعول ثان قُدِّم على الأول، وذلك يحتاج إلى تضمين «نرفع» معنى فعلٍ يتعدَّى لاثنين وهو «يُعْطي» مثلاً، أي: نعطي بالرفع مَنْ نشاء درجات أي: رُتَباً، والدرجات هي المرفوعة كقوله: {رَفِيعُ الدرجات} [غافر: 15] وفي الحديث: «اللهم ارفع درجته في عليين» فإذا رُفعت الدرجةُ فقد رُفِعَ صاحبها. والثالث: أن ينتصب على حذف حرف الجر أي: إلى منازل وإلى درجات. الرابع: أن ينتصبَ على التمييز، ويكون منقولاً من المفعولية، فيؤول إلى قراءة الجماعة إذ الأصل: {نَرْفَعُ

دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} بالإِضافة ثم حُوِّل كقوله: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] أي: عيون الأرض. الخامس: أنها منتصبةٌ على الحال وذلك على حذف مضاف أي: ذوي درجات. ويشهد لهذه القراءةِ قولُه تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ} [الزخرف: 32] {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى} [البقرة: 253] . وأمَّا قراءة الجماعة: فدرجات مفعول «نرفع» ، والخطاب في «إنَّ ربك» للرسول محمد عليه السلام، وقيل: لإِبراهيم الخليل، فعلى هذا يكون فيه التفات من الغَيْبة إلى الخطاب مُنَبِّهاً بذلك على تشريفه له.

84

قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا} : فيها وجهان، الصحيح منهما: أنها معطوفة على الجملة الاسمية من قوله/ «وتلك حُجَّتنا» وعَطْفُ الاسمية على الفعلية وعكسه جائز. والثاني: أجازه ابن عطية وهو أن يكون نسقاً على «آتيناها» ، ورَدَّهُ الشيخ بأنَّ «آتيناها» لها محل من الإِعراب: إما الخبر، وإمَّا الحال، وهذه لا محل لها لأنها لو كانَتْ معطوفةً على الخبر أو الحال لاشترط فيها رابط. و «كلاً» منصوب ب «هَدَيْنا» بعده، والتقدير: وكل واحد من هؤلاء المذكورين. قوله: «ومن ذريَّته» الهاء في «ذريته» فيها وجهان، أحدهما: أنها تعود على نوح لأنه أقرب مذكور، ولأن إبراهيم ومَنْ بعده من الأنبياء كلِّهم منسوبون إليه. والثاني أنه يعود على إبراهيم لأنه المحدَّث عنه والقصة مسوقة لذكره وخبره، ولكن رُدَّ هذا القول بكون لوطٍ ليس من ذريته

إنما هو ابن أخيه أو أخته، ذكر ذلك مكي وغيره. وقد أجيب عن ذلك فقال ابن عباس: «هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان فيهم مَنْ لم يلحقه بولادةٍ من قبِل أمٍّ ولا أبٍ لأن لوطاً ابن أخي إبراهيم، والعرب تجعل العم أباً» . وقال أبو سليمان الدمشقي: «ووهبنا له لوطاً» في المعاضدة والمناصرة «فعلى هذا يكون» لوطاً «منصوباً ب» وهبنا «من غير قيد بكونه مِنْ ذريته، وقوله» داود «وما عُطِفَ عليه منصوب: إمَّا بفعل الهبة وإمَّا بفعل الهداية. و» مِنْ ذريته «يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بذلك الفعل المحذوف، وتكون» مِنْ «لابتداء الغاية. والثاني: أنها حال أي: حال كونِ هؤلاء الأنبياء منسوبين إليه.» وكذلك نجزي « [الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف أي: نجزيهم جزاء مثل ذلك الجزاء، ويجوز أن يكون في محل رفع أي: الأمر كذلك] ، وقد تقدَّم ذلك في قوله {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 75] .

86

قوله: «واليَسَع» قرأ الجمهور: «الْيَسَعَ» بلام واحدة وفتح الياء بعدها، وقرأ الأخوان: اللَّيْسَع، بلامٍ مشدَّدة وياء ساكنة بعدها، فقراءةُ الجمهور فيها تأويلان، أحدهما: أنه منقولٌ من فعل مضارع، والأصل: يَوْسَع كيَوْعِد، فوقعت الواو بين ياء وكسرة تقديرية، لأن الفتحة إنما جيء بها لأجل حرف الحلق فحُذِفَتْ لحَذْفها في يَضَع ويَدَع ويَهَب وبابه، ثم سُمِّي به مجرداً عن

ضمير، وزيدت فيه الألف واللام على حَدِّ زيادتها في قوله: 1976 - رأيت الوليدَ بنَ اليزيد مبارَكاً ... شديداً بأعباءِ الخلافةِ كاهِلُهْ وكقوله: 1977 - باعَدَ أمَّ العمروِ من أسيرِها ... حُرَّاسُ أبوابٍ على قصورِها وقيل: الألف واللام فيه للتعريف كأنه قدَّر تنكيره. والثاني: أنه اسمٌ أعجمي لا اشتقاق له، لأن اليسع يقال له يوشع بن نون فتى موسى، فالألفُ واللام فيه زائدتان أو مُعَرِّفتان كما تقدَّم قبل ذلك، وهل «أل» لازمةٌ له على تقدير زيادتها؟ فقال الفارسي: إنها لازمة شذوذاً كلزومها في «الآن» وقال ابن مالك: «ما قارنت الأداة نَقْلَه كالنصر والنعمان، أو ارتجاله كاليسع والسموءل فإنَّ الأغلب ثبوتُ أل فيه، وقد تُحْذف» . وأمَّا قراءةُ الأخوين فأصله لَيْسَع ك ضَيْغَم وَصَيْرَف وهو اسم أعجمي، ودخولُ الألفِ واللام فيه على الوجهين المتقدمين. واختار أبو عبيد قراءة التخفيف فقال: «سمعنا اسم هذا النبيّ في جميع الأحاديث: اليسع، ولم يُسَمِّه أحدٌ منهم اللَّيْسع» وهذا لا حجةَ فيه لأنه روي اللفظ بأحد لغتيه، وإنما آثروا الرواة هذه اللفظة لخفتها لا لعدم صحة الأخرى. وقال الفراء

في قراءة التشديد: «هي أشبه بأسماء العجم» . وقد تَقَدَّم أنَّ في نون «يونس» ثلاثَ لغات وكذلك في سين يوسف. قوله: «وكلاَّ فَضَّلْنا» كقوله: «كلاًّ هَدَيْنَا» .

87

قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بذلك الفعلِ المقدَّر أي: وهَدَيْنا من آبائهم، أو فَضَّلْنا من آبائهم، و «مِنْ» تبعيضية. قال ابن عطية: «وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات» . ف «مِنْ» للتبعيض والمفعول محذوف. الثاني: أنه معطوف على «كلاًّ» أي: وفضَّلنا بعض آبائهم. وقَدَّر أبو البقاء هذا الوجهَ بقوله: «وفَضَّلنا كلاً من آبائهم [أو] وهَدَيْنا كلاً مِنْ آبائهم» . وقوله: «واجتَبَيْناهم» يجوز أن يعطف على «فَضَّلنا» ، ويجوز أن يكون مستأنفاً وكرَّر لفظ الهداية توكيداً، ولأن/ الهداية أصل كلِّ خبر.

88

قوله تعالى: {ذلك هُدَى الله} : المشار إليه هو المصدر المفهوم من الفعل قبله: إمَّا الاجتباء، وإمَّا الهداية، أي: ذلك الاجتباء هدى، أو ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هدى الله. ويجوز أن يكون «هدى الله» خبراً، وأن يكون بدلاً من «ذلك» ، والخبر «يهدي به» ، وعلى الأول يكون «يهدي» حالاً والعاملُ فيه اسمُ الإِشارة، ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً. و «مِنْ عبادِه» تبيينٌ أو حالٌ: إمَّا مِنْ «مَنْ» وإمَّا من عائده المحذوف.

89

والهاء في «بها» تعود على الثلاثة الأشياء وهي: الكتابُ

والحكمُ والنبوة، وهو قول الزمخشري. وقيل: تعودُ على النبوَّة فقط لأنها أقرب مذكور. والباءُ في «بها» متعلقةٌ بخبر ليس، وقُدِّم على عاملها للفواصل. والباء في «بكافرين» زائدةً توكيداً.

90

وأولئك مفعولٌ مقدم ل {هَدَى الله} ، ويَضْعُفُ جَعْلُه مبتدأً على حذف العائد أي: هداهم الله كقوله: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] برفع «حكم» . قوله: «اقتدِهْ» قرأ الأخوان بحذف هذه الهاء في الوصل، والباقون أثبتوها وصلاً ووقفاً، إلا ابنَ عامر بكَسْرها، ونَقَل ابنُ ذكوان عنه وجهين، أحدهما: الكسر من غير وصل بمدَّة. والثاني وصلُه بمدَّة، والباقون يسكنونها، أمَّا في الوقف فإن القراء اتفقوا على إثباتها ساكنة، وقد اختلفوا أيضاً في {مَالِيَهْ} [الحاقة: 28] و {سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 29] في الحاقة، وفي {مَاهِيَهْ} [القارعة: 10] في القارعة بالنسبة إلى الحذف والإِثبات، واتفقوا على إثباتها في {كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] و {حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] فأمَّا قراءةُ الأخوين فالهاءُ عندهما للسكتِ فلذلك حَذَفاها وَصْلاً إذ مَحَلُّها الوقفُ، وأَثْبتاها وقفاً إتباعاً لرسم المصحف، وأمَّا مَنْ أثبتها ساكنةً فتحتمل عنده وجهين أحدهما: هي هاء سكت، ولكنها ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مجرى الوقف كقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر} [البقرة: 259] في أحد الأقوال كما تقدم.

والثاني: أنها ضمير المصدر سُكِّنَتْ وصلاً إجراءً للوصل أيضاً مجرى الوقف نحو: {نُؤْتِهِ} [آل عمران: 145] و {فَأَلْقَهِ} [النمل: 28] و {أَرْجِهْ} [الأعراف: 111] {نُوَلِّهِ} [النساء: 115] {وَنُصْلِهِ} [النساء: 115] . واختُلِفَ في المصدر الذي تعود عليه هذه الهاء فقيل: الهدى أي: اقتد الهدى، والمعنى: اقتد اقتداءَ الهدى، ويجوز أن يكون «الهدى» مفعولاً من أجله أي: فبهداهم اقتد لأجل الهدى، وقيل: الاقتداء أي: اقتدِ الاقتداء. ومن إضمار المصدر قوله: 1978 - هذا سُراقةُ للقرآنِ يدرسُه ... والمرءُ عند الرُّشا إن يَلْقَها ذيبُ أي: يَدْرُسُ الدَّرْسَ، ولا يجوز أن تكون الهاء ضمير القرآن، لأن الفعل قد تعدَّى له، وإنما زِيْدت اللام تقويةً له حيث تقدَّم معموله ولذلك جعل النحاة نصب «زيداً» مِنْ «زيداً ضربته» بفعل مقدر خلافاً للفراء. وقال ابن الأنباري: «إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل، وإن الأصل: اقتد اقتد، ثم جعل المصدر بدلاً من الفعل الثاني ثم أضمر فاتصل بالأول. وأمَّا قراءة ابن عامر فالظاهر فيها أنها ضمير وحُرِّكَتْ بالكسر مِنْ غير وصل، وهو الذي يُسَمِّيه القرَّاء الاختلاس تارةً، وبالصلة وهو المسمَّى إشباعاً أخرى كما قرئ:» أَرْجِهِ «ونحوه، وإذا تقرَّر هذا فقول ابن مجاهد عن

ابن عامر» يُشِمُّ الهاء [الكسر] من غير بلوغ ياء، وهذا غلط؛ لأن هذه الهاءَ هاءُ وقف لا تُعْرَبُ في حال من الأحوال أي لا تُحَرَّك وإنما تدخل لِتَبِيْنَ بها حركة ما قبلها «ليس بجيدٍ لِما قَرَّرت لك من أنها ضمير المصدر. وقد رَدَّ الفارسي قول ابن مجاهد بما تقدم. والوجه الثاني: أنها هاء سكت أُجْرِيَتْ مجرى هاء الضمير، كما أجريت هاء الضمير مجراها في السكون، وهذا ليس بجيد، ويُرْوى قول المتنبي: 1979 - واحرَّ قلباه ممَّن قلبُه شَبِمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . بضم الهاء وكسرها على أنها هاءُ السكت شُبِّهَتْ بهاء الضمير فحركت والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير، لأن هاء الضمير لا تكسر بعد الألف فكيف بما يشبهها؟ والاقتداء في الأصل: طلبُ الموافقةِ، قاله الليث. ويقال: قُدْوَة [وقِدْوٌ، وأصله من القِدْو] وهو أصل البناء الذي يتشعَّبُ منه تصريف الاقتداء. و «بهداهم» متعلق ب «اقتد» . وجعل الزمخشري تقديمَه مفيداً للاختصاص على قاعدته. والهاءُ في «عليه» تعود على القرآن أو التبليغ، أُضْمرا وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة السياق عليهما. و «إنْ» نافية ولا عملَ لها على المشهور، ولو كانت عاملةً لبَطَلَ عملها ب «إلاَّ» . و «للعالمين» متعلق ب «ذكرى» واللام مُعَدِّية، أي: إنْ القرآن إلا تذكير العالمين. ويجوز أن تكون متعلقةً بمحذوف على أنها صفة ل «ذكرى» /.

91

قوله تعالى: {حَقَّ قَدْرِهِ} : منصوبٌ على المصدر وهو في الأصل صفة للمصدر، فلما أُضيف الوصف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه، والأصل: قَدْره الحق كقولهم: جَرْدُ قطيفة وسحق عمامة. وقرأ الحسن البصري وعيسى الثقفي: جَرْد قطيفة وسحق عمامة. وقرأ الحسن البصري وعيسى الثقفي: «قدَّروا» بتشديد الدال، «قَدَره» بتحريكها، وقد تقدَّم أنهما لغتان. وقوله: «إذ قالوا» منصوب ب «قَدَروا» وجعله ابن عطية منصوباً بقَدْره، وفي كلام ابن عطية ما يُشْعر بأنها للتعليل. و «من شيء» مفعول به زيدت فيه «مِنْ» لوجودِ شَرْطي الزيادة. قوله: «نوراً» منصوب على الحال وفي صاحبه وجهان، أحدهما: أنه الهاء في «به» فالعامل فيها «جاء» . والثاني: أنه الكتاب، فالعامل فيه «أنزل» و «للناس» صفة ل «هدى» . قوله: «تَجْعلونه» يقرؤه ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة، وكذلك «يُبْدونها» و «يُخْفون» ، والباقون بتاء الخطاب في ثلاثة الأفعال، فأمَّا الغيبةُ فللحَمْل على ما تقدَّم من الغيبة في قوله: «وما قدروا» إلى آخره، وعلى هذا فيكون في قوله: «وعُلِّمْتُم» تأويلان أحدهما: أنه خطاب لهم أيضاً وإنما جاء به على طريقة الالتفات. والثاني: أنه خطاب للمؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ} وبين قوله {قُلِ الله} . وأمَّا قراءةُ تاءِ الخطاب ففيها مناسبةٌ لقوله {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ}

ورجَّحها مكي وجماعةٌ لذلك، قال مكي: «وذلك أحسن في المشاكلة والمطابقة واتصال بعض الكلام ببعض، وهو الاختيار لذلك، ولأنَّ أكثر القراء عليه» . قال الشيخ: «ومن قال إن المنكرين العربُ أو كفار قريش لم يمكن جَعْلُ الخطاب لهم بل يكون قد اعترض ببني إسرائيل فقال خلال السؤال والجواب: تَجْعَلُونها قراطيس، ومثل هذا يَبْعُدُ وقوعُه؛ لأنَّ فيه تفكيكاً للنظم حيث جَعَلَ أولَ الكلام خطاباً للكفار وآخره خطاباً لليهود. قال:» وقد أُجيب بأنَّ الجميع لَمَّا اشتركوا في إنكار نبوَّة رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بعضُ الكلام خطاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل «. قوله:» تَجْعلونه قراطيس «يجوز أن تكون» جعل «بمعنى صيَّر، وأن تكون بمعنى ألقى أي: تضعونه في كاغد. وهذه الجملة في محل نصب على الحال: إمَّا من» الكتاب «، وإمَّا من الهاء في» به «، كما تقدم في» نوراً وهدى «. قوله» قراطيس «فيه ثلاثة [أوجه] ، أحدها: أنه على حذف حرف الجر أي: في قراطيس وورق، فهو شبيه بالظرف المبهم فلذلك تَعَدَّى إليه الفعل بنفسه. والثاني: أنه على حذف مضاف أي: تجعلونه ذا قراطيس. والثالث: أنهم نَزَّلوه منزلة القراطيس. وقد تقدم تفسير القراطيس، والجملة من قوله «تبدونها» في محل نصب نعت لقراطيس، وأمَّا «تُخْفون» فقال أبو البقاء: «إنها صفة أيضاً لها، وقدَّر ضميراً محذوفاً أي: وتُخْفون منها كثيراً» . وأمَّا

مكي فقال: «وتُخْفون» مبتدأٌ لا موضعَ له من الإِعراب «انتهى، كأنه لمَّا رأى خُلُوَّ [هذه الجملةِ من ضمير] يعود على» قراطيس «منع كونه صفة، وقد تقدَّم أنه مقدر أي: منها، وهو أولى. قد جوَّز الواحدي في» تبدون «أن يكون حالاً من ضمير» الكتاب «من قوله» تجعلونه قراطيس «على أن تجعل الكتاب القراطيس في المعنى لأنه مكتتبٌ فيها» انتهى. قوله: «على أن تَجْعل» اعتذارٌ عن مجيء ضميره مؤنثاً، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع. وقوله: «وعُلِّمْتُمْ» يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في «يجعلونه» وما عُطِفَ عليه مستأنفاً، وأن يكون حالاً، وإنما أتى به مخاطباً لأجل الالتفات، وأمَّا على قراءة تاء الخطاب فهو حالٌ، ومَن اشترط «قد» في الماضي الواقع حالاً أضمرها هنا أي: وقد عُلِّمْتُمْ. قوله: «قلِ اللهُ» الجلالة يجوز فيها وجهان أحدهما: أن تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوف أي: قل أَنْزله، وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز} [الزخرف: 9] . والثاني: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: الله أنزله، ووجه مناسبتِه مطابقةُ الجوابِ للسؤال، وذلك أن جملة السؤال اسمية فلتكنْ جملةُ الجوابِ كذلك. قوله: {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} يجوز أن يكون «في خوضهم» متعلقاً ب «ذرْهُم» ، وأن يتعلَّق ب «يَلْعبون» ، وأن يكونَ حالاً من مفعول «ذَرْهم» ، وأن يكونَ حالاً من فاعل «يَلْعبون» فهذه أربعة أوجه، وأمَّا «يلعبون» فيجوز أن يكون حالاً مِنْ مفعول «ذرهم» ، ومَنْ مَنَع أن تتعدَّد الحال لواحدٍ لم يُجِزْ حينئذ أن يكون «في خوضهم» حالاً مِنْ مفعول «ذرهم» بل يجعله: إمَّا متعلقاً ب «ذَرْهُمْ» كما تقدم

أو ب «يَلْعبون» أو حالاً من فاعله، ويجوز أن يكون «يلعبون» حالاً من ضمير «خَوْضهم» ، وجاز ذلك لأنه في قوة الفاعل لأنَّ المصدرَ مضاف لفاعله؛ لأن التقدير: ذرهم يخوضوا لاعبين، وأن يكونَ حالاً من الضمير في «خوضهم» إذا جعلناه حالاً لأنَّه تضمَّن معنى الاستقرار فتكون حالاً متداخلة.

92

قوله تعالى: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} : فيه دليل على/ تقدُّم الصفة غير الصريحة على الصريحة. وأجيب عنه بأن «مبارك» خبر مبتدأ مضمر، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} [المائدة: 54] ، وقال مكي، «مصدِّقُ الذي» نعت للكتاب على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، و «الذي» في موضع نصب، وإن لم يُقَدَّرْ حذفُ التنوين كان «مصدق» خبراً بعد خبر، و «الذي» في موضع خفض «. وهذا الذي قاله غلطٌ فاحش، لأن حذف التنوين إنما هو للإِضافة اللفظية وإن كان اسم الفاعل في نيَّة الانفصال، وحَذْفُ التنوين لالتقاء الساكنين إنما يكون في ضرورة أو ندور كقوله: 1980 -. . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا والنحويون كلُّهم يقولون في» هذا ضاربُ الرجلِ «: إن حذف التنوين للإِضافة تخفيفاً، ولا يقول أحدٌ منهم في مثل هذا: إنه حُذِفَ التنوين لالتقاء الساكنين. وقَدَّم وَصْفَه بالإِنزال على وَصْفِه بالبركة بخلاف قوله {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] قالوا: لأن الأهمَّ هنا وصفُه بالإِنزال إذ جاء عقيب إنكارهم أن يُنَزِّل الله على بشر مِنْ شيء بخلاف هناك، ووقعت الصفة الأولى جملةً فعلية، لأن الإِنزال يتجدَّد وقتاً فوقتاً والثانية اسماً صريحاً، لأنَّ الاسمَ يدلُّ

على الثبوت والاستقرار، وهو مقصود هنا أي: بركته ثابتة مستقرة، و» مصدِّق «صفة أيضاً أو خبر بعد خبر على القول بأن مبارك خبر لمبتدأ مضمر، ووقع صفةً للنكرة لأنه في نيَّة الانفصال كقوله: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] [وقوله] : 1981 - يا رُبَّ غابِطنا لو كان يعرِفُكم ... . . . . . . . . . . . . . . وقال الواحدي:» ومبارك «خبر الابتداء فُصِل بينهما بالجملة، والتقدير: وهذا كتاب مبارك أنزلناه، كقوله: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] وهذا الذي ذكره لا يَتَمشَّى إلا على أنَّ قولَه» مبارك «خبر ثانٍ ل» هذا «، وهذا بعيدٌ جداً، وإذا سُلِّم ذلك فيكون» أنزلناه «عنده اعتراضاً على ظاهر عبارته، ولكن لا يُحتاج إلى ذلك، بل يجعل» أنزلناه «صفة ل» كتاب «، ولا محذورَ حينئذٍ على هذا التقدير، وفي الجملة فالوجهُ ما قَدَّمْتُه لك من الإِعراب. قوله:» ولتنذرَ «قرأ الجمهور بتاء الخطاب للرسول عليه السلام، وأبو بكر عن عاصم بياء الغيبة والضمير للقرآن، وهو الظاهر أي: ينذر بمواعظه وزواجره، ويجوز أن يعود على الرسول عليه السلام للعلمِ به. وهذه اللام فيها وجهان، أحدهما: هي متعلقة ب» أنزلنا «عطفاً على مقدر، فقدَّره أبو البقاء:» ليؤمنوا ولتنذر «، وقدره الزمخشري فقال:» ولتنذر «معطوف

على ما دلَّ عليه صفةُ الكتاب كأنه قيل: أنزلناه للبركات ولتصديق ما تَقَدَّمه من الكتب والإِنذار» . والثاني: أنها متعلقة بمحذوف متأخر أي: ولتنذر أنزلناه. وقوله: «أمَّ القرى» يجوز أن يكون من باب الحذف أي: أهل أمّ القرى، وأن يكون من باب المجاز إطلاقاً للمحلّ على الحالِّ، وأيُّهما أَوْلى؟ أعني المجاز والإِضمار، للناس في المسألة ثلاثة أقوال، تقدَّم بيانها وهذا كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] . وهناك وجهٌ لا يمكن هنا: وهو أنه يمكن أن يكون السؤال للقرية حقيقةً ويكون ذلك معجزةً لنبي، وهنا لا يتأتَّى ذلك وإن كانت القرية أيضاً نفسها هنا تتكلم، إلا أن الإِنذار لا يقع لعدم فائدته. وقوله: «ومَنْ حولها» عطف على «أهل» المحذوف أي: ولتنذر مَنْ حول أم القرى، ولا يجوز أن يُعْطف على «أم القرى» إذ يلزم أن يكون المعنى: ولتنذر أهل مَنْ حولها، ولا حاجة تدعو إلى ذلك لأنَّ «مَنْ حولها» يقبلون الإِنذار. قال الشيخ: «ولم يحذف» مَنْ «فيعطف» حول «على» أمّ القرى «وإن كان يَصِحُّ من حيث المعنى لأنَّ» حول «ظرفٌ لا يتصرف، فلو عطف على» أم القرى «لكان مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوزُ؛ لأنَّ العربَ لم تستعمله إلا ظرفاً» . قوله: «والذين يؤمنون بالآخرة» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه مرفوعٌ بالابتداء، وخبره «يؤمنون» ولم يتَّحد المبتدأ والخبر لتغاير مُتَعَلَّقيهما، فلذلك جاز أن يقع الخبر بلفظ المبتدأ، وإلاَّ فيمتنعُ أن تقول: «الذي يقوم يقوم» ، و «الذين يؤمنون يؤمنون» ، وعلى هذا فَذِكْرُ الفضلة هنا واجب، ولم يتعرض النحويون لذلك ولكن تعرَّضوا لنظائره. والثاني: أنه منصوب عطفاً على

أم القرى أي: ولتنذر الذين آمنوا، فيكون «يؤمنون» حالاً من الموصول، وليست حالاً مؤكدة لما تقدم لك مِنْ تسويغ وقوعه خبراً وهو اختلاف المتعلق، والهاء في «به» تعود على القرآن أو على الرسول. {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} حال، وقدَّم «على صَلاتهم» لأجل الفاصلة. وذكر أبو علي في «الروضة» أن أبا بكر قرأ «على صلواتهم» جمعاً.

93

قوله تعالى: {كَذِباً} : فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه مفعول «افترى» أي: اختلقَ كَذِباً وافتعله. الثاني: أنه مصدرٌ له على المعنى أي: افترى افتراءً، وفي هذا نظر؛ لأنَّ المعهود في مثل ذلك إنما هو فيما كان المصدر فيه نوعاً من الفعل نحو: «قعد القرفصاء» أو مرادفاً له ك «قعدت جلوساً» أمَّا/ ما كان المصدر فيه أعمَّ من فعله نحو: افترى كذباً وَتَقَرْفَصَ قعوداً، فهذا غيرُ معهود إذ لا فائدة فيه، والكذبُ أعمُّ من الافتراء، وقد تقدم تحقيقه. الثالث: أنه مفعول من أجله أي: افترى لأجل الكذب. الرابع: أنه مصدر واقع موقع الحال أي: افترى حال كونه كاذباً وهي حال مؤكدة. وقوله «أو قال» عطف على افترى، و «إلى» في محل رفع لقيامه مقام الفاعل. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير المصدر قال: «تقديره: أُوحي إليَّ الوحيُ أو الإِيحاء» ، والأول أولى؛ لأن فيه فائدةً جديدة بخلاف الثاني فإن معنى المصدر مفهوم من الفعل قبله. قوله: {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} جملة حالية، وحُذِف الفاعل هنا تعظيماً له لأنَّ الموحي هو الله تعالى. وقوله: «ومن قال» مجرور المحل لأنه نَسَقٌ على «مَنْ» المجرور ب مِنْ أي: وممَّن قال. وقد تقدَّم نظير هذا الاستفهام في البقرة،

وهناك سؤال وجوابه. وقرأ أبو حيوة: «سَأُنَزِّل» مضعفاً. وقوله: «مثلَ» يجوز فيه وجهان أحدهما: أنه منصوبٌ على المفعول به أي: سأنزل قرآناً مثل ما أنزل الله، و «ما» على هذا موصولة اسمية أو نكرة موصوفة أي: مثل الذي أنزله أو مثل شيء أنزله. والثاني: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره: سأنزل إنزالاً مثل ما أنزل الله، و «ما» على هذا مصدرية أي: مثل إنزال الله، و «إذ» منصوبٌ ب «ترى» ، ومفعول الرؤية محذوف أي: ولو ترى الكفار أو الكذَبة، ويجوز أن لا يُقَدَّر لها مفعول أي: ولو كنت من أهل الرؤية في هذا الوقت، وجواب «لو» محذوف أي: لَرَأَيْتَ أمراً عظيماً. و «الظالمون» يجوز أن تكون فيه أل للجنس، وأن تكون للعهدِ، والمراد بهم مَنْ تقدَّم ذكرُه من المشركين واليهود والكذَبَة المفترين. و {فِي غَمَرَاتِ الموت} خبر المبتدأ، والجملة في محل خفض بالظرف. والغَمَرات: جمع غَمْرة وهي الشدة المفظعة، وأصلها مِنْ غَمَرَهُ الماء إذا ستره، كأنها تستر بغمِّها وتنزل به، قال: 1982 - ولا يُنْجي من الغَمَراتِ إلاَّ ... بَرَاكاءُ القتالِ أو الفرارُ وتجمع على غُمَر كعَمْرة وعُمَر، قال: 1983 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وحان لتالِكَ الغُمَرِ انقشاعُ ويروى «انحسار» . وقال الراغب: «أصل الغَمْر إزالة أثر الشيء،

ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله غَمْر وغامِر، وأنشد غيرُ الراغب على غامر: 1984 - نصفَ النهارُ الماءُ غامِرُه ... ورفيقُه بالغيب لا يدري ثم قال:» والغَمْرَة معظمُ الماء لسَتْرها مقرَّها، وجُعِلت مثلاً للجهالة التي تغمر صاحبها «. والغَمْر: الذي لم يجرِّبْ الأمور وجمعه أغمار، والغِمْر: بالكسر الحقد، والغَمْر بالفتح الماء الكثير، والغَمَر بفتح الغين والميم ما يغمر من رائحة الدسم سائرَ الروائح، ومنه الحديث:» من بات وفي يديه غَمَر «، وغَمِرَت يده وغَمِر عرضَه دنسٌ، ودخلوا في غُمار الناس وخمارهم، والغُمْرَة ما يُطْلَى به من الزَّعْفَران، ومنه قيل للقَدَح الذي يُتناول به الماء: غُمَرٌ، وفلان مغامِرٌ: إذا رَمى بنفسه في الحرب: إمَّا لتوغُّله وخوضه فيه، وإمَّا لتصور الغَمارة منه. قوله: {والملائكة باسطوا} جملة في محل نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في قوله» في غَمَرات «و» أيديهم «خفض لفظاً وموضعه نصب، وإنما سقطت النون تخفيفاً. قوله: {أخرجوا} منصوب المحل بقول مضمر، والقول يُضْمر كثيراً تقديره: يقولون: أخرجوا، كقوله: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23] أي يقولون: سلامٌ عليكم، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في» باسطو «.

قوله: {اليوم تُجْزَوْنَ} في هذا الظرف وجهان، أحدهما: أنه منصوب ب» أخْرِجوا «بمعنى أخرجوها من أبدانكم، فهذا القول في الدنيا، ويجوز أن يكونَ في يوم القيامة، والمعنى: خلِّصوا أنفسكم من العذاب، فالوقف على قوله» اليوم «. والابتداءُ بقوله {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} . والثاني: أنه/ منصوب بتُجْزون، والوقف حينئذ على» أنفسَكم «، والابتداء بقوله» اليوم «والمراد باليوم يحتمل أن يكون وقت الاحتضار وأن يكون يوم القيامة، و» عذابَ «مفعول ثان والأول قائم مقام الفاعل، والهُون: الهَوان، قال تعالى: {أَيُمْسِكُهُ على هُون} [النحل: 59] وقال ذو الإِصبع: 1985 - اذهَبْ إليك فيما أمي براعيةٍ ... ترعى المَخَاضَ ولا أُغْضي على الهُون وقالت الخنساء: 1986 - يُهينُ النفوسَ وهُونُ النفو ... سِ يومَ الكريهة أَبْقَى لها وأضاف العذابَ إلى الهُون إيذاناً بأنه متمكن فيه، وذلك أنه ليس كلُّ عذابٍ يكون فيه هُون، لأنه قد يكون على سبيل الزجر والتأديب، ويجوز أن يكون من باب إضافةِ الموصوفِ الى صفته، وذلك أن الأصل: العذاب الهون، وصفَه به مبالغةً ثم أضافه إليه على حدِّ إضافته في قولهم: بقلة الحمقاء ونحوه. ويدل على أن الهُون بمعنى الهوان قراءة عبد الله وعكرمة له كذلك. قوله: {بِمَا كُنتُمْ} » ما «مصدريةٌ أي: بكونكم قائلين غير الحق وكونكم مستكبرين. والباء متعلقة بتُجْزون أي بسببه. و» غير الحق «نصبُه من وجهين،

أحدهما: أنه مفعول به أي: تذكرون غير الحق. والثاني: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ أي: تقولون القول غير الحق. وقوله:» وكنتم «يجوز فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهر أنه عطف على» كنتم «الأولى فتكون صلةً ل» ما «كما تقدم. والثاني: أنها جملة مستأنفة سِيقت للإِخبار بذلك. و» عن آياته «متعلق بخبر كان، وقُدِّم لأجل الفواصل.

94

قوله تعالى: {فرادى} : منصوب على الحال من فاعل «جئتمونا» ، وجئتمونا فيه وجهان، أحدهما: أنه بمعنى المستقبَل أي: تجيئوننا، وإنما أبرزه في صورة الماضي لتحقُّقه كقوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] والثاني: أنه ماضٍ والمراد به حكاية الحال بين يدي الله تعالى يوم يقال لهم ذلك، فذلك اليوم يكون مجيئهم ماضياً بالنسبة إلى ذلك اليوم. واختلف الناس في «فُرادى» هل هو جمع أم لا؟ والقائلون بأنه جمع اختلفوا في مفرده، فقال الفراء: «فُرادى جمع فَرْد وفريد وفَرِد وفَرْدان» فجوَّز أن يكون جمعاً لهذه الأشياء. وقال ابن قتيبة: «هو جمع فَرْدان ك سَكْران وسُكارى، وعَجلان وعُجالى» . وقال قوم: هو جمع فريد كرديف ورُدَافى، وأسير وأُسارى، قاله الراغب، وقيل: هو جمع فَرَد بفتح الراء، وقيل بسكونها، وعلى هذا فألفُه للتأنيث كألف سُكارى وأُسارى، فَمِنْ ثَمَّ لم ينصرف، وقيل: هو اسم جمع؛ لأنَّ فَرْداً لا يجمع على فُرادى، وقول من قال: إنه جمع له فإنما يريد في المعنى، ومعنى فُرادى: فرداً فرداً، فإذا قلت: جاء القوم فُرادى فمعناه واحداً واحداً، قال الشاعر:

1987 - ترى النَُعَراتِ الزُّرْقَ تحت لَبانِه ... فُرادى ومثنى أَثْقَلَتْهَا صواهِلُهْ ويقال: فَرِد يَفْرُد فُروداً فهو فارِدٌ وأفردته أنا، ورجل أفرد وامرأة فرداء كأحمر وحمراء، والجمع على هذا فُرْد كحُمْر، ويقال في فرادى: فُراد على زِنَةِ فُعال فينصرف، وهي لغة تميم، وبها قرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة: {ولقد جِئْتُمونا فُرَاداً} وقال أبو البقاء «وقرئ في الشاذ بالتنوين على أنه اسم صحيح، يقال في الرفع فُراد مثل نُوام ورُجال وهو جمع قليل» انتهى، ويقال أيضاً: «جاء القوم فُرادَ» غير منصرف فهو كأُحاد ورُباع في كونه معدولاً صفة، وهي قراءة شاذة هنا. وروى خارجة عن نافع وأبي عمرو كليهما أنهما قرآ «فَرْدى» مثل سَكْرى اعتباراً بتأنيث الجماعة كقوله تعالى: {وَتَرَى الناس سكرى وَمَا هُم بسكرى} [الحج: 2] فهذه أربع قراءات: المشهورة فرادى، وثلاث في الشاذ: فُراداً كرُجال، فُرادَ كأُحادَ، وفَرْدَى كسكرى. قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ} في هذه الكاف أوجه، أحدها: أنها منصوبةُ المحل على الحال من فاعل «جئتمونا» ، فَمَنْ أجاز تعدد الحال أجاز ذلك من غير تأويل، ومَنْ منع ذلك جَعَلَ الكافَ بدلاً من «فُرادى» . الثاني: أنها في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: مجيْئُنا مثل مجيئكم يوم خلقناكم، وقدّره مكي: «منفردين انفراداً/ مثل حالكم أول مرة» والأول أحسن

لأن دلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة الوصف عليه. الثالث: أن الكاف في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في فرادى أي: مشبهين ابتداء خلقكم، كذا قدَّره أبو البقاء، وفيه نظر؛ لأنهم لم يُشَبَّهوا بابتداء خلقهم، وصوابه أن تقدر مضافاً أي: مُشْبِهةً حالُكم حال ابتداء خلقكم. قوله {أَوَّلَ مَرَّةٍ} منصوب على ظرف الزمان والعامل فيه: خلقناكم، و «مرة» في الأصل مصدر ل: مرَّ يَمُرُّ مَرَّة، ثم اتُّسع فيها فصارت زماناً، قال أبو البقاء: «وهذا يدلُّ على قوة شبه الزمان، بالفعل» . وقال الشيخ: «وانتصب» أول مرة «على الظرف أي: أول زمان، ولا يتقدَّر أول خلق، لأنَّ أولَ خَلْقٍ يَسْتدعي خلقاً ثانياً، ولا يخلق ثانياً إنما ذلك إعادة لا خَلْقٌ» . يعني أنه لا يجوز أن تكون المَرَّة على بابها من المصدرية، ويقدر أولَ مرةٍ من الخلق لما ذكر. قوله: {وَتَرَكْتُمْ} فيها وجهان، أحدهما: أنها في محل نصب على الحال من فاعل «جِئْتُمونا» ، و «قد» مضمرة على رأيٍ، أي: وقد تركتم. والثاني: أنها لا محلَّ لها لاستئنافها، و «ما» مفعولة ب «ترك» ، و «مَنْ» موصولة اسمية، ويضعفُ جَعْلُها نكرة موصوفة والعائد محذوف أي: ما خوَّلْناكموه، و «ترك» هنا متعدية لواجد لأنها بمعنى التخلية، ولو ضُمِّنَتْ معنى صيَّر تَعَدَّت لاثنين، و «خَوَّل» يتعدى لاثنين لأنه بمعنى أعطى ومَلَّك. والخَوَل: ما أعطاه الله من النِّعَمِ، قال أبو النجم:

1988 - كُومُ الذُّرَى من خَوَلِ المُخَوَّلِ ... فمعنى خَوَّلْته كذا: مَلَّكته الخَوَل فيه، كقولهم: مَوَّلته أي: مَلَّكته المال، وقال الراغب: «والتخويل في الأصل: إعطاء الخَوَل، وقيل: إعطاء ما يصير له خَوَلاً، وقيل: إعطاء ما يَحتاج أن يتعهده، من قولهم: فلانٌ خالُ مالٍ وخائل مال، أي: حسن القيام عليه» . وقوله: {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} متعلق «بتَرَكْتُم» ويجوز أن يضمَّن «ترك» هنا معنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أولهما الموصول، والثاني: هذا الظرف فيتعلَّق بمحذوف أي: وصيَّرتم الترك الذي خوَّلناكموه كائناً وراء ظهوركم. قوله: {وَمَا نرى} الظاهر أنها المتعدية لواحد فهي بصرية، فعلى هذا يكون «معكم» متعلقاً بنرى، ويجوز أن يكون بمعنى علم، فيتعدَّى لاثنين، ثانيهما هو الظرف فيتعلَّق بمحذوف أي: ما نراهم كائنين معكم أي: مصاحبيكم، إلا أن أبا البقاء استضعف هذا الوجهَ وهو كما قال؛ إذ يصير المعنى: وما يعلم شفعاؤكم معكم، وليس المعنى عليه قطعاً. وقال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون أي معكم حالاً من الشفعاء، إذ المعنى يصير أن شفعاءهم معهم ولا نراهم» وفيما قاله نظر لا يَخْفى: وذلك أن النفي إذا دخل على ذات بقيد ففيه وجهان أحدهما: نفي تلك الذات بقيدها، والثاني نفي القيد فقط دون نفي الذات، فإذا قلت: «ما رأيت زيداً ضاحكاً» فيجوز أنك لم تَرَ زيداً البتة، ويجوز أنك رأيته من غير ضحك فكذا هنا، إذ التقدير: وما نرى شفعاءكم مصاحبيكم، يجوز أن لم يروا الشفعاء البتة ويجوز أن يَرَوْهم دون مصاحبيهم لهم، فمن أين يلزم أنهم يكونون معهم

ولا يرونهم من هذا التركيب؟ وقد تقدَّم تحقيق هذه القاعدة في أوائل البقرة وفي قوله {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} [البقرة: 273] . و «أنهم» سادٌّ مَسَدَّ المفعولين ل «زعم» ، و «فيكم» متعلق بنفس شركاء، والمعنى: الذين زعمتم أنهم شركاء لله فيكم أي: في عبادتكم أو في خلقكم لأنكم أشركتموهم/ مع الله في عبادتكم وخلقكم. وقيل «في» بمعنى «عند» ولا حاجة إليه. وقيل: المعنى أنهم يتحملون عنكم نصيباً من العذاب أي: شركاء في عذابكم إن كنتم تعتقدون فيهم أنكم إذا أصابكم نائبةٌ شاركوكم فيها. قوله: «بينكم» قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه: «بينكم» نصباً، والباقون: «بينُكم» رفعاً. فأمَّا القراءة الأولى ففيها سبعة أوجه، أحسنها: أن الفاعل مضمر يعود على الاتصال، والاتصال وإن لم يكن مذكوراً حتى يعود عليه ضمير لكنه تقدَّم ما يدل عليه وهو لفظة «شركاء» ، فإن الشركة تُشْعر بالاتصال، والمعنى: لقد تقطع الاتصال بينكم فانتصب «بينكم» على الظرفية. الثاني: أن الفاعل هو «بينكم» وإنما بقي على حاله منصوباً حَمْلاً له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله {يُفَصَلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3] فيمن بناه للمفعول، وكذا قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] قال الواحدي: «كما جرى في كلامهم منصوباً ظرفاً، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام» ثم قال: في قوله ومنَّا دون ذلك فدون في موضع رفع

عنده، وإن كان منصوب اللفظ، ألا ترى أنك تقول: منا الصالحون ومنا الطالحون «. إلا أن الناس لما حَكَوا هذا المذهب لم يتعرَّضوا لبناء هذا الظرف بل صَرَّحوا بأنه معرب منصوب، وهو مرفوعُ المحل، قالوا: وإنما بقي على نصبه اعتباراً بأغلب أحواله. وفي كلام الشيخ لَمَّا حكى مذهب الأخفش ما يصرح بأنه مبنيٌّ فإنه قال:» وخرَّجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف. وفيه نظر لأن ذلك لا يصلح أن يكون علة للبناء، وعللُ البناء محصورة ليس هذا منها، ثم قال الشيخ: «وقد يقال لإِضافته إلى مبني كقوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] وهذا ظاهر في أنه جَعَل حَمْله على أكثرِ أحواله علةً لبنائه كما تقدم. الثالث: أن الفاعل محذوف، و» بينكم «صفة له قامت مقامه، تقديره: لقد تقطَّع وصلٌ بينكم، قاله أبو البقاء، ورَدَّه الشيخ بأنَّ الفاعل لا يُحذف، وهذا غيرُ ردٍّ عليه، فإنه يعني بالحذف عدمَ ذكره لفظاً، وأن شيئاً قام مقامه فكأنه لم يُحْذَفْ. وقال ابن عطية: «ويكون الفعل مسنداً إلى شيء محذوف، أي: لقد تقطع الاتصال بينكم والارتباط ونحو هذا» ، وهذا وجهٌ واضح، وعليه فَسَّر الناس. وردَّه الشيخ بما تقدَّم. ويُجاب عنه بأنه عبر بالحذف عن الإِضمار لأن كلاً منهما غير موجود لفظاً. الرابع: أنَّ «بينَكم» هو الفاعل، وإنما بُني لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] ففتح «

مثل» وهو تابع ل «حق» المرفوع، ولكنه بُني لإِضافته إلى غير متمكن، وسيأتي في مكانه. ومثله قولُ الآخر: 1989 - تَتَداعى مَنْخِراه بدَمٍ ... مثلَ ما أثمرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ بفتح «مثل» مع أنها تابعة ل «دمٍ» ، ومثله قول الآخر: 1990 - لم يمنعِ الشُّربَ منها غيرَ أَنْ نطقَتْ ... حمامةٌ في غصونٍ ذاتِ أوقال بفتح «غير» وهي فاعل «يمنع» ، ومثله قول النابغة: 1991 - أتاني أبيتَ اللعنَ أنك لُمْتني ... وتلك التي تَسْتَكُّ منها المسامعُ مقالةَ أَنْ قد قلتَ سوف أنالُه ... وذلك مِنْ تلقاء مثلِك رائِعُ فمقالة بدل من «أنك لمتني» وهو فاعل، والرواية بفتح تاء «مقالة» لإِضافتها إلى أَنْ وما في حيِّزها. الخامس: أن المسألة من باب الإِعمال، وذلك أن «تَقَطَّع» و «ضَلَّ» كلاهما يتوجَّهان على «ما كنتمْ تزعُمون» كلٌّ منهما يطلبه فاعلاً، فيجوز أن تكون المسألة من باب إعمال الثاني، وأن تكون من إعمال الأول، لأنه ليس هنا قرينة تُعَيِّن ذلك، إلا أنك قد عرفت مما تقدَّم أن مذهب البصريين اختيار

إعمال الثاني، ومذهب الكوفيين بالعكس، وقد تقدَّم تقرير ذلك في البقرة، فعلى اختيار البصريين يكون «ضَلَّ» هو الرفع ل «ما كنتم تزعمون» واحتاج الأول لفاعل فأعطيناه ضميرَه فاستتر فيه، وعلى اختيار الكوفيين يكون «تقطَّع» هو الرافع ل «ما كنتم تزعمون» ، وفي «ضلَّ» ضميره فاعلاً به، وعلى كلا القولين ف «بينكم» منصوبٌ على الظرف وناصبه «تقطَّع» . السادس: أن الظرف صلة لموصول محذوف تقديره: تقطع ما بينكم، فحذف الموصول وهو «ما» وقد تقدَّم أن ذلك رأي الكوفيين، وتقدَّم ما استشهدوا به عليه من القرآن وأبيات العرب، واستدل القائلُ/ بذلك بقول الشاعر: 1992 - يُدِيرونني عن سالمٍ وأُديرُهمْ ... وجِلْدَةُ بين الأنف والعينِ سالمُ وبقول الآخر: 1993 - ما بين عَوْفٍ وإبراهيمَ مِنْ نَسَبٍ ... إلا قرابةُ بين الزنج والرومِ تقديره: وجلدة ما بين، وإلا قرابة ما بين، ويدل على ذلك قراءة عبد الله ومجاهد والأعمش: {لقد تقطَّع ما بينكم} . السابع: قال الزمخشري: «لقد تقطع بينكم: لقد وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل» انتهى. قوله: «بهذا التأويل» قولٌ حسن: وذلك أنه لو أضمر في «تقطع» ضمير المصدر المفهوم منه لصار التقدير: تقطع التقطع بينكم، وإذا تقطع التقطُّع بينهم حَصَل الوصل، وهو ضد

المقصود فاحتاج أن قال: إن الفعل أسند إلى مصدره بالتأويل المذكور. إلا أن الشيخ اعترض فقال: «وظاهره أنه ليس بجيد، وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه، لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر فهو محذوف، ولا يجوز حذف الفاعل، ومع هذا التقدير فليس بصحيح؛ لأن شرط الإِسناد مفقود فيه وهو تغايُر الحكم والمحكوم عليه» يعني أنه لا يجوز أن يتحد الفعل والفاعل في لفظ واحد من غير فائدة لا تقول: قام القائم ولا قعد القاعد فتقول: إذا أسند الفعل إلى مصدره: فأمَّا إلى مصدره الصريح من غير إضمار فيلزم حذف الفاعل، وأمَّا إلى ضميره فيبقى تقطَّع التقطع، وهو مثل: قام القائم، وذلك لا يجوز مع أنه يلزم عليه أيضاً فساد المعنى كما تقدم من أنه يلزم ما يحصل لهم الوصل «وهذا الذي أورده الشيخُ وقرَّرته مِنْ كلامه حتى فُهِم لا يَرِدُ؛ لِما تقدم من قول الزمخشري على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التاويل، وقد تقدم ذلك التأويل. وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه، أحدها: أنه اتُّسع في هذا الظرفِ، فأُسند الفعل إليه فصار اسماً كسائر الأسماء المتصرف فيها، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] فاستعمله مجروراً ب» مِنْ «وقوله تعالى {فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} [الكهف: 61] {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] . وحكى سيبويه:» هو أحمر بين العينين «وقال عنترة:

1994 - وكأنما أَقِصُ الإِكامَ عشيةً ... بقريب بينِ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ وقال مهلهل: 1995 - كأنَّ رماحَنا أشطانُ بئرٍ ... بعيدةِ بين جالَيْها جَرُورِ فقد اسْتُعْمِلَ في هذه المواضع كلها مضافاً إليه متصرَّفاً فيه فكذا هنا، ومثله قوله: 1996 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجِلْدَةُ بين الأنف والعين سالم وقوله: 1997 -. . . . . . . . . . . . . . ... إلا قرابةُ بين الزنج والروم وقوله: 1998 - ولم يَتْرك النبلُ المُخالِفُ بينها ... أخاً لاح [قد] يُرْجى وما ثورةُ الهندِ يروى برفع» بينها «وفتحه على أنه فاعل ل» مخالف «، وإنما بني لإِضافته إلى مبنيّ، ومثلُه في ذلك: أمام ودون كقوله: 1999 - فَغَدَتْ كلا الفَرْجَيْنِ تحسب أنَّه ... مَوْلَى المخافةِ خَلْفُها وأمامُها

برفع أمام، وقوله: 2000 - ألم تَرَ أني قد حَمَيْتُ حقيقي ... وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها برفع» دون «. الثاني: أن «بين» اسمٌ غير ظرف، وإنما معناها الوصل أي: لقد تَقَطَّع وصلكم. ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن «بين» مصدر بان يبين بَيْناً بمعنى بَعُد، فيكون من الأضداد أي إنه مشترك اشتراكاً لفظياً يُستعمل للوصل والفراق كالجَوْن للأسود والأبيض، ويُعْزى هذا لأبي عمرو وابن جني والمهدوي والزهراوي، وقال أبو عبيد: / «وكان أبو عمرو يقول: معنى تقطَّع بينكم: تقطَّع وصلكم، فصارت هنا اسماً من غير أن يكون معها» ما «. وقال الزجاج:» والرفع أجود، ومعناه: لقد تقطَّع وَصْلُكم «، فقد أطلقوا هؤلاء أنَّ» بَيْن «بمعنى الوصل، والأصل في الإطلاق الحقيقة. إلا أنَّ ابن عطية طعن فيه وزعم أنه لم يُسْمع من العرب» البين «بمعنى الوصل، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية، أو أنه أُريد بالبَيْن الافتراقُ، وذلك مجازٌ عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطَّعت المسافة بينكم لطولها فعبَّر عن ذلك بالبين. قلت: فظاهر كلام ابن عطية يؤذن بأنه فَهِمَ أنها بمعنى الوصل حقيقةً، ثم رَدَّه بكونِه لم يُسْمع من العرب، وهذا منه غير مُرْضٍ، لأنَّ أبا عمروٍ وأبا عبيد وابن جني والزهراوي والمهدوي والزجاج أئمة يُقبل قولُهم. وقوله:» وإنما انتُزِع من هذه الآية «ممنوعٌ بل ذلك مفهوم من لغة العرب، ولو لم يكن ممَّن نقلها إلا أبو عمرو لكفى به، وعبارته تؤذن بأنه مجاز، ووجه

المجاز كما قاله الفارسي: أنه لمَّا استعمل» بين «مع الشيئين المتلابسين في نحو:» بيني وبينك شركَةٌ، وبيني وبينك رحم وصداقة «صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوصلة، وعلى خلاف الفرقة، فلهذا جاء لقد تقطَّع وصلكم» . وإذا تقرَّر هذا فالقول بكونه مجازاً أولى من القول بكونه مشتركاً، لأنه متى تعارض الاشتراك والمجاز فالمجاز خير منه عند الجمهور. وقال أبو علي أيضاً: «ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استُعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتُّسِع فيه، أو يكون الذي هو مصدر، فلا يجوز أن يكونَ هذا القسمَ لأن التقدير يصير: لقد تقطع افتراقكم، وهذا خلاف القصد والمعنى، ألا ترى أن المراد: وصلكم وما كنتم تتألفون عليه. فإن قلت: كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل وأصله الافتراق والتباين؟ قيل: إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو:» بيني وبينك شركة «، فذكر ما قدَّمْتُه عنه من وجه المجاز إلى آخره. وأجاز أبو عبيد والزجاج وجماعة قراءة الرفع. قال أبو عبيد:» وكذلك نقرؤها بالرفع لأنَّا قد وَجَدْنا العرب تجعل «بين» اسماً من غير ما، ويُصَدِّق ذلك قولُه تعالى: {بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} [الكهف: 61] فجعل «بين» اسماً من غير ما، وكذلك قوله: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] قال: «وقد سمعناه في غير موضع من أشعارها» ثم ذكر ما ذَكَرْتُه عن أبي عمرو بن العلاء، ثم قال: «وقرأها الكسائي نصباً، وكان يعتبرها بحرف عبد الله» لقد تقطع ما بينكم «. وقال

الزجاج:» والرفعُ أجودُ والنصب جائز، والمعنى: لقد تقطع ما كان من الشركة بينكم «. الثالث: أن هذا كلام محمول على معناه إذ المعنى: لقد تفرق جمعكم وتشتَّت، وهذا لا يصلح أن يكون تفسير إعراب. قوله: {مَّا كُنتُمْ} » ما «يجوز أن تكون موصولةً اسمية أو نكرة موصوفة أو مصدرية، والعائد على الوجهين الأولين محذوف بخلاف الثالث، والتقدير: تزعمونهم شركاء أو شفعاء، فالعائد هو المفعول الأول و» شركاء «هو الثاني، فالمفعولان محذوفان اختصاراً للدلالة عليهما إن قلنا: إن» ما «موصولةٌ اسمية أو نكرة موصوفة. ويجوز أن يكون الحذف حَذْفَ اقتصار إن قلنا إنها مصدرية، لأن المصدرية لا تحتاج إلى عائد بخلاف غيرها، فإنها تفتقر إلى عائد فلا بد من الالتفات إليه وحينئذ يلزم تقدير المفعول الثاني، ومن الحذف اختصاراً قوله: 2001 - بأيِّ كتابٍ أم بأية سنةٍ ... ترى حبَّهم عاراً علي وتحسبُ أي: وتحسب حبهم عاراً علي.

95

قوله تعالى: {فَالِقُ الحب} : يجوز/ أن تكون الإِضافة محضةً على أنه اسم فاعل بمعنى الماضي لأن ذلك قد كان، ويدل عليه قراءة عبد الله «فلق» فعلاً ماضياً، ويجوز أن تكون الإِضافةُ غيرَ محضة على أنه بمعنى الحال أو الاستقبال، وذلك على حكاية الحال، فيكون «الحَبِّ» مجرورَ اللفظ منصوب المحل. والفِلْق: هو شِقُّ الشيء، وقيده الراغب بإبانة بعضِه من بعض، والفَلَق: المطمئنُّ مِنَ الأرض بين الرَّبْوَتين، والفلَق من قوله {

أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} [الفلق: 1] ما علَّمه لموسى عليه السلام حتى فلق به البحر. وقيل: الصبح. وقيل: هي الأنهار المشارُ إليها بقوله: {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} [النمل: 61] والفِلْق بالكسر بمعنى المفلوق كالنِّكث والنِّقض، ومنه: «سمعته من فِلْق منه» وقيل: الفِلْق العَجَبُ، والفَليق والفالِقُ ما بين الجبلين وما بين السنامين من البعير، وفسَّر بعضهم «فالق» هنا بمعنى خالق، قيل: ولا يُعرفُ هذا لغةً، وهذا لا يُلتفت إليه لأن هذا منقول عن ابن عباس والضحاك أيضاً، لا يقال ذلك على جهة التفسير للتقريب، لأن الفراء نَقَل في اللغة أن فَطَر وخلق وفلق بمعنى واحد. [والنَّوى اسم جنسٍ مفرده نواة على حدّ] قمح وقمحة. والنوى: البعد أيضاً، ويقال: نوت البُسْرة وأنْوَتْ: اشتدَّت نواتها، ولام «النواة» ياء لأنَّ عينَها واو، والأكثر التغاير. قوله: «يُخْرج» يجوز فيه وجهان أحدهما: أنها جملة مستأنفة فلا محل لها. والثاني: أنها في موضع رفع خبراً ثانياً ل إنَّ، وقوله «ومُخْرِج» يجوز فيه وجهان أيضاً، أحدهما: أنه معطوف على فالق - ولم يذكر الزمخشري غيره - أي: الله فالق ومخرج، أخبر عنه بهذين الخبرين، وعلى هذا فيكون «يخرج» على وجهه، وعلى كونه مستأنفاً يكون معترضاً على جهة البيان لِما قبله من معنى الجملة. والثاني: أن يكون معطوفاً على «يخرج» ، وهل يُجعل الفعل في تأويل اسم ليصح عَطْفُ الاسم عليه، أو يُجعل الاسم بتأويل الفعل ليصحَّ عطفه عليه؟ احتمالان مبنيان على ما تقدم في «يخرج» : إن قلنا إنه مستأنف فهو فعل غير مؤول باسم، فيُرَدُّ الاسم إلى معنى الفعل، فكأن مُخْرِجاً في قوة

يُخْرج، وإن قلنا: إنه خبر ثان ل «إنَّ» فهو بتأويل اسم واقعٍ موقع خبر ثان، فلذلك عُطِفَ عليه اسم صريح، ومِنْ عَطْفِ الاسم على الفعل لكون الفعل بتأويل اسم قولُ الشاعر: 2002 - فألفيتُه يوماً يُبير عدوَّه ... ومُجْرٍ عطاءً يَسْتَخِفُّ المعابرا وقوله: 2003 - يا رُبَّ بيضاءَ من العواهجِ ... أمِّ صبيّ قد حَبَا أو دارج وقوله: 2004 - بات يُغَشِّيها بعَضْبٍ باترٍ ... يَقْصِدُ في أَسْوُقِها وجائِرُ أي: مبيراً، أو أمِّ صبي حابٍ، وقاصِدٍ.

96

وقوله تعالى: {فَالِقُ الإصباح} : كقوله: «فالق الحب» فيما تقدم. والجمهور على كسر الهمزة وهو المصدر، يقال: أصبح يصبح إصباحاً، وقال الليث والزجاج: إن الصبح والصباح والإِصباح واحد، وهما أول النهار، وكذا الفراء. وقيل: الإِصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقيل: هو إضاءة الفجر، نُقل ذلك عن مجاهد، والظاهر أن الإِصباح في الأصل مصدر سُمِّي به الصبح وكذا الإِمساء، قال امرؤ القيس:

2005 - ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِ ... بصبحٍ وما الإِصباح منك بأمثلِ وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر: الأصباح: بفتح الهمزة وهو جمع صُبْح نحو: قُفْل وأقفال وبُرْد وأبراد، وينشد قوله: 2006 - أفنى رياحاً وبني رياحِ ... تناسخُ الأمساءِ والأصباح بفتح الهمزة من الأمساء والأصباح على أنهما جمع مُسْي وصُبْح، وبكسرها على أنهما مصدران. وقرئ/ «فالقُ الإِصباحَ» بنصب الإِصباح وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله: 2007 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا وقرئ: {والمقيمي الصلاة} [الحج: 35] و {لَذَآئِقُو العذاب} [الصافات: 38] بالنصب حملاً للنون على التنوين، إلا أن سيبويه لا يجيز حذف التنوين لالتقاء الساكنين إلا في شعر، وقد أجازه المبرد في السَّعة. وقرأ يحيى والنخعي وأبو حيوة: «فلق» فعلاً ماضياً، وقد تقدم أن عبد الله قرأ الأولى كذلك، وهذا أدلُّ دليلٍ على أن القراءة عندهم سنة متبعة، ألا ترى أن عبد الله كيف قرأ «فلق الحب» فعلاً ماضياً، وقرأ «فالق الأَصباح» ، اسمَ فاعل،

والثلاثة المذكورون بعكسه. قال الزمخشري: «فإن قلت: فما معنى فَلَق الصبح، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال: 2008 -. . . . . . . . . . . . . . . ... تَفَرِّيَ ليلٍ عن بياض نهار قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يُراد: فالق ظلمة الإِصباح، يعني أنه على حذف مضاف. والثاني: أن يراد فالق الإِصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره، وقالوا: انشق عمود الفجر وانصدع، وسَمَّوا الفجرَ فَلَقاً بمعنى مفلوق، قال الطائيُ: 2009 - وأزرقُ الفجر يبدو قبل أبيضه ... . . . . . . . . . . . . . . . . وقرئ: فالق وجاعل بالنصب على المدح» . انتهى. وأنشد غيره: 2010 - فانشقَّ عنها عمودُ الفَجْرِ جافلةً ... عَدْوَ النَّحوص تخافُ القانِصَ اللَّحِما قوله: {وَجَاعِلَ الليل} قرأ الكوفيون: «جعل» فعلاً ماضياً، والباقون بصيغة اسم الفاعل، والرسم يحتملهما، والليل منصوب عند الكوفيين بمقتضى قراءتهم، ومجرور عند غيرهم، ووجه قراءتهم له فعلاً مناسبته

ما بعده فإن بعده أفعالاً ماضية نحو: {جَعَلَ لَكُمُ النجوم} [الأنعام: 97] {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم} [الأنعام: 98] إلى آخر الآيات، ويكون «سكناً» : إما مفعولاً ثانياً على أن الجعل بمعنى التصيير، وإمَّا حالاً على أنه بمعنى الخلق، وتكون الحال مقدرة. وأمَّا قراءة غيرهم فجاعل يحتمل أن يكون بمعنى المضيِّ، وهو الظاهر، ويؤيده قراءة الكوفيين، والماضي عند البصريين لا يعمل إلا مع أل خلافاً لبعضهم في منَعِ إعمال المعرَّف بها، وللكسائي في إعماله مطلقاً، وإذا تقرر ذلك ف «سَكَناً» منصوب بفعل مضمر عند البصريين، وعلى مقتضى مذهب الكسائي ينصبه به. وقد زعم أبو سعيد السيرافي أن اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يجوز أن يعمل في الثاني وإن كان ماضياً، قال: «لأنه لَمَّا أضيف إلى الأول تعذَّرت إضافته للثاني فتعيَّن نصبُه له» . وقال بعضهم: «لأنه بالإِضافة أشبه المعرف بأل فعمل مطلقاً» فعلى هذا «سكناً» منصوب به أيضاً، وأما إذا قلنا إنه بمعنى الحال والاستقبال فنصبُه به. و «سَكَنٌ» فَعَل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى مقبوض. قوله: {والشمس والقمر حُسْبَاناً} الجمهور بنصب «الشمس» و «القمر» وهي واضحة على قراءة الكوفيين أي: بعطف هذين المنصوبين على المنصوبين ب «جعل» ، و «حُسْباناً» فيه الوجهان في «سكناً» من المفعول الثاني والحال، وأمَّا على قراءة الجماعة فإن اعتقدنا كونه ماضياً فلا بد من إضمار فعلٍ ينصبُهما أي: وجعل الشمس، وإن قلنا إنه غير ماض فمذهب سيبويه أيضاً أن النصب بإضمار فعل، تقول: «هذا ضاربُ زيدٍ الآن أو غداً أو عمراً» بنصب عمرو، وبفعل مقدر لا على موضع المجرور باسم الفاعل، وعلى رأي

غيره يكون النصبُ على محل المجرور، وينشدون قوله: / 2011 - هل أنت باعثُ دينارٍ لحاجتنا ... أو عبدَ رَبٍّ أخاعَوْن بن مِخْراقِ بنصب «عبد» وهو محتمل للمذهبين. وقال الزمخشري: «أو يعطفان على محل» الليل «. فإن قلت: كيف يكون ل» الليل «محلٌّ والإِضافة حقيقة لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ ولا تقول: زيدٌ ضاربٌ عمراً أمس؟ قلت: ما هو بمعنى الماضي، وإنما هو دالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة. قال الشيخ:» أمَّا قوله إنما هو دالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة، يعني فيكون عاملاً ويكون للمجرور إذ ذاك بعده موضع فيعطف عليه «الشمس والقمر» . قال: «وهذا ليس بصحيح، إذا كان لا يتقيد بزمن خاص، وإنما هو للاستمرار، فلا يجوز له أن يعمل، ولا لمجروره مَحَلٌّ، وقد نَصُّوا على ذلك وأنشدوا على ذلك: 2012 - أَلْقَيْتَ كاسبهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان، وإذا تقيد بزمان: فإما أن يكون ماضياً دون أل فلا يعمل عند البصريين، أو بأل أو حالاً أو مستقبلاً فيعمل ويضاف على ما أُحْكِمَ في النحو. ثم قال:» وعلى تقدير تسليم أن الذي للاستمرار

يعمل فلا يجوز العطف على محل مجروره، بل مذهبُ سيبويه في الذي بمعنى الحال والاستقبال أن لا يجوز العطف على محل مجروره، بل النصبُ بفعل مقدر، لو قلت: هذا ضارب زيدٍ وعمراً لم يكن نصب «عمراً» على المحلّ على الصحيح وهو مذهب سيبويه؛ لأن شرط العطف على الموضع مفقود وهو أن يكون للموضع مُحْرِزٌ لا يتغير، وهذا موضحٌ في علم النحو «. قلت: وقد ذكر الزمخشري في أول الفاتحة في {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] أنه لمَّا لم يُقْصد به زمانٌ صارت إضافته محضةً فلذلك وقع صفةً للمعارف، فمِنْ لازم قوله إنه يتعرَّف بالإِضافة أن لا يعمل، لأن العامل في نية الانفصال عن الإِضافة، ومتى كان في نية الانفصال كان نكرة، ومتى كان نكرة فلا يقع صفة للمعرفة. وهذا حسن حيث يَرُدُّ عليه بقوله، وقد تقدم تحقيق هذا في الفاتحة. وقرأ أبو حيوة: {وَالشَّمْسِ والقَمَرِ} جراً نسقاً على اللفظ. وقرئ شاذاً {والشَّمْسُ والقَمَرُ} رفعاً على الابتداء، وكان مِنْ حقه أن يقرأ «حسبانٌ» رفعاً على الخبر، وإنما قرأه نصباً، فالخبر حينئذ محذوف تقديره: مجعولان حُسْباناً أو مخلوقان حُسْباناً. فإن قلت: لا يمكن في هذه القراءة رفع «حسبان» حتى نُلْزِمَ القارئ بذلك؛ لأن الشمس والقمر ليسا نفس الحسبان. فالجواب: أنهما في قراءة النصب: إمَّا مفعولان أولان و «حسْباناً» ثانٍ، وإمَّا صاحبا حال وحسباناً حال، والمفعول الثاني هو الأول، والحال لا بد وأن تكون صادقة على ذي الحال، فمهما كان الجواب لكم كان لنا والجواب ظاهر مما تقدم.

والحُسبان فيه قولان، أحدهما: أنه جمع، فقيل: جمع حِساب كرِكاب ورُكبان وشِهاب وشُهبان، وهذا قول أبي عبيد والأخفش وأبي الهيثم والمبرد. وقال أبو البقاء: «هو جمع حُسْبانة» وهو غلط؛ لأن الحُسْبانة القطعة من النار، وليس المراد ذلك قطعاً. وقيل: بل هو مصدر كالرُّجْحان والنُّقْصان والخُسْران، وأما الحساب فهو اسمٌ لا مصدرٌ، وهذا قول ابن السكيت. وقال الزمخشري: «والحُسْبان بالضم مصدرُ حَسَبت يعني بالفتح كما أن الحِسبان بالكسر يعني مصدر حَسِبْتُ بالكسر، ونظيره الكُفران والشُّكْران» وقيل: بل الحُسبان والحِساب مصدران وهو قول أحمد بن يحيى. وأنشد أبو عبيد عن أبي زيد في مجيء الحسبان مصدراً قوله: 2013 - على الله حُسْباني إذا النفسُ أشرفَتْ ... على طمعٍ أو خاف شيئاً ضميرُها وانتصاب «حسباناً» على ما تقدم من المفعولية أو الحالية. وقال ثعلب عن الأخفش: إنه منصوبٌ على إسقاط الخافض والتقدير: يجريان بحسبان كقوله {لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} / أي: من طين. وقوله: «ذلك» إشارةً إلى ما تقدم من الفَلْق أو الجعل أو جميعِ ما تقدَّم من الأخبار في قوله «فالق الحَبِّ» إلى «حُسْبانا» .

97

وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ النجوم} : الظاهر أن «جعل»

بمعنى خلق فتكون متعديةً لواحد، و «لكم» متعلق ب «جَعَلَ» وكذا «لتهتدوا» . فإن قيل: كيف يتعلَّق حرفا جر متَّحدان في اللفظ والمعنى؟ فالجواب أن الثاني بدلٌ من الأول بدلُ اشتمال بإعادة العامل، فإن «ليهتدوا» جار ومجرور، إذ اللام لام كي، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» عند البصريين وقد تقدَّم تقريره. والتقدير: جعل لكم النجوم لاهتدائكم، ونظيره في القرآن {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] ف «لبيوتهم» بدلٌ من «لمن يكفر» بإعادة العامل، وقال ابن عطية: «وقد يمكن أن يكون بمعنى» صيَّر «ويقدَّر المفعول الثاني من لتَهْتدوا، أي: جعل لكم النجوم هداية» . قال الشيخ: «وهو ضعيفٌ لندور حَذْفِ أحد مفعولي ظنَّ وأخواتها» قلت: لم يَدَّع ابنُ عطيَّة حذف المفعول الثاني حتى يجعله ضعيفاً إنما قال: إنه مِنْ «لتهتدوا» أي: فيُقَدَّر متعلق الجار الذي وقع مفعولاً ثانياً كما يُقدَّر في نظائره والتقدير: جعل لكم النجوم مستقرة أو كائنة لاهتدائكم. وأمَّا قوله: «أي جَعَل لكم النجومَ هدايةً» فلإِيضاح المعنى وبيانه. والنجوم معروفة وهي جمع نجم، والنجم في الأصل مصدر يقال: نَجَم الكوكبُ ينجُمُ نَجْماً ونُجوماً فهو ناجم، ثم أُطلق على الكوكب مجازاً، فالنجم يستعمل مرة اسماً للكوكب ومرة مصدراً، والنجوم تستعمل مرة للكواكب وتارة مصدراً ومنه: نَجَمَ النبت أي: طَلَع، ونَجَم قرن الشاة وغيرها، والنجم من النبات ما لا ساق له، والشجرُ ما له ساق، والتنجيم: التفريق، ومنه نجوم الكنانة تشبيهاً بتفرق الكواكب.

98

قوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف، والباقون بفتحها، وأمَّا «مُسْتَوْدَع» فالكلُّ قرأه مفتوحَ الدال، وقد روى الأعور عن أبي عمرو بن العلاء كسرها. فَمَنْ كسر القاف جعل «مستقرَّاً» اسم فاعل، والمراد به الأشخاص وهو مبتدأ محذوف الخبر أي: فمنكم مستقر: إمَّا في الأصلاب أو البطون أو القبور، وعلى هذه القراءة تتناسق «ومستودَع» بفتح الدال. وجوَّز أبو البقاء في «مستقِر» بكسر القاف أن يكون مكاناً وبه بدأ قال: «فيكون مكاناً يستقر لكم» انتهى، يعني: والتقدير: ولكم مكان يستقر. وهذا ليس بظاهرٍ البتةَ، إذ المكان لا يوصف بكونه مستقراً بكسر القاف بل بكونه مُسْتَقَرَّاً فيه. وأمَّا مستودَع بفتحها فيجوز أن يكون اسم مفعول، وأن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، فيقدر الأول: فمنكم مستقر في الأصلاب ومستودع في الأرحام، أو مستقر في الأرض ظاهراً ومستودع فيها باطناً، ويقدر للثاني: فمنكم مستقر ولكم مكان تستودعون فيه، ويقدر للثالث: فمنكم مستقر ولكم استيداع. وأمّا مَنْ فتح القاف فيجوز فيه وجهان فقط: أن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً أي: فلكم مكان تستقرون فيه وهو الصُّلب أو الرحم أو الأرض، أو لكم استقرار فيما تقدم، وينقص أن يكون اسم مفعول لأن فعله قاصر لا يُبنى منه اسم مفعول بخلاف مستودع حيث جاز فيه الأوجه الثلاثة. وتوجيه قراءة أبي عمرو في رواية الأعور عنه في «مستودِع» بالكسر على أن يُجعل الإِنسانُ كأنه مُسْتَوْدِعُ رزقِه وأجَله، حتى إذا نَفِدا كأنه ردَّهما

وهو مجاز حسن، ويقوِّي ما قلته قولُ الشاعر: 2014 - وما المالُ والأهلون إلا وديعةٌ ... ولا بُدَّ يوماً أن تُرَدَّ الودائعُ / والإِنشاء: الإِحداث والتربية، ومنه: إنشاء السحاب، وقال تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية} [الزخرف: 18] فهذا يُراد به التربية، وأكثر ما يستعمل الإِنشاء في إحداث الحيوان، وقد جاء في غيره، قال تعالى: {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} [الرعد: 12] . والإِنشاءُ: قسيمُ الخبر، وهو ما لم يكن له خارجٌ، وهل هو مندرجٌ في الطلب أو بالعكس أو قسم برأسه؟ خلافٌ، وقيل: على سبيل التقريب مقارنة اللفظ لمعناه. وقال الزمخشري: «فإن قلت: فَلِمَ قيل» يعلمون «مع ذكر النجوم، و» يفقهون «مع ذِكْرِ إنشاء بني آدم؟ قلت: كأن إنشاء الإِنس من نفس واحدة وتصريفهم على أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعةً وتدبيراً، فكان ذِكْرُ الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيقُ نظر مطابقاً له» .

99

قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا} : فيه التفاتٌ من غَيْبة إلى تكلم بنون العظمة، والباء في «به» للسببية، وقوله {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} قيل: المراد كل ما تسمَّى نباتاً في اللغة. وقال الفراء: «رزق كل شيء أي: ما يصلحُ أن يكون غذاءً لكل شيء فيكون مخصوصاً بالمتغذَّى به» . وقال الطبري: «هو جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن؛ لأنَّ كل ذلك يتغذَّى بالماء» ويترتب على ذلك صناعة إعرابية، وذلك أنَّا إذا قلنا بقولٍ غيرِ الفراء كانت

الإضافة راجعةً في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها، إذ يصير المعنى على ذلك: فأخرَجْنا به كلَّ شيء منبَت فإن النبات بمعنى المُنْبَت، وليس مصدراً كهو في {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] وإذا قلنا بقول الفراء كانت الإِضافة إضافةً بين متباينين، إذ يصير المعنى: غذاء كل شيء أو رزقه، ولم ينقل الشيخ عن الفراء غيرَ هذا القول، والفراء له في هذه الآية القولان المتقدمان فإنه قال: «رزق كل شيء» قال: «وكذا جاء في التفسير وهو وجه الكلام، وقد يجوز في العربيَّة أن تضيف النبات إلى كل شيء، وأنت تريد بكل شيء النبات أيضاً، فيكون مثل قوله {حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] واليقين هو الحق» . قوله: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} في الهاء وجهان أحدهما: أن تعود على النبات وهذا هو الظاهر ولم يذكر الزمخشري غيره، وتكون «مِنْ» على بابها مِنْ كونها لابتداء الغاية أو تكون للتبعيض، وليس بذلك. والثاني: أن تعود على الماء وتكون «مِنْ» سببية، وذكر أبو البقاء الوجهين فقال: «وأخرجنا منه أي: بسببه. ويجوز أن تكون الهاء في» منه «راجعة على النبات وهو الأشبه، وعلى الأول يكون» فأخرجنا «بدلاً من» أخرجنا «الأول» . أي إنه يُكتفى في المعنى بالإِخبار بهذه الجملة الثانية وإلا فالبدل الصناعي لا يظهر، والظاهر أنَّ «فأخرجنا» عطف على «فأخرجنا» الأول. وقال الشيخ: «وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً مِنْ فأخرجنا» . قلت: إنما جعله بدلاً بناء على عود الضمير في «منه» على الماء فلا يصحُّ أن يحكى عنه أنه جعله بدلاً مطلقاً؛ لأن البدلية لا تُتَصَوَّرُ على جعل الهاء في «منه» عائدة على النبات.

والخَضِر بمعنى الأخضر كَعَوِر وأعور. قال أبو إسحاق «يقال اخضَرَّ يخضرُّ فهو خَضِر وأخضر كاعوَّر فهو عَوِرٌ وأعورُ» والخُضْرة أحدُ الألوان وهي بين البياض والسواد لكنها إلى السواد أقرب، ولذلك أُطلق الأسود على الأخضر وبالعكس، ومنه «سَواد العراق» لخضرة أرضه بالشجر. وقال تعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 64] أي: شديدتا السواد لريِّهما. والمخاضرة: مبايَعَةُ الخُضَر والثمار قبل بلوغها، والخَضِيرة نخلةٌ ينتثر بُسْرُها أخضرَ. وقوله عليه السلام: «إياكم وخضراءَ الدِّمَن» فقد فسَّره هو عليه السلام بقوله: «المرأة الحسناء في المنبت السوء» والدِّمَن: مطارحُ الزِّبالة وما يُسْتَقْذر، فقد ينبُت فيها ما يستحسنه الرائي. قوله: {نُّخْرِجُ مِنْهُ} أي: من الخَضِر. والجمهور على «نُخْرج» مسنداً إلى ضمير المعظم نفسه. وقرأ ابن محيصن والأعمش «يخرج» بياء الغيبة مبنياً للمفعول، «حَبٌّ» قائم مقام فاعله، وعلى كلتا القراءتين تكون الجملة صفة ل «خَضِراً» وهذا هو الظاهر، وجوَّزوا فيها أن تكون مستأنفةً، ومتراكب رفعاً ونصباً صفة ل «حَبّ» بالاعتبارين. قوله: {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} يجوز في هذه الجملة أوجه، أحدها: وهو أحسنها أن يكون «من النخل» خبراً مقدماً، و «من طَلْعِها» بدل بعض من كل بإعادة العامل فهو كقوله: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله} [الممتحنة: 6] و «قِنْوان» مبتدأ مؤخر، وهذه جملةٌ ابتدائية

عُطِفَتْ على الفعلية قبلها. والثاني: أن يكونَ «قِنْوان» فاعلاً بالجار قبله وهو من النخل، و «من طلعها» على ما تقدم من البدلية، وذلك على رأي الأخفش. الثالث: أن تكون المسألة من باب التنازع، يعني أن كلاً من الجارَّيْن يطلب قنواناً على أنه فاعل على رأي الأخفش: فإن أعملت الثاني وهو مختار قول البصريين أضمرت في الأول، وإن أَعْمَلْتَ الأول كما هو مختار قول الكوفيين أضمرت في الثاني، قال أبو البقاء: «والوجه الآخر أن يرتفع» قِنْوان «على أنه فاعل» من طلعها «فيكون في» من النخل « [ضميرٌ يفسره قنوان] وإن رفعت» قنوان «بقوله» ومن النخل «على قول مَنْ أعمل أول الفعلين جاز، وكان في» من طلعها «ضمير مرفوع» . قلت: فقد أشار بقوله «على أنه فاعل» من طلعها «إلى إعمال الثاني. الرابع: أن يكون» قنوان «مبتدأ و» من طلعها «الخبر، وفي» من النخل «ضمير تقديره: ونبت من النخل شيء أو ثمر فيكون» من طلعها «بدلاً منه. قاله أبو البقاء، وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ لأنه بعد أن جعل» مِنْ طلعها «الخبر فكيف يُجْعل بدلاً؟ فإن قيل: يجعله بدلاً منه لأن» من النخل «خبر للمبتدأ. فالجواب أنه قد قَدَّم هذا الوجه وجعله مقابلاً لهذا فلا بد أن يكون هذا غيرَه، فإنه قال قبل ذلك:» وفي رفعه وجهان أحدهما: هو مبتدأ وفي خبره وجهان، أحدهما هو «من النخل» وم نطَلْعِها بدل بإعادة الجار «. قال الشيخ: «وهذا إعراب فيه تخليط» .

الخامس: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة «أخرجنا» عليه تقديره: ومخرجةٌ من طلع النخل قنوان «هذا نص الزمخشري، وهو كما قال الشيخ لا حاجة إليه؛ لأن الجملة مستقلة في الإِخبار بدونه. السادس: أن يكون» من النخل «متعلقاً بفعل مقدر، ويكون {مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} جملة ابتدائية في موضع المفعول ب» نخرج «. وإليه ذهب ابن عطية فإنه قال:» ومن النخل تقديره: «ونُخْرِجُ من النخل» و «من طلعها قنوان» ابتداء خبره مقدم، والجملة في موضع المفعول ب «نخرج» قال الشيخ: «وهذا خطأ لأنَّ ما يتعدَّى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله، إلا إذا كان الفعل مما يُعَلَّق، وكان في الجملة مانعٌ يمنع من العمل في شيء من مفرداتها على ما شُرِحَ في النحو، و» نُخْرج «ليس ممَّا يُعَلَّق، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها، إذ لو سُلِّط الفعلُ على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب» ونخرج من النخل مِنْ طَلْعِها قنواناً «بالنصب مفعولاً به. وقال الشيخ:» ومن قرأ: «يُخْرَج منه حب متراكب» جاز أن يكون قوله {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} معطوفاً عليه نحو: «يُضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو» أي أنه يُعطف «قنوان» على «حب» ، و «من النخل» معطوف على «منه» ثم قال: «وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه» والقِنْوان: جمع ل «قِنْو» كالصِنْوان جمع لصِنْو، والقِنْوُ: العِذْق بكسر العين وهو عنقودُ النخلة، ويقال له الكِباسة، قال امرؤ القيس:

2015 - وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ ... أثيثٍ كقِنْو النخلة المُتَعَثْكِل وقال أيضاً: 2016 - سوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثٍ فروعُه ... وعالَيْنَ قِنْواناً من البُسْر أحمرا والقنوان: جمع تكسير قال أبو علي: «الكسرة التي في قِنْوان ليست التي كانت في قِنْو لأن تلك حذفت في التكسير وعاقبتها كسرة أخرى كما قُدِّر تغيير كسرة» هِجان «جمعاً عن كسرته مفرداً، فكسرة هِجان جمعاً ككسرة ظِراف» . قال الواحدي: «وهذا مما توضحه الضمة في آخر» منصور «على قولِ مَنْ قال» يا حارُ «يعني بالضمة ليست التي كانت فيه/ في قول مَنْ قال» يا حارِ «يعني بالكسر» . وفيه لغات: فلغةُ الحجاز «قِنْوان» بكسر القاف، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الأعمش والحباب عن أبي عمرو والأعرج بضمِّها، ورواها السلمي عن علي بن أبي طالب، وهي لغة قيس، ونقل ابن عطية عكس هذا فجعل الضمَّ لغةَ الحجاز فإنه قال: «وروي عن الأعرج ضم القاف على أنه جمع» قُنو «بضمِّ القاف» ، قال الفراء: «وهي لغة قيس وأهل الحجاز، والكسرُ أشهر في العرب» . واللغة الثالثة: قَنْوان بفتح القاف وهي قراءة أبي عمرو في رواية هارون عنه. وخرَّجها ابن جني على أنها اسم جمع لِقنْو لا جمعاً إذ ليس في صيغ

الجموع ما هو على وزن فَعْلان بفتح الفاء، ونظَّره الزمخشري برَكْب، وأبو البقاء بالباقر، وتنظير أبي البقاء أولى لأنه لا خلاف في الباقر أنه اسم جمع، وأمَّا رَكْب ففيه خلاف لأبي الحسن مشهور، ويدل على ذلك أيضاً شيء آخر وهو أنه قد سُمِعَ في المفرد كَسْرُ القاف وضمها فجاء الجمع عليهما. وأمَّا الفتح فلم يَرِدْ في المفرد. واللغة الرابعة قُنْيان بضم القاف مع الياء دون الواو. والخامسة: قِنْيان بكسر القاف مع الباء أيضاً، وهاتان لغتا تميم وربيعة. وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلاً بل بالواو سواء كسروا القاف أم ضمُّوها، فلا يقولون إلا قِنواً وقُنوا، ولا يقولون قِنيا ولا قُنيا، فخالف الجمعُ مفرده في المادة وهو غريب. واختُلف في مدلول «القِنْو» فقيل: هو الجُمَّار وهذا يكاد يكون غلطاً، وكيف يُوْصَفُ بكونه دانياً أي: قريب الجنى، والجُمَّار إنما هو في قلب النخلة، والمشهور أنه العِذْق كما تقدم ذلك. قال أبو عبيد: «وإذا ثَنَّيْتَ قِنْواً قلت: قِنوان بكسر النون، ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل: صِنْوٌ وصنوان، والإِعراب على النون في الجمع، وليس لهما في كلام العرب نظير» قال: 2017 -. . . . . . . . . . . . . . ... ومالَ بقِنْوانٍ مِنَ البُسْرِ أحمرا قلت: إذا وُقف على «قنوان» المثنى رفعاً وعلى «قنوان» جمعاً وقع الاشتراك اللفظي، ألا ترى أنك إذا قلت: «عندي قنوان» وقفاً احتمل ما ذكرته من التثنية والجمع، فإذا وصلت وقع الفرق فإنك تجعل الإِعراب على النون

حالَ جمعه كغِربان وصِرْدان بكسر النون في التثنية. ويقع الفرق أيضاً بوجوهٍ أُخَرَ منها: انقلاب الألف ياءً نصباً وجراً في التثنية نحو: رأيت قِنْوَيْك وصِنْويك ومررت بقنويك وصنويك، ومنها: حذف نون التثنية إضافةً وثبوت النون في الجمع نحو: جاء قنواك وصنواك وقنوانك وصنوانك، ومنها: في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية فتقول: قِنْوَيّ وصِنْوَي، ولا تحذف الألف ولا النون إذا أردت الجمع بل تقول: قِنْوانيّ وصِنْواني، وهذان اللفظان في الجمع تكسيراً يشبهان الجمع تصحيحاً وذلك أن كلاً منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان ولم يتغيَّرْ معها بناء الواحد، والفرق ما قدَّمْتُه لك، وأيضاً فإن الجمع مِنْ قنوان وصنوان، إنَّما فهمناه من صيغة فِعْلان لا من الزيادتين، بخلاف الزيدين، فإن الجمع فهمناه منهما، وهذا الفصل الذي ذكرْتُه مِنْ محاسن علم الإِعراب والتصريف واللغة. وقال الراغب بعد أن ذَكَرَ أنه العِذْق: «والقَناةُ تشبه القِنْوَ في كونهما غصنين، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك لأنها تشبه القناة في الخط والامتداد، وقيل: أصلها مِنْ قَنَيْتُ الشيء إذا ادَّخَرْتَه لأنها مُدَّخِرَةٌ للماء. وقيل: هو مِنْ قاناه أي: خالطه، قال - يعني امرأ القيس -/: 2018 - كبِكْرِ مُقاناةِ البياضِ بصُفْرةٍ ... غَذَاها نُمَيْرُ الماءِ غيرَ مُحَلَّلِ وأمَّا» القنا «الذي هو الاحْدِيْداب في الأنف فيشبَّه في الهيئة بالقنا يقال: رجل أقنى وامرأة قَنْواء كأحمر وحمراء» . والطَّلع: أول ما يخرج من النخلة في أكمامه. قال أبو عبيد: «الطَّلْعُ: الكُفُرَّى قبل أن تنشقَّ عن الإغريض

والإِغريض يسمى طَلْعاً يقال: أطلعت النخلة إذا أخرجت طَلْعَها، تطلُع إطلاعاً وطلع الطلع يَطْلُع طلوعاً ففرقوا بين الإِسنادين. وأنشدني بعضهم في مراتب ما تثمره النخلة قول الشاعر: 2019 - إن شِئْتَ أن تَضْبِطَ يا خَليلُ ... أسماءَ ما تُثْمِرُه النخيلُ فاسمَعْه مَوْصوفاً على ما أذكرُ ... طَلْعٌ وبعده خَلال يظهر وبَلَحٌ ثم يليه بُسْرُ ... ورُطَب تجنيه ثم تَمْرُ فهذه أنواعُها يا صاحِ ... مضبوطةً عن صاحب الصِّحاح قوله:» وجنَّات «الجمهور على كسر التاء من» جنات «لأنها منصوبة نسقاً على نبات أي: فأخرجنا بالماء النبات وجنات، وهو من عطف الخاص على العام تشريفاً لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وعلى هذا فقوله {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} جملةٌ معترضة وإنما جيء بهذه الجملة معترضة، وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيماً للمِنَّة به؛ لأنه من أعظم قوت العرب؛ لأنه جامع بين التفكُّه والقوت، ويجوز أن ينتصب» جنات «نسقاً على» خضراً «. وجوَّز الزمخشري - وَجَعَلَهُ الأحسنَ - أن ينتصب على الاختصاص كقوله» والمقيمي الصلاة «قال:» بفضلِ هذين الصنفين «وكلامُهُ يُفْهم أن القراءة الشهيرة عنده برفع» جنات «، والقراءة بنصبها شاذة، فإنه أولُ ما ذكر توجيهُ الرفع كما سيأتي، ثم قال:» وقرئ «وجنات» بالنصب «فذكر الوجهين المتقدمين. وقرأ الأعمش ومحمد بن أبي ليلى وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم»

وجنات «بالرفع وفيها ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مرفوعة بالابتداء، والخبر محذوف. واختلفت عبارة المعربين في تقديره: فمنهم مَنْ قَدَّره متقدِّماً، ومنهم من قَدَّره متأخراً، فقدَّره الزمخشري متقدماً أي: وثَمَّ جنات، وقدَّره أبو البقاء» ومن الكرم جنات «، وهذا تقدير حسن لمقابلة قوله» ومن النخل «أي: من النخل كذا ومن الكرم كذا، وقَدَّره النحاس» ولهم جنَّات «، وقدَّره ابن عطية:» ولكم جنات «، ونظيره قراءة {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بعد قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكوابٍ} أي: ولهم حورٌ عين، ومثل هذا اتَّفَقَ على جوازه سيبويهِ والكسائي والفراء. وقدَّره متأخراً فقال: أي وجنات من أعناب أخرجناها. قال الشيخ: «ودل على تقديره [قوله] قبلُ» فأخرجنا «كما تقول: أكرمت عبد الله وأخوه أي: وأخوه أكرمته» . قلت: وهذا التقدير سبقه إليه ابن الأنباري، فإنه قال: «الجناتُ» رُفِعت بمضمر بعدها تأويلها: وجناتٌ من أعناب أخرجناها، فجرى مَجْرَى قول العرب: «أكرمت عبدَ الله وأخوه» تريد: وأخوه أكرمته. قال الفرزدق: 2020 - غداةَ أحلَّتْ لابنِ أَصْرَمَ طَعْنَةٌ ... حصينٍ عَبيطاتِ السَّدائِفِ والخمرُ

فرفع «الخمر» وهي مفعولة، على معنى: والخمر أَحَلَّها الطعنة. الوجه الثاني: أن يرتفع عطفاً على «قنوان» ، تغليباً للجوار، كما قال الشاعر: 2021 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وزجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا فنسق «العيون» على «الحواجب» تغليباً للمجاورة، والعيونُ لا تُزَجَّج، كما أن الجنات من الأعناب لا يَكُنَّ من الطَّلْع، هذا نصُّ مذهب ابن الأنباري أيضاً، فتحصَّل له في الآية مذهبان، وفي الجملة فالجواب ضعيف، وقد تقدم أنه من خصائص النعت. والثالث: أن يعطف على «قنوان» . قال الزمخشري: «على معنى: محاطة أو مُخْرجة من النخل قنوان، وجنات من أعناب أي: من نبات أعناب. قال الشيخ:» وهذا العطفُ هو على أن لا يُلْحَظَ فيه قيدٌ من النخل فكأنه قال: ومن النخل قنوان دانية وجنات من أعناب حاصلة كما تقول: «من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش منطلقان» . قلت: وقد ذكر الطبري أيضاً هذا الوجه أعني عطفها على «قنوان» ، وضعَّفه ابن عطية، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه، ومنع أبو البقاء عطفه على «قنوان» قال: «لأن العنب لا يخرج من النخل» . وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة. قال أبو حاتم: «هذه القراءة محال؛ لأن الجنات من الأعناب. لا تكون من النخل» . قلت: أمَّا جواب أبي البقاء فيما قاله الزمخشري، وأمَّا جوابُ أبي عبيد وأبي حاتم فيما تقدم من توجيه الرفع. و «من أعناب» صفة لجنات فتكون في محل رفع ونصب بحسب القراءتين، وتتعلق بمحذوف.

قوله: {والزيتون والرمان} لم يقرأهما أحد إلا منصوبين، ونصبهما: إمَّا عطفٌ على جنات وإمَّا على نبات، وهذا ظاهر قول الزمخشري، فإنه قال: «وقرئ» وجنات «بالنصب عطفاً على» نباتَ كل شيء «أي: وَأَخْرَجْنا به جناتٍ من أعناب، / وكذلك قوله: والزيتونَ والرُّمَّان» . ونصَّ أبو البقاء على ذلك فقال: «وجنات بالنصب عطفاً على نبات، ومثله: الزيتونَ والرمانَ» . وقال ابن عطية: «عطفاً على» حَبَّاً «. وقيل على» نبات «وقد تقدم لك أن في المعطوف الثالث فصاعداً احتمالين، أحدهما: عطفه على ما يليه، والثاني: عطفه على الأول نحو: مررت بزيدٍ وعمروٍ وخالد، فخالد يحتمل عطفه على زيد أو عمرو، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو:» مررت بك وبزيد وبعمرو «فإن جعلته عطفاً على الأول لَزِمَت الباء وإلاَّ جازت. والزيتون وزنه فَيْعُول فالتاءُ مزيدةٌ، والنون أصلية لسقوط ذيك في الاشتقاق وثبوت ذي، قالوا: أرض زَتِنَة أي كثيرة الزيتون، فهو نظير قيصوم، ولأنَّ فَعْلولاً مفقودٌ أو نادر، ولا يُتَوَهَّم أن تاءَه أصلية ونونَه مزيدة بدلالة الزيت فإنهما مادتان متغايرتان، وإن كان الزيت معتصراً منه، ويقال: زات طعامه أي: جعل فيما زيتاً، وزاتَ رأسَه أي: دَهَنَه به، وازْدات: أي ادَّهن أُبْدلت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كازدجر وازدان. والرُّمَّان وزنه فُعَّال

نونه أصلية فهو نظير عُنَّاب وحُمَّاض لقولهم: أرض رَمِنَةٌ أي: كثيرتُه. قوله: {مُشْتَبِهاً} حال: إمَّا من» الرمان «لقربه، وحذفت الحال من الأول تقديره: والرمان مشتبهاً، ومعنى التشابه أي في اللون، وعدم التشابه أي في الطعم. وقيل: هي حال من الأول وحذفت حال الثاني، وهذا كما تقدم لك في الخبر المحذوف، نحو: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وإلى هذا نحا الزمخشري فإنه قال:» والزيتون مشتبهاً وغير مشتبه والرمان كذلك كقوله: 2022 - رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي ... بريئاً. . . . . . . . . . . . . . . . . قال الشيخ: «فعلى قوله يكون تقدير البيت: كنت منه بريئاً ووالدي كذلك أي: بريئاً، والبيت لا يتعين فيه ما ذَكَرَ؛ لأن بريئاً على وزن فعيل كصديق ورفيق، فيصحُّ أن يُخْبَرَ به عن المفرد والمثنى والمجموع، فيحتمل أن يكون» بريئاً «خبر» كان «على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه، إذ يجوز أن يكون خبراً عنهما، ولا يجوز أن يكون حالاً منهما، إذ لو كان لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين» . قال أبو البقاء: «حال من الرمان ومن

الجميع» ، فإن عنى في المعنى فصحيح ويكون على الحذف كما تقدَّم، وإن أراد في الصناعة فليس بشيء لأنه كان يلزم المطابقة. والجمهور على «مشتبهاً» وقرئ شاذاً متشابهاً وغير متشابه كالثانية، وهما بمعنى واحد. قال الزمخشري: «كقولك: اشتبه الشيئان وتشابها كاستويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً» . انتهى. وأيضاً فقد جَمَعَ بينهما في هذه الآية في قوله «مشتبهاً وغير متشابه» . قوله: {إلى ثَمَرِهِ} متعلِّق ب «انظروا» وهي بمعنى الرؤية، وإنما تَعَدَّتْ ب إلى لِما تَتَضَمَّنه من التفكر. وقرأ الأخوان «ثُمُرِه» بضمتين، والباقون: بفتحتين، وقُرِئَ شاذاً بضم الأول وسكون الثاني. فأمَّا قراءة الأخوين فتحتمل أربعة أوجه، أحدها: أن تكون اسماً مفرداً كطُنُب وعُنُق. والثاني: أنه جمع الجمع فَثُمُر جمع ثِمار وثمار جمع ثَمَرة وذلك نحو: أُكُم جمع إكام وإكام جمع أَكَمَة فهو نظير كُثْبان وكُثُب. والثالث: أنه جمع ثَمَرَ كما قالوا: أسَد وأُسُد. والرابع: أنه جمع ثمرة، قال الفارسي: «والأحسن أن يكون جمع ثَمَرَة كخشبة وخُشُب، وأكمة وأُكُم ونظيره في المعتل: لابة ولُوْب، وناقة ونوق، وساحة وسوح. وأما قراءة الجماعة فالثَمَر اسم جنس مفرده ثمرة كشجر وشجرة، وبقر وبقرة، وجزر وجزرة. وأما قراءة التسكين فهي تخفيف قراءة الأخوين،

وقيل: بل هي جمع ثَمَرَة كبُدْن جمع بَدَنَة، ونقل بعضهم أنه يقال ثَمُرَة بزنة سَمُرة، وقياسها على هذا ثَمُر كسَمُر بحذف التاء إذا قُصِدَ جمعُه، وقياسُ تكسيرِه أثمار كعَضُد وأعضاد، وقد قرأ أبو عمرو الذي في سورة الكهف بالضم وسكون الميم، فهذه القراءة التي هنا فصيحة كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئاً واحداً لولا أن القراءة مستندها النقل. وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل» خُشْب «. والباقون بالضم، فهذه القراءة نظير تِيك. وهذا الخلاف أعني في» ثَمَرِه «والتوجيه بعينه جارٍ في سورة يس. وأما الذي في سورة الكهف ففيه ثلاث قراءات: فعاصم يقرؤه بفتحتين كما يقرؤه في هذه السورة، وفي يس، فاستمرَّ على عمل واحد، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث/ فاستمرا على عمل واحد، وأمَّا نافع وابن كثير وابن عامر فقرؤوا ما في الأنعام ويس بفتحتين وقرؤوا ما في الكهف بضمتين، وأمَّا أبو عمرو فقرأ ما في الأنعام ويس بفتحتين وما في الكهف بضمة وسكون. وقد ذكروا في توجيه الضمتين في الكهف ما لا يمكن أن يأتي في السورتين، وذلك أنهم قالوا في الكهف: الثُّمُر بالضم المال، وبالفتح المأكول. وقوله: {إِذَآ أَثْمَرَ} ظرق لقوله:» انظروا «، وهو يحتمل أن يكون متمحضاً للظرف، وأن يكون شرطاً، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي: إذا أثمر فانظروا إليه. قوله: {وَيَنْعِهِ} الجمهور على فتح الياء مِنْ» ينعه «وسكون النون. وقرأ

ابن محيصن بضم الياء وهي قراءة قتادة والضحاك. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة واليماني: يانعة، ونسبها الزمخشري لابن محيصن، فيجوز أن يكون عنه قراءتان. والينع بالفتح والضم مصدر: يَنَعَتِ الثمرة أي: نضجت، والفتح لغة الحجاز، والضم لغة بعض نجد، ويقال أيضاً يُنُع ويُنُوع بواو بعد ضمتين. وقيل: اليَنْع بالفتح جمع يانِع كتاجِر وتَجْر وصاحِب وصَحْب، ويقال: يَنَعَت الثمرة وأينعت ثلاثياً ورباعياً بمعنى. وقال الحَجَّاج:» أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها «. ويانع اسم فاعل وقيل: أينعت الثمرة وينعت احمرَّت، قاله الفراء، ومنه الحديث في الملاعنة: «إنْ وَلَدَتْهُ أحمرَ مثلَ اليَنَعَة» وهي خَرَزَةٌ حمراء، قيل: هي العقيق أو نوع منه. ويقال: يَنَعَتْ تَيْنِع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل هذا قول أبي عبيد وأنشد: 2023 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... حولها الزيتونُ قد يَنَعَا وقال الليث بعكس هذا: أي بكسرها في الماضي وبفتحها في المستقبل. وناسب ختامَ هذه الآية بقوله «لقوم يؤمنون» كونُ ما تقدَّم دالاً على وحدانيته وإيجاده المصنوعات المختلفة، فلا بُدَّ لها مِنْ مدبِّر مع أنها نابتةٌ من أرضٍ واحدةٍ وتُسْقَى بماءٍ واحد، وهذه الدلائل إنما تنفع المؤمنين المتدبِّرين دون غيرهم.

100

قوله تعالى: {شُرَكَآءَ الجن} : الجمهور على نصب «الجن» وفيه خمسة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنَّ «الجن» هو المفعول الأول، والثاني هو «شركاء» قُدِّم، و «لله» متعلِّق بشركاء. والجَعْل هنا بمعنى التصيير، وفائدةُ التقديم كما قالَه الزمخشري استعظامُ أن يُتَّخَذَ لله شريكٌ مَنْ كان مَلَكاً أو جنِّيَّاً أو إِنسِيَّاً ولذلك قُدِّم اسم الله على الشركاء «انتهى. ومعنى كونهم جعلوا الجن شركاء لله هو أنهم يعتقدون أنهم يخلقون من المضارِّ والحيَّات والسباع كما جاء في التفسير. وقيل: ثم طائفة من الملائكة يسمَّون الجن كان بعض العرب يعبدها. الثاني: أن يكون» شركاء «مفعولاً أول و» لله «متعلقٌ بمحذوف على أنه المفعول الثاني، و» الجنّ «بدل من» شركاء «، أجاز ذلك الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء ومكي بن أبي طالب، إلا أنَّ مكِّيَّاً لمَّا ذَكَرَ هذا الوجهَ جَعَلَ اللامَ مِنْ» لله «متعلقةً بجَعَلَ فإنه قال:» الجنَّ مفعولٌ أولُ لَجَعَلَ و «شركاءَ» مفعولٌ ثانٍ مقدَّم، واللام في «لله» متعلقة بشركاء، وإن شِئْتَ جَعَلْتَ «شركاء» مفعولاً أول، والجن بدلاً من شركاء، و «لله» في موضع المفعول الثاني، واللام متعلقة بجعل «. قلت: بعد أن جعل» لله «مفعولاً ثانياً كيف يُتَصَوَّر أن يَجْعَلَ اللامَ متعلقةً بالجعلِ؟ هذا ما لا يجوز لأنَّه لما صار مفعولاً ثانياً تعيَّنَ تعلُّقُهُ بمحذوف على ما عرفته غيرَ مرة. قال الشيخ:» وما أجاوزه - يعني الزمخشري ومن ذُكِرَ معه - لا يجوز؛ لأنه يصِحُّ للبدل أن

يحلَّ محلَّ المبدل منه فيكونَ الكلام منتظماً، لو قلت: وجعلوا لله الجنَّ لم يَصِحَّ، وشرطُ البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول، وهذا لا يَصِحُّ هنا البتَةَ لِما ذكرنا «قلت: هذا القول المنسوب للزمخشري ومَنْ ذُكِرَ معه سبقهم إليه الفراء وأبو إسحاق فإنهما أجازا أن يكونا مفعولين قُدِّم ثانيهما على الأول وأجازا أن يكون» الجن «بدلاً من» الشركاء «ومفسِّراً للشركاء هذا نصُّ عبارتهم، وهو معنى صحيح أعني كونَ البدل مفسراً، فلا معنى لردِّ هذا القول، وأيضاً فقد رَدَّ هو على الزمخشري عند قوله تعالى {إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا} [المائدة: 117] فإنه لا يلزم في كل بدلٍ أن يحل مَحَلَّ المبدلِ منه، قال:» ألا ترى إلى تجويز النحويين «زيد مررت به أبي عبد الله» ولو قلت: «زيد مررت بأبي عبد الله» لم يجز إلا على رأي الأخفش «وقد سبق هذا في المائدة، فقد قرر/ هو أنه لا يلزم حلول البدل محلَّ المبدل منه فكيف يَرُدُّ به هنا؟ الثالث: أن يكون» شركاء «هو المفعول الأول و» الجن «هو المفعول الثاني، قاله الحوفي، وهذا لا يَصِحُّ لِما عرفت أن الأول في هذا الباب مبتدأ في الأصل والثاني خبر في الأصل، وتقرَّر أنه إذا اجتمع معرفة ونكرة جَعَلْتَ المعرفة مبتدأ والنكرة خبراً، من غير عكس إلا في ضرورة، تقدَّم التنبيه على الوارد منها. الرابع: أن يكون «شركاء الجن» مفعولين على ما تقدَّم بيانه. و «لله» متعلق بمحذوف على أنه حال من «شركاء» ؛ لأنه لو تأخر عنها لجاز أن يكون

صفة لها قاله أبو البقاء، وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنه يصير المعنى: جعلوهم شركاء في حال كونهم لله أي: مملوكين، وهذه حال لازمة لا تنفك، ولا يجوز أن يقال إنها غير منتقلة لأنها مؤكدة إذ لا تأكيدَ فيها هنا، وأيضاً فإنَّ فيه تهيئةَ العامل في معمول وقَطْعَه عنه؛ فإن «شركاء» يطلب هذا الجارَّ ليعمل فيه والمعنى منصبٌّ على ذلك. الخامس: أن يكون «الجنَّ» منصوباً بفعل مضمر جواب لسؤال مقدَّر، كأن سائلاً سأل فقال بعد قوله تعالى {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} : مَنْ جعلوا لله شركاء؟ فقيل: الجنَّ، أي: جعلوا الجن، نقله الشيخ عن شيخه أبي جعفر بن الزبير، وجعله أحسن مما تقدَّم قال: «ويُؤَيِّد ذلك قراءةُ أبي حيوة ويزيد بن قطيب» الجنُّ «رفعاً على تقدير: هم الجن، جواباً لمن قال: [من] جعلوا لله شركاء؟ فقيل: هم الجن، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والاستنقاص بمن جعلوه شريكاً لله تعالى. وقال مكي:» وأجاز الكسائي رفع «الجن» على معنى هم الجن «، فلم يَرْوِها عنه قراءةً، وكأنه لم يطَّلع على أن غيرَه قرأها كذلك. وقرأ شعيب بن أبي حمزة ويزيد بن قطيب وأبو حيوة في رواية عنهما أيضاً» شركاءَ الجنِّ «بخفض» الجن «، قال الزمخشري:» وقرئ بالجر على الإِضافة التي للتبيين فالمعنى: أشركوهم في عبادتهم لأنهم أطاعوهم

كما أطاعوا الله «. قال الشيخ:» ولا يتضح معنى هذه القراءة، إذ التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله «. قلت: معناها واضح بما فسَّره الزمخشري في قوله، والمعنى: أَشْرَكوهم في عبادتهم إلى آخره ولذلك سَمَّاها إضافة تبيين، أي إنه بيَّن الشركاء كأنه قيل: الشركاء المطيعين للجن. قوله: {وَخَلَقَهُمْ} الجمهور على» خَلَقَهم «بفتح اللام فعلاً ماضياً، وفي هذه الجملة احتمالان، أحدهما: أنها حالية ف» قد «مضمرةٌ عند قومٍ وغير مضمرة عند آخرين. والثاني: أنها مستأنفة لا محَلَّ لها، والضمير في «خلقهم» فيه وجهان، أحدهما: أنه يعود على الجاعلين أي: جعلوا له شركاء مع أنه خلقهم وأوجدهم منفرداً بذلك من غير مشاركة له في خلقهم فكيف يشركون به غيره ممَّن لا تأثيرَ له في خلقهم؟ والثاني: أنه يعود على الجن أي: والحال أنه خلق الشركاء فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟ وقرأ يحيى بن يعمر: «وَخَلْقهم» بسكون اللام. قال الشيخ: «وكذا في مصحف عبد الله» . قلت: قوله «وكذا في مصحف عبد الله» فيه نظر من حيث إن الشكل الاصطلاحي أعني ما يدل على الحركات الثلاث وما يدل على السكون كالجزء منه كانت مصاحفُ السَّلفِ منها مجردة، والضبط الموجود بين أيدينا اليوم أمرٌ حادث، يقال: إن أول مَنْ أحدثه يحيى بن يعمر، فكيف يُنسب ذلك لمصحف عبد الله بن مسعود؟ وفي هذه القراءة تأويلان أحدهما: أن يكون «خَلْقهم» مصدراً بمعنى اختلاقهم. قال الزمخشري: أي اختلاقهم للإِفك يعني: وجعلوا لله خَلْقَهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم «والله أمَرَنا بها» انتهى. فيكون «لله» هو المفعول الثاني قُدِّم على

الأول. والتأويل الثاني: أن يكون «خَلْقهم» مصدراً بمعنى مخلوقهم. فيكون عطفاً على «الجن» ، ومفعوله الثاني محذوف تقديره: وجعلوا مخلوقَهم وهو ما ينحِتون من الأصنام كقوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} شركاءَ لله تعالى. قوله تعالى: «وخَرَقوا» قرأ الجمهور «خَرَقوا» بتخفيف الراء ونافع بتشديدها. وقرأ ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء، وابن عمر كذلك أيضاً إلا أنه شدد الراء، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاختلاق. قال الفراء: «يقال خلق الإِفك وخَرَقه واختلقه وافتراه وافتعله وخَرَصَه بمعنى كَذَب فيه» ، والتشديد للتكثير لأن القائلين بذلك خلق كثير وجمٌّ غفير، وقيل: هما لغتان، والتخفيف هو الأصل. وقال الزمخشري: «ويجوز/ أن يكون مِنْ خرق الثوب إذا شقَّه أي: اشتقُّوا له بنين وبنات» . وأمَّا قراءة الحاء المهملة فمعناها التزوير أي: زوَّروا له أولاداً لأن المزوِّر محرِّف ومغيِّرٌ الحقَّ إلى الباطل. وقوله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} فيه وجهان. أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف أي: خَرَقُوا له خَرْقاً بغير علم قاله أبو البقاء وهو ضعيفُ المعنى، والثاني: وهو الأحسنُ أن يكونَ منصوباً على الحال من فاعل «خرقوا» أي: افتعلوا الكذبَ مصاحبين للجهل وهو عدم العلم.

101

قوله تعالى: {بَدِيعُ} : قرأ الجمهور برفع العين، وفيها

ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو بديعُ، فيكون الوقفُ على قوله «والأرض» فهي جملة مستقلة بنفسها. الثاني: أنه فاعلٌ بقوله «تعالى» ، أي تعالى بديع السماوات، وتكون هذه الجملةُ الفعليةُ معطوفةٌ على الفعلِ المقدَّرِ قبلَها وهو الناصبُ لسبحان فإنَّ «سبحان» كما تقدَّم من المصادر اللازم إضمارُ ناصبِها. الثالث: أنه مبتدأ وخبرُه ما بعده من قوله {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} . وقرأ المنصور «بديعِ» بالجر، قال الزمخشري: «رداً على قوله وجعلوا لله أو على سبحانه» كذا قاله، ولم يُبَيِّنْ على أيِّ وجهٍ من وجوهِ الإِعراب هو، وكذا الشيخُ حكاه عنه ومرَّ عليه، ويريد بالردّ كونَه تابعاً إمَّا: لله، أو للضمير المجرور في «سبحانه» ، وتبعيَّتُه له على كونه بدلاً من «لله» أو من الهاء في «سبحانه» ، ويجوز أن يكون نعتاً لله على أن تكون إضافةُ «بديع» محضةً كما ستعرفه، وأما تبعيَّتُه للهاءِ فيتعيَّنُ أن يكونَ بدلاً، ويمتنعُ أن يكون نعتاً وإن اعتقَدْنا تعريفَه بالإِضافة لمعارِضٍ آخر: وهو أن الضميرَ لا يُنعت، إلا ضميرَ الغائب على رأيِ الكسائي، فعلى رأيه قد يجوز ذلك. وقرأ أبو صالح الشامي «بديعَ» نصباً، ونصبه على المدح وهي تؤيد قراءةَ الجر. وقراءةُ الرفع المتقدمة يحتمل أن يكون أصلها الإِتباعُ بالجرَّ على البدل ثم قطع التابع رفعاً. وبديع يجوز أن يكونَ بمعنى مُبْدِع، وقد سَبَقَ معناه، أو يكونَ صفةً مشبهة أضيفت لمرفوعها كقولك: فلان بديع الشعر أي: بديعٌ شعرُهُ، وعلى هذين القولين فإضافته لفظية لأنه في الأول من بابِ إضافة اسم الفاعل لمنصوبه، وفي الثاني من بابِ إضافةِ الصفة المشبهة لمرفوعها، ويجوز أن يكونَ بمعنى عديم النظير والمِثْل فيهما، كأنه قيل: البديع في السماوات

والأرض، فالإِضافةُ على هذا إضافةٌ مَحْضَةٌ. قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} أنَّى بمعنى كيف أو مِنْ أين، وفيها وجهان أحدهما: أنها خبر كان الناقصة و «له» في محل نصب على الحال، و «ولد» اسمُها، ويجوز أن تكون منصوبةً على التشبيه بالحالِ أو الظرفِ كقوله «كيف تكفرون بالله» والعاملُ فيها قال أبو البقاء: «يكون» ، وهذا على رأي مَنْ يُجيز في «كان» أن تعمل في الأحوال والظروف وشبههما، و «له» خبر يكون و «ولد» اسمها. ويجوز في «يكون» أن تكونَ تامةً، وهذا أحسنُ، أي: كيف يُوْجَدُ له ولدٌ وأسباب الوَلَدِيَّةِ منتفيةٌ؟ قوله: «ولم تكنْ له صاحبةٌ» هذه الواو للحال، والجملةُ بعدها في محل نصب على الحال من مضمون الجملة المتقدمة أي: كيف يوجد له ولد والحال أنه لم يكن له زوج، وقد عُلِمَ أن الولد إنما يكون من بين ذكر وأنثى وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك. والجمهور على «تكن» بالتاء من فوق. وقرأ النخعي بالياء من تحت وفيه أربعة أوجه، أحدها: أن الفعل مسند إلى «صاحبة» أيضاً كالقراءة المشهورة، وإنما جاز التذكير للفصل كقوله: 2024 - لقد وَلَدَ الأخيطِلَ أمُّ سوءٍ ... . . . . . . . . . . . . .

وقوله: 2025 - إنَّ امرَأً غَرَّه في الدنيا واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور وقال ابن عطية: «وتذكيرُ كان وأخواتها مع تأنيث اسمِها أسهلُ من ذلك في سائر الأفعال» . قال الشيخ: «ولا أعرفُ هذا عن النحويين ولم يُفَرِّقوا بين كان وغيرها» . قلت: هذا كلام صحيح، ويؤيده أن الفارسي وإن كان يقول بحرفية بعضها ك ليس فإنه لا يُجيز حَذْفَ التاء منها، لو قلت: «ليس هند قائمة» لم يجز. الثاني: أن في «يكون» ضميراً يعود على الله تعالى، و «له» خبر مقدم، و «صاحبة» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «يكون» . الثالث أن يكون «له» وحدَه هو الخبر، و «صاحبةٌ» فاعل به لاعتماده/ وهذا أَوْلَى ممَّا قبله؛ لأنَّ الجارَّ أقربُ إلى المفرد، والأصل في الأخبار الإِفراد. الرابع: أنَّ في «يكون» ضميرَ الأمر والشأن و «له» خبرٌ مقدَّمٌ، و «صاحبةٌ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «يكون» مفسِّرة لضمير الشأن، ولا يجوزُ في هذا أن يكون «له» هو الخبر وحده و «صاحبةٌ» فاعلٌ به كما جاز في الوجه قبله. والفرق أنَّ ضمير الشأنِ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ صريحة، وقد تقدَّم أنَّ هذا النوعَ من قبيل المفردات. و «تكن» يجوز أن تكونَ الناقصة أو التامة حسبما تقدَّم فيما قبلها. وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} هذه جملة إخبارية مستأنفة، ويجوز أن تكون حالاً، وهي حال لازمة.

102

قوله تعالى: {ذلكم} : أي: ذلكم الموصوفُ بتلك

الصفاتِ المتقدمةِ اللهُ، فاسم الإِشارة مبتدأ و «الله» خبره، وكذا «ربكم» وكذا الجملةُ من قوله {لا إله إِلاَّ هُوَ} ، وكذا «خالق» . قال الزمخشري: «وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة» . قلت: هذا عند مَنْ يجيز تَعَدُّد الخبرِ مطلقاً، ويجوز أن يكون «الله» وحده هو الخبر ما بعده أبدال، كذا قال أبو البقاء، وفيه نظر من حيث إنَّ بعضها مشتقٌّ والبدلُ يَقِلُّ بالمشتقات، وقد يقال إن هذه، وإن كانت مشتقة، ولكنها بالنسبة إلى الله تعالى من حيث اختصاصُها به صارت كالجوامد، ويجوز أن يكون «الله» هو البدل، وما بعده أخبارٌ أيضاً، ومَنْ منع تعدُّدَ الخبرِ قَدَّر قبلَ كل خبرٍ مبتدأ، أو يجعلها كلَّها بمنزلة اسم واحد كأنه قيل: ذلكم الموصوفُ هو الجامعُ بين هذه الصفات.

104

قوله تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ} : إنما ذَكَّر الفعلَ لشيئين: أحدهما الفصلُ بالمفعول، والثاني كون التأنيث مجازياً. والبصائر جمع البصيرة، وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء، ومنه قيل للدم الدالِّ على القتيل بصرة. والبصيرة مختصة بالقلب كالبصر للعين، هذا قول بعضهم. وقال الراغب: «ويقال لقوة القلب المُدْرِكة بَصيرة وبَصَر، قال تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} [النجم: 17] وقد تقدَّم تحقيق هذا في أوائل البقرة. و {مِن رَّبِّكُمْ} يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله، وأن يتعلق بمحذوفٍ على

أنه صفة لما قبله، أي: بصائر كائنة من ربكم، و» مِنْ «في الوجهين لابتداء الغاية مجازاً. قوله: {فَمَنْ أَبْصَرَ} يجوز أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة، فالفاء جوابُ الشرط على الأول، ومزيدة في الخبر لشبه الموصول باسم الشرط على الثاني، ولا بد قبل لام الجر مِنْ محذوف يَصِحُّ به الكلامُ، والتقدير: فالإِبصار لنفسه ومَنْ عَمِي فالعَمَى عليها. والإِبصار والعَمَى مبتدآن، والجارُّ بعدهما هو الخبر، والفاء داخلة على هذه الجملةِ الواقعة جواباً أو خبراً، وإنما حُذِف مُبْتَدَؤُها للعلم به، وقدَّر الزجاج قريباً من هذا فقال:» فلنفسه نَفْع ذلك، ومَنْ عمي فعليها ضررُ ذلك «. وقال الزمخشري:» فَمَنْ أبصر الحقَّ وآمن فلنفسه أبصر وإياها نَفَعَ، ومَنْ عمي فعليها أي: فعلى نفسه عَمِي، وإياها ضَرَّ «. قال الشيخ:» وما قَدَّرناه من المصدر أَوْلى، وهو فالإِبصار والعمى، لوجهين، أحدهما: أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة، والجار يكون عمدةً لا فَضْلة، وفي تقديره هو المحذوفُ جملةٌ والجارُّ والمجرورُ فضلةٌ. والثاني: وهو أقوى وذلك أنه لو كان التقدير فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت «مَنْ» شرطيةً أم موصولة مشبهة بالشرط؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاءً ولا جامداً، ووقع جوابَ شرط أو خبرَ مبتدأ مشبه بالشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ، لو قلت: «مَنْ جاءني فأكرمتُه» لم يَجُزْ بخلافِ تقديرنا فإنه لا بد فيه من الفاء، ولا يجوز حَذْفُها إلا في الشعر «. قلت: هذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري مسبوقٌ إليه سبقه إليه الكلبي فإنه قال:» فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فلنفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّق فعلى نفسه جَنَى العذاب «. وقوله» إن الفاء لا تدخل فيما ذكر «قد يُنازَعُ فيه، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً ويظهر/ فيه أثر الجازم كالمضارع يجوز فيه دخول الفاء نحو: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] فالماضي بدخولها أَوْلى وأَحْرى.

105

قوله تعالى: {وكذلك} : الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف، فقدَّره الزجاج: «ونُصَرِّفُ الآياتِ مثلَ ما صَرَّفناها فيما تُلي عليكم» ، وقدَّره غيرُه: نُصَرِّف الآيات في غير هذه السورة تصريفاً مثل التصريف في هذه السورة. قوله: «ولِيقولوا» الجمهور على كسرِ اللامِ، وهي لام كي، والفعلُ بعدها منصوب بإضمار «أَنْ» فهو في تأويل مصدر مجرور بها على ما عُرِف غيرَ مرة، وسمَّاها أبو البقاء وابن عطية لام الصيرورة كقوله تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] وكقوله: 2026 - لِدُوا للموتِ وابنُوا للخَراب ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: لمَّا صار أمرُهم إلى ذلك عبَّر بهذه العبارة، والعلة غير مرادة في هذه الأمثلة، والمحققون يأبَوْن جَعْلَها للعاقبة والصيرورة، ويُؤَوِّلون ما وَرَدَ من ذلك على المجاز. وجَوَّز أبو البقاء فيها الوجهين: أعني كونَها لامَ العاقبة أو العلة حقيقةً فإنه قال: «واللام لام العاقبة أي: إن أمرَهم يَصير إلى هذا»

وقيل: إنه قصد بالتصريف أن يقولوا دَرَسَتْ عقوبةً لهم «يعني فهذه علة صريحة وقد أوضح بعضهم هذا فقال:» المعنى: يُصَرِّف هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقولَ بعضُهم دارَسَتْ فيزدادوا كفراً، وتنبيهٌ لبعضهم فيزدادوا إيماناً، ونحو: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 2] . وأبو علي جعلها في بعض القراءات لام الصيرورة، وفي بعضها لام العلة فقال: «واللام في ليقولوا في قراءة ابن عامر ومَنْ وافقه بمعنى: لئلا يقولوا أي: صُرِفَت الآيات وأُحْكِمَتْ لئلا يقولوا هذه أساطير الأولين قديمة قد بَلِيَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة» . قلت: قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أَكَلَتْ وسَرَقتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات، وسيأتي تحقيق القراءات في هذه الكلمة متواتِرها وشاذِّها. قال الشيخ «وما أجازه من إضمارِ» لا «بعد اللام المضمر بعدها» أَنْ «هو مذهب لبعض الكوفيين كما أضمروها بعد» أَنْ «المظهرة في {أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] ، ولا يجيز البصريون إضمار» لا «إلا في القسم على ما تبيَّن فيه» . ثم هذه اللام لا بدَّ لها من مُتَعَلَّق، فقدَّره الزمخشري وغيره متأخراً. قال الزمخشري: «وليقولوا جوابه محذوف تقديره: وليقولوا دَرَسَتْ نُصَرِّفها. فإن قلت: أيُّ فرق بين اللامين في لِيَقُولوا ولنبيِّنه؟ قلت: الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين، ولم تُصْرَفْ ليقولوا دارست، ولكن لأنه لمَّا حصل هذا القولُ بتصريف الآيات كما حصل للتبيين شَبَّهَ به فَسِيْق مَساقَه، وقيل: ليقولوا كما قيل لنبيِّه» . قلت: فقد نص هنا

على أن لام «ليقولوا» علة مجازية. وجَوَّز بعضهم أن تكون هذه اللام نسقاً على علةٍ محذوفة. قال ابن الأنباري: «دخلت الواو في» وليقولوا «عطفاً على مضمر، التقدير: وكذلك نصرف الآيات لنُلْزِمَهم الحجةَ وليقولوا» . قلت: وعلى هذا فاللامُ متعلقةٌ بفعلِ التصريف من حيث المعنى ولذلك قَدَّره مَنْ قدَّره متأخراً ب «نُصَرِّف» . وقال الشيخ: «ولا يتعيَّن ما ذكره المُعْرِبون والمفسِّرون من أن اللامَ لامُ كي أو لامُ الصيرورة، بل الظاهر أنها لام الأمر والفعل مجزوم بها، ويؤيده قراءة مَنْ سكن اللام، والمعنى عليه يتمكن، كأنه قيل: وكذلك نُصَرِّف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون مِنْ كونها دَرَسْتَها وَتَعَلَّمتها أو دَرَسَت هي أي: بَلِيَتْ وقَدُمَتْ، فإنه لا يُحْتَفَلُ بهم ولا يُلْتفت إلى قولهم، وهو أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراث بقولهم أي: نُصَرِّفها وليدَّعُوا فيها ما شاؤوا، فإنه لا اكتراث بدعواهم» . وفيه نظر من حيث إن المعنى على ما قاله الناس وفهموه، وأيضاً فإنَّ بعده/ ولنبيِّنَه وهو نصٌّ في لام كي، وأمَّا تسكين اللام في القراءة الشاذة فلا يدلُّ لاحتمال أن تكون لام كي سُكِّنت إجراءً للكلمة مُجْرى كَتِف وكَبِد. وقد ردَّ الشيخ على الزمخشري حيث قال: «وليقولوا جوابه محذوف» فقال: «وتسميتُه ما يتعلَّق به قوله» وليقولوا «جواباً اصطلاحٌ غريب، لا يقال في» جئتَ «من قولك» جئت لتقوم «إنه جواب» . قلت: هذه العبارة قد تكررت للزمخشري وسيأتي ذلك في قوله {ولتصغى} [الأنعام: 113] أيضاً. وقال الشيخ هناك: «وهذا اصطلاحٌ غريب» ، والذي يظهر أنه إنما يُسَمِّي هذا النحوَ جواباً لأنه يقع جواباً لسائل. تقول: أين الذي يتعلَّق به هذا الجارُّ؟ فيُجاب به، فسُمِّي جواباً

بهذا الاعتبار، وأضيف إلى الجارِّ في قوله «وليقولوا» جوابه، لأن الإِضافة [تقع] بأدنى ملابسة وإلا فكلامُ إمامٍ يتكرَّر لا يُحمل على فساد. وأمَّا القراءات التي في «دَرَسَتْ» فثلاث في المتواتر: فقرأ ابن عامر «دَرَسَتْ» بزنة ضَرَبَتْ، وابن كثير وأبو عمرو «دارَسْتَ» بزنة قابلْتَ أنت، والباقون «درسْتَ» بزنة ضربْت أنت. فأمَّا قراءة ابن عامر فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع يُشيرون إلى أنها من أحاديث الأولين كما قالوا أساطير الأولين. وأمَّا قراءة ابن كثير أبي عمرو فمعناها دارسْتَ يا محمدُ غيرَك من أهل الأخبار الماضية والقرون الخالية حتى حفظتها فقلتَها، كما حَكى عنهم فقال: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103] وفي التفسير: أنهم كانوا يقولون: هو يدارس سَلْمَان وعَدَّاساً. وأمَّا قراءة الباقين فمعناها حَفِظْتَ وأَتْقَنْتَ بالدرس أخبارَ الأولين كما حكى عنهم {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] أي تكرَّر عليها بالدَّرْس ليحفظها. وقرئ هذا الحرف في الشاذ عشر قراءاتٍ أُخَرَ فاجتمع فيه ثلاثَ عشرةَ قراءة: فقرأ ابن عباس بخلاف عنه وزيد بن علي والحسن البصري وقتادة «دُرِسَتْ» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الآيات، وفَسَّرها ابن جني والزمخشري بمعنيين، في أحدهما إشكال. قال أبو الفتح: «يُحتمل أن

يراد عَفَتْ أو بَلِيَتْ» . وقال أبو القاسم: «بمعنى قُرِئت أو عُفِيَتْ» . قال الشيخ: «أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهرٌ؛ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّر القراءة متعدٍّ، وأمَّا» دَرَس «بمعنى بَلِي وانمحى فلا أحفظه متعدياً ولا وَجَدْنا فيمن وَقَفْنا على شعره من العرب إلا لازماً» . قلت: لا يحتاج هذا إلى استقراء فإن معناه [لا] يحتمل أن يكون متعدِّياً إذ حَدَثُه لا يتعدَّى فاعلُه فهو كقام وقعد، فكما أنَّا لا نحتاج في معرفة قصور قام وقعد إلى استقراء بل نَعْرِفُه بالمعنى فكذا هذا. وقرئ «دَرَّسْتَ» فعلاً ماضياً مشدداً مبنياً للفاعل المخاطب، فيحتمل أن يكون للتكثير أي: دَرَّسْتَ الكتب الكثيرة كذبَّحْتُ الغنم وقَطَّعْتُ الأثواب، وأن تكون للتعدية، والمفعولان محذوفان أي: دَرَّسْتَ غيرَك الكتب وليس بظاهر، إذ التفسير على خلافه. وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مبني للمفعول أي: دَرَّسك غيرُك الكتبَ، فالتضعيف للتعدية لا غير. وقرئ «دُوْرِسْتَ» مسنداً لتاء المخاطب مِنْ دارَسَ كقاتل، إلا أنه بني للمفعول فقلبت ألفه الزائدة واواً، والمعنى: دارَسَكَ غيرك. وقرئ «دارسَتْ» بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل، وفي فاعله احتمالان، أحدهما: أنه ضمير الجماعة أُضْمِرَتْ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي: دارستك الجماعة، يُشيرون لأبي فكيهة وسلمان، وقد تقدم ذلك في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والثاني: ضمير الإِناث على سبيل المبالغة أي: إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ وإن كان المراد أهلها. وقرئ «دَرُسَتْ» بفتح الدال وضم الراء مسنداً إلى ضمير الآيات وهو مبالغة في دَرَسَتْ بمعنى بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وانمحت أي اشتد دُروسُها وبِلاها. وقرأ أُبَيّ/ «دَرَسَ» وفاعله ضمير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو ضمير الكتاب

بمعنى قرأه النبي وتلاه وكُرِّرَ عليه، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى، وهكذا في مصحف عبد الله درس. وقرأ الحسن في رواية «دَرَسْنَ» فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإِناث هي ضمير الآيات، وكذا هي في بعض مصاحف ابن مسعود. وقرئ «دَرَّسْنَ» الذي قبله إلا أنه بالتشديد بمعنى اشتد دُروسها وبِلاها كما تقدَّم. وقرئ «دارسات» جمع دارسة بمعنى قديمات، أو بمعنى ذات دُروس نحو: عيشة راضية، وماء دافق، وارتفاعُها على خبر ابتداء مضمر أي: هنَّ دارسات، والجملة في محلّ نصب بالقول قبلها. وقوله {وَلِنُبَيِّنَهُ} تقدَّم أن هذا عطفٌ على ما قبله فحكمه حكمه. وفي الضمير المنصوب أربعةُ احتمالات، أحدها: أنه يعود على الآيات، وجاز ذلك وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى القرآن. الثاني: أنه يعود على الكتاب لدلالة السياق عليه، ويُقَوِّي هذا أنه فاعل لدَرَسَ في قراءةِ مَنْ قرأه كذلك. الثالث: أنه يعود على المصدر المفهوم مِنْ نُصَرِّف أي نبيِّن التصريف. الرابع: أن يعود على المصدر المفهوم من «لنبينه» أي: نبيِّن التبيين نحو: ضَرَبْتُه زيداً أي ضربت الضرب زيداً. و «لقوم» متعلق بالفعلِ قبلَه. و «يَعْلَمُون» في محل جر صفة للنكرة قبلها.

106

وقوله تعالى: {مَآ أُوحِيَ} : يجوز أن تكون اسمية، والعائد هو القائم مقام الفاعل. و «إليك» فضلةٌ، وأجازوا أن تكون مصدريةً والقائمُ مقامَ الفاعل حينئذ الجار والمجرور أي: الإِيحاء الجائي مِنْ ربك، و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً ف «مِنْ ربك» متعلِّقٌ بأُوْحِي. وقيل: بل هو حال من «ما» نفسها. وقيل: بل هو حال من الضمير المستتر في «أوحي» وهو بمعنى ما قبله. قوله: {لا إله إِلاَّ هُوَ} جملة معترضة بين هاتين الجملتين الأمريتين، هذا

هو الأحسن. وجَوَّز أبو البقاء أن تكون حالاً من «ربك» وهي حال مؤكدة تقديره: من ربك منفرداً.

107

وقوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله} : مفعولُ المشيئة محذوف أي: لو شاء الله إيمانهم، وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لغرابته. وقوله: «جَعَلْناك» هي بمعنى صيَّر، فالكاف مفعول أول و «حفيظاً» هو الثاني، و «عليهم» متعلق به قُدِّم للاهتمام أو للفواصل. ومفعول «حفيظ» محذوف أي: حفيظاً عليهم أعمالَهم. قال أبو البقاء: «هذا يؤيد قول سيبويه في إعمال فعيل» يعني أنه مثالُ مبالغة، وللناس في إعماله وإعمال فَعِل خلاف أثبته سيبويه ونفاه غيره، وكيف يؤيده وليس شيء في اللفظ يَشْهد له؟ وقوله: {وَمَآ أَنتَ} يجوز أن تكون الحجازية، فيكون «أنت» اسمها و «بوكيل» خبرها في محل نصب، ويجوز أن تكون التميميةَ فيكون «أنت» مبتدأ و «بوكيل» خبره في محل رفع، والباء زائدة على كلا التقديرين، و «عليهم» متعلِّقٌ بوكيل قُدِّم لِما تقدَّم فيما قبله. وهذه الجملة هي في معنى الجملة قبلها؛ لأنَّ معنى ما أنت وكيل عليهم هو بمعنى ما جعلناك حفيظاً عليهم أي: رقيباً.

108

وقوله تعالى: {مِن دُونِ الله} : يجوز أن يتعلَّق ب «يَدْعُون» وأن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال: إمَّا من الموصول، وإمَّا مِنْ عائده المحذوف أي: يَدْعُونهم حالَ كونهم مستقرِّين من دون الله.

قوله: {فَيَسُبُّواْ} الظاهر أنه منصوب على جواب النهي بإضمار أن بعد الفاء أي: لا تَسُبُّوا آلهتَهم؛ فقد يترتب عليه ما يكرهون مِنْ سَبِّ الله، ويجوز أن يكون مجزوماً نسقاً على فعل النهي قبله كقولهم «لا تَمْدُدْها فتشقَّها» وجاز وقوع «الذين» وإن كان مختصَّاً بالعقلاء على الأصنامِ التي لا تَعْقِلُ معاملةً لها معاملةَ العقلاء كما أوقع عليها «مَنْ» في قوله: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] ويجوز أن يكون ذلك للتغليب لأن المعبود من دون الله عقلاء كالمسيح وعُزَيْر والملائكة وغيرهم، فغلَّب العاقل، ويجوز أن يراد بالذين يَدْعون المشركون أي: لا تَسُبُّوا الكَفَرة الذين يَدْعون غير الله من دونه. وهو وجه واضح. قوله {عَدْواً} الجمهور على فتح العين وسكون الدال وتخفيف الواو، ونصبه من ثلاثة أوجه أحدها: أنه منصوب على المصدر لأنه نوعُ من العامل فيه، لأن السَّبَّ من جنس العَدْوِ. والثاني: أنه مفعول من أجله أي لأجل العدو، وظاهر كلام الزجاج أنه خلط القولين فجعلهما قولاً واحداً، فإنه قال: «وعَدْواً منصوبٌ على المصدر لأن المعنى: فَتَعْدُوا/ عَدْواً» قال: «ويكون بإرادة اللام والمعنى: فيسُبُّوا الله للظلم. والثالث: أنه منصوب على أنه واقع موقع الحال المؤكدة لأن السَّبَّ لا يكون إلا عَدْواً. وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وقتادة وسلام وعبد الله بن زيد» عُدُوَّاً «بضم العين والدال وتشديد الواو، وهو مصدرُ أيضاً ل» عدا «وانتصابُه على ما تقدَّم من ثلاثة الأوجه. وقرأ ابن كثير في رواية - وهي قراءة أهل مكة فيما نقله النحاس -»

عَدُوَّا «بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو بمعنى أعداء، ونصبه على الحال المؤكدة و» عدوّ «يجوز أن يقع خبراً عن الجمع، قال تعالى: {هُمُ العدو} [المنافقون: 4] وقال تعالى {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} [النساء: 101] . ويقال: عَدا يَعْدُوا عَدْواً وعُدُوَّاً وعُدْواناً وعَداءً. و» بغير عِلْم «حالٌ أي: يَسُبُّونه غير عالمين أي: مصاحبين للجهل؛ لأنه لو قَدَّره حَقَّ قَدْره لما أَقْدَموا عليه. وقوله» كذلك «نعتٌ لمصدر محذوف أي: زَيَّنَّا لهؤلاء أعمالَهم تزييناً مثلَ تزيينِنا لكلِّ أمةٍ عَمَلَهم، وقيل: تقديره: مثلَ تزيينِ عبادةِ الأصنام للمشركين زَيَّنَّا لكلِّ أمة عَمَلَهم وهو قريب من الأول.

109

وقوله تعالى: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : قد تقدَّم الكلام عليه في المائدة. وقرأ طلحة بن مصرف: «لَيُؤْمَنَنْ» مبنياً للمفعول مؤكداً بالنون الخفيفة. قوله «وما يُشْعِركم» : «ما» استفهامية مبتدأة، والجملة بعدها خبرها، وفاعلُ «يشعر» يعود عليها، وهي تتعدى لاثنين الأول ضمير الخطاب، والثاني محذوف، أي: وأي شيء يُدْريكم إيمانُهم إذا جاءتهم الآيات التي اقترحوها؟ وقرأ العامَّة «أنها» بفتح الهمزة، وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلاف عنه بكسرها. فأمَّا على قراءةِ الكسر فواضحةٌ استجودها الناس: الخليل وغيره؛ لأن معناها استئناف إخبار بعدم إيمان مَنْ طُبع على قلبه ولو جاءتهم كلُّ آية. قال سيبويه: «سألْتُ الخليل عن هذه القراءة يعني

قراءة الفتح فقلت: ما منع أن يكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يَحْسُن ذلك في هذا الموضع، إنما قال» وما يُشْعركم «، ثم ابتدأ فأوجب فقال {إِنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ولو فَتَح فقال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} لكان عُذْراً لهم» . وقد شرح الناس قولَ الخليل وأوضحوه فقال الواحدي وغيره: «لأنك لو فتحت» أنَّ «وجعلتها التي في نحو» بلغني أن زيداً منطلق «لكان عذراً لمن أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون، لأنه إذا قال القائل:» إن زيداً لا يؤمن «فقلت: وما يدريك أن لا يؤمن، كان المعنى أنَّه يؤمن، وإذا كان كذلك كان عذراً لمَنْ نفى عنه الإِيمان، وليس مرادُ الآية الكريمة إقامةَ عُذْرِهم ووجودَ إيمانهم. وقال الزمخشري» وقرئ «إنها» بالكسر، على أن الكلام قد تمَّ قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون «. وأمَّا قراءة الفتح فقد وجَّهها الناس على ستة أوجه، أظهرها: أنها بمعنى لعلَّ، حكى الخليل» أتيت السوق أنك تشتري لنا منه شيئاً «أي: لعلك، فهذا من كلام العرب كما حكاه الخليل شاهد على كون» أنَّ «بمعنى لعلَّ، وأنشد أبو جعفر النحاس: 2027 - أريني جواداً مات هُزْلاً لأَنَّني ... أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّدا قال امرؤ القيس: أنشده الزمخشري 2028 - عُوجا على الطلل المُحيلِ لأنَّنا ... نبكي الديار كما بكى ابنُ حِذامِ

وقال جرير: 2029 - هلَ أنتمْ عائجون بنا لَعَنَّا ... نرى العَرَصاتِ أو أثرَ الخيام وقال عدي بن زيد: 2030 - أعاذلَ ما يُدْرِيكَ أن منيَّتي ... إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضحى الغد وقال آخر: 2032 - قلت لشيبانَ ادنُ مِنْ لِقائِهْ ... أنَّا نُغَذِّي الناسَ مِنْ شوائِهْ ف «أنَّ» في هذه المواضع كلها بمعنى لعلَّ، قالوا: ويدل على ذلك أنها في مصحف أُبَيّ وقراءته «وما أدراكم لعلَّها إذا جاءت لا يؤمنون» ونُقِلَ عنه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ لعلها إِذَا جَآءَتْ} ، ذكر ذلك أبو عبيد، وغيره، ورجَّحوا ذلك أيضاً بأنَّ «لعل» قد كَثُرَ ورودها في مثل هذا التركيب كقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 3] وممَّنْ جعل «أنَّ» بمعنى «لعل» أيضاً يحيى بن زياد الفراء. ورجَّح الزجاج ذلك، فقال: «زعم سيبويه عن الخليل أن معناها» لعلها «قال:» وهذا الوجه أقوى في العربية وأجود «، / ونسب القراءة لأهل

المدينة، وكذا أبو جعفر. قلت: وقراءة الكوفيين والشاميين أيضاً، إلا أن أبا علي الفارسي ضعَّف هذا القول الذي استجوده الناس وقوَّوه تخريجاً لهذه القراءة فقال:» التوقع الذي تدل عليه «لعلَّ» لا يناسب قراءة الكسر لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون «ولكنه لمَّا منع كونها بمعنى» لعل «لم يجعلها معمولة ل» يُشْعِركم «بل جعلها على حذف لام العلة أي لأنها، والتقدير عنده: قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، فهو لا يأتي بها لإِصْرارهم على كفرهم، فيكون نظير {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإِسراء: 59] أي بالآيات المقترحة، وعلى هذا فيكون قوله» وما يُشْعركم «اعتراضاً بين العلة والمعلول. الثاني: أن تكون» لا «مزيدةً، وهذا رأيُ الفراء وشيخه قال:» ومثله {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] أي: أن تسجد، فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، والمعنى على هذا: أنها لو جاءت لم يؤمنوا، وإنما حملها على زيادتها ما تقدَّم من أنها لو تُقَدَّر زائدةً لكان ظاهرُ الكلام عذراً للكفار وأنهم يُؤْمنون، كما عرَفْتَ تحقيقَه أولاً. إلا أن الزجاج نسب ذلك إلى الغلط فقال «والذي ذكر أن» لا «لغوٌ غالط، لأنَّ ما يكون لغواً لا يكون غيرَ لغو، ومَنْ قرأ بالكسر فالإِجماع على أن» لا «غير لغو» فليس يجوز أن يكون معنى لفظة مرةً النفيَ ومرةً الإِيجابَ في سياق واحد. وانتصر الفارسي لقول الفراء ونفى عنه الغلط، فإنه قال: «يجوز أن

تكون» لا «في تأويلٍ زائدةً، وفي تأويلٍ غيرَ زائدة كقول الشاعر: 2032 - أبى جودُه لا البخلَ واستعجلَتْ نَعَمْ ... به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائِلُهْ يُنشد بالوجهين أي بنصب» البخل «وجرِّه، فَمَنْ نَصَبَه كانت زائدة أي: أبى جوده البخل، ومَنْ خفض كانت غيرَ زائدة وأضاف» لا «إلى البخل قلت: وعلى تقدير النصب لا يلزم زيادتها لجواز أن تكون» لا «مفعولاً بها والبخل بدل منها أي: أبى جوده لفظ» لا «، ولفظ» لا «هو بخل. وقد تقدَّم لك طرفٌ من هذا محققاً عند قوله تعالى {وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] في أوائل هذا الموضوع، وسيمر بك مواضعُ منها، كقوله تعالى: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] قالوا: تحتمل الزيادةَ وعَدَمَها، وكذا {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] . الثالث: أن الفتح على تقديرِ لامِ العلة، والتقدير: إنما الآيات التي يقترحونها عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، وما يُشْعركم اعتراض، كما تقدَّم تحقيق ذلك عن أبي علي فأغنى عن إعادته، وصار المعنى: إنما الآيات عند الله أي المقترحة لا يأتي بها لانتفاء إيمانهم وإصرارهم على كفرهم. الرابع: أنَّ في الكلام حذفَ معطوفٍ على ما تقدَّم. قال أبو جعفر في معانيه: «وقيل في الكلام حذف، المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت

لا يؤمنون أو يؤمنون» فحذف هذا لعلم السامع، وقَدَّره غيره: ما يشعركم بانتفاء الإِيمان أو وقوعه. الخامس: أنَّ «لا» غير مزيدة، وليس في الكلام حَذْفٌ بل المعنى: وما يدريكم انتفاء إيمانهم، ويكون هذا جواباً لمن حكم عليهم بالكفر أبداً ويئس من إيمانهم. وقال الزمخشري: «وما يشعركم وما يدريكم أنها - أن الآيات التي يقترحونها - إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تَدْرُون بذلك، وذلك أن المؤمنين كانوا حريصين على إيمانهم وطامعين فيه إذا جاءت تلك الآية ويتمنَّون مجيئها فقال عز وجل:» وما يدريكم أنهم لا يؤمنون «على معنى: أنكم لا تَدْرُوْنَ ما سَبَقَ علمي بهم أنهم لا يؤمنون، ألا ترى إلى قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] انتهى. قلت بَسْطُ قولِه إنهم كانوا يطمعون في إيمانهم ما جاء في التفسير أن المشركين قالوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنزل علينا الآية التي قال الله فيها {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} ونحن والله نؤمن فأنزل الله تعالى: وما يُشْعركم إلى آخرها/. وهذا الوجه هو اختيار الشيخ فإنه قال:» ولا يحتاج الكلام إلى زيادة «لا» ولا إلى هذا الإِضمار «- يعني حَذْفَ المعطوف -» ولا إلى «أنَّ» بمعنى لعلَّ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير ضرورةٍ، بل حَمْلُه على الظاهر أَوْلى وهو واضح سائغ أي: وما يشعركم ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها «. السادس: أنَّ» ما «حرف نفي، يعني أنه نَفَى شعورَهم بذلك، وعلى هذا فيُطْلَبُ ل» يُشْعركم «فاعلٌ. فقيل: هو ضمير الله تعالى أُضْمر للدلالة عليه، وفيه تكلُّفٌ بعيد أي: وما يُشْعِرُكم الله أنها إذا جاءت الآيات المقترحة

لا يؤمنون. وقد تقدَّم في البقرة كيفيةُ قراءةِ أبي عمرو ل {يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] و {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] ونحوِهما عند قوله {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] ، وحاصلها ثلاثة أوجه: الضم الخالص، والاختلاس، والسكون المحض. وقرأ الجمهور: «لا يؤمنون» بياء الغيبة، وابن عامر وحمزة بتاء الخطاب، وقرآ أيضاً في الجاثية [الآية: 6] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} بالخطاب، وافقهما عليها الكسائي وأبو بكر عن عاصم، والباقون بالياء للغيبة، فَتَحَصَّل من ذلك أنَّ ابن عامر وحمزة يقرآن بالخطاب في الموضعين، وأنَّ نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وحفصاً عن عاصم بالغيبة في الموضعين، وأن الكسائي وأبا بكر عن عاصم بالغيبة هنا وبالخطاب في الجاثية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحدى السورتين والآخر في أخرى. فأما قراءة الخطاب هنا فيكون الظاهر من الخطاب في قوله «وما يشعركم» أنه للكفار، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة «لا» أي: وما يُشْعركم أنكم تؤمنون إذا جاءت الآيات التي طلبتموها كما أَقْسَمْتُمْ عليه ويتضح أيضاً على كونِ «أنَّ» بمعنى لعلَّ مع كون «لا» نافيةً، وعلى كونِها علةً بتقديرِ حَذْفِ اللامِ أي: إنما الآيات عند الله فلا يأتيكم بها؛ لأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ويتضح أيضاً على كون المعطوف محذوفاً أي: وما يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءت الآيات أو وقوعه، لأنَّ مآل أمرِكم مُغَيَّبٌ عنكم فكيف تُقْسِمون على الإِيمان عند مجيء الآيات؟ وإنما يُشْكل إذا جَعَلْنا «أنَّ» معمولةً

ل «يُشْعركم» وجَعَلْنَا «لا» نافيةً غير زائدة، إذ يكون المعنى: وما يدريكم أيها المشركون بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم، ويزول هذا الإِشكال بأنَّ المعنى: أيُّ شيء يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءتكم الآيات التي اقترحتموها؟ يعني لا يمرُّ هذا بخواطركم، بل أنتم جازِمُون بالإِيمان عند مجيئها لا يَصُدُّكم عنه صادٌّ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون وقت مجيئها لأنكم مطبوعٌ على قلوبكم. وأمَّا على قراءة الغَيْبة فتكون الهمزةُ معها مكسورةً، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم، ومفتوحة وهي قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم. فعلى قراءة ابن كثير ومَنْ معه يكون الخطاب في «وما يشعركم» جائزاً فيه وجهان، أحدهما: أنه خطاب للمؤمنين أي: وما يشعركم أيها المؤمنون إيمانهم، ثم استأنف إخباراً عنهم بأنهم لا يؤمنون فلا تَطْمعوا في إيمانهم والثاني: أنه للكفار أي: وما يُشْعركم أيُّها المشركون ما يكون منكم، ثم استأنف إخباراً عنهم بعدم الإِيمان لعلمه السابق فيهم، وعلى هذا ففي الكلام التفاتٌ من خطاب إلى غيبة. وعلى قراءة نافع يكون الخطابُ للكفار، وتكون «أنَّ» بمنى لعلَّ، كذا قاله أبو شامة وغيره. وقال الشيخ في هذه القراءة: «الظاهر أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى: وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون» يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ثم ساق كلام الزمخشري بعينه الذي قَدَّمْتُ ذِكْرَه عنه في الوجه الخامس قال: «ويبعد جداً أن يكون الخطاب في» وما يشعركم «للكفار» . قلت: إنما استبعده لأنه لم يَرَ في «أنَّ» هذه أنها بمعنى لعل كما حكيتُه عنه. وقد جعل الشيخُ في مجموع {أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بالنسبة إلى كسر الهمزة وفتحِها والخطاب والغَيْبة أربع

قراءات قال: «وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر، وقال ابن/ عطية:» ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الإِيادي: إنها بكسر الهمزة، وقرأ باقي السبعة بفتحها، وقرأ ابن عامر وحمزة «لا تؤمنون» بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة، فترتَّب أربع قراءات: الأولى: كَسْرُ الهمزة والياء وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة «ثم قال:» القراءة الثانية: كَسْرُ الهمزة والتاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم؟ ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في «وما يُشْعركم» للمؤمنين وفي «تؤمنون» للكفار. ثم ذكر القراءة الثالثة نظرٌ لا يخفى: وذلك أنه لَمَّا حكى قراءة الخطاب في «تؤمنون» لم يحكها إلا عن حمزة وابنِ عامر فقط، ولم يدخل معهما أبو بكر لا من طريق العليمي والأعشى ولا من طريق غيرهما، والفرض أن حمزة وابن عامر يفتحان همزة «أنها» ، وأبو بكر يكسرها ويفتحها، ولكنه لا يقرأ «يؤمنون» إلا بياء الغيبة فمن أين تجيء لنا قراءةٌ بكسر الهمزة والخطاب؟ وإنما أتيتُ بكلامه برُمَّته ليُعْرَفَ المأخذ عليه ثم إني جَوَّزْتُ أن تكون هذه روايةً رواها فكشفتُ كتابه في القراءات، وكان قد أفرد فيه فصلاً انفرد به العليمي في روايته، فلم يذكر أنه قرأ «تؤمنون» بالخطاب البتة، ثم كشفت كتباً في القراءات عديدةً فلم أرهم ذكروا

ذلك فعرفتُ أنه لَمَّا رأى للهمزة حالتين ولحرف المضارعة في «يؤمنون» حالتين ضرب اثنين في اثنين فجاء من ذلك أربعُ قراءات ولكن إحداهما مهملة. وقوله «لا يُؤْمنون» متعلَّقُه محذوف للعلم به أي: لا يؤمنون بها. قوله: {ونُقَلِّب} في هذه الجملة وجهان، أحدهما ولم يقل الزمخشري غيره أنها وما عطف عليها من قوله «وَيذَرُهم» عطف على «يُؤْمنون» داخلٌ في حكم وما يُشْعركم، بمعنى: وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يُشْعركم أنَّا نقلِّب أفئدتَهم وأبصارَهم، وما يُشْعركم أنَّا نَذَرَهم «وهذا يساعده ما جاء في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد، والثاني: أنها استئناف إخبار، وجعله الشيخُ الظاهرَ، والظاهرُ ما تقدَّم.

110

والأفْئِدة: جمع فؤاد وهو القلب، ويُطلق على العقل. وقال الراغب: «الفؤاد كالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتُبِرَ به معنى التَّفَؤُّد أي التوقُّد يقال: فَأَدْتُ اللحم: شَوَيْتُه ومنه لحم فئيد أي مَشْويٌّ، وظاهر هذا أن الفؤاد غير القلب ويقال له فُؤاد بالواو الصريحة، وهي بدلٌ من الهمزة لأنه تخفيفٌ قياسيٌّ وبه يَقْرأ ورش فيه وفي نظائره، وصلاً ووقفاً، وحمزة وقفاً، ويُجْمع على أفئدة، وهو جمعٌ منقاس نحو غُراب وأغْرِبة، ويجوز أفْيدة بياء بعد الهمزة، وقرأ بها هشام في سورة إبراهيم وسيأتي. قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ} الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ و» ما «مصدرية، والتقدير: كما قال أبو البقاء تقليباً ككفرهم عقوبةً

مساوية لمعصيتهم، وقَدَّره الحوفي بلا يُؤْمنون به إيماناً ثابتاً كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقيل: الكاف هنا للتعليل أي: نقلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم لعدم إيمانهم به أولَ مرة. وقيل: في الكلام حَذْفٌ تقديره: فلا يؤمنون به ثاني مرة كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقال بعضُ المفسِّرين:» الكافُ هنا معناها المجازاة أي: لمَّا لم يؤمنوا به أولَ مرة نجازيهم بأَنْ نُقَلِّب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم، فكأنه قيل: ونحن نقلِّب أفئدتهم جزاءً لما لم يؤمنوا به أول مرة قاله ابن عطية. قال الشيخ: «وهو معنى التعليل الذي ذكرناه، إلا أن تسميتَه ذلك بالمجازاة غريبة لا تُعْهَدُ في كلام النحويين» . قلت: قد سُبِقَ ابن عطية إلى هذه العبارة، قال الواحدي: «وقال بعضهم: معنى الكاف في {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ} معنى الجزاءِ، ومعنى الآية: ونقلِّب أفئدتَهم وأبصارهم عقوبةً لهم على تَرْك الإِيمان في المرة الأولى، والهاء في» به «تعود على الله تعالى أو على رسوله أو على القرآن، أو على القلب المدلول عليه بالفعل، وهو أبعدها/ و» أول مرة «نصبٌ على ظرف الزمان وقد تقدَّم تحقيقه. وقرأ إبراهيم النخعي» ويُقَلِّب ويَذَرُهم «بالياء، والفاعلُ ضمير الباري تعالى. وقرأ الأعمش:» وتُقَلَّبُ أفئدتهم وأبصارهم «على البناء للمفعول ورفعِ ما بعده على قيامه مَقامَ الفاعل، كذا رواها الزمخشري عنه، والمشهورُ بهذه القراءةِ إنما هو النخعي أيضاً، ورُوي عنه» ويذرهم «بياء الغَيْبة كما تقدم وسكون الراء. وخَرَّج أبو البقاء هذا التسكينَ على وجهين: أحدهما: التسكين لتوالي الحركات. والثاني: أنه مجزوم عطفاً على» يؤمنوا «،

والمعنى: جزاء على كفرهم، وأنه لم يذرْهم في طغيانهم بل بَيَّنَ لهم» . وهذا الثاني ليس بظاهر. و «يَعْمَهون» في محلِّ حال أو مفعول ثان؛ لأن الترك بمعنى التصيير.

111

قوله تعالى: {قُبُلاً} : قرأ نافع وابن عامر «قِبَلاً» هنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء، والكوفيون هنا وفي الكهف بضمها، وأبو عمرو وابن كثير بضمها هنا وكسر القاف وفتح الباء في الكهف، وقرأ الحسن البصري وأبو حَيْوة وأبو رجاء بالضم والسكون. وقرأ أُبَيّ والأعمش «قبيلاً» بياء مثناة من تحت بعد باء موحدة مكسورة. وقرأ طلحة بن مصرف «قَبْلا» بفتح القاف وسكون الباء. فأمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها وجهان، أحدهما: أنها بمعنى مُقَابلة أي: معايَنَةً ومُشَاهَدَةً، وانتصابه على هذا على الحال، قاله أبو عبيدة والفراء والزجاج، ونقله الواحدي أيضاً عن جميع أهل اللغة يقال: «لَقِيته قِبَلاً» أي عِياناً. وقال ابن الأنباري: «قال أبو ذر: قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنبيَّاً كان آدم؟ فقال: نعم كان نبياً، كلَّمه الله قِبَلاً» وبذلك فَسَّرها ابن عباس وقتادة وابن زيد، ولم يَحْكِ الزمخشري غيره فهو مصدر في موضع الحال كما تقدَّم. والثاني: أنها بمعنى ناحية وجهه، قاله المبرد وجماعة من أهل اللغة كأبي زيد، وانتصابه حينئذٍ على الظرف كقولهم: لي قِبَلُ فلان دَيْنٌ،

وما قِبَلك حق. ويقال: لَقِيْتُ فلاناً قِبَلاً ومُقابلةً وقُبُلاً وقُبَلاً وقَبْلِيَّاً وقبيلاً، كلُّه بمعنى واحد، ذكر ذلك أبو زيد وأتبعه بكلام طويلٍ مفيد فَرَحِمَه الله تعالى وجزاه خيراً. وأمَّا قراءة الباقين هنا ففيها أوجه أحدها: أن يكون «قُبُلاً» جمع قبيل بمعنى كفيل كرَغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب ونَصِيب ونُصُب. وانتصابه حالاً قال الفراء والزجاج: «جمع قبيل بمعنى كفيل أي: كفيلاً بصدق محمد عليه السلام» ، ويُقال: قَبَلْتُ الرجل أَقبَلُه قَبالة بفتح الباء في الماضي والقاف في المصدر أي: تكفَّلْت به والقبيل والكفيل والزعيم والأَذِين والضمين والحَمِيل بمعنى واحد، وإنما سُمِّيت الكفالة قَبالة لأنها أوكد تَقَبُّل، وباعتبار معنى الكَفالة سُمِّي العهدُ المكتوب قَبالة. وقال الفراء في سورة الأنعام: «قُبُلاً» جمع «قبيل» وهو الكفيل «. قال:» وإنما اخترت هنا أن يكون القُبُل في معنى الكفالة لقولهم {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإِسراء: 92] يَضْمَنُون ذلك. الثاني: أن يكون جمع قبيل بمعنى جماعةً جماعةً أو صنفاً صنفاً، والمعنى: وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيء فَوْجاً فوجاً ونوعاً نوعاً من سائر المخلوقات. الثالث: أن يكون «قُبْلاً» بمعنى قِبَلاً كالقراءة الأولى في أحد وجهيها وهو المواجهة أي: مواجهةً ومعاينةً، ومنه «آتيك قُبُلاً لا دُبُراً» أي: آتيك من قِبَل وجهك، وقال تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} [يوسف: 26] وقُرِئ «لقُبُل

عِدَّتِهِنَّ» أي: لاستقبالها. وقال الفراء: «وقد يكون قُبُلاً: من قِبَل وجوههم» . وأمَّا الذي في الكهف فإنه يَصِحُّ فيه معنى المواجهة والمعاينة والجماعة صنفاً صنفاً؛ لأن المراد بالعذاب الجنس وسيأتي له مزيد بيان. و «قُبُلاً» نصب على الحال كما مَرَّ مِنْ «كلَّ» وإن كان نكرةً لعمومه وإضافته، وتقدَّم أنه في أحد أوجهه يُنْصَبُ على الظرف عند المبرد. وأمَّا قراءة الحسن فمخفَّفةٌ من المضموم، وقرأه أُبَيٌّ بالأصل وهو المفرد. وأمَّا قراءة طلحة فهو ظرفٌ مقطوعٌ عن الإِضافة معناه: أو يأتيَ بالله والملائكة قَبْلَه، ولكن كان ينبغي أن يُبْنَى لأن الإِضافة مُرادة. وقوله: {مَّا كَانُواْ} جواب «لو» وقد تقدَّم أنه إذا كان منفيَّاً امتنعَتِ اللام. وقال الحوفي: «التقدير لَمَا كانوا، حُذِفَتْ اللام وهي مرادةٌ» ، وهذا ليس بجيد لأن الجوابَ المنفيَّ ب «ما» يَقِلُّ دخولُها بل لا يجوز عند بعضهم، والمنفيُّ ب «لم» ممتنع البتة. وهذه اللام لام الجحود جارَّةٌ للمصدر المؤول من «أَنْ» والمنصوب بها، وقد تقدَّم تحقيق هذا كلِّه بعَوْن الله تعالى. قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} يجوز أن يكون متصلاً أي: ما كانوا ليؤمنوا في سائرِ الأحوال إلا في حال مشيئة الله أو في سائر الأزمان إلا في زمان مشيئته.

وقيل: إنه استثناء من علة عامة أي: ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله تعالى. والثاني: أن يكون منقطعاً، نقل ذلك الحوفي وأبو البقاء واستبعده الشيخ.

112

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} : الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف، فقدَّره الزمخشري/ كما خَلَّيْنا بينك وبين أعدائك كذلك فَعَلْنا بمَنْ قَبْلك «، وقال الواحدي:» وكذلك «منسوقٌ على قوله {كَذَلِكَ زَيَّنَّا} [الأنعام: 108] أي:» كما فَعَلْنا ذلك كذلك جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ عدوَّاً «. ثم قال:» وقيل: معناه جَعَلْنا لك عدواً كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء، فيكون قولُه «وكذلك» عَطْفاً على معنى ما تَقَدَّم من الكلام، وما تقدَّم يدلُّ على معناه على أنه جعل له أعداءً و «جَعَل» يتعدَّى لاثنين بمعنى صَيَّر. وأعرب الزمخشري وأبو البقاء والحوفي هنا نحوَ إعرابِهم في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} [الأنعام: 100] فيكونُ المفعول الأول «شياطين الإِنس» والثاني «عَدُوَّا» ، و «لكلِّ» حال من «عدوَّاً» لأنه صفتُه في الأصل، أو متعلِّق بالجَعْل قبلَه، ويجوز أن يكون المفعول الأول «عدوَّاً» و «لكلِّ» هو الثاني قُدِّم، و «شياطين» بدل من المفعول الأول. والإِضافة في {شَيَاطِينَ الإنس} يُحتمل أن تكونَ من باب إضافة الصفة لموصوفها، والأصل: الإِنس والجن الشياطين نحو: جَرْد قطيفة، ورجَّحْتُه بأنَّ المقصودَ التَّسَلِّي والاتِّساء بمن سَبَق من الأنبياء إذ كان في أممهم مَنْ يُعادلهم

كما في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحتمل أن تكون من الإِضافة التي بمعنى اللام، وليست من باب إضافة صفة لموصوف، والمعنى: الشياطين التي للإِنس، والشياطين التي للجن، فإنَّ إبليس قسَّم جنده قسمين: قسمٌ مُتَسَلِّط على الإِنس، وآخر على الجن كذا جاء في التفسير، ووقع «عَدُوَّاً» مفعولاً ثانياً لشياطين على أحد الإِعرابين بلفظ الإِفراد لأنه يكتفي به في ذلك، وتقدَّم شواهده ومنه: 2033 - إذا أنا لم أَنْفَعْ صديقي بودِّه ... فإنَّ عدوِّي لن يَضُرَّهُمُ بُغْضي فأعاد الضمير مِنْ «يَضُرَّهُم» على «عدّو» فدلَّ على جمعيته. قوله {يُوحِي} يحتمل أن يكون مستأنفاً أخبر عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من «شياطين» وأن يكون وصفاً لعدو، وقد تقدَّم أنه واقع موقع أعداء، فلذلك عاد الضمير عليه جمعاً في قوله «بعضهم» . قوله {غُرُوراً} قيل: نصبٌ على المفعول له أي: لأَنْ يَغُرُّوا غيرهم وقيل: هو مصدرٌ في موضع الحال أي غارِّين، وأن يكون منصوباً على المصدر، لأن العاملَ فيه بمعناه كأنه قيل: يَغُرُّون غُروراً بالوحي. والزخرف: الزينة، وكلامٌ مُزَخْرَف مُنَمَّق، وأصلُه الذَّهب، ولمَّا كان الذهب مُعْجِباً لكل أحد قيل لكل مُسْتَحْسَن مزيَّن: زخرف. وقال أبو عبيدة «كلُّ ما حَسَّنْتَه وزَيَّنْتَه وهو باطل فهو زُخْرف» وهذا لا يلزم إذ قد يُطْلق على ما هو زينةٌ حَقٌّ، وبيت مزخرف أي: مُزَيَّنُ بالنقش، ومنه الحديث: «إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدخل الكعبة حتى أَمَرَ بالزخرف فَنُجِّي» يعني أنهم

كانوا يزينون الكعبة بنقوش وتصاوير مُمَوَّهة بالذهب فأُمِرْنا بإخراجها. قوله: {وَمَا يَفْتَرُونَ} «ما» موصولةٌ اسميةٌ أو نكرةٌ موصوفة، والعائدُ على كِلا هذين القولين محذوف، أي: وما يفترُونه، أو مصدرية، وعلى كلِّ قول فمحلُّها نصبٌ، وفيه وجهان أحدهما: أنها نسقٌ على المفعول في «فَذَرْهُمْ» أي: اتركهمْ واتركْ افتراءهم. والثاني: أنها مفعول معه، وهو مرجوحٌ لأنه متى أَمْكَنَ العطفُ من غير ضعف في التركيب أو في المعنى كان أَوْلَى من المفعول معه.

113

قوله تعالى: {ولتصغى} : في هذهِ اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لامُ كي والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ. وفيما يتعلَّق به احتمالان: الاحتمال الأول أن يتعلق بيُوحي على أنها نَسَقٌ على «غروراً» ، وغروراً مفعول له والتقدير: يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ للغرور وللصَّغْو، ولكن لمَّا كان المفعول له الأول مستكمِلاً لشروط النصب نُصِب، ولما كان هذا غيرَ مستكملٍ للشروط وَصَلَ الفعلُ إليه بحرف العلة، وقد فاته من الشروط كونُه لم يتَّحد فيه الفاعل، فإنَّ فاعلَ الوحي «بعضهم» وفاعلَ الصَّغْو الأفئدة، وفات أيضاً من الشروط صريحُ المصدرية. والاحتمالُ الثاني: أن يتعلَّق بمحذوف متأخرٍ بعدها، فقدَّره الزجاج: ولتَصْغى إليه فَعَلُوا ذلك، وكذا قدَّرَه الزمخشري فقال: «ولتصغى جوابُه محذوف تقديره: وليكونَ ذلك جَعَلْنا الزمخشري فقال:» ولتصغى جوابُه محذوف تقديره: وليكونَ ذلك جَعَلْنا لكلِّ نبيّ عدُوَّاً، على أن اللام لام الصيرورة «. الوجه الثاني: / أن اللام لام الصيرورة وهي التي يعبرون عنها بلام العاقبة، وهو رأيُ الزمخشري كما تقدَّم حكايته عنه أيضاً.

الوجه الثالث: أنها لامُ القسم. قال أبو البقاء:» إلا أنها كُسِرَتْ لمَّا لم يؤكِّد الفعل بالنون «وما قاله غيرُ معروفٍ، بل المعروفُ في هذا القول أنَّ هذه لامُ كي، وهي جواب قسم محذوف تقديره: والله لَتَصْغَى فوضع» لِتَصْغَى «موضع لَتَصْغَيَنَّ، فصار جواب القسم من قبيل المفرد كقولك:» واللهِ لَيقومُ زيدٌ «أي: أحلفُ بالله لَقيامُ زيد، هذا مذهبُ الأخفش وأنشد: 2034 - إذا قلتُ قَدْني قال بالله حَلْفَةً ... لِتُغْنِيَ عني ذا إنائك أجمعا فقوْله» لتُغْني «جوابُ القسم، فقد ظهر أن هذا القائل يقول بكونها لامَ كي، غايةُ ما في الباب أنها وقعت موقع جواب القسم لا أنها جواب بنفسها، وكُسِرَتْ لَمَّا حَذَفَتْ منها نون التوكيد، ويدلُّ على فساد ذلك أن النونَ قد حُذِفَتْ، ولامَ الجواب باقيةٌ على فتحها قال: 2035 - لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ فقوله» لَيَعْلَمُ «جوابُ القسم الموطَّأ له باللام في» لِئنْ «، ومع ذلك فهي مفتوحةٌ مع حَذْفِ نون التوكيد، ولتحقيقِ هذه المسألةِ مع الأخفش موضوعٌ غيرُ هذا. والضمير في قوله» ما فعلوه «وفي» إليه «يعود: إمَّا على الوحي، وإمَّا على الزخرف، وإمَّا على القول، وإمَّا على الغرور، وإمَّا على العداوة لأنها بمعنى

التعادي. ولتصغى أي تميل، وهذه المادة تدل على الميل ومنه قولُه تعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 5] وفي الحديث:» فأصغى لها الإِناء «، وصاغِيَةُ الرجل قرابتُه الذين يميلون إليه، وعين صَغْوى أي: مائلة، قال الأعشى: 2036 - ترى عينها صَغْواءَ في جَنْبِ مُؤْقِها ... تُراقب في كَفِّي القطيعَ المحرَّما والصَّغا: مَيْلٌ في الحَنَك والعين، وصَغَت الشمس والنجوم: أي مالت للغروب. ويقال: صَغَوْتُ وصَغِيْتُ وصَغَيْتُ، فاللام واو أو ياء، ومع الياءِ تُكْسَرُ غين الماضي وتُفْتَحُ. قال الشيخ: «فمصدرُ الأول صَغْوٌ، والثاني صُغِيٌّ، والثالث صَغَاً، ومضارِعُها يَصْغَى بفتح العين» قلت: قد حكى الأصمعي في مصدر صَغَا يَصْغُو صَغَاً، فليس «صَغَاً» مختصاً بكونِه مصدراً ل «صَغِي» بالكسر. وزاد الفراء «صُغِيَّاً» و «صُغُوَّاً» بالياء والواو مُشَدَّدتين. وأمَّا قولُه «ومضارعُها أي مضارع الأفعال الثلاثة يَصْغَى بفتح العين، فقد حكى أبو عبيد عن الكسائي صَغَوْتُ أصغو، وكذا ابن السكيت حكى: صَغَوْتُ أَصْغُو، فقد خالفوا بين مضارعِها، وصَغَوْت أَصْغُو هو القياس الفاشي، فإنَّ فَعَل المعتل اللام بالواو قياسُ مضارعِه يَفْعُل بضم العين. وقال الشيخ أيضاً:» وهي يعني الأفعال الثلاثة لازمة «أي؛ لا تتعدَّى، وأصغى مثلُها

لازم، ويأتي متعدِّياً فتكون الهمزة للنقل، وأنشد على» أَصْغَى «اللازم قول الشاعر: 2037 - ترى السَّفيهَ به عن كل مُحْكِمَةٍ ... زَيْغٌ وفيه إلى التشبيه إصغاء قلت: ومثلُه قول الآخر: 2038 - تُصْغِي إذا شدَّها بالرَّحْلِ جانحةً ... حتى إذا ما استوى في غَرْزِها تَثِبُ وتقول: أصغى فلانٌ بأذنه إلى فلان. وأنشد على» أصغى «المتعدي قول الآخر: 2039 - أَصاخَ مِنْ نَبْأَةٍ أَصْغى لها أُذُنَاً ... صِماخُها بدخيس الذوق مستور قلت: وفي الحديث» فأصغى لها الإِناء «، وهذا الذي زعمه مِنْ كون صغَى أو صَغِيَ أو صَغَا يكون لازماً غير موافق عليه، بل قد حكى الراغب أنه يقال: صَغَيْتُ الإِناء وأصغيتُه، وصَغِيت بكسر الغين يحتمل أن يكون من ذوات الياء، ويحتمل أن يكون من ذوات الواو، وإنما قُلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كقَوِي وهو من القوة. وقراءة النخعي والجراح بن عبد الله:»

ولِتُصْغَى «من أصغى رباعياً وهو هنا لازم. وقرأ الحسن:» وَلْتَصْغى ولْيَرْضَوْه/ ولْيقترفوا «بسكون اللام في الثلاثة. وقال أبو عمر الداني:» قراءة الحسن إنما هو «ولِتَصْغِي» بكسر الغين «قلت: فتكون كقراءة النخعي. وقيل: قرأ الحسن» ولِتصغى «بكسر اللام كالعامة، ولْيرضوه ولْيقترفوا بسكون اللام، وخَرَّجوا تسكين اللام على أحد وجهين: إمَّا أنها لام كي وإنما سُكِّنَتْ إجراءً لها مع ما بعدها مُجْرى كَبِد ونَمِر، قال ابن جني:» وهو قويٌّ في القياس شاذٌّ في السماع «. والثاني: أنها لام الأمر، وهذا وإن تَمَشَّى في ليرضوه وليقترفوا فلا يتمشَّى في» ولتصْغَى «إذ حرفُ العلة يحذف جزماً. قال أبو البقاء:» وليست لامَ الأمر لأنه لم يُجْزم الفعل «. قلت قد ثبت حرفُ العلَّة جزماً في المتواتر فمنها:» أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً نَرْتَعي وَيَلْعَبْ « {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله} [يوسف: 90] {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] {لاَّ تَخَفْ دَرَكاً وَلاَ تخشى} [طه: 77] ، وفي كل ذلك تأويلاتٌ ستقفُ عليها إن شاء الله تعالى فلتكنْ هذه القراءة الشاذة مثل هذه المواضع، والقولُ بكون لامِ «لتصغى» لام كي سُكِّنت لتوالي الحركات واللامين بعدها لامَيْ أمرٍ بعيدٌ وتَشَهٍّ. وقال النحاس: «ويُقْرأ ولْيقترفوا» يعني بالسكون قال: «وفيه معنى التهدد» . قلت يريد أنه أَمْرُ

تهديد كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ولم يَحْكِ التسكينَ في «لتصْغَى» ولا في «ليرضوه» . و «ما» في ماهم مُقْتَرِفون موصولةً اسمية أو نكرة موصوفة أو نكرة موصوفة أو مصدرية، والعائد على كلا القولين الأولين محذوفٌ أي: ما هم مقترفوه. وقال أبو البقاء: «وأثبت النونَ لَمَّا حُذِفَتْ الهاء» يريد أن الضميرَ المتصل باسم الفاعل المثنى والمجموع على حَدِّه تُحْذَفُ له نون التثنية والجمع نحو: هذان ضارباه وهؤلاء ضاربوه، فإذا حذف الضمير زال الموجب فتعود النون، وهذا هو الأكثر أعني حذف النون مع اتصال الضمير وقد ثبتت قال: 2040 - ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونه ... جميعاً وأيدي المعتفين رواهقهْ وقال: 204 - 1- هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونهُ ... . . . . . . . . . . . . والاقتراف: الاكتساب، واقترف فلان لأهله أي: اكتسب، وأكثر ما يقال في الشر والذنب، ويطلق في الخير قال تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} [الشورى: 23] وقال ابن الأنباري: «قَرَف واقْتَرَف اكتسب. وأنشد: 2042 - وإني لآتٍ ما أَتَيْتُ وإنني ... لِمَا اقترفَتْ نفسي عَليَّ لَراهِبُ

وأصلُ القِرْف والاقتراف قِشْرُ لِحاء الشجر، والجِلْدَةُ من أعلى الحَرَج وما يُؤْخذ منه قِرْف، ثم استعير الاقترافُ للاكتساب حسناً كان أو سيئاً وفي السَّيِّء أكثر استعمالاً، وقارف فلان أمراً: تعاطَى ما يُعاب به. وقيل: الاعتراف يزيل الاقتراف، ورجل مُقْرِف أي هجين قال: 2043 - كم بجودٍ مُقْرِفٍ نال العُلى ... وشريفٍ بُخْلُه قد وضَعَهْ وقَرَفْتُه بكذا اتهمته أو عبته به.

114

قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله} : يجوز نصب «غير» من وجهين أحدهما: أنه مفعولٌ لأبتغي عليه وَوَلِيَ الهمزة لِما تقدم في قوله {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام: 14] ويكون «حكماً» حينئذ: إمَّا حالاً وإمَّا تمييزاً ل «غير» ذكره الحوفي وأبو البقاء وابن عطية كقولهم: «إن لنا غيرها إبلاً» . والثاني: أن ينتصب «غير» على الحال مِنْ «حَكَماً» لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفاً له، و «حَكَماً» هو المفعول به فتحصَّل في نصب «غير» وجهان. وفي نصب «حكماً» ثلاثة أوجه: كونه حالاً أو مفعولاً أو تمييزاً. والحَكَمُ أبلغُ من الحاكم قيل: لأنَّ الحَكَم مَنْ تكرَّر منه الحُكْمُ بخلاف الحاكم فإنه يُصَدِّق غيره. وقيل: لأن الحَكَم لا يَحْكمُ إلا بالعدل والحاكم قد يجور. وقوله «وهو الذي أنزل» هذه الجملة في محل نصب على الحال مِنْ فاعل «أبتغي» ، و «مفصلاً» حال من «الكتاب» .

وقوله: {والذين آتَيْنَاهُمُ} مبتدأ و «يعلمون» خبره، والجملة مستأنفة، و «من ربك» لابتداء الغاية مجازاً، و «بالحق» خال من الضمير المستكنّ في «مُنَزَّل» أي: ملتبساً بالحق فالباء للمصاحبة. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «مُنَزَّل» بتشديد الزاي، والباقون بتخفيفها. وقد تقدَّم أن أنزل ونزَّل لغتان أو بينهما فرقٌ.

115

قوله تعالى: {صِدْقاً وَعَدْلاً} : في نصبهما ثلاثة أوجه أحدها: أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي: تَمَّتِ الكلمات صادقاتٍ في الوعد عادلاتٍ في الوعيد. الثاني: أنهما نصب على التمييز، قال ابن عطية: «وهو غير صواب» وممن قال بكونه تمييزاً الطبري وأبو البقاء. الثالث: أنهما نصب على المفعول من أجله أي: تَمَّتْ لأجل الصدق والعدل الواقعين منهما، وهو محلُّ نظر، ذكر هذا الوجهَ أبو البقاء. وقرأ الكوفيون هنا وفي يونس في قوله {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا} [يونس: 33] {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [يونس: 96] موضعان، وفي غافر: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [الآية: 6] «كلمة» بالإِفراد، وافقهم ابن كثير وأبو عمرو على ما في يونس وغافر دون هذه السورة، والباقون بالجمع في المواضع الثلاثة. قال الشيخ: «قرأ الكوفيون هنا وفي يونس في الموضعين وفي

المؤمن» كلمة «بالإِفراد، ونافع جميع ذلك» كلمات «بالجمع، تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا» قلت: كيف نسي ابن عامر؟ لا يقال إنه قد أسقطه الناسخ وكان الأصل «ونافع وابن عامر» لأنه قال «تابعه» ولو كان كذلك لقال «تابعهما» . ووجه الإِفراد إرادة الجنس وهو نظير: رسالته ورسالاته. وقراءةُ الجمع ظاهرةٌ لأنَّ كلماته تعالى متبوعة بالنسبة إلى الأمرِ والنهي والوعد والوعيد، وقد أُجْمع على الجمع في قوله {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله} [الأنعام: 34] . وقوله {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} : يحتمل أن لا يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب لأنها مستأنفة، وأن تكونَ جملةً حالية من فاعل «تَمَّتْ» . فإن قلت: فأين الرابط بين ذي الحال والحال؟ فالجواب أن الرَّبْطَ حصل بالظاهر، والأصل: لا مبدِّل لها، وإنما أُبْرزت ظاهرة تعظيماً لها ولإِضافتها إلى لفظ الجلالة الشريفة. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أَنْ يكونَ حالاً من» ربك «لئلا يُفْصَلَ بين الحال وصاحبها بالأجنبي وهو» صدقاً وعدلاً «إلا أن يُجْعَلَ» صدقاً وعدلاً «حالاً من» ربك «لا من» الكلمات «. قلت: فإنه إذا جعل» صدقاً وعدلاً «حالاً من» ربك «لم يَلْزَمْ منه فَصْلٌ لأنهما حالان لذي حال، ولكنه قاعدته تمنع تعدُّدَ الحال لذي حال واحدة، وتمنع أيضاً مجيء الحال من المضاف إليه، وإن كان المضاف بعض الثاني، ولم يمنع هنا بشيء من ذلك. والرسم في» كلمات «في المواضع التي أشرْتُ إلى اختلاف القراء فيها مُحْتَمِلٌ لخلافهم، فإنه في المصحف الكريم مِنْ غير ألفٍ بعد الميم.

116

وقوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ} : و {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} «إنْ» نافية بمعنى ما في الموضعين. والخَرْص: الحَزْرُ، ويُعَبَّر به عن الكذب

والافتراء، وأصله من التظنّي وهو قولُ ما لم يستيقن ويتحقق قاله الأزهري، ومنه خَرَص النخل يقال: خَرَصها الخارص خَرْصاً فهي خِرْص فالمفتوحُ مصدرٌ، والمكسور بمعنى مفعول كالنَّقض والنِّقض والذَّبح والذِّبْح.

117

قوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ} : في «أعلم» هذه قولان أحدهما: أنها ليست للتفضيل بل بمعنى اسم فاعل في قوته كأنه قيل: إن ربك هو يعلم. قال الواحدي: «ولا يجوز ذلك لأنه لا يطابِقُ {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} . والثاني: أنها على بابها من التفضيل. ثم اختلف هؤلاء في محلِّ» مَنْ «: فقال بعض البصريين: هو جرٌّ بحرفٍ مقدَّرٌ حُذِف وبقي عملُه لقوة الدلالة عليه بقوله {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} وهذا ليس بشيء لأنه لا يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى أثرُه إلا في مواضعَ تقدَّمَ التنبيهُ عليها، وما وَرَدَ بخلافها فضرورةٌ كقوله: 2044 -. . . . . . . . . . . . . . . ... أشارت كليبٍ بالأكف الأصابعُ [وقوله] : 2045 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حتى تبذَّخ فارتقى الأعلامِ الثاني: أنها في محل نصب على إسقاط الخافض كقوله: 2046 - تمرُّون الديار ولم تعوجوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قاله أبو الفتح. وهو مردود من وجهين: أحدهما: أن ذلك لا يطَّرد. والثاني: أن أَفْعلَ التفضيل لا تَنْصِبُ بنفسها لضعفها. الثالث: وهو قول الكوفيين أنه نُصِب بنفس أفعل فإنها عندهم تعمل عمل الفعل. الرابع: أنها

منصوبةٌ بفعل مقدَّر يدل عليه أفعل، قاله الفارسي، وعليه خَرَّج قول الشاعر: 2047 - أكَرَّ وأَحْمَى للحقيقةِ منهمُ ... وأَضْرَبَ منا بالسيوف القوانِسا فالقوانِس نُصِبَ بإضمار فعلٍ، أي: يَضْرِبُ القوانس، لأن أفعل ضعيفة كما تقرر. الخامس: أنها مرفوعةُ المحلِّ بالابتداء، و» يضلُّ «خبره، والجملة مُعَلِّقة لأفعل التفضيل فهي في محل نصبٍ بها، كأنه قيل: أعلمُ أيُّ الناس يضلُّ كقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى} [الكهف: 12] وهذا رأي الكسائي والزجاج والمبرد ومكي. إلا أن الشيخ رَدّ هذا بأن التعليق فرع ثبوت العمل في المفعول به/ وأفعل لا يعمل فيه فلا يُعَلَّق» . والراجح من هذه الأقوال نَصْبُها بمضمر وهو قول الفارسي، وقواعد البصريين موافقة له، ولا يجوز أن تكون «مَنْ» في محل جر بإضافة أفعل إليها؛ لئلا يلزم محذور عظيم: وذلك أن أفعل التفضيل لا تُضاف إلا إلى جنسها فإذا قلت: «زيد أعلمُ الضالين» لزم أن يكون «زيد» بعضَ الضالين أي متَّصِفٌ بالضلال، فهذا الوجهُ مستحيل في هذه الآية الكريمة. هذا عند مَنْ قرأ «يَضِلُّ» بفتح حرف المضارعة. أمَّا مَنْ قرأ بضمِّه: «يُضِلّ» وهو الحسن وأحمد بن أبي سريج فقال أبو البقاء: «يجوز أن تكون» مَنْ «في موضع جر بإضافة» أفعل «إليها. قال:»

إمَّا على معنى هو أعلم المضلين أي: مَنْ يجد الضلال، وهو مَنْ أضللته أي: وجدته ضالاًّ مثل أَحْمَدْتُه أي: وجدتُه محموداً أو بمعنى أنه يضلُّ عن الهدى «. قلت: ولا حاجة إلى ارتكاب مثل هذا في مثل هذه الأماكن الحرجة، وكان قد عَبَّر قبل ذلك بعبارات استعظمْتُ النطق بها فضربت عنها إلى أمثلةٍ من قولي. والذي تُحْمَلُ عليه هذه القراءة ما تقدَّم من المختار وهو النصب بمضمر. وفاعل «يُضِلّ» على هذه القراءة ضمير يعود على الله تعالى على معنى يجده ضالاً أو يخلُق فيه الضلال، لا يُسأل عما يَفعل. ويجوز أن يكون ضمير «مَنْ» أي: أعلم مَنْ يضلُّ الناس. والمفعول محذوف. وأمَّا على القراءة الشهيرة فالفاعل ضمير «مَنْ» فقط. و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولةً وهو الظاهر، وأن تكون نكرةً موصوفة، ذكره أبو البقاء.

118

وقوله تعالى: {فَكُلُواْ} : في هذه الفاءِ وجهان أحدهما: أنها جوابُ شرطٍ مقدر. قال الزمخشري بعد كلام: «فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإِيمان فكُلوا» . والثاني: أنها عاطفة على محذوف قال الواحدي: «ودخلت الفاءُ للعطف على ما دلَّ عليه أولُ الكلام كأنه قيل: كونوا على الهدى فكلوا، والظاهر أنها عاطفة على ما تقدَّم من مضمون الجمل المتقدمة كأنه قيل: اتَّبِعوا ما أمركم الله مِنْ أكل المُذَكَّى دون الميتة فكُلوا.

119

قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ} : مبتدأ وخبر، وقوله «أن لا تأكلوا» فيه قولان أحدهما: هو على حذف حرف الجر أي: أيُّ شيء استقر في منع الآكل ممَّا ذُكِرَ اسم الله عليه، وهو قول أبي إسحاق الزجاج، فلمَّا حُذِفَتْ «في» جرى القولان المشهوران، ولم يذكر الزمخشري غير هذا

الوجه. والثاني: أنها في محل نصب على الحال والتقدير: وأيُّ شيءٍ لكم تاركين للأكل، ويؤيد ذلك وقوعُ الحال الصريحة في مثل هذا التركيب كثيراً نحو: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] إلا أن هذا مردود بوجهين أحدهما: أنَّ «أنْ» تُخَلِّص الفعلَ للاستقبال فكيف يقع ما بعدها حالاً؟ والثاني: أنها مع ما بعدها مؤولة بالمصدر وهو أشبه بالمضمرات كما تقدم تحريره، والحال إنما تكون نكرة. قال أبو البقاء: «إلا أن يُقَدَّر حَذْفُ مضاف فيجوز أي:» وما لكم ذوي أن لا تأكلوا «وفيه تكلف، ومفعول» تأكلوا «محذوف بقيت صفته، تقديره: شيئاً مما ذُكِرَ اسم الله، ويجوز أن لا يُراد مفعول، بل المراد وما لكم أن لا يقع منكم الأكل، وتكون» مِنْ «لابتداء الغاية أي: أن لا تبتدئوا بالأكل من المذكور عليه اسمُ الله، وزُعِم أن» لا «مزيدةٌ، وهذا فاسد إذ لا داعي لزيادتها. قوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ببنائهما للمفعول، ونافع وحفص عن عاصم ببنائهما للفاعل، وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ببناء الأول للفاعل وبناء الثاني للمفعول، ولم يأت عكس هذه. وقرأ عطية العوفي كقراءة الأخوين، إلا أنه خَفَّف الصاد من» فصل «، والقائم مقام الفاعل هو الموصول، وعائده من قوله» حَرَّم عليكم «. والفاعلُ في قراءة مَنْ بنى للفاعل ضميرُ الله تعالى، والجملة في محل نصب على الحال. قوله: {إِلاَّ مَا اضطررتم} فيه وجهان أحدهما: أنه استثناء منقطع، قاله ابن

عطية والحوفي. والثاني: أنه استثناء متصل قال أبو البقاء:» ما «في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى لأنه وبَّخهم بترك الأكل مما سُمِّي عليه، وذلك يتضمن الإِباحة مطلقاً» . قلت: الأول أوضح والاتصال قلق المعنى. ثم قال: «وقوله وقد فصَّل لكم ما حَرَّم عليكم أي: في حال الاختيار وذلك/ حلال حالَ الاضطرار» . قوله {لَّيُضِلُّونَ} قرأ الكوفيون بضم الياء، وكذا التي في يونس [الآية: 88] {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ} والباقون بالفتح، وسيأتي لذلك نظائر في إبراهيم وغيرها، والقراءتان واضحتان فإنه يقال: ضَلَّ في نفسه وأضلَّ غيره، فالمفعول محذوف على قراءة الكوفيين، وهي أبلغُ في الذمِّ فإنها تتضمَّن قُبْحَ فِعْلهم حيث ضلَّوا في أنفسهم وأَضَلُّوا غيرهم كقوله تعالى: {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 77] وقراءةُ الفتح لا تحوج إلى حذف فرجَّحها بعضهم بهذا، وأيضاً فإنهم أجمعوا على الفتح في ص عند قوله {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [الآية: 26] . وقوله: {بِأَهْوَائِهِم} متعلق بيضلون، والباء سببيَّة أي: بسبب اتِّباعهم أهواءهم وشهواتهم. وقوله «بغير علم» متعلق بمحذوف لأنه حال أي: يضلُّون مصاحبين للجهل أي: ملتبسين بغير علم.

121

قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} : هذه الجملة فيها أوجه، أحدهما: أنها مستأنفة قالوا: ولا يجوز أن تكون منسوقةً على ما قبلها، لأن

الأولى طلبية وهذه خبرية، وتُسَمَّى هذه الواوُ واوَ الاستئناف. والثاني: أنها منسوقةٌ على ما قبلها ولا يُبالى بتخالفهما وهو مذهب سيبويه، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وقد أَوْرَدْتُ من ذلك شواهد صالحة من شعر وغيره. والثالث: أنها حالية أي: لا تأكلوه والحال أنه فسق. وقد تبجَّح الإِمام الرازي بهذا الوجه على الحنفيَّة حيث قَلَبَ دليلهم عليهم بهذا الوجه، وذلك أنهم يمنعون مِنْ أَكْلِ متروك التسمية، والشافعية لا يمنعون منه، استدلَّ عليهم الحنفية بظاهر هذه الآية فقال الرازي: «هذه الجملة حالية، ولا يجوز أن تكون معطوفة لتخالفهما طلباً وخبراً فتعيَّن أن تكون حالية، وإذا كانت حالية كان المعنى: لا تأكلوه حال كونه فسقاً، ثم هذا الفسق مجمل قد فسَّره الله تعالى في موضع آخر فقال: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145] يعني أنه إذا ذُكر على الذبيحة غيرُ اسم الله فإنه لا يجوز أكلُها لأنه فسقٌ» ونحن نقول به، ولا يلزم من ذلك أنه إذا لم يُذْكَر اسمُ الله ولا اسمُ غيره أن تكون حراماً لأنه ليس بالتفسير الذي ذكرناه. وللنزاع فيه مجال من وجوه، منها: أنها لا نُسَلِّم امتناع عطف الخبر على الطلب والعكس كما قدَّمْتُه عن سيبويه، وإن سُلِّم فالواو للاستئناف كما تقدَّم وما بعدها مستأنف، وإن سُلِّم أيضاً فلا نُسَلِّم أنَّ «فسقاً» في الآية الأخرى مُبَيِّن للفسق في هذه الآية، فإنَّ هذا ليس من باب المجمل والمبيِّن لأن له شروطاً ليست موجودةً هنا. وهذا الذي قاله مستمد من كلام الزمخشري فإنه قال «فإن قلت: قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أَكْلِ ما لم يُذْكَرِ اسم الله عليه بنسيانٍ أو عَمْد. قلت: قد تأوَّله هؤلاء بالميتة وبما ذُكر غيرُ اسمِ الله عليه كقوله: {

أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145] فهذا أصل ما ذكره ابن الخطيب وتبجَّح به. والضمير في» إنَّه «يحتمل أن يعود على الأكل المدلول عليه ب» لا تأكلوا «وأن يعود على الموصول، وفيه حينئذ تأويلان: أن تجعل الموصول نفس الفسق مبالغةً أو على حذف مضاف أي: وإن أكله لفسق، أو على الذِّكْرِ المفهوم من قوله» ذُكر «. قال الشيخ:» والضمير في «إنه» يعود على الأكل قاله الزمخشري واقتصر عليه «. قلت: لم يَقْتَصِرْ عليه بل ذكر أنه يجوز أن يعود على الموصول، وذكر التأويلين المتقدمين فقال:» الضمير راجع على مصدر الفعل الداخل عليه حرفُ النهي بمعنى: وإن الأكل منه لفسق، أو على الموصول على أن أكلَه لفِسْق، أو جَعَلَ ما لم يُذكر اسمُ الله عليه [في] نفسه فسقاً «. قوله: {لِيُجَادِلُوكُمْ} متعلقٌ ب «يُوحُون» أي: يوحون لأجل مجادلتكم. وأصل «يُوحون» : يُوحِيُون فأُعِلّ. «وإن أَطَعْتموهم» قيل: إنَّ لام التوطئة للقسم فلذلك أجيب القسم المقدَّر بقوله «إنكم لمشركون» وحُذِف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مَسَدَّه، وجاز الحذف لأنَّ فعل الشرط ماض. وقال أبو البقاء: «حَذَفَ الفاء من جواب الشرط، وهو حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي، وهو ههنا كذلك وهو قوله وإن أَطَعْتموهم» . قلت: كأنه زعم أن

جواب الشرط هو الجملة من قوله «إنكم لمشركون» ، والأصل «فإنكم» بالفاء لأنها جملة اسمية، ثم حُذِفت الفاءُ لكونِ فعل الشرط بلفظ المُضيّ، وهذا ليس بشيء فإن القَسَمَ مقدر قبل الشرط، ويدل على ذلك حذفُ اللام الموطئة قبل «إن» الشرطية وليس فعل الشرط ماضياً كقوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ} [الأعراف: 23] فههنا لا يُمْكنه أن يقول: إن الفاء محذوفة لأن فعل الشرط مضارع، وكأن أبا البقاء والله أعلم أخذ هذا من الحوفي فإني رأيته فيه كما ذكره أبو البقاء، وردَّه الشيخ بنحوٍ مما تقدم.

122

قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ} : «أو مَنْ كان» قد تقدَّم أن هذه الهمزة يجوز أن تكونَ مقدَّمةً على حرفِ العطف وهو رأي الجمهور، وأن تكونَ على حالها وبينها وبين الواو فعل مضمر. و «مَنْ» في محلِّ رفع بالابتداء و «كمَنْ» خبره وهي موصولة، و «يمشي» في محلِّ نصب صفةً ل «نوراً» و «مَثَلُه» مبتدأ، وفي الظلمات خبره/ والجملةُ صلةُ «مَنْ» و «مَنْ» مجرورة بالكاف والكافُ ومجرورها كما تقدَّم في محل رفع خبراً ل مَنْ الأولى، و «ليس بخارج» في محلِّ نصب على الحال من الموصول أي: مثل الذي استقر في الظلمات حال كونه مقيماً فيها. وقال أبو البقاء: «ليس بخارجٍ في موضع الحال من الضمير في» منها «، ولا يجوز أن يكون حالاً من الهاء في» مَثَلُه «للفصل بينه وبين الحال بالخبر» . وجعل مكي الجملة حالاً من الضمير المستكنِّ في «الظلمات» . وقرأ طلحة بن مصرف «أَفَمَنْ كان» بالفاء بدل الواو. قوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ} نعتٌ لمصدر فقدَّره بعضهم: زُيِّن للكافرين تزييناً

كما أحيينا المؤمنين، وقدَّره آخرون: زُيّن للكافرين تزييناً لكونِ الكافرين في ظلمات مقيمين فيها، والفاعل المحذوف مِنْ «زُيِّن» المنوبُ عنه هو الله تعالى، ويجوز أن يكون الشيطان، وقد صَرَّح بكل من الفاعلين مع لفظ «زَيَّن» قال تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت: 38] و {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هو القائمُ مقامَ الفاعل، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسميةً أو حرفيةً أو نكرة موصوفة، والعائد على القول الأول والثالث محذوف دون الثاني عند الجمهور، على ما عُرِفَ غيرَ مرة. وقال الزجاج: «موضع الكاف رفعٌ، والمعنى: مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك زُيِّن للكافرين أعمالهم» .

123

قوله تعالى: {وكذلك جَعَلْنَا} قيل: «كذلك» نَسَقٌ على «كذلك» قبلها ففيها ما فيها، وقَدَّره الزمخشري بأن معناه: وكما جعلنا في مكة صناديدَها ليمكروا فيها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها «واللام في» ليمكروا «يجوز أن تكون للعاقبة وأن تكون للعلةِ مجازاً، و» جَعَلَ «تصييريةٌ فتتعدَّى لاثنين، واختُلف في تقديرهما، والصحيح أن تكون {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأول، والأول» أكابرَ «مضافاً لمجرميها. والثاني: أن {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} مفعول أيضاً مقدم،» أكابر «هو الأول و» مجرميها «بدلٌ من» أكابر «ذكر ذلك أبو البقاء. الثالث: أن يكون» أكابر «مفعولاً ثانياً قُدِّم و» مجرميها «مفعول أول أُخِّرَ، والتقدير: جَعَلْنا في كل قرية مجرميها أكابر،

فيتعلق الجار بنفس الفعل قبله، ذكر ذلك ابن عطية. قال الشيخ:» وما أجازاه يعني أبا البقاء وابن عطية خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي: أن أفعل التفضيل إذا كانت ب «مِنْ» ملفوظاً بها أو مقدَّرة أو مضافة إلى نكرة كانت مفردة مذكرة على كل حال سواء كانت لمذكر أم مؤنث مفرد أم مثنى أم مجموع، وإذا ثُنِّيَتْ أو جُمِعت أو أُنِّثَتْ طابقت ما هي له ولَزِمَها أحد أمرين: إمَّا الألفُ واللامُ وإمَّا الإِضافةُ لمعرفة، وإذا تقرر ذلك فالقول بكون «مجرميها» بدلاً أو يكون مفعولاً أول و «أكابر» مفعولٌ ثانٍ خطأ لاستلزام أن يبقى «أكابر» مجموعاً وليست فيه ألف ولام ولا هي مضافة لمعرفة «قال:» وقد تنبَّه الكرماني إلى هذه القاعدة فقال: «أضاف» أكابر «إلى» مجرميها «لأن أفعل لا يُجْمَعُ إلا مع الألف واللام أو مع الإِضافة» . قال الشيخ: «وكان ينبغي أن يُقَيَّد بالإِضَافة إلى معرفة» . قلت: أمَّا هذه القاعدة فمُسَلَّمة، ولكن قد ذكر مكي مثل ما ذكر ابن عطية سواء وما أظنه أخذ إلا منه، وكذلك الواحدي أيضاً ومنع أن تُجَوَّز إضافة «أكابر» إلى مجرميها «قال رحمه الله:» والآية على التقديم والتأخير تقديره: جَعَلْنا مجرميها أكابر، ولا يجوز أن تكون الأكابر مضافة لأنه لا يتمُّ المعنى، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل لأنك إذا قلت: «جعلت زيداً» وسكتَّ لم يُفِد الكلام حتى تقول: رئيساً أو دليلاً أو ما أشبه ذلك، ولأنك إذا أَضَفْتَ الأكابر فقد أضفت النعت إلى المنعوت، وذلك لا يجوز عند

البصريين «. قلت: هذان الوجهان اللذان ردَّ بهما الواحدي ليسا بشيء، أمَّا الأول فلا نسلِّم أنَّا نُضْمِرُ المفعول الثاني، وأنه يصير الكلام غير مفيد، وأمَّا ما أورده من الأمثلة فليس مطابقاً لأنَّا نقول: إن المفعول الثاني هنا مذكور مُصَرَّح [به] / وهو الجار والمجرور السابق. وأمَّا الثاني فلا نُسَلِّم أنه من باب إضافة الصفة لموصوفها لأن المجرمين أكابر وأصاغر، فأضاف للبيان لا لقصد الوصف. الرابع: أن المفعول الثاني محذوف قالوا: وتقديره: جَعَلْنا في كل قرية أكابر مجرميها فُسَّاقاً ليمكروا، وهذا ليس بشيء، لأنه لا يُحذف شيء إلا لدليل، والدليل على ما ذكروه غير واضح. وقال ابن عطية: «ويقال أكابِرَة كما يقال أحمر وأحامرة» . قال الشاعر: 2048 - إن الأحامرة الثلاثة أتلفتْ ... ما لي وكنت بهنَّ قِدْماً مُوْلَعا قال الشيخ: «ولا أعلم أحداً أجاز في جمع أفضل أفاضلة، بل نصَّ النحويون على أن أَفْعَل التفضيل يُجْمع للمذكر على الأَفْضَلِين أو على الأفاضل» . قلت: وهذه التاء يذكرها النحويون [على] أنها تكون دالة على النسب في مثل هذه البِنْية قالوا: الأزارقة والأشاعثة في الأزرق ورَهطه والأشعث وبنيه، وليس بقياس، وليس هذا من ذلك في شيء. والجمهور على «أكابر»

جمعاً. وقرأ ابن مسلم: «أكبر مجرميها» بالإِفراد، وهو جائز وذلك أن أفعل التفضيل إذا أضيفت لمعرفة وأريد بها غير الإِفراد والتذكير جاز أن يطابق كالقراءة المشهور هنا، وفي الحديث: «أحاسنكم أخلاقا» وجاز أن يفرد، وقد أُجْمِعَ على ذلك في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس} [البقرة: 96] .

124

قوله تعالى: {حَيْثُ يَجْعَلُ} : في «حيث» هذه وجهان أحدهما: أنها خرجت عن الظرفية، وصارت مفعولاً بها على السعة، وليس العاملُ «أعلم» هذه لما تقدم من أنَّ أفعل لا ينصب المفعول به. قال أبو علي: «لا يجوز أن يكون العامل في» حيث «:» أعلم «هذه الظاهرة، ولا يجوز أن تكون» حيث «ظرفاً لأنه يصير التقدير: الله أعلمُ في هذا الموضع، ولا يوصف الله تعالى بأنه أعلم في مواضع وأوقات، لأنَّ عِلْمَه لا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، وإذا كان كذلك كان العامل في» حيث «فعلاً يدلُّ عليه» أعلم «، و» حيث «لا يكون ظرفاً بل يكون اسماً، وانتصابه على المفعول به على الاتساع، ومثل ذلك في انتصاب» حيث «على المفعول به اتساعاً قول الشماخ: 2049 - وحَلأَّها عن ذي الأراكةِ عامرٌ ... أخو الخُضْرِ يَرْمي حيث تُكْوى النواحِزُ ف» حيث «مفعولة لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكون النواحز إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع» . وتبع الناس الفارسيَّ على هذا القول فقال

الحوفي: «ليست ظرفاً لأنه تعالى لا يكون في مكانٍ أعلم منه في مكان آخر، وإذا لم تكن ظرفاً كانت مفعولاً بها على السعة، وإذا كانت مفعولاً لم يعمل فيها» أعلم «لأنَّ» أعلم «لا يعمل في المفعول به فيقدَّر لها فعل» ، وعبارة ابن عطية وأبي البقاء نحوٌ من هذا. وأخذ التبريزيُّ كلامَ الفارسي فنقله وأنشد البيت المتقدم. والثاني: أنها باقية على ظرفيتها بطريق المجاز، وهذا القول ليس بشيء، ولكنْ أجازه الشيخ مختاراً له على ما تَقَدَّم فقال: «وما أجازوه من أنه مفعول به على السَّعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو، لأنَّ النحويين نصُّوا على أن» حيث «من الظروف التي لا تتصرَّف، وشذَّ إضافةُ» لدى «إليها وجرُّها بالباء وب» في «، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّع فيه لا يكون إلا متصرِّفاً، وإذا كان كذلك امتنع نصب» حيث «على المفعول به لا على السَّعة ولا على غيرها. والذي يظهر لي إقرارُ» حيث «على الظرفية المجازية على أن يُضَمَّن» أعلم «معنى ما يتعدَّى إلى الظرف فيكون التقدير: الله أنفذ علماً حيث يجعل رسالاته أي: هو نافذٌ العلمَ في الموضع الذي يَجْعل فيه رسالاته، والظرف هنا مجاز كما قلنا» . قلت: قد ترك ما قاله الجمهور وتتابعوا عليه وتأوَّل شيئاً هو أعظمُ مما فرَّ منه الجمهورُ، وذلك أنه يلزمه على ما قَدَّر أنَّ عِلْمَ الله في نفسه يتفاوت بالنسبة إلى الأمكنة فيكون في مكانٍ أبعدَ منه في مكان، ودعواه مجازَ الظرفية لا ينفعه فيما ذكرته من الإِشكال، وكيف يُقال مثلُ هذا؟ وقوله «نَصَّ النحاة على عدمِ تصرُّفها» هذا معارض أيضاً بأنهم نصُّوا

على أنها قد تتصرف بغير ما ذَكَرَ هو مِنْ كونها مجرورةً ب «لدى» أو إلى أو في، فمنه: أنها جاءت اسماً لإِنَّ في قول الشاعر: 2050 - إنَّ حيث استقرَّ مَنْ أنت راجي ... هِ حِمَىً فيه عزةٌ وأمانُ فحيث اسم «إنّ» و «حمى» خبرها أي: إن مكاناً استقرَّ مَنْ أنت راعيه مكانٌ يُحمى فيه العزُّ والأمان. ومِنْ مجيئها مجرورةً بإلى قوله: 2051 - فشدَّ ولم يَنْظر بيوتاً كثيرة ... إلى حيث أَلْقَتْ رَحْلَها أَمُّ قَشْعَمِ وقد يُجاب عن الإِشكال الذي أَوْرَدْتُه عليه بأنه لم يُرِدْ بقوله «أنفذ علماً» التفضيل وإن كان هو الظاهر، بل يريد مجردَ الوصف، ويدل على ذلك قوله: أي هو نافذٌ العلمَ في الموضع الذي يجعل فيه رسالاته، ولكن كان ينبغي أن يصرِّح بذلك فيقول: وليس المرادُ التفضيلَ. ورُوِي «حيثَ يجعل» بفتح الثاء، وفيها احتمالان أحدهما: أنها فتحةُ بناءٍ طَرْداً للباب. والثاني: أنها فتحةُ إعرابٍ لأنها معربة في لغة بني فَقْعس حكاها الكسائي. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم «رسالته» بالإِفراد، والباقون: رسالاته بالجمع، وقد تقدَّم توجيه ذلك في المائدة، إلا أنَّ بعض مَنْ قرأ هناك بالجمع وهو حفصٌ قرأ هنا بالإِفراد، وبعض مَنْ قرأ هناك بالإِفراد - وهو أبو عمروَ والأخوان وأبو بكر عن عاصم قرأ هنا بالجمع.

قوله: {عِندَ الله} يجوز أن ينتصبَ ب «يصيب» ، ويجوز أن ينتصب بصَغار لأنه مصدر، وأجازوا أن يكون صفة لصَغار فيتعلَّق بمحذوف، وقَدَّره الزجاج فقال: «ثابت عند الله» . والصَّغار: الذلُّ والهوان يقال منه: صَغُر يَصْغُر صُغْراً وصَغْراً وصَغاراً فهو صاغر، وأمَّا ضدُّ الكِبَر فيقال منه: صَغَر يَصْغَر صِغْراً فهو صغير، هذا قول الليث، فوقع الفرق بين المعنيين بالمصدر والفعل. وقال غيره: إنه يقال صَغُر وصغَر مِنَ الذل. والعنديَّة هنا مجازٌ عن حَشْرهم يوم القيامة أو عن حكمه وقضائه بذلك كقولك: ثبت عند فلان القاضي أي: في حكمه، ولذلك قَدَّم الصَّغار على العذاب لأنه يصيبهم في الدنيا. و «بما كانوا» الباء للسببية و «ما» مصدرية. ويجوز أن تكون بمعنى الذي.

125

وقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} : كقوله: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} [الأنعام: 39] و «مَنْ» يجوز أن تكون مرفوعة بالابتداء، وأن تكون منصوبةً بمقدَّر بعدها على الاشتغال أي: مَنْ يوفق الله يُرِدْ أن يهديه، و «أن يهديه» مفعول الإِرادة. والشرح: البسط والسَّعة قاله الليث، وقال ابن قتيبة: «هو الفتحُ ومنه: شَرَحْتُ اللحم أي فتحته» وشرحَ الكلامَ بسطه وفتح مغلقه وهو استعارة في المعاني حقيقة في الأعيان. و «للإِسلام» أي: لقبوله. وقوله: «يَجْعَلْ» يجوز أن تكون التصييريةَ وأن تكون الخَلْقية، وأن تكون بمعنى سمَّى، وهذا الثالث يفرُّ إليه المعتزلة كالفارسي وغيره من معتزلة النحاة، لأن الله لا يُصَيِّر ولا يخلق أحداً كذا، فعلى الأول يكون «ضيقاً» مفعولاً عند مَنْ شدَّد ياءه وهم العامَّة غيرَ ابنِ كثير وكذلك عند مَنْ خففها

ساكنة ويكون فيه لغتان: التثقيل والتخفيف كميِّت ومَيْت وهيِّن وهين. وقيل: المخفف مصدر ضاق يضيق ضَِيقاً كقوله تعالى: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} [النحل: 27] يقال: ضاق يضيق ضَيقاً وضِيقاً بفتح الضاد وكسرها، وبالكسر قرأ ابن كثير في النحل والنمل، فعلى جَعْلِه مصدراً يجيء فيه الأوجه الثلاثة في المصدر الواقع وصفاً لجثة نحو: رجل عدل، وهي حذف مضاف أو المبالغة أو وقوعه موقعَ اسم الفاعل أي: يجعل صدره ذا ضيق أو ضائقاً أو نفس الضيق مبالغةً، والذي يظهر من قراءة ابن كثير أنه عنده اسمٌ صفةٌ مخفف من فَيْعِل وذلك أنه استغرب قراءته في مصدرِ هذا الفعلِ دونَ الفتح في سورة النحل والنمل، فلو كان هذا عنده مصدراً لكان الظاهرُ في قراءته الكسرَ كالموضعين المشارِ إليهما، وهذا من محاسنِ علم النحو والقراءات، والخلافُ الجاري هنا جارٍ في الفرقان. وقال الكسائي: / «الضَّيِّق بالتشديد في الأجرام، وبالتخفيف في المعاني» . ووزن ضيّق فَيْعلِ كميّت وسيّد عند جمهور النحويين ثم أدغم، ويجوز تخفيفه كما تقدم تحريره. قال الفارسي: «والياء مثل الواو في الحذف وإن لم تعتلَّ بالقلب كما اعتلَّت الواو، أُتْبِعَت الياءُ الواوَ في هذا كما أتبعت في قولهم» اتَّسر «من اليسر فجعلت بمنزلة اتَّعد» . وقال ابن الأنباري: «الذي يثقِّل الياء يقول وزنه من الفعل فَعِيل، والأصل فيه ضَييق على مثال كريم ونبيل، فجعلوا الياءَ الأولى ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها من حيث أعلُّوا ضاق يضيق، ثم أسقطوا الألفَ لسكونِها وسكونِ ياء فَعِيل فأشفقوا مِن أن يلتبس فعيل ب» فَعْل، فزادوا ياء على الياء يكمل بها بناء الحرف ويقع بها فرق بين

فعيل وفَعْل. والذين خَفَّفُوا الياء قالوا: أُمِن اللبس لأنه قد عُرِف أصلُ هذا الحرف، فالثقة بمعرفته مانعة من اللبس. وقال البصريون: وزنه من الفعل فَيْعِل فأدغمت الياء في التي بعدها فشُدِّد ثم جاء التخفيف. قال: «وقد ردَّ الفراء وأصحابُه هذا على البصريين، وقالوا: لا يُعرف في كلام العرب اسم على وزن فيعِل يَعْنُون بكسر العين إنما يُعرف فيعَل يعنون بفتحها نحو صيقَل وهيكل، فمتى ادّعى مُدَّعٍ في اسمٍ معتلّ ما لا يُعرف في السالم كانت دعواه مردودةً» قلت: قد تقدَّم تحرير هذه الأقوال عند قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] فليُراجَعْ ثَمة. وإذا قلنا إنه مخفف من المشدد فهل المحذوفُ الياءُ الأولى أو الثانية؟ خلاف مرَّت له نظائره. وإذا كانت «يَجْعَل» بمعنى يخلق فيكون «ضيقاً» حالاً، وإن كانت بمعنى «سَمَّى» كانت مفعولاً ثانياً، والكلام عليه بالنسبة إلى التشديد والتخفيف وتقدير المعاني كالكلام عليه أولاً. وحَرَجاً وحَرِجاً بفتح الراء وكسرها: هو المتزايد في الضيق فهو أخصُّ من الأول، فكلُّ حَرَج ضيق من غير عكسٍ، وعلى هذا فالمفتوح والمكسور بمعنى واحد يقال: رجل حَرِج وحَرَج قال الشاعر: 2052 - لا حَرِجُ الصدرِ ولا عنيفُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قال الفراء: «هو في كسره ونصبه بمنزلة الوحَد والوِحد والفرَد والفرِد والدَّنَف والدَّنِف» . وفرَّق الزجاج والفارسي بينهما فقالا: المفتوح مصدر والمكسور اسم فاعل. قال الزجاج: «الحَرَج أضيق الضيق، فَمَنْ قال: رجل حرَج

يعني بالفتح فمعناه ذو حَرَج في صدره، ومن قال حرِج يعني بالكسر جعله فاعلاً وكذلك دنَف ودنِف» . وقال الفارسي: «مَنْ فتح الراء كان وصفاً بالمصدر نحو: فَمَن وحَرَىً ودنَف ونحو ذلك من المصادر التي يوصف بها، ولا تكون كبطل لأن اسم الفاعل في الأمر العام إنما يجيء على فَعِل، ومن قرأ حَرِجاً - يعني بكسر الراء - فهو مثل دنِف وفَرِق بكسر العين» . وقيل: الحَرَج بالفتح جمع حَرَجَة كقصبة وقصب، والمكسور صفة كدَنِف، وأصل المادة من التشابك وشدة التضايق فإنَّ الحَرَجة غَيْضة من شجر السَّلَم ملتفَّةٌ لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يصل إليها قال العجاج: 2053 - عايَنَ حَيَّاً كالحِراج نَعَمُهْ ... الحِراج: جمع حِرْج، وحِرْج جمع حَرَجة. ومن غريب ما يُحكى أن ابن عباس قرأ هذه الآية فقال: هل هنا أحد من بني بكر؟ فقال رجل: نعم. قال: ما الحَرَجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه. فقال ابن عباس: فهكذا قلب الكافر، هذه رواية عبيد بن عمير. وقد حكى أبو الصلت الثقفي هذه الحكاية بأطولَ من هذا عن عمر بن الخطاب

فقال: «قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فقال: ابغوني رجلاً من بني كنانة واجعلوه راعياً، فأتَوْه به فقال له عمر: يا فتى ما الحَرَجَةُ فيكم؟ قال: الحَرَجَةُ فينا الشجرة تُحْدِق بها الأشجار فلا تصل إليها/ راعيةٌ ولا وحشية. فقال عمر: «وكذلك قلبُ الكافر لا يصل إليه شيء من الخير» . وبعضهم يحكي هذه الحكاية عن عمر رضي الله عنه كالمنتصر لمن قرأ بالكسر قال: «قرأها بعض أصحاب عُمَر له بالكسر فقال: ابغوني رجلاً من كنانة راعياً وليكن من بني مُدْلج فَأَتَوْه به فقال: يا فتى ما الحَرَجَةُ تكون عندكم؟ فقال: شجرةٌ تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعيةٌ ولا وحشية فقال: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيٌ من الخير. قال الشيخ:» وهذا تنبيه والله أعلم على اشتقاق الفعل من اسم العين كاستنوق واستحجر «قلت: ليس هذا من باب التنوق واستحجر في شيء، لأن هذا معنى مستقل ومادة مستقلة متصرفة نحو: حَرِجَ يَحْرَج فهو حَرِج وحارج بخلاف تِيْكَ الألفاظ فإن معناها يُضطر فيه إلى الأخذ من الأسماء الجامدة، فإنَّ معنى قولك استنوق الجمل أي: صار كالناقة، واستحجر الطين أي: صار كالحجر، وليس لنا مادةٌ متصرفة إلى صيغ الأفعال من لفظ الحجر والناقة، وأنت إذا قلت: حَرِج صدرُه ليس بك ضرورة أن تقول: صار كالحَرَجة، بل معناه تزايدَ ضيقُه، وأمَّا تشبيهُ عمر بن الخطاب فلإِبرازه المعاني في قوالبِ الأعيان مبالغةً في البيان. وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم» حَرِجاً «بكسر الراء، والباقون بتفحها، وقد عُرِفا. فأمَّا على قراءة الفتح فإن كان مصدراً جاءت فيه الأوجه الثلاثة المتقدمة في نظائره، وإن جُعِلَ صفة فلا تأويل. ونصبه على القراءتين: إمَّا على كونه نعتاً لضيقاً، وإمَّا على كونِهِ مفعولاً به تعدَّد، وذلك أن الأفعالَ النواسخَ إذا دخلت على مبتدأ وخبر كان الخبران

على حالهما فكما يجوز تعدُّدُ الخبر مطلقاً أو بتأويل في المبتدأ والخبر الصريحين كذلك في المنسوخين حين تقول:» زيدٌ كاتب شاعر فقيه «ثم تقول: ظننتُ زيداً كاتباً شاعراً فقيهاً، فتقول:» زيداً «مفعول أول» كاتباً «مفعول ثان» شاعراً «مفعول ثالث» فقيهاً «مفعول رابع، كما تقول: خبر ثان وثالث ورابع، ولا يلزم من هذا أن يتعدَّى الفعل لثلاثة ولا أربعة لأن ذلك بالنسبة إلى تعدُّد الألفاظ، فليس هذا كقولك في: أعلمْتُ زيداً عمراً فاضلاً، إذ المفعولُ الثالثُ هناك ليس متكرراً لشيء واحد، وإنما بَيَّنْتُ هذا لأنَّ بعض الناس وَهِمَ في فهمه، وقد ظهر لك ممَّا تَقَدَّم أنَّ قوله» ضيقاً حَرَجاً «ليس فيه تكرار. وقال مكي:» ومعنى حَرِج يعني بالكسر كمعنى ضيق كرِّر لاختلاف لفظه للتأكيد «قلت: إنما يكون للتأكيد حيث لم يظهر بينها فارق فتقول: كُرِّر لاختلاف اللفظ كقوله: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] [وقوله] : 2054 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وألفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا [وقوله] : 2055 -. . . . . . . . . . . . . . . ... وهندٌ أتى مِنْ دونها النَّأْيُ والبُعْدُ وأما هنا فقد تقدَّم الفرق بينهما بالعموم والخصوص أو غير ذلك. وقال أبو البقاء: «وقيل هو جمع» حَرَجَة «مثل قَصَبَة وقَصَب والهاءُ فيه للمبالغة» ولا أدري كيف تَوَهَّم كونَ هذه الهاءِ الدالَّةِ على الوَحْدة في مفرد أسماء

الأجناس كثمرة وبُرّة ونَبِقة للمبالغة كهي في راوية ونَسَّابة وفَرُوْقة؟ وقوله: «كأنما» «ما» هذه مهيِّئة لدخول كان على الجمل الفعلية كهي في {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} [آل عمران: 185] . وقرأ ابن كثير: «يَصْعَد» ساكنَ الصاد مخفَّف العين، مضارع صَعِد أي ارتفع، وأبو بكر عن عاصم يصَّاعد بتشديد الصاد بعدها ألف، وأصلها يتصاعد أي: يتعاطى الصُّعود ويتكلَّفه، فأدغم التاء في الصاد تخفيفاً، والباقون يَصَّعَّد بتشديد الصاد والعين دون ألفٍ بينهما، مِنْ يصَّعَّد أي يفعل الصعود ويُكَلَّفه والأصل: يتصعَّد فأدغم كما في قراءة شعبة، وهذه الجملة التشبيهية يحتمل أن تكون مستأنفة شبَّه فيها حال مَنْ جعل الله صدره ضيقاً حَرَجاً بأنه بمنزلة مَنْ يطلب الصُّعود إلى السماء المُظِلة، أو إلى مكان مرتفع وَعْرٍ كالعقبة الكَؤُود. وجَوَّزوا فيها وجهين آخرين أحدهما: أن يكون مفعولاً آخر تعدَّد كما تَعَدَّد ما قبلها، والثاني: أن يكون حالاً، وفي صاحبها احتمالان، أحدهما: هو الضميرُ المستكنُّ في «ضيِّقا» ، والثاني: هو الضمير في «حَرَجا» و «في السماء» متعلِّق بما قبله. قوله: {كذلك يَجْعَلُ} هو كنظائِرِه، وقدَّره الزجاج: مثل ما قَصَصْنا عليك يَجْعل، أي: فيكون مبتدأ وخبراً أو نعت مصدر محذوف، فلك أن ترفعَ «مثل» وأن تنصِبَها بالاعتبارين عنده، والأحسن أن يُقَدَّر لها مصدرٌ مناسب

كما قدَّره الناس وهو: مثل ذلك الجَعْل أي جَعْلِ الصدرِ ضيقاً حرجاً يجعل اللهُ الرجس، كذا قدَّره مكي وغيره، و «يجعل» يُحتمل أن تكونَ بمعنى «ألقى» وهو الظاهر فتتعدَّى لواحد بنفسها وللآخر بحرف جر، ولذلك تَعدَّتْ هنا ب على، والمعنى: كذلك يلقي اللهُ العذاب على الذين لا يؤمنون، ويجوز أن يكون بمعنى صَيَّر أي: يُصَيِّره مُسْتعلياً عليهم محيطاً بهم، والتقدير الصناعي: مستقراً عليهم.

126

وقوله تعالى: {مُسْتَقِيماً} : حال من «صراط» ، والعامل فيه أحد شيئين: إمَّا «ها» لِما فيها من معنى التنبيه، وإمَّا «ذا» لما فيه من معنى الإِشارة وهي حال مؤكدة لا مبيِّنة، لأنَّ صراط الله لا يكون إلا كذلك.

127

قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ} : يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة فلا محلَّ لها كأن سائلاً سأل عَمَّا أعدَّ الله لهم فقيل له ذلك، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل «يَذَّكَّرون» ويحتمل أن يكون وصفاً لقوم، وعلى هذين الوجهين فيجوز أن تكون الحال أو الوصف الجارَّ والمجرور فقط ويرتفع «دار السلام» بالفاعلية، وهذا عندهم أولى؛ لأنه أقرب إلى المفرد من الجملة، والأصل في الوصف والحال والخبر الإِفراد فما قَرُبَ إليه فهو أَوْلَى و {عِندَ رَبِّهِمْ} حال من «دار» ، والعامل فيها الاستقرار في «لهم» . والسلامُ والسَّلامة بمعنى، كاللَّداد واللَّدادة، ويجوز أن ينتصب «عند» بنفس السلام لأنه مصدر أي: يُسَلِّم عليهم عند ربهم أي: في جنته، ويجوز أن ينتصب بالاستقرار في «لهم» . وقوله «وهو وليُّهم» يحتمل أيضاً الاسنئناف، وأن يكون حالاً أي: لهم دار السلام، والحال أن الله وليُّهم وناصرهم. و «بما كانوا» الباء سببية و «ما» بمعنى الذي أو نكرةٌ أو مصدريَّة.

128

قوله تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ} : يجوزُ أن ينتصب بفعل مقدَّر فقدَّره أبو البقاء تارةً ب «اذكر» وتارةً بالقول المحذوف العامل في جملة النداء من قوله «يا مَعْشَر» أي: ويقول: يا معشرَ يوم نحشرهم، وقَدَّره الزمخشري: «ويوم يَحشرهم وقلنا كان ما لا يوصف لفظاعته» . قال الشيخ: «وما قلناه أَوْلَى» يعني مِنْ كونه منصوباً ب «يقول» المحكي به جملة النداء «قال:» لاستلزامه حذفَ جملتين إحداهما جملة «وقلنا» والأخرى العاملة في الظرف «. وقَدَّره الزجاج بفعل قول مبني للمفعول: يُقال لهم يا معشر يوم نحشرهم، وهو معنى حسن، كأنه نظر إلى معنى قوله» ولا يُكَلِّمهم ولا يزكِّيهم «فبناه للمفعول، ويجوز أن ينتصب» يوم «بقوله» وليُّهم «لما فيه من معنى الفعل أي: وهو يتولاَّهم بما كانوا يعملون ويتولاَّهم يوم يحشرهم. و» جميعاً «حال أو توكيد على قول بعض النحويين. وقرأ حفص» يحشرهم «بياء الغيبة ردَّاً على قوله» ربهم «أي: ويوم يحشرهم ربُّهم. قوله: {يَا مَعْشَرَ} في محلِّ نصب بذلك القول المضمرِ أي: يقول أو قلنا، وعلى تقدير الزجاج يكون في محل رفعٍ لقيامِه مَقام الفاعل المنوب عنه. والمعشرُ: الجماعة قال: 2056 - وأبغضُ مَنْ وضعتُ إليَّ فيه ... لساني معشرٌ عنهم أذودُ

والجمع: معاشر، كقوله عليه السلام:» نحن معاشرَ الأنبياء لا نورث «وقال الأودي: 2057 - فينا معاشرُ لن يَبْنوا لقومِهمُ ... وإن بَنى قومُهمْ ما أفسدوا عادوا وقوله {مِّنَ الإنس} في محلّ نصب على الحال أي: أولياءهم حال كونهم من الإِنس، ويجوز أن تكون» مِنْ «لبيانِ الجنس؛ لأنَّ أولياءهم كانوا إنساً وجِنَّاً والتقدير: أولياؤهم الذين هم الإِنس. وربَّنا حُذِفَ منه حرف النداء. والجمهور على» أَجَلَنا «بالإِفراد لقوله» الذي «. وقرئ» آجالنا «بالجمع على أفعال،» الذي «بالإِفراد/ والتذكير، وهو نعت للجمع، فقال أبو علي:» هو جنس أوقع الذي موقع التي «. قال الشيخ:» وإعرابه عندي بدل كأنه قيل: الوقت الذي، وحينئذٍ يكون جنساً ولا يكون إعرابُه نعتاً لعدم المطابقة بينهما «. قوله» خَالِدِينَ «منصوبٌ على الحال وهي حالٌ مقدرة. وفي العامل فيها ثلاثة أوجه أحدها: أنه» مثواكم «لأنه هنا اسمُ مصدر لا اسم مكان، والمعنى: النار ذات ثوائكم، أي إقامتكم في هذه الحال، ولذلك ردَّ الفارسي على الزجاج حيث قال: المثوى المقام أي: النار مكان ثوائكم أي إقامتكم. قال الفارسي:» المَثْوى عندي في الآية اسم المصدر دون المكان لحصول الحال معملاً فيها، واسم المكان لا يعمل عملَ الفعل لأنه لا معنى للفعل فيه، وإذا لم يكن مكاناً ثبت أنه مصدر، والمعنى: النار ذات إقامتكم فيها خالدين،

فالكاف والميم في المعنى فاعلون وإن كان في اللفظ خفضاً بالإِضافة، ومثلُ هذا قولُ الشاعر: 2058 - وما هي إلا في إزارٍ وعِلْقَةٍ ... مُغَارَ ابنِ هَمَّامٍ على حَيّ خَثْعما وهذا يَدُلُّ على حَذْفِ المضاف، المعنى: وما هي إلا إزارٌ وعِلْقة وقت إغارة ابن همام، ولذلك عدَّاه بعلى، ولو كان مكاناً لَمَا عدَّاه فثبت أنه اسم مصدر لا مكان فهو كقولك: «آتيك خفوقَ النجم ومقدَمَ الحاج» ثم قال: «وإنما حَسُن ذلك في المصادر لمطابقتها الزمان، ألا ترى أنه مُتَقَضٍّ غيرُ باقٍ كما أن الزمان كذلك» وذكر كلاماً كثيراً اختصرتُه. والثاني: أن العامل فيها فعلٌ محذوف، أي: يَثْوُون فيها خالدين، ويدلُّ على هذا الفعلِ المقدر «مثواكم» ويراد بمثواكم مكان الثواء. وهذا جواب عن قول الفارسي المعترض به على الزجاج. الثالث: قاله أبو البقاء أن العامل معنى الإِضافة، ومعنى الإِضافة لا يصلُح أن يكون عاملاً البتةَ فليس بشيء. قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} اختلفوا في المستثنى منه: فقال الجمهور: هو الجملة التي تليها وهي قوله {النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ} وسيأتي بيانه عن قرب. وقال أبو مسلم: «هو مستثنى من قوله» وبلغْنا أجَلَنا الذي أجَّلْتَ لنا «أي: إلا مَنْ أهلكته واخترمْتَه قبل الأجل الذي سَمَّيْته لكفرِه وضلاله. وقد ردَّ الناس عنه هذا المذهبَ من حيث الصناعة ومن حيث المعنى: أمَّا الصناعة فَمِنْ وجهين أحدهما: أنه لو كان الأمر كذلك لكان التركيب إلا

ما شئت، ليطابق قوله» أجَّلْتَ «، والثاني: أنه قد فَصَل بين المستثنى والمستثنى منه بقوله» قال النار مثواكم خالدين فيها، ومثل ذلك لا يجوز. وأمَّا المعنى فلأن القول بالأجلين: أجل الاخترام والأجل المسمَّى باطل لدلائل مقررة في غير هذا الموضوع. ثم اختلفوا في هذا الاستثناء: هل هو متصل أو منقطع؟ على قولين فذهب مكي بن أبي طالب وأبو البقاء في أحد قوليهما إلى أنه منقطع والمعنى: قال النار مثواكم إلا مَنْ آمن منكم في الدنيا كقوله: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] أي: لكن الموتة الأولى فإنهم قد ذاقوها في الدنيا، كذلك هذا، لكن الذين شاءهم الله أن يؤمنوا منكم في الدنيا. وفيه بُعْدٌ، وذهب آخرون إلى أنه متصل، ثم اختلفوا في المستثنى منه ما هو؟ فقال قوم: هو ضمير المخاطبين في قوله «مَثْواكم» أي إلا مَنْ آمن في الدنيا بعد أن كان مِنْ هؤلاء الكفرة. و «ما» هنا بمعنى «مَنْ» التي للعقلاء، وساغ وقوعُها هنا لأن المراد بالمستثنى نوعٌ وصنف، و «ما» تقع على أنواع مَنْ يعقل وقد تقدَّم تحقيق هذا في قوله {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] . ولكن قد اسْتُبعِد هذا من حيث إن المستثنى مخالفٌ للمستثنى منه في زمان الحكم عليهما، ولا بد أن يشتركا/ في الزمان لو قلت: «قام القوم إلا زيداً» كان معناه إلا زيداً فإنَّه لم يقم، ولا يَصحُّ أن يكون المعنى: فإنه سيقوم في المستقبل، ولو قلت: «سأضرب القوم إلا زيداً» كان معناه: فإنِّي لا أضربه في المستقبل، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: فإني ضربته فيما مضى، اللهم إلا أن يُجْعَلَ استثناء منقطعاً كما تقدَّم تفسيره.

وذهب قوم إلى أنَّ المستثنى منه زمان، ثم اختلف القائلون بذلك، فمنهم من قال: ذلك الزمانُ هو مدةُ إقامتهم في البَرْزَخ أي: القبور. وقيل: هو المدة التي بين حشرِهم إلى دخولهم النار، وهذا قولُ الطبري قال: «وساغ ذلك من حيث العبارةُ بقوله» النار مَثْواكم «لا يَخُصُّ بها مستقبلَ الزمان دون غيره» . وقال الزجاج: «هو مجموع الزمانين أي: مدةَ إقامتهم في القبور ومدة حشرهم إلى دخولهم النار» . وقال الزمخشري: «إلا ما شاء الله أي: يُخَلَّدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء الله إلا الأوقات التي يُنقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد رُوِيَ أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يقطع أوصالَهم فيتعاوَوْن ويطلبون الرَّدَّ إلى الجحيم» وقال قوم: «إلا ما شاء الله هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد، ووقعت» ما «عليهم لأنهم نوع كأنه قيل: إلا النوعَ الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يُخَلَّدون فيها. والظاهر أن هذا استثناءٌ حقيقةً، بل يجب أن يكون كذلك. وزعم الزمخشري أنه يكون من باب قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يَزَلْ يُحَرِّق عليه أنيابه وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خناقه:» أهلكني الله إن نَفَّسْتُ عنك إلا إذا شئت «وقد عَلِمَ أنه لا يشاء ذلك إلا التشفِّي منه بأقصى ما يقدر عليه من التشديد والتعنيف، فيكون قوله» إلا إذا شئت «من أشدِّ الوعيد مع تهكم» . قلت: ولا حاجة إلى ادِّعاء ذلك مع ظهور معنى الاستثناء فيه وارتكاب المجاز وإبراز ما لم يقع في صورة الواقع. وقال الحسن البصريُّ: «إلا ما شاء الله أي: مِنْ كونهم في الدنيا بغير عذاب» ، فجعل المستثنى زمن حياتهم وهو أبعدُ ممَّا تقدَّم.

وقال الفراء: وإليه نحا الزجاج «المعنى إلا ما شاء الله من زياةٍ في العذاب» . وقال غيره: إلا ما شاء الله من النَّكال، وكل هذا إنما يتمشَّى على الاستثناء المنقطع. قال الشيخ: «وهذا راجعٌ إلى الاستثناء من المصدر الذي يدل عليه معنى الكلام؛ إذ المعنى: يُعَذَّبون في النار خالدين فيها إلا ما شاء الله من العذاب الزائد على النار فإنه يُعَذِّبهم به، ويكون إذ ذاك استثناءً منقطعاً إذ العذابُ الزائد على عذاب النار لم يندرجْ تحت عذاب النار» . وقال ابن عطية: «ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبةً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأمته، وليس مما يُقال يومَ القيامة، والمستثنى هو مَنْ كان مِنَ الكفرة يومئذٍ يؤمن في علم الله، كأنه لمَّا أخبرهم أنه يقال للكفار: النار مثواكم استثنى لهم مَنْ يمكن أن يُؤْمن ممَّن يَرَوْنه يومئذٍ كافراً، وتقع» ما «على صفة مَنْ يعقل، ويؤيد هذا التأويلَ أيضاً قوله {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} أي: بمن يمكن أن يؤمن منهم» . قال الشيخ: «وهو تأويلٌ حسن وكان قد قال قبل ذلك:» والظاهر أن هذا الاستثناء هو مِنْ كلام الله تعالى للمخاطبين وعليه جاءت تفاسيرُ الاستثناء، وقال ابن عطية، «ثم ساقه إلى آخره، فكيف يَسْتَحْسن شيئاً حكم عليه بأنه خلاف الظاهر من غير قرينة قوية مُخْرِجَةٍ للَّفظ عن ظاهره؟

129

قوله تعالى: {وكذلك نُوَلِّي} : أي: كما خَذَلْنا عصاةَ الإِنس والجن حتى استمتع بعضُهم ببعض كذلك نَكِلُ بعضَهم إلى بعض في النصرة والمعونة، فهي نعت لمصدر محذوف، أو في محل رفع أي: الأمرُ

مثل تولية بعض/ الظالمين، وهو رأي الزجاج في غير موضع. و {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ظاهر كنظائره.

130

قوله تعالى: {مِّنْكُمْ} : في محل رفعٍ صفةً لرسل فيتعلَّق بمحذوف وقوله «يَقُصُّون» يحتمل أن يكون صفةً ثانية، وجاءت كذا مجيئاً حسناً حيث تقدَّم ما هو قريبٌ من المفرد على الجملة، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: هو «رسل» وجاز ذلك وإن كان مكرةً لتخصُّصِه بالوصف. والثاني: أنه الضمير المستتر في «منكم» . وقوله {رُسُلٌ مِّنْكُمْ} زعم الفراء أن في الآية حَذْفَ مضاف أي: ألم يَأتِكم رسلٌ من أحدكم يعني من جنس الإِنس «قال: كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يَخْرجان من الملح، {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 16] وإنما هو في بعضها، فالتقدير: يخرج مِنْ أحدهما وجعل القمر في إحداهن، فحُذِفَ للعلم به» ، وإنما احتاج الفراء إلى ذلك لأن الرسل عنده مختصةٌ بالإِنس، يعني أنه لم يعتقد أن الله أَرْسَل للجن رسولاً منهم، بل إنما أرسل إليهم الإِنس كما يُرْوى في التفسير وعليه قام الإِجماع أنَّ النبي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ للإِنس والجن وهذا هو الحق، أعني أنَّ الجنَّ لم يُرْسَلْ منهم إلا بواسطة رسالة الإِنس، كما جاء في الحديث مع الجن الذين لمَّا سَمِعُوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم، ولكن لا يُحْتاجُ إلى تقدير مضاف وإن قلنا إنَّ رسل الجن من الإِنس، للمعنى الذي ذكرتُه وهو أنه يُطْلق عليهم رسل مجازاً لكونهم رسلاً بواسطة رسالة الإِنس، وقد زعمَ قومٌ أن الله أرسل للجن رسولاً منهم يُسَمَّى يوسف.

131

قوله تعالى: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ} : فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه مبتدأٌ محذوف الخبرِ أي: ذلك الأمر. الثاني: عكسه أي الأمر ذلك. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعل أي: فَعَلْنا ذلك، وإنما يظهر المعنى إذا عُرِفَ المشار إليه، وهو يحتمل أن يكون إتيان الرسل قاصِّين الآيات ومنذرين بالحشر والجزاء، وأن يكون ذلك الذي قَصَصْنا مِنْ أَمْرِ الرسل، وأَمْر مَنْ كَذَّب ويحتمل أن يكون إشارةً إلى السؤال المفهوم من قوله «ألم يأتكم» . وقوله «أن لم يكن» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه على حذف لام العلة أي: ذلك الأمر الذي قَصَصْنا، أو ذلك الإِتيان أو ذلك السؤال لأجل أن لم يكن، فلمَّا حُذِفَت اللامُ احتمل موضعُها الجرَّ والنصبَ كما عُرِفَ غير مرة. والثاني: أن يكون بدلاً من «ذلك» . قال الزمخشري: «ولك أَنْ تجعلَه بدلاً من» ذلك «كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 22] انتهى. فيجوز أن يكون في محلِّ رفعٍ أو نصب على ما تقدم في ذلك، إلا أن الزمخشري القائل بالبدلية لم يذكر في محل ذلك إلا الرفعَ على خبر مبتدأ مضمر، و» أَنْ «يجوز أن تكونَ الناصبة للمضارع، وأن تكون المخففة واسمها ضمير الشأن، و» لم يكن «في محل رفع خبرها، وهي نظير قوله {أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} [طه: 89] وقوله: 2059 - في فتيةٍ كسيوف الهند قد عَلِمُوا ... أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ و» بظلمٍ «يجوز فيه وجهان، أظهرهُما: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال

من» ربك «أو من الضمير في» مُهْلِكَ «أي: لم يكن مهلك القرى ملتبساً بظلم، ويجوز أن يكون حالاً من القرى أي: ملتبسة بذنوبها، والمعنيان منقولان في التفسير. والثاني: أنه يتعلق بمُهْلِك على أنه مفعول وهو بعيد، وقد ذكره أبو البقاء. وقوله:» وأهلُها غافلون «جملة حالية.

132

وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ} : حُذِف المضاف إليه للعلم به أي: ولكلِّ فريق من الجن والإِنس. وقوله: «مما عملوا» في محل رفع نعتاً لدرجات وقيل: ولكل من المؤمنين خاصة. وقيل: ولكل من الكفار خاصة، لأنها جاءت عقيب خطاب الكفار، إلا أنه يبعده قوله «درجاتٌ» وقد يُقال إنَّ المراد بها هنا المراتب وإن غلب استعمالها في الخير. وقوله «عمَّا يعملون» قرأ العامة بالغيبة ردَّاً على قوله «ولكل درجات» . وقرأ ابن عامر بالخطاب مراعاةً لما بعده في قوله «يُذْهِبْكم» ، «من بعدكم» ، «أنشأكم» .

133

قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الغني} : يجوز أن يكون «الغنيُّ» ذو الرحمة خبرين أو وصفين، و «إن يشأ» وما بعده خبر الأول أو يكون الغنيّ وصفاً، و «ذو الرحمة» خبر، والجملة الشرطية خبر ثان أو مستأنف. وقوله «ما يشاء» يجوز أن تكون «ما» واقعةً على ما هو من جنس الآدميِّين، وإنما أتى ب «ما» وهي لغير العاقل للإِبهام الحاصل. ويجوز أن تكون واقعة على غير العاقل وأنه يأتي بجنس آخر، ويجوز أن تكون واقعة على النوع من العقلاء كما تقدم. قوله {كَمَآ أَنشَأَكُمْ} فيه وجهان أحدهما: أنه مصدر على غير الصدر

لقوله «ويَسْتخلف» ، لأنَّ معنى يستخلف يُنْشئْ. والثاني: أنها نعت مصدر محذوف تقديره: استخلافاً مثل ما أنشأكم. وقوله {مِنْ ذرِّيَّة} متعلق بأنشأكم. وفي «مِنْ» هذه أوجه أحدها: أنها لابتداء الغاية أي: ابتدأ إنشاءكم من ذرية قوم. والثاني: أنها تبعيضية قاله ابن عطية. الثالث: بمعنى البدل، قال الطبري وتبعه مكي بن أبي طالب «هي كقولك:» أخذت من ثوبي درهماً «أي: بدله وعوضه، وكون» مِنْ «بمعنى البدل قليل أو ممتنع، وما ورد منه مؤولٌ كقوله تعالى: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} [الزخرف: 60] وقوله: 2060 - جاريةٌ لم تَأْكُلِ المرقَّقَا ... ولم تَذُقْ من البقول الفُسْتُقا أي: بدلكم وبدل البقول، والمعنى: من أولاد قوم متقدمين أصلهم آدم. وقال الزمخشري:» من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثلِ صفتكم وهم أهل سفينة نوح «. وقرأ أُبَيّ بن كعب» ذَرِّيَّة «بفتح الذال، وأبان بن عثمان» ذَرِيَّة «بتخفيف الراء مكسورة، ويروى عنه أيضاً» ذَرْية «بوزن ضَرْبَة وقد تقدَّم تحقيق ذلك.

134

قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} : «ما» بمعنى الذي وليست الكافة، و «توعدون» صلتها، والعائد محذوف أي: إنَّ ما توعدونه،

و «لآتٍ» الخبر مؤكَّد باللام. وقرأ الأخَوان هنا «مَنْ يكون له عاقبة الدار» ، وفي القصص، بالياء، والباقون بالتاء من فوق. وهما واضحتان فإنَّ تأنيثها غير حقيقي، وقد تقدَّم ذلك في قوله: {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123] .

135

وقرأ العامَّة {على مَكَانَتِكُمْ} هنا وفي جميع القرآن بالإِفراد، وأبو بكر عن عاصم: «مكاناتكم» بالجمع في الجميع، فَمَنْ أفرد فلإِرادة الجنس ومَنْ جمع فليطابق ما بعدها فإن المخاطبين جماعة وقد أضيفت إليهم، وقد علم أنَّ لكل واحد مكانه. واختلف في ميم «مكان ومكانة» فقيل: هي أصلية وهما مِنْ مكن يمكن، وقيل: هما من الكون فالميم زائدة، فيكون المعنى على الأول: اعملوا على تمكُّنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، قال معناه أبو إسحاق، وعلى الثاني: اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. وقوله: {مَن تَكُونُ لَهُ} يجوز في «مَنْ» هذه وجهان أحدهما: أن تكون موصولةً وهو الظاهر، فهي في محل نصب مفعولاً به، و «علم» هنا متعديةٌ لواحد لأنها بمعنى العرفان. والثاني: أن تكون استفهامية فتكون في محل رفع بالابتداء. و {تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} تكون واسمها وخبرها في محل رفع خبراً لها، وهي وخبرها في محل نصب: إمَّا لسدِّها مَسَدَّ مفعول واحدٍ إن كانت «علم» عرفانية، وإمَّا لسدِّها مَسَدَّ اثنين إن كانت يقينية.

136

قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ} : «جعل» هنا بمعنى صيَّر

فيتعدى لاثنين أوَّلُهما قوله «نصيباً» ، والثاني قوله «لله» ، و «ممَّا ذَرَأ» يجوز أن يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف لأنه كان في الأصل صفة ل «نصيباً» فلما قُدِّم عليه انتصب حالاً، والتقدير: وجعلوا نصيباً ممَّا ذَرَأ لله، و «من الحَرْث» يجوز أن يكون بدلاً مِنْ «ممَّا ذرأ» بإعادة العامل كأنه قيل: وجعلوا لله من الحرث والأنعام نصيباً. ويجوز أن يتعلق ب «ذرأ» ، وأن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال: إمَّا من ما الموصولة أو من عائدها المحذوف، وفي الكلام حذفُ مفعول اقتضاه التقسيم والتقدير: وجعلوا لله نصيباً من كذا ولشركائهم نصيباً منه، يدلُّ عليه ما بعده مِنْ قوله: {فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا} و «هذا لله» جملةٌ منصوبةُ المحل بالقول، وكذلك قوله «وهذا لشركائنا» . وقوله: {بِزَعْمِهِمْ} فيه وجهان أحدهما: أن يتعلَّق ب «قالوا» أي: فقالوا ذلك القولَ بزعم لا بيقين واستبصار. وقيل: هو متعلِّق بما تعلَّق به الاستقرار من قوله «لله» . وقرأ العامة بفتح الزاي من «زَعمهم» في الموضعين، وهذه لغة الحداز وهي الفصحى. وقرأ الكسائي «بزُعمهم» بالضم/ وهو لغة بني أسد، وهل الفتح والضم بمعنى واحد، أو المفتوح مصدر والمضموم اسم؟ خلاف مشهور. وقرأ ابن أبي عبلة «بزَعَمهم» بفتح الزاي والعين. وفيه لغة رابعة لبعض قيس وبني تميم وهي كسر الزاي، ولم يُقْرأ بهذه اللغة فيما علمت. وقد تقدم تحقيق الزعم. وقوله {لِشُرَكَآئِنَا} يجوز فيه وجهان أحدهما: أن الشركاء من الشرك، ويعنون بهم آلهتهم التي أشركوا بينها وبين الباري تعالى في العبادة، وليست

الإِضافة إلى فاعل ولا إلى مفعول، بل هي إضافة تخصيص والمعنى: الشركاء الذين أشركوا بينهم وبين الله في العبادة. والثاني: أن الشركاء من الشركة، ومعنى كونهم سَمُّوا آلهتهم شركاءهم أنهم جعلوهم شركاء في أموالهم وزروعهم وأنعامهم ومتاجرهم وغير ذلك، فتكون الإِضافة إضافةً لفظيةً: إمَّا إلى المفعول أي: شركائنا الذين شاركونا في أموالنا، وإمَّا إلى الفاعل أي: الذين أشركناهم في أموالنا. وقوله: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} قد تقدم نظيرها غير مرة، وقد أعربها الحوفي هنا فقال: «ما» بمعنى الذي والتقدير: ساء الذي يحكمون حكمُهم فيكون «حكمُهم» مبتدأ وما قبله الخبر وحُذِف لدلالة «يحكمون» عليه، ويجوز أن تكون «ما» تمييزاً على مذهب مَنْ يجيز ذلك في «بئسما» فتكون في موضع نصب، التقدير: ساء حكماً حكمهم، ولا يكون «يحكمون» صفة ل «ما» لأن الغرض الإِبهام، ولكنْ في الكلام حذفٌ يدل عليه «ما» والتقدير: ساء ما ما يحكمون، فحذف «ما» الثانية «قلت: و» ما «هذه إن كانت موصولة فمذهب البصريين أنَّ حَذْفَ الموصول لا يجوز، وقد عرف ذلك، وإن كانت نكرة موصوفة ففيه نظر، لأنه لم يُعْهَدْ حَذْفُ» ما «نكرةً موصوفة. وقال ابن عطية: «وما» في موضع رفع كأنه قال: ساء الذي يحكمون، ولا يتجه عندي أن تجري «ساء» هنا مجرى نِعْم وبئس؛ لأن المفسَّر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس في قوله {سَآءَ مَثَلاً القوم} [الأعراف: 177] لأن المفسَّر ظاهر في الكلام «. قال الشيخ:» وهذا كلامُ مَنْ لم ترسخ قدمه في العربية بل شدا فيها شيئاً يسيراً؛ لأنها إذا جرت «ساء» مجرى بئس كان حكمها كحكمها سواء لا يختلف في شيء البتة مِنْ فاعل ظاهر

أو مضمر وتمييز، ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح أو الذم والتمييز بها لدلالة الكلام عليه. فقوله «لأن المفسَّر هنا مضمرٌ ولا بد من إظهاره باتفاق» قوله ساقط، ودعواه الاتفاق على ذلك مع أن الاتفاق على خلافه عجب عُجاب «.

137

قوله تعالى: {وكذلك زَيَّنَ} : هذا في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف كنظائره، فقدّره الزمخشري تقديرين فقال: «ومثل ذلك التزيين وهو تزيينُ الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة، أو: ومثل ذلك التزيينِ البليغ الذي عُلِم من الشياطين» . قال الشيخ: «قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون» كذلك «مستأنفاً غير مشار به إلى ما قبله فيكون المعنى: وهكذا زَيَّن» قلت: والمنقول عن ابن الأنباري أنه مشار به إلى ما قبله، نقل الواحدي عنه أنه قال: «ذلك إشارة إلى ما نعاه الله عليهم مِنْ قَسْمهم ما قسموا بالجهل فكأنه قيل: ومثل ذلك الذي أَتوه في القَسْم جهلاً وخطأً زَيَّن لكثير من المشركين فشبَّه تزيين الشركاء بخطابهم في القسم، وهذا معنى قول الزجاج. وفي هذه الآية قراءات كثيرة، والمتواتر منها ثنتان، الأولى: قرأ العامة» زَيَّنَ «مبنياً للفاعل و» قَتْلَ «نصب على المفعولية و» أولادهم «خفض بالإِضافة، و» شركاؤهم «رفع على الفاعلية وهي قراءة واضحة المعنى والتركيب. وقرأ ابن عامر:» زُيِّن «مبنياً للمفعول،» قَتْلُ «رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعله،»

أولادَهم «نصباً على المفعول بالمصدر،» شركائهم «خفضاً على إضافة المصدر إليه فاعلاً. وهذه القراءة متواترة صحيحة، وقد تجرَّأ كثير من الناس على قارئها بما لا ينبغي، وهو أعلى القراء السبعة سنداً وأقدمهم هجرة: أمَّا علوُّ سندِه فإنه قرأ على أبي الدرداء وواثلة بن الأسقع وفضالة بن عبيد ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة المخزومي، ونقل يحيى الذماري أنه قرأ على عثمان نفسه، وأمَّا قِدَمُ هجرته فإنه وُلِد في حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وناهيك به أن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري أخذ عن أصحاب أصحابه، وترجمته متسعة ذكرتها في» شرح القصيد «، وإنما ذكرت هنا هذه العُجالة تنبيهاً على خطأ مَنْ ردَّ قراءته ونسبه إلى لَحْنٍ أو اتباع مجرد المرسوم فقط. قال أبو جعفر النحاس:» وهذا يعني الفصلَ بين المضاف والمضاف إليه بالظرف أو غيره، ولا يجوز في شعرٍ ولا غيره «. وهذا خطأ من أبي جعفر

لِمَا سنذكره من لسان العرب، وقال أبو علي الفارسي:» هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها يعني ابن عامر كان أَوْلى لأنهم لم يفصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظروف، وإنما أجازوه في الشعر «قال:» وقد فصلوا به أي بالظرف في كثير من المواضع نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] وقولِ الشاعر: 2061 - على أنني بعدما قد مَضَى ... ثلاثون للهَجر حَوْلاً كميلا وقول الآخر: 2062 - فلا تَلْحَنِي فيها فإنَّ بحبِّها ... أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بلابلُه ففصل بين إنَّ واسمها بما يتعلَّق بخبرها، ولو كان بغير الظرف لم يَجُزْ، ألا ترى أنك لو قلت: «إن زيداً عمراً ضارب» على أن يكون «زيداً» منصوباً بضارب لم يَجُز، فإذا لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه في الكلام بالظرف مع اتساعهم فيه في الكلام، وإنما يجوز في الشعر كقوله: 2063 - كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً ... يهوديٍ يقارِبُ أو يُزيلُ فأن لا يجوز بالمفعول به الذي لم يُتَّسعْ فيه بالفصل أجدر، ووجه ذلك

على ضَعْفه وقلة الاستعمال أنه قد جاء في الشعر على حَدِّ ما قرأه. قال الطرماح: 2064 - يَطُفْنَ بحوزيِّ المراتعِ لم تَرُعْ ... بواديه مِنْ قَرْعِ القِسِيَّ الكنائِنِ وأنشد أبو الحسن: 2065 -. . . . . . . . . . . . . . . ... زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ وقال أبو عبيد: «وكان عبد الله بن عامر وأهل الشام يقرؤونها» زُيِّن «بضم الزاي،» قتلُ «بالرفع،» أولادَهم «بالنصب،» شركائهم «بالخفض، ويتأوّلون» قتل شركائهم أولادَهم «فيفرقون بين الفعل وفاعله» . قال أبو عبيد: «ولا أحب هذه القراءة لما فيها من الاستكراه، والقراءة عندنا هي الأَوْلَى لصحتها في العربية مع إجماع أهل الحرمين والمِصْرَين بالعراق عليها» وقال سيبويه في قولهم «» يا سارق الليلةِ أهلَ الدار «بخفض» الليلة «على التجوز وبنصب الأهل على المفعولية، ولا يجوز» يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدار «إلا في شعر كراهةَ أن يفصلوا بين الجار والمجرور. ثم قال:» وممَّا جاء في الشعر قد فُصل بينه

وبين المجرور قولُ عمرو بن قميئة: 2066 - لمَّا رأت ساتيدَ ما استعبرتْ ... لله درُّ اليومَ مَنْ لامها وذكر أبياتاً أخر ستأتي. ثم قال: «وهذا قبيح، ويجوز في الشعر على هذا:» مررت بخيرِ وأفضلِ مَنْ ثَمَّ «. وقال أبو الفتح ابن جني:» الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار والمجرور كثير لكنه من ضرورة الشاعر «. وقال مكي بن أبي طالب:» ومن قرأ هذه القراءة ونصب «الأولاد» وخفض «الشركاء» فهي قراءة بعيدة، وقد رُوِيَتْ عن ابن عامر، ومجازها على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وذلك إنما يجوز عند النحويين في الشعر، وأكثر ما يكون بالظرف «. وقال ابن عطية رحمه الله:» وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، ورؤساء العربية لا يُجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في شعر كما قال: 2067 - كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً ... يهوديٍ. . . . . . . . . . . . . / البيت فكيف بالمفعول في أفصح كلام؟ ولكنْ وجهُها على ضعفها أنها وردت في بيت شاذ أنشده أبو الحسن الأخفش: 2068 - فَزَجَجْتها بمَزَجَّةٍ ... زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ

وفي بيت الطرماح وهو قوله: 2069 - يَطُفْنَ بحُوزِيِّ المراتع لم تَرُعْ ... بواديه من قَرْع القِسيَّ الكنائِنِ وقال الزمخشري فأغلظ وأساء في عبارته «وأمَّا قراءة ابن عامر فذكرها فشيءٌ لو كان في مكان الضرورة وهو الشعر لكان سَمِيحاً مردوداً كما سَمُج ورُدَّ: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المُعْجِز بحسن نظمه وجزالته» ؟ الذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف «شركائهم» مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجر «الأولاد» و «الشركاء» لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوَجَدَ في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب «قلت: سيأتي بيان ما تمنَّى أبو القاسم أن يقرأه ابن عامر، وأنه قد قرأ به، فكأن الزمخشري لم يَطَّلِعْ على ذلك فلهذا تمنَّاه. وهذه الأقوال التي ذكرتُها جميعاً لا ينبغي أن يُلْتفت إليها لأنها طَعْنٌ في المتواتر، وإن كانت صادرةً على أئمةٍ أكابرَ، وأيضاً فقد انتصر لها مَنْ يقابلهم، وأورد من لسانِ العرب نظمِه ونثره ما يشهد لصحة هذه القراءة لغةً: قال أبو بكر ابن الأنباري:» هذه قراءة صحيحة، وإذا كانت العرب قد فَصَلَتْ بين

المتضايفين بالجملة في قولهم: «هو غلامُ إن شاء الله أخيك» يريدون: هو غلام أخيك فأنْ يُفْصَل بالمفرد أسهل «انتهى. وسمع الكسائي قول بعضهم:» إن الشاةَ لتجترُّ فتسمع صوتَ واللهِ ربِّها «أي: صوت ربها والله، ففصل بالقسم وهو في قوة الجملة، وقرأ بعض السلف: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدَه رُسُلِهُ} [إبراهيم: 47] بنصب» وعدَه «وخفض» رسله «، وفي الحديث عنه عليه السلام:» هل أنتم تاركو لي صاحبي، تاركو لي امرأتي «أي: تاركو صاحبي لي، تاركو امرأتي لي. وقال ابن جني في الخصائص:» باب ما يَرِد عن العربي مخالفاً للجمهور، إذا اتفق شيء من ذلك: نُظِر في ذلك العربي وفيما جاء به: فإن كان فصيحاً وكان ما جاء به يقبله القياس فَيَحْسُن الظنُّ به؛ لأنه يمكن أن يكون قد وقع إليه ذلك مِنْ لغةٍ قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها. أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن أبي الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: قال ابن عوف عن ابن سيرين: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «كان الشعر عِلْمَ قوم لم يكن لهم عِلْمٌ أصحُّ منه، فجاء الإِسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغَزْوِ فارس والروم ولَهَت عن الشعر وروايتِه، فلمَّا كثُر الإِسلام وجاءت الفتوح واطمأنَّت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يَؤُولوا إلى ديوانٍ مُدَوَّنٍ ولا إلى كتاب مكتوب، وأَلِفُوا ذلك وقد هلك مَنْ هلك من العرب بالموت والقتل فحفظوا أقلَّ ذلك وذهب عنهم كثيره. قال: وحدثنا أبو بكر عن أبي خليفة عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء: قال: «ما انتهى إليكم ممَّا قالت العرب إلا أقلُّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعر كثير» . قال أبو الفتح: «فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح [إذا] سُمِع منه

ما يخالف الجمهورَ بالخطأ ما وُجِد طريق إلى تقبُّل ما يورده إلا إذا كان القياس يعاضده» . قلت: وقراءة هذا الإِمام بهذه الحيثيَّة بل بطريق الأولى والأحرى لو لم تكن متواترةً فكيف وهي متواترة؟ وقال ابن ذكوان: «سألني الكسائي عن هذا الحرف وما بلغه من قراءتنا فرأيته كأنه أعجبه وترنَّم بهذا البيت: 2070 - تَنْفي يداها الحصَى في كل هاجرة ... نَفْيَ الدَّراهيمَ تَنْقادِ الصيارِيف بنصب» الدراهيم «وجرّ» تنقاد «، وقد روي بخفض» الدراهيم «ورفع» تنقاد «وهو الأصل وهو المشهور في الرواية. وقال/ الكرماني:» قراءة ابن عامر وإن ضَعُفَتْ في العربية للإِحالة بين المضاف والمضاف إليه فقويَّةٌ في الرواية عالية «انتهى. وقد سُمِعَ ممَّنْ يُوثق بعربيته:» تَرْكُ يوماً نفسِك وهواها سَعْيٌ في رَداها «أي: تَرْكُ نفسِك يوماً مع هواها سَعْيٌ في هَلاكها، وأمَّا ما ورد في النظم من الفصل بين المتضايفين بالظرف وحرف الجر وبالمفعول فكثير وبغير ذلك قليلٌ، فمِن الفصلِ بالظرف قولُ الشاعر: 2071 - فَرِشْني بخيرٍ لا أكونَنْ ومِدْحتي ... كناحتِ يوماً صخرةٍ بعسيل تقديره: كناحت صخرةٍ يوماً، ومثله قول الآخر: 2072 - كما خُطَّ الكتابُ بكف يوماً ... يهوديٍّ. . . . . . . . . . . . . . . . وقول الآخر: 2073 - قد سَأَلَتْني أمُّ عمروٍ عن ال ... أرضِ التي تجهل أَعْلامَها

لَمَّا رَأَتْ ساتِيْدَ ما اسْتَعْبَرَتْ ... للهِ دَرُّ اليومَ مَنْ لامها تَذَكَّرَتْ أرضاً بها أهلَها ... أخوالَها فيها وأعمامَها يريد: لله دَرُّ مَنْ لامَها اليوم. و» ساتيد ما «قيل: هو مركب والأصل: ساتي دما، ثم سُمِّي به هذا الجبلُ لأنه قُتِل عنده. قيل: ولا تبرح القتلى عنده. وقيل:» ساتيد «كلُّه اسمٌ و» ما «مزيدةٌ. ومثالُ الفصل بالجارِّ قولُه: 2074 - هما أخوا في الحرب مَنْ لا أخاله ... إذا خافَ يوماً نَبْوَةً فدعاهما وقوله: 2075 - لأنتَ مُعْتادُ في الهيجا مصابَرَةٍ ... يَصْلى بها كلُّ مَنْ عاداك نيرانا وقوله: 2076 - كأنَّ أصواتَ مِنْ إيغالِهِنَّ بنا ... أواخِرِ المَيْسِ أصواتُ الفراريج وقوله: 2077 - تَمُرُّ على ما تَسْتَمِرُّ وقد شَفَتْ ... غلائلَ عبدُ القيسِ منها صدورِها

يريد: هما أخوا مَنْ لا أخاله في الحرب، ولأنت معتاد مصابرة في الهجاء، وكأن أصواتَ أواخر الميس، وغلائل صدورِها. ومن الفصل بالمفعول قول الشاعر: 2078 - فَزَجَجْتُها بمَزَجَّةٍ ... زجَّ القَلوصَ أبي مزادَه ويروى: فَزَجَجْتها فتدافعَتْ، ويُروى: فزجَجْتها متمكناً، وهذا البيت كما تقدَّم أنشده الأخفش بنصب «القلوص» فاصلاً بين المصدر وفاعله المعنوي، إلا أن الفراء قال بعد إنشاده لهذا البيت: «ونحويُّو أهل المدينة ينشدون هذا البيت يعني بنصب القلوص» قال: «والصواب: زَجَّ القلوصِ بالخفض» قلت: قوله «والصوابُ يحتمل أن يكون من حيث الرواية، أي: إن الصوابَ خَفْضُه على الرواية الصحيحة، وأن يكون من حيث القياس، وإن لم يُرْوَ إلا بالنصب. وقال في موضع آخر من كتابه» معاني القرآن «:» وهذا مما كان يقوله نحويُّو أهلِ الحجاز ولم نجد مثله في العربية «وقال أبو الفتح:» فُصل بينهما بالمفعول به هذا مع قدرته على أن يقول: زج القلوصِ أبو مزادة كقولك: «سَرَّني أكلُ الخبزِ زيدٌ» بمعنى أنه كان ينبغي أن يضيف المصدر إلى مفعوله فيبقى الفاعل مرفوعاً على أصله، وهذا معنى قول الفراء الأول «والصواب جر القلوص» يعني ورفع الفاعل. ثم قال ابن جني: «وفي هذا البيت عندي دليلٌ على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم، وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول، ألا تراه ارتكب هذه الضرورةَ مع تمكُّنِه مِنْ تَرْكِها لا لشيء غيرَ الرغبة في إضافة المصدر إلى

الفاعل دون المفعول، ومن الفصل بالمفعول به أيضاً قولُ الآخر: 2079 - وحِلَقِ الماذيِّ والقوانِسِ ... فداسَهم دونسَ الحصادَ الدائِسِ أي: دوس الدائس الحصادَ. ومثله أيضاً: 2080 - يَفْرُك حَبَّ السنبلِ الكُنَافِجِ ... بالقاع فَرْكَ القطنَ المحالجِ يريد: فَرْك المحالجِ القطنَ، وقول الطرماح: 2081 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... بواديه من قَرْع القِسِيَّ الكنائنِ يريد: قرع الكنائنِ القسيَّ، قال ابن جني في هذا البيت:» لم نجد فيه بُدَّاً من الفصل لأن القوافي مجرورة «وقال في» زجَّ القلوصَ «: فصل بينهما بالمفعول به/ هذا مع قدرته إلى آخر كلامه المتقدم. يعني أنه لو أنشد بيت الطرماح بخفض» القسيّ «ورفع الكنائن لم يَجُز لأن القوافي مجرورة بخلاف بيت الأخفش، فإنه لو خفض» القلوص «ورفع» أبو مزادة «لم تختلف فيه قافيته ولم ينكسر وزنُه. قلت: ولو رفع» الكنائن «في البيت لكان جائزاً وإن كانت القوافي مجرورةً ويكون ذلك إقواء، وهو أن تكونَ بعضُ القوافي مجرورة وبعضها مرفوعة كقول امرئ القيس: 2082 - تَخْدي على العِلاَّتِ سامٍ رأسُها ... رَوْعاءُ مَنْسِمُها رثيمٌ دامِ

ثم قال: جالَتْ لتصرَعني فقلت لها اقصِري ... إني امرؤٌ صَرْعي عليك حرامُ فالميمُ مخفوضةٌ في الأول مرفوعة في الثاني، فإن قيل: هذا عيبٌ في الشعر. قيل: لا يتقاعد ذلك عن أن يكونَ مثلُ هذه للضرورة، والحق إن الإِقواء أفحشُ وأكثر عيباً من الفصل المذكور، ومن ذلك أيضاً: 2083 - فإن يكنِ النِّكاحُ أَحَلَّ شيءٍ ... فإنَّ نكاحها مطرٍ حرامُ أي: فإن نكاحِ مطرٍ إيَّاها، فلمَّا قُدِّم المفعول فاصلاً بين المصدر وفاعله اتصل بعامله لأنه قَدِر عليه متصلاً فلا يَعْدِلُ إليه منفصلاً. وقد وقع في شعر أبي الطيب الفصلُ بين المصدر المضاف إلى فاعله بالمفعول كقوله: 2084 - بعثتُ إليه من لساني حديقة ... سقاها الحيا سَقْيَ الرياضَ السحائبِ أي: سقي السحائبِ الرياضَ. وأمَّا الفصلُ بغير ما تقدَّم فهو قليل، فمنه الفصلُ بالفاعل كقوله: 2085 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... غلائلَ عبدُ القيس منها صدورِها ففُصِل بين «غلائل» وبين «صدورها» بالفاعل وهو «عبد القيس» وبالجار وهو «منها» كما تقدم بيانه، ومثلُه قول الآخر:

2086 - نرى أسهماً للموت تُصْمي ولا تُنْمي ... ولا تَرْعوي عن نقضِ أهواؤنا العزمِ فأهواؤنا فاعلٌ بالمصدر وهو «نَقْض» وقد فُصِل به بين المصدر وبين المضاف إليه وهو العزم، ومثله قول الآخر: 2087 - أَنْجَبَ أيام والداهُ به ... إذ نَجَلاه فنِعْمَ ما نَجَلا يريد: أيام إذ نجلاه، ففصل بالفاعل وهو «والداه» المرفوع ب «أنجب» بين المتضايفين وهما «أيام إذ ولداه» . قال ابن خروف: «يجوز الفصلُ بين المصدر والمضاف إليه بالمفعول لكونه في غير محله، ولا يجوز بالفاعل لكونه في محله، وعليه قراءة ابن عامر» . قلت: هذا فرق بين الفاعل والمفعول حيث استُحْسِن الفصل بالمفعول دون الفاعل. ومن الفصل بغير ما تقدَّم أيضاً الفصلُ بالنداء كقوله: 2088 - وفاقُ كعبُ بُجَيْرٍ منقِذٌ لك من ... تعجيل مُهْلِكَةٍ والخلدِ في سَقَرَ وقول الآخر: 2089 - إذا ما أبا حفصٍ أَتَتْكَ رَأَيْتَها ... على شعراء الناس يعلو قصيدها وقول الآخر:

2090 - كأنَّ بِرْذَوْنَ أبا عصامِ ... زيدٍ حمارٌ دُقَّ باللِّجامِ يريد: وفاق بجيرٍ يا كعب، وإذا ما أتتك يا أبا حفص، وكأن بِرْذون زيدٍ يا أبا عصام. ومن الفصل أيضاً الفصلُ بالنعت كقول معاوية يخاطب به عمرو بن العاص: 2091 - نَجَوْتَ وقد بَلَّ المُراديُّ سيفَه ... من ابن أبي شيخ الأباطح طالبِ وقول الآخر: 2092 - ولئن حَلَفْتُ على يديكَ لأحْلِفَنْ ... بيمينِ أصدقَ مِنْ يمينك مُقْسِمِ يريد: من ابن أبي طالب شيخ الأباطح، فشيخ الأباطح نعت لأبي طالب، فَصَلَ به بين أبي وبين طالب، ويريد: لأحلفن بيمينٍ مقسم أصدقَ مِنْ يمينك، فأصدق نعت لقوله بيمين، فصل به بين «يمين» وبين «مقسم» . ومن الفصل أيضاً الفصل بالفعل الملغى: 2093 - ألا يا صاحِبَيَّ قِفا المَهارى ... نسائلْ حيَّ بثنةَ أين سارا بأيِّ تَرَاهُمُ الأرَضينَ حَلُّوا ... أالدبران أم عَسَفُوا الكِفارا يريد: بأي الأرضين تراهم حلُّوا، فَفَصَلَ بقوله «تراهم» بين «أيّ» وبين «الأرضين» . ومن الفصلِ أيضاً الفصلُ بمفعولٍ ليس معمولاً للمصدر

المضاف إلى فاعل كقول الشاعر: 2094 - تَسْقي امتياحاً ندى المسواكَ ريقتِها ... كما تَضَمَّن ماءَ المُزْنَةِ الرَصفُ أي: تسقي ندى ريقتها المسواكَ فالمسواك مفعول به ناصبه «تسقي» فَصَل به بين/ «ندى» وبين «ريقتها» ، وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن قراءة ابن عامر صحيحة من حيث اللغة كما هي صحيحة من حيث النقل، ولا التفات إلى قول مَنْ قال: إنه اعتمد في ذلك على رسم مصحف الشام الذي أرسله عثمان بن عفان رضي الله عنه، لأنه لم يوجد فيه إلا كتابة «شركائهم» بالياء «، وهذا وإن كان كافياً في الدلالة على جَرِّ» شركائهم «فليس فيه ما يدل على نصب» أولادهم «إذ المصحفُ مهملٌ من شكل ونقط فلم يبقَ له حجةٌ في نصب الأولاد إلا النَّقْلُ المحض. وقد نُقِل عن ابن عامر أنه قرأ بجرَِّ» الأولاد «كما سيأتي بيانُه وتخريجهُ، وأيضاً فليس رسمها» شركائهم «بالياء مختصَّاً بمصحف الشام بل هي كذلك أيضاً في مصحف أهل الحجاز. قال أبو البرهسم:» في سورة الأنعام في إمام أهل الشام وأهل الحجاز «أولادهم شركائهم» بالياء، وفي إمام أهل العراق «شركاؤهم» ولم يَقْرأ أهل الحجاز بالخفض في «شركائهم» لأنَّ الرسمَ سُنَّةٌ مُتَّبعة قد توافقها التلاوة وقد لا توافق «. إلا أن الشيخ أبا شامة قال:» قلت ولم تُرْسَمُ كذلك إلا باعتبار قراءتين: فالمضموم عليه قراءة معظم القراء «ثم قال:» وأما شركائهم بالخفض فيحتمل قراءة ابن عامر «وسيأتي كلام أبي شامة هذا

بتمامه في موضعه، وإنما أَخَذْتُ منه [بقدر] الحاجة هنا. فقوله» إن كل قراءة تابعةٌ لرسم مصحفها «تُشْكِلُ بما ذكرت لك من أن مصحف الحجازيين بالياء مع أنهم لم يقرؤوا بذلك. وقد نقل أبو عمرو الداني أن» شركائهم «بالياء إنما هو في مصحف الشام دون مصاحف الأمصار فقال:» في مصاحف أهل الشام «أولادهم شركائهم» بالياء وفي سائر المصاحف شركاؤهم بالواو «. قلت: هذا هو المشهور عند الناس أعني اختصاص الياء بمصاحف الضام، ولكنْ أبو البرهسم ثقة أيضاً فنقبل ما ينقله. وقد تقدَّم قولُ الزمخشري:» والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء «. وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة:» ولا بُعْدَ فيما استبعده أهل النحو من جهة المعنى وذلك أنه قد عُهد تقدُّمُ المفعول على الفاعل المرفوع لفظاً فاستمرت له هذه المرتبةُ مع الفاعل المرفوع تقديراً فإن المصدر لو كان منوناً لجاز تقديم المفعول على فاعله نحو: «أعجبني ضربٌ عمراً زيدٌ» فكذا في الإِضافة وقد ثَبَتَ جوازُ الفصل بين حرف الجر ومجروره مع شدة الاتصال بينهما أكثرَ من شدته بين المضاف والمضاف إليه كقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] {فَبِمَا رَحْمَةٍ} [آل عمران: 159] ف «ما» زائدة في اللفظ فكأنها ساقطة فيه لسقوطها في المعنى، والمفعول المقدم هو غير موضعه معنى فكأنه مؤخر لفظاً، ولا التفات إلى قول مَنْ زعم أنه لم يأت في الكلام المنثور مِثْلُه لأنه نافٍ، ومَنْ أسند هذه القراءة مُثْبِت، والإِثبات مُرَجَّح على النفي بإجماع، ولو نُقِل إلى هذا الزاعم عن بعض العرب أنه استعمله في النثر لرجع إليه فما باله لا يكتفي بناقل القراءة من التابعين عن الصحابة؟ ثم الذي حكاه ابن الأنباري يعني

مما تقدَّم حكايته من قولهم «هو غلامُ إن شاء الله أخيك» فيه الفصلُ في غير الشعر بجملة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وعبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر: «زُيِّن» مبنياً للمفعول، «قَتْلُ» رفعاً على ما تقدم، «أولادِهم» خفضاً بالإِضافة، «شركاؤهم» رفعاً، وفي رفعه تخريجان أحدهما: وهو تخريج سيبويه أنه مرفوع بفعل مقدر تقديره: زَيَّنه شركاؤهم، فهو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: مَنْ زَيَّنه لهم؟ فقيل: شركاؤهم، وهذا كقوله تعالى: «يُسَبَّح له فيها بالغدوّ والآصال رجال» أي: يُسَبِّحه رجال، وقول الآخر: 2095 - ليُبْكَ يزيدٌ ضارعٌ لخصومةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . والثاني: وهو تخريج قطرب أن يكون «شركاؤهم» رفعاً على الفاعلية بالمصدر، والتقدير: زُيّن للمشركين أنْ قَتَلَ أولادَهم شركاؤهم كما تقول: / «حُبِّب لي ركوبُ الفرسِ زيدٌ» تقديره: حبب لي أَنْ ركب الفرس زيد. والفرق بين التخريجين أن التخريج الأول يؤدي إلى أن تكون هذه القراءة في المعنى كالقراءة المنسوبة للعامَّة في كون الشركاء مُزَيِّنين للقتل وليسوا قاتلين، والثاني: [أن] يكون الشركاء قاتلين، ولكن ذلك على سبيل المجاز؛ لأنهم لَمَّا زيَّنُوا قَتْلَهم لآبائهم وكانوا سبباً فيه نُسِبَ إليهم القتل مجازاً. وقال أبو البقاء: «ويمكن أن يقعَ القَتْلُ منهم حقيقةً» ، وفيه نظرٌ لقوله «زُيّن»

والإِنسان إنما يُزَيَّن له فِعْلُ نفسه كقوله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8] . وقال غير أبي عبيد: «وقرأ أهل الشام كقراءة ابن عامر إلا أنهم خَفَضُوا» الأولاد «أيضاً، وتخريجُها سَهْلٌ: وهو أن تجعلَ» شركائهم «بدلاً من» أولادهم «بمعنى أنهم يُشْركونهم في النسب والمالِ وغير ذلك. قال الزجاج:» وقد رُوِيت «شركايهم» بالياء في بعض المصاحف، ولكن لا يجوزُ إلا على أن يكونَ «شركاؤهم» من نعتِ الأولاد لأنَّ أولادَهم شركاؤهم في أموالهم. وقال الفراء: بعد أن ذكر قراءة العامة وهي «زَيَّن» مبنياً للفاعل، «شركاؤهم» مرفوعاً على أنه فاعل «وقراءة» زُيِّن «مبنياً للمفعول» شركاؤهم «رفعاً على ما تقدم من أنه بإضمار فعل، وفي مصحف أهل الشام شركايهم بالياء، فإن تكنْ مثبتةً عن الأولين فينبغي أن تقرأ» زُين «ويكون الشركاء هم الأولاد، لأنهم منهم في النسب والميراث، وإن كانوا يقرؤون» زَيَّن «يعني بفتح الزاي فلست أعرفُ جهتَها، إلا أن يكونوا فيها آخذين بلغة قوم يقولون: أتيتها عشايا، ويقولون في تثنية حمراء: حمرايان، فهذا وجه أن يكونوا أرادوا: زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركايُهم، يعني بياء مضمومة لأن» شركاؤهم «فاعل كما مر في القراءة العامة» قال: «وإن شئت جعلت زين فعلاً إذا فتحته لا يُلبس، ثم تخفض الشركاء بإتباع الأولاد» . قال أبو شامة: «قلت: يعني تقدير الكلامِ زَيَّن بزُين، فقد اتجه» شركائهم «بالجر أن يكون نعتاً للأولاد سواءٌ قُرئ زين بالفتح أو الضم» . وقرأت فرقة من أهل الشام ورُوِيَتْ عن ابن عامر أيضاً - «زِيْنَ» بكسر

الزاي بعدها ياء ساكنة على أنه فعل ماض مبني للمفعول على حَدّ قيل وبيع. وقيل: مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله، وأولادَهم بالنصب، وشركائِهم بالخفض، والتوجيه واضح مما تقدم فهي [و] القراءة الأولى سواء، غاية ما في الباب أنه أُخذ مِنْ زان الثلاثي وبُني للمفعول فأُعِلَّ بما قد عرفته في أول البقرة. واللام من قوله «لكثير من المشركين» متعلقة بزين، وكذلك اللام في قوله «ليُرْدُوهم» . فإن قيل: كيف تُعَلِّق حرفَيْ جر بلفظ واحد وبمعنى واحد بعامل واحد من غير بدلية ولا عطف؟ فالجواب: أن معناهما مختلف فإنَّ الأولى للتعدية والثانية للعِلِّيَّة. وقال الزمخشري «إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السَّدَنة فهي للصيرورة» يعني أن الشيطانَ يفعل التزيين، وغرضه بذلك الإِرداء، فالتعليل فيه واضح، وأمَّا السَّدَنةُ فإنهم لم يزيِّنوا لهم ذلك وغرضُهم إهلاكهم، ولكن لمَّا كان مآل حالهم إلى الإِرداء أتى باللام الدالَّة على العاقبة والمآل. قوله «وليَلْبِسوا» عطف على «ليُرْدوا» ، عَلَّلَ التزيين بشيئين: بالإِرداء وبالتخليط وإدخال الشبهة عليهم في دينهم. والجمهورُ على «وليَلْبِسوا» بكسر الباء مِنْ لبَسْت عليه الأمر ألبِسُه بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع إذا أدْخَلْتَ عليه فيه الشبهة وخلطته فيه. وقد تقدم بيانه في قوله {ولَلَبَسْنا عليهم ما يَلْبِسون} [الأنعام: 9] . وقرأ النخعي: «وليلبَسوا» بفتح الباء فقيل: هي لغة في المعنى المذكور تقول: «لَبَِسْتُ عليه الأمر بفتح الباء وكسرها ألبِسه وألبَسه، والصحيح أن لَبِس بالكسر بمعنى/ لبس الثياب، وبالفتح بمعنى

الخلط، فالصحيح أنه استعار اللباس لشدة المخالطة الحاصلة بينهم وبين التخليط حتى كأنهم لبسوها كالثياب وصارت محيطةً بهم. وقوله: «ما فعلوه» الضمير المرفوع للكثير والمنصوب للقتل للتصريح به ولأنه المسوقُ للحديث عنه. وقيل: المرفوع للشركاء والمنصوب للتزيين، وقيل: المنصوب لِلَّبْسِ المفهوم من الفعل قبله وهو بعيد. وقال الزمخشري: «لما فعل المشركون ما زُيِّن لهم من القتل، أو لما فعل الشياطين أو السَّدَنَة التزيين أو الإِرداء أو اللبس، أو جميع ذلك إن جَعَلْتَ الضمير جارياً مَجْرى اسم الإِشارة» . وقوله {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] تقدَّم نظيره.

138

قوله تعالى: {أَنْعَامٌ} : قرأها الجمهور كذلك على صيغة الجمع، وأبان بن عثمان «نَعَمٌ» بالإِفراد وهو قريب، لأن اسم الجنس يقوم مقام الجمع. وقرأ الجمهور «حِجْر» بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج بضم الحاء وسكون الجيم. ونُقل عن الحسن وقتادة أيضاً فتحُ الحاء وسكون الجيم. ونُقِل عن أبان بن عثمان ضَمُّ الحاءِ والجيم معاً. وقال هارون: «كان الحسن يضمُّ الحاء من» حجر «حيث وقع في القرآن إلا موضعاً واحداً [وهو] : {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 53] والحاصل أن هذه المادة تدل على المنع والحصر ومنه: فلانٌ في حِجْر القاضي أي: في مَنْعه، وفي حِجْري أي: ما يمنع من الثوب أن ينفلتَ منه شيء، وقد تقدم تحقيق

ذلك في النساء فقوله تعالى {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي ممنوع، ف» فِعْل «بمعنى مفعول كالذِّبْح والنِّطْح بمعنى مذبوح ومنطوح. فإن قيل: قد تقدم شيئان: وهما أنعام وحرث وجيء بالصفة مفردة فالجواب أنه في الأصل مصدر والمصدر يُذَكَّر ويُوَحَّد مطلقاً. وقال الزمخشري:» ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع؛ لأنَّ حكمَه حكم الأسماء غير الصفات «قلت: يعني بكونه حكمه حكم الأسماء أنه في الأصل مصدرٌ لا صفةٌ، فالاسم هنا يُراد به المصدرُ وهو مقابل الصفة. وأمَّا بقيَّةُ القراءات فقال أبو البقاء:» إنها لغات تفي الكلمة «وفَسَّر معناها بالممنوع. قلت: ويجوز أن يكون المضمومُ الحاء والجيم مصدراً وقد جاء من المصادر للثلاثي ما هو على وزن فُعُل بضم الفاء والعين نحو: حُلُم. ويجوز أن يكون جمع» حَجْر «بفتح الحاء وسكون الجيم، وفُعُل قد جاء قليلاً جمعاً لفَعْل نحو: سَقْف وسُقُف ورَهْن ورُهُن، وأن يكونَ جمعاً لفِعْل بكسر الفاء، وفُعُل أيضاً قد جاء جمعاً لفِعْل بكسر الفاء وسكون العين نحو حِدْج وحُدُج. وأما حُجْر بضم الحاء وسكون الجيم فهو مخفف من المضمومِها فيجوز أن يكون مصدراً، وأن يكون جمعاً لحَجْر أو حِجْر. وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعكرمة وعمرو ابن دينار والأعمش: حِرْج بكسر الحاء وراء ساكنة مقدمة على الجيم، وفيها تأويلان، أحدهما: أنها من مادة الحَرَج وهو التضييق، قال أبو البقاء:» وأصلُه حَرِج بفتح الحاء وكسر الراء ولكنه خُفِّف ونُقِل مثل فَخْذ في فخِذ «. قلت:

ولا حاجةَ إلى ادِّعاء ذلك، بل هذا جاء بطريق الأصالة على وزن فِعْل. والثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ حجر قُدِّمَتْ لام الكلمة على عينها ووزنه فِلْع كقولهم ناء في نأى ومعيق في عميق، والقلب قليل في لسانهم. وقد قدَّمْتُ منه جملة صالحة عند قوله تعالى: «أشياء» في المائدة/. قوله: {لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ} هذه الجملة في محل رفع نعتاً لأنعام، وَصَفوه بوصفين أحدهما: أنه حجر، والثاني: أنه لا يأكله إلا من شاؤوا، وهم الرجال دون النساء أو سَدَنة الأصنام. و «من يشاء» فاعل ب «يَطْعَمُها» وهو استثناء مفرغ و «بزعمهم» حال كما تقدم في نظيره. قوله: «افتراءً» فيه أربعة أوجه أحدها: وهو مذهب سيبويه أنه مفعول من أجله أي: قالوا ما تقدَّم لأجل الافتراء على الباري تعالى. الثاني: مصدر على غير الصدر لأن قولهم المحكيَّ عنهم افتراء، فهو نظير «قعد القرفصاء» وهو قول الزجاج. الثالث: أنه مصدرٌ عاملُه من لفظه مقدر أي: افْتَرَوا ذلك افتراءً. الرابع: أنه مصدر في موضع الحال أي: قالوا ذلك حالَ افترائهم، وهي تشبه الحال المؤكدة؛ لأن هذا القولَ المخصوصَ لا يكون قائله إلا مفترياً. وقوله «على الله» يجوز تعلُّقه ب «افتراء» على القول الأول والرابع، وعلى الثاني والثالث بقالوا لا بافتراء؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ صفةً لافتراء، وهذا جائز على كل قولٍ من الأقوال السابقة. وقوله «بما كانوا» الباء سببية، و «ما» مصدرية أو موصوفةٌ أو بمعنى الذي.

139

قوله تعالى: {خَالِصَةٌ} : الجمهور على «خالصة» بالتأنيث مرفوعاً على أنه خبر «ما» الموصولة، والتأنيث: إمَّا حَمْلاً على المعنى؛ لأن الذي

في بطون الأنعام أنعام، ثم حُمِلَ على لفظها في قوله «ومحرَّم» ، وإمَّا لأنَّ التأنيث للمبالغة كهو في عَلاَّمة ونسَّابة وراوية، وإمَّا لأن «خالصة» مصدر على وزن فاعلة كالعاقبة والعافية. وقال تعالى: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} [ص: 46] وهذا القول قول الفراء، والأول له أيضاً ولأبي إسحاق الزجاج، والثاني للكسائي، وإذا قيل: إنها مصدر كان ذلك على حذف مضاف أي: ذو خلوصٍ أو على المبالغةِ، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل كنظائره. وقال الشاعر: 2096 - وكنتِ أُمْنِيَّتي وكنتِ خالصتي ... وليس كلُّ امرِئٍ بمؤتمنِ وهذا مستفيضٌ في لسانهم: فلان خالصتي أي ذو خلوصي. و «لذكورنا» متعلِّقٌ به، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه وصف لخالصة وليس بالقوي. وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة «خالص» مرفوعاً على ما تقدَّم من غير هاء. و «لذكورنا» متعلق به أو بمحذوف كما تقدَّم. وقرأ ابن جبير أيضاً فيما نقله عنه ابن جني «خالصاً» نصباً من غير تاء، ونصبُه على الحال، وفي صاحبه وجهان أظهرهما: أنه الضمير المستتر في الصلة. الثاني: أنه الضمير المستتر في «لذكورنا» فإنَّ «لذكورنا» على هذه القراءة خبر المبتدأ، وهذا إنما يجوز على مذهب أبي الحسن لأنه يجيز تقديم الحال على عاملها المعنوي نحو: «زيد مستقراً في الدار» ، والجمهور يمنعونه، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة بتفصيلها ودلائلها.

وقرأ ابن عباس أيضاً والأعرج وقتادة: «خالصةً» نصباً بالتأنيث، والكلام في نصبه وتأنيثه كما تقدم في نظيره، وخرَّجه الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعاقبة. وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو رزين وعكرمة وأبو حيوة: «خالصُه» برفع «خالص» مضافاً إلى ضمير «ما» . ورفعه على أحد وجهين: إمَّا على البدل من الموصول، بدلِ بعض من كل، و «لذكورنا» خبر الموصول، وإمَّا على أنه مبتدأ، و «لذكورنا» خبره والجملة خبر الموصول، وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّم أنه حيث قلنا: إن «خالصة» مصدر أو هي للمبالغة فليس في الكلام حَمْلٌ على معنى ثم على لفظ، وإن قلنا: إن التأنيث فيها لأجل تأنيث ما في البطون كان في الكلام الحَمْلُ على المعنى أولاً ثم على اللفظ في قوله «مُحَرَّمٌ» ثانياً، وليس لذلك في القرآن نظير، أعني الحمل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانياً. إلا أن مكِّيَّاً زعم في غير «إعراب القرآن» له أن لهذه الآية نظائر فذكرها، وأما في إعرابه فلم يذكر أن غيرها في القرآن شاركها في ذلك، فقال في إعرابه «وإنما أَنَّث الخبر/ لأنَّ ما في بطون الأنعام أنعامٌ فحمل التأنيث على المعنى، ثم قال:» ومُحَرَّمٌ «فذكَّر حَمْلاً على لفظِ» ما «، وهذا نادرٌ لا نظير له، وإنما يأتي في» مَنْ «و» ما «حَمْلُ الكلام أولاً على اللفظ ثم على المعنى بعد ذلك فاعرفه فإنه قليل» . وقال في غير «الإِعراب» : «هذه الآية في قراءة الجماعة أَتَتْ على خلاف نظائرها في القرآن؛ لأنَّ كلَّ ما يُحْمل على اللفظ مرةً وعلى المعنى مرة إنما يتبدئ أولاً بالحمل على اللفظ ثم يليه الحَمْل على المعنى نحو: {مَنْ آمَنَ بالله} [البقرة: 62] ثم قال:» فلهم أجرُهم «، هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب، وهذه الآية تَقَدَّم فيها الحَمْلُ على المعنى فقال»

خالصة «، ثم حُمِلَ على اللفظ فقال:» ومُحرَّمٌ «، ومثله {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُةً} [الإسراء: 38] في قراءة نافع ومَنْ تابعه فأنَّث على معنى» كل «لأنها اسم لجميع ما تقدَّم ممَّا نهى عنه من الخطايا ثم قال:» عند ربك مكروهاً «فذكَّر على لفظ» كل «وكذلك {مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] جَمَعَ الظهور حملاً على معنى» ما «ووحَّد الهاءَ حَمْلاً على لفظ» ما «، وحُكي عن العرب:» هذا الجرادُ قد ذهب فأراحنا مِنْ أَنْفُسِه «جمع الأنفس ووحَّد الهاء وذكَّرها. قلت: أمَّا قوله» هكذا أتى في القرآن «فصحيح، وأمَّا قوله» وكلام العرب «فليس ذلك بمُسَلَّم؛ إذ في كلام العرب البداية بالحَمْلِ على المعنى، ثم على اللفظ، وإن كان عكسُه هو الكثير، وأمَّا ما جعله نظيرَ هذه الآية في الحَمْل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانياً فليس بمُسَلَّم أيضاً، وكذلك لا نُسَلِّم أن هذه الآية ممَّا حُمِلَ فيها على المعنى أولاً، ثم على اللفظ ثانياً. وبيان ذلك أنَّ لقائلٍ أن يقول: صلة» ما «جار ومجرور، وهو متعلق بمحذوف فتقدره مسنداً لضمير مذكَّر أي: ما استقرَّ في بطون هذه الأنعام، ويبعد تقديره باستقرَّت، إذا عُرِف هذا فيكون قد حَمَل أولاً على اللفظ في الصلة المقدرة ثم على المعنى ثانياً. وأمَّا» كل ذلك كان سَيِّئةً «فبدأ فيه أيضاً بالحَمْل على اللفظ في قوله» كان «فإنه ذكَّر ضميره المستتر في» كان «ثم حمل على المعنى في قوله» سيِّئة «فأنَّث. وكذلك «لتَسْتَووا» فإنَّ قبله «ما تركبون» ، والتقدير: ما تركبونه، فحمل العائد المحذوف على اللفظ أولاً ثم حُمِلَ على المعنى ثانياً، وكذلك في قولهم «هذا الجراد قد ذهب» حُمِلَ على اللفظ فأفرد الضمير في «ذهب» ، ثم حُمِلَ على المعنى ثانياً فجمع في قوله «أنفسه» ، وفي هذه المواضع يكون قد حمل فيها أولاً على اللفظ، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، وكنتُ قد

قَدَّمْتُ أن في القرآن من ذلك أيضاً ثلاثة مواضع: آية المائدة [الآية: 60] : {وَعَبَدَ الطاغوت} ولقمان [الآية: 6] : {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} والطلاق [الآية: 11] : {وَمَن يُؤْمِن بالله} قوله: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} قرأ ابن كثير «يكن» بياء الغيبة مَيْتَةٌ رفعاً، وابن عامر: «تكن» بتاء التأنيث، ميتة رفعاً، وعاصم في رواية أبي بكر «تكن» بتاء التأنيث «ميتةً» نصباً، والباقون «تكن» كابن كثير، «ميتةً» كأبي بكر. والتذكير والتأنيث واضحان لأن الميتة تأنيث مجازي لأنها تقع على الذكر والأنثى من الحيوان فَمَنْ أنَّث فباعتبار اللفظ، ومَنْ ذكَّر فباعتبار المعنى، هذا عند مَنْ يرفع «ميتة» ب «تكن» ، أمَّا من ينصبها فإنه يسند الفعل حينئذٍ إلى ضميرٍ فيذكِّر باعتبار لفظ «ما» في قوله «ما في بطون» ويؤنث باعتبار معناها. ومن نصب «ميتة» فعلى خبر «كان» الناقصة. ومَنْ رفع فيحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون التامة، وهذا هو الظاهر أي: وإن وجد ميتة أو حَدَثَتْ، وأن تكون الناقصة، وحينئذٍ يكون خبرُها محذوفاً أي: وإن يكن هناك أو في البطون ميتة وهذا رأي الأخفش، فيكون تقدير قراءة ابن كثير: وإن يَحْدُثْ حيوان ميتة أو: وإن يكن في البطون ميتة، على حسب التقديرين تماماً ونقصاناً، وتقدير قراءة ابن عامر كتقدير قراءته، إلا أنه أنَّث الفعل باعتبار لفظ مرفوعه، وتقدير قراءة أبي بكر: وإن تكنِ الأنعامُ أو الأجنَّة ميتةً، فأنَّث حَمْلاً على المعنى، وقراءة الباقين كتقدير قراءته إلا أنهم ذكَّروا باعتبار اللفظ، قال أبو عمرو بن العلاء: «ويُقَوِّي هذه القراءةَ يعني قراءة التذكير والنصب قوله» فهم فيه «ولم يقل فيها» . ورُدَّ هذا/ على أبي عمرو بأن الميتة لكل ميت ذكراً كان أو أنثى فكأنه

قيل: وإن يكن ميتاً فهم فيه، يعني فلم يَصِرْ له في تذكير الضمير في «فيه» حُجَّةٌ. ونقل الزمخشري قراءة ابن عامر عن أهل مكة فقال: «قرأ أهل مكة» وإن تكنْ ميتةٌ «بالتأنيث والرفع» فإن عنى بأهل مكة ابن كثير ولا أظنه عناه فليس كذلك وإن عنى غيره فيجوز، على أنه يجوز أن يكون ابن كثير قرأ بالتأنيث أيضاً، لكن لم يُشْتهر عنه اشتهارَ التذكير. وقرأ يزيد «مَيِّتة» بالتشديد. وقرأ عبد الله: «فهم فيه سواء» وأظنها تفسيراً لا قراءةً لمخالفتها السواد.

140

قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا} : هذا جواب قسم محذوف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن «قَتَّلوا» بالتشديد مبالغة وتكثيراً، والباقون بالتخفيف، و «سفهاً» نصب على الحال أي: ذوي سَفَهٍ، أو على المفعول من أجله وفيه بُعْدٌ، لأنه ليس علة باعثة أو على أنه مصدر لفعل مقدر أي سفهوا سفهاً، أو على أنه مصدر على غير الصدر؛ لأن هذا القتل سَفَهٌ. وقرأ اليماني «سُفَهاء» على الجمع وهي حال، وهذه تقوِّي كونَ قراءةِ العامة مصدراً في موضع الحال حيث صرَّح بها. و «بغير علم» : إمَّا حال أيضاً، وإمَّا صفةٌ لسفهاً وليس بذاك.

141

قوله تعالى: {مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} : منصوب على الحال، وفيها قولان أحدهما: أنها حال مقدرة لأن النخل والزرع وقت خروجِهما لا أَكْلَ فيهما حتى يقال فيه متفق أو مختلف، فهو كقوله {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73]

وكقولهم: «مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً» أي: مقدِّراً الاصطياد به. والثاني: أنها حال مقارنة وذلك على حذف مضاف أي: وثمر النخل وحَبّ الزرع. و «أُكُلُه» مرفوع ب «مختلفاً» لأنه اسم فاعل، وشروط الإِعمال موجودة. والأُكُل: الشيء المأكول، وقد تقدَّم أنه يُقْرأ بضم الكاف وسكونها ومضى تحقيقه في البقرة. والضمير في «أُكُله» : الظاهر أنه يعود على الزرع فقط: إمَّا لأنه حذف حالاً من النخل لدلالة هذه عليها تقديره: والنخل مختلفاً أكله، والزرع مختلفاً أكله، وإمَّا لأن الزرع هو الظاهر فيه الاختلافُ بالنسبة إلى المأكول منه كالقمح والشعير والفول والحمص والعََدس وغير ذلك. وقيل إنها تعود عليهما، قال الزمخشري: «والضمير للنخل، والزرعُ داخلٌ في حكمه لكونه معطوفاً عليه» . قال الشيخ: «وليس بجيد، لأن العطفَ بالواو لا يُجَوِّزُ إفراد ضمير المتعاطفين» . وقال الحوفي: «والهاء في» أكلُه «عائدةٌ على ذِكْرِ ما تقدَّم من هذه الأشياء المنشآت» ، وعلى هذا الذي ذكره الحوفي لا تختص الحال بالنخل والزرع بل يكون لِما تقدَّم جميعه. قال الشيخ: «ولو كان كما زعم لكان التركيب» أكلها «، إلا إنْ أُخذ ذلك على حذف مضاف أي: ثمر جنات، وروعي هذا المحذوفُ فقيل:» أُكُلُه «بالإِفراد على مراعاته، فيكون ذلك كقوله:» أو كظلمات في بحر لُجِّيٍّ يغشاه موج «أي: أو كذي ظلمات؛ ولذلك أعاد الضمير في يغشاه عليه» . قلت: فيبقى التقدير: مختلفاً أكل ثمر الجنات وما بعدها، وهذا يلزم منه إضافة الشيء

إلى نفسه، لأن الأُكُل كما تقدم غير مرة أنه الثمر المأكول. قال الزمخشري في الأكل: «وهو ثمره الذي يؤكل» . وقال ابن الأنباري: «إن مختلفاً نُصب على القطع فكأنه قال: والنخل والزرع المختلف أُكُلُهما» وهذا رأي الكوفيين وقد تقدم إيضاحه غير مرة. وقوله: {والزيتون والرمان} إلى قوله: {إِذَآ أَثْمَرَ} قد تقدم إيضاحه. قوله «حصادِه» قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان في المصدر لقولهم جَداد وجِداد، وقَطاف وقِطاف، وحَران وحِران. قال سيبويه: «جاؤوا بالمصدر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثالِ فِعال، وربما قالوا فيه فَعال» يعني أن هذا مصدر خاص دال على معنى زائد على مطلق المصدر فإن المصدر الأصلي إنما هو الحصد، فالحصدُ ليس فيه دلالةٌ على انتهاء زمان ولا عدمها بخلاف الحَصاد والحِصاد. ونسب الفراء الكَسْرَ لأهل الحجاز/ والفتح لتميم ونجد. واختار أبو عبيد الفتح قال: «للفخامة، وإن كانت الأخرى فاشية غير مدفوعة» ، ومكي الكسرَ قال: «لأنه الأصل وعليه أكثر الجماعة» . وقوله {يَوْمَ حَصَادِهِ} فيه وجهان أحدهما: أنه منصوب ب «آتوا» أي: أعطوا

واجبه يوم الحصاد. واستشكل بعض الناس ذلك بأن الإِيتاء إنما يكون بعد التصفية فكيف يوجب الإِيتار في يوم الحصيد؟ وأجيب بأن ثَمَّ محذوفاً والتقدير: إلى تصفيته قالوا: فيكون الحصاد سبباً للوجوب المُوَسَّع والتصفية سبب للأداء، وأحسنُ من هذا أن يكون المعنى: واهتموا بإيتاء الزكاة الواجبة فيه واقصدوه في ذلك اليوم. والثاني: أنه منصوب بلفظ «حقه» على معنى: وأعطوا ما استحق منه يوم حصاده، فيكون الاستحقاق ثابتاً يوم الحصاد والأداء بعد التصفية، ويؤيد ذلك تقديرُ المحذوف عند بعضهم كما قَدَّمْتُه، وقال في نظير هذه الآية: {انظروا إلى ثَمَرِهِ} [الأنعام: 99] وفي هذه «كُلُوا» قيل: لأن الأولى سِيْقَتْ للدلالة على كمال قدرته وعلى إعادة الأجسام من عُجْب الذَّنَب فأمر بالنظر والتفكُّر في البداية والنهاية، وهذه سِيْقَت في مَعْرِض كمال الامتنان فناسب الأمر بالأكل، وتحصَّل من مجموع الآيتين الانتفاعُ الأخروي والدنيوي، وهذا هو السبب لتقدم النظر على الأمر بالأكل.

142

قوله تعالى: {حَمُولَةً وَفَرْشاً} : منصوبان على أنهما نُسِقا على جنات أي: وأنشأ من الأنعام حمولة. والحَمولة: ما أطاق الحملَ عليه من الإِبل. والفَرْش صغارُها، هذا هو المشهورُ في اللغة. وقيل: الحَمولة كبارُ الأنعام أعني الإِبل والبقر والغنم، والفَرْش صغارها قال: «ويدل له أنه أبدل منه قولَه بعد ذلك ثمانية أزواج من الضأن» كما سيأتي. وقال الزجاج: «أجمع أهل اللغة على أن الفَرْشَ صغار الإبل، وأنشد: 2097 - أَوْرَثَني حَمولةً وفَرْشاً ... أَمُشُّها في كل يومٍ مَشَّا

وقال الآخر: 2098 - وَحَوَيْنا الفَرْشَ مِنْ أنعامكم ... والحَمُولاتِ وربَّاتِ الحجالْ قال أبو زيد:» يحتمل أن يكون سُمِّيَتْ بالمصدر لأنَّ الفَرْشَ في الأًصل مصدر «. والفَرْش لفظٌ مشترك بين معانٍ كثيرة منها ما تقدَّم، ومنها متاع البيت، والفضاء الواسع، واتساع خفِّ البعيرِ قليلاً، والأرض الملساء، عن أبي عمرو بن العلاء، ونباتٌ يلتصق بالأرض، ومنه قول الشاعر: 2099 - كمِشْفَر الناب تلوك الفَرْشا ... وقيل: الحَمُولة: كلُّ ما حُمِل عليه، من إبل وبقر وبغل وحمار، والفَرْشُ هنا ما اتُّخِذَ من صوفه ووبره وشعره ما يفترش، وأنشدوا للنابغة: 2100 - وحَلَّتْ بيوتي في يَفاعٍ مُمَنَّعٍ ... تَخَالُ به راعي الحَمولَةِ طائرا وقال عنترة: 2101 - وما راعني إلا حَمُولة أهلها وسطَ الديارِ تَسُفُّ حب الخِمْخِمِ ...

143

قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} : في نصبه ستةُ أوجه، أحسنُها: أن يكونَ بدلاً من «حَمولة وفرشاً» لولا ما نقله الزجاج من الإِجماع المتقدم، ولكن ليس فيه أن ذلك محصورٌ في الإِبل، والقول بالبدل هو قول

الزجاج والفراء. والثاني: أنه منصوب ب «كلوا» الذي قبله أي: كلوا ثمانيةَ أزواج، ويكون قوله «ولا تَتَّبِعُوا» إلى آخره كالمعترض بين الفعل ومنصوبه وهو قول علي بن سليمان وقَدَّره: كُلوا لحمَ ثمانية. وقال أبو البقاء: «هو منصوب ب» كلوا «تقديره: كُلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج، ولا تُسْرفوا معترض بينهما» . قلت: صوابه أن يقول: «ولا تتَّبعوا» بدلَ «ولا تسرفوا» لأنَّ «كُلوا» الذي يليه «ولا تسرفوا» ليس منصبّاً على هذا لأنه بعيد منه، ولأنَّ بعده ما هو أَوْلَى منه بالعمل، ويُحتمل أن يكون الناسخ غلط عليه، وإنما قال هو «ولا تَتَّبعوا» ويدل على ذلك أنه قال «تقديره: كلوا ممَّا رزقكم الله» ، وكلوا الأولُ ليس بعده «مما رزقكم» إنما هو بعد الثاني. الثالث: أنه عطف على «جنات» أي: أنشأ جنات وأنشأ ثمانية أزواج، ثم حُذِفَ الفعل وحرف العطف وهو مذهب الكسائي. قال أبو البقاء: «وهو ضعيف» قلت: الأمر كذلك، وقد سُمِع ذلك في كلامهم نثراً ونظماً، ففي النثر قولهم: «أكلت لحماً سمكاً تمراً» وفي نظمهم قول الشاعر: 2102 - ... كيف أصبحتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا يزرَعُ الودَّ في فؤاد الكريمِ ... أي: أكلت لحماً وسمكاً وتمراً، وكيف أصبحت وكيف أمسيت، وهذا على أحد القولين في ذلك. والقول الثاني أنه بدل بداء. ومنه الحديث: «إن الرجلَ ليصلِّي الصلاة، وما كُتِبَ له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى أن وصل إلى

العَشْر» الرابع: أنه منصوب بفعل محذوف مدلولٍ عليه بما في اللفظ تقديره: كلوا ثمانيةَ أزواج، وهذا أضعفُ ممَّا قبله. الخامس: أنه منصوبٌ على الحال، تقديره: / مختلفةً أو متعددة، وصاحب الحال «الأنعام» فالعامل في الحال ما تعلَّق به الجار وهو «مِنْ» . السادس: أنه منصوب على البدل مِنْ محلِّ «ممَّا رزقكم الله» . قوله: {مَّنَ الضأن اثنين} في نصب «اثنين» وجهان أحدهما: أنه بدلٌ من «ثمانية أزواج» وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال: «والدليل عليه» ثمانية أزواج «ثم فَسَّرها بقوله» من الضأن اثنين «الآية. وبه صَرَّح أبو البقاء فقال:» واثنين بدل من الثمانية وقد عُطِفَ عليه بقية الثمانية «. والثاني: أنه منصوبٌ بأنشأ مقدَّراً، وهو قول الفارسي، و «مِنْ» تتعلَّق بما نصب «اثنين» . والجمهور على تسكين همزة «الضأن» وهو جمع ضائن وضائنة كتاجِر وتاجرة وتَجْر، وصاحب وصاحبة وصَحْب، وراكب وراكبة ورَكْب. وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر «الضَّأَن» بفتحها، وهو إمَّا جمع تكسير لضائن كما يقال خادم وخدم وحارس وحرس وطالب وطَلَب، وإمَّا اسم جمع. ويُجْمع على ضَئين كما يقال: كلب وكليب، قال: 2103 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . فبذَّتْ نَبْلَهمْ وكليبُ وقيل: الضَّئين والكليب اسما جمع، ويقال ضِئين بكسر الضاد، وكأنها إتباع لكسر الهمزة نحو: بِعير وشِعير بكسر الباء والشين لكسر العين. والضأن

معروفٌ وهو ذو الصوف من الغنم، والمعز ذو الشعر منها. وقرأ أبان بن عثمان «اثنان» بالرفع على الابتداء والخبر الجار قبله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المَعَز بفتح العين، والباقون بسكونها، وهما لغتان في جمع ماعِز، وقد تقدَّم أن فاعِلاً يُجمع على فَعْل تارة وعلى فَعَل أخرى كتاجر وتَجْر وخادِم وخَدَم، وقد تقدَّم تحقيقُه، ويُجْمع أيضاً على مِعْزى، وبها قرأ أُبَيّ، قال امرؤ القيس: 1104 - ألا إنْ لا تكن إِبِلٌ فمِعْزَى ... كأنَّ قُروْنَ جِلَّتِها العِصِيُّ وقال أبو زيد: إنه يُجْمع على أُمْعوز، وأنشد: 2105 -. . . . . . . . . . . . . . ... كالتَّيْبسِ في أُمْعوِزهِ المُتَرَبِّلِ ويجمع أيضاً على مَعِيز، وأنشدوا لامرئ القيس: 1106 - ويمنحها بنو شَمَجَى بنِ جَرْمٍ ... معيزَهُمُ حنَانكَ ذا الحَنانِ والإِبل: اسم جمع لا واحد له من لفظه، بل واحدُه جمل وناقة وبعير، ولم يجئ اسم على فِعِل عند سيبويه غيره، وزاد غير سيبويه بِكِراً وإِطِلاً

ووِتِداً ومِشِطاً، وسيأتي لهذا مزيد بيان في الغاشية إن شاء الله، والنسبة إليه إبَلي بفتح الباء لئلاَّ يتوالَى كسرتان مع ياءين. قوله: {ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} الذَّكَرَيْن منصوب بما بعده، وسببُ إيلائه الهمزةَ ما تقدم في قوله «أأنت قلتَ للناس» و «أم» عاطفة للأُنْثَيَيْن على الذكرين، وكذلك أم الثانية عاطفة ما الموصولة على ما قبلها فمحلُّها نصبٌ تقديره: أم الذي اشتملت عليه أرحام، فلما التقت الميم ساكنة مع ما بعدها وجَب الإِدغامُ.

144

و «أم» في قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} : منقطعة ليست عاطفةً؛ لأن بعدها جملةً مستقلة بنفسها فتُقَدَّر ب بل والهمزة والتقدير: بل أكنتم شهداء. و «إذ» منصوب بشهداء أنكر عليهم ما ادَّعَوْه، وتهكَّم بهم في نسبتهم إلى الحضور في وقتِ الإِيصاء بذلك. و «بهذا» إشارة إلى جميع ما تقدَّم ذِكْرُه من المحرَّمات عندهم.

145

قوله تعالى: {مُحَرَّماً} : منصوبٌ بقوله «لا أَجِدُ» وهو صفة لموصوف محذوف حُذِفَ لدلالة قوله على «طاعم يَطْعَمُه» والتقدير: لا أجد طعاماً محرَّماً. و «على طاعم» متعلق بمحرَّماً و «يَطْعَمُه» في محل جرّ صفةً لطاعم. وقرأ الباقر ونقلها مكي عن أبي جعفر «يَطَّعِمُه» بتشديد الطاء وأصلها يَطْتَعِمه افتعالاً من الطعم، فأبدلت التاء طاء لوقوعها بعد طاء للتقارب فوجب الإِدغام. وقرأت عائشة ومحمد بن الحنفية وأصحاب عبد الله بن مسعود «تَطَعَّمه» بالتاء من فوق وتشديد العين فعلاً ماضياً. قوله {إِلاَّ أَن يَكُونَ} منصوبٌ على الاستثناء وفيه وجهان، أحدهما: أنه

متصل قال أبو البقاء: «استثناء من الجنس، وموضعه نصب، أي: لا أجد مُحَرَّماً إلا الميتة» والثاني: أنه منقطع، قال مكي: «وأن يكون في موضع نصب على الاستثناء المنقطع» . وقال الشيخ: «وإلا أن يكون» استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين، ويجوز أن يكون موضعه نصباً بدلاً على لغة تميم ونصباً على الاستثناء على لغة الحجاز «يعني أن الاستثناء/ المنقطع فيه لغتان إحداهما لغة الحجاز وهو وجوبُ النصبِ مطلقاً، ولغة التميميين يجعلونه كالمتصل، فإن كان في الكلام نفي أو شبهه رُجِّح البدلُ، وهنا الكلام نفي فيترجَّح نصبُه عند التميميين على البدل دون النصب على الاستثناء فنصبُه من وجهين، وأمَّا الحجاز فنصبُه عندهم مِنْ وجهٍ واحد، وظاهر كلام أبي القاسم الزمخشري أنه متصل فإنه قال:» محرماً أي: طعاماً محرماً من المطاعم التي حَرَّمتموها، إلا أن يكون ميتة «إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة» وقرأ ابن عامر في رواية: «أوحَى» بفتح الهمزة والحاء مبنياً للفاعل. وقوله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ} وقوله «نَبِّئوني» ، وقوله أيضاً «آلذكرين» ثانياً وقوله «أم كنتم شهداء» جمل اعتراضٍ بين المعدودات التي وقعَتْ تفصيلاً لثمانية أزواج. قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف فصل بين المعدود وبين بعضه ولم يُوالِ بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضاً غيرَ أجنبي من المعدود، وذلك أن الله عز وجل مَنَّ على عباده بإنشاء الإِنعام لمنافعهم

وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على مَنْ حرَّمها، والاحتجاج على مَنْ حرَّمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لا تُساق إلا للتوكيد» . وقرأ ابن عامر «إلا أَنْ تكونَ ميتةٌ» بالتأنيث ورفع ميتة يعني: إلا أن يوجدَ ميتة، فتكون تامة عنده، ويجوز أن تكون الناقصة والخبرُ محذوفٌ تقديره: إلا أن يكون هناك ميتة، وقد تقدَّم أن هذا منقولٌ عن الأخفش في قوله مثل ذلك {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} . وقال أبو البقاء: «ويُقْرأ برفع» ميتة «على أنَّ» تكون «تامة، وهو ضعيف لأن المعطوف منصوب» . قلت: كيف يُضَعِّف قراءة متواترة؟ وأما قوله «لأن المعطوف منصوب» فذلك غير لازم؛ لأن النصب على قراءة مَنْ رفع «ميتة» يكون نَسَقَاً على محلِّ «أن تكون» الواقعة مستثناةً تقديره: إلا أن يكون ميتة، وإلا دماً مسفوحاً، وإلا لحم خنزير. وقال مكي ابن أبي طالب «وقرأ أبو جعفر» إلا أن تكون «بالتاء، ميتةٌ بالرفع» ، ثم قال: «وكان يلزم أبا جعفر أن يقرأ» أو دمٌ «بالرفع وكذلك ما بعده» . قلت: هذه هي قراءة ابن عامر نسبها لأبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني شيخ نافع وهو محتمل، وقوله «كان يلزمه» إلى آخره هو معنى ما ضَعَّف به أبو البقاء هذه القراءةَ، وقد تقدَّم جوابُ ذلك، واتفق أن ابن عامر يقرأ «وإن تكنْ ميتةٌ» بالتأنيث والرفع وهنا كذلك. وقرأ ابن كثير وحمزة «تكون» بالتأنيث، «ميتةً» بالنصب على أن اسم «تكون» مضمر عائد على مؤنث أي: إلا أن يكون المأكول، ويجوز أن يعودَ الضميرُ مِنْ «تكون» على «محرَّماً» ، وإنما أنَّث الفعلَ لتأنيث الخبر كقوله {ثُمَّ

لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن} [الأنعام: 23] ينصب «فتنتهم» وتأنيث «تكن» . وقرأ الباقون «يكون» بالتذكير، «ميتة» نصباً، واسم «يكون» يعود على قوله «مُحَرَّماً» أي: إلا أن يكون ذلك المحرَّم. وقدَّره أبو البقاء ومكي وغيرهما: «إلا أن يكون المأكولُ» أو «ذلك ميتة» . قوله: «أو دماً» «دماً» على قراءةِ العامة معطوفٌ على خبر «يكون» وهو «ميتة» ، وعلى قراءة ابن عامر وأبي جعفر معطوفٌ على المستثنى وهو «أن يكون» وقد تقدم تحرير ذلك. ومسفوحاً صفة ل «دماً» . والسَّفْحُ: «الصَّبُّ. وقيل: السَّيَلان وهو قريب من الأول، وسفح يُستعمل قاصراً ومتعدِّياً يقال: سَفَحَ زيدٌ دمعه ودمه أي: أهراقَه وسفح هو، إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر ففي المتعدي يقال: سَفْح، وفي اللازم يقال سُفُوح، ومن التعدِّي قوله تعالى: {أو دماً مسفوحاً} فإن اسم المفعول التام لا يُبْنى إلا مِنْ متعدٍّ، ومن اللزوم ما أنشده أبو عبيدة لكثير عزة: 2107 - أقول ودَمْعي واكفٌ عند رسمها ... عليك سلامُ الله والدمعُ يَسْفَح قوله:» أو فِسْقاً «فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه عطف على خبر يكون أيضاً أي: إلا أن يكون فسقاً. و «أُهِلَّ» في محل نصب لأنه صفة له كأنه قيل: أو فِسْقاً مُهَلاًّ به لغير الله، جعل العينَ المحرَّمة نفسَ الفسق مبالغة، أو على حذف مضاف ويُفَسِّره ما تقدَّم من قوله: / {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] . الثاني: أنه منصوب عطفاً على محل المستثنى أي: إلا أن

يكون ميتة أو إلا فسقاً. وقوله «فإنه رجْسٌ» اعتراض بين المتعاطفين. والثالث: أن يكون مفعولاً من أجله، والعامل فيه قوله «أُهِلَّ» مقدَّم عليه، ويكون قد فصل بين حرف العطف وهو «أو» وبين المعطوف وهو الجملة من قوله «أُهِلَّ» بهذا المفعول من أجله، ونظيره في تقديم المفعول له على عامله قوله: 2108 - طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ ... ولا لَعِباً مني وذو الشيب يَلْعَبُ و «أُهِلَّ» على هذا الإِعراب عَطْفٌ على «يكون» ، والضمير في «به» عائد على ما عاد عليه الضمير المستتر في «يكون» ، وقد تقدَّم تحقيقُه، قاله الزمخشري. إلا أن الشيخ تَعَقَّب عليه ذلك فقال: «وهذا إعرابٌ متكلَّف جداً وتركيب على هذا الإِعراب خارج عن الفصاحة وغيرُ جائزٍ على قراءةِ مَنْ قرأ {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} بالرفع، فيبقى الضمير في» به «ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يُتكلَّفَ محذوفٌ حتى يعود الضمير عليه، فيكون التقدير: أو شيء أهِلَّ لغير الله به؛ لأنَّ مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر» . قلت: يعني بذلك أنه لا يُحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام «مِنْ» التبعيضية كقولهم: «منا ظَعَنَ ومنا أقام» أي: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، فإن لم يكن فيه «مِنْ» كان ضرورة كقوله:

2109 - تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أرمى البشَرْ ... أي: بكفَّيْ رجل، وهذا رأي بعضهم، وأمَّا غيره فيقول: متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقاً، فقد يجوز أن يرى الزمخشري هذا الرأي. وقوله: «فإنه» الهاء فيها خلاف، والظاهر عَوْدُها على «لحم» المضاف لخنزير. وقال ابن حزم: «إنها تعود على خنزير لأنه أقرب مذكور» ورُجِّح الأول بأن اللحم هو المحدِّث عنه، والخنزير جاء بعرَضيَّة الإِضافة إليه، ألا ترى أنك إذا قلت: «رأيت غلام زيد فأكرمته» أن الهاء تعود على الغلام لأنه المحدَّث عنه المقصودُ بالإِخبار عنه، لا على زيد؛ لأنه غير مقصود. ورُجِّح الثاني بأن التحريم المضاف للخنزير ليس مختصاً بلحمه بل شحمُه وشعره وعظمه وظِلْفُه كذلك، فإذا أعدنا الضمير على خنزير كان وافياً بهذا المقصود، وإذا أَعَدْنا على «لحم» لم يكن في الآية تعرُّضٌ لتحريم ما عدا اللحمَ مما ذكر. وقد أُجيب عنه بأنه إنما ذُكِر اللحم دون غيره، وإن كان غيرُه مقصوداً بالتحريم؛ لأنه أهمُّ ما فيه وأكثر ما يُقصد منه اللحم، كما ذلك في غيره من الحيوانات، وعلى هذا فلا مفهوم لتخصيص اللحم بالذِّكر، ولو سُلِّم فإنه يكون من باب مفهوم اللقب وهو ضعيف جداً. وقوله «فإنه رِجْسٌ» : إمَّا على المبالغة بأَنْ جُعل نفس الرجس، أو على حَذْفِ مضاف وله نظائر.

146

قوله تعالى: {وَعَلَى الذين هَادُواْ} : متعلق بحرَّمْنا، وهو يُفيد الاختصاص عند بعضهم كالزمخشري والرازي، وقد صَرَّح به الرازي هنا أعني تقديمَ المعمول على عامله.

وفي «الظفر» لغات خمس، أعلاها: ظُفُر وهي قراءة العامة، وظُفْر بسكون العين وهي تخفيف المضمومها، وبها قرأ الحسن في روايةٍ وأبي بن كعب والأعرج، وظِفِر بكسر الظاء والفاء، ونسبها الواحدي لأبي السمَّال قراءةً، وظِفْر بكسر الظاء وسكون الفاء وهي تخفيف المكسورها، ونسبها الناس للحسن أيضاً قراءة، واللغة الخامسة أُظْفور ولم يُقرأ بها فيما علمت، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر: 2110 - ما بين لُقْمَتِها الأولى إذا انحدَرَتْ ... وبين أخرى تليها قِيْدُ أُظْفورِ وجمع الثلاثي أظفار، وجمع أظفور أظافير وهو القياس، وأظافر من غير مدّ وليس بقياس، وهذا كقوله: 2111 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . العينين والعواوِرِ وقد تقدَّم تحقيق ذلك في قوله مفاتح الغيب. قوله: «ومن البقر» فيه وجهان أحدهما: أنه معطوف على «كل ذي» فتتعلق «مِنْ» بحرَّمنا الأولى لا الثانية، وإنما جيء بالجملة الثانية مفسرة لما أبهم في «من» التبعيضية مِن المحرم فقال: «حَرَّمْنا عليهم شحومهما» والثاني: أن يتعلق بحرَّمْنا المتأخرة والتقدير: / وحرَّمنا على الذين هادوا من البقر والغنم

شحومهما، فلا يجب هنا تقديم المجرور بها على الفعل، بل يجوز تأخيره كما تقدَّم، ولكن لا يجوز تأخيره عن المنصوب بالفعل فيقال: حرَّمنا عليهم شحومَهما من البقر والغنم لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة. وقال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون» مِن البقر «متعلقاً ب» حَرَّمنا «الثانية» . قال الشيخ: «وكأنه توهَّم أنَّ عَوْد الضمير مانع من التعلق، إذ رتبةُ المجرور ب مِنْ التأخير لكن عَمَّاذا؟ أما عن الفعل فمسلَّم، وأما عن المفعول فغير مُسَلَّم» يعني أنه إن أراد أنَّ رتبة قوله «من البقر» التأخير عن شحومهما فيصير التقدير: حرَّمْنا عليهم شحومهما من البقر فغير مُسَلَّم. ثم قال الشيخ: «وإن سَلَّمنا أنَّ رُتْبَتَه التأخير عن الفعل والمفعول فليس بممنوع بل يجوز ذلك كما جاز:» ضرب غلامَ المرأة أبوها «و» غلامَ المرأة ضرب أبوها «، وإن كانت رتبة المفعول التأخير، لكنه وجب هنا تقديمه لعود الضمير الذي في الفاعل الذي رتبتُه التقديم عليه فكيف بالمفعول الذي هو والمجرور في رتبة واحدة؟ أعني في كونِهما فضلةً فلا يُبالى فيهما بتقديم أيِّهما شِئْتَ على الآخر، قال الشاعر: 2112 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد رَكَدَتْ وسطَ السماء نجومُها فقدَّم الظرفَ وجوباً لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور بالظرف» . قلت: لقائلٍ أن يقول لا نُسَلِّم أن أبا البقاء إنما مَنَعَ ذلك لِما ذكره حتى يُلْزَمَ بما ألزمته بل قد يكون منعه لأمر معنوي. والإِضافة في قوله «شحومهما» تفيد الدلالة على تأكيد التخصيص والربط، إذ لو أتى في الكلام «من البقر والغنم حرَّمْنا عليهم الشحوم» لكان

كافياً في الدلالة على أنه لا يُراد إلا شحومُ البقر والغنم، هذا كلام الشيخ وهو بَسْطُ ما قاله الزمخشري فإنه قال: «ومن البقر والغنم حَرَّمْنا عليهم شحومهما كقولك:» مِنْ زيد أخذت ماله «تريد بالإِضافة زيادة الربط. قوله: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} » ما «موصولة في محل نصب على الاستثناء المتصل من الشحوم أي: إنه لم يُحَرِّم الشحم المحمول على الظهر، ثم إن شئت جعلت هذا الموصول نعتاً لمحذوف أي: إلا الشحم الذي حملته ظهورهما، كذا قدَّره الشيخ، وفيه نظر، لأنه هو قد نَصَّ على أنه لا يُوصف ب» ما «الموصولة وإن كان يُوصف بالذي، وقد ردَّ هو على غيره بذلك في مثل هذا التقدير، وإن شِئْتَ جَعَلْته موصوفاً بشيء محذوف أي: إلا الذي حملته ظهورهما من الشحم، وهذا الجارُّ هو وصف معنوي لا صناعي فإنه لو أظهر كذا لكان إعرابه حالاً. وقوله» ظهورهما «يحتمل أن يكون من باب {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] بالنسبة إلى ضمير البقر والغنم من غير نظر إلى جمعيتهما في المعنى، ويحتمل أن يكون جَمَعَ» الظهور «لأن المضاف إليه جمع في المعنى، فهو مثل» قَطَعْت رؤوس الكبشين «فالتثنية في مثل هذا ممتنعة. قوله: {أَوِ الحوايآ} في موضعها من الإِعراب ثلاثة أوجه، أحدها: وهو قول الكسائي أنها في موضع رفع عطفاً على» ظهورهما «أي: وإلا الذي حَمَلَتْه الحوايا من الشحم فإنه أيضاً غير محرَّم، وهذا هو الظاهر. الثاني: أنها في محل نصب نسقاً على» شحومهما «أي: حَرَّمْنا عليهم الحوايا

أيضاً أو ما اختلط بعظم فتكون الحوايا والمختلط مُحَرَّمَيْن، وسيأتي تفسيرهما، وإلى هذا ذهب جماعة قليلة، وتكون» أو «فيه كالتي في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} يُراد بها نفي ما يدخل عليه بطريق الانفراد كما تقول:» هؤلاء أهلٌ أن يُعْصَوا فاعصِ هذا أو هذا «فالمعنى: حَرَّم عليهم هذا وهذا. وقال الزمخشري:» أو بمنزلتها في قولهم: «جالس الحسن أو ابن سيرين» . قال الشيخ: «وقال النحويون» أو «في هذا المثال للإِباحة فيجوز له أن يجالسهما وأن يجالس أحدهما، والأحسن في الآية إذا قلنا إن» الحوايا «معطوف على» شحومهما «أن تكون» أو «/ فيه للتفصيل فصَّل بها ما حَرَّم عليهم من البقر والغنم» . قلت: هذه العبارة التي ذكرها الزمخشري سبقه إليها أبو إسحاق فإنه قال: «وقال قوم: حُرِّمت عليهم الثُروب وأُحِلَّ لهم ما حملت الظهور، وصارت الحوايا أو ما اختلط بعظم نسقاً على ما حرَّم لا على الاستثناء، والمعنى على هذا القول: حُرِّمَتْ عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير مُحَرَّم، وأدخلت» أو «على سبيل الإِباحة كما قال تعالى {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإِنسان: 24] ، والمعنى: كل هؤلاء أهلٌ أن يُعْصَى فاعصِ هذا أو اعص هذا، و» أو «بليغةٌ في هذا المعنى لأنك إذا قلت:» لا تُطع زيداً وعمراً «فجائز أن تكون نَهَيْتَني عن طاعتهما معاً في حالة، فإذا أطعتُ زيداً على حِدَته لم أكن عاصياً، وإذا قلت: لا تُطع زيداً أو عمراً أو خالداً فالمعنى: أن كل هؤلاء أهل أن لا يُطاع فلا تُطِع واحداً منهم ولا تطع الجماعة، ومثلُه: جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي، فليس

المعنى: أني آمرك بمجالسةِ واحدٍ منهم، فإنْ جالَسْتَ واحداً منهم فأنت مصيب، وإن جالَسْتَ الجماعة فأنت مصيب. وأمَّا قوله» فالأحسن أن تكون «أو» فيه للتفصيل «فقد سَبَقه إلى ذلك أبو البقاء فإنه قال: و» أو «هنا بمعنى الواو لتفصيل مذاهبهم أو لاختلاف أماكنها، وقد ذكرناه في قوله {كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 135] . وقال ابن عطية ردَّاً على هذا القول أعني كون الحوايا نسقاً على شحومهما:» وعلى هذا تدخل الحوايا في التحريم، وهذا قولٌ لا يعضُده لا اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه «ولم يبيِّن وجهَ الدفع فيهما. الثالث: أن» الحوايا «في محل نصب عطفاً على المستثنى وهو ما حَمَلَتْ ظهورُهما كأنه قيل: إلا ما حملت الظهور أو إلا الحوايا أو إلا ما اختلط، نقله مكي، وأبو البقاء بدأ به ثم قال:» وقيل: هو معطوف على الشحوم «. ونقل الواحدي عن الفراء أنه قال:» يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير حذف المضاف على أن يريد أو شحوم الحوايا فيحذف الشحوم ويكتفي بالحوايا كما قال تعالى: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] يريد أهلها، وحكى ابن الأنباري عن أبي عبيد أنه قال: قلت للفراء: هو بمنزلة قول الشاعر: 2113 - لا يَسْمعُ المرءُ فيها ما يُؤَنِّسُهُ ... بالليل إلا نئيمَ البُوْمِ والضُّوَعا فقال لي: نعم، يذهب إلى أن «الضوع» عطف على «النئيم»

ولم يعطف على «البوم» ، كما عُطِفت الحوايا على «ما» ولم تعطف على الظهور. قلت: فمقتضى ما حكاه ابن الأنباري أن تكون «الحوايا» عطفاً على «ما» المستثناة، وفي معنى ذلك قَلَقٌ بَيِّنٌ. هذا ما يتعلق بإعرابها، وأما ما يتعلق بمدلولها فقيل: هي المباعر، وقيل: المصارين والأمعاء، وقيل: كل ما تحويه البطن فاجتمع واستدار، وقيل: هي الدوارة التي في بطن الشاة. واختُلِفَ في مفرد «الحوايا» فقيل: حاوية كضاربة وقيل: حَوِيَّة كطريفة وقيل: حاوياء كقاصِعاء. وقد جوَّز الفارسي أن يكون جمعاً لكل واحد من الثلاثة يعني أنه صالح لذلك. وقال ابن الأعرابي: هي الحَوِيَّة والحاوية ولم يذكر الحاوياء. وذكر ابن السكيت الثلاثة فقال «يقال: حاوية وحوايا مثل زاوية وزوايا، وراوية وروايا» ومنهم من يقول حَوِيَّة وحوايا مثل الحَوِيَّة التي توضع على ظهر البعير ويُركب فوقها، ومنهم مَنْ يقول لواحدتها «حاوياء» وأنشد قول جرير: 2114 - تَضْغُو الخَنانيصُ والغُول التي أكلَتْ ... في حاوِيَاءِ رَدُومِ الليل مِجْعارِ وأنشد أبو بكر ابن الأنباري: 2115 - كأنَّ نقيق الحَبّ في حاويائه ... فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ العقارب فإن كان مفردها حاوية فوزنُها فواعل كضاربة وضوارب ونظيرها في

المعتل: زاوية وزوايا وراوية وروايا، والأصل حواوي كضوارب فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها تالي حرفي لين اكتنفا مدة مَفاعِل، فاسْتُثقِلت همزة مكسورة فقُلِبَتْ ياءً فاستثقلت الكسرة على الياء فجُعِلَتْ فتحة، فتحرك حرف العلة وهو الياء التي هي لام الكلمة بعد فتحةٍ فقُلِبَتْ ألفاً فصارت حوايا، وإن شئت قلت: قُلِبَتْ الواو همزة مفتوحة فتحرَّكَتْ الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، فصارت همزة مفتوحة بين ألفَيْن يشبهانها فقلبت الهمزة ياء، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] / واختلافُ أهل التصريف في ذلك، وكذلك إذا قلنا مفردها «حاوياء» كان وزنها فواعل أيضاً كقاصِعاء وقواصِع وراهِطاء ورواهِط، والأصل حواوي أيضاً فَفُعِل به ما فُعل فيما قبله، وإن قلنا إن مفردها حَوِيَّة فوزنها فعائل كطرائف، والأصل حوائي فقُلِبت الهمزةُ ياءً مفتوحة، وقُلبت الياء التي هي لام ألفاً فصار اللفظ «حوايا» أيضاً فاللفظُ متَّحد والعمل مختلف. وقوله «أو ما اختلط بعظم» فيه ما تقدَّم في حوايا، ورأى الفراء فيه أنه منصوبٌ نَسَقاً على «ما» المستثناة في قوله «إلا ما حَمَلَتْ ظهورهما» والمراد به الأَلْيَة وقيل: هو كلُّ شحمٍ في الجَنْب والعين والأذن والقوائم. قوله: {ذلك جَزَيْنَاهُم} فيه أوجهٌ أحدها: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: الأمر ذلك، قاله الحوفي ومكي وأبو البقاء. الثاني: أنه مبتدأٌ، والخبر ما بعده، والعائد محذوف، أي: ذلك جزيناهموه، قاله أبو البقاء وفيه

ضعف، من حيث إنه حَذَفَ العائد المنصوب وقد تقدَّم ما في ذلك في المائدة عند قوله {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُون} [الآية: 50] ، وأيضاً فقدَّر العائد متصلاً، وينبغي أن لا يُقَدَّر إلا منفصلاً ولكنه يشكل حَذْفُه وقد تقدم تحقيقه أول البقرة. وقال ابن عطية: «ذلك في موضع رفع» ولم يبيِّنْ على أي الوجهين المتقدمين وينبغي أن يُحْمَلَ على الأول لضعف الثاني. الثالث: أنه منصوب على المصدر، وهو ظاهر كلامِ الزمخشري فإنه قال: «ذلك الجزاء جزيناهم وهو تحريم الطيبات» . إلا أن هذا قد ينخدش بما نقله ابن مالك وهو أن المصدر إذا أشير إليه وَجَبَ أن يُتْبع ب «ذلك» المصدرُ فيقال: «ضربت ذلك الضرب» و «قمت هذا القيام» ولو قلت: «ضربت زيداً ذلك» و «قمت هذا» لم يَجُزْ، ذكر ذلك في الرد على من أجاب عن قول المتنبي: 2116 - هذي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رسيسا ... ثم انصرفْتِ وما شَفَيْتِ نسيسا فإنهم لَحَّنوا المتنبي من حيث إنه حذف حرف النداء من اسم الإِشارة إذ الأصل: يا هذي، فأجابوا عنه بأنَّا لا نُسَلِّم أن «هذي» منادى بل إشارةٌ إلى المصدر كأنه قال: بَرَزْتِ هذي البَرْزة. فردَّ ابن مالك هذا الجواب بأنه لا يَنْتَصِبُ اسم الإِشارة مشاراً به إلى المصدر إلا وهو متبوع بالمصدر. وإذا سُلِّم هذا فيكون ظاهر قول الزمخشري «إنه منصوب على المصدر» مردوداً بما رُدَّ به الجوابُ عن بيت أبي الطيب، إلا أنَّ رَدَّ ابن مالك ليس بصحيح لورود اسم الإِشارة مشاراً به إلى المصدر غيرَ متبوع به، قال الشاعر:

2117 - يا عمرُو إنك قد مَلِلْت صَحابتي ... وصحابَتيك إخالُ ذاك قليلُ قال النحويون: «ذاك» إشارة إلى مصدر «خال» المؤكِّد له، وقد أنشده هو على ذلك. الرابع: أنه منصوب على أنه مفعولٌ ثانٍ قُدِّم على عامله لأنَّ «جزى» يتعدَّى لاثنين، والتقدير: جَزَيْناهم ذلك التحريم. وقال أبو البقاء ومكي: إنه في موضع نصب بجَزَيْناهم، ولم يُبَيِّنا على أي وجه انتصب: هل على المفعول الثاني أو المصدر؟ وقوله {لَصَادِقُونَ} معمولُه محذوفٌ أي: لصادقون في إتمام جزائهم في الآخرة إذ هو تعريضٌ بكذبهم حيث قالوا: نحن مُقْتدون في تحريم هذه الأشياءِ بإسرائيل والمعنى: لَصادقون في إخبارنا عنهم ذلك، ولا يقدَّر له معمول أي: من شأننا الصدق. والضمير في «كذَّبوك» الظاهر عَوْدُه على اليهود لأنهم أقرب مذكور. وقيل: يعود على المشركين لتقدُّم الكلام معهم في قوله {نَبِّئُونِي بِعِلْم} [الأنعام: 143] و {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآء} [الأنعام: 144] .

147

وقوله تعالى: {ذُو رَحْمَةٍ} : جيء بهذه الجملة اسمية وبقوله {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ} فعليةً تنبيهاً على مبالغة سَعَة الرحمة، لأن الاسمية أدلُّ على الثبوت والتوكيد من الفعلية. وقوله: {عَنِ القوم المجرمين} يحتمل أن يكون مِنْ وَضْع الظاهر موضعَ المضمر تنبيهاً على التسجيل عليهم بذلك، والأصل: ولا يُرَدُّ بأسُه عنكم. وقال أبو البقاء: «فإن كَذَّبوك» شرط، جوابه «

فقل ربكم ذو رحمة واسعة» والتقدير: فقل يصفح عنكم بتأخير العقوبة «وهذا تفسير معى لا إعراب.

148

وقوله تعالى: {وَلاَ آبَاؤُنَا} : عطف على الضمير المرفوع المتصل/ ولم يأتِ هنا بتأكيد بضمير رفع منفصل ولا فاصل بين المتعاطفين اكتفاءً بوجود «لا» الزائدة للتأكيد فاصلة بين حرف العطف والمعطوف، وهذا هو على قواعد البصريين. وأمَّا الكوفيون فلا يشترطون شيئاً من ذلك وقد تقدَّم إتقان هذه المسألة. وفي هذه الآية لم يُؤَّكَّد الضمير وفي آية النحل أكَّد فقال تعالى: {مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا} [النحل: 35] ، وهناك أيضاً قال «من دونه» مرتين وهنا قالها مرة واحدة فقال الشيخ: «لأنَّ لفظَ العبادة يَصِحُّ أن ينسب إلى إفراد الله بها، وهذا ليس بمستنكرٍ، بل المستنكرُ عبادةُ غير الله أو شيءٍ مع الله فناسب هنا ذكر» من دونه «مع العبادة، وأمَّا لفظ» ما أشركنا «فالإِشراك يدلُّ على إثبات شريك فلا يتركَّب مع هذا الفعلِ لفظُ» من دونه «لو كان التركيب في غير القرآن» ما أشركنا مِنْ دونه «لم يصِحَّ المعنى، وأمَّا» من دونه «الثانية فالإِشراك يدلُّ على تحريم أشياء وتحليل أشياء فلم يَحْتَجْ إلى لفظ» من دونه «وأمَّا لفظ العبادة فلا يدلُّ على تحريم شيء كما يدل عليه لفظ» أشرك «فقيَّد بقوله» من دونه «، ولمَّا حَذَفَ» مِنْ دونِه «هنا ناسب أن يحذف» نحن «ليطَّرِدَ التركيب في التخفيف» . قلت: وفي هذا الكلام نظرٌ لا يَخْفى. وقوله «من شيء» : «مِنْ» زائدة في المفعول أي: ما حَرَّمنا شيئاً، و «مِنْ دونه» متعلق بحرَّمْنا أي: ما حرَّمنا من غير إذنه لنا في ذلك. و «كذلك» نعت لمصدر محذوف

أي: مثل التكذيب المشار إليه في قوله «فإن كَذَّبوك» . وقرئ «كَذَب» بالتخفيف. وقوله: {حتى ذَاقُواْ} جاء به لامتداد التكذيب أو الكذب، وقوله «مِنْ علم» : يحتمل أن يكون مبتدأ و «عندكم» خبر مقدم، وأن يكون فاعلاً بالظرف لاعتماده على الاستفهام، و «مِنْ» زائدة على كلا التقديرين. وقرأ النخعي وابن وثاب «إن يتَّبعون» بياء الغيبة، قال ابن عطية: «وهذه قراءة شاذة يُضَعِّفها قولُه {وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} يعني أنه أتى بعدها بالخطاب فبَعُدَتْ الغيبةُ. وقد يُجاب عنه بأن ذلك من باب الالتفات.

149

وقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ} : بين «قل» وبين «فلله» شيء محذوف، فقدَّره الزمخشري شرطاً جوابه: فلله. قال: «فإن كان الأمرُ كما زعمتم مِنْ كونكم على مشيئة الله فلله الحجة» . وقَدَّره غيره جملةً اسمية والتقدير: قل أنتم لا حُجَّةَ لكم على ما ادَّعَيْتُمْ فلله الحجة البالغة عليكم.

150

قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ} : «هلمَّ» هنا اسم فعل بمعنى أحْضِروا، و «شهداءَكم» مفعول به، فإن اسم الفعل يعمل عَمَلَ مُسَمَّاه من تَعَدٍّ ولُزوم. واعلم أنَّ «هلمَّ» فيها لغتان لغةُ الحجازيين ولغة التميميين: فأمَّا لغة الحجاز فإنها فيها بصيغةٍ واحدةٍ سواء أُسْنِدَتْ لمفرد أم مثنى أم مجموع أم مؤنث نحو: هلمَّ يا زيد يا زيدان يا زيدون يا هند يا هندان يا هندات، وهي على هذه اللغة عند النحاة اسم فعل لعدم تغيُّرِها، والتزمت

العرب فَتْحَ الميم على هذه اللغة وهي حركة بناء بُنِيت على الفتح تخفيفاً، وأمَّا لغة تميم وقد نسبها الليث إلى بني سعد فتلحقها الضمائر كما تَلْحق سائر الأفعال فيُقال: هلمَّا هلمُّوا هلمِّي هَلْمُمْن. وقال الفراء: «يقال هَلُمِّين يا نسوة» وهي على هذه اللغة فعل صريح لا يتصرَّف. هذا قول الجمهور، وقد خالفَ بعضُهم في فعليَّتها على هذه اللغة وليس بشيء، والتزمت العرب أيضاً فيها على لغة تميم فَتْحَ الميم إذا كانت مسندةً لضمير الواحد المذكر، ولو يُجيزوا فيها ما أجازوا في ردَّ وشدَّ من الضم والكسر. واختلف النحويون فيها: هل هي بسيطة أو مركبة؟ ثم القائلون بتركيبها اختلفوا فيما رُكِّبت منه: فجمهور البصريين على أنها مركبة من «ها» التي للتنبيه، ومن «المم» أمراً مِنْ لَمَّ يَلُمُّ، فلما ركِّبتا حُذِفَتْ ألف «ها» لكثرة الاستعمال، وسقطت همزة الوصل للاستغناء عنها بحركة الميم المنقولة إليها لأجل الإِدغام، وأدغمت الميم في الميم، وبُنيت على الفتح فقيل: بل نُقِلت حركة الميم للام فسقطت الهمزةُ للاستغناء عنها فلما جيء ب «ها» التي للتنبيه التقى ساكنان: ألف ها واللام مِنْ «لَمَّ» لأنها ساكنة تقديراً، ولم يَعْتَدُّوا بهذه الحركة لأنَّ حركة النقل عارضة، فحذفت ألفُ «ها» لالتقاء الساكنين تقديراً. وقيل: بل حذفت ألف «ها» لالتقاء الساكنين، وذلك أنه لَمَّا جيء بها مع الميم سَقَطَتْ همزة الوصل في الدرج فالتقى ساكنان: ألف «ها» ولام «المم» / فحُذِفت ألف «ها» فبقي هَلْمُم، فنُقِلَتْ حركة الميم إلى اللام وأدغمت. وذهب بعضهم إلى أنها مركبة من «ها» التي للتنبيه أيضاً ومن «لَمّ» أمراً مِنْ «لَمَّ الله شَعْثَه» أي جمعه، والمعنى عليه في هلم، لأنه بمعنى: اجمع نفسك إلينا، فحُذِفت ألف «ها» لكثرة الاستعمال، وهذا سهلٌ جداً، إذ ليس فيه إلا عملٌ واحد هو حَذْفُ

ألف «ها» وهو مذهب الخليل وسيبويه. وذهب الفراء إلى أنها مركبة من هل التي للزجر ومن أمّ أمراً من الأَمّ وهو القصد، وليس فيه إلا عملٌ واحد وهو نقل حركة الهمزة إلى لام هل. وقد رُدَّ كل واحد من هذه المذاهب بما يطول الكتاب بذكره من غير فائدة. و «هَلُمَّ» تكون متعدية بمعنى أَحْضِر، ولازمةً بمعنى أقبلْ، فمَنْ جَعَلَها متعدية أخذها مِن اللَّمِّ وهو الجمع، ومَنْ جَعَلَها قاصرةً أخذها من اللَّمَمِ وهو الدنو والقرب.

151

قوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ} : في «ما» هذه ثلاثة أوجه أظهرها: أنها موصولةٌ بمعنى الذي والعائد محذوف أي: الذي حَرَّمه، والموصول في محل نصب مفعولاً به. والثاني: أن تكون مصدريةً أي: أتل تحريم ربكم، ونفس التحريم لا يُتْلَى وإنما هو مصدرٌ واقع موقع المفعول به أي: أتلُ مُحَرَّم ربكم الذي حرَّمه هو. والثالث: أنها استفهامية في محل نصب بحرَّم بعدها، وهي مُعَلِّقة لأتْل والتقدير: أتل أيَّ شيء حرَّم ربكم، وهذا ضعيف لأنه لا تُعَلَّقُ إلا أفعالُ القلوب وما حُمِل عليها. وأمَّا «عليكم» ففيه وجهان أحدهما: أنه متعلق بَحَرَّم، وهذا اختيار البصريين. والثاني: أنه متعلق بأَتْلُ وهو اختيار الكوفيين يعني أن المسألة من باب الإِعمال، وقد عرفت أن اختيار البصريين إعمالُ الثاني، واختيارَ الكوفيين إعمالُ الأول. قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} فيه أوجه أحدها: أنَّ «أَنْ» تفسيرية لأنه تَقَدَّمَها ما هو بمعنى القول لا حروفه و «لا» هي ناهية و «تشركوا» مجزومٌ بها، وهذا وجهٌ ظاهر، وهو اختيار الفراء قال: «ويجوزُ أن يكون مجزوماً ب» لا «على

النهي كقولك: أمرتك أَنْ لا تذهب إلى زيد بالنصب والجزم. ثم قال: والجزم في هذه الآية أحبُّ إليَّ كقوله تعالى: {أَوْفُواْ المكيال والميزان} [هود: 85] قلت: يعني فعطفُ هذه الجملة الأمرية يُقَوِّي أنَّ ما قبلها نهي ليتناسب طرفا الكلام، وهو اختيار الزمخشري أيضاً فإنه قال:» وأَنْ في «أن لا تشركوا» مفسرة و «لا» للنهي «ثم قال بعد كلام:» فإن قلت: إذا جعلت «أن» مفسرةً لفعل التلاوة وهو معلَّق بما حرَّم ربكم وَجَبَ أَنْ يكون ما بعده منهيَّاً عنه مُحَرَّماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرفُ النهي فما تصنع بالأوامر؟ قلت: لَمَّا وَرَدَت هذه الأوامرُ مع النواهي، وتقدَّمهن جميعاً فعلُ التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه عُلم أن التحريمَ راجعٌ إلى أضدادها وهي الإِساءة إلى الوالدين، وبَخْسُ الكيل والميزان، وتَرْكُ العدلِ في القول، ونكثُ العهد «. قال الشيخ:» وكونُ هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم، وكونُ التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيدٌ جداً وإلغازٌ في التعامي ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك «. قلت: ما استبعده ليس ببعيدٍ وأين الإِلغاز والتعمِّي من هذا الكلامِ حتى يرميَه به. ثم قال الشيخ:» وأمَّا عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين، أحدهما: أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حَيِّز «أن» التفسيرية، بل هي معطوفة على قوله {تَعَالَوْاْ أتْلُ مَا حَرَّمَ} ، أمرهم أولاً بأمرٍ يترتب عليه ذِكْرُ مَناهٍ، ثم أمرهم ثانياً بأوامر وهذا معنى واضح. والثاني: أن تكون الأوامر معطوفةً على المناهي وداخلةً تحت «أن» التفسيرية، ويصحُّ ذلك على تقدير محذوف تكون «أن» مفسرةً له وللمنطوق قبله الذي دلَّ على حَذْفِه، والتقدير: وما أمركم به فحذف

وما أمركم به لدلالة ما حَرَّم عليه، لأن معنى ما حَرَّم ربكم: ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى: تعالوا أتلُ ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون «أن» تفسيرية لفعل/ النهي الدالِّ عليه التحريمُ وفعل الأمر المحذوف، ألاى ترى أنه يجوز أن تقول: «أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً» إذ يجوز أن يُعْطف الأمر على النهي والنهي على الأمر كما قال: 2118 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... يقولون لا تَهْلِكْ أسىً وتجمَّلِ وهذا لا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإِنشاء فإنَّ في جواز العطف فيها خلافاً «انتهى. الثاني: أن تكون» أَنْ «ناصبةً للفعل بعدها، وهي وما في حَيِّزها في محل نصب بدلاً من» ما حرم «. الثالث: أنها الناصبة أيضاً وهي وما في حَيِّزها بدل من العائد المحذوف إذ التقدير: ما حَرَّمه، وهو في المعنى كالذي قبله. و» لا «على هذين الوجهين زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها في قوله تعالى: {أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] و {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] . قال الشيخ:» وهذا ضعيف لانحصار عموم المُحَرَّمِ في الإِشراك، إذ ما بعده من الأمر ليس داخلاً في المُحَرَّم ولا ما بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادِّعاء زيادة «لا» فيه لظهور أنَّ «لا» فيه للنهي «. ولمَّا ذكر مكي كونَها بدلاً مِنْ» ما حرم «لم ينبِّه على زيادة» لا «ولا بد منه. وقد منع الزمخشري أن تكون بدلاً مِنْ» ما حرم «فقال:» فإن قلت: هلا قلت

هي التي تنصب الفعل وجعلت «أن لا تشركوا» بدلاً من «ما حرم» . قلت: وجب أن يكون أن لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله «بالوالدين إحساناً» ؛ لأنَّ التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وأَوْفوا وإذا قلتم فاعدِلوا، وبعهد الله أَوْفوا «. فإن قلت: فما تصنع بقوله {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153] فيمَنْ قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفُه على» أَنْ لا تشركوا «إذا جعلت» أن «هي الناصبة حتى يكون المعنى: أتل عليكم نفي الإِشراك وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً؟ قلت: أجعل قولَه» وأن هذا صراطي مستقيماً «علةً للاتِّباع بتقدير اللام كقوله {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} [الجن: 18] بمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، والدليل عليه القراءة بالكسر كأنه قيل: واتبعوا صراطي لأنه مستقيم، أو: واتبعوا صراطي أنه مستقيم «. واعترض عليه الشيخ بعد السؤال الأول وجوابه وهو» فإن قلت: هَلاَّ قلت هي الناصبة «إلى: {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} فقال:» لا يتعيَّنْ أن تكونَ جميعُ الأوامر معطوفة على ما دخل عليه «لا» لأنَّا بيَّنَّا جواز عطف «وبالوالدين إحساناً» على «تعالَوا» وما بعده معطوف عليه، ولا يكون قوله «وبالوالدين إحساناً» معطوفاً على أن لا تشركوا «. الرابع: أن تكون» أَنْ «الناصبة وما في حَيِّزها منصوبةً على الإِغراء ب» عليكم «، ويكون الكلامُ الأول قَدْ تمَّ عند قوله» ربكم «، ثم ابتدأ فقال: عليكم أن لا تشركوا، أي: الزموا نفي الإِشراك وعدمه، وهذا وإن كان ذكره

جماعة كما نقله ابن الأنباري ضعيف لتفكك التركيب عن ظاهره؛ ولأنه لا يتبادر إلى الذهن. الخامس: أنها وما في حَيِّزها في محل نصب أو جر على حذف لام العلة والتقدير: أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا، وهذا منقول عن أبي إسحاق، إلا أن بعضهم استبعده من حيث إن ما بعده أمرٌ معطوف بالواو ومناهٍ معطوفة بالواو أيضاً فلا يناسب أن يكونَ تبييناً لِما حرَّم، أمَّا الأمرُ فمِنْ حيث المعنى، وأمَّا المناهي فمِنْ حيث العطف. السادس: أن تكون هي وما بعدها في محل نصب بإضمارٍ فعلٍ تقديره: أوصيكم أن لا تشركوا؛ لأن قوله» وبالوالدين إحساناً «محمول على أوصيكم بالوالدين إحساناً، وهو مذهب أبي إسحاق أيضاً. السابع: أن تكون» أَنْ «وما في حَيِّزها في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: المُحَرَّمُ أن لا تشركوا، أو المتلوُّ أن لا تشركوا، إلا أن التقدير بنحو المتلوّ أحسنُ؛ لأنه لا يُحْوج إلى زيادة» لا «، والتقدير بالمحرم أن لا تشركوا يحوج إلى زيادتها لئلا يفسد المعنى. الثامن: أنها في محل رفع أيضاً على الابتداء، والخبر الجارُّ قبله والتقدير: عليكم عَدَمُ الإِشراك، ويكون الوقف على قوله» ربكم «كما تقدَّم في وجه الإِغراء، وهذا مذهب لأبي بكر بن الأنباري فإنه قال:» ويجوز أن يكونَ في موضع رفع ب «على» كما تقول: عليكم الصيام والحج «. التاسع: أن يكون في موضع رفع بالفاعلية بالجارِّ قبلها، وهو ظاهر قول

ابن الأنباري المتقدم، والتقدير: استقرَّ/ عليكم عدم الإِشراك. وقد تحصَّلت في محل» أن لا تشركوا «على ثلاثة أوجه، الرفع والنصب والجر، فالجر من وجه واحد وهو أن يكون على حذف حرف الجر على مذهب الخليل والكسائي، والرفع من ثلاثة أوجه، والنصب من ستة أوجه، فمجموع ذلك عشرة أوجه تقدَّم تحريرها. و «شيئاً» فيه وجهان أحدهما: أنه مفعول به. والثاني: أنه مصدر أي إشراكاً أي: شيئاً من الإِشراك. وقوله {وبالوالدين إِحْسَاناً} تقدم تحريره في البقرة. قوله: {مِّنْ إمْلاَقٍ} «مِنْ» سببية متعلقة بالفعل المنهيّ عنه أي: لا تقتلوا أولادَكم لأجل الإِملاق. والإِملاق: الفقر في قول ابن عباس. وقيل: الجوع بلغة لخم، نقله مؤرج. وقيل: الإِسراف، أَمْلق أي: أسرف في نفقته، قاله محمد بن نعيم الترمذي. وقيل الإِنفاق، أملق مالَه أي أنفقه قاله المنذر ابن سعيد. والإِملاق: الإِفساد أيضاً قاله شمر، قال: «وأَمْلَقَ يكون قاصراً ومتعدياً، أَمْلَقَ الرجل: إذا افتقر فهذا قاصر، وأملق ما عنده الدهر أي: أفسده» وأنشد النضر بن شميل على ذلك قول أوس بن حجر: 2119 - ولمَّا رأيت العُدْمَ قَيَّد نائلي ... وأملق ما عندي خطوبٌ تَنَبَّلُ أي: تَذْهب بالمال. تَنَبَّلَتْ بما عندي: أي ذهبت به.

وفي هذه الآية الكريمة {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، فقدَّم المخاطبين، وفي الإِسراء قَدَّمَ ضمير الأولاد عليهم فقال {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإِسراء: 31] فقيل: للتفنُّنِ في البلاغة. وأحسن منه أن يقال: الظاهر من قوله «من إملاق» حصول الإِملاق للوالد لا توقُّعُه وخشيته فبُدِئ أولاً بالعِدَةِ برزق الآباء بشارةً لهم بزوال ما هم فيه من الإِملاق، وأما في آية سبحان فظاهرها أنهم مُوْسرون وإنما يخشَوْن حصول الفقر ولذلك قال: خَشْيَةَ إملاقٍ، وإنما يُخْشى الأمور المتوقعة فبُدئ فيها بضمان رزقهم فلا معنى لقتلكم إياهم، فهذه الآية تفيد النهيَ للآباء عن قتل الأولاد وإن كانوا متلبِّسين بالفقر، والأخرى عن قتلهم وإن كانوا مُوْسِرين، ولكن يخافون وقوع الفقر وإفادة معنى جديد أولى من ادِّعاء كون الآيتين بمعنى واحد للتأكيد. قوله {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} في محل نصب بدلاً من الفواحش بدلَ اشتمال أي: لا تَقْرَبوا ظاهرها وباطنها كقولك: ضربْتُ زيداً ما ظهر منه وما بطن، ويجوز أن تكون «مَنْ» بدل البعض من الكل. و «منها» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من فاعل «ظهر» . وحُذِفَ منها بعد قوله «بطن» لدلالة قوله «منها» في الأول عليه. قوله {إِلاَّ بالحق} في محلِّ نصب على الحال من فاعل «تقتلوا» أي: لا تقتلوها إلا متلبِّسين بالحق، ويجوز أن يكون وصفاً لمصدر محذوف أي: إلا قَتْلاً متلبِّساً بالحق، وهو أن يكون القتل للقِصاص أو للرِدَّة أو للزنا بشرطه كما جاء مبيَّناً في السنَّة. وقوله: «ولا تَقْتلوا» هذا شبيهٌ بما هو مِنْ ذِكْر الخاص بعد العام اعتناءً بشأنه؛ لأن الفواحشَ يندرج فيها قَتْلُ النفسِ، فجرَّد منها هذا استفظاعاً له وتهويلاً، ولأنه قد استثنى منه في قوله «إلا بالحق» ولو لم يَذْكر

هذا الخاصَّ لم يَصِحَّ الاستثناء من عموم الفواحش، لو قيل في غير القرآن: «لا تَقْرَبوا الفواحشَ إلا بالحق» لم يكن شيئاً. قوله {ذلكم وَصَّاكُمْ} في محله قولان أحدهما: أنه مبتدأ، والخبر الجملة الفعلية بعده. والثاني: أنه في محل نصب بفعلٍ مقدَّر من معنى الفعل المتأخر عنه، وتكون المسألة من باب الاشتغال، والتقدير: ألزمكم أو كلَّفكم ذلك، ويكون «وصَّاكم به» مفسِّراً لهذا العامل المقدر كقوله تعالى: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإِنسان: 31] وناسب قوله هنا «لعلكم تعقلون» لأنَّ العقل مَنَاطُ التكليف والوصية بهذه الأشياء المذكورة.

152

قوله تعالى: {إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} : استثناء مفرغ أي: لا تَقْرَبُوه إلا بالخَصْلة الحسنى، فيجوز أن يكون حالاً، وأن يكون نعت مصدر، وأتى بصيغة التفضيل تنبيهاً على أنه يَتَحَرَّى في ذلك، ويَفْعل الأحسنَ ولا يَكْتفي بالحسن. قوله: {حتى يَبْلُغَ} هذه غايةٌ من حيث المعنى فإن المعنى: احفظوا ما لَه حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ولو/ جعلناه غاية للفظ كان التقدير: لا تقربوه حتى يبلغَ فاقربوه، وليس ذلك مراداً. والأَشَدُّ: اختلف النحويون فيه على خمسة أقوال فقيل: هو جمع لا واحد له، وهو قول الفراء فإنه قال: «الأشدُّ واحدها» شَدّ «في القياس ولم أسمع لها بواحد» ، وقيل: هو مفردٌ لا جمعٌ، نقل ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة ذلك، وأنه بمنزلة الآنُك، ونَقَلَ الشيخ عنه أن هذا الوجه

مختاره في آخرين، ثم قال: «وليس بمختار لفقدان أَفْعُل في المفردات وضَْعاً» وقيل: هو جمع «شِدَّة» ، وفِعْلة يجمع على أَفْعُل كنِعْمَة وأنعُم، قاله أبو الهيثم وقال: «وكأن الهاء في الشدة والنعمة لم تكن في الحرف إذ كانت زائدة، وكان الأصل نِعم وشِدّ فجمعا على أَفْعُل كما قالوا: رجل وأرجُل وقدح وأقْدُح وضِرس وأضرُس. وقيل: هو جمع شُد بضم الشين نقله ابن الأنباري عن بعض البصريين قال:» كقولك: هو وُدٌّ، وهم أَوَدّ. وقيل: هو جمع شَدّ بفتحها وهو محتمل. والمراد هنا ببلوغ الأشد بلوغ الحُلُمِ في قول الأكثر لأنه مَظِنَّة ذلك. وقيل: هو مبلغ الرجال من الحيلة والمعرفة. وقيل: هو أن يبلغ خمسة عشر إلى ثلاثين. وقيل: أن يبلغ ثلاثة وثلاثين. وقيل: أربعين. وقيل: ستين، وهذه لا تليق بهذه الآية، إنما تليق بقوله تعالى {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] . والأَشَدُّ: مشتق من الشِدَّة وهي القوة والجَلادة، وأنشد الفراء: 2120 - قد ساد وهو فتىً حتى إذا بلغت ... أَشُدُّهُ وعلا في الأمر واجتمعا وقيل: أصله من الارتفاع، مِنْ شَدَّ النهارُ إذا ارتفع وعلا، قال عنترة: 2121 - عهدي به شَدَّ النهار كأنما ... خُضِبَ البَنانُ ورأسُه بالعِظْلِمِ والكَيْل والميزان: هما الآلة التي يُكال بها ويوزن، وأصل الكيل المصدر ثم أطلق على الآلة. والميزان: مِفْعال من الوَزْن لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يُستصبح به ويُقاس، وأصل ميزان مِوْزان ففُعِلَ به ما فُعِلَ بميقات وقد تقدم في البقرة.

و «بالقسط» حال من فاعل «أَوْفوا» أي: أوفوهما مُقْسِطين أي: ملتبسين بالقسط، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول أي: أوفوا الكيل والميزان متلبسين بالقسط أي تامَّين. وقال أبو البقاء: «والكَيْلُ هنا مصدر في معنى المكيل، وكذلك الميزان. ويجوز أن يكون فيه حذف مضاف، تقديره: مكيل الكيل وموزون الميزان» ، ولا حاجة إلى ما ادَّعاه من وقوع المصدر موقع اسم المفعول ولا من تقدير المضاف لأن المعنى صحيح بدونهما، وأيضاً فميزان ليس مصدراً إلا أنه يعضُد قولَه ما قاله الواحدي فإنه قال: «والميزان أي: وزن الميزان لأن المراد إتمام الوزن لا إتمام الميزان، كما أنه قال» وأَوْفوا الكيل «ولم يقل المِكْيال فهو من باب حذف المضاف» انتهى. والظاهرُ عدم الاحتياج إلى ذلك وكأنه لم يعرف أن الكيل يُطْلق على نفس المكيال حتى يقول «ولم يقل المكيال» . قوله {لاَ نُكَلِّفُ} معترض بين هذه الأوامر، وقوله «ولو كان» أي: ولو كان المقول له والمقول عليه ذا قرابة. وقد تقدَّم نظير هذا التركيب مراراً. وقوله «وبعهدِ الله» يجوز أن يكونَ من باب إضافة المصدر لفاعله أي: بما عاهدكم الله عليه، وأن يكون مضافاً لمفعوله أي: بما عاهدتم الله عليه كقوله {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله} [الفتح: 10] وأن تكون الإِضافة لمجرد البيان أضيف إلى الله من حيث إنه الآمرُ بحفظه، والمراد به العهد الواقع بين الآيتين. وخُتِمَت هذه بالتذكُّر لأنَّ الأربعة قبلها خفيَّةٌ تحتاج إلى إعمال فكر ونظر حتى يقفَ متعاطيها على العدل فناسبها التذكُّر، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء

فإنها ظاهرة بحسبِ تعقُّلها وتفهُّمها فلذلك خُتِمَت بالفعل. وتَذَكَّرون حيث وقع يقرؤه الأخوان وعاصم في رواية حفص بالتخفيف، والباقون بالتشديد والأصل: تتذكرون، فَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ إحدى الياءين، وهل هي تاء المضارعة أو تاء التفعُّل؟ خلاف مشهور. ومَنْ ثقَّل أدغم التاء/ في الذال. قوله {وَأَنَّ هذا} قرأ الأخوان بكسر «إن» على الاستئناف و «فاتبعوه» جملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذه الجملة الاتئنافية تفيد التعليل لقوله «فاتبعوه» ، ولذلك استشهد بها الزمخشري على ذلك كما تقدَّم، فعلى هذا يكون الكلام في الفاء في «فاتَّبِعوه» كالكلام فيها في قراءة غيرهما وستأتي. وقرأ ابن عامر «وأَنْ» بفتح الهمزة وتخفيف النون، والباقون بالفتح أيضاً والتشديد. فأمَّا قراءة الجماعة ففيها أربعة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنها في محل نصب نَسَقاً على ما حرَّم أي: أتل ما حرم وأتل أنْ هذا صراطي، والمراد بالمتكلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنَّ صراطه صراط لله عز وجل، وهذا قول الفراء قال: «بفتح» أن «مع وقوع» أتلُ «عليها يعني: أتل عليكم أنَّ هذا صراطي مستقيماً. والثاني: أنها منصوبة المحل أيضاً نسقاً على» أن لا تشركوا «إذا قلنا بأنَّ» أَنْ «المصدرية وأنها وما بعدها بدل من» ما حَرَّم «قاله الحوفي. الثالث: أنها على إسقاط لام العلة أي: ولأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعوه كقوله تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ} [الجن: 14] قال أبو علي: «من فتح» أنَّ «فقياس قول سيبويه أنَّه حَمَلها على» فاتَّبعوه «والتقدير: ولأن هذا صراطي

مستقيماً فاتَّبعوه كقوله: {وَأنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] . قال سيبويه:» ولأن هذه أمتكم «وقال في قوله تعالى:» وأن المساجد لله «: ولأن المساجد» . قال بعضهم: وقد صرَّح بهذه اللام في نظير هذا التركيب كقوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ. . . فَلْيَعْبُدُواْ} [قريش: 1] ، والفاء على هذا كهي في قولك: زيداً فاضرب، وبزيد فامرر. وقد تقدم تقريره في البقرة. قال الفارسي: «قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة كهي في» زيد فقائم «قلت: سيبويه لا يجوِّز زيادتها في مثل هذا الخبر، وإنما أراد أبو علي بنظيرها في مجرد الزيادة وإن لم يَقُلْ به، بل قال به غيرُه. الرابع: أنها في محل جر نسقاً على الضمير المجرور في» به «أي: ذلكم وصَّاكم به وبأن هذا، وهو قول الفراء أيضاً. وردَّه أبو البقاء بوجهين أحدهما: العطف على الضمير المجرور من غير إعادةِ الجار. والثاني: أنه يصير المعنى: وَصَّاكم باستقامة الصراط وهذا فاسدٌ» . قلت: والوجهان مردودان، أمَّا الأول فليس هذا من باب العطف على المضمر من غير إعادة الجار لأن الجارَّ هنا في قوة المنطوق به، وإنما حُذِفَ لأنه يَطَّرد حَذْفُه مع أنَّ وأنْ لطولهما بالصلة، ولذلك كان مذهب الجمهور أنها في محل جر بعد حذفه لأنه كالموجود، ويدل على ما قلته ما قال الحوفي قال: «حُذِفت الباء لطول الصلة وهي مرادة، ولا يكون في هذا عَطْفُ مُظْهَرٍ على مضمر لإِرادتها» . وأمَّا الثاني فالمعنى صحيح غير فاسد؛ لأن معنى توصيتنا باستقامة الصراط أن لا نتعاطى ما يُخْرِجنا عن الصراط، فوصيتنا باستقامته مبالغة في اتباعه.

وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فقالوا: «أنْ» فيها مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن أي: «وأنَّه» كقوله تعالى: {أَنِ الحمد للَّهِ} [يونس: 10] وقوله: 2122 -. . . . . . . . . . . . . . . ... أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَْحفَى ويَنْتَعِلُ وحينئذٍ ففيها أربعةُ الأوجه المذكورة في المشددة. و «مستقيماً» حال، العامل: إمَّا «ها» التنبيه، وإمَّا اسم الإِشارة، وفي مصحف عبد الله «وهذا صراطي» بدون «أنَّ» وهي قراءة الأعمش، وبها تتأيَّد قراءةُ الكسر المؤذنة بالاستئناف. قوله: {فَتَفَرَّقَ} منصوب بإضمار «أن» بعد الفاء في جواب النهي والجمهور على «فتفرق» بتاء خفيفة، والبزي بتشديدها، فَمَنْ خَفَّف حذف إحدى التاءين، ومَنْ شدَّد أدغم، وتقدم هذا آنفاً في {تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80] . و «بكم» يجوز أن تكون مفعولاً به في المعنى أي: فيفرقكم، ويجوز أن تكون حالاً أي: وأنتم معها كقوله: 2123 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَدُوس بنا الجماجمَ والتَّرِيبا وختم هذه بالتقوى وهي اتقاء النار لمناسبة الأمر باتباع الصراط، فإنَّ مَنْ اتَّبعه وقى نفسه من النار.

154

قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا} : أصل «ثم» المهلة في الزمان، وقد تأتي للمهلة في الأخبار. وقال الزجاج: «هو معطوف على» أتل «تقديره: أتل

ما حَرَّم ثم أتل آتينا، وقيل: هو عطف على» قل «على / إضمار قل أي: ثم قل آتينا. وقيل: تقديره ثم أخبركم آتينا. وقال الزمخشري:» عطف على وصَّاكم به «. قال:» فإن قلت: كيف صح عطفه عليه ب ثم، والإِيتاء قبل التوصية به بدهر طويل؟ قلت: هذه التوصية قديمة لم يزل تتواصاها كل أمة على لسان نبيها فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً، ثم أعظم من ذلك أنَّا آتينا موسى الكتاب. وقيل: هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [الأنعام: 84] . وقال ابن عطية: «مُهْلَتُها في ترتيب القول الذي أمر به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه قال: ثم ممَّا وصَّيناه أنَّا آتينا موسى الكتاب ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدِّم بالزمان على محمد عليه السلام» . وقال ابن القشيري: «في الكلام محذوف تقديره: ثم كنَّا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام» . وقال الشيخ: «والذي ينبغي أن يُسْتعمل للعطف كالواو من غير اعتبار مهلة، وبذلك قال بعض النحويين» . قلت: وهذه استراحة، وأيضاً لا يلزمُ من انتفاء المهلة انتفاء الترتيب فكان ينبغي أن يقول من غير اعتبار ترتيب ولا مُهْلَةٍ على أن الفرض في هذه الآية عدمُ الترتيب في الزمان. قوله: {تَمَاماً} يجوز فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله أي: لأجل تمام نعمتنا. الثاني: أنه حال من الكتاب أي: حال كونه تماماً.

الثالث: أنه نصب على المصدر لأنه بمعنى: آتيناه إيتاء تمامٍ لا نقصان. الرابع: أنه حال من الفاعل أي متمّين. الخامس: أنه مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه، ويكون مصدراً على حذف الزوائد والتقدير: أتممناه إتماماً. و {عَلَى الذي} متعلق ب «تماماً» أو بمحذوف على أنه صفة، هذا إذا لم يُجْعَلْ مصدراً مؤكِّداً فإنْ جُعِلَ تَعَيَّن جَعْلُه صفة. و {أَحْسَنَ} فيه وجهان أظهرهما: أنه فعلٌ ماضٍ واقع صلةً للموصول، وفاعله مضمر يعود على موسى أي: تماماً على الذي أحسن، فيكون الذي عبارة عن موسى. وقيل: كل مَنْ أحسن. وقيل: «الذي» عبارة عن ما عمله موسى وأتقنه أي: تماماً على الذي أحسنه موسى. والثاني: أن «أحسن» اسم على وزن أفعل كأفضل وأكرم، واستغنى بوصف الموصول عن صلته، وذلك أن الموصول متى وُصِف بمعرفة نحو: «مررت بالذي أخيك» ، أو بما يقارب المعرفة نحو: «مررت بالذي خيرٍ منك وبالذي أحسن منك» جاز ذلك واستغنى به عن صلته، وهو مذهب الفراء وأنشد: 2124 - حتى إذا كانا هما اللَّذيْنِ ... مثلَ الجَدِيْلَيْنِ المُحَمْلَجَيْنِ بنصب مثل على أنه صلة ل «اللذين» المنصوب على خبر كان. ويجوز أن تكون «الذي» مصدرية، وأحسن فعل ماض صلتها، والتقدير: تماماً على إحسانه أي إحسان الله إليه وإحسان موسى إليهم، وهو رأي يونس والفراء كقوله: 2125 - فَثَبَّتَ اللهُ ما آتاك مِنْ حَسَنٍ ... تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِرُوا

وقد تقدَّم لك تحقيق هذا. وفتحُ نون «أحسن» قراءة العامة. وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق برفعها، وفيها وجهان، أظهرهما: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: على الذي هو أحسن، فحذف العائد، وإن لم تَطُل الصلة فهي شاذة من جهة ذلك، وقد تقدَّم ذلك بدلائله عند قوله: {مَّا بَعُوضَةً} [البقرة: 26] فيمن رفع «بعوضة» . والثاني: أن يكون «الذي» واقعاً موقع الذين، وأصل «أَحْسن» أَحْسَنوا بواو الضمير حُذِفَت الواو اجتزاءً بحركة ما قبلها، قاله التبريزي وأنشد: 2126 - فلو أنَّ الأَطِبَّا كانُ حولي ... وكان مع الأطباء الأُساةُ وقول الآخر: 2127 - إذا ما شاءُ ضرُّوا مَنْ أرادوا ... ولا يألوهُمُ أحدٌ ضِرارا وقول الآخر: 2128 - شَبُّوا على المجد وشابوا واكتهلْ ... يريد: اكتهلوا فحذف الواو وسكن الحرف قبلها، وقد تقدَّم أبياتُ أُخَرُ كهذه في تضاعيف هذا التصنيف، ولكن جماهير النحاة تخصُّ هذا بضرورة الشعر/. وقوله: «وتفصيلاً» وما عُطِف عليه منصوب على ما ذُكِر في «تماما» .

155

قوله تعالى: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} : يجوز أن يكون كتاب وأنزلناه ومبارك إخباراً عن اسم الإِشارة عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الخبر مطلقاً، أو بالتأويل عند مَنْ لم يُجَوِّز ذلك. ويجوز أن يكون أنزلناه ومبارك وَصْفَيْن لكتاب عند مَنْ يجيز تقديمَ الوصف غير الصريح على الوصف الصريح. وقد تقدَّم تحقيق ذلك في السورة قبلها في قوله {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} بالمائدة: 54] ، قال أبو البقاء: «ولو كان قُرِئ» مباركاً «بالنصب على الحال لجاز» ولا حاجة إلى مثل هذا وقُدِّم الوصف بالإِنزال لأن الكلام مع منكري أن الله ينزِّل على البشر كتاباً ويرسله رسولاً، وأمَّا وصفُه بالبركة فهو أمر متراخٍ عنهم، وجيء بصفة الإِنزال بجملةٍ فعلية أُسند الفعل فيها إلى ضمير المعظِّمِ نفسه مبالغة في ذلك بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً.

156

قوله تعالى: {أَن تقولوا} : فيه وجهان أحدهما: أنه مفعول من أجله. قال الشيخ: «والعاملُ فيه» أنزلناه «مقدَّراً مدلولاً عليه بنفس» أنزلناه «الملفوظ به تقديره: أنزلناه أن تقولوا. قال:» ولا جائزٌ أن يعمل فيه «أنزلناه» الملفوظ به لئلا يلزمَ الفصلُ بين العامل ومعموله بأجنبي، وذلك أن «مبارك» : إمَّا صفة وإمَّا خبر وهو أجنبي بكل من التقديرين، وهذا الذي مَنَعَه هو ظاهر قول الكسائي والفراء. والثاني: أنها مفعول به، والعامل فيه «واتقوا» أي: واتقوا قولكم كيت وكيت، وقوله «لعلكم ترحمون» معترضٌ جارٍ مجرى التعليل، وعلى كونه مفعولاً من أجله يكون تقديرُه عند البصريين على حذف مضاف تقديره: كراهةَ أن تقولوا، وعند الكوفيين يكون تقديره: أن لا تقولوا

كقوله: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] أي: أن لا تميد بكم وهذا مطَّردٌ عندهم في هذا النحوِ، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرة. وقرأ الجمهور «تقولوا» بتاء الخطاب وقرأه ابن محيصن «يقولوا» بياء الغيبة. قوله: {وَإِنْ كُنَّا} «إنْ» مخففةٌ من الثقيلة عند البصريين، وهي هنا مهملةٌ ولذلك وَلِيَتْها الجملة الفعلية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وأن الكوفيين يجعلونها بمعنى «ما» النافية، واللام بمعنى إلا، والتقدير: ما كنا عن دراستهم إلا غافلين. وقال الزجاج بمثل ذلك، فنحا نحو الكوفيين. وقال قطرب: «إنْ» بمعنى قد واللام زائدة. وقال الزمخشري بعد أَنْ قَرَّر مذهب البصريين كما قدمته: «والأصل: إنَّه كنا عن عبادتهم» فقدَّر لها اسماً محذوفاً هو ضمير الشأن، كما يُقَدِّر النحويون ذلك في «أَنْ» بالفتح إذا خُفِّفَتْ، وهذا مخالف لنصوصهم وذلك أنهم نصُّوا على أنَّ «إنْ» بالكسر إذا خُفِّفت ولِيَتْها الجملة الفعلية الناسخة فلا عَمل لها لا في ظاهر ولا مضمر. و «عن دراستهم» متعلق بخبر «كنا» وهو «غافلين» ، وفيه دلالة على بطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى إلا، ولا يجوز أن يعمل ما بعد «إلا» فيما قبلها فكذلك ما هو بمعناها. قال الشيخ: «ولهم أن يجعلوا» عنها «متعلقاً بمحذوف» . وتقدَّم أيضاً خلاف أبي علي في أن هذه اللام ليست لامَ الابتداء بل لامٌ أخرى، «ويدل أيضاً على أن اللام لام ابتداء لزمت للفرق فجاز أن يتقدَّم معمولُها

عليها لمَّا وقعت في غير ما هو لها أصل، كما جاز ذلك في:» إنَّ زيداً طعامَك لآكل «حيث وقعت في غير ما هو لها أصلٌ، ولم يَجُز ذلك فيها إذا وقعت فيما هو لها أصل وهو دخولها على المبتدأ» . وقال أبو البقاء: «واللام في» لغافلين «عوض أو فارقة بين إنْ وما» قلت: قوله «عوض» عبارة غريبة، وأكثر ما يقال إنها عوضٌ عن التشديد الذي ذهب من إنَّ، وليس بشيء.

157

وقوله تعالى: {فَقَدْ جَآءَكُمْ} : جواب شرط مقدر فقدَّره الزمخشري: إن صدقتم فيما كنتم تعدُّون من أنفسكم فقد جاءكم وهو من أحسن الحذوف «وقدَّره غيره: إن كنتم كما تزعمون أنكم إذا أنزل عليكم كتاب تكونون أهدى من اليهود والنصارى فقد جاءكم. ولم يؤنث الفعل؛ لأن التأنيث مجازي وللفصل بالمفعول، و» من ربكم «يجوز أن يتعلق بجاءكم، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل» بيِّنة «. وقوله: وهدىً ورحمةً محذوف بعدهما: من ربكم. وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} الظاهر أنها جملة مستقلة. وقال بعضهم: هي جواب شرط مقدر تقديره: فإن كذَّبتم فلا أحدَ أظلمُ منكم. والجمهور على» كذَّب «مشدداً، وبآيات الله متعلق به. وقرأ يحيى ابن وثاب وابن أبي عبلة» كَذَبَ «بالتخفيف، وبآيات الله يجوز أن يكون مفعولاً، وأن يكون حالاً/ أي: كذَّب ومعه آيات الله. وصَدَفَ مفعوله محذوف أي: وصدف عنها غيرَه. وقد تقدم تفسير ذلك.

158

وقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} : تقدم أنه على حذف

مضاف. وقرأ الأخوان: {إِلاَّ أَن يَأْتِيهُمُ الملائكة} بياء منقوطة من تحت لأن التأنيث مجازي وهو نظير {فناداه الملائكة} [آل عمران: 39] . وأبو العالية وابن سيرين: «يوم تأتي بعض» بالتأنيث كقوله {تَلْتَقِطْه بعضُ السيَّارة} [يوسف: 10] . قوله: {يَوْمَ يَأْتِي} الجمهور على نصب «اليومَ» ، وناصبه ما بعد «لا» ، وهذا على أحد الأقوال الثلاثة في «لا» وهي أنها يتقدم معمول ما بعدها عليها مطلقاً، ولا يتقدَّم مطلقاً، ويُفَصَّل في الثالث: بين أن يكون جواب قسم فيمتنع، أو لا فيجوز. وقرأ زهير الفرقبي «يومُ» بالرفع وهو مبتدأ، وخبره الجملة بعده، والعائد منها إليه محذوف أي: لا تنفع فيه. وقرأ الجمهور «ينفع» بالياء من تحت. وقرأ ابن سيرين: تنفع بالتاء من فوق. قال أبو حاتم: «ذكروا أنه غلط» . قلت: وذلك لأن الفعل مسند لمذكر، وجوابه أنه لما اكتسب بالإِضافة التأنيث أجرى عليه حكمه كقوله: 2129 - وتَشْرَق بالقول الذي قد أَذَعْتَهُ _ ... كما شَرِقَتْ صدرُ القانةِ من الدم وقد تقدَّم لك تحقيق هذا في أول السورة، وأنشد سيبويه على ذلك: 2130 - مَشَيْنَ كما اهتزَّتْ رماحٌ تسفَّهَتْ ... أعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسمِ

وقيل: لأن الإِيمان بمعنى العقيدة فهو كقولهم: «أتته كتابي فاحتقرها» أي: صحيفتي ورسالتي. وقال النحاس: «في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه: وذلك أن الإِيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر فأنَّث الإِيمان إذ هو من النفس وبها» . وأنشد سيبويه «مَشَيْن كما اهتزَّت» البيت. وقال الزمخشري في هذه القراءة «لكون الإِيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولهم:» ذهبت بعض أصابعه «. قال الشيخ:» وهو غلطٌ؛ لأن الإِيمان ليس بعضاً للنفس «قلت: قد تقدَّم آنفاً ما يَشْهد لصحة هذه العبارة من كلام النحاس في قوله عن سيبويه:» وذلك أنَّ الإِيمان والنفس كلٌّ منهما مشتملٌ على الآخر، فَأَنَّثَ الإِيمانَ إذ هو من النفس وبها «فلا فرقَ بين هاتين العبارتين، أي لا فرق بين أن يقولَ هو منها وبها أو هو بعضها، والمرادُ في العبارتين المجازُ. قوله:» لم تكنْ آمَنَتْ «في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أنها في محل نصب لأنها نعتٌ لنفساً، وفَصَل بالفاعل وهو» إيمانها «بين الصفة وموصوفها لأنه ليس بأجنبي، إذ قد اشترك الموصوف الذي هو المفعول والفاعل في العامل، فعلى هذا يجوز:» ضرب هنداً غلامُها القرشية «وقوله» أو كسبت «عطف على» لم تكن آمنت «. وفي هذه الآية بحوثٌ حسنة تتعلق بعلم العربية، وعليها تُبْنى مسائل من أصول الدين، وذلك أن المعتزلي يقول: مجردُ الإِيمان الصحيح لا يكفي بل لا بد من انضمام عَمَلٍ يقترن به ويصدِّقه، واستدل بظاهر هذه الآية، وذلك

كما قال الزمخشري «لم تكنْ آمَنَتْ من قبلُ» صفة لقوله «نفساً» وقوله «أوكسبت في إيمانها خيراً» عُطِفت على «آمنت» والمعنى: أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آياتٌ مُلْجئةٌ مضطرة ذهب أوانُ التكليف عندها فلم ينفع الإِيمان حينئذ نفساً غيرَ مقدِّمَةٍ إيمانَها قبل ظهور الآيات أو مقدِّمةً إيمانَها غير كاسبة خيراً في إيمانها، فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإِيمان وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً ليعلم أن قوله {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} جَمْعٌ بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوزَ صاحبُهما ويَسْعَدَ، وإلا فالشِّقوة والهلاك «. وقد أجاب الناس عن هذا الظاهر بأن المعنى بالآية الكريمة: أنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفساً كافرة إيمانُها الذي أوقعته إذ ذاك، ولا ينفع نفساً سَبْقُ إيمانها وما كسبت فيه خيراً، فقد عَلَّق نفع نفي الإِيمان بأحد وصفين:» إمَّا نفي سبق الإِيمان فقط وإمَّا سبقه مع نفي كسب الخير، ومفهومه أنه ينفع الإِيمان السابق وحده أو السابق ومعه الخير، ومفهوم الصفة قوي فيُسْتدل بالآية لمذهب أهل السنة فقد قَلَبوا دليلهم دليلاً عليهم. وقد أجاب القاضي ناصر الدين بن المنيّر عن قول الزمخشري فقال: «قال أحمد: هو يرومُ الاستدلال على أن الكافر والعاصي في الخلود سواء حيث سوّى في الآية بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات، ولا يتمُّ ذلك، فإن هذا الكلام في البلاغة يُلَقَّبُ باللفِّ وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعدُ ولا نفساً لم تكسب خيراً قبل ما تكسبه من الخير بعدُ، فلَّف الكلامَيْن فجعلهما

كلاماً واحداً إيجازاً وبلاغةً، ويظهر بذلك أنها لا تخالف مذهب الحق فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتسابُ الخير وإن نفع الإِيمان المتقدم من الخلود، فهي بالردِّ على مذهبه أَوْلى من أن تدلَّ له» /. الثاني: أن هذه الجملةَ في محل نصب على الحال من الضمير المجرور، قاله أبو البقاء يعني من «ها» في إيمانها. الثالث: أن تكون مستأنفة. وبهذا بدأ أبو البقاء وثَّنى بالحال، وجعل الوصفَ ضعيفاً كأنه استشعر ما ذكره الزمخشري ففرَّ مِنْ جَعْلها نعتاً، والشيخ جعل الحال بعيداً والاستئناف أبعد منه.

159

وقرأ الأخوان: {فَارَقُوا} : من المفارقة وفيها وجهان أحدهما: أن فاعَلَ بمعنى فَعَّل نحو: ضاعَفْتُ الحساب وضعَّفْتُه. وقيل: هي من المفارقة، وهي التركُ والتخلِيَةُ ومَنْ فرَّق دينه فآمن ببعض وكفر ببعض فقد فارق الدين القيم. وقرأ الباقون فرَّقوا بالتشديد. وقرأ الأعمش وأبو صالح وإبراهيم فَرَقوا مخفف الراء. قال أبو البقاء: «وهو بمعنى المشدد، ويجوز أن يكون بمعنى فَصَلُوه عن الدين الحق» وقد تقدم معنى الشيع. وقوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ} في محل رفع خبراً لإِنَّ، و «منهم» هو خبر «ليس» إذ به تتمُّ الفائدة كقول النابغة:

2131 - إذا حاولْتَ في أسد فُجورا ... فإني لستُ منك ولست مني ونظيره في الإِثبات: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] ، وعلى هذا فيكون «في شيء» متعلقاً بالاستقرار الذي تعلق به منهم أي: لست مستقراً منهم في شيء أي: مِنْ تفريقهم. ويجوز أن يكون «في شيء» الخبر و «منهم» حال مقدمة عليه، وذلك على حذف مضاف أي: لست في شيء كائن من تفريقهم، فلمَّا قُدِّمت الصفة نصبت حالاً.

160

قوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} : إنما ذكَّر العددَ والمعدودُ مذكَّر لأوجه منها: أنَّ الإِضافة لها تأثيرٌ كما تقدَّم غيرَ مرة فاكتسب المذكر من المؤنث التأنيث فأُعطي حكمَ المؤنث من سقوط التاء من عدده؛ ولذلك يؤنث فعلُه حالةَ إضافتهِ لمؤنث نحو: {تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] ، [وقوله] : 2132 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... كما شَرِقت صدرُ القَنَاةِ. . . . . [وقوله] : 2133 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تسفَّهت أعاليَها مرُّ الرياح. . . إلى غير ذلك مما تقدم تحقيقه. ومنها: أن هذا المذكر عبارة عن مؤنث، فروعي المراد دون اللفظ وعليه قوله: 2134 - وإنَّ كلاباً هذه عشرُ أَبْطُنٍ ... وأنت بريء من قبائلها العشرِ

لم يُلْحِق التاء في عدد أبطن وهي مذكرة لأنها عبارة عن مؤنث وهي القبائل فكأنه قيل: وإن كلاباً هذه عشر قبائل، ومثله قول عمر ابن أبي ربيعة: 2135 - وكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كنت أتَّقي ... ثلاثُ شُخوصٍ كاعبانِ ومُعْصِرُ لم يُلحِق التاء في عدد «شخوص» وهي مذكرة لَمَّا كانت عبارة عن النسوة، وهذا أحسنُ مما قبله للتصريح بالمؤنث في قوله: كاعبان ومعصر، وهذا كما أنه إذا أريد بلفظ مؤنث معنى مذكر فإنهم ينظرون إلى المراد دون اللفظ فيُلْحقون التاء في عدد المؤنث، ومنه قول الشاعر: 2136 - ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذُوْدٍ ... لقد جار الزمانُ على عِيالي فألحق التاءَ في عدد «أنفس» وهي مؤنثة لأنها يراد بها ذكور، ومثله: {اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} [الأعراف: 160] في أحد الوجهين وسيأتي إن شاء الله في موضعه. ومنها: أنه راعى الموصوف المحذوف والتقدير: فله عشرُ حسناتٍ أمثالها، ثم حذف الموصوف وأقام صفته مُقامَه تاركاً العدد على حاله، ومثله «مررت بثلاثة نسابات» ألحقت التاء في عدد المؤنث مراعاةً للموصوف المحذوف، إذ الأصل: بثلاثة رجال نسابات. وقال أبو علي: «اجتمع ههنا أمران كلُّ منهما يوجب التأنيث، فلمَّا اجتمعا قوي التأنيث، أحدهما: أن الأمثالَ في المعنى» حسنات «فجاز التأنيثُ كقوله: 2137 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ثلاثُ شخوصٍ كاعبان ومعصر

أراد بالشخوص النساء، الآخر: أن المضاف إلى المؤنث قد يؤنَّث وإن كان مذكراً كقول من قال:» قُطِعَتْ بعض أصابعه « {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] . وقرأ يعقوب والحسن وسعيد بن جبير والأعمش وعيسى بن عمر بالتنوين» أمثالُها «بالرفع صفة لعشر أي: فله عشر حسنات أمثال تلك الحسنة، وهذه القراءة سالمةٌ من تلك التآويل المذكورة في القراءة المشهورة.

161

قوله تعالى: {دِيناً} : نصبه من أوجه، أحدها: أنه مصدر على المعنى أي: هداني هداية دين قيم، أو على إضمار «عَرَّفني ديناً» أو الزموا ديناً. وقال أبو البقاء: «إنه مفعول ثان لهداني، وهو غلط؛ لأن المفعول الثاني هنا هو المجرور بإلى فاكتفى به. وقال مكي: إنه منصوب على البدل من محل» إلى صراط «. وقيل: بهداني مقدرةً لدلالة» هداني «الأول عليها، وهو كالذي قبله في المعنى. وقرأ الكوفيون وابن عامر:» قِيَماً «بكسر القاف وفتح الياء خفيفة والباقون بفتحها وكسر الياء شديدة، وتقدَّم توجيه إحدى القراءتين في/ النساء والمائدة. و» مِلَّة «بدل من» ديناً «أو منصوب بإضمار أعني. و» حنيفاً «قد ذكر في البقرة. وقرأ نافع ومَحْيايْ بسكون ياء المتكلم وفيها الجمع بين ساكنين.

قال الفارسي كقوله» التقت حَلْقتا البطان «» ولفلان ثلثا المال «يعنون الألفين. وقد طعن بعض الناس على هذه القراءة بما ذكرت من الجمع بين الساكنين، وتعجَّبْتُ من كون هذا القارئ يحرِّك ياء» مماتي «ويُسَكِّن ياء» مَحْياي «. وقد نقل بعضهم عن نافع الرجوع عن ذلك. قال أبو شامة:» فينبغي أن لا يَحِلَّ نَقْلُ تسكين ياء «محياي» عنه «. وقرأ نافع في رواية» محيايِ «بكسر الياء وهي تُشْبه قراءة حمزة في {بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] وستأتي إن شاء الله تعالى. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى الجحدري: ومَحْيَيَّ» بإبدال الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم، وهي لغة هذيل، وقد أنشدْتُ عليها قول أبي ذؤيب: 2138 - سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا لهواهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ في سورة البقرة. ومن هنا إلى آخر السورة إعرابُه ظاهر لِما تكرر من النظائر. وأكَّد قوله «لغفور» باللام دلالةً على سَعة رحمته، ولم يؤكد سرعة العقاب بذلك هنا وإن كان قد أكد ذلك في سورة الأعراف، لأن هناك المقامَ مقامُ تخويف وتهديد وبعد ذكر قصة المعتدين في السبت وغيره فناسب تأكيدَ العقاب هناك، وأتى بصفتي الغفران والرحمة، ولم يأت في جانب العقاب إلا بصفة واحدة دلالة على حلمه وسَعَة مغفرته ورحمته.

الأعراف

قوله تعالى: {المص} : قد تقدم الكلام على الأحرف المقطعة في أول هذا الموضوع.

2

قوله تعالى: {كتابٌ} : يجوز أن يكون خبراً عن الأحرف قبله، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هو كتاب، كذا قدَّره الزمخشري. ويجوز أن يكون «كتاب» مبتدأ، و «أُنْزِل» صفته، و «فلا تكن» خبره، والفاء زائدة على رأي الأخفش أي: كتاب موصوف بالإِنزال إليك، لا يكن في صدرك حرج منه. وهو بعيد جداً. والقائمُ مقامَ الفاعل في «أُنْزِل» ضميرٌ عائدٌ على الكتاب. ولا يجوز أن يكون الجارَّ لئلا تخلوَ الصفةُ من عائد. قوله: «منه» متعلقٌ ب «حَرَجٌ» . و «مِنْ» سببيَّة أي: حَرَجٌ بسببه تقول: حَرِجْتُ منه أي: ضِقْتُ بسببه، ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له أي: حرج كائن وصادر منه. والضمير في «منه» يجوز أن يعود على الكتاب

وهو الظاهر، ويجوز أن يعود على الإِنزال المدلول عليه ب «أُنْزِل» ، أو على الإِنذار أو على التبليغ المدلولِ عليهما بسياقِ الكلام، أو على التكذيب الذي تضمَّنه المعنى. والنهيُ في الصورة للحرج، والمرادُ الصادرُ منه، مبالغة في النهي عن ذلك، كأنه قيل: لا تتعاطَ أسباباً ينشأُ عنها حَرَجٌ، وهو من باب «لا أُرَيَنَّك ههنا» : النهي متوجه على المتكلم والمرادُ به المخاطبُ، كأنه قال: لا تكنْ بحضرتي فأراك. ومثله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ} [طه: 16] . قوله: لتنذرَ به «في متعلَّق هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه أحدها: أنها متعلقة ب» أُنْزِل «أي: أُنْزِلَ إليك للإِنذار، وهذا قول الفراء قال:» اللام في «لتنذرَ» منظوم بقوله «أُنْزِل» على التقديم والتأخير، على تقدير: كتابٌ أُنزل إليك لتنذرَ به فلا يكن «. وتبعه الزمخشري والحوفي وأبو البقاء. وعلى هذا تكونُ جملةُ النهي معترضةً بين العلة ومعلولها، وهو الذي عناه الفراء بقوله» على التقديم والتأخير «. والثاني: أن اللامَ متعلقةٌ بما تعلَّق [به] خبر الكون، إذ التقديرُ: فلا يكنْ حرجٌ مستقراً في صدرك لأجل الإِنذار. كذا قاله الشيخ عن ابن الأنباري، فإنه قال:» وقال ابن الأنباري: التقدير: «فلا يكنْ في صدرك حرجٌ منه كي تنذرَ به فَجَعَلَه متعلقاً بما تعلَّق به» في صدرك «، وكذا علَّقه به صاحب» النظم «، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ معترضةً» . قلت: الذي نقله الواحدي عن نص ابن الأنباري في ذلك أن اللامَ متعلقةٌ بالكون، وعن صاحب «النظم» أن اللام بمعنى «أن» وسيأتي بنصَّيْهما إن شاء الله، فيجوز أن يكون لهما كلامان.

الثالث: أنها متعلقةٌ بنفس الكون، وهو مذهب ابن الأنباري والزمخشري، وصاحب/ «النظم» على ما نقله الشيخ. قال أبو بكر ابن الأنباري: «ويجوز أن تكونَ اللامُ صلةً للكون على معنى: فلا يكن في صدرك شيءٌ لتنذر، كما يقول الرجل للرجل: لا تكن ظالماً ليقضي صاحبك دَيْنَه، فَتَحْمِل لامَ كي على الكون» . وقال الزمخشري: «فإن قلت: بمَ تَعَلَّق به» لتنذر «؟ قلت ب» أُنْزِل «أي: أُنْزل لإِنذارك به، أو بالنهي، لأنه إذا لم يُخِفْهم أنذرهم، وكذا إذا علم أنه من عند الله شَجَّعه اليقين على الإِنذار» . قال الشيخ: «فقوله بالنهي ظاهره أنه يتعلَّق بفعل النهي، فيكون متعلقاً بقوله» فلا يكن «، وكان [عندهم] في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلافٌ، ومبناه على أنَّ» كان «الناقصة هل تدلُّ على حَدَثٍ أم لا؟ فمن قال إنها تدلُّ على الحدث جوَّز ذلك، ومَنْ قال لا تدلُّ عليه مَنَعَه» . قلت: فالزمخشري مسبوقٌ إلى هذا الوجهِ، بل ليس في عبارته ما يدل على أنه تعلُّق ب «يكون» بل قال «بالنهي» فقد يريد بما تضمَّنه من المعنى، وعلى تقدير ذلك فالصحيحُ أن الأفعالَ الناقصة كلَّها لها دلالةٌ على الحدث إلا «ليس» ، وقد أقمت على ذلك أدلةً وأَثْبَتُّ من أقوال الناس بما يشهدُ لصحة ذلك كقول سيبويه وأضرابه، في غير هذا الموضوع. وقال صاحب «النظم» : «وفيه وجهٌ آخرُ وهو أن تكونَ اللامُ بمعنى أَنْ

والمعنى: لا يَضِقْ صدرُك ولا يضعُفْ عن أن تنذرَ به، والعرب تضعُ هذه اللامَ في موضع» أَنْ «كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} [التوبة: 32] وفي موضع آخر: {لِيُطْفِئُواْ} [الصف: 8] فهما بمعنى واحد» قلت: هذا قول ساقط جداً، كيف يكون حرفٌ يختصُّ بالأفعال يقع موقع آخرَ مختصٍ بالأسماء؟ قوله: {وذكرى} يجوز أن يكونَ في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ أو جَرّ. فالرفعُ من وجهين، أحدهما: أنها عطفٌ على «كتابٌ» أي: كتاب وذكرى أي تذكير، فهي اسمُ مصدرٍ وهذا قول الفراء. والثاني من وجهي الرفع: أنها خبرُ مبتدأ مضمر أي: هو ذكرى، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج. والنصبُ من ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ من لفظه تقديره: وتَذَكَّرْ ذكرى أي: تذكيراً. والثاني: أنَّها في محلِّ نصب نسقاً على موضع «لتنذرَ» فإنَّ موضعَه نصبٌ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على المعنى، وهذا كما تُعْطَف الحال الصريحة على الحال المؤولة كقوله تعالى: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} [يونس: 12] ويكونُ حينئذ مفعولاً من أجله كما تقول: «جئتك لتكرمَني وإحساناً إليّ» . والثالث: قال أبو البقاء: وبه بدأ «إنها حالٌ من الضمير في» أُنْزِل «وما بينهما معترض» . وهذا سهوٌ فإن الواو مانعة من ذلك، وكيف تدخل الواوُ على حال صريحة؟ والجرُّ من وجهين أيضاً، أحدهما: العطف على المصدر المُنْسَبِكِ من «أَنْ» المقدرة بعد لام كي والفعل، والتقدير: للإِنذار والتذكير. والثاني:

العطفُ على الضمير في «به» ، وهذا قول الكوفيين. والذي حَسَّنه كونُ «ذكرى» في تقدير حرفٍ مصدري وهو «أَنْ» وفِعْلٍ ولو صَرَّح ب «أَنْ» لحَسُنَ معها حذفُ حرف الجر، فهو أحسنُ مِنْ «مررت بك وزيدٍ» إذ التقديرُ: لأَنْ تُنْذِرَ به وبأن تُذَكِّر. و «للمؤمنين» يجوز أن تكونَ اللامُ مزيدةً في المفعول به تقويةً له، لأنَّ العاملَ فرعٌ، والتقدير: وتُذَكر المؤمنين. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفة لذكرى.

3

قوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ} : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّق بأُنْزِل، وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية المجازية. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ: إمَّا مِن الموصول، وإمَّا مِنْ عائده القائمِ مقامَ الفاعل. قوله: {مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} : «من دونه» يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، والمعنى: لا تعدلوا عنه إلى غيره من الشياطين والكهان. والثاني: أن يتعلق بمحذوف، لأنه كان في الأصل صفةً لأولياء، فلما تقدَّم نُصِبَ حالاً، وإليه يميل تفسيرُ الزمخشري فإنه قال: «أي لا تتولَّوا مِنْ دونِه مِنْ شياطين الإِنس والجن فيحملوكم على الأهواء والبِدَع» . والضمير في «دونِه» يُحْتمل وهو الظاهر أن يعودَ على «ربكم» ؛ ولذلك قال الزمخشري: «مِنْ دون الله» ، وأن يعودَ على «ما» الموصولة، وأن يعودَ على الكتاب المنزل،

والمعنى: لا تعدلوا عنه إلى الكتبِ المنسوخةِ. وقرأ الجحدري: «ابتَغُوا» بالغين المعجمة من الابتغاء. ومالك بن دينار ومجاهد: «ولا تبتغوا» من الاتغاء أيضاً. قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} قد تقدَّم نظيرُ هذا في قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] وهو أنَّ «قليلاً» نعتُ مصدرٍ محذوف أي: تذكُّراً قليلاً تَذَكَّرون، أو نعتُ ظرفِ زمانٍ محذوفٍ أيضاً أي: زماناً قليلاً تَذَكَّرون، فالمصدرُ أو الظرفُ منصوبٌ بالفعل بعده، و «ما» مزيدةٌ للتوكيد، وهذا إعراب جليٌّ واضح. وقد أجاز الحوفي أن يكونَ/ نعتَ مصدرٍ محذوف لقوله «ولا تَتَّبعوا» أي: ولا تتبعوا مِنْ دونِه أولياءَ اتِّباعاً قليلاً، وهو ضعيف، لأنه يَصير مفهومُه أنهم غيرُ مَنْهِيِّين عن اتباع الكثير، ولكنه معلومٌ من جهة المعنى فلا مفهوم له. وحكى ابن عطية عن أبي عليّ أن «ما» مصدريةٌ موصولةٌ بالفعل بعدها، واقتصر على هذا القَدْر، ولا بد من تتمةٍ له، فقال بعض الناس: «ويكون» قليلاً «نعت زمانٍ محذوف، وذلك الزمانُ المحذوف في محل رفع خبراً مقدماً، و» ما «المصدرية وما بعدها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخراً، والتقدير: زمناً قليلاً تذكُّرُكم أي: أنهم لا يقع تذكُّرهم إلا في بعض الأحيان، ونظيرُه: زمناً قليلاً قيامُك» . وقد قيل: إن «ما» هذه نافيةٌ، وهو بعيد؛ لأن «ما» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها عند البصريين، وعلى تقدير تسليم ذلك فيصير المعنى: ما تذكَّرون قليلاً، وليس بطائل، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] عند مَنْ جَعَلَها نافيةً.

وهناك وجهٌ لا يمكنُ أن يأتيَ ههنا وهو: أن تكون «ما» مصدريةً، وهي وما بعدها في محل رفع بالفاعلية ب «قليلاً» الذي هو خبر «كان» ، والتقدير: كانوا قليلاً هجوعُهم، وأمَّا هنا فلا يمكن ذلك لعدمِ صحة نصب «قليلاً» بقوله: «ولا تتَّبعوا» حتى تجعل «ما تذكَّرون» مرفوعاً به. ولا يجوز أن يكونَ «قليلاً» حالاً من فاعل «تَتَّبعوا» و «ما تذكَّرون» مرفوعٌ به، إذ يصير المعنى: أنهم نُهوا عن الاتِّباع في حالِ قلةِ تذكُّرهم، وليس ذلك بمراد. وقرأ الأخَوان وحفص: تَذَكَّرون «بتاء واحدة وتخفيف الذال، وابن عامر بتاءين وتخفيف الذال، والباقون بتاء وتشديد الذال، وهنَّ واضحات، تقدم معناها في الأنعام.

4

قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} : في «كم» وجهان، أحدهما: أنها في موضعِ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ الجملةُ بعدها، و «من قرية» تمييز، والضمير في «أهلكناها» عائدٌ على معنى كم. وهي هنا خبرية للتكثير، والتقدير: وكثير من القرى أهلكناها. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه جعل «أهلكناها» صفةً لقرية، والخبرُ قوله: «فجاءها بأسنا» قال: «وهو سهوٌ لأنَّ الفاء تمنعُ من ذلك» . قلت: ولو ادَّعى مُدَّعٍ زيادتَها على مذهب الأخفش لم تُقْبَلْ دعواه؛ لأن الأخفش إنما يزيدها عند الاحتياج إلى زيادتها.

والثاني: أنها في موضع نصبٍ على الاشتغال بإضمار فعل يفسِّره ما بعده، ويُقَدَّر الفعلُ متأخراً عن «كم» ؛ لأن لها صدر الكلام، والتقدير: وكم من قريةٍ أهلكناها أهلكناها، وإنما كان لها صدرُ الكلام لوجهين أحدهما: مضارعتُها ل «كم» الاستفهامية. والثاني: أنها نقيضةُ «رُبَّ» لأنها للتكثير و «رُبَّ» للتقليل، فحُمِل النقيضُ على نقيضه كما يحملون النظير على نظيره. ولا بد من حَذْفِ مضافٍ في الكلام لقوله تعالى: «أو هم قائلون» فاضْطُرِرْنَا إلى تقدير محذوف، ثم منهم مَنْ قَدَّره قبل «قرية» أي: كم من أهل قرية، ومنهم مَنْ قدَّره قبل «ها» في «أهلكناها» أي: أهلكنا أهلَها، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن التقادير إنما تكون لأجل الحاجة، والحاجةُ لا تدعو إلى تقديرِ هذا المضاف في هذين الموضعين المذكورين، لأن إهلاكَ القرية يمكن أن يقع عليها نفسِها، فإن القرى تُهْلَكُ بالخَسْف والهدمِ والحريق والغَرَق ونحوه، وإنما يُحتاج إلى ذلك عند قوله «فجاءها» لأجل عَوْدِ الضمير من قوله: «هم قائلون» عليه، فيُقَدَّر: وكم من قرية أهلكناها فجاء أهلَها بأسُنا. قال الزمخشري: «فإن قلت: هل تُقَدِّرُ المضافَ الذي هو الأهل قبل» قرية «أو قبل الضمير في» أهلكناها «؟ قلت: إنما يُقَدَّر المضافُ للحاجة ولا حاجة، فإن القرية تَهْلَكُ كما يَهْلَك أهلُها، وإنما قدَّرناه قبل الضمير في» فجاءها «لقوله» أو هم قائلون «. وظاهرُ الآيةِ أن مجيء البأس بعد الإِهلاك وعقيبِه؛ لأن الفاء تعطي ذلك، لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البأس، وبعده يقع الإِهلاك. فمن النحاة من قال: الفاء تأتي بمعنى الواو فلا تُرَتِّبُ، وجَعَلَ من ذلك هذه الآيةَ، وهو ضعيفٌ. والجمهور أجابوا عن ذلك بوجهين، أحدهما: أنه على حَذْف

الإِرادة أي: أردنا إهلاكها كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 6] ، {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} [النحل: 98] ،» إذا دخل أحدكم الخَلاءَ فَلْيُسَمِّ الله « الثاني: أن المعنى أهلكناها أي خذلناهم ولم نوفِّقْهم فنشأ عن ذلك هلاكُهم، فعبَّر بالمُسَبَّب عن سببه وهو باب واسع. وثَمَّ أجوبةٌ ضعيفة منها: أن الفاءَ هنا تفسيرية نحو: «توضأ فغسل وجهَه ثم يديه» فليست للتعقيب، ومنها: أنها للترتيب في القول فقط كأنه أخبر عن قرىً كثيرة أنها أهلكها ثم قال: فكان من أمرها مجيء البأس. / ومنها ما قاله الفراء وهو أن الإِهلاك هو مجيء البأس، ومجيء البأس هو الإِهلاك، فلمَّا كانا متلازمَيْن لم تُبالِ بأيهما قدَّمْتَ في الرتبة كقولك: «شتمني فَأَساء» و «أساء فشتمني» فالإِساءةُ والشتمُ شيء واحد فهذه ستة أقوال. واعلم أنه إذا حُذِف مضافٌ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه جاز لك اعتباران، أحدهما: الالتفاتُ إلى ذلك المحذوف، والثاني وهو الأكثر عدم الالتفات إليه، وقد جُمِعَ الأمران ههنا فإنه لم يُراعِ المحذوفَ في قوله «أهلكناها فجاءها» وراعاه في قوله «أو هم قائلون» ، هذا إذا قدَّرْنا الحذفَ قبل «قرية» ، أمَّا إذا قدَّرنا الحذفَ قبل ضمير «فجاءها» فإنه لم يُراعِ إلا المحذوفَ فقط، وهو غيرُ الأكثر. قوله: «بَيَاتاً» فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه منصوبٌ على الحال، وهو في الأصل مصدر، بات يبيتُ بَيْتاً وبَيْتَةً وبَيَاتاً وبَيْتُوتة. قال الليث: «البَيْتوتَةُ دخولُك في الليل» فقوله «بياتاً» أي بائتين. وجَوَّزوا أن يكون مفعولاً له، وأن

يكون في حكم الظرف. وقال الواحدي: «قوله بياتاً: أي ليلاً» ، وظاهر هذه العبارة أن يكون ظرفاً، لولا أن يُقال: اراد تفسير المعنى. قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ نسقاً على الحال. و «أو» هنا للتنويع لا لشيء آخر كأنه قيل: أتاهم بأسنا تارةً ليلاً كقوم لوط، وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب. وهل يحتاج إلى تقديرِ واوِ حال قبل هذه الجملة أم لا؟ خلاف بين النحويين. قال الزمخشري: «فإن قلت: لا يقال:» جاء زيد هو فارس «بغير واو فما بالُ قوله تعالى» أو هم قائلون «؟ قلت: قَدَّر بعض النحويين الواوَ محذوفةً، وردَّه الزجاج وقال:» لو قلت: جاءني زيد راجلاً أو هو فارس، أو: جاءني زيد هو فارس لم تحتج إلى واو؛ لأن الذكر قد عاد على الأول «. والصحيح أنها إذا عُطِفَتْ على حال قبلها حُذِفت الواو استثقالاً لاجتماع حرفَيْ عطفٍ؛ لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك:» جاء زيد راجلاً أو هو فارس «كلام فصيح واردٌ على حَدِّه، وأمَّا» جاءني زيد هو فارس «فخبيث» . قال الشيخ: «أما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفراء. وأمَّا قول الزجاج [في] التمثيلين: لم تحتج فيه إلى الواو لأن الذِّكْرَ قد عاد على الأول ففيه إبهامٌ، فتعيينه أنه يمتنع دخولها في المثال الأول، ويجوز في المثال الثاني، فليس

انتفاءُ الاحتياج على حدٍّ سواء، لأنه في الأول لامتناع الدخول، وفي الثاني لكثرته لا لامتناعه «. قلت: أمَّا امتناعها في المثال الأول فلأن النحويين نصُّوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها، والعلةُ فيه المشابهة اللفظية، ولأن واو الحال في الأصل عاطفة. ثم قال الشيخ:» وأمَّا قولُ الزمخشري فالصحيحُ إلى آخره فتعليلُه ليس بصحيح، لأنَّ واوَ الحال ليست بحرف عطف فيلزم مِنْ ذكرها اجتماعُ حرفَيْ عطفٍ؛ لأنها لو كانَتْ حرفَ عطف لَلَزِم أن يكون ما قبلها حالاً حتى تعطفَ حالاً على حال، فمجيئُها فيما لا يمكن أن يكونَ حالاً دليلٌ على أنها ليست واوَ عطفٍ ولا لُحِظ فيها معنى واو عطف تقول: «جاء زيد والشمسُ طالعةٌ» فجاء زيد ليس بحالٍ فتعطف عليها جملة حال، وإنما هذه الواوُ مغايرةٌ لواو العطف بكل حال، وهي قِسْمٌ من أقسام الواو، كما تأتي للقَسَمِ وليست فيه للعطف كما إذا قلت: «والله ليخرجَنَّ» . قلت: أبو القاسم لم يدَّعِ في واوِ الحال أنها عاطفةٌ، بل يدَّعي أن أصلَها العطف، ويدل على ذلك قولُه: استعيرت للوصل، فلو كانت عاطفةً على حالها لما قال: استعيرت، فدلَّ قولُه ذلك على أنها خرجَتْ عن العطف واسْتُعْمِلت لمعنى آخر، لكنها أُعْطيت حكم أصلها في امتناع مُجامعها لعاطف آخر. وأمَّا تسميتُها حرفَ عطفٍ فباعتبار أصلها، ونظير ذلك واو «مع» فإنهم نَصُّوا على أن أصلَها واوُ العطف، ثم اسْتُعْمِلَتْ في المعيَّة، فكذلك واوُ الحال، لا امتناعَ أن يكونَ أصلُها واوَ العطف/.

ثم قال الشيخ: «وأما قولُه فخبيث فليس بخبيث؛ وذلك أنه بناه على أن الجملةَ الحالية إذا كانَتْ اسميةً وفيها ضمير ذي الحال فحذفُ الواوِ منها شاذٌّ وتبع في ذلك الفراءَ، وليس بشاذ بل هو كثيرٌ في النظم والنثر» . قلت: قد سبق أبا القاسم في تسمية هذه الواوِ حرفَ عطفٍ الفراءُ وأبو بكر ابن الأنباري. قال الفراء: «أوهم قائلون فيه واو مضمرة، المعنى: أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقاً على إثرِ نسقٍ، ولو قيل لكان صواباً» . قلت: قد تقدم أن الشيخ نقل أن الواو ممتنعة في هذا المثال ولم يَحْكِ خلافاً، وهذا قول الفراء: «ولو قيل لكان صواباً» مُصَرِّحٌ بالخلاف له. وقال أبو بكر: «أُضمرت واوُ الحال لوضوح معناها كما تقول العرب:» لقيت عبد الله مسرعاً أو هو يركض «فيحذفون الواوَ لأَمْنِهم اللَّبْسَ، لأن الذِّكْرَ قد عاد على صاحب الحال، ومن أجل أنَّ» أو «حرفُ عطف والواو كذلك، فاستثقلوا جمعاً بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني» . قلت: فهذا تصريحٌ من هذين الإِمامين بما ذكره أبو القاسم، وإنما ذكرتُ نصَّ هذين الإِمامين لأُعْلِمَ اطِّلاعَه على أقوال الناس، وأنه لا يأتي بغير مصطلح أهل العلم كما يرميه به غيرَ مرة. و «قائلون» من القَيْلُولة. يقال: قال يَقيل قَيْلولة فهو قائل كبائع. والقيلولة: الراحةُ والدَّعَةُ في الحر وسط النهار وإن لم يكن معها نوم. وقال الليث: هي نَوْمَةُ نصف النهار. قال الأزهري: «القيلولة: الراحة وإن لم يكن فيها نوم، بدليل قوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة

يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] والجنةُ لا نومَ فيها» قلت: ولا دليلَ فيما ذكر لأنَّ المقيل هنا خرج عن موضوعه الأصلي إلى مجرد الإِقامة بدليل أنه لا يُراد أيضاً الاستراحة في نصف النهار في الحر، فقد خَرَجَ عن موضوعه عندنا وعندكم إلى ما ذكرته لك. والقيلولة مصدرٌ ومثلها: الثائلة والقَيْل والمَقيل.

5

قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} جَوَّزوا في «دعواهم» وجهين، أحدهما: أن يكون اسماً ل «كان» و «إلا أَنْ قالوا» خبرها، وفيه خدشٌ من حيث إنَّ غير الأعرف جُعِل اسماً، والأعرفَ جُعِل خبراً، وقد فهمت ذلك في أول الأنعام عند {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الآية: 23] والثاني: أن يكون «دعواهم» خبراً مقدماً و «إلا أن قالوا» اسماً مؤخراً، ذكر ذلك الزمخشري، ومكي ابن أبي طالب، وسبقهما إلى ذلك الفراء والزجاج، واختاره الزجاج. ولكن ذلك يُشْكل مِنْ قاعدةً أخرى ذكرها النحاة وهو أن الاسمَ والخبر في هذا الباب متى خفي إعرابُهما وَجَبَ تقديمُ الاسم وتأخيرُ الخبر نحو: كان موسى صاحبي، وما كان دعائي إلا أن استغفرتُ، قالوا: لأنهما كالمفعول والفاعل، فمتى خفي الإِعرابُ التَزَمَ كلٌ في مرتبته، وهذه الآيةُ مما نحن فيه فكيف يُدَّعى فيها ذلك، بل كيف يختاره الزجاج؟ وقد رأيتُ كلامَ الزجاج هنا فيمكن أن يؤخذَ منه جوابٌ عن هذا المكان وذلك أنه قال: «إلا أن الاختيارَ إذا كانت» الدعوى «في موضع رفع أن يقول: فما كانت دعواهم، فلمَّا قال:» كان

دعواهم «دَلَّ على أن الدعوى في موضعِ نصبٍ، غيرَ أنه يجوز تذكير الدعوى وإن كانَتْ رفعاً» قلت: فمِنْ هنا يقال: تذكيرُ الفعل فيه قرينةٌ مرجِّحة لإِسناد الفعل إلى «أن قالوا» ، ولو كان مسنداً للدعوى لكان الأرجح «كانت» كما قال، وهو قريب من قولك: «ضربت موسى سلمى» فقدَّمْتَ المفعولَ بقرينة تأنيث الفعل، وأيضاً فإن ثَمَّ قرينةً أخرى وهي كونُ الأعرفِ أحقَّ أن يكون اسماً من غير الأعرف. والدَّعْوى تكون بمعنى الدعاء وبمعنى الادِّعاء، والمقصود بها ههنا يحتمل الأمرين جميعاً، ويحتمل أيضاً أن يكون بمعنى الاعتراف. فمِنْ مجيئها بمعنى الدعاء ما حكاه الخليل: «اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين» تريد في صالح دعائهم، وأنشدوا: 2139 - وإنْ مَذِلَتْ رِجْلي دعوتُك أشتفي ... بدَعْواكَ مِنْ مَذْلٍ بها فتهونُ / ومنه قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15] وقال الزمخشري: «ويجوز: فما كان استغاثتُهم إلا قولَهم هذا لأنه لا يُستغاث من الله تعالى بغيره، مِنْ قولهم دعواهم يالكعب» . وقال ابن عطية: «وتحتمل الآية أن يكون المعنى: فما آلت دعاويهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى الاعتراف كقول الشاعر: 2140 - وقد شهدَتْ قيسٌ فما كان نصرُها ... قتيبةَ إلا عضَّها بالأباهم

و» إذ «منصوب ب» دعواهم «. وقوله: {إِنَّا كُنَّا} » كنَّا «وخبرُها في محلِّ رفع خبراً لإِنَّا، وإنَّ وما في حيِّزها في محلِّ نصب محكياً ب» قالوا «، و» قالوا «وما في حيزه لا محلَّ له لوقوعه صلةً لأَنْ. وأَنْ وما في حيِّزها في محل رفع أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم مِنْ كونها اسماً أو خبراً.

6

قوله تعالى: {الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} : القائمُ مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرور.

7

وقوله تعالى: {بِعِلْمٍ} : في موضع الحال من الفاعل، والباء للمصاحبة أي: لنقصَّنَّ على الرسل والمرسلِ إليهم حالَ كوننا ملتبسين بالعلم. ثم أكَّد هذا المعنى بقوله {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} .

8

قوله تعالى: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} : «الوزنُ» مبتدأ، وفي الخبر وجهان، أحدهما: هو الظرفُ أي: الوزن كائنٌ أو مستقر يومئذ أي: يوم إذ نسأل الرسل والمرسل إليهم. فحذف الجملةَ المضافَ إليها «إذ» وعَوَّض منها التنوين. هذا مذهب الجمهور خلافاً للأخفش. وفي «الحق» على هذا الوجهِ ثلاثةُ أوجه أحدها: أنه نعتٌ للوزن أي: الوزن الحق في ذلك اليوم. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوف كأنه جوابُ سؤال مقدر مِنْ قائل يقول: ما ذلك الوزنُ؟ فقيل: هو الحق لا الباطل. والثالث: أنه بدلٌ من الضمير المستكنِّ في الظرف. وهو غريب ذكره مكي. والثاني من وجهي الخبر: أن يكون الخبرُ «الحق» ، و «يومئذ» على هذا فيه وجهان أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف ناصبُه «الوزن» أي: يقع الوزنُ ذلك

اليوم. والثاني: أنه مفعول به على السَّعة. وهذا الثاني ضعيف جداً لا حاجة إليه. ولمَّا ذكر أبو البقاء كونَ «الحق» خبراً، وجَعَل «يومئذ» ظرفاً للوزن قال: «ولا يجوز على هذا أن يكونَ صفةً، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الموصول وصلتِه» . قلت: وأين الفصل؟ فإن التركيب القرآني إنما جاء فيه «الحق» بعد تمام الموصول بصلته، وإذا تمَّ الموصول بصلته جاز أن يوصفَ. تقول: «ضَرْبُك زيداً يوم الجمعة الشديدُ حسنٌ» فالشديدُ صفة لضربك. فإن توهَّم كونَ الصفة محلُّها أن تقع بعد الموصوف وتليه، فكأنها مقدمة في التقدير فحصل الفصلُ تقديراً، فإن هذا لا يُلتفت إليه، لأن تلك المعمولاتِ من تتمة الموصول فلم يكُ إلا الموصول. وعلى تقدير اعتقاد ذلك له، فالمانعُ من ذلك أيضاً صيرورةُ المبتدأ بلا خبر، لأنك إذا جعلت «يومئذ» ظرفاً للوزن و «الحق» صفته فأين خبره؟ فهذا لو سَلِمَ من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر. وقد طوَّل مكي بذكر تقدير تقديم «الحق» على «يومئذ» وتأخيره عنه باعتبار الإِعرابات المتقدمة، وهذا لا حاجة إليه لأنَّا مقيَّدون في القرآن بالإِتيان بنظمه. وذكر أيضاً أنه يجوز نصبه، يعني أنه لو قرئ به لكان جائزاً، وهذا أيضاً لا حاجة إليه. وموازين فيها قولان: أحدهما: أنها جمع ميزان: الآلة التي يُوْزَنُ بها، وإنما جُمِع لأنَّ كلَّ إنسانٍ له ميزانٌ يخصُّه على ما جاء في التفسير، أو جُمع باعتبار الأعمال المُكْثِرة، وعبَّر عن الحالِّ بالمحلِّ. والثاني: أنها جمع موزون وهي الأعمال، والجمع حينئذ ظاهر.

9

قوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ} : متعلِّقٌ ب «خسروا» و «ما» مصدرية و «بآياتنا» متعلق ب «يظلمون» قُدِّم عليه للفاصلة. وتعدَّى «يظلمون» بالباء: إمَّا لتضمُّنه معنى التكذيب نحو {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [آل عمران: 11] ، وإمَّا لتضمُّنه معنى الجحد نحو {وَجَحَدُواْ بِهَا} [النمل: 14] .

10

قوله تعالى: {وجَعَلْنا لكم} : يجوز أن تكون بمعنى «خلق» فتتعدَّى لواحد فيتعلَّق الجارَّان بالجَعْل، أو بمحذوفٍ على أنهما حالان مِنْ «معايش» لأنهما لو تأخرا لجاز أن يكونا وصفين. ويجوز أن تكونَ التصييرية فتتعدَّى لاثنين أولهما «معايش» ، والثاني أحد الجارَّين، والآخر: إمَّا حال فيتعلق بمحذوف، وإمَّا متعلق بنفس الجعل/ وهو الظاهر. ومعايش جمع معيشة وفيها ثلاثة مذاهب، مذهب سيبويه والخليل: أن وزنها مَفْعُلة بضم العين أو مَفْعِلة بكسرها، فعلى الأول جُعِلت الضمةُ كسرةً ونُقِلَتْ إلى فاء الكلمة. وقياس قول الأخفش في هذا النحو أن يُغَيَّر الحرفُ لا الحركةُ، فمعيشة عنده شاذة إذ كان ينبغي أن يُقال فيها مَعُوشة. وأما على قولنا إن أصلها مَعْيِشة بكسر العين فلا شذوذَ فيها. ومذهب الفراء أنَّ وزنها مَفْعَلة بفتح العين وليس بشيء. والمعيشة اسمٌ لما يُعاشُ به أي يُحْيا، وهي في الأصل مصدرٌ لعاش يعيش عَيْشاً وعِيْشة قال تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]

ومعاشاً: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} ومَعِيشاً قال رؤبة: 2141 - إليك أشكو شِدَّةَ المعيشِ ... وجُهْدَ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي والعامَّةُ على «معايش» بصريح الياء. وقد خرج خارجة فروى عن نافع «معائش» بالهمز. وقال النحويون: هذه غلطٌ؛ لأنه لا يُهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المد زائداً نحو: صحائف ومدائن، وأما «معايش» فالياءُ أصلٌ لأنها من العَيْش. قال الفارسي عن أبي عثمان: «أصلُ أَخْذِ هذه القراءةِ عن نافع» . قال: «ولم يكن يدري ما العربية؟» . قلت: قد فَعَلَتْ العربُ مثل هذا، فهمزوا منائر ومصائب جمع منارة ومصيبة، والأصل: مناوِر ومصاوب. وقد غلَّط سيبويه مَنْ قال مصائب، ويعني بذلك أنه غلط بالنسبة إلى مخالفة الجادَّة، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال: «واعلم أنَّ بعضَهم يغلطُ فيقول:» إنهم أجمعون ذاهبون «قال:» ومنهم مَنْ يأتي بها على الأصل فيقول: مصاوب ومناور، وهذا كما قالوا في جمع مقال ومقام: مَقَاوِم ومَقاوِل في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال: وأنشد النحويون على ذلك:

2142 - وإنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لم يكن ... جريرٌ ولا مَوْلَى جريرٍ يقومُها ووجهُ همزِها أنهم شبَّهوا الأصليَّ فتوهَّموا أن معيشة بزنة صحيفة فهمزوها كما همزوا تِيْك. قالوا: ونظير ذلك في تشبيههم الأصلي بالزائد قولهم في جمع مَسِيل: مِسْلان توهَّموه على أنه على زنة قضيب وقِضبان وقالوا في جمعه أَمْسِلة كأنهم توهَّموا أنه بزنة رغيف وأرغفة، وإنما مسيل وزنه مَفْعِل لأنه من سَيَلان الماء. وأنشدوا على مَسيل وأَمْسِلة قولَ أبي ذؤيب الهذلي: 2143 - بِوادٍ لا أنيسَ به يَبابٍ ... وأَمْسِلةٍ مَذانِبُها خَلِيفُ وقال الزجاج: «جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ، ولا أعلم لها وجهاً إلا التشبيهَ بصحيفة وصحائف، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة» . قلت: وهذه القراءة لم ينفرد بها نافع بل قرأها جماعة جِلَّةٌ معه، فإنها منقولةٌ عن ابن عامر الذي قرأ على جماعة من الصحابة كعثمان وأبي الدرداء ومعاوية، وقد سبق ذلك في الأنعام، وقد قرأ بها قبل ظهور اللحن وهو عربي صريح. وقرأ بها أيضاً زيد بن علي وهو على جانب من الفصاحةِ والعلمِ الذي لا يدانيه إلا القليلُ. وقرأ بها أيضاً الأعمشُ والأعرجُ وكفى بهما في الإِتقان والضبط. وقد نقل الفراء أن قَلْبَ هذه الياء تشبيهاً لها بياء صحيفة قد جاء وإنْ كان قليلاً.

وقوله: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} كقوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] .

11

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا} : اختلف الناس في «ثم» في هذين الموضعين: فمنهم مَنْ لم يلتزم فيها ترتيباً وجعلها بمنزلة الواو فإنَّ خَلْقَنا وتصويرَنا بعد قوله تعالى للملائكة «اسجدوا» . ومنهم مَنْ قال: هي للترتيب لا في الزمان بل للترتيب في الإِخبار، ولا طائل في هذا. ومنهم من قال: هي للترتيب الزماني وهذا هو موضوعُها الأصلي. ومنهم مَنْ قال: الأولى للترتيب الزماني والثانية للترتيب الإِخباري. واختلفت عبارة القائلين بأنها للترتيب في الموضعين فقال بعضهم: إنَّ ذلك على حذف مضافين، والتقدير: ولقد خلقنا آباءكم ثم صَوَّرْنا آباءكم ثم قلنا، ويعني بأبينا آدم عليه السلام. والترتيب الزماني هنا ظاهر بهذا التقدير. وقال بعضهم: الخطاب في «خلقناكم وصوَّرناكم» لآدم عليه السلام وإنما خاطبه/ بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له ولأنه أصلُ الجميع، والترتيب أيضاً واضح. وقال بعضهم: المخاطبُ بنو آدم والمراد به أبوهم، وهذا من باب الخطاب لشخصٍ والمرادُ به غيره كقوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} إلى آخره، وإنما المُنَجَّى والذي كان يُسامُ سُوءَ العذاب أسلافُهم. وهذا مستفيضٌ في لسانهم. وأنشدوا على ذلك قوله: 2144 - إذا افتخرَتْ يوماً تميمٌ بقوسها ... وزادَتْ على ما وطَّدَتْ مِنْ مناقب فأنتم بذي قارٍ أمالَتْ سيوفُكمْ ... عروشَ الذين استرهنوا قوسَ حاجبِ وهذه الوقعةُ إنما كانت في أسلافهم.

والترتيبُ أيضاً واضحٌ على هذا. ومن قال: إن الأولى للترتيب الزماني والثانية للترتيب الإِخباري اختلفت عباراتهم أيضاً. فقال بعضهم: المراد بالخطاب الأول آدمُ وبالثاني ذريتُه، والترتيبُ الزماني واضح، و «ثم» الثانية للترتيب الإِخباري. وقال بعضهم: ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثم صوَّرناكم في بطونِ أمَّهاتكم. وقال بعضهم: ولقد خلقنا أزواجكم ثم صوَّرنا أجسامكم. وهذا غريبٌ نقله القاضي أبو يعلى في «المعتمد» . وقال بعضهم: خلقناكم نُطَفاً في أصلاب الرجال ثم صوَّرْناكم في أرحام النساء. وقال بعضهم: ولقد خلقناكم في بطون أمهاتكم وصوَّرْناكم فيها بعد الخلق بشَقِّ السمع والبصر، ف «ثم» الأولى لترتيب الزمان، والثانية لترتيب الإِخبار. وقوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} تقدَّم الكلام عليه في البقرة. وقوله «لم يكن» هذه الجملةُ استئنافيةٌ لأنها جواب سؤال مقدر، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة «أبى» . وتقدم أن الوقف على إبليس. وقيل: فائدة هذه الجملة التوكيدُ لِما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس. وقال أبو البقاء: «إنها في محل نصب على الحال أي: إلا إبليس حال كونه ممتنعاً من السجود» . وهذا كما تقدم له في البقرة من أن «أبى» في موضع نصب على الحال.

12

قوله تعالى: {أَلاَّ تَسْجُدَ} : في «لا» هذه وجهان، أظهرهما: أنها زائدة للتوكيد. قال الزمخشري: «لا» في «أن لا تسجد»

صلةٌ بدليل قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ومثلُها: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] بمعنى ليعلم. ثم قال: «فإن قلت: ما فائدةُ زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه، كأنه قيل: ليتحقَّق علمُ أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السجود وتُلْزمَه نفسك إذ أمرتك؟ وأنشدوا على زيادة» لا «قولَ الشاعر: 2145 - أبى جودُه لا البخلَِ واستعجلَتْ نَعَمْ ... به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائلُه يروى» البخل «بالنصب والجر، والنصبُ ظاهرُ الدلالة في زيادتها، تقديرُه: أبى جودُه البخلَ. وأمَّا في روايةِ الجر فالظاهرُ منها عدمُ الدلالة على زيادتها. ولا حجةَ في هذا البيتِ على زيادة» لا «في رواية النصب، ويتخرَّجُ على وجهين أحدهما: أن تكون» لا «مفعولاً بها و» البخل «بدل منها لأنَّ» لا «تُقال في المنع فهي مؤدِّية للبخل. والثاني: أنها مفعول بها أيضاً، والبخل مفعول من أجله والمعنى: أبى جودُه لفظ» لا «لأجل البخل أي كراهة البخل، ويؤيد عدمَ الزيادة روايةُ الجر. قال أبو عمرو بن العلاء:» الرواية فيه بخفض «البخل» لأن «لا» تُسْتعمل في البخل «، وأنشدوا أيضاً على زيادتها قول الآخر: 2146 - أَفَعَنْكَ لا برقٌ كأنَّ وميضَه ... غابٌ تَسَنَّمَه ضِرامٌ مُثْقَبُ

يريد: أفعنك برقٌ. وقد خَرَّجه الشيخ على احتمال كونِها عاطفةً وحَذْفِ المعطوف، والتقدير: أفعنك لا عن غيرك. وكونُ» لا «في الآية زائدةً هو مذهب الكسائي والفراء وأبي إسحاق. وما ذكرته من كون» البخل «بدلاً من» لا «و» لا «مفعولٌ بها هو مذهب الزجاج. وحكى بعضهم عن يونس قال:» كان أبو عمرو بن العلاء يجرُّ «البخل» ويجعل «لا» مضافة إليه، أراد أبى جوده لا التي هي للبخل لأن «لا» قد تكون للبخل وللجود، فالتي للبخل معروفة، والتي للجود أنه لو قال له: «امنع الحق» أو «لا تعط المساكين» فقال: «لا» كان جوداً. قلت: يعني فتكون الإِضافة للتبيين، لأن «لا» صارت مشتركةً فميَّزها بالإِضافة وخصَّصها به. / وقد تقدم طرف جيد من زيادة «لا» في أواخر الفاتحة وأقوال الناس في ذلك. وقد زعم جماعةٌ أن «لا» في هذه الآية الكريمة غيرُ زائدة، لكن اختلفت عبارتهم في تصحيح معنى ذلك فقال بعضهم: في الكلام حَذْفٌ يصحُّ به النفي، والتقدير: ما منعك فأحوجك أن لا تسجد؟ وقال بعضهم: المعنى على ما ألجأك أن لا تسجد؟ وبعضهم: مَنْ أمَرَكَ أن لا تسجد؟ ومَنْ قال لك أن لا تسجد، أو ما دَعاك أن لا تسجد؟ وهذا تمحُّل مَنْ يتحرَّج مِنْ نسبة الزيادة إلى القرآن وقد تقدَّم تحقيقه، وأنَّ معنى الزيادة على معنىً يفهمه أهلُ العلم وإلا فكيف يُدَّعى زيادةٌ في القرآن بالعُرْف العام؟ هذا ما لا يقوله أحد من المسلمين. و «ما» استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء، والخبرُ بعدها أي: أيُّ شيء

منعك. و «أَنْ» في محل نصبٍ أو جر لأنها على حَذْفِ حرف الجر إذ التقدير: ما منعك من السجود؟ و «إذ» منصوب بتسجد أي: ما منعك من السجود في وقت أمري إياك به. وقوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} لا محلَّ لهذه الجملةِ لأنها كالتفسير والبيان للخبرية.

13

وقوله تعالى: {مِنْهَا} : و «فيها» الضميرُ يعود على الجنة لأنه كان من سكانها. عن ابن عباس: أنهم كانوا في عدن لا في جنة الخلد. وقيل: يعود على السماء، لأنه يُروى في التفسير أنه وَسْوس إليهما وهو في السماء. وقيل: على الأرض أُمِر أن يَخْرج منها إلى جزائر البحار، ولا يدخل في الأرض إلا كالسارق. وقيل: على الرتبة المنيفة والمنزلة الرفيعة. وقيل: على الصورة والهيئة التي كان عليها لأنه كان مُشْرق الوجه فعاد مُظْلِمَه. وقوله: «فاخرجْ» تأكيدٌ ل «اهبط» إذ هو بمعناه. وقوله: «فيها» لا مفهومَ له، يعني أنه لا يُتَوَهَّم أنه يجوز أن يتكبَّر في غيرها. ولمَّا اعتبر بعضهم هذا المفهوم احتاج إلى تقدير حذف معطوف كقوله: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] قال: «والتقديرُ فما يكون لك أن تتكبَّر فيها ولا في غيرها» .

14

والضمير في {يُبْعَثُونَ} : يعود على بني آدم لدلالة السياق عليهم، كما دلَّ على ما عاد عليه الضميران في منها وفيها كما تقدَّم.

16

قوله تعالى: {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} : في هذه الباء وجهان أحدهما: أن تكون قسميةً وهو الظاهر. والثاني: أن تكون سببيَّة، وبه بدأ الزمخشري قال: «فبما أغويتني: فبسبب إغوائك إياي لأقعدنَّ لهم» ثم

قال: «والمعنى: فبسبب وقوعي في الغَيِّ لاجتهدنّ في إغوائهم حتى يَفْسُدوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم. فإن قلت: بم تَعَلَّقَت الباء فإن تعلُّقها ب» لأقعدن «يصدُّ عنه لام القسم لا تقول: واللهِ بزيدٍ لأمرَّنَّ؟ قلت: تَعَلَّقَتْ بفعل القسم المحذوف تقديره: فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنَّ أي: فبسبب إغوائك أُقْسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم أي: فأقسم بإغوائك لأقعدنَّ» . قلت: وهذان الوجهان سبق إليهما أبو بكر بن الأنباري، وذكر عبارةً قريبة من هذه العبارة. وقال الشيخ: «وما ذكره من أن اللام تصدُّ عن تعلُّق الباء ب» لأقعدَنَّ «ليس حكماً مُجْمَعاً عليه بل في ذلك خلافٌ» . قلت: أمَّا الخلافُ فنعم. لكنه خلافٌ ضعيف لا يُقَيَّد به أبو القاسم، والشيخُ نفسه قد قال عند قوله تعالى {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ} [الأعراف: 18] في قراءة مَنْ كسر اللام في «لمن» ، إنَّ ذلك لا يُجيزه الجمهور وسيأتي لك مبيناً إن شاء الله. و «ما» تحتمل ثلاثة أوجه أظهرها: أنها مصدرية أي: فبإغوائك إياي. والثاني: أنها استفهامية يعني أنه استفهم عن السبب الذي أغواه به فقال: فبأي شيء من الأشياء أغويتني؟ ثم استأنف جملةَ أقْسَمَ فيها بقوله «لأقعدنَّ» . وهذا ضعيفٌ عند بعضِهم أو ضرورةٌ عند آخرين من حيث إنَّ «ما» الاستفهامية إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفها، ولا تَثْبت إلا في شذوذ كقولهم: عمَّا تسأل؟ أو ضرورةً كقوله: 2147 - على ما قام يَشْتِمني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تمرَّغَ في رمادِ

والثالث: أنها شرطية، وهو قولُ ابن الأنباري، ولا بد من إيراد نصِّه قال: رحمه الله «ويجوز أن تكونَ» ما «بتأويل الشرط، والباءُ من صلة الإِغواء، والفاءُ المضمرة جواب الشّرط، والتقدير: فبأي شيء أغويتني فلأقعدنَّ لهم صراطك» فتُضْمر الفاءَ [في] جواب الشرط كما تضمرها في قولك «إلى ما أومأتَ إني قابلُه، وبما أمرت إني سامعٌ مطيع» . وهذا الذي قاله ضعيف جداً، فإنه على تقدير صحة معناه يمتنع من حيث الصناعة، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلا في ضرورة شعر كقوله: 2148 - مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها ... والشرُّ بالشر عند الله مِثْلان أي: فالله. وكان المبرد/ لا يُجَوِّز ذلك ضرورة أيضاً، وينشد البيت المذكور: مَنْ يفعل الخير فالرحمن يشكره ... . . . . . . . . . . . . . . فعلى رأي أبي بكر يكون قوله «لأقعدنَّ» جوابَ قسم محذوف، وذلك القسم المقدر وجوابه جواب الشرط، فيقدِّرُ دخول الفاء على نفس جملة القسم مع جوابها تقديره: فبما أغويتني فواللهِ لأقعدنَّ. هذا يُتَمِّمُ مذهبه. وقوله: «صراطَك» في نصبه ثلاثة أوجه أحدها: أنه منصوب على إسقاط الخافض. قال الزجاج: «ولا اختلاف بين النحويين أنَّ» على «

محذوفة كقولك:» ضُرِب زيدٌ الظهرَ والبطنَ «أي: على الظهر والبطن» . إلا أن هذا الذي قاله الزجاج وإن كان ظاهرهُ الإِجماع ضعيفٌ من حيث إن حرف الجر لا يَطَّرِدُ حذفه، بل هو مخصوص بالضرورة أو بشذوذ كقوله: 2149 - تمُرُّون الديارَ فلم تعوجوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقوله] : 2150 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . لولا الأسى لقضاني [وقوله] : 2151 - فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنني ... . . . . . . . . . . . . . . . . والثاني: أنه منصوب على الظرف والتقدير: لأقعدنَّ لهم في صراطك. وهذا أيضاً ضعيف لأن «صراطك» ظرفُ مكانٍ مختصٌّ، والظرف المكاني المختص لا يصل إليه الفعل بنفسه بل ب «في» ، تقول: صليت في المسجد ونمت في السوق. ولا تقول: صَلَّيْتَ المسجد، إلا فيما استثني في كتب النحو، وإنْ ورد غير ذلك كان شاذاً كقولهم «رَجَع أدراجَه» و «ذهبت» مع «الشام» خاصة. أو ضرورة كقوله: 2152 - جزى الله بالخيراتِ ما فعلا بكم ... رفيقَيْنِ قالا خَيْمَتَيْ أمِّ معبدِ

أي: قالا في خيمتي. وجعلوا نظيرَ الآية في نصب المكان المختص قولَ الآخر: 2153 - لَدْنٌ بهزِّ الكفِّ يَعْسِل مَتْنَه ... كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ وهذا البيت أنشده النحاة على أنه ضرورة. وقد شذَّ ابن الطراوة عن مذهب النحاة فجعل «الصراط» و «الطريق» في هذين الموضعين مكانين مُبْهمين. وهذا قولٌ مردودٌ لأن المختصَّ من الأمكنة ما له أقطارٌ تحويه وحدودٌ تحصره، والصراط والطريق من هذا القبيل. والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول به لأنَّ الفعلَ قبله وإن كان قاصراً فقد ضُمِّن معنى فعلٍ متعدٍّ. والتقدير: لألزمَنَّ صِراطك المستقيم بقعودي عليه.

17

قوله تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ} : جملةٌ معطوفة على جواب القسم أيضاً، وأخبر أنه بعد أن يقعد على الصراط يأتي من هذه الجهات الأربع، ونوَّع حرف الجر فجرَّ الأَوَّلَيْن ب «مِنْ» والثانَيْين ب «عن» لنكتة ذكرها الزمخشري. قال رحمه الله: «فإن قلت كيف قيل: مِنْ بين أيديهم ومِنْ خلفهم بحرف الابتداء، وعن أيمانهم وعن شمائلهم بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عُدِّي إليه الفعلُ نحو تعديتهِ إلى المفعول به، فكما اختلفَتْ حروفُ التعدية في ذلك اختلفت في هذا وكانت لغةً تُؤْخَذُ ولا تُقاسُ، وإنما يُفَتَّشُ عن صحة موقعها فقط، فلمَّا سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه، وعن شماله وعلى شماله قلنا: معنى» على يمينه «أنه تَمَكَّن من جهة اليمين

تمكُّنَ المستعلي من المستعلَى عليه. ومعنى» عن يمينه «أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين غيرَ ملاصقٍ له منحرفاً عنه، ثم كَثُر حتى استعمل في المتجافي وغيرِه كما ذكرنا في تعالَ. ونحوُه من المفعول به قولهم:» رميت على القوس وعن القوس ومن القوس «، لأنَّ السهم يُبْعِدُ عنها ويَسْتعليها إذا وُضع على كَبِدِها للرمي، ويبتدئ الرميُ منها فلذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل، ومِنْ بين يديه، ومن خلفه، لأنَّ الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول: جئت من الليل تريد بعض الليل» . قلت: وهذا كلامُ مَنْ رسخت قدمُه في فهم كلام العرب. وقال الشيخ: «وهو كلامٌ لا بأسَ به» فلم يوفِّه حقَّه. ثم قال: «وأقول: وإنما خَصَّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإِتيان لأنهما أغلبُ ما يجيء العدوُّ منهما فينال فرصته، وقدَّم بين الأيدي على الخلف لأنها الجهة التي تدلُّ على إقدام العدو وبسالته في مواجهة قِرْنِه غيرَ خائفٍ منه، والخلف جهةُ غَدْرٍ ومخاتلة وجهالة القِرْن بمَنْ يغتاله ويتطلب غِرَّته وغَفْلَتَه، وخَصَّ الأيمان والشمائل بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدو، وإنما يجاوز إتيانَه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك، وقُدِّمت الأيمان على الشمائل لأنها هي الجهةُ القويةُ في ملاقاة العدو، وبالأَيْمان البطشُ والدفعُ، فالقِرْنُ الذي يأتي مِنْ جهتها أبسلُ وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع، والشمائل ليست في القوة والدفع كالأَيْمان. والأَيْمان والشمائل جَمْعا يمين وشمال، وهما الجارحتان وتُجْمَعان في القلة على أَفْعُل، قال:

2154 - يأتي لها من أَيْمُنٍ وأَشْمُلِ ... والشمائل يُعَبَّر بها عن الأخلاق والشيم تقول: له شمائلُ حسنة ويُعَبَّر عن الحسنات باليمين، وعن السيئات بالشمال، لأنهما منشأ الفعلين: الحسن والسيِّئ. ويقولون: اجعلني في يمينك لا في شِمالك قال: 2155 - أبُثْنى أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني ... فَأَفْرحَ أم صَيَّرْتني في شِمالكِ يَكْنون بذلك عن عِظَم المنزلة عند الشخص وخِسَّتها وقال: 2156 - رأيت بني العَلاَّتِ لمَّا تضافروا ... يَحُوزون سَهْمي بينهمْ في الشَّمائل والشمائل: جمع شَمَال بفتح الشين وهي الريح. قال امرؤ القيس: 2157 - وهَبَّتْ له ريحٌ بمختلف الصُّوى ... صَباً وشَمالٌ في منازِلِ قُفَّالِ والألف في الشمال زائدةٌ، لذا يُزاد فيها الهمزةُ أيضاً بعد الميم فيقولون شَمْأَل، وقبلها فيقولون شَأْمَل، يدلُّ على ذلك كلِّه سقوطُه في التصريف قالوا: «شَمَلَت الريح» إذا هبَّت شَمالاً. قوله: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ} الوِجْدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللقاء أو بمعنى العلم أي: لا تُلْفِي أكثرَهم شاكرين، أو لا تعلم أكثرهم شاكرين، فشاكرين حالٌ على الأول، مفعول ثان على الثاني. وهذه الجملة تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون استئنافية أخبر اللعين بذلك لتظنِّيه أو لأنه علمه بطريق. ويحتمل أن تكون داخلةً في حَيِّز ما قبلها في جواب القسم، فتكونَ معطوفةً على قوله «لأقعدَنَّ» ، أَقْسَمَ على جملتين مُثْبَتَتَيْن وأخرى منفية.

18

قوله تعالى: {مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} : حالان من فاعل «اخرج» عند مَنْ يجيز تَعدُّدَ الحال لذي حال واحدة. ومَنْ لا يُجِزْ ذلك فَمَدْحُوراً صفةٌ لمذؤوماً أو هي حالٌ من الضمير في الحال قبلها فيكون الحالان متداخلين. ومَذْؤوماً مدحوراً اسما مفعول مِنْ ذَأَمه ودَحَره. فأمَّا ذَأَمَه فيقال بالهمز: ذَأَمه يَذْأَمه كَرأَمه يَرْأَمُهُ، وذامه يَذيمه كباعه يبيعه من غير همز، وعليه قولهم: «لن يَعْدَمَ الحسناء ذاماً» يُروى بهمزةٍ ساكنة أو ألف، وعلى اللغة الثانية قول الشاعر: 2158 - تَبِعْتُك إذْ عَيْني عليها غِشاوةٌ ... فلما انجلَتْ قَطَّعْتُ نفسي أَذِيْمُها فمصدرُ المهموز ذَأْم كرَأْس، وأما مصدر غير المهموز فَسُمِعَ فيه ذامٌ بألف، وحكى ابن الأنباري فيه ذَيْماً كيَنْعٍ قال: «يقال ذَأَمْتُ الرجل أَذْأَمُه وذِمْتُه أَذِيْمُه ذَيْماً وذَمَمْتُه أَذُمُّه ذَمَّاً بمعنىً. وأنشد: 2159 - وأقاموا حتى انبرَوا جميعاً ... في مَقامٍ وكلُّهم مَذْؤُوْمُ والذَّامُ: العَيْبُ ومنه المثل المتقدم:» لن يَعْدَمِ الحسناءُ ذاما «أي كلُّ امرأة حسنة لا بد أن يكون فيها عيبٌ ما. وقالوا: أردتَ أن تَذيمه فمدحتَه أي: تَعيبه فمدحته، فأبدل الحاء هاءً. وقيل: الذام الاحتقارُ، ذَأَمْتُ الرجل: أي احتقرته قاله الليث. وقيل: الذام الذَّمُّ، قاله ابن قتيبة وابن الأنباري.

والجمهور على» مَذْؤوماً «بالهمز. وقرأ أبو جعفر والأعمش والزهري» مَذُوْمَاً «بواو واحدة من دون همز. وهي تحتمل وجهين أحدهما: ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه أنه تخفيف» مذؤوماً «في القراءة الشهيرة بأَنْ أُلْقِيَتْ حركةُ الهمزة على الذال الساكنة، وحُذِفَت الهمزةُ على القاعدة المستقرة في تخفيف مثله، فوزن الكلمة آل إلى مَفُول لحذف العين. والثاني: أن هذه القراءةَ مأخوذةٌ مِنْ لغة مَنْ يقول: ذِمْتُه أَذيمه كبِعْتُه أَبيعه، وكان مِنْ حق اسم المفعول على هذه اللغةِ مَذيم كمبيع قالوا: إلا أنه أُبْدلت/ الواو من الياء على حَدِّ قولهم» مكول «في» مكيل «مع أنه من الكيل. ومثل هذه القراءة في احتمال الوجهين قولُ أمية بن أبي الصلت: 2160 - وقالَ لإِبليسَ ربُّ العبادِ ... [أن] اخرُجْ لعيناً دحيراً مَذُوْمَا أنشد على ذلك الواحدي على لغة ذامه بالألف يَذيمه بالياء، وليته جعله محتملاً للتخفيف مِنْ لغة الهمز. والدَّحْر: الطَّرْدُ والإِبعاد يقال: دَحَره يَدْحَرُه دَحْراً ودُحوراً، ومنه: {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً} [الصافات: 9] وقول أمية في البيت المتقدم» لَعيناً دحيراً «وقوله أيضاً: 2161 - وبإذنه سجدوا لآدمَ كلهمْ ... إلا لعيناً خاطِئاً مَدْحورا وقال الآخر: 2162 - دَحَرْتُ بني الحصيب إلى قَدِيدٍ ... وقد كانوا ذوي أَشَرٍ وفَخْرِ

قوله: {لَّمَن تَبِعَكَ} في هذه اللامِ وفي» مَنْ «وجهان أظهرهما: أن اللام لامُ التوطئة لقسم محذوف و» مَنْ «شرطية في محل رفع بالابتداء و» لأملأنَّ «جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة، وجواب الشرط محذوف لسدِّ جوابِ القسم مسدَّه. وقد تقدم إيضاح ذلك غير مرة. والثاني: أن اللامَ لامُ ابتداء، «مَنْ» موصولة و «تبعك» صلتها، وهي في محل رفع بالابتداء أيضاً، و «لأملأنَّ» جواب قسم محذوف، وذلك القسمُ المحذوفُ وجوابُه في محلِّ رفع خبراً لهذا المبتدأ، والتقدير: للذي تبعك منهم والله لأملأنَّ جهنم منكم. فإن قلت: أين العائد من الجملة القسمية الواقعة خبراً عن المبتدأ؟ قلت: هو متضمِّنٌ في قوله «منكم» لأنه لمَّا اجتمع ضميرا غيبة وخطاب غَلَّب الخطاب على ما عُرِف غير مرة. وفَتْحُ اللام هو قراءةُ العامَّة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر من بعض طرقهِ والجحدري: «لِمَنْ» بكسرها، وخُرِّجتْ على ثلاثة أوجه أحدها: - وبه قال ابن عطية - أنها تتعلق بقوله «لأَملأنَّ» فإنه قال: «لأجل مَنْ تبعك منهم لأملأنَّ» ، وظاهر هذا أنها متعلقةٌ بالفعل بعد لام القسم. قال الشيخ: «ويمتنع ذلك على قول الجمهور أن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبلها» . والثاني: أن اللام متعلقةٌ بالذَّأْمِ والدَّحْر، والمعنى: اخرج بهاتين الصفتين لأجل تُباعك. ذكره أبو الفضل الرازي في كتاب «اللوائح على شاذ القراءة» . قلت: ويمكن أن تجيء المسألةُ من باب الإِعمال لأن كلاً من

مذؤوماً ومدحوراً يطلب هذا الجارَّ عند هذا القائل من حيث المعنى ويكون الإِعمال للثاني كما هو مختار البصريين للحذف من الأول. والثالث: أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف تقديره: لمن تبعك منهم هذا الوعيدُ، ودلَّ على قوله «هذا الوعيد» قولُه «لأملأن جهنم» ، لأن هذا القسمَ وجوابَه وعيدٌ، وهذا أراده الزمخشري بقوله: «بمعنى لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله» لأملأن جهنم «على أنَّ» لأملأنَّ «في محل الابتداء و» لمن تبعك «خبره. قال الشيخ:» فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأنَّ قولَه «لأملأنَّ» جملةٌ هي جوابُ قسم محذوف، من حيث كونُها جملةً فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة، ومن حيث كونها جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً؛ لأنها إذ ذاك من هذه الحيثيَّة لا موضع لها من الإِعراب، ومن حيث كونُها مبتدأ لها موضع من الإِعراب، ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع من الإِعراب لا موضع لها من الإِعراب، وهو محال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع، داخلٌ عليها عاملٌ غيرُ داخل عليها عاملٌ، وذلك لا يُتَصَوَّر «. قلت: بعد أن قال الزمخشري:» بمعنى لِمَنْ تبعك الوعيد وهو لأملأنَّ «كيف يحسن أن يُتردد بعد ذلك فيُقال: إن أراد ظاهر كلامه، كيف يريده مع التصريح بتأويله هو بنفسه؟ وأمَّا قوله» على أن لأملأنَّ في محل الابتداء «فإنما قاله لأنه دالٌ على الوعيد الذي هو في محل الابتداء، فنسب إلى الدالِّ ما يُنْسب إلى المدلول من جهة المعنى. وقول الشيخ أيضاً «ومن حيث كونُها جواباً/

للقسم المحذوف أيضاً إلى آخره كلامُ متحمِّلٍ عليه، لأنه يريد جملة الجواب فقط البتة، إنما يريد الجملة القسمية برُمَّتها، وإنما استغنى بذكرها عن ذكر قسيمها لأنها ملفوظ بها، وقد تقدَّم لك ما يشبه هذا الاعتراضَ الأخير عليه وجوابه. وأمَّا قولُ الشيخ:» ولا يجوز أن تكون الجملةُ لها موضعٌ من الإِعراب لا موضعَ لها من الإِعراب «إلى آخر كلامه كله شيءٌ واحدٌ ليس فيه معنى زائد. وقوله تعالى: {أَجْمَعِينَ} تأكيد. واعلم أن الأكثر في أجمع وأخواته المستعملة في التأكيد إنما يؤتى بها بعد» كل «نحو: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وفي غير الأكثر قد تجيء بدون» كل «كهذه الآية الكريمة، فإنَّ» أجمعين «تأكيد ل» منكم «، ونظيرها فيما ذكرتُ لك أيضاً قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] .

19

وفي البقرة: {رَغَداً} : وهو محذوفٌ لدلالة الكلام عليه.

20

قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا} ، أي: فَعَلَ الوسوسة لأجلهما. والفرق بين وسوس له ووسوس إليه أنَّ وسوس له بمعنى لأجله كما تقدم، ووسوس إليه ألقى إليه الوسوسة. والوَسْوَسَةُ: الكلام الخفيُّ المكرر، ومثله الوَسْواس وهو صوت الحَلْيِ، والوَسْوَسة أيضاً الخَطْرة الرديئة، ووسوس لا يتعدى إلى مفعول بل هو لازم ويقال: رجل مُوَسْوِس بكسر الواو ولا يقال بفتحها، قاله ابن

الأعرابيّ. وقال غيره: يقال: مُوَسْوَس له ومُوَسْوَس إليه. وقال الليث: «الوسوسة حديثُ النفس والصوت الخفي من ريحٍ تهزُّ قصباً ونحوه كالهمس» . قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] وقال رؤبة بن العجاج يصف صياداً: 216 - 3- وَسْوَسَ يدعو مُخلِصاً ربِّ الفَلَق ... لمَّا دَنا الصيد دنا مِنَ الوَهَقْ أي: لَمَّا اراد الصيدَ وَسْوس في نفسه: أيخطئ أم يصيب؟ وقال الأزهري: «وسوس ووَزْوَزَ بمعنى واحد» . قوله: {لِيُبْدِيَ} في هذه اللام قولان أظهرهما: أنها لامُ العلة على أصلها، لأنَّ قَصْدَ الشيطان ذلك. وقال بعضهم: اللام للصيرورة والعاقبة، وذلك أن الشيطان لم يكن يعلم أنهما يعاقبان بهذه العقوبة الخاصة، فالمعنى: أن أمرهما آيل إلى ذلك. والجواب: أنه يجوزُ أن يُعْلم ذلك بطريق من الطرق المتقدمة في قوله {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الاعراف: 17] . قوله: {مَا وُورِيَ} «ما» موصولة بمعنى الذي وهي مفعولٌ ل «يُبدي» أي ليُظْهِر الذي سُتِر. وقرأ الجمهور «وُوْري» بواوين صريحتين وهو ماضٍ مبني للمفعول، أصله وارَى كضارب فلمَّا بُني للمفعول أُبدلت الألفُ واواً كضُوْرِبَ، فالواو الأولى فاء والثانية زائدة. وقرأ عبد الله: أُوْرِيَ بإبدال الأولى همزةً وهو بدلٌ جائزٌ لا واجب. وهذه قاعدة كلية وهي: أنه إذا اجتمع في أول

الكلمة واوان، وتحركت الثانية أو كان لها نظيرٌ متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفاً، فمثال النوع الأول «أُوَيصل» و «أواصل» تصغير واصل وتكسيره، فإن الأصل: وُوَيْصِل، وواصل فاجتمع واوان في المثالين ثانيتهما متحركة فوجب إبدال الأولى همزة. ومثال النوع الثاني أُوْلى فإن أصلها وُوْلَى، فالثانية ساكنة لكنها قد تتحرك في الجمع في قولك أُوَل كفُضْلى وفُضَل. فإن لم تتحرك ولم تُحْمَلْ على متحرك جاز الإِبدال كهذه الآية الكريمة. ومثله وُوْطِئ وأُوْطِئ. وقرأ يحيى بن وثاب «وُرِيَ» بواو واحدة مضمومة وراء مكسورة، وكأنه من الثلاثي المتعدي، وتحتاج إلى نَقْلِ أنَّ وَرَيْتُ كذا بمعنى وارَيْتُه. والمُواراة: السَّتْرُ، ومنه قوله عليه السلام لمَّا بلغه موت أبي طالب: «لعلِّي أذهب مُوارٍ» ومنه قول الآخر: 2164 - على صَدىً أسودَ المُواري ... في التُّرْب أمسى وفي الصفيح وقد تقدم تحقيق هذه المادة. والجمهور على قراءة «سَوْءاتهما» بالجمع من غير نقلٍ ولا إدغام. وقرأ مجاهد والحسن «سَوَّتِهما» بالإِفراد وإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها. وقرأ الحسن أيضاً وأبو جعفر وشَيْبَة بن نصاح «سَوَّاتِهما» بالجمع وتشديد الواو بالعمل المتقدم. وقرأ أيضاً سَواتِهما/ بالجمع أيضاً إلا أنه نَقَل حركةَ الهمزة إلى الواو من غير عملٍ آخر، وكلُّ ذلك ظاهر: فَمََنْ قرأ بالجمع

فيحتمل وجهين، أظهرهما: أنه من باب وَضْعِ الجمع مَوْضعَ التثنية كراهيةَ اجتماع تثنيتَيْن والجمع أخو التثنية فلذلك ناب منابها كقوله {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وقد تقدَّم تحقيق هذه القاعدة. ويحتمل أن يكون الجمعُ هنا على حقيقته؛ لأنَّ لكل واحد منهما قُبُلاً ودبراً، والسَّوْءات كناية عن ذلك فهي أربعٌ؛ فلذلك جيء بالجمع، ويؤيد الأولَ قراءةُ الإِفراد فإنه لا تكون كذلك إلا والموضع موضع تثنية نحو: «مَسَح أذنيه ظاهرَهما وباطنهما» . قوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَا} استثناءٌ مفرغ وهو مفعول من أجله، فيقدّره البصريون إلا كراهةَ أن تكونا، وقدَّره الكوفيون إلا أن لا تكونا، وقد تقدَّم غيرَ مرة أن قول البصريين أَوْلى لأن إضمارَ الاسم أحسنُ من إضمار الحرف. والجمهور على «مَلَكَيْن» بفتح اللام. وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك ويحيى بن أبي كثير والزهري وابن حكيم عن ابن كثير «مَلِكين» بكسرها. قالوا: ويؤيِّد هذه القراءة قولُه في موضع آخر: {هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [طه: 120] والمُلك يناسِبُ المَلِك بالكسر. وأتى بقوله «من الخالدين» ولم يقل «أو تكونا خالدَيْن» مبالغةً في ذلك؛ لأن الوصف بالخلود أهم من المِلْكية أو المُلْك، فإن قولك: «فلان من الصالحين» أبلغُ من قولك صالح، وعليه {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12] .

21

قوله تعالى: {وقَاسَمَهُمَا} : المفاعلةُ هنا تحتمل أن تكون على بابها، فقال الزمخشري: «كأنه قال لهما: أُقسم لكما إني لمن الناصحين، وقالا له: أتقسم بالله أنت إنك لمن الناصحين لنا، فَجعَل ذلك مقاسمةً بينهم، أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها، أو أَخْرج قسمَ إبليس على وزن المفاعلة؛ لأنه اجتهد فيها اجتهادَ المُقاسِم» . وقال ابن عطية: «وقاسمهما: أي حلف لهما، وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره، وإن كان بادئَ الرأي يعطي أنها من واحد» ، ويحتمل أن يكون فاعَل بمعنى أفعل كباعَدْته وأبعدته، وذلك أن الحَلْفَ إنما كان من إبليس دونهما وعليه قول خالد بن زهير: 2165 - وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ ... ألذَّ مِنَ السَّلوى إذا ما نشورها قوله: {لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين} يجوز في «لكما» أن يتعلق بما بعده على أن أل معرفةٌ لا موصولة، وهذا مذهبُ أبي عثمان، أو على أنها الموصولة ولكن تُسُومح في الظرف وعديله ما لا يتسامح في غيرهما اتساعاً فيهما لدوَرانهما في الكلام، وهو رأي بعض البصريين وأنشد: 2166 - رَبَّيْتُهُ حتى إذا تَمَعْدَدا ... كان جزائي بالعصا أن أُجْلدا ف «بالعصا» متعلق بأُجْلَد وهو صلة أَنْ، أو أن ذلك جائز مطلقاً ولو في المفعول به الصريح، وهو رأي الكوفيين وأنشدوا: 2167 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وشفاءُ غَيِّك خابِراً أن تسألي

أي: أن تسألي خابراً، أو أنه متعلقٌ بمحذوف على البيان أي: أعني لكما كقولهم: سقياً لك ورَعياً، أو تعلَّق بمحذوف مدلول عليه بصلة أل أي: إني ناصحٌ لكما. ومثلُ هذه الآية الكريمة: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الشعراء: 168] {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20] : وجعل ابن مالك ذلك مطَّرداً في مسألة أل الموصولة إذا كانت مجرورة ب مِنْ. ونَصَح يتعدى لواحد تارةً بنفسه وتارة بحرف الجر، ومثله شكر، وقد تقدم، وكال ووزن. وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر أو التعدي بنفسه أو كلٌّ منهما أصل؟ الراجح الثالث. وزعم بعضُهم أن المفعول في هذه الأفعال محذوفٌ وأن المجرور باللام هو الثاني، فإذا قلت: نصحتُ لزيدٍ فالتقدير: نصحت لزيد الرأيَ. وكذلك شَكَر له صنيعه وكِلْتُ له طعامه ووَزَنْتُ له متاعه فهذا مذهب رابع. وقال الفراء: «العربُ لا تكاد تقول: نصحتك، إنما يقولون نصحتُ لك وأنصح لك» ، وقد يجوز نصحتك. قال النابغة: 2168 - نصحتُ بني عوفٍ فلم يتقبَّلوا ... رسولي ولم تنجحْ لديهم وسائلي وهذا يقوِّي أن اللام أصل. والنُّصْحُ: بَذْلُ الجهد في طلب الخير خاصة، وضده الغش. وأمَّا «نصحت لزيد ثوبه» فمتعدٍ لاثنين لأحدهما بنفسه، وللثاني بحرف الجر باتفاق، وكأن النصح الذي هو بذل الجهد في الخير مأخوذ مِنْ أحد معنيين: إمَّا

مِنْ نَصَح أي أخلص، ومنه: ناصح العسل أي خالصه، فمعنى نصحه أخلصَ له الوُدَّ، وإمَّا من نَصَحْتُ الجِلْد والثوب إذا أحكمتَ خياطتهما، ومنه الناصح للخيَّاط والنِّصاح للخيط، فمعنى نَصَحه أي: أحكم رأيه منه. ويقال: نَصَحه نُصوحاً ونَصاحة قال تعالى: {توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم: 8] بضم النون في قراءة أبي بكر، وقال الشاعر في «نَصاحة» : 2169 - أَحْبَبْتُ حُبَّاً خالَطَتْه نَصاحةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وذلك كذُهوب وذَهاب.

22

قوله تعالى: {فدلاهما بغرور} : الباء للحال أي: مصاحبين للغرور أو مصاحباً للغرور فهي حال: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول. ويجوز أن تكون الباءُ سببيةً أي: دَلاَّهما بسبب أن غرَّهما. والغُرور مصدر حُذف فاعله ومفعوله، والتقدير: بغُروره إياهما. وقوله: «فدلاَّهما» يحتمل أن يكون من التَدْلية من معنى دلا دَلْوَه في البئر والمعنى أطمعهما. قال أبو جندب الهذلي: 2170 - أَحُصُّ فلا أُجير ومَنْ أُجِرْه ... فليس كمَنْ تَدَلَّى بالغرورِ وأن تكون من الدالِّ والدالَّة وهي الجُرْأة أي: فجرَّأهما قال: 2171 - أظن الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قومي ... وقد يُسْتَجْهَلُ الرجلُ الحليم

وعلى الثاني يكون الأصل دَلَّلهما، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال فأبدل الثالثَ حرفَ لين، كقولهم: تظنَّيْتُ في تظنَّنْت وقَصَّيْت أظفاري في قَصَصْت وقال: 2172 - تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازي كسرْ ... والذَّوْق: وجود الطعم بالفم ويعبر به عن الأكل. وقيل: الذوق مَسُّ الشيء باللسان أو بالفم يقال فيه: ذاق يذوق ذَوْقاً مثل: صام يصوم صوماً، ونام ينام نوماً. قوله: {وَطَفِقَا} طَفِقَ من أفعالِ الشُّروع كأخذ وجعل وأنشأ وعَلِق وهَبَّ وانبرى، فهذه تدلُّ على التلبُّس بأول الفعل، وحكمُها حكمُ أفعالِ المقاربة من كونِ خبرها لا يكون إلا مضارعاً، ولا يجوزُ أن يقترنَ بأَنْ البتة لمنافاتها لها لأنها للشروع وهو حالٌ و «أَنْ» للاستقبال، وقد يقع الخبر جملةً اسمية كقوله: 3173 - وقد جَعَلَتْ قَلوصُ بني سهيلٍ ... من الأَكْوارِ مَرْتَعُها قريبُ وشرطية كإذا كقول عمر: «فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يَخْرج أَرْسَلَ رسولاً» ويقال: طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها، وطَبِق بالباء الموحدة أيضاً. والألف اسمها و «يخصفان» خبرها. والخَصْف الخَرْز في النِّعال، وهو وَضْعُ طريقة على أخرى وخَرْزُهما، والمِخْصَف: ما يُخْصَفُ به وهو الإِشْفى قال: 2174 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . .

أَنْفِها كالمِخْصَف والخَصَفَةُ أيضاً الجُلَّة للتمر، والخَصَفُ: الثياب الغليظة، وخَصَفْتُ الخَصْفة نَسَجْتُها، والأَخْصَف والخصيف طعام يبرق، وأصله أن يُوضع لبنٌ ونحوه في الخَصْفة فيتلوَّن بلونها، وقال العباس يمدح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 2175 -. . . . . . طِبْتَ في الظلال وفي ... مستودَعٍ حيث يُخْصَفُ الورقُ يشير إلى الجنة أي حيث يخرز ويطابق بعضها فوق بعض. قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} يجوز أن تكون هذه الجملةُ التقريرية مفسرةً للنداء ولا محلَّ لها، ويُحتمل أن يكون ثَمَّ قولٌ محذوف وهي معمولةٌ له أي: فقال: ألم أنْهَكما، وذلك القولُ مفسِّر للنداء أيضاً. وقال الشيخ: «الأَوْلى أن يعود الضمير في» عليهما «على عورتيهما كأنه قيل: يَخْصِفان على سَوْءاتيهما، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمعَ يُراد به اثنان، ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرَّر في علم العربية أنه لا يتعدَّى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى الضميرِ المتصلِ المنصوب لفظاً أو محلاً في غير باب ظن وفقد وعدم ووجد، لا يجوز: زيد ضربه ولا ضربه زيد، ولا زيد مرَّ به ولا مرَّ به زيد، فلو جَعَلْنا الضميرَ في» عليهما «عائداً على آدم وحواء لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي» يَخْصِفُ «إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في» يَخْصِفان «، فإنْ أُخِذَ ذلك على حَذْف مضاف مرادٍ جاز ذلك وتقديره:» يَخْصِفان على بَدَنَيْهما «، قلت: ومثلُ ذلك فيما ذكر {وهزى إِلَيْكِ} [مريم: 25] {واضمم

إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] وقول الشاعر: 2176 - هَوِّنْ عليك فإن الأمور ... بِكَفِّ الإِله مقاديرُها وقوله أيضاً: 2177 - دَعْ عنك نَهْباً صِيْح في حَجَراته ... ولكنْ حديثاً ما حديثُ الرواحلِ و {مِن وَرَقِ} يحتمل أن تكون «مِنْ» لابتداء الغاية وأن تكون للتبعيض. وقرأ أبو السَّمَّال «وطَفِقا» بفتح الفاء وهي لغة كما تقدم. وقرأ الزهري «يُخْصِفان» مِنْ أخصف وهي تحتمل وجهين أحدهما: أن يكون أَفْعَلَ بمعنى فَعَل. والثاني: أن تكون الهمزةُ للتعدية، والمفعولُ على هذا محذوفٌ أي: يَخْصِفان أنفسهما أي: يجعلان أنفسَهما خاصِفين. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب/ «يَخِصِّفان» بفتح الياء وكسر الخاء والصادُ مشددةٌ، والأصل: يختصفان، فأُدْغمت التاء في الصاد ثم أُتْبعت الخاءُ للصاد في حركتها، وسيأتي لهذه القراءة نظيرٌ في يونس ويس نحو {يهدي} [يونس: 6] و {يَخِصِّمُون} [يس: 49] إن شاء الله تعالى. وروى محبوب عن الحسن كذلك إلا أنه فتح الخاء فلم يُتْبِعْها للصاد، وهي قراءة يعقوب أيضاً وابن بريدة. وقرأ عبد الله «يُخُصِّفان» بضم الياء والخاء وكسر الصاد مشددة وهي مِنْ خصَّف بالتشديد، إلا أنه أتبع الخاء للياء قبلها في الحركة وهي قراءة عَسِرةُ النطق، ويدل على

أن أصلها مِنْ خَصَّف بالتشديد قراءةُ بعضهم «يُخَصِّفَان» كذلك إلا أنه بفتح الخاء على أصلها. قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} هذه الجملةُ في محل نصب بقول مقدر ذلك القولُ حالٌ تقديره: وناداهما قائلاً ذلك. ولم يُصَرِّحْ هنا باسم المنادي للعلم به. و «لكما» متعلق ب «عدو» لِما فيه من معنى الفعل. ويجوزُ أن تكونَ متعلقةً بمحذوف على أنها حال من «عدوّ» لأنها لو تأخّرت لجاز أن تكون وصفاً له.

23

قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ} : هذا شرطٌ حُذِفَ جوابه لدلالة جواب القسم المقدر عليه، فإنَّ قَبْلَ حرف الشرط لامَ التوطئة للقسم مقدرةً كقوله: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73] ويدلُّ على ذلك كثرةُ ورودِ لامِ التوطئة قبل أداة الشرط في كلامهم. وما بعد ذلك قد تقدَّم إعرابُه في البقرة.

25

قوله تعالى: {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} : قرأ الأَخَوان وابن ذكوان «تَخْرُجون» هنا، وفي الجاثية: {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ} [الجاثية: 35] وفي الزخرف: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11] وفي أول الروم: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ} [الروم: 19] قرؤوا الجميعَ مبنياً للفاعلَ، والباقون قرؤوه مبنياً للمفعول، وفي أول الروم خلافٌ عن ابن ذكوان. وتحرَّزْتُ بأول الروم من قوله: {إِذَآ أَنتُمْ

تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] فإنه قُرئ مبنياً للفاعل من غير خلاف، ولم يذكر بعضهم موافقةَ ابنِ ذكوان للأخَوَيْن في الجاثية. والقراءتان واضحتان. و [في] قوله: {قَالاَ رَبَّنَا} [الروم: 23] : فائدةُ حَذْفِ حرف النداء هنا تعظيم المنادى وتنزيهه. قال مكي: «ونداء الربِّ قد كَثُر حَذْفُ» يا «منه في القرآن، وعلةُ ذلك أن في حذف» يا «من نداء الرب معنى التعظيم والتنزيه، وذلك أنَّ النداءَ فيه طَرَفٌ من معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت: يا زيد فمعناه: تعالَ يا زيد، أدعوك يا زيد، فحُذِفت» يا «من نداء الرب ليزولَ معنى الأمر وينقص لأنَّ» يا «تُؤَكِّده وتُظهر معناه فكان في حذف» يا «الإِجلالُ والتعظيم والتنزيه» .

26

قوله تعالى: {يُوَارِي} : في محلِّ نصبٍ صفةً للباساً. وقوله «وريشاً» يُحْتمل أن يكونَ من باب عطف الصفات، والمعنى: أنه وصف اللباس بشيئين: مواراةِ السَّوْءة والزينة، وعبَّر عنها بالريش، لأنَّ الريش زينةٌ للطائر، كما أن اللباس زينة للآدميين ولذلك قال الزمخشري: «والريش لباسُ الزينة» ، استعير مِنْ ريش الطير لأنه لباسُه وزينتُه «. ويُحْتَمل أن يكون من باب عطف الشيء على غيره أي: أَنْزَلْنا عليكم لباسَيْن لباساً موصوفاً بالمواراة ولباساً موصوفاً بالزينة، وهذا اختيار الزمخشري فإنه قال بعدما حَكَيْتُه عنه آنفاً:» أي: أنزلنا عليكم لباسَيْن لباساً يواري سَوْءاتكم ولباساً يُزَيِّنُكم، لأن الزينةَ غرضٌ صحيح كما قال تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] {وَلَكُمْ

فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: 6] وعلى هذا فالكلام في قوة حذف موصوف وإقامة صفته مُقامه والتقدير: ولباساً ريشاً أي: ذا ريش «. والرِّيْشُ فيه قولان، أحدهما: أنه اسم لهذا الشيءِ المعروف. والثاني: أنه مصدرٌ يُقال» راشَه يَريشه رِيْشاً إذا جعل فيه الرِّيش، فينبغي أن يكون الريشُ مشتركاً بين المصدر والعين وهذا هو التحقيق. وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسُّلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش، وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما: «ورِياشاً» ، وفيها تأويلان أحدهما وبه قال الزمخشري أنه جمع رِيْش فيكون كشِعْب وشِعاب. والثاني: أنه مصدرٌ أيضاً فيكون ريش ورياش مصدَريْن ل راشه الله رَيشاً ورياشاً أي: أنعم عليه. وقال الزجاج: «اللباس، فعلى هذا هما اسمان للشيء الملبوس قالوا: لِبْس ولِباس» . قلت: وقد جَوَّز الفراء أن يكون مصدراً فأخذ الزمخشري بأحد القولين، وغيرُه بالآخر، وأنشدوا: 2178 - ورِيْشي منكمُ وهَوايَ مَعْكمْ ... وإن كانت زيارتُكم لِماما قوله: {وَلِبَاسُ التقوى} قرأ نافع وابن عامر والكسائي «لباسَ» بالنصب والباقون «لباسُ» بالرفع. فالنصب نسقاً على «لباساً» أي: أنزلنا لباساً موارياً وزينة، وأنزلنا أيضاً لباس التقوى، وهذا يُقَوِّي كون «ريشاً» صفةً ثانية للباساً

الأول إذ لو أراد أنه صفة لباسٍ ثانٍ لأبرز موصوفه كما أبرز هذا اللباسَ المضاف للتقوى. وأمَّا الرفعُ فمِنْ خمسة أوجه، أحدها: أن يكون «لباس» مبتدأ، و «ذلك» مبتدأ ثان و «خير» خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، والرابطُ هنا اسمُ الإِشارةِ وهو أحدُ الروابط الخمسة المتفق عليها، ولنا سادسٌ فيه خلافٌ تقدَّم التنبيه عليه. وهذا الوجهُ هو أَوْجَهُ الأعاريب في هذه الآية الكريمة. الثاني: أن يكون «لباس» خبرَ مبتدأ محذوف أي: وهو لباس التقوى، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، وكأن المعنى/ بهذه الجملة التفسيرُ للّباس المتقدم، وعلى هذا فيكون قوله «ذلك» جملةً أخرى من مبتدأ وخبر. وقَدَّره مكي بأحسنَ مِنْ تقدير الزجاج فقال: «وسَتْر العورة لباس التقوى» . الثالث: أن يكون «ذلك» فَصْلاً بين المبتدأ وخبره، وهذا قول الحوفي ولا أعلم أحداً من النحاة أجاز ذلك، إلا أن الواحديَّ قال: «ومَنْ قال إن» ذلك «لغوٌ لم يَلْقَ على قوله دلالة؛ لأنه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا» . قلت: فقوله «لغو» هو قريب من القول بالفصل؛ لأنَّ الفصلَ لا محلَّ له من الإِعراب على قول جمهور النحويين من البصريين والكوفيين. الرابع: أن يكون «لباس» مبتدأً و «ذلك» بدلٌ منه أو عطفُ بيان له أو نعت و «خير» خبره، وهو معنى قول الزجاج وأبي علي وأبي بكر ابن الأنباري، إلا أنَّ

الحوفي قال: «وأنا أرى أن لا يكون» ذلك «نعتاً للباس التقوى؛ لأن الأسماءَ المبهمة أعرف ممَّا فيه الألفُ واللام وما أضيف إلى الألف واللام، وسبيل النعت أن يكون مساوياً للمنعوت أو أقلَّ منه تعريفاً، فإن كان قد تقدَّمَ قولُ أحدٍ به فهو سهوٌ» . قلت: أمَّا القول به فقد قيل كما ذَكَرْتُه عن الزجاج والفارسي وابن الأنباري، ونصَّ عليه أبو علي في «الحجة» أيضاً وذكره الواحدي. وقال ابن عطية: «هو أنبل الأقوال» ، وذكر مكي الاحتمالات الثلاثة: أعني كونه بدلاً أو بياناً أو نعتاً، ولكن ما بحثه الحوفي صحيح من حيث الصناعةُ، ومن حيث إن الصحيح في ترتيب المعارف ما ذَكَر من كونِ الإِشارات أعرفَ من ذي الأداة، ولكن قد يقال: القائلُ بكونه نعتاً لا يجعله أعرفَ مِنْ ذي الألف واللام. الخامس: جوَّز أبو البقاء أن يكون «لباسُ» مبتدأً، وخبره محذوف أي: ولباسُ التقوى ساتر عوراتكم «وهذا تقديرٌ لا حاجةَ إليه. وإسنادُ الإِنزال إلى اللباس: إمَّا لأن أنزل بمعنى خلق كقوله: {وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25] {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] وإمَّا على ما يسمِّيه أهلُ العلم التدريجَ وذلك أنه ينزل أسبابه، وهي الماء الذي هو سببٌ في نبات القطن والكتَّان والمرعى الذي تأكله البهائم ذواتُ الصوفِ والشعر والوبر التي يُتَّخَذُ منها الملابسُ، ونحو قولِ الشاعر يصف مطراً:

2179 - أقبل في المُسْتَنِّ من سَحابَهْ ... أسنِمة الآبال في ربابَهْ فجعله جائياً لأسنمة. . . الإِبل مجازاً لمَّا كان سبباً في تربيتها، وقريب منه قول الآخر: 2180 - إذا نَزَلَ السَّماءُ بأرض قومٍ ... رَعَيْناه وإن كانوا غضابا وقال الزمخشري:» جَعَلَ ما في الأرض منزَّلاً من السماء لأنه قضى ثَمَّ وكتب، ومنه «وأنزل لكم من الأنعامِ ثمانيةَ» . وقال ابن عطية: «وأيضاً فَخَلْقُ الله وأفعالُه إنما هي من علوٍّ في القَدْر والمنزلة» . وفي قراءة عبد الله وأُبَيّ «ولباس التقوى خير» بإسقاط «ذلك» ، وهي مقوِّيةٌ للقول بالفصل والبدل وعطف البيان. وقرأ النحوي: «ولبُوسُ» بالواو ورفع السين. فأمَّا الرفعُ فعلى ما تقدَّم في «لباس» ، وأمَّا «لبوس» فلم يُبَيِّنوها: هل هي بفتح اللام فيكون مثلَ قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبياء: 80] أو بضم اللام على أنه جمعٌ وهو مُشْكل، وأكثر ما يُتَخَيَّل له أن يكون جمع لِبْس بكسر اللام بمعنى ملبوس. وقوله: «ذلك مِنْ آيات الله» مبتدأٌ وخبر، والإِشارة به إلى جميع ما تقدَّم من إنزال اللباسِ والريش ولباس التقوى. وقيل: بل هو إشارة لأقرب مذكور وهو لباسُ التقوى فقط.

27

قوله تعالى: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ} : هو نهيٌ للشيطان في الصورة، والمراد نَهْيُ المخاطبين عن متابعته والإِصغاءِ إليه، وقد تقدم معنى ذلك في قوله {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2] . وقرأ ابن وثاب وإبراهيم: «لا يُفْتِنَنَّكم» بضمِّ حرفِ المضارعة مِنْ أفتنه بمعنى حَمَلَه على الفتنة. وقرأ زيد بن علي «لا يَفْتِنْكم» بغير نون توكيد. قوله: {كَمَآ أَخْرَجَ} نعتٌ لمصدرٍ محذوف أي: لا يَفْتنكم فتنةً مثلَ فتنة إخراج أبوَيْكم. ويجوز أن يكون التقدير: لا يُخْرِجَنَّكم بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم. وقوله: «يَنْزِع» جملة في محل نصب على الحال. وفي صاحبها احتمالان، أحدهما: أنه الضمير في «أخرج» العائدُ على الشيطان، والثاني: أنه الأبوين، وجاز الوجهان لأنَّ المعنى يَصِحُّ على كلٍ من التقديرين، والصناعةُ مساعدةٌ لذلك؛ فإن الجملة مشتملة على ضمير الأبوين وعلى ضمير الشيطان. قال الشيخ: «فلو كان بدل» ينزع «نازعاً تعيَّن الأولُ، لأنه إذ ذاك لو جُوِّز الثاني لكان وصفاً جرى على غير مَنْ هو له فكان يجب إبراز الضمير، وذلك على مذهب البصريين» . قلت: يعني أنه يفرَّق/ بين الاسم والفعل إذا جريا على غير ما هما له في المعنى: فإن كان اسماً كان مذهبُ البصريين ما ذكر، وإن كان فعلاً لم يَحْتَجْ إلى ذلك. وقد تقدَّم لك الكلامُ على هذه المسألة، وأن الشيخ جمال الدين بن مالك سَوَّى بينهما، وأن مكيَّاً له فيها كلام مُشْكل. و {يَنْزِعُ} جيء بلفظ المضارع على أنه حكاية حال كأنها قد وقَعَتْ

وانقضَتْ. والنَّزْعُ: الجَذْبُ بقوة للشيء عن مقرِّه، ومنه {تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] ومنه نَزْع القوس، وتستعمل في الأَعْراض، ومنه نَزْعُ العداوة والمحبة من القلب، ونُزِع فلانٌ كذا سُلِبَه، ومنه {والنازعات غَرْقاً} [النازعات: 1] لأنها تَقْلع أرواح الكفرة بشدة، ومنه المنازعةُ وهي المخاصمة، والنَّزْع عن الشيء كفٌّ عنه، والنزوع: الاشتياق الشديد، ومنه نَزَع إلى وطنه ونَزَع إلى مذهب كذا نَزْعَةً، وأنزع القومُ: نَزَعَتْ إبلهم إلى مواطنها، ورجل أَنْزَعُ أي زال شعرُه، والنَّزْعتان بياض يكتنف الناصية، والنَّزْعة أيضاً الموضع مِنْ رأس الأنزع، ولا يقال امرأة نَزْعاء إذا كان بها ذلك، بل يقال لها: زَعْراء، وبئر نَزُوع أي قريبة القَعْر لأنها يُنزع منها باليد. قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} : «هو» تأكيد للضمير المتصل ليسوغَ العطفُ عليه، كذا عبارة بعضهم. قال الواحدي: «أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35] قلت: ولا حاجةَ إلى التأكيد في مثل هذه الصورةِ لصحة العطف، إذ الفاصلُ هنا موجودٌ وهو كافٍ في صحة العطف، فليس نظيرَ {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} . وقد تقدَّم لك بحثٌ في {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} وهو أنه ليسَ من باب العطف على الضمير لمانعٍ ذُكر ثَمَّةَ. و {وَقَبِيلُهُ} المشهورُ قراءته بالرفع نسقاً على الضمير المستتر، ويجوز أن يكونَ نسقاً على اسم «إنَّ» على الموضع عند مَنْ يجيز ذلك، ولا سيما عند مَنْ يقول: يجوز ذلك بعد الخبر بإجماع. ويجوز أن يكون مبتدأً محذوفَ الخبر فتحصَّل في رفعه ثلاثة أوجه. وقرأ اليزيدي «وقبيلَه» نصباً وفيها تخريجان،

أحدهما: أنه منصوب نسقاً على اسم إنَّ لفظاً إنْ قلنا إنَّ الضميرَ عائد على الشيطان، وهو الظاهر. والثاني: أنه مفعولٌ معه أي: يراكم مصاحباً لقبيله. والضمير في «إنه» فيه وجهان الظاهرُ منهما كما تقدَّم أنه للشيطان. والثاني: أن يكون ضمير الشأن، وبه قال الزمخشري، ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك. والقبيل: الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعداً من جماعة شتى، هذا قول أبي عبيد. والقبيلةُ: الجماعةُ من أب واحد، فليست القبيلةُ تأنيثَ القبيل لهذه المغايرة. قوله: {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} «مِنْ» لابتداء غاية الرؤية، و «حيث» ظرفُ لمكان انتفاء الرؤية، و «لا تَرَوْنهم» في محل خفض بإضافة الظرف إليه، هذا هو الظاهر في إعراب هذه الآية. وثَمَّ كلامٌ مُشْكل منقول عن أبي إسحاق، رأيت ذِكْرَه لئلا يَتَوَهَّم صحتَه مَنْ رآه. قال أبو إسحاق: «ما بعد» حيث «صلةٌ لها وليست بمضافةٍ إليه» . قال الفارسي: «هذا غيرُ مستقيم، ولا يَصِحُّ أن يكون ما بعد» حيث «صلةً لها؛ لأنه إذا كان صلة لها وَجَبَ أن يكونَ للموصول فيه ذكرٌ، كما أن في سائر صلات الموصول ذِكْراً للموصول، فخلُّو الجملة التي بعد» حيث «من ضميرٍ يعود على» حيث «دليلٌ على أنها ليست صلة لحيث، وإذا لم تكن صلةً كانت مضافة. فإن قيل: نقدِّر العائد في هذا كما نقدِّر العائدَ في الموصولات، فإذا قلت:» رأيتك حيث زيد قائم «كان التقدير: حيث قائمه، ولو قلت: رأيتك حيث قام زيد» كان التقدير: حيث قام زيد فيه، ثم اتُّسِع في الحرف فَحُذِف فاتصل الضمير فحذف، كما يُحْذف في قولك: «زيد الذي

ضربت» أي: الذي ضربته. قيل: لو أريد ذلك لجاز استعمالُ هذا الأصل، فَتَرْكُهم لهذا الاستعمالِ دليلٌ على أنه ليس أصلاً له «. قلت: أبو إسحاق لم يَعْتقد كونَها موصولةً بمعنى الذي، لا يقول بذلك أحد، وإنما يزعم أنها ليست مضافةً للجملة بعدها فصارت كالصلة لها أي كالزيادة، وهو كلامٌ متهافت، فالردُّ عليه من هذه الحيثيَّةِ لا من حيثية اعتقادِه لكونها موصولةً. ويُحتمل أن يكون مرادُه أن الجملة لَمَّا كانت من تمام معناها بمعنى أنها مفتقرةٌ إليها كافتقار الموصول لصلته أُطْلق عليها هذه العبارة، ويَدُلُّ على ما قلته أنَّ مكياً ذكر في علة بنائها فقال:» ولأنَّ ما بعدها مِنْ تمامها كالصلة والموصول «إلا أنه يَرضى أنها مضافةٌ لما بعدها. وقرئ {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُ} بالإِفراد، وذلك يحتمل وجهين أحدهما: يكون الضميرُ عائداً على الشيطان وحده دون قبيله، لأنه هو رأسُهم وهم تَبَعٌ له ولأنه المَنْهيُّ [عنه] أول الكلام، وأن يكون عائداً عليه وعلى قبيله، ووحَّد الضميرَ إجراءً له مُجرى اسم الإِشارة في قوله تعالى {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . ونظير هذه القراءة/ قول رؤبة: 2181 - فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ ... كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ وقد تقدم هذا البيتُ بحكايته معه في البقرة. قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا} يحتمل أن يكون بمعنى صَيَّر أي: صَيَّرْنا الشياطينَ

أولياءَ. وقال الزهراوي: «جعل هنا بمعنى وصف» وهذا لا يُعْرَفُ في «جعل» ، وكأنه فرارٌ من إسناد جَعْل الشياطين أولياء لغير المؤمنين إلى الله تعالى وكأنها نزعةٌ اعتزالية. و «للذين» متعلق بأولياء لأنه في معنى الفعل، ويجوز أن يتعلق بمحذوف لأنه صفةٌ لأولياء.

28

قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ} : هذه الجملةُ الشرطية لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها استئنافية وهو الظاهر، وجوَّز ابنُ عطية أن تكونَ داخلةً في حَيِّز الصلة لعطفها عليها. قال ابن عطية: «ليقع التوبيخُ بصفةِ قومٍ قد جعلوا أمثالاً للمؤمنين إذ أشبه فعلُهم فِعْلَ الممثَّل بهم» وقوله: «وَجَدْنا» يُحْتمل أن تكون العِلْمِيَّة أي: عَلِمْنا طريقتهم أنها هذه، ويحتمل أن تكونَ بمعنى لَقِيْنا، فيكون «عليها» مفعولاً ثانياً على الأول، وحالاً على الثاني. وقوله {لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} حُذِف المفعولُ الأول للعلم به أي: لا يأمر أحداً، أو لا يأمركم بأمر. . . ذلك. وقوله: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} مفعولٌ به، وهذا مفرد في قوة الجملة، لأنَّ ما لا يعلمون ممَّا يتقوَّلونه على الله تعالى كلامٌ كثير من قولهم {والله أَمَرَنَا بِهَا} كتبحير البحائر وتسييب السوائب وطوافهم بالبيتِ عُراةً إلى غير ذلك، وكذلك أيضاً حُذِف المفعول من قوله {أَمَرَ رَبِّي بالقسط} .

29

قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه معطوفٌ على الأمر المقدر أي: الذي ينحلُّ إليه المصدر وهو «بالقسط» ، وذلك

أن القِسْط مصدرٌ فهو ينحلُّ لحرفٍ مصدري وفعل، فالتقدير: قل: أمر ربي بأن أقسِطوا وأقيموا، وكما أن المصدر ينحلُّ ل «أَنْ» والفعل الماضي نحو: «عجبت من قيامِ زيد وخرج» أي: من أن قام وخرج، ول «أَنْ» والفعل المضارع كقولها: 2182 - لَلُبْس عباءة وتَقَرَّ عيني ... . . . . . . . . . . . . أي: لأَنْ ألبس وتَقَرَّ، كذلك ينحلُّ ل «أَنْ» وفعل أمر لأنها بالثلاث الصيغ: الماضي والمضارع والأمر بشرط التصرُّف. وقد تقدَّم لنا تحقيقُ هذه المسألةِ وإشكالِها وجوابِه، وهذا بخلاف «ما» فإنها لا تُوصل بالأمر، وبخلاف «كي» فإنها لا تُوْصَلُ إلا بالمضارع، فلذلك لا ينحلُّ المصدر إلى «ما» وفعل أمر، ولا إلى كي وفعلٍ ماضٍ أو مضارع. وقال الزمخشري: «وأقيموا وجوهكم: وقل أقيموا وجوهكم أي: اقصدوا عبادته» . وهذا من أبي القاسم يحتمل تأويلين، أحدهما: أن يكونَ قولُه «قل» أراد به أنه مقدَّرٌ غيرُ هذا الملفوظ به، فيكون «أقيموا» معمولاً لقولٍ أمرٍ مقدرٍ، وأن يكون معطوفاً على قوله «أَمَر ربي» فإنه معمول ل «قل» . وإنما أظهر الزمخشري «قل» مع «أقيموا» لتحقيق عطفيَّته على «أَمَر ربي» . ويجوز أن يكونَ قولُه «وأقيموا» معطوفاً على أمرٍ محذوفٍ تقديرُه: قل أَقْبِلوا وأقيموا. وقال الجرجاني صاحب «النظم» : «نَسَق الأمرَ على الجر، وجاز ذلك

لأنَّ قوله {قُلْ أَمَرَ رَبِّي} قول؛ لأنَّ الأمر لا يكون إلا كلاماً والكلام قول، وكأنه قال: قل يقول ربي:» أقسطوا وأقيموا «يعني أنه عطف على المعنى. و {مَسْجِدٍ} هنا يحتمل أن يكون مكاناً وزماناً. قال الزمخشري:» في وقت كل سجود وفي مكان كل سجود «وكان مِنْ حَقِّ مسجدِ مَسْجَد بفتح العين لضمها في المضارع، وله في هذا الشذوذ أخواتٌ كثيرةٌ مذكورةٌ في التصريف. وقوله: {مُخْلِصِينَ} حال من فاعل» ادعُوه «، و» الدّين «مفعول به باسم الفاعل. و» له «متعلِّقٌ بمخلصين، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من» الدين «. قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ} الكافُ في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوف تقديره: تَعُودون عَوْداً مثلَ ما بدأكم. وقيل: تقديره يَخْرجون خروجاً مثل ما بدأكم ذكرهما مكي، والأول أليقُ بلفظِ الآيةِ الكريمة. وقال ابن الأنباري:» موضعُ الكاف في «كما» نصبٌ بتعودون؛ وهو على مذهبِ العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي: تعودون كما ابتدأ خلقكم «. قال الفارسي «كما بدأكم تعودون» ليس على ظاهره إذ ظاهرُه: تعودون كالبَدْء، وليس المعنى تشبيهَهم بالبَدَاء، إنما المعنى على إعادةِ الخَلْق كما ابتُدِئ، فتقديرُ كما بدأكم تعودون: كما بدأ خَلْقَكم أي: يُحْيي خَلْقَكم عَوْداً كبدئه، وكما أنه لم يَعْنِ بالبَدْء ظاهرَه من غير حذفِ المضافِ إليه كذلك لم يَعْنِ

بالعَوْد من غير حذف المضافِ الذي هو الخَلْق فلمَّا حَذَفَه قام المضافُ إليه مَقَامَ الفاعِل فصار الفاعلون مخاطَبِين، كما أنه لَمَّا حَذَفَ المضافَ من قوله «كما بدأ خلقكم صار المخاطبون مفعولين في اللفظ» قلت: يعني أن الأصل كما بدأ خَلْقُكُمْ يعود خَلْقُكم فحذف الخَلْقَ في الموضعين، فصار المخاطبون في الأول مفعولِين بعد أن كانوا مجرورين بالإِضافة، وفي الثاني صاروا فاعلين بعد أن كانوا مجرورين بالإِضافة أيضاً. و «بدأ» بالهمز أنشأ واخترع، ويُسْتعمل بهذا المعنى ثلاثياً ورباعياً على أَفْعل، فالثلاثيُّ كهذه الآيةِ، وقد جمع بين الاستعمالين في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق} [العنكبوت: 19] فهذا مِنْ أبدأ، ثم قال: {كَيْفَ بَدَأَ الخلق} [العنكبوت: 20] هذا فيما يتعدَّى بنفسه. وأمَّا ما يتعدى بالباء نحو: بدأت بكذا بمعنى قَدَّمْته وجَعَلْته أولَ الأشياء يُقال منه: بدأت به وابتدأت به. وحكى الراغب أيضاً أنه يقال مِنْ هذا: أَبْدَأْت به على أَفْعَل وهو غريب، وقولهم «أَبْدَأْتُ من أرض كذا» أي ابتدأت منها بالخروج. والبَدْءُ: السيِّدُ، سُمِّيَ بذلك قيل: لأنه يُبْدأ به في العدِّ إذا عُدَّ السادات، وذكروا عليه قوله: 2183 - فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً ولمَّا ... فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ أي: جئت قبور قومي سَيِّداً ولمَّا أكن سيداً، لكنْ بموتهم صُيِّرْتُ سيِّداً/ وهذا يَنْظُرُ لقول الآخر: 2184 - خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ ... ومن العَناء تفرُّدي بالسُّؤْدُدِ

و «ما» مصدرية أي: كبَدْئكم.

30

قوله تعالى: {فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} : في نصب «فريقاً» وجهان أحدُهما: أنه منصوب بهدى بعده، وفريقاً الثاني منصوب بإضمار فعلٍ يفسِّره قولُه {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} من حيث المعنى، والتقدير: وأضلَّ فريقاً حَقَّ عليهم، وقَدَّره الزمخشري: «وخَذَل فريقاً» لغرضٍ له في ذلك. والجملتان الفعليتان في محل نصب على الحال من فاعل «بدأكم» أي: بَدَأكم حالَ كونه هادياً فريقاً ومُضِلاً آخر، و «قد» مضمرةٌ عند بعضهم. ويجوز على هذا الوجهِ أيضاً أن تكون الجملتان الفعليتان مستأنفتَيْن، فالوقفُ على «يعودون» على هذا الإِعرابِ تامٌّ بخلاف ما إذا جَعَلهما حالَيْن، فالوقفُ على «يعودون» على هذا الإِعرابِ تامٌّ بخلاف ما إذا جَعَلهما حالَيْن، فالوقفُ على قوله «الضلالة» . الوجه الثاني: أن ينتصبَ «فريقاً» على الحال من فاعل «تَعُودون» أي: تعودون: فريقاً مَهْدِيَّاً وفريقاً حاقَّاً عليه الضلالة، وتكون الجملتان الفعليتان على هذا في محل نصب على النعت لفريقاً وفريقاً، ولا بد حينئذ من حَذْفِ عائد على الموصوف من هَدَى أي: فريقاً هداهم، ولو قَدَّرْته «هداه» بلفظ الإِفراد لجاز، اعتبار بلفظ «فريق» ، إلا أن الأحسنَ الأول لمناسبة قوله: {وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ} ، والوقف حينئذ على قوله «الضلالة» ، ويؤيد إعرابَه حالاً قراءةُ أُبَيّ بن كعب: «تعودون فريقَيْن: فريقاً هدى وفريقاً حقَّ عليهم الضلالة» ففريقَيْن نصب على الحال، وفريقاً وفريقاً بدل أو منصوب بإضمار

أعني على القطع، ويجوز أن ينتصبَ فريقاً الأول على الحال من فاعل تعودون، وفريقاً الثاني نصب بإضمار فعلٍ يفسِّره «حقَّ عليهم الضلالة» كما تقدم تحقيقه في كل منهما. وهذه الأوجهُ كلُّها ذكرها ابن الأنباري فإنه قال كلاماً حسناً، قال رحمه الله: «انتصب فريقاً وفريقاً على الحال من الضمير الذي في تعودون، يريد: تعودون كما ابتدأ خَلْقُكم مختلفين، بعضكم أشقياء وبعضكم سُعَداء، فاتصل» فريق «وهو نكرةٌ بالضمير الذي في» تعودون «وهو معرفة فقُطِع عن لفظه، وعُطِف الثاني عليه» . قال: «ويجوز أن يكونَ الأول منصوباً على الحال من الضمير، والثاني منصوب بحقَّ عليهم الضلالة، لأنه بمعنى أضلَّهم كما يقول القائل:» عبد الله أكرمته وزيداً أحسنت إليه «فينتصب زيداً بأحسنت إليه بمعنى نَفَعْته، وأنشد: 2185 - أثعلبةَ الفوارسِ أم رِياحا ... عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا نصب ثعلبة ب» عَدَلْتَ بهم طهية «لأنه بمعنى أَهَنْتَهم أي: عَدَلْت بهم مَنْ هو دونَهم، وأنشد أيضاً قوله: 2186 - يا ليت ضيفَكمُ الزبيرَ وجارَكم ... إيايَ لبَّس حبلَه بحبالي فنصب «إياي» بقوله: «لَبَّس حبله بحبالي، إذ كان معناه» خالطني وقصدني «قلت: يريد بذلك أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر من معنى الثاني لا من لفظه، هذا وجهُ التنظير. وإلى كون» فريقاً «منصوباً ب» هدى «و» فريقاً «منصوباً ب» حَقَّ «ذهب الفراء، وجَعَلَه نظيرَ قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ

فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31] . وقوله: {إِنَّهُمُ اتخذوا} جارٍ مَجْرى التعليل وإن كان استئنافاً لفظاً، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عيسى بن عمر والعباس بن الفضل وسهل بن شعيب» أنهم «بفتح الهمزة وهي نصٌّ في العِلِّيَّة أي: حَقَّتْ عليهم الضلالة لاتِّخاذهم الشياطينَ أولياءَ، ولم يُسْند الإِضلال إلى ذاته المقدسة وإن كان هو الفاعلَ لها تحسيناً للفظ وتعليماً لعباده الأدبَ، وعليه: {وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ} [النحل: 9] .

32

وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ} : استفهامٌ معناه التوبيخُ والإِنكار، وإذا كان للإِنكارِ فلا جوابَ له إذ لا يُراد به استعلامٌ، ولذلك نُسِب مكي إلى الوهم في زعمه أن قوله: قل هي للذين آمنوا إلى آخره جوابه. وقوله {مِنَ الرزق} حالٌ من «الطيبات» . قوله «خالصة» قرأها نافع رفعاً، والباقون نصباً. فالرفع من وجهين أحدهما: أن تكون مرفوعةً على خبر المبتدأ وهو «هي» ، و «للذين آمنوا» متعلِّقٌ ب «خالصة» ، وكذلك يوم القيامة، وقال مكي: «ويكون قوله للذين تبييناً» . قلت: فعلى هذا تتعلق بمحذوف كقولهم: سَقْياً لك وجَدْعاً له. و «في الحياة الدنيا» متعلِّقٌ بآمنوا، والمعنى: قل الطيبات/ خالصة للمؤمنين في الدنيا يوم القيامة أي: تَخْلُص يومَ القيامة لِمَنْ آمن في الدنيا، وإن كانت مشتركاً فيها بينهم وبين الكفار في الدنيا،

وهو معنى حسن. وقيل: المراد بخلوصها لهم يوم القيامة أنهم لا يُعاقبون عليها، وإلى تفسير هذا نحا سعيد بن جبير. الثاني: أن يكون خبراً بعد خبر، والخبر الأول قوله «للذين آمنوا» ، و «في الحياة الدنيا» على هذا متعلِّقٌ بما تعلق به الجارُّ من الاستقرار المقدر، ويوم القيامة معمولٌ لخالصة كما مَرَّ في الوجه قبله، والتقدير: قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدنيا، وهي خالصة لهم يوم القيامة، وإن كانوا في الدنيا يُشاركهم الكفار فيها. ولَمَّا ذكر الشيخ هذا الوجه لم يُعَلِّقْ «في الحياة» إلا بالاستقرار، ولو عَلَّق بآمنوا كما تقدَّم في الوجهِ قبله لكان حسناً وكون «خالصة» خبراً ثانياً هو مذهبُ الزجاج، واستحسنه الفارسي ثم قال: «ويجوز عندي» ، فذكر الوجه الأول كما قررته ولكن بأخصر عبارة. والنصبُ من وجهٍ واحد وهو الحال، و «للذين آمنوا» خبر «هي» فيتعلق بالاستقرار المقدر، وسيأتي أنه يتعلَّق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم. و {فِي الحياة الدنيا} على ما تقدَّم مِنْ تعلُّقِه بآمنوا أو بالاستقرار المتعلِّق به «للذين» . و «يوم القيامة» متعلِّقٌ أيضاً بخالصة، والتقدير: قل الطيباتُ كائنةٌ أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حالَ كونهم مقدَّراً خلوصُها لهم يوم القيامة. وسَمَّى الفراء نصبَها على القطع فقال: «خالصةً نصبٌ على القطع» ، وجعلَ خبر «هي» في اللام التي في قوله «للذين» . قلت: يعني بالقطع الحال.

وجوَّز أبو علي أن يتعلق {فِي الحياة الدنيا} بمحذوف على أنه حال، والعامل فيها ما يعمل في «للذين آمنوا» . وجَوَّزَ الفارسي وتبعه مكي أن يتعلق «في الحياة» بحرَّم، والتقدير: مَنْ حرَّم زينةَ الله في الحياة الدنيا؟ وجوَّز أيضاً أن يتعلق بالطيبات، وجوَّز الفارسيُّ وحدَه أن يتعلق بالرزق. ومنع مكي ذلك قال: «لأنك قد فَرَّقْتَ بينهما بقوله: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} يعني أن الرزقَ مصدر فالمتعلَّق به مِنْ تمامه كما هو من تمام الموصول، وقد فصلْتَ بينه وبين معموله بجملة أجنبية، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتَرَض به على الأخفش. وجوَّز الأخفش أن يتعلق» في الحياة «بأخرج أي: أخرجها في الحياة الدنيا. وهذا قد ردَّه عليه الناسُ، فإنه يلزم منه الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو قولُه {وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} وقولُه {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} ، وذلك أنه لا يُعْطَفُ على الموصول إلا بعد تمام صلته، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمام صلته، لأنَّ» التي أَخْرَجَ «صفة لزينة، و» الطيبات «عطف على» زينة «. وقوله:» قل هي للذين «جملة أخرى قد فَصَلَت على هذا التقدير بشيئين. قال الفارسي كالمجيب عن الأخفش:» ويجوز ذلك وإن فُصِل بين الصلة والموصول بقوله: {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} لأنَّ ذلك كلامٌ يَشدُّ الصلة

وليس بأجنبي منها حَدَّاً كما جاء ذلك في قوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس: 27] ، فقوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} معطوفٌ على «كَسَبُوا» داخلٌ في الصلة «. قلت: هذا وإن أفاد في ما ذكر فلا يفيد في الاعتراضِ الأولِ، وهو العطفُ على موصوفِ الموصول قبل تمام صلته إذ هو أجنبيٌّ منه، وأيضاً فلا نُسَلِّم أن هذه الآية نظيرُ آيةِ يونس فإن الظاهرَ في آية يونس أنه ليس فيها فصلٌ بين أبعاضِ الصلة. قوله: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} معترض، و» ترهقهم «عطف على» كَسَبوا «قلنا ممنوع، بل {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} هو خبر الموصول فيُعْترض بعدم الرابط بين المبتدأ والخبر، فيُجاب بأنه محذوفٌ، وهو مِنْ أحسنِ الحذوفِ لأنه مجرور ب مِنْ التبعيضية، وقد نصَّ النحاة على أن ما كان كذلك كَثُر حَذْفُه وحَسُنَ، والتقدير: والذين كسَبُوا السيئاتِ جزاءُ سيئة منهم بمثلها، فجزاءُ سيئةٍ مبتدأ و» منهم «صفتُها، و» بمثلها «خبره، والجملةُ خبرُ الموصولِ وهو نظيرُ قولِهم:» السَّمْن مَنَوان بدرهم «أي: منوان منه، وسيأتي لهذه/ الآية مزيد بيان. ومنع مكي أن يتعلق {فِي الحياة الدنيا} بزينة قال:» لأنها قد نُعِتت والمصدر واسم الفاعل متى نُعِتا لا يعملان لبُعْدهما عن شبه الفعل «قال:» ولأنه يُفَرَّق بين الصلة والموصول؛ لأنَّ نعت الموصول ليس من صلته «. قلت: لأن «زينة» مصدر فهي في قوة حرفٍ موصولٍ وصلته، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبع الموصولُ إلا بعد تمام صلته. فقد تحصَّل في تعلُّق «للذين آمنوا» ثلاثةُ أوجه: إمَّا أَنْ يتعلَّق بخالصة، أو بمحذوفٍ على أنها خبرٌ، أو بمحذوفٍ على أنها للبيان. وفي تعلُّق {فِي الحياة الدنيا} سبعةُ أوجهٍ أحدها: أن يتعلَّق بآمنوا.

الثاني: أن يتعلق بمحذوفٍ على أنها حال. الثالث: أن يتعلَّق بما تعلَّق به للذين آمنوا. الرابع: أن يتعلق بحرَّم. الخامس: أن يتعلق بأخرج. السادس: أن يتعلق بقوله: «الطيبات» . السابع أن يتعلَّق بالرزق. ويوم القيامة له متعلق واحد وهو خالصة، والمعنى: أنها وإن اشتركت فيها الطائفتان دنيا فهي خالصةٌ للمؤمنين فقط أخرى. فإن قيل: إذا كان الأمر على ما زعَمْتَ مِنْ معنى الشِّركة بينهم في الدنيا فكيف جاء قوله: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} وهذا مُؤْذِنٌ ظاهراً بعدم الشِّرْكة؟ قلت: قد أجابوا عن ذلك من أوجه: أحدُها: أن في الكلام حذفاً تقديره: قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة، قاله أبو القاسم الكرماني، وكأنه دلَّ على المحذوف قولُه بعد ذلك {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} إذ لو كانت خالصةً لهم في الدارَيْن لم يَخُصَّ بها إحداهما. والثاني: أن «للذين آمنوا» ليس متعلقاً بكونٍ مطلقٍ بل بكون مقيدٍ، يدلُّ عليه المعنى، والتقدير: قل هي غيرُ خالصةٍ للذين آمنوا، لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة لهم يوم القيامة، قاله الزمخشري، ودلَّ على هذا الكون المقيَّد مقابلُه وهو قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} . الثالث: ما ذكره الزمخشري، وسبقه إليه التبريزي قال: «فإن قلت: هَلاَّ قِيل [هي] للذين آمنوا ولغيرهم؟ قلت: التنبيهُ على أنها خُلِقَتْ للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأنَّ الكفرةَ تبعٌ لهم كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} [البقرة: 126] . وقال التبريزي:» ولم يَذْكر الشركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً أنه إنما خَلَقها للذين آمنوا بطريق الأصالة، والكفار تَبَعٌ لهم، ولذلك خاطب المؤمنين بقوله: {هُوَ الذي

خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} [البقرة: 29] ، وهذا الثالثُ في الحقيقة ليس جواباً ثالثاً إنما هو مبين لحُسْن حذف المعطوف وعدمِ ذِكْره مع المعطوف عليه.

33

قوله تعالى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} : تقدَّم في آخر السورة قبلها. وقوله: «والإِثم» الظاهرُ أنها الذنب. وقيل: هو الخمر هنا، قاله الفضل وأنشد: 2187 - نهانا رسولُ الله أَنْ نقرَب الزِّنى ... وأن نشرب الإِثمَ الذي يُوجب الوِزْرا وأنشد الأصمعي: 2188 - ورُحْتُ حزيناً ذاهلَ العقل بعدهمْ ... كأني شربتُ الإِثمَ أو مَسَّني خَبَلُ قال: وقد تُسَمَّى الخمرُ إثماً، وأنشد: 2189 - شَرِبْتُ الإِثمَ حتى ضَلَّ عقلي ... كذاك الإِثمُ يَذْهب بالعقولِ ويُروى عن ابن عباس والحسن البصري أنهما قالا: «الإِثم: الخمر» . قال الحسن: «وتصديق ذلك قولُه: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] والذي قاله الحذَّاقُ: إن الإِثم ليس من أسماء الخمر. قال ابن الأنباري:» الإثم لا يكون اسماً للخمر؛ لأن العرب لم تُسَمِّ الخمر إثماً في جاهلية ولا إسلام، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك، لأن الخمر سبب الإِثم بل هي معظمه فإنها مؤجِّجةٌ للفتن، وكيف يكون ذلك وكانت الخمرُ حين نزول هذه السورة

حلالاً؛ لأن هذه السورةَ مكية، وتحريمُ الخمر إنما كان في المدينة بعد أُحُدٍ، وقد شربها جماعةٌ من الصحابة يوم أحد فماتوا شهداء وهي في أجوافهم. وأمَّا ما أنشده الأصمعي من قوله «شَرِبت الإِثم» فقد نَصُّوا أنه مصنوعٌ، وأما غيره فالله أعلم «. و {بِغَيْرِ الحق} حالٌ، وهي مؤكدة لأن البغي لا يكون إلا بغير حق و» أَنْ تُشْرِكوا «منصوبُ المحلِّ نسقاً على مفعول» حَرَّمَ «أي: وحَرَّم إشراكَكَم عليكم، ومفعولُ الإِشراك {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} وقد تقدَّم بيانُه في الأنعام. و {أَن تقولوا} أيضاً نسقٌ على ما قبله أي: وحرَّم قولكم عليه مِنْ غير علمٍ. وقال الزمخشري:» ما لم يُنّزِّل به سلطاناً: تهكُّمٌ بهم لأنه/ لا يجوزُ أن يُنْزِلَ برهاناً أَنْ يُشْرَكَ به غيرُه «.

34

قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} : خبر مقدم، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما زعم بعضُهم أن التقديرَ: ولكلِّ أحدٍ من أمةٍ أَجَلٌ أي عُمْرٌ، كأنه توهَّم أن كل أحد له عمرٌ مستقلٌّ، وأن هذا مراد الآية الكريمة، ومراد الآية أعمُّ من ذلك. وقوله {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} قال بعضهم: «كل موضع في القرآن من شِبْهِ هذا التركيب فإنَّ الفاءَ داخلةٌ على» إذا «إلا في يونس أما في يونس فيأتي حكمُها، وأمَّا سائر المواضع فقال:» لأنها عَطَفَتْ جملةً على أخرى بينهما اتصالٌ وتعقيب، فكان الموضعُ موضعَ الفاء «. وقرأ الحسن وابن سيرين» آجالهم «جمعاً.

قوله: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} : جوابُ» إذا «، والمضارعُ المنفيُّ ب» لا «إذا وقع جواباً ل» إذا «في الظاهر جاز أن يُتَلقَّى بالفاء وأن لا يُتَلَقَّى بها. قال الشيخ:» وينبغي أن يُعْتَقَدَ أنَّ بين الفاء والفعل بعدها اسماً مبتدأ فتصير الجملةُ اسميةً، ومتى كانت كذلك وَجَبَ أن تَتَلَقَّى بالفاء أو إذا الفجائية «. و» ساعة «نصبٌ على الظرف وهي مَثَلٌ في قلة الزمان. قوله: {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} هذا مستأنفٌ، معناه الإِخبار بأنهم لا يَسْبقون أَجَلَهم المضروبَ لهم بل لا بد من استيفائهم إياه، كما أنهم لا يتأخرون عنه أقلَّ زمان. وقال الحوفي وغيرُه:» إنه معطوفٌ على «لا يستأخرون» وهذا لا يجوزُ، لأن «إذا» إنما يترتَّب عليها وعلى ما بعدها الأمورُ المستقبلة لا الماضية، والاستقدامُ بالنسبة إلى مجيء الأجل متقدم عليه فكيف يترتب عليه؟ ويصير هذا من باب الإِخبار بالضروريات التي لا يَجْهل أحدٌ معناها، فيصير نظير قولك: «إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فيما مضى» ومعلوم أن قيامَك في المستقبل لم يتقدَّمْ قيامك هذا. وقال الواحدي: «إن قيل: ما معنى هذا مع استحالة التقديم على الأجل وقتَ حضوره؟ وكيف يَحْسُن التقديمُ مع هذا الأجل؟ قيل: هذا على المقاربة لأنَّ العربَ تقول:» جاء الشيء «إذا قَرُب وقتُه، ومع مقاربة الأجل يُتَصور الاستقدامُ، وإن كان لا يتصور مع الانقضاء، والمعنى: لا يستأخرون عن آجالهم إذا انقضَتْ ولا يَسْتقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء» . قلت: هذا بناءً منه على أنه معطوفٌ على «لا يستأخرون» وهو ظاهرُ أقوال المفسرين.

35

وقوله تعالى: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} : قد تقدَّم نظيره في البقرة. و «منكم» صفةٌ لرسل، وكذلك «يَقُصُّون» وقُدِّم الجارُّ على الجملة لأنه أقربُ

إلى المفردِ منها. وقوله «فَمَنْ» يُحتمل أن تكون «مَنْ» شرطيةً، وأن تكونَ موصولةً. فإن كان الأولَ كانت هي وجوابُها جواباً للشرطِ الأول، وهي مستقلةٌ بالجواب دون الجملة التي بعد جوابها، وهي «والذين كَذَّبوا» ، وإن كان الثاني كانت هي وجوابُها والجملة المشار إليها كلاهما جواباً للشرط، كأنه قَسَّم جوابَ قوله: «إمَّا يأتينَّكم» إلى مُتَّقٍ ومُكَذِّب وجزاء كل منهما. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة. وحَذَفَ مفعولَيْ «اتَّقى وأصلحَ» اختصاراً للعِلْم بهما أي: اتَّقى ربَّه وأصلح عمله، أو اقتصاراً أي: فَمَنْ كان من أهل التقوى والصلاح، من غير نظرٍ إلى مفعول كقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} [النجم: 48] ولكن لا بد من تقديرِ رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين الجملةِ الشرطية، والتقدير: فَمَنْ اتَّقى منكم والذين كَذَّبوا منكم. وقرأ أُبَيُّ والأعرجُ «تأتينَّكم» بتاء مثناة من فوق، نظراً إلى معنى جماعة الرسل، فيكونُ قوله تعالى: «يَقُصُّون» بالياء من تحت حَمْلاً على المعنى؛ إذ لو حُمل على اللفظ لقال: «تَقُصُّ» بالتأنيث أيضاً.

37

وقوله تعالى: {مِّنَ الكتاب} : في محلِّ الحال من «نصيبهم» أي: حال كونه مستقراً من الكتاب و «مِنْ» لابتداء الغاية. قوله: {حتى إِذَا} : «حتى» هنا غايةٌ، و «إذا» وما في حَيِّزها تقدَّم لك الكلامُ عليها غيرَ مرة: هل هي جارَّةٌ أو حرفُ ابتداء؟ وتقدَّم عبارةُ الزمخشري فيها. واختلفوا فيها إذا كانت حرفَ ابتداء أيضاً: هل هي حينئذ جارّةٌَ وتتعلَّق بما قبلها تعلُّقَ حروفِ الجر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والجملة

بعدها في محل جر، أو ليست بجارَّةٍ بل هي حرفُ ابتداء فقط، غيرُ جارة وإن كان معناها الغاية كقوله: 3190 - سَرَيْتُ بهمْ حتى تَكِلَّ مطيُّهم ... وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرسانِ وقول الآخر: 2191 - فما زالت القتلى تَمُجُّ دماءَها ... بدجلةَ حتى ماءُ دجلةَ أَشْكلُ خلاف. الأولُ قولُ ابن درستويه، والثاني قول الجمهور. وقال صاحب «التحرير» : «حتى هنا ليست للغاية بل هي ابتداء وخبره» وهذا وهمٌ إذ الغايةُ معنى لا يفارقها، وقوله: «بل هي ابتداءٌ وخبرٌ» تسامحٌ في العبارة، يريد: بل الجملةُ بعدها. ثم الجملة التي بعدها في هذا المكان ليست ابتداءً وخبراً بل هي جملةٌ فعلية/ وهي: «قالوا» ، و «إذا» معمولةٌ لها. وممن ذهب إلى أنها ليست هنا للغاية الواحديُّ فإنه حكى في معنى الآية أقوالاً ثم قال: «فعلى هذا القولِ معنى:» حتى «للانتهاء والغاية، وعلى القَوْلين الأوَّلين ليست» حتى «في هذه الآيةِ للغاية بل هي التي يقعُ بعدها الجملُ وينصرف الكلام بعدها إلى الابتداء ك» أمَّا «و» إذا «. ولا تَعَلُّق لقوله» حتى إذا «بما قبله بل هذا ابتداءُ خبرٍ، أخبر عنهم، كقوله: 2192 - فيا عجبا حتى كليبٌ تَسُبُّني ... كأنَّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشعُ قلت: وهذا غير مَرْضيٍّ منه لمخالفته الجمهور. وقوله:» لا تعلُّق لها بما قبلها «ممنوعٌ على جميع الأقوال التي ذكرها، ولولا خوفُ الإِطالة لأورَدْت

ما تَوَهَّمَ كونَه مانعاً مِمَّا ذكر، ولذكرْتُ الانفصال عنه، والظاهر أنها إنما تتعلَّقُ بقوله {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم} . وقوله: {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال. وكُتِبت» أينما «متصلةً وحقُّها الانفصالُ، لأنَّ» ما «موصولةٌ لا صلةٌ، إذ التقدير: أين الذين تدعونهم؟ ولذلك كُتِبَ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} [الأنعام: 134] منفصلاً و {إِنَّمَا الله} [النساء: 171] متصلاً. وقولهم:» ضلُّوا «جواب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، وذلك أن السؤالَ إنما وقع عن مكان الذين كانوا يَدْعونهم من دون الله، فلو جاء الجوابُ على نسق السؤال لقيل: هم في المكان الفلاني، وإنما المعنى: ما فَعَل معبودُكم ومَنْ كنتم تدعونهم؟ فأجابوا بأنهم ضاعوا عنهم وغابوا. قوله: {وَشَهِدُواْ} يُحتمل أن يكونَ نَسَقاً على «قالوا» الذي وقع جواباً لسؤال الرسل فيكون داخلاً في الجواب أيضاً. ويحتمل أن يكون مستأنفاً مقتطعاً عَمَّا قبله ليس داخلاً في حيز الجواب. كذا قال الشيخ وفيه نظر؛ من حيث إنه جَعَل هذه الجملة جواباً لعطفها على قالوا، وقالوا في الحقيقة ليس هو الجواب، إنما الجواب هو مقول هذا القول وهو «ضلُّوا عنا» ف «ضَلُّوا عنا» هو الجوابُ الحقيقي الذي يُسْتفاد منه الكلام. ونظيره أن يقول: سَأَلْتُ زيداً ما فعل؟ فقال: أطعمتُ وكسوتُ، فنفس أطعمتُ وكسوتُ هو الجوابُ. وإذا تقرَّر هذا فكان ينبغي أن يقول «فيكون» معطوفاً على «ضلوا عنا» ، ثم لو قال كذلك لكان مُشْكلاً من جهة أخرى: وهو أنه كان يكون التركيبُ الكلامي: «ضلُّوا عنا وشهدنا على أنفسنا أنَّا كنَّا» ، إلا أَنْ يُقال: حكى الجواب الثاني على المعنى، فهو محتملٌ على بُعْدٍ بعيد.

38

قوله تعالى: {في أُمَمٍ} : يجوز أن يتعلَّق قولُه «في أمم» وقوله: «في النار» كلاهما بادخلوا فيجيء الاعتراضُ المشهور: وهو كيف يتعلَّق حرفا جر متحدا اللفظ والمعنى بعاملٍ واحد؟ فيُجاب بأحد وجهين: إمَّا أنَّ «في» الأولى ليست للظرفية بل للمعيَّة، كأنه قيل: ادخلوا مع أممٍ أي: مصاحبين لهم في الدخول، وقد تأتي «في» بمعنى مع كقوله تعالى: {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة} [الأحقاف: 16] . وقول الشاعر: 2193 - شموسٌ وَدُوْدٌ في حياءٍ وعفةٍ ... رخيمةُ رَجْع الصوتِ طيبةُ النَّشْر وإمَّا بأنَّ «في النار» بدلٌ من قوله «في أمم» وهو بدلُ اشتمال كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الأخدود، النار} [البروج: 4] فإن «النارِ» بدلٌ من «الأخدود» ، كذلك «في النار» بدلٌ من «أممٍ» بإعادة العامل بدل اشتمال، وتكونُ الظرفيةُ في «في» الأولى مجازاً؛ لأن الأمم ليسوا ظروفاً لهم حقيقة، وإنما المعنى: ادخلوا في جملةِ أممٍ وغمارِهم. ويجوز أن تتعلق «في أمم» بمحذوفٍ على أنه حال أي: كائنين في جملة أمم. و «في النار» متعلق بخَلَتْ أي: تسبقكم في النار. ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لأمم فتكون «أمم» قد وُصِفَتْ بثلاثة أوصاف، الأول: الجملةُ الفعليةُ وهي قولُه «قد خَلَتْ» ، والثاني: الجار والمجرور وهو قوله {مِّن الجن والإنس} ، والثالث: قولُه «في النار» ، والتقدير: في أمم خاليةٍ من قبلكم كائنةٍ من الجن والإِنس ومستقرةٍ في النار. ويجوز أن تتعلَّق «في النار» بمحذوفٍ أيضاً لا على الوجه المذكور، بل على كونِه حالاً مِنْ «أمم» ، وجاز ذلك وإن كانَتْ نكرة لتخصُّصها بالوَصْفَيْن

المشارِ إليهما. ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في «خَلَتْ» إذ هو ضميرُ الأمم. وقُدِّمَتْ/ الجنُّ على الإِنس لأنهم الأصلُ في الإِغواء. وقوله «حتى» هذه غاية لما قبلها، والمعنى: أنهم يدخلون فوجاً فوجاً لاعناً بعضُهم لبعض إلى انتهاء تداركهم فيها. والجمهور قرؤوا «إذا ادَّاركوا» بوصل الألف وتشديد الدال، والأصلُ: تداركوا، فلما أريد إدغامُه فُعِل به ما فُعِل بادَّارَأْتم. وقد تقدَّم تحقيقُ تصريفه في البقرة. قال مكي: «ولا يُسْتطاع اللفظُ بوزنها مع ألف الوصل؛ لأنَّك تَرُدُّ الزائد أصلياً فتقول: افَّاعلوا، فتصير تاء تفاعَل فاءَ الفعل لإِدغامها في فاء الفعل، وذلك لا يجوز فإنْ وَزَنْتَها على الأصل فقلت: تَفَاعلوا جاز» . قلت: هذا الذي ذَكَر مِنْ كونه لا يمكن وزنُه إلا بالأصل وهو تفاعلوا ممنوع. قوله: «لأنك تَرُدُّ الزائدَ أصلياً» قلنا: لا يلزم ذلك لأنَّا نَزِنُه بلفظِه مع همزةِ الوصل ونأتي بتاء التفاعل بلفظها فنقول: وزنُ ادَّاركوا اتْفاعَلوا فيُلْفَظُ بالتاءِ اعتباراً بأصلها لا بما صارت إليه حالَ الإِدغام. وهذه المسألةُ نَصُّوا على نظيرها وهو أن تاءَ الافتعال إذا أُبْدلت إلى حرف مجانس لما قبلها. . . تُبْدَلُ طاءً أو دالاً في نحو: اصطبر واضطرب وازدجر وادَّكر، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا: يُلْفَظُ في الوزن بأصل تاء الافتعال، ولا يُلْفَظُ بما صارَتْ إليه من طاء أو دال، فتقول: وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدَجَر افتعل لا افدعل، فكذلك تقول هنا: وزن ادَّاركوا اتْفاعلوا لا افَّاعلوا، فلا فرقَ بين تاء الافتعال والتفاعل في ذلك.

وقرأ ابن مسعود والأعمش، ورُوِيت عن أبي عمرو: تداركوا وهي أصلُ قراءة العامة. وقرأ أبو عمرو: «إذا ادَّاركوا» بقطع همزة الوصل. قال ابن جني: «هذا مُشْكِلٌ، ومثلُ ذلك لا يفعله ارتجالاً، وكأنه وَقَفَ وِقْفة مستنكرٍ ثم ابتدأ فقطع» . قلت: وهذا الذي يُعْتقد من أبي عمرو، وإلا فكيف يَقْرأ بما لا يَثْبت إلا في ضرورة الشعر في الأسماء؟ كذا قال ابن جني، يعني أَنَّ قَطْع ألف الوصل في الضرورة إنما جاء في الأسماء. وقرأ حميد «أُدْرِكوا» بضم همزة القطع، وسكون الدال وكسر الراء، مثل «أُخْرِجوا» جعله مبنياً للمفعول بمعنى: أُدْخِلوا في دَرَكاتها أو أدراكها، ونُقِل عن مجاهد بن جبر قراءتان: فَرَوى عنه مكي «ادَّارَكوا» بوصل الألف وفتح الدال مشددة وفتح الراء، وأصلُها «ادْتَرَكوا» على افتعلوا مبنياً للفاعل ثم أدغم كما أدغم ادَّان من الدَّيْن. وروى عنه غيره «أَدْرَكوا» بتفح الهمزة مقطوعةً وسكونِ الدال وفتح الراء أي أدرك بعضهم بعضاً. وقال أبو البقاء: «وقرئ: إذا ادَّاركوا» بألفٍ واحدة ساكنة بعدها دالٌ مشددة وهو جمعٌ بين ساكنين، وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل، وقد قال بعضهم «اثنا عْشر» بإثبات الألف وسكون العين «، قلت: يعني بالمتصل نحو: الضالِّين وجانّ، ومعنى المنفصل أن ألف» إذا «من كلمة، والساكن الثاني من كلمة أخرى. وادَّاركوا بمعنى تلاحقوا. وتقدَّم تفسيرُ هذه المادة. و {جَمِيعاً} حالٌ من فاعل» ادَّاركوا «. وأُخْراهم وأُولاهم: يحتمل أن تكونَ

فُعْلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة، والمعنى على هذا كما قال الزمخشري:» أُخْراهم منزلةً، وهم الأتباع والسَّفَلة، لأُولاهم منزلةً وهم السَّادة والرؤساء «، ويحتمل أن تكون» أخرى «بمعنى آخِرة تأنيث آخِر مقابل لأوَّل، لا تأنيث» آخَر «الذي للمفاضلة كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] . والفرقُ بين أخرى بمعنى آخِرة وبين أخرى تأنيث آخَر بزنة أفعل للتفضيل أنَّ التي للتفضيل لا تدلُّ على الانتهاء كما لا يَدُلُّ عليه مذكَّرها، ولذلك يُعْطف أمثالُها عليها في نوعٍ واحد تقول: مررت بامرأةٍ وأخرى وأخرى، كما تقول: برجل وآخر وآخر، وهذه تدلُّ على الانتهاء كما يدلُّ عليه مذكَّرها ولذلك لا يُعْطَفُ أمثالُها عليها، ولأنَّ الأولى تفيد إفادة» غير «، وهذه لا تفيد إفادةَ» غير «. والظاهرُ في هذه الآيةِ الكريمة أنهما ليستا للتفضيل بل لِما ذكرت لك/. وقوله: {لأُولاَهُمْ} اللامُ للتعليل أي لأجل، ولا يجوز أن تكون التي للتبليغ كهي في قولك: قلت لزيدٍ افعل. قال الزمخشري: «لأنَّ خطابَهم مع الله لا معهم» وقد بَسَط القولَ قبله في ذلك الزجاج فقال: «والمعنى: وقالت أخراهم: يا ربَّنا هؤلاء أضلونا، لأولاهم» فَذَكَرَ نحوه. قلت: وعلى هذا فاللامُ الثانيةُ في قوله «أُولاهم لأخراهم» يجوز أن تكون للتبليغ، لأنَّ خطابَهم معهم بدليل قوله: «فما كان لكم علينا مِنْ فضلٍ، فذوقوا بما كنتم تَكْسِبون» . وقوله «ضِعْفاً» قال أبو عبيدة: «الضِّعْفُ: مثلُ الشيء مرةً واحدة» قال

الأزهري: «وما قاله أبو عبيدة هو ما يَسْتعمله الناس في مجاز كلامهم، وقد قال الشافعي قريباً منه فقال في رجل أوصى:» أَعْطوه ضِعْف ما يُصيب ولدي «قال:» يُعطَى مثله مرتين «. قال الأزهري:» الوصايا يُستعمل فيها العُرْف وما يتفاهمه الناس، وأما كتاب الله فهو عربي مبين، ويُرَدُّ تفسيرُه إلى لغة العرب وموضوعِ كلامِها الذي هو صنعةُ ألسنتها. والضِّعْف في كلام العرب المِثْل إلى ما زاد، ولا يُقتصر به على مِثْلين بل تقول: هذا ضِعْفه أي مِثْلاه وثلاثةُ أمثاله، لأنَّ الضِّعْفَ في الأصل زيادةٌ غيرُ محصورة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف} [سبأ: 37] لم يُرِدْ به مِثْلاً ولا مِثْلين، وأَوْلى الأشياء به أن يُجْعل عشرةَ أمثالِه كقوله تعالى: «مَنْ جاء بالحسنةِ فله عشرُ أمثالِها» فأقلُّ الضعف محصورٌ وهو المِثْل وأكثرُه غير محصور «. ومثلُ هذه المقالةِ قال الزجاج أيضاً فإنه قال:» أي عذاباً مضاعفاً لأن الضِّعْفَ في كلام العرب على ضربين أحدهما: المثل، والآخر: أن يكون في معنى تضعيف الشيء «أي زاد به إلى ما لا يَتناهَى. وقد تقدم طرفٌ من هذا في البقرة. و» ضِعْفاً «صفة ل» عذاباً «. و» من النار «يجوز أن يكون صفة ل» عذاباً «وأن يكون صفةً ل» ضِعْفاً «، ويجوز أن يكونَ ضعفاً بدلاً من» عذاباً «. وقوله» لكلٍّ «أي: لكل فريق من الأخرى والأولى. وقوله:» ولكن لا تعلمون، قراءةُ العامة بتاء الخطاب: إمَّا خطاباً للسائلين، وإمَّا خطاباً لأهل

الدنيا أي: ولكن لا تعلمون ما أعدَّ من العذاب لكل فريق. وقرأ أبو بكر عن عاصم بالغيبة، وهي تحتمل أن يكون الضميرُ عائداً على الطائفة السائلة تضعيفَ العذاب أو على الطائفتين أي: لا يعلمون قَدْر ما أَعَدَّ لهم من العذاب.

39

قوله تعالى: {فَمَا} : هذه الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ المنفية على قول الله تعالى للسَّفلة: «لكلٍ ضعف» فقد ثَبَتَ أن لا فضلَ لكم علينا، وأنَّا متساوون في استحقاق الضعف فذوقوا. قال الشيخ بعد أن حكى بعضَ كلامِ الزمخشري: «والذي يظهر أن المعنى: انتفاء كون فضلٍ عليهم من السَّفَلة في الدنيا بسبب اتِّباعهم إياهم وموافقتِهم لهم في الكفر أي: اتِّباعُكم إيانا وعدمُ اتِّباعكم سواءٌ، لأنكم كنتم في الدنيا عندنا أقلَّ من أن يكون لكم علينا فضلٌ باتباعكم بل كفرتم اختياراً، لا أنَّا حَمَلْناكم على الكفر إجباراً، وأن قوله» فما كان «جملةٌ معطوفة على جملة محذوفة بعد القول دَلَّ عليها ما سَبَقَ من الكلام، والتقدير: قالت أولاهم لأخراهم: ما دعاؤكم الله أنَّا أَضْللناكم وسؤالكم ما سألتم، فما كان لكم علينا من فضلٍ بضلالكم، وأنَّ قوله:» فذوقوا «من كلام الأولى خطاباً للأخرى على سبيل التشفِّي، وأنَّ ذوق العذاب هو بسبب ما كَسَبْتُمْ لا بأنَّا أضللناكم. وقيل: فذوقوا من خطاب الله لهم» . و «بما» الباء سببية، و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائد محذوف أي: تكسبونه.

40

وقرأ أبو عمرو: {لا تُفْتَح} : بضم التاء من فوق والتخفيف. والأخوان بالياء من تحت والتخفيف، والباقون: بالتأنيث والتشديد. فالتأنيث والتذكير باعتبار الجمع والجماعة، والتخفيفُ والتضعيفُ باعتبار التكثير وعدمِه، والتضعيفُ هنا أوضح لكثرة المتعلق. وهو في هذه القراءاتِ مبنيٌّ للمفعول. وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم «تَفَتَّح» بفتح التاء مِنْ فوق والتضعيف، والأصل: / لا تتفتَّح بتاءَيْن فحُذِفت إحداهما، وقد تقدَّم في «تذكَّرون» ونحوه، ف «أبواب» على قراءة أبي حَيْوة فاعلٌ، وعلى ما تقدم مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه. وقرئ: «لا تَفْتَحُ» بالتاء ونصب «الأبواب» على أن الفعل للآيات، وبالياء على أن الفعل لله، ذكره الزمخشري. وقوله {فِي سَمِّ الخياط} متعلقٌ ب «يَلِجُ» . وسَمُّ الخياط ثقب الإِبرة وهو الخُرْتُ، وسينُه مثلثةٌ، وكل ثقبٍ ضيقٍ فهو سَمّ. وقيل: كل ثقب في البدن، وقيل: كل ثقب في أنفٍ أو أذن فهو سَمٌّ، وجمعه سُموم، قال الفرزدق: 2194 - فَنَفَّسْتُ عن سَمَّيْهِ حتى تَنَفَّسَا ... وقلت له لا تخش شيئاً ورائيا والسُّمُّ: القاتل سُمِّي بذلك لِلُطْفه وتأثيره في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، وهو في الأصل مصدرٌ ثم أريد به معنى الفاعل لدخولِه باطنَ البدن، وقد سَمَّه إذا أدخله فيه، ومنه «السَّامَّة» للخاصَّة الذين يدخلون في بواطن

الأمور ومَسَامِّها، ولذلك يقال لهم الدُّخْلُلُ. والسَّموم: الريح الحارة لأنها تؤثر تأثيرَ السُّمِّ القاتل. والخِياط والمِخْيَط الآلة التي يُخاط بها فِعال ومِفَْل كإزار ومِئْزَر ولِحاف ومِلْحَف وقِناع ومِقْنع. ولا يقال للبعير جَمَل إلا إذا بَزَل. وقيل: لا يُقال له ذلك إلا إذا بلغ أربع سنين، وأول ما يخرج ولد الناقة ولم تُعرف ذكوريتُه أو أنوثتُه يقال له: سَلِيْل، فإن كان ذكراً فهو سَقْبٌ، والأنثى حائل، ثم هو حُوار إلى الفِطام وبعده فصيل إلى سنة، وفي الثانية ابنُ مَخاض وبنت مخاض، وفي الثالثة ابن لَبون وبنت لَبون، وفي الرابعة حِقٌّ وحِقَّة، وفي الخامسة جَذَع وجَذَعة، وفي السادسة ثَنِيٌّ وثَنِيَّة، وفي السابعة رَباع ورَباعِية مخففة، وفي الثامنة سَديس لهما، وقيل: سَديسة للأنثى، وفي التاسعة بازل وبازلة، وفي العاشرة مُخْلِفٌ ومُخْلِفة، وليس بعد البُزُول والإِخلاف سِنٌّ بل يقال: بازل عام أو عامين ومُخْلِفُ عام أو عامَيْن حتى يَهْرَم فيقال له فَوْد. والوُلوج: الدخول بشدة ولذلك يقال: هو الدخول في مضيق فهو أخصُّ من الدخول. والوَليجة: كلُّ ما يعتمده الإِنسان، والوليجة: الداخلُ في قومٍ ليس منهم. والجَمَل قراءة العامة وهو تشبيه في غاية الحسن، وذلك أن الجملَ أعظمُ حيوانٍ عند العرب وأكبره جثةً حتى قال: 2195 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... جسمُ الجِمالِ وأحلام العصافير

[وقوله] : 2196 - لقد كَبُر البعيرُ بغير لُبٍّ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وسُمُّ الإِبرة في غاية الضيق، فلما كان المَثَلُ يُضْرَب بعِظَم هذا وكبره، وبضيق ذاك حتى قيل: أضيقُ من خُرْتِ الإِبرة، ومنه الخِرِّيْتُ وهو البصير بمضايق الطرق قيل: لا يَدْخلون الجنة حتى يتقحَّمَ أعظمُ الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيقِ الأشياءِ وأصغرِها، فكأنه قيل: لا يَدْخلون حتى يُوجدَ هذا المستحيلُ، ومثلُه في المعنى قولُ الآخر: 2197 - إذا شاب الغراب أتَيْتُ أهلي ... وصارَ القارُ كاللينِ الحليب وقرأ ابن عباس في رواية ابن حَوْشب ومجاهد وابن يعمر وأبو مجلز والشعبي ومالك بن الشخير وابن محيصن وأبو رجاء وأبو رزين وأبان عن عاصم: «الجُمَّل» بضم الجيم وفتح الميم مشددة وهو القَلْسُ. والقَلْسُ: حبلٌ غليظ يُجمع من حبال كثيرة فَيُفْتَل وهو حبلُ السفينة وقيل: الحبل الذي يُصْعَد به [إلى] النخل، ويروى عن ابن عباس أنه قال: «إن الله أحسنُ تشبيهاً من أن يُشَبِّه بالجمل» كأنه رأى إن صحَّ عنه أن المناسب لسُمّ الإِبرة شيء يناسب الخيط المسلوك فيها. وقال الكسائي: «الراوي ذلك عن ابن عباس أعجمي فشدّد الميم» . وضَعَّف ابن عطية قول الكسائي بكثرة رواتها عن

ابن عباس قراءةً. قلت: وكذلك هي قراءة مشهورة بين الناس. وروى مجاهد عن ابن عباس ضمَّ الجيم وفتح الميم خفيفةً، وهي قراءة ابن جبير وقتادة وسالم الأفطس. وقرأ ابن عباس أيضاً في رواية عطاء: الجُمُل بضم الجيم والميم مخففة، وبها قرأ الضحَّاك والحجدري. وقرأ عكرمة وابن جبير بضم الجيم وسكون الميم. والمتوكل وأبو الجوزاء بالفتح والسكون، وكلها لغات في القَلْس المذكور. وسئل ابن مسعود عن الجمل في الآية، فقال: زوج الناقة، كأنه فهم ما أراد السائل فاستغباه. وقرأ عبد الله وقتادة وأبو رزين وطلجة: «سُمّ» بضم السين. وأبو عمران الحوفي وأبو نهيك والأصمعي عن نافع: سِمّ بالكسر. وقد تقدَّم أنها لغات. وقرأ عبد الله وأبو رزين وأبو مجلز: المِخْيَط بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء. وطلحة بفتح الميم. وهذه مخالفة للسواد. قوله: {وكذلك} أي: ومثل ذلك الجزاء نجزي المجرمين، فالكافُ نعتٌ لمصدر محذوف.

41

وقوله تعالى: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} : والجملةُ محتملة للحالية والاستئناف، ويجوز حينئذ/ في «مهاد» أن تكون فاعلاً ب «لهم» فتكون الحال من قبيل المفردات، وأن تكون مبتدأ فتكون من قبيل الجمل. و «من

جهنم» حال من «مِهاد» لأنه لو تأخر عنه لكان صفةً، أو متعلِّقٌ بما تعلَّق الجارُّ قبله. وغَواشٍ: جمع غاشية. وللنحاة في الجمع الذي على مفاعل إذا كان منقوصاً بقياسٍ خلافٌ: هل هو منصرف أو غير منصرف؟ فبعضهم قال: هو منصرفٌ لأنه قد زال [منه] صيغة منتهى الجموع فصار وزنُه وزن جَناح وقَذَال فانصرف. وقال الجمهور: هو ممنوع من الصرف، والتنوينُ تنوينُ عوض. واختُلِفَ في المُعَوَّض عنه ماذا؟ فالجمهور على أنه عوضٌ من الياء المحذوفة. وذهب المبرد إلى أنه عوضٌ من حركتها. والكسرُ ليس كسرَ إعراب، وهكذا جَوارٍ ومَوالٍ. وبعضهم يجرُّه بالفتحة قال: 2198 - ولو كان عبدُ الله مولىً هجوتُه ... ولكنَّ عبدَ اللهِ مَوْلَى مَواليا وقال آخر: 2199 - قد عَجِبَتْ مني ومن يُعَيْلِيا ... لَمَّا رَأَتْني خَلَقاً مُقْلَوْلِيا وهذا الحكمُ ليس خاصاً بصيغة مَفاعل، بل كل غير منصرف إذا كان منقوصاً فحكمه حكم ما تقدم نحو: يُعَيْلٍ تصغير يَعْلى، ويَرْمٍ اسم رجل، وعليه قولُه: «ومن يُعَيْلِيا» ، وبعضُ العرب يُعْرب «غواشٍ» ونحوه بالحركات على الحرف الذي قبل الياء المحذوفة فيقول: هؤلاء جوارٌ، وقرئ {وَمن

فوقهم غواشٌ} برفع الشين وهي كقراءة عبد الله {وله الجوارُ} [الرحمن: 24] برفع الراء. وقد حرَّرْتُ هذه المسألةَ وما فيها من المذاهبِ واللغات في موضوعٍ غير هذا. قوله: {وكذلك} تقدَّم مثله. وقوله {الظالمين} يحتمل أن يكون من باب وقوع الظاهرِ موقع المضمر. والمراد بالظالمين المجرمون، ويحتمل أن يكونوا غيرَهم وأنهم يُجْزَون كجزائهم.

42

قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ} : مبتدأ وفي خبره وجهان، أحدهما: أنها الجملةُ من قولِه {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً} وعلى هذا فلا بد من عائدٍ وهو مقدر، وتقديره: نفساً منهم. والثاني: هو الجملة من قوله {أولئك أَصْحَابُ} ، وتكون هذه الجملة المنفيَّةُ معترضةً بينهما، وهذا الوجه أعرب.

43

وقوله تعالى: {مِّنْ غِلٍّ} : يجوز أن تكون «مِنْ» لبيان جنس «ما» ، ويجوز أن تكون حالاً فتتعلَّق بمحذوف أي: كائناً مِنْ غِل. وقوله: «تجري من تحتهم الأنهار» في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أنها حال من الضمير في «صدورهم» قاله أبو البقاء. وجَعَل العامل في هذه الحال معنى الإِضافة. والثاني: أنها حال، والعامل فيها «نزعنا» ، قاله الحوفي. والثالث: أنها استئناف إخبار عن صفة أحوالهم. وردَّ الشيخ الوجهين الأوَّلين: أمَّا الثاني فلأنَّ {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} ليس مِنْ صفة فاعل «نَزَعْنا» ولا مفعوله وهما «ن» و «ما» فكيف ينتصب

حالاً عنهما؟ وهو واضح. وأمَّا الأولُ فلأنَّ معنى الإِضافة لا يعمل إلا إذا أمْكن تجريدُ المضاف وإعمالُه فيما بعده رفعاً أو نصباً. قلت: قد تقدم غيرَ مرة أن الحالَ تأتي من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه لمَدْرَكٍ آخر لا لِما ذكره أبو البقاء من أنَّ العامل هو معنى الإِضافة، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف وإن كانت الحالُ ليست منه؛ لأنهما لما كانا متضايفَيْنِ وكانا مع ذلك شيئاً واحداً ساغ ذلك. والغِلُّ: الحِقْد والإِحْنَةُ والبغض، وكذلك الغُلول. وجمع الغِلّ غلال. والغُلول: الأَخْذُ في خُفْية، وأحسنُ ما قيل أن ذلك من لفظ الغِلالة كأنه تَدَرَّع ولبس الحقد والخيانة حتى صار إليه كالغِلالة الملبوسة. قوله: {لولا أَنْ هَدَانَا} أَنْ وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ على ما قَدَّرْته غير مرة، وجواب «لولا» مدلول عليه بقوله: «وما كنا» تقديره: لولا هدايةٌ لنا موجودة لشَقِيْنا أو ما كنا مهتدين. و «لقد جاءت» جواب قسم مقدر. و «بالحق» يجوز أن تكون الباءُ للتعدية، فبالحق مفعولٌ معنى، ويجوز أن تكون للحال أي: جاؤوا ملتبسين بالحق. قوله: {أَن تِلْكُمُ} يجوز أن تكون المفسِّرة، فَسَّرَت النداء وهو الظاهر بما بعدها. ويجوز أن تكون المخففةَ، واسمُها ضمير الأمر محذوفاً، وأن وما بعدها في محل نصب أو جر؛ لأنَّ الأصلَ: بأن تلكم، وأشير إليها بإشارة البعيد لأنهم وُعِدوها في الدنيا. وعبارة بعضهم «هي إشارة لغائبة» [فيها] مسامحة لأنَّ الإِشارة لا تكون إلا لحاضر، ولكن العلماء تُطْلق على البعيد غائباً مجازاً.

و «أُورِثتموها» يجوز أن تكون هذه الجملةُ حاليةً كقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] ، ويجوز أن تكونَ خبراً عن «تلكم» ويجوز أن تكون «الجنة» بدلاً أو عطف بيان، و «أُورثتموها» الخبر. ومنع أبو البقاء أن تكون حالاً من «تلكم» للفصل بالخبر، ولأن المبتدأ لا يعمل في الحال. وأدغم أبو عمرو والأخوان الثاء في التاء، وأظهرها الباقون. و {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تقدم غير مرة. والجماعة على «وما كنا» بواو وكذلك هي في مصاحف الأمصار غيرَ الشام. وفيها وجهان، أظهرهما: أنها واو الاستئناف، والجملة بعدها مستأنفة. والثاني: أنها حالية. وقرأ ابن عامر: «وما كنا» بدون واو، والجملة على ما تقدَّم من احتمالي الاستئناف والحال، وهي في مصحف الشاميين كذا/ فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه.

44

قوله تعالى: {أَن قَدْ وَجَدْنَا} : «أَنْ» يحتمل أن تكون تفسيرية للنداء، وأن تكونَ مخففةً من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الأمر والشأن، والجملة بعدها خبرها، وإذا كان الفعلُ متصرفاً غيرَ دعاء فالأجود الفصلُ ب «قد» كهذه الآية أو بغيرها. وقد تقدَّم تحقيقه في المائدة. وقال الزمخشري: «فإن قلت: هلا قيل: ما وعدكم ربكم، كما قيل:» ما وَعَدنا ربنا «. قلت: حُذِف ذلك تخفيفاً لدلالة» وَعَدْنا «عليه. ولقائل أن يقول: أُطْلِق ليتناول كلَّ ما وَعَدَ الله من البعث والحساب والعقاب والثواب وسائرِ أحوالِ القيامة، لأنهم كانوا مكذِّبين بذلك أجمعَ، ولأن الموعودَ كلَّه ممَّا ساءهم،

وما نعيم أهلِ الجنة إلا عذابٌ لهم فأطلق لذلك» قلت: قوله: «ولقائلٍ إلى آخره» هذا الجوابُ لا يطابق سؤالَه لأن المُدَّعى حَذْفُ المفعول الأول وهو ضمير المخاطبين، والجواب وقع بالمفعول الثاني الذي هو الحسابُ والعقاب وسائر الأحوال، فهذا إنما يناسب لو سُئل عن حَذْفِ المفعول الثاني لا المفعول الأول. و {نَعَمْ} حرفُ جوابٍ كأجل وإي وجَيْر وبلى. ونقيضتها لا، و «نعم» تكون لتصديق الإِخبار أو إعلام استخبار أو وَعْدِ طالب، وقد يُجاب بها النفيُ المقرونُ باستفهام وهو قليل جداً كقوله: 2200 - أليس الليلُ يجمعُ أُمَّ عمروٍ ... وإيَّانا فذاك بنا تَدَاني نعم وترى الهلالَ كما أراه ... ويَعْلوها النهارُ كما عَلاني فأجاب قوله «أليس» ب نعم، وكان من حقه أن يقول: بلى، ولذلك يُروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] : لو قالوا: نعم لكفروا، وفيه بحثٌ يأتي إن شاء الله تعالى قريباً. وتُكْسَرُ عينُها، وبها قرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب، وهي لغةُ كنانة. وطعن أبو حاتم عليها وقال: «ليس الكسر بمعروف» . واحتجَّ الكسائي لقراءته بما يُحكى عن عمر بن الخطاب أنه سأل قوماً فقالوا: نَعَم يعني بالفتح فقال: «أمَّا النَّعَم فالإِبل فقولوا: نَعِم» أي بالكسر. قال أبو عبيد: «ولم نَرَ العرب يعرفون ما رَوَوْه عن عمر ونراه مُوَلَّداً» . قلت: هذا طعنٌ في

المتواتر فلا يُقبل. وتبدل عينها حاءً، وهي لغةٌ فاشيةٌ كما تبدل حاء «حتى» عيناً. وقوله: {بَيْنَهُمْ} يجوز أن يكونَ منصوباً ب «أذَّن» أو ب «مؤذِّن» ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفةٌ ل «مؤذِّن» . قال مكي عند إجازته هذا الوجه: «ولكن لا يعمل في» أَنْ «» مُؤَذِّن «إذ قد نَعَته» يعني أنَّ قوله «أَنْ لعنةُ» لا يجوز أن يكونَ معمولاً [ل «مؤذن لأنه موصوف، واسم الفاعل متى وُصِف لم يعمل. قلت: هذا يُوهِمُ أنَّا إذا لم نجعل «بينهم» نعتاً ل «مؤذِّن» جاز أن يعمل في «أن» ] وليس الأمر كذلك، [لأنك لو قلت] : «ضرب ضاربٌ زيداً» تنصب زيداً ب ضرب لا بضارب. لكني قد رأيت الواحدي [أجاز ما] أجاز مكي [من كون] «مؤذِّن» عاملاً في «أَنْ» ، وإذا وَصَفْتَه امتنع ذلك، وفيه ما تقدَّم وهو حسن. و «أَنْ» يجوز أن تكون المفسِّرة، وأن تكونَ المخففةَ، والجملة الاسميةُ بعدها الخبر، ولا حاجةَ هنا لفاصل. وقرأ الأخوان وابن عامر والبزِّي: «أنَّ» بفتح الهمزة وتشديد النون ونصب اللعنة على أنها اسمها، و «على الظالمين» خبرها، وكذلك في النور «أن لعنةُ الله عليه» خَفَّف «أَنْ» ورفع اللعنة نافع وحده، والباقون بالتشديد والنصب. وقرأ عصمة عن الأعمش: إنَّ

بالكسر والتشديد وذلك: إمَّا على إضمار القول عن البصريين، وإمَّا على إجراء النداء مُجْرى القول عند الكوفيين.

45

وقوله تعالى: {الذين} : يجوز أن يكون مرفوعَ المحل ومنصوبَه على القطع فيهما، ومجرورَه على النعت أو البدل أو عطف البيان. ومفعول «يَصُدُّون» محذوفٌ أي: يصدُّون الناس. ويجوز ألاَّ يُقَدَّر له مفعول، والمعنى: الذين من شأنهم الصدُّ كقولهم: «هو يعطي ويمنع» . ويجوز أن يكون «يَصُدُّون» بمعنى يُعْرضون، مِنْ صَدَّ صُدوداً فيكون لازماً.

46

قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا} : أي: بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهذا هو الظاهر لقوله {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} . وقيل: بين الجنة والنار، وبه بدأ الزمخشري. وقوله: {وَعَلَى الأعراف} قال الزمخشري: «أي: وعلى أعراف الحجاب» كأنه جعل أل عوضاً من الإِضافة وهو مذهب كوفي، وقد تقدم تحقيقه. وجعل بعضُهم نفس الأعراف هي نفس الحجاب المتقدِّمِ ذكرُه، عبَّر عنه تارة بالحجاب وتارة بالأعراف. قال الواحدي: ولم يذكر غيره «ولذلك عُرِّفَت الأعراف لأنه عَنَى بها الحجاب» . والأعراف جمع عُرْف بضم العين، وهو كل مُرْتَفَع من أرض وغيرها استعارةً مِنْ عُرْف الديك وعُرْف الفَرَس، كأنه عُرِف بارتفاعه دونَ الأشياءِ المنخفضة فإنها مجهولة غالباً، قال أمية بن أبي الصلت: 2201 - وآخرون على الأعراف قد طَمِعوا ... في جنة حَفَّها الرمَّانُ والخَضِرُ

ومثله أيضاً قوله: 2202 - كلُّ كِنازِ لَحْمِه نيافِ ... كالجبلِ المُوْفِي على الأعرافِ وقال آخر وهو الشماخ: 2203 - فظلَّتْ بأعرافٍ تَعادَى كأنها ... رِماحٌ نَحاها وِجْهةَ الريحِ راكزٌ وقوله: {يَعْرِفُونَ} في محل رفع نعتاً لرجال. و «كُلاَّ» أي: كل فريق من أصحاب الجنة وأصحاب النار. وقوله {أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} كقوله {أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44] إلا أنه لم يُقْرأ هنا إلا بأنْ الخفيفة فقط. قوله: {وَنَادَوْاْ} هذا الضميرُ وما بعده لرجال. وقوله {لَمْ يَدْخُلُوهَا} في هذه الجملة أوجه، أحدها: أنها حال من فاعل «نادوا» أي: نادى أهل الأعراف حالَ كونهم غير داخلين الجنة. وقوله «وهم يطمعون» يحتمل أن يكون حالاً مِنْ فاعل «يَدْخلُوها» ثم لك اعتباران بعد ذلك، الأول: أن يكون المعنى: لم يدخلوها طامعين في دخولها بل/ دخلوها على يأس مِنْ دخولها. والثاني: أن المعنى: لم يدخلوها حال كونهم طامعين أي: لم يدخلوا بعد، وهم في وقت عدم الدخول طامعون، ويحتمل أن يكون مستأنَفَاً أخبر عنهم بأنهم طامعون في الدخول. الوجه الثاني: أن يكون حالاً من مفعول «نادوا» أي: نادَوهم حالَ كونهم غيرَ داخلين. وقوله: «وهم يَطْمَعون» على ما تقدم آنفاً. والوجه

الثالث أن تكون في محلِّ رفعٍ صفةً لرجال قاله الزمخشري. وفيه ضعفٌ من حيث إنه فَصَل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله: «ونادَوا» وليست جملةَ اعتراض. والوجه الرابع: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها جوابُ سائلٍ سأل عن أصحاب الأعراف فقال: ما صُنِعَ بهم؟ فقيل: لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها. وقال مكي كلاماً عجيباً وهو أن قال: «إنْ حَمَلْتَ المعنى على أنهم دخلوها كان» وهم يطمعون «ابتداء وخبراً في موضع الحال من المضمر المرفوع في» يدخلوها «، معناه: أنهم يئسوا من الدخول فلم يكن لهم طمعٌ في الدخول، لكن دخلوا وهم على بأس من ذلك، فإنْ حَمَلْتَ معناه أنهم لم يدخلوا بعدُ ولكنهم يطمعون في الدخولِ برحمة الله كان ابتداءً وخبراً مستأنفاً» . وقال بعضُهم: «جملةُ قوله» لم يدخلوها «من كلام أصحاب الجنة، وجملةُ قوله وهم يطمعون» من كلام الملائكة «قال عطاء عن ابن عباس:» إن أصحابَ الأعراف ينادُون أصحابَ الجنة بالسلام، فيردُّون عليهم السلام، فيقول أصحاب الجنة للخزنة: ما لأصحابنا على أعراف الجنة لم يدخلوها؟ فيقول لهم الملائكة جواباً لهم وهم يطمعون «، وهذا يَبْعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن. والطمع هنا يحتمل أن يكونَ على بابه، وأن يكونَ بمعنى اليقين. قالوا: لقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم على نبيِّنا وعليه أفضلُ الصلاة والسلام: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ} [الشعراء: 82] وقال:

2204 - وإني لأطمعُ أنَّ الإِله ... قديرٌ بحسْنِ يَقيني يَقيني

47

قوله تعالى: {تِلْقَآءَ} : منصوبٌ على ظرف المكان قال مكي: «وجمعُه تلاقِيّ» . قلت: لأن تِلْقاء وزنه تِفْعال كتمثال، وتمثال وبابه يُجمع على تفاعيل، فالتقت الياءُ الزائدة مع الياء التي هي لام الكلمة فأدغمت فصارت تلاقِيَّ. والتلقاء في الأصل مصدر ثم جُعِل دالاً على المكان أي: على جهة اللقاء والمقابلة قالوا: ولم يجئ من المصادر على تِفْعال بكسر التاء إلا لفظتان: التِلقاء والتِبْيان، وما عدا ذلك من المصادر فمفتوحٌ نحو التَّرْداد والتَّكرار، ومن الأسماء مكسورٌ نحو تِمثال وتِمْساح وتِقْصار. وفي قوله: {صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} فائدةٌ جليلة وهو أنهم لم يَلْتفتوا إلى جهة النار إلا مجبورين على ذلك لا باختيارهم لأنَّ مكان الشر محذور. وقد تقدَّم خلافُ القراء في نحو «تلقاء أصحاب» بالنسبة إلى إسقاط إحدى الهمزتين أو إثباتها أو تسهيلها في أوائل البقرة. وقرأ الأعمش: «وإذا قُلِبَتْ» وهي مخالفةٌ للسواد، كقراءة {لم يدخلوها وهم ساخطون} أو {وهم طامِعُون} على أنَّ هذه أقرب. و «قالوا» هو جوابُ «إذا» والعامل فيها.

48

قوله تعالى: {مَآ أغنى} : يجوز أن تكونَ استفهاميةً للتوبيخ والتقريع وهو الظاهر، ويجوز أن تكونَ نافية. وقوله: «وما كنتم» : «ما»

مصدرية ليُنْسَق مصدرٌ على مثله أي: ما أغنى عنكم جمعُكم وكونُكم مستكبرين. وقرئ «تستكثرون» بتاء مثلثة من الكثرة.

49

قوله تعالى: {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ} : يجوز في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها في محل نصب بالقول المتقدم أي: قالوا: ما أغنى وقالوا: أهؤلاء الذين. والثاني: أن تكون جملةً مستقلةً غيرَ داخلةٍ في حيز القول، والمشارُ إليهم على القول الأول هم أهل الجنة، والقائلون ذلك هم أهل الأعراف، والمقولُ لهم هم أهل النار. والمعنى: وقال أهلُ الأعراف لأهل النار: أهؤلاء الذين في الجنة اليوم هم الذين كنتم تَحْلفون إنهم لا يدخلون الجنة، برحمة الله وفضله ادخلوا الجنة أي: قالوا لهم أو قيل لهم: ادخلوا الجنة. وأمَّا على القول الثاني وهو الاستئناف: فاختُلف في المشار إليه. فقيل: هم أهل الأعراف، والقائلُ ذلك مَلَكٌ يأمره الله بهذا القول، والمقول له هم أهلُ النار. وقيل: المشار إليه هم أهل الجنة، والقائلُ هم الملائكة، والمقولُ له هم أهل النار. وقيل: المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم/ القائلون ذلك أيضاً، والمقول لهم الكفارُ، وقوله «ادخلوا الجنة» من قولةِ أهل الأعراف أيضاً أي: يرجعون فيخاطب بعضُهم بعضاً فيقولون: ادخلوا الجنة. وقال ابن الأنباري: «إن قوله: أهؤلاء الذين أَقْسَمْتم لا ينالهم الله برحمة» من كلام أصحاب الأعراف. وقوله «ادخلوا» من كلام الله تعالى، وذلك على إضمار قول أي: فقال لهم الله: ادخلوه، ونظيره قوله تعالى: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 35] فهذا من كلام الملأ، فماذا تأمرون؟ فهذا من كلام فرعون أي: فقال: فماذا تأمرون؟ .

وقرأ الحسن وابن سيرين: «أَدْخِلوا الجنة» أمراً من أَدْخَل وفيها تأويلان، أحدهما: أن المأمور بالإِدخال الملائكة أي: أَدْخلوا يا ملائكةُ هؤلاء. ثم خاطب البشر بعد خطاب الملائكة فقال: لا خوف عليكم، وتكون الجملة من قوله: «لا خوف» لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافها. والثاني: أن المأمور بذلك هم أهل الأعراف والتقدير: أدخلوا أنفسَكم، فحذف المفعولَ في الوجهين. ومثلُ هذه القراءة هنا قولُه تعالى: {أَدْخِلُوا آل فرعون} [غافر: 46] وستأتي إن شاء الله، إلا أن المفعولَ هناك مصرَّحٌ به في إحدى القراءتين. والجملة من قوله «لا خوف» على هذا في محلِّ نصبٍ على الحال أي: أَدْخِلوا أنفسكم غير خائفين. وقرأ عكرمة «دَخَلوا» ماضياً مبنياً للفاعل. وطلحة وابن وثاب والنخعي «أُدْخِلوا» مِنْ أُدْخِل ماضياً مبنياً للمفعول على الإِخبار، وعلى هاتين فالجملة المنفية في محل نصبٍ بقول مقدر، ذلك القولُ منصوبٌ على الحال أي: مقولاً لهم لا خوف.

50

قوله تعالى: {أَنْ أَفِيضُواْ} : كأحوالِها من احتمال التفسير والمصدرية، و «من الماء» متعلق بأفيضوا على أحدِ وجهيه: إمَّا على حذف مفعول أي: شيئاً من الماء فهي تبعيضيةٌ، طلبوا منهم البعضَ اليسير، وإمَّا على تضمين «أفيضوا» معنى ما يتعدَّى ب مِنْ أي: أنعموا منه بالفيض. وقوله: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ} «أو» هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين: إمَّا تخييراً أو إباحةً أو غيرَ ذلك ممَّا يليق بها، وعلى هذا يقال كيف قيل: حَرَّ مهما فأعيد الضمير مثنَّى، وكان من حق مَنْ يقول إنها لأحد الشيئين أن يعودَ مفرداً على

ما تقرر غير مرة؟ وقد أجابوا بأن المعنى: حَرَّم كلاً منهما. وقيل إن «أو» بمعنى الواو فعود الضمير واضحٌ عليه. و «ممّا» : «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، وهو الظاهر، والعائد محذوف أي: أو من الذي رزقكموه الله، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وفيه مجازان: أحدهما: أنهم طَلَبوا منهم إفاضةَ نفس الرزق مبالغةً في ذلك. والثاني: أن يَرادَ بالمصدر اسمُ المفعول كقوله: {كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله} [البقرة: 60] في أحد وجهيه. وقال الزمخشري: «أو ممَّا رزقكم الله من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإِفاضة. ويجوز أن يُراد: أو أَلْقُوا علينا مِنْ ما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله: 2205 - عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . قال الشيخ:» وقوله «وألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة» يحتمل وجهين، أحدهما أن يكون قوله: «أفيضوا» ضُمِّن معنى «ألقوا» علينا من الماء أو مما رزقكم الله فيصحَّ العطف، ويحتمل وهو الظاهر من كلامه أن يكونَ أضمر فعلاً بعد «أو» يَصِل إلى مما رزقكم الله وهو «ألقوا» ، وهما مذهبان للنحاة فيما عُطِف على شيء بحرف عطف، والفعل لا يصل إليه، والصحيح منهما التضمين لا الإِضمار «. قلت: يعني الزمخشري أن الإِفاضة أصل استعمالها في الماء وما جرى مجراه في المائعات، فقوله» أو مِنْ غيره من الأشربة «تصحيح ليسلِّط الإِفاضةَ عليه؛ لأنه

لو حُمِل مما رزقكم الله على الطعام والفاكهة لم يَحْسُن نسبة الإِفاضة إليهما إلا بتجوُّز، فذكر وجه التجوز بقوله» ألقوا «، ثم فسَّره الشيخ بما ذكر، وهو كما قال، فإن العلَف لا يُسْنَدُ إلى الماء. فقوله إمَّا بالتضمين أي فَغَذَّيتُها، ومثلُه: 2206 -. . . . . . . . . . . . . . . ... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا وقوله: 2207 - يا ليت زوجَك قد غدا ... متقلِّدا سيفاً ورُمْحا وقوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] وقد مضى من هذا جملةٌ صالحة. وزعم بعضهم أن قوله {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} عامٌّ يندرج فيه الماء المتقدم، وهو بعيدٌ أو متعذَّرٌ للعطف بأو. والتحريم هنا المَنْعُ كقوله: 2208 - حرامٌ على عينيَّ أن تُطْعَما الكَرى ... . . . . . . . . . . . . . . . .

51

قوله تعالى: {الذين} : يجوز أن يكون في محل جَرٍّ وهو الظاهر نعتاً أو بدلاً من «الكافرين» : ويجوز أن يكونَ رفعاً أو نصباً على القطع. وقوله: «وغَرَّتْهم» عطفٌ على الصلة. وقوله: «فاليومَ» منصوب

بما بعده. / وقوله: «كما» نعتٌ لمصدر محذوف أي: ينساهم نسياناً كنسيانهم لقاءَ أي بتركهم. و «ما» مصدريةٌ. ويجوز أن تكونَ الكافُ للتعليل أي: تركناهم لأجل نسيانهم لقاءَ يومهم. و «يومهم» يجوز أن يكونَ متسعاً فيه فأُضيف المصدرُ إليه، كما يُضاف إلى المفعول به. ويجوز أن يكون المفعولُ محذوفاً، والإِضافةُ إلى ظرف الحدث أي: لقاء العذاب في يومهم. وقوله: «وما كانوا» «ما» مصدريةٌ نسقاً على أختها المجرورة بالكاف أي: وكما يجحدون بآياتنا، والتعليل فيه واضح.

52

والضمير في: {جِئْنَاهُمْ} : عائدٌ على مَنْ تقدَّم من الكفرة، والمراد ب «كتاب» الجنس. وقيل: يعودُ على مَنْ عاصر النبي عليه الصلاة والسلام. والمراد بالكتاب القرآن. والباء في «بكتاب» للتعدية فقط. وقوله: «فَصَّلناه» صفةٌ ل «كتاب» ، والمرادُ بتفصيله إيضاحُ الحقِّ من الباطل، أو تنزيله في فصولٍ مختلفةٍ كقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإِسراء: 106] . وقرأ الجحدري وابن محيصن بالضاد المعجمة أي: فضَّلْناه على غيرِه من الكتب السماوية. وقوله: «على عِلْم» حال: إمَّا من الفاعل أي: فَصَّلْناه عالمين بتفصيله، وإمَّا من المفعول أي: فصَّلْناه مشتملاً على علم. ونَكَّر «علم» تعظيماً. وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً} الجمهورُ على النصب، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول من أجله أي: فصَّلناه لأجل الهداية والرحمة. والثاني: أنه حال: إمَّا من كتاب، وجاز ذلك لتخصصه بالوصف، وإمَّا من مفعول «فصَّلناه» . وقرأ زيد بن علي «هدىً ورحمةٍ» بالجر، وخرَّجه الكسائي والفراء على

النعت ل «كتاب» ، وفيه المذاهب المشهورة في نحو « [مررت] برجل عدل» ، وخرَّجه غيرهما على البدل منه. وقرأته فرقة «هدىً ورحمةٌ» بالرفع على إضمار المبتدأ. وقال مكي: «وأجاز الفراء والكسائي» هدى ورحمة «بالخفض، يجعلانه بدلاً من» علم «، ويجوز هدى ورحمة على تقدير: هو هدى ورحمة» وكأنه لم يَطَّلع على أنهما قراءتان مَرْوِيَّتان حتى نسبهما على طريق الجواز. و «لقومٍ» صفة لرحمة وما عُطِفت عليه.

53

وقوله تعالى: {تَأْوِيلَهُ} : قد تقدَّم ذلك في آل عمران. وقال الزمخشري ههنا: «والتأويل مادتُه من همزة وواو ولام مِنْ آل يؤول» وقال الخطابي: «أَوَّلْتُ الشيءَ رَدَدْتُه إلى أوله، واللفظةُ مأخوذةٌ من الأول» . قال الشيخ: وهو خطأٌ لاختلاف المادتين «. و» يومَ «منصوب ب» يقول «، وقد جاءَتْ منصوبةً بالقول، و» بالحق «يجوز أن تكونَ الباءُ للحال، وأن تكونَ للتعدية أي: جاؤوا ملتبسين بالحق أو أجاؤوا الحق. قوله: {مِن شُفَعَآءَ} » مِنْ «مزيدة في المبتدأ و» لنا «خبرٌ مقدم. ويجوز أن يكونَ» من شفعاء «فاعلاً و» مِنْ «مزيدة أيضاً، وهذا جائزٌ عند كل أحد لاعتماد الجارِّ على الاستفهام. وقوله:» فيشفعوا «منصوب بإضمار» أَنْ «في جواب الاستفهام، فيكون قد عَطَفْتَ اسماً مؤولاً على اسمٍ صريح أي: فهل لنا شفعاء فشفاعة منهم لنا. قوله: {أَوْ نُرَدُّ} الجمهور عَلَى رفع» نُرَدُّ «ونصب» فنعملَ «، فَرَفْعُ» نردُّ «

على أنه عَطَفَ جملةً فعلية وهي» نُرَدُّ «على جملة اسمية وهي: هل لنا من شفعاء فيشفعوا، ونصبُ» فنعملَ «على ما انتصب عليه» فيشفعوا «. وقرأ الحسنُ برفعهما على ما تقدم، كذا روى عنه ابن عطية وغيره. وروى عنه الزمخشري نصب» نُرَدّ «ورفع» فنعمل «. وقرأ أبو حيوة وابن أبي إسحاق بنصبهما. فنصبُ» نُرَدَّ «عطفاً على» فيشفعوا «جواباً على جواب، ويكون الشفعاء في أحد شيئين: إمَّا في خلاصهم من العذاب، وإمَّا في رجوعهم للدنيا ليعملوا صالحاً، والشفاعةُ حينئذ منسحبةٌ على الخلاص أو الردّ، وانتصب» فنعملَ «نسقاً على» فنردَّ «، ويجوز أن يكون» أو نُرَدَّ «من باب» لألزمنَّكَ أو تقضيَني حقي «إذا قدَّرناه بمعنى: حتى تقضيَني أو كي تقضيَني، غَيَّا اللزومَ بقضاء الحق أو عَلَّله به فكذلك الآية الكريمة أي: حتى نُرَدَّ أو كي نُرَدَّ، والشفاعةُ حينئذ متعلقةٌ بالردِّ ليس إلا، وأمَّا عند من يقدِّر» أو «بمعنى» إلا «في المثال المتقدم وهو سيبويه فلا يظهر معنى الآية عليه، إذ يَصير التقدير: هل يشفع لنا شفعاءُ إلا أن نُرَدَّ. وهذا استثناءٌ غير ظاهر. وقوله:» ما كانوا «فاعل» ضَلَّ «، و» ما «موصولةٌ عائدها محذوف.

54

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله} : الجمهور على رفع الجلالة خبراً ل «إنَّ» ، ويَضْعُف أن تُجْعل بدلاً من اسم «إنَّ» على الموضع عند مَنْ يرى ذلك، والموصولُ خبرٌ ل «إنَّ» وكذا لو جَعَلَه عطفَ بيان، ويتقوَّى هذا بنصب

الجلالة في قراءة بكار فإنها فيها بدلٌ أو بيانٌ لاسم «إنَّ» على اللفظ، ويضعف أن تكونَ خبرَها عند مَنْ يرى نَصْبَ الجزأين فيها كقوله: 2209 - إذا اسْوَدَّ جنحُ الليلِ فلتأتِ ولتكنْ ... خُطاك خِفافاً إنَّ حُرَّاسنا أُسْدا وقوله: 2210 - إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا قيل: ويؤيد ذلك قراءةُ الرفع أي في جَعْلها إياه خبراً، فالموصولُ نعتٌ لله أو بيان له أو بدل منه، أو يُجْعل خبراً ل إنَّ على ما تقدم من التخاريج، ويجوز أن يكون معطوفاً على المدح رفعاً أو نصباً. وقوله: {فِي سِتَّةِ} أصل ستة: سِدْس فقُلِبَتْ السينُ تاءً فلاقَتْها الدال وهي مقاربةٌ لها ساكنة فوجب الإِدغام، وهذا الإِبدالُ لازمٌ، ويدلُّ على أن هذا هو الأصل رجوعُه في التصغير إلى سُدَيْسَةٍ وفي الجمع [أَسْداس، وقولهم: جاء فلان سادساً وساتَّاً وسادِياً بالياء مثناة] مِنْ أسفل قال الشاعر: 2211 -. . . . . . . . . . . . . . . ... وتَعْتَدُّني إن لم يَقِ اللهُ ساديا أي سادساً فأبدلها ياء.

و {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الظاهر أنه ظرفٌ ل {خَلَقَ السماوات والأرض} فاسْتُشْكِل على ذلك: أن اليوم إنما هو بطلوع الشمس وغروبها وذلك إنما هو بعد وجودِ السماوات والأرض. وأجابوا عنه بأجوبة منها: أن الستةَ ظرفٌ لخلق الأرض فقط، فعلى هذا يكون قوله {خَلَقَ السماوات} مطلقاً لم يُقَيَّدْ بمدة، ويكون قولُه «والأرض» مفعولاً بفعل مقدر أي وخلق الأرض، وهذا الفعلُ مقيدٌ بمدة ستة أيام، وهذا قولٌ ضعيف جداً. وقوله «ثم استوى» الظاهرُ عَوْدُ الضمير على الله تعالى بالتأويل المذكور في البقرة. وقيل: الضمير يعود على الخَلْق المفهوم مِنْ خَلَق أي: ثم استوى خَلْقُه على العرش. ومثله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] قالوا: يحتمل أن يعود الضمير في «استوى» على الرحمن، وأن يعود على الخَلْق، ويكون «الرحمن» خبراً لمبتدأ محذوف أي: هو الرحمن. والعرش: يُطْلق بإزاءِ معانٍ كثيرة فمنه سرير المَلِك، وعليه {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41] {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} [يوسف: 100] . ومنه السلطان والعزُّ، وعليه قول زهير: 2212 - تدارَكْتُما عبساً وقد ثُلَّ عرشُها ... وذبيانَ إذ زلَّتْ بأقدامها النَّعْلُ

2213 - إنْ يَقْتُلوك فقد ثَلَلْتُ عروشَهُمْ ... بربيعةَ بن الحارث بن شهاب ومنه خشب تُطوى به البئرُ بعد أن يُطوى بالحجارة أسفلُها. ومنه ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع. ومنه السقف وكلُّ ما علاك فهو عرش، وكأن المادة دائرة مع العلو والرفعة، ويقال لأربعة كواكب صغار أسفلَ من العَوَّاء. قوله: {يُغْشِي الليل النهار} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص هنا وفي سورة الرعد «يُغْشي» مخففاً مِنْ أغشى على أفْعَل، والباقون على التشديد مِنْ غشَّى على فَعَّل، فالهمزةُ والتضعيفُ كلاهما للتعدية أكسبا الفعلَ مفعولاً ثانياً، لأنه في الأصل متعدٍ لواحدٍ فصار الفاعل مفعولاً. وقرأ حميد بن قيس «يَغْشى» بفتح الياءِ والشين، «الليلُ» رفعاً، «النهار» نصباً هذه رواية الداني عنه. وروى ابن جني عنه نصب «الليل» ورفع «النهار» . قال ابن عطية: «ونَقْلُ ابن جني أَثْبَتُ» وفيه نظرٌ من حيث إن الداني أعنى من أبي الفتح بهذه الصناعة وإن كان دونه في العلم بطبقات، ويؤيد روايةَ الداني أيضاً أنها موافقةٌ لقراءة العامة من حيث المعنى، وذلك أنه جعل الليل فاعلاً لفظاً ومعنى، والنهار مفعولاً لفظاً ومعنى، وفي قراءة الجماعة: الليل فاعل معنى، والنهار مفعول لفظاً ومعنى، وذلك أن المفعولَيْن في هذا الباب متى صَلُح أن يكونَ كلٌّ منهما فاعلاً ومفعولاً في المعنى وَجَبَ تقديمُ الفاعل معنى لئلا يُلْبِسَ نحو: «أعطيت زيداً عمراً» فإن لم يُلْبس نحو: «أعطيت زيداً درهماً، وكَسَوْتُ عمراً جبةً» جاز، وهذا كما في الفاعل والمفعول الصريحين

نحو: ضرب موسى عيسى، وضرب زيد عمراً، وهذه الآيةُ الكريمةُ من باب «أعطيت زيداً عمراً» لأن كلاً من الليل والنهار يَصْلُح أن يكون غاشياً مغشِّياً فوجَبَ جَعْلُ «الليل» في قراءة الجماعة هو الفاعل المعنوي و «النهار» هو المفعول من غير عكس، وقراءة الداني موافقةٌ لهذه لأنها المصرَِّحةُ بفاعلية الليل، وقراءة ابن جني مخالفةٌ لها، وموافقةُ الجماعة أولى. قلت: وقد روى الزمخشري قراءةَ حميد كما رواها أبو الفتح فإنه قال: «يُغَشِّي» بالتشديد: أي يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل، يحتملهما جميعاً، والدليل على الثاني قراءةُ حميد بن قيس «يَغْشى» بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار «انتهى. وفيما/ قاله أبو القاسم نظر لِما ذَكَرْتُ لك من أن الآية الكريمة مما يجب فيها تقديمُ الفاعل المعنوي، وكأن أبا القاسم تبع أبا الفتح في ذلك فلم يلتفتْ إلى هذه القاعدةِ المذكورة سهواً. قوله» يَطْلبه «حال من الليل لأنه هو المحدَّث عنه أي: يغشى النهار طالباً له، ويجوز أن يكونَ من النهار أي مطلوباً وفي الجملة ذِكْرُ كلٍّ منهما. و» حثيثا «يُحتمل أن يكون نعتَ مصدرٍ محذوف أي: طَلَباً حثيثا، وأن يكون حالاً من فاعل» يطلبه «أي حاثَّاً، أو من مفعوله أي: محثوثاً. والحَثُّ: الإِعجال والسرعة والحَمْل على فعلِ شيءٍ كالحَضِّ عليه، فالحثُّ والحضُّ أخَوان. يقال: حَثَثْتُ فلاناً فاحتثَّ فهو حثيث ومحثوث. قال: 2214 - تَدَلَّى حثيثاً كأنَّ الصُّوا ... رَ يَتْبَعُهُ أُزْرَقِيٌّ لَحِمْ

فهذا يُحتمل أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوف، وأن يكونَ حالاً أي: تولَّى تَوَلِّيَاً حثيثاً أو تولَّى في هذه الحال. قوله: {والشمس} قرأ ابن عامر هنا وفي النحل برفع «الشمس» وما عُطف عليها ورفع «مُسَخَّرات» ، وافقه حفص عن عاصم في النحل خاصة على رفع {والنجوم مُسَخَّرَاتٍ} ، والباقون بالنصب في الموضعين. وقرأ أبان ابن تغلب هنا برفع «النجوم» وما بعدها فقط، كحفص في النحل. فأما قراءةُ ابن عامر فعلى الابتداء والخبر، جعلها جملةً مستقلة بالإِخبار بأنها مسخرات لنا من الله تعالى لمنافعنا. وأما قراءة الجماعة فالنصبُ في هذه السورة على عطفها على «السماوات» أي: وخلق الشمس، وتكون «مسخرات» على هذا حالاً من هذه المفاعيل. ويجوز أن تكون هذه منصوبة ب «جَعَل» مقدراً، فتكون هذه المنصوباتُ مفعولاً أول، ومسخرات مفعولاً ثانياً. وأما قراءةُ حفص في النحل فإنه إنما رفع هناك لأن الناصبَ هناك «سخَّر» وهو قولُه تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر} ، فلو نصب النجوم ومسخرات لصار اللفظ: سَخَّرها مسخرات، فيلزم التأكيد فلذلك قطعهما على الأول ورفعهما جملةً مستقلة. والجمهورُ يخرِّجونها على الحال المؤكدة وهو مستفيضٌ في كلامهم، أو على إضمار فعل قبل «والنجوم» أي: وجعل النجوم مسخرات، أو يكون «مسخرات» جمع مُسَخَّر المراد به المصدر، وجُمِع باعتبار أنواعه كأنه قيل: وسخَّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم تسخيرات أي أنواعاً من التسخير.

وقوله: {بِأَمْرِهِ} متعلق بمسخرات أي بتيسيره وإرادته لها في ذلك. ويجوز أن تكون الباءُ للحال أي: مصاحبةً لأمره غيرَ خارجةٍ عنه في تسخيرها. وقوله: {لَهُ الخلق والأمر} يجوز أن يكون مصدراً على بابه، وأن يكونَ واقعاً موقع المفعول به.

55

وقوله تعالى: {تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} : نصب على الحال أي: متضرِّعين مُخْفين الدعاءَ ليكونَ أقربَ إلى الإِجابة. ويجوز أن ينتصبا على المصدر أي دعاءَ تضرُّع وخفية. وقرأ أبو بكر «خِفية» بكسر الخاء وقد تقدم ذلك في الأنعام، إلا أن كلامَ أبي علي يُرْشِد إلى أن «خِفْيَة» بالكسر بمعنى الخَوْف، وهذا إنما يتأتَّى على ادِّعاء القلب أي يُعتقد تقدُّمُ اللامِ على العين وهو بعيدٌ، ولأنه كان ينبغي أن تعودَ الواوُ إلى أصلها، وذلك أن خِيْفة «ياؤها عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها، ولما أُخِّرَت الواو تحرَّكت وسُكِّن ما قبلها، إلا أن يُقال: إنها قُلبت متروكةً على حالها. وقرأ الأعمش» وخِيْفة «وهي تؤيد ما ذكره الفارسي، نَقَل هذه القراءة عنه أبو حاتم. وقرأ ابن أبي عبلة» إن الله «أتى بالجلالة مكان الضمير.

56

قوله تعالى: {خَوْفاً وَطَمَعاً} : حالان أي ادْعُوه ذوي خوف وطمع، أو خائفين طامعين، أو مفعولان من أجلهما أي: لأجل الخوف والطمع. قوله: {قَرِيبٌ} إنما لم يؤنِّثها وإن كانت خبراً عن مؤنث لوجوه منها: أنها في معنى الغفران فحُمِلت عليه، قاله النضر بن شميل واختاره أبو إسحاق.

ومنها: أنها صفةٌ لموصوفٍ مذكر حذف وبقيت صفتُه، والتقدير: إن رحمة الله شيء قريب. ومنها: أنها في معنى العفو أو المطر أو الرحم. ومنها: أنها بمعنى النسب أي ذات قرب كحائض أي ذات حيض. ومنها: تشبيهُ فعيل بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث كجريح، كما حُمِل هذا عليه حيث قالوا: أسير وأُسَراء، وقبيل وقُبَلاء، حَمْلاً على رحيم ورُحَماء وعليم وعُلَماء وحكيم وحُكَماء. ومنها: أنه مصدرٌ جاء على فعيل كالنَّقِيق وهو صوت الضفدع والضَّغيب وهو صوت الأرنب، وإذا كان مصدراً/ لزم الإِفرادُ والتذكير. ومنها: أنها بمعنى مفعول أي مُقَرَّبة قاله الكرماني وليس بجيد؛ لأن فعيلاً بمعنى مفعول لا ينقاس، وعلى تقدير اقتياسه فإنما يكون من الثلاثي المجرد لا من المزيد فيه، ومُقَرَّبة من المزيد فيه. ومنها: أنه من باب المؤنث المجازي فلذلك جاز التذكيرُ كطلع الشمس. قال بعضهم: «وهو غيرُ جيد لأن ذلك حيث كان الفعل متقدماً نحو: طلع الشمس، أما إذا تأخر وَجَبَ التأنيثُ إلا في ضرورة شعر كقوله: 2215 -. . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أبقلَ إبقالها قلت: وهذا يجيء على مذهب ابن كيسان فإنه لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشعر بل يُجيزه في السَّعة. وقال الفراء:» قريبة وبعيدة: إمَّا أن يُراد بها النسبُ وعدمُه فتؤنثها العرب ليس إلا، فيقولون: فلانةٌ قريبةٌ مني أي في النسب، وبعيدةٌ مني أي في النسب، أمَّا إذا أريد القربُ في المكان فإنه يجوز الوجهان؛ لأن قريباً وبعيداً قائمٌ مقام المكان فتقول: فلانةٌ قريبةٌ وقريب، وبعيدة وبعيد. التقدير: هي في مكانٍ قريبٍ وبعيد. وأنشد:

2216 - عشيَّةَ لا عفراءُ منك قربيةٌ ... فَتَدْنو ولا عفراءُ منك بعيدُ فجمع بين اللغتين. إلا أنَّ الزجاج ردَّ على الفراء قوله وقال: «هذا خطأ لأنَّ سبيلَ المذكر والمؤنث أن يجريا على أَفْعالهما» قلت: «وقد كَثُر في شعر العرب مجيءُ هذه اللفظةِ مذكرةً وهي صفة لمؤنث قال امرؤ القيس: 2217 - له الويلُ إن أمسى ولا أمُّ سالمٍ ... قريبٌ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يشكرا وفي القرآن {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63] وقال أبو عبيدة:» قريب في الآية ليس وصفاً لها، إنما هو ظرفٌ لها وموضع، فيجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجميع، فإن أريد بها الصفةُ وَجَبَت المطابقةُ، ومثلُها لفظةُ «بعيد» أيضاً «. إلا أنَّ عليَّ بن سليمان الأخفش خطَّأه قال:» لأنه لو كانت ظرفاً لانتصَبَ كقولك: «إن زيداً قريباً منك» . وهذا ليس بخطأ لأنه يجوز أن يُتَّسعَ في الظرف فيعطى حكمَ الأسماء الصريحة فتقول: زيدٌ أمامُك وعمروٌ خلفُك برفع أمام وخلف، وقد نصَّ النحاة على أنَّ نحو «إن قريباً منك زيد» أن «قريباً» اسم إنَّ، و «زيدٌ» خبرها، وذلك على الاتِّساع. و «من المحسنين» متعلقٌ ب «قريب» .

57

قوله تعالى: {بُشْراً} : قد تقدَّم خلافُ القراء في إفراد «الريح» وجمعها بالنسبة إلى سائر السور في البقرة. وأمَّا «بُشْراً» فقرأه في هذه السورة وحيث ورد في غيرها من السور نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم

النون والشين، وهي قراءةُ الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء بخلافٍ عنهم وشيبة بن نصاح والأعرج وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين. وفي هذه القراءة وجهان فيتحصَّل فيها ستة أوجه، أحدها: أنَّ «نُشُراً» جمع ناشر كبازِل وبُزُل وشارِف وشُرُف وهو جمع شاذ في فاعل. ثم «نشر» هذا اختُلِفَ في معناه فقيل: هو على النسب: إمَّا إلى النَّشْر ضد الطيّ، وإمَّا إلى النشور بمعنى الإِحياء كقوله: {وَإِلَيْهِ النشور} [الملك: 15] والمعنى: ذا نشر أو ذا نشور ك «لابن» و «تامر» . وقيل: هو فاعِل مِنْ نَشَر مطاوع أَنْشر يقال: أنشر الله الميت فنشر فهو ناشر وأنشد: 2218 - حتى يقولَ الناسُ ممَّا رَأَوا ... يا عجباً للميتِ الناشِرِ وقيل: ناشر بمعنى مُنْشِر أي: المُحْيي تقول: نشر الله الموتى وأنشرها، ففَعَل وأَفْعَل على هذا بمعنى واحد، وهذه الثالثة ضعيفة. الوجه الثاني: أن «نُشُراً» جمع نَشُور. هذا فيه احتمالان، أحدهما: وهو الأرجح أنه بمعنى فاعِل، وفَعول بمعنى فاعِل ينقاس جمعُه على فُعُل كصَبُور وصُبُر وشكور وشُكُر. والثاني: أنه بمعنى مفعول كرَكوب وحَلوب بمعنى مَرْكوب ومحلوب قالوا: لأنَّ الريح تُوْصَفُ بالموتِ وتوصفُ بالإِحياء، فمن الأولِ قولُه:

2219 - إني لأرجو أن تموتَ الريحُ ... فأقعدُ اليومَ وأستريحُ ومن الثاني قولهم: «أنشرَ اللهُ الريحَ وأحياها» وفَعول بمعنى مفعول يُجْمع على فُعُل كرسول ورُسُل. وبهذا قال جماعة كثيرة، إلا أن ذلك غيرُ مقيس في المفرد/ وفي الجمع، أعني أنه لا ينقاس فَعول بمعنى مفعول لا تقول: زيد ضَروب ولا قتول بمعنى مضروب ومقتول، ولا ينقاس أيضاً جمعُ فَعُول بمعنى مفعول على فُعُل. وبيان ستة الأوجه في هذه القراءةِ: أنها جمع لناشِر بمعنى ذا نشر ضد الطيّ. الثاني: جمع ناشِر بمعنى ذي نشور. الثالث: جمع ناشر مطاوع أنشر. الرابع: جمعُ ناشِر بمعنى مُنْشِر. الخامس: جمع نُشور بمعنى فاعل. السادس: جمع نُشور بمعنى مَفْعول. وقرأ ابنُ عامر بضمِّ النون وسكون الشين وهي قراءةُ ابن عباس وزر ابن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي وابن مصرف والأعمش ومسروق. وقد كُفِينا مؤونةَ تخريج هذه القراءة بما ذُكِر في القراءة قبلَها فإنَّها مخففةٌ منها كما قالوا: رُسْل في رُسُل وكُتْب في كُتُب، فَسَلَبُوا الضمةَ تخفيفاً، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في المفرد الذي هو أخفُّ من الجمع كقولهم في عُنُق: عُنْق، وفي طُنُب، طُنْب فما بالُهم في الجمع الذي أثقل من المفرد؟ وقرأ الأخَوان: «نَشْراً» بفتح النون وسكون الشين. ووجهُها: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال بمعنى ناشرة أو منشورة أو ذات نشر كلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره. وقيل: نَشْراً مصدر مؤكِّد؛ لأنَّ أرسل وأنشر متقاربان. وقيل: نَشْراً مصدر على حذف الزوائد أي: إنشاراً، وهو واقعٌ موقعَ الحال أي: مُنْشِراً أو مُنْشَراً حسبَ ما تقدَّم في ذلك.

وقرأ عاصم: «بُشْراً» بالباء الموحدة مضمومةً وسكونِ الشين، وهو جمعُ بشيرة كنذيرة ونُذُر. وقيل: جمع فعيل كقليب وقُلُب ورغيف ورُغُف، وهي مأخوذةٌ في المعنى من قوله تعالى: «وهو الذي يُرْسِلُ الرياحَ مُبَشِّرات» أي تُبَشِّر بالمطر، ثم خُفِّفت الضمَّة كما تقدَّم في «نُشُر» . ويؤيد ذلك أن ابنَ عباس والسلمي وابن أبي عبلة قرؤوا بضمِّها، وهي مرويَّةٌ عن عاصم نفسِه. فهذه أربعُ قراءاتٍ في السبع. والخامسة ما ذكرْتُه الساعة عن ابن عباس ومَنْ معه. وقرأ مسروق: «نَشَراً» بفتح النون والشين، وفيها تخريجان أحدهما: نقله أبو الفتح أنه اسمُ جمعٍ ك «غَيَب» و «نَشَأ» لغائبة وناشئة. والثاني: أن فَعَلاً بمعنى مفعول كقبَض بمعنى مقبوض. وقرأ أبو عبد الرحمن «بَشْراً» بفتح الباء وسكون الشين. ورُوِيَتْ عن عاصم أيضاً على أنه مصدرُ «بَشَر» ثلاثياً. وقرأ ابن السَّمَيْفَع «بُشْرى» بزنة رُجعى وهو مصدرٌ أيضاً. فهذه ثمان قراءات: أربع مع النون وأربع مع الباء، هذا ما يتعلَّق بالقراءات وما هي بالنسبة إلى كونها مفردة أو جمعاً. وأمَّا نصبها فإنها في قراءة نافع ومن معه وابنِ عامر منصوبةٌ على الحال من «الرياح» أو «الريح» حسبما تقدَّم في الخلاف. وكذلك هي في قراءة عاصم وما يُشْبهها. وأمَّا في قراءة الأخوين ومسروق فتحتمل المصدرية أو الحاليةَ، وكلُّ هذا واضح وكذلك قراءة بُشْرى بزنة رُجْعى. ولا بد من

التعرُّض لشيء آخر وهو أنَّ مَنْ قرأ «الرياح» بالجمع وقرأ «نُشْراً» جمعاً كنافع وأبي عمرو فواضحٌ. وأمَّا مَنْ أفرد «الريح» وجمع «نشراً» كابن كثير فإنه يجعلُ الريحَ اسم جنس فهي جمع في المعنى فوَصَفَها بالجمع. كقول عنترة: 2220 - فيها اثنتانِ وأربعونَ حَلُوبةً ... سُوداً كخافيةِ الغُرابِ الأسْحَمِ والحالية في بعض الصور يجوز أن تكون مِنْ فاعل «يُرْسل» أو مفعوله، وكلُّ هذا يُعْرف مما قَدَّمْتُه فلا حاجةَ إلى ذِكْر كلِّ صورةٍ بلفظها. و «بين» ظرف ل «يُرْسل» أو للبشارة فيمن قرأه كذلك. وقوله: {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ} غايةٌ لقوله «يرسل» . وأقلَّتْ: أي حَمَلَتْ، مِنْ أَقْلَلْتُ كذا أي حملتُه بسهولة، وكأنه مأخوذ من القِلَّة لأنه يقال: أَقَلَّه أي: حَمَله بسهولة فهو مستقلٌّ لما يحمله. والقُلَّة بضم القاف هذا الظرفُ المعروف، وقِلال هَجَر كذلك لأنَّ البعير يُقِلُّها أي يَحْملها. والسَّحاب تقدم تفسيره، وأنه يُذَكَّر ويُؤَنَّثُ، ولذلك عاد الضمير عليه مذكَّراً في قوله «سُقْناه» . ولو حُمِل على المعنى كما حُمِل قوله «ثقالاً» فجُمِع لقال «سقناها» . و «لبلدٍ» جعل الزمخشري اللامَ للعلة أي: لأجلِ بلده. قال الشيخ: «فرقٌ بين قولك: / سُقْت له مالاً، وسُقْتُ لأجله مالاً، فإنَّ» سُقْت له «أَوْصَلْتَه إليه وأَبْلَغْته إياه، بخلاف» سُقْته لأجله «فإنه لا يلزم منه إيصاله له، فقد يسوق المال

لغيري لأجلي وهو واضحٌ. وقد تقدَّم الخلافُ في تخفيف» ميت «وتثقيله في آل عمران. وجاء هنا وفي الروم» يرسل «بلفظ المستقبل مناسَبةً لما قبله، فإنَّ قبله: {ادْعُوه خَوْفاً} وهو مستقبل. وفي الروم {ليَجْزي الذين} وهو مستقبل. وأمَّا في الفرقان وفاطر فجاء بلفظ الماضي» أرسل «لمناسبةِ ما قبله وما بعده في المضيّ؛ لأنَّ قبله: {ألم تَرَ إلى ربِّك كيفَ مَدَّ الظلَّ» } وبعده {مَرَجَ البحرَيْن} ، فناسب ذلك الماضي، ذكره الكرماني. وقوله: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} الضميرُ في «به» يعودُ على أقربِ مذكورٍ وهو «بلد ميت» وعلى هذا فلا بد من أن تكون الباءُ ظرفيةً بمعنى: أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء. وجعل الشيخُ هذا هو الظاهر. وقيل: الضمير يعود على السحاب. ثم في الباء وجهان، أحدُهما: هي بمعنى «مِنْ» أي: فأنزلنا من السحاب الماء. والثاني: أنها سببيةٌ أي: فأنزلْنا الماءَ بسبب السحاب. وقيل: يعودُ على السَوْق المفهومِ من الفعل. والباءُ سببيةٌ أيضاً أي: فأنزلْنا بسبب سَوْقِ السحاب. وهو ضعيف لعَوْد الضمير على غيرِ مذكور مع إمكان عَوْدِه على مذكور. وقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} الخلافُ في هذه الهاء كالذي في قبلها، ونزيد عليه وجهاً أحسنَ منها وهو العَوْدُ على الماء، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه و «مِنْ» تبعيضيةٌ أو ابتدائية وقد تقدَّم نظيرُه. و «كذلك» نعتُ مصدر محذوف أي: يُخْرج الموتى إخراجاً كإخراجنا هذه الثمراتِ.

58

والبلد يُطْلَقُ على كل جزءٍ من الأرض عامراً كان أو خراباً، وأنشدوا على ذلك قولَ الأعشى: 2221 - وبلدةٍ مثلِ ظَهْر التُّرْسِ مُوْحشةٍ ... للجنِّ بالليل في حافاتِها زَجَلُ و {بِإِذْنِ رَبِّهِ} يجوز أن تكونَ الباءُ سببيةً أو حاليةً. وقوله: «إلا نَكِداً» فيه وجهان أحدُهما: أن ينتصب حالاً أي عَسِراً مُبْطئاً. يقال منه نَكِد يَنْكَد نَكَداً بالفتح فهو نَكِد بالكسر. والثاني: أن ينتصب على أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي: إلا خروجاً نَكَداً. وَصَفَ الخروجَ بالنَّكَد كما يوصف به غيرُه، ويؤيِّده قراءة أبي جعفر ابن القعقاع «إلا نَكَداً» بفتح الكاف. قال الزجاج: «وهي قراءةُ أهل المدينة» وقراءة ابن مصرِّف «إلا نَكْداً» بالسكون وهما مصدران. وقال مكي: «هو تخفيف نَكِد بالكسر مثل كَتْف في كتِف» يقال: رجل نَكِد وأَنْكد. والمَنْكُود: العطاء النَّزْر، وأنشدوا في ذلك: 2222 - وأَعْطِ ما أَعْطَيْتَه طَيِّباً ... لا خيرَ في المَنْكودِ والناكد وأنشدوا أيضاً: 2223 - لا تُنْجزِ الوعدَ إنْ وَعَدْتَ وإنْ ... أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تافِهاً نَكِدا؟ وقوله: {كذلك نُصَرِّفُ} كما تقدَّم في نظيره. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر: «يُخْرَج» مبنياً للمفعول. «نباتُه» مرفوعاً لقيامِه مَقامَ

الفاعل وهو الله تعالى. وقوله: {والذي خَبُثَ} صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: والبلد الذي خَبُث، وإنما حُذِف لدلالةِ ما قبلَه عليه، كما أنه قد حُذِف منه الجارُّ في قوله «بإذن ربه» ، إذ التقديرُ: والبلد الذي خَبُث لا يَخْرُج بإذن ربه إلا نكداً. ولا بد من مضاف محذوف: إمَّا من الأول تقديره: وبيان الذي خَبُث لا يَخْرُج، وإمَّا من الثاني تقديرُه: والذي خَبُث لا يخرج نباته إلا نكداً. وغايَر بين الموصولين فجاء بالأول بالألف واللام، وفي الثاني جاء بالذي، ووُصِلَتْ بفعل ماضٍ.

59

قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا} : جوابُ قسمٍ محذوف تقديره: واللهِ لقد أرسَلْنا. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع» قد «، وقلَّ عنهم قولُه: 2224 - حَلَفْتُ لها بالله حَلْفَةَ فاجرٍ ... لَناموا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قلت: إنما كان ذلك لأن الجملةَ القسَمية لا تُساقُ إلا تأكيداً للجملة المقسمِ عليها التي هي جوابُها فكانت مَظَنَّةً لمعنى التوقع الذي هو معنى» قد «عند استماع المخاطب كلمة» القسم «، وأمَّا غير أبي القاسم من النحاة فإنه قال:» إذا كان جواب القسم ماضياً مثبتاً متصرفاً: فإمَّا أن يكون قريباً مِنْ زمن الحال فتأتي ب «قد» وإلاَّ أَتَيْتَ باللام وحدها «فظاهر هذه العبارة جوازُ الوجهَيْن باعتبارَيْن.

وقال هنا:» لقد «من غير عاطفٍ وفي هود والمؤمنين:» ولقد «بعاطف. وأجاب الكرماني بأن في هود قد تقدَّم ذِكْرُ الرسول مرات، وفي المؤمنين ذُكِر نوح ضمناً في قوله» وعلى الفلك «لأنه أولُ مَنْ صنعها [فَحَسُنَ أن يُؤْتَى بالعاطف على ما تقدم] بخلافه في هذه السورة/. قوله» غيره «قرأه الكسائي بخفض الراء في جميع القرآن، والباقون برفعها. وقرأ عيسى بن عمر» غيرَه «بالنصب. فالجرُّ على النعت أو البدل من» إله «لفظاً. والرفعُ على النعتِ أو البدل من موضع» إله «لأنَّ» مِن «مزيدةٌ فيه، وموضعهُ رفع: إمَّا بالابتداء وإمَّا بالفاعلية. ومنع مكي في وجهِ الجر أن يكونَ بدلاً من» إله «على اللفظ قال:» كما لا يجوزُ دخولُ «مِنْ» لو حَذَفْتَ المبدل منه لأنها لا تدخل في الإِيجاب «وهذا كلامٌ متهافت. والنصبُ على الاستثناء، والقراءتان الأُوْلَيان أرجحُ؛ لأن الكلامَ متى كان غيرَ إيجاب رَجَحَ الإِتباع على النصب على الاستثناء، وحكمُ» غير «حكمُ الاسمِ الواقعِ بعد» إلا «. و» من إله «إذا جَعَلْته مبتدأ فلك في الخبر وجهان أظهرهما: أنه» لكم «، والثاني: أنه محذوفٌ أي: ما لكم مِنْ إلهٍ في الوجود أو في العالم غير الله، و» لكم «على هذا تخصيصٌ وتبيين. وجيء هنا بفاء العطف حيث قيل» فقال «وكذا في المؤمنين، وفي قصة هود وصالح وشعيب هنا بغير فاء، والأصل الفاء، وإنما حُذِفَتْ تخفيفاً

وتوسُّعاً واكتفاءً بالربط المعنوي، وكانت الثواني فما بعدها بالحذف أوْلى، وأمَّا في هود فيقدَّر قبل قوله» إني لكم «: فقال، بالفاء على الأصل. وجاء هنا {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} فلم يَعْطِفْ هذه الجملةَ المنفيَّة بفاءٍ ولا غيرها لأنها مبينة ومنبِّهة على اختصاص الله تعالى بالعبادة ورَفْضِ ما سواه وكانت في غاية الاتصال.

60

وقال ابن عطية: «وقرأ ابن عامر» المَلَوُ «بواو وهي كذلك في مصاحف الشام، وهذه القراءة ليست مشهورةً عنه» . قوله {لَنَرَاكَ} يجوز أن تكون القلبيةَ فتتعدَّى لاثنين ثانيهما «في ضلال» ، وأن تكون البصريةَ وليس بظاهر فالجارُّ حال، وجعل الضلالَ ظرفاً مبالغةً في وَصْفهم له بذلك، وزادوا في المبالغة بأن أكَّدوا ذلك بأنْ صَدَّروا الجملة ب «إنَّ» وفي خبرها اللام.

61

وقوله تعالى: {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} : مِنْ أحسنِ الردَّ وأبلغه لأنه نفى أن تلتبسَ به ضلالةٌ واحدة فضلاً عن أن يحيطَ به الضلال، ولو قال لستُ ضالاً لم يؤدِّ هذا المؤدَّى. وقوله: «ولكني» جاءت «لكن» هنا أحسنَ مجيء لأنها بين نقيضين، لأن الإِنسان لا يخلو من أحد شيئين: ضلال أو هدى، والرسالة لا تجامع الضلالَ. و «من رب» صفة لرسول و «مِنْ» لابتداء الغاية المجازية.

62

وقوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ} : يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفة أُتي بها لبيان كونِه رسولاً، ويجوز أن تكونَ صفةً لرسول، ولكنه راعى الضمير السابق الذي للمتكلم فقال: «أُبَلِّغُكُمْ» ولو راعى الاسمَ الظاهر بعده لقال: يُبَلِّغكم، والاستعمالان جائزان في كل اسم ظاهر سبقه ضميرٌ حاضر من متكلم أو مخاطب فتحرَّر لك فيه وجهان: مراعاةُ الضميرِ السابق وهو الأكثر ومراعاةُ الاسمِ الظاهر، فتقول: «أنا رجلٌ أفعل كذا» مراعاةً ل: أنا. وإن شئت «أنا رجلٌ يفعل كذا» مراعاةً لرجل، ومثله: «أنت رجل تفعل ويفعل» بالخطاب والغيبة. وقوله {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] جاء على الأكثر. ومثله ما لو وقع بعد الضمير موصولٌ نحو: «أنا الذي فَعَلْتُ وفعل» ، و «أنت الذي فعل وفعلت» . ومنه: 2225 - نحن الذين بايَعُوا محمَّداً ... على الجهاد ما بقينا أبدا فَجَمَعَ بين الاستعمالين، وقد تقدَّم هذا بأوضحَ منه هنا. وقرأ أبو عمرو: «أُبْلِغُكم» بالتخفيف والباقون بالتشديد، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعَيْن وفي الأحقاف. والتضعيف والهمزةُ للتعدية كأنزل ونَزَّل. وجمع «رسالة» باعتبار أنواعها من أمرٍ ونهيٍ ووَعْظٍ وزجر وإنذار وإعذار. وقد جاء الماضي على أفْعَل في قوله {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} [هود: 57] فهذا شاهدٌ لقراءة أبي عمرو، وجاء على فَعَّل في قوله: {

فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] فهذا شاهدٌ لقراءة الجماعة.

63

قوله تعالى: {أَن جَآءَكُمْ} : أي مِنْ أَنْ جاءكم، فلمَّا حَذَفَ الحرف جرى الخلاف المشهور. وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهمزة السابقة على الواو. وقدَّر الزمخشري على قاعدتِه معطوفاً عليه محذوفاً/ تقديرُه: أكذَّبتم وعَجِبْتم. و «مِنْ ربكم» صفةٌ لذِكْر. وقوله «على رجل» يجوز أن يكونَ على حذفِ مضافٍ أي: على لسان رجل. وقيل «على» بمعنى مع أي: مع رجل فلا حذف، وقيل: لا حاجة إلى حَذْفٍ ولا إلى تضمينِ حرفٍ لأنَّ المعنى: أُنزل إليكم ذِكْرٌ على رجل، وهذا أَوْلَى، لأن التضمينَ في الأفعال أحسنُ منه في الحروف لقوتها وضعف الحروف.

64

وقوله تعالى: {فِي الفلك} : يجوز أن يتعلَّق بأَنْجيناه أي: أنجيناه في الفلك. ويجوز أن تكونَ «في» حينئذ سببيةً أي: بسبب الفُلْك كقوله «إنَّ امرأةً دخلت النار في هرة» ويجوز أن يتعلق «في الفلك» بما تعلَّق به الظرفُ الواقعُ صلةً أي: الذين استقروا في الفلك معه. و «عَمِين» جمع عَمٍ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة. وقيل هنا: عمٍ إذا كان أعمى البصيرة غيرَ عارفٍ بأموره، وأعمى أي في البصَر. قال زهير: 2226 - وأَعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمسِ قبله ... ولكنني عن عِلْمِ ما في غدٍ عَمِ وهذا قول الليث. وقيل: عمٍ وأعمى بمعنىً، كخَضِر وأخضر. وقال بعضهم: «عَمٍ» فيه دلالةٌ على ثبوت الصفة واستقرارِها كفَرِح وضَيّق، ولو أُريد

الحدوثُ لقيل: عامٍ كما يُقال: فارح وضائق. وقد قُرِئ «قوماً عامين» حكاها الزمخشري.

65

قوله تعالى: {أَخَاهُمْ هُوداً} : «أخاهم» نصب بأَرْسَلْنا الأولى كأنه قيل: لقد أرسلْنا نوحاً وأرسلْنا إلى عادٍ أخاهم، وكذلك ما يأتي من قوله {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ} [الأعراف: 73] {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85] {وَلُوطاً} [الأعراف: 80] ويكون ما بعد «أخاهم» بدلاً أو عطف بيان. وأجاز مكي أن يكونَ النصبُ بإضمار «اذكر» وليس بشيء؛ لأن المعنى على ما ذكرْتُ مع عدم الاحتياج إليه. و «عاد» اسم للحَيِّ ولذلك صَرَفَه، ومنهم مَنْ جعله اسماً للقبيلة، ولذلك منعه. قال: 2227 - لو شَهْدَ عادَ في زمانِ عادِ ... لابْتَزَّها مَبارِكَ الجِلادِ وعاد في الأصل اسم للأب الكبير، وهو عاد بن عوص بن أرَم ابن سام بن نوح فسُمِّيت به القبيلةُ أو الحيّ، وكذلك ما أشبهه من نحو «ثمود» إنْ جَعَلْته اسماً لمذكَّر صَرَفْتَه، وإنْ جَعَلْته اسماً لمؤنث مَنَعْته. وقد بَوَّب له سيبويه باباً. وأمَّا هود فاشتهر في ألسنة النحاة أنه عربي، وفيه نظرٌ؛ لأن الظاهرَ من كلام سيبويه لمَّا عَدَّه مع نوح ولوط أنه أعجمي، ولأنَّ

أبا البركات النسَّابة الشريف حكى أن أهل اليمن تزعم أن يَعْرُبَ ابنَ قحطان بن هود هو أولُ مَنْ تكلم بالعربية وسُمِّيت به العَرَبُ عَرَباً، وعلى هذا يكون «هود» أعجمياً، وإنما صُرِفَ لِما ذُكر في أخويه نوح ولوط. وهود اسمه عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح، فمعنى «أخاهم» أنه منهم. ومَنْ قال: إنه مِنْ عاد في النسب فالأخوة ظاهرة. وهنا «قال» بغير فاء وقد تقدَّم أنها مُرادةٌ. وقال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ يُحْذَفُ العاطفُ من قوله» قال يا قوم «ولم يقل: فقال، كما في قصة نوح؟ قلت: هو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال لهم هود؟ فقيل له:» قال يا قوم «. انتهى. وعلى هذا فلا تُقَدَّر هذه الفاءُ البتة.

66

وقيل هنا: {قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ} فوَصَفَ الملأَ بالكفر، ولم يُوصفوا في قصة نوح. فقيل: لأن هذه صفةٌ مميزة، إذ منهم مَنْ آمن كمرثد بن سعد بخلاف قوم نوح فإنه لم يؤمنْ منهم أحدٌ. قاله الزمخشري وغيرُه. وفيه نظرٌ لقوله تعالى {لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] ويحتمل أنَّ حال مخاطبةِ نوحٍ لقومٍ لم يؤمن منهم أحد بعدُ ثم آمنوا، بخلاف قصة هود فإنه حالَ الخطابِ كان فيهم مؤمن، ويُحتمل أن يكونَ صفةً لمجرد الذمِّ من غير قَصْدِ تمييزٍ بها.

69

قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَكُمْ} : في «إذ» وجهان أحدهما: أنه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمَّنَتْه الآلاء من معنى الفعل كأنه قيل: واذكروا نِعَمَ اللهِ عليكم في هذا الوقت. ومفعولُ «اذكروا» محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك: فاذكروا آلاءَ الله، ولأنَّ قوله «إذ جعلكم خُلَفاء» ، وزادكم كذا هو نفس الآلاء، وهذا ظاهرُ قولِ الحوفي. وقال الزمخشري: «إذ» مفعول اذكروا، أي: / اذكروا هذا الوقتَ المشتمل على النِّعَمِ الجسيمة «. وقوله {فِي الخلق} : يُحتمل أن يُراد به المصدر، بمعنى في امتداد قاماتكم، في حُسْن صُوَركم وعِظَم أجسامكم، ويحتمل أن يُرادَ به معنى المفعول به أي: في المخلوقين بمعنى زادكم في الناس مثلكم بسطة عليهم، فإنه لم يكن في زمانِهم مثلُهم في عِظَم الأَجْرام. وَرَدَ في التفسير أنَّ أقصرَهم ستون ذراعاً. وتقدَّم الخلاف في» بَسْطة «في البقرة. قوله: {آلآءَ الله} أي نِعَمه، وهو جمعٌ مفردُه» إلْيٌ «بكسر الهمزة وسكونِ اللام كحِمْل وأحمال، أو» أُلْي «بضم الهمزة وسكون اللام كقُفل وأقفال، أو» إلَى «بكسرِ الهمزة وفتح اللام كضِلَع وأضلاع وعِنب وأعناب، أو» أَلَى «بفتحها كقفا وأقفاء، قال الأعشى: 2228 - ... أبيضُ لا يَرْهَبُ الهُزال ولا يقطعُ رَحْمي ولا يَخُونُ إلى ... يُنشد بكسر الهمزة وهو المشهور وبفتحها ومثله» الآناء «جمع إنْي أو أُنْي أو إنَى أو أَنَى. وقال الأخفش:» إنْوٌ «. والآناء: الأوقات كقوله: {وَمِنْ آنَآءِ الليل} [طه: 130] وسيأتي.

70

قوله تعالى: {لِنَعْبُدَ} : متعلِّقٌ بالمجيء الذي أنكروه عليه. وقوله «إن كنتَ» جوابُه محذوف أو متقدم وهو «فَأْت به» .

71

وقوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ} : إمَّا متعلق بوَقَع، ومِنْ للابتداء مجازاً، وإمَّا أن يتعلَّق بمحذوف لأنها حال إذ كانت في الأصل صفة لرجس. وقوله «سَمَّيْتُموها» صفةٌ لأسماء، وكذلك الجملة من قوله «ما نَزَّل الله» و «مِنْ سلطان» مفعول «نَزَّل» ومِنْ مزيدة. و «من المنتظرين» خبر «إني» . و «معكم» فيه ما تقدَّم في قوله {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] . ويجوز وهو ضعيف أن يكون «معكم» هو الخبر و «من المنتظرين» حال، والتقدير: إني مصاحبُكم حالَ كوني من المنتظرين النصرَ والفرجَ من الله تعالى، وليس بذاك لأن المقصود في الكلام هو الانتظارُ لمقابلة قوله «فانتظروا» فلا تُجْعل فَضْلة.

73

قوله تعالى: {وإلى ثَمُودَ} : ثمود اسم رجل وهو ثمود ابن جاثر بن إرَم بن سام وهو أخو جديس، فثمود وجديس أخوان ثم سُمِّيت به هذه القبيلة، والأكثر مَنْعُه اعتباراً بما ذكرته، ومنهم مَنْ جَعَله اسماً للحيِّ فصرفه وهي قراءةُ الأعمش ويحيى بن وثاب في جميع القرآن، وسيأتي لك خلاف بين القراء السبعة في سورة هود وغيرها. وقيل: سُمُّوا ثمود لقلة مائهم، والثَّمْدُ الماء القليل. قال النابغة: 2229 - واحْكُمْ كحكم فتاة الحي إذ نظرَتْ ... إلى حَمامٍ شِراعٍ واردِ الثَّمَدِ وصالح اسم عربي وهو صالح بن آسف. وقيل: ابن عبيد بن آسف ابن كاشح بن أروم بن ثمود بن جاثر.

قوله: {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} قد كثُر إيلاءُ هذه اللفظةِ العواملَ، فهي جاريةٌ مَجْرى الأبطح والأبرق في عدم ذِكْرِ موصوفها. وقوله: «من ربكم» يحتمل أن تتعلَّق بجاءتكم و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً، وأن تتعلق بمحذوف لأنها صفةُ بَيِّنة. ولا بد مِنْ حَذْف مضاف أي: من بينات ربكم ليتصادَقَ الموصوفُ وصفتُه. وقوله: «آية» نصب على الحال لأنها بمعنى العلامة. والعاملُ فيها: إمَّا معنى التنبيه، وإمَّا معنى الإِشارة كأنه قال: أنبِّهكم عليها أو أُشير إليها في هذه الحال. ويجوز أن يكون العاملُ مضمراً تقديره: انظروا إليها في هذه الحال، والجملةُ لا محلَّ لها لأنها كالجواب لسؤالٍ مقدر كأنهم قالوا: أين آيتك؟ فقال: هذه ناقةُ الله، وأضافها إلى الله تشريفاً كبيت الله وروح الله، وذلك لأنها لم تتوالد بين جَمَلٍ وناقة بل خَرَجَتْ من صَلْد كما هو المشهور. وقوله {لِكُمْ} أي: أعني لكم، وخُصُّوا بذلك لأنهم هم السائلوها أو المتفعون بها من بين سائر الناس لو أطاعوا. ويحتمل أن تكون «هذه ناقة الله» مفسرةً لقوله «بيِّنة» لأنَّ البينة تستدعي شيئاً يتبيَّن به المُدَّعَى، فتكون الجملةُ في محل رفع على البدل، وجاز إبدال جملةٍ من مفرد لأنها في قوته. قوله: {في أَرْضِ الله} الظاهرُ تعلُّقه ب «تأكل» وقيل: يجوز تعلُّقه بقوله «فَذَرُوها» ، وعلى هذا فتكونُ المسألة من التنازع وإعمال الثاني، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني فقال: تأكل فيها في أرض الله. / وانجزم «تأكل» جواباً للأمر. وقد تقدم الخلافُ في جازمه: هل هو نفسُ الجملة الطلبية أو أداة مقدرة؟ وقرأ أبو جعفر «تأكلُ» برفع الفعل على أنه حالٌ «، وهو نظير {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} [مريم: 6] رفعاً وجزماً.

74

قوله تعالى: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض} بوَّأه: أنزله منزلاً. والمَبَاءةُ المنزل، وتقدَّمَتْ هذه المادة في آل عمران وهو يتعدَّى لاثنين، فالثاني محذوف أي: بَوَّأكم منازل. و «في الأرض» متعلقٌ بالفعل وذُكِرَتْ ليبني عليها ما يأتي بعدها من قوله «تَتَّخذون» . قوله: «تَتَّخذون» يجوز أن تكونَ المتعديةَ لواحد، فيكونَ «من سهولها» متعلقاً بالاتخاذ أو بمحذوف على أنه حال من «قصوراً» إذ هو في الأصل صفةٌ لها لو تأخر، بمعنى أنَّ مادة القصور مِنْ سهل الأرض كالجبس واللِّبَن والآجرّ كقوله: {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ} [الأعراف: 148] أي: مادته من الحُلِيِّ. وقيل: «مِنْ» بمعنى في. وفي التفسير: أنهم كانوا يسكنون في القصور صيفاً وفي الجبال شتاءً. وأن تكونَ المتعدية لاثنين ثانيهما «من سهولها» . قوله: {وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً} : يجوز أن تكون «الجبال» على إسقاط الخافض أي: من الجبال، كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] فيكون «بيوتاً» مفعولَه. ويجوز أن يُضَمَّن «تَنْحِتون» معنى ما يتعدَّى لاثنين أي: وتتخذون الجبال بيوتاً بالنحت أو تُصَيِّرونها بيوتاً بالنحت. ويجوز أن يكون «الجبال»

هو المفعول به و «بيوتاً» حالٌ مقدرة كقولك: خِطْ هذا الثوب جُبَّةً، أي: مقدراً له كذلك. و «بيوتاً» وإن لم تكن مشتقةً فإنها في معناه أي: مسكونة. وقرأ الحسن: «تَنْحَتون» بفتح الفاء. وزاد الزمخشري أنه قرأ: «تنحاتون» بإشباع الفتحة ألفاً، وأنشد: 2230 - يَنْباع من ذِفْرى غضوبٍ جَسْرَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . وقرأ يحيى بن مصرف وأبو مالك بالياء من أسفل على الالتفات. إلا أن أبا مالك فَتَح الحاء كقراءة الحسن. والسهلُ من الأرض مالان وسَهُلَ الانتفاع به ضد الحَزَن. والسهولة: التيسير. والقُصور: جمع قَصْر وهو البيت المُنيف، سُمِّي بذلك لقُصور الناس عن الارتقاء إليه، أو لأن عامَّة الناس يُقَصِّرون عن بناء مثله بخلاف خواصِّهم، أو لأنه يُقتصر به على بُقْعَةٍ من الأرض بخلاف بيوت الشعر والعُمُد، فإنها لا يُقتصر بها على بُقْعَةٍ مخصوصة لارتحال أهلها، أو لأنه يَقْصُر مَنْ فيه أي يَحْبِسه، ومنه: {وحُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} [الرحمن: 72] والنَّحْتُ: النَّجْر في شيء صُلْب كالحجر والخشب قال: 2231 - أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسلسلةٍ ... والليلُ في بَطْنِ منحوت من الساج وقرأ الأعمش: «ولا تِعْثُوا» بكسر حرف المضارعة. وقد تقدم أن ذلك لغةٌ. و «مفسدين» حال مؤكدة إذ معناها مفهوم من عاملها. و «في الأرض» متعلقٌ بالفعلِ قبله أو بمفسدين.

75

قوله تعالى: {قَالَ الملأ} : قرأ ابن عامر وحده: «وقال» بواو عطف نسقاً لهذه الجملة على ما قبلها، وموافقةً لمصاحف الشام، فإنها مرسومة فيها. والباقون بحَذْفِها: إمَّا اكتفاءً بالربط المعنويِّ، وإمَّا لأنه جواب لسؤالٍ مقدر كما تقدَّم نظيره، وموافقةً لمصاحفهم، وهذا كما تقدم في قوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} [الأعراف: 43] إلا أنه هو الذي حَذَف الواو هناك. قوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا} اللام للتبليغ. ويَضْعُف أن تكون للعلة. والسين في «استكبروا» و «استضعفوا» يجوز أن تكونَ على بابِها من الطلب أي: طلبوا أولئك الكِبْرَ من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف. ويجوز أن يكون استفعل بمعنى فَعَل كعجب واستعجب. قوله: {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدلٌ من «الذين اسْتُضْعِفُوا» بإعادة العامل، وفيه وجهان أحدهما: أنه بدلُ كل مِنْ كل إن عاد الضمير في «منهم» على قومه، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط. كأنه قيل: قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح. والثاني: أنه بدلُ بعضٍ من كل إن عادَ الضمير على المستضعفين، ويكون المستضعفون ضربَيْن: مؤمنين وكافرين، كأنه قيل: / قال المستكبرون للمؤمنين من الضعفاء دون الكافرين من الضعفاء. وقوله: {أَتَعْلَمُونَ} في محلِّ نصب بالقول. و «من ربه» متعلق بمُرْسَل. و «مِنْ» للابتداء مجازاً، ويجوز أن تكونَ صفةً فتتعلَّق بمحذوف. قوله: {بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ} متعلِّقٌ ب «مؤمنون» قُدِّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة. و «ما» موصولةٌ. ولا يجوز هنا حَذْفُ العائد وإن اتحد الجارُّ للموصول وعائدِه؛ لاختلاف العامل في الجارَّيْن. وكذلك قوله: {

بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 76] .

77

والعَقْر أصله كشف العراقيب في الإِبل وهو: أن تُضْرب قوائمُ البعير أو الناقة فتقع، وكانت هذه سنَتهم في الذَّبْح. قال امرؤ القيس: 2232 - ويومَ عَقَرْتُ للعَذارى مطيَّتي ... فيا عَجَباً مِنْ رَحْلِها المُتَحَمَّلِ ثم أُطْلِق على كل نحرٍ، وإن لم يكنْ فيه كَشْفُ عراقيب تسميةً للشيء بما يلازمه غالباً إطلاقاً للسبب على مسبَّبه. هذا قول الأزهري. وقال ابن قتيبة: «العَقْر: القتل كيف كان، عَقَرْتُها فهي معقورة» . وقيل: العَقْرُ: الجرح. وعليه قول امرئ القيس: 2233 - تقول وقد مال الغَبيط بنا معاً ... عَقَرْتَ بعيري يا امرأَ القيسِ فانزِلِ تريد: جَرَحْتَه بثقلك وتمايُلِكَ. والعُقْر والعَقْر بالفتح، والضم الأصل، ومنه عَقَرْتُه أي: أصبت عَقْره يعني أصلَه كقولهم: كَبَدْتُه ورَأَسْتُه أي: أصبت كَبِده ورأسه، وعَقَرْتَ النخل: قطعته من أصله. والكلب العَقُور منه. والمرأة عاقر، وقد عُقِرَت. والعُقْر بالضم آخر الولد وآخر بيضة، يقال: عُقِر البَيْض. والعَقار: بالفتح المِلْك من الأبنية ومنه «ما غُزي قوم في عُقْر دارهم إلا ذلُّوا» وبعضهم يَخُصُّه بالنخل. والعُقار بالضمِّ الخمر لأنها كالعاقِرة للعقل ورَفَعَ عَقِيْرَته أي: صوتَه، وأصلُه أن رجلاً عَقَر رِجْلَه فَرفَع صوته فاستُعير لكل صائح. والعُقْر بالضم أيضاً: المَهْر. وقوله: {وَعَتَوْاْ} العُتُوّ والعُتِيُّ: النُّبُوُّ أي: الارتفاع عن الطاعة يقال منه: عَتَا يَعْتُو عُتُوًّاً وعُتِيَّاً، بقلب الواوين ياءين، والأحسنُ فيه إذا كان مصدراً

تصحيحُ الواوين كقوله: {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21] . وإذا كان جمعاً الإِعلالُ نحو: قوم عُتِيٌّ لأن الجمعَ أثقلُ، قياسُه الإِعلالُ تخفيفاً. وقوله: {أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} [مريم: 69] . وقوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} [مريم: 8] أي: حالةً تتعذَّر مداواتي فيها وهو كقوله: 2234 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومن العَناءِ رياضَةُ الهَرِمِ وقيل: العاتي: الجاسي أي اليابس. ويقال: عَثَا يَعْثُو عُثُوَّاً بالثاء المثلثة من مادة أخرى لأنه يقال: عَثِي يَعْثَى عِثِيَّاً وعثا يَعْثُو عُثُوَّاً، فهو في إحدى لغتيه يشاركه «عتا» بالمثناة وزناً ومعنى، ويقاربه في حروفه. والعَيْثُ أيضاً بتقديم الياء من أسفل على الثاء المثلثة هو الفساد، فيحتمل أن يكونَ أصلاً وأن يكون مقلوباً فيه. وبعضهم يجعل العَيْث الفساد المُدْرَك حسَّاً والعِثِيّ في المُدْرَك حكماً وقد تقدم لك طرف من هذا. وقوله: {يَا صَالِحُ ائتنا} يجوز لك على رواية مَنْ يُسَهِّل الهمزة وهو ورش والسوسي أن تُبْدِلَ الهمزة واواً، فتلفظ بصورة يا صالحُ وْتِنا في الوصل خاصة، تُبْدِل الهمزة بحركة ما قبلها وإن كانت منفصلة من كلمة أخرى. وقرأ عاصم وعيسى بن عمر: أُوْتنا بهمزٍ وإشباعِ ضم، ولعله عاصم الحجدري لا ابن النجود، وهذه القراءة لا تبعد عن الغلط لأن همزة الوصل في هذا النحوِ مكسورةٌ فمن أين جاءت ضمةُ الهمزة إلا على التوهُّم؟

وقوله: {بِمَا تَعِدُنَآ} العائدُ محذوفٌ أي: تَعِدُناه، ولا يجوز أن تقدر «تَعِدُنا» متعدياً إليه بالباء، وإن كان الأصلُ تعديتَه إليه بها؛ لئلا يلزمَ حذفُ العائدِ المجرور بحرفٍ من غير اتحادِ متعلَّقهما، لأنَّ «بما» متعلِّقٌ بالإِتيان، و «به» متعلِّقٌ بالوعد.

78

والرَّجْفَةُ: الزلزلةُ الشديدة يقال: رَجَفَتِ الأرضُ تَرْجُف رَجْفاً ورَجِيْفاً ورجَفاناً. وقيل: الرَّجْفَةُ: الطامَّةُ التي يتزعزعُ لها الإِنسانُ ويضطرب، ومنه قيل للبحر: رَجَّاف لاضطرابه. وقيل: أصلُه مِنْ رجَفَ به البعيرُ إذا حرَّكه في سَيْره، قال ابن أبي ربيعة: 2235 - ولَمَّا رَأَيْتُ الحجَّ قد حان وقتُه ... وظَلَّتْ جِمال القومِ بالحيِّ تَرْجُفُ والإِرجاف: إيقاعُ الرَّجْفَةِ، وجمعُه الأراجيف ومنه «الأراجيف ملاقيحُ الفِتَنِ» . وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} [النازعات: 4] كقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] ومنه: 2236 - تُحْيي العظام َالراجفاتِ من البِلى ... وليس لداءِ الرُّكبتين طبيبُ والجُثُوم: اللُّصوقُ بالأرض مِنْ جُثُوم الطائر والأرنب، فإنه يَلْصِقُ بطنَه/ بالأرض، ومنه رجلٌ جُثَمَة وجَثَّامة، كناية عن النؤوم الكَسْلان، وجُثْمان

الإِنسان شخصُه قاعداً. وقال أبو عبيد: «الجُثُوم للناس والطيرِ كالبُروك للإِبل. وأنشد لجرير: 2237 - عَرَفْتُ المُنْتَأَى وعَرَفْتُ منها ... مَطايا القِدْر كالحِدَأ الجُثُومِ قال الكرماني:» حيث ذُكِرت الرَّجْفةُ وُحِّدت الدار، وحيث ذُكرت الصيحةُ جُمِعَتْ، لأنَّ الصيحةَ كانت من السماء فبلوغُها أكبرُ وأبلغُ من الزلزلة، فَذَكَرَ كلَّ واحدٍ بالأليق به. وقيل في دارهم: أي بلدهم. وقيل: المرادُ بها الجنسُ. والفاء في «فَأَخَذَتْهم» للتعقيب. ويمكن أن تكونَ عاطفةً على الجملة من قوله «فَأْتِنا» وذلك على تقديرِ قربِ زمان الهلاك من زمان طلب الإِتيان. ويجوز أن يُقَدَّر ما يَصِحُّ العطفُ عليه بالفاء، والتقدير: فوعدهم العذابَ بعد ثلاث فانقضت فأَخَذَتْهم. ولا يُلتفت إلى ما ذكره بعضُ الملاحدةِ في قوله {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وفي موضعٍ آخرَ: {الصيحة} [هود: 67] ، وفي موضع آخر {بالطاغية} [الحاقة: 5] واعتقد ما لا يجوز، إذ لا منافاةَ بين ذلك، فإن الرَّجْفَةَ مترتبةٌ على الصيحة، لأنه لمَّا صِيح بهم رَجَفَتْ قلوبُهم فماتوا، فجاز أن يُسْنَدَ الإِهلاكُ إلى كلٍ منهما. وأمَّا «بالطاغية» فالباء للسببية. والطاغية: الطُّغيان مصدر كالعاقبة، ويقال للمَلِكِ الجبار طاغية، فمعنى «أُهْلِكوا بالطاغية» أي بطغيانهم كقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} [الشمس: 11] أي: بسبب طُغْيانهم.

وقوله «فأصبحوا» يجوز أن تكونَ الناقصةَ، فجاثمين خبرُها، و {في ديارهم} متعلِّقٌ به، ولا يجوزُ أن يكونَ الجارُّ خبراً و «جاثمين» حال لعدمِ الفائدة بقولك «فأصبحوا في دارهم» وإن جاز الوجهان في قولك: «أصبح زيد في الدار جالساً» ، ويجوز أن تكونَ التامَّةَ أي: دخلوا في الصباح، و «جاثمين» حال، والأولُ أظهرُ.

79

وقوله تعالى: {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ} : قيل: «كان» محذوفة هنا لأنه حكايةُ حالٍ ماضية أي: ولكن كنتم لا تحبون.

80

قوله تعالى: {وَلُوطاً} : فيه وجهان أحدهما: أنه منصوب بأَرْسَلْنا الأول، و «إذا» ظرفٌ للإِرسال. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار «اذكر» . وفي العامل في الظرفِ حينئذٍ وجهان، أحدهما: وهو قول الزمخشري أنه بدلٌ من «لوطاً» قال: «بمعنى: واذكر وقتَ إذ قال لقومه» وهذا على تسليمِ تصرُّفِ «إذ» . والثاني: أن العاملَ فيها مقدَّرٌ تقديرُه: واذكر رسالةَ لوطٍ إذ قال. فإذ منصوب برسالة. قاله أبو البقاء، والبدلُ حينئذٍ بدلُ اشتمال. قوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب. وعلى الاستئنافِ يُحتمل أن تكونَ جواباً لسؤال وأَنْ لا تكونَ. قال الزمخشري: «فإن قلت: ما موضعُ هذه الجملة؟ قلت: لا مَحَلَّ لها لأنها مستأنفة، أنكر عليهم أولاً بقوله: {أَتَأْتُونَ الفاحشة} ثم

وبَّخهم عليها فقال: أنتم أولُ مَنْ عَمِلَها. أو تكونُ جواباً لسؤال مقدَّر، كأنهم قالوا: لِمَ لا تأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحدٌ فلا تفعلوا ما لم تُسْبَقوا به» . والباء في «بها» فيها وجهان، أظهرهُما: أنها حاليةٌ أي: ما سَبَقكمْ أحدٌ مصاحِباً لها أي: ملتبساً بها. والثاني: أنها للتعديةِ. قال الزمخشري: «الباءُ للتعدية مِنْ قولك:» سَبَقْته بالكُرة «إذا ضربْتَها قبله. ومنه قوله عليه السلام:» سبقك بها عُكاشة «قال الشيخ:» والتعديةُ هنا قلقةٌ جداً؛ لأنَّ الباءَ المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد [هي] بجَعْل المفعولِ الأولِ يَفْعل ذلك الفعلَ بما دَخَلَتْ عليه الباءُ فهي كالهمزة، وبيان ذلك أنك إذا قلت: «صَكَكْتُ الحجرَ بالحجر» كان معناه: أَصْكَكْت الحجرَ أي: جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر، فكذلك: دَفَعْتُ زيداً بعمرو عن خالد، معناه: أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي: جَعَلْتُ زيداً يدفع عمراً عن خالد، فللمفعول الأول تأثيرٌ في الثاني، ولا يصحُّ هذا المعنى هنا إذ لا يَصِحُّ أن يقدَّر: أَسْبَقْتُ زيداً الكرة أي: جَعَلْتُ زيداً يَسْبِق الكرة إلا بمجازٍ متكلِّف، وهو أن تجعلَ ضربَك للكرة أولَ جَعْلٍ ضربةً قد سبقها أي تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا «. و» مِنْ «الأولى لتأكيد الاستغراق والثانية للتبعيض. الوجه الثاني من وجهَيْ الجملة: أنها حال، وفي صاحبها وجهان أحدهما: هو الفاعل أي: أتأتون مبتدئين بها. والثاني: هو المفعول أي: / أتأتونها مُبْتَدَأً بها غيرَ مسبوقةٍ من غيركم.

81

قوله تعالى: {أإنكم} : قرأ نافع وحفص عن عاصم: «إنكم» على الخبر المستأنف وهو بيانٌ لتلك الفاحشةِ. وقرأ الباقون بالاستفهام المقتضي للتوبيخ. قوله: {شَهْوَةً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجلِ الاشتهاء، لا حاملَ لكم عليه إلا مجردُ الشهوة لا غير. والثاني: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال أي: مشتهين أو باقٍ على مصدريته، ناصبه «أتَأْتُون» لأنه بمعنى أتشتهون. ويقال: شَهِيَ يَشْهى شَهْوة، وشَها يَشْهو شهوة قال: 2238 - وأَشْعَثَ يَشْهى النومَ قلت له ارتحِلْ ... إذا ما النجومُ أعرضَتْ واسْبَكَرَّتِ وقد تقدَّم ذلك في آل عمران. قوله: {مِّن دُونِ النسآء} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «الرجال» أي: أتأتونهم منفردين عن النساء. والثاني: أنه متعلِّقٌ بشهوة قاله الحوفي. وليس بظاهرٍ أن تقولَ: «اشتهيت من كذا» ، إلا بمعنىً غيرِ لائق هنا. والثالث: أن يكونَ صفةً لشهوة أي: شهوةً كائنة من دونهن. قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ} «بل» للإِضرابِ، والمشهور أنه إضراب انتقالٍ من قصة إلى قصة إلى قصة، فقيل: عن مذكور، وهو الإِخبارُ بتجاوزهم عن الحدِّ في هذه الفاحشةِ أو عن توبيخهم وتقريرِهم والإِنكارِ عليهم. وقيل: بل للإِضراب عن شيء، محذوف. واختُلِفَ فيه: فقال أبو البقاء: «تقديره ما عَدَلْتُم بل أنتم» . وقال الكرماني: «بل» رَدٌّ لجوابٍ زعموا أن يكونَ لهم عُذْراً أي: لا عذرَ لكم بل «.

وجاء هنا بصفة القوم اسمَ الفاعل وهو» مُسْرفون «؛ لأنه أدلُّ على الثبوت ولموافقة رؤوسِ الآيِ فإنها أسماء. وجاء في النمل» تَجْهَلُون «دلالةً على أنَّ جهلَهم يتجدَّد كلَّ وقتٍ ولموافقةِ رؤوس الآي فإنها أفعال.

82

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ} : العامَّةُ على نصب «جواب» خبراً للكون، والاسمُ «أنْ» وما في حَيِّزها وهو الأفصحُ، إذ فيه جَعْلُ الأعرفِ اسماً. وقرأ الحسن «جوابُ» بالرفع، وهو اسمُها، والخبر «إلا أَنْ قالوا» وقد تقدَّمَ ذلك. وأتى هنا بقوله «وما» ، وفي النمل والعنكبوت «فما» ، والفاء هي الأصلُ في هذا الباب لأنَّ المرادَ أنهم لم يتأخر جوابُهم عن نصيحته. وأمَّا الواوُ فالتعقيبُ أحدُ محاملها، فتعيَّن هنا أنها للتعقيب لأمرٍ خارجي وهي العربية في السورتين المذكورتين لأنها اقتضَتْ ذلك بوضعها.

83

قوله تعالى: {إِلاَّ امرأته} : استثناء من أهله المُنْجَيْن. وقوله: {كَانَتْ مِنَ الغابرين} جوابُ سؤالٍ مقدر. وهذا كما تقدم في البقرة وفي أول هذه السورة في قصة إبليس. والغابر: المُقيم. هذا هو مشهورُ اللغة، وأنشدوا قول أبي ذؤيب الهذلي: 2239 - فَغَبَرْتُ بعدهمُ بعيشٍ ناصِبٍ ... وإخالُ أني لاحقٌ مُسْتَتْبَعُ

ومنه غُبَّرُ اللبن لبقيَّته في الضَّرْع، وغُبَّرُ الحَيْض أيضاً، قال أبو كبير الهذلي، ويُروى لتأبَّط شراً: 2240 - ومُبَرَّأً من كل غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وفَسادِ مُرْضِعَةً وداءٍ مُعْضِلِ ومعنى «من الغابرين» في الآية أي: مِن المقيمين في الهلاك. وقال بعضهم: «غَبَر بمعنى مَضَى وذهب» ومعنى الآية يساعده، وأنشد للأعشى: 2241 - عَضَّ بما أَبْقى المَواسِيْ له ... مِنْ أُمِّه في الزمن الغابر أي: الزمن الماضي. وقال بعضهم: غَبَر أي غاب، ومنه قولهم: «غبر عنا زماناً» وقال أبو عبيدة: «غَبَرَ: عُمِّر دهراً طويلاً حتى هَرِم، ويدل له: {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين} [الصافات: 135] . والحاصلُ أن الغُبور مشتركٌ كعسعس أو حقيقةٌ ومجازٌ وهو المرجح. والغبار: لما يَبْقى من التراب المُثار. ومنه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40] تخييلاً لتغيرها واسودادها. والغَبْراء الأرض. قال طرفة: 2242 - رأيتُ بني غَبْراءَ لا يُنْكِرونني ... ولا أهلَ هذاكَ الطرافِ المُمَدَّدِ

84

قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا} : قال أبو عبيد: «يقال: مُطِر في الرحمة، وأُمْطِر في العذاب» وقال أبو القاسم الراغب: «ويقال: مُطِر في

الخير، وأُمْطِر في العذاب، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [الحجر: 74] وهذا مردودٌ بقوله تعالى: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فإنهم إنما عَنَوا بذلك الرحمة، وهو مِنْ أَمْطَر رباعياً. ومَطَر وأمْطَر بمعنى واحد يتعديان لواحد يقال: مَطَرتهم السماء وأَمْطرتهم، وقوله تعالى هنا» وأَمْطَرْنا «ضُمِّن معنى» أرسلنا «ولذلك عُدِّي ب» على «، وعلى هذا ف» مَطَراً «مفعول به لأنه يُراد به الحجارة، ولا يُراد به المصدرُ أصلاً، إذ لو كان كذلك/ لقيل: أمطار. ويوم مطير. أي: مَمْطور. ويوم ماطِر ومُمْطِر على المجاز كقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] ووادٍ مطير فقط فلم يُتَجَوَّزْ فيه. ومطير بمعنى مُمْطِر قال: 2243 - حَمامةَ بطنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمِي ... سقاكِ مِن الغُرِّ الغَوادي مطيرها فعيل هنا بمعنى فاعل؛ لأنَّ السحاب يُمْطِرُ غيرها. ونكَّر» مطراً «تعظيماً.

85

قوله تعالى: {وإلى مَدْيَنَ} : اختُلِف في مَدْين فقيل: أعجمي فمنعُه للعجمة والعَلَميَّة، وهو مَدْين بن خليل الرحمن، فسُمِّيت به القبيلة. وقيل: هو عربيٌّ اسمُ بلد قاله الفراء وأنشد: 2244 - رهبانُ مَدْيَنَ والذين عَهِدْتُهُمْ ... يبكون مِنْ حَذَرِ العذابِ قُعودا لو يَسْمعون كما سمعتُ كلامَها ... خَرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجودا فمنعُه للعَلَمِيَّة والتأنيث، ولا بد حينئذ من حذف مضاف أي: وإلى أهل مَدْيَن، ولذلك أعاد الضمير في قوله «أخاهم» على الأهل، ويجوز أن يُراد

بالمكان ساكنوه، فروعي ذلك بالنسبة إلى عود الضمير عليه. وعلى تقدير كونه عربياً قالوا: فهو شاذ، إذ كان من حقِه الإِعلالُ كمتاع ومقام، ولكنهم شَذُّوا فيه كما شَذُّوا في مَرْيَم ومَكْوَزَة، وليس بشاذ عند المبرد لعدم جريانه على الفعل، وهو حقٌّ وإن كان الجمهور على خلافه. شُعَيْب: يجوز أن يكون تَصْغير شِعْب أو شَعب هكذا قالوا، والأدب ألاَّ يُقالَ ذلك، بل هذا موضوعٌ على هذه الزِّنَة وأمَّا أسماءُ الأنبياء فلا يَدْخل فيها تصغيرٌ البتةَ إلا ما نَطَق به القرآن على صيغةٍ تشبهه كشعيب عليه السلام وهو عربيٌّ لا أعجمي. قوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ} قد تقدَّم معنى هذه اللفظة في قوله: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة: 282] ، وهو يتعدَّى لاثنين وهما: الناسَ وأشياءَهم أي: لا تُنْقصوهم أشياءهم.

86

قوله تعالى: {بِكُلِّ صِرَاطٍ} : يجوز أن تكونَ الباءُ على حالها من الإِلصاقِ أو المصاحبةِ، أو تكونَ بمعنى في. و «تُوْعِدون» و «تَصُدُّون» و «تبغون» هذه الجملُ أحوالٌ أي: لا تقعدوا مُوْعِدين وصادِّين وباغين. ولم يذكر المُوْعَد به لتذهب النفسُ كلَّ مذهب. ومفعول «تصدُّون» «مَنْ آمن» ، قال أبو البقاء: «مَنْ آمن» مفعول «تصدُّون» لا مفعول «توعدون» إذ لو كان مفعولاً للأول لقال «تَصُدُّونهم» . يعني أنه لو كان كذلك لكانت المسألة من التنازع، وإذا كانت من التنازع وأَعْمَلْتَ الأول لأضمرْتَ في الثاني فكنت تقول: تَصُدُّونهم، لكنه ليس القرآن كذا، فدلَّ على أن «توعدون» ليس

عاملاً فيه، وكلامُه يحتمل أن تكون المسألةُ من التنازع ويكون ذلك على إعمال الثاني، وهو مختار البصريين وحَذَف من الأول وألاَّ تكونَ وهو الظاهر. وظاهرُ كلام ِالزمخشري أنها من التنازع، وأنه من إعمال الأول، فإنه قال: «فإن قلت: إلام يَرْجِعُ الضمير في» مَنْ آمن به «؟ قلت: إلى كل صراط، تقديره: تُوْعِدون مَنْ آمن به وتَصُدُّون عنه، فوضعَ الظاهر الذي هو» سبيل الله «موضعَ المضمر زيادةً في تقبيح أمرهم» . قال الشيخ: «وهذا تعسُّف وتكلُّف مع عدم الاحتياج إلى تقديمٍ وتأخيرٍ ووضْعِ ظاهرٍ موضعَ مضمر، إذ الأصلُ خلافُ ذلك كلِّه، ولا ضرورةَ تدعو إليه، وأيضاً فإنَّه من إعمال الأول وهو مذهبٌ مرجوح، ولو كان من إعمالِ الأول لأضمر في الثاني وجوباً، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورةِ شعرٍ عند بعضِهم كقوله: 2245 - بعكاظَ يُعْشي الناظِرِيْ ... نَ إذا هُمُ لَمَحُوا شعاعُه فأعمل» يُعْشي «ورفع به» شعاعُه «وحَذَفَ الضمير مِنْ» لمحوا «تقديره: لمحوه. وأجازه بعضُهم بقلةٍ في غير الشعر. والضمير في» به «: إمَّا لكل صراط كما تقدَّم عن أبي القاسم، وإمَّا على الله للعلم به، وإمَّا على سبيل الله، وجاز ذلك لأنه يذكَّر ويؤنَّثُ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال» به «فذكَّر، وقال:» وتَبْغُونها عِوَجاً «فأنَّثَ، ومثلُه: {قُلْ هذه

سبيلي} [يوسف: 108] . وقد تقدم نحو قوله:» تَبْغونها عِوَجاً «في آل عمران فأغنى عن إعادته. قوله: {واذكروا} : إمَّا أن يكون مفعولُه محذوفاً، فيكونَ هذا الظرفُ معمولاً لذلك المفعولِ أي: اذكروا نعمتَه عليكم في ذلك الوقت، وإمَّا أن تجعلَ نفسَ الظرفِ مفعولاً به. قاله الزمخشري. وقال ابنُ عطية:» إن الهاء في «به» يجوز أن تعود على/ شعيب عند مَنْ رأى أن القعودَ على الطرقِ للردِّ عن شعيب «وهو بعيدٌ لأنَّ القائل» ولا تَقْعدوا «هو شعيب، وحينئذ كان التركيب» مَنْ آمن بي «والادِّعاءُ بأنه من بابِ الالتفات بعيدٌ جداً؛ إذ لا يَحْسُن أن يُقال:» يا هذا أنا أقول لك: لا تُهِنْ مَنْ أَكْرَمَه «أي: مَنْ أكرمني. قوله:» كيف «وما في َحيِّزها معلِّقَةٌ للنظر عن العمل، فهي وما بعدها في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ. والنظرُ هنا التفكُّرُ، و» كيف «خبر كان، واجبُ التقديم.

87

قوله تعالى: {وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ} : عطف على «طائفة» الأولى، فهي اسم كان و «لم يؤمنوا» معطوفٌ على «آمَنوا» الذي هو خبر كان عَطَفَتْ اسماً على اسم وخبراً على خبر، ومثله لو قلت: «كان عبدُ الله ذاهباً وبكر خارجاً» عَطَفْتَ المرفوعَ على مثله وكذلك المنصوب. وقد حذف وَصْفَ «طائفة» الثانية لدلالة وَصْفِ الأولى عليه، إذ التقدير: وطائفةٌ منكم لم يؤمنوا،

وحَذَفَ أيضاً متعلَّق الإِيمان في الثانية لدلالة الأول عليه، إذ التقديرُ: لم يؤمنوا بالذي أُرْسِلْتَ به، والوصفُ بقوله «منكم» الظاهر أو المقدر هو الذي سَوَّغ وقوعَ «طائفة» اسماً ل «كان» من حيث إن الاسم في هذا الباب كالمبتدأ، والمبتدأ لا يكون نكرةً إلا بمسوغٍ تقدَّم التنبيه عليه. قوله: {فاصبروا} يجوز أن يكونَ الضميرُ للمؤمنين من قومه، وأن يكونَ للكافرين منهم، وأن يكونَ للفريقين، وهذا هو الظاهرُ، أُمِر المؤمنون بالصبر ليحصُل لهم الظفرُ والغَلَبَةُ، والكافرون مأمورون به ليَنْصُرَ الله عليهم المؤمنين لقولِه تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُواْ} [الطور: 31] أو على سبيلِ التنازع معهم أي: اصبروا فستعلمون مَنْ ينتصر ومن يَغْلب، مع علمه بأن الغلبةَ له. و «حتى» بمعنى «إلى» فقط، وقوله: «بيننا» غَلَّب ضميرَ المتكلمِ على المخاطب، إذ المرادُ: بيننا جميعاً مِنْ مؤمنٍ وكافرٍ، ولا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ معطوفٍ تقديره: بيننا وبينكم.

88

قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ} : عطفٌ على الكاف، و «يا شعيبُ» اعتراضٌ بين المتعاطفَيْن. قوله: «أو لَتَعُودُنَّ» عَطَفَ على جواب القسم الأول، إذ التقدير: واللهِ لنخرجنَّكَ والمؤمنين أو لتعودُنَّ. فالعَوْدُ مسندٌ إلى ضمير النبي ومَنْ آمن معه. و «عاد» لها في لسانهم استعمالان: أحدهما وهو الأصلُ أنه الرجوعُ إلى ما كان عليه من الحال الأول. والثاني استعمالُها بمعنى صار، وحينئذ ترفعُ الاسمَ وتنصِبُ الخبر، فلا تكتفي بمرفوعٍ وتفتقر إلى منصوب، وهذا عند

بعضهم. ومنهم مَنْ منع أن تكون بمعنى صار، فمِنْ مجيئها بمعنى صار عند بعضهم قولُ الشاعر: 2246 - وَرَبَّيْتُه حتى إذا ما تركتُه ... أخا القوم واستغنى عن المسح شاربُهْ وبالمَحْضِ حتى عاد جَعْداً عَنَطْنَطا ... إذا قام ساوى غاربَ الفحل غاربُهْ فرفع ب «عاد» ضميرَ الأول ونَصَبَ بها «جَعْداً» ، ومَنْ مَنَع ذلك يَجْعل المنصوب حالاً، ولكن استشكلوا على كونِها بمعناها الأصلي أنَّ شعيباً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكنْ قطُّ على دينهم ولا في مِلَّتِهِمْ. فكيف يَحْسُن أن يُقال «أو لتعودُنَّ» أي: لَتَرْجِعُنَّ إلى حالتكم الأولى، والخطابُ له ولأتباعه؟ وقد أجيب عن ذلك بثلاثة أوجه: أحدها: أن هذا القولَ مِنْ رؤسائهم قصدوا به التلبيسَ على العوام والإِبهام لهم أنه كان على دينهم وفي مِلَّتِهِمْ. الثاني: أن يُراد بعَوْده رجوعُه إلى حالةِ سكوتِه قبل بعثته؛ لأنه قبل أن يبعث إليهم كان يُخْفي إيمانه وهو ساكتٌ عنهم، يَرَى مِنْ معبودهم غيرَ الله. الثالث: تغليبُ الجماعةِ على الواحدِ لأنهم لمَّا صحبوه في الإِخراج سحبوا عليه وعليهم حكمَ العَوْد في الملَّة تغليباً لهم عليه. وأما إذا جَعَلْناها بمعنى صيَّر فلا إشكال في ذلك، إذ المعنى: لَتَصِيرُنَّ في ملَّتنا بعد أن لم تكونوا، / ففي مِلَّتنا حالٌ على الأول، خبر على الثاني، وعدَّى «عاد» ب «في» الظرفيةِ كأن المِلَّةَ لهم بمنزلةِ الوعاءِ المحيط بهم. قوله: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} الاستفهامُ للإِنكار تقديره: أيوجدُ منكم أحدُ هذين الشيئين: أعني الإِخراج من القرية والعَوْد في الملَّة على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك؟ وقال الزمخشري: «الهمزةُ للاستفهام، والواوُ واو

الحال تقديره: أتُعيدوننا في ملَّتكم في حالِ كراهتنا» . قال الشيخ: «وليست هذه واوَ الحال بل واوُ العطف عَطَفَتْ هذه الحالَ على حالٍ محذوفة كقوله عليه السلام:» رُدُّوا السائل ولو بظِلْفٍ مُحْرَق «ليس المعنى: رُدُّوه حالَ الصدقة عليه بظِلْف مُحْرَق، بل معناه: رُدُّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلف محرق. قلت: وقد تقدَّمتْ هذه المسألةُ وأنه يَصِحُّ أن تُسَمَّى واوَ الحال وواوَ العطف وتحريرُ ذلك، ولولا تكريرُه لما كرَّرْته. وقال أبو البقاء:» ولو هنا بمعنى «إنْ» لأنها للمستقبل، ويجوزُ أن تكونَ على أصلها، ويكون المعنى: لو كنَّا كارهين في هذه الحال. قوله «لأنها للمستقبل» ممنوع.

89

قوله تعالى: {إِنْ عُدْنَا} : شرطٌ جوابه محذوف عند الجمهور أي: فقد افترَيْنا، حُذِفَ لدلالةِ ما تقدَّم عليه، وعند أبي زيد والمبرد والكوفيين هو قولُه: «فقد افترَيْنا» ، وهو مردودٌ بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء. وقال أبو البقاء: «قد افترَيْنا بمعنى المستقبل لأنه لم يقع وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب» إنْ عُدْنا «وساغَ دخولُ» قد «هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراءَ عند العَوْد منزلةَ الواقع فَقَرنوه بقد، وكأنَّ المعنى: قد افترَيْنا الآن إن هَمَمْنا بالعَوْد» . وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها استئنافُ إخبارٍ فيه معنى التعجب، قاله الزمخشري كأنه قيل: ما أَكْذَبَنا على الله إن عُدْنا في الكفر. والثاني: أنها جوابُ قسمٍ محذوف حُذِفَت اللامُ منه، والتقديرُ: واللهِ لقد

افترينا، ذكره الزمخشري أيضاً. وجعله ابن عطية احتمالاً وأنشد: 2247 - بَقَّيْتُ ما لي وانحرَفْتُ عن العُلَى ... ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عبوس قال: «كما تقول» افتريْتُ على الله إن كلَّمت فلاناً «ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيتَ الذي بعد هذا وهو محلًُّ الفائدة لأنه مشتملٌ على الشرط وهو: إنْ لم أَشُنَّ على ابنِ هندٍ غارةً ... لم تَخْلُ يوماً من نهابِ نفوسِ قوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا} منصوبٌ ب» نعود «أي: ما يكون ولا يستقيمُ لنا عَوْدٌ بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها. قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ} في هذا الاستثناء وجهان، أحدهما: أنه متصل. والثاني: أنه منقطعٌ. ثم القائلون بالاتصال مختلفون فمنهم مَنْ قال: هو مستثنى من الأوقات العامة والتقدير: وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقتٍ من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك، وهذا متصورٌ في حَقِّ مَنْ عدا شعيباً، فإن الأنبياءَ لا يشاء الله ذلك لهم لأنه عَصَمهم. ومنهم مَنْ قال: هو مستثنى من الأحوال العامة. والتقدير: ما يكونُ لنا أن نعودَ فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى. وقال ابن عطية:» ويُحتمل أن يريدَ استثناءَ ما يمكن أن يَتَعَبَّد الله به المؤمنين ممَّا تفعلُه الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم: إنَّا لا نعودُ في مِلَّتكم، ثم خشي أن يُتَعَبَّد الله بشيءٍ من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول: هذه عودةٌ إلى مِلَّتِنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يُتَعَبَّدَ به «.

قال الشيخ:» وهذا الاحتمالُ لا يَصِحُّ لأن قوله: «بعد إذ نجَّانا اللهُ منها» إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البِرِّ «. قلت: قد حكى ابن الأنباري هذا القولَ عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإِرادة ثم قال:» وهذا القول مُتَنَاوَلُهُ بعيد، لأنَّ فيه تبعيضَ الملة «وقيل: هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب. قال ابن عطية: «ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبالِ الاستثناء، ولو كان الكلام» إلا إنْ شاء «قوي هذا التأويل» . وهذا الذي قاله سهوٌ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد «إنْ» الشرطية، كما يتخلَّص المضارع له بأَنْ المصدرية. وقيل: الضمير في قوله «فيها» ليس عائداً على المِلَّة بل عائدٌ على الفِرْية، والتقدير: وما يكون أن نعودَ في الفِرْية إلا أن يشاءَ ربنا. وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه. وكرَّر هنا قوله «بيننا وبين قومنا» بخلاف/ قوله {حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} [الأعراف: 87] زيادةً في تأكيد تمييزه ومَنْ تبعه مِنْ قومه. وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حِمْير، وقيل بلغة مُراد وأنشد: 2248 - ألا أبلغْ بني عُصْمٍ رَسُولاً ... بأنِّي عن فَتَاحَتِكُمْ غنيُّ قوله: «عِلْماً» نصبٌ على التمييز وهو منقولٌ من الفاعلية، تقديره: وَسِعَ علمُ ربِّنا كلَّ شيء كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] .

90

قوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} : إذن حرفُ جوابٍ وجزاء، وقد تقدَّم الكلامُ عليها مُشْبعاً وخلافُ الناس فيها. وهي هنا معترضةٌ بين الاسم والخبر. وقد توهَّم بعضُهم فجعل «إذاً» هذه «إذا» الظرفية في الاستقبال نحو قولك: «أُلْزِمُك إذا جئتني» أي وقتَ مجيئك. قال: «ثم حُذِفَتِ الجملةُ المضافةُ هي إليها، والأصل: إنكم إذا اتبعتموه لخاسرون، فإذا ظرفٌ والعاملُ فيه» لخاسرون «، ثم حُذِفَتِ الجملةُ المضافُ إليها وهي اتبعتموه، وعُوِّضَ منها التنوين، فلما جيء بالتنوين وهو ساكنٌ التقى بمجيئه ساكنان هو والألفُ قبلَه، فحُذِفَت الألفُ لالتقاءِ الساكنين فبقي اللفظ» إذاً «كما ترى. وزم هذا القائل أن ذلك جائزٌ بالحَمْل على» إذا «التي للمضيّ في قولهم:» حينئذ «و» يومئذ «فكما أن التنوينَ هناك عوضٌ عن جملة عند الجمهور كذلك هنا. ورَدَّ الشيخ هذا بأنه لم يَثْبُتْ هذا الحكمُ ل» إذا «الاستقبالية في غير هذا الموضع فيحمل هذا عليه» . قلت: وهذا ليس بلازمٍ إذ لذلك القائلِ أنْ يقولَ: قَد وَجَدْتُ موضعاً غير هذا وهو قولُه تعالى: {إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ} [يوسف: 79] . وقد رأيت كلام الشيخ شهاب الدين القرافي في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سألوه عن بيع الرُّطَب بالتمر فقال: أينقص الرُّطَبُ إذا جَفَّ؟ فقالوا: نعم. فقال: فلا إذن: أن «إذن» هذه هي «إذا» الظرفية، قال: كالتي في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض} [الزلزلة: 1] فحُذِفَتِ الجملةُ، وذكره إلى آخره. وكنت لمَّا رأيته تعجَّبْتُ غاية العجب كيف يَصْدُر هذا منه حتى رأيته في كتاب

الشيخ في هذا الموضع عن بعضهم ولم يُسَمِّه، فذهب تعجُّبي منه، فإن لم يكنْ ذلك القائلُ القرافيَّ فقد صار له في المسألة سَلَفٌ، وإلاَّ فقد اتَّحَدَ الأصل، والظاهرُ أنه غيره. وقوله: «إنكم» هو جواب والقسم الموطَّأ له باللام. قال الزمخشري: «فإن قلت: ما جواب القسم الذي وَطَّأَتْه اللامُ في قوله» لئن اتبعتم شعيباً «وجوابُ الشرط؟ قلت: قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} سادُّ مسدَّ الجوابين» قال الشيخ: «والذي قاله النحويون إنَّ جواب الشرط محذوفٌ لدلالةِ جواب القسم عليه، ولذلك وَجَبَ مُضِيُّ فعلِ الشرط. فإن عَنَى بأنه سادٌّ مَسَدَّهما أنه اجْتُزِئ بذكره عن ذِكْرِ جواب الشرط فهو قريبٌ. وإن عَنَى من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم؛ لأن الجملة يمتنع أن لا يكون لها محل من الإِعراب وأن يكون لها محلٌّ من الإِعراب» . قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألة مِراراً واعتراضُ الشيخ عليه، وتقدَّم الجوابُ عنه فلا أُعيده اكتفاءً بما تقدم. ويعني الشيخُ بقوله «لأنَّ الجملة يمتنع أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب إلى آخره أنها من حيث كونُها جواباً للشرط يَسْتدعي أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب وهو الجزم، ومن حيث كونُها جواباً للقسم يستدعي أن لا يكونَ لها محلٌّ؛ إذ الجملةُ التي هي جوابُ القسم لا محلَّ [لها] لأنها من الجمل المستأنفة المبتدَأ بها، وقد تقرَّر أن الجملةَ الابتدائية لا محلَّ [لها] .

92

قوله تعالى: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً} : فيه خمسة أوجه، أحدُها: أن هذا الموصولَ في محل رفع بالابتداءِ وخبرُه الجملةُ التشبيهية بعده. قال الزمخشري: «وفي هذا الابتداءِ معنى الاختصاص كأنه قيل:

الذين كَذَّبوا شُعَيْباً هم المخصوصون بأن أُهْلِكوا واسْتُؤْصلوا، كأنْ لم يُقيموا في دارهم، لأنَّ الذين اتَّبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى» . قلت: قوله «يفيد الاختصاص» هو معنى قولِ الأصوليين: «يفيد الحصر» على خلاف بينهم في ذلك، إذا قلت: «زيد العالم» ، والخلافُ في قولك «العالم زيد» أشهرُ منه فيما تقدَّم فيه المبتدأ. الثاني: أن الخبرَ هو نفسُ الموصول الثاني وخبره، / فإن الموصول الثاني مبتدأ، والجملةُ من قوله {كَانُواْ هُمُ الخاسرين} في محل رفع خبراً له، وهو وخبرهُ خبر الأول، و {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} : إمَّا اعتراضٌ وإمَّا حالٌ من فاعل «كذَّبوا» . الثالث: أن يكونَ الموصولُ الثاني خبراً بعد خبرٍ عن الموصول الأول، والخبرُ الأولُ الجملةُ التشبيهية كما تقدَّم. الرابع: أن يكونَ الموصولُ بدلاً مِنْ قولِه قبلُ {الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} [الأعراف: 90] كأنه قال: «وقال الملأُ الذين كفروا منهم الذين كذَّبوا شُعَيْباً» وقوله: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً} معمولٌ للقول فليس بأجنبي. الخامس: أنه صفةٌ له أي: للذين كفروا مِنْ قومه. هذه عبارةُ أبي البقاء، وتابعه الشيخ عليها. والأحسنُ أن يُقال: بدلٌ من الملأ أو نعتٌ له، لأنه هو المحدِّثُ عنه والموصولُ صفةٌ له، والجملةُ التشبيهيةُ على هذين الوجهين حالٌ من فاعل «كذَّبوا» . وأما الموصولُ الثاني فقد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ خبراً باعتبارين: أعني كونَه أولَ أو ثانياً، ويجوز أن يكونَ بدلاً من فاعل «يَغْنَوا» أو منصوباً بإضمار «أعني» أو مبتدأ وما بعده الخبر. وهذا هو الظاهر لتكونَ كلُّ جملة مستقلةً

بنفسها. وعلى هذا الوجهِ ذكر الزمخشري أيضاً أن الابتداءَ يفيد الاختصاص قال: «أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دونَ أتباعه، وقد تقدَّم موضحاً. وقوله: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} يَغْنَوْن: بمعنى يُقيمون يقال: غَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي: أقام دهراً طويلاً، وقيَّده بعضُهم بالإِقامة في عيشٍ رغد فهو أخصُّ من مُطْلق الإِقامة. قال الأسود بن يعفر: 2249 - ولقد غَنَوا فيها بأنعمِ عيشةٍ ... في ظلِّ مَلْكٍ ثابتِ الأوتادِ وقيل: معنى الآيةِ هنا من الغِنى الذي هو ضد الفقر، قاله الزجاج فقال:» وغَنِي في مكان كذا: إذا طالَ مَقامُه فيه مُسْتَغْنياً به عن غيره «.

93

قوله تعالى: {فَكَيْفَ آسى} : «كيف» هنا مثل «كيف» في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] ، وتقدَّم الكلامُ على «أَسي» وبابه. وقرأ ابن وثاب وابن مصرف والأعمش «إيسَى» بكسر الهمزة التي هي حرف مضارعةٍ وقد تقدَّم أنها لغةُ بني أَخْيَل وحكاية ليلى الأخيلية في الفاتحة. ولزم من ذلك قَلْبُ الفاءِ بعدها ياءً؛ لأن الأصل: أَأْسى بهمزتين.

94

قوله تعالى: {إِلاَّ أَخَذْنَا} : هذا استثناءٌ مفرَّغٌ، وأَخَذْنا في محلِّ نصب على الحال. والتقدير: وما أَرْسَلْنا إلا آخذين أهلها، والفعل

الماضي لا يقع بعد «إلا» إلا بأحد شرطين: إمَّا تقدُّمِ فعلٍ كهذه الآية، وإمَّا أن يصحب «قد» نحو: ما زيد إلا قد قام، فلو فُقِد الشرطان امتنع فلا يجوز: ما زيد إلا قام.

95

قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} : في «مكان» وجهان، أظهرهما: أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ، والمعنى: بدَّلنا مكان الحال السيئة الحالَ الحسنة، فالحسنةُ هي المأخوذةُ الحاصلة، ومكان السيئة هو المتروكُ الذاهب، وهو الذي تَصْحبه الباءُ في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره: بدَّلْتُ زيداً بعمرو، فزيد هو المأخوذ وعمرو المتروك، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة في موضعَيْن أوَّلهما: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} [الأعراف: 59] والثاني: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} [الأعراف: 211] فمكان والحسنة مفعولان، إلا أنَّ أحدهما وَصَلَ إليه الفعلُ بنفسه وهو الحسنة، والآخر بحذف حرف الجر وهو «مكان» . والثاني: أنه منصوبٌ على الظرف، والتقدير: ثمَّ بَدَّلْنا في مكان السيئة الحسنة، إلا أن هذا ينبغي أن يُرَدَّ لأن «بَدَّلَ» لا بُدَّ له من مفعولين أحدهما على إسقاط الباء. قوله: {حتى عَفَوْاْ} «حتى» هنا غاية، وتقدير مَنْ قَدَّرها ب إلى فإنما يريد تفسير المعنى لا الإِعراب، لأن «حتى» الجارة لا تباشرُ إلا المضارعَ المنصوبَ بإضمار «أن» لأنها في التقدير داخلةٌ على المصدرِ المنسبكِ منها ومن الفعل، وأمَّا الماضي فلا يطَّرد حَذْفُ «أنْ» معه، فلا يُقَدَّر معه أنها حرفُ جر داخلةٌ على «أن» المصدرية أي: حتى أَنْ عَفَوا، وهذا الذي يَنْبغي أن يُحْمَلَ عليه قولُ/ أبي البقاء: «حتى عَفَوا: إلى أنْ عفوا» .

ومعنى «عَفَوا» هنا كَثُروا، مِنْ عفا السِّعْر: إذا كَثُرَ، ومنه «وأعْفُوا اللِّحى» يقال: عَفَاه وأَعْفاه ثلاثياً ورباعياً. قال زهير: 2250 - أذلك أم أَقَبُّ البطنِ جَأْبٌ ... عليه مِنْ عَقِيقته عِفاءُ وفي الحديث: «إذا عَفا الوَبَر وبَرأ الدبر فقد حلَّت العمرة لمن اعتمر» وأنشد الزمخشري على ذلك قول الحطيئة: 2251 - بمستأسِدِ القُرْيان عافٍ نباتُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقول لبيد: 2252 - ولكنَّا نُعِضُّ السيفَ منها ... بأسْوُقِ عافياتِ الشحم كُومِ وهذا المادة قد تقدَّم تحقيقُها في البقرة. قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ} قال أبو البقاء: «هو عطفٌ على» عَفَوا «. يريد:

وما عطف عليه أيضاً، أعني أن الآخذ ليس متسَبِّباً عن العَفاء فقط، بل عليه وعلى قولهم تلك المقالةَ الجاهلية؛ لأنَّ المعنى ليس أنه لمجردِ كثرتِهم ونموّ أموالهم أَخَذهم بغتةً بل بمجموعِ الأمرين، بل الظاهرُ أنه بقولهم ذلك فقط. وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حال أيضاً، وهي في قوة المؤكدة لأن» بغتة «تفيدُ إفادتَها، سواءً أَعْرَبْنا» بغتة «حالاً أم مصدراً.

96

وقد تقدَّم أن ابن عامر يقرأ «لفتَّحنا» بالتشديد، ووافقه هنا عيسى بن عمر الثقفي وأبو عبد الرحمن السلمي.

97

قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ} : قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما المعطوف عليه، ولِمَ عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوفُ عليه قوله:» فَأَخَذْناهم بعتةً «، وقوله» ولو أنَّ أهل القرى إلى «يكسبون» وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه، وإنما عَطَفَتْ بالفاء لأن المَعْنى: فَعَلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة، أَبَعْدَ ذلك أَمِنَ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً، وأَمِنَ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضُحى «. قال الشيخ:» وهذا الذي ذكره رجوعٌ عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجماعة، وذلك أن مذهبَه في الهمزة المصدرةِ على حرف العطف تقديرُ معطوف عليه بين الهمزة وحرفِ العطف، ومذهبُ الجماعة أن حرفَ العطف في نية التقدم، وإنما تأخَّر وتقدَّمَتْ عليه همزة الاستفهام لقوة تصدُّرها في أول الكلام «، وقد تقدَّم تحقيق هذا غيرَ مرة، والزمخشري هنا لم يقدِّر بينهما معطوفاً عليه بل جعل ما بعد الفاء معطوفاً على ما قبلها من الجمل وهو قوله» فأخذناهم بغتة «.

قوله {بَيَاتاً} تقدَّم أولَ السورة أنه يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون ظرفاً. قوله: {وَهُمْ نَآئِمُونَ} جملةٌ حالية، والظاهرُ أنها حال من الضمير المستتر في» بَيَاتاً «لأنه يتحمَّلُ ضميراً لوقوعه حالاً فتكون الحالان متداخلتين.

98

قوله تعالى: {ضُحَىً} : منصوبٌ على الظرف الزماني، ويكون متصرفاً وغير متصرف، فالمتصرِّفُ ما لم يُرَدْ به وقتُه من يومٍ بعينه نحو: «ضُحاك ضحىً مبارك» . فإن قلت: «أتيتك يوم الجمعة ضحىً» فهذا لا يَتَصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية، وهذه العبارةُ أحسنُ من عبارة الشيخ حيث قال: «ظرفٌ متصرف إذا كان نكرةً، وغيرَ متصرف إذا كان من يوم بعينه لأنَّه تَوَهَّم متى كان معرفةً بأي نوع كان من أنواع التعريف فإنه لا يتصرَّفُ، وليس الأمر كذلك، قال تعالى: {والضحى} [الضحى: 1] فاستعمله مجروراً بالقسم مع أنه معرفة بأل، وقال تعالى: {والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] جرَّه بحرف القسم أيضاً مع أنه معرَّفٌ بالإِضافة، وهو امتداد الشمس وامتداد النهار. ويقال: ضُحى وضَحاء، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ وإذا فتحت مَدَدْتَ. وقال بعضهم: الضُّحى بالضم والقصرِ لأولِ ارتفاع الشمس، والضَّحاء بالفتح والمدّ لقوة ارتفاعها قبل الزوال. والضُّحى مؤنث، وشذُّوا في تصغيره على ضُحَيٌّ بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها، والضَّحاء أيضاً طعامُ الضحى كالغَداء طعام وقت الغُدْوَة يقال منهما: يُضَحِّي ضَحاءً وتَغَدَّى غَداءً. وضَحِيَ يَضْحَى إذا برز للشمسِ وقت الضحى، ثم عُبِّر به عن إصابة الشمس مطلقاً ومنه قولُه {

وَلاَ تضحى} [طه: 119] أي لا تبرز للشمس. ويقال: ليلة أُضْحِيانَةٌ بضم الهمزة. وضَحْياء بالمد أي: مضيئة إضاءة الضحى، والأُضْحِيَة/ وجمعها أَضاحٍ، والضَّحيَّة وجمعها ضحايا، والأَضْحاة وجمعها أضْحَىً هي المذبوحُ يوم النحر، سُمِّيَتْ بذلك لذَبْحها ذلك الوقتَ لقوله عليه السلام:» مَنْ ذبح قبل صلاتِنا هذه فَلْيُعِدْ «وضواحي البلد نواحيه البارزة. وقوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حالٌ، وهذا يقوِّي أن» بياتاً «ظرف لا حال، لتتطابق الجملتان، فيصير في كل منهما وقتٌ وحال، وأتى بالحال الأولى متضمنةً لاسم فاعل لأنه يدلُّ على ثبات واستقرار وهو مناسب للنوم، وبالثانية متضمنةً لفعل؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث وهو مناسب لِلَّعب والهزل. وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير» أو «بسكون الواو والباقون بفتحها. ففي القراءة الأولى تكون» أو «بجملتها حرفَ عطف ومعناها حينئذ التقسيم. وزعم بعضهم أنها للإِباحة والتخيير. وليس بظاهر، وفي الثانية هي واو العطف دخلَتْ عليها همزةُ الاستفهام مقدمةً عليها لفظاً، وإن كانت بعدها تقديراً عند الجمهور. وقد عُرِف مذهب الزمخشري في ذلك، ومعنى الاستفهام هنا التوبيخ والتقريع. وقال بعضهم:» إنه بمعنى النفي «كأبي شامة وغيره.

99

وكررت الجملة في قوله تعالى: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ} : «أفأمِنُوا»

توكيداً لذلك، وأتى في الجملة الثانية بالاسم ظاهراً، وحَقُّه أن يضمر مبالغةً في التوكيد. ومعنى «مكر الله» أي إضافة المخلوق إلى الخالق كقولهم: ناقة الله وبيت الله، والمراد به فعلٌ يُعاقَبُ به الكفرة، وأُضيف إلى الله لَمَّا كان عقوبةَ الذنب، فإن العرب تسمِّي العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة، وهذا نصٌّ في قوله {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] قاله ابن عطية. قلت: وهو تأويل حسن، وقد تقدم لك في قوله {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] أنه من باب المقابلة أيضاً. والفاءُ في قوله «فلا يأمَنُ» للتنبيه على أن العذاب يَعْقُب أَمْنَ مكرِ الله.

100

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ} : قرأ الجمهور «يَهْدِ» بالياء من تحت. وفي فاعله حينئذ ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه المصدر المؤول من «أنْ» وما في حَيِّزها، والمفعولُ محذوفٌ والتقدير: أو لم يَهْدِ أي: يبيِّن ويوضِّح للوارثين مآلهم وعاقبةَ أمرهم وإصابتنا إياهم بذنوبهم لو شِئْنا ذلك، فقد سَبَكْنا المصدر من «أنْ» ومن جواب لو. الثاني. أنَّ الفاعلَ هو ضميرُ اللهِ تعالى أي: أو لم يبيِّن الله، ويؤيده قراءةُ مَنْ قرأ «نَهْدِ» بالنون. الثالث: أنه ضميرٌ عائد على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلام أي: أو لم يَهْدِ ما جَرَى للأممِ السابقة كقولهم: «إذا كان غداً فَأْتني» أي: إذا كان ما بيني وبينك مما دلَّ عليه السياق. وعلى هذين الوجهين ف «أنْ» وما في حيِّزها بتأويل مصدر كما تقدَّم في محلِّ المفعول والتقدير: أو لم يُبَيِّن ويوضح الله أو ما جَرَى للأمم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك.

وقرأ مجاهد «نَهْدِ» بنون العظمة و «أنْ» مفعول فقط، و «أنْ» هي المخففةُ من الثقيلة، «ولو» فاصلةٌ بينها وبين الفعل، وقد تقدَّم أن الفصلَ بها قليلٌ. و «نشاء» وإن كان مضارِعاً لفظاً فهو ماضٍ معنىً؛ لأنَّ «لو» الامتناعيةَ تخلِّصُ المضارع للمضيّ. وفي كلامِ ابنِ الأنباري خلافُه فإنه قال في «ونطبعُ» : «هذا فعلٌ مستأنف ومنقطع مما قبله، لأنَّ قولَه» أَصَبْنا «ماضٍ و» نَطْبع «مستقبل ثم قال:» ويجوز أن يكونَ معطوفاً على «أَصَبْنا» إذ كان بمعنى نُصيب، والمعنى: لو يشاء يصيبهم ويطبع، فَوَضَع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كقوله تعالى: {إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ} [الفرقان: 10] أي: يجعل، بدليل قوله «ويجعل لك» . قلت: فهذا ظاهرٌ قويٌّ في أنَّ «لو» هذه لا تخلِّصُ المضارع للمضيّ، وتنظيرُه بالآيةِ الأخرى مُقَوٍّ له أيضاً، وسيأتي تحقيق ذلك عند قوله «ونطبع» . وقال الفراء: «وجاز أن تَرُدَّ» يَفْعل «على فَعَلَ في جواب» لو «كقوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ} [يونس: 11] قوله:» فَنَذَرُ «مردودٌ على» لقُضِي «. قلت: وهذا هو قول الجمهور، ومفعولُ» يشاء «محذوفٌ لدلالة جواب» لو «عليه، والتقدير: لو يشاء تعذيبَهم أو الانتقامَ منهم. وأتى/ جوابُها بغير لام وإن كان مبنيَّاً على أحد الجائزين، وإن كان الأكثرُ خلافَه، كقوله تعالى: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70] .

قوله: {وَنَطْبَعُ} في هذه الجملة أوجه، أحدها: أنها نسقٌ على «أَصَبْناهم» وجاز عطفُ المضارع على الماضي لأنه بمعناه وقد تقدم أنَّ «لو» تُخَلِّصُ المضارع للمضيِّ، ولما حكى الشيخ كلامَ ابن الأنباري المتقدِّم قال: «فجعل» لو «شرطيةً بمعنى» إنْ «ولم يجعلها التي هي» لِما «كان سيقعُ لوقوع غيره، ولذلك جعل» أَصَبْنا «بمعنى نُصيب. ومثال وقوعِ» لو «بمعنى» إنْ «قوله: 2253 - لا يُلْفِكَ الرَّاجيك إلا مُظْهِرا ... خُلُقَ الكرامِ ولو تكون عَدِيما وهذا الذي قاله ابن الأنباري رَدَّه الزمخشري من حيث المعنى، لكن بتقديرِ أنْ يكونَ» ونطبعُ «بمعنى طَبَعْنا، فيكون قد عَطَفَ المضارع على الماضي لكونه بمعنى الماضي، وابنُ الأنباري جَعَلَ التأويل في» أَصَبْنا «الذي هو جوابُ» لو نشاء «، فجعله بمعنى نُصيب، فتأوَّل المعطوفَ عليه وهو جوابُ» لو نشاء «، فجعله بمعنى نُصيب، فتأوَّل المعطوفَ ورَدَّه إلى المُضِيِّ، وأنتج ردُّ الزمخشري أنَّ كلا التقديرين لا يَصِحُّ» . قال الزمخشري: «فإن قلت: هل يجوز أن يكون» ونطبع «بمعنى طبَعْنا، كما كان» لو نشاء «بمعنى لو شِئْنا، ويعطف على» أَصَبْناهم «؟ قلت: لا يساعد على المعنى، لأنَّ القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم، مَوْصوفين بصفة مَنْ قبلهم مِن اقتراف الذنوب والإِصابة بها، وهذا التفسير يؤدِّي إلى خلوِّهم من هذه الصفةِ، وأن الله لو شاء لاتَّصفوا بها» . قال الشيخ: «وهذا الردُّ

ظاهرهُ الصحةُ، وملخصه أن المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ سواء تأوَّلنا المعطوفَ عليه أم المعطوفَ، وجوابُ» لو «لم يقع بعدُ، سواءً كانت حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى» إنْ «الشرطية، والإِصابةُ لم تقع، والطَّبْعُ على القلوب واقع فلا يَصحُّ أن تَعْطِفَ على الجواب. فإنْ تُؤَوِّل» ونطبع «على معنى: ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأن الاستمرار لم يقع بعدُ وإن كان الطبع قد وقع» . قلت: فهذا الوجه الأول ممتنع لِما ذكره الزمخشري. الوجه الثاني: أنْ يكون «نطبع» مستأنفاً ومنقطعاً عَمَّا قبلَه فهو في نية خبرِ مبتدأ محذوف أي: ونحن نطبع. وهذا اختيارُ أبي إسحاق والزمخشري وجماعة. الوجه الثالث: أن يكونَ معطوفاً على «يرثون الأرض» قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وهو خطأٌ لأنَّ المعطوف على الصلة صلة و» يرثون «صلةٌ للذين، فيلزم الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي، فإن قوله» أنْ لو نشاء «: إمَّا فاعلٌ ليَهْد أو مفعولُه كما تقدَّم، وعلى كلا التقديرين فلا تَعَلُّقَ له بشيء من الصلة، وهو أجنبيٌّ منها فلا يُفْصل به بين أبعاضها، وهذا الوجهُ مُؤَدٍّ على ذلك فهو خطأ» . الرابع: أن يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه معنى «أو لم يهد لهم» كأنه قيل: يغفُلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم. قاله الزمخشري أيضاً. قال

الشيخ: «وهو ضعيفٌ؛ لأنه إضمار لا يُحتاج إليه، إذ قد صَحَّ عطفُه على الاستئناف من باب العطف على الجمل فهو معطوفٌ على مجموع الجملة المصدَّرة بأداة الاستفهام، وقد قاله الزمخشري وغيره» . قوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أتى بالفاء هنا إيذاناً بتعقيب عدم سماعهم على أثر الطبع على قلوبهم.

101

قوله تعالى: {تِلْكَ القرى نَقُصُّ} : قال الزمخشري: كقوله {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] في كونه مبتدأً وخبراً وحالاً «يعني أن» تلك «مبتدأٌ مشارٌ بها إلى ما بعدها، و» القرى «خبرها، و» نقصُّ «حال أي قاصّين كقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] . قال الزمخشري:» فإن قلت: ما معنى «تلك القرى» حتى يكون كلاماً مفيداً؟ قلت: هو مفيد ولكن بالصفة في قولك: «هو الرجلُ الكريم» . قلت: يعني أن الحالَ هنا لازمةٌ ليفيدَ التركيب، كما تلزم الصفة في قولك: «هو الرجل الكريم» ألا ترى أنك لو اقتصرت على «هو الرجل» لم يكن مفيداً، ويجوز أن تكون «القرى» صفةً/ لتلك، و «نقصُّ» الخبر، ويجوز أن يكون «نَقُصُّ» خبراً بعد خبر. و «نقصُّ» يجوز أن يكون على حاله من الاستقبال أي: قد قَصَصْنا عليك من أنبائها ونحن نقصُّ عليك أيضاً بعضَ أنبائها، وأُشير بالبعد تنبيهاً على بُعد هَلاكِها وتقادُمِه عن زمن الإِخبار فهو من الغيب. وفي قوله «القرى» بأل تعظيمٌ كقوله تعالى: «ذلك

الكتابُ» ، وقول الرسول عليه السلام: «أولئك الملأُ من قريش» وقول أمية: 2254 - تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبنٍ ... شِيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا و «مِنْ» للتبعيض كما تقدَّم، لأنه إنما قَصَّ عليه عليه السلام ما فيه عِظَةٌ وانزجارٌ دونَ غيرهما. قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ} الظاهر أن الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على أهل القرى، وقال يمان بن رئاب: «إن الضميرين الأوَّلَيْن لأهل القرى، والضمير في» كذَّبوا «لأسلافهم» . وكذا حَرَّر ابن عطية أيضاً أي: فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذَّب به الآباء وقد تقدَّم الكلامُ على لام الجحود وأنَّ نَفْيَ الفعل معها أبلغ. و «ما» موصولةٌ اسميةٌ، وعائدُها محذوفٌ لأنه منصوب متصل أي: بما كذَّبوه. ولا يجوز أن يُقَدَّر «به» وإن كان الموصولُ مجروراً بالباء أيضاً لاختلاف المتعلَّق. وقال هنا {بِمَا كَذَّبُواْ} فلم يذكر متعلق التكذيب، وفي يونس ذكره فقال: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ} [يونس: 74] ، والفرق أنه لمَّا حذفه في قوله {ولكن كَذَّبُواْ} [الأعراف: 96] استمرَّ

حَذْفُه بعد ذلك، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قوله {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ} [يونس: 74] {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [يونس: 73] فناسب ذكرَه موافقةٌ. قال معناه الكرماني. قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} أي: مثلَ ذلك الطبعِ على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإِيمانُ يطبعُ الله على قلوب الكفرة الجائين بعدهم.

102

قوله تعالى: {لأَكْثَرِهِم} : الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بالوِجْدان كقولك: ما وَجَدْت له مالاً أي: ما صادَفْتُ له مالاً ولا لَقِيْتُه. الثاني: أن يكون حالاً من «عهد» لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها نُصِب على الحال، والأصل: وما وَجَدْنا عهداً لأكثرهم، وهذا ما لم يذكر أبو البقاء غيره. وعلى هذين الوجهين ف «وجد» متعدية لواحد وهو «مِنْ عهد» ، و «مِنْ» مزيدة فيه لوجودِ الشرطين. الثالث: أنه في محل نصب مفعولاً ثانياً لوجد إذ هي بمعنى عِلْمية، والمفعول هو «من عهد» . وقد يترجَّح هذا بأن «وَجَد» الثانيةَ عِلْمية لا وِجْدانية بمعنى الإِصابة، وسيأتي دليل ذلك. فإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكونَ الأولى كذلك مطابقةً للكلام ومناسبة له. ومَنْ يرجِّح الأولَ يقول: إنَّ الأولى لمعنى، والثانية لمعنى آخر. قوله: {وَإِن وَجَدْنَآ} «إنْ» هذه هي المخففة، وليست هنا عاملةٌ لمباشرتها الفعلَ فزال اختصاصُها المقتضي لإِعمالها. وقال الزمخشري: «وإنَّ الشأنَ والحديثَ وَجَدْنا» فظاهرُ هذه العبارة أنها مُعْمَلة، وأنَّ اسمَها ضميرُ الأمر

والشأن. وقد صَرَّح أبو البقاء هنا بأنها معملةٌ وأن اسمَها محذوفٌ، إلا أنه لم يقدِّره ضميرَ الحديث بل غيرَه. فقال: «واسمُها محذوفٌ أي: إنَّا وجدنا» وهذا مذهب النحويين أعني اعتقادَ إعمالِ المخففِ من هذه الحروفِ في «أنْ» المفتوحة على الصحيح وفي «كأنْ» التشبيهية، وأما «إنْ» المخففةُ المكسورةُ فلا. وقد تقدَّم ذلك بأوضح من هذا. ووجد هنا متعديةٌ لاثنين أولهما «أكثرهم» ، والثاني «لَفاسقين» . قال الزمخشري: «والوجودُ بمعنى العلم من قولك:» وَجَدْتُ زيداً ذا الحفاظ «بدليل دخول» إنْ «المخففة، واللامُ الفارقة، ولا يَسُوغ ذلك إلا في المبتدأ والخبر والأفعالِ الداخلةِ عليهما» يعني أنها مختصةٌ بالابتداء أو بالأفعالِ الناسخة له، وهذا مذهب الجمهور، وقد تقدَّم لك خلافٌ عن الأخفش: أنه يُجَوِّز على غيرها وقَدَّمْتُ دليله على ذلك. واللام فارقةٌ. وقيل: هي عوضٌ من التشديد. قال مكي: «ولَزِمَتِ اللامُ في خبرها عوضاً من التشديد» . والمحذوفُ الأول. وتقدَّم/ الكلامُ أيضاً أن بعض الكوفيين يجعلون «إنْ» نافيةً، واللامَ بمعنى «إلا» في قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة: 143] .

103

قوله تعالى: {فَظَلَمُواْ بِهَا} : يجوز أن يُضَمَّن «ظلموا» معنى كفروا فيتعدَّى بالباء كتعديته. ويؤيِّده {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . ويجوز أن تكون الباءُ سببيةٌ، والمفعولُ محذوفٌ تقديره: فظلموا أنفسَهم، أو ظلموا الناس بمعنى صَدُّوهم عن الإِيمان بسبب الآيات. وقوله «لأكثرهم»

و «أكثرهم» و «مِنْ بعدهم» : إن جعلنا هذه الضمائرَ كلَّها للأممِ السالفة فلا اعتراض، وإن جَعَلْنا الضميرَ في «لأكثرهم» و «أكثرهم» لعمومِ الناس والضميرَ في «من بعدهم» للأمم السالفة كانت هذه الجملةُ أعني «وما وجدنا» اعتراضاً. كذا قاله الزمخشري، وفيه نظر: لأنه إذا كان الأولُ عاماً ثم ذُكِر شيء يندرج فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصَّين. وأيضاً فالنحويون إنما يُعَرِّفون الاعتراض فيما اعتُرض به بين متلازِمَيْن، إلا أنَّ أهلَ البيان عندهم الاعتراضُ أعمُّ من ذلك، حتى إذا أُتي بشيء بين شيئين مذكورَيْن في قصة واحدة سَمَّوْه اعتراضاً. قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} «كيف» خبرٌ لكان مقدَّمٌ عليها واجبُ التقديمِ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ، و «عاقبة» اسمها، وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ حرف الجر إذ التقديرُ: فانظر إلى كذا.

105

قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ} : قرأ العامة «على أَنْ» ب «على» التي هي حرف جر داخلة على أَنْ وما في حيزها. ونافع قرأ «عليَّ» ب «على» التي هي حرف جر داخلة على أَنْ وما في حيزها. ونافع قرأ «عليَّ» ب «على» التي هي حرف جر داخلة على ياء المتكلم. فأمَّا قراءةُ العامة ففيها ستة أوجه، ذكر الزمخشري منها أربعة، قال رحمه الله: «وفي المشورةِ إشكالٌ، ولا يخلو من وجوه، أحدها: أن تكون مِمَّا قُلب من الكلام كقوله: 2255 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

وتَشْقى الرماحُ بالضَّياطرة الحُمْرِ معناه: وتشقى الضياطرةُ بالرماح. قال الشيخ:» وأصحابُنا يَخُصُّون القلبَ بالضرورةِ، فينبغي أَنْ يُنَزَّهَ القرآنُ عنه «. قلت: وللناس فيه ثلاثةُ مذاهبَ: الجوازُ مطلقاً، المنعُ مطلقاً، التفصيلُ: بين أن يفيد معنًى بديعاً فيجوزَ، أو لا فيمتنعَ، وقد تقدَّم إيضاحهُ، وسيأتي منه أمثلةٌ أُخَرُ في القرآن العزيز. وعلى هذا الوجهِ تصيرُ هذه القراءةُ كقراءةِ نافعٍ في المعنى إذ الأصل: قولُ الحق حقيقٌ عليَّ، فقلبَ اللفظَ فصار: أنا حقيقٌ على قَوْل الحق» . قال: «والثاني: أنَّ ما لَزِمك فقد لزمته، فلمَّا كان قولُ الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قولِ الحق أي لازماً له، والثالث: أن يُضَمَّن حقيق معنى حريص كما ضمن» هَيَّجني «معنى ذكَّرني في بيت الكتاب، الرابع: أن تكون» على «بمعنى الباء» . قلت: وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء والفارسي. قالوا: إنَّ «على» بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى على في قوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ} [الأعراف: 86] أي: على كل. وقال الفراء: «العربُ تقول: رَمَيْتُ على القوس وبالقوس، وجِئْتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة. إلا أن الأخفشَ قال:» وليس ذلك بالمطَّرِدِ لو قلت: ذهبت

على زيد تريد: بزيدٍ لم يجز «. قلت: ولأنَّ مذهب البصريين عدمُ التجوُّز في الحروف، وعَنَى بالبيت قولَ الشاعر: 2256 - إذا تَغَنَّى الحَمامُ الوَرْقُ هَيَّجني ... ولو تَسَلَّيْتُ عنها أمَّ عمار وبالكتاب كتابَ سيبويه فإنه عَلَمٌ بالغلبة عند أهل هذه الصناعة. الخامس: وهو الأَوْجَهُ والأَدْخَلُ في نُكت القرآن أن يُغْرِق موسى عليه السلام في وصفِ نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون لعنه الله لمَّا قال موسى: إني رسولٌ من رب العالمين قال له: كَذَبْت، فيقول: أنا حقيقٌ على قولِ الحق أي: واجبٌ عليَّ قولُ الحق أن أكونَ أنا قائلَه، والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به» . قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ هذا الوجهُ إلا إنْ عَنَى أنه يكون» أن لا أقول «صفةٌ له كما تقول: أنا على قول الحق أي: طريقتي وعادتي قول الحق. السادس: أن تكون «على» متعلقةً ب «رسول» . قال ابن مقسم: / «حقيقٌ من نعت» رسول «أي رسول حقيق من رب العالمين أُرْسِلْتُ على أنْ لا أقول على الله إلا الحق، وهذا معنى صحيح واضح، وقد غَفَل أكثرُ المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق» على «برسول، ولم يخطر لهم تعليقُه إلا ب» حقيق «. قال الشيخ:» وكلامُه فيه تناقضٌ في الظاهر؛ لأنه قَدَّر أولاً العاملَ في «

على» «أرسلت» وقال أخيراً: «لأنهم غَفَلوا عن تعليق» على «ب» رسول «. فأمَّا هذا الأخيرُ فلا يجوز عند البصريين لأنَّ» رسولاً «قد وُصِف قبل أن يأخَذَ معمولَه، وذلك لا يجوز، وأمَّا تعليقُه بأرسلت مقدَّراً لدلالةِ لفظ» رسول «عليه فهو تقديرٌ سائغ. ويُتَأَوَّل كلامه أنه أراد بقوله تُعَلَّقُ» على «ب» رسول «أنه لمَّا كان دالاًّ عليه صَحَّ نسبةُ التعلُّق له» قلت: قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعد ما ذكر هذا الوجهَ عن ابن مقسم: «والأوجهُ الأربعة التي للزمخشري. ولكن هذه وجوه متعسِّفة، وليس المعنى إلا على ما ذكرته أولاً، يعني وجه ابن مقسم، وهذا فيه الإِشكالُ الذي ذكره الشيخ من إعمالِ اسم الفاعلِ أو الجاري مَجْراه وهو موصوف. وقراءةُ نافعٍ واضحةٌ وفيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكونَ الكلامُ قد تمَّ عند قولِه» حقيق «، و» عليَّ «خبر مقدم، و» أنْ لا أقول «مبتدأ مؤخَّر كأنه قيل: عليَّ عدمُ قول غير الحق أي: فلا أقول إلا الحق. الثاني: أن يكون» حقيق «خبراً مقدَّماً، و» أن لا أقول «مبتدأٌ على ما تقدَّم بيانه. الثالث:» أَنْ لا أقول «فاعِلٌ ب» حقيق «كأنه قيل: يحقُّ ويجب أن لا أقول، وهذا أَعْرَبُ الوجوهِ لوضوحه لفظاً ومعنى، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق» عليَّ «ب» حقيق «لأنك تقول:» حَقَّ عليه كذا «. قال تعالى: {أولئك الذين حَقَّ عليهم القولُ} . وعلى الوجهِ الأولِ يتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما عُرِفَ غيرَ مرة. وأمَّا رفع» حقيق «فقد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون خبراً مقدماً، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل» رسول «، وعلى هذا فيضعف أن يكون» مِنْ رب «صفةً لئلا يلزمَ تقديمُ الصفةِ غيرِ الصريحة على الصريحة، فينبغي أن يكونَ متعلَّقاً بنفس» رسول «، وتكون» مِنْ «لابتداء الغاية مجازاً. ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً.

ويجوز أن يكونَ مبتدأً وما بعدَه الخبرُ على قراءةِ مَنْ شَدَّدَ الياء، وسَوَّغ الابتداءَ بالنكرة حينئذ تَعَلُّقُ الجارِّ بها. فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجه، وهل هو بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول؟ الظاهرُ أنه يحتمل الأمرين مطلقاً، أعني على قراءة نافع وعلى قراءة غيره. وقال الواحدي ناقلاً عن غيره: «إنه مع قراءة نافعٍ مُحتمل للأمرين، ومع قراءة العامة بمعنى مفعول فإنه قال:» وحقيق على هذا القراءة يعني قراءة نافع يجوز أن يكونَ بمعنى فاعِل، قال شمر: تقولُ العرب: «حَقَّ عليّ أن أفعل كذا» . وقال الليث: حقَّ الشيء معناه وَجَبَ، ويحق عليك أن تفعلَه، وحقيقٌ عليَّ أن أفعله، فهذا بمعنى فاعل «ثم قال:» وقال الليث: وحقيقٌ بمعنى مفعول، وعلى هذا تقول: فلان مَحقوقٌ عليه أن يفعل. قال الأعشى: 2257 - لمَحْقوقَةٌ أن تستجيبي لِصَوْتِه ... وأن تعلمي أنَّ المُعَانَ مَوَفَّقٌ وقال جرير: 2258 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قَصِّرْ فإنك بالتقصيرِ محقوقُ ثم قال: «وحقيق على هذه القراءة يعني قراءة العامة بمعنى محقوق» انتهى. وقرأ أُبَيٌّ «بَأَنْ لا أقول» وهذه تُقَوِّي أنَّ «على» بمعنى الباء. وقرأ عبد الله والأعمش «أنْ لا أقول» دون حرف جر، فاحتمل أن يكونَ ذلك الجارُّ «على» كما هو قراءة العامة، وأن يكون الجارُّ الباءَ كما هو قراءة أبيّ.

و «الحقَّ» يجوز أن يكون مفعولاً به لأنه يتضمَّن معنى حَمَّله، وأن يكونَ منصوباً على المصدر أي: القول الحقَّ، والاستثناءُ مفرغ.

107

قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} : «إذا» فجائية. وقد تقدَّم أن فيها ثلاثةَ مذاهب: ظرفُ مكان/ أو زمان أو حرف. قال ابن عطية: «وإذا ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرد من حيث كانت خبراً عن جثة، والصحيح الذي عليه الناس أنها ظرفٌ زمان في كل موضع» . قلت: المشهورُ عند الناس قولُ المبرد وهو مذهبُ سيبويه. وأمَّا كونُها زماناً فهو مذهب الرياشي، وعُزِيَ لسيبويه أيضاً. وقوله «من حيث كانت خبراً عن جثة» ليست هي هنا خبراً عن جثة، بل الخبرُ عن «هي» لفظُ «ثعبان» لا لفظ «إذا» . والثُّعْبان هو ذَكَر الحَيَّاتِ العظيم. واشتقاقهُ مِنْ ثَعَبْتُ المكان أي: فجَّرتُه بالماء، شُبِّه في انسيابه بانسياب الماء، يقال: ثَعَبْتُ الماء فجَّرْتُه فانثعب. ومنه مَثْعَبُ المطر. وفي الحديث: «جاء يومَ القيامة وجرحُه يَثْعَبُ دماً» وهنا سؤالٌ وجوابُه، وَصَفَها تارة بكونها ثعباناً وهو العظيم الهائل الخَلْق، وفي موضع آخر بقوله {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} [النمل: 10] والجانُّ من الحيَّات الخفيفُ الضئيلُ الخَلْقِ «فكيف يُجْمَعُ بين هاتين الصفتين؟ وقد أجاب الزمخشري في غيرِ هذا المكان بجوابين، أحدهُما: أنه جَمْعٌ لها بين الشيئين: أي كِبَرِ الجثة كالثعبان وبين خفةِ الحركة وسرعةِ المشي كالجانّ. والثاني: أنها في

ابتداء أمرها تكون كالجانِّ ثم تتعاظم وتتزايد خَلْقُها إلى أن تصيرَ ثعباناً.

108

قوله تعالى: {لِلنَّاظِرِينَ} : متعلِّقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ لبيضاء. وقال الزمخشري: «فإن قلت: بم تُعَلِّق للناظرين؟ قلت: يتعلَّقُ ب» بيضاء «والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظَّارة، ولا تكون بيضاءَ للنَّظارة إلا إذا كان بياضُها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادةِ، يجتمعُ الناسُ للنظر إليه كما تجتمع النَّظارة للعجائب» . وهذا الذي ذكره أبو القاسم تفسيرُ معنى لا تفسيرُ إعراب، وكيف يريدُ تفسيرَ الإِعراب؟ وإنما أراد التعلُّقَ المعنويَّ لا الصناعي، كقولهم: هذا الكلامُ يتعلَّق بهذا الكلام. أي إنه من تتمَّةِ المعنى له. وقال في هذه السورة: {قَالَ الملأ}

109

{قَالَ الملأ} : فأسند القولَ إليهم. وفي الشعراء: «قال للملأ» فأسند القولَ إلى فرعون. وأجاب الزمخشري عن ذلك بثلاثة أوجه، أحدُها: أن يكونَ هذا الكلامُ صادراً منه ومنهم، فحكى هنا عنهم وفي الشعراء عنه. والثاني: أنه قاله ابتداءً وتلقَّنه عنه خاصَّته فقالوه لأعقابهم. والثالث: أنهم قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما يفعل الملوكُ، يَرَى الواحدُ منهم الرأيَ فيبلِّغه الخاصة ثم يبلغوه لعامتهم. وهذا الثالث قريبٌ من الثاني في المعنى. وقرأ الأخوان هنا وفي يونس: «بكل سَحَّارٍ» والباقون: «بكل

ساحر» . ولا خلافَ أن الذي في الشعراء «بكل سَحَّارٍ» . وساحر وسَحَّار مثل عالم وعَلاَّم، وقد عُرِف أن فعَّالاً مثال مبالغة. ويُرَجِّح «سَحَّار» أنه مجاوزٌ لعليم، وكلاهما مثال مبالغة. ويرجح «ساحر» أنه تقدَّم مثلُه في قوله «إنَّ هذا لساحر» وهذا مناسب له.

110

وفي الشعراء: «بسحره» وهنا بدون «ذلك» . قالوا: لأنَّ أولَ هذه الآيةِ مبنيٌّ على الاختصار. قوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} قد تقدَّم الكلامُ على «ماذا» مُسْبَقاً في أول هذا التصنيف. والجمهور على «تأمرون» بفتح النون. وروى كردم عن نافع كسرَها. وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكونَ «ماذا» كلُّه اسماً واحداً في محل نصب على أنه مفعول ثان ل «تأمرون» بعد حَذْفِ الياء، ويكون المفعول الأول ل «تأمرون» محذوفاً وهو ياءُ المتكلم، والتقديرُ: بأيِّ شيء تأمرونني؟ وعلى قراءة نافع لا تقول: إن المفعولَ الأولَ محذوفٌ بل هو في قوة المنطوق به؛ لأن الكسرةَ دالةٌ عليه، فهذا الحذفُ غيرُ الحذفِ في قراءة الجماعة. ويجوز أن تكونَ «ما» استفهاماً في محلِّ رفعٍ بالابتداء و «ذا» موصول، وصلتُه «تأمرون» ، والعائدُ محذوفٌ، والمفعولُ الأولُ أيضاً محذوف على قراءة الجماعة، وتقدير العائد منصوبُ المحل غيرُ مُعَدَّى إليه بالباء فتقديره: فما الذي تأمرونيه؟

وقدَّره ابن عطية: «تأمروني به» ، وردَّ عليه/ الشيخ بأنه يلزم من ذلك حَذْفُ العائد المجرور بحرفٍ لم يُجَرَّ الموصولُ بمثله، ثم اعتَذَر منه، بأنه أراد التقدير الأصلي، ثم اتُّسِعَ فيه بأنْ حُذِف الحرف فاتصل الضميرُ بالفعل. وهذه الجملةُ هل هي من كلام الملأ، ويكونون قد خاطبوا فرعون بذلك وحده تعظيماً له كما يُخاطَبُ الملوك بصيغة الجمع، أو يكونون قالوه له ولأصحابه، أو يكون من كلام فرعون على إضمار قولٍ أي: فقال لهم فرعونُ فماذا تأمرون، ويؤيِّد كونَها من كلام فرعون قولُه تعالى: «قالوا: أرْجِهْ» . وهل «تأمرون» من الأمر المعهود أو من الأمر الذي بمعنى المشاورة؟ والثاني منقولٌ عن ابن عباس. وقال الزمخشري: «هو مِنْ أمَرْتُه فأمرني بكذا أي: شاورته فأشار عليَّ برأي» .

111

قوله تعالى: {أَرْجِهْ} : في هذه الكلمة هنا والشعراء ست قراءات في المشهور المتواتر، ولا التفاتَ إلى مَنْ أنكر بعضها ولا لمَنْ أنكر على راويها. وضبطُ ذلك أن يقال: ثلاث مع الهمز وثلاث مع عدمه، فأمَّا الثلاث التي مع الهمز فأوّلُها قراءة ابن كثير، وهشام عن ابن عامر: أَرْجِئْهو بهمزةٍ ساكنة وهاء متصلة بواو. الثانية قراءة أبي عمرو: أَرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنها لم يَصِلْها بواو. الثانية قراءة أبي عمرو: أَرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنها لم يَصِلْها بواو. الثالثة: قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر: أَرْجِئْهِ بهمزة ساكنة وهاء مكسورة مِنْ غير صلة. وأمَّا الثلاثُ التي مع غير الهمز فأوَّلها قراءة عاصم وحمزة: أَرْجِهْ بكسرِ الجيم وسكون الهاء وصلاً ووقفاً. الثانية

قراءة الكسائي: أَرْجِهي بهاء متصلة بياء. الثالثة: قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء. فأمَّا ضمُّ الهاء وكسرُها فقد عُرِف مما تقدَّم. وأمَّا الهمزُ وعدمُه فلغتان مشهورتان يقال: أَرْجَأْته وأَرْجَيْتُه أي: أخَّرته، وقد قُرِئ قوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ} [الأحزاب: 51] بالهمز وعدمِه. وهذا كقولهم: توضَّأْتُ وتوضَّيْتُ. وهل هما مادتان أصليتان أم المبدلُ فرع الهمز؟ احتمالان. وقد طَعَنَ قومٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسيُّ: «ضمُّ الهاءِ مع الهمز لا يجوزُ غيرُه، وروايةُ ابن ذكوان عن ابن عامر غلطٌ» . وقال ابن مجاهد: «وهذا لا يجوز، لأن الهاءَ لا تُكسَرُ إلا بعد كسرةٍ أو ياءٍ ساكنة» . وقال الحوفي: «ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهمز وليس بجيد» . وقال أبو البقاء: «ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمزِ وهو ضعيفٌ، لأنَّ الهمزةَ حرفٌ صحيحٌ ساكنٌ فليس قبلَ الهاءِ ما يقتضي الكسر» . قلت: وقد اعتذر الناسُ عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين: أحدُهما: أن الهمزةَ ساكنةٌ والساكنُ حاجزٌ غيرُ حصينٍ، وله شواهدُ مذكورةٌ في موضعها، فكأنَّ الهاءَ وَلِيَت الجيمَ المكسورةَ فلذلك كُسِرت. الثاني: أن الهمزةَ كثيراً ما يَطْرأ عليها التغييرُ، وهي هنا في مَعْرِض أن تُبْدلَ ياءً ساكنة لسكونِها بعد كسرةٍ فكأنها وَلِيَتْ ياءً ساكنة فلذلك كُسِرَتْ.

وقد اعترض أبو شامةَ على هذين الجوابين بثلاثة أوجه. الأول: أن الهمزَ معتدٌّ به حاجزاً بإجماع في {أَنبِئْهُمْ} [البقرة: 33] و {نَبِّئْهُمْ} [القمر: 28] ، والحكمُ واحدٌ في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكسر والضم. الثاني: أنه كان يلزمُهُ صلةُ الهاء إذ هي في حكمٍ كأنها قد وَلِيت الجيم. الثالث: أن الهمزَ لو قُلِبَ ياءً لكان الوجهُ المختارُ ضمُّ الهاء مع صريح الياء نظراً إلى أنَّ أصلَها همزة، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاءَ مع صريح الهمزة. وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقفِ حمزةَ وهشام، فضمُّ الهاء مع الهمزة هو الوجه. واستضعف أبو البقاء قراءةَ ابن كثير وهشام فإنه قال: «وأَرْجِئْه» يُقرأ بالهمز وضم الهاء من غير إشباع وهو الجيد، وبالإِشباع وهو ضعيف؛ لأن الهاء خفيَّة، فكأن الواوَ التي بعدها تتلو الهمزةَ، وَهو قريبٌ من الجمع بين الساكنين، ومن ههنا ضَعُف قولُهم: «عليهي مال» بالإِشباع «. قلت: وهذا التضعيفُ ليس بشيء لأنها لغةٌ ثابتةٌ عن العرب أعني إشباعَ حركةِ الهاء بعد ساكن مطلقاً، وقد تقدَّم أن هذا أصلٌ لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللفظة، بل قاعدتُه: كلُّ هاءِ كنايةٍ بعد ساكن أن يُشْبع حركتَها حتى يتولَّد منها حرفُ مَدٍّ نحو:» مِنْهو وعَنْهو وأرجِئْهو «إلا قبلَ ساكن فإن المدَّ يُحْذَفُ لالتقاءِ الساكنين إلا في موضع واحد رواه عنه البزي وهو {عَنْهُ تلهى} [عبس: 10] بتشديد التاء، وكذلك

استضعف الزجاج قراءة حمزة وعاصم. قال بعدما أنشد قول الشاعر/: 2259 - لمَّا رأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ ... مالَ إلى أَرْطاةِ حِقْفٍ فالْطَجَعْ » هذا شعرٌ لا يُعرف قائلُه ولا هو بشيءٍ، ولو قاله شاعرٌ مذكور لقيل له: أخطأت، لأن الشاعر يجوز أن يخطئ، وهذا مذهبٌ لا يُعَرَّج عليه «. قلت: قد تقدَّم أن تسكينَ هاء الكناية لغة ثابتة، وتقدَّم شواهدها فلا حاجةَ إلى إعادة ذلك. وقوله» وأخاه «الأحسنُ أن يَكون نسقاً على الهاء في» أَرْجِهْ «، ويَضْعُفُ نصبُه على المعيَّة لإِمكان النسق من غير ضعف لفظي ولا معنوي. قوله: {فِي المدآئن} متعلقٌ بأَرْسِلْ، و» حاشرين «مفعول به، ومفعولُ» حاشرين «محذوفٌ أي: حاشرين السحرة بدليل ما بعده. والمدائن جمع مدينة وفيها ثلاثة أقوال: أحدها وهو الصحيح أن وزنها فَعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة، مشتقة مِنْ مدَن يمدُن مُدوناً أي: أقام. واستُدِلَّ لهذا القول بإطباق القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف وسفينة وسفائن، ولو كانت مَفْعِلة لم تُهْمَزْ نحو: معيشة ومعايش، ولأنهم جمعوها أيضاً على مُدُن كقولهم: سفينة وسُفُن وصحيفة وصُحُف. قال الشيخ:» ويَقْطع بأنها فَعيلة جَمْعُهم لها على فُعُل قالوا: مُدُن، كما قالوا: صحف في صحيفة «.

قلت: قد قال الزجاجي:» المدن في الحقيقة جمع المَدِين، لأن المدينة لا تُجمع على مُدُن، ولكن تجمع على المدائن ومثل هذا: سُفُن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سُفُن «. ولا أدري ما حَمَله على جَعْل مُدُن جمع مدين، ومدين جمع مدينة مع اطِّراد فُعُل في فعيلة لا بمعنى مَفْعولة، اللهم إلا أن يكونَ قد لَحَظَ في مدينة أنها فعيلة بمعنى مفعولة لأنَّ معنى مدينة أن يُمْدَن فيها أي: يُقام، ويؤيد هذا ما سيأتي من أن مدينة وزنُها في الأصل مَدْيُوْنة عند بعضهم. القول الثاني: أن وزنها مَفْعِلة مِنْ دانه يَدينه أي: ساسه يَسُوسه فمعنى مدينة أي: مملوكة ومَسُوسة أي: مسوسٌ أهلُها، مِنْ دانهم مَلِكُهم إذا ساسهم، وكان ينبغي أن يُجمع على مداين بصريح الياء كمعايش في مشهور لغة العرب. الثالث: أن وزنها مَفْعولة وهو مذهب أبي العباس. قال: «هي مِنْ دانه يَدينه إذا ملكه وقَهَره، وإذا كان أصلُها مَدْيونة فأُعِلَّت كما يُعَلُّ مَبِيع اسمَ مفعول من البيع، ثم يجري الخلافُ في المحذوف: هل هو الياءُ الأصلية أو الواو الزائدة؟ الأول قول الأخفش، والثاني قولُ المازني وهو مذهب جماهير النحاة. والمدينة معروفةٌ وهي البقعة المُسَوَّرة المستولي عليها مَلِكٌ.

113

قوله تعالى: {قالوا إِنَّ لَنَا} : في هذه الجملة وجهان، أظهرهما: أنها لامحلَّ لها من الإِعراب لأنها استئنافُ جوابٍ لسؤال مقدر، ولذلك لم تُعْطَفْ بالفاء على ما قبلها. قال الزمخشري: «فإن قلت: هلاقيل: وجاء السحرة فرعون فقالوا. قلت: هو على تقدير سائل سأل: ما قالوا إذ جاؤوه؟ فأُجيب بقوله: قالوا أإن لنا لأجراً» ، وهذا قد سبقه إليه

الواحدي، إلا أنه قال: «ولم يقل فقالوا، لأن المعنى لما جاؤوا قالوا، فلم يَصِحَّ دخولُ الفاءِ على هذا الوجه» . والوجه الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «جاؤوا» قاله الحوفي. وقرأ الحَرَمِيَّان وحفص عن عاصم «إنَّ» بهمزة واحدة، والباقون بهمزتين على الاستفهام. وهم على أصولهم في التحقيق والتسهيل وإدخال ألفٍ بينهما وعدمِه. فقراءةُ الحَرَمِيَّيْن على الإِخبار، وجوَّز الفارسي أن تكونَ على نية الاستفهام يدل عليه قراءة الباقين، وجَعَلوا ذلك مثلَ قولِه تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] وقولِ الشاعر: 2260 - أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرام وأنْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقول الآخر: 2261 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . وذو الشيب يلعبُ وقد تقدم تحقيق هذا وأنه مذهب أبي الحسن. ونكَّر «أجراً» للتعظيم. قال الزمخشري: «كقولهم: إنَّ له لإِبلاً وإن له لغنماً» . قوله: {إِن كُنَّا} شرطٌ جوابُه محذوفٌ للدلالة عليه عند الجمهور، أو ما تقدَّم عند/ مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ الشرط عليه. و «نحن» يجوز فيه أن

يكونَ تأكيداً للضمير المرفوع، وأن يكون فَصْلاً فلا محلَّ له عند البصريين، ومحلُّه الرفعُ عند الكسائي، والنصب عند الفراء.

114

قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} : هذه الجملةُ نَسَقٌ على الجملة المحذوفةِ التي نابَتْ «نعم» عنها في الجواب، إذ التقدير: قال: نعم إن لكم لأجراً وإنَّكم لمن المقربين.

115

قوله تعالى: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} : «إمَّا» هنا للتخيير، ويُطْلق عليها حرفُ عطف مجازاً. وفي محل «أَنْ تلقي وإما أَنْ نكون» ثلاثة أوجه، أحدها النصبُ بفعلٍ مقدر أي: افعل إمَّا إلقائك وإمَّا إلقاءنا، كذا قدَّره الشيخ. وفيه نظر لأنه لا يَفْعَلُ إلقاءهم فينبغي أن يُقَدِّر فعلاً لائقاً بذلك وهو اختر أي: اختر إمَّا إلقاءك وإمَّا إلقاءنا. وقدَّره مكي وأبو البقاء، فقالا: «إمَّا أن تفعل الإِلقاء» قال مكي: «كقوله: 2262 - قالوا الركوبَ فقلنا تلك عادتنا ... . . . . . . . . . . . . . . . إلا أنه جَعَلَ النصبَ مذهبَ الكوفيين. الثاني: الرفع على خبرِ ابتداءٍ مضمر تقديرُه: أَمْرُك إمَّا إلقاؤك وإمَّا إلقاؤُنا. الثالث: أن يكون مبتدأً خبرُه محذوفٌ تقديرُه: إمَّا إلقاؤك مبدوءٌ به، وإمَّا إلقاؤنا مبدوءٌ به، وإنما أتى هنا ب» أَنْ «المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ} [التوبة: 106] لأنَّ» أَنْ «وما بعدها هنا: إمَّا مفعولٌ وإمَّا مبتدأٌ، والمفعولُ به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحاً، بل لا بد أن ينضمَّ إليه حرفٌ

مصدري يجعله في تأويل اسم، وأمَّا آيةُ التوبة فالفعلُ بعد» إمَّا «: إمَّا خبرٌ ثان ل آخرون، وإمَّا صفةٌ له، والخبرُ والصفةُ يقعان جملةً فعليةً مِنْ غير حرف مصدري. وحُذِف مفعولُ الإِلقاء للعلم بهِ والتقدير: إمَّا أَن تُلْقيَ حبالَكَ وعِصِيَّك، لأنهم كانوا يعتقدون أن يفعل كفِعْلهم أو نلقي حبالَنا وعِصِيَّنا.

116

قوله تعالى: {واسترهبوهم} : يجوزُ أَنْ يكونَ استفعل فيه بمعنى أفعل، أي: أرهبوهم، وهو قريبٌ مِنْ قولهم: قرَّ واستقرَّ وعَظَّم واستعظم وهذا رأي المبرد. ويجوز أن تكون السينُ على بابها أي: استدعوا رهبةَ الناس منهم، وهو رأي الزجاج.

117

قوله تعالى: {أَنْ أَلْقِ} : يجوزُ أن تكونَ المفسِّرة لمعنى الإِيحاء، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً، فتكون هي وما بعدها مفعولَ الإِيحاء. قوله: {تَلْقَفُ} قرأ العامة «تَلَقَّفُ» بتشديدٍ، مِنْ تلقَّفَ يتلقَّفُ، والأصل: «تَتَلَقَّفُ» بتاءين فحذفت إحداهما: إمَّا الأولى وإما الثانية، وقد تقدَّم ذلك في نحو {تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80] . والبزِّي على أصلِه في إدغامها فيما بعدها، فيقرأ {فإذا هي تَّلقَّفُ} بتشديد التاء أيضاً، وقد تقدَّم تحقيقُه عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] . وقرأ حفص «تَلْقَف» بتخفيف القاف مِنْ لَقِفَ ك عَلِم يعلم ورَكِب يركب، يقال: لَقِفْتُ الشيء أَلْقَفُه لَقْفاً ولَقَفاناً، وتَلَقَّفْتُه أَتَلَقَّفُه تَلَقُّفاً إذا

أخذتَه بسرعة فأكلته أو ابتلعته، وفي التفسير: أنها ابتلعَتْ جميعَ ما صنَعُوه، وأنشدوا على لَقِف يلقَف ك عَلِم يَعْلَم قول الشاعر: 2263 - أنت عصا موسى التي لم تَزَلْ ... تَلْقَفُ ما يَصْنَعُه السَّاحر ويقال: رجلٌ ثَقْفٌ لَقْفٌ وثقيف لقيف بَيِّنُ الثقافة واللَّقافة. ويقال: لَقِفَ ولَقِم بمعنى واحد قاله أبو عبيد. ويقال: لَقِف ولَقِم ولَهِم بمعنى واحد. والفاء في «فإذا هي» يجوزُ أَنْ تكونَ العاطفةَ، ولا بد من حذف جملةٍ قبلها ليترتَّب ما بعد الفاء عليها، والتقدير: فألقاها فإذا هي، ومَنْ جَوَّز أن تكون الفاءُ زائدةً في نحو «خرجت فإذا الأسدُ حاضر» جَوَّز زيادتَها هنا، وعلى هذا فتكونُ هذه الجملةُ قد أُوْحِيَتْ إلى موسى كالتي قبلها، وأمَّا على الأول أعني كون الفاءِ عاطفةً - فالجملةُ غير موحى بها إليه. و «ما يأفِكون» يجوزُ في «ما» أن تكونَ بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ أي: الذي يأْفِكونه، ويجوز أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً، والمصدرُ حينئذٍ واقعٌ موقعَ المفعولِ به، وهذا لا حاجةَ إليه.

118

وكذلك قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} : يجوزُ أنْ تكونَ بمعنى الذي، وأن تكونَ مصدريةً أي: وبَطَل الذي/ كانوا يعملونه أو عَمَلُهم، وهذا المصدرُ يجوز أَنْ يكونَ على بابه وأن يكونَ واقِعاً موقعَ المفعولِ به بخلاف «ما يَأفِكون» فإنه يَتَعَيَّن أن يكونَ واقِعاً موقعَ المفعول به

ليصِحَّ المعنى إذ اللَّقْفُ يستدعي عَيْناً يَصِحُّ تسلُّطُه عليها. وقال الفراء في هذه الآيات: «كيف صَحَّ أن يأمرَهم موسى بقوله: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} [يونس: 80] مع أن إلقاءَهم سحر وكفر؟ وأجاب بأن المعنى: أَلْقوا إن كنتم مُحِقِّين، وأَلْقوا على ما يَصِحُّ ويجوز» . انتهى. والظاهر إنما أَمَرَهم بذلك تعجيزاً لهم وقطعاً لشَغَبهم واستطالتهم، ولئلا يقولوا: لو تُرِكنا نفعل لَفَعَلْنا، ولأنَّ الأمرَ لا يستلزم الإِرادة.

119

قوله تعالى: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ} : «هنالك يجوز أن يكونَ مكاناً، أي: غُلبوا في المكان الذي وَقَع فيه سحرهم، وهذا هو الظاهر. قيل: ويجوز أن يكونَ زماناً، وهذا ليس أصلَه، وقد أثبت له بعضهم هذا المعنى بقولِه تعالى: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] وبقول الآخر: 2264 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فهناك يَعْترفون أين المَفْزَعُ ولا حُجَّةَ فيهما؛ لأن المكان فيهما واضح. قوله: {صَاغِرِينَ} حالٌ من فاعل» انْقَلبوا «، والضمير في» انقلبوا «يجوز أن يعودَ على قومِ فرعون، وعلى السَّحَرة إذا جعلنا الانقلابَ قبل إيمان السحرة، أو جعلنا انقلبوا بمعنى صاروا، كما فسَّره الزمخشري، أي:» صاروا أَذِلاَّء مَبْهوتين متحيِّرين «ويجوز أَنْ يعودَ عليهم دون السَّحَرة إذا كان ذلك بعد إيمانهم، ولم يُجعل» انقلبوا «بمعنى صاروا، لأنَّ الله لا يَصِفُهم بالصَّغار بعد إيمانهم.

120

قوله تعالى: {سَاجِدِينَ} : حالٌ أيضاً من «السحرة» . وكذلك: {قالوا}

121

قوله تعالى: {قالوا} : أي: أُلْقُوا ساجدين قائلين ذلك. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر في «ساجدين» . وعلى كلا القولين هم متلبِّسُون بالسجود لله تعالى. ويجوز أن يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له. وجعله أبو البقاء حالاً من فاعل «انقلبوا» فإنه قال: «يجوز أن يكون حالاً، أي: فانقلبوا صاغرين قد قالوا» . وهذا ليس بجيد للفصل بقوله: {وَأُلْقِيَ السحرة} .

122

قوله تعالى: {رَبِّ موسى} : يجوز أن يكون نعتاً لرب العالمين، وأن يكونَ بدلاً، وأن يكونَ عطفَ بيان. وفائدةُ ذلك نَفْيُ تَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أنَّ ربَّ العالمين قد يُطلق على غير الله تعالى، لقول فرعون {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] . وقدَّموا موسى في الذِّكْر على هرون وإن كان هرون أسنَّ منه لكبره في الرتبة، أو لأنه وقع فاصلةً هنا، ولذلك قال في سورة طه {بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: 70] لوقوع موسى فاصلةً، أو تكون كلُّ طائفةٍ منهم قالت إحدى المقالتين فَنَسَبَ فِعْلَ بعضٍ إلى المجموع في سورةٍ وفِعْلَ بعضٍ آخرَ إلى المجموع في أخرى.

123

قوله تعالى: {آمَنتُمْ} : اختلفَ القراء في هذا الحرف هنا وفي طه وفي الشعراء. فبعضهم جَرَى على قولٍ واحد، وبعضهم

قَرَأَ في موضع بشيءٍ لم يَقْرأ به في غيره. فأقول: إن القرَّاء في ذلك على أربع مراتب: الأولى: قراءةُ الأخوين وأبي بكر عن عاصم وهي: بتحقيق الهمزتين في السور الثلاثِ من غيرِ إدخالِ ألفٍ بينهما وهو استفهامُ إنكار، وأمَّا الألفُ الثالثةُ فالكلُّ يَقْرؤونها كذلك؛ لأنها هي فاء الكلمة أُبْدِلَتْ لسكونها بعد همزة مفتوحة، وذلك أن أصل هذه الكلمة أَأَأْمَنْتم بثلاث همزات، الأولى للاستفهام والثانية همزة أفعل والثالثة فاء الكلمة، فالثالثة يجب قَلْبُها ألفاً لِما عرفته أول هذا الموضوع، وأمَّا الأولى فمُحَقَّقة ليس إلا، وأمَّا الثانية فهي التي فيها الخلاف بالنسبة إلى التحقيق والتسهيل. الثانية: قراءة حفص وهي «آمنتم» بهمزة واحدة بعدها الألف المشارُ إليها في جميع القرآن. وهذه القراءةُ تحتمل الخبرَ المَحْضَ المتضمنَ للتوبيخ، وتحتمل الاستفهامَ المشارَ إليه، ولكنه حُذِف لفهم المعنى ولقراءة الباقين. الثالثة: قراءةُ نافع وأبي عمرو وابن عامر والبزي عن ابن كثير، وهي تحقيقُ الأولى، وتسهيلُ الثانية بين بين، والألف المذكورة. وهو استفهامُ إنكارٍ كما تقدَّم. الرابعة: قراءةُ قنبل عن ابن كثير وهي التفرقةُ بين السور الثلاث: وذلك أنه قرأ في هذه/ السورة حالَ الابتداء بآمنتم بهمزتين، أولاهما مخفَّفة، والثانية مُسَهَّلة بين بين وألف بعدها كقراءة رفيقه البزي، وحالَ الوصل يقرأ: «قال فرعون وامنتم» بإبدال الأولى واواً وتسهيل الثانية بين بين وألف بعدها: وذلك أن الهمزة إذا كانت مفتوحةَ بعد ضمة جاز إبدالُها واواً سواء كانت

الضمةُ والهمزةُ في كلمةٍ واحدة نحو: جُوَن ويُؤاخذكم ومُوَجَّلاً أم في كلمتين كهذه الآية، وقد فعل مثل ذلك أيضاً في سورة الملك في قوله: {وَإِلَيْهِ النشور وأَمِنتُمْ} [الملك: 15-16] فأبدل الهمزةَ الأولى واواً لانضمام ما قبلها حال الوصل، وأما في الابتداء فيخففها لزوالِ الموجب لقلبها، إلا أنه ليس في سورة الملك ثلاثُ همزات. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذلك في موضعه. وقرأ في سورة طه كقراءة حفص: أعني بهمزةٍ واحدةٍ بعدها ألفٌ، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقِه البزي فإنه ليس قبلها ضمةٌ فيبدلها واواً في حال الوصل. وقد قرأتُ لقنبل أيضاً بثلاثة أوجه في هذه السورةِ وصلاً: وهي تسكينُ الهمزةِ بعد الواو المبدلةِ أو تحريكها أو إبدالُها ألفاً، وحينئذ ينطق بقَدْر ألفَيْن ولم يُدخل أحدٌ من القراء مدّاً بين الهمزتين هنا سواءً في ذلك مَنْ حقق أو سَهَّل؛ لئلا تجتمع أربعةُ متشابهات. والضمير في «به» عائدٌ على الله تعالى لقوله: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} ويجوزُ أن يعودَ على موسى وأمَّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله: {آمنتم له} فالضمير لموسى لقوله: {إنَّه لكبيرُكم} . قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} حُذِفَ مفعولُ العلم للعلم به، أي: تعلمون ما يحلُّ بكم، ثم فَسَّر هذا الإِبهامَ بقوله: {لأُقَطِّعَنَّ}

124

{لأُقَطِّعَنَّ} جاء به في جملةٍ قَسَمية تأكيداً لما يفعله. وقرأ مجاهد بن جبر وحميد المكي وابن محيصن: «لأقْطَعَنَّ» مخففاً مِنْ قَطَعَ الثلاثي، وكذا: «ولأَصْلُبَنَّكُمْ» من صلب الثلاثي، ورُوي ضمُّ اللام وكسرُها، وهما لغتان في المضارع يقال: صَلَبه يَصْلُبه ويَصْلِبه.

قوله: {مِّنْ خِلاَفٍ} يحتمل أن يكونَ المعنى: على أنه يقطع من كل شق طرفاً فيقطع اليدَ اليمنى والرِّجْل اليسرى وكذا هو في التفسير، فيكونُ الجارُّ والمجرور في محلِّ نصبٍ على الحال كأنه قال: مختلفةً. ويُحتمل أن يكونَ المعنى: لأقطِّعَنَّ لأجل مخالفتكم إيَّاي فتكون «مِنْ» تعليليةً، وتتعلَّق على هذا بنفس الفعلِ وهو بعيدٌ. وأجمعين تأكيد، أي به دون «كل» وإن كان الأكثرُ سَبْقَه ب كل. وجيء هنا ب «ثم» وفي السورتين «ولأصلبنَّكم» بالواو، لأن الواوَ صالحةٌ للمهلة فلا تَنافِيَ بين الآيات.

125

وقوله تعالى: {إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} : جَوَّزوا في هذا الضميرِ وجهين، أحدهما: أنه يَخُصُّ السَّحَرة، ويؤيِّده قولُه بعد ذلك: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ} فإن الضميرَ في «مِنَّا» يَخُصُّهم، وجَوَّزوا أن يعودَ عليهم وعلى فرعون، أي: إنَّا نحن وأنت ننقلب إلى الله، فيجازي كلاً بعمله، وهذا وإن كان هو الواقعَ إلا أنه ليس من هذا اللفظ.

126

وقوله تعالى: {وَمَا تَنقِمُ} : قد تقدَّم أنَّ فيه لغتين وكيفيةُ تعدِّيه ب «من» ، وأنه على التضمين، في سورة المائدة. وقوله: {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا} يجوز أن يكونَ في محلِّ نصب مفعولاً به، أي: ما تَعيب علينا إلا إيمانَنا. ويجوز أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله، أي: ما تنال منَّا وتعذِّبنا لشيءٍ من الأشياء إلا لإِيماننا. وعلى كلا القولَيْن فهو استثناءٌ مفرغ. قوله: {لَمَّا جَآءَتْنَا} يجوز أن تكونَ ظرفيةً كما هو رأي الفارسي وأحد قولي سيبويه. والعاملُ فيها على هذا «آمنَّا» أي: آمنَّا حين مجيء الآيات،

وأن تكونَ حرفٍ وجوب لوجوب، وعلى هذا فلا بد لها من جوابٍ وهو محذوفٌ تقديرُه: لمَّا جاءَتْنا آمنَّا بها من غير توقُّفٍ.

127

قوله تعالى: {وَيَذَرُكَ} : قرأ العامَّةُ: «ويَذَرَك» بياء الغيبة ونصبِ الراء. وفي النصبِ وجهان: أظهرهما: أنه على العطف على «ليُفْسدوا» . والثاني: أنه منصوبٌ على جواب الاستفهام، كما يُنصب في جوابه بعد الفاء كقول الحطيئة: 2265 - ألم أكُ جارَكُم ويكونَ بيني ... وبينكمُ المودةُ والإِخاءُ والمعنى: كيف يكون الجمعُ بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين وبين تركِهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك، أي لا يمكنُ وقوعُ ذلك. وقرأ الحسن في روايةٍ عنه ونعيم بن ميسرة «ويذرُك» برفع الراء. وفيها ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنه نسقٌ على «أتذر» أي: أتطلق له ذلك. الثاني: أنه استئنافُ إخبار بذلك. الثالث: أنه حالٌ. ولا بدَّ من/ إضمارِ مبتدأ، أي: وهو يَذَرُك. وقرأ الحسن أيضاً والأشهب العقيلي: «ويذرْك» بالجزم وفيها وجهان، أحدهما: أنه جزم ذلك عطفاً على التوهم، كأنه توهَّم جَزْمَ «يُفْسدوا» في جواب الاستفهام فعطف عليه بالجزم كقوله: {فأصَّدَّق وأكنْ} [المنافقين: 10] بجزم «وأكن» . الثاني: أنها تخفيفٌ كقراءةِ أبي عمرو «يَنْصُرْكم» وبابه.

وقرأ أنس بن مالك: «ونذرُك» بنون الجماعة ورفع الراء، تَوَعَّدوه بذلك، أو أنَّ الأمرَ يُؤول إلى ذلك فيكون خبراً محضاً. وقرأ عبد الله والأعمش بما يخالف السواد فلا حاجةَ إلى ذِكْره. وقرأ العامَّة: «وآلهتكَ» بالجمع. وفي التفسير: أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبقر والحجارة والكواكب، أو آلهته التي شَرَع عبادتَها لهم وجَعَل نفسَه الإِلَه الأعلى في قوله {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} . وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس وجماعة كثيرة: «وإلاهتك» . وفيها وجهان، أحدهما: أن «إلاهة» اسم للمعبود، ويكون المرادُ بها معبودَ فرعونِ وهي الشمس، وفي التفسير أنه كان يعبد الشمس، والشمس تسمَّى «إلاهةً» علَماً عليها، ولذلك مُنِعت الصرف للعلمية والتأنيث. والثاني: أن «إلاهة» مصدر بمعنى العبادة، أي: ويذر عبادَتك لأنَّ قومه كانوا يعبدونه. ونقل ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يُنْكر قراءة العامة، ويقرأ «وإلاهتك» وكان يقول: إن فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ. قوله: {سَنُقَتِّلُ} قرأ نافع وابن كثير: «سَنَقْتل» بالتخفيف، والباقون بالتضعيف للتكثير، لتعدُّد المجال. وسيأتي أن الجماعة قَرَؤوا «يُقَتِّلُون أبناءكم» بالتضعيف إلا نافعاً، فيخفف. فتلخص من ذلك أنَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف. وابن كثير يخفف «سنقتل» ويثقِّل «يقتلون» ، والباقون يثقلونها.

128

قوله تعالى: {يُورِثُهَا} : في محلِّ نصبٍ على الحال. وفي صاحبها وجهان، أحدهما: الجلالة أي: هي له حالَ كونه مُورِثاً لها من يشاؤه. والثاني: أنه الضميرُ المستتر في الجار أي: إنَّ الأرضَ مستقرة لله حالَ

كونها مُوَرَّثَةً من الله لمن يشاء. ويجوز أن يكونَ «يورثها» خبراً ثانياً، وأن يكونَ خبراً وحدَه، و «لله» هو الحال، ومَنْ يشاء مفعولٌ ثانٍ، ويجوزُ أن يكونَ جملةً مستأنفة. وقرأ الحسن ورُويت عن حفص «يُوَرِّثُها» بالتشديد على المبالغة. وقرئ «يُوْرَثُها» بفتح الراء مبنياً للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل هو «مَنْ يشاء» . والألفُ واللام في «الأرض» يجوز أن تكونَ للعهدِ وهي أرضُ مِصْر أو للجنس. وقرأ ابن مسعود بنصب «العاقبة» نسقاً على «الأرض» و «للمتقين» خبرُها، فيكون قد عطف الاسم على الاسم والخبر على الخبر فهو مِنْ عطفِ الجمل. قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ أُخْلِيَتْ هذه الجملةُ من الواو وأُدْخِلَتْ على التي قبلها؟ قلت: هي جملةٌ مبتدَأةٌ مستأنفةٌ، وأمَّا {وَقَالَ الملأ} [الأعراف: 127] فهي معطوفةٌ على ما سبقها مِنْ قوله: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ} .

130

قوله تعالى: {بالسنين} : جمعُ سَنَة. وفيها لغتان أشهرهما: إجراؤُه مُجْرى جمع المذكر السالم فيُرفع بالواو ويُنْصب ويُجَرُّ بالياء، وتُحْذَفُ نونُه للإِضافة. قال النحاة: إنما جرى ذلك المجرى جبراً له لِما فاته مِنْ لامه المحذوفة، وسيأتي في لامِه كلامٌ. واللغةُ الثانيةُ: أن يُجْعَلَ الإِعرابُ على النونِ ولكن مع الياءِ خاصَّةً. نَقَلَ هذه اللغةَ أبو زيد والفراء. ثم لك فيها لغتان أحدهما: ثبوتُ تنوينها، والثانيةُ عدمهُ. قال الفراء: «هي في هذه اللغة

مصروفة عند بني عامر وغير مصروفة عند بني تميم» . ووجه حذف التنوين التخفيف، وحينئذ لا تُحْذف النون للإِضافة، وعلى ذلك جاء قولُه: 2266 - دَعَانيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سنينَه ... لَعِبْنَ بنا شِيْباً وشَيَّبْنَنَا مُرْدا وجاء الحديث «اللهم اجعلها عليهم سنين كَسِني يوسف» و «سنيناً كسنينِ يوسف» باللغتين. وفي لام «سَنَة» لغتان، أحدهما: أنها واو لقولهم: سنوات وسانَيْتُ وسُنَيَّة. والثانية: أنه هاءٌ لقولهم: سانَهْتُ وسَنَهات وسُنَيْهَة. وليس هذا الحكمُ المذكور أعني جَرَيَانَه مَجْرى جمعِ المذكر أو إعرابَه بالحركات مقتصراً على لفظ سنين بل هو جارٍ في كل اسمٍ ثلاثي مؤنث حُذِفتْ لامُه وعُوِّضَ منها تاء التأنيث ولم يُجْمع جمع تكسير، نحو ثُبة وثبين، وقُلة وقُلين. وتَحَرَّزْتُ بقولي «حُذِفَتْ لامُه» ممَّا حُذِفَتْ فاؤه نحو: لِدة وعِدَة. وبقولي «ولم يُجْمع جمع تكسير» مِنْ «ظُبَة وظُبَى» . وقد شذَّ قولهم «لِدُون» في المحذوف الفاء، وظِبون في المكسَّر قال/ 2267 - يرى الراؤون بالشَّفَراتِ منها ... وُقودَ أبي حُباحبَ والظُّبينا

واعلم أن هذا النوعَ إذا جَرَى مَجْرى الزيدِيْنَ فإن كان مكسورَ الفاء سَلِمَتْ ولم تُغَيَّر نحو: مئة ومئين، وفئة وفئين. وإن كان مفتوحَها كُسِرَتْ نحو سنين، وقد نُقِل فتحُها وهو قليلٌ جداً. وإن كان مضمومَها جاز في فائهِ الوجهان: أعني السَّلامة والكسر نحو: ثُبين وقُلين. وقد غَلَبت السَّنَة على زمانِ الجَدْب، والعام على زمان الخصب حتى صارا كالعلَم بالغلبة، ولذلك اشتقوا من لفظ السنة فقالوا: أَسْنَتَ القومُ. قال: 2268 - عمروُ الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه ... ورجالُ مكةَ مُسْنِتونَ عجافُ وقال حاتم الطائي: 2269 - وإنَّا نُهيْنُ المالَ في غيرِ ظِنَّةٍ ... وما يَشْتكينا في السنين ضريرُها ويؤيِّد ما ذَكَرْتُ لك ما في سورة يوسف: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ} [يوسف: 47] ثم قال: {سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف: 48] فهذا في الجَدْب. وقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس} [يوسف: 49] . وقوله: {مِّن الثمرات} متعلق ب {نَقْصٍ} .

131

قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة} : أتى في جانب الحسنة ب إذا التي للمحقق. وعُرِّفَتِ الحسنة لسَعة رحمة الله تعالى، ولأنها

أمر محبوب، كلُّ أحدٍ يتمناه، وأتى في جانب السيئة ب «إنْ» التي للمشكوك فيه، ونُكِّرتِ السيئة لأنه أمرٌ كلُّ أحدٍ يَحْذره. وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال: «فإن قلتَ: كيف قيل {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة} ب» إذا «وتعريف الحسنة، و {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} ب» إن «وتنكير السيئة؟ قلت: لأنَّ جنسَ وقوعِه كالواجب واتساعه، وأمَّا السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها» . انتهى. وهذا من محاسن علم البيان. قوله: {يَطَّيَّرُواْ} الأصلُ: يتطيَّروا فَأُدْغمت التاء في الطاء لمقاربتها لها. وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف: «تطيَّروا» بتاءٍ من فوق على أنه فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورة، إذ لا يقع فعل الشرط مضارعاً والجزاء ماضياً إلا ضرورةً كقوله: 2270 - مَنْ يَكِدْني بِسَيِّءٍ كنتُ منه ... كالشَّجا بين حَلْقِه والوريد وقوله: 2271 - وإن يَرَوا سُبَّة طاروا بها فَرَحاً ... مني وما سمعوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا وقد تقدَّم الخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته. والتطيُّر: التشاؤم وأصله أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم، فيطير لكل

أحدٍ حظُّه وما يخصُّه، ثم أُطْلق على الحظ والنصيب السَّيِّئ بالغلبة، وأنشدوا للبيد: 2272 - تطير عَدائِدُ الأشراكِ شَفْعاً ... ووِتْراً والزَّعامةُ للغلام الأَشْراك: جمعُ شِرْك وهو النصيب، أي: طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر ووِتْراً للأنثى. والزَّعامة: أي: الرئاسة للذكر، فهذا معناه تفرَّق، وصار لكل أحد نصيبُه، وليس من الشؤم في شيءٍ، ثم غَلَبَ على ما ذكرت لك. ومعنى {طَائِرُهُمْ عِندَ الله} أي: حظهم وما طار لهم في القضاء والقدر، أو شؤمهم، أي: سبب شؤمِهم عند الله وهو ما يُنْزِلُه بهم.

132

قوله تعالى: {مَهْمَا} : «مهما» اسمُ شرطٍ يجزم فعلين، ك «إنْ» . هذا قولُ جمهور النحاة، وقد يأتي للاستفهام، وهو قليلٌ جداً كقوله: 2273 - مهما لي الليلةَ مهما لِيَهْ ... أَوْدَى بنعلَيَّ وسِرْباليَهْ يريد: ما لي الليلة ما لي؟ والهاء للسكت. وزعم بعض النحويين أنَّ الجازمة تأتي ظرف زمان، وأنشد: 2274 - وإنك مهما تُعْطِ بطنك سُؤْلَه ... وفَرْجَكَ نالا منتهى الذمِّ أجمعا وقول الآخر: 2275 - ... عوَّدْتَ قومَك أن كلَّ مُبَرَّرٍ مهما يُعَوَّدْ شيمةً يَتَعوَّدِ ...

وقول الآخر: 2276 - نُبِّئْتُ أن أبا شُتَيْمٍ يَدَّعي ... مهما يَعِشْ يُسْمِعْ بما لم يُسْمَعِ قال: «ف مهما هنا ظرف زمان» والجمهور على خلافه. وما ذكره متأول، بل بعضُه لا يَظْهر فيه للظرفية معنى. وقد شنع الزمخشري على القائل بذلك فقال: «وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يُحَرِّفها مَنْ لا يدَ له في علم العربية فيضعها غيرَ موضعها، ويحسب» مهما «بمعنى» متى «ويقول: مهما جئتني أعطيتك، وهذا من كلامه وليس من واضع العربية، ثم يذهب فيفسر {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ} بمعنى الوقت فيُلْحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مِمَّا يوجب الجثوَّ بين يدي الناظر في كتاب سيبويه» . قلت: هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت، فإن ذلك قولٌ ضعيف لم يَقُلْ به إلا الطائفةُ الشاذَّةُ، وقد قال جمال الدين ابن مالك: «جميع النحويين يقولون إن» مهما «و» ما «مثل» مَنْ «في لزوم التجرُّد عن الظرف، مع أن استعمالهما ظرفين ثابتٌ في أشعار الفصحاء من العرب» ، وأنشد بعض الأبيات المتقدمة. قلت: وكفى بقوله «جميع النحويين» دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما. وهي اسمٌ لا حرفٌ بدليل عَوْد الضمير عليها، ولا يعود الضمير على حرف كقوله {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ} فالهاء في «به» تعود على «مهما» ، وشَذَّ السهيليُّ فزعم أنها قد تأتي حرفاً.

واختلف النحويون في «مهما» : هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقائلون بتركيبها اختلفوا: فمنهم مَنْ قال: هي مركبة/ مِنْ ماما، كُرِّرت «ما» الشرطية توكيداً فاستثقل توالي لفظين فأُبْدلت ألف «ما» الأولى هاء. وقيل: زيدت «ما» على «ما» الشرطية كما تُزاد على «إنْ» في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} [البقرة: 38] فعُمِل العمل المذكور للثقل الحاصل. وهذا قول الخليل وأتباعه من أهل البصرة. وقال قوم: «هي مركبة مِنْ مَهْ التي هي اسمُ فعلٍ بمعنى الزجر وما الشرطية، ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شيئاً واحداً» . وقال بعضهم: «لا تركيبَ فيها هنا بل كأنهم قالوا له: مه، ثم قالوا: ما تَأْتِنا به» ويُعْزى هذان الاحتمالان للكسائي وهذا ليس بشيء؛ لأن ذلك قد يأتي في موضعٍ لا زَجْرَ فيه، ولأن كتابتها متصلة ينفي كونَ كلٍ منهما كلمةً مستقلة. وقال قوم: إنها مركبة من مَهْ بمعنى اكفف ومَنْ الشرطية، بدليل قول الشاعر: 2277 - أماوِيَّ مَهْ مَنْ يَسْتمعْ في صديقه ... أقاويلَ هذا الناسِ ماوِيَّ يندمِ فأُبْدِلَتْ نونُ «مَنْ» ألفاً، كما تبدل النونُ الخفيفة بعد فتحة، والتنوين ألفاً. وهذا ليس بشيء، بل «مَهْ» على بابها من كونها من انكفف ثم قال: من يستمع. وقال قوم: «بل هي مركبةٌ مِنْ مَنْ وما، فأُبْدلت نونُ مَنْ هاءً، كما

أبدلوا من ألف» ما «الأولى هاء، وذلك لمؤاخاة» مَنْ «» ما «في أشياء وإن افترقا في شيء واحد» . ذكره مكي. ومحلُّها نصبٌ أو رفع، فالرفعُ على الابتداء وما بعده الخبر، وفيه الخلافُ المشهورُ: هل الخبر فعلُ الشرط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً. والنصب من وجهين: أظهرهُهما على الاشتغال، ويُقَدَّر الفعلُ متأخراً عن اسم الشرط والتقدير: مهما تُحْضِر تأتِنا به، ف «تَأْتِنا» مفسِّر ل «تُحضر» لأنه من معناه. والثاني: النصبُ على الظرفية عند مَنْ يرى ذلك، وقد تقدم الردُّ على هذا القول. والضميران من قوله «به» و «بها» عائدان على «مهما» عاد الأول على اللفظ والثاني على المعنى، فإن معناها الآية المذكورة. ومثله قول زهير: 2278 - ومهما تكنْ عند امرئٍ من خَليقةٍ ... وإن خالها تَخْفَى على الناسِ تُعْلَمِ ومثلُه في ذلك قولُه: {ما نَنْسَخْ من آيةٍ أو نَنْسَأْها نأْتِ بخيرٍ منها أو مثلها} [البقرة: 106] فأعاد الضمير على «ما» مؤنثاً لأنها بمعنى الآية. وقوله: {فَمَا نَحْنُ} يجوز أَنْ تكونَ «ما» حجازيةً أو تميمية، والراءُ زائدةٌ على كلا القولين، والجملةُ جوابُ الشرط فمحلها جزم.

133

قوله تعالى: {الطوفان} : فيه قولان أحدهما: أنه جمع طُوْفانة، أي: هو اسم جنس كقمح وقمحة وشعير وشعيرة. وقيل: بل هو مصدر كالنُّقْصان والرُّجْحان، وهذا قول المبرد في آخرين، والأول هو قول

الأخفش قال: «هو فُعْلان من الطَّواف، لأنه يطوف حتى يَعُمَّ، وواحدته في القياس طُوْفانة، وأنشد: 2279 - غَيَّرَ الجِدَّةَ من آياتها ... خُرُقُ الريحِ وطوفانُ المَطَرْ والطُّوفان: الماء الكثير قاله الليث، وأنشد للعجاج: 2280 - وعَمَّ طُوفانُ الظلامِ الأَثْأَبا ... شبَّه ظلامَ الليل بالماء الذي يغشى الأمكنة. وقال أبو النجم: 2281 - ومَدَّ طوفانٌ مبيدٌ مَدَدا ... شهراً شآبيبَ وشهراً بَرَدا وقيل: الطُّوفان من كلِّ شيءٍ ما كان كثيراً محيطاً مُطْبقاً بالجماعة من كل جهة كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجارف، قاله ابو إسحاق. وقد فسَّره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالموتِ تارةً وبأمرٍ من الله تارة، وتلا قولَه تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ} [القلم: 19] . وهذه المادة وإن كانت قد تقدَّمت في» طائفة «إلا أن لهذه البِنْية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة.

قوله: {والجراد} جمع جَرادة، الذَّكَرُ والأنثى فيه سواء. يقال: جرادة ذََكَرٌ وجرادة أنثى كنملة وحمامة. قال أهل اللغة: وهو مشتق من الجَرْد، قالوا: والاشتقاق في أسماء الأجناس قليلٌ جداً يقال: أرض جَرْداء أي: مَلْساء، وثوب جَرْد: إذا ذهبَ زِئْبَرُه. قوله: {والقمل} قيل هي: القِرْدان وقيل: دوابُّ تشبهها أصغرَ منها. وقيل: هي السُّوس الذي يخرج من الحنطة. وقيل: نوع من الجراد أصغر منه. وقيل: الحِمْنان الواحدة حِمْنانة نوع من القِرْدان. وقيل: هو القُمَّل المعروف الذي يكون في بدن الإِنسان وثيابه. ويؤيد هذا قراءة الحسن» والقَمْل «بفتح القاف وسكون الميم فيكون فيه لغتان: القُمَّل كقراءة العامة، والقَمْل كقراءة الحسن البصري. وقيل: القمل: البراغيث. وقيل: الجِعلان. قوله: {والضفادع} : جمع ضِفْدَع بزنة دِرْهم، ويجوز كسر دالِه فيصير بزنة زِبْرِج وقد تُبْدَلُ عينُ جمعه ياء/ كقوله: 2282 - ومَنْهَلٍ ليس له حَوازِق ... ولِضفادي جَمِّه نقانِقُ وشَذَّ جمعُه أيضاً على ضِفْدَعان، والضِّفدع مؤنث وليس بمذكر. فعلى هذا يُفَرَّق بين مذكَّره ومؤنثه بالوصف. فيقال: ضفدع ذَكَر وضفدع أنثى، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاءِ التأنيث نحو حمامة وجرادة ونملة. قوله: {آيَاتٍ} منصوب على الحال من تلك الأشياء المتقدمة أي: أَرْسَلْنا عليهم هذه الأشياءَ حالَ كونِها علاماتٍ مميَّزاً بعضها من بعض.

134

قوله تعالى: {بِمَا عَهِدَ} : يجوز في: هذه الباء وجهان أحدهما وهو الظاهر: أن يتعلق ب ادْعُ أي: ادْعُه بالدعاء الذي عَلَّمك أن تدعوه به. والثاني: أنها باء القسم. وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين فقال: «والباء إمَّا أن تتعلق ب» ادْعُ «على وجهين أحدهما: أَسْعِفْنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته إياك بالنبوة، أو ادعُ الله لنا متوسِّلاً إليه بعهده عندك، وإمَّا أن يكون قَسَماً مُجاباً ب» لنؤمِنَنَّ «أي: أقسمنا بعهد الله عندك.

135

قوله تعالى: {إلى أَجَلٍ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب كَشَفْنا، وهذا هو المشهور عند المُعْرِبين. واستشكل عليه الشيخ، إشكالاً وهو أنَّ ما دخلت عليه «لمَّا» يترتب جوابُه على ابتداء وقوعه، والغايةُ تنافي التعليقَ على ابتداءِ الوقوع، فلا بدَّ مِنْ تعقُّل الابتداء والاستمرار حتى تتحقَّقَ الغايةُ، ولذلك لا تقع الغاية في الفعل غير المتطاول لا يُقال: «لَمَّا قتلت زيداً إلى يوم الخميس جَرَى كذا» ، ولا «لَمَّا وثبتُ إلى يوم الجمعة اتفق كذا» . هذا كلامُه وهو حسنٌ. وقد يُجاب عنه بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا وقتُ إيمانهم وإرسالِهم بني إسرائيل معه، ويكون المرادُ بالكشفِ استمرارَ رَفْعِ الرجز، كأنه قيل: فلمَّا تمادَى كشَفْنا عنهم إلى أجَلْ. وأمَّا مَنْ فسَّر الأجل بالموت أو بالغرق فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُه: فلما كشَفْنا عنهم الرجزَ إلى قُرْب أجلٍ هم بالغوه، وإنما احتاج إلى ذلك لأن بين موتهم أو غَرَقِهم حصل منهم نكثٌ فكيف يُتَصَوَّر أن يكون النكثُ منهم بعد موتهم أو غرقهم.

والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من «الرِّجز» أي: فلما كشفنا عنهم الرجزَ كائناً إلى أجل. والمعنى أن العذاب كان مؤجلاً. قال الشيخ: «ويقوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب» لمَّا «جاء ب» إذا «الفجائية أي: فلمَّا كَشَفْنا عنهم العذابَ المقرَّرَ عليهم إلى أجل فاجَؤُوا بالنكث، وعلى معنى تغييته الكشفَ بالأجل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلا على تأويلِ الكشفِ بالاستمرار المُغَيَّا فيمكن المفاجأة بالنكث إذ ذاك» انتهى. قوله: {هُم بَالِغُوهُ} في محل جرٍ صفةً لأَجَل. والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ مِنْ وَصْفه بالمفرد لتكررِ الضمير المؤذن بالتفخيم. وقوله: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} هذه «إذا» الفجائية وقد تقدَّم الكلامُ عليها قريباً، و «هم» مبتدأ و «ينكثون» خبره، و «إذا» جوابُ «لَمَّا» كما تقدَّم بالتأويل المذكور. قال الزمخشري: «إذا هم ينكُثون جواب» لَمَّا «، يعني فلمَّا كشَفْنا عنهم العذاب فاجؤوا النكث وبادروه، ولم يؤخِّروه، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نكثوا» . قال الشيخ: لا ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير «. انتهى. يعني فلا بد من تأويلِ الكشف بالاستمرار كما تقدَّم حتى يَصِحَّ ذلك. وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يدَّعي في» لَمَّا «أنها ظرفٌ، إذ لا بدَّ لها حينئذٍ من عامل. وما بعد» إذا «لا يعمل فيما قبلها. وقد تقدَّم ذلك محرَّراً في موضعه. وقرأ أبو حيوة وأبو هاشم» تنكِثون «بكسر الكاف، والجمهورُ على الضم، وهما لغتان في المضارع. والنَّكْثُ: النَّقْضُ، وأصلُه مِنْ نَكْثِ الصوف

المغزول ليُغْزل ثانياً، وذلك المنكوث نِكْثٌ كذِبْح ورِعْي والجمع أَنْكاث. فاستُعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه، كما في خيوط الأَكْسية إذا نُكِثَتْ بعدما أُبْرِمَتْ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات.

136

قوله تعالى: {فانتقمنا} : هذه الفاءُ سببيَّة أي تسبِّب عن النكثِ الانتقامُ. ثم إنْ أريد بالانتقام/ نفسُ الإِغراق، فالفاء الثانية مفسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك، وإلا كان التقدير: فأرَدْنا الانتقامَ. قوله: {فِي اليم} متعلِّقٌ ب «أَغْرَقْناهم» . واليَمُّ: البحر. والمشهور أنه عربيٌّ. قال ذو الرمة: 2283 - داوِيَّةٌ ودُجَى ليلٍ كأنهما ... يَمٌّ تراطَنَ في حافاتِه الرومُ وقال ابن قتيبة: «إنه البحر بالسُّريانية» . وقيل: بالعبرانيَّة، والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص «. وقال الهروي في عربيَّته:» واليَمُّ: البحر الذي يقال له إساف، وفيه غرق فرعون «، وهذا ليس بجيد لقوله تعالى: {فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [القصص: 7] والمراد به نيلُ مِصْرَ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون. قوله:» بأنهم «الباءُ للسببية أي: أغْرَقْناهم بسبب تكذيبهم بآياتنا، وكونِهم غافلين عن آياتنا. فالضمير في» عنها «يعودُ على الآيات. وهذا هو الظاهر. وبه قال الزجاج وغيره. وقيل: يجوز أن يكونَ على النقمة المدلولِ عليها بانتقمنا. ويُعْزى هذا لابن عباس، وكأن القائل بذلك تَخيَّل أن الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لهم من حيث إن الغفلةَ ليست مِنْ كسب الإِنسان.

وقال الجمهور: إنهم تعاطَوا أسبابَ الغفلة فُذُمُّوا عليها كما يُذَمُّ الناسِي على نِسْيانه لتعاطيه أسبابَه.

137

قوله تعالى: {وأَوْرَثْنَا} : يتعدَّى لاثنين لأنه قبل النقل بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو: وَرِثْتُ أبي، فبالنقل اكتسب آخرَ، فأَوَّلُهما «القوم» و «الذين» وصلتُه في محل نصب نعتاً له. وأمَّا المفعولُ الثاني: ففيه ثلاثة أوجهٍ، أظهرُها: أنه {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} . وفي قوله {التي بَارَكْنَا فِيهَا} على هذا وجهان أحدهما: أنه نعتٌ لمشارق ومغارب. والثاني: أنه نعتٌ للأرض. وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوفِ بين الصفةِ والموصوف، وهو نظيرُ قولك: «قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ» . وقال أبو البقاء هنا: «وفيه ضعفٌ؛ لأن فيه العطفَ على الموصوف قبل الصفة» وهذا سَبْقُ لسان أو قلم لأنَّ العطفَ ليس على الموصوف، بل على ما أُضيف إلى الموصوف. الثاني من الأوجه الثلاثة: أن المفعول الثاني هو {التي بَارَكْنَا فِيهَا} أي: أَوْرَثناهم الأرض التي بارَكْنا فيها. وفي قوله تعالى {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} وجهان، أحدهما: هو منصوب على الظرف ب «يُسْتَضْعفون» . والثاني: أن تقديره: يُستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، فلمَّا حُذِفَ الحرف وصلَ الفعلُ بنفسه فنصب. هكذا قال أبو البقاء. ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن فإن القولَ بالظرفية هو عينُ القول بكونه على تقدير «في» ؛ لأن كل ظرف مقدَّرٌ ب «في» فكيف يَجعل شيئاً واحداً شيئين؟ الوجه الثالث: أن المفعولَ الثاني محذوفٌ تقديره: أورثناهم الأرضَ أو الملكَ أو نحوه. و «يُستضعفون» يجوز أن يكون على بابه من الطلب أي:

يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً، وأن يكون استفعل بمعنى وجده ذا كذا. والمرادُ بالأرض أرضُ الشام وقيل: أرض مصر. وقرأ الحسن ورويت عن أبي عمرو وعاصم «كلمات» بالجمع. قال الزمخشري: «ونظيره {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} [النجم: 18] يعني في كونِ الجمع وُصِفَ بمفرد. قال الشيخ:» ولا يتعيَّن في «الكبرى» ما ذَكَر لجواز أن يكون التقدير: لقد رأى الآيةَ الكبرى، فهي وصفُ مفردٍ لا جمعٍ وهو أبلغُ «. قلت: في بعض الأماكن يتعيَّن ما ذكره الزمخشري نحو {مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] وهذه الآية، فلذلك اختارَ منها ما يتعيَّنَ في غيرها. قوله: {بِمَا صَبَرُواْ} متعلِّق ب» تَمَّت «، والباءُ للسببية، و» ما «مصدريةٌ أي بسبب صبرهم. ومتعلَّقُ الصبرِ محذوفٌ أي: على أذى فرعون وقومه. قوله: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} يجوز في هذا الآيةِ أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ» فرعون «اسمَ كان، و» يصنع «خبرٌ مقدم، والجملةُ الكونية صلةُ» ما «، والعائدُ محذوف، والتقدير: ودمَّرْنا الذي كان فرعون يَصْنَعُه. واستضعف أبو البقاء هذا الوجه فقال: «لأنَّ» يصنع «يَصْلُح أن يعملَ في فرعون فلا يُقَدَّر تأخيره، كما لا يُقَدَّر تأخيرُ الفعل في قولك قام زيد» . قلت: يعني أن قولك «قام زيد» يجب أن يكونَ من باب الفعل والفاعل، ولا يجوزُ أن يُدَّعى فيه أنَّ «قام» فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌّ، و «زيد» مبتدأ مؤخر، لأجل

اللَّبْس بباب الفاعل، فكذا هنا لأنَّ «يصنع» يَصِحُّ أن يتسلَّطَ على فرعون فيرفعَه فاعلاً، فلا يُدَّعَى فيه التقديم. وقد سبقه إلى هذا مكي وقال: «ويلزم مَنْ يجيز هذا أن يُجيزَ» يقوم زيد «على الابتداء والخبر والتقديم والتأخير ولم يُجِزْه أحد» ، وقد تقدَّمت هذه المسألة وما فيها، وأنه هل يجوز أن تكون من باب التنازع أم لا؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان محيلاً في بادئ الرأي فإنه كباب/ الابتداء والخبر. ولكن الجواب عن ذلك أن المانع في «قام زيد» هو اللَّبس وهو مفقود ههنا. القثاني: أن اسم «كان» ضميرٌ عائد على «ما» الموصولة و «يصنع» مسندٌ لفرعونَ، والجملةُ خبرٌ عن كان، والعائدُ محذوف أيضاً، والتقدير: ودمَّرْنا الذي كان هو يصنعه فرعون. الثالث: أن تكون «كان» زائدةً و «ما» مصدرية، والتقدير: ودمَّرْنا ما يصنع فرعون أي: صُنْعَه. ذكره أبو البقاء. قلت: وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً وإن كانت «ما» موصولة اسمية على أن العائد محذوف تقديرُه: ودمَّرْنا الذي يصنعه فرعون. الرابع: أنَّ «ما» مصدرية أيضاً، و «كان» ليست زائدةً بل ناقصةٌ، واسمُها ضمير الأمر والشأن، والجملةُ من قوله «يصنع فرعون» خبرُ كان فهي مفسِّرة للضمير. وقال أبو البقاء هنا: «وقيل: ليست» كان «زائدةً، ولكن» كان «الناقصة لا يُفصل بها بين» ما «وبين صلتها، وقد ذكرْنا ذلك في قوله {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] وعلى هذا القول تحتاج» كان «إلى اسم. ويَضْعف أن يكونَ

اسمُها ضميرَ الشأن؛ لأن الجملة التي بعدها صلةُ» ما «فلا تَصْلُح للتفسير فلا يحصُل بها الإِيضاحُ، وتمامُ الاسم والمفسِّر يجب أن يكون مستقلاً فتدعو الحاجةُ إلى أن تَجْعل» فرعون «اسمَ كان، وفي» يصنع «ضميرٌ يعود عليه» . قلت: بعد فَرَض كونِها ناقصةً تلزم أن تكونَ الجملةُ من قوله «يصنع فرعون» خبراً ل «كان» ، ويمتنع أن تكونَ صلةً ل «ما» . وقوله: «فتدعو الحاجة» أي ذلك الوجهُ الذي بدأت به واستضعفه هو احتاج إليه في هذا المكان فراراً مِنْ جَعْل الاسمِ ضميرَ الشأن لما تخيَّله مانعاً. والتدميرُ: الإِهلاك وهو مُتَعدٍّ بنفسه. فأما قوله {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} فمفعولُه محذوفٌ أي: خرَّب عليهم منازلهم وبيوتَهم. قوله: {يَعْرِشُونَ} قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النحل «يَعرُشون» بضم الراء، والباقون بالكسر فيهما. وهما لغتان: عَرَش الكرمَ يعرِشُه ويعرُشُه، والكسرُ لغة الحجاز. قال اليزيدي: «وهي أفصحُ» . وقُرئ شاذاً بالغين المعجمة والسين المهملة مِن غَرْس الأشجار، وما أظنه إلا تصحيفاً. وقرأ ابن أبي عبلة «يُعَرِّشون» بضم الياء وفتحِ العين وكسرِ الراء مشددةً على المبالغة والتكثير.

138

قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ} : كقوله: {فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50] من كونِ الباء يجوز أن تكونَ للتعدية، وأن تكون للحالية كقوله: 2284 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ...

تَدوسُ بنا الجماجمَ والتَّريبا وقد تقدَّم ذلك. وجاوز بمعنى جاز. ففاعَل بمعنى فَعَل. وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو رجاء ويعقوب: جَوَّزنا بالتشديد، وهو أيضاً بمعنى فَعَل المجردِ كقَدَر وقدَّر. قوله: {يَعْكُفُونَ} صفة ل «قوم» . وقرأ الأخَوَان «يعكفون» بكسر العين، ويُروى عن أبي عمرو أيضاً. والباقون بالضم، وهما لغتان في المضارع كيَعْرشون. وقد تقدَّم معنى العكوف واشتقاقُه في البقرة. قوله: {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} الكافُ في محلِّ نصب صفة لإِلهاً، أي: إلهاً مماثلاً لإِلههم. وفي «ما» ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها موصولةٌ حرفية أي: تَتَأوَّل بمصدرٍ، وعلى هذا فصلتُها محذوفة، وإذا حُذِفت صلة «ما» المصدرية فلا بد من إبقاء معمولِ صلتها كقولهم: «لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِراءَ مكانَه» أي: ما ثبت أن حراء مكانه. وكذا هنا تقديره: كما ثبت لهم آلهة، فآلهة فاعل ب «ثبت» المقدر. وقال أبو البقاء في هذا الوجه: «والجملة بعدها صلةٌ لها، وحسَّن ذلك أن الظرفَ مقدرٌ بالفعل» . قلت: كلامُه على ظاهره ليس بجيد؛ لأن «ما» المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك فيشترط فيها غالباً أن تُفْهِم الوقت كقوله: 2285 - واصِلْ خليلَكَ ما التواصلُ ممكنٌ ... فلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قريبٍ ذاهبُ

ولكنَّ مرادَه أنَّ الجارَّ مقدَّرٌ بالفعل، وحينئذ تَؤُول إلى جملة فعلية أي: كما استقرَّ لهم آلهةٌ. الثاني: أن تكونَ «ما» كافَّةً لكاف التشبيه/ عن العمل فإنها حرف جر. وهذا كما تُكَفُّ «رُبَّ» ، فيليها الجملُ الاسمية والفعلية، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب، بل يجوزُ في الكاف وفي «رب» مع ما الزائدة بعدهما وجهان: العملُ والإِهمالُ، وعلى ذلك قول الشاعر: 2286 - ونَنْصُرُ مولانا ونعلمُ أنَّه ... كما الناسُ مجرومٌ عليه وجارِمٌ وقول الآخر: 2287 - رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ فيهمُ ... وعناجيجُ بينهنَّ المَهارى يروى برفع «الناس» و «الجامل» وجرِّهما. هذا إذا أمكن الإِعمال. أمَّا إذا لم يمكن تَعَيَّن أن تكونَ كافَّةً كهذه الآيةِ إذا قيل بأن «ما» زائدة. الثالث: أن تكون «ما» بمعنى الذي، و «لهم» صلتها وفيه حينئذ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر، و «آلهة» بدل من ذلك الضمير. والتقدير: كالذي استقر هو لهم آلهة. وقال أبو البقاء في هذا الوجه: «والعائد محذوف و» آلهة «بدلٌ منه تقديره: كالذي هو لهم» وتسميتُه هذا حَذْفاً تسامحٌ؛ لأن ضمائر الرفع إذا كانت فاعلةً لا تُوصف بالحذف بل بالاستتار.

139

قوله تعالى: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} : «هؤلاء» إشارة لمَنْ عَكَفوا على الأصنام و «مُتَبَّر» فيه وجهان، أحدهما: أن يكون خبراً ل إنَّ و «ما» موصولة بمعنى الذي، و «هم فيه» جملةٌ اسميةٌ صلةٌ وعائدُه، وهذا الموصولُ مرفوعٌ باسم المفعول فيكون قد أَخْبَرْت بمفرد رفعت به شيئاً. والثاني: أن يكونَ الموصولُ مبتدأً، و «مُتَبَّر» خبره قُدِّم عليه، والجملةُ خبرٌ ل إنَّ. قال الزمخشري: «وفي ارتفاع» هؤلاء «اسماً ل» إنَّ «، وتقديمُ خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها وَسْمٌ لعبارة الأصنام بأنهم هم المعرَّضون للتَّبار وأنه لا يَعْدوهم البتة، وأنه لهم ضربةُ لازم ليحذِّرهم عاقبةَ ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبُّوا» . قال الشيخ: «ولا يتعيَّن ما قاله من [أنه] قدَّم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً، لأنَّ الأحسنَ في إعراب مثل هذا أن يكون» مُتَبَّر «خبراً ل إنَّ وما بعده مرفوعٌ» فذكر ما قَرَّرْتُه، ونظَّره بقولك: «إنَّ زيداً مضروب غلامه» . قال: «فالأحسن أن يكون» غلامه «مرفوعاً ب» مضروب «. ثم ذكر الوجه الثاني وهو أن يكون» مُتَبَّر «خبراً مقدماً من الجملة، وجعله مرجوحاً وهو كما قال، لأنَّ الأصل في الأخبار أن تكون مفردةً فما أمكن فيها ذلك لا يُعْدل عنه. إلا أن الزمخشريَّ لم يَذْكر ذلك على سبيل التعيين بل على أحد الوجهين. وقد يكون هذا عنده أرجحَ مِنْ جهة ما ذكره من المعنى، وإذا دار الأمر بين مُرَجِّح لفظي ومُرَجِّح معنوي، فاعتبارُ المعنويِّ أولى، ولا أظنُّ حَمَل الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت.

وقوله: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ} كقوله {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} من جواز الوجهين وما ذُكِر فيهما. والتَتْبير: الإِهلاكُ، ومنه» التِّبْر «وهو كِسارة الذهب لتهالك الناس عليه. وقيل: التتبير: التكسير والتحطيم ومنه التِّبْر لأنه كِسارة الذهب.

140

قوله تعالى: {أَغَيْرَ الله} : الهمزةُ للإِنكار والتوبيخ. وفي نصب «غير» وجهان أحدُهما: أنه مفعولٌ به ل «أبغيكم» على حَذْفِ اللام تقديره: أبغي لكم غيرَ الله، أي: أَطْلُبُ لكم. فلمَّا حذف الحرف وصل الفعل بنفسه، وهو غيرُ منقاس. وفي «إلهاً» على هذا وجهان أحدُهما: وهو الظاهر أنه تمييز ل «غير» . والثاني: أنه حالٌ، ذكره الشيخ وفيه نظر. والثاني من وجهي «غير» : أنه منصوب على الحال من «إلهاً» ، و «إلهاً» هو المفعول به ل «أَبْغيكم» على ما تقرَّر، والأصل: أبغي لكم إلهاً غير الله، ف «غير الله» صفةٌ ل «إله» فلما قُدِّمَتْ صفةُ النكرةِ عليها نُصِبت حالاً. وقال ابن عطية: «وغير منصوبة بفعل مضمر، هذا هو الظاهر، ويجوز أن يكون حالاً» ، وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ غليه، فإن أراد أنه على الاشتغال فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ شرطَه أن يعمل المفسِّر في ضمير الأول أو سببيِّه. قوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ} يجوز أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال: إمَّا من «الله» وإمَّا من المخاطبين، لأن الجملةَ مشتملةٌ على كلٍ من ضميرَيْهما، ويجوز أن لا يكونَ لها محلٌّ لاستئنافها.

141

قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ} : قرأه العامَّة/ مسنداً إلى المُعَظِّم. وابن عامر: «أنجاكم» مسنداً إلى ضمير الله تعالى جرياً على قوله «وهو فَضَّلكم» . وقُرِئ «نَجَّيناكم» مشدداً. وتقدم الخلاف في تشديدِ «يقتلون» وتخفيفِها قبل هذا بقليل. وتقدَّم في البقرة إعراب هذه الآيةِ بكمالها فلا حاجةَ إلى إعادته.

142

قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ} : تقدَّم الخلاف في وَعَدْنا وواعَدْنا. وأتى الظرف بعده مفعول ثان على حَذْفِ مضاف، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لفساد المعنى في البقرة فكذا هنا، أي: وَعَدْناه تمامَ ثلاثين، أو أثناءها أو مناجاتها. قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه يعودُ على المُواعدة المفهومةِ مِنْ «واعَدْنا» ، أي: وأَتْمَمْنا مواعدته بعشر. والثاني: أنها تعودُ على ثلاثين قاله الحوفي. قال الشيخ: «ولا يَظْهر لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتمَّ بعشر» . وحُذِف تمييز «عشر» لدلالة الكلام عليه، أي: وأَتْمَمْناها بعشرِ ليال. وفي مُصْحف أُبَيّ «تَمَّمناها» بالتضعيف، عَدَّاه بالتضعيف. قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ} الفرق بين الميقات والوقت: أن المِيقات

ما قُدِّر فيه عملٌ من الأعمال، والوقت وقت للشيء من غير تقديرِ عمل أو تقريره. وفي نصب «أربعين» أوجهٌ أحدها: أنه حال. قال الزمخشري: «وأربعين» نصب على الحال أي: تَمَّ بالغاً هذا العدد «. قال الشيخ:» فعلى هذا لا تكونُ الحال «أربعين» ، بل الحالُ هذا المحذوفُ فيُنافَى قوله «. قلت: لا تنافيَ فيه لأن النحاة لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حَذْف عامله المنوبِ عنه، وله شواهد منها:» زيد في الدار أو عندك «فيقولون: الجارُّ والظرف خبر، والخبر في الحقيقة إنما هو الحَدَثُ المقدَّر العاملُ فيهما. وكذا يقولون:» جاء زيد بثيابه «» بثيابه «حال، والحال إنما هو العامل فيه، إلى غير ذلك. وقدَّره الفارسي ب» معدوداً «قال: كقولك:» تمَّ القوم عشرين رجلاً «أي: معدودين هذا العدد» وهو تقدير حسن. الثاني: أن ينتصب «أربعين» على المفعول به، قال أبو البقاء: «لأنَّ معناه بلغ، فهو كقولهم: بَلَغَتْ أرضك جَرِيبَيْن» ، أي يُضَمِّن «تَمَّ» معنى «بلغ» . الثالث: أنه منصوبٌ على الظرف. قال ابن عطية: «ويصحُّ أن تكون» أربعين «ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة» . وفي هذا نظر كيف يكون ظرفاً للتمام، والتمام إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة؟ إلا بتجوز بعيد: وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التمامُ. الرابع: أن ينتصب على التمييز. قال الشيخ: «والأصل:» فتمَّ أربعون

ميقاتُ ربه «ثم أسند التمام إلى ميقات، وانتصب» أربعون «على التمييز، فهو منقولٌ من الفاعلية» يعني فيكون كقولِه: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] وهذا الذي قاله وجَعَلَه هو الذي يظهر يُشكل بما ذكره هو في الردِّ على الحوفي، حيث قال هناك: «إن الثلاثين لم تكن ناقصةً فتتمَّ» كذلك ينبغي أن يُقالَ هنا إن الأربعين لم تكن ناقصةً فتتمَّ، فكيف يُقَدِّر «فتمَّ أربعون ميقات ربه» ؟ فإنْ أجابَ هنا بجواب فهو جوابٌ هناك لِمَنْ اعترض عليه. وقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ} في هذه الجملة قولان، أظهرهُما: أنها للتأكيد لأنَّ قولَه قبل ذلك «وأَتْمَمْناها بعشر» فُهِم أنها أربعون ليلةً. وقيل: بل هي للتأسيس لاحتمالِ أن يَتَوَّهم متوهِّم بعشر ساعات أو غير ذلك، وهو بعيدٌ جداً. قوله: «ربِّه» ولم يقل: ميقاتنا جَرْياً على «واعَدْنا» لِما في إظهار هذا الاسم الشريف من الاعترافِ بربوبية الله له وإصلاحه له. قوله «هارونَ» الجمهورُ على فتح نونه وفيه ثلاثة أوجه. الأول: أنه مجرورٌ بدلاً من «أخيه» الثاني: أنه عطفُ بيان له. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار أعني. وقرئ شاذاً «هارونُ» بالضم وفيه وجهان أحدهما: أنه منادى حُذف منه حرفُ النداء، أي: يا هرون كقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ} [يوسف: 29] . والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو هارون، وهذا في المعنى كالوجه الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار أعني فإنَّ كليهما قطع. وقال أبو البقاء: «ولو قرئ بالرفع» فذكرهما، كأنَّه لم يطَّلِعْ على أنها قراءة.

143

قوله تعالى: {لِمِيقَاتِنَا} : هذه اللامُ للاختصاص وكذا في قوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشمس} [الإِسراء: 78] / وليست بمعنى «عند» كما وَهِمَ بَعضُهم. قوله: {أرني} مفعولُه الثاني محذوفٌ، والتقدير: أرني نفسَك أو ذاتك المقدسةَ وإنما حَذْفُه مبالغةٌ في الأدب، حيث لم يواجهْه بالتصريح بالمفعول. وأصل أَرِني: أَرْ إني فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة. وقد تقدَّم تحريرُه. قوله: {لَن تَرَانِي} : «لن» قد تقدَّم أنه لا يلزم مِنْ نفيِها التأبيدُ وإن كان بعضُهم فَهِم ذلك، حتى إن ابن عطية قال: «فلو بَقينا على هذا النفي بمجرده لتضمَّن أن موسى لا يَراه أبداً ولا في الآخرة، لكن وَرَدَ من جهة أخرى الحديثُ المتواتر: أنَّ أهلَ الجنةِ يَرَوْنه» . قلت: وعلى تقدير أنَّ «لن» ليست مقتضيةً للتأبيد فكلامُ ابنِ عطية وغيرِه ممن يقول: إن نفي المستقبل بعدها يَعُمُّ جميعَ الأزمنة المستقبلة صحيح لكن لِمَدْرك آخرَ: وهو أن الفعلَ نكرةٌ، والنكرةُ في سياق النفي تعمُّ، وللبحث فيه مجال. والاستدراكُ في قوله «ولكن انظر» واضحٌ. وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف اتصلَ الاستدراكُ في قوله» ولكن انظر « [بما قبله] ؟ قلت: اتصلَ به على معنى أن النظر إليَّ مُحالٌ فلا تطلبه، ولكن اطلب نظراً آخر وهو أن تنظر إلى الجبل» وهذا على رأيه مِنْ أن الرؤية محالٌ مطلقاً في الدنيا والآخرة.

قوله: {جَعَلَهُ دَكّاً} قرأ الأخوان «دَكّاء» بالمدّ على وزن حَمْراء والباقون «دَكّاً» بالقصر والتنوين. فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين أحدهما: أنها مأخوذةٌ مِنْ قولهم: ناقةٌ دكَّاء، أي: منبسطة السَّنام غيرُ مرتفعتِه وإمَّا من قولهم: أرضٌ دكاء للناشزة. وفي التفسير: أنه لم يذهبْ كلُّه، بل ذهب أعلاه فهذا يناسبه. وأمَّا قراءة الجماعة ف «دَكٌّ» مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به، أي مدكوكاً أو مندَكّاً، على حذف مضاف، أي: ذا دَكٍّ. وفي انتصابه على القراءتين وجهان، المشهور: أنه مفعولٌ ثان ل «جعل» بمعنى صيَّر. والثاني: وهو رأي الأخفش أنه مصدرٌ على المعنى، إذ التقدير: دَكَّه دَكّاً. وأمَّا على القراءة الأولى فهو مفعولٌ فقط، أي: صَيَّره مثلَ ناقةٍ دكاء أو أرضٍ دكاء. والدكُّ والدقُّ بمعنى وهو تفتيت الشيء وسَحْقُه. وقيل: تسويتُه بالأرض. وقرأ ابن وثاب: «دُكَّا» بضم الدال والقصر، وهو جمع دَكَّاء بالمد كحُمر في حمراء وغُرّ في غَرَّاء، أي جعله قِطَعاً. قوله: «صَعِقاً» حالٌ مقارنةٌ، والخُرورُ السُّقوط، كذا أطلقه الشيخ، وقيَّده الراغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ، والخريرُ يقال لصوتِ الماءِ والريح وغيرِ ذلك ممَّا يَسْقُط من علوٍّ. والإِفاقة: رجوعُ الفهمِ والعقل إلى الإِنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ، ومنه إفاقة المريض وهي رجوعُ قوته، وإفاقةُ الحَلْب: وهي

رجوع الدَّرِّ إلى الضَّرْع يُقال: استَفِقْ ناقَتَك، أي: اتركها حتى يعودَ لبنُها، والفُواق ما بين حَلْبَتَي الحالب. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

144

قوله تعالى: {بِرِسَالاَتِي} : أي: بسبب. وقرأ الحرميَّان: برسالتي بالإِفراد، والمراد به المصدر أي: بإرسالي إياك، ويجوز أن يكون على حَذْفِ مضاف، أي: بتبليغِ رسالتي. والرسالة: نفسُ الشيء المرسل به إلى الغير. وقرأ الباقون بالجمع اعتباراً بالأنواع، وقد تقدَّم ذلك في المائدة والأنعام. وقرأ العامة «وبكلامي» وهو محتملٌ أن يُراد به المصدرُ، أي: بتكليمي إياك، فيكون كقوله {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] وقوله: 2288 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا أي: بتكليمي إياها، ويحتمل أن يكونَ المرادُ به التوراة وما أوحاه إليه من قولهم للقرآن «كلام الله» تسميةً للشيء بالمصدر. وقَدَّم الرسالة على الكلام لأنها أسبقُ أو ليترقَّى إلى الأشرفِ. وكرر حرف الجرِّ تنبيهاً على مغايرة الاصطفاء. وقرأ الأعمش: «برسالاتي وبكَلِمِي» جمع كلمة، ورَوَى عنه المهدوي أيضاً «وتكليمي» على زنة التفعيل، وهي تؤيد أن الكلامَ مصدرٌ. وقرأ أبو رجاء «برسالتي» بالإِفراد و «بكَلِمي» بالجمع، أي: وبسماع كلمي.

145

قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً} : «أل» في الألواح يجوز أن تكون لتعريف الماهيَّة وأن تكونَ للعهد، لأنه يُروى في القصة أنه هو الذي قطعها وشقَّقها. وقال ابن عطية: «أل» عوض من الضمير، تقديره: «في ألواحه» وهذا كقوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} ، أي: مَأْواه «. أمَّا كون» أل «عوضاً من الضمير فلا يَعْرفه البصريون. وأمَّا قولُه {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} فإنَّا نحتاج فيه إلى رابطٍ يَرْبِط بين الاسم والخبر، فالكوفيون يجعلون أل عوضاً من الضمير، والبصريون يُقَدِّرونه، أي: هي المأوى له، وأما في هذه الآية فلا ضرورةَ تدعو إلى ذلك. وفي مفعول» كَتَبْنَا «ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه» موعظة «، أي: كتبنا له موعظة/ وتفصيلاً. و» من كل شيء «على هذا فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ ب» كتبنا «، والثاني: أنه متعلق بمحذوف لأنه في الأصلِ صفةٌ ل» موعظة «، فلما قُدِّم عليها نُصب حالاً، و» لكلِّ شيء «صفةٌ ل» تفصيلاً «. والثاني: أنه» من كل شيء «. قال الزمخشري:» من كل شيء «في محل النصب مفعول» كتبنا «، و» موعظة وتفصيلاً «بدل منه، والمعنى: كَتَبْنا له كلَّ شيء كان بنو إسرائيل يَحْتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيلِ الأحكام» . الثالث: أن المفعولَ محلُّ المجرور. قال الشيخ بعدما حكى الوجهَ الأول عن الحوفي والثاني عن الزمخشري: «ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ وهو أن يكونَ مفعولُ» كَتَبْنا «موضع المجرور كما تقول:» أكلت من الرغيف «

و» مِنْ «للتبعيض، أي: كتبنا له أشياء من كل شيء، وانتصب» مَوْعِظة وتفصيلاً «على المفعول من أجله، أي: كتبنا له تلك الأشياءَ للاتِّعاظ وللتفصيل» قلت: والظاهر أن هذا الوجهَ هو الذي أراده الزمخشري فليس وجهاً ثالثاً. قوله: «بقوة» حالٌ: إمَّا من الفاعل، أي: ملتبساً بقوة، وإمَّا من المفعول، أي: ملتبسةً بقوة، أي: بقوة دلائلها وبراهينها، والأولُ أوضحُ. والجملةُ مِنْ قوله «فَخُذْها» يُحتمل أن تكونَ بدلاً من قوله «فخُذْ ما آتيتك» وعاد الضميرُ على معنى «ما» لا على لفظِها. ويحتمل أن تكونَ منصوبةً بقول مضمر، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة «كتبنا» والتقدير: وكتبنا فقلنا: خُذْ ما. والضميرُ على هذا عائدٌ على الألواح، أو على التوراة، أو على الرسالات، أو على كل شيء لأنه في معنى الأشياء. قوله: {يَأْخُذُواْ} الظاهرُ أنه مجزومٌ جواباً للأمر في قوله «وَأْمُرْ» . ولا بدَّ مِنْ تأويله لأنه لا يلزمُ مِنْ أمره إياهم بذلك أن يأخذوا، بدليلِ عصيانِ بعضِهم له في ذلك، فإنَّ شَرْط ذلك انحلال الجملتين إلى شَرْطٍ وجزاء. وقيل: انجزم على إضمار اللام تقديره: ليأخذوا، كقوله: 2289 - محمدٌ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ ... إذا ما خِفْتَ مِنْ أمرٍ تَبالا وهو مذهبُ الكسائي، وابنُ مالك يرى جَوازه إذا كان في جواب «قل» ، وهنا لم يُذكر «قل» ولكن ذُكِر شيءٌ بمعناه؛ لأن معنى «وَأْمُرْ» و «قل» واحد.

قوله: {بِأَحْسَنِهَا} يجوز أن يكونَ حالاً كما تقدم في «بقوة» وعلى هذا فمفعولُ «يأخذوا» محذوفٌ تقديرُه: يأخذوا أنفسهم. ويجوز أن تكونَ الباءُ زائدةً، و «أحسنُها» مفعولٌ به والتقدير: يأخذوا أحسنَها كقوله: 2290 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... سودُ المحاجر لا يَقْرأن بالسُّوَرِ وقد تقدَّم ذلك محقَّقاً في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] . و «أحسن» يجوز أن تكونَ للتفضيل على بابها، وأن لا تكونَ بل بمعنى حَسَنة كقوله: 2291 - إنَّ الذي سَمَك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائِمُهُ أعزُّ وأطولُ أي: عزيزةٌ طويلة. قوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} جَوَّزوا في الرؤية هنا أن تكون بصَريةً وهو الظاهر فتتعدَّى لاثنين، أحدهما: ضمير المخاطبين، والثاني «دار» . والثاني: أنها قلبيةٌ وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره، والمعنى: سأُعْلِمُكُمْ سيرَ الأولين وما حلَّ بهم من النَّكال. وقيل: دار الفاسقين: ما دارَ إليه أمرُهم، وذلك لا يُعْلم إلا بالإِخبار والإِعلام. قال ابن عطية: معترضاً على هذا الوجه «ولو كان من رؤية القلب لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفعولين. ولو قال قائل: المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى فهو مُقَدَّر، أي: مَذْمومة أو خربة أو مُسَعَّرة على قول من قال إنها جهنم قيل له: لا يجوزُ حَذْفُ هذا المفعولِ

ولا الاقتصارُ دونَه لأنها داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ، ولو جُوِّز لكان على قبحٍ في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى» . قال الشيخ: «وحَذْفُ المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائزٌ فيجوز في جواب: هل أعلمتَ زيداً عمراً منطلقاً؟ أعلمتُ زيداً عمراً، وتحذف» منطلقاً «لدلالة الكلام السابق عليه» . قلت: هذا مُسَلَّم لكن أين الدليل عليه في الكلام كما في المثال الذي أبرزه الشيخ؟ ثم قال: «وأمَّا تعليلُه بأنَّها داخلةٌ على المبتدأ والخبر لا يدل على المنع، لأن خبرَ المبتدأ يجوزُ حَذْفُه اختصاراً، والثاني والثالث/ في باب» أَعْلَمَ «يجوز حَذْفُ كلٍ منهما اختصاراً» . قلت: حَذْفُ الاختصار لدليل، ولا دليلَ هنا. ثم قال: «وفي قوله لأنها أي» سأريكم «داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوُّزٌ» ويعني أنها قبل النقل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر. وقرأ الحسن البصري: «سأُوْريكم» بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان، أحدهما قاله الزمخشري: «وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقال: أَوْرَني كذا وأَوْرَيْتُه، فوجهه أن يكون مِنْ أَوْرَيْتُ الزندَ فإن المعنى: بَيِّنْه لي وأَنِرْه لأستبينَه. والثاني: ذكره ابن جني وهو أنه على الإِشباع فيتولَّد منها الواو قال:» وناسب هذا كونَه موضعَ تهديدٍ ووعيد فاحتمل الإِتيان بالواو «قلت: وهذا كقول الآخر:

2292 - اللهُ يعلمُ أنَّا في تَلَفُّتِنا ... يومَ اللقاء إلى أحبابنا صورُ وأنني حيثما يثني الهوى بَصَري ... من حيث ما سلكوا أَدْنُو فانظورُ لكن الإِشباعَ بابُه الضرورة عند بعضِهم. وقرأ ابن عباس وقسامة ابن زيد:» سأُوْرِثكم «. قال الزمخشري:» وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى {وَأَوْرَثْنَا القوم} [الأعراف: 137] .

146

قوله تعالى: {بِغَيْرِ الحق} : فيه وجهان أحدهما: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال، أي: يتكبَّرون ملتبسين بغير الحق. والثاني: أن يتعلَّق بالفعل قبله أي: يتكبرون بما ليس بحق، والتكبُّر بالحق لا يكون إلا لله تعالى خاصة. قوله: {وَإِن يَرَوْاْ} الظاهرُ أنها بَصَريَّة، ويجوز أن تكون قلبية، والثاني محذوفٌ لفَهْم المعنى كقول عنترة: 2293 - ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه ... مني بمنزلة المُحَبِّ المُكْرَمِ أي: فلا تظني غيره واقعاً مني، وكذا الآية الكريمة، أي: وإن يَرَوا كل آية جائية أو حادثة. وقرأ مالك بن دينار «يُرَوا» مبنياً للمفعول مِنْ أرى المنقول بهمزة التعدية.

قوله {الرشد} قرأ الأخَوان هنا وأبو عمرو في قوله {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 66] خاصةً دون الأوَّلَيْن فيها بفتحتين، والباقون بضمة وسكون. واختلف الناس فيها: هل هما بمعنى واحد؟ فقال الجمهور: نعم لغتان في المصدر كالبُخْل والبَخَل والسُّقْم والسَّقَم والحُزْن والحَزَن. وقال أبو عمرو بن العلاء: «الرُّشْد بضمة وسكون الصَّلاح في النظر، وبفتحتين الدِّين» قالوا ولذلك أُجْمِع على قوله {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] بالضم والسكون، وعلى قوله {فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً} [الجن: 14] بفتحتين. ورُوي عن ابن عامر «الرُّشُد» بضمَّتين وكأنه من باب الإِتباع كاليُسُر والعُسُر. وقرأ السلمي «الرَّشاد» بألف فيكون الرُّشْد والرَّشَد والرَّشاد كالسُّقْم والسَّقَم والسَّقَام. وقرأ ابن أبي عبلة «لا يتخذوها» و «يتخذوها» بتأنيث الضمير لأن السبيل يجوز تأنيثُها. قال تعالى: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] . قوله: {ذلك} فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ خبره الجارُّ بعده، أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم. والثاني: أنه في محلِّ نصب. ثم اختُلِف في ذلك: فقال الزمخشري: «صَرَفَهم الله ذلك الصَّرْفَ بعينه فجعله مصدراً. وقال ابن عطية:»

فعلنا ذلك «فجعله مفعولاً به، وعلى الوجهين فالباء في» بأنهم «متعلقةٌ بذلك المحذوف. قوله: {وَكَانُواْ} في هذه الجملةِ احتمالان، أحدهما: أنها نسقٌ على خبر» أنَّ «، أي: ذلك بأنهم كذبوا، وبأنهم كانوا غافلين عن آياتنا. والثاني: أنها مستأنفةٌ أخبر الله تعالى عنهم بأنَّ مِنْ شأنهم الغفلةَ عن الآيات وتدبُّرِها.

147

قوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ} : في خبره وجهان أحدهما: أنه الجملة من قوله {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ، و {هَلْ يُجْزَوْنَ} خبر ثان أو مستأنف. والثاني: أن الخبرَ «هل يُجْزون» والجملةُ من قوله «حَبِطَتْ» في محلِّ نصب على الحال، و «قد» مضمرة معه عند مَنْ يَشْترط ذلك، وصاحبُ الحال فاعلُ «كذَّبوا» . قوله: {وَلِقَآءِ الآخرة} فيه وجهان، أحدهما: أنه من باب إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل محذوف والتقدير: ولقائهم الآخرة. والثاني: أنه من باب إضافة المصدر للظرف، بمعنى «ولقاء ما وعد الله في الآخرة» ، ذكرهما الزمخشري. قال الشيخ: «ولا يجيز جُلَّةُ النحويين الإِضافةَ إلى الظرف لأن الظرفَ على تقديرِ» في «، والإِضافةُ عندهم على تقدير اللام أو» مِنْ «، فإن اتُّسِع في العامل جازَ أن يُنْصَب الظرفُ/ نَصْبَ المفعول، ويجوز إذ ذاك أن يُضافَ مصدرُه إلى ذلك الظرف المتَّسَع في عاملِه، وأجازَ بعض النحويين أن تكون الإِضافةُ على تقدير» في «كما يُفهِمُ ظاهرُ كلامِ الزمخشري» . قوله: {هَلْ يُجْزَوْنَ} هذا الاستفهامُ معناه النفي، ولذلك دخلت «إلا» ، ولو كان معناه التقريرَ لكان موجِباً فيَبْعُد دخول «إلا» أو يمتنع. وقال الواحدي هنا: «

لا بد من تقديرِ محذوفٍ، أي: إلا بما كانوا، أو على ما كانوا، أو جزاء ما كانوا» . قلت: لأن نفسَ ما كانوا يَعْملونه لا يُجْزَوْنَه إنما يُجْزون بمقابله وهو واضح.

148

قوله تعالى: {مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ} : أي: من بعد مضيِّه وذهابه إلى الميقات. والجارَّان متعلقان ب «اتخذ» ، وجاز أن يتعلَّقَ بعاملٍ حرفا جر متحدا اللفظِ لاختلافِ معنييهما؛ لأنَّ الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض. ويجوز أن يكون «من حُليِّهم» متعلقاً بمحذوف على أنه حالٌ من «عملاً» لأنه لو تأخر عنه لكان صفةً فكان يقال: عجلاً مِنْ حليهم. وقرأ الأخَوان: «حِليِّهم» بكسر الحاء، ووجهُها الإِتباع لكسرة اللام، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش، والباقون بضمَّ اللام، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وشَيْبة بن نصاح، وهو في القراءتين جمع حَلْي كطيّ، فُجمع على فُعول كفَلْس وفُلوس، فأصلُه حُلُوي كثُدِيّ في ثُدُوْي فاجتمعت الياءُ والواو وَسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فقُلبت الواو ياء، وأَدْغمت، وكُسِرت عين الكلمة، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحّ الياء، ثم لك فيه بعد ذلك وجهان: تَرْكُ الفاءِ على ضمِّها أو إتباعُها للعين في الكسرة، وهذا مُطَّرد في كل جَمْعٍ على فُعُول من المعتلِّ اللام، سواء كان الاعتلال بالياء كحُلِيّ وثُدِيّ أم بالواو نحو عُصِيّ ودُلِيّ جمعَ عصا ودَلْو. وقرأ يعقوب «حَلْيَهم» بفتح الحاء وسكون اللام، وهي محتملةٌ لأن يكون الحَلْي مفرداً أريد به الجمعُ أو اسمُ جنسٍ مفردة حَلْيَة على حَدِّ قمح وقمحة. و «عِجْلاً» مفعولُ «اتَّخذ» و «مِنْ حُليِّهم» تقدَّمَ حكمه. ويجوز أن يكونَ «اتَّخذ» متعديةً لاثنين بمعنى صَيَّر، فيكون «مِنْ حليِّهم» هو المفعولَ الثاني.

وقال أبو البقاء: «هو محذوف، أي: إلهاً» ولا حاجة إليه. و «جَسَداً» فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه نعت. الثاني: أنه عطفُ بيان. الثالث: أنه بدلٌ قاله الزمخشري، وهو أحسنُ، لأن الجسدَ ليس مشتقاً فلا ينعت به إلا بتأويل، وعطفُ البيان في النكرات قليلٌ أو ممتنع عند الجمهور. وإنما قال «جسداً» لئلا يُتَوَهَّمَ أنه كان مخطوطاً أو مَرْقوماً. والجسد: الجثة. وقيل: ذات لحم ودم، والوجهان منقولان في التفسير. قوله: {لَّهُ خُوَارٌ} في محل النصب نعتاً ل «عِجْلاً» ، وهذا يقوِّي كونَ «جسداً» نعتاً لأنه إذا اجتمع نعت وبدل قُدَّمَ النعتُ على البدل. والجمهور على «خُوار» بخاء معجمة وواو صريحة وهو صوتُ البقر خاصةً، وقد يُستعار للبعير. والخَوَر الضَّعْفُ، ومنه: أرضٌ خَوَّارة ورُمْحٌ خَوَّار، والخَوْران مجرى الرَّوْث وصوت البهائم أيضاً. وقرأ علي رضي الله عنه وأبو السَّمَّال «جُُؤَار» بالجيم والهمز وهو الصوت الشديد. قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ} إنْ قلنا: إنَّ «اتخذ» متعدية لاثنين، وإن الثاني محذوف تقديره: واتخذ قوم موسى من بعده عجلاً جسداً إلهاً فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاء حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإِنكارُ، وإن قلنا إنها متعدية لواحد بمعنى صنع وعمل، أو متعدية لاثنين، والثاني هو «من حليِّهم» فلا بدَّ مِنْ حَذْفِ جملة قبل ذلك ليتوجَّه عليها الإِنكار، والتقدير: فعبدوه. و «يَرَوا» يجوز أن تكون العِلْمية وهو الظاهر، وأن تكون البصَريةَ، وهو بعيد.

قوله: {وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} يجوز فيها وجهان، أظهرهما: أنها استئنافية، أَخْبَرَ عنهم بهذا الخبرِ وأنه دَيْدَنهم وشأنهم في كلِّ شيء فاتِّخاذُهم العجلَ من جملة ذلك. ويجوز أن تكون حالاً، أي: وقد كانوا أي: اتخذوه في هذه الحالِ المستقرةِ لهم.

149

قوله تعالى: {سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} : / الجارُّ قائم مقام الفاعل. وقيل: القائمُ مقامَ [الفاعل] ضميرُ المصدر الذي هو السُّقوط أي: سُقِط السقوط في أيديهم. ونقل الشيخ عن بعضهم أنه قال: «وسقط تتضمَّن مفعولاً وهو ههنا المصدر، أي: الإِسقاط كقولك:» ذُهب بزيد «. قال:» صوابه: وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقوط، لأنَّ «سقط» ليس مصدرُهُ الإِسقاط، ولأن القائمَ مقامَ الفاعل ضميرُ المصدر لا المصدر «. وقد نقل الواحدي عن الأزهري أن قولهم» سُقِط في يده «كقول امرئ القيس: 2294 - دَعْ عنك نَهْباً صِيح في حُجُراتِه ... ولكنْ حديثاً ما حديث الرواحلِ في كون الفعل مسنداً للجار كأنه قيل: صاح المنتهبُ في حجراته، وكذلك المراد:» سُقِط في يده «، أي: سَقَطَ الندم في يده» قلت: فقوله: «أي: سقط الندم» تصريحٌ بأن القائمَ مقامَ الفاعل حرفُ الجارِّ لا ضميرُ المصدر. ونَقَل الفراء والزجاج أنه يُقال: سُقِط في يده وأُسقط أيضاً، إلا أن الفراء قال: «سَقَط أي الثلاثي أكثر وأجودُ» . وهذه اللفظةُ تُستعمل في التندُّم والتحيُّر.

وقد اضْطَرَبَتْ أقوالُ أهل اللغة في أصلها فقال أبو مروان ابن سراج اللغوي: «قولُ العرب: سُقِط في يده مما أَعْياني معناه» . وقال الواحدي: «قد بان من أقوال المفسرين وأهلِ اللغة أن» سُقِط في يده «نَدِم، وأنه يُستعمل في صفة النادم» . فأمَّا القول في أصله وما حَدُّه فلم أر لأحدٍ من أئمة اللغة شيئاً أرتضيه إلا ما ذكر الزجاجي فإنه قال: «قوله تعالى:» سُقِط في أيديهم «بمعنى ندموا، نَظْمٌ لم يُسمع قبل القرآن ولم تَعْرفه العرب، ولم يوجدْ ذلك في أشعارهم، ويدلُّ على صحة ذلك أن شعراء الإِسلام لَمَّا سمعوا هذا النظم واستعملوه في كلامهم خفي عليهم وَجْهُ الاستعمال، لأن عادتَهم لم تَجْرِ به فقال أبو نواس: 2295 - ونشوةٌ سُقِطْتُ منها في يدي ... وأبو نواس هو العالِمُ النِّحْرِيْر فأخطأ في استعمال هذا اللفظ لأن فُعِلْتُ لا يُبْنى إلا من فعلٍ متعدٍ و» سَقَط «لازم لا يتعدى إلا بحرف الصفة، لا يقال:» سُقطت «كما لا يُقال: رُغبت وغُضِبت إنما يقال: رُغِب في، وغُضِب على. وذكر أبو حاتم [أن] » سُقِط فلان في يده «بمعنى ندم وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس، ولو كان الأمر كذلك لكان النظم» ولما سُقطوا في أيديهم «و» سُقِط القومُ في أيديهم «. وقال أبو عبيدة:» يُقال لمن ندم على أمر وعجز عنه: سُقِط في يده «. وقال الواحدي: «وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما: أنه يُقال للذي

يَحْصُل وإن كان ذلك مما لا يكون في اليد:» قد حَصَل في يده مكروهٌ «يُشَبِّه ما يحصُل في النفس وفي القلب بما يُرى بالعين، وخُصَّت اليدُ بالذِّكر لأنَّ مباشرة الذنوب بها، فاللائمةُ تَرْجِع عليها لأنها هي الجارحة العظمى، فيُسْنَدُ إليها ما لم تباشِرْ كقوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] وكثير من الذنوب لم تقدِّمْه اليد. الوجه الثاني: أن الندم حَدَثٌ يحصلُ في القلب، وأثرهُ يظهر في اليد لأن النادمَ يَعَضُّ يدَه ويَضْرب إحدى يديه على الأخرى كقوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] فتقليبُ الكف عبارةٌ عن الندم، وكقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] فلمَّا كان أثرُ الندم يحصُل في اليدِ مِن الوجه الذي ذكرناه أُضيف سقوطُ الندم إلى اليد؛ لأن الذي يظهر للعيون من فِعْلِ النادم هو تقليبُ الكفِّ وعَضُّ الأنامل واليد، كما أن السرور معنى في القلب يَسْتشعره الإِنسان والذي يظهر من حالة الاهتزاز والحركة والضحك وما يجري مجراه» . وقال الزمخشري: «ولمَّا سُقِط في أيديهم» : ولما اشتدَّ ندمهم، لأنَّ مِنْ شأن مَنْ اشتدَّ ندمُه وحسرته أن يَعَضَّ يده غَمَّاً فتصيرَ يدهُ مسقوطاً فيها لأنَّ فاه قد وقع فيها «. وقيل: مِنْ عادة النادم أن يُطَأطِئ رأسه ويضع ذَقَنه على يده معتمداً عليها ويصير على هيئة لو نُزعت يده لسقط على وجهه، فكأن اليدَ مسقوط فيها. ومعنى» في «:» على «، فمعنى» في أيديهم «: على/ أيديهم كقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] . وقيل: هو مأخوذ من السِّقاط

وهو كثرة الخطأ، والخاطِئُ يندم على فِعْله. قال ابن أبي كاهل: 2296 - كيف يَرْجُون سِقاطي بعدما ... لَفَّع الراسَ بياضٌ وصَلَعْ وقيل: هو مأخوذٌ من السَّقيط، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجليد يشبه الثلج؛ يقال منه: سَقَطَت الأرض كما يقال: ثَلَجت، والسَّقْطُ والسَّقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يَبْقى، ومَنْ وقع في يده السَّقِيط لم يحصل منه على شيءٍ فصار هذا مثلاً لكل مَنْ خسر في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل. واعلم أن» سُقِطَ في يده «عَدَّه بعضُهم في الأفعال التي لا تتصرَّف كنِعْمَ وبئس. وقرأ ابن السَّمَيْفع» سَقَط في أيديهم «مبنيَّاً للفاعِل، وفاعلُه مضمر، أي: سقط الندمُ، هذا قولُ الزجاج. وقال الزمخشري:» سقط العَضُّ «. وقال ابن عطية:» سَقَط الخسران والخيبة «وكل هذه أمثلةٌ. وقرأ ابن أبي عبلة» أُسْقِط «رباعياً مبنياً للمفعول. وقد تقدَّم أنها لغةٌ نقلها الفراء والزجاج. قوله: {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ} هذه قلبيَّة، ولا حاجةَ في هذه إلى تقديمٍ وتأخير كما زعمَه بعضُهم قال:» تقديره: ولما رأوا أنهم قد ضلُّوا وسُقِط في أيديهم «. قال: «لأنَّ الندمَ والتحسُّر إنما يقعان بعد المعرفة» .

قوله: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا} قرأ الأخَوان: «ترحمنا وتغفر» بالخطاب، «ربَّنا» بالنصب. وهي قراءةُ الشعبي وابن وثاب وابن مصرف والجحدري والأعمش، وأيوب، وباقي السبعة بياء الغيبة فيهما، «ربُّنا» رَفْعاً، وهي قراءة الحسن ومجاهد والأعرج وشيبة وأبي جعفر. فالنصبُ على أنه منادى وناسبه الخطاب، والرفعُ على أنه فاعل، فيجوز أن يكون هذا الكلامُ صَدَرَ من جميعهم على التعاقب، أو هذا من طائفة وهذا من طائفة، فَمَنْ غلب عليه الخوفُ وقَوِي على المواجهة خاطب مستقيلاً من ذنبه، ومَنْ غلب عليه الحياء أخرج كلامه مُخْرج المُسْتحيي من الخطاب، فأسند الفعل إلى الغائب.

150

قوله تعالى: {غَضْبَانَ أَسِفاً} : حالان من موسى عند مَنْ يجيز تعدُّدَ الحال، وعند مَنْ لا يجيزه يَجْعَلُ «أَسِفاً» حالاً من الضمير المستتر في «غضبان» فتكون حالاً متداخلةً، أو يجعلها بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ لعُسْر إدخالِه في أقسام البدل، وأقربُ ما يقال: إنه بدلُ بعضٍ من كل إن فسَّرنا الأسِفَ بالشديد الغضبِ، أو بدلُ اشتمال إن فسَّرناه بالحزين. يقال: أسِف يأسَفُ أَسَفاً، أي: اشتدَّ غضبُه. قال تعالى: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ويقال: بل معناه حَزِن ومنه قوله: 2297 - غيرُ مأسوفٍ على زمنٍ ... ينقضي بالهمِّ والحزن فلما كانا متقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليةُ على ما ذكرته لك، ويدلُّ على مقاربة ما بينهما كما قال الواحدي قولُه: 2298 -. . . . . . . . . . . . . . . ...

فحزنُ كلِّ أخي حُزْنٍ أخو الغضبِ وقال الأعشى: 2299 - أرى رجلاً منكمْ أسِيفاً كأنما ... يَضُمُّ إلى كَشْحَيْه كَفَّاً مُخَضَّبا فهذا بمعنى غضبان. وفي الحديث: «إنَّ أبا بكر رجلٌ أسيف» أي: حزين، ورجلٌ أَسِف: إذا قُصِد ثبوتُ الوصف واستقراره، فإن قُصِد به الزمان جاء على فاعِل. قوله: {قَالَ: بِئْسَمَا} هذا جوابُ «لمَّا» وتقدَّم الكلامُ على «بئسما» ، ولكنَّ المخصوصَ بالذم محذوفٌ، والفاعلُ مستتر يفسِّره «ما خَلَفْتموني» والتقدير: بئس خلافةً خَلَفْتمونيها خلافتُكم. قوله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} في «أَمْرَ» وجهان أحدهما: أنه منصوب على المفعول بعد إسقاط الخافض وتضمين الفعل معنى ما يتعدى بنفسه، والأصل: أَعَجِلْتُمْ عن أمر ربكم. قال الزمخشري: «يقال: عَجِل عن الأمر: إذا تركه غير تامَّ، ونقيضه تَمَّ، وأعجله عنه غيره، ويُضَمَّن معنى سبق فيتعدَّى تعديتَه فيقال: عَجِلْتُ الأمر، والمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم» . والثاني: أنه متعدٍّ بنفسه غيرَ مضمَّنٍ معنى فعل آخر. حكى يعقوب «عَجِلْتُ الشيء سبقته» وأعجلت الرجل استعجلته، أي: حملتُه على العَجَلة «. قوله: {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن الجملةَ حالٌ من ضمير موسى المستتر في» أخذ «، أي: أخذ جارَّاً إليه. الثاني: أنها حال من» رأس «

قاله أبو البقاء وفيه نظرٌ لعدم الرابط. الثالث: أنها حال من» أخيه «قال أبو البقاء:» وهو ضعيفٌ يعني من حيث/ إن الحال من المضاف إليه يَقِلُّ مجيئُها أو يمتنعُ عند بعضهم. قلت: وقد تقدم غيرَ مرة أن بعضَهم يُجَوّزه في صورٍ هذه منها، وهو كونُ المضافُ جزءاً من المضاف إليه. قوله: {قَالَ ابن أُمَّ} قرأ الأخَوان وأبو بكر وابن عامر هنا وفي طه بكسر الميم والباقون بفتحها. فأمَّا قراءة الفتح ففيها مذهبان: مذهبُ البصريين أنهما بُنيا على الفتح لتركُّبهما تركيب خمسة عشر، فعلى هذا فليس «ابن» مضافاً ل «أم» بل مركَّب معها فحركتُهما حركةُ بناء. والثاني: مذهب الكوفيين وهو أن «ابن» مضاف ل «أُمّ» و «أم» مضافة لياء المتكلم، وياء المتكلم قد قلبت ألفاً كما تقلب في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم نحو: يا غلاماً، ثم حُذِفَتْ الألفُ واجْتُزِئ عنها بالفتحة كما يُجْتَزَأُ عن الياء بالكسرة، فحينئذ حركة «ابن» حركةُ إعراب وهو مضاف ل «أُمَّ» فهي في محلِّ خفضٍ بالإِضافة. وأما قراءةُ الكسر فعلى رأي البصريين هو كسرُ بناءٍ لأجل ياء المتكلم، بمعنى أنَّا أَضَفْنا هذا الاسمَ المركب كلَّه لياء المتكلم فكُسِر آخرُه، ثم اجتُزِئ عن الياء بالكسرة فهو نظير: يا أحَدَ عشري ثم: يا أحد عَشرِ بالحذف، ولا جائز أن يكونا باقيين على الإِضافة إذ لم يَجُزْ حَذْفُ الياء لأن الاسمَ ليس منادى، ولكنه مضافٌ إليه المُنادى فلم يَجُزْ حَذْفُ الياء منه. وعلى رأي الكوفيين يكون الكسرُ كسرَ إعراب وحُذِفت الياءُ مجتَزَأً عنها بالكسرة كما اجتزِئَ عن ألفها بالفتحة. وهذان الوجهان يَجْريان في «ابن أم» و «ابن عم»

و «ابنة أم» و «ابنة عم» . فاعلم أنه يجوزُ في هذه الأمثلةِ الأربعةِ خاصةً خمسُ لغات، فُصْحاهُنَّ: حَذْفُ الياء مجتزأ عنها بالكسرة، ثم قَلْبُ الياءِ ألفاً فَيَلْزَمُ قَلْبُ الكسرةِ فتحةً، ثم حَذْفُ الألف مجتزَأً عنها بالفتحة، ثم إثبات الياء ساكنة أو مفتوحة، وأمَّا غيرُ هذه الأمثلة الأربعة ممَّا أُضيف إلى مضاف إلى ياء المتكلم في النداء فإنه لا يجوزُ فيه إلا ما يجوزُ في غير باب النداء لأنه ليس منادى نحو: يا غلامَ أبي ويا غلام أمي، وإنما جَرَتْ هذه الأمثلةُ خاصةً هذا المجرى تنزيلاً للكلمتين منزلةَ كلمةٍ واحدة ولكثرة الاستعمال. وقُرئ «يابن أمي» بإثباتِ الياء ساكنةً، ومثلُه قوله: 2300 - يابنَ أُمِّي ويا شُقَيِّق نفسي ... أنت خَلَّفْتَني لدهرٍ شديدِ وقول الآخر: 2301 - يا بنَ أمي فَدَتْكَ نفسي ومالي ... . . . . . . . . . . . . . . . وقُرئ أيضاً: «ابن إمِّ» بكسر الهمزة والميم وهو إتباعٌ. ومِنْ قَلْبِ الياءِ ألفاً قولُه: 2302 - يا بنة عَمَّا لا تَلُومي واهْجَعي ...

وقوله: 2303 - كُنْ لي لا عَليَّ يا بن عَمَّا ... نَدُمْ عَزِيزَيْنِ ونُكْفَ الذَّمَّا قوله: {فَلاَ تُشْمِتْ} العامَّة على ضم التاء وكسر الميم وهو مِنْ أَشْمت رباعياً، «الأعداء» مفعول به. وقرأ ابن محيصن «فلا تَشْمِتْ» بفتح التاء وكسر الميم، ومجاهد بفتح التاء أيضاً وفتح الميم، «الأعداءَ» نصب على المفعول به. وفي: هاتين القراءتين تخريجان، أظهرهما: أن شمِت أو شَمَت بكسر الميم أو فتحها متعدٍّ بنفسه كأشمت الرباعي، يقال: شمت بي زيدٌ العدوَّ، كما يقال: أَشْمَتَّ بي العدو. والثاني: أنَّ «تَشْمت» مسندٌ لضمير الباري تعالى، أي: فلا تَشْمت يا رب، وجاز هذا كما جاز {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} ثم أضمر ناصباً للأعداء كقراءة الجماعة قاله ابن جني، ولا حاجةَ إلى هذا التكلف لأنَّ «شمت» الثلاثي يكون متعدِّياً بنفسه، والإِضمارُ على خلاف الأصل. وقال أبو البقاء في هذا التخريج: «فلا تشمت أنت» فجعل الفاعلَ ضميرَ موسى، وهو أولى من إسناده إلى ضمير الله تعالى. وأمَّا تنظيرُه بقوله {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} فإنما جاز ذلك للمقابلة في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] وكقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] ولا يجوز ذلك في غير المقابلة. وقرأ حميد بن قيس: «فلا تَشْمِت» كقراءة ابن محيصن، ومجاهد

كقراءته فيه أولاً، إلا أنهما رفعا الأعداء على الفاعلية، جعلا شمت/ لازماً فرفعا به «الأعداء» على الفاعلية، فالنهي في اللفظ للمخاطب والمرادُ به غيرُه كقولهم: «لا أُرَيَنَّك ههنا» ، أي: لا يكنْ منك ما يقتضي أن تَشْمت بي الأعداء. والإِشمات والشَّماتة: الفَرَح ببلِيَّة تنال عدوَّك قال: 2304 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... والموتُ دون شماتَةِ الأعداء قيل: واشتقاقُها مِنْ شوامِتِ الدابة وهي قوائمُها؛ لأن الشماتةَ تَقْلِبُ قلبَ الحاسِد في حالَتَي الفرح والترح كتقلُّب شوامت الدابة. وتشميت العاطس وتَسْميته بالشين والسين الدعاء له بالخير، قال أبو عبيد: «الشينُ أعْلى اللغتين» وقال ثعلب: «الأصلُ فيهما السين مِنَ السَّمْت، وهو القصد والهَدْيُ» . وقيل: معنى تشميتِ العاطس بالمعجمة أن يُثَبِّته الله كما يثبت قوائم الدابة. وقيل: بل التفعيل للسَّلْب، أي: أزال الله الشماتة به، وبالسين المهملة، أي: ردَّه الله إلى سَمْتِه الأول أي هيئته لأنه يحصُل له انزعاج. وقال أبو بكر: «يقال: سَمَته وسَمَت عليه، وفي الحديث:» وسَمَّت عليهما «.

152

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين} : أي: ومثلَ ذلك النيل من المعصية والذل نجزي المفترين.

153

قوله تعالى: {والذين عَمِلُواْ} : مبتدأ، وخبره قوله: «

إن ربك» إلى آخره. والعائد محذوف والتقدير: غفورٌ لهم رحيم بهم كقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] أي: منه. قوله: {مِن بَعْدِهَا} يجوز أن يعود الضمير على «السيئات» وهو الظاهر، ويجوز أن يكونَ عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله: «ثم تابوا» ، أي: من بعد التوبة. قال الشيخ: «وهذا أَوْلَى، لأن الأولَ يلزمُ منه حَذْفُ مضافٍ ومعطوفِه، إذ التقدير: من بعد عَمَلِ السيئات والتوبة منها» . قوله: {وآمنوا} يجوز أن تكونَ الواوُ للعطفِ فيقال: التوبة بعد الإِيمان فكيف جاءَتْ قبلَه؟ فيقال: الواو لا تُرَتِّبُ، ويجوز أن تكونَ الواوُ للحال، أي: تابوا وقد آمنوا.

154

قوله تعالى: {وَلَماَّ سَكَتَ} : السُّكوت والسُّكات: قَطْعُ الكلامِ، وهو هنا استعارةٌ بديعة. قال الزمخشري: «هذا مَثَلٌ كأن الغضبَ كان يُغْرِيه على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا، وأَلْقِ الألواحِ وجُرَّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وترك الإِغراء به، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يَسْتَفْصِحْها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شُعَب البلاغة، وإلا فما لِقراءة معاوية بن قرة» ولمَّا سكن «بالنون لا تجدُ النفسَ عندها شيئاً من تلك الهزة وطرفاً من تلك الروعة؟» . وقيل: شَبَّه جمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم. قال يونس: «سال

الوادي ثم سكت» فهذا أيضاً استعارةٌ. وقال الزجاج: «مصدر سَكَتَ الغضبُ السكتة، ومصدر سَكَت الرجل السكوت» وهذا يقتضي أن يكون «سكت الغضب» فعلاً على حِدَته. وقيل: هذا من باب القلب والأصل: ولما سكت موسى عن الغضب نحو: أَدْخَلْتُ القلنسوة في رأسي، وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه، مع ما في القلب من الخلاف الذي ذكرته لك غير مرة. قوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى} ، هذه الجملة في محل نصب على الحال من الألواح أو من ضمير موسى، والأول أحسن. قوله: {لِّلَّذِينَ} متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل «رحمة» أي: رحمة كائنة للذين. ويجوز أن تكونَ اللامُ لامَ المفعول من أجله كأنه قيل: هدى ورحمة لأجل هؤلاء، و «هم» مبتدأ، و «يرهبون» خبره، والجملةُ صلة الموصول. قوله: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} في هذه اللامِ أربعةُ أوجه، أحدها: أن اللامَ مقويةٌ للفعل، لأنه لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللام كقوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وقد تقدم أن اللامَ تكونُ مقويةً حيث كان العامل مؤخراً أو فرعاً نحو: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ، ولا تُزاد في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم كقوله: 2305 - ولمَّا أن تواقَفْنا قليلاً ... أَنَخْنا للكلاكل فارْتَمَيْنا

أو في قليل عند آخرين كقوله تعالى: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] . والثاني: أن اللامَ لامُ العلة، وعلى هذا فمفعولُ «يرهبون» محذوفٌ تقديره: يرهبون عقابَه لأجله، وهذا مذهب الأخفش. / الثالث: أنها متعلقةٌ بمصدرٍ محذوف تقديره: الذين هم رهبتهم لربهم، وهو قول المبرد، وهذا غير جارٍ على قواعد البصريين لأنه يَلْزَمُ منه حَذْفُ المصدر وإبقاءُ معموله وهو ممتنعٌ إلا في شعر، وأيضاً فهو تقديرٌ مُخْرِجٌ للكلام عن وجه فصاحته. الرابع: أنها متعلقةٌ بفعلٍ مقدر أيضاً تقديره: يخشعون لربهم. ذكره أبو البقاء وهو أولى ممَّا قبله.

155

قوله تعالى: {واختار موسى} : «اختار» يتعدَّى لاثنين إلى أوَّلهما بنفسه وإلى ثانيهما بحرف الجر، ويجوز حَذْفُه، تقول: «اخترت زيداً من الرجال» ، ثم تَتَّسِعُ فتحذف «مِنْ» فتقول: «زيداً الرجال» قال: 2306 - اخْتَرْتُكَ الناسَ إذ رثَّتْ خلائِقُهُمْ ... واعتلَّ مَنْ كان يُرجى عنده السُّؤلُ وقال الراعي: 2307 - فقلْتُ له اخترها قَلوصاً سمينة ... ونابٌ علينا مثل نابِكَ في الحيا وقال الفرزدق:

2308 - منا الذي اختير الرجالَ سماحةً ... وجوداً إذا هَبَّ الرياح الزعازعُ وهذا النوعُ مقصورٌ على السماع، حَصَره النحاة في ألفاظ، وهي: اختار وأَمَر كقوله: 2309 - أمرتك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْتَ به ... فقد تَرَكْتُك ذا مالٍ وذا نَشَبِ واستغفر كقوله: 2310 - أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ محصيَه ... ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ وسمَّى [نحو:] سَمَّيْتُ ابني بزيد، وإن شئت: زيداً. و «دعا» بمعناه قال: 2311 - دَعَتْني أمُّ عمرو أخاها ولم أكن ... أخاها ولم أَرْضَعْ لها بلَبانِ و «كَنَى» تقول: كَنَيْته بفلان، وإن شئت فلاناً. و «صَدَق» قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} [آل عمران: 152] . و «زوَّج» قال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] . ولم يزد الشيخ عليها. ومنها أيضاً «حدَّث وأنبأ ونبّأ وأخبر وخبَّر» إذا لم تُضَمَّن معنى أَعْلَمَ. قال تعالى: {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} [التحريم: 3] وقال: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} [التحريم: 3] . وتقول: حَدَّثْتك بكذا، وإن شئت: كذا، قال: 2312 - لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادقاً ... أَصُمْ في نهارِ القيظِ للشمس باديا

و «قومه» مفعولٌ ثانٍ على أوَّلهما، والتقدير: واختار موسى سبعين رجلاً من قومه. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أن «قومَه» مفعول أول و «سبعين» بدل، أي: بدل بعض من كل، ثم قال: «وأرى أن البدلَ جائزٌ على ضعف وأن التقدير: سبعين رجلاً منهم» . قلت: إنما كان ممتنعاً أو ضعيفاً لأنَّ فيه حَذْفَ شيئين: أحدُهما المختار منه، فإنه لا بد للاختيار من مختارٍ ومختار منه، وعلى البدل إنما ذُكِر المختارُ دونَ المختار منه. والثاني: أنه لا بد من رابط بين البدل والمبدل منه وهو «منهم» كما قدَّره أبو البقاء، وأيضاً فإن البدلَ في نية الطَّرْح. وأصل اختار: اختَيَرَ افتعل من لفظ الخير كاصطفى من الصفوة. و «لميقاتنا» متعلقٌ به أي: لأجل ميقاتنا. ويجوز أن يكونَ معناها الاختصاصَ، أي: اختارهم مخصصاً بهم الميقات كقولك: اختير لك هذا. قوله: {لَوْ شِئْتَ} مفعولُ المشيئة محذوف أي: لو شِئْتَ إهلاكنا، و «أهلكتهم» جواب لو، والأكثر الإِتيانُ باللام في هذا النحو، ولذلك لم يَأْتِ مجرداً منها إلا هنا، وفي قوله {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ} [الأعراف: 100] وفي قوله: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70] . ومعنى «من قبل» أي: قبل الاختيار وأَخْذ الرجفة. قوله: {وَإِيَّايَ} قد يتعلَّق به مَنْ يرى جواز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله، إذ كان يمكنُ أن يُقال: أهلكتنا، وهو تعلُّقٌ واهٍ جداً لأن مقصودَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التنصيص على هلاك كلٍ على حِدَتِه تعظيماً للأمر، وأيضاً فإن موسى لم يتعاطَ ما يقتضي إهلاكَه بخلاف قومه، وإنما قال ذلك تسليماً منه لربِّه، فعطَف ضميرَه تنبيهاً على ذلك، وقد تقدم لك

فهذه من هذا في قوله {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] وقوله {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] . قوله: {أَتُهْلِكُنَا} يجوز فيه أن يكون على بابه، أي: أتَعُمُّنا بالإِهلاك أم تخصُّ به السفهاءَ منا؟ / ويجوز أن يكونَ بمعنى النفي، أي: ما تُهْلِك مَنْ لم يُذنب بذنب غيره، قاله أبو بكر بن الأنباري، قال: «وهو كقولك: أتُهين مَنْ يكرمك؟ وعن المبرد: هو سؤالُ استعطاف. و» منا «في محل نصب على الحال من» السفهاء «ويجوز أن تكون للبيان. قوله: {تُضِلُّ بِهَا} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها. والثاني: أن تكون حالاً من» فتنتك «أي: حالَ كونها مُضِلاً بها. ويجوز أن تكون حالاً من الكاف لأنها مرفوعةٌ تقديراً بالفاعلية، ومنعه أبو البقاء قال:» لعدم العامل فيها «وقد تقدَّم البحث معه فيه غير مرة.

156

قوله تعالى: {هُدْنَآ} : العامَّةُ على ضم الهاء، مِنْ هاد يهود بمعنى مال، قال: 2313 - قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... أني مِنَ الله لها هائدُ أو تاب، مِنْ قوله: 2314 - إني امرؤٌ مما جَنَيْتُ هائِدُ ... . . . . . . . . . . . . . . .

ومن كلامِ بعضهم: «يا راكبَ الذنب هُدْهُدْ، واسجد كأنك هُدْهُد» . وقرأ زيد بن علي وأبو وَجْزة «هِدْنا» بكسر [الهاء] من هاد يَهيد أي حرَّك. وقد أجاز الزمخشري في هُدنا وهِدْنا بالضم والكسر أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كل منهما بمعنى مِلْنا أو أمالنا غيرُنا، أو حرَّكْنا نحن أنفسَنا أو حرَّكَنا غيرُنا وفيه نظر، لأن بعض النحويين قد نصَّ على أنه متى أُلبس وَجَبَ أن يؤتى بحركةٍ مزيلةٍ لِلَّبس فيقال في «عقتُ» من العَوْق إذا عاقك غيرك: «عِقت» بالكسر فقط أو الإِشمام، وفي بعتَ يا عبد إذا قصد أن غيرَه باعه: «بُعْت» بالضم فقط أو الإِشمام، ولكن سيبويه جوَّز في قيل وبيع ونحوهما الأوجهَ الثلاثة من غير احتراز. و «هي» ضميرٌ يفسِّره سياقُ الكلام إذ التقدير: إنْ فتنتُهم إلا فتنتُك. وقيل: يعود على مسألة الإِراءة من قوله: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} أي: إنْ مسألة الرؤية. قوله: {عذابي أُصِيبُ} مبتدأ وخبره. والعامَّةُ على «مَنْ أشاء» بالشين المعجمة. وقرأ زيد بن علي وطاوس وعمرو بن فائد: «أساء» بالمهملة من الإِساءة. قال الداني: «لا تَصِحُّ هذه القراءة عن الحسن ولا عن طاوس،

وعمرو بن فائد رجل سَوْء، وقرأها يوماً سفيان بن عيينة واستحسنها، فقام إليه عبد الرحمن المقرئ فصاح به وأسمعه فقال سفيان:» لم أَفْطِنْ لما يقولُ أهل البدع «. قلت: يعني عبد الرحمن أن المعتزلةَ تعلَّقوا بهذه القراءة في أن فعلَ العبدِ مخلوقٌ له، فاعتذر سفيان عن ذلك.

157

قوله تعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ} : في محله أوجه، أحدها: الجر نعتاً لقوله «الذين يتقون» . الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه منصوبٌ على القطع. الرابع: أنه مرفوع على خبر ابتداء مضمر وهو معنى القطع أيضاً. الخامس: أنه مبتدأ، وفي الخبر حينئذ وجهان، أحدهما: أنه الجملةُ الفعلية من قوله «يأمرهم بالمعروف» . والثاني: الجملةُ الاسمية من قوله {أولئك هُمُ المفلحون} ذكر ذلك أبو البقاء، وفيه ضعف، بل مَنْعٌ، كيف يجعل «يأمرهم» خبراً وهو من تتمة وَصْفِ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو على أنه معمولٌ للوجدان عند بعضهم كما سيأتي التنبيهُ عليه، وكيف يَجْعَلُ «أولئك هم المفلحون» خبراً لهذا الموصول، والموصولُ الثاني وهو قوله {فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} يطلبه خبراً، لا يتبادَرُ الذهنُ إلى غيره ولو تبادر لم يكن مُعْتبراً. قوله: {الأمي} العامَّةُ على ضم الهمزة نسبةً: إمَّا إلى الأُمة وهي أمة العرب، وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب، ومنه الحديثُ: «إنَّا أمةٌ أمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب» ، وإمَّا نسبةً إلى الأَمّ وهو مصدر أَمَّ يَؤُمُّ، أي: قصد

يقصد، والمعنى على هذا: أن هذا النبيَّ الكريم مقصود لكل أحدٍ. وفيه نظر، لأنه كان ينبغي أن يقال: الأَمِّيّ بفتح الهمزة. وقد يقال: إنه من تغيير النسب. وسيأتي أن هذا قراءةٌ لبعضهم، وإما نسبةً إلى أمِّ القرى وهي مكة، وإمَّا نسبة إلى الأُمّ كأن الذي لا يقرأ ولا يكتب على حالةِ ولادتِه من أمه. وقرأ يعقوب «الأَمِّيّ» بفتح الهمزة، وخرَّجها بعضهم على أنه من تغيير النسب، كما قالوا في النسب إلى أُمَيَّة: أَمَوي/. وخرَّجها بعضهم على أنها نسبةٌ إلى الأَمّ وهو القصد، أي: الذي هو على القصد والسَّداد، وقد تقدَّم ذكرُ ذلك أيضاً في القراءة الشهيرة. فقد تحصَّل أن كلاً من القراءتين يحتمل أن تكون مُغَيَّرَةً من الأخرى. قوله: «تجدونه» الظاهر أن هذه متعديةٌ لواحد لأنها اللُّقْبَة، والتقدير: تَلْقَوْنه، أي تَلْقَوْن اسمَه ونعته مكتوباً، لأنه بمعنى وُجْدان الضالَّة فيكون «مكتوباً» حالاً من الهاء في «تجدونه» . وقال أبو علي: «إنها متعدية لاثنين أولهما الهاء، والثاني» مكتوباً «. قال:» ولا بد من حذف هذا المضاف، أعني قوله «ذكره أو اسمه» . قال سيبويه: «تقول إذا نظرت في هذا الكتاب: هذا عمرو، وإنما المعنى: هذا اسم عمرو وهذا ذِكْر عمرو قال:» وهذا يجوزُ على سَعة الكلام «. قوله: {عِندَهُمْ فِي التوراة} هذا الظرف وعديلُه كلاهما متعلِّقٌ ب» تَجدون «، ويجوز وهو الأظهر أن يتعلَّقا ب» مكتوباً «، أي: كُتِبَ اسمُه ونعته عندهم في تَوْراتهم وإنجيلهم. قوله: {يَأْمُرُهُم} فيه ستةُ أوجه، أحدها: أنه مستأنف، فلا محلَّ له حينئذ

وهو قول للزجاج. والثاني: أنه خبر ل «الذين» . قاله أبو البقاء، وقد ذُكِرَ، قلت: وقد ذكر ما فيه ثَمَّة. الثالث: أنه منصوبٌ على الحال من الهاء في «تجدونه» ولا بد من التجوز بها، ذلك بأن تُجْعَلَ حالاً مقدرة. وقد منع أبو علي أن تكون حالاً من هذا الضمير قال: «لأن الضميرَ للاسم والذِّكْرِ، والاسم والذِّكر لا يأمران» يعني أن الكلام على حَذْفِ مضافٍ كما مرَّ، فإن تقديره: تجدون اسمه أو ذِكْره، والذكرُ والاسمُ لا يأمران، إنما يأمر المذكور والمسمَّى. الرابع: أنه حال من «النبيّ» . الخامس: أنه حال من الضمير المستكن في «مكتوباً» . السادس: أنه مفسِّر ل «مكتوباً» ، أي لِما كُتِب، قاله الفارسي. قال: «كما فَسَّر قوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ} بقوله: {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [المائدة: 9] ، وكما فسَّر المَثَل في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] بقوله {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} . وقال الزجَّاج هنا:» ويجوز أن يكون المعنى: يجدونه مكتوباً عندهم أنه يأمرُهم بالمعروف، وعلى هذا يكون الأمرُ بالمعروف وما ذُكِر معه مِنْ صفته التي ذُكِرت في الكتابين «. واستدرك أبو علي عليه هذه المقالةَ فقال:» لا وجهَ لقوله «يجدونه مكتوباً عندهم أنه يأمرهم بالمعروف» إن كان يعني أن ذلك مرادٌ، لأنه لا شيءَ يَدُلُّ على حَذْفِه، ولأنَّا لا نَعْلَمهم أنهم صَدَقُوا في شيء، وتفسير الآية أنَّ {وجدت} فيها تتعدى لمفعولين «فَذَكر نحو ما قدَّمته عنه.

قلت: وهذا الردُّ تحاملٌ منه عليه، لأنه أراد تفسيرَ المعنى وهو تفسير حسن. قوله: {إصرهم} قرأ ابن عامر:» آصارهم «بالجمع على صيغة أفْعال، فانقلبت الهمزة التي هي فاء الكلمة ألفاً لسَبْقِها بمثلها، والباقون بالإِفراد فهي جمع باعتبار متعلَّقاته وأنواعه، وهي كثيرة. ومَنْ أفرد فلأنه اسمُ جنسٍ. وقرأ بعضهم:» أَصرهم «بفتح الهمزة، وبعضُهم» أُصْرهم «بضمها. وقد تقدم تفسير هذه المادة في أواخر البقرة. والأغلال جمع غُلّ، وهو هنا مَثَل لِما كُلِّفوه. وقد تقدَّم تفسير المادة أيضاً في آل عمران: {وما كان لنبي أن يَغُلَّ} ، وكذا تقدم تفسير التعزير في المائدة. والعامَّة على تشديد» وعزَّروه «. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وسليمان التيمي بتخفيفها، وجعفر بن محمد:» وعَزَّزوه «بزايين معجمتين. قوله: {أُنزِلَ مَعَهُ} قال الزمخشري:» فإن قلت: ما معنى «أُنْزِلَ معه» ، وإنما أُنْزِل مع جبريل؟ قلت: معناه أُنزل مع نبوته؛ لأن

اسْتِنْباءَه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به. ويجوز أن يتعلَّق ب «اتَّبعوا» ، أي: واتَّبعوا القرآن المنزَّل مع اتِّباع النبيّ وبالعمل بسنته وبما أَمَرَ به ونَهَى عنه، أو واتَّبعوا القرآنَ كما اتَّبعه مصاحبين له في اتَّباعه «يعني بهذا الوجهِ الأخير أنه حالٌ من فاعل» اتبعوا «. / وقيل:» مع «بمعنى» على «، أي: أُنْزِلَ عليه. وجوَّز الشيخ أن يكون» معه «ظَرْفاً في موضعِ الحال. قال:» والعاملُ فيها محذوف تقديره: أُنْزِلَ كائناً معه، وهي حال مقدَّرة كقولهم: «مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً» فحالةُ الإِنزال لم يكن معه، لكنه صار معه بعدُ، كما أن الصيدَ لم يكن وقتَ المرور «.

158

قوله تعالى: {إِلَيْكُمْ} : متعلقٌ ب «رسول» ، و «جميعاً» حال من المجرور ب إلى. قوله: {الذي لَهُ مُلْكُ} يجوز فيه الرفع والنصب والجر، فالرفعُ والنصبُ على القطع وقد مرَّ غيرَ مرة. والجرُّ من وجهين: إمَّا النعتِ للجلالة، وإمَّا البدلِ منها. قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون جَرّاً على الوصفِ وإن حِيل بين الصفة والموصوف بقوله» إليكم جميعاً «. وقد استضعف أبو البقاء هذا ووجهَ البدل فقال:» ويَبْعُدُ أن يكونَ صفة لله أو بدلاً منه لِما فيه من الفصل بينهما ب «إليكم» وبحالٍ، وهو متعلِّق ب «رسول» . قوله: {لا إله إِلاَّ هُوَ} لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب، إذ هي بدلٌ من الصلةِ قبلها، وفيها بيانٌ لها، لأنَّ مَنْ مَلَكَ العالَم كان هو الإِلهَ على

الحقيقة. وكذا قوله «يحيي ويميت» هي بيانٌ لقوله {لا إله إِلاَّ هُوَ} سِيْقَتْ لبيان اختصاصه بالإِلهية لأنه لا يَقْدِرُ على الإِحياءِ والإِماتةِ غيرُه، قال ذلك الزمخشري. قال الشيخ: «وإبدالُ الجملِ من الجمل غيرِ المشتركة في عاملٍ لا نعرفه» . وقال الحوفي: «إنَّ» يحيي ويميت «في موضع خبر» لا إله «. قال:» لأن الإِله في موضع رفع بالابتداء، و «إلا هو» بدلٌ على الموضع «قال:» والجملةُ أيضاً في موضع الحال من اسم الله «. قلت: يعني بالجملة قولَه {لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ويعني باسم الله، أي الضمير في» له مُلْك «، أي: استقرَّ له الملك في حال انفراده بالإِلهية. وقال الشيخ:» والأحسن أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإِعراب، وإن كان متعلقاً بعضُها ببعض من حيث المعنى «. وقال في إعراب الحوفي المتقدم:» إنه متكلِّفٌ «وهو كما قال. وقرأ مجاهد وعيسى» وكلمة «بالتوحيد، والمراد بها الجنس كقوله:» أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد «، ويسمُّون القصيدة كلها كلمةً، وقد تقدَّم لك شرح هذا. قوله: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} قال الزمخشري:» فإن قلت: هَلاَّ قيل:

فآمنوا بالله وبي بعد قوله: {إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . قلت: عَدَل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفاتُ التي أُجْرِيَتْ عليه، ولِما في طريقة الالتفات من البلاغة، وليُعْلِم أنَّ الذي يجب الإِيمان به واتِّباعه هو هذا الشخص المستقلّ بأنه النبيُّ الأميُّ الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً مَنْ كان أنا أو غيري إظهاراً للنَّصَفة وتفادياً من العصبية لنفسه «.

160

قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ} : الظاهر أن «قطعناهم» متعدٍّ لواحد لأنه لم يُضَمَّنْ معنى ما يتعدى لاثنين، فعلى هذا يكون «اثنتي» حالاً من مفعول «قطَّعناهم» ، أي: فَرَّقْناهم معدودِين بهذا العدد. وجوَّز أبو البقاء أن يكون قَطَّعْنا بمعنى صَيَّرنا وأن «اثنتي» مفعولٌ ثانٍ، وجزم الحوفي بذلك. وتمييز «اثنتي عشرة» محذوف لفهم المعنى تقديره: اثنتي عشرة فرقة و «أسباطاً» بدل من ذلك التمييز. وإنما قلت إن التمييز محذوف، ولم أجعل «أسباطاً» هو المميِّز لوجهين، أحدهما: أن المعدودَ مذكرٌ لأن أسباطاً جمع سِبْط، فكان يكون التركيبُ اثني عشر. والثاني: أن تمييز العدد المركب وهو من أحد عشر إلى تسعة عشر مفرد منصوب، وهذا كما رأيت جمعٌ. وقد جعله الزمخشري تمييزاً له معتذراً عنه فقال: «فإن قلتَ: مميِّز ما عدا العشرةَ مفردٌ فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلا قيل: اثني عشر سِبْطاً. قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأن المرادَ: وقطَّعْناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكلُّ قبيلة أَسْباط لا سِبْط، فوضع أسباطاً موضع قبيلة. ونظيرُه: 2315 - ...

بين رماحَيْ مالكٍ ونَهْشَلِ قال الشيخ:» وما ذهب إليه من أن كل/ قبيلة أسباط خلافُ ما ذكره الناس: ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وقالوا: الأسباط جمع [سبط] ، وهم الفرق والأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل ويكون على زعمه قولُه تعالى: {وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} معناه: والقبيلة. وقوله وهو نظير قوله «بين رماحَيْ مالك ونهشل» ليس بنظيره، لأن هذا من باب تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في ضرورة، وكأنه يشير إلى أنه لو لم يُلْحَظْ في الجمع كونُه أريد به نوعٌ من الرماح لم تَصِحَّ التثنية، كذلك هنا لُحِظ في الأسباط وإن كان جمعاً معنى القبيلة فَمُيِّزَ به كما يُمَيَّزُ بالمفرد «. وقال الحوفي:» يجوز أن يكونَ على الحَذْف، والتقدير: اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، ويكون «أسباطاً» نعتاً لفرقة، ثم حُذف الموصوفُ وأقيمت الصفة مُقامه. وأمم نعتٌ لأسباط، وأنَّث العددَ وهو واقعٌ على الأسباط وهو مذكر وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال: 2316 - ثلاثة أنفس. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . يعني رجلاً. [وقال:] 2317 -. . . . . . . . . . . . . . . . عشرُ أَبْطُنْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . بالنظر إلى القبيلة. ونظيرُ وصفِ التمييز المفرد بالجمع مراعاةً للمعنى قول الشاعر:

2318 - فيها اثنتان وأربعون حَلوبةً ... سُوداً كخافيةِ الغراب الأَسْحَمِ فوصف «حلوبة» وهي مفردةٌ لفظاً ب «سُوْداً» وهو جمع مراعاةً لمعناها، إذ المرادُ الجمع «. وقال الفراء:» إنما قال «اثنتي عشرة» والسِّبط مذكر لأنَّ ما بعده أممٌ فذهب التأنيث إلى الأمم، ولو كان اثني عشر لتذكير السبط لكان جائزاً «واحتجَّ النحويون على هذا بقول الشاعر: 2319 - وإنَّ قريشاً هذه عشرُ أبطنٍ ... وأنت بريءٌ من قبائلها العشرِ ذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة، لذلك أنَّث والبطن ذَكَر. وقال الزجاج: «المعنى:» وقَطَّعناهم اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، من نعتِ فرقة كأنه قال: جَعَلناهم أسباطاً وفَرَّقْناهم أسباطاً «، وجوَّز أيضاً أن يكون» أسباطاً «بدلاً من» اثنتي عشرة «وتبعه الفارسيُّ في ذلك. وقال بعضهم:» تقدير الكلام: وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة، فلا يُحتاج حينئذٍ إلى غيره. وقال آخرون: جَعَل كلَّ واحد من الاثنتي عشرة أسباطاً، كما تقول: لزيد دراهم ولفلان دراهم ولفلان دراهم، فهذه عشرون دراهم، يعني أن المعنى على عشرينات من الدراهم. ولو قلت: لفلان ولفلان ولفلان عشرون درهماً بإفراد «درهم» لأدَّى إلى اشتراك الكل في عشرين واحدة

والمعنى على خلافه. وقال جماعة منهم البغوي: «وفي الكلام تقديمٌ وتأخير تقديرُه: وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة» . وقوله {أُمَماً} : إمَّا نعتٌ لأسباطاً، وإمَّا بدل منها بعد بدل على قولنا: إن أسباطاً بدلٌ من ذلك التمييزِ المقدر. وجَعَلَه الزمخشري أنه بدل من اثنتي عشرة قال: «بمعنى: وقَطَّعناهم أمماً لأن كل أسباط كانَتْ أمةً عظيمة وجماعة كثيفة العدد» وكلُّ واحدة تَؤُمُّ خلافَ ما تَؤُمُّه الأخرى لا تكاد تأتلف «انتهى. وقد تقدَّم القول في الأسباط. وقرأ أبان بن تغلب» وَقَطَعْناهم «بتخفيف العين، والشهيرةُ أحسنُ لأنَّ المقامَ للتكثير، وهذه تحتمله أيضاً. وقرأ الأعمش وابن وثاب وطلحة ابن سليمان» عَشِرة «بكسر الشين، وقد رُوي عنهم فتحُها أيضاً، ووافقهم على الكسر فقط أبو حيوة وطلحة بن مصرف. وقد تقدَّم تحقيق ذلك في البقرة، وأن الكسرَ لغةُ تميم والسكونَ لغةُ الحجاز. قوله: {أَنِ اضرب} يجوز في» أَنْ «أن تكون المفسِّرة للإِيحاء، وأن تكونَ المصدرية. وقوله:» فانبجسَتْ «كقوله: {فانفجرت} [البقرة: 80] إعراباً وتقديراً ومعنىً، وقد تقدم جميعُ ذلك في البقرة. وقيل: الانبِجاسُ: العَرَق. قال

أبو عمرو بن العلاء: /» انبجست: عَرِقَتْ، وانفجرت: سالَتْ «ففرَّق بينهما بما ذُكر، وفي التفسير أن موسى عليه الصلاة والسلام كان إذا ضَرَبَ الحجر ظهر عليه مثلُ ثَدْي المرأة فَيَعْرَقُ ثم يَسيل، وهما قريبان من الفَرْق المذكور في النضخ والنضح. وقال الراغب:» يقال: بَجَس الماءُ وانبجَسَ انفجر، لكن الانبجاسَ أكثرُ ما يُقال فيما يَخْرج من شيءٍ ضيق، والانفجار يُستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع، ولذلك قال تعالى: {فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} ، وفي موضعٍ آخرَ {فانفجرت} [البقرة: 60] ، فاستُعْمل حيث ضاق المخرج اللفظتان «يعني ففرَّق بينهما بالعموم والخصوص، فكلُّ انبجاسٍ انفجارٌ من غير عكس. وقال الهروي: «يقال: انبجسَ وتَبَجَّس وتَفَجَّر وتفتَّق بمعنى واحدٍ» ، وفي حديث حذيفة: «ما منا إلا رجلٌ له آمَّةٌ يَبْجُسُها الظُّفُر غيرَ رَجُلَيْن» يعني عمر وعلياً رضي الله عنهم. الآمَّة: الشجَّة تبلغ أمَّ الرأس، وهذا مَثَل يعني أن الآمَّة منا قد امتلأت صديداً بحيث إنه يُقْدر على استخراج ما فيها بالظفر من غير احتياج إلى آلة حديد كالمِبْضَع فعبَّر عن زَلَلِ الإِنسان بذلك، وأنه تفاقم إلى أن صار يشبه شَجَّةً هذه صفتها. قوله: {كُلُّ أُنَاسٍ} قد تقدَّم الوعدُ في البقرة بالكلام على لفظة «أناس» هنا. قال الزمخشري: «الأناس: اسم جمع غير تكسير نحو: رُخال وتُناء وتُؤام وأخواتٍ لها. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسر والتكسير،

والضمة بدل من الكسرة كما أُبدلت في نحو سُكارَى وغُيارَى من الفتحة» . قال الشيخ: «ولا يجوز ما قال لوجهين، أحدهما: أنه لم يُنْطَقْ ب» إناس «بكسر الهمزة فيكون جمعَ تكسيرٍ حتى تكونَ الضمةُ بدلاً من الكسرة بخلاف سُكارى وغيارى فإن القياس فيه فَعالى بفتح فاء الكلمة، وهو مسموع فيهما. والثاني: أن سُكارى وغُيارى وعُجالى وما ورد من نحوها ليست الضمةُ فيه بدلاً من الفتحة، بل نَصَّ سيبويه في» كتابه «على أنه جمعُ تكسيرٍ أصلٌ، كما أن فَعالى جمعُ تكسيرٍ أصلٌ، وإن كان لا ينقاس الضمُّ كما ينقاس الفتح. قال سيبويه في حَدِّ تكسيرِ الصفات:» وقد يُكَسِّرون بعضَ هذا على فُعالى وذلك قول بعضِهم «عُجالى وسُكارى» . وقال سيبويه في الأبنية أيضاً: «ويكونُ فُعالى في الاسم نحو: حُبارَى وسُمانى ولُبادى ولا يكون وصفاً إلا أن يُكَسَّر عليه الواحدُ للجمع نحو: سُكارى وعجالى» فهذان نَصَّان من سيبويه على أنه جمعُ تكسير، وإذا كان جمعَ تكسيرٍ أصلاً لم يَسْغُ أن يُدَّعى أن أصلَه فَعالَى وأنه أُبْدلت الحركة فيه. وذهب المبرد إلى أنه اسمُ جمع أعني فُعالى بضم الفاء وليس بجمع تكسير، فالزمخشري لم يذهبْ إلى ما ذهب إليه سيبويه، ولا إلى ما ذهب إليه المبرد، لأنه عند المبرد اسمُ جمعٍ، فالضمة في فائه أصلٌ ليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثالثاً «انتهى. قوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ} قد تقدَّم الكلامُ على هذه الجملةِ وما قبلها، وما بعدها في البقرة، وكأن هذه القصةَ مختصرةٌ مِنْ تِيْكَ، فإن تِيْكَ أشبعُ

من هذه. قال الزمخشري:» التقديمُ والتأخيرُ في «وقولوا وادخلوا» سواء قَدَّموا الحِطَّة على دخول الباب أو أخَّروها، فهم جامعونَ في الإِيجادِ بينهما «قال الشيخ:» وقولُه: سواءٌ قَدَّموا أو أخَّروها تركيبٌ غير عربي، وإصلاحهُ: سواء أقدَّموا أم أخَّروا كما قال تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم: 21] قلت: يعني كونه أتى لفظُ «سواء» بأو دون أم، ولم يأت بهمزة التسوية بعد سواء، وقد تقدم أن ذلك جائزٌ وإن كان الكثيرُ ما ذكره، وأنه قد قرئ {سواء عليهم أأنذرتهم أو لم تُنْذِرْهم} والردُّ بمثل هذا غيرُ طائلٍ. وقرأ عيسى الهمذاني «ما رَزَقْتُكم» بالإِفراد، وسيأتي خلافٌ بين السبعة في مثل هذا في سورة طه. قوله: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} قد تقدَّم الخلاف في «يغفر» وأما «خطاياكم» فقرأها ابنُ عامر «خطيئتكم» بالتوحيد والرفع على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، والفرض أنه يقرأ «تُغْفَر» بالتاء من فوق. ونافع قرأ «خطيئاتكم» بجمعِ السَّلامة رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنه يقرأ «تُغْفَر» كقراءةِ ابن عامر، وأبو عمرو قرأ: «خطاياكم» جمعَ تكسير، ويَقرأ «نغفر» بنونِ العظمة،

والباقون: نَغْفر كأبي عمرو، «خطيئاتكم» بجمع السَّلامة منصوباً بالكسرة على القاعدة. وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو/ «خطاياهم» بالتكسير أيضاً، والباقون بجمع التصحيح. وقرأ ابن هرمز «تُغْفَر» بتاء مضمومة مبنياً للمفعول كنافع، «خطاياكم» كأبي عمرو. وعنه أيضاً: «يَغْفر» بياء الغيبة، وعنه: «تَغْفِر» بفتح التاء من فوق، على معنى أن الحِطَّة سببٌ للغفران فنسب الغفرانَ إليها.

163

قوله تعالى: {عَنِ القرية} : لا بد من مضافٍ محذوفٍ، أي: عن خبر القرية، وهذا المضافُ هو الناصبُ لهذا الظرف وهو قوله: «إذ يعدون» وقيل: بل هو منصوبٌ ب «حاضرة» . قال أبو البقاء: «وجوَّز ذلك أنها كانت موجودةً ذلك الوقتَ ثم خَرِبَتْ» . وقدَّر الزمخشري المضاف «أهل» ، أي: عن أهل القرية، وجعل الظرفَ بدلاً من «أهل» المحذوف فإنه قال: «إذ يَعْدون» بدل من القرية، والمرادُ بالقرية أهلُها، كأنه قيل: وسَلْهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت، وهو مِنْ بدل الاشتمال. قال الشيخ: «وهذا لا يجوزُ، لأنَّ» إذ «من الظروف التي لا تتصرَّف، ولا يَدْخل عليها حرفُ جر، وجَعْلُها بدلاً يُجَوِّز دخول» عن «عليها لأنَّ البدلَ هو على نية تكرار العامل، ولو أَدْخَلْت» عن «عليها لم يَجُزْ، وإنما يُتَصَرَّفُ فيها بأنْ تُضِيْفَ إليها بعضَ الظروفِ الزمانية نحو» يوم إذ كان كذا «، وأمَّا قولُ

مَنْ ذهب إلى أنها تكونُ مفعولةً ب» اذكر «: فقولُ مَنْ عَجَز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً» . وقال الحوفي: «إذ متعلقةٌ ب» سَلْهم «. قال الشيخ:» وهذا لا يُتَصور، لأن «إذ» لِما مضى، و «سَلْهم» مستقبلٌ، ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى، لأنَّ العادِين وهم أهل القرية مفقودون، فلا يمكن سؤالُهم فالمسؤول غير أهل القرية العادين «. وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك:» يَعَدُّون «بفتح العين وتشديد الدال، وهذه تشبه قراءةَ نافع في قوله» لا تَعَدُّوا في السبت «والأصل» تَعْتَدُّوا «فأدغم التاءَ في الدال لمقاربتها لها. وقُرئ» تُعِدُّون «بضمِ التاء وكسرِ العين وتشديد الدال من أعدَّ يُعِدُّ إعداداً: إذا هَيَّأ آلاتِه. وفي التفسير: أنهم كانوا مأمورين في السبت فيتركونها ويُهَيِّئون آلاتِ الصيد. قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ} العاملُ فيه» يَعْدُون «، أي: إذ عَدَوا إذ أَتَتْهم، لأنَّ الظرفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيّ. وقال الزمخشري:» وإذ تأتيهم بدلٌ من إذْ يَعْدُون بدلاً بعد بدل «يعني أنه بدلٌ ثانٍ من القرية على ما تقرَّر عنه. وقد تقدَّم ردُّ الشيخ عليه هناك وهو عائدٌ هنا. و» حِيْتان «جمع حُوت، وإنما أُبدلت الواو ياء لسكونها وانكسارِ ما قبلَها. ومثلُه: نون ونينان. والنونُ: الحوت.

قوله: {شُرَّعاً} حالٌ من» حِيتانهم «وشُرَّعٌ جمعُ شارع. وقرأ عمر ابن عبد العزيز» يوم إسْباتهم «وهو مصدرٌ» أسبت «إذا دخل في السَّبْت. وقرأ عاصم بخلافٍ عنه وعيسى بن عمر: لا يَسْبُتون بضم الباء. وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف عنه «يُسْبِتون» بضم الياء وكسرِ الباء مِنْ أَسْبت، أي: دَخَل في السبت. وقرئ: «يُسْبَتُون» بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول، نقلها الزمخشري عن الحسن قال: «أي: لا يُدار عليهم السَّبْت ولا يُؤْمرون بأن يَسْبِتُوا» . والعاملُ في «يوم لا يَسْبتون» قوله «لا تَأْتيهم» أي: لا تأتيهم يوم لا يَسْبتون، وهذا يدلُّ على جواز تقديم معمول المنفي ب «لا» عليها. وقد قدَّمْتُ فيه ثلاثةَ مذاهب: الجوازَ مطلقاً كهذه الآية، المنعَ مطلقاً، التفصيلَ: بين أن يكون جوابَ قسم فيمتنعَ أو لا فيجوز. قوله: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُم} ذكر الزجاج وابن الأنباري في هذه الكاف ومجرورِها وجهين، أحدهما: قال الزجاج: «أي: مثلَ هذا الاختبار الشديد نختبرهم، فموضعُ الكاف نصب ب» نَبْلوهم «. قال ابن الأنباري:» ذلك «إشارةٌ إلى ما بعدَه، يريد: نَبْلوهم بما كانوا يفسُقون كذلك البلاءَ الذي وقع بهم في أَمْرِ الحِيتان، وينقطع الكلام عند قوله» لا تأتيهم «. الوجه الثاني: قال الزجاج:» ويحتمل أن يكون على بُعْدٍ أن

يكونَ: ويومَ لا يَسْبِتُون لا تأتيهم كذلك، أي: لا تأتيهم شُرَّعاً، ويكون نَبْلوهم مستأنفاً «. قال أبو بكر:» وعلى هذا الوجهِ: «كذلك» راجعةٌ إلى الشُّروع في قوله تعالى: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} والتقدير: ويوم لا يَسْبِتون لا تأتيهم كذلك الإِتيانَ بالشروع، وموضعُ الكاف على هذا نصبٌ بالإِتيان على الحال، أي: لا تأتي مثلَ ذلك الإِتيان «. / وقوله: {بِمَا كَانُوا} الباء سببيةٌ، و» ما «مصدريةٌ أي: نَبْلُوهم بسببِ فِسْقِهم، ويَضْعُفُ أن تكونَ بمعنى الذي لتكلُّفِ حَذْفِ العائد على التدريج. وقد ذكر مكي هنا مسألةً مختلفاً فيها بين النحاة لا تعلُّق لها بهذا الموضع فقال:» وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول: اليومَ السبتُ، واليومَ الجمعة، فَتُنْصَبَ «اليوم» على الظرف وتُرْفَعَ مع سائر الأيام فتقول: اليومَ الأحد، واليومَ الأربعاء، لأنه لا معنى للفعل فيهما، فالمبتدأ هو الخبر فترفع «. قلت: هذه المسألة فيها خلافٌ بين النحويين، فالجمهور كما ذكر يوجبون الرفعَ لأنه بمنزلة قولك: اليومُ الأولُ، اليوم الثاني. وأجاز الفراء وهشام النصب قالا:» لأن اليوم بمنزلة الآن، فالآن أعم من الأحد والثلاثاء، فكأنه قيل: الآن الأحد، الآن الاثنان «، أي: إنهما واقعان في الآن، وليست هذه المسألةُ مختصةً بالجمعة والسبت، بل الضابطُ فيها أنه إذا ذُكر» اليوم «مع ما يتضمن عملاً وحدثاً جاز النصب والرفع نحو قولهم: اليوم العيد، اليوم الفطر، اليوم الأضحى، كأنك قلت: اليوم يَحْدُث اجتماع وفطر وأُضْحية.

164

قوله تعالى: {مَعْذِرَةً} : قرأ العامة «معذرة» رفعاً على

خبر ابتداء مضمر، أي موعظتنا معذرة. وقرأ حفص عن عاصم وزيد ابن علي وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف: «معذرةً» نصباً. وفيها ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنها منصوبةٌ على المفعول من أجله، أي: وعَظْناه لأجلِ المعذرة. قال سيبويه: «ولو قال رجلٌ لرجل: معذرةً إلى الله وإليك من كذا انتصب» . الثاني: أنها منصوبةٌ على المصدر بفعل مقدرٍ مِنْ لفظِها تقديرُه: نعتذر معذرةً. الثالث: أن ينتصبَ انتصابَ المفعولِ به لأنَّ المعذرةَ تتضمَّن كلاماً، والمفردُ المتضمنُ لكلامٍ إذا وقع بعد القول نُصِبَ نَصْبَ المفعول به كقلت خطبة. وسيبويه يختار الرفع قال: «لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً، ولكنهم قيل لهم: لِمَ تَعِظُون؟ فقالوا: موعظتنا معذرة» . والمَعْذِرة: اسمُ مصدر وهو العُذْر. قال الأزهري: «إنها بمعنى الاعتذار» والعُذْر: التنصُّل من الذنب.

165

قوله تعالى: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} : الضمير في «نَسُوا» للمنهيين. و «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، أي: فلمَّا نَسُوا الوعظَ الذي ذكَّرهم به الصالحون. قال ابن عطية: «ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكْرُ نفسُه، ويُحتمل أن يرادَ به ما كان فيه الذكر» قال الشيخ: «ولا يَظْهر لي هذان الاحتمالان» قلت: يعني ابن عطية بقوله «الذكر نفسه» ، أي: نفسُ الموصول مرادٌ به المصدر كأنه قال: فلما نَسُوا الذكر الذي ذُكِّروا به، وبقوله «ما كان فيه

الذكر» نفسُ الشيء المُذَكَّر به الذي هو متعلَّق الذكر، لأن ابن عطية لمَّا جَعَل «ما» بمعنى الذي قال: «إنها تحتملُ الوقوعَ على هذين الشيئين المتغايرين» . قوله: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} قرأ نافع وأبو جعفر وشيبة: «بِيْسٍ» بياء ساكنة. وابن عامر بهمزة ساكنة، وفيهما أربعة أوجه، أحدها: أن هذا في الأصل فعلٌ ماضٍ سُمِّي به فأُعْرِب كقوله عليه السلام: «أنهاكم عن قيلٍ وقال» بالإِعراب والحكاية، وكذا قولهم: «مُذْ شَبَّ إلى دَبَّ» و «مُذْ شَبٍّ إلى دَبٍّ» فلمَّا نُقِل إلى الاسمية صار وَصْفاً ك نِضْو ونِقْض. والثاني: أنه وصف وُضِع على فِعْل كحِلْف. الثالث: أن أصلَه بَئيس كالقراءة المشهورة، فخفَّف الهمزة، فالتقت ياءان ثم كَسَر الباء إتباعاً كرِغيف وشِهيد، فاستثقل توالي ياءين بعد كسرة، فحذفت الياء المكسورة فصار اللفظ بِئْسٍ، وهو تخريج الكسائي. الرابع: أن أصله «بَئِس» بزنة كَتِف ثم أُتْبعت الباءُ للهمزة في الكسر، ثم سُكِّنت الهمزة ثم أُبدلت ياء. وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً، وأن تكون وصفاً كحِلْف. وقرأ أبو بكر عن عاصم «بَيْئَسٍ» بياء ساكنة بين باء وهمزة مفتوحتين وهو صفةٌ على فَيْعَل كضيغَم وصَيْرَف وهي كثيرة في الأوصاف/. وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي: 2320 - كلاهما كان رئيساً بَيْئَساً ... يَضْرِبُ في يومِ الهياجِ القَوْنَسا

وقرأ باقي السبعة بَئِيْسٍ بزنة رئيس. وفيه وجهان، أحدهما: أنه وصفٌ على فَعِيل كشديد وهو للمبالغة وأصله فاعل. والثاني: أنه مصدرٌ وُصف به أي: بعذابٍ ذي بأس بئيس، مصدر مثل النذير والنكير والعذير، ومثل ذلك في احتمال الوجهين قول أبي الإِصبع العدواني: 2321 - حَنَقَاً عَلَيَّ ولا أَرَى ... ليَ منهما شَرَّاً بئيساً وهي أيضاً قراءةُ علي وأبي رجاء. وقرأ يعقوبٌ القارئ: بَئِسَ بوزن شَهِدَ، وقرأها أيضاً عيسى بن عمر وزيد بن علي. وقرأ نصر بن عاصم: بَأَس بوزن ضَرَب فعلاً ماضياً. وقرأ الأعمش ومالك بن دينار: بَأْس فعلاً ماضياً، وأصله بئِس بكسرِ الهمزة فسَكَّنها تخفيفاً كشَهْد في قوله: 2322 - لو شَهْدَ عادَ في زمانِ تُبَّعِ ... وقرأ ابن كثير وأهل مكة: بِئِسٍ بكسر الباء والهمز همزاً خفيفاً، ولم يُبَيَّن: هل الهمزةُ مكسورةٌ أو ساكنة؟ وقرأ طلحة وخارجة عن نافع بَيْسٍ بفتح الباء وسكون الياء مثل كَيْل وأصله بَيْئَس مثل: ضَيْغَم فخفَّف الهمزةَ بقلبها ياءً وإدغامِ الياء فيها، ثم خَفَّفه بالحذف كمَيْت في مَيّت.

وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية: بَيْئِسٍ كقراءة أبي بكر عنه إلا أنه كسر الهمزة. وهذه قد رَدَّها الناسُ لأن فَيْعِلاً بكسر العين في المعتلِّ، كما أن فَيْعَلاً بفتحها في الصحيح كسيِّد وضَيْغَم. على أنه قد شذَّ: صَيْقِل بالكسر، وعَيَّل بالفتح. وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه «بَأَسٍ» بفتح الباء والهمزة وجَرِّ السين بزنة جَبَل. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف «بِئَسٍ» مثل كَبِد وحَذِر قال عبيد الله بن قيس: 2323 - ليتني أَلْقَى رُقَيَّةَ في ... خَلْوةٍ من غير ما بَئِسِ وقرأ نصر بن عاصم في رواية «بَيِّسٍ» بتشديد الياء كميّت، وفيها تخريجان، أحدهما: أنها من البؤس ولا أصلَ لها في الهمز، والأصل: بَيْوِس كمَيْوِت ففُعِل به ما فُعِل به. والثاني: أن أصلَه الهمزةُ فأبدلها ياءً ثم أدغم الباء في الياء. وقرأ أيضاً في روايةٍ «بَأَّس» بهمزةٍ مشددة، قالوا: قَلَبَ الياءَ همزةً وأدغمها في مثلها ماضياً كشَمَّر. وطائفة أخرى: بَأَسَ «كالتي قبلها إلا أن الهمزةَ خفيفةٌ. وطائفة:» باسٍ «بألف صريحة بين الباء والسين المجرورة. وقرأ أهلُ المدينة:» بِئيس «كرئيس، إلا أنهم كسروا الباءَ، وهذه لغةُ

تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو: بِعير وشعير وشهيد سواء أكان اسماً أم صفة. وقرأ الحسن والأعمش:» بِئْيَسٍ «بياءٍ مكسورة ثم همزةٍ ساكنة ثم ياءٍ مفتوحةٍ بزنة حِذْيَم وعِثْيَر. وقرأ الحسن: بِئْسَ بكسرِ الباء وسكون الهمزة وفتح السين، جَعَلَها التي للذَّمِّ في نحو: بئس الرجل زيد، ورُوِيت عن أبي بكر. وقرأ الحسن أيضاً كذلك إلا أنه بياءٍ صريحة، وتخريجُها كالتي قبلها وهي مرويَّةٌ عن نافع. وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنه لا يُقال:» مررت برجلٍ بئس «حتى يقال: بئس الرجل، أو بئس رجلاً. قال النحاس:» وهذا مردودٌ يعني قولَ أبي حاتم حكى النحويون: «إن فعلتَ كذا وكذا فبها ونعمَتْ» ، أي: ونِعمَتِ الخَصْلة، والتقدير: بئس العذاب «. قلت: أبو حاتم معذورٌ في [ردّ] القراءة فإن الفاعلَ ظاهراً غيرُ مذكور والفاعلُ عمدةٌ لا يجوز حذفه، ولكن قد ورد في الحديث:» من توضَّأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل «ففاعل» نعمت «هنا مضمرٌ يفسَِّره/ سياقُ الكلام. قال الشيخ:» فهذه اثنتان وعشرون قراءةً، وضبطُها بالتلخيص أنها قُرِئَتْ ثلاثيةَ اللفظِ ورباعيَّتَه: فالثلاثي اسماً: بِيْسٍ،

بِئْسٍ، بَيْسٍ، بَاْسٍ، بَأَسٍ، بِئِسٍ، بَئِسٍ. وفعلاً: بِئْسَ، بِيْسَ، بَئِسَ، بَأَسَ، بَأْسَ، بَيَسَ. والرباعية اسماً: بَيْئَسٍ، بِيْئِسٍ، بَيْئِسٍ، بَيِّسٍ، بَئِيْسٍ. بِئَيْسٍ، بِئْيَسٍ. وفعلاً: بَأَّسَ. قلت: وقد زاد أبو البقاء أربع قراءات أخر: بَيِسٍ بباء مفتوحة وياءٍ مكسورةٍ. قال: «وأصلُها همزة مكسورة فأبدلَتْ ياء، وبَيَس بفتحهما، قال» وأصلها ياءٌ ساكنةٌ وهمزةٌ مفتوحة، إلا أن حركةَ الهمزةِ أُلْقِيَتْ على الياء وحُذِفَتْ، ولم تُقْلَبِ الياءُ ألفاً لأن حركتَها عارضةٌ «. وبَأْيَسٍ بفتح الباءِ وسكونِ الهمزة وفتح الياء، قال:» وهو بعيد إذ ليس في الكلام فَعْيَل «. وقرئ بَيْآس على فَيْعال وهو غريب. فهذه ستٌّ وعشرون قراءة في هذه اللفظة، وقد حرَّرْتُ ألفاظها وتوجيهاتها بحمد الله تعالى.

167

قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ} : تَأَذَّن: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بمعنى آذَنَ أي: أَعْلَمَ. قال الواحديُّ: «وأكثرُ أهل اللغة على أنَّ التأذُّن بمعنى الإِيذان وهو الإِعلامُ. قال الفارسي:» آذن «أَعْلَمَ، وأذَّن: نادى وصاح للإِعلام ومنه قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} [الأعراف: 44] . قال:» وبعض العرب يُجْري آذَنْتُ مجرى تأذَّنْتُ، فيجعل آذن وتأذَّن بمعنى، فإذا كان أذَّن أعلم في لغة بعضهم فأذَّن: تفعَّل مِنْ هذا. وقيل: إن معناه حَتَّم وأوجب «. وقال الزمخشري:» تأذَّن: عَزَم ربك، وهو تَفَعَّل من الإِيذان وهو الإِعلامُ، لأن العازمَ على الأمر

يحدِّث به نفسَه ويُؤْذِنُها بفعله، وأُجْري مُجْرى فعل القسم ك عَلِمَ الله وشهد الله، ولذلك اُجيب بما يُجاب به القسم وهو: «ليبعثَنَّ» . وقال الطبري وغيرُه: «تَأَذَّن معناه أَعْلَمَ» وهو قلقٌ مِنْ جهة التصريف إذ نسبةُ «تأذَّن» إلى الفاعلِ غيرُ نسبة أعلم، وبين ذلك فرقٌ بين التعدي وغيره. قوله: {إلى يَوْمِ القيامة} فيه وجهان أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «يَبْعَثَنَّ» وهذا هو الصحيحُ. والثاني: أنه متعلقٌ ب «تأذَّن» نقله أبو البقاء. ولا جائزٌ أن يتعلق بيُسومهم لأن مَنْ: إمَّا: موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ، والصلةُ والصفة لا يعملان فيما قبل الموصول والموصوف.

168

قوله تعالى: {أُمَماً} : إمَّا حالٌ من مفعول «قطَّعناهم» ، وإمَّا مفعولٌ ثانٍ على ما تقدَّم من أنَّ قَطَّعَ تضمَّن معنى صَيَّر. و «منهم» الصالحون «صفةٌ لأمم. وقال أبو البقاء:» أو بدل منه، أي: من أمم «يعني أنه حالٌ من مفعول» قَطَّعناهم «أي: فَرَّقناهم حال كونهم منهم الصالحون. قوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} .» منهم «خبرٌ مقدم، و» دونَ ذلك «نعتٌ لمنعوتٍ محذوف هو المبتدأ، والتقدير: ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك. قال الزمخشري:» معناه: ومنهم ناسٌ منحطُّون عَنِ الصلاح، ونحوه: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 64] بمعنى: ما منا أحدٌ إلا له مقامٌ معلومٌ «يعني في كونه حُذِف الموصوفُ وأقيم الجملةُ الوصفية مُقامَه، كما قام مَقامَه الظرفُ الوصفي. والتفصيل ب» مِنْ «يجوز فيه حَذْفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مُقامه

كقولهم:» منا ظَعَن ومنَّا أقام «. وقال ابن عطية:» فإن أريدَ بالصَّلاح الإِيمانُ ف «دون» بمعنى «غير» يُراد به الكفرة «. قال الشيخ:» إن أراد أنَّ «دون» ترادِفُ غيراً فليس بصحيحٍ، وإن أرادَ أنه يلزم أنَّ مَنْ كان دون شيء أن يكون غيراً له فصحيح «. و» ذلك «إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح، وإما أَنْ يُشار به إلى الجماعة، فإن أُشير به إلى الصلاح فلا بد من حذف مضاف ليصِحَّ المعنى تقديرُه: ومنهم دونَ أهلِ ذلك الصلاح ليعتدل التقسيم، وإن أُشير به إلى الجماعة أي: ومنهم دونَ أولئك الصالحين فلا حاجة إلى تقدير/ مضاف لاعتدال التقسيم بدونه. وقال أبو البقاء:» ودون ذلك ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] . وفيه نظرٌ من حيث إن «دون» ليس بخبر.

169

قوله تعالى: {وَرِثُواْ} : في محلِّ رفع نعتاً ل «خَلْفٌ» و «يأخذون» حال من فاعل «ورثوا» . والخَلْف والخَلَف بفتح اللام وإسكانها هل هما بمعنىً واحد، أي: يُطلق كل منهما على القَرْن الذي يَخْلُف غيره صالحاً كان أو طالحاً، أو أن الساكن اللام في الطالح والمفتوحها في الصالح؟ خلافٌ مشهور بين اللغويين. قال الفراء: «يُقال للقَرْن: خَلْف يعني ساكناً ولمن استخلفته: خلَفاً يعني متحرك اللام» . وقال الزجاج: يُقال للقَرْن يجيء بعد القرن خَلْف «. وقال ثعلب:» الناس كلهم

يقولون: «خَلَف صدق» للصالح و «خَلْف سوء» للطالح، وأنشد: 2324 - ذهب الذين يُعاشُ في أكنافِهم ... وبَقِيتُ في خَلْف كجِلْدِ الأجرب وقالوا في المثل: «سكت أَلْفاً ونطق خَلْفاً» ، ويُعزى هذا أيضاً إلى الفراء وأنشدوا: 2325 - خَلَّفْتَ خَلْفاً ولم تَدَعْ خَلفَا ... ليت بهم كان لا بك التَّلَفَا وقال بعضهم: «قد يجيء في الرديء خَلَف بالفتح، وفي الجيد خَلْف بالسكون، فمِنْ مجيء الأول قوله: 2326 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إلى ذلك الخَلَفِ الأعور ومِنْ مجيء الثاني قول حسان: 2327 - لنا القَدَمُ الأُوْلى عليهم وخَلْفُنا ... لأولِنا في طاعة الله تابعُ وقد جمع بينهما الشاعر في قوله: 2328 - إنَّا وَجَدْنا خَلْفَنا بِئْسَ الخَلَفْ ... عبداً إذا ما ناء بالحِمْل وَقَفْ فاستعمل الساكنَ والمتحركَ في الرديء، ولهذا قال النضر:» يجوز التحريكُ والسكونُ في الرديء، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط «، ووافقه جماعةُ أهل اللغة إلا الفراءَ وأبا عبيد فإنهما أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح.

والخَلْف بالسكون - فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدر، ولذلك لا يثنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّث وعليه ما تقدَّم من قوله: إنَّا وَجَدْنا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ ... وإمَّا اسم جمع خالِف كرَكْب لراكب وتَجْر لتاجر، قاله ابن الأنباري. وردُّوه عليه بأنه لو كان اسم جمع لم يَجْرِ على المفرد وقد جرى عليه. واشتقاقُه: إمَّا من الخلافة، أي: كلُّ خَلَفٍ يَخْلُفُ مَنْ قبله، وإمَّا مِنْ خَلَفَ النبيذ يخلُف، أي: فسد، يقال: خَلَفَ النبيذُ يَخْلُف خَلْفاً إذا فسد، خَلْفاً وخُلُوفاً، وكذا الفم إذا تغيَّرت رائحتُه. ومن ذلك الحديث:» لَخَلُوف فم الصائم «. وقرأ الحسن البصري:» وُرِّثوا «بضم الواو وتشديد الراء مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه. ويجوز أن يكون» يأخذون «مستأنفاً، أخبر عنهم بذلك. وتقدَّم الكلامُ على لفظ» الأدنى «واشتقاقه. قوله: {وَيَقُولُونَ} نسق على» يأخذون «بوجهيه و» سيُغْفَر «معموله. وفي القائم مَقام فاعلِه وجهان، أحدهما: الجارُّ بعده وهو» لنا «. والثاني: أنه ضمير الأخذ المدلول عليه بقوله: «يأخذون» ، أي: سيفغر لنا أَخْذُ العَرض الأدنى. قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ} هذه الجملةُ الشرطية فيها وجهان، أحدهما: وهو الظاهر أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب، والثاني: أن الواوَ للحال، وما بعدها منصوبٌ عليها. قال الزمخشري: «الواو للحال، أي: يرجون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين، وغفرانُ

الذنوبِ لا يَصِحُّ إلا بالتوبة، والمُصِرُّ لا غفران له» انتهى. وإنما جَعَل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغفران شرطُه التوبة، وهو رأي المعتزلة، وأمَّا أهل السنة فيجوز مع عدم التوبة لأنَّ الفاعلَ مختار. قوله: {عَرَضَ} العرض بفتح الراء ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون العَرَض المقابل للجوهر. وقال أبو عبيدة: «العَرَض بالفتح جميعُ مَتَاع الدنيا غيرَ النَّقْدَيْن» . والعَرْض بالسكون هو الدراهم والدنانير التي هي قيم المُتْلَفات ورؤوسُ الأموال. وعلى الأول قيل: الدنيا عرضٌ حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر. قوله: {أَن لاَّ يِقُولُواْ} فيه [أوجه] / أحدها: أنَّ محله رفع على البدل من «ميثاق» لأن قول الحق هو ميثاق الكتاب. والثاني: أنه عطفُ بيان له، وهو قريب من الأول. والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله. قال الزمخشري: «وإن فُسِّر ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكرُه كان» أن لا يقولوا «مفعولاً من أجله، ومعناه: لئلا يقولوا» وكان قد فَسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة: مَنْ ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يُغفر له إلا بالتوبة. و «أنْ» مفسرةٌ لميثاق الكتاب لأنه بمعنى القول. و «لا» ناهية وما بعدها مجزوم بها، وعلى الأقوال [الأُول] «لا» نافية والفعل منصوبٌ ب «أنْ» المصدرية. و «الحق» يجوز أن يكون مفعولاً به وأن يكونَ مصدراً، وأُضيف الميثاقُ للكتاب لأنه مذكورٌ فيه. قوله: «دَرَسُواْ» فيه ثلاثة أوجه، أظهرها ما قال الزمخشري وهو كونُه

معطوفاً على قوله «ألم يُؤْخَذْ» لأنه تقرير، فكأنه قيل: أُخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا، وهو نظيرُ قوله تعالى {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ} [الشعراء: 18] معناه: قد ربَّيْناك ولَبِثْتَ. والثاني: أنه معطوف على «وَرِثوا» . قال أبو البقاء: «ويكون قولُه» ألم يُؤْخَذْ «معترضاً بينهما، وهذا الوجهُ سبقه إليه الطبري وغيره. الثالث: أنه على إضمار قد، والتقدير: وقد درسوا. قلت: وهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية أي: يقولون: سيُغْفر لنا في هذه الحال، ويجوز أن يكونَ حالاً من فاعل» يأخذوه «، أي: يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشا. وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض. وقرأ الجحدري: «أن لا تقولوا» بتاء الخطاب وهو التفات حسن. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن السلمي «وادَّارسوا» بتشديد الدال والأصل: تدارسوا، وتصريفُه كتصريف {فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] وقد تقدَّم تحريرُه. قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غيرَ مرة. وقرأ ابن عامر ونافع وحفص «تعملون» بالخطاب والباقون بالغيبة، فالخطاب يحتمل وجهين، أحدهما: أنه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمراد

بالضمائر حينئذ شيءٌ واحد. والثاني: أن الخطابَ لهذه الأمة، أي: أفلا تعقلون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعجَّبون من حالهم. وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضمائر. ونقل الشيخ أن قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهلِ مكة، وقراءةَ الخطاب للباقين.

170

قوله تعالى: {والذين يُمَسِّكُونَ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ، وفي خبره حينئذ [أوجه] ، أحدُهما: الجملة من قوله: «إنَّا لا نُضيع أَجْرَ المُصْلحين» وفي الرابط حينئذ أقوال، أحدها: أنه ضميرٌ محذوفٌ لفَهْم المعنى. والتقدير: المُصْلحين منهم، وهذا على قواعد جمهور البصريين وقواعد الكوفيين تقتضي أن أل قائمةٌ مَقام الضمير تقديره: أَجْر مصلحيهم كقوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] ، أي: مَأْواه، وقوله: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} [ص: 50] ، أي أبوابها، وقوله: {في أَدْنَى الأرض} [الروم: 3] ، أي أرضهم، إلى غير ذلك. والثاني: أن الرابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه نحو: زيد قام أبو عبد الله وهو رأيُ الأخفش، وهذا كما يُجيزه في الموصول نحو: أبو سعيدٍ الذي رويتُ عن الخدريّ، والحجَّاج الذي رأيت ابنُ يوسف، وقد قدَّمْت من ذلك شواهد كثيرة. الثالث: أن الرابطَ هو العمومُ في «المُصْلحين» قاله أبو البقاء، قال: «وإن شِئْتَ قلت: لمَّا كان المصلحون جنياً والمبتدأ واحد منه استغنيت

عن ضمير» . قلت: العمومُ رابطٌ من الروابط الخمسة وعليه قولُه: 2329 - ألا ليت شعري هَلْ إلى أمِّ سالمٍ ... سبيلٌ فأمَّا الصبر عنها فلا صبرا ومنه «نِعْم الرجل زيد» على أحدِ الأوجه. والوجه الثاني من وجهَيْ الخبر أنه محذوف تقديره: والذين يمسكون مأجورون أو مُثابون ونحوه، وقوله: «إنَّا لا نضيع» جملةٌ اعتراضية، قاله الحوفي، ولا ضرورة إلى ادِّعاء مثلِه. الثاني من وجهي «والذين يُمْسكون» : أنه في محل جر نسقاً على «للذين يتقون» ، أي: ولَدار الآخرة خيرٌ للمتقين وللمتمسكين، قاله الزمخشري، إلا أنه قال: «ويكون قوله» إنَّا لا نُضيع اعتراضاً «. وفيه نظرٌ لأنه لم يقعْ بين شيئين متلازمَيْن ولا بين/ شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويٌّ فكان ينبغي أن يقولَ: ويكون على هذا مستأنفاً. وقرأ العامَّة:» يُمَسِّكون «بالتشديد مِنْ مَسَّك بمعنى تمسَّك، حكاه أهلُ التصريف، أي: إنَّ فَعَّل بمعنى تَفَعَّل، وعلى هذا فالباء للآلة كهي في: تمسَّكْتُ بالحبل. وقرأ أبو بكر عن عاصم ورُوِيت عن أبي عمرو وأبي العالية:» يُمْسِكون «بسكون الميم وتخفيف السين مِنْ أَمْسَك، وهما لغتان يقال: مَسَكْت وأَمْسكت، وقد جمع كعب بن زهير بينهما في قوله: 2330 - ولا تُمَسِّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمَتْ ... إلا كما يُمْسِكُ الماءَ الغرابيلُ

ولكن أمسك متعدّ. قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السمآء} فعلى هذا مفعولُه محذوفٌ تقديرُه:» يُمْسِكون دينَهم وأعمالهم بالكتاب «، فالباءُ يجوز أن تكونَ للحال وأن تكونَ للآلة، أي: مصاحبين للكتاب، أي لأوامره ونواهيه. وقرأ الأعمش وهي قراءة عبد الله» استمسكوا «. وأُبَيّ» تَمَسَّكوا «ماضيَيْن.

171

قوله تعالى: {فَوْقَهُمْ} : فيه وجهان: أحدهما: هو متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من الجبل، وهي حالٌ مقدرة لأن حالةَ النَّتْق لم تكن فوقَهم، لكنه بالنَّتْق صار فوقهم. والثاني: أنه ظرفٌ لنَتَقْنا. قاله الحوفي وأبو البقاء. قال الشيخ: «ولا يمكن ذلك إلا أن يُضَمَّن معنى فِعْلٍ يمكن أن يعمل في» فوقهم «، أي: رفعنا بالنَّتْقِ الجبلَ فوقهم فيكون كقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور} [النساء: 154] . والنَّتْق: اختلفَتْ فيه عبارات أهل اللغة. فقال أبو عبيدة:» هو قَلْعُ الشيءِ من موضعه والرَّمْيُ به، ومنه «نَتَق ما في الجِراب» إذا نقضه ورمى ما فيه. وامرأة ناتق ومِنْتاق: إذا كانت كثيرةَ الولادة. وفي الحديث: «عليكم بزواج الأبكار فإنهن أَنْتَقُ أَرْحاماً وأطيبُ أفواهاً وأرضى باليسير» وقيل: النتق: الجَذْب بشدة. ومنه «نَتَقْتُ السِّقاء» إذا جَذَبْتَه لتقتلعَ الزُّبْدة من

فمه «. وقال الفراء:» هو الرفع «وقال ابن قتيبة:» الزعزعة «وبه فسَّر مجاهد. وقال النابغة: 2331 - لم يُحْرَموا حُسْنَ الغِذاءِ وأمُّهُمْ ... طَفَحَتْ عليك بناتقٍ مِذْكار وكلُّ هذه مَعانٍ متقاربة. وقد عَرَفْت أن» فوقهم «يجوز أن يكون منصوباً ب» نَتَق «لأنه بمعنى رفع وقلع. قوله:» كأنه ظُلَّة «في محلِّ نصبٍ على الحال من» الجبل «أيضاً فتتعدَّد الحال. وقال مكي:» هي خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو كأنه ظُلَّة «وفيه بُعْدٌ. قوله: {وظنوا} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه في محل جَرٍّ نسقاً على» نَتَقْنا «المخفوض بالظرف تقديراً. والثاني: أنه حال، و» قد «مقدرةٌ عند بعضهم، وصاحب الحال: إمَّا الجبل، أي: كأنه ظُلَّةٌ في حال كونه مظنوناً وقوعُه بهم. ويضعف أن يكون صاحبه» هم «في» فوقهم «. والثالث: أنه مستأنف فلا محل له. والظنُّ هنا على بابه، ويجوز أن يكون بمعنى اليقين، والباء على بابها أيضاً. قيل: ويجوز أن تكون بمعنى» على «. قوله: {واذكروا} العامَّة على التخفيف أمراً مِنْ ذكر يَذْكُر. والأعمش:» واذَّكِروا «بتشديد الذال من الاذّكار والأصل: اذْتَكِرُوا والاذتكار، وتقدم تصريفه. وقرأ ابن مسعود: تذكَّروا مِن تذكَّر بتشديد الكاف. وقرئ: وتَذَّكَّروا

بتشديد الذال والكاف، والأصلُ: وَلْتَتَذَكَّروا، فأدغمت التاء في الذال وحُذِفَتْ لامُ الجر كقوله: 2332 - محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ ... . . . . . . . . . . .

172

قوله تعالى: {مِن ظُهُورِهِمْ} : بدلٌ من قوله «من بني آدم» بإعادة الجارِّ كقوله: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ} [الأعراف: 75] . وهل هو بدلُ اشتمال أو بدل بعض من كل؟ قولان، الأول لأبي البقاء، والثاني للزمخشري، وهو الظاهر كقولك: ضربت زيداً ظهرَه، وقطعتُه يدَه، لا يُعْرِب أحد هذا بدلَ اشتمال. و {ذُرِّيَّتَهُمْ} مفعول به. وقرأ الكوفيون وابن كثير «ذريتهم» بالإِفراد، والباقون «ذُرِّيَّاتهم» بالجمع. قال الشيخ: «ويحتمل في قراءة الجمع أن يكونَ مفعولُ» أخذ «محذوفاً لفهمِ المعنى، و» ذريَّاتهم «بدلٌ من ضميرِ» ظهورهم «، كما أنَّ» من ظهورهم «بدلٌ من» بني آدم «، والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً} [النساء: 154] قال:» وتقديرُ الكلام: وإذ أَخَذَ ربُّك من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر، كأن الميثاق لصعوبته، والارتباطَ به شيءٌ ثقيل يُحمل على الظهر «.

وكذلك قرأ الكوفيون وابن كثير في سورة يس وفي/ الطور في الموضعين:» ذريتهم «بالإِفراد، وافقهم أبو عمرو على ما في يس، ونافع وافقهم في أول الطور وهي» ذريتهم بإيمان «دونَ الثانية وهي» أَلْحَقْنا بهم ذريَّاتِهم «فالكوفيون وابن كثير جَرَوا على منوالٍ واحدٍ وهو الإِفراد، وابن عامر على الجمع، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين كما بَيَّنْتُ لك. قال الشيخ في قراءة الإِفراد في هذه السورة:» ويتعيَّن أن يكونَ مفعولاً ب «أخذ» وهو على حَذْف مضاف، أي: ميثاق ذريتهم «يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في» ذرياتهم «من أنه بدل والمفعول محذوف، وذلك واضحٌ لأنَّ مَنْ قرأ» ذريتهم «بالإِفراد لم يَقْرأه إلا منصوباً، ولو كان بدلاً مِنْ» هم «في» ظهورهم «لكان مجروراً بخلافِ» ذرياتهم «بالجمع، فإن الكسرةَ تَصْلُح أن تكون عَلَماً للجر وللنصب في جمع المؤنث السالم. قوله: {بلى} جوابٌ لقوله» أَلَسْتُ «قال ابن عباس:» لو قالوا: نعم لكفروا «يريد أن النفيَ إذا أُجيب ب نعم كانت تصديقاً له، فكأنهم أقرُّوا بأنه ليس بربِّهم. هكذا ينقلونه عن ابن عباس رضي الله عنه، وفيه نظرٌ إنْ صَحَّ عنه، وذلك أن هذا النفيَ صار مقرَّراً، فكيف يكفرون بتصديق التقرير؟ وإنما المانع من جهة اللغة: وهو أن النفيَ مطلقاً إذا قُصِد إيجابه أُجيب ب بلى، وإن كان مقرَّراً بسبب دخول الاستفهام عليه، وإنما كان ذلك تغليباً لجانب اللفظ، ولا يجوز مراعاةُ جانب ِالمعنى إلا في شعر كقوله:

2333 - أليس الليلُ يجمعُ أمَّ عمروٍ ... وإيانا فذاك بنا تَدانى نعم وترى الهلالَ كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني فأجاب قوله «أليس» ب نعم مراعاةً للمعنى لأنه إيجاب. قوله: {شَهِدْنَآ} هذا من كلام الله تعالى. وقيل: من كلام الملائكة. وقيل: من كلام الله تعالى والملائكة. وقيل: من كلام الذرية. قال الواحدي: «وعلى هذا لا يَحْسُن الوقفُ على قوله» بلى «ولا يتعلَّقُ» أَنْ تقولوا «ب» شَهِدْنا «ولكن بقوله» وأَشْهَدَهُمْ «. قوله: {أَن تَقُولُواْ} مفعولٌ مِنْ أجله، والعامل فيه: إمَّا شهدْنا، أي: شهِدْنا كراهةَ أن تقولوا، هذا تأويل البصريين، وأمَّا الكوفيون فقاعدتهم تقدير لا النافية، تقديره: لئلا تَقولوا، كقولِه {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] ، وقول الآخر: 2334 - رَأَيْنا ما رأى البُصَراء فيها ... فآلَيْنا عليها أَنْ تُباعا أي: أن لا تُباع، وأمَّا» وأشهدهم «، أي: أشهدهم لئلا تقولوا أو كراهةَ أَنْ تقولوا. وقد تقدَّم أن الواحديَّ قد قال:» إنَّ شَهِدْنا إذا كان من قولِ الذرية يتعيَّن أن يتعلَّقَ «أن تقولوا» ب «أَشْهَدَهم» كأنه رأى أن التركيب يصير: شَهِدْنا أن تقولوا سواءً قرئ بالغيبة أو الخطاب، والشاهدون هم القائلون في المعنى، فكان ينبغي أن يكون التركيب: شهدنا أن نقول نحن. وهذا غيرُ لازم لأن المعنى: شهد بعضهم على بعض، فبعضُ الذرية قال: شهدنا أن يقول البعض الآخر كذلك. وذكر الجرجانيُّ لبعضهم وجهاً آخر وهو أن يكون قوله «وإذْ أخَذَ ربك» إلى قوله: «قالوا بلى» تمامَ قصة الميثاق، ثم

ابتدأ عز وجل خبراً آخر بِذِكْرِ ما يقوله المشركون يوم القيامة فقال تعالى: {شَهِدْنا} بمعنى نشهد كما قال الحطيئة: 2335 - شَهِدَ الحطيئةُ حين يلقى ربَّه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: يشهد، فيكون تأويله «يَشْهد أن تقولوا» . وقرأ أبو عمرو «يقولوا» في الموضعين بالغَيْبة جرياً على الأسماء المتقدمة، والباقون بالخطاب، وهذا واضحٌ على قولنا إنَّ «شَهِدْنا» مُسْندٌ لضمير الله تعالى. وقيل: على قراءة الغيبة يتعلَّق «أَنْ يقولوا» بأشهدهم، ويكون «قالوا شهدنا» معترضاً بين الفعلِ وعلَّته، والخطابُ على الالتفات فيكون الضميران لشيء واحد. وهل هذا من باب الحقيقة وأن الله أخرج الذرية من ظهره بأَنْ مَسَح عليه فخرجوا كالذَّرِّ وأَنْطَقهم فشهدوا الكلُّ بأنه ربهم، فالمؤمنون قالوه حقيقةً في الأَزَل والمشركون قالوه تقيَّةً، وعلى هذا جماعةٌ كثيرة، أو من باب التمثيل، قاله جماعة منهم الزمخشري، وجعله كقوله تعالى: {ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] ، وقولِ الشاعر: 2336 - إذ قالت الأَنْساع للبطن الحَقِي ...

وقول الآخر: 2337 - قالت له ريحُ الصَّبا قَرْقارِ ... إلى غير ذلك.

174

قوله تعالى: {وكذلك نُفَصِّلُ} : أي: ومثلَ ما بَيَّنَّا أَخْذَ الميثاق المتقدم وفصَّلناه نبيِّن ونفصِّل الآيات. وقرأت فرقة «يُفَصّل» بياء الغيبة وهو الله تعالى.

175

قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ} : الجمهورُ على «أَتْبعه» رباعياً وفيه وجهان أحدهما: أنه متعدٍّ لواحدٍ بمعنى أَدْركه ولحقه وهو مبالغةٌ في حقه، / حيث جُعِل إماماً للشيطان. ويحتمل أن يكون متعدِّياً لاثنين لأنه منقولٌ بالهمزة مِنْ تَبع، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديره: أتبعه الشيطان خطواتِهِ، أي: جعله تابعاً لها. ومِنْ تعدِّيه لاثنين قولُه تعالى: {وأَتْبعناهم ذرياتهم بإيمان} [الطور: 21] . وقرأ الحسن وطلحة بخلافٍ عنه «فاتَّبعه» بتشديد التاء. وهل تبعه واتَّبعه بمعنى أو بينهما فرق؟ قيل بكلٍ منهما/ وأبدى بعضهم الفرق بأنَّ تَبِعه مشى في أثره، واتَّبعه إذا وازاه في المشي. وقيل: اتَّبعه بمعنى استتبعه. والانسلاخ: التعرِّي من الشيء، ومنه: انسلاخ جلد الحية. وليس في

الآية قَلْبٌ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه وإن زعمه بعضهم، وأن أصلَه: فانسلختْ منه.

176

قوله تعالى: {لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} : الضميرُ المنصوبُ الظاهرُ عودُه على الذي أوتي الآيات، والمجرورُ عائد على الآيات. وقيل: المنصوبُ يعودُ على الكفر المفهوم مِمَّا سبق، والمجرور على الآيات أيضاً، أي: لَرَفَعْنا الكفر بما ترى من الآيات. وقيل: الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على «الذي» . والمراد بالرَّفْع الأخذُ كما تقول: رُفِع الظالمُ، أي قُلِعَ وأُهْلِكَ، أي: لأهلكناه بسبب المعصية. وهذه أقوال بعيدة، وإن كانت مرويةً عن مجاهد وغيره. ولا يظهر الاستدراك إلا على الوجه الأول. ومعنى أخلد، أي: ترامى بنفسه. قال أهل العربية: «وأصله من الإِخلاد وهو الدوامُ واللزوم، فالمعنى: لَزِم المَيْلَ إلى الأرض، قال مالك بن نويرة: 2338 - بأبناء حَيٍّ مِنْ قبائل مالك ... وعمرو بن يربوعٍ أقاموا فأخلدوا قوله: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} هذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال، أي: لاهثاً في الحالتين. قال بعضهم:» وأما الجملة الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضعَ الحال فلا يقال: «جاء زيد إنْ يَسْأَل يُعط» على الحال، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة خبراً عن ضمير ما أريد جَعْلُ الحال منه فيقال: جاء زيد وهو إن يسأل يُعط، فتكون الجملة الاسمية في الحال. نعم قد أوقعوا الجملة الشرطية موقعَ الحال، ولكن بعد أن أخرجوها عن حقيقة الشرط، وتلك الجملة لا تخلو: مِنْ أن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يُعطف، فالأول يستمرُّ فيه تَرْكُ الواو نحو: أتيتك إن أتيتني وإن

لم تأتني، إذ لا يَخْفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يَبْقَيان على معنى الشرط، بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] ، والثاني لا بد فيه من الواو نحو: أتيتك وإن لم تأتني، لأنه لو تركْتَ الواوَ فقيل: أتيتُك إن لم تأتِني لالتبس. إذا عُرِف هذا فقوله {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} من قبيل النوع الأول لأنَّ الحَمْل عليه والترك نقيضان «. والكلب: يجمع في القلة على أكْلُب، وفي الكثرة على كِلاب، وشذُّوا فجمعوا أكلباً على أكالب، وكِلاباً على كِلابات، وأمَّا كَلِيب فاسم جمع كفريق لا جمع قال طرفة: 2339 - تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها ... رجالٌ فبذَّت نبلَهم وكليبُ وتقدَّمت هذه المادة في المائدة. ويقال: لَهَثَ يَلْهَث بفتح العين في الماضي والمضارع لَهَثَاً ولُهْثاً بفتح اللام وضمها وهو خروجُ لسانه في حال راحته وإعيائه، وأمَّا غيره من الحيوان فلا يَلْهَثُ إلا إذا أعيا أو عطش. والذي يَظْهر أن هذه الجملةَ الشرطيَة لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مفسِّرة للمثَل المذكور، وهذا معنى واضح كما قالوا في قوله تعالى {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} فإنَّ الجملةَ من قوله» خَلَقَه من تراب «مفسرةٌ لقولِه تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] .

قوله: {ذَّلِكَ مَثَلُ} يجوز أن يُشارَ ب» ذلك «إلى صفةِ الكلب، ويجوز أن يُشارَ به إلى المنسلخِ من الآيات أو إلى الكلب. وأداةُ التشبيهِ محذوفةٌ من ذلك، أي: صفة المنسلخ أو صفة الكلب مثل الذين كذَّبوا. ويجوز أن تكون المحذوفةُ من مثَل القوم، أي: ذلك الوصف وهو وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل القوم.

177

قوله تعالى: {سَآءَ مَثَلاً} : «ساء» بمعنى بئس، وفاعلها مضمر فيها و «مثلاً» تمييزٌ مفسِّر له، وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعه وتأنيثه عند البصريين. وتقدَّم أن «ساءَ» أصلُها التعدِّي لمفعولٍ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز/، والتمييز مفسِّر للفاعلِ فهو هو، فلزم أن يَصْدُقَ الفاعلُ والتمييز والمخصوصُ على شيءٍ واحد. إذا عُرِف هذا فقوله «القوم» غيرُ صادقٍ على التمييز والفاعل، فلا جَرَمَ أنه لا بد من تقدير محذوف: إمَّا من التمييز، وإمَّا من المخصوص، فالأولُ يقدَّر: ساء أصحاب مَثَل، أو أهل مثل القوم، والثاني يُقَدَّر: ساء مَثَلاً مثلُ القوم، ثم حُذِف المضاف في التقديرين وأقيم المضاف إليه مُقامه، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للتي قبلها. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بن عمر: «ساء مثلُ القوم» برفع «مثل» مضافاً للقوم. والجحدري رُوِي عنه كذلك، وروي عنه كسرُ الميم وسكونُ الثاء ورفعُ اللام وجَرُّ القوم. وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون «ساء» للتعجب مبنية تقديراً على فَعُل بضم العين كقولهم: «لقَضُو الرجل» ، و «مثل القوم» فاعل بها، والتقدير: ما أسوأ مثلَ

القوم، والموصولُ على هذا في محلِّ جرٍ نعتاً لقوم. والثاني: أنها بمعنى بئس، ومَثَلُ القوم فاعل، والموصولُ على هذا في محل رفعٍ لأنه المخصوصُ بالذمِّ، وعلى هذا فلا بد مِنْ حَذْف مضاف ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحد. والتقدير: ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين. وقَدَّر الشيخ تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظرٌ، إذ لا يحتاج إلى تمييز إذا كان الفاعلُ ظاهراً حتى جَعَلوا الجمع بينهما ضرورةً كقوله: 2340 - تَزوَّدْ مثلَ زادِ أبيك فينا ... فنعمَ الزَّادُ زادُ أبيك زادا وفي المسألة ثلاثةُ مذاهب: الجوازُ مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتفصيل: فإن كان مغايراً للفظِ ومفيداً فائدةً جديدة جاز نحو: نعم الرجل شجاعاً زيد، وعليه قوله: 2341 - تخيَّرَهُ فلم يَعْدِلْ سواه ... فنِعْمَ المرءُ مِنْ رجلٍ تَهامي قوله: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} مفعول ل «يظلمون» ، وفيه دليلٌ على تقديم خبر كان عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديم العامل غالباً. وقلت «غالباً» لأن ثَمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] فاليتيم مفعول ب «تقهر» ولا يجوز تقديم «تقهر» على جازِمِه، وهو محتملٌ للبحث. وهذه الجملة الكونيةُ تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكونَ نسقاً على الصلة وهي «كَذَّبوا بآياتنا» . والثاني: أن تكون مستأنفة، وعلى كلا القولين

فلا محلَّ لها، وقُدِّمَ المفعولُ ليفيدَ الاختصاص، وهذا على طريق الزمخشري وأنظاره.

178

قوله تعالى: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي} : راعَى لفظ مَنْ فأفرد، وراعى معناها في قوله «أولئك هم الخاسرون» فجمع. وياء «المهتدي» ثابتةٌ عند جميع القراء لثبوتها في الرسم، وسيأتي لك خلافٌ في التي في الإِسراء وبحثها. وقال الواحدي: «فهو المهتدي: يجوز إثباتُ الياءِ على الأصل، ويجوزُ حَذْفُها استخفافاً كما قيل في بيت الكتاب: 2342 - فَطِرْتُ بمُنْصُلي في يَعْمَلات ... دوامي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّريحا ومنه: 2343 - كنَواحِ ريشِ حَمامةٍ نَجْديةِ ... ومَسَحْتَ باللِّثتين عَصْفَ الإِثْمِدِ قال ابن جني:» شَبَّه المضاف إليه بالتنوين فحذف له الياء «.

179

قوله تعالى: {لِجَهَنَّمَ} : يجوز في هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها لامُ الصيرورة والعاقبة، وإنما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لامَ العاقبة لقوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فهذه علةٌ معتبرةٌ محصورة، فكيف تكون هذه العلةُ أيضاً؟ وأوردوا من ذلك قول الشاعر:

2344 - لِدُوا للموت وابْنُوا للخراب ... . . . . . . . . . . . . . . وقول الآخر: 2345 - ألا كلُّ مولودٍ فللموتِ يُوْلَدُ ... ولستُ أرى حَيّاً لحيٍّ يُخَلَّدُ وقول الآخر: 2346 - فللموتِ تَغْذُو الوالداتُ سِخالَها ... كما لخرابِ الدور تُبْنَى المساكنُ والثاني: أنها للعلةِ وذلك أنهم لمَّا كان مآلُهم إليها جعل ذلك سبباً على طريق المجاز. وقد ردَّ ابن عطية على مَنْ جعلها لامَ العاقبة فقال: «وليس هذا بصحيح، ولامُ العاقبة إنما تُتَصَوَّر إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصد مصيرُ الأمر إليه، وأما هنا فالفعل قُصِد به ما يصير الأمر [إليه] مِنْ سُكْناهم لجهنم» ، واللام على هذا متعلقة ب «ذَرَأْنا» . ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من «كثيراً» لأنه في الأصل صفة لها لو تأخر. ولا حاجة إلى ادعاء قلب وأن الأصل: ذَرَأْنا جهنم لكثير لأنه ضرورةٌ أو قليلٌ. و {مِّنَ الجن} صفة ل «كثيراً» . «لهم قلوب» جملة في محل نصب: إمَّا صفة لكثير أيضاً، وإمَّا حالاً من «كثيراً» وإن كان نكرة لتخصُّصِه بالوصف، أو من الضمير المستكن في «من الجن» لأنه يَحْمل/ ضميراً لوقوعِه صفةً. ويجوز أن يكون «لهم» على حِدَته هو الوصف أو الحال، و «قلوب» فاعل به فيكون من باب الوصفِ بالمفرد وهو أولى. وقوله: {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} وكذلك

الجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ النعت لما قبلها، وهذا الوصفُ يكاد يكونُ لازماً لو ورد في غير القرآن لأنه لا فائدةَ بدونه لو قلت: «لزيد قَلْبٌ وله عينٌ» وسَكَتَّ لم يظهر لذلك كبيرُ فائدةٍ.

180

قوله تعالى: {الحسنى} : فيها قولان، أظهرهما: أنها تأنيث «أحسن» ، والجمع المكسَّرُ لغير العاقل يجوز أن يُوْصَفَ بما يوصف به المؤنث نحو: مآرب أخرى، ولو طُوبق به لكان التركيب الحَسَن كقوله: {مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . والثاني: أن الحسنى مصدر على فُعْلَى كالرُّجْعَى والبُقْيَا قال: 2347 - ولا يَجْزون مِنْ حُسْنى بسوءٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . و «الأسماء» هنا: الألفاظُ الدالَّةُ على الباري تعالى كالله والرحمن. وقال ابن عطية: «المرادُ بها التسمياتُ إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره، وفيه نظرٌ لأنَّ التسمية مصدرٌ، والمصدر لا يُدْعى به على كلا القولين في تفسير الدعاء، وذلك أن معنى» فادعوه «نادوه بها، كقولهم: يا الله يا رحمان يا ذا الجلال والإِكرام اغفرْ لنا. وقيل: سمُّوه بها كقولك:» سَمَّيْت ابني بزيد «. قوله: {يُلْحِدُونَ} قرأ حمزة هنا وفي النحل وحم السجدة: يَلْحدون بفتح الياء والحاء مِنْ لحد ثلاثياً. والباقون بضم الياء وكسرِ الحاء مِنْ أَلْحد. فقيل: هما بمعنى واحد، وهو المَيْل والانحراف. ومنه لَحْد القبر لأنه يُمال، بحفره إلى جانبه، بخلاف الضريح فإنه يُحْفر في وسطه، ومن كلامهم»

ما فعل الواجد؟ قالوا لَحَدَه اللاحد «. وإلى كونهما بمعنى واحد ذهب ابن السِّكِّيت وقال:» هما العدول عن الحق «. وأَلْحد أكثر استعمالاً مِنْ لَحَدَ قال: 2348 - ليس الإِمام بالشحيح المُلْحِدِ ... وقال غيره:» لَحَدَ بمعنى رَكَنَ وانضوى، وألحد: مال وانحرف «قاله الكسائي. ونُقل عنه أيضاً: أَلْحَدَ: أعرض، ولحد: مال. قالوا: ولهذا وافق حمزة في النحل إذ معناه: يميلون إليه. وروى أبو عبيدة عن الأصمعي:» ألحد: مارى وجادل، ولحد: حاد ومال. ورُجِّحت قراءةُ العامة بالإِجماع على قوله «بإلحاد» . وقال الواحدي: «ولا يكاد يُسْمع من العرب لاحد» . قلت: فامتناعُهم من مجيء اسم فاعل الثلاثي يدل على قلَّته وقد قَدَّمْتُ من كلامهم «لحده اللاحِد» . ومعنى الإِلحاد فيها أن اشتقوا منها أسماءً لآلهتهم فيقولون: اللات من لفظ الله، والعزَّى من لفظ العزيز، ومناة مِنْ لفظ المَنَّان، ويجوز أن يُراد سَمَّوه بما لا يليق بجلاله.

181

قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ} : «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة، و «يَهْدون» صفة ل «أمة» . وقال بعضهم: «في

الكلام حَذْفٌ تقديره: ومِمَّن خلقنا للجنة، يدل على ذلك ما ثبت لمُقابِلهِمْ، وهو قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [العراف: 179] .

182

قوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ} : يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ وخبره الجملة الاستقبالية بعده. والوجه الثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعلٍ مقدَّرٍ تقديرُه: سنستدرج الذين كذَّبوا والاستدراج: التقريبُ منزلةً منزلةً والأخذ قليلاً قليلاً، من الدَّرَج لأن الصاعد يرقى درجةً درجة وكذلك النازل. وقيل: هو مأخوذ من الدَّرْج وهو الطيّ ومنه: «دَرَجَ الثوبَ» : طواه، و «دَرَجَ الميتَ» مثله. والمعنى: تُطوى آجالهم. وقرأ النخعي وابن وثاب: «سَيَسْتَدْرِجُهم» بالياء، فيحتمل أن يكون الفاعلُ الباريَ تعالى، وهو التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة، وأن يكون الفاعلُ ضميرَ التكذيب المفهوم مِنْ قوله «كذَّبوا» . وقال الأعشى في الاستدراج: 2349 - فلو كنتَ في جُبٍّ ثمانين قامةً ... ورُقِّيْتَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ لَيَسْتَدْرِجَنْكَ القولُ حتى تَهِرَّهُ ... وتَعْلَمَ أنِّي عنكمُ غيرُ مُلْجَمِ ويقال: «دَرَجَ الصبيُّ» : إذا قارب بين خطاه، ودرج القوم: مات بعضهم إثرَ بعض.

183

قوله تعالى: {وَأُمْلِي} : جَوَّز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: وأنا أُملي، وأن يكون َمستأنفاً، وأن يكونَ معطوفاً على «

سنستدرج» . وفيه نظر إذ كان من الفصاحة لو كان كذا [لكان] «ونُمْلي» بنون العظمة. ويجوز أن يكون هذا قريباً من الالتفات. والإِملاء: الإِمهالُ والتطويل. والمتين: القوي. ومنه المَتْنُ وهو الوسط لأنه أقوى ما في الحيوان. وقد مَتُنَ يَمْتُنُ مَتانةً، أي: قَوِيَ. وقرأ العامَّة: «إنَّ كيدي» بالكسر على الاستئناف المُشْعر بالغلبة. وقرأ ابن عامر في روايةِ عبد الحميد «أنَّ كيدي» بفتحِ الهمزة على العلة.

184

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ} : يجوز في «ما» أوجه، أحدُها: أن تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر «بصاحبهم» أي: أيُّ شيء استقر بصاحبهم من الجنون؟ فالجِنَّة مصدرٌ يُراد بها الهيئة كالرِّكبة والجِّلسة. وقيل: المراد بالجِنَّة الجنُّ كقوله: {مِنَ الجنة والناس} ولا بد حينئذ مِنْ حذف مضاف أي: مَسِّ جنة أو تخبيط جنة. والثاني: أن «ما» نافية، أي: ليس بصاحبهم جنون ولا مسُّ جِنّ. وفي هاتين الجملتين: أعني الاستفهاميةَ أو المنفية فيهما وجهان، أظهرهما: أنها في محل نصب بعد إسقاطِ الخافض لأنهما عَلَّقا التفكُّر لأنه من أفعال القلوب. والثاني: أن الكلامَ تمَّ عند قوله: «أو لم يتفكروا» ثم ابتدأ كلاماً آخر: إمَّا استفهامَ إنكار وإمَّا نفياً. وقال الحوفي: «إنَّ» ما بصاحبهم «معلقةٌ لفعلٍ محذوف دلَّ عليه الكلامُ، والتقدير: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم» . قال: «وتفكَّر» لا يُعَلَّقُ لأنه لم يدخل على جملة «. وهذا ضعيفٌ، لأنهم نَصُّوا

على أن فعلَ القلب المتعدِّي بحرفِ جر أو إلى واحد إذا عُلِّق هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنين؟ الثالث: أن تكون» ما «موصولة بمعنى الذي تقديره: أو لم يتفكروا في الذي بصاحبهم، وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم. وعلى قولنا إنها نافية يكون» من جنة «مبتدأ و» مِنْ «مزيدةٌ فيه و» بصاحبهم «خبره أي: ما جِنَّةٌ بصاحبهم.

185

قوله تعالى: {وَأَنْ عسى} : «أنْ» فيها وجهان أحدهما: وهو الصحيح أنها المخففةُ من الثقيلة، واسمُها ضمير الأمر والشأن. و «عسى» وما في حيِّزها في محل الرفع خبراً لها، ولم يُفْصل هنا بين أنْ والخبر وإن كان فعلاً؛ لأن الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبه الأسماء، ومثله {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] {والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ} [النور: 9] في قراءة نافع لأنه دعاء. وقد وقع خبرُ «أَنْ» جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين فإنَّ «عسى» للإِنشاء، و «غضب الله» دعاء. والثاني: أنها المصدرية، قاله أبو البقاء يعني التي تنصب المضارع الثنائية الوضع، وهذا ليس بجيد؛ لأن النحاةَ نَصُّوا على أنَّ «أَنْ» المصدرية لا تُوصل إلا بالفعل المتصرِف مطلقاً أي ماضٍ ومضارع وأمر و «عسى» لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ و «أنْ» على كلا الوجهين في محل جرٍّ نَسَقاً على «ملكوت» ، أي: وألم ينظروا في أن الأمر والشأن عسى أن يكون. و «أن يكون» فاعل عسى، وهي حينئذٍ تامَّةٌ لأنها متى رفعت أَنْ وما في حيزها كانت تامةً، ومثلها في ذلك أوشك واخلولق. وفي اسم «

يكون» قولان، أحدُهما: هو ضمير الشأن، ويكون «قد اقترب أجلهم» خبراً لها. والثاني: أنه «أجلُهم» و «قد اقترب» جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير «أجلهم» ولكن قَدَّم الخبر وهو جملة فعلية على اسمها، وقد تقدَّم ذلك والخلاف فيه: وهو أن ابن مالك يجيزه، وابن عصفور يمنعه، عند قوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137] . قوله: {فَبِأَيِّ} متعلِّقٌ ب «يُؤْمنون» وهي جملةٌ استفهامية سِيقَتْ للتعجب، أي: إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يُؤْمنون بغيره؟ والهاء في «بعده» تحتمل العَوْدَ على القرآن وأن تعودَ على الرسول، ويكون الكلامُ على حَذْف مضافٍ، أي: بعد خبره وقصته، وأن تعود على «أجلهم» ، أي: إنهم إذا ماتوا وانقضى أجلُهم فكيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم؟ قال الزمخشري: «فإن قلت: بم تُعَلِّق قوله:» فبأي حديث بعده يؤمنون «؟ قلت: بقوله» عسى أن يكونَ قد اقترب أجلهم «. كأنه قيل: لعل أجلَهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون [إلى] الإِيمان بالقرآن قبل الموت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق، وبأي حديثٍ أحقَّ منه يريدون أن يؤمنوا» ؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح. قوله: «ويَذَرهم» قرأ الأخَوان بالياء وجزم الفعل، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً ورفع الفعل، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنون ورفع الفعل أيضاً. وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع وأبي عمرو في الشواذ. فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ

وهو الاستئناف أي: وهو يَذَرُهم، أو: ونحن نذرهم على حسب القراءتين. / وأمَّا السُّكون فيحتمل وجهين أحدهما: أنه جزم نسَقاً على محلِّ قوله «فلا هادي له» لأن الجملَة المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزمٍ فَعَطَف على مَحَلِّها وهو كقوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ} [البقرة: 271] بجزم «يكفر» ، وكقول الشاعر: 2350 - أنَّى سلكتَ فإنني لك كاشحٌ ... وعلى انتقاصِك في الحياة وأزْدَدِ وأنشد الواحدي أيضاً قول الآخر: 2351 - فَأَبْلوني بَلِيَّتَكمْ لعلِّي ... أُصالِحُكم وأسْتدرِجْ نَوَيَّا قال: «حمل» أستدرج «على موضع الفاء المحذوفة من قوله» فلعلي أصالحكم «. والثاني: أنه سكونُ تخفيف كقراءة أبي عمرو: {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] و {يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] ونحوه. وأما الغيبة فَجَرْياً على اسم الله تعالى، والتكلم على الالتفات من الغيبة إلى التكلم تعظيماً.

187

قوله تعالى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} : فيه وجهان أحدهما: أن «أيان» خبر مقدم، و «مُرْساها» مبتدأ مؤخر. والثاني: أن «أيان» منصوب

على الظرف بفعل مضمر، ذلك الفعل رافع ل «مرساها» بالفاعلية، وهو مذهب أبي العباس. وهذه الجملةُ في محل نصب لأنها بدل من «الساعة» بدلُ اشتمال، وحينئذ كان ينبغي ألاَّ تكون في محل جر لأنها بدل من مجرور. وقد صرَّح بذلك أبو البقاء فقال: «والجملةُ في موضع جر بدلاً من» الساعة «تقديره: يسألونك عن زمان حلول الساعة» ، إلا أنه مَنَع مِنْ كونها مجرورةَ المحل أن البدل في نيَّة تكرار العامل، والعامل هو «يَسْألونك» والسؤال يعلق بالاستفهام وهو متعدٍّ، يعني فتكون الجملة الاستفهاميةُ في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض كأنه قيل: يسألونك أيان مُرْسى الساعة، فهو في الحقيقة بدلٌ من موضع «عن الساعة» لأن موضع المجرور نصب، ونظيره في البدل على أحسن الوجوه فيه: عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو. و «أيان» ظرف زمان مبني لتضمُّنه معنى الاستفهام ولا يتصرف، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي، بخلاف «متى» فإنها يليها النوعان. وأكثرُ ما تكون «أيَّان» استفهاماً كقول الشاعر: 2352 - أيَّان تَقْضي حاجتي أيَّانا ... أما تَرى لفِعْلها إبَّانا وقد تأتي شرطيةً جازمة لفعلين. قال الشاعر: 2353 - أيَّان نُؤْمِنْكَ تُؤْمَنْ غيرَنا وإذا ... لم تُدْرِكِ الأمنَ منَّا لم تزلْ حَذِرا وقال آخر: 2354 - إذا النَّعْجَةُ العَجْفاءُ باتت بقَفْرةٍ ... فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الريحُ تَنْزِلِ

والفصيحُ فتحُ همزتها وهي قراءةُ العامة. وقرأ السُّلمي بكسرها وهي لغة سُلَيْم. واختلف النحويون في «أيَّان» : هل هي بسيطةٌ أم مركبة؟ فذهب بعضُهم إلى أن أصلَها: أيّ أوانٍ فحُذِفَت الهمزةُ على غيرِ قياس ولم يُعَوَّضْ منها شيء، وقُلبت الواوُ ياء على غير قياس، فاجتمع ثلاثُ ياءات فاسْتُثْقِل ذلك فَحُذِفت إحداهن، وبُنيت الكلمةُ على الفتح فصارت أيان. واختلفوا فيها أيضاً: هل هي مشتقةٌ أم لا؟ فذهب أبو الفتح إلى أنها مشتقة مِنْ أَوَيْتُ إليه، لأن البعض آوٍ إلى الكل، والمعنى: أيّ وقت وأي فعلٍ، ووزنه فَعْلان أو فِعْلان بحسب اللغتين، ومنع أن يكون وزنه فَعَّالاً مشتقةً مِنْ «أين» ، لأنَّ أين ظرف مكان وأيان ظرف زمان. ومُرْساها يجوز أن يكون اسمَ مصدر وأن يكون اسم زمان، قال الزمخشري: «مُرْساها» إرساؤُها أو وقت إرسائها، أي: إثباتها وإقرارها «. قال الشيخ» وتقديره: وقت إرسائها ليس بجيدٍ، لأن «أيَّان» استفهام عن الزمان فلا يَصِحُّ أن يكونَ خبراً عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير: في أي وقتٍ وقتُ إرسائها «وهو كلام حسن، ويقال: رسا يرسو: ثَبَتَ، ولا يقال إلا في الشيء الثقيل نحو: رَسَت السفينةُ تَرْسُو، وأَرْسَيْتها. قوله: {عِلْمُهَا} مصدرٌ مضاف للمفعول والظرف خبره. وقوله: «في السماوات» يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون «في» بمعنى على، أي: على أهل السماوات أو هي ثقيلة على نفس السماوات والأرض لانشقاق هذه وزلزال ذي. والثاني: أنها على بابها من الظرفية، والمعنى: حَصَل ثِقَلُها وهو شِدَّتها أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين.

قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} هذه الجملة التشبيهية في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ مفعولِ «يسألونك» . وفي «عنها» وجهان، أحدهما: أنها متعلقةٌ بيسألونك وكأنك حَفِيٌّ معترض، وصلتها محذوفة تقديره: حَفِيٌّ بها. وقال أبو البقاء: «في الكلام تقديمٌ وتأخير، ولا حاجةَ إلى ذلك لأن هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل فإنَّ قولَه: /» كأنك حفيٌّ «حال كما تقدم. والثاني أنَّ» عن «بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى عن كقوله: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} [الفرقان: 25] لأن حَفِي لا يتعدَّى ب» عن «بل بالباءِ كقوله: {كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47] ويُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى ب» عن «، أي: كأنك كاشف بحفاوتك عنها. والحَفِيُّ: المستقصي عن الشيء، المهتبل به، المعتني بأمره قال: 2355 - سؤال حفيٍّ عن أخيه كأنه ... بذُكْرَتِهِ وَسْنانُ أو مُتَواسِنُ وقال آخر: 2356 - فلمَّا التقينا بَيَّن السيفُ بيننا ... لسائلةٍ عنا حَفِيٍّ سؤالُها

وقال الأعشى: 2357 - فإنْ تَسْأَلي عني فيا رُبُّ سائلٍ ... حَفِيٍّ عن الأعشى به حيث أَصْعَدا والإِحْفاءُ: الاستقصاء ومنه» إحفاء الشوارب «والحافي، لأنه حَفِيَتْ قدمُه في استقصاء السَّير. والحفاوة: البرُّ واللطف. وقرأ عبد الله» حَفِيٌّ بها «وهي تَدُلُّ لمن ادَّعى أن» عَنْ «بمعنى الباء. وحَفِيٌّ فعيل بمعنى مفعول أي: محفوٌّ. وقيل: بمعنى فاعل أي: كأنك مبالِغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى عِلْمِ مجيئها.

188

قوله تعالى: {لِنَفْسِي} : فيه وجهان، أحدهما: أنها متعلقة بأملك. والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوف على أنها حال من «نفعاً» لأنه في الأصل صفةٌ له لو تأخر. ويجوز أن يكون «لنفسي» معمولاً ب «نفعاً» ، واللامُ زائدةٌ في المفعول به تقويةً للعامل لأنه فرع، إذ التقدير: لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضرَّها. وهو وجهٌ حسن. قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} في هذا الاستثناء وجهان، أظهرهما: أنه متصل، أي: إلا ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه. والثاني وبه قال ابن عطية، وسبقه إليه مكيّ: أنه منقطعٌ، ولا حاجةَ تدعو إليه أنه منقطع. قوله: {وَمَا مَسَّنِيَ السواء} عطف على جواب «لو» وجاء هنا على أحسنِ الاستعمال من حيث أثبت اللام في جواب «لو» المثبت وإن كان يجوزُ

غيرُه، وقد تقدَّم، وحَذَف اللامَ من المنفيّ لأنه يمتنع ذلك فيه. وقال الشيخ: «ولم تصحب» ما «النافيةَ أي اللام، وإن كان الفصيحُ أن لا تصحبَها كقوله: {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} [فاطر: 14] . وفيه نظرٌ لأنهم نصُّوا على أن جوابَها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللام عليه. قوله: {لِّقَوْمٍ} هذه من باب التنازع فيُختار عند البصريين تعلُّقُه ب» بشير «لأنه الثاني، وعند الكوفيين بالأول لسبقه، ويجوز أن يكونَ المتعلَّق بالنذارة محذوفاً، أي: نذير للكافرين، ودَلَّ عليه ذِكْرُ مقابله، وهو قريب من حذف المعطوف كقوله: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] .

189

قوله تعالى: {حَمْلاً} : المشهور أن الحَمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس [غير] شجرة. وحكى أبو سعيد في حمل المرأة: حِمْل وحَمْل. وحكى يعقوب في حمل النخلة الكسرة. والحمل في الآية يجوز أن يرادَ به المصدرُ فينتصبَ انتصابَه، وأن يُراد به نفسُ الجنين، وهو الظاهر، فينتصبَ انتصابَ المفعول به كقولك: حَمَلْت زيداً. قوله: {فَمَرَّتْ} الجمهورُ على تشديد الراء ومعناه: استمرت به، أي: قامَتْ وقعدت. وقيل: هو على القلب، أي: فمرَّ بها، أي استمر ودام. وقرأ ابن عباس وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأيوب «فَمَرَتْ» خفيفةَ

الراء، وفيها تخريجان، أحدهما: أن أصلها التشديد، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مكرر فتركوه، وهذا كقراءة «وقَرْن» بفتح القاف إذا جَعَلْناه من القرار. والثاني: أنه من المِرْية وهو الشك، أي: فشكَّتْ بسببه أهو حَمْل أم مرض؟ وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاص والجحدري: «فمارَتْ» بألف وتخفيف الراء. وفيها أيضاً وجهان، أحدهما: أنها مِنْ مار يمور، أي جاء وذهب، ومارَتِ الريح، أي: جاءت وذهبَتْ وتصرَّفَتْ في كل وجه، ووزنه حينئذ فَعَلَتْ والأصل مَوَرَتْ، ثم قُلبت الواو ألفاً فهو كطافَتْ تطوف. والثاني: أنها من المِرْية أيضاً قاله الزمخشري وعلى هذا فوزنه فاعَلَت والأصل: مارَيَتْ كضارَبَتْ، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فَقُلِبَ ألفاً، ثم حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين فهو كبارَتْ ورامت. وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس أيضاً والضحاك «فاسْتَمَرَّتْ به» وهي واضحة. وقرأ أُبَيّ «فاستمارَتْ» وفيها الوجهان المتقدمان في «فمارَتْ» ، أي: أنه يجوز/ أن يكون من المِرْية، والأصل «اسْتَمْرَيَتْ» ، وأن يكون من المَوْر والأصل: استَمْوَرَتْ. قوله: {أَثْقَلَتْ} ، أي: صارت ذا ثِقل كقولهم: أَلْبَنَ الرجل وأَتْمَرَ، أي:

صار ذا لبنٍ وتمرٍ. وقيل: دخلت في الثقل، كقولهم: أصبح وأمسى، أي: دخلَتْ في الصباح والمساء. وقرئ «أُثْقِلَتْ» مبنياً للمفعول. قوله: {دَّعَوَا الله} متعلَّقٌ الدعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسمية عليه، أي: دَعَواه في أن يُؤتيَهما ولداً صالحاً. وقوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا} هذا القسمُ وجوابُه فيه وجهان، أظهرهما: أنه مفسِّرٌ لجملة الدعاء كأنه قيل: فما كان دعاؤهما؟ كان دعاؤهما كيت وكيت، ولذلك قلت: إن هذه الجملةَ دالَّةٌ على متعلق الدعاء. والثاني: أنه معمول لقول مضمر تقديره: فقالا: لئن آتيتنا. و «لنكونَنَّ» جوابُ القسم، وجواب الشرط محذوفٌ على ما تقرَّر. و «صالحاً» فيه قولان أظهرهما: أنه مفعولٌ ثان، أي: ولداً صالحاً. والثاني وبه قال مكي: أنه نعتُ مصدرٍ محذوف، أي: إيتاءً صالحاً. وهذا لا حاجةَ إليه لأنه لا بد مِنْ تقدير الموتى لهما.

190

قوله تعالى: {جَعَلاَ لَهُ} : قيل: ثَمَّ مضاف، أي: جعل له أولادُهما شركاءَ، وإلا فحاشا آدم وحواء من ذلك، وإن جُعِل الضمير ليس لآدم وحواء فلا حاجة إلى تقديره. وقيل في الآية أقوال تقتضي أن يكون الضميرُ لآدم وحواء من غيرِ حَذْفِ مضاف بتأويل ذُكر في التفسير. وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم «شِرْكاً» بكسر الشين وتسكين الراء وتنوين الكاف. والباقون بضمَّ الشين وفتح الراء ومدِّ الكافِ مهموزةً من غير تنوين، جمع شريك، فالشِرْك مصدرٌ ولا بد من حَذْف مضاف، أي: ذوي شِرْك بمعنى إشراك، فهو في الحقيقة اسمُ مصدر. وقيل: المرادُ بالشرك

النصيبُ، وهو ما جعلاه مِنْ رزقهما له يأكله معهما، وكانا يأكلان ويشربان وحدَهما. فالضمير في «له» يعود على الولد الصالح. وقيل: الضمير في «له» لإِبليس ولم يَجْرِ له ذِكْر. وهذان الوجهان لا معنى لهما. وقال مكي وأبو البقاء وغيرهما: إن التقدير يجوز أن يكون: جَعَلا لغيره شِرْكاً. قلت: هذا الذي قدَّروه هؤلاء قد قال فيه أبو الحسن: «كان ينبغي لمَنْ قرأ» شِرْكاً «أن يقول: المعنى: جعلا لغيره شِرْكاً [فيما أتاهما] لأنهما لا يُنْكِران أن الأصل لله، فالشرك إنما لجعله لغيره» . قوله: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} قيل: هذه جملةٌ استئنافية، والضميرُ في «يشركون» يعود على الكفار، والكلامُ قد تَمَّ قبله. وقيل: يعودُ على آدم وحواء وإبليس، والمرادُ بالإِشراك تسميتهُما لولدٍ ثالث بعبد الحرث، وكان أشار بذلك إبليس، فالإِشراك في التسمية فقط. وقيل: لم يكن آدمُ عَلِم، ويؤيد الوجهَ الأولَ قراءةُ السلمي «عَمَّا تشركون» بتاء الخطاب، وكذلك «أَتُشرِكون» بالخطاب أيضاً وهو التفات.

191

قوله تعالى: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} : يجوز أن تعود على «ما» من حيث المعنى، والمراد بها الأصنام، وعَبَّر عنهم ب «هم» لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدون في العقلاء، أو لأنهم مختلطون بمَنْ عُبِد من العقلاء كالمسيح وعُزَير، أو يعود على الكفار، أي: والكافرون مخلوقون فلو تفكَّروا في ذلك لآمنوا.

193

قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ} : الظاهرُ أن الخطاب للكفار وضميرَ النصب للأصنام، والمعنى: وإن تدعوا آلهتكم إلى طَلَب هدى ورشاد كما تطلبونه من الله لا يتابعوكم على مُرادكم. ويجوز أن يكونَ الضميرُ للرسول والمؤمنين والمنصوب للكفار: وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإِيمان. ولا يجوز أن يكونَ «تَدْعوا» مسنداً إلى ضمير الرسول فقط، والمنصوبُ للكفار أيضاً، لأنه كان ينبغي أن تُحْذف الواو لأجل الجازم، ولا يجوز أن يُقال قَدَّر حَذْفَ الحركة وثبت حرف العلة كقوله: 2358 - هَجَوْت زَبَّان ثم جِئْتَ مُعْتذراً ... مِنْ هَجْو زبَّانَ لم تهجو ولم تَدَعِ ويكون مثلَ قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقي وَيِصْبِرْ} [يوسف: 90] {فَلاَ تنسى} {لا تَخَفْ دَرَكاً ولا تخشى} [طه: 77] لأنه ضرورةٌ، وأمَّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك، وقد مضى منه جملة. قوله: «لا يَتَّبِعكم» قرأ نافع بالتخفيف وكذا في الشعراء «يَتْبَعُهم» ، والباقون بالتشديد، فقيل: هما لغتان، ولهذا جاء في قصة آدم: {فَمَن تَبِعَ} [البقرة: 38] ، في موضع آخر {اتبع} [طه: 123] . وقيل: تبع: اقتفى أثره، واتَّبعه بالتشديد اقتدَى به. والأول أظهر.

قوله: {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} هذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفت على أخرى فعلية لأنها في معنى الفعلية، والتقدير: أم صَمَتُّم. وقال أبو البقاء: «جملةٌ اسمية في موضعِ الفعلية والتقدير: أدعوتموهم أم صَمَتُّم» . وقال ابن عطية: «عَطَفَ الاسمَ على الفعل إذ التقدير: أم صَمَتُّم، ومثله قول الشاعر: 2359 - سواءٌ عليك الفقرُ أم بِتَّ ليلةً ... بأهل القباب مِنْ نميرِ بن عامرِ قال الشيخ:» وليس من عَطْفِ الفعلِ على الاسم، إنما هو من عَطْفِ الاسمية على الفعلية، وأمَّا البيتُ فليس فيه عطفُ فعلٍ على اسم، بل مِنْ عطفِ الفعليةِ على اسمٍ مقدَّرٍ بالفعلية إذ الأصل: سواء عليك أفتقرْتَ أم بِتَّ، وإنما أَتَى في الآية بالجملة الثانية اسمية لأن الفعلَ يُشعِر بالحدوث ولأنها رأسُ فاصلة «. والصَّمْتُ: السكون، يقال منه: صمَت يصمُت: بالفتح في الماضي والضم في المضارع. ويقال: صَمِت بالكسر يصمَت بالفتح، والمصدر: الصَّمْت والصُّمات. و» إصْمِت «بكسر الهمزة والميم اسمُ فلاة معروفة، وهو منقولٌ من فعل الأمر من هذه المادة. وقد رَدَّ بعضهم هذا بأنه لو كان منقولاً من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزتُه همزةَ وصل، ولكان ينبغي أن تكون ميمُه مضمومةً إن كان مِنْ يَصْمُت، أو مفتوحةً إن كان من يَصْمَت، ولأنه كان ينبغي ألاَّ يؤنث بالتاء وقد قالوا إصْمِتة. والجواب أن فعلَ الأمر يجبُ قَطْعُ همزتِهِ إذا

سُمِّي به نحو» إشرب «لأنه ليس لنا من الأسماء ما همزته للوصل إلا أسماءٌ عشرة [ونوع الانطلاق من كل مصدر زاد على الخمسة] وهو قليلٌ فالإِلحاق بالكثير أولى، وأما كسر الميم فلأنَّ التغييرَ يُؤْنِسُ بالتغيير، وكذلك الجوابُ عن تأنيثِه بالتاء.

194

قوله تعالى: {إِنَّ الذين} : العامَّة على تشديد إنَّ فالموصولُ اسمُها وعبادٌ خبرها. وقرأ سعيد بن جبير بتخفيف «إنْ» ونصب «عباد» و «أمثالكم» . وقد خَرَّجها أبو الفتح ابن جني وغيره أنها «إنْ» النافيةُ، وهي عاملةٌ عملَ «ما» الحجازية، وهذا مذهب الكسائي وأكثرُ الكوفيين غيرَ الفراء، وقال به من البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد. والصحيح أن إعمالَها لغةٌ ثابتة نظماً ونثراً وأنشدوا: 2360 - إنْ هو مستولياً على أحد ... إلا على أَضْعف المجانين ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عباداً أمثالهم، والقراءة الشهيرة تُثْبت ذلك، ولا يجوز التناقض في كلام الله تعالى. وقد أجابوا عن ذلك بأن هذه القراءة تُفْهم تحقيرَ أمرِ المعبود من دون الله وغباوةَ عابدِه، وذلك أن العابدين أتمُّ حالاً وأقدرُ على الضرِّ والنفع من آلهتهم

فإنها جمادٌ لا تفعل شيئاً من ذلك فكيف يَعْبُد الكاملُ مَنْ هو دونَه؟ فهي موافقةٌ للقراءة المتواترة بطريق الأَوْلى. وقد ردَّ أبو جعفر هذه القراءة بثلاثة أوجه، أحدها: مخالفتُها لسواد المصحف. الثاني: أن سيبويه يختار الرفع في خبر «إنْ» المخففة فيقول: «إنْ زيد منطلق» لأن عَمَلَ «ما» ضعيف و «إنْ» بمعناها فهي أضعف منها. الثالث: أن الكسائي لا يرى أنها تكون بمعنى «ما» إلا أن يكون بعدها إيجاب. وما ردَّ به النحاس ليس بشيء لأنها مخالَفَةٌ يسيرة. قال الشيخ: «ويجوز أن يكون كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالِفَةً للسواد» . وأما سيبويه فاختلف الناس في الفهم عنه في ذلك. وأما الكسائي فهذا القيد غير معروف له. وخرَّج الشيخ القراءة على أنها «إنْ» المخففة قال: «وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة» وإنْ كلاً «، ثم إنها قد ثبت لها نصب الجُزْأَين، وأنشد: 2361 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . إنَّ حُرَّاسنا أُسْدا

قال:» وهي لغة ثابتة «ثم قال:» فإن تأوَّلنا ما ورد من ذلك نحو: 2362 - يا ليت أيامَ الصِّبا رواجعا ... أي: تُرى رواجعا/ فكذلك هذه يكون تأويلها: إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم «. قلت: فيكون هذا التخريج مبنياً على مذهبين أحدهما: إعمال المخففة وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنه أقل من الإِهمال، وعبارة بعضهم» إنه قليل «ولا أرتضيه لوروده في المتواتر. والثاني: أن» إنَّ «وإخواتها تنصب الجزأين وهو مذهب مرجوح. وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه: كون» إنْ «نافيةً عاملةً، أو المخففة الناصبة للجزأين، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى. وقرأ بعضهم «إنْ» مخففة، «عباداً» نصباً، «أمثالُكم» رفعاً، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أُهملت، و «الذين» مبتدأ، و «تدعون» صلتها، والعائد محذوف، و «عبادٌ» حال من ذلك العائد المحذوف، و «أمثالكم» خبره. والتقدير: إن الذين تدعونهم حال كونهم عباداً أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين فكيف يُعبدون؟ ويَضْعُف أن يكون الموصول اسماً منصوبَ المحل لأن إعمالَ المخففة كما تقدَّم قليلٌ. وحكى أبو البقاء أيضاً قراءةً رابعةً وهي بتشديد «إنَّ» ، ونصب «عباد» ، ورفع «أمثالكم» ، وتخريجها على ما تقدم قبلها.

195

قوله تعالى: {يَبْطِشُونَ} : العامة على كسر الطاء من بطش يبطِش. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في رواية عنه: «يَبْطُشون» بضمها وهما لغتان. والبطش: الأخذ بقوة. قوله: {ثم كيدوني} قرأ أبو عمرو: «كيدوني» بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً. وهشام بإثباتها في الحالين. والباقون بحذفها في الحالين، وعن هشام خلافٌ مشهور. وقال الشيخ: «وقرأ أبو عمرو وهشام بخلاف عنه» فكيدوني «بإثبات الياء وصلاً ووقفاً» قلت: أبو عمرو لا يثبتها وقفاً البتة، فإن قاعدَته [في] الياءات الزائدة ما ذكرته لك. وفي القراءة «فكيدوني» ثلاثةُ ألفاظٍ: هذه وقد عُرف حكمُها، وفي هود [الآية: 55] {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} أثبتها القُرَّاء كلهم في الحالين، وفي المرسلات [الآية: 39] : {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} حَذَفَها الجميعُ في الحالين، وهذا نظير ما مرَّ بك من لفظة {واخشوني} [البقرة: 150] فإنها في البقرة ثابتةٌ للكل وصلاً ووقفاً، ومحذوفةٌ في أول المائدة، ومختلف فيها في ثانيتها.

196

قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله} : العامة على تشديد «وليي» مضافاً لياء المتكلم المفتوحة وهي قراءة واضحة. أضاف الوليّ إلى نفسه.

وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه: «إن وليَّ» بياء واحدة مشددة مفتوحة، وفيها تخريجان أحدهما: قال أبو علي: «إن ياء فعيل مدغمةٌ في ياء المتكلم، وإن الياء التي هي لام الكلمة محذوفةٌ، ومنع من العكس. والثاني: أن يكون» وليَّ «اسمها وهو اسمٌ نكرةٌ غيرُ مضاف لياء المتكلم والأصل: إن ولياً الله، فولياً اسمُها واللهُ خبرها، ثم حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله: 2363 - فالفيته غيرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا وكقراءة من قرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدُ الله الصمد} [الصمد: 1-2] . ولم يبق إلا الإِخبارُ عن نكرةٍ بمعرفة وهو واردٌ، قال الشاعر: 2364 - وإنَّ حراماً أن أَسُبَّ مجاشعاً ... بآبائي الشمِّ الكرام الخضارم وقرأ الجحدري في رواية:» إن وليِّ الله «بكسر الياء مشددة، وأصلُها أنه سَكَّن ياء المتكلم فالتقت مع لام التعريف، فحذفت لالتقاء الساكنين وبقيت الكسرة تدلُّ عليها نحو: إنَّ غلامِ الرجلُ. وقرأه في رواية أخرى:» إن وليَّ الله «بياء مشددة والجلالة بالجر، نقلها عنه أبو عمرو الداني، أضاف الوليّ إلى الجلالة. وذكر الأخفش وأبو حاتم هذه القراءة عنه، ولم يذكرا نصب الياء. وخرَّجها الناس على ثلاثة أوجه، الأول قولُ الأخفش وهو أن

يكون وليّ الله اسمها، والذي نزَّل الكتاب خبرها، والمراد بالذي نزَّل الكتاب جبريل، يدلُّ عليه قولُه تعالى {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102] إلا أن الأخفش قال في قوله» وهو يتولى الصالحين «هو مِنْ صفة الله قطعاً لا من صفة جبريل، وفي تَحَتُّم ذلك نظرٌ. والثاني: أن يكون الموصوف بتنزيل الكتاب هو الله تعالى، والمراد بالموصول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويكون ثَمَّ عائدٌ محذوف لفهم المعنى، والتقدير: إنَّ وليَّ الله النبيُّ الذي نَزَّل الله الكتاب عليه، فحذف» عليه «وإن لم يكن مشتملاً على شروط الحذف لكنه قد جاء قليلاً كقوله: / 2365 - وإن لساني شُهْدةٌ يُشْتفى بها ... وهُوَّ على مَنْ صَبَّه الله عَلْقَمُ أي: صَبَّه الله عليه. وقال آخر: 2366 - فأصبح من أسماء قيسٍ كقابضٍ ... على الماء لا يدري بما هو قابضُ أي: بما هو قابض عليه. وقال آخر: 2367 - لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أن يَرُدَّني ... إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قادرُهْ أي: أَصْعَدْتني به. وقال آخر: 2368 - ومِنْ حَسَدٍ يجورُ عليَّ قومي ... وأيُّ الدهر ذو لم يحسُدوني

وقال آخر: 2369 - فقلت لها لا والذي حَجَّ حاتمٌ ... أخونُكِ عهداً إنني غيرُ خَوَّانِ أي: حجَّ إليه. وقال آخر: 2370 - فَأَبْلِغَنَّ خالدَ بنَ عَضْلَةٍ ... والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بلومِ مَنْ يثقْ أي: يثق به، وإذا ثَبَتَ أن الضميرَ يُحْذف في مثل هذه الأماكن وإن لم يكمل شرطُ الحذف فلهذه القراءة في التخريج المذكور أسوة بها. والثالث: أن يكون الخبر محذوفاً تقديره: إن وليَّ الله الصالحُ أو مَنْ هو صالح، وحُذف لدلالة قوله» وهو يتولَّى الصالحين «وكقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر} [أي: معذَّبون، وكقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ} [الحج: 25] .

200

والنَّزْغُ: أدنى حركة تكون، وأكثر ما يُسْند للشيطان لأنه أسرعُ في ذلك. وقيل: النَّزْغ: الدخول في أمرٍ لإِفساده وقال الزمخشري: «والنزغ والنَّسْغ الفَرْزُ والنَّخْس، وجعل النزغ نازغاً كما قيل:» جَدَّ جَدُّه «يعني قصد بذلك المبالغة.

201

قوله تعالى: {طَائِفٌ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «طَيْفٌ» والباقون «طائف» بزنة فاعل. فأمَّا طَيْف ففيه ثلاثة أوجه،

أحدُها: أنه مصدرٌ مِنْ طاف يَطيف كباع يبيع، وأنشد أبو عبيدة: 2371 - أنَّى ألمَّ بك الخيالُ يَطيفُ ... ومَطافُه لك ذُكْرَةٌ وشُعُوفُ والثاني: أنه مخففٌ من فَيْعِل، والأصل: طَيِّف بتشديد الياء فحذف عين الكلمة كقولهم في ميّت مَيْت وفي ليّن ليْن وفي هيّن هيْن. ثم طَيّف الذي هو الأصل يحتمل أن يكون مِنْ طاف يطيف أو من طاف يطوف، والأصل: طَيْوِف فقلب وأدغم وهذا قول أبي بكر بن الأنباري. والثالث: أن أصله طَوْف من طاف يطوف، فقلبت الواو ياءً. قال أبو البقاء: «قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أَيْد وهو بعيد» قلت: وقد قالوا أيضاً في حَوْل: حَيْل، ولكن هذا من الشذوذ بحيث لا يُقاس عليه. وقوله «وإن كانت ساكنة» ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء بل كان ينبغي أن يُقال: وإن كان ما قبلها غيرَ مكسورٍ. وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل، يُحْتمل أن يكون مِنْ طاف يطوف فيكون كقائم وقائل، وأن يكونَ مِنْ طاف يطيف فيكون كبائع ومائل. وقد زعم بعضُهم أنَّ طَيْفاً وطائفاً بمعنى واحد ويُعزى للفراء، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً لطَيْف فيجعلهما مصدرين. وقد جاء فاعِل مصدراً كقولهم: «أقائماً وقد قعد الناس» وأن يَرُدَّ طيفاً لطائف، أي: فيجعله وَصْفاً على فَعْل.

وقال الفارسي: «الطيف كالخَطْرة، والطائف كالخاطر» ففرَّق بينهما. وقال الكسائي: «الطَّيْف: اللَّمَم، والطائف ما طاف حول الإِنسان» . قال ابن عطية: «وكيف هذا وقد قال الأعشى: 2372 - وتُصْبح مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنما ... ألمَّ بها من طائفِ الجنِّ أولقُ ولا أدري ما تَعَجُّبُه؟ وكأنه أخذ قوله» ما طافَ حول الإِنسان «مقيَّداً بالإِنسان، وهذا قد جعله طائفاً بالناقة، وهي سَقْطة لأن الكسائي إنما قاله اتفاقاً لا تقييداً. وقال أبو زيد الأنصاري:» طافَ: أقبل وأدبر يَطُوف طَوْفاً وطَوَافاً، وأطاف: استدار القومُ من نواحيهم. وطاف الخيالُ: أَلَمَّ، يَطيف طَيفاً «فقد فرَّق أبو زيد بين ذي الواو وذي الياء، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى. وفرَّق أيضاً بين فعل وأفعل كما رأيت. وزعم السُّهَيْلي أنه لا يُسْتعمل مِنْ» طاف الخيال «اسم فاعل قال:» لأنه تخيُّلٌ لا حقيقة له «. قال:» فأمَّا قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ} [القلم: 19] فلا يقال فيه طَيْف لأنه اسمُ فاعل حقيقةً. وقال حسان: 2373 - جِنِّيَّةٌ أرَّقَني طيفُها ... تَذْهَبُ صُبْحاً وتُرى في المنامْ وقال السدِّي: «الطَّيْفُ: الجنون، والطائف: الغضب» ، وعن ابن عباس رضي الله عنه هما بمعنى واحد وهو النَّزْغ.

202

قوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} : في هذه الآيةِ أوجهٌ، أحدها: أن الضميرَ في «إخوانهم» يعود على الشياطين لدلالةِ لفظ الشيطان عليهم، أو على الشيطان نفسه لأنه لا يُراد به الواحدُ بل الجنس. والضمير المنصوب في «يَمُدُّونهم» يعود على الكفار، والمرفوع يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم. والتقدير: وإخوان الشياطين يَمُدُّهم الشياطين، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير مَنْ هو له في المعنى، ألا ترى أن الإِمداد مسند إلى الشياطين في المعنى، وهو في اللفظ خبر عن «إخوانهم» ، ومثله: 2374 - قوم إذا الخيلُ جالُوا في كواثبها ... . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدم لك في هذا كلامٌ وبحثٌ مع مكي وغيره من حيث جَرَيانُ الفعلِ على غير مَنْ هوله ولم يَبْرُزْ ضمير، وهذا التأويل الذي ذكرته هو قول الجمهور عليه عامَّة المفسرين. قال الزمخشري «هو أَوْجَهُ لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا» . الثاني: أن المرادَ بالإِخوان الشياطين، وبالضمير المضافِ إليه الجاهلون أو غيرُ المتَّقين؛ لأن الشيء يَدُلُّ على مقابله. والواو تعود على الإِخوان، والضميرُ المنصوب يعود على الجاهلين أو غير المتقين، والمعنى: والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المتقين في الغَيِّ، والخبرُ في هذا الوجه جارٍ على مَنْ هوله لفظاً ومعنى وهذا تفسير قتادة.

الثالث: أن يعودَ الضمير المجرور والمنصوب على الشياطين، والمرفوع على الإِخوان وهم الكفار. قال ابن عطية: «ويكون المعنى: وإخوان الشياطين في الغيِّ بخلافِ الإِخوة في الله يَمُدُّون [الشياطين] ، أي: بطاعتهم لهم وقبولهم منهم، ولا يترتَّب هذا التأويل على أن يتعلق في الغيّ بالإِمداد: لأن الإِنس لا يُغْوون الشياطين» . قلت: يعني يكون في «الغيّ» حالاً من المبتدأ أي: وإخوانهم حال كونهم مستقرين في الغيّ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف، والأحسن أن يتعلق بما تضمَّنه إخوانهم من معنى المؤاخاة والأخوة، وسيأتي فيه بحث للشيخ. قال الشيخ: «ويمكن أن يتعلَّق» في الغيّ «على هذا التأويل ب» يمدُّونهم «على جهة السببيّة، أي: يمدُّونهم بسبب غوايتهم نحو:» دخلت امرأة النار في هرة «، أي: بسبب هرةٍ» ، ويُحتمل أن يكون «في الغيّ» حالاً فيتعلَّق بمحذوف، أي: كائنين في الغيّ، فيكون «في الغيّ» في موضعه، ولا يتعلَّق بإخوانهم، وقد جَوَّز ذلك ابن عطية. وعندي في ذلك نظرٌ، فلو قلت: «مُطْعِمُك زيدٌ لحماً» تريد: مطعمك لحماً زيدٌ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر لكان في جوازه نظر؛ لأنك فَصَلْتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاً، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ «. قلت: ولا يظهر منعُ هذا البتةَ لعدم أجنبيَّته. وقرأ نافع: «يُمِدونهم» بضم الياء وكسر الميم مِنْ أمدَّ، والباقون بفتح

الياء وضم الميم مِنْ مدَّ، وقد تقدَّم الكلام على هذه المادة، وهل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل هذا الموضوع. وقرأ الجحدري «يُمادُّونهم» مِنْ مادَّهُ بزنة فاعَلَه. وقرأ العامة «يُقْصِرُون» مِنْ أَقْصَرَ، قال الشاعر: 2375 - لعَمْرك ما قلبي إلى أهله بحُرّْ ... ولا مُقْصِرٍ يوماً فيأتيني بقُرّْ وقال امرؤ القيس: 2376 - سما لك شوقٌ بعدما كان أَقْصَرا ... وحَلَّتْ سُلَيْمى بَطْنَ قَوٍّ فعَرْعرا أي: ولا نازع عمَّا هو فيه، وارتفع شوقك بعدما كان قد نزع وأقلع. وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة «ثم لا يَقْصُرون» بفتح الياء وضم الصاد مِنْ قصر، أي: ثم لا يَنْقُصون من إمدادهم. وهذه الجملة أعني «وإخوانهم يمدُّونهم» زعم الزجاج أنها متصلة بالجملة من قوله {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} وهو تكلف بعيد. وقوله {فِي الغي} : قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل، أو بإخوانهم، أو بمحذوف على أنه حال: إمَّا من إخوانهم، وإمَّا مِنْ واو «يمدُّونهم» ، وإمَّا مِنْ مفعوله.

204

قوله تعالى: {لَهُ} : متعلَّقٌ ب استمعوا، على معنى لأجله، والضمير للقرآن. وقال أبو البقاء: «يجوزُ أن يكون بمعنى لله، أي: لأجله» ، فأعاد الضميرَ على «الله» وفيه بُعْدٌ، وجَوَّز أيضاً أن تكونَ اللامُ زائدةً،

أي: فاستمعوه، وقد عَرَفْتَ أن هذا لا يجوز عند الجمهور إلا في موضعين: إمّا تقديمِ المعمولِ أو كونِ العامل فرعاً. وجوَّز أيضاً أن تكون بمعنى إلى ولا حاجة إليه. والاجتباء: افتعال مِنْ جَبَاه يَجْبيه، أي: جمعه مختاراً له، ولهذا غلب: اجتبيتُ الشيء، أي: اخترته. وقال الزمخشري: «اجتبى الشيء: بمعنى جَبَاه لنفسه، أي: جمعه/ كقولك: اجتمعه أو جُبِيَ إليه فاجتباه، أي: أخذه كقوله: جَلَيْتُ إليه العروس فاجتلاها، والمعنى: هلا اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون: {إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه} [الفرقان: 4] .

203

والإنصاتُ: السُّكون للاستماع، قاله الفراء. ويقال: نَصَتَ وأنصت بمعنى واحد، وقد جاء أنصت متعدياً، قال الكميت: 2377 - أبوك الذي أجْدَى عليك بنصره ... فأنصت عني بعده كلَّ قائل وقوله: {هذا بَصَآئِرُ} جمع بصيرة، وأطلق على القرآن بصائر: إمَّا مبالغةً، وإمَّا لأنه سبُب البصائر، وإمَّا على حَذْف مضاف، أي: ذو بصائر. و «لعل» يجوز أن تكونَ للترجي بحسب المخاطبين، وأن تكون للتعليل.

205

قوله تعالى: {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} : في نصبهما وجهان، أظهرهما: أنهما مفعولان من أجلهما لأنه يتسبَّب عنهما الذِّكْر. والثاني: أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال، أي: متضرعين خائفين، أو ذوي تضرع وخيفة. وقرئ «وخفية» بتقديم الفاء. وقيل: وهما مصدران للفعل مِنْ معناه لا من لفظه، ذكره أبو البقاء وهو بعيد. قوله: {وَدُونَ الجهر} قال أبو البقاء: «معطوف على» تضرُّع «والتقدير: ومقتصدين» . وهذا ضعيف لأن «دون» ظرف لا يتصرَّف على المشهور، فالذي ينبغي أن يُجْعَل صفةٌ لشيء محذوف، ذلك المحذوف هو الحال كما قدَّره الزمخشري فقال: «ودونَ الجهر: ومتكلماً كلاماً دون الجهر؛ لأن الإِخفاءَ أَدْخَلُ في الإِخلاص وأقربُ إلى حسن التفكر» . قوله: {بالغدو والآصال} متعلق باذكر، أي: اذكره في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن الليل والنهار. قال أبو البقاء: «بالغُدُوِّ» متعلق ب «ادعوا» وهو سَبْقُ لسانٍ وقلم، إذ ليس نظمُ القرآن كذا. والغُدُوّ: إمَّا جمع غُدْوة كقمح وقمحة، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع المعنوي. وقيل: هو مصدرٌ فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتى يتقابل زمان مجموع بمثله، تقديره: بأوقات الغدو. والآصال: جمع أُصُل، وأُصُل جمع أصيل فهو جمع الجمع. ولا جائزٌ أن يكونَ جماً لأصيل؛ لأن فعيلاً لا يُجْمع على أفعال. وقيل: بل هو جمعٌ لأصيل، وفعيل يُجمع على أفعال نحو:

يمين وأيمان. وقيل: آصال جمع ل «أُصُل» وأُصُل مفرد، ثبت ذلك مِنْ لغتهم وهو العشيُّ، وفُعُل يُجمع على أَفْعال قالوا: عُنُق وأعناق، وعلى هذا فلا حاجة إلى دَعْوى أنه جمع الجمع، ويُجْمع على أُصلان كرَغيف ورُغْفان، ويُصَغَّر على لفظه كقوله: 2378 - وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها ... عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ واستدلُّ الكوفيون بقولهم «أُصَيْلان» على جواز تصغير جمع الكثرة بهذا البيت، وتأوَّله البصريون على أنه مفرد، وتُبدل نونه لاماً، ويُروى أصيلالاً. وقرأ أبو مجلز واسمُه لاحق بن حميد السدوسي البصري «والإِيصال» مصدرُ آصَل، أي: دخل في الأصيل.

الأنفال

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} : فاعل «يَسْأل» يعود على معلوم، وهم مَنْ حَضَرَ بَدْراً. و «سأل» تارةً تكونُ لاقتضاء معنى في نَفْسِ المسؤول فتتعدَّى ب «عن» كهذه الآية، وكقول الشاعر: 2379 - سَلي إنْ جَهِلْتِ الناسَ عنَّا وعنهمُ ... فليس سواءً عالمٌ وجَهولُ وقد تكون لاقتضاء مالٍ ونحوه فتتعدَّى لاثنين نحو: «سألت زيداً مالاً» . وقد ادَّعى بعضُهم أن السؤالَ هنا بهذا المعنى، وزعم أن «عَنْ» زائدةٌ، والتقدير: يسألونك الأنفالَ، وأيَّد قولَه بقراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وزيدٍ ولدِه ومحمد الباقر ولدِه أيضاً وولده جعفر الصادق وعكرمة وعطاء: «يسألونك الأنفالَ» دون «عن» . والصحيحُ أن هذه القراءةَ على إرادةِ حرفِ الجر. وقال بعضهم: «عن» بمعنى «مِنْ» . وهذا لا ضرورةَ تدعو إليه. وقرأ ابنُ محيصن: «عَلَّنْفَال» . والأصل: أنه نقل حركةَ الهمزة إلى لام

التعريف، ثم اعتدَّ بالحركة العارضة فأدغم النونَ في اللام كقوله: {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم} [العنكبوت: 38] ، وقد تقدَّم ذلك في قوله {عَنِ الأهلة} [البقرة: 189] . والأنفال: جمع نَفَل وهي الزيادة على الشيء الواجب وسُمِّيَتْ/ الغنيمة نَفَلاً لزيادتِها على حِماية الحَوزة. قال لبيد: 2380 - إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ ... وبإذنِ الله رَيْثي وعَجَلْ وقال آخر: 2381 - إنَّا إذا احْمَرَّ الوغَى نَرْوي القَنا ... ونَعِفُّ عند مَقاسِمِ الأنفالِ وقيل: سُمِّيت «الأَنْفال» لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم. وقال الزمخشري: «والنَّفَل: ما يُنْفَلُه الغازي، أي يُعْطاه زيادةً على سهمه من المَغْنم» . قوله: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} : قد تقدَّمَ الكلامُ على «ذات» في آل عمران. وهي هنا صفةٌ لمفعولٍ محذوف تقديره: وأَصْلِحوا أحوالاً ذاتَ افتراقِكم وذاتَ وَصْلِكم، أو ذاتَ المكانِ المتصلِ بكم، فإنَّ «بين» قد قيل إنه يُراد به هنا الفراقُ أو الوصل أو الظرف. وقال الزجاج وغيره: «إنَّ» ذات «هنا بمنزلة

حقيقة الشيء ونفسه» وقد أوضح ذلك ابنُ عطية. والتفسير ببيان هذا أولى. وقال الشيخ: «والبَيْنُ: الفِراق، و» ذات «نعت لمفعول محذوف أي: وأَصْلِحوا أحوالاً ذات افتراقكم، لمَّا كانت الأحوالُ ملابِسةً للبَيْن أُضِيْفَتْ صفتُها إليه، كما تقول: اسْقِني ذا إنائك أي: ماءً صاحبَ إنائك، لَمَّا لابس الماءُ الإِناءَ وُصِفَ ب» ذا «وأُضيف على الإِناء. والمعنى: اسقِني ما في الإِناء من الماء» .

2

قوله تعالى: {وَجِلَتْ} : يُقال: وَجِلَ بالكسر في الماضي يَوْجَلُ بالفتح، وفيه لُغَيَّةٌ أخرى، قرئ بها في الشاذ: وَجَلَتْ بفتح الجيم في الماضي وكَسْرِها في المضارع فَتَنْحَذِف الواو كوَعَد يَعِدُ. ويُقال في المشهورة: وَجِل يَوْجَل. ومنهم مَنْ يقول: ياجَلُ بقلب الواو ألفاً، وهو شاذٌّ لأنه قَلْبُ حرفِ العلة بأحد السببين: وهو انفتاحُ ما قبلَ حرفِ العلة دون تحركه وهو نظير «طائي» في النسب إلى طيِّئ. ومنهم من يقول: يِيْجَلُ بكسر حرف المضارعة فتنقلبُ الواوُ ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها. وقد تقدَّم في أول هذا الموضوع أنَّ من العرب مَنْ يكسِرُ حرف المضارعة بشروطٍ منها: أن لا يكونَ حرفُ المضارعة ياءً إلا في هذه اللفظة وفي أَبَى يِئْبَى.

ومنهم مَنْ ركَّب من هاتين اللغتين لغةً أخرى وهي فتحُ الياء وقلبُ الواو ياءً فقال: يَيْجَلُ، فأخذ قلبَ الواو ممَّن كسرَ حرفَ المضارعة، وأخذ فتحَ الياءِ مِنْ لغة الجمهور. وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قال ابن عطية: «وجوابُ الشرط المتقدم في قوله:» وأطيعوا «، هذا مذهب سيبويه، ومذهب المبرد أن الجواب محذوف متأخر، ومذهبه في هذا ألاَّ يتقدَّمَ الجوابُ على الشرط» . قلت: وهذا الذي ذكره أبو [محمد] نقل الناسُ خلافَه، نقلوا ذلك أعني جوازَ تقديمِ جوابِ الشرط عليه عن الكوفيين وأبي زيد وأبي العباس، فالله أعلم أيُّهما أثبت. ويجوز أن يكون للمبرد قولان وكذا لسيبويه، فنقل كلُّ فريق عن كلٍ منهما أحد القولين.

3

وقوله تعالى: {الذين يُقِيمُونَ} : يجوز في هذا الموصول أن يكون مرفوعاً على النعت للموصول، وعلى البدل، أو على البيان له، وأن يكون منصوباً على القطع المُشْعِر بالمدح. وقوله: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : التقديمُ يفيدُ الاختصاصَ أي: عليه لا على غيره. وهذه الجملةُ يُحتمل أن يكون لها محلٌّ من الإِعراب وهو النصبُ على الحال مِنْ مفعول «زادَتْهم» ويُحتمل أن تكونَ مستأنفةً، ويحتمل أن تكون معطوفةً على الصلة قبلها فتدخلَ في حَيِّزِ الصلاتِ المتقدمةِ، وعلى هذين الوجهين فلا محلَّ لها من الإِعراب.

4

قوله تعالى: {حَقّاً} : يجوز أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوف

أي: هم المؤمنون إيماناً حقاً. ويجوز أن يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولك: هو عبد الله حقاً، والعاملُ فيه على كلا القولين مقدَّرٌ أي: أحقُّه حقاً. ويجوز وهو ضعيف جداً أن يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعة بعده وهي «لهم درجات» ويكون الكلامُ قد تمَّ عند قوله «هم المؤمنون» ثم ابتدئ ب «حقاً» لهم درجات «. وهذا إنما يجوز على رأيٍ ضعيف، أعني تقديمَ المصدرِ المؤكِّد/ لمضمون جملة عليها. قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} يجوز أن يكونَ متعلقاً ب» درجات «لأنها بمعنى» أُجُورٌ «، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل» درجات «أي: استقرَّت عند ربهم، وأن يتعلَّق بما تعلَّق به» لهم «من الاستقرار.

5

قوله تعالى: {كَمَآ أَخْرَجَكَ} : فيه عشرون وجهاً: أحدها: أن الكافَ نعتٌ لمصدر محذوف تقديره: الأنفالُ ثابتةٌ لله ثبوتاً كما أخرجك أي: ثبوتاً بالحق كإخراجك من بيتك بالحق، يعني أنه لا مِرْيَةَ في ذلك. الثاني: أن تقديره: وأصلحوا ذاتَ بينكم إصلاحاً كما أخرجك. وقد التفت من خطابِ الجماعةِ إلى خطاب الواحد. الثالث: تقديرُه: وأطيعوا اللهَ ورسولَه طاعةً محققةً ثابتةً كما أخرجك أي: كما أن إخراج الله إياك لا مِرْيَةَ فيه ولا شبهة. الرابع: تقديرُه: يتوكلون توكلاً حقيقياً كما أخرجك ربك. الخامس: تقديره: هم: المؤمنون حقاً كما أخرجك فهو صفة ل «حقاً» . السادس: تقديره: استقرَّ لهم درجاتٌ وكذا استقراراً ثابتاً كاستقرار إخراجك. السابع: أنه متعلقٌ بما بعده تقديره: يجادلونك مجادلةً كما أخرجك ربك. الثامن: تقديرُه: لكارهون كراهيةً ثابتة كما أخرجك ربك أي: إن هذين الشيئين: الجدالَ والكراهيةَ ثابتان لا محالة، كما أن إخراجك ثابت

لا محالة. التاسع: أن الكافَ بمعنى إذ، و «ما» مزيدة. التقدير: اذكر إذ أخرجك. وهذا فاسدٌ جداً إذ لم يَثْبُتْ في موضعٍ أن الكاف تكون بمعنى إذ، وأيضاً فإنَّ «ما» لا تُزادُ إلا في مواضعَ ليس هذا منها. العاشر: أن الكاف بمعنى واو القسم و «ما» بمعنى الذي، واقعةٌ على ذي العلم مُقْسَماً به، وقد وقعت على ذي العلم في قوله: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] والتقدير: والذي أخرجك، ويكون قوله «يجادلونك» جوابَ القسم. وهذا قول أبي عبيدة. وقد ردَّ الناس عليه قاطبةً. وقالوا: كان ضعيفاً في النحو، ومتى ثبت كونُ الكافِ حرفَ قسمٍ بمعنى الواو؟ وأيضاً فإن «يجادلونك» لا يَصِحُّ كونُه جواباً؛ لأنه على مذهب البصريين متى كان مضارعاً مثبتاً وَجَب فيه شيئان: اللام وإحدى النونين، نحو {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً} [يوسف: 32] ، وعند الكوفيين: إمَّا اللامُ وإمَّا إحدى النونين، و «يجادلونك» عارٍ عنهما. الحادي عشر: أن الكاف بمعنى على، و «ما» بمعنى الذي والتقدير: امْضِ على الذي أخرجَك. وهو ضعيفٌ لأنه لم يثبتْ كونُ الكاف بمعنى «على» البتةَ إلا في موضعٍ يحتمل النزاع كقوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] أي على هدايته إياكم. الثاني عشر: أن الكافَ في محل رفع، والتقدير: كما أخرجك ربك فاتقوا الله، كأنه ابتداءٌ وخبر. قال ابن عطية: «وهذا المعنى وَضَعه هذا المفسِّر، وليس من ألفاظ الآية في وِرْدٍ ولا صَدَر» .

الثالث عشر: أنها في موضعِ رفعٍ أيضاً والتقدير: لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرة ورزق كريم، هذا وعدٌ حقٌّ كما أخرجك. وهذا فيه حذفُ مبتدأ وخبر، ولو صَرَّح بذلك لم يلتئم التشبيهُ ولم يَحْسُنْ. الرابع عشر: أنها في موضع رفعٍ أيضاً. والتقدير: وأصلِحوا ذاتَ بينكم ذلكم خيرٌ لكم كما أخرجك، فالكاف في الحقيقة نعتٌ لخبر مبتدأ محذوف. وهو ضعيف لطول الفصل بين قوله: «وأَصْلِحوا» وبين قوله «كما أَخْرَجَك» . الخامس عشر: أنها في محل رفع أيضاً على خبر ابتداء مضمر والمعنى: أنه شبَّه كراهية أصحاب رسول الله عليه السلام لخروجه من المدينة حين تحققوا خروجَ قريشٍ للدفع عن أبي سفيان وحِفْظِ عِيره بكراهيتهم لنزع الغنائم مِنْ أيديهم وجَعْلِها لله ورسوله يَحْكم فيها ما يشاء. واختار الزمخشري هذا الوجهَ وحَسَّنه، فقال: «يرتفع محلُّ الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره: هذه الحالُ كحالِ إخراجك. يعني أن حالَهم في كراهة ما رأيت من تَنْفيل الغزاة مثلُ حالهم في كراهة خروجهم للحرب» وهذا الذي حَسَّنه الزمخشري هو قول الفراء وقد شرحه ابن عطية بنحو ما تقدَّم مِن الألفاظ فإن الفراء قال: «هذه الكاف شَبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال» . السادس عشر: أنها صفةٌ لخبر مبتدأ أيضاً/ وقد حُذف ذلك المبتدأ وخبره. والتقدير: قِسْمتك الغنائمَ حقٌّ كما كان إخراجُك حقاً. السابع عشر: أنَّ التشبيه وقع بين إخراجين أي: إخراج ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت

كارهٌ لخروجك، وكان عاقبة ذلك الإِخراج النصرَ والظفرَ كإخراجه إياك من المدينة وبعضُ المؤمنين كارهٌ، يكون عقيبَ ذلك الخروجِ الظفرُ والنصر والخير كما كانت عقيبَ ذلك الخروجِ الأول. الثامن عشر: أن تتعلق الكاف بقوله «فاضربوا» . وبَسْطُ هذا على ما قاله صاحب هذا الوجه: الكاف للتشبيه على سبيل المجاز، كقول القائل لعبده: «كما رَجَعْتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألتَ مدداً فَأَمْدَدْتُك وأَزَحْتُ عِلَلك فَخُذْهم الآن وعاقِبْهم كما أَحْسَنْتُ إليك وأَجْرَيْتُ عليك الرزق فاعملْ كذا واشكرْني عليه، فتقدير الآية: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغَشَّاكم النعاسَ أمَنَةً منه، وأنزل عليكم من السماء ماءً ليطَهِّرَكم به، وأنزل عليكم من السماء ملائكة مُرْدفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بنان، كأنه يقول: قد أَزَحْتُ عِلَلكم وأَمْدَدْتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتلُ لتبلغوا مرادَ الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل. وهذا الوجه بَعْدَ طولِه لا طائل تحته لبُعْده من المعنى وكثرة الفواصل. التاسع عشر: أن التقدير: كا أخرجك ربك مِنْ بيتك بالحق أي: بسبب إظهار دين الله وإعْزازِ شريعته وقد كرهوا خروجك تهيُّباً للقتال وخوفاً من الموت؛ إذ كانَ أُمِرَ عليه السلام بخروجهم بغتةً ولم يكونوا مستعدِّين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نَصَرَكَ الله وأَمَدَّك بملائكته، ودلَّ على هذا المحذوفِ الكلامُ الذي بعده وهو قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] الآيات. وهذا الوجهُ استحسنه الشيخ، وزعم أنه لم يُسْبق به، ثم قال: «ويظهر أن الكافَ

ليست لمحضِ التشبيه بل فيها معنى التعليل. وقد نصَّ النحويون على أنها للتعليل، وخرَّجوا عليه قولَه تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] ، وأنشدوا: 2382 - لا تَشْتُمِ الناس كما لا تُشْتَمُ ... أي: لانتفاء شتم الناس لك لا تشتمهم. ومن الكلام الشائع:» كما تطيع الله يدخلك الجنة «أي: لأجل طاعتك الله يدخلك، فكذا الآية، والمعنى: لأَنْ خرجت لإِعزاز دين الله وقَتْل أعدائه نَصَرك وأَمَدَّك بالملائكة» . العشرون: تقديرُه: وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخراجُك في الطاعة خيرٌ لكم، كما كان إخراجُك خيراً لهم. وهذه الأقوال مع كثرتها غالبُها ضعيف، وقد بَيَّنْت ذلك. قوله: {بالحق} فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بالفعل أي بسبب الحق أي: إنه إخراجٌ بسبب حقٍ يظهر وهو علوُّ كلمة الإِسلام والنصرُ على أعداء الله. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «أَخْرَجَكَ» أي: ملتبساً بالحق. قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً} الواو للحال، والجملة في محل نصب، ولذلك كُسِرت «إنَّ» . ومفعول «كارهون» محذوف أي: لكارهون الخروج، وسببُ الكراهة: إمَّا نفرة الطبع ممَّا يُتَوقَّع من القتال، وإمَّا لعدم الاستعداد.

6

قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ} : يُحتمل أن يكونَ مستأنفاً إخباراً عن حالهم بالمجادلة. ويُحتمل أن يكونَ حالاً ثانية أي: أخرجك في حال مجادلتهم إياك. ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في «لكارهون» أي:

لكارهون في حال جدال. والظاهر أن الضمير المرفوع يعودُ على الفريق المتقدِّم، ومعنى المجادلة قولهم: كيف نقاتل ولم نعتَدَّ للقتال؟ ويجوز أن يعود على الكفار وجدالُهم ظاهر. قوله: «بعدما تبيَّن» منصوب بالجدال و «ما» مصدرية أي: بعد تبيُّنِه ووضوحِه، وهو أقبحُ من الجدال في الشيء قبل اتِّضاحه. وقرأ عبد الله «بُيِّن» مبنياً للمفعول مِنْ بَيَّنْتُه أي أظهرته. قوله: {وَهُمْ يَنظُرُونَ} حالٌ من مفعول «يُساقُون» .

7

قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} : «إذ» منصوب بفعل مقدر أي: اذكر إذ. والجمهور على رفع الدال لأنه مضارع مرفوع. وقرأ/ مسلم ابن محارب بسكونها على التخفيف لتوالي الحركات. وقرأ ابن محيصن «يعدكم الله احدى» بوصل همزة «إحدى» تخفيفاً على غير قياس، وهي نظير قراءة مَنْ قرأ: «إنها لاحدى» بإسقاط الهمزة، أجرى همزة القطع مُجْرى همزة الوصل. وقرأ أيضاً «أحد» بالتذكير، لأن الطائفة مؤنث مجازي. وقرأ مسلم بن محارب «بكلمته» على التوحيد، والمراد به اسم الجنس، فيؤدي مؤدَّى الجمع.

8

قوله تعالى: {لِيُحِقَّ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بما قبله أي: ويقطع ليحق الحق. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره: ليحقَّ الحق فَعَل ذلك أي: ما فعله إلا لهما وهو إثباتُ الإِسلام وإظهارُه وزوالُ الكفر ونحوه.

قال الزمخشري: «ويجب أن يُقَدَّر المحذوفُ مؤخراً ليفيدَ الاختصاص وينطبقَ عليه المعنى» . قلت: وهذا على رأيه، وهو الصحيح. قوله: {أَنَّها لكم} منصوبُ المحل على البدل من «إحدى» أي: يَعِدُكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم أي: تَتَسلَّطون عليها تَسَلُّطَ المُلاَّكِ فهي بدلُ اشتمال.

9

قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} : فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه منصوب باذكر مضمراً، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً أي: إنه مقتطعٌ عما قبله. الثاني: أنه منصوب بيحقُّ أي: يحقُّ الحق وقت استغاثتكم. وهو قول ابن جرير. وهو غلط، لأنَّ «ليحقَّ» مستقبل لأنه منصوب بإضمار «أَنْ» ، و «إذ» ظرف لما مضى، فكيف يعمل المستقبل في الماضي؟ الثالث: أنه بدلٌ من «إذ» الأولى، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء. وكان قد قَدَّموا أن العامل في «إذا» الأولى «اذكر» مقدراً. الرابع: أنه منصوب ب «يعدكم» قاله الحوفي وقَبْلَه الطبري. الخامس: أنه منصوب بقوله «تَوَدُّون» قاله أبو البقاء. وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصل.

و «استغاث» يتعدى بنفسه وبالباء. ولم يجئ في القرآن إلا متعدِّياً بنفسه حتى نقم ابن مالك على النحويين قولهم المستغاث له، أو به، والمستغاث من أجله. وقد أنشدوا على تَعَدِّيه بالحرف قول الشاعر: 2383 - حتى استغاثَ بماءٍ لا رِشَاءَ له ... من الأباطحِ في حافَاتِه البُرَكُ مُكَلَّلٌ بأصول النَّبْت تَنْسُجه ... ريحٌ خَرِيقٌ لضاحي مائِه حُبُكُ كما استغاث بِسَيْءٍ فَزُّغَيْطَلَةٍ ... خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ فدلَّ هذا على أنه يتعدى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره. قوله: {أَنِّي} العامة على فتح الهمزة بتقدير حذف حرف الجر أي: فاستجاب بأني. وقرأ عيسى بن عمر ويُروى عن أبي عمرو أيضاً «إني» بكسرها. وفيها مذهبان: مذهَب البصريين أنه على إضمار القول أي: فقال إني ممدُّكم. ومذهب الكوفيين أنها محكيَّةٌ باستجاب إجراءً له مُجْرى القولِ لأنه بمعناه. قوله: {بِأَلْفٍ} العامَّة على التوحيد. وقرأ الجحدري: «بآلُفٍ» بزنة أفْلُس. وعنه أيضاً وعن السديّ بزنة أَحْمال. وفي الجمع بين هاتين القراءتين وقراءة الجمهور: أن تُحْمَلَ قراءةُ الجمهور على أن المراد بالأَلْفِ هم الوجوه، وباقيهم كالأتباع لهم، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ونصَّ عليهم

في هاتين القراءتين. أو تُحْمل الألْف على مَنْ قاتَلَ من الملائكة دون مَنْ لم يقاتل فلا تنافِيَ حينئذٍ بين القراءات. قوله: {مُرْدِفِينَ} قرأ نافع ويُروى عن قنبل أيضاً «مُرْدَفين» بفتح الدال والباقون بكسرها. وهما واضحتان لأنه يُروى في التفسير أنه كان وراء كل مَلِكٍ مَلَكٌ رديفاً له. فقراءة الفتح تُشْعر بأن غيرهم أردفهم لركوبهم خلفهم، وقراءة الكسر تُشْعر بأن الراكبَ خلفَ صاحبهِ قد أَرْدَفَه، فصَحَّ التعبيرُ باسم الفاعل تارةً واسمِ المفعول أخرى. وجَعَلَ أبو البقاء مفعولَ «مُرْدِفين» يعني بالكسر محذوفاً أي: مُرْدِفين أمثالهم. وجَوَّز أن يكون معنى الإِرداف المجيءَ بعد الأوائل أي: جُعِلوا رِدْفاً للأوائل. ويُطلب جوابٌ عن كيفية الجمع/ بين هذه الآيةِ وآيةِ آل عمران، حيث قال هناك «بخمسة» ، وقال هنا «بأَلْف» والقصة واحدة. والجواب: أن هذه الألف مُرْدِفَةً لتلك الخمسة فيكون المجموعُ ستةَ آلاف، ويظهر هذا ويَقُوى في قراءة «مُرْدِفين» بكسر الدال. وقد أنكر أبو عبيد أن يكون الملائكة أَرْدَفَت بعضها أي: ركَّبَتْ خلفها غيرها من الملائكة. وقال الفارسي: «مَنْ كسر الدال احتمل وجهين، أحدهما: أن يكونوا مُرْدِفين مثلَهم كما تقول:» أَرْدَفْتُ زيداً دابَّتي «فيكون المفعولُ الثاني محذوفاً، وحَذْفُ المفعولِ كثيرٌ. والوجه الآخر: أن يكونوا

جاؤوا بعد المسلمين. وقال الأخفش:» بنو فلان يَرْدِفوننا أي: يجيئون بعدنا «، وقال أبو عبيدة:» مُرْدِفين: جاؤوا بعدُ، ورَدِفني وأَرْدَفني واحد «. قال الفارسي:» هذا الوجه كأنه أَبْيَنُ لقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} ، قولُه «مُرْدِفين» أي جائين بعدُ لاستغاثتِكم. ومَنْ فتح الدال فهم مُرْدَفون على: أُرْدِفوا الناسَ أي: أُنْزِلوا بعدهم «. وقرأ بعض المكيين فيما حكاه الخليل» مُرَدِّفين «بفتحِ الراء وكسرِ الدالِ مشدَّدة، والأصل: مُرْتَدِفين فأدغم. وقال أبو البقاء:» إن هذه القراءةَ مأخوذةٌ مِنْ رَدَّفَ بالتشديد الدال على التكثير، وإن التضعيف بدلٌ من الهمزة كأَفْرَحْتُه وفرَّحته «وجَوَّز الخليلُ بن أحمد ضمَّ الراءِ إتباعاً لضمِّ الميم كقولهم: مُخُضِم بضم الخاء، وقد قُرِئ بها شذوذاً. وقُرئ» مُرِدِّفين «بكسرِ الراء وتشديدِ الدالِ مكسورةً. وكسرُ الراء يَحْتمل وجهين: إمَّا لالتقاء الساكنين وإمَّا للإِتباع. قال ابن عطية:» ويجوز على هذه القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للراء، ولا أحفظه قراءة «، قلت: وكذلك الفتحة في» مُرَدِّفين «في القراءةِ التي حكاها الخليل تحتمل وجهين. أحدهما: وهو الظاهر أنها حركةُ نَقْلٍ من التاء حين قصد إدغامَها إلى الراء.

والثاني: أنها فُتِحَتْ تخفيفاً، وإن كان الأصلُ الكسرَ على أصل التقاء الساكنين كما قد قُرئ به. وقُرِئ» مِرْدِفين «بكسر الميم إتباعاً لكسرة الراء. والوَجَل: الفَزَعُ. وقيل: استشعار الخوف يُقال منه: وَجِل يَوْجَل وياجَل ويَيْجَل ويَيْجِل وَجَلاً، فهو وَجِل. والشَّوْكَة: السلاح كسِنان الرُّمْح والنَّصْل والسيف، وأصلها من النبتِ الحديدِ الطَرْفِ كشَوْك السَّعْدان، يُقال منه: رجلٌ شائكٌ، فالهمزةُ من واو كقائم، ويجوز قلبُه بتأخيرِ عينه بعد لامه، فيقال:» شاكٍ «، فيصير كغازٍ، ووزنُه حينئذ فالٍ قال زهير: 2384 - لدى أسدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ ... له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ ويُوصَفُ السِّلاحُ بالشاكي كما يُوصف به الرجل فيُقال: رجلٌ شاكٌ وشاكٍ، وسلاحٌ شاكٌ وشاكٍ. فأمَّا شاكٌ فصحيحٌ غيرُ معتلٍّ، وألفُه منقلبةٌ عن عين الكلمة، ووزنُه في الأصل على فَعِل بكسر العين، ولكن قُلِبَتْ ألفاً كما قالوا كَبْشٌ صافٌ أي صَوِف، وكذلك شاكٌ أي شَوِكٌ. ويُحتمل أن يكونَ محذوفَ العينِ وأصلُه شائك فحُذِفَت العينُ فبقي شاكاً فألفُه زائدةٌ ووزنُه على هذا فال. وأمَّا شاكٍ فمنقوصٌ وطريقتُه بالقلب كما تقدم. ومِنْ وصف السلاح بالشاك قوله: 2385 - وأُلْبِسُ مَنْ رضاه في طريقي ... سلاحاً يَذْعَر الأبطال شاكا فهذا يُحْتمل أن يكونَ محذوفَ العين، وأن يكون أصله شَوِكاً كصَوِف.

ويُقال أيضاً: هو شاكٌّ في السلاح بتشديد الكاف مِنَ الشِكَّة وهي السلاح أجمع، نقله الهروي والراغب. والاستغاثة: طلبُ الغَوْث وهو النصرُ والعَوْن وقيل: الاستغاثةُ سَدُّ الخَلَّة وقت الحاجة. وقيل: هي الاستجارةُ. ويقال: غَوْثٌ وغُواث وغَواث، والغيث من المطر والغَوْث من النصرة، فعلى هذا يكونُ «استغاث» مشتركاً بينهما، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل فيقال: استَغَثْتُه فأغاثني من الغَوْث، وغاثَني مِن الغَيْث. والإِردافُ: الإِتباع والإِركاب وراءك. قال الزجاج: «أَرْدَفْتُ الرجل إذا جئت بعده» . ومنه {تَتْبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 7] ، ويقال: رَدِف وأَرْدَف. واختلف اللغويون فقيل: هما بمعنى واحد، وهو قولُ ابنِ الأعرابي نقله عنه ثعلب، وقولُ أبي زيد نقله عنه أبو عبيد قال: «يُقال: رَدِفْتُ الرجلَ وأَرْدَفْته إذا ركبْتَ خلفَه» ، وأنشد: 2386 - إذا الجوزاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظنَنْتُ بآل فاطمةَ الظُّنونا أي جَاءَتْ على رِدْفِها. وقيل: بل بينهما فرقٌ، فقال الزجاج: «يقال: رَدِفْتُ الرجلَ: رَكِبْتُ خلفَه وأَرْدَفْتُه: أركبتُه خلفي» وهذا يناسِبُ قولَ

مَنْ يُقَدِّر مفعولاً في «مُرْدِفين» بكسرِ الدال، وأَرْدَفْتُه «إذا جِئْتَ بعده أيضاً، فصار أَرْدَفَ على هذا مشتركاً بين معنيين. وقال شمر:» رَدِفْتُ وأَرْدَفْتُ إذا فَعَلْتَ ذلك بنفسك، فأمَّا إذا فَعَلْتَهما/ بغيرك فَأَرْدَفْتُ لا غير «. وقوله: {مُرْدَفِينَ} بفتح الدالِ فيه وجهان، أظهرهما: أنه صفةٌ لأَلْف أي أَرْدَف بعضُهم لبعض. والثاني: أنه حالٌ من ضمير المخاطبين في» يمدُّكم «قال ابن عطية:» ويُحتمل أن يُراد بالمُرْدَفين المؤمنون أي: أُرْدِفوا بالملائكة «وهذا نصٌّ فيما ذكرته من الوجه الثاني. وقال الزمخشري:» وقرئ «مُرْدَِفين» بكسر الدال وفتحها مِنْ قولك: رَدِفه إذا تبعه، ومنه قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، أي: رَدِفَكم، وأَرْدَفْتُه إياه إذا تَبِعْتَه، ويقال: أَرْدَفته كقولك: اتَّبَعْته إذا جئت بعده، فلا يخلُو المكسورُ الدالِ مِنْ أن يكون بمعنى مُتْبِعين أو مُتَّبِعين. فإن كان بمعنى مُتْبِعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى مُتْبِعِيْن بعضَهم بعضاً، أو مُتْبِعين بعضهم لبعض، أو بمعنى مُتْبعين إياهم المؤمنين، بمعنى يتقدَّمونهم فيُتْبعونهم أنفسهم أو مُتْبِعين لهم يُشَيِّعونهم ويُقَدِّمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحِفْظهم، أو بمعنى مُتْبِعين أنفسهم ملائكةً آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة. ويعضد هذا الوجهَ قولُه تعالى في سورة آل عمران {بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين} [آل عمران: 124] {بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] ، ومن قرأ «مُرْدَفين» بالفتح فهو بمعنى مُتْبَعين أو مُتَّبَعين «.

قلت: وهذا الكلامُ على طوله شرحُه أنَّ» أَتْبع «بالتخفيف يتعدَّى إلى مفعولين، و» اتَّبع «بالتشديد يتعدى لواحدٍ، وأَرْدَف قد جاء بمعناهما، ومفعولُه أو مفعولاه محذوفٌ لفهم المعنى، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به. إلا أنَّ الشيخ عابَ عليه قوله» مُتْبِعين إياهم المؤمنين وقال: «هذا ليس من مواضعِ فَصْلِ الضمير بل مما يتصل وتُحْذف له النون، لا يقال: هم كاسون إياك ثوباً، بل كاسوك، فتصحيحه أن يقول: متبعيهم المؤمنين أو مُتْبعين أنفسَهم المؤمنين» .

10

قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ} : الهاء تعود على الإِمداد أي: وما جعل اللهُ الإِمدادَ. ثم هذا الإِمدادُ يحتمل أن يكون المنسبكَ من قوله {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} [الأنفال: 9] ، إذ المعنى: فاستجاب بإمدادكم. ويحتمل أن يكون مدلولاً عليه بقوله «مُمِدُّكم» كما دلَّ عليه فِعْلُه في قوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] . وهذا الثاني أَوْلى لأنه مُتَأَتٍّ على قراءة الفتح والكسر في «إني» بخلاف الأول فإنه لا يتجه عَوْدُه على الإِمداد على قراءة الكسر إلا بتأويلٍ ذكره الزمخشري وهو أنه مفعولُ القول المضمر فهو في معنى القول. وقيل يعود على المَدَد قاله الزجاج. قال الواحدي: «وهذا أَوْلَى لأنَّ بالإِمداد بالملائكة كانت البشرى» . وقال الفراء: «إنه يعودُ على الإِرداف المدلول عليه بمردفين» . وقيل: يعودُ على الألف. وقيل: على الوعد المدلول عليه ب {يَعِدُكُمُ} [الأنفال: 7] .

وقيل: على جبريل أو على الاستجابة، لأنها مؤنث مجازي، أو على الإِخبار بالإِمداد. وهي كلُّها محتملة وأرجحها الأولُ، والجَعْل هنا تصييرٌ.

11

قوله تعالى: {إذ يَغْشاكم} : في «إذ» وجوه أحدها: أنه بدل من «إذ» في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} [الأنفال: 7] . قال الزمخشري: «إذ يغشاكم بدلٌ ثانٍ من» إذ يَعِدكم «. قوله:» ثان «لأنه أبدل منه» إذ «في قوله» إذ تَسْتغيثون «ووافقه على هذا ابن عطية وأبو البقاء. الثاني: أنه منصوبٌ بالنصر. الثالث: ب {مِنْ عِندِ الله} [الأنفال: 10] من معنى الفعل. الرابع: ب {مَا جَعَلَهُ الله} [الأنفال: 10] . الخامس: بإضمار» اذكر «. ذكر ذلك الزمخشري. وقد سبقه إلى الرابع الحوفيُّ. وقد ضَعَّفَ الشيخُ الوجهَ الثاني بثلاثة أوجه أحدها: أنَّ فيه إعمالَ المصدرِ المقرون بأل قال:» وفيه خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يَعْمل. الثاني من الأوجه المضعِّفة أنه فيه فصلٌ بين المصدر ومعموله بالخبر وهو قوله: «إلا من عند الله» ، ولو قلت: «ضَرْبُ زيدٍ شديدٌ عمراً» لم يَجُزْ. الثالث: أنه عَمل ما قبل «إلا» فيما بعدها وليس أحدَ الثلاثةِ الجائزِ ذلك فيها،

لأنه لا يعمل ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكونَ مستثنى أو مستثنى منه أو صفةً له. وقد جوَّز الكسائي والأخفش إعمالَ ما قبل «إلا» فيما بعدها مطلقاً، وليس في هذه الأوجه أحسنُ من أنه أخبر عن الموصول قبل تمامِ صلته. وضَعَّفَ الثالثَ بأنه يلزم منه أن يكون استقرارُ النصر مقيَّداً/ بهذا الظرفِ، والنصرُ من عند الله لا يتقيَّد بوقت دون وقت. وهذا لا يَضْعُفُ به لأنَّ المرادَ بهذا النصرِ نصرٌ خاص، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيداً بذلك الظرف. وضعَّف الرابعَ بطولِ الفصل ويكون معمولاً لما قبل «إلا» . السادس: أنه منصوبٌ بقوله: «ولتطمئنَّ به» قاله الطبري. السابع: أنه منصوبٌ بما دلَّ عليه «عزيز حكيم» قاله أبو البقاء. ونحا إليه ابن عطية قبله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يَغْشاكم النعاسُ» . نافع: «يُغْشِيكم» بضم الياء وكسر الشينِ خفيفةً. «النعاسَ» نصباً. والباقون «يُغَشِّيكم» كالذي قبله، إلا أنه بتشديد الشين فالقراءة الأولى مِنْ غَشِي يَغْشَى، و «النعاس» فاعل. وفي الثانية مِنْ «أغشى» ، وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى، وكذا في الثالثة مِنْ «غَشَّى» بالتشديد. و «النعاس» فيهما مفعول به، وأغشى وغشَّى لغتان. قوله: «أَمَنَةً» في نصبِها ثلاثةُ [أوجه] أحدُها: أنه مصدرٌ لفعلٍ مقدر أي: فَأَمِنْتُم أَمَنةً. الثاني: أنها منصوبة على أنها واقعةٌ موقعَ الحال: إمَّا من

الفاعل، فإن كان الفاعلُ «النعاس» فنسبةُ الأمنة إليه مجازٌ، وإن كان الباريَ تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبة حقيقةٌ، وإمَّا من المفعولِ على المبالغة أي: جَعْلهم نفسَ الأمنة، أو على حَذْفِ مضاف أي: ذوي أمنة. الثالث: أنه مفعولٌ من أجله وذلك: إمَّا أن يكونَ على القراءتين الأخيرتين أو على الأولى، فعلى القراءتين الأخيرتين أمرُها واضحٌ، وذلك أن التغشيةَ أو الإِغشاءَ من الله تعالى، والأمنةُ منه أيضاً، فقد اتحد الفاعلُ فصحَّ النصب على المفعول له. وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل «يغشى» النعاسُ، وفاعل «الأمنة» الباري تعالى. ومع اختلافِ الفاعلِ يمتنع النصبُ على المفعول له على المشهور وفيه خلافٌ، اللهم إلا أن يُتَجَوَّز بتجوز. وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال: «وأَمَنَةً» مفعولٌ له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعلُ الفعلِ المُعَلَّلِ والعلةِ واحداً؟ قلت: بلى ولكن لمَّا كان معنى «يَغْشاكم النعاسُ» تَنْعَسون انتصب «أَمَنةً» على معنى: أنَّ النعاسَ والأَمَنَة لهم، والمعنى إذ تَنْعَسُون أمناً «. ثم قال:» فإن قلت: هل يجوزُ أن ينتصبَ على أن الأمنةَ للنعاس الذي هو يغشاكم أي: يَغْشاكم النعاسُ لأمنة، على أنَّ إسنادَ الأَمْن إلى النعاس إسنادٌ مجازي وهو لأصحابِ النُّعاس على الحقيقة، أو على أنه أتاكم في وقت كان مِنْ حق النعاس في ذلك الوقت المَخُوف أن لا يُقَدَّمَ على غشيانكم، وإنما غَشَّاكم أمنةً حاصلةً له من الله لولاها لم يَغْشكم على طريقة التمثيل والتخييل «. قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله، وله فيه نظائرُ، وقد ألمَّ به من قال:

2387 - يَهاب النَّوْمُ أن يَغْشى عيوناً ... تهابُكَ فهْوَ نَفَّارٌ شَرودُ وقوله: {مِنْه} في محلِّ نصبٍ صفةً ل» أَمَنَة «، والضمير في» منه «يجوزُ أن يعودَ على الباري تعالى، وأَنْ يعودَ على النعاس بالمجاز المذكور آنفاً. وقرأ ابن محيصن والنخعي ويحيى بن يعمر» أَمْنَةً «بسكون الميم. ونظير أَمِنَ أَمَنَةً بالتحريك حَيِي حياة، ونظيرُ أَمِن أَمْنة بالسكون رَحِم رَحْمَةً. قوله: {مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ} العامَّةُ على» ماءً «بالمد. و» ليطهركم «متعلِّقٌ ب» يُنَزِّل «. وقرأ الشعبي» ما ليطهركم «بألفٍ مقصورة، وفيها تخريجان أظهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره أنَّ» ما «بمعنى الذي، و» ليطهِّرَكم «صلتُها، وقال بعضهم: تقديره: الذي هو ليطهركم، فقدَّر الجارَّ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، والجملةُ صلة ل» ما «. وقد ردَّ الشيخ هذين التخريجين بأن لامَ» كي «لا تقعُ صلةً. والثاني: أن» ما «هو ماء بالمد، ولكن العرب قد حَذَفَتْ همزتَه فقالوا:» شربت ماً «بميم منونة، حكاه ابن مقسم، وهذا لا نظيرَ له إذ لا يجوز أن يُنْتَهَك اسمٌ مُعْرَبٌ بالحذف حتى يبقى على حرفٍ واحد. إذا عُرِف هذا فيجوزُ أن يكونَ قَصَرَها، وإنما لم ينوِّنْه إجراءً للوصل مُجْرى الوقف. ثم هذه الألفُ يحتمل أن تكون عين الكلمة وأن الهمزةَ محذوفةٌ/ وهذه الألفُ بدلٌ مِنَ الواو التي في «مَوَهَ» في الأصل، ويجوز أن تكونَ المبدلةَ من التنوين وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقف. والأولُ أَوْلَى لأنهم يُراعون في الوقف أن لا يتركوا الموقوف عليه على حرفٍ واحد نحو «مُرٍ» اسم فاعل مِنْ أرى يُري.

قوله: «ويُذْهِبَ» نسقٌ على «ليطهِّركم» . وقرأ عيسى بن عمر «ويُذْهِبْ» بسكون الباء، وهو تخفيف سمَّاه الشيخ جزماً. والعامة على «رِجز» بكسرِ الراء والزاي. وقرأ ابن محيصن بضم الراء، وابنُ أبي عبلة بالسين. وقد تقدَّم الكلامُ على كل واحد منها. ومعنى «رجز الشيطان» هنا ما ينشأُ عن وسوسته.

12

قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ ثالث من قوله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} [الأنفال: 7] . والثاني: أن ينتصب بقوله «ويثبِّتَ» ، قالهما الزمخشري، ولم يَبْنِ ذلك على عود الضمير. وأمَّا ابنُ عطية فبناه على عَوْد الضمير في قوله «به» ، فقال: «العاملُ في» إذ «العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها، ولو قدَّرْناه قريباً لكان قوله» ويُثَبِّتَ «على تأويل عَوْده على الرَّبط، وأمَّا على تأويل عَوْده على الماء فَيَقْلَق أن يعمل» ويثبت «في إذ» ، وإنما قَلِق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به مِنْ تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النعاس، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النعاس والإِيحاءُ كانا وقتَ القتال. قوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} مفعول ب «يوحي» ، أي: يوحي كوني معكم بالغلبة والنصر. وقرأ عيسى بن عمر بخلافٍ عنه «إني معكم» بكسرِ الهمزة.

وفيه وجهان، أحدهما: أن ذلك على إِضمارِ القول، وهو مذهب البصريين. والثاني: إجراء «يوحي» مُجْرى القول لأنه بمعناه، وهو مذهب الكوفيين. قوله: {فَوْقَ الأعناق} فيه أوجه، أحدها: أن «فوق» باقيةٌ على ظرفيتها، والمفعولُ محذوفٌ أي: فاضربوهم فوق الأعناق، عَلَّمَهم كيف يضربونهم. والثاني: أن «فوق» مفعولٌ به على الاتِّساع لأنه عبارةٌ عن الرأس كأنه قيل: فاضربوا رؤوسَهم. وهذا ليس بجيدٍ لأنه لا يَتَصَرَّف. وقد زعم بعضُهم أنه يتصرَّف وأنك تقول: فوقُك رأسُك برفع «فوقك» ، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال: «فوق الأعناق: أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح التي هي مفاصل» . الثالث: وهو قول أبي عبيدة أنها بمعنى على أي: على الأعناق، ويكون المفعول محذوفاً تقديره: فاضربوهم على الأعناق، وهو قريبٌ من الأول. الرابع: قال ابن قتيبة: «هي بمعنى دون» . قال ابن عطية: «وهذا خطأ بَيِّنٌ وغلطٌ فاحش، وإنما دخل عليه اللَّبْس من قوله: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] ، أي: فما دونها، وليست» فوق «هنا بمعنى دون، وإنما المرادُ: فما فوقها في القلة والصغر. الخامس: أنها زائدة أي اضربوا الأعناق وهو قول أبي الحسن، وهذا عند الجمهورِ خطأ، لأنَّ زيادةَ الأسماءِ لا تجوز. قوله: {مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يجوز أن يتعلَّق» منهم «بالأمر قبله أي: ابْتَدِئوا الضرب من هذه الأماكن والأعضاء من أعاليهم إلى أسافِلهم. ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على

أنه حال مِنْ» كلِّ بنان «؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون صفةً له لو تأخَّر قال أبو البقاء:» ويَضْعُف أن يكون حالاً من «بنان» إذ فيه تقديمُ حالِ المضاف إليه على المضاف «فكأن المعنى: اضربوهم كيف ما كان. قال الزمخشري: «يعني ضَرْبَ الهام» قال: 2388 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَضْرِبُ هامةَ البطلِ المُشيحِ وقال: 2389 - غَشَّيْتُه وَهْو في جَأْواءَ باسلةٍ ... عَضْباً أصابَ سَواءَ الرأسِ فانفلقا وقال ابن عطية: «ويُحتمل أن يريد بقوله:» فوق الأعناق «وَصْفَ أبلغِ ضَرَبات العنقِ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق، ودون عظم الرأس» ، ثم قال: «منه قوله: 2390 - جَعَلْتُ السيفَ بين الجِيْدِ مِنْه ... وبين أَسِيْلِ خَدَّيْه عِذارا» وقيل: هذا مِنْ ذِكْر الجزء وإرادةِ الكل كقول عنترة: /

2391 - عَهْدي به شَدَّ النهار كأنما ... خُضِب البَنانُ ورأسُه بالعِظْلم والبَنان: قيل الأصابع، وهو اسمُ جنسٍ، الواحد بَنانة قال عنترة: 2392 - وإنَّ الموتَ طَوْعُ يدي إذا ما ... وصلْتُ بنانَها بالهُنْدُواني وقال أبو الهيثم: «البنان: المفاصِلُ، وكلُّ مَفْصِلٍ بنانة» . وقيل: البَنان: الأصابعُ من اليدين والرجلين. وقيل: الأصابع من اليدين والرِّجلين وجميع المَفَاصل من جميع الأعضاء، وأنشد لعنترة: 2393 - وكان فتى الهَيْجاءِ يَحْمي ذِمارَها ... ويَضْرِبُ عند الكَرْب كلَّ بنانِ وقد تُبْدَلُ نونُه الأخيرة ميماً. قال رؤبة: 2394 - يا هالَ ذاتَ المَنْطِقِ النَّمْنامِ ... وكَفِّك المخضَّبِ البنَامِ

13

قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ} : مبتدأ وخبر؟ والإِشارةُ إلى الأمر بضَرْبهم، والخطابُ يجوز أن يكون للرسول، ويجوز أن يكونَ للكفار، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً. كذا قال الشيخ وفيه نظر لوجهين أحدهما: أنه يلزمُ من ذلك خطابُ الجمع بخطاب الواحد وهو ممتنعٌ أو قليل، وقد حُكِيَتْ لُغَيَّة. والثاني: أن بعده «بأنهم شاقُّوا» فيكون التفتَ من الغَيْبة إلى الخطاب في كلمة واحدة، ثم رَجَع إلى الغَيْبة في الحال وهو بعيد. قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الله} «مَنْ» مبتدأ والجملة الواقعة بعدها خبرها

أو الجملة الواقعة جزاءً أو مجموعهما. ومَنْ التزم عَوْدَ ضميرٍ مِنْ جملةِ الجزاء على اسم الشرط قدَّره هنا محذوفاً تقديرُه: فإنَّ الله شديدُ العقاب له. واتفق القراءُ على فَكِّ الإِدغام هنا في «يُشاقِق» لأن المصاحفَ كَتَبَتْه بقافين مفكوكَتَيْن، وفكُّ هذا النوعِ لغةُ الحجاز، والإِدغامُ بشروطه لغة تميم.

14

قوله تعالى: {ذلكم فَذُوقُوهُ} : يجوز في «ذلكم» أربعةُ أوجه أحدها: أن يكونَ مرفوعاً على خبر ابتداء مضمر أي: العقاب ذلكم أو الأمر ذلكم. الثاني: أن يرتفعَ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ أي: ذلكُ العقابُ. وعلى هذين الوجهين فيكون قولُه «فذوقوه» لا تَعَلُّق لها بما قبلها مِنْ جهة الإِعراب. والثالث: أن يرتفع بالابتداء، والخبرُ قوله: «فذوقوه» ، وهذا على رأي الأخفش فإنه يرى زيادة الفاء مطلقاً أعني سواءً تضمَّن المبتدأ معنى الشرط أم لا، وأما غيرُه فلا يُجيز زيادتها إلا بشرط أن يكون المبتدأ مشبهاً لاسم الشرط، وقد قَدَّمْتُ تقريرَه غير مرة. واستدلَّ الأخفش على جواز ذلك بقول الشاعر: 2395 - وقائلةٍ خولانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ ... وأُكْرومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هيا وخرَّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره: هذه خولان. الرابع: أن يكون منصوباً بإضمار فعل يُفَسِّره ما بعده، ويكون من باب الاشتغال. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون نصباً على «عليكم ذلكم» كقوله: زيداً فاضربه «. قال الشيخ:» ولا يَصِحُّ هذا التقدير لأنَّ «عليكم» من أسماء

الأفعال، وأسماءُ الأفعالِ لا تُضْمَر، فتشبيهُه بقولك: «زيداً فاضرِبْه» ليس بجيد، لأنهم لم يُقَدِّروه ب «عليك زيداً فاضربه» وإنما هذا منصوبٌ على الاشتغال «، قلت: يجوز أن يكون نحا الزمخشري نَحْوَ الكوفيين، فإنهم يُجرونه مُجْرى الفعل مطلقاً، وكذلك يُعْملونه متأخراً نحو: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] . وقال أبو البقاء:» ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي: ذوقوا ذلكم، ويُجْعَلَ الفعلُ الذي بعده مفسِّراً له، والأحسن أن يكون التقدير: باشروا ذلكم فذوقوه لتكون الفاءُ عاطفةً «. قلت: ظاهرُ هذه العبارةِ الثانية أن المسألةَ لا تكون مِن الاشتغال لأنه قَدَّر الفعلَ غيرَ موافقٍ لما بعده لفظاً مع إمكانه، وأيضاً فقد جَعَلَ الفاءَ عاطفةً لا زائدةً، وقد تقدَّمَ تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند قوله: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] . قوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} الجمهور على فتح» أنَّ «وفيها تخريجات، أحدها: أنها وما في حَيِّزها في محل رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: حَتْمٌ استقرارُ عذابِ النار للكافرين. والثاني: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: الحتم/ أو الواجب أن للكافرين، أو الواجب أن للكافرين عذاب النار. الثالث: أن تكون عطفاً على» ذلكم «في وجهَيْه، قاله الزمخشري، ويعني بقوله» في وجهيه «، أي: وجهي الرفع وقد تقدَّما. الرابع: أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة، قال الزمخشري:» أو نصب

على أن الواو بمعنى مع، والمعنى: ذوقوا هذا العذابَ العاجلَ مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضَع الظاهرَ موضعَ المضمر «يعني بقوله» وَضَع الظاهرَ موضعَ المضمر «أن أصلَ الكلام: فذوقوه وأن لكم، فوضع» للكافرين «موضعَ» لكم «، شهادةً عليهم بالكفر ومَنْبَهَةً على العلة. الخامس: أن يكون في محل نصب بإضمار اعلموا، قال الشاعر: 2396 - تسمع للأَحْشاء منه لَغَطَاً ... ولليدين جُسْأَةً وبَدَدا أي: وترى لليدين بَدَداً، فأضمر» ترى «، كذلك فذوقوه: واعلموا أنَّ للكافرين. وأنكره الزجاج أشدَّ إنكارٍ وقال:» لو جاز هذا لجاز: «زيد قائم وعمراً منطلقاً» ، أي: وترى عمراً منطلقاً، ولا يُجيزه أحد «. وقرأ زيد بن علي والحسن بكسرها على الاستئناف.

15

قوله تعالى: {زَحْفاً} : فيه وجهان: أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وذلك الناصب له في محل نصب على الحال، والتقدير: إذا لقيتم الذين كفروا زاحفين زحفاً، أو يزحفون زحفاً. والثاني: أنه منصوبٌ على الحال بنفسه ثم اختلفوا في صاحبِ الحال فقيل: الفاعل، أي: وأنتم زَحْف من الزحوف، أي: جماعة، أو وأنتم تمشون إليهم قليلاً قليلاً على حَسَب ما يُفَسَّر به الزَّحْف وسيأتي. وقيل: هو المفعول أي: وهم جمٌّ كثير أو يمشون إليكم. وقيل: هي حالٌ منهما أي: لقيتموهم متزاحِفين بعضَكم إلى بعض.

والزَّحْفُ: الدنوُّ قليلاً قليلاً يقال: زَحَف يَزْحَف إليه بالفتح فيهما فهو زاحفٌ زَحْفاً، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحف وأَزْحَفَ لنا عدوُّنا أي: دَنَوا لقتالنا. وقال الليث: «الزَّحْفُ: الجماعة يمشون إلى عدوِّهم، قال الأعشى: 2397 - لِمَنِ الظعائنُ سَيَّرُهُنَّ تَزَحُّفُ ... مثلَ السَّفِينِ إذا تقاذَفُ تَجْدِفُ وهذا من باب إطلاق المصدر على العين. والزَّحْفُ: الدبيب أيضاً مِنْ» زَحَفَ الصبيُّ «، قال امرؤ القيس: 2398 - فَزَحْفاً أَتَيْتُ على الرُّكْبَتَيْنِ ... فثوباً لَبِسْتُ وثوباً أَجُرّْ ويجوز جمعُه على زُحوف ومَزاحِف، لاختلاف النوع، قال الهذلي: 2399 - كأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فيه ... قبيل الصُّبْحِ آثارُ السِّياطِ ومَزاحِف جمع مَزْحَف اسمَ المصدر. قوله:» الأَدْبار «مفعول ل» تُوَلُّوهم «.

16

وكذا {دُبُرَه} مفعول ثان ل {يُوَلِّهم} : وقرأ الحسن بالسكون كقولهم «عُنْق» في عُنُق، وهذا من باب التعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ مِنْ فاعلها فأتى بلفظ الدُّبُر دون الظَّهر لذلك. وبعضهم من أهل علم البيان سَمَّى هذا النوع كنايةً وليس بشيء.

قوله: {إلا مُتَحرِّفاً} في نصبه وجهان، أحدهما: أنه حال. والثاني: أنه استثناء. وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال: «فإن قلت: بمَ انتصبَ» إلا متحرِّفاً «؟ قلت: على الحال، و» إلا «لغوٌ، أو على الاستثناء من المُوَلِّين، أي: ومَنْ يُوَلِّهم إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً» . قال الشيخ: «لا يريد بقوله» إلا لغوٌ «أنها زائدة، بل يريد أن العامل وهو» يُوَلِّهم «وَصَلَ لِما بعدها كقولهم في نحو» جئت بلا زاد «إنها لغو، وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوفة والتقدير: ومَنْ يُوَلِّهم مُلْتبساً بأية حال إلا في حال كذا، وإن لم تُقَدَّر حالٌ عامةٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ» إلا «لأنَّ الشرطَ عندهم واجبٌ، والواجبُ حكمُه أن لا تدخلَ» إلا «فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفَضَلات، لأنه استثناءٌ مفرغ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب إنما يكون مع النفي أو النهي، أو المؤول بهما، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤَوَّل» ، قلت: قوله: «لا في المفعول ولا في غيره من الفَضَلات» لا حاجةَ إليه؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإِيجابِ مطلقاً سواءً كان ما بعد «إلا» فَضْلَةً أم عمدةً، فَذِكْرُ الفَضْلةِ والمفعول/ يوهم جوازَه في غيرهما. وقال ابن عطية: «وأمَّا الاستثناءُ فهو مِنَ المُوَلِّين الذين تتضمَّنهم» مَنْ «. فَجَعَلَ نَصْبَه على الاستثناء. وقال جماعة: إن الاستثناء من أنواع التولِّي. وقد رُدَّ هذا بأن لو كان كذلك لوَجَبَ أن يكونَ التركيبُ: إلا تحيُّزاً أو تحرُّفاً. والتحيُّزُ والتَّجَوُّزُ: الانضمام. وتحوَّزَت الحَيَّة: انطوَتْ، وحُزْتُ الشيء: ضَمَنْتُه. والحَوْزَةُ ما يَضُمُّ الأشياءَ. ووزنُ متحيِّز: مُتَفَيْعِل، والأصل:

مُتَحَيْوِز. فاجتمعت الياء والواو وسبقَتْ إحداهما بالسكون فقُلِبت الواو ياءً وأُدْغِمت في الياء بعدها كمَيِّت. ولا يجوز أن يكون مُتَفَعِّلاً لأنه لو كان كذا لكان متحوُّزاً، فأمَّا متحوِّز فمتفعِّل.

17

قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} : في هذه الفاء وجهان أحدهما وبه قال الزمخشري: أنها جوابُ شرطٍ مقدر أي: إن افتخرتم بقَتْلهم فَلَمْ تقتلوهم «، قال الشيخ:» وليست جواباً بل لرَبْطِ الكلام بعضِه ببعض «. قوله: {ولكن الله قَتَلَهُمْ} قرأ الأخَوان وابن عامر» ولكن الله قَتَلهم «» ولكن الله رمى «بتخفيف» لكن «ورفع الجلالة، والباقون بالتشديد ونصب الجلالة. وقد تقدَّم توجيهُ القراءتين مُشْبعاً في قوله {ولكن الشياطين} [البقرة: 104] . وجاءت هنا» لكن «أحسن مجيْءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات، وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} نفى عنه الرَّميَ وأثبته له، وذلك باعتبارين: أي: ما رَمَيْتَ على الحقيقة إذ رَمَيْتَ في ظاهر الحال، أو ما رَمَيْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذ رَمَيْت الحَصَيَات والتراب. وقوله:» وما رَمَيْتَ «هذه الجملة عطفٌ على قوله» فلم تقتلوهم «لأنَّ المضارع المنفي ب لم في قوة الماضي المنفي ب» ما «، فإنك إذا قلت:» لم يَقُم «كان معناه ما قام. ولم يقل هنا: فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم، كما قال:» إذ رَمَيْت «مبالغةً في الجملة الثانية. قوله: {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين} ، متعلِّقٌ بمحذوف أي: وليبليَ فَعَلَ ذلك.

أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة أي: ولكن الله رَمَى ليمحق الكفار وليُبْلي المؤمنين. والبلاء في الخير والشر. قال زهير: 2400 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... وأبلاهما خيرَ البلاء الذي يبلو والهاءُ في» منه «تعود على الظفر بالمشركين. وقيل: على الرمي قالهما مكي. والظاهر أنها تعود على الله تعالى.

18

قوله تعالى: {ذلكم} : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي: ذلكم الأمر، والخبرُ محذوف قاله الحوفي، والأحسنُ أن يُقَدَّر الخبر: ذلكم البلاءُ حقٌّ وَحَتْمٌ. وقيل: هو خبر مبتدأ، أي: الأمر ذلكم وهو تقدير سيبويه. وقيل: محلُّه نصب بإضمار فِعْلٍ أي: فَعَل ذلك. والإِشارةُ ب «ذلكم» إلى القتل والرمي والإشبلاء. وقوله «بلاءً» يجوز أن يكونَ اسمَ مصدر أي إبلاء، ويجوز أن يكون أريد بالبلاء نفسُ الشيء المبلوِّ به. قوله: {وَأَنَّ الله} يجوز أن يكون معطوفاً على «ذلكم» فيُحكم على محلِّه بما يُحْكَمُ على محلِّ «ذلكم» وقد تقدَّم، وأن يكون في محلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي: واعلموا أن الله، وقد تقدَّم ما في ذلك. وقال الزمخشري: «إنه معطوفٌ على» وليُبْلي «، يعني أن الغرضَ إبلاء المؤمنين وتوهينُ كيد الكافرين» .

وقرأ ابن عامر والكوفيون «مُوْهِن» بسكون الواو وتخفيف الهاء مِنْ أوهن كأكرم. ونَوَّن «موهن» غيرُ حفص. وقرأ الباقون «مُوَهِّن» بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين. ف «كيد» منصوبٌ على المفعول به في قراءة غير حفص، ومخفوضٌ في قراءةِ حَفْص، وأصلُه النصب. وقراءة الكوفيين جاءت على الأكثر لأن ما عينُه حرفُ حلقٍ غيرَ الهمزة تعديتُه بالهمزة، ولا يُعَدَّى بالتضعيف إلا كَلِمٌ محفوظة نحو: وهَّنْتُه وضَعَّفْتُه.

19

قوله تعالى: {وَلَن تُغْنِيَ} : قرأ الجمهور بالتاء من فوق لتأنيث الفئة. وقرئ «ولن يُغْني» بالتاء من تحت لأن تأنيثه مجازي وللفصلِ أيضاً. «ولو كَثُرَت» هذه الجملةُ الامتناعية حالية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك. قوله: {وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} قرأ نافع وابن عامر وحفصٌ عن عاصم بالفتح والباقون بالكسر. فالفتح من أوجه أحدها: أنه على لام العلة تقديره: ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت. والثاني: أنَّ التقدير: ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم. والثالث: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي: والأمر أن الله مع المؤمنين. وهذا الوجهُ الأخيرُ يَقْرُب في المعنى مِنْ قراءة الكسر لأنه استئناف.

20

قوله تعالى: {وَلاَ تَوَلَّوْا} : الأصل: تَتَوَلَّوا/ فحذف إحدى التاءين. وقد تقدَّم الخلاف في أيهما المحذوفة.

قوله: {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} جملةٌ حالية، والضمير في «عنه» يعود على الرسول؛ لأن طاعته من طاعة الله. وقيل: يعود على الله وهذا كقوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . وقيل: يعود على الأمر بالطاعة.

22

وقوله تعالى: {الصم} : إنما جُمِع «الصُمُّ» وهو خبر «شر» لأنه يُراد به الكثرةُ، فجُمع الخبر على المعنى، ولو كان الأصم لكان الإِفرادُ على اللفظ، فالمعنى على الجمع. وقوله: {الذين لاَ يَعْقِلُونَ} يجوز رفعُه أو نصبه على القطع.

24

قوله تعالى: {بَيْنَ المرء} : العامَّةُ على فتح الميم، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرِها على إتباعها لحركة الهمزة وذلك أن في «المَرْء» لغتين أفصحُهما على فَتْح الميم مطلقاً. والثانية بإتباع الميم لحركة الإِعراب، فتقول: هذا مُرْءٌ بضم الميم ورأيت مَرْءاً بفتحها، ومررت بمِرْءٍ بكسرها. وقرأ الحسن والزهري بفتح الميم وتشديد الراء. وتوجيهُها أن يكون نَقَلَ حركة الهمزة إلى الراء، ثم ضَعَّف الراء وأجرى الوصل مُجْرى الوقف. قوله: «وأنه» يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن، وأن تعودَ على الله تعالى، وهو الأحسنُ لقوله «الله» .

25

قوله تعالى: {لاَّ تُصِيبَنَّ} : في «لا» وجهان، أحدهما أنها ناهيةٌ، وعلى هذا فالجملةُ لا يجوز أن تكون صفةً ل «فتنة» ؛ لأنَّ الجملة الطلبيةَ لا تقعُ صفةً، ويجوز أن تكون معمولة لقول، ذلك القولُ هو الصفةُ أي: فتنةً

مقولاً فيها: لا تصيبنَّ. والنهيُ في الصورة للمصيبة وفي المعنى للمخاطبين، وهو في المعنى كقولهم: لا أُرَيَنَّك ههنا أي: لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم فيها مصيبةٌ لا تَخُصُّ ظالمَكم. ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها. ونظيرُ إضمار القولِ قولُه: 2401 - جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيتَ الذئبَ قَطْ ... أي: مقول فيه: هل رأيت. والثاني: أن «لا» نافية، والجملةُ صفةٌ ل «فتنة» وهذا واضحٌ من هذه الجهة، إلا أنه يُشْكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط، وفيه خلافٌ: هل يَجْري النفيُ ب «لا» مَجْرى النهي؟ من الناس من قال نعم، واستشهد بقوله: 2402 - فلا الجارةُ الدنيا لها تَلْحَيَنَّها ... ولا الضيفُ منها إنْ أناخَ مُحَوَّلُ وقال آخر: 2403 - فلا ذا نعيمٍ يُتْرَكَنْ لنعيمه ... وإن قال قَرِّظْني وخُذْ رشوةً أبى ولا ذا بيئسٍ يُتركنَّ لبؤسه ... فينفعَه شكوٌ إليه إن اشْتكى فإذا جاز أن يُؤكَّد المنفيُّ ب «لا» مع انفصاله فلأَنْ يؤكَّد المنفيُّ غيرُ المفصولِ بطريق الأَوْلى. إلا أن الجمهور يَحْملون ذلك على الضرورة. وزعم الفراء أنَّ «لا تصيبَنَّ» جواب للأمر نحو: «انزلْ عن الدابة

لا تَطْرَحَنَّك» ، أي: إنْ تنزل عنها لا تَطْرحنك، ومنه قوله {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} بالنمل: 18] ، أي: إنْ تَدْخُلوا لا يَحْطِمنَّكم، فدخلت النونُ لِما فيه من معنى الجزاء. قال الشيخ: «وقوله: لا يَحْطِمَنَّكم وهذا المثالُ ليس نظيرَ» فتنةً لا تصيبنَّ الذين «لأنه ينتظم من الآيةِ والمثالِ شرطٌ وجزاءٌ كما قَدَّر، ولا ينتظم ذلك هنا، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير: إنْ تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة المعنى» . قال الزمخشري: «لا تصيبنَّ» : لا يخلو: إمَّا أن يكونَ جواباً للأمر أو نهياً بعد أمرٍ أو صفةً لفتنة. فإذا كانت جواباً فالمعنى: إنْ أصابَتْكم لا تُصِبِ الظالمين منكم خاصة، بل تَعُمُّكم «، قال الشيخ:» وأخذ الزمخشري قولَ الفراء فزاده فساداً وخَبَط فيه «، فذكر ما نقلتُه عنه ثم قال:» فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو «اتقوا» ، ثم قدَّر أداةَ الشرطِ داخلةً على غير مضارع «اتقوا» فقال: المعنى: إن أصابَتْكم، يعني الفتنة. وانظر كيف قدَّر الفراء: انزل عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك، وفي قوله: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] ، فأدخل أداةَ شرطٍ على مضارع فعل الأمر وهكذا [يُقَدَّر] ما كان جواباً للأمر «. وقيل:» لا تصيبنَّ «جوابُ قسمٍ محذوف، والجملةُ القسميةُ صفةٌ لفتنة أي: فتنة واللهِ لا تصيبنَّ. ودخولُ النونِ أيضاً قليلٌ لأنه منفيٌّ. وقال:

أبو البقاء:» ودخلت النون على المنفي في غير القسم على الشذوذ «، وظاهرُ هذا أنه إذا كان النفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النونِ، وليس كذلك. وقيل: إن اللامَ لامُ التوكيد، والفعلُ بعدها مثبتٌ، وإنما مُطِلت اللام، أي: أُشْبِعَتْ فتحتُها فتولَّدَتْ ألفاً، فدخول النون فيها قياسٌ. / وتأثَّر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة» لتصيبَنَّ «وهي قراءةُ أميرِ المؤمنين وابن مسعود وزيد بن ثابت والباقر والربيع وأنس وأبي العالية وابن جماز. وممن وَجَّه ذلك ابن جني. والعجب أنه وَجَّه هذه القراءةَ الشاذة بتوجيهٍ يَرُدُّها إلى قراءةِ العامَّة، فقال:» ويجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ومَنْ ذُكر معه مخففةً من «لا» يعني حُذِفَتْ ألفُ «لا» تخفيفاً، واكتُفي بالحركة «، قال:» كما قالوا: أمَ والله يريدون: أما والله «. قال المهدوي:» كما حُذِفت مِنْ «ما» وهي أختُ «لا» في نحو «أما والله لأفعلنَّ» وشبهه. قوله «أخت لا» ليس كذلك لأن «أما» هذه للاستفتاحِ ك «ألا» ، وليست مِنَ النافية في شيءٍ، فقد تحصَّل من هذا أن ابن جني خرَّج كلاً من القراءتين على الأخرى، وهذا لا ينبغي أن يجوز البتة، كيف يُورِدُ لفظَ نفيٍ ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسِه؟ هذا إنما يَقْلب الحقائق ويؤدِّي إلى التعمية. وقال المبرد والفراء والزجاج في قراءة العامَّة: «لا تصيبنَّ» : «إنْ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله» فتنة «وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمةِ

خاصةً عن البُعْد من الظلم فتصيبهم الفتنة خاصة. والمرادُ هنا: لا يتعرَّض الظالم للفتنة فتقعَ إصابتُها له خاصة» . قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه: «وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرَّضوا للظلم فيصيبَ العقابُ أو أثرُ الذنبِ مَنْ ظَلَم منكم خاصة» . وقال علي بن سليمان «هو نَهْيٌ على معنى الدعاء، وإنما جعله نهياً بمعنى الدعاء لأنَّ دخولَ النونِ في المنفي ب لا عنده لا يجوز، فيصير المعنى: لا أصابَتْ ظالماً ولا غيرَ ظالم، فكأنه قيل: واتقوا فتنةً لا أوقعها الله بأحدٍ» . وقد تَحَصَّلْتُ ممَّا تقدَّم في تخريج هذه الكلمة على أقوال: النهي بتقديرَيْه، والدعاء بتقديريْه، والجواب للأمر بتقديريه، وكونِها صفةً بتقدير القول. قوله: {مِنْكُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها للبيان مطلقاً. والثاني: أنها حالٌ فتتعلَّقُ بمحذوف، وجعلها الزمخشري للتبعيض على تقديرٍ، وللبيان على تقدير آخر فقال: «فإن قلت: ما معنى» مِنْ «في قوله» الذين ظلموا منكم «؟ قلت: التبعيضُ على الوجه الأول، والبيان على الثاني؛ لأن المعنى: لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم، لأنَّ الظلمَ منكم أقبحُ مِنْ سائر الناس» . قلت: يعني بالأولِ كونَه جواباً لأمر، وبالثاني كونَه نهياً بعد أمرٍ. وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهينِ دون الآخر وكذا الثاني نظرٌ؛ إذ المعنى يَصِحُّ بأحد التقديرين مع التبعيضِ والبيان. قوله: {خَاصَّةً} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: وهو الظاهر أنها حالٌ من الفاعلِ المستكنِّ في قوله: «لا تصيبنَّ» ، وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ

محذوفٍ تقديره: إصابةً خاصة. الثاني: أنها حالٌ من المفعول وهو الموصولُ تقديره: لا تصيبنَّ الظالمين خاصة بل تعمُّهم وتعمُّ غيرهم. والثالث: أنه حالٌ من فاعل «ظلموا» قاله ابن عطية. قال الشيخ: «ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ» . قلت: ولا أدري ما عَدَمُ تَعَقُّلِه؟ فإن المعنى: واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا ولم يَظْلم غيرُهم، بمعنى أنهم اختصوا بالظلم ولم يشاركهم فيه غيرهم، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها هؤلاء بأنفسهم وتصيبُ مَنْ لم يَظْلم البتة، وهذا معنًى واضح.

26

قوله تعالى: {إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} : فيه ثلاثةُ أوجه، أوضحها: أنه ظرف ناصبه محذوف تقديره: واذكروا حالكم الثابتة في وقت قلَّتكم، قاله ابن عطية. والثاني: أنه مفعول به. قال الزمخشري: «نصبٌ على أنه مفعولٌ به مذكورٌ لا ظرفٌ/ أي: اذكروا وقتَ كونِكم أقلةً أذلةً. وفيه نظر لأن» إذ «لا يُتَصَرَّف فيها إلا بما ذكرته فيما تقدم، وليس هذا منه. الثالث: أن يكون ظرفاً ل» اذكروا «قاله الحوفي وهو فاسدٌ، لأن العاملَ مستقبلٌ، والظرفُ ماضٍ، فكيف يتلاقيان؟ قوله: {تَخَافُونَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها: أنه خبرٌ ثالثٌ. والثاني: أنه صفةٌ ل» قليل «وقد بُدئ بالوصفِ بالمفرد ثم بالجملة. والثالث: أن يكونَ حالاً من الضمير المستتر في» مُسْتَضْعَفُون «.

27

قوله تعالى: {وتخونوا} : يجوز فيه أن يكونَ منصوباً بإضمار «أَنْ» على جواب النهي أي: لا تجمعوا بين الجنايتين كقوله:

2404 - لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَه ... عارٌ عليك إذا فَعَلْت عظيمُ والثاني: أن يكونَ مجزوماً نسقاً على الأول، وهذا الثاني أَوْلى؛ لأنه فيه النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته بخلاف ما قبله، فإنه نهيٌ عن الجمع بينهما، ولا يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في قوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق} [البقرة: 42] أولَ البقرة. و «أماناتِكم» على حَذْف مضاف أي: أصحابَ أماناتكم. ويجوز أن يكونوا نُهوا عن جناية الأماناتِ مبالغةً كأنها جُعِلت مخونةً. وقرأ مجاهد ورُوِيت عن أبي عمرو «أمانتكم» بالتوحيد والمرادُ الجمع. «وأنتم تعلمون» جملة حالية، ومتعلَّقُ العلم يجوز أن يكون مراداً أي: تعلمونَ قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها. ويجوز ألاَّ يُقَدَّر أي: وأنتم من ذوي العلم. والعلمُ يُحتمل أن يكون على بابه، وأن يكونَ بمعنى العرفان.

29

وتقدَّم الكلامُ على «الفرقان» أول البقرة والمراد به هنا المُخْرج من الضلال، أو الشيء الفارق بين الحق والباطل، قال مزرد ابن ضرار: 2405 - بادَرَ الأفقَ أن يغيبَ فلمَّا ... أظلم الليلُ لم يَجِدْ فُرْقانا وقال آخر: 2406 - ما لك مِنْ طولِ الأَسى فُرْقانُ ... بعد قَطينٍ رحلوا وبانُوا

وقال آخر: 2407 - وكيف أُرَجِّي الخلدَ والموتُ طالبي ... وما ليَ من كأسِ المنية فرقانُ

30

قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ} : هذا الظرفُ معطوفٌ على الظرف قبله، و «ليُثْبتوك» متعلِّقٌ ب «يَمْكُرُ» . والتثبيتُ هنا الضربُ حتى لا يبقى للمضروبِ حركةٌ قال: 2408 - فقلت وَيْحَكَ ماذا في صحيفتكمْ ... قالوا الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وجِعا وقرأ ابن وثاب «لِيُثَبِّتوك» فعدَّاه بالتضعيف. وقرأ النخعي «ليُبَيِّتُوك» من البيات.

32

قوله تعالى: {هُوَ الحق} : العامَّةُ على نصب «الحق» وهو خبر الكون و «هو» فصل، وقد تقدَّم الكلامُ عليه مُشْبعاً. وقال الأخفش: «هو» زائد، ومرادُه ما تقدَّم من كونِه فصلاً. وقرأ الأعمش وزيد بن علي برفع «الحق» ، ووجهُها ظاهرٌ برفع «هو» بالابتداء و «الحق» خبره، والجملةُ خبرُ الكون كقوله: 2409 - ... تَحِنُّ إلى ليلى وأنت تركتَها وكنتَ عليها بالمَلا أنت أقدرُ ... وهي لغةُ تميم. وقال ابن عطية: «ويجوز في العربية رفع» الحق «

على خبر» هو «والجملةُ خبرٌ ل» كان «. وقال الزجاج:» ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائزِ «. قلت: قد ظهر مَن قرأ به وهما رجلان جليلان. وقوله: {مِنْ عِندِكَ} حالٌ من معنى الحق أي: الثابت حالَ كونه مِنْ عندك. وقوله {مِّنَ السمآء} فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بالفعل قبله. والثاني: أنه صفة لحجارة فيتعلقُ بمحذوفٍ. وقولهم» من السماء «مع أن المطر لا يكون إلا منها، قال الزمخشري:» كأنه أراد أن يقال: فأمْطر علينا السِّجِّيلَ، فوضعَ «حجارة من السماء» موضعَه، كما يقال: «صبَّ عليه مسرودةً من حديد» تريد: «درعاً» ، قال الشيخ: «إنه يريد بذلك التأكيد» ، قال: «كما أن قوله» من حديد «معناه التأكيد؛ لأنَّ المسرودَ لا يكون إلا من حديد كما أن الأمطار لا تكون إلا من السماء» . وقال ابن عطية: «قولهم من السماء مبالغة وإغراق» . قال الشيخ: «والذي يظهر أنَّ حكمةَ قولِهم من السماء هي مقابلتُهم مجيءَ الأمطارِ من الجهة التي ذَكَر عليه السلام أنه يأتيه الوحي من جهتها أي: إنك تذكر أن الوحيَ يأتيك مِن السماء فَأْتِنا بالعذابِ من الجهة التي يأتيك الوحي منها قالوه استبعاداً له» .

33

قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَهُمْ} : قد تقدَّم الكلامُ على هذه اللام المسماة لام الجحود. والجمهورُ على كسرها. وقرأ أبو السمال بفتحها قال ابن عطية عن أبي زيد: «سمعت من العرب مَنْ يقول:» لَيعذبهم «بفتح

اللام، وهي لغةٌ غيرُ معروفةٍ ولا مستعملةٍ في القرآن» ، قلت: يعني في المشهور منه ولم يَعْتَدَّ بقراءة أبي السمال «. وروى ابن مجاهد عن أبي زيد فتحَ كلِّ لامٍ/ عن بعض العرب إلا في» الحمد لله «. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو فَتْحَ لامِ الأمرِ من قوله {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} [عبس: 24] . وأتى بخبر» كان «الأولى على خلاف ما أتى به في الثانية، فإنه: إمَّأ أن يكونَ محذوفاً وهو الإِرادة كما يقدِّره البصريون أي: ما كان الله مُريداً لتعذيبهم، وانتفاءُ إرادة العذاب أبلغُ من نفي العذاب، وإمَّا أنه أكَّده باللام على رأي الكوفيين لأنَّ كينونَته فيهم أبلغُ من استغفارهم فشتَّان بين وجودِه عليه السلام فيهم وبين استغفارِهم. وقوله: {وَأَنتَ فِيهِمْ} حال، وكذلك {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . والظاهر أن الضمائرَ كلَّها عائدةً على الكفار وقيل: الضمير في» يُعَذِّبهم «و» مُعَذِّبهم «للكفار، والضمير من قوله» وهم «للمؤمنين. وقال الزمخشري:» وهم يستغفرون «في موضع الحال، ومعناه نفيُ الاستغفارِ عنهم أي: ولو كانوا ممَّن يؤمن ويَسْتغفر من الكفر لَمَا عذَّبهم كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 114] ولكنهم لا يَسْتغفرون ولا يؤمنون ولا يُتوقَّع ذلك منهم» وهذا المعنى الذي ذكره منقولٌ عن قتادة وأبي زيد واختاره ابنُ جرير.

34

قوله تعالى: {أن لا يُعَذِّبَهُمُ} : في «أن» وجهان، أحدهما:

وهو الظاهر أنها مصدريةٌ، وموضعها: إمَّا نصبٌ أو جرٌّ لأنها على حذف حرف الجر؛ إذ التقدير: في أن لا يعذبهم. وهذا الجارُّ متعلقٌ بما تعلَّق به «لهم» من الاستقرار. والتقدير: أيُّ شيء استقرَّ لهم في عدم تعذيبِ اللهِ إياهم، بمعنى لا حظَّ لهم في انتفاء العذاب. والثاني: أنها زائدةٌ وهو قول الأخفش. قال النحاس: «لو كانت كما قال لَرَفع» يُعَذِّبهم «. يعني النحاس فكان ينبغي أن يرتفع الفعلُ على أنه واقعٌ موقعَ الحال كقوله: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} [المائدة: 84] ، ولكن لا يلزم من الزيادة عدمُ العمل، ألا ترى أن» مِنْ «والباء تعملان وهما مزيدتان. وقال أبو البقاء:» وقيل: هو حال وهو بعيد؛ لأنَّ «أَنْ» تُخَلِّص الفعلَ للاستقبال «. والظاهر أن» ما «في قوله» وما لهم «استئنافية، وهو استفهامٌ معناه التقرير أي: كيف لا يُعَذَّبون وهم متصفون بهذه الحال؟ وقيل:» ما «نافية فهي إخبارٌ بذلك أي ليس عدمُ التعذيب، أي: لا ينتفي عنهم التعذيبُ مع تلبُّسِهم بهذه الحال. قوله: {وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ} في هذه الجملةِ وجهان أحدهما: أنها استئنافيةٌ، والهاء تعود على المسجد أي: وما كانوا أولياءَ المسجد. والثاني: أنها نسقٌ على الجملة الحالية قبلها وهي» وهم يَصُدُّون «والمعنى: كيف لا يُعَذِّبُهم الله وهم متصفون بهذبن الوَصْفَيْن: صَدِّهم عن المسجد الحرام وانتفاءِ كونِهم أولياءَه؟ ويجوز أن يعودَ الضميرُ على الله تعالى، أي: لم يكونوا أولياءَ الله.

35

قوله تعالى: {إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} : أي: ما كان شيءٌ مِمَّا يَعُدُّونه صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلين وهما المُكاء والتَّصْدية، أي: إن كان لهم صلاةٌ فلم تكن إلا هذين كقول الشاعر: 2410 - وما كنت أخشى أن يكونَ عطاؤُه ... أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرا فأقام القيود والسِّياط مُقام العطاء. والمُكاء: مصدر مَكا يمكو، أي صَفَر بين أصابعه أو بين كَفَّيْه، قال الأصمعي: «قلت لمسجع بن نبهان: ما تمكو فريصتُه؟ فَشَبَك بين أصابعه وجَعَلها على فِيه ونفخ فيها. قلت: يريد قول عنترة: 2411 - وحَليلِ غانيةٍ تركتُ مُجَدَّلاً ... تَمْكُو فريصتُه كشِدْق الأَعْلَمِ يقال: مَكَتِ الفَريصة، أي: صَوَّتَتَ بالدم. ومكت اسْتُ الدابة، أي: نفخت بالريح. وقال مجاهد: المُكَّاء: صفير على لحنِ طائرٍ أبيضَ يكون بالحجاز قال الشاعر: 2412 - إذا غرَّد المُكَّاء في غير روضةٍ ... فويلٌ لأهل الشَّاءِ والحُمُرات المُكَّاء فُعَّال بناء مبالغة. قال أبو عبيدة:» يقال مكا يمكو مُكُوَّاً ومُكاءً: صَفَر، والمُكاء بالضم كالبُكاء والصُّراخ. قيل: ولم يشذَّ من أسماء الأصوات بالكسرِ إلا الغِناء والنِّداء.

والتَّصْدِية فيها قولان أحدهما: أنها من الصَّدى وهو ما يُسْمع مِنْ رَجْع الصوت في الأمكنة الخالية الصُّلبة يقال منه: صَدِي يَصْدَى تَصْدِيَة، والمراد بها هنا ما يُسْمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى. وفي التفسير: أن المشركين كانوا إذا سمعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ويتلو القرآن صفَّقوا بأيديهم وصَفَروا بأفواههم ليُشْغِلوا عنه مَنْ يَسْمَعُه ويَخْلطوا عليه قراءته. وهذا مناسبٌ لقوله: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] /. وقيل: هي مأخوذةٌ من التَّصْدِدَة وهي الضجيج والصِّياحُ والتصفيق، فأُبْدِلَت إحدى الدالين ياءً تخفيفاً، ويدلُّ عليه قولُه تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] في قراءة مَنْ كسر الصاد أي: يضجُّون ويَلْغَطون. وهذا قول أبي عبيدة. وقد ردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي، وقال: «إنما هو مِنْ الصَّدْي فكيف يُجعل من المضعَّف» ؟ وقد ردَّ أبو علي على أبي جعفر رَدَّه وقال: «قد ثبت أنَّ يَصُدُّون مِنَ نحو الصوت فأخْذُه منه، وتَصْدِية تَفْعِلَة» ، ثم ذكر كلاماً كثيراً. والثاني: أنها من الصدِّ وهو المنعُ والأصل: تَصْدِدَة بدالين أيضاً، فأُبْدِلت ثانيتهما ياءً. ويؤيِّد هذا قراءةُ مَنْ قرأ «يَصُدُّون» بالضم أي: يمنعون. وقرأ العامَّةُ «صلاتُهم» رفعاً، «مُكاءً» نصباً، وأبان بن تغلب والأعمش

وعاصم بخلافٍ عنهما «وما كان صلاتَهم» نصباً، «مكاءٌ» رفعاً. وخطَّأ الفارسي هذه القراءةَ وقال: «لا يجوز أن يُخْبر عن النكرةِ بالمعرفةِ إلا في ضرورة كقول حسان: 2413 - كأنَّ سَبيئةً مِنْ بيت رَأْسٍ ... يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ وخرَّجها أبو الفتح على أن المُكاء والتصدية اسما جنس، يعني أنهما مصدران قال:» واسم الجنس تعريفُه وتنكيره متقاربان فلِمَ يُقال ثانيهما جُعل اسماً والآخر خبراً؟ وهذا يَقْرُب من المعرَّف بأل الجنسية حيث وُصِف بالجملة، كما يُوصف به النكرة كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] ، وقولِ الآخر: 2414 - ولقد مَرَرْتُ على اللئيم يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيني وقال بعضهم: «وقد قرأ أبو عمرو» إلا مُكاً «بالقصر والتنوين، وهذا كما قالوا: بكاء وبُكى بالمد والقصر. وقال الشاعر فجمع بين اللغتين: 2415 - بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها ... وما يُغْني البكاءُ ولا العويلُ

37

قوله تعالى: {لِيَمِيزَ الله الخبيث} : قد تقدَّم الخلافُ فيه في

آل عمران. وقوله: «ويَجْعل» : يحتمل أن تكون تصييريةً فتنصبَ مفعولين، وأن تكونَ بمعنى الإِلقاء فتتعدَّى لواحد، وعلى كلا التقديرين ف «بعضه» بدلُ بعضٍ من كل، وعلى القول الأول يكون «على بعض» في موضع المفعول الثاني، وعلى الثاني يكون متعلقاً بنفس الجَعْل نحو قولك: «ألقيْتَ متاعك بعضَه على بعض» . وقال أبو البقاء بعد أن حكم عليها بأنها تتعدَّى لواحد: «وقيل: الجار والمجرور حالٌ تقديرُه: ويجعل الخبيث بعضه عالياً على بعض» . واللام في «ليميز» متعلقة بيُحْشَرون. ويقال: مَيَّزته فتميَّزَ، ومِزْتُه فانماز. وقرئ شاذاً {وانمازوا اليوم} [يس: 59] ، وأنشد أبو زيد: 2416 - لمَّا نبا اللهُ عني شرَّ غَدْرتِه ... وانْمِزْتُ لا مُنْسِئاً غَدْراً ولا وَجِلا وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران. قوله: {فَيَرْكُمَهُ} نسقٌ على المنصوب قبله. والرَّكْمُ: جَمْعُك الشيءَ فوق الشيء حتى يَصير رُكاماً ومَرْكوماً، كما يُركم الرمل والسحاب، ومنه {يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [الطور: 44] . والمُرْتَكم: جادَّة الطريق للرَّكْم الذي فيه، أي: ازدحام السَّابلة وآثارهم. و «جميعاً» حال. ويجوز أن يكونَ توكيداً عند بعضهم.

38

قوله تعالى: {لِلَّذِينَ كفروا} : في هذه اللام الوجهان المشهوران: إمَّا التبليغُ، أَمَرَ أن يبلِّغهم معنى هذه الجملةِ المحكيةِ بالقول، وسواءً أوردها بهذا اللفظ أم بلفظٍ آخرَ مؤدٍ لمعناها. والثاني: أنها للتعليل وبه قال الزمخشري ومنع أن تكون للتبليغ فقال: «أي: قل لأجلهم هذا القولَ إن ينتهوا، ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تَنْتَهوا يغفر لكم وهي قراءةُ ابن مسعود، ونحوه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ} [الأحقاف: 11] خاطبوا به غيرَهم [لأجلهم] ليسمعوه» . وقرئ «يَغْفر» مبنياً للفاعل، وهو ضمير يعود على الله تعالى.

39

قوله تعالى: / « {وَيَكُونَ} : العامةُ على نصبِه نسقاً على المنصوب قبله. وقرأه الأعمشُ مرفوعاً على الاستئناف. وقرأ الحسن ويعقوب وسليمان بن سلام» بما تَعْملون «بتاء الخطاب، والباقون بياء الغيبة.

40

قوله تعالى: {أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى} : يجوز في «مولاكم» وجهان، أظهرُهما: أنَّ «مولاكم» هو الخبر و «نِعْم المولى» جملةٌ مستقلة سِيْقَتْ للمدح. والثاني: أن تكون بدلاً من «الله» والجملةُ المَدْحِيَّةُ خبر ل «أن» والمخصوصُ بالمدح محذوف أي: نِعْم المولَى اللهُ أو ربكم.

41

قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} : الظاهرُ أن «ما» هذه موصولةٌ بمعنى الذي، وكان مِنْ حقها أن تُكتب منفصلةً من «أنَّ» كما كُتِبَتْ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} [الأنعام: 134] منفصلةً ولكن كذا رُسِمت. و «غَنِمْتم» صلتُها، وعائدها محذوف لاستكمال الشروط أي: غَنِمْتموه. وقوله: {فأنَّ الله} الفاءُ مزيدةٌ في الخبر، لأن المبتدأ ضُمِّن معنى الشرط، ولا يَضُرُّ دخولُ الناسخ عليه لأنه لم يغيِّرْ معناه وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ} [البروج: 10] ثم قال: «فلهم» . والأخفش مع تجويزه زيادةَ الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشرط إذا دخلَتْ عليه «إنَّ» المكسورة، وآيةُ البروج حجَّةٌ عليه. وإذا تقرَّر هذا ف «أنَّ» وما عَمِلَتْ فيه في محلِّ رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: فواجبٌ أن لله خُمُسَه، والجملة من هذا المبتدأ والخبر خبر ل «أنَّ» . وظاهر كلام الشيخ أنه جَعَلَ الفاءَ داخلةً على «أن لله خُمُسَه» من غير تقديرِ أن تكونَ مبتدأ وخبرها محذوف، بل جَعَلَها بنفسها خبراً، وليس مرادُه ذلك، إذ لا تدخل هذه الفاءُ على مفردٍ بل على جملةٍ، والذي يُقَوِّي إرادَته ما ذكرتُه أنه حكى قولَ الزمخشري أعني كونَه قَدَّره أنَّ «أنَّ» وما في حَيِّزها مبتدأٌ محذوفُ الخبر، فَجَعَله قولاً زائداً على ما قدَّمه. ويجوز في «ما» أن تكونَ شرطيةً، وعاملُها «غَنِمْتُم» بعدها، واسمُ «أنَّ» حينئذٍ ضميرُ الأمرِ والشأن وهو مذهبُ الفراء. إلا أن هذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورةً بشرط أَنْ لا يليها فعل كقوله:

2417 - إنَّ مَن يدخلِ الكنيسةِ يوماً ... يَلْقَ فيها جآذِراً وظِباءَ وقول الآخر: 241 - 8- إنَّ مَنْ لام في بني بنتِ حَسَّا ... نَ أَلُمْهُ وأَعْصِهِ في الخُطوبِ وقيل: الفاءُ زائدةٌ و «أن» الثانيةُ بدلٌ من الأولى. وقال مكي: «وقد قيل: إن الثانيةَ مؤكدةٌ للأولى، وهذا لا يجوز لأن» أنَّ «الأولى تبقى بغير خبرٍ، ولأنَّ الفاء تحول بين المؤكَّد والمؤكِّد، وزيادتُها لا تَحْسُن في مثل هذا» . وقيل: «ما» مصدريةٌ والمصدر بمعنى المفعول أي: أنَّ مَغْنومكم [هو] المفعول به، أي: واعلموا أنَّ غُنْمكم، أي مغنومكم. قوله: {مِّن شَيْءٍ} في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ عائد الموصول المقدَّر، والمعنى: ما غنمتموه كائناً من شيء أي: قليلاً أو كثيراً. وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، وحكى غيرُه عن الجعفي عن هارون عن أبي عمرو: «فإن لله» بكسر الهمزة. ويؤيد هذه القراءة قراءة النخعي «فللَّه خمسُه» فإنها استئناف. وخرَّجها أبو البقاء على أنها وما في حَيِّزها في محل رفع خبراً ل «أنَّ» الأولى.

وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو «خُمْسَه» وهو تخفيفٌ حسن. وقرأ الجعفي «خِمْسَه» ، قالوا: وتخريجها أنه أتبعَ الخاءَ لحركة ما قبلها، وهي هاء الجلالة مِنْ كلمة أخرى مستقلة قالوا: وهي كقراءة مَنْ قرأ {والسمآء ذَاتِ الحبك} [الذاريات: 7] بكسر الحاء إتباعاً لكسرةِ التاء من «ذات» ولم يَعْتَدُّوا بالساكن وهو لامُ التعريف لأنه حاجزٌ غيرُ حصين. ليت شعري وكيف يَقْرأ الجعفي والحالةُ هذه؟ فإنَّه إنْ قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقلِ لخروجه مِنْ كسرٍ إلى ضم، وإن قرأ بسكونها وهو الظاهر فإنه نقلها قراءةً عن أبي عمرو أو عن عاصم، ولكن الذي قرأ «ذاتِ الحِبك» يُبْقي ضمَّة الباء فيؤدي إلى فِعُل بكسر الفاء وضمِّ العين وهو بناءٌ مرفوض، وإنما قلت إنه يقرأ كذلك؛ لأنه لو قرأ بكسر الباء لَما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإِتباع لأنَّ في «الحبك» لغتين: ضمَّ الحاء والباء أو كسرَهما، حتى زعم/ بعضُهم أن قراءة الخروج مِنْ كسرٍ إلى ضمٍ من التداخل. والغنيمة أصلُها مِن الغُنْم وهو الفوز، وأصل ذلك مِن الغَنَم هذا الحيوان المعروف فإن الظفرَ به يُسَمَّى غُنْماً ثم اتُّسِع في ذلك فسُمِّي كلُّ شيء مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغنيمةً. قال علقمة بن عبدة: 2419 - ومُطْعَمُ الغُنْم يومَ الغُنْمِ مَطْعَمُه ... أنَّى توجَّه والمحرومُ محرومُ وقال آخر:

2420 - لقد طَوَّفْتُ في الآفاق حتى ... رَضِيتُ من الغنيمة بالإِياب قوله: {إِن كُنتُمْ} شرطٌ جوابه مقدرٌ عند الجمهور لا متقدمٌ، أي: إن كنتم آمنتم فاعلموا أن حكمَ الخُمْس ما تقدَّم، أو فاقبلوا ما أُمِرتم به. قوله: {وَمَآ أَنزَلْنَا} «ما» عطفٌ على الجلالة فهي مجرورةُ المحلِّ، وعائدُها محذوف. وزعم بعضهم أن جوابَ الشرط متقدم عليه، وهو قوله «فنِعْم المَولى» وهذا لا يجوزُ على قواعد البصريين. قوله {يَوْمَ الفرقان} يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكون منصوباً ب «أَنْزلنا» أي: أَنْزَلْناه في يوم بدر الذي فُرِق فيه بين الحق والباطل. الثاني: أن ينتصبَ بقوله «آمنتم» ، أي: إن كنتم آمنتمْ في يومِ الفرقان. ذكره أبو البقاء. والثالث: أنه يجوزُ أن يكون منصوباً بغَنِمْتُمْ. قال الزجاج: «أي ما غنمتم في يوم الفرقان حكمُه كذا وكذا» . قال ابن عطية: «وهذا تأويلٌ حسنٌ في المعنى، ويعترضه أنَّ فيه الفصلَ بين الظرف وما يَعْمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ الألفاظِ» . قلت: وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصَّ من هذه، وذلك أن «ما» : إمَّا شرطية كما هو رأي الفراء، وإمَّا موصولة، فعلى الأول يؤدِّي إلى الفصل بين فعلِ الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلَّقاتها، وعلى الثاني يؤدِّي إلى الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر «أنَّ» . قوله: {يَوْمَ التقى الجمعان} فيه وجهان: أحدهما: أنه بدلٌ من الظرفِ قبله. والثاني: أنه منصوب بالفرقان لأنه مصدرٌ فكأنه قيل: يومَ فرق فيه في

يوم التقى الجمعان أي: الفرق في يوم التقاءِ الجمعين. وقرأ زيد بن علي «عُبُدنا» بضمتين وهو جمع عَبْد، وهذا كما قرئ {وَعُبُدَ الطاغوت} [المائدة: 60] والمراد بالعُبُدِ في هذه القراءة هنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ تبعه من المؤمنين.

42

قوله تعالى: {إِذْ أَنتُمْ} : في هذا الظرفِ أربعةُ أوجهٍ أحدها: أنه منصوبٌ ب «اذكروا» مقدراً وهو قول الزجاج. الثاني: أنه بدل من «يوم الفرقان» أيضاً. الثالث: أنه منصوبٌ ب «قدير» ، وهذا ليس بواضحٍ، إذ لا يتقيَّد اتصافُه بالقدرة بظرفٍ من الظروف. الرابع: أنه منصوبٌ بالفرقان أي: فَرَقَ بين الحق والباطل إذ أنتم بالعُدْوة. قوله: {بالعدوة} متعلق بمحذوف لأنه خبر المبتدأ، والباء بمعنى «في» كقولك «: زيد بمكة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعِدوة بكسر العين فيهما. والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته، سُمِّيَتْ بذلك لأنها عَدَتْ ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزَها أي منعته. قال الشاعر: 2421 - عَدَتْني عن زيارتها العَوادي ... وحالَتْ دونَها حربٌ زَبُونُ وقرأ الحسن وزيد بن علي وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح، وهي كلُّها لغاتٌ بمعنى واحد. هذا هو قولُ جمهورِ اللغويين. على أن أبا عمرو بن العلاء أنكر

الضمَّ ووافقه الأخفش فقال:» لم يُسْمَعْ من العرب إلا الكسرُ «. ونقل أبو عبيد اللغتين إلا أنه قال:» الضمُّ أكثرهما «. وقال اليزيدي:» الكسر لغة الحجاز «وأنشد قولَ أوس بن حجر: 2422 - وفارسٍ لم يَحُلَّ القوم عِدْوَتَه ... وَلَّوا سِراعاً وما هَمُّوا بإقبال بالكسر والضم، وهذا هو الذي ينبغي أن يُقال فلا وجهَ لإِنكار الضمِّ ولا الكسر لتواتر كلٍ منهما. ويُحْمل قول أبي عمرو على أنه لم يَبْلُغْه. ويُحتمل أن يُقال في قراءةِ مَنْ قرأ بفتح/ العين أن يكون مصدراً سُمِّي به المكان. وقُرئ شاذّاً» بالعِدْية «بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها، ولا يُعْتبر الفاصلُ لأنه ساكن فهو حاجز غير حصين وهذا كما قالوا:» هو ابن عمي دِنيا «بكسر الدال وهو من الدنو، وكذلك قِنْية وصِبْية، وأصله السَّلامة كالذِّرْوَة والصِّفْوة والرِّبوة. وقوله:» الدنيا «قد تقدَّم الكلام على هذه اللفظة مسبقاً. قوله: {القصوى} تأنيث الأقصى. والأقصى: الأبعد. والقَصْوُ: البعد. وللتصريفيين عبارتان أغلبهما أن فُعْلى من ذوات الواو: إن كانت اسماً أُبْدِلَتْ لامُها ياءً، ثم يُمَثِّلون بنحو الدُّنْيا والعُلْيا والقُصْيا، وهذه صفاتٌ لأنها من باب أفعل التفضيل وكأنَّ العذرَ لهم أن هذه وإن كانت في الأصلِ صفاتٍ إلا أنها جَرَتْ مجرى الجوامد. قالوا: وإن كانت فُعْلى صفةً أُقِرَّتْ لامُها على حالها نحو: الحُلْوى تأنيث الأحلى، ونَصُّوا على أن القُصْوى شاذة وإن كانت

لغة الحجاز، وأن القُصْيا قياسٌ، وهي لغة تميم. وممَّن نصَّ على شذوذ القصوى يعقوب بن السكيت. وقال الزمخشري:» وأما القصوى فكالقَوَد في مجيئه على الأصل، وقد جاء القُصْيا إلا أنَّ استعمالَ القُصْوى أكثر، كما كثر استعمال «استصوب» مع مجيء «استصاب» وأَغْيلت مع أغالَتْ «انتهى. وقد قرأ زيد بن علي «بالعُدْوَة والقُصْيا» فجاء بها على لغة تميم، وهي القياسُ عند هؤلاء. والعبارة الثانية وهي المغلوبَةُ القليلةُ العكس، أي: إن كانَتْ صفةً أُبْدِلت نحو: العُليا والدنيا والقُصْيا، وإن كانت اسماً أُقِرَّت نحو: حُزْوَى كقوله: 2423 - أداراً بحُزْوَى هِجْتِ للعين عَبْرةً ... فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ وعلى هذا فالحُلْوى شاذة لإِقرار لامها مع كونها صفةً، وكذا القُصوى أيضاً عند هؤلاء لأنها صفة. وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أن «قُصْوى» على خلافِ القياس فيهما، وأن «قُصْيا» هي القياس لأنها عند الأوَّلين من قبيل الأسماء، وهم يقلبونها ياء، وعند الآخرين من قبيل الصفات وهم يقلبونها أيضاً ياءً، وإنما يَظْهر الفرقُ في الحُلْوى وحُزْوى: فالحُلْوى عند الأوَّلين تصحيحُها قياسٌ لكونِها صفةً وشاذة عند الآخرين لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلَبُ واوُها ياءً، والحُزْوَى عكسُها: فإن الأوَّلين يُعِلُّون في الأسماء دون الصفات، والآخرون عكسُهم. وهذا موضعٌ

حَسَنٌ يختلط على كثير من الناس فلذلك نَقَّحْته. ونعني بالشذوذِ شذوذَ القياسِ لا شذوذَ الاستعمال، ألا ترى إلى استعمال المتواتر بالقصوى. قوله: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} الأحسنُ في هذه الواو، والواو التي قبلها الداخلة على «هم» أن تكونَ عاطفةً ما بعدها على «أنتم» لأنها مَبْدأُ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم. ويجوز أن تكونا واوَيْ حال. و «أسفل» منصوبٌ على الظرف النائب عن الخبر، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوف أي: والركب مكاناً أسفلَ من مكانكم. وقرأ زيد بن علي «أسفلُ» بالرفع وذلك على سبيل الاتِّساع، جعل الظرف نفسَ الركب مبالغة واتساعاً. وقال مكي: «وأجاز الفراء والأخفش والكسائي» أسفلُ «بالرفع على تقديرِ محذوفٍ أي: موضعُ الركب أسفلُ» . والتخريجُ الأولُ أبلغُ في المعنى. والرَّكْبُ اسمُ جمعٍ لراكب لا جمعُ تكسيرٍ له خلافاً للأخفش لقوله: 2424 - بَنَيْتُه مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ مالِيا ... أخشى رُكَيْباً أو رُجَيْلاً غاديا فصَغَّره على لفظه، ولو كان جمعاً لَما صُغِّر على لفظه. قوله: {ولكن لِّيَقْضِيَ} «ليَقْضي» متعلِّقٌ بمحذوف، أي: ولكن تلاقَيْتُم ليقضيَ. وقدَّر الزمخشري ذلك المحذوفَ فقال: «أي: ليقضيَ الله أمراً كان واجباً أن يُفْعل وهو نصرُ أوليائه وقَهْرُ أعدائه دَبَّر ذلك» .

و «كان» يُحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي، وأن تكونَ بمعنى صار، فتدلَّ على التحوُّل أي: صار مفعولاً بعد أن لم يكن كذلك. / قوله: {لِّيَهْلِكَ} فيه أوجه، أحدها: أنه بدلٌ من قوله «ليقضيَ» بإعادة العامل فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول. الثاني: أنه متعلقٌ بقوله «مفعولاً» ، أي: فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكيتَ. الثالث: أنه متعلِّقٌ بما تعلَّق به «ليقضيَ» على سبيل العطف عليه بحرفِ عطفٍ محذوف تقديره: وليهلك، فحذف العاطفَ وهو قليلٌ جداً. وقد قدَّمْتُ التنبيهَ عليه. الرابع: أنه متعلِّقٌ ب «يَقْضي» ذكره أبو البقاء. وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي بكر عن عاصم «ليهلَكَ» بفتح اللام، وقياسُ ماضي هذا «هَلِك» بالكسر. والمشهور إنما هو الفتح قال تعالى: {إِن امرؤ هَلَكَ} [النساء: 176] {حتى إِذَا هَلَكَ} [غافر: 34] . قوله: {مَنْ حَيَّ} قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، والبزي عن ابن كثير بالإِظهار، والباقون بالإِدغام. والإِظهارُ والإِدغام في هذا النوع لغتان مشهورتان: وهو كلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة نحو: حَيِي وعَيِيَ. ومن الإِدغام قولُ المتلمس:

2425 - فهذا أَوانُ العِرْضِ حَيَّ ذُبابُه ... . . . . . . . . . . . . . . . وقال آخر: 2426 - عَيُّوا بأمرِهِمُ كما ... عَيَّتْ ببيضَتِها الحمامَهْ فأدغم «عيُّوا» ، ويُنْشَدُ: عَيَّتْ وعَيِيَتْ بالإِظهار والإِدغام. فَمَنْ أظهر فلأنه الأصلُ، ولأن الإِدغامَ يؤدِّي إلى تضعيفِ حرفِ العلةِ وهو ثقيلٌ في ذاته، ولأن الياءَ الأولى يتعيَّن فيها الإظهارُ في بعضِ الصور، وذلك في مضارع هذا الفعلِ لانقلاب الثانية ألفاً في يَحْيَا ويَعْيَا، فَحُمِل الماضي عليه طَرْداً للبابِ، ولأن الحركة في الثاني عارضةٌ لزوالها في نحو: حَييت وبابه، ولأنَّ الحركتين مختلفتان، واختلافُ الحركتين كاختلاف الحرفين قالوا: ولذلك قالوا: لَحِحَت عينه وضَبِبَ المكان وأَلِلَ السِّقاء ومَشِشَتْ الدابة. قال سيبويه: «أخبرَنا بهذه اللغة يونس» يعني بلغة الإِظهار. قال: «وسمعت بعض العرب يقول: أَحْيِياء وأَحْيِيَة فيُظْهر» وإذا لم يُدْغم مع لزومِ الحركةِ فمع عُروضها أَوْلى. ومَنْ أدغم فلاستثقالِ ظهرِ الكسرة في حرفٍ يُجانسه؛ ولأنَّ حركةَ الثانية لازمةٌ لأنها حركةُ بناء، ولا يَضُرُّ زوالُها في نحو حَيِيْتُ، كما لا يضرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح نحو: حَلَلْتُ وظَلَلْتُ؛ وهذا كلُّه فيما كانت حركتُه حركةَ بناءٍ، ولذلك قُيِّد به بالماضي، أمَّا إذا كانت حركةَ إعراب فالإِظهارُ فقط له: يُحْيِيَ ولن يُعْيِيَ.

قوله: {عَن بَيِّنَةٍ} : متعلقٌ ب «يَهْلِكَ» و «يَحْيَا» . والهلاكُ والحياةُ عبارةٌ عن الإِيمان والكفر. والمعنى: ليصدرَ كفرُ مَنْ كفر عن وضوحٍ وبيان لا عن مخالجةِ شبهة، وليصدرَ إسلامُ مَنْ أسلم عن وضوحٍ لا عن مخالجة شبهة.

43

قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله} : الناصب ل «إذ» يجوز أن يكون مضمراً أي: اذكر، ويجوز أن يكون «عليم» وفيه بُعْدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقت. ويجوز أن تكون «إذ» هذه بدلاً من «إذ» قبلها. والإِراءة هنا حُلْمية واختلف فيها النحاةُ: هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصَريَّة أو لاثنين كالظنيَّة؟ فالجمهورُ على الأول. فإذا دخلت همزةُ النقلِ أَكْسَبَتْها ثانياً أو ثالثاً على حسب القولين، فعلى الأول تكون الكافُ مفعولاً أول، و «هم» مفعول ثان. و «قليلاً» حال، وعلى الثاني يكون «قليلاً» نصباً على المفعول الثالث، وهذا يَبْطُلُ بجواز حَذْفِ الثالث في هذا الباب اقتصاراً، أي من غيرِ دليلٍ تقول: أراني الله زيداً في منامي، ورأيته في النوم، ولو كانت تتعدَّى لثلاثةٍ لَمَا حُذِف اقتصاراً لأنه خبر في الأصل.

44

قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} : الإِراءةُ هنا بَصَرية والإِتيان هنا بصلة ميم الجمع واجبٌ لاتصالها بضمير. ولا يجوز التسكينُ ولا الضمُّ من غير واو. وقد جوَّز يونس ذلك فيقول: أنتم ضَرَبْتُمه في «ضربتموه» بتسكين الميم وضمها. وقد يتقوَّى بما رُوي عن عثمان رضي الله عنه: «أراهُمُني/ الباطل شيطاناً» . وفي هذا الكلام شذوذٌ من وجهٍ آخرَ: تقديم الضمير غيرِ الأخص على الأخصِّ مع الاتصال.

46

قوله تعالى: {فَتَفْشَلُواْ} : يحتمل وجهين، أحدهما: نصبٌ على جواب النهي. والثاني: الجزم عطفاً على فعل النهي قبله، وقد تقدَّم

تحقيقهما في «وتَخُونوا» قبل ذلك. ويدلُّ على الثاني قراءةُ عيسى ابن عمر «ويَذْهَبُ» بياء الغيبة وجزمه. ونقل أبو البقاء قراءةَ الجزم ولم يُقَيِّدها بياء الغيبة. وقرأ أبو حيوة وأبان وعصمة «ويَذْهَبَ» بياء الغيبة ونصبِه. وقرأ الحسن: فَتَفْشِلوا بكسر الشين. قال أبو حاتم: «هذا غيرُ معروف» وقال غيره: إنها لغةٌ ثانية.

47

قوله تعالى: {بَطَراً وَرِئَآءَ} : منصوبان على المفعول له، ويجوز أن يكونا مَصْدرين في موضع نصبٍ على الحال من فاعل «خرجوا» أي: خَرَجُوا بَطِرين ومُرائين. و «رئاء» مصدرٌ مضاف لمفعولِه. قوله: {وَيَصُدُّونَ} يجوز أن يكونَ مستأنفاً، وأن يكون عطفاً على «بطراً» ورئاء «لأنه مُؤوَّل بالحال أي: بَطرِين ومُرائين وصادِّين الناسَ، وحُذِفَ المفعولُ للدلالة عليه أو تناساه.

48

قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ} : أي: اذكر وقت تزيين و «قال» يجوز أن تكون عطفاً على «زَيَّن» ، ويجوز أن تكون الواو للحال، و «قد» مضمرةٌ بعد الواو عند مَنْ يَشْترط ذلك. قوله: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ} «لكم» خبر «لا» فيتعلَّق بمحذوف و «اليوم» منصوبٌ بما تعلَّق به الخبر. ولا يجوز أن يكون «لكم» أو الظرف متعلقاً ب «غالب» لأنه يكونُ مُطوَّلاً، ومتى كان مُطَوَّلاً أُعرب نصباً. قوله: {مِنَ الناس} بيان لجنس الغالب. وقيل: هو حال من الضمير في «لكم» لتضمُّنه معنى الاستقرار. ومنع أبو البقاء أن يكون «من الناس» حالاً

من الضمير في «غالب» قال: «لأن اسم» لا «إذا عمل فيما بعده أُعْرِب» والأمر كذلك. قوله: {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ معطوفةً على قوله «لا غالبَ لكم» فيكون قد عطف جملةً منفيةً على أخرى منفيةٍ. ويجوز أن تكونَ الواو للحال. وألف «جار» من واو لقولهم «تجاوروا» وقد تقدم تحقيقه. و «لكم» متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل «جار» ، ويجوز أن يتعلق ب «جار» لما فيه من معنى الفعل «. و» الريح «في قوله {ريحكم} كنايةٌ عن الدَّوْلة والغلبة قال: 2427 - إذا هَبَّتْ رياحُكَ فاغتنِمْها ... فإنَّ لكلِّ عاصفةٍ سكونا ورواه أبو عبيد» ركوداً «. وقال آخر: 2428 - أتَنْظُران قليلاً رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ... أم تَعْدُوانِ فإن الريح للعادي وقال: 2429 - قد عَوَّدَتْهمْ ظُباهمْ أن يكونَ لهم ... ريحُ القتالِ وأسلابُ الذين لَقُوا وقيل: الريح: الهيبة، وهو قريبٌ من الأول كقوله:

2430 - كما حَمَيْناك يوم النَّعْفِ مِنْ شَطَطٍ ... والفضلُ للقوم مِنْ ريحٍ ومن عَدَدِ قوله:» نَكَص «جواب» لمَّا «والنُّكوص: قال النضر بن شميل:» الرجوع قهقرى هارباً «. قال بعضهم: هذا أصلُه، إلا أنه قد اتُّسِع فيه حتى استُعْمل في كل رجوع وإن لم يكن قَهْقَرى قال الشاعر: 2431 - هم يضربون حَبِيْكَ البَيْضِ إذ لَحِقُوا ... لا يَنْكُصُون إذا ما استُلْحِموا لَحِموا وقال المؤرِّج:» النُّكوص: الرجوعُ بلغة سُلَيْم «وقال الشاعر: 2432 - ليس النكوصُ على الأَعْقابِ مَكْرُمَةً ... إن المكارمَ إقدامٌ على الأَسَلِ فهذا إنما يريد به مُطْلَق الرجوع لأنه كنايةٌ عن الفِرار، وفيه نظر؛ لأن غالب الفِرار في القتال إنما هو كما ذُكِر رجوعُ القَهْقَرى. و» على عَقِبيْه «حال: إمَّا مؤكدةٌ عند مَنْ يَخُصُّه بالقهقرى، أو مؤسَّسةٌ عند مَنْ يَسْتعمله في مطلق الرجوع.

49

قوله تعالى: {إذ يقولُ} : العامل في «إذ» إمَّا «زَيَّن» ، وإمَّا «نكص» ، وإمَّا «شديد العقاب، وإمَّا اذكروا. و» غرَّ هؤلاءِ دينَهم «منصوبُ المحل بالقول.

50

قوله تعالى: {يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ} : قرأ ابن عامر والأعرج «تتوفَّى» بتاء التأنيث في «تتوفَّى» لتأنيث الجماعة. والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان: أظهرهما: لموافقة قراءة مَنْ تقدم أن الفاعل الملائكة

وإنما ذُكِّر للفصل؛ لأن التأنيث مجازي. والثاني: أن الفاعل ضمير الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه، و «الملائكةُ» مبتدأ و «يَضْربون» خبره. وفي هذه الجملةِ حينئذٍ وجهان أحدُهما: أنها حالٌ من المفعول. والثاني: أنها استئنافيةٌ جواباً لسؤالٍ مقدر، وعلى هذا فيوقف على «الذين كفروا» بخلاف الوجهين قبله. وضعَّف ابنُ عطية وجهَ الحال بعدم/ الواو، وليس بضعيفٍ لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال خاليةً من واو نظماً ونثراً. وعلى كون «الملائكة» فاعلاً يكون «يَضْربون» جملةً حاليةً سواءً قرئ بالتأنيث أم بالتذكير. وجوابُ «لو» محذوفٌ للدلالة عليه أي: لرأيت أمراً عظيماً. قوله: {وَذُوقُواْ} هذا منصوب بإضمار قول الملائكة أي: يضربونهم ويقولون لهم: ذوقوا. وقيل: الواو في «يَضْربون» للمؤمنين، أي: يَضْربونهم حالَ القتال وحال تَوَفِّي أرواحِهم الملائكة. قوله: {وَأَنَّ الله} عطفٌ على «ما» المجرورة بالياء أي: ذلك بسببِ تقديم أيديكم، وبسبب أنَّ الله ليس بظلاَّمٍ للعبيد.

52

وقوله تعالى: {كَدَاْبِ آلِ} : قد تقدَّم نظيره في آل عمران.

53

قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّ} : مبتدأ وخبر أيضاً كنظيره، أي: ذلك العذابُ أو الانتقامُ بسبب أن الله. وقوله: «وأنَّ الله سميعٌ» الجمهورُ على فتح «أنَّ» نَسَقاً على «أنَّ» قبلها، أي: وسبب أن الله سميع عليم. ويُقْرأ بكسرِها على الاستئناف.

54

قوله تعالى: {كَدَأْبِ} : قال قومٌ: «هو تكريرٌ للأول» . وقال قوم: كُرِّر لغير تأكيد لوجوهٍ منها: أن الأول دَأْبٌ في أن هلكوا لمَّا كفروا، وهذا دَأْبٌ في أَنْ لم يغير الله نعمتهم حتى غَيَّروها هم، قاله ابن عطية. ومنها: أن الثاني جارٍ مجرى التفصيل الأول فإن الأولَ متضمِّنٌ لذِكْرِ إجرامهم والثاني متضمِّنٌ لذكر إغراقهم، وفي الأولى ما يَنْزِل بهم حالَ الموت من العقوبة، وفي الثاني ما يَحُلُّ بهم من العذاب في الآخرة، وجاء في الأولى بآيات الله إشارةً إلى إنكارِ ذِكْر دلائلِ الإِلهيَّة. وفي الثاني بآيات ربهم إشارةً إلى إنكارهم مَنْ رَبَّاهم وأحسنَ إليهم. وقال الكرماني: «يُحتمل أن يكون الضمير في» كفروا «في الآية الأولى عائداً على قريش، والضمير في» كذَّبوا «في الثانية عائداً على آلِ فرعون ومَنْ ذُكِر معهم» . قوله: {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} جُمِع الضميرُ في «كانوا» وجُمع «ظالمين» مراعاةً لمعنى «كل» ؛ لأنَّ «كلاً» متى قُطعت عن الإِضافة جاز مراعاةُ لفظِها تارةً ومعناها أخرى، وإنما اختير هنا مراعاةُ المعنى لأجلِ الفواصلِ، ولو رُوعي اللفظُ فقيل مثلاً: وكلٌّ كان ظالماً لم تتَّفق الفواصل.

56

قوله تعالى: {الذين عَاهَدْتَّ} : يجوز فيه أوجه، أحدها: الرفعُ على البدل من الموصولِ قبلَه أو على النعت له، أو على عطف البيان، أو النصبُ على الذم، أو الرفعُ على الابتداء، والخبرُ قولُه: «فإمَّا تَثْقَفَنَّ» بمعنى: مَنْ تعاهد منهم أي من الكفار ثم ينقضون عهدهم، فإن ظفِرْتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وهذا ظاهر كلام ابن عطية. و «منهم» يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول

المحذوف إذ التقدير: الذي عاهدتهم أي: كائنين منهم، ف «مِنْ» للتبعيض. وقيل: هي بمعنى مع. وقيل: الكلامُ محمولٌ على معناه، أي: أَخَذْتَ منهم العهدَ. وقيل: زائدةٌ أي: عاهَدْتَهم. والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ والأول أصحُّ.

57

قوله تعالى: {فَشَرِّدْ} : العامَّةُ على الدال المهملة والتشريدُ: التطريد والتفريقُ والتسميع، وهذه المعاني كلُّها لائقة بالآية. وقرأ الأعمش بخلافٍ عنه بالذال المعجمة. قال الشيخ: «وكذا هي في مصحف عبد الله» . قلت: وقد تقدم أن النَّقْط والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ أحدثه يحيى بن يعمر فكيف يُوْجَد ذلك في مصحف ابن مسعود؟ قيل: وهذه المادة أعني الشين والراء والذال المعجمة مهملةٌ في لغة العرب. وفي هذه القراءةِ أوجه أحدها: أن الذالَ بدلٌ من مجاورتها كقولهم: لحم خراديل وخراذيل. الثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ شذر من قولهم: تفرقوا شَذَر مَذَر، ومنه الشَّذْر المُلْتَقَطُ من المعدن لتفرُّقِه، قال: 2433 - غرائِرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمة ... يُحَلَّيْنَ ياقوتاً وشَذْراً مُفَقَّرا الثالث: أنه مِنْ «شَذَر في مقاله» إذا أكثر فيه، قاله أبو البقاء، ومعناه غير لائق هنا. وقال قطرب: «شرذ» بالمعجمة: التنكيل، وبالمهملة التفريق، وهذا يقوِّي قول مَنْ قال: إن هذه المادة ثابتةٌ في لغة العرب.

قوله: «مَنْ خَلْفَهم» مفعولُ «شَرِّد» . وقرأ الأعمش بخلافٍ عنه وأبو حيوة «مِنْ خلفِهم» جاراً ومجروراً. والمفعولُ على هذه القراءةِ محذوفٌ أي: فَشَرِّدْ أمثالَهم من الأعداء أو ناساً يعملون بعملهم. والضميران في «لعلهم يَذَّكَّرون» الظاهر عَوْدُهما على «مَنْ خلفهم» ، أي إذا رَأَوا ما/ حَلَّ بالناقِضين تذكَّروا. وقيل: يعودان على المُنْقِضين، وليس له معنى طائل.

58

قوله تعالى: {فانبذ إِلَيْهِمْ} : مفعولُه محذوف، أي: انبِذْ إليهم عهودَهم، أي: اطرَحْها ولا تكترِثْ بها. و «على سواء» حال إمَّا: من الفاعِل أي: انبذها وأنت على طريقٍ قَصْدٍ، أي: كائناً على عدل فلا تَبْغَتْهُمْ بالقتال، بل أَعْلِمْهم به، وإمَّا من الفاعل والمفعول معاً، أي: كائنين على استواء في العلم أو في العداوة. وقرأ العامة بفتح السين، وزيد بن علي بكسرِها، وهي لغةٌ تقدَّمَ التنبيهُ عليها أولَ البقرة. قوله: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} يُحتمل أن تكون هذه الجملةُ تعليلاً معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل، وهو إعلامُهم، وأن تكونَ مستأنفةً سِيْقَتْ لِذَمِّ مَنْ خان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونَقَضَ عهده.

59

قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ} : قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم «يَحْسَبَنَّ» بياء الغيبة هنا، وفي النور في قوله «لا يَحْسَبَنَّ

الذين كفروا معجزين [في الأرض] » كذلك خلا حَفْصاً. والباقون بتاء الخطاب. وفي قراءة الغَيْبةِ تخريجاتٌ كثيرة سَبَقَ نظائرُها في أواخر آل عمران. ولا بد مِنْ ذكر ما ينبِّهك هنا على ما تقدَّم فمنها: أن الفعلَ مسندٌ إلى ضميرٍ يُفَسِّره السياق تقديره: ولا يَحْسَبَنَّ هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو حاسب، أو يكون الضمير عائداً على مَنْ خلفهم. وعلى هذه الأقوالِ فيجوزُ أن يكون «الذين كفروا» مفعولاً أولَ، و «سبقوا» جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً. وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى «الذين كفروا» ثم اختلفوا هؤلاء في المفعولين: فقال قوم: الأولُ محذوفٌ تقديره: ولا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا سبقوا، ف «هم» مفعول أول، و «سَبَقوا» في محلِّ الثاني، أو يكون التقدير: لا يَحْسَبنَّ الذين كفروا أنفسَهم سَبَقوا، وهو في المعنى كالذي قبله. وقال قومٌ: بل «أن» الموصولة محذوفة، وهي وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا، فحذفت «أن» الموصولة وبقيت صلتها كقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] ، أي: أن يريكم وقولهم: «تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه» وقوله: 2434 - ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُ عبد الله «أنهم سبقوا» . وقال قوم: «بل» سبقوا «في

محلِّ نصبٍ على الحال، والسادُّ مَسَدَّ المفعولين» أنهم لا يعجزون «في قراءة مَنْ قرأ بفتح» أنهم «وهو ابن عامر، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا سابقين أنهم لا يعجزون، وتكون» لا «مزيدةً ليصح المعنى» . قال الزمخشري بعد ذِكْره هذه الأوجهَ: «وليست هذه القراءةُ التي تَفَرَّد بها حمزةُ بنيِّرة» . وقد رَدَّ عليه جماعةٌ هذا القولَ وقالوا: لم ينفرد بها حمزةُ بل وافقه عليها مِنْ قُرَّاء السبعةِ ابنُ عامر أسنُّ القراءِ وأعلاهم إسناداً، وعاصمٌ في رواية حفص، ثم هي قراءةُ أبي جعفر المدني شيخِ نافع وأبي عبد الرحمن السلمي وابن محيصن وعيسى والأعمش والحسن البصري وأبي رجاء وطلحة وابن أبي ليلى. وقد رَدَّ الشيخ عليه أيضاً أنَّ «لا يحسبَنَّ» واقع على «أنهم لا يُعْجِزون» وتكونُ «لا» صلة بأنه لا يتأتَّى على قراءة حمزة، فإنَّ حمزة يقرأ بكسر الهمزة يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج؟ قلت: هو لم يلتزم التخريج على قراءةِ حمزة في الموضعين: أعني «لا يَحْسَبَنَّ» وقولهم «أنهم لا يعجزون» حتى نُلْزِمه ما ذكر. وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ أي: لا تَحْسبَنَّ يا محمدُ أو يا سامعُ، و «الذين كفروا» مفعولٌ أولُ، والثاني «سبقوا» ، وكان قد تقدَّم في آل عمران وجهٌ: أنه يجوز أن يكون الفاعلُ الموصولَ، وإنما أتى بتاءِ التأنيث لأنه بمعنى القوم كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105] ، وتقدَّمَ لك فيه بحثٌ وهو عائدٌ ههنا. وأمَّا قراءةُ الباقين في النور ففيها ما ذُكِر ههنا إلا الوجهَ الذي فيه تقديرُ «أنْ» الموصولة لتعذُّرِ ذلك، ولكن يَخْلُفُه وجهٌ آخر لا يتأتى ههنا: وهو أن يكون «

الذين كفروا» فاعلاً، و «مُعْجزين» مفعول أول و «في الأرض» الثاني. أي: لا تَحْسَبوا أحداً يعجز الله في الأرض أي بقوته. وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ على ما قدَّمته لك. وقرأ الأعمش: «ولا يَحْسَبَ الذين كفروا» بفتح الباء. وتخريجها أن الفعلَ مؤكَّد بنون التوكيد الخفيفة، فَحَذَفَها لالتقاء الساكنين، كما يُحْذَفُ له التنوين فهو كقول الآخر: 2435 - لا تُهينَ الفقير عَلَّكَ أَنْ تَرْ ... كَعَ يوماً والدهرُ قد رفعهْ أي: لا تهينَنَّ. ونقل بعضهم: «ولا تحسَبِ الذين» من غير توكيدٍ البتة. وهذه القراءةُ بكسرِ الباء على أصل التقاء الساكنين. قولهم: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} قرأ ابن عامر بالفتح، والباقون بالكسر. فالفتح: إمَّا على حَذْفِ لام العلة، أي: لأنهم. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر. ووجهُ الاستبعادِ أنها تعليل للنهي أي: لا تَحْسَبَنَّهم فائتين لأنهم لا يُعْجزون، أي: لا يقع منك حسبانٌ لقولهم لأنهم لا يُعْجزون، وإمَّا على أنها بدلٌ من مفعول الحسبان. وقال أبو البقاء: «إنه متعلقٌ بتحسب: / إمَّا مفعولٌ أو بدلٌ من» سَبَقوا «، وعلى كلا الوجهين تكون» لا «زائدةً. وهو ضعيفٌ لوجهين:

أحدهما: زيادة لا، والثاني: أن مفعول» حَسِب «إذا كان جملةً وكان مفعولاً ثانياً كانت» إنَّ «فيه مكسورة لأنه موضعُ ابتداء وخبر» . قوله: {لاَ يُعْجِزُونَ} العامَّةُ بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ وهي نونُ الرفع. وقرأ ابن محيصن «يُعْجِزوني» بنونٍ واحدةٍ بعدها ياء المتكلم، وهي نون الوقاية أو نون الرفع. وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في {أتحاجواني} . قال الزجاج: «الاختيارُ الفتحُ في النون، ويجوز كسرُها على أن المعنى: لا يُعْجزونني، وتُحْذف النونُ الأولى لاجتماع النونين كما قال عمر بن أبي ربيعة: 2436 - تراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني وقال متمم بن نويرة: 2437 - ولقد عِلِمْتِ ولا محالةَ أنني ... للحادثات فهل تَرَيْني أجزعُ قال الأخفش في هذا البيت:» فهذا يجوز على الاضطرار «. وقرأ ابن محيصن أيضاً «يُعْجِزونِّ» بنون مشددة مكسورةٍ، أدغم نونَ الرفع في نون الوقاية وحذف ياء الإِضافة مُجْتزِئاً عنها بالكسرة. وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون، مِنْ «عَجَّز» مشدَّداً. قال أبو جعفر: «

وهذا خطأٌ من وجهين أحدهما: أن معنى عجَّزه ضعَّفه وضعَّف أمره، والآخر: كان يجب أن يكون بنونين» قلت: أمَّا تخطئة النحاسِ له فخطأٌ، لأن الإِتيان بالنونين ليس بواجب، بل هو جائز، وقد قرئ به في مواضع في المتواتر سيأتي بعضُها. وأما عجَّز بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر بل نَقَل غيرُه من أهل اللغة أن معناه نسبتي إلى العجز، وأن معناه بَطَّأ وثبَّط، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين. وقرأ طلحة بكسر النونِ خفيفةً.

60

قوله تعالى: {مِّن قُوَّةٍ} : في محلِّ نصبٍ على الحال، وفي صاحبها وجهان أحدهما: أنه الموصولُ. والثاني: أنه العائد عليه، إذ التقدير: ما استطعتموه حال كونه بعضَ القوة. ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس. و «رباط» جوَّزوا فيه أن يكون جمعاً ل «رَبْط» مصدر رَبَط يَرْبُط نحو: كَعْب وكِعاب، وكلب وكِلاب، وأن يكون مصدراً ل «رَبَط» نحو: صاح صِياحاً قالوا: لأن مصادر الثلاثي لا تنقاس، وأن يكونَ مصدرَ «رابط» . ومعنى المفاعلة أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ واحد لفعل الآخر، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً، قال معناه ابن عطية. قال الشيخ: «قوله» مصادرُ الثلاثي غيرِ المزيد لا تنقاس «ليس بصحيح، بل لها مصادرُ منقاسةٌ ذكرها النحويون» قلت: في المسألة خلافٌ مشهور، وهو لم ينقل الإِجماعَ على عَدَمِ القياس حتى يَرُدَّ عليه بالخلاف، فإنه قد يكون اختار أحدَ المذاهب وقال به، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر. وقال الزمخشري: «والرِّباط: اسم للخيل التي تُرْبَطُ في سبيل الله، ويجوز أن يُسَمَّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن

يكونَ جمعَ رَبيط، يعني بمعنى مربوط كفَصِيل وفِصال» . والمصدر هنا مضافٌ لمفعول له. قوله: «تُرْهبون» يجوز أن يكونَ حالاً من فاعل «أعِدُّوا» أي: حَصِّلوا لهم هذا حالَ كونكم مُرْهِبين، وأن يكون حالاً من مفعوله وهو الموصولُ أي: أعِدُّوه مُرْهَباً به، وجاز نسبتُه لكلٍّ منها لأنَّ في الجملة ضميرَيْهما، هذا إذا أَعَدْنا الضمير من «به» على «ما» الموصولة. أمَّا إذا أَعَدْناه على الإِعدادِ المدلول عليه بأَعِدُّوا، أو على الرِّباط، أو على القوة بتأويل الحَوْل فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول. ويجوز أن يكون حالاً من ضمير «لهم» كذا نقله الشيخ عن غيره فقال: «وتُرْهبون قالوا: حال من ضمير» أعِدُّوا «أو من ضمير» لهم «ولم يَتَعَقَّبْه بنكير، وكيف يَصِحُّ جَعْلُه حالاً من الضمير في» لهم «ولا رابط بينهما؟ ولا يصِحُّ تقديرُ ضمير في جملة» تُرْهبون «لأَخْذِه معمولَه. وقرأ الحسن ويعقوب ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو» تُرَهِّبون «مضعَّفاً عدَّاه بالتضعيف كما عدَّاه العامة بالهمزة، والمفعول الثاني على كلتا القراءتين محذوف لأن الفعل قبل النقل بالهمزة/ أو بالتضعيف متعدٍّ لواحد نحو: رَهَّبْتُك، والتقدير: تُرَهِّبون عدوَّ الله قتالكم أو لقاءَكم. وزعم أبو حاتم أنَّ أبا عمرو نَقَلَ قراءةَ الحسن بياء الغيبة وتخفيف» يُرْهبون «وهي قراءة واضحة، فإن الضميرَ حينئذٍ يَرْجع إلى من يرجع إليه ضمير» لهم «، فإنهم إذا خافوا خَوَّفوا مَنْ وراءهم.

وقرأ الحسن وأبو حيوة ومالك بن دينار «ومن رُبُط» بضمتين، وعن الحسن أيضاً رُبْط بضم وسكون، وذلك نحو كتاب وكُتُب. قال ابن عطية: «وفي جَمْعِه وهو مصدرٌ غيرُ مختلفٍ نظرٌ» . قلت: لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدر، بل حكى أبو زيد أن «رِباطاً» الخَمْسُ من الخيل فما فوقَها وأن جمعها «رُبُط» ، ولو سُلِّم أنه مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنه لم تختلف أنواعُه، وقد تقدَّم أن «رباطاً» يجوز أن يكون جمعاً لرَبْط المصدر، فما كان جواباً هناك فهو جوابٌ هنا. قوله: {عَدْوَّ الله} العامَّة قرؤوه بالإِضافة، وقرأه السلميُّ منوناً، و «لله» بلام الجر، وهو مفرد والمراد به الجنس فمعناه أعداء لله. قال صاحب «اللوامح» : «وإنما جَعَله نكرةً بمعنى العامَّة، لأنها نكرة أيضاً لم تتعرَّفْ بالإِضافة إلى المعرفة؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال، ولا يتعرَّف ذلك وإن أُضيف إلى المعارف، وأمَّا» وعدوَّكم «فيجوز أن يكونَ كذلك نكرةً، ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذِكْره، ومثله:» رأيت صاحباً لكم، فقال لي صاحبكم «. يعني أن» عدوَّاً «يجوز أن يُلْمَحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّفُ وأن لا يُلْمَحَ فيتعرَّفَ. قوله: {وَآخَرِينَ} نسقٌ على» عدو الله «و» من دونهم «صفةٌ ل» آخرين «. قال ابن عطية:» من دونهم «بمنزلة قولك» دون أن يكون هؤلاء «ف» دون «في كلام العرب و» من دون «تقتضي عدمَ المذكور بعدها من النازلة التي فيها

القول، ومنه المثل:» وأُمِرَّ دون عُبَيْدَةَ الوَذَمُ «يعني أن الظرفيةَ هنا مجازية، لأن» دون «لا بد أن تكونَ ظرفاً حقيقةً أو مجازاً. قوله: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} في هذه الآية قولان، أحدهما: أنَّ» علم «هنا متعديةٌ لواحدٍ، لأنها بمعنى عرف ولذلك تَعَدَّتْ لواحد. والثاني: أنها على بابها فتتعدى لاثنين، والثاني: محذوف، أي: لا تَعْلَمونهم قارعين أو محاربين. ولا بد هنا من التنبيه على شيء: وهو أن هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله» الله يَعْلمهم «، بل يجب أن يقال: إنها المتعدية إلى اثنين، وإن ثانيهما محذوف، لِما تقدم لك من الفرق بين العِلْم والمعرفة، منها: أنَّ المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل، ومنها: أن متعلقها الذوات دون النسب، وقد نصَّ العلماء على أنه لا يجوز أن يُطْلَقَ ذلك أعني الوصفيةَ بالمعرفةِ على الله تعالى.

61

قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ} : الجُنوح: المَيْل، وجَنَحت الإِبلُ: أمالَتْ أعناقها، قال ذو الرمة: 2438 - إذا ماتَ فوق الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ روحَه ... بذكراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ ويقال: جَنَح الليلُ: أقبل. قال النضر بن شميل: «جَنَح الرجل إلى فلان ولفلان: إذا خضع له» . والجُنوح: الاتِّباع أيضاً لتضمُّن الميلِ، قال النابغة يصف طيراً يتبع الجيش:

2439 - جَوانحَ قد أيقَنَّ أنَّ قبيلَه ... إذا ما التقى الجمعانِ أولُ غالبِ ومنه «الجوانح» للأضلاع لمَيْلِها على حَشْوة الشخص، والجناح من ذلك لميلانه على الطائر. وقد تقدَّم الكلام على شيء من هذه المادة في البقرة. وعلى «السِّلم» . وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسرِ السين، وكذا في القتال: {وتدعوا إِلَى السلم} . وافقه حمزة على ما في القتال. و «للسِّلْم» متعلق ب «جَنَحوا» فقيل: يَتَعدَّى بها وب إلى. وقيل: هي هنا بمعنى إلى. وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنُحْ» بضم النون وهي لغة قيس، والفتح لغة تميم. والضمير في «لها» يعود على «السلم» لأنها تذكَّر وتؤنَّثُ. ومن التأنيث قولُه: 2440 - وأَقْنَيْتُ للحربِ آلاتِها ... وأَعْدَدْتُ للسِّلْم أوزارَها / وقال آخر: 2441 - السِّلْمُ تأخذ منها ما رَضِيْتَ به ... والحربُ يَكْفيك من أنفاسها جُرَعُ

64

قوله تعالى: {وَمَنِ اتبعك} : فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكون «مَنْ» مرفوعَ المحلِّ عطفاً على الجلالة، أي: يكفيك الله والمؤمنون، وبهذا

فسَّر الحسن البصري وجماعة، وهو الظاهر، ولا مَحْذورَ في ذلك من حيث المعنى، وإن كان بعضُ الناسِ استَصْعَبَ كونَ المؤمنين يكونون كافِين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأوَّل الآيةَ على ما سنذكره. الثاني: أن «مَنْ» مجرورةُ المحلِّ عطفاً على الكاف في «حَسْبُك» وهو رأيُ الكوفيين، وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد، قالا: معناه: وحسبُ مَن اتَّبعك. الثالث: أن محلَّه نصبٌ على المعيَّة. قال الزمخشري: «ومَن اتبعك» : الواو بمعنى مع، وما بعده منصوبٌ. تقول: «حَسْبُك وزيداً درهمٌ» ولا تَجُرُّ؛ لأن عطفَ الظاهرِ المجرورِ على المُكْنى ممتنعٌ. وقال: 2442 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَحَسْبَكَ والضحاكَ سيفٌ مُهَنَّدُ والمعنى: كفاك وكفى تُبَّاعَك المؤمنين [اللهُ] ناصراً «، وقال الشيخ:» وهذا مخالف كلامَ سيبويه فإنه قال: «حَسْبُك وزيداً درهمٌ» لَمَّا كان فيه معنى كفاك، وقَبُح أن يَحْملوه على المضمر نَوَوا الفعل كأنه قال: بحسبك ويُحْسِب أخاك [درهمٌ] «، ثم قال:» وفي ذلك الفعل المضمرِ ضميرٌ يعودُ على الدرهمِ، والنيةُ بالدرهم التقديمُ، فيكون مِنْ عطفِ الجمل. ولا يجوزُ أن يكونَ من باب الإِعمال، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعملَه

فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مَجْراه ولا عمله فلا يُتَوَّهم ذلك فيه «. قلت: وقد سبق الزمخشري إلى كونه مفعولاً معه الزجاج، إلا أنه جَعَل» حسب «اسمَ فعلٍ فإنه قال:» حسبُ: اسمُ فعلٍ، والكافُ نصبٌ، والواو بمعنى مع «وعلى هذا يكون» اللهُ «فاعلاً، وعلى هذا التقدير يجوز في» ومَنْ «أن يكونَ معطوفاً على الكاف؛ لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرورةٌ؛ لأن اسم الفعل لا يُضاف. ثم قال الشيخ:» إلا أن مذهب الزجاج خطأٌ لدخولِ العواملِ على «حَسْب» نحو: بحَسْبك درهم «، وقال تعالى: {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} [الأنفال: 62] ، ولم يَثْبُتْ في موضعٍ كونُه اسمَ فعلٍ فيُحْمل هذا عليه» . وقال ابن عطية بعدما حكى عن الشعبي وابن زيد ما قَدَّمْتُ عنهما من المعنى: «ف» مَنْ «في هذا التأويل في محلِّ نصب عطفاً على موضع الكاف؛ لأن موضعَها نصبٌ على المعنى ب» يكفيك «الذي سَدَّتْ» حَسبك «مَسَدَّه» . قال الشيخ: «هذا ليس بجيد؛ لأن» حَسْبك «ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست مِنْ نصب، و» حسبك «مبتدأ مضافٌ إلى الضمير، وليس مصدراً ولا اسم فاعل، إلا إنْ قيل إنه عطف على التوهم، كأنه تَوَهَّم أنه قيل: يكفيك الله أو كفاك الله، لكن العطفَ على التوهُّم لا ينقاسُ، والذي ينبغي أن يُحمل عليه كلامُ الشعبي وابنِ زيد أن تكون» مَنْ «مجرورةً ب» حَسْب «محذوفةً لدلالة» حَسْبك «عليها كقوله:

2443 - أكلَّ امرئ تحسبين أمرأً ... ونارٍ توقَّدُ بالليل ناراً أي: وكلَّ نارٍ، فلا يكونُ من العطف على الضمير المجرور «. قال ابن عطية:» وهذا الوجهُ مِنْ حَذْفِ المضاف مكروهٌ، بابُه ضرورةُ الشعر «. قال الشيخ:» وليس بمكروهٍ ولا ضرورة، بل أجازه سيبويه وخَرَّج عليه البيتَ وغيرَه من الكلام «، قلت: قوله:» بل إضافةٌ صحيحة ليست من نصب «فيه نظر لأن النحويين على أنَّ إضافةَ» حسب «وأخواتِها إضافةٌ غيرُ محضة، وعَلَّلوا ذلك بأنها في قوةِ اسمِ فاعلٍ ناصبٍ لمفعولٍ به، فإن» حَسْبك «بمعنى كافيك وغيرك بمعنى مُغايرك، وقيد الأوابد بمعنى مقيِّدها قالوا: ويدل على ذلك أنها تُوصف بها النكرات فقال:» مررت برجلٍ حَسْبِك من رجلٍ «. وجَوَّز أبو البقاء فيه الرفعَ من ثلاثة أوجه أحدها: أنه نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم، إلا أنه قال: فيكون خبراً آخر كقولِك:» القائمان/ زيد وعمرو، ولم يُثَنِّ «حَسْبك» لأنه مصدرٌ. وقال قوم: هذا ضعيفٌ؛ لأن الواوَ للجمع ولا يَحْسُن ههنا، كما لا يَحْسُن في قولهم: «ما شاء الله وشئت» . و «ثم» هنا أولى «، قلت: يعني أنه من طريق الأدب لا يؤتى بالواو التي تقتضي الجمع، بل تأتي ب» ثم «التي تقتضي التراخي، والحديثُ دالٌّ على ذلك. الثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوف تقديرُه: وحسب مَنْ اتبعك. والثالث: هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره: ومَن اتبعك كذلك أي: حسبهم الله. وقرأ الشعبي» ومَنْ «بسكون النون» «أَتْبَعَك» بزنة أَكْرمك.

65

قوله تعالى: {حَرِّضِ} : أي حُضَّ وحُثَّ. يقال: حَرَّض وحَرَّش وحَرَّك بمعنىً واحد. وقال الهروي: «يقال حارَضَ على الأمر وأَكَبَّ وواكب وواظب وواصَبَ بمعنًى قيل: وأصله مِن الحَرَض وهو الهلاك قال: 2444 - إني امرؤ رابني همٌّ فأَحْرَضني ... حتى بُلِيْتُ وحتى شفَّني سَقَم قال أبو إسحاق:» تأويل التحريض في اللغة أن يُحَثَّ الإِنسانُ على شيءٍ حتى يُعْلَمَ منه أنه حارضٌ، والحارضُ المقارِبُ للهلاك «، واستبعد الناسُ هذا منه. وقد نحا الزمخشري نحوه فقال:» التحريضُ: المبالغَةُ في الحثِّ على الأمر، من الحَرَض، وهو أن يَنْهكه المرض ويتبالغَ فيه حتى يُشْفِيَ على الموت أو تُسَمِّيه حَرَضاً وتقول: ما أراك إلا حَرَضاً «. قوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الآيات: أثبت في الشرط الأول قيداً وهو الصبرُ وحَذَفَ من الثاني، وأثبت في الثاني قيداً وهو كونُهم مِن الكفرة وحَذَف من الأول. والتقدير: مئتين من الذين كفروا ومئة صابرة، فحذف من كلٍ منهما ما أثبتَ في الآخر وهو في غاية الفصاحة. وقرأ الكوفيون: {وإن يكنْ منكم مئة يَغْلبوا} {فإن يكنْ منكم مئة صابرة} بتذكير» يكن «فيهما. ونافع وابن كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما، وأبو عمرو في الأولى كالكوفيين، وفي الثانية كالباقين. فَمَنْ ذَكَّرَ فللفَصْل بين الفعل وفاعله بقوله» منكم «؛ ولأن التأنيث مجازي، إذ المراد بالمئة الذُّكور. ومن أنَّث فلأجلِ الفصلِ، ولم يلتفت للمعنى ولا للفصل. وأمَّا أبو عمرو

فإنما فرَّق بين الموضعين فَذَكَّر في الأول لِما ذكر، ولأنَّه لحَظَ قولَه» يَغْلبوا «، وأنَّث في الثاني لقوة التأنيث بوصفِه بالمؤنث في قوله» صابرة «. وأمَّا» إنْ يكنْ منكم عشرون «» وإن يكنْ منكم أَلْفٌ «، فبالتذكير عند جميع القرَّاء إلا الأعرج فإنه أنَّث المسند إلى» عشرون «. وقرأ الأعمش:» حَرِّصْ «بالصاد المهملة وهو من الحِرْص، ومعناه مقاربٌ لقراءة العامة. وقرأ المفضل عن عاصم:» وعُلِم «مبنياً للمفعول، و» أن فيكم ضعفاً «في محل رفع لقيامه مقامَ الفاعل، وهو في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به في قراءة العامَّة لأنَّ فاعلَ الفعلِ ضميرٌ يعودُ على الله تعالى. و» يكن «في هذه الأماكن يجوز أن تكون التامَّةَ ف» منكم «: إمَّا حالٌ من» عشرون «لأنها في الأصل صفةٌ لها، وإمَّا متعلق بنفس الفعل لكونه تاماً، وأن تكونَ الناقصةَ، فيكون» منكم «الخبرَ، والمرفوعُ الاسمَ وهو» عشرون «و» مئة «و» ألف «. قوله:» ضعفاً «قرأ عاصم وحمزة هنا وفي الروم في كلماتها الثلاث: {اللهُ الذي خَلَقكم مِنْ ضعف، ثم جَعَل من بعد ضعفٍ قوة، ثم جَعَلَ من بعد قوةٍ ضعفاً} بفتح الضاد، والباقون بضمها، وعن حفص وحدَه خلافٌ في الروم خاصةً. وقرأ عيسى بن عمر «ضُعُفاً» بضم الفاء والعين، وكلُّها مصادرُ. وقيل: الضَّعْفُ بالفتح في الرأي والعقل، والضم في البدن، وهذا قول الخليل بن أحمد، هكذا نقله الراغب عنه. ولمَّا نقل ابن عطية هذا عن

الثعالبي قال: «هذا القول تردُّه القراءة» . وقيل: هما بمعنى واحد، لغتان: لغةُ الحجاز الضمُّ، ولغة تميم الفتح، نقله أبو عمرو فيكونان كالفَّقْر والفُّقر، والمَكْث والمُكث، والبُخْل والبَخَل. وقرأ ابن عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر: ضُعَفاء جمعاً على فُعَلاء كظَريف وظُرَفاء. وقد نَقَلْت عن القرَّاء كلاماً كثيراً في هذا الحرف في شرح «حرز الأماني» فإنه أليقُ به من هذا فعليك به.

67

قوله تعالى: {أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} : قرأ أبو عمرو «تكون» بالتأنيث مراعاةً لمعنى الجماعة. والباقون/ بالتذكير مراعاةً للفظ الجمع. والجمهورُ هنا على «أَسْرى» وهو قياس فعيل بمعنى مفعول دالاَّ على أنه كجريح وجَرْحى. وقرأ ابن القعقاع والمفضَّل عن عاصم «أُسَارى» شبَّهوا «أسير» بكَسْلان فجمعوه على فُعالَى ككُسالى، كما شبَّهوا به «كسلان» فجمعوه على كَسْلى. وقد تقدَّم القولُ فيهما في البقرة محققاً. وقوله: {يُثْخِنَ} قرأ العامة «يُثْخن» مخففاً عدَّوه بالهمزة، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر «يُثَخِّن» بالتشديد، عَدَّوْه بالتضعيف وهو مشتقٌّ من الثَّخانة، وهي الغِلْظ والكثافة في الأجسام، ثم يُستعار ذلك في كثرة القتل والجراحات فيقال: أَثْخَنَتْه الجراح أي: أثقلته حتى أَثْبَتَتْه، ومنه {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} [محمد: 4] . وقيل: حتى تقهر. والإِثخان: القهر. أنشد المفضل:

2445 - تُصَلِّي الضُّحى ما دهرُها بتعبُّدٍ ... وقد أَثْخَنَتْ فرعونَ في كفره كفرا كذا أنشده الهرويُّ شاهداً على القهر وليس فيه معنى، إذ المعنى على الزيادة والمبالغةِ المناسِبةِ لأصل معناه وهي الثَّخانة ويقال منه: ثَخُنَ يَثْخُنُ ثَخَانةً فهو ثَخِين، كظَرُف يَظْرُف ظَرافةً فهو ظريف. قوله: {والله يُرِيدُ الآخرة} الجمهور على نصب «الآخرة» ، وقرأ سليمان بن جماز المدني بجرها، وخُرِّجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جَرِّه. وقدَّره بعضهم: عَرَض الآخرة، فعيب عليه إذ لا يحسن أن يقال: والله يريد عرض الآخرة، فأصلحه الزمخشري بأنْ جَعَله كذلك لأجل المقابلة قال «يعني ثوابها» . وقدَّره بعضُهم بأعمال أو ثواب. وجعله أبو البقاء كقول الآخر: . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا وقدَّر المضاف «عَرَضَ الآخرة» . قال الشيخ: «ليست الآيةُ مثلَ البيت فإنه يجوز ذلك إذا لم يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت، أو يُفصل ب» لا «نحو:» ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك «، أمَّا إذا فُصِل بغيرها كهذه القراءةِ فهو شاذٌّ قليل» .

69

قوله تعالى: {مِمَّا غَنِمْتُمْ} : يجوز أن تكون مصدريةً،

والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ. ويجوز أن تكونَ بمعنى الذي، وهو في المعنى كالذي قبله، والعائد على هذا محذوف. قوله: {حَلاَلاً} نصبٌ على الحال: إمَّا من «ما» الموصولة أو مِنْ عائدِها إذا جعلناها اسميةً. وقيل: هو نعتُ مصدرٍ محذوف أي: أكلاً حلالاً. قوله: {واتقوا الله} قال ابن عطية: «وجاء قوله:» واتقوا الله «اعتراضاً فصيحاً في أثناء القول، لأنَّ قولَه: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} متصلٌ بقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} يعني أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له.

70

قوله تعالى: {مِّنَ الأسرى} : قرأه أبو عمرو بزنة فُعالى، والباقون بزنة فَعْلَى وقد عُرِفَ ما فيهما. ووافق أبا عمروٍ قتادةُ ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو جعفر. واختُلف عن الجحدري والحسن. وقرأ ابن محيصن «مِنْ أَسْرى» منكِّراً. قوله: {يُؤْتِكُمْ} جواب الشرط. وقرأ الأعمش: «يُثِبْكم» من الثواب. وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد «ممَّا أَخَذَ» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى.

71

قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ} : الضمير يعود على الأَسْرى لأنهم أقربُ مذكور. وقيل: على الجانحين. وقيل: على اليهود. وقيل: على كفار قريش.

72

قوله تعالى: {فَعَلَيْكُمُ النصر} : مبتدأ وخبر، أو فعل

وفاعل عند الأخفش، ولفظةُ «على» تُشْعِرُ بالوجوب. وكذلك قدَّره الزمخشري وشبَّهه بقوله: 2446 - على مُكْثريهم رِزْقُ مَنْ يَعْتريهم ... وعند المُقِلِّين السماحةُ والبَذْلُ قوله: {مِّن وَلاَيَتِهِم} قرأ حمزة هنا وفي الكهف [الآية: 44] : {الولاية لِلَّهِ} هو والكسائي بكسر الواو. والباقون بفتحها فقيل: لغتان. وقيل: بالفتح مِن المَوْلَى، يقال: مَوْلى بيِّن الوَلاية، وبالكسر مِنْ وِلاية السلطان، قاله أبو عبيدة. وقيل: بالفتح مِنَ النُّصْرَة والنسب، وبالكسر من الإِمارة قاله الزجاج. قال: «ويجوز الكسرُ لأنَّ في تَوَلِّي بعضِ القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ مثل الخِياطة والقِصارة. وقد خَطَّأ/ الأصمعيُّ قراءةَ الكسرِ، وهو المُخْطِئُ لتواترها. وقال أبو عبيد:» والذي عندنا الأَخْذُ بالفتح في هذين الحرفين، لأنَّ معناهما مِنَ الموالاة في الدين «. وقال الفارسي:» الفتحُ أَجْود لأنها في الدين «، وعَكَس الفراء هذا فقال:» يُريد مِنْ مواريثهم، بكسر الواو أحبُّ

إليَّ من فتحها، لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة، وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنيين جميعاً «. وقرأ السلمي والأعرج» والله بما يعملون «بالياء للغيبة، وكأنه التفات أو إخبار عنهم.

73

قوله تعالى: {إِنْ لا تَفْعَلُوهُ} : الهاءُ تعود: إمَّا على النصر أو الإِرث أو الميثاق أي: حِفْظه، أو على جميع ما تقدَّم ذِكْرُه، وهو معنى قول الزمخشري «إنْ لا تَفْعلوا ما أَمَرْتُكم به» . والعامة قرؤوا [كبير] بالباء الموحدة. وقرأ الكسائي فيما حكى عنه أبو موسى الحجازي: «كثير» بالثاء المثلثة، وهذا قريبٌ ممَّا في البقرة وهو يقرؤها كذلك.

74

قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ} : زعم بعضهم أن هذه الجملة تكرارٌ للتي قبلها، وليس كذلك، فإن التي قبلها تضمَّنَتْ ولايةَ بعضِهم لبعض، وتقسيمَ المؤمنين إلى ثلاثة أقسام، وبيان حكمهم في ولايتهم وتناصرهم، وهذه تضمَّنت الثناء والتشريف والاختصاص، وما آل إليه حالُهم من المغفرة والرزق الكريم.

قوله في: «كتاب» يجوز أن يتعلَّق بنفس «أَوْلَى» أي: أحقّ في حكم الله أو في القرآن أو في اللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هذا الحكمُ المذكور في كتاب. وما أحسنَ ما جيء بخاتمتها بقوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

التوبة

الجمهورُ على رفع «براءة» وفيه وجهان، أحدهما: أنها رفعٌ بالابتداء، والخبرُ قولُه: «إلى الذين» . وجاز الابتداءُ بالنكرة لأنها تخصَّصَتْ بالوصفِ بالجارِّ بعدها. والثاني: أنها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هذه الآياتُ براءةٌ. ويجوز في: «من الله» أن يكون متعلقاً بنفس «براءة» لأنها مصدرٌ، وهذه المادةُ تتعدَّى ب «مِنْ» تقول: بَرِئت مِنْ فلانٍ أَبْرَأُ بَراءة أي: انقطعت العُصْبَةُ بيننا. وعلى هذا فيجوز أن يكونَ المسَوِّغُ للابتداء بالنكرة في الوجه الأول هذا. و «إلى الذين» متعلقٌ بمحذوف على الأول لوقوعِه خبراً، وبنفس «بَراءة» على الثاني. ويقال: بَرِئْتُ وبَرَأت من الدين بالكسر والفتح. وقال الواحدي: «ليس فيه إلا لغةٌ واحدة: كسرُ العين في الماضي، وفتحُها في المستقبل» وليس كذلك، بل نَقَلَهما أهلُ اللغة. وقرأ عيسى بن عمر «براءةً» بالنصب على إضمار فعل أي: اسمعوا براءةً. وقال ابن عطية: «أي، الزموا براءةً، وفيه معنى الإِغراء» .

وقُرىء «مِنِ الله» بكسر نون «مِنْ» على أصلِ التقاءِ الساكنين أو على الإِتباع لميم «مِنْ» وهي لُغَيَّةٌ، فإن الأكثرَ فتحُها مع لام التعريف وكَسْرُها مع غيرها نحو: «مِنِ ابنك» وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما. وحكى أبو عمرو عن أهل نجران أنهم يَقْرؤون كذلك بكسر النون مع لام التعريف.

2

قوله تعالى: {فَسِيحُواْ} : هذا على إضمار القول أي: قيل: سيحوا. وهذا التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب. يقال: ساح يَسيح سِياحة وسُيُوحاً وسَيَحاناً أي: انساب كسَيْح الماءِ في الأماكن المنبسطة. قال طرفة: 2447 - لو خِفْتُ هذا منك ما نِلْتَني ... حتى ترى خيلاً أمامي تَسِيحْ و «أربعةَ أشهرٍ» ظرف ل «سِيْحوا» . وقرىء {غَيْرُ مُعْجِزِي الله} بنصب الجلالة على أن النونَ حُذِفَتْ تخفيفاً. وقد تقدَّم تحريرُه.

3

قوله تعالى: {وَأَذَانٌ} : رفع بالابتداء، و «مِن الله» : إمَّا صفةُ أو متعلقٌ به. وإلى الناس «الخبر. ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: وهذا إعلامٌ، والجارَّان متعلقان به كما تقدَّم في» براءة «. قال الشيخ:» ولا وجهَ لقولِ مَنْ قال إنه معطوف على «براءة» ، كما لا يُقال «عمرو» معطوف على «زيد» في «زيد قائم وعمرو قاعد» . وهو [كما قال] ، وهذه عبارة [الزمخشري بعينها]

وقرأ الضحَّاك وعكرمة وأبو المتوكل: «وإذْن» بكسر الهمزةِ وسكونِ الذال. وقرأ العامَّةُ: «أنَّ الله» بفتح الهمزة على أحدِ وجهين: إمَّا كونِه خبراً ل «أذان» أي: الإِعلامُ من الله براءتُه من المشركين وضعَّف الشيخُ هذا الوجهَ ولم يذكر تضعيفَه وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجر أي: بأن الله. ويتعلَّقُ هذا الجارُّ إمَّا بنفس المصدرِ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه صفتُه. و «يومَ» منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله: «إلى الناس» . وزعم بعضُهم أنه منصوبٌ ب «أذانٌ» وهو فاسدٌ من وجهين: أحدهما: وصفُ المصدرِ قبل عمله. الثاني: الفَصْلُ بينه وبين معمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ. وقرأ الحسن والأعرج بكسر الهمزة، وفيه المذهبان المشهوران: مذهبُ البصريين إضمارُ القول، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ/ الأذانِ مجرى القول. قوله: {مِّنَ المشركين} متعلقٌ بنفس «بريء» كما يقال: «بَرِئْتُ منه» ، وهذا بخلاف {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله} [التوبة: 1] فإنها هناك تحتمل هذا، وتحتمل أن تكونَ صفةً ل «براءة» . قوله: {وَرَسُولِهِ} الجمهورُ على رَفْعِه، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: ورسولُه بريءٌ منهم، وإنما حُذِفَ للدلالةِ عليه. والثاني: أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في الخبر، وجاز ذلك للفصلِ المسوِّغ للعطف فرفعُه على هذا بالفاعلية. الثالث: أنه معطوفٌ على محل اسم «أنَّ» ، وهذا عند مَنْ يُجيز ذلك في المفتوحةِ قياساً على المكسورة. قال

ابن عطية: «ومذهبُ الأستاذ يعني ابن الباذش على مقتضى كلامِ سيبويهِ أن لا موضعَ لِما دخلَتْ عليه» أنَّ «؛ إذ هو مُعْرَبٌ قد ظهر فيه عملُ العامل، وأنه لا فرقَ بين» أَنَّ «وبين» ليت «، والإِجماعُ على أن لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه هذه» . قال الشيخ: «وفيه تعقُّبٌ؛ لأن علةَ كونِ» أنَّ «لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه ليس ظهورَ عملِ العامل بدليل:» ليس زيد بقائم «و» ما في الدار مِنْ رجل «فإنه ظهر عملُ العامل ولهما موضع، وقولُه:» بالإِجماع «يريد أن» ليت «لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه بالإِجماع ليس كذلك؛ لأن الفراءَ خالَفَ، وجعل حكمَ» ليت «وأخواتِها جميعِها حكمَ» إنَّ «بالكسر» . قلت: قوله: «بدليل ليس زيدٌ بقائم» إلى آخره قد يَظْهر الفرق بينهما فإن هذا العاملَ وإنْ ظهر عملُه فهو في حكمِ المعدوم؛ إذ هو زائد فلذلك اعتبرنا الموضعَ معه بخلاف «أنَّ» بالفتح فإنه عاملٌ غيرُ زائد، وكان ينبغي أن يُرَدَّ عليه قولُه: «وأن لا فرقَ بين» أنَّ «وبين» ليت «، فإنَّ الفرقَ قائمٌ، وذلك أن حكمَ الابتداء قد انتسخ مع ليت ولعل وكأن لفظاً ومعنىً بخلافه مع إنَّ وأنَّ فإن معناه معهما باقٍ. وقرأ عيسى بن عمر وزيد بن علي وابن أبي إسحاق» ورسولَه «بالنصب. وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة. والثاني: أنه مفعولٌ معه، قاله الزمخشري. وقرأ الحسن» ورسولِه «بالجر وفيها وجهان، أحدهما: أنه مقسمٌ به أي: ورسولِه إن الأمر كذلك، وحُذِفَ جوابُه لفهم المعنى. والثاني: أنه على الجِوار، كما أنهم نَعَتوا وأكَّدوا على الجِوار، وقد

تقدَّم تحقيقُه. وهذه القراءةُ يَبْعُد صحتُها عن الحسن للإِبهام، حتى يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ» ورسولِه «بالجر. فقال الأعرابي: إن كان الله قد بَرِىء مِنْ رسوله فأنا بريء منه، فَلَبَّبه القارىء إلى عمر رضي الله عنه، فحكى الأعرابيُّ الواقعةَ، فحينئذ أَمَرَ عمرُ بتعليم العربية. ويُحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ وأبي الأسود الدؤلي. قال أبو البقاء:» ولا يكون عطفاً على المشركين لأنه يؤدي إلى الكفر «. وهذا من الوضحات.

4

قوله تعالى: {إِلاَّ الذين} : فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع. والتقدير: لكنِ الذين عاهدتم فَأَتِمُّوا إليهم عهدَهم. وإلى هذا نحا الزمخشريُّ فإنه قال: «فإن قلت: مِمَّ استثنى قولَه {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم؟} قلت: وجهُه أن يكونَ مستثنى من قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض} لأن الكلامَ خطابٌ للمسلمين، ومعناه: براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم: سِيْحوا إلا الذين عاهدْتم منهم ثم لم ينقصوا فأتمُّوا إليهم عهدهم. والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أُمِروا في الناكثين: ولكن الذين لم يَنْكثوا فأتمُّوا إليهم عهدَهم ولا تُجروهم مُجراهم» . الثاني: أنه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملة محذوفة تقديره: اقتلوا المشركين المعاهَدين إلا الذين عاهَدْتم. وفيه ضعفٌ. الثالث: أنه مبتدأ والخبرُ قولُه فأتمُّوا إليهم، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ لأنَّ

الفاءَ تزاد في غير موضعها، إذا المبتدأُ لا يُشْبه الشرط لأنه لأُِناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش إذ يُجَوِّز زيادتها مطلقاً. والأَوْلَى أنه منقطعٌ لأنَّا لو جَعَلْناه متصلاً مستثنى من المشركين في أولِ السورة لأدَّى إلى الفَصْلِ بين المستثنى والمستثنى منه بجملٍ كثيرة. قوله: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} الجمهور «يَنْقُصوكم» بالصاد مهملةً، وهو يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين. ويجوز ذلك فيه هنا، ف «كُمْ» مفعولٌ، و «شيئاً» : إمَّا مفعول ثان وإمَّا مصدرٌ، أي: شيئاً من النقصان، أو لا قليلاً و [لا] كثيراً من النقصان. وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وابن السَّمَيْفَع/ وأبو زيد «يَنْقُضوكم» بالضاد المعجمة، وهي على حَذْفِ مضاف أي: ينقضوا عهدكم، فحُذف المضاف وأُقيم المضافُ إليه مُقامه. قال الكرماني: «وهي مناسِبة لِذِكْرِ العهد» أي: إنَّ النقضَ يُطابق العهدَ، وهي قريبة من قراءة العامة؛ فإنَّ مَنْ نقض العهد فقد نقص من المدة، إلا أن قراءةَ العامة أوقعُ لمقابلها التمام.

5

قوله تعالى: {الأشهر} : يجوز أن تكون الألف واللام للعهد، والمرادُ بهذه الأشهرِ الأشهرُ المتقدمة في قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ، والعربُ إذا ذكرت نكرةً، ثم أرادت ذِكْرها ثانياً، أتت بمضمرِه أو بلفظه معرَّفاً بأل، ولا يجوز أن نَصِفَه حينئذٍ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة، فلو قيل: «رأيت رجلاً فأكرَمْتُ الرجلَ الطويل» لم تُرِد بالثاني الأولَ، وإن وَصَفْتَه

بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك: «فأكرمت الرجل المذكور» ، ومنه هذه الآيةُ فإن الأشهر قد وُصِفَتْ بالحُرُم، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة. ويجوز أن يُرادَ بها غيرُ الأشهرِ المتقدمة فلا تكون أل للعهد، والوجهان مقولان في التفسير. والانسلاخُ هنا من أحسنِ الاستعارات، وقد بَيَّن ذلك أبو الهيثم فقال: «يُقال:» أَهْلَلْنا شهرَ كذا «أي: دَخَلَْنا فيه، فنحن نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفِه لباساً، ثم نَسْلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ، وأنشد: 2448 - إذا ما سَلَخْتُ الشهرَ أَهْلَلْتُ مثلَه ... كفى قاتِلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي قوله: {كُلَّ مَرْصَدٍ} في انتصابه وجهان أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ المكاني. قال الزجاج:» نحو: ذهبت مذهباً «. وقد ردَّ الفارسيُّ عليه هذا القولَ من حيث إنه ظرف مكان مختص، والمكانُ المختصُّ لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة» في «، نحو: صَلَّيْتُ في الطريق، وفي البيت، ولا يَصِلُ بنفسه إلا في ألفاظٍ محصورةٍ بعضُها ينقاسُ وبعضها يُسمع، وجعل هذا نظير ما فَعَلَ سيبويه في بيت ساعِدة: 2449 - لَدْنٌ بهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ وهو أنه جعله مما حُذِف فيه الحرفُ اتِّساعاً لا على الظرف؛ لأنه ظرف مكان مختص.

قال الشيخ:» إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى «واقعدوا» لا يُراد به حقيقةُ القعود، وإنما يُراد: ارصُدوهم، وإذا كان كذلك فقد اتفق العاملُ والظرف في المادة، ومتى اتفقا في المادة لفظاً أو معنىً وصل إليه بنفسه تقول: جلست مجلسَ القاضي، وقعدت مجلسَ القاضي، والآيةُ من هذا القبيل «. والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرف الجر وهو» على «أي: على كلِّ مَرْصَد، وهذا قول الأخفش، وجعله مِثْلَ قولِ الآخر: 2450 - تَحِنُّ فَتُبْدِي ما بها مِنْ صَبابةٍ ... وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضَاني وهذا لا ينقاسُ بل يُقتصر فيه على السَّماع كقوله تعالى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} أي: على صراطك، اتفق الكل على أنه على تقدير» على «. وقال بعضُهم: هو على تقدير الباء أي بكل مرصد، نقله أبو البقاء: وحينئذٍ تكون الباء بمعنى» في «فينبغي أن تُقَدَّرَ» في «لأن المعنى عليها، وجعله نظيرَ قولِ الشاعر: 2451 - نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً ... ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ والمَرْصَدُ مَفْعَل مِنْ رصده يَرْصُدُه أي: رَقَبه يَرْقُبُه وهو يَصْلُح للزمان والمكان والمصدر، قال عامر بن الطفيل:

2452 - ولقد عَلِمْتَ وما إِخالك ناسِيا ... أنَّ المنيَّةَ للفتى بالمَرْصَدِ والمِرْصاد: المكانُ المختص بالترصُّد، والمَرْصَدُ يقع على الراصد سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً، وكذلك يقع على المرصود، وقولُه تعالى: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 27] يَحْتمل كلَّ ذلك، وكأنه في الأصل مصدرٌ، فلذلك التُزِم فيه الإِفرادُ والتذكير.

6

قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ} : كقوله: {إِن امرؤ هَلَكَ} [النساء: 176] في كونِه من باب الاشتغال/ عند الجمهور. قوله: {حتى يَسْمَعَ} «حتى» يجوز أن تكونَ هنا للغاية، وأن تكونَ للتعليل، وعلى كلا التقديرين يتعلَّقُ بقوله: «فَأَجِرْهُ» ، وهل يجوز أن تكونَ هذه المسألةُ من باب التنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ، وذلك أنه يجوزُ من حيث المعنى أن تُعَلَّق «حتى» بقوله: «استجارك» أو بقوله: «فَأَجِرْهُ» إذ يجوز تقديرُه: وإن استجارك أحدٌ حتى يسمعَ كلام الله فَأَجِرْهُ حتى يسمع كلام الله. والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور لأمرٍ لفظي من جهة الصناعة لا معنوي، فإنَّا لو جعلناه من التنازع، وأَعْمَلْنا الأول مثلاً لاحتاج الثاني إليه مضمراً على ما تقرر، وحينئذٍ يلزم أنَّ «حتى» تجرُّ المضمر، و «حتى» لا تجرُّه إلا في ضرورة شعر كقوله: 2453 - فلا واللَّهِ لا يَلْقَى أُناسٌ ... فتى حَتَّاك يا ابنَ أبي يزيدِ وأمَّا عند مَنْ يُجيز أن تجرَّ المضمر فلا يمتنع ذلك عنده، ويكون من

إعمال الثاني لحذفِه، ويكون كقولك: «فرحت ومررت بزيد» أي: فرحت به، ولو كان من إعمال الأول لم تَحْذِفْه من الثاني. وقوله: {كَلاَمَ الله} من باب إضافة الصفة لموصوفها لا من باب إضافةِ المخلوق للخالق. و «مَأْمَنَه» يجوز أن يكون مكاناً أي مكان أَمْنِه، وأن يكونَ مصدراً أي: ثمَّ أَبْلِغْه أَمْنَه.

7

قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ} : في خبر «يكون» ثلاثةُ أوجه أظهرُها: أنه «كيف» ، و «عهدٌ» اسمُها، والخبر هنا واجبُ التقديمِ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام وهو الاستفهامُ، و «للمشركين» على هذا متعلقة: إمَّا ب «يكون» عند مَنْ يُجيز في «كان» أن تعمل في الظرفِ وشبهه، وإمَّا بمحذوف لأنها صفةٌ لعهد في الأصل، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً، و «عند» يجوز أن تكون متعلقةً ب «يكون» أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «عَهْد» أو متعلقةً بنفس «عهد» لأنه مصدر. الثاني: أن يكون الخبر «للمشركين» و «عند» على هذا فيها الأوجهُ المتقدمة. ونزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوز أن يكونَ ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به «للمشركين» . والثالث: أن يكون الخبرُ «عند الله» و «للمشركين» على هذا: إمَّا تبيين، وإمَّا متعلقٌ ب «يكون» عند مَنْ يجيز ذلك كما تقدم، وإمَّا حال من «عهد» ، وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر. ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبرِ على الاسم لكونِهِ حرفَ جر. و «كيف» على هذين الوجهين الأخيرين مُشْبِهةٌ بالظرف أو بالحال كما تقدَّم تحقيقه في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] . ولم يذكروا هنا وجهاً رابعاً وكان ينبغي أن يكونَ هو الأظهر - وهو أن يكونَ الكونُ تاماً بمعنى: كيف يوجد عهدٌ للمشركين عند الله؟ ، والاستفهامُ

هنا بمعنى النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء ب «إلا» ، ومِنْ مجيئه بمعنى النفي أيضاً قولُه: 2454 - فهذي سيوفٌ يا صُدَيُّ بنَ مالكٍ ... كثيرٌ ولكن كيف بالسيفِ ضاربُ أي: ليس ضاربٌ بالسيف. قوله: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ} فيه وجهان أحداهما: أنه استثناءٌ منقطع أي: لكن الذين عاهدتم فإنَّ حُكْمَهم كيت وكيت. والثاني: أنه متصلٌ وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدهما: أنه منصوبٌ على أصل الاستثناء من المشركين. والثاني: أنه مجرورٌ على البدل منهم، لأنَّ معنى الاستفهامِ المتقدمِ نفيٌ، أي: ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا. فقياسُ قولِ أبي البقاء فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ من قوله «فما استقاموا» خبرُه. قوله: {فَمَا} يجوز في «ما» أن تكونَ مصدريةً ظرفيةً، وهي في محلِّ نصبٍ على ذلك أي: فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم. ويجوز أن تكونَ شرطيةً، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الظرف الزماني، والتقدير: أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم. ونظَّره أبو البقاء بقولِه تعالى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] . والثاني: أنها في محل رفع بالابتداء، وفي الخبر الأقوالُ المشهورة، و «فاستقيموا» : جوابُ الشرط. وهذا نحا إليه الحوفي، ويحتاج إلى/ حذفِ عائد أي: أيُّ زمانٍ

استقاموا لكم فيه، فاستقيموا لهم. وقد جوَّز الشيخ جمال الدين ابنُ مالك في «ما» المصدرية الزمانية أن تكونَ شرطيةً جازمة، وأنشد على ذلك: 2455 - فما تَحْيَ لا نسْأَمْ حياةً وإن تَمُتْ ... فلا خيرَ في الدنيا ولا العيشِ أجمعا ولا دليل فيه لأنَّ الظاهرَ الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدرية وزمانٍ، قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن تكونَ نافيةً لفساد المعنى، إذ يصير المعنى: استقيموا لهم لأنهم لم يَسْتقيموا لكم» .

8

قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا} : المستفهمُ عنه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه. فقدَّره أبو البقاء: «كيف تَطْمئنون أو: كيف يكونُ لهم عهدٌ» . وقدَّره غيره: كيف لا تقاتلونهم. والتقديرُ الثاني مِنْ تقديرَي أبي البقاء أحسنُ، لأنه مِنْ جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقوى، وقد جاء الحذف في هذا التركيبِ كثيراً، وتقدَّم منه قولُه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} [آل عمران: 25] {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} [النساء: 41] ، وقال الشاعر: 2456 - وخبَّرْ تُماني أنَّما الموتُ بالقُرى ... فكيف وهاتا هَضْبةٌ وكَثِيبُ أي: كيف مات؟ ، وقال الحطيئة:

2457 - فكيف ولم أعلَمْهُمُ خَذَلُوكُمْ ... على مُعْظِمٍ ولا أَدِيْمَكُمُ قَدُّوا أي: كيف تَلُومني في مدحهم؟ قال الشيخ: «وقدَّر أبو البقاء الفعلَ بعد» كيف «بقوله:» كيف تطمئنون «، وقدَّره غيرُه بكيف لا تقاتِلونهم» . قلت: ولم يقدّره أبو البقاء بهذا وحدَه، بل به وبالوجه المختار كما قدَّمْتُه عنه. قوله: {وَإِن يَظْهَرُوا} هذه الجملةُ الشرطية في محل نصبٍ على الحال أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169] . و «لا يرقُبوا» جوابُ الشرط. وقرأ زيد بن علي: «وإن يُظْهَروا» ببنائِه للمفعول، مِنْ أظهره عليه أي: جعله غالباً له. قوله: {إِلاًّ} مفعولٌ به ب «يرقُبوا» أي: لا يَحْفظوا. وفي «الإِلِّ» أقوالٌ لأهل اللغةِ أحدها: أن المراد به العهد، قاله أبو عبيدة وابن زيد والسدِّي، ومنه قول الشاعر: 2458 - لولا بنو مالكٍ والإِلُّ مَرْقَبَةٌ ... ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ أي: الحِلْف. وقال آخر: 2459 - وجَدْناهُما كاذِباً إِلُّهُمْ ... وذو الإِلِّ والعهدِ لا يَكْذِبُ

وقال آخر: 2460 - أفسدَ الناسَ خُلوفٌ خَلَفُوا ... قطعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ وفي حديث أمِّ زرع: «بيت أبي زرع وَفِيُّ الإِلِّ، كريم الخِلّ، بَرودُ الظلّ» أي: وفيُّ العهد. الثاني: أن المرادَ به القَرابة، وبه قال الفراء، وأنشد لحسان رضي الله عنه: 2461 - لَعَمْرك إنَّ إِلَّكَ مِنْ قريشٍ ... كإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِ وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله: 2462 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... قطعوا الإِلَّ وأعراق الرَّحِمْ الثالث: أن المرادَ به الله تعالى أي: هو اسم من أسمائه، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عُرِض عليه كلام مُسَيْلمه - لعنه الله: «إنَّ هذا الكلام لم يَخْرج من إلّ» أي: الله عز وجل. ولم يرتضِ هذا الزجاج قال: «لأن أسماءَه تعالى معروفة في الكتاب والسنة، ولم يُسْمَعْ أحدٌ يقول: يا إلُّ افعلْ لي كذا.

الرابع: أن الإِلَّ الجُؤَار، وهو رَفْعُ الصوت عند التحالُفِ، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا وتحالفوا جَأَرُوا بذلك جُؤَاراً، ومنه قول أبي جهل: 2463 - لإِلٍّ علينا واجبٍ لا نُضِيعُه ... متينٍ قُواه غيرِ منتكثِ الحبلِ الخامس: أنه مِنْ «ألَّ البرقُ» أي: لَمَع. قال الأزهري: «الأَلِيل: البريق، يقال: ألَّ يَؤُلُّ أي: صفا ولمع» . وقيل: الإِلُّ مِن التحديد ومنه «الأَلَّةُ» الحَرْبة وذلك لِحِدَّتها. وقد جعل بعضُهم بين هذه المعاني قَدَراً مشتركاً يَرْجِعُ إليه جميعُ ما ذَكَرْتُه لك، فقال الزجاج: «حقيقةُ الإِلِّ عندي على ما توحيه اللغة التحديد للشيء، فَمِنْ ذلك: الأَْلَّةُ: الحَرْبَةُ، وأُذُن مُؤَلَّلَة، فالإِلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد والقَرابة والجُؤَار من هذا، فإذا قلت في العهد:» بينهما إلٌّ «فتأويلُه أنهما قد حَدَّدا في أَخْذ العهود، وكذلك في الجُؤَار والقَرابة. وقال الراغب:» الإِلُّ: كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ وحِلْفٍ وقرابة تَئِلُّ أي: تَلْمَع، وألَّ الفَرَسُ: أسرع، والأَْلَّةُ: / الحَرْبَةُ اللامعة «، وأنشد غيرُه على ذلك قولَ حماس بن قيس يوم فتح مكة: 2464 - إن يُقْبلوا اليومَ فما لي عِلَّةْ ... هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّةْ وذو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلَّةُ ... قال:» وقيل: الإِلُّ والإِيلُ اسمان لله تعالى، وليس ذلك بصحيحٍ، والألَلاَن صفحتا السكين «انتهى. ويُجمع الإِلُّ في القِلَّة آلٌّ، والأصل: أَأْلُل بزنة أَفْلُس، فأُبدلت الهمزةُ الثانيةُ ألفاً لسكونها بعد أخرى مفتوحة، وأُدْغمت اللامُ في

اللام. وفي الكثرة على إلال كذِئْب وذِئاب. والأَْلُّ بالفتح قيل: شدَّة القنوط. قال الهروي في الحديث:» عَجب ربكم مِنْ ألِّكم وقُنوطكم «قال أبو عبيد:» المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة، والمحفوظ عندنا فَتْحُها، وهو أشبهُ بالمصادر، كأنه أراد مِنْ شدة قنوطكم، ويجوز أن يكونَ مِنْ رَفْعِ الصوت، يقال: ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ وأَلَلاً وأَلِيلاً إذا رفع صوتَه بالبكاء، ومنه يقال: له الويل والأَلِيل، ومنه قولُ الكميت: 2465 - وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ ... إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكاعِبُ الفُضُلُ انتهى. وقرأت فرقة: «ألاًّ» بالفتح، وهو على ما ذكر مِنْ كونِه مصدراً مِنْ ألَّ يَؤُلُّ إذا عاهد. وقرأ عكرمة: «إيلاً» بكسرِ الهمزة، بعدها ياءٌ ساكنة، وفيه ثلاثة أوجهٍ، أحدها: أنه اسمُ الله تعالى، ويؤيد ذلك ما تقدم ذلك في جبريل وإسرائيل أن المعنى عبد الله. والثاني: أنه يجوزُ أن يكون مشتقاً مِنْ آل يَؤُول إذا صار إلى آخر الأمر، أو مِنْ آل يَؤُول إذا ساسَ قاله ابن جني أي: لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة. وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فَقُلِبَتْ ياءً كريح. الثالث: أنه هو الإِلُّ المضعف، وإنما اسْتُثْقِل التضعيفُ فأبدل إحداهما حرفَ علةٍ كقولِهم: أَمْلَيْت الكتاب وأَمْلَلْته. قال: الشاعر:

2466 - يا ليتَما أمُّنا شالَتْ نَعَمَتُها ... أَيْما إلى جنةٍ أَيْما إلى نارِ قوله: {وَلاَ ذِمَّةً} الذِّمَّة: قيل العهد، فيكون مما كُرِّر لاختلافِ لفظِه إذا قلنا: إنَّ الإِلَّ العهدُ أيضاً، فهو كقوله تعالى: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِم وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] . وقوله: 2467 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وألفى قولَها كَذِباً ومَيْنا وقوله: 2468 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبعدُ وقيل: الذِّمَّة: الضَّمان، يقال: هو في ذمَّتي أي: في ضماني وبه سُمِّي أهلُ الذِّمَّة لدخولهم في ضمانِ المسلمين، ويقال: «له عليَّ ذِمَّةٌ وذِمام ومَذَمَّة، وهي الذِّمُّ» . قال ذلك ابن عرفة، وأنشد لأسامة بن الحرث: 2469 - يُصَيِّح بالأَْسْحار في كل صَارَة ... كما ناشد الذِّمَّ الكفيلَ المعاهِدُ وقال الراغب: «الذِّمام: ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته مِنْ عهد، وكذلك الذِّمَّة والمَذَمَّة والمَذِمَّة» يعني بالفتح والكسر وقيل: لي مَذَمَّةٌ

فلا تَهْتكها. وقال غيره: «سُمِّيَتْ ذِمَّة لأنَّ كلَّ حُرْمة يلزمك مِنْ تضييعها الذَّمُّ يقال لها ذِمَّة» ، وتُجْمع على ذِمّ كقوله: 2470 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما ناشد الذِّمَّ. . . . . . . . . . . وعلى ذِمَم وذِمَام. وقال أبو زيد: «مَذِمَّة بالكسر مِنَ الذِّمام وبالفتح من الذَّمِّ» . وقال الأزهري: «الذِّمَّة: الأمان» ، وفي الحديث: «ويَسْعى بذمَّتِهم أَدْناهم» ، قال أبو عبيد: «الذمَّة الأمانُ ههنا، يقول: إذا أعطى أدنى الناس أماناً لكافر نَفِذ عليهم، ولذلك أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبدٍ على جميع العسكر» . وقال الأصمعي: «الذِّمَّة: ما لَزِم أن يُحْفَظَ ويُحْمى» . قوله: {يُرْضُونَكُم} فيه وجهان، أحدهما: أنه مستأنفٌ، وهذا هو الظاهر، أخبر أن حالهم كذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «لا يَرْقُبوا» ، قال أبو البقاء: «وليس بشيءٍ لأنهم بعد ظُهورهم لا يُرضون المؤمنين» . قوله: {وتأبى} يقال: أبى يأبى إبىً أي: اشتد امتناعُه: فكلُّ إباءٍ امتناعُ مِنْ غير عكس قال: 2471 - أبى الله إلا عَدْلَه ووفاءَه ... فلا النكرُ معروفٌ ولا العُرْفُ ضائعُ وقال آخر:

2472 - أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرقُ نابَه ... عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعَاقِلُهْ فليس مَنْ فسَّره بمطلق/ الامتناع بمصيبٍ. ومجيءُ المضارعِ مه على يَفْعَل بفتح العين شاذٌّ، ومثله قَلَى يقلى في لغة.

9

قوله تعالى: {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} : يجوز أن تكون [ساء] على بابِها مِنَ التصرُّف والتعدِّي ومفعولها محذوفٌ أي: ساءهم الذي كانوا يَعْملونه أو عَمَلُهم، وأن تكون الجارية مَجْرى بئس، فتُحَوَّل إلى فَعُل بالضم، ويمتنع تصرُّفها، وتصير للذم، ويكون المخصوصُ بالذمِّ محذوفاً كما تقرر ذلك غير مرة.

12

قوله تعالى: {أَئِمَّةَ الكفر} : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أئمة» بهمزتين ثانيتهما مُسَهَّلة بينَ بينَ ولا ألفَ بينهما. والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتخفيفهما من غير إدخال ألف بينهما، وهشام كذلك إلا أنه أَدْخَلَ بينهما ألفاً. هذا هو المشهور بين القراء السبعة. وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى. ونقل الشيخ عن نافع ومَنْ معه، أنهم يُبْدلون الثانية ياء صريحة، وأنه قد نُقِلَ عن نافع المدُّ بينهما، أي بين الهمزة والياء. فأما قراءةُ التحقيق وبينَ بينَ، فقد ضعَّفها جماعة من النحويين

كأبي علي الفارسي وتابعيه، ومن القرَّاء أيضاً مَنْ ضَعَّفَ التحقيقَ مع روايتِه له، وقراءتِه به لأصحابه. ومنهم مَنْ أنكر التسهيلَ بينَ بينَ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف، وقرؤوا بياءٍ خفيفةٍ الكسرِ، نصُّوا على ذلك في كتبهم. وأما القراءة بالياء فهي التي ارتضاها الفارسي وهؤلاء الجماعةُ، لأنَّ النطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل، وهمزةُ بين بين بزنة المخففة. والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لحناً، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين قال: «فإن قلت: كيف لفظ» أئمة «؟ ، قلت: بهمزةٍ بعدها همزةُ بين بين أي: بين مخرجِ الهمزةِ والياء، وتحقيق الهمزتين قراءةٌ مشهورة، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين. وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوز أن تكون، ومَنْ قرأ بها فهو لاحِنٌ مُحَرِّف» . قال الشيخ: «وذلك دأبُه في تلحين المقرئين، وكيف تكون لحناً، وقد قرأ بها رأسُ النحاة البصريين، أبو عمرو بن العلاء، وقارىءُ أهلِ مكة ابنُ كثير، وقارىءُ أهل المدينة نافع؟» . قلت: لا يُنْقَم على الزمخشري شيءٌ فإنه إنما قال إنها غير مقبولة عند البصريين، ولا يلزم من ذلك أنه لا يَقْبلها، غاية ما في الباب، أنه نَقَل عن غيره. وأمَّا التصريحُ بالياء، فإنه معذورٌ فيه لأنه كما قَدَّمْتُ لك، إنما اشْتُهِر بين القراء التسهيلُ بين بين لا الإِبدال المحض، حتى إن الشاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين لا للقراء، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النحاة في هذه اللفظة. وقد رَدَّ أبو البقاء قراءةَ التسهيلِ بينَ بينَ فقال: «ولا يجوز هنا أن تُجعل بينَ بينَ، كما جُعلت همزةُ» أئذا «؛ لأن الكسرةَ هنا منقولةٌ وهناك

أصليةٌ، ولو خُفِّفَت الهمزةُ الثانية [هنا] على القياس لقُلِبت ألفاً لانفتاح ما قبلها، ولكن تُرِكَ لتتحركَ بحركةِ الميم في الأصل» . قلت: قوله «منقولةٌ» لا يُفيد لأنَّ النقلَ هنا لازم، فهو كالأصل. وقوله: «ولو خُفِّفَتْ على القياس إلى آخره» لا يفيد أيضاً لأن الاعتبار بالإِدغام سابقٌ على الاعتبار بتخفيف الهمزة. ولذلك موضعٌ يضيق هذا الموضع عنه. ووزن أَئِمَّة: أَفْعِلة؛ لأنها جمع إمام، كحمار وأَحْمِرة، والأصل أَأْمِمة، فالتقى ميمان فأُريد إدغامُهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للساكن قبلَها، وهو الهمزة الثانية، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة: فالنحويون البصريون يوجبون إبدالَ الثانية ياء، وغيرُهم يحقق أو يسهِّل بينَ بينَ. ومَنْ أَدْخَلَ الألفَ فللخِفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين، والأحسنُ حينئذٍ أن يكونَ ذلك في التحقيق كما قرأ هشام. وأمَّا ما رواه الشيخ عن نافع مِنْ المدّ مع نَقْلِه عنه أنه يصرح بالياء فللمبالغة في الخفة. قوله: {لاَ أَيْمَانَ} قرأ ابن عامر: «لا إيمان» بكسر الهمزة، وهو مصدرُ آمَن يُؤْمن إيماناً. وهل هو من الأمان؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان أحدهما: أنهم لا يُؤْمنون في أنفسهم أي: لايُعْطون أماناً بعد نُكثِهم وطَعْنهم، ولا سبيلَ إلى ذلك. والثاني: الإِخبار بأنهم لا يُوفون لأحدٍ بعهدٍ يَعْقِدونه له. أو من التصديق أي: إنهم لا إسلامَ لهم. واختار مكي التأويلَ الأول لِما فيه من تجديد فائدة لم يتقدَّمْ لها ذِكْرٌ؛ لأنَّ وَصْفَهم بالكفر وعدمِ الإِيمان قد سَبَقَ وعُرِف. وقرأ الباقون بالفتح، وهو جمعُ يمين. وهذا مناسب للنكث، وقد أُجْمع

على فَتْح الثانية. ومعنى نفي الأيمان عن الكفارِ، أنهم لا يُوفون بها، وإن صَدَرَتْ منهم وَثَبَتَتْ. وهذا كقول الآخر: 2473 - وإنْ حَلَفَتْ لا تَنْقُضُ الدهرَ عهدَها ... فليس لمخضوبِ البَنانِ يمينُ وبذلك قال الشافعي. وحمله أبو حنيفة على حقيقته: أن يمين الكافر لا تكون يميناً شرعياً، وعند الشافعي يمينٌ شرعية.

13

قوله تعالى: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} : نصبٌ على ظرفِ الزمان، وأصلُها المصدر مِنْ مَرَّ يَمُرُّ. وقد تقدَّم تحقيقُه. قوله: {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} الجلالةُ مبتدأ، وفي الخبر أوجهٌ، أحدها: أنه «أحقُّ» و «أن تَخْشَوه» على هذا بدلٌ من الجلالة بدلُ اشتمال، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ؛/ فخشية الله أحقُّ مِنْ خشيتهم. الثاني: أَنَّ «أحقُّ» خبرٌ مقدمٌ و «أَن تَخْشَوه» مبتدأ مؤخر، والجملةُ خبرُ الجلالة. الثالث: أن «أحقُّ» مبتدأ و «أن تَخْشَوه» خبرُه، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة. قاله ابن عطية. وحَسُنَ الابتداءُ بالنكرة لأنها أفعلُ تفضيل. وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو: اقصدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه. الرابع: أن «أنْ تَخْشَوه» في محلِّ نصبٍ، أو جر بعد إسقاطِ حرفِ الخفض، إذ التقدير: أحقُّ بأن تَخْشَوه. وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} شرطٌ حُذِفَ جوابُه، أو قُدِّم، على حسب الخلاف.

14

قوله تعالى: {وَيَشْفِ} : قرأ الجمهور بياء الغَيْبَة رَدَّاً على اسم الله تعالى. وقرأ زيد بن علي: «نَشْفِ» بالنون وهو التفاتُّ حسن. وقال: «قوم مؤمنين» شهادةً للمخاطبين بالإِيمان، فهو من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهرِ مُقام المضمر، حيث لم يَقُل: «صدوركم» .

15

قوله تعالى: {وَيُذْهِبْ} : الجمهورُ على ضم الياء وكسرِ الهاء مِنْ أَذْهب. و «غَيْظ» مفعول به. وقرأت طائفةٌ: «ويَذْهَبْ» بفتح الياء والهاء، جَعَله مضارعاً لذهب، «غيظ» فاعل به. وقرأ زيد بن علي كذلك، إلا أنه رفع الفعل مستأنفاً ولم ينسقْه على المجزومِ قبلَه، كما قرؤوا: «ويتوبُ» بالرفع عند الجمهور. وقرأ زيد بن علي والأعرج وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وعيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية ويعقوب: «ويتوبَ» بالنصب. فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فإنها استئنافُ إخبارٍ، وكذلك وقع فإنه قد أَسْلَمَ ناسٌ كثيرون. قال الزجاج وأبو الفتح: «وهذا أمرٌ موجودٌ سواءً قوتلوا أم يُقاتَلوا، ولا وجهَ لإِدخال التوبة في جوابِ الشرط الذي في» قاتِلوهم «. يَعْنيان بالشرط ما فُهِمَ من الجملةِ الأمرية. وأمَّا قراءةُ زيد وَمَنْ ذُكِر معه، فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلةً في جوابِ الأمر من طريقِ المعنى. وفي توجيهِ ذلك غموضٌ: فقال بعضهم: إنَّه لمَّا أَمَرَهُمْ بالمقاتلة شَقَّ ذلك على بعضِهم، فإذا أقدموا على المقاتلةِ، صار ذلك العملُ

جارياً مَجْرى التوبة من تلك الكراهة. قلت: فيصير المعنى: إن تقاتلوهم يُعَذِّبْهم ويتبْ عليكم من تلك الكراهة لقتالهم. وقال آخرون في توجيه ذلك: إنَّ حصولَ الظفر وكثرةَ الأموال لذَّةٌ تُطلب بطريقٍ حرامٍ، فلمَّا حَصَلَتْ لهم بطريقٍ حلالٍ، كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة ممَّا تقدم، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة. وقال ابن عطية في توجيهِ ذلك أيضاً:» يتوجَّه ذلك عندي إذا ذُهِب إلى أن التوبةَ يُراد بها هنا [أنَّ] قَتْلَ الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبةٌ لكم أيُّها المؤمنون وكمالٌ لإِيمانكم، فتدخلُ التوبة على هذا في شرطِ القتال «. قال الشيخ:» وهذا الذي قدَّره من كونِ التوبة تدخل تحت جوابِ الأمر، وهو بالنسبة للمؤمنين الذين أُمِرُوا بقتال الكفار. والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكفار، والمعنى: على مَنْ يشاء من الكفار، لأنَّ قتالَ الكفارِ وغلبةَ المسلمين إياهم، قد يكونُ سبباً لإِسلام كثير. ألا ترى إلى فتح مكة كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون، وحَسُن إسلامُ بعضِهم جداً، كابن أبي سرح وغيره «. قلت: فيكون هذا توجيهاً رابعاً، ويصيرُ المعنى: إن تقاتلوهم يتب الله على مَنْ يشاء من الكفار أي: يُسْلِمُ مَنْ شاء منهم.

16

قوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} : يجوز في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلاة لعطفِها عليها أي: الذين عاهدوا ولم يتَّخذوا. الثاني: أنَّها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «جاهدوا» أي: جاهدوا حالَ كونِهم غيرَ متخذين وَلِيْجَةً. و «وَلِيجة» مفعول. و {مِن دُونِ الله} : إمَّا مفعول ثان، إن كان الاتخاذُ بمعنى التصيير، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ إن كان على بابه. والوَليجة: فَعِيلة مِنَ

الوُلوج وهو الدخول. والوليجة: مَنْ يُداخِلك في باطن أمورك. وقال أبو عبيدة: «كُلُّ شيءٍ أَدْخَلْته في شيءٍ وليس منه فهو وليجة، والرجلُ في القوم وليس منهم، يقال له وَليجة» ، ويُستعمل بلفظٍ واحد للمفرد والمثنى والمجموع. وقد يُجمع على وَلائج ووُلُج كصحيفة وصحائف وصُحُف. وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي: 2474 - وَلائِجُهُمْ في كل مبدى ومَحْضَرٍ ... إلى كلِّ مَنْ يرجى ومَنْ يَتَخَوَّفُ وقرأ الحسن «بما يَعْملون» بالغَيْبةِ على الالتفات، وبها قرأ يعقوب في رواية سَلاَّم.

17

قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} : «أن يَعْمروا» اسم كان. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «مسجد الله» بالإِفراد/ وهي تحملُ وجهين: أن يُراد به مسجدٌ بعينه، وهو المسجد الحرام لقوله: {وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} [التوبة: 19] ، وأن يكون اسمَ جنسٍ فتندرجَ فيه سائرُ المساجد، ويدخل المسجد الحرام دخولاً أَوَّلِيَّاً. وقرأ الباقون «مساجد» بالجمع، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين. ووجه الجمع: إمَّا لأنَّ كلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يُقال لها مسجدٌ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد، فصَحَّ أن يُطْلَقَ عليه لفظُ الجمع لذلك. قوله: {شَاهِدِينَ} الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال مِنْ فاعل «

يَعْمُروا» . وقرأ زيد بن علي «شاهدون» بالواو رفعاً على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، والجملةُ حالٌ أيضاً. وقرأ ابن السَّمَيْفع «يُعْمِروا» بضم الياء وكسرِ الميم مِنْ أَعْمَرَ رباعياً، والمعنى: أن يُعينوا على عمارته. قوله: {على أَنْفُسِهِمْ} الجمهورُ على «أنفسهم» جمعَ نَفْس. وقُرىء «أَنْفَسهم» بفتح الفاء، ووجهُها أن يُراد بالأنْفَس وهو الأشرفُ الأجلُّ، من النَّفاسة - رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم. قيل: لأنه ليس بَطْنٌ مِنْ بطون العرب إلا وله فيهم وِلدة. وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً، وهو مع هذه القراءة أوضح. قوله: {وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ} هذه جملةٌ مستأنفة، و «في النار» متعلقٌ بالخبر، وقُدِّم للاهتمام به، ولأجل الفاصلة. وقال أبو البقاء: «أي: وهم خالدون في النار، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف والمعطوف» . قلت: فيه نظرٌ من حيث إنه يُوهم أن هذه الجملةَ معطوفةٌ على ما قبلها عَطْفَ المفرد على مثله تقديراً، وليس كذلك بل هي مستأنفةٌ، وإذا كان مستأنفةً، فلا يُقال فيها فَصَلَ الظرف بين حرف العطف والمعطوف، وإنما ذلك في المتعاطَفْين المفردين أو في تأويلهما، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله تعالى: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] وفي قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} [النساء: 58] .

وقرأ زيد بن علي: «خالدين» بالياء نصباً على الحال من الضمير المستتر في: الجارِّ قبله، لأنَّ الجارَّ صار خبراً كقولك: «في الدار زيد قاعداً» ، فقد رفع زيد بن علي «شاهدين» ، ونصب «خالدون عكسَ قراءةِ الجمهور فيهما.

18

قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله} : جمهورُ القراء من السبعة وغيرهم على الجمع. وقرأ الجحدري وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإِفراد. والتوجيهُ يُؤْخذ مما تقدم. والظاهر هنا أن الجمعَ هنا حقيقةٌ، لأن المرادَ جميع المؤمنين العائدين لجميع مساجد أقطار الأرض. قوله: {سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ} الجمهور على قراءتهما مصدرين على فِعالة، كالصِّيانة والوِقاية والتِّجارة، ولم تُقْلب الياء همزة، لتحصُّنها بتاء التأنيث بخلاف رِداء، وعَباءة لطُروء تاء التأنيث فيها، وحينئذٍ فلا بُدَّ مِن حذف مضاف: إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني ليتصادقَ المجعولان، والتقدير: أجعلتمْ أهلَ سقايةِ الحاجِّ وعِمارةَ المسجد الحرام كمَنْ آمن، أو أَجَعَلْتم السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمن، أو كعملِ مَنْ آمن. وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو وَجْرة «سُقاة» و «عَمَرَة» بضم السين وبعد الألف تاء التأنيث، وعَمَرة بفتح العين والميم دون ألف. وهما جمع ساقٍ وعامر كما يُقال: قاضٍ وقُضَاة ورَام ورُماة وبارّ وبَرَرة وفاجِر وفَجَرة. والأصل:

سُقَيَة، فَقُلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. ولا حاجةَ إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور. وقرأ سعيد بن جبير كذلك إلا أنه نَصَبَ «المسجد الحرام» ب «عَمَرَة» وحَذَفَ التنوينَ لالتقاء الساكنين كقوله: 2475 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلا قليلا وقوله: {قُل هُوَ الله أَحَدُ الله الصمد} [الإخلاص: 1-2] . وقرأ الضحاك «سُقاية» بضم السين و «عمرة» ، وهما جمعان أيضاً، وفي جمع «ساقٍ» على فُعالة نظرٌ لا يَخْفى. والذي ينبغي أن يُقالَ ولا يُعْدَلَ [عنه] أن يُجعل هذا جمعاً لسِقْي، والسِّقْي هو الشيء المَسْقِيّ كالرِّعْي والطِّحْن، وفِعْل يُجمع على فُعال، قالوا: ظِئْر وظُؤار، وكان مِنْ حقه أن لا تدخلَ عليه تاءُ التأنيث كما لم تدخل في «ظُؤَار» ، ولكنه أنَّث الجمعَ كما أنَّث في قولهم حِجارة وفُحولة. ولا بد حينئذٍ من تقديرِ مضافٍ أي: أجعلتم أصحابَ الأشياءِ المَسْقِيَّة كمَنْ آمن. قوله: {لاَ يَسْتَوُونَ} في وجهان/ أظهرهما: أنها مستأنفة، أخبر تعالى بعدم تساوي الفريقين. والثاني: أن يكونَ حالاً من المفعولين للجَعْل والتقدير: سوَّيْتُهم بينهم في حال تفاوتهم.

21

وقد تقدَّم اختلافُ القرَّاء في «يبشرهم» وتوجيه ذلك في آل عمران، وكذلك الخلافُ في {وَرِضْوَانٌ} [آل عمران: 15] . وقرأ الأعمش «رضوان» بضمِّ

الراء والضاد، ورَدَّها أبو حاتم وقال: «لا يجوز» ، وهذا غيرُ لامٍ للأعمش فإنه رواها، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب قالوا: السُّلُطان بضمّ السين واللام. قوله: {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ صفةً ل «جنات» ، وأن تكونَ صفةً ل «رحمة» ؛ لأنهم جَوَّزوا في هذه الهاءِ أن تعودَ للرحمة وأن تعودَ للجنات. وقد جَوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله: «يُبَشِّرهم» ، كأنه قيل: لهم في تلك البشرى، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً، وحالً إن قدَّرْتَه معرفةً. ويجوز أن يكون «نعيم» فاعلاً بالجارِّ قبله، وهو أَوْلى لأنه يَصير من قبيل الوصف بالمفرد، ويجوز أن يكونَ مبتدأً، وخبرُ الجار قبله. وقد تقدَّم تحقيق ذلك غيرَ مرة. و «خالدين» حالٌ من الضمير في «لهم» .

24

قوله تعالى: {إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} : «آباؤكم» وما عُطِف عليه اسمُ كان، و «أحبَّ» خبرها فهو منصوب. وكان المتفاصح الحجاجُ ابن يوسف يَقْرؤها بالرفع، ولَحَّنه يحيى بن يعمر فنفاه. قال الشيخ: «إنما لَحَّنه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقَلَة وإلا فهي جائزةٌ في العربية، يُضمر في» كان «اسماً، وهو ضميرُ الشأن ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر، وحينئذٍ تكونُ الجملةُ خبراً عن» كان «. قلت: فيكون كقول الشاعر: 2476 - إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفان ... شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أَصْنَعُ هذا في أحد تأويلَي البيت. والآخر: أنَّ» صنفان «خبرٌ منصوب، وجاء به على لغةِ بني الحرث ومَنْ وافقهم.

والحكاية التي أشار إليها الشيخُ مِنْ تلحين يحيى للحجاج، هي أن الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه: هي تجدني ألحن؟ ، فقال: الأمير أجَلُّ من ذلك، فقال: عَزَمْتُ عليك إلا ما أخبرتني وكان يُعَظّمون عزائم الأمراء. فقال: نعم. فقال: في أي شيء؟ ، فقال: في القرآن. فقال: ويلك!! ذلك أقبحُ بي. في أيِّ آية؟ ، قال: سَمِعْتك تقرأ: قل إن كان آباؤكم، إلى أن انتهيت إلى» أحبُّ «فرفعتَها. فقال: إذن لا تسمعني أَلْحَنُ بعدها، فنفاه إلى خراسان، فمكث بها مدةً، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فجاءهم جيش، فكتب إلى الحجاج كتاباً وفيه:» وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض، وصَعِدنا عُرْعُرَة الجبل «. فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام؟ ، فقيل له: إنَّ يحيى هناك. فقال: إذن ذلك. وقرأ الجمهور:» عشيرتكم «بالإِفراد، وأبو بكر عن عاصم:» عشيراتكم «جمعَ سلامة. ووجهُ الجمع، أنَّ لكلٍّ من المخاطبين عشيرةً فَحَسُن الجمع. وزعم الأخفش أن» عشيرة «لا تجمع بالألف والتاء إنما تُجْمع تكسيراً على عشائر. وهذه القراءة حجةٌ عليه، وهي قراءةُ أبي عبد الرحمن السلمي، وأبي رجاء. وقرأ الحسن» عشائركم «قيل: وهي أكثر مِنْ عشيراتكم.

والعَشِيرة: هي الأهلُ الأَْدْنَون. وقيل: هم أهل الرجلِ الذين يَتَكثَّر بهم أي: يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل، وذلك أن العشيرَة هي العدد الكامل، فصارت العشيرة اسماً لأقارب الرجل الذي يَتَكثَّر بهم، سواءً بلغوا العشرةَ أم فوقها. وقيل: هي الجماعة المجتمعة بنسَبٍ أو عَقْدٍ أو وِداد كعقد العِشْرة.

25

قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} : فيه أوجهٌ: أحدُها: أنه عطفٌ على محلِّ قوله «في مواطنَ» ، عَطَفَ ظرف الزمان من غير واسطة «في» على ظرفِ المكان المجرورِ بها. ولا غَرْو في نسق ظرف زمان على مكان أو العكسِ تقول: «سرت أمامك يوم الجمعة» إلا أنَّ الأحسنَ أن يُتْركَ العاطفُ مثله. الثاني: زعم ابن عطية أنه يجوز أن يُعْطَفَ على لفظ «مواطن» بتقدير: وفي، فحذف حرفَ الخفض. وهذا لا حاجةَ إليه. الثالث: قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف عطفَ الزمانَ على المكان، وهو» يوم حنين «على» مواطن «؟ ، قلت: معناه: وموطن يوم حنين أو في أيام مواطنَ كثيرة ويوم حنين» . الرابع: أن يُراد بالمواطن الأوقاتُ، فحينئذٍ إنما عُطِف زمانٌ على زمان. قال الزمخشري بعدما قَدَّمْتُه عنه: «ويجوز أن/ يُراد بالمواطن الوقت كمقتل الحسين، على أن الواجب أن يكون» يومَ حنين «منصوباً بفعل مضمر لا بهذا الظاهر. ومُوْجِبُ ذلك أن قولَه:» إذا أعجبتكم «بدلٌ من» يوم حنين «، فلو جَعَلْتَ ناصبَه هذا الظاهرَ لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتَهم لم تُعْجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرين في جميعها، فبقي أن يكونَ ناصبُه فعلاً خاصاً به» . قلت: لا أدري ما حَمَله على تقدير أحد المضافين أو على تأويل

الموطن بالوقت ليصحَّ عَطْفُ زمانٍ على زمان، أو مكان على مكان، إذ يصحُّ عَطْفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟ وأمَّا قولُه: «على أن الواجبَ أن يكون إلى آخره» كلامٌ حسن، وتقديره أن الفعلَ مقيدٌ بظرفِ المكان، فإذا جعلنا «إذ» بدلاً من «يوم» كان معمولاً له؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدل منه، فيلزم أنه نصرهم إذا أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة، والفرض أنهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة. إلا أنه قد ينقدح فإنه تعالى لم يقل: في جميع المواطن حتى يلزم ما قال، ويمكن أن يكونَ أراد بالكثرة الجميعَ، كما يُراد بالقلة العدمُ. قوله: {بِمَا رَحُبَتْ} «ما» مصدريةٌ أي: رَحْبها وسَعَتها. وقرأ زيد ابن علي في الموضعين: «رَحْبَت» بسكون العين، وهي لغة تميم، يَسْلُبون عين فَعُل فيقولون في شَرُف: شَرْف. والرُّحْب بالضم: السَّعَة، وبالفتح: الشيء الواسع. يقال: رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابة وهو قاصر. فأمَّا تعدِّيه في قولهم: «رَحُبَتْكم الدار» فعلى التضمين لأنه بمعنى وَسِعَتْكم. وحُنَيْن اسمُ واد، فلذلك صَرَفَه. وبعضُهم جعله اسماً للبقعة فَمَنَعَه في قوله: 2477 - نَصَرُوا نبيَّهُم وشَدُّوا أَزْرَه ... بحنينَ يومَ تواكُلِ الأبطال وهذا كما قال الآخر في «حراء» اسمِ الجبل المعروف اعتباراً بتأنيث

البقعة في قوله: 2478 - ألسنا أكبرَ الثَّقَلَيْنِ رَحْلاً ... وأَعْظَمَهم ببطنَ حِراءَ نارا والمواطن جمع مَوْطِن بكسر العين، وكذا اسم مصدره وزمانه لاعتلالِ فائه كالمَوْعد قال: 2479 - وكم مَوْطنٍ لولايَ طِحْتَ كما هوى ... بأجرامه مِنْ قُلَّة النِّيْقِ مُنْهوي

28

قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} : على المبالغة، جُعِلوا نفسَ النَّجَس أو على حذف مضاف. وقرأ أبو حيوة «نِجْسٌ» بكسر النون وسكون الجيم، ووجهُه أنه اسمُ فاعل في الأصل على فَعِل مثل كَتِف وكَبِد، ثم خُفِّفَ بسكون عَيْنِه بعد إتباع فائه، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مَقامه أي: فريق نجس أو جنس نجس. وقرأ ابن السميفع «أنجاس» بالجمع، وهي تحتمل أن تكونَ جمعَ قراءةِ الجمهور، أو جمع قراءةِ أبي حيوة.

29

قوله تعالى: {مِنَ الذين أُوتُواْ} : بيانٌ للموصول قبلَه. والجِزْية: فِعْلَة لبيان الهيئة كالرِّكْبَة لأنها مِنَ الجزاء على ما أُعْطُوه من الأمن. و «عن يدٍ» حالٌ أي: يُعْطَوها مقهورِين أَذِلاَّء. وكذلك «وهم صاغرون» .

30

قوله تعالى: {عُزَيْرٌ ابن الله} : قرأ عاصم والكسائي بتنوين «عُزَيْرٌ» والباقون من غير تنوين. فأمَّا القراءة الأولى فيُحتمل أن يكونَ اسماً عربيّاً مبتدأً، و «ابنُ» خبره، فتنوينه على الأصل. ويُحتمل أن يكون أعجمياً، ولكنهُ خفيفُ اللفظِ كنوح ولوط، فصُرِفَ لخِفَّة لفظه، وهذا قول أبي عبيد، يعني أنه تصغيرُ «عَزَر» فحكمُه حكمُ مُكَبَّره. وقد رُدَّ هذا القولُ على أبي عبيد بأنه ليسَ بتصغيرٍ، إنما هو أعجمي جاء على هيئة التصغيرِ في لسانِ العربِ، فهو كسليمان جاء على مثال عثيمان وعُبَيْدان. وأمَّا القراءة الثانية فَيَحتمل حَذْفُ التنوينِ ثلاثةَ أوجه أحدها: أنه حُذِفَ لالتقاء الساكنين على حَدِّ قراءة: {قُلْ هُوَ الله أَحَدُ الله الصمد} [الصمد: 1-2] وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء و «ابن» خبره. الثاني: أن تنوينَه حُذِفَ لوقوع الابن صفة له، فإنه مرفوعٌ بالابتداء و «ابن» صفته، والخبرُ محذوفٌ أي: عزيرٌ ابن الله نبيُّنا أو إمامنا أو رسولنا، وكان قد تقدَّم أنه متى وقع الابنُ صفةً بين علمين غيرَ مفصولٍ بينه وبين موصوفه، حُذِفَتْ ألفُه خطاً وتنوينُه لفظاً، ولا تَثْبت إلا ضرورة، وتقدَّم الإِنشادُ عليه آخر المائدة. ويجوز أن يكون «عزير» خبر مبتدأ مضمر أي: نبيُّنا عُزَيْر و «ابن» صفةٌ له أو بدل أو عطف بيان. الثالث: أنه إنما حُذف لكونِه ممنوعاً من الصرف للتعريف والعجمة، ولم يُرْسم في المصحف إلا ثابت الألف، وهي تَنْصُرُ مَنْ/ يجعلُه خبراً. وقال الزمخشري: «عزير ابن: مبتدأ وخبره، كقوله: {المسيح ابن الله} . و» عُزَيْر «اسم أعجمي كعزرائيل وعيزار، ولعجمته وتعريفه امتنع مِنْ

صرفه، ومَنْ صرفه جعله عربياً، وقول مَنْ قال: سقوطُ التنوين لالتقاء الساكنين كقراءة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله} [الصمد: 1-2] ، أو لأنَّ الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو» معبودنا «فتمحُّلٌ عند مَنْدوحة. قوله: {يُضَاهِئُونَ} قرأ العامة:» يضاهِئُون «بضم الهاء بعدها واو، وعاصم بهاءٍ مكسورة بعدها همزةٌ مضمومة، بعدها واو. فقيل: هما بمعنى واحد وهو المشابهة وفيه لغتان: ضاهَأْتُ وضاهَيْت، بالهمزة والياء، والهمزُ لغة ثَقيف. وقيل: الياء فرع عن الهمز كما قالوا: قرأ وقَرَيْت وتوضَّأت وتوضَّيْت، وأَخْطَأْت وأَخْطَيْت. وقيل: بل يضاهِئُون بالهمز مأخوذ من يضاهِيُوْن، فلمَّا ضُمَّت الهاءُ قُلِبَتْ همزةً. وهذا خطأ لأن مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا الموضعِ حتى تُقْلَبَ همزةً، بل يؤدي تصريفه إلى حذفِ الياء نحو» يُرامُون «من الرمي و» يُماشُون «من المشي. وزعم بعضُهم أنه مأخوذٌ من قولهم: امرأة ضَهْيَا بالقصر، وهي التي لا ثَدْيَ لها، والتي لا تَحيض، سُمِّيت بذلك لمشابهتها الرجال. يقال: امرأة ضَهْيَا بالقصر وضَهْيَاء بالمد كحمراء، وضَهْياءَة بالمدِّ وتاءِ التأنيث ثلاث لغات، وشذَّ الجمع بين علامتَي تأنيث في هذه اللفظة. حكى اللغة الثالث الجرمي عن أبي عمرو الشيباني. قيل: وقولُ مَنْ زعم أنَّ المضاهأة بالهمز مأخوذةٌ مِنْ امرأة ضَهْياء في لغاتِها الثلاث خطأٌ لاختلاف المادتين، فإن الهمزةَ في امرأة ضَهْياء زائدة في اللغاتِ الثلاث وهي في المضاهأة أصلية.

فإن قيل: لِمَ لم يُدَّعَ أن همزةَ ضهياء أصلية وياؤها زائدة؟ ، فالجواب أن فَعْيَلاً بفتح الياء لم يَثْبت. فإن قيل: فلِمَ لم يُدَّع أن وزنَها فَعْلَل كجعفر؟ ، فالجواب أنه قد ثبتت زيادة الهمزة في ضَهْياء بالمدِّ فَلْتَثْبت في اللغة الأخرى، وهذه قاعدةٌ تصريفية. والكلامُ على حَذْف مضاف تقديره: يُضاهي قولُهم قول الذين، فَحُذِف المضاف، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، فانقلب ضميرَ رفع بعد أن كان ضميرَ جَرٍّ. والجمهور على الوقف على «أفواههم» ويَبْتدئون ب «يضاهئون» وقيل: الباءُ تتعلَّق بالفعل بعدها. وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حَذْفِ هذا المضافِ. واستضعف أبو البقاء قراءةَ عاصم وليس بجيدٍ لتواترها.

31

قوله تعالى: {والمسيح ابن مَرْيَمَ} : عطف على «رُهْبانَهم» والمفعول الثاني محذوف، إذ التقدير: اتخذ اليهود أحبارهم أرباباً، والنصارى رهبانهم والمسيحَ ابن مريم أرباباً، وهذا لأمْنِ اللَّبس خَلَط الضمير في «اتخذوا» وإن كان مقسماً لليهود والنصارى، وهذا مراد أبي البقاء في قوله: «أي واتخذوا المسيحَ ربّاً، فحذف الفعل وأحد المفعولين، وجَوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي: وعَبَدوا المسيح ابن مريم» .

33

قوله تعالى: {ويأبى الله} : {إِلاَّ أَن يُتِمَّ} مفعول به، وإنما دَخَلَ الاستثناء المفرغ في الموجَب لأنه في معنى النفي، فقال الأخفش الصغير: «معنى يَأْبَى يمنع» . وقال الفراء: «دَخَلَتْ» إلا «لأنَّ في الكلام طَرَفاً من الجحد» . وقال الزمخشري: «أجرى» أبى «مُجرى» لم يُرِدْ «،

ألا ترى كيف قُوبل {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} بقوله:» ويأبى الله «، و [كيف] أوقع موقع: ولا يريد الله إلا أن يُتِمَّ نوره» . وقال الزجاج: «إن المستثنى منه محذوف تقديره: ويأبى أي ويكره كُلَّ شيء إلا أن يتم نوره» . وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ومذهبِ غيره، فجعلهما مذهباً واحداً فقال: «يأبى بمعنى يَكْره، ويكره بمعنى يمنع، فلذلك استثنى، لِما فيه من معنى النفي، والتقدير: يأبى كلَّ شيء إلا إتمام نوره» .

34

قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ} : يحتمل أن يكون متعدياً أي: يصدون/ الناس، وأن يكون قاصراً، كذا قال الشيخ. وفيه نظر لأنه متعدٍّ فقط، وإنما يُحْذف مفعولُه، ويراد أو لا يراد كقوله: {كُلُواْ واشربوا} [البقرة: 60] . قوله: {والذين يَكْنِزُونَ} الجمهورُ على قراءته بالواو. وفيه تأويلان، أحدُهما: أنها استئنافيةٌ، و «الذين» مبتدأ ضُمِّن معنى الشرط؛ ولذلك دَخَلَتْ الفاءُ في خبره. والثاني: أنه من أوصافِ الكثيرِ من الأحبار والرهبان، وهو قول عثمان ومعاوية، ويجوز أن يكونَ «الذين» منصوباً بفعلٍ مقدرٍ يفسِّره «فَبَشِّرْهم» وهو أرجحُ [لمكان الأمر] وقرأ طلحة بن مصرف «الذين» بغير واو، وهي تحتمل الوجهين المتقدمين، ولكنَّ كونَها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرهبان أظهرُ مِنَ الاستئناف عكسَ التي بالواو.

والكَنْزُ: الجمع والضم، ومنه ناقة كِناز أي: منضمَّة الخَلْق، ولا يختص بالذهب والفضة، بل يقال في غيرهما وإن غلب عليهما قال: 2480 - لا دَرَّ دَرِّي إنْ أَطْعَمْتُ جائِعَهُمْ ... قِرْفَ الحَتِيِّ وعندي البُرُّ مَكْنوزُ وقال آخر: 2481 - على شديدٍ لحُمُه كِنازِ ... باتَ يُنَزِّيني على أَوْفازِ قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} تقدَّم شيئان وعاد الضمير [على] مفرد فقيل: إنه من بابِ ما حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، والتقدير: والذين يَكْنزون الذهب ولا يُنْفقونه. وقيل: يعود على المكنوزات ودل على هذا جُزْؤه المذكورٌ؛ لأنَّ المكنوزَ أعمُّ من النقدَيْن وغيرِهم، فلمَّا ذَكَر الجزءَ دلَّ على الكل، فعاد الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار، ونظيره قول الآخر: 2482 - ولو حَلَفَتْ بين الصَّفا أمُّ عامرٍ ... ومَرْوَتِها بالله بَرَّتْ يمينها أي: ومروة مكة، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤُها وهو الصفا. كذا استدل به ابن مالك، وفيه احتمال، وهو أن يكون الضمير عائداً على الصَّفا، وأُنِّثَ حَمْلاً على المعنى، إذ هو في معنى البقعة والحَدَبة. وقيل: الضميرُ يعودُ على الذهب لأن تأنيثه أشهر، ويكون قد حُذِفَ بعد الفضة أيضاً. وقيل: يعودُ على النفقة المدلول عليها بالفعل كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] . وقيل:

يعودُ على الزَّكاة أي: ولا ينفقون زكاةَ الأموال. وقيل: يعودُ على الكنوز التي يدل عليها الفعل.

35

قوله تعالى: {يَوْمَ يحمى} : منصوبٌ بقوله: «بعذاب أليم» ، وقيل: بمحذوفٍ يدلُّ عليه عذاب أي: يُعَذَّبون يوم يُحمى، أو اذكر يومَ يُحْمى. وقيل: هو منصوبٌ بأليم. وقيل: الأصل: عذاب يوم، وعذاب بدل مِنْ عذاب الأول، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامَه. وقيل: منصوبٌ بقولٍ مضمر وسيأتي بيانُه. و «يُحمى» يجوز أن يكونَ مِنْ حَمَيْتُ أو أَحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً. يقال: حَمَيْتُ الحديدة وأَحْمَيْتها أي: أَوْقَدَتْ عليها لتَحْمَى. والفاعلُ المحذوفُ هو النارُ تقديرُه: يوم تُحمى النار عليها، فلما حُذِفَ الفاعل ذهبت علامةُ التأنيث لذَهابِه، كقولك: «رُفِعَت القضيةُ إلى الأمير» ، ثم تقول: «رُفع إلى الأمير» . وقيل: المعنى: يُحْمَى الوقود. وقرأ الحسن: «تُحْمَى» بالتاء من فوق أي: النار وهي تؤيد التأويل الأول. وقرأ أبو حيوة: «يُكوى» بالياء من تحت، لأن تأنيثَ الفاعلِ مجازيٌّ. والجمهور «جباهُهم» بالإِظهار، وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإِدغام كما أَدْغم: {سَلَكَكُمْ} [المدثر: 42] {مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] ، ومثل: جباههم: «وجوههم» المشهور الإِظهار.

قوله: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} معمولٌ لقول محذوف أي: يُقال لهم ذلك يومَ يحمى. وقوله: {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: جزاءَ ما كنتم؛ لأنَّ المكنوزَ لا يُذاق. و «ما» يجوز أن تكون بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، وأن تكونَ مصدرية. وقرىء «تَكْنُزون» بضم عين المضارع، وهما لغتان يقال: كَنَزَ يَكْنِز، وكَنَزَ يَكْنُز.

36

قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ} : العِدَّة: مصدر بمعنى العَدَد. و «عند الله» منصوبٌ به، أي في حُكْمه. و «اثنا عشر» خبرُ إنَّ. وقرأ هبيرة عن حفص وهي قراءةُ أبي جعفر اثنا عْشَرَ بسكون العين مع ثبوتِ الألِف قبلَها، واستُكْرِهَتْ من حيث الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما كقولهم: «التقت/ حَلْقتا البِطان» بإثباتِ الألفِ من «حَلْقتا» . وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حُمِل عشر في المذكر على عشرة في المؤنث. و «شَهْراً» نصبٌ على التمييز، وهو مؤكِّد لأنه قد فُهِم ذلك من الأول، فهو كقولك: «عندي من الدنانير عشرون ديناراً» . والجمع متغاير في قوله: «عدَّة الشهور» ، وفي قوله: {الحج أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] لأن هذا جمعُ كثرة، وذاك جمعُ قلة. قوله: {فِي كِتَابِ الله} يجوز أن يكونَ صفةً لاثنا عشر، ويجوز أن يكونَ بدلاً من الظرفِ قبله، وهذا لا يجوزُ، أو ضعيفٌ؛ لأنه يلزمُ منه أن يُخْبر عن

الموصول قبل تمامِ صلتِه؛ فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيلِ البدلية، وعلى تقدير صحةِ ذلك من جهة الصناعة، كيف يَصِحُّ من جهة المعنى؟ ، ولا يجوز أن يكون {فِي كِتَابِ الله} متعلقاً ب «عدة» لئلا يلزمَ الفصلَ بين المصدر ومعمولِه بخبره، وقياس مَنْ جوَّز إبدالَه من الظرف أن يجوِّزَ هذا. وقد صَرَّح بجوازه الحوفيُّ. قوله: {يَوْمَ خَلَقَ} يجوز فيه أن يتعلَّق ب «كتاب» على أنه يُرادُ به المصدر لا الجثة. ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور، وهو {فِي كِتَابِ الله} ، ويكون الكتابُ جثةً لا مصدراً. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ متعلقاً ب «عدة» ، وهو مردودٌ بما تقدَّم. قوله: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ صفةً ل «اثنا عشر» . الثاني: أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار. الثالث: أن تكونَ مستأنفةً. والضمير في «منها» عائدٌ على {اثنا عَشَرَ شَهْراً} لأنه أقربُ مذكورٍ لا على «الشهور» . والضمير في «فيهنَّ» عائدٌ على «الاثنا عشر» أيضاً. وقال الفراء وقتادة يعودُ على الأربعةِ الحُرُم، وهذا أحسنُ لوجهين، أحدهما: أنها أقربُ مذكورٍ. والثاني: أنه قد تقرَّر أنَّ معاملةَ جمع القلةِ غيرِ العاقل معاملة جماعةِ الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة، والجمعُ الكثيرُ بالعكس: «الأجذاع انكسَرْن» و «الجذوع انكسرت» ويجوز العكس. قوله: {كَآفَّةً} منصوبٌ على الحال: إمَّا مِن الفاعل، أو من المفعول، وقد تقدَّم أن «كافَّة» لا يُتَصَرَّف فيها بغير النصب على الحال، وأنها لا تدخلُها أل وأنها لا تُثَنَّى ولا تُجْمع، وكذلك «كافة» الثانية.

37

قوله تعالى: {إِنَّمَا النسياء} : في «النسِيْء» قولان أحدهما: أنه مصدرٌ على فَعِيل مِنْ أَنْسَأ أي أخَّر، كالنذير مِنْ أَنْذَر والنكير من أَنْكر. وهذا ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال: «النَّسيء تأخيرُ حرمةِ الشهرِ إلى شهر آخر» ، وحينئذٍ فالإِخبارُ عنه بقوله: «وزيادة» واضحٌ لا يَحْتاج إلى إضمار. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناه الزيادة «. قلت: لأنه تأخير في المدة فيلزمُ منه الزيادة. الثاني: أنه فَعِيل بمعنى مَفْعول، مِنْ نَسَأه أي أخَّره، فهو منسوءٌ، ثم حُوِّل مفعول إلى فعيل كما حُوِّل مفعول إلى فعيل، وإلى ذلك نحا أبو حاتم والجوهري. وهذا القول رَدَّه الفارسي بأنه يكون المعنى: إنما المؤخَّر زيادة، والمُؤَخَّر الشهر ولا يكون الشهرُ زيادةً في الكفر. وقد أجاب بعضهم عن هذا بأنه على حذف المضاف: إمَّا من الأول أي: إنما إنساءُ المُنْسَأ زيادة في الكفر، وإمَّا من الثاني أي: إنما المُنْسَأ ذو زيادة. وقرأ الجمهور» النَّسيء «بهمزة بعد الياء. وقرأ ورش عن نافع» النَّسِيّ «بإبدال الهمزة ياءً وإدغام الياء فيها. ورُويت هذه عن أبي جعفر

والزهري وحميد، وذلك كما خَفَّفوا» برية «و» خطية «. وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل:» النَّسْء «بإسكان السين. وقرأ مجاهد والسلمي وطلحة أيضاً:» النَّسُوء «بزنة فَعُول بفتح الفاء، وهو التأخير، وفَعول في المصادر قليل، قد تقدَّم منه أُلَيْفاظ في أوائل البقرة، وتقدم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشهور عن بعض قال: 2483 - ألَسْنا الناسئينَ على مَعَدٍّ ... شهورَ الحِلِّ نجعلُها حَراما وقال الآخر: 2484 - نَسَؤُوا الشّهور بها وكانوا أهلَها ... مِنْ قبلِكم والعزُّ لم يتحوَّلِ وقوله: {يُضَلُّ بِهِ} قرأ الأخوان وحفص:» يُضَلُّ «مبنياً للمفعول، والباقون مبنياً للفاعل والموصول فاعل به. وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب وعمرو بن ميمون:» يُضِلُّ «مبنياً للفاعل مِنْ أضل. وفي الفاعل وجهان أحدهما: ضمير الباري تعالى أي: / يُضِلُّ الله الذين كفروا. والثاني: أن الفاعل» الذين كفروا «وعلى هذا فالمفعول محذوف أي: يُضل الذين كفروا أتباعهم. وقرأ أبو رجاء» يَضَلُّ «بفتح الياء والضاد، وهي مِنْ ضَلِلْت بكسر اللام أضَلُّ بفتحها، والأصل: أَضْلَلُ، فنُقِلت فتحة اللام إلى الضاد لأجل

الإِدغام. وقرأ النخعي والحسن في رواية محبوب:» نُضِلُّ «بضم نون العظمة و» الذين «مفعول، وهذه تقوِّي أن الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود. قوله: {يُحِلُّونَهُ} فيه وجهان أحدهما: أن الجملةَ تفسيريةٌ للضلال. والثاني: أنها حاليةٌ. قوله: {لِّيُوَاطِئُواْ} في هذه اللامِ وجهان: أنها متعلقةٌ بيُحَرِّفونه. وهذا مقتضى مذهبِ البصريين فإنهم يُعْملون الثاني من المتنازعين. والثاني: أن يتعلَّقَ بيُحِلُّونه، وهذا مقتضى مذهب الكوفيين فإنهم يُعْملون الأول لسَبْقِه. وقولُ مَنْ قال إنها متعلقةٌ بالفعلين معاً، فإنما يعني من حيث المعنى لا اللفظ. وقرأ أبو جعفر «ليوطِيُوا» بكسر الطاء وضم الياء الصريحة. والصحيح أنه يَنْبغي أن يُقْرأ بضم الطاء وحذف الياء؛ لأنه لمَّا أبدل الهمزةَ ياءً استثقل الضمةَ عليها فحذفها، فالتقى ساكنان، فحُذِفَت الياء وضُمَّت الطاء لتجانِسَ الواو. والمُواطأة: المُوافَقَةُ والاجتماع يقال: تواطَؤُوا على كذا أي: اجتمعوا عليه، كأنه كل واحد يطأ حيث يطأ الآخر، ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} [المزمل: 6] ، وقُرىء وِطاءً. وسيأتي إن شاء الله. وقرأ الزهري «ليواطِيُّوا» بتشديدِ الياء. هكذا ترجموا قراءتَه وهي مشكلةٌ حتى قال بعضهم: «فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء وتخليصها مِنَ الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهها» . وهو كما قال.

قوله: «زُيِّنَ» الجمهورُ على «زُيِّن» مبنياً للمفعول، والفاعلُ المحذوف هو الشيطان. وقرأ زيد بن علي ببنائه للفاعل وهو الشيطان أيضاً، و «سوء» مفعوله.

38

قوله تعالى: {اثاقلتم} : أصلُه تثاقلتم، فلمَّا أريد الإِدغامُ سَكَنت الياءُ فاجتُلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم ذلك في {فادارأتم} [البقرة: 72] ، والأصل: تدارأتم. وقرأ الأعمش «تثاقلتم» بهذا الأصل، و «ما» في قوله «مالكم» استفهامية وفيها معنى الإِنكار. وقيل: فاعله المحذوف هو الرسول. و «اثَّاقلتم» ماضي اللفظ مضارع المعنى أي: يتثاقلون، وهو في موضع الحال، وهو عاملٌ في الظرف أي: مالكم متثاقلين وقت القول. وقال أبو البقاء: «اثَّاقلتم: ماض بمعنى المضارع أي: مالكم تتثاقلون وهو في موضع نصب أي: أيُّ شيء لكم في التثاقل، أو في موضع جر على رأي الخليل. وقيل: هو في موضع حال» قال الشيخ: «وهذا ليس بجيدٍ، لأنه يلزمُ منه حذفُ» أَنْ «، لأنه لا يَنْسِبُك مصدرٌ إلا من حرفٍ مصدري والفعل، وحَذْفُ» أَنْ «في نحو هذا قليلٌ جداً، أو ضرورة، وإذا كان التقديرُ:» في التثاقل «فلا يمكن عملُه في» إذا «، لأنَّ معمول المصدرِ الموصول لا يتقدَّم

عليه، فيكون الناصب ل» إذا «والمتعلَّق به» في التثاقل «ما تعلَّق به» لكم «الواقعُ خبراً ل» ما «. وقرىء» أَثَّاقَلْتم «بالاستفهام الذي معناه الإِنكار، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يَعْمل في» إذا «؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله، فيكون العاملَ في هذا الظرف: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرَ في» لكم «، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللفظ. والتقدير: ما تصنعون إذا قيل لكم. وإليه نحا الزمخشري. والظاهر أن يُقَدَّر: ما لكم تثاقلون إذا قيل، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى. وقوله: {إِلَى الأرض} ضُمِّنَ معنى المَيْل والإِخلاد. وقوله:» من الآخرة «تظاهَرَتْ أقوالُ المُعْربين والمفسرين على أنَّ» مِنْ «بمعنى بدل كقوله: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} [الزخرف: 60] أي: بدلكم، ومثلُه قولُ الآخر: 2485 - جاريةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقا ... ولم تَذُقْ من البُقول الفُسْتُقا وقول الآخر: 2486 - فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمَ شَرْبةً ... مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ / إلا أنَّ أكثرَ النحويين لم يُثْبتوا لها هذا المعنى، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك والتقديرُ هنا: اعتَصَمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياة وكذلك باقيها. وقال

أبو البقاء:» مِن الآخرة في موضع الحال أي: بدلاً من الآخرة «، فقدَّر المتعلَّقَ خاصاً، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى. قوله: {فِي الآخرة} متعلقٌ بمحذوفٍ من حيث المعنى تقديره: فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة. ف» محسوباً «حالٌ مِنْ» متاع «. وقال الحوفي:» إنه متعلق ب قليل وهو خبر المبتدأ «. قال:» وجاز أن يتقدَّمَ الظرفُ على عامله المقرونِ ب «إلا» لأنَّ الظروفَ تعمل فيها روائحُ الأفعال. ولو قلت: «ما زيدٌ عمراً إلا يَضْرب» لم يَجُزْ «.

40

قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ} : هذا الشرط جوابُه محذوف لدلالة قولِه: «فقد نصره» عليه، والتقديرُ: إنْ لا تنصروه فسينصره. وذكر الزمخشري فيه وجهين، أحدهما ما تقدم، والثاني: قال: «إنه أَوْجب له النُّصْرَة، وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلن يُخْذَلَ مِنْ بعده» . قال الشيخ: «وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشرط لأنَّ إيجابَ النصرةِ له أمرٌ سَبَق، والماضي لا يترتَّب على المستقبل فالذي يَظْهر الوجهُ الأول» . قوله: {ثَانِيَ اثنين} منصوبٌ على الحال مِنْ مفعول «أخرجه» وقد تقدَّم معنى الإِضافة في نحو هذا التركيب عند قوله {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] . وقرأت جماعة «ثاني اثنين» بسكون الياء. قال أبو الفتح: «حاكها أبو عمرو» ووجهُها أن يكونَ سَكَّن الياءَ تشبيهاً لها بالألفِ، وبعضُهم يخصُّه بالضرورة.

قوله: {إِذْ هُمَا فِي الغار} : بدلُ مِنْ «إذ» الأولى فالعاملُ فيها «فقد نَصَره» ، قال أبو البقاء: «ومَنْ مَنَع أن يكونَ العاملُ في البدلِ هو العامل في المبدل منه قَدَّرَ عاملاً آخر، أي: نصره» إذ هما في الغار «. و» الغار «نَقْبٌ يكونُ في الجبلِ، ويُجمع على غِيران ومثله: تاج وتِيْجان، وقاع وقِيعان. والغارُ أيضاً نَبْتٌ طيبُ الريح، والغارُ أيضاً الجماعة، والغاران البطن والفرج. وألف الغار عن واو. قوله: {إِذْ يَقُولُ} بدلٌ ثانٍ من» إذ «الأولى. وقال أبو البقاء:» إنَّ إذ هما في الغار، وإذ يقول ظرفان لثاني اثنين «، والضمير في» عليه «يعود على أبي بكر، لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عليه السكينة دائماً. وقد تقدم القول في {السكينة} [البقرة: 248] . والضمير في» أيَّده «للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرأ مجاهد» وأَيَدَه «. بالتخفيف. و» لم تَرَوْها «صفة لجنود. قوله: {وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} الجمهورُ على رفع» كلمة «على الابتداء، و» هي «يجوزُ أَنْ تكونَ مبتدأ ثانياً، و» العُلْيا «خبرها، والجملة خبر الأول، ويجوز أن تكونَ» هي «فصلاً و» العليا «الخبر. وقُرِىء» وكلمةَ الله «بالنصب نسقاً على مفعولَيْ جَعَلَ، أي: وجعل كلمة الله هي العليا. قال أبو البقاء:» وهو ضعيفٌ لثلاثة أوجه، أحدها: وَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر، إذ الوجهُ أن تقولَ: وكَلِمَتُه. الثاني: أن فيه دلالةً على أنَّ كلمة الله كانت سُفْلى فصارت عليا، وليس كذلك. الثالث: أن توكيدَ مثلِ ذلك

ب «هي» بعيد، إذ القياسُ أن يكونَ «إياها» . قلت: أما الأولُ فلا ضعفَ فيه لأنَّ القرآنَ ملآنُ من هذا النوع وهو مِنْ أحسنِ ما يكون لأن فيه تعظيماً وتفخيماً. وأمّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر وهو أن يكون الشيء المصيَّر على الضد الخاص، بل يدل التصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة. وأمَّا الثالث ف «هي» ليست تأكيداً البتة إنما «هي» ضمير فصل على حالها، وكيف يكون تأكيداً وقد نَصَّ النحويون على أن المضمر لا يؤكد المظهر؟

41

وانتصب {خِفَافاً وَثِقَالاً} : على الحال من فاعل «انفروا» .

42

قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً} : اسمُ كان ضميرٌ يعود على دل عليه السِّياق، أي: لو كان ما دعوتُهم إليه. وقرأ عيسى بن عمر والأعرج «بَعِدَت» بكسر العين. وقرأ عيسى «الشِّقَّة» بكسر الشين أيضاً. قال أبو حاتم: «هما لغةُ تميم» . والشُّقَّة: الأرض التي يُشَقُّ اشتقاقاً مِنَ الشِّق أو المَشَقَّة. قوله: {بالله} متعلقٌ ب «سَيَحْلِفُون» ، وقال الزمخشري: «بالله» متعلقٌ ب «سَيَحْلِفُون» ، أو هو من جملة كلامهم، والقولُ مرادٌ في الوجهين، أي: سيَحْلِفون، يعني المتخلِّفين عند رجوعِك متعذِّرين يقولون: باللَّهِ لو استطعنا، أو وسَيحلفون بالله يقولون: لو اسْتَطَعْنا، وقوله «لَخَرَجْنا» سدَّ مَسَدَّ جواب القسم و «لو» جميعاً «. قال الشيخ:» قوله: لخَرَجْنا سدَّ مَسَدَّ

جوابِ القسم و «لو» جميعاً ليس بجيد، بل للنحويين في نحو هذا مذهبان، أحدُهما: أنَّ «لَخَرَجْنا» جواب القسم، وجوابُ «لو» محذوفٌ على قاعدة اجتماع القسم والشرط، إذ تقدَّم القسم على الشرط، وهذا اختيارٌ أبي الحسن ابن عصفور. والآخر: أنَّ «لَخَرَجْنا» جوابُ «لو» ، و «لو» وجوابها جواب القسم، وهذا اختيارُ ابنِ مالك، أمَّا أنَّ «لَخَرَجْنا» سادٌّ مَسَدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذَهَبَ إلى ذلك. ويحتمل أن يُتَأول كلامُه على أنَّه لمَّا حُذِف جواب «لو» ودَلَّ عليه جوابُ القسم جُعِل كأنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ القسم وجوابِ لو «. وقرأ الأعمش وزيد بن علي» لوُ اسْتَطَعْنا «بضم الواو، كأنهما فرَّا من الكسرة على الواو، وإن كان الأصلَ، وشبَّها واوَ» لو «بواو الضمير كما شبَّهوا واوَ الضمير بواو» لو «، حيث كسَرُوها نحو {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن» اشْتَرَوا الضلالة «، و» لوَ استطعنا «بفتح الواو تخفيفاً. قوله: {يُهْلِكُونَ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها حالٌ من فاعل» سَيَحْلِفُون «، أي: سَيَحْلفون مُهْلِكين أنفسَهم. والثاني: أنها بدلٌ من الجملةِ قبلها وهي» سَيَحْلِفون «. الثالث: أنها حالٌ من فاعل» لَخَرَجْنا «. وقد ذكر الزمخشري هذه الأوجه الثلاثة، فقال:» يُهْلِكون: إمَّا أنَ يكونَ بدلاً من «سيحلفون» أو حالاً بمعنى مُهْلكين. والمعنى: أنهم يُوْقِعُون في الهلاكِ أنفسَهم بحلفهم الكاذب. ويحتمل أن يكونَ حالاً من فاعل «خَرَجْنا» ، أي: لَخَرَجْنا

وإنْ أهلكْنا أنفسنا. وجاء بلفظ الغائب لأنه مُخْبِرٌ عنهم، ألا ترى أنه لو قيل: سَيَحْلِفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً، يقال: حَلَفَ بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبةُ على حكم الإِخبار، والتكلمُ على الحكاية «. قال الشيخ: «أمَّا كونُ» يُهْلِكون «بدلاً مِنْ» سَيَحْلِفون «فبعيدٌ؛ لأنَّ الإِهلاكَ ليس مُرادِفاً للحَلف ولا هو نوع منه، ولا يُبدل فِعْلٌ من فعل إلا إنْ كان مرادفاً له أو نوعاً منه» قلت: يَصِحُّ البدل على معنى أنه بدلُ اشتمال؛ وذلك لأنَّ الحَلْفَ سببٌ للإِهلاك فهو مشتملٌ عليه، فأبدل المُسَبَّب مِنْ سببِه لاشتمالِه عليه، وله نظائرُ كثيرةٌ منها قولُه: 2487 - إنَّ عليَّ اللَّهَ أن تُبايعا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تجيءَ طائعاً ف «تُؤْخَذ» بدلٌ مِنْ «تبايع» بدلُ اشتمالٍ بالمعنى المذكور، وليس أحدهما نوعاً من الآخر. ثم قال الشيخ: «وأمَّا كونُه حالاً من قوله» لخرجنا « [فالذي يظهرُ أن ذلك لا يجوز لأنَّ قولَه» لخَرَجْنا «] فيه ضمير المتكلم، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم، فلو كان حالً من فاعل» لخَرَجنا «لكان التركيبُ: نُهْلك أنفسنا أي مهلكي أنفسنا. وأمَّا قياسُه ذلك على» حَلَفَ زيد ليفعلن «و» لأفعلنَّ «فليس بصحيحٍ؛ لأنَّه إذا أَجْراه على ضمير الغيبة لا يَخْرُجُ منه إلى ضمير المتكلم، لو قلت:» حَلَفَ زيد ليفعلن وأنا قائم «على أن يكون» وأنا قائم «حالاً من ضمير» ليفعلن «لم يجز، وكذا عكسُه نحو:» حَلَفَ زيدٌ لأفعلن يقوم «تريد: قائماً لم يجز. وأمَّا قولُه» وجاء به على لفظِ الغائب لأنه مُخْبَرٌ عنهم «فمغالطة، ليس مخبراً عنهم بقوله {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا} ، بل هو حاكٍ لفظَ قولِهم. ثم قال:» ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا

لخرجوا لكان سديداً إلى آخره «كلامٌ صحيحٌ لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكايةُ، والحالُ من جملةِ كلامِهم المحكيّ، فلا يجوزُ/ أن يخالفَ بين ذي الحال وحالِه لاشتراكهما في العامل. لو قلت:» قال زيد خرجت يضرب خالداً «تريد: اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت:» قالت هند: خرج زيد اضربْ خالداً «تريد: خرج زيد ضارباً خالداً لم يجز» انتهى. الرابع: أنها جملةٌ استئنافيةٌ أخبر الله عنهم بذلك.

43

قوله تعالى: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} : «لِمَ» و «لهم» كلاهما متعلقٌ ب أَذِنْتَ. وجاز ذلك لأنَّ معنى اللامين مختلف، فالأولى للتعليلِ، والثانيةُ للتبليغ، وحُذِفَتْ ألفُ ما الاستفهاميةِ لانجرارِها. وتقديمُ الجارِّ الأول واجبٌ لأنه جرَّ ما له صدرُ الكلام. ومتعلَّقُ الإِذْنِ محذوفٌ، يجوز أن يكونَ القُعود، أي: لِمَ أذنت لهم في القعود، ويدل عليه السِّياق مِن اعتذارهم عن تَخَلُّفِهم عنه عليه السلام. ويجوز أن يكون الخروج، أي: لِمَ أذنت لهم في الخروج لأنَّ خروجَهم فيه مفسدةٌ مِنَ التخذيل وغيرِه يدل عليه {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] . قوله: {حتى يَتَبَيَّنَ} «حتى» يجوز أن تكون للغاية، ويجوزُ أن تكونَ للتعليل، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ: إمَّا بمعنى إلى وإمَّا اللام، و «أَنْ» مضمرةٌ بعدها ناصبة للفعل، وهي متعلقة بمحذوفٍ. قال أبو البقاء «تقديره: هلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يتبيَّنَ أو ليتبيَّن. وقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} يدلُّ على المحذوف، ولا يجوزُ أن تتعلَّقَ» حتى «ب» أَذِنْتَ «لأن ذلك يوجب أن يكونَ أَذِن لهم إلى هذه الغاية أو لأجل التبيين، وذلك لا يُعاتَبُ عليه» . وقال الحوفي «

حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ، أي: ما كان له أن يأذن لهم حتى يتبيَّنَ له العُذْر» . قلت: وفي هذه العبارةِ بعَضُ غضاضة.

44

قوله تعالى: {أَن يُجَاهِدُواْ} : فيه وجهان: أظهرهما: أنه متعلَّقُ الاستئذان، أي: لا يستأذنوك في الجهاد، بل يَمْضون فيه غير مترددين. والثاني: أن متعلق الاستئذان محذوف و «أن يُجاهدوا» مفعولٌ من أجله تقديره: لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعودِ كراهةَ أن يُجاهدوا بل إذا أَمَرْتهم بشيءٍ بادروا إليه.

46

قوله تعالى: {لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} : العامَّةُ على «عُدّة» بضم العين وتاء التأنيث وهي الزَّادُ والراحلةُ وجميعُ ما يَحْتاج إليه المسافرُ. وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنهُ معاوية «عُدَّةُ» كذلك إلا أنه جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب تعود على الخروج. واختُلِف في تخريجِها فقيل: أصلُها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث، ولكنهم يحذفونها للإِضافةِ كالتنوين. وجعل الفراء من ذلك قولَه تعالى: {وَإِقَامَ الصلاة} [النور: 37] ، ومنه قولُ زهير: 2488 - إنَّ الخَلِيْطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا ... وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ الذي وَعدُوا يريد: عِدَّة الأمرِ. وقال صاحب «اللوامح» : لمَّا أضافَ جعل الكناية

نائبةً عن التاء فأسقطها؛ وذلك لأنَّ العُدَّ بغير تاء ولا تقديرها هو الشيء الذي يخرج في الوجه «. وقال أبو حاتم:» هو جمع عُدَّة ك بُرّ جمع بُرّة، ودُرّ جمع دُرَّة، والوجهُ فيه عُدَد، ولكن لا يوافق خطَّ المصحف. وقرأ زر بن حبيش وعاصم في رواية أبان «عِدَّهُ» بكسر العين مضافةً إلى هاءِ الكناية. قال ابن عطية: «وهو عندي اسمٌ لِما يُعَدُّ كالذِّبْح والقِتلْ. وقُرىء أيضاً» عِدَّة «بكسر العين وتاء التأنيث، والمرادُ عدة من الزاد والسلاح مشتقاً من العَدَد. قوله: {ولكن كَرِهَ الله} الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمل؛ ولذلك قال الزمخشري:» فإن قلت: كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلت: لمَّا كان قولُه {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج} معطياً نفيَ خروجهم واستعدادهم للغزو قيل: ولكنْ كره الله [انبعاثَهم] ، كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تَثَبَّطوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم، كما [تقول: ما] أحسن زيدٌ إليَّ ولكن أساء إليّ «انتهى. يعني أن ظاهر الآية يقتضي أنَّ ما بعد» لكن «موافقٌ لما قبلها، وقد تقرَّر فيها أنها لا تقع إلا بين ضدين أو نقيضين أو خلافين على/ خلاف في هذا الأخير فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور. قال الشيخ:» وليست الآيةُ نظيرَ هذا المثال يعني: ما أحسن زيداً إليّ ولكن أساء، لأن المثالَ واقعٌ فيه «لكن» بين [ضدَّيْن، والآيةُ واقعٌ فيها «لكن» بين] متفقين من جهة المعنى «، قلت: مُرَادُهم بالنقيضين النفيُ والإِثبات لفظاً وإن كانا يتلاقيان في المعنى، ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً.

والتَّثْبيطُ: التَّعْويق. يقال: ثَبَّطْتُ زيداً أي: عُقْتُه عَمَّا يريده من قولهم: ناقة ثَبِطَة أي بطيئة السير. والمراد بقوله» اقعدوا «التَّخْلية وهو كنايةٌ عن تباطُئِهم، وأنهم تشبهوا بالنساء أو الصبيان والزمنى وذوي الأعذار، وليس المراد قعوداً كقوله: 2489 - دَعِ المكارِم لا تَقْصِدْ لبُغْيَتها ... واقعُدْ فإنَّك أنت الطاعِمُ الكاسي

47

قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} : أي: في جيشكم وفي جمعكم. وقيل: «في» بمعنى مع، أي: معكم. وتقدَّم تفسير «الخبال» في آل عمران. وقوله: {إِلاَّ خَبَالاً} جَوَّزوا فيه أن يكون استثناء متصلاً وهو مفرَّغٌ؛ لأنَّ «زاد» يتعدى لاثنين. قال الزمخشري: «المستثنى منه غيرُ مذكور، فالاستثناءُ من أعمِّ العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلاً فإن الخَبال بعضُ أعمِّ العام كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً» . وجَوَّزوا فيه أن يكونَ منقطعاً والمعنى: ما زادوكم قوة ولا شدةً ولكنْ خبالً، وهذا يجيءُ على قول مَنْ قال إنه لم يكن في عَسْكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبال، كذا قال الشيخ. وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا لم يكن في العَسْكر خبالٌ أصلاً فكيف يستثنى شيءٌ لم يكنْ ولم يُتوهَّم وجوده؟ قوله: {خِلاَلَكُمْ} منصوبٌ على الظرفِ. والخِلال: جمع خَلَل وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين ويُستعار في المعاني فيُقال: في هذا الأمر خَلل.

والإِيُضاع: الإِسْراع يُقال: أَوْضَعَ البعيرُ، أي: أسرع في سَيْره قال امرؤ القيس: 2490 - أرانا مُوضِعينَ لأَِمْرِ غيبٍ ... ونُسْحَرُ بالطعامِ والشراب وقال آخر: 2491 - يا لَيْتَني فيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ ومفعول «أوضعوا» محذوف، أي: أوضعوا ركائبهم لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي. ويُقال: وَضَعَتْ الناقةُ تَضَعُ: إذا أَسْرعت، وأوضعتها أنا. وقرأ ابن أبي عبلة {ما زادَكم إلا خَبالاً} ، أي: ما زادكم خروجهم. وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد: «ولأَوْفَضوا» وهو الإِسراع أيضاً من قوله تعالى: {إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] ، وقرأ ابن الزبير «وَلأَرْفَضُوا» بالراء والفاء والضاد المعجمة مِنْ رَفَضَ، أي: أسرع أيضاً، قال حسان:

2492 - بزجاجةٍ رَقَصَتْ بما في جَوْفِها ... رَقْصِ القَلوصِ براكبٍ مستعجِلِ وقال: 2493 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... والراقصاتِ إلى مِنَىً فالغَبْغَبِ يُقال: رَفَضَ في مِشْيته رَفْضاً ورَفَضاناً. قوله: {يَبْغُونَكُمُ} في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «أَوْضَعوا» ، أي: لأَسْرَعوا فيما بينكم حالَ كونهم باغين، أي: طالبين الفتنةَ لكم. قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول «يَبْغُونكم» أو مِنْ فاعله، وجاز ذلك لأن في الجملة ضميريهما. ويجوز أن تكونَ مستأنفةً، والمعنى: أنَّ فيكم مَنْ يَسْمع لهم ويُصْغِي لقولِهم. ويجوز أن يكونَ المرادُ: وفيكم جواسيسُ منهم يسمعون لهم الأخبارَ منكم، فاللامُ على الأول للتقوية لكون العاملِ فرعاً، وفي الثاني للتعليل، أي: لأجلهم. ورُسِم في المصحف {ولا أَوْضَعُوا خلالكم} بألف بعد «لا» ، قال الزمخشري: «كانت الفتحة تُكْتب ألفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك أثرٌ في الطباع فكتبوا صورةَ الهمزةِ ألفاً وفتحتَها ألفاً أخرى، ونحوه، {أَوْ لا أَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] يعني في زيادة ألف بعد» لا «، وهذا لا يجوزُ القراءة به، ومَنْ قرأه متعمداً يكفر.

48

وقرأ مسلمة بن محارب «وقَلَبوا» مخففاً. وقوله «وهم كارهون» حالٌ والرابطُ الواو.

49

قوله تعالى: {مَّن يَقُولُ ائذن} : كقوله {يَاصَالِحُ ائتنا} [الأعراف: 77] من أنه يجوز تحقيقُ الهمزة وإبدالُها واواً لضمة ما قبلها، وإن كانت منفصلةُ من كلمةٍ أخرى. / وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة، وقد كان قبلها همزةُ وصل سَقَطت دَرْجاً. قال أبو جعفر. «إذا دخلت الواو والفاء على» ائذن «فهجاؤها ألفٌ وذال ونون بغير ياء، أو» ثم «فالهجاءُ ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونون. والفرقُ أنَّ» ثم «يوقف عليها ويُنْفَصَل بخلافهما» . قلت: يعني أنه إذا دخلت واوُ العطف أو فاؤه على هذه اللفظةِ اشتدَّ اتصالُهما بها فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ فتكتب «فَأْذَنْ، وَأْذَنْ» ، فهذه الألفُ مِنْ صورةِ الهمزة التي هي فاءُ الكلمة. وإذا دخلت عليها «ثم» كُتِبَتْ كذا: {ثُمَّ ائتوا} ، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة. قلت: وكأنَّ هذا الحكمَ الذي ذَكره مع «ثم» يختصُّ بهذه اللفظة، وإلا فغيرُها مما فاؤُه همزةٌ تسقط صورة همزة وصلِه خَطَّاً فيُكتب الأمرُ من الإِتيان مع «ثم» هكذا: «ثم أْتُوا» وكان القياسُ على «ثمَّ ائْذَنْ» : «ثم ائتوا» وفيه نظر. وقرأ عيسى بن عمر وابن السَّمَيْفع وإسماعيل المكي فيما روى عنه

ابن مجاهد: «ولا تُفْتِينِّي» بضم حرف المضارعة مِنْ أفتنه رباعياً. قال أبو حاتم: «هي لغة تميم» . وقيل: أفتنه: أدخله فيها. وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال: 2494 - لئن فَتَنَتْني فهي بالأمس أفتنتْ ... سعيداً فأمسى قد قلا كلَّ مسلم ومتعلق الإِذن القعود، أي: ائذن لي في القعود والخُلْف عن العدو ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك.

51

قوله تعالى: {لَّن يُصِيبَنَآ} قال عمرو بن شقيق: «سمعت أَعْيُنَ قاضي الري يقرأ» لن يُصيبَنَّا «بتشديد النون» ، قال أبو حاتم: ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ النونَ لا تدخل مع «لن» ، ولو كانت لطلحة بن مصرف لجاز، لأنها مع «هل» قال الله تعالى: {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] ، قلت: يعني أبو حاتم أنَّ المضارعَ يجوز توكيده بعد أداةِ الاستفهامِ، وابن مصرف يقرأ «هل» بدل «لن» ، وهي قراءة ابن مسعود. وقد اعتُذِر عن هذه القراءة: فإنها حملت «لن» على «لم» و «لا» النافيتين، و «لم» و «لا» يجوزُ توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما. أمَّا «لا» فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال، وأمَّا «لم» فقد سُمع ذلك وأنشدوا: 2495 - يَحْسَبُه الجاهل ما لم يَعْلما ... شيخاً على كرسيِّه مُعَمَّمَا أراد «يَعْلَمَنْ» فأبدل الخفيفةَ ألفاً بعد فتحة كالتنوين.

وقرأ القاضي أيضاً وطلحة: «هل يُصَيِّبُنا» بتشديد الياء. قال الزمخشري: «ووجههُ أن يكونَ يُفَيْعِل لا يُفَعِّل لأنه من بنات الواو لقولهم: الصواب، وصاب يصوب، ومصاوب في جمع مصيبة، فَحَقُّ يُفَعِّل منه يُصَوِّب. ألا ترى إلى قولهم: صَوَّب رأيه، إلا أَنْ يكونَ من لغة من يقول: صاب السهمُ يَصيب كقوله: 2496 - أَسْهُمِيَ الصائِبات والصُّيُبْ ... يعني أنه أصله صَوْيِب فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحدهما بالسكون فقُلبت الواو ياءً وأدغم فيها، وهذا كما تقدم لك في تحيَّز أن أصله تَحَيْوَز. وأما إذا أخذناه مِنْ لغةِ مَنْ يقول: صاب السهم يَصيب فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة فَعَّل.

52

قوله تعالى: {إِلاَّ إِحْدَى} : مفعول التربُّص، فهو استثناء مفرغ. وقرأ ابن محيصن «إلا احدى» بوصل ألف «احدى» إجراء لهمزة القطع مُجْرى همزة الوصل فهو كقول الشاعر: 2497 - إنْ لم أُقاتِلْ فالبسوني بُرْقُعا ... وقول الآخر: 2498 - يابا المغيرة رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ ... فَرَّجْتُه بالمكر مِنِّي والدَّهَا وقوله {أَن يُصِيبَكُمُ} مفعول التربُّص.

53

قوله تعالى: {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} : مصدران في موضع الحال، أي: طائعين أو كارهين. وقرأ الأخوان «كُرْهاً» بالضم وقد تقدم تحقيق ذلك في النساء. وقال الشيخ هنا: «قرأ الأعمش وابن وثاب» كُرْهاً «بضم الكاف» . وهذا يُوهم أنها لم تُقْرأ في السبعة. قال الزمخشري «هو أمرٌ في معنى الخبر كقوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} [مريم: 75] ومعناه: لن يُتقبَّل منكم: أنفقتم طَوْعاً أو كرهاً، ونحوه قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] . وقوله يعني كثيِّر عَزَّة: 2499 - أسِيْئي بنا أو أَحْسِني لا مَلُومَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: لن يغفر الله لهم استغفرت أو لم تستغفر، ولا نلومك أحسنتِ إلينا أو أَسَأْتِ، وفي معناه قول القائل: 2500 - أخوك الذي إنْ قُمْتَ بالسيفِ عامداً ... لتضربَهُ لم يَسْتَغِشَّك في الودِّ وقال ابن عطية:» هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ، وهذا مستمر في كل أمرٍ

معه جزاء والتقدير: إن تنفقوا لن يُتقبَّل منكم، وأما إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس يصحبه تضمُّنُ الشرط «قال الشيخ:» ويَقْدح في هذا التخريجِ أنَّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب لجواب الشرط، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب: «لن يُتقبل» بالفاء لأنَّ «لن» لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء فكذلك ما ضُمِّن معناه، ألا ترى جزمَه الجوابَ في نحو: اقصد زيداً يُحْسِنْ إليك «. قلت: إنما أراد أبو محمد تفسير المعنى، وإلا فلا يَجْهَلُ مثل هذه الواضحات. وأيضاً فلا يلزمُ لأن يُعْطى الأمرُ التقديري حكمَ الشيء الظاهر من كل وجه. وقوله: {إِنَّكُمْ} وما بعد جارٍ مَجْرى التعليل.

54

قوله تعالى: {أَن تُقْبَلَ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول ثانٍ ل «منع» : إمَّا على تقدير إسقاطِ حرف الجر، أي: من أن يُقْبل وإمَّا لوصول الفعل إليه بنفسه، لأنك تقول: منعتُ زيداً حَقَّه ومِنْ حقه. والثاني: أنه بدلٌ من «هم» في مَنْعِهم، قاله أبو البقاء كأنه يريد بدلَ الاشتمال. ولا حاجَة إليه. وفي فاعل «منع» وجهان، أحدهما وهو الظاهر أنه {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ} ، أي: ما منعهم قبولَ نفقتهم إلا كفرُهم. والثاني: إنه ضمير الله تعالى، أي: وما منعهم الله، ويكون «إلا أنهم» منصوباً على إسقاط حرف الجر، أي: لأنهم كفروا.

وقرأ الأخَوان: «أن يُقْبَلَ» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، وهما واضحتان لأنَّ التأنيثَ مجازي، وقرأ زيد بن علي كالأخوين، إلا أنه أفرد النفقة. وقرأ الأعرج: «تُقْبل» بالتاء من فوق، «نفقتُهم» بالإِفراد. وقرأ السُّلمي: «يَقبل» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى. وقرىء: «نَقْبل» بنون العظمة، «نفقتهم» بالإِفراد. قوله: {إِلاَّ وَهُمْ كسالى} ، {إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} كلتا الجملتين حالٌ من الفاعل قبلها.

55

قوله تعالى: {الحياة الدنيا} : فيه وجهان أحدهما: أنه متعلق ب «تعجبك» ويكون قول {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} جملةَ اعتراض والتقدير: فلا تعجبك في الحياة. ويجوز أن يكونَ الجارُّ حالاً من أموالهم. وإلى هذا نحا ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة قالوا: في الكلام تقديمٌ وتأخير، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد ليعذبهم بها في الآخرة. قال الشيخ: «إلا أنَّ تقييدَ الإِعجابِ المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا، فيبقى ذلك كأنه زيادة تأكيد، بخلاف التعذيب فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة، ومع أن التقديمَ والتأخيرَ يخصُّه أصحابنا بالضرورة» . قلت: كيف يُقال مع نَصِّ مَنْ قَدَّمْتُ ذكرَهم: «أصحابنا يخصُّون ذلك بالضرورة» على أنه ليس من التقديم والتأخير الذي يكون في الضرورة في شيءٍ إنما هو اعتراض، والاعتراض لا يقال فيه

تقديم وتأخير بالاصطلاح الذي يُخَصُّ بالضرورة، وتسميتهم أعني ابن عباس ومن معه رضي الله عنهم إنما يريدون فيه الاعتراضَ المشارَ إليه لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة. والثاني: أن «في الحياة» متعلقٌ بالتعذيب، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ مصائبُ الدنيا ورزاياها، أو ما لزمهم من التكاليف الشاقة، فإنهم لا يرجون عليها ثواباً. قاله ابن زيد، أو ما فُرِض عليهم من الزكوات قاله الحسن، وعلى هذا فالضمير في «بها» يعود على الأموال فقط، وعلى الأول يعود على الأولاد والأموال.

57

قوله تعالى: {مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ} : المَلْجَأُ: الحِصْن. وقيل: المَهْرب. وقيل: الحِرْز وهو مَفْعَل مِنْ لجأ إليه يلجأ، أي: انحاز يقال: ألجأته إلى كذا، أي: اضطررته إليه فالتجأ. والملجأ يَصْلُح للمصدر والزمان والمكان، والظاهر منها هنا المكان. والمَغارات جمع مغارة وهي مَفْعَلة مِنْ غار يغور فهي كالغار في المعنى. وقيل: المغارة: السِّرْب في الأرض كنفق اليربوع. والغار النَّقْبُ في الجبل. والجمهور على فتح ميم «مغارات» وقرأ عبد الرحمن بن عوف مُغارات بالضم وهو مِنْ أغار/ وأغار يكون لازماً، تقول العرب: أغار بمعنى غار، أي: دخل، ويكون متعدياً تقول: أَغَرْتُ زيداً، أي: أدخلته في الغار، فعلى هذا يكون مِنْ أغار المتعدي، والمفعول محذوف، أي: أماكنُ يُغيرون فيها أنفسهم، أي: يُغَيِّبونها. والمُدَّخل: مُفْتَعَلِ مِنَ الدخول وهو بناء مبالغة في هذا المعنى، والأصل

مُدْتَخل فأدغمت الدال في تاء الافتعال كادَّان من الدَّين. وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش مُدَّخَّلاً بتشديد الدال والخاء معاً. وتوجيهُها أن الأصل: مُتَدَخَّلاً مِنْ تَدخَّل بالتضعيف، فلما أدغمت التاء في الدال صار اللفظ مُدَّخَّلاً نحو مُدَّيَّن مِنْ تَدَيَّن. وقرأ الحسن أيضاً ومسلمة بن محارب وابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير في رواية «مَدْخَلاً» بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة مِنْ دخل. وقرأ الحسن في رواية محبوب كذلك إلا أنه ضَمَّ الميم جعله مِنْ أدخل. وهذا من أبرع العلم: ذكر أولاً الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان، ثم ذكر الغَيْران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن وفي الجبال، ثم الأماكن التي يُختفى فيها في الأماكن السافلة وهي السُّروب وهي التي عبَّر عنها بالمُدَّخل. وقال الزجاج: «يصح أن تكون المَغَارات مِنْ قولهم: حَبْل مُغار، أي: مُحْكم الفتل، ثم يُستعار ذلك في الأمر المحكم المبرَم فيجيء التأويل على هذا: لو يَجدون نصرة أو أموراً مسددة مرتبطة تعصِمهم منكم. وجعل المُدَّخَل أيضاً قوماً يدخلون في جملتهم. وقرأ أُبَيّ مُنْدَخَلاً بالنون بعد الميم مِنْ اندخل قال: 2501 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

ولا يدي في حَمِيتِ السَّمْنِ تَنْدَخِلُ وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه، وقال:» إنما هي بالتاء «. قلت وهو معذورٌ لأن انفعل قاصر لا يتعدى فكيف بُني منه اسمُ مفعول؟ وقرأ الأشهب العقيلي:» لَوَاْلَوا «، أي: بايعوا وأسرعوا، وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده وكانت له صحبة من الموالاة. وهذا ممَّا جاء فيه فَعَّل وفاعَل بمعنى نحو: ضَعَّفْتُه وضاعَفْتُه. قال سعيد بن مسلم أظنها» لَوَأَلُوا «بهمزة مفتوحة بعد الواو مِنْ وَأَلَ، أي: التجأ، وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء: والجُّموح: النُّفور بإسراع ومنه فرس جَموح إذا لم يَرُدَّه لِجام قال: 2502 - جَمُوحاً مَرُوحاً وإحضارُها ... كمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُؤْقَدِ وقال آخر: 2503 - إذا جَمَحَتْ نساؤكُمُ إليه ... أَشَظَّ كأنه مَسَدٌ مُغَارُ وقال آخر: 2504 - وقد جَمَحْتُ جِماحاً في دمائِهمُ ... حتى رأيتُ ذوي أحسابِهم جَهَزوا

وقرأ أنس بن مالك والأعمش «يَجْمِزُون» ، قال ابن عطية: «يُهَرْوِلُون في مَشْيهِم» . قيل: يَجْمِزُون ويَجْمَحون ويشتدُّون بمعنى «. وفي الحديث:» فلما أَذْلَقَتْه الحجارة جَمَزَ «، وقال رؤبة: 2505 - إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ ... قارَبْتُ بين عَنَقي وجَمْزي وهذا أصلُه في اللغة. وقوله: {إِلَيْهِ} ، عاد الضميرُ إلى الملجأ أو على المُدَّخل؛ لأن العطف ب أو» ، ويجوز أن يعودَ على «المَغَارات» لتأويلها بمذكر. قوله: {مَّن يَلْمِزُكَ} قرأ العامة «يلمزك» بكسر الميم مِنْ لَمَزه يَلْمِزه، أي: عابه، وأصله الإِشارة بالعين ونحوها. قال الأزهري: «أصلُه الدفع، لَمَزْته: دفعته» ، وقال الليث: «هو الغَمْز في الوجه ومنه هُمَزَةٌ لُمَزَة، أي: كثيرُ هذين الفعلين. وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء ورُويت عن أبي عمرو بضمها وهما لغتان في المضارع. وقرأ الأعمش يُلْمِزُك مِنْ أَلْمز رباعياً. وروى حماد بن سلمة:» يُلامِزُك «على المفاعلة من واحدٍ كسافرَ وعاقَب. وقد تقدَّم الكلام على» إذا «الفجائيةِ مراراً والعامل فيها: قال أبو البقاء:» يَسْخَطون «لأنه قال: إنها ظرفُ مكان، وفيه نظر تقدَّم في نظيره.

59

وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ} : الظاهر أن جواب «لو» محذوفٌ تقديره: لكان خيراً لهم. وقيل: جوابُها «وقالوا» ، والواوُ مزيدةٌ، وهذا مذهبُ الكوفيين. وقوله «سيُؤْتينا» إنَّا إلى الله راغبون «هاتان الجملتان كالشرح لقولهم: حسبُنا الله، فلذلك يم يتعاطَفا لأنهما كالشيءِ الواحد، فشدَّة الاتصال منعت العطف.

60

قوله تعالى: {فَرِيضَةً} : في نصبها وجهان أحدهما: أنها مصدر على المعنى، لأن معنى إنما الصدقات للفقراء في قوة: فرض الله ذلك. والثاني: أنها حالٌ من الفقراء، قاله الكرماني وأبو البقاء، يَعنْيان/ من الضمير المستكنّ في الجار لوقوعه خبراً، أي: إنما الصدقاتُ كانت لهم حال كونها فريضةً، أي: مفروضة. ويجوز أن تكون «فريضة» حينئذ بمعنى مفعولة، وإنما دخلت التاء لجريانها مجرى الأسماء كالنَّطيحة. ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ عدل عن اللام إلى» في «في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإِيذان بأنهم أرسخُ في استحقاق التصدُّق عليهم مِمَّن سَبَق ذكرُه؛ لأن» في «للوعاء، فنبَّه على أنهم أحقاءُ بأن توضع فيهم الصدقات ويُجعلوا مَظِنَّةً لها ومَصَبَّاً» ، ثم قال: «وتكرير» في «في قوله: {وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل} فيه فضلُ ترجيحٍ لهذين على الرقاب والغارمين» . ونُقِل عن سيبويه أن «فريضة» منصوبٌ بفعلها مقدراً، أي: فرض الله ذلك فريضة. ونُقل عن الفراء أنها منصوبة على القطع. وقرىء «فريضةٌ» بالرفع على: تلك فريضة.

والغُرْم أصله لُزوم شيءٍ شاق ومنه قيل للعشق غرام، ويُعَبَّر به عن الهلاك في قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] ، وغَرامَةُ المال فيها مشقة عظيمة.

61

قوله تعالى: {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} : «أُذُن» خبر مبتدأ محذوف، أي: قل هو أُذُنُ خيرٍ. والجمهور على جرِّ «خيرٍ» بالإِضافة. وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم «أُذنٌ» بالتنوين، «خيرٌ» بالرفع وفيها وجهان، أحدهما: أنها وصف ل «أُذُن» . والثاني: أن يكون خبراً بعد خبر. و «خير» يجوز أن تكون وصفاً من غير تفضيل، أي: أُذُنُ ذو خيرٍ لكم، ويجوز أن تكونَ للتفضيل على بابها، أي: أكثر خير لكم. وجوَّز صاحب «اللوامح» أن يكونَ «أذن» مبتدأ و «خير» خبرها، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة لأنها موصوفةٌ تقديراً، أي: أذنٌ لا يؤاخذكم خير لكم مِنْ أُذُنٍ يؤاخذكم. ويقال: رَجُلٌ أُذُنٌ، أي: يسمع كل ما يقال. وفيه تأويلان أحدهما: أنه سُمِّي بالجارحة لأنها آلة السماع، وهي معظم ما يُقْصد منه كقولهم للربيئة: عين. وقيل: المرادُ بالأذن هنا الجارحة، وحينئذٍ تكونُ على حَذْف مضاف، أي: ذو أذن. والثاني: أن الأذن وصفٌ على فُعُل كأُنُف وشُلل، يقال: أَذِن يَأْذَن فهو أُذُن، قال:

2506 - وقد صِرْتَ أُذْناً للوُشاة سَميعةً ... ينالُون مِنْ عِرْضي ولو شئتَ ما نالوا قوله: {وَرَحْمَةٌ} ، قرأ الجمهور: «ورحمة» ، رفعاً نسقاً على «أذن ورحمة» ، فيمن رفع «رحمة» . وقال بعضهم: هو عطف على «يؤمن» ؛ لأن يؤمن «في محل رفع صفة ل» أذن «تقديره: أذن مؤمنٌ ورحمةٌ. وقرأ حمزةُ والأعمش:» ورحمة «بالجر نسقاً على» خير «المخفوض بإضافة» أذن «إليه. والجملة على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين تقديره: أذن خير ورحمة. وقرأ ابن أبي عبلة:» ورحمةً نصباً على أنه مفعول من أجله، والمعلل محذوف، أي: يَأْذَنُ لكم رحمةً بكم، فحذف لدلالة قوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ} . والباءُ واللام في «يؤمن بالله» «ويؤمن للمؤمنين» مُعَدِّيتان قد تقدَّم الكلامُ عليهما في أول هذه الموضوع. وقال الزمخشري: «قصد التصديقَ بالله الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء، وقصد الاستماعَ للمؤمنين، وأن يُسَلِّم لهم ما يقولون فعدى باللام، ألا ترى إلى قوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] . ما أنباه عن الباء، ونحوه: {فَمَآ آمَنَ لموسى} [يونس: 83] {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] {آمَنتُمْ لَهُ} [الشعراء: 49] . وقال ابن قتيبة:» هما زائدتان، والمعنى: يصدِّق الله ويصدِّق المؤمنين «وهذا قولٌ مردودٌ، ويدلُّ على عدم الزيادة تغايرُ الحرف الزائد، فلو لم يُقْصَدْ معنىً مستقلٌ لَمَا غاير بين الحرفين وقال المبرد:» هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدر من الفعل كأنه قال: وإيمانه

للمؤمنين «. وقيل: يقال: آمنتُ لك بمعنى صَدَّقْتُكَ، ومنه {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} وعندي أن هذه اللامَ في ضمنها» ما «فالمعنى: ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به. وقال أبو البقاء:» واللام في للمؤمنين زائدةٌ دَخَلَتْ لتفرِّقَ بين «يؤمن» بمعنى يُصَدِّق، وبين يؤمن بمعنى يثبت الإِيمان «.

62

قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} : إنما أفرد الضمير في «يُرْضوه» ، وإن كان الأصل في العطف بالواو المطابقةَ لوجوهٍ أحدُها: أنَّ رضا الله ورسولِه شيء واحد: مَنْ أطاع الرسول فقد أطاع [الله] ، {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] ، فلذلك جَعل الضميرين ضميراً واحداً مَنْبَهة على ذلك. والثاني: أن الضميرَ عائد على المثنى بلفظ الواحد بتأويل «المذكور» كقول رؤبة: 2507 - فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ ... كأنه في الجلد تَوْلِيْعُ البَهَقْ أي: كأن ذاك المذكور. وقد تقدَّم لك بيان هذا في أوائل البقرة. الثالث: قال المبرد: في الكلام تقديمٌ وتأخير تقديره: والله أحقُّ أن يُرْضوه ورسولُه. قلت: وهذا على رأي مَنْ يدَّعي/ الحَذْفَ من الثاني. الرابع: وهو مذهب سيبويه أنه حَذَفَ خبر الأول وأبقى خبر الثاني. وهو أحسن من عكسه وهو قولُ المبردِ، لأن فيه عدمَ الفصل بين المبتدأ أو خبره، ولأن فيه أيضاً الإِخبار بالشيء عن الأقرب إليه، وأيضاً فهو متعيَّنٌ في قول الشاعر: 2508 -

نحن بما عندنا وأنت بما ... عندكَ راضٍ والرأيُ مختلفُ أي: نحن راضُون، حَذَفَ «راضون» لدلالةِ خبر الثاني عليه. قال ابن عطية: «مذهبُ سيبويهِ أنهما جملتان حُذِفَت الأولى لدلالةِ الثانيةِ عليها» . قال الشيخ: «إن كان الضمير في» أنهما «عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين فكيف يقول» حُذفت الأولى «والأُوْلى لم تُحْذَفْ، إنما حُذِفَ خبرُها، وإن كان عائداً على الخبر وهو {أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} فلا يكونُ جملةُ إلا باعتقاد أن يكون» أن يُرْضُوه «مبتدأً وخبره» أحقُّ «مقدَّماً عليه، ولا يتعيَّنُ هذا القولُ إذ يجوزُ أن يكونَ الخبرُ مفرداً بأن يكونَ التقدير: أحقُّ بأَنْ تُرْضوه» . قلت: إنما أراد أبو محمد التقديرَ الأول وهو المشهورُ عند المُعْربين، يجعلون «أحق» خبراً مقدماً، و «أن يرضوه» مبتدأ مؤخراً [أي] : واللَّهُ ورسولُه إرضاؤُه أحقُّ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا قريباً في قوله: {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} [التوبة: 13] . و {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} شرطٌ جوابُه محذوفٌ أو متقدم.

63

قوله تعالى: {أَلَمْ يعلموا} : الجمهورُ: على «يَعْلموا» بياء الغيبة رَدَّاً على المنافقين. وقرأ الحسن والأعرج: «تَعْلموا» بتاء الخطاب. فقيل: هو التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب إن كان المرادُ المنافقين. وقيل الخطابُ للنبي عليه السلام، وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً كقوله: 2509 - وإن شِئْتِ حرَّمْتُ النساءَ سواكم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل: الخطابُ للمؤمنين، وبهذه التقادير الثلاثةِ يختلف معنى الاستفهام: فعلى الأول يكونُ الاستفهامُ للتقريع والتوبيخ، وعلى الثاني يكون للتعجبِ مِنْ حالِهم، وعلى الثالث يكون للتقرير. والعِلْم هنا يُحْتمل أن يكون على بابِه فتسدَّ «أَنْ» مسدَّ مفعولَيْن عند سيبويه، ومسدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش، وأن يكونَ بمعنى العرفان فتسدَّ «أنَّ» مسدَّ مفعول. و «مَنْ» شرطية و {فَأَنَّ لَهُ نَارَ} جوابُها، وفتحت «أنَّ» بعد الفاء لِما عُرِف في الأنعام والجملة الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ خبرِ «أنَّ» الأولى. وهذا تخريجٌ واضحٌ وقد عدل عن هذا الواضحِ جماعةٌ إلى وجوهٍ أُخرَ فقال الزمخشري: «ويجوز أن يكونَ» فأنَّ له «معطوفاً على» أنه «على أنَّ جوابَ» مَنْ «محذوفٌ تقديره: ألم يعلموا أنَّه مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ورسولَه يُهْلَكْ فأنَّ له» . وقال الجرمي والمبرد: «أنَّ» الثانيةُ مكررةٌ للتوكيد كأن التقدير: فله نارُ جهنم، وكُرِّرت «أنَّ» توكيداً. وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء} [النحل: 119] ، ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} قال: «والفاءُ على هذا جوابُ الشرط» . وقد رَدَّ الشيخ على الزمخشري قولَه بأنهم نصُّوا على أنه إذا حُذِف جوابُ الشرط لَزِم أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً أو مضارعاً مقروناً ب «لم» ،

والجوابُ على قولِه محذوفٌ، وفعلُ الشرطِ مضارع غيرُ مقترنٍ ب لم «، وأيضاً فإنَّا نجدُ الكلامَ تاماً بدون هذا الذي قدَّره» . وقد نُقِل عن سيبويه أنه قال: «الثانيةُ بدلٌ من الأولى» ، وهذا لا يَصِحُّ عن سيبويه فإنه ضعيف أو ممتنع. وقد ضعَّفه أبو البقاء بوجهين، أحدهما: أنَّ الفاءَ تمنعُ من ذلك، والحكمُ بزيادتِها ضعيفٌ. والثاني: أنَّ جَعْلَها بدلاً يوجب سقوط جواب «مَنْ» مِن الكلام «. وقال ابن عطية:» وهذا يُعْتَرَضُ بأنَّ الشيءَ لا يُبدل منه حتى يُسْتوفى، والأُْولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرُها بعدُ، إذ لم يأتِ جوابُ الشرط، وتلك الجملةُ هي الخبر. وأيضاً فإنَّ الفاءَ تمانعُ البدلَ، [وأيضاً] فهي في معنى آخرَ غيرِ البدل فيقلقُ البدل «. وقال بعضهم:» فيجب على تقدير اللام أي: فلأنَّ له نار جهنم وعلى هذا فلا بد من إضمار شيءٍ يتمُّ به جواب الشرط تقديره: فمُحادَّتُه لأنَّ له نارَ جهنم «. وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ لا يُحتاج إليها، فالأولى ما تقدم ما ذكره: وهو أن يكونَ {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} في محلِّ رفعٍ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ، وينبغي أن تقدِّرَه متقدماً عليها كما فعل الزمخشري وغيرُه أي: فحقٌّ أنَّ له نارَ جهنم. وقدَّره غيرُه متأخراً أي: فأنَّ له نارَ جهنم واجبٌ. كذا قدَّره الأخفش. ورَدُّوه عليه بأنها لا يُبتدأ بها، وهذا لا يُلْزِمُه فإنه يُجيز الابتداء ب «أنَّ» المفتوحةِ من

غير تقديمِ خبر، وغيرُه لا يُجيز الابتداءَ بها إلا بشرطِ تقدُّمِ «أمَّا» نحو: «أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي» أو بشرطِ تقدُّمِ الخبر نحو: «عندي/ أنَّك مُنْطَلق» . وقيل: فأنَّ له «خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ أنَّ له. وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاء في محلِّ جزم جواباً للشرط. وقرأ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة والحسن وابن لأبي عبلة» فإنَّ «بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية، تقدَّم أنه قرأ [بها] بعضُ السبعة في الأنعام، وتقدَّم هناك توجيهُها. والمُحَادَّة: المخالفةُ والمعاندةُ ومجاوزةُ الحدِّ والمعاداة. قيل: مشتقةٌ مِن الحدّ وهو حَدُّ السلاح الذي يحارَبُ به من الحديد. وقيل: من الحدّ الذي هو الجهةُ كأنه في حدٍّ غيرِ حدِّ صاحبهِ كقولهم: شاقَّه أي: كان في شقٍ غيرِ شقِّ صاحبه. وعاداه: أي كان في عُدْوَة غيرِ عُدْوَته. واختار بعضُهم قراءةَ الكسرِ بأنها لا تُحْوِج إلى إضمار، ولم يُروَ قولُه: 2510 - فَمَنْ يكُ سائلاً عني فإني ... وجِرْوَةَ لا تُعارُ ولا تُباعُ إلا بالكسرِ، وهذا غيرُ لازمٍ فإنه جاء على أحد الجائزين. و» خالداً «نصبٌ على الحال.

64

قوله تعالى: {أَن تُنَزَّلَ} : مفعولٌ به ناصبُه يحذر، فإن «

يَحْذَر» متعدٍّ بنفسِه لقوله تعالى: {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 30] لولا أنه متعدٍّ في الأصل لواحدٍ لَما اكتسب التضعيف مفعولاً ثانياً، ويدلُّ عليه أيضاً ما أنشده سيبويه: 2511 - حَذِرٌ أُموراً لا تَضيرُ وآمِنٌ ... ما ليسَ مُنْجيَه من الأَقْدارِ وفي البيت كلامٌ، قيل: إنه مصنوع، وهو فاسد أتقنت حكايته في «شرح التسهيل» وقال المبرد: «إنَّ» حَذِر لا يتعدى «قال: لأنه من هَيْئات النفسِ كفَزِع، وهذا غير لازم فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍ كخاف وخشِي فإنَّ» تُنَزَّل «عند المبرد على إسقاط الخافض أي: مِنْ أَنْ تُنَزَّل. وقوله» تُنَبِّئهم «في موضع الرفع صفةً ل» سورة «.

65

قوله تعالى: {أبالله} : متعلقٌ بقوله: «تستهزئون» و «تستهزئون» خبرُ كان. وفيه دليلٌ على تقديم خبر كان عليها، لأنَّ تقديمَ المعمول يُؤْذِن بتقديم العامل، وقد تقدم معمول الخبر على «كان» فَلْيَجُزْ تقديمُه بطريق الأولى. وفيه بحث: وذلك أن ابنَ مالك قَدَح في هذا الدليلِ بقوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9-10] قال: «فاليتيم والسائل قد تَقَدَّما على» لا «الناهية والعاملُ فيهما ما بعدها، ولا يجوز تقديم ما بعد» لا «الناهية عليها لكونه مجزوماً بها، فقد تقدَّم المعمولُ حيث لا يتقدَّم العامل. ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر ليس بقوله: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] .

والاعتذار: التنصُّل مِنَ الذنب وأصله مِنْ تعذَّرت المنازل أي: دُرِسَت وامحى أثرها، قال ابن أحمر: 2512 - قد كنتَ تعرف آياتٍ فقد جعلَتْ ... أطلالُ إلفِك بالوَعْساء تعتذِرُ فالمعتذر يزاول محو ذنبه. وقيل: أصله من العَذْر وهو القطع، ومنه العُذْرة لأنها تُقْطع بالافتراع. قال ابن الأعرابي:» يقولون: اعتذرت [المياه أي: انقطعت، وكأن المعتذر يحاول] قطع الذمّ عنه.

66

قوله تعالى: {إِن نَّعْفُ} : قرأ عاصم «نَعْفُ» بنون العظمة، «نُعَذِّب» كذلك أيضاً، «طائفةً» نصباً على المفعولية، وهي قراءاتُ أَبي عبد الرحمن السلمي وزيد بن علي. وقرأ الباقون «يُعفَ» في الموضعين بالياء من تحتُ مبنياً للمفعول ورفع «طائفةٌ» على قيامِها مَقام الفاعل. والقائمُ مقامَ الفاعل في الفعل الأولِ الجارُّ بعده. وقرأ الجحدري: «إن يَعْفُ» بالياء من تحت فيهما مبنياً للفاعل وهو ضميرُ الله تعالى، ونصب «طائفة» على المفعول به، وقرأ مجاهد «تَعْفُ» بالتاء من فوق فيهما مبنياً للفاعل وهو ضمير الله تعالى، ونصبِ «طائفةً» على المفعول به. وقرأ مجاهد: «تُعفَ» بالتاء من فوق فيهما مبنياً للمفعول ورفع «طائفة» لقيامها مَقامَ الفاعل. وفي القائم مقامَ الفاعل في الفعل الأول وجهان أحدهما: أنه ضمير الذنوب أي: إن تُعْفَ هذه الذنوب. والثاني: أنه الجارُّ، وإنما أُنِّثَ الفعلُ

حَمْلاً على المعنى. قال الزمخشري: «الوجه التذكير، لأنَّ المسنَد إليه الظرفُ، كما تقول:» سِيْرَ بالدابة «ولا تقول: سِيْرت بالدابة ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل: إن تُرحَمْ طائفة، فأنَّث لذلك وهو غريبٌ» .

67

قوله تعالى: {يَأْمُرُونَ} : هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها مفسرةٌ لقوله {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} وكذلك ما عُطِف على «يَأْمرون» .

68

قوله تعالى: {خَالِدِينَ} : حالٌ من المفعول الأول للوعد وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّ هذه الحالَ لم تقارِنْ الوعد، وقوله: «هي حَسْبُهم» لا محلَّ لهذه الجملةِ الاستئنافية. وقوله: «هي حسبهم» لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية.

69

قوله تعالى: {كالذين مِن قَبْلِكُمْ} : فيه أوجه أحدها: هذه الكافَ/ في محلِّ رفعٍ تقديرُه: إنهم كالذين فهي خبر مبتدأ محذوف. الثاني: أنها في محل نصب. قال الزجاج: «المعنى: وعدكما وَعْدَ الذين مِنْ قبلكم، فهو متعلقٌ ب» وَعَدَ «. قال ابن عطية:» وهذا قَلِقٌ «. وقال أبو البقاء:» ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً ب «يَسْتهزئون» . وفي هذا بُعْدٌ كبير. وقوله: {كَانُواْ أَشَدَّ} تفسيرٌ لشبههم بهم وتمثيل لفعلهم. وجعل الفراءُ محلَّها نصباً بإضمارِ فعلٍ قال: «التشبيهُ من جهة الفعل أي: فعلتم كما فعل الذين من قبلكم» فتكون الكافُ في موضع نصب. وقال أبو البقاء: «الكاف

في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، وفي الكلام حذفُ مضافٍ تقديرُه» وعداً كوعد الذين «. وذكر الزمخشري وجهَ الرفع المتقدمَ والوجهَ الذي قدَّمْتُه عن الفراء، وشبَّهه بقول النمر بن تولب: 2513 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كاليوم مَطْلوباً ولا طَلَبا بإضمار: لم أر. قوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: استمتاعاً كاستمتاع الذين. قوله: كالذي خاضوا} الكافُ كالتي قبله. وفي» الذي «وجوهٌ أحدُها: أن المعنى: وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا، فحُذفت النونُ تخفيفاً، أو وقع المفردُ موقعَ الجمع. وقد تقدم تحقيق هذا في أوائل البقرة، فحُذِفَ المصدرُ الموصوفُ والمضافُ إلى الموصول، وعائدُ الموصول تقديرُه: خاضوه، والأصلُ: خاضوا فيه؛ لأنه يتعدى ب» في «فاتُّسع فيه، فَحُذِفَ الجارُّ فاتصل الضميرُ بالفعل فساغ حَذْفُه، ولولا هذا التدريجُ لَمَا ساغ الحذف؛ لِما عرفت ممَّا مرَّ أنه متى جُرَّ العائد بحرف اشتُرِط في جواز حَذْفِه جَرُّ الموصولِ بمثل ذلك الحرف، وأن يتحدَ المتعلَّق، مع شروط أُخَرَ ذكرتُها فيما تقدَّم. الثاني: أنَّ» الذي «صفةٌ لمفردٍ مُفْهِمٍ للجمع أي: وخضتم خوضاً

كخوضِ الفوج الذي خاضُوا، أو الفريق الذي خاضوا. والكلامُ في العائد كما سَبَق قبلُ. الثالث: أنَّ» الذي «من صفةِ المصدرِ والتقدير: وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه. وعلى هذا فالعائدُ منصوب من غير وساطةِ حرفِ جر. وهذا الوجهُ ينبغي أن يكونَ هو الراجح إذ لا محذورَ فيه. الرابع: أن» الذي «تقعُ مصدريةً، والتقدير: وخضتم خوضاً كخوضهم ومثله: 2514 - فَثَبَّتَ اللَّهُ ما آتاك مِنْ حسنٍ ... في المُرْسلين ونَصْراً كالذي نُصِروا أي: كنَ‍صْرهم. وقول الآخر: 2515 - يا أمَّ عمروٍ جزاكِ اللَّهُ مغفرةً ... رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا أي: ككونِه. وقد تقدَّم أن هذا مذهب الفراء ويونس، وتقدَّمَ تأويلُ البصريين لذلك. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: أيُّ فائدة في قوله: {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ كَمَا} ، وقوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} مُغْنٍ عنه كما أغنى «كالذي خاضوا» [عن أن يقال: وخاضُوا فَخُضْتُمْ كالذي خاضُوا] ؟ قلت: فائدتُه أَنْ يَذُمَّ الأوَّلين بالاستمتاع بما أُوتوا ورِضاهم بها عن النظر في العاقبة وطلبِ الفلاحِ في الآخرة وأن يُخَسِّسَ أمر الاستمتاع، ويُهَجِّن أمرَ الراضي به، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم. وأمَّا «وخُضْتُمْ كالذي خاضوا» فمعطوفٌ على ما قبله، ومسندٌ إليه مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن

تلك المقدمة «يعني أنه استغنى عن أَنْ يكونَ التركيبُ: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا. وفي قوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} إيقاعٌ للظاهر موقع المضمرِ لنُكْتةٍ: وهو أن كانَ الأصلُ: فاستمتعتم فخَلاقكم كما استمتعوا بخلاقِهم، فأبرزهم بصورةِ الظاهر تحقيراً لهم كقوله تعالى: {لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} [مريم: 44] وكقوله قبل ذلك: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} ثم قال: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] . وهذا كما يدل بإيقاع الظاهر موقعَ المضمرِ على التفخيم والتعظيم يدلُّ به على عكسِه وهو التحقير.

70

قوله تعالى: {قَوْمِ نُوحٍ} : بدلٌ من الموصول قبلَه وهو ويَحْتمل أن يكونَ بدلَ كل من كل إن كان المرادُ بالذين ما ذُكِر بعده خاصة، وأن يكونَ بدلٌ بعضً مِنْ كل إنْ أريد به أعمَّ من ذلك. والمُؤْتَفكات أي: المُنْقَلبات يُقال: أَفَكْتُه فانتفك أي: قَلَبْته فانقلب، والمادةُ تدل على التحوُّل والتصرف ومنه {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ / أُفِكَ} [الذاريات: 9] أي: يُصْرَف. والضمير في «أَتَتْهم» يجوز أن يعودَ على مَنْ تقدَّم، وخَصَّه بعضُهم بالمؤتفكات.

71

وقوله تعالى: { [بَعْضُهُمْ] أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} : وقال في المنافقين {مِّن بَعْضٍ} [التوبة: 67] إذ لا ولايةَ بين المنافقين. وقوله «يَأْمُرون» كما تقدم في نظيره. والسينُ في «سيرحمهم الله» للاستقبال، إذ المراد رحمةٌ خاصةٌ

وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة. وادعى الزمخشري أنها تفيد وجوبَ الرحمةِ وتوكيدَ الوعيد والوعيد نحو: سأنتقم منك.

72

وقوله تعالى: {خَالِدِينَ} : حالٌ مقدرة كما تقدم. والعَدْن: الإِقامة يُقال: عَدَنَ بالمكان يَعْدِن عَدْناً أي ثَبَتَ واستقرَّ، ومنه المَعْدِن لمُسْتَقَرِّ الجواهر ويُقال: عَدَن عُدُوناً فله مصدران، هذا أصلُ هذه اللفظة لغةً، وفي التفسير ذكروا لها معانيَ كثيرةً. وقال الأعشى في معنى الإِقامة: 2516 - وإن يَسْتضيفوا إلى حِلْمِهِ ... يُضافُوا إلى راجِحٍ قد عَدَنْ أي: ثَبَتَ واستقرَّ، ومنه «عَدَن» لمدينة باليمن لكثرة المقيمين بها. قوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} ، التكثير يفيد التعليل، أي: أقلُّ شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدَّم مِنَ الجنَّات ومساكنها.

73

قوله تعالى: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} : قال أبو البقاء: «إن قيل: كيف حَسُنَتِ الواوُ هنا، والفاء أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أجوبة. أحدُها: أن الوَاوَ واو الحال والتقدير: افعل ذلك في حال استحقاقِهم جهنم، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم. والثاني: أن الواوَ جيْءَ بها تنبيهاً على إرادة فعلٍ محذوف تقديره: واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم. الثالث: أنَّ الكلامَ قد حُمل على المعنى، والمعنى: أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلطة وعذابُ الآخرةَ بجَعْلِ جهنم مأواهم» ، ولا حاجةَ إلى هذا كلِّه، بل هذه جملةٌ استئنافية.

74

قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به، أي: وما كَرِهوا وعابُوا إلا إغناءَ الله إياهم، وهو من بابِ قولِهم: ما لي عندك ذنبٌ إلا أَنْ أَحْسَنْت إليك، أي: إن كان ثَمَّ ذنبٌ فهو هذا، فهو تهكمٌ بهم، كقوله: 2517 - ولا عيبَ فينا غيرُ عِرْقٍ لمعشرٍ ... كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النمل وقول الآخر: 2518 - ما نقِموا من بني أميةَ إلا ... أنهمْ يَحْلُمون إنْ غَضِبوا وأنهم سادةُ الملوكِ ولا ... يَصْلحُ إلا عليهم العَرَبُ والثاني: أنه مفعولٌ من أجله، وعلى هذا فالمفعول به محذوف تقديره: وما نقموا منهم الإِيمان إلا لأجلِ إغناء الله إياهم. وقد تقدَّم الكلامُ على نَقِم.

75

قوله تعالى: {مَّنْ عَاهَدَ الله} : فيه معنى القسم فلذلك أُجيب بقوله: «لنصَّدَّقَنَّ» ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لدلالة هذا الجوابِ عليه، وقد عَرَفْتَ قاعدة ذلك. واللام للتوطئة. ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللام الموطئة له. وقال أبو البقاء؛ «فيه وجهان أحدهما: تقديره فقال: لئن آتانا.

والثاني: أنْ يكونَ» عاهد «بمعنى» قال «فإنَّ العهد قول» . ولا حاجة إلى هذا الذي ذكره. قوله: {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ} قرأهما الجمهور بالنون الثقيلة، والأعمش بالخفيفة.

77

والجمهور قرؤوا «يَكذبون» مخففاً. وأبو رجاء مثقلاً.

78

والجمهورُ على «يَعْلموا» بالياء من تحت. وقرأ علي بن أبي طالب والحسن والسُّلَمي بالخطاب التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين.

79

قوله تعالى: {الذين يَلْمِزُونَ} : فيه أوجه، أحدهما: أنه مرفوعٌ على إضمارِ مبتدأ، أي: هم الذين. الثاني: أنه في محل رفع بالابتداء و «من المؤمنين» حالٌ مِن «المطَّوِّعين» ، و «في الصدقات» متعلق ب «يَلْمِزون» . و {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ} نسقٌ على «المطَّوِّعين» أي: يَعيبون المياسير والفقراء. وقال مكي: «والذين» خفضٌ عطفاً على «المؤمنين» ، ولا يَحْسُن عَطْفُه على «المطَّوِّعين» ، لأنه لم يتمَّ اسماً بعد، لأن «فيسخرون» عطف على «يَلْمِزُون» هكذا ذكره النحاس في «الإِعراب» له، وهو عندي وهمٌ منه «. قلت: الأمر فيه كما ذكر فإن» المطَّوِّعين «قد تَمَّ من غيرِ احتياجٍ لغيره.

وقوله: {فَيَسْخَرُونَ} نسقٌ على الصلة، وخبر المبتدأ الجملةُ من قوله: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} ، هذا أظهرُ إعرابٍ قيل هنا. وقيل: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ} نسقٌ على» الذين يَلْمزون «، ذكره أبو البقاء. وهذا لا يجوزُ؛ لأنه يلزمُ الإِخبارُ عنهم، بقوله: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} وهذا لا يكون إلا بأَنْ كان الذين لا يَجِدون منافقين، وأمَّا إذا كانوا مؤمنين كيف يَسْخر الله منهم؟ وقيل: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ} نسقٌ على المؤمنين، قاله أبو البقاء. وقال الشيخ:» وهو بعيدٌ جداً «، قلت: وَجْهُ بُعْدِ أنه يُفْهِمُ أن الذين لا يجدون ليسوا مؤمنين؛ لأنَّ أصلَ العطفِ الدلالةُ على المغايرة فكأنه قيل: يَلْمِزون المطَّوِّعين من هذين الصنفين: المؤمنين والذين لا يجدون، فيكون الذين لا يجدون مطَّوِّعين غيرَ مؤمنين. وقال أبو البقاء:» في الصدقات «متعلق ب» يَلْمِزون «، ولا يتعلق بالمطَّوِّعين لئلا يُفْصَل بينهما بأجنبي» ، وهذا الردُّ فيه نظر، إذ قولُه: «من المؤمنين» حال، والحال ليست/ بأجنبي، وإنما يظهر في رَدِّ ذلك أن «يطَّوَّع» إنما يتعدى بالباء لا ب «في» ، وكونُ «في» بمعنى الباء خلافُ الأصل. وقيل: {فَيَسْحَرُونَ} خبرُ المبتدأ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تضمَّنه المبتدأ من معنى الشرط، وفي هذا الوجهِ بُعْدٌ من حيث إنه يَقْرُب من كونِ الخبر في معنى المبتدأ، فإنَّ مَنْ عاب إنساناً وغَمَزَه علم أنه يسخر منه فيكون كقولهم: «سيد الجارية مالكها» .

الثالث: أن يكونَ محلُّه نصباً على الاشتغال بإضمار فعل يُفَسِّره {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} مِنْ طريقِ المعنى نحو: عاب الذين يَلْمِزون سخر الله منهم. الرابع: أَنْ ينتصبَ على الشتم. الخامس: أن يكونَ مجروراً بدلاً من الضمير في «سِرَّهم ونجواهم» . وقرىء «يُلْمزون» بضم الميم، وقد تقدَّم أنها لغة. وقوله: {سَخِرَ الله} يُحْتمل أن يكونَ خبراً محضاً، وأن يكون دعاءً. وقرأ الجمهور «جُهدهم» بضم الجيم. وقرأ ابن هرمز وجماعة «جَهْدهم» بالفتح. فقيل: لغتان بمعنى واحد. وقيل: المفتوحُ المشقَّة، والمضمومُ الطاقةُ قاله القتبي. وقيل: المضمومُ شيءٌ قليلٌ يُعاشُ به، والمفتوحُ العملُ.

80

قوله تعالى: {سَبْعِينَ مَرَّةً} : منصوبٌ على المصدر كقولك: «ضربتُه عشرين ضربةً» فهو لعددِ مراته. وقوله: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، قد تقدَّم الكلامُ على هذا بُعَيْدَ قوله: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} [التوبة: 53] وأنه نظيرُ قوله: 2519 - أَسِيْئي بنا أو أَحْسِني لا مَلومةٌ ... لدينا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ

81

قوله تعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ} : متعلقٌ ب «فرح» ، وهو يصلح لمصدر قعد وزمانِه ومكانِه، والمرادُ به ههنا المصدرُ، أي: بقعودهم وإقامتها بالمدينة.

قوله: {خِلاَفَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله: «مَقْعدهم» ، لأنه في معنى تخلَّفوا، أي: تخلفوا خلاف رسول الله. الثاني: أنَّ «خلاف» مفعولٌ من أجله، والعامل فيه: إمَّا فرح، وإما مَقْعد، أي: فَرِحوا لأجل مخالفتهم رسول الله حيث مضى هو للجهاد وتَخَلَّفوا هم عنه، أو بقعودِهم لمخالفَتهم له، وإليه ذهب الطبري والزجاج ومؤرِّج، ويؤيد ذلك قراءةُ منْ قرأ «خُلْف» بضم الخاءِ وسكون اللام، والثالث: أنْ ينتصب على الظرف، أي: بعد رسول الله. يُقال: «أقام زيد خلاف القوم» ، أي: تخلف بعد ذهابهم، و «خلافَ» يكون ظرفاً قال: 2520 - عَقَبَ الربيعُ خِلافَهُمْ فكأنما ... بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهن حصيرا وقال الآخر: 2521 - فقلْ للذي يَبْقى خِلاَفَ الذي مضى ... تَهَيَّأْ لأخرى مِثلها وكأنْ قَدِ وإليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر والأخفش، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي حيوة وعمرو بن ميمون «خَلْفَ» بفتح الخاء وسكون اللام.

83

قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ} : «رجع» يتعدى، كهذه الآية الكريمة، ومصدرُه الرَّجْع، كقوله: {والسمآء ذَاتِ الرجع} [الطارق: 11] ، ولا يتعدى نحو: {وَإِلَيْنَا تُرْجِعُونَ} [الأنبياء: 35] ، في قراءة مَنْ بناه للفاعل، والمصدر الرجوع كالدخول.

قوله: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، قد تقدَّم ذلك. وقال أبو البقاء: «هي ظرفٌ» ، قال الشيخ: «ويعني ظرفَ زمان وهو بعيد» . / لأن الظاهرَ أنها منصوبةٌ على المصدر، وفي التفسير: أولَ خَرْجَةٍ خَرَجَها رسول الله، فالمعنى: أولَ مرة من الخروج. قال الزمخشري: «فإن قلت» مرة «نكرة وُضِعَتْ موضع المرات من التفضيل، فلِمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيلِ المضافُ إليها وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرات؟ قلت: أكثر اللغتين:» هند أكبرُ النساء وهي أكبرُهن «، ثم إنَّ قولَك:» هي كبرى امرأة «، لا تكاد تعثر عليه، ولكن» هي أكبر امرأة وأول مرة وآخر مرة «. قوله: {مَعَ الخالفين} هذا الظرفُ يجوز أن يكونَ متعلقاً ب» اقعدوا «، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه حال من فاعل» اقعدوا «. والخالِفُ: المتخلِّفُ بعد القوم. وقيل: الخالف: الفاسد.» مَنْ خَلَفَ «، أي: فَسَد، ومنه» خُلوف فم الصائم «، والمراد بهم النساءُ والصبيانُ والرجالُ العاجزون، فلذلك جاز جمعُه للتغليب. وقال قتادة:» الخالِفُون: النساء «، وهو مردودٌ لأجل الجمع. وقرأ عكرمة ومالكُ بن دينار» مع الخَلِفين «مقصوراً مِنَ الخالِفين كقوله: 2523 - مثل النَّقَا لَبَّده بَرْدُ الظِّلَلْ ... وقوله: 2524 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عَرِدا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . بَرِدا يريد: الظلال وعارِداً بارداً.

84

قوله تعالى: {مِّنْهُم} : صفةٌ ل «أحد» ، وكذلك الجملة من قوله: «مات» . ويجوز أن يكون «منهم» حالاً من الضمير في «مات» ، أي: مات حال كونِه منهم، مُتَّصفاً بصفةِ النفاق كقولهم: «أنت مني» ، يَعْني على طريقتي. و «أبداً» ظرف منصوب بالنهي.

85

قوله تعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} : قيل: هذه تأكيد للآية السابقة. وقال الفارسي: «ليست للتأكيد لأن تِيْكَ في قوم، وهذه في آخرين، وقد تغاير لفظاً الاثنتين فههنا» ولا «بالواو لمناسبة عطفِ نهيٍ على نهيٍ قبلَه في قوله:» ولا تُصَلِّ، ولا تَقُمْ، ولا تُعْجبك «، فناسب ذلك الواو، وهناك بالفاءِ لمناسبةِ تعقيبِ قولِه: ولا يُنْفِقون إلا وهم كارهون» ، أي: للإِنفاقِ فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ فنهاه عن الإِعجاب بفاء التعقيبِ. وهنا «وأولادهم» دون «لا» لأنه نهيٌ عن الإِعجاب بهما مجتمعين، وهناك بزيادةِ «لا» لأنه نهيٌ عن كل واحد واحد فَدَلَّ مجموعُ الاثنين على النهي بهما مجتمعَيْن ومنفردين. وهنا «أنْ يُعَذِّبهم» وهناك «ليُعَذِّبهم» ، فأتى باللام مُشْعرةً بالغلبة، ومفعولُ الإِرادةِ محذوفٌ، أي: إنما يريد الله اختبارَهم بالأموال والأولاد، وأتى ب «أن» لأنَّ مَصَبَّ الإِرادة التعذيبُ، أي: إنما يريد الله تعذيبَهم. فقد اختلف متعلَّقُ الإِرادة في الآيتين. هذا هو الظاهر وإن كان يُحتمل أن تكونَ اللامُ زائدة، وأن تكونَ «أَنْ» على حذف لام علة. وهناك «في الحياة الدنيا» وهنا سقطت «الحياة» ، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدنيا، وأنها لا تستحق

أن تُسَمَّى حياة، لا سيما وقد ذُكِرَت بعد ذِكر موتِ المنافقين فناسَبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة.

86

قوله تعالى: {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} : «إذا» لا تقتضي تكراراً بوضعها، وإن كان بعضُ الناس فَهِمَ ذلك منها ههنا، وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وأنشدْت عليه: 2525 - إذا وجدْتُ أوارَ الحُبِّ في كَبِدي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأنَّ هذا إنما يُفْهَمُ من القرائِن لا مِنْ وَضْع «إذا» له. قوله: {أَنْ آمِنُواْ} ، فيه وجهان، أحدهما: أنها تفسيريةٌ لأنه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه. والثاني: أنها مصدريةٌ على حذف حرف الجر، أي: بأنْ آمنوا. وفي قوله: «اسْتَأْذَنَكَ» ؛ التفاتٌ من غَيْبة إلى خطاب، وذلك أنه قد تقدَّم لفظُ «رسوله» فلو جاء على الأصل لقيل: استأذنه.

87

قوله تعالى: {مَعَ الخوالف} : الخَوَالِفُ: جمع خالفة من صفة النساء، وهذه صفةُ ذَمّ كقول زهير: 2526 - وما أَدْري وسوف إخالُ أَدْري ... أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ فإنْ تكنِ النساءُ مُخَبَّآتٍ ... فَحُقَّ لكل مُحْصَنَةٍ هِداءُ وقال آخر: 2527 - كُتِبَ القَتْلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانيات جَرُّ الذيولِ

وقال النحاس: «يجوز أن تكونَ» الخوالِف «من صفة الرجال، بمعنى أنها جمع خالفة. يقال:» رجل خالِفَة «، أي: لا خير فيه، فعلى هذا تكونُ جمعاً للذكور باعتبار لفظهِ» . وقال بعضهم: إنه جمع خالف، يقال: رجلٌ خالفٌ، أي: لا خير فيه، / وهذا مردودٌ؛ فإن فواعل لا يكونُ جمعاً ل فاعل وَصْفاً لعاقل إلا ما شذَّ من نحو: فوارس ونواكس وهوالك.

88

والخَيْرات: جمع خَيْرة على فَعْلة بسكون العين وهو المستحسَنْ من كل شيء، وغَلَبَ استعمالُه في النساء، ومنه قوله تعالى: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} وقول الشاعر: 2528 - ولقد طَعَنْتُ مَجامِع الرَّبَلاتِ ... رَبَلاتِ هندٍ خَيْرةٍ الملَكاتِ

90

قوله تعالى: {المعذرون} : قُرىء بوجوهٍ كثيرة، فمنها قراءة الجمهور: فَتْحُ العين وتشديدُ الذال. وهذه القراءة تحتمل وجهين: أن يكون وزنه فَعَّل مضعّفاً، ومعنى التضعيف فيه التكلف، والمعنى: أنه تَوَهَّم أن له عُذْراً، ولا عُذْرَ له. والثاني: أن يكون وزنه افتعل والأصل: اعتذرَ فأُدْغمت التاءُ في الذال بأنْ قُلبت تاءُ الافتعال ذالاً، ونُقِلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو العين، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جبير «المعتذرون» على الأصل. وإليه ذهب الأخفش والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم والزجاج.

وقرأ زيدٌ بن علي والضحاك والأعرج وأبو صالح وعيسى بن هلال وهي قراءةُ ابنِ عباس أيضاً ويعقوب والكسائي «المُعْذِرون» بسكون العين وكسرِ الذال مخففةً مِنْ أَعْذَر يُعْذِر كأكرم يكرم. وقرأ مسلمة «المُعَّذَّرون» بتشديد العين والذال مِنْ تعذَّر بمعنى اعتذر. قال أبو حاتم: «أراد المتعذرون، والتاء لا تدغم في العين لبُعْد المخارج، وهي غلطٌ منه أو عليه» . قوله: {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} متعلقٌ ب «جاء» وحُذِفَ الفاعلُ وأُقيم الجارُّ مُقَامه للعلمِ به، أي: ليأذن لهم الرسول. وقرأ الجمهور «كَذَبوا» بالتخفيف، أي: كذبوا في إيمانهم. وقرأ الحسن في المشهور عنه وأُبَيٌّ وإسماعيل «كذَّبوا» بالتشديد، أي: لم يُصَدِّقُوا ما جاء به الرسول عن ربه ولا امتثلوا أمره.

91

وقرأ أبو حيوة: «نصحوا اللَّهَ» بدون لام، وقد تقدم أن «نَصَح» يتعدَّى بنفسِه وباللام. وقوله: {مِن سَبِيلٍ} فاعل بالجارِّ لاعتماده على النفي، ويجوز أن يكونَ مبتدأً والجارُّ قبلَه خبرُه، وعلى كلا القولين ف «مِنْ» مزيدةٌ فيه، أي: ما على المحسنين سبيل. قال بعضُهم: وفي هذه الآيةِ نوعٌ من البديع يسمى التمليح وهو: أن يُشارَ إلى قصةٍ مشهورة أو مثلٍ سائرٍ أو شعر نادر في فحوى كلامك من غير ذِكْره، ومنه قوله:

2529 - اليومَ خمرٌ ويبدو بعده خَبَرٌ ... والدهرُ مِنْ بين إنعامٍ وإبْآسِ يشير لقول امرىء القيس لَمَّا بلغه قَتْلُ أبيه: «اليومَ خمرٌ وغداً أمره» ، وقول الآخر: 2530 - فواللَّهِ ما أدري أأحلامُ نائمٍ ... أَلَمَّت بنا أم كان في الركب يوشَعُ يُشير إلى قصة يوشع عليه السلام واستيقافه الشمس. وقول الآخر: 2531 - لعَمْروٌ مع الرَّمْضاءِ والنارُ تَلْتَظِي ... أرقُّ وأحفى منكَ في ساعة الكَرْبِ أشار إلى البيت المشهور: 2532 - المستجيرُ بعمروٍ عند كُرْبته ... كالمستجير مِنَ الرَّمْضاءِ بالنار وكأن هذا الكلامَ وهو «ما على المحسنين من سبيل» اشتهُر ما هو بمعناه بين الناس، فأشار إليه مِنْ غير ذكر لفظه. ولمَّا ذكر الشيخ التمليح لم يُقَيِّده بقوله «من غير ذكره» ولا بد منه، لأنه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً.

92

قوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الذين} : فيه أوجه، أحدها: أن يكون معطوفاً على «الضعفاء» ، أي: ليس على الضعفاء ولا على الذين إذا

ما أَتَوْك، فيكونون داخلين في خبر ليس، مُخبراً بمتعلقهم عن اسمِها وهو «حَرَج» . الثاني: أن يكون معطوفاً على «المحسنين» فيكونون داخلين فيما أَخْبر به عن قوله «من سبيل» ، فإنَّ «مِنْ سبيل» يحتمل أن يكون مبتدأً، وأن يكون اسمَ «ما» الحجازية، و «مِنْ» مزيدةٌ في الوجهين. الثالث: أن يكون {وَلاَ عَلَى الذين} خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخرِ الصلةِ حرجٌ أو سبيل، وحُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه، قاله أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه لأنه تقديرٌ مُسْتغنىً عنه، إذ قد قَدَّر شيئاً يقومُ مقامَه هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى. وهذا الموصولُ يحتمل أن يكونَ مندرجاً في قوله {وَلاَ عَلَى / الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} وذُكِروا على سبيل نفي الحرج عنهم وأن لا يكونوا مندرجين، بأن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقون، إلا أنهم لم يجدوا مَرْكوباً. وقرأ معقل بن هرون «لنَحْملهم» بنونِ العظمة. وفيها إشكالٌ، إذ كان مقتضى التركيبِ: قلت لا أجدُ ما يَحْملكم عليه الله. قوله: «قلت» فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه جوابُ «إذا» الشرطية، و «إذا» ، وجوابُها في موضعِ الصلة، وقعت الصلةُ جملةً شرطيةً، وعلى هذا فيكون قوله «تَوَلَّوا» جواباً لسؤالٍ مقدرٍ، كأن قائلاً قال: «ما كان حالُهم إذا أُجيبوا بهذا الجواب؟ فأُجيب بقوله» تولُّوا «. الثاني: أنه في موضع نصب على الحال من كاف» أَتَوْك «، أي: إذا أَتَوْك وأنت قائلٌ: لا أجدُ ما أحملكم عليه، و» قد «مقدرة عند مَنْ يشترط ذلك في الماضي الواقع حالاً كقوله: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] في أحد أوجهه، كما تقدم تحقيقه، وإلى

هذا نحا الزمخشري. الثالث: أن يكونَ معطوفاً على الشرط، فيكونَ في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النَّسَق، وحُذِفَ حرفُ العطفِ، والتقدير: وقلت: وقد تقدم لك كلامٌ في هذه المسألةِ وما استشهد الناس به عليها. وإلى هذا ذهب الجرجانيُّ، وتبعه ابن عطية، إلا أنه قدَّر العاطفَ فاءً، أي: فقلت. الرابع: أن يكونَ مستأنفاً. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: هل يجوزُ أن يكونَ قولُه «قلت لا أجدُ» استئنافاً مثله «يعني مثل {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} كأنه قيل: إذا ما أَتَوْك لتحملهم تَوَلَّوا، فقيل: ما لهم تَوَلَّوا باكين [فقيل] قلت: لا أجد ما أحملكم عليه، إلا أنه وسطٌ بين الشرطِ والجزاءِ كالاعتراض. قلت: نعم ويَحْسُن «انتهى. قال الشيخ:» ولا يجوزُ ولا يَحْسُن في كلام العرب فكيف في كلام الله؟ وهو فَهْمُ أعجميٍّ «. قلت: وما أدري ما سَبَبُ منعه وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنى؟ وذلك لأن تولِّيَهم على حاله، فيصير الدمع ليس مترتباً على مجردِ مجيئهم له عليه السلام ليحملَهم، بل على قوله لهم {لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ} ، وإذا كان كذلك فقوله عليه السلام لهم ذلك سببٌ في بكائهم، فَحَسُن أن يُجْعَلَ قوله {قُلْتَ: لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ} جواباً لمَنْ سأل عن علِة تَوَلِّيهم وأعينُهم فائضةٌ دمعاً، وهو المعنى الذي قَصَدَه أبو القاسم. وعلى هذه الأوجهِ الثلاثة التي قَدَّمتها في» قلت «يكون جوابه قوله» تولَّوا «، وقوله»

لتحملَهم «علةٌ ل» أَتَوْك «. وقوله» لا أجد «هي المتعديةُ لواحدٍ لأنها من الوُجْد. و» ما «يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً. قوله: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل» تَوَلَّوا «، قال الزمخشري:» تفيضُ من الدمع «كقولك: تفيض دمعاً، وقد تقدَّم هذا في المائدة مستوفىً عند قوله: {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} [التوبة: 83] وأنه جعل» من الدمع «تمييزاً، و» مِنْ «مزيدةً، وتقدَّم الردُّ عليه في ذلك هناك فعليك بالالتفات إليه. قوله: {حَزَناً} في نصبه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه مفعولٌ مِنْ أجله والعاملُ في» تفيض «قاله الشيخ. لا يُقال إن الفاعلَ هنا قد اختلف، فإن الفَيْضَ مسند للأعين والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين، وإذا اختلف الفاعل وَجَبَ جرُّه بالحرف لأنَّا نقول: إن الحزنَ يُسْنَدُ للأعين أيضاً مجازاً يقال: عين حزينةٌ وسخينة، وعين مسرورةٌ وقريرة في ضدِّ ذلك. ويجوز أن يكونَ الناصب له» تَوَلَّوا «وحينئذٍ يتحد فاعلا العلةِ والمعلول حقيقةً. الثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: تَوَلَّوا حزينين أو تفيض أعينُهم حزينةً على ما تقدَّم من المجاز. الثالث: أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ مِنْ لفظِه، أي: يحزنون حزناً قاله أبو البقاء. وهذه/ الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال: إمَّا من فاعل» تَوَلَّوا «وإمَّا من فاعل» تفيض «. قوله: {أَلاَّ يَجِدُواْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ من أجله، والعامل فيه» حَزَناً «إنْ أعربناه مفعولاً له أو حالً، وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا،

لأن المصدر لا يعمل إذا كان مؤكداً لعامِله، وعلى القول بأنَّ» حَزَناً «مفعول من أجله يكون» أن لا يَجِدوا «علةً العلة، يعني أنه يكون عَلَّلَ فيْضَ الدمع بالحزن، وعَلَّل الحزن بعدم وُجْدان النفقة، وهذا واضحٌ، وقد تقدَّم لك نظيرُ ذلك في قوله {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} [المائدة: 38] . والثاني: أنه متعلق ب» تفيض «. قال الشيخ:» قال أبو البقاء: «ويجوز أن يتعلَّق ب» تفيض «. ثم قال الشيخ:» ولا يجوز ذلك على إعرابه «حزناً» مفعولاً له، والعامل فيه «تفيض» ، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل «.

93

قولُه تعالى: {رَضُواْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه مستأنفٌ كأنه قال قائل: ما بالُهم استأذنوا في القعود وهم قادرون على الجهاد؟ فَأُجيب بقوله «رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالِفِ» . وإليه مال الزمخشري. والثاني: أنه في محل نصبٍ على الحال و «قد» مقدرةٌ في قوله [ «رَضُوا» ] . وقوله: {وَطُبَعَ} نسقٌ على «رضُوا» تنبيهاً على أن السببَ في تخلُّفهم رضاهم بقعودهم وطَبْعُ الله على قلوبهم. وقوله {إِنَّمَا السبيل على} فأتى ب «على» وإن كان قد يَصِل ب «إلى» لفَرْقٍ ذكروه: وهو أنَّ «على» تدل على الاستعلاء وقلة مَنَعَة مَنْ تدخل عليه نحو: لي سبيل عليك، ولا سبيلَ لي عليك، بخلافِ «إلى» . فإذا قلت: «

لا سبيل عليك» فهو مغايرٌ لقولِك: لا سبيلَ إليك. ومن مجيء «إلى» معه، قوله: 2533 - ألا ليت شِعْري هل إلى أمِّ سالمٍ ... سبيلٌ فأمَّا الصبرُ عنها فلا صبرا وقوله: 2534 - هل من سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشربَها ... أم من سبيل إلى نَصْرِ بن حَجَّاجِ

94

قوله تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} : فيها وجهان، أحدهما: أنها المتعديةُ إلى مفعولين أولهما «ن» والثاني: قوله «مِنْ أخباركم» . وعلى هذا ففي «مِنْ» وجهان، أحدهما: أنها غيرُ زائدةٍ، والتقدير: قد نَبَّأنا اللَّهُ أخباراً مِنْ أخباركم، أو جملةً من أخباركم، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف. والثاني: أن «مِنْ» مزيدةٌ عند الأخفش لأنه لا يَشْترط فيها شيئاً. والتقدير: قد نبَّأنا الله أخباركم. الوجه الثاني من الوجهين الأوَّلَيْن: أنها متعديةٌ لثلاثة ك أعلم، فالأولُ والثاني ما تقدَّم، والثالث محذوف اختصاراً للعلم به والتقدير: نَبَّأنا الله مِنْ أخباركم كَذِباً ونحوه. قال أبو البقاء: «قد تتعدَّى إلى ثلاثةٍ، والاثنان الآخران محذوفان، تقديره: أخباراً مِنْ أخباركم مُثْبَتَة، و» مِنْ أخباركم «تنبيه على المحذوف وليست» مِنْ «زائدة، إذ لو كانت زائدة لكانت مفعولاً ثانياً، والمفعول الثالث محذوفٌ، وهو خطأ لأن المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا

البابِ لَزِم ذِكْرُ الثالث. وقيل:» مِنْ «بمعنى عن» . قلت: قوله: «إنَّ حذف الثالث خطأ» إنْ عنى حَذْفَ الاقتصارِ فمسَلَّم، وإن عنى حَذْفَ الاختصار فممنوعٌ، وقد مَرَّ بك في هذه المسألة مذاهبُ الناس.

95

قوله تعالى: {جَزَاءً} : يجوز أن ينتصبَ على المصدر بفعل مِنْ لفظه مقدرٍ، أي: يُجْزَوْنَ جزاء، وأن ينتصب بمضمونِ الجملة السابقة لأنَّ كونَهم يَأْوُوُن في جهنم في معنى المجازاة. ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله.

97

قوله تعالى: {الأعراب} : صيغة جمعٍ وليس جمعاً لعرب قاله سيبويه؛ وذلك لئلا يلزمَ أن يكونَ الجمعُ أخصَّ من الواحد، فإن العرب هذا الجيل الخاص سواء سكن البوادي أم سكن القرى، وأما الأعرابُ فلا يُطْلق إلى على مَنْ يَسْكن البواديَ فقط. وقد تقدَّم لك في أوائل هذا الموضوع عند قوله تعالى: {رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 1] ، ولهذا الفرقِ نُسِب إلى الأعراب على لفظه فقيل: أعرابيّ. ويُجْمع/ على أعاريب. وقوله: {وَأَجْدَرُ} ، أي: أحقُّ وأَوْلى، يقال: هو جديرٌ وأجدر وحقيق وأحقّ وقمين وأَوْلى وخليق بكذا، كلُّه بمعنى واحد. قال الليث: «جَدَر يَجْدُر جَدارةً فهو جديرٌ، ويؤنَّث ويثنَّى ويُجمع قال الشاعر: 2535 - بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جديرون يوماً أن يَنَالوا وَيَسْتَعْلوا وقد نبَّه الراغب على أصلِ اشتقاقِ هذه المادة وأنها من الجِدار أي

الحائط، فقال:» والجديرُ: المنتهى لانتهاء الأمر إليه انتهاءَ الشيء إلى الجدار «والذي يظهر أن اشتقاقَه مِنَ الجَدْر وهو أصل الشجرة فكأنه ثابت كثبوت الجَدرْ في قولك» جدير بكذا «. قوله: {أَلاَّ يَعْلَمُواْ} ، أي: بأن لا يَعْلموا فحذف حرفَ الجر فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي مع سيبويه والفراء.

98

قوله تعالى: {مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً} : «مَنْ» مبتدأ وهي: إمَّا موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ. ومَغْرَماً مفعول ثانٍ لأنَّ «اتخذ» هنا بمعنى صَيَّر. والمَغْرَمُ: الخُسْران، مشتق مِنَ الغَرام وهو الهلاك لأنه سيئةٌ، ومنه {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] . وقيل: أصلُه الملازمةُ ومنه «الغَريمُ» للزومه مَنْ يطالبه. قوله: {وَيَتَرَبَّصُ} عطفٌ على «يَتَّخِذ» فهو: إمَّا صلة وإمَّا صفة. والتربُّصُ: الانتظار. والدوائر: جمعُ دائرة، وهي ما يُحيط بالإِنسان مِنْ مصيبة ونكبة، تصوُّراً من الدائرة المحيطةِ بالشيء من غير انفلاتٍ منها. وأصلها داوِرَة لأنها مِنْ دار يدور، أي: أحاط. ومعنى «تربُّص الدوائر» ، أي: انتظار المصائب قال: 2536 - تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المَنون لعلها ... تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها قوله: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} هذه الجملةُ معترضة بين جمل هذه القصة وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا «السُّوء»

وكذا الثانية في الفتح بالضم، والباقون بالفتح. وأما الأولى في الفتح وهي «ظنَّ السَّوْ» فاتفق على فتحها السبعة. فأما المفتوح، فقيل: هو مصدر. قال الفراء: «يقال: سُؤْتُه سُوْءاً ومَساءةً وسَوائِية ومَسَائِية، وبالضم الاسم» قال أبو البقاء: «وهو الضَّرر وهو مصدر في الحقيقة» . قلت: يعني أنه في الأصل كالمفتوح في أنه مصدرٌ ثم أُطْلِق على كل ضررٍ وشرٍّ. وقال مكي: «مَنْ فتح السينَ فمعناه الفساد والرداءة، ومَنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضرر» . وظاهر هذا أنهما اسمان لِما ذكر، ويحتمل أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أُطْلِقا على ما ذكر. وقال غيرُه: الضموم: العذاب والضرر، والمفتوح: الذم، ألا ترى أنه أْجُمع على فتح {ظَنَّ السوء} [الفتح: 6] وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} [مريم: 28] ولا يليق ذِكْرُ العذاب بهذين الموضعين. وقال الزمخشري فأحسن: «المضموم: العذاب، والمفتوحُ ذمٌّ لدائرة، كقولك:» رجلُ سَوْء «في نقيض» رجل عدل «، لأنَّ مَنْ دارَتْ عليه يَذُمُّها» يعني أنها من باب إضافة الموصووف إلى صفته فوُصِفَتْ في الأصل بالمصدر مبالغةً، ثم أُضِيْفَتْ لصفتِها كقولِه تعالى: {مَا كَانَ

أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} [مريم: 28] . قال الشيخ: «وقد حُكي بالضم» وأنشد: 2537 - وكنت كذئبِ السُّوء لمَّا رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدَّم وفي الدائرة مذهبان أظهرهُما: أنها صفةٌ على فاعِلة كقائمة. وقال الفارسي: «إنها يجوز أن تكون مصدراً كالعافية» . وقوله: {بِكُمُ الدوائر} فيه وجهان، أظهرهُما: أن الباء متعلقة بالفعلِ قبلها. والثاني: أنها حالٌ من «الدوائر» قاله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ، وعلى هذا فيتعلَّقُ/ بمحذوف على ما تقرر غير مرة.

99

قوله تعالى: {قُرُبَاتٍ} : مفعولٌ ثان ليتخذ كما مرَّ في «مَغْرَما» . ولم يختلف قُرَّاء السبعة في ضم الراء من «قُرُبات» مع اختلافهم في راء «قربة» كما سيأتي، فيحتمل أن تكون هذه جمعاً لقُرُبة بالضم كما هي قراءة ورش عن نافع، ويحتمل أن تكون جمعاً للساكنها، وإنما ضُمَّت اتباعاً ل «غرفات» وقد تقدم التنبيه على هذه القاعدة وشروطها عند قوله تعالى {فِي ظُلُمَاتٍ} [الآية: 17] أولَ البقرة. قوله: {عِندَ الله} في هذا الظرفِ ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلقٌ ب «يَتَّخذ» . والثاني: أنه ظرف ل «قربات» قاله أبو البقاء، وليس بذاك. الثالث: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل «قربات» . قوله: {وَصَلَوَاتِ الرسول} فيه وجهان أظهرهما: أنه نسق على «قربات» وهو ظاهرُ كلام الزمخشري فإنه قال: «والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصور القربات عند الله» وصلوات الرسول «لأنه كان يدعو للمتصدِّقين بالخير كقوله:» اللهم صل على آل أبي أوفى «والثاني: وجَوَّزَه ابن عطية

ولم يذكر أبو البقاء غيره أنها منسوقةٌ على» ما ينفق «، أي: ويتخذ بالأعمال الصالحة وصلوات الرسول قربة. قوله: {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ} الضمير في» إنها «قيل: عائد على» صلوات «وقيل: على النفقات أي المفهومة من» يُنفقون «. وقرأ ورش» قُرُبَة «بضم الراء، والباقون بسكونها فقيل: لغتان. وقيل: الأصل السكون والضمة إتباع، وهذا قد تقدم لك فيه خلاف بين أهل التصريف: هل يجوز تثقيل فُعْل إلى فُعُل؟ وأن بعضَهم جعل عُسُراً يُسُراً بضم السين فَرْعين على سكونها. وقيل: الأصل قُرُبة بالضم، والسكون تخفيف، وهذا أَجْرى على لغة العرب إذ مبناها الهرب مِنَ الثِّقَل إلى الخفة. وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرِها بحرفَيْ التنبيه والتحقيق المُؤْذنين بثبات الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه، قال معناه الزمخشري قال:» وكذلك سيُدْخلهم، وما في السين من تحقيق الوعد «.

100

قوله تعالى: {والسابقون} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ، وفي خبره ثلاثة أوجه، أحدُهما وهو الظاهر أنه الجملة الدعائية من قوله: «رضي الله عنهم» . والثاني: أن الخبر قوله: «الأوَّلون» والمعنى: والسابقون أي بالهجرة [هم] الأوَّلون مِنْ أهل هذه المِلَّة، أو السابقون إلى

الجنة الأولون من أهل الهجرة. الثالث: أن الخبرَ قولُه: {مِنَ المهاجرين والأنصار} والمعنى فيه الإِعلام بأن السَّابقين من هذه/ الأمة من المهاجرين والأنصار، ذكر ذلك أبو البقاء، وفي الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ. الثاني من وجهي «السابقين» : أن يكون نَسَقاً على {مَن يُؤْمِنُ بالله} أي: ومنهم السابقون. وفيه بُعْدٌ. والجمهورُ على جَرِّ «الأنصار» نسقاً على المهاجرين. يعني أن السابقين من هذين الجنسين. وقرأ جماعة كثيرة أَجِلاَّء: عمر بن الخطاب وقتادة والحسن وسلام وسعيد بن أبي سعيد وعيسى الكوفي وطلحة ويعقوب: «والأنصارُ» برفعها. وفيه وجهان أحدهما: أنه مبتدأ، وخبرُه «رضيَ الله عنهم» . والثاني: عطف على «السابقون» . وقد تقدم ما فيه فيُحكم عليه بحكمه. قوله: {بِإِحْسَانٍ} متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل «اتَّبعوهم» . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى أن الواوَ ساقطةٌ من قوله: «والذين اتبعوهم» ويقول: إن الموصول صفةٌ لمن قبله، حتى قال له زيد بن ثابت إنها بالواو فقال: ائتوني بأُبَيّ. فأتَوه به فقال له: تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} [الآية: 3] ، وأوسط الحشر: {والذين

جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الآية: 10] ، وآخر الأنفال: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ} [الآية: 75] . ورُوِي أنه سمع رجلاً يقرؤها بالواو فقال: مَنْ أقرأك؟ قال: أُبَيّ. فدعاه فقال: أَقْرَأنيه رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنك لتبيع القَرَظ بالبقيع. قال: صَدَقْتَ وإن شئت قل: شهدنا وغِبْتم، ونَصَرْنا وخَذَلْتم، وآوَيْنا وطَرَدْتم. ومن ثَمَّ قال عمر: لقد كنتُ أرانا رُفِعْنا رَفْعةً لا يَبْلُغها أحدٌ بعدنا. وقرأ ابن كثير: {تجري من تحتها} ب «مِنْ» الجارة، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكة. والباقون «تحتها» بدونها، ولم تُرْسَمْ في مصاحفهم، وأكثرُ ما جاء القرآن موافقاً لقراءة ابن كثير هنا: {تجري مِنْ تحتها} في غير موضع.

101

قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} : خبر مقدم. و «منافقون» مبتدأ، و «مَنْ» يجوز أن تكون الموصولةَ والموصوفة، والظرف صلة أو صفة. وقوله: {مِّنَ الأعراب} لبيان الجنس. وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة} يجوز أن يكونَ نسقاً على «مَنْ» المجرورة ب «مِنْ» فيكونَ المجروران مشتركَيْن في الإِخبارِ عن المبتدأ وهو «منافقون» ، كأنه قيل: المنافقون من قومٍ حولَكم ومِنْ أهل المدينة، وعلى هذا هو من عطف المفردات إذ عَطَفَتْ خبراً على خبر، وعلى هذا فيكون قوله «مَرَدُوا» مستأنفاً لا محلَّ له. ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله «منافقون» ، ويكون قوله: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة} خبراً مقدماً، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مَقامه/ وحَذْفُ الموصوفِ وإقامةُ صفتِه

مُقامَه وهي جملة مطردُ مع «مِنْ» التبعيضية وقد مَرَّ تحريره نحو «منا ظَعَن ومنا أقام» والتقدير: ومن أهلِ المدينة قومٌ أو ناسٌ مردوا، وعلى هذا فهو من عطفِ الجمل. ويجوز أن يكون «مَرَدُوا» على الوجه الأول صفةً ل «مافقون» ، وقد فُصِل بينه وبين صفته بقوله: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة} . والتقدير: وممَّن حولَكم ومِنْ أهلِ المدينة منافقون ماردون. قال ذلك الزجاج، وتبعه الزمخشري وأبو البقاء أيضاً. واستبعده الشيخ للفصلِ بالمعطوف بين الصفة وموصوفها، قال: «فيصير نظيرَ:» في الدار زيدٌ وفي القصرِ العاقلُ «يعني فَفَصَلْتَ بين زيد والعاقل بقولك:» وفي القصر «. وشبَّه الزمخشري حَذْفَ المبتدأ الموصوف في الوجه الثاني وإقامة صفته مُقامَه بقولِه: 2538 - أنا ابنُ جلا. . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قال الشيخ:» إن عنى في مطلق حذف الموصوف فَحَسَنٌ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ؛ لأن حَذْفِ الموصوف مع «مِنْ» مطردٌ، وقوله: «أنا ابن جلا» ضرورة كقوله: 2539 - يَرْمِي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمَى البشَرْ ...

قلت: البيتُ المشار إليه هو قوله: 2540 - أنا ابن جَلا وطَلاَّعُ الثَّنايا ... متى أَضَعِ العِمامةَ تعرفونِي وللنحاةِ في هذا البيت تأويلات، أحدها: ما تقدم. والآخر: أن هذه الجملة محكية لأنها قد سُمِّي بها هذا الرجل، فإنَّ «جلا» فيه ضمير فاعل، ثم سُمِّيَ بها وحُكِيَتْ كما قالوا: «شاب قَرْناها» و «ذرى حَبَّا» وقوله: 2541 - نُبِّئْتُ أخوالي بني يزيدُ ... ظُلْماً علينا لهمُ فَدِيدُ والثالث: وهو مذهب عيسى بن عمر أنه فعلٌ فارغ من الضمير، وإنما لم يُنَوَّنْ لأنه عنده غيرُ منصرفٍ فإنه يُمْنع بوزن الفعل المشترك، فلو سُمِّي بضرب وقتل مَنَعَهما. أمَّا مجردُ الوزنِ من غير نقلٍ مِنْ فعل فلا يُمنع به البتةَ نحو جَمَل وجَبَل. و «مَرَدوا» أي: مَهَروا وتمرَّنوا. وقد تقدم الكلام على هذه المادة في النساء عند قوله: {شَيْطَاناً مَّرِيداً} [الآية: 117] . قوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفة ل «منافقون» ويجوز أن تكونَ مستأنفةً، والعلم هنا يحتمل أن يكونَ على بابه فيتعدَّى لاثنين أي: لا نعلمهم منافقين، فحذف الثاني للدلالة عليه بتقدُّم ذِكْرِ المنافقين، ولأن النافقَ من صفات القلب لا يُطَّلع عليه. وأن تكون العِرْفانية فتتعدَّى لواحد، قاله أبو البقاء. وأمَّا «نحن نعلمهم» فلا يجوز أن تكون إلا على

بابها لبحثٍ ذكرتُه لك في الأنفال، وإن كان الفارسيُّ في «إيضاحه» صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى، وهو محذورٌ لِما عرفته. وقوله: {مَّرَّتَيْنِ} قد تقدَّم الكلام في نصب «مرة» وأنه من وجهين: إمَّا المصدريةِ وإمَّا الظرفيةِ فكذلك هذا. وهذه التثنية يحتمل أن يكون المرادُ بها شَفْعَ الواحد وعليه الأكثر، واختلفوا في تفسيرهما، وأن لا يراد بها التثنية الحقيقية بل يُراد بها التكثيرُ كقوله تعالى: {فارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أي: كَرَّاتٍ، بدليل قوله: «ينقلبْ إليك البصرْ خاسئاً وهو حسير» أي مزدجراً وهو كليلٌ، ولا يصيبُه ذلك «إلا بعد كَرَّات، ومثلُه. لَبَّيْك وسَعْدَيْك وحنانَيْكَ. وروى عباس عن أبي عمرو:» سنعذِّبْهم «بسكون الباء وهو على عادته في تخفيفِ توالي الحركات كينصركم وبابه/ وإن كان باب» ينصركم «أحسنَ تسكيناً لكونِ الراءِ حرفَ تكرار، فكأنه توالي ضمَّتان بخلاف غيره. وقد تقدَّم تحريرُ هذا. وقال الشيخ:» وفي مصحفِ أنس: «سيعذبهم» بالياء «. وقد تقدم أن المصاحف كانت مهملةً من النَّقْط والضبط بالشكل فكيف يُقال هذا؟

102

قوله تعالى: {وَآخَرُونَ} : نسقٌ على «منافقون» أي:

وممن حولكم آخرون، أو ومن أهلِ المدينة آخرون. ويجوز أن يكون مبتدأ و «اعترفوا» صفتَه، والخبر قولُه «خلطوا» . قوله: {وَآخَرَ} نسقٌ على «عملاً» . قال الزمخشري: «فإن قلت: قد جُعِل كلُّ واحد منهما مخلوطاً فما المخلوط به؟ قلت: كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به، لأن المعنى: خلط كل واحدٍ منهما بالآخر كقولك:» خَلَطْتُ الماء واللبن «تريد: خَلَطْتُ كلَّ واحد منهما بصاحبه، وفيه ما ليس في قولك:» خَلَطْتُ الماءَ باللبن «لأنك جَعَلْتُ الماءَ مخلوطاً واللبن مخلوطاً به. وإذا قلته بالواو جَعَلْتَ الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما، كأنك قلت: خَلَطْتُ الماء باللبن واللبن بالماء» . ثم قال: «ويجوز أن يكونَ مِنْ قولهم:» بِعْتُ الشاء: شاةً ودرهماً «بمعنى: شاة بدرهم» قلت: لا يريد أن الواو بمعنى الباء، وإنما هذا تفسيرُ معنى. وقال أبو البقاء: «ولو كان بالباء جاز أن تقول: خلطْتُ الحِنْطة والشعير، وخلطت الحنطةَ بالشعير» . قوله: {عسى الله} يجوز أن تكون الجملةُ مستأنفةً، ويجوز أن تكونَ في محل رفع خبراً ل «آخرون» ، ويكون قولُه: «خلطوا» في محلِّ نصبٍ على الحال، و «قد» معه مقدرةٌ أي: قد خلطوا. فتلخَّص في «آخرون» أنه معطوفٌ على «منافقون» ، أو مبتدأٌ مخبر عنه ب «خلطوا» أو الجملةِ الرجائية.

103

قوله تعالى: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «خُذْ» و «مِنْ» تبعيضية. والثاني: أن تتعلق بمحذوف لأنها حالٌ مِنْ «صدقة» إذ هي في الأصل صفةٌ لها فلمَّا قُدِّمت نُصِبَتْ حالاً. قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} يجوز أن تكونَ التاء في «تُطَهِّرهم» خطاباً

للنبي عليه السلام، وأن تكون للغَيْبة، والفاعل ضمير الصدقة. فعلى الأولِ تكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «خذ» . ويجوز أيضاً أن تكونَ صفةً ل «صدقةً» ، ولا بد حينئذ من حذف عائد تقديره تطهِّرهم بها. وحُذِف «بها» لدلالة ما بعده عليه. وعلى الثاني تكون الجملة صفةً لصدقة ليس إلا. وأما «وتُزَكّيهم» فالتاءُ فيه للخطاب لا غير لقوله «بها» فإن الضميرَ يعود على الصدقة فاستحالَ أن يعودَ الضمير مِنْ «تزكِّيهم» إلى الصدقة، وعلى هذا فتكون الجملةُ حالاً مِنْ فاعل «خُذْ» على قولنا إنَّ «تُطَهِّرهم» حال منها وإن التاء فيه للخطاب. ويجوز أيضاً أن تكون صفة إن قلنا إن «تطهِّرهم» صفةٌ، والعائدُ منها محذوفٌ. وجَوَّز مكي أن يكون «تُطَهِّرهم» صفةً لصدقة على أن التاء للغيبة، و «تُزَكِّيهم» حالاً من فاعل «خُذْ» على أن التاء للخطاب. وقد رَدُّوه عليه بأن الواوَ عاطفةٌ أي: صدقةً مطهِّرةً ومُزَكَّيَاً باه، ولو كان بغير واوٍ جاز. قلت: ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ فإن الواوَ مُشَرِّكَةٌ لفظاً ومعنى، فلو كانت «وتزكيهم» عطفاً على «تُطَهِّرهم» لَلَزِمَ أن تكونَ صفةً كالمعطوف عليه، إذ لا يجوز اختلافُهما، ولكن يجوزُ ذلك على أن «تزكِّيهم» خبر مبتدأ محذوف، وتكون الواوُ للحال تقديره: وأنت تزكِّيهم. وفيه ضعفٌ لقلةِ نظيرِه في كلامهم. فتلخَّص من ذلك أن الجملتين يجوز أن تكونا حالَيْن من فاعل «خُذْ» على أن تكونَ التاءُ للخطاب، وأن تكونا صفتين لصدقة، على أن التاء للغيبة، والعائد محذوفٌ من الأولى، وأن تكون «تطهِّرهم» حالاً أو صفةً، و «تزكِّيهم» حالاً على ما جَوَّزه مكي، وأن تكونَ «تزكِّيهم» خبرَ مبتدأ محذوف، والواوُ للحال.

وقرأ الحسن: «تُطْهِرهم» مخفَّفاً مِنْ «أطهر» عَدَّاه بالهمزة. قوله: {إِنَّ صلاوتك} قرأ الأخوان وحفص: «إنَّ صلاتَكَ» ، وفي هود: «أصلاتك تأمُرك» بالتوحيد، والباقون: «إنَّ صلواتك» «أصلواتُك» بالجمع فيهما وهما واضحتان، إلا أنَّ الصلاةَ هنا الدعاء وفي تِيْكَ العبادة. والسَّكَنُ: الطمأنينة قال: 2542 - يا جارةَ الحيِّ ألاَّ كنتِ لي سَكَناً ... إذ ليس بعضٌ من الجيران أَسْكَنني ففَعَل بمعنى مفعول كالقَبْض بمعنى المقبوض والمعنى: يَسْكنون إليها. قال أبو البقاء: «ولذلك لم يؤنِّثْه» لكن الظاهر أنه هنا بمعنى فاعل/ لقولِه «لهم» ، ولو كان كما قال لكان التركيب «سكنٌ إليها» أي مَسْكون إليها، فقد ظهر أن المعنى: مُسَكِّنة لهم.

104

قوله تعالى: {هُوَ يَقْبَلُ} : «هو» مبتدأ، و «يَقْبَلُ» خبره والجملةُ خبر أنَّ، وأنَّ وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول. ولا يجوز أن يكونَ «هو» فصلاً لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة، وقد تحرَّر مِنْ ذلك فيما تقدم. وقرأ الحسن قال الشيخ: وفي مصحف أُبي «ألم تعلموا» بالخطاب. وفيه احتمالات، أحدها: أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا: ما هذه الخاصية التي اختصَّ بها هؤلاء؟ و [الثاني] : أن يكون التفاتاً من غير

إضمارِ قولٍ، والمرادُ التائبون. و [الثالث] : أن يكون على إضمارِ قولٍ أي: قل لهم يا محمد ألم تعلموا. قوله: {عَنْ عِبَادِهِ} متعلقٌ ب «يَقْبَل» ، وإنما تعدَّى ب «عن» فقيل: لأنَّ معنى «مِنْ» ومعنى «عن» متقاربان. قال ابن عطية: «وكثيراً ما يُتَوَصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه نحو» لا صدقةَ إلا عن غني ومِنْ غني «، و» فعل ذلك فلانٌ مِنْ أَشَره وبَطَره، وعن أَشَره وبَطَره «. وقيل: لفظه» عن «تُشعر ببُعْدٍ ما، تقول:» جلس عن يمين الأمير «أي مع نوعٍ من البعد. والظاهرُ أنَّ» عن «هنا للمجاوزة على بابها، والمعنى: يتجاوز عن عباده بقبول توبتهم، فإذا قلت:» أخذت العلم عن زيد «، فمعناه المجاوزةُ، وإذا قلت: منه فمعناه ابتداء الغاية. قوله: {هُوَ التواب} يجوز أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ بخلافِ ما قبلَه.

106

قوله تعالى: {مُرْجَوْنَ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «مُرْجَؤُون» بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة. والباقون «مُرْجَوْن» دون تلك الهمزة، وهذا كقراءتهم في الأحزاب: «تُرْجِىء» بالهمزة، والباقون بدونه. وهما لغتان يقال: أَرْجَأْتُه وأَرْجَيْتُه كأَعْطيته. ويحتمل أن يكونا أصلين بنفسِهما، وأن تكونَ الياءُ بدلاً من الهمزة، ولأنه قد عُهِد تحقيقُها كثيراً كقَرَأْت وقَرَيْتُ، وتوضَّأْت وتوضَّيْت.

قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في محل رفع خبراً، و «مُرْجَوْن» يكون على هذا نعتاً للمبتدأ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكونَ في محل نصبٍ على الحال أي: هم مُؤَخَّرون: إمَّا معذَّبين وإمَّا متوباً عليهم. و «إمَّا» هنا للشك بالنسبة إلى المخاطب، وإمَّا للإِبهام بالنسبة إلى أنه أَبْهَمَ على المخاطبين.

107

قوله تعالى: {والذين اتخذوا} : قرأ نافع وابن عامر: «الذين اتخذوا» بغير واو، والباقون بواو العطف. فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقة مصاحفِهم، فإنَّ مصاحف المدينة والشام حُذفت منها الواوُ وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم. و «الذين» على قراءة مَنْ أسقط الواوَ قبلها فيها أوجه، أحدها: أنها بدلٌ مِنْ «آخرون» قبلها. وفيه نظر لأن هؤلاء الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً، لا يُقال في حَقِّهم إنهم مُرْجَوْن لأمر الله، لأنه يُروى في التفسير أنهم من كبار المنافقين كأبي عامر الراهب. الثاني: أنه مبتدأ وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ أحدها: أنه «أفَمَنْ أَسَّسَ بنيانَه» والعائد محذوفٌ تقديره: بنيانَه منهم. الثاني: أنه «لا يزال بنيانُهم» قاله النحاس والحوفي، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل. الثالث: أنه «لا تقمْ فيه» قاله الكسائي. قال ابن عطية: «ويتجه بإضمارٍ: إمَّا في أول الآية، وإمَّا في آخرها بتقدير: لا تقم في مسجدهم» . الرابع: أن الخبرَ محذوفٌ تقديرُه: معذَّبون ونحوه، قاله المهدوي. الوجه الثالث أنه منصوبٌ على الاختصاص. وسيأتي هذا الوجهُ أيضاً في قراءة الواو.

وأمَّا قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم، إلا أنه يمتنع وجهُ البدل مِنْ «آخرون» لأجل العاطف. وقال الزمخشري: «فإن قلت:» والذين اتخذوا «ما محلُّه من الإِعراب؟ قلت: محلُّه النصب على الاختصاص، كقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} [النساء: 162] . وقيل: هو مبتدأ وخبرُه محذوفٌ معناه: فيمَنْ وَصَفْنا الذين اتخذوا، كقوله: {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] ، قلت: يريد على مذهب سيبويه فإن تقديره: فيما يُتْلى عليكم السارق، فحذف الخبرَ وأبقى المبتدأ كهذه الآية. قوله: {ضِرَاراً} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: / أنه مفعولٌ من أجله أي: مُضَارَّةً لإِخوانهم. الثاني: أنه مفعولٌ ثان ل» اتَّخذ «قاله أبو البقاء. الثالث: أنه مصدر في موضع الحال من فاعل» اتخذوا «أي: اتخذوه مضارِّين لإِخوانهم، ويجوز أن ينتصبَ على المصدرية أي: يَضُرُّون بذلك غيرهم ضِراراً، ومتعلَّقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ أي: ضِراراً لإِخوانهم وكفراً بالله. قوله: {مِن قَبْلُ} فيه وجهان، أحدهما وهو الذي لم يذكر الزمخشري غيره أنه متعلقٌ بقوله:» اتخذوا «أي: اتخذوا مسجداً مِنْ قبل أن ينافقَ هؤلاء. والثاني: أنه متعلقٌ ب» حارب «أي: حارب مِنْ قبل اتِّخاذ هذا المسجد. قوله: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} لَيَحْلِفُنَّ: جوابُ قسم مقدر أي: والله

ليحلِفُنَّ. وقوله:» إن أَرَدْنا «جوابٌ لقولِه:» ليحلِفُنَّ «فوقع جوابُ القسم المقدر فعلَ قسم مجابٍ بقوله:» إنْ أَرَدْنا «.» إنْ «نافية ولذلك وقع بعدها» إلا «. و» الحسنى «صفةً لموصوفٍ محذوفٍ أي: إلا الخصلة الحسنى أو إلا الإِرادةَ الحسنى. وقال الزمخشري:» ما أَرَدْنا ببناء هذا المسجد إلا الخَصْلة الحسنى، أو إلا لإِردة الحسنى وهي الصلاة «. قال الشيخ:» كأنه في قوله: «إلا الخصلة الحُسْنى» جعله مفعولاً، وفي قوله: «أو لإِرادة الحسنى» جعله علةً فكأنه ضَمَّن «أراد» معنى قَصَد أي: ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإِرادة الحسنى «قال:» وهذا وجهٌ متكلف «.

108

قوله تعالى: {لَّمَسْجِدٌ} : فيه وجهان أحدهما: أنها لام الابتداء. والثاني: أنها جوابُ قسمٍ محذوف، وعلى التقديرين فيكون «لَمَسْجِدٌ» مبتدأ، و «أُسِّس» في محل رفع نعتاً له، و «أحقُّ» خبره، والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف أي: أُسس بنيانه. «مِنْ أولِ» متعلقٌ به، وبه استدلَّ الكوفيون على أن «مِنْ» تكون لابتداء الغاية في الزمان، واستدلوا أيضاً بقوله: 2543 - مِنَ الصبحِ حتى تَطْلُعَ الشمسُ لا ترى ... من القوم إلا خارجيّاً مُسَوَّما

وقوله: 2544 - تُخُيِّرْن مِنْ أزمانِ يومِ حَليمةٍ ... إلى اليوم قد جُرِّبْن كلَّ التجاربِ وتأوَّله البصريون على حذف مضاف أي: من تأسيس أول يوم، ومن طلوع الصبح، ومن مجيء أزمان يوم. وقال أبو البقاء: «وهذا ضعيفٌ، لأن التأسيس المقدر ليس بمكانٍ حتى تكون» مِنْ «لابتداء غايته. ويدلُّ على جواز ذلك قوله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] ، وهو كثير في القرآن وغيره» ، قلت: البصريون إنما فَرُّوا مِنْ كونِها لابتداء الغاية في الزمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكون إلا لابتداء الغاية في المكان حتى يُرَدَّ عليهم بما ذُكِر، والخلافُ في هذه المسألة قويٌّ، ولأبي علي فيها كلام طويل. وقال ابن عطية: «ويَحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير، وأن تكون» مِنْ «تجرُّ لفظة» أول «لأنها بمعنى البداءة كأنه قال: مِنْ مبتدأ الأيام، وقد حُكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو» . وقوله: {أَحَقُّ} ليس للتفضيل بل بمعنى حقيق، إذ لا مفاضلةَ بين المسجدَيْن، و «أن تقوم» أي: بأن تقوم، والتاء لخطاب الرسول عليه السلام، و «فيه» متعلقٌ به. قوله: {فِيهِ رِجَالٌ} يجوز أن يكونَ «فيه» صفةً لمسجد، و «رجال» فاعل، وأن يكونَ حالاً من الهاء في «فيه» ، و «رجالٌ» فاعلٌ به أيضاً، وهذان أولى من حيث إن الوصف بالمفرد أصل، والجارُّ قريبٌ من المفرد. ويجوز أن يكون «

فيه» خبراً مقدماً، و «رجال» مبتدأ مؤخر. وفيه هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه، أحدها: الوصفُ، والثاني: الحالُ على ما تقدم، والثالث: الاستئنافُ. وقرأ عبد الله بن زيد «فيهِ» بكسر الهاء، و «فيهُ» الثانية بضمها وهو الأصل، جَمَعَ بذلك بين اللغتين، وفيه أيضاً رفعُ توهُّمِ التوكيد، ورفعُ توهُّمِ أن «رجالاً» مرفوع ب «تقوم» . وقوله: {يُحِبُّونَ} صفة ل «رجال» وأن [يتطهروا] مفعول به. وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش «يَطَّهَّرُوا» بالإِدغام، وعلي بن أبي طالب «المتطهِّرين» بالإِظهار، عكس قراءات الجمهور في اللفظتين.

109

قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} : قرأ نافع وابن عامر: «أُسِّس» مبنياً للمفعول، «بنيانُه» / بالرفع لقيامه مقام الفاعل. والباقون «أَسَّس» مبنياً للفاعل «بنيانه» مفعول به، والفاعل ضمير مَنْ. وقرأه عمارة ابن عائذ الأول مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل، و «بنيانُه» مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لِما تقدم. وقرأ نصر بن علي ونصر بن عاصم «أُسُسُ بنيانِه» . وقرأ أبو حيوة والنصران أيضاً «أَساسُ بنيانِه» جمع أُسّ، وروي عن نصر بن عاصم أيضاً «أَسُّ» بهمزة مفتوحة وسين مشددة مضمومة. وقرىء «إساس» بالكسر وهي جموع أضيفت إلى البنيان. وقرىء «أساس» بفتح

الهمزة، و «أُسّ» بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان. ونقل صاحب كتاب «اللوامح» فيه «أَسَسُ» بالتخفيف ورفع السين، «بنيانِه» بالجر، فَأَسَسٌ مصدر أسَّ يؤسُّه أَسَسَاً وأسَّاً فهذه عشر قراءات. والأُسُّ والأَساس القاعدة التي بُني عليها الشيء، ويقال: «كان ذلك على أُسِّ الدهر» كقولهم: «على وجه الدهر» ، ويقال: أَسَّ مضعَّفاً أي: جَعَلَ له أساساً، وآسَسَ بزنة فاعَل. والبُنْيان فيه قولان، أحدهما: أنه مصدر كالغفران والشكران، وأُطْلِق على المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق. والثاني: أنه جمعٌ وواحدُه بُنْيانة قال الشاعر: 2545 - كبُنْيانةِ القاريِّ مَوْضِعُ رَحْلِها ... وآثارُ نَسْعَيْها مِنَ الدَّقِّ أَبْلَقُ يعنون أنه اسم جنس كقمح وقمحة. قوله: {على تقوى} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بنفس «أَسَّس» فهو مفعوله في المعنى. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالُ من الضميرِ المستكنِّ في «أَسَّسَ» أي: قاصداً ببنيانه التقوى، كذا قدَّره أبو البقاء.

وقرأ عيسى بن عمر «تقوىً» منونة. وحكى هذه القراءة سيبويه، ولم يَرْتَضِها الناسُ لأنَّ ألفَها للتأنيث فلا وَجْهَ لتنوينها، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكونَ ألفُها للإِلحاق، قال ابن جني: «قياسُها أن تكونَ ألفُها للإلحاق كأَرْطى» . قوله: {خَيْرٌ} خبرُ المبتدأ. والتفضيل هنا باعتبار معتقدِهم. و «أم» متصلة، و «من» الثانية عطف على «مِنْ» الأولى، و «أَسَّس بنيانه» كالأول. قوله: {على شَفَا جُرُفٍ} كقوله: «على تقوى» في وجهيه. والشَّفا تقدم في آل عمران. وقرأ حمزة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «جُرْفٍ» بسكون الراء والباقون بضمها، فقيل: لغتان. وقيل: الساكن فرعٌ على المضموم نحو: عُنْق في عُنُق وطُنْب في طُنُب. وقيل بالعكس كعُسُر ويُسُر. والجُرُف: البِئْر التي لم تُطْوَ. وقيل: هو الهُوَّةُ وما يَجْرُفُه السًّيْلُ من الأودية قاله أبو عبيدة. وقيل: هو المكان الذي يأكله الماء فيَجْرُفه أي يَذْهب به. ورَجُلّ جِرَاف أي: كثير النكاح كأنه يَجْرُفُ في ذلك العَمَلِ. قاله الراغب. قوله: {هَارٍ} نعت لجُرُفٍ. وفيه ثلاثة أقوال، أحدها: وهو المشهور أنه مقلوبٌ بتقديمِ لامه على عينه، وذلك أنَّ أصلَه: هاوِرٌ أو هايِرٌ بالواو والياء

لأنه سُمع فيه الحرفان. قالوا: هار يَهُور فانْهارَ، وهار يَهير. وتَهَوَّر البناء وتَهَيَّر، فقُدِّمت اللام وهي الراء على العين وهي الواو أو الياء فصار كغازٍ ورامٍ، فأُعِلَّ بالنقص كإعلالهما فوزنه بعد القلب فالِع، ثم تَزِنُه بعد الحذف ب فالٍ. الثاني: أنه حُذِفَتْ عينُه اعتباطاً أي لغير موجَبٍ، وعلى هذا فيجري بوجوه الإِعراب على لامه، فيُقال: هذا هارٌ ورأيت هاراً ومررت بهارٍ، ووزنُه أيضاً فال. والثالث: أنه لا قلبَ فيه ولا حذف وأنَّ أصله هَوِر أو هَيِر بزنة كَتِف، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقُلِب ألفاً فصار مثل قولهم: كبشٌ صافٌ، أي: صَوِف أو يومٌ راحٌ، أي: رَوِح. وعلى هذا فتحرَّك بوجوه الإِعراب أيضاً كالذي قبله كما تقول: هذا باب ورأيت باباً ومررت ببابٍ. وهذا أعدل الوجوه لاستراحته من ادِّعاء القلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل، لولا أنه غير مشهور عند أهل التصريف. ومعنى «هار» ، أي: ساقط متداعٍ مُنْهار. قوله: {فانهار} فاعلُه: إمَّا ضميرُ البنيان والهاء في به على هذا ضمير المؤسس الباني، أي: فسقط بنيان الباني على شفا جُرُفٍ هار وإما ضمير الجُرُف، أي فسقط الشَّفا أو سَقَطَ الجُرُف. والهاء في «به» للبنيان. ويجوز أن / يكون للباني المؤسس، والأَوْلى أن يكون الفاعلُ ضميرَ الجرف، لأنه يلزم مِنْ انهيارِه الشَّفَا والبنيان جميعاً، ولا يلزم من انهيارِهما أو انهيارِ أحدهما انهيارُه. والباء في «به» يجوز أن تكونَ المعدِّيةَ، وأن تكونَ التي للمصاحبة. وقد تقدَّم لك خلافٌ أولَ هذا الموضوع: أن المعدِّيَةَ عند بعضهم تَسْتلزم المصاحبةَ. وإذا قيل إنها للمصاحبة هنا فتتعلقُ بمحذوفٍ لأنها حال، أي: فانهار مصاحباً له.

110

وقوله تعالى: {بُنْيَانُهُمُ} : يحتمل أن يكونَ مصدراً على حاله، أي: لا يزال هذا الفعل الصادر منهم. ويحتمل أن يكونَ مراداً به

المبني، وحينئذٍ يُضْطَرُّ إلى حذف مضاف، أي: بناء بنيانهم لأن المبنيَّ ليس ريبةً، ويُقَدَّر الحذف من الثاني، أي: لا يزال مبنيُّهم سببَ ريبة. وقوله: «الذي بَنَوا» تأكيدٌ دَفْعاً لوَهْم مَنْ يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة وإنما دَبَّروا أموراً، مِنْ قولهم: «كم أبني وتهدمُ» ، وعليه قوله: 2546 - متى يبلغُ البُنيانُ يوماً تمامَه ... إذا كنت تَبْنِيه وغيرك يَهْدِم قوله: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ} المستثنى منه محذوفٌ والتقدير: لا يزال بنيانُهم ريبةً في كل وقت إلا وقتَ تقطيعِ قلوبهم، أو في كل حال إلا حالَ تقطيعها. وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص «تَقَطَّع» بفتح التاء، والأصل: تتقطع بتاءَيْن فحُذفت إحداهما. وقرأ الباقون «تُقَطَّع» بضمِّها، وهو مبني للمفعول مضارع قَطَّع بالتشديد. وقرأ أُبَيّ «تَقْطَع» مخففاً مِنْ قطع. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب «إلى أن» بإلى الجارة وأبو حَيْوة كذلك. وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى، إلا أن أبا حيوة قرأ «تُقَطِّع» بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً، والفاعلُ ضميرُ الرسول. «قلوبَهم» نصباً على المفعول، والمعنى بذلك أن يقتلهم ويتمكَّن منهم كلَّ تمكُّن. وقيل: الفاعلُ ضمير الرِّيبة، أي: إلى أن تَقْطَع الرِّيبةُ قلوبَهم. وفي مصحف عبد الله «ولو قُطِّعَتْ» وبها قرأ أصحابُه، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس.

111

قوله تعالى: {بِأَنَّ لَهُمُ} : متعلقٌ ب «اشترى» ، ودخلت الباءُ هنا على المتروك على بابها، وسَمَّاها أبو البقاء باء المقابلة كقولهم باء العوض. وقرأ عمر بن الخطاب «بالجنة» .

قوله: «يُقاتِلُون» يجوز أن يكونَ مستأنفاً، ويجوز أن يكونَ حالاً. وقال الزمخشري: «يقاتلون» فيه معنى الأمر، كقوله تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 11] . قلت: وعلى هذا فيتعيَّنُ الاستئناف، لأن الطلب لا يقع حالاً. وقد تقدَّم الخلاف في «فيَقتلون ويُقتلون» في آل عمران. قوله: {وَعْداً} منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة لأنَّ معنى «اشترى» معنى وعدهم بذلك فهو نظير «هذا ابني حقاً» . ويجوز أن يكونَ مصدراً في موضع الحال، وفيه ضعف. و «حقاً» نعت له، و «عليه» حالٌ مِنْ «حقاً» لأنه في الأصل صفةٌ لو تأخَّرَ. قوله: {فِي التوراة} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «اشترى» وعلى هذا فتكونُ كل أمة قد أُمِرت بالجهاد ووُعِدت عليه الجنة. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ للوعد، أي: وعداً مذكوراً وكائناً في التوراة، وعلى هذا فيكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكوراً في كتب الله المُنَزَّلَة. وقال الزمخشري في أثناءِ كلامه: «لا يجوز عليه قبيحٌ قط» ، قال الشيخ: «استعمل» قط «في غير موضوعه؛ لأنه أتى به مع قوله:» لا يجوز عليه «و» قط «ظرفٌ ماضٍ؛ فلا يعمل فيه إلا الماضي» ، قلت: ليس المراد هنا زمناً بعينه. وقوله: {فاستبشروا} فيه التفاتٌ من الغَيْبَة إلى الخطاب لأنَّ في

خطابهم بذلك تشريفاً لهم، واستفعل هنا ليس للطلب، بل بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد. وقوله: {الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} توكيدٌ كقوله: {الذي بَنَوْاْ} [التوبة: 110] لينصَّ لهم على هذا البيعِ بعينه.

112

قوله تعالى: {التائبون} : فيه خمسةُ أوجه، أحدها: أنهم مبتدأٌ، وخبره «العابدون» ، وما بعده أوصاف أو أخبار متعددة عند مَنْ يرى ذلك. الثاني: أنَّ الخبر قوله: «الآمرون» . الثالث: أنَّ الخبر محذوف، أي: التائبون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة، ويؤيده قولُه: «وبَشِّر المؤمنين» ، وهذا عند مَنْ يرى أن هذه الآية منقطعةٌ مما قبلها، وليست شرطاً في المجاهدة، وأمَّا مَنْ زعم أنها شرط في المجاهدة كالضحاك وغيره فيكون إعراب التائبين خبر مبتدأ محذوف، أي: هم التائبون، وهذا من باب قطع النعوت، وذلك أن هذه الأوصافَ عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى: { «اشترى] مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} [التوبة: 111] / ويؤيد ذلك قراءة أُبَيّ وابن مسعود والأعمش» التائبين «بالياء. ويجوز أن تكونَ هذه القراءةُ على القطع أيضاً، فيكونَ منصوباً بفعل مقدر. وقد صَرَّح الزمخشري وابن عطية بأن التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ. الخامس: أن» التائبون «بدل من الضمير المتصل في» يقاتلون «. ولم يذكر لهذه الأوصافِ متعلَّقاً، فلم يَقُلْ: التائبون مِنْ كذا، ولا العابدون

لله لفَهْمِ ذلك إلا صيغتي الأمر والنهي مبالغةً في ذلك، ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف لمناسبتها لبعضِها إلا في صيغتي الأمر والنهي لتبايُن ما بينهما، فإن الأمرَ طلبُ فعل والنهيَ طلبُ تَرْكٍ أو كفٍّ، وكذا» الحافظون «عَطفَه وذَكَر متعلَّقه. وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نَظْمٍ وهو ظاهر بالتأمُّل، فإنه قَدَّم التوبةَ أولاً ثم ثَنَّى بالعبادة إلى آخره. وقيل: إنما دخلت الواوُ لأنها واوُ الثمانية، كقوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] . وقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] لَمَّا كان للجنة ثمانية أبواب أتى معها بالواو. وقال أبو البقاء:» إنما دخلت الواو في الصفة الثامنة إيذاناً بأن السبعة عندهم عددٌ تام، ولذلك قالوا: «سبع في ثمانية» ، أي: سبع أذرع في ثمانية أشبار، وإنما دَلّت الواوُ على ذلك لأن الواو تُؤْذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها، ولذلك دَخَلَت في باب عطفِ النَّسق «، قلت: وهذا قولٌ ضعيفٌ جداً لا تحقيقَ له.

113

وقوله تعالى: {وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} : كقوله: «أَعْطوا السائلَ ولو على فرس» ، وقد تقدَّم ما في ذلك، وأنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة.

114

قوله تعالى: {وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} : اختُلِف في الضمير المرفوع والمنصوبِ المنفصل فقيل: وهو الظاهر إن المرفوع يعود على إبراهيم، والمنصوبَ على أبيه، يعني أن إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفرَ له. ويؤيد هذا قراءةُ الحسن وحماد الرواية وابن السَّميفع وأبي نهيك ومعاذ القارىء «

وعدها أباه» ، بالباء الموحدة. وقيل: المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب لإِبراهيم، وفي التفسير أنه كان وَعَدَ إبراهيمَ أنه يؤمن، فبذلك طَمِع في إيمانه. والأَوَّاه. الكثير التأَوُّه، وهو مَنْ يقول: أَوَّاه، وقيل: مَنْ يقول أوَّه، وهو أَنْسَبُ لأن أَوَّهَ بمعنى أتوجع، فالأَوَّاه فعَّال، مثالُ مبالغة من ذلك، وقياسُ فعلِه أن يكون ثلاثياً لأن أمثلة المبالغة إنما تَطَّرد في الثلاثي. وقد حكى قطرب فعله ثلاثياً فقال: يقال آهَ يَؤُوه كقام يقوم، أَوْهاً. وأنكر النحويون هذا القول على قطرب، وقالوا: لا يُقال مِنْ أَوَّه بمعنى الوَجَع فعلٌ ثلاثي، إنما يقال: أوَّه تأَوْيهاً، وتَأَوَّه تَأَوُّهاً. قال الراجز: 2547 - فأَوَّه الراعي وضوضى أَكْلبُه ... وقال المثقب العبدي: 2548 - إذا ما قُمْتُ أرْحَلُها بليلٍ ... تأوَّهُ آهَةَ الرجلِ الحزينِ وقال الزمخشري: «أَوَّاه فَعَّال مِنْ أَوَّه ك لأَل من اللؤلؤ، وهو الذي يُكثر التأوُّه» ، قال الشيخ: «وتشبيهه أوَّاه مِنْ أوَّه ك لأَّل من اللؤلؤ ليس بجيدٍ، لأنَّ مادةَ أوَّه موجودة في صورة أواه، ومادة» لؤلؤ «مفقودةٌ في لأل لاختلاف التركيب إذ» لأل «ثلاثي، و» لؤلؤ «راعي، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية» . قلت: لاَّل ولؤلؤ كلاهما من الرباعي المكرر، أي: إن

الأصل لام وهمزة، ثم كرَّرْنا، غاية ما في الباب أنه اجتمع الهمزتان في لآَّل فأُدْغمت أولاها في الأخرى، وفُرِّق بينهما في: «لؤلؤ» .

117

قوله تعالى: {اتبعوه} : يجوز فيه وجهان أحدهما: أنه اتِّباعٌ حقيقي، ويكون عليه السلام خَرَج أولاً وتبعه أصحابه، وأن يكون مجازاً، أي: اتبعوا أمرَه ونَهْيَه، وساعةُ العُسْرة عبارةٌ عن وقتِ الخروج إلى الغزو، وليس المرادُ حقيقةَ الساعة بل كقولهم: يوم الكُلاب، وعشيةَ قارعْنَا جُذام، فاستعيرت السَّاعة لذلك كما استعير الغداة والعشية في قوله: 2549 - غَدَاةَ طَفَتْ عَلْماءِ بكرُ بنُ وائلٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقوله] : 2550 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... عشية قارَعْنا جُذَام وحميرا [وقوله] : 2551 - إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قوله: {كَادَ يَزِيغُ} ، قرأ حمزة وحفص عن عاصم «يزيغ» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق. فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكونَ اسمُ «كاد» ضميرَ الشأن، و «قلوب» مرفوعٌ بيزيغ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها، وأن يكونَ اسمُها ضميرَ القوم، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذِكْرُ المهاجرين والأنصار، ولذلك قَدَّره أبو البقاء وابنُ عطية: «من بعد كاد القوم» ، وقال الشيخ في هذه القراءةِ: «فيتعيَّن أن يكون في» كاد «ضميرُ الشأن وارتفاعُ» قلوب «بيزيغ لامتناعِ أن يكون» قلوب «اسمَ كاد، و» يزيغ «في موضع الخبر، لأنَّ النيةَ به التأخير، / ولا يجوز: مِنْ بعد كاد قلوب يزيغ بالياء» . قلت: لا يتعين ما ذكر في هذه القراءة لِما تقدَّم لك من أنه يجوز أن يكونَ اسمُ كاد ضميراً عائداً على الجمع أو القوم، والجملةُ الفعلية خبرها، ولا محذور يمنع من ذلك. وقوله: «لامتناع أن يكون» قلوب «اسم كاد» ، يعني أنَّا لو جَعَلْنا «قلوب» اسمَ «كاد» لَزِم أن يكون «يزيغ» خبراً مقدماً فيلزم أن يرفعَ ضميراً عائداً على «قلوب» ، ولو كان كذلك لَلَزِم تأنيثُ الفعل لأنه حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي؛ لأن جمعَ التكسير يجري مجرى المؤنثة مجازاً. وأمَّا قراءة التاء من فوق فتحتمل أن يكون في «كاد» ، ضميرُ الشأن، كما تقدم، و «قلوب» مرفوعٌ بتزيغ، وأُنِّث لتأنيث الجمع، وأن يكون «قلوب» اسمَها، و «تزيغ» خبر مقدم ولا محذورَ في ذلك، لأن الفعلَ قد أُنِّث. قال

الشيخ: «وعلى كلِّ واحدٍ من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرر في علمِ النحو مِنْ أنَّ خبرَ أفعالِ المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها، فبعضهم أطلق وبعضهم قيَّد بغير» عسى «من أفعال المقاربة، ولا يكون سببَّاً، وذلك بخلاف» كان «فإن خبرها يرفع الضمير والسببي لاسم كان، فإذا قدَّرْنا فيها ضميَر الشأن كانت الجملةُ في موضع نصب على الخبر، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم» كاد «بل ولا سببّاً له. وهذا يلزم في قراء التاء أيضاً. وأمَّا توسيط الخبرِ فهو مبنيٌّ على جواز مثل هذا التركيب في مثل «كان يقوم زيد» وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع. وأمَّا الوجهُ الأخير فضعيف جداً من حيث أضمر في «كاد» ضميراً ليس له على مَنْ يعود إلا بتوهم، ومن حيث يكون خبر «كاد» رافعاً سبباً «. قلت: كيف يقول:» والصحيح المنعُ «وهذا التركيب موجود في القرآن

كقولِه تعالى: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137] ، و {كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن: 4] ، وفي قول امرىء القيس: 2552 - وإن تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالةَ، وإنما اختلفوا في تقديره: هل من باب تقديم الخبر أم لا؟ فَمَنْ مَنَعَ لأنه كباب المبتدأ والخبر، والخبرُ الصريح متى كان كذلك امتنع تقديمُه على المبتدأ لئلا يلتبسَ بباب الفاعل، فكذلك بعد نَسْخِه. ومن أجاز فلأَمْنِ اللبس. ثم قال الشيخ:» ويُخَلِّصُ من هذه الإِشكالات اعتقادُ كونِ «كاد» زائدة، ومعناها مرادٌ، ولا عملَ لها إذ ذاك في اسمٍ ولا خبر، فتكون مثل «كان» إذا زِيْدَتْ، يُراد معناها ولا عملَ لها، ويؤيد هذا التأويلَ قراءةُ ابن مسعود «من بعد ما زاغَتْ» ، بإسقاط كاد، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] ، مع تأثُّرِها بالعاملِ وعملِها في ما بعدها، فأحرى أن يدعى زيادتُها وهي ليسَتْ عاملةً ولا معمولة «. قلت: زيادتُها أباه الجمهور، وقال به من البصريين الأخفش، وجَعَلَ منه {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] . وتقدم الكلامُ على ذلك في أوائلِ هذا الكتاب.

وقرأ الأعمش والجحدري» تُزيغ «بضم التاء وكأنه جَعَلَ» أزاغ «و» زاغ «بمعنى. وقرأ أُبَيّ» كادَتْ «بتاء التأنيث.

118

قوله تعالى: {وَعَلَى الثلاثة} : يجوز أن يُنْسِق على «النبيّ» ، أي: تاب على النبي وعلى الثلاثة، وأن يُنسقَ على الضمير في «عليهم» ، أي: ثم تاب عليهم وعلى الثلاثة، ولذلك كُرِّر حرفُ الجر. وقرأ جمهور الناس: «خُلِّفوا» ، مبنياً للمفعول مشدداً مِنْ خلَّفه يُخَلِّفه. وقرأ أبو مالك كذلك إلا أنه خفف اللام. وقرأ عكرمة وزر بن حبيش وعمر بن عبيد وعكرمة بن هارون المخزومي ومعاذ القارىء: «خَلَفوا» ، مبنياً للفاعل مخففاً مِنْ خَلَفَه، والمعنى: الذين خلفوا، أي: فَسَدوا، مِنْ خُلوف فم الصائم. ويجوز أن يكون المعنى: أنهم خلفوا الغازين في المدينة. وقرأ أبو العالية وأبو الجوزاء كذلك إلا أنهم شدَّدا اللام. وقرأ أبو رزين وعلي ابن الحسين وابناه زيد ومحمد الباقر وابنه جعفر الصادق: «خالفوا» ، بألف، أي: لم يوافقوا الغازين في الخروج. قال الباقر: «ولو خُلِّفوا لم يكن لهم» . والظن هنا بمعنى العلم كقوله: 2553 - فقلتُ لهم ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهمُ كالفارِسي المُسَرَّدِ وقيل: هو على بابه.

قوله: {أَن لاَّ مَلْجَأَ} أنْ هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين، و «لا» وما في حيِّزها الخبرُ، و «من الله» خبرها. ولا يجوز أن تكونَ تتعلقُ ب «مَلْجَأ» ، ويكون «إلا إليه» الخبر لأنه كان يلزم إعرابه، لأنه يكون مطولاً. وقد قال بعضهم: إنه يجوزُ تشبيهُ الاسمِ المُطَوَّل بالمضاف فيُنْتَزَعُ ما فيه مِنْ تنوينٍ ونون كقوله: 2554 - أراني ولا كفرانَ لله أيَّةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: «لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل» برفع «يوم» وقد تقدَّم القولَ في ذلك. وقوله: «إلا إليه» استثناءٌ من ذلك العامِّ المحذوفِ، أي: لا مَلْجَأَ إلى أحدٍ إلا إليه كقوله: لا إله إلا الله.

120

والظَّمأُ: العطش، يُقال: ظَمِىء يَظْمَأُ ظَمَأً، فهو ظمآنُ وهي/ ظمأى، وفيه لغتان: القصر والمدُّ، وبالمدّ قرأ عمرو بن عبيد، نحو: سَفِه سَفاهاً، والظِّمْءُ ما بين الشَّرْبَتَيْن. و «مَوْطِئاً» مَفْعِل مِنْ وَطِىءَ، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الوَطْء، وأن يكون مكاناً، والأول أظهر، لأن فاعل «يغيظ» يعود عليه من غير تأويل بخلاف كونه مكاناً فإنه يعود على المصدر وهو الوَطْءُ الدال عليه المَوْطِىءُ. وقرأ زيد بن علي: «يُغيظ» بضم الياء وهما لغتان: غاظَه وأغاظه.

والنَّيْلُ مصدرٌ فيحتمل أن يكون على بابه، وأن يكون واقعاً موقعَ المفعول به، وليست ياؤه مبدلةً من واو كما زعم بعضهم، بل ناله ينولُه مادةٌ أخرى ومعنى آخر وهو المناولة، يقال: نِلْتُه أَنُوْله، أي: تناولته ونِلْتُه أنيله، أي: أَدْرَكْته.

121

والوادي: قال الزمخشري: «الوادي: كل منفرَجٍ من جبال وآكام يكون مَنْفذاً للسيل، وهو في الأصل فاعِل مِنْ ودى إذا سال، ومنه الوَدِيّ، وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض» . وجُمع على أودية وليس بقياس، كان قياسُه الأَوادي كأَواصل جمع واصل، والأصل: وَوَاصِل، قُلبت الواو الأولى همزة. قال النحاس: «ولا أعرف فاعلاً وأفْعلِة سواه» ، وقد استُدْرِك هذا عليه فزادوا: نادٍ وأندية وأنشدوا: 2555 - وفيهم مقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ ... وأنديةٌ ينتابها القولُ والفعلُ والنادي: المجلس. وقال الفراء: إنه يُجمع على أَوْداء كصاحب وأصحاب وأنشد لجرير: 2556 - عَرَفْتُ ببُرْقَةِ الأَوْداءِ رَسْماً ... مُحيلاً طال عهدُكَ مِنْ رسومِ

قلت: وقد زاد الراغب في فاعل وأَفْعِلة: ناجٍ وأنْجِيَة، فقد كَمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظ في فاعل وأَفْعِلة، ويقال: وَدَاه، أي: أهلكه كأنهم تصوَّروا منه إسالة الدم، وسُمِّيت الدِّيَةُ دِيَةً لأنها في مقابلة إسالة الدم، ومنه الوَدْيُ وهو ماءُ الفحل عند المداعبة وماءٌ يخرج عند البول، والوَدِيُّ بكسر الدال والتشديد في الياء: صغار النحل. وقوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ} [التوبة: 120] ، مبتدأ وخبر، والإِشارة به إلى ما تضمَّنه انتفاءُ التخلُّف مِنْ وجوب الخروج معه. وقوله: {إِلاَّ كُتِبَ} ، هذه الجملةُ في محل نصب على الحال مِنْ «ظَمَأ» وما عُطِف عليه، أي: لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً. وأَفْرد الضمير في «به» وإن تقدَّمه أشياء إجراء له مُجْرى اسمِ الإِشارة، أي: كُتب لهم بذلك عَمَلٌ صالح. والمضمرُ يُحتمل أن يعودَ على العمل الصالح المتقدم، وأن يعودَ على أحد المصدرين المفهومين في «ينفقون» و «يقطعون» ، أي: إلا كُتِب لهم بالإِنفاقِ أو القَطْعِ. وقوله: {لِيَجْزِيَهُمُ} متعلقٌ ب «كُتِب» . وفي هذه الجملة من البلاغةِ والفصاحةِ ما لا يخفى على متأمَّله لا سيما لمن تدرَّب بما تقدَّم في هذا الموضوع.

122

قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} : «لولا» تحضيضية والمرادُ به الأمر. و «منهم» يجوز أن يكون صفةً ل «فرقة» وأن يكون حالاً من «طائفة» لأنها في الأصل صفة لها، وعلى كلا التقديرين فيتعلقُ

بمحذوف. والذي ينبغي أن يُقال: إنَّ «من كل فرقة» حالٌ من طائفة، و «منهم» صفة لفرقة، ويجوز أن يكونَ «من كل» متعلقاً ب «نَفَرَ» . وقوله: {لِّيَتَفَقَّهُواْ} في هذا الضمير قولان، أحدهما: أنه للطائفة النافرة على أن المرادَ بالنفور: النفور لطلب العلم، وهو ظاهر. وقيل: الضمير في «ليتفَّقهوا» عائد على الطائفة القاعدة، وفي «رَجَعوا» عائدٌ على النافرة، والمراد بالنفور نفورُ الجهاد، والمعنى: أن النافرين للجهاد إذا ذهبوا بقيت إخوانهم يتعلمون من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفقه، فإذا رَجَع الغازون أنذرهم المُعَلِّمون، أي: علَّموهم الفقه والشَّرْع.

123

قوله تعالى: {وَلِيَجِدُواْ} : وهو من باب «لا أُرَيَنَّك ههنا» وتقدَّم شرحه. قوله: {غِلْظَةً} قرأها الجمهور بالكسر وهي لغة أشد. وقرأ الأعمش، وأبان بن تغلب والمفضل كلاهما عن عاصم «غَلْظة» بفتحها، وهي لغة الحجاز. وقرأ أبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وأبان في رواية عنهما «غُلظة» بالضم وهي لغة تميم. وحكى أبو عمرو اللغات الثلاث. والغِلظة: أصلها في الأَجْرام فاستعيرت هنا للشدة والصبر والتجلُّد.

124

قوله تعالى: {زَادَتْهُ} : الجمهور على رفع «أيُكم» بالابتداء وما بعده الخبر. وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير بالنصب على الاشتغال، ولكن يُقَدَّر الفعل متأخراً عنه من أجلِ أن له صدرَ الكلام والنصبُ عند الأخفش في هذا النحوِ أحسنُ من الرفع؛ لأنه يُجري اسم

الاستفهام مُجرى الأسماءِ المسبوقةِ بأداة الاستفهام نحو: «أزيداً ضربته» في ترجيح إضمار الفعل.

126

قوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ} : قرأ حمزة «ترون» بتاء الخطاب وهو خطابٌ للذين آمنوا، والباقون بياء الغيبة رجوعاً على {الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} . والرؤية هنا تحتمل أن تكون قلبيةً، وأن تكون بصريةً/.

127

قوله تعالى: {هَلْ يَرَاكُمْ} : في محل نصب بقول مضمر، أي: يقولون: هل يراكم. وجملةُ القول في محل نصب على الحال، و «مِنْ أحد» فاعلٌ.

128

قوله تعالى: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} : صفةٌ لرسول، أي: من صميم العرب. وقرأ ابن عباس وأبو العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو وعبد الله بن قُسَيْط المكي ويعقوب من بعض طرقه، وهي قراءةُ رسولِ الله وفاطمة وعائشة بفتح الفاء، أي: مِنْ أَشْرَفِكم، من النَّفاسة. وقوله: {عَزِيزٌ} فيه أوجه، أحدها: أن يكون «عزيز» صفةً لرسول، وفيه أنه تَقَدَّم غيرُ الوصف الصريح على الوصفِ الصريح، وقد يُجاب بأنَّ «من أنفسكم» متعلقٌ ب «جاء» ، و «ما» يجوز أن تكون مصدرية أو بمعنى الذي، وعلى كلا التقديرين فهي فاعل بعزيز، أي: يَعِزُّ عليه عَنَتُكم أو الذي عَنِتُّموه، أي: عَنَتُهم يُسيئه، فحذفَ العائدَ على التدريج، وهذا كقوله: 2557 - يَسُرُّ المرءَ ما ذهب الليالي ... وكان ذهابُهنَّ له ذهاباً

أي: يَسُرُّه ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون «عزيز» خبراً مقدماً، و «ما عَنِتُّم» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ صفةٌ لرسول. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ «عزيز» مبتدأ، و «ما» عنتُّم خبره، وفيه الابتداءُ بالنكرة لأجل عَمَلِها في الجارِّ بعدها. وتقدَّم معنى العنت. والأرجح أن يكونَ «عزيز» صفةً لرسول؛ لقوله بعد ذلك «حريصٌ» فلم يُجعلْ خبراً لغيره، وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو حريصٌ، لا حاجةَ إليه. و «بالمؤمنين» متعلقٌ برؤوف. ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع لأنَّ مِنْ شرطه تأخُّرَ المعمول عن العامِلَيْن، وإن كن بعضهم قد خالف ويجيز: «زيداً ضربتُ وشتمته» على التنازع، وإذا فرَّعنا على هذا التضعيف فيكونُ من إعمال الثاني لا الأولِ لما عُرِف: أنه متى أُعمل الأول أُضْمِرَ في الثاني من غير حذف.

129

والجمهورُ على جَرِّ الميم من «العظيم» صفةً للعرش. وقرأ ابن محيصن برفعها، جَعَلَه نعتاً للرب، ورُويت هذه قراءةً عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصمُّ: «وهذه القراءة أعجبُ إليّ لأنَّ جَعْلَ العظيم صفةً لله تعالى أولى مِنْ جعله صفةً للعرش» .

يونس

قد تقدَّم الكلامُ على الحروف المقطعة في أوائل هذا الموضوع، واختلافُ القُرَّاء في إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ وهي: را، وطا، وها، ويا، وحا. فأمال «را» من جميع سورها إمالةً محضة الكوفيون إلا حفصاً، وأبو عمر وأبن عامر. وأمال الأخَوَان وأبو بكر «طا» من جميع سُوَرِها نحو: طس، طسم، طه، و «يا» من يس. وافقهم ابنُ عامر والسوسي على «يا» من كهيعص، بخلاف عن السوسي. وأمال الأخَوان وأبو عمرو وورش وأبو بكر «ها» من طه، وكذلك أمالها من كهيعص أبو عمرو والكسائي وأبو بكر دون حمزةَ وورش. وأمال أبو عمرو وورش

والأخَوَان وأبو بكر وابن ذكوان حا من جميع سورها السبع. إلا أن أبا عمروٍ ووَرْشاً يُميلان بين بين، [وللقراء في هذا عمل كثير] بيَّنْتُه في «شرح القصيد» . و «الحكيم» : يجوز أن يكونَ بمعنى فاعِل، أي: الحاكم، وأن يكونَ بمعنى مفعول، أي: مُحْكَم، قال الأعشى: 2558 - وغريبةٍ تأتي الملوكَ حكيمةً ... قد قلتُها لِيُقالَ مَنْ ذا قالها

2

قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ} : الهمزة للإِنكار و «أن أوحينا» اسمُها. و «عجباً» خبرها. و «للناس» متعلق بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ «عَجَباً» لأنه في الأصل صفة له، أو متعلِّقٌ ب «عَجَباً» ، ولا يَضُرُّ كونُه مصدراً لأنه يُتَّسع في الظرف وعديلهِ ما لا يُتَّسع في غيرهما. وقيل: لأن «عجباً» مصدرٌ واقعٌ موقعَ اسمِ الفاعل أو اسم المفعول، ومتى كان كذلك جاز تقديمُ معمولِه. وقيل: هو متعلق ب «كان» الناقصة، وهذا على رأيِ مَن يُجيز فيها ذلك. وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة «كان» الناقصة على الحدث، فإن قلنا: إنها تدلُّ على ذلك فيجوز وإلا فلا وقيل: هو متعلقٌ بمحذوفٍ على التبين، والتقدير في الآية: أكان إيحاؤنا إلى رجلٍ منهم عجباً لهم. و «منهم» صفة ل «رجل» . وقرأ رؤبة «رَجْل» بسكون الجيم، وهي لغة تميم، يُسَكِّنون فَعُلاً

نحو: سَبُع وعَضُد. وقرأ عبد الله بن مسعود «عَجَبٌ» . وفيها تخريجان، أظهرهما: أنها التامة، أي: أَحَدَثَ للناس عجب، و «أنْ أَوْحَيْنا» متعلق ب «عَجَب» على حَذْف لامِ العلة، أي: عَجَبٌ لأَِنْ أوحينا، أو يكون على حَذْف «مِنْ» ، أي: مِنْ أَنْ أوحينا. والثاني: أن تكون الناقصة، ويكون قد جعل اسمَها النكرةَ وخبرَها المعرفةَ، على حَدِّ قوله: 2559 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ وقال الزمخشري: «والأجودُ أن تكونَ التامةَ، و» أنْ أَوْحَيْنا «بدلٌ من» عجب «. يعني به بدلَ اشتمال أو كل من كل؛ لأنه جُعِل هذا نفسَ العَجَب مبالغةً. والتخريج الثاني لابن عطية. قوله: {أَنْ أَنذِرِ} يجوز أن تكونَ المصدرية، وأن تكونَ التفسيريةَ. ثم لك في المصدرية اعتباران، أحدهما: أن تجعلَها المخففةَ مِن الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف. كذا قال الشيخ، وفيه نظر من حيث إن أخبارَ هذه الأحرف لا تكون جملةً طلبية، حتى لو ورد ما يُوهم ذلك يُؤوَّل على إضمار القول كقوله: 2560 - ولو أصابَتْ لقالَتْ وَهْي صادقةٌ ... إنَّ الرياضةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيبِ وقول الآخر:

2561 - إنَّ الذين قتلتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ ... لا تحسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما وأيضاً فإن الخبرَ في هذا البابِ إذا وقع جملةً فعلية فلا بد من الفصلِ بأشياءَ ذكرتُها في المائدة، ولكن ذلك الفاصلَ هنا متعذَّرٌ. والثاني: أنها التي بصدد أن/ تنصِبَ الفعلَ المضارعَ، وهي تُوصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً نحو:» كتبت إليه بأَنْ قم «. وقد تقدَّم لنا في ذلك بحث أيضاً ولم يُذْكر المُنْذَرُ به، وقد ذكر المُبَشَّرَ به كما سيأتي لأنَّ المقامَ يقتضي ذلك. قوله: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ} «أنَّ» وما في حَيِّزها هي المبشَّرُ بها، أي: بَشِّرهم باستقرارِ قَدَمِ صِدْق، فَحُذفت الباء، فجرى في محلِّها المذهبان. والمرادُ بقدَمِ صِدْقٍ السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرفيعة. وإليه ذهب الزجاج والزمخشري ومنه قولُ ذي الرمة: 2562 - لهمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ الناسُ أنها ... مع الحَسَبِ العاديِّ طَمَّتْ على البحر ... لمَّا كان السعي والسَّبْقُ بالقدم سُمِّي السَّعْيُ المحمود قَدَماً، كما سُمِّيت اليدُ نِعْمة لمَّا كانت صادرةً عنها، وأُضيف إلى الصدق دلالةً على فضلِه، وهو من باب رجلُ صدقٍ ورجلُ سوءٍ. وقيل: هو سابقةُ الخير التي قَدَّموها، ومنه قول وضَّاح اليمني: 2563 - مالك وضَّاحُ دائمَ الغَزَلِ ... أَلَسْتَ تخشى تقارُبَ الأَجَلِ صَلِّ لذي العرشِ واتَّخِذْ قَدَماً ... تُنْجيك يوم العِثارِ والزَّلَلِ

وقيل: هو التقدُّمُ في الشرف، ومنه قول العجاج: 2564 - ذَلَّ بنو العَوَّامِ مِنْ آل الحَكَمْ ... وتركوا المُلْكَ لمَلْكٍ ذي قَدَمْ أي: ذي تقدُّمٍ وشرفٍ. و «لهم» خبر مقدم، و «قَدَمَ» اسمُها، و «عند ربهم» صفةٌ ل «قَدَم» . ومن جَوَّز أن يتقدَّمَ معمولُ خبرِ «أنَّ» على اسمها إذا كان حرف جر كقوله: 2565 - فلا تَلْحَني فيها فإنَّ بحبِّها ... أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بَلابلُهْ قال: ف «بحبها» متعلقٌ ب «مُصاب» ، وقد تقدَّم على الاسم فكذلك «لهم» يجوز أن يكونَ متعلقاً ب «عند ربهم» لِما تَضَمَّنَ من الاستقرار، ويكونُ «عند ربهم» هو الخبر. وقرأ نافعٌ وأبو عمرو وابن عامر «لَسِحْرٌ» والباقون «لَساحر» ، ف «هذا» يجوزُ أن يكونَ إشارةً للقرآن، وأن يكونَ إشارة للرسول على القراءة الأولى، ولكن لا بد من تأويل على قولنا: إن المشار إليه هو النبي عليه السلام، أي: ذو سحر أو جعلوه إياه مبالغةً. وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فالإِشارةُ للرسولِ عليه السلام فقط.

3

قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل «إنَّ» . الثاني: أنه حالٌ. الثالث: أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإِعراب.

4

قوله تعالى: {وَعْدَ الله} : منصوبٌ على المصدر المؤكِّدِ، لأنَّ معنى «إليه مَرْجِعُكُمْ» : وَعَدَكم بذلك. وقوله: {حَقّاً} مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبُه مضمر، أي: أَحُقُّ ذلك حقاً. وقيل: انتصب «حقاً» ب «وَعْدَ» على تقدير «في» ، أي: وَعْدَ الله في حق، يعني على التشبيه بالظرف. وقال الأخفش الصغير: «التقدير: وقتَ حق» وأنشد: 2566 - أحقاً عبادَ الله أنْ لَسْتُ ذاهباً ... ولا والِجاً إلا عليَّ رقيبُ قوله: {إِنَّهُ يَبْدَأُ} الجمهورُ على كسر الهمزة للاستئناف. وقرأ عبد الله وابن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب بفتحها. وفيها تأويلاتٌ، أحدها: أن تكونَ فاعلاً بما نصب «حقاً» ، أي: حَقَّ حَقَّاً بَدْءُ الخلق، ثم إعادتُه، كقوله: 2567 - أحقاً عبادَ الله أَنْ لستُ جائِياً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. وهو مذهبُ الفراء فإنه قال: «والتقدير: يحقُّ أنه يبدأ الخلق. الثاني: أنه منصوبٌ بالفعل الذي نَصَبَ» وعد الله «أي: وَعَدَ الله تعالى بَدْء الخلق ثم إعادتَه، والمعنى إعادة الخلق بعد بَدْئه. الثالث: أنه

على حَذْف لام الجر أي: لأنه، ذكر هذا الأوجهَ الثلاثة الزمخشري وغيره. الرابع: أنه بدلٌ من» وَعْدَ الله «قاله ابن عطية. الخامس: أنه مرفوعٌ بنفس» حقاً «أي: بالمصدر المنون، وهذا إنما يتأتى على جَعْل» حقاً «غيرَ مؤكدٍ؛ لأنَّ المصدر المؤكدَ لا عملَ له إلا إذا ناب عن فعلِه، وفيه بحثٌ. السادس: أن يكونَ» حقاً «مشبهاً بالظرف خبراً مقدماً و» أنَّه «في محلِّ رفعٍ مبتدأً مؤخراً كقولهم: أحقاً أنك ذاهب قالوا: تقديره: أفي حقٍ ذهابك. وقرأ ابن أبي عبلة:» حَقٌّ أنه «برفع [حق] وفتح» أنَّ «على الابتداء والخبر. قال الشيخ:» وكونُ «حق» خبرَ مبتدأ، و «أنه» هو المبتدأ هو الوجه في الإِعراب، كما تقول: «صحيحٌ أنك تخرج» لأن [اسم] «أنَّ» / معرفة، والذي تقدَّمها في هذا المثال نكرة «. قلت: فظاهرُ هذه العبارةِ يُشعر بجواز العكس، وهذا قد ورد في باب» إنَّ «كقوله: 2568 - وإن حراماً أن أَسُبَّ مُجاشعاً ... بآبائيَ الشُّمِّ الكرامِ الخَضَارمِ وقوله: 2569 - وإن شفاءً عَبْرَةٌ أَنْ سَفَحْتُها وهل عند رسمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّل ...

على جَعْل» أنْ سفحتُها «بدلاً من» عبرة «. وقد أخبر في» كان «عن نكرةٍ بمعرفةٍ كقوله: 2570 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَدَاعا وقوله: 2571 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءُ وقال مكي:» وأجاز الفراء رفع «وعد» ، يجعله خبراً ل «مرجعكم» . وأجاز رفعَ «وعد» و «حق» على الابتداء والخبر، وهو حسنٌ، ولم يقرأ به أحد «. قلت: نعم لم يرفع وعد وحق معاً أحد، وأمَّا رفعُ» حق «وحده فقد تقدم أن ابن أبي عبلة قرأه، وتقدَّم توجيهُه. ولا يجوز أن يكون» وعدَ الله «عاملاً في» أنه «لأنه قد وُصِف بقوله» حقاً «قاله أبو الفتح. وقرىء» وَعَدَ اللَّهُ «بلفظ الفعل الماضي ورفعِ الجلالة فاعلةً، وعلى هذه يكون» أنه يَبْدَأ «معمولاً له إنْ كان هذا القارىءُ يفتح» أنه «. والجمهور على» يَبْدأُ «بفتح الياء مِنْ بدأ، وابن أبي طلحة» يُبْدِىء «مِنْ أَبْدأ، وبَدَأ وأبدأ بمعنى.

قوله: {لِيَجْزِيَ} متعلق بقوله» ثم يُعيده «، و» بالقسطِ «متعلقٌ ب» يَجْزي «. ويجوز أن يكونَ حالاً: إمَّا من الفاعلِ أو المفعول أي: يَجْزيهم ملتبساً بالقسط أو ملتبسين به. والقِسْط: العدل. قوله: {والذين كَفَرُواْ} يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ بعده [خبره] . الثاني: أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبلَه، وتكونُ الجملةُ بعده مبيِّنَةً لجزائهم. و» شراب « [يجوز أَنْ] يكونَ فاعلاً، وأن يكون مبتدأ، [والأولُ أولى] . قوله: {بِمَا كَانُواْ} الظاهرُ تعلُّقُه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً، والتقدير: استقر لهم شراب من جهنم وعذاب أليم بما كانوا. وجَوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما الأول: أن يكونَ صفةً أخرى ل» عذاب «. والثاني: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف، وهذا لا معنى له ولا حاجةَ إلى العُدول عن الأول.

5

قوله تعالى: {ضِيَآءً} : إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أَنَّ الجَعْلَ للتصيير، وإمَّا حالٌ على أنه بمعنى الإِنشاء. والجمهور على «ضياء» بصريح الياء قبل الألف، وأصلُها واو لأنه من الضوء. وقرأ قنبل عن ابن كثير هنا وفي الأنبياء والقصص «ضِئاءً» بقلب الياء همزة، فتصير ألف بين همزتين. وأُوِّلت على أنه مقلوبٌ قُدِّمت لامُه وأُخِّرت عينه فوقعت الياء طرفاً بعد ألف

زائدة فقلبت همزة على حَدِّ «رداء» . وإن شئت قلتَ: لمَّا قُلِبت الكلمة صار «ضياواً» بالواو، عادت العين إلى أصلها مِن الواو لعدم موجِبِ قَلْبِها ياءً وهو الكسرُ السابقُها، ثم أُبْدلت الواوُ همزةً على حَدِّ كساء. وقال أبو البقاء: «إنها قُلبت ألفاً ثم قُلِبت الألفُ همزةً لئلا تجتمعَ ألفان» . واستُبْعِدت هذه القراءة من حيث إن اللغةَ مبنيَّة على تسهيلِ الهمزِ فكيف يَتَخَيَّلون في قَلْب الحرفِ الخفيف إلى أثقلَ منه؟ قلت: لا غَرْو في ذلك، فقد قلبوا حرف العلةِ الألف والواو والياء همزة في مواضع لا تُحصرُ إلا بعُسْرٍ، إلا أنه هنا ثقيلٌ لاجتماع همزتين. قال أبو شامة: «وهذه قراءة ضعيفةٌ، فإن قياسَ اللغة الفِرارُ من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما، فكيف يُتَخَيَّل بتقديم وتأخيرٍ يؤدي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل؟ هذا خلافُ حكم اللغة.» . وقال أبو بكر ابن مجاهد وهو ممَّن على قنبل: «ابنُ كثير وحدَه» ضِئاء «بهمزتين في كل القرآن: الهمزة الأولى قبل الألف، والثانية بعدها، كذلك قَرَأْتُ على قنبل وهو غلط، وكان أصحاب البزي وابن فليح يُنْكرون هذا ويَقْرؤون» ضياء «مثلَ الناس» . قلت: كثيراً ما يتجرأ أبو بكر على شيخه ويُغَلِّطه، وسيمُّر بك مواضعُ من ذلك، وهذا لا ينبغي أن يكون، فإنَّ قُنْبُلاً بالمكان الذي يَمنع أن يتكلَّمَ فيه أحد. وقوله في جانب الشمس «ضياء» لأن الضوء أقوى من النور، وقد تقدَّم

ذلك في أول البقرة. و «ضياء ونوراً» يُحْتمل أن يكونا مصدرين، وجُعِلا نفسَ الكوكبين مبالغةً، أو على حَذْف مضاف أي: ذات ضياء وذا نور. وضياء يحتمل أن يكونَ جمع «ضوء» كسَوْط وسِياط، وحَوْض حياض. و «منازل» نُصِب على ظرف المكان، وجعله الزمخشري على حذف مضاف: إمَّا من الأول أي: قَدَّره مَسيره، وإمَّا من الثاني أي: قدَّره ذا منازل، فعلى التقدير الأول يكون «منازل» ظرفاً كما مر، وعلى الثانى يكون مفعولاً ثانياً على تضمين «قَدَّر» معنى: صَيَّره ذا منازل بالتقدير. وقال الشيخ بعد أن ذكرَ التقديرين، ولم يَعْزُهما للزمخشري: «أو قدَّر له منازل، فحذفَ، وأوصل الفعل إليه فانتصب بحسب هذه التقاديرِ عل الظرف أو الحال أو المفعول كقوله: {والقمر / قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] وقد سبقَه إلى ذلك أبو البقاء أيضاً. والضمير في» قَدَّرناه «يعود على القمر وحده؛ لأنه هو عمدةُ العربِ في تواريخهم. وقال ابن عطية:» ويُحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما يتصرَّفان في معرفة عدد السنين والحساب، لكنه اجتُزِىءَ بذِكْر أحدهما كقوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وكما قال الشاعر: 2572 - رماني بأمرٍ كنتُ منه ووالدي ... بريئاً ومِنْ أجل الطَّوِيِّ رماني

6

قوله تعالى: {لِتَعْلَمُواْ} : متعلق ب «قَدَّره» . وسُئل أبو عمرو

عن الحساب: «أتنصِبُه أم تجرُّه؟ فقال:» ومَنْ يدري ما عدد الحساب؟ يعني أنه سُئل: هل تعطفه على «عَددَ» فتنصبَه أم على «السنين» فتجرَّه؟ فكأنه قال: لا يمكنُ جَرُّه؛ إذ يقتضي ذلك أن يُعلم عدد الحساب، ولا يقدر أحد أَنْ يعلمَ عددَه. و «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدم أي: ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبساً بالحق فيكون حالاً: إمَّا من الفاعل وإما من المفعول. وقيل: الباء بمعنى اللام أي: للحق، ولا حاجة إليه. وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو «يُفَصِّل» بياء الغيبة جَرْياً على اسم الله تعالى، والباقون بنون العظمة التفاتاً من الغَيْبة إلى التكلُّم للتعظيم.

7

قوله تعالى: {واطمأنوا} : يجوز أن يكون عطفاً على الصلة، وهو الظاهرُ، وأن تكونَ الواوُ للحال، والتقدير: وقد اطمأنُّوا. وقوله: «والذين هم» يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات، بمعنى أنَّهم جامعون بين عدم رجال لقاءِ الله وبين الغَفْلة عن الآيات، وأن يكون هذا الموصولُ غيرَ الأول، فيكونَ عطفاً على اسم «إن» أي: إن الذين لا يَرْجُون، وإن الذين هم.

8

و: {أولئك} : مبتدأ و «مَأْواهم» مبتدأ ثانٍ، و «النار» خبرُ هذا الثاني، والثاني وخبره خبر «أولئك» و «أولئك» وخبره خبر «إن الذين» . و «بما كانوا» متعلقٌ بما تضمَّنته الجملة من قوله: «مَأْواهم النار» والباءُ سببيةٌ، و «ما» مصدريةٌ، وجيء بالفعل بعدها مضارعاً دلالةً على استمرارِ ذلك في كل زمان. وقال أبو البقاء: «إن الباء تتعلَّق بمحذوف أي: جُوزوا بما كانوا» .

9

قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} : يجوز أن يكونَ

حالاً من مفعول «يَهْديهم» ، وأن يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ معطوفاً على ما قبله، حُذِف منه حرفُ العطف. قوله «في جنات» يجوز أن يتعلَّق ب «تَجْري» وأن يكون حالاً من «الأنهار» ، وأن يكونَ خبراً بعد خبر ل «إنَّ» ، وأن يكون متعلِّقاً ب «يَهْدي» .

10

قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ} : مبتدأٌ و «سبحانَك» معمول لفعلٍ مقدر لا يجوز إظهارُه هو الخبر، والخبرُ هنا هو نفس المبتدأ، والمعنى: أن دعاءَهم هذا اللفظُ، ف «دعوى» يجوز أن يكون بمعنى الدعاء، ويدلُّ عليه «اللهم» لأنه نداء في معنى يا الله، ويجوز أن يكون هذا الدعاءً هنا بمعنى العبادة، ف «دَعْوى» مصدرٌ مضاف للفاعل، ثم إنْ شِئْتَ أن تجعلَ هذا من باب الإِسناد اللفظي أي: دعاؤهم في الجنة هذا اللفظُ، فيكون نفسُ «سبحانك» هو الخبرَ، وجاء به مَحْكياً على نصبه بذلك الفعل، وإن شِئْتَ جَعَلْتَه من باب الإِسناد المعنوي فلا يلزمُ أن يقولوا هذا اللفظَ فقط، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جميع صفات التنزيهِ والتقديس، وقد تقدم لك نظيرُ هذا عند قولِه تعالى: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: 58] ، فعليك بالالتفات إليه. و «تحيَّتُهم» مبتدأٌ، و «سَلامٌ» خبرُها، وهو كالذي قبله، والمصدرُ هنا يحتمل أن يكونَ مضافاً لفاعله أي: تحيتهم التي يُحَيُّون بها بعضَهم سلامٌ، ويُحتمل أن يكونَ مضافاً لمفعوله أي: تحيتهم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلام، ويدلُّ له {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23] . و «فيها» في الموضعين متعلقٌ بالمصدرِ قبله، و «قبل» يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده فيتعلَّقَ بمحذوف، وليس بذاك. وقال بعضُهم: «يجوز أن يكون» تحيتهم «مِمَّا أضيف فيه المصدرُ لفاعله ومفعوله معاً؛ لأنَّ المعنى: يُحَيِّي

بعضُهم بعضاً، ويكون كقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] حيث أضافَه لداود وسليمان وهما الحاكمان، وإلى المحكوم عليه، وهذا مبنيٌّ على مسألةٍ أخرى وهو أنه: هل يجوز الجمعُ بين الحقيقةِ والمجازِ أم لا؟ فإن قلنا: نعم، جاز ذلك لأن إضافةَ المصدرِ لفاعله حقيقةٌ ولمفعوله مجاز، ومَنْ منع ذلك أجاب بأن أَقَلَّ الجمعِ اثنان فلذلك قال: /» لحكمهم «. قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} مبتدأ، و» أَنْ «هي المخففة من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الأمر والشأن حُذِف، والجملةُ الاسميةُ بعدَها في محلِّ الرفع خبراً لها كقول الشاعر: 2573 - في فتية كسيوفِ الهند قد علموا ... أَنْ هالِكٌ كلُّ مَنْ يحفى ويَنْتَعِلُ و» أنْ «واسمُها وخبرها في محلَّ رفعٍ خبراً للمبتدأ الأول. وزعم الجرجانيُّ أن» أَنْ «هنا زائدة والتقدير: وآخر دعواهم الحمد لله، وهي دعوى لا دليلَ عليها مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويين. وزعم المبرد أيضاً أن» أَنْ «المخففة يجوز إعمالُها مخففةً كهي مشددةً، وقد تقدم ذلك. وتخفيفُ» أَنْ «ورفعُ» الحمد «هو قراءةُ العامة. وقرأ عكرمة وأبو مجلز وأبو حيوة وقتادة ومجاهد وابنُ يعمر وبلال بن أبي بردة وابن محيصن

ويعقوب بتشديدها ونصبِ دال» الحمد «على أنه اسمُها. وهذه تؤيدُ أنها المخففةُ في قراءة العامةِ، وتردُّ على الجرجاني.

11

قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ} : هذا الامتناعُ نفي في المعنى تقديره: لا يُعَجِّلُ لهم الشرَّ. قال الزمخشري: «فإن قلت: كيفَ اتَّصل به قولُه:» فَنَذَرُ الذين لا يَرْجُون لقاءَنا وما معناه؟ قلت: قولُه: «ولو يُعَجِّل» متضمِّنٌ معنى نفي التعجيل كأنه قيل: ولا نُعَجِّل لهم بالشرِّ ولا نَقْضي إليهم أجلَهم «. قوله: {استعجالهم} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على المصدرِ التشبيهيِّ تقديرُه: استعجالاً مثلَ استعجالِهم، ثم حَذَفَ الموصوفَ وهو» استعجال «وأقامَ صفتَه مُقامه وهي» مثل «فبقي: ولو يعجل اللَّهُ مثل استعجالِهم، ثم حَذَفَ المضافَ وأقام المُضاف إليه مُقامه. قال مكي:» وهذا مذهبُ سيبويه «قلت: وقد تقدَّم غيرَ مرةٍ أن مذهبَ سيبويه في مثل هذا أنه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المقدَّرِ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْرِبين غيرَه، ففي نسبةِ ما ذكرته أولاً لسيبويه نظرٌ. الثاني: أن تقديرَه: تعجيلاً مثلَ استعجالهم، ثم فُعِل به ما تقدَّم قبلَه. وهذا تقديرُ أبي البقاء، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلَه، فإنَّ» تعجيلاً «مصدر ل» عَجَّل «وما ذكره مكي موافقٌ للمصدر الذي بعده، والذي يظهر ما قدَّره أو البقاء لأن موافقةَ الفعلِ أولى، ويكون قد شبَّه تعجيلَه

تعالى باستعجالهم، بخلاف ما قدَّره مكي فإنه لا يظهر، إذ ليس» استعجال «مصدراً ل» عجَّل «. وقال الزمخشري: أصلُه: ولو يُعَجِّل الله للناسِ الشرَّ تعجيلَه لهم الخير، فوضع» استعجالهم بالخير «موضعَ» تعجيله لهم الخيرَ «إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافِه بطلبهم، كأنَّ استعجالَهم بالخير تعجيلٌ لهم» . قال الشيخ: «ومدلولُ» عَجَّل «غيرُ مدلولِ» استعجل «لأنَّ» عَجَّل «يدلُّ على الوقوع، و» استعجل «يدلُّ على طلب التعجيل، وذلك واقعٌ من الله، وهذا مضافٌ إليهم، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون التقدير: تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير، فشبَّه التعجيلَ بالاستعجال؛ لأن طلبَهم [للخير] ووقوعَ تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كل شيء. والثاني: أن يكون ثَمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدرُ تقديرُه: ولو يعجِّل اللَّهُ للناسِ الشرَّ إذا استعجلوا به استعجالَهم بالخير، لأنهم كانوا يستعجلون بالشرِّ ووقوعِه على سبيل التهكم كما كانوا يستعجلون بالخير» . الثالث: أنه منصوبٌ على إسقاط كافِ التشبيهِ، والتقدير: كاستعجالهم. قال أبو البقاء. «وهو بعيدٌ، إذ لو جاز ذلك لجاز» زيد غلامَ عمرو «أي: كغلام عمرو» وبهذا ضَعَّفه جماعةٌ وليس بتضعيفٍ صحيحٍ، إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدى بنفسه عند حذف الجار، وفي الآيةِ فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك وهو قوله «يُعَجِّل» . وقال مكي: «وَيَلْزَمُ مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ حرفِ الجر منه أن يجيز» زيدُ الأسدُ «أي: كالأسدِ» قلت: قوله «ويلزم إلى آخره» لا ردَّ فيه على هذا القائل

إذ يلتزمه، وهو التزام صحيح سائغ، إذ لا ينكر أحد «زيد الأسدُ» على معنى «كالأسد» ، وعلى تقدير التسليمِ فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء أي: إن الفعل يطلب مصدراً مشبَّهاً فصار مدلولاً عليه. وقال بعضهم: تقديره: في استعجالهم، نقله مكي، فلمَّا حُذِفت «في» انتصبَ، وهذا لا معنى له. قوله: {لَقُضِي} / قرأ ابن عامر «لقضى» بفتح الفاء والعين مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، «أجلهم» نصباً. والباقون «لقُضِيَ» بالضم والكسر مبنياً للمفعول، «أَجَلُهم» رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعل. وقرأ الأعمش «لقَضَيْنا» مسنداً لضمير المعظِّم نفسَه، وهي مؤيدةٌ لقراءةِ ابن عامر. قوله: {فَنَذَرُ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على قوله {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله} على معنى أنه في قوة النفي، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سؤال الزمخشري وجوابِه فيه. إلا أن أبا البقاء ردَّ عطفه على «يُعَجِّل» فقال: «ولا يجوزُ أن يكونَ معطوفاً على» يُعَجِّل «إذ لو كان كذلك لدَخَلَ في الامتناع الذي تقتضيه» لو «وليس كذلك، لأنَّ التعجيلَ لم يقع، وتَرْكَهم في طغيانهم وقع» . قلت: إنما يَتمُّ هذا الردُّ لو كان معطوفاً على «يُعَجِّل» فقط باقياً على معناه، وقد تقدَّم أن الكلامَ صار في قوةِ {لا نعجِّل لهم الشرَّ فَنَذَرُهم} فيكون «فَنَذَرُهم» معطوفاً على جملة النفي لا على الفعلِ الممتنع وحدَه حتى يلزمَ ما قال. والثاني: أنه معطوفٌ على جملةٍ مقدرة: «ولكن نُمْهِلُهم فَنَذَرُ» قاله أبو البقاء. والثالث: أن تكون جملةً مستأنفةً، أي: فنحن نَذَرُ الذين. قاله الحوفي.

12

قوله تعالى: {لِجَنبِهِ} : في محلِّ نصبٍ على الحال، ولذلك عَطَفَ الحالَ الصريحة، والتقدير: دعانا مضطجعاً لجنبه، أو مُلْقِياً لجَنْبه. واللامُ على بابها عند البصريين، وزعم بعضهم أنها بمعنى «على» ، ولا حاجةَ إليه. واختُلف في ذي الحال، فقيل: الإِنسان، والعامل فيها «مَسَّ» قاله ابن عطية. ونَقَله أبو البقاء عن غيره، واستضعفه من جهين، أحدهما: أن الحالَ على هذا واقعةٌ بعد جواب «إذا» وليس بالوجهِ. قلت: كأنه يعني أنه ينبغي ألاَّ يجابَ الشرطُ إلا إذا استوفى معمولاتِه، وهذه الحالُ معمولة للشرط وهو «مَسَّ» ، وقد أُجيب قبل أن يَسْتوفي معموله. ثم قال: «والثاني: أن المعنى: كثرةُ دعائِه في كل أحواله لا على أن الضرَّ يصيبه في كل أحوالِه، وعليه جاءَتْ آياتٌ كثيرةٌ في القرآن» . قال الشيخ: «وهذا الثاني يلزم فيه مِنْ مَسِّه الضرُّ في هذه الأحوالِ دعاؤه في هذه الأحوال، لأنه جوابُ ما ذُكِرت فيه هذه الأحوال [فالقيد في الشرط قيدٌ في الجواب كما تقول:» إذا جاءنا زيدٌ فقيراً فقد أَحْسَنَّا إليه «فالمعنى:] أَحْسَنَّا إليه في حال فقرِه» . وقيل: صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في «دعانا» وهو واضحٌ، أي: دعانا في جميع أحواله لأن هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإِنسان عن واحدة منها. ثم قيل: المراد بالإِنسان الجنسُ، وهذه الأحوالُ بالنسبة إلى المجموع،

أي: منهم مَنْ يدعو مُسْتلقياً، ومنهم مَنْ يدعو قائماً، أو يُراد به شخصٌ واحد جَمَع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسبِ الأوقاتِ، فيدعو في وقتٍ على هذه الحال، وفي وقت على أخرى. قوله: {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ} قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا عند قوله: {كَأَنْ لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ} قال الزمخشري: «فَحَذفَ ضميرَ الشأن كقوله: 2574 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأنْ ثَدْياه حُقَّانِ» يعني على روايةِ مَنْ رواه «ثَدْيان» بالألف، ويُروى «كأنْ ثَدْيَيْه» بالياءِ على أنها أُعملت في الظاهر وهو شاذٌّ، وصدر هذا البيت: وصَدْرٍ مُشْرقِ النَّحْرِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذه الجملةُ التشبيهيةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «مرَّ» ، أي: مضى على طريقته مشبهاً مَنْ لم يَدْعُ إلى كشف ضر. و «مَسَّه» صفةٌ ل «ضُرّ» ، قال صاحب النظم: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان} وَصْفُه للمستقبل، و «فلمَّا كشفنا» للماضي، فهذا النَّظْم يدلُّ على معنى الآية أنه كان هكذا فيما مضى، وهكذا يكون مما يُستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل «. والكافُ مِنْ» كذلك زُيِّن «في موضع نصب على المصدر، أي: مثلَ ذلك التزيين والإِعراض عن الابتهال. وفاعل» زُيِّن «المحذوف: إمَّا الله تعالى وإمَّا الشيطان. و {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في محل رفع لقيامه مقام الفاعل. و» ما «يجوزُ أن تكون مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى الذي.

13

قوله تعالى: {مِن قَبْلِكُمْ} : متعلقٌ ب «أَهْلكنا» ، ولا يجوز أن يكونَ حالاً من «القرون» لأنه ظرف زمان فلا يقع حالاً عن الجثة كما لا يقع خبراً عنها. وقد تقدَّم تحقيق هذا في أول البقرة، وقد تقدَّم الكلامُ على «لمَّا» أيضاً. قوله: {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم} يجوز أن يكون معطوفاً على «ظلموا» فلا محلَّ له عند سيبويه، ومحله الجر عند غيره، لأنه عطف على ما هو في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه، ويجوز أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلُهم بالحُجَجِ والشواهد على صدقهم و «بالبينات» يجوزُ أن يتعلَّق ب «جاءتهم» ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «رسلهم» [أي:] جاؤوا ملتبسين بالبينات مصاحبين لها. قوله: {وَمَا كَانُواْ} الظاهرُ عَطْفه على «ظلموا» . وجَوَّز الزمخشري أن يكونَ/ اعتراضاً قال: «واللامُ لتأكيد فني إيمانهم، ويعني بالاعتراض كونَه وقع بين الفعل ومصدرهِ التشبيهي في قوله» كذلك نَجزي «. والضميرُ في» كانوا «عائد على» القرون «. وجَوَّز مقاتل أن يكونَ ضميرَ أهل مكة، وعلى هذا يكونُ التفاتاً إذ فيه خروجٌ من ضمير الخطاب في قوله» قبلكم «إلى الغَيْبة، والمعنى: وما كنتم لتؤمنوا، و» كذلك «نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي مثلَ ذلك الجزاء نجزي. وقُرِىء» يَجْزي «بياء الغيبة، وهو التفاتٌ من التكلم في قوله» أَهْلكنا «إلى الغَيْبة.

14

قوله تعالى: {لِنَنظُرَ} : متعلق بالجَعْل. وقرأ يحيى الذماري بنون واحدة وتشديد الظاء. وقال يحيى: «هكذا رأيته في مصحف عثمان» يعني أنه رآها بنون واحدة، ولا يعني أنه رآها مشددة؛ لأنَّ هذا الشكل الخاص إنما حَدَث بعد عثمان. وخرَّجوها على إدغامِ النون الثانية في الظاء وهو رديءٌ جداً، وأحسنُ ما يقال فيه: إنه بالغ في إخفاءِ غُنَّة النون الساكنة فظنَّه السامع إدغاماً، ورؤيتُه له بنونٍ واحدة لا يدلُّ على قراءته إياه مشددَ الظاء ولا مخفَّفَها. قال الشيخ: «ولا يدلُّ» على حَذْفَ النون من اللفظ «. وفيه نظرٌ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوباً في المصحف الذي رآه؟ وقوله: {كَيْفَ} منصوبٌ ب» تعملون «على المصدر، أي: أيَّ عملٍ تعملون، وهي معلِّقة للنظر.

15

قوله تعالى: {أَوْ بَدِّلْهُ} : يحتمل التبديلُ في الذات والتبديلُ في الصفات، يعني اجعلْ آيةَ عذاب مكانَ آية رحمة. فإن قيل: يلزمُ على الأولِ التكرار في قوله: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ} ، فالجوابُ أن معنى الأول: ائت بقرآن غيره مع بقائه، أو بَدِّله بأنْ تُزيل ذاتَه بالكلية، فيتغاير المطلوبان. و «تِلْقاء» مصدرٌ على تِفْعال، ولم يجيء مصدر بكسر التاء إلا هذا والتِّبْيان. وقرىء شاذاً بفتح التاء، وهو قياسُ المصادر الدالة على التكرار

كالتَّطْواف والتَّجوال. وقد يُسْتعمل التِّلقاء بمعنى قبالتك، فينتصبُ انتصابَ الظروف المكانية.

16

قوله تعالى: {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} : أي: ولا أَعْلمكم الله به، مِنْ دَرَيْتُ، أي: علمتُ. ويقال: دَرَيْتُ بكذا وأَدْرَيْتك بكذا، أي: أحطت به بطريق الدِّراية، وكذلك في «علمت به» فَتَضَمَّن العلمُ معنى الإِحاطة فتعَدَّى تَعْدِيَتَها. وقرأ ابنُ كثير بخلاف عن البزي «ولأَدْراكم» بلام داخلة على «أَدْراكم» مثبتاً. والمعنى: ولأُعْلِمَكم به من غير وساطتي: إمَّا بوساطة مَلَكٍ أو رسولٍ غيري من البشر، ولكنه خَصَّني بهذه الفضيلة. وقراءةُ الجمهور «لا» فيها مؤكدةٌ؛ لأنَّ المعطوفَ على المنفيّ منفيّ، وليست «لا» هذه هي التي يُنْفَى بها الفعل، لأنه لا يَصِحُّ نفيُ الفعل بها إذا وقع جواباً، والمعطوفُ على الجواب جواب، ولو قلت: «لو كان كذا لا كان كذا» لم يَجُزْ، بل تقول: «ما كان كذا» . وقرأ ابن عباس والحسن وابن سيرين وأبو رجاء: {ولا أَدْرَأْتُكم به} بهمزةٍ ساكنةٍ بعد الراء. وفي هذه القراءةِ تخريجان، أحدهما: أنها مُبْدَلةٌ من ألف، والألف منقلبةٌ عن ياءٍ لانفتاحِ ما قبلها وهي لغةٌ لعُقَيْلٍ حكاها قطرب، يقولون في أعطيتك: أعطأتك. وقال أبو حاتم: «قَلَبَ الحسنُ الياءَ ألفاً، كما في لغة بني الحرث يقولون: عَلاَك وإلاك، ثم هَمَزَ على لغة من قال في العالم: العَأْلَم، وقيل: بل أُبْدلت الهمزة من نفس الياء نحو:» لَبَأْتُ بالحج «و» رثَأْت فلاناً «، أي: لبَّيْتُ ورَثَيْتُ. والثاني: أن الهمزة أصلية وأن اشتقاقه مِنَ الدَّرْء وهو الدّفْع كقوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} [النور: 8] ، ويقال: أَدْرأته،

أي: جَعَلْته دارِئاً، والمعنى: ولأَجْعَلَنَّكم بتلاوته خُصَماء تَدْرَؤُونني بالجدال. قال أبو البقاء:» وقيل: هو غلط «، لأنَّ قارِئَها ظَنَّ أنها من الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ. وقيل: ليس بغلطٍ والمعنى: لو شاء اللَّه لدَفَعَكم عن الإِيمان به» . وقرأ شهر بن حوشب والأعمش: «ولا أَنْذَرْتُكم» من الإِنذار، وكذلك/ هي في حرف عبد الله. والضمير في «قبله» عائد على القرآن. وقيل: على النزول. وقيل: على وقت النزول. و «عُمُراً» مشبهٌ بظرف الزمان فانتصبَ انتصابَه، أي: مدة متطاولة. وقيل: هو على حَذْف مضاف، أي: مقدار عُمُر. وقرأ الأعمش «عُمْراً» بسكون الميم كقولهم: «عَضْد» في «عَضُد» .

18

قوله تعالى: {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} : «ما» موصولة، أو نكرةٌ موصوفةٌ وهي واقعةٌ على الأصنام، ولذلك راعى لفظها، فأفرد في قوله: {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} ومعناها فجمع في قوله «هؤلاء شفعاؤنا» . قوله: {أَتُنَبِّئُونَ} قرأ بعضهم: «أتُنْبِئون» مخففاً مِنْ أنبأ، يقال: أنبأ ونبَّأ كأخبرَ وخبَّر. وقوله: {بِمَا لاَ يَعْلَمُ} «ما» موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرة موصوفة كالتي تقدمت. وعلى كلا التقديرين فالعائد محذوف، أي: يعلمه. والفاعل هو ضمير الباري تعالى، والمعنى: أتنبِّئوون الله بالذي لا يعلمه الله، وإذا لم يعلم الله شيئاً استحال وجودُ ذلك الشيء، لأنه تعالى لا يَعْزُب عن علمه شيء، وذلك الشيء هو الشفاعة، ف «ما» عبارة عن الشفاعة.

والمعنى: أن الشفاعةَ لو كانَتْ لَعَلِمَهَا الباري تعالى. وقوله: {فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} تأكيدٌ لنفيه، لأنَّ كل موجود لا يَخْرج عنهما. ويجوزُ أن تكونَ «ما» عبارةً عن الأصنام. وفاعل «يعلمُ» ضميرٌ عائد عليها. والمعنى: أَتُعَلِّمون اللَّهَ بالأصنامِ التي لا تَعْلَم شيئاً في السموات ولا في الأرض، وإذا ثَبَتَ أنها لا تعلم فكيف تشفع؟ والشافع لا بد وأن يعرفَ المشفوعَ عنده، والمشفوعَ له، هكذا أعربه الشيخ، فجعل «ما» عبارة عن الأصنام لا عن الشفاعة، والأول أظهر. و «ما» في «عَمَّا يشركون» يُحتمل أن تكونَ بمعنى الذي، أي: عن شركائهم الذي يُشْركونهم به في العبادة. أو مصدريةٌ، أي: عن إشراكهم به غيره. وقرأ الأخَوان هنا «عَمَّا يُشْركون» ، وفي النحل موضعين، الأول: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الملائكة} [الآية: 1] ، والثاني: {بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الآية: 3] . وفي الروم: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الآية: 40] بالخطاب. والباقون بالغَيْبة في الجميع. والخطاب والغيبة واضحتان. وأتى هنا ب «يُشْركون» مضارعاً دون الماضي تنبيهاً على استمرار حالِهم كما جاؤوا يعبدون، وتنبيهاً أيضاً على أنَّهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي.

21

قوله تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا} : شرطيةٌ جوابُها «إذا الفجائيةُ في قوله: {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ} ، والعاملُ في» إذا «الفجائيةِ الاستقرارُ الذي في» لهم «.

وقد تقدَّم لك خلافٌ في» إذا «هذه: هل هي حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها أو ظرفُ مكان؟ وقال أبو البقاء:» وقيل: «إذا» الثانية زمانيةٌ أيضاً، والثانية وما بعدها جواب الأولى «. وهذا الذي حكاه قولٌ ساقط لا يُفهم معناه. وقوله: {في آيَاتِنَا} متعلقٌ ب» مَكْر «جعل الآيات مَحَلاًّ للمكر والمبالغة، ويَضْعف أن يكون الجارُّ صفةً ل» مكر «. وقوله:» مكراً «نصبٌ على التمييز. وهو واجبُ النصبِ، لأنك لو صُغْتَ مِنْ» أَفْعل «فعلاً وأَسْنَدْتَه إلى تمييزِه فاعلاً لصَحَّ أن يُقال:» سَرُع مَكْرُه «وأيضاً فإنَّ شرطَ جوازِ الخفضِ صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التفضيل نحو:» زيدٌ أحسنُ فقيه «. و» أَسْرَعُ «مأخوذٌ مِنْ سَرُع ثلاثياً، حكاه الفارسي. وقيل: بل مِنْ أسرع، وفي بناء أفعل وفعلي التعجب مِنْ أفعل ثلاثةُ مذاهب: الجوازُ مطلقاً، المنعُ مطلقاً، التفضيلُ: بين أن تكونَ الهمزةُ للتعدية فيمتنعَ، أو لا فيجوزَ، وتحريرُها في كتب النحاة. وقال بعضُهم:» أَسْرع هنا ليست للتفضيل «وهذا ليس بشيءٍ إذ السياق يردُّه. وجعله ابن عطية: أعني كونَ أسرع للتفضيل نظيرَ قوله:» لهي أسودُ مِنَ القار «. قال الشيخ:» وأما تنظيره «أسود من القار» ب «أسرع» ففاسد/ لأن «أسود» ليس فعلُه على وزِن أَفْعَل، وإنما هو على وزن فَعِل

نحو: سَوِدَ فهو أسود، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين مِنْ نحو سَوِدَ وحَمِرَ وأَدِمَ إلا لكونه لوناً. وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السواد، والبياض فقط «، قلت: تنظيره به ليس بفاسد، لأنَّ مرادَه بناءُ أفعل مما زاد على ثلاثة أحرف وإن لم يكن على وزن أَفْعَل، وسَوِد وإن كان على ثلاثةٍ لكنه في معنى الزائد على ثلاثة، إذ هو في معنى أسود، وحَمِرَ في معنى أحمر، نصَّ على ذلك النحويون، وجعلوه هو العلةَ المانعةَ من التعجب في الألوان. وقرأ الحسنُ وقتادة ومجاهد والأعرج ونافعٌ في روايةٍ:» يَمْكرون «بياء الغيبة جَرْياً على ما سَبَق. والباقون بالخطابِ مبالغةً في الإِعلام بمكرهم والتفاتاً لقوله:» قل الله «، إذ التقديرُ: قل لهم، فناسَبَ الخطابَ. وفي قوله:» إنْ رسلَنا «التفاتٌ أيضاً، إذ لو جرى على قوله:» قل الله «، لقيل: إنَّ رسله.

22

قوله تعالى: {يُسَيِّرُكُمْ} : قراءةُ ابنِ عامر مِن النَّشْر ضد الطيّ، والمعنى: يُفَرِّقكم ويَبُثُّكم. وقرأ الحسن: «يُنْشِركم» مِنْ أَنْشَر، أي: أَحْيا وهي قراءةُ ابنِ مسعود أيضاً. وقرأ بعض الشاميين «يُنْشِّركم» بالتشديد للتكثير مِن النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار. وقرأ الباقون «يُسَيِّركم» من التَّسْيير، والتضعيفُ فيه للتعديةِ تقول: سار الرجل وسَيَّرْتُه أنا. وقال الفارسي: «هو تضعيفُ مبالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ، لأنَّ العربَ تقول:» سِرْتُ الرجلَ وسيَّرته «، ومنه قول الهذلي:

2575 - فلا تجزعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنت سِرْتها ... فأولُ راضٍ سنةٍ مَنْ يَسِيْرُها وهذا الذي قاله أبو علي غير ظاهر؛ لأن الأكثر في لسان العرب أنَّ» سار «قاصرٌ، فَجَعْلُ المضعفِ مأخوذاً من الكثير أَوْلَى. وقال ابنُ عطية:» وعلى هذا البيتِ اعتراضٌ حتى لا يكونَ شاهداً في هذا، وهو أن يكون الضميرُ كالظرفُ، كما تقول: «سِرْتُ الطريق» . قال الشيخ: «وأمَّا جَعْلُ ابن عطية الضميرَ كالظرفِ كما تقول:» سِرْتَ الطريقَ «فهذا لا يجوزُ عند الجمهور، لأنَّ» الطريقَ «عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدار فلا يَصِلُ إليها الفعلُ غيرَ» دخلت «عند سيبويه، و» انطلقت «و» ذهبت «عند الفراء إلا بوساطة» في «إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميرُه أَحْرى أَنْ لا يتعدى إليه الفعل» . وزعم ابن الطراوة أنَّ «الطريق» ظرفٌ غيرُ مختصٍ فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه، وأباه النحاة. قوله: {حتى إِذَا} «حتى» متعلقةٌ ب «يُسَيِّركم» . وقد تقدَّم الكلامُ على «حتى» هذه الداخلةِ على «إذا» وما قيل فيها. قال الزمخشري: «كيف جَعَلَ الكونَ في الفلك غايةَ التسييرِ في البحر، والتسيُير في البحر إنما هو بالكون في الفُلْك؟ قلت: لم يجعلِ الكونَ في الفلك غايةَ التسيير، ولكنَّ مضمونَ

الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد» حتى «بما في حيِّزها كأنه قال: يُسَيِّركم حتى إذا وقعت هذه الحادثةُ فكان كيت وكيتَ مِنْ مجيء الريحِ العاصفةِ وتراكُمِ الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإِنجاء» . وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء «في الفُلْكيّ» بياء النسب. وتخريجُها يَحْتمل وجهين، أحدهما: أن يُراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ الذي لا يَجْْري الفُلْكُ إلا فيه، كأنه قيل: كنتم في اللُّلجِّ الفُلْكِيِّ، ويكونُ الضمير في «جَرَيْنَ» عائداً على الفلك لدلالةِ «الفلكي» عليه لفظاً ولزوماً. والثاني: أن يكونَ من باب النسبةِ إلى الصفة لقولهم: «أَحْمَريّ» كقوله: 2576 - أَطَرَباً وأنت قِنَّسْرِيُّ ... والدهرُ بالإِنسان دوَّارِيُّ وكنِسْبَتهم إلى العَلَم في قولهم: «الصَّلَتَانيّ» كقوله: 2577 - أَنَا الصَّلَتَانِيُّ الذي قد عَلِمْتُمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فزاد ياءَي النسبِ في اسمه. قوله: {وَجَرَيْنَ} يجوز أن يكونَ نسقاً على «كنتم» ، وأن يكونَ حالاً على إضمار «قد» . والضميرُ عائدٌ على «الفلك» ، والمرادُ به هنا الجُمع، وقد تقدَّم

أنه مكسرَّ، وأن تغييره تقديريٌّ، فضمَّتُه كضمةِ «بُدْن» ، وأنه ليس باسم جمع، كما زعم الأخفش. وقوله: {بِهِم} فيه التفاتٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة. قال الزمخشري: / «فإن قلت: ما فائدةُ صَرْفِ الكلامِ عن الخطابِ إلى الغَيْبة؟ قلت: المبالغةُ كأنه يَذْكُرُ لغيرهم حالَه ليُعْجِبَهم منها ويَسْتدعي منهم الإِنكارَ والتقبيح» . وقال ابن عطية: «بهم» خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبة وحَسُنَ ذلك لأن قوله: {كُنتُمْ فِي الفلك} هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حَصَلَ بعضُكم في السفن «انتهى. فقدَّر اسماً غائباً وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه. ومثلُه {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40] تقديره: أو كذي ظلمات» وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ. وقال الشيخ: «والذي يَظْهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا هي أن قولَه {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ} خطابٌ فيه امتنانٌ وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمسيَّرون في البر والبحر مؤمنون وكفَّار، والخطابُ شاملٌ، فَحَسُن خطابُهم بذلك ليستديمَ الصالحُ الشكرَ، ولعلَّ الطالحَ يتذكر هذه النعمةَ، ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نَجَوا بَغَوا في الأرضِ عَدَلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صُدورُه منهم وهو البغيُ بغير الحق»

قوله: {بِرِيحٍ} متعلقٌ ب «جَرَيْنَ» ، فيقال: كيف يتعدى فعلٌ واحدٌ إلى معمولَيْن بحرفِ جرٍ متحدٍ لفظاً ومعنى؟ . فالجوابُ أن الباءَ الأولى للتعدية كهي في «مررت بزيد» والثانية للسبب فاختلف المعنيان، فلذلك تعلَّقا بعاملِ واحدٍ. يجوز أن تكونَ الباءُ الثانيةُ للحالِ فتتعلقَ بمحذوف، والتقدير: جَرَيْنَ بهم ملتبسةً بريح، فتكونُ الحالُ من ضمير الفلك. قوله: {وَفَرِحُواْ بِهَا} ، يجوز أن تكون هذه الجملةُ نَسَقاً على «جَرَيْنَ» ، وأن تكونَ حالاً، و «قد» معها مضمرةٌ عند بعضهم، أي: وقد فَرِحوا، وصاحبُ الحال الضمير في «بهم» . قوله: {جَآءَتْهَا} الظاهرُ أن هذه الجملةَ الفعلية جواب «إذا» ، وأن الضميرَ في «جاءَتْها» ضميرُ الريح الطيبة، أي: جاءَتِ الريحَ الطيبةَ ريحٌ عاصفٌ، أي: خَلَفَتْها. وبهذا بدأ الزمخشري، وسبقه إليه الفراء وجَوَّز أن يكونَ الضميرُ للفلك، ورجَّح هذا بأن الفُلْكَ هو المُحَدَّث عنه. قوله: {وظنوا} يجوز أن يكونَ معطوفاً على «جاءتها» الذي هو جوابُ «إذا» ، ويجوز أن يكونَ معطوفاً على «كنتم» وهو قولُ الطبريّ ولذلك قال: «وظنُّوا» جوابُه «دَعَوا الله» . قال الشيخ: «ظاهره العطف على جواب» إذا «لا أنَّه معطوفٌ على» كنتم «لكنه محتمل كما تقول:» إذا زارك فلانٌ فأكرمه، وجاءك خالد فأحسِنْ إليه «وأنَّ أداةَ الشرط مذكورة» . وقرأ زيد ابن عليّ «حِيط» ثلاثياً.

قوله: {دَعَوُاْ الله} ، قال أبو البقاء: «هو جواب ما اشتمل عليه المعنى مِنْ معنى الشرط، تقديره: لما ظَنُّوا أنهم أُحيط بهم دَعَوُا الله» ، وهذا كلامٌ فارغ. وقال الزمخشري: «هي بدلٌ مِنْ» ظنُّوا «لأنَّ دعاءهم مِنْ لوازم ظنِّهم الهلاكَ فهو متلبسٌ به» . ونقل الشيخ عن شيخه أبي جعفر أنه جوابٌ لسؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا كان حالُهم إذ ذاك؟ فقيل: دَعَوُا الله «. و» مخلصين «حال. و» له «متعلقٌ به. و» الدين «مفعوله. قوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} اللامُ موطِّئةٌ للقسم المحذوف، و» لنكونَنَّ «جوابه، والقسمُ وجوابهُ في محل نصب بقول مقدر، وذلك القولُ المقدرُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والتقدير: دَعَوا قائلين: لئن أَنْجَيْتنا من هذه لنكوننَّ. ويجوزُ أن يجرى» دَعَوا «مجرى» قالوا «، لأن الدعاء بمعنى القول، إذ هو نوعٌ مِنْ أنواعه، وهو مذهب كوفي.

23

قوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ} : جوابُ «لمَّا» ، وهي «إذا» الفجائية. وقوله: «بغير الحق» حالٌ، أي: ملتبسين بغير الحق. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما معنى قوله:» بغير الحق «والبغيُ لا يكونُ بحق؟ قلت: بلى وهو استيلاء المسلمين على أرضِ الكفار وهَدْمُ دورِهم وإحراقُ زروعِهم وقَطْعُ أشجارهم، كما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببني قريظة» ، وكان قد فَسَّر البغيَ

بالفسادِ والإِمعان فيه، مِنْ «بغى الجرحُ: إذا ترامى للفساد» . ولذلك قال الزجاج: «إنه الترقّي في الفساد» ، وقال الأصمعيُّ أيضاً: «بغى الجرحُ: ترقى إلى الفساد، وبَغَت المرأة: فَجَرَت» ، قال الشيخ/ «ولا يَصِحُّ أن يُقال في المسلمين إنهم باغُون على الكفرة، إلا إنْ ذُكر أنَّ صلَ البغيِ هو الطلبُ مطلقاً، ولا يتضمَّن الفسادَ، فحينئذ ينقسم إلى طلبٍ بحق وطلب بغير حق» ، قلت: وقد تقدَّم أنَّ هذه الآيةَ تَرُدُّ على الفارسي أنَّ «لمَّا» ظرف بمعنى حين؛ لأن ما بعد «إذا» الفجائية لا يَعْمل فيما قبلها، وإذ قد فَرَضَ كونَ «لمَّا» ظرفاً لزمَ أن يكونَ لها عاملٌ. قوله: {مَّتَاعَ الحياة} قرأ حفص «متاعَ» نصباً، ونصبُه على خمسة أوجه، أحدُها: أنه منصوب على الظرف الزماني نحو «مَقْدَم الحاج» ، أي: زَمَن متاع الحياة. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال، أي: مُتَمتعين. والعاملُ في هذا الظرف وهذه الحالِ الاستقرار الذي في الخبر، وهو «عليكم» . ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر لأنه يلزم منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلا بعد تمامِ صلته. والثالث: نصبُه على المصدرِ المؤكِّد بفعلٍ مقدر، أي: يتمتعون متاع الحياة. الرابع: أنه منصوبٌ على المفعول به بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي: يبغون متاعَ الحياة. ولا جائزٌ أن ينتصِبَ بالمصدر لِما تقدم. الخامس: أن ينتصب على المفعولِ مِنْ أجله، أي: لأجلِ متاع والعامل فيه: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في «عليكم» ، وإمَّا فعلٌ مقدر. ويجوز أن يكونَ الناصبُ له حالَ جعله ظرفاً أو حالاً او مفعولاً من أجله نفسَ البغي

لا على جَعْل «على أنفسكم» خبراً بل على جَعْله متعلقاً بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ لطول الكلام، والتقدير: إنما بَغْيُكم على أنفسكم متاعَ الحياة مذومٌ أو مكروهٌ أو منهيٌّ عنه. وقرأ باقي السبعة «متاعُ» بالرفع. وفيه أوجه، أحدُها: وهو الأظهر أنه خبرُ «بَغْيكم» و «على أنفسِكم» متعلقٌ بالبغي. ويجوز أن [يكونَ] «عليكم» خبراً، و «متاع» خبراً ثانياً، ويجوزُ أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو متاع. ومعنى «على أنفسكم» ، أي: على بعضِكم وجنسِكم كقوله {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] ، أو يكونُ المعنى: إنَّ وبالَ البغي راجعٌ عليكم لا يتعدَّاكم كقولِه: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] . وقرأ ابنُ أبي إسحاق «متاعاً الحياة» بنصب «متاعاً» و «الحياةَ» . ف «متاعاً» على ما تقدَّم. وأما «الحياة» فيجوز أن تكونَ مفعولاً بها، والناصب لها المصدر، ولا يجوز والحالةُ هذه أن يكونَ «متاعاً» مصدراً مؤكداً لأنَّ المؤكِّد لا يعمل. ويجوزُ أَنْ تنتصبَ «الحياة» على البدل من «متاعاً» لأنها مشتملةٌ عليه. وقُرىء أيضاً «متاعِ الحياة» بجرِّ «متاع» ، وخُرِّجت على النعت لأنفسكم، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ حينئذ تقديرُه: على أنفسكم ذواتِ متاع الحياة، كذا خرَّجه بعضهم. ويجوز أن يكونَ ممَّا حُذِف منه حرفُ الجر

وبقي عملُه، أي: إنما بَغْيُكم على أنفسِكم لأجِل متاع، ويدلُّ على ذلك قراءةُ النصب في وجه مَنْ يجعله مفعولاً من أجله، وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ عملِه قليلٌ، وهذه القراءةُ لا تتباعَدُ عنه. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ المصدرُ بمعنى اسم الفاعل، أي: متمتعات» يعني أنه يَجْعل المصدرَ نعتاً ل «أنفسكم» من غيرِ حَذْفِ مضافٍ بل على المبالغة أو على جَعْلِ المصدر بمعنى اسم الفاعل. ثم قال: «ويَضْعُفُ أن يكونَ بدلاً إذ أمكن أن يُجْعَلَ صفةً» ، قلت: وإذا جُعِل بدلاً على ضعفه فمِنْ أيِّ قبيل البدلِ يُجعل؟ والظاهر أنه مِنْ بدل الاشتمال، ولا بد من ضميرٍ محذوفٍ حنيئذ، أي: متاع الحياة الدنيا لها. وقرىء «فيُنَبِّئَكُم» بياءِ الغَيْبة، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى.

24

قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ} : هذه الجملةُ سِيْقَتْ لتشبيهِ الدنيا بنباتِ الأرض، وقد شَرَحَ الله تعالى وجهَ التشبيه بما ذكر. قال الزمخشري: «وهذا مِنْ/ التشبيهِ المركب، شُبِّهَتْ حالُ الدنيا في سرعةِ تَقَضِّيها وانقراضِ نعيمِها بعد الإِقبال بحالِ نبات الأرض في جَفَافه وذهابه حُطاماً بعدما التفَّ وتكاتَف وزيَّن الأرض بخضرتِه ورفيفه» ، قلت: التشبيهُ المركب في اصطلاح البيانيين: إمَّا أن يكون طرفاه مركبين، أي: تشبيه مركب بمركب كقول بشار بن برد: 2578 - كان مُثَارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُهْ وذلك أنه يُشَبِّه الهيئةَ الحاصلةَ من هُوِيِّ أجرامٍ مشرقة مستطيلةٍ متناسبةِ

المقدارِ متفرقةٍ في جوانبِ شيءٍ مظلم بليلٍ سقطت كواكبُه، وإمَّا أن يكونَ طرفاه مختلفَيْن بالإِفراد والتركيب. وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع. وقوله: {كَمَآءٍ} هو خبرُ المبتدأ، و «أنزلناه» صفةٌ ل «ماء» ، و «من السماء» متعلقٌ ب «أَنْزلناه» ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من الضمير المنصوب. وقوله: «فاختلطَ به» في هذه الباءِ وجهان، أحدهما: أنها سببيَّةٌ. قال الزمخشري: «فاشتبك بسببه حتى خالط بعضُه بعضاً» ، وقال ابن عطية: «وَصَلَتْ فِرْقَةٌ» النباتَ «بقوله:» فاختلط «، أي: اختلط النباتُ بعضُه ببعض بسبب الماء» . والثاني: أنها للمصاحبة بمعنى أنَّ الماءَ يجري مجرى الغذاء له فهو مصاحبه. وزعم بعضُهم أن الوقفَ على قولِه: «فاختلط» على أن الفعلَ ضميرٌ عائد على الماء، وتَبْتَدىء {بِهِ نَبَاتُ الأرض} على الابتداء والخبر. والضمير في «به» على هذا يجوز عَوْدُه على الماء، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمنَّه الفعل، قاله ابن عطية. قال الشيخ: «الوقف على قوله:» فاختلط «لا يجوزُ، وخاصةً في القرآن لأنه تفكيكٌ للكلام المتصلِ الصحيح والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْز والتعقيد» . قوله: {مِمَّا يَأْكُلُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «اختلط» وبه قال الحوفي. والثاني: أنه حالٌ من «النبات» وبه قال أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المستقرة، أي: كائناً أو مستقراً ممَّا يأكل. ولو قيل «مِنْ» لبيان الجنس لجاز. وقوله: «حتى» غايةٌ فلا بد لها من شيءٍ مُغَيَّا، والفعلُ الذي قبلها وهو «اختلط» لا يصلح أن يكون مُغَيَّا لقصرِ زمنهِ.

فقيل: ثَمَّ فعل محذوف، أي: لم يزلِ النباتُ ينمو حتى كان كيت وكيت. وقيل: يُتَجَوَّزُ في «فاختلط» بمعنى: فدامَ اختلاطُه حتى كان كيت وكيت. و «إذا» بعد «حتى» هذه تقدَّم التنبيهُ عليها. قوله: {وازينت} قرأ الجمهور «ازَّيَّنَتْ» بوصل الهمزة وتشديد الزاي والياء، والأصلُ «وتَزَيَّنت» فلمَّا أريد إدغامُ التاء في الزاي بعدها قُلبت زاياً وسَكَنَتْ فاجتلبت همزة الوصل لتعذُّر الابتداء بالساكن فصار «ازَّيَّنت» كما ترى، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه تعالى: {فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] . وقرأ أُبَيّ بن كعب وعبد الله وزيدٌ بن علي والأعمش «وتَزَيَّنَتْ» على تَفَعَّلَتْ، وهو الأصلُ المشار إليه. وقرأ سعد ابن أبي وقاص والسلمي وابن يعمر والحسن والشعبي وأبو العالية ونصر بن عاصم وابن هرمز وعيسى الثقفي: «وأَزْيَنَتْ على وزن أَفْعلَتْ وأفْعَل هنا بمعنى صار ذا كذا كأَحُصَدَ الزرعُ وأَغَدَّ البعيرُ، والمعنى: صارت ذا زينة، أي: حَضَرت زينتها وحانَتْ وكان مِنْ حَقِّ الياءِ على هذه القراءة أن تُقْلَبَ ألفاً فيقال: أَزَانَتْ، كأَنَابت فَتُعَلُّ بنقلِ حركتِها إلى الساكن قبلها فتتحرك حينئذ، وينفتح ما قبلَها فتقلب ألفاً كما تقدَّم ذلك في نحو: أقام وأناب، إلا أنها صَحَّتْ شذوذاً كقولِه:» أَغْيَمت السماء، وأَغْيَلَت المرأة «، وقد وَرَدَ ذلك في القرآن نحو: {استحوذ} [المجادلة: 19] وقياسُه استحاذَ كاستقام. وقرأ أبو عثمان النهدي وعزاه ابن عطية لفرقةٍ غيرِ معينة»

وازْيَأَنَّتْ «بهمزة وصل بعدها زايٌ ساكنة، / بعدها ياءٌ مفتوحة خفيفة، بعدها همزةٌ مفتوحة، بعدها نون مشددة. قالوا: وأصلها: وازيانَّتْ بوزن احَمَارَّت بألف صريحة، ولكنهم كَرِهُوا الجمعَ بين الساكنين فقلبت الألفُ همزةً كقراءة» الضألّين «و» جَأَنْ «. وعليه قولهم:» احمأرَّت «بالهمز وأنشد: 2579 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا ما الهَواديْ بالعَبيطِ احمأرَّتِ وقد تقدم لك هذا مشبعاً في أواخر الفاتحة. وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة:» وازْيأنَّتْ «بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن عطية لأبي عثمان النهدي. وقرىء» وازَّايَنَتْ «والأصلُ: تزاينت فأدغم. وقوله: {أَهْلُهَآ} ، أي: أهل نباتها. و» أتاها «هو جوابُ» إذا «فهو العاملُ فيها. وقيل: الضميرُ عائد على الزينة. وقيل: على الغَلَّة، أي: القُوت فلا حَذْفَ حينئذ. و» ليلاً ونهاراً «ظرفان للإِتيان أو للأمر. والجَعْل هنا تصيير. وحصيد: فعيل بمعنى مفعول؛ ولذلك لم يؤنَّثْ بالتاء وإن كان عبارة عن مؤنث كقولهم: امرأة جريح.

قوله: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً مِنْ مفعول» جَعَلْناها «الأول، وأن تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدر. وقرأ مروان ابن الحكم» تتغَنَّ «بتاءين بزنة تنفَعَّل، ومثله قول الأعشى: 2580 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... طويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنّ وهو بمعنى الإِقامة، وقد تقدَّم تحقيقُه في الأعراف. وقرأ الحسن وقتادة {كأن لم يَغْنَ} بياء الغيبة، وفي هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أن يعودَ على الحصيد لأنه أقرب مذكور. وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزخرف. وقيل: يعود على النبات أو الزرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونباتها. و» بالأمس «المرادُ به الزمن الماضي لا اليوم الذي قبل يومك، فهو كقول زهير: 2581 - وأعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه ... ولكنني عن عِلْمِ ما في غدٍ عَمِ لم يَقْصد بها حقائقَها، والفرقُ بين الأَمْسَيْن أن الذي يراد به قبل يومِك مبنيٌّ لتضمُّنه معنى الألف واللام، وهذا مُعْرب تدخل عليه أل ويضاف. وقوله: {كذلك نُفَصِّلُ} نعت مصدر محذوف، أي: مثل هذا التفصيل الذي فَصَّلْناه في الماضي نُفَصِّل في المستقبل.

26

قوله تعالى: {وَلاَ يَرْهَقُ} : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ. والثاني: أنها في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه الجارُّ، وهو «للذين» لوقوعه خبراً عن «الحسنى» قاله أبو البقاء، وقدَّره بقوله: «استقرَّ لهم الحسنى مضموماً لهم السَّلامة» ، وهذا ليس بجائز لأن المضارعَ متى وقع حالاً منفيَّاً ب «لا» امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت، وإن وَرَدَ ما يُوهم ذلك يُؤَوَّل بإضمار مبتدأ، وقد تقدم تحقيقُه غيرَ مرة. والثالث: أنه في محلِّ رفع نسقاً على «الحسنى» ، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدري يَصِحُّ جَعْلُه معه مخبراً عنه بالجارّ، والتقدير: للذين أحسنوا الحسنى، وأنْ لا يرهق، أي: وعدم رَهَقِهم، فلمَّا حُذِفت «أن» رُفع الفعلُ المضارع لأنه ليس من مواضع إضمار «أنْ» ناصبة وهذا كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] ، أي: أن يُرِيَكم، وقوله: «تَسْمع بالمُعَيْدِيّ خيرٌ من أن تراه» ، وقوله: 2582 - ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوَغَى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: أن أحضر. رُوي برفع «أحضر» ونصبه. ومنع أبو البقاء هذا الوجه، فقال: «ولا يجوز أن يكون معطوفاً على» الحسنى «لأن الفعل إذا عُطِفَ على المصدر احتاج إلى» أَنْ «ذِكْراً أو تقديراً، و» أنْ «غيرُ مقدرة لأن الفعلَ مرفوع» ، فقوله: «وأَنْ غيرُ مقدرةٍ، لأن الفعل مرفوع» ليس بجيد لأن قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] معه «أنْ» مقدرة مع أنه مرفوع، ولا يَلْزم من

إضمار «أنْ» نصب المضارع، بل المشهورُ أنه إذا أُضْمرت «أن» في غير المواضع التي نصَّ النحويون على إضمارها ناصبة ارتفعَ الفعلُ، والنصبُ قليلٌ جدا. والرَّهَق: الغِشْيان. يقال: رَهِقَه يَرْهَقُه رَهَقا، أي: غَشِيَهُ بسرعة، ومنه {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي} [الكهف: 37] {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} [الجن: 13] / يقال: رَهِقْتُه وأَرْهَقْتُه نحو: رَدِفْتُه وأَرْدَفْتُه، فَفَعَل وأَفْعل بمعنىً، ومنه: «أَرْهَقْت الصلاةَ» إذا أخَّرْتَها حتى غَشِي وقتُ الأخرى، ورجلٌ مُرْهَق، أي: يغشاه الأضياف. وقال الأزهري: «الرَّهَق» اسمٌ من الإِرهاق، وهو أن يَحْمِلَ الإِنسانُ على نفسه ما لا يُطيق، ويقال: «أَرْهَقْتُه عن الصلاة» ، أي: أَعْجَلْتُه عنها. وقال بعضهم. أصلُ الرَّهَق: المقاربة، ومنه غلامٌ مراهِق، أي: قارب الحُلُم، وفي الحديث: «ارهَقُوا القِبلة» ، أي: اقرُبوا منها، ومنه «رَهِقَتِ الكلابُ الصيدَ» ، أي: لحقته. والقَتَر والقَتَرة: الغبار معه سوادٌ وأنشدوا للفرزدق: 2583 - مُتَوَّجٌ برِداء المُلك يَتْبَعُه ... موجٌ ترى فوقه الراياتِ والقترا أي: غبار العسكر. وقيل: القَتَرُ: الدخان، ومنه «قُتار القِدْر» . وقيل:

القَتْر: التقليل ومنه {لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] ، ويقال: قَتَرْتُ الشيء وأَقْتَرْتُه وقتَّرته، أي: قَلَّلْته، ومنه {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ، وقد تقدم. والقُتْرَةُ: ناموس الصائد. وقيل: الحفرة، ومنه قول امرىء القيس: 2584 - رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ ... مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِهْ أي: في حفرته التي يَحْفرها. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء والأعمش «قَتْرٌ» بسكونِ التاء وهما لغتان قَتْر وقَتَرَ كقَدْر وقَدَر.

27

قوله تعالى: {والذين كَسَبُواْ} : فيه سبعةُ أوجه: أحدُها: «أن يكونَ» والذين «نسقاً على» للذين أحسنوا «أي: للذين أحسنوا الحسنى، واللذين كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمثلها، فيتعادل التقسيم كقولك:» في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ «، وهذا يسميه النحويون عطفاً على معمولي عاملين. وفيه ثلاثة مذاهب، أحدها: الجواز مطلقاً، وهو قول الفراء. والثاني: المنعُ مطلقاً وهو مذهب سيبويه. والثالث: التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو:» في الدار زيد والحجرةِ عمرو «، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو:» إن زيداً في الدار وعمراً القصر «، أي: وإن عمراً في القصر. وسيبويه وأتباعه يُخَرِّجون ما ورد منه على إضمار الجارِّ كقوله تعالى: {واختلاف الليل والنهار. . .

لآيَاتٍ} [الجاثية: 5] بنصب» آيات «في قراءة الأخوين على ما سيأتي، وكقوله: 2585 - أكلَّ امرىءٍ تحسبين امرأً ... ونارٍ توقَّدُ بالليل نارا وقول الآخر: 2586 - أَوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قلباً حُرَّاً ... بالكلبِ خيراً والحماةِ شَرَّا وسيأتي لهذا مزيدُ بيان في غضون هذا التصنيف. وممَّن ذهب إلى أن هذا الموصولَ مجرور عطفاً على الموصول قبله ابن عطية وأبو القاسم الزمخشري. الثاني: أن» الذين «مبتدأ، وجزاء سيئة مبتدأ ثانٍ، وخبره» بمثلها «، والباء فيه زائدة، أي: وجزاءُ سيئةٍ مثلها كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، كما زِيْدَتْ في الخبر كقوله: 2587 - فلا تطمعْ أبيت اللعنَ - فيها ... ومَنْعُكها بشيءٍ يُسْتطاع أي: شيء يستطاع، كقول امرىء القيس: 2588 - فإن تَنْأَ عنها حقبةً لا تلاقِها ... فإنَّك ممَّا أَحْدَثْتَ بالمجرِّب

أي: المجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية. الثالث: أن الباءَ ليست بزائدةٍ والتقدير: مُقَدَّر بمثلها أو مستقر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُه خبرٌ عن الاول. الرابع: أن خبرَ» جزاء سيئة «محذوفٌ، فقدَّره الحوفي بقوله:» لهم جزاء سيئة «قال: ودَلَّ على تقدير» لهم «قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} حتى تتشاكلَ هذه بهذه. وقدَّره أبو البقاء: جزاء سيئة بمثلها واقع، وهو وخبره أيضاً خبر عن الأول. وعلى هذين التقديرين فالباءُ متعلقةٌ بنفس جزاء، لأن هذه المادةَ تتعدَّى بالباء، قال تعالى: {جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} [سبأ: 17] {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} [الإنسان: 12] إلى غير ذلك. فإن قلت: أين الرابطُ ين هذه الجملةِ والموصولِ الذي هو المبتدأ؟ ، قلت: على تقديرِ الحوفي هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبراً، وعلى تقديرِ أبي البقاء هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء هو محذوف/ تقديرُه: جزاءُ سيئة بمثلها منهم واقعٌ، نحو:» السَّمْن مَنَوان بدرهم «وهو حَذْفٌ مُطَّرد لِما عرفْتَه غيرَ مرة. الخامس: أن يكونَ الخبرُ الجملةَ المنفية من قوله: {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} ، ويكون» مِنْ عاصم «إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على النفي، وإمَّا مبتدأً، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و» مِنْ «مزيدة فيه على كلا القولين. و «من الله» متعلقٌ ب «عاصم» . وعلى كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فَصَلَ بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ. وفي ذلك خلافٌ عن الفارسي تقدَّم التنبيهُ عليه وما استدلَّ به عليه. السادس: أن الخبرَ هو الجملةُ التشبيهية من قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ

وُجُوهُهُمْ} ، و «كأنما» حرف مكفوف، و «ما» هذه زائدة تسمَّى كافَّةً ومهيِّئة، وتقدَّم ذلك. وعلى هذا الوجه فيكون قد فَصَلَ بين المبتدأ وخبره بثلاثِ جملِ اعتراض. السابع: أن الخبر هو الجملة من قوله: {أولئك أَصْحَابُ النار} ، وعلى هذا القولِ فيكونُ قد فصل بأربعِ جمل معترضة وهي: {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} ، والثانية: «وتَرْهَقُهم ذلة» ، والثالث: {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} ، الرابع: «كأنما أُغْشيت» . وينبغي أن لا يجوز الفصل بثلاثِ جملٍ فضلاً عن أربع. وقوله: {وَتَرْهَقُهُمْ} فيها وجهان أحدهما: أنها في محل نصب على الحال. ولم يُبَيِّنْ أبو البقاء صاحبَها، وصاحبُها هو الموصولُ أو ضميرُه. وفيه ضعفٌ لمباشرته الواو، إلا أن يُجْعَلَ خبرَ مبتدأ محذوف. الثاني: أنها معطوفة على «كسبوا» . قال أبو البقاء: «وهو ضعيف لأن المستقبلَ لا يُعْطَفُ على الماضي. فإن قيل: هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً» . وقرىء: «ويَرْهقهم» بالياء من تحت، لأنَّ تأنيثَها مجازي. قوله: {قِطَعاً} قرأ ابن كثير والكسائي «قِطْعاً» بسكون الطاء، والباقون بفتحها. فأما القراءة الأولى فاختلفت عبارات الناس فيها، فقال أهل اللغة: «القِطْع» ظلمة آخر الليل. وقال الأخفش في قوله: «بقِطْع من الليل» بسواد من الليل. وقال بعضهم: «طائف من الليل» ، وأنشد الأخفش:

2589 - افتحي الباب فانظري في النجومِ ... كم علينا من قِطْعِ ليلٍ بَهيم وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ «قِطْعة» نحو: دِمْنة وَدِمَن، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب «مظلماً» ، فإنه على قراءةِ الكسائي وابن كثير يجوز أن يكونَ نعتاً ل «قِطْعاً» ، ووُصِف بذلك مبالغةً في وَصْف وجوهِهم بالسواد، ويجوز أن يكونَ حالاً فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه حالٌ من «قِطْعاً» ، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو «من الليل» ، والثاني: أنه حالٌ من «الليل» ، والثالث: أنه حالٌ من الضميرِ المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة. قال الزمخشري: «فإن قلت: إذا جعلت» مظلماً «حالاً من» الليل «فما العاملُ فيه؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكونَ» أُغْشِيَتْ «من قِبل أنَّ» من الليل «صفةٌ لقوله:» قِطْعاً «، وكان إفضاؤه إلى الموصوفِ كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكونَ معنى الفعل في» من الليل «. قال الشيخ: «أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصلَ أن يكون العاملُ في الحال هو العاملَ في ذي الحال، والعاملُ في» من الليل «هو الاستقرار، و» أُغْشِيَتْ «عاملٌ في قوله:» قطعاً «الموصوف بقوله:» من الليل «فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أَوْلى، أي: قطعاً مستقرةً من الليل، أو كائنةً من الليل في حال إظلامه» . قلت: ولا يَعْني الزمخشري بقوله: «إنَّ العامل أُغْشِيَتْ» إلا أنَّ الموصوفَ وهو «قِطْعاً» معمول لأُِغْشِيَتْ والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصفة، والصفة هي «من الليل» فهي معمولةٌ ل «أُغْشِيَتْ» ، وهي صاحبةُ الحال، والعاملُ في الحال هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العاملَ في الحال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقةِ. ويجوز أن يكونَ «قِطْعاً» جمع قطعة، أي: اسم جنس، فيجوز حينئذٍ وصفُه بالتذكير نحو: «نَخْلٌ مُنْقَعِر» والتأنيث نحو: «نخل خاوية» .

وأمَّا قراءة الباقين فقال مكي وغيره: «إنَّ» مظلماً «حال من» الليل «فقط. ولا يجوز أن يكون صفةً ل» قِطَعاً «، ولا حالاً منه، ولا من الضمير في» من الليل «، لأنه كان يجب أن يقال فيه: مظلمة» . قلت: يَعْنُون أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعه هؤلاء وقالوا: جاز ذلك لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ. وقرأ أُبَي/ {تغشى وجوهَهم قِطْعٌ} بالرفع، «مظلمٌ» . وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلا أنه فتح الطاء. وإذا جَعَلْتَ «مُظْلماً نعتاً ل» قطعاً «، فتكون قد قَدَّمْتَ النعتَ غير الصريح على الصريح. قال ابن عطية:» فإذا كان نعتاً يعني مظلماً نعتاً لقطع فكان حقه أن يكون قبلَ الجملة، ولكن قد يجيءُ بعد هذا، وتقدير الجملة: قطعاً استقرَّ من الليل مظلماً على نحو قوله: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 155] . قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ تقديرُ العاملِ في المجرور بالفعل فيكونُ جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: قطعاً كائناً من الليل مظلماً» . قلت: المحذورُ تقديمُ غيرِ الصريحِ على الصريح ولو كان مقدَّراً بمفرد. و «قطعاً» منصوبٌ ب «أُغْشِيَتْ» مفعولاً ثانياً.

28

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} : «يوم» منصوب بفعلٍ مقدر، أي: خَوِّفْهم، أو ذكِّرْهم يوم. والضميرُ عائد على الفريقين، أي:

الذين أحسنوا والذين كسبوا. و «جميعاً» حال. ويجوز أن تكون تأكيداً عند مَنْ عَدَّها مِنْ ألفاظ التأكيد. قوله: {مَكَانَكُمْ} ، «مكانكم» اسمُ فعل، ففسَّره النحويون ب «اثبتوا» فيحمل ضميراً، ولذلك أُكِّد بقوله: «أنتم» وعُطِف عليه «شركاؤكم» ، ومثله قول الشاعر: 2590 - وقَوْلِي كلما جَشَأَتْ وجاشَتْ ... مكانَكِ تُحْمَدي أو تَسْتريحي أي: اثبتي، ويدلُّ على جزمُ جوابِه وهو «تُحْمَدي» . وفسَّره الزمخشري ب «الزموا» قال: «مكانكم» أي: الزموا مكانكم، ولا تَبْرحوا حتى تنظروا ما يُفْعل بكم «. قال الشيخ:» وتقديره له ب «الزموا» ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لتعدَّى كما يتعدَّى ما ناب هذا عنه، فإنَّ اسمَ الفعلِ يُعامل معاملةَ مسمَّاه، ولذلك لمَّا قدَّروا «عليك» بمعنى «الزم» عدَّوْه تعديتَه نحو: عليك زيداً. و [عند] الحوفي «مكانكم» نُصب بإضمار فعل، أي: الزموا مكانكم أو اثبتوا «. قلت: فالزمخشري قد سُبِق بهذا التفسير. والعذرُ لمَنْ فسَّره بذلك أنه قصد تفسير المعنى، وكذلك فَسَّره أبو البقاء فقال:» مكانكم «ظرفٌ مبنيٌّ لوقوعِه موقعَ الأمر، أي: الزموا» . وهذا الذي ذكره مِنْ كونه مبنياً فيه خلاف للنحويين: منهم مَنْ ذهب إلى ما ذَكَر، ومنهم مَنْ ذهب إلى أنها حركةُ إعراب، وهذان الوجهان مبنيَّان على خلافٍ في أسماء الأفعال: هل لها محلٌّ من الإِعراب أو لا؟ ، فإن قلنا

لها محلٌّ كانت حركاتُ الظرفِ حركاتِ إعراب، وإن قلنا: لا موضع لها كانت حركاتِ بناء. وأمَّا تقديرُه ب «الزموا» فقد تقدَّم جوابه. وقوله: {أَنتُمْ} فيه وجهان أحدهما: أنه تأكيدٌ للضمير المستتر في الظرفِ لقيامِه مقامَ الفاعلِ كما تقدَّم التنبيه عليه. والثاني: أجازه ابن عطية، وهو أن يكونَ مبتدأً، و «شركاؤكم» معطوف عليه، وخبرُه محذوفٌ قال: «تقديرُه: أنتم وشركاؤكم مُهاون أو مُعَذَّبون» ، وعلى هذا فيُوقَفُ على قوله: «مكانكم» ثم يُبتدأ بقوله: «أنتم» ، وهذا لا يَنْبغي أن يقال، لأن فيه تفكيكاً لأفصحِ كلام وتبتيراً لنظمه من غير داعيةٍ إلى ذلك، ولأن قراءةَ مَنْ قرأ «وشركاءَكم» نصباً تدل على ضعفه، إذ لا تكونُ إلا من الوجه الأول، ولقولِه: «فزيَّلْنا بينهم» ، فهذا يدلُّ على أنهم أُمِروا هم وشركاؤهم بالثبات في مكانٍ واحدٍ حتى يحصلَ التَّزْيِِيْلُ بينهم. وقال ابن عطية أيضاً: «ويجوزُ أن يكون» أنتم «تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو» قفوا «ونحوه» . قال الشيخ «وهذا ليس بجيدٍ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمُه على الظرف، إذ الظرفُ لم يتحمَّلْ ضميراً على هذا القول فيلزمُ تأخيرُه [عنه] وهو غير جائز، لا تقول:» أنت مكانَك «ولا يُحْفظ من كلامهم. والأصحُّ أنه لا يجوز حَذْفُ المؤكَّد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا لأن التأكيدَ ينافي الحذف، وليس من كلامهم:» أنت زيداً «لمَنْ رأيته قد شَهَرَ سَيْفاً، وأنت تريد:» اضرب

أنت زيداً «إنما كلامُ العرب:» زيداً «تريد: اضرب زيداً» . قلت: لم يَعْنِ ابنُ عطية أن «أنت» تأكيد لذلك الضمير في «قفوا» من/ حيث إنَّ الفعلَ مرادٌ غير منوبٍ عنه، بل لأنه نابَ عنه هذا الظرفُ، فهو تأكيدٌ له في الأصلِ قبل النيابة عنه بالظرف، وإنما قال: الذي هو «قفوا» تفسيراً للمعنى المقدر. وقرأ فرقةُ «وشكركاءَكم» نصباً على المعية. والناصبُ له اسم الفعل. قوله: {فَزَيَّلْنَا} ، أي: فرَّقْنا وميَّزْنا كقوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا} [الفتح: 25] . واختلفوا في «زيَّل» هل وزنُه فَعَّل أو فَيْعَل؟ والظاهرُ الأول، والتضعيفُ فيه للتكثيرِ لا للتعديةِ لأنَّ ثلاثيَّه متعدٍّ بنفسِه. حكى الفراء «زِلْتُ الضَّأن من المَعِز فلم تَزِل» ، ويقال: زِلْت الشيء مِنْ مكانه أَزيله، وهو على هذا من ذواتِ الياء. والثاني: أنه فَيْعَل كبَيْطَر وبَيْقَر وهو مِنْ زال يَزُول، والأصل: زَيْوَلْنا فاجتمعت الياء والواو وسَبَقَت إحداهما بالسكون فأُعِلَّت الإِعلالَ المشهورَ وهو قَلْبُ الواوِ ياءً وإدغامُ الياء فيها كميِّت وسَيّد في مَيْوِت وسَيْودِ، وعلى هذا فهو من مادة الواو. وإلى هذا ذهبَ ابن قتيبة، وتبعه أبو البقاء. وقال مكي: «ولا يجوز أن يكون فَعَّلْنا مِنْ زال يزول لأنه [يلزم] فيه الواوُ فيكون زَوَّلنا» ، قلت: هذا صحيحٌ، وقد تقدم تحريرُ ذلك في قوله: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] . وقد ردَّ الشيخ كونَه فيْعَل بأنَّ فعَّل أكثر من فَيْعَل،

ولأن مصدره التزييل، ولو كان فَيْعَل لكان مصدرُه فَيْعَلة كبَيْطَرة؛ لأن فَيْعَل ملحقٌ بفَعْلَل، ولقولهم في معناه زايَل، ولم يقولوا: زاول بمعنى فارق، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط «. وحكى الفراء» «فزايَلْنا» وبها قرأت فرقة. قال الزمخشري: «مثل صاعَرَ خَدَّه وصَعَّره، وكالمتُه وكلَّمْته» ، قلت: يعني أن فاعَل بمعنى فَعَّل. وزايَلَ بمعنى فارَقَ. قال: 2591 - وقال العذارى إنَّما أنت عَمُّنا ... وكان الشبابُ كالخليطِ نُزايِلُهْ وقال آخر: 2592 - لعَمْري لَمَوْتٌ لا عقوبةَ بعده ... لِذي البَثِّ أَشْفَى مِنْ هوىً لا يُزايلُهْ وقوله: {فَزَيَّلْنَا} و «قال» هذان الفعلان ماضيان لفظاً مستقبلان معنىً لعطفِهما على مستقبل وهو «ويوم نحشرهم» وهما نظيرُ قولِه تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ} [هود: 98] . و «إيَّانا» مفعولٌ مقدمٌ قُدِّم للاهتمام به والاختصاص، وهو واجبُ التقديمِ على ناصبِه لأنه ضميرٌ منفصل لو تأخر عنه لَزِمَ اتصالُه.

29

وقد تقدَّم الكلامُ على ما بعد هذا مِنْ {وكفى} [النساء: 6] و «إنْ» المخففة، واللام التي بعدها بما يُغْني عن إعادته.

30

قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ} : في «هنالك» وجهان، الظاهرُ بقاؤه على أصلِه مِنْ دلالته على ظرف المكان، أي: في ذلك

الموقفِ الدَّحْض والمكان الدَّهِش. وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] ، أي: في ذلك الوقت وكقوله: 2593 - وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ ... فهناك يَعْترفون أينَ المَفْزَعُ وإذا أمكنَ بقاءُ الشيءِ على موضوعِه فهو أولى. وقرأ الأخَوان «تَتْلو» بتاءَيْن منقوطتين من فوق، أي: تطلُب وتتبَع ما أسلفَتْه مِنْ أعمالها، ومن هذا قوله: 2594 - إنَّ المُريبَ يَتْبَع المُريبا ... كما رأيت الذِّيبَ يتلو الذِّيبا أي: يَتْبَعه ويَتَطَلَّبه. ويجوز أن يكونَ من التلاوة المتعارفة، أي: تقرأ كلُّ نفسٍ ما عَمِلَتْه مُسَطَّراً في صحف الحفظة لقوله تعالى: {ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] ، وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقرأ كتابك} [الإسراء: 13] . وقرأ الباقون: «تَبْلو» مِن البَلاء وهو الاختبار، أي: يَعْرف عملَها: أخيرٌ هو أم شر. وقرأ عاصم في روايةٍ «نبلو» بالنون والباءِ الموحدة، أي: نختبر نحن. و «كل» منصوب على المفعول به. وقوله: «وما أَسْلَفَتْ» على هذه القراءةِ

يحتمل أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض، أي: بما أسْلَفَتْ، فلمَّا سقط الخافض انتصبَ مجرورُه كقوله: 2595 - تمرُّون الديار ولم تعوجوا ... كلامُكمُ عليَّ إذنْ حَرامُ ويحتمل أن يكونَ منصوباً على البدل من «كل نفس» ويكون من بدلِ الاشتمال. ويجوز أن يكون «نَبْلو» من البلاء وهو العذاب، أي: نُعَذِّبها بسبب ما أَسْلَفَتْ. و «ما» يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً أو نكرةً موصوفة، والعائدُ محذوفٌ على التقدير/ الأول والآخِر دون الثاني على المشهور. وقرأ ابن وثاب «ورِدُّوا» بكسر الراء تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة، نحو: «قيل» و «بيع» ، ومثله: 2596 - وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بكسر الحاء، وقد تقدَّم بيانُ ذلك بأوضحَ من هذا. وقوله: {إِلَى الله} لا بدَّ من مضاف، أي: إلى جزاء الله، أو موقفِ جزائه. والجمهور على «الحق» جَرَّاً. وقرىء منصوباً على أحد وجهين: إمَّا القطعِ، وأصلُه أنه تابعٌ فقُطع بإضمارِ «أمدح» كقولهم: الحمدُ للَّهِ أهلِ الحمد «، وإمَّا أنه مصدر مؤكد لمضمونِ الجملةِ المتقدمةِ وهو {وردوا إِلَى الله} وإليه نحا الزمخشري، قال:» كقولك: «هذا عبد الله الحق لا الباطل» على

التأكيد لقوله {وردوا إِلَى الله} . وقال مكي: «ويجوز نصبه على المصدر ولم يُقْرأ به» ، قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة. وقوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} «ما» تحتمل الأوجه الثلاثة.

31

قوله تعالى: {مِّنَ السمآء} : «مِنْ» يجوز أَنْ تكونَ لابتداء الغاية، وأن تكونَ للتبعيضِ، وأن تكونَ لبيان الجنس، ولا بد على هذين الوجهين من تقديرِ مضافٍ محذوف، أي: من أهل السماء. قوله: {أَمْ} هذه «أم» المنقطعة لأنه لم تتقدَّمْها همزةُ استفهام ولا تسوية، ولكن إنما تُقَدَّر هنا ب «بل» وحدها دونَ الهمزة. وقد تقرَّر أن المنقطعةَ عند الجمهور تُقَدَّر بهما، وإنما لم تتقدَّرْ هنا ب «بل» والهمزةِ، لأنَّها وقع بعدها اسم استفهام صريح وهو «مَنْ» ، فهو كقوله تعالى: {أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 84] . والإِضرابُ هنا على القاعدةِ المقررة في القرآن أنه إضرابُ انتقالٍ لا إضرابُ إبطالٍ

32

قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ} : يجوز أن يكونَ «ماذا» كلُّه اسماً واحداً لتركُّبهما، وغُلِّب الاستفهامُ على اسم الإِشارة، وصار معنى الاستفهامِ هنا النفيَ ولذلك أوجب بعده ب «إلا» ، ويجوز أن يكون «ذا» موصولاً بمعنى الذي، والاستفهام أيضاً بمعنى النفي، والتقدير: ما الذي بعد الحق إلا الضلال؟

33

قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ} : الكافُ في محلِّ نصب نعتاً لمصدر محذوف، والإِشارةُ ب «ذلك» إلى المصدرِ المفهوم مِنْ «تُصْرفون» ،

أي: مثلَ صَرْفِهم عن الحق بعد الإِقرار به في قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31] . وقيل إشارةٌ إلى الحق. قال الزمخشري: «كذلك: مثلَ ذلك الحقِّ حَقَّتْ كلمةُ ربك» . قوله: {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنَّها في محلِّ رفعِ بدلاً من «كلمةُ» ، أي: حَقَّ عليهم انتفاء الإِيمان. الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوف، أي: الأمر عدمُ إيمانِهم. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الحرف الجارّ. الرابع: أنها في محلِّ جرٍّ على إعمالِه محذوفاً إذا الأصل: لأنهم لا يُؤْمنون. قال الزمخشري: «أو أراد بالكلمة العِدَة بالعذاب، و {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} تعليل، أي: لأنهم» . وقرأ أبو عمرو وابنُ كثير والكوفيون «كلمة» بالإِفراد، وكذا في آخر السورة. وقد تقدَّم ذلك في الأنعام. وقرأ ابن أبي عبلة {أَنهم لا يُؤْمنون} بكسر «إنَّ» على الاستئناف وفيها معنى التعليل، وهذه مقويِّةُ للوجه الصائر إلى التعليل.

34

قوله تعالى: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق} : هذه الجملةُ جواب لقوله: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ} وإنما أتى بالجواب جملةً اسميةً مُصَرَّحاً

بجزأيها مُعَاداً فيها الخبر مطابقاً لخبر اسم الاستفهام للتأكيدِ والتثيبتِ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا لا مَنْدوحةَ لهم عن الاعتراف به جاءَت الجملةُ محذوفاً منها أحدُ جُزْأَيْها في قوله {فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31] ، ولم يَحْتَجْ إلى التأكيد بتصريح جزأيها.

35

قوله تعالى: {يهدي إِلَى الحق} : قد تقدم في أول هذا الموضوع أنَّ «هدى» يتعدى إلى اثنين ثانيهما: إمَّا باللام أو بإلى، وقد يُحْذَفُ الحرفُ تخفيفاً. وقد جُمع بين التعديتين هنا بحرف الجر فَعَدَّى الأول والثالث ب «إلى» والثاني باللام، وحُذِف المفعولُ الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير: هل مِنْ شركائكم مَنْ يَهْدي غيره إلى الحق قل اللَّهُ يَهْدي مَنْ يشاء للحق، أفَمَنْ يهدي غيرَه إلى الحق. وزعم الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري أنَّ «يهدي» الأولَ قاصرٌ، وأنه بمعنى اهتدى. وفيه نظر، لأن مُقابلَه وهو {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} متعدٍّ. وقد أنكر المبرد أيضاً مقالة الكسائي والفراء وقال: «لا نَعْرِفُ هَدَى بمعنى اهتدى» قلت: الكسائي والفراء أَثْبتاه بما نقلاه، ولكن إنما ضَعُف ذلك هنا لِما ذَكَرْت لك من مقابلته بالمتعدي، وقد تقدَّم أن التعديةَ ب «إلى» أو اللام من باب التفنُّن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري: «يقال: هَدَاه للحق وإلى الحق،

فجمع بين اللغتين» . وقال غيره: «إنما عدى المسندَ إلى الله باللام/ لأنها أَدَلُّ في بابها على المعنى المرادِ من» إلى «؛ إذ أصلُها لإِفادةِ المُلْك، فكأن الهداية مملوكة لله تعالى» وفيه نظر، لأن المراد بقوله: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق} هو الله تعالى مع تَعدِّي الفعلِ المسند إليه ب «إلى» . قوله: {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} خبرٌ لقوله: «أَفَمَنْ يَهْدي» و «أَنْ» في موضعِ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الخافض، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، وتقديرُ هذا كله: «أَفَمَنْ يهْدي إلى الحقّ أَحَقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يَهْدي» . ذكر ذلك مكي ابن أبي طالب، فجعل «أحقّ» هنا على بابها من كونها للتفضيل. وقد منع الشيخ كونَها هنا للتفضيل فقال: «وأحق» ليست للتفضيل، بل المعنى: حقيقٌ بأن يُتَّبع «. وجوَّز مكي أيضاً في المسألة وجهين آخرين أحدهما: أن تكون» مَنْ «مبتدأ أيضاً، و» أنْ «في محلِّ رفع بدلاً منها بدلَ اشتمال، و» أحقُّ «خبرٌ على ما كان. والثاني: أن يكون» أن يُتَّبع «في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و» أحقُّ «خبرُه مقدَّم عليه. وهذه الجملةُ خبر ل» مَنْ يَهْدي «، فَتَحَصَّل في المسألة ثلاثة أوجه. قوله: {أَمَّن لاَّ يهدي} نسقٌ على» أفمن «، وجاء هنا على الأفصحِ مِنْ حيث إنَّه قد فُصِل بين» أم «وما عُطِفَتْ عليه بالخبر كقولك:» زيدٌ قائم أم عمرو «ومثله: {أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] . وهذا بخلاف قوله تعالى: {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] وسيأتي هذا في موضعه.

وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسر ياء «يهدي» وهائه. وحفص بكسر الهاء دون الياء. فأمَّا كسر الهاء فلالتقاء الساكنين، وذلك أن أصلَه يَهْتدي، فلما قُصِد إدغامُه سكنَتْ التاء، والهاءُ قبلَها ساكنة فكُسِرَتْ الهاءُ لالتقاء الساكنين. وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر. وقال أبو حاتم في قراءة حفص «هي لغة سُفْلَى مُضَر» ، ونَقَل عن سيبويه أنه لا يُجيز «يِهْدي» ويجيز «تِهْدي ونِهْدي وإهدي» ، قال: «لأن الكسرةَ تَثْقُل في الياء» ، قلت: يعني أنه يُجيز كَسْرَ حرفِ المضارعة من هذا النحو نحو: تِهْدي ونِهدي وإهدي إذ لا ثِقَلَ في ذلك، ولم يُجِزْهُ في الياء لثقل الحركةِ المجانسةِ لها عليها. وهذا فيه غَضٌّ من قراءة أبي بكر، ولكنه قد تواتَرَ قراءةً فهو مقبول. وقرأ أبو عمرو وقالون عن نافع بفتح الياء واختلاس فتحة الهاء وتَشْديد الدال، وذلك أنهما لَمَّا ثقَّلا الفتحة لإِدغام اختلسا الفتحة تنبيهاً على أن الهاءَ ليس أصلُها الحركةَ بل السكون. وقرأ ابن كثير وابن عامر وورش بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل. وقد رُوي عن أبي عمرو وقالون اختلاسُ كسرةِ الهاءِ على أصل التقاء الساكين، والاختلاس للتنبيه على أنَّ أصلَ الهاءِ السكون كما تقدم. وقرأ أهلُ المدينة خلاورشاً بفتح الياء وسكون الهاء وتشديدِ الدال. وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمعُ بين الساكنين. قال المبرد: «مَنْ رام هذا لا بد أن يُحَرِّكَ حركةً خفيَّة» . وقال أبو جعفر النحاس: «

لا يقدر أحدٌ أن يَنْطِقَ به» ، قلت: وقد قال في «التيسير» : «والنصُّ عن قالون بالإِسكان» ، قلت: ولا بُعْدَ في ذلك فقد تقدَّم أن بعضَ القُرَّاء يَقْرأ {نِعِمَّا} [النساء: 58] و {لاَ تَعْدُواْ} [النساء: 154] بالجمع بين الساكنين، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة في قوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] ، وسيأتي لك مثلُ هذا في {يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] . وقرأ الأخَوان «يَهْدي» بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيفِ الدال مِنْ هدى يَهْدي وفيه قولان، أحدهما: أنَّ «هدى» بمعنى اهتدى. والثاني: أنه متعدٍّ، ومفعولُه محذوف كما تقدَّم تحريره. وقد تقدم قول الكسائي والفراء في ذلك ورَدَّ المبرد عليهما. وقال ابن عطية: «والذي أقوال: قراءةُ حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى: أَمْ مَنْ لا يهدي أحداً إلا أن يهدى ذلك الأحدُ بهداية الله، وأمَّا على غيرِها مِنَ القراءات التي مقتضاها» أم لا يَهْتدي إلا أن يهدى «فيتجه المعنى على ما تقدَّم» ثم قال: «وقيل: تمَّ الكلامُ عند قوله:» أم مَنْ لا يَهِدِّي، أي: لا يَهِدِّي غيره «. ثم قال: {إِلاَّ أَن يهدى} استثناءٌ منقطع، أي: لكنه يحتاج إلى أن يهدى كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أَنْ يُسْمع، أي: لكنه يحتاج إلى أن يَسمع «. انتهى. ويجوز

أن يكونَ استثناءً متصلاً، لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابليةُ الهدايةِ بخلافِ الأصنام. ويجوز أن يكونَ استثناء من تمامِ المفعول له، أي: لا يهدي لشيءٍ من الأشياءِ إلا لأَجْل أن يهدى بغيره. وقوله: {فَمَا لَكُمْ} مبتدأ وخبر. ومعنى الاستفهام هنا الإِنكارُ والتعجبُ، أي: أيُّ شيءٍ لكم في اتخاذ هؤلاء إذ كانوا عاجزين عن هدايةِ أنفسهم فكيف يمكن أن يَهْدُوا غيرَهم؟ وقد تقدَّم أن بعضَ النحويين نصَّ على أن مثل هذا التركيبِ لا يتمُّ إلا بحالٍ بعده، نحو: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} [المائدة: 84] إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تُقَدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً لأنها استفهامية، والاستفهامية لا تقع حالاً. وقوله:» كيف تحكمون «استفهامٌ آخرُ، أي: كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أنداداً وشركاء؟ .

36

قوله تعالى: {لاَ يُغْنِي} : خبرُ «إن» ، و «شيئاً» / منصوبٌ على المصدر، أي: شيئاً من الإِغناء. و «من الحق» نصبٌ على الحال من «شيئاً» لأنه في الأصلِ صفةٌ له. ويجوز أن تكونَ «مِنْ» بمعنى «بدل» ، أي: لا يُغنْي بدلَ الحق. وقرأ الجمهور «يَفْعلون» على الغيبة. وقرأ عبد الله «تَفْعلون» خطاباً وهو التفاتٌ بليغ.

37

قوله تعالى: {أَن يفترى} : فيه وجهان أحدهما: أنه خبرٌ «كان» تقديرُه: وما كان هذا القرآن افتراء، أي: ذا افتراء، إذ جُعِل نفسُ المصدر مبالغةً، أو يكونُ بمعنى مفترى. والثاني: زعم بعضهم أنَّ «أنْ» هذه هي المضمرة بعد لامِ الجحود، والأصل: وما كان هذا القرآنُ ليفترى،

فلمَّا حُذِفَتْ لامُ الجحود ظهرت «أن» . وزعم أن اللامَ و «أنْ» يتعاقبان، فتُحْذف هذه تارة، وتَثْبُت الأخرى. وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه، وعلى هذا القولِ يكون خبر «كان» محذوفاً، وأنْ وما في حَيِّزها متعلقةٌ بذلك الخبر، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك محرراً. و «مِنْ دون» متعلقٌ ب «يفترى» والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائد على القرآن. قوله {ولكن تَصْدِيقَ} «تَصْديق» عطف على خبر كان، ووقعت «لكن» أحسنَ موقع إذ هي بين نقيضين: وهما التكذيبُ والتصديقُ المتضمِّن للصدق. وقرأ الجمهور «تصديق» و «تفصيلَ» بالنصب وفيه أوجهٌ، أحدُها: العطف على خبر «كان» وقد تقدَّم ذلك، ومثله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله} [الأحزاب: 40] . والثاني: أنه خبر «كان» مضمرة تقديره: ولكن كان تصديقَ، وإليه ذهب الكسائي والفراء وابن سعدان والزجاج. وهذا كالذي قبله في المعنى. والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدر، أي: وما كان هذا القرآنُ أن يفترى، ولكن أُنزل للتصديق. والرابع: أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدر أيضاً. والتقدير: ولكن يُصَدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب. وقرأ عيسى بن عمر: «تَصْديقُ» بالرفع، وكذلك التي في يوسف. ووجهُه الرفعُ على خبر مبتدأ محذوف، أي: ولكن هو تصديق، ومثله قوله الشاعر:

2597 - ولستُ الشاعرَ السَّفْسَافَ فيهمْ ... ولكن مِدْرَهُ الحربِ العَوانِ برفع «مِدْرَه» على تقدير: أنا مِدْره. وقال مكي: «ويجوز عندهما أي عند الكسائي والفراء الرفع على تقدير: ولكن هو تصديق» ، قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة. وزعم الفراء وجماعةٌ أن العرب إذا قالت: «ولكن» بالواو آثَرَتْ تشديد النون، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيفَ. وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيفُ. وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيف والتشديد نحو {ولكن الشياطين} [البقرة: 102] {ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] . قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} فيه أوجه أحدها: أن يكون حالاً من «الكتاب» وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه لأنه مفعولٌ في المعنى. والمعنى: وتفصيل الكتاب منتفياً عنه الرَّيْب. والثاني: أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب. والثالث: أنه معترضٌ بين «تصديق» وبين {مِن رَّبِّ العالمين} إذ التقديرُ: ولكن تصديق الذين بين يديه مِنْ رب العالمين. قال الزمخشري: فإن قلت: بم اتَّصَلَ قولُه {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} ؟ قلت: هو داخلٌ في حَيِّز الاستدراك كأنه قيل: ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ كائناً من رب العالمين. ويجوز أن يراد به «ولكن كان تصديقاً من رب العالمين [وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك، فيكون من رب العالمين] متعلقاً

ب» تصديق «و» تفصيل «ويكون {لاَ رَيْبَ فِيهِ} اعتراضاً كما تقول: زيدٌ لا شكَّ فيه كريم» انتهى. قوله: {مِن رَّبِّ} يجوز فيه أوجهٌ أحدُها: أن يكونَ متعلقاً ب «تصديق» أو ب «تفصيل» ، وتكون المسألة من باب التنازع؛ إذ يَصِحُّ أَنْ يتعلَّقَ بكلٍ من العاملين من جهة المعنى. وهذا هو الذي أراد الزمخشري بقوله: «فيكون» مِنْ رب «متعلِّقاً ب» تصديق «و» تفصيل «يعني أنه متعلقٌ بكلٍ منهما من حيث المعنى. وأمَّا من حيث الإِعرابُ فلا يتعلَّق إلا بأحدهما، وأمَّا الآخرُ فيعمل في ضميره كما تقدَّم تحريره غيرَ مرة، والإِعمالُ هنا حينئذ إنما هو للثاني بدليلِ الحَذْفِ من الأول. والوجه الثاني: أنَّ» مِنْ رب «حال ثانية. والثالث: إنه متعلقٌ بذلك الفعلِ المقدرِ، أي: أُنْزِل للتصديق من ربَّ العالمين.

38

قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ} : في «أم» وجهان أحدهما: أنها منقطعةٌ فتتقدر ب «بل» والهمزة عند الجمهور: سيبويه وأتباعهِ، والتقديرُ: بل أتقولون، انتقل عن الكلام الأول وأَخَذَ في إنكارِ قولٍ آخر. والثاني: أنها متصلةٌ ولا بدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ جملةٍ ليصِحَّ التعادلُ والتقدير: أيقرُّون به أم يقولون افتراه. وقال بعضُهم: / هذه بمنزلة الهمزةِ فقط. وعَبَّر بعضهم عن ذلك فقال: «الميمُ زائدة على الهمزة» وهذا قولٌ ساقط، إذ زيادة الميم قليلة جداً لا سيما هنا. وزعم أبو عبيدة أنها بمعنى الواو والتقدير: ويقولون افتراه. قوله: {قُلْ فَأْتُواْ} جوابُ شرطٍ مقدر قال الزمخشري: «قل: إن كان الأمرُ كما تَزْعمون فَأْتوا أنتم على وجه الافتراءِ بسورةِ مثلِه في العربية

والفصاحة والأَبْلغيَّة» . وقرأ عمرو بن فائد «بسورة مثلِه» بإضافة «سورة» إلى «مثله» على حَذْف الموصول وإقامة الصفة مُقامَه، والتقدير: بسورةِ كتابٍ مثلِه أبو بسورةِ كلام مثله. ويجوز أن يكون التقديرُ: فَأْتوا بسورةِ بشرٍ مثلِه فالضمير يجوز أن يعودَ في هذه القراءةِ على القرآن، وأن يعودَ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمَّا في قراءة العامة فالضمير للقرآن فقط.

39

قوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ} : جملةٌ حالية من الموصول أي: سارعوا إلى تكذيبهِ حالَ عدم إتيان التأويل. قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى التوقُّع في قوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} ؟ قلت: معناه أنهم كذَّبوا به على البديهة قبل التدبُّر ومعرفةِ التأويل» ، ثم قال أيضاً: «ويجوز أن يكونَ المعنى: ولم تأتِهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإِخبار بالغيوب، أي: عاقبته حتى يتبيَّنَ لهم أَكَذِبٌ هو أم صدقٌ» انتهى. وفي وَضْعه «لم» موضعَ «لَمَّا» نظرٌ لِمَا عَرَفْت ما بينهما من الفرق. ونُفِيَتْ جملةُ الإِحاطة ب «لم» وجملةُ إتيانِ التأويل ب «لمَّا» لأن «لم» للنفي المطلق على الصحيح، و «لَمَّا» لنفي الفعل المتصل بزمن الحال، فالمعنى: أنَّ عَدَمَ التأويل متصل بزمن الإِخبار. و «كذلك» نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: مثل ذلك التكذيب كَذَّب الذين من قبلهم، أي: قبل النظر والتدبُّر. وقوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ} «كيف» خبر ل «كان» ، والاستفهامُ معلِّقٌ للنظر. قال ابن عطية: «قال الزجاج:» كيف «في موضع نصب على خبر كان، ولا يجوز أن يعمل فيها» انظر «لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يَعْمل فيه، هذا

قانونُ النحويين لأنهم عاملوا» كيف «في كل مكان معاملةَ الاستفهامِ المَحْض في قولك» كيف زيد «ول» كيف «تصرُّفاتٌ غيرُ هذا فتحلُّ محلَّ المصدرِ الذي هو» كيفية «وتخلعُ معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكونَ منها. ومن تصرُّفاتها قولُهم:» كن كيف شئت «وانظر قول البخاري:» كيف كان بدء الوحي «فإنه لم يستفهم» . انتهى. فقول الزجاج «لا يجوز أن تعمل» انظر «في» كيف «يعني لا تتسلَّط عليها ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحبِ عليها حكمُ الاستفهام وهكذا سبيلُ كلِّ تعليقٍ. قال [الشيخ] :» وقولُ ابن عطية: هذا قانون النحويين إلى آخره ليس كما ذكر بل ل «كيف» معنيان، أحدُهما: الاستفهامُ المحض، وهو سؤال عن الهيئة إلا أن يُعَلَّق عنها العامل، فمعناها معنى الأسماء التي يُستفهم بها إذا عُلِّق عنها العاملُ. والثاني: الشرط كقول العرب: «كيف تكونُ أكونُ» . وقوله: «ول» كيف «تصرفات إلى آخره ليس» كيف «تحلُّ محلَّ المصدر، ولا لفظ» كيفية «هو مصدرٌ، إنما ذلك نسبةٌ إلى» كيف «، وقوله:» ويحتمل أن يكونَ هذا الموضعُ منها، ومِنْ تصرفاتها قولهم: «كن كيف شئت» لا يَحْتمل أن يكون منها؛ لأنه لم يثبتْ لها المعنى الذي ذكر مِنْ كونِ «كيف» بمعنى كيفية وادِّعاءُ مصدرية «كيفية» . وأمَّا «كن كيف شئت» ف «كيف» ليست بمعنى كيفية، وإنما هي شرطيةٌ وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوف، التقدير: كيف شئت فكن، كما تقول: «قم متى شئت» ف «متى» اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه «قم» والجواب محذوف تقديره: متى شئت فقم، وحُذِفَ الجوابُ لدلالة ما قبله عليه كقولِهم: «اضربْ زيداً إن أساء إليك» ، التقدير: إن أساءَ إليك فاضرِبْه، وحُذِف «فاضربه» لدلالة «اضرِبْ» المتقدِّم عليه. وأمَّا قولُ

البخاري: «كيف كان بدء الوحي» فهو استفهامٌ مَحْضٌ: إمَّا على سبيل الحكاية كأن سائلاً سأله فقال: كيف كان بَدْءُ الوحي، [وإما أن يكونَ من قوله هو، كأنه سأل نفسه: كيف كان بدء الوحي؟] فأجاب بالحديثِ الذي فيه كيفيةُ ذلك «. وقوله: {الظالمين} مِنْ وَضْعِ الظاهر موضعَ المضمر، ويجوز أن يرادَ به ضميرُ مَنْ عاد عليه ضمير» بل كَذَّبوا «، وأن يُرادَ به {الذين مِن قَبْلِهِمْ} .

42

قوله تعالى: {مَّن يَسْتَمِعُونَ} : مبتدأ وخبرهُ الجار قبله وأعاد الضميرَ جمعاً مراعاة لمعنى «مَنْ» ، والأكثرُ مراعاةُ لفظه كقوله: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ}

43

{وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} : قال ابن عطية: «جاء» ينظر «على لفظ» مَنْ «، وإذا جاء على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخرُ على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن/ يُعْطَفَ آخرُ على اللفظ لأنَّ الكلامَ يُلْبَسُ حينئذ» . قال الشيخ: وليس كما قال، بل يجوز أن تراعيَ المعنى أولاً فتعيدَ الضميرَ على حسبِ ما تريد من المعنى مِنْ تأنيثٍ وتثنية وجمعٍ، ثم تراعي اللفظَ فتعيدُ الضميرَ مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيلٌ ذُكر في النحو «، قلت: قد تقدَّم تحريره أولَ البقرة.

44

قوله تعالى: {لاَ يَظْلِمُ الناس شيئاً} : يجوز أن ينتصب «شيئاً» على المصدر، أي: شيئاً من الظلم قليلاً ولا كثيراً، وأن ينتصبَ مفعولاً ثانياً ل «يَظْلم» بمعنى: لا يُنْقِص الناسَ شيئاً من أعمالهم.

قوله: {ولكن الناس} قرأ الأخَوان بتخفيف «لكن» ، ومن ضرورة ذلك كسرُ النونِ لالتقاء الساكنين وَصْلاً ورفع «الناس» ، والباقون بالتشديد ونصب «الناس» وتقدم توجيه ذلك في البقرة.

45

قوله تعالى: {وَيَوْمَ} : منصوب على الظرف. وفي ناصبه أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ بالفعل الذي تضمَّنه قوله: {كَأَن لَّمْ يلبثوا} الثاني: أنه منصوبٌ ب «يتعارفون» . والثالث: أنه منصوبٌ بمقدر، أي: اذكر يومَ. وقرأ الأعمش «يَحْشُرهم» بياء الغيبة، والضمير لله تعالى لتقدُّم اسمه في قوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ} . قوله: {كَأَن لَّمْ يلبثوا} قد تقدَّم الكلامُ على «كأنْ» هذه. ولكن اختلفوا في محلِّ هذه الجملة على أوجهٍ، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ صفةً للظرف وهو «يوم» قاله ابن عطية. قال الشيخ: «لا يَصِحُّ لأنَّ» يومَ يحشرُهم «معرفةٌ والجملَ نكرات، ولا تُنْعَتُ المعرفةُ بالنكرة، لا يقال: إن الجملَ التي يُضاف إليها أسماءُ الزمانِ نكرةٌ على الإِطلاق لأنها إن كانَتْ في التقدير تَنْحَلُّ إلى معرفة فإن ما أُضيف إليها يتعرَّفُ، وإن كانت تَنْحَلُّ إلى نكرة كان ما أُضيف إليها نكرةً، تقول» مررت في يوم قَدِم زيدٌ الماضي «فتصِفُ» يوم «بالمعرفة، و» جئت ليلةَ قَدِم زيدٌ المباركة علينا «وأيضاً فكأنَّ لم يلبثوا لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهةِ المعنى؛ لأنَّ ذلك من وصف المحشورين لا مِنْ وصف يوم حشرهم. وقد تكلَّفَ بعضُهم تقديرَ رابطٍ يَرْبطه

فقدَّره» كأن لم يَلْبثوا قبله «فحذف» قبله «، أي: قبل اليوم، وحَذْفُ مثلِ هذا الرباطِ لا يجوز» ، قلت: قوله: «بعضهم» ، هو مكي ابن أبي طالب فإنه قال: «الكافُ وما بعدها مِنْ» كأنْ «صفةٌ لليوم، وفي الكلامِ حَذْفُ ضميرٍ يعودُ على الموصوفِ تقديرُه: كأنْ لم يَلْبثوا قبلَه، فحذف» قبل «فصارت الهاءُ متصلةً ب» يَلْبثوا «فحُذِفَتْ لطولِ الاسم كما تُحْذَفُ من الصِّلات» ونَقَل هذا التقدير أيضاً أبو البقاء ولم يُسَمِّ قائلَه فقال: «وقيل» فذكره. والوجه الثاني: أن تكونَ الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول «يَحْشُرهم» ، أي: يَحْشُرهم مُشْبهين بمَنْ لم يلبث إلا ساعةً، هذا تقديرُ الزمخشري. وممَّنْ جَوَّز الحالية أيضاً ابنُ عطية ومكي وأبو البقاء، وجعله بعضُهم هو الظاهر. الوجه الثالث: أن تكونَ الجملةُ نعتاً لمصدر محذوف، والتقدير: يَحْشُرهم حَشْراتً كأنْ لم يَلْبَثُوا «ذكر ذلك ابن عطية وأبو البقاء ومكي. وقدّر مكي وأبو البقاء العائد محذوفاً كما قَدَّراه حالَ جَعْلِهما الجملةَ صفةً لليوم، وقد تقدَّم ما في ذلك. الرابع: قال ابن عطية:» ويَصِحُّ أن يكونَ قوله {كَأَن لَّمْ يلبثوا} كلاماً

مجملاً «ولم يُبَيِّنْ الفعلَ الذي يتضمَّنه {كَأَن لَّمْ يلبثوا} . قال الشيخ: «ولعلَّه أرادَ ما قاله الحوفي مِنْ أنَّ الكاف في موضعِ نصبٍ بما تضمَّنَتْه من معنى الكلام وهو السرعة» انتهى. قال: «فيكونُ التقدير: ويوم يحشرهم يُسْرعون كأنْ لم يَلْبثوا» قلت: فيكونُ «يسرعون» حالاً من مفعول «يَحْشرهم» ويكون {كَأَن لَّمْ يلبثوا} حالاً من فاعل «يُسْرعون» ، ويجوز أن تكونَ «كأنْ لم» مفسرةً ل «يُسْرعون» المقدرة. قوله: {يَتَعَارَفُونَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أن الجملةَ في محل نصبٍ على الحال من فاعل «يَلْبثوا» . قال الحوفي: «يتعارفون» فعل مستقبلٌ في موضع الحال من الضمير في «يلبثوا» وهو العامل، كأنه قال: متعارفين، والمعنى اجتمعوا متعارفين «. والثاني: أنها حالٌ من مفعول» يَحْشُرهم «أي: يَحْشُرهم متعارفين والعاملُ فعلُ الحشر، وعلى هذا فَمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال جوَّز أن تكونَ» كأَنْ لم «حالاً أولى، وهذه حالٌ ثانية، ومَنْ مَنَعَ ذلك جَعَلَ» كأَنْ لم «على ما تقدم من غيرِ الحالية. قال أبو البقاء:» وهي حالٌ مقدرة لأنَّ التعارفَ لا يكونُ حالَ الحشر «. والثالث: مستأنفةٌ، أخبر تعالى عنهم بذلك قال الزمخشري:» فإن قلت: كأن لم يَلْبثوا ويتعارفون كيف موقعهما؟ قلت: أمَّا الأولى فحالٌ منهم أي: يَحْشُرهم مُشْبهين بمَنْ لم يَلْبث إلا ساعةً، وأمَّا الثانية: فإمَّا أن تتعلق بالظرف يعني فتكون حالاً وإما أن تكونَ مبينةً لقوله: كأن لم يَلْبثوا إلا ساعةً؛ لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً «.

قوله: {قَدْ خَسِرَ} فيها وجهان، أحدهما: أنها مستأنفة أخبر تعالى بأن المكذِّبينَ بلقائِه خاسرون لا محالة، ولذلك أتى بحرفِ التحقيق. والثاني: أن يكونَ في محل نصبٍ بإضمارِ قولٍ أي: قائلين قد خسر الذين. ثم لك في هذا القول المقدر/ وجهان، أحدهما: أنه حال مِنْ مفعول» يحشرهم «أي: يحشرهم قائلين ذلك. والثاني: أنه حالٌ من فاعل» يتعارفون «. وقد ذهب إلى الاستئناف والحالية مِنْ فاعل» يتعارفون «الزمخشري فإنه قال:» هو استئنافٌ فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحشرهم «ثم قال:» قد خَسِر «على إرادة القولِ أي: يتعارفون بينهم قائلين ذلك» ، وذهبَ إلى أنها حالٌ من مفعول «يحشرهم» ابن عطية. قوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ معطوفةً على قولِه «قد خَسِر» فيكونُ حكمُه حكمَه. والثاني: أن تكونَ معطوفةً على صلةِ الذين، وهي كالتوكيد للجملة التي وقعتْ صلةً؛ لأنَّ مَنْ كذَّب بلقاء الله غيرُ مهتدٍ.

46

قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} : «إمَّا» هذه قد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفىً. وقال ابن عطية: «ولأجلها أي: لأجل زيادةِ» ما «جاز دخولُ النونِ الثقيلة ولو كانَتْ» إنْ «وحدَها لم يَجُزْ» يعني أن توكيد الفعل بالنونِ مشروطٌ بزيادة «ما» بعد «إنْ» ، وهو مخَالفٌ لظاهرِ كلامِ سيبويه، وقد جاء التوكيد في الشرط بغير «إنْ» كقوله:

2598 - مَنْ نثقفَنْ منهم فليس بآيبٍ ... أبداً وقَتْل بني قتيبةَ شافي قال ابن خروف: «أجاز سيبويهِ الإِتيانَ ب» ما «وأن لا يؤتى بها، والإِتيانُ بالنون مع» ما «وأن لا يؤتى بها» والإِراءَةُ هنا من البصر؛ ولذلك تعدَّى الفعلُ إلى اثنين بالهمزة أي: نجعلك رائياً بعضَ الموعودين «. قوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} مبتدأ وخبر، وفيه وجهان أظهرهما: أنه جوابٌ للشرط وما عُطف عليه، إذ معناه صالحٌ لذلك. وإلى هذا ذهب الحوفي وابن عطية. والثاني: أنه جوابٌ لقوله» أو نتوفَيَنَّك «، وجواب الأول محذوف قال الزمخشري:» كأنه قيل: وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم فذاك، أو نتوفينَّك قبل أن نريك فنحن نُريك في الآخرة «. قال الشيخ:» فجعل الزمخشري في الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجةَ إلى [تقدير] جواب محذوف لأنَّ قولهَ «فإلينا مَرْجعهم» صالحٌ لأن يكونَ جواباً للشرط والمعطوفِ عليه، وأيضاً فقولُ الزمخشري «فذاك» هو اسمٌ مفردٌ لا يَنْعقد منه جوابُ شرطٍ فكان ينبغي أن يأتي بجملةٍ يَصِحُّ منها جوابُ الشرط إذ لا يُفْهَمُ مِنْ قوله «فذاك» الجزء الذي حُذِف، المتحصَّل به فائدةُ الإِسناد «. قلت: قد تقررَّ أنَّ اسمَ الإِشارة قد يُشار به إلى شيئين فأكثر وهو بلفظِ الإِفراد، فكأنَّ ذاك واقعٌ موقعَ الجملة الواقعة جواباً، ويجوزُ أن يكونَ قد حُذِفَ الخبر لدلالة المعنى عليه إذ التقديرُ: فذاك المراد أو المتمنَّى أو نحوه. وقوله:» إذ لا يُفْهم الجزء الذي حُذِف «إلى آخره ممنوعٌ بل هو مفهومٌ كما رأيت، وهي شيءٌ يَتبارد إليه الذهن.

قوله: {ثُمَّ الله شَهِيدٌ} ليست هنا للترتيب الزماني بل هي لترتيبِ الأخبارِ لا لترتيبِ القصصِ في أنفسها. قال أبو البقاء:» كقولك زيدٌ عالم ثم هو كريم «. وقال الزمخشري:» فإن قلت: اللَّهُ شهيدٌ على ما يفعلون في الدارَيْن فما معنى ثم؟ قلت: ذُكِرَت الشهادة، والمراد مقتضاها ونتيجتها، وهو العقاب، كأنه قيل: ثم الله معاقِبٌ على ما يفعلونه «. وقرأ إبرهيم ابن أبي عبلة» ثَمَّ «بفتح الثاء جعله ظرفاً لشهادة الله، فيكون» ثَمَّ «منصوباً ب» شهيد «أي: اللَّهُ شهيدٌ عليهم في ذلك المكان، وهو مكانُ حَشْرِهم. ويجوز أن يكونَ ظرفاً لمَرْجِعهم أي: فإلينا مَرْجِعُهم يعني رجوعهم في ذلك المكانِ الذي يُثاب فيه المُحْسِن ويُعاقَبُ فيه المسيءُ.

49

قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} : فيه وجهان أحدهما: أنه استثناءٌ متصل تقديرُه: إلا ما شاء الله أن أَمْلكه وأٌقْدِر عليه. والثاني: أنه منقطعٌ. قال الزمخشري: «هو استثناءٌ منقطع أي: ولكنْ ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أَمْلك لكم الضررَ وجَلْبَ العذاب؟» .

50

قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ} : قد تقدَّم الكلام على/ «أَرَأَيْتَ» هذه، وأنها تتضمَّن معنى أخبرني فتتعدى إلى اثنين، ثانيهما غالباً جملة استفهامية فينعقد منها مع ما قبلها مبتدأٌ وخبرٌ كقولِهم: «أرأيتَك زيداً ما صنع» وتقدَّم مذاهبُ الناسِ فيها في سورة الأنعام فعليك باعتباره ثَمَّة. ومفعولُها الأول في هذه الآية الكريمة محذوفٌ، والمسألةُ من بابِ الإِعمال لأنه تنازع

أرأيت وأتاكم في «عذاب» ، والمسألةُ من إعمال الثاني، إذ هو المختار عند البصريين، ولمَّا أعمله أضمر في الأول وحَذَفَه، لأنَّ إبقاءَه مخصوصٌ بالضرورة، أو جائزُ الذكرِ على قلةٍ عند آخرين، ولو أعمل الأول لأضمرَ في الثاني؛ إذ الحذف منه لا يكون إلا في ضرورة أو في قليلٍ من الكلام، ومعنى الكلام: قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم، أيُّ شيءٍ تستعجلون منه، وليس شيءٌ من العذاب يُسْتعجل به لمرارته وشدة إصابته فهو مُقْتَضٍ لنفورِ الطَّبَع منه. قال الزمخشري «فإن قلت: بم يتعلَّق الاستفهامُ وأين جوابُ الشرط؟ قلت: تعلَّق ب» أرأيتم «لأن المعنى: أخبروني ماذا يَسْتعجل منه المجرمون، وجوابُ الشرط محذوف وهو» تَنْدموا على الاستعجال «أو» تعرفوا الخطأ فيه «. قال الشيخ:» وما قَدَّره غيرُ سائغ لأنه لا يُقَدَّر الجوابُ إلا ممَّا تقدَّمَه لفظاً أو تقديراً تقول: «أنت ظالمٌ إن فعلت» التقدير: إن فعلت فأنت ظالم، وكذلك: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] التقدير: إن شاءَ الله نَهْتَدِ، فالذي يُسَوِّغ أن يُقَدَّر: إن أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون «. وقال الزمخشري أيضاً:» ويجوزُ أن يكونَ «ماذا يَسْتعجل منه المجرمون» جواباً للشرط كقولك: إنْ أَتَيْتك ما تُطْعمني؟ ثم تتعلَّق الجملةُ ب «أرأيتم» ، وأن يكونَ «أثُمَّ إذا ما وقع آمنتم به» . جواباً للشرط، و «ماذا يَسْتعجل منه المجرمون» اعتراضاً، والمعنى: إنْ أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعِه حينَ لا ينفعكم الإِيمان «. قال الشيخ:» أمَّا تجويزُه أن يكون «ماذا»

جواباً للشرط فلا يَصِح، لأن جوابَ الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء تقول: إنْ زارنا فلان فأيُّ رجل هو، وإن زارَنا فلانٌ فأيُّ يدٍ له بذلك، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورةٍ، والمثالُ الذي ذكره وهو «إن أتيتك ما تُطْعمني؟» هو مِنْ تمثيلهِ لا من كلام العرب. وأمَّا قوله: «ثمَّ تتعلَّق الجملةُ ب» أرأيتم «إن عنى بالجملة» ماذا يَسْتعجل «فلا يصحُّ ذلك، لأنه قد جعلها جواباً للشرط، وإن عَنَى بالجملة جملةَ الشرط فقد فسَّر هو» أرأيتم «بمعنى أخبروني، و» أخبرني «يطلب متعلقاً مفعولاً، ولا تقع جملةُ الشرط موقعَ مفعول أخبرني. وأمَّا تجويزُه أن يكون «أثم إذا ما وقع آمنتم به» جواباً للشرط و «ماذا يستعجل منه المجرمون» اعتراضاً فلا يَصِحُّ أيضاً لِما ذكرناه مِنْ أنَّ جملةَ الاستفهام لا تقع جواباً للشرط إلا ومعها فاءُ الجواب، وأيضاً ف «ثم» هنا هي حرف عطفٍ تَعْطِفُ الجملةَ التي بعدها على التي قبلها، فالجملةُ الاستفهامية معطوفةٌ، وإذا كانت معطوفة لم يَصِحَّ أن تقعَ جوابَ الشرط، وأيضاً ف «أرأيتم» بمعنى «أخبروني» تحتاج إلى مفعول، ولا تقعُ جملةُ شرط موقعَه «. وكونُ» أرأيتم «بمعنى» أخبروني «هو الظاهر المشهور. وقال الحوفي:» الرؤيةُ مِنْ رؤية القلب التي بمعنى العلم لأنها داخلةٌ على الجملة من الاستفهام التي معناها التقرير، وجوابُ الشرط محذوفٌ، وتقديرُ الكلام: أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون إنْ أتاكم عذابه «. انتهى، فهذا ظاهرٌ في أنَّ» أرأيتم «غيرُ مضمنةٍ معنى الإِخبار، وأن الجملةَ الاستفهامية سَدَّت مَسَدَّ المفعولين، ولكن المشهور الأول. / قوله: {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ} قد تقدَّم الكلام على هذه الكلمة ومذاهبِ الناس فيها. وجَوَّز بعضُهم هنا أن تكون» ما «مبتدأً و» ذا «خبره، وهو موصولٌ

بعني الذي، و» يستعجل «صلتُه وعائدُه محذوفٌ تقديره: أيُّ شيء الذي يستعجله منه أي من العذاب، أو من الله تعالى. وجوَّز آخرون كمكي وأنظارِه أن يكونَ» ماذا «كلُّه مبتدأً أي: يُجعل الاسمان بمنزلةِ اسمٍ واحد، والجملةُ بعده خبره. وقال أبو علي:» وهو ضعيفٌ لخلوِّ الجملةِ من ضمير يعود على المبتدأ «. وقد أجاب أبو البقاء عن هذا فقال:» ورُدَّ هذا القول بأنَّ الهاء في «منه» تعودُ على المبتدأ كقولك: «زيدٌ أَخَذْتُ منه درهماً» . قلت: ومِثْلُ أبي علي لا يخفى عليه مثل ذلك، إلا أنه لا يَرَى عَوْدَ الهاءِ على الموصولِ لأن الظاهرِ عَوْدُها على العذاب. قال الشيخ: «والظاهرُ عَوْدُ الضمير في» منه «على العذاب، وبه يَحْصُل الربطُ لجملةِ الاستفهامِ بمفعول» أرأيتم «المحذوف الذي هو مبتدأٌ في الأصل» . وقال مكي: «وإن شئت جعلت» ما «و» ذا «بمنزلة اسمٍ واحدٍ في موضع رفع بالابتداء، والجملةُ التي بعده الخبر، والهاءُ في» منه «تعود أيضاً على العذاب» . قلت: فقد تُرك المبتدأُ بلا رابطٍ لفظي حيث جَعَل الهاءَ عائدةً على غير المبتدأ فيكون العائدُ عند محذوفاً. لكنه قال بعد ذلك: «فإنْ جعلت الهاء في» منه «تعود على الله جلَّ ذكره و» ما «و» ذا «اسماً واحداً كانت» ما «في موضع نصب ب» يستعجل «والمعنى: أيَّ شيء يستعجل المجرمون من الله» فقوله هذا يؤذنَ بأن الضميرَ لمَّا عاد على غير المبتدأ جعله مفعولاً مقدماً، وهذا الوجهُ بعينه جائزٌ فيما إذا جُعل الضمير عائداً على العذاب. ووجهُ الرفعِ على الابتداء جائزٌ فيما إذا جُعِل الضمير عائداً على الله تعالى إذ العائدُ الرابطُ مقدرٌ كما تقدم التنبيهُ عليه.

51

قوله تعالى: {أَثُمَّ} : قد تقدَّم خلافُ الزمخشري للجمهور في ذلك، حيث يقدِّر جملةً بين همزة الاستفهام وحرف العطف. و «ثمَّ» حرفُ عطف، وقد قال الطبري ما لا يوافَق عليه فقال: «وأثُمَّ هذه بضمِّ الثاء ليست التي بمعنى العطف، وإنما هي بمعنى هنالك» فإن كان قَصَدَ تفسير المعنى وهو بعيدٌ فقد أبهم في قوله، لأن هذا المعنى لا يُعْرَفُ في «ثُمَّ» بضم الثاء، إلا أنه قد قرأ طلحة بن مصرف «أثَمَّ» بفتح الثاء، وحينئذ يَصِحُّ تفسيرها بمعنى هنالك. قوله: {الآنَ} قد تقدَّم الكلام في «الآن» . وقرأ الجمهور «ألآن» بهمزة استفهام داخلة على «الآن» وقد تقدم مذاهب القراء في ذلك. و «الآن» نصبٌ بمضمر تقديره: الآن آمنتم. ودلَّ على هذا الفعلِ المقدرِ الفعلُ الذي تقدَّمه وهو قولُه: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} . ولا يجوز أن يعملَ فيه «آمنتم» الظاهرُ؛ لأنَّ ما قبلَ الاستفهام لا يَعْمل فيما بعده، كما أنَّ ما بعدَه لا يعملُ فيما قبله لأنَّ له صدرَ الكلام، وهذا الفعلُ المقدرُ ومعمولُه على إضمار قول أي: قِيل لهم إذ آمنوا بعد وقوعِ العذابِ: آمنتم الآن به. والقراءةُ بالاستفهامِ هي قراءةُ العامة، وقد عَرَفْتَ تخريجَها. وقرأ عيسى وطلحة «آمنتم به الآن» بوصل الهمزة من غيرِ استفهامٍ، وعلى هذه القراءةِ ف «الآن» منصوبٌ ب «آمنتم» هذا الظاهر. قولُه: {وَقَدْ كُنتُم} جملةٌ حاليةٌ. قال الزمخشري: {وَقَدْ كُنتُم بِهِ

تَسْتَعْجِلُونَ} يعني تُكَذِّبون، لأنَّ استعجالَهم كان على جهةِ التكذيبِ والإِنكارِ «. قلت: فَجَعَله من باب الكناية لأنه دلالةٌ على الشيءِ بلازِمِه نحو» هو طويلُ النِّجاد «كَنَيْتَ به عن طولِ قامتِه؛ لأنَّ طولَ نِجادِه لازمٌ لطول قامتِه وهو باب بليغ.

52

وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} : هذه الجملةُ على قراءةِ العامة عطفٌ على ذلك الفعلِ المقدَّرِ الناصبِ ل «الآن» ، وعلى قراءةِ طلحة هو استئنافُ إخبارٍ عَمَّا يُقال لهم يومَ القيامة، و «ذوقوا» ، و «هل تُجْزَوْن» كلُّه في محلِّ نصبٍ بالقول، وقوله «إلا بما» هو المفعولُ الثاني ل «تُجْزَون» ، والأولُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، وهو استثناءٌ/ مفرغ.

53

قوله تعالى: {أَحَقٌّ هُوَ} : يجوز أن يكونَ «حَقٌّ» مبتدأ و «هو» مرفوعاً بالفاعلية سدَّ مَسَدَّ الخبر، و «حق» وإن كان في الأصلِ مصدراً ليس بمعنى اسم فاعل ولا مفعول، لكنه في قوةِ «ثابت» فلذلك رَفَعَ الظاهرَ. ويجوز أن يكون «حَقٌّ» خبراً مقدماً و «هو» مبتدأً مؤخراً. واختلف في «يَسْتَنْبِئُونك» هذه هل هي متعديةٌ إلى واحد أو إلى اثنين أو إلى ثلاثة؟ فقال الزمخشري: «ويَسْتَنْبِئونك فيقول: أحقٌّ هو» فظاهرُ هذه العبارةِ أنها متعديةٌ لواحد، وأن الجملةَ الاستفهاميةَ في محلِّ نصبٍ بذلك القولِ المضمرِ المعطوفِ على «يَسْتَنْبِئُونك» وكذا فَهِم عنه الشيخ أعني تعدِّيَها لواحدٍ. وقال مكي: «أحقٌّ هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضعِ المفعولِ الثاني إذا جَعَلْتَ» يستنبؤنك «بمعنى يَسْتَخْبِرونك، فإذا جَعَلْتَ» يستنبئونك «

بمعنى يَسْتَعْلِمونك كان» أحقٌّ هو «ابتداءً وخبراً في موضع المفعولَيْن لأنَّ» أَنْبأ «إذا كان بمعنى أَعْلَم كان متعدياً إلى ثلاثةِ مفعولِيْن يجوزُ الاكتفاءُ بواحدٍ، ولا يجوزُ الاكتفاء باثنين دون الثالث، وإذا كانت» أنبأ «بمعنى أَخْبر تَعَدَّتْ إلى مفعولَيْن، لا يجوز الاكتفاءُ بواحد دون الثاني: وأنبأ ونبَّأ في التعدِّي سواءٌ» . وقال ابنُ عطية: «معناه يَسْتَخْبرونك، وهو على هذا يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما الكافُ، والآخرُ في الابتداء والخبر» فعلى ما قال تكون «يَسْتنبئونك» معلقة بالاستفهام، وأصل استنبأ أن يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما ب «عن» ، تقول: اسْتَنْبأت زيداً عن عمرو أي: طلبت منه أن يُنْبِئَني عن عمرو. ثم قال: «والظاهر أنها تحتاج إلى مفعولِين ثلاثةٍ أحدُهما الكافُ، والابتداءُ والخبرُ سَدَّ مَسَدَّ المفعولَيْن» . قال الشيخ: «وليس كما ذكر لأن» استعلم «لا يُحْفظ كونُها متعديةً إلى مفاعيلَ ثلاثةٍ، لا يُحْفظ» استعملت زيداً عمراً قائماً «فتكونُ جملةُ الاستفهامِ سَدَّتْ مَسدَّ المفعولين، ولا يَلْزَمُ مِنْ كونها بمعنى» يَسْتعلمونك «أن تتعدَّى إلى ثلاثة؛ لأنَّ» استعلم «لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ كما ذكرنا» . قلت: قد سَبَقَ أبا محمد إلى هذا مكي بن أبي طالب كما قدَّمْتُ حكايته عنه، والظاهرُ جوازُ ذلك، ويكون التعدي إلى ثالث قد حَصَلَ بالسين، لأنهم نَصُّوا على أن السين تُعَدّي، فيكونُ الأصلُ: «علم زيدٌ عمراً قائماً» ثم تقول: «استعلمْتُ زيداً عمراً قائماً» ، إلا أنَّ النحويين نَصُّوا على أنه لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ إلا «عَلِم» و «رأى» المنقولَيْن بخصوصيةِ همزةِ التعدِّي إلى ثالثٍ، وأنبأ ونَبَّأ وأخبر وخبَّر وحدَّث.

وقرأ الأعمش «آلحقُّ» بلامِ التعريف. قال الزمخشري: «وهو أَدْخَلُ في الاستهزاء لتضمُّنه معنى التعريض بأنه باطلٌ، ذلك أن اللامُ للجنس وكأنه قيل: أهو الحقُّ لا الباطلُ، أو: أهو الذي سَمَّيْتموه الحق» . قوله: {إي} حرفُ جوابٍ بمعنى نعم ولكنها تختصُّ بالقسم أي: لا تُسْتعمل إلا في القسم بخلافِ نعم. قال الزمخشري: «وإي بمعنى نعم في القسم خاصةً كما كان» هل «بمعنى» قد «في الاستفهامِ خاصةً، وسَمِعْتهم يقولون في التصديق» إيْوَ «فَيَصِلُونه بواو القسم ولا يَنْطِقون به وحده» . قال الشيخ: «لا حجَّةَ فيما سمعه لعدمِ الحُجة في كلامِ مَنْ سمعه لفسادِ كلامه وكلامِ مَنْ قبله بأزمانٍ كثيرة» . وقال ابن عطية: «وهي لفظةٌ تتقدَّم القسمَ بمعنى نعم، ويجيءُ بعدها حرفُ القسم وقد لا يجيءُ تقول: إي وربي، إي ربي» . قوله: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} يجوزُ أن تكونَ الحجازيةَ، وأن تكونَ التميميةَ، لخفاءِ النصبِ أو الرفع في الخبر. وهذا عند غيرِ الفارسي وأتباعِه، عني جوازَ زيادةِ الباء في خبر التميمية. وهذه الجملةُ تحتملُ وجهين، أحدهما: أن تكون معطوفةً على جوابِ القسم، فيكونَ قد أجاب القسم بجملتين إحداهما مثبتةٌ مؤكَّدةٌ ب «إنَّ» واللام، والأخرى منفيةٌ مؤكَّدةٌ بزيادة الباء. والثاني: أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للإِخبار بعَجْزهم عن التعجيز. و «مُعْجز» مِنْ أعجز فهو متعدٍّ لواحدٍ كقوله تعالى: {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} [الجن: 12] فالمفعول هنا محذوفٌ أي:

بمعجزين الله. وقال الزجاج: «أي: ما أنتم مِمَّن يُعْجِزُ مَنْ يُعَذِّبكم» . ويجوز أن يكونَ استُعْمل استعمَال اللازم؛ لأنه قد كثُر فيه حَذْفُ المفعولِ حتى قالت العرب: «أعْجزَ فلانٌ» : إذا ذهب في الأرض فلم يُقْدَرْ عليه.

54

قوله تعالى: {لاَفْتَدَتْ بِهِ} : «افتدى» يجوز أن يكون متعدياً وأن يكونَ قاصراً، فإذا كان مطاوعاً ل «فَدَى» كان قاصراً تقول: فَدَيْتُه فافتدى، ويكونُ بمعنى فَدَى فيتعدى لواحد. والفعلُ هنا يحتملُ الوجهين: فإنْ جعلناه متعدياً فمفعولُه محذوفٌ تقديرُه: لافتدَتْ به نفسَها، وهو في المجاز كقولِه: {كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] . وقوله: {وَأَسَرُّواْ} / قيل: «أسرَّ» مِنَ الأضداد، يُسْتعمل بمعنى أظهر، كقوله الفرزدق: 2599 - ولمَّا رأى الحجَّاجَ جرَّد سيفَه ... أسَرَّ الحَرُوريُّ الذي كانوا أضمرا وقول الآخر: 2600 - فأسرَرْتُ الندامةَ يوم نادى ... بِرَدِّ جِمالِ غاضِرةَ المُنادي ويُسْتعمل بمعنى: «أخفى» وهو المشهورُ في اللغةِ كقوله: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19] وهو في الآيةِ يحتمل الوجهين. وقيل: إنه ماض على بابه قد وقع. وقيل: بل هو بمعنى المستقبل. وقد أبعدَ بعضُهم فقال: «أسرُّوا الندامةَ» أي: بَدَتْ بالندامة أسِرَّةُ وجوهِهم أي: تكاسيرُ جباهِهم. و {لَمَّا رَأَوُاْ} يجوز أن تكونَ حرفاً، وجوابُها محذوف لدلالة ما تقدَّم

عليه، وهو المتقدمُ عند مَنْ يَرى تقديمَ جواب الشرط جائزاً. ويجوز أن تكونَ بمعنى حين والناصبُ لها «أسَرُّوا» . وقوله: «ظلَمْت» في محل جرِّ صفةٍ ل «نفس» أي: لكل نفس ظالمة. و {مَّا فِي الأرض} اسمُ أن، و «لكلٍ» هو الخبر. وقوله: {وَقُضِيَ} يجوزُ أن يكونَ مستأنفاً، وهوالظاهر، ويجوز أن يكونَ معطوفاً على «رأوا» فيكونَ داخلاً في حَيِّز «لَمَّا» والضميرُ في «بينهم» يعودُ على «كل نفس» في المعنى. وقال الزمخشري: «بين الظالمين والمظلومين، دلَّ على ذلك ذِكْرُ الظلم» وقال بعضُهم: إنه يعود على الرؤساء والأتباع. و «بالقسط» يجوز أن تكونَ الباءُ للمصاحبةِ، وأن تكونَ للآلة.

56

وقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : قدَّمَ الجارَّ للاختصاص أي: إليه لا إلى غيرِه تُرْجَعون ولأجل الفواصل. وقرأ العامَّةُ: «تُرْجَعون» بالخطاب. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر «يُرْجَعُون» بياء الغَيْبة.

57

قوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ} : يجوز أن تكونَ «مِنْ» لابتداء الغاية فتتعلَّقَ حينئذ ب «جاءَتْكم» ، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، ويجوز أن تكونَ للتبعيضِ فتتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفة لموعظة أي: موعظةٌ كائنةٌ مِنْ مواعظِ ربكم. وقوله: {مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} من باب ما عُطِف فيه الصفات بعضُها على بعض أي: قد جاءتكم موعظةٌ جامعةٌ لهذه الأشياءِ كلِّها. و «شِفاء» في الأصلِ مصدرٌ جُعِل وَصْفاً مبالغة، أو هو اسمٌ لما يُشْفَى به أي: يداوى، فهو كالدواءِ لما يداوى. و {لِّمَا فِي الصدور} يجوزُ أن يكونَ

صفةً ل «شفاء» فيتعلَّقَ بمحذوف، وأن تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول؛ لأن العاملَ فرعٌ إذا قلنا بأنه مصدرٌ. وقوله: «للمؤمنين» محتملٌ لهذين الوجهين وهو من التنازع؛ لأنَّ كلاً من الهدى والرحمة يَطْلبه.

58

قوله تعالى: {بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ} : في تعلُّق هذا الجارِّ أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «بفضل» و «برحمته» متعلقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: بفضل الله وبرحمته ليَفْرحوا بذلك فَلْيفرحوا، فحذفَ الفعلَ الأولَ لدلالة الثاني عليه، فهما جملتان، ويدلُّ على ذلك قولُ الزمخشري: «أصلُ الكلام: بفضل الله وبرحمته فَلْيفرحوا فبذلك والتكرير للتأكيد والتقريرِ وإيجابِ اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دونَ ما عَداهما من فوائدِ الدنيا، فحُذِفَ أحدُ الفعَلْين لدلالةِ المذكورِ عليه، والفاء داخلةٌ لمعنى الشرط كأنه قيل: إنْ فَرِحوا بشيءٍ فَلْيَخُصُّوهما بالفرح فإنه لا مفروحَ به أحقُّ منهما. الثاني: أن الجارَّ الأولَ متعلقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السياقُ والمعنى، لا نفس الفعلِ الملفوظِ به والتقديرُ: بفضل الله وبرحمتِه فَلْيَعْتَنوا فبذلك فليفرحوا قاله الزمخشري. الثالث: أن يتعلق الجارُّ الأول ب» جاءتكم «قال الزمخشري:» ويجوز أن يُراد «قد جاءَتْكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، أي فبمجيئِها فَلْيفرحوا» . قال الشيخ: «أما إضمار» فليعتنوا «فلا دليلَ عليه» قلت: الدلالةُ عليه من السياق واضحةٌ، وليس شرطُ الدلالةِ أن تكونَ لفظية. وقال الشيخ: «وأمَّا تعلُّقه بقوله:» قد جاءتكم «فينبغي أن يقدَّرَ

محذوفاً بعد» قل «، ولا يكونُ متعلِّقاً ب» جاءتكم «الأولى للفصل بينهما ب» قل «. قلت: هذا إيرادٌ واضحٌ، ويجوزُ أن تكونَ» بفضل الله «صفةً ل» موعظة «أي: موعظةٌ مصاحبةٌ أو ملتبسَةٌ بفضل الله. الرابع: قال الحوفي:» الباءُ متعلقةٌ بما دَلَّ عليه المعنى أي: قد جاءتكم الموعظةُ بفضل الله «. الخامس: أنَّ الفاءَ الأولى زائدةٌ، وأن قولَه» بذلك «بدلٌ مِمَّا قبله وهو {بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ} وأُشير بذلك إلى اثنين وهما الفضلُ والرحمةُ كقوله: / {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] ، وكقوله: 2601 - إنَّ للخيرِ وللشرِ مَدَى ... وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ وفي هاتين الفاءَيْن أوجهٌ، أحدُهما: أنَّ الأولى زائدةٌ، وقد تقدَّم تحريرُه في الوجه الخامس. الثاني: أن الفاءَ الثانية مكررةٌ للتوكيد، فعلى هذا لا تكونُ الأولى زائدةً، ويكونُ أصلُ التركيبِ: فبذلك ليفرحوا، وعلى القولِ الأول قبله يكون أصلُ التركيب: بذلك فَلْيفرحوا. الثالث: قال أبو البقاء:» الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: فليَعْجبوا بذلك فَلْيفرحوا كقولهم: «زيداً فاضربه أي: تَعمَّدْ زيداً فاضْرِبه» . والجمهورُ على «فَلْيفرحوا» بياء الغيبة. وقرأ عثمان بن عفان وأبيّ وأنس والحسن وأبو رَجاء وابن هرمز وابن سيرين بتاء الخطاب، وهي قراءةُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الزمخشري: «وهو الأصلُ والقياسُ» .

وقال الشيخ: «إنها لغةٌ قليلة» يعني أن القياسَ أن يُؤْمَرَ المخاطب بصيغة افعل، وبهذا الأصلِ قرأ أُبَيُّ «فافرحوا» وهي في مصحفِه كذلك، وهذه قاعدةٌ كليةٌ: وهي أن الأمر باللام يَكْثُر في الغائب والمخاطبِ المبني للمفعول مثال الأول: «ليقم زيداً» وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور، ومثال الثاني: ليُعْنَ بحاجتي، ولتُضْرَبْ يا زيد. فإن كان مبنياً للفاعل كان قليلاً كقراءة عثمان ومن معه. وفي الحديث «لتأخذوا مصافَّكم» بل الكثيرُ في هذا النوع الأمرُ بصيغة افْعَلْ نحو: قم يا زيد وقوموا، وكذلك يَضْعُف الأمر باللام للمتكلم وحده أو ومعه غيره، فالأول نحو «لأقُمْ» تأمر نفسك بالقيام، ومنه قوله عليه السلام: «قوموا فلأصلّ لكم» . ومثالُ الثاني: لنقمْ أي: نحن وكذلك النهي، ومنه قول الشاعر: 2602 - إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ ... بها أبداً ما دام فيها الجُراضِمُ ونَقَل ابن عطية عن ابنِ عامر أنه قرأ «فَلْتَفْرحوا» خطاباً، وهذه ليست مشهورةً عنه. وقرأ الحسن وأبو التيَّاح «فَلِيفرحوا» بكسرِ اللام، وهو الأصل. قوله: {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} «هو» عائدٌ على الفضل والرحمة، وإن

كانا شيئين؛ لأنهما بمعنى شيء واحد، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد، ولذلك أُشير إليهما بإشارة الواحد. وقرأ ابن عامر «تَجْمعون» بالتاء خطاباً وهو يحتمل وجهين أحدُهما: أن يكونَ من باب الالتفات فيكونَ في المعنى كقراءة الجماعة، فإن الضمير يُراد به مَنْ يراد بالضمير في قولِه: «فَلْيفرحوا» . والثاني: أنه خطابٌ لقوله: {ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ} [يونس: 57] ، وهذه القراءةُ تناسبُ قراءةَ الخطاب في قوله: «فَلْيفرحوا» ، وقد تقدَّم أن ابنَ عطية نقلها عنه أيضاً.

59

قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ} : هذه بمعنى أخبروني. وقوله «ما أنزل» يجوزُ أن تكونَ «ما» موصولةً بمعنى الذي، والعائدُ محذوفُ أي: ما أنزله، وهي في محل نصبٍ مفعولاً أول، والثاني هو الجملةُ من قوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} والعائدُ من هذه الجملةِ على المفعولِ الأول محذوفٌ تقديرُه: اللَّهُ أَذِن لكم فيه. واعتُرِضَ على هذه بأنَّ قولَه «قُلْ» يمنع من وقوع الجملةِ بعده مفعولاً ثانياً. وأُجيب عنه بأنه كُرِّر توكيداً. ويجوز أن تكونَ «ما» استفهامية منصوبةً المحلِّ ب «أَنْزَلَ» وهي حينئذ مُعَلِّقَةٌ ل «أَرَأَيْتم» ، وإلى هذا ذهب الحوفي والزمخشري. ويجوز أن تكونَ «ما» الاستفهاميةُ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والجملةُ من قوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} خبره، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم أي: أَذِن لكم فيه، وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ معلِّقَةٌ ل «أَرَأَيتم» ، والظاهرُ من هذه الوجهِ هو الوجهُ الأولُ، لأنَّ فيه إبقاءَ «أرأيت» على بابها مِنْ تَعَدِّيها إلى اثنين، وأنها مؤثرةٌ في أولِهما بخلافِ جَعْلِ «ما» استفهاميةً فإنها معلقةٌ ل «أرأيت» وسادَّةٌ مَسَدَّ المفعولين.

وقوله: {مِّن رِّزْقٍ} يجوزُ أن يكونَ حالاً من الموصول، وأن تكونَ «مِنْ» لبيان الجنس و «أنزل» على بابها وهو على حَذْف مضاف أي: أنزله من سببِ رزقٍ وهو المطر. وقيل: تُجُوِّز بالإِنزال عن الخلقِ كقولِه {وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25] {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام} [الزمر: 6] . قوله: {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} في «أم» هذه وجهان أحدهما: أنها متصلةٌ عاطفةٌ/ تقديرُه: أخبروني: آللَّهُ أَذِنَ لكم في التحليلِ والتحريم، فإنهم يفعلون ذلك بإذنه أم يَكْذِبون على الله في نسبة ذلك إليه. والثاني: أن تكونَ منقطعةً. قال الزمخشري: «ويجوز أن تكونَ الهمزةُ للإِنكار و» أم «منقطعةٌ بمعنى: بل أَتَفْترون على الله، تقريراً للافتراء» . والظاهر هو الأول إذ المعادلةُ بين هاتين الجملتين اللتين بمعنى المفردين واضحةٌ، إذ التقدير: أيُّ الأمرينِ وَقَعَ: إذْنُ اللَّهِ لكم في ذلك أم افتراؤكم عليه؟

60

قوله تعالى: {وَمَا ظَنُّ} : «ما» مبتدأةٌ استفهامية، و «ظنُّ» خبرُها، و «يومَ» منصوبٌ بنفس الظن، والمصدرُ مضافٌ لفاعلِه، ومفعولا الظن محذوفان، والمعنى: وأيُّ شيءٍ يَظُنُّ الذين يَفْترون يومَ القيامة أني فاعلٌ بهم أَأُنجيهم من العذاب أم أنتقمُ منهم؟ وقرأ عيسى بن عمر: «وما ظَنَّ الذين» جَعَلَه فعلاً ماضياً والموصولُ فاعلُه، و «ما» على هذه القراءة استفهاميةٌ أيضاً في محلِّ نصبٍ على المصدرِ، وقُدّمَتْ لأنَّ الاستفهامَ له صدرُ الكلام والتقدير: أيَّ ظنٍ ظنَّ المفترون، و «ما» الاستفهاميةُ قد تَنُوب عن المصدر، ومنه قول الشاعر: 2603 -

ماذا يَغيرُ ابنَتْي رَبْعٍ عويلُهما ... لا تَرْقُدان ولا بؤسى لمَنْ رَقَدا وتقول: «ما تَضْرب زيداً» ، تريد: أيَّ ضربٍ تَضْربه. قال الزمخشري: أتى به فعلاً ماضياً، لأنه واقعٌ لا محالةَ، فكأنه قد وقع وانقضى «وهذا لا يستقيمُ هنا لأنه صار نصاً في الاستقبال لعملهِ في الظرف المستقبل وهو يومُ القيامة، وإن كان بلفظ الماضي.

61

قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ} : «ما» نافية في الموضعين، ولذلك عَطَفَ بإعادة «لا» النافية، وأَوْجب ب «إلا» بعد الأفعال لكونها منفيةً. و «في شأن» خبر «تكون» والضميرُ في «منه» عائدٌ على «شأن» و «مِنْ قرآن» تفسير للضمير، وخُصَّ من العمومِ، لأنَّ القرآنَ هو أعظمُ شؤونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: يعودُ على التنزيل، وفُسِّر بالقرآن لأنَّ كلَّ جزء منه قرآن، وإنما أَضْمَرَ قبل الذكرِ تعظيماً له. وقيل: يعود على الله، أي: وما تتلو مِنْ عند الله من قرآنٍ. وقال أبو البقاء: «من الشأن» ، أي: مِنْ أجله، و «من قرآن» مفعول «تتلو» و «مِنْ» زائدةٌ «. يعني أنها زِيْدت في المفعول به، و» من «الأولى جارةٌ للمفعولِ مِنْ أجله، تقديره: وما تتْلو من أجل الشأن قرآناً، وزِيْدَت لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ والمجرور نكرةٌ. وقال مكي:» منه «الهاء عند الفراء تعود على الشأن على تقديرِ حَذْفِ مضافٍِ تقديرُه: وما تتلو من أجل الشأن، أي: يحدث لك شأنٌ فتتلو القرآنَ من أجله» . والشَّأْنُ مصدرُ شَأنَ يَشْأَنُ شَأَنَه، أي: قَصَد يَقْصِدُ قَصْدَه، وأصلُه الهمز، ويجوز تخفيفه. والشأن أيضاً الأمرُ، ويُجْمع على شُؤُون.

وقوله: {إِلاَّ كُنَّا} هذه الجملةُ حاليةٌ وهو استثناء مفرغ، وولي «إلا» هنا الفعلُ الماضي دون قد لأنه قد تقدَّمها فعلٌ وهو مُجَوِّز لذلك. وقوله: «إذ» هذا الظرفُ معمولٌ ل «شُهودا» ولمَّا كانت الأفعالُ السابقةُ المرادُ بها الحالةُ الدائمةُ وتنسحب على الأفعالِ الماضيةِ كان الظرفُ ماضياً، وكان المعنى: وما كنت، وما تكون، ولا عَمِلْتم، إلا كنا عليكم شهوداً، إلا أفضتم فيه. و «إذ» تُخَلِّصُ المضارعَ لمعنى الماضي. قوله: {وَمَا يَعْزُبُ} قرأ الكسائي هنا وفي سبأ «يَعْزِب» بكسرِ العين، والباقون بضمها، وهما لغتان في مضارع عَزَبَ، يقال: عَزَب يَعْزِب العين، ويَعْزُب، أي: غابَ حتى خفي، ومنه الروضُ العازِبُ. قال أبو تمام: 2604 - وقَلْقَلَ نَأْيٌ مِنْ خراسانَ جَأْشَها ... فقلتُ اطمئنِّي أَنْضَرُ الروضِ عزِبُه وقيل للغائب عن أهله: عازِب، حتى قالوا لمن لا زوجَ له: عازب. وقال الراغب: «العازِبُ: المتباعِدُ في طلب الكلأ. ويقال: رجل عَزَبٌ وامرأة عَزَبة، وعَزَب عنه حِلْمُه، أي: غاب، وقوم مُعَزَّبون، أي: عَزَبَتْ عنهم إبلُهم، وفي الحديث:» من قرأ القرآن في أربعين يوماً فقد عَزَب «، أي: فقد بَعُد عهدُه بالخَتْمة. وقال قريباً منه الهروي فإنه قال: /» أي: بَعُدَ عهدُه بما ابتدأ منه وأبطأ في تلاوتِه «، وفي حديث أم مَعْبد:» والشاءُ عازِبٌ حِيال «، قال:» والعازِب: البعيدُ الذهابِ في المَرْعَى. والحائلُ: التي ضَرَبَها

الفحلُ فلم تَحْمل لجُدُوبة السَّنة. وفي الحديث أيضاً: «أصبحنا بأرضٍ عَزيبةٍ صحراءَ» ، أي: بعيدةِ المرعى. ويقال للمال الغائب: عازِب، وللحاضرِ عاهِن. والمعنى في الآية: وما يَبْعُد أو ما يخفى أو ما يَغيب عن ربك. و «مِنْ مِثْقال» فاعل، و «مِنْ» مزيدةٌ فيه، أي: ما يبعد عنه مثقالُ. والمثْقال هنا: اسمٌ لا صفةٌ، والمعنيُّ به الوزنُ، أي: وزن ذرة. قوله: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ} قرأ حمزة برفع راء «أَصْغر» و «أكبر» ، والباقون بفتحها. فأما الفتحُ ففيه وجهان، أحدهما: وعليه أكثر المُعْربين أنه جَرٌّ، وإنما كان بالفتحةِ لأنه لا يَنْصَرف للوزن والوصف، والجرُّ لأجلِ عطفِه على المجرور وهو: إمَّا «مثقال» ، وإمَّا «ذرة» . وأمَّا الوجهُ الثاني فهو أنَّ «لا» نافيةٌ للجنس، و «أصغر» و «أكبر» اسمُها، فهما مَبْنيان على الفتح. وأمَّا الرفعُ فمن وجهين أيضاً، أشهرهُما عند المُعْربين: العطفُ على محل «مثقال» إذ هو مرفوعٌ بالفاعلية و «مِنْ» مزيدة فيه كقولك: «ما قام مِنْ رجل ولا امرأة» بجرِّ «امرأة» ورَفِعْها. والثاني: أنه مبتدأ، قال الزمخشري: «والوجهُ النصبُ على نفي الجنس، والرفع على الابتداء ليكون كلاماً برأسِه، وفي العطفِ على محل» مثقال ذرة «، أو على لفظ» مثقال ذرة «فتحاً في موضع الجرِّ لامتناع الصرف إشكالٌ؛ لأنَّ قولَك:» لا يَعْزُب عنه شيءٌ إلا في كتاب مشكل «انتهى. وهذان الوجهان اختيار الزجاج، وإنما كان هذا مُشْكلاً عنده لأنه يصير التقدير: إلا في كتاب مبين فيعزبُ، وهو كلامٌ لا يصحُّ. وقد يزول هذا الإِشكالُ بما ذكره أبو البقاء: وهو أن يكون {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} استثناءٌ منقطعاً، قال: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} ، أي: إلا هو في كتاب، والاستثناءُ منقطع» .

وقال الإِمام فخر الدين بعد حكايته الإِشكالَ المتقدم: «أجاب بعضُ المحققين مِنْ وجهين، أحدهما: أن الاستثناءَ منقطع، والآخر: أن العُزوبَ عبارةٌ عن مُطْلق البعد، والمخلوقاتِ قسمان، قسمٌ أوجده اللهُ ابتداءً مِنْ غير واسطةٍ كالملائكة والسمواتِ والأرض، وقسمٌ أوجده بواسطةِ القسم الأول مثلِ الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، وهذا قد يتباعدُ في سلسلةِ العِلِّيَّة والمعلولِيَّة عن مرتبة وجود واجبِ الوجود، فالمعنى: لا يَبْعد عن مرتبة وجوده مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين، كتبه الله وأثبت فيه صورَ تلك المعلومات» . قلت: فقد آل الأمرُ إلى أنه جَعَله استثناءً مفرغاً، وهو حال من «أصغر» و «أكبر» ، وهو في قوة الاستثناءِ المتصل، ولا يُقال في هذا: إنه متصل ولا منقطع، إذ المفرَّغُ لا يُقال فيه ذلك. وقال الجرجاني: «إلا» بمعنى الواو، أي: وهو في كتاب مبين، والعربُ تضعُ «إلا» موضعَ واو النسق كقوله: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} [البقرة: 150] . وهذا الذي قاله الجرجانيُّ ضعيفٌ جداً، وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألة في البقرة، وأنه شيءٌ قال به الأخفش، ولم يَثْبُت ذلك بدليل صحيح. وقال الشيخ أبو شامةَ: «ويُزيل الإِشكالَ أن تُقَدِّر قبلَ قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} » ليس شيء من ذلك إلا في كتاب «وكذا تقدِّر في آية الأنعام. ولم يُقرأ في سبأ إلا بالرفع، وهو يُقَوِّي قولَ مَنْ يقول إنه معطوف

على» مثقال «ويُبَيِّنه أن» مثقال «فيها بالرفع، إذ ليس قبله حرفُ جر. وقد تقدَّمَ الكلامُ على نظير هذه المسألة والإِشكالُ فيها في سورة الأنعام في قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} [يونس: 59] ، إلى قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 59] ، وأنَّ صاحبَ» النظم «الجرجانيَّ هذا أحال الكلامَ فيها على الكلامِ في هذه السورة، وأن أبا البقاء قال:» لو جَعَلْناه كذا لفَسَدَ المعنى «، وقد بيَّنْتُ تقريرَ فسادِه والجوابَ عنه في كلام طويل هناك فعليك باعتبارِه ونَقْلِ ما يمكن نَقْلُه إلى هنا.

63

قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ} : في محلِّه أوجهٌ، أحدُها: أنه مرفوعٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمر، أي: هم الذين آمنوا، أو على أنه خيرٌ ثانٍ ل «إنَّ» ، أو على الابتداءِ، والخبرُ الجملةُ من قوله: «لهم البشرى» ، أو على النعت على موضع «أولياء» لأنَّ موضعَه رفعٌ بالابتداء قبل دخول «إنَّ» أو على البدل من الموضع أيضاً، ذكرهما مكي. وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين لأنهم يُجْرون التوابعَ كلَّها مُجرى عطفِ النسق في اعتبار المحل/ محلِّ الجر بدلاً من الهاء والميم في «عليهم» . وقيل: منصوبُ المحلِّ نعتاً ل «أولياء» ، أو بدلاً منهم على اللفظ أو على إضمارِ فعلٍ لائقٍ وهو «أمدحُ» ، فقذ تَحَصَّل فيه تسعةُ أوجهٍ: الرفعُ من خمسة، والجرُّ من وجه واحد، والنصبُ من ثلاثة. وإذا لم تجعلِ الجملةَ من قوله: «لهم البشرى» ، خبراً للذين جاز فيها الاستئنافُ، وأن تكونَ خبراً ثانياً ل «إنَّ» أو ثالثاً.

64

قوله تعالى: {فِي الحياة الدنيا} : يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلقٌ بالبشرى، أي: البشرى تقع في الدنيا، وفُسِّرت بالرؤيا

الصالحةِ. والثاني: أنها حالٌ من «البشرى» فتتعلق بمحذوف، والعاملُ في الحال الاستقرارُ في «لهم» لوقوعه خبراً. وقوله: «لا تبديلَ» جملةٌ مستأنفة. وقوله: «ذلك» إشارةُ للبشرى وإن كانت مؤنثةً لأنها في معنى التبشير. وقيل: هو إشارةٌ إلى النعيم، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: «ذلك» إشارةٌ إلى كونهم مبشَّرين في الدارين «.

65

قوله تعالى: {إِنَّ العزة} : العامَّةُ على كسرِ «إنَّ» استئنافاً وهو مُشْعِرٌ بالعِلِّيَّة. وقيل: هو جوابُ سؤالٍ مقدرٍ كأنَّ قائلاً قال: لِمَ لا يُحْزِنُه قولُهم، وهو ممَّا يُحْزِن؟ فأجيب بقوله: {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} ، ليس لهم منها شيءٌ فكيف تبالي بهم وبقولهم؟ . والوقفُ على قولِه: {قَوْلُهُمْ} ينبغي أن يُعْتمد ويُقْصَدَ ثم يُبتدأ بقوله: «إن العزَّة» وإن كان من المستحيلِ أن يتوهَّم أحد أن هذا مِنْ مقولهم، إلا مَنْ لا يُعْتَبَرُ بفهمه. وقرأ أبو حيوة: «أنَّ العزة» بفتح «أنَّ» . وفيها تخريجان، أحدهما: أنها على حَذْفِ لام العلة، أي: لا يَحْزنك قولهم لأجل أن العزة لله جميعاً. والثاني: أنَّ «أنَّ» وما في حيِّزها بدل من «قولهم» كأنه قيل: ولا يَحْزُنك أن العَّزة لله، وكيف يَظْهَرُ هذا التوجيهُ أو يجوز القول به، وكيف ينهى رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك في المعنى وهو لم يَتَعاطَ شيئاً من تلك الأسباب، وأيضاً فمِنْ أيِّ قبيلٍ الإِبدالُ هذا؟ قال الزمخشري: «ومَنْ جعله بدلاً من» قولهم «ثم أنكره فالمُنْكَر هو تخريجُه لا ما أنكره من القراءة به» ،

يعني أن إنكارَه للقراءة مُنْكَرٌ؛ لأنَّ معناها صحيحٌ على ما ذَكَرْتُ لك مِنَ التعليلِ، وإنما المُنْكَر هذا التخريجُ. وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ ونَسَبُوها للغلَط ولأكثر منه. قال القاضي: «فَتْحُها شاذٌّ يُقارِبُ الكفر، وإذا كُسِرت كان استئنافاً وهذا يدلُّ على فضيلة علم الإِعراب» . وقال ابن قتيبة: «لا يجوز فتحُ» إنَّ «في هذا الموضعِ وهو كفرٌ وغلوٌّ» ، وقال الشيخ: «وإنما قالا ذلك بناءً منهما على أن» أنَّ «معمولةٌ ل» قولهم «. قلت: كيف تكون معمولةً ل» قولهم «وهي واجبةُ الكسرِ بعد القول إذا حُكِيَتْ به، كيف يُتَوَهَّم ذلك؟ وكما لا يُتَوَهَّم هذا المعنى مع كسرِها لا يُتَوَهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيح. و» جميعاً «حال من» العِزَّة «ويجوز أن يكون توكيداً ولم يؤنَّثْ بالتاءِ، لأنَّ فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث لشبهه بالمصادرِ، وقد تقدَّم تحريرُه في قوله: {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ} [الأعراف: 56] . وقوله: {قَوْلُهُمْ} ، قيل: حُذِفَتْ صفتُه لِفَهْم المعنى، إذ التقديرُ: ولا يَحْزنك قولُهم الدالُّ على تكذيبك، وحَذْفُ الصفةِ وإبقاءُ الموصوفِ قليلٌ بخلافِ عكسِه. وقيل: بل هو عامٌّ أُريد به الخاص.

66

وقوله تعالى: {مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} : يجوزُ أن يُرادَ [به] العقلاءُ خاصةً، ويكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، وذلك أنه تعالى إذا كان يملك أشرفَ المخلوقات وهما الثَّقَلان العقلاءُ من الملائكة والإِنس والجن فَلأَنْ يملكَ ما سواهم بطريق الأَْوْلى والأَْحْرى. ويجوز أن يُرادَ العمومُ، وغَلَّبَ العاقلَ على غيرِه.

قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ} يجوز في «ما» هذه أن تكون نافيةً وهو الظاهرُ. و «شركاء» مفعولُ «يَتَّبع» ، ومفعولُ «يَدْعون» محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، والتقدير: وما يتبع الذين يَدْعُون مِنْ دون الله آلهةً شركاءَ، فآلهةً مفعول «يَدْعون» و «شركاءَ» مفعول «يتبع» ، وهو قولُ الزمخشري، قال: «ومعنى وما يَتَّبعون شركاءَ: وما يتَّبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يُسَمُّونها شركاءَ؛ لأن شركةَ الله في الربوبيةِ مُحال، إن يتبعونَ إلا ظنَّهم أنها شركاءُ» . ثم قال: «ويجوز أن تكون» ما «استفهاماً، يعني: وأيَّ شيءٍ يَتَّبعون، و» شركاء «على هذا نُصِب ب» يدعون «، وعلى الأول ب» يَتَّبع «وكان حقُّه» وما يتبع الذين يَدْعُون من دون الله شركاءَ شركاءَ «فاقتصر على أحدهما للدلالة» . وهذا الذي/ ذكره الزمخشري قد رَدَّه مكي ابن أبي طالب وأبو البقاء. أمَّا مكيٌّن فقال: «انتصَبَ شركاء ب» يَدْعون «ومفعول» يَتَّبع «قام مقامَه» إنْ يتبعون إلا الظنَّ لأنه هو، ولا ينتصِبُ الشركاء ب «يَتَّبع» لأنك تَنْفي عنهم ذلك، والله قد أَخْبر به عنهم «. وقال أبو البقاء:» وشركاء مفعولٌ «يَدْعون» ولا يجوزُ أن يكونَ مفعول «يتبعون» ؛ لأنَّ المعنى يَصير إلى أنَّهم لم يَتَّبعوا شركاء، وليس كذلك. قلت: معنى كلامِهما أنه يَؤُول المعنى إلى نفي اتِّباعهم الشركاءَ، والواقعُ أنهم قد اتَّبعوا الشركاء. وجوابه ما تقدَّم من أنَّ المعنى أنهم وإن اتَّبعوا شركاءَ فليسوا بشركاءَ في الحقيقة؛ بل في تسميتهم هم لهم بذلك، فكأنهم لم يَتَّخذوا شركاءَ ولا اتَّبعوهم لسلب الصفة الحقيقية عنهم، ومثلُه قولُك: «ما رأيتُ رجلاً» ، أي: مَنْ يستحقُّ أن يُسَمَّى رجلاً، وإن كنت قد

رأيت الذَّكر من بني آدم. ويجوز أن تكونَ «ما» استفهامية، وتكون حينئذٍ منصوبةً بما بعدها، وقد تقدَّم قولُ الزمخشري في ذلك. وقال مكي: «لو جعلتَ» ما «استفهاماً بمعنى الإِنكار والتوبيخ كانت اسماً في موضعِ نصبٍ ب» يتَّبع «. وقال أبو البقاء نحوه. ويجوزُ أنَ تكونَ» ما «موصولةً بمعنى الذي نسقاً على» مَنْ «في قوله: {ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات} ، قال الزمخشري:» ويجوز أن تكونَ «ما» موصولةً معطوفةً على «مَنْ» ، كأنه قيل: وللَّهِ ما يتَّبعه الذين يَدْعون من دونَ الله شركاء، أي: وله شركاؤكم «. ويجوز أن تكون «ما» هذه الموصولةَ في محل رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: والذي يَتَّبعه المشركون باطلٌ. فهذه أربعةُ أوجهٍ. وقرأ السلمي «تَدْعُون» بالخطاب، وعزاها الزمخشري لعليّ ابن أبي طالب. قال ابن عطية: «وهي قراءةٌ غيرُ متَّجهة» قلت: قد ذكرِ توجيهَها أبو القاسم، فقال: «ووجهُه أن يُحْمل» وما يتَّبع «على الاستفهام، أي: وأيُّ شيء يتَّبع الذين تَدْعونهم شركاءَ من الملائكة والنبيين، يعني أنهم يتَّبعون الله تعالى ويطيعونه، فما لكم لا تَفْعلون مثلَ فعلِهم كقوله تعالى: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] . قوله: {إِن يَتَّبِعُونَ} » إنْ «نافية، و» الظن «مفعولٌ به، فهو استثناءٌ مفرَّغ،

ومفعولُ الظن محذوفٌ تقديرُه: إن يتبعون إلا الظنَّ أنهم شركاءُ، وعند الكوفيين تكون أل عوضاً من الضمير تقديره:» إن يَتَّبعون إلا ظنَّهم أنهم شركاءُ. والأحسنُ أن لا يُقَدَّر للظن معمولٌ؛ إذ المعنى: إن يتبعون إلا الظن لا اليقين. وقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ} مَنْ قرأ «يَدْعُون» بياء الغيبة فقد جاء ب «يَتَّبعون» مطابقاً له، ومَنْ قرأ «تدعون» بالخطاب فيكون «يتبعون» التفاتاً، إذ هو خروج من خطاب إلى غَيْبة.

67

قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الليل} :. . . الآية. انظر إلى فصاحة هذه الآية، حيث حَذَفَ من كل جملةٍ ما ثبت في الأخرى، وذلك أنه ذكر علة جَعْل الليل لنا، وهي قوله «لتسكنوا» وحَذَفها مِنْ جَعْل النهار، وذَكَر صفةَ النهار وهي قوله «مُبْصِراً» وحَذَفَها من الليل لدلالة المقابل عليه، والتقدير: هو الذي جَعَل لكم الليل مُظْلماً لتَسْكُنوا فيه والنهارَ مُبْصِراً للتحرَّكوا فيه لمعاشِكم، فحذف «مُظْلماً» لدلالة «مبصراً» عليه، وحذف «لتتحَرَّكوا» لدلالة «لتسكنوا» وهذا أفصحُ كلامٍ. وقوله: {مُبْصِراً} أسند الإِبصارَ إلى الظرف مجازاً كقولِهم «نهارُه صائم وليله قائم ونائم» قال: 2605 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ونِمْتِ وما ليلُ المَطِيِّ بنائمِ وقال قطرب: «يقال: أَظْلَمَ الليلُ: صار ذا ظلمة، وأضاء النهار: صار ذا ضياء، فيكون هذا من باب النسبِ كقولهم لابن وتامر، وقوله تعالى: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 20] ، إلا أن ذلك إنما جاء في الثلاثي، وفي فعَّل بالتضعيف عند

بعضِهم في قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] ، في أحد الأوجه.

68

قوله تعالى: {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} : «إنْ» نافية و «عندكم» يجوز أن يكونَ خبراً مقدماً، و «مِنْ سلطان» مبتدأ مؤخراً، ويجوز أن يكونَ «مِنْ سلطان» مرفوعاً بالفاعلية بالظرف قبلَه لاعتمادِه على النفي، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرين، وبهذا يجوز أن يتعلَّقَ بسلطان لأنه بمعنى الحجة والبرهان، وأن يتعلَّقَ بمحذوف صفةً له، فيُحكمَ على موضعه بالجرِّ على اللفظ، وبالرفعِ على المحل؛ لأنَّ موصوفَه مجرور بحرفِ جرٍّ زائدٍ، وأن يتعلق بالاستقرار. قال الزمخشري: «الباءُ حقُّها أن تتعلَّقَ بقوله:» إنْ عندكم «على أن يُجْعَلَ القولُ مكاناً للسلطان كقولك:» ما عندكم بأرضِكم مَوْزٌ «كأنه قيل: إنْ عندكم/ بما تقولون سُلْطان» . وقال الحوفي: «وبهذا» متعلقٌ بمعنى الاستقرار «، يعني الذي تَعَلَّق به الظرف.

70

قوله تعالى: {مَتَاعٌ فِي الدنيا} : يجوز رفع «متاع» مِنْ وجهين، أحدهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، والجملة جوابٌ لسؤالٍ مقدر فهي استئنافيةٌ كأن قائلاً قال: كيف لا يَعْلمون وهم في الدنيا مُفْلحون بأنواعٍ ممَّا يتلذذون به؟ فقيل: ذلك متاع. والثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ تقديرُه، لهم متاعٌ، و «في الدنيا» يجوز أن يتعلقَ بنفس «متاع» ، أي: تَمَتُّعٌ في الدنيا، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل «متاع» فهو في محلِّ رفعٍ. ولم يُقرأ بنصبه هنا بخلاف قوله: «متاع الحياة» في أول السورة. وقوله: {بِمَا كَانُواْ} الباءُ للسببية، و «ما» مصدريةٌ، أي: بسببِ كونهم كافرين.

71

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ} : يجوز أن تكونَ «إذ» معمولةً ل «نَبأ» ، ويجوز أن تكونَ بدلاً مِنْ «نبأ» بدلَ اشتمال. وجوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من «نبأ» وليس بظاهرٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ منصوباً ب «اتلُ» لفساده، إذ «اتلُ» مستقبلٌ، و «إذا» ماض، و «لقومه» اللام: إمَّا للتبليغ وهو الظاهرُ، وإمَّا للعلة وليس بظاهرٍ. وقوله: {كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} من باب الإِسناد المجازي كقولهم: «ثَقُل عليَّ ظلُّه» . وقرأ أبو رجاء وأبو مجلز وأبو الجوزاء «مُقامي» بضم الميم، و «المقام» بالفتح مكان القيام، وبالضم مكان الإِقامة أو الإِقامة نفسها. وقال ابن عطية: «ولم يُقرأ هنا بضم الميم» كأنه لم يَطَّلع على قراءةِ هؤلاء الآباء. قوله: {فَعَلَى الله} جواب الشرط. وقوله: {فأجمعوا} عطف على الجواب، ولم يذكر أبو البقاء غيرَه. واستُشْكِل عليه أنه متوكلٌ على الله دائماً كَبُر عليهم مقامُه أو لم يكبر. وقيل: جوابُ الشرط قوله «فأجمعوا» وقوله {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} جملةٌ اعتراضية بين الشرط وجوابه، وهو كقول الشاعر: 2606 - إمَّا تَرَيْني قد نَحَلْتُ ومَنْ يكنْ ... غَرَضاً لأطراف الأَسِنَّة يَنْحَلِ فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بادِنٍ ... ضخمٍ على ظهر الجَوادِ مُهَبَّلِ

وقيل: الجوابُ محذوف، أي: فافعلوا ما شئتم. وقرأ العامة: «فَأَجْمعوا» أمراً مِنْ «أَجْمع» بهمزة القطع يقال: أَجْمع في المعاني، وجَمَع في الأعيان، فيقال: أجمعت أمري وجمعت الجيش، هذا هو الأكثر. قال الحارث بن حلزة: 2607 - أَجْمَعُوا أمرهم بليلٍ فلمَّا ... أصبحوا أصبحت لهم ضَوْضَاءُ وقال آخر: 2608 - يا ليت شعري والمُنَى لا تَنْفَعُ ... هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمْري مُجْمَعُ وهل أَجْمَعَ متعدٍّ بنفسه أو بحرف جر ثم حُذِف اتِّساعاً؟ فقال أبو البقاء: «مِنْ قولك» أجمعتُ على الأمر: إذا عَزَمْتَ عليه، إلا أنه حُذِفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه. وقيل: هو متعدٍّ بنفسه في الأصل «وأنشد قولَ الحارث. وقال أبو فيد السدوسي:» أَجْمعت الأمر «أفصحُ مِنْ أَجْمعت عليه» وقال أبو الهثيم: «أجمعَ أمرَه جَعَله مجموعاً بعدما كان متفرقاً» قال: «وَتفْرِقَتُه أن يقولُ مرةً افعل كذا، ومرة افعل كذا، وإذا عَزَم على أمرٍ واحد فقد جَمَعه أي: جعله جميعاً، فهذا هو الأصلُ في الإِجماع، ثم صار بمعنى العَزْم حتى وصل ب» على «فقيل: أَجْمَعْتُ على الأمر أي: عَزَمْتُ عليه، والأصل: أجمعت الأمر. وقرأ العامَّةُ:» وشركاءَكم «نصباً وفيه أوجه، أحدها: أنه معطوفٌ على» أَمْرَكم «بتقدير حذف مضاف، أي: وأمر شركاءكم كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] ، ودلَّ على ذلك ما قدَّمْتُه من أن «أَجْمع» للمعاني. والثاني: أنه

عطف عليه من غير تقدير حذف مضاف، قيل: لأنه يقال أيضاً: أجمعت شركائي. الثالث: أنه منصوب بإضمار فعلٍ لائق، أي: وأجمعوا شركاءكم بوصل الهمزة. وقيل: تقديره: وادعوا، وكذلك هي في مصحف أُبَيّ «وادعوا» فأضمرَ فعلاً لائقاً كقوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] ، أي: واعتقدوا الإِيمانَ، ومثلُه قولُ الآخر: 2609 - فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... حتى شَتَتْ هَمَّالةً عيناها وكقوله: 2610 - يا ليت زوجَك قد غدا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحاً / وقول الآخر: 2611 - إذا ما الغانياتُ بَرَزْنَ يوماً ... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا يريد: ومُعْتَقِلاً رُمْحاً، وكحَّلْنَ العيونا. وقد تقدم أن في هذه الأماكن غيرَ هذا التخريج. الرابع: أنه مفعولٌ معه، أي: مع «شركائكم» قال الفارسي: «وقد يُنْصب الشركاء بواو مع، كما قالوا: جاء البردُ والطَّيالسةَ» ، ولم يذكر الزمخشري غيرَ قولِ أبي علي. قال الشيخ: «وينبغي أَنْ يكونَ هذا التخريجُ على أنه مفعول معه من الفاعل، وهو الضمير في» فَأَجْمعوا «لا من المفعول الذي هو» أَمْرَكُمْ «وذلك على أشهرِ الاستعمالين،

لأنه يقال:» أجمع الشركاءُ أمرَهم، ولا يقال: «جَمَع الشركاء أمرهم» إلا قليلاً، قلت: يعني أنه إذا جعلناه مفعولاً معه من الفاعل كان جائزاً بلا خلافٍ، لأنَّ مِن النحويين مَنْ اشترط في صحةِ نصبِ المفعول معه أن يصلح عَطْفُه على ما قبله، فإن لم يَصْلُحْ عطفُه لم يَصِحَّ نصبُه مفعولاً معه، فلو جعلناه من المفعول لم يَجُزْ على المشهور، إذ لا يَصْلُح عَطْفُه على ما قبله، إذ لا يقال: أجمعت شركائي، بل جَمَعْت. وقرأ الزهري والأعمش والأعرج والجحدري وأبو رجاء ويعقوب والأصمعي عن نافع «فأجْمَعُوا» بوصل الألف وفتح الميم من جَمَع يَجْمَع، و «شركاءَكم» على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله، ويجوز فيه ما تقدم في القراءة الأولى من الأوجه. قال صاحب «اللوامح» : «أَجْمَعْتُ الأمر: أي: جَعَلْتُه جميعاً، وجَمَعْتُ الأموال جمعاً، فكان الإِجماعُ في الأحداث والجمع في الأعيان، وقد يُسْتعمل كلُّ واحد مكان الآخر، وفي التنزيل: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60] . قلت: وقد اختلف القراء في قوله تعالى: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} [طه: 64] ، فقرأ الستة بقطع الهمزة، جعلوه مِنْ أجمع وهو موافقٌ لِما قيل:» إنَّ «أجمع» في المعاني. وقرأ أبو عمرو وحدَه «فاجمعوا» بوصل الألفِ، وقد اتفقوا على قولِه «فَجَمع كيدَه ثم أتى» فإنه مِن الثلاثي، مع أنه متسلِّطٌ على معنى لا عَيْنٍ. ومنهم مَنْ جَعَل للثلاثي معنىً غيرَ معنى الرباعي فقال في قراءة أبي عمرو مِنْ جَمَع يَجْمع ضد فرَّق يُفَرِّق، وجَعَلَ قراءةَ الباقين مِنْ «أجمع أمرَه» إذا أحكمه وعزم عليه، ومنه قول الشاعر:

2612 - يا ليت شعري والمنى لا تَنْفَعُ ... هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمْري مُجْمَعُ وقيل: المعنى: فاجْمَعوا على كيدكم، فحذف حرف الجر. وقرأ الحسن والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وسلام ويعقوب «وشركاؤكم» رفعاً. وفيه تخريجان، أحدهما: أنه نسقٌ على الضمير المرفوع بأَجْمِعُوا قبله، وجاز ذلك إذ الفصلُ بالمفعولِ سَوَّغ العطف، والثاني: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديرُه: وشركاؤكم فَلْيُجْمِعوا أمرهم. وشَذَّتْ فرقةٌ فقرأت: «وشركائكم» بالخفض ووُجِّهَتْ على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجروراً على حاله كقوله: 2613 - أكلَّ امرِىءٍ تحسبين أمرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نارا أي: وكل نار، فتقدير الآية: وأمر شركائكم، فحذف الأمر وأبقى ما بعدَه على حاله، ومَنْ رأى برأي الكوفيين جوَّز عطفه على الضمير في «أمركم» من غيرِ تأويل، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب أعني العطفَ على الضميرِ المجرور مِنْ غير إعادة الجارِّ في سورة البقرة. قوله: {غُمَّةً} يقال: غَمٌّ وغُمَّة نحو كَرْبٌ وكُرْبَةٌ. قال أبو الهيثم: «هو مِنْ قولهم:» غَمَّ علينا الهلالُ فهو مغموم إذا التُمِس فلم يُر. قال طرفة ابن العبد. 2614 - لعَمْرك ما أمري عليَّ بغُمَّةٍ ... نهاري ولا ليلي عليَّ بسَرْمَدِ وقال الليث: «يُقال: هو في غُمَّة مِنْ أمره إذا لم يتبيَّنْ له.

قوله: {ثُمَّ اقضوا} مفعول» اقضوا «محذوف، أي: اقضُوا إليَّ ذلك الأمر/ الذي تريدون إيقاعه كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} [الحجر: 66] فعدَّاه لمفعولٍ صريح. وقرأ السَّرِيُّ» ثم أفْضُوا «بقطع الهمزة والفاء، مِنْ أفضى يُفْضي إذا انتهى، يقال: أَفْضَيْتُ إليك، قال تعالى: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] فالمعنى: ثم افضُوا إلى سِرِّكم، أي: انتهوا به إليَّ. وقيل: معناه: أَسْرِعوا به إليَّ. وقيل: هو مِنْ أفضى، أي: خَرَج إلى الفضاء، أي: فأصحِروا به إليَّ، وأَبْرِزوه لي كقوله: 2615 - أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرِقُ نابَه ... عليه فأفضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنه مِنْ فَضَا يَفْضُو، أي: اتَّسَع. وقوله:» لا تُنْظِرون «، أي: لا تُؤَخِّرون من النَّظِرة وهي التأخير.

73

وقوله تعالى: {فِي الفلك} : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بأَنْجَيْناه، أي: وقع الإِنْجاء في هذا المكان. والثاني: أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ، وهو «معه» لوقوعه صلةً، أي: والذين استقروا معه في الفلك. وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ} ، أي: صَيَّرناهم، وجُمع الضميرُ في «جَعَلْناهم» حَمْلا على معنى «مِنْ» ، و «خلائف» جمع خَلِيفة، أي: يَخْلُفون الغارقين.

74

قوله تعالى: {مِن بَعْدِهِ} : أي: بعد نوح. «بالبينات»

متعلقٌ ب «جاؤُوهم» ، أو بمحذوفٍ على أنه حال، أي: ملتبسين بالبينات. وقوله: «ليؤمِنوا» أتى بلام الجحود توكيداً. والضمير في «كَذَّبوا» عائدٌ على مَنْ عاد عليه الضمير في «كانوا» وهم قومُ الرسل. والمعنى: أنَّ حالَهم بعد بعثِ الرسل كحالِهم قبلها في كونهم أهلَ جاهلية، وقال أبو البقاء ومكي: «إن الضميرَ في» كانوا «يعود على قوم الرسل، وفي» كَذَّبوا «يعودُ على قوم نوح، والمعنى: فما كان قومُ الرسلِ ليؤمنوا بما كَذَّب به قومُ نوح، أي: بمثلِه. ويجوز أن تكونَ الهاءُ عائدةً على نوح نفسه من غير حَذْفِ مضافٍ، والتقدير: فما كان قومُ الرسلِ بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ، إذ لو آمنوا به لآمنوا بأنبيائهم. و» من قبل «متعلقٌ ب» كَذَّبوا «أي من قبل بعثة الرسل. وقيل: الضمائرُ كلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر: وهو أنهم بادروا رسلَهم بالتكذيب، كلما جاءَ رسولٌ لَجُّوا في الكفرِ وتمادَوْا عليه فلم يكونوا لِيؤمنوا بما سَبَقَ به تكذيبُهم من قبلِ لَجِّهم في الكفر وتمادِيهم. وقال ابن عطية:» ويحتمل اللفظُ عندي معنى آخر، وهو أن تكونَ «ما» مصدرية، والمعنى: فكذَّبوا رسلَهم فكان عقابهم من الله أَنْ لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم مِنْ قبل، أي: من سببه ومن جزائه، ويؤيِّد هذا التأويلَ «كذلك نطبع» ، وهو كلامٌ يحتاج لتأمُّل «. قال الشيخ:» والظاهرُ أنَّ «ما» موصولةٌ، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ} ولو كانت مصدريةً بقي الضميرُ غيرَ عائدٍ على مذكور، فتحتاج أن يتُكلَّفَ ما يعود عليه الضمير «. قلت: الشيخ بناه على قولِ جمهورِ النحاة في عدمِ كونِ» ما «

المصدرية اسماً فيعود عليها ضميرٌ، وقد نبَّهْتُك غيرَ مرةٍ أن مذهبَ الأخفش وابن السراج أنها اسمٌ فيعود عليها الضمير. وقرأ العامَّةُ» نَطْبع «بالنون الدالة على تعظيم المتكلم. وقرأ العباس بن الفضل بياء الغيبة وهو الله تعالى، ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخرَ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} [الأعراف: 101] . والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ على حسبِ ما عرفته من الخلاف، أي: مثلَ ذلك الطَّبْع المُحْكمِ الممتنعِ زوالُه نطبع على قلوب المُعْتدين على خَلْق الله.

76

وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش «لساحر» اسم فاعل، والإِشارة ب «هذا» حينئذٍ إلى موسى، أُشير إليه لتقدُّم ذكره، وفي قراءةِ الجماعةِ المشارُ إليه الشيءُ الذي جاء به موسى من قَلْبِ العصا حَيَّةً وإخراج يده بيضاء كالشمس. ويجوز أن يُشارَ ب «هذا» في قراءةِ ابن جبير إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً، حيث وَصَفوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ كقولهم: «شعرٌ شاعرٌ» و «جَدَّ جَدُّه» .

77

قوله تعالى: {أَتقُولُونَ} : في معمولِ هذا القولِ وجهان/، أحدهما: أنه مذكورٌ، وهو الجملةُ من قوله: «أسحرٌ هذا» إلى آخره، كأنهم قالوا: أجئتما بالسحر تطلبانِ به الفلاحَ ولا يفلح الساحرون، كقولِ موسى على نبيِّنا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضلُ الصلاة والسلام للسحرة: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} . والثاني: أن معموله محذوفٌ، وهو مدلولٌ عليه بما تقدَّم ذكرُه، وهو: إن هذا لسحرٌ مبين. ومعمولُ القول يُحذف للدلالةِ عليه كثيراً، كما يُحذف نفسُ القولِ كثيراً،

ومثلُ الآية في حَذْفِ المقول قولُ الشاعر: 2616 - لَنحن الأُلى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ ... برؤيتنا قبلَ اهتمامٍ بكمْ رُعْبا وفي كتاب سيبويه: «متى رأيت أو قلت زيداً منطلقاً» على إعمال الأول، وحَذْفِ معمولِ القول، ويجوز إعمالُ القولِ بمعنى الحكاية به فيقال: «متى رأيت أو قلت زيد منطلق» ، وقيل: القول في الآية بمعنى العَيْب والطعن، والمعنى: أتعيبون الحق وتَطْعنون فيه، وكان مِنْ حَقِّكم تعظيمُه والإِذعانُ له مِنْ قولهم: «فلان يخاف القالة» ، و «بين الناس تقاوُلٌ» ، إذا قال بعضهم لبعض ما يسْوءُه، ونَحْوُ القولِ الذكرُ في قوله: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] وكلُّ هذا ملخَّصٌّ من كلام الزمخشري.

78

قوله تعالى: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} : اللامُ متعلقةٌ بالمجيء أي: أجئت لهذا الغرض، أنكروا عليه مجيئَه لهذه العلة. واللَّفْتُ: الَّليُّ والصَرْفُ، لَفَتَه عن كذا أي: صَرَفَه ولواه عنه. وقال الأزهري: «لَفَتَ الشيءَ وفَتَلَه: لواه، وهذا من المقلوب» قلت: ولا يدعى فيه قَلْبٌ حتى يَرْجَعَ أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعلوا جَذَبَ وجَبَذَ وحَمِدَ ومَدَح من هذا القبيل لتساويهما. ومطاوعُ لَفَتَ: التَفَتَ. وقيل: انفتل، وكأنهم استَغْنَوا بمطاوع «فَتَل» عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لَفُوت: أي: تَلْتَفِتُ لولدها عن زوجها إذا كان الولد لغيره، واللَّفِيْتَةُ: ما يَغْلُظُ من العَصِيدة.

قوله: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء} الكِبْرياء: اسم كان، و «لكم» الخبر، و «في الأرض» : جَوَّز فيها أبو البقاء خمسةَ أوجه أحدها: أن تكونَ متعلقةً بنفس الكبرياء. الثاني: أن يُعَلَّق بنفس «تكون» . الثالث: أن يتعلَّقَ بالاستقرار في «لكم» لوقوعه خبراً. الرابع: أن يكونَ حالاً من «الكبرياء» . الخامس: أن يكون حالاً من الضمير في «لكما» لتحمُّلِه إياه. والكِبْرياء مصدرٌ على وزنِ فِعْلِياء، ومعناها العظمة. قال عديّ ابن الرِّقاع: 2617 - سُؤْدُدٌ غيرُ فاحِشٍ لا يُدا ... نِيه تَجْبارَةٌ ولا كِبْرِيا وقال ابن الرقيات: 2618 - مُلْكُه مُلْكُ رأفةٍ ليس فيه ... جَبَروتٌ منهُ ولا كِبْرِياءُ يعني: ليس هو ما عليه الملوكُ من التجبُّر والتعظيم. والجمهورُ على «تكون» بالتأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ. وقرأ ابن مسعود والحسن وإسماعيل وأبو عمرو وعاصم في روايةٍ: «ويكون» بالياء من تحتُ، لأنه تأنيثٌ مجازي.

79

وقوله تعالى: {بِكُلِّ سَاحِرٍ} : قرأ الأخَوان «سَحَّار» وهي قراءةُ ابنِ مُصَرِّف وابن وثاب وعيسى بن عمر.

81

قوله تعالى: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} : قرأ أبو عمرو وحده دون باقي السبعة «آلسحرُ» بهمزة الاستفهام، وبعدها ألف محضةٌ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الداخلةِ على لام التعريف، ويجوز أن تُسَهَّل بينَ بينَ، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله: {ءَآلذَّكَرَيْنِ} [الأنعام: 143] وهي قراءةُ مجاهدٍ وأصحابه وأبي جعفر. وقرأ باقي السبعة بهمزةِ وصلٍ تَسْقط في الدَّرْج. فأمَّا قراءة أبي عمرو ففيها أوجهٌ، أحدها: أنَّ «ما» استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «جِئْتُمْ به» الخبرُ، والتقديرُ: أيُّ شيءٍ جئتم، كأنه استفهامُ إنكارٍ وتقليلٌ للشيءِ المُجَاء به. و «السحر» بدلٌ من اسم الاستفهام، ولذلك أُعِيد معه أداتُه لما قرَّرْتُه في كتب النحو. الثاني: أن يكون «السحر» مبتدأً خبرُه محذوف، تقديره: أهو السحر. الثالث: أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر تقديره: السحر هو. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وذكر الثاني مكي، وفيهما بُعد. الرابع: أن تكونَ «ما» موصولةً بمعنى الذي، وجئتم به صلتُها، والموصولُ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «السحر» على وجهيه من كونِه خبرَ مبتدأ محذوف، أو مبتدأً محذوفَ الخبر، تقديره: الذي جئتم به/ أهو السحر، أو الذي جئتم به السحر هو، وهذا الضميرُ هو الرابط كقولك: الذي جاءك أزيدٌ هو، قاله الشيخ.

قلت: قد منع مكي أن تكونَ «ما» موصولةً على قراءة أبي عمرو فقال: «وقد قرأ أبو عمرو» آلسحرُ «بالمد، فعلى هذه القراءةِ تكون» ما «استفهاماً مبتدأ، و» جئتم به «الخبر، و» السحر «خبرُ ابتداء محذوف، أي: أهو السحر، ولا يجوزُ أن تكونَ» ما «بمعنى الذي على هذه القراءةِ إذا لا خبر لها» . قلت: ليس كما ذكر، بل خبرُها الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزْأيها، وكذلك الزمخشري وأبو البقاء لم يُجيزا كونَها موصولةً إلا في قراءة غيرِ أبي عمرو، لكنهما لم يتعرَّضا لعدمِ جوازه. الخامس: أن تكونَ «ما» استفهاميةً في محلِّ نصب بفعل مقدرٍ بعدها لأنَّ لها صدرَ الكلام، و «جئتم به» مفسِّر لذلك الفعل المقدر، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال، والتقدير: أيُّ شيءٍ أَتَيْتُمْ جئتم به، و «السحر» على ما تقدم، ولو قرىء بنصب «السحر» على أنه بدلٌ مِنْ «ما» بهذا التقديرِ لكان له وجه، لكنه لم يُقرأ به فيما عَلِمْت، وسيأتي ما حكاه مكي عن الفراء مِنْ جواز نصبِه لمَدْرَكٍ آخرَ على أنها قراءةٌ منقولة [عن الفرَّاء] . وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجهٌ أيضاً، أحدها: أن تكون «ما» بمعنى الذي في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «جئتم به» صلةٌ وعائدُه، و «السحرُ» خبرهُ، والتقدير: الذي جئتم به السحرُ، ويؤيِّد هذا التقديرَ قراءةُ أُبَيّ وما في مصحفه: {ما أتيتم به سحرٌ} وقراءةُ عبد الله والأعمش {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} . الثاني: أن تكونَ «ما» استفهاميةً في محلِّ نصبٍ بإضمارِ فعل على ما تقرَّر، و «السحر» خبر ابتداء مضمر أو مبتدأٌ مضمرُ الخبر. الثالث: أن تكونَ «ما»

في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «السحر» على ما تقدَّم مِنْ كونِه مبتدأً أو خبراً، والجملةُ خبر «ما» الاستفهامية. قال الشيخ بعدما ذكر الوجه الأول: «ويجوز عندي أن تكونَ في هذا الوجهِ استفهاميةً في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال، وهو استفهامٌ على سبيل التحقيرِ والتقليلِ لِما جاؤوا به، و» السحر «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو السحر» . قلت: ظاهرُ عبارتِه أنه لم يَرَه غيرُه، حيث قال «عندي» ، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكي. قال أبو البقاء: لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو «ويُقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان» ، ثم قال: «ويجوزُ أن تكونَ» ما «استفهاماً، و» السحر «خبر مبتدأ محذوف» . وقال مكي في قراءةِ غيرِ أبي عمرو بعد ذِكره كونَ «ما» بمعنى الذي: «ويجوز أن تكونَ» ما «رفعاً بالابتداء وهي استفهامُ، و» جئتم به «الخبر، و» السحر «خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو السحر، ويجوز أن تكونَ» ما «في موضعِ نصبٍ على إضمارِ فعلٍ بعد» ما «تقديرُه: أيُّ شيء جئتم [به] ، و» السحرُ «خبر ابتداء محذوف» . الرابع: أن تكونَ هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى، أي: إنها على نيةِ الاستفهام، ولكن حُذِفَتْ أداتُه للعلم بها، قال أبو البقاء: «ويُقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه استفهامٌ في المعنى أيضاً: وحُذِفَتْ الهمزةُ للعِلْم بها» ، وعلى هذا الذي ذكره يكونُ الإِعرابُ على ما تقدم. واعلم أنَّك إذا جَعَلْتَ «ما» موصولةً بمعنى الذي امتنع نصبُها بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال. قال مكي: «ولا يجوز أن تكونَ» ما «بمعنى الذي في

موضعِ نصبٍ لأن ما بعدها صلتُها، والصلةُ لا تعملُ في الموصول، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول» ، وهو كلامٌ صحيح، فتلخَّص من هذا أنها إذا كانَتْ استفهاميةً جاز أن تكونَ في محل رفع أو نصب، وإذا كانت موصولةً تعيَّن أن يكون مَحَلُّها الرفع بالابتداء. وقال مكي: «وأجاز الفراءُ نصبَ» السحر «، تجعل» ما «شرطاً، وتنصِبُ» السحرَ «على المصدر، وتضمرُ الفاء مع» إن الله سيُبْطِله «، وتجعلُ الألفَ واللامَ في» السحر «زائدتين، وذلك كلُّه بعيدٌ، وقد أجاز علي ابن سليمان حَذْفَ الفاءِ من جواب الشرط في الكلام، واستدلَّ على جوازه بقوله تعالى: / {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، ولم يُجِزْه غيره إلا في ضرورة شعر» . قلت: وإذا مَشَيْنا مع الفراء فتكون «ما» شرطاً يُراد بها المصدرُ، تقديره: أيَّ سحر جئتم به فإن الله سيبطله، ويُبَيِّن أن «ما» يراد بها السحر قولُه: «السحر» ، ولكن يَقْلَقُ قولُه: «إن نصب» السحر «على المصدرية» ، فيكون تأويله أنه منصوبٌ على المصدرِ الواقعِ موقعَ الحال، ولذلك قدَّره بالنكرة، وجَعَلَ أل مزيدةً منه. وقد نُقِلَ عن الفراء أن هذه الألف واللام للتعريف، وهو تعريف العهد، قال الفراء: «وإنما قال» السحر «بالألف واللام لأنَّ النكرةَ إذا أُعيدت أعيدَتْ بالألِفِ واللام» ، يعني أن النكرةَ قد تَقَدَّمَتْ في قوله: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} ، وبهذا شَرَحَه ابنُ عطية. قال ابن عطية: «والتعريفُ هنا في»

السحر «أَرْتَبُ لأنه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم:» إنَّ هذا لسِحْر «، فجاء هنا بلام العهد، كما يقال أول الرسالة» سلامٌ عليك «. قال الشيخ:» وما ذكراه هنا في «السحر» ليس مِنْ تقدُّم النكرة، ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأنَّ شَرْطَ هذا أن يكون المعرَّفُ بأل هو المنكَّرَ المتقدَّمَ، ولا يكون غيره، كقوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15-16] ، وتقول: «زارني رجلٌ فأكرمت الرجل» لَمَّا كان إياه جاز أن يُؤْتى بضميره بَدَلَه، فتقول: فأكرمتُه، والسحرُ هنا ليس هو السحرَ الذي في قولهم: «إنَّ هذا لسحر» لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحرٌ هو ما ظهر على يَدَي موسى من معجزة العصا والسحر الذي في قولِ موسى، إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان، إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عَمَّا جاؤوا به، ولذلك لا يجوز أن يُؤْتى هنا بالضمير بدلَ السحر، فيكونَ عائداً على قولهم: «لسِحْر» . قلت: والجوابُ أن الفراء وابن عطية إنما أراد السحر المتقدمَ الذِّكر في اللفظ، وإن كان الثاني هو غيرَ عينِ الأول في المعنى، ولكن لمَّا أُطْلِق عليهما لفظ «السحر» جاز أن يُقال ذلك، ويدلُّ على هذا أنهم قالوا في قوله تعالى: {والسلام عَلَيَّ} [مريم: 33] : إن الألفَ واللام للعهد لتقدُّم ذكر السلام في قوله تعالى: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ} [مريم: 15] ، وإن كان السلامُ الواقعُ على عيسى هو غيرَ السلام الواقع على يحيى، لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصُه به، وهذا النقل المذكورُ عن الفراء في الألف واللام ينافي ما نَقَله عنه مكيٌّ فيهما،

اللهم إلا أن يُقال: يُحتمل أن يكونَ له مقالتان، وليس ببعيدٍ فإنه كلما كَثُر العلمُ اتسعت المقالاتُ. وقوله: {المفسدين} مِنْ وقوع الظاهرِ موقعَ ضمير المخاطب إذ الأصلُ: لا يُصلح عملَكم، فأبرزهم في هذه الصفةِ الذَّميمةِ شهادةً عليهم بها.

82

وقرىء «بكلمته» بالتوحيد، وقد تقدَّم نظيرُه.

83

قوله تعالى: {فَمَآ آمَنَ} : الفاءُ للتعقيب، وفيها إشعارٌ بأن إيمانَهم لم يتأخر عن الإِلقاء، بل وقع عقيبه، لأنَّ الفاءَ تفيد ذلك، وقد تقدَّم توجيهُ تَعْدِيةِ «آمن» باللام. والضمير في «قومه» فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهرُ عودُه على موسى لأنه هو المحدَّث عنه، ولأنه أقربُ مذكورٍ، ولو عاد على فرعون لم يكرِّر لفظَه ظاهراً، بل كان التركيب «على خوفٍ منه» ، وإلى هذا ذهب ابنُ عباس وغيرُه. والثاني: أنه يعود على فرعون، ويُروى عن ابن عباس أيضاً، ورَجَّح ابنُ عطية هذا، وضَعَّف الأول فقال: «ومما يُضَعِّف عودَ الضمير على موسى أن المعروفَ من أخبارِ بني إسرائيل أنهم كانوا قد فَشَتْ فيهم النبواتُ، وكانوا قد نالهم ذلٌّ مُفْرِط، وكانوا يَرْجُوْن كَشْفَه بظهورِ مولود، فلمَّا جاءهم موسى أَصْفقوا عليه وتابعوه، ولم يُحْفَظ أن طائفةً من بني إسرائيل كفرت بموسى، فكيف تعطي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَ منهم كان الذي آمن؟ ، فالذين يَتَرَجَّح عَوْدُه على فرعون، ويؤيِّده أيضاً ما تقدَّم مِنْ محاورة/ موسى ورَدِّه عليهم وتوبيخهم» .

قوله: {على خَوْفٍ} حال، أي: آمنوا كائنين على خوف، والضمير في «وملئهم» فيه أوجه، أحدُها: أنه عائدٌ على الذرِّيَّة، وهذا قولُ أبي الحسن واختيارُ ابن جرير، أي: خوفٍ من مَلأَ الذرية، وهم أشرافُ بني إسرائيل. الثاني: أنه يعودُ على قومِه بوجهيه، أي: سواءٌ جَعَلْنا الضمير في «قومه» لموسى أو لفرعون، أي: وملأ قوم موسى أو ملأ قوم فرعون. الثالث: أن يعودَ على فرعون، واعتُرِضَ على هذا بأنه كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ وقد اعتذر أبو البقاء عن ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ فرعونَ لمَّا كان عظيماً عندهم عاد الضمير عليه جميعاً، كما يقول العظيم، نحن نأمرُ، وهذا فيه نظرٌ، لأنه لو وَرَدَ ذلك مِنْ كلامهم مَحْكيَّاً عنهم لاحتمل ذلك. والثاني: أنَّ فرعونَ صار اسماً لأتباعه، كما أن ثمودَ اسمٌ للقبيلة كلها «. وقال مكي وجهين آخرين قريبين من هذين، ولكنهما أخلصُ منهما، قال:» إنما جُمع الضميرُ في «مَلَئهم» لأنه إبخار عن جبّار، والجبَّار يُخْبَر عنه بلفظِ الجمع، وقيل: لَمَّا ذُكِرَ فرعونُ عُلِمَ أنَّ معه غيرَه، فَرَجَع الضميرُ عليه وعلى مَنْ معه «. قلت: وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا عند قوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس} [آل عمران: 173] ، والمرادُ بالقائل نعيم بن مسعود، لأنه لا يَخْلو من مُساعدٍ له على ذلك القول. الرابع: أنْ يعودَ على مضافٍ محذوف وهو آل، تقديره: على خوفٍ مِنْ آل فرعون ومَلَئهم، قاله الفراء، كما حُذِف في قوله {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] .

قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يَعْزُه لأحد: «وهذا عندنا غَلَط، لأنَّ المحذوفَ لا يعود إليه ضمير، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقول:» زيد قاموا «وأنت تريد» غلمان زيد قاموا «. قلت: قوله» لأن المحذوف لا يعودُ إليه ضمير «ممنوعٌ، بل إذا حُذِف مضافٌ فللعرب فيه مذهبان: الالتفاتٌ إليه وعَدَمُه وهو الأكثر، ويدل على ذلك أنه قد جَمَع بين الأمرين في قوله {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] أي: أهل قريةٍ، ثم قال:» أو هم قائلون «وقد حَقَّقْتُ ذلك في موضعِه المشارِ إليه. وقوله:» لجاز زيد قاموا «ليس نظيرَه، فإنَّ فيه حَذْفاً من غيرِ دليلٍ بخلاف الآية. وقال الشيخ بعد أن حكى كلامَ الفراء» ورُدَّ عليه بأن الخوفَ يُمكن مِنْ فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يُحْذَفُ إلا ما دلَّ عليه الدليل، وقد يقال: ويَدُلُّ على هذا المحذوفِ جَمْعُ الضمير في «ومَلَئهم» . قلت: يعني أنهم رَدُّوا على الفراء بالفرق بين {وَسْئَلِ القرية} وبين هذه الآيةِ بأنَّ سؤالَ القرية غيرُ ممكنٍ فاضْطُرِرْنا إلى تقدير المضاف بخلاف الآية، فإن الخوف تَمَكَّن مِنْ فرعونَ فلا اضطرارَ بنا يَدُلُّنا على مضاف محذوف. وجوابُ هذا أنَّ الحَذْفَ قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنه قيل في «واسأل القرية» إنه حقيقةٌ، إذ يمكنُ النبيُّ أن يسألَ القريةَ فتجيبَه. الخامس: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً حُذِف للدلالة عليه، والدليلُ كونُ المَلِك لا يكونُ وحدَه، بل له حاشية وعساكر وجندٌ، فكان التقدير: على خَوْفٍ مِنْ فرعون وقومه ومَلَئهم، أي: ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفراء أيضاً. قلت: حَذْفُ المعطوفِ قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم

قولُه تعالى {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد، وقول الآخر: 2619 - كأن الحصى مِنْ خلفها وأمامِها ... إذا حَذَفَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسَرا أي: ويدُها. قوله: {أَن يَفْتِنَهُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه في محلِّ جرٍ على البدل مِنْ «فرعون» ، وهو بدلُ اشتمالٍ تقديره: على خوفٍ من فرعون فِتْنَتِه كقولك: «أعجبني زيد علْمُه» . الثاني: أنه في موضعِ نصبٍ على المفعول به بالمصدر أي: خوفٍ فتنتَه، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ كثيرٌ كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14-15] . وقولِ الآخر: 2620 - فلولا رجاءُ النصرِ منك ورَهْبَةٌ ... عقابَك قد كانوا لنا بالمَوارد الثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حَذْفِ اللام، ويَجْري فيها الخلافُ المشهورُ. وقرأ الحسن ونبيح «يُفْتِنَهم» بضمِّ الياء وقد تقدَّم ذلك. و «في الأرض» متعلقٌ ب «عالٍ» أي: قاهر فيها أو ظالم كقوله: 2621 - فاعمِدْ لِما تَعْلُوا فمالك بالذي ... لا تَسْتطيع من الأمور يَدانِ أي: لِما تَقْهر. ويجوز أن يكون «في الأرض» متعلقاً بمحذوف لكونه صفة ل «عالٍ» فيكون مرفوع المحل، ويُرَجِّح الأولَ قولُه: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض} .

84

قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلوا} : جوابُ الشرط الأول، والشرطُ الثاني وهو إن كنتم مسلمين شرطٌ في الأول، وذلك أن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود فالشرطُ الثاني شرطٌ في الأول، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.

87

قوله تعالى: {أَن تَبَوَّءَا} : يجوز في «أَنْ» أن تكون المفسِّرة؛ لأنه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول وهو الإِيحاء، ويجوز أن تكونَ المصدريةَ فتكونَ في موضع نصب بأوحينا مفعولاً به أي: أَوْحَيْنا إليهما التبوُّءَ. والجمهورُ على الهمزة في «تبوَّآ» . وقرأ حفص «تَبَوَّيا» بياءٍ خالصة، وهي بدلٌ عن الهمزة، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي، إذ قياسُ تخفيفِ مثلِ هذه الهمزة أن تكونَ بين الهمزة والألف، وقد أنكر هذه الروايةَ عن حفص جماعةٌ من القراء، وقد خَصَّها بعضُهم بحالةِ الوقف، وهو الذي لم يَحْكِ أبو عمرو الداني والشاطبي غيرَه. وبعضُهم يُطْلق إبدالَها عنه ياءً وصلاً ووقفاً، وعلى الجملةِ فهي قراءةٌ ضعيفة في العربية وفي الرواية، وتركتُ نصوصَ أهل القراءة خوفَ السآمة، واستغناءً بما وضَعْتُه في «شرح القصيد» . والتبوُّءُ: النزولُ والرجوعُ، وقد تقدَّم تحقيق المادة في قوله {تُبَوِّىءُ المؤمنين} [آل عمران: 121] . قوله: {لِقَوْمِكُمَا} يجوزُ أن تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول الأول، و «بيوتاً» مفعولٌ ثان بمعنى بَوِّآ قومكما بيوتاً، أي: أنْزِلوهم، وفَعَّل وتفعَّل بمعنىً مثل «عَلَّقَها» و «تَعَلَّقها» قاله أبو البقاء. وفيه ضعفٌ من حيث إنه

زِيدت اللام، والعاملُ غير فرع، ولم يتقدَّم المعمول. الثاني: أنها غير زائدة، وفيها حينئذ وجهان، أحدهما: أنها حالٌ من «البيوت» . والثاني: أنها وما بعدها مفعول «تَبَوَّآ» . قوله: {بِمِصْرَ} جَوَّز فيه أبو البقاء أوجهاً، أحدها: أنه متعلِّق ب «تَبَوَّآ» ، وهو الظاهرُ. الثاني: أنه حالٌ من ضمير «تبوَّآء» ، واستضعفه، ولم يبيِّن وجهَ ضعفهِ لوضوحه. الثالث: أنه حالٌ من «البيوت» . الرابع: أنه حالٌ من «لِقومكما» ، وقد ثنى الضميرَ في «تبوَّآ» وجمع في قوله «واجعلوا» و «أقيموا» ، وأفرد في قوله: «وبشِّر» ؛ لأن الأولَ أمرٌ لهما، والثاني لهما ولقومهما، والثالث لموسى فقط؛ لأن أخاه تَبَعٌ له، ولمَّا كان فِعْلُ البِشارة شريفاً خَصَّ به موسى لأنه هو الأصل.

88

قوله تعالى: {لِيُضِلُّواْ} : في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها لامُ العلة، والمعنى: أنك أتيتَهم ما أتيتهم على سبيل الاستدراج فكان الإِيتاءُ لهذه العلة. والثاني: أنها لام الصيرورة والعاقبة كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] . وقولِه: 2622 - لِدُوا للموت وابنُوا للخراب ... . . . . . . . . . . . . . . . . . وقولِه: 2623 - فللموتِ تَغْذو الوالداتُ سِخالَها ... كما لخرابِ الدُّوْرِ تُبْنَى المساكنُ

وقوله: 2624 - وللمنايا تُرَبِّى كلُّ مُرْضِعَةٍ ... وللخرابِ يَجِدُّ الناسُ عِمْرانا والثالث: أنها للدعاء عليهم بذلك، كأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليكونوا ضُلاَّلاً، وإليه ذهب الحسن البصري وبدأ به الزمخشري. وقد استُبْعِد هذا التأويلُ بقراءة الكوفيين «ليُضِلُّوا» بضم الياء فإنه يَبْعُد أن يَدْعُوَ عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم، وقرأ الباقون بفتحها، وقرأ الشعبي بكسرها، فوالى بين ثلاث كسَرات إحداها في ياء. وقرأ [أبو] الفضل الرياشي «أإنك أَتَيْتَ» على الاستفهام. وقال الجبائي: إنَّ «لا» مقدرةٌ بين اللام والفعل تقديره: لئلا يَضِلوا «، ورأيُ البصريين في مثل هذا تقديرُ» كراهةَ «أي: كراهة أن يَضِلُّوا. قوله: {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} يحتمل النصبَ والجزم، فالنصب من وجهين، أحدُهما: عطفُه على» ليضلُّوا «. والثاني: نصبه على جواب الدعاء في قوله» اطمِسْ «. والجزم على أنَّ» لا «للدعاء كقولك:» لا تعذِّبْني يا رب «وهو قريبٌ من معنى» ليُضلوا «في كونِه دعاءً، هذا في جانب شبه النهي، وذلك في جانب شبه الأمر، و» حتى يَرَوا «غايةٌ لنفي إيمانهم، والأول قول الأخفش،

والثاني بدأ به الزمخشري، والثالث قول الكسائي والفراء، وأنشد قولَ الشاعر: 2625 - فلا يَنْبَسِطْ من بين عينِك ما انزوى ... ولا تَلْقَني إلا وأنفُكَ راغِمُ وعلى القول بأنه معطوفٌ على» ليَضِلُّوا «يكون ما بينهما اعتراضاً.

89

قوله تعالى: {أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} : الضمير لموسى وهرون، وفي التفسير: كان موسى يدعو وهرون يُؤَمِّن، فنسب الدعاء إليهما. وقال بعضُهم: المرادُ موسى وحدَه، ولكن كنى عن الواحد بضمير الاثنين. وقرأ السلميُّ والضحاك «دَعَواتكما» على/ الجمع. وقرأ ابن السَّمَيْفَع «قد أَجَبْتُ دعوتكما» بتاء المتكلم وهو الباري تعالى، و «دعوتَكما» نصب على المفعول به. وقرأ الربيع «أَجَبْتُ دَعْوَتَيْكما» بتاء المتكلم أيضاً. ودَعْوَتَيْكما تثنيةٌ، وهي تدلُّ لمن قال: إن هرون شارك موسى في الدعاء. قوله: {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ} قرأ العامة بتشديد التاء والنون، وقرأ حفص بتخفيف النونِ مكسورةً مع تشديد التاء وتخفيفها، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنسبة للنقل عنه. فأمَّا قراءةُ العامَّة ف «لا» فيها للنهي ولذلك أَكَّد الفعلَ بعدها، ويَضْعُف أن تكونَ نافيةً لأنَّ تأكيدَ المنفيِّ ضعيفٌ، ولا ضرورة

بنا إلى ادِّعائه، وإن كان بعضُهم قد ادعى ذلك في قولِه: {لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ} [الأنفال: 25] لضرورةٍ دَعَتْ إلى ذلك هناك، وقد تقدَّم تحريرُه ودليلُه في موضعه، وعلى الصحيح تكون هذه جملةَ نهيٍ معطوفةً على جملة أمر. وأمَّا قراءة حفص ف «لا» تحتمل أن تكون للنفي وأن تكونَ للنهي. فإن كانت للنفي كانت النونُ نونَ رفعٍ، والجملةُ حينئذٍ فيها أوجه، أحدُها: أنها في موضع الحال أي: فاستقيما غيرَ مُتَّبِعَيْنِ، إلا أنَّ هذا معترَض بما قَدَّمْتُه غيرَ مرة مِنْ أنَّ المضارع المنفي ب «لا» كالمثبت في كونِه لا تباشره واوُ الحال، إلا أنْ يُقَدَّر قبلَه مبتدأ فتكونَ الجملةُ اسميةً أي: وأنتما لا تَتَّبعان. والثاني: أنه نفيٌ في معنى النهي كقولِه تعالى: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [البقرة: 83] . الثالث: أنه خبرٌ محضٌ مستأنف لا تَعَلُّقَ له بما قبله، والمعنى: أنهما أُخْبِرا بأنهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون، وإن كانت للنهي كانت النونُ للتوكيد، وهي الخفيفة، وهذا لا يَراه سيبويه والكسائي، أعني وقوعَ النونِ الخفيفة بعد الألف، سواءً كانت الألفُ ألفَ تثنية أو ألفَ فصلٍ بين نونِ الإِناث ونونِ التوكيد نحو: «هل تَضْرِبْنان يا نسوة» . وقد أجاز يونس والفراء وقوعَ الخفيفةِ بعد الألف وعلى قولِهما تتخرَّج القراءةُ. وقيل: أصلُها التشديد وإنما خُفِّفت للثقل فيها كقولهم: «رُبَ» في «رُبَّ» . وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفُها فلغتان مِن اتَّبع يَتَّبع وتَبع يَتْبَع، وقد تقدم هل هما بمعنى واحد أو مختلفان في المعنى؟ وملخصُه أنَّ تَبِعه بشيءٍ: خَلَفه، واتَّبَعَه كذلك، إلا أنه حاذاه في المَشْي، وأَتْبعه: لحقه.

90

قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا ببني} : قد تقدَّم الكلام فيه. وقرأ الحسن «وجَوَّزْنا» بتشديدِ الواو، قال الزمخشري: «وجَوَّزْنا: مِنْ أجاز المكان وجاوَزَه وجَوَّزه، وليس مِنْ جَوَّز الذي في بيت الأعشى: 2626 - وإذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلة ... أَخَذْتَ من الأخرى إليك حبالَها لأنه لو كان منه لكان حَقُّه أن يقال: وجَوَّزْنا بني إسرائيل في البحر كما قال: 2627 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما جَوَّز السَّكَّيَّ في الباب فَيْتَقُ يعني أن فَعَّل بمعنى فاعَلَ وأَفْعَل، وليس التضعيفُ للتعدية، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء. وقرأ الحسن» فاتَّبَعَهُم «بالتشديد، وقد تقدم الفرق. قوله: {بَغْياً وَعَدْواً} يجوز أن يكونا مفعولين مِنْ أجلهما أي: لأجلِ البَغْي والعَدْوِ، وشروطُ النصب متوفرةٌ، ويجوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي: باغين متعدِّين. وقرأ الحسن» وعُدُوَّاً «بضم العين والدال المشددة، وقد تقدَّم ذلك في سورة الأنعام.

قوله: {حتى إِذَآ} غايةٌ لاتِّباعه. قوله: {آمَنتُ أَنَّهُ} قرأ الأخَوان بكسر إنَّ وفيها أوجه، أحدها: أنها استئنافُ إخبار، فلذلك كُسِرت لوقوعِها ابتداءَ كلام. والثاني: أنه على إضمار القول أي: فقال إنه، ويكون هذا القولُ مفسراً لقوله آمنت. والثالث: أن تكون هذه الجملةُ بدلاً من قوله:» آمنت «، وإبدالُ الجملةِ الاسمية من الفعلية جائزٌ لأنها في معناها، وحينئذ تكون مكسورةً لأنها محكيَّة ب» قال «هذا الظاهر. والرابع: أن» آمنتُ «ضُمِّن معنى القول لأنه قولٌ. وقال الزمخشري:» كَرَّر المخذولُ المعنى الواحدَ ثلاثَ مرات في ثلاث عبارات حِرْصاً على القبول «يعني أنه قال:» آمنتُ «، فهذه مرة، وقال: {أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} فهذه ثانيةٌ، وقال: {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} فهذه ثالثةٌ، والمعنى واحد» وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئنافِ في «إنه» . وقرأ الباقون بفتحِها وفيها أوجهٌ أيضاً، أحدُها: أنها في محلِّ نصب على المفعولِ به أي: آمَنْتُ توحيدَ، لأنه بمعنى صدَّقْتُ. الثاني: أنها في موضع نصبٍ بعد إسقاط الجارِّ أي: لأنه. الثالث: أنها في محل جر بذلك الجارِّ وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف.

92

قوله تعالى: {الآنَ} : منصوبٌ بمحذوفٍ أي: آمنْتَ الآن، أو/ أتؤمن الآن. وقوله: «وقد عَصَيْتَ» جملةٌ حالية، وقد تقدَّم نظيرُ ذلك قريباً. قوله: {بِبَدَنِكَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنها باءُ المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك وهي الدِّرْع، وفي التفسير: لم يُصَدِّقوا بغرقه، وكانت له دِرْعُ تُعْرَفُ

فأُلقي بنَجْوة من الأرض وعليه دِرْعُه ليعرفوه، والعربُ تطلِقُ البدنَ على الدرع، قال عمرو بن معد يكرب: 2628 - أعاذِلُ شِكَّتي بدني وسيفي ... وكلّ مُقَلَّصٍ سَلِس القِيادِ وقال آخر: 2629 - ترى الأبْدانَ فيها مُسْبَغَاتٍ ... على الأبطالِ واليَلَبَ الحصينا وقيل: ببدنك أي عُرْيانَ لا شيءَ عليه، وقيل: بدناً بلا روح. والثاني: أن تكونَ سببيةً على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنه سبب في تنجيته، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع «بندائك» من النداء وهو الدعاءِ أي: بما نادى به في قومه من كفرانه في قولِه {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} [الزخرف: 51] {فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 23-24] {ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] . وقرأ يعقوب «نُنْجِيْك» مخففاً مِنْ أنجاه. وقرأ أبو حنيفة «بأبدانك» جمعاً: إمَّا على إرادة الأدْراع لأنه كان يلبس كثيراً منها خوفاً على نفسِه، أو جعل

كلَّ جزء مِنْ بدنه بدناً كقوله: «شابت مَفارِقُه» قال: 2630 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... شابَ المَفارِقُ واكتَسَيْنَ قَتِيرا وقرأ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع ويزيد البربري «نُنَحِّيْكَ» بالحاء المهملةِ من التَّنْحِيَة أي: نُلْقيك بناحيةٍ فيما يلي البحر، وفي التفسير: أنَّه رماه إلى ساحل البحر كالثور. وهل ننجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعدك ممَّا وقع فيه قومُك مِنْ قعر البحر وهو تهكُّم بهم، أو مِنْ ألقاه على نَجْوة أي: رَبْوة مرتفعة، أو مِن النجاة وهو التَّرْكُ أو من النجاء وهو العلامة، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصة. والظاهر أن قوله: «فاليوم نُنَجِّيك» خبرٌ محض. وزعم بعضهم أنه على نية همزةِ الاستفهام وفيه بُعْدٌ لحَذْفِها من غيرِ دليل، ولأنَّ التعليلَ بقوله «لتكونَ» لا يناسب الاستفهام. و «لتكون» متعلِّقٌ ب «نُنَجِّيك» و «آية» أي: علامة، و «لمَنْ خلفك» في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «آية» لأنه في الأصلِ صفةٌ لها.

93

وقوله تعالى: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} : يجوز أن يكونَ منصوباً على المصدر تقديرُه: بَوَّأناهم مُبَوَّأ صِدْقٍ، وأن يكونَ مكاناً أي: مكان تبوُّء صدق. وقرىء «لمَنْ خَلَفَك» بفتح اللام جعله فعلاً ماضياً، والمعنى: لمَنْ خَلَفَك

من الجبابرة ليتَّعِظوا بذلك. وقرىء «لمَنْ خَلَقَك» بالقاف فعلاً ماضياً وهو الله تعالى أي: ليجعلك الله آيةً في عباده. ويجوز أن ينتصب «مُبَّوَّأ» على أنه مفعولٌ ثانٍ كقولِه تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} أي: لنُنْزِلَنَّهُمْ.

94

قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ} : في «إنْ» هذه وجهان، الظاهر منهما: أنها شرطيةٌ، ثم استشكلوا على ذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكنْ في شك قط. قال الزمخشري: «فإن قلت كيف قال لرسوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} مع قوله للكفرة: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110] ؟ قلت: فرقٌ عظيم بين إثباته الشكَّ لهم على سبيل التوكيد والتحقيق، وبين قوله:» فإن كنت «بمعنى الفَرَض والتمثيل» . وقال الشيخ: «وإذا كانت شرطيةً فقالوا: إنها تدخُل على الممكنِ وجودُه أو المحقَّقِ وجودُه المبهمِ زمنُ وقوعِه كقوله تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] . قال» والذي أقولُه إنَّ «إنْ» الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيء، ولا تستلزمُ تحتُّمَ وقوعِه ولا إمكانَه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقولِه تعالى: {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81] ، ومستحيلٌ أن يكونَ له ولدٌ فكذلك [هذا] ، مستحيلٌ أن يكون في شك، وفي المستحيل عادةً كقوله تعالى: {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض} [الأنعام: 35] لكنَّ وقوعَها في تعليق المستحيل قليلٌ «. ثم قال:» ولمَّا خَفِي هذا

الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية، فقال ابن عطية: «الصواب أنها مخاطبةٌ، والمرادُ مَنْ سواه مِنْ أمته ممَّن يمكن أن يَشُكَّ أو يعارِض» . وقيل: كنى بالشك عن الضيق. وقيل: كنى به عن العجب، ووجه المجازِ فيه أن كلاً منهما فيه تَرَدُّد، وقال الكسائي: إنْ كنت في شك أنَّ هذا عادتُهم مع الأنبياء فَسَلْهُمْ كيف كان صبر موسى عليه السلام؟ الوجه الثاني مِنْ وجهي «إنْ» أنها نافية. قال الزمخشري: «أي: فما كنت في شك فاسأل، يعني لا نأمرك بالسؤال لكونِك شاكَّاً ولكن لتزداد يقيناً كما ازدادَ إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى. وهذا القولُ سبقه إليه الحسنُ البصري والحسين بن الفضل وكأنه فرارٌ من الإِشكال المتقدِّم في جَعْلها شرطيةً، وقد تقدَّم جوابُه مِنْ وجوهٍ. وقرأ يحيى وإبراهيم:» يَقْرؤون الكتب «بالجمع، وهي مبينة أن المرادَ بالكتاب الجنسُ لا كتابٌ واحد.

98

قوله تعالى: {فَلَوْلاَ} : «لولا» هنا تحضيضية وفيها معنى التوبيخ، كقول الفرزدق: 2631 - تَعُدُّون عقر النيبِ أفضلَ مَجْدِكُمْ ... بني ضَوْطَرى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا وفي مصحف أُبَي وعبد الله وقرأ كذلك «فهلاَّ» وهي نصُّ في التحضيض. و «كانت» هنا تامة، و «آمنَتْ» صفة لقرية، و «فَنَفَعَها» نسقٌ على الصفة.

قوله: {إِلاَّ قَوْمَ} فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناء منقطعٌ وإليه ذهبَ سيبويه والكسائي والأخفش/ والفراء، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصبُ لانقطاعِه، وإنما كان منقطعاً؛ لأن ما بعد «إلا» لا يندرجُ تحت لفظ «قرية» . والثاني: أنه متصل. قال الزمخشري: «استثناءٌ من القرى لأن المرادَ أهاليها، ويجوز أن يكون متصلاً، والجملةُ في معنى النفي كأنه قيل: ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلا قوم يونس» . وقال ابن عطية: «هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطع، وكذلك رسمه النحويون، وهو بحسبِ المعنى متصلٌ لأن تقديره: ما آمنَ أهل قريةٍ إلا قومَ يونس» . قلت: وتقديرُ هذا المضافِ هو الذي صَحَّح كونَه استثناء متصلاً، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهُم. وأمَّا الزمخشري فإن ظاهرَ عبارتِه أنَّ المصحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النفي، وليس كذلك بل المسوِّغ كونُ القرى يراد بها أهاليها من بابِ إطلاق المحلِّ على الحالِّ، وهو أحد الأوجهِ المذكورة في قوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] . وقرأت فرقة: «إلا قومُ» بالرفع. قال الزمخشري «وقُرىء بالرفعِ

على البدل، رُوي ذلك عن الجرميّ والكسائي. وقال المهدوي:» والرفعُ على البدل من «قرية» . فظاهر هاتين العبارتين أنها قراءةٌ منقولةٌ، وظاهرُ قول مكي وأبي البقاء أنها ليسَتْ قراءة، وإنما ذلك من الجائز، وجعلا الرفعَ على وجهٍ آخرَ غيرِ البدل وهو كونُ «إلا» بمعنى: «غير» في وقوعها صفةً. قال مكي: «ويجوزُ الرفعُ على أن تُجْعل» إلا «بمعنى» غير «صفةً للأهل المحذوفين في المعنى ثم يُعْرَبَ ما بعد» إلا «بإعراب» غير «لو ظهَرَتْ في موضع» إلا «. وقال أبو البقاء: وأظنه أخذه منه» ولو كان قد قُرىء بالرفع لكانت «إلا» فيه بمنزلة «غير» فتكون صفة «. وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث قراءات قُرىء بها.

99

قوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ} : يجوز في «أنت» وجهان أحدهما: أن يرتفعَ بفعلٍ مقدرٍ مفسَّرٍ بالظاهر بعده وهو الأرجح؛ لأن الاسمَ قد ولي أداةً هي بالفعل أولى. والثاني: أنه مبتدأ والجملة بعده خبرُه، وقد عُرِف ما في ذلك من ذلك من كون الهمزة مقدمةً على العاطف أو ثَمَّ جملةٌ محذوفة كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاءِ الاسمِ للاستفهام إعلامٌ بأن الإِكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه، وإنما الشأنُ في المُكْرِه مَنْ هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشاركه فيه غيرُه. و «حتى» غايةٌ للإِكراه.

100

وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ} : كقوله: «أن

تموتَ» وقد تقدَّم ذلك في آل عمران. قوله: {وَيَجْعَلُ} قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة. والباقون بياء الغيبة وهو الله تعالى. وقرأ الأعمش فصرَّح به {ويجعل اللَّهُ الرِّجْزَ} بالزاي دون السين، وقد تقدَّم هل هما بمعنى أو بينهما فرقٌ؟

101

قوله تعالى: {مَاذَا فِي السماوات} : يجوز أن يكون «ماذا» كله استفهاماً مبتدأ، و «في السموات» خبرُه أي: أيُّ شيءٍ في السموات؟ ويجوزُ أن تكونَ «ما» مبتدأً و «ذا» بمعنى الذي، و «في السموات» صلتُه وهو خبرُ المبتدأ، وعلى التقديرين فالمبتدأُ وخبرُه في محلِّ نصبٍ بإسقاط الخافضِ؛ لأن الفعلَ قبله مُعَلَّقٌ بالاستفهام، ويجوزُ على ضَعْفٍ أن يكونَ «ماذا» كله موصولاً بمعنى الذي وهو في محل نصب ب «انظروا» . ووجهُ ضعفِه أنه لا يخلو: إمَّا أن يكونَ النظر بمعنى البصر فيعدى ب «إلى» ، وإمَّا أن يكونَ قلبيَّاً فيعدَّى ب «في» وقد تقدَّم الكلام في «ماذا» . قوله: {وَمَا تُغْنِي} ، يجوز في «ما» أن تكون استفهامية، وهي واقعةٌ موقعَ المصدر أي: أيَّ غَناءٍ تُغْني الآيات؟ ويجوز أن تكونَ نافيةً، وهذا هو الظاهر. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكونَ «ما» في قوله: «وما تغني» مفعولةً بقوله: «انظروا» ، معطوفةً على قوله: «ماذا» أي: تأمَّلوا قَدْر غَناء الآيات والنُّذُر عن الكفار «. قال الشيخ:» وفيه ضعفٌ، وفي قوله: «معطوفة على» ماذا «تجُّوزٌ، يعني أن الجملةَ الاستفهامية التي هي {مَاذَا فِي السماوات} في موضع

المفعول، إلا أن» ماذا «وحده منصوب ب» انظروا «فتكون» ماذا «موصولةً، و» انظروا «بصرية لما تقدم» يعني لِما تقدم مِنْ أنه لو كانت بصرية لتعدَّتْ ب «إلى» . و «النُّذُرُ» يجوز أن يكونَ جمعَ نذير، والمراد به المصدر فيكونَ التقدير: وما تُغْني الآيات والإِنذارات، وأن يكونَ جمعَ «نذير» مراداً به اسمَ الفاعل بمعنى مُنْذِر فيكون التقدير: والمنذرون وهم الرسل.

103

قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي} : قال الزمخشري: «هو معطوفٌ على كلامٍ محذوف يدلُّ عليه» إلا مثلَ أيامِ الذين خَلَوا من قبلهم «كأنه قيل: نُهْلك الأمم ثم ننجِّي رسلَنا، معطوفٌ على حكايةِ الأحوال الماضية. قوله: {كَذَلِكَ} في هذه الكاف وجهان، أظهرهُما: أنه في محلِّ نصب تقديرُه: مثلَ ذلك الإِنجاء الذي نَجَّينا الرسلَ ومؤمنيهم ننجي مَنْ آمن بك يا محمد. والثاني: أنها في/ محل رفع على خبر ابتداء مضمر، وقدَّره ابن عطية وأبو البقاء بقولك: الأمر كذلك. قوله: {حَقّاً} فيه أوجه، أحدها: أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي: حَقَّ ذلك حقاً. والثاني: أن يكون بدلاً من المحذوف النائب عنه الكافُ تقديره: إنجاءً مثل ذلك حقاً والثالث: أن يكونَ» كذلك «و» حقاً «منصوبين ب» نُنْجِ «الذي بعدهما. والرابع: أن يكونَ» كذلك «منصوباً ب» نُنَجِّي «

الأولى، و» حقاً «ب» نُنْج «الثانية. وقال الزمخشري:» مثلَ ذلك الإِنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين، و «حَقّاً علينا» اعتراض، يعني حَقَّ ذلك علينا حقاً «. وقرأ الكسائي وحفص» نُنْجي المؤمنين «مخففاً مِنْ أنجى يقال: أنجى ونجى كأَبْدَلَ وبَدَّل، وجمهورُ القراء لم ينقلوا الخلافَ إلا في هذا دون قوله: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] ودونَ قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} . وقد نقل أبو علي الأهوازي الخلافَ فيهما أيضاً، ورُسِم في المصاحف» نُنْجِ «بجيمٍ دون ياء.

104

قوله تعالى: {فَلاَ أَعْبُدُ} : جواب الشرط، والفعل خبر ابتداء مضمر تقديره: فأنا لا أعبد، ولو وقع المضارعُ منفياً ب «لا» دون فاء لَجُزِمَ، ولكنه مع الفاءِ يُرْفَع على ما ذكرت لك، وكذا لو لم يُنْفَ ب «لا» كقولِه تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] . أي: فهو ينتقم. قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ} ، قال الزمخشري: «أصله بأن أكونَ» ، فحُذِفَ الجارُّ، وهذا الحذفُ يحتمل أن يكونَ مِنَ الحذف المطَّرد الذي هو حَذْفُ الحروفِ الجارَّةِ مع أَنْ [وأنَّ] ، وأن يكونَ مِن الحذفِ غيرِ المطرد وهو قوله: 2632 - أَمَرْتُكَ الخيرَ. . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

{فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] . قلت: يعني بغيرِ المطَّرد أنَّ حذفَ حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوز القياسُ عليها وهي: أمر واستغفر، وقد ذكرتُها فيما تقدَّم، وأشار بقوله: «أمرتك» إلى البيت المشهور: أَمَرْتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْت به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد قاس ذلك بعضُ النحويين، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف ويتعيَّن موضعُه أيضاً، وهو رأي علي بن سليمان فيُجيز «بريتُ القلمَ السكين» بخلاف «صَكَكْت الحجرَ بالخشبة» .

105

قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ} : يجوزُ أن يكونَ على إضمار فعل أي: وأُوحي إليَّ أَنْ أقم. ثم لك في «أنْ» وجهان، أحدهما: أن تكونَ تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدرة، كذا قاله الشيخ وفيه نظرٌ، إذ المفسَّرُ لا يجوز حَذْفُه، وقد رَدَّ هو بذلك في موضعٍ غير هذا. والثاني: أن تكونَ المصدرية فتكون هي وما في حَيِّزها في محل رفع بذلك الفعل المقدر. ويحتمل أن تكون «أن» مصدريةً فقط، وهي على هذا معمولةٌ لقوله: «أمرْتُ» مراعى فيها معنى الكلام، لأنَّ قوله: «أن أكون» كونٌ من أكوان المؤمنين، ووصْلُ «أَنْ» بصيغة الأمرِ جائزٌ، وقد تقدم تحرير بذلك. وقال الزمخشري: «فإن قلت: عَطْفُ قولِه:» وأَنْ أقم «على» أن أكونَ «فيه إشكالٌ؛ لأن» أنْ «لا تخلو: إمَّا أَنْ تكونَ التي للعبارة، أو التي تكونُ مع الفعل في تأويل المصدر، فلا يَصِحُّ أن تكونَ التي للعبارة وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّن معنى القول؛ لأن عطفَها على الموصولة يأبى ذلك، والقولُ بكونِها موصولةً مثلَ الأولى لا يساعدُ عليه لفظُ الأمر وهو» أَقِمْ «؛ لأنَ الصلة

حقُّها أن تكونَ جملةً تحتمل الصدق والكذب. قلت: قد سَوَّغ سيبويه أن توصلَ» أنْ «بالأمر والنهي، وشَبَّهَ ذلك بقولهم:» أنت الذي تفعل «على الخطابِ لأن الغرضَ وَصْلُها بما تكونُ معه في تأويل المصدر، والأمرُ والنهيُ دالاَّن على المصدر دلالةَ غيرهما من الأفعال» . قلت: قد قدَّمْتُ الإِشكال في ذلك وهو أنه إذا قُدِّرَتْ بالمصدرِ فاتت الدلالةُ على الأمر والنهي. ورجَّح الشيخُ كونَها مصدريةً على إضمار فعل كما تقدم تقريره قال: «ليزولَ قَلَقُ العطفِ لوجود الكاف، إذ لو كان» وأنْ أَقِمْ «عطفاً على» أن أكون «لكان التركيب» وجهي «بياء المتكلم، ومراعاةُ المعنى فيه ضَعْفٌ، وإضمارُ الفعل أكثر» . قوله: {حَنِيفاً} يجوز أن يكونَ حالاً من «الذين» ، وأن يكون حالاً من فاعل «أَقِمْ» أو مفعوله.

106

قوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ} : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً، ويجوز أن تكونَ عطفاً على جملة الأمر وهي: «أَقِمْ» / فتكونَ داخلةً في صلة «أنْ» بوجهيها، أعني كونَها تفسيريةً أو مصدريةً وقد تقدَّم تحريره. وقوله: {مَا لاَ يَنفَعُكَ} يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، وأن تكونَ موصولةً. قوله: {فَإِنَّكَ} هو جواب الشرط و «إذن» حرفُ جوابٍ توسَّطت بين الاسمِ والخبر، ورُتْبَتُها التأخيرُ عن الخبر، وإنما وُسِّطَتْ رَعْياً للفواصل. وقال الزمخشري: «إذن» جواب الشرط وجوابٌ لسؤال مقدر، كأن سائلاً سأل عن تَبِعة عبادة الأوثان «. وفي جَعْله» إذن «جزاءً للشرط نظرٌ، إذ جوابُ الشرط محصورٌ في أشياءَ ليس هذا منها.

107

قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ} : قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام. وقال هنا في جواب الشرط الأول بنفي عام وإيجاب، وفي جواب الثاني بنفي عام دونَ إيجاب، لأنَّ ما أراده لا يَرُدُّه رادٌّ، لا هو ولا غيره؛ لأن إرادتَه قديمةٌ لا تتغيَّر، فلذلك لم يَجِيْء التركيب فلا رادَّ له إلا هو، هذه عبارةُ الشيخ، وفيها نظرٌ، وكأنه يقول بخلاف الكشف فإنه هو الفاعل لذلك وحدَه دون غيره بخلافِ إرادته تعالى، فإنها لا يُتَصَوَّر فيها الوقوعُ على خلافها، وهي مسألةٌ خلافية بين أهل السنة والاعتزال. قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ ذُكِر المَسُّ في أحدهما والإِرادةُ في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإِرادة والإِصابة في كلِّ واحد من الضُّر والخير، وأنه لا رادَّ لِما يريده منهما، ولا مُزيلَ لما يُصيب به منهما، فأوجزَ الكلام بأنْ ذكرَ المَسَّ وهو الإِصابةُ في أحدهما والإِرادة في الآخر ليدلَّ بما ذَكَرَ على ما تَرَك، على أنه قد ذَكَر الإِصابة في الخير في قوله: {يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} .

108

وقوله تعالى: {مِن رَّبِّكُمْ} : يجوز أن يتعلَّقَ ب «جاءكم» و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً، ويجوز أن يكونَ حالاً من «الحق» . قوله: {فَمَنُ اهتدى} «ومَنْ ضَلَّ» يجوز أن تكون «مَنْ» شرطاً، فالفاءُ واجبةُ الدخول، وأن تكونَ موصولةً فالفاءُ جائزتُه. قوله: {وَمَآ أَنَاْ} ، يجوزُ أن تكون الحجازية أو التميميةَّ؛ لخفاء النصب في الخبر. وباقيها واضح.

هود

قوله تعالى: {كِتَابٌ} : يجوز أن يكون خبراً ل «ألر» أَخْبر عن هذه الأحرفِ بأنها كتابٌ موصوفٌ ب كيتَ وكيتَ/ وأن يكون خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: ذلك كتابٌ، يدلُّ على ذلك ظهوره في قوله تعالى: {ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2] ، وقد تقدَّم في أولِ هذا التصنيف ما يكفيك في ذلك. قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} في محلِّ رفعٍ صفةً ل «كتاب» ، والهمزةُ في «أُحْكِمَتْ» يجوز أن تكونَ للنقل مِنْ «حَكُمَ» بضم الكاف، أي: صار حكيماً بمعنى جُعِلَتْ حكيمة، كقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [لقمان: 2] . ويجوز أنْ يكونَ من قولهم: «أَحْكَمْتُ الدابة» إذا وَضَعْتَ عليها الحَكَمَةَ لمَنْعِها من الجِماح كقول جرير: 2633 - أبني حَنِيْفَةَ أَحْكِموا سُفَهاءَكمْ ... إني أخافُ عليكمُ أَنْ أَغْضبا فالمعنى أنها مُنِعَتْ من الفساد. ويجوز أَنْ يكونَ لغير النقل، مِن الإِحكام وهو الإِتقان كالبناء المُحْكَمِ المُرْصَفِ، والمعنى: أنهى نُظِمَتْ نَظْماً رصيناً متقناً.

قوله: {ثُمَّ فُصِّلَتْ} «ثم» على بابها مِن التراخي لأنها أُحكمَتْ ثم فُصِّلَتْ بحسب أسبابِ النزول. وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وزيد ابن علي وابن كثير في روايةٍ «فَصَلَتْ» بفتحتين خفيفةَ العين. قال أبو البقاء: «والمعنى: فَرَقَتْ، كقوله: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ} [البقرة: 249] ، أي: فارق» . وفَسَّر هنا غيرُه بمعنى فَصَلَتْ بين المُحِقِّ والمُبْطِل وهو أحسنُ. وجعل الزمخشري «ثم» للترتيب في الإِخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان فقال: «فإن قلت: ما معنى» ثم «؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي مُحْكَمَةٌ أحسنَ الإِحكام ثم مُفَصَّلةٌ أحسنَ التفصيل، وفلانٌ كريمٌ الأصل ثم كريمُ الفعل» وقُرِىء أيضاً: «أحْكَمْتُ آياتِه ثم فَصَّلْتُ» بإسناد الفعلين إلى تاء المتكلم ونَصْبِ «آياته» مفعولاً بها، أي: أحكمتُ أنا آياتِه ثم فَصَّلْتُها، حكى هذه القراءةَ الزمخشري. قوله: {مِن لَّدُنْ} يجوز أن تكونَ صفةً ثانية ل «كتاب» ، وأن تكون خبراً ثانياً عند مَنْ يرى جوازَ ذلك، ويجوز أن تكون معمولةً لأحد الفعلين المتقدِّمين أعني «أُحْكِمَتْ» أو «فُصِّلَتْ» ويكون ذلك من بابِ التنازع، ويكون من إعمال الثاني، إذ لو أَعْمل الأولَ لأضمر في الثاني، وإليه نحا الزمخشري في [قوله] : «وأن يكون صلةَ» أُحْكِمت «و» فُصَّلَتْ «، أي: من عندِ أحكامُها وتفصيلُها، وفيه طباق حسن لأن المعنى: أحكمها حكيم وفصَّلها، أي: شَرَحها

وبيَّنها خبيرٌ بكيفيات الأمور» . قال الشيخ: «لا يريد أنَّ» مِنْ لدن «متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإِعراب بل يريد أن ذلك من بابِ الإِعمال فهي متعلقةٌ بهما من حيث المعنى» وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً «ويجوز أن يكونَ مفعولاً، والعاملُ فيه» فُصِّلَتْ «.

2

قوله تعالى: {أَن لاَّ تعبدوا} : فيها أوجهٌ، أحدُها: أن تكون مخففةً من الثقيلة، و «لا تَعْبُدوا» جملةُ نهيٍ في محلِّ رفعٍ خبراً ل «أنْ» المخففةِ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ. والثاني: أنها المصدريةُ الناصبة، ووُصِلَتْ هنا بالنهي ويجوزُ أَنْ تكون «لا» نافيةً، والفعلُ بعدها منصوبٌ ب «أَنْ» نفسها، وعلى هذه التقادير ف «أَنْ» : إمَّا في محل جر أو نصب أو رفع، فالنصبُ والجرُّ على أنَّ الأصل: لأنْ لا تَعْبدوا، أو بأن لا تعبدوا، فلمَّا حُذِفَ الخافضُ جرى الخلافُ المشهور، والعامل: إمَّا «فُصِّلَتْ» وهو المشهور، وإمَّا «أُحْكِمَتْ» عند الكوفيين، فتكون المسألة من الإِعمال، لأن المعنى: أُحْكِمَتْ لئلا تَعْبدوا أو بأن لا تعبدوا أو فُصِّلَتْ لأنْ لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا. وقيل: نصب بفعل مقدر تقديره ضَمَّن آيَ الكتابِ أن لا تعبدوا، ف «أنْ لا تعبدوا» هو المفعولُ الثاني ل «ضَمَّن» والأولُ قام مقام الفاعل. والرفعُ فمِنْ أوجه، أحدها: أنها مبتدأٌ، وخبرُها محذوفٌ فقيل: تقديرُه: مِن النظر أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديره: في الكتابِ أن لا تعبدوا إلا اللَّهَ. والثاني: خبرُ مبتدأ محذوف، فقيل: تقديرُه: تفصيلُه أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديرُه: هي أن لا تعبدوا إلا اللَّه. والثالث: أنه مرفوعٌ على البدل من «آياته» قال الشيخ: «وأما مَنْ أعربه أنه بدل من لفظ» آيات «أو مِنْ

موضعها» قلت: يعني أنها في الأصل مفعولٌ بها/ فموضعُها نصبٌ وهي مسألةُ خلاف: هل يجوز أن يراعى أصلُ المفعولِ القائمِ مقامَ الفاعلِ فيُتبعَ لفظُه تارة وموضعُه أخرى فيُقال: «ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة» بنصب «العاقلة» باعتبار المحلِّ، ورفعِها باعتبار اللفظ، أم لا، مذهبان، المشهورُ مراعاةُ اللفظِ فقط. والثالث: أن تكونَ تفسيريةً؛ لأن في تفصيلِ الآيات معنى القول، فكأنه قيل: لا تعبدوا إلا اللَّه أو أَمَرَكم، وهذا أظهرُ الأقوال؛ لأنه لا يُحْوج إلى إضمار. قوله: «منه» في هذا الضمير وجهان: أحدهما وهو الظاهرُ أنه يعودُ على اللَّه تعالى، أي: إنني لكم مِنْ جهة اللَّه نذيرٌ وبشير. قال الشيخ: «فيكون في موضع الصفةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائن من جهته» . وهذا على ظاهره ليس بجيد؛ لأن الصفةَ لا تتقدمُ على الموصوف فكيف تُجعلِ صفةً ل «نذير» ؟ كأنه يريد أنه صفةٌ في الأصلِ لو تأخَّر، ولكنْ لمَّا تقدَّم صارَ حالاً، وكذا صَرَّح به أبو البقاء، فكان صوابه أن يقول: فيكون في موضع الحال، والتقدير: كائناً مِنْ جهته. الثاني: أنه يعودُ على الكتاب، أي: نذيرٌ لكم مِنْ مخالفته وبشيرٌ منه لمَنْ آمن وعمل صالحاً. وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ أيضاً وجهان، أحدهما: أنه حال من «نذير» ، فيتعلَّق بمحذوف كما تقدم. والثاني: أنه متعلق بنفس «نذير» أي: أُنْذركم مِنْه ومِنْ عذابِه إنْ كفرتم، وأبشِّرُكم بثوابه إنْ آمنتم. وقدَّم الإِنذار لأنَّ التخويف أَهَمُّ إذ يحصُل به الانزجار.

3

قوله تعالى: {وَأَنِ استغفروا} : فيها وجهان: أحدهما: أنه عطفٌ على «أنْ» الأولى سواءً كانت «لا» بعدها نفياً أو نهياً، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى «أَنْ» هذه. والثاني: أن تكونَ منصوبةً على الإِغراء. قال

الزمخشري في هذا الوجه: «ويجوز أن يكونَ كلاماً مبتدأً منقطعاً عَمَّا قبلَه على لسان النبي صلى اللَّه عليه وسلم إغراءً منه على اختصاص اللَّه تعالى بالعبادة، ويدل عليه قولُه: إني لكم منه نذيرٌ وبشير كأنه قال: تركَ عبادةَ غيرِ اللَّه إنني لكم منه نذيرٌ كقولِه تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] . قوله: {ثُمَّ توبوا} عطفٌ على ما قبلَه من الأمر بالاستغفار و» ثم «على بابِها من التراخي لأنه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذنبِ المستغفَرِ منه. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: ما معنى «ثم» في قوله {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} ؟ قلت: معناه: استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة، أو استغفروا والاستغفارُ توبةٌ ثم أَخْلِصوا التوبةَ واستقيموا عليها كقوله تعالى: {ثُمَّ استقاموا} [الأحقاف: 13] . قلت: قوله: «أو استغفروا» إلى آخره يعني أن بعضَهم جَعَلَ الاستغفارَ والتوبةَ بمعنى واحد، فلذلك احتاج إلى تأويل «توبوا» ب «أَخْلِصوا التوبة» . قوله: {يُمَتِّعْكُمْ} جوابُ الأمر. وقد تقدَّم الخلافُ في الجازم: هل هو نفسُ الجملةِ الطلبية أو حرفُ شرطٍ مقدَّر. وقرأ الحسن وابن هرمز وزيد بن علي وابن محيصن «يُمْتِعْكم» بالتخفيف مِنْ أَمْتَعَ، وقد تقدَّم أن نافعاً وابن عامر قرأ {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} [البقرة: 126] في البقرة بالتخفيف كهذه القراءة. قوله: {مَّتَاعاً} في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على المصدرِ

بحذفِ الزوائد، إذ التقدير: تمتيعاً فهو كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . والثاني: أنه ينتصبَ على المفعول به، والمراد بالمتاعِ اسمُ ما يُتَمَتَّع به فهو كقولك: «متَّعْتُ زيداً أثواباً» . قوله: {كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} «كلَّ» مفعول أول، و «فضلَه» مفعولٌ ثانٍ، وقد تقدَّم للسهيلي خلافٌ في ذلك. والضمير في «فضله» يجوز أن يعودَ على اللَّه تعالى، أي: يعطي كلَّ صاحب فضلٍ فضلَه، أي: ثوابَه، وأن يعودَ على لفظ كل، أي: يعطي كلَّ صاحبِ فضلٍ جزاءَ فَضْلِهِ، لا يَبْخَسُ منه شيئاً أي: جزاء عمله. قوله: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} قرأ الجمهور «تَوَلَّوا» بفتح التاء والواو واللامِ المشددة، وفيها احتمالان، أحدهما: أن الفعلَ مضارعُ تَوَلَّى، وحُذِف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو: تَنَزَّلُ، وقد تقدَّم: أيتُهما المحذوفةُ، وهذا هو الظاهر، ولذلك جاء الخطاب في قوله «عليكم» . والثاني: أنه فعلٌ ماضٍ مسندٌ لضمير الغائبين، وجاء الخطابُ على إضمار القول، أي: فقل لهم: إني أخاف عليكم، ولولا ذلك لكان التركيب: فإني أخاف عليهم. وقرأ اليماني وعيسى بن عمر: «تُوَلُّوا» بضم التاء وفتح الواو وضم اللام، وهو مضارعُ ولَّى كقولك زكَّى يزكِّي. ونقل صاحب «اللوامح» عن اليماني وعيسى: «وإن تُوُلُّوا» بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول. قلت: ولم يُبَيِّن ما هو ولا تصريفَه؟ وهو فعلٌ ماضٍ، ولما بُني للمفعول ضُمَّ أولُه على الفاعل، وضُمَّ ثانيه أيضاً؛ لأنه مفتتحٌ بتاءِ مطاوَعَةٍ/ وكلُّ ما افْتُتِح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمًّ أولُه وثانيه، وضُمَّت اللام أيضاً وإن كان أصلُها الكسرَ لأجل واو الضمير، والأصل «تُوُلِّيُوا» نحو: تُدُحْرِجوا، فاسْتُثْقِلت الضمةُ على الياء، فحُذِفت فالتقى

ساكنان، فحُذِفت الياءُ لأنها أولهما، فبقي ما قبل واوِ الضمير مكسوراً فَضُمَّ ليجانِسَ الضميرَ، فصار وزنُه تُفُعُّوا بحَذْف لامِه، والواوُ قائمةٌ مقامَ الفاعل. وقرأ الأعرج «تُوْلُوا» بضم التاء وسكون الواو وضم اللام مضارعَ أَوْلَى، وهذه القراءةُ لا يظهر لها معنى طائلٌ هنا، والمفعولُ محذوفٌ يُقَدَّر لائقاً بالمعنى و «كبير» صفةٌ ل «يوم» مبالغةً لما يقع فيه من الأهوال وقيل: بل «كبير» صفةٌ ل «عذاب» فهو منصوبٌ وإنما خُفِضَ على الجِوار كقولهم: «هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» بجرِّ «خَرِبٍ» وهو صفةٌ ل «جُحر» وقولِ امرىء القيس: 2634 - كأن ثَبِيراً في عَرانين وَبْلِه ... كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّل بجر «مُزَمّل» وهو صفةٌ ل «كبيرُ» . وقد تقدَّمَ القولُ في ذلك مشبعاً في سورة المائدة.

5

قوله تعالى: {يَثْنُونَ} : قراءةُ الجمهورِ بفتح الياء وسكونِ الثاءِ المثلثةِ، وهو مضارعُ ثنى يَثْني ثَنْياً، أي: طوى وزوى، و «صدورَهم» مفعول به والمعنى: «يَحْرِفون صدورَهم ووجوههم عن الحق وقبولِه» والأصل: يَثْنِيُون فأُعِلَّ بحذفِ الضمةِ عن الياء، ثم تُحْذَفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين. وقرأ سعيد بن جبير «يُثْنُون» بضم الياء وهو مضارع أثنى كأكرم.

واستشكل الناسُ هذه القراءةَ فقال أبو البقاء: «ماضيه أَثْنى، ولا يُعرف في اللغة، إلا أن يُقالَ: معناه عَرَضوها للانثناء، كما يُقال: أَبَعْتُ الفرسَ: إذا عَرَضْتَه للبيع» . وقال صاحب «اللوامح» : «ولا يُعرف الإِثناء في هذا الباب، إلا أن يُرادَ بها: وَجَدْتُها مَثْنِيَّة، مثل: أَحْمَدْتُه وأَمْجَدْتُه، ولعله فتح النون، وهذا ممَّا فُعِل بهم فيكون نصب» صدورَهم «بنزع الجارِّ، ويجوز إلى ذلك أن يكون» صدورهم «رَفْعاً على البدلِ بدلِ البعض من الكل» . قلت: يعني بقوله: «فلعله فتح النون» ، أي: ولعل ابنَ جبير قرأ ذلك بفتح نونِ «يُثْنَون» فيكون مبنياً للمفعول، وهو معنى قولِه «وهذا مما فُعِل بهم، أي: وُجِدوا كذلك، فعلى هذا يكون» صدورَهم «منصوباً بنزع الخافض، أي: في صدورهم، أي: يوجد الثَّنْيُ في صدورهم، ولذلك جَوَّز رفعَه على البدل كقولك:» ضُرِب زيدٌ الظهرُ «. ومَنْ جوَّز تعريفَ التمييز لا يَبْعُدُ عنده أن ينتصبَ» صدورَهم «على التمييز بهذا التقديرِ الذي قدَّره. وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه زيد ومحمد وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر وعبد الرحمن بن أبزى وأبو الأسود:» تثنونى «مضارع» اثنونى «على وزن افْعَوْعَل من الثَّنْي كاحلولى من الحَلاوة وهو بناءُ مبالغةٍ،» صدورُهم «بالرفع على الفاعلية، ونُقِل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق:» يثنونى صدورُهم «بالتاء والياء، لأن التأنيثَ مجازيٌّ، فجاز تذكيرُ الفعلِ باعتبار تأوُّل فاعلِه بالجمع، وتأنيثُه باعتبار تَأْويل فاعلِه بالجماعة.

وقرأ ابن عباس أيضاً وعروة وابن أبزى والأعشى» تَثْنَوِنُّ «بفتح التاء وسكونِ الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة والأصلُ: تَثْنَوْنِنُ بوزن تَفْعَوْعِلُ وهو الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضَعُفَ مِن الكلأ، يريد مطاوعةَ نفوسِهم للثَّنْي كما يُثْنى الهشُّ من النبات، أو أراد ضَعْفَ إيمانهم ومرض قلوبهم. و» صدورُهم «بالرفع على الفاعلية. وقرأ مجاهد وعروة أيضاً كذلك، إلا أنهما جَعَلا مكانَ الواوِ المكسورة همزةً مكسورةً فأخرجاها مثل» تطمئن «. وفيها تخريجان، أحدهما: أنَّ الواوَ قُلِبَتْ همزةً لاستثقال الكسرة عليها، ومثله إعاء وإشاح في وِعاء ووشاح، لَمَّا استثقلوا الكسرةَ على الواو أبدلوها همزةً. والثاني: أن وزنه تَفْعَيلُّ من الثِّن وهو ما ضَعُف من النبات كما تقدم، وذلك أنه مضارع ل «اثْنانَّ» مثل احْمارَّ واصْفارَّ، وقد تقدَّم لك أن مِن العرب مَنْ يقلبُ مثلَ هذه الألفِ همزةً كقوله: 2635 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . بالعَبيطِ ادْهَأَمَّتِ فجاء مضارع اثْنَأَنَّ على ذلك كقولك: احْمَأَرَّ يَحْمَئِرُّ كاطمأَنَّ يطمئِنُّ. وأمَّا «صدورُهم» فبالرفع على ما تقدم. وقرأ الأعشى أيضاً «تَثْنَؤُوْنَ» بفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون

وهمزةٍ مضمومةٍ وواوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كتَرْهَبُون. «صدورَهم» بالنصب. قال صاحب «اللوامح» ولا أعرفُ وجهَه لأنه يُقال «ثَنَيْتُ» ولم أسمعْ «ثَنَأْت» ، ويجوز أنه قلبَ الياءَ ألفاً على لغة مَنْ يقول «أَعْطَات» في أَعْطَيْت، ثم هَمَز الألفَ على لغةِ مَنْ يقول {وَلاَ الضألين} [الفاتحة: 7] . وقرأ ابنُ عباس أيضاً «تَثْنَوي» بفتح التاء وسكون/ المثلثة وفَتْحِ النونِ وكسرِ الواو بعدها ياءٌ ساكنةً بزِنَة تَرْعَوي وهي قراءةٌ مُشْكلة جداً حتى قال أبو حاتم: «وهذه القراءةُ غلطٌ لا تتَّجه» وإنما قال: إنها غلط؛ لأنه لا معنى للواو في هذا الفعل إذ لا يُقال: «ثَنَوْتُه فانثوى كرَعَوْته، أي: كفَفْتُه فارعوى، أي: فانكفَّ ووزنه افعلَّ كاحمرَّ. وقرأ نصر بن عاصم وابن يَعْمر وابن أبي إسحاق» يَثْنُون «بتقديم النون الساكنة على المثلثة. وقرأ ابنُ عباس أيضاً» لتَثْنَوْنِ «بلام التأكيد في خبر» إنَّ «وفتح التاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة تَفْعَوْعِلُ، كما تقدَّم، إلا أنها حُذِفَت التاء التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم: لا أدرِ وما أَدْرِ. و» صدورُهم «فاعلٌ كما تقدم. وقرأ طائفةٌ:» تَثْنَؤُنَّ «بفتح التاء ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نونٍ مفتوحةٍ ثم همزةٍ مضمومةٍ ثم نون مشددة، مثل تَقْرَؤُنَّ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ، إلا أنه قَلَبَ الياءَ واواً لأن الضمةَ تنافِرُها، فجُعِلَت الحركةُ على مجانِسها، فصار

اللفظُ تَثْنَوُوْنَ ثم قُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً كقولهم:» أُجوه «في» وُجوه «و» أُقِّتَتْ «في» وقِّتت «فصار» تَثْنَؤُون «، فلمَّا أُكِّد الفعلُ بنونِ التوكيد حُذِفَتْ نونُ الرفع فالتقى ساكنان: وهما واوُ الضمير والنون الأولى مِنْ نون التوكيد، فحُذِفَتْ الواو وبقيت الضمةُ تدلُّ عليها فصار تَثْنَؤُنَّ كما ترى. و» صدورَهم «منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً بالغْتُ في ضبطها باللفظ وإيضاح تصريفها؛ لأني رأيتها في الكتب مهملةً من الضبط باللفظ وغالبِ التصريف، وكأنهم اتَّكلوا في ذلك على الضبطِ بالشكل في الكتابة وهذا متعبٌ جداً. قوله {لِيَسْتَخْفُواْ} فيه وجهان، أحدهما: أن هذه اللام متعلقةٌ ب» يَثْنُون «وكذا قاله الحوفي، والمعنى أنهم يفعلون ثَنْي الصدورِ لهذه العلة. وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كُلْفَةَ فيه. والثاني: أن اللام متعلقةٌ بمحذوفٍ، قال الزمخشري: «ليَسْتَخْفُوا منه» يعني ويريدون: ليستَخْفُوا من اللَّه فلا يُطْلِعُ رسولَه والمؤمنين على ازْوِرارهم، ونظيرُ إضمارِ «يريدون» لعَوْدِ المعنى إلى إضماره الإِضمارُ في قولِه تعالى: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] معناه: «فضرب فانفلق» قلت: ليس المعنى الذي يقودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا؛ لأن ثَمَّ لا بد منْ حذفِ معطوفٍ يُضْطر العقلُ إلى تقديره؛ لأنه ليس مِن لازم الأمر بالضرب انفلاقُ البحر فلا بد أن يُتَعقَّل «فضرب فانفلق» ، وأمَّا في هذه فالاستخفاف علة صالحةٌ لتَثْنيهم صدورَهم فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإِرادة. والضميرُ في «منه» فيه وجهان، أحدهما: أنه عائد على رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللام ب «يَثْنون» . والثاني: أنه عائدٌ على اللَّه تعالى كما قال الزمخشري.

قوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ} في هذا الظرف وجهان، أحدهما: أنَّ ناصبَه مضمرٌ، فقدَّره الزمخشري ب «يريدون» كما تقدَّم، فقال: «ومعنى ألا حين يَسْتَغْشُون ثيابهم: ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابَهم أيضاً كراهةً لاستماع كلامِ اللَّه كقولِ نوحٍ عليه السلام {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] ، وقدَّره أبو البقاء فقال:» ألا حين يَسْتَغْشون ثيابهم يَسْتخفون «. والثاني: أن الناصبَ له» يَعْلَمُ «، أي: ألا يعلمُ سِرَّهم وعَلَنهم حين يفعلون كذا، وهو معنى واضح، وكأنهم إنما جوَّزوا غيره لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعَلَنِهم بهذا الوقت الخاص، وهو تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت. وهذا غيرُ لازمٍ، لأنه إذا عُلِم سِرُهم وعلنُهم في وقتِ التغشية الذي يخفى فيه السرُّ فأَوْلى في غيره، وهذا بحسب العادةِ وإلا فاللَّهُ تعالى لا يتفاوتُ عِلْمُه. و» ما «يجوز أن تكونَ» مصدريةً «، وأن تكونَ بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: تُسِرُّونه وتُعْلِنونه.

6

قوله تعالى: {مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} : يجوز أن يكونا مصدَرْين، أي: استقرارها واستيداعها، ويجوز أن يكونا مكانين، أي: مكان استقرارها واستيداعها. ويجوز أن يكون مستودعها اسمَ مفعول لتعدِّي فِعْلِه، ولا يجوز ذلك في «مستقر» لأنَّ فعلَه لازمٌ، ونظيرُه في المصدرية قولُ الشاعر: 2636 - ألم تعلمْ مُسَرَّحِيَ القوافي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: تَسْريحي.

قوله: {كُلٌّ} المضافُ إليه محذوفٌ تقديرُه: كل دابةٍ وزرقُها ومستقرُّها ومستودَعُها في كتاب مبين.

7

قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ} : في هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ فقيل: تقديرُه: أَعْلَمَ بذلك ليبلوَكم. وقيل: ثَمَّ جملٌ محذوفةٌ والتقدير: وكان خلقُه لهما لمنافعَ يعودُ عليكم نفعُها في الدنيا دون الآخرة وفَعَل ذلك لِيَبْلُوَكم. وقيل: / تقديرُه: وخلقكم ليبلوَكم. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «خلق» قال الزمخشري: «أي: خلقهُنَّ لحكمةٍ بالغةٍ وهي أَنْ يَجْعَلَها مساكنَ لعباده وينعمَ عليهم فيها بصنوف النِّعَمِ ويُكَلِّفهم فعلَ الطاعاتِ واجتنابَ المعاصي، فَمَنْ شكر وأطاع أثابه، ومَنْ كفر وعصى عاقبه، ولمَّا أَشْبَهَ ذلك اختبارَ المُخْتبر قال» ليبلوَكم «، يريد: ليفعلَ بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم. قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} مبتدأٌ وخبر في محل نصب بإسقاط الخافضِ؛ لأنه مُعَلِّقٌ لقوله» ليبلوكم «. قال الزمخشري:» فإن قلت: كيف جاز تعليقُ فعلِ البلوى؟ قلت: لما في الاختيار من معنى العلم؛ لأنه طريقٌ إليه فهو ملابسٌ له كما تقول: «انظر أيُّهم أحسنُ وجهاً، واسمع أيُّهم أحسنُ صوتاً» لأن النظر والاستماع من طرق العلم «. وقد واخذه الشيخُ في تمثيله بقوله» واسمع «قال:» لم أعلمْ أحداً ذكر أنَّ «استمع» يُعَلَّق، وإنما ذكروا من غيرِ أفعالِ القلوب «سَلْ» ، و «انظر» ، وفي جواز تعليق «رأى» البصريةِ خلافٌ «. قوله: {وَلَئِن قُلْتَ} : هذه لامُ التوطئة للقسم، و» ليقولُنَّ «جوابُه، وحُذِفَ

جوابُ الشرط لدلالة جواب القسم عليه، و» إنكم «محكيٌّ بالقول، ولذلك كُسِرت في قراءة الجمهور. وقُرىء بفتحها، وفيها تأويلان ذكرهما الزمخشري، أحدهما: أنها بمعنى لعلَّ، قال:» مِنْ قولهم: «ائت السُّوق أنك تشتري لحماً» ، أي: لعلك، أي: ولئن قلت لهم: لعلكم مبعوثون بمعنى توقَّعوا بَعْثَكم وظُنُّوه، ولا تَبُثُّوا القولَ بإنكاره، لقالوا «. والثاني: أن تُضَمِّنَ» قلتَ «معنى» ذَكَرْتَ «يعنى فتفتح الهمزة لأنها مفعول» ذكرْتَ «. قوله: {إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ} قد تقدم أنه قُرىء» سِحْر «و» ساحر «، فَمَنْ قَرَأَ» سِحْر «ف» هذا «إشارةٌ إلى البعث المدلولِ عليه بما تقدَّم، أو إشارةٌ إلى القرآن لأنه ناطق بالبعث. ومَنْ قرأ» ساحر «فالإِشارةُ ب» هذا «إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويجوز أن يُرادَ ب» هذا «في القراءة الأولى النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم أيضاً، ويكون جَعَلوه سِحْراً مبالغةً، أو على حذف مضاف، أي: إلا ذو سحر. ويجوز أن يُراد ب» ساحر «نفسُ القرآنِ مجازاً كقولهم» شعرٌ شاعرٌ «و» جَدَّ جَدُّه «.

8

قوله تعالى: {لَّيَقُولُنَّ} : هذا الفعلُ معربٌ على المشهور لأن النونَ مفصولةٌ تقديراً، إذا الأصلُ: ليقولونَنَّ: النون الأولى للرفع، وبعدها نونٌ مشددة، فاستثقلَ توالي ثلاثةِ أمثال، فحُذِفَتْ نونُ الرفع لأنها لا تدلُّ مِن المعنى على ما تدل عليه نون التوكيد، فالتقى ساكنان، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائِهما، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.

و «ما يَحْبِسُه» استفهامٌ، ف «ما» مبتدأ، و «يحبسُه» خبره، وفاعلُ الفعل ضميرُ اسم الاستفهام، والمنصوب يعود على العذاب، والمعنى: أيُّ شيءٍ من الأشياء يَحْبِسُ العذاب؟ . قوله: {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} منصوبٌ ب «مصروفاً» الذي هو خبر «ليس» ، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر «ليس عليها، ووجهُ ذلك أن تقديمَ المعمول يُؤْذن بتقديم العامل، و» يومَ «منصوب ب» مصروفاً «وقد تقدَّم على» ليس «فليَجُزْ تقديمُ الخبرِ بطريق الأولى؛ لأنه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن يتقدَّم الأصلُ. وقد رَدَّ بعضهم هذا الدليلَ بشيئين، أحدهما: أن الظرفَ يُتوسَّع فيه ما لا يُتوسَّع في غيره. والثاني: أن هذه القاعدةَ منخرمةٌ، إذ لنا مواضعُ يتقدم فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العامل، وأوردَ مِنْ ذلك نحوَ قوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9-10] فاليتيمَ منصوب ب» تقهرْ «، و» السائلَ «منصوبٌ ب» تَنْهَرْ «وقد تَقَدَّما على» لا «الناهية، ولا يتقدَّمُ العاملُ وهو المجزوم على» لا «، وللبحث في هذه المسألة موضعٌ هو أليقُ به. قال الشيخ:» وقد تَتَبَّعْتُ جملةً من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر «ليس» عليها ولا بمعموله إلا ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقولِ الشاعر: 2637 - فيأبى فما يَزْدادُ إلا لَجاجَةً ... وكنتُ أَبِيَّاً في الخَفَا لستُ أُقْدِمُ واسمُ «ليس» ضميرٌ عائد على «العذاب» ، وكذلك فاعل «يأَْتيهم» ، والتقدير: ألا ليسَ العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب. وحكى

أبو البقاء عن بعضهم أن العاملَ في «يومَ يأتيهم» محذوف، تقديره: أي: لا يُصْرَفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم، ودلَّ على هذا المحذوفِ سياق الكلام.

10

قوله تعالى: {لَفَرِحٌ} : قرأ الجمهور بكسرِ الراء، وهو قياسُ اسمِ الفاعل من فَعِل اللازم بكسر العين نحو: أَشِرَ فهو أَشِرٌ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ. وقرىء شاذاً «لَفَرُح» بضم الراء نحو: يَقِظ ويَقُظ، ونَدِس ونَدُس.

11

قوله تعالى: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} : فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الاستثناء المتصل؛ إذ المرادُ به جنس/ الإِنسانِ لا واحدٌ بعينه. والثاني: أنه منقطعٌ، إذ المراد بالإِنسان شخصٌ معين، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحل. والثالث: أنه مبتدأ، والخبرُ الجملةُ من قوله {أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} وهو منقطعٌ أيضاً. وقوله: «مغفرةٌ» يجوز أن يكونَ مبتدأ، و «لهم» الخبر، والجملةُ خبرُ «أولئك» ، ويجوز أن يكونَ «لهم» خبرَ «أولئك» و «مغفرة» فاعلٌ بالاستقرار.

12

قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ} : الأحسنُ أن تكونَ على بابها من الترجِّي بالنسبة إلى المخاطب. وقيل: هي للاستفهام كقوله عليه السلام: «لعلنا أعجلناك» قوله: {وَضَآئِقٌ} نسقٌ على «تارك» . وعَدَلَ عن «ضيّق» وإن كان أكثر من «

ضائق» قال الزمخشري: «ليدلَّ على أنه ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابت، ومثلُه سَيِّد وجَواد، فإذا أردْتَ الحدوثَ قلت: سائدٌ وجائد» . قال الشيخ: «وليس هذا الحكمُ مختصاً بهذه الألفاظ، بل كلُّ ما بُني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعِل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول: حاسِن وثاقِل وسامِن في حَسُن وثَقُل وسَمُنَ» وأنشد: 2638 - بمنزلةٍ أمَا اللئيمُ فسامِنٌ ... بها وكرامُ الناسِ بادٍ شُحوبُها وقيل: إنما عَدَل عن ضيِّق إلى ضائق ليناسب وزن تارك. والهاءُ في «به» تعود على «بعض» . وقيل: على «ما» . وقيل: على التكذيب. و «صدرُك» فاعل ب «ضائق» . ويجوز أن يكون «ضائقٌ» خبراً مقدماً، و «صدرك» مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملة خبرٌ عن الكاف في «لعلك» ، فيكون قد أخبر بخبرين، أحدهما مفرد، والثاني جملة عُطِفت على مفرد، إذ هي بمعناه، فهو نظير: «إنَّ زيداً قائم وأبوه منطلق» ، أي: إن زيداً أبوه منطلق. قوله: {أَن يَقُولُواْ} في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في «أنْ» بعد حَذْف حرف الجر أو المضاف، تقديره: كراهة أو مخافةَ أَنْ يقولوا، أو لئلا يقولوا، أو بأن يقولوا. وقال أبو البقاء: «لأن يقولوا، أي: لأَنْ قالوا، فهو بمعنى الماضي» وهذا لا حاجة إليه، وكيف يدعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٍّ في الاستقبال وهو الناصب؟ و «لولا» تحضيضيةٌ، وجملةُ التحضيضِ منصوبةٌ بالقول.

13

قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ} : في «أم» هذه وجهان، أحدهما: أنها منقطعةٌ فتقدَّر ب «بل» والهمزة، فالتقدير: بل أتقولون افتراه. والضمير في «افتراه» لما يوحى. والثاني: أنها متصلة، فقدَّروها بمعنى: أيكتفون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنه ليس من عند اللَّه؟ . قوله: {مِّثْلِهِ} نعت ل «سُوَر» و «مثل» وإن كانت بلفظ الإِفراد فإنها يُوصف بها المثنى والمجموعُ والمؤنث، كقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] ، ويجوز المطابقةُ قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ} [الواقعة: 23] ، وقال تعالى: {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] والهاءُ في «مثلِه» تعود لما يوحي أيضاً، و «مفتريات» صفة ل «سُوَر» جمع مُفْتراة كمُصْطَفَيات في «مصطفاة» فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية.

14

قوله تعالى: {أَنَّمَآ أُنزِلِ} : «ما» يجوز أن تكون كافةً مهيِّئة. وفي «أُنْزِل» ضميرٌ يعود على ما يوحى إليك، و «بعلمٍ» حال أي: ملتبساً بعلمِه، ويجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفية اسماً ل «إنَّ» فالخبرُ الجارُّ تقديرُه: فاعلموا أن تنزيلَه، أو أنَّ الذي أُنْزِل ملتبسٌ بعلمٍ. وقرأ زيد بن علي «نَزَّل» بفتح النون والزاي المشددة، وفاعل «نَزَّل» ضميرُ اللَّه تعالى، و {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} نسقٌ على «أنَّ» قبلها، ولكن هذه مخففةٌ فاسمُها محذوفٌ، وجملةُ النفي خبرُها. قوله: {نُوَفِّ} الجمهورُ على «نُوَفِّ» بنون العظمة وتشديد الفاء مِنْ وَفَّى

يُوَفِّي، وطلحة وميمون بياء الغيبة، وزيد بن علي كذلك إلا أنه خَفَّفَ الفاءَ مِنْ أوفى يوفي، والفاعلُ في هاتَيْن القراءتين ضميرُ اللَّه تعالى. وقرىء «تُوَفَّ» بضم التاء وفتح الفاء مشددةً مِنْ وفى يُوَفِّى مبنياً للمفعول. «أعمالُهم» بالرفع قائماً مقام الفاعل. وانجزم «نُوَفِّ» على هذه القراءاتِ لكونِه جواباً للشرط، كما في قوله تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ [فِي حَرْثِهِ] وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنهَا} [الشورى: 20] . وزعم الفراء أن «كان» زائدة قال: «ولذلك جَزَم جوابَه» ولعلَّ هذا لا يصح إذ لو كانت زائدةً لكان «يريد» هو الشرط، ولو كان شرطاً لانجزم، فكان يُقال: مَنْ كان يُرِدْ «. وزعم بعضُهم أنه لا يؤتى بفعل الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً إلا مع» كان «خاصة، ولهذا لم يَجِىءْ في القرآن إلا كذلك، وهذا ليس بصحيحٍ لوروده في غير» كان «قال زهير: 2639 - ومَنْ هاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه ... ولو رام أسبابَ السماء بسُلَّمِ وأما القرآن فجاء من باب الاتفاق أنه كذلك. وقرأ الحسن البصري» نوفِي «بتخفيف الفاء/ وثبوتِ الياء مِنْ أوفى، ثم هذه القراءةُ محتمِلَةٌ: لأن يكون الفعل مجزوماً، وقُدِّر جزمُه بحذفِ الحركة

المقَّدرة كقوله: 2640 - ألم يَأْتيك والأنباءُ تُنْمي ... بما لاقَتْ لَبُونُ بني زياد على أن ذلك قد يأتي في السَّعَةِ نحو: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} [يوسف: 90] ، وسيأتي محرَّراً في سُورته، ولأن يكون الفعلُ مرفوعاً لوقوع الشرط ماضياً كقوله: 2641 - وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجميعِ مخافةً ... نقولُ جِهاراً ويَلْكُمْ لا تُنَفِّروا وكقول زهير: 2642 - وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ وهل الرفعُ لأنه على نيةِ التقديمِ وهو مذهبُ سيبويه أو على نية الفاءِ، كما هو مذهب المبرد؟ خلافٌ مشهور.

16

قوله تعالى: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} : يجوز أن يتعلَّقَ «فيها» ب «حَبِط» ، والضميرُ على هذا يعود على الآخرة، أي: وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة. ويجوز أن يتعلَّقَ ب «صنعوا» فالضمير على هذا يعود على الحياة الدنيا كما عاد عليها في قوله {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} . و «ما» في «ما صنعوا» يجوز أن تكون بمعنى الذي فالعائدُ محذوفٌ، أي: الذي صنعوه، وأن تكونَ مصدريةً، وحَبِط صُنْعُهم.

قوله: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ} الجمهورُ قرؤوا برفع الباطل، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكونَ «باطل» خبراً مقدماً، و {مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} مبتدأٌ مؤخرٌ. و «ما» تحتمل أن تكن مصدريةً، أي: وباطلٌ كونُهم عاملين، وأن تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف، أي: يعملونه، وهذا على أنَّ الكلامَ من عطفَ الجمل، عَطَفَ هذه الجملةَ على ما قبلها. الثاني: أن يكونَ «باطل» مبتدأً و {مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} خبرُه، هكذا قال مكي بن أبي طالب وهو لا يَبْعُدُ على الغلط، والعجبُ أنه لم يّذْكر غيره. الثالث: أن يكونَ «باطل» عطفاً على الأخبارِ قبله، أي: أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون، و {مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فاعلٌ ب «باطل» ، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على «حَبِط» . وقرأ أُبَيّ وابن مسعود قال مكي: «وهي في مصحفهما كذلك» ونقلها الزمخشري عن عاصم «وباطلاً» نصباً وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ ب «يعملون» و «ما» مزيدة، وإلى هذا ذهب مكي وأبو البقاء وصاحب «اللوامح» ، وفيه تقديمُ معمولِ خبرِ «كان» على «كان» وهي مسألة خلاف، والصحيحُ جوازُها كقوله تعالى: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] فالظاهرُ أن «إياكم» منصوب ب «يعبدون» . والثاني: أن تكونَ «ما»

إبهاميةً، وتنتصب ب «يعملون» ومعناه: «باطلاً أيَّ باطلٍ كانوا يعملون» ، والثالث: أن يكون «باطلاً» بمعنى المصدر على بَطَلَ بُطْلاناً ما كانوا يعملون، ذكر هذين الوجهين الزمخشري، ومعنى قوله «ما» إبهامية أنها هنا صفةٌ للنكرة قبلها، ولذلك قَدَّرها ب «باطلاً أيَّ باطل» فهو كقوله: 2643 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وحديثٌ ما على قِصَرِهْ و «لأمرٍ ما جَدَعَ قصيرٌ أَنْفَه» ، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى: {مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} [الزمر: 9] .

17

قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ} فيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ، تقديره: أفَمَنْ كان على هذه الأشياء كغيره، كذا قدَّره أبو البقاء، وأحسنُ منه «أَفَمَنْ كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها» ، وحَذْفُ المعادلِ الذي دخلت عليه الهمزةُ كثيرةٌ نحو: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} [فاطر: 8] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] إلى غير ذلك. وهذا الاستفهام بمعنى التقرير. الثاني وإليه نحا الزمخشري أن هذا معطوفٌ على شيءٍ محذوفٍ قبله، تقديره: أمَّن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها كمَنْ كان على بَيِّنَة، أي: لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم، يريد أنَّ بين الفريقين تفاوتاً، والمرادُ مَنْ آمَن مِن اليهود كعبد اللَّه بن سلام، وهذا

على قاعدتِه مِنْ تقديره معطوفاً بين همزة الاستفهام وحرفِ العطف، وهو مبتدأٌ أيضاً، والخبرُ محذوفٌ كما تقدَّم تقريرُه. قوله: {وَيَتْلُوهُ} اختلفوا في هذه الضمائر، أعني في «يتلوه» ، وفي «منه» ، وفي «قبله» : فقيل: الهاء في «يتلوه» تعود/ على «مَنْ» ، والمرادُ به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك الضميران في «منه» و «قبله» والمرادُ بالشاهد لسانُه عليه السلام، والتقدير: ويتلو ذلك الذي على بَيِّنة، أي: ويتلو محمداً أي صِدْقَ محمدٍ لسانُه، ومِنْ قبلِه، أي قبل محمد. وقيل: الشاهدُ هو جبريلُ، والضمير في «منه» للَّه تعالى، و «من قبله» للنبي. وقيل: الشاهدُ الإِنجيلُ و «كتاب موسى» عطف على «شاهد» ، والمعنى أن التوراة والإِنجيل يتلوان محمداً في التصديق، وقد فَصَلَ بين حرفِ العطف والمعطوف بقوله: «من قبله» ، والتقدير: شاهدٌ منه، وكتاب موسى من قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصل بين حرف العطفِ والمعطوفِ مُشْبعاً في النساء. وقيل: الضمير في «يتلوه» للقرآن وفي «منه» لمحمد عليه السلام. وقيل: لجبريل، والتقدير: ويتلو القرآنَ شاهدٌ من محمدٍ وهو لسانُه، أو مِن جبريلَ. والهاءُ في «من قبلِه» أيضاً للقرآن. وقيل: الهاءُ في «يَتْلوه» تعود على البيان المدلولِ عليه بالبيِّنة. وقيل: المرادُ بالشاهدِ إعجازُ القرآن، فالضمائر الثلاثة للقرآن. وهذا كافٍ، ووراء ذلك أقوالٌ مضطربةٌ غالبُها يَرْجِع لما ذكرْتُ. وقرأ محمد بن السائب الكلبي «كتابَ موسى» بالنصبِ وفيه

وجهان، أحدهما وهو الظاهر أنه معطوف على الهاء في «يتلوه» ، أي: يتلوه ويتلو كتابَ موسى، وفصلَ بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ. قال أبو البقاء: وقيل: تمَّ الكلامُ عند قولِه «منه» و «كتابَ موسى» ، أي: ويتلو كتابَ موسى «فقدَّر فعلاً مثلَ الملفوظِ به، وكأنه لم يرَ الفصلَ بين العاطفِ والمعطوفِ فلذلك قَدَّر فعلاً. و «إماماً ورحمةً» منصوبان على الحال من «كتاب موسى» سواءً أقرىء رفعاً أم نصباً. والهاءُ في «به» يجوز أن تعودَ على «كتاب موسى» وهو أقربُ مذكورٍ. وقيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد، وكذلك الهاء في «به» . والأَحْزاب: الجماعةُ التي فيها غِلْظَةٌ، كأنهم لكثرتهم وُصِفوا بذلك، ومنه وَصْفُ حمارِ الوحش ب «حَزَابِيَة» لغِلَظِه. والأحزاب: جمع حِزْب وهو جماعةُ الناس. و «المِرْية» بكسر الميم وضَمِّها الشكُّ، لغتان أشهرُهما الكسرُ، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ جماهيرُ الناس، والضمُّ لغةُ أسد وتميم، وبها قرأ السُّلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي. و «وأولئك» إشارةٌ إلى مَنْ كان على بَيِّنة، جُمِع على معناها، وهذا إنْ أريد ب «مَنْ كان» النبيُّ وصحابتُه، وإن أريدَ هو وحدَه فيجوز أن يكونَ عظَّمه بإشارة الجمع كقوله:

2644 - فإن شِئْتِ حَرَمْتُ النساءَ سواكمُ ... وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا و «موعده» اسمُ مكانِ وَعْدِه، قال حسان رضي اللَّه عنه: 2645 - أورَدْتُموها حِياضَ الموتِ ضاحيةً ... فالنارُ موعدُها والموتُ ساقيها

18

والأَشْهاد جمعُ شاهد كصاحب وأَصْحاب، أو جمعُ شهيد كشريف وأشراف.

19

وقوله تعالى: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ} : «هم» الثانية توكيدٌ للأولى توكيداً لفظياً.

20

قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ} : يجوز في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ نافيةً، نفى عنهم ذلك لمَّا لم ينتفعوا به، وإن كانوا ذوي أسماع وأبصار، أو يكونُ متعلَّقُ السمعِ والبصرِ شيئاً خاصاً. والثاني: أن تكون مصدريةً، وفيها حينئذٍ تأويلان، أحدهما: أنها قائمة مقامَ الظرف، أي: مدةَ استطاعتهم، وتكون «ما» منصوبةً ب «يُضاعف» ، أي: يضاعف لهم العذاب مدةَ استطاعتهم السمعَ والأبصار. والتأويل الثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ على إسقاط حرف الجر، كما يُحذف من أنْ وأنَّ أختيها، وإليه ذهب الفراء، وذلك الجارُّ متعلقٌ أيضاً ب «يُضاعَف» ، أي: يضاعف لهم بكونهم كانوا يسمعون ويبصرون ولا يَنْتفعون. الثالث: أن تكون «ما» بمعنى الذي، وتكونَ على حذف حرف الجر أيضاً، أي: بالذي كانوا، وفيه بُعْدٌ لأنَّ حَذْفَ الحرفِ لا يَطَّرد. والجملةُ من قوله «يُضاعف» مستأنفة. وقيل: إنَّ الضمير في قوله: «

ما كانوا» يعودُ على «أولياء» وهم آلهتُهم، أي: فما كان لهم في الحقيقة مِنْ أولياء «، وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياءُ، فعلى هذا يكون {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} معترضاً.

22

قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ} : في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين، ويتلخص ذلك في خمسة أوجه، أحدها: وهو مذهب/ الخليلِ وسيبويه وجماهير الناس أنهما رُكِّبَتَا من «لا» النافيةِ و «جَرَم» ، وبُنِيَتَا على تركيبهما تركيبَ خمسةَ عشرَ، وصار معناهما معنى فِعْلٍ وهو «حقَّ» ، فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعلية، فقوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] ، أي حَقَّ وثَبَتَ كونُ النار لهم، أو استقرارها لهم. الوجه الثاني: أنَّ «لا جَرَمَ» بمنزلة لا رجل، في كون «لا» نافيةً للجنس، و «جَرَم» اسمُها مبنيٌّ معها على الفتح وهي واسمُها في محلِّ رفعٍ بالابتداء وما بعدهما خبرُ «لا» النافية، وصار معناها: لا محالة ولا بُدَّ. الثالث: كالذي قبله إلا أن «أنَّ» وما بعدها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الجار، إذ التقدير: لا محالةَ في أنهم في الآخرة، أي: في خسرانهم. الرابع: أن «لا» نافيةٌ لكلامٍ متقدمٍ تكلَّم به الكفرة، فردَّ اللَّه عليهم ذلك بقولِه: «لا» ، كما تَرُدُّ «لا» هذه قبل القسم في قوله: {لاَ أُقْسِمُ} [القيامة: 1] ، وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] وقد تقدَّم تحقيقه، ثم أتى بعدها بجملةٍ فعليةٍ وهي «جرم أنَّ لهم كذا» . وجَرَمَ فعلٌ ماضٍ معناه كسب، وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلولِ عليه بسياقِ الكلام، و «أنَّ» وما في حيِّزها في

موضع المفعول به لأنَّ «جَرَم» يتعدى إذ هو بمعنى كَسَبَ. قال الشاعر: 2646 - نَصَبْنا رأسَه في جِذْعِ نَخْلٍ ... بما جَرَمَتْ يداه وما اعتدَيْنا أي: بما كسبَتْ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة. وجريمةُ القومِ كاسبُهم، قال: 2647 - جريمةُ ناهِضٍ في رأسِ نِيْقٍ ... ترى لعظامِ ما جَمَعَتْ صَليبا فتقديرُ الآية: كَسَبَهم فِعْلُهم أو قولُهم خسرانَهم، وهذا هو قولُ أبي إسحاق الزجاج، وعلى هذا فالوقف على قوله: «لا» ثم يُبتدأ ب «جَرَمَ» بخلاف ما تقدَّم. الوجه الخامس: أنَّ معناها لا صَدَّ ولا مَنْعَ، وتكون «جَرَمَ» بمعنى القطع، تقول: جَرَمْتُ، أي: قطعت، فيكون «جرم» اسمَ «لا» مبنيٌّ معها على الفتح كما تقدم، وخبرها «أنَّ» وما في حيِّزها، أو على حَذْف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم، فيعود فيه الخلافُ المشهور. وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ: يُقال لا جِرَمَ بكسر الجيم، ولا جُرَم بضمِّها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جَرَم، ولا إنَّ ذا جَرَم، ولا ذو جَرَم، ولا عن ذا جَرَم، ولا إنْ جَرَم، ولا عن جَرَم، ولا ذا جَرَ واللَّهِ لا أفعل ذلك.

وعن أبي عمروٍ: «لا جَرُم أنَّ لهم النار» على وزن لا كَرُم، يعني بضم الراء، ولا جَرَ، قال: «حَذَفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا:» سَوْ ترى «يريدون: سوف. وقوله: {هُمُ الأخسرون} يجوز أن يكون» هم «فَصْلاً وأن يكونَ توكيداً، وأن يكونَ مبتدأً وما بعده خبره، والجملة خبرُ» أنَّ «.

23

قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} : الموصولُ اسمُ إنَّ، والجملة مِنْ قولِه: {أولئك أَصْحَابُ الجنة} خبرها. والإِخباتُ: الاطمئنان والتذلُّل والتواضع، وأصله من الخَبْت وهو المكانُ المطمئنُّ، أي: المنخفضُ من الأرض، وأَخْبَتَ الرجلُ: دخل في مكان خَبْت، كأَنْجَدَ وأَتْهَمَ إذا دخل في أحد هذين المكانين، ثم تُوُسِّع فيه فقيل: خَبَتَ ذِكْرُه، أي: خمد، ويقال للشيء الدنيء الخبيت، قال الشاعر: 2648 - ينفع الطيِّبُ القليلُ من الرِّزْ ... قِ ولا يَنْفَعُ الكثير الخبيتُ هكذا يُنْشدون هذا البيتَ في هذه المادة، الزمخشري وغيره، والظاهر أن يكونَ بالثاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطِّيب، ولكن الظاهر من عبارتهم أنه بالتاء المثنَّاة لأنهم يَسُوقونه في هذه المادة، ويدلُّ على أن معنى البيت إنما هو على الثاء المثلثة قولُ الزمخشري: «وقيل: التاءُ فيه بدل من

الثاء» . ومن مجيء الخَبْت بمعنى المكان المطمئن قوله: 2649 - أفاطمُ لو شَهِدْتِ ببطنِ خَبْتٍ ... وقد قتل الهزبرَ أخاك بشرا وفي تركيب البيتِ قَلَقٌ، وحَلُّه: لو شهدْتِ أخاك بِشْرا وقد قتل الهزبرَ، ففاعل «قتل» ضمير يعودُ على «أخاك» . وأخبت يتعدى بإلى كهذه الآية، وباللام كقوله تعالى: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54] .

24

قوله تعالى: {مَثَلُ الفريقين} : مبتدأٌ، و «كالأعمى» خبره، ثم هذه الكافُ يحتمل أن تكونَ هي نفسَ الخبر، فتقدَّر ب «مثل» ، تقديرُه: مَثَلُ الفريقين مثلُ الأعمى. ويجوز أن تكون «مثل» بمعنى «صفة» ، ومعنى الكاف معنى مِثْلِ، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ، أي: كمثل الأعمى. وقوله: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى} يجوز أن/ يكونَ من باب تشبيه شيئين بشيئين، فقابل العمى بالبصَر، والصمم بالسمع وهو من الطِّباق، وأن يكونَ من تشبيهِ شيءٍ واحد بوصفَيْهِ بشيءٍ واحدٍ بوصفَيْهِ، وحينئذٍ يكون قولُه: «كالأعمى والأصمِّ» وقوله «والبصير والسميع» من باب عطف الصفات كقوله: 2650 - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ وقد أحسنَ الزمخشريُّ في التعبير عن ذلك فقال: «شبَّه فريق الكافرين بالأَعْمى والأصمِّ، وفريقَ المؤمنين بالبصير والسميع، وهو من اللَّفِّ والطِّباق، وفيه معنيان: أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين، كما شبَّه امرؤ القيس قلوبَ الطير بالحَشَف والعُنَّاب، وأن يُشَبِّهَ بالذي جمع بين العمى والصَّمَم، والذي جمع بين البصر والسمع، على أن تكونَ الواوُ في» والأصمِّ «وفي»

والسميع «لعطفِ الصفة على الصفةِ كقوله: 2651 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ال ... صَابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ قلت: يريد بقوله» اللفّ «أنه لفَّ المؤمنين والكافرين اللذين هما مشبهان بقوله» الفريقين «، ولو فسَّرهما لقال: مَثَلُ الفريق المؤمن كالبصير والسميع، ومثل الكافر كالأعمى والأصم، وهي عبارةٌ مشهورة في علم البيان: لفظتان متقابلتان: اللفُّ والنشر، وأشارَ لقول امرىء القيس وهو: 2652 - كأنَّ قلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابِساً ... لدى وكرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي أصلُ الكلامِ: كأن الرَّطْبَ من قلوب الطير: العُنَّابُ، واليابسَ منها: الحَشَفُ، فلفَّ ونشر، واللف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كبير، ليس هذا موضعَه. وأشار بقوله» الصابح فالغانم «إلى قوله: 2653 - يا ويحَ زَيَّابَةَ للحارثِ ال ... صابحِ فالغانم فالآئِبِ وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وتحريرُه. فإن قلت: لِمَ قَدَّم تشبيهَ الكافر على المؤمن؟ أجيب بأن المتقدِّمَ ذِكْرُ الكفار فلذلك قدَّم تمثيلهم. فإن قيل: ما الحكمةُ في العدولِ عن هذا التركيب لو قيل: كالأعمى والبصير والأصم والسميع لتتقابلَ كلُّ لفظةٍ مع ضدها، ويظهرَ بذلك التضادُّ؟ أجيب: بأنه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعه بانسداد الأذن، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعه بانفتاح الأذن، وهذا التشبيهُ أحدُ

الأقسامِ وهو تشبيهُ أمرٍ معقول بأمرٍ محسوس: وذلك أنه شبَّه عمى البصيرة وصَمَمها بعمى البصر وصمم السمع، ذاك متردِّدٌ في ظُلَم الضلالات، كما أن هذا متحيِّز في الطرقات. وهذه فوائد علم البيان. قوله: {مَثَلاً} تمييز، وهو منقولٌ من الفاعلية، والأصل: هل يَسْتوي مَثَلُهما، كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] . وجوَّز ابنُ عطية رحمه اللَّه أن يكون حالاً، وفيه بَعْدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنه على معنى» مِنْ «لا على معنى» في «.

25

قوله تعالى: {إِنَّي لَكُمْ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني» بفتح الهمزة، والباقون بكسرها. فأمَّا الفتح فعلى إضمار حرفِ الجر، أي: بأني لكم. قال الفارسي: «في قراءة الفتح خروجٌ من الغَيْبة إلى المخاطبةِ» . قال ابن عطية: وفي هذا نظر، وإنما هي حكايةُ مخاطبتهِ لقومه، وليس هذا حقيقة الخروج من غَيْبةٍ إلى مخاطبة، ولو كان الكلام أن أَنْذِرْهم ونحوه لصح ذلك «. وقد قال بهذه المقالة أعني الالتفات مكي فإنه قال:» الأصل: بأني والجارُّ والمجرور في موضع المفعول الثاني، وكان الأصلُ: أنه، لكنه جاء على طريقة الالتفات «. انتهى، ولكن هذا الالتفاتَ غيرُ الذي ذكره أبو علي، فإنَّ ذاك من غيبة إلى خطاب، وهذا من غيبةٍ إلى تكلُّم، وكلاهما غير محتاج إليه، وإن كان قولُ مكي أقربَ.

وقال الزمخشري:» الجارُّ والمجرور صلةٌ لحالٍ محذوفة، والمعنى: أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بالكسر، فلما اتصل به الجارُّ فُتِح كما فتح في «كأنَّ» والمعنى على الكسر في قولك: «إن زيداً كالأسد» . وأما الكسرُ فعلى إضمار القول، وكثراً ما يُضْمر، وهو غني عن الشواهد.

26

وقوله تعالى: {أَن لاَّ تعبدوا} : كقوله: {أَن لاَّ تعبدوا} في أول السورة، ونزيد هنا شيئاً آخر، وهو أنها على قراءة مَنْ فتح «أني» تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكون بدلاً من قوله: «أني لكم» ، أي: أَرْسَلْناه بأن لا تعبدوا. والثاني: / أن تكون مفسِّرة، والمفسَّر بها: إمَّا أرسلنا، وإمَّا نذير. وأمَّا على قراءة مَنْ كسر فيجوز أن تكونَ المصدرية، وهي معمولةٌ لأرسلنا، ويجوز أن تكونَ المفسرةَ بحالَيْها. قوله: {أَلِيمٍ} إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ لوقوعه فيه لا به، وقال الزمخشري: «فإذا وُصِفَ به العذابُ قلت: مجازٌ مثلُه؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب، فنظيرها قولك: نهارك صائم» . قال الشيخ: «وهذا على أن يكون» أليم «صفةُ مبالغةٍ وهو مَنْ كَثُرَ ألمه، وإن كان أليم بمعنى مُؤْلم فنسبتُه لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة» .

27

قوله تعالى: {وَمَا نَرَاكَ} : يجوز أن تكون قلبيةً، وأن تكون بصريةً. فعلى الأول تكون الجملةُ من قوله «اتَّبعك» في محل نصب مفعولاً

ثانياً، وعلى الثاني في محلِّ نصب على الحال، و «قد» مقدرةٌ عند مَنْ يشترط ذلك. والأراذِلُ فيه وجهان، أحدهما: أنه جمعُ الجمع، والثاني: جمعٌ فقط. والقائلون بالأول اختلفوا فقيل: جمع ل «أَرْذُل» ، وأَرْذُل جمع لرَذْل نحو: كَلْب وأَكْلُب وأَكَالب. وقيل: بل جمع لأرْذال، وأَرْذال جمع لرَذْل أيضاً. والقائلون بأنه ليس جمعَ جمعٍ، بل جمعٌ فقط قالوا: هو جَمْعٌ لأَرْذُل، وإنما جاز أن يكون جمعاً لأَرْذُل لجريانه مَجْرى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفُه كالأَبْطح والأبرق وقال بعضهم: هو جمع أَرْذَل الذي للتفضيل، وجاء جمعاً كما جاء {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123] و {أحاسِنُكم أخلاقاً} [الأنعام: 123] . ويقال: رجل رَذْل ورُذال، ك «رَخْل» و «رُخال» وهو المرغوبُ عنه لرداءته. قوله: {بَادِيَ الرأي} قرأ أبو عمرو من السبعة وعيسى الثقفي «بادِئَ» بالهمز، والباقون بياءٍ صريحةٍ مكانَ الهمزة. فأمَّا الهمزُ فمعناه: بادئَ الرأي، أي: أولَ الرأي بمعنى أنه غيرُ صادرٍ عن رَوِّية وتَأَمُّل، بل من أولِ وَهْلة. وأمَّا مَنْ لم يهمز فيحتمل أن يكونَ أصلُه كما تقدَّم، ويحتمل أن يكونَ مِنْ بدا يَبْدو أي ظهر، والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، أي: لو تُؤُمِّل لعُرِفَ باطنُه، وهو في المعنى كالأول. وفي انتصابهِ على كلتا القراءتين سبعةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، وفي العاملِ فيه على هذا ثلاثة أوجه، أحدُها: «نراك» ، أي:

وما نراك في أول رأينا، على قراءة أبي عمرو، أو فيما يَظْهر لنا من الرأي في قراءة الباقين. والثاني من الأوجه الثلاثة: أن يكونَ منصوباً ب «اتَّبعك» ، أي: ما نراك اتبعك أولَ رأيهم، أو ظاهرَ رأيهم، وهذا يحتمل معنيين، أحدهما: أن يريدوا اتَّبعوك في ظاهر أمرهم، وبواطنهم ليست معك. والثاني: أنهم اتَّبعوك بأول نظرٍ، وبالرأي البادي دون تثبُّت، ولو تثبَّتوا لَمَا اتبعوك. الثالث من الأوجه الثلاثة: أنَّ العاملَ فيه «أراذِلُنا» والمعنى: أراذِلُنا بأولِ نظرٍ منهم، أو بظاهر الرأي نعلم ذلك، أي: إنَّ رذالَتَهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحابَ حِرَفٍ دنيَّة. ثم القول بكونِ «باديَ» ظرفاً يحتاج إلى اعتذار فإنه اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصل، فقال مكي: «وإنما جاز أن يكون فاعِل ظرفاً كما جاز ذلك في فعيل نحو: قريب ومليء، وفاعل وفعيل يتعاقبان كراحِم ورحيم، وعالم وعليم، وحَسُن ذلك في فاعِل لإِضافته إلى الرأي، والرأي يُضاف إليه المصدر، وينتصبُ المصدرُ معه على الظرف نحو:» أما جَهْدَ رأيٍ فإنك منطلقٌ «، أي: في» جَهْد «. وقال الزمخشري: «وانتصابه على الظرف، أصلُه: وقتَ حدوثِ أول أمرهم، أو وقت حدوثِ ظاهرِ رأيهم، فَحُذِفَ ذلك وأقيم المضافُ إليه مُقامه» . الوجه الثاني من السبعة: أن ينتصبَ على المفعول به، حُذف معه حرفُ الجر مثل {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] كذا قاله مكي. وفيه نظرٌ من حيث إنه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدي إلى اثنين، إلى ثانيهما بإسقاط الخافض. الثالث من السبعة: أن ينتصبَ على المصدر، ومجيءُ المصدر على

فاعلِ أيضاً ليس بالقياسِ، والعاملُ في هذا المصدرِ كالعامل في الظرف كما تقدم، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه، تقديرُه: رؤيةَ بَدْءٍ أو ظهور، أو اتباعَ بَدْءٍ أو ظهور، أو رَذالة بَدْءٍ أو ظهور. الرابع من السبعة: أن يكونَ نعتاً لبشر، أي: ما نراك إلا بشراً مثلنا/ باديَ الرأي، أي: ظاهرَه، أو مبتدِئاً فيه. وفيه بُعْدٌ للفصلِ بين النعت والمنعوت بالجملة المعطوفة. الخامس: أنه حالٌ من مفعول «اتَّبَعَكَ» ، أي: وأنت مكشوفُ الرأي ظاهرَ لا قوةَ فيه ولا حصافةَ لك. السادس: أنه منادى والمراد به نوحٌ عليه السلام، كأنهم قالوا: يا باديَ الرأي، أي: ما في نفسِك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به والاستقلال له. السابع: أن العاملَ فيه مضمر، تقديره: أتقول ذلك بادي الرأي، ذكره أبو البقاء، والأصلُ عدم الإِضمار مع الاستغناء عنه، وعلى هذه الأوجهِ الأربعةِ الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويل، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنه ظرفٌ أو مصدر. واعلم أنك إذا نَصَبْتَ «باديَ» على الظرف أو المصدر بما قبل «إلا» احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال وهو أنَّ ما بعد «إلا» لا يكون معمولاً لما قبلها، إلا إن كان مستثنى منه نحو: «ما قام إلا زيداً القوم» أو مستثنى نحو: «قام القومُ إلا زيداً» ، أو تابعاً للمستثنى منه نحو: «ما جاءني أحدُ إلا زيدٌ أخيرٌ من عمرو» و «بادي الرأي» ليس شيئاً من ذلك. وقال مكي: «فلو قلت في

الكلام:» ما أعطيت [أحداً] إلا زيداً درهماً] فأوقعتَ اسمين مفعولين بعد «إلا» لم يَجُزْ؛ لأن الفعلَ لا يصلُ ب «إلا» إلى مفعولين، إنما يصل إلى اسمٍ واحد كسائر الحروف، ألا ترى أنك لو قلت: «مررت بزيدٍ عمروٍ» فأوصلْتَ الفعلَ إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجُزْ، ولذلك لو قلت: «استوى الماءُ والخشبة الحائط» فتنصب اسمين بواو «مع» لم يجز إلا أن تأتيَ في جميعِ ذلك بواو العطف فيجوز وصولُ الفعل «. والجوابُ الذي ذكروه هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرِها. وهذا جماعٌ القولِ في هذه المسألة باختصار. والرأي: يجوز أن يكونَ من رؤيةِ العين أو من الفكرة والتأمُّل. وقوله {بَيِّنَةٍ مِّن ربي} » مِنْ ربي «نعتٌ ل» بَيِّنة «، أي: بَيِّنَةٌ من بَيِّنات ربي.

28

قوله تعالى: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} : يجوز في الجارِّ أيضاً أن يكونَ نعتاً ل «رحمة» وأن يكونَ متعلقاً ب «آتاني» . قوله: {فَعُمِّيَتْ} قرأ الأخوان وحفص بضم العين وتشديد الميم، والباقون بالفتح والتخفيف. فأما القراءة الأولى فأصلها: عَمَاها اللَّهُ عليكم، أي: أَبْهمهما عقوبةً لكم، ثم بُني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ فاعلُه للعلمِ به وهو اللَّه تعالى، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرحمة مُقامه، ويدل على ذلك قراءةُ أُبَيّ بهذا الأصل «فعماها اللَّهُ عليكم» ، ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلَمي «فعماها» من غير ذِكْرِ فاعلٍ لفظي، ورُوي عن الأعمش وابن وثاب «وعُمِّيَتْ» بالواو دون الفاء.

وأمَّا القراءة الثانية فإنه أسند الفعل إليها مجازاً. قال الزمخشري: «فإن قلت: ما حقيقته؟ قلت: حقيقته أنَّ الحجةَ كما جُعِلَتْ بصيرةً ومُبْصرة جُعلت عمياء؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتدي ولا يَهْدي غيرَه، فمعنى» فَعَمِيَتْ عليكم البَيِّنَةُ «: فلم تَهْدِكم كما لو عَمِي على القوم دليلُهم في المفازَةِ بقُوا بغيرِ هادٍ» . وقيل: هذا من باب القلب، وأصلها فَعَمِيْتُم أنتم عنها كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخاتم في إصبعي وهو كثيرٌ، وتقدم تحريرُ الخلافِ فيه، وأنشدوا على ذلك: 2654 - ترى الثورَ فيها مُدْخِلَ الظلِّ رأسَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قال أبو علي: «وهذا مما يُقْلَبُ، إذ ليس في إشكال، وفي القرآن {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] ، وبعضهم يُخَرِّج البيت على الاتساعِ في الظرف. وأمَّا آيةُ إبراهيم فَأَخْلَفَ يتعدَّى لاثنين، فأنت بالخيار: أن تضيفَ إلى أيِّهما شِئْتَ فليس من باب القلب. وقد رَدَّ بعضُهم كونَ هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب» عن «دون» على «، ألا ترى أنك تقول:» عَمِيْتُ عن كذا «لا» على كذا «. واختُلِفَ في الضمير في» عُمِّيَتْ «هل هو عائد على البيِّنة فيكونَ قولُه:» وآتاني رحمة «جملة معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّه {على بَيِّنَةٍ مِّن ربي. . . فَعُمِّيَتْ} . وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حُذف من الأول لدلالة

الثاني، والأصل: على بينة من ربي فَعُمِّيَتْ. قال الزمخشري:» وآتاني رحمة بإتيان البيِّنة، على أن البيِّنة في نفسها هي الرحمة. ويجوز أن يريدَ بالبينة المعجزة، وبالرحمة النبوَّةَ. فإن قلت: فقوله: «فعُمِّيَتْ» ظاهر على الوجه الأول فما وجهُه على الوجه الثاني، وحقُّه أن يقال: فَعَمِيَتَا؟ قلت: الوجهُ أن يُقَدَّر: فعُمِّيَتْ بعد البينة، وأن يكون حَذَفَه/ للاقتصار على ذِكْرِه مرةً «. انتهى. وقد تقدَّم الكلامُ على «أرأيتم» هذه في الأنعام، وتلخيصُه هنا أنَّ «أَرَأَيْتُم» يطلب البينة منصوبةً، وفعل الشرط يطلبُها مجرورةً ب «على» ، فأعمل الثاني وأضمر في الأول، والتقدير: أرأيتم البيِّنَةَ من ربي إن كنتُ عليها أَنَلْزِمكموها، فحذف المفعولُ الأول، والجملةُ الاستفهامية هي في محل الثاني، وجواب الشرط محذوفٌ للدلالة عليه. وقوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أتى هنا بالضميرين متصلين، وتقدم ضمير الخطاب لأنه أخصُّ، ولو جيء بالغائب أولاً لا نفصل الضميرُ وجوباً. وقد أجاز بعضُهم الاتِّصال، واستشهد عثمان «أراهُمُني الباطل شيطاناً» . وقال الزمخشري: «يجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقوله:» أَنُلْزِمكم إياها «ونحوه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] ويجوز» فسيكفيك إياهم «. وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضُهم مَنَعه.

وإشباعُ الميم في مثل هذا التركيب واجبٌ، ويضعف سكونُها، وعليه» أراهُمني الباطل «. وقال أبو البقاء:» وقرىء بإسكان الميم فِراراً من توالي الحركات «فقوله هذا يحتمل أن يكون أراد سكونَ ميم الجمع؛ لأنه قد ذكر ذلك بعدما قال:» ودَخَلَتِ الواوُ هنا تتمةً للميم، وهو الأصل في ميم الجمع، وقرىء بإسكان الميم «. انتهى. وهذا إن ثَبَتَ قراءةً فهو مذهبٌ ليونس: يُجَوِّزُ» الدرهمَ أعطيتكمْه «وغيرُه يأباه. ويحتمل أَنْ يريد سكونَ ميم الفعل، ويدل عليه ما قال الزجاج» أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإِعرابِ إلا في ضرورة الشعر، فأمَّا ما روي عن أبي عمرو فلم يَضْبطه عنه القرَّاء، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركةَ ويختلِسُها، وهذا هو الحقُّ، وإنما يَجُوز الإِسكانُ في الشعرِ نحو قولِ امرىء القيس: 2655 - فاليَومَ أشرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكذا قال الزمخشري أيضاً: «وحُكي عن أبي عمرو إسكانُ الميم، ووجهُه أنَّ الحركةَ لم تكن إلا خِلْسةً خفيفةً، فظنَّها الراوي سكوناً، والإِسكانُ الصريحُ لحنٌ عند الخليل وسيبويه وحُذَّاقِ البصريين؛ لأن الحركةَ الإِعرابيةِ لا يُسَوَّغ طَرْحُها إلا في ضرورةِ الشعر» .

قلت: وقد حكى الكسائي والفراء «أَنُلْزِمْكموها» بسكون هذه الميم، وقد تقدم القول في ذلك مشبعاً في سورة البقرة، أعني تسكينَ حركةِ الإِعراب فكيف يَجْعلونه لحناً؟ . و «ألزم» يتعدَّى لاثنين، أوَّلهُما ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة. و {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} جملة حالية، يجوز أن تكون للفاعلِ أو لأحد المفعولين. وقدَّم الجارَّ لأجل الفواصل. وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد أَضْرِبُ عنها لذلك.

29

والضمير في «عليه» يجوز أن يعودَ على الإِنذار المفهوم من «نذير» ، وأن يعودَ على الدين الذي هو المِلَّة، وأن يعود على التبليغ. وقُرِىء «بطاردٍ الذين» بتنوين «طاردٍ» قال الزمخشري: «على الأصل» . يعني أن أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ، وهو ظاهرُ قولِ سيبويه. قال الشيخ: «ويمكن أن يُقال: الأصلُ الإِضافةُ لا العملُ؛ لأنه قد اعتوره شَبَهان، أحدهما: لشَبَهه بالمضارع وهو شَبَهٌ بغير جنسه، والآخر: شَبَهُه بالأسماء إذا كانت فيه الإِضافة، فكان إلحاقُه بجنسه أَوْلى» . وقوله {إِنَّهُمْ مُّلاَقُو} استئنافٌ يفيدُ التعليل. وقوله: «تَجْهلون» صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإِتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفتِه لا يفيد، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التجدُّد كلَّ وقت.

31

و «تَزْدَري» تَفْتَعِل مِنْ زرى يَزْري، أي: حَقَرَ، فأُبدلت تاءُ الافتعال دالاً بعد الزاي وهو مُطَّرِد، ويقال: «زَرَيْتُ عليه» إذا عِبْتَه، و «أَزْرَيْتُ به» ، أي: قَصَّرت به. وعائدُ الموصولِ محذوفٌ، أي: تَزْدَريهم أعينُكم، أي: تحتقرهم وتُقَصِّر بهم، قال الشاعر: 2656 - تَرَى الرجلَ النحيفَ فَتَزْدَريه ... وفي أثوابهِ أسدٌ هَصُورُ وقال أيضاً: 2657 - يباعِدُه الصَّديقُ وتَزْدريهِ حَلِيْلتُه ... ويَنْهرَهُ الصغيرُ واللام في «للذين» للتعليل، أي: لأجل الذين، ولا يجوز أن تكونَ التي للتبليغ إذ لو كانت لكان القياس «لن يؤتيكم» بالخطاب. وقوله: {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} الظاهر أن هذه الجملةَ لا محلَّ لها عطفاً على قولِه {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ} كأنه أخبر عن نفسه بهذه [الجمل الثلاث] . وقد تقدَّم في الأنعام [أن هذا هو المختار] وأن الزمخشري قال: «إنَّ قوله تعالى: {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} معطوفٌ على» عندي خزائن «، أي: لا أقولُ: عندي خزائن اللَّه، ولا أقول: أنا أعلمُ الغيب» . /

32

وقوله تعالى: {جِدَالَنَا} : قرأ ابن عباس «جَدَلنا» كقوله: {

أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] . ونقل أبو البقاء أنه قُرىء «جَدَلْتَنا فأَكْثرت جَدَلَنَا» بغير ألفٍ فيهما قال: وهو بمعنى غَلَبْتَنا بالجدل «. وقوله: {بِمَا تَعِدُنَآ} فيجوز أن تكونَ» ما «بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، أي: تَعِدَناه. ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي: بوعدك إيانا. وقوله» إنْ كنت «جوابُه محذوف أو متقدِّم وهو» فَأْتِنا «.

34

قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ} : قد تقدم حُكْمُ توالي الشرطين وأنَّ ثانيَهما قيدٌ في الأول، وأنه لا بد من سَبْقه للأول. وقال الزمخشريُّ هنا: «إن كان اللَّه» جزاؤُه ما دلَّ عليه قولُه: «لا ينفعكم نُصْحي» ، وهذا الدليلُ في حكم ما دلَّ عليه، فوُصِل بشرطٍ، كما وُصِل الجزاء بالشرط في قوله «إنْ أَحْسَنْتَ إليَّ أحسنتُ إليك إنْ أمكنني» . وقال أبو البقاء: «حكمُ الشرطِ إذا دَخَل على الشرط أن يكون الشرطُ الثاني والجواب جواباً للشرط الأول نحو:» إنْ أَتَيْتني إنْ كلَّمتني أَكْرَمْتك «فقولُك» إنْ كَلَّمْتني أكرمتُك «: جوابُ» إن أتيتني «جميعُ ما بعده، وإذا كان كذلك صار الشرطُ الأول في الذِّكْرِ مؤخَّراً في المعنى، حتى إنْ أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإِكرام، ولكن إنْ كلَّمه ثم أتاه وَجَبَ الإِكرام، وعلةُ ذلك أن الجواب صار مُعَوَّقاً بالشرط الثاني، وقد جاء في القرآن منه {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي} [الأحزاب: 50] .

قلت: أمَّا قولُه:» إنْ وَهَبَتْ. . . أن أراد «فظاهره وظاهرُ القصةِ المَرْوِيَّةِ يدل على عدم اشتراطِ تقدُّم الشرط الثاني على الأول، وذلك أن إرادتَه عليه السلام للنكاح إنما هو مُرَتَّبٌ على هِبة المرأةِ نفسَها له، وكذا الواقعُ في القصة لمَّا وَهَبَت أراد نكاحَها، ولم يُرْوَ أنه أراد نكاحَها فوهبت، وهو يحتاج إلى جوابٍ، وسيأتي هذا إن شاء اللَّهُ في موضِعِه. وقال ابن عطية هنا:» وليس نُصحي لكم بنافع، ولا إرادتي الخيرَ لكم مُغْنيةً إذا أراد اللَّه تعالى بكم الإِغواء، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإِرادتين، وأن إرادة البشرِ غيرُ مُغْنيةٍ، وتعلُّقُ هذا الشرطِ هو «بنصحي» ، وتعلُّقُ الآخر ب «لا ينفع» . وتلخص من ذلك أن الشرطَ مدلولٌ على جوابه بقوله: «ولا ينفعكم» لأنه عَقِبُه، وجوابُ الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول، وكأنَّ التقدير: وإنْ أَرَدْتُ أن أنصحَ لكم إن كان اللَّه يريد أن يُغْوِيَكم فلا يَنْفعكم نصحي. وهو مِنْ حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إن كان اللَّهُ يريدُ أن يُغْويكم فإن أَرَدْتُ أن أنصح لكم فلا ينفعكم نُصْحي. وقرأ الجمهور «نُصْحي» بضم النون وهو يحتمل وجهين، أحدهما: المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر. والثاني: أنه اسمٌ لا مصدر. وقرأ عيسى ابن عمر «نَصْحي» بفتح النون، وهو مصدرٌ فقط. وفي غضون كلام الزمخشري: «إذا عرف اللَّهُ» وهذا لا يجوز؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى لا يُسْنَدُ إليه هذا الفعلُ ولا يُوصف بمعناه، وقد تقدَّم علةُ ذلك غيرَ

مرةٍ. وفي غضون كلام الشيخ «وللمعتزليِّ أن يقول: لا يتعيَّن أن تكون» إنْ «شرطيةً بل هي نافيةٌ والمعنى: ما كان اللَّه يريد أن يُغْويكم» . قلت: لا أظنُّ أحداً يرضى بهذه المقالة وإن كانت توافق مذهبه.

35

قوله تعالى: {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} : مبتدأ وخبرٌ أو فعلٌ وفاعل. والجمهورُ على كسرِ همزة «إجرامي» وهو مصدر أجرم، وأجرم هو الفاشي، ويجوز جَرَمَ ثلاثياً وأنشدوا: 2658 - طَريدُ عشيرةٍ ورهينُ ذَنْبٍ ... بما جَرَمت يَدي وجَنَى لساني وقُرىء في الشاذ «أجرامي» بفتحها، حكاه النحاس، وخَرَّجه على أنه جمعُ جُرْم كقُفْل أَقْفال، والمراد آثامي.

36

قوله تعالى: {وَأُوحِيَ} : الجمهور على «أُوحي» مبنياً للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل «أنه لن يؤمن» أي: أُوحي إليه عدمُ إيمان بعض. وقرأ أبو البرهسم «أوحى» مبنياً للفاعل وهو اللَّه تعالى، «إنه» بكسر الهمزة. وفيها وجهان أحدهما: وهو أصلٌ للبصريين - أنه على إجراء الإِيحاء مُجْرى القول. وقوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} هو تَفْتَعِل من البُؤْس ومعناه الحزنُ في استكانة،

ويقال: ابتأسَ فلانٌ أي: بلغه ما يَكْرهه قال: 2659 - ما يَقْسِمِ اللَّهُ أَقْبَلْ غيرَ مُبْتَئِسٍ ... منه وأقْعُدْ كريماً ناعمَ البالِ / وقال آخر: 2660 - وكم مِنْ خليلٍ أو حَميمٍ رُزِئْتُه ... فلم نَبْتَئِس والرُّزْء فيه جَليل

37

قوله تعالى: {بِأَعْيُنِنَا} : حالٌ من فاعل «اصنع» أي: محفوظاً بأعيننا، وهو مجازٌ عن كلام اللَّه له بالحفظ. وقيل: المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيونِ الناس أي: الذين يتفقَّدون الأخبار، والجمع حينئذ حقيقةٌ. وقرأ طلحة بن مصرف «بأعيُنَّا» مدغمة.

38

قوله تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ} : العامل في «كلما» سَخِر «، و» قال «مستأنف؛ إذ هو جوابٌ لسؤال سائل. وقيل: بل العامل في» كلما «:» قال «، و» سخروا «على هذا: إمَّا صفة لَمَلأ، وإمَّا بدلٌ مِنْ» مرَّ «، وهو بعيدٌ جداً، إذ ليس» سَخِرَ «نوعاً من المرور ولا هو هو فكيف يُبدل منه؟ والجملةُ من قوله» كلما «إلى آخره في محلِّ نصب على الحال أي: يصنع الفلك والحالُ أنه كلما مرَّ.

39

قوله تعالى: {مَن يَأْتِيهِ} : في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أن تكونَ موصولةً. والثاني: أن تكونَ استفهاميةً، وعلى كلا التقديرين ف «تعلمون» : إمَّا من باب اليقين فتتعدَّى لاثنين، وإمَّا من باب العرفان فتتعدَّى لواحد. فإذا كانت هذه عرفانيةً و «مَنْ» استفهامية كانت «مَنْ» وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد، وإن كانَتْ متعديةً لاثنين كانت سادَّة مَسَدَّ المفعولين، وإذا

كانت «تعلمون» متعديةً لاثنين و «مَنْ» موصولة كانت في موضع المفعول الأول، والثاني محذوف. قال ابن عطية: «وجائز أن تكونَ المتعديةَ إلى مفعولين، واقتصر على الواحد» وهذه العبارةُ ليست جيدةٌ؛ لأن الاقتصَارَ في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز؛ لِما تقرَّر غيرَ مرة من أنهما مبتدأٌ وخبر في الأصل، وأمَّا حَذْفُ الاختصار فهو ممتنعٌ أيضاً، إذ لا دليلَ على ذلك. وإن كانت متعديةً لواحد و «مَنْ» موصولةٌ فأمرُها واضح. وحكى الزهراوي: «ويَحُلُّ» بضم الحاء بمعنى يجب. و «التنور» معروفٌ. وقيل: هو وجهُ الأرض. وهل أل فيه للعهدِ أو للجنس؟ ووزنَ تَنُّور قيل: تَفْعُول مِنْ لفظ النور فقُلبت الواوُ الأولى همزةً لانضمامِها، ثم حُذِفت تخفيفاً، ثم شددوا النون كالعوضِ عن المحذوف، ويُعزَى هذا لثعلب. وقيل: وزنه فَعُّول ويعزى لأبي علي الفارسي. وقيل: هو أعجمي وعلى هذا فلا اشتقاقَ له. والمشهورُ أنه مما اتَّفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون.

40

قوله تعالى: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ} : قرأ العامة بإضافة «كل» لزوجين. وقرأ حفص بتنوين «كل» . فأمَّا العامَّة فقيل: إن مفعول «احمل» «اثنين» و {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنٍ} في محل نصب على الحال من المفعول لأنه كان صفةً للنكرة فلما قُدِّم عليها نُصب حالاً. وقيل: بل «مِنْ» زائدة، و «كل» مفعول به، و «اثنين» نعت لزوجين على التأكيد، وهذا إنما يتمُّ على قول مَنْ يرى زيادةَ «مِنْ» مطلقاً، أو في كلامٍ موجب. وقيل: قوله: «زوجين» بمعنى العموم أي: من كل ما لَه ازدواجٌ، هذا معنى قوله: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنٍ} وهو قول

الفارسي وغيره. قال ابن عطية: «ولو كان المعنى: احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يَحْمل من كلِّ نوعٍ أربعةً، والزوج في مشهور كلامهم للواحد مما له ازدواجٌ» . وأمَّا قراءة حفص فمعناها من كل حيوان، و «زوجين» مفعول به، و «اثنين» نعتُ على التأكيد، و «مِنْ كلٍ» على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب «احمل» وهو الظاهر، وأن يتعلق بمحذوف على أنها حال من «زوجين» وهذا الخلافُ والتخريجُ جاريان أيضاً في سورة {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون: 27] . قوله: {وَأَهْلَكَ} نسق على «اثنين» في قراءة مَنْ أضاف «كل» لزوجين، وعلى «زوجين» في قراءة مَنْ نوَّن «كلاً» وقولُه: {إِلاَّ مَن سَبَقَ} استثناءٌ متصل في موجَب، فهو واجبُ النصب على المشهور. وقوله: {وَمَنْ آمَنَ} مفعول به نسقاً على مفعول «احمِلْ» .

41

قوله تعالى: {وَقَالَ} : يجوز أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ نوح عليه السلام، ويجوز أن يكونَ ضمير الباري تعالى أي: وقال اللَّه لنوح ومَنْ معه. و «فيها متعلقٌ ب» اركبوا «وعُدِّي ب» في «لتضمُّنه معنى» ادخلوا فيها راكبين «أو سيروا فيها. وقيل: تقديره: اركبوا الماء فيها. وقيل:» في «زائدةٌ للتوكيد. قوله: {بِسْمِ الله} يجوز أن يكونَ هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل» اركبوا «أو مِنْ» ها «في» فيها «، ويكون» مجراها «و» مرساها «فاعلين بالاستقرار الذي تَضَمَّنه الجارُّ لوقوعه حالاً. ويجوز أن يكونَ» بسم اللَّه «خبراً مقدماً،

و» مَجْراها «/ مبتدأً مؤخراً، والجملة أيضاً حالٌ مما تقدَّم، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدَّرةٌ كذا أعربه أبو البقاء وغيرُه. إلا أنَّ مكيَّاً منع ذلك لخلوِّ الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أَعْرَبْنا الجملةَ أو الجارَّ حالاً من فاعل» اركبوا «قال:» ولا يَحْسُنُ أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من فاعل «اركبوا» لأنه لا عائدَ في الجملةِ يعودُ على المضمر في «اركبوا» ؛ لأن المضمرَ في «بسم اللَّه» إنْ جَعَلْتَه خبراً ل «مَجْراها» فإنما يعود على المبتدأ وهو مجراها، وإن رَفَعْتَ «مجراها» بالظرفِ لم يكن فيه ضميرُ الهاء في «مجراها» وإنما تعود على الضمير في «فيها، وإذا نَصَبْتَ» مجراها «على الظرفِ عَمِل فيه» بسم اللَّه «، وكانت الجملةُ حالاً من فاعل» اركبوا «. وقيل: {بِسْمِ الله} حال من فاعل» اركبوا «ومَجْراها ومُرْساها في موضع الظرف المكاني أو الزماني، والتقدير: اركبوا فيها مُسَمِّين موضعَ جريانها ورُسُوِّها، أو وقتَ جريانِها ورسوِّها. والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه» بسم اللَّه «من الاستقرار، والتقدير: اركبوا فيها متبرِّكين باسم اللَّه في هذين المكانين أو الوقتين. قال مكي:» ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيهما «اركبوا» لأنه لم يُرِدْ: اركبوا فيها في وقت الجَرْي والرسُوِّ، إنما المعنى: سَمُّوا اسمَ اللَّه في وقت الجَرْي والرسوِّ «. ويجوزُ أيضاً أن يكون» مَجْراها ومُرْساها «مصدرين، و» بسم اللَّه «حالٌ كما تقدَّم، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعلين أي: استقرَّ بسم اللَّه إجراؤها وإرساؤها، ولا يكون الجارُّ حينئذٍ إلا حالاً من» ها «في» فيها «لوجود

الرابط، ولا يكون حالاً من فاعل» اركبوا «لعدمِ الرابط. وعلى هذه الأعاريبِ يكون الكلامُ جملةً واحدةً. ويجوز أن يكون {بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} جملةً مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإِعراب، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالركوب، وأخبر أن مجراها ومُرْساها باسم اللَّه، وفي التفسير: كان إذا قال: «بسم اللَّه» وقَفَتْ، وإذا قالها جَرَتْ عند إرادته ذلك، فالجملتان محكيَّتان ب «قال» . وقرأ الأخوان وحفص «مَجْراها» بفتح الميم والباقون بضمها. واتفق السبعة على ضمِّ ميم «مُرْساها» . وقد قرأ ابن مسعود وعيسى الثقفي وزيد بن علي والأعمش «مَرْساها» بفتح الميم أيضاً. فالضمُّ فيهما لأنهما مِنْ أَجْرى وأرسى، والفتح لأنهما مِنْ جَرَتْ ورَسَتْ وهما: إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران، على ما سبق من التقادير. وقرأ الضحاك والنخعي وابن وثاب ومجاهد وأبو رجاء والكلبي والجحدري وابن جندب «مُجْرِيها ومُرْسِيها» بكسر الراء بعدهما ياء صريحة، وهما اسما فاعلَيْن مِنْ أجرى وأَرْسى، وتخريجُهما على أنهما بدلان من اسم اللَّه. وقال ابن عطية وأبو البقاء ومكي: إنهما نعتان للَّه تعالى، وهذا الذي ذكروه إنما يتمُّ على تقديرِ كونهما معرفتين بتمحض

الإِضافة وقد قال الخليل: «إنَّ كلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجْعل مَحْضة إلا إضافةَ الصفةِ المشبهة فلا تتمحَّض» . وقال مكي: «ولو جُعِلت» مجراها «و» مرساها «في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً مقدرة، ولجازَ ذلك ولَجَعَلْتَها في موضع نصبٍ على الحال من اسم اللَّه تعالى» قلت: وقد طَوَّل مكي رحمه اللَّه تعالى كلامه في هذه المسألة، وقال في آخرها: «وهذه المسألةُ يُوقف فيها على جميع ما كان في الكلام والقرآن مِنْ نظيرها، وذلك لمَنْ فَهمها حقَّ فَهْما وتدبَّرها حَقَّ تدبُّرها فهي من غُرَر المسائِل المُشْكلة» . قوله: {وَهِيَ تَجْرِي} في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ أخبر اللَّه تعالى عن السفينة بذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المستتر في «بسم اللَّه» أي: جريانها استقرَّ بسم اللَّه حالَ كونِها جارية. والثالث: أنها حالٌ مِنْ شيءٍ محذوفٍ تضمَّنته جملةٌ دَلَّ عليها سياقُ الكلام. قال الزمخشري: «فإن قلت: بِمَ اتصل قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} ؟ قلت: بمحذوفٍ دلَّ عليه قوله {اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله} كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون: بسم اللَّه وهي تجري بهم. وقوله: {بِهِمْ} يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّق ب» تَجْري «. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ أي: تجري ملتبسةً بهم، ولذلك فَسَّره الزمخشري بقوله:» أي: تجري وهم فيها «.

والرُّسُوُّ: الثبات والاستقرار، يقال: رَسَا يَرْسُو وأَرْسَيْتُه أنا. قال: 2661 - فَصَبَرْتُ نَفْساً عند ذلك حُرَّةً ... تَرْسُو إذا نفسُ الجبان تَطَلَّعُ أي: تثبت وتستقرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان.

42

قوله تعالى: {كالجبال} : صفةٌ ل «مَوْج» . قوله: «نوحٌ ابنَه» الجمهورُ على كسر تنوين «نوح» لالتقاء الساكنين. وقرأ وكيع/ بضمِّه اتباعاً لحركة الإِعراب. واسْتَرْذَلَ أبو حاتم هذه القراءة وقال: «هي لغة سوء لا تُعرف» . وقرأ العامة «ابنه» بوصل هاء الكناية بواو، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية. وقرأ ابن عباس بسكون الهاء. قال بعضهم: «هذا مخصوصٌ بالضرورة وأنشد: 2662 - وأَشْربُ الماء ما بيْ نحوَه عَطَشٌ ... إلا لأنَّ عيونَهُ سيلُ واديها وبعضُهم لا يَخُصُّه بها. وقال ابن عطية: إنها لغةٌ لأَزْد السراة ومنه قوله: 2663 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومِطْوايَ مُشْتاقان لَهْ أَرِقانِ وقال بعضهم:» هي لغة عُقَيل وبني كلاب «.

وقرأ السدي:» ابناهْ «بألف وهاء السكت. قال ابن جني:» وهو على النداء «. وقال أبو البقاء:» ابناه: على التَرَثِّي وليس بندبة، لأنَّ الندبةَ لا تكون بالهمزة «وهو كلامٌ مُشْكِلٌ في نفسه، وأين الهمزةُ هنا؟ إن عنى همزةَ النداءِ فلا نسلِّم أن المقدَّرَ مِنْ حروف النداء هو الهمزة، لأنَّ النحاةَ نصُّوا على أنه لا يُضْمر في حروف النداء إلا» يا «لأنها أمُّ الباب. وقوله:» الترثّي «هو قريب في المعنى من الندبة. وقد نَصُّوا على أنه لا يجوز حَذْفُ النداء من المندوب وهذا شبيه به. وقرأ عليٌّ عليه السلام:» ابنها «إضافة إلى امرأته كأنه اعتبرَ قولَه» ليس من أهلك «. وقوله:» ابني «و» من أهلي «لا يدلُّ له لاحتمالِ أن يكونَ ذلك لأجل الحنوّ، وهو قول الحسن وجماعة. وقرأ محمد بن علي وعروة والزبير:» ابْنَهَ «بهاء مفتوحة دون ألف، وهي كالقراءةِ قبلَها، إلا أنه حَذَفَ ألف» ها «مُجْتزئاً عنها بالفتحة، كما تُحذف الياءُ مُجْتَزَأً عنها بالكسرة. قال ابن عطية:» هي لغة «وأنشد: 2664 - أمَا تقودُ بها شاةً فتأكلُها ... أو أنْ تبيعَهَ في بعض الأراكيبِ يريد:» تبيعَها «فاجتزأ بالفتحة عن الألف، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله: أنشده ابن الأعرابي على ذلك.

2665 - فلستُ براجعٍ ما فاتَ مني ... بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لوَاني يريد: يا لَهْفا، فحذف، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة، ويمنع في السَّعة يا غلامَ في يا غلاما. قلت: وسيأتي في نحو:» يا أبتَ «بالفتح: هل ثَمَّ ألفٌ محذوفة أم لا؟ وتقدم لنا خلاف في نحو: يابنَ أمَّ ويابنَ عَمَّ: هل ثَمَّ ألفٌ محذوفة مجتزَأٌ عنها بالفتحة أم لا؟ فهذا أيضاً كذلك، ولكن الظاهرَ عدمُ اقتياسه. وقد خطَّأ النحاس أبا حاتم في حَذْفِ هذه الألفِ، وفيه نظرٌ. قوله: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} جملةٌ في موضع نصب على الحال، وصاحبُها هو «ابنه» ، والحالُ تأتي مِن المنادى لأنه مفعول. والمَعْزِل بكسر الزاي اسم مكان العزلة. وكذلك اسم الزمان أيضاً، وبالفتح هو المصدر. قال أبو البقاء: «ولم أعلم أحداً قرأ بالفتح» . قلت: لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفَه، فكيف يُقرأ به إلا بمجاز بعيد؟ وقرأ البزي وقالون وخلاَّد بإظهار ياء «اركب» قبل ميم «معنا» بخلافٍ عنهم، والباقون بالإِدغام، وقرأ عاصم هنا «يا بنيَّ» بفتح الياء. وأمَّا في غير هذه السورة فإن حفصاً عنه فَعَلَ ذلك، والباقون بكسر الياء في جميع القرآن إلا ابنَ كثيرٍ فإنه في الأول من لقمان وهو قوله: {لاَ تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13] فإنه سكَّنه وصلاً ووقفاً، وفي الثاني كغيره أعني أنه يكسر ياءه، وحفص على أصله من فتحه. وفي الثالث وهو قولُه: {يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] اختُلِف عنه، فروى

عنه البزي كحفصٍ، وروى عنه قنبل السكون كالأول. هذا ضبطُ القراءة. وأمَّا تخريجُها فَمَنْ فتح فقيل: أصلها: يا بُنَيَّا بالألف فحُذفت الألفُ تخفيفاً، اجْتَزَأ عنها بالفتحة، وقد تقدَّم من ذلك أمثلةٌ كثيرة. وقيل بل حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأنها وقع بعدها راءُ «اركب» وهذا تعليلٌ فاسدٌ جداً، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضعَ حيث لا ساكنان. وكأن هذا المُعَلِّلَ لم يَعْلم بقراءة عاصم في غيرِ هذه السورة، ولا بقراءةِ البزي للأخير في لقمان، وقد نَقَل ذلك أبو البقاء ولم يُنْكِرْه. وأمَّا مَنْ كَسَرَ فحُذِفَت الياءُ أيضاً: إمَّا تخفيفاً وهو الصحيح، وإمَّا لالتقاءِ الساكنين، وقد تقدَّم فسادُه. وأمَّا مَنْ سكَّن فلِما رأى مِنْ الثِّقَل مع مطلق الحركة، ولا شك أن السكونَ أخفُّ مِنْ أخفِّ الحركات، ولا يقال: فلِم/ وافق ابنُ كثير غيرَ حفصٍ في ثاني لقمان، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جَمَعَ بين اللغات، والمفرِّق آتٍ بمُحالٍ. وأصلُ هذه اللفظةِ بثلاثِ ياءات: الأولى للتصغير، والثانيةُ لامُ الكلمة، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالة أو مُبْدَلةٌ من واو؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا الموضوعِ في لام «ابن» ما هي؟ ، والثالثةُ ياءُ المتكلم مضافٌ إليها، وهي التي طَرَأَ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالِها.

43

قوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ اليوم} : فيه أقوالٌ، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع، وذلك أن تَجْعَلَ عاصماً على حقيقته، ومَنْ رَحِم هو المعصوم، وفي «رَحِم» ضميرٌ مرفوعٌ يعود على اللَّه تعالى، ومفعولُه ضميرُ الموصولِ وهو «مَنْ» حُذِف لاستكمالِ الشروط، والتقدير: لا عاصمَ اليومَ البتةَ مِنْ أمر اللَّه، لكن مَنْ رَحِمه اللَّه فهو معصوم. الثاني: أن يكونَ المرادُ ب «مَنْ رَحِم» هو الباري تعالى كأنه قيل: لا عاصمَ اليومَ إلا الراحمَ. الثالث: أن عاصماً بمعنى مَعْصوم، وفاعِل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو: ماء دافق، أي: مدفوق، وأنشدوا: 2666 - بطيءُ القيامِ رخيمُ الكلا ... مِ أَمْسى فؤادي به فاتِنا أي مفتوناً، و «مَنْ» مرادٌ بها المعصومُ، والتقدير: لا معصومَ اليومَ مِنْ أَمْرِ اللَّه إلا مَنْ رحمه اللَّه فإنه يُعْصَم. الرابع: أن يكون «عاصم» هنا بمعنى النَّسَب، أي: ذا عِصْمة نحو: لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمرادُ به هنا المَعْصوم. وهو على هذه التقاديرِ استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشري متصلاً لمَدْرك آخرَ، وهو حذفُ مضافٍ تقديرُه: لا يعصمك اليومَ معتصِمٌ قط مِنْ جبلٍ ونحوِه سوى معتصمٍ واحد، وهو مكان مَن رحمهم اللَّه ونجَّاهم، يعني في السفينة «. وأمَّا خبرُ» لا «فالأحسنُ أن يُجْعل محذوفاً، وذلك لأنه إذا دلَّ عليه دليلٌ وَجَبَ حذفُه عند تميم، وكَثُر عند الحجاز، والتقدير: لا عاصمَ موجودٌ. وجَوَّز الحوفي وابن عطية أن يكون خبرُها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفي:»

ويجوز أن يكونَ «اليوم» خبراً فيتعلَّق قالاستقرار، وبه يتعلق {مِنْ أَمْرِ الله} . وقد رَدَّ أبو البقاء ذلك فقال: «فأمَّا خبرُ» لا «فلا يجوز أن يكونَ» اليوم «؛ لأنَّ ظرفَ الزمان لا يكون خبراً عن الجثة، بل الخبر {مِنْ أَمْرِ الله} و» اليوم «معمولُ {مِنْ أَمْرِ الله} . وأمَّا» اليومَ «و {مِنْ أَمْرِ الله} فقد تَقدَّم أن بعضهم جَعَل أحدَها خبراً، فيتعلَّقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمنَّه الواقعُ خبراً. ويجوز في» اليوم «أن يتعلَّقَ بنفس {مِنْ أَمْرِ الله} لكونِه بمعنى الفعل. وجَوَّز الحوفي أن يكون» اليوم «نعتاً ل» عاصم «، وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعِه خبراً عن الجثث. وقُرىء {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} مبنياً للمفعول، وهي مقويةٌ لقولِ مَنْ يَدَّعي أنَّ» مَنْ رَحِم «في قراءة العامة المرادُ به المرحوم لا الراحم، كما تقدَّم تأويلُه. ولا يجوز أن يكون» اليوم «ولا {مِنْ أَمْرِ الله} متعلِّقين ب» عاصم «وكذلك الواحد منهما؛ لأنه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً، ومتى كان مطوَّلاً أُعْرِبَ، ومتى أُعرب نُوِّن، ولا عبرةَ بخلاف الزجاج: حيث زعم أن اسمَ» لا «معربٌ حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً.

44

قوله تعالى: {ابلعي} : البَلْع معروفٌ. والفعل منه مكسورُ العين ومفتوحُها: بَلعِ وبَلَع حكاهما الكسائي والفراء. والإِقلاع: الإِمساك، ومنه «أَقْلَعَت الحمى» . وقيل: أقلع عن الشيء، أي: تركه وهو قريبٌ من الأول. والغَيْضُ: النقصان وفعله لازم ومتعدٍ، فمِن اللازمِ قولُه تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} [الرعد: 8] ، أي: تَنْقُص. وقيل: بل هو هنا متعدٍّ أيضاً وسيأتي، ومن

المتعدِّي هذه الآيةُ؛ لأنه لا يُبنى للمفعول مِنْ غير واسطة حرف جر إلا المتعدي بنفسه. والجُودِيُّ: جبلٌ بعينه بالمَوْصل. وقيل: بل كل جبل يقال له جُودي ومنه قولُ عمرو بن نفيل: / 2667 - سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به ... وقبلَنا سَبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ ولا أدري ما في ذلك مِن الدلالة على أنه عامٌّ في كل جبل. وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيف «الجُوْدِيْ» . قال ابن عطية: «وهما لغتان» . والصواب أن يقال: خُفِّفَتْ ياءُ النسب، وإن كان لا يجوزُ ذلك في كلامهم الفاشي. قوله {بُعْداً} منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدر، أي: وقيل: ابعدوا بُعْداً، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو: جَدْعاً، يُقال: بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك، قال: 2668 - يقولون لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونه ... ولا بُعْدَ إلا ما تُواري الصَّفائحُ واللام إمَّا [أن] تتعلق بفعل محذوف، ويكون على سبيل البيان كما تقدَّم في نحو «سَقْياً لك ورَعْياً» ، وإمَّا أن تتعلقَ بقيل، أي: لأجلهم هذا القولَ.

قال الزمخشري: «ومجيءُ إخبارِه على الفعلِ المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمورَ العظامَ لا تكون إلا بفعلِ قادرٍ وتكوينِ مكوِّنٍ قاهرٍ، وأنَّ فاعلَ هذه الأفعال فاعل واحد لا يُشارَكُ في أفعاله، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره: يا أرضُ ابلعي ماءك، ولا أن يَقْضي ذلك الأمر الهائل إلا هو، ولا أَنْ تَسْتوي السفينة على الجوديِّ وتستقر عليه إلا بتسويته وإقرارِه، ولِما ذَكَرْنا من المعاني والنُّكَت استفصح علماءُ البيان هذه الآيةَ ورقصوا لها رؤوسَهم لا لتجانُس الكلمتين وهما قوله: ابلعي وأقلعي، وذلك وإن كان الكلام لا يخلو مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفَتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ» . يعني أن بعض الناس عَدَّ من فصاحة الآية التجانسَ فقال: إن هذا ليس بطائل بالنسبة إلى ما ذكر من المعاني، ولعَمرْي لقد صَدَق. ولمَّا حكى الشيخ عنه هذا الكلام الرائع لم يكن جزاؤُه عنده إلا «وأكثرُه خَطابة» . وقول الزمخشري «ورقَصوا لها رؤوسهم» يحتمل أن يُريد ما يُحكى أن جماعةً من بلغاء زمانهم اجتمعوا في الموسم بعرفةً وتفرَّقوا على أن يُعارِض كلٌّ منهم شيئاً من القرآن ليروزوا قواهم في الفصاحة، فتفرَّقوا على أن يجتمعوا في القابل ففتح أحدهم قيل هو ابن المقفَّع المصحف فَوَجَد هذه الآية، فكعَّ لها وأَذْعَنَ، وقال: «لا يقدر أحدٌ أن يَصْنَعَ مثلَ هذا» .

45

قوله تعالى: {فَقَالَ} : عطفٌ على «نادى» قال الزمخشري «فإن قلت: وإذا كان النداءُ هو قوله» رَبّ «فكيف عطف» فقال ربِّ «على» نادى «بالفاء؟ قلت: أريد بالنداء إرادةُ النداء، ولو أريد النداءُ نفسه لجاء كما جاء في قوله {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} » قال ربِّ «بغير فاء.

46

قوله تعالى: {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} : قرأ الكسائي «عَمِل» فعلاً ماضياً، و «غيرَ» نصباً، والباقون «عَمَلٌ» بفتح الميمِ وتنوينهِ على أنه اسمٌ، و «غيرُ» بالرفع. فقراءةُ الكسائي: الضمير فيها يتعيَّنُ عَوْدُه على ابن نوح، وفاعل «عمل» ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً، و «غيرَ» مفعول به. ويجوز أن يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوف، تقديرُه: عَمل عملاً غيرَ صالحٍ كقوله {واعملوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] . وأمَّا قراءةُ الباقين ففي الضمير أوجه، أظهرها: أنه عائدٌ على ابنِ نوح، ويكونُ في الإِخبار عنه بالمصدر المذاهبُ الثلاثةُ في «رجل عدل» . والثاني: أنه يعود على النداء المفهوم مِنْ قوله «ونادى» ، أي: نداؤك وسؤالُك. وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكي والزمخشري. وهذا فيه خطرٌ عظيم، كيف يُقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياء، فضلاً عن أول رسولٍ أُرْسِل إلى أهل الأرض من بعدِ آدم عليهما السلام؟ ولما حكاه أبو القاسم قال: «وليس

بذاك» ولقد أصاب. واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد اللَّه بن مسعود «إنه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما ليس لك به علمٌ» وهذا مخالِفٌ للسَّواد. الثالث: أنه يعودُ على ركوب ابنِ نوح المدلولِ عليه بقوله «اركب معنا» . الرابع: أنَّه يعودُ على تركه الركوب وكونِه مع المؤمنين، أي: إنَّ تَرْكَه الركوبَ مع المؤمنين وكونَه مع الكافرين عملٌ غيرُ صالح، وعلى الأوجهِ الثلاثةِ لا يُحتاج في الإِخبارِ بالمصدر [إلى] تأويلٍ، لأنَّ كليهما معنى من المعاني، وعلى الوجه الرابع يكون من كلامِ نوح عليه السلام، أي: إنَّ نوحاً قال: إنَّ كونَك مع الكافرين وتَرْكَك الركوبَ معنا غيرُ صالح، بخلاف ما تقدَّم فإنه مِنْ قول اللَّه تعالى فقط، هكذا قال مكي وفيه نظرٌ، بل الظاهرُ أنَّ الكلَّ مِنْ كلام اللَّه تعالى. قال الزمخشري: «فإن قلت: هلا قيل: إنه عملٌ فاسِدٌ. قلت: لَمَّا نفاه عن أهله نفى عنه صفتَهم بكلمةِ النفي التي يستبقي معها لفظَ المنفي، وآذن بذلك أنَّه إنما أَنْجى مَنْ أَنْجى لصلاحهم لا لأنهم أهلُك. قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنِي} قرأ نافع وابن عامر» فلا تسألَنِّ «بتشديدِ النون مكسورةً من غير ياء. وابنُ كثير بتشديدها/ مع الفتح، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة، وياءٍ وصلاً [لأبي عمرو] ، ودون ياء في [الحالين] للكوفيين. وفي الكهف {فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} [الآية: 70] قرأه أبو عمرو

والكوفيون كقراءتهم هنا، وافقهم ابنُ كثير في الكهف، وأمَّا نافعٌ وابن عامر فكقراءتهما هنا، ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياء وحَذْفها، وإنما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دونَ التي في الكهف؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم، فكانت قراءتُه بفتحِ النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياءَ ثابتةٌ في الرسم فلا يُوافِق فيه فَتْحُها. وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوتِ الياء في الكهف. فَمَنْ خَفَّف النونَ فهي نونُ الوقاية وحَدَها، ومَنْ شدَّدها فهي نون التوكيد. وابنُ كثير لم يَجْعل في هود الفعلَ متصلاً بياء المتكلم، والباقون جعلوه، فَلَزِمهم الكسرُ. وقد تقدَّم أنَّ «سأل» يتعدى لاثنين أوَّلُهما ياء المتكلم، والثاني {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . قوله {أَن تَكُونَ} على حذف حرف الجر، أي: مِنْ أن تكون أو لأجلِ أن، وقوله {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} يجوزُ في «به» أن يتعلَّق ب «عِلْم» . قال الفارسي: «ويكونُ مثلَ قوله: 2669 - كان جَزائي بالعَصا أن أُجْلَدا ... ويجوز أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي تَعَلَّق به» لك «. والباء بمعنى» في «، أي: ما ليس لك به عِلْمٌ. وفيه نظرٌ.

47

قوله تعالى: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ} : لم تَمْنَعْ «لا» من عمل الجازم كما لم تمنعْ مِنْ عمل الجارِّ في نحو: «جِئْتُ بلا زادٍ» . قال أبو البقاء: «لأنها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملة في النفي، وهي تنفي

ما في المستقبل، وليس كذلك» ما «فإنها تنفي ما في الحال، فلذلك لم يَجُزْ أَنْ تَدْخُلَ» إنْ «عليها» .

48

قوله تعالى: {قِيلَ يانوح} : الخلافُ المتقدم في قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} [البقرة: 13] وشبهِه عائدُ هنا، أي: في كونِ القائمِ مقامَ الفاعل الجملة المحكيةَ أو ضميرَ مصدرِ الفعل. قوله: {بِسَلاَمٍ} حال من فاعل «اهبط» ، أي: ملتسباً بسلام. و «منا» صفةٌ ل «سلام» فيتعلَّق بمحذوف أو هو متعلقٌ بنفسِ سلام، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، وكذلك «عليك» يجوز أن يكونَ صفةً لبركات أو متعلقاً بها. قوله: {مِّمَّن مَّعَكَ} يجوزُ في «مَنْ» أن تكونَ لابتداء الغاية، أي: ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر، ويجوزُ أن تكونَ «مِنْ» لبيان الجنس، فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنهم كانوا جماعاتٍ. وقُرىء «اهبُط» بضم الباء، وقد تقدم أول البقرة. وقرأ الكسائي فيما نُقِل عنه «وبركة» بالتوحيد. قوله: {وأُمَمٍ} يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ، و «سنمتِّعهم» خبره، وفي مسوِّغ الابتداءِ وجهان، أحدهما: الوصفُ التقديري، إذ التقديرُ: وأممٌ منهم، أي: ممَّن معك كقولهم «السَّمْن مَنَوان بدرهم» فمنوان مبتدأٌ وُصِف ب «منه» تقديراً. والثاني: أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو: «الناسُ رجلان: رجلٌ أَهَنْتُ، وآخَرُ

أكرمتُ» ومنه قولُ امرىء القيس: 2670 - إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انحرفَتْ له ... بشقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّل ويجوز أن يكونَ مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضمير المستتر في «اهبط» وأغنى الفصلُ عن التأكيد بالضمير المنفصل، قاله أبو البقاء قال الشيخ: «وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان، لأن الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله:» ومَنْ آمنَ «ولم يكونوا كفَّاراً ومؤمنين، فيكون الكفار مأمورِين بالهبوط، إلا إنْ قُدِّر أنَّ مِن المؤمنين مَنْ يكفر بعد الهبوط، وأخبر عنهم بالحال التي يَؤُولون إليها فيمكن على بُعْدٍ» . قلت: وقد تقدَّم أنَّ مثلَ ذلك لا يجوز، في قول {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35] لأمرٍ صناعي، و «سنمتِّعُهم» على هذا صفةٌ ل «أمم» ، والواوُ يجوز أن تكونَ للحال. قال الأخفش: «كما تقول:» كلَّمْتُ زيداً وعمروٌ جالس «ويجوز أن تكونَ لمجردِ النَّسَق» .

49

وقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} : كقوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} [الآية: 44] في آل عمران. قوله: {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ} يجوز في هذه الجملةُ أن تكونَ حالاً من الكاف في «إليك» ، وأن تكون حالاً من المفعول في «نُوحيها» وأن تكونَ خبراً بعد خبر.

50

قوله تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} : معطوفان على قوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} [هود: 25] : مرفوعٌ على مرفوع، ومجرور على مجرور،

كقولك: «ضرب زيد عمراً وبكر خالداً» ، وليس من باب ما فُصِل فيه بين حرف العطف والمعطوف بالجارِّ/ والمجرور نحو: «ضربت زيداً وفي السوق عمراً» فيجيءُ الخلاف المشهور. وقيل: بل هو على إضمارِ فعلٍ، أي: وأَرْسَلْنا هوداً، وهذا أوفق لطول الفصل. و «هوداً» بدلٌ أو عطفٌ بيان لأخيهم. وقرأ ابن محيصن «يا قومُ» بضم الميم، وهي لغةٌ للعرب يَبْنونَ المضافَ للياء على الضم كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احكم} [الأنبياء: 112] بضمِّ الباء، ولا يجوزُ أن يكونَ غيرَ مضاف للياء لما سيأتي في موضعه إن شاء اللَّه. وقوله: {مِّنْ إله غَيْرُهُ} قد ذُكر في الأعراف ما يتعلق به قراءةً وإعراباً.

51

قوله تعالى: {فطرني} : قرأ نافع والبزي بفتح الياء، وأبو عمرو وقنبل بإسكانها.

52

قوله تعالى: {مِّدْرَاراً} : منصوبٌ على الحال، ولم يؤنِّثْه وإن كانَ مِنْ مؤنث لثلاثةِ أوجه، أحدُهما: أن المراد بالسماء السحاب فذكَّر على المعنى. والثاني: أن مِفْعالاً للمبالغة فيستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور وشكور وفعيل. الثالث: أن الهاء حُذِفَتْ مِنْ مِفْعال على طريق النَّسَب قاله مكي، وقد تقدَّم إيضاحُه في الأنعام.

قوله: {إلى قُوَّتِكُمْ} يجوز أن يتعلَّقَ ب «يَزِدْكم» على التضمين، أي: يُضِف إلى قوتكم قوةً أخرى، أو يُجعل الجار والمجرور صفةً ل «قوة» فيتعلَّق بمحذوف. وقدَّره أبو البقاء «مضافةً إلى قوتكم» وهذا يأباه النحاة لأنهم لا يقدِّرون إلا الكونَ المطلقَ في مثله، أو تُجْعل «إلى» بمعنى مع أي: مع قوتكم كقولِه تعالى: {إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] .

53

قوله تعالى: {بِبَيِّنَةٍ} : يجوز أن تكونَ الباء للتعدية، فيتعلَّق بالفعل قبلها، أي: ما أظهرْتَ لنا بينةً قط. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ، إذ التقدير: مستقراً أو ملتبساً ببينة. قوله: {عَن قَوْلِكَ} حالٌ من الضمير في «تاركي» ، أي: وما نترك آلهَتنا صادرين عن قولك. ويجوز أن تكون «عن» للتعليل، كهي في قولِه تعالى {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} [التوبة: 114] ، أي: إلا لأجل موعدة. والمعنى هنا: بتاركي آلهتِنا لقولك، فيتعلَّق بتاركي. وقد أشار إلى التعليل ابنُ عطية، ولكنَّ المختارَ الأول، ولم يذكر الزمخشري غيره.

54

قوله تعالى: {إِلاَّ اعتراك} : الظاهرُ أن ما بعد «إلا» مفعول بالقول قبله، إذ المرادُ: إن نقول إلا هذا اللفظَ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك: «ما قلت إلا زيد قائم» . وقال أبو البقاء: «الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوف،

التقدير: إن نقول إلا قولاً هو اعتراك، ويجوز أن يكونَ موضعُها نصباً، أي: ما نذكر إلا هذا القول» وهذا غير مُرْضٍ؛ لأن الحكاية بالقول معنى ظاهر لا يَحْتاج إلى تأويل، ولا إلى تضمينِ القولِ بالذِّكْر. وقال الزمخشري: «اعتراك» مفعول «نقول» و «إلا» لغوٌ، أي: ما نقول إلا قولنا «اعتراك» . انتهى. يعني بقولَه «لَغُو» أنه استثناءٌ مفرغ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب، إذ ظاهرُه يقتضي أن تكونَ الجملةُ منصوبةً بمصدر محذوف، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب «نقول» هذا الظاهر. ويُقال: اعتراه بكذا يَعْتريه، وهو افتعلَ مِنْ عَراه يَعْرُوه إذا أصابَه، والأصل: اعْتَرَوَ من العَرَوْ، مثل: اغتَرَوا مِن الغَزْو، فتحرك حرفُ العلة وانفتح ما قبله فقُلب ألفاً، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر. قوله: {أَنِّي برياء} يجوز أن يكون من باب الإِعمال لأنَّ «أُشْهِدُ» يطلبُه، و «اشْهدوا» يطلبه أيضاً، والتقدير: أُشْهد اللَّه على أنه بريء، واشهدوا أنتم عليه أيضاً، ويكون من إعمال الثاني، لأنه لو أَعْمل الأول لأضمر في الثاني: ولا غَرْو في تنازع المختلفين في التعدي واللزوم. و «مِمَّا تُشْركون» يجوز أن تكونَ «ما» مصدريةً، أي: مِنْ إشراككم آلهةً مِنْ دونه، أو بمعنى الذي، أي: مِن الذين تشركونه مِن آلهةٍ مِن دونه، أي أنتم الذين تجعلونها شركاءَ.

55

وقوله تعالى: {جَمِيعاً} : حالٌ من فاعل «فكيدون» . وأثبت سائرُ القراء ياء «فكيدوني» في الحالين، وحَذَفوها في المرسلات.

56

والناصِيَةُ مَنْبِتُ الشَّعْر في مُقَدَّم الرأس، ويُسَمَّى الشعرُ النَّابِتُ أيضاً «ناصِية» باسم محلِّه، ونَصَوْتُ الرجل: أَخَذْتُ بناصِيته، فلامُها واو، ويقال: ناصاة بقَلْبِ يائها ألفاً، وفي الأَخْذِ بالناصية عبارةٌ عن الغَلَبة والتسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته، ولذلك كانوا إذا مَنُّوا على أسيرٍ جَزُّوا ناصيتَه.

57

قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} : أي: تَتَوَلَّوا فحذف إحدى التاءَيْن، ولا يجوز أن يكونَ ماضياً كقوله: «أَبْلَغْتكم» ، ولا يجوزُ أن يدعى فيه الالتفات، إذ هو رَكاكَةٌ في التركيب وقد جَوَّزَ ذلك ابنُ عطية فقال: «ويُحْتمل أن يكون» تولَّوا «ماضياً، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غَيْبة إلى خطاب» . وقلت: ويجوزُ أن يكونَ ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخرَ غيرِ الالتفات: وهو أن يكونَ على إضمار القول، أي: فقل لهم: قد أبلغْتُكم. ويترجَّح كونُه ماضياً بقراءة عيسى والثقفي والأعرج «فإن تُوَلُّوا» بضم التاء واللام، مضارعَ ولى بضم التاءِ واللام مضارعَ وَلي، والأصل تُوَلِّيُوا فأُعِلَّ. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: الإِبلاغ كان قبل التولِّي فكيف وقع جزاءً للشرط؟ قلت: معناه فإنْ تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريطٍ على الإِبلاغ، وكنتم محجوجين بأنَّ ما أَرْسَلْتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا التكذيب. قوله: {وَيَسْتَخْلِفُ} العامَّةُ على رفعِه استئنافاً. وقال أبو البقاء» هو معطوفٌ على الجواب بالفاء «. وقرأ عبد اللَّه بن مسعود بتسكينه، وفيه

وجهان: أحدهما: أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات: والثاني: أن يكونَ مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاء، إذ مَحَلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قولِه: {فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} وقد تقدَّم تحقيقُه، إلا أن القراءتين ثَمَّ في المتواتر. قوله: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ} العامَّة على النون، لأنه مرفوعٌ على ما تقدَّم، وابنُ مسعودٍ بحذفها، وهذا يُعَيِّن أن يكونَ سكونُ» يستخلف «جزماً، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره؛ لأنه ذكر جزمَ الفعلين، ولمَّا لم يذكرْ أبو البقاء الجزم في» تَضُرُّونه «جَوَّز الوجهين في» يَسْتخلف «. و» شيئاً «مصدرٌ، أي: شيئاً من الضرر.

59

قوله تعالى: {جَحَدُواْ} : جملةٌ مستأنفة سِيقت للإِخبار عنهم بذلك، وليسَتْ حالاً مِمَّا قبلها، و «جَحَد» يتعدى بنفسه، ولكنه ضُمِّن معنى كفر، فيعدى بحرفه، كما ضَمَّن «كفر» معنى «جحد» فتعدى بنفسه في قوله بعد ذلك في قوله: {كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} [هود: 60] . وقيل: إنَّ «كفر» ك شكر «في تعدِّيه بنفسِه تارةً وبحرف الجر أخرى. والجبَّار تقدَّم اشتقاقه والعنيد: / الطاغي المتجاوزُ في الظلم مِنْ

قولهم» عَنَد يَعْنِد «إذا حادَ عن الحق من جانبٍ إلى جانب. قيل: ومنه» عندي «الذي هو ظرف؛ لأنه في معنى جانِب، من قولك: عندي كذا، أي في جانبي. وعن أبي عبيد: العنيد والعنود والعاند والمُعاند كلُّه المعارِض بالخلاف.

61

قوله تعالى: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ} : كالذي قبله. والعامَّة على مَنْع «ثمود» الصرفَ هنا لعلتين: وهما العلمية والتأنيث، ذهبوا به مذهبَ القبيلة، والأعمش ويحيى بن وثاب صرفوه، ذهبا به مذهب الحيّ. وسيأتي بيان الخلاف في غير هذا الموضع. قوله: {مِّنَ الأرض} : يجوز أن تكونَ لابتداء الغاية، أي: ابتداء إنشائكم منها: إمَّا إنشاءُ أصلكم وهو آدم، أو لأن كلَّ واحد خُلق مِنْ تُرْبته، أو لأن غذاءَهم وسببَ حياتهم من الأرض. وقيل: «مِن» بمعنى «في» ولا حاجة إليه.

62

قوله تعالى: {وَإِنَّنَا} : هذا هو الأصل، ويجوز «وإنَّا» بنونٍ واحدة مشددة كما في السورة الأخرى. وينبغي أن يكون المحذوفُ النونَ الثانية من «إنَّ» لأنه قد عُهِد حَذْفُها دون اجتماعِها مع «ن» فَحَذْفُها مع «ن» أولى، وأيضاً فإنَّ حَذْف بعضِ الأسماء ليس بسهلٍ. وقال الفراء: «مَنْ قال» إننا «أَخْرج الحرفَ على أصله؛ لأنَّ كتابةَ المتكلمين» ن «فاجتمع ثلاثُ نونات، ومَنْ قال:» إنَّا «استثقل اجتماعَها فأسقط الثالثة، وأبقى الأوَّلَيْن» . انتهى. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك أولَ هذا الموضوع.

قوله: {مُرِيبٍ} اسم فاعل مِنْ أراب، و «أراب» يجوز أن يكونَ متعدِّياً مِنْ «أرابه» ، أي: أوقعه في الريبة أو قاصراً مِنْ «أراب الرجلُ» ، أي: صار ذا ريبة. ووُصِف الشكَّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً.

63

قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ} : إلى آخره: قد تقدَّم نظيره، والمفعول الثاني هنا محذوفٌ تقديره: أأَعْصيه، ويدلُّ عليه «إن عصيته» . وقال ابن عطية: «هي مِنْ رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مَسَدَّ مفعولَيْنِ ل» أرأيتم «. قال الشيخ:» والذي تقرَّر أنَّ «أرأيت» ضُمِّن معنى أخبرْني، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن، فجملةُ الشرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولَيْ علمت وأخواتها. قوله: {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} الظاهرُ أنَّ «غيرَ» مفعولٌ ثانٍ لتَزيدونني. قال أبو البقاء: «الأقوى هنا أن تكون» غير «استثناءً في المعنى، وهي مفعولٌ ثانٍ ل» تزيدونني «، أي: فما تزيدونني إلا تخسيراً» . ويجوز أن تكون «غير» صفةً لمفعولٍ محذوف، أي: شيئاً غير تخسير، وهو جيد في المعنى. ومعنى التفعيل هنا النسبةُ، والمعنى: غيرَ أن أُخْسِرَكم، أي: أَنْسبكم إلى التخسير، قاله الزمخشري. وقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ، أي: غير بضارِّه تخسيركم، قاله ابن عباس.

64

قوله تعالى: {آيَةً} : نصب على الحال بمعنى علامة، والناصب لها: إمَّا ها التنبيه أو اسمُ الإِشارة؛ لِما تضمَّناه من معنى الفعل، أو فعلٍ محذوف. قوله: {لَكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال من «آيةٍ» ؛ لأنه لو تأخَّر لكان نعتاً لها، فلما قُدِّم انتصبَ حالاً. قال الزمخشري: «فإن قلت بم تتعلَّقُ» لكم «؟ قلت:» بآية «حالاً منها متقدمة، لأنها لو تأخَّرَتْ لكانت صفة لها، فلما تقدَّمت انتصبت على الحال» . قال الشيخ: «وهذا متناقض لأنه من حيث تعلَّق» لكم «ب» آية «كان معمولاً ل» آية «، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنَّ الحال تتعلَّق بمحذوف» . قلت: ومثل هذا كيف يُعترض به على مِثْل الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصودَ بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟ وقرأت فرقة: «تأكلُ» بالرفع: إمَّا على الاستئناف، وإمَّا على الحال.

65

قوله تعالى: {فِي دَارِكُمْ} : قيل: هو جمعُ «دارَة» كساحة وساح وسُوح، وأنشدوا لأمية بن أبي الصلت: 2671 - له داعٍ بمكةَ مُشْمَعِلٌّ ... وآخرُ فوق دارَتِه يُنادي قوله: {مَكْذُوبٍ} يجوز أن يكونَ مصدراً على زِنة مفعول، وقد جاء منه أُلَيْفاظ نحو: «المَجْلود والمَعْقول والميسور والمفتون، ويجوز أن يكونَ اسمَ مفعولٍ على بابه، وفيه حينئذ تأويلان، أحدُهما: غيرُ مكذوبٍ فيه، ثم حُذف

حرف الجر فاتصل الضمير مرفوعاً مستتراً في الصفةِ، ومثلُه {يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] وقوله: 2672 - ويومٍ شَهِدْناه سليمى وعامراً ... قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافلُهْ والثاني: أنه جُعل هو نفسُه غيرَ مكذوب، لأنه قد وُفِّي به فقد صُدِّق.

66

قوله تعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} : متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: ونَجَّيْناهم مِنْ/ خزي. وقال الزمخشري: «فإن قلت: علام عُطِف؟ قلت: على» نَجَّيْنا «لأنَّ تقديرَه: ونجَّيْناهم من خزيِ يومئذ كما قال: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] ، أي: وكانت التنجيةُ مِنْ خزي: وقال غيره:» إنه متعلقٌ ب «نَجَّيْنا» الأول «. وهذا لا يجوزُ عند البصريين غيرَ الأخفش، لأن زيادةَ الواوِ غيرُ ثابتة. وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم» يومئذ «على أنها حركةُ بناء لإِضافته إلى غير متمكن كقوله: 2673 - على حينَ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا ... فقلت ألمَّا أَصْحُ والشيبُ وازع وقرأ الباقون بخفض الميم. وكذلك الخلافُ جارٍ في {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 1] .

وقرأ طلحة وأبان بن تغلب بتنوين» خزي «و» يومئذ «نصب على الظرف بالخزي. وقرأ الكوفيون ونافع في النمل {مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين» فزع «ونصب» يومئذ «به. ويحتمل في قراءة مَنْ نوَّن ما قبل» يومئذ «أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعرابٍ أو فتحةَ بناء، و» إذ «مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض منها التنوينُ تقديرُه: إذْ جاء أمرُنا. وقال الزمخشري:» ويجوز أن يُراد يومُ القيامة، كما فُسِّر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة «. قال الشيخ:» وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذِكْرُ يومِ القيامة، ولا ما يكون فيها، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملةِ التي تكون في يوم القيامة «. قلت: قد تكون الدلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً وهذه من المعنوية.

67

قوله تعالى: {وَأَخَذَ الذين} : حُذِفت تاءُ التأنيث: إما لكونِ المؤنث مجازياً، أو للفصل بالمفعول، أو لأنَّ الصيحةَ بمعنى الصياح، والصَّيْحة: فَعْلة تدل على المَرَّة من الصياح، وهي الصوتُ الشديد: صاح يصيح صِياحاً، أي: صوَّت بقوة.

68

وقرأ حمزة وحفص: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ} هنا، وفي الفرقان: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ} [الآية: 38] ، وفي العنكبوت: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم} [الآية: 38] ، وفي

النجم: {وَثَمُودَ فَمَآ أبقى} [الآية: 51] جميعُ ذلك بمنعِ الصرفِ، وافقهم أبو بكر على الذي في النجم. وقوله: {أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} منعه القراءُ الصرفَ إلا الكسائيَّ فإنه صَرَفَه. وقد تقدم أنَّ مَنْ منع جعله اسماً للقبيلة، ومَنْ صَرَف جعله اسماً للحيّ، وأنشد على المنع: 2674 - ونادى صالحٌ يا ربِّ أنزلْ ... بآلِ ثمودَ منك عذاباً وأنشد على الصرف: 2675 - دَعَتْ أمُّ عمروٍ أمرَ شرٍّ علمتُه ... بأرضِ ثمودٍ كلِّها فأجابها وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورة الأعراف.

69

قوله تعالى: {قَالُواْ سَلاَماً} : في نصبه وجهان، أحدهما: أنه مفعول به، ثم هو محتملٌ لأمرين، أحدهما: أن يراد قالوا هذا اللفظ بعينه، وجاز ذلك لأنه يتضمَّن معنى الكلام. والثاني: أنه أراد قالوا معنى هذا اللفظ، وقد تقدم ذلك في نحو قولِه تعالى: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: 58] . وثاني الوجهين: أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوف، وذلك الفعل في محل نصب بالقول، تقديرُه: قالوا: سَلَّمْنا سلاماً، وهو من باب ما ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه، وهو واجبُ الإِضمار.

قوله: {قَالَ سَلاَمٌ} في رفعه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ، أي: سلامٌ عليكم. والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: أمري أو قولي سلام. وقد تقدَّم أولَ هذا الموضعِ أن الرفعَ أدلُّ على الثبوت من النصب، والجملة بأسرها وإن كان أحدُ جُزْأيها محذوفاً في محل نصب بالقول كقوله: 2676 - إذا ذُقْتُ فاها قلت طعمُ مُدامةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقرأ الأخوان: «قال سِلْم» هنا وفي سورة الذاريات بكسر السين وسكون اللام. ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف فقيل: هما لغتان كحِرْم وحَرام وحِلٌّ وحَلال، وأنشد: 2677 - مَرَرْنا فقُلنا إيه سِلْمٌ فسَلَّمَتْ ... كما اكْتَلَّ بالبرق الغمامُ اللوائحُ يريد: سلام، بدليل: فسلَّمت. وقيل: «السِلْم» بالكسر ضد الحرب، وناسَب ذلك لأنه نَكِرَهم فقال: أنا مسالمكم غيرُ محارِب لكم قوله: {فَمَا لَبِثَ} يجوزُ في «ما» هذه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها نافيةٌ، وفي فاعل «لَبث» حينئذ وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ إبراهيم عليه السلام، أي: فما لبث إبراهيم، وإن جاء على إسقاطِ الخافض، فقدَّروه بالباء وب «عن» وب «في» ، أي: فما تأخر في أَنْ، أو بأن، أو عن أن. والثاني: أن

الفاعل قوله: «أن جاء» ، والتقدير: فلما لبث، أي: ما أبطأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين. وثاني الأوجه: أنها مصدريةٌ، وثالثها: أنها بمعنى الذي. وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ، وإن جاء خبرُه على حَذْف مضاف تقديره: فلُبْثُه أو الذي لَبِثه قَدْرَ مجيئه. والحَنيذ: المَشْويُّ بالرصْف في أخدود. حَنَذْتُ الشاةَ أَحْنِذُها حَنْزاً فهي حَنيذ، أي محنوذة. وقيل: حنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم: حَنَذْتُ الفرس، أي: سُقْتُه شوطاً أو شوطين وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليَعْرَق.

70

قوله تعالى: {نَكِرَهُمْ} : أي: أنكرهم، فهما بمعنى وأنشدوا: 2678 - وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادثِ إلا الشَّيْبَ والصَّلعا وفرَّق بعضهم بينهما فقال: / الثلاثي فيما يرى بالبصر، والرباعي فما لا يُرى من المعاني، وجعل البيتَ من ذلك، فإنها أَنْكَرَتْ مودَته وهي من المعاني التي لا ترى، ونَكِرَتْ شيبتَه وصَلَعه، وهما يُبْصَران، ومنه قولُ أبي ذؤيب: 2679 - فَنَكِرْنَه فَنَفَرْنَ وامْتَرَسَتْ به ... هَوْجاءُ هادِيَةٌ وهادٍ جُرْشُعُ والإِيجاس: حديث النفس، وأصلُه من الدخول كأن الخوف داخله.

وقال الأخفش: «خامَرَ قلبه» . وقال الفراء: «استشعر وأحسَّ» . والوجيس: ما يَعْتري النفس أوائل الفزع، ووَجَسَ في نفسه كذا أي: خَطَر بها، يَجِسُ وَجْساً ووُجوساً ووَجيساً، ويَوْجَس ويَجِس بمعنى يسمع، وأنشدوا، 2680 - وصادقتا سَمْعِ التوجُّسِ للسُّرى ... لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لصوتٍ مُنَدَّد فخيفةً مفعول به أي: أحسَّ خيفة أو أضمر خيفة.

71

قوله تعالى: {وامرأته قَآئِمَةٌ} : في محلِّ نصب على الحال من مرفوع «أُرْسِلْنا» . وقال أبو البقاء: «من ضمير الفاعل في» أرسلنا «وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة، إذ مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه لا يُطْلَقُ عليه فاعلٌ على المشهور، وعلى الجملة فَجَعْلُها حالاً غيرُ واضح بل هي استئنافُ إخبار، ويجوز جَعْلُها حالاً من فاعل» قالوا «أي: قالوا ذلك في حال قيام امرأته. قوله: {فَضَحِكَتْ} العامَّة على كسر الحاء، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل من مكة بفتحها، وهي لغتان، يقال: ضَحِك وضَحَكَ. وقال المهدوي:» الفتح غير معروف «. والجمهور على أن الضحك على بابه. واختلف أهلُ التفسير في سببه، وقيل: بمعنى حاضَتْ، ضحكت الأرنب: أي: حاضَتْ، وأنكره أبو عبيدة وأبو عبيد والفراء. وأنشد غيرهم على ذلك:

2681 - وضِحْكُ الأرانبِ فوق الصَّفا ... كمثلِ دمِ الجَوْفِ يوم اللِّقا وقال آخر: 2682 - وعهدي بسلمى ضاحكاً في لَبانةٍ ... ولم يَعْدُ حُقَّاً ثَدْيُها أن يُحَمَّلا أي: حائضاً. وضحِكت الكافورة: تَشَقَّقت. وضحكت الشجرة: سال صمغُها. وضَحِك الحوضُ: امتلأ وفاض. وظاهرُ كلام أبي البقاء أن ضَحَك بالفتح مختص بالحيض فإنه قال:» بمعنى حاضت، يقال: ضحَكت الأرنب بفتح الحاء «. قوله: {يَعْقُوبَ} قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء، والباقون برفعها. فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها: هل الفتحةُ علامةُ نصب أو جر؟ والقائلون بأنها علامة نصب اختلفوا: فقيل: هو منصوبٌ عطفاً على قوله:» بإسحاق «قال الزمخشري:» كأنه قيل: ووهَبْنا له إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله: 2683 -. . . . . . . . . . . . ليسوا مصلحين عشيرةً ... ولا ناعِبٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يعني أنه عطف على التوهم فنصب، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر «ليس» فجرَّ، ولكنه لا ينقاس. وقيل: هو منصوبٌ بفعلٍ مقدر تقديرُه: ووهبْنا يعقوب، وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة. ورجَّح

الفارسيُّ هذا الوجه. وقيل: هو منصوبٌ عطفاً على محل «بإسحاق» لأن موضعَه نصب كقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالنصب عطفاً على «برؤوسكم» . والفرق بين هذا والوجه الأول: أن الأولَ ضمَّن الفعل معنى: «وَهَبْنا» توهُّماً، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم. ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على «بإسحاق» والمعنى: أنها بُشِّرت بهما. وفي هذا الوجه والذي قبله بحثُ: وهو الفصلُ بالظرف بين حرف العطف والمعطوف، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النساء فعليك بالالتفات إليه. ونسب مكي الخفضَ للكسائي ثم قال: «وهو ضعيف إلا بإعادة الخافض، لأنك فَصَلْت بين الجار والمجرور بالظرف» . قوله: «بإعادة الخافض» ليس ذلك لازماً، إذ لو قُدِّم ولم يُفْصَل لم يُلْتزم الإِتيان به. وأمَّا قراءةُ الرفع ففيها أوجه، أحدها: أنه مبتدأ وخبره الظرف السابق فقدَّره الزمخشري «مولود أو موجود» وقدّره غيره بكائن. ولمَّا حكى النحاس هذا قال: «والجملة حالٌ داخلة في البشارة أي: فَبَشَّرْناها بإسحاق متصلاً به يعقوبُ» . والثاني: أنه مرفوع على الفاعلية بالجارِّ قبله، وهذا يجيء

على رَأْي الأخفش. والثالث: أن يرتفع بإضمار فعل أي: ويحدث من وراء إسحاق يعقوب، ولا مَدْخَلَ له في البشارة. والرابع: أنه مرفوعٌ على القطع يَعْنُون الاستئناف، وهو راجع لأحد ما تقدَّم مِنْ كونه مبتدأ وخبراً، أو فاعلاً بالجارِّ بعده، أو بفعل مقدر.

72

قوله تعالى: {ياويلتى} : الظاهرُ كون الألف بدلاً من ياء المتكلم/ ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في روايةٍ، وبها قرأ الحسن «يا ويلتي» بصريح الياء. وقيل: هي ألف الندبة، ويوقف عليها بهاء السكت. قوله: {وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاًٌ} الجملتان في محل نصب على الحال من فاعل «أَلِدُ» أي: كيف تقع الولادة في هاتين الحالتين المنافيتين لها؟ والجمهورُ على نصب «شيخاً» وفيه وجهان، المشهور: أنه حال والعامل فيه: إمَّا التنبيهُ وإمَّا الإِشارة، وإمَّا كلاهما. والثاني: أنه منصوبٌ على خبر التقريب عند الكوفيين، وهذه الحالُ لازمةٌ عند مَنْ لا يجهل الخبرَ، أمَّا مَنْ جهله فهي غير لازمة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود «شيخٌ» بالرفع، وذكروا فيه أوجهاً: خبرٌ بعد خبر، أو خبران في معنى خبر واحد نحو: هذا حلو حامض، أو خبر «هذا» و «بعلي» بيان أو بدل، أو «شيخ» بدل من «بعلي» ، أو «بعلي» مبتدأ و «شيخ» خبره، والجملة خبرُ الأول، أو «شيخ» خبرُ مبتدأ مضمر أي هو شيخ. والشيخ يقابله عجوز، ويقال شَيْخة قليلاً، كقوله: 2684 -

وتَضْحك مني شَيْخةٌ عَبْشَمِيَّةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وله جموعٌ كثيرة، فالصريح منها: أَشْياخ وشُيوخ وشِيخان، وشِيْخَة عند مَنْ يرى أن فِعْلَة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمة وفِتْيَة. ومن أسماءِ جَمْعه مَشِيخَة وشِيَخَة ومَشْيُوخاء.

73

قوله تعالى: {أَهْلَ البيت} : في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منادى. والثاني: أنه منصوبٌ على المدح. وقيل: على الاختصاص، وبين النصبين فرق: وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المذمومَ لفظٌ يتضمن بوضعه الذمَّ. والمنصوبُ على الاختصاص لا يكون إلا لمدحٍ أو ذم، لكن لفظَه لا يتضمَّن بوَضْعِه ولا الذمَّ كقوله: 2685 - بنا تميماً يُكْشَفُ الضبابُ ... كذا قاله الشيخ، واستند إلى أن سيبويه جعلهما في بابين، وفيه نظر. والمجيد: فَعيل، مثالُ مبالغة مِنْ مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجادة، ويقال: مَجْد كشَرُف وأصلُه الرِّفْعَة. وقيل: من مَجَدَتِ الإِبلُ تَمْجُد مَجادة

ومَجْداً أي: شَبِعت، وأنشدوا لأبي حية النميري: 2686 - تزيدُ على صواحبِها وليسَتْ ... بماجدةِ الطعام ولا الشراب أي: ليسَتْ بكثيرةِ الطعامِ ولا الشراب. وقيل: مَجَد الشيءُ: أي حَسُنَتْ أوصافُه. وقال الليث: «أمجد فلانٌ عطاءَه ومَجَّده أي: كثَّره» .

74

والرَّوْع: الفزع، قال الشاعر: 2687 - إذا أخَذَتْها هِزَّةُ الرَّوْعِ أَمْسَكَتْ ... بمَنْكِبِ مِقْدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا يقال: راعَه يَرُوْعُه أي: أفزعه، قال عنترة: 2688 - ما راعني إلا حَمولةُ أهلِها ... وسطَ الديار تَسِفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ وارتاع: افتعل منه. قال النابغة: 2689 - فارتاعَ من صَوْتِ كَلاَّبِ فباتَ له ... طَوْعَ الشَّوامِتِ من خوفٍ ومن صَرَدٍ وأمَّا الرُّوْعُ بالضم فهي النفسُ لأنها محلُّ الرَّوْع، ففرَّقوا بين الحالِّ والمَحَلِّ. وفي الحديث: «إنَّ رُوْحَ القدس نفث في رُوْعي» . قوله: {وَجَآءَتْهُ البشرى} عطف على «ذَهَب» وجوابُ «لَمَّا» على هذا محذوفٌ أي: فلما اكن كيت وكيت اجترأ على خطابهم، أو فَطِن لمجادلتهم، وقوله: «يُجادلنا» على هذا جملةٌ مستأنفة، وهي الدالَّةُ على ذلك الجوابِ المحذوفِ. وقيل: تقديرُ الجواب: أقبل يجادِلُنا، فيجادلُنا على هذا حالٌ من فاعل «

أَقبل» . وقيل: جوابها قوله: «يجادِلُنا» وأوقع المضارعَ موقعَ الماضي. وقيل: الجوابُ قولُه {وَجَآءَتْهُ البشرى} ، وهو الجوابُ والواوُ زائدةٌ. وقيل: «يجادلنا» حال من «إبراهيم» ، وكذلك قولُه: «وجاءَتْه البشرى» و «قد» مقدرةٌ. ويجوز أن يكونَ «يجادِلُنا» حالاً من ضمير المفعول في «جاءَتْه» . و «في قوم» أي: في شأنهم.

75

قوله تعالى: و {أَوَّاهٌ} : فعَّال مِنْ أوَّهَ، وقد تقدم اشتقاقه.

76

قوله تعالى: {آتِيهِمْ عَذَابٌ} : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً ل «إنهم» . ويجوز أن يكون «آتيهم» الخبر و «عذاب» المبتدأ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوصف، ولتنكير «آتيهم» لأنَّ إضافتَه غيرُ محضة. ويجوز أن يكون «آتيهم» خبرَ «إنَّ» و «عذاب» فاعلٌ به، ويدل على ذلك قراءةُ عمرو بن هَرِم: «وإنهم أتاهم» بلفظ الفعل الماضي.

77

قوله تعالى: {سياء} : فعلٌ مبنيٌّ للمفعول. والقائمُ مقامُ الفاعل ضميرُ لوط مِنْ قولِك «ساءني كذا» أي: حَصَل/ لي سُوْءٌ. و «بهم» متعلقٌ به أي: بسببهم. و «ذَرْعاً» نصبٌ على التمييز، وهو في الأصل مصدر ذَرَعَ البعير يَذْرَع بيديه في سَيْره إذا سار على قَدْر خَطْوِه، اشتقاقاً من الذِّراع، ثم تُوُسِّع فيه فوُضِعَ مَوْضِعَ الطاقة والجهد فقيل: ضاق ذَرْعُه أي: طاقتُه قال: 2690 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

فاقدِرْ بذَرْعِك وانظر أين تَنْسَلِكُ وقد يقع الذِّراعُ موقِعَه قال: 2691 - إذا التَّيَّازُ ذو العَضَلاتِ قُلْنا ... إليك إليك ضاقَ بها ذِراعا قيل: هو كنايةٌ عن ضِيق الصدر. وقوله: {عَصِيبٌ} العَصِيْبُ والعَصَبْصَبُ والعَصُوب: اليوم الشديد، الكثير الشرِّ الملتفُّ بعضُه ببعض قال: 2692 - وكنت لِزازَ خَصْمِكَ لم أُعَرِّدْ ... وقد سَلكوك في يومٍ عصيبِ وعن أبي عُبَيْد: «سُمِّي عَصِيباً لأنه يعصب الناسَ بالشرِّ» . والعِصَابَةُ: الجماعة من الناس سُمُّوا بذلك لإِحاطتهم إحاطةَ العَصابة. قوله: {يُهْرَعُونَ} في محل نصب على الحال. والعامَّة على «يُهرعون» مبنياً للمفعول. والإِهراع: الإِسراع ويقال: وهو المَشْيُ بين الهَرْوَلة والجَمَز. وقال الهروي: هَرَع وأَهْرَعَ: اسْتَحَثَّ. وقرأت فرقة: «يَهْرعون» بفتح الياء مبنياً للفاعل مِنْ لغة «هَرَع» . قوله: {هؤلاء بَنَاتِي} جملةٌ برأسها، و «هنَّ أطهرُ لكم» جملةٌ أخرى، ويجوز أن يكونَ «هؤلاء» مبتدأ، و «بناتي» بدلٌ أو عطفُ بيان، و «هنَّ» مبتدأ،

و «أَطْهَرُ» خبره، والجملةُ خبر الأول. ويجوز أن يكونَ «هنَّ» فَصْلاً، و «أطهر» خبر: إمَّا ل «هؤلاء» ، وإمَّا ل «بناتي» ، والجملةُ خبر الأول. وقرأ الحسن وزيد بن علي وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والسدي: «أطهرَ» بالنصب. وخُرِّجت على الحال. فقيل: «هؤلا» مبتدأ، و «بناتي هُنَّ» جملةٌ في محلِّ خبره، و «أطهر» حال، والعاملُ: إمَّا التنبيهُ وإمَّا الإِشارةُ. وقيل: «هنَّ» فَصْلٌ بين الحال وصاحبها، وجُعِل من ذلك قولُهم: «أكثر أكلي التفاحةَ هي نضيجةً» . ومنعه بعض النحويين، وخرَّج الآيةَ على أن «لكم» خبر «هن» فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنوي، وخرَّجَ المَثَلَ المذكور على أن «نضيجة» منصوبة ب «كان» مضمرة. قوله: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} : الضيف في الأصل مصدرٌ، ثم أطلق على الطارق لميلانه إلى المُضيف، ولذلك يقع على المفرد والمذكر وضدَّيهما بلفظٍ واحدٍ، وقد يُثنَّى فيقال: ضَيْفان، ويُجْمع فيقال: أضايف وضُيوف كأبيات وبُيوت وضِيفان كحَوْض وحِيضان.

79

قوله تعالى: {مِنْ حَقٍّ} : يجوز أن يكون مبتدأ، والجارُّ خبره، وأن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا القولين. قوله: {مَا نُرِيدُ} يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ موصولةً بمعنى الذي. والعلم عرفانٌ، فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي: لتعرف إرادتنا، أو الذي نريده. ويجوز أن تكونَ «ما» استفهامية وهي مُعَلِّقة للعلم قبلها.

80

قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ} جوابُها محذوف تقديره: لفعلتُ بكم وصنعْتُ كقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ} [الرعد: 31] . قوله: {أَوْ آوي} يجوز أن يكونَ معطوفاً على المعنى، تقديره: أو أني آوي، قاله أبو البقاء والحوفي. ويجوز أن يكون معطوفاً على «قوة» لأنه منصوبٌ في الأصل بإضمار أن فلمَّا حُذِفَتْ «أن» رُفع الفعل كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] . واستضعف أبو البقاء هذا الوجهَ بعدم نصبِه. وقد تقدم جوابه. ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة وأبي جعفر «أو آويَ» بالنصب كقوله: 2693 - ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعزَّةٍ ... وآلُ سبيعٍ أو أسُوْءَك عَلْقما وقولها: 2694 - لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيْني ... أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفوف ويجوز أن يكون عَطْفُ هذه الجملةِ الفعلية على مثلها إن قدَّرْتَ أنَّ «أنَّ» مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد «لو» عند المبرد، والتقدير: لو يستقر أو يثبت استقرار القوة أو آوي، ويكون هذان الفعلان ماضيَيْ المعنى؛

لأنها تَقلب المضارع إلى المضيِّ. وأمَّا على رأي سيبويه في كونِ أنَّ «أنَّ» في محل الابتداء، فيكون هذا مستأنفاً. وقيل: «أو» بمعنى بل وهذا عند الكوفيين. و «بكم» متعلق بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «قوة» ، إذ هو في الأصل صفةُ للنكرة، ولا يجوز أن يتعلَّق ب «قوة» لأنها مصدر. والرُّكُنْ بسكون الكاف وضمها الناحية من جبل وغيره، ويُجمع على أركان وأَرْكُن قال: 2695 - وزَحْمُ رُكْنَيْكَ شديدُ الأَرْكُنِ/ ...

81

قوله تعالى: {فَأَسْرِ} : قرأ نافع وابن كثير: {فاسْرِ بأهلك} هنا وفي الحجر، وفي الدخان: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي} [الآية: 23] ، وقوله: {أَنْ أَسْرِ} [الآية: 77] في طه والشعراء، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط دَرْجاً وتَثْبُتُ مكسورة ابتداءً. والباقون «فَأَسْر» بهمزة القطع تثبت مفتوحة دَرْجاً وابتداء، والقراءتان مأخوذتان من لُغَتي هذا الفعل فإنه يُقال: سَرَى، ومنه {والليل إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] ، وأَسْرى، ومنه: {سُبْحَانَ الذي أسرى} [الإسراء: 1] وهل هما بمعنى واحدٍ

أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور. فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وهو قول أبي عبيد. وقيل: بل أَسْرى لأولِ الليل، وسَرَى لآخره، وهو قولُ الليث، وأمَّا سار فمختص بالنهار، وليس مقلوباً مِنْ سَرى. قوله: {بِأَهْلِكَ} يجوز أَنْ تكونَ الباءُ للتعدية، وأن تكونَ للحال أي: مصاحباً لهم. وقوله: «بقِطْعٍ» حال من «أهلك» أي: مصاحبين لقِطْع، على أن المرادَ به الظلمة. وقيل: الباء بمعنى «في» . والقِطْع هنا نصف الليل، لأنه قطعةٌ منه مساويةٌ لباقيه، وأنشدوا: 2696 - ونائحةٍ تَنُوْحُ بقِطْعِ ليلِ ... على رَجُلٍ بقارعةِ الصعيد وقد تقدَّم الكلامُ على القِطْع في يونس بأشبع من هذا. قوله: {إِلاَّ امرأتك} ابن كثير وأبو عمرو برفع «امرأتك» والباقون بنصبها. وفي هذه الآية الكريمة كلامٌ كثيرٌ لا بد من استيفائه. أمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان، أشهرُهما عند المعربين: أنَّه على البدل من «أحد» وهو أحسن من النصب، لأنَّ الكلام غيرُ موجَب. وهذا الوجهُ قد رَدَّه أبو عبيد بأنه يَلْزَمُ منه أنهم نُهوا عن الالتفات إلا المرأة، فإنها لم تُنْهَ عنه، وهذا لا يجوزُ، ولو كان الكلامُ «ولا يلتفت» برفع «يلتفت» يعني على أنْ تكونَ «لا» نافيةً، فيكون الكلام خبراً عنهم بأنهم لم يَلْتفتوا إلا امرأته فإنها تلتفت، لكان الاستثناء بالبدلية واضحاً، لكنه لم يقرأ برفع «يلتفت» أحد.

وقد استحسن ابنُ عطيةَ هذا الإِلزامَ من أبي عبيد، وقال: «إنه وارِدٌ على القول باستثناءِ المرأة من» أحد «سواءً رَفَعْتَ المرأة أو نَصَبْتها» . قلت: وهذا صحيحٌ، فإن أبا عبيد لم يُرِد الرفعَ لخصوصِ كونه رفعاً، بل لفسادِ المعنى، وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من «أحد» ، وأبو عبيد يُخَرِّج النصبَ على الاستثناء من «بأهلك» ، ولكنه يَلْزم من ذلك إبطالُ قراءة الرفع، ولا سبيلَ إلى ذلك لتواترها. وقد انفصل المبردُ عن هذا الإِشكالِ الذي أورده أبو عبيد بأن النهيَ في اللفظ ل «أحد» وهو في المعنى للوط عليه السلام، إذ التقدير: لا تَدَعْ منهم أحداً يلتفت، كقولك لخادمك: «لا يَقُمْ أحدٌ» النهيُ لأحد، وهو في المعنى للخادم، إذ المعنى: «لا تَدَعْ أحداً يقوم» . قلت: فآل الجواب إلى أنَّ المعنى: لا تَدَعْ أحداً يلتفت إلا امرأتك فَدَعْها تلتفت، هذا مقتضى الاستثناء كقولك: «لا تَدَعْ أحداً يقوم إلا زيداً، معناه: فَدَعْه يقوم. وفيه نظر؛ إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا. والثاني: أن الرفعَ على الاستثناءِ المنقطع، والقائلُ بهذا جعل قراءةَ النصبِ أيضاً من الاستثناء المنقطع، فالقراءتان عنده على حَدٍّ سواء، ولنسْرُدْ كلامه لنعرفَه فقال:» الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يُقْصَدْ به إخراجُها من المأمور بالإِسراء معهم، ولا من المنهيين عن الالتفاتِ، ولكن استؤنف الإِخبار عنها، فالمعنى: لكن امرأتَك يَجْري لها كذا وكذا، ويؤيد هذا المعنى أن مثلَ هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناءٌ البتةَ، قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} الآية. فلم تقع العنايةُ في ذلك

إلا بذكر مَنْ أنجاهم اللَّه تعالى، فجاء شرح حالِ امرأتِه في سورة هود تبعاً لا مقصوداً بالإِخراج مما تقدم، وإذا اتضح هذا المعنى عُلم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، وفيه النصب والرفع، فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر، والرفع لغة تميم وعليه اثنان من القراء «. قال الشيخ:» وهذا الذي طوَّل به لا تحقيقَ فيه، فإنه إذا لم يُقْصَدْ إخراجُها من المأمور بالإِسراء بهم ولا من/ المَنْهِيِّين عن الالتفاتِ، وجُعل استثناءً منقطعاً، كان من المنقطع الذي لم يتوجَّهْ عليه العاملُ بحال، وهذا النوع يجب فيه النصبُ على كلتا اللغتين، وإنما تكون اللغتان في ما جاز توجُّهُ العاملِ عليه، وفي كلا النوعين يكون ما بعد «إلا» من غير الجنس المستثنى، فكونُه جازَ في اللغتان دليل على أنه يمكن أن يتوجَّه عليه العامل، وهو قد فرض أنه لم يُقْصَدْ بالاستثناء إخراجُها من المأمور بالإِسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات، فكان يجب فيه إذ ذاك النصبُ قولاً واحداً «. [قلت: القائل بذلك هو الشيخ شهاب الدين أبو شامة] . وأمَّا قولُه:» إنه لم يتوجَّهْ عليه العامل «ليس بمسلَّم، بل يتوجَّه عليه في الجملة، والذي قاله النحاة ممَّا لم يتوجَّهْ عليه العاملُ من حيث المعنى نحو: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر، وهذا ليس مِنْ ذاك، فكيف يُعْترض به على أبي شامة؟ . وأمَّا النصبُ ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مستثنى مِنْ» بأهلك «، واستَشْكلوا عليه إشكالاً من حيث المعنى: وهو أنه يلزم ألاَّ يكونَ سَرَى بها، لكن الفرضِ أنه سرى بها، يدلُّ عليه أنها التفتَتْ، ولو لم تكن معهم لمَا حَسُن

الإِخبار عنها بالالتفات، فالالتفاتُ يدلُّ على كونها سَرَتْ معهم قطعاً. وقد أُجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها، ولكن لمَّا سَرَى هو وبنتاه تَبِعَتْهم فالتفتت، ويؤيِّد أنه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد اللَّه وسقط مِنْ مصحفه «فَأَسْر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك» ولم يذكر قوله {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} . والثاني: أنه مستثنى مِنْ «أحد» وإن كان الأحسنُ الرفعَ إلا أنه جاء كقراءة ابن عامر {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] بالنصبِ مع تقدُّم النفي الصريح. وقد تقدَّم لك هناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن ههنا. والثالث: أنه مستثنى منقطعٌ على ما قدَّمْتُه عن أبي شامة. وقال الزمخشري: «وفي إخراجها مع أهله روايتان، روي أنه أخرجها معهم، وأُمِرَ أَنْ لا يلتفتَ منهم أحد إلا هي، فلما سَمِعَتْ هِدَّة العذاب التفتَتْ وقالت: يا قوماه، فأدركها حجرٌ فقتلها، ورُوي أنه أُمِر بأن يُخَلِّفَها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين» . قال الشيخ: «وهذا وهمٌ فاحشٌ، إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين مِنْ أنه سرى بها أو لم يَسْرِ بها، وهذا تكاذُبٌ في الإِخبار، يستحيل أن تكن القراءتان وهما مِنْ كلام اللَّه تعالى يترتبان على التكاذب» . قلت: وحاشَ للَّه أن تترتب القراءتان على التكاذُب، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ، الفرض أنه قد جاء في التفسير القولان، ولا يَلْزم من ذلك التكاذبُ، لأنَّ مَنْ قال إنه سرى بها يعني أنها سَرَتْ هي بنفسها مصاحِبةً لهم في أوائل الأمر، ثم أخذها العذاب فانقطع سُراها، ومن قال إنه لم يَسْرِ بها، أي:

لم يَأْمرها ولم يأخذها وأنه لم يَدُم سُراها معهم بل انقطع فَصَحَّ أن يقال: إنه سَرَى بها ولم يَسْرِ بها، وقد أجاب الناسُ بهذا وهو حسنٌ. وقال الشيخ أبو شامة: «ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ، وذلك أن يكون في الكلام اختصارَ نَبَّهَ عليه اختلافُ القراءتين فكأنه قيل: فَأَسْرِ بأهلِك إلا امرأتك، وكذا روى أبو عبيدة وغيره أنها في مصحف عبد اللَّه هكذا، وليس فيها {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} فهذا دليلٌ على استثنائها مِن السُّرى بهم، ثم كأنه قال سبحانه: فإن خرجَتْ معكم وتَبِعَتْكم غيرَ أن تكونَ أنت سَرَيْتَ بها فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرَها، فإنها ستلتفت فيُصيبها ما أصاب قومها، فكانت قراءةُ النصب دالَّةً على المعنى المتقدم، وقراءةُ الرفع دالَّةً على المعنى المتأخر، ومجموعُهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح» وهو كلامٌ حسنُ شاهدٌ لِما ذكرته. قوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا} الضميرُ ضمير الشأن، و «مُصيبها» خبرٌ مقدم، و «ما أصابهم» مبتدأ مؤخر وهو موصولٌ بمعنى الذي، والجملة خبرُ إنَّ؛ لأن ضمير الشأن يُفَسَّر بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجزْأَيْها. وأعرب الشيخ «مُصيبها» مبتدأً، و «ما أصابهم» الخبر، وفيه نظرٌ من حيث الصناعة: فإن الموصولَ معرفة، فينبغي أن يكونَ المبتدأ و «مُصيبها» نكرةً لأنَّه عامل تقديراً فإضافتُه غيرُ محضةٍ، ومن حيث المعنى: إنَّ المراد الإِخبار عن الذي أصابهم أنه مُصِيبها من غيرِ عكسٍ، ويجوز عند الكوفيين أن يكونَ «مصيبُها» مبتدأً، و «ما» / الموصولةُ فاعلٌ لأنهم يُجيزون أن يُفَسَّر ضميرُ الشأنِ بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو: «إنه قائمٌ أبواك» .

قوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ} ، أي: موعد هلاكهم. وقرأ عيسى بن عمر «الصبح» بضمتين فقيل: لغتان، وقيل: بل هي إتباعٌ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك.

82

قوله تعالى: {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} : مفعولا الجعل الذي بمعنى التصيير، و «سِجِّيل» قيل: هو في الأصل مركَّب من: «سكر كل» وهو بالفارسية حجر وطين فعُرِّب وغُيِّرت حروفهُ. وقيل: سِجِّيل اسمٌ للسماء وهو ضعيف أو غلط؛ لوصفه بمَنْضود. وقيل: مِنْ أَسْجَلَ، أي: أرسل فيكون فِعِّيلاً، وقيل: هو مِن التسجيل، والمعنى: أنه مِمَّا كتب اللَّهُ وأَسْجل أن يُعَذَّب به قوم لوط، وينصرُ الأولَ تفسيرُ ابن عباس أنه حجرٌ وطين كالآجرّ المطبوخ، وعن أبي عبيد هو الحجر الصُّلْب. و «منضود» صفةٌ لسِجِّيل. والنَّضْدُ: جَعْلُ الشيءِ بعضَه فوقَ بعضٍ، ومنه {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} [الواقعة: 29] ، أي: متراكب، والمرادُ وصفُ الحجارة بالكثرة.

83

و «مُسَوَّمة» نعتٌ لحجارة، وحينئذ يلزمُ تقدُّمُ الوَصْفِ غير الصريح على الصريح لأنَّ «مِنْ سجيل» صفةٌ لحجارة، والأَوْلى أن يُجْعل حالاً من حجارة، وسوَّغ مجيئَها مِن النكرة تخصُّصُ النكرة بالوصف. والتَّسْويم. العلامَةُ. قيل: عُلِّم على كلِّ حجرٍ اسمُ مَنْ يرمى به، وتقدَّم اشتقاقُه في آل عمران. و «عند» : إمَّا منصوبٌ ب «مُسَوَّمة» ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنها صفة ل «مُسَوَّمة» . قوله: {وَمَا هِيَ} الظاهرُ عَوْدُ هذا الضمير على القرى المُهْلَكة. وقيل:

يعودُ على الحجارة وهي أقربُ مذكور. وقيل: يعودُ على العقوبة المفهومة من السياق. ولم يُؤَنِّث «ببعيد» : إمَّا لأنه في الأصلِ نعتٌ لمكانٍ محذوف تقديره: وما هي بمكان بعيدٍ بل هو قريبٌ، والمرادُ به السماء أو القرى المهلَكة، وإمَّا لأن العقوبةَ والعقابَ واحد، وإمَّا لتأويل الحجارة بعذاب أو بشيءٍ بعيد.

84

قوله تعالى: {وَلاَ تَنقُصُواْ} : «نَقَصَ» يتعدَّى لاثنين، إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجر، وقد يُحْذَفُ، تقول: نَقَصْت زيداً مِنْ حقَّه، وهو هنا كذلك؛ إذ المرادُ: ولا تَنْقُصوا الناسَ من المكيال، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى، والمعنى: لا تُقَلِّلوا وتُطَفِّفوا، ويجوز أن يكون «المكيالَ» مفعولاً أول والثاني محذوف، وفي ذلك مبالغة، والتقدير: ولا تَنْقُصوا المكيالَ والميزانَ حَقَّهما الذي وَجَبَ لهما وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما. قوله: {مُّحِيطٍ} صفة لليوم، ووُصِف به من قولهم: أحاط به العدوُّ، وقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] . قال الزمخشري: «إنَّ وَصْفَ اليوم بالإِحاطة أبلغُ مِنْ وصف العذاب بها» قال: «لأنَّ اليومَ زمانٌ يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه» . وزعم قومٌ أنه جُرَّ على الجِوار، لأنه في المعنى صفةٌ للعذاب، والأصلُ: عذاب يوم محيطاً. وقال آخرون: التقدير: عذاب يومٍ محيطٍ عذابُه. قال أبو البقاء: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جَرَى على غير مَنْ هوله، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف.

86

قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} : قال ابن عطية: «وجواب هذا الشرط متقدم» يعني على مذهب مَنْ يراه لا على [مذهب] جمهور البصريين. والعامَّة على تشديد ياء «بقيَّة» . وقرأ إسماعيل بن جعفر من أهل المدينة بتخفيفها. قال ابن عطية: «وهي لغةٌ» . وهذا لا ينبغي أن يُقال، بل يُقال: إنْ لم يُقْصد الدلالةُ على المبالغة جيء بها مخففةً، وذلك أن فَعِل بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصفة منه فَعِل بكسر العين نحو: سَجِيَت المرأة فهي سَجِيَة فإن قَصَدْت المبالغة قيل: سَجِيَّة لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك بقيَّة وبَقِية أي بالتشديد والتخفيف.

87

وتقدم الخلاف في قوله «أصلاتك» بالنسبة إلى الإِفراد والجمع في سورة براءة. قوله {أَوْ أَن نَّفْعَلَ} العامة على نون الجماعة أو التعظيم في «نفعل» و «نشاء» . وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة والضحاك بن قيس بتاء الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء، فَمَنْ قرأ بالنون

فيهما عَطفه على مفعول «نترك» وهو «ما» الموصولةُ/، والتقدير: أصلواتُك تأمركَ أن نَتْرُكَ ما يعبدُ آباؤنا، أو أن نترك أن نفعلَ في أموالِنا ما نشاء، وهو بَخْسُ الكَيْل والوَزْنِ المقدَّم ذكرُهما. و «أو» للتنويع أو بمعنى الواو، قولان، ولا يجوز عَطْفُه على مفعول «تأمرك» ؛ لأن المعنى يتغير، إذ يصير التقدير: أصلواتُك تأمُرك أن نفعلَ في أموالنا. ومَنْ قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكونَ معطوفاً على مفعول «تأمرك» ، وأن يكونَ معطوفاً على مفعول «نترك» ، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت، أو أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت. ومَنْ قرأ بالنون في الأول وبالتاء في الثاني كان «أن نفعل» معطوفاً على مفعول «تأمرك» ، فقد صار ذلك ثلاثةَ أقسام، قسمٍ يتعينَّ فيه العطفُ على مفعول «نترك» وهي قراءةُ النونِ فيهما، وقسمٍ يتعيَّن فيه العطفُ على مفعول «تأمرك» ، وهي قراءةُ النون في «نفعل» والتاء في «تشاء» ، وقسمٍ يجوز فيه الأمران وهي قراءةُ التاء فيهما. والظاهرُ من حيث المعنى في قراءة التاء فيهما أو في «تشاء» أن المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يأمرهم بهما. وقال الزمخشري: «المعنى: تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإِنسان لا يُؤْمَرُ بفعل غيره» .

88

قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ} : قد تقدَّم ذلك غيرَ مرة. وقال

الزمخشري هنا: «فإنْ قلت: أين جوابُ» أرأيتم «وما له لم يَثْبت كما ثبت في قصة نوح وصالح؟ قلت: جوابُه محذوفٌ، وإنما لم يَثْبُتْ لأن إثباتَه في القصتين دلَّ على مكانه، ومعنى الكلام ينادي عليه، والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين مِنْ ربي و [كنت] نبياً على الحقيقة، أيصحُّ أنْ لا آمرَكم بترك عبادة الأوثان والكفِّ عن المعاصي، والأنبياءُ لا يُبْعَثون إلا لذلك؟» . قال الشيخ: «وتَسْمِيَةُ هذا جواباً ل» أرأيتم «ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قَدَّرها في موضع المفعول الثاني ل» أرأيتم « [لأن أرأيتم] إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّتْ إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملةُ استفهاميةً ينعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العرب:» أرأيتك زيداً ما صنع «وقال الحوفي:» وجوابُ الشرط محذوفُ لدلالة الكلام عليه تقديره: أأَعْدِل عَمَّا أنا عليه «. وقال ابن عطية:» وجوابُ الشرط الذي في قوله «أن كنت» محذوفٌ تقديره: أضِلُّ كما ضَلَلْتُمْ أو أترك تَبْليغ الرسالة، ونحو هذا ممَّا يليق بهذه المحاجَّة «. قال الشيخ:» وليس قوله «أضلّ» جواباً للشرط؛ لأنه إن كان مثبتاً فلا يمكن أن يكونَ جواباً لأنه لا يترتَّب على الشرط، وإن كان استفهاماً حُذف منه الهمزةُ

فهو في موضع المفعول الثاني ل «أرأيتم» ، وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه الجملةُ السابقة مع متعلَّقها. قوله: {أَنْ أُخَالِفَكُمْ} قال الزمخشري: «خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مُوَلٍّ عنه، وخالفني عنه: إذا ولى عنه وأنت قاصدُه، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول:» خالَفَني إلى الماء «، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً، ومنه قولُه تعالى: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يعني أن أسْبِقَكم إلى شهواتكم التي نَهَيْتُكم عنها لأستبدَّ بها دونكم» . وهذا الذي ذكره أبو القاسم معنى حسنٌ لطيف ولم يتعرَّض لإِعرابِ مفرداته، لأنَّ بفهم المعنى يُفهم الإِعراب ولنذكر ما فيه: فأقول: يجوز أن يكونَ «أن أخالفَكم» في موضع مفعولٍ ب «أريد» ، أي: وما أريدُ مخالفتَكم، ويكون فاعَلَ بمعنى فَعَل نحو: جاوَزْتُ الشيءَ وجُزْته، أي: وما أريد أن أخالفكم، أي: أكونَ خَلَفاً منكم. وقولُه: {إلى مَآ أَنْهَاكُمْ} يتعلَّق ب «أخالفكم» ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال، أي: مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قدَّر بعضُهم محذوفاً يتعلَّق به هذا الجارُّ تقديرُه: وأميل إلى أن أخالفكم، ويجوز أن يكونَ «أن أخالفكم» مفعولاً من أجله، وتتعلق «إلى» بقوله «أريد» بمعنى: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال الزجاج: «وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه. ويجوز أن يُراد بأن أخالفكم معناه من المخالفة، وتكون في موضع المفعول به بأريد، ويقدَّر مائلاً إلى.

قوله: {مَا استطعت} يجوز في «ما» هذه وجوه، أحدها: أن تكونَ مصدريةً ظرفيةً أي: مدة استطاعتي. الثاني: أن تكون «ما» موصولة بمعنى الذي بدلاً من «الإِصلاح» والتقدير: إنْ أريد إلا المقدارَ الذي أستطيعه من الصلاح. الثالث: أن يكونَ على حَذْف مضاف، أي: إلا الإِصلاحَ إصلاحَ ما استطعت، وهو أيضاً بدل. الرابع: / أنها مفعول بها بالمصدرِ المُعَرَّف، أي: إنْ أريد إلا أن أُصْلح ما استطعت إصلاحَه كقوله: 2697 - ضعيفُ النِّكايةِ أعداءَه ... يخالُ الفِرارُ يُراخي الأجَلْ ذَكَرَ هذه الأوجهَ الثلاثةَ الزمخشري، إلا أن إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين، ممنوعٌ إعمالُه في المفعول به عند الكوفيين. وتقدم الجارَّان في «عليه» و «إليه» للاختصاص أي: عليه لا على غيره، وإليه لا إلى غيره.

89

قوله تعالى: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} : العامَّةُ على فَتْح ياءِ المضارعة من جَرم ثلاثياً. وقرأ الأعمشُ وابنُ وثاب بضمِّها مِنْ أجرم. وقد تقدم أنَّ «جَرَمَ» يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل كسب، فيقال: جَرَم زيدٌ مالاً نحو: كَسَبه، وجَرَمْتُه ذَنْباً، أي: كَسَبَتْه إياه فهو مثلُ كَسَب، وأنشد الزمخشري على تعدِّيه لاثنين قولَ الشاعر:

2698 - ولقد طَعَنْتُ أبا عُيَيْنَة طعنَةً ... جَرَمَتْ فَزارةُ بعدها أن يَغْضَبوا فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول، والثاني هو: أن يُصيبكم أي: لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابةَ العذاب. وقد تقدم أن جَرَم وأَجْرم بمعنىً، أو بينهما فرق. ونسب الزمخشري ضمَّ الياءِ مِنْ أجرم لابن كثير. والعامَّةُ أيضاً على ضم لام «مثلُ» رفعاً على أنه فاعل «يُصيبكم» ، وقرأ مجاهد والجحدري بفتحها، وفيها وجهان، أحدهما: أنها فتحة بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنما بُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] وكقوله: 2699 - لمَ يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَنْ نَطقَتْ ... حَمامةٌ في غُصون ذات أَوْقالِ وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدةِ في الأنعام. والثاني: أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة للإِعراب، والفاعلُ على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي: يصيبكم العذاب إصابةً مثلَ ما أصابَ. قوله: {بِبَعِيدٍ} أتى ب «بعيد» مفرداً وإن كان خبراً عن جمعٍ لأحد أوجهٍ: إمَّا لحَذف مضاف تقديرُه: وما إهلاك قومٍ، وإمَّا باعتبار زمان، أي: بزمانٍ بعيد، وإما باعتبار مكان، أي: بمكان بعيد، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرِهما، أي: بشيءٍ بعيد، كذا قدَّره الزمخشري، وتبعه الشيخ، وفيه إشكالٌ من

حيث إنَّ تقديرَه بزمان يلزم فيه الإِخبارُ بالزمان عن الجثَّة. وقال الزمخشري أيضاً: «ويجوز أن يسوى في» قريب «و» بعيد «و» قليل «و» كثير «بين المذكر والمؤنث لورودِها على زِنَةِ المصادر التي هي كالصَّهيل والنهيق ونحوهما» .

90

والوَدُود بناءُ مبالغة مِنْ وَدَّ الشيءَ يَوَدُّه وُدَّاً، ووِداداً، ووِدادَةً وودَادة أي أَحبَّه وآثره. والمشهور وَدِدْت بكسر العين، وسمع الكسائي وَدَدْت بفتحها، والوَدود بمعنى فاعل أي يَوَدُّ عبادَه ويرحمهم. وقيل: بمعنى مفعول بمعنى أن عبادَه يحبُّونه ويُوادُّون أولياءَه، فهم بمنزلة «المُوادُّ» مجازاً.

91

والرَّهْط جماعةُ الرجل. وقيل: الرَّهْط والرَّاهط لِما دون العشرة من الرجال، ولا يقع الرَّهْطُ والعَصَب والنَّفَر إلا على الرجال. وقال الزمخشري: «من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السبعة» ويُجْمع على أَرْهُط، وأَرْهُط على أراهِط قال: 2700 - يا بُؤْسَ للحَرْب التي ... وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا قال الرمَّاني: «وأصلُ الكلمة من الرَّهْط، وهو الشدُّ، ومنه» التَّرْهيط «وهو شدَّةُ الأكل» والرَّاهِطاء اسم لجُحْر من جِحَرة اليَرْبوع لأنه يَتَوَثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولادُه. قوله: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} قال الزمخشري: «وقد دلَّ إيلاءُ ضميرِه حرفَ النفي على أنَّ الكلامَ واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنه قيل:

وما أنت بعزيزٍ علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا، فلذلك قال في جوابهم: {أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله} ولو قيل:» وما عَزَزْتَ علينا «لم يصحَّ هذا الجواب» .

92

قوله تعالى: {واتخذتموه} : يجوز أن تكونَ المتعدية لاثنين، أولهما الهاء، والثاني «ظِهْرِيَّا» . ويجوز أنْ يكونَ الثاني هو الظرف و «ظِهْرِياً» حالٌ، وأن تكونَ المتعدية لواحد، فيكون «ظِهْرِيَّاً» حالاً فقط. ويجوز في «وراءكم» أن يكونَ ظرفاً للاتخاذ، وأن يكونَ حالاً مِنْ «ظهريَّاً» ، والضمير في «اتخذتموه» يعود على اللَّه؛ لأنهم يجهلون صفاتِه، فجعلوه أي: جعلوا أوامره ظِهْريَّاً، أي: منبوذَةً وراء ظهورهم. والظِهْرِيُّ: هو المنسوبُ إلى الظَّهِيْر وهو مِنْ تغييرات النسب كما قالوا في أَمْس: إمْسِيّ بكسر الهمزة، وإلى الدَّهْر: دُهْرِيّ بضم الدال. وقيل: الضمير يعودُ على العصيان، أي: واتخذتم العصيان عوناً على عداوتي، فالظِّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعِين المُقَوِّي.

93

قوله تعالى: {مَن يَأْتِيهِ} : قد تقدَّم نظيرُه في قصة نوح. قال ابن عطية بعد أن حكى عن الفراء أن تكون موصولةً مفعولةً ب «تَعْلمون» ، وأن تكونَ استفهاميةً مبتدأة مُعَلِّقة ل «تعلمون» : «والأول أحسن» ثم قال: «ويَقْضي بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة» . قال الشيخ: «لا يتعيَّن ذلك، إذ من الجائز أن تكونَ الثانيةُ استفهاميةً أيضاً معطوفةً على الاستفهامية قبلها، والتقدير: سوف تعلمون أيُّنا يأتيه/ عذابٌ،

وأيُّنا هو كاذبٌ. وقال الزمخشري:» فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين إدخالِ الفاء ونَزْعها في «سوف تعلمون» ؟ قلت: إدخالُ الفاءِ وَصْلٌ ظاهر بحرفٍ موضوعٍ للوصل، ونَزْعُها وَصْلٌ خفيٌّ تقديريٌّ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسؤال مقدر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عَمِلْنا نحن على مكانتنا وعَمِلْتَ أنت على مكانتك؟ فقيل: سوف تعلمون، فَوَصَلَ تارةً بالفاء وتارةً بالاستئناف للتفنن في البلاغة، كما هو عادةُ البلغاء من العرب، وأقوى الوصلين وأبلغُهما الاستئنافُ، وهو بابٌ من علم البيان تتكاثرُ محاسِنُه «.

94

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} : قال الزمخشري: «فإن قلت: ما بال ساقَتَي قصة عاد وقصة مَدْين جاءتا بالواو، والساقتان الوُسْطَيان بالفاء؟ قلت: قد وقعتْ الوُسْطَيان بعد ذِكْر الوعد، وذلك قوله {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} ، {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقول:» وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت «، وأمَّا الأُخْرَيان فلم تقعا بتلك المنزلة، وإنما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تُعْطَفا بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تُعْطَفُ قصة على قصة» ، وهذا من غُرَر كلام الزمخشري.

98

قوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ} : يجوز أن تكونَ هذه المسألةُ من باب الإِعمال، وذلك أنَّ «يَقْدُمُ» يَصْلُح أن يتسلَّط على «النار» بحرف الجر، أي: يَقْدم قومَه إلى النار، وكذا «أَوْرَدَهم» يَصِحُّ تسلُّطه عليها أيضاً، ويكون قد أعمل الثاني للحذف مِن الأول، ولو أعمل الأولَ لتعدى ب إلى، ولأضمر في الثاني، ولا محلَّ ل «أَوْرَدَ» لاستئنافِه، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنىً؛ لأنه عَطَفَ على ما هو نصٌّ في الاستقبال. والهمزة في «أَوْرَدَ» للتعدية، لأنه قبلها يتعدَّى لواحد. قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} وقيل: أوقع الماضي هنا لتحقُّقه. وقيل: بل هو ماضٍ على حقيقته، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنه أوردهم في الدنيا النار. قال تعالى: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [غافر: 46] . وقيل: أوردهم مُوْجِبَها وأسبابها، وفيه بُعْدٌ لأجلِ العطف بالفاء. والوِرْد: يكون مصدراً بمعنى الوُرود، ويكون بمعنى الشيء المُوْرَد كالطِّحن والرِّعي. ويُطلب أيضاً على الوارد، وعلى هذا إنْ جَعَلْت الوِرْد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ مِنْ حذف مضاف تقديره: وبئس مكانُ الورد المورود، وهو النار، وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنَّ تَصادُقَ فاعل نِعْمَ وبِئْسَ ومخصوصِها شرطٌ، لا يُقال: نِعْم الرجلُ الفرسَ. وقيل: بل المورود صفةً للوِرْد، والمخصوصُ بالذم محذوف تقديره: بئس الوِرْدُ المورود النارُ، جوَّز من ذلك أبو البقاء وابن عطية، وهو ظاهرُ كلامِ الزمخشري. وقيل: التقدير: بئسَ القومُ المورودُ بهم هم، فعلى هذا «الورد» مرادٌ به الجمعُ

الواردون، والمَوْرود صفةٌ لهم، والمخصوص بالذمِّ الضميرُ المحذوف وهو «هم» ، فيكون ذلك للواردين لا لموضع الوِرْد/ كذا قاله الشيخ. وفيه نظر لا يَخْفى: كيف يُراد بالوِرْد الجمع الواردون، ثم يقول والمورود صفةٌ لهم؟ وفي وصف مخصوص نعم وبئس خلافٌ بين النحويين منعه ابن السراج وأبو علي.

99

و {بِئْسَ الرفد المرفود} كالذي قبله. وقوله: «ويومَ القيامة» عطفٌ على موضع «في هذه» والمعنى: أنهم أُلْحِقُوا لعنةً في الدنيا وفي الآخرة، ويكون الوقف على هذا تاماً، ويُبتدأ بقوله «بِئْس» . وزعم جماعة أن التقسيم: هو أنَّ لهم في الدنيا لعنة، ويومَ القيامة بِئْس ما يُرْفَدون به، فهي لعنة واحدة أولاً وقَبُح إرفاد آخِرا. وهذا لا يصحُّ لأنه يؤدي إلى إعمال «بئس» فيما تقدَّم عليها وذلك لا يجوز لعدم تصرُّفها، أمّا لو تأخَّر لجاز كقوله: 2705 - ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنت إذا ... دُعِيَتْ نَزَالِ ولُجَّ في الذُّعْرِ وأصلُ الرِّفْد كما قال الليث: العطاء والمعونة، ومنه رِفادة قريش، رَفَدْتُه أَرْفِدُه رِفْداً ورَفْداً بكسر الراء وفتحها: أعطيتَه وأَعَنْتَه. وقيل: بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، كأنه نحو: الرِّعْي والذِّبْح. ويقال: رَفَدْت الحائط، أي: دَعَمْتُه، وهو من معنى الإِعانة.

100

قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ} : يجوز أن يكون «نقصُّه» خبراً، و «مِنْ أبناء» حال، ويجوز العكس، قيل: وثَمَّ مضافٌ محذوف، أي: من أنباء أهل القرى ولذلك أعاد الضمير عليها في قوله «وما ظلمْناهم» . قوله: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} : «حصيد» مبتدأ محذوفُ الخبر، لدلالةِ خبر الأول عليه، أي: ومنها حصيد وهذا لضرورةِ المعنى. وهل لهذه الجملةِ محلٌّ من الإِعراب؟ فقال الزمخشري: «لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ» . وقال أبو البقاء: «إنها في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول» نَقُصُّه «. ويجوز في» ذلك «أوجه، أحدها: أنه مبتدأ وقد تقدم. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر يفسِّره» نقصُّه «فهو من باب الاشتغال، أي: نَقُصُّ ذلك في حال كونه من أنباء القرى، وقد تقدَّم في قوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ} [آل عمران: 44] أوجه، وهي عائدةٌ هنا. و» الحَصِيد «بمعنى محصود، وجمعه: حصدى وحِصاد مثل مريض ومرضى ومِراض، وهذا قول الأخفش، ولكن باب فعيل وفَعْلَى أن يكونَ في العقلاء نحو: قتيل وقَتْلَى.

101

قوله تعالى: {لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ} : قال الزمخشري: «لما» منصوب ب «أَغْنَتْ» . وهو بناءً منه على أنَّ «لمَّا» ظرفية. والظاهر أنَّ «ما» نافية، أي:

لم تُغْن. ويجوز أن تكونَ استفهاميةً، و «يَدْعون» حكاية حال، أي: التي كانوا يَدْعون، و «ما زادوهم» الضميرُ المرفوع للأصنام، والمنصوبُ لعَبَدَتِها، وعبَّر عنهم بواوِ العقلاء لأنهم نَزَّلوهم منزلتَهم.

102

قوله تعالى: {وكذلك} : خبرٌ مقدم، و «أَخْذُ» مبتدأ مؤخر، والتقدير: ومثْلُ ذلك الأَخْذِ اللَّهِ الأمم السالفة أَخْذُ ربك. و «إذا» ظرف مُتَمَحِّض، ناصبُه المصدر قبله وهو قريبٌ مِنْ حكاية الحال، والمسألةُ من باب التنازع فإنَّ الأَخْذَ يَطْلب «القرى» ، و «أَخَذَ» الفعل أيضاً يطلبها، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول. وقرأ أبو رجاء والجحدري: «أَخَذ ربك، إذ أَخَذَ» جَعَلَهما فعلين ماضيين، و «ربُّك» فاعل. وقرأ طلحة بن مصرف كذلك، إلا أنه ب «إذا» كالعامَّة قال ابن عطية: «وهي قراءةٌ متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعة تُعْطي الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وَضْع المستقبل مَوْضِعَ الماضي» . وقوله: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} جملةٌ حالية. والتَّتْبيب: التَّخْسيرُ يقال: تَبَّبَ غيرُه فتبَّ هو بنفسه، فيُستعمل لازماً ومتعدياً، ومنه {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] . وتبَّبْتُه تَتْبِيباً، أي: خَسَّرْته تخسيراً. قال لبيد: 2706 - ولقد بَلِيْتُ وكلُّ صاحبِ جِدَّةٍ ... لِبِلىً يعودُ وذاكمُ التَّتْبيبُ

103

قوله تعالى: {ذلك يَوْمٌ} : «ذلك» إشارةٌ إلى يوم القيامة، المدلولِ عليه بالسياق من قوله: «عذابَ الآخرة» . و «مجموع» صفةٌ ل «اليوم» جَرَتْ على غير مَنْ هي له فلذلك رَفَعَت الظاهرَ وهو «الناس، وهذا هو الإِعراب نحو، مررت برجلٍ مضروبٍ غلامُه» . وأعرب ابن عطية «الناس» مبتدأ مؤخراً و «مجموع» خبره مقدماً عليه، وفيه ضعف؛ إذ لو كان كذلك لقيل: مجموعون، كما يقال: الناس قائمون ومضروبون، ولا يقال: قائم ومضروب إلا بضعف. وعلى إعرابه يحتاج إلى حذف عائد، إذ الجملةُ صفة لليوم، وهو الهاء في له، أي: الناس مجموع له، و «مشهود» متعيِّنٌ لأن يكونَ صفة فكذلك ما قبله. وقوله: {مَّشْهُودٌ} من بابِ الاتساعِ في الظرف/ بأنْ جَعَلَه مشهوداً، وإنما هو مشهودٌ فيه، وهو كقوله: 2707 - ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً ... قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافلُهْ والأصل: مشهود فيه، وشَهِدْنا فيه، فاتُّسِع فيه بأنْ وَصَل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة، كما يصل إلى المفعول به. قال الزمخشري: «فإن قلت: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فِعْله؟ قلت: لِما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنَّه لا بد أن يكونَ ميعاداً مضروباً لجمع الناس له، وأنه هو الموصوفُ بذلك صفةً لازمة» .

104

والضمير في «نُؤَخِّره» يعودُ على «يوم» . وقال الحوفي: «على الجزاء» . وقرأ الأعمش: «وما يُؤَخِّره» ، أي اللَّه تعالى.

105

وقرأ أبو عمرو والكسائي ونافع «يأتي» بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً. وقرأ ابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً، وباقي السبعة قرؤوا بحذفها وصلاً ووقفاً. وقد وَرَدَت المصاحف بإثباتها وحذفها: ففي مصحف أُبَي إثباتُها، وفي مصحف عثمان حَذْفُها، وإثباتُها هو الوجه لأنها لام الكلمة وإنما حذفوها في القوافي والفواصل لأنها محلُّ وقوف وقالوا: لا أَدْرِ، ولا أبالِ. وقال الزمخشري: «والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرٌ في لغة هُذَيْل» وأنشد ابن جرير في ذلك: 2708 - كفَّاك كفٌّ ما تُليقُ دِرْهماً ... جُوْداً وأخرى تُعْطِ بالسيف الدَّما والناصبُ لهذا الظرف فيه أوجه، أحدها: أنه «لا تَكَلَّمُ» والتقدير: لا تَكَلَّمُ نفسٌ يومَ يأتي ذلك اليوم. وهذا معنى جيد لا حاجةَ إلى غيره. والثاني: أن ينتصب ب «واذكر» مقدراً. والثالث: أن ينتصبَ بالانتهاءِ المحذوفِ في قوله: «إلا لأجل» ، أي: ينتهي الأجل يوم يأتي. والرابع: أنه منصوبٌ ب «لا تَكَلَّم» مقدَّراً، ولا حاجةَ إليه. والجملةُ من قوله: «لا تَكَلَّمُ» في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير اليوم المتقدم في «مشهود» ، أو نعتاً له لأنه نكرة. والتقدير: لا تَكَلَّم نفسٌ فيه

إلا بإذنه، قاله الحوفي وقال ابن عطية: «لا تكلَّم نفسٌ» يَصِحُّ أن تكون جملةً في موضع الحال من الضمير الذي في «يأتي» وهو العائد على قوله: «ذلك يومٌ» ، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره: لا تَكَلَّم نفسٌ فيه، ويصح أن يكون قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} صفةً لقوله: «يوم يأتي» . وفاعلُ «يأتي» فيه وجهان، أظهرهما: أنه ضميرُ «يوم» المتقدِّم. والثاني: أنه ضمير اللَّه تعالى كقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} [البقرة: 210] وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} والضميرُ في قوله: «فمنهم» الظاهر عَوْدُه على الناس في قوله: {مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} . وجعله الزمخشري عائداً على أهلِ الموقف وإن لم يُذْكَروا، قال: «لأنَّ ذلك معلومٌ؛ ولأن قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} يدلُّ عليه» ، وكذا قال ابنُ عطية. قوله: {وَسَعِيدٌ} خبره محذوف: أي: ومنهم سعيدٌ، كقوله: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100] .

106

قوله تعالى: {شَقُواْ} : الجمهورُ على فتح الشين لأنه مِنْ شَقِي فعلٌ قاصِر. وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعدياً، فيقال: شَقاه اللَّه، كما يقال أشقاه اللَّه. وقرأ الأخوان وحفص «سُعِدُوا» بضم السين، والباقونَ بفتحها،

الأُولى مِنْ قولهم «سَعَدَه اللَّه» ، أي: أسعده، حكى الفراء عن هُذَيل أنها تقول: سَعَده اللَّه بمعنى أَسْعد. وقال الجوهري: «سَعِد فهو سعيد كسَلِمَ فهو سليم، وسُعِد فهو مسعود» . وقال ابن القشيري: «وَرَدَ سَعَده اللَّه فهو مَسْعود، وأسعد فهو مُسْعَد» . وقيل: يُقال: سَعَده وأَسْعده فهو مَسْعود، استَغْنوا باسم مفعول الثلاثي. وحُكي عن الكسائي أنه قال: «هما لغتان بمعنىً» ، يعني فَعَل وأَفْعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: «يُقال: سُعِد الرجل كما يُقال جُنَّ» . وقيل: سَعِده لغة. وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخَوين، قال المهدوي: مَنْ قرأ «سُعِدوا» فهو محمولٌ على مَسْعود، وهو شاذ قليل، لأنه لا يُقال: سَعَده اللَّه، إنما يقال: أسعده اللَّه. وقال بعضُهم: احتجَّ الكسائي بقولهم: «مسعود» . قيل: ولا حُجَّةَ فيه، لأنه يُقال: مكان مسعود فيه ثم حُذِف «فيه» وسُمِّي به. وكان عليّ بن سليمان يتعجَّب مِنْ قراءة الكسائي: / «سُعِدوا» مع علمه بالعربية، والعجبُ مِنْ تعجُّبه. وقال مكي: «قراءةُ حمزةَ والكسائي» سُعِدوا «بضم السين حملاً على قولهم:» مسعود «وهي لغةٌ قليلة شاذة، وقولهم:» مَسْعود «إنما جاء على حذف الزوائد كأنه مِنْ أسعده اللَّه، ولا يُقال: سَعَدَه اللَّه، وهو مثل قولهم: أجنَّه اللَّه فهو مجنون، أتى على جَنَّه اللَّه، وإنْ كان لا يُقال ذلك، كما لا يقال: سَعَده اللَّه» . وضَمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد. وقال أبو البقاء: «وهذا غيرُ معروفٍ في اللغة ولا هو مقيسٌ» .

وقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} : هذه الجملةُ فيها احتمالان، أحدهما: أنها مستأنفة، كأن سائلاً سأل حين أَخْبَرَ أنهم في النار: ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا. الثاني: أنها منصوبةٌ المحلِّ، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه الضمير في الجارِّ والمجرور وهي «ففي النار» . والثاني: أنها حالٌ من «النار» . والزَّفير: أولُ صوت الحمار، والشَّهيق: آخره، قال رؤبة: 2709 - حَشْرَجَ في الصدر صَهِيْلاً وشَهَقْ ... حتى يُقالَ ناهِقٌ وما نَهَقْ وقال ابن فارس: «الشَّهيق ضد الزفير؛ لأنَّ الشهيق ردُّ النفسَ، والزَّفير: إخراج النفَس مِنْ شدة الحزن مأخوذ من الزِّفْرِ وهو الحِمْل على الظهر، لشدته. وقال الزمخشري نحوه، وأنشد للشماخ: 2710 - بعيدٌ مدى التَّطْريْبِ أولُ صوتِه ... زفير ويَتْلوه شهيق مُحَشْرِج وقيل: الشَّهيق: النَّفَس الممتدُّ، مأخوذ مِنْ قولهم» جبل شاهق أي

عالٍ. وقال الليث: «الزَّفير: أن يملأَ الرجلُ صدرَه حالَ كونه في الغمِّ الشديد من النفسَ ويُخْرِجُه، والشهيق أن يُخْرِجَ ذلك النفسَ، وهو قريبٌ مِنْ قولهم:» تنفَّس الصعداء «. وقال أبو العالية والربيع بن أنس:» الزفير في الحَلْق والشَّهيقُ في الصدر «. وقيل: الزفير للحمار والشهيق للبَغْل.

107

وقوله تعالى: {خَالِدِينَ} : منصوبٌ على الحال المقدرة. قلت: ولا حاجةَ إلى قولِهم مقدرة، وإنما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] ؛ لأنَّ الخلودَ بعد الدخول، بخلافِ هنا. قوله: {مَا دَامَتِ} «ما» مصدرية وقتية، أي: مدة دوامهما. و «دام» هنا تامةٌ لأنها بمعنى بَقِيت. قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} فيه أقوال كثيرة منتشرة لخّصتها في أربعةَ عشرَ وجهاً، أحدها: وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال: «فإنْ قلت: ما معنى الاستثناء في قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة والنار في الأبد مِنْ غير استثناء؟ قلت: هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها وحدَه، بل يُعَذَّبون بالزمهرير، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سُخْط اللَّه عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه كقوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] ، والدليل عليه قوله: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] ، وفي مقابله {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} ، أي: يَفْعل بهم ما يريد

من العذاب، كما يعطي أهل الجنة ما لا انقطاعَ له» . قال الشيخ: «ما ذكره في أهل النار قد يتمشى لأنهم يَخْرُجون من النار إلى الزمهرير فيصحُّ الاستثناء، وأما أهل الجنة فلا يخرجون من الجنة فلا يصحُّ فيهم الاستثناء» . قلت: الظاهر أنه لا يصحُّ فيهما؛ لأنَّ أهلَ النار مع كونهم يُعَذَّبون بالزمهرير هم في النار أيضاً. الثاني: أنه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه قوله: «خالدين فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ» والمعنى: إلا الزمان الذي شاءه اللَّه فلا يُخَلَّدون فيها. الثالث: أنه مِنْ قوله: «ففي النار» و «ففي الجنة» ، أي: إلا الزمان الذي شاءَه اللَّهُ فلا يكون في النار ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي يَفْصِل اللَّهُ فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان الاستثناءُ مِن الكون في النار أو في الجنة، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة. وهذا المعنى مَرْوِيٌّ عن قتادة والضحاك وغيرهما، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة، هذا في طرفِ الأشقياء العُصاة ممكنٌ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه؛ إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها. قال الشيخ: يمكن ذلك/ باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من المؤمنين، أو الذي فات أصحابَ الأعراف، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة

المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدوا في الجنة تخليدَ مَنْ دخلها لأولِ وَهْلة «. الرابع: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله:» ففي النار «و» ففي الجنة «؛ لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضميرَ المبتدأ. الخامس: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو» خالدين «، وعلى هذين القولين تكون» ما «واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك، أو على أنواعٍ مَنْ يعقل كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] والمراد ب» ما «حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم أو أصحابُ الأعراف، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولاً. السادس: قال ابن عطية:» قيل: إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو كقولِه: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] ، استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط، كأنه قال: إنْ شاء اللَّه، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع «. السابع: هو استثناءٌ من طول المدة، ويروى عن ابن مسعود وغيره، أنَّ جهنمَ تخلو مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك قولُه: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} . وهذا مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي الدَّرَك الأَعْلى، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين، هذا على تقديرِ صحةِ ما نُقِل عن ابن مسعود.

الثامن: أن» إلا «حرفُ عطفٍ بمعنى الواو، فمعنى الآية: وما شاءَ ربُّك زائداً على ذلك. التاسع: أن الاستثناءَ منقطعٌ، فيقدَّر ب» لكن «أو ب» سوى «، ونَظَّروه بقولك:» لي عليك ألفا درهم، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك «بمعنى سوى تلك، فكأنه قيل: خالدين فيها ما دامت السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائداً على ذلك. وقيل: سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه. العاشر: أنه استثناءٌ من مدة السماوات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا. الحادي عشر: أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة. الثاني عشر: أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار، إذ دخولُهم إنما هو زُمَراً بعد زُمَر. الثالث عشر: أنه استثناءٌ من قوله:» ففي النار «كأنه قال: إلا ما شاء ربُّك مِنْ تأخُّر قوم عن ذلك، وهذا القولُ مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري وجابر. الرابع عشر: أنَّ» إلا ما شاء «بمنزلة كما شاء، قيل: كقوله: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] ، أي: كما قَدْ سَلَفَ.

108

قوله تعالى: {عَطَآءً} نُصِبَ على المصدر المؤكد من معنى الجملةِ قبله؛ لأن قوله: «ففي الجنة خالدين» يقتضي إعطاء وإنعاماً فكأنه قيل: يُعْطيهم عَطاءً، وعطاء اسم مصدر، والمصدر في الحقيقة الإِعطاء

على الإِفعال، أو يكونُ مصدراً على حذف الزوائد كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، أو هو منصوب بمقدَّرٍ موافِقٍ له، أي: فَنَبَتُّم نباتاً، وكذلك هنا يقال: عَطَوْتُ بمعنى تناولْت. و «غيرَ مَجْذوذ» نَعْتُه. والمجذوذ: المقطوع، ويقال لِفُتات الذهب والفضة والحجارة: «جُذاذ» من ذلك، وهو قريب من الجَدِّ بالمهملة في المعنى، إلا أن الراغب جَعَل جَدَّ بالمهملة بمعنى قَطْع الأرضِ المستوية، ومنه «جَدَّ في سيره يَجِدُّ جَدَّاً» ، ثم قال: «وتُصُوِّر مِنْ جَدَدْتُ [الأرضَ] القَطْعُ المجردُ فقيل: جَدَدْتُ الثوب إذا قطعتَه على وجهِ الإِصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جُعل لكل ما أُحْدِث إنشاؤه» . والظاهرُ أن المادتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرْتُ لهما نظائرَ نحو: عَتَا وعَثا وكثب وكتب.

109

قوله تعالى: {مِّمَّا يَعْبُدُ} : «ما» / في «ممَّا يعبد» وفي «كما يَعبْدُ» مصدريةٌ. ويجوز أن تكونَ الأولى اسميةً دونَ الثانية. قوله: {لَمُوَفُّوهُمْ} قرأ العامة بالتشديد مِنْ وفَّاه مشدداً، وقرأ ابن محيصن «لَمُوْفُوْهم» بالتخفيف مِنْ أَوْفَى، كقوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي} [البقرة: 40] ، وقد تقدَّم في البقرة أنَّ فيه ثلاثَ لغات. قوله: {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حالٌ مِنْ «نصيبهم» ، وفي ذلك احتمالان،

أحدهما: أن تكونَ حالاً مؤكدة، لأنَّ لفظ التوفية يُشْعر بعدم النقص، فقد استفيد معناها مِنْ عاملها وهو شأنُ المؤكدة. والثاني: أن تكونَ حالاً مُبَيِّنة. قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف نُصِبَ» غيرَ منقوص «حالاً عن النصيب المُوَفَّى؟ قلت: يجوز أن يُوَفَّى وهو ناقصٌ ويوفَّى وهو كاملٌ، ألا تَراك تقول:» وَفَّيْتُه شطرَ حَقِّه، وثلثَ حقِّه، وحقَّه كاملاً وناقصاً «، فظاهر هذه العبارة أنها مبيِّنة؛ إذ عاملُها محتملٌ لمعناها ولغيره. إلا أن الشيخ قال بعد كلامه هذا:» وهذه مَغْلَطَة، إذا قال: «وفَّيته شطرَ حَقِّه» فالتوفيهُ وَقَعَتْ في الشطر، وكذا في الثلث، والمعنى: أعطيته الشطرَ والثلثَ كاملاً لم أنقصه شيئاً، وأمَّا قوله: «وحقَّه كاملاً وناقصاً» أمَّا كاملاً فصحيح، وهي حالٌ مؤكدة؛ لأن التوفيةَ تقتضي الإِكمالَ، وأمَّا «وناقصاً» فلا يقال لمنافاته التوفيه «. وفي مَنْع الشيخ أَنْ يُقال:» وَفَّيْتُه حقَّه ناقصاً «نظر، إذ هو شائعٌ في تركيبات الناسِ المعتبرِ قولهم؛ لأن المرادَ بالتوفية مطلقُ التَّأْدية» .

110

قوله تعالى: {فاختلف فِيهِ} : أي في الكتاب، و «في» على بابها من الظرفية، وهو هنا مجاز، أي: في شأنه. وقيل: هي سببية، أي: هو سببُ اختلافهم، كقوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] ، أي: يُكَثِّركم بسببه. وقيل: هي بمعنى على، ويكون الضمير لموسى عليه السلام، أي: فاخْتُلِف عليه. و «مُرِيْب» مِنْ أراب إذا حَصَلَ الرَّيْب لغيره، أو صار هو في نفسه ذا رَيْب، وقد تقدم.

111

قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} : هذه الآيةُ الكريمة

مما تَكَلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً، وعَسُر على أكثرِهم تلخيصُها قراءةً وتخريجاً، وقد سَهَّل اللَّه تعالى، فذكرْتُ أقاويلهم وما هو الراجحُ منها. فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم: «وإنْ» بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وأمَّا «لمَّا» فقرأها مشددةً هنا وفي يس، وفي سورة الزخرف، وفي سورة السمآء والطارق، ابنُ عامر وعاصمٌ وحمزةُ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافاً: فروى عنه هشامٌ وجهين، وروى عنه ابن ذكوان التخفيفَ فقط، والباقون قرؤوا جميع ذلك بالتخفيف. وتلخص من هذا: أنَّ نافعاً وابن كثير قرآ: «وإنْ» و «لَمَا» مخففتين، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خَفَّفَ «إنَّ» وثَقَّل «لمَّا» ، وأن ابن عامر وحمزة وحفصاً عن عاصم شددوا «إنَّ» و «لمَّا» معاً، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدا «إنَّ» وخَفَّفا «لَمَّا» . فهذه أربعُ مراتب للقراء في هذين الحرفين. هذا في المتواتر، وأمَّا في الشاذ، فقد قرىء أربعُ قراءاتٍ أُخَر، إحداها: قراءةُ أُبَيّ والحسن وأبان بن تغلب «وإنْ كل» بتخفيفها، ورفع «كل» ، «لَمَّا» بالتشديد، الثانية: قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم: «لمَّاً» مشددة منونة، ولم يتعرَّضوا لتخفيف «إنَّ» ولا لتشديدها. الثالثة: قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك: «وإنْ كلٌّ إلا» : بتخفيفِ «إنْ» ورفع «

كل» . الرابعة. قال أبو حاتم: «الذي في مُصْحف أبي {وإنْ مِنْ كلٍ إلا لَيُوَفِّيَنَّهم} . هذا ما يتعلَّق بها من جهة التلاوة، أمَّا ما يتعلق بها من حيث التخريجُ فقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً، حتى قال أبو شامة:» وأمَّا هذه الآيةُ فمعناها على القراءات من أشكلِ الآيات، وتسهيلُ ذلك بعون اللَّه أنْ أذكرَ كلَّ قراءةٍ على حِدَتِها وما قيل فيها. فأمَّا / قراءةُ الحَرَمِيَّيْن ففيها إعمال إنْ المخففة، وهي لغة ثانية عن العرب. قال سبويه: «حَدَّثَنا مَنْ نثق به أنه سَمع مِن العرب مَنْ يقول:» إنْ عمراً لمنطلقٌ «كما قالوا: 2711 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأن ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ قال:» ووجهُه مِن القياس أنَّ «إنْ» مُشْبِهَةٌ في نصبها بالفعل، والفعلُ يعمل محذوفاً كما يَعْمل غيرَ محذوف نحو: «لم يكُ زيد منطلقاً» {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} [هود: 109] وكذلك لا أَدْرِ «. قلت: وهذا مذهبُ البصريين، أعني أنَّ هذه الأحرفَ إذا خُفِّف بعضُها جاز أن تعملَ وأن تُهْمَلَ ك» إنْ «، والأكثر الإِهمالُ، وقد أُجْمع عليه في قوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا [مُحْضَرُونَ] } ، وبعضُها يجب إعمالُه ك» أنْ «بالفتح و» كأنْ «، ولكنهما لا يَعْملان في مُظْهَرٍ ولا ضميرٍ بارزٍ إلا ضرورةً، وبعضُها يَجِبُ إهمالُه عند الجمهور ك» لكن «. وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإِهمالَ في «إنْ» المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم، بدليل هذه

القراءة المتواترة. وقد أنشدَ سيبويهِ على إعمالِ هذه الحروفِ مخففةً قولَه: 2712 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ قال الفراء: «لم نَسْمَعِ العربَ تُخَفِّفُ وتَعْمل إلا مع المكنى كقوله: 2713 - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاء سَأَلْتِني ... طلاقَكِ لم أَبْخَلْ وأنتِ صديقُ قال:» لأنَّ المكنى لا يَظْهر فيه إعرابٌ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع «. قلت: وقد تقدَّم ما أنشده سيبويهِ وقولُ الآخر: 2714 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ و [قوله] : 2715 - كأنْ وَرِيْدَيْه رِشاءُ خُلْبِ ... هذا ما يتعلق ب» إنْ «. وأمَّا» لَمَا «في هذه القراءة فاللامُ فيها هي لامُ» إنْ «الداخلةُ في الخبر. و» ما «يجوز أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي واقعةً على مَنْ يَعْقل كقوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] فأوقع» ما «على العاقل. واللام في» ليوفِّيَنَّهم «جوابُ قسمٍ مضمر، والجملةُ مِن القسم وجوابِه صلةٌ للموصول، والتقدير: وإنْ كلاً لَلذين واللَّه ليوفيَّنهم. ويجوز أن

تكونَ هنا نكرةً موصوفةً، والجملةُ القسميةُ وجوابُها صفةٌ ل» ما «والتقدير: وإنْ كلاً لخَلْقٌ أو لفريقٌ واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، والموصولُ وصلتُه أو الموصوفُ وصفتُه خبرٌ ل» إنْ «. وقال بعضُهم: اللامُ الأولى هي الموطِّئةُ للقسَم، ولمَّا اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ فُصِل بينهما ب» ما «كما فُصِل بالألف بين النونين في» يَضْرِبْنانِّ «، وبين الهمزتين في نحو: أأنت. فظاهرُ هذه العبارة أنَّ» ما «هنا زائدةٌ جي بها للفصل إصلاحاً لِلَّفظ، وعبارةُ الفارسي مُؤْذِنَةٌ بهذا، إلا أنه جَعَلَ اللامَ الأولى لامَ» إنْ «فقال:» العُرْفُ أن تُدْخِل لامَ الابتداء على الخبر، والخبرُ هنا هو القَسَمُ وفيه لام تَدْخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللامان والقسمُ محذوفٌ، واتفقا في اللفظ وفي تَلَقِّي القسم، فَصَلوا بينهما كما فَصَلوا بين إنَّ واللام «. وقد صَرَّح الزمخشري بذلك فقال:» واللامُ في «لَمَا» موطِّئةٌ للقسم و «ما» مزيدةٌ «ونَصَّ الحوفيُّ على أنها لام» إنْ «. وقال أبو شامة:» واللامُ في «لَمَا» هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية «وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الفارقةَ إنما يؤتى بها عند التباسِها بالنافية، والالتباسُ إنما يجيء عند إهمالها نحو:» إنْ زيدٌ لقائم «وهي في الآية الكريمة مُعْمَلة فلا التباسَ بالنافية، فلا يُقال إنها فارقة. فتلخَّص في كلٍ من اللام و «ما» ثلاثة أوجه، أحدها: في اللام: أنها للابتداء الداخلة على خبر «إنْ» . الثاني: لامٌ موطئة للقسم. الثالث: أنَّها

جوابُ القسم كُرِّرَتْ تأكيداً. وأحدها في «ما» : أنها موصولة. الثاني: أنها نكرة. الثالث: أنها مزيدة للفصل بين اللامين. وأمَّا قراءةُ أبي بكر ففيها أوجه/، أحدها: ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة البصرة والكوفة، وهو أن الأصل: لَمِنْ ما، بكسر الميم على أنها مِنْ الجارة دخلت على «ما» الموصولة «أو الموصوفة كما تقرَّر، أي: لَمِنَ الذين واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، أو لَمِنْ خَلْقٍ واللَّهِ ليوفِّينَّهم، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنةً قبل ميم» ما «وجب إدغامُها فيها فقُلِبَتْ ميماً، وأُدْغمت فصار في اللفظ ثلاثةُ أمثال، فخُفِّفَتْ الكلمةُ بحذف إحداها فصار اللفظُ كما ترى» لمَّا «. قال نصر ابن علي الشيرازي:» وَصَلَ «مِنْ» الجارة ب «ما» فانقلبت النون أيضاً ميماً للإِدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فَحُذِفت إحداهن، فبقي «لمَّا» بالتشديد «. قال: و» ما «هنا بمعنى» مَنْ «وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} أي مَنْ طاب، والمعنى: وإنْ كلاً مِن الذين ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم» . وقد عَيَّن المهدويُّ الميمَ المحذوفة فقال: «حُذِفت الميمُ المكسورة، والتقدير، لَمِنْ خلقٍ ليوفِّيَنَّهم» . الثاني: ما ذهب إليه المهدويُّ ومكي وهو: أن يكونَ الأصل: لمَنْ ما بفتح ميم «مَنْ» على أنها موصولة أو موصوفة، و «ما» بعدها مزيدةٌ فقال: «

فقلبت النونُ ميماً، وأُدْغمت في الميم التي بعدها، فاجتمع ثلاثُ ميمات، فحُذِفَت الوُسْطى منهن، وهي المبدلةُ من النون، فقيل» لَمَّا «. قال مكي:» والتقدير: وإنْ كلاً لَخَلْقٌ لَيوفينَّهم ربك أعمالهم «، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال:» زَعَمَ بعضُ النحويين أن أصله لمَنْ ما، ثم قلبت النون ميماً، فاجتمعت ثلاثُ ميمات، فَحُذِفت الوسطى «قال:» وهذا القولُ ليس بشيءٍ، لأنَّ «مَنْ» لا يجوز حَذْفُ بعضها لأنها اسمٌ على حرفين «. وقال النحاس:» قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأنه تُحْذف النونُ مِنْ «مَنْ» فيبقى حرفٌ واحد «. وقد رَدَّه الفارسيُّ أيضاً فقال:» إذ لم يَقْوَ الإِدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو «قدم مالك» فأَنْ لا يجوزُ الحَذْفُ أَجْدَرُ «قال:» على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعَتْ في الإِدغام أكثرَ ممَّا كانَتْ تجتمع في «لَمَنْ ما» ولم يُحذفْ منها شيءٌ، وذلك في قولِه تعالى: {وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48] ، فإذا لم يُحْذَفْ شيءٌ مِنْ هذا فأن لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ «. قلت: اجتمع في» أمم ممَّن مَعَك «ثمانيةُ ميماتٍ وذلك أن» أمماً «فيها ميمان وتنوين، والتنوين يُقْلب ميماً لإِدغامه في ميم» مِنْ «ومعنا نونان: نونُ مِنْ الجارة ونون مَنْ الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإِدغامهما في الميم بعدهما، ومعنا ميم» معك «، فحَصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظٌ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين، واثنتان نون. واستدلَّ الفراء على أن أصل» لَمَّا «» لمِنْ ما «بقول الشاعر:

2716 - وإنَّا لمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضَرْبَةً ... على رأسِه تُلقي اللسانَ من الفم وبقول الآخر: 2717 - وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه ... إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ قلت: وقد تقدَّم في سورة آل عمران في قراءة مَنْ قرأ {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم} [آل عمران: 81] بتشديد» لمَّا «أن الأصل:» لمن ما «فَفُعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف في سورته، وذكرْتُ ما قاله الناسُ فيه، فعليك بالنظر فيه. وقال أبو شامة:» وما قاله الفراء استنباطٌ حسنٌ وهو قريبٌ من قولهم: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38] إن أصله: لكن أنا، ثم حُذِفت الهمزة، وأُدْغِمَتِ النونُ في النون، وكذا قولهم: «أمَّا أنت منطلقاً انطلقت، قالوا: المعنى لأِنْ كنتَ منطلقاً» . قلت: وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه ليس فيه حَذْفٌ البتةَ، وإنما كان يَحْسُنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ، ثم حُذف، وأمَّا مجرَّدُ التنظير بالقلبِ والإِدغامِ فغيرُ طائلٍ. ثم قال أبو شامة: «وما أحسنَ ما استخرج الشاهد من البيت» يعني الفراء، ثم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتَي/ التخفيف والتشديدِ مِنْ «لمَّا» في معنى واحد فقال: «ثُمَّ تُخَفَّفُ كما قرأ بعض القراء {والبغي يَعِظُكُمْ} [النحل: 90] .

بحذف الياء عند الياء، أنشدني الكسائي: 2718 - وأَشْمَتَّ العُداةَ بنا فأَضْحَوا ... لَدَيْ يَتباشَرُون بما لَقِينا فحذف ياءَه لاجتماع الياءات» . قلت: الأَوْلى أن يُقال: حُذِفت ياءُ الإِضافة مِنْ «لديّ» فبقيت الياءُ الساكنةُ قبلَها المنقلبةُ من الألف في «لدى» وهو مِثْلُ قراءةِ مَنْ قرأ {يابني} بالإِسكان على ما سَبَق، وأمَّا الياء مِنْ «يتباشرون» فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة. ثم قال الفراء: «ومثلُه: 2719 - كأنَّ مِنْ آخِرِها إلقادِمِ ... يريد: إلى القادم، فحذف اللام عند اللام» . قلت: توجيهُ قولهم: «من آخرها إلقادم» أن ألف «إلى» حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، وذلك أن ألف «إلى» ساكنة ولام التعريف من «القادم» ساكنةٌ، وهمزةُ الوصل حُذِفت دَرْجاً، فلمَّا التقيا حُذِف أولهما فالتقى لامان: لامُ «إلى» ولامُ التعريف، فحُذِفت الثانيةُ على رأيه، والأَوْلى حَذْفُ الأُوْلى؛ لأنَّ الثانيةَ دالة على التعريف لم يَبْقَ مِنْ حرف «إلى» غير الهمزة فاتصلت بلام «القادم» فبقيَتِ الهمزةُ على كسرها، فلهذا تَلَفَّظ بهذه الكلمة مِنْ آخرها: «ءِ القادم» بهمزة مكسورةٍ ثابتة درجاً لأنها همزةُ القطع.

قال أبو شامة: «وهذا قريبٌ مِنْ قولهم» مِلْكذب «و» عَلْماءِ بنو فلان «و» بَلْعنبر «يريدون: من الكذب، وعلى الماء بنو فلان، وبنو العنبر» . قلت: يريد قوله: 2720 - أبْلِغْ أبا دَخْتنوسَ مَأْلُكَةً ... غيرُ الذي [قد] يُقال مِلْكذب وقول الآخر: 2721 - فما سَبَقَ القَيْسِيَّ مِن سُوءِ فِعْلِهِ ... ولكنْ طَفَتْ عَلْماءِ غُرْلَةُ خالدِ وقد ردَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ نونَ «مِنْ» لا تُحْذف إلا في ضرورة وأنشد: مِلكذبِ. الثالث: أنَّ أصلَها «لَما» بالتخفيف ثم شُدِّدت، وإلى هذا ذهب أبو عثمان. قال الزجاج: «وهذا ليس بشيءٍ لأنَّا لَسْنا نُثَقِّل ما كان على حرفين، وأيضاً فلغةُ العرب على العكس من ذلك يُخَفِّفون ما كان مثقَّلاً نحو:» رُبَ «في» رُبَّ «. وقيل في توجيهه: إنما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً، والميم هنا حشوٌ لأن الألف بعدها، إلا أن يقال: إنه أجرى الحرف المتوسط مُجرى المتأخر كقوله: 2722 - ... مثلَ الحريقِ وافَقَ القَصَبَّا

يريد: القصبَ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّد منها ألف، وضعَّف الحرف، وكذلك قوله: 2723 - ببازِلٍ وَجْناءَ أو عَيْهَلِّي ... شدَّد اللام مع كونِها حَشْواً بياء الإِطلاق. وقد يُفَرَّق بأن الألف والياء في هذين البيتين في حكم المطَّرح، لأنهما نشآ من حركةٍ بخلافٍ ألف» لما «فإنها أصليةٌ ثابتة، وبالجملة فهو وجهٌ ضعيفٌ جداً. الرابع: أن أصلَها» لَمَّاً «بالتنوين ثم بُني منه فَعْلى، فإنْ جَعَلْتَ ألفَه للتأنيث لم تصرِفْه، وإنْ جَعَلْتَها للإِلحاق صَرَفْتَه، وذلك كا قالوا في» تَتْرى «بالتنوين وعدمِه، وهو مأخوذٌ مِنْ قولك لَمَمْتُه أي: جَمَعْته، والتقدير: وإنْ كلاً جميعاً ليوفِّينَّهم، ويكون» جميعاً «فيه معنى التوكيد ككل، ولا شك أن» جميعاً «يفيد معنى زائداً على» كل «عند بعضهم. قال:» ويدل على ذلك قراءةُ مَنْ قرأ «لمَّاً» بالتنوين «. الخامس: أن الأصل» لَمَّاً «بالتنوين أيضاً، ثم أَبْدل التنوينَ ألفاً وقفاً، ثم أَجْرى الوصل مُجْرى الوقف. وقد مَنَع من هذا الوجهِ أبو عبيد قال:» لأن ذلك إنما يجوز في الشعر «يعني إبدالَ التنوين ألفاً وصلاً إجراءً له مُجْرى الوقف، وسيأتي توجيهُ قراءةِ» لَمَّاً «بالتنوين بعد ذلك. وقال أبو عمرو ابن الحاجب: «استعمالُ» لَمَّا «في هذا المعنى بعيد، وحَذْفُ التنوين مِنْ المنصرف في الوصل أبعدُ، فإن قيل: لَمَّاً فَعْلى من اللَّمِّ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث، والمعنى فيه مثل معنى» لمَّاً «المنصرف

فهو أبعدُ، إذ لا يُعرف» لمَّا «فعلى بهذا المعنى ولا بغيره، ثم كان يلزَمُ هؤلاء أن يُميلوا كمَنْ أمال، وهو خلافُ الإِجماع، وأن يكتبوها بالياء، وليس ذلك بمستقيم» . السادس: أنَّ «لَمَّا» زائدة كما تزاد «إلا» قاله أبو الفتح وغيرُه، وهذا وجهٌ لا اعتبارٌ به فإنه مبنيٌّ على وجه ضعيف أيضاً، وهو أنَّ «إلا» تأتي زائدةً. السابع: أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمنزلة «ما» ، و «لمَّا» بمعنى «إلا» فهي كقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا} [الطارق: 4] أي: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها، {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ} [الزخرف: 35] أي: ما كل ذلك إلا متاع/. واعتُرِض على هذا الوجه بأنَّ «إنْ» النافية لا تَنْصِبُ الاسمَ بعدها، وهذا اسمٌ منصوب بعدها. وأجاب بعضهم عن ذلك بأن «كلاً» منصوبٌ بإضمار فعلٍ، فقدَّره قومٌ منهم أبو عمر ابن الحاجب: وإنْ أرى كلاً، وإن أعلمُ، ونحوه، قال: «ومِنْ ههنا كانت أقلَّ إشكالاً مِنْ قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجهَ الذي هو غيرُ مستبعَدٍ ذلك الاستبعاد، وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النفي استبعادٌ، ولذلك اختلُفِ في مثلِ قوله: 2724 - ألا رجلاً جزاه اللَّه خيراً ... يَدُلُّ على مُحَصِّلةٍ تَبيتُ هل هو منصوب بفعلٍ مقدَّر أو نُوِّن ضرورةً؟ فاختار الخليلُ إضمارَ الفعلِ، واختار يونس التنوين للضرورة» ، وقدَّره بعضهم بعد «لمَّا» مِنْ لفظ «

ليُوَفِّينَّهم» والتقدير: وإن كلاً إلا ليوفِّيَنَّ ليوفِّينَّهم. وفي هذا التقدير بُعْدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد «إلا» لا يعمل فيما قبلها. واستدلَّ أصحابُ هذا القول أعني مجيء «لَمَّا» بمعنى «إلا» بنص الخليل وسيبويه على ذلك، ونصره الزجاج، قال بعضهم: «وهي لغة هُذَيْل يقولون: سألتك باللَّه لمَّا فعلت أي: إلا فعلت» . وقد أنكر الفراء وأبو عبيد ورودَ «لمَّا» بمعنى إلا، قال: أبو عبيد: «أمَّا مَنْ شدَّد» لمَّا «بتأويل» إلا «فلم نجدْ هذا في كلامِ العرب، ومَنْ قال هذا لزمه أن يقولَ:» قام القوم لمَّا أخاك «يريد: إلا أخاك، وهذا غيرُ موجودٍ» . وقال الفراء: «وأمَّا مَنْ جَعَلَ» لَمَّا «بمنزلة» إلا «فهو وجهٌ لا نعرفه، وقد قالت العربُ في اليمن:» باللَّه لمَّا قمت عنا «، و» إلا قمت عنا «، فأمَّا في الاستثناء فلم نَقُلْه في شعر ولا في غيره، ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعْتَ في الكلام: ذهب الناس لمَّا زيداً» . فأبو عبيد أنكر مجيء «لمَّا» بمعنى «إلا» مطلقاً، والفراء جَوَّز ذلك في القسم خاصةً، وتبعه الفارسي في ذلك فإنه قال في تشديد «لمَّا» في هذه الآية: «لا يصلح أن تكون بمعنى» إلا «؛ لأن» لَمَّا «هذه لا تفارق القسم» وردَّ الناس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه، وبأنها لغة هُذَيْل مطلقاً، وفيه نظرٌ، فإنهم لمَّا حَكَوا اللغة الهذيلية حَكَوْها في القسم كما تقدم مِنْ نحو: «نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت» و «أسألك باللَّه لمَّا فعلت» . وقال أبو علي أيضاً

مستشكلاً لتشديد «لمَّا» في هذه السورة على تقدير أن «لمَّا» بمعنى «إلا» لا تختص بالقسم ما معناه: أن تشديد «لمَّا» ضعيف سواء شددت «إن» أم خَفَّفْت، قال: «لأنه قد نُصِب بها» كلاً «، وإذا نُصب بالمخففة كانت بمنزلة المثقلة، وكما لا يَحْسُن:» إنَّ زيداً إلا منطلق «، لأن الإِيجابَ بعد نفي، ولم يتقدَّمْ هنا إلا إيجابٌ مؤكد، فلذا لا يَحْسُن: إن زيداً لَمَّا مُنْطلق» لأنه بمعناه، وإنما ساغ: «نَشَدْتُك اللَّهَ إلا فعلت ولمَّا فعلت» لأنَّ معناه الطلب، فكأنه قال: ما أطلب منك إلا فِعْلك، فحرفُ النفي مرادٌ مثل: {تَالله تَفْتَؤُاْ} [يوسف: 85] ، ومَثَّل ذلك أيضاً بقولهم: «شَرٌ أهرُّ ذاناب» أي: ما أهرَّه إلا شرٌّ، قال: «وليس في الآية معنى النفي ولا الطلبِ. وقال الكسائي:» لا أعرف وجه التثقيل في لمَّا «. قال الفارسي:» ولم يُبْعِدْ فيما قال «. ورُوي عن الكسائي أيضاً أنه قال:» اللَّه عَزَّ وجَلَّ أعلمُ بهذه القراءة، لا أعرف لها وجهاً «. الثامن: قال الزجاج:» قال بعضهم قولاً ولا يجوزُ غيرُه: «إنَّ» لمَّا «في معنى إلا، مثل {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] ثم أَتْبَع ذلك بكلام طويل مشكل حاصِلُه يَرْجِع إلى أن معنى» إنْ زيدٌ لمنطلق «: ما زيد إلا منطلق، فَأَجْرَيْتَ المشددة كذلك في هذا المعنى إذا كانت اللام في خبرها، وعملُها النصبَ في اسمها باقٍ بحاله مشددةً ومخففةً، والمعنى نفيٌ ب» إنْ «وإثباتٌ باللام التي بمعنى إلا، ولَمَّا بمعنى إلا» . قلت: قد تقدَّم إنكارُ أبي علي على جوازِ «إلا» في مثلِ هذا التركيب فكيف يجوز «لمَّا» التي بمعناها؟ وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه، أحدها: أنها «إنَّ»

المشددةَ على حالها، فلذلك نُصب ما بعدها على أنه اسمُها، وأمَّا «لمَّا» فالكلامُ فيها كما تقدم مِنْ أنَّ الأصلَ «لَمِنْ ما» بالكسر أو «لَمَنْ ما» بالفتح، وجميعُ تلك الأوجهِ التي ذكرْتُها تعودُ ههنا. والقولُ بكونها بمعنى «إلا» مُشْكِلٌ كما تقدَّم تحريرُه عن أبي علي هنا. الثاني: قال المازنيٌّ: «إنَّ» هي المخففة ثُقِّلَتْ، وهي نافيةٌ بمعنى «ما» كما خُفِّفَتْ «إنَّ» ومعناها المثقلة و «لَمَّا» بمعنى «إلا» . وهذا قولٌ ساقطٌ جداً لا اعتبارَ به، لأنه لم يُعْهَدْ تثقيلُ «إنْ» النافية، وأيضاً ف «كلاً» بعدها منصوبٌ، والنافيةُ لا/ تَنْصِبُ. الوجه الثالث: أنَّ «لَمَّا» هنا هي الجازمة للمضارع حُذِف مجزومُها لفهم المعنى. قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه: «لمَّا» هذه هي الجازمةُ فحُذِف فِعْلُها للدلالةِ عليه، لِما ثبت من جواز حَذْفِ فِعْلِها في قولهم: «خَرَجْتُ ولمَّا» و «سافرتُ ولمَّا» وهو شائعٌ فصيح، ويكون المعنى: وإنَّ كلاً لمَّا يُهْمَلوا أو يُتْرَكوا لِما تقدَّم من الدلالةِ عليه مِنْ تفصيل المجموعين بقوله {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] ، ثم فَصَّل الأشقياءَ والسعداء، ومجازاتَهم، ثم بَيَّن ذلك بقولِه {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} ، قال: «وما أعرفُ وجهاً أشبهَ مِنْ هذا، وإن كانت النفوسُ تستبعده مِنْ جهةِ أن مثلَه لم يَرِدْ في القرآن» ، قال: «والتحقيقُ يأبى استعبادَه» . قلت: وقد نَصَّ النحويون على أن «لمَّا» يُحذف

مجزومُها باطِّراد، قالوا: لأنها لنفيِ قد فَعَلَ، وقد يُحذف بعدها الفعل كقوله: 2725 - أَفِدُ الترحل غيرَ أن رِكابَنا ... لَمَّا تَزُل برحالِنا وكأنْ قَدِ أي: وكأن قد زالت، فكذلك مَنْفِيُّه، وممَّن نَصَّ عليه الزمخشري، عَلى حَذْفِ مجزومها، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب «معاني الشعر» له قولَ الشاعر: 2726 - فجِئْتُ قبوَرُمْ بَدْءاً ولمَّا ... فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ قال: «قوله» بدءاً «، أي: سيداً، وبَدْءُ القوم سيِّدهم، وبَدْءُ الجَزْور خيرُ أَنْصِبائها، قال:» وقوله «ولما» ، أي: ولما أكنْ سَيِّداً إلا حينَ ماتوا فإني سُدت بعدهم، كقول الآخر: 2727 - خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ ... ومن العَناءِ تَفُّردي السُّؤْدُدِ قال: «ونظيرُ السكوتِ على» لمَّا «دونَ فعلها السكوتُ على» قد «دونَ فعلِها في قول النابغة: أَفِدَ الترحُّل: البيت» . قلت: وهذا الوجهُ لا خصوصيةً له بهذه القراءة، بل يجيءُ في قراءة مَنْ شدَّد «لمَّا» سواءً شدَّد «إن» أو خفَّفها.

وأمَّا قراءةُ أبي عمرو والكسائي فواضحةٌ جداً، فإنها «إنَّ» المشددة عَمِلَتْ عملها، واللام الأولى لام الابتداء الداخلة على خبر «إنَّ» ، والثانية جواب قسم محذوف، أي: وإنَّ كلاً للذين واللَّهِ ليوفِّينَّهم، وقد تقدَّم وقوعُ «ما» على العقلاء مقرَّراً، ونظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] غير أنَّ اللامَ في «لمَنْ» داخلة على الاسم، وفي «لمَّا» داخلة على الخبر. وقال بعضهم: «ما» هذه زائدة زِيْدت للفصل بين اللامَيْن: لامِ التوكيد ولامِ القسم. وقيل: اللام في «لَمَا» موطئةٌ للقسم مثلَ اللامِ في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، والمعنى: وإنَّ جميعهم واللَّه ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالَهم مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجُحود. وقال الفراء عند ذكره هذه القراءة: «جَعَل» ما «اسماً للناس كما جاز {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] ، ثم جَعَلَ اللامَ التي فيها جواباً لإِنَّ، وجعل اللامَ التي في» ليوفِّيَنَّهم «لاماً دَخَلَتْ على نيةِ يمينٍ فيما بين» ما «وصلتِها كما تقول:» هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ «، و» عندي ما لَغَيْرُه خيرٌ منه «ومثلُه: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] . ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أن اللامَ مكررةٌ فقال:» إذا عَجَّلَت العربُ باللام في غيرِ موضعِها أعادُوها إليه نحو: إنَّ زيداً لإِليك لمُحْسن، ومثله: 2728 -

ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزَّةً ... لبَعْدُ لَقَد لاقيتُ لا بُدَّ مَصْرَعا قال: «أَدْخَلها في» بَعْد «، وليس بموضعِها، وسمعت أبا الجراح يقول:» إني لبحمد اللَّه لصالحٌ «. وقال الفارسي في توجيهِ هذه القراءة:» وجهُها بيِّن وهو أنه نَصَب «كلاً» بإِنَّ، وأدخل لامَ الابتداء في الخبر، وقد دَخَلَتْ في الخبر لامٌ أخرى، وهي التي يُتَلقَّى بها القسم، وتختص بالدخول على الفعل، فلمَّا اجتمعت اللامان فُصِل بينهما كما فُصِل بين «إنَّ» واللامَ، فدخَلَتْها وإن كانَتْ زائدةً للفصل، ومثلُه في الكلام: «إن زيداً لَمَا لينطلقَنَّ» . فهذا ما تلخَّص لي من توجيهاتِ هذه القراءات الأربع، وقد طعن بعض الناس في بعضها بما لا تَحَقُّق له، فلا ينبغي أن يُلْتفت إلى كلامِه، قال المبرد: وهي جرأةٌ منه «هذا لحنٌ» يعني تشديدَ «لمَّا» قال: «لأن العرب لا تقول:» إن زيداً لَمَّا خارج «. وهذا مردودٌ عليه. قال الشيخ: «وليس تركيبُ الآية كتركيبِ المثال الذي قال وهو:» إنَّ زيداً لَمَّا خارج «، هذا المثالُ لحنٌ» /. قلت: إنْ عنى أنه ليس مثلَه في التركيب من كل وجه فمُسَلَّم، ولكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصددِه، وإن عنى أنه ليس مثلَه في كونه دخلت «لمَّا» المشددةُ على خبر إنَّ فليس كذلك بل هو مثلُه في ذلك، فتسليمُه اللحنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ، لأنه يَسْتلزم ما لا يجوز أن يقال. وقال أبو جعفر: «القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النحويين لحن، حُكِيَ عن محمد بن يزيد أنه قال:» إنَّ هذا لا يجوز، ولا يقال: «إنَّ زيداً إلا

لأضربنَّه» ، ولا «لَمَّا لأضربنَّه» . قال: «وقال الكسائي: اللَّهُ عَزَّ وجلَّ أعلم، لا أعرف لهذه القراءة وجهاً» وقد تقدَّم ذلك، وتقدَّم أيضاً أن الفارسي قال: «كما لا يحسن:» إنَّ زيداً إلا لمنطلق «؛ لأنَّ» إلا «إيجاب بعد نفي، ولم يتقدم هنا إلا إيجابٌ مؤكَّد، فكذا لا يحسن» إنَّ زيداً لما منطلق «، لأنه بمعناه، وإنما ساغ» نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت «إلى آخر ما ذكرته عنه. وهذه كلُّها أقوالٌ مرغوبٌ عنها لأنها معارِضة للمتواترِ القطعي. وأمَّا القراءات الشاذة فأوَّلُها قراءةُ أُبَيّ ومَنْ تبعه: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا} بتخفيف» إنْ «ورفع» كل «على أنها إنْ النافية و» كلٌّ «مبتدأ، و» لمَّا «مشددة بمعنى إلاَّ، و» لَيُوَفِّيَنَّهم «جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القسمُ وجوابُه خبرُ المبتدأ. وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهم: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} [يس: 32] ومثلُه: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ} [الزخرف: 35] ، ولا التفاتَ إلى قولِ مَنْ نفى أنَّ» لمَّا «بمنزلةِ إلاَّ فقد تقدَّمَتْ أدلتُه. وأمَّا قراءةُ اليزيدي وابن أرقم» لَمَّاً «بالتشديد منونةً ف» لمَّاً «فيها مصدرٌ مِنْ قولهم:» لَمَمْتُه أي جمعته لمَّاً «، ومنه قولُه تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 19] ثم في تخريجه وجهان، أحدُهما ما قاله أبو الفتح، وهو أن يكونَ منصوباً بقوله:» ليوفينَّهم «على حَدِّ قولِهم:» قياماً لأقومَنَّ، وقعوداً لأقعدَنَّ «والتقدير: توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفِّيَنَّهم، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعاملِه في المعنى دون الاشتقاق.

والثاني: ما قاله أبو عليّ الفارسي وهو: أن يكونَ وصفاً ل» كل «وصفاً بالمصدر مبالغةً، وعلى هذا فيجب أن يقدَّرَ المضافُ إليه» كل «نكرةً ليصحَّ وَصْفُ» كل «بالنكرة، إذ لو قُدِّر المضافُ معرفةً لتعرَّفَتْ» كل «، ولو تَعَرَّفَتْ لامتنع وَصْفُها بالنكرة فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرةً، ونظيرُ ذلك قولُه تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 19] ، فوقع «لمَّا» نعتاً ل «أكلاً» وهو نكرة. قال أبو عليّ: «ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً لأنه لا شيءَ في الكلامِ عاملٌ في الحال» . [وظاهر عبارة الزمخشري أنه تأكيدٌ تابعٌ ل «كلاً» كما يتبعها أجمعون، أو أنه منصوبٌ على النعت ل «كلاً» ] فإنه قال: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} كقوله «أكلاً لمَّاً» ملمومين بمعنى مجموعين، كأنه قيل: وإنْ كلاً جميعاً، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] انتهى. لا يريد بذلك أنه تأكيدٌ صناعيٌّ، بل فَسَّر معنى ذلك، وأراد أنه صفةٌ ل «كلاً» ، ولذلك قَدَّره بمجموعين. وقد تقدَّم لك في بعضِ توجيهات «لَمَّا» بالتشديد من غير تنوين أن المنون أصلُها، وإنما أُجري الوصلُ مجرى الوقف، وقد عُرِف ما فيه. وخبرُ «إنْ» على هذه القراءة هي جملة القسم المقدَّر وجوابه سواءً في ذلك تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.

وأمَّا قراءةُ الأعمش فواضحةٌ جداً وهي مفسرةٌ لقراءة الحسنِ المقتدمة، لولا ما فيها مِنْ مخالفة سواد الخط. وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أُبَي كما نقلها أبو حاتم فإنْ فيها نافية، و «مِنْ» زائدةٌ «في النفي، و» كل «مبتدأ، و» ليوفِّينَّهم «مع قَسَمه المقدَّر خبرُها، فَتَؤُول إلى قراءة الأعمش التي قبلها، إذ يصير التقديرُ بدون» مِنْ «: {وإنْ كلٌ إلا ليوفِّينَّهم} . والتنوين في» كلاً «عوضٌ من المضافِ إليه. قال الزمخشري:» يعني: وإنَّ كلَّهم، وإنَّ جميعَ المختلفين فيه «. وقد تقدَّم أنه على قراءةِ» لَمَّاً «بالتنوين في تخريج أبي علي له لا يُقَدَّر المضافُ إليه» كل «إلا نكرةً لأجل نعتِها بالنكرة. وانظر إلى ما تضمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمة من التأكيد، فمنها: التوكيد ب» إنَّ «وب» كل «وبلام الابتداء الداخلة على خبر» إنَّ «وزيادةِ» ما «على رأيٍ، وبالقسمِ المقدر وباللامِ الواقعةِ جواباً له، وبنون التوكيد، وبكونها مشددةً، وإردافِها بالجملة التي بعدها من قوله {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فإنه يتضمَّن وعيداً شديداً للعاصي ووعداً صالحاً للطائع. وقرأ/ العامَّةُ» يعملون «بياء الغيبة، جرياً على ما تقدَّم مِن المختلفين. وقرأ ابن هرمز» بما تعملون «بالخطاب فيجوز أن يكونَ التفاتاً من غَيْبة إلى خطاب، ويكون المخاطبون هم الغيب المتقدِّمون، ويجوز أن يكونَ التفاتاً إلى خطاب غيرهم.

112

قوله تعالى: {كَمَآ أُمِرْتَ} : الكافُ في محل النصب: إمَّا على النعتِ لمصدرٍ محذوفٍ، كما هو المشهورُ عند المعربين. قال الزمخشري: «أي: استقمْ استقامةً مثلَ الاستقامة التي أُمِرْتَ بها على جادَّة الحقِّ غيرَ عادلٍ عنها» ، وإمَّا على الحال من ضمير ذلك المصدر. واستَفْعَل هنا للطلب كأنه قيل: اطلبْ الإِقامةَ على الدين، قال: «كما تقول: استغفر، أي: اطلب الغفران» . قوله: {وَمَن تَابَ مَعَكَ} في «مَنْ» وجهان أحدهُما: أنَّه منصوبٌ على المفعول معه، كذا ذكره أبو البقاء، ويصير المعنى: استقم مصاحباً لمَنْ تاب مصاحباً لك، وفي هذا المعنى نُبُوٌّ عن ظاهرِ اللفظ. الثاني: أنه مرفوعٌ، فإنه نسق على المستتر في «استقم» ، وأغنى الفصلُ بالجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحةِ العطف، وقد تقدَّم لك هذا البحثُ في قوله {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35] وأنَّ الصحيحَ أنه من عطفِ الجمل لا من عطف المفردات، ولذلك قدَّره الزمخشري: «فاستقم أنت وليستقم مَنْ تاب» فقدَّر الرافعَ له فعلاً لائقاً برفعِه الظاهرَ. وقرأ العامَّةُ {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} بالتاء جرياً على الخطاب المتقدم.

وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي بالياء للغيبة، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكسَ ما تقدم في {بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111] .

113

قوله تعالى: {وَلاَ تركنوا} : قرأ العامَّةُ بفتح التاء والكاف، والماضي من هذا ركِن بكسر العين كعَلِمَ، وهذه هي الفصحى، كذا قال الأزهري. قال غيره: «وهي لغةُ قريش» . وقرأ أبو عمرو في روايةٍ «تِرْكَنوا» ، وقد تقدَّم إتقانُ ذلك أوَل هذا الموضوع. وقرأ قتادة وطلحة والأشهب بن رميلة ورُوِيَتْ عن أبي عمرو «تَرْكُنوا» بضم العين، وهو مضارع رَكَن بفتحها كقَتَل يَقْتُل. وقال بعضهم: «هو من التداخل» يعني أنَّ مَنْ نطق ب «رَكِنَ» بكسر العين قال: «يَرْكُن» بضمها، وكان مِنْ حقه أَنْ يفتح، فلما ضَمَّا عَلِمْنا أنه اسْتَغْنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغتِه، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاء التداخُل بل نَدَّعي أنَّ مَنْ فَتَحَ الكافَ أخذه مِنْ رَكِن بالكسر، ومَنْ ضَمَّها أَخَذَه مِنْ ركَن بالفتح، ولذلك قال الراغب: «والصحيحُ أنْ يُقالَ رَكِنَ يَرْكَن، وركَنَ يَرْكُن، بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي مع الضم في المضارع» . وشَذَّ أيضاً قولُهم رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما وهو من التداخُل، فتحصَّل مِنْ هذا أن يُقَالَ: رَكِن بكسر العين وهي اللغةُ العاليةُ

كما تقدَّم، ورَكَن بفتحها وهي لغةُ قيسٍ وتميم، زاد الكسائي «ونَجْد» ، وفي المضارع ثلاثٌ: الفتحُ والكسرُ والضمُّ. وقرأ ابنُ أبي عبلة «تُرْكَنوا» مبنياً للمفعول مِنْ أَرْكَنه إذا أماله، فهو من باب «لا أُرَيَنَّك ههنا» و {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 2] وقد تقدَّم. والرُّكُون: المَيْل، ومنه الرُّكْنُ للاستناد إليه. قوله: {فَتَمَسَّكُمُ} هو منصوبٌ بإضمار أنْ في جوابِ النهي. وقرأ ابن وثاب وعلقمة والأعمش في آخرين «فتِمَسَّكم» بكسرِ التاء وقد تقدَّم. قوله: {وَمَا لَكُمْ} هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حاليةً، أي: تَمَسَّكم حالَ انتفاءِ ناصركم. ويجوز أن تكون مستأنفة. و «مِنْ أولياء» : «مِنْ» فيه زائدةٌ: إمَّا في الفاعل، وإما في المبتدأ؛ لأن الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ أحدُها النفي رفع الفاعل. قوله: {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} العامَّةُ على ثبوتِ نون الرفعِ لأنه فعلٌ مرفوع، إذ هو من بابِ عطفِ الجمل، عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ. وقرأ زيد بن علي رضي اللَّه عنهما بحذفِ نون الرفع، عطفه على «تمسَّكم» ، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف فتكون معترضةً. وأتى ب «ثمَّ» تنبيهاً على تباعد الرتبة.

114

قوله تعالى: {طَرَفَيِ النهار} : ظرفٌ ل «أَقِمْ» . ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة، كأنه قيل: أي: أقم الصلاة الواقعة في هذين الوقتين،

والطَرَف وإن لم يكن ظرفاً، ولكنه لمَّا أضيف إلى الظرف أُعْرب بإعرابه، وهو كقولك: «أتيته/ أولَ النهار وآخرَه ونصفَ الليل» بنصبِ هذه كلِّها على الظرفِ لمَّا أضيفَتْ إليه، وإن كانت ليسَتْ موضوعةً للظرفية. وقرأ العامَّةُ «زُلَفاً» بضم الزاي وفتح اللام، وهي جمعُ «زُلْفة» بسكون اللام، نحو: غُرَف في جمع غُرْفة، وظُلَم في جمعِ ظُلْمة. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق بضمها، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه جمع زُلْفة أيضاً، والضمُّ للإِتباع، كما قالوا بُسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمة الباء. والثاني: أنه اسمٌ مفرد على هذه الزِّنة كعُنُق ونحوه: الثالث: أنه جمع زَلِيف، قال أبو البقاء: «وقد نُطِق به» ، يعني أنهم قالوا: زَليف، وفَعيل يُجمع على فُعُل نحو: رَغِيف ورُغُف، وقَضِيب وقُضُب. وقرأ مجاهد وابن محيصن بإسكان اللام. وفيها وجهان، أحدهما: أنه يُحتمل أَنْ تكونَ هذه القراءةُ مخففةً مِنْ ضم العين فيكون فيها ما تقدَّم. والثاني: أنه سكونُ أصلٍ من باب اسمِ الجنس نحو: بُسْرة وبُسْر مِنْ غير إتباع. وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضاً في روايةٍ «وزُلْفَى» بزنة «حُبْلَى» ، جَعَلُوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى، لأنَّ المعنى على المنزلة الزلفى، أو الساعة الزلفى، أي: القريبة. وقد قيل: إنه يجوز أن يكونَ أَبْدلا التنوين ألفاً ثم أَجْرَيا الوصل مجرى الوقف، فإنهما يقرآن بسكون اللام

وهو محتمَلٌ. وقال الزمخشري: «والزُّلْفى بمعنى الزُّلْفَة، كما أن القُرْبى بمعنى القُرْبة» ، يعني أنه مما تَعَاقَبَ فيه تاءُ التأنيث وألفه. وفي انتصاب «زُلَفاً» وجهان، أظهرهما: أنه نسقٌ على «طرفي» فينتصب الظرف، إذ المرادُ بها ساعات الليل القريبة. والثاني: أن ينتصبَ انتصابَ المفعول به نسقاً على الصلاة. قال الزمخشري: بعد أن ذكر القراءاتِ المتقدمة «وهو ما يقرب مِنْ آخر النهار ومن الليل، وقيل: زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل، وحَقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أي: أقم الصلاة طرفي النهار، وأقم زُلَفاً من الليل، على معنى: صلوات تتقرَّب بها إلى اللَّه عز وجل في بعض الليل» . والزُّلْفَةُ: أولُ ساعات الليل، قاله ثعلب. وقال الأخفش وابن قتيبة: «الزُّلَف: ساعاتُ الليل وآناؤه، وكل ساعةٍ منه زُلْفَة» فلم يُخَصِّصاه بأول الليل. وقال العجَّاج: 2729 - ناجٍ طواه الأَْيْنُ مِمَّا وَجَفا ... طَيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفا سَماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوْقَفا ... وأصلُ الكلمة مِنْ «الزُّلْفَى» وهو القُرْب، يقال: أَزْلَفه فازْدَلَفَ، أي: قَرَّبه فاقتربَ. قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين} [الشعراء: 64] وفي الحديث: «

ازْدَلِفوا إلى اللَّه بركعتين» وقال الراغب: «والزُّلْفَةُ: المَنْزِلَةُ والحُظْوَة، وقد اسْتُعْمِلت الزُّلْفَة في معنى العذاب كاستعمال البِشارة ونحوها، والمزالِفُ، المَراقي، وسُمِّيَتْ ليلةَ المزدلفة لقُرْبهم مِنْ مِنى بعد الإِفاضة» . وقوله: {مِّنَ الليل} صفةٌ ل «زُلَفاً» .

116

قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ} : «لولا» تحضيضيةٌ دخلها معنى التفجُّع عليهم، وهو قريبٌ مِنْ مجازِ قوله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] . وما يروى عن الخليل أنه قال: «كلُّ» لولا «في القرآن فمعناها» هَلاَّ «إلا التي في الصافَّات: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ [كَانَ مِنَ المسبحين] } [الآية: 143] ، لا يصح عنه لورودها كذلك في غير الصافات: {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ} [القلم: 49] {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} [الفتح: 25] ، {وَلَوْلاَ رِجَالٌ} [الإسراء: 74] . و» مِن القُرون «: يجوزُ أن يتعلق ب» كان «لأنها هنا تامة، إذ المعنى: فهلاَّ وُجِد من القرون، أو حَدَث، ونحو ذلك، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» أُولو بَقِيَّة «لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً له. و» مِنْ قبلكم «حال من» القرون «و» يَنْهَوْن «حالٌ من» أولو بقية «لتخصُّصه بالإِضافة، ويجوز أن يكون نعتاً ل» أُولوا بقية «وهو أولى. ويَضْعُفُ أن تكونَ» كان «هذه ناقصةً لبُعد المعنى مِنْ ذلك، وعلى تقديرِه يتعيَّن تَعَلُّق» من القرون «بالمحذوف على أنه حالٌ، لأنَّ» كان «الناقصة لا تعمل عند جمهور النحاة، ويكون» يَنْهَوْن «في محل نصب خبراً ل» كان «.

وقرأ العامَّة:» بَقِيَّة «بفتح الباء وتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أنها صفةٌ على فَعيلة للمبالغة بمعنى فاعل، ولذلك دخلت التاءُ فيها، والمرادُ بها حينئذٍ جُنْدُ الشيء وخياره، وإنما قيل لجنده وخياره» بقيَّة «في قولهم:» فلان بقيةُ الناس، وبقيةُ الكرام، لأن الرجلَ يَسْتَبْقي ممَّا يُخْرِجه أجودَه وأفضلَه، وعليه حُمل بيت الحماسة: 2730 - إنْ تُذْنِبُوا ثم تَأْتِيني بقيَّتُكم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي المثل «في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا» . والثاني: أنها مصدرٌ بمعنى البقوى. قال الزمخشري: «ويجوز أن تكونَ البقيَّة بمعنى البقوى، كالتقيَّة بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط اللَّه وعقابه» . وقرأ فرقةٌ/ «بَقِيَة» بتخفيف الياء وهي اسمُ فاعلٍ مِنْ بقي كشَجِيَة مِنْ شَجِي، والتقدير: أولو طائفةٍ بَقِيةٍ أي: باقية. وقرأ أبو جعفر وشيبة «بُقْية» بضم الفاء وسكون العين. وقُرىء «بَقْيَة» على المَرَّة من المصدر. و «في الأرض» متعلقٌ بالفَساد، والمصدرُ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الفساد» . قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} فيه وجهان، أحدهما؛ أن يكون استثناءً منقطعاً، وذلك أن يُحمل التحضيضُ على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعيَّن أن يكونَ الاستثناء منقطعاً لئلا يفسُدَ المعنى. قال الزمشخري: «معناه: ولكن قليلاً

ممَّن أَنْجَيْنا مِن القرون نُهوا عن الفساد، وسائرُهم تاركوا النهي» . ثم قال. «فإن قُلْتَ: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يُحْمَلُ عليه؟ قلت: إن جَعَلْتَه متصلاً على ما عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسداً؛ لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم، كما تقول: هلا قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم، تريد استثناء الصلحاء من المُحَضَّضين على قراءة القرآن» . قلت: لأن الكلام يَؤُول إلى أنَّ الناجين لم يُحَضُّوا على النهي عن الفساد، وهو معنىً فاسدٌ. والثاني: أن يكونَ متصلاً، وذلك بأن يُؤَوَّل التحضيضُ بمعنى النفي فيصحَّ ذلك، إلا أنه يؤدِّي إلى النصب في غير الموجَب، وإن كان غيرُ النصب أولى. قال الزمخشري: «فإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفسادِ معنى نَفْيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرونِ أولو بقيةٍ إلا قليلاً كان استثناءٌ متصلاً ومعنى صحيحاً، وكان انتصابُه على أصلِ الاستثناء، وإن كان الأفصحُ أن يُرْفعَ على البدل» قلت: ويؤيد أن التحضيض هنا في معنى النفي قراءةُ زيد بن علي «إلا قليلٌ» بالرفع، لاحظ معنى النفي فأبدل على الأفصح، كقولِه: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] . وقال الفراء: «المعنى: فلم يكن، لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْد» سَمَّى التحضيض استفهاماً. ونُقِل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّنَ اتصال هذا الاستثناء، كأنه لَحَظَ النفيَ. و «مِن» في «مِمَّنْ أَنْجَيْنا» للتبعيض. ومنع الزمخشري أن تكونَ

للتبعيض، بل للبيان فقال: «حقُّها أن تكون للبيان لا للتبعيض؛ لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله عز وجل: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] . قلت: فعلى الأول يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل» قليلاً «، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوف على سبيل البيان، أي: أعني. قوله: {واتبع} العامَّةُ على» أتَّبع «بهمزة وصل وتاءٍ مشددة، وباء، مفتوحتين، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل، وفيه وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على مضمر، والثاني: أن الواوَ للحال لا للعطف، ويتضح ذلك بقول الزمخشري:» فإن قلت: علامَ عَطَف قوله: {واتبع الذين ظَلَمُواْ} قلت: إنْ كان معناه: «واتَّبعوا الشهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأن المعنى: إلا قليلاً مِمَّن أنجينا منهم نُهُوا عن الفساد، واتَّبع الذين ظلموا شَهواتِهم، فهو عطفٌ على» نُهوا «وإن كان معناه: واتَّبعوا جزاء الإِتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أَنْجَيْنا القليل، وقد اتَّبَعَ الذين ظَلَموا جزاءهم» . قلت: فجوَّز في قولِه: «ما أُتْرفوا» وجهين أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ غيرِ حذفِ مضاف، و «ما» واقعة على الشهوات وما بَطِروا بسببه من النِّعَم، والثاني: أنه على حَذْفِ مضاف، أي: جزاء ما أترفوا، ورتَّب على هذين الوجهين القولَ في «واتَّبع» كما عرفت. والإِتراف: إفعالٌ من التَّرف وهو النعمة يُقال: صبيٌّ مُتْرَفٌ، أي: مُنْعَم البدن، وأُتْرفوا: نَعِموا. وقيل: التُّرْفة: التوسُّع في النِّعْمة.

وقرأ أبو عمرو في روايةِ الجعفي وجعفر «وأُتبع» بضم همزة القطعِ وسكونِ التاء وكسر الباء مبنياً للمفعول، ولا بد حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف، أي: أُتْبِعوا جزاء ما أُتْرفوا فيه. و «ما» يجوز أن تكونَ بمعنى الذي، وهو الظاهرُ لعَوْد الضمير في «فيه» عليه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي: جزاءَ إترافهم. قوله: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن تكونَ عطفاً على «أُتْرِفُوا» إذا جعلنا «ما» مصدريةً، أي: اتَّبَعوا إترافهم وكونَهم مجرمين. والثاني: أنه عطفٌ على «اتَّبع» ، أي: اتَّبعوا شهواتِهم وكانوا مجرمين بذلك؛ لأنَّ/ تابع الشهوات مغمورٌ بالآثام. الثالث: أن يكونَ اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قومٌ مجرمون، ذكر ذلك الزمخشريُّ. قال الشيخ: «ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحو؛ لأنه آخرُ آيةٍ فليس بين شيئين يحتاج أحدُهما إلى الآخرِ» .

117

قوله تعالى: {لِيُهْلِكَ} : فيه الوجهان المشهوران، وهما زيادةُ اللامِ في خبر كان دلالةً على التأكيد كما هو رأي الكوفيين أو كونُه متعلقةً بخبر كان المحذوف، وهو مذهبُ البصريين. و «بظلمٍ» متعلق ب «يُهْلك» والباءُ سببيةٌ. وجوَّز الزمخشري أن تكونَ حالاً من فاعل «ليُهْلِكَ» . وقوله: «وأهلُها مُصْلحون» جملة حالية.

119

قوله تعالى: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} : ظاهرُه أنه متصلُ وهو استثناءٌ مِنْ فاعل «يَزالون» أو من الضمير في «مختلفين» . وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً، أي: لكن مَنْ رَحِمَ لم يختلفوا، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك. و «لذلك» في المشار إليه أقوال كثيرة أظهرها: أنه الاختلافُ المدلولُ عليه بمختلفين كقوله:

2731 - إذا نُهي السَّفيهُ جرى إليه ... وخالفَ، والسَّفيهُ إلى خلافِ رَجَعَ الضميرُ من «إليه» على السَّفَه المدلولِ عليه بلفظ «السَّفيه» ، ولا بدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ على هذا، أي: ولثمرة الاختلاف خَلَقَهم. واللامُ في الحقيقة للصيرورة، أي: خَلَقَهم ليصير أكثرهم إلى الاختلاف. وقيل: المراد به الرحمة المدلول عليها بقوله: «رحم» وإنما ذُكِّر ذهاباً بها إلى الخير. وقيل: المرادُ به المجموعُ منهما، وإليه نحا ابنُ عباس كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وقيل: إشارةٌ إلى ما بعده من قوله: «وتَمَّت كلَّمة ربك، ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو قول مرجوح؛ لأن الأصلَ عدمُ ذلك. وقوله:» أجمعين «تأكيد، والأكثر أن تُسْبَقَ ب» كل «وقد جاء هنا دونَها. والجِنَّةُ والجِنُّ: قيل: واحد، والتاءُ فيه للمبالغة. وقيل: الجنَّة جمع جِنّ، وهو غريبٌ، فيكون مثل كَمْء للجمع وكَمْأة للواحد.

120

قوله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ} : في نصبه أوجه، أحدها: أنه مفعولٌ به والمضاف إليه محذوفٌ، عُوِّض منه التنوين، تقديره: وكل نبأ نَقُصُّ عليك. و «مِنْ أنباء» بيانٌ له أو صفة إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة. وقوله: «ما نُثَبِّتُ» يجوز أن يكونَ بدلاً من «كلاً» ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هو ما نثبِّت، أو منصوبٌ بإضمار أعني. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ، أي: كلَّ اقتصاصٍ نَقُصُّ، و «مِنْ أنباء» صفةٌ أو بيان، و «ما نُثَبِّت» هو مفعول «نَقُصُّ» . الثالث: كما تقدَّم، إلا أنه بجَعْل «ما» صلةً، والتقدير: «وكلاً نَقُصُّ

من أنباء الرسل نُثَبِّت به فؤادك، كذا أعربه الشيخ وقال: كهي في قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] . الرابع: أن يكون» كلاً «نصباً على الحال من» ما نُثَبِّت «وهي في معنى جميعاً. وقيل: بل هي حال من الضمير في» به «. وقيل: بل هي حال من» أنباء «، وهذان الوجهان إنما يجوزان عند الأخفش، فإنه يُجيز تقديم حالِ المجرورِ بالحرف عليه، كقوله تعالى: {والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] في قراءةِ مَنْ نصب» مَطْويات «وقول الآخر: 2732 - رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحْقبي أَدْراعهم ... فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذار وإعراب باقي السورة واضح ممَّا تقدم.

123

وقرأ نافع وحفص «يُرجع» مبنياً للمفعول، والباقون مبنياً للفاعل. ونافع وابن عامر وحفص على «تَعْملون» بالخطاب لأنَّ قبله «اعملوا» والباقون بالغيبة رجوعاً على قوله: {لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، وهذا الخلاف أيضاً في آخر النمل.

يوسف

قد تَقَدَّم الكلامُ على نحوِ قولِه «تلك آياتُ» في أول يونس.

2

قوله تعالى: {قُرْآناً} : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ بدلاً من ضمير «أَنْزَلْناه» ، أو حالاً مُوَطِّئةً منه، والضميرُ في «أَنْزَلْناه» على هذين القولين يعودُ على «الكتاب» . وقيل: «قُرْآناً» مفعولاٌ به والضميرُ في «أَنْزلْناه» ضميرُ المصدر. و «عربيَّاً» نعتٌ للقرآن. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً مِنَ الضمير في «قُرْآناً» إذا تحمَّل ضميراً، يعني إذا جَعَلْناه حالاً مُؤَوَّلاً بمشتق، أي: أَنْزَلْناه مُجْتَمِعاً في حال كونِ عربيَّاً. والعربيُّ منسوب للعرب لأنه نَزلَ بلغتِهم. وواحدُ العَرَبِ عربيٌ، كما أن واحدَ الرومِ روميٌّ. وعَرَبةُ بفتح الراء ناحيةُ دارِ إسماعيلَ النبيِّ عيله السلام. قال الشاعر:

2377 - وعَرْبَةُ أرضٌ ما يُحِلُّ حرامَها ... مِنَ الناسِ إلا اللَّوْذَعِيُّ الحُلاحِلُ سكَّن راءَها ضرورةً، فيجوز أن يكونَ العربيُّ منسوباً إلى هذه البقعة.

3

قوله تعالى: {أَحْسَنَ القصص} : في انتصاب «أحسنَ» وجهان، [أحدهما] : أن يكونَ/ منصوباً على المفعول به، ولكنْ إذا جَعَلْتَ القصصَ مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ كالخَلْق بمعنى المَخْلوق، أو جعَلْتَه فَعَلاً بمعنى مفعول كالقَبَضِ والنَّقَص بمعنى المَنْقُوص والمقبوض، أي: نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الأشياءِ المقتصَّة. والثاني: أن يكونَ منصوباً على المصدرِ المُبَيِّنِ، إذا جَعَلْتَ القصصَ مصدراً غيرَ مرادٍ به المفعولُ، ويكون المقصوصُ على هذا محذوفاً، أي: نَقُصُّ عليك أحسنَ الاقتصاص. و «أَحْسَنَ» يجوز أن تكونَ أفْعَل تفضيلٍ على بابها، وأن تكونَ لمجرَّدِ الوصفِ بالحُسْن، وتكون من بابِ إضافة الصفةِ لموصوفِها، أي: القصص الحسن. قوله: {بِمَآ أَوْحَيْنَآ} الباءُ سببيةٌ، وهي متعلقةٌ ب «نَقُصُّ» و «ما» مصدريةٌ، أي: بسبب إيحائنا. قوله: {هذا القرآن} يجوز فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهرُ أن ينتصبَ على المفعولِ به ب «أَوْحَيْنا» . والثاني: أن تكون المسألةُ من بابِ التنازع، أعني بين «نَقُصُّ» وبين «أَوْحَيْنا» فإنَّ كلاًّ منهما يطلبُ «هذا القرآن» ، وتكونُ المسألةُ من إعمال الثاني، وهذا إنما يتأتى على جَعْلِنا «أَحْسَنَ» منصوباً على المصدرِ، ولم نُقَدِّرْ ل «نَقُصُّ» مفعولاً محذوفاً.

قوله: «وَإِن كُنتَ» إلى آخره تقدَّمه نظيرُه.

4

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ} : في العاملِ فيه أوجهٌ، أظهرها: أنه منصوبٌ ب {قَالَ يابني} [يوسف: 5] ، أي: قال يعقوب: يا بُنَيَّ، وقتَ قولِ يوسفَ له كيت وكيت، وهذا أسهلُ الوجوهِ، إذ فيه إبقاءُ «إذ» على كونِه ظرفاً ماضياً. وقيل: الناصبُ له «الغافلين» قاله مكي. وقيل: هو منصوبٌ ب «نَقُصُّ» ، أي: نَقُصُّ عليك وقتَ قولِه كيت وكيت، وهذا فيه إخراجُ «إذ» عن المضيِّ وعن الظرفية، وإن قَدَّرْتَ المفعولَ محذوفاً، أي: نَقُصُّ عليك الحالَ وقتَ قولِه، لزم إخراجها عن المُضِيّ. وقيل: هو منصوبٌ بمضمر، أي: اذكر. وقيل: هو منصوب على أنه بدلٌ مِنْ «أَحْسَنَ القصص» بدلُ اشتمال. قال الزمخشري: «لأنَّ الوقتَ يَشْمل على القصص وهو المقصوص» . قوله: {ياأبت} قرأ ابن عامر بفتح التاء، والباقون بكسرِها. وهذه التاءُ عوضٌ من ياء المتكلم، ولذلك لا يجوز الجمعُ بينهما إلا ضرورةً، وهذا يختصُّ بلفظتين. يا أبت، ويا أَمَتِ ولا يجوز في غيرهما من الأسماء لو قلت: «يا صاحِبَتِ» لم يَجُز البتة، كما اختصَّتْ لفظةُ الأمِّ والعمِّ بحكمٍ في نحو «يا بن أُمّ» . ويجوز الجمعُ بين هذه التاءِ وبين كلٍ مِنَ الياءِ والألفِ ضرورةً

كقوله: 2734 - يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَساكا ... وقول الآخر: 2735 - أيا أَبَتا لا تَزَلْ عندَنا ... فإنَّا نخافُ بأنْ نُخْتَرَمْ وقول الآخر: 2736 - أيا أبتي لا زِلْتَ فينا فإنَّما ... لنا أَمَلٌ في العيشِ ما دُمْتَ عائِشا وكلام الزمخشري يُؤْذِنُ بأنَّ الجمعَ بين التاءِ والألفِ ليس ضرورةً فإنه قال: «فإن قلت: فما هذه الكسرةُ؟ قلت: هي الكسرةُ التي كانت قبل الياءِ في قولِك» يا أبي «فَزُحْلِقَتْ إلى التاء لاقتضاءِ تاءِ التأنيثِ أن يكونَ ما قبلها مفتوحاً. فإن قُلْتَ: فما بالُ الكسرةِ لم تَسْقُطْ بالفتحة التي اقْتَضَتْها التاءُ، وتبقى التاءُ ساكنة؟ قلت: امتنع ذلك فيها لأنها اسمٌ، والأسماءُ حقُّها التحريكُ لأصالتِها في الإِعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء وأصلُها أن تُحَرَّك تخفيفاً لأنها حرف لين، وأمَّا التاءُ فحرفٌ صحيحٌ نحو كاف الضمير، فلزم تحريكُها. فإنْ قلت: يُشْبه الجمعُ بين هذه التاءِ وبين هذه الكسرةِ الجمعَ بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه؛ لأنها في حكم الياءِ إذا قلتَ: يا غلامِ، فكما لا يجوزُ» يا أبتي «لا يجوز» يا أبتِ «. قلت: الياء والكسرةُ قبلها شيئان، والتاءُ

عوضٌ من أحد الشيئين وهو الياءُ، والكسرةُ غيرُ مُتَعَرَّضٍ لها، فلا يُجْمَعُ بين العِوَض والمُعَوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التاءِ والياءِ لا غير. ألا ترى إلى قولهم:» يا أبتا «مع كونِ الألفِ فيه بدلاً من الياء كيف جاز الجمعُ بينها وبين التاء، ولم يُعَدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوض منه؟ فالكسرة أبعدُ من ذلك. فإن قلتَ: قد دَلَّتِ الكسرةُ في «يا غلامِ» على الإِضافة لأنها قرينةُ الياءِ ولصيقتُها، فإن دَلَّت على مِثْلِ ذلك في «يا أبت» فالتاء المعوَّضَةُ لَغْوٌ، وجودُها كعَدَمِها. قلت: بل حالُها مع التاءِ كحالِها مع الياءِ إذا قلت: يا أبي «. وكذا عبارة الشيخ فإنه قال:» وهذه التاءُ عوضٌ من ياء الإِضافة فلا تجتمعان، وتجامعُ الألفَ التي هي بدلٌ من الياء قال: 2737 - يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَسَاكا ... / وفيه نظرٌ من حيث إنَّ الألفَ كالياءِ لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يُجْمَعَ بينهما. وهذ التاءُ أصلُها للتأنيث قال الزمخشري: «فإن قلت: ما هذه التاءُ؟ قلت: تاءُ تأنيثٍ وقعت عوضاً من ياء الإِضافة، والدليلُ على أنَّها تاءُ تأنيثٍ قَلْبُها هاءً في الوقف» . قلت: وما ذَكَرَه مِنْ كونها تُقْلَبُ هاءً في الوقف قرأ به ابنُ كثير وابنُ عامر، والباقون وقفوا عليها بالتاء، كأنهم أَجْرَوْها مُجْرى تاء الإِلحاق في بنت وأخت، ومِمَّنْ نَصَّ على كونِها للتأنيث سيبويه فإنه قال: «سألتُ الخليل عن التاء في» يا أبت «فقال:» هي بمنزلة التاء في تاء خالة

وعمَّة «يعني أنها للتأنيث، ويدلُّ على كونِها للتأنيث أيضاً كَتْبُهم إياها هاءً، وقياس مَنْ وَقَفَ بالتاءِ أن يكتَبها تاءً كبنت وأخت. ثم قال الزمخشري:» فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذَكَر وشاةٌ ذَكَر ورجلٌ رَبْعَة وغلام يَفَعَة «. قلت: يعني أنها جِيْءَ بها لمجردِ تأنيث اللفظ كما في الألفاظِ المستشهد بها. ثم قال الزمخشري:» فإن قلتَ: فلِمَ ساغ تعويضُ تاءِ التأنيث من ياءِ الإِضافة؟ قلت: لأنَّ التأنيثَ والإِضافةَ يتناسبان في أنَّ كلِّ واحدٍ منهما زيادةٌ مضمومةٌ إلى الاسم في آخره «. قلت: وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يُعمل به عند الحُذَّاق، فإنه يُسَمَّى الشَّبَه الطردي، يني أنه شَبَهٌ في الصورة. وقال الزمخشري:» إنه قُرىء «يا أَبَت» بالحركات الثلاث «. فأمَّا الفتحُ والكسر فقد عَزَيْتُهما لقارئهما، وأمَّا الضمُّ فغريبٌ جداً، وهو يُشْبِهُ مَنْ يَبْني المنادى المضافَ لياء المتكلم على الضم كقراءةِ مَنْ قرأ وستأتي إن شاء اللَّه {قَالَ رَبُّ احكم} [الأنبياء: 112] بضم الباء، ويأتي توجيهها هناك، ولِمَ قُلْنا إنه مضافٌ للياء ولم نجعلْه مفرداً من غير إضافة؟ . وقد تقدَّم توجيهُ كَسْرِ هذه التاء بما ذكره الزمخشري من كونِها هي الكسرةَ التي قبل الياء زُحْلِقَتْ إلى التاء. وهذا أحد المَذْهَبَيْنِ، والمذهب

الآخر: أنها كسرةٌ أجنبية جيء بها لتدلَّ على الياء المعوَّض منها، وليس بخلافٍ طائل. وأمَّا الفتحُ ففيه أربعةُ أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين، أحدهما: أنه اجْتَزَأَ بالفتحة عن الألف، يعني عن الألف المنقلبة عن الياء، كما اجتزأ عنها الآخر بقوله: 2738 - ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ منِّي ... بلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لَوَنِّي وكما اجتُرِىء بها عنها في يا بن أمَّ، ويا بنَ عمَّ كما تقدم. والثاني: أنَّه رُخِّم بحذف التاء، ثم أقحمت التاء مفتوحة، وهذا كما قال النابغة: 2739 - كِليْني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ ... وليلٍ أقاسِيه بطيءِ الكواكبِ بفتح تاء «أُمَيْمة» على ما ذَكَرْت لك. الثالث: ما ذكره الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وقطرب في أحد قوليه وهو أنَّ الألفَ في «با أبتا» للندبة، ثم حَذَفها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة. وهذا قد يَنْفَعُ في الجواب عن الجمع بين العِوَض والمُعَوَّض منه. وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهبَ بأنَّ الموضع ليس موضعَ ندبة. الرابع: أنَّ الأصلَ: يا أبةً بالتنوين، فحذف التنوين لأنَّ النداءَ بابُ

حَذْفٍ، وإلى هذا ذهب قطرب في القول الثاني. وقد رُدَّ هذا عليه بأن التنوينَ لا يُحْذَفُ من المنادى المنصوب نحو: «يا ضارباً رجلاً» . وقرأ أبو جعفر «يا أبي» بالياء، ولم يُعَوِّض منها التاء. وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان: «أحدَ عْشر» بسكون العين، كأنهم قصدوا التنبيه بهذا التخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً. وقوله: {والشمس والقمر} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن تكونَ الواوُ عاطفةً، وحينئد يحتمل أن يكون ذلك من باب ذِكْر الخاص بعد العام تفصيلاً؛ لأن الشمسُ والقمر دخلا في قوله {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} فهو كقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بعد قوله: «وملائكتِه» ، ويُحْتمل أن لا يكون كذلك، وتكون الواوُ لعطفِ المُغَاير، فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادةً على الأحدَ عشرَ بخلاف الأول، فإنه يكون رأى الأحدَ عشرَ، ومِنْ جملتها الشمس والقمر، والاحتمالان منقولان عن أهل التفسير، وممَّنْ نَقَلهما الزمخشري. والوجه الثاني: أن تكونَ الواوُ بمعنى مع، إلا أنه مرجوحٌ، لأنه متى أمكن العطفُ من غير ضعفٍ ولا إخلالِ معنىً رَجَح على المعيَّة، وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله بمعنى أنه رأى الشمسَ والقمرَ زيادةً على الأحد عشر كوكباً. وقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يحتمل وجهين، أحدهما: أنها جملةُ كُرِّرَتْ للتوكيد لمَّا طال الفصلُ بالمفاعيل كُرِّرَتْ كما كُررت «أنكم» في قوله: {

أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ / إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] كذا قاله الشيخ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء اللَّه تعالى. والثاني: أنه ليس بتأكيدٍ، وإليه نحا الزمخشري: فإنه قال: «فإن قُلْتَ: ما معنى تكرارِ» رأيتُهم «؟ قلت: ليس بتكرارٍ، إنما هو كلامٌ مستأنفٌ على تقديرِ سؤالٍ وقع جواباً له، كأنَّ يعقوبَ عليه السلام قال له عند قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر} كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال: رأيتهم لي ساجدين» . قلت: وهذا أظهرُ لأنه متى دار الكلامُ بين الحَمْل على التأكيد أو التأسيس فَحَمْلُه على الثاني أولى. و «ساجدين» صفةٌ جُمِعَ جَمْعَ العقلاء. فقيل: لأنه لمَّا عامَلَهم معاملةَ العقلاء في إسنادِ فِعْلَهم إليهم جَمَعَهم جَمْعَهم، والشيءُ قد يُعامَلُ معاملةَ شيءٍ آخرَ إذا شاركه في صفةٍ ما. والرؤيةُ هنا منامِيَّةٌ، وقد تقدَّم أنها تنصب مفعولين كالعِلْمية، وعلى هذا يكون قد حَذَفَ المفعولَ الثاني من قوله {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} ولكنَّ حَذْفَه اقتصاراً ممتنعٌ، فلم يَبْقَ إلا اختصاراً، وهو قليل أو ممتنع عند بعضهم.

5

قوله تعالى: {لاَ تَقْصُصْ} : قرأ العامَّة بفكِّ الصادّيْن وهي لغةُ الحجاز. وقرأ زيد بن علي بصادٍ واحدة مشدَّدة، والإِدغامُ لغةُ تميمٍ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند قوله {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ} [المائدة: 54] .

والرؤيا مصدرٌ كالبُقْيا. وقال الزمخشري: «الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصةٌ بما كان في النوم دون اليقظة، فرَّق بينهما بحَرْفَي التأنيث كما قيل القُرْبَةُ والقربى» . وقرأ العامَّة «الرُّؤْيا» بهمزٍ مِنْ غير إمالة، وقرأها الكسائي في رواية الدُّوري عنه بالإِمالة. وأمَّا الرؤيا ورؤياي الاثنتان في هذه السورة فأمالهما الكسائي من غير خلافٍ في المشهور، وأبو عمرو يُبْدِلُ هذه الهمزةَ واواً في طريق السوسي. وقال الزمخشري: «وسمع الكسائي» رُيَّاك «و» رِيَّاك «بالإِدغام وضم الراء وكسرها، وهي ضعيفةٌ لأنَّ الواو في تقدير الهمزة فلم يَقْوَ إدغامها كما لم يَقْوَ إدغام» اتَّزر «من الإِزار واتَّجَرَ من الأَجْر» يعني أنَّ العارض لا يُعْتَدُّ به، وهذا هو الغالب. وقد اعتدَّ القُرّاءُ بالعارض في مواضع ستقف بها على أشياءَ إن شاء اللَّهُ نحو «رِيَّا» في قوله {أَثَاثاً وَرِءْياً} [مريم: 74] عند حمزة، و {عَاداً الأولى} [النجم: 50] .

وأمَّا كسرُ «رِيَّاك» فلئلاَّ يؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمة، وأمَّا الضمُّ فهو الأصل، والياءُ صد اسْتُهْلِكَتْ بالإِدغام. قوله: {فَيَكِيدُواْ} منصوبٌ في جواب النهي وهو في تقدير شرط وجزاء، ولذلك قدَّره الزمخشري بقوله: «إنْ قصصتها عليهم كادوك» . و «كَيْداً» فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهر أنه مصدرٌ مؤكدٌ، وعلى هذا ففي اللام في قوله «لك» خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكون «يكيد» ضُمِّن «معنى ما يتعدَّى باللام؛ لأنه في الأصل متعدٍّ بنفسه قال تعالى: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} [هود: 55] والتقدير: فيحتالوا لك بالكيد. قال الزمخشري مقرراً لهذا الوجه:» فإنْ قلتَ: هلاَّ قيل: فيكيدوك كما قيل فكيدوني. قلت: ضُمِّن معنى فعلٍ يتعدى باللام ليفيدَ معنى فعلِ الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمَّن فيكون آكدَ وأَبْلَغَ في التخويف وذلك نحو: فيحتالوا لك، ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر «. الوجه الثاني من أوجهِ اللام: أن تكونَ مُعَدِّيةً، ويكون هذا الفعلُ ممَّا يتعدى بحرفِ الجر تارةً، وبنفسهِ أخرى كنصح وشكر، كذا قاله الشيخ وفيه نظرٌ، لأنَّ ذاك بابٌ لا يَنْقاس إنما يُقْتصر فيه على ما ذكره النحاةُ ولم يَذْكروا منه» كاد «. الثالث: أن اللامَ زائدةٌ في المفعول به كزيادتها في قوله {رَدِفَ لَكُم} قاله أبو البقاء وهو ضعيف؛ لأنَّ اللامَ لا تُزاد إلا بأحد شرطين: تقديم المعمولِ أو كونِ العاملِ فرعاً.

الرابع: أن تكونَ اللامُ للعلة، أي: فيكيدوا من أجلك، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ اقتصاراً أو اختصاراً. / الخامس: أن تتعلَّق بمحذوفٍ، لأنها حالٌ مِنْ: «كَيْداً» إذ هي في الأصلِ يجوزُ أن تكونَ صفةً لو تأخَّرَتْ «. الوجه الثاني مِنْ وَجْهَيْ» كَيْداً «أن يكونَ مفعولاً به، أي: فيصنعوا لك كيداً، أي: أمراً يكيدونَك به، وهو مصدرٌ في موضع الاسمِ ومنه {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} [طه: 64] ، أي: ما تكيدون به، ذكره أبو البقاء وليس بالبيِّن، وعلى هذا ففي اللامِ في» لك «وجهان فقط: كونُها صفةً في الأصل ثم صارَتْ حالاً، أو هي للعلة، وأمَّا الثلاثةُ الباقيةُ فلا تتأتى وامتناعُها واضح.

6

قوله تعالى: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّك} الكاف في موضع نصبٍ أو رفعٍ، فالنصبُ: إمَّا على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأيُ سيبويه، وإمَّا على النعتِ لمصدرٍ محذوف والمعنى: مثلَ ذلك الاجتباء العظيم يَجْتبيك. والرفعُ على خبر ابتداء مضمر أي: الأمرُ كذلك. وقد تقدَّم له نظائر. قوله: {وَيُعَلِّمُكَ} مستأنفٌ ليس داخلاً في حَيِّز التشبيه، والتقدير: وهو يُعَلِّمك. والأحاديث: جمع تكسير، فقيل: لواحدٍ ملفوظٍ به وهو «حديث» ولكنه شَذَّ جمعُه على أحاديث، وله أخواتٌ في الشذوذ كأباطيل وأقاطيع وأعاريض في باطل وقطيع وعَرُوض. وزعم أبو زيد أن لها واحداً مقدراً وهو أُحْدُوثة ونحوه، وليس باسم جمعٍ؛ لأنَّ هذه الصيغةَ مختصة بالتكسير،

وإذا كانوا قد التزموا ذلك فيما لم يُصَرَّح له بمفردٍ مِنْ لفظه نحو: عباديد وشماطيط وأبابيل ففي «أحاديث» أَوْلى، ولهذا رُدَّ على الزمخشري قولُه: «وهي اسم جمعٍ للحديث وليس بجمعِ أُحْدوثة» بما ذكرته، ولكنَّ قولَه «ليس بجمعِ أُحْدوثة» صحيحٌ؛ لأن مذهبَ الجمهور خلافُه، على أنَّ كلامَه قد يريد به غيرَ ظاهرِه مِنْ قوله اسم جمع. وقوله: {عَلَيْكَ} يجوز أَنْ يتعلَّق ب «يُتِمَّ» ، وأن يتعلَّقَ ب «نعمته» . وكرَّر «على» في قوله: «وعلى آل» ليمكنَ العطفُ على الضمير المجرور. هذا مذهبُ البصريين، وتقدَّم بيانه. وقوله: «مِنْ قبلُ» أي مِنْ قبلك. قوله: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} يجوز أن يكونَ بدلاً من «أبويك» أو عطف بيان، أو على إضمارِ أَعْني.

7

وقرأ ابن كثير «آية» بالإِفراد، والمرادُ بها الجنسُ، والباقون بالجمع تصريحاً بالمرادِ لأنها كانت علاماتٍ كثيرة. وزعم بعضُهم أنَّ ثَمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه: للسائلين ولغيرهم، ولا حاجةَ إليه. و «للسائلين» متعلقٌ بمحذوف نعتاً لآيات.

8

قوله تعالى: {أَحَبُّ إلى أَبِينَا} : «أحبُّ» أفعل تفضيل، وهو مبنيٌّ مِنْ «حُبَّ» المبني للمفعول وهو شاذ. وإذا بَنَيْتَ أفعل التفضيل مِنْ مادة الحب والبغض تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب «إلى» ، وإلى المفعولِ المعنويّ باللام أو ب «في» ، فإذا قلت: «زيدٌ أحبُ إليَّ مِنْ بكر» يعني أنك

تحب زيداً أكثر من بكر فالمتكلم هو الفاعلُ، وكذلك: «هو أبغض إليَّ منه» أنت المُبْغِض، وإذا قلت: زيدٌ أحبُّ لي مِنْ عَمْروٍ، أو أَحَبُّ فيَّ منه، أي: إنَّ زيداً يحبُّني أكثر من عمرو. وقال امرؤ القيس: 2740 - لَعَمْري لَسَعْدٌ حيث حُلَّت ديارُه ... أحبُّ إلينا منكَ فافرسٍ حَمِرْ وعلى هذا جاءَتِ الآيةُ الكريمة، فإنَّ الأبَ هو فاعل المحبَّة. واللام في «ليوسف» لامُ الابتداء أفادَتْ توكيداً لمضمون الجملة، وقوله: «أحبُّ» خبر المثنى، وإنما لم يطابِقْ لِما عَرَفْتَ مِنْ حكم أفعلَ التفضيل. والواو في «ونحن عصبةٌ» للحال، فالجملةُ بعدها في محل نصب على الحال. والعامَّةُ على رفع «عُصْبة» خبراً ل «نحن» . وقرأ أمير المؤمنين بنصبها على أن الخبر محذوف، والتقدير: نحن نُرى أو نجتمع فيكون «عصبة» حالاً، إلا أنه قليلٌ جداً، وذلك لأن الحال لا تَسُدُّ مَسَدَّ الخبر إلا بشروطٍ ذكرها النحاة نحو «ضَرْبي زيداً قائماً» ، و «أكثر شُرْبي السَّوِيْقَ ملتوتاً» . قال ابن الأنباري: «هذا كما تقول العرب:» إنما العامريُّ عِمَّتَه «أي: يتعمَّم عِمَّته» . قال الشيخ: «وليس مثلَه لأنَّ» عصبة «ليس بمصدرٍ ولا هيئةٍ، فالأجودُ أن يكونَ من باب» حُكْمُك مُسَمَّطاً «. قلت: ليس مرادُ ابنِ الأنباري إلا التشبيهَ من حيث إنه حَذَف الخبر وسَدَّ شيءٌ آخرُ مَسَدَّه في غير المواضع

المنقاسِ فيها ذلك، ولا نَظَر لكونِ المنصوب مصدراً أو غيرَه. وقال المبرد:» هو من باب «حُكْمُك مُسَمَّطاً» أي: / لك حكمُك مُسَمَّطاً، قال الفرزدق: «يا لَهْذَمُ حُكمك مُسَمَّطاً» أراد: لك حكمُك مُسَمَّطاً، قال: «واسْتُعْمل هذا فَكَثُرَ حتى حُذِف استخفافاً لعلم ما يريد القائل كقولك:» الهلالُ واللَّهِ «أي: هذا الهلال» . والمُسَمَّط: المُرْسَلُ غير المردودِ. وقدَّره غيرُ المبرد: حُكْمُك ثَبَتَ مُسَمَّطاً. وفي هذا المثالِ نظرٌ؛ لأنَّ النحويين يجعلون مِنْ شَرْط سَدِّ الحالِ مَسَدَّ الخبرِ أن لا يَصْلُحَ جَعْلُ الحال خبراً لذلك المبتدأ نحو: «ضربي زيداً قائماً» بخلاف: «ضربي زيداً شديدٌ» ، فإنها تُرْفع على الخبرية، وتَخْرج المسألة من ذلك، وهذه الحال أعني مُسَمَّطاً يَصْلُحُ جَعْلُها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير: حُكْمُكَ مُرْسَلٌ لا مَرْدُود، فيكون هذا المَثَلُ على ما قَرَّرْتُه مِنْ كلامهم شاذاً. والعُصْبة: ما زاد على عشرة، عن ابن عباس، وعنه: ما بين عشرةٍ إلى أربعين. وقيل: الثلاثة نفر، فإذا زاد على ذلك إلى تسعة فهم رَهْط، فإذا بلغوا العشرة فصاعداً فعُصْبة. وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة. وقيل من عشرة إلى خمسة عشر. وقيل: ستة. وقيل: سبعة. والمادة تدلُّ على الإِحاطة من العِصابة لإِحاطتها بالرأس.

9

قوله تعالى: {أَرْضاً} : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً أي: في أرضٍ كقوله تعالى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} [الأعراف: 16] ، وقوله: 2741 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . .

كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ وإليه ذهب الحوفيُّ وابن عطية. والثاني: النصب على الظرفية. قال الزمخشري: «أرضاً منكورةً مجهولةً بعيدةً من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائِها من الناس، ولإِبهامِها من هذا الوجه نُصِبَتْ نَصْبَ الظروفِ المبهمة» . وقد رَدَّ ابن عطية هذا الوجه فقال: «وذلك خطأ؛ لأنَّ الظرفَ ينبغي أن يكون مبهماً، وهذه ليست كذلك بل هي أرضٌ مقيَّدة بأنها بعيدة أو قاصِيَةٌ أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُها ومعلومٌ أنَّ يوسفَ لم يَخْلُ مِن الكون في أرضٍ، فتبيَّن أنهم أرادوا أرضاً بعيدة غيرَ التي هو فيها قريبٌ مِنْ أبيه» . واستحسن الشيخ هذا الردَ وقال: «وهذا الردُّ صحيح لو قلت: جلست داراً بعيدة أو مكاناً بعيداً لم يصحَّ إلا بواسطة» في «، ولا يجوز حَذْفُها إلا في ضرورةِ شعرٍ، أو مع» دَخَلْت «على الخلاف في» دَخَلْت «أهي لازمةٌ أم متعديةٌ؟» . قلت: وفي الكلامَيْن نظرٌ؛ إذ الظرفُ المبهم عبارة عَمَّا ليس له حدودٌ تَحْصُره ولا أقطارٌ تحويه، و «أرضاً» في الآية الكريمة من هذا القبيل. الثالث: أنها مفعولٌ ثانٍ، وذلك إنْ تَضَمَّن «اطرحوه» أَنْزِلوه، وأَنْزِلوه يتعدَّى لاثنين قال تعالى: {أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} [المؤمنون: 29] . وتقول: أَنْزَلْت زيداً الدار.

والطَّرْح: الرَّمْي، ويُعَبَّر به عن الاقتحام في المخاوف. قال عُرْوة بن الورد: 2742 - ومَنْ يَكُ مثلي ذا عيالٍ ومُقْتِراً ... من المال يَطْرَحْ نفسَه كلَّ مَطْرَحِ و «يَخْلُ لكم» جوابُ الأمر، وفيه الإِدغام والإِظهار، وقد تقدَّم تحقيقُهما عند قوله تعالى: {يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام} [آل عمران: 85] .

10

قوله تعالى: {فِي غَيَابَةِ} : قرأ نافع «غَيابات بالجمع في الحرفين مِنْ هذه السورة، جُعِل ذلك المكانُ أجزاءً، وسُمِّي كلُّ جزء غَيَابَة، والباقون بالإِفراد وهو واضحٌ. وابن هرمز. كنافع إلا أنه شَدَّد الياءَ. والأظهرُ في هذه القراءة أن يكون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة فهو وصفٌ في الأصل. وألحقه الفارسيُّ بالاسم الجائي على فَعَّال نحو ما ذكر سيبويه من» الفَيَّاد «. قال ابن جني:» ووجَدْت من ذلك «الفَخَّار» : الخَزَف «. وقال صاحب» اللوامح: «يجوز أن يكون على فَعَّالات كحَمَّامات، ويجوز أن يكونَ على فَيْعالات كشيطانات جمع شَيْطانة، وكلٌّ للمبالغة» . وقرأ الحسن: «غَيَبَة» بفتح الياء، وفيها احتمالان، أحدهما: أَنْ تكونَ

في الأصل مصدراً كالغَلَبة. والثاني: أن يكونَ جمع غائب نحو: صانع وصَنَعَة. قال الشيخ: «وفي حرف أُبَيّ» غَيْبة «بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكِيَّة» . قلت: والضبطُ أمرٌ حادثٌ فكيف يُعرف ذلك في المصحف؟ وقد تقدَّم نحوٌ من ذلك فيما تقدم. والغَيَابة: قال الهرويٌّ: «شِبْهُ لَجَفٍ أو طاقٍ في البئر فُوَيْق الماء يغيب ما فيه عن العيون. وقال الكلبي:» الغَيَابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لانَّ أسفله واسعٌ ورأسَه ضيق فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه «. وقال الزمخشري:» هي غَوْرُه وما غابَ منه عن عَيْن الناظر وأظلمُ مِنْ أسفلِه، قال المنخل: / 2743 - فإنْ أنا يَوْماً غَيَّبَتْني غَيابتي ... فسِيْروا بسَيْري في العَشيرة والأهلِ أراد: غَيابةَ حُفْرته التي يُدْفن فيها. والجُبُّ: البئر التي لم تُطْوَ، وتَسْمِيتُه بذلك: إمَّا لكونه محفوراً في جَبُوب الأرض أي: ما غَلُظ منها، وإمَّا لأنه قُطِعُ في الأرض، ومنه الجَبُّ في الذَّكَر. وقال الأعشى: 2744 - لَئِنْ كنت في جُبٍّ ثمانين قامَةً ... ورُمِّيْتَ أَسْبابَ السماء بسُلَّمِ ويُجْمع على جِبَبَة وجِباب وأَجْباب. قوله: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ [السيارة] } قرأ العامَّة «يَلْتَقِطُه» بالياء من تحت

وهو الأصل. وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة بالتاء مِنْ فوق لتأنيث المعنى، ولإِضافته إلى مؤنث، وقالوا: «قُطِعت بعض أصابعه» ، وقال الشاعر: 2745 - إذا بعضُ السنينَ تَعَرَّقَتْنا ... كفى الأيتامَ فَقْدَ أبي اليتيمِ وقد تقدَّمَ الكلامُ بأوسعَ مِنْ هذا في الأنعام والأعراف. ومفعول «فاعلين» محذوفٌ أي: فاعلين ما يُحَصِّل غَرَضَكم. والسَّيَّارة، جمع «سَيَّار» ، وهو مثالُ مبالغة. والالتقاط: تَنَاوُلُ الشيءِ المطروحِ، ومنه: «اللُّقَطة» واللَّقِيط. وقال الشاعر: 2746 - ومَنْهَلٍ وَرَدْتُهُ التِقاطا ...

11

قوله تعالى: {لاَ تَأْمَنَّا} : حالٌ وتقدَّم نظيرُه. وقرأ العامَّة «تأمَنَّا» بالإِخفاء، وهو عبارةٌ عن تضعيفِ الصوت بالحركة والفصل بين النونين، لا أنَّ النونَ تُسَكَّن رَأْساً، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغاماً. قال الداني: «وهو قولُ عامَّةِ أئمَّتنا وهو الصوابُ لتأكيد دلالته وصحته في القياس» .

وقرأ بعضُهم ذلك بالإِشمام، وهو عبارةٌ عن ضمِّ الشفتين إشارةً إلى حركة الفعل مع الإِدغامِ الصريح كما يشير إليها الواقف، وفيه عُسْرٌ كبير قالوا: وتكون الإِشارة إلى الضمة بعد الإِدغام أو قبل كمالِه، والإِشمامُ يقع بإزاء معانٍ هذا مِنْ جُمْلتها، ومنها إشراب الكسرةِ شيئاً مِن الضم نحو: {قِيلَ} [البقرة: 11] و {وَغِيضَ} [هود: 44] وبابه، وقد تقدم أولَ البقرة. ومنها إشمامُ أحدِ حرفين شيئاً من الآخر كإشمام الصاد زاياً في {الصراط} [الفاتحة: 5] : {وَمَنْ أَصْدَقُ} [النساء: 78] وبابهما، وقد تقدم ذلك أيضاً في الفاتحة والنساء. فهذا خَلْطُ حرفٍ بحرف، كما أنَّ ما قبله خَلْطُ حركة بحركة. ومنها الإِشارةُ إلى الضمة في الوقفِ خاصةً، وإنما يراه البصير دونَ الأعمى. وقرأ أبو جعفر بالإِدغامِ الصريح من غير إشمامٍ. وقرأ الحسن ذلك بالإِظهار مبالغةً في بيان إِعراب الفعل وللمحافظة على حركة الإِعراب. اتفق الجمهورُ على الإِخفاء أو الإِشمام كما تقدم تحقيقه. وقرأ ابن هرمز «لا تَأْمُنَّا» بضم الميم، نَقَل حركةَ النون الأولى عند إرادةِ إدغامها بعد سَلْب الميمِ حركَتها، وخطُّ المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين وابن وثاب «لا تِيْمَنَّا» بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابنَ وثَّابٍ سَهَّل الهمزةَ. قال الشيخ: «ومجيئُه بعد» مالك «والمعنى يُرْشد إلى أنه نَفْيٌ لا نَهْيٌ وليس كقولهم» ما أَحْسَنَنا «في التعجب؛ لأنه لو أدغم لالتبسَ

بالنفي» . قلت: وما أبعد هذا عن تَوَهُّم النهي حتى يَنُصَّ عليه. وقوله «لالتبس بالنفي» صحيح.

12

قوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} : فيها أربعَ عَشَرَة قراءةً إحداها: قراءةُ نافعٍ بالياء مِنْ تحت وكسرِ العين. الثانية: قراءةُ البزي عن ابن كثير «نَرْتَع ونلعب» بالنونِ وكسرِ العين. الثالثة: قراءةُ قنبل، وقد اخْتُلِفَ عليه فنُقِل عنه ثبوتُ الياء بعد العين وَصْلاً وَوَقْفاً وحَذْفُها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزيَّ في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان. الخامسة: قراءة أبي عمرو وابن عامر «نرتَعْ ونلعبْ» بالنون وسكون العين والباء. السادسة: قراءة الكوفيين: «يرتعْ ويلعبْ» بالياء من تحت وسكون العين والباء. وقرأ جعفر بن محمد «نرتع» بالنون «ويلعب» بالياء، ورُوِيَتْ عن ابن كثير. وقرأ العلاء بن سيابة «يَرْتَع ويلعبُ» بالياء فيهما وكسر العين وضم الباء. وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن «نُرْتَعْ» بضم النون وسكون العين والباء. وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنه بالياء مِنْ تحت فيهما. والنخعي ويعقوب «نرتع» بالنون و «يلعب» بالياء. والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيُّ للفاعل. وقرأ زيد بن علي «يُرْتَع ويُلْعَب» بالياء مِنْ تحت مبنيّين للمفعول. وقرىء «نرتعي ونلعبُ» بثبوت الياء ورفع الباء. وقرأ ابن أبي عبلة «نَرْعي ونلعب» فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً، منها ستٌّ في السبع المتواتِر وثمانٍ في الشاذ. فَمَنْ قرأ بالنون أسند الفعلَ إلى إخوة يوسف، ومَنْ قرأ بالياء أسند الفعل إليه دونهم، ومَنْ كسَر العين اعتقد أنه جزم بحذف حرفِ العلة، وجعله مأخوذاً [مِنْ] يَفْتَعِل من الرَّعْي كيرتمي مِن الرمي. ومَنْ سَكَّن العينَ اعتقد

أنه جَزَمَهَ بحذف الحركة وجعله مأخوذاً مِنْ رتعَ يَرْتَعُ إذا اتِّسع في الخِصْب قال: 2747 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإذا يَخْلُو له لَحْمي رَتَعْ ومَنْ سكَّن الباءَ جعله مجزوماً، ومَنْ رفعها جعله مرفوعاً على الاستئناف أي: وهو يلعب، ومَنْ غاير بين الفعلين فقرأ بالياء مِنْ تحت في «يلعب» دون «نرتع» فلأنَّ اللعبَ مُناسب للصغار. ومَنْ قَرَأَ: «نُرْتِع» رباعياً جعل مفعوله محذوفاً، أي: نُرْعي مواشِينَا، ومَنْ بناها للمفعول فالوجهُ أنه أضمر/ المفعولَ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهو ضمير الغد، والأصل: نرتع فيه ونلعب فيه، ثم اتُّسع فيه فَحُذِفَ حرفُ الجر فتعدَّى إليه الفعلُ بنفسه فصار: نرتعه ونلعبه، فلمَّا بناه للمفعول قام الضمير المنصوب مقام فاعله فانقلب مرفوعاً واستتر في رافعه، فهو في الاتساع كقوله: 2748 - ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومَنْ رفع الفعلين جعلَهما حالَيْن، وتكون حالاً مقدرة. وأمَّا إثبات الياء في «نَرْتعي» مع جزم «نلعب» وهي قراءةُ قنبل فقد تجرأ بعض الناس ورَدَّها، وقال ابن عطية: «هي قراءةٌ ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر» وقيل: هي لغةُ مَنْ يجزم بالحركة المقدرة وأنشد: 2749 - ألم يَأْتيك والأنباءُ تَنْمي ... . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً. و «نَرْتع» يحتمل أنْ يكونَ وزنُه تَفْتَعِلْ مِن الرعي وهو أَكْلُ المَرْعَى، ويكون على حَذْف مضاف: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء قال: 2750 - تَرْتَعِي السَّفْحَ فالكَثيبَ فَذَاقا ... رٍ فَرَوْضَ القطا فَذَاتَ الرِّئالِ ويحتمل أن يكونَ وزنُه نَفْعَل مِنْ: رَتَعَ يَرْتَعُ إذا أقام في خِصْب وسَعَة، ومنه قول الغضبان بن القبعثرى: «القَيْدُ والرَّتَعَةُ وقِلَّةُ المَنَعَة» وقال الشاعر: 2751 - أكفراً بعد رَدِّ الموت عني ... وبعد عطائِك المِئَةَ الرِّتاعا قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} جملة حالية، والعامل فيها أحدُ شيئين: إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه. فإن قلت: هل يجوز أن تكون المسألةُ من الإِعمال لأنَّ كلاً من العاملين يصحُّ تَسَلُّطُه على الحال؟ فالجواب: ذلك لا يجوز، لأن الإِعمالَ يَسْتَلْزم الإِضمار، والحال لا تُضْمر؛ لأنها لا تكون إلا نكرةً أو مؤولةً بها.

13

قوله تعالى: {أَن تَذْهَبُواْ} : فاعل «يَحْزُنني» ، أي: يَحْزنني ذهابُكم. وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أنَّ المضارعَ المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنحاةُ جَعَلوها مِن القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة أنَّ «أَنْ تَذْهبوا» مستقبلٌ لاقترانه بحرفِ الاستقبال وهي «أنْ» ، وما في حيزها فاعلٌ،

فلو جَعَلْنا «لَيَحْزُنني» حالاً لزم سَبْقُ الفعل لفاعله وهو محالٌ. وأجيب عن ذلك بأنَّ الفاعلَ في الحقيقة مقدرٌ حُذِف هو وقام المضافُ إليه مَقامه، والتقدير: ليحزنني تَوَقُّعُ ذهابِكم. وقرأ زيد بن علي وابن هرمز وابن محيصن: «لَيَحْزُنِّي» بالإِدغام. وقرأ زيد بن علي وحده «تُذْهبوا» بضم التاء مِنْ أذهب، وهو كقوله: {تُنْبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] في قراءة مَنْ ضم التاء فتكون الباءُ زائدةً أو حالية. و «الذئب» يُهْمَز ولا يُهْمز، وبعدم الهمزة قرأ السوسي والكسائي وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا: وهو مشتقٌّ مِنْ «تذاءَبَتِ الرِّيح» : إذا هَبَّتْ مِنْ كل جهة لأنه يأتي كذلك، ويُجْمع على ذِئاب وذُؤبان وأَذْئُب قال: 2752 - وأَزْوَرَ يَمْطُو في بلادٍ بعيدةٍ ... تعاوى به ذُؤْبانه وثعالِبُهْ وأرضٌ مَذْأَبة: كثيرة الذئاب، وذُؤابة الشعر لتحرُّكِها وتَقَلُّبها، مِنْ ذلك. وقوله: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} جملة حالية العامل فيها «يأكله» .

14

قوله تعالى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} : جملةٌ حالية أو معترضة، و {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} جواب القسم وحُذِف جوابُ الشرط. و «إذن» حرفُ

جوابٍ، وقد تَقَدَّم القولُ في ذلك مُشْبعاً، ونقل أبو البقاء أنه قُرىء «عُصْبَةً» بالنصب، وقدَّر ما قدَّمْتُه في الآية الأولى.

15

قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ} : يجوز في جوابها أوجه، أحدها: أنه محذوفٌ، أي: عَرَّفْناه وأَوْصَلْنا إليه الطمأنينة. وقدَّره الزمخشري: «فَعَلُوا به ما فَعَلوا مِن الأذى» وذكر حكايةً طويلة. وقدَّره غيرُه: عَظُمَتْ فِتْنَتُهم. وآخرون «جَعَلوه فيها» . وهذا أَوْلَى لدلالة الكلام عليه. الثاني: أنَّ الجوابُ مثبتٌ، وهو قولُه {قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا} ، أي: لمَّا كان كيت وكيت قالوا. وهذا فيه بُعْدٌ لبُعْدِ الكلامِ مِنْ بعضه. والثالث: أنَّ الجوابَ هو قولُه «وأَوْحَيْنا» والواو فيه زائدةٌ، أي: فلمَّا ذهبوا به أَوْحَينا، وهو رأيُ الكوفيين، وجعلوا مِنْ ذلك قولَه تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ} [الصافات: 103] ، أي: تَلَّه. وقوله: {حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ} [الزمر: 71] وقولَ امرئ القيس: 2753 - فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى ... بنا بَطْنَ حِقْفٍ ذي رُكامٍ عَقَنِقْلِ أي: فلمَّا أَجَزْنَا انتحى. وهو كثيرٌ عندهم بعدَ «لَمَّا» . وقوله: {أَن يَجْعَلُوهُ} مفعول «أَجْمعوا» ، أي: عَزَموا على أن يَجْعلوه، أو عَزَموا أنْ يجعلوه، لأنه يتعدى بنفسه وبعلى، ف «أنْ» يُحْتمل أن تكونَ على

حذف الحرف، وأن لا تكون، فعلى الأولِ يَحْتمل موضعَها النصبُ والجرُّ، وعلى الثاني يتعيَّن النصبُ. والجَعْل يجوز أن يكونَ بمعنى الإِلقاء، وأن يكونَ بمعنى التصيير، فعلى الأولِ يتعلَّق «في غيابة» بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني بمحذوفٍ. والفعلُ مِنْ قوله: «وأَجْمعوا» يجوزُ أن يكونَ معطوفاً على ما قبله، وأن يكون حالاً، و «قد» معه مضمرةٌ عند بعضهم. والضمير في «إليه» الظاهر عَوْدُه على يوسف. وقيل: يعود على يعقوب. وقرأ العامَّةُ: «لَتُنَبِّئنَّهُمْ» بتاء الخطاب. وقرأ ابن عمر بياء الغيبة، أي: اللَّه تعالى. قال الشيخ: «وكذا في بعض مصاحف البصرة» وقد تقدَّم أن النَّقْطَ حادثٌ، فإن قال: مصحفٌ حادثٌ غيرُ مصحفِ عثمان فليس الكلام في ذلك. وقرأ سَلاَّم: «لنُنَبِّئَنَّهم» بالنون. و «هذا» صفةٌ لأَمْرهم. وقيل: بدلٌ. وقيل: بيان. قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملةٌ حالية، يجوز أن يكونَ العاملُ فيها «أَوْحَيْنا» /، أي: أوحينا إليه من غير شعور بالوحي، وأن يكونَ العاملُ فيها «لَنُنَبِّئَنَّهم» ، أي: تُخْبرهم وهم لا يعرفونك لبُعْد المدَّة وتغيُّرِ الأحوال.

16

قوله تعالى: {عِشَآءً} : يجوز فيه وجهان، أحدهما: وهو الذي لا ينبغي أن يُقال غيرُه أنه ظرف زمان، أي: جاؤوه في هذا الوقت و «يبكون» جملة حالية، أي: جاؤوه باكين. والثاني: أن يكون «عشاء»

جمع عاشٍ كقائم وقيام. قال أبو البقاء: «ويُقرأ بضم العين، والأصل: عُشاة مثل غازٍ وغُزاة، فَحُذِفَتْ الهاءُ وزِيْدت الألف عوضاً منها، ثم قُلبت الألفُ همزةً، وفيه كلامٌ قد ذُكر في آل عمران عند قوله: {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} [الآية: 156] ، ويجوز أن يكون جمعَ فاعِل على فُعال، كما جُمع فعيل على فُعال لقُرْب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنُؤام ورُباب وهو شاذٌّ» . قلت: وهذه القراءة قراءةُ الحسن البصري، وهي من العِشْوة والعُشْوَة وهي الظلام. وقرأ الحسن أيضاً: «عُشَا» على وزن دُجَى نحو: غازٍ وغُزاة، ثم حُذف منه تاءُ التأنيث، وهذا كما حذفوا تاء التأنيث مِنْ «مَأْلُكة» ، فقالوا: مَأْلُك، وعلى هذه الأوجهِ يكون منصوباً على الحال، وقرأ الحسن أيضاً «عُشِيَّاً» مصغَّراً «.

17

وقوله تعالى: {نَسْتَبِقُ} : نَتَسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضَلُ، ونَرْتمي ونترامى. و «نَسْتبق» في محل نصب على الحال. و «تَرَكْنا» حال مِنْ «نَسْتبق» و «قد» معه مضمرةٌ عند بعضهم. قوله: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} جملة حالية، أي: ما أنت مصدقاً لنا في كل حال حتى في حال صِدْقِنا لِما غَلَبَ على ظنِّك في تُهْمتنا ببغضِ يوسفَ وكراهتنا له.

18

قوله تعالى: {على قَمِيصِهِ} : في محل نصبٍ على الحال من «الدم» . قال أبو البقاء: «لأنَّ التقدير: جاؤوا بدمٍ كذبٍ على قميصه» ، يعني أنه لو تأخَّر لكان صفةً للنكرة. وهذا الوجهُ قد ردَّه الزمخشري فقال: «فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة؟ قلت: لا، لأنَّ حال المجرور لا تتقدَّم عليه» . وهذا الذي رَدَّ به الزمخشريُّ أحدُ قولَي النحاة، وقد صحَّح جماعةٌ جوازَه وأنشدوا: 2754 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبال وقولَ الآخر: 2755 - لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادِياً ... إليَّ حبيباً إنَّها لحبيبُ وقول الآخر: 2756 - غافلاً تَعْرِضُ المنيَّةُ لِلْمَرْ ... ءِ فيدعى ولاتَ حينَ إباءُ وقال الحوفي: «إنَّ» على قميصه «متعلقٌ ب» جاؤوا «، وفيه نظر؛ لأن مجيئَهم لا يصحُّ أن يكونَ على القميص. وقال الزمخشري:» فإن قلتَ «على قميصه» ما محلُّه؟ قلت: محلُّه النصبُ على الظرف، كأنه قيل: وجاؤوا فوق قميصه بدم، كما تقول: جاء على جِماله بأَحْمال «. قال الشيخ:» ولا يساعد المعنى على نصب «على»

على الظرف بمعنى فوق، لأنَّ العامل فيه إذ ذاك «جاؤوا» ، وليس الفوقُ ظرفاً لهم، بل يستحيل أن يكونَ ظرفاً لهم «. وهذا الردُّ هو الذي رَدَدْت به على الحوفي قولَه إنَّ» على «متعلقةٌ ب» جاؤوا «. ثم قال الشيخ:» وأمَّا المثال الذي ذكره الزمخشري وهو «جاء على جِماله بأَحْمال» فيمكن أن يكونَ ظرفاً للجائي لأنه تمكَّن الظرف فيه باعتبار تبدُّلِه مِنْ جملٍ إلى جمل، وتكون «بأَحْمال» في موضع الحال، أي: مضموماً بأحمال «. وقرأ العامَّةُ:» كَذِب «بالذال المعجمة، وهو من الوصف بالمصادر فيمكن أن يكونَ على سبيل المبالغة نحو: رجلٌ عَدْلٌ أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذي كذب، نَسَبَ فِعْلَ فاعله إليه. وقرأ زيد بن علي» كَذِباً «فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله واحتمل أن يكونَ مصدراً في موضع الحال، وهو قليلٌ أعني مجيءَ الحالِ من النكرة. وقرأ عائشة والحسن:» كَدِب «بالدال المهملة. وقال صاحبُ اللوامح:» معناه: ذي كَدِب، أي: أثر؛ لأنَّ الكَدِبَ هو بياضٌ يَخْرُجُ في أظافير الشباب ويؤثِّر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياضُ «الفُوْف» فيكون هذا استعارةً لتأثيره في القميص كتأثير ذلك في الأظافير «. وقيل: هو الدمُ الكَدِر. وقيل: الطريُّ. وقيل: اليابس. قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ} قبل هذه الجملةِ جملةٌ محذوفة تقديره: لم يأكلْه الذئب، بل سَوَّلَتْ. وسوَّلت، أي: زيَّنَتْ وسَهَّلَتْ. قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبره محذوفٌ، أي: صبر

جميل أَمْثَلُ بي. ويجوز أن يكون خبراً محذوفَ المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميل. وهل يجب حَذْفُ مبتدأ هذا الخبر/ أو خبر هذا المبتدأ؟ وضابطُه أن يكونَ مصدراً في الأصل بدلاً مِن اللفظ بفعله، وعبارة بعضِهم تقتضي الوجوبَ، وعبارة آخرين الجواز. ومن التصريح بخبر هذا النوعِ. ولكنه في ضرورة شعر قولُه: 2757 - فقالَتْ على اسمِ اللَّهِ أَمْرُك طاعةٌ ... وإن كنتُ قد كُلِّفْتُ ما لم أُعَوَّدِ وقولُ الشاعر: 2758 - يَشْكو إليَّ جَمَلي طولَ السُّرى ... صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مبتلى يحتمل أن يكونَ مبتدأً أو خبراً كما تقدَّم. وقرأ أُبَيّ وعيسى بن عمر: «فصبراً جميلاً» [نصباً، ورُويت عن الكسائي، وكذلك هي في] مصحف أنس بن مالك، وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبرُ أنا صبراً، وهذه قراءة ضعيفة إن خُرِّجَتْ هذا التخريجَ، فإن سيبويه لا ينقاس ذلك عنده إلا في الطلب، فالأَوْلى أن يُجعل التقدير: إنَّ يعقوب رَجَعَ وأَمَر نفسَه فكأنه قال: اصبري يا نفسُ صبراً. ورُوري البيتُ أيضاً بالرفع والنصب على ما تقدَّم، والأمر فيه ظاهر.

19

قوله تعالى: {فأدلى دَلْوَهُ} : يُقال: أدلى دَلْوَه، أي: أرسلها في البئر. و «دَلاها» إذا أَخْرجها ملأى، قال: 2759 - لا تَقْلَوها وادْلُواها دَلْوا ... إنَّ مع اليوم أخاه غَدْوا والدَّلْوُ مؤنثةٌ فتصغَّر على دُلِيَّة، وتُجمع على دِلاء وأَدْلٍ والأصل: دِلاو فقُلبت الواوُ همزةً نحو كساء، وأَدْلِوٌ فأُعِلَّ إعلالَ قاضٍِ، ودُلُوْوٌ بواوين فَقُلِبتا ياءَيْن نحو: عِصِيّ. قوله: {يابشراى} قرأ الكوفيون بحذف ياء الإِضافة، وأمال ألفَ فعلى الأخوان، وأمالها ورش بين بين على أصله، وعن أبي عمرو الوجهان، ولكن الأشهرَ عنه عدمُ الإِمالة، وليس ذلك مِنْ أصله على ما قُرِّر في علم القراءات. وقرأ الباقون «يا بشراي» مضافة لياء المتكلم، ونداء البشرى على حدِّ قولِه: {ياحسرتا على} [الزمر: 56] {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] كأنه يقول: يا بشرى هذا وقتُ أوانِ أن تُنادَيْ ويُصاحَ بكِ. ومَنْ زعم أنَّ «بشرى» اسم رجل كالسدِّي فقد أَبْعَدَ. وقرأ ورش عن نافع «يا بُشْراْيْ» بسكون الياء، وهو جمعٌ بين ساكنين في الوصل، وهذا كما تقدم في {وَمَحْيَايَ} [الأنعام: 162] ، فعليك بالالتفات إليه. وقال

الزمخشري: «وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حَدِّه إلا أن يَقْصِدَ الوقف» . وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والحسن: «يا بُشْرَيَّ» بقلبِ الألفِ ياءً وإدغامها في ياء الإِضافة وهي لغة هُذَلِيَّة تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة عند قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَيَّ} [البقرة: 38] . وقال الزمخشري: «وفي قراءة الحسن يا بُشْرَيَّ بالياء مكان الألف جُعِلَتْ الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإِضافة وهي لغة للعرب مشهورة، سمعت أهلَ السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي ومَوْلَيَّ» . قوله: {وَأَسَرُّوهُ} الضمير المرفوع الظاهر أنه يعود على «السَّيَّارة» . وقيل: هو ضميرُ إخوتِه. و «بضاعةً» نصب على الحال، أو مفعول ثانٍ على أن يُضَمَّن «أَسَرُّوه» معنى صَيَّروه بالسرِّ. والبضاعة قطعةٌ من المال تُعَدُّ للتجارة مِنْ «بَضَعْت» ، أي: قَطَعْتُ، ومنه المِبْضع لِما يُقْطَعُ به.

20

قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ} : شرى بمعنى اشترى، ومنه قول الشاعر: 2760 - ولو أنَّ هذا الموتَ يَقْبَلُ فِدْيَةً ... شَرَيْتُ أبا زيدٍ بما مَلَكَتْ يَدي وبمعنى باع ومنه قولُ الشاعر: 2761 - وشَرَيْتُ بُرْداً ليتني ... مِنْ بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ

فإن جَعَلْنا الضمير في «شَرَوْه» عائداً على إخوة يوسف كان «شرى» بمعنى باع، وإن جَعَلْناه عائداً على السيارة كانت بمعنى اشتروا. والبَخْسُ: النَّاقصُ، وهو في الأصل مصدرٌ وُصِف به مبالغةً. وقيل: هو بمعنى مفعول. و «دراهم» بدل مِنْ «بثمن» و «فيه» متعلقٌ بما بعده، واغْتُفِر ذلك للاتساع في الظروف والجار، أو بمحذوفٍ وتقدَّم مثلُه.

21

قوله تعالى: {مِن مِّصْرَ} : يجوز فيه أوجه، أحدها: أن يتعلق بنفسِ الفعل قبله، أي: اشتراه مِنْ مصر كقولك: اشتريت الثوب مِنْ بغداد فهي لابتداء الغاية، وقولُ أبي البقاء: «أي: فيها، أو بها» لا حاجةَ إليه. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من «الذي» . والثالث: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في «اشتراه» فيتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً. وفي هذين نظر إذ لا طائل في هذا المعنى. و «لأمرأتِه» متعلقٌ ب «قال» فهي للتبليغ، وليست متعلقةً ب «اشتراه» . قوله: {وكذلك} الكاف كما تقدم في نظائره حال من ضميرٍ المصدر أو نعتٌ له، أي: ومثلَ ذلك الإِنجاء والعطف مكَّنَّا له، أي: كما أَنْجَيْناه وعَطَفْنا عليه العزيز مكَّنَّا له في أرض مصر. قوله: {وَلِنُعَلِّمَهُ} فيه أوجه، أحدُها، أن يتعلق بمحذوف قبله، أي: وفَعَلْنا ذلك لنعلِّمه. والثاني: أن يتعلَّق بما بعده، أي: ولنعلِّمه فَعَلْنا كيت وكيت. الثالث: أن يتعلقَ ب «مكَّنَّا» على زيادة الواو والهاء في «أمره» يجوز أن تعود على الجلالة، وأن تعودَ على يوسف، فالمعنى على الأول: لا نُمْنَعُ عمَّا نشاء، ولا نُنازَعُ عَمَّا نريد، وعلى الثاني: نُدَبِّره ولا نَكِلُه إلى غيره فقد كادوه إخوتُه فلم يَضُرُّوه بشيء.

22

قوله تعالى: {أَشُدَّهُ} : فيه ثلاثة أقوال، أحدها: وهو قول سيبويه أنه جمعٌ مفردُه «شِدَّة» نحو: نِعْمة وأنْعُم. الثاني: قول الكسائي: أن مفردَه «شَدّ» بزنةِ فَعْل نحو صَكّ وأصُكّ، ويؤيِّده قولُ الشاعر: 2762 - عَهْدي به شَدَّ النهارِ كأنما ... خُضِبَ البَنانُ ورأسُه بالعِظْلِمِ / الثالث: أنه جمعٌ لا واحدَ له من لفظه قاله أبو عبيدة، وخالفه الناسُ في ذلك، إذ قد سمع «شدَّة» و «شَدَ» وهما صالحان له وهو مِن الشَّدِّ وهو الربطُ على الشيء والعقدُ عليه. قال الراغب: «وقولُه تعالى {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} فيه تنبيهُ أن الإِنسان إذا بلغ هذا القَدْرَ يتقوى خُلُقُه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله، وما أحسنَ ما تنبَّه له الشاعرُ حيث يقول: 2763 - إذا المَرْءُ وافى الأربعينَ ولم يكنْ ... له دونَ ما يهوى حَياءٌ ولا سِتْرُ فَدَعْه ولا تَنْفِسْ عليه الذي مضى ... وإنْ جَرَّ أسبابَ الحياةِ له العُمْرُ وقوله: {وَكَذَلِكَ} إمَّا نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ من ضمير المصدر وتقدَّم نظائره.

23

قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ} : أي: طالَبَتْه برفقٍ ولين قولٍ، والمُراوَدَةُ المصدر، والرِّيادة: طَلَبُ النِّكاح، ومشى رُوَيْداً، أي: ترفَّق في

مِشْيتِه، والرَّوْدُ، الرِّفْقُ في الأمور والتأنِّي فيها، ورادَتِ المرأةُ في مَشْيها تَرُوْدُ رَوَدَاناً من ذلك، والمِرْوَدُ هذه الآلةُ منه، والإرادةُ منقولةٌ مِنْ راد يرود إذا سعى في طلب حاجة، وقد تقدَّم ذلك في البقرة، وتعدى هنا ب «عن» لأنه ضُمِّن معنى خادَعَتْ، أي: خادَعَتْه عن نفسه، والمفاعلةُ هنا من الواحد نحو: داوَيْتُ المريض، ويحتمل أن تكون على بابها، فإنَّ كلاً منهما كان يطلبُ مِنْ صاحبه شيئاً برفق، هي تطلُب منه الفعلَ وهو يطلبُ منها التركَ. والتشديد في «غَلَّقَتْ» للتكثير لتعدُّد المجال. قوله: {هَيْتَ لَكَ} اختلف أهلُ النحوِ في هذه اللفظة: هل هي عربيةٌ أم معرَّبةٌ، فقيل: معربةٌ من القبطية بمعنى هلمَّ لك، قاله السدي. وقيل: من السريانية، قاله ابن عباس والحسن. وقيل: هي من العبرانية وأصلها هَيْتَلَخ، أي: تعالَه فأعربه القرآن، قاله أبو زيد الأنصاري. وقيل: هل لغة حَوْرانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلَّموا بها ومعناها تعال، قاله الكسائي والفراء، وهو منقولٌ عن عكرمة. والجمهور على أنها عربية، قال مجاهد: «هي كلمة حَثٍّ وإقبال، ثم هي في بعض اللغات تَتَعَيَّن فعليَّتُها، وفي بعضها اسميتُها، وفي بعضها يجوز الأمران، وستعرف ذلك من القراءات المذكورة فيها: فقرأ نافع وابن ذكوان» هِيْتَ «بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة. وقرأ» هَيْتُ «بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاء مضمومة ابنُ كثير. وقرأ» هِئْتَ «بكسر الهاء وهمزةٍ ساكنة وتاءٍ مفتوحةٍ أو مضمومةٍ هشامٌ. وقرأ» هَيْتَ «بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاءٍ مفتوحةٍ الباقون، فهذه خمس قراءات في السبع.

وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن وابن محيصن بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس أنه قُرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة. وقرأ ابن عباس أيضاً» هُيِيْتُ «بضم الهاء وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة حُيِيْتُ. وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مضمومة. فهذه أربع في الشاذ فصارت تسع قراءات. فيتعيَّن كونُها اسمَ فعل في غير قراءة ابن عباس» هُيِيْتُ «بزنة حُيِيْتُ. وفي غيرِ قراءة كسر الهاء سواءً كان ذلك بالياء أم بالهمز: فَمَنْ فَتَحَ التاء بناها على الفتح تخفيفاً نحو: أيْنَ وكَيْفَ، ومَنْ ضَمَّها كابن كثير فتشبيهاً ب» حيث «، ومَنْ كسر فعلى أصلِ التقاء الساكنين كجَيْرِ، وفَتْحُ الهاء وكَسْرُها لغتان. ويَتَعَيَّنُ فعليَّتُها في قراءة ابن عباس» هُيِيْتُ «بزنة» حُيِيْت «فإنها فيها فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول مسندٌ لضمير المتكلم مِنْ هَيَّأْتُ الشيءَ، ويحتمل الأمرين في قراءةِ مَنْ كسر الهاء وضمَّ التاء، فيحتملُ أن تكونَ فيه اسمَ فعلٍ بُنِيَتْ على الضمِّ كحَيْثُ، وأن تكونَ فعلاً مسنداً لضمير المتكلم مِنْ هاءَ الرجلُ يَهِيءُ كجاء يَجيء وله حينئذٍ معنيان، أحدهما: أن يكون بمعنى حَسُنَ هَيْئَةً. والثاني: أن يكونَ بمعنى تهيَّأ، يُقال: هِئْتُ، أي: حَسُنَتْ هيئتي أو تهيَّأْتُ. وجوَّز أبو البقاء أن تكون «هِئْتُ» هذه مِنْ: هاءَ يَهاء، كشاء يشاء. وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام التي بالهمز وفتح التاء، فقال الفارسي: «يشبه أن [يكون] الهمز وفَتْحُ التاء وَهْماً من الراوي، لأنَّ الخطاب مِن المرأة ليوسف ولم يتهيَّأْ لها بدليل قوله:» وراوَدَتْه «و {أَنِّي

لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بن أبي طالب:» يجب أن يكون اللفظُ «هِئْتِ لي» ولم يَقْرأ بذلك أحدٌ «وأيضاً فإن المعنى على خلافِه لأنه لم يَزَلْ/ يَفِرُّ منها ويتباعد عنها، وهي تراوِدُه وتطلبه وتَقُدُّ قميصه، فكيف يُخْبر أنها تهيَّأ لها؟ وقد أجاب بعضهُم عن هذين الإِشكالين بأن المعنى: تهيَّأ لي أمرُك، لأنها لم تكنْ تقدِر على الخَلْوَة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هيئتك. و» لك «متعلقٌ بمحذوف على سبيل البيان كأنها قالت: القول لك أو الخطاب لك، كهي في» سقياً لك ورعياً لك «. قلت: واللامُ متعلقةٌ بمحذوف على كل قراءة إلا قراءةً ثبت فيها كونُها فعلاً، فإنها حينئذٍ تتعلَّقُ بالفعل، إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ. وقال أبو البقاء:» والأشبهُ أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من الياء، أو تكونَ لغةً في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً لأن ذلك يوجب أن يكونَ الخطابُ ليوسف عليه السلام، وهو فاسدٌ لوجهين، أحدهما: أنه لم يتهيَّأ لها وإنما هي تهيَّأَتْ له. والثاني: أنه قال لك، ولو أرادَ الخطابَ لكان هِئْتَ لي «. قلت: قد تقدَّم جوابُه. وقوله:» إن الهمزة بدلٌ من الياء «هذا عكسُ لغة العرب إذ قد عَهِدْناهم يُبْدلون الهمزة الساكنة ياءً إذا انكسر ما قبلها نحو: بير وذيب، ولا يَقْبلون الياءَ المكسورَ ما قبلها همزةً نحو: مِيل ودِيك، وأيضاً فإن غيرَه جعل الياءَ الصريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع وابن ذكوان

محتملةً لأَنْ تكونَ بدلاً من الهمزة، قالوا: فيعود الكلام فيها كالكلام في قراءة هشام. واعلم أنَّ القراءةَ التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشام، وأمَّا ضمُّ التاءِ فغيرُ مشهورٍ عنه، وهذا قد أَتْقَنْتُه في شرح» حِرْز الأماني «. قوله: {مَعَاذَ الله} منصوبٌ على المصدر بفعلٍ محذوف، أي: أعوذُ باللَّه مَعاذاً: يُقال: عاذ يَعُوذ عِياذاً وعِياذة ومَعاذاً وعَوْذاً، قال: 2764 - معاذَ الإِله أن تكونَ كظَبْيَةٍ ... ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةِ رَبْرَبِ قوله: {إِنَّهُ} يجوز أن تكونَ الهاءُ ضميرُ الشأن وما بعده جملةٌ خبريةٌ له، ومرادُه بربه سيِّدُه، ويحتمل أن تكونَ الهاء ضمير الباري تعالى. و «ربِّي» يحتمل أن يكونَ خبرَها، و «أَحْسَنَ» جملةٌ حاليةٌ لازمة، وأن تكون مبتدأً، و «أحسن» جملة خبرية له، والجملةُ خبرٌ ل «إنَّ» . وقد أنكر جماعةٌ الأولَ، قال مجاهد والسدي وابن إسحاق. يبعد جداً أن يُطْلِق نبيٌّ كريمٌ على مخلوقٍ أنه ربه، ولا بمعنى السيد لأنه ليس مملوكاً في الحقيقة. وقرأ الجحدري وأبو الطفيل الغنوي «مَثْوَيَّ» بقَلْبِ الألف ياءً وإدغامها كبُشْرَيّ وهُدَيّ. و {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} هذه الهاءُ ضمير الشأن ليس إلا.

24

قوله تعالى: {لولا أَن رَّأَى} : جوابُ لولا: إمَّا متقدِّمٌ عليها وهو قوله: «وَهَمَّ بها» عند مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ أدواتِ الشرط عليها،

وإمَّا محذوفٌ لدلالة هذا عليه عند مَنْ لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبينِ ومَنْ عُزِيا إليه غيرَ مرة كقولهم: «أنت ظالمٌ إن فعلْتَ» ، أي: إنْ فَعَلْتَ فأنت ظالمٌ، ولا تقول: إنَّ «أنت ظالمٌ» هو الجوابُ بل دالٌّ عليه، وعلى هذا فالوقفُ عند قوله: «برهان ربه» والمعنى: لولا رؤيتُه برهانَ ربه لهمَّ بها لكنه امتنع هَمُّه بها لوجودِ رؤيةِ برهان ربه، فلم يَحْصُل منه هَمٌّ البتة كقولك: «لولا زيدٌ لأكرمتك» فالمعنى أن الإِكرام ممتنعٌ لوجود زيد، بهذا يُتَخَلَّص من الأشكال الذي يورَدُ وهو: كيف يليق بنبيٍّ أن يَهُمَّ بامرأة؟ . قال الزمخشري: فإن قلت: قوله «وهمَّ بها» داخلٌ تحت القَسَم في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أم خارجٌ عنه؟ قلت: الأمران جائزان، ومِنْ حَقِّ القارىء إذا قَصَدَ خروجَه من حكم القَسَم وجَعَلَه كلاماً برأسه أن يَقِفَ على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ويبتدىء قولَه: {وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرق بين الهَمَّيْن. فإن قُلْتَ: لِمَ جَعَلْتَ جَوابَ «لولا» محذوفاً يدلُّ عليه «وهَمَّ بها» وهَلاَّ جَعَلْتَه هو الجوابَ مقدَّماً. قلت. لأنَّ «لولا» لا يتقدَّم عليها جوابُها مِنْ قِبَلِ أنه في حكم الشرط، وللشرط صدرُ الكلام وهو [مع] ما في حَيِّزه من الجملتين مثلُ كلمةٍ واحدة، ولا يجوز تقديمُ بعضِ الكلمة على بعض، وأمَّا حَذْفُ بعضها إذا دَلَّ عليه الدليل فهو جائز «. قلت: قوله» وأمَّا حَذْفُ بعضها «إلى آخره جواب عن سؤالٍ مقدرٍ وهو: فإذا كان جوابُ الشرط مع الجملتين بمنزلةِ كلمةٍ فينبغي أنْ لا يُحْذَفَ منهما شيءٌ، لأن الكلمةَ لا يُحذف منها شيءٌ. فأجاب بأنه يجوز إذا دلَّ دليلٌ على ذلك. وهو كما قال.

ثم قال:» فإن قلت: لِمَ جَعَلْتَ «لولا» متعلقةً ب «هَمَّ بها» وحدَه، ولم تَجْعَلْها متعلقةً بجملةِ قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ؟ لأنَّ الهمَّ لا يتعلَّق بالجواهر ولكن بالمعاني، فلا بد من تقدير المخالطة، والمخالطةُ لا تكون إلا بين اثنين معاً، فكأنه قيل: / ولقد هَمَّا بالمخالطة لولا أنْ مَنَعَ مَانعُ أحدِهما. قلت: نِعْم ما قلت، ولكن اللَّه سبحانه قد جاء بالهمَّين على سبيل التفصيل حيث قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} . قلت: والزَّجَّاج لم يرتضِ هذه المقالة، أعني كون قوله: «لولا» متعلقةً ب «همَّ بها» فإنه قال: «ولو كان الكلامُ» ولهمَّ بها «لكان بعيداً، فكيف مع سقوط اللام» ؟ يعني الزجاج أنه لا جائزٌ أن يكونَ «وهمَّ بها» جواباً ل «لولا» ؛ لأنه لو كان جوابَها لاقترن باللام لأنه مثبت، وعلى تقدير أنه كان مقترناً باللام كان يَبْعُدُ مِنْ جهةٍ أخرى وهي تقديمُ الجوابِ عليها. وجواب ما قاله الزجاج ما قدَّمْتُه عن الزمخشري من أَنَّ الجوابَ محذوف مدلولٌ عليه بما تقدَّم. وأمَّا قولُه: «ولو كان الكلام» ولهمَّ بها «فغيرُ لازمٍ» ؛ لأنه متى كان جوابُ «لو» و «لولا» مثبتاً جاز فيه الأمران: اللامُ وعَدَمُها، وإن كان الإِتيان باللامِ وهو الأكثر. وتابع ابنُ عطية الزجاجَ أيضاً في هذا المعنى فقال: «قولُ مَنْ قال: إنَّ الكلام قد تَمَّ في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتَ بِهِ} وإنَّ جوابَ» لولا «في قوله:» وهمَّ بها «، وإن المعنى: لولا أن رأى البرهانَ لهَمَّ بها، فلم يَهُمَّ يوسفُ عليه السلام» قال: «وهذا قول يردُّه لسان العرب وأقوال السلف» أمَّا قولُه: «يردُّه لسان العرب» فليس كذا؛ لأنَّ وِزانَ هذه الآية وِزانُ قولِه: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ

لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10] فقوله إن كادَتْ: إمَّا أن يكون جواباً عند مَنْ يرى ذلك، وإمَّا أن يكونَ دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلام العرب. هذا معنى ما ردَّ به عليه الشيخ. قلت: وكأن ابن عطية إنما يعني بالخروج عن لسانِ العرب تجرُّدَ الجوابِ من اللام على تقدير جواز تقديمِه، والغرض أن اللامَ لم تُوْجد. قوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ} في هذه الكافِ أوجهٌ أحدُها: أنَّها في محلِّ نصب، فقدَّره الزمخشري: «مثل ذلك التثبيت ثَبَّتناه» . وقَدَّره الحوفي: «أَرَيْناه البراهين بذلك» وقَدَّره ابن عطية: «جَرَتْ أفعالُنا وأقدارُنا كذلك لِنَصْرِفَ» ، وقدَّره أبو البقاء «نُراعيهِ كذلك» . الثاني: أن الكاف في محلِّ رفعٍ، فقدَّره الزمخشري وأبو البقاء: «الأمر مثل ذلك» . وقدَّره ابن عطية «عِصْمَتُه كذلك» . وقال الحوفي: «أَمْرُ البراهين كذلك» ، ثم قال: «والنصبُ أجودُ لمطالبة حروف الجرِّ للأفعال أو معانيها» . الثالث: أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: هَمَّتْ به وهمَّ بها كذلك، ثم قال: «لولا أن رأى برهان ربه لنصرِفَ عنه ما همَّ بها» هذا نصٌّ

ابن عطية. وليس بشيءٍ، إذ مع تسليمِ جواز التقديم والتأخير لا معنى لِما ذكره. وقال الشيخ: «وأقولُ إن التقدير: مثلَ تلك الرؤية أو مثل ذلك الرأي نُرِي براهينَنا لِنَصْرِفَ عنه، فتجعل الإِشارة إلى الرأي أو الرؤية، والناصبُ للكاف ممَّا دَلْ عليه قولُه: {لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ولِنَصْرِفَ متعلِّقٌ بذلك الفعلِ الناصب للكاف. ومصدرُ «رأى» رُؤْية ورَأْي. قال: 2765 - ورأْيُ عَيْنَيَّ الفتى أباكا ... يُعطي الجزيلَ فعليك ذاكا « وقرأ الأعمش» ليَصْرِفَ «بياء الغَيبة، والفاعلُ هو اللَّه تعالى. قوله: {المخلصين} قرأ هذه اللفظةَ حيث وَرَدَتْ إذا كانت معرَّفةً ب أل مكسورةَ اللامِ ابنُ كثير وأبو عمرو وابن عامر، والباقون بفتحها، فالكسرُ على اسم الفاعل، والمفعولُ محذوف تقديره: المخلِصين أنفسَهم أو دينَهم، والفتح على أنه اسم مفعول مِنْ أَخْلصهم اللَّه، أي: اجتباهم واختارهم، أو أَخْلصهم مِنْ كل سوء. وقرأ الكوفيون في مريم {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} [مريم: 51] بفتح اللام بالمعنى المتقدم، والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم.

25

قوله تعالى: {واستبقا الباب} : منصوب: إمَّا على إسقاط

الخافض اتِّساعاً، إذ أصلُ «استبق» أن تتعدَّى ب إلى، وإمَّا على تضمين «استبقا» معنى «ابتدرا» فتنصب مفعولاً به. قوله: {وَقَدَّتْ} يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على «استبقا» ، أي: اسْتَبَقَا وقَدَّتْ، ويحتمل أن تكون في محل نصب على الحال، أي: وقد قَدَّتْ. والقَدُّ: الشَّقُّ مطلقاً. وقال بعضهم: «القَدُّ فيما كان يُشَقُّ طولاً، والقَطُّ فيما كان يُشَقُّ عَرْضاً» .

26

وقال ابن عطية: «وقرأت فرقة» قُطَّ «. قال أبو الفضل ابن حرب:» رأيت في مصحفٍ «قُطَّ مِنْ دُبُر» ، أي: شُقَّ «. قال يعقوب:» القَطُّ في الجلدِ الصحيح والثوبِ الصحيح «. وقال الشاعر: 2766 - تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ ... وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُبَاحِبِ / قوله: {مَا جَزَآءُ} يجوز في» ما «هذه أن تكونَ نافيةً، وأن تكونَ استفهاميةً، و» مَنْ «يجوز أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، وقوله: {إِلاَّ أَن يُسْجَنَ} خبرُ المبتدأ، ولمَّا كان» أَن يُسجن «في قوة المصدر عَطَف عليه المصدر وهو قوله: {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . و» أو «تُحْمل معانيها، وأظهرُها التنويع.

وقرأ زيد بن علي: {أَوْ عَذَابٌ أَلِيماً} بالنصب. وخرجَّه الكسائي على إضمار فعلٍ، أي: أو أَنْ يُعَذَّبَ عذاباً أليماً. قوله: {هِيَ} ولم يَقُل» هذه «ولا» تلك «لفرط استحيائه وهو أدبٌ حسن، حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور. و» مِنْ أهلها «صفة ل» شاهد «، وهو المُسَوِّغ لمجيءِ الفاعل من لفظِ الفعل إذ لا يجوزُ: قام القائم، ولا قعد القاعد لعدم الفائدة. قوله: {إِن كَانَ} هذه الجملةُ الشرطيةُ: إمَّا معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديرُه: فقال: إن كان، عند البصريين، وإمَّا معمولة ل» شَهِد «لأنه بمعنى القول عند الكوفيين.

27

قوله تعالى: {مِن دُبُرٍ} و {مِن قُبُلٍ} : قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين والجرِّ والتنوين، بمعنى مِنْ خلف ومن قُدَّام أي: مِنْ خلف القميص وقدَّامه، أو يوسف. وقرأ الحسن وأبو عمرو في روايةٍ بتسكين العين تخفيفاً وهي لغة الحجاز وأسد. وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، ورُوي عن الجارود وابن أبي إسحاق وابن يعمر وأيضاً بسكون العين وبنائهما على الضم، ووجه ضمِّهما أنهم جعلوهما كقبل وبعد في بنائهما على الضم عند قطعهما عن الإِضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية أن يُجعل المضافُ غايةَ نفسِه بعدما كان المضافُ إليه غايتَه، والأصلُ إعرابُهما لأنهما اسمان متمكنان وليسا بظرفَيْن. قال أبو حاتم: «وهذا رديءٌ في العربية وإنما يقع هذا البناءُ في الظروف» . وقال الزمخشري: «والمعنى: مِنْ قُبُل القميص ومِنْ دُبُره، وأمَّا التنكير

فمعناه مِنْ جهةٍ يُقال لها قُبُل ومِنْ جهة يُقال لها دُبُر، وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ» مِنْ قبلَ ومِنْ دبرَ «بالفتح كأنه جعلهما عَلَميْن للجهتين، فَمَنْعُهما الصرفَ للعلمية والتأنيث» . وقد تقدَّم الخلافُ في «كان» الواقعة في حَيِّز الشرط: هل تبقى على معناها مِن المُضيّ وإليه ذهب المبرد، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعال، وأن المعنى على التبيين؟ وقوله: {فَكَذَبَتْ} و {فَصَدَقتْ} على إضمار «قد» لأنها تُقَرِّب الماضي من الحالة، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاً، أما إذا كان جامداً فلا يحتاج إلى «قد» لا لفظاً ولا تقديراً.

29

قوله تعالى: {يُوسُفُ} منادى محذوفٌ منه حرفُ النداء. قال الزمخشري: «لأنه منادى قريبٌ مُفاطِن للحديث، وفيه تقريبٌ له وتلطيف بمحلِّه» انتهى. وكلُّ منادى يجوز حَذْفُ حرفِ النداء منه إلا الجلالةَ المعظمة واسمَ الجنس غالباً والمستغاثَ والمندوبَ واسمَ الإِشارة عند البصريين والمضمَر إذا نُودي. والجمهور على ضمِّ فاء «يوسف» لكونه مفرداً معرفة. وقرأ الأعمش بفتحها. وقيل: لم تَثْبُتْ هذه القراءةُ عنه، وعلى تقدير ثبوتها فقال أبو البقاء فيها وجهين، أحدهما: أن يكون أخرجه على أصل المنادى كما جاء في الشعر: 2767 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ...

يا عَدِيَّاً لقد وَقَتْكَ الأوَاقي يريد بأصل المنادى أنه مفعولٌ به فَحَقُّه النصبُ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسُفَ لا يَنْصرف فَفَتْحَتُه فتحةُ إعراب. والثاني وجعله الأَشْبَه: أن يكونَ وقف على الكلمة ثم وَصَل وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف، فألقى حركة الهمزة على الفاء وحَذَفَها فصار اللفظ بها «يوسُفَ اعْرض» وهذا كما حُكِي «اللَّهَ اكبرَ اشْهدَ الاَّ» بالوصل والفتح. قلت: يعني بالفتح في الجلالة، وفي أكبر، وفي اشهد، وذلك أنه قدَّر الوقفَ على كل كلمة مِنْ هذه الكلم، وألقى حركة الهمزة من كلٍ من الكلمِ الثلاثِ على الساكن قبله، وأجرى الوصلَ مُجرى الوقف في ذلك، والذي حَكَوه الناس إنما هو في «أكبر» خاصة لأنها مَظِنَّةُ الوقف، وقد تقدَّم ذلك في أول آل عمران. وقرىء «يوسُفُ أَعْرَضَ» بضم الفاء و «أعرض» فعلاً ماضياً، وتخريجُها أن يكون «يوسف» مبتدأً، و «أَعْرض» جملة مِنْ فعل وفاعل خبره. قال أبو البقاء: «وفيه ضعف لقوله» واستغفِري «، وكان الأشبهُ أن يكون بالفاء: فاستغفري» .

30

قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} النسوةُ فيها أقوالُ، المشهور أنها جمعُ تكسير للقلة على فِعْله كالصِّبْيَة والغِلْمَة. ونصَّ بعضُهم على عَدَمِ اطِّرادها وليس لها واحدٌ مِنْ لفظها. والثاني: أنها اسمٌ مفردٌ لجمع المرأة، قاله الزمخشري. والثالث: أنها اسمُ جمعٍ/ قاله أبو بكر بن السراج

وكذلك أخواتها كالصِّيْبَة والفِتْية. وعلى كل قولٍ فتأنيثها غير حقيقي باعتبار الجماعة، ولذلك لم يلحق فعلَها تاءُ التأنيث، والمشهورُ كسرُ نونها، ويجوز ضمُّها في لغةٍ، ونقلها أبو البقاء قراءةً ولم أَحْفَظْه، وإذا ضُمَّتْ نونُه كان اسمَ جمع بلا خلاف، ويُكسَّر في الكثرة على نِسْوان، والنساء جمع كثرة أيضاً ولا واحدَ له من لفظه، كذا قال الشيخ، ومقتضى ذلك أن لا يكونَ النساءُ جمعاً لنسوة لقوله: «لا واحد له من لفظه» . و «في المدينة» يجوز تعلُّقه بمحذوفٍ صفةً لنسوة وهو الظاهر، وب «قال» وليس بظاهر. قوله: {تُرَاوِدُ} خبر «امرأة العزيز» ، وجيء بالمضارع تنبيهاً على أن المراوَدَةَ صارَتْ سَجِيَّةً لها ودَيْدَناً، دون الماضي، فلم يَقُلن «راوَدَتْ» . ولام «الفتى» ياء لقولهم الفتيان وفُتَيّ، وعلى هذا فقولُهم «الفتوَّة» في المصدر شاذ. قوله: {قَدْ شَغَفَهَا} هذه الجملةُ يجوز أن [تكون] خبراً ثانياً، وأن تكونَ مستأنفة، وأن تكونَ حالاً: إمَّا من فاعل «تُراوِدُ» وإمَّا مِنْ مفعوله. و «حبَّاً» تمييزٌ، وهو منقولٌ من الفاعلية، والأصل: قد شَغَفها حبُّه. والعامَّة على «شَغَفها» بالغين المعجمة مفتوحةً بمعنى خَرَقَ شِغاف قلبها، وهو مأخوذ من الشَّغاف والشَّغاف: حجاب القلب جُليْدَة رقيقة. وقيل: سويداء القلب. وقيل: داءٌ يَصل إلى القلب من أجل الحب وقيل: جُلَيْدَةٌ رقيقة يقال لها لسان القلب ليسَتْ محيطةً به، ومعنى شَغَفَ قلبَه، أي: خرق حجابَه أو أصابه فأحرقه بحرارة الحبِّ، وهو مِنْ شَغَفَ البعيرَ بالهِناء إذا طَلاَه بالقَطِران فأحرقه. والمَشْغوف: مَنْ وصل الحبُّ لقلبه، قال الأعشى:

2768 - تَعْصِي الوُشاةَ وكان الحُبُّ آوِنَةً ... مِمَّا يُزَيِّنُ للمَشْغوف ما صنعا وقال النابغة الذبياني: 2769 - وقد حالَ هَمٌّ دونَ ذلك والِجٌ ... مكانَ الشَّغافِ تَبْتَغيه الأصابعُ وقرأ ثابت البناني بكسر الغين. قيل: وهي لغة تميم. وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر والشعبي وقتادة بفتح العين المهملة، وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء كَسْرُ المهملة أيضاً. واختلف الناس في ذلك فقيل: هو مِنْ شَعَفَ البعيرَ إذا هَنَأَ فأحرقه بالقَطِران، قاله الزمخشري، وأنشد: 2770 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما شَعَفَ المَهْنُؤْءَةَ الرجلُ الطالي والناسُ إنما يَرْوونه بالمعجمة ويُفَسِّرونه بأنه أصاب حبي شَغَافَ قلبها أي أحرق حجابَه، وهي جُلَيْدَة رقيقة دونه، «كما شَغَفَ» ، أي: كما أَحْرق وبالغ المهنوءة، أي: المَطْلِيَّة بالهِناء وهو القَطِران، ولا ينشدونه بالمهملة. وقال أبو البقاء لمَّا حكى هذه القراءة: «مِنْ قولك: فلان مَشْعوفٌ

بكذا، أي: مغرى به، وعلى هذه الأقوال فمعناها متقارب. وفرَّق بعضُهم بينهما فقال ابن زيد:» الشَّغَف يعني بالمعجمة في الحب، والشَّعَفُ في البغض «. وقال الشعبي:» الشَّغَف والمَشْغوف بالغين منقوطةً في الحُبِّ، والشَّعَفُ الجنون، والمَشْعوف: المجنون «. قوله: {مُتَّكَئاً} العامَّةُ على ضم الميم وتشديدِ التاءِ وفَتْحِ الكاف والهمز، وهو مفعولٌ به بأَعْتَدَتْ، أي: هَيَّأَتْ وأَحْضَرَتْ. والمتَّكأ الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها. وقيل: المتكأ: مكان الاتِّكاء. وقيل: طعام يُحَزُّ حَزَّاً وهو قول مجاهد. قال القتبيُّ:» يُقال: اتَّكَأْنا عند فلانٍ، أي: أَكَلْنا «. قال الزمخشري:» مِنْ قولك: اتَّكَأْنا عند فلان: طَعِمنا، على سبيل الكناية؛ لأنه مِنْ «دَعَوْتَه ليَطْعَمَ عندك» : اتخذتَ له تُكَأَة يتكِىء عليها. قال جميل: 2771 - فَظَلِلْنا بنعمةٍ واتَّكَأْنا ... وشَرِبْنا الحَلالَ مِنْ قُلَلِهْ « انتهى. قلت: فقوله:» وشَرِبْنا «مُرَشِّح لمعنى اتَّكَأْنا بأكلنا. وقرأ أبو جعفر والزهري» مُتَّكَا «مشدد التاء دون همزٍ وفيه وجهان، أحدهما: أن يكونَ أصلُه مُتَّكأ كقراءة العامَّة وإنما خُفِّفَ همزُه كقولهم تَوَضَّيْتُ في تَوَضَّأْتُ، فصار بزنة مُتَّقَى. والثاني: أن يكونَ مُفْتَعَلاً مِنْ أَوْكَيْتُ القِرْبة إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاء، فالمعنى: أَعْتَدَتْ شيئاً يَشْتَدِدْن عليه: إمَّا بالاتِّكاء وإمَّا

بالقطع بالسكين، وهذا الثاني تخريج أبي الفتح. وقرأ الحسن وابن هرمز» مُتَّكاءً «بالتشديد والمدِّ، وهي كقراءةِ العامَّة إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّد منها ألفٌ كقوله: 2772 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومِنْ ذَمِّ الرجالِ بمنتزاحِ وقوله: 2773 - يَنْباع مِنْ ذفرى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: 2774 - أَعوذُ باللَّه مِنَ العَقْرابِ ... الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنابِ أي: بمنتزح ويَنْبَع والعقرب الشائلة. وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة/ والضحاك والجحدري وأبان بن تغلب» مُتْكَاً «بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وكذلك قرأ ابن هرمز وعبد اللَّه ومعاذ، إلا أنهما فتحا الميم. والمُتْكُ بالضم والفتح الأُتْرُجُّ، ويقال الأُتْرُنْجُ لغتان، وأنشدوا: 2775 - فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لبني أبيها ... تَخُبُّ بها العَثَمْثَمَةُ الوَقاحُ

وقيل: بل هو اسم لجميع ما يُقطع بالسكين كالأُتْرُجِّ وغيره من الفواكه، ونشدوا: 2776 - نَشْرَبُ الإِثمَ بالصُّواعِ جِهاراً ... وترى المُتْكَ بيننا مُسْتعارا قيل: وهو مِنْ مَتَك بمعنى بَتَك الشيءَ، أي: قطعه، فعلى هذا يحتمل أن تكونَ الميم بدلاً من الباء وهو بدل مُطَّرد في لغة قومٍ، واحتُمِل أن يكونَ من مادةٍ أخرى وافَقَتْ هذه. وقيل: بالضم العسلُ الخالص عند الخليل، والأُتْرُجُّ عند الأصمعي. ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث، أعني ضمَّ الميمِ وفتحَها وكسرَها قال: وهو الشرابُ الخالص. وقال المفضل: هو بالضم المائدة، أو الخمر في لغة كِنْدة. وقوله: {لَهُنَّ مُتَّكَئاً} : إمَّا أَنْ يريدَ كل واحدةٍ مُتَّكَأً، ويَدُلُّ له قوله: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً} ، وإمَّا أن يريدَ الجنس. والسِّكِّين يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ، قاله الكسائي والفراء، وأنكر الأصمعي تأنيثه. والسَّكِينة فَعِيلة من السكون. وقال الراغب: «سُمِّي به لإِزالتهِ حركةَ المذبوح» . قوله: {أَكْبَرْنَهُ} الظاهر أن الهاء ضمير يوسف. ومعنى أَكْبَرْنَه عَظَّمْنه ودُهِشْن مِنْ حُسْنه. وقيل: هي هاء السكت. قال الزمخشري: «وقيل: أَكْبَرْنَ بمعنى» حِضْنَ «والهاء للسكت، يقال: أَكْبَرَتِ المرأةُ إذا حاضَتْ، وحقيقتُه: دَخَلَتْ في الكِبَر؛ لأنها بالحيض تخرُجُ مِنْ حَدِّ الصِّغَرِ إلى الكِبَرِ،

وكأنَّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قولَه: 2777 - خَفِ اللَّهَ واسْتُرْ ذا الجمالَ ببُرْقُعٍ ... فإنْ لُحْتَ حاضَتْ في الخُدورِ العواتِقُ انتهى. وكونُ الهاء للسكتِ يَرُدُّه ضمُّ الهاءِ، ولو كانت للسكت لَسَكَنَتْ وقد يقال: إنه أَجْراها مُجْرى هاء الضمير، وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف في إثباتها. قال الشيخ:» وإجماعُ القَّراء على ضمِّ الهاء في الوصل دليلٌ على أنها ليسَتْ هاءَ السكت؛ إذ لو كانت هاءَ السكت وكان من إجراء الوصلِ مُجْرى الوقفِ لم يضمَّ الهاء «. قلت: وهاء السكت تُحَرَّك بحركةِ هاءِ الضمير إجراءً لها مُجْراها، وقد حَقَّقْتُ هذا في الأنعام، وقد قالوا ذلك في قول المتنبي أيضاً: 2778 - واحَرَّ قلباه مِمِّنْ قَلْبُه شَبِمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فإنه رُوِي بضمِّ الهاء في» قلبها «وجعلوها هاءَ سكتٍ. ويمكن أن يكون» أَكْبَرْنَ «بمعنى حِضْنَ ولا تكون الهاءُ للسَّكْت، بل تُجْعل ضميرَ المصدرِ المدلولِ عليه بفعله أي: أَكْبَرْنَ الإِكبار، وأنشدوا على أن الإِكبارَ بمعنى الحيض قولَه: 2779 - يأتي النساءَ على أَطْهارِهِنَّ ولا ... يأتي النساءَ إذا أَكْبَرْن إكبارا قال الطبري:» البيت مصنوعٌ «.

قوله: {حَاشَ للَّهِ} » حاشى «عَدَّها النحويون من الأدوات المترددةِ بين الحرفية والفعلية فإنْ جَرَّتْ فهي حرفٌ، وإنْ نَصَبَتْ فهي فعلٌ، وهي من أدواتِ الاستثناء ولم يَعْرف سيبويه فعليَّتها وعَرَفَها غيرُه، وحَكَوا عن العرب» غَفَر اللَّه لي ولِمنْ سمع دعائي حاشى الشيطانَ وابنَ الأصبغ «بالنصب، وأنشدوا: 2780 - حشى رَهْطَ النبيِّ فإنَّ منهمْ ... بُحوراً لا تكدِّرُها الدِّلاءُ بنصب» رَهْط «. و» حشى «لغةٌ في حاشى كما سيأتي. وقال الزمخشري:» حاشى كلمةٌ تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول: أساءَ القومُ حاشى زيدٍ قال: 2781 - حاشى أبي ثوبانَ إنَّ بهِ ... ضِنَّاً عنِ المَلْحاة والشَّتْم وهي حرفٌ من حروف الجر فوُضِعَتْ موضعَ التنزيه والبراءة، فمعنى حاشى اللَّهِ: براءة اللَّهِ وتنزيه اللَّه، وهي قراءة ابن مسعود «. قال الشيخ:» وما ذكر أنها تفيد التنزيهَ في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرقَ بين قولك: «قام القومُ إلا زيداً» و «قام القوم حاشى زيدٍ» ، ولَمَّا مَثَّل بقوله: «

أساء القومُ حاشى زيدٍ» وفَهِم هو من هذا التمثيلِ براءةَ زيدٍ من الإِساءة جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ، وأمَّا ما أنشده مِنْ قوله: حاشا أبي ثوبان، فهكذا ينشده ابن عطية وأكثرُ النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدرَ بيتٍ على عجز آخَرَ وَهْماً من بيتين، وهما: / 2782 - حاشى أبي ثَوْبان إنَّ أبا ... ثَوْبانَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمِ عمرَو بنَ عبدِ اللَّه إنَّ به ... ضِنَّاً عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ قلت: قوله «إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنهم غالبُ فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني، ولمَّا ذكروا مع أدواتِ الاستثناء» ليس «و» لا يكون «و» غير «لم يذكروا معانيهَا، إذ مرادُهم مساواتُها ل» إلا «في الإِخراج وذلك لا يمنعُ من زيادةِ معنى في تلك الأدوات. وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعيَّنُ فعليَّتُها إذا وقع بعدها حرفُ جر كالآية الكريمة، قالوا لأن حرفَ الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً كقوله: 2783 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا لِلِما بهم أبداً دواءُ

وقول الآخر: 2784 - فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فتعيَّن أن تكونَ فعلاً، فاعلُه ضمير يوسف أي: حاشى يوسف، و» للَّه «جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بالفعل قبله، واللامُ تفيد العلةَ أي: حاشى يوسفَ أن يقارِفَ ما رَمَتْه به لطاعة اللَّه ولمكانه منه أو لترفيع اللَّه أن يرمى بما رَمَتْه به، أي: جانَبَ المعصيةَ لأجل اللَّه. وأجاب الناسُ عن ذلك بأنَّ حاشى في الآية الكريمة ليست حرفاً ولا فعلاً، وإنما هي اسمُ مصدرٍ بدلٌ من اللفظة بفعله كأنه قيل: تنزيهاً للَّه وبراءةً له، وإنما لم يُنَوَّنْ مراعاةً لأصله الذي نُقِل منه وهو الحرف، ألا تراهم قالوا: مِنْ عن يمينه فجعلوا» عن «اسماً ولم يُعْربوه، وقالوا» مِنْ عليه «فلم يُثْبتوا ألفه مع المضمر، بل أَبْقَوا» عن «على بنائه، وقلبوا ألف» على «مع المضمر، مراعاةً لأصلها، كذا أجاب الزمخشري، وتابعه الشيخُ ولم يَعْزُ له الجواب. وفيه نظر. أمَّا قوله:» مراعاة لأصله «فيقتضي أنه نُقِل من الحرفية إلى الاسمية، وليس ذلك إلا في جانب الأعلام، يعني أنهم يُسَمُّون الشخصَ بالحرف، ولهم في ذلك مذهبان: الإِعرابُ والحكاية، أمَّا أنَّهم ينقلون الحرف إلى الاسم، أي: يجعلونه اسماً فهذا غيرُ معروفٍ. وأمَّا استشهادُه ب» عن «و» على «فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ» عن «حالَ كونِها اسماً إنما بُنيت لشبهها بالحرفِ في الوضع على حرفين لا أنها باقيةٌ على بنائها. وأمَّا قَلْبُ ألفِ «

على» مع الضمير فلا دلالة فيه لأنَّا عَهدنا ذلك فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق ك «لدى» . والأَوْلى أن يقال: الذي يظهر في الجواب عن قراءةِ العامة أنها اسمُ منصوبٌ كما تقدَّم تقريره، ويدلُّ عليه قراءة أبي السمَّال «حاشاً للَّه» منصوباً، ولكنهم أَبْدلوا التنوين ألفاً كما يبدلونه في الوقف، ثم إنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف كما فعلوا ذلك في مواضعَ كثيرةٍ تقدَّم منها جملةٌ وسيمر بك مثلها. وقيل في الجواب عن ذلك: بل بُنيت «حاشا» في حال اسميتها لشبهها ب «حاشا» في حال حرفيَّتها لفظاً ومعنى، كما بُنِيَتْ «عن» و «على» لما ذكرنا. وقال بعضُهم: إنَّ اللامَ زائدةٌ. وهذا ضعيفٌ جداً بابُه الشعرُ. واسْتَدَلَّ المبرد وأتباعُه على فعليتها بمجيء المضارعِ منها. قال النابغة الذبياني: 2785 - ولا أرى فاعِلاً في الناسِ يُشْبِهُهُ ... ولا أُحاشي من الأقوامِ مِنْ أَحَدِ قالوا: وتَصَرُّفُ الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل دليلُ فعليَّتها لا محالةَ. وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظِ الحرفِ كما قالوا: «سَوَّفْتُ بزيد» و «لَوْلَيْت له» ، أي: قلت له: سوف أفعلُ. وقلت له: لو كان ولو كان، وهذا من ذلك، وهو محتمل. وممَّن رَجَّح جانبَ الفعلية أبو علي الفارسي قال: «لا تَخْلو» حاش «

في قوله:» حاش للَّه «من أن تكونَ الحرفَ الجارَّ في الاستثناء، أو تكون فعلاً على فاعَل، ولا يجوز أن تكونَ الحرفَ الجارَّ لأنه لا يدخل على مثله، ولأن الحروفَ لا يُحْذَفُ منها إذ لم يكن فيها تضعيف، فثبت أنه فاعَل مِن الحشا الذي يُراد به الناحية، والمعنى: أنه صار في حَشَاً، أي في ناحية، وفاعل» حاش «» يوسف «والتقدير: بَعُدَ من هذا الأمرِ للَّه، أي: لخوفِه» . قوله: «حرفُ الجر لا يدخل على مثله» مُسَلَّم، ولكن ليس هو هنا حرفَ جر كما تقدَّم تقريرُه. وقوله: «لا يُحْذف من الحرفِ إلا إذا كان مضعفاً» ممنوع، ويدلُّ له قولهم «مُنْ» في «منذ» إذا جُرَّ بها، فحذفوا عينها ولا تضعيفَ. قالوا: ويدلُّ على أنَّ أصلَها «منذ» بالنون تصغيرُها على «مُنَيْذ» وهذا مقرَّر في بابه. وقرأ أبو عمرو وحده «حاشى» بألفين: ألفٍ بعد الحاء، وألف بعد الشين في كلمتي هذه السورة وصلاً، وبحذفها وقفاً إتباعاً للرسم كما سننبِّه عليه. والباقون بحذف الألفِ الأخيرةِ وصلاً ووقفاً. فأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها. وأمَّا الباقون فإنهم اتَّبعوا في ذلك الرسمَ ولمَّا طال اللفظ حَسُن تخفيفُه بالحذف ولا سيما على قول مَنْ يَدَّعي فعليَّتَها، كالفارسي. قال الفارسي: «وأمَّا حذفُ الألف فعلى» لم يَكُ «و» لا أَدْرِ «و» أصاب الناسَ جُهْدٌ، ولَوْ تَرَ أهلَ مكة «، و [قوله] : 2786 - وصَّانيَ العجَّاجُ فيما وَصَّني/ ...

في شعر رؤبة، يريد: لم يكن، ولا أدري، ولو ترى، ووصَّاني. وقال أبو عبيد:» رأيتُها في الذي يقال: إنه الإِمام مصحف عثمان رضي اللَّه عنه: «حاش للَّه» بغير ألف، والأخرى «مثلُها» . وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبد اللَّه كذلك، قالوا: فعلى ما قال أبو عبيد والكسائي تُرَجَّح هذه القراءةُ، ولأنَّ عليها ستةً من السبعة، ونقل الفراء أن الإِتمامَ لغةُ بعض العرب، والحذفُ لغة أهل الحجاز قال: «ومِنْ العرب من يقول:» حشى زيد «أراد حشى لزيد» . فقد نقل الفراءُ أن اللغاتِ الثلاثَ مسموعةٌ، ولكنَّ لغةَ الحجازِ مُرَجَّحَةٌ عندهم. وقرأ الأعمش في طائفة «حشى للَّه» بحذف الألفين وقد تقدَّم أن الفراء حكاها لغةً عن بعض العرب، وعليه قوله: 2787 - حشى رَهْطِ النبيِّ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. وقرأ أُبَي وعبد اللَّه «حاشى اللَّهِ» بجرِّ الجلالة، وفيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ اسماً مضافاً للجلالة [نحو: «سبحان اللَّه» وهو اختيارُ الزمخشري. الثاني: أنه حرفُ استثناء جُرَّ به ما بعده، وإليه ذهب الفارسي،] وفي جَعْلِهِ «حاشى» حرفَ جرٍّ مُراداً به الاستثناءُ نظرٌ،

إذ لم يتقدَّم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسمُ المعظَّم بخلافِ «قام القومُ حاشى زيد» . واعلمْ أنَّ النحويين لمَّا ذكروا هذا الحرفَ جعلوه من المتردد بين الفعلية والحرفية، عند مَنْ أثبتَ فعليَّتَه، وجعله في ذلك كخلا وعدا، عند مَنْ أثبت حرفيَّة «عدا» ، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسميةِ والفعلية والحرفية، كما فعلوا ذلك في «على» فقالوا: يكون حرف جر في «عليك» ، واسماً في قوله: «مِنْ عليه» ، وفعلاً في قوله: 2788 - عَلاَ زيدُنا يومَ النَّقا. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإن كان فيه نظرٌ ذكرتُه مستوفىً في غير هذا المكان، ملخصُه أن «على» حالَ كونها فعلاً غير «على» حال كونها غيرَ فعل، بدليل أنَّ ألف الفعلية منقلبة عن واو، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذَيْنَكَ. وقد يتعلَّق مَنْ ينتصر للفارسي بهذا فيقول: لو كانت «حاشى» في قراءة العامَّة اسماً لذكر ذلك النحويون عند تردُّدِها بين الحرفية والفعلية، فلمَّا لم يذكروه دَلَّ على عدمِ اسميتها. وقرأ الحسن «حاشْ» بسكون الشين وصلاً ووقفاً كأنه أجرى الوصلَ مجرى الوقف. ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ: «حاشى الإِله» قال: «محذوفاً مِنْ حاشى» يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة، ويدلُّ على ذلك ما صرَّح به صاحب «اللوامح» فإنه قال: «بحذف الألف» ثم قال: وهذا يدلُّ

على أنه حرفُ جرٍ يَجُرُّ ما بعده، فأما «الإِله» فإنه فكَّه عن الإِدغامِ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام المفعول، ومعناه المعبود، وحُذِفت الألف من «حاشى» للتخفيف « قال الشيخ:» وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحبُ «اللوامح» من أنَّ الألف في «حاشى» في قراءة الحسن محذوفةُ الألف لا يتعيَّنُ، إلا إنْ نَقَل عنه أنه يقف في هذه القراءةِ بسكون الشين، فإن لم يُنْقَلْ عنه في ذلك شيءٌ فاحتمل أن تكونَ الألفُ حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ إذا الأصلُ: «حاشى الإِله» ثم نَقَل فحذف الهمزة وحَرَّك اللام بحركتها، ولم يَعْتَدَّ بهذا التحريك لأنه عارض، كما تنحذف في «يَخْشى الإِله» ، ولو اعتدَّ بالحركة لم تُحْذف الألف «. قلت: الظاهر أن الحسنَ يقف في هذه القراءة بسكون الشين، ويُسْتأنس له بأنه سكَّن الشين في الرواية الأخرى عنه، فلمَّا جِيءَ بشيءٍ يُحْتَمَلُ ينبغي أن يُحْمَلَ على ما صُرِّح به. وقول صاحب «اللوامح» : «وهذا يدلُّ على أنه حرف جر يُجَرُّ به ما بعده» لا يصحُّ لِما تقدم مِنْ أنه لو كان حرف جر لكان مستثنى به ولم يتقدَّمْ ما يستثنى منه بمجروره. واعلمْ أنَّ اللامَ الداخلةَ على الجلالة متعلقة بمحذوف على سبيل البيان، كهي في «سقياً لك ورعياً لزيد» عند الجمهور، وأمَّا عند المبرد والفارسي فإنها متعلقة بنفس «حاشى» لأنها فعلٌ صريحٌ عندهما، وقد تقدم أن بعضَهم ادعى زيادتَها. قوله: {مَا هذا بَشَراً} العامَّة على إعمال «ما» على اللغة الحجازية،

وهي اللغة الفصحى، ولغةُ تميم الإِهمالُ، وقد تقدَّم تحقيق هذا أول البقرة وما أنشدتُه عليه من قوله: 2789 - وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيتين. ونقل ابن عطية أنه لم يَقْرأ أحد إلا بلغة الحجاز. وقال الزمخشري: «ومَنْ قرأ على سليقته من بني تميم قرأ» بشرٌ «بالرفع وهي قراءةُ ابن مسعود» . قلت: فادِّعاء ابن عطية أنه لم يُقرأ به غير مُسَلَّم. وقرأ العامَّة «بَشَراً» بفتح الباء على أنها كلمة واحدة. وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي «بشرى» بكسر الباء، وهي باء الجر دخلت على «شِرى» فهما كلمتان جار ومجرور، وفيها تأويلات، أحدُهما: ما هذا بمشترى، فوضع المصدرَ موضع المفعول به كضَرْب الأمير. الثاني: ما هذا بمُباعٍ، فهو أيضاً مصدر واقع موقع المفعول به إلا أن المعنى يختلف. الثالث: ما هذا بثمن، يَعْنِين أنه أَرْفَعُ مِنْ أنْ يجرى عليه شيءٌ من هذه الأشياء. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو كقراءة الحسن وأبي الحويرث إلا أنه قرأ عنه «إلا مَلِك» بكسر اللام واحد الملوك، نَفَوا عنه ذُلَّ المماليك/ وأثبتوا له عِزَّ الملوك.

وذكر ابن عطية كسرَ اللام عن الحسن وأبي الحويرث. وقال أبو البقاء: «وعلى هذا قُرىء» مَلِك «بكسر اللام» كأنه فهم أنَّ مَنْ قرأ بكسر الياء قرأ بكسر اللام أيضاً للمناسبة بين المعنيين، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءةَ مع كسر الباء البتة، بل يُفهم من كلامِه أنه لم يَطَّلع عليها فإنه قال: «وقرىء، ما هذا بشرى أي ما هو بعبدٍ مملوكٍ لئيم، إنْ هذا إلا مَلَك كريم، تقول:» هذا بشرى «أي: حاصلٌ بشرى بمعنى يشترى، وتقول: هذا لك بشرى أم بِكِرا؟ والقراءةُ هي الأَوْلى لموافقتها المصحف ومطابقة» بشر «ل» ملك «. قوله:» لموافقتها المصحفَ «يعني أنَّ الرسم» بشراً «بالألف لا بالياء، ولو كان المعنى على» بشرى «لَرُسِمَ بالياء. وقوله:» ومطابقة «دليلُ على أنه لم يَطَّلِعْ على كسر اللام عن مَنْ قرأ بكسر الباء.

32

قوله تعالى: {فذلكن} : مبتدأ والموصول خبره، أشارت إليه إشارة البعيد وإن كان حاضراً تعظيماً له ورفعاً منه لتُظْهِرَ عُذْرَها في شَغَفها. وجَوَّز ابنُ عطية أن يكونَ «ذلك» [إشارةً إلى] حُبِّ يوسف، والضميرُ في «فيه» عائدٌ على الحبِّ فيكون «ذلك» إشارة إلى غائب على بابه. قلت: يعني بالغائب البعيدَ، وإلا فالإِشارةُ لا تكون إلا لحاضر مطلقاً.

قوله: {مَآ آمُرُهُ} في «ما» وجهان، أحدُهما: أنها مصدرية. والثاني: أنها موصولةٌ، وهي مفعولٌ بها بقوله: «يفعلْ» والهاءُ في «آمُرُه» تحتمل وجهين، أحدُهما: العَوْد على «ما» الموصولة إذا جعلناها بمعنى الذي. والثاني: العَوْد على يوسف. ولم يُجَوِّزْ الزمخشري عَوْدَها على يوسف إلا إذا جُعِلت «ما» مصدرية «فإنه قال:» فإن قلت: الضمير في «آمُره» راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف؟ قلت: بل إلى الموصول والمعنى: ما آمُرُ به فحذف الجارَّ كما في قوله: 2790 - أَمَرْتُكَ الخيرَ. . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويجوز أن تُجْعَلَ «ما» مصدريةً فيعود على يوسف، ومعناه: ولَئِنْ لم يفعلْ أمري إياه، أي: مُوْجِبَ أمري ومقتضاه «. قلت: وعلى هذا فالمفعولُ الأولُ محذوفٌ تقديره: ما آمُره به وهو ضميرُ يوسف. والسين في» استعصم « [فيها وجهان، أحدهما: أنها] ليست على بابها مِن الطلب، بل استفعل هنا بمعنى افتعل، فاستعصم واعتصم واحد. وقال الزمخشري:» الاستعصامُ بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الامتناع البليغ والتحفُّظِ الشديدِ، كأنه في عِصْمةٍ وهو يجتهدُ في الاستزادةِ منها، ونحو: استمسك واستوسع الفَتْقُ، استجمع الرأيَ، واستفحل الخطبُ «، فردَّ السين إلى بابها من الطلب وهو معنىً حسنٌ، ولذلك قال ابن عطية:» طلب العِصْمة واستمسك بها وعصاني «.

قال الشيخ:» والذي ذكره التصريفيون في «استعصم» أنه موافقٌ ل «اعتصم» فاستفعل فيه موافقٌ ل «افتعل» ، وهذا أجودُ مِنْ جَعْلِ استفعل فيه للطلب لأنَّ «اعتصم» يدلُّ على وجود اعتصامه، وطلب العصمة لا يدلُّ على حصولها، وأمَّا أنه بناءُ مبالغةٍ يَدُلُّ على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى ل «استفعل» ، وأمَّا استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه لموافقة افْتَعَل، والمعنى: امتسك واتَّسع واجتمع، وأمَّا «استفحل الخطبُ» فاستفعل فيه موافِقَةٌ لتفعَّل، أي: تَفَحَّل الخطب، نحو استكبر وتكبَّرَ «. وقرأ العامَّةُ بتخفيف نون» وليَكونَنْ «، ويَقِفون عليها بالألف إجراءً لها مجرى التنوين، ولذلك يَحْذفونها بعد ضمةٍ أو كسرةٍ نحو:» هل تقومون «و» هل تقومين «في:» هل تَقُومُن «و» هل تقومِن «، والنونُ الموجودةُ في الوقف نونُ الرفعِ رَجَعوا بها عند عدمِ ما يقتضي حَذْفَها، وقد قَرَّرْتُ ذلك فيما تقدم. وقرأت فرقةٌ بتشديدها، وفيها مخالفةٌ لسواد المصحف لكَتْبِها فيه ألفاً، لأنَّ الوقفَ عليها كذلك كقوله: 2791 - وإياكَ والمَيْتاتِ لا تَقْرَبَنَّها ... ولا تَعْبُدِ الشيطانَ واللَّهَ فاعبدا أي: فاعبدَنْ فَأَبْدَلها ألفاً، وهو أحدُ الأقوال في قول امرىء القيس: 2792 - قِفا نَبْكِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأجرى الوَصْل مجرى الوقفِ.

33

قوله تعالى: {رَبِّ السجن} : العامَّة على كسر الباء لأنه مضافٌ لياء المتكلم، اجتُزِىءَ عنها بالكسرةِ وهي الفصحى. و «السجن» بكسر السين ورفعِ النون على أنه مبتدأ، والخبر «أحبُّ» . والسِّجْن الحبس، والمعنى: دخول السجن. وقرأ بعضهم: «رَبُّ» بضمِّ الباء وجَرِّ النون على أنَّ «ربُّ» مبتدأ و «السجنِ» خفض بالإِضافة، و «أحبُّ» خبرُه، والمعنى: ملاقاةُ صاحبِ السجن ومقاساتُه أحبُّ إليّ. وقرأ عثمان ومولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب بفتح السين، وفي الباقي كالعامَّة. والسَّجْن مصدر، أي: الحَبْس أحبُّ إلي، و «إليَّ» متعلقٌ ب «أحبُّ» وقد تقدَّم أن الفاعل هنا يُجَرُّ ب «إلى» والمفعول باللام، / وفي الحقيقة ليست هنا أَفْعَل على بابها من التفضيل لأنه لم يُحبَّ ما يدعونه إليه قط، وإنما هذان شَرَّان فآثر أحدَ الشَّرين على الآخر. قوله: {أَصْبُ} قرأ العامة بتخفيف الباء مِنْ صَبا يَصْبو أي: رَقَّ شَوْقُه. والصَّبْوة: المَيْلُ إلى الهوى، ومنه «الصَّبا» لأنَّ النفوس تَصْبو إليها أي: تميل، لطيب نسميِها ورَوْحِها يقال: صَبَا يَصْبُو صَباءً وصُبُوَّاً، وصَبِيَ يصبى صَبَاً، والصِّبا بالكسر اللَّهْوُ واللعب.

وقرأت فرقة «أَصَبُّ» بتشديدها مِنْ صَبْبتُ صَبابة فأنا صَبٌّ، والصَّبابَةُ: رِقَّةُ الشوق وإفراطه كأنه لفرط حبه ينصبُّ فيما يَهْواه كما ينصبُّ الماء.

35

قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا} : في فاعله أربعة أوجه، أحسنها: أنه ضمير يعود على السَّجن بفتح السين أي: ظهر لهم حَبْسُه، ويدل على ذلك لفظة «السِّجن» في قراءة العامة، وهو بطريق اللازم، ولفظُ «السَّجن» في قراءة مَنْ فتح السين. والثاني: أن الفاعل ضمير المصدر المفهوم مِنْ الفعل وهو «بدا» أي: بَدا لهم بداءٌ، وقد صَرَّح الشاعرُ به في قوله: 2793 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... بَدا لك في تلك القَلوص بداءُ والثالث: أن الفاعلَ مضمرٌ يدلُّ عليه السياق، أي: بدا لهم رأيٌ. والرابع: أنَّ نفسَ الجملة مِنْ «لَيَسْجُنُنَّه» هي الفاعل، وهذا من أصول الكوفيين. و «حتى» غايةٌ لما قبله. وقوله: «لَيَسْجُنُنَّه» على قول الجمهور جوابٌ لقسم محذوف، وذلك القسمُ وجوابه معمول لقولٍ مضمر، وذلك القولُ المضمر في محلِّ نصب على الحال، أي: ظهر لهم كذا قائلين: واللَّه لَيَسْجُنُنَّه حتى حين. وقرأ الحسن «لَتَسْجُنُنَّه» بتاء الخطاب، وفيه تأويلان، أحدهما: أن يكونَ خاطب بعضُهم بعضاً بذلك. والثاني: أن يكونَ خوطب به العزيز تعظيماً له.

وقرأ ابن مسعود «عتى» بإبدال حاء «حتى» عيناً وأقرأ بها غيرَه فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب فكتب إليه: «إن هذا القرآن نزل بلغة قريش، فَأَقْرِىء الناسَ بلغتهم» . قلت: وإبدال الحاء عيناً لغة هُذَليَّة.

36

قوله تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَآ} : مستأنف لا محل له، ولا يجوز أن يكونَ حالاً؛ لأنهما لم يقولا ذلك حال الدخول. ولا جائز أن تكونَ مقدرةً؛ لأن الدخول لا يَؤُول إلى الرؤيا. و «إني» وما في حَيِّزه في محلِّ نصب بالقول. و «أراني» هنا متعديةٌ لمفعولين عند بعضِهم إجراءً للحُلُميَّة مجرى العِلْمِيَّة، فتكون الجملة مِنْ قوله: «أَعْصِرُ» في محلِّ المفعول الثاني، ومَنْ منع كانت عنده في محل الحال. وجرت الحُلُمية مَجْرى العِلْمية أيضاً في اتِّحاد فاعلها ومفعولِها ضميرين متصلين، ومنه الآيةُ الكريمة؛ فإن الفاعلَ والمفعولَ متحدان في المعنى؛ إذ هما للمتكلم، وهما ضميران متصلان. ومثلُه: «رَأَيْتُك في المنام قائماً» و «زيدٌ رآه قائماً» ، ولا يجوز ذلك في غير ما ذُكر، لا تقول: أَكْرَمْتُني، ولا أكرمْتُك، ولا زيد أكرمه، فإن أردت ذلك قل: أكرمتُ نفسي، أو إياي ونفسك، أو إياك ونفسَه، أو إياه، وقد تقدَّم تحقيق هذا. وإذا دَخَلَتْ همزةُ النقل على هذه الحُلُمِيَّة تعدَّت لثالث، وقد تقدَّم هذا

في قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} [الأنفال: 43] ، ولو أراكهم كثيراً. والخَمْر: العِنَب أُطلق عليه ذلك مجازاً، لأنه آيل إليه كما يُطْلق الشيءُ على الشيء باعتبار ما كان عليه كقوله: {وَآتُواْ اليتامى} [النساء: 2] ومجازُ هذا أقربُ: وقيل: بل الخمر: العنب حقيقة في لغة غسان وأزد عمان. وعن المعتمر: «لقيت أعرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ فقلت: ما تحمل؟ فقال: خمراً. وقراءة أُبَيّ وعبد اللَّه» أَعْصِر عنباً «لا تدل على الترادف لإِرادتها التفسيرَ لا التلاوة، وهذا كما في مصحف عبد اللَّه» فوق رأسي ثريداً «فإنه أراد التفسير فقط. و» تأكل الطير «صفةٌ لخبزاً. و» فوق «يجوز أن يكون ظرفاً للحمل، وأن يتعلق بمحذوف حالاً من» خبزاً «لأنه في الأصل صفةٌ له. والضمير في قوله:» نَبِّئْنا بتأويله «قال الشيخ:» عائدٌ على ما قَصَّا عليه، أُجري مُجْرى اسم الإِشارة كأنه قيل بتأويل ذلك «وهذا قد سبقه إليه الزمخشري، وجعله سؤالاً وجواباً. وقال غيره:» إنما وَحَّد الضمير لأنَّ كل واحد سأل عن رؤياه، فكأن كل واحد منهما قال: نَبِّئْنا بتأويل ما رأيت.

37

و «تُرْزَقانه» صفة ل «طعام» . وقوله: إلا نَبَّأْتُكما «استثناءُ مفرَّغ. وفي موضع الجملة بعده وجهان أحدُهما: أنها في محل نصبٍ على الحال، وساغ ذلك من النكرة لتخصُّصها بالوصف. / والثاني: أن تكونَ

في محل رفع نعتاً ثانياً ل» طعام «، والتقدير: لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه منبِّئاً بتأويلهِ أو مُنَبَّأً بتأويله. و» قبل «الظاهرُ أنها ظرفٌ ل» نَبَّأْتكما «، ويجوز أن يتعلق ب» تأويله «، أي: نَبَّأْتكما بتأويله الواقع قبل إتيانِه. قوله: {إِنِّي تَرَكْتُ} يجوز أن تكونَ هذه مستأنفةً أخبر بذلك عن نفسه. ويجوز أن تكونَ تعليلاً لقوله {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} ، أي: تَرْكي عبادةَ غيرِ اللَّه سببٌ لتعليمه إياي ذلك، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإِعراب. و» لا يؤمنون «صفة ل» قوم «. وكرَّر» هم «في قوله {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} قال الزمخشري:» للدلالةِ على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأن غيرَهم مؤمنون بها «. قال الشيخ:» وليست «هم» عندنا تدل على الخصوص «. قلت: لم يَقُل الزمخشري إن» هم تدل على الخصوص. وإنما قال «تكرير» هم «للدلالة، فالتكرير هو الذي أفاد الخصوصَ، وهو معنىً حَسَنٌ فهمه أهلُ البيان.

38

وسَكَّن الكوفيون الياء من «آبائي» ، ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ أيضاً. و «إبراهيم» وما بعده بدلٌ أو عطفُ بيان، أو منصوب على المدح.

39

قوله تعالى: {ياصاحبي السجن} : يجوز أن يكون من باب الإِضافة للظرف، إذ الأصل يا صاحبي في السجن. ويجوز أن تكون

من باب الإِضافة إلى المشبه بالمفعول به، والمعنى: يا ساكني السجن كقوله: {أَصْحَابُ النار} [البقرة: 39] . قوله {مِن شَيْءٍ} [يوسف: 38] يجوز أن يكون مصدراً، أي: شيئاً من الإِشراك. ويجوز أن يكون واقعاً على المُشْرَك، أي: ما كان لنا أَنْ نُشْرك شيئاً غيرَه مِنْ مَلَك وإنْسِيّ وجني فكيف بصنم؟ و «مِنْ» مزيدة على التقديرين لوجودِ الشرطين. قوله: {أَمِ الله} هنا متصلةٌ عطفت الجلالة على «أرباب» .

40

قوله تعالى: {إِلاَّ أَسْمَآءً} : إمَّا أن يُراد بها المُسَمَّياتُ أو على حذف مضاف، أي: ذوات لمُسَمَّيات. و «سَمَّيْتموها» صفةٌ، وهي متعدية لاثنين حُذِف ثانيهما، أي: سمَّيْتموها آلهة و «ما أنزل» صفةٌ ل «أسماء» و «مِنْ» زائدة في «منْ سلطان» ، أي: حُجَّة. و «إنِ الحكم» : «إنْ» نافية. ولا يجوز الإِتباعُ لضمة الحاء كقوله: قالتُ اخْرُجْ «ونحوه، لأنَّ الألف واللامَ كلمةٌ مستقلة فهي فاصلةٌ بينهما. قوله: {أَمَرَ أَلاَّ} يجوز في» أَمَر «أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً و» قد «معه مرادةٌ عند بعضهم. قال أبو البقاء:» وهو ضعيفٌ لضعف العامل فيه «قلت: يعني بالعامل ما تضمَّنه الجارُّ في قولِه:» إلا للَّه «من الاستقرار.

41

قوله تعالى: {فَيَسْقِي} : العامَّةُ على فتح الياء، مِنْ سقاه يَسْقيه. وقرأ عكرمة في رواية «فَيُسْقي» بضم حرف المضارعة مِنْ أسقى وهما لغتان، يقال: سَقَاه وأَسْقاه، وسيأتي أنهما قراءتان في السبعة: «نَسْقيكم ونُسْقيكم مما [في] بطونه» . وهل هما بمعنىً أم بينهما فرق؟ ونقل ابن عطية عن عكرمة والجحدري أنهما قرآ «فَيُسقَى ربُّه» مبنياً للمفعول ورفع «ربُّه» . ونسبه الزمخشري لعكرمة فقط. قوله: {قُضِيَ الأمر} قال الزمخشري: «ما اسْتَفْتَيَا في أمرٍ واحد. بل في أمرين مختلفين، فما وجه التوحيد؟ قلت: المراد بالأمر ما اتُّهما به من سَمِّ المَلِك وما سُجِنا من أجله» .

42

قوله تعالى: {لِلَّذِي ظَنَّ} : فاعلُ «ظنَّ» يجوز أن يكون يوسف عليه السلام إن كان تأويلُه بطريقة الاجتهاد، وأن يكون الشرَّابيُّ إن كان تأويله بطريق الوحي، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين، قاله الزمخشري. قلت: يعني أنه إنْ كان الظنُّ على بابه فلا يستقيم إسناده إلى يوسفَ إلا أن يكون تأويلُه بطريق الاجتهاد؛ لأنه متى كان بطريق الوحي كان يقيناً فيُنْسَب الظن حينئذ للشَّرابي لا له عليه السلام، وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى

اليقين فتصِحُّ نسبتُه إلى يوسف وإن كان تأويله بطريق الوحي، وهو حَسَنٌ وإلى كونِ الظنِّ على بابه وهو مسندٌ ليوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ذهب قتادة، فإنه قال: «الظنُّ هنا على بابه لأنَّ عبارة الرؤيا ظنٌّ» . قوله: {مِّنْهُمَا} يجوز أن يكونَ صفةً ل «ناج» ، وأن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال من الموصول. قال أبو البقاء: «ولا يكون متعلقاً ب» ناجٍ «لأنه ليس المعنى عليه» قلت: لو تعلَّق ب «ناجٍ» لأَفْهَمَ أنَّ غيرَهما نجا منهما، أي: انفلت منهما، والمعنى: أنَّ أحدهما هو الناجي، وهذا المعنى الذي نبَّه عليه بعيدٌ تَوَهُّمُه. والضمير في «فَأَنْساه» يعود على الشرَّابي. وقيل: على يوسف، وهو ضعيفٌ. قوله: {بِضْعَ سِنِينَ} منصوبٌ على الظرف الزماني وفيه خلافٌ: فقال قتادة: «هو بين الثلاث إلى التسع» . وقال أبو عبيد: «البِضْعُ لا يَبلُغُ العِقْدَ ولا نصفَ العقدِ، وإنما هو من الواحد إلى العشر» . وقال مجاهد: «هو من الثلاثة إلى السبعة» . وقال الفراء: «لا يُذكر البِضْعُ إلا مع العشرات ولا يُذكر مع مِئَة ولا ألف» . وقال الراغب: / «البِضْع: بالكسر المُقَتَطَعُ من العشرة، ويقال ذلك لِما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل: بل هو فوق الخمسة ودون العشرة» . قلت: فَجَعَلَه مشتقاً مِنْ مادة البَضْع وهي القَطْع، ومنه: بَضَعْتُ اللحمَ، أي: قَطَعْتُه، والبِضاعة: قطعةُ مالٍ للتجارة، والمِبْضَعُ: ما يُبْضَعُ به، والبَعْض قد تقدَّم أنه من هذا المعنى عند ذكر «البعوضة» .

43

قوله تعالى: {سِمَانٍ} : صفة لبقرات وهو جمع سمينة، ويُجْمع سمين أيضاً عليه يقال: رجال سِمان كما يقال نِساء كِرام ورجال كِرام. و «السِّمَنُ» مصدرُ سَمِن يَسْمَن فهو سمين فالمصدر واسم [الفاعل] جاءا على غير قياس، إذ قياسُهما «سَمَن» بفتح الميم، فهو سَمِن بكسرها، نحو فَرِح فَرَحاً فهو فَرِح. قال الزمخشري: «هل مِنْ فرقٍ بين إيقاع» سمان «صفة للمميِّز وهو» بقراتٍ «دون المُمَيَّز وهو» سبعَ «، وأن يقال: سبعَ بقراتٍ سِماناً؟ قلت: إذا أوقَعْتَها صفةً ل» بقرات «فقد قَصَدْتَ إلى أَنْ تُمَيِّز السبعَ بنوع من البقرات وهو السِّمانُ منهنَّ لا بجنسهنَّ، ولو وَصَفْتَ بها السبع لَقَصَدْت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوعٍ منها، ثم رَجَعْتَ فَوَصَفْتَ المميَّز بالجنس بالسِّمَنِ. فإن قلت: هَلاَّ قيل» سبعَ عجافٍ «على الإِضافة. قلت: التمييزُ موضوعٌ لبيان الجنس، والعِجافُ وصفٌ لا يقع البيانُ به وحدَه. فإن قلت فقد يقولون: ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب. قلت: الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفاتٌ جَرَتْ مَجْرى الأسماء فأخَذَتْ حُكْمَها، وجاز فيها ما لم يَجُزْ في غيرها. ألا تراك لا تقول: عندي ثلاثةُ ضخامٍ ولا أربعةُ غلاظٍ. فإن قلت: ذاك مِمَّا يُشْكِلُ وما نحن بسبيلهِ لا إشكال فيه ألا ترى أنه لم يَقُلْ» وبقرات سبعَ عجافٍ «لوقوع العلم بأن المرادَ البقرات. قلت: تَرْكُ الأصلِ لا يجوز مع وقوع الاستغناء عَمَّا ليس بأصلٍ، وقد وقع الاستغناء عن قولك» سبع عجافٍ «عمَّا تقترحه من التمييز بالوصف» .

قلت: وهي أسئلة وأجوبة حسنة. وتحقيق السؤال الأول وجوابه: أنه يلزم مِنْ وَصْفِ التمييز بشيء وَصْفُ المميَّزِ به، ولا يلزم من وصف المُمَيَّز وَصْفُ التمييز بذلك الشيءِ، بيانُه أنك إذا قلت: «عندي أربعةُ رجالٍ حسانٍ» بالجرِّ كان معناه: أربعة من الرجال الحسان، فيلزم حُسْنُ الأربعة؛ لأنهم بعض الرجال الحسان، وإذا قلت: «عندي أربعةُ رجالٍ حسانٌ» برفع «حسان» كان معناه: أربعة من الرجال حِسان، وليس فيه دلالةٌ على وَصْف الرجال بالحُسْن. وتحقيقُ الثاني وجوابه: أن أسماءَ العدد لا تُضاف إلى الأوصاف إلا في ضرورة، وإنما يُجاء بها تابعةً لأسماء العدد فيقال: «عندي ثلاثة قرشيون» ولا يُقال: ثلاثةُ قرشيين بالإِضافة إلا في شعر. ثم اعترض بثلاثة فرسان وأجاب بجريان ذلك مجرى الأسماء. وتحقيق الثالث: أنه إنما امتنع «ثلاثةُ ضِخام» ونحوه لأنه لا يُعْلَمُ موصوفُه، بخلاف الآية الكريمة فإنَّ الموصوفَ معلومٌ ولذلك لم يُصَرِّحْ به. وأجاب عن ذلك بأن الأصلَ عدمُ إضافةٍ العددِ إلى الصفة كما تقدَّم فلا يُتْرك هذا الأصلُ مع الاستغناءِ بالفرع، وعلى الجملة ففي هذه العبارة قلق هذا ملخصها، ولم يذكر الشيخُ نصَّه ولا اعترض عليه، بل لَخَّصَ بعضَ معانيه وتركه على إشكاله. وجَمْعُ عَجْفاء على عِجاف. والقياس: عُجُف نحو: حمراء وحُمُر، حَمْلاً له على «سِمان» لأنه نقيضُه، ومِنْ دَأْبهم حَمْل النظير على النظير والنقيض على النقيض، قاله الزمخشري: «والعَجَفُ شِدَّة الهُزالِ الذي ليس بعده قال:

2794 - عمرُو الذي هَشَم الثريدَ لقومِه ... ورجالُ مكةَ مُسْنِتون عِجافُ وقال الراغب:» هو من قولهم نَصْلٌ أعجفُ، أي: دقيق، وعَجَفَتْ نفسي عن الطعام، وعن فلان إذا نَبَتْ عنهما، وأَعْجف الرجلُ، أي: صادف ماشِيَتَه عِجافاً «. قوله: {وَأُخَرَ} » أُخَرَ «نسقٌ على» سبعَ «لا على» سنبلات «، ويكون قد حَذَف اسمَ العددِ من قوله» وأُخَر يابسات «والتقدير: وسبعاً أُخَرَ، وإنما حَذَف لأنَّ التقسيمَ في البقرات يقتضي التقسيمَ في السنبلات. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: هل في الآية دليل على أنَّ السنبلاتِ اليابسةَ كانت سبعاً كالخضر؟ قلت: الكلامُ مبنيٌّ على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعِجافِ والنسبلاتِ الخُضْر، فَوَجَبَ أن يتناول معنى الأُخر السبع، ويكون قوله «وأُخَرَ يابسات» بمعنى وسبعاً أُخَرَ «انتهى. وإنما لم يَجُزْ عَطْفُ» أُخر «على التمييز وهو» سنبلات «فيكون/» أُخَر «مجروراً لا منصوباً؛ لأنه من حيث العطفُ عليه يكونُ مِنْ جملة مُمَيَّز» سبعَ «، ومِنْ جهةِ كونه آخر يكون مبايناً ل» سبع «فتدافعا، ولو كان تركيبُ الآية الكريمة:» سبع سنبلاتٍ خضرٍ ويابسات «لصَحَّ العطفُ، ويكون مِنْ توزيع السنبلات إلى هذين الوصفين أعني الاخضرارَ واليُبْس. وقد أوضح الزمخشري هذا حيث قال:» فإن قلتَ: هل يجوز أن يُعْطَفَ قولُه «وأُخَرَ يابساتٍ» على «سنبلاتٍ خَضْرٍ» فيكون مجرورَ المحل؟ قلت: يؤدي إلى تدافُعٍ، وهو أنَّ عَطْفَها على «سنبلات خضر» يقتضي أن

يكونَ داخلاً في حكمها، فتكون معها مميِّزاً للسبع المذكور، ولفظُ الأُخَر يقتضي أن تكونَ غيرَ السبع. بيانُه أنك تقول: «عنده سبعة رجالٍ قيامٍ وقعودٍ بالجرِّ؛ فيصحُّ لأنك مَيَّزْتَ السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود، على أنَّ بعضَهم قيامٌ وبعضَهم قعودٌ، فلو قلت:» عنده سبعةٌ رجال قيام وآخرين قعود «تدافعَ ففسد» . قوله {لِلرُّؤْيَا} : فيه أربعة أوجه، أحدها: أن اللام فيه مزيدةٌ فلا تَعَلٌّق لها بشيء، وزِيْدت لتقدُّم المعمولِ مقويةً للعامل، كما زِيْدَتْ فيه إذا كان العامل فرعاً كقوله: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ، ولا تُزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورةَ كقوله: 2795 - فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنا قليلاً ... أَنَخْنا للكلاكلِ فارْتَمَيْنا يريد: أنخنا الكلاكل، فزيدت مع فقدان الشرطين، هكذا عبارة بعضهم يقول إلا في ضرورة، وبعضُهم يقول: الأكثر ألاَّ تُزادَ، ويتُحَرَّزُ مِنْ قوله تعالى {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] فإن الأصلَ: رَدِفَكم فزيدت فيه اللام، ولا تَقَدُّم ولا فرعية، ومَنْ أطلق ذلك جَعَل الآية من باب التضمين، وسيأتي في مكانِه، وقد تقدَّم لك من هذا طرفٌ جيدٌ في تضاعيف هذا التصنيف. الثاني: أن يُضَمَّن «تَعْبُرون» معنى ما يتعدى باللام، تقديره: إن كنتم تَنْتَدِبون لعبارة الرؤيا. الثالث: أن يكونَ «للرُّؤْيا» هو خبر «كنتم» كما تقول: «كان فلان لهذا الأمر» إذا كان مستقلاًّ به متمكِّناً منه، وعلى هذا فيكون في «تعبرُون» وجهان،

أحدهما: أنه خبرٌ ثانٍ ل «كنتم» والثاني: أنه حالٌ مِن الضمير المرتفع بالجار لوقوعه خبراً. الرابع: أنْ تتعلَّقَ اللامُ بمحذوفٍ على أنها للبيانِ كقوله تعالى: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20] تقديرُه: أعني فيه، وكذلك هذا، تقديرُه: أعني للرؤيا، وعلى هذا فيكون مفعول «تعبُرون» محذوفاً تقديرُه: تعْبُرونها. وقرأ أبو جعفر «الرُّؤْيا» وبابَها «الرُّيَّا» بالإِدغام، وذلك أنه قَلَبَ الهمزةَ واواً لسكونِها بعد ضمةٍ فاجتمعت ياءٌ وواو، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ الياءُ في الياء. وهذه القراءةُ عندهم ضعيفةٌ؛ لأنَّ البدلَ غيرُ لازمٍ فكأنه لم تُوْجَدْ واو نظراً إلى الهمزة. وعَبَرْتُ الرؤيا بالتخفيف قال الزمخشري: «هو الذي اعتمده الأثباتُ، ورَأَيْتُهم يُنْكرون» عَبَّرت «بالتشديد والتعبير والمعبِّر» قال: «وقد عَثَرْتُ على بيت أنشده المبرد في كتاب» الكامل «لبعض الأعراب: 2796 - رَأَيْتُ رُؤْيا ثم عَبَّرْتُها ... وكنتُ للأحلام عَبَّارا قال:» وحقيقةُ عبرت الرؤيا: ذكرتَ عاقبَتها وآخر أمرها كما تقول: عَبَرْتُ النهر إذا قطعتَه حتى تبلغَ آخرَ عَرْضه «.

44

قوله تعالى: {أَضْغَاثُ} : «أَضْغاث» خبر مبتدأ مضمر، أي: هي أضغاث، يَعْنُون ما قَصَصْته علينا، والجملةُ منصوبةٌ بالقول.

والأضغاث جمع «ضِغْث» بكسر الضاد، وهو ما جُمِع من النبات سواء كان جنساً واحداً أو أجناساً مختلطة وهو أصغرُ مِن الحُزْمة وأكبر من القَبْضة، فمِنْ مجيئه من جنسٍ واحد قولُه تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} [ص: 44] رُوِي في التفسير أنه أخذ عِثْكالاً مِنْ نخلة. وفي الحديث: «أنه أُتي بمريض وَجَبَ عليه حَدٌّ ففُعِل به ذلك» . وقال ابن مقبل: 2797 - خَوْدٌ كأن فِراشَها وُضِعَتْ به ... أضغاثُ رَيْحانٍ غَداةَ شَمَالٍ / ومِنْ مجيئه مِنْ أخلاط النبات قولهم في أمثالهم: «ضِغْثٌ على إبَّالة» ، وقد خَصَّصه الزمخشري بما جُمِع مِنْ أخلاط النبات، فقال: «وأصلُ الأَضْغاث ما جُمِع مِنْ أخلاط النبات، وحِزَم الواحِد ضِغْثٌ» . وقال الراغب: «الضِّغْث قَبْضَةُ رَيْحانٍ أو حَشيش أو قُضْبان» . قلت: وقد تقدَّم أنه أكثرُ من القَبْضة، واستعمالُ الأَضْغاث هنا من باب الاستعارة. والإِضافة في «أَضْغاث أحلام» إضافةٌ بمعنى «مِنْ» إذ التقديرُ: أضغاثٌ من أحلام. والأَحْلام جمع حُلُم. والباء في «بتأويل» متعلقةٌ ب «عالمين» ، وفي «بعالمين» لا تعلُّقَ لها لأنها زائدةٌ: إمَّا في خبرِ الحجازيَّة أو التميمية.

وقولهم ذلك يُحتمل أن يكونَ نفياً للعلم بالرؤيا مطلقاً، وأن يكونَ نفياً للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصةً دونَ المنام الصحيح. وقال أبو البقاء: «بتأويل أضغاث الأحلام لا بد من ذلك [لأنهم لم يَدَّعوا الجهلَ بعبارة الرؤيا» انتهى. وقوله «الأحلام» وإنما كان واحداً، قال الزمخشري كما تقول: «فلان يركب الخيل ويلبس عَمائم الخَزِّ، لمَنْ لا يركب إلا فرساً واحداً ولا يتعمَّم إلا بعمامة واحدة] تَزَيُّداً في الوصف» ، ويجوز أن يكونَ قَصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها.

45

قوله تعالى: {وادكر} : فيه وجهان، أظهرهما: أنها جملةٌ حاليةٌ: إمَّا مِن الموصول، وإمَّا مِنْ عائده وهو فاعل «نجا» . والثاني: أنها عطفٌ على «نجا» فلا مَحَلَّ لها لنسَقِها على ما لا محلًّ له. والعامَّةُ على «ادَّكَرَ» بدالٍ مهملة مشددة وأصلها: اذْتَكَرَ افتعل مِنْ الذِّكر، فوقعت تاءُ الافتعال بعد الذال فأُبْدِلت دالاً فاجتمع متقاربان فأُبْدِلَ الأول مِنْ جنس الثاني وأُدغم. وقرأ الحسن البصري بذالٍ معجمة. ووجَّهوها بأنه أبدل التاءَ ذالاً مِنْ جنس الأولى وأدغم، وكذا الحكم في {مُّدَّكِرٍ} [القمر: 15] كما سيأتي في سورته إنْ شاء اللَّه تعالى. والعامَّةُ على «أُمَّة» بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة، وهي المدة الطويلة. وقرأ الأشهب العقيلي بكسر الهمزة، وفسَّروها بالنعمة، أي: بعد

نعمةٍ أنعم بها عليه وهي خَلاصُه من السجن ونجاتُه من القتل، وأنشد الزمخشري لعديّ: 2798 - ثم بعد الفَلاَح والمُلْكِ والإِمْ ... مَةِ وارَتْهُمُ هناك القبورُ وأنشد غيره: 2799 - ألا لا أرى ذا إمَّةٍ أصبحَتْ به ... فَتَتْركه الأيامُ وهي كما هيا وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وقتادة والضحاك وأبو رجاء «أَمَهٍ» بفتح الهمزة وتخفيف الميم وهاء منونة من الأَمَهِ، وهو النسيان، يقال: أَمِهَ يَأْمَهُ أَمَهاً وأمْهاً بفتح الميم وسكونها، والسكونُ غيرُ مَقيسٍ. وقرأ مجاهد وعكرمة وشُبَيْل بن عَزْرَة: «بعد أَمْهٍ» بسكون الميم، وقد تقدَّم أنه مصدرٌ لأَمِه على غير قياس. قال الزمخشري: «ومَنْ قرأ بسكون الميم فقد خُطِّىء» . قال الشيخ: «وهذا على عادتِه في نسبته الخطأ إلى القراء» قلت: لم يَنْسِبْ هو إليهم خطأً؛ وإنما حكى أنَّ بعضَهم خطَّأ هذا القارىء فإنه قال: «خُطِّىء» بلفظِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، ولم يقل فقد أخطأ، على أنه إذا صَحَّ أنَّ مَنْ ذكره قرأ بذلك فلا سبيلَ إلى الخطأ إليه البتةَ. و «بعد» منصوب ب «ادَّكر» . قوله: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ} هذه الجملةُ هي المحكية بالقول. وقرأ العامَّةُ من

الإِنباء. والحسن «أنا آتيكم» مضارع أتى من الإِتيان، وهو قريبٌ من معنى الأول.

46

والصِّدِّيق بناء مبالغة كالشِّرِّيب.

47

قوله تعالى: {تَزْرَعُونَ} : ظاهرُه أن هذا إخبارٌ من يوسف عليه السلام بذلك. وقال الزمخشري: «تَزْرعون» خبر في معنى الأمر كقوله: {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} [الصف: 11] وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب المأمورِ المأمورَ به، فَيُجعل كأنه وُجِد فهو يُخْبر عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} . قال الشيخ: «ولا يدلُّ الأمرُ بتَرْكِه في سنبلِه على أنَّ» تزرعون «في معنى ازرعوا، بل تَزْرعون إخبار غيبٍ، وأمَّا» فَذَرُوه «فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أنْ يَفْعلوه» . قلت: هذا هو الظاهرُ، ولا مَدْخَلَ لأمره لهم بالزِّراعة؛ لأنهم يَزْرعون على عادتهم، أَمَرَهم أو لم يأمرهم، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن من عادة الإِنسان أن يفعلَه كتَرْكِه في سُنْبله. قوله: {دَأَباً} قرأ حفص بفتح الهمزة، والباقون بسكونها، وهما لغتان في مصدر دَأَب يَدْأَبُ، أي: داوَمَ على الشيء ولازَمَه. وهذا كما قالوا: ضَأْن وضَأَن، ومَعْز ومَعَز بفتح العين وسكونها. وفي انتصابه أوجهٌ، أحدها وهو قول

سيبويه: أنه منصوبٌ بفعل مقدر تقديره تَدْأَبون. والثاني وهو قول أبي العباس: أنه منصوب بتزرعون لأنه من معناه، فهو من باب «قَعَدْتُ القُرْفُصاء» . وفيه نظر لأنه ليس نوعاً خاصاً به بخلاف القرفصاء مع القعود. / والثالث: أنه واقعٌ موقع الحال فيكون فيه الأوجه المعروفة: إمَّا المبالغةُ، وإمَّا وقوعُه موقعَ الصفة، وإمَّا على حذف مضاف، أي: دائِبين أو ذوي دأب، أو جَعَلهم نفسَ الدَأَب مبالغة. وقد تقدَّم الكلامُ على «الدأب» في آل عمران عند قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [الآية: 11] . قوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ} «ما» يجوز أن تكونَ شرطيةً أو موصولةً. وقرأ أبو عبد الرحمن «يأكلون» بالغَيْبة، أي: الناس، ويجوز أن يكونَ التفاتاً.

48

وقوله تعالى: {سَبْعٌ شِدَادٌ} : حُذِف المميِّز وهو الموصوف لدلالة ما تقدَّم عليه. ونَسَبَ الأكلَ إليهنَّ مجازاً كقوله: {والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] لمَّا كان الأكلُ والإِبصارُ فيهما جُعِلا كأنهما واقعان فيهما.

49

قوله تعالى: {يُغَاثُ الناس} : يجوز أن تكون الألف عن واو، وأن تكون عن ياء: إمَّا مِن الغَوْث وهو الفَرَج، وفعلُه رباعيٌّ يُقال: أغاثَنا اللَّه، مِن الغَوْث، وإمَّا مِن الغَيْث وهو المطرُ يُقال: «غِيْثَتِ البلاد» ، أي: مُطِرَتْ، وفعلُه ثلاثي يقال: غاثنا اللَّه مِن الغَيْث. وقالت أعرابية: «غِثْنا ما شِئْنا» ، أي: مُطِرْنا ما أَرَدْنا «.

قوله: {يَعْصِرُونَ} قرأ الأخوان» تَعْصِرون «بالخطاب، والباقون بياء الغيبة، وهما واضحتان، لتقدُّم مخاطبٍ وغائب، فكلُّ قراءةٍ تَرْجِعُ إلى ما يليق به. و» يَعْصِرون «يحتمل أوجهاً، أظهرُها: أنه مِنْ عَصَرَ العِنَبَ أو الزيتون أو نحو ذلك. والثاني: أنه مِنْ عَصَر الضَّرْع إذا حَلَبَه. والثالث: أنه من العُصْرة وهي النجاة، والعَصَر: المَنْجى. وقال أبو زبيد في عثمان رضي اللَّه عنه: 2800 - صادِياً يَسْتغيث غيرَ مُغَاثٍ ... ولقد كان عُصْرَة المَنْجودِ ويَعْضُد هذا الوجهَ مطابقةُ قولِه {فِيهِ يُغَاثُ الناس} يُقال: عَصَره يَعْصِرُه، أي: أنجاه. وقرأ جعفر بن محمد والأعرج:» يُعْصَرون «بالياء من تحت، وعيسى البصرة بالتاء من فوق، وهو في كلتا القراءتين مبنيٌّ للمفعول. وفي هاتين القراءتين تأويلان، أحدهما: أنها مِنْ عَصَره، إذا أنجاه، قال الزمخشري:» وهو مطابِقٌ للإِغاثة «. والثاني: قاله قطرب أنها من الإِعصار، وهو إمطار السحابة الماءَ كقولِه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} [النبأ: 14] . قال الزمخشري:» وقرىء «يُعْصَرون» : يُمْطَرون مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحابة، وفيه وجهان: إمَّا أن يُضَمَّن أَعْصَرت معنى مُطِرَتْ فيُعَدَّى تعديتَه، وإمَّا أن يقال: الأصل: أُعْصِرَتْ

عليهم فَحَذَفَ الجارَّ وأوصل الفعلَ [إلى ضميرهم، أو يُسْنَدُ الإِعصارُ إليهم مجازاً فجُعِلوا مُعْصَرين «] . وقرأ زيد بن علي:» تِعِصِّرون «بكسر التاء والعين والصادِ مشددَّة، وأصلها تَعْتصرون فأدغم التاء في الصاد، وأتبع العينَ للصاد، ثم أتبع التاء للعين، وتقدَّم تحريره في {أَمَّن لاَّ يهدي} [يونس: 35] . ونقل النقاش قراءةَ» يُعَصِّرون «بضم الياء وفتح العين وكسر الصادِ مشددةً مِنْ» عَصَّر «للتكثير. وهذه القراءةُ وقراءةُ زيدٍ المتقدمة تحتملان أن يكونا مِن العَصْر للنبات أو الضرع، أو النجاة كقول الآخر: 2801 - لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كنت كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري أي: نجاتي.

50

قوله تعالى: {مَا بَالُ النسوة} : العامَّةُ على كسر نون النسوة، وضَمَّها عاصم في روايةِ أبي بكرٍ عنه، وليست بالمشهورة، وكذلك قرأها أبو حيوة. وقُرِىء «اللائي» وكلاهما جمعٌ ل «التي» .

51

والخَطْبُ: الأمر والشأن الذي فيه خطرٌ. قال امرؤ القيس: 2802 - وما المَرْءُ ما دامَتْ حُشاشَةُ نفسِه ... بمُدْرِكِ أَطْرافِ الخُطوبِ ولا آلِ

وهو في الأصلِ مصدرُ خَطَب يَخْطُبُ، وإنما يُخْطب في الأمور العظام. قوله: {إِذْ رَاوَدتُنَّ} هذا الظرفُ منصوبٌ بقوله «خَطْبُكُنَّ» لأنه في معنى الفعل؛ إذ المعنى: ما فعلتنَّ وما أَرَدْتُنَّ به في ذلك الوقتِ؟ قوله: {الآن حَصْحَصَ} «الآن» منصوبٌ بما بعدَه، وحَصْحَصَ معناه تَبيَّنَ وظهر بعدَ خَفَاءٍ، قاله الخليل. قال بعضهم: هو مأخوذٌ مِن الحِصَّة والمعنى: بانَتْ حِصَّةُ الحَقِّ مِنْ حِصَّةِ الباطل كما تتميَّز حِصَصُ الأراضي وغيرِها. وقيل: بمعنى ثبت واستقرَّ. وقال الراغب: «حَصْحَصَ الحقُّ، وذلك بانكشافِ ما يَغْمُره، وحَصَّ وحَصْحَصَ نحو: كَفَّ وكَفْكَفَ وكَبَّ وكَبْكَبَ، وحَصَّه: قَطَعه: إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكم، فمِنَ الأول قولُ/ الشاعر: 2803 - قد حَصَّتِ البيضة رأسي. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومنه رَجُلٌ أَحَصُّ: انقطع بعضُ شَعْره، وامرأة حَصَّاءُ، والحِصَّة القطعةُ من الجملة ويُسْتعمل استعمالَ النصيب. وقيل: هو مِنْ» حَصْحَصَ البعير «إذا أَلْقَى ثَفِناتِه للإِناخِةِ، قال الشاعر:

2804 - فَحَصْحَصَ في صُمِّ الصَّفَا ثَفِناتِه ... وناءَ بسلمى نَوُءَةً ثم صَمَّما

52

قوله تعالى: {ذلك} : خبر مبتدأ مضمر، أي: الأمر ذلك. و «ليعلم» متعلقٌ بمضمرٍ، أي: أظهر اللَّه ذلك ليعلم، أو مبتدأ وخبره محذوفٌ، أي: ذلك الذي صَرَّحْتُ به عن براءته أمرٌ من اللَّه لا بدَّ منه، و «لِيَعْلمَ» متعلقٌ بذلك الخبرِ، أو يكون «ذلك» مفعولاً لفعلٍ مقدر يتعلَّقُ به هذا الجارُّ أيضاً، أي: فَعَلَ اللَّه ذلك، أو فَعَلْتُه أنا بتيسير اللَّه ليعلمَ. قوله: {بالغيب} يجوز أن تكونَ الباءُ ظرفيةً. قال الزمخشري: «أي» : بمكان الغَيْب وهو الخَفَاءُ والاستتار وراءَ الأبوابِ السبعة المُغَلَّقة «. ويجوز أن تكون الباء للحال: إمَّا مِنَ الفاعل على معنى: وأنا غائب عنه خفيٌّ عن عينه، وإمَّا من المفعول على معنى: وهو غائب عني خفيٌّ عن عيني، وهذا مِنْ كلامِ يوسُفَ، وبه بدأ الزمخشري كالمختار له. وقال غيرُه: إنه مِنْ كلامِ امرأة العزيز وهو الظاهر. وقوله:» وأنَّ اللَّه «نَسَقٌ على» أني «أي ليَعلمَ الأمرين.

53

قوله تعالى: {إِلاَّ مَا رَحِمَ} : فيه أوجه، أحدُها: أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في «أمَّارَةٌ» كأنه قيل: إن النفس لأمَّارة بالسوءِ إلا نَفْساً رحمها ربِّي، فيكون أراد بالنفس الجنسَ، فلذلك ساغ الاستثناء منها كقولِه تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 2-3] ، وإلى هذا نحا الزمخشري فإنه قال: «إلا البعضَ الذي رحمه ربي بالعِصْمة كالملائكة» وفيه نظرٌ مِنْ حيث إيقاعُ «ما» على مَنْ يَعْقِلُ والمشهورُ خِلافُه.

والثاني: أنَّ «ما» في معنى الزمان فيكون مستثنى من الزمن العام المقدَّر. والمعنى: إنَّ النفس لأمَّارَةٌ بالسوء في كلِّ وقتٍ وأوانٍ إلا وقتَ رحمةِ ربي إياها بالعِصْمة. ونظرَّه أبو البقاء بقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء: 92] . وقد تقدَّم أن الجمهورَ لا يُجيزون أن تكون «أنْ» واقعةً موقعَ ظرفِ الزمان. والثالث: أنه مستثنى من مفعول «أمَّارة» ، أي: لأمَّارةٌ صاحبَها بالسوءِ إلا الذي رَحِمه اللَّه. وفيه إيقاعُ «ما» على العاقل. والرابع: أنه استثناءٌ منقطعٌ. قال ابن عطية: «وهو قولُ الجمهور» . وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكونَ استثناءً منقطعاً، أي: ولكنْ رحمةُ ربي هي التي تَصْرِف الإِساءةَ كقوله: {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} [يس: 23] .

54

قوله تعالى: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} : يجوز أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ المَلِك، والمفعول ضميرَ يوسفَ عليه السلام وهو الظاهر، ويجوز العكس.

56

قوله تعالى: {لِيُوسُفَ} : يجوز في هذه اللامِ أنْ تكونَ متعلقةً ب «مَكَّنَّا» على أن يكون مفعولُ «مَكَّنَّا» محذوفاً تقديره: مَكَّنَّا لِيوسفَ الأمورَ، أو على أن يكونَ المفعولُ به «حيث» كما سيأتي. ويجوز أن تكونَ زائدةً عند مَنْ يرى ذلك، وقد تقدم أنَّ الجمهورَ يَأْبَوْن ذلك إلا في موضعين.

قوله: {يَتَبَوَّأُ} جملةٌ حاليةٌ من «يوسف» . و «منها» يجوز أنْ تتعلَّق ب «يَتَبوَّأ» . وأجاز أبو البقاء أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنْ «حيث» . و «حيث» يجوزُ أن يكونَ ظرفاً ل «يَتَبَوَّأ» ، ويجوز أنْ يكونَ مفعولاً به وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنعام. وقرأ ابن كثير «نَشَاء» بالنون على أنها نونُ العظمةِ للَّه تعالى. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ يوسف قال: «لأنَّ مشيئته مِنْ مشيئة اللَّه» وفيه نظرٌ لأنَّ نَظْم الكلامِ يَأْباه. والباقون بالياء على أنه ضمير يوسف. ولا خلاف في قول {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ} أنها بالنون. وجَوَّز الشيخ أن يكونَ الفاعلُ في قراءة الياء ضميرَ اللَّهِ تعالى، ويكون التفاتاً.

59

قوله تعالى: {بِجَهَازِهِمْ} : العامَّةُ على فتح الجيم، وقُرىء بكسرِها، وهما لغتان فيما يحتاجه الإِنسانُ مِنْ زاد ومتاعٍ ومنه «جهاز العروس» و «جهاز البيت» . وقوله: {بِأَخٍ لَّكُمْ} ولم يَقُلْ بأخيكم بالإِضافة؛ مبالغةً في عَدَم تَعَرُّفِه بهم؛ ولذلك فَرَّقوا بين «مررت بغلامك» و «بغلامٍ لك» فإنَّ الأولَ يَقْتضي عِرْفانك بالغلام، وأن بينك وبين مخاطِبك نوعَ عَهْدٍ، والثاني لا يَقْتَضي ذلك،

وقد تُخْبر عن المعرفة إخبارَ النكرة فتقول: «قال رجل كذا» وأنت تعرفه لصِدْق إطلاقِ النكرةِ على المعرفة.

60

قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُونِ} : يُحْتمل أنْ تكونَ «لا» ناهيةً فيكونَ «تَقْربون» مجزوماً، ويُحْتمل أن تكونَ «لا» نافيةً وفيه وجهان، أحدهما: أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الجزاء معطوفاً عليه، فيكونَ أيضاً مجزوماً على ما تقدم. والثاني: أنه نفيٌّ مستقلٌّ غيرُ معطوف على جزاءِ الشرط، وهو خبر في معنى النهي كقوله: {فَلاَ رَفَثَ} [البقرة: 197] . /

62

قوله تعالى: {لِفِتْيَانِهِ} : قرأ الأخوان وحفص: «لفتيانه» ، والباقون: «لفِتْيَتِه» ، والفِتْيان جمع كثرة، والفِتْية جمعُ قلَّة، فالتكثير بالنسبة إلى المأمورين، والقلَّة بالنسبة إلى المتناولين. و «فتى» يُجْمع على فِتْيان وفِتْيَة وقد تقدَّم: هل فِعْلَة في الجموع اسمُ جمعٍ أو جمعُ تكسير، ومثله «أخ» فإنه جُمِع على إخْوَة وإخوان. و «يَرْجِعون» يحتمل أن يكونَ متعدِّياً وحُذِف مفعوله، أي: يَرْجعون البضاعةَ لأنه عَرَف من دينهم ذلك، وأن يكونَ قاصراً بمعنى يرجعون إلينا.

63

وقرأ الأخوان «يَكْتَلْ» بالياء من تحت، أي: يكتل أخونا، والباقون بالنون، أي: نكتل نحن، وهو مجزومٌ على جواب الأمر. ويُحكى أنه جرى بحضرةِ المتوكلِ أو وزيرِه ابن الزياتِ بين المازني وابن السكيت مسألةٌ: وهي ما وزنُ «نَكْتَلْ» ؟ فقال يعقوب: نَفْتَل، فَسَخِر به

المازني وقال: إنما وزنُها نَفْتَعِل، هكذا رأيتُ في بعض الكتب، وهذا ليس بخطأ؛ لأنَّ التصريفيين نَصُّوا على أنه إذا كان في الكلمة حَذْفٌ أو قَلْبٌ حُذِفَتْ في الزِّنَة وقُلِبَتْ فنقول: وزن بِعْتُ وقُمْتُ: فِعْتُ وفُعْتُ، ووزنُ عِد، عِل، ووزنُ ناءَ: فَلَعَ، وإن شِئْتَ أَتَيْتَ بالأصل، فعلى هذا لا خطأَ في قوله: وزن نَكْتَلْ نَفْتَلْ، لأنه اعتُبر اللفظُ لا الأصلُ. ورأيت في بعض الكتب أنه قال: نَفْعَل بالعين وهذا خطأ مَحْضٌ، على أن الظاهر من أمرِ يعقوب أنه لم يُتْقِنْ هذا، ولو أَتْقَنَه لقال: وزنُه على الأصل كذا، وعلى اللفظ كذا، ولذلك أنحى عليه المازني فلم يَرُدُّ عليه بشيء.

64

قوله تعالى: {إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ} : منصوبٌ على نعتِ مصدرٍ محذوف أو على الحال منه، أي: ائتماناً كائتِماني لكم على أخيه، شبَّه ائتِمانَه لهم على هذا بائتمانِه على ذلك. و «من قبلُ» متعلق ب «أمِنْتُكم» . قوله: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} قرأ الأخَوان وحفص «حافظاً» وفيه وجهان، أظهرهما: أنه تمييز، قال أبو البقاء: «ومثل هذا يجوز إضافته» . قلت: قد قرأ بذلك الأعمش: {فاللَّه خيرُ حافظٍ} ، واللَّه تعالى متَّصِفٌ بأنَّ حِفْظَه يزيد على حِفْظِ غيرِه كقولك: هو أفضل عالم. والثاني: أنه حال، ذكر ذلك الزمخشري وأبو البقاء وغيرُهما. قال الشيخ وقد نقله عن

الزمخشري وحده: «وليس بجيد؛ لأنَّ فيه تقييدَ» خير «بهذه الحال» . قلت: ولا محذورَ فإن هذه الحالَ لازمةٌ لأنها مؤكدةٌ لا مبيِّنَة، وليس هذا بأولِ حالٍ وَرَدَتْ لازمةً. وقرأ الباقون «حِفْظاً» ، ولم يُجيزوا فيها غير التمييز؛ لأنهم لو جعلوها حالاً لكانت مِنْ صفةِ ما يَصْدُق عليه «خير» ، ولا يَصْدُق ذلك على ما يَصْدُق عليه «خير» ؛ لأن الحِفْظ معنى من المعاني، ومَنْ يَتَأَوَّلْ «زيدٌ عَدْلٌ» على المبالغة، أو على حذف المضاف، أو على وقوعِ المصدرِ موقعَ الوصفِ يُجِزْ في «حِفْظاً» أيضاً الحالية بالتأويلات المذكورة، وفيه تَعَسُّف.

65

قوله تعالى: {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} : قرأ علقمة ويحيى والأعمش «رِدَّتْ» بكسر الراء على نَقْلِ حركةِ الدالِ المدغمة إلى الراء بعد تَوَهُّم خُلُوِّها مِنْ حركتها، وهي لغةُ بني ضَبَّة، على أن قطرباً حكى عن العرب نَقْلَ حركةِ العين إلى الفاء في الصحيح فيقولون: «ضِرْب زيدٌ» بمعنى ضُرِب زيد، وقد تقدَّم ذلك في قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ} [الآية: 28] في الأنعام. قوله: {مَا نَبْغِي} في «ما» هذه وجهان، أظهرهما: أنها استفهاميةٌ فهي مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأن لها صدرَ الكلام، أي: أيَّ شيءٍ نبغي. والثاني: أَنْ تكونَ نافيةً ولها معنيان، أحدهما: ما بقي لنا ما نطلب، قاله الزجاج. والثاني: ما نبغي، من البغي، أي: ما افْتَرَيْناه ولا كَذَبْنا على هذا المَلِكِ في إكرامه وإحسانه. قال الزمخشري: «ما نبغي في القول وما نتزيَّد فيما وَصَفْنا لك من إحسان المَلِك» .

وأَثْبَتَ القرَّاءُ هذه الياءَ في «نبغي» وَصْلاً ووقفاً ولم يَجْعلوها من الزوائد بخلاف التي في الكهف كما سيأتي: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] . والفرق أنَّ «ما» هناك موصولةٌ فحُذِفَ عائدُها، والحذفُ يُؤْنِسُ بالحذف، وهذه عبارة مستفيضة عند أهلِ هذه الصناعةِ يقولون: التغيير يُؤْنس بالتغيير بخلافها هنا فإنها: إمَّا استفهاميةٌ، وإمَّا نافيةٌ، ولا حَذْفَ على القولين حتى يُؤْنَسَ بالحذف. وقرأ عبد اللَّه وأبو حيوة ورَوَتْها عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ما تبغي» بالخطاب. و «ما» تحتمل الوجهين أيضاً في هذه القراءة. والجملةُ مِنْ قوله: {هذه بِضَاعَتُنَا} تحتمل أنْ تكونَ مفسِّرةً لقولهم «ما نبغي» ، وأن تكونَ مستأنفةً. قوله: {وَنَمِيرُ} معطوفٌ على الجملة الاسمية قبلها، وإذا كانت «ما» نافيةً جاز أن تُعْطَفَ على «نَبْغي» ، فيكونَ عَطْفَ جملةٍ فعلية على مثلِها. وقرأت عائشة وأبو عبد الرحمن: «ونُمير» مِنْ «أماره» إذا جَعَلَ له المِيرة يُقال: ماره يَميره، وأماره يُمِيْره. والمِيرة: جَلْبُ الخير قال: 2805 - بَعَثْتُكَ مائِراً فمكَثْت حَوْلاً ... متى يأتي غِياثُكَ مَنْ تُغِيْثُ والبعيرُ لغةً يقع على الذَّكَر خاصةً، وأطلقه بعضُهم على الناقة أيضاً، وجعله نظيرَ «إنسان» ، ويجوز كَسْرُ بائه إتباعاً لعينه، ويُجمع في القلة على أبْعِرَة، وفي الكثرة على بُعْران.

66

قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} : هذا جوابٌ للقسم المضمرِ في قوله: «مَوْثِقاً» لأنه في معنى: حتى تحلفوا لي لتأتُنَّني به. قوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} في هذا الاستثناء أوجه أحدُها: أنه منقطع، قاله أبو البقاء، يعني فيكون/ تقديرُ الكلام: لكن إذا أحيط بكم خَرَجْتُمْ مِنْ عَتَبي وغضبي عليكم إن لم تَأْتوني به لوضوح عُذْركم. الثاني: أنه متصل وهو استثناء مِن المفعول له العامِّ. قال الزمخشري: «فإن قلت أخبرْني عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال. قلت: {أَن يُحَاطَ بِكُمْ} مفعولٌ له، والكلامُ المثبت الذي هو قولُه» لَتأْتُنَّني به «في معنى النفي معناه: لا تَمْتنعون من الإِتيان به إلا للإِحاطة بكم، أو لا تمتنعون منه لعلةٍ من العلل إلا لعلة واحدة وهي أنْ يُحاط بكم، فهو استثناءٌ مِنْ أَعَمِّ العامِّ في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلا بد مِنْ تأويله بالنفي، ونظيرُه في الإِثبات المتأوَّل بمعنى النفي قولهم:» أقسمتُ باللَّه لمَّا فعلتَ وإلا فعلت «، تريد: ما أطلبُ منك إلا الفعلَ» ولوضوح هذا الوجهِ لم يذكر غيره. والثالث: أن مستثنى مِنْ أعمِّ العامِّ في الأحوال. قال أبو البقاء: «تقديره: لَتَأْتُنَّني به على كل حال إلا في حال الإِحاطة بكم» . قلت: قد نَصُّوا على أنَّ «أنْ» الناصبة للفعل لا تقع موقعَ الحال، وإن كانَتْ مؤولةً بمصدر يجوز أن تقع موقع الحال، لأنهم لم يَغْتفروا في المُؤَول ما يَغْتفرونه في

الصريح فيجيزون: جئتُك رَكْضاً، ولا يُجيزون: جئتك أن أركضَ، وإن كان في تأويله. الرابع: أنه مستثنى من أعم العام في الأزمان والتقدير: لَتَأْتُنَّني به في كلِّ وقتٍ لا في وقت الإِحاطة بكم. وهذه المسألة تَقدَّم فيها خلافٌ، وأن أبا الفتح أجاز ذلك، كما يُجَوِّزه في المصدر الصريح، فكما تقول: «أتيتُكَ صِياحَ الدِّيك» يُجيز «أنْ يَصيح الديك» وجعل من ذلك قول تأبط شراً: 2806 - وقالوا لا تَنْكِحيهِ فإنَّه ... لأَِوَّلِ نَصْلٍ أن يُلاقِيَ مَجْمعا وقولَ أبي ذؤيب الهذلي: 2807 - وتاللَّهِ ما إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واجدٍ ... بأوجدَ مني أن يُهانَ صغيرُها قال: «تقديره: وقتَ ملاقاتِه الجمعَ، ووقت إهانةِ صغيرها» . قال الشيخ: «فعلى ما قاله يجوز تخريجُ الآية، ويبقى» لتأتُنَّني به «على ظاهره من الإِثبات» . قلت: الظاهر من هذا أنه استثناءٌ مفرغ، ومتى كان مفرَّغاً وَجَبَ تأويلُه بالنفي. ومنع ابن الأنباري مِنْ ذلك في «أنْ» وفي «ما» أيضاً قال: «فيجوز أن تقولَ: خروجُنا صياح الديك، ولا يجوز خروجُنا أن يصيحَ، أو: ما يصيح الديك: فاغتُفِر في الصريح ما لم يُغْتفر في المؤول» . وهذا قياس ما قدَّمْتُه في مَنْع وقوع «أنْ» وما في حَيِّزها موقعَ الحال، ولك أَنْ تُفَرِّق ما بينهما بأن الحال تلزمُ التنكيرَ، وأنْ وما في حَيِّزها نَصُّوا على أنها في رتبة المضمر في

التعريف، فيُنافي وقوعَها موقعَ الحال بخلاف الظرف، فإنه لا يُشْترط تنكيرُه، فلا يَمْتنع وقوعُ «أَنْ» وما في حيزها موقعَه.

68

قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ} : في جواب «لمَّا» هذه ثلاثة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنه الجملةُ المنفية من قوله: {مَّا كَانَ يُغْنِي} . وفيه حجةٌ لمَنْ يَدَّعي كونَ «لمَّا» حرفاً لا ظرفاً، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها جوابُها، إذ لا يَصْلح للعملِ سواه، لكن ما بعد «ما» النافية لا يَعْمل فيما قبلها، لا يجوز: «حين قام أخوك ما قام أبوك» ، مع جواز «لمَّا قام أخوك ما قام أبوك» . والثاني: أنَّ جوابَها محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء: «امتثلوا وقَضَوا حاجةَ أبيهم» ، وإليه نحَا ابن عطية أيضاً، وهو تَعَسُّفٌ لأنَّ في الكلامِ ما هو جوابٌ صريحٌ كما قَدَّمْتُه. والثالث: أنَّ الجوابَ هو قولُه: «آوى» قال أبو البقاء: «وهو جوابُ» لمَّا «الأولى والثانية كقولك:» لمَّا جِئْتني، ولمَّا كَلَّمْتك أَجَبْتَني «، وحَسَّن ذلك أنَّ دخولَهم على يوسف عليه السلام يَعْقُبُ دخولهم من الأبواب» يعني أنَّ «آوى» جوابُ الأولى والثانية، وهو واضح. قوله: {إِلاَّ حَاجَةً} فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطع تقديرُه: ولكنَّ حاجةً في نفس يعقوب قضاها، ولم يذكر الزمخشري غيره. والثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله، ولم يذكر أبو البقاء غيره، ويكون التقدير: ما كان

التعريف، فيُنافي وقوعَها موقعَ الحال بخلاف الظرف، فإنه لا يُشْترط تنكيرُه، فلا يَمْتنع وقوعُ «أَنْ» وما في حيزها موقعَه.

قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ} : في جواب «لمَّا» هذه ثلاثة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنه الجملةُ المنفية من قوله: {مَّا كَانَ يُغْنِي} . وفيه حجةٌ لمَنْ يَدَّعي كونَ «لمَّا» حرفاً لا ظرفاً، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها جوابُها، إذ لا يَصْلح للعملِ سواه، لكن ما بعد «ما» النافية لا يَعْمل فيما قبلها، لا يجوز: «حين قام أخوك ما قام أبوك» ، مع جواز «لمَّا قام أخوك ما قام أبوك» . والثاني: أنَّ جوابَها محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء: «امتثلوا وقَضَوا حاجةَ أبيهم» ، وإليه نحَا ابن عطية أيضاً، وهو تَعَسُّفٌ لأنَّ في الكلامِ ما هو جوابٌ صريحٌ كما قَدَّمْتُه. والثالث: أنَّ الجوابَ هو قولُه: «آوى» قال أبو البقاء: «وهو جوابُ» لمَّا «الأولى والثانية كقولك:» لمَّا جِئْتني، ولمَّا كَلَّمْتك أَجَبْتَني «، وحَسَّن ذلك أنَّ دخولَهم على يوسف عليه السلام يَعْقُبُ دخولهم من الأبواب» يعني أنَّ «آوى» جوابُ الأولى والثانية، وهو واضح. قوله: {إِلاَّ حَاجَةً} فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطع تقديرُه: ولكنَّ حاجةً في نفس يعقوب قضاها، ولم يذكر الزمخشري غيره. والثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله، ولم يذكر أبو البقاء غيره، ويكون التقدير: ما كان

يُغْني عنهم لشي من الأشياء إلا لأجلِ حاجةٍ كانت في نفس يعقوب. وفاعل «يُغْني» ضميرُ التفرقِ المدلولِ عليه من الكلام المتقدم. وفيما أجازه أبو البقاء نظرٌ من حيث المعنى لا يَخْفَى على متأمِّله. و «قضاها» صفةٌ ل «حاجةً» .

70

قوله تعالى: {جَعَلَ السقاية} : العامَّة على «جَعَل» دون زيادة واو قبلها. وقرأ عبد اللَّه «وجَعَلَ» ، وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّ الجوابَ محذوفٌ. والثاني: أن الواوَ مزيدةٌ في الجواب على رأيِ مَنْ يَرى ذلك، وهم الكوفيون والأخفش. / وقال الشيخ: «وقرأ عبد اللَّه فيما نقل الزمخشري» وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه: أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذَّن مؤذِّن «، وفي نَقْل ابن عطية» وجعل «بزيادة واوٍ في» جَعَل «، دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} ، فاحتمل أن تكونَ الواوُ زائدةً على مذهب الكوفيين، واحتمل أن يكونَ جوابُ» لمَّا «محذوفاً تقديره: فَقَدها حافظُها، كما قيل: إنما أوحيَ إلى يوسفَ أن يَجْعل السقاية فقط، ثم إنَّ حافِظَها فَقَدَها فنادى برأيه فيما ظهر له، ورجَّحه الطبري. وتفتيشُ الأوعية يَرُدُّ هذا القول» . قلت: لم ينقلِ الزمخشري هذه الزيادةَ كلَّها قراءةً عن عبد اللَّه، إنما جعل الزيادةَ المذكورةَ بعد قوله: «رَحْل أخيه» تقديرَ جوابٍ مِنْ عنده، وهذا نصُّه: قال الزمخشري: «وقرأ ابن مسعود» وجَعَل السِّقاية «على حَذْفِ جواب» لمَّا «كأنه قيل: فلمَّا جَهَّزهم بجهَازهم وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذَّن مؤذِّن» فهذا من الزمخشري إنما هو تقديرٌ لا تلاوةٌ منقولة عن عبد اللَّه، ولعله وقع للشيخِ نسخةٌ سقيمة. والسِّقاية: إناءٌ مستطيل يسقى به وهو الصُّواع، وللمفسرين فيه خلافٌ طويل. قوله: {أَيَّتُهَا العير} منادى حُذِفَ منه حرفُ النداء والعِيْر مؤنث، ولذلك أتَتْ «أيّ» المُتَوَصَّلُ بها إلى ندائه. والعِيْر فيها قولان، أحدهما: أنها في الأصلِ جماعةُ الإِبل سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَعِيْر، أي: تَذْهَبُ وتجيء به. والثاني: أنها في الأصل قافلة الحمير كأنها جمع عَيْر، والعَيْر: والعَيْر: الحمار. قال: 2808 - ولا يُقيم على ضَيْمٍ يُرادُ به ... إلا الأَذَلاَّن عَيْرُ الحَيِّ والوَتِدُ والأصل: عَيْر وعُيْر بضم العين ثم فَعِل به ما فُعِل ب «بِيض» ، والأصل: بُيْض بضم الأول، ثم أُطْلِقَ العِير على كل قافلة حميراً كنَّ أو غيرَها، وعلى كل تقدير فنسبةُ النداء إليها على سبيل المجاز، لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلُها. ونَظَّره الزمخشري بقوله: «يا خيلَ اللَّهِ اركبي» ، إلا أنه في هذه الآية التفت إلى المضاف المحذوف في قوله: «إنكم لسارقون» ولم يَلْتفت إليه في «يا خيل اللَّه اركبي» ، ولو التفت لقال: اركبوا. ويجوزُ أن يُعَبَّر عن أهلها للمجاورة فلا يكونُ مِنْ مجازِ الحَذْف، بل من مجازِ العَلاقة. وتجمعه العرب قاطبةً، على عَيَرات بفتح الياء، وهذا ممَّا اتُّفِقَ على شذوذه؛ لأن فِعْلَة

المعتلةَ بالعين حقُّها في جمعها بالألف والتاء أن تُسَكَّن عينُها نحو: قِيمة وقِيْمات ودِيْمة ودِيْمات، وكذلك فَعْل دون ياء إذا جُمِعَ حَقُّه أن تُسَكَّن عينُه. وقال امرؤ القيس: 2809 - غَشِيْتُ ديارَ الحي بالبَكَرَاتِ ... فعارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ وقال الأعلم الشنتمري: «العِيَرات هنا: مواضع الأَعْيار وهي الحُمُر» قلت: وفي عِيَرات شذوذٌ آخرُ وهو جَمْعُها بالألف والتاء مع جَمْعِها على «أعْيار» أيضاً جمعَ تكسير، وقد نَصُّوا على ذلك. قيل: ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله: 2810 - إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ ... ففي الناسِ بُوْقاتُ لهم وطبولُ قالوا: فجمع بوقاً على بوقات مع تكسيرهم له على أبواق.

71

قوله تعالى: {وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ} : هذه الجملة حالية من فاعل «قالوا» ، أي: قالوا وقد أقبلوا، يعني في حال إقبالهم عليهم. قوله: {مَّاذَا تَفْقِدُونَ} تقدَّمَ الكلامُ على هذه المسألةِ أولَ هذا الموضوع. وقرأ العامَّةُ «تَفْقِدون» بفتح حرف المضارعة؛ لأنَّ المستعملَ منه «فَقَد» ثلاثياً. وقرأ السُّلَمي بضمِّه مِنْ أَفْقَدْتُه إذا وجدتَه مفقوداً كَأَحْمَدْته وأَبْخَلْتُه، أي: وَجَدْتُه محموداً بخيلاً. وضَعَّف أبو حاتم هذه القراءةَ، ووَجْهُها ما ذَكَرْتُه.

72

قوله تعالى: {صُوَاعَ} : هو المِكْيال وهو السِّقاية المتقدمة

سَمَّاه تارةً كذا وتارةً كذا، وإنما اتُّخِذ هذا الإِناء مكيالاً لعِزَّة ما يُكال به في ذلك الوقت. وفيه قراءاتُ كثيرةٌ كلُّها لغاتٌ في هذا الحرفِ، ويذكَّر ويؤنَّث: فالعامَّةُ «صُواع» بزنة غُراب، والعين مهملة. وقرأ ابن جبير والحسن كذلك إلا أنه بالغين معجمةً. وقرأ يحيى بن يعمر كذلك، إلا أنه حَذَفَ الألف وسكَّن الواو، وقرأ زيد/ بن علي «صَوْغ» كذلك، إلا أنه فتح الصاد جعله مصدراً لصاغ يَصُوغ، والقراءتان قبله مشتقتان منه، وهو واقع موقعَ مفعولٍ، أي: مَصُوغ المَلِك. وقرأ أبو حيوة وابن جبير والحسن في روايةٍ عنهما «صِواع» كالعامَّة لا أنهم كسروا الفاء. وقرأ أبو هريرة ومجاهد «صَاعَ» بزنة باب، وألفه كألفه في كونِها منقلبةً عن واوٍ مفتوحة. وقرأ أبو رجاء «صَوْعَ» بزنة «قَوْسٍ» . وقرأ عبد اللَّه بن عون كذلك إلا أنه ضمَّ الفاءَ فهذه ثمانِ قراءات متواتِرُها واحدةٌ.

73

قوله تعالى: {تالله} : التاءُ حرفُ قسمٍ، وهي عند الجمهور بدلٌ من واو القسم، ولذلك لا تدخُل إلا على الجلالةِ المقدسة أو الرب مضافاً للكعبة أو الرحمن في قولٍ ضعيف. ولو قلت: تالرحيم لم يَجُزْ. وهي فرع الفرع. هذا مذهبُ الجمهور، وزعم السهيلي أنها أصل

بنفسها ويلازِمُها التعجبُ غالباً كقوله تعالى: {تَالله تَفْتَؤُاْ} [يوسف: 85] . وقال ابن عطية: «والتاء في» تاللَّه «بدلٌ من واو، كما أُبْدِلت في» تُراث «وفي» التوراة «وفي» التُّخَمَة «، ولا تدخل التاء في القسم، إلا في المكتوبة من أسماء اللَّه تعالى وغيره ذلك، لا تقول: تالرحمن، وتالرحيم» . وقد عرفْتَ أنَّ السهيلي خالَفَ في كونها بدلاً من واو. وأمَّا قولُه: «وفي التوراة» يريد عند البصريين. وزَعَمَ بعضُهم أنَّ التاء فيها زائدة. وأمَّا قوله: «إلا في المكتوبة» هذا هو المشهور. وقد تقدَّم دخولُها على غير ذلك. قوله: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يُحْتمل أن يكونَ جواباً للقسم، فيكونون قد أَقْسموا على شيئين: نَفْيِ الفساد ونَفْيِ السَّرِقة. وقوله: {مَّا جِئْنَا} يجوز أَنْ يكونَ مُعَلِّقاً للعلم، ويجوز أن يُضَمَّنَ العلمُ نفسُه معنى القسم فيجاب بما يُجاب القسم. وقيل: هذان الوجهان في قولِ الشاعر: 2811 - ولقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتي ... إنَّ المَنايا لا تَطيشُ سِهامُها

74

قوله تعالى: {فَمَا جَزَآؤُهُ} : الهاء تعودُ على الصُّواع، ولا بد

من حَذْفِ مضاف أي: فما جزاءُ سَرِقته. و «إنْ كنتم» يجوز أن يكونَ جوابُه محذوفاً أو متقدِّماً.

75

قوله تعالى: {جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ} : أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكونَ «جزاؤه» مبتدأً والضميرُ للسارق، و «مَنْ» شرطية أو موصولةٌ مبتدأٌ ثانٍ، والفاءُ جوابُ الشرط أو مزيدةٌ في خبر الموصول لشبهه بالشرط، و «مَنْ» وما في حَيِّزها على وَجْهَيْها خبر المبتدأ الأول، قاله ابن عطية، وهو مردودٌ بعدم رابطٍ بين المبتدأ وبين الجملةِ الواقعةِ خبراً عنه، هكذا رَدَّه الشيخُ عليه. وليس بظاهر؛ لأنه يُجاب عنه بأنَّ هذه المسألةَ من باب إقامة الظاهرِ مُقامَ المضمرِ، وَيَتَّضِحُ هذا بتقرير الزمخشري قال رحمه اللَّه: «ويجوز أن يكونَ» جزاؤه «مبتدأً، والجملةُ الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مُقَامَ المضمر. والأصل: جزاؤه مَنْ وُجِدَ في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضِعَ» هو «كما تقول لصاحبك: مَنْ أخو زيد؟ فيقول لك:» أخوه مَنْ يقعد إلى جنبه، فهو هو «يرجع الضمير الأول إلى» مَنْ «والثاني [إلى] الأخ، ثم تقول: فهو أخوه، مقيماً للمظهر مقام المضمر» . والشيخ جعل هذا الذي حكيته عن الزمخشري وجهاً ثانياً بعد الأول ولم يَعْتقدْ أنه هو بعينه، ولا أنَّه جوابٌ عَمَّا رَدَّ به على ابن عطية. ثم قال: «ووَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتأويل، وغير فصيحٍ فيما سوى ذلك نحو: زيدٌ قام زيد، ويُنَزَّه عنه القرآنُ، قال سيبويه:» لو قلت: «كان زيدٌ منطلقاً زيد» لم يكن حَدَّ الكلام، وكان

ههنا ضعيفاً ولم يكنْ كقولِك: ما زيدٌ منطلقاً هو لأنك قد اسْتَغْنَيْتَ عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تُضْمِرَه «. قلت: ومذهب الأخفش أنه جائزٌ مطلقاً وعليه بنى الزمخشري. وقد جَوَّز أبو البقاء ما تَوَهَّم أنه جواب عن ذلك فقال:» والوجه الثالث: أن يكونَ «جزاؤه» مبتدأً، و «مَنْ وُجد» مبتدأ ثان، و «فهو» مبتدأٌ ثالث، و «جزاؤه» خبر الثالث، والعائد على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة، وعلى الثاني «هو» انتهى. وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يَصِحُّ، إذ يصير التقديرُ: فالذي وُجِدَ في رَحْله جزاء الجزاء؛ لأنه جَعَل «هو» عبارةً عن المبتدأ الثاني، وهو {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} ، وجعل الهاءَ الأخيرةَ وهي التي في «جزاؤه» الأخير عائدةً على «جزاؤه» الأولِ، وصار التقديرُ كما ذكَرْتُه لك. الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة: أن يكون «جزاؤه» مبتدأً، والهاءُ تعود على المسروق، و {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} خبره، و «مَنْ» بمعنى الذي، والتقدير: جزاء الصُّواع الذي وُجد في رَحْله، كذلك كانت شريعتُهم: يُسْتَرَقُّ السارق، فلذلك اسْتُفْتوا في جزائه. وقوله «فهو جزاؤه» تقرير للحكم أي: فَأَخْذُ السارقِ نفسِه هو جزاؤه لا غير كقولك: حَقُّ زيدٍ أن يكسى ويُطْعَمَ ويُنْعَمَ عليه، فذلك حَقُّه «أي فهو حَقُّه لِتُقَرِّرَ/ ما ذكرْتَه مِن استحقاق وتُلْزِمَه، قاله الزمخشري. ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال:» والتقدير استعبادُ مَنْ وُجِد في رَحْله، وقوله: «فهو جزاؤه» مبتدأ وخبر، مؤكِّد لمعنى الأول «. ولمَّا ذَكَر الشيخُ هذا الوجهَ ناقلاً له عن الزمخشري قال:» وقال معناه

ابن عطية، إلا أنه جعل القول الواحد قولين، قال: «ويَصِحُّ أن يكونَ» مَنْ «خبراً على أن المعنى: جزاءُ السارق مَنْ وُجِد في رَحْله، عائد على» مَنْ «ويكون قوله:» فهو جزاؤه «زيادةَ بيانٍ وتأكيدٍ» ، ثم قال: «ويُحتمل أن يكونَ التقدير: جزاؤُه استرقاقُ مَنْ وجِد في رَحْلِه، وفيما قبله لا بد مِنْ تقديره؛ لأنَّ الذاتَ لا تكونُ خبراً عن المصدر، فالتقدير في القول قبله: جزاؤه أَخْذُ مَنْ وُجِد في رَحْله أو استرقاقه، هذا لا بد منه على هذا الإِعراب» قلت: وهذا كما قال الشيخُ ظاهره أنه جَعَل القول الواحد قولين. الوجه الثالث مِن الأوجه المتقدِّمة: أن يكون «جزاؤه» خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: المسؤول عنه جزاؤه، ثم أَفْتَوا بقولهم: «مَنْ وُجِد في رَحْله فهو جزاؤه» كما يقول مَنْ يَسْتفتي في جزاء صيد المُحْرِم: جزاءُ صيد المُحْرِم، ثم يقول: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} [المائدة: 95] ، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله:» المسؤول عنه جزاؤه «على هذا التقدير ليس فيه كبيرُ فائدة؛ إذ قد عُلِمَ مِنْ قوله:» فما جزاؤه «أن الشيء المسؤولَ عنه جزاءُ سَرِقته، فأيُّ فائدةٍ في نُطْقهم بذلك؛ وكذلك القول في المثال الذي مَثَّل به مِنْ قول المستفتي» . قلت: قوله: «ليس فيه كبيرُ فائدة» ممنوعٌ بل فيه فائدةُ الإِضمار المذكور في علم البيان، وفي القرآن أمثالُ ذلك.

الوجه الرابع: أن يكونَ «جزاؤه» مبتدأ، وخبرُه محذوف تقديره: جزاؤه عندنا كجزائِه عندكم، والهاءُ تعودُ على السارق أو على المسروق، وفي الكلام المتقدم دليلٌ عليهما، ويكون قولُه: «مَنْ وُجِدَ في رَحْله فهو جزاؤه على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء، ولم يذكرْه الشيخ، فقد جَعَلَ في الآية الكريمة أربعة أوجهٍ، وتقدَّم أن الأولَ والثاني وَجْهٌ كما بَيَّنْتُه، فإذا ضَمَمْنا هذا الوجهَ الأخيرَ الذي بدأ به أو البقاء إلى الأربعةِ التي ذكرها الشيخُ صارت خمسةً، ولكن لا تحقيقَ لذلك، وكذلك إذا التفَتْنا إلى قول ابن عطية في جَعْلِه القولَ الواحدَ قولين تصيرُ ستةً في اللفظ، فإذا حَقَّقَتْها لم تجِىءْ إلا أربعةً كما ذكرتها لك. قوله: {كذلك نَجْزِي الظالمين} محل الكاف نصب: إمَّا على أنها نعتٌ لمصدر محذوف، وإمَّا حالٌ من ضميره، أي: مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيع نجزي الظالمين.

76

وقرأ العامَّة: «وِعاء» بكسر الواو، وقرأ الحسن بضمها، وهي لغةٌ نُقِلَتْ عن نافع أيضاً. وقرأ سعيد بن جبير «مِنْ إعاء» بإبدالِ الواوِ همزةً، وهي لغة هُذَيْلية: يُبْدلون من الواو المكسورة أولَ الكلمة همزة فيقولون:

إشاح وإسادة وإعاء في: وشاحٍ ووِسادة ووِعاء. وقد تقدَّم ذلك في الجلالةِ المعظمة أولَ هذا الموضع. قوله: {ثُمَّ استخرجها} في الضمير المنصوب قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على الصُّواع، لأنَّ فيه التذكيرَ والتأنيثَ كما تقدم. وقيل: بل لأنه حُمِل على معنى السقاية. وقال أبو عبيد: «يؤنَّث الصُّواع من حيث يُسَمَّى» سقاية «، ويُذكَّر من حيث هو صُواع» . قالوا: وكأنَّ أبا عبيد لم يَحْفظْ في الصُّواع التأنيثَ. وقال الزمخشري: «قالوا: رَجَع بالتأنيث على السِّقاية» ثم قال: «ولعل يوسف كان يُسَمِّيه» سِقاية «وعبيدَهُ» صُواعاً «فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية، وفيما يتصل بهم صواع» . قلت: هذا الأخيرُ حَسَنٌ. الثاني: أن الضميرَ عائدٌ على السَّرِقة. وفيه نظر؛ لأن السِّرقة لا تُسْتخرج، إلا بمجازٍ. قوله: {كذلك كِدْنَا} الكلامُ في الكاف كالكلام فيما قبلها أي: مثلَ ذلك الكَيْدِ العظيم كِدْنا ليوسُفَ أي: عَلَّمْناه إياه. وقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ} تفسيرُ للكيد وبيان له، وذلك أنه كان في دينِ مَلِك مِصْرَ أن يُغَرَّمَ السارقُ مِثْلَيْ ما أَخَذَ، لا أنه يُلْزَمُ ويُسْتَعْبَدُ. قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} فيه وجهان أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ تقديرُه: ولكن بمشيئة اللَّه أَخَذَه في دين غيرِ الملك، وهو دينُ آلِ/ يعقوب: أن الاسترقاقَ جزاءُ السارق. الثاني: أنه مفرغٌ من الأحوال العامة، والتقدير: ما كان ليأخذَه في كل حال إلا في حال التباسِه بمشيئة اللَّه أي إذنه في ذلك.

وكلامُ ابنِ عطية مُحْتَمِلٌ فإنه قال: «والاستثناء حكاية حال، التقدير: إلا أن يَشاء اللَّه ما وقع من هذه الحيلة» . وتقدَّم القراءتان في {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} [الآية: 83] في الأنعام. وقرأ يعقوب بالياء مِنْ تحت في «يرفع» و «يشاء» ، والفاعل اللَّه تعالى: وقرأ عيسى البصرة «نَرْفع» بالنون «درجات» منونة، «يشاء» بالياء. قال صاحب «اللوامح» : «وهذه قراءةٌ مرغوبٌ عنها تلاوةً وجملة، وإن لم يمكنْ إنكارُها» قلت: وتوجيهُها: أنه التفتَ في قولِه «يشاء» من التكلم إلى الغَيْبة، والمرادُ واحد. قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قرأ عبد اللَّه بن مسعود «وفوق كل ذي عالم» وفيها ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن يكون «عالم» هنا مصدراً، قالوا: مثل «الباطل» فإنه مصدرٌ فهي كالقراءة المشهورة. الثاني: أنَّ ثَمَّ مضافاً محذوفاً تقديرُه: وفوقَ كلِّ ذي مُسَمَّى عالم، كقول لبيد: 2812 - إلى الحَوْلِ ثم اسمِ السَّلامِ عليكما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: مُسَمَّى السلام. الثالث: أنَّ «ذو» زائدة، كقول الكميت:

2813 - إليكم ذوي آلِ النبيِّ. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت.

77

قوله تعالى: {فَقَدْ سَرَقَ} : الجمهور على «سَرَق» مخففاً مبيناً للفاعل. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي وابن أبي شريح عن الكسائي والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين «سُرِّق» مشدداً مبنياً للمفعول أي: نُسِب إلى السَّرِقة. وفي التفسير: أنَّ عَمَّته رَبَّتْه فأخذه أبوه منها، فَشَدَّت في وَسَطِه مِنْطَقَة كانوا يتوارثونها من إبراهيم عليه السلام ففتَّشوا فوجدوها تحت ثيابه. فقال: هو لي فَأَخَذَتْه كما في شريعتهم، وهذه القراءةُ منطبقة على هذا. قوله: {فَأَسَرَّهَا} الضميرُ المنصوبُ مفسَّر بسياق الكلام أي: فَأَسَرَّ الحزازة التي حَصَلَتْ له مِنْ قولهم {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ} كقول الشاعر: 2814 - أما وِيَّ ما يُغْني الثَّراء عن الفتى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاق بها الصدرُ والضمير في «حَشْرَجَتْ» يعود على النفس، كذا ذكره الشيخ، وقد جعل البيتَ مِمَّا فُسِّر فيه الضميرُ بذِكْر ما هو كلٌّ لصاحب الضمير، فلا يكون مما فُسِّر فيه بالسياق. ولتحقيق هذا موضعٌ آخرُ. وقال الزمخشري: «إضمارٌ على شريطة التفسير، تفسيره {أَنْتُمْ شَرٌّ

مَّكَاناً} ، وإنما أنَّثَ لأنَّ قولَه» شَرٌ مكاناً «جملة أو كلمةٌ على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فَأَسَرَّ الجملةَ أو الكلمةَ التي هي قولُه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} ، لأنَّ قولَه: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} بدلٌ مِنْ أَسَرَّها» . قلت: وهذا عندَ مَنْ يُبْدل الظاهرَ من المضمر في غير المرفوع نحو: ضربته زيداً، والصحيح وقوعه، كقوله: 2815 - فلا تَلُمْهُ أن يَخافَ البائسا ... وقرأ عبد اللَّه وابن أبي عبلة: «فَأَسَرَّه» بالتذكير. قال الزمخشري: «يريد القول أو الكلام» . وقال أبو البقاء: «المضمر يعود إلى نِسْبتهم إياه إلى السَّرقة، وقد دَلَّ عليه الكلامُ، وقيل: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ تقديرهُ: قال في نفسه: أنتم شرٌّ مكاناً، وأَسَرَّها أيْ هذه الكلمةَ» . قلت: ومِثْلُ هذا يَنْبغي أن لا يُقال: فإنَّ القرآنَ يُنَزَّهُ عنه. قوله: {مَّكَاناً} تمييزٌ أي: منزلةً من غيركم.

78

قوله تعالى: {مَكَانَهُ} : فيه وجهان أحدهما: وهو الظاهر أنَّ «مكانَه» نصب على الظرفِ، والعامل فيه «خُذْ» . والثاني: أنه ضَمَّن «خُذْ» معنى «اجْعَلْ» فيكونُ «مكانَه» في محل المفعول الثاني. وقال الزمخشري: «فَخُذْه بَدَلَه على جهةِ الاسترهان أو الاستبعاد» .

79

قوله تعالى: {إِنَّآ إِذاً} : هذه حرفُ جوابٍ وجزاء، وتقدم الكلامُ على أحكامِها.

80

قوله تعالى: {استيأسوا} : استفعل هنا بمعنى فَعِل المجرد يقال: يَئِس واستيئس بمعنىً، نحو عَجِب واستعجب، وسَخِر واستخسر. وقال الزمخشري: «وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مَرَّ في» استعصم «. وقرأ البزي عن ابن كثير بخلافٍ عنه» اسْتَاْيَسوا «بألفٍ بعد التاء ثم ياء، وكذلك في هذه السورة:» لا تايَسوا «، إنه لا يايَس (إذا اسْتايَسَ الرسلُ) ، وفي الرعد: (أفلم يايَسِ الذين) الخلافُ واحد. فأمَّا قراءةُ العامة فهي الأصل إذ يُقال: يَئِس، فالفاء ياء، والعين همزة، وفيه لغةٌ أخرى وهي القلبُ بتقديم العين على الفاء فيقال: أَيِس، ويدلُّ على ذلك شيئان، أحدُهما: المصدرُ الذي هو اليَأْس. والثاني: أنه لو لم يكنْ مقلوباً لَلَزِم قَلْبُ الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولكنْ مَنَعَ من ذلك كونُ الياء في موضعٍ لا تُعَلَّ فيه ما وقعَتْ موقعَه، وقراءةُ ابن كثير من هذا، ولمَّا قَلَبَ الكلمةَ أَبْدَلَ مِن الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة إذ صارَتْ كهمزة رَأْس وكأس، / وإنْ لم يكنْ مِنْ أصله قَلْبُ الهمزة الساكنة حرفَ علة، وهذا كما تقدم أنه يقرأ» القرآن «بالألف، وأنه يُحْتمل أنْ يكون نَقَل حركة الهمزة وإن لم يكنْ من أصلِه النقلُ.

وقال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلماتِ الخمسَ التي وقع فيها الخلافُ:» وكذلك رُسِمَتْ في المصحف «يعني كما قرأها البزي، يعني بألفٍ مكان الياء وبياء مكان الهمزة. وقال أبو عبد اللَّه:» واختلفَتْ هذه الكلمات في الرسم فَرُسِمَ «يابَس» «ولا تايَسُوا» بالألف، ورُسِم الباقي بغير ألف «قلت: وهذا هو الصوابُ، وكأنها غَفْلَةٌ حَصَلَتْ من أبي شامة رحمه اللَّه. قوله: {نَجِيَّاً} حال مِنْ فاعل» خَلَصوا «أي: اعتزلوا في هذه الحالِ، وإنما أُفْرِدَت الحالُ وصاحبُها جَمْعٌ: إمَّا لأنَّ النَّجِيَّ فَعِيل بمعنى مُفاعِل كالعشير والخليط بمعنى المُخالطِ والمُعاشِر، كقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] أي: مُناجِياً، وهذا في الاستعمال يُفْرَدُ مطلقاً، يقال: هم خليطُكَ وعَشيرُكَ أي: مُخالِطوك ومُعاشِروك، وإمَّا لأنَّه صفةٌ على فَعِيل بمنزلة صَديق، وصديق وبابُه يُوحَّدُ لأنه بزِنَةِ المصادر كالصَّهيل والوَجيب والذَّمِيل، وإمَّا لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل: النجوى بمعناه، قال تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] ، وحينئذ يكون فيه التأويلاتُ المذكورةُ في» رجل عَدْل «وبابه، ويُجمع على» أَنْجيَة «، وكان مِنْ حَقِّه إذا جُعِل وصفاً أن يُجْمع على أفْعِلاء كغَنِيّ وأَغْنِياء وشَقِيّ وأَشْقِياء. ومِنْ مجيئه على أَنْجية قولُ الشاعر:

2816 - إنِّي إذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ ... وقول الآخر وهو لبيد: 2817 - وشَهِدْتُ أَنْجِيَةَ الأَفَاقةِ عالياً ... كَعْبي وأَرْدَافُ المُلوكِ شُهودُ وجَمْعُه كذلك يُقَوِّي كونَه جامداً، إذ يصير كرغيف وأَرْغِفَة. قوله: {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ} في هذه الآيةِ وجوهٌ ستة، أحدها: وهو الأظهر أنَّ «ما» مزيدةٌ، فيتعلَّقُ الظرفُ بالفعل بعدها، والتقدير: ومِنْ قبلِ هذا فَرَّطْتم، أي: قَصَّرْتُمْ في حَقِّ يوسف وشأنِه، وزيادةُ «ما» كثيرةٌ، وبه بدأ الزمخشري وغيرُه. الثاني: أن تكونَ «ما» مصدريةً في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ الظرف المتقدم. قال الزمخشري: «على أنَّ محلَّ المصدرِ الرفعُ بالابتداء، والخبرُ الظرفُ، وهو» مِنْ قبل «، والمعنى: وقع مِنْ قَبْل تفريطكم في يوسف، وإلى هذا نحا ابنُ عطية أيضاً فإنه قال:» ولا يجوز أن يكونَ قوله «مِنْ قَبلُ» متعلقاً ب «ما فَرَّطْتُمْ» ، وإنما تكونُ على هذا مصدريةً، والتقدير: مِنْ قبلُ تفريطُكم في يوسف واقعٌ أو مستقرٌ، وبهذا المقدرِ يتعلَّقُ قولُه «مِنْ قبل» . قال الشيخ: «وهذا وقولُ الزمخشري راجعان إلى معنى واحد وهو أنَّ» ما فَرَّطْتُمْ «يُقَّدرُ

بمصدرٍ مرفوعٍ بالابتداء، و» مِنْ قبل «في موضعِ الخبرِ، وذَهِلا عن قاعدةٍ عربية وحُقَّ لهما أن يَذْهَلا وهو أن هذه الظروفَ التي هي غاياتُ إذا بُنِيَتْ لا تقع أخباراً للمبتدأ جَرَّتْ أو لم تجرَّ تقول:» يومُ السبت مباركٌ، والسفر بعده «، ولا تقول:» والسفر بعدُ، وعمرو وزيد خلفَه «، ولا يجوز:» زيد وعمرو خلفُ «وعلى ما ذكراه يكون» تفريطكم «مبتدأً، و» من قبل «خبر [وهو مبني] وذلك لا يجوز، وهو مقرر في علم العربية» . قلت: قوله «وحُقَّ لهما أن يَذْهلا» تحاملٌ على هذين الرجلين المعروفِ موضعُهما من العلم. وأمَّا قولُه «إنَّ الظرف المقطوعَ لا يقع خبراً فمُسَلَّمٌ، قالوا لأنه لا يفيد، وما لا يفيد فلا يقع خبراً، ولذا لا يقع صلةً ولا صفةً ولا حالاً، لو قلت:» جاء الذي قبلُ «، أو» مررت برجل قبلُ «لم يجز لِما ذكرت. ولقائلٍ أن يقولَ: إنما امتنع ذلك لعدمِ الفائدة، وعدمُ الفائدة لعدمِ العلمِ بالمضاف إليه المحذوف، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مَدْلولاً عليه أن يقع ذلك الظرفُ المضافُ إلى ذلك المحذوفِ خبراً وصفةً وصلةً وحالاً، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل، أعني ممَّا عُلِم فيه المضافُ إليه كما مرَّ تقريره. ثم هذا الردُّ الذي رَدَّ به الشيخ سبقه إليه أبو البقاء فقال:» وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ «قبل» إذا وقعت خبراً أو صلة لا تُقْطع عن الإِضافة لئلا تبقى ناقصة «. الثالث: أنَّها مصدريةٌ أيضاً في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر هو قولُه:» في يوسف «، أي: وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي، كأنه اسْتَشْعر أن الظرفَ المقطوعَ/ لا يقع خبراً فعدل إلى هذا،

وفيه نظر؛ لأنَّ السياقَ والمعنى يجريان إلى تعلُّق» في يوسف «ب» فَرَّطْتُم «فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقَطْعِه عنه. الرابع: أنها مصدريةٌ أيضاً، ولكن محلَّها النصبُ على أنها منسوقةٌ على {أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ} ، أي: ألم تعلموا أَخْذَ أبيكم الميثاقَ وتفريطكَم في يوسف. قال الزمخشري: «كأنه قيل: ألم تعلموا أخْذَ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطَكم مِنْ قبلُ في يوسف» . وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً. قال الشيخ: «وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد، لأنَّ فيه الفصلَ بالجارِّ والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرفٍ واحد وبين المعطوف، فصار نظير:» ضربتُ زيداً وبسيفٍ عمراً «، وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر» . قلت: «هذا الردُّ أيضاً سبقه إليه أبو البقاء ولم يَرْتَضِه وقال:» وقيل: هو ضعيف لأنَّ فيه الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف، وقد بَيَّنَّا في سورة النساء أنَّ هذا ليس بشيء «. قلت: يعني أنَّ مَنْعَ الفصل بين حرف العطف والمعطوف ليس بشيء، وقد تقدَّم إيضاح ذلك وتقريرُه في سورة النساء كما أشار إليه أبو البقاء. ثم قال الشيخ:» وأمَّا تقديرُ الزمخشري «وتفريطكم من قبل في يوسف» فلا يجوزُ لأنَّ فيه تقديمَ معمولِ المصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري والفعل عليه، وهو لا يجوز «. قلت: ليس في تقدير الزمخشري شيءٌ من ذلك؛ لأنه لَمَّا صَرَّح بالمقدَّر أخَّر الجارَّيْن والمجرورَيْن عن لفظِ المصدر المقدر

كما ترى، وكذا هو في سائر النسخ، وكذا ما نقله الشيخ عنه بخطه، فأين تقديم المعمول على المصدر؟ ولو رَدَّ عليه وعلى ابن عطية بأنه يلزم مِنْ ذلك تقديمُ معمولِ الصلة على الموصول لكان رَدَّاً واضحاً، فإنَّ» من قبلُ «متعلقٌ بفَرَّطْتُم، وقد تقدم على» ما «المصدرية، وفيه خلافٌ مشهور. الخامس: أن تكونَ مصدريةً أيضاً، ومحلُّها نصبٌ عطفاً على اسم» أنَّ «، أي: ألم تعلموا أنَّ أباكم وأنَّ تفريطكم من قبل في يوسف، وحينئذٍ يكون في خبر» أنَّ «هذه المقدرة وجهان، أحدهما وهو» من قبلُ «، والثاني هو» في يوسف «، واختاره أبو البقاء، وقد تقدَّم ما في كلٍ منهما. ويُرَدُّ على هذا الوجه الخامسِ بما رُدَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف والمعطوف وقد عُرِف ما فيه. السادس: أن تكونَ موصولةً اسميةً، ومحلُّها الرفع أو النَصبُ على ما تقدَّم في المصدرية، قال الزمخشري:» بمعنى: ومِنْ قبل هذا ما فرَّطتموه، أي: قَدَّمتموه في حَقِّ يوسف من الجناية، ومحلُّها الرفع أو النصب على الوجهين «. قلت: يعني بالوجهين رفعَها بالابتداء وخبرها «من قبل» ، ونصبَها عطفاً على مفعول «ألم تعلموا» ، فإنه لم يَذْكر في المصدرية غيرَهما. وقد عرْفْتَ ما اعتُرِض به عليهما وما قيل في جوابه. فتحصَّل في «ما» ثلاثة أوجه: الزيادةُ، وكونُها مصدريةً، أو بمعنى الذي، وأنَّ في محلِّها وجهين: الرفعَ أو النصبَ، وقد تقدم تفصيلُ ذلك كلِّه. قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} «بَرِحَ» هنا تامة ضُمِّنت معنى «أفارق» ف «الأرض» مفعولٌ به، ولا يجوز أن تكون تامةً من غيرِ تضمين، لأنها إذا

كانت كذلك كان معناها ظهر أو ذهب، ومنه «بَرِح الخَفاء» ، أي: ظهر أو ذهب ومعنى الظهور لا يليق، والذهابُ لا يَصِلُ إلى الظرف المخصوص إلا بواسطة «في» تقول: ذهبت في الأرض، ولا يجوز: ذهبت الأرض، وقد جاء شيءٌ لا يُقاس عليه. وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ ظرفاً» . قلت: ويحتمل أن يكونَ سقط من النسخ لفظةُ «لا» ، وكان: «ولا يجوز أن تكون ظرفاً» . واعلمْ أنه لا يجوز في «أبرح» هنا أن تكونَ ناقصة لأنه لا يَنْتَظِم من الضمير الذي فيها ومن «الأرض» مبتدأ أو خبر، ألا ترى أنك لو قلت: «أنا الأرض» لم يَجُزْ من غير «في» ؛ بخلاف «أنا في الأرض» و «زيد في الأرض» . قوله: {أَوْ يَحْكُمَ الله} في نصبه وجهان، أحدهما: وهو/ الظاهر عَطْفُه على «يَأْذَن» . والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار «أنْ» في جواب النفي وهو قوله «فلن أبرح» ، أي: لن أبرحَ الأرضَ إلا أَنْ يَحْكُم كقولهم: «لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيني حقي» ، أي: إلا أن تقضيني. قال الشيخ: «ومعناه ومعنى الغاية متقاربان» . قلت: وليس المعنى على الثاني، بل سياقُ المعنى على عطفِه على «يَأْذن» فإنه غيى الأمرَ بغايتين، أحدهما خاصة، وهي إِذْن اللَّه، والثانية عامة؛ لأن إذْنَ اللَّهِ له في الانصراف هو مِنْ حكم اللَّه.

81

وقرأ العامَّةُ «سَرَقَ» مبنياً للفاعل مخففاً، وابن عباس وأبو رزين والكسائي في ورايةٍ «سُرِّق» مبنياً للمفعول مشدداً، وقد تقدَّم توجيههُما. وقرأ الضحاك «سارِق» جعله اسم فاعل.

82

قوله تعالى: {وَسْئَلِ القرية} : يحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: وهو المشهور أنه على حَذْفِ مضاف تقديره: واسأل أهلَ القرية وأهلَ والعير، وهو مجازٌ شائع. قاله ابن عطية وغيره. قلت: وهذا على خلافٍ في المسألة: هل الإِضمارُ من باب المجاز أو غيرِه؟ المشهورُ أنه قسم منه وعليه أكثر الناس. قال أبو المعالي: «قال بعض المتكلمين:» هذا من الحذفِ وليس من المجاز، [وإنما المجاز] : لفظةٌ استُعِيرَتْ لغير ما هي له «قال:» وحَذْفُ المضاف هو عينُ المجازِ وعُظْمُه، هذا مذهب سيبويه وغيره «، وحكى أنه قولُ الجمهور. وقال فخر الدين الرازي:» إنَّ المجازَ والإِضمارَ قسمان لا قسيمان، فهما متباينان «. الثاني: أنه مجازٌ، ولكنه من باب إطلاق اسمِ المحلِّ على الحالِّ للمجاورة كالزاوية. الثالث: أنه حقيقةٌ لا مجاز فيه، وذلك أنه يجوز أن يسألَ القريةَ نفسَها والإِبل فتجيبه، لأنه نبيٌّ يجوز أن ينطق له الجماد والبهائم.

83

قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ} : هذا الإِضراب لا بد له من

كلامٍ قبلَه متقدَّمٍ عليه يُضْرِب هذا عليه، والتقدير: ليس الأمر كما ذكرتُمْ حقيقةً بل سَوَّلَتْ. وتقدَّم تفسيرُ مثلِ هذا وما بعده.

84

قوله تعالى: {ياأسفى} : الألف منقلبة عن ياء المتكلم وإنما قُلِبَتْ ألفاً؛ لأن الصوتَ معها أَتَمُّ، ونداؤه على سبيل المجاز، كأنه قال: هذا أوانكَ فاحضر نحو {ياحسرتا} [الزمر: 56] : وقيل: هذه ألفُ الندبة، وحُذِفَتْ هاءُ السكت وصلاً. قال الزمخشري: «والتجانسُ بين لفظَتَي الأسف ويوسف ممَّا يقع مطبوعاً غيرَ مُتَعَمَّل فَيَمْلُح ويَبْدُع، ونحوه: {اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} [التوبة: 38] {يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} [الكهف: 104] {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} [النمل: 22] . قلت: ويُسَمَّى هذا النوع» تجنيس التصريف، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظٍ ويُفَرَّق بينهما بحرفٍ ليس في الأخرى، وقد تقدَّم. وقرأ ابن عباس ومجاهد «مِن الحَزَن» بفتحتين، وقتادة بضمتين، والعامَّةُ بضمة وسكون، فالحُزْن والحَزَن كالعُدْم والعَدَم، والبُخْل والبَخَل، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ. و «كظيم» : يجوز أن يكون مبالغةً بمعنى فاعِل، وأن يكونَ بمعنى مفعول كقولِه: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] وبه فسَّره الزمخشري.

85

قوله تعالى: {تَفْتَؤُاْ} : هذا جوابُ القسم في قوله: «تاللَّهِ» وهو على حذفِ «لا» ، أي: لا تَفْتَأ، ويدلُّ على حَذْفها أنه لو كان مثبتاً لاقترن بلامِ الابتداء ونون التوكيد معاً عند البصريين، أو إحداهما عند الكوفيين وتقول: «واللَّهِ أحبُّك» تريد: لا أحبك، وهو من التورية فإن كثيراً من الناسِ مبادِرٌ ذهنَه إلى إثبات المحبة. و «تَفْتأ» هنا ناقصة بمعنى لا تزال فترفع الاسمِ وهو الضمير، وتنصِبُ الخبر وهو الجملة من قوله «تَذْكُرُ» ، أي: لا تزال ذاكراً له، يقال: ما فتىء زيدٌ ذاهباً. قال أوس بن حجر: 2818 - فما فَتِئَتْ حتى كأنَّ غبارَها ... سُرادِق يومٍ ذي رياحٍ تُرَفَّعُ وقال أيضاً: 2819 - فما فَتِئَتْ خيلٌ تَثُوْبُ وتَدَّعي ... ويَلْحَقُ منها لاحِقٌ وتُقَطَّعُ وعن مجاهد: «لا تَفْتُر» ، قال الزمخشري: «كأنه جعل الفُتوء والفُتور أخوين» . وفيها لغتان: فَتَأَ على وزن ضَرَب، وأَفْتَأَ على وزن أكرم، وتكون تامةً بمعنى سَكَّن وأطفأ كذا قاله ابن مالك، وزعم الشيخ أنه تصحيف منه، وإنما هي هي «فَثَأ» بالثاء المثلثة. ورُسِمَتْ هذه اللفظةُ «تفتؤ» / بالواو والقياس «تفتأ» بالألف، ولذلك يُوْقَفُ لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخط الكريم أو القياس.

قوله: {حَرَضاً} الحَرَضُ: الإِشفاء على الموت يُقال منه: حَرَضَ الرجلُ يَحْرُض حَرَضاً بفتح الراء، فهو حَرِض بكسرها، فالحَرَضُ مصدر، فيجيء في الآية الأوجهُ في «رجل عَدْل» وقد تقدَّم مراراً، ويُطْلَق المصدر من هذه المادة على الجُثَث إطلاقاً شائعاً، ولذلك يَسْتوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث تقول: هو حَرَضٌ، وهما حَرَض، وهم حَرَض، وهنَّ حَرَض، وهي حَرَض، ويقال: رجل حُرُض بضمتين نحو: جُنُب وشُلُل ويقال: أَحْرضه كذا، أي: أهلكه. قال الشاعر: 2820 - إني امرؤٌ لَجَّ بيْ حُبٌّ فَأَحْرَضَني ... حتى بَلِيْتُ وحتى شَفَّني السَّقَمُ فهو مُحْرَض قال: 2821 - أرى المَرْءَ كالأذْوادِ يُصبح مُحْرَضاً ... كإحراض بِكْرٍ في الديار مريضِ وقرأ بعضهم: «حَرِضاً» بكسر الراء. قال الزمخشري: «وجاءَتِ القراءةُ بهما جميعاً» . يعني بفتح الراء وكَسْرِها «وقرأ الحسن بضمتين، وقد تقدم أنه كجُنُب وشُلُل، وزاد الزمخشري» وغُرُب «قال الراغب:» الحَرَض: ما لا يُعْتَدُّ به ولا خيرَ فيه، ولذلك يقال لِما أشرف على الهلاك

حَرِض، قال تعالى: {حتى تَكُونَ حَرَضاً} وقد أحرضه كذا، قال الشاعر: «أني امرؤ لجَّ» البيت. والحُرْضَةُ: مَنْ لا يأكل إلا لحمَ المَيْسِر لنذالتِه، والتحريض: الحَثُّ على الشيء بكثرةِ التنزيين وتسهيل الخَطْبِ فيه كأنه إزالةُ الحَرَضِ نحو: «قَدَّيْتُه» ، أي: أَزَلْتُ عنه القذى، وأَحْرَضْتُه: أَفْسَدْتُه نحو: أَفْذَيْتُه، أي: جَعَلْتَ فيه القذى «انتهى. والحُرُض: الأُشْنان لإِزالته الفسادَ، والمِحْرَضَةُ وعاؤُه، وشُذوذُها كشذوذ مُنْخُل ومُسْعُط ومُكْحُلَة.

86

والبَثُّ أشدُّ الحزن كأنه لقوته لا يُطاق حَمْلُه فيبثُّه الإِنسان، أي: يُفَرِّقُه ويُذيعه، وقد تقدم أنَّ أصلَ هذه المادةِ الدلالةُ على الانتشار. وجَوَّز فيه الراغب هنا وجهين، أحدهما: أنه مصدرٌ في معنى المفعول، قال: «أي غَمِّي الذي بَثَثْته عن كتمان، فهو مصدر في تقدير مفعول أو يعني غَمِّي الذي بَثَّ فكري فيكون في معنى الفاعل. وقرأ الحسن وعيسى» وحَزَني «بفتحتين، وقتادة بضمتين وقد تقدم.

87

قوله تعالى: {فَتَحَسَّسُواْ} : أي: استقصوا خبره

بحواسِّكم، ويكون في الخير والشر. وقيل: بالحاء في الخير، وبالجيم في الشر، ولذلك قال هنا «فتحسَّسُوا» ، وفي الحجرات: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} [الآية: 12] ، وليس كذلك، فإنه قد قرىء بالجيم هنا. وتقدَّم الخلاف في قوله «وَلاَ تَيْأَسُواْ» . وقرأ الأعرج: «تَيْئَسوا» . والعامَّةُ على «رَوْح اللَّه» بالفتح وهو رحمتُه وتنفيسُه وقرأ الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة بضم الراء. قال الزمخشري، «أي: مِنْ رحمتِه التي يحيا بها العباد» . وقال ابن عطية: «وكأن معنى هذه القراءة: لا تَيْئَسوا مِنْ حَيٍّ معه رُوح اللَّه الذي وهبه، فإنَّ مَنْ بقي روحُه يُرْجَى، ومِنْ هذا قول الشاعر: 2822 - وفي غيرِ مَنْ قدوارَتِ الأرضُ فاطْمَعِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومن هذا قول عبيد بن الأبرص: 2823 - وكلُّ ذي غَيْبَةٍ يَؤُوْبُ ... وغائبُ الموتِ لا يَؤُوبُ وقراءة أُبَيّ رحمه اللَّه: {مِن رَّحْمَةِ الله} و {عِنْدِ الله} {مِن فَضْلِ الله} تفسيرُ لا تلاوة.

وقال أبو البقاء:» الجمهورُ على فتح الراء، وهو مصدر في معنى الرحمة، إلا أنَّ استعمالَ الفعل منه قليل، وإنما يُسْتَعمل بالزيادة مثل أراح ورَوَّح، ويُقرأ بضم الراء وهي لغةٌ فيه. وقيل: هو اسمُ مصدرٍ مثل الشِّرْب والشُّرْب «.

88

قوله تعالى: {مُّزْجَاةٍ} : أي: مَدْفُوعة يَدْفَعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها، ومنه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً} [النور: 43] ، أي: يَسُوقها بالريح. وقال حاتم الطائي: 2824 - لِيَبْكِ على مِلْحانَ ضَيْفٌ مُدَفَّعٌ ... وأَرمَلَةٌ تُزْجي مع الليل أَرْمَلا ويقال: أَزْجَيْتُ رديءَ الدرهم فَزُجِيَ، ومنه استعير «زَجَا الخراج يَزْجُو زَجَاءً» ، وخَراجٌ زاجٍ، وقولُ الشاعر: 2825 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وحاجةٍ غيرِ مُزْجاةٍ من الحاجِ أي: غير يسيرةً يمكن دَفْعُها وصَرْفها لقلة الاعتداد بها/ فألف «مُزْجاةٌ» منقلبة عن واو.

وقوله: {فَأَوْفِ لَنَا الكيل} يجوز أن يُراد به حقيقته من الآلة، وأن يُرادَ به المَكِيل فيكونَ مصدراً.

89

وقوله تعالى: {هَلْ عَلِمْتُمْ} : يجوزُ أن يكونَ استفهاماً للتوبيخ وهو الأظهرُ. وقيل: هو خبر، و «هل» بمعنى قد.

90

قوله تعالى: {أَإِنَّكَ} : قرأ ابن كثير، إنَّك «بهمزة واحدة والباقون بهمزتين استفهاماً، وقد عَرَفْتَ قراءاتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً وتسهيلاً وغيرَ ذلك. فأمَّا قراءة ابن كثير فيحتمل أن تكون خبراً محضاً، واستُبْعِد هذا مِنْ حيث تخالُفُ القراءتين مع أن القائلَ واحد، وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضَهم قاله استفهاماً، وبعضهم قاله خبراً، ويحتمل أن تكونَ استفهاماً حُذِفَت منه الأداة لدلالة السياق، والقراءةُ الأخرى عليه. وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في الأعراف. و» لأَنْتَ «يجوز أن تكونَ» أنت «مبتدأً و» يوسف «خبرُه، والجملةُ خبر» إنَّ «دَخَلَتْ عليها لامُ الابتداء. ويجوز أن يكونَ فصلاً، ولا يجوز أن يكونَ تأكيداً لاسم إنَّ؛ لأنَّ هذه اللامَ لا تَدْخُل على التوكيد. وقرأ أُبَيّ:» أإنك أو أنت يوسف «، وفيها وجهان، أحدهما ما قاله أبو الفتح: من أن الأصل أإنك لغيرُ يوسف أو أنت يوسفُ، فحذف خبر» إن «لدلالة المعنى عليه. الثاني ما قاله الزمخشري: وهو إنك يوسفُ أو أنت يوسف» فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وهذا كلامُ متعجبٍ مُسْتَغْرِبٍ لِما يَسْمع فهو يكرِّر الاستثباتَ «.

قوله: {يَتَّقِ} قرأ قنبل» يَتَّقي «بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها فيهما. وأمَّا قراءةُ الجماعة فواضحة لأنه مجزوم. وأما قراءةُ قنبل فاخْتَلَفَ فيها الناسُ على قولين، أجودهما: أنَّ إثباتَ حرفِ العلة في الحركة لغةٌ لبعض العرب، وأنشدوا على ذلك قولَ قيس ابن زهير: 2826 - ألم يأتيك والأنباء تَنْمي ... بما لاقَتْ لَبونُ بني زيادِ وقول الآخر: 2827 - هَجَوْت زَبَّانَ ثم جِئْتَ مُعْتَذِراً ... مِنْ هَجْوِ زَبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ وقول الآخر: 2828 - إذا العجوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ... ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ ومذهبُ سيبويه أنَّ الجزمَ بحذف الحركة المقدرة، وإنما تبعها حرفُ العلة في الحذف تَفْرِقةً بين المرفوع والجزوم. واعتُرض عليه بأنَّ الجازم يُبَيِّن أنه مجزوم، وعَدَمَه يبيَّن أنه غير مجزوم. وأجيب بأنه في بعض الصور يُلْبِس فاطَّرَدَ الحَذْفُ، بيانُه أنك إذا قلت:» زُرْني أعطيك «بثبوت الياء احتمل أن يكون» أعطيك «جزاءً لزيارته، وأن يكونَ خبراً مستأنفاً، فإذا قلت:» أُعْطك «

بحذفها تعيَّن أن يكونَ جزاءً له، فقد وقَع اللَّبْسُ بثبوت حرف العلة وفُقِد بحَذْفِه، فيقال: حرفُ العلةُ يُحذف عند الجازم لا به. ومذهب ابن السَّراج أن الجازم أَثرَّ في نفسِ الحرف فحذفه، وفيه البحث المتقدم. الثاني: أنه مرفوعٌ غير مجزومٍ، و» مَنْ «موصولةٌ والفعل صلتُها، فلذلك لم يَحْذف لامَه. واعْتُرِض على هذا بأنه قد عُطِف عليه مجزومٌ وهو قولُه» ويَصْبِرْ «فإنَّ قنبلاً لم يَقْرأه إلا ساكنَ الراء. وأجيب عن ذلك بأنَّ التسكين لتوالي الحركات. وإنْ كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو: {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] . وأُجيب أيضاً بأنه جُزِم على التوهُّم، يعني لَمَّا كانت «مَنْ» الموصولةُ تُشْبه «مَنْ» الشرطية. وهذه عبارةٌ فيها غَلَطٌ على القرآن فينبغي أن يُقال: فيها مراعاةٌ للشبه اللفظي، ولا يقال للتوهُّم. وأجيب أيضاً بأنه سُكِّن للوقف ثم أُجري الوصلُ مجرى الوقفِ. وأُجيب أيضاً بأنه إنما جُزم حملاً ل «مَنْ» الموصولة على «مَنْ» الشرطية؛ لأنها مثلُها في المعنى ولذلك دَخَلَتِ الفاءُ في خبرها. قلت: وقد يُقال على هذا: يجوز أن تكونَ «مَنْ» شرطيةً، وإنما ثَبَتَت الياءُ، ولم تَجْزِمْ «مَنْ» لشببها ب «مَنْ» الموصولة، ثم لم يُعْتبر هذا الشبهُ في قوله «ويَصْبر» فلذلك جَزَمَه إلا أنه يَبْعُدُ مِنْ جهة أنَّ العامل لم يؤثِّر فيما بعده، ويليه ويؤثرِّ فيما هو بعيدٌ منه. وقد تقدَّم الكلامُ على مثل هذه المسألة أولَ السورة في قوله {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] . وقوله {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ} الرابطُ بين جملة الشرط وبين جوابها:

أمَّا العمومُ في «المحسنين» ، وإمَّا الضميرُ المحذوف، أي: المحسنين منهم، وإمَّا لقيام أل مُقامه والأصل: مُحْسِنيهم، قامَتْ أل مُقام ذلك الضمير.

91

قوله تعالى: {آثَرَكَ} : أي: «تَفَضَّل عليك، والإِيثار: التفضيلُ/ بجميع أنواع العطايا، آثَره يُؤْثِره إيثاراً، وأصلُه مِن الأَثَر وهو تَتَبُّع الشيءِ فكأنه يَسْتقصي جميعَ أنواع المكارم، وفي الحديث» ستكون بعدي أثَرة «، أي: يَسْتأثر بعضكُم على بعض، ويقال: استأثر بكذا، أي: اختصَّ به، واستأثر اللَّه بفلانٍ كنايةٌ عن اصطفائه، قال الشاعر: 2829 - واللَّه أَسْماك سُماً مبارَكا ... آثرك اللَّه به إيثارَكا

92

قوله تعالى: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} : «عليكم» يجوز أن يكون خبراً ل «لا» ، و «اليومَ» : يُحتمل أن يتعلَّقَ بما تعلَّق به هذا الخبر، أي: لا تثريبَ مستقرٌّ عليكم اليومَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «اليوم» خبرَ «لا» و «عليكم» متعلقٌ بما تعلَّق به هذا الظرفُ. ويجوز أن يكون «عليكم» صفةً لاسم «لا» ، و «اليوم» خبرُها أيضاً، ولا يجوز أن يتعلق كلٌّ مِن الظرف والجارِّ ب «تَثْريب» لأنه يصير مُطَولاً شبيهاً بالمضاف، ومتى كان كذلك أُعْرِب ونُوِّن نحو: «لا خيراً مِنْ زيد عندك» ، ويزيدُ عليه الظرفُ: بأنه يَلْزم الفصلُ بين المصدرِ المؤول بالموصولِ ومعموله بأجنبي وهو «عليكم» لأنه: إمَّا خبر وإمَّا صفة. وقد جَوَّز الزمخشري أن يكونَ الظرفُ متعلقاً ب «تَثْريب» فقال: «فإنْ قلت: بِمَ يتعلَّق» اليوم «؟ قلت: بالتثريب أو بالمقدَّر في» عليكم «من معنى الاستقرار، أو ب» يَغْفر «. قلت: فَجَعْلُه أنَّه متعلقٌ ب» تَثْريب «فيه ما تقدم. وقد

أَجْرَى بعضُهم الاسمَ العاملَ مُجرى المضافِ لشبهه به فَيُنْزَع ما فيه من تنوينٍ أو نون، وجعل الفارسي من ذلك قوله: 2830 - أراني ولا كُفْرانَ للَّه أيَّةً ... لنفسي، لقد طالَبْتُ غيرَ مُنِيْلِ قال:» فأيَّةً منصوب بكُفْران، أي: لا أكفر اللَّهَ رحمة لنفسي. ولا يجوزُ أن تُنْصب «أيَّةً» بأَوَيْت مضمراً؛ لئلا يَلْزمَ الفصلُ بين مفعولي «أرى» بجملتين: أي ب «لا» وما في حَيِّزها، وب «أَوَيْت» المقدرة. ومعنى أَوَيْت رَقَقْت. وجعل منه الشيخ جمال الدين بن مالك ما جاء في الحديث «لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل» برفع «يومٌ» على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري وفعل مبني للمفعول، وفي بعض ما تقدم خلافٌ لا يَليقُ التعرُّضُ له هنا. وأمَّا تعليقُه بالاستقرار المقدر فواضِحٌ، ولذلك وقف أكثرُ القراءِ عليه، وابتدأ ب {يَغْفِرُ الله لَكُمْ} ، وأمَّا تعليقُه ب «يَغْفر» فواضِحٌ أيضاً ولذلك وقف بعضُ القرَّاء على «عليكم» وابتدأ {اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ} ، وجوَّزوا أن يكونَ «عليكم» بياناً ك «لك» في نحو «سقياً لك» ، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوف، ويجوز أن يكونَ خبرُ «لا» محذوفاً، و «عليكم» و «اليوم» كلاهما متعلقان بمحذوفٍ آخر يدل عليه «تثريب» ، والتقدير: لا تثريب يَثْرِبُ عليكم اليومَ، كما قَدَّروا في {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43] لا عاصمَ يَعْصِم اليومَ. قال الشيخ: «لو قيل به لكان قوياً» . وقد يُفرَّق بينهما بأنَّ هنا يلزم كثرةُ المجاز، وذلك أنَّك تَحْذف الخبر،

وتَحْذف هذا الذي تَعَلَّق به الظرفُ وحرفُ الجر وتَنسِب الفعل إليه؛ لأن التثريب لا يَثْرِب إلا مجازاً كقولهم: «شعرٌ شاعر» بخلاف «عاصم يَعْصِم» فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة، فهناك حَذْف شيءٍ واحدٍ من غير مجاز، وهنا حَذْف شيئين مع مجاز. والتَّثْريبُ العَتْب والتأنيب، وعَبَّر بعضُهم عنه بالتعيير، مِنْ عَيَّرته بكذا إذا عِبْته به، وفي الحديث: «إذا زَنَتْ أَمَةُ أحدِكم فَلْيَجْلِدْها ولا يُثَرِّبْ» ، أي: لا يُعَيِّر، وأصله مِن الثَّرْب وهو ما يَغْشى الكَرْش من الشحم، ومعناه إزالة الثَّرْب كما أن التجليدَ إزالة الجِلْد، فإذا قلت: «ثَرّبْتُ فلاناً» فكأنك لشدة عَيْبَتِك له أَزَلْت ثَرْبَه فضُرِب مَثَلاً في تمزيق الأعراض. وقال الراغب: «ولا يُعْرف مِنْ لَفْظِه إلا قولُهم» الثَّرْب «وهو شَحْمة رقيقة، وقولُه تعالى: {ياأهل يَثْرِبَ} [الأحزاب: 13] يَصِحُّ أن يكونَ أصلُه من هذا الباب والياءُ في مزيدة» .

93

قوله تعالى: {بِقَمِيصِي} : يجوز أن يتعلق بما قبله على أنَّ الباءَ مُعَدِّيَةٌ/ كهي في «ذهبْتُ به» ، وأن تكون للحال فتتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: اذهبوا معكم قميصي. و «هذا» نعت له أو بيان أو بدل، و «بصيراً» حال. و «أجمعين» تأكيدٌ، وقد أُكِّد بها دون «كل» ، ويجوز أن تكونَ حالاً.

94

قوله تعالى: {تُفَنِّدُونِ} : التَّفْنيد: الإِفساد، يقال: فَنَّدت فلاناً، أي: أَفْسَدْت رأيَه ورَدَدْته، قال:

2831 - يا صاحِبيَّ دَعَا لَوْمي وتَفْنيدي ... فليسَ ما قُلْتُ من أمرٍ بمَرْدُوْدِ ومنه «أَفْنَدَ الدهرُ فلاناً» قال: 2832 - دَعِ الدهرَ يَفْعَلُ ما أرادَ فإنه ... إذا كُلِّفَ الإِفنادَ بالناسِ أفندا والفَنَدُ: الفساد، قال النابغة: 2833 - إلاَّ سليمانَ إذ قال الإِلهُ له ... قُمْ في البرِيَّةِ فاحْدُدْها عن الفَنَد والفِنْد: شِمْراخ الجبل وبه سُمِّي الرجل فِنْداً، والفِنْدُ الزمانيُّ أحدُ شعراء الحماسة من ذلك. وقال الزمخشري: «يقال: شيخ مُفَنَّد ولا يقال: عجوز مُفَنَّدة لأنهما لم تكن في شبيبتها ذاتَ رأي فتُفَنَّد في كبرها» وهو غريبٌ. وجوابُ «لولا» الامتناعية محذوفٌ تقديرُه لَصَدَّقْتُموني. ويجوز أن يكونَ تقديرُه: لأَخْبَرْتكم.

96

وقوله تعالى: {أَلْقَاهُ} : الظاهر أنَّ الفاعلَ هو ضمير البشير. وقيل: هو ضميرُ يعقوب. وفي «بصيراً» وجهان، أحدهما: أنه حال أي: رَجَع في هذه الحال. والثاني: أنه خبرها لأنها بمعنى صار عند بعضهم. وبَصير مِنْ بَصُر بالشيء، كظريف مِنْ ظَرُف. وقيل: هو مثالُ مبالغةٍ كعليم. وفيه دلالةٌ على أنه لم يذهب بَصَرُه بالكليَّة.

100

وقوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} : من باب التغليب، يريد

أباه وأمَّه أو خالتَه. و «سُجَّداً» حال. قال أبو البقاء: «حالٌ مقدرة؛ لأنَّ السجود يكون بعد الخُرور» وفيه نظرٌ لأنه متصلٌ به غيرُ متراخٍ عنه. قوله: {مِن قَبْلُ} يجوز أنْ يتعلق ب «رُؤْياي» ، أي: تأويل رُؤْياي في ذلك الوقت. ويجوز أنْ يكونَ العاملُ فيه «تَأْويل» لأنَّ التأويلَ كان مِنْ حينِ وقوعِها هكذا، والآن ظهرَ له، ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ «رُؤْياي» قاله أبو البقاء، وقد تقدم أنَّ المقطوعَ عن الإِضافةِ لا يقع حالاً. قوله: {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي} حالٌ من «رؤياي» ويجوز أن تكون مستأنفة. وفي «حقاً» وجوه أحدُها: أنه حال. والثاني: أنه مفعولٌ ثان. والثالث: أنه مصدرٌ مؤكد للفعل من حيث المعنى، أي: حَقَّقها ربي حَقَّاً بجَعْلِه. قوله: {أَحْسَنَ بي} «أَحْسَنَ» أصله أن يتعدَّى ب «إلى» . قال: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] فقيل: ضُمِّن معنى لَطُف فتعدى بالباء كقوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} [البقرة: 83] وقولِ كثيِّر عَزَّة: 2834 - أَسِيْئِي بنا أو أَحْسِني لا مَلُوْمَةً ... لَدَيْنَا ولا مَقْلِيَّةً إنْ تَقَلَّتِ وقيل: بل يتعدى بها أيضاً. وقيل: هي بمعنى «إلى» . وقيل: المفعولُ محذوفٌ: «أَحْسَنَ صُنْعَه بي» ، ف «بي» يتعلَّق بذلك المحذوفِ، وهو تقدير أبي البقاء. وفيه نظر؛ من حيث حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معموله، وهو ممنوعٌ عند البصريين. و «إذ» منصوبٌ ب «أَحْسَنَ» أو المصدرِ المحذوف قاله

أبو البقاء، وفيه النظر المتقدم. والبَدْوُ: ضد الحضارة وهو مِن الظهور، بدا يبدو: إذا سكن البادية، «إذا بَدَوْنا جَفَوْنا» يروى عن عمر، أي: تخلَّقْنا بأخلاقِ البدويين. قوله: {لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} لَطُفَ أصلُه أن يتعدَّى بالباء، وإنما تعدى باللام لتضمُّنِه معنى مُدَبِّر، أي: أنت مُدَبِّر بلطفك لِما تَشاء.

101

وقرأ عبد اللَّه: «آتَيْتَنِ» و «عَلَّمْتَنِ» بغير ياءٍ فيهما، وحكى ابن عطية: أنَّ أبا ذر قرأ: «أتيتني» بغير ألفٍ بعد الهمزة و «مِنْ» في «مِن المُلْك» وفي «مِنْ تأويل» للتبعيض، والمفعولُ محذوفٌ، أي: عظيماً من الملك فهي صفة لذلك المحذوفِ وقيل: زائدة. وقيل: لبيان الجنس، وهذان بعيدان. و «فاطر» يجوز أن يكونَ نعتاً لربّ، ويجوز أنْ يكون بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمار أَعْني أو نداءً ثانياً.

102

قوله تعالى: {ذَلِكَ} : مبتدأ، و {مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} خبره، و «نُوحيه» حال. ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، أو حالاً من الضمير في الخبر. وجَوَّز الزمخشري أن يكونَ موصولاً بمعنى الذي. وقد تقدَّم نظيرُه. و «هم يَمْكُرون» حال.

103

[قوله:] {وَلَوْ حَرَصْتَ} : معترضٌ بين «ما» وخبرها. وجوابُ «لو» محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه.

106

و [قوله] : {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} : حال.

107

وقوله تعالى: {مِّنْ عَذَابِ الله} : صفةٌ ل «غاشية» ، و «بَغْتة» حال وهو في الأصلِ مصدر، وتقدَّم نظيره. والجمهور على جَرِّ «الأرض» عطفاً على «السماوات» والضمير في «عليها» للآية فيكون «يمرُّون» صفة للآية أو حالاً لتخصُّصها بالوصفِ بالجار. وقيل: يعود الضمير في «عليها» على الأرض فيكون «يمرون» حالاً منها. وقال أبو البقاء: «وقيل منها ومن السماوات» ، أي: تكون الحال من الشيئين جميعاً، وهذا لا يجوز إذ كان يجب أن يقال «عليهما» ، وأيضاً فإنهم لا يَمُرُّون في السماوات، / إلا أن يُراد: يمرُّون على آياتهما، فيعودُ المعنى إلى عَوْد الضمير للآية. وقد يُجاب عن الأول بأنه مِنْ باب الحذف كقوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . وقرأ السدِّي «والأرضَ» بالنصب، ووجهُه أنه من باب الاشتغال، ويُفَسَّر الفعلُ بما يوافقه معنى أي: يطؤون الأرض، أو يسلكون الأرضَ يمرون عليها كقولك: «زيداً مررت به» . وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد: «والأرضُ» بالرفع على الابتداء، وخبرُه الجملةُ بعده، والضمير في هاتين القراءتين يعودُ على الأرض فقط.

وقرأ أبو حفص ومبشر بن عبيد: أو «يَأْتيهم الساعة» بالياء من تحت لأنه مؤنث مجازيٌّ وللفصلِ أيضاً.

108

قوله تعالى: {أَدْعُو إلى الله} : يجوز أن يكونَ مستأنفاً وهو الظاهر، وأن يكونَ حالاً من الياء. و «على بصيرة» حال من فاعل «أدعو» أي: أَدْعو كائناً على بصيرة. قوله: {وَمَنِ اتبعني} عطفٌ على فاعل «أدعو» ولذلك أكَّد بالضميرِ المنفصل في قوله «أنا» ، ويجوز أن يكون مبتدأً والخبرُ محذوف، أي: ومَنِ اتَّبعني يَدْعو أيضاً. ويجوز أن يكون «على بصيرة» خبراً مقدماً، و «أنا» مبتدأ مؤخرٌ، و «ومَن اتَّبعني» عطفٌ عليه، ويجوزُ أن يكونَ «على بصيرة» وحده حالاً، و «أنا» فاعلٌ به، «ومَنِ اتَّبعني» عطف عليه أيضاً. ومفعول «أدعو» يجوز أنْ لا يُراد، أي: أنا مِنْ أهل الدعاء إلى اللَّه، ويجوز أن يُقَدَّر: أنْ أدعوَ الناس. وقرأ عبد اللَّه «هذا سبيلي» بالتذكير وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويؤنَّث.

109

قوله تعالى: {نوحي} : العامَّةُ على «يوحى» بالياء من

تحت مبنياً للمفعول. وقرأ حفص «نوحي» بالنون مبنياً للفاعل اعتباراً بقوله «وما أَرْسَلْنا» وكذلك قرأ ما في النحل وما في أول الأنبياء، ووافقه الأخَوان على قوله: «نوحي إليه» في الأنبياء على ما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى. والجملة صفةٌ ل «رجالاً» . و {مِّنْ أَهْلِ القرى} صفة ثانية، وكان تقديمُ هذه الصفةِ على ما قبلها أكثرَ استعمالاً؛ لأنها أقربُ إلى المفردِ وقد تقدَّم تحريرُه في المائدة. قوله: {وَلَدَارُ الآخرة} وما بعده قد تقدَّم في الأنعام.

110

قوله تعالى: {حتى} : ليس في الكلامِ شيءٌ تكون «حتى» غايةً له، فمِنْ ثَمَّ اختلف الناسُ في تقدير شيءٍ يَصِحُّ تَغْيِيَتُه ب «حتى» : فقدَّره الزمخشري: «وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فتراخى نَصْرُهُمْ حتى» . وقَدَّره القرطبي: «وما أَرْسَلْنا من قبلك يا محمدُ إلا رجالاً لم نعاقِب أُمَمَهم بالعقاب حتى إذا» . وقدَّره ابن الجوزي: «وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فَدَعَوا قومهم فكذَّبوهم وطال دعاؤُهم وتكذيبُ قومِهم حتى إذا» . وأَحْسَنُها ما قدَّمْتُه.

وتَصَيَّد ابن عطية شيئاً من معنى قوله: «أفلم يسيروا» فقال: «ويتضمَّن قولُه» أفلم يسيروا «إلى» مِنْ قبلِهم «أنَّ الرسلَ الذين بعثهم اللَّه من أهل القرى دَعَوْهم فلم يُؤْمنوا بهم حتى نَزَلَتْ بهم المَثُلاتُ فصبروا في حَيِّز مَنْ يُعْتبر بعاقبته، فلهذا المُضَمَّنِ حَسُن أن تَدْخُل» حتى «في قوله:» حتى إذا «. قال الشيخ:» ولم يتلخَّصْ لنا من كلامِه شيءٌ يكون ما بعد «حتى» غايةً له، لأنه عَلَّق الغايةَ بما ادَّعَى أنه فَهِمَ ذلك مِنْ قوله: «أفلم يَسيروا» . الآية «. قلت: دَعَوْهم فلم يؤمنوا هو المغيى. قوله: {كُذِبُواْ} قرأ الكوفيون» كُذِبوا «بالتخفيف والباقون بالتثقيل. فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت:» معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها «وهذا ينبغي أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة. وقد وَجَّهها الناسُ بأربعة أوجه، أجودُها: أن الضميرَ في» وظنُّوا «عائدٌ على المُرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} [يوسف: 109] ، ولأن الرسلَ تَسْتدعي مُرْسَلاً إليه. والضمير في» أنهم «و» كُذِبوا «عائد على الرسل، أي: وظنَّ المُرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ قد كُذِبوا، أي: كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم. الثاني: أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل. قال الزمخشري في

تقرير هذا الوجه» حتى إذا اسْتَيْئَسوا من النصر وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا، أي: كَذَّبَهم أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب، والمعنى: أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار، وانتظارَ النصر من اللَّه وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ، حتى استشعروا القُنوط، وتَوَهَّموا ألاَّ نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا «انتهى/ فقد جعل الفاعلَ المقدر: إمَّا أنفسُهم، وإمَّا رجاؤُهم، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين، وعن مجازه وهو استعمالُه في المُتَيَقَّن. الثالث: أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من الترجيح، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير، قالوا: والرسل بَشَرٌ فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام، وحاشى الأنبياء من ذلك، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك. قال الزمخشري: «إن صَحَّ هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظنِّ ما يَخْطِر بالبال ويَهْجِس في القلب مِنْ شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأمَّا الظنُّ الذي هو ترجيحُ أحدِ الجائزين على الآخر فغير جائز على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رسلِ اللَّه الذين هم أعرفُ بربهم؟» قلت: ولا يجوز أيضاً أن يقال: خَطَر ببالهم شبهُ الوسوسة؛ فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه. وقال الفارسي أيضا: «إنْ ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظنَّ الرسلُ

الذين وعد اللَّه أمَمَهم على لسانهم قد كُذِبوا فيه فقد أتى عظيماً [لا يجوزُ أَنْ يُنْسَبُ مثلُه] إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عبادِ اللَّه، وكذلك مَنْ زعم أنَّ ابنَ عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضَعُفوا فظنوا أنهم قد أُخْلفوا؛ لأن اللَّه تعالى لا يُخْلف الميعاد ولا مُبَدِّل لكلماته» . وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: «معناه وظنُّوا حين ضَعُفوا وغُلبوا أنهم قد أُخْلفوا ما وعدهم اللَّه به من النصر وقال: كانوا بشراً وتلا قوله تعالى: {وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول} [البقرة: 214] . الرابع: أن الضمائر كلَّها تَرْجِعُ إلى المرسَل إليهم، أي: وظَنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذبوهم فيما ادَّعوه من النبوَّة وفيما يُوْعِدون به مَنْ لم يؤمنْ بهم من العقاب قبلُ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد قالوا: ولا يجوز عَوْدُ الضمائر على الرسل لأنهم مَعْصومون. ويُحكى أن ابن جبير حين سُئِل عنها قال: نعم إذا استيئسَ الرسل من قومهم أن يُصَدِّقوهم، وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم» فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضِراً: «لو رَحَلْتُ في هذه إلى اليمن كان قليلاً» . وأمَّا قراءةُ التشديدِ فواضحة وهو أن تعودَ الضمائرُ كلها على الرسل، أي: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَّبهم أممُهم فيما جاؤوا به لطول البلاءِ عليهم، وفي صحيح البخاري عن عائشة: «أنها قالت: هم أتباعُ الأنبياءِ الذي آمنوا بهم وصَدَّقوا طال عليهم البلاءُ واستأخر عنهم النصرُ حتى إذا استيئس الرسلُ ممَّن كذَّبهم مِنْ قومهم، وظنَّتْ الرسلُ أن قومَهم قد كَذَّبوهم جاءهم نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك» . قلت: وبهذا يَتَّحد معنى القراءتين، والظنُّ هنا يجوز أن يكون على

بابه، وأن يكونَ بمعنى اليقين وأن يكونَ بمعنى التوهُّم حسبما تقدَّم. وقرأ ابن عباس والضحاك ومجاهد «كَذَبوا» بالتخفيف مبنياً للفاعل، والضمير على هذه القراءة في «ظنُّوا» عائد على الأمم وفي {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} عائدٌ على الرسل، أي: ظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به من النصر أو من العقاب، ويجوز أن يعودَ الضميرُ في «ظنُّوا» على الرسل وفي {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} على المُرْسَل [إليهم] ، أي: وظنَّ الرسلُ أن الأممَ كَذَبَتْهم فيما وعدوهم به مِنْ أنَّهم يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى اليقين واضح. ونقل أبو البقاء أنه قُرِىء مشدَّداً مبنياً للفاعل، وأوَّلَه بأنَّ الرسل ظنُّوا أن الأمم قد كذَّبوهم. وقال الزمخشري: بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل «ولو قرىء بهذا مشدَّداً لكان معناه: وظنَّ الرسلُ أنَّ قومَهم كذَّبوهم في موعدهم» فلم يحفظها قراءةً وهي غريبة، وكان قد جَوَّز في القراءة المتقدمة أنَّ الضمائر كلَّها تعود على الرسل، وأن يعودَ الأولُ على المُرْسَل إليهم وما بعده على الرسل فقال: «وقرأ مجاهد» كَذَبوا «بالتخفيف على البناء للفاعل على: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَبوا فيما حَدَّثوا به قومهم من النُّصْرة: إمَّا على تأويل ابن عباس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يَرَوا لموعدهم أثراً قالوا لهم: قد كَذَبْتُمونا فيكونون كاذبين عند قومهم أو: وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أن الرسلَ قد كَذَبوا» .

قوله: {جَآءَهُمْ} جوابُ الشرط وتقدَّم الكلامُ في «حتى» هذه: ما هي؟ قوله: {فَنُجِّيَ} قرأ ابن عامر وعاصم/ بنونٍ واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول، و «مَنْ» قائمة مقام الفاعل. والباقون بنونين ثانيتهما ساكنةٌ، والجيم خفيفة، والياء ساكنة على أنه مضارع أنجى و «مَنْ» مفعولةٌ، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه. وقرأ الحسنُ والجحدري ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم، إلا أنهم سَكَّنوا الياء. والأجودُ في تخريجها كما تقدَّم، وسُكِّنَتْ الياءُ تخفيفاً كقراءة {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وقد سُكِّن الماضي الصحيح فكيف بالمعتل؟ كقوله: 2835 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قد خُلِطْ بجُلْجُلان وتقدَّم معه أمثالُه. وقيل: الأصل: ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم وليس بشيء، إذ النونُ لا تُدْغم في الجيم. على أنه قد قيل بذلك في قوله {نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] كما سيأتي بيانه. وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنهم فتحوا الياء. قال ابن عطية: «رواها ابنُ هبيرة عن حفص عن عاصم، وهي غلطٌ من ابن هبيرة» قلت: توهَّمَ ابن عطية أنه مضارع باقٍ على رفعه فأنكر فتحَ لامِه وغلَّط راويَها، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارعٌ مقرونٌ بالفاء جاز فيه أوجهٌ أحدها: نصبُه بإضمار «أنْ» بعد الفاء وقد تقدَّم عند قولِه {وَإِن تُبْدُواْ

مَا في أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] إلى أنْ قال: «فيغفر» قرىء بنصبه، وتقدم توجيهه، ولا فرق بين أن تكون أداةُ الشرط جازمة كآية البقرة أو غيرَ جازمة كهذه الآية. وقرأ الحسن أيضاً «فَنُنَجِّي» بنونين والجيم مشددة والياء ساكنة، مضارع نجى مشدداً للتكثير. وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم وأبو حيوة «فنجا» فعلاً ماضياً مخففاً و «مَنْ» فاعله. ونقل الداني أنه قرأ لابن محيصن كذلك، إلا أنه شَدَّ الجيم والفاعل ضمير النصر، و «مَنْ» مفعوله، ورجَّح بعضُهم قراءة عاصم بأن المصاحف اتفقت على كَتْبها «فنجي» بنونٍ واحدة نقله الداني. وقد نقل مكي أنَّ أكثرَ المصاحفِ عليها، فأشعر هذا بوقوع خلافٍ في الرسل، ورُجِّح أيضاً بأنَّ فيها مناسبةً لِما قبلها من الأفعال الماضية وهي جاريةٌ على طريقةِ كلامِ الملوك والعظماء من حيث بناءُ الفعلِ للمفعول. وقرأ أبو حيوة «يشاء» بالياء، وقد تقدَّم أنه يقرأ «فنجا» أي فنجا مَنْ يشاء اللَّه نجاته. وقرأ الحسن «بأسَه» ، والضمير للَّه، وفيها مخالفة يسيرةٌ للسواد.

111

وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث والكسائي في رواية الأنطاكي «قِصصهم» بكسر القاف وهو جمع قِصة، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عَوْدَ الضمير في «قصصهم» في القراءة المشهورة على الرسل

وحدهم، وحكى أنه يجوز أن يعودَ على يوسُفَ وإخوته. وحكى غيرُه أنه يجوز أن يعودَ على الرسل وعلى يوسف وإخوته جميعاً. قال الشيخ: «ولا تَنْصُره يعني هذه القراءة إذا قصص يوسف وأبيه وإخوته مشتملٌ على قصصٍ كثيرة وأنباء مختلفة» . قوله: {مَا كَانَ حَدِيثاً} في «كان» ضميرٌ عائد على القرآن، أي: ما كان القرآنُ المتضمِّنُ لهذه القصة الغريبة حديثاً مختلفاً، وقيل: بل هو عائد على القصص أي: ما كان القصص المذكور في قوله «لقد كان في قَصَصِهم» . وقال الزمخشري: «فإن قلت: فالإمَ يَرْجِع الضمير في {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} فيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن أي: ما كان القرآن حديثاً» . قلت: لأنه لو عاد على «قِصصهم» بكسر القاف لوجب أن يكون «كانت» بالتاء لإِسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤنث، وإن كان مجازياً. قوله: {ولكن تَصْدِيقَ} العامَّةُ على نصب «تصديق» ، والثلاثة بعده على أنها منسوقةٌ على خبر كان أي: ولكن كان تَصْدِيْقَ. وقرأ حمران بن أعين وعيسى الكوفي وعيسى الثقفي برفع «تصديق» وما بعده على أنها أخبار لمبتدأ مضمر أي: ولكن هو تصديق، أي: الحديث ذو تصديقٍ، وقد سُمع من العرب مثلُ هذا بالنصب والرفع، قال ذو الرمة:

2836 - وما كان مالي مِنْ تُراثٍ وَرِثْتُه ... ولا ديةً كانَتْ ولا كَسْبَ مأثمِ ولكنْ عطاءَ اللَّه من كل رحلةٍ ... إلى كل محجوبِ السُّرادِقِ خِضْرَمِ وقال لوط بن عبيد: 2837 - وإني بحمد اللَّه لا مالَ مسلمٍ ... أخذْتُ ولا مُعْطي اليمينِ مُحالِفِ ولكنْ عطاء اللِّهِ مْنِ مالِ فاجرٍ ... قَصِيِّ المحلِّ مُعْوِرٍ للمَقارفِ يُرْوى «عطاء اللَّه» في البَيتين منصوباً على «ولكن كان عطاء» ومرفوعاً على: ولكن هو عطاء اللَّه. وتقدَّم نظيرُ ما بقي من السورة فأغنى عن إعادته.

الرعد

قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ} : يجوز في «تلك» أن تكونَ مبتدأً والخبرُ {آيَاتُ الكتاب} ، والمشارُ إليه آياتُ السورة. والمرادُ بالكتابِ السورةُ. وقيل: إشارةٌ إلى ما قَصَّ عليه مِنْ أنباء الرسل. وهذه الجملةُ لا محلَّ لها إن قيل: إنَّ «المر» كلامٌ مستقلٌ، أو قُصِد به مُجَرَّدُ التنبيهِ، وفي محلِّ رفعٍ على الخبرِ إنْ قيل: إنَّ «المر» مبتدأٌ، ويجوز أن تكونَ «تلك» خبراً ل «المر» ، و {آيَاتُ الكتاب} بدلٌ أو بيانٌ. وقد تقدَّم تقريرُ هذا بإيضاحٍ أولَ الكتاب، وأَعَدْتُه. . . . قوله: {والذي أُنزِلَ} يجوز فيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ مبتدأً، و «الحقُّ» خبرُه. الثاني: أن يكون مبتدأً، و {مِن رَّبِّكَ} خبرُه، وعلى هذا ف «الحقُّ» خبرُ مبتدأ مضمر، أي: هو الحق. الثالث: أنَّ «الحقُّ» خبرٌ بعد خبر. الرابع: أن يكونَ {مِن رَّبِّكَ الحق} كلاهما خبرٌ واحدٌ. قاله

أبو البقاءُ والحوفيُّ. [وفيه بُعْدٌ] ؛ إذ ليس هو مثلَ «هذا حلوٌ حامِضٌ» . الخامس: أن يكون «الذي» صفةً ل «الكتاب» . قاله أبو البقاء: «وأُدْخِلَت الواوُ [في لفظه، كما أُدْخِلت] في» النازِلين «و» الطيبين «. قلت: يعني أن الواوَ تكونُ داخلةً على الوصف. وفي المسألة كلامٌ يحتاج إلى تحقيقٍ، والزمخشريُّ [يُجيز مثلَ ذلك، ويجعلُ أنَّ] في ذلك تأكيداً، وسيأتي هذا أيضاً إن شاء اللهُ تعالى في الحجر، في قوله {مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] . وقوله:» في النازلين «و» الطيبين «يشير إلى بيت الخِرْنِقِ بنت هَفَّان في قولها حين مَدَحَتْ قومَها: 283 - 8- لا يَبْعَدَنْ قوميْ الذين هُمُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ النازِلينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطيِّبين مَعاقِدَ الأُزْرِ فعطَفَ» الطيبين «على» النازِلين «، وهما صفتان لقومٍ معينين، إلاَّ أنَّ الفرقَ بين الآيةِ والبيتِ واضحٌ: من حيث إن البيتَ فيه عطفُ صفةٍ على مثلِها، والآيةُ ليست كذلك.

وقال الشيخ شيئاً يقتضي أن تكونَ ممَّا عُطِفَ فيها وَصْفٌ على مثلِه فقال:» وأجاز الحوفي أيضاً أن يكونَ «والذي» في موضعِ رفعٍ عطفاً على «آيات» ، وأجاز هو وابنُ عطية أن يكونَ «والذي» في موضعِ خفضٍ، وعلى هذين الإِعرابين يكون «الحقُّ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو الحق، ويكون «والذي» ممَّا عُطِفَ فيه الوصفُ على الوصفُ وهما لشيءٍ واحد، كما تقول «جاءني الظريفُ والعاقلُ» وأنت تريد شخصاً واحداً، ومن ذلك قولُ الشاعر: 283 - 9- إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... وليثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ قلت: وأين الوصفُ المعطوفُ عليه حتى يجعلَه مثلَ البيتِ الذي أنشده؟ السادس: أن يكونَ «الذي» مرفوعاً نسقاً على «آيات» كما تقدَّمَتْ حكايتُه عن الحوفي. وجَوَّز الحوفيُّ أيضاً أن يكونَ «الحقُّ» نعتاً ل «الذي» حالَ عطفِه على {آيَاتُ الكتاب} . وتَلَخَّص في «الحقِّ» خمسةُ أوجه، أحدها: أنه خبرٌ أولُ أو ثانٍ أو هو مع ما قبله، أو خبرٌ لمبتدأ مضمر، أو صفةٌ ل «الذي» إذا جَعَلْناه معطوفاً على «آيات» .

2

قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ} : هذا الجارُّ في محل نصبٍ على الحال من «السماوات» ، أي: رَفَعَهَا خاليةً مِنْ عَمَد. ثم في هذا الكلامِ وجهان، أحدُهما: انتفاءُ العَمَدِ والرؤيةِ جميعاً، أي: لا عَمَدَ فلا رؤيةَ، يعني لا عَمَدَ لها فلا تُرَى. وإليه ذهب الجمهورُ. والثاني: أن لها عَمَدَاً ولكن غيرُ مرئيَّةٍ. وعن ابنِ عباس: «ما يُدْريكَ أنهما بِعَمَدْ لا تُرى؟» ، وإليه ذهب مجاهدٌ، وهذا قريبٌ مِنْ قولهم: ما رأيت رجلاً صالحاً، ونحوُه: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} [البقرة: 273] [وقوله:] . 284 - 0- على لاحِبٍ لا يُهتدى بِمَنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم. هذا إذا قُلْنَا: إنَّ «تَرَوْنها» صفةٌ، أمَّا إذا قلنا: إنها مستأنفةٌ -كما سيأتي- فيتعيَّن أنْ لا عَمَدَ لها البتةَ. والعامَّةُ على فتحِ العين والميم وهو اسمُ جمعٍ، وعبارةُ بعضِهم «إنه جمعٌ» ، نَظَرَ إلى المعنى دون الصناعة، وفي مفرده احتمالان، أحدهما: أنه عِماد، ونظيرُه إهاب وأَهَب. والثاني: أنه عمود كأَدِيْم وأَدَم وقضيم وقَضَم، كذا قال الشيخ: وقال أبو البقاء: «جمع عِماد،

أو عَمود مثل: أَدِيمْ وأَدَم، وأَفِيْق وأَفَق، وإِهاب وأَهَب، ولا خامسَ لها» . قلت: فجعلوا فَعُولاً كفَعِيْل في ذلك، وفيه نظر؛ لأنَّ الأوزانَ لها خصوصيةٌ فلا يلزمُ مِنْ جَمْعِ فَعِيل على كذا أن يُجْمع عليه فَعُول، فكان ينبغي أن يُنَظِّروه بأنَّ فَعُولاً جُمِعَ على فَعَل. ثم قول أبي البقاء «ولا خامسَ لها» يعني أنه لم يُجْمَعْ على فَعَل إلاَّ هذه الخمسةُ: عِماد، وعَمُود، وأَدِيم، وأَفِيْق، وإِهاب، وهذا الحصرُ ممنوعٌ لِما ذكرْتُ لكَ مِنْ نحو: قَضِيم وقَضَم. ويُجْمعان في القِلَّة على «أَعْمِدة» . وقرأ أبو حَيْوة ويحيى بن وثاب «عُمُد» بضمتين، ومفرُده يحتمل أن يكونَ عِماداً كشِهاب وشُهُب، وكِتاب وكُتُب، وأن يكون عَمُوداً/ كرَسُول ورُسُل، وقد قرِئ في السبع: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} [الهمزة: 9] بالوجهين. وقال ابن عطية في عَمَد: «اسم جمعِ عَمُود، والبابُ في جمعه» عُمُد «بضم الحروفِ الثلاثة كرَسُوْل ورُسُل» . قال الشيخ: «وهذا وهمٌ، وصوابُه بضم الحرفين؛ لأن الثالث هو حرفُ الإِعراب، فلا تُعْتبر ضمةً في كيفية الجمع» . والعِماد والعَمود: ما يُعَمَّد به، أي: يُسْنَدُ، يقال: عَمَدْتُ الحائطَ

أَعْمِدُه عَمْداً، أي: أدْعَمْتُه فاعتمد الحائطُ على العِماد. والعَمَدُ: الأساطينُ. قال النابغة: 284 - 1- وخَيَّسَ الجنَّ إني قد أَذِنْتُ لهمْ ... يَبْنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ والعَمْدُ: هو قَصْدُ الشيءِ والاستنادُ إليه، فهو ضِدُّ السهو، وعمودُ الصبح: ابتداءُ ضوئِه تشبيهاً بعمود الحديد في الهيئة، والعُمْدَةُ: ما يُعتمد عليه مِنْ مالٍ وغيرِهِ، والعَميد: السيِّدُ الذي يَعْمِدُه الناسُ، أي: يَقْصِدُونه. قوله: {تَرَوْنَهَا} في الضميرِ المنصوبِ وجهان، أحدهما: أنه عائدٌ على «عَمَد» وهو أقربُ مذكورٍ، وحينئذٍ تكون الجملةُ في محل جرٍّ صفةً ل «عَمَد» ، ويجيءُ فيه الاحتمالان المتقدمان: من كونِ العَمَد موجودةً، لكنها لا تُرى، أو غيرَ موجودةٍ البتةَ. والثاني: أن الضميرَ عائدٌ على «السماوات» . ثم في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها، أي: استشهد برؤيتهم لها كذلك، ولم يَذْكر الزمخشريُّ غيرَه. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِن «السماوات» ، وتكونُ حالاً مقدرة؛ لأنها حين رَفْعِها لم نكن مَخْلُوْقِينَ، والتقدير: رَفَعَها مَرْئيةً لكم. وقرأ اُبَيٌّ «تَرَوْنَه» مراعاةً للفظ «عَمَدَ» إذ هو اسمُ جمعٍ. وهذه القراؤةُ رجَّح بها الزمخشريُّ كونَ الجملةِ صفةً ل «عَمَد» .

وزعم بعضُهم أنَّ «تَرَوْنَها» خبرٌ لفظاً، ومعناه الأمر، أي: رَوْها وانظروا إليها لتعتبروا بها. وهو بعيدٌ، ويتعيَّنُ على هذا أن تكونَ مستأنفةً؛ لأنَّ الطلبَ لا يقع صفةً ولا حالاً. و «ثم» في «ثم استوى» لمجردِ العطفِ لا للترتيب؛ لأنَّ الاستواءَ على العرش غيرُ مرتَّبٍ على رَفْع السماوات. قوله: {يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات} قرأ العامَّةُ هذين الحرفين بالياء مِنْ تحتُ جَرْياً على ضميرِ اسمِ الله تعالى، وفيهما وجهان، أحدُهما -وهو الظاهر-: أنهما مستأنفان للإِخبارِ بذلك. والثاني: أن الأولَ حالٌ مِنْ فاعلِ «سَخَّر» ، والثاني حالٌ مِنْ فاعل «يُدَبِّر» . وقرأ النخعي وأبان بن تغلب: «نُدَبِّرُ الأمرَ، نُفَصِّل» بالنون فيهما، والحسنُ والأعمشُ «نُفَصِّل» بالنون، «يُدَبِّر» بالياء. قال المهدوي: «لم يُخْتَلَفْ في» يُدَبِّر «، يعني أنه بالياء، وليس كما ذَكَر لِما قدَّمْتُه عن النخعيِّ وأبان بن تغلب.

3

والرَّواسِي: الثوابت وهي الجبال، وفَواعِل الوصفُ لا يَطَّرِدُ إلاَّ في الإِناثِ، إلاَّ أن المكسَّر ممَّا لا يَعْقِلُ يجري مَجْرى جمعِ الإِناث، وأيضاً فقد كَثُرَ استعمالُه كالجوامِد فجُمِعَ كحائط وحوائط وكاهِل وكواهل. وقيل: هو جمعُ راسِيَة، والهاء للمبالغة، والرُّسُوُّ: الثبوت قال: 284 - 2-

بهِ خالداتٌ ما يَرِمْنَ وهامِدٌ ... وَأشْعَثُ أَرْسَتْهُ الوَليدةُ بالفِهْرِ قوله: {وَمِن كُلِّ الثمرات} يجوز فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أَنْ يتعلَّقَ ب «جَعَل» بعده، أي: وجعل فيها زوجين اثنين مِنْ كلٍ، وهو ظاهر. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «اثنين» ؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ له. والثالث: أن يَتِمَّ الكلامُ على قوله {وَمِن كُلِّ الثمرات} فيتعلَّقَ ب «جَعَلَ» الأولى على أنه من عطفِ المفردات، يعني عَطَفَ على معمول «جعل» الأولى، تقديرُه: أنه جَعَلَ في الأرض كذا وكذا ومن كل الثمرات. قال أبو البقاء: «ويكون جَعَلَ الثاني مستأنفاً» . و {يُغْشِي الليل} تقدَّم الكلامُ فيه وهو: إمَّا مستأنفٌ وإمَّا حالٌ مِنْ فاعلِ الافعالِ قبله.

4

قوله تعالى: {وَفِي الأرض قِطَعٌ} : العامَّة على رفع «قِطَعٌ» و «جنات» : إمَّا على الابتداء، وإمَّا على الفاعلية بالجارِّ قبله. وقرئ {قِطَعاً مُّتَجَاوِرَاتٍ} بالنصب، وكذلك في بعض المصاحف، على إضمار «جَعَلَ» . وقرأ الحسن «وجناتٍ» بكسر التاء وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنه جرٌ عطفاً على {كُلِّ الثمرات} . الثاني: أنه نصبٌ نَسَقاً على {زَوْجَيْنِ اثنين} قاله الزمخشري. الثالث: نَصْبُه نسقاً على «رواسي» . الرابع: نَصْبُه بإضمار «

جَعَلَ» وهو أَوْلى لكثرةِ الفواصلِ في الأوجهِ قبله. قال أبو البقاء: «ولم يَقْرَأ أحدٌ منهم» وزرعاً «بالنصب» . قوله: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالرفع في الأربعة، والباقون بالخفض. فالرفعُ في {زَرْعٌ وَنَخِيلٌ} للنسقِ على «قِطَعٌ» وفي «صِنْوان» لكونِهِ تابعاً ل «نخيل» ، و «غيرُ» لعطفِهِ عليه. وعاب الشيخُ على ابن عطية قولَه «عطفاً على» قطع «قال:» وليسَتْ عبارةً محررةً؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطف وهو صِنْوان «قلت: ومثل هذا غيرُ مَعيبٍ لأنه عطفٌ محققٌ، غايةُ ما فيه أنَّ بعضَ ذلك تابعٌ، فلا يُقْدَحُ في هذه العبارة. والخفضُ مراعاةُ ل» أعناب «. وقال ابن عطية:» عطفاً على أعناب «، وعابَها الشيخ بما تقدَّم، وجوابُه ما تقدَّم. وقد طعنَ قومٌ على هذه القراءة وقالوا: ليس الزرعُ من الجنات، رُوِيَ ذلك عن أبي عمروٍ. وقد أجيب عن ذلك: بأنَّ الجنةَ احتَوَتْ على النخيلِ والأعنابِ والزرعِ كقوله: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ

وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32] . وقال أبو البقاء:» وقيل: المعنى: ونبات/ زرعٍ فَعَطَفه على المعنى «. قلت: ولا أدري ما هذا الجوابُ؟ لأنَّ الذين يمنع أن تكون الجنةُ من الزرعِ يمنع أن تكونَ من نباتِ الزرع، وأيُّ فرق؟ والصَّنْوانُ: جَمْع صِنْوٍ كقِنْوان جمع قِنْو، وقد تقدم تحقيق هذه البنية في الأنعام. والصِّنْوُ: الفَرْعُ، يَجْمعه وفرعاً آخر أصلٌ واحدٌ، وأصله المِثْلُ، وفي الحديث:» عَمُّ الرجل صِنْوُ أبيه «، أي: مثلُه، أو لأنهما يجمعهما أصلٌ واحد. والعامَّة على كسرِ الصاد. وقرأ السلمي وابن مصرِّف وزيدُ بن علي بضمِّها، وهي لغةُ قيسٍ وتميم، كذِئْب وذُؤْبان. وقرأ الحسنُ وقتادةُ بفتحها، وهو اسمُ جمعٍ لا جمعُ تكسيرٍ؛ لأنه ليس مِنْ أبنيتِه فَعْلان، ونظيرُ» صَنْوان «بالفتح» السَّعْدان «. هذا جمعُه في الكثرةِ، وأمَّا في القِلَّة فيُجْمع على أَصْنَاءٍ كحِمْل وأَحْمال. قوله:» يُسْقَى «قرأه بالياء مِنْ تحتُ ابنُ عامر وعاصمٌ، أي: يُسقى

ما ذُكِرَ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ مراعاةً للفظِ ما تقدم، وللتأنيث في قولِه» بعضَها «. قوله: «ونُفَضِّل» قرأه بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للفاعل الأخَوان، والباقون بنونِ العظمة. ويحيى بن يعمر وأبو حيوة «يُفَضَّل» بالياء مبنياً للمفعول، «بعضُها» رفعاً. قال أبو حاتم: «وَجَدْتُه كذلك في مصحف يحيى بن يعمر» وهو أولُ مَنْ نَقَّط المصاحفَ. وتقدَّم الخلاف في «الأُكُل» في البقرة. و {فِي الأكل} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه ظرفٌ للتفضيل. والثاني: أنه حال من «بعضها» ، أي: نُفضِّل بعضَها مأكولاً، أي: وفيه الأكلُ، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ مِنْ جهة المعنى والصناعة.

5

قوله تعالى: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه خبرٌ مقدمٌ، و «قولُهم» مبتدأ مؤخرٌ، ولا بد مِنْ حَذْفِ صفةٍ لتتِمَّ الفائدةُ، أي: فَعَجَبٌ أيُّ عَجَبٍ، أو غريب ونحوه. والثاني: أنه مبتدأٌ، وسَوَّغَ الابتداءُ ما ذكرتْهُ مِن الوصفِ المقدِّرِ، ولا يَضُرُّ حينئذٍ كونُ خبِرهِ، معرفةً،

وهذا كما اَعْرب سيبويهِ «كم» مِنْ «كم مالُك» و «خيرٌ» مِنْ «اقصِدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه» مبتدأين لمسوِّغِ الابتداء بهما، وخبرُهما معرفةً. قاله الشيخ وللنزاعِ فيه مجالٌ. على أنَّ هناك عِلَّةً لا تَتَأتَّى ههنا: وهي أن الذي حَمَلَ سيبويهِ على ذلك في المسألتين أنَّ أكثرَ ما يقع موقعَ «كم» و «خير» ما هو مبتدأ، فلذلك حَكَمَ عليهما بحكمِ الغالبِ بخلافِ ما نحن فيه. الثالث: أنَّ «عجبٌ» مبتدأٌ بمعنى مُعْجِب، و «قولُهم» فاعلٌ به، قاله أبو البقاء، ورَدَّ عليه الشيخُ: بانهم نَصُّوا على أن «فَعَلاً» و «فُعْلَة» و «فِعْلاً» يَنُوب عن مفعولٍ في المعنى ولا يعمل عملَه، فلا تقول: مررتُ برجلٍ ذِبْحٍ كبشُه، ولا غُرْفةٍ ماؤه، ولا قَبَضٍ مالُه «. قلت: وأيضاً فإن الصفاتِ لا تعملُ إلاَّ إذا اعتمَدَتْ على أشياءَ مخصوصةٍ، وليس منها هنا شيءٌ. قوله: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} يجوز في هذه الجملةِ الاستفهاميةِ وجهان، أحدُهما: -وهو الظاهر- أنها منصوبةُ المحلِّ لحكايتها بالقولِ. والثاني: أنها وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ قولُهم» ، وبه بدأ الزمخشري، ويكون بدلَ كلٍ مِنْ كل، لأنّ هذا هو نفسُ قولِهم. و «إذا» هنا ظرفٌ محضٌ، وليس فيها معنى الشرطِ، والعاملُ فيها مقدرٌ يُفَسِّره {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} تقديرُه: أإذا كنا تراباً نُبْعَثُ أو نُحْشَر، ولا يَعْمل فيها {خَلْقٍ

جَدِيدٍ} لأنَّ ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها أيضاً «كُنَّا» لإِضافتها إليها. واختلف القرَّاءُ في هذا الاستفهامِ المكررِ اختلافاً منتشراً، وهو في أحدِ عشرَ موضعاً من القرآن، فلا بُدَّ مِنْ تَعيينِها وبيانِ مراتبِ القرَّاء فيها، فإنَّ في ضبطها عُسْراً يَسْهُل بعَوْنِ الله تعالى: أمَّا المواضعُ المذكورةُ، فأوَّلُها ما في هذه السورة. الثاني والثالث كلاهما في «الإِسراء» وهما: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الآيتان: 49، 98] موضعان الرابع: في «المؤمنون» {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الآية: 82] . وفي «النمل» : {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [الآية: 67] ، وفي «العنكبوت» : {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} [الآيتان: 28، 29] . وفي «ألم، السجدة» {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الآية: 10] . وفي «الصافات» موضعان، وفي الواقعة موضعٌ: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16، 53، الواقعة: 47] . وفي «النازعات» : {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} [الآية: 11] .

هذه هي المواضعُ المختلَفُ فيها، وأمَّا ضبطُ الخلافِ فيها بالنسبةِ إلى القرَّاء ففيه طريقان، أحدهما بالنسبة إلى ذِكْر القُرَّاء، والثاني: بالنسبة إلى ذِكْر السُّوَر وهذا الثاني أقربُ، فلذلك بَدَأْتُ به فأقول: هذه المواضعُ تنقسم قسمين: قسمٌ منها سبعةُ مواضعَ لها حكمٌ واحدٌ، وقسمٌ منها أربعةُ مواضعَ، لكلٍ منها حكمٌ على حِدَته. أمَّا القسم الأول: فمنه في هذه السورة، والثاني والثالث في سبحان، والرابع في المؤمنين، والخامس في ألم السجدة، والسادس والسابع في الصَّافات، وقد عَرَفْتَ أعيانَها ممَّا تقدَّمَ. أمَّا حكمُها: فإنَّ نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول ويُخْبران في الثاني، وأن ابنَ عامرٍ يُخْبِر في الأول، ويستفهم في الثاني، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون في الأول والثاني. وأمَّا القسمُ الثاني: فأوَّله [ما في سورة النمل] ، وحكمُه: أنَّ نافعاً يُخْبِر في الأول ويستفهم في الثاني، وأن ابنَ عامر والكسائي يعكِسُه، أي: يَسْتفهمان في الأول ويُخْبِران في الثاني، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون فيهما. الثاني: ما في سورة العنكبوت، وحكمُه: أن نافعاً وابنَ كثير وابنَ عامرٍ وحفصاً يُخْبرون في الأول ويستفهمون في الثاني، وأن الباقين يستفهمون فيهما.

الثالث: ما في سورة الواقعة، وحكمُه: أن نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول، ويُخبران في الثاني، وأن الباقين يستفهمون فيهما. الرابع ما في سورة النازعات، وحكمه: أنَّ نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ويخبرون في الثاني، وأنَّ الباقين يستفهمون فيهما. وأمَّا الطريقُ الآخرُ بالنسبة إلى القراء فأقول: إن القراء فيها على أربعِ مراتبَ، والأولى: ان نافعاً -رحمه الله- قرأ بالاستفهام في الأول وبالخبر في الثاني، إلا في النمل والعنكبوت فإنه عَكَس. المرتبة الثانية: أن ابن كثير وحفصاً قرآ بالاستفهام في الأول والثاني، إلا الأولَ من العنكبوت فقرآه بالخبر. المرتبة الثالثة: أن ابنَ عامر قرأ بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني، إلا في النمل والواقعة والنازعات، فقرأ في النمل والنازعات بالاستفهام في الأول، وبالخبر في الثاني، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما. المرتبة الرابعة: الباقون -وهم أبو عمرو وحمزة وأبو بكر- قرؤوا بالاستفهام في الأول والثاني، ولم يخالِفْ أحدٌ منهم أصلَه، وإنما ذكرت هذين الطريقين لعُسْرهما وصعوبةِ استخراجهما من كتب القراءات. ثم الوجهُ في قراءةِ مَن، استفهم في الأول والثاني قَصْدُ المبالغة في الإِنكار، فاتى به في الجملة الأولى، وأعاده في الثانية تأكيداً له، والوجهُ في قراءة منْ أتى به في مرة واحدةً حصولُ المقصودِ به؛ لأنَّ كلَّ جملة مرتبطةٌ بالأخرى، فإذا أنكرَ في إحداهما حَصَل الإِنكار في الأخرى، وأمَّا مَنْ خالف أصلَه في شيءٍ من ذلك فلاتِّباعِ الأثَر.

6

قوله تعالى: {قَبْلَ الحسنة} : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بالاستعجال ظرفاً له، والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مقدَّرةٌ مِن «السَّيِّئة» قاله أبو البقاء.

قوله: {وَقَدْ خَلَتْ} يجوز أن تكونَ حالاً وهو الظاهر، وأن تكونَ مستأنفةً. والعامَّةُ على فتح الميم وضمِّ المثلثة، الواحدة «مَثُلَة» كسَمُرَة وسَمُرات، وهي العقوبةُ الفاضحة. قال ابن عباس:: العقوباتُ المستأصِلات كَمَثُلَةِ قَطْعِ الأذن والأنف ونحوِهما «، سُمِّيَت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقَب من المماثلة كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، أو لأَخْذِها من المِثال بمعنى القِصاص، يقال: أَمْثَلْتُ الرجلَ منْ صاحبِه وأقْصَصْته، بمعنى واحد، أو لأخْذِها مِنْ ضَرْبِ المَثَل لعِظَم شأنها. وقرأ ابن مُصَرِّف بفتح الميم وسكون الثاء. قيل: وهي لغةُ الحجاز في» مَثْلة «. / وقرأ ابن وثَّاب بضمِّ الميم وسكونِ الثاء، وهي لغة تميم. وقرأ الأعمشُ ومجاهدٌ بفتحهما، وعيسى بن عمر وأبو بكرٍ في روايةٍ بضمهما. فأمَّا الضمُّ والإِسكانُ فيجوز أن يكونَ أصلاً بنفسه لغة، وأن يكونَ مخففاً مِنْ قراءة مَنْ ضمَّهما. وأمَّا ضمُّهما فيُحْتمل أيضاً أن يكونَ اصلاً بنفسه لغةً، وأن يكونَ إتباعاً مِنْ قراءة الضمِّ والإِسكان نحو: العُسُرِ في العُسْر، وقد عُرِفَ ما فيه. قوله: {على ظُلْمِهِمْ} حال من» للناس «. والعامل فيها قال أبو البقاء:» مغفرة «يعني أنه هو العامل في صاحبها.

7

قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن هذا كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌ من مبتدأ وخبر. الثاني: أنَّ {وَلِكُلِّ قَوْمٍ} متعلقٌ بهادٍ، و «هادٍ» نَسَقٌ على مقدَّر، أي: إنما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم. وفي هذا

الوجهِ الفصلُ بين حرفِ العطفِ والمعطوف بالجارِّ، وفيه خلافٌ تقدَّم. ولمَّا ذكر الشيخ هذا الوجهَ لم يذكر هذا الإِشكالَ، ومِنْ عادته ذِكْرُه رادّاً به على الزمخشري. الثالث: أنَّ هادياً خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: [إنما أنت منذرٌ] ، وهو لكلِّ قومٍ هادٍ، ف «لكلِّ» متعلقٌ به أيضاً. ووقف ابن كثير على «هادٍ» و {وَاقٍ} [الرعد: 34] حيث وقعا، وعلى {وَالٍ} [الرعد: 11] هنا [وباقٍ في التخل بإثبات] الياء، وحَذَفها الباقون. ونقل ابن مجاهد عنه أنه يقف بالياء في جميع الباب، ونَقَل عن ورش أنه خَيَّر في الوقف [بين الياءِ وحَذْفِها، والباب] هو كلُّ منقوصٍ منوَّنٍ غيرِ منصوبٍ.

8

قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ} : يجوز في الجلالة وجهان، أحدُهما: أنها خبرٌ مبتدأٍ مضمر، [أي: هو الله، وهذا] على قول مَنْ فَسَّر هادياً بأنه هو الله تعالى، فكأنَّ هذه الجملةَ تفسيرٌ له، وهذا عَنَى الزمخشريُّ بقوله: «وأن يكونَ المعنى: هو الله تفسيراً لهادٍ على الوجه الأخير، ثم ابتدأ

فقال:» يَعْلَم «. والثاني: أن الجلالةَ مبتدأ و» يَعْلَمُ «خبرُها، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ. قال الشيخ:» ويَعْلَمُ هنا متعديةٌ إلى واحدٍ، لأنه لو يُراد هنا النسبةُ، إنما المرادُ تعلُّق العلمِ بالمفردات «. قلت: وإذا كانت كذلك كانت عِرْفانيةً، وقد قدَّمْتُ أنه لا ينبغي أن يجوزَ نسبةُ هذا إلى اللهِ تعالى، وحَقَّقْتُه فيما تقدَّم، فعليك باعتباره في موضعه من سورة الأنفال. قوله: {مَا تَحْمِلُ} :» ما «تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أن تكون موصولةً اسميةً، والعائدُ محذوف، أي: ما تحمله. والثاني: أن تكونَ مصدريةً فلا عائدَ. والثالث: أن تكونَ استفهاميةً، وفي محلها وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و» تحملُ «خبرُه، والجملة معلِّقةٌ للعلمِ. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ ب» تَحْمل «قاله أبو البقاء، وهو أوْلى، لأنه لا يُحْوِجُ إلى حَذْفِ عائدٍ، ولا سيما عند البصريين فإنهم لا يُجيزون» زيدُ ضربْت «، ولم يذكرِ الشيخُ غيرَ هذا، ولم يتعرَّضْ لهذا الاعتراضِ. و» ما «في قوله {وَمَا تَغِيضُ. . . وَمَا تَزْدَادُ} محتملةٌ للأوجهِ المتقدمة. وغاض وزاد سُمِع تعدِّيهما ولزومُهما، فلك أن تدَّعيَ حَذْفَ العائدِ على القول بتعدِّيهما، وأن تجعلَها مصدريةً على القولِ بمصدرهما. قوله:» عندَه «يجوزُ أن يكونَ مجرورَ المحلِّ صفةً لشيءٍ، أو مرفوعَه

صفةً ل» كل «، أو منصوبهَ لقوله» بمقدار «أو ظرفاً للاستقرار الذي تَعَلَّق به الجارُّ لوقوعِه خبراً.

9

قوله تعالى: {عَالِمُ الغيب} : يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبرُه {الكبير المتعال} ، وأن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو عالِمٌ. وقرأ زيد بن عليّ «عالِمَ» نصباً على المدح. ووقف ابن كثير وأبو عمرو في روايةٍ على ياء «المتعال» وصلاً ووقفاً، وهذا هو الأشهرُ في لسانهم، وحَذَفَها الباقون وصلاً ووقفاً لحَذْفِها في الرسم. واستسهل سيبويه حَذْفَها في الفواصل والقوافي ولأن «أل» تعاقِبُ التنوين، فَحُذِفَتْ معها إجراءً لها مُجْراها.

10

قوله تعالى: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ} : في «سواءٌ» وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ مقدَّمٌ، و {مَّنْ أَسَرَّ} و {وَمَنْ جَهَرَ} هو المبتدأ، وإنما بم يُثَنَّ الخبر لأنه في الأصل مصدرٌ، وهو هنا بمعنى مُسْتَوٍ، وقد تقدَّم الكلامُ فيه أوَّلَ هذا الموضوعِ، و «منكم» على هذا حالٌ من الضمير المستتر في «سواءٌ» لأنه بمعنى «مُسْتَوٍ» . قال أبو البقاء: «ويَضْعُفُ أن يكونَ حالاً من الضمير في» أَسَرَّ «أو» جَهَرَ «لوجهين، أحدُهما: تقديمُ ما في الصلةِ على الموصولِ أو الصفة على الموصوف، والثاني: تقديمُ الخبرِ على» منكم «،

وحقُّه أن يقعَ بعده» . قلت: [قوله] «وحقُّه أن يقع بعده» يعني بعده وبعد المبتدأ، وإلا يَصِرْ/ كلامُه لا معنى له. والثاني: أنه مبتدأ، وجاز الابتداءُ به لوصفِه بقوله «مِنْكم» وأَعْرَبَ سيبويه «سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ» كذلك. وقولُ ابن عطية أن سيبويه ضَعَّفَ ذلك بأنه ابتداءٌ بنكرة، غَلَطٌ عليه. قوله: {وَسَارِبٌ بالنهار} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على «مُسْتَخْفٍ» ، ويُرادُ ب «مَنْ» حينئذٍ اثنان، وحَمَلَ المبتدأَ الذي هو لفطةُ «هو» على لفظِها فأفرده، والخبرَ على معناها فثَنَّاه. الوجه الثاني: أن يكونَ عطفاً على « {مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} لا على مُسْتَخْفٍ وحدَه. ويُرَجِّح هذين الوجهين ما قاله الزمخشري. قال رحمه الله:» فإنْ قلت: كان حقُّ العبارة أن يُقال: «ومَنْ هو مُسْتَخْفٍ بالليل ومَنْ هو ساربٌ بالنهار؛ حتى يتناولَ معنى الاستواء المستخفي والساربُ، وإلاَّ فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وساربٌ. قلت: فيه وجهان، أحدٌهما: أنَّ قولَه» وساربٌ «عطفٌ على {مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} لا على» مُسْتَخْفٍ «. والثاني: أنه عَطْفٌ على» مُسْتَخْفٍ «، إلا أنَّ» مَنْ «في معنى الاثنين، كقوله: 284 - 3-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبانِ كأنه قيل: سواءٌ منكم اثنان: {مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار} .

قلت: وفي عبارتِه بقوله» كان حقُّ العبارةِ كذا «سوءُ أدب. وقوله: كقولِه» نَكُنْ مثلَ مَنْ «يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضِهم مع ذئبٍ يخاطبه: تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني ولا تَخُونُني ... نَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبان وليس في البيت حَمْلٌ على اللفظِ والمعنى، إنما فيه حَمْلٌ على المعنى فقط، وهو مقصودُه. وقوله:» وإلا فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ «لو قال بهذا قائلٌ لأصاب الصوابَ، وهو مذهبُ ابنِ عباس ومجاهدٍ، ذهبا إلى أن المتسخفي والسارب شخصٌ واحد، يَسْتخفي بالليل ويَسْرُب بالنهار ليرى تصرُّفَه في الناسِ. الثالث: أن يكونَ على حذف» مَنْ «الموصولة، أي: ومَنْ هو سارِبٌ، وهذا إنما يَتَمَشَّى عند الكوفيين، فإنهم يُجيزون حَذْفَ الموصول، وقد تقدَّم استدلالُهم ذلك. والسَّارِب: اسمُ فاعلٍ مِنْ سَرَبَ يَسْرُبُ، أي: تَصَرَّف كيف شاء. قال: 284 - 4- أنَّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوْبِ ... وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ وقال آخر: 284 - 5- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونحنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فهو سارِبُ

أي: متصرِّفٌ كيف تَوَجَّه، لا يدفعه أحدٌ عن مَرْعى، يَصِفُ قومه بالمَنَعَة والقوة.

11

قوله تعالى: {لَهُ} الضميرُ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه عائدٌ على «مَنْ» المكررة، أي: لِمَنْ أسرَّ القولَ ولِمَنْ جَهَرَ به ولِمَنْ استخفى وسَرَب مُعَقِّبات، أي: جماعة من الملائكة يَعْقُبُ بعضُهم بعضاً. الثاني: أنه يعود على «مَنْ» الأخيرةِ، وهو قولُ ابن عباس. قال ابنُ عطية: «والمُعَقِّبات على هذا: حَرَسُ الرَّجُلِ وجَلاوِزَتُه الذين يحفطونَه. قالوا: والآيةُ على هذا في الرؤساء الكفارِ، واختاره الطبري في آخرين» ، إلا أنَّ الماورديَّ ذكر على التأويلِ أنَّ الكلامَ نفيٌ، والتقدير: لا يحفطونه. وهذا ينبغي أن [لا] يُسْمَعَ البتة، كيف يَبْرُزُ كلامٌ موجَبٌ ويُراد به نفي؟ وحَذْفُ «لا» إنما يجوز إذا كان المنفيُّ مضارعاً في جوابِ قسمٍ نحو: {تَالله تَفْتَؤُاْ} [يوسف: 85] وقد تقدَّم تحريرُه، وإنما معنى الكلام -كما قال المهدوي -يحفظونه مِنْ أمرِ اللهِ في ظنِّه وزعمه. الثالث: أنَّ الضميرَ في «له» يعود على الله تعالى ذِكْرُه، وفي «يَحْفظونه» للعبد، أي: لله ملائكةٌ يحفظون العبدَ من الآفات، ويحفطون عليه أعمالَه، قاله الحسن. الرابع: عَوْدُ الضميرين على النبي عليه السلام، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ قريبٌ، ولتقدُّم ما يُشعر به في قوله: {لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ} [الأنعام: 8] .

ومعَقِّبات: جمع «مُعَقِّب» بزنة مُفَعِّل، مِنْ عَقَّب الرجلُ إذا جاء على عَقِب الآخر؛ لأنَّ بعضَهم يعَقِّب بعضاً، أو لأنهم يُعَقِّبون ما يتكلم به. وقال الزمخشري: «والأصلُ معْتَقِبات، فَأُدْغمت التاءُ في القاف كقوله: {وَجَآءَ المعذرون} [التوبة: 90] ، أي:: المُعْتَذِرُون» ، ويَجوز «مُعَقِّبات» بكسر العين ولم يقرأ به. وقال الشيخ: «وهذا وهمٌ فاحشٌ لا تُدْغم التاءُ في القاف، ولا القاف في التاء، لا مِنْ كلمةٍ ولا مِنْ كلمتين، وقد نصَّ التصريفيون على أن القافَ والكاف كلٌ منهما يُدْغم في الآخر، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يُدْغم غيرهما فيهما. وأمَّا تشبيهُه بقوله: {وَجَآءَ المعذرون} فلا يتعيَّن أن يكونَ أصلُه» المُعْتَذِرون «وقد تقدَّم توجيهُه، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه. وأمَّا قوله» ويجوز «مُعَقِّبات» بكسر العين فهذا لا يجوز لأنه بناه على أنَّ أصلَه «مُتَعَقِّبات» فأُدْغِمَت التاءُ في القافِ، وقد بيَّنَّا أنَّ ذلك وهمٌ فاحشٌ «/. وفي» مُعَقِّبات «احتمالان، أحدهما: أن يكون» مُعَقِّبة «بمعنى مُعَقِّب والتاء للمبالغة كعلاَّمَة ونسَّابة، أي: مَلَكٌ مُعَقِّبٌ، ثم جُمِع كعلاَّمات ونسَّابات. والثاني: أن يكون» مُعَقِّبة «صفةً لجماعة، ثم جُمِع هذا الوصفُ. وذكر ابن جرير أنَّ» مُعَقِّبة «جمعُ مُعَقِّب، وشبَّه ذلك برجل ورِجال ورجالات. قال الشيخ:» وليس كما ذَكَر، إنما ذلك كَجَمَل وجِمال

وجِمالات، ومُعَقِّبة ومُعَقِّبات إنما هي كضاربةِ وضاربات. ويمكن أن يُجابَ عنه بأنه يريد بذلك أنه أُطْلِق مِنْ حيث الاستعمالُ على جمع مُعَقَّب، وإن كان أصلُه أن يُطْلَق على مؤنث «مُعَقِّب» ، فصار مثلَ «الوارِدَة» للجماعة الذين يَرِدُون، وإن كان أصلُه للمؤنثة من جهةِ أن جموعَ التكسير في العقلاء تُعَامَلُ معاملةَ المؤنثة في الإِخبار وعَوْدِ الضمير، ومنه قولهم «الرجال وأعضادُها» ، [و «العلماء ذاهبة إلى كذا» وتشبيهه] ذلك برجل ورجال ورِجالات من حيث المعنى لا الصناعةُ «. وقرأ أُبَيّ وإبراهيم وعُبيد الله بن زياد» له مَعاقيبُ «. قال الزمخشري: [جمع مُعْقِب أو] مُعْقِبة، والياءُ عوضٌ مِنْ حذف إحدى القافين في التكسير» . قلت: ويوضِّحُ هذا ما قاله ابنُ جني فإنه قال: «معاقيب تكسير [مُعْقِب بسكونِ العين] وكسر القاف كمُطْعِم ومَطاعِيْم، ومُقْدِم ومَقاديم، فكأنَّ مُعْقِباً جُمِع على مَعاقِبَة، ثم جُعِلَتِ الياء في» مَعاقيب «عوضاً من الهاء المحذوفة في مَعاقبة» .

قوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «مُعَقِّبات» ويجوزُ أَنْ يعتلَّق بمعقِّبات، و «مِنْ» لابتداء الغاية، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير الذي هو في الظرف الواقع خبراً. والكلامُ على هذه الأوجهِ تامٌّ عند قوله {وَمِنْ خَلْفِهِ} . وعَبَّر أبو البقاء عن هذه الأوجهِ بعبارةٍ مُشْكلة هذا شَرْحُها، وهي قولُه: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجوز أن يكونَ صفةً لمعَقِّبات، وأن يكون ظرفاً، وأن يكونَ حالاً مِنَ الضميرِ الذي فيه، فعلى هذا يتم الكلامُ عنده «. انتهى. ويجوز أَنْ يتعلَّق ب» يحفظونه «، أي: يحفظونه مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه. [فإن قلت: كيف يتعلَّق حرفان] متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحد: وهما» مِنْ «الداخلةُ على» بين «و» مِنْ «الداخلة على» أَمْرِ الله «؟ فالجواب أنَّ» مِنْ «الثانيةَ مغايرةٌ للأولى في المعنى كما ستعرفه. قوله {يَحْفَظُونَهُ} يجوز أن يكونَ صفةً ل» مُعَقِّبات «، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ الواقعِ خبراً. و {مِنْ أَمْرِ الله} متعلقٌ به، و» مِنْ «: إمَّا للسبب، أي: بسبب أمرِ الله، -ويدلُّ له قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة» بأَمْرِ الله «. وقيل: المعنى على هذا: يحفظون عملَه بإذن الله، فحذف المضافَ- وإمَّا أن تكونَ على بابها. قال أبو البقاء:» مِنْ أَْمْرِ الله، أي: من الجنِّ والإِنس، فتكون «مِنْ» على

بابها «. يعني أَنْ يُرادَ بأمر الله نفسُ ما يُحْفَظُ منه كَمَرَدة الإِنس والجنِّ، فتكون» مِنْ «لابتداء الغاية. وجَوَّز أيضاً أن تكونَ بمعنى «عن» ، وليس عليه معنىً يليقُ بالآية الكريمة. ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على انه صفةٌ لمُعَقِّبات أيضاً، فيجيء الوصفُ بثلاثةِ أشياءَ في بعض الأوجه المتقدمة: بكونها مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه، وبكونها تحفظُه، وبكونها مِنْ أَمْرِ الله، ولكن يتقدَّمُ الوصفُ بالجملةِ على الوصف بالجارِّ، وهو جائزٌ فصيح. وليس في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم الفراءُ وغيره، وأن الأصلَ: له مُعَقِّبات مِنْ أَمْرِ الله يحفظونه مِنْ بينِ يديه، لأنَّ الأصلَ عدمُه مع الاستغناءِ عنه. قوله: {وَإِذَا أَرَادَ} العاملُ في «إذا» محذوفٌ لدلالة جوابِها عليه تقديرُه: لم يُرَدَّ، أو وقع، ونحوُهما، ولا يَعْمل فيها جوابُها؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها.

12

قوله تعالى: {خَوْفاً وَطَمَعاً} : يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوفٌ، أي: يخافون خَوْفاً ويطمعون طَمَعاً. ويجوز أن يكونا مصدرين في موضعِ نصبٍ على الحال، وفي صاحبِ الحال حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه مفعولُ «يُرِيْكم» الأول، أي: خائفين طامعين، أي: تخافون صواعقَه، وتطمعون في مطره، كما قال المتنبي: 284 - 6- فتىً كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجى ... يُرَجَّى الحَيا منها وتُخْشى الصَّواعِقُ

والثاني: أنه البرقُ، أي: يريكموه حالَ كونِه ذا خوفٍ وطمع، أو هو في نفسه خوفٌ وطمعٌ على المبالغة، والمعنى كما تقدَّم. ويجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله، ذكره أبو البقاء، ومنعه الزمخشري بعدمِ اتحاد الفاعلِ، يعني أنَّ فاعلَ الإرادةِ وهو الله تعالى غيرُ فاعلِ الخوف والطمع وهو ضميرُ المخاطبين، فاختلف فاعلُ الفعل المُعَلَّل وفاعلُ العلَّة. وهذا يمكن أن يجابَ عنه: بأنَّ المفعولَ في قوة الفاعل، فإنَّ معنى «يُريكم» يجعلكم رائين، فتخافون وتطمعون، ومثلُه في المعنى قول/ النابغة الذبياني: 284 - 7- وحَلَّتْ بيوتي في يَفاعٍِ مُمَنِّعٍ ... تَخال به راعي الحَمولةِ طائرا حِذاراً على أن لا تُنال مَقَادَتي ... ولا نِسْوتي حتى يَمُتْنَ حَرائِرا ف «حِذاراً» مفعولٌ من أجله، وفاعلُه هو المتكلم، والفعل المُعَلِّل الذي هو «حَلَّتْ» فاعلُه «بيوتي» ، فقد اختلف الفاعل. قالوا: لكن لمَّا كان التقدير: وأَحْلَلْتُ بيوتي حِذاراً صَحَّ ذلك. وقد جوَّز الزمخشري: ذلك أيضاً على حَذْفِ مضاف فقال: «إلاَّ على تقدير حَذْفِ المضاف، أي: إرادةَ خوفٍ وطَمَع» . وجوَّزه أيضاً على أنَّ بعضَ المصادر ناب عن بعض، يعني: ان الأصلَ: يُريكم البرقَ إخافةً وإطماعاً؛ فإنَّ المُرْئِيَّ والمُخِيفَ والمُطْمِعَ هو اللهُ تعالى، وناب «خوف» عن

إخافة، و «طمع» عن إطماع نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، على أنه قد ذهب جماعةٌ منهم ابنُ خروفٍ إلى أنَّ اتحادَ الفاعل ليس بشرطٍ.

13

قوله تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ} : يجوز أن تكون الجملةُ مستأنفةً أخبر عنهم بذلك، ويجوز أن تكونَ حالاً. وظاهر كلام الزمخشري أنها حالٌ مِنْ مفعول «يُصِيب» ، فإنه قال: «وقيل: الواوُ للحال، [أي: فيصيب بها مِنْ يشاء في حالِ جِدالِهم» ] ، وجعلها غيرُه حالاً من مفعول «يشاء» . قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} [هذه الجملة حالٌ من الجلالة] الكريمة، ويَضْعُفُ استئنافُها. وقرأ العامَّةُ بكسر الميم، وهو القوة والإِهلاك، قال عبد المطلب: 284 - 8- لا يَغْلِبَنَّ صَلِيْبُهُمْ ... ومِحالُهم عَدْواً مِحالَكْ وقال الأعشى: 284 - 9- فَرْعُ نَبْعٍ يهتزُّ في غُصُنِ المَجْ ... دِ عظيمُ النَّدَى شديد المِحالِ والمِحال أيضاً: أشدُّ المكايدة والمماكرة، يقال: ماحَلَه مُمَاحَلةً، ومنه:

تَمَحَّلَ فلانٌ لكذا، أي: تكلَّف له استعمالَ الحيلة. وقال أبو زيد: «هو النِّقْمة» . وقال ابنُ عرفةَ، «هو الجِدال» [وفيه على هذا] مقابلةٌ معنوية كأنه قيل: وهم يجادلون في الله وهو شديدُ الجِدال. [واختلفوا في ميمه] : فالجمهور على أنها أصليةٌ من المَحْلِ وهو المَكْرُ والكيد، ووزنُه فِعال كمِهاد. وقال القتبي: إنه مِنَ الحيلة، وميمُه مزيدةٌ، كمكان من الكون، ثم يقال: تمكَّنْتُ. وقد غلَّطه الأزهري وقال: لو كان مِفْعَلاً مِنَ الحيلة لظهرت مثل: مِزْوَد ومِحْوَل ومِحْوَر «. وقرأ الأعرج والضحاك بفتحِها، والظاهر أنه لغةٌ في المكسورِها، وهو مذهبُ ابن عباس، فإنه فسَّره بالحَوْل وفسَّره غيرُه بالحيلة. وقال الزمخشري:» وقرأ الأعرج بفتح الميمِ على أنه مَفْعَل مِنْ حال يحولُ مَحالاً، إذا احتال، ومنه «اَحْوَلُ مِنْ ذئب» ، أي: أشدُّ حِيْلة، ويجوز أن يكونَ المعنى: شديد الفَقار، ويكون مَثَلاً في القوَّة والقدرة، كما جاء «فساعِدُ اللهِ أشدُّ، ومُوْساه أَحَدٌ» ، لأنَّ الحيوانَ إذا اشتدَّ مَحالُه كان منعوتاً بشدةِ القوةِ والاضطلاع بما يَعْجُزُ غيرُه، ألا ترى إلى قولهم: «فَقَرَتْه الفاقِرة» وذلك أنَّ الفَقارَ عمودُ الظهرِ وقِوامُه «.

14

وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الحق} : من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، والأصل: له الدعوةُ الحقُّ كقوله: {وَلَدَارُ الآخرة} [يوسف: 109] على أحدِ الوجهين. وقال الزمخشري: «فيه وجهان، أحدُهما: أن تُضافَ الدعوةُ إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، كما تُضاف الكلمةُ إليه في قوله» كلمة الحق «. والثاني: أن تُضافَ إلى الحق الذي هو اللهُ على معنى دعوةِ المَدْعُوِّ الحق الذي يسمع فيجيب» . قال الشيخ: «وهذا الوجهُ الثاني لا يظهر؛ لأنَّ مآلَه إلى تقدير: لله دعوةُ الله كما تقول: لزيدٍ دعوةُ زيد، وهذا التركيبُ لا يَصِحُّ» . قلت: وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يَرُدَّ عليه به؟ قوله: {والذين يَدْعُونَ} يجوز أن يُرَاد بالذين المشركون، فالواوُ في «يَدْعُون» عائده، ومفعولُه محذوفٌ وهو الأصنام، والواوُ في {لاَ يَسْتَجِيبُونَ} عائدٌ على مفعول «يَدْعون» المحذوفِ، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتِهم إياه معاملتَهم. والتقدير: والمشركون الذين يَدْعُون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنامُ إلا استجابةً كاستجابةِ باسطِ كَفَّيْه، أي: كاستجابة الماءِ مَنْ بَسَطَ كَفَّيْه إليه، يطلب منه أن يَبْلُغَ فاه، والماءُ جمادٌ لا يَشْعُر ببَسْط كَفَّيْه ولا بعطشِه، ولا يَقْدِرُ أن يُجيبَه ويَبْلُغَ فاه، قال معناه الزمخشري. ولمَّا ذكر أبو البقاء قريباً من ذلك وقدَّر التقديرَ المذكور قال: «والمصدرُ في هذا التقدير مضافٌ

إلى المفعول كقوله: {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير} [فصلت: 49] ، وفاعلُ هذا المصدرِ مضمرٌ هو ضميرُ الماءِ، أي: لا يُجيبونهم إلا كما يُجيب الماءُ باسطَ كفِّه إليه، والإِجابةُ هنا كنايةٌ عن الانقياد» . / ويجوز أن يُرادَ بالذين الأصنامُ، أي: والآلهة الذين يَدْعونهم مِنْ دونِ الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابةً، والتقديرُ كما تقدَّم في الوجهِ قبلَه. وإنما جَمَعَهم جَمْعَ العقلاء: إمَّا للاختلاطِ؛ لأنَّ الآلهةَ عقلاءُ وجمادٌ، وإمَّا لمعاملتِهم إياها معاملةَ العقلاءِ في زعمهم، فالواوُ في «يَدْعُون» للمشركين، والعائدُ المحذوفُ للأصنام، وكذا واوُ «يستجيبون» . وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمروٍ «تَدْعُونَ» بالخطاب وهو مُقَوِّيَةٌ للوجهِ الثاني: ولم يذكرِ الزمخشريُّ غيرَه. قوله: «ليَبْلُغَ» اللامُ متعلقةٌ ب «باسِط» وفاعلُ «ليبلُغَ» ضميرُ الماءِ. قوله: {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} في «هو» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ الماء. والهاء في «ببالغِه» للفم، أي: وما الماء ببالغِ فيه. الثاني: أنه ضميرُ الفم، والهاء فيي «ببالِغه» للماء، أي: وما الفمُ ببالغِ الماءِ؛ إذ كلُّ واحدٍ منهما لا يبلُغُ الآخرَ على هذه الحالِ، فنسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ وعدمُها صحيحتان. الثالث: أن يكون ضميرَ الباسط، والهاء في «ببالغه» للماء، أي: وما باسطُ كَفَّيْهِ إلى الماء ببالغٍ الماءَ. ولا يجوز أن يكون «هو» ضميرَ الباسط، وفاعلُ «ببالغِه» مضمراً والهاء في «ببالِغه» للماء، لأنه حينئذٍ يكونُ

من باب جَرَيان الصفةِ على غير مَنْ هي] له، ومتى كان كذا لزِم إبرازُ الفاعلِ فكان التركيبُ هكذا: وما هو ببالغِه الماءُ، فإن جَعَلْتَ الهاءَ في «ببالغِه» للماءِ جاز أن يكونَ «هو» ضميرَ الباسط كما تقدَّم تقريرُه. والكافُ في «كباسطِ» : إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوف، وإمَّا حالٌ من ذلك المصدرِ كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرة. وقال أبو البقاء: «والكاف في» كباسط «إنْ جعلتَها حرفاً كان فيها ضميرٌ يعود على الموصوفِ المحذوفِ، وإنْ جعلْتَها اسماً لم يكن فيها ضميرٌ» . قلت: وكونُ الكافِ اسماً في الكلام لم يَقُلْ به الجمهورُ، بل الأخفشُ، ويعني بالموصوفِ ذلك المصدرَ الذي قدَّره فيما تقدَّم.

15

قوله تعالى: {طَوْعاً وَكَرْهاً} : إمَّا مفعولٌ مِنْ أجله، وإمَّا حال، أي: طائعِين وكارهين، وإمَّا منصوبٌ على المصدر المؤكِّد بفعلٍ مضمر. وقرأ ألو مِجْلَز: «والإِيصال» بالياء قبل الصاد. وخرَّجها ابنُ جني على أنه مصدرٌ «آصَلَ» كضارَبَ، أي: دَخل في الأصيل، كأصْبَح، أي: دخل في الصباح.

و «ظلالُهم» عطف على «مَنْ» . و «بالغُدُوِّ» متعلِّقٌ بيَسْجُد، والباء بمعنى في، أي: في هذين الوقتين.

16

وقرأ الأخَوان وأبو بكر عن عاصم «يَسْتوي» بالياء من تحتُ، والباقون بالتاء من فوق، والوجهان واضحان باعتبار أنَّ الفاعلَ مجازيٌّ التأنيث، فيجوز في فِعْله التذكيرُ والتأنيثُ، كنظائرَ له مرَّتْ. وقوله: «أَمْ هَلْ» هذه «أم» المنقطعةُ، فتتقدَّر ب «بل» والهمزةِ عند الجمهور، وب «بل» وحدَها عند بعضهم، وقد تقدَّم ذلك محرِّراً، وقد يَتَقَوَّى بهذه الآيةِ مَنْ يرى تقديرَها ب «بل» فقط بوقوع «هَل» بعدها، فلو قَدَّرْناها ب «بل» والهمزةِ لزم اجتماعُ حرفَيْ معنى، فَتُقَدِّرها ب «بل» وحدها ولا تقويةَ له، فإنَّ الهمزةَ قد جامَعَتْ «هل» في اللفظ كقول الشاعر: 285 - 0-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أهلْ رَأَوْنا بوادِي القُفِّ ذي الأَكَمِ فَأوْلَى أن يجامِعَها تقديراً. ولقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّمُ أنَّ «هل» هذه استفهاميةٌ بل بمعنى «قد» ، وإليه ذهب جماعةٌ، وإن لم يجامِعْها همزةٌ كقولِه تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ} [الإِنسان: 1] ، أي: قد أتى، فهنا أَوْلى، والسماعُ قد رَوَدَ بوقوع «هل» بعد «أم» وبعدمِه. فمِنَ الأوَّلِ هذه الآيةُ، ومن الثاني

وما بعدها مِنْ قولِه: «اَمْ جَعَلوا» ، وقد جمع الشاعرُ أيضاً بين الاستعمالين في قوله: 285 - 1- هل ما عَلِمْتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ ... أم حَبْلُها إذ نَأَتْكَ اليومَ مَصْرومُ أَمْ هَلْ كبيرٌ بكَى لم يَقْضِ عَبْرَتَه ... إثرَ الأحبَّةِ يومَ البَيْنَ مَشْكُومُ / والجملةُ من قوله: خَلَقوا «صفةٌ لشركاء.

17

قوله تعالى: {أَوْدِيَةٌ} : هو جمعُ وادٍ، وجمعُ فاعِل على أَفْعِلَة، قال أبو البقاء: «شاذٌّ، ولم نَسْمَعْه في غيرِ هذا الحرف، ووجهُه: أنَّ فاعِلاً قد جاء بمعنى فَعِيل، وكما جاء فَعِيل وأفْعِلَة كجَرِيْب وأَجْرِبَة، وكذلك فاعِل» ، قلت: قد سُمع فاعِل وأفْعِلة في حرفين آخرين، أحدُهما: قولهم: جائز وأجْوِزَة، والثاني: ناحِية وأَنْحِية. قوله: «بقَدَرها» فيه وجهان، أحدُهما «أنه متعلِّقٌ ب» سالَتْ «، والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل» أَوْدية «. وقرأ العامَّةُ بفتح الدال، وزيد بن علي والأشهب العقيلي وأبو عمرو في روايةٍ بسكونها، وقد تقدَّم ذلك في سورة البقرة.

و» احتمل «بمعنى حَمَل فافْتَعَلَ بمعنى المجرد، وإنما نكَّر الأودية وعَرَّف السيلَ؛ لأنَّ المطر يَنْزِل في البِقاع على المناوبة، فتسيلُ بعضُ أوديةِ الأرضِ دونَ بعضٍ، وتعريفُ السيل لأنه قد فُهِم من الفعل قبله وهو» فسالَتْ «وهو لو ذُكِرَ لكان نكرةً، فلمَّا اُعيد اُعِيدَ بلفظِ التعريفِ نحو:» رايت رجلاً فأكرمت الرجلَ « [والزَّبَد: وَضَرُ الغَلَيان وخَبَثُه] قال النابغة: 285 - 2- فما الفُراتُ إذا هَبَّ الرياحُ له ... تَرْمي غوارِبُه العِبْرَيْنِ بالزَّبَدِ وقيل: هو ما يَحْتمله السَّيلُ مِنْ غُثاءٍ ونحوه، وما يرمي به [على] ضفَّته من الحَباب. وقيل: هو ما يَطْرحُه الوادي إذا جاش ماؤه، وارتفعت أمواجُه. وهي عباراتٌ متقاربة. والزُّبَد: المستخرجُ من اللبن. قيل: مشتقٌّ مِنْ هذا لمشابَهَتِه إياه في اللون، ويقال: زَبَدْتُه زَبْداً، أي: أعطيته مالاً، يُضرب به المثلُ في الكثرةِ، وفي الحديث:» غُفِرَتْ له ذنوبُه وإن كانت مِثْلَ زَبَد البحر «. قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} هذا الجارُّ [خبر مقدَّمٌ، ومبتدَؤه» زَبَدٌ «] . و» مثلُه «صفةُ المبتدأ، والتقدير: ومن الجواهرِ التي هي كالنحاس والذهب

والفضة زَبَدٌ، أي: خَبَثٌ مثلُه، أي: مثلُ زَبَدِ الماء، ووجهُ المماثلةِ: أنَّ كلاًّ منهما ناشئٌ مِن الأَكْدار. وقَرَأَ الأخَوانِ وحفصٌ» يُوقِدُوْن «بالياء من تحت، أي: الناسُ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ على الخطاب. و» عليه «متعلقٌ ب» يُوْقِدون «. وأمَّا» في النار «ففيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ ب يوقِدون، وهو قول الفارسيِّ والحوفيِّ وأبي البقاء. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: كائناً أو ثابتاً، قاله مكي وغيره. ومنعوا تعلُّقه ب» يُوقِدُون «لأنهم زعموا أنه لا يُوْقَد على شيء إلا وهو في النار، وتعليقُ حرفِ الجر ب» يُوْقِدون «يقتضي تخصيصَ حالٍ من حالٍ أخرى. وهذا غيرُ لازمٍ. قال أبو علي:» قد يُوْقَد على الشيء وإن لم يكنْ في النارِ، كقولِه تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين} [القصص: 38] والطِّين لم يكن فيها، وإنما يُصيبُه لَهَبُها، وأيضاً فقد يكونُ ذلك على سبيلِ التوكيدِ كقوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] . قوله: «ابتغاءَ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ مِنْ اجله. والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، أي: مُبْتَغِين حِلْية، و «حِلْيةٍ» مفعولٌ معنىً. «أو متاعٍ» نَسَقٌ على «حِلْيةٍ» ، فالحلْيَةُ ما يُتَزَيَّن به، والمَتَاع: مَا يَقْضُون به

حوائِجَهم كالمَساحي من الحديد ونحوِها. و «مِنْ» في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ لابتداءِ الغاية، أي: ومنه ينشأ زَبَدٌ مثلُ زَبَدِ الماء. والثاني: أنها للتبعيضَ، بمعنى: وبَعْضُه زَبَدٌ. قوله: «جُفاءً» حال. والجُفَاءُ: قال ابن الأنباري: «المتفرِّقُ» . يقال: جَفَأَتِ الريحُ السحابَ، أي: قَطَعَتْه وفَرَّقته. وقيل: الجُفاء: ما يَرْمِي به السَّيْلُ. يُقال: جَفَأَتِ القِدْرُ بزَبَدِها تَجْفَأُ، وجَفَأَ السَّيْلُ بزَبَدِه وأَجْفَأَ وأَجْفَلَ، وباللامِ قرأ رُؤبة بن العجاج. قال أبو حاتم: «لا يُقرأ بقراءةِ رؤبة، لأنه كان يأكلُ الفارَ» يعني أنه أعرابيٌّ جافٍ. قلت: قد تقدَّم ثناءُ الزمخشري عيله أولَ البقرة، وذِكْرُ فصاحتِه. وقد وجَّهوا قراءَتَه بأنها مِنْ أَجْفَلَتِ الريحُ الغنمَ، أي: فَرَّقَتْه قِطَعاً فهي في المعنى كقراءةِ العامَّة بالهمزة. وفي همزة «جُفاء» وجهان، أظهرهُما: أنها أصلٌ لثبوتِها في تصاريف هذه المادةِ كما رأيتَ. والثاني: بدلٌ من واو، وكأنه مختارُ أبي البقاء وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مادة جفا يَجْفو لا يليق معناها هنا، والأصلُ عدمُ الاشتراكِ. قوله: «كذلك يَضْرِب» / الكافُ في محلِّ نصبٍ، أي: مثلَ ذلك الضَّرْبِ يَضْرِب.

18

قوله تعالى: {لِلَّذِينَ استجابوا} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «يَضْرِب» وبه بدأ الزمخشريُّ. قال: «أي: كذلك يضرب الأمثالَ للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يَسْتَجيبوا» .

والحُسْنى صفةٌ لمصدرِ «استجابوا» ، اي: استجابوا الاستجابةَ الحُسْنى. وقوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض} كلامٌ مبتدأٌ في ذِكْر ما أعَدَّ لغيرِ المستجيبين «. قال الشيخ:» والتفسيرُ الأولُ أَوْلى «يعني به أنَّ» للذين «خبرٌ مقدَّم، و» الحُسْنى «مبتدأ مؤخر كما سيأتي إيضاحُه. قال:» لأن فيه ضَرْبَ الأمثالِ غيرُ مقيَّدٍ بمثل هذين، واللهُ تعالى قد ضَرَبَ أمثالاً كثيرةً في هذين وفي غيرِهما، ولأنَّ فيه ذِكْرَ ثواب المستجيبين، بخلاف قولِ الزمخشريِّ، فكما ذَكَر ما لغير المستجيبين من العقابِ ذَكَر ما للمستجيبين من الثَّواب، ولأنَّ تقديرَه بالاستجابة الحُسْنَى مُشْعِرٌ بتقييدِ الاستجابة، ومقابلُها ليس نفيَ الاستجابةِ مطلقاً، إنما مقابلُها نفيُ الاستجابةِ الحسنى، واللهُ تعالى قد نفى الاستجابةِ مطلقاً، ولأنَّه على قولِه يكون قولُه {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض} مُفْلَتاً أو كالمُفْلَتِ؛ إذ يصير المعنى: كذلك يَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ للمؤمنين وللكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض، فلو كان التركيبُ بحرفٍ رابطٍ «لو» بما قبلَها زال التفلُّت، وأيضاً فيُوهِمُ الاشتراكَ في الضمير، وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً «. قلت: قوله» لأنَّ فيه ضرْبَ الأمثال غيرُ مقيَّدٍ «ليس في قول الزمخشري ما يقتضي التقييدَ. وقوله:» ولأنَّ فيه ذِكْرُ ثوابِ المستجيبين «إلى آخره، ما ذكره الزمخشري ايضاً يُؤْخذ مِنْ فحواه ثوابُهم. وقوله» واللهُ تعالى نفى الاستجابة مطلقاً «ممنوعٌ؛ بل نفى تلك الاستجابةَ الأولى، لا يُقال: فَثَبَتَتْ استجابةٌ غيرُ حسنى؛ لأنَّ هذه الصفةَ لا مفهومَ لها؛ إذ الواقعُ أنَّ الاستجابةَ

لله لا تكون إلا حُسْنى. وقوله:» يصيرُ مُفْلَتاً «كيف يكون مُفْلَتاً مع قول الزمخشري: [كلامٌ] مبتدأٌ في ذِكْر ما أعدَّ لهم؟ وقوله:» وأيضاً فيوهِمُ الاشتراك «كيف يُتَوَهَّمُ هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله» وإنْ كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً «فإذا عُلِم كيف يُتوَهَّم؟ والوجه الثاني: أن يكونَ» للذين «خبراً مقدَّماً، والمبتدأ» الحُسْنَى «، و {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} مبتدأٌ، وخبرُه الجملةُ الامتناعيةُ بعده. ويجوز على الوجه الأول أن يكون {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} مبتدأً، وخبره الجملةُ الامتناعية بعده، وإنما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا، لانتفاعِهم دونَ غيرِهم.

19

قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ} كقولِه: «أَفَلَمْ» وقد تقدَّم تقريرُ القولين فيه، ومذهب الزمخشري فيه بُعْدٌ هنا.

20

قوله تعالى: {الذين يُوفُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لأولِي أو بدلاً منه أو بياناً له، أو مرفوعاً على إضمار مبتدأ، أو منصوباً على إضمار فِعْلٍ، كلاهما على المدح، أو هو مرفوعٌ بالابتداء، وما بعده عطفٌ عليه. و {أولئك لَهُمْ عقبى الدار} خبره.

22

قوله تعالى: {ابتغاء وَجْهِ} يجوز أن يكونَ مفعولاً له وهو الظاهرُ، وأن يكونَ حالاً، أي: مُبْتَغِين، والمصدرُ مضافٌ لمفعوله. قوله: {عقبى الدار} يجوز أن يكونَ مبتدأً، خبرُه الجارُّ قبله، والجملةُ خبرُ «أولئك» ، ويجوز أنْ يكونَ «لهم» خبرَ «أولئك» و «عُقْبى» فاعلٌ بالاستقرار.

23

قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} : يجوز أن يكون بدلاً مِنْ «عقبى» ، وأن يكونَ بياناً، وأن يكونَ خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون مبتدأً خبرُه «يَدْخُلونها» وقرأ النخعيُّ «جنةُ» بالإِفراد. وتقدَّم الخلافُ في «يَدْخُلونها» . والجملةُ مِنْ «يَدْخُلونها» تحتمل الاستئنافَ او الحاليةَ المقدرةَ. قوله: {وَمَنْ صَلَحَ} يجوز أن يكونَ مرفوعاً عطفاً على الواو، وأغنى الفصلُ بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل، وأن يكونَ منصوباً على المفعولِ معه، وهو مرجوحٌ. وقرأ ابن أبي عبلة «صَلُحَ» بضم اللام، وهي لغةٌ مَرْجوحة. قوله: {مِنْ آبَائِهِمْ} في محلِّ الحال مِنْ {وَمَنْ صَلَحَ} و «مِنْ» لبيان الجنس. وقرأ عيسى الثقفي «وذُريَّتِهم» بالتوحيد. قوله: «سلامٌ» الجملةُ محكيَّةٌ بقولٍ مضمر، والقولُ المضمرُ حالٌ مِنْ فاعلِ «يَدْخُلون» ، أي: يَدْخُلون قائلين. / قوله: «بما صَبَرتم» متعلِّقٌ بما تعلَّق به «عليكم» ، و «ما» مصدريَّةٌ، أي: بسبب صَبْركم. ولا يتعلَّقُ ب «سلامٌ» لأنه لا يُفْصَل بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر.

قاله أبو البقاء. وقال الزمخشري: «ويجوز أن يتعلَّق ب» سلام «، أي: نُسَلِّم عليكم ونُكْرمكم بصبركم» ، ولمَّا نقله عنه الشيخ لم يَعْترض عليه بشيء. والظاهرُ أنه لا يُعْترَض عليه بما تقدَّم؛ لأنَّ ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري، وفعل، وهذا المصدرُ ليس من ذلك. والباءُ: إمَّا سببيَّةٌ كما تقدَّم، وإمَّا بمعنى بَدَل، أي: بَدَلَ صبركم، أي: بما احتملتم مَشاقَّ الصبر. وقيل: «بما صَبَرْتُم» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هذا الثوابُ الجزيل بما صبرتم. وقرأ الجمهور «فنِعْمَ» بكسرِ النونِ وسكونِ العين، وابن يعمر بالفتحِ والكسر، وقد تقدَّم أنها الأصلُ كقوله: 253 - 8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَعِمَ السَّاعُون في القومِ الشُّطُرْ وابنُ وثاب بالفتح والسكون، وهي تخفيفُ الأصلِ، ولغةُ تميم تسكينُ عينِ فَعِل مطلقاً. والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ، أي: الجنة.

25

قوله تعالى: {والذين يَنقُضُونَ} : مبتدأ، والجملة مِنْ قوله: {أولئك لَهُمُ اللعنة} خبرُه. والكلامُ في اللعنةِ كالكلامِ في {لَهُمْ عقبى الدار} [الرعد: 22] .

26

وقرأ زيدُ بنُ عليّ «ويَقْدُر» بضم العين. قوله «وفَرِحوا» هذا استئنافُ إخبار. وقيل: بل [هو عطفٌ على صلةِ «الذين» ] قبله. وفيه نظرٌ: من حيث الفصلُ بين أبعاضِ الصلةِ بالخبر، وأيضاً فإنَّ هذا ماضٍ وما قبله مستقبلٌ، ولا بد من التوافق في الزمان، إلا أن يُقال: المقصودُ استمرارُهم بذلك، وإنَّ الماضي متى وقع صلةً صَلَحَ للمُضِيِّ والاستقبال. قوله: {وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة} ، أي: في جنب الآخرة. وهذا الجارُّ في موضع الحال تقديرُه: وما الحياةُ القريبةُ كائنةً في جنب الآخرة إلا متاعٌ، ولا يجوز تعلُّقُه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان في الآخرة.

27

والضميرُ في «عليه» عائدٌ على الله تعالى، أي: إلى دينِهِ وشَرْعه. وقيل: على الرسول. وقيل: على القرآن.

28

قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ} يجوز فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكون مبتدأً خبرُه الموصولُ الثاني، وما بينهما اعتراضٌ. [الثاني: أنه بدلٌ] مِنْ «مَنْ أناب» . الثالث: أنه عطفُ بيانٍ له. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. أنه منصوبٌ بإضمارِ فعل. قوله: {بِذِكْرِ الله} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «تطمئنُّ» فتكون الباءُ سببيةً، أي:

بسبب ذِكْرِ الله. وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ مفعولاً به، أي: الطمأنينةُ تَحْصُل بذكْر الله، الثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ» قلوبُهم «أي: تطمئنُّ وفيها ذِكْرُ اللهِ» .

29

قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ} : فيه أوجه: أن يكونَ بدلاً من «القلوبُ» على حَذْفِ مضاف، أي: قلوب الذين آمنوا، وأن يكونَ بدلاً مِن «مَنْ أناب» ، وهذا على قولِ مَنْ لم يجعلِ الموصولَ الأول بدلاً مِن «مَنْ أناب» ، وإلا كان يَتَوالَى بدلان. وأن يكونَ مبتدأً، و «طُوْبَى لهم» جملةٌ خبرية، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر. وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ. والجملةُ مِنْ «طُوبَى لهم» على هذين الوجهين حالٌ مقدَّرة، العاملُ فيها «آمَنُوا وعَمِلوا» . وواوُ «طُوبَى» منقلبةٌ عن ياءٍ لأنها من الطِّيب، وإنما قُلِبَتْ لأجلِ الضمة قبلها كمُوسِر ومُوْقِن من اليُسْر واليقين. واختلفوا فيها: فقيل: هي اسمٌ مفردٌ مصدر كبُشْرى ورُجْعى، مِنْ طاب يطيب. وقيل: بل هي جمعُ «طَيِّبة» كما قالوا: كُوْسَى في جمع كَيِّسَة، وضُوْقَى في جمع ضَيِّقة. ويجوز أن يقال: «طِيْبى» بكسر الفاء وكذلك الكِيْسَى والضِيقَى. وهل هي اسمٌ لشجرةٍ بعينِها أو اسمٌ للجنة بلغةِ الهند أو الحبشة؟ خلافٌ مشهور. وجاز الابتداءُ ب «طُوبَى» : إمَّا لأنها عَلَمٌ لشيءٍ بعينه، وإمَّا لأنها نكرةٌ في معنى الدعاء كسَلام عليك ووَيْل له، كذا قال سيبويه. وقال ابن مالك: «إنه

يُلزم رَفْعُها بالابتداء، ولا تدخُلُ عليها نواسِخُه» . وهذا يَرُدُّ عليه: أنَّ بعضَهم جعلها في الآيةِ منصوبةً بإضمارِ فِعْلٍ، أي: وجَعَلَ لهم طُوْبَى، وقد يَتَأَيَّد ذلك بقراءةِ عيسى الثقفي «وحُسْنَ مآب» بنصب النون. قال: «إنه معطوفٌ على» طُوْبَى «، وإنها في موضع نَصْبٍ» . قال ثعلب: «وطُوْبَى على هذا مصدرٌ كما قالوا: سُقْياً» . وخَرَّج هذه القراءةَ صاحبُ «اللوامح» على النداء ك {ياأسفى} [يوسف: 84] على الفَوْت، يعني أنَّ «طُوْبَى» تضاف للضمير، واللام/ مقحمةٌ، كقوله: 284 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يا بُؤْسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ و [قوله] : 285 - 5- يا بُوسَ للحَرْبِ التي ... وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا ولذلك سقط التنوينُ مِنْ «بؤس» كأنه قيل: يا طِيْباهم، أي: ما أَطيبَهم وأحسنَ مآبَهم. قال الزمخشري: «ومعنى طُوْبَى لك: أَصَبْتَ خيراً وطِيباً، ومحلُّها النصبُ أو الرفع كقولك: طِيباً لك وطِيبٌ لك، وسلاماً لك، وسلامٌ لك، والقراءةُ في قوله:» وحُسن مآب «بالنصب والرفع تدلُّك على مَحَلَّيْها، واللامُ في» لهم «للبيان، مثلها في» سَقْياً لك «. فهذا يدلُّ على أنها تتصرَّفُ ولا تلزم الرفعَ بالابتداء.

وقرأ مَكْوَزَةُ الأعرابي» طِيْبَى «بكسرِ الطاء لِتَسْلَمَ الياءُ نحو: بِيْض ومَعِيْشة. وقُرِئ» وحُسْنَ مآبٌ «بفتح النون ورفع» مآب «على أنه فعلٌ ماضٍ، أصلُه» حَسُن «فَنُقِلَت ضمةُ العينِ إلى الفاءِ قَصْداً للمدح، كقولهم: 285 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . حُسْنَ ذا أَدَبا و» مَآبٌُ «فاعلُه.

30

قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} : الكافُ في محلِّ نصبٍ كنظائرها. قال الزمخشري: «مثلَ ذلك الإِرسالِ أَرْسلناك، يعني: ارسلناك إرسالاً له شأن» . وقيل: الكافُ متعلِّقةٌ بالمعنى الذي في قوله {إِنَّ

الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي} [الرعد: 27] ، أي: «كما أنفذ اللهُ هذا كذلك ارسلناك» . وقال ابن عطية: «الذي يظهر لي أن المعنى: كما أَجْرَيْنا العادةَ بأنَّ الله يُضِلُّ ويَهْدِيْ لا الآياتِ المقترحةَ، فكذلك أيضاً فَعَلنا في هذه الأمَّةِ: أرسَلْناك إليها بوحيٍ لا بآيات مقترحة» . وقال أبو البقاء: «كذلك» [التقديرُ:] الأمر كذلك فجعلها في موضعِ رفعٍ. وقال الحوفي: «الكافُ للتشبيه في موضع نصب، أي: كفِعْلِنا الهدايةَ والإِضلال» . والإِشارةُ ب «ذلك» إلى ما وَصَفَ به نفسَه مِنْ أنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يشاء ويَهْدِي مَنِ يشاء. قوله: {قَدْ خَلَتْ} جملةٌ [في محلِّ جرٍّ صفةً] . و «للتلُوَ» متعلِّقٌ ب «أَرْسَلْناك» . قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً وأن تكونَ حاليةً، والضميرُ في «وهم» عائدٌ على «أمة» من حيث المعنى، ولو عاد على لفظِها لكان التركيبُ «وهي تكفر» . وقيل: الضميرُ عائدٌ على «أمَّة» وعلى «أُمَم» . وقيل: على الذين قالوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ} [الرعد: 27] .

31

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} : جوابُها محذوفٌ، أي: لكان هذا القرآنُ، لأنه في غاية ما يكونُ من الصحة. وقيل: تقديرُه:

لما آمنوا. ونُقِل عن الفراء أنَّ جوابَ «لو» هي الجملة مِنْ قولِه {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} ففي الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، وما بينهما اعتراضٌ. وهذا في الحقيقة دالٌّ على الجوابِ. وإنما حُذِفَت التاءُ في قوله «وكُلِّم به المَوْتى» وثَبَتَتْ في الفعلَيْن قبله لأنه من باب التغليب؛ لأنَّ «المَوْتى» يشمل المذكرَ والمؤنث. قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين} أصلُ اليَأْسِ: قَطْعُ الطمعِ عن الشيء والقُنوطُ فيه. واختلف الناسُ فيه ههنا: فقال بعضهم: هو هنا على بابه، والمعنى: أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمانِ الكفَّار من قريش، وذلك أنَّهم لَمَّا سألوا هذه الآياتِ طَمِعوا في إيمانِهم وطلبوا نزولَ هذه الايات ليؤمِنَ الكفار، وعَلِمَ اللهُ أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم، قاله الكسائي. وقال الفراء: «أَوْقَعَ الله للمؤمنين أنْ لو يشاء اللهُ لهدى الناسَ جميعاً فقال: أفلم يَيْئسوا عِلْماً، يقول: أَيْئَسهم العِلْم مضمراً، كما تقول في الكلام: يَئِست منك أن لا تفلح، كأنه قال: عَلِمه علماً» ، قال: فيَئِسَتْ بمعنى عَلِمَت، وإنْ لم يكنْ قد سمع، فإنه يتوجَّه إلى ذلك بالتأويل «. وقال ابن عطية:» ويحتمل أن يكونَ «اليأسُ» في هذه الآية على بابه، وذلك: أنه لمَّا أبْعَدَ إيمانَهم في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} على التأويلين في المحذوفِ المقدَّر قال في هذه: أفلم يَيْئَسِ المؤمنون من إيمانِ هؤلاءِ عِلْماً منهم أن لو يشاء اللهُ لهدَى الناسَ جميعاً «.

وقال الزمخشري:» ويجوز أن يتعلَّقَ {أَن لَّوْ يَشَآءُ} بآمَنوا على: أولم يَقْنَطْ عن إيمانِ هؤلاءِ الكَفَرَةِ الذين آمنوا بأن لو يشاءُ اللهُ لهدى الناسَ جميعاً ولهداهم «وهذا قد سبقه إليه أبو العباس. وقال الشيخ:» ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ آخرُ غيرُ الذي/ ذكروه: وهو أنَّ الكلامَ تامٌّ عند قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} وهو تقريرٌ، أي: قد يَئِس المؤمنون من إيمان المعاندين، و {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، أي: وأُقْسِمُ لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدلُّ على هذا القَسَمِ وجودُ «أنْ» مع «لو» ، كقولِ الشاعر: 285 - 7- أَمَا واللهِ انْ لو كنتَ حُرَّاً ... وما بالحُرِّ أنت ولا القَمينِ وقول الآخر: 285 - 8- فأُقسمُ أنْ لَوِ التقينا وأنتُمُ ... لكان لكم يومٌ من الشرِّ مظلِمُ وقد ذكر سيبويه أنَّ «أنْ» تأتي بعد القَسَم، وجعلها ابنُ عصفور رابطةً للقَسَم بالجملة المُقْسَمِ عليها.

وقال بعضُهم: «بل هو هنا بمعنى عَلِمَ وتَبَيَّن. قال القاسم بن معن وهو من ثقاتِ الكوفيين:» هي لغة هوازن «. وقال ابن الكلبي: «هي لغةُ حيّ من النَّخَع، ومنه قولُ رباح بن عدي: 285 - 9- ألم يَيْئَسِ الأقوامُ أني أنا ابنُهُ ... وإن كنتُ عن أرضِ العشيرةِ نائيا وقول سحيم: 286 - 0- أقولُ لهم بالشَّعْبِ إذ يَأْسِرُونني ... ألم تَيْئَسُوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ وقول الآخر: 286 - 1- حتى إذا يَئِسَ الرُّماةُ وأَرْسَلوا ... غُضْفاً دواجنَ قافِلاً أعْصامُها وردَّ الفراء هذا وقال:» لم أَسْمَعْ يَئِسْتُ بمعنى عَلِمْتُ «. ورُدَّ عليه: بأنَّ مَنْ حَفِظ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عليّ وابن عباس وعكرمة وابن أبي مُلَيْكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه

زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المديني وعبد الله بن يزيد وعلي ابن بَذِيمة:» أو لم يتبيَّنْ «، مِنْ تبيَّنْتُ كذا إذا عَرَفْتَه. وقد افترى مَنْ قال:» إنما كتبه الكاتب وهو ناعِسٌ، وكان أصله «أفلم يتبيَّن» فَسَوَّى هذه الحروفَ فَتُوُهِّمَ أنها سين «. قال الزمخشري:» وهذا ونحوُه ممَّا لا يُصَدَّقُ في كتاب [كتاب الله الذي لا يأتيه] الباطلُ مِنْ [بينِ] يديه ولا مِنْ خلفِه، وكيف يَخْفَى هذا حتى يَبْقى بين دَفَتَيْ الإِمام، وكان متقلِّباً في أيدي أولئك الأعلامِ المحتاطِيْنَ في دين الله، المهيمنين عليه، لا يَغْفُلون عن جلائِله ودقائقِه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجعُ، والقاعدةُ التي عليها المبنى، هذه واللهِ فِرْيَةٌ، ما فيها مِرْيَةٌ «. وقال الزمخشري أيضاً:» وقيل: إنما اسْتَعْمل اليأسَ بمعنى العِلْم، لأن الآيسَ عن الشيء عالمٌ بأنه لا يكونُ، كما اسْتَعْمل الرجاءَ في معنى الخوف والنسيان والتركِ لتضمُّن ذلك «. ويُحتمل في» أَنْ «قولان، أحدُهما: أنها المخففةُ من الثقيلة فاسمُها ضميرُ الشأنِ، والجملةُ الامتناعيةُ بعدها خبرُها، وقد وقع الفصلُ ب» لو «، و» أنْ «وما في حَيِّزها إن عَلَّقْناها ب» آمنوا «تكونُ في محلِّ نصبٍ أو جَرّ على

الخلاف بين الخليلِ وسيبويه، إذ أصلُها الجرُّ بالحرفِ، أي: آمَنوا بأن لو يشاءُ الله، وإن عَلَّقْناها ب» يَيْئَس «على أنه بمعنى» عَلِمَ «كانت في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ المفعولين. والثاني: أنها رابطةٌ بين القًسَمِ والمُقْسِمِ عليه كما تقدم. قوله: {أَوْ تَحُلُّ} يجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الخطاب [أي:] أو تَحُلُّ أنت يا محمدُ، وأن يكونَ ضميرَ القارعة، وهذا أَبْيَنُ، أي: تُصيبهم قارِعَةٌ، أو تَحُلُّ القارعة. وقرأ ابن جبير ومجاهد» يَحُلُّ «بالياء مِنْ تحتُ، والفاعلُ على ما تقدم: إمَّا ضميرُ القارعة، وإنما ذكَّر الفعلَ لأنها بمعنى العذاب، أو لأن التاءَ للمبالغة، والمرادُ قارِع، وإمَّا ضميرُ الرسول، أتى به غائباً. وقرآ أيضاً» مِنْ ديارهم «وهي واضحة.

33

قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ} : «مَنْ» موصولةٌ، صلتُها «هو قائم» والموصولُ مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه: كمَنْ ليس كذلك مِنْ شركائِهم التي لا تَضُرُّ ولا تنفع. ودلَّ على هذا المحذوفِ قولُه {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} ونحوُه قولُه تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الزمر: 22] تقديره: كَمَنْ قَسا قلبُه، يَدُلُّ عليه {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} وإنما حَسَّن حَذْفَه كونُ الخبرِ مقابلاً للمبتدأ. وقد جاء منفياً كقولِه {أَفَمَن يَخْلُقُ

كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] . قوله: {وَجَعَلُواْ} يجوز أن يكونَ استئنافاً وهو الظاهرُ، جيءَ به للدلالةِ على الخبرِ المحذوفِ كما تقدم تقريرُه. وقال الزمخشري: «ويجوز أَن يُقَدَّر ما يقع خبراً للمبتدأ، ويُعْطَفَ عليه و» جعلُوا «، وتمثيلُه: أفَمَنْ هو بهذه الصفةِ لم يوحِّدوه، / وجعلوا له وهو اللهُ الذي يستحقُّ العبادةَ وحدَه شركاءَ. قال الشيخ:» وفي هذا التوجيهِ إقامةُ الظاهر مُقامَ المضمر في قوله «وجعلوا لله: أي له» ، وفيه حَذْفُ الخبرِ عن المقابل، وأكثرُ ما جاء هذا الخبرُ مقابلاً «. وقيل: الواو للحال والتقدير: اَفَمَنْ هو قائمٌ على نفسٍ موجودٌ، والحالُ أنهم جعلوا له شركاءَ، فَأُقيم الظاهرُ -وهو الله- مُقامَ المضمرِ، تقريراً للإِلهية وتصريحاً بها. وقال ابن عطيَّة:» ويظهر أن القولَ مرتبطٌ بقوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} كأن التقديرَ: أَفَمَنْ له القدرةُ والوحدانيةُ، ويُجْعَلُ له شريكٌ، أَهْلٌ أن ينتقمَ ويعاقِبَ أم لا «. وقيل:» وجعلوا «عطفٌ على» استُهزِئ «بمعنى: ولقدِ استهزَؤُوا وجعلوا. وقال أبو البقاء:» وهو معطوفٌ على «كَسَبَت» ، أي: وبجَعْلِهم لله شركاءَ «.

قوله: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} أم هذه منقطعةٌ مقدَّرةٌ ب» بل «والهمزةِ، والاستفهامُ للتوبيخ: بل أتُنَبِّئونه شركاء لا يعلمهم في الأرض، ونحوُه: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [يونس: 18] ، فجعل الفاعلَ ضميراً عائداً على الله، والعائدُ على» ما «محذوفٌ، تقديرُه: بما لا يعلمُهُ اللهُ، وقد تقدَّم في تلك الآيةِ أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على» ما «وهو جائزٌ هنا أيضاً. قوله: {أَم بِظَاهِرٍ} الظاهرُ أنها منقطعة. و» الظاهر «هنا قيل: الباطلُ. وأنشدوا: 286 - 2- أَعَيَّرْتَنا ألبانَها ولحومَها ... وذلك عارٌ يا بنَ رَيْطَةَ ظاهِرُ أي باطِلٌ، وفَسَّره مجاهدٌ» بكذبٍ «وهو موافقٌ لهذا. وقيل:» أم «متصلةٌ، أي: اتنبئونه بظاهرٍ لا حقيقةَ له. قوله: {وَصُدُّواْ} قرأ الكوفيون» وصُدُّوا «مبنياً للمفعول، وفي غافر {وَصُدَّ عَنِ السبيل} [الآية: 37] كذلك. وباقي السبعة مبنيِّين للفاعل. و» صَدَّ «جاء لازماً ومتعدياً فقراءةُ الكوفةِ من المتعدِّي فقط، وقراءةُ الباقين تتحمل أن يكونَ من المتعدِّي ومفعولُه محذوفٌ، أي: وصَدُّوا غيرَهم أو أنفسَهم، وأن يكونَ مِنَ اللازم، أي: أَعْرَضوا وتَوَلَّوا. وقرأ ابنُ وثاب» وصِدُّوا «و {وصِدَّ عن السبيل} بكسرِ الصاد، وهو

مبنيٌّ للمفعول، اجراه مُجْرى قِيْل وبِيْع، فهو كقراءة {رِدَّت إلينا} ، [وقوله:] 286 - 3- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلَمائِنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدم.

35

قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة} : مبتدأ، وخبرُه محذوفٌ تقديره: فيما قَصَصْنا، أو فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنَّة، وعلى هذا فقولُه {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} تفسيرٌ لذلك المَثَل. وقال أبو البقاء: «فعلى هذا» تَجري «» حالٌ من العائدِ المحذوف في «وُعِد» ، أي: وُعِدَها مُقَدَّراً جَرَيَانُ أنهارها «. ونَقَل عن الفراء أنه جعل الخبر قوله» تجري «. قال:» وهذا خطأٌ عند البصريين «. قال:» لأنَّ المَثَلَ لا تَجْري مِنْ تَحتِه الأنهارُ، وإنما هو من صفاتِ المضافِ إليه، وشُبْهَتُه: انَّ المَثَل هنا بمعنى الصفة فهو كقولِه «صِفَةُ زيدٍ أنه طويلٌ» ، ويجوز أن يكونَ «تجري» مستانَفاً «. قلت: وهذا الذي ذكره ابو البقاء نَقَل نحوَه الزمخشريُّ: ونَقَل غيرُه عن الفراء في الآية تاويلين آخرين، أحدُهما: على حذف لفظةِ» أنَّها «والأصلُ: صفةُ الجنَّة أنها تجري، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ، وكيف

يَحْذِفُ» أنها «من غير دليلٍ. والثاني: أنَّ لفظةَ» مثل «زائدةٌ، والأصل: الجنة تجري مِنْ تحتِها الأنهار، وزيادةُ» مَثَل «كثيرةٌ في لسانِهم. ومنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ} [البقرة: 137] وقد تقدَّم. وقال الزمخشري:» وقال غيرُه: -أي سيبويه - الخبر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} كما تقول: صفةُ زيدٍ أسمرُ «. قال الشيخ:» وهذا أيضاً لا يَصِحُّ أن يكونَ «تَجْري» خبراً عن الصفةِ، ولا «أسمر» خبراً عن الصفة، وإنما يُتَأَوَّل «تجري» على إسقاطِ «أنْ» ورفعِ الفعل، والتقدير: أَنْ تَجْري، أي: جَرَيانُها. وقال الزجَّاج: «مَثَل الجنَّة جَنَّةٌ تجري، على حَذْفِ الموصوفِ تمثيلاً لِما غاب عنَّا بما نشاهده» . ورَدَّ عليه أبو عليٍّ قال: «لا يَصِحُّ ما قال الزجاج، لا على معنى الصفة، ولا على معنى الشَّبَه؛ لأنَّ الجنَّةَ التي قَدَّرها جثةٌ ولا تكونُ الصفة، ولأنَّ الشَّبه عبارةٌ عن المماثلةِ التي بين المتماثلين وهو حَدَثٌ، والجنَّةُ جثَّةٌ فلا تكون المماثلةُ، والجمهورُ على أن المَثَلَ هنا بمعنى الصفة فليس هنا ضَرْبُ مَثَلٍ، فهو كقولِه تعالى: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] وأنكر أبو علي أَنْ تكون بمعنى الصفة، وقال: معناه الشبه.

وقرأ عليٌّ وابن مسعود» أمثال الجنة «، أي: صفاتها. و {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} كقوله» تَجْرِي «في الاستئناف التفسيري أو الخبرية أو الحالية. وقد تقدَّم خلافُ القرَّاءِ فيه في البقرة» .

36

قوله تعالى: [ {ولا أُشْرِكَ} ] : قرأ نافع في روايةٍ عنه برفع {ولا أُشْرِكُ} وهي تحتمل القطع، أي: وأنا لا أُشْرِك، وقيل: هي حالٌ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المنفيَّ ب «لا» كالمُثْبِتِ في عدمِ مباشرة واوِ الحال له.

37

و {حُكْماً} حال/ من مفعولِ «أنزلناه» . والكاف في «كذلك» نصب، أي: وكما يَسَّرنا هؤلاء للفرحِ، وهؤلاء لإِنكار البعضِ كذلك اَنْزَلْناه حُكْماً.

39

وقرأ أبو عمروٍ وابنُ كثيرٍ وعاصمٌ: «ويُثْبتُ» مخففاً مِنْ اَثْبَتَ، والباقون بالتشديد والتضعيف، والهمزةُ للتعدية. ولا يَصِحُّ ان يكونَ التضعيفُ للتكثير، إذ من شرطِه أن يكون متعدياً قبل ذلك. ومفعولُ «يُثْبِتُ» محذوفٌ، أي: ويُثْبِتُ ما يشاء.

40

قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} : جوابٌ للشرط قبله. قال الشيخ: «والذي تقدَّم شرطان؛ لأنَّ المعطوفَ على الشرط شرطٌ: فامَّا كونُه جواباً للشرط الأول فليس بظاهرٍ؛ لأنه لا يترتَّب عليه؛ إذ يصير

المعنى: وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ ما نَعِدُهم من العذاب فإنَّما عليك البلاغُ، وأمَّا كونُه جواباً للشرطِ الثاني وهو {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} فكذلك؛ لأنه يصير التقدير: إنْ ما نَتَوَفَّيَنَّك فإنَّما عليك البلاغُ، ولا يترتَّب جوابُ التبليغِ عليه - على وفاتِه عليه السلام - لأنَّ التكليفَ ينقطعُ عند الوفاة فيُحتاج إلى تأويل: وهو أنْ يُقَدَّرَ لكلِّ شرطٍ ما يناسبُ أَنْ يكون جزاءً مترتباً عليه، والتقدير: وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم فذلك شافيك مِنْ أعدائك، أو: إنْ نَتَوَفَّيَنَّك قبل خَلْقِه لهم فلا لَوْمَ عليك ولا عَتَبَ» .

41

قوله تعالى: {نَنقُصُهَا} : حال: إمَّا مِنْ فاعل «نأتي» أو مِنْ مفعوله. وقرأ «نُنَقِّصُها» بالتضعيف الضحَّاكُ، عدَّاه بالتضعيف. قوله: {لاَ مُعَقِّبَ} جملةٌ حالية، وهي لازمةٌ. والمُعَقِّبُ: الذي يكُرُّ على الشيء، فيُبْطله. قال لبيد. 286 - 4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّه المَظْلومُ

42

قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ} قرأ ابنُ عامرٍ والكوفيون «الكفَّار» جمعَ تكسير، والباقون «الكافر» بالإِفراد، ذهاباً إلى الجنس. وقرأ عبد الله «الكافرون» جمعَ سلامةٍ.

43

قوله تعالى: {وَمَنْ عِندَهُ} : العامَّة [على فتح ميم] «مَنْ» ، وهي موصولةٌ، وفي محلِّها أوجهٌ، أحدُها: أنها مجرورةُ المحلِّ نَسَقاً على لفظ الجلالةِ، أي: بالله وبمَنْ عنده عِلْمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوِه. والثاني: أنها في محلِّ رفعٍ عطفاً على محل [الجلالة، إذ هي] فاعلةٌ، والباءُ زائدةٌ فيها. الثالث: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوف، أي: ومَنْ عنده عِلْم الكتاب أَعْدَلُ وأمضى قولاً. و {عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجوز أن يكونَ الظرفُ صلةً، و «عِلْمُ» فاعلٌ به. واختاره الزمخشري، وتقدَّم تقريرُه، وأن يكونَ مبتدأً وما قبله الخبرُ، والجملةُ صلةٌ ل «مَنْ» . والمراد بمَنْ عنده عِلْمُ الكتاب: إمَّا ابنُ سَلام أو جبريلُ أو اللهُ تعالى. قال ابن عطية: «ويُعْتَرض هذا القولُ بأنَّ فيه عطفَ الصفة على الموصوف ولا يجوز، وإنما تُعْطَفُ الصفاتُُ» . واعترض الشيخُ عليه بأنَّ «مَنْ» لا يُوصَفُ بها

ولا بغيرِها من الموصولات إلاَّ ما اسْتُثْني، وبأنَّ عطفَ الصفاتِ بعضِها على بعض لا يجوز إلا بشرطِ الاختلاف. قلت: ابن عطية إنما عَنَى الوصفَ المعنويَّ لا الصناعيَّ، وأمَّا شرطُ الاختلافِ فمعلومٌ. وقرأ عليٌّ وأُبَيٌّ وابنُ عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن ابن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد في خَلْق كثير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} جعلوا «مِنْ» حرفَ جرّ، و «عندِه» مجرورٌ بها، وهذا الجارُّ هو خبرٌ مقدَّمٌ، و «عِلْم» مبتدأ مؤخر. وقرأ عليٌّ أيضاً والحسن وابن السَّمَيْفع {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجعلون «مِنْ» جارَّةً، و «عُلِمَ» مبنياً للمفعول، و «الكتابُ» رفعٌ به. وقُرئ كذلك إلاَّ انه بتشديد «عُلِّم» . والضمير في «عنده» على هذه القراءاتِ لله تعالى فقط. وقُرئَ أيضاً «وبمَن» بإعادةِ الباءِ الداخلةِ على الجلالة.

إبراهيم

قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} : يجوزُ أَنْ يرتفعَ خبراً ل «ألر» إن قلنا إنها مبتدأٌ، والجملةُ بعده صفةٌ، ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هذا كتابٌ، وأن يرتفعَ بالابتداء، وخبرُه الجملةُ بعده، وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأنها موصوفةٌ تقديراً. تقديره: كتابٌ أيُّ كتابٍ، يعني عظيماً مِنْ بينِ الكتبِ السماوية. قوله: «لِتُخْرِجَ» متعلقٌ ب «أَنْزَلْنا» وقُرِئَ «ليَخْرج الناسُ» بفتح الياء وضمَِّ الراء مِنْ خَرَجَ يَخْرُج، «الناس» رفعاً على الفاعلية. قوله: «بإذنِ» يجوز أن يتعلَّقَ بالإِخراج، أي: بتسهيله وتيسيرِه، ويجوز أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ «تُخْرِجَ» ، أي: مأذوناً لك. قوله: {إلى صِرَاطِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من قوله {إِلَى النور} بإعادةِ العامل، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالجارِّ لأنه من معمولاتِ العاملِ في

المُبْدَلِ منه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه جوابُ سؤالٍ مقدَّر، كأنه قيل: إلى أيِّ نور؟ إلى صراط.

2

قوله تعالى: {الله الذي} : قرأ نافعٌ وابن عامرٍ برفعِ الجلالةِ والباقون - ورواها الأصمعيُّ عن [نافع]- بالجرِّ. فأمَّا الرفعُ فعلى وجهين، أحدُهما: أنه مبتدأٌ، خبرُه الموصولُ بعده، أو محذوفٌ تقديرُه: اللهُ الذي له ما في السماواتِ وما في الأرضِ العزيزُ الحميد، حُذِف لدلالة ما تقدَّم. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمر، أي: هو اللهُ، وذلك على المدح. وأمَّا الجرُّ فعلى البدلِ عند أبي البقاء والحوفي وابنِ عطية، والبيان عند الزمخشري قال: «لأنه جَرَى مَجْرَى الأسماءِ الأعلام لغلبتِه على المعبودِ بحق كالنجم للثريا» . قال الشيخ: «وهذا التعليلُ لا يتمُّ إلا أن يكونَ أصلُه الإِله، ثم فُعِل فيه ما تقدَّم أولَ هذا الموضوع» . وقال الأستاذ ابن عصفور: «ولا تُقََدَّمُ صفةٌ على مَوصوفٍ إلا حيث سُمِع، وهو قليلٌ، وللعربِ فيه وجهان، أحدُهما: أنْ تتقدَّمَ الصفةُ بحالها، وفيه

إعرابان للنحويين، أحدُهما: أن تُعْرَبَ صفةً متقدمةً. والثاني: أن يُجعل/ الموصوفُ بدلاً من صفتِه. الثاني من الأولين: أن تُضيفَ الصفةَ إلى الموصوف. فعلى هذا يجوز أن يُعْرَبَ {العزيز الحميد} صفةً متقدِّمة، ومِنْ مجيء تقديمِ الصفةِ قولُه: 286 - 5- والمُؤْمِنِ العائذاتِ الطيرِ يَمْسَحُها ... رُكْبانُ مكةَ بين الغِيل والسَّنَدِ وقول الآخر: 286 - 6- وبالطويل العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً ... يريد: الطير العائذات، وبالعمر الطويل. قلت: وهذا فيما لم يكنِ الموصوفُ نكرةً، أمَّا إذا كان نكرةً صار لنا عملٌ آخرُ: وهو أن تنتصبَ تلك الصفةُ على الحال. قوله: {وَوَيْلٌ} جاز الابتداءُ به لأنه دعاء ك» سلامٌ عليكم «. و» للكافرين «خبره. و {مِنْ عَذَابٍ} متعلِّقٌ بالويل. ومنعه الشيخ. لأنه يَلْزَمُ

منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه، وقد تقدَّم لك بحثٌ في ذلك: وهو أنَّ ذلك ممنوعٌ حيث يتقدَّر المصدرُ بحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ، ولذلك جَوَّزوا تعلُّقَ {بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] ب» سلام «ولم يَعْترضوا عليه بشيء، وقد تقدَّم ذلك في السورةِ قبلها، ولا فرقَ بين الموضعين. وقال الزمخشريُّ:» فإنْ قلتَ: ما وجهُ اتصالِ قولِه: {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} بالويل؟ قلت: لأنَّ المعنى يُوَلْوِلون من عذاب شديد «. قال الشيخ:» فظاهره يدلُّ على تقدير عاملٍ يتعلَّقُ به {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} . ويجوز أنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للمبتدأ، وفيه سَلامةٌ من الاعتراضِ المتقدم، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالخبر.

3

قوله تعالى: {الذين يَسْتَحِبُّونَ} يجوز أن يكون مبتدأً خبرُه «أولئك» وما بعده، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم الذين، وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ على المدح فيهما، وأن يكون مجروراً على البدلِ أو البيانِ أو النعتِ، قاله الزمخشري وأبو البقاء والحوفيُّ وغيرُهم. وردَّه الشيخ بأنَّ فيه الفَصْلَ بأجنبي وهو قولُه {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال: «ونظيرُه إذا كان صفةً أن تقول:» الدارُ لزيدٍ الحسنةُ القُرَشِيِّ: وهذا لا يجوز، لأنك

فَصَلْتَ بين زيد وصفتِه بأجنبيٍّ منهما وهو صفةُ الدار، وهولا يجوز، والتركيبُ الفصيحُ أن تقول: الدارُ الحسنةُ لزيدٍ القرشيِّ، أو: الدارُ لزيدٍ القرشيِّ الحسنةُ «. و» يَسْتَحِبُّون «: استفعلَ فيه بمعنى أَفْعَل كاستجاب بمعنى أجاب، أو يكونُ على بابه، وضُمِّن معنى الإِيثار، ولذلك تعدَّى ب على. وقرأ الحسن» ويُصِدُّون «مِنْ أَصَدَّ، وأَصَدَّ منقولٌ مِنْ صَدَّ اللازمِ، والمفعولُ محذوفٌ، أي: غيرَهم، أو أنفسَهم. و {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} تقدَّم مثله.

4

قوله تعالى: {إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} : يجوز أن يكونَ حالاً، أي: إلاَّ متكلِّماً بلغةِ قومِهِ. وقرا العامَّةُ «بلسان» بزِنَةِ «كِتاب» ، أي: بلغةِ قومِه. وأبو الجوزاء وأبو السَّمَّال وأبو عمران الجوني: بِلِسْنِ «بكسر اللام وسكون السين. وفيه قولان، أحدُهما: أنهما بمعنى واحدٍ كالرِّيش والرِّياش. والثاني: أن اللسانَ يُطْلَقُ على العضوِ المعروف وعلى اللغةِ، وأمَّا اللِّسْنُ فخاصٌّ باللغة، ذكره ابن عطية وصاحب» اللوامح «. وأبو رجاء وأبو المتوكل والجحدريُّ» بِلُسُن «بضمِّ اللام والسين وهو جمع» لِسان «ككِتاب وكُتُب. وقرئ بسكونِ السين فقط، وهو تخفيفٌ للقراءةِ قبلَه، نحو: رُسُل في رُسُل، وكُتْب في كُتُب. والهاءُ في» قومه «الظاهرُ عَوْدُها على» رسول «المذكور. وعن

الضحاك: أنها تعودُ لمحمد صلَّى الله عليه وسلم، وغَلَّطوه في ذلك؛ إذ يصير المعنى: أنَّ التوراةَ وغيرَها أُنْزِلَتْ بلسان العربِ، ليُبَيِّن لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم التوراة. قوله: {فَيُضِلُّ} استئنافُ إخبارٍ، ولا يجوز نصبُه عطفاً على ما قبله، لأنَّ المعطوفَ كالمعطوف عليه في المعنى، والرسلُ اُرْسِلَتْ للبيانِ لا للإِضلالِ. قال الزجاج: لو قَرِئ بنصبِه على أنًّ اللامَ لامُ العاقبة جاز» .

5

قوله تعالى: {أَنْ أَخْرِجْ} : يجوز أن تكونَ «أنْ» مصدريةً، أي: بأَنْ أخْرِجْ. والباءُ في «بآياتنا» للحال، وهذه للتعدية. ويجوز أن تكونه مفسرةً للرسالة. وقيل: بل هي زائدةٌ، وهو غلطٌ. قوله: {وَذَكِّرْهُمْ} يجوز أن يكونَ منسوقاً على «أَخْرِجْ» فيكونَ من التفسير، وأن لا يكونَ منسوقاً، فيكونَ مستأنفاً. و «أيام الله» عبارةٌ عن نِعَمه، كقوله: 286 - 7- وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ ... عَصَيْنا المَلْكَ فيها أن نَدِينا أو نَقَمه، كقوله: 286 - 8- وأيامُنا مشهورةٌ في عَدُوِّنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ووجهه: أنَّ العرب تتجوَّزُ فَتُسْنِدُ الحَدَثَ/ إلى الزمان مجازاً، وتُضيفُه إليها كقولهم: نهارٌ صائمٌ، وليل قائمٌ، ومَكْرُ الليلِ.

6

قوله تعالى: {إِذْ أَنجَاكُمْ} : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً ب «نِعْمَةَ» . الثاني: أن يكونَ ب «عليكم» ويوضِّح ذلك ما ذكره الزمخشريُّ فإنه قال: «إذ أنْجاكم ظرفٌ للنعمة بمعنى الإِنعام، أي: إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوزُ أن ينتصِبَ ب» عليكم «؟ قلت: لا يَخْلو: إمَّا أن يكونَ صلةً للنعمة بمعنى الإِنعام، أو غيرَ صلة إذا أردت بالنعمة العَطِيَّة، فإذا كان صلةً لم يعملْ فيه، وإذا كان غيرَ صلةٍ بمعنى: اذكروا نعمةَ الله مستقرةً عليكم عَمِلَ فيه. ويتبيَّن الفرقُ بين الوجهين: أنك إذا قلت: {نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} فإنْ جَعَلْتَه صلةً لم يكن كلاماً حتى تقول: فائضة أو نحوها، وإلاَّ كان كلاماً. والثالث: أنه بدلٌ من» نعمة «، أي: اذكروا وقتَ إنجائِكم وهو مِنْ بدلِ الاشتمال. قوله: {وَيُذَبِّحُونَ} حالٌ أُخرى مِنْ {آلِ فِرْعَوْنَ} . وفي البقرة دون واو لأنه قُصِد به التفسيرُ فالسَّوْم هنا غيرُ السَّوْمِ هناك.

7

قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ} يجوزُ أن يكونَ نِسَقاً على {إِذْ أَنجَاكُمْ} ، وأن يكونَ منصوباً ب «اذكروا» مفعولاً لا ظرفاً. وجَوَّز فيه الزمخشري أن يكون نَسَقاً على «نعمة» فهو مِنْ قولِ موسى، والتقدير: وإذ قال موسى: اذكروا نعمةَ الله واذكروا حين تَأَذَّن. وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في الأعراف. وقرأ ابن محيصن «يَذْبَحون» مخففاً.

9

قوله تعالى: {قَوْمِ نُوحٍ} : بدلٌ أو عطفُ [بيانٍ] . قوله: {والذين مِن بَعْدِهِمْ} يجوز أن يكونَ عطفاً على الموصولِ الأولِ، او على المبدل منه، وأن يكونَ مبتدأً، خبرُه {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} ، و «جاءَتْهُم» خبر آخر. وعلى ما تقدَّم يكون «لا يعلمهم» حالاً من «الذين» ، أو من الضمير في {مِن بَعْدِهِمْ} لوقوعِه صلةً، وهذا عنى أبو البقاء بقوله: «حال من الضمير في {مِن بَعْدِهِمْ} ، ولا يُريد به الضميرَ المجرورَ، لأنَّ مذهبَه مَنْعُ الحالِ من المضاف إليه، وإن كان بعضُهم جَوَّزه في صورٍ. وجَوَّز أيضاً هو الزمخشري أن تكونَ استئنافاً. وقال الزمخشري:» والجملةُ مِنْ قولِه {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} اعتراضٌ. ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاعتراضَ إنما يكون بين جُزْأَيْن أحدهما يطلب الآخر، ولذلك لمَّا أَعْرَبَ الزمخشريُّ «والذين» مبتدأً و «لا يَعْلمهم» خبره، قال: «والجملةُ مِنَ المبتدأ والخبر اعتراضٌ» . واعترضه الشيخُ أيضاً بما تقدَّم. ويمكنُ أن يُجابَ عنه في الموضعين: بأنَّ الزمخشريَّ يمكن أن يعتقدَ أنَّ «جاءَتْهم» حالٌ مما تقدَّم، فيكون الاعتراضُ واقعاً بين الحالِ وصاحبِها، وهذا كلامٌ صحيح. قوله: {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} يجوز أن تكونَ الضمائرُ للكفَّارِ،

أي: فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواههم من الغيظ. و «في» على بابِها من الظرفية، أو فَرَدُّوا أيديَهم على أفواههم ضحكاً واستهزاءً. ف «في» بمعنى على، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولِهم: إنَّا كَفَرْنا، فهي بمعنى إلى. ويجوز أن يكونَ المرفوعُ للكفار والآخران للرسل، على أن يُراد بالأيدي النِّعَم، أي: رَدُّوا نِعَمَ الرُّسُل وهي نصائحُهم في أفواهِ الرسل، لأنهم إذا كَذَّبوها كأنهم رَجَعوا بها من حيث جاءَتْ على سبيل المثل. [ويجوز أن يُراد هذا المعنى، والمرادُ بالأيدي الجوارح] . ويجوز أن يكون الأوَّلان للكفار، والأخيرُ للرسُل، أي: فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواهِ الرسُل، أي: أطبِقُوا أفواهَكم، يشيرون إليهم بالسكوت، أو وَضَعُوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ. وقيل: «في» هنا بمعنى الباء. قال الفراء: «قد وَجَدْنَا من العرب مَنْ يجعل» في «موضعَ الباء. يُقال: أَدْخَلَكَ بالجنَّة، وفي الجنَّة، وأنشَد: 286 - 9- وأرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورَهْطِهِ ... ولكنَّني عن سِنْبِسٍ لستُ أرغبُ أي: أرغب بها. وقال أبو عبيدةَ:» هذا ضَرْبُ مَثَلٍ، تقول العرب: «رَدَّ يَدَه في فيه» ، إذا أمسكَ عن الجوابِ «، وقاله الأخفش أيضاً. وقال

القتيبي:» لم نسمعْ أحداً يقول: «رَدَّ يده في فيه» إذا تَرَكَ ما أُمِرَ به «. ورُدَّ عليه، فإنَّ مَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ يَحْفَظْ. وقرأ طلحة» تَدْعُونَّا «بإدغامِ نونِ الرفع في نون الضميرِ، كما تُدْغَم في نونِ الوقاية.

10

قوله تعالى: {أَفِي الله شَكٌّ} : يجوز في «شَكٌّ» وجهان، أظهرُهما: أنه فاعل بالجارِّ قبله، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام. والثاني: أنه مبتدأٌ وخبره الجارُّ، والأولُ أوْلَى، بل كان ينبغي أن يَتَعَيَّن لأنه يلزمُ مِنَ الثاني الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بأجنبيّ وهو المبتدأ، وهذا بخلاف الأول، فإنَّ الفاصلَ ليسَ أجنبياً؛ إذ هو فاعلٌ، والفاعلُ كالجزء من رافعه. ويدلُّ على ذلك تجويزُهم: «ما رأيت رجلاً أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عين زيد» بنصب «أحسنَ» صفةً ورفع «الكحلُ» فاعلاً بأَفْعَلَ، ولم يَضُرَّ الفصلُ به بين أَفْعَل وبين «مِنْ» لكونه كالجزء مِنْ رافعِه، ولم يُجيزوا رَفْعَ «أحسن» خبراً مقدَّماً و «الكحلُ» مبتدأ مؤخر، لئلا يلزم الفصلُ بين أَفْعَل وبين «مِنْ» بأجنبي. ووجهُ الاستشهادِ من هذه المسألة: أنهم جعلوا المبتدأَ أجنبياً بخلاف الفاعل، ولهذه المسألةِ موضعٌ غيرُ هذا. وقرأ العامَّةُ «فاطرِ» بالجرِّ. وفيه وجهان: النعتُ والبدليةُ، قاله أبو البقاء: وفيه نظر؛ فإنَّ الإِبدالَ بالمشتقاتِ يَقِلُّ، ولو جعله عطفَ بيانٍ كان أسهلَ. قال الزمخشريُّ: «أُدْخِلَتْ همزةُ الإِنكارِ على الظرف، لأنَّ

الكلامَ ليس في الشَّكِّ، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشكَّ لظهورِ الأدلَّةِ وشهادتِها عليه/. وقوله:» لِيَغْفِرَ «اللامُ متعلِّقةٌ بالدعاء، أي: لأجلِ غفران ربِّكم، كقوله: 287 - 0- دَعَوْتُ لِما نابني مِسْور ا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ ويجوز أن تكونَ اللامُ مُعَدِّيةً كقولِك: دَعَوْتُكَ لِزيدٍ، وقوله: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى [الإيمان] } [غافر: 10] . والتقدير: يَدْعُوْكم إلى غفرانِ ذنوبِكم. وقوله: {أَن تَصُدُّونَا} العامَّة على تخفيفِ النون. وقرأ طلحةُ بتشديدها كما شدَّد» تَدْعُونَّا «. وفيها تخريجان، أحدُهما: ما تقدَّم في نظيرتِها على أَنْ تكونَ» أَنْ «هي المخففةَ لا الناصبةَ، واسمُها ضميرُ الشأنِ، وشذَّ عَدَمُ الفصلِ بينها وبين الجملة الفعلية. والثاني: أنها الناصبةُ، ولكنْ أُهْمِلَتْ حملاً على» ما «المصدريَّةِ، كقراءةِ» أَنْ يُتِمُّ «برفع» يُتِمُّ «. وقد تقدَّمَ القولُ فيه. و» مِنْ «في {مِّن ذُنُوبِكُمْ} قيل: مزيدةٌ. وقيل: تبعيضيةٌ. وقيل: بمعنى البدلِ أي: بدلَ عقوبةِ ذنوبكم، كقوله: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] .

قوله:» تُرِيْدون «يجوز أن يكونَ صفةً ثانيةً ل» بَشَرٌ «، وحُمِل على معناه؛ لأنَّ بمنزلةِ القومِ والرَّهْط، كقوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] وأَنْ يكونَ مُسْتَأنفاً.

11

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ} : يجوز أن يكونَ خبرَ «كان» : «لنا» ، و {أَن نَّأْتِيَكُمْ} اسمَها، أي: وما كان لنا إتيانُكم بسلطانٍ. و {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} حالٌ. ويجوز أن يكونَ الخبرُ {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} و «لنا» تبيينٌ.

12

قوله تعالى: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ} : كقوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} [البقرة: 246] وقد تقدَّم و «لَنَصْبِرَنَّ» جوابُ قسمٍ. وقوله: «ما آذَيْتُمونا» يجوز أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً، وهو الأرجحُ لعدم الحاجةِ إلى رابطٍ ادُّعِيَ حَذْفُه على غير قياس والثاني أنها موصولةٌ اسميةٌ، والعائدُ محذوفٌ على التدريج، إذ الأصل: آذيْتُمونا به، ثم حُذِفَت الباءُ، فَوَصَلَ الفعلُ إليه بنفسِه. وقرأ الحسن بكسرِ لامِ الأمرِ في «فَلْيَتَوَكَّلْ» وهو الأصلُ.

13

و {لَنُخْرِجَنَّكُمْ} : جوابُ قسمٍ مقدَّرٍ، كقوله: «ولَنَصْبِرَنَّ» . قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ} في «أوْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها على بابِها مِنْ كونِها لأحدِ الشيئين. والثاني: أنها بمعنى «حتى» . والثالث: أنها بمعنى «إلا» ، كقولهم: «لأَلْزَمَنَّكَ أو تَقْضِيَني حقي» . والقولان الأخيران مَرْدُودان؛ إذ

لا يَصِحُّ تركيبُ «حتى» ولا تركيبُ «إلا» مع قولِه «لَتَعُودُونَّ» بخلافِ المثال المتقدم. والعَوْدُ هنا: يُحتمل أن يكونَ على بابِه، أي: لَتَرْجِعُنَّ. و {فِي مِلَّتِنَا} متعلقٌ به، وأن يكونَ بمعنى الصيرورةِ، فيكونَ الجارُّ في محلِّ نصبٍ خبراً لها، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. [قال:] «فإنْ قلتَ: كأنَّهم على مِلَّتهم حتى يَعُودوا فيها. قلت: مَعاذَ اللهِ، ولكنَّ العَوْدَ بمعنى الصيرورة، وهو كثيرٌ في كلام العرب كثرةً فاشيةً، لا تكاد تسمعهم يستعملون» صار «، ولكن» عاد «: ما عُدْتُ أراه، عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مالٌ، أو خاطبوا به كلَّ رسولٍ ومَنْ آمن به، فَغَلَّبوا في الخطاب الجماعةَ على الواحد» . فقوله «أو خاطبوا» إلى آخره هو الوجهُ الأولُ بالتأويلِ المذكورِ، وهون تأويلٌ حسنٌ. قوله: {لَنُهْلِكَنَّ} جوابُ قسمٍ مضمر، وذلك القسمُ وجوابُه فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه على إضمارِ القول، أي: قال: لَنُهْلِكَنَّ. والثاني: أنه أجرى الإِيحاءَ مُجْرى القول لأه ضَرْبٌ منه. وقرأ أبو حَيْوَةَ «لَيُهْلِكَنَّ» ، و «لَيُسْكِنَنَّكم» بياءِ الغَيْبة مناسَبَةً لقوله «ربُّهم» .

14

قوله تعالى: {ذلك} : مبتدأٌ، وهو مُشارٌ به إلى توريثِ الأرضِ. و «لِمَنْ خاف» الخبر. و «مَقامي» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مُقْحمٌ وهو بعيدٌ؛ إذ الأسماءُ لا تُقْحم. الثاني: أنه مصدرٌ مضافٌ للفاعل.

قال الفراء: «مَقامي: مصدرٌ [مضافٌ] لفاعِله، أي: قيامي عليه بالحِفْظ» . الثالث: أنه اسمُ مكانٍ. قال الزجاج: «مكان وقوفِه بين يَدَي الحسابِ، كقولِه {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] . قوله:» وَعِيْد «أثبت الياءَ هنا وفي (ق) في موضعين: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ} [الآية: 14] {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [الآية: 45] وصلاً وحَذَفَها وَقْفاً ورشٌ عن نافع، وحذفها الباقون وَصْلاً ووقفاً.

15

قوله تعالى: {واستفتحوا} : العامَّةُ على «استفتحوا» فعلاً ماضياً، وفي ضميرِه أقوالٌ، أحدُها: أنه عائدٌ على الرسلِ الكرام، ومعنى الاستفتاحِ: الاستنصارُ: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] . وقيل: طَلَبُ الحكم من الفُتاحة. الثاني: أن يعودَ على الكفَّار، أي: استفتح أُمَمُ الرسلِ عليهم، كقولِه: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] . وقيل: عائدٌ على الفريقين لأنَّ كُلاًّ طلبَ النصرَ على صاحبِه. وقيل: يعودُ على قريشٍ لأنهم في سِنِي الجَدْبِ اسْتَمْطَرُوْا فلم يُمْطِروا، وهو على هذا مستأنفٌ، وأمَّا على غيرِه من الأقوال فهو عطفٌ على قولِه {فأوحى إِلَيْهِمْ} .

وقرأ ابنُ/ عباسٍ ومجاهدٌ وابنُ محيصن «واسْتَفْتِحوا» على لفظِ الأمر، أمراً للرسل بطلبِ النُّصرة، وهي مقوِّيةٌ لعَوْدَهِ في المشهورةِ على الرسل. والتقدير: قال لهم: لنهلكنَّ وقال لهم: اسْتَفْتِحُوا. قوله: «وخابَ» هو في قراءةِ العامَّةِ عطفٌ على محذوفٍ تقديرُه: انتَصروا وظَفِرُوا وخاب. ويجوز أن يكونَ عطفاً على «اسْتَفْتحوا» على انَّ الضميرَ فيه للكفار. وفي غيرها على القولِ المحذوف، وقد تقدَّم أنه يُعْطَفُ الطلبُ على الخبر وبالعكس.

16

و {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} : جملةٌ في محل جَرٍّ صفةً ل «جبارٍ» . ويجوز أَنْ تكونَ الصفةُ وحدَها الجارِّ، و «جهنمُ» فاعلٌ به. وقوله: «ويُسْقََى» صفةٌ معطوفةٌ على الصفةِ قبلَها، جملةٌ فعلية على اسمية. وإنْ جَعَلْتَ الصفةَ من الجارِّ وحدَه، وعَلَّقْته بفعلٍ كان من عطفِ فعليةٍ على فعلية. وقيل: عطفٌ على محذوفٍ، أي: يُلْقَى فيها ويُسْقَى. و «وراء» هنا على بابها. وقيل: بمعنى «أمام» فهو من الأضداد، وهذا عنى الزمخشري بقوله: «منْ بين يديه» وأنشد: 287 - 1- عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتُ فيه ... يكون وراءَه فَرَجٌ قريبُ وهو قولُ أبي عبيدة وقطرب وابن جرير. وقال الآخَرُ في

ذلك: 287 - 2- أيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي ... وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائِيا أي: قُدَّامي. وقال آخر: 287 - 3- أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي ... لُزومُ العَصَا تُحْنى عليها الأَصابعُ وقال ثعلب: «هو اسمٌ لِما توارَى عنك، سواءً كان خلفَكَ أم قدَّامك» . قوله: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} في «صديد» ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه نعتٌ ل «ماء» وفيه تأويلان، أحدهما: أنه على حَذْفِ أداة التشبيه، أي: ماءٍ مثلِ صديد، وعلى هذا فليس الماءُ الذي يَشْرَبونه صَديداً، بل مثلُه. والثاني: أنَّ الصديدَ لَمَّا كان يُشبه الماءَ أُطْلِقَ عليه ماءٌ، وليس هو ماءً حقيقةً، وعلى هذا فيكونون يشربون نفسَ الصديد المُشْبِهِ للماء. وهو قول ابن عطية. وإلى كونِه صفةً ذَهَبَ الحوفيُّ وغيره. وفيه نظرٌ؛ إذ ليس بمشتقٍ، إلا على مَنْ فسَّره بأنه صَدِيدٌ بمعنى مَصْدود، أخذه مِن الصَّدِّ، فكأنه لكراهيِتِه مَصْدودٌ عنه، أي: يَمْتنع عنه كلُّ أحدٍ. الثاني: أنه عطفُ بيانٍ، وإليه ذهب الزمخشريُّ، وليس مذهبَ البصريين جريانُه في النكرات، إنما قال به الكوفيون، وتَبعهم الفارسيُّ أيضاً. الثالث: أن يكونَ بدلاً. وأعرب الفارسيُّ «زَيتونةٍ» مِنْ قولِه: « [بُوْقَدُ] مِنْ

شجرةٍ مباركةٍ زَيْتُونةٍ» عطفَ بيان أيضاً. والصَّديدُ: ماءٌ يسيل مِنْ أجساد أهل النار. وقيل: ما حالَ بين الجلدِ واللحمِ مِنَ القَيْحِ.

17

قوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ} : يجوز أن تكونَ الجملةُ صفةً ل «ماءٍ» ، وان تكونَ حالاً من الضمير في «يُسْقَى» ، وأن تكونَ مستأنفةً. و «تَجَرَّع» تَفَعَّل وفيه احتمالاتٌ، أحدُها: أنه مطاوعٌ لجَرَّعْتُه نحو: عَلَّمْتُه فَتَعَلَّمْ. والثاني: أن يكونَ للتكلُّف نحو: تَحَلَّم، أي، يتكلَّفُ جَرْعَه، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه: الثالث: أنه دالٌّ على المُهْلة نحو: فَهَّمته، أي: يتناوله شيئاً فشيئاً بالجَرْع، كما يَفْهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم. الرابع: أنه بمعنى جَرَع المجرد نحو: «عَدَوْت الشيءَ» و «تَعَدَّيْتُه» . {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} ، أي: لم يقارِبْ إساغَته فكيف بحصولها؟ كقوله: «لَمْ يَكَدْ يَرَاها» وستأتي إن شاء الله. قوله: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} في الضمير وجهان، أظهرُهما: أنه عائدٌ على «كل جبار» . والثاني: أنه عائدٌ على العذابِ المتقدِّمِ.

18

قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ} : فيه أوجه، أحدُها: - وهو مذهبُ سيبويه - أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديرُه: فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الذين كفروا، وتكون الجملة من قوله {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} مستأنفةً جواباً

لسؤال مقدر، كأنه قيل: كيف مَثَلُهم؟ فقيل: كيت وكيت. والمَثَلُ استعارةٌ للصفةِ التي فيها غرابةٌ كقولِكََ، صفةُ زيدٍ، عِرْضُه مَصُونٌ، ومالُه مبذول. الثاني: أن يكونَ «مَثَلَ» مبتدأً، و «أعمالُهم» مبتدأ ثانٍ، و «كرمادٍ» خبرُ الثاني، والثاني وخبره خبرُ الأول. قال ابن عطية: «وهذا عندي أرجحُ الأقوالِ، وكأنك قلت: المتحصِّلُ في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملةُ المذكورةُ» . وإليه نحا الحوفي. قال الشيخ: «وهو لا يجوزُ لأنَّ الجملةَ التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابطَ فيها يربُطها بالمبتدأ، وليست نفسَ المبتدأ فَتَسْتَغْني عن رابطٍ» . قلت: بل الجملةُ نفسُ المبتدأ، فإنَّ نفسَ مَثَلِهم هو نفسُ أعمالِهم كرمادٍ في أنَّ كلاًّ منها لا يفيد شيئاً، ولا يَبْقَى له أثرٌ، فهو نظيرُ قولك / «هَجِّيْرى أبي لا إله إلا اللهُ» . الثالث: أنَّ «مَثَلَ» مزيدةٌ، قاله الكسائيُّ والفراء: أي: الذين كفروا أعمالُهم كرَمادٍ، فالذين مبتدأ «أعمالُهم» مبتدأٌ ثانٍ و «كرمادٍ» خبرُه. وزيادة الأسماءِ ممنوعةٌ. الرابع: أن يكونَ «مَثَلَ» مبتدأً، و «أعمالُهم» بدلٌ منه، على تقدير: مَثَلُ أعمالِهم، و «كرمادٍ» الخبرُ. قاله الزمخشريُّ:، وعلى هذا فهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، على حَذْفِ المضافِ كما تقدَّم. الخامس: أن يكونَ «مَثَل» مبتدأً، و «أعمالُهم» بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ،

و «كرمادٍ» الخبر، كقول الزَّبَّاء: 287 - 4- ما للجِمال مَشْيِها وئيدا ... أجَنْدَلاً يَحْمِلْن أم حديدا والسادس: أن يكونَ «مَثَل» مبتدأً، و «أعمالُهم» خبرَه، أي: مَثَلُ أعمالِهم، فحذف المضاف. و «كرماد» على هذا خبرُ مبتدأ محذوفٍ، وقال أبو البقاء حين ذكر وجهَ البدل: «ولو كان القرآن لجاز إبدالُ» أعمالهم «من» الذين «وهو بدلُ اشتمال» ، يعني أنه كان يُقْرَأُ «أعمالِهم» مجرورةً، لكنه لم يُقرأْ به. و «الرمادُ» معروفٌ «وهو ما سَحَقَتْه النارُ من الأَجْرام، وجمعُه في الكثرة على رُمُد، وفي القلَّة على أرْمِدَة كجَماد وجُمُد وأَجْمِدَة، وجمعُه على» أَرْمِدَاء «شاذٌّ. والرِّماد: السَّنَةُ أيضاً، السَّنةُ: المَحْل، أَرْمَدَ الماءُ، أي: صار بلون الرماد، والأَرْمَدُ: ما كان على لونِ الرَّماد. وقيل للبعوض» رُمْد «لذلك، ويقال: رَمادٌ رِمْدِدٌ، صار هباءً. قوله: {اشتدت بِهِ الريح} في محلِّ جرٍّ صفةً لرماد، و» في يوم «متعلِّقٌ ب» اشْتَدَّت «. قوله: «عاصفٍ» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه على تقدير: عاصفٍ ريحُه، أو عاصفِ الريح، ثم حُذِفَ «الريح» وجُعلت الصفةُ لليوم مجازاً كقولهم: «يومٌ ماطر» و «ليلُ نائم» . قال الهرويُّ: «فَحُذِفَتْ لتقدُّم ذِكْرِهَا، كما قال: 287 - 5-

إذا جاء يومٌ مظلِمُ الشمسِ كاسفُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: كاسِفُ الشمسِ. الثاني: أنه على النَّسَبِ، أي: ذي عُصُوفٍ كلابِن وتامِر. الثالث: أنه خُفِض على الجِوار، أي: كان الأصلُ أن يَتْبع العاصفُ الريحَ في الإِعراب فيُقال: اشتدَّتْ به الريحُ العاصفُ في يوم، فلمَّا وقع بعد اليوم أُعْرِبَ بإعرابه، كقولهم:» جُحرُ ضَبّ خَربٍ «. وفي جَعْلِ هذا من باب الخفضِ على الجوارِ نظرٌ، لأنَّ مِنْ شرطِه: أن يكون بحيث لو جُعِل صفةُ لِما قُطع عن إعرابه لَصَحَّ كالمثال المذكورِ، وهنا لو جَعَلْتَه صفةً للريح لم يَصِحَّ لتخالفِهما تعريفا وتنكيراً في هذا التركيبِ الخاصِّ. وقرأ الحسن وابنُ أبي إسحاق بإضافة» يوم «ل» عاصِفٍ «. وهي على حَذْفِ الموصوفِ، أي: في يومِ ريحٍ عاصِف، فَحُذِفَ لفَهْم المعنى الدالِّ على ذلك. ويجوز أن يكونَ من بابِ إضافةِ الموصوف إلى صفته عند مَنْ يَرَى ذلك نحو: بَقْلَةُ الحَمْقَاء. ويقال: ريحٌ عاصِفٌ ومُعْصِفٌ، وأصلُه من العَصْفِ، وهو ما يُكْسَرُ مِن الزِّرْع فقيل ذلك للريحِ الشديدة لأنها تَعْصِفُ، أي: تكسِرُ ما تَمُرُّ عليه. قوله: {لاَّ يَقْدِرُونَ} مستأنفٌ، ويَضْعُفُ أن يكونَ صفةً ليوم على حَذْفِ العائد، أي: لا يَقْدِرُون فيه، و» مِمَّا كَسَبُوا «متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنَّه حالٌ من» شيء «إذ لو تأخَّر لكانَ صفةً. والتقديرُ: على شيءٍ مِمَّا كسبوا.

19

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} : قرأ أبو عبد الرحمن بسكونِ

الراء وفيه وجهان، أحدُهما: أنه أَجْرَى الوصلَ مُجْرى الوقف. والثاني: أنَّ العربَ حَذَفَتْ لامَ الكلمة عند عدمِ الجازمِ فقالوا: «ولو تَرَ ما الصبيانُ» فلما دخل الجازمُ تخيَّلوا أن الراءَ محلُّ الجزم، ونظيرُه: لم أُبَلْ فإنَّ أصلَه أبالي، ثم حذفوا لامَه رفعاً فلمَّا جزموه لم يَعْتَدُّوا بلامِه، وتوهَّموا الجزم في اللام. والرؤية هنا قلبيةٌ ف «أنَّ» في محلِّ المفعولَيْن أو أحدهما على الخلاف. وقرأ الأخَوان هنا {خالقَ السماوات والأرض} «خالق» اسمُ فاعلٍ مضافاً لِما بعده، فلذلك خفضوا ما عُطِفَ عليه وهو الأرض. وفي النور: {خَالقُ كُلِّ دَآبَّةٍ} [الآية: 45] اسمُ فاعل مضافاً لما بعده. والباقون «خَلَقَ» فعلاً ماضياً، ولذلك نصبوا «الأرضَ» و {كُلِّ دَآبَّةٍ} ، فكسرُه «السماواتِ» في قراءة الأخوين خفضٌ، وفي قراءةِ غيرِهما نصبٌ. / ولو قيل بأنه في قراءة الأخوين يجوزُ نَصْبُ «الأرضَّ» على أحدِ وجهين: إمَّا على المحلِّ، وإمَّا على حَذْفِ التنوين لالتقاء الساكنين، فتكون «السماواتِ» منصوبةً لفظاً وموضعاً، لم يمتنعْ، ولكن لم يُقْرأْ به. و «بالحقِّ: متعلِّقٌ ب» خلق «على أن الباءَ سببيةٌ، وبمحذوفٍ على أنها حاليةٌ: إمّا من الفاعلِ، أي: مُحِقَّاً، وإمَّا من المفعول، أي: ملتبسةً بالحق.

21

قوله تعالى: {تَبَعًا} : يجوز أن يكونَ جمع «تابِع» كخادِم وخَدَم وغائِب وغَيَب، ويجوزُ أن يكونَ مصدراً نحو: قومٌ عَدْلٌ، ففيه ثلاثةُ التأويلاتِ المشهورةِ. قوله: {مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ} في «مِنْ» أوجهٌ: أحدُها: أنَّ:

مِنْ «الأولى للتبيين، والثانيةَ للتبعيض، تقديرُه: مُغْنون عنا بعضَ الشيءِِ الذي هو عذابُ الله، قاله الزمخشري. قال الشيخ:» هذا يقتضي التقديمَ في قوله «مِن شَيْءٍ» على قوله {مِنْ عَذَابِ الله} ؛ لأنه جَعَلَ {مِن شَيْءٍ} هو المُبَيِّنَ بقولِهِ من عذاب، و «مِنْ» التبيينيةُ مقدَّمٌ عليها ما تُبَيِّنه ولا يتأخَّر «. قلتُ: كلامُ الزمخشري صحيحٌ من حيث المعنى، فإنَّ {مِنْ عَذَابِ الله} لو تأخَّر عن» شيء «كان صفةً له ومُبَيِّناً، فلمَّا تقدَّم انقلب إعرابُه من الصفة إلى الحال، وأمَّا معناه وهو البيانُ فباقٍ لم يتغيَّرْ. الثاني: أن تكونا للتبعيضِ معاً بمعنى: هل أنتم مُغْنُوْن عنا بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذابِ الله؟ أي: بعض عذاب الله، قاله الزمخشري. قال الشيخ:» وهذا يقتضي أن يكونَ بدلاً، فيكونَ بدلَ عامٍّ مِنْ خاص، وهذا لا يُقال؛ فإنَّ بَعْضِيَّةِ الشيء مطلقةٌ، فلا يكون لها بعضٌ «. قلت: لا نزاعَ أنه يقالُ: بعضُ البعض، وهي عبارةٌ متداولةٌ، وذلك البعضُ المُتَبَعِّضُ هو كلُّ لأبعاضِه بعضٌ لكلِّه، وهذا كالجنسِ المتوسط هو نوعٌ لِما فوقَه، جنسٌ لِما تحته. الثالث: أنَّ» مِنْ «في {مِن شَيْءٍ} مزيدةٌ، و» مِنْ «في {مِنْ عَذَابِ} فيها وجهان، أحدُهما: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها في الأصل صفةٌ لشيء، فلمَّا تقدَّمَتْ نُصِبت على الحال. والثاني: أنها تتعلَّق بنفس» مُغْنُوْنَ «على أن يكون» من شيء «واقعاً موقعَ المصدر، أي: غِنى. ويوضح هذا ما قاله

أبو البقاء، قال:» ومِنْ زائدةٌ، أي: شيئاً كائناً من عذاب الله، ويكون محمولاً على المعنى تقديره: هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكونَ «شيء» واقعاً موقعَ المصدر، أي: غِنَى، فيكون {مِنْ عَذَابِ الله} متعلقاً ب «مُغْنُوْن» . وقال الحوفيُّ أيضاً: {ومِنْ عَذَابِ الله} متعلٌ ب «مُغْنُون» ، و «مِنْ» في {مِن شَيْءٍ} لاستغراقِ الجنسِ زائدةٌ للتوكيد «. قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ} إلى آخرِه، فيه قولان، أحدُهما: أنه مِنْ كلام المستكبرين. والثاني: أنه من كلام المستكبرين والضعفاءِ معاً. وجاءَتْ كلٌّ جملةٍ مستقلةٍ من غيرِ عاطف دلالةً على أنَّ كلاًّ من المعاني مستقلٌّ بنفسه كافٍ في الإِخبار. وقد تقدَّم الكلامُ في التسويةِ والهمزةِ بعده في أول البقرة. والجَزَعُ: عدمُ احتمالِ الشِّدَّةِ. قال امرؤ القيس: 287 - 6- جَزِعْتُ ولم أَجْزَعْ من البَيْنِ مَجْزِعاً ... وعَزَّيْتَ قلباً بالكواعب مُولَعا وقال الراغب:» أصلُ الجَزَعِ: قَطْعُ الحَبْل مِنْ نصفه يقال: جَزَعْتُه فانْجَزَعْ، ولتصَوُّرِ الانقطاع فيه قيل: جَزْعُ الوادي لمُنْقَطَعِه، ولانقطاعِ اللونِ بتغيُّره. قيل للخرزِ المتلوِّن: جَزْعٌ، واللحمُ المُجَزَّع ما كان ذا لونين، والبُسْرَة المُجَزَّعَة أن يَبْلغَ الإِرطابُ نصفَها، والجازِع خشبةٌ تُجعل في وسط البيت تلْقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين، وكأنه سُمِّي بذلك تَصَوُّراً لجَزَعِهِ لِما حُمِل عليه من العِبْء أو لقطعِه وسطَ البيت «والجَزَعُ أخصُّ من الحزن، فإنَّ الجَزَعَ حُزْنٌ يَصْرِف الإِنسان عمَّا هو بصددِه.

والمَحيصُ: يكون مصدراً ويكون مكاناً. ويقال: جاض بالضاد المعجمة وجَيْضاً، بها وبالجيم.

22

قوله تعالى: {وَعْدَ الحق} : يجوز أن يكونَ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه، أي: الوعد الحق، وأن يرادَ بالحق صفةُ الباري تعالى، أي: وَعَدَكم الله وَعْدَه، وأن يراد بالحقِّ البعثُ والجزاءُ على الإِجمال، فتكونَ إضافةً صريحةً. قوله: {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ دعاءَه ليس من جنسِ السلطانِ وهو الحُجَّةُ البيِّنَةُ. والثاني: أنه متصلٌ، لأنَّ القدرةَ على حَمْلِ الإنسانِ على الشرِّ تارةً تكون بالقَهْرِ، وتارةً تكون بقوة الداعية في قلبه، وذلك بالوسوسة إليه فهو نوعٌ من التسلُّطِ. وقُرِئَ «فلا يَلُوْموني» بالياء من تحتُ على الالتفاتِ، كقولِه: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] . قوله: {بِمُصْرِخِيَّ} العامَّةُ على فتحِ الياءِ؛ لأنَّ الياءَ المدغمَ فيها تُفْتَحُ أبداً لا سيما وقبلها كسرٌ ثانٍ. وقرأ حمزةُ بكسرِها، وهي لغةُ بني يَرْبوع. وقد اضطربت أقوالُ الناس في هذه القراءةِ اضطراباً شديداً: فمِنْ مُجْتَرِئٍ

عليها مُلَحِّنٍ لقارئها، ومِنْ مُجَوِّزٍ لها من غير ِ ضعفٍ، ومِنْ مجوِّزٍ لها بضعفٍ. قال حسين الجعفي: «سألتُ أبا عمروٍ عن كسرِ الياءِ فأجازه» . وهذه الحكايةُ تُحكى عنه بطرقٍ كثيرة، منها ما تقدَّم، ومنها: «سألت أبا عمروٍ وقلت: إن أصحابَ النحوِ يُلْحِّنُوننا فيها فقال: هي جائزة أيضاً، إنما أراد تحريك الياء، فلستَ تبالي إذا حَرَّكْتَها إلى أسفلَ أم إلى فوقُ» . وعنه: مَنْ شاء فتحَ، ومَنْ شاء كسر، ومنها أنه قال: إنها بالخفضِ حسنةٌ. وعنه قال: قَدِم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألتُه عن القرآن فوجدْتُه به عالماً، فسألتُه عن شيء [مِنْ] قراءة الأعمش واستشعرتُه {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بالجرِّ فقال: هي جائزةٌ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمشُ أَخَذْتُ بها. وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمروٍ تحسينَه لهذه القراءةِ، ولا التفاتَ إليه لأنه عَلَمٌ من اعلامِ القرآن واللغةِ والنحوِ، واطَّلع على ما لم يطَّلع عليه [مَنْ فوقَ السجستاني] : 287 - 7- وابنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القناعيسِ ثم ذكر العلماءُ في ذلك توجيهات: منها أنَّ الكسرَ على أصلِ التقاءِ الساكنين، وذلك أنَّ/ ياءَ الإِعرابِ ساكنةٌ، وياءَ المتكلمِ أصلُها السكونُ، فلمَّا التقيا كُسِرَتْ لالتقاء الساكنين. الثاني: أنها تُشْبِهُ هاءَ الضميرِ في أنَّ كلاًّ منهما ضميرٌ على حرف واحد، وهاءُ الضميرِ تُوْصَلُ بواوٍ إذا كانت مضمومةً، وبياءٍ إذا كانت مكسورة، وتُكْسَرُ بعد الكسرةِ والياءِ الساكنة، فَتُكْسَرُ كما تُكْسَرُ الهاءُ في «عليْهِ» ، وبنو يربوعٍ يَصِلونها بياءٍ، كما يَصِل ابن كثير نحو: «

عليهي» بياء، فحمزةُ كسرَ هذه الياءَ من غير صلةٍ، إذ أصلُه يقتضي عدَمها. وزعم قطرب أيضاً أنها لغةُ بني يربوع، قال: يزيدون على ياء الإِضافة ياءً، وأنشد: 287 - 8- ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِيِّ ... قال لها: هل لكِ ياتا فِيَّ أنشده الفراء وقال: «فإنْ يَكُ ذلك صحيحاً فهو ممَّا يلتقي من الساكنين» . وقال أبو عليّ: «قال الفراء في كتاب» التصريف «له: زعم القاسم بن معن أنه صوابٌ، وكان ثقةً بصيراً» . ومِمَّن طعن عليها أبو إسحاقَ قال: «هذه القراءةُ عند جميعِ النحويين رديئةٌ مَرْذُوْلَةٌ ولا وجهَ لها إلا وجهٌ ضعيفٌ» . وقال أبو جعفر: «صار هذا إدغاماً، ولا يجوز أن يُحْمل كتابُ اللهِ تعالى على الشذوذ» . وقال الزمخشري: «هي ضعيفةٌ، واستشهدوا لها ببيتٍ مجهول: 287 - 9- قال لها: هل لكِ ياتا فِيَّ ... قالت له: ما أنت بالمَرْضِيِّ وكأنه قدَّر ياء الإِضافة ساكنةً، وقبلها ياءٌ ساكنة، فحرَّكها بالكسر

لِما عليه أصلُ التقاءِ الساكنين، ولكنه غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ ياءَ الإِضافةِ لا تكونُ إلا مفتوحةً حيث قَبْلها ألفٌ نحو:» عصايَ «فما بالُها وقبلَها ياءٌ؟ فإن قلتَ: جَرَتِ الياءُ الأولى مَجْرى الحرفِ الصحيح لأجل الإِدغامِ فكأنها ياءٌ وقعَتْ [ساكنةً» بعد حرفٍ صحيحٍ ساكنٍ فَحُرِّكَتْ بالكسرِ على الأصل. قلت: هذا قياسٌ حسنٌ، ولكن الاستعمالَ المستفيضَ الذي هو بمنزلةِ الخبرِ المتواترِ تتضاءلُ إليه القياساتُ «. قال الشيخ:» أمَّا قولُه «واستشهدوا لها ببيتٍ مجهولٍ، فقد ذكر غيرُهُ أنه للأغلبِ العجليّ، وهي لغةٌ باقيةٌ في أفواهِ كثيرٍ من الناس إلى اليوم يقولون:» ما فِيَّ أفعلُ «بكسر الياء» . قلت: الذي ذكر صاحبَ هذا الرجزِ هو الشيخُ أبو شامةَ، قال: «ورأيتُه أنا في أول ديوانِه، وأولُ هذا الرجز: 288 - 0- أقبل في ثَوْبٍ مَعافِرِيِّ ... عند اختلاط الليلِ والعَشيِّ ثم قال الشيخ:» وأمَّا التوجيهُ الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عنه الزجَّاج. وأمَّا قولُه في غضونِ كلامِه «حيث قبلها ألفٌ» فلا أعلم «حيث» تضاف إلى الجملةِ المصدرةِ بالظرف نحو: «قعد زيد حيث أمام عمروٍ بكر» فيحتاج هذا التركيب إلى سماعٍ «قلت: إطلاقُ النحاةِ قولَهم: إنها

تضافُ إلى الجملِ كافٍ في هذا، ولا يُحتاج [إلى] تَتَبُّع كلِّ فردٍ فردٍ، مع إطلاقِهم القوانينَ الكلية. ثم قال: وأمَّا قولُه» ياء الإِضافةِ إلا آخره «قد رُوي سكونُ الياءِ بعد الألف، وقد قرأ بذلك القراءُ نحو» محياْيْ «. قلت: مجيءُ السكون في هذه الياءِ لا يُفيده ههنا، وإنما كان يفيده لو جاء بها مكسورةً بعد الألف فإنه مَحَلُّ البحثِ. وأنشد النحاة بين الذبياني بالكسرِ والفتحِ، وهو قوله: 288 - 1- عليَّ لِعمروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ ... لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقارِبِ وقال الفراء في كتاب» المعاني «له:» وقد خَفَضَ الياء مِنْ «بمُصْرِخِيِّ» الأعمشُ ويحيى بنُ وثاب جميعاً، حدَّثني بذلك القاسمُ بن مَعْن عن الأعمش، ولعلها مِنْ وَهْم القرَّاء، فإنه قَلَّ مَنْ سَلِمَ منهم مِنَ الوَهْمِ، ولعله ظنَّ أن الباءَ في «بمُضْرِخِيَّ» خافضةٌ للفظِ كلِّه، والياءُ للمتكلم خارجةٌ من ذلك «. قال: «ومما نرى أنهم وَهِمُوا فيه قوله: {نُوَلِّهْ مَا تولى وَنُصْلِهْ جَهَنَّمَ} بالجزم في الهاء» . ثم ذكر غيرَ ذلك. وقال أبو عبيد: «أمَّا الخفضُ فإنَّا نراه غلطاً، لأنهم ظنُّوا أن الباءَ تُكْسِرُ كلَّ ما بعدها، وقد كان في القرَّاء مَنْ يجعله لحناً، ولا أحبُّ أن أبلغَ به هذا كلِّه، ولكنَّ وجهَ القراءةِ عندنا غيرُها» .

قال الأخفش: «ما سَمِعْتُ بهذا مِنْ أحد من العرب ولا من أحدٍ من النحويين» . قال النحاس: «فصار هذا إجماعاً» . قلت: ولا إجماعَ. فقد تقدَّم ما حكاه الناسُ من أنها لغةٌ ثانيةٌ لبعضِ العربِ. وقد انتدب لنُصرةِ هذه القراءة أبو عليٍّ الفارسيّ، قال في «حُجَّته» . «وجهُ ذلك أن الياءَ ليسَتْ تخلُو مِنْ أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ أو جرّ، فالياءُ في النصبِ والجرِّ كالهاء فيهما، وكالكاف في» أكرمتُك «و» هذا لك «، فكما أنَّ الهاءَ قد لحقَتْها الزيادةُ في هذا: لهُوْ، وضَرَبَهُوْ، / ولحقَ الكاف أيضاً الزيادةُ في قولِ مَنْ قال» أَعْطَيْتُكاه «و» أَعْطَيْتُكِيْه «فيما حكاه سيبويه، وهما أختا الياء، ولحقت التاءَ الزيادةُ في قول الشاعر: 288 - 2- رَمَيْتِيْهِ فَأَصْمَيْتِ ... وما أَخْطَأْتِ [في] الرَّمْيَهْ كذلك ألحقوا الياءَ الزيادةَ مِن المدِّ فقالوا:» فِيَّ «، ثم حُذِفَتْ الياءُ الزائدةُ على الياءِ كما حُذِفَتِ الزيادةُ مِن الهاء في قولِ مَنْ قال: 288 - 3-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . لَهْ أَرِقانِ وزعم أبو الحسنِ أنها لغةٌ» .

قلت: مرادُ أبي عليٍّ بالتنظير بالبيت في قولِه: «لَهْ أَرِقان» حَذْفُ الصلةِ، واتفق أن في البيت أيضاً حَذْفَ الحركةِ، ولو مَثَّل بنحو «عليهِ» و «فيهِ» لكن أولى. ثم قال الفارسيُّ: «كما حُذِفَتْ الزيادةُ من الكاف فقيل: أعطيتكَهُ وأَعْطَيْتُكِهِ، كذلك حُذِفت الياءُ اللاحقةُ للياء كما حُذِفَتْ من أُخْتَيْها، وأُقِرَّتْ الكسرةُ التي كانت تلي الياء المحذوفةَ فبقيت الياءُ على ما كانت عليه من الكسرِ» . قال: «فإذا كانت الكسرةُ في الياء على هذه اللغةِ - وإن كان غيرُها أَفْشى منها، وعَضَدَه مِن القياسِ ما ذكرناه لم يَجُزْ لقائلٍ أن يقول: إن القراءةَ بذلك لحنٌ لاستقامةِ ذلك في السماعِ والقياسِ، وما كان كذلك لا يكون لحناً» . قلت: وهذا التوجيهُ هو توضيحٌ للتوجيه الثاني الذي قدَّمْتُ ذِكْرَه. وأما التوجيهُ الأولُ فأوضحه الفراءُ أيضاً، قال الزجاج: «أجاز الفراء على وجهٍ ضعيفٍ الكسرَ لأنَّ أصلَ التقاءِ الساكنين الكسرُ» . قال الفراء: «ألا ترى أنهم يقولون: مُذُ اليومِ، ومُذِ اليوم، والرفعُ في الذال هو الوجهُ، لأنه أصلُ حركةِ» منذ «، والخفضُ جائزٌ، فكذلك الياءُ من» مُصْرِخيَّ «خُفِضَتْ ولها أصلٌ في النصب» . قلت: تشبيهُ الفراءِ المسألةَ ب «مذ اليوم» فيه نظر؛ لأنَّ الحرفَ الأولَ صحيحٌ، ولم يتوالَ قبله كَسْرٌ بخلافِ ما نحن فيه، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ بقوله فيما قدَّمْتُه عنه: «فكأنها وقعَتْ بعد حرفٍ صحيح» .

وقد اضطرب النقلُ عن الفراء في هذه المسألةِ كما رأيْتَ «مِنْ نَقْلِ بعضِهم عنه التخطئةَ مرةً، والتصويبَ أخرى، ولعل الأمرَ كذلك، فإنَّ العلماءَ يُسأَلُونَ فيُجيبون بما يَحْضُرهم حالَ السؤالِ وهي محتلفةٌ. التوجيهُ الثالث: أنَّ الكسرَ للإِتباع لِما بعدها، وهو كسرُ الهمزِ من» إنِّي «كقراءةِ» الحمدِ لله «، وقولهم» بِعِير وشِعِير وشِهيد، بكسر أوائِلها إتباعاً لما بعدها، وهو ضعيفٌ جداً. التوجيه الرابع: أنَّ المسوِّغ لهذا الكسرِ في الياء وإن كان مستثقلاً أنَّها لَمَّا أُدْغِمَتْ فيها التي قبلها قَوِيَتْ بالإِدغام، فأشبهتِ الحروفَ الصِّحاحَ فاحتملتِ الكسرَ؛ لأنه إنما يُسْتَثْقَلُ فيها إذا خَفَّتْ وانكسر ما قبلها، ألا ترى أن حركاتِ الإِعرابِ تجري على المشدِّدِ وما ذاك إلاَّ لإِلحاقِه بالحروفِ الصِّحاح. والمُصْرِخُ: المُغِيْث يُقال: اسْتَصْرَخْتُه فَأَصْرَخَني، أي: أعانني، وكأنَّ همزتَه للسَّلْب، أي: أزال صُراخي. والصَّارخ هو المستغيثُ. قال الشاعر: 288 - 4- ولا تَجْزَعوا إني لكمْ غيرُ مُصْرِخٍ ... وليس لكم عندي غَناءٌ ولا نَصْرُ ويُقال: صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخاً وصُراخاً وصَرْخَة. قال: 288 - 5-

كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ ... كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنابيبِ يريد: كان بدل الإِصراخ، فحذف المضافَ، أقام مصدرَ الثلاثي مُقام مصدرِ الرباعي نحو: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . والصَّريْخُ: القومُ المُسْتَصْرِخُونَ قال: 288 - 6- قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ ... ما بين مُلْجِمِ مُهْرِهِ أو سافِِعِ والصَّريخُ أيضاً: المُغِيثون فهو من الأضداد، وهو محتملٌ أَنْ يكون وَصْفاً على فَعِيْل كالخَليط، وأن يكونَ مصدراً في الأصل. وقال: {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} [يس: 43] فهذا يُحتمل أن يكونَ مصدراً، وأن يكونَ فعيلاً بمعنى المُفْعِل، أي: فلا مُصْرِخَ لهم، أي: ناصر، وتَصَرَّخ: تكلَّف الصُّراخ. قوله: {بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ} يجوزُ في «ما» وجهان: أحدُهما: أَنْ تكونَ بمعنى الذي. ثم في المراد بهذا الموصولِ وجهان، أحدُهما: أنه الأصنامُ، تقديرُه: بالصنمِ الذي أطعتموني كما أَطَعْتُمُوه، كذا قال أبو البقاء، والعائدُ محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء: بما أشركتموني به، ثم حُذِفَ، يعني بعد حذف الجارِّ ووصولِ/ الفعلِ إليه، ولا حاجةَ إلى تقديرِه مجروراً بالباء؛ لأنَّ هذا الفعلَ متعدٍّ لواحدٍ نحو: شَرَكْتُ زيداً، فلمَّا دَخَلَتْ همزةُ النقل أَكْسَبته ثانياً هو العائد، تقول: أَشْرَكْتُ زيداً عمراً، جعلتُه شريكاً له. الثاني: أنه الباري

تعالى، أي: بما أشركتموني، أي: بالله تعالى، والكلامُ في العائدِ كما تقدَّم، إلا أنَّ فيه إيقاعَ «ما» على مَنْ يَعْلَمُ، والمشهورُ فيها أنها لغير العاقل. قال الزمخشريُّ: «ونحو:» ما «هذه» ما «في قولهم» سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ «، ومعنى إشراكهم الشيطانَ بالله تعالى طاعتُهم له فيما كان يُزَيِّنُه لهم مِنْ عبادةِ الأوثانِ» . قال الشيخ: «ومن مَنَع ذلك جَعَل» سبحان «عَلَماً للتسبيح كما جعل» بَرَّة «عَلَماً للمَبَرَّة، و» ما «مصدرية ظرفية» ، أي: فيكون على حذفِ مضافٍ، أي: سبحانَ صاحبِ تسخيرِكنَّ؛ لأنَّ التسبيحَ لا يليقُ إلاَّ بالله. الثاني من الوجهين الأولين: أنها مصدريةٌ، أي: بإشراككم إياي. قوله: {مِن قَبْلُ} متعلِّقٌ ب «كَفَرْتُ» على القولِ الأول، أي: كفرتُ مِنْ قبلُ، حين أَبَيْتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو اللهُ تعالى، وب «أشركْتُ» على الثاني، أي: كفرتُ اليومَ بإشراكِكم إيَّاي مِنْ قبلِ هذا اليوم، أي في الدنيا، كقوله: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14] هذا قولُ الزمخشريِّ. وأمَّا أبو البقاء فإنه جَوَّز تعلُّقَه بكفرْتُ وبأشركتموني، من غير ترتيبِ على كون «ما» مصدريةً أو موصولية فقال: «ومِنْ قبلُ: متعلِّقٌ بأشركتموني، أي: كفرْتُ الآن أَشْرَكتموني مِنْ قبل. وقيل: وهي متعلِّقةٌ ب» كفرتُ «أي: كَفَرْتُ مِنْ قبلِ إشراكِكم فلا أنفعُكم شيئاً» .

وقرأ أبو عمروٍ وبإثباتِ الياء في «أشركتموني» وصْلاً وحَذْفِها وقفاً، وحَذَفها الباقون وصلاً ووقفاً. وهنا تمَّ كلامُ الشيطان. وقوله: {إِنَّ الظالمين} مِنْ كلامِ الله تعالى، ويجوز أن يكونَ مِنْ كلامِ الشيطان. و «عذاب» يجوز رَفْعُه بالجارِّ قبلَه على أنه الخبر، وعلى الابتداءِ وخبرُه الجارُّ.

23

قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ} قرأ العامَّةُ «أُدْخِلَ» ماضياً مبنياً للمفعولِ، والفاعلُ اللهُ أو الملائكة. والحسن وعمرو بن عبيد «وأُدْخِلُ» مضارعاً مسنداً للمتكلم وهو الله تعالى، فمحَلُّ الموصولِ على الأول رفعٌ، وعلى الثانية نصبٌ. قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} في « [قراءةِ] العامَّةِ يتعلق بأُدْخِلَ، أي: أُدْخِلوا بأمرهِ وتيسيرِه. ويجوز تعلُّقه بمحذوف على أنه حالٌ، أي: ملتبسين بأمرِ ربهم، وجوَّز أبو البقاء أن يكون من تمام» خالدين «يعني أنه متعلِّقٌ به، وليس بممتنعٍ. وأمَّا على قراءة الشيخين فقال الزمخشري:» فيم تتعلَّق في القراءة الأخرى، وقولُك «وأُدْخِلُ أنا بإذنِ ربِّهم» كلامٌ غير مُلتئمٍ؟ قلت: الوجهُ في هذه القراءة أَنْ يتعلق بما بعده، أي: تحيتُهم فيها سلامٌ بإذن ربهم «. ورَدَّ عليه الشيخ هذا بأنه لا يتقدَّم معمولُ المصدر عليه.

وقد عَلَّقه غيرُ الزمخشري بأُدْخِلُ، ولا تنافٌرَ في ذلك؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلم أن المتكلم - في قوله: وأُدْخِلُ أنا - هو الربُّ تعالى. وأحسنُ من هذين أن تتعلَّقَ في هذه القراءة بمحذوفٍ على أنه حالٌ كما تقدَّم تقريرُه. و» تحيتُهم «مصدرٌ مضاف لمفعولِه، أي: يُحَيِّيهم الله أو الملائكة. ويجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعله، أي: يُحَيِّي بعضُهم بعضاً. ويعضد الأولَ: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23] . و» فيها «متعلقٌ به.

24

قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ «ضَرَبَ» متعديةٌ لواحدٍ، بمعنى: اعتمد مثلاً، ووضَعَه، و «كلمةً» على هذا منصوبةٌ بمضمرٍ، أي: جعل كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبة، وهو تفسيرٌ لقولِه {ضَرَبَ الله مَثَلاً} كقولك: «شرَّفَ الأميرُ زيداً ساه حُلَّة، وحمله على فرس» ، وبه بدأ الزمخشري. قال الشيخ: «وفيه تكلُّفُ إضمار لا ضرورةَ تدعو إليه» . قلت: بل معناه إليه فيُضطرُّ إلى تقديرِهِ محافظةً على لَمْح هذا المعنى الخاصِّ. الثاني: أنَّ «ضَرَب» متعديةٌ لاثنين لأنها بمعنى «صَيَّر» ، لكنْ مع لفظ «المَثَل» خاصة، وقد تقدَّم تقريرُ هذا أولَ هذا الموضوعِ، فتكون «كلمةً» مفعولاً أولَ، و «مَثَلاً» هو الثاني، فيما تقدَّم. الثالث: أنه متعدٍّ لواحدٍ وهو «مَثَلاً» و «كلمةً» بدلٌ منه، و «كشجرةٍ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي كشجرةٍ طيبةٍ، وعلى الوجهين قبله تكون «كشجرةٍ» نعتاً ل «كلمة» .

وقُرِئ «كلمةٌ» بالرفع، وفيها وجهان. أحدهما: أنها خبرُ مبتدأ مضمر، أي: هو، أي: المَثَلُ كلمةٌ طيبةٌ، «كشجرةٍ» على هذا نعتاً لكلمة. والثاني: أنها مرفوعةٌ بالابتداء، و «كشجرةٍ» خبرُه. وقرأ أنس بن مالك «ثابتٍ أصلُها» . قال الزمخشري: «فإن قلت: أيُّ فرقٍ بين القراءتين؟ قلت: قراءةُ الجماعةِ أقوى معنىً؛ لأنَّ قراءةَ أنسٍ أُجْرِيَتِ الصفةُ على» الشجرة «/ وإذا قلت:» مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ «فهو أقوى مِنْ» برجل قائمٍ أبوه «لأنَّ المُخْبَرَ عنه إنما هو الأبُ لا رجل» . والجملةُ مِنْ قولِه «أصلُها ثابتٌ» في محلِّ جرّ نعتاً لشجرة.

25

{تؤتي أُكُلَهَا} : ويجوز فيهما أَنْ تكونا مستأنفتين. وجوَّز أبو البقاء في «تُؤْتي» أن تكونَ حالاً من معنى الجملة التي قبلها، أي: ترتفع مُؤْتِيَةً. وتقدَّم الخلاف في «أُكُلَها» بالنسبة إلى القرَّاء.

26

وقُرِئ «ومَثَلَ» بنصب «مثلَ» عطفاً على «مثلَ» الأول، «واجْتُثَّتْ» صفةٌ لشجرة. ومعنى «اجْتُثَّتْ» : بَلَغَتْ جُثَّتَها، أي: شخصَها، والجُثَّةُ: شَخْصُ الإِنسانِ قاعداً ونائماً يقال: اجْتَثَثْتُ الشيءَ، أي: اقتَلَعْتُ، فهو افتِعال من لفظ الجُثَّة، وجَثَثْتُ الشيءَ: قَلَعْتُهُ. قال لقيط

الإِيادي: 288 - 7- هو الجَلاءُ الذي يَجْتَثُّ أصلَكُمُ ... فَمَنْ رَأَى مثلَ ذا يوماً ومَنْ سَمِعا وقال الراغب: «جُثَّة الشيءِ شَخْصُه الناتِئُ، والمَجَثَّةُ: ما يُجَثُّ به، والجَثِيْثَة: لِما يأتي جُثَّته بعد طَحْنه، والجَثْجاث نَبْتٌ» . و «مِنْ قَرار» يجوز أن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبلَه لاعتمادِه على النفي، وأن يكونَ مبتدأً. والجملةُ المنفيَّةُ: إمَّا نعتٌ لشجرة وإما حالٌ مِنْ ضميرِ «اجْتُثَّتْ» .

27

قوله تعالى: {بالقول} : فيه وجهان، أحدُهما: تعلُّقُه ب «يُثَبَّتُ» . والثاني «أنه متعلقٌ ب» آمنوا «. قوله:» في الحياةِ «متعلِّقٌ ب» يُثَبَّتُ «، ويجوز أن يتعلَّقَ بالثابِتِ.

28

قوله تعالى: {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} فيه أوجهٌ: أحدُها: أنَّ الأصلَ بَدَّلوا شكرَ نعمةِ [الله] كفراً، كقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] [أي] : شُكر رزقكم، وَجَبَ عليهم الشكرُ فوضَعُوا موضعَه الكفرَ.

الثاني: أنهم بدَّلوا نفسَ النعمةِ كفراً، على أنهم لمَّا كَفَروها سُلِبوها، فبَقُوا مَسْلوبِي النعمةِ موصوفين بالكفر حاصلاً لهم. قالهما الزمخشري. قلت: وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضاف على هذا، وقد تقدَّم أن «بَدَّلَ» يتعدَّى لاثنين، أَوَّلُهما من غير حرف، والثاني بالباء، وأن المجرورَ هو المتروكُ، والمنصوبَ هو الحاصلُ، ويجوز حَذْفُ الحرفِ، فيكونُ المجرورُ بالباءِ هنا هو «نعمة» لأنها المتروكةُ. وإذا عَرَفْتَ هذا عَرَفْتَ أنَّ قولَ الحوفيِّ وأبي البقاء أنَّ «كفراً» هو المفعولُ الثاني ليس بجيدٍ؛ لأنه هو الذي يَصِل إليه الفعل بنفسِه لا بحرف الجر، وما كان كذا فهو المفعولُ الأول.

29

قوله تعالى: {جَهَنَّمَ} : فيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أنه بدلٌ من «دارَ» . الثاني: أنه عطفُ بيانٍ لها. وعلى هذين الوجهين فالإِحلالُ يقع في الآخرة. الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على الاشتغال بفعلٍ مقدَّر، وعلى هذا فالإِحلالُ يقع في الدنيا، لأنَّ قولَه {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} واقعٌ في الآخرة. ويؤيِّد هذا التأويلَ قراءةُ ابن أبي عبلة «جهنمُ» بالرفع، على أنها مبتدأٌ، والجملةُ بعدها الخبرُ. وتحتمل قراءةُ ابن أبي عبلة وجهاً أخرَ: وهو أن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمر، و «يَصْلَوْنها» حالٌ: إمَّا مِنْ «قومَهم» ، وإمَّا مِنْ «دارَ» ، وإمَّا مِنْ «جهنمَ» . وهذا التوجيهُ أَوْلى من حيث إنه لم يتقدَّمْ ما يرجِّح النصبَ، ولا ما يَجْعلُه مساوياً، والقرَّاءُ الجماهيرُ على النصبِ، فلم يكونوا ليتركُوا الأفصحَ، إلاَّ لأن المسألة لَيستْ من الاشتغالِ في شيءٍ. وهذا الذي ذكرتُه أيضاً مُرَجِّح لنصبهِ على البدليَّة أو البيانِ على انتصابِه على الاشتغال.

والبَوارُ: الهَلاكُ، قال الشاعر: 288 - 8- فلم أرَ مثلَهُم أبطالَ حربٍ ... غداةَ الرَّوْعِ إذ خِيْفَ البوارُ وأصلُه من الكَسادِ، كما قيل: كَسَد حتى فَسَد، ولَمَّا كان الكسادُ يؤدي إلى الفسادِ والهلاكِ أُطْلِقَ عليه البَوار. ويقال: بار يَبُورُ بَواراً وبُوراً، ورجل حائرٌ بائرٌ، وقوله تعالى: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12] يحتمل أن يكونَ مصدراً وُصِفَ به الجمعُ، وأن يكونَ جمع بائر في المعنى. ومِنْ وقوعِ «بُور» على الواحد قوله: 288 - 9- يا رسولَ المَليكِ إنَّ لساني ... راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُوْرُ أي: هالِكٌ.

30

قوله تعالى: {لِّيُضِلُّواْ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيَضِلُّواْ} بفتح الياء، والباقون بضمِّها، مِنْ «أَضَلَّه» . واللامُ هي لامُ الجرِّ مضمرةً «أنْ» بعدها، وهي لامُ العاقبةِ لمَّا كان مآلُهم إلى كذلك. ويجوز أن تكونَ للتعليل. وقيل: هي مع فتحِ الياءِ للعاقبةِ فقط، ومع ضمِّها محتملةٌ للوجهين، كأنَّ هذا القائلَ تَوَهَّم أنهم لم يجعلوا الأندادَ لضلالِهم، وليس كما زَعَم؛ لأنَّ منهم مَنْ كفر عناداً، واتخذ الآلهةَ ليضلَّ بنفسِه.

قوله: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} «إلى النارِ» خبرُ «إنَّ» . و «المصير» مصدرٌ ل صار التامة، أي: فإنَّ مرجعَكم كائن إلى النار. وأجاز الحوفيُّ أَنْ يتعلقَ «إلى النار» ب «مصيرَكم» . وقد ردَّ هذا بعضُهم بأنه لو جعلناه مصدراً صار بمعنى انتقل، و «إلى النار» متعلقٌ به، بقيَتْ «إنَّ» بلا خبر، لا يقال: خبرُها حينئذ محذوفٌ؛ لأنَّ حَذْفَه في مثل هذا يَقِلُّ، وإنما يكثرُ حَذْفُه إذا كان الاسمُ نكرةً: والخبرُ ظرفاً أو جارَّاً كقوله: 289 - 0- إنَّ مَحَلاًّ وإنْ مُرْتَحَلا ... وإنَّ في السَّفْرِ ما مَضَى مَهَلا

31

قوله تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «يُقيموا» مجزومٌ بلامِ أمرٍ محذوفةٍ تقديرُه: ليقيموا، فحُذِفَتْ وبقي عملُها، كما يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى عملُه، كقولِه: 289 - 1- محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُ نفسٍ ... إذا ما خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبالا يريد: لِتَفْدِ. أنشده سيبويه، إلا أنَّه خَصَّه بالشعر. قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يكونَ» يُقيموا «و» يُنْفِقوا «بمعنى: لِيُقيموا ولِيُنْفقوا، ويكون هذا هو المَقُولَ. قالوا: وإنما جاز حَذْفُ اللامِ لأنَّ الأمرَ الذي هو» قُلْ «عِوَضٌ منها، ولو قيل: يقيموا الصلاة ويُنفقوا ابتداءً بحذف اللام لم يَجُزْ» . قلت: وإلى قريبٍ من هذا نحا ابن مالك فإنه جَعَلَ حَذْفَ

هذه اللامِ على أضربٍ: قليلٍ وكثيرٍ ومتوسطٍ. فالكثيرُ: أن يكونَ قبلَه قولٌ بصيغة الأمر كالآيةِ الكريمةِ، والقليلُ: أن لا يتقدَّمَ قولٌ كقوله: «محمدُ تَفْدِ» البيت، والمتوسط: أن يتقدَّمَ بغيرِ صيغةِ الأمرِ كقوله: 289 - 2- قُلْتُ لبَوَّابٍ لديهِ دارُها ... تِيْذَنْ فإني حَمْؤُها وجارُها الثاني: أنَّ «يُقيموا» مجزوم على جوابِ «قُلْ» ، وإليه نحا الأخفش والمبرد. وقد رَدَّ الناسُ عليهما هذا بأنه لا يلزمُ مِنْ قوله لهم: أقيموا «أَنْ يَفْعلوا، وكم مَنْ تخلَّف عن هذا الأمر. وقد أجيب عن هذا: بأنَّ المرادَ بالعباد المؤمنون، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً، والمؤمنون متى أَمَرَهم امْتَثَلُوا. الثالث: أنه مجزومٌ على جوابِ المقولِ المحذوفِ تقديره: قل لعبادي: أقيموا وأَنْفِقُوا، يُقيموا وينفقوا. قال أبو البقاء: وعزاه للمبرد-» كذا ذكره جماعة ولم يتعرَّضوا لإِفسادِه. وهو فاسد لوجهين، أحدُهما: أنَّ جوابَ الشرطِ يُخالِفُ الشرطَ: إمَّا في الفعلِ أو في الفاعل أو فيهما، فأمَّا إذا كان مثلَه في الفعلِ والفاعلِ فهو خطأٌ كقولِك: قم تقمْ، والتقديرُ على ما ذُكِرَ في هذا الوجه: إنْ يُقيموا يُقيموا. والوجه الثاني: أنَّ الأمرَ المقدَّرَ للمواجهة، و «يُقيموا» على لفظ الغَيْبَةِ وهو خطأٌ، إذا كان الفاعل

واحداً «. قلت: أمَّا الإِفسادُ الأولُ فقريبٌ، وأمَّا الثاني فليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يقول: قل لعبدي أَطِعْني يُطِعْك، وإن كان للغَيْبة بعد المواجهة باعتبارِ حكايةِ الحال. الرابع: أنَّ التقديرَ: إن تَقُلْ لهم: أقيموا، يُقيموا، وهذا مَرْوِيٌّ عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية. قلت: وهذا هو القولُ الثاني. الخامس: قال ابن عطية:» ويحتمل أن يكونَ «يُقيموا» جوابَ الأمرِ الذي يعطينا معناه قولُه «قُلْ» ؛ وذلك أن تجعلَ قولَه «قُلْ» في هذه الآيةِ بمعن بَلّغْ وأَدِّ الشريعةَ يُقيموا «. السادس: قال الفراء:» الأمرُ معه شرطٌ مقدَّرٌ تقول: «أَطِعِ اللهَ يُدْخِلْكَ الجنَّةَ» . والفرقُ بين هذا وبين ما قبله: أنَّ ما قبله ضُمِّن فيه الأمرُ نفسُه معنى الشرط، وفي هذا قُدر فعلُ الشرطِ بعد فعلِ الأمرِ مِنْ غيرِ تضمينٍ. السابع: قال الفارسيُّ: «إنَّه مضارعٌ صُرِف عن الأمرِ إلى الخبرِ ومعناه: أقيموا» . وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن يُثْبِتَ نونَه الدالَّةَ على إعرابه. وأُجيبَ عن هذا بأنه بُني لوقوعِه موقعَ المبني، كما بُني المنادى في نحو: «يا زيدُ» لوقوعِه موقعَ الضمير، ولو قيل بأنه حُذِفَتْ نونُه تخفيفاً على

حَدِّ حَذْفها في قولِه: «لا تَدْخُلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا» . وفي معمول «قُلْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: الأمرُ المقدَّرُ، أي: قُلْ لهم: أقيموا، يُقيموا، الثاني: أنه نفسُ «يُقيموا» على ما قاله ابنُ عطية الثالث: أنَّه الجملةُ من قولِه {الله الذي خَلَقَ} إلى آخره، قاله ابن عطية. وفيه تفكيكٌ للنَّظْم، وجَعْلُ الجملةِ «يُقيموا الصلاة» إلى آخره مُفلتاً ممَّا قبلَه وبعدَه، أو يكونُ جواباً فَصَل بين القولِ ومعمولِه، لكنه لا يترتَّبُ على قولِ ذلك إقامةُ الصلاةِ والإِنفاقُ، إلا بتأويلٍ بعيدٍ جداً. قوله: «سِرَّاً وعلانِيَةً» في نصبِهِما ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنهما حالان ممَّا تقدَّم، وفيهما ثلاثةُ التأويلاتِ في «زيد عَدْل» ، أي: ذوي سر وعلانية أو مُسِرِّين ومُعْلِنين، أو جُعِلوا نفسَ السِّرِّ والعَلانية مبالغةً. الثاني: أنهما منصوبان على الظرف، أي: وَقْتَيْ سِرٍّ وعلانية. الثالث: أنهما/ منصوبان على المصدرِ، أي إنفاق سرّ وإنفاق علانية. قوله: «مِنْ قبل» متعلِّقٌ ب «يُقيموا» و «يُنْفِقوا» ، أي: يفعلون ذلك قبل هذا اليوم. وقد تقدَّم خلاف القراء في {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} . والخِلال: المُخالَّة وهي المصاحبةُ. يقال: خالَلْتُه خِلالاً ومُخَالَّةً. قال طرفة: 289 - 3- كلُّ خليلٍ كنتُ خالَلْتُه ... لا تَرَكَ اللهُ له واضِحَهْ

وقال امرؤ القيس: 289 - 4- صَرَفْتُ الهَوَى عنهنَّ مِنْ خشيةِ الرَّدى ... ولستُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قالِ وقال الأخفش: «خِلال جمعاً لخُلَّة، نحو: بُرْمَة وبِرام» .

32

قوله تعالى: {مِنَ السمآء} يجوز أن يتعلَّق بأًنْزَل، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «ما» لأنه صفةٌ، في الأصل، وكذلك «مِن الثمرات» في الوجهين. وجَوَّز الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ أن تكونَ «مِنْ» لبيان الجنسِ، أي: رِزْقاً هو الثمرات. ويُرَدُّ عليهما: بأنَّ التي للبيان إنما تجيء بعد المبهم. وقد يُجاب عنهما: بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإِعراب. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك في البقرة. و «بأَمْرِهِ» يجوز ان يكونَ متعلِّقاً ب «تَجْرِي» ، أي: بسببِه، أو بمحذوفٍ على أنها للحالِ، أي: ملتبسةً به.

33

قوله تعالى: و {دَآئِبَينَ} : حالٌ مِنَ الشمسِ والقمرِ، وتقدَّم اشتقاقُ الدَّأْبِ.

34

قوله تعالى: {مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} : العامَّةُ على إضافةِ «كُلّ» إلى «ما» وفي «مِنْ» قولان، أحدُهما: أنها زائدةٌ في المفعولِ الثاني، أي: كُلِّ ما سألمتموه، وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الأخفش. والثاني: أن تكونَ تبعيضيَّةً، أي: آتاكم بعضَ جميعِ ما سالتموه نظراً لكم ولمصالحكم، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه، وآتاكم شيئاً مِنْ كُلِّ ما سألتموه، وهو رأيُ سيبويه. و «ما» يجوز فيها أن تكونَ موصولةً اسمية أو حرفية أو نكرةً موصوفةً، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ، أي: مَسْؤولكم. فإن كانت مصدريَّةً فالضميرُ في «سَأَلْتموه» عائدٌ على الله تعالى، وإن كانتْ موصولةً أو موصوفةً كان عائداً عليها، ولا يجوزُ أن يكون عائداً على اللهِ تعالى، وعائدُ الموصولِ أو الموصوفِ محذوفٌ؛ لأنه: إمَّا أن يُقَدَّر متصلاً: سألتموهوه أو منفصلاً: سألتموه إياه، وكلاهما لا يجوز فيه الحَذْفُ لِما قدَّمْتُ لك أولَ البقرةِ في قوله {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . وقرأ ابنُ عباس ومحمد بن علي وجعفر بن محمد والحسن والضحّاك وعمرو بن فائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في روايةٍ، {مِّن كُلِّ} منونةً. وفي «ما» على هذه القراءة وجهان، أحدُهما: أنها نافية، وبه بدأ الزمخشري فقال: «وما سأَلْتُموه نفيٌ، ومحلُّه النصبُ على الحال، أي:

آتاكم من جميعِ ذلك غيرَ سائِلية» . قلت: ويكون المفعولُ الثاني هو الجارِّ مِنْ قوله «مِنْ كُلٍ» ، كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] . والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، هي المفعول الثاني لآتاكم. وهذا التخريجُ الثاني أَوْلَى، لأنَّ في الأول منافاةً في الظاهر لقراءةِ العامَّة. قال الشيخ: «ولما أحسَّ الزمخشريُّ بظهورِ التنافي بين هذه القراءةِ وبين تلك قال:» ويجوز أن تكونَ «ما» موصولةً على: وآتاكم مِنْ كُلِّ ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلُحْ أحوالُكُم ولا معائِشُكم إلا به، فكأنكم طلبتموه أو سألتموه بلسانِ الحال، فتأوَّل «سَأَلْتموه» بمعنى ما احتجتم إليه «. قول:» نعمةَ «في معنى المُنْعِمِ به، وخُتِمَتْ هذه ب {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} ، ونظيرتُها في النحل ب {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18] ، لأنَّ في هذه تقدَّمَ قولُه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} [إبراهيم: 28] ، وبعده {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} [إبراهيم: 30] ، فجاء قولُه {إِنَّ الإنسان} شاهداً بقُبْحِ مَنْ فَعَلَ ذلك، فناسَبَ خَتْمَها بذلك، والتي في النحل ذكر فيها عدةَ تفصيلاتٍ وبالَغَ فيها، وذكر قولَه {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] ، أي: مَنْ أوجَدَ هذه النِّعَمَ السابقَ ذكرُها كَمَنْ لم يَقْدِرْ منها على شيءٍ، فَذَكَرَ أيضاً أنَّ مِنْ جملة تَفَضُّلاتِه اتصافَه بهاتين الصفتين.

35

قوله تعالى: {هذا البلد آمِناً} : مفعولا الجَعْلِ التصييري، وقد تقدَّم تحريرُه في البقرة. قال الزممخشري: «فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين قولِه {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126] وبين قولِه {هذا البلد آمِناً} ؟ قلت: قد سأل في الأول أن يجعلَه مِنْ جملة البلادِ التي يأْمَنُ أهلُها ولا يخافون، وفي الثاني أن يُخْرجَه مِنْ صفةٍ كان عليها من الخوفِ إلى ضِدِّها من الأمنِ، كأنه قال: هو بلدٌ مَخُوفٌ فاجْعَلْه آمِناً» . قوله: {واجنبني} يُقال: جَنَبَه شرَّاً، / وأَجْنَبَه إياه، ثلاثياً، ورباعياً، وهي لغةُ نجدٍ، وجَنِّبه إياه مشدداً، وهي لغةُ الحجازِ، وهو المَنْعُ، وأصلُه مِنَ الجانب. وقال الراغب: «وقولُه تعالى: {واجنبني وَبَنِيَّ} مِنْ جَنَبْتُه عن كذا، أي: أَبْعَدْتُه منه. وقيل: مِنْ جَنَبْتُ الفَرَسَ كأنما أن يقودَه عن جانبِ الشِّرْك بألطافٍ منه وأسبابٍ خفيَّةٍ» . و {أَن نَّعْبُدَ} على حَذْفِ الحرف، أي: عن أن. وقرأ الجحدريُّ وعيسى الثقفي «وأَجْنِبْني» بقطعِ الهمزة مِنْ أَجْنَبَ.

36

والضميرُ في «إنَّهُنَّ» و «أَضْلَلْنَ» عائدٌ على الأصنامِ لأنها جمعُ تكسيرٍ غيرُ عاقلٍ. وقوله «مني» ، أي: من أشياعي. قوله: {وَمَنْ عَصَانِي} شرطٌ، ومحلُّ «مَنْ» الرفعُ بالابتداءِ، والجوابُ {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والعائدُ محذوفٌ، اي: له.

37

قوله تعالى: {مِن ذُرِّيَّتِي} : يجوزُ أَنْ يكون المفعولُ محذوفاً، وهذا الجارُّ صفتُه، أي: أسكنْتُ ذريةً مِنْ ذريتي. ويجوز أن تكونَ «مِنْ» مزيدةً عند الأخفش. قوله: «بوادٍ» ، أي: في وادٍ، نحو: هو بمكة. قوله: {عِندَ بَيْتِكَ} يجوز أن يكونَ صفةً ل «وادٍ» . وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ بدلاً منه» ، يعني أنه يكونُ بدلَ بعضٍ مِنْ كُلّ، لأنَّ الواديَ أعمُّ مِنْ حضرةِ البيت. وفيه نظرٌ، من حيث إنَّ «عند» لا تتصرَّف. قوله: «ليُقِيموا» يجوز أَنْ تكونَ هذه اللامُ لامَ أمرٍ، وأن تكونَ لامَ علَّة. وفي متعلقها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ بأَسْكنْتُ وهو ظاهرٌ، ويكون النداءُ معترضاً. الثاني: أنها متعلقةٌ باجْنُبْني، أي: اجْنُبْهم الأصْنامَ ليُقِيموا، وفيه بُعْدٌ. قوله: {أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} العامَّةُ على «أفْئِدة» جمع «فُؤاد» كغُراب وأَغْربة. وقرأ هشام عن ابن عامر بياءٍ بعد الهمزة، فقيل: إشباع، كقوله: 289 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يُحِبَّك عَظْمٌ في الترابِ تَرِيْبُ

أي: تَرِب، وكقوله: 289 - 6- أعوذُ باللهِ مِنَ العَقْرابِ ... الشائلاتِ عُقدَ الأَذْنابِ وقد طعن جماعةٌ على هذه القراءةِ وقالوا: الإِشباعُ من ضرائرِ الشعر فكيف يُجْعَلُ في أفصحِ كلامٍ؟ وزعم بعضُهم أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيلِ الهمزةِ بين بين، فظنَّها الراوي زيادةَ ياءٍ بعد الهمزة، قال: «كما تُوُهِّم عن أبي عمروٍ واختلاسُه في» بارئكم «و» يَأْمُركم «أنه سَكَّن» . وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ الرواةَ أجلُّ من هذا. وقرأ زيدٌ بن عليّ «إفادة» بزنةِ «رِفادة» ، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ مصدراً لأِفاد كأَقام إقامةً، أي: ذوي إفادةٍ، وهم الناسُ الذين يُنْتَفَعُ بهم. والثاني: أن يكون أصلُها «وِفادة» فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً نحو: إشاح وإعاء. وقرأت أمُّ الهيثم «أَفْوِدَة» بواوٍ مكسورة، وفيها وجهان، أحدُهما: أن يكونَ جمع «فُوَاد» المُسَهًّل: وذلك أنَّ الهمزةَ المفتوحةَ المضمومَ ما قبلها يَطَّرِد قَلْبُها واواً نحو: جُوَن، ففُعِل في «فُؤاد» المفرد ذلك، فأُقِرَّت في الجمع على حالها. والثاني: قال صاحب «اللوامح» : «هي جمعُ وَفْد» . قلت: فكان ينبغي أن يكونَ اللفظ «أَوْفِدة» بتقديم الواو، إلا أن يُقال: إنه

جَمَعَ «وَفْداً» على «أَوْفِدَة» ثم قلَبه فوزنه أَعْفِلَة، كقولهم: آرام في أرْآم وبابِه، إلا أنه يَقِلُّ جمعُ فَعْل على أفْعِلة نحو: نَجْد وأَنْجدة، وَوَهْي وأَوْهِيَة. وأمُّ الهيثمِ امرأةٌ نُقِلَ عنها شيءٌ من اللغة. وقُرِىء «آفِدَة» بزِنَةِ ضارِبة، وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ مقلوبةً مِنْ أَفئدة بتقديم الهمزة على الفاء فَقُلِبَتْ الهمزةُ ألفاً، فوزنها أَعْفِلة كآرام في أرْآم. والثاني: أنها اسمُ فاعلٍ مِنْ أَفِد يَأْفَدُ، أي: قَرُب ودَنا، والمعنى: جماعة آفِدَة، أو جماعات آفِدة. وقُرِئ «آفِدَة» بالقَصْرِ، وفيها وجهان أيضاً، أحدُهما: أن يكونَ اسمَ فاعلٍ على فَعِل كفَرِحَ فهو فَرِح. [والثاني] : أن تكونَ محففةً من «أَفْئِدة» . بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلها، وحَذْفِ الهمزةِ. و «من الناس» في «مِنْ» وجهان، أحدُهما: أنها لابتداءِ الغاية. قال الزمخشريُّ: «ويجوز أن تكونَ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ كقولك:» القلبُ مني سقيم «تريد: قلبي، كأنه قيل: أفئدةَ ناسٍ، وإنما نَكَّرْتَ المضافَ في هذا التمثيلِ لتنكيرِ» أَفْئدة «لأنها في الآية نكرةٌ، ليتناولَ بعضَ الأفئدةِ» . قال الشيخ: «ولا يَظْهر كونُها للغايةِ؛ لأنه ليس لنا فِعْلٌ يُبتدأ فيه بغايةٍ ينتهي إليها، إذ/ لا يَصِحُّ جَعْلُ ابتداءِ الأفئدة من الناس» .

والثاني: أنها للتبعيضِ، وفي التفسير: لو لم يقل «من الناس» لحجَّ الناسُ كلُّهم. قوله: «تَهْوي» هذا هو المفعولُ الثاني للجَعْل. والعامَّة «تَهْوِي» بكسرِ العين بمعنى: تُسْرِعُ وتَطيرُ شوقاً إليهم. قال: 289 - 7- وإذا رَمَيْتَ به الفِجاجَ رَأَيْتَه ... يَهْوي مخارمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ وأصلُه أنْ يتعدَّى باللام، كقوله: 289 - 8- حتى إذا ما هَوَتْ كفُّ الغلامِ لها ... طارَتْ وفي كَفِّه مِنْ ريشِها بِتَكُ وإنَّما عُدِّي ب «إلى» لأنه ضُمِّنَ معنى «تميل» ، كقوله: 289 - 9- تَهْوي إلى مكَّةَ تَبْغي الهدى ... ما مُؤْمِنُ الجِنِّ كأَنْجاسِها وقرأ أميرُ المؤمنين علي وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد ومجاهد بفتح الواو، وفيه قولان، أحدُهما: أنَّ «إلى» زائدةٌ، أي: تهواهم. والثاني: أنه ضُمِّنَ معنى تَنْزِعُ وتميل، ومصدرُ الأول على «هُوِيّ» ، كقوله: 290 - 0-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجْدَل والثاني على «هَوَى» . وقال أبو البقاء: «معناهما متقاربان إلاَّ أَنَّ هَوَى - يعني بفتح الواو- متعدٍّ بنفسه، وإنما عُدِّيَ بإلى حَمْلاً على تميل» . وقرأ مسلمة بن عبد الله: «تُهْوَى» بضم التاء وفتح الواو مبنياً للمفعول مِنْ «أهوى» المنقول مِنْ «هَوِيَ» اللازمِ، أي: يُسْرَع بها إلى إليهم.

39

قوله تعالى: {عَلَى الكبر} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ «على» على بابها من الاستعلاءِ المجازيِّ. والثاني: أنها بمعنى مع كقوله: 290 - 1- إنِّي على ما تَرَيْنَ من كِبَري ... أعلمُ مِنْ تُؤْكَلُ الكَتِفَ قاله الزمخشري. ومحلُّ هذا الجارِّ النصبُ على الحالِ من الباء في «هَبْ لي» . قوله: {لَسَمِيعُ الدعآء} فيه أوجه، أحدُها: أن يكون فعيل مثالَ مبالغةٍ مضافاً إلى مفعولِه، وإضافتُه مِنْ نصبٍ، وهذا دليلٌ لسيبويه على أن فَعِيلاً يعملُ عملَ اسمِ الفاعل، وإن كان قد خالف جمهور البصريين والكوفيين.

الثاني: انَّ الإِضافةَ ليسَتْ مِنْ نصبٍ، وإنما هو كقولك: «هذا ضاربُ زيدٍ أمس» . الثالث: أنَّ سميعاً مضافٌ لمرفوعه ويُجْعَلُ دعاءُ الله سميعاً على المجاز، والمراد سماع الله، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وهو بعيدٌ لاستلزامِهِ أن يكونَ من الصفة المشبهة والصفةُ متعديةُ، وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الفارسيِّ فإنه يُجيز أن تكونَ الصفةُ المشبهة من الفعلِ المتعدِّي بشرطِ أَمْنِ اللَّبْس نحو:» زيد ظالمُ العبيد «إذا عُلِم أن له عبيداً ظالمين، وأمَّا هنا فالَّبْسُ حاصلٌ؛ إذ الظاهرُ أنه من إضافةِ المثالِ للمفعولِ لا للفاعل» . قلت: واللَّبْسُ أيضاً هنا مُنْتَفٍ لأن المعنى على الإِسناد المجازي كما تقرَّر فانتفى اللَّبْسُ.

40

قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَتِي} : عطفٌ على المفعولِ الأول ل «اجعلني» ، أي: واجعل بعضَ ذرِّيَّتي مقيمَ الصلاة. وهذا الجارُّ في الحقيقة صفةٌ لذلك المحذوفِ، أي: وبعضاً من ذريتي. قوله: {وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} قرأ أو عمروٍ وحمزةُ وورشٌ بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً، والبزيُّ بإثباتها في الحالين، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، وقد روي بعضُهم إثباتَها وقفاً أيضاً.

41

قوله تعالى: {وَلِوَالِدَيَّ} : العامَّةُ على «والِدَيَّ» بألفٍ

بعد الواو وتشديدِ الياء، وابن جبير كذلك، إلا أنه سَكَّن الياءَ أراد والده وحدّه كقولِه {واغفر لأبي} [الشعراء: 86] . وقرأ الحسين بن علي ومحمد وزيد ابنا علي بن الحسين وابن يعمر «ولولدي» دون ألف، تثنية وَلَد، ويعني بهما إسماعيل وإسحاق، وأنكرها الجحدريُّ بأنَّ في مصحف أُبَيّ «ولأبويَّ» فهي مفسِّرةٌ لقراءةِ العامَّة. ورُوي عن ابنِ يعمر أنَّه قرأ «ولِوُلْدي» بضمِّ الواو وسكونِ الياء، وفيها تأويلان، أحدُهما: أنه جمع «وَلَد» كأُسْد في «أَسَد» ، وأنْ يكونَ لغةً في الوَلَد كالحُزْن والحَزَن، والعَدَم والعُدْم، والبُخْل والبَخَل، وعليه قول الشاعر: 290 - 2- فليتَ زياداً كان في بَطْنِ أمِّه ... وليت زياداً كان وُلْدَ حمارِ وقد قُرِئَ بذلك في مريم والزخرف ونوح في السبعة، كما سيأتي إن شاء اللهُ تعالى. و «يومَ» نصبٌ ب «اغفر» .

42

قوله تعالى: {لِيَوْمٍ} : أي: لأَجْلِ يومٍ، فاللامُ للعلَّة وقيل: بمعنى إلى، أي: للغاية. وقرأ العامَّة «يُؤَخِّرُهم» بالياء لتقدُّم اسمِ الله

الكريم. وقرأ الحسن والسلميُّ والأعرج وخلائق - وتُروى عن أبي عمرو - «نَؤَخِّرُهم» بنون العظمة. و «تَشْخَصُ» صفةٌ ل «يوم» ومعنى شُخُوصِ البصر حِدّةُ النظرِ وعَدَمُ استقرارِه في مكانِه، ويقال: شَخَص سَهْمُهُ وبَصَرُه وأشخصَهما صاحبُهما، وشَخَصَ بصرُه: لم يَطْرِفْ جَفْنُه، ويقال: شَخَص/ مِنْ بلدِه، أي: بَعُدَ، والشَّخْص: سوادُ الإِنسانِ المَرْئِيِّ من بعيد.

43

قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} : حالان من المضافِ المحذوفِ؛ إذ التقديرُ: أصحاب الأبصار، إذ يُقال: شَخَصَ زيدٌ بصرَه، أو تكون الأبصارُ دلَّتْ على أربابِها فجاءت الحالُ مِن المدلولِ عليه، قالهما أبو البقاء. وقيل: «مُهْطِعين» منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، اي: يُبْصِرُهم مُهْطِعين. ويجوز في «مُقْنِعي» أن يكونَ حالاً من الضمير في «مُهْطِعين» فتكون حالاً متداخلةً. وإضافة «مُقْنعي» غيرُ حقيقيةٍ فلذلك وَقَعَتْ حالاً. والإِهطاع: قيل: الإِسراعُ في المشي قال: 290 - 3- إذا دعانا فأَهْطَعْنا لدَعْوَته ... داعٍ سميعٌ فَلَفُّونا وساقُوْنا

وقال: 290 - 4- وبمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأن عِنَانَه ... في [رأس] جَذْعٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال أبو عبيدة: «قد يكون الإِسراعَ وإدامةَ النظر» . وقال الراغب: «هَطَع الرجلُ ببصره إذا صَوَّبه، وبعيرٌ مُهْطِعٌ إذا صَوَّب عُنُقَه» . وقال الأخفش: «هو الإِقبالُ على الإِصغاء» وأنشد: 290 - 5- بِدِجْلَةَ دارُهُمْ ولقد أراهُمْ ... بِدِجْلِةَ مُهْطِعِيْن إلى السَّماعِ والمعنى: مُقْبِلِيْن برؤوسهم إلى سَماع الدَّاعي. وقالَ ثعلب: «أَهْطِع الرجلُ إذا نظر بِذُلٍّ وخُشُوعِ، لا يُقْلِعُ ببصره» ، وهذا موافِقٌ لقول أبي عبيدٍ فقد سُمِعَ فيه: أَهْطَعَ وهَطَعَ رباعياً وثلاثياً.

والإِقناع: رَفْعُ الرأسِ وإدامةُ النظر من غيرِ التفاتٍ إل غيرِه، قاله القتبيُّ وابنُ عرفة، ومنه قولُه يَصِفُ إبلاً ترعى أعالي الشجر فترفع رؤوسها: 290 - 6- يُباكِرْن العِضَاهَ بمُقْنَعاتٍ ... نواجِذُهُنَّ كالِحَدأ الوَقيع ويقال: أَقْنَعَ رأسَه، أي: طَأْطَأها ونَكَّسها فهو من الأضداد، والقَناعَةُ: الاجتِزاءُ باليسير، ومعنى قَنِع بكذا: ارتفع رأسُه عن السؤال، وفَمٌ مُقَنَّع: مَعْطُوفُ الأسنان داخله ورجلٌ مُقَنَّعٌ بالتشديد. ويقال: قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً وقَنَعاً إذا رَضِيَ، وقَنَعَ قُنُوعاً إذا سَأَل، فوقع الفرقُ بالمصدر. وقال الراغب: «قال بعضُهم:» أصلُ هذه الكلمةِ مِن القِناع، وهو ما يُغَطَّي الرأسَ، والقانِعُ مَنْ [لا] يُلحُّ في السؤال فَيَرْضَى بما يأتيه كقوله: 290 - 7-

لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْني ... مَفاقِرَه أعفُّ مِنَ القُنُوعِ ورجل مَقْنَعٌ يُقْنِعُ به. قال: 290 - 8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... شُهودِيْ على لَيْلَى عُدُولٌ مَقانِعُ والرُّؤوس: جمع رَأْس وهو مؤنثٌ، ويُجْمَع في القلة على أَرْؤُس، وفي الكثرةِ على رُؤوس، والأَرْأَسُ: العظيم الرأسِ، ويُعَبَّر بها عن الرجل العظيم كالوجهِ، والرئيس مشتق مِنْ ذلك، ورِئاسُ السيفِ مَقْبَضُهُ، وشاةٌ رَأْساء اسْوَدَّت رأسُها. قوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ} في محلِّ نصب على الحال أيضاً من الضمير في «مُقْنِعِي» . ويجوز أن يكونَ بدلاً من «مُقْنِعي» كذا قال أبو البقاء، يعني أنه يَحُلُّ مَحَلَّه. ويجوز أن يكونَ استئنافاً. والطَّرْفُ في الأصل مصدرٌ، وأُطْلِقَ على الفاعلِ لقولِهم: «ما فيهم عَيْنٌ تَطْرِفُ» ، [ولعلَّه] هنا العينُ. قال: 290 - 9- وأَغُضُّ طَرْفي ما بَدَتْ لي جارَتي ... حتى يُواري جارَتي مَأْواها

والطَّرْفُ: الجَفْنُ أيضاً، يقال: ما طَبَّق طَرْفَه - أي: جَفْنَه - على الآخر، والطَّرْفُ أيضاً تحريكُ الجَفْن. قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} يجوز أن يكونَ استئنافاً، وأن يكون حالاً، والعاملُ فيه: إمَّا «يَرْتَدُّ» ، وإمَّا ما قبله من العوامل. وأفرد «هواء» وإن كان خبراً عن جمعٍ لأنه في معنى: فارغة متخرِّقة، ولو لم يقصِدْ ذلك لقال: «أَهْوِيَة» ليُطابِقَ الخبرُ مبتدأه. والهواءُ: الخالي من الأجسام، ويُعَبَّر به عن الجبن، يقال: جَوْفُه هواءٌ، أي: فارغ، قال زهير: 291 - 0- كأن ارَّحْلَ منها فوق صَعْلٍ ... من الظَّلْمَانِ جُؤْجُؤُه هَواءُ وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: 291 - 1-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأنت مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هواءُ النَّخِب: الذي أَخَذْتَ نُخْبَته، أي: خِيارَه.

44

قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ} : مفعولٌ ثانٍ ل «أَنْذِرْ» ، أي: خَوِّفْهم عذابَ يومٍ، كذا قدَّره أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ إذ يَؤُول إلى قولِك: أَنْذِرْ عذابَ يومِ يأتيهم العذابُ، فلا حاجةَ إلى ذلك. ولا جائزٌ أن يكونَ ظرفاً

له، لأنَّ ذلك اليومَ لا إنذارَ فيه، سواءً قيل: إنه يومُ القيامةِ، أو يومٌ لهلاكهم، أو يومَ يلقاهم الملائكةُ. وقوله: «نُجِبْ» جوابُ الأمر. قوله: {أَوَلَمْ تكونوا} قال الزمخشريُّ: «على إرادةِ القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بَطَراً وأَشَرَاً، وأَنْ يقولوه بلسان الحالِ حيث بَنَوْا شديداً وأمَّلوا بعيداً» . و «مالكم» جوابُ القسمِ، وإنما جاء بلفظِ الخطابِ، لقوله: «أَقْسَمْتُمْ» ولو جاء بلفظِ المُقْسِمين لقيل: ما لنا. وقَدَّر الشيخ ذلك القولَ من قولِ الله تعالى أو الملائكةِ، أي: فيقال لهم: أو لم تكونوا. وهو عندي أظهرُ مِن الأول، أعني جَرَيانَ القولِ مِنْ غيرهم لا منهم.

45

قوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن} : أصلُ «سَكَن» التعدِّي ب «في» كما في هذه الآيةِ، وقد يتعدَّى بنفسه. قال الزمخشريُّ: «السُّكْنَى مِن السكونِ الذي هو اللُّبْث، وأصلُ تَعَدِّيه ب» في «كقولك: قَرَّ/ في الدارِ، وأقامَ فيها، وغَنِي فيها، ولكنه لمَّا نُقِل إلى سكونٍ خاص تصَرَّفَ فيه، فقيل:» سَكَنَ الدارَ «كما قيل: تبوَّأَها وأَوْطَنها، ويجوز ان يكونَ مِن السُّكون، اي: قَرُّوا فيها واطمأنُّوا» . قوله: «وتَبَيَّنَ» فاعلُه مضمرٌ لدلالةِ الكلامِ عليه، [أي] : حالُهم وخبرُهم وهلاكُهم. و «كيف» نَصْبٌ بفَعَلْنا، وجملةُ الاستفهامِ ليست معمولةً ل «تَبَيَّن» ؛ لأنه من الأفعال التي لا تُعَلَّق، ولا جائزٌ أن يكونَ «كيف» فاعلاً،؛

لأنها: إمَّا شرطيةٌ أو استفهاميةٌ، وكلاهما لا يعمل فيه ما تقدَّمه، والفاعلُ لا يتقدَّم عندنا. وقال بعض الكوفيين: «إنَّ جملةَ» كيف فَعَلْنا «هو الفاعلُ» ، وهم يُجيزون أن تكونَ الجملةُ فاعلاً، وقد تقدم هذا قريباً في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] . والعامَّةُ على «تَبَيَّن» فعلاً ماضياً. وقرأ عمر لن الخطاب والسُّلَمي في روايةٍ عنه: «ونُبَيِّنَ» بضمِّ النونِ الأولى والثانية، مضارع «بَيَّن» ، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ حالٌ، أي: ونحنُ نبيِّن. وقرأ السُّلَميُّ - فيما نقل المهدويُّ - كذلك إلاَّ أنه سَكَّن النونَ للجزمِ نَسَقاً على «تكونوا» ، فيكونُ داخلاً في حيِّز التقدير.

46

قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} : يجوز أن يكونَ هذا المصدرُ مضافاً لفاله كالأولِ بمعنى: أنَّ مَكْرَهُمْ الذي مكروه جزاؤُه عند الله تعالى، أو للمفعولِ، بمعنى: أنَّ عند الله مَكْرَهم الذي يَمْكُرُهم به، أي: يُعَذِّبهم. قالهما الزمخشري. قال الشيخ: «وهذا لا يَصِحُّ إلا إنْ كان» مَكَرَ «يتعدَّى بنفسِه كما قال هو، إذ قدَّر: يمكرهم به، والمحفوظ أنَّ» مَكَر «لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسِه. قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 30] ، وتقول: زيدٌ ممكورٌ به، ولا يُحْفظ» زيدٌ ممكورٌ «بسبب كذا» .

قوله «لِتَزُولَ» قرأ العامَّةُ بكسر اللام، والكسائيُّ بفتحِها فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجه، أحدُها: أنها نافيةٌ واللامُ لامُ الجحودِ؛ لأنها بعد كونٍ منفيّ، وفي «كان» حينئذٍ قولان، أحدُهما: أنها تامَّةٌ، والمعنى: تحقيرُ مَكْرِهم، أنه ما كان لتزولَ منه الشرائع التي كالجبالِ في ثبوتِها وقوتِها. ويؤيد كونَها نافيةً قراءةُ عبد الله: «وما كان مَكْرُهم» . القول الثاني: أنها ناقصةٌ، وفي خبرِها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين: هل هو محذوفٌ واللامُ متعلقةٌ به، وإليه ذهب البصريون، أو هذه اللام وما جَرَّتْه، كما هو مذهبُ الكوفيين، وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران. الوجه الثاني: أن تكونَ المخففةَ من الثقيلة. قال الزمخشري: «وإنْ عَظُمَ مكرُهم وتبالغَ في الشدَّةِ، فضرب زوالَ الجبالِ منه مثلاً لشدَّته، أي: وإنْ كان مَكْرُهم مُعَدَّاً لذلك» . وقال ابن عطية: «ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءةِ: تَعظيمَ مَكْرِهم، أي: وإن كان شديداً، إنما يفعل لتذهب به عظامُ الأمور» فمفهومُ هذين الكلامين أنها مخففةٌ لأنه إثباتٌ. والثالث: أنها شرطيةٌ، وجوابُها محذوف، أي: وإنْ كان مكرُهم مُعَدَّاً لإِزالةِ أشباهِ الجبال الرواسي، وهي المعجزات والآيات، فالله مجازِيْهم بمكرٍ هو أعظمُ منه. وقد رُجَّح الوجهان الأخيران على الأول وهو أنها نافيةٌ؛ لأن فيه

معارضةً لقراءة الكسائي، وذلك أن قراءَته تُؤْذِنُ بالإِثباتِ، وقراءةَ غيره تُؤْذن بالنفي. وقد أجاب بعضُهم عن ذلك بأنَّ الحالَ في قراءة الكسائي مُشارٌ بها إلى أمورٍ عظام غيرِ الإِسلامِ ومُعجزاتِه كمكرهم صلاحيةَ إزالتها، وفي قراءةِ الجماعةِ مُشارُ بها إلى ما جاء به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدين الحق، فلا تَعارُضَ، إذ لم يتواردا على معنى واحدٍ نفياً وإثباتاً. وأمَّا قراءةُ الكسائي ففي «إنْ» وجهان: مذهبُ البصريين، أنها المخففةُ واللام فارقة، ومذهبُ الكوفيين: أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى «إلا» ، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين. وقرأ عمرُ وعليٌّ وعبد الله وزيد بن علي وأبو سلمة وجماعة «وإن كاد مكرهم لَتزول» كقراءةِ الكسائي إلا أنهم جعلوا مكان نون «كان» دالاًّ فعلَ مقاربة، وتخريجها كما تقدَّم، ولكن الزوالَ غيرُ واقعٍ. وقُرِء «لَتَزُوْل» بفتح اللامين. وتخريجهما على إشكالها أنها جاءَتْ على لغةِ مَنْ يفتح لام «كي» .

47

قوله تعالى: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ} : العامَّةُ على إضافة «مُخْلِف» إلى «وعدِه» وفيها وجهان، أظهرهما: أن «مُخْلف» يَتَعَدَّى لاثنين كفعلِه، فقدَّم المفعولَ الثاني، وأُضيف إليه اسمُ الفاعل تخفيفاً نحو: «هذا

كاسِيْ جُبَّةٍ زيداً» قال الفراء وقطرب: «لمَّا تعدَّى/ إليهما جميعاً لم يُبَالَ بالتقديمِ والتأخير» . وقال الزمخشري: «فإن قلت: هلا قيل: مُخْلِفَ رسلِه وعدَه، ولِمَ قَدَّم المفعولَ الثاني على الأول؟ قلت: قَدَّمَ الوعدَ ليُعْلِمَ أنه لا يُخْلِفُ الوعدَ ثم قال» رسله «ليُؤْذِنَ أنه إذا لم يُخْلِفْ وعدَه أحداً - وليس من شأنِه إخلافُ المواعيد - كيف يُخْلِفُه رُسلَهُ» . وقال أبو البقاء: «هو قريب من قولهم: 291 - 2- يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدارِ ... وأنشد بعضُهم نظيرَ الآيةِ الكريمة قولَ الشاعر: 291 - 3- ترى الثورَ فيها مُدخِلَ الظلِ رأسَهُ ... وسائرُه بادٍ إلى الشمسِ أجمعُ والحُسبان هنا: الأمر المنتفي، كقوله: 291 - 4- فلا تَحسَبَنْ أني أَضِلُّ مَنِيَّتي ... فكلُّ امرِئٍ كأسَ الحِمام يذوقُ

الثاني: أنه متعدٍّ لواحدٍ، وهو» وعدِه «، وأمَّا» رُسُلَه «فمنصوبٌ بالمصدر، فإنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ تقديرُه: مُخْلِفُ ما وعدَ رُسَلَه، ف» ما «مصدريةٌ لا بمعنى الذي. وقرأت جماعةٌ {مُخْلِفَ وَعْدَ رُسَلَهُ} بنصبِ» وعدَه «وجرِّ» رسلِه «فَصْلاً بالمفعولِ بين المتضايفين، وهي كقراءةِ ابن عامرٍ {قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ} قال الزمخشري جرأةً منه:» وهذه في الضَّعْفِ كمَنْ قرأ {قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ} .

48

قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ} : يجوز فيه عدةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً ب «انتقام» ، أي: يقع انتقامُهُ في ذلك اليوم. الثاني: أن ينتصبَ ب «اذكْر» . الثالث: ان ينتصبَ بما يتلخَّص مِنْ معنى {عَزِيزٌ ذُو انتقام} . الرابع: أن يكونَ بدلاً من {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ} [إبراهيم: 44] . الخامس: أن ينتصبَ ب «مُخْلِف» . السادس: أن ينتصبَ ب «وَعْدِه» ، و «إنَّ» وما بعدها اعتراضٌ. ومنع أبو البقاء هذين الأخيرين، قال «لأنَّ ما قبل» إنَّ «لا يعمل فيما بعدها» . وهذا غيرُ مانعٍ لأنه كما تقدَّم اعتراضٌ فلا يُبالَى به فاصلاً. وقوله: «والسماواتُ» تقديرُه: وتُبَدَّل السماواتُ غيرَ السماواتِ. وفي التبديلِ قولان: هل هو متعلِّقٌ بالذات أو بالصفة؟ وإلى الثاني مَيْلُ

ابنِ عباس، وأنشد: 291 - 5- فما الناسُ بالناسِ الذين عَهِدْتُهُمْ ... ولا الدارُ التي كنتُ تَعْلَمُ وقرئ «نُبَدِّل» بالنون، «الأرضَ» نصباً، و «السماواتِ» نَسَقٌ عليه. قوله: «وبَرَزوا» فيه وجهان: أحدُهما أنها جملةٌ مستأنفةٌ، أي: ويَبْرُزُون، كذا قدَّره أبو البقاء، يعني أنه ماضٍ يُراد به الاستقبالُ، والأحسنُ أنه مِثْلُ {ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50] {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} [الحجر: 2] {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] لتحقُّقِ ذلك. والثاني: أنها حالٌ من الأرض، و «قد» معها مُرادةٌ، قاله أبو البقاء، ويكون الضميرُ في «بَرَزوا» للخَلْق دَلَّ عليهم السياقُ، والرابطُ بين الحالِ وصاحِبِها الواوُ. وقرأ زيدُ بنُ علي «وبُرِّزوا» بضم الباءِ وكسر الراء مشددةً على التكثير في الفعلِ ومفعوله.

49

قوله تعالى: {مُّقَرَّنِينَ} : يجوز أن يكونَ حالاً على أنها بَصَرية، وأن يكونَ مفعولاً ثانياً على أنها عِلْمية. و {فِي الأصفاد} متعلِّقٌ به. وقيل: بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ أو صفةٌ ل «مُقَرِّنين» . والمُقَرَّنُ: مَنْ جُمِعَ في القَرَن، وهو الحبلُ الذي يُرْبط به، قال: 291 - 6- وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعِيٍسِ وقال آخر: 291 - 7- والخيرُ والشرُّ مَلْزُوْزان في قَرَنْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي التفسير: أنَّ كلَّ كافرٍ يُقْرَنُ مع شيطانِه في سلسلة. والأَصْفاد: جمعُ صَفَد وهوى الغِلُّ والقيد، يُقال: صَفَده يَصْفِدُه صَفْداً: قَيَّده، والاسمُ: الصَّفَد، وصَفَّده مشدداً للتكثير. قال: 298 - 1- فآبُوا بالنهَّائِبِ والسَّبايا ... وأُبْنا بالمُلوكِ مُصفَّدينا والصِّفاد مثلُ الصَّفَدِ، وأَصْفَده، أي: أعطاه، فَفَرَّقوا بين فَعَل وأَفْعل. وقيل: بل يُستعملان في القَيْد وفي العطاء. قال النابغة: 291 - 9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

فلم أُعَرِّض -أبيتَ اللَّعْنَ- بالصَّفَد أي: بالإِعطاءِ، وسُمِّي العَطاءُ صَفَداً لأنه يُقَيِّدُ مَنْ يعطيه ومنه «أنا مَغْلولُ أياديك، وأَسِيْرُ نِعْمَتِك» .

50

قوله تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} : مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ على الحال: إمَّا من «المجرمين» ، وإمَّا من «مُقَرَّنين» ، وإمَّا مِنْ ضميره. ويجوز أن تكونَ مستانفةً، وهو الظاهر. والسَّرابيلُ: الثياب. وسَرْبَلْتُه، أي: أَلْبَسْتَه السِّربال. قال: 292 - 0- أَوْدَى بنَعْلَيَّ وسِرْباليَهْ ... ويُطلقُ على ما يُحَصَّنُ في الحَرْب، من الدِّرْع وشبهِه، قال تعالى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] . والقَطِران: ما يُسْتَخْرج مِنْ شجرٍ، فيُطبخ وتُطْلَى به الإِبلُ الجُرُبُ لِيَذْهَبَ جَرْبُها بِحِدَّته، وهو أفضلُ الأشياءِ للاشتعال به. وفيه لغاتٌ: قَطِران بفتح/ القاف وكسر الطاء، وهي قراءةُ العامَّة. وقَطْران بزنة سَكْران وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. وقال أبو النجم: 292 - 1- لَبَّسَه القَطْرانَ والمُسُوحَا ...

وقِطْران بكسر القافِ وسكونِ الطاء بزنة سِرْحان، ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْت. وقرأ جماعةٌ كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وابن عباس وأبو هريرة والحسَن «بَقَطِرٍ» بفتح القافِ وكسرِ الطاءِ وتنوينِ الراء، «آنٍ» بوزن عانٍ، جعلوهما كلمتين والقَطِر: النحاس، والآني: اسمُ فاعل مِنْ أَنَى يَأْني، أي: تناهى في الحرارةِ كقوله: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] ، وعن عمرَ رضي الله عنه «ليس بالقَطْران، ولكنه النحاسُ الذي يَصير بلَوْنِه» . وقرىء: «وتَغَشَّى» بتشديدِ الشينِ، أي: وتَتَغشَّى، فحذف إحدى التاءين. وقُرِئ برفعِ «وجوهُهم» ونصبِ «النار» على سبيلِ المجاز، جَعَلَ ورودَ الوجوهِ النارَ غِشْياناً. والجملةُ من قوله «وتَغْشى» قال أبو البقاء: «حالٌ أيضاً» ، يعني أنها معطوفةٌ على الحال، ولا يَعْني أنها حالٌ، والواوُ للحال؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ.

51

قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ} : في هذه الآيةِ وجهان. أولاهما: أن يتعلَّق ب «بَرَزُوا» ، وعلى هذا فقولُه «وَتَرَى» جملةٌ معترضةٌ بين المتعلِّق والمتعلِّق به. والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: فَعَلْنا بالمجرمين

ذلك ليَجْزي كلَّ نفس؛ لأنه إذا عاقب المجرمَ أثاب الطائعَ.

52

وقوله تعالى: {هذا} إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِن قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ} [إبراهيم: 47] إلى هنا، أو إلى كلِّ القرآن نُزِّل مَنْزِلةَ الحاضر. قوله: «وَلِيُنْذَروا» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: وليُنْذِرُوا به أَنْزَلْنا عليك. الثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، ذلك المحذوفُ متعلقٌ ب «بلاغ» ، تقديره: ليُنْصَحوا ولِيُنْذَروا. الثالث: أن الواوَ مزيدةٌ و «لِيُنْذَروا» متعلقٌ ب «بلاغ» ، وهو رأيُ الأخفش، نقله الماوردي. الرابع: أنه محمولٌ على المعنى، أي: ليُبَلَّغُوا ولِيُنْذَرُوا. الخامس: أن اللامَ لامُ الأمر. قال بعضُهم: وهو حسنٌ لولا قولُه «ولِيَذَّكَّر» فإنه منصوبٌ فقط. قلت: لا محذورَ في ذلك فإنَّ قولَه «ولِيَذَّكَّرَ» ليس معطوفاً على ما تقدَّمه، بل متعلِّقٌ بفعلٍ مقدر، أي: ولِيَذَّكَّر أَنْزَلْناه وأَوْحيناه. السادس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. التقدير: هذا بلاغٌ وهو ليذَّكَّر، قاله ابن عطية. السابع: أنه عطفُ مفردٍ على مفردٍ، أي: هذا بلاغٌ وإنذار، قاله المبرد، وهو تفسيرُ معنى لا إعرابٍ. الثامن: أنه معطوفٌ على قوله {لِتُخْرِجَ الناس} [إبراهيم: 1] في أولِ السورة. وهذا

غريبٌ جداً. التاسع: قاله أبو البقاء: «المعنى: هذا بلاغٌ للناسِ وللإِنذار، فتعلَّق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جَعَلْتَ» الناس «صفةً، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره: ولِيُنْذَروا به أُنْزِل وتُلِي» . قلت: فيؤدي التقدير إلى أَنْ يَبْقى التركيبُ: هذا بلاغٌ للإِنذار، والإِنذارُ لا يتأتَّى فيه ذلك. وقرأ العامَّة: «لِيُنْذَرُوا» مبنياً للمفعول، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس: «ولِتُنْذِرُوا» بتاءٍ مضمومة وكسرِ الذال، كأنَّ البلاغَ للعموم والإِنذار للمخاطبين. وقرأ يحيى بن عُمارة الذارع عن أبيه، وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي. «ولِيُنْذَرُوا» بفتح الياء والذال مِنْ نَذَر بالشيء، أي: عَلِم به فاستعدَّ له، قالوا: ولم يُعرف له مصدرٌ فهو كَعَسَى وغيرِها من الأفعالِ التي لا مصادرَ لها.

الحجر

قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ} تقدَّم نظيرُها في أولِ الرعد. والإِشارة ب «تلك» إلى ما تضمَّنته السورةُ، ولم يذكرْ الزمخشري غيرَه. وقيل: إشارةٌ إلى الكتب السالفة. وتنكيرُ القرآنِ للتفخيم.

2

قوله تعالى: {رُّبَمَا} {رُبَ} : فيها قولان، أحدُهما: أنها حرفُ جرٍّ، وزعم الكوفيون وأبو الحسن وابن الطَّراوة أنها اسم. ومعناها التقليلُ على المشهور. وقيل: تفيد التكثير. وقيل: تفيد التكثير في مواضعِ الافتخار كقوله: 2922 - 0- فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ ... بآنسةٍ كأنها خطُّ تِمْثالِ

وقد أُجيب عن ذلك: بأنها لتقليل النظير. ودلائلُ هذه الأقوال في النحو. وفيها لغاتٌ كثيرةٌ أشهرها: «رُبَ» بالضم والتشديد، أو التخفيف، وبالثانية قرأ نافع وعاصم. و «رَبَ» بالفتح مع/ التشديد والتخفيف، ورُبْ ورَبْ بالضم والفتح مع السكون فيهما. وتتصل تاءُ التأنيث بكلِّ ذلك، وبالتاء قرأ طلحةُ بن مصرف وزيدُ بن علي: رُبَّتَما. وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإِسكانُ والفتح كثُمَّت ولات، فتكثر الألفاظ، ولها أحكامٌ كثيرةٌ منها: لزومُ تصديرِها، ومنها تنكيرُ مجرورِها وقوله: 292 - 3- رُبَّما الجامِلِ المُؤَبَّلِ فيهمُ ... وعَنَاجيجُ بينهنَّ المهَارى ضرورةٌ في رواية مَنْ جَرًّ «الجامِل» . وتَجُرُّ ضميراً لازمَ التفسير بنكرةٍ بعده، يُستغنى بتثيِتها وجمعِها وتانيثِها عن تثنية الضمير وجمعِه وتأنيثِه كقولِه « 292 - 4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ورُبَّه عَطِباً أَنْقَذْتُ مِنْ عَطَبِهْ

والمطابقةُ نحو:: رُبَّهما رجلين» نادرةٌ. وقد يُعطف على مجرورِها ما أُضيف إلى ضميرِه نحو: «رُبَّ رجلٍ وأخيه» . وها يلزم وَصْفُ مجرورِها، ومُضِيُّ ما يتعلَّق به؟ خلاف، والصحيحُ عدمُ ذلك. فمِنْ مجيئه غيرَ موصوفٍ قولُ هندٍ: 292 - 5- يا رُبَّ قائلةٍ غداً ... يا لهفَ أمِّ مُعاويهْ ومن مجيء المستقبلِ قولُه: 292 - 6- فإنْ أَهْلَِكْ فربَّ فتىً سيبكيْ ... عليَّ مهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ وقولُها: «يا رُبَّ قائلةٍ غداً» البيت، وقول سليم: 292 - 7- ومعتصمٍ بالحيِّ من خشية الرَّدى ... سيُرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُوب فإنَّ حرف التنفيس و «غداً» خَلَّصاه للاستقبالِ. و «ما» في «رُبما» تحتمل وجهين، أظهرُهما: أنها المهيِّئَةُ، بمعنى: أن «رُبَّ» مختصةٌ بالأسماء، فلمَّا جاءت «ما» هَيَّأت دخولَها على الأفعال. وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في «إنَّ» وأخواتها، وتَكُفُّها أيضاً عن العمل كقولِه: 292 - 8- رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في روايةِ مَنْ رَفَعه، كما جَرَى ذلك في كاف التشبيه. والثاني: أنَّ «

ما» نكرةٌ موصوفةٌ بالجملةِ الواقعة بعدها، والعائدُ على «ما» محذوفٌ، تقديره: رُبَّ شيءٍ يَوَدُّه الذين كفروا. وقوله: {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} مَنْ لم يلتزمْ مُضِيَّ متعلِّقِها لم يَحْتَجْ إلى تأويلٍ، ومَنْ التَزَم ذلك قال: لأن المُتَرَقَّب في أخبار الله تعالى واقعٌ لا محالةَ، فعبَّر عنه بالماضي تحقيقاً لوقوعِه، كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ونحوِه. قوله: {لَوْ كَانُواْ} يجوز في «لو» أن تكونَ الامتناعيةَ، وحينئذٍ يكون جوابُها محذوفاً. تقديره: لو كانوا مسلمين لسُرُّوا بذلك، أو لَخَلصوا ممَّا هم فيه. ومفعولُ «يَوَدُّ» محذوفٌ على هذا التقديرِ: أي: رُبَّما يودُّ الذين كفروا النجاةَ، دَلَّ عليه الجملةُ الامتناعية. والثاني: أنها مصدرية عند مَنْ يرى ذلك كما تقدَّم تقريرُه في البقرة. وحينئذٍ يكون هذا المصدرُ هو المفعولَ للوَدادة، أي: يَوَدُّون كونَهم مسلمين، إنْ جعلنا «ما» كافةً، وإنْ جعلناها نكرةً كانت «لو» وما في حَيِّزِها بدلاً مِنْ «ما» .

3

قوله تعالى: {ذَرْهُمْ} : هذا لا يُستعمل له ماضٍ إلا قليلاً استغناءً عنه ب «تَرَكَ» بل يُستعمل منه المضارعُ نحو: {وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] . ومن مجيء الماضي قولُه عليه السلام: «ذَرُوا الحبشة ما وَذَرَتْكم» ، ومثله: دَعْ

ويَدَعُ، ولا يقال «وَدَعَ» إلاَّ نادراً، وقد قرئ «ما وَدَعك» مخفَّفاً، وأنشدوا قوله: 292 - 9- سَلْ أميري ما الذي غيَّرهْ ... عن وصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ و {يَأْكُلُواْ} مجزومٌ على جوابِ الأمر، وقد تقدَّم أنَّ «تَرَكَ» و «ذَرْ» يكونان بمعنى صَيَّر، فعلى هذا يكون المفعولُ الثاني محذوفاً، أي: ذَرْهُمْ مُهْمِلين، ولا يكونوا هو الثاني ولا حالاً؛ إذ كان يجبُ رفعه.

4

قوله تعالى: {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ} : فيه أوجه، أحدُها: - وهو الظاهرُ- أنها واوُ الحالِ، ثم لك اعتباران، أحدُهما: أن تجعل الحالَ وحدَها الجارَّ، ويرتفع «كتابٌ» به فاعلاً. والثاني: أن تجعلَ الجارَّ خبراً مقدماً، و «كتاب» مبتدأ والجملةُ حالٌ، وهذه الحالُ لازمةٌ. الثاني: أنَّ الواوَ مزيدةٌ، وأيَّد هذا قولَه بقراءة ابن أبي عبلة «إلا لها» بإسقاطِها. والزيادةُ ليسَتْ بالسهلةِ. الثالث: أنَّ الواوَ داخِلةٌ على الجملةِ الواقعة صفةً تأكيداً، قال الزمخشري: «/والجملةُ واقعةٌ صفةً لقرية، والقياسُ أن لا تتوسطَ هذه الواوُ بينهما كما في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] وإنما توسَّطَتْ

لتأكيدِ لصوق الصفة بالموصوف، كما تقول:» وجاءني زيد عليه يوبُه، وجاءني وعليه ثوبُه «. وقد تَبِعَ الزمخشريُّ في ذلك أبو البقاء تعالى: وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله تعالى: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [الآية: 216] . قال الشيخ:» ولا نَعْلَمُ أحداً قاله من النحويين، وفي محفوظي أنَّ ابنَ جني سَبَقهما إلى ذلك «. ثم قال الشيخ:» وهو مبنيٌّ على جوازِ أنَّ ما بعد «إلا» يكون صفةً، وقد مَنَعُوا ذلك. قال الأخفش: «لا يُفْصَل بين الصفةِ والموصوفِ ب» إلا «. ثم قال: وأمَّا نحوُ:» ما جاءني رجلٌ إلا راكبٌ «على تقدير: إلا رجلٌ راكب، وفيه قُبْحٌ لِجَعْلِكَ الصفةَ كالاسم» . وقال أبو عليّ: «تقول: ما مررتُ بأحدٍ إلا قائماً،» قائماً «حال، ولا تقول: إلا قائمٍ، لأنَّ» إلاَّ «لا تعترضُ بين الصفةِ والموصوفِ» . وقال ابنُ مالك -وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله «ما مررت بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه» : إنَّ الجملة بعد «إلا» صفةٌ ل «أحد» : «إنه مذهبٌ لا يُعرف لبصريٍّ ولا كوفيٍّ، فلا يُلتفتُ إليه، وأَبْطَلَ قولَه: إن الواوَ توسَّطت لتأكيدِ لُصوقِ الصفةِ بالموصوف. قلت: قولُ الزمخشريُّ قويٌّ من حيث القياسُ، فإنَّ الصفةَ كالحال في المعنى، وإن كان بينهما فرقٌ مِنْ بعضِ الوجوهِ، فكما أن الواوُ تدخلُ على الجملةِ الواقعةِ حالاً كذلك تَدْخلُ عليها واقعةً صفةً. ويقوِّيه أيضاً ما نظَّره به

من الآيةِ الأخرى في قوله {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} ويُقَوِّيه أيضاً قراءةُ ابن أبي عبلة المتقدمةُ. وقال منذر بن سعيد:» هذه الواوُ هي التي تعطي أنَّ الحالةَ التي بعدها في اللفظ هي في الزمنِ قبل الحالةِ التي قبل الواوِ، ومنه قولُه تعالى: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] .

5

قوله تعالى: {مِنْ أُمَّةٍ} فاعلُ «تَسْبِقُ» ، و «مِنْ» مزيدةٌ للتأكيد، وحُمِل على لفظِ «أمَّة» في قوله «أجلَها» فأفردَ وأنَّثَ. وعلى معناها في قولِه {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} فَجَمَعَ وَذَكَّرَ. وحَذَفَ متعلِّق «يَسْتأخِرُون» ، تقديرُه: «عنه» للدلالةِ عليه، ولوقوعِه فاصلةً.

6

قوله تعالى: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} العامَّةُ على «نُزِّل» مشدَّداً مبنيَّاً للمفعول، وزيدُ بنُ علي «نَزَلَ» مخففاً مبنياً للفاعل.

7

قوله تعالى: {لَّوْ مَا} حرفُ تحضيضٍ كهَلاَّ، وتكون أيضاً حرفَ امتناعٍ لوجود، وذلك كما أنَّ «لولا» مترددةٌ بين هذين المعنيين، وقد عُرِف الفرقُ بينهما: وهو أنَّ التحضيضيَّةَ لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً كقولِهِ: 293 - 0-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . لولا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا والامتناعيةُ لا يليها إلا الأسماءُ لفظاً أو تقديراً عند البصريين. وقولُه: 293 - 1-

ولولا يَحْسَبُون الحِلْمَ عَجْزاً ... لَمَا عَدِمَ المُسِيْئُون احتمالي مؤولٌ خلافاً للكوفيين. فمِنْ مجئ «لَوْما» حرفَ امتناعٍ قولُه: 293 - 2- لَوْما الحياءُ ولوما الدينُ عِبْتُكما ... ببعضِ ما فيكما إذ عِبْتُما عَوَري واخْتُلِف فيها: هل هي بسيطةٌ أم مركبةٌ؟ فقال الزمخشري: «لو» رُكِّبَتْ مع «لا» ومع «ما» لمعنيين، وأمَّا «هل» فلم تُرَكَّب إلا مع «لا» وحدَها للتحضيض. واخْتُلِف أيضاً في «لوما» : هل هي أصلٌ بنفسِها أو فرعٌ على «لولا» ؟ وأن الميمَ مبدلةٌ من اللامِ كقولهم: خالَلْتُه وخالَمْته فهو خِلِّي وخِلْمي، أي: صديقي. وقالوا: استولى عليَّ كذا، واستومَى عليه بمعنى؟ خلاف مشهور. وهذه الجملةُ من التحضيضِ دالَّةٌ على جوابِ الشرطِ بعدَها.

8

قوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة} قرأ أبو بكر: «ما نُنَزِّل» بضمِّ التاء وفتحِ النونِ والزايِ مشددةً مبنياً للمفعول، «الملائكةُ» مرفوعاً لقيامِه مَقامَ فاعلِه، وهو موافقٌ لقولِه: {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] ، ولأنها لا تُنَزَّلُ إلا بأمرٍ من الله، فغيرُها هو المُنَزِّل لها وهو الله تعالى. وقرأ الأخَوان وحفصٌ بضم النون وفتح الثانية وكَسْرِ الزاي

مشددةً مبنياً للفاعل المعَظَّم، وهو الباري تعالى، «الملائكةَ» نصباً مفعولاً بها، وهو موافِقٌ لقولِه تعالى {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} [الأنعام: 111] ، ويناسِبُ قولَه قبل ذلك {وَمَآ أَهْلَكْنَا} [الحجر: 4] ، وقولُه بعده {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الحجر: 9] وما بعده من ألفاظِ التعظيمِ. والباقون من السبعةِ «ما تَنَزَّلُ» بفتح التاء والنون والزايِ/ مشددةً، و «الملائكةُ» مرفوعةً على الفاعلية، والأصل: تَتَنَزَّل بتاءين، فَحُذِفت إحداهما، وقد تقدَّم تقريرُه في {تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] ونحوه، وهو موافقٌ لقولِه {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} [القدر: 4] . وقرأ زيدُ بنُ عليّ «ما نَزَلَ» مخفَّفاً مبنياً للفاعل، «الملائكة» مرفوعةً بالفاعلية، وهو كقولِه {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] . قوله: {إِلاَّ بالحق} يجوز تعلٌُّق بالفعلِ قبله، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنَ الفاعلِ أو المفعولِ، أي: ملتبسين بالحق. ودعله الزمخشريُّ نعتاً لمصدر محذوف، أي: تَنَزُّلاً ملتبساً بالحقِّ. قوله: «إَذَنْ» قال الزمخشري: «إذن» حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ لأنَّها جوابٌ لهم، وجزاءُ الشرطِ مقدرٌ، تقديرُه: ولو نَزَّلْنا الملائكة ما كانوا مُنْظرين ومات أُخِّر عذابُهم.

9

قوله تعالى: {نَحْنُ} : إمَّا مبتدأ، وإمَّا تأكيدٌ، ولا يكون فصلاً لأنه لم يقع بين اسمين. والضمير في «له» للذِّكْر، وهو الظاهرُ. وقيل: للرسولِ عليه السلام.

10

قوله تعالى: {أَرْسَلْنَا} : مفعولُه محذوفٌ، أي: أرسلنا رسلاً من قبلك، ف «مِنْ قبلك» يجوز أن يتعلَّقَ ب «أَرْسَلْنَا» ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ، على أنه نعتٌ للمفعولِ المحذوفِ. و {شِيَعِ الأولين} قال الفراء: «هو من إضافة الموصوفِ لصفتِه، والأصلُ: في الشِّيَع الأولين كصلاة الأُولى، وجانب الغربيّ» . والبصريون يُؤَوِّلُونه على حذفِ الموصوفِ، اي: في شِيَع الأممِ الأوَّلين، وجانب المكانِ الغربي، وصلاة الساعةِ الأولى.

11

قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِم} قال الزمخشري «حكايةُ حالٍ ماضيةٍ؛ لأنَّ» ما «لا تدخُل على مضارعٍ إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماضٍ إلا وهو قريبٌ من الحال» . وهذا الذي ذكرَه هو الأكثرُ في لسانِهم، لكنه قد جاءَتْ مقارِنَةً للمضارعِ المرادِ به الاستقبالُ كقولِه تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي} [يونس: 15] ، وأنشدوا للأعشى يمدح النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 293 - 3-

له صَدَقاتٌ ما يَغِبُّ نَوالُها ... وليس عطاءُ اليومِ مانِعَه غَدا وقولَ أبي ذؤيب: 293 - 4- أودَى بَنِيَّ وأَوْدَعُونيْ حَسْرة ... عند الرُّقَادِ وعَبْرةً ما تُقْلِعً قوله: {إِلاَّ كَانُواْ} هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حالاً من مفعولِ «يَأتِيهمْ» . ويجوزُ أن تكونَ صفةً ل «رسول» فيكونَ في محلِّها وجهان: الجرُّ باعتبارِ اللفظ، والرفعُ باعتبارِ الموضعِ، وإذا كانت حالاً فهي حالٌ مقدرةٌ.

12

قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} يجوز في الكافِ أن تكونَ مرفوعةَ المحلِّ على أنها خبرُ مبتدأ مضمر، أي: الأمرُ كذلك، و «نَسْلُكُه» مستأنفٌ. ويجوز أن تكونَ منصوبةَ المحلِّ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف، أي: مثلَ ذلك السَّلْكِ ونحوِه نَسْلُكُه، أي: نَسْلُكُ الذِّكْرَ، وإمَّا حالاً من المصدرِ المقدَّرِ. والهاءُ في «نَسْلُكُه» يجوز عَوْدُها للذِّكْر، وهو الظاهر. وقيل: يعودُ للاستهزاء. وقيل: على الشِّرك.!

13

والهاء في: {بِهِ} يجوز عَوْدُها على ما تقدَّم من الثلاثة، ويكون تأويلُ عَوْدِها على الاستهزاءِ والشِّرْكِ، أي: لا يؤمنون بسببِه. وقيل: للرسولِ، وقيل: للقرآن. وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ حالاً، أي: لا يؤمنون مُسْتهزئين» قلت: كأنه جعل «به» متعلقاً بالحالِ المحذوفةِ قائماً مَقامَها، وهو مردودٌ؛ لأن الجارَّ إذا وقع حالاً أو نعتاً أو صلةً أو خبراً تعلَّق بكونٍ مطلقٍ لا خاصٍ، وكذا الظرفُ.

ومحلُّ {لاَ يُؤْمِنُونَ} النصبُ على الحال، ويجوز أَنْ لا يكونَ لها محلَّ، لأنها بيانٌ لقوله {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} . وقوله {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} استئناف. والسَّلْكُ: الإِدخال. يقال: سَلَكْتُ الخيطَ في الإبْرة، ومنه {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] يُقال: سَلَكَه وأَسْلكه، أي: نَظَمَه، قال الشاعر: 293 - 5- وكنتُ لِزازَ خَصْمِك لم أُعَرِّدْ ... وقد سَلَكُوكَ في أَمْرٍ عَصِيْبِ وقال الآخر في «أَسَلَكَ» : 293 - 6- حتى إذا أَسْلَكُوهمْ في قُتائِدَةٍ ... شَلاًّ كما تَطْرُدُ الجَمَّالةُ الشُّرُدا

14

قوله تعالى: {فَظَلُّواْ} : هي الناقصةُ، والضميرُ في «فظلُّوا» عائدٌ على الكفارِ المُفَتَّحِ لهم البابُ. وقيل: يعودُ على الملائكة. وقرأ الأعمشُ وأبو حَيْوة «يَعْرِجون» بكسر الراء، وهي في لغةُ هُذَيْلٍ في عَرَج يَعْرِج، أي: صَعِد.

15

قوله تعالى: {سُكِّرَتْ} : قرأ ابن كثير «سُكِرَتْ»

مبنياً للمفعول مخففَ الكاف، وباقي السبعة كذلك، إلا أنهم شدَّدُوا الكاف. والزهري «سَكِرَتْ» بفتح السين وكسرِ الكاف خفيفةً مبنياًَ للفاعل. فأمَّا القراءةُ الأولى فيجوز أن تكونَ بمعنى المشددة، فإنَّ التخفيفَ يَصْلُح للقليلِ والكثير، وهما مأخوذتان من «السِّكْر» بكسرِ السينِ وهو السَّدُّ، فالمعنى: حُبِسَتْ أبصارنا وسُدَّت. وقيل: بمعنى عُطِبَتْ. وقيل: بمعنى أُخِذَتْ. وقيل: بمعنى سُحِرَتْ. وقيل: المشدَّدُ مِنْ سِكْرِ الماء، والمخفَّفُ بمعنى سُحِرَتْ. / وقيل: المشدَّدُ مِنْ سِكْر الماءِ بالكسرِ، والمخفَّفُ مِنْ سُكْرِ الشَّراب بالضم. والمشهورُ أنَّ «سَكَر» لا يتعدَّى فكيف بُني للمفعول. فقال أبو علي: «ويجوز أن يكونَ سُمِع متعدَّياً في البصر» والذي قاله المحققون مِنْ أهل اللغة أنَّ «سَكَرَ» : إنْ كان مَنْ سَكِرَ الشرابِ، أو مِنْ سَكَرِ الريح، فالتضعيفُ فيه للتعدية، وإن كان مِنْ سَكَرِ الماءِ فالتضعيفُ للتكثيرِ لأنه متعدًّ مخففاً، وذلك أنه يُقال: سَكَرَتْ الريح تَسْكُرُ سَكَراً إذا رَكَدَتْ، وسَكِر الرجلُ من الشراب سَكَراً إذا رَكَد ولم يَنْفُذْ لحاجته، فهذان قاصران، فالتضعيفُ فيهما للتعدية. ويقال: سَكَرْتُ الماءَ في مجارِيْه: إذا مَنَعْتَه من الجَرْيِ، فهذا متعدٍّ، قالتضعيفُ فيه للتكثير.

وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فإن كانت مِنْ سَكَر الماءِ فواضحةٌ لأنه متعدٍّ، وإن كانَتْ مِنْ سَكَرِ الشَّرابِ أو سَكَر الريحِ فيجوز أن يكون الفعلُ استُعْمل لازماً تارةً ومتعدياً أخرى، نحو: رَجَع زيدٌ، ورَجَعَه غيرُه، وسَعَدَ وسَعَدَه غيرُه. وقال الزمخشري: «وسُكِّرت: حُيِّرَتْ، أو حُبِسَتْ من السَّكَر أو السَّكْر، وقُرئ» سُكِرَتْ «بالتخفيف، أي: حُبِسَتْ كما يُحْبَسُ النهرُ مِنَ الجَرْيِ» فجعل قراءة التشديدِ محتملةً لمعنيين، وقراءةَ التخفيفِ لمعنىً واحدٍ. وأمَّا قراءةُ الزُّهريِّ فواضِحَةٌ، أي: عُطِبَتْ. وقيل: هي مطاوعُ أَسْكَرْتُ المكانَ فسَكِرَ، أي: سَدَدْتُه فانْسَدَّ.

16

قوله تعالى: {جَعَلْنَا} : يجوز أن يكونَ بمعنى خَلَقْنا، فيتعلَّقَ به الجارُّ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّرنا، فيكون مفعولُه الأول «بُروجاً» ، ومفعولُه الثاني الجارَّ، فيتعلَّقُ بمحذوف. و «للناظرين» متعلِّقٌ ب «زيَّنَاها» . والضميرُ للسماء. وقيل: للبروجِ، وهي الكواكبُ، زَيَّنها بالضوء. والنظر عينيٌّ. وقيل: قلبيٌّ. وحُذِف متعلِّقُه لِيَعُمَّ.

18

قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ استرق} : فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: في محلِّ نصب على الاستثناءِ المتصلِ، والمعنى: فإنها لم تُحْفَظْ منه، قاله غيرُ واحدٍ. والثاني: منقطع، ومحلُّه النصبُ أيضاً. الثالث: أنه بدلٌ

مِنْ {كُلِّ شَيْطَانٍ} فيكون محلُّه الجرَّ، قاله الحوفي وأبو البقاء. وفيه نظر؛ لأن الكلامَ موجَبٌ. الرابع: أنه نعتٌ ل {كُلِّ شَيْطَانٍ} ، فيكونُ محلُّه الجرَّ على خلافٍ في هذه المسألة. الخامس: أنه في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه «فأَتْبعه» . وإنما دَخَلَتِ الفاءُ لأنَّ «مَنْ» : إمَّا شرطيةٌ، وإمَّا موصولةٌ مُشَبَّهَةٌ بالشرطية، قاله أبو البقاء، وحينئذ يكونُ من بابِ الاستثناء المنقطع. والشِّهاب: الشٌُّعْلَةُ من النار، وسُمِّي بها الكوكبُ لِشِدَّة ضوئِه وبَرِيْقِهِ، ويُجمع على شُهُب في الكثرة، وأَشْهِبَة. والشُّهْبَةُ: بياضٌ مختلِط بسوادٍ تشبيهاً بالشهاب لاختلاطِه بالدخان، ومنه كتيبةٌ شَهْباءُ لسوادِ القوم وبياضِ الحديد، ومِنْ ثَمَّ غَلِط الناسُ في إطلاقهم الشُّهْبَةَ على البياضِ الخالِص.

19

قوله تعالى: {والأرض مَدَدْنَاهَا} : «الأرض» نصبٌ على الاشتغالِ، ولم يُقرأ بغيرِه؛ لأنه راجحٌ مِنْ حيث العطفُ على جملةٍ فعليةٍ قبلها، وهي قوله {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} [الحجر: 16] . قال الشيخ: «ولمَّا كانَتْ هذه الجملةُ بعدها جملةً فعليةً كان النصبُ ارجحَ مِنَ الرفع» قلت: لم يَعُدُّوا هذا من القرائن المرجَّحة للنصب، إنما عَدُّوا عطفَها على جملةٍ فعليةٍ قبلَها لا عطفَ جملةٍ فعليةٍ عليها، ولكنه القياسُ، إذ تُعْطَفُ فيه فعليةٌ على مثلِها بخلافِ ما لو رَفَعْتَ، إذ تَعْطِفُ فعليةً على اسميةٍ، لكنهم لم يعتبروا ذلك والضميرُ في «فيها» للأرض. وقيل: للرواسي. وقيل: لهما.

قوله: {مِن كُلِّ شَيْءٍ} يجوز في «مَنْ» أن تكونَ تبعيضيةً وهو الصحيحُ، وأن تكونَ مزيدةً عند الكوفيين والأخفش.

20

قوله تعالى: {وَمَن لَّسْتُمْ} : يجوز في «مَنْ» خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو قول الزجاج - أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ تقديرُه: وأَعَشْنا مَنْ لستم لهم برازقين، كالعبيد والدوابِّ/ والوحوشِ. الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على «معايش» ، أي: وجعلنا لكم فيها مَنْ لستم له برازقين من الدوابِّ المنتفعِ بها. الثالث: أنه منصوبٌ عطفاً على محلِّ «لكم. الرابع: أنه مجرورٌ عطفاً على» كم «المجرورِ باللام، وجاز ذلك مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ على رأيِ الكوفيين وبعضِ البصريين، وقد تقدَّم تحقيقُه في سورة البقرة، عند قوله {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد} [البقرة: 217] . الخامس: أنه مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ. أي: ومَنْ لستم له برازقين جَعَلْنا له فيها معايشَ، وسُمِع من العرب» ضربْتُ زيداً وعمروٌ «برفع» عمرٌو «مبتدأً، محذوفَ الخبر، أي: وعمرٌو ضربْتُه. و» مَنْ «يجوز أن يُرادَ بها العقلاءُ، أي: ومَنْ لستُمْ له برازقين مِنْ مواليكم الذين تزعمون أنَّكم ترزقونه من وأن يُرادَ بها غيرُهم، أي: ومَنْ لَسْتُمْ له برازقين من الدوابِّ، وإن كنتم تزعمون أنكم ترزقونهم، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين. ويجوز أن يُراد بها النوعان، وهو حَسَنٌ لفظاً ومعنى.

21

قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ} : «إنْ» نافيةٌ، و «مِنْ» مزيدةٌ في المبتدأ، و «عندنا» خبرُه، و «خزائنُه» فاعلٌ به لاعتماده، ويجوز أن يكونَ «عندنا» خبراً لما بعده، والجملةُ خبرُ الأولِ، والأولُ أَوْلى لقُرْب الجارِّ من المفرد. قوله: {إِلاَّ بِقَدَرٍ} يجوزُ أن يتعلَّق بالفعلِ قبلَه، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ، أي: إلاَّ ملتبساً بقَدرٍ.

22

قوله تعالى: {لَوَاقِحَ} حالٌ مقدرةٌ من «الرياح» . وفي اللواقح أقوال، أحدها: أنه جمع «مُلْقِح» لأنه مِنْ أَلْقَحَ يُلْقِحُ فهو مُلْقِحٌ، فحقُّه مَلاقِح، فَحُذِفَتِ الميمُ تخفيفاً. يقال: أَلْقَحتِ الريحُ السحابَ، كما يقالُ: ألقح الفحلُ الأنثى. ومثله الطوائح، وأصلُه «المَطاوِح» لأنه مِنْ أطاح يُطيح قال: 293 - 7- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوائِحُ وهذا قول أبي عبيدة. والثاني: أنها جمع لاقِح يُقال: لَقِحَتِ الريحُ: إذا حَمَلَتِ الماءَ. وقال الأزهري: «حوامِلُ تحملُ السَِّحابَ كقولك: أَلْقَحَتِ الناقةُ فَلَحِقَتْ، إذا حَمَلَتِ الجنينَ في بطنِها، فشُبِّهَتْ الريحُ بها، ومنه قوله: 293 - 8-

إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَروسٌ تَهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ والثالث: أنها جمعُ» لاقِح «على النَسب ك لابنِ وتامرِ، أي: ذاتُ لِقاح؛ لأنَّ الريحَ إذا مَرَّتْ على الماء، ثم مَرَّتْ على السحابِ والماءِ كان فيها لِقاحٌ، قاله الفراء. وقد تقدَّم الخلافُ في» معايش «في الأعراف، وفي» يُنَزِّل «، وفي» الريح «في البقرة. ولم يَبْقَ هنا إلا مَنْ أفردَ» الريح «، فإنه يُقال: كيف نصبَ الحالَ مجموعةً عن مفردٍ؟ وقد تقدم أن المرادَ به الجنسُ وهو جمعٌ في المعنى فلا محذورَ. قوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} يقال: أَسْقاه وسَقاه وسيأتي بيانُهما في السورة بعدها فإنه قُرِئ بهما. واتصل الضميران هنا لاختلافِهما رتبةً، ولو فُصِل ثانيهما لجاز عند غير سيبويه، وهذا كما تقدَّم في قولِه {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} [هود: 28] . قوله: {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} جملةٌ مستأنفة و» له «متعلِّقٌ ب» خازنين «.

23

قوله تعالى: {لَنَحْنُ} «نحن» يجوز أن يكونَ مبتدأً،

و «نُحْيِيْ» خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّا» . ويجوز أن يكونَ تأكيداً ل «ن» في «إنَّا» ، ولا يجوز أن يكونَ فَصْلاً لأنه لم يَقَعْ بين اسمين، وقد تقدَّم نظيرُه. وقال أبو البقاء: «لا يكون فَصْلاً لوجهين، أحدهما: أنَّ بعده فعلاً، والثاني: أنَّ معه اللامَ. قلت: الوجهُ الثاني غَلَطَ فإنَّ/ لامَ التوكيد لا يمتنع دخولُها على الفَصلِ، نصَّ النحاةُ على ذلك، ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص} [آل عمران: 62] جَوَّزوا فيه الفصلَ مع اقترانِه باللامِ.

26

قوله تعالى: {مِن صَلْصَالٍ} : «مِنْ» لابتداء الغاية أو للتبعيضِ. والصَّلْصال: قال أبو عبيدة: «وهو الطينُ المختلِطُ بالرَّمْل، ثم يَجِفُّ، فيُسمع له صَلْصَلَةٌ، أي: تَصْوِيْت» . وقال الزمخشري: «الطين اليابسُ الذي يُصَلْصِلُ من غيرِ طبخٍ، فإذا طُبِخَ فهو فَخَّار» . وقال أبو الهيثم: «هو صوت اللِّجامِ وما أشبهه كالقَعْقَعَة في الثوبِ» . وقال الزمخشري أيضاً: «قالوا: إذا تَوَهَّمْتَ في صوتِه مَدَّاً فهو صَليل، وإن توهَّمْتَ فيه ترجيعاً فهو صَلْصَلَة. وقيل: هو مِنْ تضعيفِ» صَلِّ: إذا أَنْتَنَ «. انتهى. وصَلْصال هنا بمعنى مُصَلْصِل كزَلْزال بمعنى مُزَلْزِل، ويكون فَعْلال أيضاً مصدراً نحو: الزِّلزال. ويجوز كسرُه أيضاً.

وفي وزن هذا النوعِ أعني ما تكَّررت فاؤه وعينُه خلاف، فقيل: وزنه فَعْفَع، كُرِّرَتْ الفاءُ والعينُ ولا لامَ للكلمة، قاله الفراء وغيرُه. وهو غَلَطٌ لأنَّ أقلَّ الأصولِ ثلاثةٌ: فاء وعين ولام. الثاني: أنّ وزنَه فَعْفَل وهو قولُ الفرّاء. الثالث: أنه فَعَّل بتشديدِ العينِ وأصلُه صَلَّل، فلما اجتمع ثلاثةُ أمثالٍ أبدل الثاني من جنسِ فاءِ الكلمةِ وهو مذهبٌ كوفي. وخصَّ بعضُهم هذا الخلافَ بما إذا لم يختلَّ المعنى بسقوطِه نحو: لَمْلَمَ وكَبْكَبَ فإنك تقول فيهما: لَمَّ وكَبَّ، فلو لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه نحو: سِمْسِم، قال: فلا خلاف في أصالةِ الجميع. قوله: {مِّنْ حَمَإٍ} فيه وجهان، أحدهما: أنه في محلِّ جرّ صفةً لصَلْصال، فيتعلَّقُ بمحذوف. والثاني: أنه بدلٌ من» صَلْصال «بإعادة الجارِّ. والحَمَأُ: الطينُ الأسودُ المُنْتِنُ. قال الليث:» واحدُه حَمَأة بتحريك العين «، جعله اسمَ جنسٍ، وقد غَلِط في ذلك؛ فإنَّ أهلَ اللغة قالوا: لا يُقال إلا» حَمْأة «بالإِسكان، ولا يُعْرَفُ التحريكُ، نصَّ عليه أبو عبيدة وجماعة، وأنشدوا لأبي الأسود: 293 - 9- يجيءُ بِمِلْئِها طَوْراً وطَوْراً ... يَجِيءُ بِحَمْأَةٍ وقليلِ ماءِ فلا تكون» الحَمْأَةُ «واحدةَ» الحَمَأ «لاختلاف الوزنين.

والمَسْنُون: المَصْبوبُ مِنْ قولهم: سَنَنْتُ الشرابَ كأنَّه لرطوبتِهِ جُعِل مَصْبوباً كغيره من المائعات، فكأنَّ المعنى: أَفْرغ صورة إنسانٍ كما تُفْرَغُ الجواهرُ المُذابة. قال الزمخشري:» وحَقُّ مَسْنُون بمعنى مُصَوَّر أن يكون صفةً لصَلْصال، كأنه أًَفْرغ الحَمَأَ فَصَوَّر منه تمثالَ شخصٍ «. قلت: يعني أنه يصيرُ التقدير: مِنْ صَلْصالٍِ مُصَوَّر، ولكن يلزم تقديمُ الوصفِ المؤوَّلِ على الصريح إذا جَعَلْنَا {مِّنْ حَمَإٍ} صفةً لصَلْصال، أمَّا إذا جَعَلْنَاه بدلاً منه فلا. وقيل: مَسْنُون مُصَوَّر، مِنْ سُنَّةِ الوجهِ وهي صورتُه. قال الشاعر: 294 - 0- تُريكَ سُنَّة وَجْهٍ غيرَ مُقْرِفَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال الزمخشري:» مِنْ سَنَنْتُ الحجرَ بالحجر: إذا حَكَكْتُه به فالذي يَسِيل بينهما «سَنينٌ» ولا يكون إلا مُنْتِناً «. وقيل: المَسْنُون: المنسوبُ إليه، والمعنى: يُنْسَبُ إليه ذُرِّيَّةً، وكأن هذا القائلَ أخذه مِنَ الواقع. وقيل: هو من أسِن الماءُ إذا تَغَيَّر، وهذا غَلطٌ لاختلافِ المادتين.

27

قوله تعالى: {والجآن خَلَقْنَاهُ} : منصوبٌ على الاشتغال، ورُجِّح نصبُه لعطفِ جملتِه على جملةٍ فعلية. والجانُّ أو الجنُّ وهو إبليس كآدم أبي الإِنس. وقيل: اسمٌ لجنسِ الجِنِّ.

وقرأ الحسن «والجَأَنَّ» وقد تقدَّم القولُ في ذلك في أواخر الفاتحة. و {مِن قَبْلُ} و {مِن نَّارِ} متعلقان ب «خَلَقْنا» ؛ لأن الأولى لابتداءِ الغاية والثانيةَ للتبعيض، وفيه دليلٌ على أن «مِنْ» لابتداء الغايةِ في الزمانِ، وتأويلُ البصريين له ولنظائِره بعيدٌ. والسَّمومُ: ما يَقْتُل من إفراطِ الحَرِّ من شمسٍ أو ريحٍ أو نار؛/ لأنها تَدْخُل في المَسامِّ فتقتُل. وقيل: السَّموم ما كان ليلاً، والحَرُور ما كان نهاراً.

30

قوله تعالى: {أَجْمَعُونَ} : تأكيدٌ ثانٍ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت، خلافاً لبعضهم. قال أبو البقاء: «لكان حالاً [لا] توكيداً» يعني أنه يُفيد إفادةَ الحال مع أنه توكيدٌ، وفيه نظر؛ إذ لا منافاةَ بينهما بالنسبة إلى المعنى. ألا ترى أنه يجوز «جاؤوني جميعاً» مع إفادتِه للتوكيدِ، وقد تقدَّم لك تحريرُ هذا وحكايةُ ثعلب مع ابن قادم.

33

قوله تعالى: {لأَسْجُدَ} : هذه لامُ الجحودِ. وقوله: {فَقَعُواْ لَهُ} [الحجر: 29] يجوز أن تتعلَّقَ اللامُ بالفعل قبلها، وأن تتعلَّق بساجدين. وقد تقدم نظائرُ ألفاظِ هذه القصة في البقرة والأعراف.

38

قوله تعالى: {إلى يَوْمِ} يجوز أن يتعلَّقَ بالاستقرار في «عليك» ، ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ اللعنةِ.

39

والضميرُ في: {لَهُمْ} لذرِّيَّةِ آدم، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ للعِلْمِ بهم.

41

قوله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ} : «هذا» إشارةٌ إلى الإِخلاص المفهومِ من «المُخْلَصين» . وقيل: «هذا» ، أي: انتفاءُ تَزْيينِه وإغوائه. و «عليَّ» ، أي: مَنْ مَرَّ عليه مَرَّ عليَّ، أي على رضواني وكرامتي. وقيل: على بمعنى إلى، نُقِل عن الحسن. وقرأ الضَّحاك وأبو رجاء وابن سيرين ويعقوب في آخرين: عَلِيٌّ «، أي: عالٍ مرتفعٌ.

42

قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ متصل، لأنَّ المرادَ بعبادي العمومُ طائعهم وعاصيهم، وحينئذ يَلْزَمُ استثناءُ الأكثرِ من الأقل، وهي مسالةُ خلافٍ.

والثاني: أنه منقطعٌ؛ لأنَّ الغاوين لم يَنْدرجوا في «عبادي» ؛ إذ المرادُ بهم الخُلَّصُ، والإِضافةُ إضافةُ تشريفٍ.

43

و {أَجْمَعِينَ} : تأكيدٌ. وقال ابن عطية: «تأكيدٌ فيه معنى الحال» وفيه جنوحٌ لِمَنْ يَرَى اتحادَ الوقت. قوله: {لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} في «أجمعين» وجهان أظهرُهما: أنه تأكيدٌ للضمير. والثاني: أنه حالٌ منه، والعاملُ فيه معنى الإِضافة، قاله أبو البقاء. وقد عَرَفْتَ خلافَ الناس في مجيءِ الحالِ من المضافِ إليه. ولا يَعْمل فيها المَوْعِدُ إن أريد به المكانُ، فإن أُريد به المصدرُ جاز أَنْ يعملَ لأنه مصدرٌ، ولكن لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: مكان موعدِهم.

44

قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ مستأنفةً وهو الظاهرُُ، ويجوز أن تكونَ خبراً ثانياً، ولا يجوز أن تكونَ حالاً من «جهنم» لأنَّ «إنَّ» لا تعملُ في الحال، قاله أبو البقاء، وقياسُ ما ذكروه في ليت وكأنَّ ولعلَّ مِنْ أخواتها، مِنْ عملِها في الحال، لأنها بمعنى تَمَنَّيْتُ وشَبَّهْتُ وترجَّيْتُ: أن تعمل فيها «إنَّ» أيضاً؛ لأنها بمعنى أكَّدْتُ، ولذلك عَمِلَتْ عَمَلَ الفعلِ، وهي أصلُ البابِ. قوله: «منهم» يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ «جُزْء» لأنه في الأصل صفةٌ

له، فلمَّا قُدِّمَتْ انتصبَتْ حالاً. ويجوز أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستترِ في الجارِّ، وهو «لكلِّ بابٍ» والعاملُ في هذه الحالِ ما عَمِل في هذا الجارَّ. ولا يجوز أن تكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في «مَقْسُوم» لأنَّ الصفةَ لا تعمل فيما قبل الموصوفِ. ولا يجوز أن تكونَ صفةً ل «باب» لأنَّ البابَ ليس من الناس. وقرأ أبو جعفر بتشديد الزَّاي من غير همزٍ، كأنه ألقى حركةَ الهمزةِ على الزاي، ووَقَفَ عليها فَشَدَّدها، كقولهم: «خالدّْ» ، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ.

45

وكَسرَ عينَ {وَعُيُونٍ} : منكِّراً و «العِيون» مُعَرَّفاً حيث وقع ابنُ كثير والأخوان وأبو بكر وابن ذكوان. والباقون بالضمِّ وهو الأصل.

46

قوله تعالى: {ادخلوها} : العامَّةُ على وَصْلِ الهمزةِ من دَخَل يَدْخُل. وقد تقدَّم خلافُ القرِّاء في حركةِ هذا التنوين/ لالتقاء الساكنين في البقرة. وقرأ يعقوب بفتح التنوين وكسرِ الخاء. وتوجيهُها: أنه أمرٌ مِنْ أَدْخَل يُدْخِل، فلمَّا وقع بعد «عيون» ألقى حركة الهمزةِ على التنوين لأنها همزةُ قطع، ثم حذفها. والأمرُ مِنَ الله تعالى للملائكةِ، أي أَدْخِلوها إياهم. وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً «أُدْخِلوها» ماضياً مبنياً للمفعول، إلا أنَّ

يعقوبَ ضمَّ التنوين، ووجهُه: أنه أخذه مِنْ أَدْخَلَ رباعياً، فألقى حركَة همزةِ القطع على التنوين، كما ألقى حركةَ المفتوحةِ في قراءتِه الأولى. والحسن كَسَره على أصلِ التقاءِ الساكنين، ووجهُه: أن يكونَ أجرى همزةَ القطعِ مُجْرى همزةِ الوصلِ في الإِسقاط. وقراءةُ الأمرِ على إضمارِ القول، أي: يُقال لأهل الجنة: ادْخُلوها. أو يُقال للملائكة: أَدْخِلُوها إياهم. وعلى قراءة الإِخبار يكون مستأنفاً مِنْ غيرِ إضمارٍ قولٍ. قوله: «بسلامٍ» حالٌ، أي: ملتبسين بالسلامة، أو مُسلَّماً عليكم. قوله: آمِنين «حالٌ أخرى وهي بدلٌ مِمَّا قبلها: إمَّا بدلُ كلٍ من كلٍ، وإمَّا بدلُ اشتمال؛ لأنَّ الأَمْنَ مُشْتملٌ على التحيةِ أو بالعكس.

47

قوله تعالى: {إِخْوَاناً} : يجوز فيه أن يكونَ حالاً من «هم» في «صدورِهم» ، وجاز ذلك لأنَّ المضافَ جزءُ المضاف إليه. وقال أبو البقاء: «والعاملُ فيها معنى الإِلصاق» . ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل «ادْخُلوها» على أنها حالٌ مقدرةٌ، كذا قال أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، بل هي حالٌ مقارِنةٌ، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في «آمِنين» ، وأن يكونَ حالاً مِنَ الضمير في قوله {فِي جَنَّاتٍ} . قوله: {على سُرُرٍ} يجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ «إخواناً» لأنه بمعنى متصافِّيْنَ على سُرُر. قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ من حيث تأويلُ جامدٍ بمشتق بعيدٍ

منه. و «متقابلين» على هذا حالٌ من الضمير في «إخواناً» ، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لإِخوان، وعلى هذا ف «متقابلين» حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ. ويجوز أن يتعلَّقَ ب «متقابلين» ، أي: متقابلين على سُرُرٍ، وعلى هذا ف «متقابلين» حالٌ من الضمير في «إخواناً» أو صفةٌ ل «إخواناً» ويجوز نصبُه على المدح، يعني أنه لا يمكن أن يكونَ نعتاً للضمير فلذلك قُطِعَ. والسُّرُر: جمع سَرِيْر وهو معروفٌ. ويجوز في «سُرُر» ونحوِه ممَّا جُمِعَ على هذه الصيغةِ مِنْ مضاعَف فعيل فَتْحُ العين تخفيفاً، وهي لغةُ كلبٍ وتميم فيقولون: سُرَرٌ وذُلَلٌ في جمع: سَرير وذَليل.

48

قوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} : يجوز أن تكون هذه مستأنفةً، ويجوزُ أن تكونَ حالاً من الضمير في «متقابلين» . والنَّصَب: التَّعَبُ. يُقالا منه: نَصِبَ يَنْصِبُ فهو نَصِبٌ وناصِب، وأَنْصَبَني كذا. قال: 294 - 1- تأوَّبَني هَمٌّ مع الليلِ مُنْصِبُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهَمٌّ ناصِبٌ، أي: ذو نَصَب ك لا بنٍ وتامرٍ. قال النابغة: 294 - 2- كِلِيْني لِهَمٍّ يا أُميمةُ ناصِبِ ... وليلٍ أقاسيه بَطِيْءِ الكواكبِ و «منها» متعلقٌ ب «مُخْرَجِيْن» .

49

قوله تعالى: {أَنَا الغفور} : يجوز في «أنا» أن يكونَ تأكيداً، وأن يكونَ مبتدأً، وأن يكونَ فصلاً.

50

قوله تعالى: {هُوَ العذاب} : يجوز في «هو» الابتداء والفصلُ، ولا يجوزُ التوكيدُ؛ إذ المُظْهَرُ لا يُؤَكَّد بالمضمرِ.

52

قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُواْ} : في «إذ» وجهان: أحدُهما: أنه مفعولٌ بفعلٍ مقدَّر، أي: اذكر إذ دخلوا. والثاني: أنه ظرفٌ على بابِه. وفي العاملِ فيه وجهان، أحدُهما: أنه محذوفٌ تقديره: خبر «ضيفِ» . والثاني: أنه نفس «ضيف» . وفي توجيه ذلك وجهان، أحدُهما: أنه لمَّا كان في الأصل مصدراً اعتُبر ذلك فيه، ويدلُّ على اعتبار مصدريَّته بعد الوصفِ بِه عدمُ مطابقته لِما قبله تثنيةً وجمعاً وتانيثاً في الأغلب، ولأنه قائمٌ مَقامَ وصفٍ، والوصفُ يعمل. والثاني: أنه على حَذْفِ مضاف، أي: أصحاب ضيفِ إبراهيم، أي: ضيافته، فالمصدرُ باقٍ على حالِه فلذلك عَمِلَ. وقال أبو البقاء: -بعد أنْ قَدَّر أصحابَ ضيافته -/ «والمصدرُ على هذا مضافٌ إلى المفعول» . قلت: وفيه نظر؛ إذ الظاهرُ إضافتُهُ لفاعِله، إذ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو. . . . . . . .

53

قوله تعالى: {لاَ تَوْجَلْ} : العامة على فتح التاء، مِنْ وَجِل كشَرِب يَشْرَب، والفتحُ قياسُ فَعِل، إلا أنَّ العربَ آثرَتْ يَفْعِل بالكسرِ في بعضِ الألفاظِ إذا كانت فاؤه واواً نحو: يَثِقُ. وقرأ الحسن «تُوْجَل» مبنياً للمفعول من الإِيجال. وقُرِئ «لا تَاجَل»

والأصلُ «تَوْجَل» كقراءة العامَّةِ، إلاَّ أنه أبدل من الواو ألفاً لانفتاحِ ما قبلها، وإن لم تتحرَّكْ، كقولهم: تابة وصامة، في تَوْبة وصَوْمَة، وسُمِع:: اللهم تقبَّل تابتي وصامتي «. وقُرِئ أيضاً» لا تَوَاجَلْ «من المواجلة.

54

قوله تعالى: {أَبَشَّرْتُمُونِي} قرأ الأعرج «بَشَّرْتموني» بإسقاطِ أداةِ الاستفهام، فتحتمل الإِخبارَ، وتحتمل الاستفهامَ وإنما حَذَفَ أداتَه للعلمِ بها. قوله: {على أَن مَّسَّنِيَ} في محلِّ نصبٍ على الحال. وقرأ ابنُ محيصن «الكُبْرُ» بزنةِ قُفْل. قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} «بِمَ» متعلقٌ ب «تُبَشِّرون» ، وقُدِّم وجوباً لأنَّ له صدرَ الكلامِ. وقرأ العامَّةُ بفتح النون مخففةً على أنها نونُ الرفع، ولم يُذْكَرْ مفعولُ التبشير. وقرأ نافع بكسرها، والأصل «تُبَشِّرُوني» فَحَذَفَ الياءَ مجتزِئاً عنها بالكسرة. وقد غلَّطه أبو حاتم وقال: «هذا يكونُ في الشعرِ اضطراراً» . وقال مكي: «وقد طَعَنَ في هذه القراءةِ قومٌ لبُعْدِ مَخْرَجِها في

العربيةِ؛ لأنَّ حَذْفَ النونِ التي تصحب الياءَ لا يَحْسُنُ إلا في شِعْرٍ، وإن قُدِّر حَذْفُ النونِ الأولى حَذَفْتَ عَلَمَ الرفعِ من غيرِ ناصبٍ ولا جازمٍ؛ ولأنَّ نونَ الرفعِ كَسْرُها قبيحٌ، إنما حَقُّها الفتح» . وهذا الطعنُ لا يُلتفت إليه لأنَّ ياءَ المتكلمِ قد كَثُرَ حَذْفُها مجتزَأً عنها بالكسرةِ، وقد قرئ بذلك في قوله: {أَفَغَيْرَ الله تأمروني} [الزمر: 64] كما سيأتي بيانُه. ووجهُه: أنه لَمَّا اجتمع نونان إحداهما للرفع، والأخرى نونُ الوقاية، استثقل اللفظ: فمنهم مَنْ أدغم، ومنهم مَنْ حذف. ثم اخْتُلِف في المحذوفة: هل هي في الأولى أو الثانية؟ وقد قدَّمْتُ دلائلَ كلِّ قولٍ مستوفاةً في سورةِ الأنعام. وقرأ ابن كثير بتشديدِها مكسورةً، أدغم الأولى في الثانية وحَذَف ياءَ الإِضافةِ. والحسن أثبت الياءَ مع تشديدِ النون. ويرجِّح قراءةَ مَنْ أثبت مفعولَ «تُبَشِّرون» وهو الياءُ قولُه: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ} .

55

و {بالحق} : متعلقٌ بالفعلِ قبله، ويَضْعُفُ أن يكون حالاً، أي: بَشَّرْناك ومعنا الحقُّ.

56

قوله تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ} : هذا الاستفهامُ معناه النفي؛ ولذلك وقع بعده الإِيجابُ ب «إلا» . وقرأ أبو عمروٍ والكسائي «يَقْنِط» بكسرِ عينِ هذا المضارعِ حيث وقع، والباقون بفتحها، وزيدُ بن علي والأشهبُ بضمِّها. وفي الماضي لغتان: قَنِط بكسر النون، يَقْنَظ بفتحها،

وقَنَط بفتحِها يَقْنِط بكسرِها، ولولا أنَّ القراءةَ سُنَّةٌ متبعةٌ لكان قياسُ مِنْ قرأ «يَقْنَطُ» بالفتح أن يقرأَ ماضيَه «قَنِط» بالكسر، لكنهم أَجْمعوا على فتحِه في قولِه تعالى في قوله: {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} [الشورى: 28] . والفتحُ في الماضي هو الأكثر ولذلك أُجْمِعَ عليه. ويُرَجِّح قراءَة «يَقْنَطُ» بالفتح قراءةُ أبي عمروٍ في بعض الروايات {فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} كفَرِح يَفْرَحُ فهو فَرِح. والقُنُوط: شدةُ اليأسِ من الخير.

59

قوله تعالى: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} : فيه [أوجهٌ] أحدُها: أنه مستثنى متصلٌ على أنه مستثنى من الضميرِ المستكنِّ في «مجرمين» بمعنى: أَجْرَموا كلُّهم إلا آلَ لوطٍ فإنهم لم يُجْرِموا، ويكونُ قولُه {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} / استئنافَ إخبارٍ بنجاتهم لكونِهم لم يُجْرِموا، ويكون الإِرسالُ حينئذ شاملاً للمجرمين ولآلِ لوط، لإِهلاكِ أولئك، وإنجاءِ هؤلاء. والثاني: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّ آل لوط لم يَنْدَرجوا في المجرمين البتَة. قال الشيخ: «وإذا كان استثناءً منقطعاً فهو ممِّا يجبُ فيه النصبُ، لأنه من الاستثناءِ الذي لا يمكن تَوَجُّه العاملِ إلى المستثنى فيه؛ لأنهم لم يُرْسَلوا إليهم، إنما أُرْسِلوا إلى القوم المجرمين خاصةً، ويكون قوله {إِنَّا

لَمُنَجُّوهُمْ} جَرَى مجرى خبرِ» لكن «في اتصالِه بآلِ لوطٍ، لأنَّ المعنى: لكن آل لوطٍ مُنَجُّوهم. وقد زعم بعض النحويين في الاستثناءِ المنقطعِ المقدَّرِ ب» لكن «إذا لم يكن بعده ما يَصِحُّ أن يكونَ خبراً أنَّ الخبرَ محذوفٌ، وأنه في موضعِ رفعٍ لجريان» إلا «وتقديرها ب» لكن «. قلت: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَهم: لا يتوجَّه عليه العاملُ، أي: لا يمكن، نحو:» ضحك القومُ إلا حمارَهم «، و» صَهِلَت الخيلُ إلا الإِبلَ «. وأمَّا هذا فيمكن الإِرسالُ إليهم مِنْ غيرِ مَنْعٍ. وأمَّا قولُه» لأنهم لم يُرْسَلُوا إليهم «فصحيحٌ لأنَّ حكمَ الاستثناءِ كلِّه هكذا، وهو أن يكونَ خارجاً عن ما حُكِم به الأولِ، لكنه لو تَسَلَّط عليه لَصَحَّ ذلك، بخلافِ ما ذكرْتُه مِنْ أمثلتِهم.

60

قوله تعالى: {إِلاَّ امرأته} : فيه وجهان: أحدُهما: أنه استثناءٌ مِنْ آل لوط. قال أبو البقاء: «والاستثناءُ إذا جاء بعد الاستثناءِ كان الاستثناءُ الثاني مضافاً إلى المبتدأ كقولِك:» له عندي عشرةٌ إلا أربعةً إلا درهماً «فإنَّ الدرهمَ يُستثنى من الأربعة، فهو مضافٌ إلى العشرة، فكأنك قلت: أحد عشر إلا أربعةً، أو عشرة إلا ثلاثةً» . الثاني: أنَّها مستثناةٌ من الضمير المجرور في «مُنجُّوهم» . وقد مَنَعَ الزمخشريُّ الوجهَ الأول، وعَيَّن الثاني فقال: «فإن قلتَ: فقوله:» إلا امرأته «مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناءٌ مِنْ استثناءٍ؟ قلت: مستثنى من الضمير المجرور في قوله» لمنجُّوهُمْ «وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيءٍ؛ لأنَّ الاستثناءَ من الاستثناء إنما يكونُ فيما اتَّحد الحكمُ فيه، وأن يقالَ: أهلكناهم إلا آلَ لوطٍ إلا امرأتَه، كما اتحد في قولِ المُطْلَق: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين

إلا واحدةً، وقولِ المُقِرِّ لفلان: عليَّ عشرةٌ إلا ثلاثةً إلا درهماً، وأمَّا الآيةُ فقد اختلف الحكمان لأنَّ {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} متعلقٌ ب» أَرْسَلْنا «أو بمجرمين، و {إِلاَّ امرأته} قد تعلَّق بقولِه» لمنجُّوهم «فأنَّى يكون استثناءً من استثناء» ؟ قال الشيخ: «ولمَّا استسلف الزمخشريُّ أن» امرأته «استثناءٌ من الضمير في لمنجُّوهم» أنى أن يكون استثناءً من استثناء؟ ومَنْ قال إنه استثناءٌ من استثناء فيمكن تصحيحُ قولِه بأحدِ وجهين، أحدُهما: أنَّه لمَّا كان «امرأتَه» مستثنى من الضمير في «لمُنجُّوهم» وهو عائدٌ على آلِ لوط صار كأنه مستثنى مِن آلِ لوط، لأنَّ المضمرَ هو الظاهر. والوجهُ الآخر: أن قولَه {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} لمَّا حَكَمَ عليهم بغيرِ الحكم الذي حَكَم به على قومٍ مجرمين اقتضى ذلك نجاتَهم فجاء قولُه: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} تاكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى: إلا آلَ لوط لم يُرْسَلْ إليهم بالعذاب، ونجاتُهم مترتبةٌ على عدمِ الإِرسال إليهم بالعذاب، فصار نظيرَ قولِك: «قام القومُ إلا زيداً لم يَقُمْ» ، أو «إلا زيداً فإنه لم يَقُمْ» ، فهذه الجملةُ تأكيدٌ لِما تَضَمَّن الاستثناءُ من الحكم على ما بعد إلاّ بضدِّ الحكم السابق على المستثنى منه، ف «إلا امرأته» على هذا التقريرِ الذي قَرَّرْناه مستثنى مِنْ آل لوط، لأنَّ الاستثناءَ ممَّا جيء به للتأسيسِ أَوْلَى من الاستثناءِ ممَّا جِيْءَ به للتأكيد «. وقرأ الأخوان» لمُنَجُوْهم «مخفَّفاً، وكذلك خَفَّفا أيضاً فِعْلَ هذه الصفةِ في قولِه تعالى في العنكبوت: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [الآية: 32] وكذلك خَفَّفا أيضاً

قولَه فيها: {إِنَّا مُنَجُّوكَ} [الآية: 33] فهما جاريان على سَنَنٍ واحد. وقد وافقهما ابنُ كثير/ وأبو بكر على تخفيف «مُنْجوك» كأنهما جمعا بين اللغتين. وباقي السبعة بتشديد الكلِّ، والتخفيفُ والتشديدُ لغتان مشهورتان مِنْ نَجَّى وأَنْجَى كأَنْزَلَ ونَزَّل، وقد نُطِقَ بفعلهما قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} [العنكبوت: 65] وفي موضعٍ آخرَ {أَنجَاهُمْ} [يونس: 23] . قوله: «قَدَّرْناها» أبو بكر بتخفيف [الدال] والباقون بتشديدها، وهما لغتان: قَدَرَ وقدَّر، وهذا الخلافُ أيضاً جارٍ في سورة النمل. قوله: «إنَّها» كُسِرتْ من أجلِ اللامِ في خبرها وهي معلِّقةٌ لِما قبلها، لأنَّ فِعْلَ التقديرِ يُعَلَّقُ إجراءً له مُجْرى العِلْم: إمَّا لكونِه بمعناه، وإمَّا لأنَّه مترتِّبٌ عليه. قال الزمخشري: «فإن قلتَ» لِمَ جاز تعليقُ فِعْلِ التقدير في قوله «قَدَّرْنَآ إِنَّهَا» ، والتعليق مِنْ خصائصِ أفعالِ القلوب؟ قلت: لتضمُّنِ فِعْلِ التقدير معنى العِلْمِ «. قال الشيخ:» وكُسِرَتْ «إنها» إجراءً لفعل التقدير مُجْرى العِلْم «. قلت: وهذا لا يَصِحُّ علةً لكسرِها، إنما يَصْلُحُ علةً لتعليقِها الفعلَ قبلها، والعلةُ في كسرِها ما قَدَّمْتُه في وجودِ اللامِ ولولاها لفُتِحَتْ.

63

قوله تعالى: {بَلْ جِئْنَاكَ} إضرابٌ عن المفعول المحذوفِ تقديرُه: ما جئناك بما يُنْكَرُ، بل جِئْناك.

65

وقد تقدَّم الخلافُ في قولِه تعالى: {فَأَسْرِ} : قطعاً ووصلاً في هود. وقرأ اليمانيُّ فيما نقل ابن عطية وصاحب «اللوامح» «فَسِرْ» من السَّيْر. وقرأت فرقةٌ «بقِطَع» بفتح الطاء. وقد تَقَدَّم في يونس: أن الكسائيَّ وابنَ كثير قرآه بالسكون في قوله «قطعاً» ، والباقون بالفتح. قوله: {حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} «حيث» على بابِها مِنْ كونِها ظرفَ مكانٍ مبهمٍ، ولإِبهامها تعدَّى إليها الفعلُ من غير واسطة على أنه قد جاء في الشعر تَعَدِّيْه إليها ب «في» كقولِه: 294 - 3- فَأصْبَحَ في حيثُ التقَيْنا شريدُهُمْ ... طَليقٌ ومكتوفُ اليدين ومُزْعِفُ وزعم بعضُهم أنها هنا ظرفُ زمانٍ، مستدلاًّ بقولِه «بقِطْعٍ من الليل» ، ثم قال: {وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} ، أي: في ذلك الزمان. وهو ضعيفٌ، ولو كان كما قال لكان التركيبُ: حيث أُمِرْتم، على أنه لو جاء التركيب كذا لم يكن فيه دلالةٌ.

66

قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} ضَمَّن القضاءَ معنى الإِيحاء، فلذلك تَعَدَّى تعديتَه ب «إلى» ، ومثلُه: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإِسراء: 4] . قوله: {ذَلِكَ الأمر} «ذلك» مفعولُ القضاء، والإِشارةُ به إلى ما وَعَدَ من إهلاكِ قومِه، و «الأمرَ» : إمَّا بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له. قوله: {أَنَّ دَابِرَ} العامَّةُ على فتحِ «أنَّ» وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها بدلٌ مِنْ «ذلك» إذا قلنا: «الأمر» عطفُ بيان. الثاني: أنها بدل من «الأمر» سواء قلنا: إنها بيانٌ أو بدل ممَّا قبلَه. والثالث: أنه على حَذْفِ الجارِّ، أي: بأنَّ دابِرَ، ففيه الخلافُ المشهور. وقرأ زيدُ بن علي بكسرِها؛ لأنه بمعنى القولِ، أو على إضمار القول. وعَلَّله الشيخُ بأنَّه لمَّا عَلَّق ما هو بمعنى العلم كُسِر. وفيه النظرُ المتقدم. قوله: {مُّصْبِحِينَ} حالٌ من الضمير المستتر في «مقطوعٌ» وإنما جُمِع حَمْلاً على المعنى، وجعله الفراء وأبو عبيد خبراً ل «كان» مضمرة، قالا: «

وتقديره: إذا كانوا مُصْبِحين نحو:» أنتَ ماشياً أحسنُ منك راكباً «. وهو تكلُّفٌ. و» مُصْبِحين «داخلين في الصَّباح فهي تامَّةٌ.

67

قوله تعالى: و {يَسْتَبْشِرُونَ} : حال.

71

قوله تعالى: {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} : يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ «بناتي» مفعولاً بفعلٍ مقدرٍ، أي: تَزَوَّجوا هؤلاء. و «بناتي» بيانٌ أو بدلٌ. الثاني: أن يكونَ «هؤلاء بناتي» مبتدأً وخبراً ولا بُدَّ مِنْ شيءٍ محذوفٍ تَتِمُّ به الفائدةُ، أي: فَتَزَوَّجُوْهن. الثالث: أن يكونَ «هؤلاء» مبتدأً، و «بناتي» بدلٌ أو بيان، والخبرُ محذوفٌ، أي: هُنَّ أطهرُ لكم، كما جاء في نظيرتها. قوله: {فَلاَ تَفْضَحُونِ} [الحجر: 68] : الفَضْحُ والفَضيْحَةُ البيان والظهور، ومنه فَضَحَه الصُّبْحُ قال: 294 - 4- ولاحَ ضوءُ هِلالِ الليل يَفْضَحُنا ... مثلَ القُلامَةِ قد قُصَّتْ من الظُفُرِ إلا أنَّ الفضيحةَ اختصَّتْ بما هو عارٌ على الإِنسانِ عند ظهورِه.

72

قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ} : مبتدأٌ، محذوفٌُ الخبر وجوباً، ومثلُه: لايْمُنُ الله. و «إنهم» وما في حَيِّزه جوابُ القسمِ تقديرُه:

لَعَمْرك قسمي أو يميني إنهم. والعَمْر والعُمْر بالفتح والضم هو البقاء، إلا أنهم التزموا الفتح في القسم. قال/ الزجاج: «لأنَّه أَخَفُّ عليهم، وهم يُكْثرون القَسَم ب» لَعَمْري «و» لَعَمْرك «. وله أحكامٌ كثيرة منها: أنه متى اقترن بلامِ الابتداء لَزِم فيه الرفعُ بالابتداءِ، وحُذِفَ خبرُه، لِسَدِّ جوابِ القسم مَسَدَّه. ومنها: أنه يصير صريحاً في القسم، أي: يَتَعَيَّن فيه، بخلافِ غيرِه نحو: عهدُ الله وميثاقُه. ومنها: أنه يَلْزَمُ فَتْحُ عينِه، فإن لم يقترنْ به لامُ الابتداء جاز نصبُهُ بفعل مقدر نحو: عَمْرَ اللهِ لأفعلنَّ، ويجوز حينئذ في الجلالةِ وجهان: النصبُ والرفعُ، فالنصبُ على أنه مصدرٌ مضافٌ لفاعله وفي ذلك معنيان، أحدهمل: أنَّ الأصلَ: أسألُكَ بتعميرك اللهَ. أي: بوصِفك اللهَ تعالى بالبقاء، ثم حُذِف زوائدُ المصدرِ. والثاني: أن المعنى: عبادتك الله، والعَمْر: العبادة، حكى ابن الأعرابي» عَمَرْتُ ربي «، أي: عَبَدْته، وفلانٌ عامِرٌ ربِّه، أي: عابدُه. وأمَّا الرفعُ: فعلى أنه مضافٌ لمفعولِه. قال الفارسي:» معناه: عَمَّرَك اللهُ تَعْميراً «. وقال الأخفش:» أصله: أسألك بتعميرك اللهَ، فحُذِفَ زوائدُ المصدرِ والفعلُ والباءُ فانتصب، وجاز أيضاً ذِكْرُ خبرِهِ فتقول: عَمْرُك قَسَمي لأقومَنَّ، وجاز أيضاً ضَمُّ عينِه، ويُنْشِدُ بالوجهين قولُه: 294 - 5- أيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلاً ... عَمْرَكَ اللهَ كيفَ يلتقيانِ

ويجوزُ دخولُ باءِ الجرِّ عليه، نحو: بعَمْرِكَ لأفعلَنَّ. قال: 294 - 6- رُقَيَّ بعَمْرِكُمْ لا تَهْجُرِينا ... ومَنَّيْنا المُنَى ثم امْطُلِينا وهو من الأسماء اللازمة للإِضافة، فلا يُقطع عنها، ويُضاف لكلِّ شيءٍ. وزعم بعضُهم أنه لا يُضاف إلى الله. قيل: كأنَّ قائل هذا تَوَهَّم أنه لا يُسْتعمل إلا في الانقطاع، وقد سُمع إضافُته للباري تعالى. قال الشاعر: 294 - 7- إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ ... لعَمْرُ اللهِ أَعْجبني رِضاها ومَنَع بعضُهم إضافتَه إلى ياءِ المتكلمِ قال: لأنه حَلْفٌ بحياة المُقْسِم، وقد وَرَدَ ذلك، قال النابغة: 294 - 3- لَعَمْري -وما عَمْري عليَّ بهَيِّنٍ- ... لقد نَطَقَتْ بُطْلاً عَلَيَّ الأقارِعُ وقد قَلَبَتْه العربُ بتقديمِ رائِه على لامه فقالوا: «رَعَمْلي» ، وهي ردئيةٌ. والعامَّة على كسرِ «إنَّ» لوقوعِ اللامِ في خبرها. وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ الجَهْضَمِيِّ بفتحها. وتخريجُها على زيادةِ اللامِ وهي كقراءة

ابن جبير: {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام} [الفرقان: 20] بالفتح. والأعمش: «سَكْرِهم» دون تاءٍ. وابن أبي عبلة «سَكَراتهم» جمعاً. والأشهبُ «سُكْرَتِهم» بضم السين. و «يَعْمَهُون» حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ، وإمَّا من الضميرِ المجرورِ بالإِضافةِ. والعامل: إمَّا نفسُ «سَكْرَة» لأنها مصدرٌ، وإمَّا معنى الإِضافة.

73

قوله تعالى: {مُشْرِقِينَ} : حالٌ مِنْ مفعول «أَخَذَتْهم» ، أي: داخلين في الشُّروق.

74

والضميرُ في {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} للمدينة. وقال الزمخشري: «لقرى قومِ لوطٍ» . ورُجِّح الأولُ بأنه تقدَّم ما يعود عليه لفظاً بخلاف الثاني.

75

قوله تعالى: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} : متعلِّقٌ بمحذوف على أنه صفةٌ لآيات. والأجودُ أَنْ يتعلَّق بنفس «آياتٍ» لأنها بمعنى العلامات. والتَّوَسُّم تَفَعُّلٌ مِنَ الوَسْمِ، والوَسْم: أصلُه التَّثبُتُ والتفكُّر، مأخوذٌ من الوَسْم، وهو التأثير بحديدةٍ في جِلْد البعير أو غيره. وقال ثعلب: «الواسم: الناظرُ إليك مِنْ قَرْنِكَ إلى قَدَمِك» ، وفيه معنى التثُّبت. وقيل: / أصلُه: استقصاءُ

التعرِّفِ يُقال: تَوَسَّمْتُ، أي: تَعَرَّفْتُ مُسْتَقْصِياً وجوهَ التعرُّف. قال: 294 - 9- أوَ كلما وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلةٌ ... بَعَثَتْ إليَّ عريفَها يتوسَّمُ وقيل: هو تَفَعُّل من الوَسْمِ، وهو العَلاَمَةُ: تَوَسَّمْتُ فيك خيراً، أي: ظَهَر له مِيْسَمُه عليك. قال ابن رواحة في النبي صلَّى الله عليه وسلم: 295 - 0- إنِّي تَوَسَّمْتُ فيك الخيرَ أَعْرِفُه ... والله يَعلم أني ثابتُ البَصَرِ وقال آخر: 295 - 1- تَوَسَّمْتُه لَمَّا رَأَيْتُ مَهابَةً ... عليهِ وقُلْتُ: المرءُ مِنْ آلِ هاشمِ ويُقال: اتَّسَمَ الرجلُ: إذا اتَّخَذَ لنفسِه علامةً يُعْرَفُ بها، وتَوَسَّمَ: إذا طلبَ كَلأَ الوَسْمِيَّ، أي: العشبِ النابتِ في أولِ مطرِ [الربيعِ] .

76

قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ} : الظاهرُ عَوْدُ الضميرِ على المدينة أو القُرى. وقيل: على الحجارةِ. وقيل: على الآيات.

78

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ} : «إنْ» هي

المخففةُ واللامُ فارقةٌ، وقد تَقَدَّم حكمُ ذلك. والأَيْكَةُ: الشجرةُ المُلْتَفَّةُ، واحدةُ الأَيْكِ. قال: 295 - 2- تَجْلُوْ بقادِمَتَيْ حَمامةِ أيْكةٍ ... بَرَداً أُسِفَّ لِثاتُه بالإثْمِدِ ويقال: لَيْكَة. وسيأتي بيانُ هذا عند اختلافِ القرَّاءِ فيه إن شاء الله تعالى في الشعراء.

79

قوله تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ} في ضمير التثنيةِ أقوالٌ، أَرْجَحُها: عَوْدُه على قريَتْي قومِ لوطٍ وأصحابِ الأيكة وهم قوم شُعَيب لتقدَّمِهما ذِكْراً. وقيل: يعودُ على لوطٍ وشُعَيْبٍ، وشعيبٌ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، ولكنْ دَلَّ عليه ذِكْرُ قومِه. وقيل: يعود على الخبرين: خبرِ إهلاكِ قومٍ لوطٍ، وخبر إهلاكِ قومِ شعيب. وقيل: يعودُ على أَصحابِ الأيكةِ وأصحابِ مَدْيَنَ؛ لأنه مُرْسَلٌ إليهما فَذِكْرُ أحدِهما مُشْعِرٌ بالآخرِ.

83

و {مُصْبِحِينَ} حالٌ كما تقدَّم، وهي تامَّةٌ.

84

قوله تعالى: {فَمَآ أغنى} : يجوز أن تكونَ نافيةً، أو استفهاميةً فيها معنى التعجبِ. و «ما» يجوزُ أنْ تكونَ مصدريةً، أي: كَسْبُهم، أو موصوفةً، أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: شيءٌ يَكْسِبونه، أو الذي يَكْسِبونه.

85

قوله تعالى: {إِلاَّ بالحق} : نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: خَلْقاً ملتبساً بالحقِّ.

90

قوله تعالى: {كَمَآ أَنْزَلْنَا} فيه أقوالٌ، أحدُهما: أنَّ الكافَ متعلقٌ ب «آتيناك» ، وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: «أي: أَنْزَلْنا عليك مثلَ ما أَنْزَلْنا على أهل الكتاب، وهم المُقتسِمُون الذين جعلوا القرآن عِضِينَ» . والثاني: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ منصوبٍ ب «آتيناك» تقديرُه: آتَيْناك إتْياناً كما أَنْزَلْنا. الثالث: أنه منصوبٌ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، ولكنه مُلاقٍ ل «آتيناك» من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ، تقديرُه: أَنْزَلْنا إليك إنزالاً كما أَنْزَلْنا، لأنَّ «آتيناك» بمعنى أَنْزَلْنَا إليك. الرابع: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، العاملُ فيه مقدرٌ أيضاً تقديرُه: مَتَّعْناهم تمتيعاً كما أَنْزَلْنا، والمعنى: نَعَّمْنا بعضَهم كما عَذَّبنا بعضَهم. الخامس: أنه صفةٌ لمصدرٍ دَلَّ عليه «النذير» والتقدير: أنا النذيرُ إنْذاراً كما أَنْزَلْنا، أي: مثلَ ما أنزلناه. السادس: أنه نعتٌ لمفعولٍ محذوف، الناصبُ له «النذير» ، تقديرُه: النذير عذاباً، كما أنزلنا على المُقْتَسِمين، وهم قومٌ صالحٍ لأنهم قالوا: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49] فأَقْسموا على ذلك، أو يُراد بهم قريشٌ حيث قَسَموا القرآنَ إلى سِحْرٍ وشِعْرٍ وافتراء. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنه يلزمُ منه إعمالٌ الوصفِ موصوفاً، وهو غيرُ جائزٍ عند البصريين، جائزٌ عند الكوفيين، فلو عَمِل ثم وُصِفَ جاز عند الجميعِ.

السابع: أنه مفعولٌ به، ناصبُه «النذير» أيضاً. قال الزمخشريُّ: «والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بقوله:» وقل: إني أنا النذيرُ المبين، أي: وأَنْذِرْ قريشاً مثلَ ما/ أَنْزَلْنَا من العذابِ على المقتسمين، يعني اليهودَ وهو ما جَرَى على قُرَيْظَةَ والنَّضِير «. وهذا مردودٌ بما تقدم من إعمالِ الوصفِ موصوفاً. الثامن: أنه منصوبٌ نعتاً لمفعولٍ به مقدرٍ، والناصبُ لذلك المحذوفِ مقدَّرٌ لدلالةِ لفظِ» النذير «عليه، أي: أُنْذِرُكم عذاباً مثلَ العذابِ المنزَّلِ على المقتسمين، وهم قومٌ صالحٍ أو قريشٌ، قاله أبو البقاء، وكأنه فَرَّ مِنْ كونِهِ منصوباً بلفظِ» النَّذير «لِما تقدَّم من الاعتراض البَصْرِيِّ. وقد اعترض ابنُ عطيةَ على القول السادس فقال:» والكافُ من قوله «كما» متعلقةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: وقل إني أنا النذيرُ المبينُ عذاباً كما أنزَلْنا، فالكافُ اسمٌ في موضع نصبٍ، هذا قولُ المفسِّرين. وهو عندي غيرُ صحيحٍ، لأنَّ {كَمَآ أَنْزَلْنَا} ليس مما يقولُه محمدٌ عليه السلام، بل هو مِنْ كلامِ اللهِ تعالى، فينفصِلُ الكلامُ، وإنما يترتَّبُ هذا القولُ بأن الله تعالى قال له: أَنْذِرْ عذاباً كما. والذي أقول في هذا: «المعنى: وقل: إني أنا النذيرُ المبين، كما قال قبلَك رسلُنا، وأنزلْنا عليهم كما أَنْزَلْنا عليك. ويُحْتمل أن يكونَ المعنى: وقل إني أنا النذيرُ المُبينُ، كما قد أَنْزَلْنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً، على أنَّ المُقْتَسِمين اهلُ الكتاب» . انتهى.

وقد اعتذر بعضُهم عَمَّا قاله أبو محمدٍ فقال: «الكافُ متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه المعنى تقديرُه: أنا النذيرُ بعذابٍ مثلِ ما أنزلنا، وإنْ كان المُنَزِّل اللهَ، كما يقول بعضُ خواصِّ المَلِك: أَمَرْنا بكذا، وإن كان المَلِكُ هو الآمرَ، وأمَّا قولُ أبي محمدٍ: وأنْزَلْنَا عليهم كما أَنْزَلْنا عليك كلامٌ غيرُ منتظمٍ، ولعل أصلَه: وأَنْزَلْنا عليك كما أَنْزَلْنا عليهم، كذا اصلحه الشيخ وفيه نظرٌ: كيف يُقَدَّر ذلك والقرآن ناطقٌ بخلافِهِ: وهو قولُه {عَلَى المقتسمين} ؟ التاسع: أنه متعلِّقٌ بقوله {لَنَسْأَلَنَّهُمْ} [الحجر: 92] تقديرُه: لَنَسْأَلَنَّهم أجمعين مثلَ ما أَنْزَلْنا. العاشر: أنَّ الكافَ مزيدةٌ تقديره: أنا النذير المُبين ما أنزلناه على المقتسِمين، ولا بد مِنْ تأويلِ ذلك: على أنَّ» ما «مفعولٌ بالنذير عند الكوفيين فإنهم يُعْمِلون الوصفَ الموصوفَ، أو على إضمارِ فعلٍ لائق، أي: أُنْذِركم ما أنزلناه كما يليق بمذهبِ البصريين. الحادي عشر: أنه متعلِّقٌ ب» قل «التقديرُ: وقُلْ قولاً كما أنزَلْنا على المقتسِمين: إنك نذيرٌ لهم، فالقولُ للمؤمنين في النِّذارة كالقولِ للكفارِ المقتسِمين؛ لئلا تظنَّ أن إنذارَك للكفارِ مخالِفٌ لإِنذار المؤمنين، بل أنت في وصفِ النِّذارة لهم بمنزلةٍ واحدةٍ، تُنْذِر المؤمنَ كما تُنْذر الكافرَ، كأنه قال: أنا النذير المبينُ لكم ولغيرِكم.

91

قوله تعالى: {الذين جَعَلُواْ} : فيه أوجهٌ: أظهرُها: أنه نعتٌ للمقتسِمين. الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه بيانٌ له. الرابع: أنه منصوبٌ على الذمِّ. الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. السادس: أنه منصوب بالنذير المبين، قاله الزمخشري، وهو مردودٌ بإعمال الوصفِ الموصوفِ عند البصريين، وتقدَّم تقريرُه. و «عِضيْن» جمع «عِضَة» وهي الفِرْقَةُ، ف «العِضين» الفِرَق، ومعنى جَعْلِهم القرآنَ كذلك: أنَّ بعضَهم جعله شعراً، وبعضَهم سحراً، وبعضَهم كِهانةً، نعوذ بالله من ذلك. وقيل: العَضْهُ: السِّحْرُ بلغة قريش، يقولون: هو عاضِهٌ وهي عاضِهَةٌ. قال: 295 - 3- أَعُوذُ بربِّي مِن النَّافِثا ... تِ في عُقَدِ العاضِهِ المُعْضِهِ وفي الحديث: «لَعَن العاضِهَة والمُسْتَعْضِهَة» ، أي: الساحرة والمُسْتَسْحِرَة. وقيل: هو مِنْ العِضَهِ، وهو الكذبُ والبُهْتانُ. يقال: عَضَهَهُ عَضْهَاً وعَضِيْهَةً، أي: رماه بالبُهتان، وهذا قولُ الكسائيِّ. وقيل: هو من العِضَاه، وهي شجرٌ شَوْكٌ مُؤْذٍ، قاله الفراء. وفي لام «عِضَة» قولان يَشْْهد لكلٍّ منهما التصريفُ: الواوُ، لقولهم: عِضَوات، واشتقاقها من العُضْوِ، لأنه جزءٌ مِنْ كلٍّ، ولتصغيرِها على عُضَيِّة، والهاء/

لقولهم: عُضَيْهَة وعاضِهٌ وعاضِهَةٌ وعَضِهٌ، وفي الحديث: «لا تَعْضِيَةَ في مِيراثٍ» وفُسِّر بأنْ لا تَفْريقَ فيما يَضُرُّ بالوَرَثَةِ، تفريقُه كسيفٍ يُكْسَر بنصفَيْن فَيَنْقُصُ ثمنُه. وقال الزمخشريُّ: «عَضين: أجزاءٌ، جمع عِضَة، وأصلُها عِضْوَة فِعْلَة، مِنْ عَضَا الشاةَ إذا جَعَلها أعضاءً. قال: 295 - 4- وليسَ دينُ اللهِ بالمُعَضَّى ... وجُمِعََ عِضَة على عِضين، كما جُمع سَنَة وثُبَة وظُبَةَ، وبعضهم يُجْري النونَ بالحركاتِ مع الياء، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، وحينئذ تَثْبُُتُ نونُه في الإِضافةِ فيقال: هذه عِضِيْنُك.

94

قوله تعالى: {فاصدع} : أصلُ الصَّدْعِ: الشَّقُّ: صَدَعْتُه فانصَدَعَ، أي: شَقَقْتُه فانْشَق، ومنه التفرقةُ أيضاً كقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] .

وقال: 295 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأنَّ بياضَ غِرَّتِه صَدِيعُ والصَّديعُ: ضوء الفجر لانشقاقِ الظلمةِ عنه، ومعنى «فاصدَعْ» : فافرُقْ بين الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما. وقال الراغب: «الصَّدْعُ شِقٌّ في الأجسامِ الصُّلْبة كالزُّجَاج والحديد، وصَدَّعْتُه بالتشديد فتصَدَّع، وصَدَعْتُه بالتخفيفِ فانْصَدَع، وصُداع الرأسِ منه لتوهُّمِ الانشقاقِ فيه، وصَدَعْتُ الفَلاةَ، أي: قطعتُها» مِنْ ذلك، كأنه تَوَهَّم تفريقَها. و «ما» في «بما تُؤْمَر» مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والأصلُ: تُؤْمَر به، وهذا الفعلُ يَطَّرِدُ حَذْفُ الجارِّ معه، فَحَذْفُ العائدِ فصيحٌ، وليس هو كقولك «جاء الذي مررت» ونحوُه: 295 - 6- أَمَرْتُكَ الخيرَ فافعَلْ ما أُمِرْتَ به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والأصل: بالخير. وقال الزمخشري: «ويجوز أن تكونَ» ما «مصدريةً، أي: بأَمْرِك، مصدرٌ من المبني للمفعول» . انتهى. وهو كلامٌ صحيحٌ. ونَقَل الشيخُ عنه أنه قال: «ويجوز أن يكونَ المصدرُ يُراد به» أَنْ «

والفعلِ المبنيِّ للمفعول» . ثم قال الشيخ: «والصحيحُ أنَّ ذلك لا يجوز» . قلت: الخلافُ إنما في المصدرِ المُصَرَّح به: هل يجوز أن يَنْحَلَّ لحرفٍ مصدريٍ وفعلٍ مبني للمفعول أم لا يجوزُ ذلك؟ خلافٌ مشهور، أمَّا أنَّ الحرفَ المصدريَّ هل يجوزُ فيه أن يُوْصَلَ بفعل مبني للمفعول نحو: «يُعجبني أن يُكْرَمَ عمرٌو» أم لا يجوز؟ فليس محلَّ النِّزاعِ.

النحل

قوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} : في «أتى» وجهان، أحدُهما: - وهو المشهورُ- أنه ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ إذ المرادُ به يومُ القيامة، وإنما أُبْرِز في صورةِ ما وَقَع وانقضى تحقيقاً له ولصِدْقِ المخبِرِ به. والثاني: أنه على بابه، والمرادُ به مقدِّماتُه وأوائلُه، وهو نَصْرُ رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} في الضميرِ المنصوبِ وجهان، أظهرُهما: أنَّه للأمرِ، فإنَّه هو المُحَدَّثُ عنه. والثاني: أنه لله، أي: فلا تستعجلوا عذابَه. قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} يجوز أن تكونَ «ما» مصدريةً فلا عائدَ عند الجمهور، أي: عن إشراكِهم به غيرَه، وأن تكونَ موصولةً اسميةً. وقرأ العامَّةُ: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين. وابنُ جبير بالياء من تحتُ عائداً على الكفار أو المؤمنين.

وقرأ الأَخَوان: «تُشْرِكُون» بتاءِ الخطابِ جَرْياً على الخطابِ في «تَسْتَعْجِلُوه» والباقون بالياء عَوْداً على الكفار. وقرأ الأعمشُ وطلحةُ والجحدريُّ وجَمٌّ غفيرٌ بالتاء من فوقُ في الفعلين.

2

قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الملائكة} : قد تقدَّم الخلافُ في «يُنَزِّل» بالنسبة إلى التشديدِ والتخفيفِ في البقرة. وقرأ زيدُ بن علي والأعمشُ وأبو بكر عن عاصم «تَنَزَّلُ» مشدداً مبنياً للمفعول وبالتاءِ مِنْ فوقُ، «الملائكةُ» رفعاً لقيامِه مَقامَ الفاعلِ وقرأ الجحدريُّ كذلك، إلا أنه خَفَّف الزايَ. وقرأ الحسنُ والأعرجُ وأبو العالية والمفضَّل عن عاصم «تَنَزَّلُ» بتاءٍ واحدةٍ مِنْ فوقُ، وتشديدِ الزايِ مبنياً للفاعل، والأصلُ: «تَتَنَزَّل» بتاءَيْن. وقرأ ابنُ أبي عبلة «نُنَزِّلُ» بنونينِ وتشديدِ الزايِ، «الملائكةَ» نصباً، وقتادةُ كذلك إلا انه بالتخفيف. قال/ ابن عطية: «وفيهما شذوذٌ» ولم يُبَيِّن وجهَ ذلك، ووجهُه: أنَّ ما قبله وما بعده مضمرٌ غائبٌ، وتخريجُه على الالتفات. قوله: «بالرُّوْحِ» يجوز أن يكونَ متعلقاً بنفس الإِنزال، وأن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الملائكة «، أي: ومعهم الروحُ. قوله: {مِنْ أَمْرِهِ} حالٌ من» الرُّوحِ «. و» مِنْ «: إمَّا لبيانِ الجنسِ، وإمَّا للتبعيضِ.

قوله: {أَنْ أنذروا} في» أَنْ «ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها المُفَسِّرةُ؛ لأنَّ الوحيَ فيه ضَربٌ من القولِ، والإِنزالُ بالروحِ عبارةٌ عن الوحيِ. الثاني: أنها المخففةُ مِنَ الثقيلة، واسمُها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ تقديره: أنَّ الشأنَ أقولُ لكم: إنه لا إله إلا أنا، قاله الزمخشريُّ: الثالث: أنها المصدريةُ التي من شأنِها نصبٌ نصبُ المضارع ووُصِلَتْ بالأمر كقولهم:» كتبت إليه بأنْ قُمْ «، وقد مضى لنا فيه بحثٌ. فإن قلنا: إنها المفسِّرةُ فلا مَحَلَّ لها، وإنْ قلنا: إنها المخففةُ أو الناصبةُ ففي محلِّها وثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها مجرورةُ المحلِّ بدلاً من» الرُّوح «؛ لأنَّ التوحيدَ رُوْحٌ تَحْيا به النفوسُ. الثاني: أنها في محلِّ جرٍّ على إسقاطِ الخافضِ كما هو مذهبُ الخليل. والثالث: أنها في محل نصب على إسقاطه وهو مذهبُ سيبويه، والأصلُ: بأَنْ أَنْذِروا، فلمَّا حُذِفَ الجارُّ جَرَى الخلافُ المشهورُ. قوله: {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ} هو مفعولُ الإِنذار والإِنذار قد يكونُ بمعنى الإِعلامِ. يقال: نَذَرْتُه وأَنْذَرته بكذا، أي: أَعْلِمُوهم التوحيدَ. وقوله» فاتَّقونِ «التفاتٌ إلى التكلمِ بعد الغَيْبة.

4

قوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍْْ} متعلِّقٌ ب «خَلَق» و «مِنْ»

لابتداءِ الغاية. والنُّطْفَةُ: القَطْرَةُ من الماء، نَطَفَ رأسُه ماءً، أي: قَطَر. وقيل: هي الماء الصافي ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرجل، ويُكْنَى بها عن اللؤلؤة، ومنه صبيٌّ مُنَطَّف: إذا كان في أذنه لُؤْلؤة، ويقال: ليلة نَطُوف: إذا جاء فيها مطرٌ. والناطِف: ما سال من المائعاتِ، نَطَفَ يَنْطِفُ، أي: سال فهو ناطِفٌ. وفرنٌ يَنْطِفُ بسوءٍ. قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} عَطَفَ هذه الجملةَ على ما قبلَها. فإن قيل: الفاءُ تدلُّ على التعقيب، ولا سيما وقد وُجِدَ معها «إذا» التي تقتضي المفاجَأةَ، وكونُه خصيماً مبيناً لم يَعْقُبْ خَلْقَه مِنْ نُطْفة، إنما توسَّطَتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ. فالجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنه من باب التعبير عن حال الشيءِ بما يَؤُول إليه، كقولِه تعالى: {أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] . والثاني: أنه أشار بذلك إلى سُرْعَةِ نِسْيانهم مَبْدَأَ خَلْقِهم. وقيل: ثَمَّ وسائِطُ محذوفةٌ. والذي يظهر أنَّ قولَه «خَلَقَ» عبارةٌ عن إيجاده وتربيتِه إلى أن يبلغَ حدَّ هاتين الصفتين. و «خصيم» فَعِيْل، مثالُ مبالغةٍ مِنْ خَصَم بمعنى اختصم، ويجوز أن يكونَ مُخاصِم كالخَلِيط والجَلِيس.

5

قوله تعالى: {والأنعام خَلَقَهَا} : العامَّةُ على النصبِ وفيه وجهان، أحدُهما: نصبٌ على الاشتغالِ، وهو أرجحُ مِن الرفعِ لتقدُّمِ جملةٍ فِعليةٍ. والثاني: أنه نصبٌ على عَطْفِه على «الإِنسان» ، قاله

الزمخشريُّ وابنُ عطية، فيكون «خَلَقَها» على هذا مؤكِّداً، وعلى الأول مفسِّراً. وقُرئ في الشاذِّ «والأنعامُ» رفعاً وهي مَرْجُوحَةٌ. قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} يجوز أن يَتَعَلَّقَ «لكم» ب «خَلَقَها» ، أي: لأجلِكم ولمنافعِكم، ويكون «فيها» خبراً مقدماً، «ودِفْءٌ» مبتدأً مؤخراً. ويجوز أن يكونَ «لكم» هو الخبر، و «فيها» متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ، أو يكونَ «فيها» حالاً من «دِفْء» لأنه لو تاخَّر لكان صفةً له، أو يكونَ «فيها» هو الخبرَ، و «لكم» متعلِّقٌ بما تعلَّق به، أو يكونَ حالاً مِنْ «دِفْء» قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ بأنه إذا كان العاملُ في الحال معنوياً فلا يتقدَّم على الجملةِ بأسرها، لا يجوز: «قائماً في الدار زيدٌ» فإنْ تأخَّرَتْ نحو: «زيدٌ في الدار قائماً» جازَ بلا خلافٍ، أو توسَّطَتْ/ فخلافٌ، أجازه الأخفشُ، ومنعه غيرُه. قلت: ولقائلٍ أن يقولَ: لَمَّا تقدَّمَ العاملُ فيها وهي معه جاز تقديمُها عليه بحالها، إلاَّ أنْ يقولَ: لا يَلْزَمُ مِنْ تقديمِها عليه وهو متأخرٌ تقديمُها عليه وهو متقدمٌ، لزيادةِ القبح. وقال أبو البقاء أيضاً: «ويجوز أَنْ يرتفعَ» دِفْء «ب» لكم «أو ب» فيها «والجملةُ كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب» . قال الشيخ: «

ولا تُسَمَّى جملةً؛ لأنَّ التقدير: خلقها كائناً لكم فيها دفءٌ، أو خَلَقها لكم كائناً فيها دِفْءٌ» قلت «قد تقدَّم الخلاف في تقدير متعلِّق الجارِّ إذا وقع حالاً أو صفةً أو خبراً: هل يُقَدَّرُ فِعْلاً أو اسماً؟ ولعلَّ أبا البقاء نحا إلى الأولِ، فتسميتُه له جملةً صحيحٌ على هذا. والدِّفْء اسمٌ لِما يُدْفَأُ به، أي: يُسْخَنُ، وجمعُه أدْفاء، ودَفِئَ يومُنا فهو دَفِىءٌ، ودَفِئَ الرجلُ يَدْفَأُ دَفاءَةً ودَفَاءً فهو دَفْآنُ، وهي دَفْأَى، كسَكْران وسَكْرى. والمُدْفَأة بالتخفيفِ والتشديد: الإِبلُ الكثيرةُ الوبرِ والشحمِ. قيل: الدِّفْءُ: نِتاجُ الإِبل وألبانُها، وما يُنْتفع به منها. وقرأ زيدُ بنُ عليّ» دِفٌ «بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الفاء، والزهريُّ كذلك، إلا أنه شَدَّدَ الفاء، كأنه أجرى الوَصْلَ مُجْرى الوقفِ نحو قولِهم:» هذا فَرُخّْ «بالتشديد وقفاً. وقال صاحب» اللوامح «:» ومنهم مَنْ يُعَوِّضُ من هذه الهمزةَ فَيُشَدِّد الفاءَ، وهو أحدُ وجهَيْ حمزةَ بنِ حبيب وقفاً «. قلت: التشديد وَقْفاً لغةٌ مستقلةٌ، وإن لم يكن ثَمَّ حَذْفٌ من الكلمةِ الموقوفِ عليها. قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} » مِنْ «هنا لابتداء الغاية، والتبعيض هنا ضعيفٌ. قال الزمخشري: فإن قلت: تقديمُ الظرفِ مُؤْذِنٌ بالاختصاصِ، وقد يُؤْكَلُ مِنْ غيرِها. قلت: الأكل منها هو الأصلُ الذي يعتمده الناسُ، وأمَّا غيرُها مِن البَطِّ والدَّجاج ونحوِها من الصَّيْد فكغيرِ المُعْتَدِّ به» .

6

قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} : كقوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5] . و «حين» منصوبٌ بنفس «جَمال» ، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له، أو معمولٌ لِما عَمِل في «فيها» أو في «لكم» . وقرأ عكرمةُ والضحاكُ «حينا» بالتنوين على أنَّ الجملةَ بعدَه صفةٌ له، والعائدُ محذوفٌ، أي: حيناً تُرِيْحون فيه، وحيناً تَسْرحُون فيه، كقولِه تعالى: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ} [البقرة: 281] . وقُدِّمَتْ الإِراحةُ على السَّرْحِ؛ لأنَّ الأنعامَ فيها أجملُ لِمَلْءِ بطونِها وتَحَفُّلِ ضُروعِها. والجَمالُ: مصدرُ جَمُلَ بضمِّ الميم يَجْمُل فهو جميل، وهي جميلة. وحكى الكسائيُّ جَمْلاء كَحَمْراء، وأنشد: 295 - 7- فهِيَ جَمْلاءُ كَبَدْرٍ طالعٍ ... بَذَّتِ الخَلْقَ جميعاً بالجَمالْ ويقال: أراحَ الماشيةَ وهَرَاحَها بالهاءِ بدلاً من الهمزة. وسَرَحَ الإِبلَ يَسْرَحُها سَرْحاً، أي: أرسلَها، وأصلُه أن يُرْسِلَها لترعى السَّرْحَ، والسَّرْحُ شجرٌ له ثمرٌ، الواحدة سَرْحَة. قال: 295 - 8- أبى اللهُ إلا أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ ... على كلِّ افنانِ العِضاهِ تَرُوْقُ

وقال: 295 - 9- بَطَلٌ كأن ثيابَه في سَرْحةٍ ... يُحْذَى نِعالَ السَّبْتِ ليس بتوْءَم ثم أُطْلِق على كل إرسالٍ، واستُعير أيضاً للطَّلاق فقالوا: سَرَّحَ فلانٌ امرأتَه، كما تسعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإِبل من عُلُقِها. واعتُبِر من السَّرْحِ المُضِيُّ فقيل: ناقَةَ سُرُحٌ، أي: سريعة قال: 296 - 0-. . . سُرُحُ اليَدَيْن. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وحَذَفَ مفعولي «تُرِيْحون» و «تَسْرَحُون» مراعاةً للفواصل مع العلم بهما.

7

قوله تعالى: {لَّمْ تَكُونُواْ} : صفةٌ ل «بلد» و «إلا بشِقٍّ» حالٌ من الضمير المرفوع في «بالِغِيْه» ، أي: لم تَبْلُغوه إلا ملتبسِيْنَ بالمَشَقَّة. والعامَّةُ على كسرِ الشين. وقرأ أبو جعفر، ورُوِيَتْ عن نافع وأبي عمرو بفتحها. فقيل: هما مصدران بمعنىً واحدٍ، أي: المَشَقَّة، فمِنَ الكسر قولُه: 296 - 1- رأى إبِلاً تَسْعى، ويَحْسِبُها له ... أخي نَصَبٍ مِنْ شِقِّها ودُؤْوْبِ

أي: مِنْ مَشَقَّتها. / وقيل: المفتوحُ المصدرُ، والمكسورُ الاسمُ. وقيل: بالكسرِ نصفُ الشيء. وفي التفسير: إلا بنصفِ أنفسكم، كما تقول: «لم تَنَلْه إلا بقطعةٍ من كَبِدك» على المجاز.

8

قوله تعالى: {والخيل} : العامَّةُ على نصبِها نَسَقاً على «الأنعامَ» . وقرأ ابن أبي عبلة برفعِها على الابتداء والخبرُ محذوفٌ، أي: مخلوقَةٌ أو مُعَدَّةٌ لتركبوها، وليس هذا ممَّا نابَ فيه الجارُّ منابَ الخبرِ لكونِه كوناً خاصاً. قوله: «وزينةً» في نصبها أوجهٌ، أحدُها: أنها مفعولٌ من أجلِه، وإنما وَصَل الفعلُ إلى الأول باللام في قوله: «لتركبوها» وإلى هذا بنفسِه لاختلالِ شرطٍ في الأول، وهو عَدَمُ اتحادِ الفاعلِ، فإن الخالقَ اللهُ، والراكبَ المخاطبون بخلافِ الثاني. الثاني: أنها منصوبةٌ على الحال، وصاحبُ الحال: إمَّا مفعول «خَلَقَها» ، وإمَّا مفعولُ «لتركبوها» ، فهو مصدرٌ أقيم مُقامَ الحال. الثالث: أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ، فقدَّره الزمخشري «وخَلَقها زينة» . وقدَّره ابن عطية وغيرُه «وجَعَلها زينةً» . الرابع: أنه مصدرٌ لفعلٍ محذوف، أي: وَيَتَزَيَّنُوْن بها زينةً. وقرأ قتادةُ عن ابن عباس «لتَرْكَبوها زينةً» بغير واوٍ، وفيها الأوجهُ

المتقدمةُ، ويزيد أن تكونَ حالاً من فاعل «لتركبوها» ، أي: تركبونها مُتَزَيِّنين بها.

9

قوله تعالى: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} : {} الضميرُ يعود على السبيل لأنها تُؤَنَّثُ: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] ، أو لأنها في معنى سُبُل، فَأَنَّثَ على معنى الجمع. والقَصْدُ مصدرٌ يُوصَفُ به فهو بمعنى قاصِد، يُقال: سبيلٌ قَصْدٌ وقاصِدٌ، أي: مستقيم كأنه يَقْصِد الوجهَ الذي يَؤُمُّه السَّالكُ لا يَعْدِل عنه. وقيل: الضمير يعود على الخلائق ويؤيِّده قراءةُ عيسى وما في مصحف عبد الله: «ومنكم جائِزٌ» ، وقراءةُ عليٍّ: «فمنكم جائر» بالفاء. وقيل: أل في السبيل للعَهْدِ، فعلى هذا يعود الضميرُ على «السبيل» التي يتضمَّنها معنى الآية كأنه قيل: ومِن السبيل، فأعاد عليها وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ؛ لأنَّ مقابلَها يَدُلُّ عليها. وأمَّا إذا كانت أل للجنس فتعودُ على لفظها. والجَوْرُ: العُدولُ عن الاستقامةِ. قال النابغة: 296 - 2-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَجُور بها الملاَّحُ طَوْراً ويَهْتدي

وقال آخر: 296 - 3- ومن الطريقةِ جائرٌ وهُدىً ... قَصْدُ السبيلِ ومنه ذُو دَخْلِ وقال أبو البقاء: «وقَصْدُ مصدرٌ بمعنى إقامةِ السبيل وتَعِديلِ السبيلِ، وليس مصدرَ قصَدْتُه بمعنى أتَيْتُه» .

10

قوله تعالى: {مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ} : يجوزُ في «لكم» أن يتعلَّقَ ب «أنْزَلَ» ، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل «ماءً» ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، فعلى الأولِ يكون «شرابٌ» مبتدأً و «منه» خبرُه مقدَّمٌ عليه، والجملةُ أيضاً صفةٌ ل «ماءً» وعلى الثاني يكون «شرابٌ» فاعلاً بالظرف، و «منه» حالٌ من «شراب» . و «مِنْ» الأولى للتبعيض، وكذا الثانيةُ عند بعضِهم، لكنه مجاز لأنه لمَّا كان سَقْيُه بالماء جُعِل كأنه من الماء كقوله: 294 - 6- أسنِمَة الآبالِ في رَبابَهْ ... أي: في سَحابة، يعني به المطرَ الذي يَنْبُتُ به الكلأُ الذي تأكلُه الإِبِلُ فَتَسْمَنُ اَسْنِمَتُها. وقال أبو بكر بن الأنباري: «هو على حذف مضاف إمَّا من الأول، يعني

قبل الضمير، أي: مِنْ سَقْيِه وجِهتِه شجرٌ، وإمَّا من الثاني، يعني قبل شجر، أي: شُرْب شجر أو حياة شجر» . وجعل أبو البقاء الأولى للتبعيض والثانية للسبيية، أي: بسببه، ودَلَّ عليه قولُه: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع} . والشَّجَرُ هنا: كلُّ نباتٍ من الأرض حتى الكَلأُ، وفي الحديث: «لا تأكُلوا الشجرَ فإنه سُحْتٌ» يعني الكلأ، ينهى عن تحجُّر المباحاتِ المحتاجِ إليها بشدة. وقال: 296 - 5- نُطْعِمُها اللحمَ إذا عَزَّ الشجَرْ ... وهو مجازٌ؛ لأنَّ الشجرَ ما كان له ساقٌ. قوله: {فِيهِ تُسِيمُونَ} هذه صفةٌ أخرى ل «ماءً» . والعامَّة على «تُسِيمون» بضمِّ الياء مِنْ أسام، أي: أَرْسَلَها لِتَرْعى، وزيد بن علي بفتحِها، فيحتمل أن يكونَ متعدياً، ويكون فَعَل وأَفْعَل بمعنى، ويحتمل أن يكون لازماً على حذفِ مضافٍ، أي: تَسِيْمُ مواشِيَكُمْ.

11

قوله تعالى: {يُنبِتُ} : تحتمل هذه الجملةُ الاستئنافَ والتبعيةَ كما في نظيرتِها. ويقال: «أَنْبت اللهُ الزرعَ» فهو مَنْبُوت، وقياسُه

مُنْبَتٌ. وقيل: «أَنْبت» قد يجيْءُ لازماً ك «نَبَت» أنشد الفراء: 296 - 6- رأيتَ ذوي الحاجاتِ حولَ بيوتِهمْ ... قَطِيناً لهم حتى إذا أَنْبَتَ البَقْلُ وأباه الأصمعي، والبيتُ حجةٌ عليه، وتأويلُه ب «أَنبت البقلُ نفسَه» على المجاز بعيدٌ جداً. وقرأ أبو بكر «نُنْبِتُ» بنون العظمة، / والزهري «نُنَبِّتُ» بالتشديد. والظاهر أنه تضعيف المتعدي. وقيل: بل للتكرير. وقرأ أُبَي «يَنْبُت» بفتحِ الياءِ وضم الباء، «الزَّرعُ» وما بعده رفعٌ بالفاعلية.

12

وقد تقدَّم خلافُ القراء في رفع «الشمس» وما بعدها ونصبِها، وتوجيهُ ذلك في سورة الأعراف.

13

قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ} عطفٌ على «الليل» قاله الزمخشري يعني ما خَلَقَ فيها من حيوانٍ وشَجَر. وقال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوف، أي: وخَلَقَ وأَنْبَتَ» . كأنه استبعد تَسلُّطَ «سَخَّر» على ذلك فقدَّر فعلاً لائقاً. و «مختلفاً» حالٌ منه، و «ألوانُه» فاعلٌ به.

وخَتَمَ الآيةَ الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأمُّلٍ ونَظَر، والثانيةَ بالعقل؛ لأنَّ مدارَ ما تقدَّم عليه، والثالثةَ بالتذكُّر؛ لأنه نتيجةُ ما تقدَّمَ. وجَمَعَ «آيات» في الثانية دونَ الأولى والثالثةِ؛ لأنَّ ما نِيْطَ بها أكثرُ، ولذلك ذَكَرَ معها العقلَ.

14

قوله تعالى: {مِنْهُ لَحْماً} : يجوز في «منه» تعلُّقُه ب «لتأكلوا» ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرة بعده. و «مِنْ» لابتداء الغاية أو للتبعيضِ، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ، أي: مِنْ حيوانِه. و «طَرِيّاً» فَعِيْل مِنْ طَرُوَ يَطْرُوْ طَراوةً كسَرُوَ يَسْرُوْ سَراوَةً. وقال الفراء: «بل يقال: طَرِيَ يَطرَى طَراوةً وطَراءً مثل: شَقِيَ يَشْقَى شَقَاوَةً وشَقاءً» . والطَّراوةُ ضد اليَبُوسة، أي: غَضاً جديداً. ويُقال: الثيابُ المُطَرَّاة. والإِطراء: مَدْحٌ تَجَدَّد ذِكْرُه، وأمَّا «طَرَأَ» بالهمز فمعناه طَلَع. قوله: «حِلْيةً» الحِلْيَةُ: اسمٌ لِما يُتَحَلَّى به، وأصلُها الدلالةُ على الهيئة كالعِمَّة والخِمْرَة. و «تَلْبَسُونها» صفةٌ. و «منه» يجوز فيه ما جاز في «منه» قبله. وقوله «تَرَى» جملةٌ معترضةٌ بين التعليلين وهما «لتأكلوا» و «لِتَبْتَغُوا» ، وإنما كانَتْ اعتراضاً لأنها خطابٌ لواحد بين خطابين لجمعٍ. قوله: «فيه» يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «ترى» ، وأَنْ يتعلَّقَ ب «مواخِرَ» لأنها

بمعنى شَواقَّ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ «مَواخِر» ، أو مِنَ الضميرِ المستكنِّ فيه. و «مَواخِر» جمع ماخِرة، والمَخْرُ: الشَّقُّ، يُقال: مَخَرَتِ السفينةُ البحرَ، أي: شَقَّتْه، تَمْخُره مَخْراً ومُخُوراٌ. ويقال للسُّفُنِ: بناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ بالميم، والباءُ بدل منها. وقال الفراء: «هو صوتُ جَرْيِ الفُلْكِ» . وقيل: صوتُ شدَّةِ هُبوبِ الريحِ. وقيل: «بناتُ مَخْرٍ» لسَحابٍ ينشَأُ صَيْفاً، وامْتَخَرْتُ الريحَ واسْتَمْخَرْتُها، أي: استقبلْتَها بأنفك. وفي الحديث: «اسْتَمْخِروا الريحَ، وأَعِدُّوا النُّبَلَ» يعني في الاستنجاء، والماخُور: الموضع الذي يُباع فيه الخمرُ. و «ترى» هنا بَصَريَّةٌ فقط. قوله: «ولِتَبْتَغُوا» فيه ثلاثةُ أوجهٍ: عطفُه على «لتأكلوا» ، وما بينهما اعتراضٌ -كما تقدَّم- وهذا هو الظاهرُ. ثانيها: أنه عطفٌ على علةٍ محذوفةٍ تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتَغُوا، ذكره ابن الأنباري، ثالثُها: أنه متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فَعَل ذلك لتبتغوا، وفيهما تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه.

15

قوله تعالى: {أَن تَمِيدَ} :، أي: كراهةَ أَنْ تَمِيْدَ، أو: لئلاَّ تَمِيْدَ. قوله: «وأنهاراً» عطفٌ على «رَواسي» لأنَّ الإِلقاءَ بمعنى الخَلْقَ. وادِّعاءُ ابنِ عطية أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ، أي: وجَعَل فيها أنهاراً، ليس كما ذكره. وقدَّره أبو البقاء: «وشَقَّ فيها أنهاراً» وهو مناسِبٌ، و «سُبُلاً» ، أي: وذَلَّل، أو: وجعل فيها طُرُقاً.

16

و {وَعَلامَاتٍ} ، أي: ووَضَعَ فيها علاماتٍ. قوله تعالى: {وبالنجم} متعلِّق ب «يهتدون» . والعامَّةُ على فتحِ النونِ وسكونِ الجيمِ بالتوحيدِ فقيل: المرادُ به كوكبٌ بعينه كالجَدْيِ أو الثُّرَيَّا. وقيل: بل هو اسمُ جنسٍ. وقرأ ابن وثاب بضمِّهما، والحسنُ بضمِّ النون فقط، وعَكَسَ بعضُهم النَّقْلَ عنهما. فأمَّا قراءةُ الضمتين ففيها تخريجان، أظهرُهما: أنها جمعٌ صريحٌ لأنَّ فَعْلاً يُجْمع على فُعُل نحو: سَقْف وسُقُف، ورَهْن ورُهُن. / والثاني: أنَّ أصلَه النجومُ، وفَعْل يُجمع على فُعُول نحو: فَلْس وفُلُوس، ثم خُفِّف بحَذْفِ الواوِ كما قالوا: أَسَد وأُسُود وأُسُد. قال أبو البقاء: «وقالوا في خِيام: خِيَم، يعني أنه نظيرُه، من حيث حَذَفوا منه حرفَ المدِّ. وقال

ابنُ عصفور: إن قولهم» النُّجُم مِنْ ضرورة الشعر «وأنشد: 296 - 7- إنَّ الي قَضَى بذا قاضٍ حَكَمْ ... أن تَرِدَ الماءَ إذا غابَ النُّجُمْ يريد: النحوم، كقوله: 296 - 8- حتى إذا ابْتَلَّتْ حَلاقِيْمُ الحُلُقْ ... يريد الحُلُوق. وأمَّا قراءةُ الضمِّ والسكونِ ففيها وجهان، أحدهما: أنها تخفيفٌ من الضم. والثاني: أنها لغةٌ مستقلة. وتقديمُ كلٍّ من الجار والمبتدأ يفيد الاختصاصَ. قال الزمشخري:» فإن قلت: قوله: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} مُخْرَجٌ عن سَنَنِ الخِطاب، مقدَّم فيه النجم، مُقْحَمٌ فيه [هم] ، كأنه قيل: وبالنجمِ خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدونَ، فَمَنْ المرادُ بهم؟ قلت: كأنَّه أراد قريشاً، كان لهم اهتداءٌ بالنجوم في مسائرِهم، وكان لهم به عِلْمٌ لم يكنْ لغيرِهم فكان الشكرُ عليهم أوجبَ ولهم أَلْزَمَ «.

17

قوله تعالى: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} إنْ أُريد ب «مَنْ لا يَخْلُق» جميعٌ ما عُبِد مِنْ دونِ الله كان ورودُ «مَنْ» واضحاً؛ لأن العاقلَ

يُغَلَّبُ على غيرِه، فيُعبَّر عن الجميع ب «مَنْ» ولو جِيْء ب «ما» أيضاً لجازَ، وإنْ أريد به الأصنامُ ففي إيقاعِ «مَنْ» عليهم أوجهٌ، أحدُها: إجراؤهم لها مُجْرى أُولي العلمِ في عبادتهم إياها واعتقادِ أنها تَضُرُّ وتنفع كقوله: 296 - 9- بَكَيْتُ إلى سِرْبِ القَطا إذْ مَرَرْنَ بي ... فقلتُ ومِثْلي بالبكاءِ جديرُ أسِرْبَ القَطا هل مَنْ يُعيرُ جناحَه ... لعلِّي إلى مَن قد هَوَيْتُ أطيرُ فأوقعَ على السِّرْب «مَنْ» لمَّا عاملها معاملةَ العقلاءِ. الثاني: المشاكلةُ بينه وبين مَنْ يَخْلُق. الثالث: تخصيصُه بمَنْ يَعْلَم، والمعنى: أنه إذا حَصَلَ التبايُنُ بين مَنْ يَخْلُقُ وبين مَنْ لا يَخْلُق مِنْ أولي العلم، وأنَّ غيرَ الخالقِ لا يَسْتحق العبادةَ البتة، فكيف تستقيم عبادةُ الجمادِ المنحطِّ رتبةً، الساقطِ منزلةً عن المخلوقِ من أولي العلم كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} [الأعراف: 195] إلى آخره؟ وأمَّا مَنْ يُجيز إيقاعَ «مَنْ» على غيرِ العقلاء مِنْ شرطٍ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويلٍ. قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: هو إلزامٌ للذين عَبَدوا الأوثانَ ونحوَها، تشبيهاً بالله تعالى، وقد جعلوا غيرَ الخالقِ مثلَ الخالق، فكان حَقُّ الإِلزامِ أن يُقال لهم: أَفَمَنْ لا يَخْلُق كَمَنْ يَخْلق؟ قلت: حين جعلوا غيرَ الله مِثْلَ اللهِ لتسميتِهم باسمِه، والعبادةِ له، جعلوا من جنس المخلوقات وشبيهاً

بها، فأنكر عليهم ذلك بقولِه {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} .

19

قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} : قرأ العامَّةُ «تُسِرُّون» و «تُعْلِنون» بتاء الخطاب. وأبو جعفر بالياء مِنْ تحتُ.

20

وقرأ عاصم وحده «يَدْعُون» بالياء، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ. وقُرِئ «يُدْعَوْن» مبنياً للمفعول. وهنَّ واضحاتٌ.

21

قوله تعالى: {أَمْواتٌ} : يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، أي: وهم يُخْلَقُون وهم أمواتٌ. ويجوز أن يكونَ «يُخْلَقون» و «أمواتٌ» كلاهما خبراً من بابِ «هذا حُلْوٌ حامِض» ذكره أبو البقاء، ويجوزُ أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم أمواتٌ. قوله: {غَيْرُ أَحْيَآءٍ} يجوزُ فيه ما تقدم، ويكون تأكيداً. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أَنْ يكونَ قصد بها أنهم في الحال غيرُ أحياءٍ ليَرْفَعَ به توهُّمَ أنَّ قولَه» أمواتٌ «فيما بعد إذ قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] . قلت: وهذا لا يُخْرِجُه عن التأكيدِ الذي ذكره قبلَ ذلك. قوله: {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} » أيَّان «منصوبٌ بما بعده لا بما قبلَه لأنه استفهامٌ،

وهو مُعَلَّقٌ ل» يَشْعُرون «فجملتُه في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ، هذا هو الظاهرُ. وفي الآية قولٌ آخرُ: وهو أن» أيَّان «ظرفٌ لقولِه {إلهكم إله وَاحِدٌ} يعني أن الإِلهَ واحدٌ يومَ القيامة، ولم يَدَّعِ أحدٌ الإِلهيةَ في ذلك اليومِ بخلاف أيَّام الدنيا، فإنه قد وُجد فيها من ادَّعى ذلك، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ على قوله» يَشْعُرون «، إلا أن هذا القول مُخْرِجٌ ل» أيَّان «عن موضوعِها - وهو: إمَّا/ الشرطُ، وإمَّا الاستفهامُ - إلى مَحْضِ الظرفيةِ بمعنى وقت، مضافٌ للجملة بعده كقولِك:» وقتَ تَذْهَبُ عمروٌ منطلق «فوقتَ منصوبٌ بمُنْطَلِق، مضافٌ لتذهب.

23

قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ} : قد تقدَّمَ الكلامُ على هذه اللفظةِ في سورةِ هود. والعامَّةُ على فتحِ الهمزة مِنْ «انَّ اللهَ» وكَسَرَها عيسى الثقفيُّ، وفيها وجهان، أظهرُهما: الاستئنافُ. والثاني: جَرَيانُ «لا جَرَم» مَجْرَى القسمِ فَتُتَلَقَّى بما يُتَلَقَّى به. وقال بعضُ العرب: «لا جَرَم واللهِ لا فارَقْتُك» وهذا عندي يُضْعِفُ كونَها للقسم لتصريحه بالقسمِ بعدها، وإن كان الشيخ أتى بذلك مُقَوِّياً لجريانِها مَجْرى القسَم.

24

قوله تعالى: {مَّاذَآ أَنْزَلَ} : قد تقدَّم الكلامُ على «ماذا» أولَ البقرة. وقال الزمخشري: «أو مرفوعٌ بالابتداءِ بمعنى: أيُّ شيءٍ أنزلَه ربُّكم؟ قال الشيخ:» وهذا غيرُ جائزٍ عند البصريين «. يعني مِنْ

كونِه حَذَفَ عائدَه المنصوب نحو:» زيدٌ ضربتُ «وقد تقدَّم خلافُ الناس في هذا، والصحيحُ جوازه. والقائمُ مَقامَ فاعلِ» قيل «الجملةُ مِنْ قولِه {مَّاذَآ أَنْزَلَ} لأنها المَقُولَةُ، والبصريون يَأْبَوْنَ ذلك، ويجعلون القائمَ مقامَه ضميرَ المصدرِ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَ الفاعلِ، والفاعلُ المحذوفُ: إمَّا المؤمنون، وإمَّا بعضُهم، وإمَّا المقتسِمون. وقرئ:» أساطيرَ «بالنصب، على تقدير: أَنْزَلَ أساطيرَ على سبيل التهكُّم، أو ذكرتُمْ أساطيرَ، والعامَّةُ، برفعِه على خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: المنزَّلُ أساطيرٌ على سبيل التهكُّم، أو المذكورُ أساطيرُ. وللزمخشريِّ هنا عبارةٌ فظيعةٌ يقف منها الشَّعْرُ.

25

قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ} : في هذه اللام ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها لامُ الأمرِ الجازمةُ على معنى الحَتْمِ عليهم، والصِّغارِ الموجبِ لهم، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ عند قولِه «الأوَّلين» ، ثم اسْتُؤْنِف أَمْرُهم بذلك. الثاني: أنها لامُ العاقبة، أي: كان عاقبةُ قولِهم ذلك، لأنهم لم يقولوا «أساطير» لِيَحْمِلوا، فهو كقولِه تعالى {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] ، وقوله: 297 - 0- لِدُوا للموتِ وابْنُوا للخرابِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الثالث: أنَّها للتعليل، وفيه وجهان: أحدهما: أنه تعليلٌ مجازيٌّ. قال الزمخشري: «واللامُ للتعليلِ مِنْ غيرِ أن يكونَ غرضاً نحو قولِك: خرجْتُ من البلد مخافةَ الشرِّ» . والثاني: أنه تعليلٌ حقيقةً. قال ابن عطية: - بعد حكاية وجهِ لامِ العاقبة - «ويُحتمل أن تكونَ صريحَ لامِ كي، على معنى: قَدَّر هذا لكذا» انتهى. لكنه لم يُعَلِّقُها ب «قالوا» إنما قَدَّرَ لها علةَ «كيلا» ، وهو قَدَّر هذا، وعلى قول الزمخشري يتعلَّقُ ب «قالوا» ؛ لأنها ليست لحقيقةِ العلَّةِ. و «كاملةً» حالٌ. قوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّ «مِن» مزيدةٌ، وهو قولُ الأخفش، أي: وأوزار الذين على معنى: ومثل أوزارِ، كقولِه: كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِل بها «. والثاني: أنها غيرُ مَزيدةٍ وهي للتبعيضِ، أي: وبعض أوزارِ الذين. وقدَّر أبو البقاء مفعولاً حُذِف وهذه صفتُه، أي: وأوزاراً مِنْ أوزارِ، ولا بدَّ مِنْ حذف» مثل «أيضاً. وقد منع الواحديُّ أن تكونَ» مِنْ «للتبعيض قال:» لأنه يَسْتلزِمُ تخفيفَ الأوزارِ عن الأتباع، وهو غيرُ جائزٍ لقوله عليه السلام «من غير أن ينقصَ من أوزارهم شيءٌ» لكنها للجنس، أي: ليحملوا من جنس أوزارِ

الأتباع «. قال الشيخ:» والتي لبيانِ الجنسِ لا تتقدَّر هكذا، إنما تتقدَّر: والأوزار التي هي أوزارُ الذين، فهو من حيث المعنى كقول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير «. قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حالٌ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ» يُضِلُّونهم «، أي: يُضِلُّون مَنْ لا يعلم أنهم ضُلاَّلٌ، قاله الزمخشري. والثاني: أنه الفاعل، ورُجِّح هذا بأنه هو المُحدَّث عنه. وقد تقدَّم الكلامُ في إعرابِ نحو» ساءَ ما يَزِرون «، وأنها قد تجري مَجْرى بِئْس.

26

قوله تعالى: {مِّنَ القواعد} : «مِنْ» لابتداءِ الغاية، أي: من ناحيةِ القواعدِ، أي: أتى أمرُ الله وعذابُه. قوله: {مِن فَوْقِهِمْ} يجوز أن يتعلَّقَ ب «خَرَّ» وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية، ويجوز/ أَنْ يتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «السقف» وهي حالٌ مؤكِّدة؛ إذ السقفُ لا يكون تحتهم. وقال جماعة: ليس قوله «مِنْ تحتِهم» تأكيداً؛ لأنَّ العرب تقول: «خَرَّ علينا سَقْفٌ، ووقع علينا حائط» إذا كان يملكه وإنْ لم يَقعْ عليه، فجاء بقوله «من فوقهم» ليُخْرج هذا الذي في كلام العرب، أي: عليهم وَقَعَ وكانوا تحته فهلكوا. وهذا معنىً غيرُ طائلٍ، والقولُ بالتأكيد أَنْصَعُ منه. والعامَّةُ على «بُنْيانِهم» . وفرقة: «بِنْيَتَهُمْ» . وفرقة - منهم أبو جعفر- «

بَيْتهم» . والضحاك «بُيوتهم» . والعامَّةُ أيضاً: «السَّقْفُ» مفرداً. وفرقةٌ بفتحِ السين وضمِّ القاف بزنةِ عَضُد، وهي لغةٌ في السَّقْف، ولعلها مخففةٌ من المضموم، وكَثُرَ استعمالُ الفرعِ لخفَّتِه كقول تميم: «رَجْل» ، ولا يقولون: «رَجُل» . وقرأ الأعرج «السُّقُف» بضمتين. وزيدٌ بن علي بضم السين وسكونِ القاف، وقد تقدَّم مثلُ ذلك في قراءةِ {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] .

27

قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} مبتدأٌ وخبر. والعامَّة على «شركائي» ممدوداً. وسَكَّن ياءَ المتكلم فرقةٌ، فَتُحْذَفُ وصلاً لالتقاء الساكنين. وقرأ البزي بخلافٍ عنه بقصره مفتوحَ الياء. وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ، وزعموا أنَّها غيرُ مأخوذٍ بها، لأنَّ قصرَ الممدودِ لا يجوز إلاَّ ضرورةً. وتعجب أبو شامةَ من أبي عمروٍ الداني حيث ذكرها في كتابه مع ضعفها، وترك قراءاتٍ شهيرةً واضحة.

قلت: وقد رُوِي عن ابنِ كثير أيضاً قَصْرُ التي في القصص، ورُوِي عنه أيضاً قَصْرُ «ورائي» في مريم، ورَوى عنه قنبل أيضاً قَصْرَ {أَن رَّآهُ استغنى} [الآية: 7] في العلق، فقد رَوَى عنه قصرَ بعضِ الممدوداتِ، فلا تَبْعُدُ روايةُ ذلك عنه هنا، وبالجملة فَقَصْرُ الممدودِ ضعيفٌ، ذكره غيرُ واحدٍ لكن لا يَصِلُ به إلى حَدِّ الضرورة. قوله: «تُشَاقُّون» نافع بكسرِ النونِ خفيفةً والأصل: تُشاقُّوني، فَحَذَفَها مجتزِئاً عنها بالكسرة، والباقون بفتحها خفيفةً، ومفعولُه محذوفٌ، أي: تُشَاقُّون المؤمنين أو تشاقُّون اللهَ، بدليلِ القراءةِ الأولى. وقد ضَعَّفَ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ، أعني قراءةَ نافعٍ. وقرأَتْ فرقةٌ بتشديدِها مكسورةً، والأصل: تُشَاقُّونني فأدغم، وقد تقدَّم تفصيلُ ذلك في {أتحاجواني} [الأنعام: 80] {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] وسيأتي في قولِه تعالى {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني} [الزمر: 64] . قوله: «اليومَ» منصوب بالخِزْي، وعَمِل المصدرُ وفيه أل. وقيل: هو منصوبٌ بالاستقرار في «على الكافرين» إلا أنَّ فيه فَصْلاً بالمعطوفِ بين العاملِ ومعمولِه، واغتُفِر ذلك لأنهم يَتَّسِعُون في الظروفِ.

28

قوله تعالى: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ} : يجوز أن يكونَ

الموصولُ مجرورَ المحلِّ نعتاً لِما قبله، أو بدلاً منه، أبو بياناً له، وأن يكونَ منصوباً على الذمِّ، أو مرفوعاً عليه، أو مرفوعاً عليه، أو مرفوعاً بالابتداء، والخبرُ قولُه {فَأَلْقَوُاْ السلم} والفاءُ مزيدةٌ في الخبر، قاله ابن عطية، وهذا لا يجيْءُ إلاَّ على رأي الأخفش في إجازته زيادةَ الفاء في الخبر مطلقاً، نحو: «زيد فقام» ، أي: قام. ولا يُتَوَهَّم أن هذه الفاءَ هي التي تدخل مع الموصولِ المتضمِّنِ معنى الشرط؛ لأنه لو صُرِّح بهذا الفعلِ مع أداةِ الشرط لم يَجُزْ دخولُ الفاء عليه، فما ضُمِّن معناه أَوْلَى بالمنع، كذا قاله الشيخ، وهو ظاهر. وعلى الأقوالِ المتقدمةِ خلا القول الأخيرِ يكون «الذين» وصلتُه داخلاً في المَقُول، وعلى القولِ الأخيرِ لا يكنُ داخلاً فيه. وقرأ «يَتَوَفَّاهُمْ» في الموضعين بالياء حمزة، والباقون بالتاء مِنْ فوق، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قوله {فَنَادَتْهُ الملائكة} [آل عمران: 39] «فناداه» . وقرأت فرقةٌ بإدغام إحدى التاءين في الأخرى، في مصحفِ عبد الله «تَوَفَّاهم» بتاءٍ واحدة، وهي مُحْتَمِلةٌ للقراءةِ بالتشديد على الإِدغام، وبالتخفيفِ على حَذْفِ إحدى التاءَيْن.

و {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} حالٌ مِنْ مفعولِ «تَتَوَفَّاهم» و «تَتَوَفَّاهم» يجوز أن يكونَ مستقبلاً على بابه إن كان القولُ واقعاً في الدنيا، وأن يكونَ ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامة. قوله: «فَأَلْقَوا» يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه خبر الموصول وقد تقدَّم فسادُه. الثاني: أنه عطفٌ على {قَالَ الذين} . الثالث: أن يكونَ مستأنفاً، والكلامُ قم تَمَّ عند قولِه «أنفسِهم» ، ثم عاد بقولِه «فألْقَوا» إلى حكاية كلام المشركين يومَ القيامة، فعلى هذا يكون قولُه {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} إلى قوله «أنفسهم» جملةَ اعتراض. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على «تَتَوفَّاهم» قاله أبو البقاء، وهذا إنما يتمشَّى على أنَّ «تَتَوفَّاهم» بمعنى المُضِيِّ، ولذلك لم يذكرْ أبو البقاء في «تَتَوفَّاهم» سواه. قوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ} فيه أوجه، أحدها: أن يكون تفسيراً للسَّلَم الذي أَلْقَوه؛ لأنه بمعنى القول بدليلِ الآيةِ الأخرى: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} [النحل: 86] ، قاله أبو البقاء، ولو قال: «يحكي ما هو بمعنى القول» كان أوفقَ لمذهب الكوفيين. الثاني: أن يكونَ «ما كنَّا» منصوباً بقولٍ مضمرٍ، ذلك الفعلُ منصوب على الحال، أي: فألقَوا السَّلَم قائلين ذلك. / و {مِن سواء} مفعول «نعمل» ، زِيْدَتْ فيه «مِنْ» ، و «بلى» جوابٌ ل «ما كنَّا» فهو إيجابٌ له.

29

قوله تعالى: {فَلَبِئْسَ} هذه لامُ التأكيدِ، وإنما دخَلَتْ على الماضي لجمودِه وقُرْبِه من الأسماء. والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ. أي: جهنم.

30

قوله تعالى: {خَيْراً} : خيراً: العامَّةُ على نَصْبِه، أي: أَنْزل خيراً. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ قلتَ: لِمَ رَفَعَ الأولَ ونَصَبَ هذا؟ قلت: فصلاً بين جواب المُقِرِّ وجوابِ الجاحد» . يعني أن هؤلاء لمَّا سُئِلوا لم يَتَلَعْثموا، وأطبقوا الجوابَ على السؤال بَيِّنا مكشوفاً مفعولاً للإِنزال فقالوا: خيراً، وأولئك عَدَلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطيرُ الأولين، وليس هو من الإِنزال في شيء. وزيدُ بن علي: «خيرٌ» بالرفع، أي: المُنْزَل خيرٌ، وهي مؤيدةٌ لجَعْلِ «ذا» موصولةً، وهو الأحسنُ لمطابقة الجوابِ لسؤاله، وإن كان العكسُ جائزاً، وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} هذه الجملةُ يجوز فيها أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ منقطعةً مِمَّا قبلها، إخبارَ استئنافٍ بذلك. الثاني: أنها بدلٌ مِنْ «خيراً» . قال الزمخشري: «هو بدل من» خيراً «حكايةً لقول الذين اتَّقَوْا، أي: قالوا هذا القولَ فقدَّم تسميتَه خيراً ثم حكاه» . الثالث: أن هذه الجملةَ تفسيرٌ لقوله: «خيراً» ؛ وذلك أن الخيرَ هو الوحيُ الذي أَنْزل الله فيه: مَنْ أَحْسَنَ في الدنيا بالطاعة حسنةٌ في الدنيا وحسنةٌ في الآخرة. وقوله: {فِي هذه الدنيا} الظاهرُ تعلُّقه ب «أَحْسَنوا» ، أي: أَوْقَعوا الحسنةَ في دار الدنيا. ويجوز أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ «

حَسَنَة» إذ لو تأخَّر لكان صفةً لها، ويَضْعُفُ تعلُّقه بها نفسِها لتقدُّمِه عليها.

31

قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} : يجوز أن يكونَ هو المخصوصَ بالمدح فيجيءُ فيها ثلاثةُ الأوجهِ: رفعُها بالابتداء، والجملةُ المتقدمة خبرُها، أو رفعُها خبرَ المبتدأ المضمر، أو رفعُها بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ، وهو أضعفُها، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. ويجوز أن يكونَ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} خبرَ مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدَّم، بل يكونُ المخصوصُ محذوفاً، تقديرُه: ولَنِعْمَ دارُ المتقين دارُهم هي جنات. وقَدَّره الزمخشريُّ «ولَنِعْمَ دارُ المتقين دارُ الآخرة» . ويجوز أن يكونَ مبتدأً. والخبرُ الجملةُ مِنْ قوله: «يَدْخلونها» ، ويجوز أن يكونَ الخبرُ مضمراً تقديره: لهم جناتُ عدن، ودلَّ على ذلك قولُه {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} . والعامَّة على رفع «جناتُ» على ما تقدَّم. وقرأ زيد بن ثابت والسُّلَمي «جناتِ» نصباً على الاشتغال بفعل مضمر تقديره: يَدْخلون جناتِ عدن يَدْخُلونها، وهذه تُقَوِّي أن يكونَ «جنات» مبتدأً، و «يَدْخلونها» الخبرَ في قراءةِ العامَّة. وقرأ زيد بن علي «ولَنِعْمَةُ دارِ» بتاءِ التأنيثِ مرفوعةٌ بالابتداء، و «دارِ» خفضٌ بالإِضافة، و «جَنَّاتُ عَدْنٍ» الخبر. و «يَدْخُلونها» في جميعِ ذلك نصبٌ على الحال، إلاّ إذا جَعَلْناه خبراً ل {جَنَّاتُ عَدْنٍ} .

وقرأ نافع في روايةٍ «يُدْخَلُونها» بالياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول، وأبو عبد الرحمن «تَدْخُلونها» بتاء الخطاب مبنياً للفاعل. قوله: «تَجْري» يجوز أن يكونَ منصوباً على الحالِ مِنْ «جنات» قاله ابن عطية، وأن يكونَ في موضعِ الصفةِ ل «جنات» قاله الحوفي، والوجهان مبنيَّان على القولِ في «عَدْن» : هل هو معرفةٌ لكونِه علماً، أو نكرةً، فقائلُ الحالِ لَحَظ الأولَ، وقائلُ النعتِ لحظَ الثاني. قوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ} الكلامُ في هذه الجملةِ كالكلامِ في الجملة قبلَها، والخبرُ: إمَّا «لهم» وإمَّا «فيها» . قوله: «كذلك» الكافُ في محلِّ نصب على الحال من ضمير المصدرِ، أو نهتٌ لمصدرٍ مقدرٍ، أو في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمر، أي: الأمرُ كذلك. و {يَجْزِي الله المتقين} مستأنَفٌ. و {

32

1649 - ;لَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ} يَحْتمل ما ذكرناه فيما تقدَّم، إذا جَعَلْنا «يقولون» خبراً فلا بُدَّ مِنْ عائدٍ محذوفٍ، أي: يقولون لهم، وإذا لم نَجْعَلْه خبراً كان حالاً من «الملائكة» / فيكون «طيبين» حالاً مِنَ المفعولِ، و «يقولون» حالاً مِن الفاعل. وهي يجوز أن تكونَ حالاً مقارِنَةً إن كان القولُ واقعاً في الدنيا، ومقدَّرةً إنْ كان واقعاً في الآخرة. و «ما» في «بما» مصدريةً، أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ.

33

وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة} : وقد تقدَّم في

آخرِ الأنعام أن الأَخَوَيْنِ يَقْرآن بالياء مِنْ تحتُ، والباقين يقرؤون بالتاءِ من فوقُ، وهما واضحتان لكونِه تأنيثاً مجازياً.

34

وقوله تعالى: {فَأَصَابَهُمْ} : عطفٌ على {فَعَلَ الذين} وما بينهما اعتراضٌ.

36

قوله تعالى: {أَنِ اعبدوا الله} : يجوز في «أَنْ» أَنْ تكونَ تفسيريةً؛ لأن البَعْثَ يتضمَّن قولاً، وأن تكونَ مصدريةً، أي: بَعَثْناه بَأَنِ اعْبُدُوا. قوله: {مَّنْ هَدَى} و {مَّنْ حَقَّتْ} يجوزُ أنْ تكونَ موصولةً، وأن تكون نكرةً موصوفةً، والعائدُ على كلا التقديرينِ محذوفٌ من الأولِ.

37

وقرأ العامَّةُ {إِن تَحْرِصْ} : بكسرِ الراءِ مضارعَ «حَرَص» بفتحِها، وهي اللغةُ العاليةُ لغةُ الحجاز. والحسن وأبو حَيْوة «تَحْرَصُ» بفتح الراء مضارعَ «حَرِص» بكسرِها، وهي لغةُ لبعضِهم، وكذلك النخعي، إلا أنه زاد واواً قبل «إنْ» فقرأ {وَإنْ تَحْرَصْ} . قوله: {لاَ يَهْدِي} قرأ الكوفيون «يَهْدِي» بفتح الياءِ وكسرِ الدالِ،

وهذه القراءةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله، أي: لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّه، ف «مَنْ» مفعولُ «يَهْدِي» ويؤيده قراءةُ أُبَيّ «فإنَّ اللهَ لا هاديَ لِمَنْ يُضِلُّ، ولِمَنْ أضلَّ» ، وأنه في معنى قولِه: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] . والثاني: أن يكونَ الموصول هو الفاعلَ، أي: لا يَهْدِيْ المُضِلَّون، و «يَهْدِي» يجيءُ في معنى يهتدي. يقال: هداه فَهَدَى، أي: اهتدى. ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُُ عبدِ الله «يَهْدِي» بتشديدِ الدالِ المكسورةِ، فَأَدْغم. ونقل بعضُهم في هذه القراءةِ كسرَ الهاءِ على الإِتباع، وتحقيقُه تقدَّمَ في يونس. والعائدُ على «مَنْ» محذوفٌ: {مَن يُضِلُّ} ، أي: الذي يُضِلُّه اللهُ. والباقون: «لا يُهْدَى» بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ مبنياً للمفعول، و «مَنْ» قائمٌ مَقامَ فاعِله، وعائدُه محذوفٌ أيضاً. وجَوَّز أبو البقاء في «مَنْ» أن يكونَ مبتدأً و «لا يَهْدِي» خبره، يعني: مقدَّمٌ عليه. وهذا خطأٌ؛ لأنه متى كان الخبرُ فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخُّرُه نحو: «زيدٌ لا يَضْرِبُ» ، ولو قَدَّمْتَ لالتبس بالفاعل. وقُرِئ «لا يُهْدِيْ» بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ. قال ابن عطية: «وهي

ضعيفةٌ» قال الشيخ: «وإذا ثَبَتَ أنَّ» هَدَى «لازمٌ بمعنى اهتدى لم تكنْ ضعيفةً؛ لأنه أدخل همزةَ التعديةِ على اللازم، فالمعنى: لا يُجْعَلُ مهتدياً مَنْ أضلَّه اللهُ» . وقوله: «ومالهم» حُمِلَ على معنى «مَنْ» ، فلذلك جُمِعَ. وقُرِئ «مَنْ يَضِلُّ» بفتحِ الياءِ مِنْ «ضَلَّ» ، أي: لا يَهْدي مَنْ ضَلَّ بنفسِه.

38

قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ} : ظاهرُه أنه استئنافٌ خبرٍ، وجعله الزمخشريُّ نَسَقاً على «وقال الذين أشركوا» إيذانٌ بانهما كَفْرتان عظيمتان. قوله: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} هذان منصوبان على المصدرِ المؤكَّد، أي: وَعَدَ ذلك، وحَقَّ حقاً. وقيل: «حقاً» نعتٌ ل «وَعْد» والتقدير: بلى يَبْعثهم وَعَدَ بذلك. وقرأ الضحاك: {وَعْدٌ عَلَيْهِ حَقٌّ} برفعِهما على أنَّ وَعْداً خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: بلى بَعْثُهم وَعْدٌ على الله، و «حَقٌّ» : نعتٌ ل «وعدٌ» .

39

قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ} : هذه اللامُ متعلقةٌ بالفعلِ المقدَّرِ بعد حرفِ الإِيجاب، أي: بلى يَبْعثهم لِيُبَيِّنَ.

40

وقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} قد تقدَّم ذلك في

البقرة. واللامُ في «لِشيءٍ» وفي «له» لامُ التبليغِ كهي في: «قلت له قم» . وجعلها الزجاج للسببِ فيهما، أي: لأجل شيءٍ، أَنْ نقولَ لأجلهِ، وليس بواضح. وقال ابن عطية: «وقوله تعالى {أَن نَّقُولَ} يُنَزَّلُ مَنْزِلةَ المصدرِ، كأنه قال: قولُنا، ولكنَّ» أنْ «مع الفعلِ تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلبِ أَمْرِها، وقد تجيءُ في مواضعَ لا يُلْحَظُ فيها الزمنُ كهذه الآيةِ، وكقولِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] إلى غيرِ ذلك. قال الشيخ:» وقوله: في أغلبِ أمرِها «ليس بجيدٍ بل تَدُلُّ على المستقبل في جميع أمورِها، وقوله» وقد تجيءُ إلى آخره «لم يُفْهَمْ ذلك مِنْ» أنْ «، إنما فُهِمَ من نسبةِ قيامِ السماءِ والأرض بأمرِ الله لأنه لا يختصُّ بالمستقبلِ دونَ الماضي في حَقِّه تعالى، ونظيرُه: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} و» كان «تدل على اقترانِ مضمونِ الجملةِ بالزمنِ الماضي، وهو تعالى/ متصفٌ بذلك في كلِّ زمن.

41

قوله تعالى: {حَسَنَةً} فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: تَبْوِئَةً حسنةً. والثاني: أنها منصوبةٌ على المصدر الملاقي لعامِله في المعنى؛ لأنَّ معنى «لَنُبَوِّئَنَّهم» : لَنُحْسِنَنَّ إليهم. الثالث: أنها مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الفعلَ قبلها مضمِّنٌ معنى: «لَنُعْطِيَنَّهم. و» حسنة «صفةً

لموصوفٍ محذوفٍ، أي: داراً حسنة، وفي تفسيرِ الحسن: داراً حسنة، وهي المدينةُ. وقيل: تقديره: منزلةً حسنةً وهي الغَلَبَةُ على أهلِ المشرقِ والمغربِ وقيل:» حسنة «بنفسها هي المفعولُ من غيرِ حَذْفِ موصوفٍ. وقرأ أميرُ المؤمنين وابنُ مسعود ونعيم بن ميسرة:» لَنُثْوِيَنَّهُمْ «بالثاء المثلثة والياء، مضارع أَثْوَى المنقولِ بهمزةِ التعديةِ مِنْ ثَوَى بمعنى أقام، وسيأتي أنه قُرئ بذلك في السبع في العنكبوت، و» حسنةً «على ما تقدَّم. ونزيد أنه يجوز أن يكونَ على نَزْع الخافضِ، أي: في حسنة. والموصولُ مبتدأٌ، والجملةُ مِنَ القسمِ المحذوفِ وجوابِه خبرُه، وفيه رَدٌّ على ثعلب حيث مَنَعَ وقوعَ جملةِ القسم خبراً. وجَوَّز أبو البقاء في» الذين «النصبَ على الاشتغال بفعلٍ مضمرٍ، أي: لَنُبَوِّئَنَّ الذين. ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يجوز أن يُفَسِّر عاملاً إلا ما جاز أَنْ يعملَ، وأنت لو قلت:» زيداً لأضْرِبَنَّ «لم يَجُزْ، فكذا لا يجوزُ» زيداً لأضربنَّه «. وقوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يجوز أن يعودَ الضميرُ على الكفار، أي: لو كانوا يَعْلمون ذلك لرجَعوا مسلمين، أو على المؤمنين، أي: لاجتهدوا في الهجرةِ والإِحسانِ، كما فعل غيرُهم.

42

قوله تعالى: {الذين صَبَرُواْ} : مَحَلَّه رفعٌ على «هم»

أو نصبٌ على «أمدحُ» ، ويجوز أن يكونَ تابعاً للموصولِ قبله نعتاً أو بدلاً أو بياناً فمحلُّه محلُّه.

43

قوله تعالى: {نوحي إِلَيْهِمْ} : قد تقدَّم في آخر يوسف. وقرأت فرقةٌ «يُوحي» ، أي: الله.

44

قوله تعالى: {بالبينات} : فيه ثمانيةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «رِجالاً» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: رجالاً ملتبسين بالبينات، أي: مُصاحبين لها. وهو وجهٌ حسنٌ ذكره الزمخشري لا محذورَ فيه. الثاني: أنه متعلقٌ ب «أَرْسَلْنا» ذكره الحوفيِّ والزمخشريُّ وغيرُهما، وبه بدأ الزمخشريُّ قال: يتعلَّق ب «أَرسَلْنا» داخلاً تحت حكمِ الاستثناءِ مع «رجالاً» ، أي: وما أرسَلْنا إلا رجالاً بالبينات كقولِك: «وما ضربْتُ إلا زيداً بالسَّوْطِ» ؛ لأنَّ أصلَه: ضربْتُ زيداً بالسَّوْط «. وضعَّفه أبو البقاء بأنَّ ما قبلَ» إلاَّ «لا يعمل فيما بعدهم إذا تَمَّ الكلامُ على» إلا «وما يليها. قال:» وإلا أنه قد جاء في الشِّعر: 297 - 1- نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبوا بالنارِ جارتَهمْ ... ولا يُعَذِّبَ إلا الله بالنارِ قال الشيخ: وما أجازه الحوفيُّ والزمشخريُّ لا يُجيزه البصريون،

إذ لا يُجيزون أن يقع بعد «إلا» إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعٌ لذلك، وما ظُنَّ بخلافه قُدِّر له عاملٌ. وأجاز الكسائيُّ أن يليَها معمولُ ما قبلها مرفوعاً ومنصوباً ومخفوضاً، نحو: ما ضَرَب إلا عمراً زيدٌ، وما ضَرَب إلا زيدٌ عمراً وما مرَّ إلا زيدٌ بعمروٍ، ووافقه ابنُ الأنباريِّ في المرفوع، والأخفش في الظرف وعديله، فما لاقاه يتمشَّى على قولِ الكسائي والأخفش «. الثالث: أنه يتعلَّقَ بأَرْسَلْنا أيضاً، إلا أنه نيةِ التقديمِ قبل أداةِ الاستثناءِ تقديرُه: وما أرسلْنا مِنْ قبلك بالبيناتِ والزبر إلا رجالاً، حتى لا يكونَ ما بعد» إلا «معمولَيْنِ متأخِّرَيْنِ لفظاً ورتبةً داخلَيْنِ تحت الحصرِ لِما قبل» إلا «، حكاه ابنُ عطية. الرابع: أنَّه متعلقٌ ب» نُوحِي «كما تقول:» أُوْحي إليه بحق «، ذكره الزمخشري وأبو البقاء. الخامس: أن الباءَ مزيدةٌ في» «بالبيِّنات» وعلى هذا فيكون «بالبيِّنات» هو القائمَ مَقامَ الفاعل لأنها هي المُوْحاة. السادس: أن الجارِّ متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنَ القائمِ مَقامَ الفاعل، وهو «إليهم»

ذكرهما أبو البقاء، وهما ضعيفان جداً معنىً وصناعةً. السابع: أَنْ يتعلَّق ب «لا تعلمون» على أنَّ الشرطَ/ في معنى التبكيتِ والإِلزام، كقولِ الأجير: «إن كنتُ عَمِلْتُ لك فَأَعْطِني حقي» . قال الزمخشري: «وقوله:» فاسْألوا أهلَ «اعتراضٌ على الوجوه المتقدِّمة» ويعني بقوله «فاسألوا» الجزاءَ وشرطَه، وأمَّا على الوجهِ الأخير فعدَمُ الاعتراضِ واضحٌ. الثامن: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: بم أُرْسِلوا؟ فقيل: أُرْسِلوا بالبينات والزُّبُر. كذا قدَّره الزمخشري، وهو أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء: «بُعِثوا» ، لموافقتِه للدالِّ عليه لفظاً ومعنىً.

45

قوله تعالى: {السيئات} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: المَكَرات السيئات، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه. الثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين «مَكَروا» عَمِلُوا وفعلوا، وعلى هذين الوجهين فقولُه: {أَن يَخْسِفَ الله} مفعول ب «أَمِنَ» . الثالث: أنه منصوبٌ ب «أَمِنَ» ، أي: أَمِنُوا العقوباتِ السيئات، وعلى هذا فقولُه {أَن يَخْسِفَ الله} بدلٌ من «السيئات» .

47

قوله تعالى: {على تَخَوُّفٍ} : متعلقٌ بمحذوفٍ، فإنه حالٌ إمَّا مِنْ فاعلِ «يأخذهم» ، وإمَّا مِنْ مفعوله، ذكرهما أبو البقاء.

والظَاهِرُ كونُه حالاً من المفعولِ دونَ الفاعل. والتخوُّفُ: التنقُّص. حكى الزمخشري أن عمر بن الخطاب سألهم على المِنْبر عنها فسكتوا، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا: التخوُّفُ: التنقُّصُ قال: فهل تعرف [العربُ] ذلك في أشعارِها؟ قال: نعم. قال شاعرُنا وأنشد: 297 - 2- تَخَوَّف الرَّحْلُ منها تامِكاً قَرِداً ... كما تَخَوَّفَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ فقال عمر: «أيها الناسُ، عليكم بديوانِكم لا يَضِلُّ» . قالوا: وما ديواننا؟ قال: «شعرُ الجاهلية، فإنِّ فيه تفسيرَ كتابكم» . قلت: وكان الزمخشريُّ نَسَبَ البيتَ قبل ذلك لزهيرٍ، وكأنه سهوٌ، فإنَّه لأبي كبير الهذلي، ويؤيد ذلك قول الرجل: «قال شاعرنا» ، وكان هُذَلِيَّاً كما حكاه هو. وقيل: التخوُّفُ: الخوفُ.

48

قوله تعالى: {أَوَ لَمَْ} : قرأ الأخَوان «تَرَوْا» بالخطاب جَرْياً على قولِه {فَإِنَّ رَبَّكُمْ} ، والباقون بالياءِ جَرْياً على قوله: {أَفَأَمِنَ

الذين مَكَرُواْ} . وأمَّا قولُه: {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير} [النحل: 79] فقرأه حمزةُ أيضاً بالخطاب، ووافقه ابنُ عامر فيه، فحصل من مجموعِ الآيتين أنَّ حمزةَ بالخطاب فيهما، والكسائيَّ بالخطابِ في الأول والغَيْبة في الثاني، وابنَ عامر بالعكس، والباقون بالغيبة فيهما. فأمَّا توجيهُ الأولى فقد تقدَّم، وأمَّا الخطابُ في الثانية فَجَرْياً على قوله {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النحل: 78] . وأمَّا الغيبةُ فَجَرْياً على قوله {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [النحل: 73] . وأمَّا تفرقَةُ الكسائيِّ وابنِ عامرٍ بين الموضعين فجمعاً بين الاعتبارين وأنَّ كلاً منهما صحيحٌ. قوله: {مِن شَيْءٍ} هذا بيانٌ لِما في قوله: {مَا خَلَقَ الله} فإنها موصولةٌ بمعنى الذي. فإن قلتَ: كيف يُبَيِّنُ الموصولُ -وهو مبهمٌ- ب «شيء» وهو مبهمٌ، بل أَبْهَمُ ممَّا قبله؟ فالجواب أنَّ شيئاً قد اتضح وظهر بوصفِه بالجملة بعدَه، وهي {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} . قال الزمخشري: «وما موصولة ب {خَلَقَ الله} وهو مبهمٌ، بيانُه {مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} . وقال ابن عطية:» وقولُه {مِن شَيْءٍ} لفظٌ عامٌّ في كل ما اقتضَتْه الصفةُ مِنْ قوله {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} فظاهر هاتين العبارتين أنَّ جملةَ {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} صفة لشيء، وأمَّا غيرُهما فإنه قد صَرَّح بعدمِ كونِ الجملةِ صفةً فإنه قال: «والمعنى: من شيءٍ له ظِلٌ من

جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ وجسمٍ قائمٍ. وقوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} إخبارٌ عن قوله {مِن شَيْءٍ} ليس بوصفٍ له، وهذا الإِخبارُ يَدُلُّ على ذلك الوصفِ المحذوفِ الذي تقديرُه: هو له ظلٌّ» وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ له، والصفةُ أبينُ. و {مِن شَيْءٍ} في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصولِ، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على جهةِ البيان، أي: أَعْني مِنْ شيء. والتفيُّؤُ: تَفَعَّل مِنْ فاء يَفِيْءُ، أي: رَجَع، و «فاء» قاصرٌ، فإذا أُريد تعديتُه عُدِّي بالهمزة كقوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ/ الله على رَسُولِهِ} [الحشر: 7] أو بالتضعيف نحو: فَيَّأ اللهُ الظلَّ فَتَفَيَّأ. وَتَفَيَّأ مطاوِعٌ فهو لازمٌ. ووقع في شعر أبي تمام متعدياً في قوله: 297 - 3- طَلَبَتْ ربيعَ ربيعةَ المُمْرَى لها ... وتفيَّأَتْ ظلالَه مَمْدودا واخْتُلِفَ في الفَيْءِ فقيل: هو مُطْلَقُ الظِّلِّ سواءً كان قبل الزَّوالِ أو بعده، وهو الموافِقُ لمعنى الآيةِ ههنا. وقيل: «ما كان [قبل] الزوال فهو ظلٌّ فقط، وما كان بعده فهو ظِلٌّ وفَيْءٌ» ، فالظلُّ أعمُّ، يُرْوَى ذلك عن رؤبَة ابن العجاج. وقيل: بل يختصُّ الظِّلُّ بما قبل الزوالِ والفَيْءُ بما بعده. قال الأزهري: «تَفَيَّؤُ الظلالِ رجوعُها بعد انتصافِ النهارِ، فالتفيُّؤُ لا يكون

إلا بالعَشِيّ، وما انصرفَتْ عنه الشمسُ، والظلُّ ما يكون بالغداة، وهو ما لم تَنَلْهُ [الشمس] قال الشاعر: 297 - 5- فلا الظِلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحى تَسْتطيعُه ... ولا الفيْءُ من بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوْقُ وقال امرؤُ القيس أيضاً: 297 - 5- تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضارِجٍ ... يَفِيْءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِ وقد خطَّأ ابن قتيبة الناسَ في إطلاقهم الفَيْءَ على ما قبلَ الزَّوال، وقال: إنما يُطْلَقُ على ما بعده، واستدلَّ بالاشتقاق، فإن الفيْءَ هو الرجوعُ وهو متحققٌ ما بعد الزوال، فإنَّ الظلَّ يَرْجِعُ إلى جهةِ المشرق بعد الزوال بعدما نَسَخَتْه الشمسُ قبل الزَّوال. وقرأ أبو عمرو «تَتَفَيَّأ» بالتاءِ مِنْ فوقُ مراعاةٍ لتأنيث الجمع، وبها قرأ يعقوب، والباقون بالياء لأنه تأنيثٌ مجازي. وقرأ العامَّة «ظلالُه» جمع ظِلّ، وعيسى بن عمر «ظُلَلُهُ» جمع «

ظُلَّة» كغُرْفَة وغُرَف. قال صاحب «اللوامح» في قراءة عيسى «ظُلَلُهُ» : «والظُلَّة: الغَيْمُ، وهو جسمٌ، وبالكسرِ الفَيْءُ وهو عَرَضٌ، فرأى عيسى أنَّ التفيُّؤُ الذي هو الرجوعُ بالأجسام أَوْلَى منه بالأَعْرَاضِ، وأمَّا في العامَّة فعلى الاستعارة» . قوله: «عن اليمين» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها تتعلَّقُ ب «يتفيَّأ» ، ومعناها المجاوزةُ، أي: تتجاوز الظلالُ عن اليمينِ إلى الشِّمائل. الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «ظلالُه» . الثالث: أنها اسمٌ بمعنى جانب، فعلى هذا تَنْتَصِبُ على الظرف. وقوله: {عَنِ اليمين والشمآئل} فيه سؤالان، أحدهما: ما المراد باليمين والشَّمائل؟ والثاني: كيف أفرد الأولَ وجوع الثاني؟ وأُجيب عن الأول بأجوبةٍ، أحدُها: أنَّ اليمينَ يمينُ الفَلَك وهو المشرقُ، والشَّمائلُ شمالُه وهي المغرب، وخُصَّ هذان الجانبان لأنَّ أقوى الإِنسانِ جانباه وهما يمينُه وشماله، وجعل المشرقَ يميناً؛ لأن منه تظهر حركةُ الفَلَكِ اليومية. الثاني: البلدةُ التي عَرْضُها أقلُّ مِنْ مَيْل الشمس تكون الشمس صيفاً عن يمينِ البلدِ فيقع الظلُّ عن يمينهم. الثالث: أنَّ المنصوبَ للعِبْرة: كلُّ جِرْمٍ له ظِلٌّ كالجبل والشجر، والذي يترتَّبُ فيه الأيْمان والشَّمائل إنما هو البشرُ فقط، لكنَّ ذِكْرَ الأَيْمانِ والشَّمائلِ هنا على سبيل الاستعارة.

الرابع: قال الزمخشري: «أو لم يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللهُ من الأَجْرامِ التي لها ظلالٌ متفيِّئَةٌ عن أَيْمانِها وشَمائِلها عن جانبي كل واحدٍ منها وشِقَّيْه استعارةً من يمين الإِنسان وشمائله لجانبي الشيءِ، أي: تَرْجِعُ من جانبٍ إلى جانب» . وهذا قريبٌ ممَّا قبله. وأُجِيْب عن الثاني بأجوبةٍ، أحدُها: أن الابتداءَ يقع من اليمين وهو شيءٌ واحدٌ، فلذلك وَحَّد اليمينَ ثم يَنْتَقِصُ شيئاً فشيئاً، حالاً بعد حال/ فهو بمعنى الجمعِ، فَصَدَق على كلِّ حالٍ لفظةُ «الشمال» ، فَتَعَدَّدَ بتعدُّدِ الحالات. وإلى قريبٍ منه نحا أبو البقاء. والثاني: قال الزمخشري: «واليمين بمعنى الأَيْمان» يعني أنه مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع، وحينئذٍ فهما في المعنى جمعان كقوله {وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] ، أي: الأدبار. الثالث: قال الفراء: «كأنه إذا وَحَّد ذَهَبَ إلى واحدٍ من ذواتِ الظلال، وإذا جَمَع ذَهَب إلى كلِّها، لأنَّ قولَه {مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} لفظُه واحدٌ ومعناه الجمعُ، فعبَّر عن أحدِهما بلفظِ الواحدِ كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وقوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] .

الرابع: أنَّا إذا فَسَّرْنا اليمينَ بالمشرقِ كانت النقطةُ التي هي مَشْرِقُ الشمسِ واحدةً بعينها، فكانت اليمينُ واحدةً، وأمَّا الشمائلُ فهي عباراتٌ عن الانحرافاتِ الواقعةِ في تلك الظلال بعد وقوعِها على الأرضِ وهي كثيرةٌ، فلذلك عَبَّر عنها بصيغةِ الجمع. الخامس: قال الكرماني:» يُحتمل أَنْ يُراد بالشمائل الشِمالُ والخَلْفُ والقُدَّامُ؛ لأنَّ الظِّلَّ يفيءُ من الجهاتِ كلِّها، فبُدِئ باليمينِ لأنَّ ابتداءَ التفيُّؤِ منها أو تَيَمُّناً بذِكرها، ثم جَمَع الباقي على لفظ الشِّمال لما بين اليمين واليسار مِنَ التَّضادِّ، ونَزَّلَ القُدَّام والخلفَ منزلةَ الشَّمائل لِما بينهما وبين اليمينِ من الخلافِ «. السادس: قال ابن عطية:» وما قال بعضُ الناس: مِنْ أنَّ اليمينَ أولُ وَقْعَةٍ للظلِّ بعد الزوالِ ثم الآخر الغروبُ هي عن الشِّمائل، ولذلك جَمَعَ الشمائل وأَفْرد اليمين، فتخليطٌ من القول، ويَبْطُل مِنْ جهات. وقال ابن عباس: «إذا صَلَّيْتَ الفجرَ كان ما بين مَطْلَعِ الشمس ومَغْرِبِها ظِلاًّ ثم بَعَثَ الله عليه الشمسَ دليلاً، فقبضَ إليه الظلَّ، فعلى هذا فأوَّلُ ذُرُوْرِ الشمس فالظِّلُّ عن يمينِ مستقبِلِ الجنوب، ثم يبدأ الانحرافُ فهو عن الشَّمائل؛ لأنه حركاتٌ كثيرة وظلالٌ متقطعةٌ فهي شمائلُ كثيرةُ، فكان الظلُّ عن اليمينِ متصلاً واحداً عامّاً لكلِّ شيء» .

السابع: قال ابن الضائع: «أَفْرَدَ وجَمَع بالنظر إلى الغايتين؛ لأنَّ ظِلَّ الغَداةِ يَضْمَحِلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ، فكأنه في جهةٍ واحدة، وهي في العَشِيِّ على العكس لاستيلائِه على جميع الجهات، فلُحِظَت الغايتان في الآية. هذا من جهةِ المعنى، وأمَّا مِِنْ جهةِ اللفظ ففيه مطابقةٌ؛ لأنَّ» سُجَّداً «جمع فطابقه جَمْعُ الشَّمائل لاتصاله به، فَحَصَل في الآية مطابَقَةُ اللفظِ للمعنى ولَحْظُهما معاً، وتلك الغايةُ في الإِعجاز» . قوله: «سُجَّداً» حالاٌ مِنْ «ظلالُه» و «سُجَّداً» جمع ساجِد كشاهِد وشُهَّد، وراكِع ورُكَّع. قوله: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} في هذه الجملة ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها حالٌ من الهاءِ في «ظلالُه» . قال الزمخشري: «لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق اللهُ مِنْ شيءٍ له ظِلٌّ وجُمِع بالواوِ والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصافِ العقلاء، أو لأن في جملة ذلك مَنْ يَعْقِل فَغُلِّبَ» . وقد رَدَّ الشيخُ هذا: بأن الجمهور لا يُجيزون مجيءَ الحال من المضافِ إليه، وهو نظيرُ: «جاءني غلامُ هندٍ ضاحكةً» قال: «ومَنْ أجاز مجيئَها منه إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزء جوَّز الحاليةَ منه هنا، لأنَّ الظِّلَّ كالجزءِ إذ هو ناشِئٌ عنه» . الثاني: أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في «سُجَّدا» فهي حالٌ متداخلِةٌ.

الثالث: أنها حالٌ مِنْ «ظلالُه» فينتصبُ عنه حالان. ثم لك في هذه الواو اعتباران، أحدُهما: أن تجعلَها عاطفةً حالاً على مثلِها فهي عاطفةٌ، وليست بواوِ حال، وإن كان خُلُوُّ الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأيٍ. وممَّن صَرَّح بأنها عاطفةٌ أبو البقاء. والثاني: أنها واوُ الحال، وعلى هذا فيقال: كيف يقتضي العاملُ حالين؟ فالجوابُ أنه جاز ذلك لأنَّ الثانيةَ بدلٌ مِن الأولى، فإن أُريد بالسجودِ التذلُّلُ والخضوعُ فهو/ بدلُ كلٍ من كل، وإن أُريد به حقيقته فهو بدلُ اشتمالٍ؛ إذ السجودُ مشتملٌ على الدُّخور، ونظير ما نحن فيه: «جاء زيد ضاحكاً وهو شاكٍ» فقولك «وهو شاكٍ» يحتمل الحاليةَ من «زيد» أو من ضمير «ضاحكاً» . والدُّخور: التواضعُ قال: 297 - 6- فلم يَبْقَ إلا داخِرٌ في مُخَيَّسٍ ... ومُنْجَحِرٌ في غير أرضِكَ في جُحْرِ وقيل: هو القهرُ والغلبةُ. ومعنى داخِرُون: أَذِلاَّاءُ صاغِرون.

49

قوله تعالى: {مِن دَآبَّةٍ} : يجوز أن يكونَ بياناً لِما في السماوات وما في الأرض، ويكون لله تعالى في سمائِه خَلْقٌ يَدِبُّون كما يَدِبُّ الخَلْقُ الذي في الأرض. ويجوز أن يكون بياناً لِما في الأرض فقط. قال

الزمخشري: «فإن قلت: فهلاَّ جيْءَ ب» مَنْ «دونَ» ما «تغليباً للعقلاء مِن الدوابِّ على غيرهم؟ قلت: لأنه لو جِيْءَ ب» مَنْ «لم يكنْ فيه دليلٌ على التغليب فكأن متناولاً للعقلاءِ خاصة فجيء بما هو صالحٌ للعقلاءِ وغيرِهم إرادةَ العمومِ» . قال الشيخ: «وظاهرُ السؤالِ تسليمُ أنَّ» مَنْ «قد تشمل العقلاءَ وغيرَهم على جهةِ التغليبِ، وظاهرُ الجوابِ تخصيصُ» مَنْ «بالعقلاء، وأنَّ الصالحَ للعقلاء [وغيرِهم] » ما «دون» مَنْ «وهذا ليس بجواب؛ لأنه أورد السؤالَ على التسليم، ثم أورد الجوابَ على غير التسليم، فصار المعنى: أنَّ» مَنْ «يُغَلَّبُ بها والجوابَ لا يُغَلَّبُ بها، وهذا في الحقيقةِ ليس بجوابٍ» . قوله: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يجوز أن تكونَ الجملةُ استئنافاً أخبر عنهم بذلك، وأن تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «يَسْجُدُ» .

50

قوله تعالى: {يَخَافُونَ} يجوز فيها أن تكونَ مفسِّرةً لعدم استكبارِهم، كأنه قيل: ما لهم لا يَسْتكبرون؟ فَأُجِيبَ بذلك، ويُحْتمل أن تكونَ حالاً مِنْ فاعل «لا يَسْتكبرون» ومعنى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} أي: عقابَه. قوله: {مِّن فَوْقِهِمْ} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن تتعلَّقَ ب «يَخافون» ، أي: يخافون عذابَ ربهم كائناً مِنْ فوقهم؛ لأنَّ العذابَ إنما ينزل مِنْ فوقُ. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «ربهم» أي يخافون ربَّهم عالياً عليهم، قاهراً لهم، كقولِه تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] .

51

قوله تعالى: {اثنين} : فيه قولان، أحدُهما: أنه مؤكد ل «إلهَيْن» وعليه أكثرُ الناسِ، و «اتَّخذ» على هذا يحتمل أن تكونَ متعديةً لواحدٍ، وأن تكونَ متعديةً لاثنين، والثاني منها محذوفٌ، أي: لا تَتَّخذوا إلهين اثنين معبوداً. والثاني: أنَّ «اثنين» مفعولٌ أولُ، وإنما أُخِّر، والأصلُ: لا تَتِّخذوا اثنين إلهين، وفيه بُعْدٌ. وقال أبو البقاء: «هو مفعولٌ ثانٍ» وهذا كالغلط إذ لا معنى لذلك البتةَ، وكلامُ الزمخشري هنا يُفْهِم أنه ليس بتأكيدٍ فإنه قال: «فإنْ قلتَ: إنما جمعوا بين العددِ والمعدودِ فيما وراء الواحدِ والاثنين، فقالوا: عندي رجالٌ ثلاثةٌ وأفراسٌ أربعةٌ؛ لأنَّ المعدودَ عارٍ عن العدد الخاص، فأمَّا رجل ورجلان وفَرَسٌ وفرسان فمعدودان فيهما دلالةً على العدد، فلا حاجةَ على أَنْ يقال: رجل واحد، ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى {إلهين اثنين} ؟ قلت: الاسمُ الحاملُ لمعنى الإِفرادِ أو التثنيةِ دَلَّ على شيئين: على الجنسيةِ والعددِ المخصوصِ، فإذا أُريدت الدلالةُ على أن المعنيَّ به منهما والذي يُساق إليه الحديثُ هو العددُ شُفِع بما يؤكِّد العددَ، فدلَّ به على القصدِ إليه والعنايةِ به، ألا ترى أنك لو قلْتَ: إله، ولم تؤكِّده بواحدٍ لم يَحْسُنْ، وخُيِّل أنك تُثْبِتُ الإِلهيةَ لا الوَحْدانية» . وقال الشيخ: «لمَّا كان الاسمُ الموضوع للإِفراد والتثنية قد يُتَجَوَّزُ به فَيُراد به الجنسُ نحو: نِعم الرجلُ زيدٌ، ونِعْم الرجلان الزيدان، وقول

الشاعر: / 297 - 7- فإنَّ النارَ بالعُوْدَيْنِ تُذْكَى ... وإنَّ الحربَ أَوَّلُها الكلامُ أكَّدَ الموضوعَ لهما بالوصفِ فقيل: إلهين اثنين، وقيل: إله واحد» . قوله: «فإيَّايَ» منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ مقدرٍ بعدهن يُفَسِّره هذا الظاهرُ، أي: إياي ارهبوا فارْهَبون. وقدَّر ابنُ عطية «ارهَبوا إيَّاي فارهبون» . قال الشيخ: «وهو ذُهولٌ عن القاعدةِ النحوية، وهي أنَّ المفعولَ إذا كان ضميراً منفصلاً والفعلُ متعدٍّ لواحد وَجَبَ تأخيرُ الفعلِ نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ولا يجوزُ أن يتقدَّمَ إلا في ضرورةٍ كقوله: 297 - 8- إليك حتى بَلَغَتْ إيَّاكا ... وهذا قد مَرَّ تقريرُه في أولِ البقرة. وقد يُجاب عن ابنِ عطية: بأنه لا يَقْبُحُ في الأمور التقديرية ما يقبح في [الأمورِ] اللفظيةِ. وفي قوله:» فإيَّايَ «التفاتٌ من غَيْبة وهي قولُه {وَقَالَ الله} إلى تكلُّمٍ وهو قوله» فإيَّاي «ثم التفت إلى الغِيْبة أيضاً في قوله: {وَلَهُ مَا فِي السماوات} .

52

قوله تعالى: {وَاصِباً} : حالٌ من «الدِّين» العاملُ فيها

الاستقرارُ المتضمِّنُ الجارُّ الواقعَ خبراً. والواصِبُ: الدائم، قال حسَّان: 297 - 9- غَيَّرَتْهُ الريحُ تَسْفِي بِهِ ... وهَزِيْمٌ رَعْدُهُ واصِبُ [وقال] أبو الأسود: 298 - 0- لا أبتغيْ الحَمْدَ القليلَ بقاؤُه ... يوماً بِذَمِّ الدهرِ أَجْمَعَ واصِبا والوَصِبُ: العليلُ لمداوَمَةِ السَّقَمِ له. وقيل: مِنَ الوَصَبِ وهو التَّعَبُ، ويكون حينئذٍ على النَّسَب، أي: ذا وَصَبٍ؛ لأن الدينَ فيه تكاليفُ ومَشَاقُّ على العبادِ، فهو كقوله: 298 - 1-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . أضحى فؤادي به فاتِنا أي: ذا فُتُوْن وقيل: الواصِبُ: الخالِصُ. وقال ابن عطية: والواوُ في قوله: {وَلَهُ مَا فِي السماوات} عاطفةٌ على قولِه {إله وَاحِدٌ} ، ويجوزُ أن تكونَ واوَ ابتداء «. قال الشيخ:» ولا يُقال واوُ ابتداءٍ إلا لواوِ الحال، ولا تظهر هنا الحالُ «. قلت: وقد يُطْلِقون واوَ

الابتداء، ويريدون واوَ الاستئناف، أي: التي لم يُقْصَدْ بها عطفٌ ولا تَشْريكٌ، وقد نصُّوا على ذلك فقالوا: قد يُؤْتَى بالواو أولَ كلامٍ من غير قَصْدٍ إلى عَطفٍ. واسْتَدَلُّوا على ذلك بإتيانهم بها في أولِ قصائدِهم وأشعارِهم، وهو كثيرٌ جداً. ومعنى قولِه» عاطفة على قوله {إله وَاحِدٌ} ، أي: أنها عَطَفَتْ جملةً على مفرد، فيجبُ تأويلُها بمفردٍ لأنها عَطَفَتْ على الخبرِ فيكونُ خبراً، ويجوز على كونِها عاطفةً أن تكونَ عاطفةً على الجملة بأسرها، وهي قوله {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} وكأنَّ ابنَ عطية قَصَدَ بواوِ الابتداءِ هذا، فإنها استئنافيةٌ.

53

قوله تعالى: {وَمَا بِكُم} : يجوز في «ما» وجهان، أحدهما: أن تكونَ موصولةً، والجارُّ صلتُها، وهي مبتدأٌ، والخبرُ قولُه {فَمِنَ الله} والفاءُ زائدةٌ في الخبر لتضمُّنِ الموصولِ معنى الشرطِ، تقديره: والذي استقرَّ بكم. و {مِّن نِّعْمَةٍ} بيان للموصول. وقدَّر بعضُهم متعلِّق «بكم» خاصَّاً فقال: «وما حَلَّ بكم أو نزل بكم» وليس بجيدٍ؛ إذ لا يُقَدَّرُ إلا كونٌ مطلقٌ. والثاني: أنها شرطية، وفعلُ الشرطِ بعدها محذوفٌ وإليه نحا الفراء، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء. قال الفراء: «التقدير: وما يكنْ بكم» . وقد رُدَّ هذا بأنه لا يُحْذَفُ فعلٌ إلا بعد «إنْ» خاصةً، في موضعين، أحدُهما: أن يكون في باب الاشتغال نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} [التوبة: 6] لأنَّ المحذوفَ في حكمِ المذكورِ. والثاني: أن تكونَ «إنْ» متلوَّةً ب «لا»

النافية، وأنْ يَدُلَّ على الشرطِ ما تقدَّمه من الكلامِ كقوله: 298 - 2- فطلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَك الحُسامُ أي: وإن لا تُطَلِّقْها، فَحَذَفَ لدلالةِ قوله «فَطَلِّقْها» عليه فإن لم توجَدْ «لا» النافيةُ، أو كانت الأداةُ غيرَ «إنْ» لم يُحْذَفْ إلا ضرورةً، مثالُ الأول: 298 - 3- قالَتْ بناتُ العمِّ يا سَلْمَى وإنْ ... كان غنياً مُعْدِماً قالت: وإنْ أي: وإن كان غنياً رَضِيْتُه. ومثالُ الثاني: 298 - 4- صَعْدَة نابتةٌ في حائرٍ ... اَيْنَما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ وقول الآخر: 298 - 5- فمتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هـ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي قوله: {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} الفاءُ جوابُ «إذا» . والجُؤار رَفْعُ الصوتِ، قال رؤبة يصفُ راهباً. / 298 - 6-

يُراوِحُ مِنْ صلواتِ المَلِي ... كِ طَوْراً سُجوداً وطَوْراً جُؤاراً ومنهم مَنْ قَيَّده بالاستغاثة، وأنشد الزمخشري: 298 - 7- جَآَّرُ ساعاتِ النيامِ لربِّه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقيل: الجُؤَار كالخُوار، جَأَر الثورُ وخارَ واحد، إلا أنَّ هذا مهموزُ العين وذلك معتلُّها. وقال الراغب: «جَأَر إذا أفرط في الدعاء والتضرع، تشبيهاً بجُؤَارِ الوَحْشِيَّات» . وقرأ الزهري: «تَجَرون» بحذفِ الهمزةِ وإلقاء حركتها على الساكنِ قبلَها، كما قرأ نافع «رِدَّاً» في «رِدْءاً» .

54

قوله تعالى: {إِذَا كَشَفَ} : «إذا» الأولى شرطيةٌ والثانيةُ فجائية جوابُها. وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ «إذا» الشرطية لا تكونُ معمولةً لجوابها؛ لأنَّ ما بعد «إذا» الفجائية لا يعمل فيما قبلَها. وقرأ قتادة «كاشَفَ» على فاعَلَ. قال الزمخشري: «بمعنى فَعَل، وهو أقوى مِنْ» كَشَفَ «لأنَّ بناءَ المغالبةِ يدلُّ على المبالغة» . قوله: «منكم» يجوز أن يكونَ صفةً ل «فريق» و «مِنْ» للتبعيض، ويجوز أن تكونَ للبيان. قال الزمخشري: «كأنه قال: إذا فريقٌ كافرٌ، وهم أنتم» .

55

قوله تعالى: {لِيَكْفُرُواْ} : في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها لامُ كي، وهي متعلقةٌ ب «يُشْركون» ، أي: إنَّ إشراكهم سببُه كفرُهم به. الثاني: أنها لامُ الصيرورةِ، أي: صار أمرُهم إلى ذلك. الثالث: أنها لامُ الأمرِ، وإليه نحا الزمخشريُّ. وقرأ أبو العالية - ورواها مكحول عن أبي رافع مولَى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَيُمْتَعُوا» بضمِّ الياء مِنْ تحتُ، ساكنَ الميم مفتوحَ التاء، مضارعَ مُتِع مبنياً للمفعول. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} بالياءِ مِنْ تحتُ أيضاً. وهذا المضارع في هذه القراءةِ يجوز أن يكونَ حَذْفُ النونِ فيه: إمَّا للنصبِ عطفاً على «ليكفروا» إنْ كانت لامَ كي، أو للصيرورة، وإمَّا للنصبِ أيضاً، ولكنْ على جوابِ الأمر إنْ كانت اللامُ للأمر. ويجوز أن يكونَ حَذْفُها للجزم عَطْفاً على «لِيَكْفُروا» إن كانت للأمر أيضاً.

56

قوله تعالى: {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} : الضميرُ في «يَعْلمون» يجوز أن يكونَ للكفار، أي: لِما لا يَعْلم الكفار، ومعنى لا يَعْلمونها: أنهم يُسَمُّونها آلهةً، ويعتقدون أنها تَضُرُّ وتنفع وتسمع، وليس الأمر كذلك. ويجوز أن يكونَ للآلهة وهي الأصنامُ، أي: لأشياءَ غيرِ موصوفةٍ بالعلم.

و «نصيباً» هو المفعول الأول، والجارُّ قبلَه هو الثاني، أي: ويُصيِّرون للأصنام نصيباً. و {مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} يجوز أن يكونَ نعتاً ل «نصيباً» ، وأن يتعلَّقَ بالجَعْلِ. ف «مِنْ» على الأول للتبعيض، وعلى الثاني للابتداء.

57

قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} : يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن هذا جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر، أي: يجعلون لله البناتِ، ثم أخبر أنَّ لهم ما يَشْتَهون. وجوَّز الفراء والحوفيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء أن تكونَ «ما» منصوبةَ المحلِّ عطفاً على «البناتِ» و «لهم» عطفٌ على «الله» ، أي: ويجعلون لهم ما يشتهون. قال الشيخ: «وقد ذَهَلُوا عن قاعدةٍ نحوية: وهو أنه لا يتعدَّى فِعْلُ المضمرِ المتصلِ إلى ضميره المتصل إلا في باب ظنَّ وفي عَدَمِ وفَقَد، ولا فرقَ بين أن يتعدَّى الفعلُ بنفسِه أو بحرفِ الجر، فلا يجوز:» زيدٌ ضربه «، أي: ضربَ نفسَه، ولا» زيدٌ مَرَّ به «، أي: مرَّ بنفسه، ويجوز: زيدٌ ظنَّه قائماً» ، و «زيدٌ فَقَده» و «عَدِمه» ، أي: ظنَّ نفسَه قائماً وفَقَد نفسه وعَدِمها. إذ تقرَّر هذا فَجَعْلُ «ما» منصوبةً عطفاً على «البنات» يؤدِّي إلى تعدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصل وهو واو / «يَجْعَلون» إلى ضميرِه المتصل،

وهو «هم» في «لهم» . انتهى ملخصاً. وما ذكره يحتاج إلى إيضاحٍ أكثرَ مِنْ هذا فأقول فيها مختصراً: اعلمْ أنه لا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصلِ ولا فعلِ الظاهرِ إلى ضميرِهما المتصلِ، إلا في بابِ ظَنَّ وأخواتِها من أفعال القلوب، وفي فَقَد وعَدَمِ، فلا يجوز: «زيد ضربه» ولا «ضربه زيد» ، أي: ضربَ نفسه. ويجوز: «زيد ظنَّه قائماً» ، وظنَّه زيدٌ قائماً، و «زيد فَقَده وعَدِمه» ، و «فَقَدَه وعَدِمَه زيد» ، ولا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ظاهره في بابٍ من الأبواب، لا يجوز «زيداً ضرب» ، أي: ضربَ نفسَه. وفي قولي: «إلى ضميرِهما المتصلِ» قيدان أحدُهما: كونُه ضميراً فلو كان ظاهراً كالنفس لم يمتنع نحو: «زيدٌ ضَرَبَ نفسَه» و «ضَرَبَ نفسَه زيدٌ» . والثاني: كونُه متصلاً، فلو كان منفصلاً جاز نحو: «زيدٌ ما ضربَ إلا إياه» ، و «ما ضرب زيدٌ إلا إياه» ، وعِلَلُ هذه المسألةِ وأدلتُها موضوعُها غيرُ هذا الموضوعِ، وقد أَتْقَنْتُها في «شرح التسهيل» . وقال مكي: «وهذا لا يجوزُ عند البصريين، كما لا يحوز جعلتُ لي طعاماً، إنما يجوز: جعلتُ لنفسي طعاماً، فلو كان لفظُ القرآن» ولأنفسِهم ما يَشْتَهون «جاز ما قال الفراء عند البصريين. وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليلٍ وبَسْطٍ كثير» . قلت: ما أشارَ إليه من المَنْعِ قد عَرفْتَه ولله الحمدُ مما قدَّمْتُه لك.

وقال الشيخ بعد ما حكى أنَّ «ما» في موضعِ نصبٍ عن الفراءِ ومَنْ تبعه: «وقال ابو البقاء - وقد حكاه -: وفيه نظرٌ» . قلت: وأبو البقاء لم يجعلِ النظرَ في هذا الوجه، إنما جعله في تضعيفه بكونِه يؤدِّي إلى تَعَدِّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ ما اسْتُثْني فإنه قال: «وضَعَّف قومٌ هذا الوجهَ وقالوا: لو كان كذلك لقال: ولأنفسهم، وفيه نظرٌ» فجعل النظرَ في تضعيفِه لا فيه. وقد يُقال: وَجْهُ النظرِ الممتنعُ تعدَّي ذلك الفعلِ، أي: وقوعُه على ما جُرَّ بالحرف نحو: «زيدٌ مَرَّ به» فإن المرورَ واقعٌ بزيد، وأمَّا ما نحن فيه فليس الجَعْلُ واقعاً بالجاعِلِين، بل بما يَشْتهون، وكان الشيخُ يَعْترض دائماً على القاعدةِ المتقدمةِ بقوله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25] {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] والجوابُ عنهما ما تقدَّم: وهو أنَّ الهَزَّ والضَّمَّ ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدَّم لنا هذا في مكانٍ آخرَ، وإنما أَعَدْتُه لصعوبتِه وخصوصيةِ هذا بزيادةِ فائدةٍ.

58

قوله تعالى: {ظَلَّ وَجْهُهُ} : يجوز أن تكونَ على بابِها مِنْ كونِها تدلُّ على الإِقامة نهاراً على الصفةِ المسندةِ إلى اسمها، وأن تكونَ بمعنى صار، وعلى التقديرَيْن فهي ناقصةٌ، و «مُسْوَدّاً» خبرُها. وأمَّا «وجهُه» ففيه وجهان، المشهور - وهو المتبادَرُ إلى الذهن - أنه اسمها. والثاني: أنه

بدلٌ من الضميرِ المستتر في «ظل» بدلُ بعضٍ من كل، أي: ظلَّ أحدُهم وجهُه، أي: ظلَّ وجهُ أحدِهم. قوله: «كَظِيم» يجوز ان يكونَ بمعنى فاعِل، وأن يكونَ بمعنى مَفْعول كقوله {وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] . والجملة حال من الضمير في «ظَلَّ» ، أو مِنْ «وجهه» ، أو من الضمير في «ظَلَّ» . وقال أبو البقاء هنا: «فلو قُرِئ» مُسْوَدٌّ «يعني بالرفع لكان مستقيماً، على أن تَجْعَلَ اسمَ» ظَلَّ «مضمراً، والجملةُ خبرها» . وقال في سورة الزخرف: «ويُقرآن بالرفع على أنه مبتدأٌ وخبر في موضعِ خبرِ» ظلَّ «.

59

قوله تعالى: {يتوارى} : يحتمل أن تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً ممَّا كانت الأُوْلى حالاً منه، إلا [مِنْ] «وجهُه» فإنه لا يليق ذلك به، ويجوز أن تكونَ حالاً من الضمير في «كظيم» . قوله: {مِنَ القوم مِن سواء} يُعَلِّق هنا جارَّان بلفظٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء، والثانية للعلة، أي: من أجلِ سُوْءِ ما بُشِّر به. قوله {أَيُمْسِكُهُ} . قال أبو البقاء: «في موضع الحال تقديرُه: يَتَوارى متردِّداً. هل يُمْسكه أم لا» ، وهذا خطأٌ عن النَّحْويين؛ لأنهم نَصُّوا على أن

الحالَ لا تقع جملةً طلبيةً. والذي يظهر أنَّ هذه الجملةَ الاستفهاميةَ معمولةٌ لشيء محذوفٍ هو حالٌ مِنْ فاعل «يتوارى» المتممِ للكلام، أي: يتوارى ناظراً أو مفكَّراً: أيُمْسِكُه على هُوْن. والعامَّةُ على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ «ما» وقرأ / الجحدريُّ {أَيُمْسِكُها} ، {أَمْ يَدُسُّها} مُراعاةً للأنثى أو لمعنى «ما» . وقُرِئ {أَيُمْسِكُهُ أَمْ يَدُسُّهُ} . والجحدريُّ وعيسى قرآ على «هَوان» بزنة «قَذَالٍ» ، وفرقةٌ على «هَوْنٍ» بفتح الهاء، وهي قَلِقَةٌ هنا؛ لأن «الهَوْن» بالفتح الرِّفقُ واللين، ولا يناسب معناه هنا، وأمَّا «الهَوان» فبمعنى هُوْن المضمومة. قوله: {على هُونٍ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ مِنَ الفاعلِ، وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عباس فإنه قال: يُمْسِكه مع رضاه بهوانِ وعلى رغمِ أنفِه. والثاني: أنه حالٌ من المفعولِ، أي: يُمْسِكها ذليلةً مُهانةً. والدَّسُّ: إخفاءُ الشيءِ وهو هنا عبارةٌ عن الوَأْد.

62

قوله تعالى: {أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} : العامَّةُ على أنَّ «الكذبَ» مفعولٌ به، و {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} بدلٌ منه بدلُ كلٍ مِنْ كل، أو على إسقاط الخافض، أي: بأنَّ لهم الحسنى.

وقرأ الحسن «أَلْسِنَتْهُمْ» بسكونِ التاءِ تخفيفاً، وهي تُشْبه تسكينَ لامِ {بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] ، وهمزة «بارِئْكم» ونحوه. والأَلْسِنَةُ جمع «لِسان» مراداً به التذكير فجُمِع كما يُجْمَعُ فِعال المذكر نحو: حِمار وأَحْمِرة، وإذا أُريد به التأنيثُ جُمِعَ جمعَ أفْعُل كذِراع وأَذْرُع. وقرأ معاذ بن جبل «الكُذُبُ» بضمِّ الكاف والذال ورفعِ الباء، على أنه جَمْعُ كَذُوب كصَبُور وصُبُر، وهو مقيسٌ، وقيل: جمع كاذِب نحو: شارِف وشُرُف، كقولها: 398 - 8- ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ ... ………. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لكنه غيرُ مقيسٍ، وهو حينئذٍ صفةٌ ل «ألسنتهم» ، وحينئذٍ يكون {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} مفعولاً به. وقد تقدَّم الكلامُ في «لا جَرَمَ» مستوفى في هود. قوله: {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} قرأ نافع بكسرِ الراءِ اسمَ فاعلٍ مِنْ أَفْرَطَ

إذا تجاوَزَ، فالمعنى: أنهم يتجاوزون الحَدَّ في معاصي الله تعالى. فأفْعَلَ هنا قاصرٌ. والباقون بفتحها اسمَ مفعولٍ مِنْ أَفْرَطْتُه، وفيه معنيان، أحدُهما: أنَّه مِنْ أَفْرطته خلفي، أي: تركتُه ونَسِيْتُه، حكى الفراء أنَّ العرب تقول: أَفْرِطْتُ منهم ناساً، أي: خَلَّفْتُهم، والمعنى: أنهم مَنْسِيًّون متروكون في النار. والثاني: أنه مِنْ أَفْرَطْتُه، أي: قَدَّمْتُه إلى كذا، وهو منقولٌ بالهمزة مِنْ فَرَط إلى كذا، أي: تقدَّم إليه، كذا قال الشيخ، وأنشد للقطامي: 298 - 9- واسْتَعْجَلُونْا وكانوا مِنْ صحابَتِنا ... كما تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ فَجَعَلَ «فَرَط» قاصراً و «أفرط» منقولاً. وقال الزمخشري: «بمعنى يتقدَّمون إلى النار، ويتعجَّلون إليها، مِنْ أَفْرَطْتُ فلاناً وفَرَطْتُه إذا قدَّمته إلى الماء» ، فجعل فَعَل وأفْعَل بمعنى، لا أن أَفْعل منقولٌ مِنْ فَعَل، والقولان محتملان، ومنه «الفَرَطُ» ، أي: المتقدم. قال عليه السلام: «أنا فَرَطُكم على الحوض» ، أي: سابِقُكم. ومنه «واجعله فَرَطاً وذُخْراً» ، أي: متقدِّماً بالشفاعةِ وتثقيلِ الموازين. وقرأ أبو جعفر - في روايةٍ - «مُفَرِّطون» بتشديدِ الراءِ مكسورةً مِنْ

فَرَّط في كذا: أي: قَصَّر، وفي روايةٍ، مفتوحةً، مِنْ فَرَّطته مُعَدَّى بالتضعيفِ مِنْ فَرَط بالتخفيف، أي: تَقَدَّم وسَبَقَ. وقرأ عيسى بن عمر والحسن «لا جَرَمَ إنَّ لهم النارَ وإنهم» بكسرِ «إنَّ فيهما على أنَّها جوابُ قسمٍ أَغْنَتْ عنه» لا جَرَمَ «.

63

قوله تعالى: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ حكايةَ حالٍ ماضيةٍ، أي: فهو ناصرُهم، أو آتيةٍ، ويراد باليوم يومُ القيامة، هذا إذا عاد الضمير على «أُمَم» وهو الظاهر. وجَوَّز الزمخشريُّ أن يعودَ على قريش، فيكونَ حكايةَ حالٍ في الحال لا ماضيةٍ ولا آتيةٍ، وجوَّز أن يكون عائداً على «أمم» ولكنْ على حَذْفِ مضافٍ تقديره: فهو وَلِيٌّ أمثالِهم اليومَ. واستبعده الشيخُ، وكأنَّ الذي حمله على ذلك قولُه «اليومَ» فإنه ظرفٌ حالِيٌّ، وقد تقدَّم أنه على حكايةِ الحالِ الماضية أو الآتية.

64

قوله تعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةً} : فيه وجهان: أحدُهما: أنهما انتصبا على أنهما مفعولان مِنْ أجلهما، والناصبُ «أَنْزَلْنَا» ، ولَمَّا اتَّحد الفاعلُ في العِلَّة والمعلول وَصَل الفعلُ إليهما بنفسه، ولَمَّا لم يتحَّدْ في قولِه: «وما أنْزَلْنا إلاَّ لِتُبَيِّن» ؛ لأنَّ فاعلَ الإِنزالِ، اللهُ وفاعلَ التبيينِ الرسولُ / وَصَلَ

الفعلُ إلى العلةِ بالحرفِ فقيل: {إِلاَّ لِتُبَيِّنَ} ، أي: لأَنْ تُبَيِّنَ، على أنَّ هذه اللامَ لا تَلْزَمُ من جهةٍ أخرى: وهي كونُ مجرورِها «أن» . وفيه خلافٌ في خصوصيةِ هذه المسألةِ. وهذا معنى قولِ الزمخشري فإنه قال: «معطوفان على محلِّ» لِتُبَيِّنَ «إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعولٌ لهما، لأنَّهما فِعْلُ الذي أَنْزَلَ الكتابَ، ودخلت اللامُ على» لتبيِّنَ «لأنه فِعْلُ المخاطبِ لا فِعْلُ المُنَزِّلِ، وإنما ينتصبُ مفعولاً له ما كان فعلَ الفاعلِ الفعل المعلل» . قال الشيخ: «قوله: معطوفان على محل» لتبيِّنَ «ليس بصحيح؛ لأنَّ مَحَلَّه ليس نصباً فيُعطفَ منصوبٌ [عليه] ، ألا ترى أنه لو نصبه لم يَجُزْ لاختلافِ الفاعل» . قلت: الزمخشريُّ لم يجعلِ النصبَ لأجل العطفِ على المحلِّ، إنما جَعَله بوصولِ الفعلِ إليهما لاتحادِ الفاعلِ كما صَرَّح به فيما حكيْتُه عنه آنفاً، وإنما جَعَلَ العطفَ لأجل التشريكِ في العِلِّيَّةِ لا غير، يعني أنهما علتان، كما أنَّ «لتبيِّنَ» علةٌ. ولَئِنْ سَلَّمْنا أنه نُصِب عطفاً على المحلِّ فلا يَضُرُّ ذلك. قوله: «لأنَّ محلَّه ليس نصباً» ممنوعٌ، وهذا ما لا خلافَ فيه: مِنْ أنَّ محلَّ الجارِّ والمجرورِ النصبُ لأنه فَضْلَةٌ، إلا أنْ يقومَ مقامَ مرفوعٍ، ألا ترى إلى تخريجِهم قولَه {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] في قراءة النصبِ على العطف على محلِّ «

برؤوسكم» ، ويُجيزون «مَرَرْتُ بزيدٍِ وعمراً» على خلافٍ في ذلك، بالنسبة إلى القياسِ وعدمِه لا في أصلِ المسألة. وهذا بحثٌ حسنٌ تركه المَرْدُودُ عليه.

66

قوله تعالى: {نُّسْقِيكُمْ} : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة، كأنه قيل: كيف العِبْرة؟ فقيل: نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً. ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ، أي: هي، أي: العِبْرَةُ نُسْقيكم، ويكون كقولهم: تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه «. وقرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر» نَسْقيكم «بفتح النون هنا وفي المؤمنين. والباقون بضمَّها فيهما. واختلف الناس: هل سَقَى وأَسْقى لغتان، بمعنىً واحدٍ أم بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور. فقيل: هما بمعنىً، وأنشد جمعاً بين اللغتين: 229 - 0- سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب. و» نُمَيْراً «هو المفعول الثاني: أي: ماءٌ نُمَيْراً. وقال أبو عبيد:» مَنْ سَقَى الشِّفَةِ: سَقَى فقط، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ. أَسْقَى، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرها: أَسْقَى فقط «. وقال

الأزهري:» العربُ تقول ما كان من بطونِ الأنعام، ومن السماء، أو نهرٍ يجري، أَسْقَيْتُ، أي: جَعَلْتُ شِرْباً له وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا؟ ، فإذا كان للشَّفَة قالوا: سَقَى، ولم يقولوا: أسقى «. وقال الفارسي:» سَقَيْتُه ختى رَوِيَ، وأَسْقَيْتُه نهراً، أي: جَعَلْتُه له شِرْباً «. وقيل» سَقاه إذا ناوله الإِناءَ ليشربَ منه، ولا يُقال مِنْ هذا: أَسْقاه. وقرأ أبو رجاء «يُسْقِيْكم» بضمِّ الياء من أسفلَ وفي فاعلِه وجهان، أحدُهما: هو الله تعالى، الثاني: أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولُ عليه بالأنعامِ، أي: نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا. وقُرئ «تًسْقيكم» بفتح التاء من فوق. قال ابن عطية: «وهي ضعيفةٌ» . قال الشيخ: «وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ - أنه أنَّثَ في» تِسْقِيْكم «، وذَكَّر في قوله {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} ، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين» . قلت «وضَعْفُها عنده من حيث المعنى: وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام. قوله: {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} يجوز أن تكونَ» مِنْ «للتبعيض، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية. وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً. قال

الزمخشري:» ذكر سيبويه الأنعامَ في باب «ما لا ينصرف» في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم: ثوبٌ أَكْياش، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً، وأمَّا «في بطونها» في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع. ويجوز أن يُقال في «الأنعام» وجهان، أحدهما: أن يكون تكسير «نَعَم» كأَجْبال في جَبَل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [كَنَعم] ، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ «نَعَم» في قوله: 299 - 1- في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ ... يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان: أنه تكسير «نَعَم» ، وأنَّه في معنى الجمع «. قال الشيخ: أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في:» هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه: «وأمَّا أَجْمال وفُلُوس فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول: أَقْوال وأقاويل، وأعراب وأعاريب وأَيْدٍ وأيادٍ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعِل

ومفاعيل، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع. وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ» . ثم قال: «وكذلك الفُعُوْل لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل، كما تقول: جَدُود وجَدائد ورَكوب وركائب، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول: أُتِيَّ فَيَضُمُّ الألفَ. وأمَّا أفْعَال فقد يقع للواحد، مِنَ العرب مَنْ يقول: هو الأنعام: قال الله عز وجل {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} . وقال أبو الخطاب:» سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول: هذا ثوبٌ أكياش «. قال:» والذي ذكر سيبويهِ هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا، ولم يَنصَرِفْ مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ: «أُتِيّ» بضمِّ الهمزة، يعني أنه قد جاءَ نادراً فُعول من غير المصدرِ للمفرد، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوْقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول: «هو الأنعامُ» ، وإنما يعني أنَّ ذلك على سبيل المجاز؛ لأن الأنعامَ في

معنى النَّعَم، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال: 299 - 2- تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى ... وقلنا للنساءِ بها أَقيمي ولذلك قال سيبويه: «وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد» فقوله «قد يقع للواحد» دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ، فقولُ الزمخشري: «أنه ذكره في الأسماء المفردة على أَفْعال» تحريفٌ في اللفظ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه. ويَدُلُّ على ما قلناه أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ نَصَّ على أنَّ أَفْعالاً ليس من أبنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة: «وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعَوْل ولا أُفْعال ولا أَفْعِيْل ولا أَفْعال، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع» . قال: «فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة» . قلتُ: الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه وهو كافٍ في تسويغ عَوْد الضمير مفرداً، وإن كان أَفْعال قد يقع موقعَ الواحد مجازاً فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه، ولم يُحَرِّفْ لفظَه، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه. وقيل: إنما ذَكَّر الضميرَ لأنه يعودُ على البعض وهو الإِناث؛ لأنَّ الذكورَ

لا أَلْبانَ لها، فكأنَّ العِبْرَة هي بعض الأنعام. وقال الكسائي: «أي في بطونِ ما ذَكَرَ» . قال المبرد: «وهذا شائعٌ في القرآن، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 1112] ، أي: ذَكَر هذا الشيءَ. وقال تعالى: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي} [الأنعام: 78] ، أي: هذا الشيءُ الطالعُ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ، لا يجوز: جاريتُك ذهب» . قلت: وعلى ذلك خُرِّج قوله: 299 - 3- فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ ... كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ أي: كأنَّ المذكورَ. وقيل: جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة، ومن الأولِ قولُ الشاعر: / 299 - 4- مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ ... وقيل: أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهِم الجمعَ، فإنه يَسُد مَسَدَّه «نَعَم» ، و «نَعَم» يُفْهِم الجمعَ ومثلُه قولُه: 299 - 5-

وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ ... لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن، ومثلُه قولهم «هو أحسنُ الفتيان وأجملُه» ، أي: أحسنُ فتىً، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه. وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ. والسادس: أنه يعود على الفحل؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ، فأصلُ اللبنِ [ماءُ] الفحلِ قال: «وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فقد جَمَعَ البطون، وليس فحلُ الأنعام واحداً ولا للواحد بطونٌ. فإن قال: أراد الجنسَ فقد ذُكِر» . يعني أنه قد تقدَّم أن التذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على «فَحْل» المرادِ به الجنسُ. قلت: وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ولم يُعْقِبْه بنكير. قوله: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ} يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلقٌ بالسَّقْي، على أنها لابتداءِ الغاية، فإن جَعَلْنا ما قبلها كذلك تَعَيَّن أن يكونَ مجرورُها بدلاً مِنْ مجرور «مِنْ» الأولى؛ لئلا يتعلَّقَ عاملان متحدان لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحد وهو ممتنعٌ. وهو مِنْ بدلِ الاشتمالِ؛ لأن المكانَ مشتمِلٌ على ما حَلَّ فيه. وإن جعلْتَها للتبعيض هان الأمرُ. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «لَبَناً» ؛ إذْ لو تأخَّرَتْ

لكانَتْ مع مجرورِها نعتاً له. قال الزمخشري: «وإنما تقدَّم لأنه موضعُ العِبْرة، فهو قَمِنٌ بالتقديم» . الثالث: أنَّها مع مجرورِها حالٌ من الموصولِ قبلها. والفَرْث: فُضالةُ ما يَبْقى مِنَ العَلَفِ في الكِرْش، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في المَعِيّ. ويقال: فَرَثَ كّبِدَه، أي: فتَّتها، وأَفْرث فلانٌ فلاناً: أوقعه في بَليَّةٍ تجري مجرى الفَرْث. قوله: «لَبَنا» هو المفعولُ الثاني لنُسْقي. وقرئ «سَيِّغاً» بتشديد الياء بزِنة «سَيِّد» ، وتصريفُه كتصريفِه. وخَفَّفه عيسى بن عمر نحو: مَيْت وهَيْن. ولا يجوز أن يكون فَعْلاً؛ إذ كان يجب أن يكونَ «سَوْغاً» كقَوْل.

67

قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه متعلقٌ بمحذوف، فقدَّره الزمخشريُّ: «ونُسْقيكم من ثمراتِ النخيل والأعناب، أي: مِنْ عصيرِها، وحُذِف لدلالةِ» نُسْقيكم «قبلَه عليه» . قال: «وتَتَّخذون: بيانٌ وكَشْفٌ عن كيفية الإِسقاء» . وقدَّره أبو البقاء: «خَلَقَ لكم وجَعَلَ لكم» .

وما قدَّره الزمخشريُّ أَلْيَقُ، لا يُقال: لا حاجةَ إلى تقدير «نُسْقيكم» بل قولُه {وَمِن ثَمَرَاتِ} عطفٌ على قولِه {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} فيكون عَطَفَ بعضَ متعلِّقاتِ الفعلِ الأولِ على بعضٍ، كما تقول: «سَقَيْتُ زيداً من اللبن ومن العسل» فلا يحتاج إلى تقديرِ فعلٍ قبل قولك «من العسل» ، لا يُقال ذلك لأنَّ «نُسْقيكم» الملفوظَ به وقع تفسيراً لِعبْرة الأنعام فلا يَليقُ تَعَلُّق هذا به، لأنه ليس من العِبْرة المتعلقةِ بالأنعام. قال الشيخ: «وقيل: متعلِّقٌ ب» نُسْقيكم «. فيكونُ معطوفاً على {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} أو ب» نُسقيكم «محذوفةً دلَّ عليها» نُسْقِيكم «. انتهى. ولم يُعْقِبْه بنكير، وفيه ما قَدَّمْتُه آنفاً. الثاني: أنه متعلِّقٌ ب» تَتَّخذون «و» منه «تكريرٌ للظرف توكيداً نحو:» زيدٌ في الدارِ فيها «قاله الزمخشريٌّ. وعلى هذا فالهاءُ في» منه «فيها ستةُ أوجهٍ. أحدها: أنها تعودُ على المضافِ المحذوفِ الذي هو العصيرُ، كما رَجَعَ في قوله {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] إلى الأهلِ المحذوفِ. الثاني: أنها تعود على معنى الثمراتِ لأنها بمعنى الثَّمَر. الثالث: أنها تعودُ على النخيل. الرابع: أنها تعودُ على الجنس. الخامس: أنها تعودُ على البعض. السادس: أنها تعود على المذكور. الثالث من الأوجهِ الأُوَلِ: أنه معطوفٌ على قولِه {فِي الأنعام} ، فيكونُ في المعنى خبراً عن اسمِ» إنَّ «في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} ، التقدير: وإنّ لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لَعِبْرَةً، ويكونُ قوله» تتخذون «بياناً وتفسيراً للعِبْرة كما وقع» نُسْقِيكم «تفسيراً لها أيضاً.

الرابع: أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ فقدَّره الطبريُّ:» ومن ثمراتِ النخيل ما تتَّحذون «/ قال الشيخ:» وهو لا يجوزُ على مذهبِ البصريين «. قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ له أن يقول: ليسَتْ» ما «هذه موصولةً، بل نكرةٌ موصوفةٌ، وجاز حَذْفُ الموصوفِ والصفةُ جملةٌ، لأن في الكلام» مِنْ «، ومتى كان في الكلام» مِنْ «اطَّرد الحذفُ نحو:» منا ظَعَنَ ومنا أقام «ولهذا نظَّره مكيٌّ بقولِه تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} [الصافات: 164] ، أي: إلا مَنْ له مقام. قال: فَحُذِفَتْ «» مَنْ «لدلالةِ» مِنْ «عليها في قوله» وما مِنَّا «. ولما قدَّر الزمخشري الموصوفَ قدَّره: ثَمَرٌ تتخذون، ونظَّره بقول الشاعر: 299 - 6- يَرْمي بكفِّيْ كان مِنْ أَرْمى البشر ... تقديرُه: بكفَّيْ رجل، إلاَّ أنَّ الحذفَ في البيت شاذٌّ لعدم» مِنْ «: ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال:» وقيل: هو صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: شيئاً تتخذون منه، بالنصب، أي: وإنَّ من ثمراتِ النخيل. وإن شئت «شيء» بالرفعِ بالابتداء، و {مِن ثَمَرَاتِ} خبرُه «. والسَّكَر: - بفتحتين - فيه أقوال، أحدها: أنه من أسماءِ الخمر، كقول الشاعر: 299 - 7-

بئس الصُّحاةُ وبئس الشَّرْبُ شَرْبُهُمُ ... إذا جَرَى فيهم المُزَّاءُ والسَّكَرُ الثاني: أنه في الأصل مصدرٌ، ثم سُمِّي به الخمرُ. يقال: سَكِر يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً، نحو: رَشِد يَرْشَدُ رُشْداً ورَشداً. قال الشاعر: 299 - 8- وجاؤُوْنا بهم سَكَرٌ علينا ... فَاَجْلَى اليومُ والسَّكْران صاحي قاله الزمخشري. الثالث: أنه اسمٌ للخَلِّ بلغةِ الحبشة، قاله ابن عباس. الرابع: أنه اسمٌ للعصير ما دام حُلْواً، كأنه سُمِّي بذلك لمآله لذلك لو تُرِكَ. الخامس: أنه اسمٌ للطُعْم قاله أبو عبيدة، وأنشد: 299 - 9- جَعَلْتَ أعراضَ الكرامِ سَكَراً ... أي: تتقلَّبُ بأعراضِهم. وقيل في البيت: إنه من الخمر، وإنه إذا انتهك أعراضَ الناسِ كأنه تَخَمَّر بها. وقوله: {وَرِزْقاً حَسَناً} يجوز أن يكونَ مِنْ عطف المغايِرات،

وهو الظاهرُ. وفي التفسير: أنه كالزَّبيب والخَلِّ ونحوِ ذلك، وأن يكونَ من عطفِ الصفاتِ بعضِها على بعضٍ، أي: تتخذون منه ما يُجْمَعُ بين السَّكَرِ والرِّزْقِ الحسن كقوله: 300 - 0- إلى المَلِكِ القَرْمِ وابن الهُمامِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت.

68

قوله تعالى: {أَنِ اتخذي} : يجوز أن تكونَ مفسِّرةً، وأن تكون مصدريةً. واستشكل بعضُهُم كونَها مفسرةً. قال: «لأنَّ الوَحْيَ هنا ليس فيه معنى القول؛ إذ هو إلهامٌ لا قولَ فيه» . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القولَ لكلِّ شيءٍ بحسَبِه. والنَّحْلُ: يذكَّر ويؤنَّث على قاعدةِ أسماء الأجناس. والتأنيثُ فيه لغةُ الحجاز، وعليها جاء {أَنِ اتخذي} . وقرأ ابن وثَّاب «النَحَل» فيُحتمل أن يكون لغةً مستقلةً، وأن يكونَ إتباعاً. و {مِنَ الجبال} «مِنْ» فيه للتبعيض؛ إذ لا يتهيَّأُ لها ذلك في كلِّ جبلٍ ولا شجرٍ. وتقدَّم القول في «يَعْرِشُونَ» ، ومَنْ قرأ بالكسر والفتحِ في الأعراف.

69

قوله تعالى: {ذُلُلاً} : جمع ذَلُول. ويجوز أن تكونَ حالاً مِن السُّبُل، أي: ذَلَّلها اللهُ تعالى، كقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ

الأرض ذَلُولاً} [الملك: 15] ، وأن تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «اسْلُكي» ، أي: مطيعةً منقادةً. وفي التفسير المعنيان منقولان. وانتصابُ «سُبُل» يجوز أن يكونَ على الظرفية، أي: فاسْلُكي ما أكلْتِ في سُبُلِ ربِّك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النَّوْر ونحوه عَسَلاً، وأن يكونَ مفعولاً به، أي: اسْلكي الطرقَ التي أَفْهَمَكِ وعلَّمَكِ في عَمَلِ العسل. و «مِنْ» في {مِن كُلِّ الثمرات} يجوز ان تكونَ تبعيضيةً، وأن تكونَ للابتداء على معنى: أنها تأكُلُ شيئاً ينزل من السماء شِبْهَ التَّرَنْجَبِيْن على وَرَق الشجر وثمارِها، لا أنها تأكلُ نَفْسَ الثمرات، وهو بعيدٌ جداٌ. قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} التفاتٌ وإخبارٌ بذلك، ولو جاءَ على الكلام الأوَّل لقيل: مِنْ بطونِك. والهاء في / «فيه» تعودُ على «شَراب» ، وهو الظاهرُ، وقيل: تعودُ على القرآن.

70

قوله تعالى: {لِكَيْ لاَ} : في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أنها لامُ التعليل، و «كي» بعدها مصدريةٌ ليس إلا، وهي ناصبةٌ بنفسِها للفعلِ بعدَها، وهي ومنصوبُها في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ باللام، واللامُ متعلقةٌ ب «يُرَدُّ» . وقال الحوفيُّ: «إنها لامُ كي، وكي للتأكيد» وفيه نظرٌ؛ لأنَّ اللامَ للتعليلِ و «كي» مصدريةٌ لا إشعارَ لها بالتعليل والحالةُ هذه، وأيضاً فعلمُها مختلفٌ.

الثاني: إنها لامُ الصَّيْرورةِ. قوله: «شيئاً» يجوز فيه التنازع؛ وذلك أنه تقدمه عامِلان: «يَعْلَمَ» و «عِلْمٍ» . فعلى رأيِ البصريين - وهو المختار - يكون منصوباً ب «عِلْم» ، وعلى رأيِ الكوفيين يكون منصوباً ب «يَعلم» . وهو مردودٌ؛ إذ لو كان كذلك لأَضْمَرَ في الثاني، فكان يُقال: لكيلا يعلمَ بعد عِلْمٍ إياه شيئاً.

71

قوله تعالى: {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} : في هذه الجملةِ أوجهٌ، أحدُها: أنها على حَذْفِ أداةِ الاستفهام تقديرُه: أَفَهُمْ فيه سواءٌ، ومعناه النفيُ، أي: ليسوا مُسْتَوين فيه. الثاني: أنها إخبارٌ بالتساوي، بمعنى: أن ما تُطْعِمونه وتُلْبِسونه لمماليككم إنما هو رِزْقي أَجْرَيْتُه على أيديهم، فهم فيه سواءٌ. الثالث: قال أبو البقاء: «إنها واقعةٌ موقعَ فعلٍ» ، ثم جَوَّز في ذلك الفعلِ وَجْهَيْنِ، أحدهما: أنه منصوبٌ في جوابِ النفي تقديرُه: فما الذين فُضِّلوا برادِّي رزقِهم على ما ملكَتْ أيمانُهم فيَسْتَوُوا. والثاني: أنه معطوفٌ على موضع «برادّي» فيكون مرفوعاً تقديرُه: فما الذين فُضِّلوا يَرُدُّون فما يَسْتَوُوْن. وقرأ أبو بكر «تَجْحَدون» بالخطابِ مراعاةً لقولِه «بعضَكم» ، والباقونَ بالغَيْبَةِ مراعاةً لقولِه {فَمَا الذين فُضِّلُواْ} .

72

قوله تعالى: {وَحَفَدَةً} : في «حَفَدَة» أوجهٌ. أظهرُها: أنه معطوفٌ على «بنين» بقيدِ كونِه من الأزواج، وفُسِّر هنا بأنه

أولادُ الأولادِ. الثاني: أنه مِنْ عطفِ الصفاتِ لشيءٍ واحدٍ، أي: جَعَلَ لكم بنينَ خَدَماً، والحَفَدَةُ: الخَدَمُ. الثالث: أنه منصوبٌ ب «جَعَلَ» مقدرةً، وهذا عند مَنْ يُفَسِّر الحَفَدة بالأعوان والأَصْهار، وإنما احتيج إلى تقدير «جَعَلَ» لأنَّ «جَعَلَ» الأولى مقيدةٌ بالأزواج، والأعوانُ والأصهارُ ليسوا من الأزواج. والحَفَدَةُ: جمع حافِد كخادِم وخَدَم. وفيهم للمفسرين أقوالٌ كثيرةٌ، واشتقاقُهم مِنْ قولِهم: حَفَد يَحْفِد حَفْداً وحُفوداً وحَفَداناً، أي: أسرع في الطاعة. وفي الحديث: «وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ» ، أي: نُسْرِعِ في طاعتِك. قال الأعشى: 300 - 1- كَلَّفْتُ مجهولَها نُوْقاً يَمانيةً ... إذا الحُداة على أَكْسائها حَفَدُوا وقال الآخر: 300 - 2- حَفَدَ الولائدُ حولَهُنَّ وأَسْلَمَتْ ... بأكفِّهنَّ أَزِمَّةَ الأجْمالِ ويستعمل «حَفَدَ» أيضاً متعدياً. يقال: حَفَدَني فهو حافِدٌ، وأُنْشِد: 300 - 3- يَحْفِدون الضيفَ في أبياتِهمْ ... كَرَماً ذلك منهم غيرَ ذُلّْ

وحكى أبو عبيدة أنه يقال: «أَحْفَدَ» رباعياً. وقال بعضهم: «الحَفَدَةُ: الأَصْهار، وأنشد: 300 - 4- فلو أنَّ نفسي طاوَعَتْني لأصبحَتْ ... لها حَفَدٌ ممَّا يُعَدُّ كثيرُ ولكنها نَفسٌ عليَّ أَبِيَّةٌ ... عَيُوفٌ لإِصهارِ اللِّئامِ قَذْوْرُ ويقال: سيفٌ مُحْتَفِدٌ، أي: سريعُ القطع. وقال الأصمعيُّ:» أصلُ الحَفْدِ: مقارَبَةُ الخَطْوِ «. و» مِنْ «في {مِّنَ الطيبات} للتبعيض.

73

قوله تعالى: {شَيْئاً} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ، أي: لا يَمْلِكُ لهم مِلْكاً، أي: شيئاً من المِلْك. والثاني: أنه بدلٌ مِنْ «رِزْقاً» ، أي: لا يَمْلِكُ لهم شيئاً. وهذا غيرُ مفيدٍ؛ إذ من المعلومِ أنَّ الرزقَ شيءٌ من الأشياء، ويؤيِّد ذلك: أنَّ البدلَ يأتي لأحدِ معنيين: البيانِ أو التأكيد، وهذا ليس فيه بيانٌ؛ لأنه أعمُّ، ولا تأكيدَ. الثالث: أنه منصوبٌ ب «رِزْقاً» على أنه اسمُ مصدرٍ، واسمُ المصدرِ يعمل عملَ المصدرِ على خلافٍ في ذلك. ونقل مكيٌّ أن اسمَ المصدرِ لا يعملُ عند البصريين إلا في شعرٍ. قلت: وقد اختلفتِ النقلةُ / عند البصريين: فمنهم مَنْ نَقَلَ المَنْعَ، ومنهم مَنْ

نَقَلَ الجوازَ. وقد ذكر الفارسيُّ انتصابَه ب «رِزْقاً» كما تقدَّم. ورَدَّ عليه ابنُ الطَّراوة بأن الرزْقَ اسم المرزوق كالرَّعْيِ والطَّحْن. ورُدَّ على ابنِ الطراوة: بأنَّ الرِّزْقَ بالكسرِ أيضاً مصدرٌ، وقد سُمِعَ فيه ذلك. قلت: فظاهرُ هذا أنه مصدرٌ بنفسِه لا اسمُ مصدرٍ. وقوله: {مِّنَ السماوات} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه متعلقٌ ب «يملك» ، وذلك على الإِعرابين الأوَّلَيْنِ في نصبِ «شيئاً» . الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «رزقاً» . الثالث: أن يتعلَّقَ بنفس «رِزْقاً» إن جعلناه مصدراً. وقال ابن عطية: - بعد أن ذكر إعمالَ المصدرِ منوَّناً - «والمصدرُ يعمل مضافاً باتفاق؛ لأنه في تقديرِ الانفصالِ، ولا يَعْمَل إذ دخله الألفُ واللام؛ لأنه قد تَوَغَّلَ في حالِ الأسماءِ، وبَعُد عن الفعليَّة، وتقدير الانفصالِ في الإِضافةِ حَسَّنَ عملَه، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشَّاعر: 300 - 5- ضعيفُ النكايةِ أعداءَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقوله] : 300 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلم أَنْكِلْ عن الضَرْبِ مِسْمَعا

قال الشيخ:» أمَّا قولُه «باتفاق» : إن عَنَى من البصريين فصحيحُ، وإن عَنَى مِنَ النحويين فليس بصحيح؛ إذ قد ذهب بعضُهم إلى أنه لا يعمل. فإن وُجِد بعده منصوبٌ أو مرفوعٌ قَدَّر له عاملاً. وأمَّا قولُه «في تقدير الانفصال» فليس كذلك؛ لئلا تكون إضافتُه غيرَ محضةٍ، كما قال به ابن الطراوة وابن بَرْهان. ومذهبُهما فاسدٌ؛ لأنَّ هذا المصدرَ قد نُعِتَ وأُكِّد بالمعرفة. وقوله «لا يعمل» إلى آخره ناقَضَه بقولِه «وقد جاء عاملاً» إلى آخرِه. قلت: فغايةُ ما في هذا أنه نحا إلى أقوالٍ قال بها غيرُه. وأمَّا المناقضةُ فليست صحيحةً؛ لأنه عَنَى أولاً أنه لا يَعْمل في السِّعَة، وثانياً أنه قد جاء عاملاً في الضرورة، ولذلك قيَّده فقال: «في قول الشاعر» . قوله: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} يجوز في الجملة وجهان: العطفُ على صلةِ «ما» ، والإِخبارُ عنهم بنفيِ الاستطاعةِ على سبيلِ الاستئنافِ، ويكون قد جَمَع الضميرَ العائدَ على «ما» باعتبارِ معناها؛ إذ المرادُ بذلك آلهتُهم، ويجوز أن يكونَ الضميرُ عائداً على العابدين.

75

قوله تعالى: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} : يجوزُ في «مَنْ» هذه أن

تكونَ موصولةً، وأن تكونَ موصوفةً. واختاره الزمخشري قال: «كأنه قيل: وحُرَّاً رَزَقْناه، ليطابِقَ عَبْداً» . ومحلُّها النصبُ عطفاً على «عبداً» . وقد تقدَّم الكلامُ في المَثَلِ الواقعِ بعد «ضَرَبَ» . قوله: {سِرّاً وَجَهْراً} يجوز أن يكونَ منصوباً على المصدر، أي: إنفاقَ سِرٍّ وجَهْر، ويجوز أن يكونَ حالاً. قوله: {هَلْ يَسْتَوُونَ} إنما جُمِعَ الضميرُ وإن تَقَدَّمَه اثنان؛ لأنَّ المرادَ جنسُ العبيدِ والأحرارِ المدلولِ عليهما بعبد وبمَنْ رَزَقْنَاه. وقيل: على الأغنياءِ والفقراءِ المدلولِ عليهما بهما أيضاً. وقيل: اعتباراً بمعنى «مَنْ» فإنَّ معناها جمعٌ، راعى معناها بعد ان راعَى لفظَها. قوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] حُذِفَ مفعولُ العِلْمِ اختصاراً أو اقتصاراً.

76

والكَلُّ: الثقيل، والكَلُّ: العِيال، والجمع: كُلُول. والكَلُّ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والدَ، والكَلُّ أيضاً: اليتيم، سُمِّي بذلك لثِّقْلِه على كافِلِه. قال الشاعر: 300 - 7- أَكُولٌ لِمالِ الكَلِّ قبل شبابِه ... إذا كان عَظْمُ الكَلِّ غيرَ شديدِ قوله: {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ} شرطٌ وجزاؤُه. وقرأ ابنُ مسعودٍ

وابن وثاب وعلقمةُ «يُوَجِّهْ» بهاءٍ ساكنة للجزم. وفي فاعلِه وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الباري تعالى، ومفعولُه محذوفٌ، تقديرُه كقراءةِ العامة. والثاني: أنه ضميرُ الأبكم، ويكون «يُوَجِّه» لازماً بمعنى تَوَجَّه، يقال: وَجَّه وتَوَجَّه بمعنى. وقرأ علقمةُ أيضاً وطلحةُ كذلك، إلا أنه بضم الهاء، وفيها أوجهُ، أحدها: أنَّ «أينما» ليست هنا شرطيةً و «يُوَجِّهُ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: أينما هو يُوَجِّهُ، أي: الله تعالى، والمفعولُ محذوفٌ/ أيضاً، وحُذِفَتْ الياءُ مِنْ {لاَ يَأْتِ} تخفيفاً، كما حُذِفَتْ في قولِه {يَوْمَ يَأْتِ} [هود: 106] و {إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] . ورُدَّ هذا بأن «أينما» إما شرط أو استفهام فقط، والاستفهام هنا غير لائق. والثاني أنَّ لامَ الكلمةِ حُذِفَتْ تخفيفاً لأجلِ التضعيفِ، وهذه الهاءُ هي هاءُ الضمير فلم يُحِلَّها جزم. ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرازي. الثالث: أن «أينما» أُهْمِلَتْ حَمْلاً على «إذا» لما بينهما من الأُخُوَّة في الشرط، كما حُمِلَتْ «إذا» عليها في الجزم في نفسِ المواضع، وحُذِفت الياءُ مِنْ «يَأْتِ» تخفيفاً أو جزماً على التوهم، ويكون «يُوَجِّهُ» لازماً بمعنى يَتَوَجَّه كما تقدَّم. [وقرأ عبدُ الله أيضاً] . وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة - «هذه ضعيفةٌ؛ لأنَّ الجزمَ لازمٌ» وكأنه لم يعرف توجيههَا.

وقرأ علقمةُ وطلحةُ «يُوَجَّهْ» بهاءٍ واحدة ساكنةٍ للجزم والفعلُ مبنيٌّ للمفعولِ، وهي واضحةٌ. وقرأ ابن مسعود أيضاً «تُوَجِّهْه» كالعامَّةِ، إلا أنه بتاء الخطاب وفيه التفاتٌ. وفي الكلام حَذْفٌ، وهو حَذْفُ المقابلِ لقوله {أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} كأنه قيل: والآخرُ ناطِقٌ متصرفٌ في مالِه، وهو خفيفٌ على مولاه، أينما يُوَجِّهْهُ يأتِ بخيرٍ. ودَلَّ على ذلك قولُه: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} . ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ «أينما تَوَجَّهَ» فعلاً ماضياً، فاعلُه ضميرُ الأبكم. وقوله: {وَمَن يَأْمُرُ} الراجحُ أَنْ يكونَ مرفوعاً عطفاً على الضميرِ المرفوعِ في «يَسْتوي» ، وسَوَّغَه الفصلُ بالضمير. والنصبُ على المعيَّة مرجوحٌ. {وَهُوَ على صِرَاطٍ} الجملةُ: إمَّا إستئنافٌ أو حالٌ.

77

قوله تعالى: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} : أي: أو أَمْرٌ، فالضميرُ للأمر، والتقدير: أو أمرُ الساعةِ أقربُ من لَمْحِ البصر.

78

قوله تعالى: {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} : الجملةُ حالٌ مِنْ مفعول «أَخْرجكم» ، أي: أخرجكم غيرَ عالِمين. و «شيئاً» إمَّا مصدرٌ، أي: شيئاً من العلم، وإمَّا مفعولٌ به. والعِلْمُ هنا العِرْفان. وقد تقدَّم الكلامُ في «أمَّهاتكم» في النساء.

قوله: «وَجَعَلَ» يجوز أن يكونَ معطوفاً على «أَخْرجكم» فيكونَ داخلاً فيما أَخْبر به عن المبتدأ، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً. والأَفْئِدَةُ: جمعُ «فؤاد» وقد تقدَّم. وقال الرازي: «إنما جُمِعَ جَمْعَ قِلَّة؛ لأنَّ أكثرَ الناسِ مشغولون بأفعالٍ بهيمية فكأنهم لا فؤادَ لهم» . وقال الزمخشري: «إنه من الجموع التي استُعْمِلت للقلة والكثرة، ولم يُسمع فيها غيرُ القلة، نحو:» شُسُوع «فإنها للكثرة، ويستعمل في القِلة، ولم يُسْمَع غيرُ شُسُوع» . كذا قال، وفيه نظر. سُمِع منهم «أَشْسَاع» فكان ينبغي أن يقول: غَلَبَ شُسُوع.

79

قوله تعالى: {مَا يُمْسِكُهُنَّ} : يجوز أن تكون الجملةُ حالاً من الضمير المستتر في «مُسَخَّراتٍ» ، ويجوز ان تكونَ من «الطير» ، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً.

80

قوله تعالى: {سَكَناً} : يجوز أن يكونَ مفعولاً اولَ، على أنَّ الجَعْلَ تصييرٌ، والمفعولُ الثاني أحدُ الجارَّيْنِ قبله. ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى الخَلْقِ فيتعدَّى لواحدٍ. وإنما وَحَّد السَّكن لأنه بمعنى ما تَسْكُنُون فيه، قاله أبو البقاء: وقد يُقال: إنه في الأصل مصدرٌ، وإليه ذهب ابن عطية فتوحيدُه واضحٌ. إلا أنَّ الشيخ منه كونَه مصدراً، ولم يذكر

وَجْهَ المنعِ، وكأنه اعتمد على قولِ أهل اللغة أن «السَّكَن» فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبْضِ والنَّقَض بمعنى المقبوض والمنقوض، وأنشد الفراء: 300 - 8- جاء الشتاءُ ولَمَّا أتخِذْ سَكَناً ... يا ويحَ نفسي مِنْ حَفْرِ القراميصِ قوله: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو بفتح العين؛ والباقون بإسكانها، وهما لغتان بمعنىً كالنَّهْر والنَّهَر. وزعم بعضُهم أن الأصلَ الفتحُ، والسكونُ تخفيفٌ لأجلِ حرفِ الحلق كالشَّعْر في الشعَر. قوله: {أَثَاثاً} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ عطفاً على «بُيوتاً» ، أي «وَجَعَلَ لكم من أصوافِها أثاثاً، وعلى هذا فيكونُ قد عطف مجروراً على مجرور ومنصوباً على منصوبٍ، ولا فَصْلَ هنا بين حرفِ العطفِ والمعطوف حينئذٍ. وقال أبو البقاء:» وقد فُصِلَ بينه وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور وهو قولُه {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} ، وهو ليس بفصلٍ مستقبَحٍ كما زعم في «الإِيضاح» ؛ لأنَّ الجارَّ والمجرورَ مفعول، وتقديمُ / مفعولٍ على مفعولٍ قياسٌ «. وفيه نظرٌ؛ لِما عَرَفْتَ من أنه عَطْفُ مجرورٍ على مثلِه ومنصوبٍ على مثله. والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ، ويكون قد عَطَفَ مجروراً على مثلِه، تقديرُه: وجَعَل لكم مِنْ جلودِ الأنعام ومِنْ أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها بيوتاً

حالَ كونِها أثاثاً، فَفَصَل بالمفعول بين المتعاطفين. وليس المعنى على هذا، إنما هو على الأول. وقوله: {كَلَمْحِ البصر} [النحل: 77] : اللَّمْحُ مصدرُ لَمَحَ يَلْمَح لَمْحاً ولَمَحاناً، أي: أَبْصَرَ بسرعة. وقيل: أصلُه من لَمْحِ البرق، وقولهم» لأُرِيَنَّك لَمْحاً باصراً «، أي: أمراً واضحاً. وقوله: {فِي جَوِّ السمآء} [النحل: 79] : الجَوُّ: الهواء، وهو ما بين السماءِ والأرض. قال: 300 - 9- فلستَ لإِنْسيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء يَصُوبُ وقيل: الجَوُّ ما يلي الأرضَ في سَمْتِ العُلُوِّ، واللُّوح والسُّكاك أبعدُ منه. وقوله:» ظَعْنِكم «مصدرُ ظَعَن، أي: ارْتَحَلَ، والظَّعِيْنَةُ الهَوْدَجُ فيه المرأةُ، وإلا فهو مَحْمَلٌ، ثم كَثُر حتى قيل للمرأة، ظَعينة. وقال أهل اللغة: الأصوافُ للضَّأْن، والأَوْبار للإِبِل، والشَّعْر للمَعِز. والأَثاث: مَتاعُ البيت إذا كان كثيراً. وأصلُه مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ إذا كَثُفا وتكاثرا. قال امرؤ القيس: 301 - 0-

وفَرْعٍ يُغْشَي المَتْنَ أسودَ فاحمٍ ... أثيثٍِ كقِنْوِ النخلةِ المُتَعَثْكِلِ ونساء أَثائِثُ، أي: كثيراتُ اللحمِ، كأنَّ عليهن أَثاثاً، وتَأَثَّث فلانٌ: كَثُر أثاثُه. وقال الزمخشري:» الأثاث ما جَدَّ مِنْ فَرْشِ البيت، والخُرْثِيُّ: ما قَدُم منها «، وأنشد: 301 - 1- تقادَم العهدُ مِنْ أُمِّ الوليد بنا ... دَهْراً وصار أثاثُ البيتِ خُرْثِيَّا وهل له واحدٌ من لفظه؟ فقال الفراء: لا. وقال أبو زيد: «واحدة: أَثاثَةٌ، وجمعُه في القلَّة» أثِثَّة، كبَتات وأَبِتَّة «. قال الشيخ:» وفي الكثير على «أَثَثٍ» . وفيه نظر؛ لأنَّ فَعالاً المُضَعَّف يلزمُ جَمْعُه على أَفْعِلَة في القلة والكثرة، ولا يُجْمع على فُعُل إلا في لفظتين شَذَّتا، وهما: عُنُن وحُجُج جمع عِنان وحِجاج، وقد نصَّ النحاة على مَنْع القياس عليهما، فلا يجوز: زِمام وزُمُم بل أَزِمَّة. وقال الخليل: «الأَثَاثُ والمَتاع واحدٌ، وجُمِع بينهما لاختلافِ لَفْظَيْهما كقوله: 301 - 2-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا [وقوله] : 301 - 3-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ

81

قوله تعالى: {أَكْنَاناً} : جمع «كِنّ» وهو ما حَفِظ مِن الريح والمطرِ، وهو في الجبل: الغار. قوله: {تَقِيكُمُ الحر} قيل: حُذِف المعطوفُ لفَهْمِ المعنى، أي: والبردَ كقوله: 301 - 4- كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأمامِها ... إذا نَجَلَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسرا أي: ويدُها، وقيل: لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ بلادَهم حارَّة. وقال الزجاج: «اقتصر على ذِكْر الحرِّ؛ لأنَّ ما يقيه يَقي البردَ» . وفيه نظرٌ للاحتياجِ إلى زيادةٍ كثيرةٍ لوقاية البرد. قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ} أي: مِثْلَ ذلك الإِتمامِ السابقِ يُتِمُّ نعمتَه عليكم في المستقبل. وقرأ ابن عباس: «تَتِمُّ» بفتح التاءِ الأولى، «نِعْمَتُه» بالرفع على الفاعلية. وقرأ أيضاً «نِعَمه» جمع «نعمة» مضافةً لضميرِ الله تعالى. وعنه: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} بفتح التاءِ واللامِ مضارع «سَلِم» من

السَّلامة، وهو مناسبٌ لقولِه {تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} ؛ فإنَّ المرادَ به الدُّروعُ الملبوسةُ في الحرب.

82

قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يجوز أن يكونَ ماضياً، ويكون التفاتاً مِن الخطاب المتقدَّم، وأن يكونَ مضارعاً، والأصل: تَتَوَلَّوا بتاءَيْن فحذف نحو: {تَنَزَّلُ} [القدر: 4] و {تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] ، ولا التفاتَ على هذا بل هو جارٍ على الخطابِ السابق. قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} هو جوابُ الشرط، وفي الحقيقة جوابُ الشرطِ محذوفٌ، أي: فأنتَ معذورٌ، وإنما ذلك على إقامةِ السببِ مُقامَ المسبب؛ وذلك لأنَّ تبليغَه سببٌ في عُذْرِه، فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّب.

83

قوله تعالى: {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} : جِيْءَ ب «ثُمَّ» هنا للدلالةِ على أنَّ إنكارَهم أمرٌ مستبعدٌ بعد حصولِ المعرفة؛ لأنَّ مَنْ عَرَفَ النعمة حَقُّه أن يَعْتَرِفَ لا أَنْ يُنْكِرَ.

84

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بإضمارِ اذكر. الثاني: بإضمارِ «خَوِّفْهم» . الثالث: تقديره: ويوم نَبْعَثُُ وقعوا في أمرٍ عظيم. الرابع: أنه معطوفٌ على ظرفٍ محذوف، أي: ينكرونها اليومَ ويوم نَبْعَثُ. /قوله: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ} قال الزمخشري: «فإن قلتَ: ما معنى» ثم «

هذه؟ قلت: معناه أنهم يُمَنَّوْن بعد شهادةِ الأنبياء بما هو أَطَمُّ منه، وهو أنهم يُمْنَعُون الكلام، فلا يُؤْذَنُ لهم في إلقاءِ مَعْذرةٍ ولا إدلاءٍ بحجةٍ» . انتهى. ومفعولُ الإِذنِ محذوفٌ، أي: لا يُؤْذَنُ لهم في الكلامِ، كما قاله الزمخشري، أو: في الرجوعِ إلى الدنيا. قوله: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا تُزال عُتْباهم، وهي ما يُعْتَبُون عليها ويُلامون. يقال: اسْتَعْتَبْتُ فلاناً بمعنى أَعْتَبْتُه، أي: أزلت عُتْباه، واستفعل بمعنى أَفْعل غيرُ مُسْتَنْكَرٍ. قالوا: اسْتَدْنَيْتُ فلاناً، وأَدْنَيْتُه، بمعنىً واحد. وقيل: السين على بابها من الطلب، ومعناه: أنهم لا يُسْأَلون أن يَرْجِعُوا عَمَّا كانوا عليه في الدنيا، فهذا استعتابٌ معناه طَلَبُ عُتْباهم. وقال الزمخشري: «ولا هم يُسْتَرْضَوْن أي: لا يُقال لهم: أَرْضُوا ربَّكم؛ لأن الآخرةَ ليست بدارِ عملٍ» . وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ إن شاء الله في سورة حم السجدة؛ لأنه أَلْيَقُ به لاختلافِ القرَّاء فيه.

85

قوله تعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ} : هذه الفاءُ وما في حيِّزِها جوابُ «إذا» ولا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ قبلَ هذه الفاءِ، أي: فهو لا يُخَفَّفُ، لأنَّ جوابَ «إذا» متى كان مضارعاً لم يَحْتَجْ إلى فاءٍ سواءً كان موجَباً كقولِه تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ} [الحج: 72] أم منفيَّاً نحو: «إذا جاء زيدٌ لا يكرُمك» .

87

قوله تعالى: {السلم} : العامَّةُ على فتحِ السين واللام وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ اللامِ. ومجاهدٌ بضم السين واللام. وكأنه جمع «سَلام» نحو قَذَال وقُذُل، والسَّلام والسَّلَم واحدٌ، وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء.

88

قوله تعالى: {الذين كَفَرُواْ} : يجوز أن يكونَ مبتدأً، والخبرُ «زِدْناهم» وهو واضحٌ. وجوَّز ابنُ عطية أن يكونَ {الذين كَفَرُواْ} بدلاً مِنْ فاعلِ «يَفْتَرُوْن» ، ويكون «زِدْناهم» مستأنفاً. ويجوز أن يكونَ {الذين كَفَرُواْ} نصباً على الذمِّ أو رفعاً عليه، فَيُضْمَرُ الناصبُ والمبتدأُ وجوباً.

89

قوله تعالى: {تِبْيَاناً} : يجوز أن يكونَ في موضعِ الحال، ويجوز أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله وهو مصدرٌ، ولم يَجِيءْ من المصادرِ على هذه الزِّنَةِ إلا لفظان: هذا وتِلْقاء، وفي الأسماء كثيرٌ نحو: التِّمْساح والتِّمْثال. وأمَّا المصادرُ فقياسُها فتحُ الأولِ دلالةً على التكثير كالتِّطواف والتِّجْوال. وقال ابن عطية: «إن التِّبْيان اسمٌ وليس بمصدرٍ» ، والنَّحْويون على خلافِه. قوله: «للمُسْلمين» متعلقٌ ب «بُشْرَى» وهو متعلقٌ من حيث المعنى ب {وَهُدًى وَرَحْمَةً} أيضا. وفي جوازِ كونِ هذا من التنازعِ نظرٌ من حيث لزومُ الفصلِ بين المصدرِ معمولِه بالمعطوفِ حالَ إعمالِك غيرَ الثالِث فتأمَّله. وقياسُ مَنْ جَوَّز التنازعَ في فعلِ التعحبِ والتزم إعمال الثاني لئلا يَلْزَمَ الفصلُ أن يُجَوِّز هذا على هذه الحالةِ.

90

قوله تعالى: {وَإِيتَآءِ ذِي القربى} : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ولم يَذْكر متعلِّقاتِ العدلِ والإِحسانِ والبَغْي لِيَعُمَّ جميعَ ما يُعْدَلُ فيه، ويُحْسَنُ به إليه، ويُبغى فيه؛ فلذلك لم يذكُرِ المفعولَ الثاني للإِيتاء، ونَصَّ على الأول حَضَّاً عليه لإِدلائه بالقرابة، فإنَّ إيتاءَه صدقَةٌ وصِلَةٌ. قوله: «يَعِظُكم» يجوز ان يكونَ مستأنفاً في قوة التعليل للأمرِ بما تقدَّم، أي: إنَّ الوعظَ سببٌ في أمره لكم بذلك. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً من الضمير في «يَنْهَى» ، وفي تخصيصِه الحالَ بهذا العاملِ فقط نظرٌ؛ إذ يظهرُ جَعْلُه حالاً مِنْ فاعل «يأمرُ» أيضاً، بل أَوْلى؛ فإن الوعظ يكونُ بالأوامر والنواهي، فلا خصوصيةَ له بالنهي.

91

قوله تعالى: {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} : متعلقٌ بفعل النهي. والتوكيدُ مصدرُ وَكَّدُ يُوَكِّدُ بالواو، وفيه لغةٌ أخرى: أَكَّد يُؤَكِّد بالهمز، وهذا كقولِهم: وَرَّخْتُ الكتابَ وأرَّخْتُه، وليست الهمزة بدلاً من واوٍ كما زعم أبو إسحق؛ لأنَّ الاستعمالين في المادتين متساويان، فليس ادِّعاءُ كونِ أحدهما أصلاً أَوْلَى من الآخر. وتبع مكيٌّ الزجاجَ في ذلك ثم قال: «ولا يَحْسُن أَنْ يقال: الواوُ بدلٌ من الهمزة، كما لا يَحْسُنُ أن يقالَ ذلك في» أَحَد «؛ إذ أصلُه» وَحَد «، فالهمزةُ بدل من الواو» . يعني أنه لا قائلَ بالعكس، وكذلك تَبِعه في ذلك الزمخشري أيضاً. و «تَوْكِيدها» مصدرٌ/ مضافٌ لمفعوله.

وأدغم أبو عمروٍ الدالَ في التاء، ولا ثانيَ له في القرآنِ، أعني أنه لم تُدْغَمْ دالٌ مفتوحةٌ بعد ساكنٍ إلا في هذا الحرفِ. قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ} الجملةُ حالٌ: إمَّا مِنْ فاعلِ «تَنْقُضوا» ، وأما من فاعلِ المصدرِ، وإن كان محذوفاً.

92

قوله تعالى: {أَنكَاثاً} : يجوز فيه وجهان، أظهرُهما: أنه حالٌ مِنْ «غَزْلها» . والأَنْكاث: جمعُ نِكْث بمعنى مَنْكوث، أي: منقوضٌ. والثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ لتضمين «نَقَضَتْ» معنى «صَيَّرَتْ» . وجَوَّز الزجاجُ فيه وجهاً ثالثاً وهو: النصبُ على المصدرية؛ لأنَّ معنى نَقَضَتْ: نَكَثَتْ، فهو مُلاقٍ لعاملِه في المعنى. قوله: «تَتَّخذون» يجوز أن تكونَ الجملةُ حالاً من واو «تكونوا» أو من الضمير المستتر في الجارِّ، إذ المعنى: لا تكونوا مُشْبهين كذا حالَ كونِكم متَّخذين. قوله: {دَخَلاً بَيْنَكُمْ} هو المفعولُ الثاني ل «تَتَّخذون» . والدَّخَل: الفسادُ والدَّغَلُ. وقيل: «دَخَلاً» : مفعولٌ من أجله. وقيل: الدَّخَل: الداخلُ في الشيءِ ليس منه. قوله: {أَن تَكُونَ} ، أي: بسبب أَنْ تكونَ، أو مخافةَ أَنْ تكونَ. و «تكون» يجوزُ أَنْ تكونَ تامةً، فتكون «أمَّةٌ» فاعلَها، وأن تكونَ ناقصةً، فتكون «أمَّةٌ» اسمَها، و «هي» مبتدأ، وأَرْبَى «خبرُه. والجملةُ في محلِّ

نصبٍ على الحال، على الوجه الأول، وفي موضعِ الخبرِ على الثاني. وجوَّز الموفيون أن تكونَ» أُمَّةٌ «اسمَها، و» هي «عمادٌ، أي: ضميرُ فَصْلٍ، و» أربَى «خبرُ» تكون «، والبصريون لا يُجيزون ذلك لأجل تنكيرِ الاسمِ، فلو كان الاسمُ معرفةً لجاز ذلك عندهم. قوله:» به «يجوز أن يعودَ الضميرُ على المصدر المنسبك مِنْ {أَن تَكُونَ} تقديره: إنما يَبْلُوكم الله بكونِ أُمَّة، أي: يختبركم بذلك. وقيل: يعودُ على» الربا «المدلولِ عليه بقولِه {هِيَ أَرْبَى} وقيل: على الكثرة، لأنها في معنى الكثير. قال ابن الأنباري:» لَمَّا كان تأنيثُها غيرَ حقيقي حُمِلَتْ على معنى التذكير، كما حُمِلت الصيحةُ على الصِّياح «ولم يتقدمْ للكثرةِ لفظٌ، وإنما هي مدلولٌ عليها بالمعنى مِنْ قوله {هِيَ أَرْبَى} .

94

قوله تعالى: {فَتَزِلَّ} : منصوبٌ بإضمار «أَنْ» على جوابِ النهي. قوله: {بِمَا صَدَدتُّمْ} : «ما» مصدريةٌ، و «صَدَدْتُمْ» يجوز أن يكونَ من الصُّدود، وأن يكونَ مِن الصَدِّ، ومفعولُه محذوفٌ. ونُكِّرت «قَدَمٌ» : قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ وُحِّدَتِ القَدَمُ ونُكِّرَتْ؟ قلت: لاستعظامِ أن تَزِلَّ قدمٌ واحدةٌ عن طريقِ الحق بعد أن ثَبَتَتْ عليه فكيف بأقدامٍ كثيرة» ؟ . قال الشيخ: «الجمع تارةً يُلْحَظُ فيه المجموعُ من حيث هو مجموعٌ، وتارةً يُلحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ. فإذا لُوْحظ فيه المجموعُ كان

الإِسنادُ معتبراً فيه الجمعيَّةُ، وإذا لُوْحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ كان الإِسناد مطابقاً للفظِ الجمع كثيراً، فيُجْمع ما أُسند إليه، ومطابقاً لكلِّ فردٍ فردٍ فيُفْرد، كقوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ} لمَّا كان لُوْحِظ في قوله» لهنَّ «معنى لكلِّ واحدة، ولو جاء مُراداً به الجمعيةُ أو الكثيرُ في الوجهِ الثاني لجُمِع المتكأ، وعلى هذا المعنى يُحمل قول الشاعر: 301 - 5- فإني وَجَدْتُ الضَّامِرينَ متاعُهمْ ... يَمُوْتُ ويَفْنَى فارْضِخِي مِنْ وعائيا أي: رأيتُ كلَّ ضامرٍ؛ ولذلك أَفْرَدَ الضميرَ في» يموتُ ويَفْنى «ولمَّا كان المعنى: لا يَتَّخِذُ كلُّ واحدٍ منكم جاء» فَتَزِلَّ قَدَمٌ «، مراعاةً لهذا المعنى، ثم قال: وتَذُوقْوا، مراعاةً للمجموع [أو] لِلَفْظِ الجمع على الوجهِ الكثيرِ إذا قلنا: إن الإِسنادَ لكل فردٍ فرد، فتكون الآية قد تعرَّضتْ للنهي عن اتخاذ الأَيْمَانِ دَخَلاً باعتبار المجموعِ، وباعتبارِ كل فردٍ فرد، ودَلَّ على ذلك بإفراد» قَدَم «وبجَمْعِ الضمير في» وتَذُوْقوا «. قلت: وبهذا التقديرِ الذي ذكره الشيخ يفوتُ المعنى الجَزْلُ الذي اقتنصَه أبو القاسم مِنْ تنكير» قَدَم «وإفرادها. وأمَّا البيتُ المذكورُ فإنَّ النَّحْويين خَرَّجوه على أن المعنى: يموت مَنْ ثُمَّ، ومَنْ ذُكِرَ، فأفرد الضميرَ لذلك لما لا لِما ذكر.

96

قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ} : مبتدأ وخبر. والنَّفَادُ:

الفناءُ والذِّهابُ يقال: نَفِذ بكسر العين يَنْفَذُ بفتحها نَفَاذاً ونُفُوذاً. وأمَّا «نَفَذَ» بالذالِ المعجمة فَفِعْلُه نَفذَ بالفتح يَنْفُذُ بالضم، وسيأتي. ويُقال: أَنْفَد القومُ. فَنِي زادُهم، وخَصْمٌ مُنافِدٌ، لِيَنْفِد حجةَ صاحبِه، يقال: نافَدْتُه فَنَفِدْتُه. وقوله «باقٍ» قد تقدَّم الكلامُ في الوقف عليه في الرعد. قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين} قرأ ابن كثير وعاصم وابن ذكوان {وَلَنَجْزِيَنَّ} بنونِ العظمة، التفاتاً من الغَيْبة إلى التكلم. وتقدَّم تقريرُ الالتفاتِ. والباقون بياء الغَيْبة رجوعاً إلى الهِ لتقدُّم ذكرِه العزيز في قولِه تعالى / {وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} . وقوله: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ} يجوز أن تكونَ أَفْعَل على بابِها من التفضيل، وإذا جازاهم بالأحسنِ فَلأَنْ يُجازِيَهم بالحَسَن من باب الأَوْلَى. وقيل: ليسَتْ للتفضيلِ، وكأنهم فَرُّوا مِنْ مفهومِ أفْعل؛ إذ لا يلزم من المجازاةِ بالأحسنِ المجازاةُ بالحَسَن. وهو وَهْمٌ لما تقدَّم مِنْ أنه مِنْ مفهوم الموافقة بطريق الأَوْلى.

97

قوله تعالى: {مِّن ذَكَرٍ} : «مِنْ» للبيان فتتعلقُ بمحذوفٍ، أي: أَعْنِي مِنْ ذَكَر. ويجوزُ أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل «عَمِل» . قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} جملةٌ حاليةٌ أيضاً.

قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} راعى معنى «مَنْ» فَجَمع الضميرَ بعد أن راعَى لفظَهَا فَأَفْرَدَ في «فَلَنُحْيِيَنَّهُ» وما قبله، وقرأ العامَّةُ «وَلَجْزِيَنَّهم» بنونِ العظمةِ مراعاةً لِما قبله. وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ بياء الغيبة، وهذا ينبغي أن يكونَ على إضمارِ قَسَمٍ ثانٍ، فيكونَ من عطفِ جملةٍ قَسَميةٍ على قَسَمِيةٍ مثلِها، حُذفتا وبقي جواباها. ولا جائزٌ أن يكونَ مِنْ عطفِ جوابٍ على جواب لإِفضائِه إلى أخبارِ المتكلم عن نفسِه بإخبار الغائب، وهو لا يجوزُ. لو قلت: «زيد قال: واللهِ لأَضْرِبَنَّ هنداً ولَينفينَّها» تريد: ولَينفينَّها زيدٌ، لم يَجُزْ. فإن أَضْمَرْت قسماً آخرَ جاز، أي: وقال: واللهِ لينفينَّها؛ لأنَّ لك في مثلِ هذا التركيبِ أن تحكيَ لفظه، ومنه {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} [التوبة: 107] وأن تحكيَ معناه، ومنه {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} [التوبة: 74] ولو جاء على اللفظ لقيل: ما قلنا.

98

قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ} أي: فإذا أَرَدْتَ، فأضمرتَ الإِرادةَ. قال الزمخشري: «لأنَّ الفعلَ يوجد عند القصدِ والإِرادةِ من غير فاصلٍ وعلى حسبِه، فكان منه بسببٍ قوي وملابسةٍ ظاهرة» . وقال ابن عطية: «ف» إذا «وَصْلةٌ بين الكلامين، والعربُ تستعملها في مثل

هذا، وتقدير الآية: فإذا أَخَذْتَ في قراءةِ القرآن فاسْتَعِذْ» . قلت: وهذا هو مذهبُ الجمهورِ من القُرَّاء والعلماء، وقد أخذ بظاهرِ الآية، فاستعاذ بعد أن قرأ، من الصحابة أبو هريرة، ومن الأئمة مالك وابن سيرين، ومن القرَّاء حمزة.

100

قوله تعالى: {بِهِ مُشْرِكُونَ} : يجوز أن يعودَ الضميرُ على الشيطانِ، وهو الظاهرُ؛ لتتحدَ الضمائرُ. والمعنى: والذين هم مشركون بسببه. وقيل: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون باللهِ. ويجوز أن يعودَ على «ربهم» .

101

قوله تعالى: {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} : في هذه الجملةِ وجهان، أظهرهما: أنها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابه. والثاني: أنها حاليةٌ، وليس بظاهرٍ. وقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} نسبوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الافتراءَ بأنواعٍ من المبالغات: الحصرِ والخطابِ واسمِ الفاعل الدالِّ على الثبوتِ والاستقرار. ومفعول «لا يَعْلمون» محذوفٌ للعلمِ به، أي: لا يعلمون أنَّ في نَسْخِ الشرائعِ وبعضِ القرآنِ حِكَماً بالغة.

102

قوله تعالى: {لِيُثَبِّتَ} : متعلقٌ ب «نَزَّله» . و «هدى وبشرى» يجوز أَنْ يكونا عطفاً على محلِّ «ليُثَبِّتَ» فيُنْصبان، أو على لفظِه باعتبارِ المصدرِ المُؤَوَّل فَيُجَرَّان. وقد تقدَّم كلامُ الزمخشريِّ في نظيرِهما، وما رَدَّ به الشيخُ، وما رُدَّ به عليه. وجوَّز أبو البقاء ارتفاعَهما خَبَرَيْ مبتدأ محذوفٍ، أي: وهو هُدَىً، والجملةُ حالٌ.

وقرئ «لِيُثْبِتَ» مخففاً مِنْ أَثْبتَ.

103

قوله تعالى: {لِّسَانُ الذي} : العامَّة على إضافة «لسان» إلى ما بعدَه. واللِّسانُ: اللغة. وقرأ الحسن «اللسان» معرَّفاً بأل، و «الذي» نعتٌ له. وفي هذه الجملة وجهان، أحدُهما: لا محلَّ لها لاستئنافِها، قاله الزمخشري. والثاني: أنها حالٌ مِنْ فاعل «يقولون» ، أي: يقولون ذلك والحالُ هذه، أي: عِلْمُهم بأعجميةِ هذا البشرِ وإبانةِ عربيَّةِ هذا القرآنِ كان ينبغي أَنْ يمنَعهم من تلك المقالةِ، كقولِك: «تَشْتُمُ فلاناً وهو قد أحسنَ إليك» ، أي: وعِلْمُك بإحسانِه إليك كان يمنعُك مِنْ شَتْمِهِ، قاله الشيخ. ثم قال: «وإنما ذهب إلى الاستئنافِ لا إلى الحالِ؛ لأنَّ مِنْ مذهبِه أنَّ مجيءَ الحالِ اسميةً من غيرٍ واوٍ شاذٌ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ تَبِع فيه الفراءَ» . و «أعجميٌّ» خبرٌ على كلتا القراءتين. والأعجميُّ: مَنْ لم يتكلَّمْ بالعربية. وقال الراغب: «العَجَمُ خلافُ العرب، والعجميُّ منسوبٌ إليهم، والأَعْجَم مَنْ في لسانِه عُجْمَةٌ عربياً كان أو غيرَ عربي؛ اعتباراً بقلة فَهْمِه من العُجْمة. والأعجميُّ منسوبٌ إليه، ومنه قيل للبهيمة» عَجْماءُ «من حيث

إنها لا تُبِيْنُ، و» صلاةُ النهارِ عَجْماء «، أي: لا يُجْهَرُ فيها. والعَجَمُ: النَّوَى لاختفائِه. وحروف المعجم، قال الخليل:» الحروفُ المقطَّعة لأنها أعجمية «قال بعضهم: معناه أنَّ الحروفَ المجردة لا تَدُلُّ على ما تَدُلُّ عليه الموصولةُ. وأَعْجمتُ الكتاب ضِدُّ أَعْرَبْتُه، وأَعْجَمْتُه: أَزَلْتُ عُجْمَتَه كَأَشْكَيْتُه، أي: أَزَلْتُ شِكايتَه، وسيأتي لهذا أيضاً مزيدُ بيانٍ إنْ شاء الله في الشعراء، وحم السجدة. وتقدَّم خلافُ القرَّاءِ في» يُلْحِدُون «في الأعراف.

106

قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بالله} : يجوز فيه أوجهُ، أحدُها: أن يكونَ بدلاً من {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} ، أي: إنما يفترى الكذبَ مَنْ كفر. الثاني: أنه بدلٌ مِنَ «الكاذبون» . والثالث: / مِنْ «أولئك» قاله الزمخشريُّ، فعلى الأولِ يكون قولُه {وأولئك هُمُ الكاذبون} جملةً معترضةً بين البدلِ والمُبْدلِ منه. واستضعف الشيخُ الأوجهَ الثلاثةَ فقال: «لأنَّ الأولَ يقتضي أنه لا يَفْتري الكذبَ إلا مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه، والوجودُ يَقْضي أنَّ المفتريَ مَنْ لا يؤمن، سواءً كفر بالله من بعدِ إيمانِه، أم لا، بل الأكثرُ الثاني وهو المفتري» قال: «وأمَّا الثاني فَيَؤُوْل المعنى إلى ذلك؛ إذ التقديرُ: وأولئك: أي: الذين لا يؤمنون هم مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه، والذين

لا يؤمنون هم المُفْترون. وأمَّا الثالثُ فكذلك؛ إذ التقديرُ: إنَّ المشارَ إليهم هم مَنْ كفرَ بالله من بعد إيمانه، مُخْبراً عنهم بأنهم الكاذبون» . الوجه الرابع: أن ينتصبَ على الذمِّ، قاله الزمخشري. الخامس: أن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ على الذمِّ أيضاً. السادس: أن يرتفعَ على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ، تقديره: فعليهم غضبٌ لدلالةِ ما بعد «مَنْ» الثانيةِ عليه. السابع: أنها مبتدأٌ أيضاً، وخبرُها وخبرُ «مَنْ» الثانيةِ أيضاً قولُه {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} ، قاله ابن عطية، قال: «إذ هو واحدٌ بالمعنى؛ لأنَّ الإِخبارَ في قولِه {مَن كَفَرَ بالله} إنما قَصَدَ به الصنفَ الشارحَ بالكفر» . قال الشيخ: «وهذا وإنْ كان كما ذكر، إلا أنهما جملتان شرطيتان، وقد فُصِل بينهما بأداةِ الاستدراك، فلا بد لكلِّ واحدةٍ منهما على انفرادِها مِنْ جوابٍ لا يشتركان فيه، فتقديرُ الحَذْفِ أَجْرَى على صناعةِ الإِعرابِ، وقد ضَعَّفوا مذهبَ الأخفشِ في ادِّعائه أنَّ قولَه {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 91] ، وقولُه {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] جوابُ» أمَّا «، و» إنْ «هذا، وهما أداتا شرط وَلِيَتْ إحداهما الأخرى» .

الثامن: أن تكونَ «مَنْ» شرطيةً وجوابُها مقدرٌ تقديره: فعليهم غضبٌ؛ لدلالةِ ما بعد «مَنْ» الثانيةِ عليه. وقد تقدَّم أن ابنَ عطية جَعَلَ الجزاءَ لهما معاً، وتقدَّم الكلامُ معه فيه. قولِه: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مستثنى مقدَّمٌ مِنْ قولِه {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله} ، وهذا يكونُ فيه منقطعاً؛ لأنَّ المُكْرَه لم يَشْرَحْ بالكفرِ صدراً. وقال أبو البقاء: «وقيل: ليس بمقدَّمٍ فهو كقول لبيد: 301 - 6- ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فظاهرُ كلامِه يَدُلُّ على أنَّ بيتَ لبيدٍ لا تقديمَ فيه، وليس كذلك فإنه ظاهرٌ في التقديمِ جداً. الثاني: أنه مستثنى مِنْ جوابِ الشرط، أو مِنْ خبر المبتدأ المقدر، تقديرُه: فعليهمْ غضبٌ من الله إلا مَنْ أُكْرِه، ولذلك قَدَّر الزمخشري جزاءَ الشرط قبل الاستثناء، وهو استثناءٌ متصلٌ؛ لأنَّ الكفرَ يكون بالقولِ مِنْ غير اعتقادٍ كالمُكْرَه، وقد يكون - والعياذُ بالله - باعتقادٍ، فاستثنى الصِّنفَ الأول. قوله: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} جملةٌ حاليةٌ، أي: إلا مَنْ أُكْرِهَ في هذه الحالةِ. قوله: {ولكن مَّن شَرَحَ} الاستدراكُ واضحٌ؛ لأنَّ قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ}

قد يَسْبق الوهمُ إلى الاستثناء مطلقاً فاستدرك هذا. وقولُه {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} لا ينفي ذلك الوهم. و «مَنْ» : إمَّا شرطيةٌ أو موصولةٌ، ولكن متى جُعِلَتْ شرطيةً فلا بدُّ من إضمارِ مبتدأ قبلها؛ لأنه لا يليها الجملُ الشرطيةُ، قاله الشيخ ثم قال: «ومثلُه: 301 - 7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولكن متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أَرْفِدِ أي: ولكن أنا متى يَسْتَرْفد» وإنما لم تقعِ الشرطيةُ بعد «لكن» لأنَّ الاستدراكَ لا يقع في الشُّروط. هكذا قيل، وهو ممنوع.

107

قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمُ} : مبتدأ وخبر، كنظائرَ مَرَّتْ، والإِشارةُ ب «ذلك» إلى ما ذُكِرَ من الغضبِ والعذاب؛ ولذلك وُحِّد كقوله: {بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] و [قولِه] 301 - 8- كأنه في الجِلْدِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد مَرَّ ذلك.

110

قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ} : في خبر «إنَّ» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، إنه قولُه {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، و {إِنَّ رَبَّكَ} الثانيةُ واسمُها تأكيدٌ للأولى واسمِها، فكأنه قيل: ثم إنَّ ربَّك إنَّ ربَّك لغفورٌ

رحيم، وحينئذٍ يجوز في قولِه «للذين» وجهان: أن يتعلَّقَ بالخبرين على سبيل التنازعِ، أو بمحذوفٍ على سبيلِ البيان كأنه قيل: الغُفرانُ والرحمةُ للذين هاجرُوا. الثاني: أن الخبرَ هو نفسُ الجارِّ بعدها كما تقول: إنَّ زيداً لك، أي: هُوَ لك لا عليك بمعنى هو ناصرُهم لا خاذِلُهم، قال معناه الزمخشريُّ [ثم قال «كما يكون المَلِكُ للرجل لا عليه، فيكون مَحْمِيَّاً مَنْفُوْعاً] . الثالث: أن خبرَ الأولى مستغنى عنه بخبر الثانية، / يعني أنه محذوفٌ لفظاً لدلالةِ ما بعده عليه، وهذا معنى قولِ أبي البقاء:» وقيل: لا خبرَ ل «إنَّ» الأولى في اللفظ؛ لأنَّ خبرَ الثانيةِ أغنى عنه «وحينئذٍ لا يَحْسُنُ رَدُّ الشيخِ عليه بقوله:» وهذا ليس بجيدٍ أنه أَلْغَى حكمَ الأولى، وجَعَلَ الحكمَ للثانيةِ، وهو عكسُ ما تقدَّمَ ولا يجوز «. قولِه: {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} قرأ ابنُ عامر» فَتَنوا «مبنياً للفاعل، أي: فَتَنُوا أَنْفُسَهم، فإن عاد الضميرُ على المؤمنين فالمعنى: فَتَنُوا انفسَهم بما أَعْطَوا المشركين من القولِ ظاهراً، أو أنهم لَمَّا صبروا على عذابِ المشركين فكأنهم فَتَنُوا أنفسَهم، وإنْ عاد على المشركين فهو واضحٌ، أي: فتنُوا المؤمنين. والباقون» فُتِنُوا «مبنياً للمفعول. والضميرُ في» بعدها «للمصادرِ المفهومةِ من الأفعالِ المتقدمةِ، أي: مِنْ بعد الفتنةِ والهجرةِ والجهادِ والصبرِ. وقال

ابن عطية:» عائدٌ على الفتنةِ أو الفَعْلة أو الهجرة أو التوبة «.

111

قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي} : يجوز أَنْ ينتصبَ ب «رحيم» ، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تقييدُ رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رَحِم في هذا اليوم فرحمتُه في غيرِه أَوْلَى وأحْرَى، وأن ينتصِبَ ب «اذكر» مقدرةً، وراعى معنى «كل» فأنَّثَ الضمائر في قوله «تجادل» إلى آخره، ومثلُه: 301 - 9- جادَتْ عليه كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلا أنَّه زاد في البيت الجمعَ على المعنى، وقد تقدَّم ذلك أولَ هذا الموضوع. وقوله {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} حَمَلَ على المعنى فلذلك جَمَعَ.

112

قوله تعالى: {والخوف} : العامَّةُ على جَرِّ «الخوف» نسقاً على «الرجوع» ، ورُوي عن أبي عمرو نصبُه، وفيه أوجه، أحدها: أن يُعطف على «لباس» . الثاني: أن يُعْطَفَ على موضعِ «الجوع» ؛ لأنه مفعولٌ في المعنى للمصدرِ. التقدير: «أَنْ أَلْبَسَهم الجوعَ والخوفَ» ، قاله أبو البقاء، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللباسَ اسمُ ما يُلْبَسُ، وهو استعارةٌ بليغةٌ كما سأنبِّهك عليه. الثالث: أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ قاله أبو الفضل الرازي. [الرابع: أن يكونَ حَذْفِ مضافٍ، أي:] ولباس

الخوف، ثم حُذِف وأقيم [المضافُ إليه] مُقامَه قاله الزمخشري. ووجه الاستعارةِ ما قاله الزمخشري، فإنه قال: «فإن قُلْتَ، الإِذاقةُ واللباسُ استعارتان فما وجهُ صحتِهما؟ والإِذاقةُ المستعارةُ مُوَقَّعَةٌ على اللباس المستعار فما وجهُ صحةِ إيقاعِها عليه؟ قلت: الإِذاقَةُ جَرَتْ عندهم مَجْرَى الحقيقةِ لشيوعِها في البلايا والشدائد وما يَمَسُّ الناسَ منها، فيقولون، ذاقَ فلانٌ البؤْسَ والضُّرَّ، وإذاقة العذابُ، شَبَّه ما يُدْرِكُ مِنْ أثرِ الضررِ والألمِ بما يُدْرِكُ مِنْ طَعْمِ المُرِّ والبَشِع، وأمَّا اللباسُ فقد شبَّه به لاشتمالِه على اللابسِ ما غَشِيَ الإِنسانَ والتبس به من بعض الحوادث. وأمَّا إيقاعُ الإِذاقةِ على لباسِ الجوعِ والخوفِ فلأنه لمَّا وقع عبارةً عَمَّا يُغْشَى منهما ويُلابَسُ، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غَشِيهم من الجوعِ والخوفِ. ولهم في هذا طريقان، أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له كما نَظَرَ إليه ههنا، ونحوُه قول كثيِّر: 302 - 0- غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكاً ... غَلِقَتْ لضَحْكَتِهِ رِقابُ المالِ استعار الرداءَ للمعروفِ لأنه يَصُون عِرْضَ صاحبِه صَوْتَ الرداءِ لِما يُلْقى عليه، ووصفَه بالغَمْرِ الذي هو وصفُ المعروفِ والنَّوال، لا وصفُ الرداء، نظراً إلى المستعار له. والثاني: أن ينظروا فيه المستعار كقوله: 302 - 1-

يُنازعني رِدائي عَبْدُ عَمْرٍو ... رُوَيْدَك يا أخا عمرِو بن بكر ليَ الشَّطْرُ الذي ملكَتْ يميني ... ودونَك فاعْتَجِر منه بِشَطْرِ أراد بردائِه سيفَه ثم قال:» فاعتجِرْ منه بِشَطْر «فنظر إلى المستعارِ في لفظِ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال:» فكساهُمْ لباسَ الجوعِ والخوف «، ولقال كثِّير:» ضافي الرداءِ إذا تبسَّم «. انتهى. وهذا نهايةُ ما يُقال في الاستعارة. وقال ابن عطية:» لمَّا باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى: 302 - 2- إذا ما الضَّجِيْعُ ثنى جِيْدَها ... تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا ومثلُه قولُه تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ/ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] ، ومثلُه قولُ الشاعر: 302 - 2- وقد لَبِسَتْ بعد الزبيرِ مُجاشِعٌ ... لباسَ التي حاضَتْ ولن تَغْسِل الدَّما كأنَّ العارَ لمَّا باشرهم ولصِقَ بهم كأنهم لَبِسُوه «. وقوله:» فأذاقهم «نظيرُ قولِه تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز

الكريم} [الدخان: 49] ، ونظيرُ قولِ الشاعر: 302 - 3- دونَكَ ما جَنَيْتَه فاحْسُ وذُقْ ... وفي قراءةِ عبد الله «فأذاقها اللهُ الخوفَ والجوعَ» ، وفي مصحف أُبَيّ «لباسَ الخوفِ والجوعِ» . وقوله: {بِأَنْعُمِ الله} أتى بجمعِ القلَّةِ، ولم يَقُلْ «بِنِعَمِ الله» جمعَ كثرةٍ تنبيهاً بالأدْنى على الأَعْلى؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى. و «أنْعُم» فيها قولان، أحدُهما: أنها جمعُ «نِعْمةٍ» نحو: شِدَّة: أَشُدّ. قال الزمخشري: «جمعُ» نِعمة «على تَرْكِ الاعتداد بالتاء كَدِرْع وأَدْرُع» . وقال قطرب: «هي جمع نُعْم، والنُّعْمُ: النَّعيم، يقال:» هذه أيامُ طُعْم ونُعْم «. وفي الحديث:» نادى مُنادي رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمَوْسِم بمنى: «إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُوموا» . قوله: {بِمَا كَانُواْ} يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً، أو بمعنى الذي، والعائدُ

محذوفٌ، أي: بسبب صُنْعهم أو بسببِ الذي كانوا يصنعونه. والواو في «يَصْنعون» عائدةٌ على أهل المعذَّب. قيل: قرية، وهي نظيرةُ قولِه {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] بعد قولِه {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} .

114

قوله تعالى: {واشكروا نِعْمَةَ الله} : صَرَّح هنا بالنعمة لتقدُّمِ ذِكْرها مع مَنْ كفر بها، ولم يَجِئْ ذلك في البقرة، بل قال: {واشكروا للَّهِ} [البقرة: 172] لمَّا لم يتقدمْ ذلك، وتقدَّم نظائرُها هنا.

116

قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} : العامَّةُ على فتحِ الكافِ وكسرِ الذالِ ونصب الباءِ. وفيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه منصوبٌ على المفعولِ به وناصبُه «تَصِفُ» و «ما» مصدريةٌ، ويكونُ معمولُ القولِ الجملةَ مِنْ قوله {هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} و {لِمَا تَصِفُ} علةٌ للنهي عن القول ذلك، أي: ولا تقولوا: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لأجل وَصْفِ ألسنتِكم الكذبَ، وإلى هذا نحا الزجَّاجُ والكسائيُّ، والمعنى: لا تُحَلِّلوا ولا تُحَرِّمُوا لأجلِ قولٍ تَنْطِقُ به ألسنتُكم من غير حُجَّةٍ. الثاني: أن ينتصِب مفعولاً به للقولِ، ويكون قوله: {هذا حَلاَلٌ} بدلاً مِنَ «الكذب» لأنه عينُه، أو يكون مفعولاً بمضمرٍ، أي: فيقولوا: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ، و {لِمَا تَصِفُ} علةٌ أيضاً، والتقديرُ: ولا تقولوا الكذب

لوصفِ ألسنتِكم. وهل يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازعِ على هذا الوجهِ، وذلك: أن القولَ يَطْلُبُ «الكذب» و «تَصِفُ» أيضاً يطلبه، أي: ولا تَقُولْوا الكذب لما تصفه ألسنتُكم؟ فيه نظرٌ. الثالث: أن ينتصِبَ على البدلِ من العائدِ المحذوف على «ما» إذا قلنا: إنها بمعنى الذي؛ التقدير: لِما تصفُه، ذكر ذلك الحوفيُّ وأبو البقاء. الرابع: أن ينتصبَ بإضمار أعني، ذكره أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، ولا معنى عليه. وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحةُ «الكذبِ» بالخفضِ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من الموصولِ، أي: ولا تقولوا لوصفِ ألسنتِكم الكذبِ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذبِ، جعله نفسَ الكذبِ لأنه هو. والثاني: ذكره الزمخشري أن يكون نعتاً ل «ما» المصدرية. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ النحاةَ نصُّوا على أن المصدرَ المنسبكَ مِنْ أنْ والفعلِ لا يُنْعَتُ، لا يُقال «يعجبني أن تخرجَ السريعُ» ولا فرقَ بين هذا وبين باقي الحروفِ المصدرية. وقرأ ابن أبي عبلة ومعاذ بن جبل بضمِّ الكاف والذال، ورفعِ الباءِ

صفةً للألسنة كصَبُور وصُبُر، أو جمع كاذِب كشارِف وشُرُف، أو جمع «كِذاب» نحو: كِتاب وكُتُب. وقرأ مَسْلَمَةُ بنُ محارِبٍ فيما نقله ابن عطية كذلك، إلا أنَّه نصب الباءَ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، ذكرها الزمخشري. أحدُها: أن تكونَ منصوبةً على الشتم، يعني وهي في الأصل نعتٌ للألسنة كما في القراءة قبلها. الثاني: أن تكون بمعنى الكَلِمِ الكواذب، يعني أنها مفعولٌ بها، والعامل فيها: إمَّا «تَصِفُ» ، وإمَّ القولُ / على ما مرَّ، أي: لا تقولوا الكَلِمَ الكواذبَ، أو لِمَا تَصِفُ ألسنتُكم الكلمَ الكواذبَ. الثالث: أن يكونَ جمع الكِذاب مِنْ قولِك «كَذِب كِذاباً» يعني فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه مِنْ معنى وَصْفِ الألسنةِ فيكون نحو: كُتُب في جمع كِتاب، وقد قرأ الكسائيُّ: {وَلاَ كِذَاباً} بالتخفيف كما سيأتي في النبأ. قوله: «لِتَفْتَرُوا» في اللامِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: قال الواحدي: «إنه بدلٌ مِنْ {لِمَا تَصِفُ} لأنَّ وصفَهم الكذبَ هو افتراءٌ على الله» . قال الشيخ: «فهو على تقدير جَعْلِ» ما «مصدريةً، أمَّا إذا كانت بمعنى الذي فاللامُ فيها ليست للتعليل فَيُبْدل منها ما يُفْهِمُ التعليلَ، وإنما اللامُ في» لِما «متعلقةٌ ب» لا تقولوا «على حَدِّ تَعَلُّقِها في قولك: لا تقولوا لِما أَحَلَّ اللهُ: هذا

حرامٌ، أي: لا تُسَمُّوا الحَلالَ حراماً وكما تقول: لا تقلْ لزيدٍ عمراً، أي: لا تُطْلِقْ عليه هذا الاسمَ» . قلت: وهذا وإن كان ظاهراً، إلاَّ أنه لا يمنع من إرادةِ التعليل، وإنْ كانت بمعنى الذي. الثاني: أنها للصيرورة إذ لم يَفْعلوه لذلك الغرضِ. الثالث: أنها للتعليلِ الصريحِ، ولا يَبْعُدُ أن يَصْدُرَ مثلُ ذلك.

117

قوله تعالى: {مَتَاعٌ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مبتدأٌ، و «قليل» خبره، وفيه نظرٌ للابتداءِ بنكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغ. فإن ادُّعِي إضافتُه نحو: متاعُهم قليل، فهو بعيدٌ جداً. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: بَقاؤهم أو عيشُهم أو منفعتُهم فيما هم عليه.

118

قوله تعالى: {مِن قَبْلُ} : متعلِّقٌ ب «حَرَّمْنَا» أو ب «قَصَصْنَا» والمضافُ إليه «قبلُ» تقديرُه: ومِنْ قبلِ تحريمِنا على أهلِ مِلَّتِك.

119

قوله تعالى: {مِن بَعْدِهَا} : أي: مِنْ بعدِ عَمَلِ السوءِ والتوبةِ والإِصلاح، وقيل: على الجهالةِ. وقيل: على السوءِ؛ لأنه في معنى المعصيةِ. و «بجهالة» حالٌ مِنْ فاعل «عَمِلوا» .

120

قوله تعالى: {أُمَّةً} : تُطْلَقُ الأُمَّة على الرجل الجامع لخصالٍ محمودة. وقيل: فًعْلَةُ تدل على المبالغةِ، وإلى المعنى الأولِ نَظَر ابنُ هانئٍ في قوله: 302 - 4- وليس الله بمُسْتَنْكَرٍ ... أن يَجْمَعَ العالمَ في واحِدِ

121

قوله تعالى: {شَاكِراً} : يجوز أن يكونَ خبراً ثالثاً، او حالاً مِنْ أحدِ الضميرين في «قانِتاً» أو «حنيفاً» . قوله: «لأَنْعُمِهِ» يجوز تعلُّقه ب «شاكراً» أو ب «اجتباه» ، و «اجتباه» : إمَّا حالٌ، وإمَّا خبرٌ آخرُ ل كان. و {إلى صِرَاطٍ} يجوز تعلُّقُه ب «اجتباه» وب «هداه» على قاعدةِ التنازع.

123

قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ} : قال الزمخشري: «في» ثم «هذه ما فيها مِنْ تعظيم منزلتِهِ وأجلالِ مَحَلَّه، والإِيذانُ بأنَّ أَشْرَفَ ما أُوتي خليلُ الرحمنِ من الكرامةِ وأَجَلَّ ما أُولِيَ من النعمة اتِّباعُ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قِبَلِ أنها دَلَّتْ على تباعُدِ هذا النعتِ في الرتبةِ منْ بينِ سائرِ النُّعوت التي أثنى اللهُ عليه بها» . قوله: {أَنِ اتبع} يجوز أن تكونَ المفسِّرةَ، وأن تكونَ المصدريةَ فتكونَ مع منصوبِها مفعولَ الإِيحاء.

قوله: «حنيفاً» حالٌ، وتقدَّم تحقيقُه في البقرة. وقال ابن عطية: «قال مكي: ولا يكون - يعني حنيفاً - حالاً من» إبراهيم «لأنه مضافٌ إليه، وليس كما قال؛ لأن الحالَ قد تعمل فيها حروفُ الجرِّ إذا عَمِلَتْ في ذي الحال كقولِك» مررتُ بزيدٍ قائماً «. قلت: ما ذكره مكيٌّ من امتناعِ الحال من المضاف إليه فليس على إطلاقه لِما تقدَّم تفصيلُه في البقرة. وأمَّا قولُ ابن عطية: إن العاملَ الخافضُ فليس كذلك، إنما العاملُ ما تعلَّق به الخافضُ، ولذلك إذا حُذِفَ الخافضُ، نُصِبَ مخفوضُه.

124

قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ} : العامَّةُ على بنائِه للمفعول، وأبو حَيْوةَ على بنائِه للفاعلِ، «السَّبْتَ» مفعول به.

125

قوله تعالى: {ادع} : يجوز أن يكونَ مفعولُه مراداً، أي: ادعُ الناسَ، وأن لا يكونَ، أي: افعلِ الدعاءَ. و «بالحكمة» حالٌ، أي: ملتبساً بها.

126

قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ} : العامَّةُ على المُفاعلة، وهي بمعنى فَعَلَ كسافَر، وابنُ سيرين «عَقَّبْتم» بالتشديد بمعنى: قَفَّيْتُمْ فَقَفُّوا بمثلِ ما فُعِلَ بكم. وقيل: تتبَّعْتُم. والباءُ مُعَدِّيَةٌ، وفي قراءةِ ابنِ سيرين: إمَّا

للسببيةِ، وإمَّا مزيدةٌ. قوله: {لِّلصَّابِرينَ} يجوز أن يكونَ عامَّاً، أي: الصبرُ خيرٌ لجنسِ الصابرين، وأن يكونَ مِنْ وقوعِ الظاهر موقعَ المضمر، أي: صَبْرُكم خيرٌ لكم.

127

قوله تعالى: {إِلاَّ بالله} : أي بمعونتِهِ فهي للاستعانة. قوله: {فِي ضَيْقٍ} ابن كثير هنا، وفي النمل؛ بكسر الصاد، والباقون بالفتح. فقيل: لغتان بمعنىً في هذا المصدر، كالقَوْل والقِيْل. وقيل: المفتوحُ مخفَّفٌ من «ضَيِّق» كَمَيْت في «مَيِّت» ، أي: في أمرٍ ضَيِّق. ورَدَّه الفارسيُّ: بأنَّ الصفةَ غيرُ خاصةٍ بالموصوف فلا يجوز ادِّعاءُ الحذفِ، ولذلك جاز: «مررت بكاتبٍ» وامتنع «بآكلٍ» . قوله: {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} متعلقٌ ب «ضَيْق» . و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ.

الإسراء

قوله تعالى: {سُبْحَانَ} : قد تقدَّم الكلامُ عليه مستوفى أول البقرة. و «أَسْرى» و «سَرَى» لغتان، وقد تقدَّم الكلام عليهما في سورة هود، وأن بعضَهم خَصَّ «أَسْرى» بالليل. قال الزمخشري هنا: «فإن قلتَ: الإِسراءُ لا يكون إلا ليلاً فما معنى ذِكْرِ الليلِ؟ قلت: أراد بقوله» ليلاً «بلفظ التنكيرِ تقليلَ مدةِ الإِسراءِ، وأنه أُسْرِي به في بعضِ الليلِ من مكةَ إلى الشام مسيرةََ أربعين ليلةً؛ وذلك: أنَّ التنكيرَ دلَّ على البعضية، ويَشْهد لذلك قراءةُ عبدِ الله وحذيفة» من الليل «، أي: بعضه كقوله: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإِسراء: 79] . انتهى. فيكون» سَرى «و» أسْرى «ك» سَقَى «و» أَسْقى «والهمزةُ ليست للتعديةِ، وإنما المُعَدَّى الباءُ في» بعبده «، وقد تقدَّم أنها لا تَقْتضي مصاحبةَ الفاعلِ للمفعول عند الجمهور، في البقرة خلافاً للمبرد.

وزعم ابنُ عطية أنَّ مفعولَ» أَسْرى «محذوف، وأنَّ التعديةَ بالهمزة فقال:» ويَظْهر أنَّ «أَسْرى» مُعَدَّاةٌ بالهمزةِ إلى مفعولٍ محذوف، أي: أَسْرى الملائكةُ بعبدِه، لأنه يَقْلَقُ أَنْ يُسْنَد «أسرى» وهو بمعنى «سرى» إلى الله تعالى؛ إذ هو فعلٌ يقتضي النَّقْلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل، فلا يَحْسُنُ إسنادُ شيءٍ من هذا مع وجودِ مَنْدوحةٍ عنه، فإذا وقع في الشريعة شيءٌُ من ذلك تَأَوَّلْناه نحو: أَتَيْتُه هَرْوَلة «. قلت: وهذا كلُّه إنما بناه اعتقاداً على أن التعديةَ بالباء تَقتضي مصاحبةَ الفاعلِ للمفعول في ذلك، وقد تقدَّم الردُّ على هذا المذهبِ في أول البقرة في قوله {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [الآية: 20] . ثم جَوزَّ أن يكونَ» أَسْرى «بمعنى» سَرَى «على حَذْفِ مضافٍ كقولِه: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ، يعني فيكون التقدير: الذي أَسْرَى ملائكتُه بعبدِه، والحاملُ له على ذلك ما تقدَّم من اعتقاد المصاحبة. قوله:» لَيْلاً «منصوب على الظرف. وقد تقدَّم فائدةُ تنكيرِه. و» من المسجد «لابتداء الغاية. قوله: حولَه» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ على الظرف، وقد تقدَّم

تحقيقُ القولِ فيه أولَ البقرة. والثاني: انه مفعولٌ. قال أبو البقاء: «أي: طَيَّبْنا ونَمَّيْنا» . يعني ضَمَّنه معنى ما يتعدَّى بنفسه، وفيه نظرٌ لأنه لا يَتَصَرَّف. قوله: «لِنُرِيَه» قرأ العامَّة بنونِ العظمة جَرْياً على «بارَكْنا» . وفيهما التفاتان: مِنَ الغَيْبة في قوله {الذي أسرى بِعَبْدِهِ} إلى التكلُّم في «بارَكْنا» و «لِنُرِيَه» ، ثم التفتَ إلى الغَيْبَة في قولِه «إنه هو» إن أَعَدْنا الضميرَ على اللهِ تعالى وهو الصحيحُ، ففي الكلام التفاتان. وقرأ الحسن «لِيُرِيَه» بالياء مِنْ تحتُ أي الله تعالى، وعلى هذه القراءةِ يكون في هذه الآية أربعةُ التفاتات: وذلك أنَّه التفت أولاً من الغَيْبة في قوله {الذي أسرى بِعَبْدِهِ} إلى التكلم في قوله «بارَكْنا» ، ثم التفت ثانياً من التكلمِ في «بارَكْنا» إلى الغيبة في «لِيُرِيَه» على هذه القراءة، ثم التفت بالياء من هذه الغَيْبة إلى التكلم في «آياتنا» ، ثم التفت رابعاً من هذا التكلمِ إلى الغيبة في قوله «إنه هو» على الصحيح في الضميرِ أنَّه لله، وأمَّا على قولٍ نقله أبو البقاء أن الضمير في «إنه هو» للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يجيءُ ذلك، ويكون في قراءة العامَّةِ التفاتٌ واحدٌ، وفي قراءة الحسنِ ثلاثةٌ. وهذا موضعٌ غريبٌ، وأكثرُ ما وَرَدَ الالتفاتُ [فيه] ثلاثُ مرات على ما قال الزمخشري في قولِ امرئ القيس: 302 - 5- تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثْمِدِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأبيات. وقد تقدَّم النزاعُ معه في ذلك، وبعضُ ما يُجاب به عنه أولَ الفاتحة. ولو ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ فيها خمسةَ التفاتات لاحتاج في دَفْعِه إلى دليلٍ واضحٍ، والخامس: الالتفاتُ مِنْ «إنَّه هو» إلى التكلم في قوله {وَآتَيْنَآ مُوسَى} الآية. والرؤيةُ هنا بَصَريةٌ. وقيل: قلبية وإليه نحا ابن عطية، فإنه قال: «ويُحْتمل أَنْ يريد: لِنُرِيَ محمداً للناس آيةً، أي: يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيةً في أَنْ يصنعَ اللهُ ببشرٍ هذا الصنعَ» فتكونُ الرؤيةُ قلبيةً على هذا.

2

قوله تعالى: {وَآتَيْنَآ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تُعْطَفَ هذه الجملةُ على الجملةِ السابقة من/ تنزيهِ الربِّ تبارك وتعالى ولا يَلْزَمُ في عَطْفِ الجملِ مشاركةٌ في خبرٍ ولا غيرِه. الثاني: قال العسكري: إنه معطوف على «أسرى» . واستبعده الشيخُ. ووجهُ

الاستبعادِ: أن المعطوفَ على الصلةِ صلةٌ، فيؤدِّي التقديرُ إلى ضرورةِ التركيبِ: سُبْحان الذي أسرى وآتينا، وهو في قوة: الذي آتينا موسى، فيعود الضميرُ على الموصولِ ضميرَ تكلمٍ مِنْ غيرِ مسوِّغ لذلك. والثالث: أنه معطوفٌ على ما في قوله «أسرى» من تقدير الخبر كأنه قال: أَسْرَيْنا بعبدِنا، وأًرَيْناه آياتِنا وآتَيْنا، وهو قريبٌ مِنْ تفسيرِ المعنى لا الإِعراب. قوله: «وجَعْلَناه» يجوز أن يعودَ ضميرُ النصبِ للكتاب، وهو الظاهرُ، وأَنْ يعودَ لموسى عليه السلام. قوله: {لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} يجوز تعلُّقُه بنفس «هدى» كقوله: {يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35] ، وأَنْ يتعلَّقَ بالجَعْل، أي: جعلناه لأجلِهِم، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ نعتاً ل «هُدى» . قوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ} يجوز أَنْ تكون «أَنْ» ناصبةً على حَذْفِ حرفِ العلة، أي: لئلا تتَّخذوا. وقيل: «لا» مزيدةٌ، والتقدير: كراهةَ أَنْ تتخذوا، وأنْ تكونَ المفسرةَ و «لا» ناهيةٌ، فالفعلُ منصوبٌ على الأول مجزومٌ على الثاني، وأَنْ تكونَ مزيدةً عند بعضِهم، والجملةُ التي بعدها معمولةٌ لقولٍ مضمر، أي: مقولاً لهم: لا تتخذوا، أو قلنا لهم: لا تتخذوا، وهذا ظاهرٌ في قراءةِ الخطاب. وهذا مردودٌ بأنه ليس من مواضعِ زيادةِ «أَنْ» . وقرأ أبو عمروٍ {أَنْ لا يتَّخذوا} بياء الغَيْبة جَرْياً على قوله {لبني إسرائيل} والباقون بالخطاب التفاتاً.

3

قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ} : العامَّةُ على نصبها وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ، وبه بدأ الزمخشري. الثاني: أنَّها منصوبَةً على البدلِ من «وَكِيلاً» ، أي: أن لا تتخذوا من دونِه ذريةَ مَنْ حَمَلْنا. الثالث: أنها منصوبةٌ على البدلِ مِنْ «موسى» ، ذكره أبو البقاء وفيه بُعْدٌ بعيد. الرابع: أنها منصوبةٌ على المفعولِ الأولِ ل «تتخذوا» ، والثاني هو «وكيلاً» فقُدِّم، ويكون «وكيلاً» ممَّا وقع مفردَ اللفظ والمَعْنِيُّ به جمعٌ، أي: لا تتخذوا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا مع نوح وُكَلاءَ كقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً} [آل عمران: 80] . الخامس: أنها منصوبةٌ على النداء، أي: يا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا، وخَصُّوا هذا الوجهَ بقراءة الخطاب في «تتَّخذوا» وهو واضحٌ عليها، إلا أنه لا يَلْزَمُ، وإن كان مكيٌّ قد منع منه فإنه قال: «فأمَّا مَنْ قرأ» يتَّخذوا «بالياء فذريَّةَ مفعولٌ لا غيرَ، ويَبْعُدُ النداءُ؛ لأن الياءَ للغَيْبة والنداءَ للخطابِ، فلا يجتمعان إلا على بُعْدٍ» . وليس كما زعم، إذ يجوزُ أن يُناديَ الإِنسانَ شخصاً ويُخْبِرَ عن آخرَ فيقول: «يا زيدُ ينطلقٌ بكرٌ وفعلتَ كذا» و «يا زيدُ ليفعلْ عمروٌ كيتَ وكيت» . وقرأت فرقةٌ «ذُرِّيَّةُ» بالرفع، وفيها وجهان، أحدهما: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هو ذريَّةُ، ذكره [أبو] البقاء وليس بواضحٍ. والثاني:

أنه بدلٌ من واوِ «تتَّخذوا» قال ابن عطية: «ولا يجوز ذلك في القراءةِ بالتاءِ، لأنك لا تُبْدِلُ من ضميرٍ مخاطب، لو قلت:» ضربْتُك زيداً «على البدل لم يَجُزْ» . وَرَدَّ عليه الشيخ هذا الإِطلاقَ وقال: «ينبغي التفصيلُ، وهو إن كان بدلَ بعضٍ أو اشتمالٍ جاز، وإن كان كلاًّ مِنْ كل، وأفاد الإِحاطةَ نحو» جئتُمْ كبيرُكم وصغيركم «جَوَّزه الأخفش والكوفيون. قال:» وهو الصحيحُ «. قلت: وتمثيلُ ابنِ عطيةَ بقولِه» ضَرَبْتُكَ زيداً «قد يَدْفع عنه هذا الردَّ. وقال مكي:» ويجوز الرفعُ في الكلامِ على قراءةِ مَنْ قرأ بالياء على البدلِ من المضمرِ في «يتَّخذوا» ولا يَحْسُنُ ذلك في قراءة التاء؛ لأنَّ المخاطبَ لا يُبْدَلُ منه الغائبُ، ويجوز الخفضُ على البدل من بني إسرائيل «. قلت: أمَّا الرفعُ فقد تقدَّم أنه قرئ به وكأنه ام يَطَّلِعْ عليه، وأمَّا الجرُّ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ ويَرِد عليه في قوله» لأنَّ المخاطب لا يُبْدَلُ منه الغائبُ «ما وَرَدَ على ابن عطية، بل أَوْلَى لأنه لم يذكر مثالاً يبيِّن مرادَه كما فعل ابنُ عطية/.

قوله تعالى: {مَنْ حَمَلْنَا} : يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً.

4

قوله: {وَقَضَيْنَآ} «قَضَى» يتعدَّى بنفسِه: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} [الأحزاب: 37] {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29] ، وإنما تَعَدَّى هنا ب «إلى» لتضمُّنه معنى: أَنْفَذْنَا وأَوْحَيْنا، أي: وأَنْفَذْنا إليهم بالقضاءِ المحتومِ. ومتعلِّقُ القضاءِ محذوفٌ، أي: بفسادِهم. وقوله: «لَتُفْسِدُنَّ» جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: والله لتفسِدُنَّ، وهذا القسمُ مؤكدٌ لمتعلَّق القضاء. ويجوز أن يكونَ «لَتُفْسِدُنَّ» جواباً لقوله: «وقَضَيْنا» لأنه ضُمِّن معنى القسمِ، ومنه قولُهم: «قضاء الله لأفعلنَّ» فيُجْرُون القضاء والنَّذْرَ مُجْرى القسم فَيُتَلَقَّيان بما يُتَلَقَّى به القسمُ. والعامَّةُ على توحيد «الكتاب» مُراداً به الجنسُ. وابنُ جبير وأبو العالية «في الكُتُب» على الجمع، جاؤوا به نَصَّاً في الجمع. وقرأ العامَّةُ بضمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مضارعَ «أفسدَ» ، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: لَتُفْسِدُنَّ الأديانَ. ويجوزُ أْنْ لا يُقَدَّر مفعولٌ، أي: لتُوقِعُنَّ الفساد. وقرأ ابنُ عباسٍ ونصرُ بن علي وجابر بن زيد «لَتُفْسَدُن» ببنائه

للمفعولِ، أي: لَيُفْسِدَنَّكم غيرُكم: إمَّا من الإِضلال أو من الغلبة. وقرأ عيسى بن عمر بفتحِ التاء وضمِّ السين، أي: فَسَدْتُم بأنفسِكم. قوله «مَرَّتَيْنِ» منصوبٌ على المصدر، والعاملُ فيه «لتُفْسِدُنَّ» لأنَّ التقديرَ: مرتين من الفساد. قوله: «عُلُوَّاً» العامَّةُ على ضمِّ العين مصدرَ علا يَعْلُو. وقرأ زيد بن عليٍّ «عِلِيَّاً» بكسرِهما والياءُ، والأصلُ الواو، وإنما اعتلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعُولاً المصدرَ الأكثرُ فيه التصحيحُ نحو: عَتا عُتُوَّاً، والإِعلالُ قليلٌ نحو {أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} [مريم: 69] على أحدِ الوجهين كما سيأتي، وإنْ كان جمعاً فالكثيرُ الإِعلالُ. نحو: «جِثِيَّاً» وشَذَّ: بَهْوٌ وبُهُوُّ، ونَجْوٌ ونَجَوٌّ، وقاسه الفراء.

5

قوله تعالى: {وَعْد} : أي: مَوْْعُود، فهو مصدرٌ واقعٌ موقعَ مفعول، وتركه الزمخشري على حالِه، لكن بحذف مضاف، أي: وَعْدُ عقابِ أُوْلاهما. وقيل: الوَعْدُ بمعنى الوعيد. وقيل: بمعنى المَوْعِد الذي يُراد به الوقتَ. فهذه أربعةُ أوجهٍ. والضميرُ عائدٌ على المرتين.

قوله: «عِباداً» العامَّةُ على «عِباد» بزنة فِعال، وزيدُ بن علي والحسنُ «عبيداً» على فَعِيْل، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك. قوله: «فجاسُوا» عطفٌ على «بَعَثْنا» ، أي: تَرَتَّب على بعثنا إياهم هذا. والجَوْسُ والجُوْس بفتحِ الجيمِ وضمِّها مصدرَ جاسَ يَجُوسُ، أي: فَتَّشَ ونقَّبَ، قاله أبو عبيد. وقال الفراء: «قَتَلُوا» قال حسان: 302 - 6- ومِنَّا الذي لاقى بسيفِ محمدٍ ... فجاسَ به الأعداءُ عَرْضَ العساكرِ وقال أبو زيد: «الجُوسُ والجَوْسُ والحَوْسُ والهَوْسُ طَلَبُ الطَّوْف بالليل» . وقارب قطرب: «جاسُوا: نزلوا» . وأنشد: 302 - 7- فَجُسْنا ديارَهُمُ عَنْوَةً ... وأُبْنا بساداتِهم مُوْثَقِيْنا وقيل: «جاسُوا بمعنى داسوا» ، وأنشد: 302 - 8- إليك جُسْنا الفِيلَ بالمَطِيِّ ... وقيل: الجَوْسُ: التردُّد. وقيل: طَلَبُ الشيءِ باستقصاء. ويقال: «حاسُوا» بالحاءِ المهملة، وبها قرأ طلحة وأبو السَِّمَّال، وقرئ «فَجَوَّسُوا» بالجيم بزنة نُكِّسُوا.

قوله: «خلالَ» العامَّةُ على «خِلال» وهو محتملٌ لوجهين، أحدهما: أنه جمعُ خَلَل كجِبال في جَبَل، وجِمال في جَمَل. والثاني: أنه اسمٌٌ مفردٌ بمعنى وَسْط، ويدلُّ له قراءةُ الحسن «خَلَلَ الدِّيار» . وقوله: «وكان وَعْداً» ، أي: وكان الجَوْسُ، أو وكان وَعْدُ أُوْلاهما، أو وكان وَعْدُ عقابِهم.

6

قوله تعالى: {الكرة} : مفعولُ «رَدَدْنا» وهي في الأصلِ مصدرُ كَرَّ يَكُرُّ، أي: رَجَعَ، ثم يُعَبَّر بها عن الدَّوْلَةِ والقَهْر. قوله «عليهم» يجوز تعلُّقه ب «رَدَدْنا» ، أو بنفس/ الكَرَّة، لأنه يُقال: كَرَّ عليه فتتعدَّى ب «على» ويجوز أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «الكَرَّة» . قوله: «نَفِيراً» منصوبٌ على التمييز، وفيه أوجهٌ، أحدها: أَنَّه فَعِيْل بمعنى فاعِل، أي: أكثر نافراً، أي: مَنْ يَنْفِرُ معكم. الثاني: أنه جمع نَفْرٍ نحو: عَبْد وعَبيد، قاله الزجاج، وهم الجماعة الصَّائِرون إلى الأعداء. الثالث: أنه مصدرٌ، أي: أكثرُ خروجاً إلى الغَزْو. قال الشاعر: 302 - 9- فَأَكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والدٍ ... وحِمْيَرَ أكرِمْ بقومٍ نَفيرا والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، فقدَّره بعضُهم: أكثر نفيراً من أعدئكم، وقدَّره الزمخشري: أكثر نفيراً مِمَّا كنتم.

7

قوله تعالى: {فَلَهَا} : في اللامِ أوجهٌ: أحدُها: أنها بمعنى «على» ، أي فعليها كقوله: 303 - 0-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَخَرَّ صريعاً لليدينِ وللفمِ أي: على اليدين. والثاني: أنها بمعنى إلى. قال الطبري: «أي/ فإليها تَرْجِعُ الإِساءةُ» . الثالث: أنها على بابها، وإنما أتى بها دونه «على» للمقابلة في قوله: «لأنفسِكم» فأتى بها ازْدِواجاً. وهذه اللامُ يجوز أن تتعلَّقَ بفعلٍ مقدرٍ كما تقدَّم في قولِ الطبريِّ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه: فلها الإِساءةُ لا لغيرِها. قوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} ، أي: المرة الآخرة فَحُذِفَت «المرَّة» للدَّلالة عليها، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه: بَعَثْناهم. وقوله: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} متعلقٌ بهذا الجوابِ المقدرِ. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر «لِيَسُوْءَ» بالياءِ المفتوحةِ وهمزةٍ مفتوحةٍ آخرَ الفعل. والفاعلُ: إمَّا اللهُ تعالى، وإمَّا الوعدُ، وإمَّا البعثُ، وإمَّا النفيرُ. والكسائيُّ «لِنَسُوءَ» بنونِ العظمة، أي: لِنَسُوءَ نحن، وهو موافِقٌ لِما قبلَه مِنْ قولِه «بَعَثْنا عباداً لنا» و «رَدَدْنا» و «أَمْدَدْنا» ، وما بعده من قوله: «عُدْنا» و «جَعَلْنا» .

وقرأ الباقون: «لِيَسُوْءُوا» مسنداً إلى ضميرِ الجمع العائد على العِباد، أو على النفير؛ لأنه اسمُ جمعٍ، وهو موافِقٌ لِما بعدَه من قوله {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ} . وفي عَوْدِ الضمير على النفير نظرٌ؛ لأنَّ النفيرَ المذكورَ من المخاطبين، فكيف يُوصف ذلك النفيرُ بأنه يَسُوْء وجوهَهم؟ اللهم إلا أنْ يريدَ هذا القائلَ أنه عائدٌ على لفظِه دون معناه، من بابِ «عندي درهمٌ ونصفُه» . وقرأ أُبَيٌّ «لِنَسُوْءَنْ» بلامِ الأمرِ ونونِ التوكيدِ الخفيفة ونونِ العظمة، وهذا جوابٌ ل «إذا» ، ولكن على حَذْفِ الفاء، أي «فَلِنَسُوْءَنْ، ودخلت لامُ الأمرِ على فعلِ المتكلمِ كقولِه تعالى: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] . وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب» لَيَسُوْءَنَّ «و» وَلَنَسوْءَنَّ «بالياء أو النون التي للعظمةِ، ونونِ التوكيدِ الشديدة، واللامِ التي للقسَمِ. وفي مصحف اُبَيّ» لِيَسُوْءُ «بضمِّ الهمزة من غيرِ واوٍ، وهذه القراءةُ تشبه أَنْ تكونَ على لغةِ مَنْ يَجْتَزِئُ عن الواوِ بالضمة، كقوله: 303 - 1- فلوْ أنَّ الأطبَّا كانُ حولي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يريد:» كانوا «. وقولِ الآخر: 303 - 2- إذا ما الناسُ جاعُ وأَجْدَبُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يريد» جاعُوا «، فكذا هذه القراءةُ، أي: لِيَسُوْءُوا، كما في القراءةِ الشهيرة، فَحَذَفَ الوَاو.

وقرئ» لِيَسْيء «بضمِّ الياءِ وكسرِ السينِ وياءٍ بعدها، أي: ليُقَبِّحَ اللهُ وجوهكم، أو ليقبِّح الوعدُ، أو البعثُ. وفي مصحفِ أنس» وَجْهَكم «بالإِفرادِ كقوله: 303 - 3- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وكقوله:] 303 - 4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِيْنا [وكقوله:] 303 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ قوله: «ولِيَدْخُلُوا» مَنْ جَعَلَ الأولى لامَ «كي» كانت هذه أيضاً لامَ «كي» معطوفةً عليها، عَطْفَ علةٍ على أخرى، ومَنْ جَعَلَها لامَ أمرٍ كأُبَيِّ، أو لامَ قسمٍ كعليّ بن أبي طالب فاللامُ في «لِيَدْخُلوا» تحتمل وجهين: الأمرَ والتعليل، و {كَمَا دَخَلُوهُ} نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميره، كما يقول سيبويه، أي: دخولاً كما دخلوه. و {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ظرفُ زمانٍ، وتقدَّم/ الكلامُ عليها في براءة. [قوله:] {مَا عَلَوْاْ} يجوز في «ما» أن تكونَ مفعولاً بها، أي: ليُهْلِكُوا

الذي عَلَوه، وقيل: ليَهْدِمُوه كقوله: 303 - 6- وما الناسُ إلا عاملان فعامِلٌ ... يُُتَبِّرُ ما يَبْني وآخرُ رافِعُ ويجوز فيها أَنْ تكونَ ظرفيةً، أي: مدةَ استعلائِهم وهذا مُحْوجٌ إلى حذفِ مفعولٍ، اللهم إلا أَنْ يكونَ القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعلِ نحو: هو يعطي ويمنع.

8

قوله تعالى: {حَصِيراً} : يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى فاعِل، اي: حاصرةً لهم، مُحيطةً بهم، وعلى هذا فكان ينبغي أن يؤنَّثَ بالتاء كخبيرة. وأُجيب: بأنَّها على النسَب، أي ذات حَصْرٍ كقولِه: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] ، أي ذاتُ انفطارٍ. وقيل: الحَصِيْرُ: الحَبْسُ، قال لبيد: 303 - 7- ومَقامَةٍ غُلْبِ الرجالِ كأنَّهمْ ... جِنٌّ لدى بابِ الحصيرِ قيامُ وقال أبو البقاء: «لم يؤنِّثْه لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل» وهذا منه سهوٌ؛ لأنه يؤدِّ إلى أن تكونَ الصفةُ التي على فعيل إذا كانَتْ بمعنى فاعِل جاز حَذْفُ التاءِ منها، وليس كذلك لِما تقدَّم مِنْ أنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل يَلْزَمُ تأنيثه، وبمعنى مَفْعول يجب تذكيرُه، وما جاء شاذَّاً مِنَ النوعين يُؤَوَّل. وقيل: إنما لم يُؤَنَّثْ لأنَّ تأنيث «جهنَّم» مجازيٌّ، وقيل: لأنها في معنى السِّجْن والمَحْبَس، وقيل: لأنها بمعنى فِرَاش.

9

قوله تعالى: {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} : أي: للحالةِ أو للمِلَّة أو للطريقة. قال الزمخشري: «وأَيَّتَما قدَّرْتَ لم تَجِدْ مع الإِثباتِ ذَوْقَ البلاغةِ الذي تجده مع الحذف؛ لِما في إبهام الموصوفِ بحذفِه مِنْ فخامةٍ تُفْقَدُ مع إيضاحِه» .

10

قوله تعالى: {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ عطفاً على «أنَّ» الأولى، أي: يُبَشِّرُ المؤمنين بشيئين: بأجرٍ كبيرٍ وبتعذيبِ أعدائهم، ولا شكَّ أنَّ ما يُصيبُ عَدُوَّك سُرورٌ لك. وقال الزمخشري: «ويُحتمل أن يكونَ المرادُ: ويُخبر بأنَّ الذين» . قال الشيخ: «فلا يكونُ إذ ذاك داخلاً تحت البشارةِ» . قلتُ: قولُ الزمخشريِّ يَحْتمل أمرين، أحدُهما: أن يكونَ قولُه «ويُحتمل أن يكونَ المرادُ: ويُخْبِرُ بأنَّ» أنه من باب الحذف، أي: حَذَف «ويُخْبِرُ» وأبقى معموله، وعلى هذا فيكون «أنَّ الذين» غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة بلا شك، ويحتمل أن يكونَ قصدَه: أنه أُريد بالبِشارة مجرَّدُ الإِخبار سواءً كان بخيرٍ أم بِشَرّ، وهل هو فيهما حقيقةٌ أو في أحدِهما، وحينئذٍ يكون جمعاً بين الحقيقةِ والمجاز، أو استعمالاً للمشترك في معنييه، وفي المسألتين خلافٌ مشهور، وعلى هذا فلا يكون قولُه {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة، إلا أنَّ الظاهرَ مِنْ حالِ الزمخشري أنه لا يُجيز الجمعَ بين الحقيقةِ والمجازِ ولا استعمالَ المشتركِ في مَعْنَيَيْه.

11

قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} : في الباءين ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنهما متعلِّقتان بالدعاءِ على بابهما نحو: «دَعَوْتُ بكذا» والمعنى: أنَّ الإِنسانَ في حالِ ضَجَرِه قد يَدْعُو بالشرِّ ويُلِحُّ فيه، كما يَدْعُو ويُلِحُّ فيه. والثاني: أنهما بمعنى «في» بمعنى أنَّ الإِنسانَ إذا أصابه ضرٌّ دعا وألَحَّ في الدعاءِ واستعجل الفرجَ، مثلَ الدعاءِ الذي كان يحبُّ أَنْ يدعوَه في حالة الخير، وعلى هذا فالمَدْعُوُّ به ليس الشرَّ ولا الخيرَ. وهو بعيدٌ. الثالث: أن تكونَ للسببِ، ذكره أبو البقاء، والمعنى لا يُساعده، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه.

12

قوله تعالى: {آيَتَيْنِ} : يجوز أن يكونَ هو المفعولَ الأولَ، و {الليل والنهار} ظرفان في موضع الثاني قُدِّما على الأول، والتقدير: وجَعَلْنا آيتين في الليلِ والنهار، والمرادُ بالآيتين: إمَّا الشمسُ والقمرُ، وإمَّا تكويرُ هذا على هذا، وهذا على هذا، ويجوز أنْ يكونَ «آيَتَيْن» هو الثاني، و {الليل والنهار} هما الأول. ثم فيه احتمالان، أحدُهما: أنه على حَذْفِ مضافٍ: / إمَّا من الأولِ، أي: نَيَّرَي الليل والنهار، وهما القمرُ والشمسُ، وإمَّا من الثاني، أي: ذَوِي آيتين. والثاني: أنه لا حَذْفَ، وأنهما علامتان في أنفسِهما، لهما دلالةٌ على شيءٍ آخرَ. قال أبو البقاء: «فلذلك أضافَ في موضعٍ، وَوَصف في آخر» يعني أنه أضافَ الآيةَ إليهما في قولِه {آيَةَ الليل} و {الليل والنهار} ووصفَهما في موضعٍ آخرَ بأنهما اثنان لقولِه: «وجَعَلْنا الليلَ والنهارَ آيتين» . هذا كلُّه إذا جَعَلْنَا الجَعْلَ تصييراً متعدِّياً لاثنين، فإن جَعَلْناه بمعنى «خَلَقْنا» كان «آيتين» حالاً، وتكونُ حالاً مقدرة.

واستشكل بعضُهم أَنْ يكونَ «جَعَلَ» بمعنى صَيَّر قال: «لأنه يَسْتَدْعِيْ أن يكونَ الليلُ والنهارُ موجودَيْن على حالةٍ، ثم انتقل عنها إلى أخرى» . قوله: «مُبْصِرَةً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مِنْ الإِسنادِ المجازيِّ، لأنَّ الإِبصارَ فيها لأهلِها، كقولِه: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً} [الإِسراء: 59] لمَّا كانت سبباً للإِبْصار. وقيل: «مُبْصِرة» : مضيئةً، وقيل: هي من بابِ اَفْعَل، والمرادُ به غيرُ مَنْ أُسْنِد الفعلُ إليه كقولهم: «أَضْعَفَ الرجلُ» ، أي: ضَعُفَتْ ماشِيتُه، و «أَجْبن» إذا كان أهلُه جبناء، فالمعنى أنَّ أهلَها بُصراء. وقرأ عليُّ بن الحسين وقتادةُ «مَبْصَرة» بفتح الميم والصاد، وهو مصدرٌ أقيم مُقام الاسمِ، وكَثُر هذا في صفاتِ الأمكنة نحو: «مَذْأَبَة» . قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّه منصوبٌ على الاشتغال، ورُجِّح نصبُه لتقدُّمِ جملةٍ فعلية. وكذلك {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ} [الإِسراء: 13] . والثاني: - وهو بعيد - أنه منصوبٌ نَسَقاً على «الحِسابَ» ، أي: لتعلموا كلَّ شيءٍ أيضاً، ويكون «فَصَّلْناه» على هذا صفةً. وقرئ «في عُنْقِه» وهو تخفيفٌ شائعٌ.

13

قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ} : العامَّةُ على «نُخْرِجُ» بنونِ

العظمة مضارع «اَخْرَجَ» ، و «كتاباً» فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من المفعول المحذوف، إذ التقديرُ: ونُخْرِجُه إليه كتاباً، ونُخْرِجُ الطائرَ. ورُوِي عن أبي جعفر: «ويُخْرَجُ» مبنيَّاً للمفعول، «كتاباً» نصبٌ على الحال، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ الطائرِ، وعنه أنَّه رَفَع «كتاباً» . وخُرِّج على أنَّه مرفوعٌ بالفعلِ المبنيِّ للمفعول، والأولى قراءة قلقةٌ. وقرأ الحسن: «ويَخْرُجُ» بفتحِ الياءِ وضمِّ الراءِ مضارعَ «خَرَجَ» ، «كتابٌ» فاعلٌ به، وابن محيصن ومجاهد كذلك، إلا أنهما نَصَبا «كتاباً» على الحال، والفاعلُ ضميرُ الطائرِ، أي: ويَخْرُجُ له طائرُه في هذه الحالِ. وقرئ «ويُخْرِجُ» بضمِّ الياء وكسرِ الراء مضارعَ «اَخْرَجَ» ، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى، «كتاباً» مفعولٌ. قوله: «يَلْقَاْه» صفةٌ ل «كتاباً» ، و «مَنْشُوراً» حالٌ من هاء «يَلْقاه» . وجوَّز الزمخشري والشيخ وأبو البقاء أن يكونَ نعتاً لكتاب. وفيه نظرٌ: من حيث إنه يَلْزَمُ تقدُّم الصفةِ غير الصريحة على الصريحةِ، وقد تقدَّم ما فيه. وقرأ ابنُ عامر «يُلَقَّاه» بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف، مضارعَ «

لَقَّى» بالتشديد، والباقون: بالفتح والسكونِ والتخفيف مضارع لَقِي.

14

قوله تعالى: {اقرأ} : على إضمارِ القولِ، أي: يُقال له: اقرأْ، وهذا القولُ: إمَّا صفةٌ أو حالٌ كما في الجملةِ قبله. قوله/ {كفى بِنَفْسِكَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍٍ، المشهورُ عند المُعْرِبين: أنَّ «كفى» فعلٌ ماضٍ، والفاعلُ هو المجرورُ بالباء، وهي فيه مزيدةٌ، ويَدُلُّ عليه أنها حُذِفت ارتفع، كقوله: 303 - 8- ويُخْبرني عن غائبٍ المَرْءِ هَدْيُه ... كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرا وقولِ الآخر: 303 - 9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كَفَى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهيا وعلى هذا فكان ينبغي أن يُؤَنَّثَ الفعلُ لتأنيث فاعلِه، وإن كان مجروراً كقوله: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 6] و {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} [الأنعام: 4] . وقد يقال: إنه جاء على أحد الجائزين فإن التأنيثَ مجازيٌّ. والثاني: أنَّ الفاعلَ/ ضميرُ المخاطبِ، و «كفى» على هذا اسمُ فعلٍ أمرٍ، أي: اكْتَفِ، وهو ضعيفٌ لقَبولِ «كَفَى» علاماتِ الأفعالِ. الثالث: أنَّ فاعلَ «كَفَى» ضميرٌ يعودُ على

الاكتفاء، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا مستوفى. و «اليومَ» نصبٌ ب «كفى» . قوله: «حَسِيْبا» فيه وجهان، أحدُهما: أنه تمييزٌ. قال الزمخشري: «وهو بمعنى حاسِب، كضَرِيْب القِداح بمعنى ضاربها، وصَرِيْم بمعنى صارِم، ذكرهما سيبويه، و» على «متعلقةٌ به مِنْ قولك: حَسِب عيله كذا، ويجوز أن يكونَ بمعنى الكافي ووُضِع موضعَ الشهيد، فعُدِّي ب» على «لأنَّ الشاهدَ يكفي المُدَّعي ما أهمَّه. فإن قلت: لِمَ ذَكَرَ» حسيباً «؟ قلت: لأنَّه بمنزلةِ الشاهدِ والقاضي والأمين، وهذه الأمور يَتَوَلاَّها الرجالُ فكأنَّه قيل: كفى بنفسِك رجلاً حسيباً، ويجوز أًنْ تُتَأَوَّلَ النفسُ بمعنى الشخصِ، كما يقال: ثلاثة أنفس» . قلت: ومنه قولُ الشاعر: 304 - 0- ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... لقد جارَ الزمانُ على عيالي والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ، وذُكِرَ لِما تقدَّم. وقيل: حَسِيب بمعنى مُحاسِب كخَلِيط وجَلِيس بمعنى: مُخالِط ومُجالس.

16

قوله تعالى: {أَمَرْنَا} : قرأ العامَّةُ بالقصرِ والتخفيفِ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ. ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ: فعن ابن عباس في آخرين: أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ رداً شديداً وأنكره إنكاراً بليغاً في كلامٍ

طويلٍ، حاصلُه: أنه حَذْفُ ما لا دليلَ عليه، وقدَّر هو متعلِّق الأمرِ: الفسق، أي: أَمَرْناهم بالفسق قال: «أي: أَمَرْناهم بالفِسْق، فعملوا، والأمرُ مجازٌ؛ لأنَّ حقيقةَ أمرِهم بالفسقِ أَنْ يقول لهم: افْسُقوا، وهذا لا يكونُ، فبقي أن يكونَ مجازاً. ووجهُ المجازِ: أنه صَبَّ عليهم النعمة صَبَّاً، فجعلوها ذريعةً إلى المعاصي واتِّباع الشهوات، فكأنهم مَأمورون بذلك لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فيه، وإنما خَوَّلهم فيها ليشكروا» . ثم قال: «فإنْ قلت: فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ معناه: أَمَرْناهم بالطاعةِ ففسَقُوا. قلت: لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ، فكيف حَذْفُ ما الدليلُ قائمٌ على نَقِيضِه؟ وذلك أنَّ المأمورَ به إنما حُذِفَ لأنَّ» فَفَسَقُوا «يدلُّ عليه، وهو كلامٌ مستفيضٌ يقال:» أَمَرْتُه فَقام «، و» أَمَرْتُه فَقَرأ «، لا يُفهم منه إلا أنَّ المأمورَ به قيامُ أو قراءةُ، ولو ذَهَبْتَ تُقَدِّر غيرَه رُمْتَ مِنْ مخاطَبِك عِلْمَ الغيبِ، ولا يَلْزَمُ [على] هذا قولُهم: و» أَمَرْتُه فعصاني «أو» فلم يمتثلْ «لأنَّ ذلك منافٍ للأمرِ مناقِضٌ له، ولا يكونُ ما يناقض الأمرَ مأموراً به، فكان محالاً أن يُقْصَدَ أصلاً حتى يُجْعَلَ دالاًّ على المأمورِ به، فكان المأمورُ به في هذا الكلامِ غيرَ مَنْوِيٍّ ولا مُرادٍ؛ لأن مَنْ يتكلمُ بهذا الكلامِ لا يَنْوي لآمرهِ مأموراً به، فكأنه يقول: كان مني أَمْرٌ فكان منه طاعةٌ، كما أنَّ مَنْ يقول: [» فلان] يبأمرُ ويَنْهى ويعطي ويمنع «لا يَقْصِدُ مفعولاً. فإن قلت: هلاَّ كان ثبوتُ العلمِ بأنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفحشاء دليلاً على أنَّ المراد: أَمَرْناهم بالخيرِ، قلت: لأنَّ قوله»

فَفَسَقوا «يدافعه، فكأنَّك أظهَرْتَ شيئاً وأنت تُضْمِرُ خلافَه، ونظيرُ» أمر «:» شاء «في أنَّ مفعولَه استفاضَ حَذْفُ مفعولِه لدلالةِ ما بعدَه عليه. تقول: لو شاءَ لأحسنَ إليك، ولو شاءَ لأساءَ إليك، تريد: لو شاء الإِحسانَ، ولو شاء الإِساءةَ، ولو ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خلافَ ما أظهرْتَ، وقلت: قد دَلَّتْ حالُ مَنْ أُسْنِدَتْ إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإِحسان أو من أهلِ الإِساءةِ فاتركِ الظاهرَ المنطوقَ وأَضْمِرْ ما دَلَّتْ عليه حالُ المسندِ إليه المشيئةُ، لم تكنْ على سَدادٍ» . وتَتَبَّعه الشيخُ في هذا فقال: «أمَّا ما ارتكبه من المجاز فبعيدٌ جداً، وأمَّا قولُه:» لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ «فتعليلٌ لا يَصِحُّ فيما نحن بسبيلِه، بل ثَمَّ ما يَدُلُّ على حَذْفِه. وقوله: «فكيف يُحْذَفُ ما الدليلُ على نقيضِه قائمٌ» إلى «عِلْم/ الغيب» فنقول: حَذْفُ الشيءِ تارةً يكونُ لدلالةِ موافِقِه عليه، ومنه ما مَثَّل به في قولِه «أَمَرْتُه فقامَ» ، وتارة يكونُ لدلالةِ خِلافِه أو ضدِّه أو نقيضِه كقولِه تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار} [الأنعام: 13] ، أي: ما سَكَنَ وتحرَّك، وقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، أي: والبردَ، وقول الشاعر: 304 - 1- وما أَدْرِيْ إذا يَمَّمْتُ أرْضاً ... أريدُ الخيرَ ايُّهما يَلِينْي أالخيرُ الذي أنا أَبْتَغِيْهِ ... أم الشرُّ الذي هو يَبْتَغيني أي: وأَجْتَنِبُ الشرَّ، وتقول: «أَمَرْتُه فلم يُحْسِنْ» فليس المعنى: أمرتُه بعدم الإِحسانِ، بل المعنى: أَمَرْتُه بالإِحسانِ فلم يُحْسِنْ، والآيةُ من هذا

القبيل، يُستدلُّ على حذف النقيض بنقيضه كما يُسْتَدَلُ على حَذْفِ النظير بنظيره، وكذلك «أَمَرْتُه فأساء إليَّ» ليس المعنى: أَمَرْتُه بالإِساءة بل أَمَرْتُه بالإِحسان. وقوله: «ولا يَلْزم هذا قولَهم:» أَمَرْتُه فعصاني «. نقول: بل يَلْزَمُ. وقوله:» لأنَّ ذلك منافٍ «، أي: لأنَّ العِصْيانَ منافٍ. وهو كلامٌ صحيح. وقوله:» فكان المأمورُ به غيرَ مدلولٍ عليه ولا مَنْويٌّ «لا يُسَلَّم بل مَدْلُولٌ عليه ومنوِيٌّ لا دلالةُ الموافقِ بل دلالةُ المناقِض، كما بَيَّنَّا. وقوله:» لا يَنْوِي مأموراً به «لا يُسَلَّم. وقوله:» لأنَّ فَفَسَقُوا يدافعُه، إلى آخره «قلنا: نعم نَوَى شيئاً ويُظهِرُ خلافَه،» لأنَّ نقيضَه يَدُلُّ عليه. وقولُه: «ونظيرُ» أمر «» شاء «ليس نظيرَه؛ لأنَّ مفعولَ» أمر «كَثُر التصريحُ به. قال الله [تعالى] : {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} [الأعراف: 28] {أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف: 40] {يَأْمُرُ بالعدل} [النحل: 67] {أَمَرَ رَبِّي بالقسط} [الأعراف: 29] {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ} [الطور: 32] وقال الشاعر: 304 - 2- أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قلت: والشيخُ رَدَّ عليه رَدَّ مُسْتَريحٍ من النظرِ، ولولا خَوفُ السآمةِ على الناظرِ لكان للنظرِ في كلامهما مجالٌ.

والوجه الثاني: أنَّ» أَمَرْنا «بمعنى كَثَّرْنا، ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ في ظاهرِ عبارتِه فإنَّه قال:» وفسَّرَ بعضُهم «أَمَرْنا» ب «كَثَّرْنا» ، وجَعَلَه من بابِ: فَعَّلْتُه فَفَعَلَ، كَثَبَّرْتُه فَثَبَر. وفي الحديثِ: «خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مأْبُوْرة ومُهْرَةٌ مَأْمورة» ، أي: كثيرةُ النِّتاج «. قلت: وقد حكى أبو حاتم هذه اللغةَ، يقال: أَمِر القومُ، وأَمَرهم اللهُ، ونقله الواحديُّ أيضاً عن أهل اللغة، وقال أبو علي:» الجيِّد في «أَمَرْنا» أن يكونَ بمعنى كَثَّرْنا «. واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديثِ فذكره. يقال: أَمَرَ اللهُ المُهْرَة، أي: كَثَّر ولدَها. قال» ومَن أنكر «أمرَ اللهُ القومَ» أي: كَثَّرهم لم يُلتفَتْ إليه لثبوتِ ذلك لغةً «. ويكون ممَّا لَزِمَ وتعدَّى بالحركةِ المختلفةِ؛ إذ يُقال: أَمِر القومُ كَثُروا، وأَمَرَهم الله كثَّرهم، وهو من بابِ المطاوعة: أَمَرهم الله فَأْتَمَروا كقولِك: شَتَرَ اللهُ عَيْنَه فَشَتِرَتْ، وجَدَعَ اَنْفَه فَجَدِع، وثَلَمَ سِنَّه فَثَلِمَتْ. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمةُ: «أَمِرْنا» بكسر الميم بمعنى «أَمَرْنا» بالفتح. حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يُقال: «أَمَرَ اللهُ مالَه،

وأَمِرَه» بفتح الميم وكسرِها، وقد رَدَّ الفراء هذه القراءةَ، ولا يُلْتَفَتُ لِرَدِّه لثبوتِها لغةً بنَقْلِ العُدولِ، وقد نَقَلها قراءةً عن ابن عباس أبو جعفر وأبو الفضل الرازي في «لوامِحه» فكيف تُرَدُّ؟ وقرأ عليُّ بن أبي طالب وابنُ أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين «آمَرْنا» بالمَدِّ، ورُوِيَتْ هذه قراءةً عن ابنِ كثير وأبي عمرو وعاصم ونافعٍ، واختارها يعقوبُ، والهمزةُ فيه للتعديةِ؟ وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي: «أمَّرْنا» بالتشديد. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّ التضعيفَ للتعديةِ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين، كأَخْرَجْته وخَرَّجته. والثاني: أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ، واللازمُ من ذلك «أُمِّر» . قال الفارسيُّ، «لا وجهَ لكون» أَمَّرْنا «/ من الإِمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلاَّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ، والإِهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة» . وقد رُدَّ على الفارسي: بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به. ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق، ثم كذلك كَثُر الفسادُ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم.

17

قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} : «كم» نصبٌ بأَهْلكنا، و {مِنَ القرون} تمييزٌ ل «كم» ، و {مِن بَعْدِ نُوحٍ} : «مِنْ» لابتداء الغاية،

والأُوْلى للبيان فلذلك اتَّحد متعلَّقُها. وقال الحوفي: «الثانية بدلٌ مِن الأولى، وليس كذلك لاختلاف معنييهما. والباءُ بعد» كَفَى «تقدَّم الكلامُ عليها. وقال ابن عطية:» إنما يُجاءُ بهذه الباءِ في موضعِ مَدْحٍ أو ذم «. والباء في» بذنوب «متعلقةٌ ب» خبيراً «، وعَلَّقها الحوفيُّ ب» كَفَى «. قال الشيخ:» وهو وهمٌ «. قلت: إنما جَعَلَه وهماً لأنه لا يَتَعَدَّى بالباء، ولا يليق به المعنى.

18

قوله تعالى: {مَّن كَانَ} : «مَنْ» شرطيةٌ، و «عَجََّلْنا» جوابُه، و «ما يشاء» مفعولُه، و «لِمَنْ نريدُ» بدلُ بعضٍ من كل، من الضمير في «له» بإعادةِ العاملِ، و «لِمَنْ نريد» تقديرُه: لمَنْ نريدُ تعجيلَه له. قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} «جَعَلَ» هنا تصييريةٌ. قوله: «يَصْلاها» الجملةُ حالٌ: إمَّا من الضمير في «له» وإمَّا مِنْ «جهنَّم» ، و «مَذْمُوماً» حالٌ مِنْ فاعلِ «يَصْلاها» . قيل: وفي الكلامِ حَذْفٌ، وهو حَذْفُ المقابِل؛ إذ الأصل: مَنْ كان يريد العاجلةَ وسَعَى لها سَعْيَها وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه. وقيل: بل الأصل: مَنْ كان يريد العاجلة بعمله للآخرةِ كالمنافِق.

19

قوله تعالى: {سَعْيَهَا} : فيه وجهان، أحدُهُما: أنه مفعولٌ به لأنَّ المعنى: وعَمِل لها عملَها. والثاني: أنه مصدرٌ، و «لها» ، أي: مِنْ أجلِها.

قوله {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل «سعى» .

20

قوله تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء} : «كُلاًّ» منصوب ب «نُمِدُّ» و «هؤلاء» بدلٌ، «وهؤلاء» عطفٌ عليه، أي: كلَّ فريق نُمِدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة، وهؤلاء الساعين للآخرة، وهذا تقديرٌ جيد. وقال الزمخشري في تقديرِه: «كلَّ واحد من الفريقين نُمِدُّ» . قال الشيخ: «كذا قَدَّره الزمخشريُّ، وأعربوا» هؤلاء «بدلاً مِنْ» كُلاًّ «ولا يَصِحُّ أن يكونَ بدلاً مِنْ» كل «على تقدير: كلَّ واحد، لأنه إذ ذاك بدلُ من بعض، فينبغي أن يكونَ التقدير: كلَّ الفريقين. و {مِنْ عَطَآءِ} متعلقٌ ب» نُمِدُّ «. والعطاءُ اسمُ مصدرٍ واقعٌ موقعَ اسم المفعول. والمَحْظور: الممنوعُ، وأصله مِن الحَظْر وهو: جَمْعُ الشيءِ في حَظيرة، والحَظيرة: ما يُعْمل مِنْ شجرٍ ونحوِه لتَأْوِي الغنم، والمُحْتَظِر: مَنْ يعمل الحظيرة.

21

قوله تعالى: {كَيْفَ فَضَّلْنَا} : «كيف» نصبٌ: إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على الحال، وهي معلِّقَةٌ «انظرْ» بمعنى فَكِّرْ، أو بمعنى أبصرْ.

قوله: «وأكثر تَفْصيلاً» ، أي: من درجاتِ الدنيا، ومِنْ تفضيلِ الدنيا.

22

قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ} : يجوز أن تكونَ على بابها، فينتصِبَ ما بعدها على الحال، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى «صار» فينتصبَ على الخبرية، وإليه ذهب الفراء والزمخشري، وأنشدوا في ذلك: 304 - 3- لا يُقْنِعُ الجاريةَ الخِضابُ ... ولا الوِشاحان ولا الجِلْبابُ من دون أن تلتقي الأَرْكابُ ... ويَقْعُدَ الأَيْرُ له لُعابُ أي: ويَصير. والبصريون لا يَقيسون هذا، بل يَقْتَصِرون به على المَثَل في قولهم: «شَحَذَ شفرتَه حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبَةٌ» .

23

قوله تعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} : يجوز أَنْ تكونَ «أنْ» مفسِّرةً؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول، و «لا» ناهيةٌ. ويجوز أَنْ تكونَ الناصبةَ، و «لا» نافيةٌ، أي: بأنْ لا، ويجوزُ أن تكونَ المخففةَ، واسمُها ضميرُ الشأن، و «لا» ناهيةٌ أيضاً، والجملةُ في مثل هذا إشكالُ: من حيث وقوعُ الطلبِ خبراً لهذا الباب. ومثلُه في هذا الإشكالِ قولُه: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] ، وقوله: {أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ} [النور: 9] لكونِه دعاءً وهو طَلَبٌ أيضاً، ويجوز أَنْ تكونَ الناصبةَ و «لا» زائدة. قال أبو البقاء: ويجوز أَنْ يكونَ

في موضع نصبٍ، [أي:] أَلْزَمَ ربُّك عبادَته و «لا» زائدةٌ «. قال الشيخ:» وهذا وهمٌ لدخولِ «إلا» على مفعولِ «تَعْبدوا» فَلَزِم أن يكونَ نَفْياًً أو نهياً «. وقرأ الجمهور» قَضَى «فعلاً ماضياً، فقيل: هي على موضوعِها الأصلي: قال ابنُ عطية:» ويكون الضمير في «تَعْبُدوا» للمؤمنين من الناسِ إلى يومِ القيامةِ «وقيل: هي بمعنى أَمَر. وقيل: بمعنى أَوْحَى، وقيل: بمعنى حَكَم، وقيل: بمعنى أَوْجَبَ أو ألزم. وقرأ بعضُ وَلَد معاذِ بن جَبَل» وقضاء «/ اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء، و {أَلاَّ تعبدوا} خبرُه. قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} قد تقدَّم نظيرُه في البقرة. وقال الحوفي: الباءُ متعلقةٌ ب» قضى «، ويجوز أن تكونَ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: واَوْصى بالوالدين إحساناً، وإحساناً مصدر، أي: يُحْسِنون بالوالدين إحساناً» . وقال الواحديُّ: «الباءُ مِنْ صلة الإِحسانِ فَقُدِّمَتْ عليه كما تقول: بزيدٍ فانْزِلْ» . وقد مَنَعَ الزمخشريُّ هذا الوجهَ قال: «لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه» . قلت: والذي ينبغي أن يُقال: إن هذا المصدرَ إنْ عَنَى به أنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ فالأمرُ على ما ذَكَرَ الزمخشريُّ، وإن كان بدلاً مِنَ اللفظ بالفعلِ فالأمرُ على ما قال الواحديُّ، فالجوازُ والمنعُ بهذين الاعتبارين.

وقال ابنُ عطية: «قوله وبالوالدَيْن إحساناً عطف على» أنْ «الأولى، أي: أَمَر اللهُ أَنْ لا تعبدوا إلا إياه، وأن تُحْسِنوا بالوالدَيْن إحساناً» . واختار الشيخُ أَنْ يكون «إحساناً» مصدراً واقعاً موقعَ الفعلِ، وأنَّ «أنْ» مفسرةٌ، و «لا» ناهيةٌ. قال: فيكون قد عَطَفَ ما هو بمعنى الأمرِ على نَهْيٍ كقولِه: 304 - 4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يقولون: لا تَهْلِكْ أَسَىً وتَجَمَّلِ قلت: وأَحْسَنَ «و» أساء «يتعدِّيان ب إلى وبالباء. قال تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي} [يوسف: 100] وقال كثِّير عَزِّة: 304 - 5- أسِيْئي بنا أو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكأنه ضُمِّن «أَحْسَن» لمعنى «لَطُف» فتعدَّى تعديتَه. قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} قرأ الأخَوان «يَبْلُغانِّ» بألفِ التثنيةِ قبل نونِ التوكيدِ المشدَّدةِ المكسورةِ، والباقون دونَ ألفٍ وبفتحِ النون. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها أوجهٌ، أحدها: أن الألفَ ضميرُ الوالدين لتقدُّم ذكرهما، و «أَحَدُهما» بدلٌ منه، و «أو كِلاهما» عطفٌ عليه. وإليه نحا الزمخشريُّ

وغيرُه. واستشكله بعضُهم بأنَّ قولَه «أحدُهما» بدلُ بعضٍ مِنْ كل، لا كلٍّ من كل، لأنه غيرُ وافٍ بمعنى الأول، وقوله بعد ذلك «أو كِلاهما» عطفٌ على البدلِ، فيكونُ بدلاً، وهو مِنْ بدل الكلِّ من الكل؛ لأنه مرادفٌ لألف التثنية. لكنه لا يجوز أن يكونَ بدلاً لعُرُوِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألفِ التثنيةِ هو المستفادُ مِنْ «كِلاهما» فلم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه. قلت: هذا معنى قولِ الشيخِ. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أن يقول: مُسَلَّمٌ أنه لم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه، لكنه لا يَضُرُّ لأنه شانُ التأكيد، ولو أفاد زيادةً أخرى غيرَ مفهومةٍ من الأولِ كان تأسيساً لا تأكيداً. وعلى تقدير تسليمِ ذلك فقد يُجابُ عنه بما قال ابنُ عطية فإنه قال بعد ذِكْره هذا الوجهَ «وهو بدلٌ مُقَسَّمٌ كقولِ الشاعرِ: 304 - 5- وكنت كذي رِجْلَيْنِ رجلٍ صحيحةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ إلا أنَّ الشيخ تعقَّب كلامَه فقال:» أمَّا قولُه بدلٌ مُقَسِّمٌ كقوله: «وكنتُ. . . .» فليس كذلك؛ لأنَّ شرطََه العطفُ بالواو، وأيضاً فشرطُه: ان لا يَصْدُقَ المُبْدَلُ منه على أحدِ قِسْميه، لكنْ هنا يَصْدُقُ على أحدِ قسمَيْه، ألا ترى أنَّ الألفَ وهي المبدلُ منه يَصْدُقُ على أحدِ قِسْمَيْها وهو «كلاهما» فليس من البدلِ المقسِّم «. ومتى سُلِّم له الشرطان لزم ما قاله. الثاني: أن الألفَ ليست ضميراً بل علامةُ تثنيةٍ و» أحدُهما «فاعلٌ بالفعلِ قبلَه، و» أو كلاهما «عطفٌ عليه. وقد رُدَّ هذا الوجهُ: بأن شرطَ الفعلِ المُلْحَقِ به علامة تثنيةٍ أن يكون مسنداً لمثنَّى نحو: قاما أخواك،

أو إلى مُفَرَّق بالعطف بالواو خاصةً على خلاف فيه نحو:» قاما زيد وعمرو «، لكنَّ الصحيحَ جوازُه لورودِه سماعاً كقوله: 304 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد أَسْلماه مُبْعَدٌ وحميم والفعلُ هنا مسندٌ إلى» أحدُهما «وليس مثنى ولا مفرَّقاً بالعطف بالواوِ. الثالث: نُقِل عن الفارسيِّ أنَّ/» كلاهما «توكيدٌ، وهذا لا بدَّ من إصلاحِه بزيادةٍ، وهو أن يُجْعَلَ» أحدُهما «بدلَ بعضٍ من كل، ويُضْمَرَ بعدَه فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية، ويقع» كلاهما «توكيداً لذلك الضميرِ تقديرُه: أو يَبْلُغا كلاهما، إلا أنَّ فيه حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ التوكيد، وفيها خلافٌ، أجازها الخليل وسيبويه نحو:» مررت بزيدٍ ورأيت أخاك أنفسهما «بالرفع والنصب، فالرفعُ على تقديرِ: هما أنفسُهما، والنصبُ على تقدير أَعْنِيهما أنفسَهما، ولكنْ في هذا نظرٌ: من حيث إن المنقولَ عن الفارسيِّ مَنَعَ حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ توكيدِه، فكيف يُخَرَّجُ قولُه على أصلٍ لا يُجيزُه؟ وقد نصَّ الزمخشريُّ على مَنْعِ التوكيدِ فقال: فإنْ قلت: لو قيل:» إمَّا يَبْلُغانِّ كلاهما «كان» كلاهما «توكيداً لا بدلاً، فما لكَ زَعَمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت: لأنَّه معطوفٌ على ما لا يَصِحُّ أن يكون توكيداً للاثنين، فانتظم في حكمِه، فوجَبَ أن يكونَ مثلَه» . قلت: يعني أنَّ «أحدُهما: لا يَصْلُحُ أن يقعَ توكيداً للمثنى ولا لغيرِهما، فكذا ما عُطِفَ عليه لأنه شريكُه.

ثم قال:» فإنْ قلتَ: ما ضَرَّك لو جَعَلْتُه توكيداً مع كونِ المعطوفِ عليه بدلاً، وعَطَفْتَ التوكيدَ على البدل؟ قلت: لو أريد توكيدُ التثنيةِ لقيل: «كلاهما» فحسبُ، فلمَّا قيل: «أحدهما أو كلاهما» عُلِمَ أنَّ التوكيدَ غيرُ مرادٍ فكان بدلاً مثلَ الأول «. الرابع: أَنْ يرتفعَ» كلاهما «بفعلٍ مقدَّر تقديرُه: أو يبلغُ كلاهما، ويكون» إحداهما «بدلاً من ألفِ الضمير بدلَ بعضٍ من كل. والمعنى: إمَّا يَبْلُغَنَّ عندك أحدُ الوالدَيْن أو يبلُغُ كلاهما. وأمَّا القراءةُ الثانية فواضحةٌ، و» إن ما «: هي» إنْ «الشرطية زِيْدَتْ عليها» ما «توكيداً، فَأُدْغِم أحدُ المتقاربين في الآخر بعد ان قُلب إليه، وهو إدغامٌ واجب. قال الزمخشري:» هي إنْ الشرطيةُ زِيْدَتْ عليها «ما» توكيداً لها ولذلك دَخَلَتْ النون، ولو أُفْرِدَتْ «إنْ» لم يَصِحُّ دخولُها، لا تقول: إن تُكْرِمَنَّ زيداً يُكْرِمْكَ، ولكن: إمَّا تُكْرِمنَّه. وهذا الذي قاله أبو القاسم نصَّ سيبويهِ على خلافِه، قال سيبويه: «وإن شِئْتَ لم تُقْحِمِ النونَ، كما أنك إن شِئْتَ لم تَجِيءْ ب» ما «. قال الشيخ:» يعني مع النون وعَدَمِها «. وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ سيبويه إنما نصَّ على أن نونَ التوكيد لا يجبُ الإِتيانُ بها بعد» أمَّا «، وإن كان أبو إسحاقَ قال

بوجوبِ ذلك. وقوله بعد ذلك» كما أنَّك إنْ شِئْتَ لم تجيءْ ب «ما» ، ليس فيه دليلٌ على جوازِ توكيدِ الشرط مع إنْ وحدها. و «عندك» ظرفٌ ل «يَبْلُغَنَّ» و «كِلا» مثنَّاةٌ معنىً من غيرِ خلافٍ، وإنما اختلفوا في تثنيتِها لفظاً: فمذهبُ البصريين أنها مفردةٌ لفظاً، ووزنُها على فِعَل ك «مِعَى» وألفُها منقلبةٌ عن واوٍ بدليل قلبِها تاءً في «كِلْتا» مؤنثَ «كِلا» هذا هو المشهور. وقيل: ألفُها عن ياء وليس بشيءٍ. وقال الكوفيون - وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله: 304 - 7- في كلتِ رِجْلَيْها سُلامى واحدَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَنَطَق بمفرِدها-: هي مثنَّاة لفظاً، ولذلك تُعْرَبُ بالألفِ رفعاً والياء نصباً وجراً، فألفُها زائدةٌ على ماهية الكلمة كألف «الزيدان» ، ولامُها محذوفةٌ عند السهيليِّ، ولم يأتِ عن الكوفيين نَصٌّ في ذلك، فاحتمل أن يكونَ الأمرُ كما قال السهيليُّ، وأن تكونَ موضوعةً على حرفَيْن فقط، لأنَّ مِنْ مذهبِهم جوازَ ذلك في الأسماءِ المعربة. وحكمها أنها متى أُضيفت إلى مضمرٍ أعْرِبت إعرابَ المثنى، أو إلى ظاهرٍ اُعْرِبَتْ إعرابَ المقصورِ عند جمهورِ العربِ، وبنو كنانةَ يُعْربونها إعرابَ المثنى مطلقاً فيقولون: رأيت كِلَيْ اَخَوَيْك، وكونُها جَرَتْ مَجْرى المثنى مع

المضمرِ دونَ الظاهر يضيق الوقتُ عن ذكره فإنِّي حَقَّقْتُه في «شرح التسهيل» . ومن أحكامِها: أنها لا تُضاف إلا إلى مثنى لفظاً ومعنى نحو: «كِلا الرجلين» ، أو معنىً لا لفظاً نحو:، «كِلانا» ، ولا تُضاف إلى مُفَرِّقَيْنِ بالعطفِ نحو: «كِلا زيد وعمرو» إلا في ضرورةٍ كقوله: 304 - 8- كِلا السيفِ والسَّاقِ الذي ذهبَتْ به ... على مَهَلٍ باثنين ألقاه صاحبُهْ وكذا لا تُضافُ إلى مفردٍ مرادٍ به التثنيةُ إلا في ضرورةٍ كقوله: 304 - 9- إنَّ للخير والشرِّ مَدَى ... وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ والأكثرُ مطابَقَتُها فَيُفْرَدُ خبرُها وضميرُها نحو: كلاهما قائمٌ، وكلاهما ضربتُه، ويجوزُ في قليل: قائمان، وضربتُهما، اعتباراً بمعناها، وقد جَمَعَ الشاعرُ بينهما في قوله: 305 - 0- كلاهما حينَ جَدَّ الجَرْيُ بينهما ... قد أقلعا وكِلا أَنْفَيْهما رابي وقد يَتَعَيَّنُ اعتبارُ اللفظِ نحو: كِلانا كفيلُ صاحبِهِ، وقد يتعيَّنُ اعتبارُ المعنى، ويُستعمل تابعاً توكيداً، وقد لا يَتْبَعُ فيقع مبتدأً ومفعولاً به ومجروراً. و «كلتا» في جميعِ ما ذُكِرَ ك «كِلا» ، وتاؤُها بدلُ عن واو، وألفُها للتأنيث، ووزنُها فِعْلى كذكرى. وقال يونس: ألفُها أصلٌ تأؤُها مزيدةٌ، ووزنُها فِعْتَل.

وقد رَدَّ عليه الناس، وله موضعٌ غيرُ هذا. والنسب إليها عند سيبويه: كِلْوِيّ كمذكَّرِها، وعند يونس: كِلْتَوِيّ لئلا تَلْتَبِسَ، وهذا القَدْرُ كافٍ في هاتين اللفظتين. قوله: «أُفٍّ» «أُفّ» اسمُ فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثرَ بابِ أسماء الأفعال أوامرُ، وأقلُّ منه اسمُ الماضي، وأقلُّ منه اسمُ المضارع ك «أُفّ» وأَوَّه، أي: أتوجَّع، ووَيْ، أي: أَعْجَبُ. وكان مِنْ حقِّها أَنْ تُعْرَبَ لوقوعِها موقعَ مُعْرَبٍ، وفيها لغاتٌ كثيرة وصلها الرُّمَّاني إلى تسع وثلاثين، وذكر ابنُ عطية لفظةً، بها تمت الأربعون، وهي اثنان وعشرون مع الهمزةِ المضمومةِ: أُفُّ، أُفَّ، أُفِّ، بالتشديدِ مع التنوين وَعَدَمِه، أُفُ، أُفَ، أُفِ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد، أُفُّه أَفَّه أُفِّه، أفَّا من غير إمالة، وبالإِمالة المحضة، وبالإِمالة بين بين، أُفُّو أُفِّي: بالواو والياء وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزةِ إفَّ إفِّ: بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه، إفُ إفَ إفِ بالتخفيفِ مع التنوينِ وعدمِه، إفَّا بالإِمالة. وستٌ مع فتح الهمزة: أَفَّ أَفِّ، بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه، أَفْ بالسكون، أفا بالألف. فهذه تسعٌ وثلاثون لغةً، وتمامُ الأربعين «أَفاهْ» بهاء السكت. وفي استخراجها بغيرِ هذا الضابطِ الذي ذكرتُه عُسْرٌ ونَصَبٌ يَحتاج في استخراجِه من كتب اللغة، ومن كلامِ أهلِها، إلى

تتبُّع كثيرٍ، والشيخ لم يَزِدْ على أنْ قالَ: «ونحن نَسْردُها مضبوطةً كما رأيناها» فذكرها، والنسَّاخُ خالفوه في ضبطِه، فمِنْ ثَمَّ جاء فيه الخَلَلُ، فَعَدَلْتُ إلى هذا الضابطِ المذكورِ ولله الحمدُ. وقد قُرِئ من هذه اللغاتِ بسبعٍ: ثلاثٍ في المتواتر، وأربعٍ في الشاذ، فقرأ نافعٌ وحفصٌ بالكسر والتنوين، وابنُ كثير وابنُ عامر بالفتحِ دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين، ولا خلافَ بينهم في تشديدِ الفاء. وقرأ نافعٌ في روايةٍ: أُفٌ بالرفع والتنوين، وأبو السَّمَّال بالضمِّ مِنْ غير تنوين، وزيد بن علي بالنصبِ والتنوين، وابنُ عباس: «أفْ» بالسكون. وقوله: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} ، أي: لا تَزْجُرْهما، والنَّهْرُ: الزَّجْرُ بِصياحٍ وغِلْظة/ وأصلُه الظهورُ، ومنه «النَّهْر» لظهوره. وقال الزمخشري: «النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ اَخَواتٌ» .

24

قوله تعالى: {جَنَاحَ الذل} : هذه استِعارةٌ بليغة، قيل: وذلك أنَّ الطائرَ إذا أراد الطيرانَ نَشَرَ جناحَيْه ورَفَعَهما ليرتفعَ، وإذا أراد تَرْكَ الطيران خَفَضَ جناحيه، فجعلَ خَفْضَ الجناحِ كنايةً عن التواضعِ واللِّين. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما معنى جَناح الذُّل؟ قلت: فيه وجهان،

أحدُهما: أن يكونَ المعنى: واخفِضْ لهما جناحَك كما قال:» واخفِضْ جناحَك للمؤمنين «فأضافه إلى الذُّل أو الذِّل كما أَضيف حاتمٌ إلى الجودِ على معنى: واخفِضْ لهما جناحَك الذليلَ أو الذَّلولَ. والثاني: أن تَجعلَ لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً، كما جعل لبيد للشَمال يداً وللقَرَّةِ زِماماً- في قوله: 305 - 1- وغداةِ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقَرَّةٍ ... إذ أصبحَتْ بيدِ الشَمال؟ ِ زِمامُها مبالَغةً في التذلُّل والتواضع لهما» انتهى. يعني أنه عبَّر عن اللينِ بالذُّلِ، ثم استعار له جناحاً، ثم رشَّح هذه الاستعارةَ بأَنْ أمرَه بخفضِ الجَناح. ومِنْ طريفِ ما يُحكى: أن أبا تمام لَمَّا نظَم قوله: 305 - 2- لا تَسْقِني ماءَ المَلام فإنني ... صَبٌّ قد اسْتَعْذَبْتَ ماء بكائي جاءه رجلٌ بقَصْعةٍ وقال له: أَعْطني شيئاً من ماء المَلام. فقال: حتى تأتيَني بريشةٍ مِنْ جَناح الذُّلِّ «يريد أن هذا مجازُ استعارةٍ كذاك. وقال بعضهم: 305 - 3- أراشُوا جَناحِيْ ثم بَلُّوه بالنَّدى ... فلم أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهم طَيَرانا وقرأ العامَّةُ» الذُّلِّ «بضم الذَّال، وابن عباس في آخرين بكسرها،

وهي استعارةٌ؛ لأنَّ الذِّلَّ في الدوابِّ لأنه ضدُّ الصعوبة، فاستعير للأناسيِّ، كما أن الذُّلَّ بالضمَّ ضدُّ العِزِّ. قوله: {مِنَ الرحمة} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها للتعليل فتتعلق ب» اخفِضْ «، أي: اخفِضْ مِن أجل الرحمة. والثاني: أنها لبيانِ الجنس. قال ابنُ عطية:» أي: إنَّ هذا الخفضَ يكون من الرحمة المستكنَّة في النفس «. الثالث: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ» جَناح «. الرابع: أنها لابتداءِ الغاية. قوله: {كَمَا رَبَّيَانِي} في هذه الكافِ قولان، أحدهما: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف، فقدَّره الحوفيُّ:» ارْحَمْهما رحمةً مثلَ تربيتِهما لي «. وقدَّره أبو البقاء:» رحمةً مثلَ رحمتِهما «، كأنه جعل التربيةَ رحمةً. الثاني: أنها للتعليل، أي: ارْحَمْهما لأجلِ تربيتِهما كقولِه: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] .

26

قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ} : التَّبْذِيرُ: التفريق ومنه: البَذْرُ «لأنه يُفَرِّق في الأرض للزراعة. قال: 305 - 4- ترائبُ يَسْتَضِيءُ الحَلْيُ فيها ... كجَمْر النارِ بُذِّرَ بالظَّلامِ ثم غَلَبَ في الإِسرافِ في النفقةِ.

28

قوله تعالى: {ابتغآء رَحْمَةٍ} : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً من أجله، ناصبُه «تُعْرِضَنَّ» وهو مِنْ وَضْعِ المُسَبَّب موضعَ السببِ، وذلك أن

الأصل: وإمَّا تُعْرِضَنَّ عنهم لإِعسارِك. وجعله الزمخشريُّ منصوباً بجوابِ الشرطِ، أي: فقل لهم قولاً سهلاً ابتغاء رحمةٍ. وردَّ عليه الشيخ: بأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها نحو: «إن يَقُمْ زيدٌ عمراً فاضرِبْ» فإنْ حَذَفْتَ الفاءَ جاز عند سيبويهِ والكسائي نحو: «إنْ يَقُمْ زيدٌ عمراً يَضْرِبْ» . فإن كان الاسمُ مرفوعاً نحو «إن تَقُمْ زيدٌ يَقُمْ» جاز ذلك عند سيبويهِ على أنَّه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ بعده، أي: إنْ تَقُمْ يَقُمْ زيدٌ يقمْ. ومنع مِنْ ذلك الفراءُ وشيخُه. وفي الردِّ نظرٌ؛ لأنه قد ثبت ذلك، لقولِه تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] الآية. لأنَّ «اليتيمَ» وما بعده منصوبان بما بعدَ فاءِ الجوابِ. الثاني: أنه موضعِ الحالِ مِنْ فاعلِ «تُعْرِضَنَّ» . قوله: «من ربِّك» يجوز أن يكونَ/ صفة ل «رحمةٍ» ، وأَنْ يكونَ متعلِّقاً ب «تَرْجُوها» ، أي: تَرْجُوها مِنْ جهةِ ربِّك، على المجاز. قوله: «تَرْجُوها» يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «تُعْرِضَنَّ» ، وأَنْ يكونَ صفةً ل «رحمةٍ» .

29

قوله تعالى: {كُلَّ البسط} : نصبٌ على المصدرِ

لإِضافتِها إليه. و «فَتَقْعُدَ» نصبُه على جواب النهي. و «مَلُوماً» : إمَّا حالٌ، وإمَّا خبرٌ، كما تقدَّم.

31

قوله تعالى: {خِطْئاً} : قرأ ابن ذكوان: «خَطَّأً» بفتح الخاءِ والطاءِ مِنْ غيرِ مَدّ، وابنُ كثير بكسرِ الخاء والمدّ، ويلزمُ منه فتحُ الطاء، والباقون بالكسرِ وسكونِ الطاء. فأمَّا قراءةُ ابنِ ذكوان فَخَرَّجها الزجَّاج على وجهين: أحدهما: أن يكونَ مصدرٍ مِنْ أَخطأ يُخْطِىء خَطَأً، أي: إخطاءً، إذا لم يُصِبْ. والثاني: أن يكونَ مصدرَ خَطِئَ يَخْطَأُ خَطَأً، إذا لم يُصِبْ أيضاً، وأنشد: 305 - 5- والناسُ يَلْحَوْن الأميرَ إذا هُمُ ... خَطِئوا الصوابَ ولا يُلام المُرْشِدُ والمعنى على هذين الوجهين: أنَّ قَتْلهم كان غيرَ صواب. واستبعد قومٌ هذه القراءةَ قالوا: لأن الخطأ ما لم يُتَعَمَّدْ فلا يَصِحُّ معناه ههنا. قلت: وخفي عنهم أن يكونَ بمعنى أخطأ، أو أنه يقال: «خَطِئ» إذا لَمْ يُصِبْ. وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فهي مصدرٌ خاطَأَ يُخاطِئ خِطاءً مثل: قاتَلَ يُقاتِل قِتالاً. قال أبو علي: «هي مصدرُ خاطَأَ يُخاطِئ، وإنْ كنَّا لم نجدْ» خاطَأَ «

ولكنْ وَجَدْنا تخاطَأَ وهو مطاوِعُ» خاطَأَ «فَدَلَّنا عليه، ومنه قولُ الشاعر: 305 - 6- تخاطَأَتِ النَّبْلُ أَحْشاءَه ... وأخَّر يَوْمِي فلم يَعْجَلِ وقال الآخر: 305 - 7- تخاطأَه القَنَّاصُ حتى وَجَدْتُه ... وخُرْطُوْمُه في مَنْقَعِ الماءِ راسِبُ فكأنَّ هؤلاء الذين يَقْتُلون أولادَهم يُخاطِئُون الحقَّ والعَدل. وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ حتى قال أبو جعفر:» لا أَعْرِفُ لهذه القراءةِ وجهاً «، ولذلك جعلها أبو حاتم غَلَطاً. قلت: قد عَرَفه غيرُهما ولله الحمدُ. وأمَّا قراءةُ الباقين فخي جيدةٌ واضحةٌ لأنها مِنْ قولهم: خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً، كأَثِمَ يَأثَمُ إثْماً، إذا تَعَمَّد الكذبَ. وقرأ الحسن:» خَطاء «بفتح الخاء والمدّ وهو اسمُ مصدر» أَخْطَأَ «كالعَطاء اسمٌ للإِعطاء. وقرأ أيضاً» خَطا «بالقصرِ، وأصلُه» خَطَأ «كقراءةِ ابن ذَكْوان، إلا أنه سَهَّل الهمزةَ بإبدالها ألفاً فَحُذِفت كعَصا. وأبو رجاءٍ والزُّهْريُّ كذلك، إلا أنهما كسرا الخاء ك» زِنَى «وكلاهما مِنْ خَطِئ في الدِّين، وأَخْطأ في الرأي، وقد يُقام كلٌّ منهما مقامَ الآخرَ.

وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ» خَطْئَاً «بالفتح والسكون والهمزِ، مصدرُ» خَطِئ «بالكسرِ. وقرأ ابنُ وثاب والأعمشُ» تُقَتِّلوا «، و» خِشْية «بكسرِ الخاء.

32

قوله تعالى: {الزنى} : العامَّةُ على قصرِه وهي اللغة الفاشية، وقُرِئ بالمدِّ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه لغةٌ في المقصور. والثاني: أنه مصدر زاني يُزاني، كقاتل يُقاتل قِتالاً؛ لأنَّه يكونُ بين اثنتين، وعلى المدِّ قولُ الفرزدق: 305 - 8- أبا خالدٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤُه ... ومن يَشْرَبِ الخُرْطومَ يُصْبِحْ مُسَكَّراً وقول الآخر: 305 - 9- كانت فريضةُ ما تقولُ كما ... كان الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْمِ وليس ذلك من بابِ الضرورةِ لثبوتِه قراءةً في الجملة. قوله: {وَسَآءَ سَبِيلاً} تقدَّم نظيره. قال ابنُ عطيةَ: «وسبيلاً: نصبٌ

على التمييز، أي: وساء سبيلاً سبيلُه» . ورَدَّ الشيخ: هذا: بأنَّ قولَه «منصوبٌ على التمييز» ينبغي أن يكونَ الفاعلُ ضميراً مُفَسَّراً بما بعده من التمييز فلا يصحُّ تقديرُه: ساء سبيلُه سبيلاً؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم جنس.

33

قوله تعالى: {إِلاَّ بالحق} : أي: إلا بسببِ الحق، فيتعلَّقُ ب {لاَ تَقْتُلُواْ} ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل {لاَ تَقْتُلُواْ} أو مِنْ مفعولِه، أو: لا تَقْتُلُوا إلا ملتبسين بالحق أو إلا ملتبسةً بالحقِّ، ويجوز أن يكونَ نعتاً/ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إلا قَتْلاً ملتبساً بالحق. قوله: «مَظْلُوماً» حالٌ مِنْ مرفوع «قُتِل» . قوله: {فَلاَ يُسْرِف} [قرأ] الأخَوان بالخطاب، على إرادةِ الوليِّ، وكان الوليُّ [يَقْتُل] الجماعةَ بالواحد، أو السلطانِ رَجَع لمخاطبته بعد أن اتى به غائباً. والباقون بالغَيْبة، وهي تحتمل ما تقدَّم في قراءةِ الخطاب. وقرأ أبو مسلم برفعِ الفاءِ على أنه خبرٌ في معنى النهيِ كقولِه: {

فَلاَ رَفَثَ} [البقرة: 197] . وقيل: «في» بمعنى الباء، أي: بسبب القتلِ. قوله: {إِنَّهُ كَانَ} ، أي: إنَّ الوليَّ، أو إنَّ السلطان، أو إنَّ القاتل، أي: أنه إذا عُوقِب في الدنيا نُصِر في الآخرة، أو إلى المقتولِ، أو إلى الدمِ أو إلى الحق.

34

قوله تعالى: {إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الأصلَ على حَذْفِ مضافٍ، أي: إن ذا العهدِ كان مسؤولاً عن الوفاءِ بعهده. والثاني: أن الضميرَ يعود على العهدِ، ونَسَبَ السؤالَ إليه مجازاً كقولِه: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} [التكوير: 8] .

35

قوله تعالى: {بالقسطاس} : قرأ الأخوانِ وحفصٌ بكسر القافِ هنا وفي سورة الشعراء بكسر القاف، والباقون بضمِّها فيهما، وهما لغتان مشهورتان، وهو القَرَسْطُون. وقيل: هو كل ميزان. قال ابن عطية: «واللفظةُ للمبالغة من القِسْط» . ورَدَّه الشيخ باختلافِ المادتين، ثم قال: «إلا أَنْ يَدَّعيَ زيادةَ السين آخراً كقُدْْموس، وليس من مواضع زيادتها» . ويقال بالسين والصاد. قال بعضُهم: هو روميٌّ معرَّبٌ.

والمَحْسُور: المنقطعُ السيرِ، حَسَرْتُ الدابة: قَطَعْتُ سيرَها، وحَسير: أي: كليل تعبانُ بمعنى مَحْسُور، والجمع «حَسْرى قال: 306 - 0- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظَامُها ... فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ وحَسَر عن كذا: كشف عنه، كقوله: 306 - 1-. . . . . . . . . . . يَحْسِرُ الماءُ تارةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قوله:» تأويلاً «منصوب على التفسير. والتأويلُ: المَرْجِعُ مِنْ آلَ يؤولُ، أي: أحسن عاقبةً.

36

قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ} : العامَّةُ على هذه القراءةِ، أي: لا تَتَّبِعْ، مِنْ قفاه يقْفوه إذا تتبَّع أثرَه، قال النابغة: 306 - 2- ومثلُ الدُّمى شُمُّ العَرانينِ ساكنٌ ... بهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافيا وقال الكميت: 306 - 3- فلا أَرْمي البريْءَ بغيرِ ذنبٍ ... ولا أَقْفو الحواصِنَ إن قُفِيْنا وقرأ زيدُ بن عليّ: «ولا تَقْفُو» بإثباتِ الواو، وقد تقدَّم أن إثباتَ حرفِ

العلةِ جزماً لغةُ قوم، وضرورةٌ عندهم غيرهم كقوله: 306 - 4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... مِنْ هَجْوِ زبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ وقرأ معاذ القارئ «ولا تَقُفْ» بزنةِ تَقُلْ، مِنْ قاف يَقُوف، أي: تَتَبَّع أيضاً، وفيه قولان: أحدُهما: أنه مقلوبٌ مِنْ قفا يَقْفُو، والثاني - وهو الأظهرُ- أنه لغةٌ مستقلةٌ جيدة كجَبَذَ وجَذَب، لكثرة الاستعمالين، ومثله: قَعا الفحلُ الناقةَ وقاعَها. قوله: «والفُؤادَ» قرأ الجَرَّاح العقيلي بفتح الفاء وواوٍ خالصة. وتوجيهُها: أنه أبدل الهمزةَ واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدلِ لأنها لغةٌ في الفؤاد، يقال: فُؤَاد وفَآد، وأنكرها أبو حاتمٍ، أعني القراءةَ، وهو معذورٌ. والباء في «به» متعلقةٌ بما تَعَلَّق به «لك» ولا تتعلَّق ب «عِلْم» لأنه مصدر، إلا عند مَنْ يتوسَّع في الجارِّ. قوله: «أولئك» إشارة إلى ما تقدَّم من السمعِ والبصر والفؤادِ كقوله: 306 - 5-

ذُمَّ المنازلَ بعد منزلةِ اللَّوَى ... والعيشَ بعد أولئك الأيامِ ف «أولئك» يُشار به إلى العقلاءِ وغيرِهم من الجموع. واعتذر ابنُ عطيةَ عن الإِشارةِ به لغير العقلاءِ فقال: «وعَبَّر عن السمعِ والبصَرِ والفؤاد ب» أولئك «لأنها حواسُّ لها إدراكٌ، وجعلها في هذه الآيةِ مسؤولةً فهي حالةُ مَنْ يَعْقِلُ، ولذلك عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ، وقد قال سيبويه - رحمه الله - في قوله {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] إنما قال» رأيتُهم «في نحوم؛ لأنه لَمَّا وصفها بالسجود - وهو فِعْل مَنْ يَعْقِل - عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ. وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّر عَمَّن يَعْقِلُ وعَمَّن لا يَعْقِل ب» أولئك «، وأنشد هو والطبري: - ذمَّ المنازلَ بعد منزلة اللَّوى ... والعيشَ بعد أولئكَ الأيامِ وأمَّا حكايةُ أبي إسحاقَ عن اللغةِ فأمرٌ يُوْقَفُ عنده، وأمَّا البيتُ فالروايةُ فيه» الأقوامِ «. ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ لِما عرفْتَ. وأمَّا قولُه: إنَّ الروايةَ:» الأقوامِ «فغيرُ معروفةٍ والمعروفُ إنما هو» الأيَّام «. قوله: {كُلُّ أولئك} مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ» كان «خبرُه، وفي اسمِ» كان «وجهان، أحدُهما: أنه عائدٌ على» كل «باعتبارِ لفظِها، وكذا الضميرُ

في» عنه «، و» عنه «متعلقٌ ب» مَسْؤولاً «، و» مسؤولاً «خبرُها. والثاني: أنَّ اسمَها ضميرٌ يعود على القافي، وفي «عنه» يعودُ على «كل» وهو من الالتفاتِ؛ إذ لو جَرَى على ما تقدَّم لقيل: كنتَ عنه مسؤولاً. وقال الزمخشريُّ: و «عنه» في موضع الرفع بالفاعلية/، أي: كلُّ واحدٍ كان مسؤولاً عنه، فمسؤول مسندٌ إلى الجارِّ والمجرور كالمغضوبِ في قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] . انتهى. وفي تسميته مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه فاعلاً خلافُ الاصطلاح. وقد رَدَّ الشيخ عليه قولَه: بأنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ حكمُه حكمُه، فلا يتقدَّم على رافعِه كأصلِه. وليس لقائلٍ أَنْ يقولَ: يجوزُ على رأيِ الكوفيين فإنَّهم يُجيزون تقديمَ الفاعلِ؛ لأنَّ النحاس حكى الإِجماعَ على عدمِ جوازِ تقديمِ القائمِ مقامَ الفاعل إذا كان جارَّاً ومجروراً، فليس هو نظيرَ قولِه {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} فحينئذٍ يكون القائمُ مقامَ الفاعلِ الضميرَ المستكنَّ العائدَ على «كل» أو على القافي.

37

قوله تعالى: {مَرَحاً} : العامَّةُ على فتحِ الراء وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، أي: مَرِحاً بكسر الراء، ويدلُّ عليه قراءةُ بعضِهم فيما حكاه يعقوبُ «مَرِحاً» بالكسر. الثاني: أنَّه حَذْفِ مضافٍ، أي: ذا مَرَحٍ، الثالث: أنه مفعولٌ مِنْ أجله.

والمَرَحُ: شِدَّةُ السرورِ والفرحِ. مَرِح يَمْرَح مَرَحاً فهو مَرِحٌ كفَرِح يَفْرَح فَرَحاً فهو فَرِحٌ. قوله: «طُوْلاً» يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل «تَبْلُغ» أو مِنْ مفعولِه، أو مصدراً مِنْ معنى «تَبْلُغ» أو تمييزاً أو مفعولاً له. وهذان ضعيفان جداً لعدمِ المعنى. وقرأ أبو الجرَّاح: «لن تَخْرُق» بضمِّ الراءِ، وأنكرها أبو حاتمٍ، وقال «لا نَعْرِفُها لغةً البتةَ» .

38

قوله تعالى: {كَانَ سَيِّئُهُ} : قرأ ابنُ عامرٍ والكوفيون بضمِّ الهمزةِ والهاء، والتذكيرِ، وتَرْكِ التنوين. والباقون بفتح الهمزة وتاءِ التأنيث منصوبةً منونةً. فالقراءةُ الأُولى أشير فيها بذلك إلى جميعِ ما تقدَّم، ومنه السَّيِّىءُ والحَسَنُ، فأضاف السَّيِّىءَ إلى ضميرِ ما تقدَّم، ويؤيِّدها ما قرأ به عبدُ الله: «كلُّ ذلك كان سَيِّآته» بالجمعِ مضافاً للضمير، وقراءةُ اُبَيّ «خبيثُهُ» والمعنى: كلُّ ما تقدَّم ذِكْرُه ممَّا أُمِرْتُمْ به ونُهِيْتُمْ [عنه] كان سَيِّئُه - وهو ما نُهِيْتُمْ عنه خاصةً - أمراً مكروهاً. هذا أحسنُ ما يُقَدَّر في هذا المكان. وأمَّا ما استشكله بعضُهم من أنَّه يصير المعنى: كلُّ ما ذُكِرَ كان سَيِّئةً، ومِنْ جملةِ كلِّ ما ذُكِر: المأمورُ به، فَيَلْزَمُ أن يكونَ فيه سيِّءٌ، فهو استشكالٌ واهٍ؛ لِما ذكرْتُ من تقدير معناه.

و «مكروهاً» خبر «كان» ، وحُمِل الكلامُ كلُّه على لفظِ «كل» فلذلك ذكَّر الضميرَ في «سَيِّئُهُ» ، والخبرُ وهو: مكروه. وأمَّا قراءةُ الباقين: فتحتمل أن تقعَ الإِشارةُ فيها ب «ذلك» إلى مصدري النَّهْيَيْنِ المتقدِّمَيْن قريباً وهما: قَفْوُ ما ليس به عِلْمٌ، والمَشْيُ في الأرض مَرَحاً. والثاني: أنه أُشيرَ به إلى جميعِ ما تقدَّم مِنَ المناهي. و «سَيِّئَةً» خبرُ كان، وأُنِّثَ حَمْلاً على معنى «كُل» ، ثم قال «مَكْروهاً» حَمْلاً على لفظها. وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً وهو: أنَّ «السيئة في حكمِ الأسماءِ بمنزلةِ الذَّنْبِ والإِثمِ زال عنه حكمُ الصفاتِ، فلا اعتبارَ بتأنيثِه، ولا فرقَ بين مَنْ قرأ» سَيِّئة «ومَنْ قرأ» سَيِّئاً «ألا ترى أنَّك تقولُ: الزِّنَى سيئة، كما تقول: السرقةُ سيئةٌ، فلا تُفَرِّقُ بين إسنادِها إلى مذكر ومؤنث» . وفي نَصْبِ «مكروهاً» أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه خبرٌ ثانٍ ل «كان» ، وتعدادُ خبرِها جائزٌ على الصحيح. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ «سيئة» . وضعِّف هذا: بأنَّ البدلَ بالمشتقِ قليلٌ. الثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في {عِنْدَ رَبِّكَ} لوقوعِه صفةً ل «سَيِّئة» . الرابع: أنه نعتٌ ل «سيئةٍ» ، وإنما ذكِّر لأن تأنيثَ موصوفِه مجازيٌّ. وقد رُدَّ هذا: بأن ذلك إنَّما يجوزُ حيث اُسْنِد إلى المؤنثِ المجازيِّ، أمَّا إذا أُسْنِدَ إلى ضميرِهِ فلا، نحو: «الشمسُ طالعةٌ» ، لا يجوز: «طالعٌ» إلا في ضرورةٍ كقوله: 306 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرض أبقلَ إبقالها

وهذا عند غيرِ ابنِ كَيْسان، وأمَّا ابنُ كَيْسان فيُجيز في الكلام: «الشمسُ طَلَع، وطالعٌ» . وأمَّا قراءةُ عبدِ الله فهي ممَّا أُخْبر فيها عن الجمعِ إخبارَ الواحدِ لسَدِّ الواحدِ مَسَدَّه كقوله: 306 - 7- فإمَّا تَرَيْني ولِيْ لِمَّةٌ ... فإنَّ الحوادثَ أَوْدَى بها لو قال: فإنَّ الحَدَثان/ لصَحَّ من حيث المعنى، فَعَدَلَ عنه لِيَصِحَّ الوزنُُ. وقرأ عبدُ اللهِ أيضاً «كان سَيِّئاتٍ» بالجمعِ من غير إضافةٍ وهو خبرُ «كان» ، وهي تؤيد قراءةَ الحَرَميِّين وأبي عمرو.

39

قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى} : مبتدأ أو خبر، و «ذلك» إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم من التكاليفِ وهي أربعةٌ وعشرون نوعاً، أولُها قولُه: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} [الإِسراء: 22] ، وآخرُها: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} [الإِسراء: 37] . {مِمَّآ أوحى} «مِنْ» للتبعيضِ؛ لأنَّ هذه بعضُ ما أوحاه اللهُ تعالى إلى نبيِّه. قوله: {مِنَ الحكمة} يحوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ حالاً مِنْ عائدِ الموصولِ المحذوف تقديرُهُ: مِن الذي أوحاه حالَ كونِهِ من الحكمة،

أو حالٌ من نفسِ الموصولِ. الثاني: أنه متعلق بأَوْحى، و «مِنْ» إمَّا تبعيضيةٌ؛ لأنَّ ذلك بعضُ الحكمةِ وإمَّا للابتداءِ، وإمَّا للبيان. وحينئذٍ تتعلَّق بمحذوفٍ. الثالث: أنها مع مجرورِها بدلٌ مِنْ {مِمَّآ أوحى} .

40

قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} ألفُ «أَصْفى» عن واوٍ، لأنَّه من صفا يَصْفو، وهو استفهامُ إنكارٍ وتوبيخٍ. قوله: «واتَّخَذَ» يجوز أن يكونَ معطوفاً على «أَصْفاكم» فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار، ويجوز أن تكونَ الواوُ للحالِ، و «قد» مقدرةٌ عند قومٍ. و «اتَّخذ» يجوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لاثنين، فقال أبو البقاء: «إنَّ ثانيَهما محذوفٌ، أي: أولاداً، والمفعولُ الأولُ هو» إناثاً «. وهذا ليس بشيءٍ، بل المفعولُ الثاني هو {مِنَ الملائكة} قُدِّم على الأولِ، ولولا ذلك لَزِمَ أن يُبتدأ بالنكرةِ من غير مسوِّغ، لأنَّ ما صَلُح أن يكونَ مبتدأً صَلُح أن يكونَ مفعولاً أول في هذا الباب، وما لا فلا. ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ كقولِه: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116] ، و {مِنَ الملائكة} متعلِّقٌ ب» اتَّخذ «أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النكرةِ بعده.

41

قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} : العامَّةُ على تشديد الراء، وفي مفعول «صَرَّفْنا» وجهان، أحدُهما: أنه مذكورٌ، و «في» مزيدةٌ فيه،

أي: ولقد صَرَّفْنا هذا القرآنَ، كقولِه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان: 50] ، ومثله: 306 - 8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . يَجْرَحْ في عَراقيبِها نَصْلِيْ وقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي} [الأحقاف: 15] ، أي: يَجْرَحْ عراقيبَها، وأَصْلح لي ذريتي. ورُدَّ هذا بأنَّ «في» لا تُزاد، وما ذُكِرَ متأول، وسيأتي إنْ شاءَ الله تعالى في الأحقاف. الثاني: أنَّه محذوفٌ تقديرُه: ولقد صَرَّفْنا أمثالَه ومواعظَه وقصصَه وأخبارَه وأوامره. وقال الزمخشري في تقدير ذلك: «ويجوز أن يُراد ب» هذا القرآن «إبطالُ إضافتِهم إلى الله البناتِ؛ لأنه ممَّا صرَّفه وكرَّر ذِكْرَه، والمعنى: ولقد صَرَّفْنا القولَ في هذا المعنى، وأوقَعْنا التصريفَ فيه، وجَعَلْناه مكاناً للتكرير، ويجوز أن يريد ب {هذا القرآن} التنزيلَ، ويريد: ولقد صَرَّفناه، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل، فترك الضميرَ لنه معلومٌ» . قلت: وهذا التقديرُ الذي قدَّره الزمخشريُّ أحسنُ؛ لأنه مناسِبٌ لما دَلَّتْ عليه الآيةُ وسِيْقَتْ

لأجلِه، فقدَّرَ المفعولَ خاصَّاً، وهو: إمَّا القولُ، وإمَّا المعنى، وهو الضميرُ الذي قدَّره في «صَرَّفْناه» بخلافِ تقديرِ غيرِه، فإنَّ جَعَلَه عامَّاً. وقيل: المعنى: لم نُنَزِّلْه مرةً واحدة بل نجوماً، والمعنى: أَكْثَرْنا صَرْفَ جبريلَ إليك، فالمفعولُ جبريل عليه السلام. وقرأ الحسن بتخفيفِ الراء فقيل: هي بمعنى القراءةِ الأولى، وفَعَل وفَعَّل قد يَشْتركان. وقال ابنُ عطية: «أي: صَرَفْنا الناسَ فيه إلى الهدى» . قوله: «لِيَتَذَّكَّروا» متعلقٌ ب «صَرَّفْنا» . وقرأ الأخَوان هنا وفي الفرقان بسكون الذال وضمِّ الكاف مخففةً مضارع «ذكر» من الذِّكر أو الذُّكر، والباقون بفتح الذال والكافُ مشددةٌ، والأصلُ: يتذكَّروا، فأدغم التاءَ في الذال، وهو من الاعتبار والتدبُّر. قوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ} ، أي: التصريفُ، و «نُفوراً» مفعولٌ ثانٍ.

42

قوله تعالى: {كَمَا يَقُولُونَ} : الكافُ في موضعِ نصبٍ، وفيهما وجهان: أحدُهما: أنها متعلقةٌ بما تعلَّقَتْ به «مع» من الاستقرار، قاله الحوفي. والثاني: أنها/ نعتٌ لمصدر محذوف، أي: كوناً كقولكم قاله أبو البقاء.

وقرأ ابنُ كثيرٍ وحفصٌ «يقولون» بالياءِ مِنْ تحت، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ، وكذا قولُه بعد هذا {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ} [الإِسراء: 43] ، قرأه بالخطابِ الأخَوان، والباقون بالغيب، فتحصَّل من مجموع الأمر أنَّ ابنَ كثير وحفصاً يَقْرآنهما بالغيب، وأن الأخوين قرآ بالخطاب فيهما، وأن الباقين قرؤوا بالغيب في الأول، وبالخطاب في الثاني. فالوجهُ في قراءةِ الغيبِ فيهما أنه: حَمَل الأولَ على قولِهِ: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [الإِسراء: 41] ، وحَمَل الثاني عليه. وفي الخطاب فيهما أنه حمل الأولَ على معنى: قل لهم يا محمد لو كان معه آلهةٌ كما تقولون، وحَمَل الثاني عليه. وفي قراءة الغيبِ في الأولِ أنَّه حَمَله على قوله «وما يزيدهم» والثاني التفت فيه إلى خطابهم. قوله: «إذَنْ» حرفُ جوابٍ وجزاءٍ. قال الزمخشري: «وإذن دالَّةٌ على أنَّ ما بعدها وهو» لابتَغَوا «جوابٌ لمقالةِ المشركين وجزاءٌ ل» لو «. وأدغم أبو عمروٍ الشينَ في السين، واستضعفها النحاةُ لقوةِ الشين.

43

قوله تعالى: {وتعالى} : عطفٌ على ما تضمَّنه المصدرُ، تقديرُه: تنزَّه وتعالى. و «عن» متعلقة به. أو ب «سبحان» على

الإِعمال لأنَّ «عن» تعلَّقت به في قوله {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] و «عُلُوّاً» مصدرٌ واقع موقعَ التعالي، كقولِه: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] في كونِه على غيرِ الصدرِ.

44

قوله تعالى: {تُسَبِّحُ} : قرأ أبو عمروٍ والأخَوان وحفصٌ بالتاء، والباقون بالياء مِنْ تحت، وهما واضحتان؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ ولوجودِ الفصلِ أيضاً. وقال ابن عطية: «ثم أعاد على السماواتِ والأرض ضميرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا أَسْنَدَ إليها فعلَ العاقلِ وهو التسبيحُ» ، وهذا بناءً منه على أنَّ «هُنَّ» مختصٌّ بالعاقلات، وليس كما زَعَمَ، وهذا نظيرُ اعتذارِه عن الإِشارة ب «أولئك» في قوله {كُلُّ أولئك} وقد تقدَّم. وقرأ عبدُ الله والأعمشُ «سبَّحَتْ» ماضياً بتاء التأنيث.

45

قوله تعالى: {مَّسْتُوراً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه على بابه بمعنى: مستور عن أعينِ الكفار فلا يَرَوْنه. وقيل: هو على النسب، أي: ذو سِتْرٍ كقولِهم: مكان مَهُول وجاريةٌ مَغْنُوجة، أي: ذو هَوْل وذات غُنْجٍ، ولا يُقال فيهما: هُلْتُ المكانَ ولا غَنَجْتُ الجارية. وقيل:

هو وصفٌ على جهة المبالغة كقولهم: «شِعْرٌ شاعِر» . ورُدَّ هذا: بأنَّ ذلك إنما يكون في اسمِ الفاعلِ ومِنْ لفظِ الأولِ. والثاني: أنَّه بمعنى فاعِل كقولهم: مَشْؤُوم ومَيْمون بمعنى: شائِم ويامِن، وهذا كما جاء اسمُ الفاعلِ بمعنى مفعول كماء دافِق، وهذا قولُ الأخفش في آخرين.

46

قوله تعالى: {وَحْدَهُ} : فيه وجهان، أحدهما: أنَّه منصوبٌ على الحال، وإن كان معرفةً لفظاً، لأنه في قوةِ النكرة؛ إذ هو في معنى «منفرداً» ، وهل هو مصدرٌ أو اسمٌ موضوعٌ موضعَ المصدرِ الموضوعِ موضعَ الحال، ف «وَحْدَه» وُضِعَ موضعَ «إيحاد» و «إيحاد» وُضع موضعَ «مَوْحَد» وهو مذهب سيبويه، أو هو مصدرٌ على حَذْف الزوائد، إذ يقال: أَوْحَدَه يُوْحِدُه إيحاداً، أو هو مصدرٌ بنفسِه ل «وَحَد» ثلاثياً. قال الزمخشري: «وَحَدَ يَحِدُ وَحْداً وحِدَة نحو: وَعَد يَعِد وَعْداً وعِدَة، و» وَحْدَه «من باب:» رَجَع عَوْدَه على بَدْئه، و «افعَلْه جهدَك وطاقتَك» في أنه مصدرٌ سادٌّ مَسَدَّ الحال، أصلُه يَحِدُ وَحْدَه، بمعنى واحداً «. قلت: وقد عرفْتُ أن هذا ليس مذهبَ سيبويه. والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ، وهو قولُ يونس. واعلمْ أنَّ هذه الحالَ بخصوصِها -أعني لفظة» وحده «- إذا وَقَعَتْ بعد فاعلٍ ومفعولٍ نحو: ضَرَبَ زيدٌ عمراً وَحْده» فمذهبُ سيبويه: أنه حالٌ من الفاعل، أي:

مُوَحِّداً له بالضرب. ومذهبُ المبردِ: أنه يجوز أن يكونَ حالاً من المفعول. قال الشيخ: «فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير: وإذا ذكرْتَ ربَّك مُوَحِّداً لله، وعلى مذهب المبرد يجوز أن يكونَ التقديرُ: مُوَحَّداً بالذِّكْر» . قوله: نُفوراً «فيه وجهان: أحدُهما: أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر؛ لأنَّ التولِّيَ والنفور بمعنى. والثاني: أنه حال مِنْ فاعل» وَلَّوا «وهو حينئذ جمع نافرٍ، كقاعِد وقُعود وجالس وجلوس. والضميرُ في» وَلَّوا «الظاهر/ عودُه على الكفارِ. وقيل: يعود على الشياطين، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ.

47

قوله تعالى: {بِمَا يَسْتَمِعُونَ} : متعلقٌ ب «أَعْلَمُ» . وما كان من باب العلمِ والجهلِ في أَفْعَلِ التفضيلِ وأفعلَ في التعجب تعدَّى بالباء نحو: أنت أعلمُ به، وما أعلمك به!! وهو أجهلُ به، وما أجهلَه به!! ومن غيرِهما يتعدَّى في البابين باللام نحو: أنت أَكْسَى للفقراء. و «ما» بمعنى الذي، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإِعراض فكأنه قال: نحن أعلمُ بالاستخفافِ والاستهزاءِ الذي يستمعون به. قاله ابنُ عطية. قوله: «به» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه حالٌ، فيتعلق بمحذوف. قال الزمخشري: «وبه في موضع الحالِ كما [تقول:] يستمعون بالهُزْء، أي: هازئين» . الثاني: أنها بمعنى اللامِ، أي: بما يستمعون له. الثالث:

أنَّهما على بابها، أي: يستمعون بقلوبهم أو بظاهرِ أسماعهم، قالهما أبو البقاء. الرابع: قال الحوفيُّ: «لم يَقُلْ يَسْتعونه ولا يستمعونك؛ لَمَّا كان الغرضُ ليس الإِخبارَ عن الاستماعِ فقط، وكان مُضَمَّناً أنَّ الاستماعَ كان على طريق الهُزْء بأن يقولوا: مجنون أو مسحور جاء الاستماع به وإلى، لِيُعْلَمَ أنَّ الاستماعَ ليس المرادُ به تَفَهُّمَ المسموعِ دون هذا المقصد» ، فعلى هذا أيضاً تتعلق الباء ب «يستمعون» . قوله: «إذ يستمعون» فيه وجهان: أحدُهما: أنه معمولٌ ل «أَعْلَمُ» . قال الزمخشريُّ: «إذ يستمعون نصبٌ ب» أَعْلَمُ «، أي: اَعْلَمُ وقتَ استماعِهم بما به يستمعون، وبما يتناجَوْن به، إذ هم ذَوُو نجوى» . والثاني: أنه منصوبٌ ب «يَستمعون» الأولى. قال ابن عطية: «والعاملُ في» إذ «الأولى وفي المعطوف» يستمعون «الأول. وقال الحوفي:» ف إذ الأولى تتعلق ب «يستمعون» وكذا {وَإِذْ هُمْ نجوى} لأنَّ المعنى: نحن أعلمُ بالذي يستمعون إليك وإلى قراءتِك وكلامِك، إنما يستمعون لسَقْطِك، وتتبُّعِ عيبِك، والتماسِ ما يَطْعنون به عليك، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتَه بالباء و «إلى» . قوله: «نَجْوى» يجوز أن يكونَ مصدراً فيكونَ من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً، أو على حَذْفِ مضاف، أي: ذوو نجوى، كما قاله الزمخشريُّ. ويجوز أَنْ يكونَ جمعَ نَجِيّ كقتيل وقَتْلَى. قاله أبو البقاء.

قوله: {إِذْ يَقُولُ} بدلٌ مِنْ «إذ» الأولى في أحَد القولين، والقولُ الآخر: أنها معمولةٌ ل «اذكُر» مقدراً. قوله: «مَسْحوراً» الظاهرُ أنه اسمُ مفعولٌ من «السِّحْر» بكسرِ السين، أي: مَخْبولَ العقلِ أو مخدوعَه. وقال أبو عبيدة: «معناه أن له سَحْراً» أي: رِئة بمعنى أنه لا يَستَغني عن الطعام والشرابِ، فهو بشرٌ مثلُكم. وتقول العرب للجبان: «قد انتفخ سَحْره» بفتح السين، ولكلِّ مَنْ أكل وشرب: مَسْحُور، ومُسْحَر. فمِنْ الأولِ قولُ امرئ القيس: 306 - 9- أرانا مُوْضَعِيْنَ لأمرِ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطعامِ وبالشرَّابِ أي: نُغَذَّى ونُعَلَّلُ. ومِن الثاني قول لبيد: 307 - 0- فإنْ تَسْأَلِينا فيمَ نحنُ فإنَّنا ... عصافيرُ مِنْ هذا الأَنامِ المُسَحَّرِ ورَدَّ الناسُ على أبي عبيدة قولَه لبُعْدِه لفظاً ومعنى. قال ابن قتيبة: «لا أَدْري ما الذي حَمَل أبا عبيدةَ على هذا التفسيرِ المستكرَهِ مع ما فسَّره السلفُ بالوجوهِ الواضحةِ» . قلت: وأيضاً فإن «السَّحْر» الذي هو الرِّئَة لم يُضْرَبْ له فيه مَثَلٌ بخلاف «السَّحْر» ، فإنهم ضربوا له فيه المَثَلَ، فما بعد الآيةِ مِنْ قولِه «انظر كيف ضَرَبُوا لك الأمثالَ» لا يناسِبُ إلا «السِّحْر» بالكسرِ.

49

قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا} : قد تقدَّم خلافُ القراء في الاستفهامين كهذه الايةِ في سورة الرعد، وتحقيقُ ذلك. والعاملُ في «إذا» محذوفٌ تقديرُه: أنُبْعَثُ أو أنُحْشَرُ إذا كنَّا، دلَّ عليه «لمَبْعوثون» ، ولا يعملُ فيها «مَبْعوثون» هذا؛ لأنَّ ما بعد «إنَّ» لا يعملُ فيما قبلها، وكذا ما بعدَ الاستفهامِ لا يعملُ فيما قبله، وقد اجتمعا هنا، وعلى هذا التقديرِ الذي ذَكرْتُه تكون «إذا» متمحِّضةً للظرفيةِ، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً فَيُقَدَّرُ العاملُ فيها جوابَها، تقديرُه: أإذا كنا عظاماً ورُفاتاً نُبْعَثُ أو نُعادُ، ونحو ذلك، فهذا المحذوفُ جوابُ الشرطِ عند سيبويه والذي انصبَّ عليه/ الاستفهامُ عند يونس. قوله: «ورُفاتاً» الرُّفات: ما بُوْلِغَ في دَقِّه وتَفْتِيتِه وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيءِ المُفَتَّتِ. وقال الفراء: «هو التراب» . ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن «تُرابا وعظاماً» . ويقال رََفَتَ الشيءَ يَرْفِت بالكسرِ، أي: كَسرَه. والفُعال يغلب في التفريق كالحُطام والدُّقاق والفُتات. قوله: «خَلْقاً» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ من معنى الفعلِ لا مِنْ لفظِه، أي: نُبْعَثُ بَعْثاً جديداً. والثاني: أنه في موضع الحالِ، أي: مَخْلوقين.

51

قوله تعالى: {الذي فَطَرَكُمْ} : فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوف، أي: الذي فطركم يعيدُكم. وهذا التقديرُ فيه مطابقةٌ بين السؤالِ والجوابِ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي: مُعِيْدُكم.

الذي فطركم. الثالث: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدر، أي: يعيدُكم الذي فطركم، ولهذا صُرِّح بالفعل في نظيره عند قولِه: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9] . و {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ظرفُ زمان ناصبُه «فَطَركم» . قوله: «فسَيُنْغِضُون» ، أي: يُحَرِّكونها استهزاءً. يقال: أَنْغَضَ رأسَه يُنْغِضها، أي: حَرَّكها إلى فوقُ، وإلى أسفلَ إنغاضاً، فهو مُنْغِضٌ، قال: 307 - 1- أَنَغَضَ نحوي رأسَه وأَقْنَعا ... كأنه يطلُبُ شيئاً أَطْمعا وقال آخر: 307 - 2- لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِي الرَّأْسا ... وقال أبو الهيثم: «إذا أُخْبِرَ بشيءٍ فَحَرَّك رأسَه إنكاراً له فقد أَنْغَضَ» . قال ذو الرمة: 307 - 3- ظَعائِنُ لم يَسْكُنَّ أَكْنافَ قريةٍ ... بِسِيْفٍ ولم تَنْغُضْ بهنَّ القَنَاطِرُ أي: لم تُحَرَّك، وأمَّا نَغَضَ ثلاثياً، يَنْغَضُ ويَنْغُضُ بالفتح والضم، فبمعنى تَحَرَّك، لا يتعدَّى يقال: نَغَضَتْ سِنَّه، أي: تَحَرَّكت، تَنْغُضُ نَغْضاً

ونُغوضاً. قال: 307 - 4- ونَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أسنانُها ... قوله: {عسى أَن يَكُونَ} يجوز أن تكونَ الناقصة، واسمُها مستترٌ فيها يعودُ على البعثِ والحشرِ المدلولِ عليهما بقوة الكلام، أو لتضمُّنِه في قوله «مَبْعوثون» ، و «أن يكونَ» خبرُها، ويجوز أن تكونَ التامَّةَ مسندةً إلى «أنَّ» وما في حيِّزها، واسمُ «يكونَ» ضميرُ البعثِ كما تقدَّم. وفي «قريباً» وجهان، أحدُهما: أنه خبر «كان» وهو وصفٌ على بابِه. والثاني: أنه ظرفٌ، أي: زماناً قريباً، وأن يكونَ «على هذا تامةٌ، أي: عسى أن يقع العَوْد في زمانٍ قريب.

52

قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} : فيه أوجهٌ: أحدُها: أنه بدلٌ من «قريباً» ، إذا اَعْرَبْنا «قريباً» ظرفَ زمان كما تقدم. الثاني: أنه منصوبٌ ب «يَكونَ» قاله أبو البقاء، وهذا مَنْ يُجيز إعمالَ الناقصةِ في الظرفِ، وإذا جَعَلْناها تامَّةً فهو معمولٌ لها عند الجميع. الثالث: أنه منصوبٌ بضميرِ المصدرِ الذي هو اسمُ «يكون» أي: عسى أن يكونَ العَوْدُ يوم يَدْعوكم. وقد منعه أبو البقاء قال: «لأنَّ الضميرَ لا يعمل» يعني عند البصريين، وأمَّا الكوفيون فيُعملون ضميرَ المصدرِ كمُظْهِرِه فيقولون: مروري بزيدٍ حَسَنٌ، وهو بعمروٍ قبيحٌ «وعندهم متعلِّق ب» هو «لأنَّه ضمير المرور، وأنشدوا قول زهير على ذلك: 307 - 5-

وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمْ ... وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ ف» هو «ضميرُ المصدرِ، وقد تَعَلَّق به الجارُّ بعده، والبصريون يُؤَوِّلونه. الرابع: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر، أي: اذكُرْ يومَ يَدْعوكم. الخامس: أنه منصوبٌ بالبعثِ المقدَّر، قالهما أبو البقاء. قوله: بحَمْدِه» فيه قولان، أحدُهما: أنها حالٌ، أي: تستجيبون حامِدِين، أي: منقادين طائعين. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «يَدْعوكم» قاله أبو البقاء وفيه قَلَقٌ. قوله: {إِن لَّبِثْتُمْ} «إنْ» نافيةٌ، وهي معلِّقَةٌ للظنِّ عن العمل، وقلَّ مَنْ يذكرُ «إنْ» النافيةَ، في أدواتِ تعليق هذا الباب. و «قليلاً» يجوز أن يكونَ نعتَ زمانٍ أو مصدرٌ محذوفٌ، أي: إلا زماناً قليلاً، أو إلا لُبْثاً قليلاً.

53

قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي} : تقدَّم نظيرُه في إبراهيم. قوله: {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ اعتراضاً بين المفسَّر والمفسِّر، وذلك أنَّ قولَه: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} وَقَعَ تفسيراً لقوله {التي هِيَ أَحْسَنُ} وبياناً لها، ويجوز أن لا تكونَ معترِضَةً بل مستأنفةٌ.

وقرأ طلحة «يَنْزِغ» بكسر الزاي وعما لغتان، كيَعرِشون ويَعْرُشون، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «ولو مَثَّل ب» يَنْطَح «و» يَنْطِح «/ كأنه يعني من حيث إن لامَ كلٍ منهما حرفُ حَلْقٍ، وليس بطائلٍ.

55

قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات} : في هذه الباءِ قولان، أظهرُهما: أنها تتعلَّقُ ب «أَعْلَمُ» كما تَعَلَّقَتْ الباءُ ب «أَعْلَمُ» قبلها، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تخصيصُ علمِه بمَنْ في السماوات والأرض فقط. والثاني: أنها متعلِّقَةٌ ب «يَعْلَمُ» مقدراً. قاله الفارسي محتجاً بأنه يَلْزَمُ مِنْ ذلك تخصيصُ عِلْمِه بمَنْ في السماوات والأرض، وهو وَهْمٌ، لأنه لا يَلْزَمُ من ذِكْرِ الشيءِ نَفْيُ الحكمِ عَمَّا عداه. وهذا هو الذي يقول الأصوليون: إنه مفهومُ اللقَب، ولم يَقُلْ به إلا أبو بكر الدقاق في طائفةٍ قليلة. قوله: «زَبُورا» قد تقدَّم خلافُ القراءِ فيه، ونكَّره هنا دلالةً على التبعيضِ، أي: زَبُوراً من الزُّبُر، أو زَبُوراً فيه ذِكْرُ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأُطْلِقَ على القطعةِ منه زَبورٌ، كما يُطْلَقُ على بعضِ القرآن، ويجوزُ أَنْ يكونَ «زَبُور» عَلَماً، فإذا دَخَلَتْ عليه أل كقولِه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} [الأنبياء: 105]

كانت لِلَمْحِ الأصلِ كعبَّاس والعبَّاس، وفَضْل والفضل.

56

قوله تعالى: {الذين زَعَمْتُم} : مفعولا الزُّعم محذوفان لفَهْمِ المعنى، أي: زَعَمْتوهم آلهةً، وحَذْفُهما اختصاراً جائزٌ، واقتصاراً فيه خلافٌ.

57

قوله تعالى: {أولئك الذين يَدْعُونَ} : «أولئك» مبتدأٌ، وفي خبره وجهان، أظهرُهما: أنه الجملةُ مِنْ «يبتغون» ويكون الموصولُ نعتاً أو بياناً أو بدلاً، والمرادُ باسم الإِشارة الأنبياءُ الذين عُبِدوا مِنْ دون الله. والمرادُ بالواوِ العبَّادُ لهم، ويكون العائدُ على «الذين» محذوفاً، والمعنى: أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُونهم المشركون لكَشْفِ ضُرِّهم - أو يَدْعُونهم آلهةً، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يَبْتَغون. ويجوز أن يكونَ المرادُ بالواوِ ما أُريد بأولئك، أي: أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُون ربَّهم أو الناسَ إلى الهدى يَبْتغون، فمفعولُ «يَدْعُون» محذوف. والثاني: أن الخبرَ نفسُ الموصولِ، و «يَبْتَغُون» على هذا حالٌ مِنْ فاعل «يَدْعُون» أو بدلٌ منه. وقرأ العامَّةُ «يَدْعُون» بالغيبِ، وقد تقدَّم الخلافُ في الواو: هل تعودُ على الأنبياء أو على عابِدِيْهم. وزيد بن علي بالغَيْبة أيضاً، إلا أنه بناه للمفعول. وقتادةُ وابنُ مسعودٍ بتاء الخطاب. وهاتان القراءتان تقويَّان أن الواوَ للمشركين لا للأنبياءِ في قراءة العامَّة. قوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} في «أيُّ» هذه وجهان، أحدُهما: أنها استفهاميةٌ.

والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، وإنما كَثُرَ كلامُ المُعْرِبين فيها من حيث التقديرُ. فقال الزمخشري: «وأيُّهم بدلٌ مِنْ واو» يَبْتغون «و» أيُّ «موصولةٌ، أي: يبتغي مَنْ هو أقربُ منهم وأَزْلَفُ، أو ضُمِّن [يَبْتَغُون] الوسيلةَ معنَى يَحْرِصُون، فكأنه قيل: يَحْرِصُون أيُّهم يكون أقربَ» . قلت: فَجَعَلَها في الوجهِ الأولِ موصولةً، وصلتُها جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر، حُذِف المبتدأ وهو عائدُها، و «أَقْرَبُ» خبرُ «هو» واحتملت «أيُّ» حينئذٍ أن تكونَ مبنيةً، وهو الأكثرُ فيها، وأن تكونَ مُعْرَبةً، ولهذا موضعٌ هو أليقُ به في مريم. وفي الثاني جَعَلَها استفهاميةً بدليل أنه ضَمَّن الابتغاءَ معنى شيء يُعَلَّقُ وهو «يَحْرُصون» ، فيكون «أيُّهم» مبتدأً و «أقربُ» خبرَه، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ «يَحْرِص» يتعدَّى ب «على» قال تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} [النحل: 37] {أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96] . وقال أبو البقاء: «أيُّهم» مبتدأ، و «أقربُ» خبرُه وهو استفهامٌ في موضع نصب ب «يدْعُونَ» ، ويجوز أن يكونَ «أيُّهم» بمعنى الذي، وهو بدلٌ مِنَ الضميرِ في «يَدْعُوْن» . قال الشيخ: «علًّق» يَدْعُون «وهو ليس فعلاً قلبياً، وفي الثاني فَصَلَ

بين الصلةِ ومعمولِها بالجملةِ الحاليةِ، ولا يَضُرُّ ذلك لأنها معمولةٌ للصِّلة» . قلت: أمَّا كونُ «يَدْعُون» لا يُعَلِّق هو مذهبَ الجمهور. وقال يونس: يجوز تعليقُ الأفعالِ مطلقاً، القلبيةِ وغيرِها. وأمَّا قولُه «فَصَل بالجملة الحالية» يعني بها «يَبْتَغُون» فَصَل بها بين «يَدْعون» الذي هو صلةُ «الذين» وبين معمولِه وهو {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} لأنه مُعَلَّقٌ عنه كما عَرَفْتَه، إلا أنَّ الشيخَ لم يتقدَّم في كلامِه أعرابُ «يبتغون» حالاً، بل لم يُعْرِبْها إلا خبراً للموصول، وهذا قريب. وجعل أبو البقاء أيَّاً الموصولة بدلاً من واو «يَدْعُون» ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك، بل كلُّهم يجعلونها مِنْ واو «يَبْتَغون» وهو الظاهر. وقال الحوفي: «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» ابتداءٌ وخبر، والمعنى: ينظرون أيُّهم أقربُ فيتوسَّلون به، ويجوز أن يكونَ «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» / بدلاً من واو «يَبْتغون» . قلت: فقد أضمر فعلاً معلَّقاً وهو «ينظرون» ، فإن كان مِنْ نَظَرِ البصَرِ تَعَدَّى ب «إلى» ، وإن كان مِنْ نظَرِ الفِكْرِ تعدَّى ب «في» ، فعلى التقديرين الجملةُ الاستفهامية في موضعِ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ، وهذا إضمارُ ما لا حاجةَ إليه. وقال ابن عطية: «وأيُّهم ابتداءٌ، و» أقربُ «خبرُه، والتقدير: نَظَرُهم ووَكْدُهم أيُّهم أقربُ، ومنه قولُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه:» فبات الناس يَدُوكون أيُّهم يُعطاها «، أي: يتبارَوْن في القُرْبِ» . قال الشيخ: «

فَجَعَل المحذوفَ» نَظَرُهم ووَكْدُهم «وهذا مبتدأ، فإن جعلْتَ {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} في موضعِ نصبٍ ب» نَظَرُهم «بقي المبتدأ بلا خبر، فَيَحْتاج إلى إضمار خبر، وإن جعلت {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [هو] الخبر لم يَصِحَّ؛ لأنَّ نظرَهم ليس هو أيهم أقرب، وإنْ جَعَلْتَ التقدير: نَظَرُهم في أيهم أقربُ، أي: كائنٌ أو حاصلٌ، لم يَصِحَّ ذلك؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يُعَلِّق» . قلت: فقد تحصَّل في الآيةِ الكريمةِ ستةُ أوجهٍ، أربعةٌ حالَ جَعْلِ «أيّ» استفهاماً. الأولُ أنها مُعَلِّقةٌ للوسيلة كما قرَّره الزمخشري. الثاني: أنها مُعَلَّقَةٌ ل «يَدْعُون» كما قاله أبو البقاء. الثالث: أنها مُعَلِّقَةٌ ل «يَنْظرون» مقدَّراً، كما قاله الحوفيُّ. الرابع: أنها مُعَلَّقةٌ ل «نَظَرُهُمْ» كما قدَّره ابن عطية. واثنان حالَ جَعْلِها موصولةً، الأول: البدلُ مِنْ واو «يَدْعُون» كما قاله أبو البقاء. الثاني: أنها بدلٌ مِنْ واو «يَبْتَغون» كما قاله الجمهور.

58

قوله تعالى: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ} : «إن» نافيةٌ و «مِنْ» مزيدةٌ في المبتدأ لاستغراقِ الجنس. وقال ابنُ عطية: «هي لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ مِنْ وجهين، أحدهما قال الشيخ:» لأنَّ التي للبيان لا بُدَّ أَنْ يتقدَّمَها مبهمٌ ما، تُفَسّره كقوله: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] ، وهنا لم يتقدَّم شيءٌ مبهمٌ «. ثم قال» ولعلَّ قولَه لبيانِ الجنسِ من الناسخِ، ويكون هو قد قال: لاستغراقِ الجنس، ألا ترى أنه قال بعد ذلك: «وقيل: المرادُ الخصوصُ» . وخبرُ المبتدأ الجملةُ المحصورةُ مِنْ قولِه: {إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} .

والثاني: أنَّ شَرْطَ ذلك أَنْ يَسْبِقَها مُحَلَّى بأل الجنسية، وأن يَقَعَ موقعَها «الذي» كقولِه: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] .

59

قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ} : «أنْ» الأولى وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍ على اختلاف القولين؛ لأنها على حَذْفِ الجارِّ، أي: مِنْ أَنْ نُرسل، والثانية وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ بالفاعلية، أي: وما مَنَعَنا مِنْ إرسال الرسلِ بالآياتِ إلا تكذيبُ الأوَّلين، أي: لو أَرْسلنا الآياتِ المقترحةَ لقريش لأُهْلِكوا عند تذكيبِهم كعادةِ مَنْ قبلَهم، لكنْ عَلِمَ الله أنه يُؤْمِنُ بعضُهم، ويكذِّبُ بعضُهم مَنْ يومن، فلذلك لم يُرْسِلِ الآياتِ لهذه المصلحةِ. وقَدَّر أبو البقاء مضافاً قبل الفاعلِ فقال: «تقديرُه: إلا إهلاكُ التكذيب، كأنه يعني أنَّ التكذيبَ نفسَه لم يمنعْ من ذلك، وإنما مَنَعَ منه ما يترتَّبُ على التكذيبِ وهو الإِهلاك، ولا حاجةَ إلى ذلك لاستقلالِ المعنى بدونه. قوله:» مُبْصِرَة «حالٌ، وزيدُ بن علي يرفعُها على إضمارِ مبتدأ، اي: هي، وهو إسنادٌ مجازيٌّ، إذ المرادُ إبصارُ أهلِها، ولكنها لمَّا كانت سبباً في

الإِبصار نُسِب إليها. وقرأ قومٌ بفتحٍ الصاد، مفعولٌ على الإِسناد الحقيقي. وقتادة بفتح الميم والصاد، أي: مَحَلُّ إبصارٍ كقوله عليه السلام:» الولدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَة «وكقوله: 307 - 6-. . . . . . . . . ... والكفرُ مَخْبَثَةٌ لنفسِ المُنْعِمِ أجرى هذه الأشياءَ مُجْرى الأمكنةِ نحو: أرضٌ مَسْبَعَة ومَذْأبَة. قوله: {إِلاَّ تَخْوِيفاً} يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً له، وأن يكونَ مصدراً في موضع الحال: إمَّا من الفاعل، أي: مُخَوِّفين أو من المفعولِ، أي: مُخَوِّفاً بها.

60

قوله تعالى: {والشجرة} : العامَّة على نصبِها نَسَقاً على «الرؤيا» ، و «الملعونةَ» نعت، قيل: هو مجازٌ؛ إذ المُراد: الملعونُ طاعِموها؛ لأنَّ الشجرةَ لا ذَنْبَ لها وهي شجرةُ الزقُّوم. وقيل: بل على الحقيقة، ولَعْنُها: إبعادُها مِنْ رحمة الله، لأنها تخرجُ في أصلِ الجحيم. وزيد بن علي برفعِها على الابتداء. وفي الخبر احتمالان، أحدُهما: هو محذوفٌ، أي: فتنة. والثاني: - قاله أبو البقاء- أنه قولُه {فِي القرآن} وليس بذاك.

قوله: «ونُخَوِّفُهم» قراءةُ العامَّةِ بنون العظمة. والأعمش بياء الغيبة.

61

قوله تعالى: {طِيناً} : فيه أوجهُ، أحدُها: أنه حالٌ من «لِمَنْ» فالعاملُ فيها «أَاَسْجُدُ» ، أو مِنْ عائد هذا الموصولِ، أي: خلقَته طِيْناً، فالعاملُ فيها «خَلَقْتَ» ، وجاز وقوعُ طين حالاً، وإن كان جامداً، لدلالتِه على الأصالةِ كأنه قال: متأصِّلاً من طين. الثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ الخافضِ، أي: مِنْ طين، كما صَرَّح به في الآية الأخرى: / {وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76] . الثالث: أن منتصبٌ على التمييز، قاله الزجاج، وتبعه ابنُ عطية، ولا يظهرُ ذلك إذ لم يتقدَّم إيهامُ ذاتٍ ولا نسبةٍ.

62

قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ} : قد ذُكِرَتْ مستوفاةً في الأنعام. وقال الزمخشري: «الكافُ ُللخطاب، و» هذا «مفعول به، والمعنى: أَخْبِرْني عن هذا الذي كَرَّمْتَه علي، أي: فَضَّلْتَه لِمَ كَرَّمْتَه وأن خيرٌ منه؟ فاختصر الكلامَ» . وهذا قريبٌ من كلام الحوفي. وقال ابنُ عطية: «والكافُ في» أَرَأَيْتُكَ «حرفُ خطابٍ لا موضعَ لها من الإِعراب، ومعنى» أَرَأَيْتَ «أتأمَّلْتَ ونحوه، كأنَّ المخاطِبَ يُنَبِّه المخاطَب ليستجمعَ لما يَنُصُّ عليه [بعدُ] . وقال سيبويه:» وهي بمعنى أَخْبِرْني، ومَثَّل بقوله: «أَرَأَيْتك زيداً أبو من هو؟» وقولُ سيبويهِ صحيحٌ، حيث يكون

بعدها استفهامٌ كمثالِه، وأمَّا في الآية فهي كما قلتُ، وليست التي ذكر سيبويهِ «. قلت: وهذا الذي ذكره ليس بمُسَلَّمٍ، بل الآيةُ كمثالِه، غايةُ ما في البابِ أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ وهو الجملةُ الاستفهاميةُ المقدَّرةُ، لانعقادِ الكلام مِنْ مبتدأ وخبر، لو قلت: هذا الذي كَرَّمْتَه عليَّ لِمَ كرَّمته؟ وقال الفراء:» الكافُ في محلِّ نصب، أي «أَرَأَيْتَ نفسَك كقولك: أَتَدَبَّرْتَ أخرَ أمرِك فإني صانعٌ فيه كذا ثم ابتدأ: هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ» . وقال أبو البقاء: «والمفعولُ الثاني محذوفٌ، تقديرُه: تفضيلَه أو تكريمه» . قلت. وهذا لا يجوز لأنَّ المفعول الثاني في هذا البابِ لا يكونَ إلا جملةً مشتملةً على استفهام «. قال الشيخ:» ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ الجملة القسمية هي المفعولُ الثاني لكانَ حَسَناً «. قلت: يَرُدُّ ذلك التزامُ كونِ المفعولِ الثاني جملةً مشتملةً على استفهامٍ وقد تقرَّر جميعُ ذلك في الأنعام فعليك باعتباره هنا. قوله: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} قرأ ابن كثير بإثباتِ ياءِ المتكلمِ وصلاً ووقفاً، ونافع وأبو عمرو بإثباتِها وَصْلاً وحَذْفِها وقفاً، وهذه قاعدةُ مَنْ ذُكِرَ في الياءاتِ الزائدةِ على الرسم، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، هذا كلُّه في حرفِ هذه

السورةِ، أمَّا الذي في المنافقين في قولِه {لولا أخرتني} [الآية: 10] فأثبتَه الكلُّ لثبوتِها في الرسمِ الكريم. قوله:» لأحْتَنِكَنَّ «جوابُ القسمِ المُوَطَّأ له باللام. ومعنى» لأحْتَنِكَنَّ «لأَسْتَوْلِيَنَّ عليهم استيلاءَ مَنْ جَعَلَ في حَنَكِ الدابَّةِ حَبْلاً يقودُها به فلا تأبى ولا تَشْمُسُ عليه. يقال: حَنَك فلانٌ الدابةَ واحْتَنَكها، أي: فَعَل بها ذلك، واحْتَنَكَ الجرادُ الأرض: أكلَ نباتها قال: 307 - 7- نَشْكُو إليك سَنَةً قد أَجْحَفَتْ ... جَهْداً إلى جَهْدٍ بنا فأضعفَتْ واحتنكَتْ أموالَنا وجَلَّفَتْ ... وحكى سيبويه:» أحْنَكُ الشاتَيْن، أي: آكَلُهما، أي: أكثرُهما أَكْلاً.

63

قوله تعالى: {اذهب فَمَن} : تقدَّم أنَّ الباءَ تُدْغَمُ في الفاءِ في ألفاظٍ منها هذه، عند أبي عمروٍ والكسائيِّ وحمزةَ في رواية خلاَّدٍ عنه بخلافٍ في قوله: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك} [الحجرات: 11] . قوله: «جزاؤُكم» يجوز أن يكونَ الخطابُ التغليبَ لأنه تقدَّم غائبٌ ومخاطبٌ في قولِه: {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} فغلَّب المخاطَب، ويجوز أن يكونَ الخطابُ مراداً به «مَنْ» خاصةً ويكونُ ذلك على سبيل الالتفات. قوله: «جَزاءً» في نصبِه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ،

الناصبُ له المصدرُ قبله، وهو مصدرٌ مبيِّن لنوعِ المصدرِ الأول. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ أيضاً لكن بمضمرٍ، أي: يُجازَوْن جزاءً. الثالث: أنه حالٌ موطِّئة كجاء زيد رجلاً صالحاً. الرابع: أنه تمييزٌ وهو غيرُ مُتَعَقَّل. و «مَوْفُوراً» اسمُ مفعولٍ مِنْ وَفَرْتُه، ووفَرَ يُستعمل متعدِّياً، ومنه قولُ زهير: 307 - 8- ومن يَجْعَلِ المعروفَ مِنْ دُوْنِ عِرْضِهِ ... يَفِرْه ومَنْ لا يَتَّقِ الشتم يُشْتَمِ والآيةُ الكريمةُ من هذا، ويُستعمل لازماً يقال: وَفَرَ المالُ.

64

قوله تعالى: {واستفزز} : جملةٌ أمريةٌ عُطِفَتْ على مِثلِها من قولِه «اذهَبْ» . و {مَنِ استطعت} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنها موصولةُ في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز، أي: استفزِزْ الذي استطعْتَ استفزازَه منهم. والثاني: أنها استفهاميةٌ منصوبةُ المحلِّ ب «استطعْتَ» قاله أبو البقاء، وليس بظاهرٍ لأنَّ «اسْتَفْزِزْ» يطلبه مفعولاً به، فلا يُطقع عنه، ولو جَعَلْناه استفهاماً لكان مُعَلَّقاً له، وليس هو بفعلٍ قلبي/ فيعلَّق. والاسْتِفْزاز: الاستخفاف، واستفزَّني فلانٌ: استخفَّني حتى خَدَعني لمِا يريده. قال: 307 - 9- يُطيع سَفيهَ القوم إذ يستفزُّه ... ويَعْصي حليماً شَيَّبَتْه الهزاهِزُ

ومنه سُمِّي ولدُ البقرة «فزَّاً» . قال الشاعر: 308 - 0- كما استغاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ ... خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ وأصلُ الفَزِّ: القَطْعُ، يقال: تَفَزَّز الثوبُ، أي: تقطَّع. قوله: «وأَجْلِبْ» ، أي: اجْمَعْ عليهم الجموعَ مِنْ جُنْدِك يقال: أَجْلَبَ عليه وجَلَبَ، أي: جَمَعَ عليه الجموعَ. وقيل: أَجْلَبَ عليه: توعَّده بشرٍّ. وقيل: أَجْلَبَ عليه: أعان، وأجلب، أي: صاح صِياحاً شديداً، ومنه الجَلَبَة، أي: الصِّياح. قوله: «وَرَجِلِك» قرأ حفصٌ بكسرِ الجيمِ، والباقون بسكونها، فقراءة حفصٍ «رَجِل» فيها بمعنى رَجُل بالضم بمعنى راجل يُقال: رَجِلَ يَرْجَلُ إذا صار راجِلاً، فيكون مثل: حَذِر وحَذُر، ونَدِس ونَدُس، وهو مفردٌ أريد به الجمعُ. وقال ابن عطية: هي صفةٌ يقال: فلان يمشي رَجِلاً إذا كان غيرَ راكبٍ، ومنه قولُ الشاعر: 308 - 1-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . رَجِلاً إلا بأصحابي قلت: يشير إلى البيتِ المشهور وهو: فما أُقاتلُ عن ديني على فَرَسي ... إلا كذا رَجِلاً إلا بأصحابي

أراد: فارساً ولا راجلاً. وقال الزمخشريُّ: «على أن فَعِلاً بمعنى فاعِل نحو: تَعِب وتاعب، ومعناه: وجَمْعك الرَّجِلُ، وتُضَمُّ جيمُه أيضاً فيكون مثلَ: حَذُر وحَذِر، ونَدُس ونَدِس، وأخواتٍ لهما» . وأما قراءةُ الباقين فتحتملُ أَنْ تكون تخفيفاً مِنْ «رَجِل» بكسر الجيم أو ضمِّها، والمشهورُ: أنه اسمُ جمع لراجِل كرَكْب وصَحْب في راكِب وصاحِب. والأخفش يجعل هذا النحوَ جمعاً صريحاً. وقرأ عكرمةُ «ورِجالك» جمع رَجِل بمعنى راجِل، أو جمع راجِل كقائم وقيام. وقُرِئ «ورُجَّالك» بضمِّ الراء وتشديد الجيم، وهو جمع راجِل كضارِب وضُرَّاب. والباء في «بخَيْلِك» يجوز أن تكونَ الحالية، أي: مصاحَباً بخيلك، وأن تكون مزيدةً كقوله: 308 - 2-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر وقد تقدَّم في البقرة.

قوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان} من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهر مُقامَ المضمرِ؛ إذ لو جَرَى على سَنَنِ الكلامِ الأول لقال: وما تَعِدُهم، بالتاء من فوق. قوله: {إِلاَّ غُرُوراً} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ وهو نفسُه مصدرٌ، الأصل: إلا وَعْداً غروراً، فيجيء فيه ما في «رجلٌ عَدْلٌ» ، أي: إلا وَعْداً ذا غرور، أو على المبالغة أو على: وعداً غارَّاً، ونسب الغرورَ إليه مجازاً. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه، أي: ما يَعِدُهم ممَّا يَعِدُهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغُرور. الثالث: أنه مفعولٌ به على الاتِّساع، أي: ما يَعِدُهم إلا الغرورَ نفسَه.

67

قوله تعالى: {إِلاَّ إِيَّاهُ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لم يَنْدَرِجْ فيما ذُكِر، إذ المرادُ به آلهتُهم من دون الله. والثاني: أنه متصلٌ؛ لأنهم كانوا يَلْجَؤون إلى آلهتِهم وإلى اللهِ تعالى.

68

قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ} : استفهامُ توبيخٍ وتقريعٍ. وقدَّر الزمخشري على قاعدتِه معطوفاً عليه، أي: أَنَجَوْتم فَأَمِنْتُمْ. قوله: {جَانِبَ البر} فيه وجهان أظهرهما: أنه مفعولٌ به كقوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81] . والثاني: أنه منصوبٌ على الظرف. و «بكم» يجوز أن تكونَ حاليةً، أي: مصحوباً بكم، وأَنْ تكونَ للسببية. قيل: ولا يَلْزَمُ مِنْ

خَسْفِه بسببهم أن يَهْلَكوا. وأُجيب بأنَّ المعنى: جانبَ البر الذي أنتم فيه فيلزم بخَسْفِه هلاكُهم، ولولا هذا التقديرُ لم يكنْ في التوعُّدِ به فائدةٌ. قوله: {أَن يَخْسِفَ} «أو يُرْسِلَ» «أن يُعِيْدَكم» فَيُرْسِلَ «» فَيُغرْقكم «قرأ هذه [جميعَها] بنون العظمة ابنُ كثير وأبو عمروٍ، والباقون بالياءِ فيها على الغيبة. فالقراءةُ الأولى على سبيل الالتفاتِ مِن الغائبِ في قولِه {رَّبُّكُمُ} [الإِسراء: 66] إلى آخر، والقراءةُ الثانيةُ على سَنَنِ ما تقدَّم من الغَيْبَةِ المذكورة. قوله:» حاصِباً «، أي: ريحاً حاصِباً، ولم يؤنِّثْه: إمَّا لأنه مجازيٌّ، أو على النسَبِ، أي: ذاتَ حَصْبٍ. والحَصْبُ: الرميُ بالحَصَى وهي الحجارةُ الصغار. قال الفرزدق: 308 - 3- مُسْتَقْبِلين شَمالَ الشامِ تَضْرِبُهم ... حَصْباءُ مثلُ نَدِيْفِ القُطْنِ مَنْثُورِ والحاصِبُ أيضاً: العارِضُ الذي يَرْمِي البَرَد.

69

قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ} /: يجوز أَنْ تكونَ المتصلة، أي: أيُّ الأمرين كائن؟ ويجوز أَنْ تكونَ المنقطعةَ، و {أَن يُعِيدَكُمْ} مفعولٌ به ك {أَن يَخْسِفَ} . قوله «تارةً» بمعنى مرةً وكَرَّة، فهي مصدرٌ، ويُجمع على تِيَرٍ وتاراتٍ. قال الشاعر: 308 - 4- وإنسانُ عيني يَحْسِرُ الماءُ تارةً ... فَيَبْدُ وتارات يَجُمُّ فَيَغْرَقُ

وألفُها تحتمل أن تكونَ عن واوٍ أو ياء. وقال الراغب: وهو فيما قيل: مِنْ تارَ الجُرْحُ: التأَمَ «. قوله:» قاصِفاً «القاصِفُ يحتمل أن يكون مِنْ قَصَفَ متعدياً، يقال: قَصَفَتِ الريحُ الشجرَ تَقْصِفها قَصْفاً. قال أبو تمام: 308 - 5- إنَّ الرياحَ إذا ما أَعْصَفتْ قَصَفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولم يَعْبَأْنَ بالرَّتَمِ فالمعنى: أنها لا تُلْفِي شيئاً إلا قَصَفَتْه وكَسَرَتْه. والثاني: أن يكون مِنْ قَصِفَ قاصراً، أي: صار له قَصِيف يقال: قَصِفَتِ الريحُ تَقْصَفُ، أي: صَوَّتَتْ. و {مِّنَ الريح} نعت. قوله: {بِمَا كَفَرْتُمْ} يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى الذي، والباءُ للسببية، أي: بسببِ كفرِكم، أو بسبب الذي كفَرْتم به، ثم اتُّسِع فيه فَحَذِفت الباءُ فوصل الفعلُ إلى الضميرِ، وإنما احتيج إلى ذلك لاختلافِ المتعلق. وقرأ أبو جعفرٍ ومجاهد» فَتُغْرِقَكم «بالتاء من فوقُ أُسْند الفعلُ لضمير الريح. وفي كتاب الشيخ» «فتُغْرِقَكم بتاء الخطاب مسنداً إلى»

الريح «. والحسنُ وأبو رجاء بياء الغيبة وفتح الغين وشدِّ الراء، عَدَّاه بالتضعيف والمقرئ لأبي جعفر كذلك إلا أنه بتاء الخطاب» . قلت: وهذا: إمَّا سهوٌ، وإمَّا تصحيفٌ من النسَّاخ عليه؛ كيف يَسْتقيم أن يقولَ بتاءِ الخطاب وهو مسندٌ إلى ضمير الريح، وكأنه أراد بتاء التأنيث فسبقه قلمُه أو صَحَّف عليه غيرُه. وقرأ العامَّة «الريحِ» بالإِفراد، وأبو جعفر: «الرياح» بالجمع. قوله: {بِهِ تَبِيعاً} يجوز في «به» أن يَتَعَلَّق ب «تَجِدوا» ، وأن يتعلَّقَ بتبيع، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ تبيع. والتَّبِيْع: المطالِبُ بحقّ، المُلازِمُ، قال الشمَّاخ: 308 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما لاذَ الغَريمُ من التَّبيعِ وقال آخر: 308 - 7- غَدَوْا وغَدَتْ غِزْلانُهم فكأنَّها ... ضوامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهنَّ تَبيعُ

70

قوله تعالى: {كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} : عَدَّاه بالتضعيفِ، وهو مِنْ كَرُم بالضمِّ كشَرُف، وليس المرادُ من الكرمِ في المال.

71

قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على الظرف، والعاملُ «فَضَّلْناهم» ، أي: فَضَّلْناهم بالثوابِ يوم نَدْعُو. قال ابن عطية في تقريره: «وذلك أنَّ فَضْلَ البشرِ على سائرِ الحيوان يوم القيامةِ بيِّنٌ؛ إذ هم المُكَلَّفون المُنَعَّمون المحاسَبون الذين لهم القَدْرُ. إلا أنَّ هذا يَرُدُّه أن الكفار [يومئذٍ] أَخْسَرُ مِنْ كلِّ حيوان، لقولِهم: {ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] . الثاني: أنه منصوبٌ على الظرف، والعاملُ فيه اذكر، قاله الحوفيُّ وابنُ عطية. قلت: وهذا سهوٌ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً؟ بل هو مفعولٌ. الثالث: أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وإنما بُنِيَ لإِضافتِهِ إلى الجملةِ الفعلية، والخبرُ الجملةُ بعده. قال ابنُ عطية في تقريره:» ويَصِحُّ أَنْ يكونَ «يوم» منصوباً على البناء لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكِّن، ويكون موضعُه رفعاً بالابتداء، وخبرُه في التقسيم الذي أتى بعدَه في قوله {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} إلى قوله {وَمَن كَانَ} . قال الشيخ: «قوله منصوبٌ على البناء» كان ينبغي أن يقول: مبنيَّاً على الفتح، وقوله «لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكن» ليس بجيدٍ؛ لأنَّ المتمكِّنَ وغيرَ المتمكِّنِ إنما يكون في الأسماءِ لا في الأفعالِ، وهذا أُضيفَ إلى فعلٍ مضارع، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ، والكوفيون يُجيزون بناءَه. وقوله: «والخبر في التقسيم» إلى آخره، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملةَ التقسيم بالابتداء «. قلت: الرابطُ محذوفٌ للعلمِ به، أي: فَمَنْ أُوتي كتابَه فيه. الرابع: أنه منصوبٌ بقولِه» ثم لا تجدوا «قاله الزجَّاج. الخامس: أنه

منصوبٌ ب» يُعيدكم «مضمرةً، أي: يُعيدكم يومَ نَدْعو. السادس: أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه {وَلاَ يُظْلَمُونَ} بعده، أي: ولا يُظْلَمون يوم ندعو، قاله ابن عطية وأبو البقاء. السابع: أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه {متى هُوَ} [الإِسراء: 51] . الثامن: أنه منصوبٌ بما تقدَّمه مِنْ قولِه تعالى: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإِسراء: 52] . التاسع: أنه بدلٌ مِنْ {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} [الإِسراء: 52] . وهذان القولان ضعيفان جداً لكثرة الفواصل. العاشر: أنه مفعولٌ به بإضمار» اذكر «، وهذا -وإن كان أسهلَ التقاديرِ- أظهرُ ممَّا تقدم؛ إذ لا بُعْدَ فيه ولا إضمارَ كثيرٌ. وقرأ العامَّة» نَدْعو «بنون العظمة، ومجاهدٌ» يَدْعُو «بياء الغيبة، أي: الله تعالى أو المَلَك. و» كلَّ «نصبٌ مفعولاً به على القراءتين. وقرأ الحسن فيما نقله الدانيُّ عنه» يُدْعَى «مبنياً للمفعول،» كلُّ «مرفوعٌ لقيامِه الفاعلِ، وفيما نقله عنه غيرُه» يُدْعَو «بضمِّ الياء وفتح العين، بعدها واوٌ. وخُرِّجَتْ على وجهين، أحدُهما: أن الأصلَ: يُدْعَوْن فَحُذِفت نونُ الرفعِ كما حُذِفَتْ في قولِه عليه السلام:» لا تَدْخُلوا الجنة حتى تُؤْمنوا، ولا تُؤْمنوا حتى تحابُّوا « وقوله: 308 - 8-

أَبَيْتُ أَسْرِيْ وتَبِْيْتي تَدْلُكِيْ ... وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكي و «كلٌّ» مرفوعٌ بالبدلِ من الواوِ التي هي ضميرٌ، أو بالفاعليةِ والواوُ علامةٌ على لغةِ «يتعاقبون فيكمْ ملائكةٌ» . والتخريجُ الثاني: أنَّ الأصلَ «يُدْعَى» كما نَقَله عنه الدانيُّ، إلا أنه قَلَبَ الألفَ واواً وَقْفاً، وهي لغةٌ لقومٍ، يقولون: هذه أفْعَوْ وعَصَوْ، يريدون: أَفْعى وعَصا، ثم أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. و «كلُّ» مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعلِ على هذا ليس إلا. قوله: «بإمامِهم» يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ متعلقةٌ بالدعاء، أي: باسمِ إمامهم، وأن تكونَ للحالِ فيتعلَّقَ بمحذوف، أي: نَدْعُوهم مصاحبين لكتابهم. والإِمام: مَنْ يُقْتَدَى به. وقال الزمخشري «» ومن بِدَع التفاسير: أن الإِمامَ جمع «أُمّ» وأنَّ الناسَ يُدْعَوْنَ يومَ القيامة بأمهاتهم دونَ آبائهم، وأن الحكمةَ فيه رِعايةُ حقِّ عيسى، وإظهارِ شرفِ الحسن والحسين، وأن لا يُفْضَحَ أولادُ الزِّنى «قال:» وليت شعري أيهما أَبْدَعُ: أصحةُ لفظِه أم بَهاءُ معناه؟ «. قلت: وهو معذورٌ لأن» أُمّ «لا يُجْمع على» إمام «، وهذا قولُ مَنْ لا يَعْرف الصناعةَ ولا لغةَ العربِ، وأمَّا ما ذكروه من المعنى فإنَّ الله تعالى نادى عيسى باسمِه مضافاً لأمِّه في عدةِ مواضعَ من قوله {ياعيسى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 110] ، وأَخْبرعنه كذلك نحو: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} [الصف: 6] ، وفي ذلك

غَضاضةٌ من أميرِالمؤمنين عليّ رضي الله عنه وكرَّم وجهَه. قوله: {فَمَنْ أُوتِيَ} يجوز أن تكونَ شرطيةً، وأن تكونَ موصولةً، والفاءُ لشَبَهه بالشرط. وحُمِل على اللفظِ أولاً في قوله {أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} فَأُفْرِد، وعلى المعنى ثانياً في قولِه:» فأولئك «فَجُمِع.

72

قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه} : يجوز في «مَنْ» ما جاز في «مَنْ» قبلها. وأمال الأخَوان وأبو بكر «أعمى» في الموضعين من هذه السورة، وأبو عمروٍ أمال الأولَ دون الثاني، والباقون فتحوهما، فالإِمالةُ لكونِهما من ذوات الياء، والتفخيمُ لأنه الأصل. وأمَّا أبو عمروٍ فإنه أمال الأولَ لأنه ليس أفعلَ تفضيلٍ فألفُه متطرفةٌ لفظاً وتقديراً، والأطرافُ محلُّ التغيير غالباً، وأمَّا الثاني فإنه للتفضيلِ ولذلك عَطَف عليه «وأَضَلَّ» فألفُه في حكم المتوسطة؛ لأنَّ «مِنْ» الجارَّةَ للمفضول كالملفوظ بها، وهي شديدةُ الاتصالِ بأَفْعَلِ التفضيلِ فكأنَّ وقعت حَشْواً فتحصَّنَتْ عن التغيير. قلت: كذا قرَّره الفارسيُّ والزمخشري، وقد رُدَّ هذا بأنهم أمالوا {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ} [المجادلة: 7] مع التصريح ب «مِنْ» فَلأَنْ يُميلوا «أَعْمى» مقدَّراً معه «مِن» أَوْلَى وأَحْرَى. وأمَّا «أَعْمى» في طه فأماله الأخَوان وأبو عمرو، ولم يُمِلْه أبو بكر، وإن كان يُمليه هنا، وكأنه جَمَعَ بين الأمرين وهو مقيَّدٌ باتِّباع الأثر. وقد فَرَّق

بعضُهم: بأنَّ «أعمى» فيه طه مِنْ عَمَى البصرِ، وفي الإِسراء مِنْ عَمَى البصيرة؛ ولذلك فسَّروه هنا بالجَهْل فأُمِيلَ هنا، ولم يُمَلْ هناك للفرقِ بين المعنيين. قلت: والسؤال باقٍ؛/ إذ لقائلٍ أن يقولَ: فَلِمَ خُصِّصَتْ هذه بالإِمالةِ، ولو عُكِسَ الأمرُ كان الفارقُ قائماً.

73

قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} : «إنْ» هذه فيها المذهبان المشهوران: مذهبُ البصريين: أنها مخففةٌ، واللامُ فارقةٌ بينها وبين «إنْ» النافية، ولهذا دَخَلَتْ على فعلٍ ناسخٍ، ومذهبُ الكوفيين أنها بمعنى «ما» النافيةِ، واللامُ بمعنى «إلا» . وضُمِّنَ «يَفْتِنُونَك» معنى يَصْرِفُونك «فلهذا عُدِّي ب» عن «تقديرُه: لَيَصْرِفُونَكَ بفتنتِهم. و» لتفترِيَ «متعلِّقٌ بالفتنةِ. قوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ} » إذن «حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ ولهذا تقع أداةُ الشرطِ موقعَها، و» لاتَّخذوك «جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: إذن واللهِ لاتَّخذوك، وهو مستقبلٌ في المعنى، لأنَّ» إذَنْ «تقتضي الاستقبالَ؛ إذ معناها المجازاةُ. وهذا كقولِه: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ} [الروم: 51] ، أي: ليَظَلُّنَّ. وقولُ الزمخشري:» أي: ولو اتَّبَعْتَ مرادَهم لاتَّخذُوك «تفسيرُ معنى لا إعرابٍ، لا يريد بذلك أنَّ» لاتَّخَذُوك «جوابٌ ل» لو «محذوفةُ إذ لا حاجةَ إليه.

74

قوله تعالى: {تَرْكَنُ} : العامَّة على فتح الكاف مضارع رَكِنَ بالكسر، وقتادة وابنُ مُصَرِّف وابنُ أبي إسحاق «تَرْكُن» بالضمِّ مضارعَ رَكَنَ بالفتح، وهذا من التداخل، وقد تقدَّم تحقيقه في أواخر هود. وقوله: «شيئاً» : منصوبٌ على المصدر، وصفتُه محذوفة، أي: شيئاً قليلاً من الرُّكون.

75

قوله تعالى: {ضِعْفَ الحياة} : قال الزمخشري: فإن قلت «كيف حقيقةُ هذا الكلام؟ قلت: أصلُه: لأَذَقْناك عذابَ الحياةِ وعذابَ المماتِ؛ لأنَّ العذابَ عذابان، عذابٌ في المماتِ وهو عذابُ القبرِ، وعذابٌ في حياةِ الآخرةِ وهو عذاب النار، والضِّعْفُ يُوصَفَ به، نحوَ قولِه تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار} [الأعراف: 38] يعني عذاباً مُضاعَفاً، فكأنَّ أصلَ الكلامِ: لأَذَقْناك عذاباً ضِعْفاً في الحياة، وعذاباً ضِعْفاً في المَمَات، ثم حُذِف الموصوفُ، وأُقيمت الصفةُ مُقامه وهو الضَّعْف، ثم أُضِيْفَتِ الصفة إضافةَ الموصوف فقيل: ضِعْفَ الحياة، وضِعْفَ المماتِ، كما لو قيل: أليمَ الحياةِ، وأليم الممات» . والكلامُ في «إذن» و «لأَذَقْناك» كما تقدَّم في نظيره.

76

قوله تعالى: {وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ} : قرأ العامَّةُ برفع الفعل بعد «إذَنْ» ثابتَ النون، وهي مرسومةٌ في مصاحف العامَّة. ورفعُهُ وعدمُ

إعمالِ «إذن» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أنها توسَّطَتْ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه. قال الزمخشري: «فإن قلت» ما وجهُ القراءتين؟ قلت: أمَّا الشائعةُ -يعني برفعِ الفعلِ - فقد عُطِف فيها الفعلُ على الفعلِ، وهو مرفوعٌ لوقوعِه خبرَ كاد، وخبرُ «كاد» واقعٌ موقعَ الاسم «. قلت: فيكون» لا يَلْبِثُون «عطفاً على قولِه» لِيَسْتَفِزُّونك «. الثاني: أنها متوسطةٌ بين قسمٍ محذوفٍ وجوابِه، فأُلْغِيَتْ لذلك، والتقدير: ووالله إذن لا يلبثون. الثالث: أنها متوسطةٌ بين مبتدأ محذوفٍ وخبرِه، فأُلْغِيَتْ لذلك، والتقدير: وهم إذن لا يلبثون. وقرأ اُبَيٌّ بحذفِ النون، فَنَصْبُه بإذن عند الجمهور، وب» أَنْ «مضمرةً بعدها من غيرِهم، وفي مصحف عبد الله» لا يَلْبَثُوا «بحذفِها. ووجهُ النصبِ أنه لم يُجعل الفعلُ معطوفاً على ما تقدَّم ولا جواباً ولا خبراً. قال الزمخشري:» وأمَّا قراءةُ اُبَيّ ففيها الجملةُ برأسها التي هي: إذاً لا يَلْبثوا، عَطَفَ على جملة قوله {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} . وقرأ عطاء {لاَّ يَلَبَثُونَ} بضمِّ الياء وفتحِ اللام والباء، مشددةً مبنياً للمفعول، مِنْ لَبَّثَه بالتشديد. وقرأها يعقوب كذلك إلا أنه كسرَ الباءَ، جَعَلَه مبنياً للفاعل. قوله: «خِلافَك» قرأ الأخَوان وابنُ عامر وحفصٌ: «خِلافَك» بكسر الخاء وألفٍ بعد اللام، والباقون بفتح الخاء وسكونِ اللام. والقراءتان بمعنى

واحدٍ. وأنشدوا في ذلك: 308 - 9- عَفَتِ الديارُ خِلافَهم فكأنما ... بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهنَّ حََصِيْراً وقال تعالى: {خِلاَفَ رَسُولِ الله} [التوبة: 81] والمعنى: بعد خروجك. وكثُر إضافةُ قبل وبعد ونحوِهما إلى أسماءِ الأعيان على حَذْفِ مضافٍ، فيُقَدَّر من قولك: جاء زيدٌ قبل عمروٍ: أي: قبل مجيئِه. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} يجوز أن تكونَ صفةً لمصدرٍ أو لزمانٍ محذوف، أي: لُبْثاً قليلاً، أو إلا زماناً قليلاً.

77

قوله تعالى: {سُنَّةَ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن ينتصِبَ على المصدرِ المؤكَّد، أي: سَنَّ الله ذلك سُنَّةَ، أو سَنَنَّا ذلك سُنَّةَ. الثاني: - قاله الفراء - أنه على إسقاطِ الخافضِ، أي: كسُنَّةِ اللهِ، وعلى هذا لا يُوقف على قولِه «إلا قليلاً» . الثالث: أن ينتصبَ على المفعول به، أي: اتبعْ سُنَّةَ.

78

قوله تعالى: {لِدُلُوكِ} : في هذه اللامِ وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى «بَعْد» ، أي: بَعْدَ دُلوكِ الشمسِ، ومثلُه قول متمم بن نويرة: 309 - 0-

فلمَّا تَفَرَّقْنا كأني ومالِكاً ... لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معاً ومثلُه قولُهم: «كَتَبَتْه لثلاثٍ خَلَوْنَ» . والثاني: أنها على بابها، أي: لأجلِ دُلُوك. قال الواحدي: «لأنها إنما تَجِبُ بزوالِ الشمس» . والدُّلوك: مصدرُ دَلَكت الشمسُ، وفيه ثلاثةُ أقوالٍ، أشهرُها: أنه الزوالُ، وهو نِصْفُ النهار. والثاني: أنه من الزوال إلى الغروب. قال الزمخشري: «واشتقاقُه من الدَّلْكِ؛ لأنَّ الإِنسانَ يَدْلُكُ عينَه عند النظرِ إليها» . قلت: وهذا يُفْهِم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقاً من المصدرِ. والثالث: أنه الغروبُ، وأنشد الفراءُ عليه قولَه: 309 - 1- هذا مُقامُ قَدَمَيْ رَباحِ ... ذَبَّبَ حتى دَلَكَتْ بَِرَاحِ أي: غَرَبَتْ بَراحِ، وهي الشمسُ. وأنشد ابن قتيبة على ذلك قولَ ذي الرمة: 309 - 2- مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودها ... نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدوالِكِ

أي: الغارِبات: وقال الراغب: دُلُوْكٌ الشمسِ مَيْلُها للغُروب، وهو مِنْ قولِهم: دَلَكْتُ الشمسَ: دفعتُها بالرَّاح، ومنه: دَلَكْتُ الشيءَ في الراحةِ، ودَلَكْتُ الرجلَ: ماطَلْتُه، والدَّلُوك: ما دَلَكْتَه مِنْ طِيبٍ، والدَّلِيْكُ: طعامٌ يُتَّخذ مِنْ زُبْدٍ وتَمْر «. قوله: {إلى غَسَقِ اليل} في هذا الجارِّ وجهان، أحدٌهما: أنه متعلِّقٌ ب أَقِمْ» فهي لانتهاءِ غايةِ الإِقامةِ، وكذلك اللامُ في «لِدُلوك» متعلقةٌ به أيضاً. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الصلاة» ، أي: أَقِمْها مَمْدودةً إلى غَسَق الليل، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ: من حيث إنه قَدَّر المتعلِّق كوناً مقيداً، إلا أَنْ يريدَ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ. والغَسَقُ: دخولُ أولِ الليل، قاله ابنُ شميل. وأنشد: 309 - 3- إنَّ هذا الليلَ قد غَسَقا ... واشتكيْتُ الهَمَّ والأرقا وقيل: هو سَوادُ الليلِ وظُلْمَتُه، وأصلُه من السَّيَلان: غَسَقَتِ العين، أي: سالَ دَمْعُها فكأن الظُّلْمَةَ تَنْصَبُّ على العالَم وتَسِيْل عليهم قال: 309 - 4- ظلَّتْ تجودُ يداها وهي لاهِيَةٌ ... حتى إذا هَجَمَ الإِظْلامُ والغَسَقُ

ويُقال: غَسَقَتِ العينُ: امتلأَتْ دَمْعاً، وغَسَقَ الجرحُ: امتلأَ دَماً، فكأنَّ الظُّلْمَةَ مَلأَتْ الوجودَ. والغاسِقُ في قوله: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} [الفلق: 3] قيل: المرادُ به القمرُ إذا كَسَف واسْوَدَّ. وقيل: الليل. والغَساقُ بالتخفيف والتشديدِ ما يَسِيل مِنْ صَديدِ أهل النار. ويُقال: غَسَق الليلُ وأَغْسَقَ، وظَلَمَ وَأَظْلَمَ، ودَجَى وأَدْجَى، وغَبَشَ وأَغْبَشَ، نقله الفرَّاء. قوله: {قُرْآنَ الفجر} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه عطفٌ على «الصلاة» ، أي: وأَقِمْ قرآنَ الفجرِ، والمرادُ به صلاةُ الصبحِ، عَبَّر عنها ببعضِ أركانِها. والثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراء، أي: وعليك قرآنَ الفجر، كذا قدَّره الأخفشُ وتَبِعه أبو البقاء، وأصولُ البصريين تَأْبَى هذا؛ لأنَّ أسماءَ الأفعالِ لا تعملُ مضمرةً. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ، أي: كَثِّر قرآنَ أو الزَمْ قرآنَ الفجرِ.

79

قوله تعالى: {وَمِنَ اليل} : في «منْ» هذه وجهان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ ب «تَهَجَّدْ» ، أي: تَهَجَّدْ بالقرآنِ بعضَ الليل، والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: وقُمْ قَوْمةً من الليل، أو واسهرْ من الليل، ذَكَرهما الحوفيُّ. وقال الزمخشري: «وعليك بعضَ الليل فتهَجَّدْ به» فإنْ كان أراد تفسيرَ المعنى فقريبٌ، وإن أراد تفسيرَ الإِعراب فلا يَصِحُّ لأنَّ المُغْرَى به لا يكون حرفاً، وجَعْلُه «مِنْ» بمعنى بعض لا يَقْتضي اسميَّتَها، بدليل أنَّ واوَ «مع» ليسَتْ اسماً بإجماعٍ، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو «مع» . /

والضميرُ في «به» الظاهرُ عَوْدُه على القرآنِ من حيث هو، لا بقيد إضافتِه إلى الفجر. والثاني: أنها تعودُ على الوقت المقدَّرِ، أي: وقُمْ وقتاً من الليل فتهَجَّدْ بذلك الوقتِ، فتكونُ الباءُ بمعنى «في» . قوله «نافِلَةً» فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها مصدرٌ، أي: تَتَنَفَّلُ نافلةً لك على الصلواتِ المفروضةِ. والثاني: أنها منصوبةٌ ب «تَهَجَّدْ» لأنَّه في معنى تَنَفَّلْ، فكأنه قيل: تنفَّل نافلة. والنَّافِلَةُ، مصدرٌ كالعاقِبة والعافِية. الثالث: أنها منصوبةٌ على الحالِ، أي: صلاةَ نافِلَةٍ، قاله أبو البقاء وتكون حالاً من الهاء في «به» إذا جَعَلْتَها عائدةً على القرآن لا على وقتٍ مقدر. الرابع: أنها منصوبةٌ على المفعولِ بها، وهو ظاهرُ قولِ الحوفيِّ فإنه قال: «ويجوز أن ينتصِبَ» نافلةً «بتهجَّدْ، إذا ذَهَبْتَ بذلك على معنى: صَلِّ به نافلةً، أي: صَلِّ نافِلَةً لك» . والتهَجُّدُ: تَرْكُ الهُجُودِ وهو النَّوْمُ، وتَفَعَّل يأتي للسَّلْب نحو: تَحَرَّجَ وتَأَثَّمَ، وفي الحديث: «كان يَتَحَنَّثُ بغارِ حراءٍ» وفي الهُجود خلافٌ بين أهل اللغةِ فقيل: هو النوم. قال: 309 - 5-

وبَرْكُ هُجودٍ قد أثارَتْ مَخافتي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال آخر: 309 - 6- ألا طَرَقَتْنا والرِّفاقُ هُجودُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال آخر: 309 - 7- ألا زارَتْ وأهلُ مِنَىً هُجودُ ... وليت خيالَها بمِنَىً يعودُ فَهُجُودٌ: نيامٌ، جمعُ «هاجِد» كساجِد وسُجود. وقيل: الهُجود: مشتركٌ بين النائِمِ والمُصَلِّي. قال ابن الأعرابي: «تَهَجَّدَ: صلَّى من الليل، وتَهَجَّدَ: نامَ» ، وهو قول أبي عبيدةَ واللَّيْث. قوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً} في نصب «مَقاماً» أربعةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، أي: يبعثُك في مَقام. الثاني: أن ينتصِبَ بمعنى «يَبْعَثُك» لأنه في معنى يُقيمك، يقال: أُقِيم مِنْ قبرِه وبُعِث منه، بمعنىً فهو نحو: قعد جلوساً. الثالث: أنه منصوبٌ على الحال، أي: يَبْعَثُك ذا مقامٍ محمودٍ. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ، وناصبُه مقدَّرٌ، أي: فيقوم مقاماً. و «عَسَى» على الأوجهِ الثلاثةِ دونَ الرابع يتعيَّن فيها أن تكونَ

التامَّةَ، فتكونَ مسندةً إلى «أنْ» وما في حَيِّزها إذ لو كانت ناقصةً على أَنْ يكونَ {أَن يَبْعَثَكَ} خبراً مقدماً، و «ربُّك» اسماً مؤخراً، لَزِمَ من ذلك محذورٌ: وهو الفصلُ بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولِها، فإنَّ «مَقاماً» على الأوجه الثلاثةِ الأُوَلِ منصوبٌ ب «يَبْعَثُكَ» وهو صلةٌ ل «أَنْ» فإذا جَعَلْتَ «رَبُّك» اسمَها كان أجنبياً من الصلة فلا يُفْصَلُ به، وإذا جَعَلْتَه فاعِلاً لم يكن أجنبياً فلا يُبالَى بالفصلِ به. وأمَّا على الوجه الرابع فيجوز أن تكونَ التامَّةَ والناقصةَ بالتقديم والتأخير لعدم المحذورِ؛ لأنَّ «مقاماً» معمولٌ لغير الصلة، وهذا من محاسِنِ صناعة النحو، وتقدَّم لك قريبٌ مِنْ هذا في سورةِ إبراهيم عليه السلام في قولِه تعالى: {أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ} [إبراهيم: 10] .

80

قوله تعالى: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} : يحتمل أن يكونَ مصدراً، وأن يكونَ ظرفَ مكان وهو الظاهر. والعامَّةُ على ضم الميم فيهما لسَبْقهما فعلٌ رباعي. وقرأ قتادة وأبو حيوة وإبراهيم بن أبي عبلة وحميد بفتحِ الميمِ فيهما: إمَّا لأنهما مصدران على حَذْفِ الزوائد ك {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، وإمَّا لأنهما منصوبان بمقدَّرٍ موافقٍ لهما تقديره: فادْخُلْ مَدْخَلَ واخرُجْ مَخْرَج. وقد تقدَّم هذا مستوفى في قراءةِ نافع في سورة النساء، وأنه قَرَأ كذلك في سورة الحج. ومُدْخَلُ صِدْقٍ ومُخْرَجُ صِدْقٍ من إضافة التبيين، وعند الكوفيين من

إضافةِ الموصوف لصفته، لأنه يُوصف به مبالغةً. قوله: «سُلْطاناً» هو المفعولُ الأول للجَعْلِ، والثاني أحدُ الجارَّيْن المتقدَّمين، والآخرُ متعلِّقٌ باستقراره. و «نصيراً» يجوز أن يكون مُحَوَّلاً مِنْ فاعِل للمبالغةِ، وأن يكونَ بمعنى مفعول.

81

والزُّهُوق: الذَّهابُ والاضمحلال قال: 309 - 8- ولقد شَفَى نَفْسي وأبرَأَ سُقْمَها ... إقدامُه بمَزَالَةٍ لم يَزْهَقِ يقال: زَهَقَتْ نَفْسي تَزْهَقُ زُهوقاً بالضم. وأمَّا الزَّهوق بالفتح فمثالُ مبالَغَةٍ كقوله: 309 - 9- ضَرُوْبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

82

قوله تعالى: {مِنَ القرآن} : في «مِنْ» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها لبيانِ الجنسِ، قاله الزمخشري، وابنُ عطية وأبو البقاء. ورَدَّ الشيخُ عليهم: بأنَّ التي للبيان لا بد أن يتقدَّمَها ما تُبَيِّنُه، لا أَنْ تتقدَّمَ هي عليه، وهنا قد وُجِدَ تقديمُها عليه. الثاني: أنها للتبعيض، وأنكره الحوفي قال: «لأنه يَلْزَمُ أن لا يكونَ بعضُه

شفاءً» . وأُجيب عنه: بأنَّ إنزالَه إنما هو مُبَعَّضٌ. وهذا الجوابُ ليس بظاهرٍ. وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يَشْفي من المرضِ. قلت: وهذا قد وُجِد بدليل رُقْيَةِ بعضِ الصحابةِ سَيِّدَ الحيِّ الذي لُدِغ، بالفاتحةِ فشُفي. الثالث: أنها لابتداءِ الغاية وهو واضح. والجمهور على رفع «شِفاءٌ/ ورحمةٌ» خبرين ل «هو» ، والجملةُ صلةٌ ل «ما» وزيدُ بن علي بنصبهما، وخُرِّجَتْ قراءتُه على نصبِهما على الحال، والصلةُ حينئذٍ «للمؤمنين» وقُدِّمَتْ الحالُ على عاملها المعنويِّ كقولِه {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] في قراءةِ مَنْ نصب «مَطْوِيَّاتٍ» . وقولِ النابغة: 310 - 0- رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحْقِبي أَدراعَهم ... فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذارِ وقيل: منصوبان بإضمارِ فعلٍ، وهذا [عند] مَنْ يمنع تقديمَها على عاملِها المعنوي. وقال أبو البقاء: «وأجاز الكسائيُّ:» ورحمةً «بالنصب عطفاً على» ما «. فظاهرُ هذا أن الكسائيَّ بَقَّى» شفاء «على رفعِه، ونَصَبَ» رحمة «فقط عطفاً على» ما «الموصولة كأنه قيل: ونُنَزِّل من القرآن رحمةً، وليس في نَقْله ما يؤذن بأنه تلاها قرآناً. وتقدَّم الخلاف [في] » وننزل «

تخفيفاً وتشديداً. والعامَّة على نونِ العظمة. ومجاهد» ويُنْزِل «بياء الغيبة، أي: الله.

83

قوله تعالى: {وَنَأَى} : قرأ العامَّةُ بتقديمِ الهمزةِ على حرف العلة مِن النَّأْي وهو البُعْدُ. وابن ذكوان - ونقلها الشيخ عن ابن عامر بكمالِه-: «ناءَ» بتقديم الألف على الهمزة. وفيها تخريجان أحدُهما: أنها مِنْ ناء يَنُوْءُ أي نهض. قال الشاعر: 310 - 1- حتى إذا ما التأَمَتْ مَفاصِلُهْ ... وناءَ في شِقِّ الشِّمالِ كاهلُهْ والثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ نأى، ووزنُه فَلَع كقولهم في «رأى» راءَ، إلى غيرِ ذلك، ولكن متى أمكن عدمُ القلبِ فهو أَوْلَى. وهذا الخلافُ جارٍ أيضاً في سورة حم السجدة. وأمال الألفَ إمالةً محضةً الأخَوان وأبو بكر عن عاصم، وبينَ بينَ بخلافٍ عنه السوسيُّ، وكذلك في فُصِّلت، إلا أبا بكرٍ فإنه لم يُمِلْه.

وأمال فتحةَ النونِ في السورتين خَلَف، وأبو الحارث والدُّوري عن الكسائي.

84

قوله تعالى: {على شَاكِلَتِهِ} : متعلِّقٌ ب «يَعْمل» . والشَّاكِلَةُ: أحسنُ ما قيل فيها ما قاله الزمخشريُّ: أنها مذهبه الذي يُِشاكل حالَه في الهدى والضلالة مِنْ قولهم: «طريقٌ ذو شواكل» وهي الطرقُ التي تَشَعَّبَتْ منه، والدليلُ عليه قولُه {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} . وقيل: على دينه. وقيل: خُلُقه. وقال ابن عباس: «جانبه» . وقال الفراء: «هي الطريقةُ والمذهب الذي جُبِلَ عليه» . وهو من «الشَّكْلِ» وهو المِثْل، يقال: لستَ على شَكْلي ولا شاكلتي. وأمَّا «الشَّكْلُ» بالكسر فهو الهيئة. يقال: جاريةٌ حسنةُ الشَّكْل. وقال امرؤ القيس: 310 - 2- حَيِّ الحُمولَ بجانب العَزْلِ ... إذ لا يُلائم شَكلُها شَكْلي أي: لا يلائمُ مثلُها مثلي. قوله: «أَهْدى» يجوز أن يكونَ مِنْ «اهْتَدى» ، على حذفِ الزوائد، وأن يكونَ مِنْ «هَدَى» المتعدِّي. وأن يكونَ مِنْ «هدى» القاصر بمعنى اهتدى. و «سبيلاً» تمييز.

85

قوله تعالى: {مِّن العلم} : متعلِّقٌ ب «أُوْتِيْتُم» ، ولا يجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ «قليلاً» ؛ لأنه لو تأخَّر لكان صفةً؛ لأنَّ ما في حَيِّز «إلاَّ» لا يتقدم عليها. وقرأ عبد الله والأعمش «وما أُوْتُوا» بضمير الغيبة.

87

قوله تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً} : فيها قولان، أحدُهما: أنها استثناء متصلٌ لأنها تَنْدَرِجُ في قولِه «وكيلا» . والثاني: أنها استثناء منقطعٌ فتتقدر ب «لكن» عند البصريين، و «بل» عند الكوفيين. و «مِنْ ربِّك» : يجوز أن يتعلَّقَ ب «رحمة» وأن يتعلَّقَ بمحذوف، صفةً لها.

88

قوله تعالى: {لاَ يَأْتُونَ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه جوابٌ للقسمِ الموطَّأ له باللام. والثاني: أنه جواب الشرط، واعتذروا به عن رفعِه بأنَّ الشرطَ ماضٍ فهو كقوله: 310 - 3- وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حِرِمُ واستشهدوا عليه بقولِ الأعشى: 310 - 4-

لئِنْ مُنِيْتَ بنا عن غِبِّ معركةٍ ... لا تُلْفِنا مِنْ دماءِ القومِ نَنْتَفِلُ فأجاب الشرطَ مع تقدُّمِ لامِ التوطئة، وهو دليلٌ للفراء ومَنْ تبعه على ذلك. وفيه رَدٌّ على البصريين، حيث يُحَتِّمون جوابَ القسمِ عند عدمِ تقدُّم ذي خبرٍ. وأجاب بعضهم بأنَّ اللامَ في البيت ليست للتوطِئةِ بل مزيدةٌ، وهذا ليس/ بشيء لأنه لا دليلَ عليه. وقال الزمخشري: «ولولا اللامُ الموطِّئة لجاز أن يكونَ جواباً للشرط كقولِه: 310 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يقولُ لا غائبٌ. . . . . . . . . . . . . . . . . . لأنَّ الشرطَ وقع ماضياً. وناقشه الشيخُ: بأنَّ هذا ليس مذهبَ سيبويه ولا الكوفيين والمبرد؛ لأنَّ مذهب سيبويه في مثلِه أن النيةَ به التقديمُ، ومذهبَ الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء، وهذا

مذهبٌ ثالثٌ قال بعضُ الناس. قوله: {وَلَوْ كَانَ} جملةٌ حاليةٌ، وقد تقدَّم تحقيق هذا، وأنه كقولِه عليه السلام» أَعطُوا السائل ولو جاء على فرس «و» لبعضٍ «متعلِّقٌ ب» ظَهير «.

89

قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} : مفعولُه محذوف. وقيل: «مِنْ» زائدة في {مِن كُلِّ مَثَلٍ} وهو المفعولُ، قاله ابن عطية وهو مذهبُ الكوفيين والأخفش. وقرأ الحسن «صَرَفْنا» بتخفيفِ الراء، وقد تقدَّم نظيرُه. قوله: {إِلاَّ كُفُوراً} مفعولٌ به، وهو استثناءٌ مفرغ لأنه في قوة: لم يَفْعلوا إلا الكُفور.

90

قوله تعالى: {حتى تَفْجُرَ} : قرأ الكوفيون «تَفْجُرَ» بفتح التاء وسكونِ الفاء وضمِّ الجيم خفيفةً، مضارعَ «فَجَر» . والباقون بضمِّ التاءِ وفتحِ الفاء وكسرِ الجيم شديدةً، مضارع فَجَّر للتكثير. ولم يختلفوا في الثانية أنها بالتثقيلِ للتصريحِ بمصدرِها. وقرأ الأعمش «تُفْجِرَ» بضمِّ

التاءِ وسكونِ الفاء وكسر الجيم خفيفةً، مضارعَ أَفْجر بمعنى فَجَرَ، فليس التضعيفُ ولا الهمزةُ مُعَدِّيَيْنِ. و «يَنْبوعاً» مفعولٌ به، ووزنُه يَفْعُول لأنَّه مِنْ النَّبْعِ، واليَنْبُوعُ: العَيْنُ تفورُ من الأرض.

91

قوله تعالى: {خِلالَهَا} نصبٌ على الظرفِ، وتقدَّم تحقيقُه أول السورة.

92

قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ} : العامَّةُ على إسناد الفعل للمخاطب. و «السماءَ» مفعولٌ بها. ومجاهد على إسنادِه إلى «السماء» فَرَفْعُها به. قوله: «كِسْفاً» قرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ هنا بفتح السين، وفَعَل ذلك حفصٌ في الشعراء وفي سبأ. والباقون بسكونها في المواضعِ الثلاثةِ. وقرأ ابن ذكوان بسكونها في الروم بلا خلافٍ، وهشامٌ عنه الوجهان، والباقون بفتحها. فمَنْ فتح السينَ جعله جمعَ كِسْفة نحو: قِطْعَة وقِطَع، وكِسْرة

وكِسَر، ومَنْ سَكَّن جعله جمع كِسْفَة أيضاً على حَدِّ سِدْرة وسِدْر، وقَمْحة وقَمْح. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين، أحدُهما: أنه جمعٌ على فَعَل بفتح العينِ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، وهذا لا يجوز لأنَّ الفتحةَ خفيفةٌ يحتملُها حرفُ العلة، حيث يُقَدَّر فيه غيرُها فكيف بالحرف الصحيح؟ . قال: «والثاني: أنه فَعْل بمعنى مَفْعول» كالطَّحْن بمعنى مَطْحون، فصار في السكون ثلاثةُ أوجهٍ. وأصل الكَسْفِ القَطْع. يقال: كَسَفْتُ الثوبَ قطعتُه. وفي الحديثِ في قصة سليمان مع الصافنات الجياد: أنه «كَسَفَ عراقيبَها» أي: قطعها. وقال الزجاج «كَسَفَ الشيء بمعنى غَطَّاه» . وقيل: ولا يُعرفُ هذا لغيرِه. وانتصابُه على الحالِ، فإنْ جَعَلْناه جمعاً كان على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذات كِسَفٍ، وإنْ جعلناه فِعْلاً بمعنى مَفْعول لم يَحْتَج إلى تقدير، وحينئذ فيقال: لِمَ لَمْ يؤنَّث؟ ويجاب: بأنَّ تأنيثَ السماء غيرُ حقيقي، أو بأنها في معنى السقف. قوله: «كما زَعَمْتَ» نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: إسقاطاً مثلَ

مَزْعُومِك، كذا قدَّره أبو البقاء. قوله: «قَبِيْلاً» حالٌ من «الله والملائكة» أو مِنْ أحدِهما، والآخرُ محذوفةٌ حالُه، أي: بالله قبيلاً والملائكةِ قبيلاً. كقوله: 310 - 6-. . . . . . . . . . . . . . كنتُ منه ووالدي ... بريئاً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وكقولِهِ] 310 - 7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنِّي وقَيَّارٌ بها لغريبُ ذكرَه الزمخشريُ، هذا إذا جَعَلْنا «قبيلاً» بمعنى كفيلاً، أي: ضامِناً، أو بمعنى معايَنة كما قاله الفارسيُّ. وإنْ جعلناه بمعنى جماعةً كان حالاً من «الملائكة» . وقرأ الأعرج «قِبَلاً» من المقابلة.

93

قوله تعالى: {أَوْ ترقى} : فعل مضارعٌ منصوبٌ تقديراً، لأنه معطوفٌ على «تَفَجُّرَ» ، أي: أو حتى تَرْقَى في السماء، أي: في معارجِها، والرُّقِيُّ: الصُّعودُ. يقال: رَقِي بالكسرِ يَرْقى بالفتح رُقَيَّاً على فُعول، والأصل رُقُوْي، فَأُدْغم بعد قلبِ الواو ياءً، ورَقْياً بزنة ضَرْب. قال الراجز: 310 - 8-

أنتَ الذي كلَّفْتني رَقْيَ الدَّرجْ ... على الكَلالِ والمَشِيْبِ والعَرَجْ قوله: «نَقْرَؤُه» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يكون نعتاً ل «كتاباً» . والثاني: أن يكونَ [حالاً] مِنْ «ن» في «علينا» قاله أبو البقاء، وهي حالٌ مقدرةٌ، لأنهم إنما يقرؤونه بعد إنزالِه لا في حالِ إنزالِه. قوله: {قُلْ سُبْحَانَ} قرأ ابنُ كثير وابنُ عامر «قال» فعلاً ماضياً إخباراً عن الرسولِ عليه السلام بذلك، والباقون «قُلْ» على الأمر/ أمراً منه تعالى لنبيِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وهي مرسومةٌ في مصاحف المكيين والشاميين: «قال» بألف، وفي مصاحِفِ غيرِهم «قُلْ» بدونها، فكلٌ وافق مصحفَه. قوله: {إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} يجوزُ أَنْ يكونَ «بشراً» خبرَ «كنتُ» و «رسولاً» صفتُه، ويجوز أن يكون «رسولاً» هو الخبر، و «بَشَراً» حالٌ مقدمةٌ عليه.

94

قوله تعالى: {أَن يؤمنوا} : «أَنْ يُؤْمِنُوا» مفعولٌ ثانٍ ل «مَنَع» ، أي/ ما مَنَعَهم إيمانَهم أو مِنْ إيمانهم، و «أنْ قالوا» هو الفاعلُ، و «إذ» ظرفٌ ل «مَنَعَ» ، والتقدير: وما مَنَعَ الناسَ من الإِيمانِ وقتَ مجيءِ الهُدى إياهم إلا قولُهم «أَبَعَثَ الله.

وهذه الجملةُ المنفيَّةُ يُحتمل أَنْ تكونَ مِنْ كلام الله، فتكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ مِنْ كلامِ الرسولِ فتكونَ منصوبةَ المحلِّ لاندراجِها تحت القولِ في كلتا القراءتين. قوله: {بَشَراً رَّسُولاً} كما تقدَّم مِنَ الوجهين في نظيره، وكذلك قولُه {لَنَزَّلْنَا [عَلَيْهِم] مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} .

95

قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِي الأرض} : يجوز في «كان» هذه التمامُ، أي: لو وُجِد وحَصَل، و «يمشون» صفةٌ ل «ملائكةٌ» و {فِي الأرض} متعلقٌ به، و «مطمئنين» حالٌ من فاعل «يَمْشُون» . ويجوز أن تكونَ الناقصةَ، وفي خبرها أوجهٌ، أظهرُها: أنه الجارُّ، و «يَمْشُون» و «مطمئنين» على ما تقدَّم. وقيل: الخبر «يَمْشُون» و {فِي الأرض} متعلِّق به. وقيل: الخبرُ «مطمئنين» و «يَمْشُون» صفةٌ. وهذان الوجهان ضعيفان لأنَّ المعنى على الأول.

97

قوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ الله} : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مندرجةً تحت المَقُولِ، فيكون محلُّها نصباً، وأن تكونَ مِنْ كلامِ اللهِ، فلا مَحَلَّ لها لاستئنافِها، ويكون في الكلامِ التفاتٌ؛ إذ فيه خروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إلى تكلُّم في قوله «ونَحْشُرهم» . وحُمِل على لفظِ «مَنْ» في قولِه «فهو المهتدِ» فَأُفْرِد، وحُمِل على معنى «مَنْ» الثانيةِ في قولِه {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ} . فجُمعَ. ووجهُ المناسبةِ في ذلك -والله أعلم -: أنه لمَّا كان الهَدْي شيئاً واحداً غيرَ متشعبِ السبلِ ناسَبَه التوحيدُ، ولمَّا كان الضلالُ له طرقٌ نحو: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن

سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] ناسب الجمعُ الجمعَ، وهذا الحملُ الثاني مِمَّا حُمِل فيه على المعنى، وإن لم يتقدَّمْه حَمْلٌ على اللفظ. قال الشيخُ: «وهو قليلٌ في القرآن» . يعني بالنسبةِ إلى غيرِه. ومثلُه قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] ويمكن أن يكونَ المُحَسِّنَ لهذا كونُه تقدَّمَه حَمْلٌ على اللفظِ وإنْ كان في جملةٍ أخرى غيرِ جملتِه. وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ بإثباتِ ياء «المُهْتدي» وصلاً وحَذْفْها وقفاً، وكذلك في التي تحت هذه السورة، وحَذَفها الباقون في الحالين. قوله: {على وُجُوهِهِمْ} يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالحشر، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول، أي: كائنين ومَسْحوبين على وجوههم. قوله: «عُمْياً» يجوز أن تكونَ حالاً ثانية، أو بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ؛ لأنه تَظْهَرُ أنواعُ البدلِ وهي: كلٌّ من كل، ولا بعضٌ من كل، ولا اشتمالٌ، وأن تكونَ حالاً من الضمير المرفوع في الجارِّ لوقوعِهِ حالاً، وأن تكونَ حالاً من الضميرِ المجرورِ في «وجوهِهم» . قوله: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يجوزُ في هذه الجملةِ الاستئنافُ والحاليةُ: إمَّا من الضميرِ المنصوبِ أو المجرورِ.

قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} يجوز فيها الاستئنافُ والحاليةُ مِنْ «جهنم» ، والعاملُ فيها معنى المَأْوَى. وخَبَتِ النار تَخْبُو: إذا سكن لهَبُها، فإذا ضَعُفَ جَمْرُها قيل: خَمَدَتْ، فإذا طُفِئَتْ بالجملةِ قيل: هَمَدَت. قال: 301 - 9- وَسْطُه كاليَراعِ أو سُرُجِ المِجْ ... دَلِ حِيْناً يَخْبُو وحِيناً ينيرُ وقال آخر: 310 - 0- لِمَنْ نارٌ قبيل الصُّبْ ... حِ عند البيتِ ما تَخْبُو إذا ما أُخْمِدَتْ اُلْقِيْ ... عليها المَنْدَلُ الرَّطْبُ وأَدْغَم التاءَ في زاي «زِدْناهم» وأبو عمروٍ والأخَوان وورشٌ، وأظهرها الباقون.

98

قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ} : يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً، و «بأنَّهم» متعلِّقٌ بالجزاء، أي: ذلك العذابُ المتقدَّمُ جزاؤهم

بسببِ أنهم، ويجوز أَنْ يكونَ «جزاؤهم» مبتدأ ثانياً، والجارُّ خبرُه، والجملةُ خبرُ «ذلك» ، ويجوز أن يكونَ «جزاؤهم» بدلاً أو بياناً، و «بأنَّهم» الخبرُ.

99

قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَهُمْ} : معطوفٌ على قوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} لأنه في قوة: قد رَأَوْا، فليس داخلاً في حَيَّز الإِنكار، بل معطوفاً على جملته برأسها. قوله: {لاَّ رَيْبَ فِيهِ} صفةٌ ل «أجَلاً» ، أي: أجلاً غيرَ مرتابٍ فيه. فإن أريد به يومُ القيامة فالإِفرادُ واضحٌ، وإن أريد به الموتُ فهو اسم جنسٍ/ إذ لكلِّ إنسان أجلٌ يَخُصه. قوله: {إَلاَّ كُفُوراً} قد تقدَّم قريباً.

100

قوله تعالى: {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: - وإليه ذهب الزمخشري والحوفي وابن عطية وأبو البقاء ومكي - أن المسألة من بابِ الاشتغال، ف «أنتم» مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ، لأنَّ «لو» لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً، فهي ك «إنْ» في قولِه تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين} [التوبة: 6] وفي قوله: 311 - 1-

وإن هو لم يَحْمِلْ على النفس ضَيْمَها ... فليس إلى حُسْنِ الثَّناء سبيلُ والأصل: لو تملكون، فحذف الفعلَ لدلالةِ ما بعده عليه فانفصل الضميرُ وهو الواوُ؛ إذ لا يمكن بقاؤُه متصلاً بعد حَذْف رافِعِه. ومثلُه: «وإن هو لم يَحْمِلْ» الأصلُ: وإن لم يَحْمل، فلمَّا حُذِف الفعلُ انفصل ذلك الضميرُ المستتر وبَرَزَ، ومثلُه فيما نحن فيه قولُ الشاعر: لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتْني «، وقولُ المتلمس: 311 - 2- ولو غيرُ أَخْوالي أرادُوا نَقِيْصَتي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ف» ذاتُ سوار «مرفوعةٌ بفعلٍ مفسَّرٍ بالظاهرِ بعده. الثاني: أنه مرفوعٌ ب» كان «وقد كَثُر حَذْفُها بعد» لو «والتقدير: لو كنتم تملكون، فَحُذِفَتْ» كان «فانفصل الضمير، و» تملكون «في محلِّ نصبٍ ب» كان «وهو قولُ ابنِ الصائغِ. وقريبٌ منه قولُه: 311 - 3-

أبا خُراشَةَ أمَّا أنتَ ذا نَفَرٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فإنَّ الأصلَ: لأَنْ كنتَ، فحُذِفَتْ» كان «فانفصل الضمير إلا أنَّ هنا عُوِّض مِنْ» كان «» ما «، وفي» لو «لم يُعَوَّض منها. الثالث: أنَّ» أنتم «توكيدٌ لاسمِ» كان «المقدرِ معها، والأصلُ» لو كنتم أنتم تملِكُون «فَحُذِفَتْ» كان «واسمها وبقي المؤكِّد، وهو قولُ ابن فضَّال المجاشعي. وفيه نظرٌ من حيث إنَّا نحذِفُ ما في التوكيد، وإن كان سيبويه يُجيزه. وإنما أحوجَ هذين القائلَيْن إلى ذلك: كونُ مذهب البصريين في» لو «أنَّه لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً، ولا يجوز عندهم أَنْ يليَها مضمراً مفسِّراً إلى في ضرورةٍ أو ندورٍ كقوله:» لو ذاتَ سِوَارٍ لطمَتْني «. فإن قيل: هذان الوجهان: أيضاً فيهما إضمار فعلٍ. قيل: ليس هو الإِضمارَ المَعْنِيَّ؛ فإنَّ الإِضمارَ الذي أَبَوْه على شريطةِ التفسير في غير» كان «، وأمَّا» كان «فقد كَثُر حَذْفُها بعد» لو «في مواضعَ كثيرةٍ. وقد وقع الاسمُ الصريحُ بعد» لو «غيرَ مذكورٍ بعده فعلٌ، أنشد الفارسي: 311 - 4- لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كنت كالغصَّانِ بالماءِ اعتصاري

إلا أنه خرَّجه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره الوصفُ مِنْ قولِه» شَرِقٌ «. وقد تقدَّم تحقيق القول في» لو «فلنقتصِرْ على هذا. قوله: {لأمْسَكْتُمْ} يجوز أن يكونَ لازماً لتضمُّنِه معنى بَخَلْتُمْ، وأن يكونَ متعدِّياً، ومفعولُه محذوفٌ، لأَمْسَكْتُم المال، ويجوز أن يكونَ كقولِه {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] . قوله: {خَشْيَةَ الإنفاق} فيه وجهان، أظهرهما: أنه مفعولٌ مِنْ أجله. والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، قاله أبو البقاء، أي: خاشِين الإِنفاقَ. وفيه نظرٌ؛ إذ لا يقع المصدرُ المعرَّفُ موقعَ الحالِ إلا سماعاً نحو:» جَهْدَك «و» طاقتَك «و [كقوله:] 311 - 5- وأرسلها العِراك. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا يُقاسُ عليه. والإِنفاقُ مصدرُ أنفق، أي: أَخْرَجَ المالَ. وقال أبو عبيدة:» وهو بمعنى الافتقار والإِقتار «.

101

قوله تعالى: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} : يجوز في «بيِّنات» النصبُ صفةً للعددِ، والجرُّ صفةً للمعدود. قوله: {إِذْ جَآءَهُمْ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ معمولاً ل «آتَيْنا» ، ويكون قولُه {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} اعتراضاً. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمار اذكُرْ. والثالث: أنه منصوبٌ ب يُخْبرونك مقدَّراً. الرابع: أنه منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ، إذ التقديرُ: فَقُلْنا له: سَلْ بني إسرائيل حين جاءهم. وقد ذكر هذه الأوجهَ الزمخشريُّ مرتبةً على مقدمةٍ ذكرها قبل ذلك فلنذكُرْها. قال: {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، أي: فقلنا له: سَلْ بني [إسرائيل] ، أي: سَلْهُمْ عن فرعونَ، وقل/ له: أرسلْ معي بني إسرائيل، أو سَلْهُم عن إيمانهم وحالِ دينهم، أو سَلْهُمْ أن يُعاضِدوك، وتَدُلُّ عليه قراءةُ رسول الله «فسال» على لفظ الماضي بغير همزٍ وهي لغةُ قريش. وقيل: فَسَلْ يا رسول اللهِ المُؤْمِنَ من بني إسرائيل كعبدِ الله بن سلام وأصحابِه عن الآيات ليزدادوا يقيناً وطُمَأنينة كقوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . ثم قال: «فإن قلتَ بمَ تعلَّق» إذ جاءهم «؟ قلت: أمَّا على الوجهِ الأولِ فبالقولِ المحذوفِ، أي: فقلنا له: سَلْهُمْ حين جاءهم، أو ب» سال «في القراءة الثانية. وأمَّا على الأخير فب» آتَيْنا «أو بإضمار اذْكُرْ، أو بيُخْبرونك. ومعنى إذ جاءهم: إذ جاء آباءهم» . انتهى.

قال الشيخ: «ولا يتأتَّى تَعَلُّقه ب» اذكر «ولا ب يُخبرونك لأنه ظرفٌ ماضٍ» . قلت: إذا جعله معمولاً ل «اذكُرْ» ، أو ل يُخْبرونك لم يَجْعَلْه ظرفاً بل مفعولاً به، كما تقرَّر ذلك غيرَ مرة. الخامس: أنه مفعولٌ به والعاملُ فيه «فَسَلْ» . قال أبو البقاء: «فيه وجهان، أحدُهما: هو مفعولٌ به باسْأَلْ على المعنى لأنَّ المعنى: اذْكرْ لبني إسرائيل [إذ جاءهم] وقيل: التقديرُ اذكر إذ جاءهم وهي غيرُ» اذكر «الذي قَدَّرْتَ به اسْأَلْ» . يعني أن اذكرْ المقدرةَ غيرُ «اذكر» الذي فَسَّرْتَ «اسأَلْ» بها، وهذا يؤيد ما ذكرْتُه لك مِنْ أنَّهم إذا قدَّروا «اذكر» جعلوا «إذ» مفعولاً به لا ظرفاً. إلا أنَّ أبا البقاء ذكر حالَ كونِه ظرفاً ما يقتضي أنْ يعملَ فيه فعلٌ مستقبلٌ فقال: «والثاني: أن يكونَ ظرفاً. وفي العامل فيه أوجهٌ، أحدُها:» آتَيْنا «. والثاني:» قلنا «مضمرة. والثالث:» قُلْ «، تقديرُه قل لخصمِك: سَلْ. والمرادُ به فرعونُ، أي: قُلْ يا موسى، وكان الوجهُ أن يُقال: إذ جئتهم بالفتح، فرجع من الخطاب إلى الغيبة» . قلت: فظاهرُ الوجهِ الثالثِ أنَّ العاملَ فيه «قُلْ» وهو ظرفٌ ماضٍ، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيءٍ؛ إذ يرجع إلى: يا موسى قُلْ لفرعونَ: سَلْ بني إسرائيل، فيعودُ فرعون هو السائلَ لبني إسرائيل، وليس المرادُ ذلك قطعاً، وعلى التقدير الذي قَدَّمْتُه عن الزمخشريِّ - وهو أنَّ

المعنى: يا موسى سَلْ بني إسرائيل، أي: اطْلُبْهم من فرعونَ - يكون المفعولُ الأول للسؤال محذوفاً، والثاني هو «بني إسرائيل» ، والتقدير: سَلْ فرعونَ بني إسرائيل، وعلى هذا فيجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع، وأعمل الثانيَ، إذ التقديرُ: سَلْ فرعونَ فقال فرعونُ، فأعمل الثانيَ فَرَفَع به الفاعلَ، وحَذَفَ المفعولَ مِنَ الأول وهو المختار من المذهبين. والظاهرُ غيرُ ذلك كلِّه، وأنَّ المأمورَ بالسؤال إنما هو سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه، وبنو إسرائيل كانوا معاصِرِيه. والضميرُ في {إِذْ جَآءَهُمْ} : إمَّا للآباء، وإمَّا لهم على حَذْفِ مضافٍ، أي: جاء آباءهم. قوله: «مَسْحُوراً» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه بمعناه الأصلي، أي: إنك سُحِرْتَ، فمِنْ ثَمَّ اختلَّ كلامُك، قال ذلك حين جاءَه بما لا تَهْوَى نفسُه الخبيثةُ. الثاني: أنه بمعنى فاعِل كمَيْمون ومَشْؤوم، أي: أنت ساحرٌ؛ فلذلك تأتي بالأعاجيبِ، يشير لانقلابِ عصاه حيةً وغيرِ ذلك.

102

قوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ} : قرأ الكسائيُّ بضم التاء أَسْند الفعلَ لضمير موسى عليه السلام، أي: إني متحققٌ أني ما جئت به هو مُنَزَّلٌ مِنْ عندِ الله. والباقون بالفتح على إسناده لضميرِ فرعونَ، أي: أنت متحقِّقٌ أنَّ ما جئتُ به هو مُنَزَّل من عند الله وإنما كفرُك عِنادٌ، وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه أنكر الفتحَ، وقال: «ما عَلِم عدوُّ اللهِ قط، وإنما عَلِم موسى» ، والجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ لأنها معلِّقةٌ للعِلْم قبلها. قوله: «بَصائر» حالٌ وفي عاملها قولان، أحدُهما: أنه «أَنْزَلَ» هذا

الملفوظُ به، وصاحبُ الحال هؤلاء، وإليه ذهب الحوفيُّ وابنُ عطيةَ وأبو البقاء، وهؤلاء يُجيزون أن يَعْمل ما قبلَ «إلا» فيما بعدها، وإنْ لم يكنْ مستثنى، ولا مستثنى منه، ولا تابعاً له. والثاني: وهو مذهب الجمهور أنَّ ما بعد «إلا» لا يكون معمولاً لما قبله، فيُقدَّر لها عاملٌ تقديرُه: أَنْزَلها بصائِرَ، وقد تقدَّم نظيرُ هذه في «هود» عند قولِه {إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي} [هود: 27] . قوله: «مَثْبورا» «مَثْبوراً» مفعولٌ ثانٍ، واعترض بين المفعولين بالنداء. والمَثْبُور: المُهْلَكُ. يقال: ثَبَره اللهُ، أي: أَهْلكه، قال ابن الزَّبْعَرى: 311 - 6- إذ أُجاريْ الشيطانَ في سَنَنِ الغَيْ ... يِ ومَنْ مالَ مَيْلَه مَثْبورُ والثُّبُور: الهَلاكُ قال تعالى: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً} [الفرقان: 14] .

104

قوله تعالى: {لَفِيفاً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ، وأن أصلَه مصدرُ لفَّ يَلُفُّ لفيفاً نحو: النَّذير والنكير، أي: جِئْنا بكم منضمَّاً بعضُكم إلى بعض، مِنْ لفَّ الشيءَ يَلُفُّه لَفَّاً، والأَلَفُّ: المتداني الفَخْذَيْنِ، وقيل: العظيمُ البطن. والثاني: أنه اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظِه، والمعنى: جئنا بكم جميعاً فهو في قوةِ التأكيدِ.

105

قوله تعالى: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} : في الجارِّ ثلاثةُ

أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلق بأَنْزَلْناه، والباء سببية، أي: أنزلناه بسبب الحق. والثاني: أنه حالٌ من مفعول «أنزلناه» ، أي: ومعه الحق. والثالث: أنه حالٌ من فاعِله، أي: ملتبسين بالحقِّ. وعلى هذين الوجهين يتعلَّقُ بمحذوفٍ. والضمير في «أَنْزَلْناه» الظاهرُ عَوْدُه للقرآن: إمَّا الملفوظِ به في قولِه قبل ذلك {على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن} [الإِسراء: 88] ، ويكون ذلك جَرْياً على قاعدةِ أساليب كلامِهِم، وهو أَنْ يستطردَ المتكلمُ في ذِكْر شيءٍ لم يَسْبِقْ له كلامُه أولاً، ثم يعودُ إلى كلامِه الأولِ، وإمَّا للقرآنِ غيرِ الملفوظ أولاً؛ لدلالة الحالِ عليه كقولِه تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] وقيل: يعودُ على موسى كقوله: {وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25] . وقيل: على الوعد. وقيل: على الآيات التسعِ، وذكَّر الضميرَ وأفرده حملاً على معنى الدليل والبرهان. قوله: {وبالحق نَزَلَ} فيه الوجهان الأوَّلان دونَ الثالث لعدمِ ضميرٍ آخرَ غيرِ ضمير القرآن. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها للتأكيد، وذلك أنه يُقال: أنزلْتُه فَنَزَل، وأنزلْتُه فلا يَنْزِلْ، فجيْءَ بقولِه {وبالحق نَزَلَ} دَفْعاً لهذا الوهم. وقيل: ليست للتأكيد، والمغايرةُ تَحْصُل بالتغاير بين الحقِّيْنِ، فالحقُّ الأول التوحيد، والثاني الوعدُ والوعيدُ والأمر والنهي. وقال الزمخشري: «وما أَنْزَلْنَا القرآنَ إلا بالحكمةِ المقتضية لإنزاله، وما نَزَلَ إلا ملتبساً بالحق والحكمةِ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خير، أو ما أَنْزَلْنَاه من السماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصْدِ من الملائكةِ، وما نَزَلَ على الرسول إلا محفوظاً

بهم مِنْ تخليط الشياطين» . و «مبشِّراً ونذيراً حالان من مفعول أَرْسَلْنَاك» .

106

قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} : في نصبه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، أي: وآتَيْناك قرآناً «يدلُّ عليه قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى} [الإِسراء: 101] . الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على الكافِ في» أَرْسَلْناك «. قال ابنُ عطية:» من حيث كان إرسالُ هذا وإنزال هذا معنى واحداً «. الثالث: أنه منصوبٌ عطفاً على {مُبَشِّراً وَنَذِيراً} قال الفراء: هو منصوبٌ ب» أَرْسَلْناك «، أي: ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً، كما تقول: ورحمة لأنَّ القرآنَ رحمةً» . قلت: يعني أنه جُعِل نفسُ القرآن مُراداً به الرحمةُ مبالغةً، ولو ادَّعى ذلك على حَذْفِ مضافٍ كان أقربَ، أي: وذا قرآنٍ. وهذان الوجهان متكلِّفان. الرابع: أن ينتصِبَ على الاشتغال، أي: وفَرَقْنا قرآناً فرقناه. واعتذر الشيخُ عن ذلك، أي: عن كونِه لا يَصِحُّ الابتداءُ به لو جَعَلْناه مبتدأً لعدم مُسَوِّغٍ؛ لأنه لا يجوزُ الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسمِ الابتداءُ، بأنَّ ثمَّ محذوفةً، تقديرُه: وقرآناً أيَّ قرآنٍ، بمعنى عظيم. و «فَرَقْناه» على

هذا لا محلَّ له بخلاف الأوجهِ المتقدمةِ؛ فإن محلِّه النصبُ لأنَّه نعتٌ ل «قرآناً» . والعامَّةُ «فَرَقْناه» بالتخفيف، أي: بَيَّنَا حلالَه وحرامَه، أو فَرَقْنا فيه بين الحق والباطل. وقرأ علي بن أبي طالب - كرَّم اللهُ وجهَه - واُبَيّ وعبدُ الله وابنُ عباس والشعبي وقتادة وحميد في آخرين بالتشديد. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّ التضعيفَ فيه للتكثير، أي: فَرَّقْنا آياتِه بين أمرٍ ونهي وحِكَمٍ وأحكامٍ ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار ماضيةٍ ومستقبلةٍ. والثاني: أنه دالٌّ على التفريق والتنجيم. قال الزمخشري: «وعن ابن عباس أنه قرأ مشدَّداً، وقال: لم يَنْزِلْ في يومين ولا في ثلاثةٍ، بل كان بين أولِه وآخره عشرون سنةً، يعني أنَّ» فَرَقَ «بالتخفيف يدلُّ على فصلٍ متقاربٍ» . قال الشيخ: «وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيمَ - لم يَنْزِلْ في يومٍ ولا يومين ولا شهرٍ ولا شَهْرَيْن، ولا سنةٍ ولا سنتين. قال ابنُ عباس: كان بين أوله وآخره عشرون سنة، كذا قال الزمخشريُّ عن ابن عباس» . قلت: وظاهرُ/ هذا أنَّ القولَ بالتنجيم ليس مرويَّاً عن ابن عباس ولا سيما وقد فَصَل قولَه «قال ابن عباس» مِنْ قولِه «وقال بعضُ مَنْ اختار ذلك» ، ومقصودُه أنه لم يُسْنِده لابن عباس لِيَتِمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ فَعَّل بالتشديد لا يَدُلُّ على التفريق، وقد تقدَّم له معه هذا المبحثُ أولَ هذا الموضوع.

قوله: «لتقرأَه» متعلقٌ ب «فَرَقْناه» . و «على مُكْثٍ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلِّق بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول في «لتقرأه» ، أي: متمهِّلاً مترسِّلاً. والثاني: أنه بدلٌ مِنْ «على الناس» قاله الحوفيُّ، وهو وهمٌ، لأنَّ قوله «على مُكْثٍ» من صفاتِ القارئ أو المقروء من جهةِ المعنى، لا من صفاتِ الناس حتى يكون بدلاً منهم. الثالث: أنه متعلِّقٌ ب «فَرَقْناه» . وقال الشيخ: «والظاهرُ تَعَلُّق» على مُكْث «بقوله» لتقرأه «، ولا يُبالَى بكونِ الفعلِ يتعلَّق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحدٍ لأنه اختلف معنى الحرفين؛ لأنَّ الأولَ في موضعِ المفعول به، والثاني في موضعِ الحالِ، أي: متمهِّلاً مترسِّلاً» . قلت: قولُه أولاً إنه متعلقٌ بقوله «لتقرأَه» ينافي قولَه في موضع الحال؛ لأنه متى كان حالاً تعلَّق بمحذوف. لا يُقال: أراد التعلق المعنوي لا الصناعي لأنه قال: ولا يُبالَى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرّ من جنسِ [واحد «] ، وهذا تفسيرُ إعرابٍ لا تفسيرُ معنى. والمُكْثُ: التطاولُ في المدة وفيه ثلاثةُ لغاتٍ: الضمُّ والفتحُ - ونقل القراءةَ بهما الحوفي وأبو البقاء - والكسرُ، ولم يُقرأ به فيما علمتُ. وفي فعله الفتحُ والضم وسيأتيان إن شاء الله تعالى في النمل.

107

قوله تعالى: {لِلأَذْقَانِ} في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها بمعنى «على» ، أي: على الأذقان كقولِهم: خرَّ على وجهِه. والثاني: أنها للاختصاص، قال الزمخشري: «فإن قُلْتَ: حرفُ الاستعلاءِ ظاهرُ المعنى إذا قلت: خَرَّ على وجهه وعلى ذَقَنه فما معنى اللام في» خِرَّ لذَقْنَه ولوجهه «؟ قال: 311 - 7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فخرَّ صريعاً لليدين وللفمِ قلت: معناه: جَعَلَ ذقَنَه ووجهَه للخُرور، واختصَّ به؛ لأنَّ اللامَ للاختصاص. وقال أبو البقاء:» والثاني هي متعلقةٌ ب «يَخِرُّون» واللامُ على بابها، أي: مُذِلُّون للأذقان «. والأَذْقان: جمعُ ذَقَنٍ وهو مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْن. قال الشاعر: 311 - 8- فَخَرُّوا لأَذْقانِ الوجوه تنوشُهُمْ ... سِباعٌ من الطير العوادِي وتَنْتِفُ و» سُجَّداً «حال. وجوَّز أبو البقاء في» للأَذقان «أن يكونَ حالاً. قال:» أي: ساجدين للأذقان «وكأنه يعني به» للأذقان «الثانية؛ لأنه يصير المعنى: ساجدين للأذقان سُجَّداً، ولذلك قال:» والثالث: أنها - يعني اللامَ - بمعنى «على» ، فعلى هذا تكون حالاً مِنْ «يَبْكُون» و «يَبْكُون» حال «.

109

قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ} : فاعلُ «يزيد» : إمَّا القرآنُ، أو البكاءُ أو السجودُ أو المتلوُّ، لدلالةِ قوله: «إذ يتْلى» . وتكرَّر الخُرور لاختلافِ حالتِه بالبكاء والسجود، وجاءتِ الحالُ الأولى اسماً لدلالتِه على الاستقرار، والثانية فعلاً لدلالتِه على التجدُّدِ والحدوث.

110

قوله تعالى: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} : «أيَّاً» منصوب ب «تَدْعُوا» على المفعول به، والمضافُ إليه محذوفٌ، أي: أيَّ الاسمين. و «تَدْعوا» مجزوم بها فهي عاملةٌ معمولةٌ، وكذلك الفعلُ، والجوابُ الجملةُ الاسمية مِنْ قوله {فَلَهُ الأسمآء الحسنى} . وقيل: هو محذوفٌ تقديرُه: جاز، ثم استأنفَ فقال: فله الأسماءُ الحسنى «. وليس بشيءٍ. والتنوين في» أَيَّاً «عوضٌ من المضافِ إليه. وفي» ما «قولان، أحدهما: أنها مزيدةٌ للتاكيد. والثاني: أنها شرطيةٌ جُمِعَ بينهما تأكيداً كما جُمِع بين حَرْفَيْ الجرِّ للتاكيد، وحَسَّنه اختلافُ اللفظ كقوله: 311 - 9- فَأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويؤَيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرف» أياً مَنْ تَدْعُوا «فقيل:» مَنْ «تحتمل الزيادة على رأيِ الكسائي كقوله في قوله: 31 - 0-

يا شاةَ مَنْ قنَصَ لِمَنْ حَلَّتْ له ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . واحتُمِل أن تكونَ شرطيةً، وجُمِع بينهما تأكيداً لِما تقدم. و» تَدْعُوا «هنا يحتمل أن يَكونَ من الدعاء وهو النداء فيتعدَّى لواحدٍ، وأن يَكونَ بمعنى التسمية فيتعدَّى لاثنين، إلى الأولِ بنفسه، وإلى الثاني بحرفِ الجر، ثم يُتَّسَعُ في الجارِّ فيُحذف كقوله: 312 - 1- دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والتقدير: قل: ادعُوا معبودَكم بالله أو بالرحمن/ بأيِّ الاسمين سَمَّيتموه. وممَّن ذهب إلى كونها بمعنى» سَمَّى «الزمخشري. ووقف الأخوان على» أيّا «بإبدال التنوين ألفاً، ولم يقفا على» ما «تبييناً لانفصالِ،» أيَّ «مِنْ» ما «. ووقف غيرُهما على» ما «لامتزاجها ب» أيّ «، ولهذا فُصِل بها بين» أيّ «وبين ما أُضيفت إليه في قوله تعالى {أَيَّمَا الأجلين} [القصص: 28] . وقيل:» ما «شرطيةٌ عند مَنْ وقف على» أياً «وجعل المعنى: أيَّ الاسمينِ دَعَوْتموه به جاز ثم استأنف {مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} يعني أنَّ» ما «شرطٌ ثانٍ، و» فله الأسماءُ «جوابُه، وجوابُ الأول مقدِّرٌ. وهذا مردودٌ بأنَّ» ما «لا تُطْلق على آحاد أولي العلم، وبأنَّ الشرطَ يقتضي عموماً، ولا يَصِحُّ هنا، وبأن فيه حَذْفَ الشرط والجزاء معاً.

111

قوله تعالى: {مَّنَ الذل} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها:

أنها صفةٌ ل «وليّ» ، والتقدير: وليّ من أهلِ الذل، والمرادُ بهم: اليهودُ والنصارى؛ لأنهم أذلُّ الناسِ. والثاني: أنها تبعيضية. الثالث: أنها للتعليل، أي: مِنْ أجل الذُّلِّ. وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال: «وليٌّ من الذل: ناصرٌ من الذل، ومانعٌ له منه، لاعتزازه به، أو لم يُوالِ أحداً لأَجْلِ مَذَلَّةٍ به ليدفعَها بموالاتِه» . وقد تقدَّم الفرقُ بين الذُّل والذِّل في أولِ هذه السورة. والمخافَتَةُ: المُسَارَّةُُ بحيث لا يُسْمَعُ الكلامُ. وضَرَبْتُه حتى خَفَتَ، أي: لم يُسْمَعْ له حِسٌّ.

الكهف

قوله: {وَلَمْ يَجْعَل} : في هذه الجملةِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها معطوفةٌ على الصلةِ قبلَها. والثاني: أنها اعتراضيةٌ بين الحالِ وهي «قَيِّماً» وبين صاحبِها وهو «الكتابَ» والثالث: أنَّها حالٌ من «الكتابَ» ، ويترتَّبُ على الأوجهِ القولُ في «قَيِّماً» .

2

قوله: {قَيِّماً} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه حالٌ من «الكتاب» . والجملةُ مِنْ قولِه «ولم يَجْعَلْ» اعتراضٌ بينهما. وقد مَنَع الزمخشريُّ ذلك فقال: «فإنْ قُلْتَ: بم انتصَبَ» قَيِّماً «؟ قلت: الأحسنُ أن ينتصِبَ بمضمرٍ، ولم يُجْعَلْ حالاً من» الكتابَ «لأنَّ قولَه» ولم يَجْعَلْ «معطوفٌ على» أَنْزَلَ «فهو داخلٌ في حَيِّزِ الصلةِ، فجاعِلُه حالاً فاصِلٌ بين الحالِ وذي الحالِ ببعضِ الصلةِ» . وكذلك قال أبو البقاء. وجوابُ هذا ما تقدَّمَ مِنْ أَنَّ الجملةَ اعتراضٌ لا معطوفةٌ على الصلةِِ. الثاني: أنَّه حالٌ مِنَ الهاءِ في «له» . قال أبو البقاء: «والحالُ موكِّدةٌ. وقيل: منتقلةٌ» . قلت: القولُ بالانتقالِ لا يَصِحُّ.

الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، تقديرُه: جَعَلَهُ قيِّماً. قال الزمخشريُّ: «تقديرُه: ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً، جعله قيماً، لأنه إذا نفى عنه العِوَج فقد أثبتَ له الاستقامةَ» . قال: «فإنْ قلتَ: ما فائدة الجمعِ بين نَفْيِ العِوَجِ وإثباتِ الاستقامةِ وفي أحدِهما غِنَىً عن الآخر؟ . قلت: فائدتُه التأكيدُ فَرُبَّ مستقيمٍ مشهودٌ له بالاستقامةِ، ولا يَخْلو مِنْ أدنى عِوَجٍ عند السَّبْرِ والتصفُّح» . الرابع: أنَّه حالٌ ثانيةٌ، والجملةُ المنفيَّةُ قبلَه حالٌ أيضاًً، وتعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدٍ جائزٌ. والتقديرُ: أنزلَه غيرَ جاعلٍ له عِوجاً قيِّماً. الخامس: أنه حالٌ أيضاً، ولكنه بدلٌ من الجملةِ قبلَه لأنَّها حال، وإبدالُ المفردِ من الجملةِ إذا كانت بتقدير مفردٍ جائزٌ. والتقديرُ: وهذا كنا أُبْدِلَتِ الجملةُ من المفردِ في قولهم: «عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو» . والضميرُ في «له» فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه للكتاب، وعليه التخاريجُ المتقدمةُ. والثاني: أنَّه يعود على «عبدِه» ، وليس بواضحٍ. وقرأ العامَّةُ بتشديد الياء. وأبانُ بنُ تَغْلبَ بفتحِها خفيفةً. وقد تَقَدَّم القولُ فيها. ووقف حفصٌ على تنوينِ «عِوَجاً» يُبْدله ألفاً، [ويسكت] سكتةً لطيفةً

من غير قَطْع نَفَسٍ، إشْعاراً بأنَّ «قَيِّماً» ليس متصلاً ب «عِوَجاً» ، وإنما هو مِنْ صفةِ الكتاب. وغيرُه لم يَعْبَأْ بهذا الوهمِ فلم يسكتْ اتِّكالاً على فَهْمِ المعنى. قلت: قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعضِ مصاحفِ الصحابةِ: «ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً، لكنْ جَعَلَه قيَّماً» . وبعض القراء يُطْلِقُ فيقول: يَقِف على «عِوَجا» ، ولم يقولوا: يُبدل التنوين ألفاً، فيُحْتمل ذلك، وهو أقربُ لغرضِه فيما ذكرْتُ. ورَأيْتُ الشيْخَ شهابَ الدين أبا شامة قد نقل هذا عن ابنِ غلبون وأبي علي الأهوازيِّ، أعني الإِطلاقَ. ثم قال: «وفي ذلك نَظَرٌ - أي على إبدالِ التنوين ألفاً - فإنه لو وَقَفَ على التنوين لكان أَدَلَّ على غرضِه، وهو أنه واقفٌ بنيَّةِ الوصلِ» . انتهى. وقال الأهوازيُّ: «ليس هو وَقْفاً مختاراً، لأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً، معناه: أَنْزَلَ على عبدِه الكتاب قيِّماً ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً» . قلت: دَعْوى التقديمِ والتأخيرِ وإنْ كان قاله به غيرُه، إلا أنها مَرْدودةٌ بأنَّها على خلافِ الأصل، وقد تقدَّم تحقيقُه. وفَعَلَ حفص في مواضعَ من القرآن مثلَ فِعْلِهِ هنا مِنْ سكتةٍ لطيفةٍ نافيةٍ لوَهْمٍ مُخِلٍّ. فمنها: أَنَّه كان يقفُ على «مَرْقَدِنا» ، ويَبْتدئ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} [يس: 52] . قال: «لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ» هذا «صفةٌ ل» مَرْقَدِنا «فالوقفُ

يبيَِّن أنَّ كلامَ الكفارِ انقَضى، ثم ابتُدِئ بكلامِ/ غيرِهم. قيل: هم الملائكةُ. وقيل: هم المؤمنون. وسيأتي في يس ما يَقْتضي أنْ يكونَ» هذا «صفةً ل» مَرْقَدِنا «فيفوتُ ذلك. ومنها: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة: 27] . كان يقف على نونِ» مَنْ «ويَبْتَدِئ» راقٍ «قال: لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّها كلمةٌ واحدةٌ على فَعَّال اسمَ فاعلٍ للمبالغة مِنْ مَرَق يَمْرُق فهو مَرَّاق. ومنها: {بَلْ رَانَ} [المطففين: 14] كان يقفُ على لام بل، ويَبْتدئ» رانَ «لِما تقدَّم. قال المهدويُّ:» وكان يَلْزَمُ حفصاً مثلُ ذلك، فيما شاكَلَ هذه المواضِعَ، وهو لا يَفعلُه، فلم يكن لقراءتِه وَجْهٌ من الاحتجاجِ إلا اتباعُ الأثَرِ في الرواية «. قال أبو شامة:» أَوْلَى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها: «ولا يَحْزُنْكَ قولُهم. {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} [يونس: 65] ، الوقفُ على» قَوْلُهم «لئلا يُتَوَهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ» ، وكذا {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار * الذين يَحْمِلُونَ العرش} [غافر: 67] ينبغي أن يُعْتَنَى بالوقفِ على «النار» لئلا تُتَوَهَّم الصفةُ «. قلت: وَتَوَهُّمُ هذه الأشياءِ مِنْ أبعدِ البعيدِ. وقال أبو شامةَ أيضاً:» ولو لَزِم الوقفُ على اللامِ والنونِ ليَظْهرا لَلَزِمَ ذلك في كلِّ مُدْغَمٍ «. قلت: يعني في» بَلْ رَان «وفي» مَنْ راقٍ «. قوله:» لِيُنْذِرَ «في هذه اللامِ وجهان، أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ ب» قَيِّماً «

قاله الحوفيُّ. والثاني: -وهو الظاهرُ- أنها تتعلَّق ب» أَنْزَلَ «. وفاعلُ» لِيُنْذِرَ «يجوز أن يكونَ» الكتابَ «وأن يكونَ الله، وأن يكون الرسول. و» أَنْذَرَ «يتعدَّى لاثنين: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ: 40] {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13] . ومفعولُه الأولُ محذوفٌ، فقدَّره الزمخشريُّ:» ليُنْذِرَ الذين كفروا، وغيره: «ليُنْذِرَ العبادَ» ، أو «لِيُنْذِرَكم» ، أو لِيُنْذِرَ العالَم. وتقديرُه أحسنُ لأنه مقابلٌ لقولِه {وَيُبَشِّرَ المؤمنين} ، وهو ضِدَّهم. وكما حَذَفَ المُنْذِرُ وأَتَى بالمُنْذَرِ به هنا، حَذَفَ المُنْذَرَ به وأتى بالمُنْذَر في قوله {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ} [الكهف: 4] فَحَذَفَ الأولَ مِنَ الأولِ لدَلالةِ ما في الثاني عليه، وحذَفَ الثاني مِنَ الثاني لدلالةِ ما في الأوَّلِ عليه، وهو في غايةِ البلاغةِ، ولمَّا تتكررِ البِشارةُ ذَكَرَ مفعوليها فقال: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً} . قوله: {مِّن لَّدُنْهُ} قرأ أبو بكر عن عاصم بسكون الدالِ مُشَمَّةً الضمَّ وكسرِ النونِ والهاءِ موصلةً بياءٍ، فيقرأ «مِنْ لَدْنِهِيْ» والباقون يَضُمون الدالَ، ويسكِّنون [النونَ] ويَضُمُّون الهاءَ، وهم على قواعِدهم فيها: فابنُ كثيرٍ يَصِلها بواوٍ نحو: مِنْهو وعَنْهو، وغيرُه لا يَصِلُها بشيء. ووَجهُ أبي بكرٍ: أنه سَكَّن الدالَ تخفيفاً كتسكين عين «عَضُد» والنونُ

ساكنةٌ، فالتقى ساكنانِ فكسَرَ النونَ لالتقاءِ الساكنين، وكان حقُّه أن يكسِرَ الأولَ على القاعدةِ المعروفةِ إلا أنَّه يَلْزَمُ منه العَوْدُ إلى ما فَرَّ منه، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قولِه {وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ} [الآية: 52] في سورة النور، فهناك نتكلَّم فيه، ولمَّا كَسَر النونَ لِما ذكرْتُه لك كَسَرَ الهاءَ إتْباعاً على قاعدته ووَصَلَها بياء. وأَشَمَّ الدالَ إشارةً إلى أصلِها في الحركة. والإِشمامُ هنا عبارةٌ عن ضَمِّ الشفتين مِنْ غير نطق، ولهذا يختصُّ به البصيرُ دونَ الأَعمى، هكذا قرَّره القراءُ وفيه نَظَرٌ، لأنَّ الإِشمامَ المشارَ إليه إنما يتحقَِّقُ عند الوقفِ على آخرِ الكلمةِ فلا يليق إلا بأنْ يكونَ إشارةً إلى حركةِ الحرفِ الأخيرِ المرفوعِ إذا وُقف عليه نحو: «جاء الرجل» ، وهكذا ذكره النحويون. وأمَّا كونُه يُؤْتى به في وَسَط الكلمةِ فلا يُتَصَوَّرُ إلا أَنْ يقفَ المتكلمُ على ذلك الساكنِ ثم يَنْطِقَ بباقي الكلمة. وإذا جَرَّبْتَ نُطْقَك في هذا الحرفِ الكريم وَجَدْتَ الأمرَ كذلك، لا تَنْطِقُ بالدالِ ساكنةً مشيراً إلى ضمِّها إلا حتى تقفَ عليها، ثم تأتي بباقي الكلمةِ. فإن قلتَ: إنما اتي بالإِشارةِ إلى الضمةِ بعد فراغي من الكلمة بأَسْرِها. قيل لك: فاتَتِ الدلالةُ على تعيينِ ذلك الحرفِ المشارِ إلى حركتِه. ويمكن أَنْ يُجابَ عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يَصْلُح اَنْ يُشارَ إلى حركتِه إلا الدالُ. وقد تقدَّم في «يوسف» أن الإِشمامَ في {لاَ تَأْمَنَّا} [الآية: 11] إذا فسَّرْناه بالإِشارةِ إلى الضمة: منهم مَنْ يفعلُه قبل كمالِ الإِدغام، ومنهم مَنْ يفعلُه بعده، وهذا نظيرُه. وتقدَّم أنَّ الإِشمامَ يقع بإزاء معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقُها.

و {مِّن لَّدُنْهُ} متعلق ب «لِيُنْذِرَ» /. ويجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ نعتاً ل «بَأْساً» ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «شديداً» . وقُرِئ «ويُبَشِّرُ» بالرفعِ على الاستئنافِ.

3

قوله: {مَّاكِثِينَ} : حالٌ: إمَّا من الضميرِ المجرورِ في «لهم» ، أو المرفوعِ المستترِ فيه، أو مِنْ «أجراً» لتخصُّصِه بالصفةِ، إلا أنَّ هذا لا يجيءُ إلا على رَأيِ الكوفيين: فإنهم لا يشترطون بروزَ الضميرِ في الصفةِ الجاريةِ على غير مَنْ هي له إذا أُمِنَ اللَّبْسُ، ولو كان حالاً منه عند البصريين لقال: ماكثين هم فيه. ويجوز على رَأْيِ الكوفيين أن يكونَ صفةً ثانيةً ل «أَجْراً» . قال أبو البقاء: «وقيل: هو صفةٌ ل» أَجْراً «، والعائدُ: الهاءُ مِنْ» فيه «. ولم يَتَعَرَّضْ لبروزِ الضميرِ ولا لعدمِه بالنسبة إلى المذهبين. و» أبداً «منصوبٌ على الظرفِ ب» ماكثين «.

5

قوله: {مَّا لَهُمْ بِهِ} : أي: بالولدِ، أو باتخاذه، أو بالقولِ المدلولِ عليه ب «اتَّخذ» وب «قالوا» ، أو بالله. وهذه الجملةُ المنفيةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإِخبارِ بذلك. والثاني: أنها صفةٌ للولدِ، قال المهدويُّ. وردَّه ابنُ عطيةَ: بأنه لا يَصِفُه بذلك إلا القائلون، وهم لم يَقْصِدوا وَصْفَه بذلك. الثالث: أنها حالٌ مِنْ فاعلِ «قالوا» ، أي: قالوه جاهلين.

و {مِنْ عِلْمٍ} يجوز أَنْ يكونَ فاعلاً، وأن يكون مبتدأ. والجارُّ هو الرافع، أو الخبر. و «مِنْ» مزيدةٌ على كِلا القولين. قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} في فاعلِ «كَبُرَتْ» وجهان، أحدُهما: أنه مضمرٌ عائدٌ على مقالتِهم المفهومة مِنْ قولِه: «قالوا: اتَّخذ الله» ، أي: كَبُرَ مقالُهم، و «كلمةً» نصبٌ على التمييز، ومعنى الكلامِ على التعجب، أي: ما أكبرَها كلمةً. و «تَخْرُجُ» الجملةُ صفةٌ ل «كلمة» . ودَلَّ استعظامُها لأنَّ بعضَ ما يَهْجِسُ بالخاطرِ لا يَجْسُر الإِنسانُ على إظهاره باللفظ. والثاني: أن الفاعلَ مضمرٌ مفسِّرٌ بالنكرةِ بعد المنصوبةِ على التمييزِ، ومعناها الذمُّ ك «بِئس رجلاً» ، فعلى هذا: المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: كَبُرَتْ هي الكلمةُ كلمةً خارجةً مِنْ أفواهِهم تلك المقالةُ الشَّنعاءُ. وقرأ العامَّةُ «كلمةً» بالنصبِ، وفيها وجهان: النصبُ على التمييز، وقد تقدَّم تحقيقُه في الوجهين السابقين. والثاني: النصبُ على الحالِ. وليس بظاهر. وقوله: «تَخْرُجُ» في الجملة وجهان، أحدُهما: هي صفةٌ لكلمة. والثاني: أنها صفةٌ للمخصوصِ بالذمِّ المقدَّرِ تقديرُه: كَبُرَت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً.

وقرأ الحسنُ وابنُ محيصن وابنُ يعمرَ وابن كثير - في رواية القَوَّاس عنه - كلمةٌ «بالرفع على الفاعلية،» وتَخْرُج «صفةٌ لها أيضاً. وقُرِئَ» كَبْرَتْ «بسكون الباء وهي لغةُ تميم. قوله:» كَذِباً «فيه وجهان، أحدُهما: هو مفعول به لأنه يتضمَّنُ معنى جملة. والثاني: هو نعتٌ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً كذباً.

6

قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} : العامَّةُ على كسرِ «إنْ» على أنها شرطيةٌ، والجوابُ محذوفٌ عند الجمهور لدلالةِ قولِه: «فَلَعَلَّكَ» ، وعند غيرِهم هو جوابٌ متقدمٌ. وقُرِئ: «أَنْ لم» بالفتح على حَذْفِ الجارِّ، أي: لأَِنْ لم يؤمنوا «. وقُرئ» باخِعُ نَفْسِكَ «بالإِضافة، والأصل النصبُ. وقال الزمخشري:» وقُرئ «باخع نفسك» على الأصل، وعلى الإِضافة. أي: قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمَنْ قرأ «إنْ لم يُؤمنوا» ، وللمضيِّ فيمن قرأ «أن لم تُؤْمنوا» بمعنى: لأَِنْ لم يؤمنوا «. قلت: يعني أنَّ باخِعاً للاستقبالِ في قراءةِ كسرِ» إنْ «فإنها شرطيةٌ، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها، وذلك لا يجئُ إلا

في قراءةِ الإِضافةِ إذ لا يُتَصَوَّر المُضِيُّ مع النصبِ عند البصريين. وعلى هذا يَلْزم أن لا يَقرأ بالفتح إلا مَنْ قرأ بإضافةِ» باخع «، ويُحتاج في ذلك إلى نَقْلٍ وتوقيف. ولعلَّك» قيل: للإِشفاق على بابها. وقيل: للاستفهام، وهو رأي الكوفيين. وقيل: للنهي أي: لا تَبْخَعْ. والبَخْعُ: الإِهلاك. يقال: بَخَع الرجُل نفسَه يَبْخَعُها بَخْعاً وبُخُوعاً، أهلكها وَجْداً. قال ذو الرمة: 312 - 2- ألا أيُّهذا الباخعُ الوجدُ نفسَه ... لِشَيْءٍ نَحَتْه عن يديه المَقادِرُ يريد: نَحَّته بالتشديد، فخفَّف. / قال الأصمعي: «كان يُنْشِده:» الوجدَ «بالنصب على المفعولِ له، وأبو عبيدةَ رواه بالرفع على الفاعلية ب» الباخع «. وقيل: البَخْعُ: أن تُضْعِفَ الأرضَ بالزراعة. قاله الكسائي: وقيل: هو جَهْدُ الأرضِ، وفي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها، عن عمر:» بَخَعَ جَهْدُ الأرضِ «تعني جَهَدَها حتى أَخَذَ ما فيها من أموالِ ملوكِها، وهذا استعارةٌ، ولم يُفَسِّرْه الزمخشري: هنا بغير القَتْلِ والإِهلاك. وقال في سورة الشعراء:»

والبَخْعُ «. أن يَبْلُغَ بالذَّبْحِ البِخاه بالباء، وهو عِرْقٌ مستبطنُ الفقار، وذلك أقصى حَدَّ الذابحِ» . انتهى. وسمعت شيخنا علاء الدين القُوْنِيِّ يقول: «تتَّبْعتُ كتبَ الطِّبِّ والتشريحِ فلم أجدْ لها أصلاً» . قلت: يُحتمل أنهم لمَّا ذكروه سَمَّوْه باسمٍ آخرَ لكونِه أشهرَ فيما بينهم. وقال الراغب: «البَخْعُ: قَتْلُ النفسِ غَمَّاً» . ثم قال: «وبَخَعَ فلانٌ بالطاعةِ، وبما عليه من الحقِّ: إذا أَقَرَّ به وأَذْعَنَ مع كراهةٍ شديدةٍ، تجري مَجْرَى بَخْعِ نفسِه في شِدَّتِه» . وقوله: «على آثارِهم» متعلقٌ ب «باخعٌ» ، أي: مِنْ بعد هلاكِهم. قوله: أَسَفَاً «يجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله والعامل فيه» باخعٌ «، وأن يكونَ مصدراً في موضعِ الحال من الضميرِ في» باخعٌ «.

7

قوله تعالى: {زِينَةً} : يجوز أَنْ ينتصِبَ على المفعولِ له، وأن يتنصِبَ على الحالِ إنْ جَعَلْتَ «جَعَلْنا» بمعنى خَلَقْنا، ويجوز ان يكونَ مفعولاً ثانياً إنْ كانَتْ «جَعَلَ» تصييريةً و «لها» متعلقٌ ب «زِيْنةً» على العلةِ، ويجوز أَنْ تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول، ويجوز أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «زينة» . قوله: «لِنَبْلُوَهُمْ» متعلقٌ ب «جَعَلْنا» بمعنييه. قوله: «أيُّهم أحسنُ» يجوز في «أيُّهم» وجهان، أحدهما: أن تكونَ استفهاميةً مرفوعةً بالابتداء، و «أحسنُ» خبرُها. والجملةُ في محلِّ نصبٍ معلَّقَةٌ ل «نَبْلُوَهم» لأنه سببُ العلم كالسؤال والنظر. والثاني: أنها موصولةٌ

بمعنى الذي «وأحسنُ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ ل «أيُّهم» ، ويكون هذا الموصولُ في محلِّ نصبٍ بدلاً مِنْ مفعول «لنبلوَهم» تقديرُه: لِنَبْلُوَ الذي هو أحسنُ. وحينئذٍ تحتمِل الضمةُ في «أيُّهم» ، ان تكونَ للبناء كهي في قولِه تعالى: {لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] على أحدِ الأقوالِ، وفي قوله: 312 - 3- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ ... فَسَلِّمْ على أَيُّهم أَفْضَلُ وشرطُ البناءِ موجودٌ، وهو الإِضافةُ لفظاً، وحَذْفُ صدرِ الصلةِ، وهذا مذهبُ سيبويه، وأن تكونَ للإِعراب لأنَّ البناءَ جائزٌ لا واجبٌ. ومن الإِعراب ما قُرِئ به شاذاً {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن} [مريم: 69] وسيأتي إنْ شاء الله تحقيقُ هذا في مريم. والضمير في «لِنَبْلُوَهم» و «أيُّهم» عائدٌ على ما يُفْهَمُ من السِّياق، وهم سكانُ الأرض. وقيل: يعودُ على ما على الأرضِ إذا أُريد بها العقلاء. وفي التفسير: المرادُ بذلك الرُّعاة: وقيل: العلماءُ والصُّلحاءُ والخُلفاء.

8

قوله تعالى: {صَعِيداً} : مفعولٌ ثانٍ، لأنَّ الجَعْلَ هنا تصييرٌ ليس إلا، والصَّعِيْدُ. الترابُ: والجُرُزُ: الذي لا نباتَ به. يقال: سَنَةٌ جُزُر، وسِنونَ أَجْرازٌ: لا مطَر فيها. وأرض جُزُرٌ وأَرَضُونَ أَجْرازٌ: لا نبات بها. وجَرَزَتِ الأرضُ: إذا ذَهَبَ نباتُها بقَحْطٍ أو جرادٍ وَجَرَز الأرضَ الجرادُ: أكلَ ما فيها. والجَرُوْزُ: المَرْأةُ الأكولةُ: قال: 312 - 4- إنَّ العَجوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا

9

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ} : «أم» هذه منقطعةٌ فَتُقَدَّرُ ب «بل» التي للانتقال لا للإِبطال، وبهمزة الاستفهام عند جمهورِ النحاة، و «بل» وحدَها، أو بالهمزةِ وحدَها عند غيرِهم. وتقدَّم تحقيقٌ القولِ فيها. و «انَّ» وما في حَيِّزها سادَّةٌ [مَسَدَّ] المفعولَيْنِ أو أحدِهما على الخلافِ المشهور. والكَهْفُ: قيل: مُطْلق الغار. وقيل: هو ما اتَّسع في الجبل، فإن لم يَتَّسِعْ فهو غارٌ. والجمعٌ «كُهوفٍ» في الكثرة، و «أَكْهَف» في القِلَّةِ. والرَّقيم: قيل: بمعنى مَرْقُوم. وقيل: بمعنى راقم. وقيل: هو اسمٌ للكلبِ الذي لأصحاب الكهفِ. وأنشدوا لأميةَ بنِ أبي الصلت: 312 - 5- وليسَ بها إلا الرَّقيمُ مُجاوِراً ... وصِيدَهُمُ، والقومُ بالكهفِ هُمَّدُ /قوله: «عَجَبا» يجوز أن تكونَ خبراً، و {مِنْ آيَاتِنَا} حالٌ منه، وأَنْ

يكونَ خبراً ثانياً، و {مِنْ آيَاتِنَا} خبراً أول، وأن يكونَ «عجباً» حالاً من الضميرِ المستتر في {مِنْ آيَاتِنَا} لوقوعه خبراً. ووُحِّدَ وإن كان صفةً في المعنى لجماعة لأنَّ أصلَه المصدرُ. وقيل: «عَجَباً» في الأصلِ صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: آيةً عجبا. وقيل: على حذفِ مضاف، أي: آيةً ذاتَ عَجَبٍ.

10

قوله تعالى: {إِذْ أَوَى} : يجوز أن ينتصِبَ ب «عَجَباً» وأَنْ ينتصِبَ ب «اذْكُر» . قوله: «وهَيِّئْ» العامَّةُ على همزةِ بعد الياء المشددة، وأبو جعفر وشيبة والزهري بياءين: الثانيةُ خفيفةٌ، وكأنه أبدل الهمزةَ ياءً، وإن كان سكونُها عارضاً. ورُوي عن عاصم «وَهَيَّ» بياءٍ مشددةٍ فقط. فيحتمل أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ مِنْ أولِ وَهْلَةٍ تخفيفاً، وأن يكونَ أبدلها كما فعل أبو جعفر، ثم أجرى الياءَ مُجْرى حرفِ العلةِ الأصلي فحذفه، وإن كان الكثيرُ خلافَه، ومنه: 312 - 6- جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظُلْمِه ... سريعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظلمِ يَظْلمِ وقرأ أبو رجاء «رُشْدا» بضمِ الراء وسكونِ الشين، وتقدم تحقيقُ ذلك في الأعراف. وقراءةُ العامَّةِ هنا أليقُ لتوافِقَ الفواصلَ.

11

قوله: {فَضَرَبْنَا} : مفعولُه محذوفٌ، أي: ضَرَبْنا

الحجابَ المانعَ. و {على آذَانِهِمْ} استعارةٌ للزومِ النوم. كقول الأسود: 312 - 7- ومن الحوادِث لا أبالَكِ أنني ... ضُرِبَتْ عَلَيَّ الأرضُ بالأَسْدادِ وقال الفرزدق: 312 - 8- ضَرَبَتْ عليكَ العَنْكَبوتَ بنَسْجِها ... وقَضَى عليك به الكتاب المُنَزَّلُ ونصَّ على الآذان لأنَّ بالضرب عليها خصوصاً يَحْصُلُ النومُ. وأمال «آذانهم» . . . . و «سنينَ» ظرفٌ ل «ضَرَبْنا» . و «عَدَداً» يجوزُ فيه أن يكونَ مصدراً، وأن يكون فَعَلاً بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقَص. فعلى الأولِ يجوز نصبُه مِنْ وجهين: النعتِ ل «سنين» على حَذْفٍ، أي: ذوات عدد، أو على المبالغةِ، والنصبُ بفعلٍ مقدرٍ، أي: تُعَدُّ عدداً. وعلى الثاني: نعت ليس إلا، اي: معدودة.

12

قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ} : متعلقٌ بالبعث. والعامَّةُ على نون العظمة جرياً على ما تقدم. وقرأ الزُّهْري «لِيَعْلم» بياء الغَيْبَةِ، والفاعلُ اللهُ

تعالى. وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغَيْبَة. ويجوزُ أن يكونَ الفاعلُ {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} إذا جَعَلْناها موصولةً كما سيأتي. وقرئ «ليُعْلَمَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مَقامُ الفاعلِ: قال الزمخشري: «مضمونُ الجملة، كما أنه مفعولُ العلمِ» . ورَدَّه الشيخ بأنه ليس مذهبَ البصريين. وتقدَّم تحقيقُ هذه أولَ البقرة. وللكوفيين في قيامِ الجملة مَقامَ الفاعلِ أو المفعولِ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه: الجوازُ مطلقاً، والتفصيلُ بين ما يُعلَّق كهذه الآيةِ فيجوزُ، فالزمخشري نحا نحوَهم على قَوْلَيْهم. وإذا جَعَلْنا {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} موصولةً جاز أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إليه في هذه القراءةِ أيضاً كما جاز إسناده إليه في القراءةِ قبلها. وقُرِئ «ليُعْلِمَ» بضمِّ الياء، والفاعلُ الله تعالى، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ، تقديرُه: ليُعْلِمَ اللهُ الناسَ. و {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} في موضعِ الثاني فقط، إنْ كانت عِرْفانيةً، وفي موضعِ المفعولين إن كانَتْ يقينية. قوله: «أَحْصَى» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه أفعلُ تفضيلٍ. وهو خبرٌ ل «أيُّهم» ، و «أيُّهم» ، استفهاميةٌ. وهذه الجملةُ معلَّقَةٌ للعلمِ قبلَها. و «لِما

لَبِثُوا» حال مِنْ «أَمَداً» ، لأنه لو تأخَّر عنه لكان نعتاً له. ويجوز أَنْ تكونَ اللامُ على بابِها من العلَّة، أي: لأجل أبو البقاء. ويجوز أن تكونَ زائدةً، و «ما» مفعولةٌ: إمَّا ب «أَحْصى» على رأيِ مَنْ يُعْمِلُ أفعلَ التفضيل في المفعولِ به، وإمَّا بإضمارِ فعلٍ. و «أمداً» مفعولُ «لَبِثُوا» أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُ عليه أَفْعَلُ عند الجمهور، أو منصوبٌ بنفسِ أفْعَلَ عند مَنْ يَرى ذلك. والوجه الثاني: أن يكون «أَحْصَى» فعلاً ماضياً. و «أمَداً» مفعولُه، و «لِمَا لَبثوا» متعلقٌ به، أو حالٌ مِنْ «أَمَداً» أو اللامُ فيه مزيدةٌ، وعلى هذا: فَأَمَداً منصوبٌ ب لَبِثوا. و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذي. واختار الأولَ -أعني كونَ «أَحْصى» للتفضيل -/ الزجاجُ والتبريزي، واختار الثاني أبو علي والزمخشري وابن عطية. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: فما تقول فيمَنْ جعله مِنْ أفعلِ التفضيلِ؟ قلت: ليس بالوجهِ السديدِ، وذلك أنَّ بناءَه مِنْ غيرِ الثلاثي ليس بقياسٍ، ونحو» أَعْدَى من الجَرَب «و» أفلس من ابن المُذَلَّق «شاذٌّ، والقياسُ على الشاذِّ في غيرِ القرآن ممتنعٌ فكيف به؟ ولأنَّ» أَمَداً «: إمَّا أَنْ ينتصِبَ بأفعلَ وأفعلُ لا يعملُ، وإمَّا أَنْ ينتصِبَ ب» لبثوا «فلا يَسُدُّ عليه المعنى: فإنْ زعمتَ أني أنصِبُه بفعلٍ مضمرٍ كما أَضْمَرَ في قوله:

3129 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَضْرَبَ منا بالسيوفِ القَوانِسا فقد أبعدْتَ المتناوَلَ، حيث أَبَيْتَ أَنْ يكونَ [ «أحصى» ] فعلاً ثم رجعتَ مضطراً إليه «. وناقشه الشيخ قال:» أمَّا دعواه أنه شاذٌّ فمذهبُ سيبويهِ خِلافُه، وذلك أنَّ أفعلَ فيه ثلاثةُ مذاهبَ: الجوازُ مطلقاً، ويُعْزى لسيبويه، والمنعُ مطلقاً، وهو مذهب الفارسي، والتفصيلُ: بين أن تكونَ همزتُه للتعديةِ فيمتنعَ، وبين أَنْ لا تكونَ فيجوزَ، وهذا ليسَتِ الهمزةُ فيه للتعدية. وأمَّا قولُه: «أَفْعَلُ لا يعمل» فليس بصحيح لأنه يعملُ في التمييز، و «أَمَداً» تمييزُ لا مفعولٌ به، كما تقول: زيدٌ أقطعُ الناسِ سيفاً، وزيد أقطعُ لِلْهامِ سيفاً «. قلت: الذي أحوجَ الزمخشريَّ إلى عَدَمِ جَعْلِه تمييزاً مع ظهوره في بادئ الرأي عدمُ صحةِ معناه. وذلك أنَّ التمييزَ شرطُه في هذا الباب أن تَصِحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه ويتصفَ به، ألا ترى إلى مثاله في قوله:» زيد أقطعُ الناس سيفاً «كيف يَصِحُّ أن يُسْنَدَ إليه فيقال: زيد قَطَعَ سيفُه، وسيفه قاطع، إلى غيرِ ذلك. وهنا ليس الإِحصاءُ من صفةِ الأمَد، ولا تَصِحُّ نسبتُه إليه، وإنما هو صفات الحزبين، وهو دقيق. وكان الشيخُ نقل عن أبي البقاء نصبَه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبَه على التمييز حالَ جَعْلِه» أَحْصَى «أفعلَ تفصيلٍ، وإنما ذكر ذلك حين

ذكر أنه فعلٌ ماضٍ. قال أبو البقاء:» في أحصى وجهان، أحدُهما: هو فعلٌ ماضٍ، «وأَمَداً» مفعوله، و «لِما لَبِثوا» نعتٌ له، قُدِّم فصار حالاً أو مفعولاً له، أي: لأجل لُبْثهم. وقيل: اللامُ زائدةٌ و «ما» بمعنى الذي، و «أَمَداً» مفعولُ «لبثوا» وهو خطأٌ، وإنما الوجهُ أن يكونَ تمييزاً والتقدير: لما لبثوه. والوجه الثاني: هو اسمٌ و «أَمَداً» منصوبٌ بفعلٍ دَلَّ عليه الاسمُ «انتهى. فهذا تصريحٌ بأنَّ» أَمَداً «حالَ جَعْلِه» أحصى «اسماً ليس تمييزاً بل مفعولاً به بفعلٍ مقدرٍ، وأنه جعله تمييزاً عن» لبثوا «كما رأيت. ثم قال الشيخ:» وأمَّا قولُه «وأمَّا قولُه» وإمَّا أَنْ يُنْصَب ب «لبثوا» فلا يَسُدُّ عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديداً، فقد ذهب الطبري إلى أنه منصوبٌ ب «لَبِثوا» . قال ابن عطية: «وهو غيرُ متجهٍ» انتهى. وقد يتجه: وذلك أنَّ الأمدَ هو الغاية، ويكون عبارةً عن المدةِ من حيث إنَّ المدَّةَ غايةٌ هي أَمَدُ المدة على الحقيقة، و «ما» بمعنى الذي، و «أمَداً» منصوبٌ على إسقاط الحرفِ، وتقديره: لِما لبثوا مِنْ أمدٍ، مِنْ مدةٍ، ويصيرُ «مِنْ أمدٍ» تفسيراً لما أُبْهِمَ من لفظ «ما» كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] ولمَّا سقط الحرفُ وصل إليه الفعل «.

قلت: يكفيه أنَّ مِثْلَ ابنِ عطية جعله غيرَ متجهٍ، وعلى تقديرِ ذلك فلا نُسَلِّم أنَّ الطبريَّ عنى نصبَه بلبثوا مفعولاً به بل يجوز أَنْ يكونَ على نصبَه تمييزاً كما قاله أبو البقاء. ثم قال:» وأمَّا قولُه: «فإن زعمت إلى آخره فتقول: لا يُحتاج إلى ذلك، لأنَّ لقائلِ ذلك أَنْ يذهب مذهبَ الكوفيين في أنه ينصِبُ» القوانسَ «بنفس» أَضْرَبُ «ولذلك جعل بعضُ النحاة أنَّ» أعلم «ناصبٌ ل» مَنْ «في قوله:» أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ «، وذلك لأنَّ أَفْعَلَ مضمَّنٌ لمعنى المصدر إذ التقدير: يزيد ضربُنا القوانسَ على ضَرْبِ غيرنا» . قلت: هذا مذهبٌ مرجوحٌ، وأفعلُ التفصيلِ ضعيفٌ ولذلك قَصُرَ عن الصفةِ المشبهةِ باسمِ الفاعلِ، حيث لم يؤنَّثْ ولم يُثنَّ ولم يُجْمع. وإذا جعلنا «أَحْصَى» اسماً فجوَّز الشيخ في «أيّ» أن تكونَ الموصولةَ، و «أَحْصَى» خبرٌ لمبتدأ محذوف هو عائدُها، وأنَّ الضمةَ للبناء على مذهبِ سيبويهِ لوجودِ / شرطِ البناءِ وهو أضافتُها لفظاً، وحَذْفُ صدرِ صلتِها، وهذا إنما يكون على جَعْلِ العِلْم بمعنى العرفان، لأنه ليس في الكلام إلا مفعولٌ واحدٌ، وتقديرُ آخرُ لا حاجةَ إليه. إلا أنَّ في إسنادِ «عَلِمَ» بمعنى عَرَف إلى الله تعالى إشكالاً تقدَّم تحريرُه في الأنفال وغيرِها. وإذا جَعَلْناه فعلاً امتنع أن تكونَ موصولةً إذ لا وجهَ لبنائها حينئذٍ وهو حسن.

13

قوله تعالى: {آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ} : فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة إذ لو جاء على نَسَقِ الكلامِ لقيل: إنهم فتيةٌ آمنوا بنا. وقوله: «وزِدْناهُم» «وَرَبَطْنا» التفاتٌ من هذه الغَيْبَة إلى التكلم أيضاً.

14

قوله تعالى: {إِذْ قَامُواْ} : منصوبٌ ب «رَبَطْنا» والرَّبْطُ استعارةٌ لتقويةِ قلوبهم في ذلك المكانِ الدَّحْضِ. قوله: «إذن» جوابٌ وجزاءٌ، أي: لقد قُلنا قولاً شَطَطاً إنْ دَعَوْنا مِنْ دونِه إلهاً. وشَطَطاً في الأصل مصدرٌ، يقال: شَطَّ شَطَطاً وشُطُوطاً، أي: جارَ وتجاوزَ حَدَّه، ومنه: شطَّ في السَّوْمِ، وأَشَطَّ، أي: جاوَزَ القَدْرَ. وشَطَّ المنزلُ: بَعُدَ، من ذلك. وشَطَّتِ الجاريةُ شِطاطاًً، طالَتْ، من ذلك. وفي انتصابِه ثلاثةُ أوجهٍ، مذهبُ سيبويهِ النصبُ على الحال من ضميرِ مصدر «قُلْنا» . الثاني: نعتٌ لمصدرٍ، أي: قولاً ذا شَطَطٍ، أو هو الشَّطَطُ نفسُهُ مبالغةً. الثالث: أنه مفعولٌ ب «قُلْنا» لتضمُّنِه معنى الجملة.

15

قوله تعالى: {هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا} : يجوز في «قومُنا» أن يكونَ بدلاً أو بياناً، و «اتَّخذوا» هو خبرُ «هؤلاء» ، ويجوز أن يكونَ «قومُنا» هو الخبرَ، و «اتَّخذوا: حالاً. و» اتَّخذ «يجوزُ أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بمعنى عَمِلوا؛ لأنهم نَحَتوها بأيديهم، ويجوز أَنْ تكونَ متعدِّيةً لاثنين بمعنى صَيَّروا، و» مِنْ دونِه «هو الثاني قُدِّمَ، و» آلهةً «هو الأولُ. وعلى الوجهِ الأولِ يجوز في» مِنْ دونِه «أن يتعلَّقَ ب» اتَّخذوا «، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالاً مِنْ» آلهة «إذ لو تأخَّر لجاز أن يكونَ صفوً ل» آلهةً «.

قوله: {لَّوْلاَ يَأْتُونَ} تخصيصٌ فيه معنى الإِنكار. و» عليهم «، أي: على عبادتِهم أو على اتَّخاذهم، فَحُذِفَ المضافُ للعِلْمِ به. ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ التخضيضية صفةً ل» آلهةً «لفساده معنى وصناعةً، لأنها جملةٌ طلبيةٌ. فإنْ قلت: أُضْمِرُ قولاً كقوله: 313 - 0- جاؤُوا بِمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قطّْ ... لم يساعِدْك المعنى لفسادِه عليه.

16

قوله تعالى: {وَإِذِ اعتزلتموهم} : «إذا» منصوبٌ بمحذوف، أي: وقال بعضُهم لبعضٍ وقتَ اعتزالِهم. وجَوَّز بعضُهم أَنْ تكونَ «إذ» للتعليل، أي: فَأْووا إلى الكهفِ لاعتزاِلكم إياهم، وهو قولٌ مَقُولٌ لكنَّه لا يَصِحُّ. قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ} يجوز في «ما» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ مقدرٌ، أي: واعْتَزَلْتُم الذي يعبدونه. و «إلا الله» يجوز فيه أن يكونَ استثناءً متصلاً، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون اللهَ ويُشْرِكون به غيرَه، ومنقطعاً، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط. والمستثنى منه يجوز أن يكونَ الموصولَ، وأن يكون عائدَه، والمعنى واحد. والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: واعتزلتُمْ عبادَتهم، أي: تركتموها. و «إلا اللهَ» على حَذْفِ مضاف، أي: إلا عبادةَ اللهِ. وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان. الثالث: أنها نافيةٌ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى، وعلى هذا فهذه الجملةُ

معترضةٌ بين أثناءِ القصةِ وإليه ذهب الزمخشري. و {إِلاَّ الله} استثناءٌ مفرغٌ أخبر الله عن الفتنةِ أنَّهم لا يعبدون غيرَه. وقال أبو البقاء: «والثالث: أنها حرفُ نفيٍ فيخرج في الاستثناء وجهان، أحدهما: هو منقطعٌ، والثاني: هو متصلٌ، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا اللهََ» قلت: فظاهرُ هذا الكلامِ: أن الانقطاعَ والاتصالَ في الاستثناءِ مترتبان على القولِ بكون «ما» نافيةً، وليس الأمرُ كذلك. قوله: «مِرْفَقا» قرأ بكسرِ الميمِ وفتحِ الفاءِ الجمهورُ. ونافع وابنُ عامر بالعكس، وفيهما اختلافٌ بين أهلِ اللغة، فقيل: هما بمعنى واحد وهو ما يَرْتَفَقُ به، وليس بمصدرٍ. وقيل: هو بالكسر في الميم لليد، وبالفتح للأمر، وقد يُسْتَعْمل كلُّ واحدٍ منهما موضعَ الآخر، حكاه الأزهري عن ثعلبٍ. وأنشد الفراءُ جمعاً بين الغتين في الجارِحَة: 313 - 1- بِتُّ أُجافي مِرْفقاً عن مَرْفقِ ... /وقيل: يُسْتعملان معاً في الأمرِ وفي الجارحة، حكاه الزجاج.

وحكى مكي، عن الفراء أنه قال: «لا أعرِفُ في الأمر ولا في اليد ولا في كل شيءٍ إلا كسرَ الميمِ» . قلت: وتواترُ قراءةِ نافعٍ والشاميين يَرُدُّ عليه. وأنكر الكسائيُّ كسرَ الميم في الجارحة، وقال: لا أعرفُ فيه إلا الفتحَ وهو عكسُ قولِ تلميذِه، ولكن خالفه أبو حاتم، وقال: «هو بفتح الميم: الموضعُ كالمسجد. وقال أبو زيد: هو بفتح الميم مصدرٌ جاء على مَفْعَل» وقال بعضهم: هما لغتان فيما يُرْتَفَقُ به، فأمَّا الجارِحَةُ فبكسرِ الميمِ فقط. وحُكي عن الفرَّاء أنَّه قال: «أهلُ الحجاز يقولون:» مَرْفقا «بفتح الميم وكسرِ الفاءِ فيما ارتفقْتَ به، ويكسِرون مِرْفَق الإِنسان، والعربُ بعدُ يَكْسِرون الميمَ منهما جميعاً» . وأجاز معاذ فتحَ الميم والفاءِ، وهو مصدرٌ كالمَضْرَبِ والمَقْتَلِ. و {مِّنْ أَمْرِكُمْ} متعلَّقُ بالفعلِ قبلَه، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ أو للتعيض. وقيل: هي بمعنى بَدَلَ، قاله ابن الأنباريِّ وأنشد: 313 - 2- فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمِ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ أي: بَدَلاً. ويجوز أن يكونَ حالاً من «مِرْفَقاً» فيتعلَّقَ بمحذوفٍ.

17

قوله تعالى: {تَّزَاوَرُ} : قرأ ابن عامر «تَزْوَرُّ» بزنةِ تَحْمَرُّ،

والكوفيون «تَزَاوَرُ» بتخفيفِ الزايِ، والباقون بتثقِيلها. ف «تَزْوَرُّ» بمعنى تميل من الزَّوَر وهو المَيَلُ، وزاره بمعنى مال إليه، وقول الزُّور: مَيّلٌ عن الحق، ومنه الأَزْوَرُ وهو المائلُ بعينه وبغيرها. قال عمر بن أبي ربيعة: 313 - 3-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . وجَنْبي خِيفة القوم أَزْوَرُ وقيل: تَزْوَرُّ بمعنى تَنْقَبِضُ مِنْ ازْوَرَّ، أي: انقبضَ. ومنه قولُ عنترة: 313 - 4- فازْوَرَّ مَنْ وَقَعَ القَنا بلَبانِه ... وشكا إليَّ بعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ وقيل: مال. ومثلُه قولُ بِشْر بن أبي خازم: 313 - 5- يَؤُمُ بها الحداةُ مياهَ نَخْلٍ ... وفيها عن أبانَيْنِ ازْوِرارُ أي: مَيْلٌ. وأما «تزاوَرُ» و «تَّوازَرُ» فأصلهما تَتَزاوَرُ بتاءين، فالكوفيون حذفوا إحدى التائين، وغيرُهم أَدْغم، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في «تَظَاهَرون»

و «تَساءلون» ونحوِهما. ومعنى ذلك الميل أيضاً. وقرأ أبو رجاء والجحدري وابن أبي عبلة وأيُّوب السُّختياني «تَزْوَارُّ» بزنة تَحْمارُّ. وعبد الله وأبو المتوكل «تَزْوَئِرُّ» بهمزةٍ مكسورةٍ قبل راءٍ مشددة، وأصلُها «تَزْوارُّ» كقراءة أبي رجاء ومَنْ معه، وإنما كَرِهَ الجمعَ بين الساكنين، فأبدل الألفَ همزةً على حدِّ إبدالها في «جَأَنّ» و «الضَّأَلِّين» . وقد تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا التصنيف أخرَ الفاتحة. و {إِذَا طَلَعَت} معمولٌ ل «تَرَى» أو ل «تَزَاوَرُ» ، وكذا {إِذَا غَرَبَت} معمولٌ للأولِ أو للثاني وهو «تَقْرضهم» . والظاهرُ تمحُّضُه للظرفيةِ، ويجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً. ومعنى «تَقْرِضُهم» تَقْطَعهُم لا تُقَرِّبهم، لأنَّ القَرْضَ القَطْعُ، من القَطِيعةِ والصَّرْم. قال ذو الرمة: 313 - 6- إلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أقْواز مُشْرِفٍ ... شِمالاً، وعن أَيْمَانِهِنَّ الفوارِسُ والقَرْضُ: القَطْعُ. وتقدَّم تحقيقُه في البقرة. وقال الفارسي: «معنى تَقْرِضُهم: تُعْطيهم مِنْ ضوئِها شيئاً ثم تزولُ سريعاً كالقَرْضِ يُسْتَرَدُّ» . وقد ضُعِّف قولُه بأنه كان ينبغي أن يُقْرأ «تُقْرِضُهم» بضم التاء لأنه مِنْ أَقْرض.

وقرئ «يَقْرِضهم» بالياء مِنْ تحتُ، أي: الكهف، وفيه مخالَفَةٌ بين الفعلين وفاعلِهما، فالأَوْلى أن يعودَ على الشمس ويكون كقوله: 313 - 7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها وهو قولُ ابنِ كَيْسان. و «ذات اليمين» و «ذات الشِّمال» ظرفا مكانٍ بمعنى جهةِ اليمين وجهةِ الشِّمال. قوله: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} جملةٌ حاليةٌ، أي: نفعلُ هذا مع اتساع مكانِهم، وهو أعجبُ لحالِهم، إذ كان ينبغي أَنْ تصيبَهم الشمسُ لاتِّساعِه. والفَجْوَةُ: المُتَّسَعُ، من الفَجا، وهو تباعدُ ما بين الفَخْذَين. يقال: رجلٌ أَفْجَى وامرأة فَجْواء، وجمع الفَجْوَة فِجاءٌ كقَصْعَة وقِصاع. قوله: «ذلك» مبتدأٌ مُشار به إلى جميعِ ما تقدم مِنْ حديثهم. و «من» آياتِ الله «الخبرُ. ويجوز أن يكونَ» ذلك «خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: الأمرُ ذلك. و {مِنْ آيَاتِ الله} حالٌ.

18

قوله تعالى: {أَيْقَاظاً} : جمعٌ «يَقُظ» بضم القاف، ويُجمع على يِقاظ. ويَقْظ وأيقاظ كعَضُد وأَعْضاد، ويَقُظ ويِقاظ كرَجُل ورِجال. وظاهر كلام الزمخشري أنه يقال: «يَقِظ» بالكسر، لأنه قال: «وأيقاظ جمع» يَقِظ «كأَنْكادِ في» نَكِد «. واليَقَظَةُ: الانتباهُ ضدُّ النوم.

والرُّقود: جمع راقِد كقاعِد وقُعود، ولا حاجةَ إلى إضمارِ شيءٍ كما قال بعضهم: إنَّ التقديرَ: لو رَأَيْتَهم لَحَسِبْتَهُم أيقاظاً. قوله:» ونُقِلَّبهم «قرأ العامَّةُ» نُقَلِّبهم «مضارعاً مسنداً للمعظِّمِ نفسَه. وقرئ كذلك بالياء مِنْ تحتُ، أي: الله أو المَلَك. وقرأ الحسن:» يُقَلِبُهم «بالياءِ من تحتُ ساكنَ القافِ مخففَ اللامِ، وفاعلُه كما تقدَّم: إمَّا اللهُ أو المَلَكُ. وقرأ أيضاً» وتَقَلُّبَهم «بفتح التاءِ وضمِّ اللامِ مشددةً مصدرَ تَقَلَّبَ» ، كقولِه: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} [الشعراء: 219] ونصبِ الباء. وخرَّجه أبو الفتحِ على إضمارِ فعلٍ، أي: ونَرَى تقَلُّبَهم أو نشاهِدُ. ورُوِيَ عنه أيضاً رفعُ الباءِ على الابتداءِ، والخبرُ الظرفُ بعدَه. ويجوز أن يكونَ محذوفاً، أي: آيةٌ عظيمة. / وقرأ عكرمةُ «وتَقْلِبُهم» بتاءِ التأنيثِ مضارعَ «قَلَب» مخففاً، وفاعلُه ضميرُ الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياقِ. قوله: «وكَلْبُهم» العامَّةُ على ذلك. وقرأ جعفر الصادق «كالِبُهم» ، أي: صاحبُ كلبِهم، كلابِن وتامِر. ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلب «وكالِئُهم» بهمزةٍ مضمومةٍ اسمَ فاعلٍ مِنْ كَلأَ يكلأُ: أي: حَفِظَ يَحْفَظُ. و «باسِط» اسمُ فاعلٍ ماضٍ، وإنما عَمِلَ على حكاية الحال. والكسائيُّ

يُعْمِله ويَسْتشهد بالاية. والوَصْيدُ: الباب. وقيل: العَتَبة. وقيل: الصَّعيد والتراب. وقيل: الفِناء. وأنشد: 313 - 8- بأرضِ فضاءٍ لا يُسَدُّ وَصِيْدُها ... عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنكَرِ والعامَّةُ على كسرِ الواوِ مِنْ {لَوِ اطلعت} على أصلِ التقاءِ الساكنين. وقرأها مضمومةً أبو جعفر وشيبةُ ونافعٌ وابنُ وثاب والأعمش تشبيهاً بواوِ الضمير، وتقدَّم تحقيقُه. قوله: فِرارا «يجوز أَنْ يكونَ منصوباً على المصدرِ مِنْ معنى الفعل قبلَه، لأنَّ التوليَّ والفِرار مِنْ وادٍ واحدٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال، أي: فارَّاً، وتكونُ حالاً مؤكدة، ويجوز أن يكونَ مفعولاً له. قوله:» رُعْباً «مفعولٌ ثانٍ. وقيل: تمييز. وقرأ ابنُ كثير ونافعٌ» لَمُلِئْتَ «بالتشديد على التكثيرِ. وأبو جعفر وشيبةُ كذلك إلا أنه بإبدال الهمزةِ ياءً. والزُّهْري بتخفيف اللام والإِبدال، وهو إبدالٌ قياسيٌّ. وتقدَّم الخلافُ الرعب في آل عمران.

19

قوله: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ} : الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: كما أَنَمْناهم تلك النَّوْمَةَ كذلك بَعَثْناهم ادِّكاراً بقُدرتِه. والإِشارةُ ب «ذلك» إلى المصدرِ المفهومِ مِنْ قوله «فَضَرَبْنا» ، أي: مثلَ جَعْلِنا إنامتَهم هذه المدة المتطاولةَ آيةً جَعَلْنا بَعْثَهم آيةً. قاله الزجاج والزمخشري. قوله: «ليتساءَلُوا» اللامُ متعلقةٌ بالبعث، فقيل: هي للصَّيْرورة، لأنَّ البَعْثَ لم يكنْ للتساؤلِ. قاله ابنُ عطيةَ. والصحيحُ أنَّها على بابِها مِن السببية. قوله: {كَم لَبِثْتُمْ} «كم» منصوبةٌ على الظرف، والمُمَيِّزُ محذوفٌ، تقديرُه: كم يوماً، لدلالةِ الجواب عليه. و «أَوْ» في قولِه: «أو بعضَ يوم» للشكِّ فيهم، وقيل: للتفصيل، أي: قال بعضُهم كذا وبعضُهم كذا. قوله: «بِوَرِقِكم» حال ِمنْ «أحدَكم» ، أي: مصاحباً لها، وملتبساً بها. وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وأبو بكر بفتحِ الواوِ وسكونِ الراءِ والفَكِّ. وباقي السبعة بكسر الراء، والكسرُ هو الأصلُ، والتسكينُ تحفيفٌ ك «نَبْق» في نَبِق. وحكى الزجاج كسرَ الواوِ وسكونِ الراء وهو نَقْلٌ، وهذا كما يقال: كَبِدْ وكَبْد وكِبْد.

وقرأ أبو رجاء وابن محيصن كذلك، إلا أنه بإدغام القاف. واستضعفوها مِنْ حيث الجمعُ بين ساكنين على غير حَدِّيهما وقد تقدَّم لك في المتواترِ ما يُشبه هذه مِنْ نحوِ {فَنِعِمَّا} {لاَ تَعْدُّواْ فِي السبت} [النساء: 154] . . . ورُوِيَ عن ابنِ محيصن أنَّه أَدْغَمَ كسرَ الراءَ فِراراً مِمَّا ذَكَرْتَ. وقرأ أميرُ المؤمنين «بوارِقِكم» اسمَ فاعلٍ، أي: صاحب وَرِقٍ ك «لابِن» . وقيل: هو اسمُ جمعٍ كجاملٍ وباقر. والوَرِقُ: الفِضَّةُ المضروبةُ. وقيل: الفضةُ مطلقاً. ويقال لها: «الرِّقَةُ» بحذفِ الفاء. وفي الحديث: «في الرِّقَةِ رُبْع العُشْر» وجُمعت شذوذاً جَمْعَ المذكرِ السالم، قالوا: «حُبُّ الرِّقَيْنِ يغطِّي أَفْن الأَفِين» .

قوله: أيُّها أَزْكَى: يجوز في «أيّ» أن تكونَ استفهاميةً، وأن تكونَ موصولةً. وقد عَرَفْتَ ذلك ممَّا تقدَّم لك في قوله: {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] فالعملُ واحدٌ. ولا بد مِنْ حذفٍ: «أيُّ أهْلِها أزْكَى» . وطعاماً: تمييز. وقيل: لا حَذْفَ، والضميرُ على الأطعمة المدلول عليها من السياق. قوله: «ولِيَتَلَطَّفْ» قرأ العامَّةُ بسكونِ لامِ الأمر، والحسنُ بكسرِها على الأصل. وقتيبة المَيَّال «ولِيَتَلَطَّفْ» مبنياً للمفعول. وأبو جعفر وأبو صالحٍ وقتيبة «ولا يَشْعُرَن» بفتحِ الياءِ وضمِّ العين، «أحدٌ» فاعلٌ به.

20

قوله: {إِنَّهُمْ} هذا الضميرُ يجوز أن يعودَ على «أحد» لأنه في معنى الجمع، وأنْ يكونَ عائداً على «أهل» المضاف لضمير المدينة، قاله الزمخشري. ويجوز أَنْ يعودَ على قومِهم لدلالةِ السِّياقِ عليهم. وقرأ زيدُ بن علي «يُظْهِروا» مبنيّاً للمفعول و «إذن» جوابٌ وجزاءٌ، أي: إنْ ظَهَروا فلن تُفْلِحوا.

21

قوله: {وكذلك أَعْثَرْنَا} : أي: وكما أَنَمْناهم وبَعَثْناهم أَعْثَرْنا، أي: أَطْلَعْنا. وقد تقدَّم الكلامُ على مادة «عثر» في المائدة

و «لِيَعْلَموا» متعلقٌ بأَعْثَرْنا. والضمير: قيل: يعود على مفعول «أَعْثَرْنا» المحذوفِ تقديرُه: أَعْثَرْنا الناسَ. وقيل: يعود على أهل الكهف. قوله: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ} يجوز أَنْ يعملَ فيه «أَعْثَرنا» أو «لِيَعْلَموا» أو لمعنى «حَقٌّ» أو ل «وَعْدَ» عند مَنْ «يَتَّسع في الظرف. وأمَّا مَنْ لا يَتَّسعُ، فلا يجوز الإِخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صِلَتِه. قوله:» بُنْياناً «يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به، جمعَ يُنْيَانَه، وأن يكونَ مصدراً. قوله: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} يجوز أن يكونَ مِنْ كلام الباري تعالى، وأن يكونَ من كلامِ المتنازِعَيْنِ فيهم. قوله:» غَلَبوا «قرأ عيسى الثقفي والحسن بضم الغين وكسرِ اللام.

22

قوله: {سَيَقُولُونَ} : قيل: إنما أُتي بالسِّينِ في هذا لأنَّ في الكلامِ طَيَّاً وإدْماجاً تقديرُه: فإذا أَجَبْتَهم عن سؤالِهم عن قصةِ أهلِ الكهفِ فَسَلْهُمْ عددِهم فإنهم سيقولون. ولم يأتِ بها في باقيةِ الأفعالِ لأنها معطوفةٌ على ما فيه السينُ فأُعْطِيَتْ حُكْمَه من الاستقبَال.

وقرأ ابنُ محيصن «ثَلاثٌّ» بإدغامِ الثاءِ المثلثةِ في تاء التأنيث لقربِ مَخْرَجَيْهما، ولأنهما مهموسان، ولأنهما بعد ساكنٍ معتلٍّ. قوله: {رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الجملةُ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «ثلاثة» . قوله: «خَمْسَةٌ» قرأ ابن كثير في روايةٍ بفتحِ الميم، وهي لغةٌ كعشَرَة. وقرأ ابن محيصن بكسرِ الخاءِ والميمِ، وبإدغامِ التاءِ في السين، يعني تاءَ «خمسة» في سين «سادسهم» وعي قراءةٌ ثقيلةٌ جداً، تتوالى كسرتان وثلاثُ سيناتٍ، ولا أظنُّ مثلَ هذا إلا غلطاً على مثلِه. ورُوِيَ عنه إدغامُ التنوينِ في السين مِنْ غيرِ غُنَّة. و «ثلاثةٌ» و «خمسةٌ» و «سبعةٌ» إخبارٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هم ثلاثةٌ، وهم خمسةٌ، وهم سبعةٌ. وما بعد «ثلاثة» و «خمسة» من الجملةِ صفةٌ لهما، كما تقدَّم. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً لعدم عاملٍ فيها، ولا يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: هؤلاء ثلاثةٌ، وهؤلاء خمسةٌ، ويكون العاملُ اسمَ الإِشارة أو التنبيه. قال أبو البقاء: «لأنَّها إشارةٌ إلى حاضرٍ، ولم يُشيروا إلى حاضر» . قوله: {رَجْماً بالغيب} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مفعولٌ مِنْ أجله؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغَيْب. والثاني: أنه في موضعِ الحال، أي:

ظانِّين. والثالث: أنَّه منصوبٌ ب «يقولون» لأنه بمعناه. والرابع: أنه منصوبٌ بمقدَّرٍ مِنْ لفظه، أي: يَرْجُمون بذلك رَجْماً. والرَّجْمُ في الأصلِ: الرَّمْيُ بالرِّجامِ وهي الحجارةُ الصِّغارُ، ثم عُبِّر به عن الظنِّ. قال زهير: 313 - 9- وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمُ ... وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ أي: المَظْنُون. قوله: «وثامِنُهُم» في هذه الواوِ أوجهٌ، أحدُها: أنها عاطفةٌ، عَطَفَتْ هذه الجملةَ على جملةِ قولِه «هم سبعة» فيكونون قد أَخبَرو بخبرين، أحدُهما: أنهم سبعةُ رجالٍ على البَتِّ. والثاني أنَّ ثامنَهم كلبُهم، وهذا يُؤْذِنُ بأنَّ جملةَ قولِه {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} مِنْ كلام المتنازِعِيْنَ فيهم. الثاني: أنَّ الواوَ للاستئنافِ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى أخبر عنهم بذلك. قال هذا القائلُ: وجيءَ بالواوِ لتعطي انقطاعَ هذا ممَّا قبله. الثالث: أنها الواوُ الداخلةُ على الصفةِ تأكيداً، ودلالةً على لَصْقِ الصفةِ بالموصوفِ. وإليه ذهب الزمخشري، ونَظَّره بقولِه: {مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] . ورَدَّ الشيخ عليه: بأنَّ أحداً من النحاة لم يَقُلْه، وقد تقدَّم القولُ في ذلك.

الرابع: أنَّ هذه تُسَمَّى واوَ الثمانية، وأنَّ لغةَ قريش إذا عَدُّوا يقولون: خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة، فيُدْخلون الواوَ على عَقْدِ الثمانيةِ خاصة. ذكر ذلك ابن خالويه وأبو بكر راوي عاصم. قلت: وقد قال ذلك بعضُهم في قولِه تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الآية: 73] في الزمر فقال: دخلَتْ في أبوابِ الجنة لأنها ثمانيةٌ، ولذلك لم يُجَأْ بها في أبوابِ جهنم لأنها سبعةٌ وسيأتي هذا إن شاء الله. وقُرِئ: «كالبُهم» ، أي: صاحبُ كلبِهم. ولهذه القراءةِ قدَّرَ بعضُهم في قراءةِ العامة: وثامنُهم صاحبُ كلبِهم. وثلاثة وخمسة وسبعة مضافةٌ لمعدودٍ محذوفٍ فقدَّره الشيخ: ثلاثة أشخاص، قال: «وإنما قدَّرْنا أشخاصاً لأنَّ رابعَهم اسمُ فاعلٍ أُضيف إلى الضمير، والمعنى: أنه رَبَعَهم، أي: جَعَلَهم أربعةً، وصَيَّرهم إلى هذا العددِ، فلو قدَّرْناه رجالاً استحال أن يُصَيِّر ثلاثةَ رجالٍ أربعةً لاختلافِ الجنسين» . وهو كلامٌ حسنٌ. وقال أبو البقاء: «ولا يَعْمل اسمُ الفاعلِ هنا لأنه ماضٍ» . قلت: يعني أن رابعَهم فيما مضى، فلا يعمل النصبَ تقديراً، والإِضافة محضة. وليس كما زعم فإنَّ المعنى على: يَصير الكلبُ لهم أربعةً، فهو ناصبٌ تقديراً، وإنما عَمِلَ وهو ماضٍ لحكاية الحالِ كباسِط.

24

قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} : قاله أبو البقاء: «في المستثنى منه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: هو مِنَ النَّهْيِ. والمعنى: لا تقولَنَّ: أفعل غداً، إلا أَنْ يُؤْذَنَ لك في القول. الثاني: هو من» فاعلٌ «، أي: لا تقولَنَّ إني فاعلٌ غداً حتى تَقْرِنَ به قولَ» إن شاء الله «. والثالث: أنه منقطعٌ. وموضعُ» أَنْ يشاء اللهُ «نصبٌ على وجهين، أحدُهما على الاستثناءِ، والتقدير: لا تقولَنَّ ذلك في وقتٍ إلا وقتَ أنْ يشاء الله، أي: يَأْذَنَ، فحذف الوقتَ وهو مُرادٌ. والثاني: هو حالٌ والتقدير: لا تقولَنَّ أفعل غداً إلا قائلاً: إن شاء الله، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ، وجَعَل قولَه إلا أن يشاء في معنى: إن شاء وهو ممَّا حُمِلَ على المعنى. وقيل: التقدير إلا بأَنْ يشاءَ اللهُ، أي: ملتبساً بقولِ:» إن شاء الله «. قلت: قد رَدَّ الزمخشريُّ الوجهَ الثاني، فقال:» إلا أَنْ يشاء «متعلقٌ بالنهي لا بقولِه» إنِّي فاعلٌ «لأنَّه لو قال: إني فاعلٌ كذا إلا أَنْ يشاء اللهُ كان معناه: إلا أن تَعْتَرِضَ مشيئةُ اللهِ دونَ فِعْلِه، وذلك ممَّا لا مَدْخَلَ فيه للنهي» . قلت: يعني أنَّ النهي عن مثلِ هذا المعنى لا يَحْسُن. ثم قال: «وتعلُّقُه بالنهي مِنْ وجهين، أحدهما: ولا تقولنَّ ذلك القولَ إلا أَنْ يشاءَ الله أَنْ تقولَه بأَنْ يَأْذَنَ لك فيه. والثاني: ولا تقولَنَّه إلا بأَنْ يشاءَ الله أَي: إلا بمشيئته، وهو في موضعِ الحال، أي: ملتبساً بمشيئةِ الله قائلاً إنْ شاء الله. وفيه وجهٌ ثالث: وهو أَنْ يكونَ» إلا أَنْ يشاء «في معنى كلمةِ تأبيد كأنَّه قيل: ولا تقولَنَّه أبداً، ونحوُه: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ

أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا} [الأعراف: 89] لأنَّ عَوْدَهم في ملَّتِهم ممَّا لم يَشَأ الله» . وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ قد رَدَّه ابنُ عطية بعد أنْ حكاه عن الطبري وغيرِه ولم يوضِّح وجهَ الفسادِ. وقال الشيخ: «وإلا أَنْ يشاءَ اللهُ استثناءٌ لا يمكن حَمْلُه على ظاهرِه، لأنه يكونُ داخلاً تحت القول فيكونُ من المقول، ولا ينهاه اللهُ أَنْ يقول: إني فاعل ذلك غداً إلا أَنْ يشاءَ اللهُ، لأنه كلامٌ صحيحٌ في نفسِه لا يمكنُ أَنْ يَنْهى عنه، فاحتيج في تأويلِ هذا الظاهرِ إلى تقديرٍ. فقال ابن عطية:» في الكلامِ حَذْفٌ يَقْتضيه الظاهرُ، ويُحَسِّنه الإيجازُ، تقديرُه: إلا أَنْ تقولَ: إلا أَنْ يشاءَ الله، أو إلا أَنْ تقولَ: إنْ شاء الله. والمعنى: إلا أَنْ تذكُرَ مشيئةَ الله، فليس «إلا أن يشاءَ اللهُ» من القولِ الذي نَهَى عنه «.

25

قوله: {ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ} : قرأ الأخَوان بإضافة «مِئَةِ» إلى سنين. والباقون بتنوين «مِئَةٍ» . فأمَّا الأولى فأوقع فيها الجمعَ موقعَ المفردِ كقولِه: {بالأخسرين أَعْمَالاً} [الكهف: 103] . قاله الزمخشري يعني أنه أوقع «أَعْمالاً» موقعَ «عَمَلاً» . وقد أنحى أبو حاتم على هذه القراءةِ ولا يُلْتَفَتُ إليه. وفي مصحفِ عبد الله «سَنَة» بالإِفراد. وبها قرأ أُبَيّ. وقرأ الضحاك «سِنُون» بالواو على أنها خبرٌ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي سنُون.

وأمَّا الباقون: فلمَّا لم يَرَوا إضافةَ «مِئَة» إلى جمعٍ نَوَّنُوا، وجعلوا «سِنين» بدلاً مِنْ «ثلثمئة» أو عطفَ بيان. ونَقَل أبو البقاء أنَّه بدلٌ مِنْ «مِئَة» لأنها في معنى الجمع. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ «سنين» في هذه القراءةِ مميِّزاً، لأنَّ ذلك إنما يجيءُ في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز، كقوله: 314 - 0- إذا عاش الفَتَى مِئَتين عاماً ... [فقد] ذَهَب اللَّذاذَةُ والفَتاءُ قوله: «تِسْعاً» ، أي: تسعَ سنين، حَذَفَ المُمَيَّزَ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه، إذ لا يُقال: عندي ثلثمئة درهم وتسعة، إلا وأنت تعني: تسعة دراهم، ولو أَرَدْتَ ثياباً ونحوَها لم يَجُزْ لأنه إلغازٌ. و «تِسْعاً» مفعولٌ به. وازداد: افتَعَلَ، أُبْدِلَتِ التاءُ دالاً بعد الزاي، وكان متعدِّياً لاثنين نحو: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ، فلمَّا بُنِي على الافتعال نَقَص واحداً. وقرأ الحسن وأبو عمروٍ في وراية «تَسْعا» بفتح التاء كعَشْر.

26

قوله: {أَبْصِرْ بِهِ} : صيغةُ تعجبٍ بمعنى ما أبصرَه، على سبيل المجاز، والهاءُ للهِ تعالى. وفي مثلِ هذا ثلاثةُ مذاهبَ: الأصحُّ أنه بلفظِ الأمرِ ومعناه الخبرُ، والباءُ مزيدةٌ في الفاعل إصلاحاً للَّفْظ. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرُ المصدرِ. والثالث: أنه ضميرُ المخاطبِ، أي: أَوْقِعْ أيها المخاطبُ. وقيل: هو أمرٌ حقيقةً لا تعجبٌ، وأن الهاءَ تعودُ على الهُدَى المفهوم من الكلام.

وقرأ عيسى: «أَسْمَعَ» و «أَبْصَرَ» فعلاً ماضياً، والفاعلُ الله تعالى، وكذلك الهاءُ في «به» ، أي: أبصرَ عبادَه وأَسْمعهم. قوله: «مِنْ وليّ» يجوز أَنْ يكونَ فاعلاً، وأَنْ يكونَ مبتدأً. قوله: «ولا يُشْرك» ، قرأ ابن عامر بالتاءِ والجزم، أي: ولا تُشْرِكْ أنت أيها الإِنسانُ. والباقون بالياء من تحتُ ورفعِ الفعلِ، أي: ولا يُشْرك اللهُ في حكمِه أحداً، فهو نفيٌ مَحْضٌ. وقرأ مجاهد: «ولا يُشْرِكْ» بالتاء من تحتُ والجزم. قال يعقوب: «لا أعرفُ وجهه» . قلت: وجهُه أنَّ الفاعلَ ضميرُ الإِنسانِ، أُضْمِرَ للعِلْمِ به. والضميرُ في قولِه/ «مالهم» يعود على معاصري رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عطية: «وتكون الآيةُ اعتراضاً بتهديد» . كأنَّه يعني بالاعتراضِ أنهم ليسوا ممَّن سَبَق الكلامُ لأجلهم، ولا يريد الاعتراضَ الصناعيِّ.

28

قوله: {واصبر نَفْسَكَ} : أي: احبِسْها وثَبِّتْها، قال أبو ذؤيب: 314 - 1- فصبَرْتُ عارفةً لذلك حُرَّة ... تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّعُ

وقوله: «بالغَداة» تقدَّم الكلامُ عليها في الأنعام. قوله: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّ مفعولَه محذوفٌ، تقديرُه: ولا تَعْدُ عيناك النظرَ. والثاني: أنه ضُمِّنَ معنى ما يتعدَّى ب «عَنْ» . قال الزمخشري: «وإنما عُدِّيَ ب» عَنْ «لتضمين» عَدا «معنى نبا وعلا في قولِك: نَبَتْ عنه عيْنُه، وعلَتْ عنه عَيْنُه، إذا اقتحَمَتْه ولم تَعْلَقْ به. فإن قلت: أيُّ غرضٍ في هذا التضمين؟ وهَلاَّ قيل: ولا تَعْدُهم عيناك، أو: ولا تَعْلُ عيناك عنهم؟ قلت: الغرضُ فيه إعطاءُ مجموعِ معنيين، وذلك أقوى من إعطاءِ معنى فَذّ. ألا ترى كيف رَجَعَ المعنى إلى قولك: ولا تَقْتَحِمْهُمْ عيناك متجاوزتَيْنِ إلى غيرهم. ونحوه {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ، أي: ولا تَضُمُّوها إليها آكلين لها» . ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ مذهبَ البصريين أن التضمينَ لا ينقاس، وإنما يُصار إليه عند الضرورة. فإذا أمكن الخروجُ عنه فلا يُصار إليه. وقرأ الحسن «ولا تُعْدِ عَيْنَيْكَ» مِنْ أَعْدى رباعياً. وقرأ هو وعيسى والأعمش «ولا تُعَدِّ» بالتشديد من عَدَّى يُعَدَّي مُضَعَّفاً، عدَّاه في الأولى بالهمزةِ وفي الثانيةِ بالتثقيلِ، كقولِ النابغة: 314 - 2-

فَعَدَّ عَمَّا تَرَى إذ لا ارْتِجاعَ له ... وانْمِ القُتُوْدَ على عَيْرانَةٍ أُجُدِ كذا قال الزمخشري وأبو الفضلِ. ورَدَّ عليهما الشيخ: بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزةِ أو التضعيفِ لَتَعَدَّى لاثنين، لأنه قبل ذلك متعدٍّ لواحدٍ بنفسه. وقد أقرَّ الزمخشري بذلك حيث قال: «يقال: عَدَاه إذا جاوزه، وإنما عُدِّي ب عن لتضمُّنِه معنى علا ونبا، فحينئذٍ يكون أَفْعَل وفَعَّلَ مِمَّا وافقا المجردَ» وهو اعتراضٌ حسنٌ. قوله: «تُريد» جملةٌ حالية. ويجوز أن يكونَ فاعلُ «تريد» المخاطبَ، أي: تريد أنت. ويجوز أن يكون ضمير العينين، وإنما وُحِّد لأنهما متلازِمان يجوز أَنْ يُخْبِرَ عنهما خبرُ الواحد. ومنه قولُ امرئ القيس: 314 - 3- لِمَنْ زُحْلُوقَةٌ زُلَّ ... بها العَيْنان تَنْهَلُّ وقولُ الآخر: 314 - 4- وكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أو سُنْبُلاً كُحِلَتْ به فانهَلَّتِ وفيه غيرُ ذلك. ونسبةُ الإِرادةِ إلى العينين مجازٌ. وقال الزمخشري: «

الجملةُ في موضعِ الحال» . قال الشيخ: «وصاحبُ الحالِ إنْ قُدِّرَ» عَيْناك «فكان يكون التركيبُ: تريدان» . قلت: غَفَل عن القاعدةِ التي ذكرْتُها: من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يُخْبَرَ عنهما إخبارُ الواحدِ. ثم قال: «وإن قَدَّر الكافَ فمجيءُ الحالِ من المجرورِ بالإِضافةِ مثلَ هذا فيه إشكالٌ، لاختلافِ العامل في الحالِ وذي الحال. وقد أجاز ذلك بعضُهم إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزءِ، وحَسَّن ذلك أنَّ المقصودَ نهيُه هو عليه السلام. وإنما جِيْءَ بقوله: «عيناك» والمقصودُ هو لأنهما بهما تكونُ المراعاةُ للشخصِ والتلفُّتُ له «. قلت: وقد ظهر لي وَجْهٌ حسنٌ لم أرَ غيري ذَكَرَه: وهو أن يكون» تَعْدُ «مُسنداً لضميرِ المخاطب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و» عيناك «بدلٌ من الضميرِ بدلُ بعضٍ من كل. و» تُرِيدُ «على وَجهَيْها: مِنْ كونها حالاً مِنْ» عيناك «أو من الضمير في تَعُدْ. إلا أنَّ في جَعْلِها حالاً من الضمير في» ولا تَعْدُ «ضَعفاً: من حيث إنَّ مراعاةَ المبدلِ منه بعد ذِكْرِ البدلِ قليلٌ جداً تقول:» الجارية حسنُها فاتِنٌ «ولا يجوز» فاتنةٌ «إلا قليلاً، كقولِه: 314 - 5- فكأنَّه لِهقُ السَّراةِ كأنَّه ... ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بسَوادِ فقال:» مُعَيَّنٌ «مراعاةً للهاء في» كأنه «، وكان الفصيحُ أن يقولَ:» مُعَيَّنان «مراعاةً لحاجبَيْه الذي هو البدلُ. قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} العامَّة على إسنادِ الفعل ل» ن «و» قلبَه «مفعول به.

وقرأ عمرو بن عبيد بن فائد وموسى الأسواري بفتح اللام ورفع» قلبُه «أَسْندوا الإِغفالَ إلى القلبِ. وفيه أوجهٌ. قال ابن جني: مَنْ ظَنَّنَا غافِلين عنه» . وقال الزمخشري: «مَنْ حَسِبْنا قلبُه غافلين، مِنْ أَغْفَلْتُه إذا وَجَدْتَهُ غافلاً،. وقال أبو البقاء:» فيه وجهان، أحدُهما: وَجَدْنا قلبُه مُعْرِضين عنه. والثاني: أهملَ أَمْرَنا عن تَذَكُّرِنا «. قوله:» فُرُطاً «يحتمل أَنْ يكون وصفاً/ على فُعُل كقولِهم:» فرسٌ فُرُطُ «، أي: متقدِّمٌ على الخيل، وكذلك هذا، أي: متقدَّماً للحقِّ. وأن يكونَ مصدراً بمعنى التفريط أو الإِفراط. قال ابنُ عطية:» الفُرُطُ: يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع، أي: أمرَه الذي يجب أن يَلْزَم، ويُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِفراط والإِسراف.

29

قوله: {وَقُلِ الحق} : يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هذا، أي: القرآن، أو ما سمعتم الحقُّ. الثاني «أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه السياقُ، أي: جاء الحقُّ، كما صَرَّح به في موضعٍ آخرَ، إلاَّ أنَّ الفعلَ لا يُضمر إلا في مواضعَ تقدَّم التنبيهُ عليها، منها: أَنْ

يُجَابَ به استفهامٌ، أو يُرَدَّ به نفيٌ، أو يقعَ فعل مبنيّ للمفعول، لا يَصْلُح إسنادُه لما بعده كقراءة {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو} كما سيأتي إنْ شاء الله تحقيقُه في موضعِه. الثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ بعده. وقرأ أبو السَّمَّال قعنب:» وقُلُ الحقَّ «بضمِّ اللامِ حيث وقع، كأنه إتباعٌ لحركةِ القاف. وقرأ أيضاً بنصب» الحقَّ «. قال صاحب» اللوامح «:» هو على صفةِ المصدرِ المقدَّر؛ لأن الفعلَ يَدُلُّ على مصدره وإن لم يُذْكَرْ، فتنصِبُه معرفةً كما تنصِبُه نكرةً، وتقديرُه: وقل القولَ الحقَّ وتُعَلَّقُ «مِنْ» بمضمرٍ على ذلك. أي: جاء مِنْ ربكم «انتهى. وقرأ الحسن والثقفي بكسرِ لامَيْ الأمرِ في قوله:» فَلْيُؤْمِنْ «، و» فَلْيَكْفُرْ «وهو الأصل. قوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن} يجوز في» مَنْ «أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً، والفاءُ لشَبَهِه بالشرط. وفاعلُ» شاء «الظاهرُ أنه ضميرٌ يعود على» مَنْ «. وقيل: ضميرٌ يعودُ على الله، وبه فَسَّر ابنُ عباس، والجمهورُ على خلافِه.

قوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} في محلِّ نصبٍ صفةً ل» ناراً «. والسَّرادِقُ: قيل: ما أحاط بشيءٍ كالمَضْرِب والخِباء. وقيل للحائط المشتمل على شيء: سُرادِق. قاله الهَرَوِيُّ. وقيل: هو الحُجْرَةُ تكونُ حول الفُسْطاط. وقيل: هو ما يُمَدُّ على صحنِ الدار. وقيل: كلُّ بيتٍ من كُرْسُفِ فهو سُرادِق، قال رؤبة: 314 - 6- يا حَكَمُ بنَ المنذرِ بن الجارُوْدْ ... سُرادِقُ المجدِ عليك مَمْدودْ ويُقال: بيت مُسَرْدَق. قال الشاعر: 314 - 7- هو المُدْخِلُ النُّعْمانَ بيتاً سماؤُه ... صدورُ الفُيولِ بعد بيتٍ مُسَرْدَقِ وكان أبرويز ملكُ الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أَرْجُلِ الفِيلة. والفُيول: جمع فِيل. وقيل: السُّرادق: الدِّهليز. قال الفرزدق: 314 - 8- تَمَنَّيْتَهم حتى إذا ما لَقِيْتَهُمْ ... تركْتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرادقا والسُّرادق: فارسيٌّ معرَّبٌ أصله: سرادَة، قاله الجواليقي، وقال

الراغب:» فارسيٌّ معرَّبٌ، وليس في كلامهم اسمٌ مفردٌ، ثالثُ حروفِه ألفٌ بعدها حرفان «. قوله: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} ، أي: يَطْلُبوا العَوْنَ. والياءُ عن واوٍ، إذ الأصل: يستَغْوِثوا، فقُلبت الواو ياءً لتصريفٍ ذُكِر في الفاتحة عند قوله: {نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وهذا الكلامُ من المشاكلةِ والتجانُسِ، وإلا فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم كقولِه: 314 - 9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ [وكقولِه] : 315 - 0-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَحِيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجيعُ وهو كثير. و «كالمُهْلِ» صفةٌ ل «ماء» . والمُهْلُ: دُرْدِيُّ الزيت، وقيل: ما أُذِيْب من الجواهر كالنُّحاس والرصاص. والمَهَل بفتحتين: التُّؤَدَة والوَقار. قال: {فَمَهِّلِ الكافرين} [الطارق: 17] .

قوله: {يَشْوِي الوجوه} يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً ثانيةً، أن تكونَ حالاً مِنْ «ماء» لأنه تخصَّصَ بالوصف، ويجوز أَنْ تكونَ حالاً من الجارِّ وهو الكاف. والشَّيُّ: الإِنضاجُ بالنارِ من غيرِ مَرَقَةٍ تكون مع ذلك الشيءِ المَشْوِيَّ. قوله: {بِئْسَ الشراب} المخصوصُ محذوفٌ تقديره: هو، أي: ذلك الماءُ المستغاثُ به. قوله: {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} «ساءَتْ» هنا متصرفةٌ على بابها. وفاعلُها ضميرُ النار. ومُرْتَفَقَا تمييز منقولٌ من الفاعلية، أي: ساء وقَبُحَ مُرْتَفَقُها. والمُرْتَفَقُ: المُتَّكأ. وقيل: المنزل، وقيل: هو مصدرٌ بمعنى الارتفاق، وهو من بابِ المقابلة أيضاً كقوله في وصفِ الجنة بعدُ: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 31] ، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري: إلا أَنْ يكون من قوله: 315 - 1- إني أَرِقْتُ فَبِتُّ الليلَ مُرْتَفِقا ... كأنَّ عَيْنِيَ فيها الصابُ مَذْبوحُ يعني من باب التهكُّم.

30

قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ {إِنَّ الذين} والرابطُ: إمَّا تَكَرُّرُ الظاهرِ بمعناه، وهو قولُ الأخفش. ومثلُه في الصلة /

جائزٌ. ويجوز ان يكونَ الرابطُ محذوفاً، أي: منهم، ويجوز أن يكونَ الرابطُ العمومَ، ويجوز أن يكونَ الخبرُ قولَه: {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ} ، ويكونَ قولُه: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} اعتراضاً. قال ابن عطية: ونحوُه في الاعتراض قولُه: 315 - 2- إنَّ الخليفةَ إنَّ اللهَ أَلْبَسَه ... سِرْبالَ مُلْكٍ به تُزْجى الخواتِيمُ قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ أن يكونَ» إنَّ اللهَ ألبسَه «اعتراضاً لجوازِ أَنْ يكونَ خبراً عن» إنَّ الخليفة «. قلت: وابن عطيةَ لم يَجْعَلْ ذلك متعيِّناً بذلك هو نحوه في أحد الجائزين فيه. ويجوز أن تكون الجملتان - أعني قولَه {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} وقولَه {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ} - خَبَريْن ل» إنَّ «عند مَنْ يرى جوازَ ذلك، أعني تعدُّدَ الخبر، وإنْ لم يكونا في معنى خبرٍ واحد. وقرأ الثقفيُّ» لا نُضَيِّع «بالتشديدِ، عَدَّاه بالتشديد كما عَدَّاه الجمهورُ بالهمزة.

31

قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ} : في «مِنْ» هذه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنَّها للابتداءِ. والثاني: أنها للتعيض. والثالث: أنها لبيان الجنسِ، لأي: شيئاً مِنْ أساور. والرابع: أنها زائدةٌ عند الأخفش، ويَدُلُّ عليه قولُه: {

وحلوا أَسَاوِرَ} [الإِنسان: 21] . ذكر هذه الثلاثةَ الأخيرةَ أبو البقاء. وأساوِر جمع أَسْوِرة، وأَسْوِرة جمعُ سِوار، كحِمار وأَحْمِرة، فهو جمعُ الجمع. جمع إسْوار. وأنشد: 315 - 3- واللهِ لولا صِبْيَةٌ صِغارُ ... كأنَّما وجوهُهمْ أَقْمارُ - أخافُ أَنْ يُصِيبهم إقتارُ ... أو لاطِمٌ ليسَ له إسْوارُ - لمَّا رآني مَلِكٌ جَبَّارُ ... ببابِه ما طَلَعَ النَّهارُ وقال أبو عبيدة: «هو جمعُ» إسوار «على حذف الزيادة، وأصله أساوِيرْ. وقرأ أبان بن عاصم» أَسْوِرة «جمعَ سِوار وستأتي إنْ شاء الله تعالى في الزخرف هاتان القراءتان في المتواتر، وهناك أذكُر إن شاء الله تعالى الفرقَ.

والسَّوارُ يُجمع في القِلَّة على» أَسْوِرة «وفي الكثرة على» سُور «بسكون الواو، وأصلُها كقُذُل وحُمُر، وإنما سُكِّنَتْ لأجلِ حرفِ العلة. وقد يُضَمُّ في الضرورة، وقال: 315 - 4- عن مُبْرِقاتٍ بالبُرِيْنَ وتَبْ ... دُو في الأكفِّ اللامعاتِ سُوُرْ وقال أهل اللغة: السَّوار ما جُعِلَ في الذِّراعِ مِنْ ذهبٍ أو فضة أو نُحاس، فإن كان مِنْ عاج فهو قُلْبٌ. قوله: {مِن ذَهَبٍ} يجوز أن تكونَ للبيان، وأَنْ تكونَ للتبعيض. ويجوز أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً لأساوِر فموضعُه جر، وأن تتعلَّقَ بنفس» يُحَلُّوْنَ «فموضعها نصب. قوله: {وَيَلْبَسُونَ} عطفٌ على» يُحَلَّوْن «. وبُني الفعل في التحلية للمفعول إيذاناً بكرامتِهم، وأنَّ غيرَهم يَفعل لهم ذلك ويُزَيِّنُهم به، كقولِ امرئِ القيس. 315 - 5- غرائرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمةٍ ... يُحَلِّيْنَ ياقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّراً بخلافِ اللَّبس فإنَّ الإِنسان يتعاطاه بنفسه. وقُدِّم التحلِّي على الِّلباس لأنه أَشْهَى للنفسِ. وقرأ أبان بن عاصم» وَيَلْبِسُونَ «بكسر الباء. قوله: {مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} » مِنْ «لبيانِ الجنس وهي نعتٌ لثياب.

والسُّنْدُسُ: ما رَقَّ من الدِّيباج. والإِستبرق: ما غَلُظَ منه وهما جمعُ سُنْدُسة واسْتَبْرَقَة. وقيل: ليسا جمعَيْنِ. وهل» اسْتَبْرق «عربيُّ الأصلِ مشتق من البريق، أو معرِّبٌ أصلُه استبره؟ خلافٌ بين اللغويين. وقيل: الإِستبرق اسم للحرير. وأنشد للمرقش: 315 - 6- تراهُنَّ يَلْبِسْنَ المشاعِرَ مَرَّةً ... وإستبرقُ الديباجُ طَوْراً لِباسُها وهو صالحٌ لِما تقدَّم. وقال ابنُ بحر:» الإِستبرق: ما نُسج بالذهب «. ووَزْنُ سُنْدُس: فُعْلُل ونونُه أصلية. وقرأ ابن محيصن» واسْتَبرقَ «بوصلِ الهمزة وفتح القافِ غيرَ منونة. فقال ابن جني: هذا سهوٌ أو كالسهوِ» . قلت: كأنه زعم أنَّه مَنَعه الصرفَ ولا وجهَ لمنعِه، لأنَّ شرطَ مَنْعِ الاسمِ الأعجمي أَنْ يكونَ عَلَماً وهذا اسمُ جنسٍ. وقد وجَّهها غيرُه على أنه جَعَلَه فعلاً ماضياً من البريق، واستَفْعَلَ بمعنى فَعَلَ المجرد نحو: قَرَّ واستقرَّ. وقال الأهوازيُّ في «الإِقناع» : «واستبرق بالوصلِ وفتحِ/ القاف حيث كان لا يَصْرِفُه» فظاهرُ هذا أنه اسمٌ، وليس بفعلٍ وليس لمنعِه وجهٌ، كما تقدَّم عن ابن جني، وصاحب «اللوامح» لمَّا ذكر وَصْلَ الهمزةِ لم يَزِد على ذلك، بل نَصَّ على بقائِه منصرفاً ولم يذكر فتح القاف أيضاً فقال: «ابن محيصن» واستبرق «يوصلِ الهمزة في جميع

القرآن، فيجوز أنه حذف الهمزةَ تخفيفاً على غيرِ قياسٍ، ويجوز أنَّه جعله عربياً مِنْ بَرِق يَبْرُقُ بَرْيقاً، ووزنُه استفعل، فلمَّا سُمِّي به عامَلَه معاملَةَ الفعل في وَصْلِ الهمزةِ، ومعاملةَ الممتكنةِ من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثرُ التفاسيرِ على أنَّه عربية وليس بمستعربٍ، دَخَل في كلامِهم فاعربوه» . قوله: «مُتَّكئين» حال والأرائِكُ: جمعُ أَرِيْكَة وهي الأَسِرَّة بشرط أن تكونَ في الحِجالِ فإن لم تكنْ لم تُسَمَّ أَرْيْكَة. وقيل: الأرائِكُ: الفُرُش في الحَجال أيضاً. وقال الارغب: «الأَرِيْكة: حَجَلَةٌ على سريرٍ، وتسميتها بذلك: إمَّا لكونِها في الأرض مُتَّخَذَةً مِنْ أَراك، أو مِنْ كونها مكاناً للإِقامة من قولهم: أَرَك بالمكان أُرُوكاً، وأصل الأُروك الإِقامةُ على رَعْيِ الأَراكِ، ثم تُجُوِّز به في غيره من الإِقامات» . وقرأ ابن محيصن: «عَلَّرَائك» وذلك: أنَّه نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى لامِ التعريف فالتقى مِثْلان: لامُ «على» - فإنَّ ألفها حُذفَتْ لالتقاءِ الساكنين- ولامُ التعريف، واعتدَّ بحركة النقل فأدغم اللامَ في اللامِ، فصار اللفظُ كما ترى، ومثلُه قولُ الشاعر: 315 - 7- فما أصبحَتْ عَلَّرْضِ نَفْسٌ بريئةٌ ... ولا غيرُها إلا سليمانُ نالها يريد «على الأرض» . وقد تقدَّم قراءةٌ قريبةٌ مِنْ هذه أولَ البقرة: بما أُنْزِلَّيْكَ «، أي: أُنْزِلَ إليك.

32

قوله: {رَّجُلَيْنِ} : قد تقدَّم أنَّ «ضَرَبَ» مع المَثَلِ، يجوز أن يتعدَّى لاثنين في سورةِ البقرة. وقال أبو البقاء: التقدير: مثلاً مَثَل رجلين، و «جَعَلْنَا» تفسيرٌ ل «مَثَل» فلا موضعَ له، ويجوز أن يكونَ موضعُه نصباً نعتاً ل «رَجُلِيْن» كقولك: مررت برجلين جُعِلَ لأحدِهما جنةٌ «. قوله: {وَحَفَفْنَاهُمَا} يقال: حَفَّ بالشيءِ: طاف به من جميع جوانبِه، قال النابغة: 315 - 8- يَحُفُّه جانِباً نِيْقٍ وتُتْبِعُهُ ... مِثلَ الزجاجة لم تُكْحَلْ مِن الرَّمَدِ وحَفَّ به القومُ: صاروا طائفين بجوانبِه وحافَّته، وحَفَفْتُه به، أي: جَعَلْتُه مُطِيْفاً به.

33

قوله: {كِلْتَا} : قد تقدَّم في السورة قبلها حكمُ «كلتا» وهي مبتدأ، و «آتَتْ» خبرُها. وجاء هنا على الكثير: وهو مراعاةُ لفظِها دونَ معناها. وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفِه - «كلا الجَنَّتين» بالتذكير لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. ثم قرأ «آتَتْ» بالتأنيث اعتباراً بلفظ «الجنتين» فهو نظيرُ «طَلَعَ الشمسُ وأشرقَتْ» وروى الفراء عنه قراءةً أخرى: «كلُّ الجنتين آتى أُكُلَه» أعادَ الضميرَ على لفظِه.

قوله: «وفجَّرْنا» العامَّةُ على التشديد وإنما كان كذلك، وهو نهر واحد مبالغةٌ فيه. وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر بالتخفيفِ وهي قراءةُ الأعمش في سورة القمر، والتشديدُ هناك أظهرُ لقولِه «عيوناً» . والعامَّةُ على فتحِ هاء «نَهَر» وأبو السَّمال والفياض بسكونها.

34

قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} : قد تقدَّم الكلامُ فيه في الأنعام مستوفى، وتقدَّم أنَّ «الثُّمُرَ» بالضم المالُ. فقال ابنُ عباس: جميع المال مِنْ ذهبٍ وفِضَّةٍ وحيوانٍ وغير ذلك. قال النابغة: 315 - 9- مَهْلاً فداءً لك الأقوامُ كلُّهمُ ... وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ وقيل: هو الذهب والفضة خاصةٍ. وقرأ أبو رجاء «بِثَمْرِه» بفتحة وسكون. قوله: «وهو يحاوِرُه» جملةٌ حالية مُبَيِّنة إذ لا يَلْزَمُ مِنَ القولِ المحاوَرَةُ؛ إذ المحاوَرَةُ مراجعةُ الكلام مِنْ حار، أي: رَجَعَ، قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14] . وقال امرؤ القيس: 316 - 0-

وما المرءُ إلا كالشِّهابِ وضَوئِه ... يَحُوْرُ رَماداً بعد إذ هُوَ ساطِعُ ويجوز أَنْ تكونَ حالاً مِنَ الفاعل أو من المفعول.

35

قوله: {جَنَّتَهُ} : / إنما أفرد بعد ذِكْرِ التثنية اكتفاءً بالواحدِ للعِلْمِ بالحال. قال أبو البقاء: «كما اكْتُفِيَ بالواحدِ عن الجمعِ في قولِ الهُذَليّ: 316 - 1- فالعينُ بعدَهُمُ كأنَّ حِداقَها ... سُمِلَتْ بشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ ولقائلٍ أن يقول: إنما جاز ذلك لأنَّ جمعَ التكسيرِ يجري مَجْرى المؤنثة، فالضمير في» سُمِلَتْ «وفي» فهي «يعود على الحِداق لا على حَدَقة واحدة كما تَوَهَّم. وقال الزمخشري:» فإن قلت: لِمَ أَفْرَدَ الجنَّة بعد التثنية؟ قلت: معناه: ودخل ما هو جنتُه، ماله جنةٌ غيرُها، بمعنى: أنَّه ليس له نصيبٌ في الجنة التي وُعِدَ المتقون. فما ملكه في الدنيا هو جَنَّته لا غير، ولم يَقْصِدْ الجنتين ولا واحدةً منهما «. قال الشيخ:» ولا يُتَصَوَّر ما قال؛ لأنَّ قوله: «ودخل جَنَّته» إخبارٌ من الله تعالى بأنَّ هذا الكافرَ دَخَلَ جَنَّته فلا بُدَّ أَنْ قَصَدَ في الإِخبار أنَّه دَخَلَ إحدى جنتيه إذ لا يمكن أَنْ يَدْخُلَهما معاً في وقتٍ واحد: «. قلت: ومتى أدَّعَى

دخولهما في وقتٍ واحدٍ يُلْزِمَه بهذا المستحيل في البداية. وأمَّا قوله» ولم يَقْصِدِ الجنتين ولا واحدةً «معناه لم يَقْصِدْ تعيينَ مفردٍ ولا مثنى لا أنه لم يَقْصِدْ الإِخبارَ بالدخول» . وقال أبو البقاء: «إنما أفْرَدَ لأنهما جميعاً مِلْكُه فصارا كالشيء الواحد» . قوله: «وهو ظالمٌ» حالٌ مِنْ فاعل «دَخَلَ» ، و «لنفسِه» مفعولُ «ظالمٌ» واللام مزيدةٌ فيه لكونِ العامل فرعاً. «قال له صاحبُه» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «ظالم» ، أي: وهو ظالمٌ في حالِ كونِه قائلاً، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً بياناً لسبب الظلمِ، وهو الأحسن. قوله: «أَنْ تبيد» ، أي: تَهْلَكَ، قال: 316 - 2- فَلَئِنْ باد أهلُه ... لبِما كان يُوْهَلُ ويقال: باد يبيدُ بُيُوداً وبَيْدٌودة، مثل «كَيْنُونة» والعملُ فيها معروفٌ وهو أنه حُذِفَت إحدى الياءين، ووزنُها فَيْعَلُولة.

36

قوله: {خَيْراً مِّنْهَا} : قرأ أبو عمروٍ والكوفيون «منها» بالإِفراد نظراً إلى أقربِ مذكورٍ، وهو قولُه: «جَنَّته» وهي في مصاحفِ العراق دونَ ميمٍ. والباقون «منهما» بالتثنية نظراً إلى الأصل في قوله: «جَنَّتَيْن» و «كِلْتَا الجنتين» ورُسِمَتْ في مصاحف الحرمين والشام بالميم، فكلُّ قد وافق رَسْمَ مصحفِه «.

37

قوله: {مِن نُّطْفَةٍ} : النُّطْفَةُ في الأصل: القطرةُ من الماء الصافي يقال: نَطَف يَنْطِف، أي: قَطَر يَقْطُر. وفي الحديث: «فخرجَ ورأسُه يَنْطِفُ» وفي رواية: يَقْطُر، وهي مفسِّرةٌ، وأُطْلِق على المَنِّيِّ «نُطْفَةٌ» تشبيهاً بذلك. قوله: «رَجُلاً» فيه وجهان، أحدهما: أنه حال، وجاز ذلك وإنْ [كان] غير منتقلٍ ولا مشتقٍ لأنه جاء بعد «سَوَّاك» إذ كان مِنَ الجائز أَنْ يُسَوِّيَه غيرَ رجلٍ وهو كقولِهم: «خَلَقَ اللهُ الزَّرافةَ يَدَيْها أطولَ من رجليها» وقول الآخر: 316 - 3- فجائت به سَبْطَ العظام كأنما ... عِمامتُه بين الرِّجالِ لواءُ

والثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «سَوَّاك» لتضمُّنِه معنى صَيَّرك وجعلك، وهو ظاهرُ قول الحوفي.

38

قوله: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} : قرأ ابنُ عامر بإثباتِ الألفِ وَصْلاً ووَقْفاً، والباقون بحذفِها وصلاً وبإثباتها وقفاً. فالوَقْفُ وِفاقٌ. والأصلُ في هذه الكلمةِ «» لكنْ أنا «فَنَقَلَ حركةَ همزةِ» أنا «إلى نون» لكن «وحَذَفَ الهمزةَ، فالتقى مِثْلان فأدغم. وهذا أحسنُ الوجهين في تخريجِ هذا. وقيل: حَذَفَ همزةَ» أنا «اعتباطاً فالتقى المِثْلان فَأَدْغَمَ، وليس بشيءٍ لجَرْيِ الأولِ على القواعدِ، فالجماعةُ جَرَوْا على مُقْتَضَى قواعدِهم في حَذْفِ اَلِفِ» أنا «وَصْلاً وإثباتِها وَقْفاً، وكان تقدَّم لك: أنَّ نافعاً يُثْبت ألفَه وَصْلاً قبلَ همزةٍ مضمومةٍ أو مكسورة أو مفتوحة بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة، وهنا لم يُصادِفْ همزةً، فهو علىأصلِه أيضاً، ولو أثبتَ الألفَ هنا لكان أقربَ مِنْ إثباتِ غيرِه لأنه أثبتها في الوصلِ في الجملةِ. وأمَّا ابنُ عامرٍ، فإنه خَرَجَ عن أصلِه في الجملة؛ إذ ليس من مذهبهِ

إثباتُ/ هذه الألفِ وَصْلاً في موضعٍ ما، وإنما اتُّبَعَ الرسمَ. وقد تقدَّم أنها لغةُ تميمٍِ أيضاً. وإعرابُ ذلك: أن يكونَ» أنا «مبتدأ و» هو «مبتدأ ثانٍ، و» هو «ضمير الشأن، و» اللهُ «مبتدأ ثالث. و» ربي «خبر الثالث، والثالث وخبره خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأول. والرابطُ بين الأولِ وبين خبرِه الياءُ في» ربي «. ويجوز أَنْ تكونَ الجلالةُ بدلاً مِنْ» هو «أو نعتاً أو بياناً إذا جُعِلَ» هو «عائداً على ما تقدَّمَ مِنْ قولِه {بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} لا على أنَّه ضميرُ الشأنِ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك، وليس بالبيِّن. ويجوز أَنْ يكونَ» هو «مبتدأً، ومابعده خبرُه، وهو خبرُه خبرُ» لكنَّ «. ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للاسم، وأَنْ يكونَ فصلاً. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ شأنٍ، لأنه حينئذٍ لا عائدَ على اسمِ» لكنَّ «من هذه الجملةِ الواقعةِ خبراً. وقرأ أبو عمروٍ» لكنَّهْ «بهاءِ السكت وقفاً؛ لأن القَصْدَ بيانُ حركةِ نون» أنا «، قتارةً تُبَيِّنُ بالألفِ وتارةً بهاءِ السكتِ. وعن حاتم الطائي:» هكذا فَرْدِي أَنَهْ «. وقال ابنُ عطية عن أبي عمرو:» رَوَى عنه هارون «لكنَّه هو الله» بضمير لَحِقَ «لكن» . قلت: فظاهر هذا أنه ليس بهاءِ السكتِ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل «لكن» وما بعدها الخبرُ. وخَرَّجه الفارسيُّ على وجهٍ

غريبٍ: وهو أَنْ تكونَ «لكنَّا» لكنَّ واسمَها وهو «ن» ، والأصل: «لكنَّنا» فحذف إحدى النونات نحو: {إِنَّا نَحْنُ} وكان حقُّ التركيبِ أن يكون «ربنا» ، «ولا نُشرك بربِّنا» قال: «ولكنه اعتبر المعنى فأفرد» . وهو غريب جداً. وأمَّا في قراءةِ العامَّة: فلا يجوزُ أَنْ تكونَ «لكنَّ» مشددةً عاملةً لوقوعِ الضمير بعدها بصيغةِ المرفوع. وقرأ عبدُ الله «لكنْ أنا هو» على الأصلِ من غير نَقْلٍ ولا إدغامٍ. ورَوَى عنه ابن خالويه «لكنْ هو الله» بغير «أنا» . وقرئ أيضاً «لكنَنَا» . وقال الزمخشري: وحَسَّن ذلك -يعني إثباتَ الأفِ في الوصلِ- وقوعُ الألفِ عوضاً مِنْ حَذْفِ الهمزةِ «. [وقال:] » ونحوُه -يعني إدغامَ نون «لكن» في نون «ن» بعد حَذْفِ الهمزةِ - قولُ القائل: 316 - 4- وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أَيْ أنت مُذْنِبٌ ... وتَقْلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِيْ الأصل: لكنَّ أنا، فَنَقَلَ وحَذَفَ وأَدْغم. قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ

ما قاله في البيت لجوازِ أَنْ يكونَ حَذَفَ اسمَ» لكنَّ «، وحَذْفُه لدليلٍ كثيرٌ، وعليه: 316 - 5- فلو كنتَ ضَبِّيّاً عَرَفْتَ قَرابتي ... ولكنَّ زَنْجِيُّ عظيمُ المَشافِرِ أي: ولكنَّك، وكذا هنا: ولكنَني إياك» . قلت: لم يَدَّعِ الزمخشريُّ تعيُّنَ ذلك في البيت حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره. ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما خَرَّجه البصريون في بيتٍ استدل به الكوفيون عليهم في جوازِ دخولِ لامِ الابتداء في خبر «لكنَّ» وهو: 316 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولكنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيْدُ فأدخل اللامَ في خبر «لكنَّ» . وَخَرَّجه البصريون على أن الأصل: ولكنْ إني مِنْ حُبِّها، ثم نَقَلَ حركةَ همزةِ «إنِّي» إلى نون «لكن» بعد حذف الهمزة، وأَدْغَمَ على ما تقدَّم، فلم تدخلِ اللامُ إلا في خبر «إنَّ» ، هذا على تقديرِ تسليمِ صحةِ الروايةِ، وإلا فقالوا: إنَّ البيتَ مصنوعٌ، ولا يُعرف له قائلٌ. والاستدراكُ مِنْ قوله «أكفرْتَ» ، كأنَّه قال لأخيه: أنت كافرٌ؛ لأنه

استفهامُ تقريرٍ، لكنني أنا مؤمنٌ نحو قولِك: «زيدٌ غائبٌ لكنَّ عمراً حاضرٌ» لأنه قد يُتَوَهَّمُ غَيْبَةُ عمروٍ أيضاً.

39

قوله: {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ} : «لولا» تحضيضة داخلةٌ على «قلتَ» و «إذا دَخَلْتَ» منصوبٌ ب «قلتَ» فُصِلَ به بين «لولا» وما دَخَلَتْ عليه، ولم يُبالَ بذلك لأنه ليس بأجنبي، وقد عَرَفْتَ أنَّ حرف التحضيض إذا دخل على الماضي كان للتوبيخ. قوله: {مَا شَآءَ الله} يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ شرطيةً، فتكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً ب «شاء» أي: أيَّ شيءٍ شاء اللهُ. والجواب محذوف، أي: ما شاء الله كان ووقَعَ. والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، وفيها حينئذٍ وجهان، أحدهما: أن تكونَ مبتدأةً، وخبرُها محذوفٌ، أي: الذي شاءه اللهُ كائنٌ وواقعٌ. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: الأمرُ الذي شاءه الله. وعلى كلِّ تقديرٍ: فهذه الجملة في محلِّ نصب بالقول. قوله: {إِلاَّ بالله} خبرُ «لا» التبرئةِ، والجملةُ أيضاً منصوبةٌ بالقولِ، أي: لولا قُلْتَ هاتين الجملتين. قوله: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ} يجوز في «أنا» وجهان. أحدُهما: أنْ يكونَ مؤكِّداً لياء المتكلم. والثاني: أنه ضميرُ الفصلِ بين المفعولين. و «أَقَلَّ» مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ بحسبِ الوجهين في الرؤية: هل هي بَصَريةٌ أو عِلْمِيةٌ؟ إلا أنَّك إذا جعلتَها بَصَريةً تعيَّن في «أنا» أَنْ تكونَ توكيداً لا فصلاً؛ لأنَّ شرطَه أَنْ يقع بين مبتدأ وخبرٍ، أو ما أصلُه المبتدأُ والخبرُ.

وقرأ عيسى بن عمرَ «أَقَلَّ» بالرفع، ويَتَعَيَّن أن يكونَ «أنا» مبتدأ، و «أقلُّ» خبرُه. والجملةُ: إمَّا في موضعِ المفعولِ الثاني، وإمَّا في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية. و {مَالاً وَوَلَداً} تمييز. وجوابُ الشرطِ قولُه {فعسى رَبِّي} .

40

قوله: {حُسْبَاناً} : الحُسْبانُ/ مصدرُ حَسَب الشيءَ يَحْسُبه، أي: أَحْصاه. قال الزجاج: «أي عذابَ حُسْبان، أي: حسابَ ما كسبت يداك» . وهو حسن. وقال الراغب: «قيل: معناه ناراً وعذاباً، وإنما هو في الحقيقة ما يُحاسَبُ عليه فيُجَازَى بحَسَبِه» وهذا موافقٌ لِما قاله أبو إسحاق، والزمخشري نحا إليه أيضاً، فقال: «والحُسْبانُ مصدرٌ كالغُفْرانِ والبُطْلانِ بمعنى الحِساب، أي: مقداراً حَسَبه الله وقَدَّرَه، وهو الحُكْمُ بتخريبِها» . وقيل: هو جمع حُسْبانة وهي السَّهْمُ. وفي التفسير: أنها قِطَعٌ مِنْ نارٍ. وفيه: هي الصواعِقُ.

41

قوله: {أَوْ يُصْبِحَ} : عطفٌ على «يُرْسِلَ» قال الشيخ: «و» أو يُصْبِحَ «عطفٌ على قوله:» ويُرْسِلَ «لأنَّ غُؤُوْرَ الماءِ لا يَتَسَبَّبُ عن الآفةِ السماويةِ، إلا إنْ عَنَى بالحُسْبانِ القضاءَ الإِلهيَّ، فحينئذٍ يتسَبَّبُ عنه إصباحُ الجنة صعيداً زَلَقاً، أو إصباحُ مائِها غَوْراً. والزَّلَقُ والغَوْرُ في الأصلِ: مصدران وُصِف بهما مبالغةً.

والعامَّة على فتحِ الغين. غار الماءُ يغورُ غَوْراً، غاض وذهب في الأرض. وقرأ البرجميُّ بضمِّ الغين لغةً في المصدر. وقرأتْ طائفةٌ» غُؤْوراً «بضمِّ الغينِ والهمزةِ وواوٍ ساكنة. وهو مصدرٌ أيضاً يُقال: غار الماءُ غُؤْوراً مثل: جَلَسَ جُلوساً.

42

قوله: {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} : قُرئ «تَقَلَّبُ كَفَّاه» ، أي: تتقلَّب كفَّاه. و «أصبح» : يجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها، وأَنْ تكونَ بمعنى صار، وهذا كنايةٌ عن الندمِ لأنَّ النادمَ يَفْعل ذلك. قوله: {عَلَى مَآ أَنْفَقَ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «يُقَلِّب» ، وإنما عُدِّيَ ب «على» لأنَّه ضُمِّن معنى يَنْدَمُ. وقوله: «فيها» ، أي: في عِمارتها. ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ فاعلِ «يُقَلَّبُ» ، أي: مُتَحَسِّراً. كذا قَدَّره أبو البقاء. وهو تفسيرُ معنى. والتقديرُ الصناعيُّ إنما هو كونٌ مطلقٌ. قوله: «ويقولُ» يجوز أَنْ يكونَ معطوفاً على «يُقَلَّبُ» ، ويجوز أَنْ يكونَ حالاً.

43

قوله: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ} : قرأ الأخَوان «يَكُنْ» بالياء

مِنْ تحتُ. والباقون مِنْ فوقُ، وهما واضحتان؛ إذ التأنيثُ مجازيٌّ، وحَسَّن التذكيرَ الفصلُ. قوله: «يَنْصُرُونه» يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ خبراً وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ حالية، والخبرُ الجارُّ المتقدِّمُ، وسوَّغ مجيءَ الحالِ من النكرة تقدُّمُ النفيِ. ويجوز أَنْ تكونَ صفةً ل «فئة» إذا جَعَلْنا الخبرَ الجارَّ. وقال: «يَنْصُرونه» حَمْلاً على معنى «فِئَة» لأنهم في قوةِ القوم والناس، ولو حُمِل على لفظِها لأُفْرِد كقولِه تعالى: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] . وقرأ ابن أبي عبلة: «تَنْصُرُه» على اللفظ. قال أبو البقاء: «ولو كان» تَنْصُره «لكان على اللفظ» . قلت: قد قرئ بذلك كما عَرَفْتَ.

44

قوله: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ} : يجوز أَنْ يكونَ الكلامُ تَمَّ على قوله «منتصراً» وهذه جملةٌ منقطعةٌ عمَّا قبلَها، وعلى هذا فيجوز في الكلامِ أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ «هنالك الوَلايةُ» مقدَّراً بجملةٍ فعليةٍ، فالولايةُ فاعلٌ بالظرف قبلها، أي: استقرَّتِ الولايةُ لله، و «لله» متعلقٌ بالاستقرار، أو بنفسِ الظرفِ لقيامِه مَقامَ العاملِ أو بنفسِ الوَلاية، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الولاية» ، وهذا إنما يتأتَّى على رَأْيِ الأخفش من حيث إنَّ الظرفَ يرفعُ الفاعلَ مِنْ غيرِ اعتماد. والثاني: أَنْ يكونَ «هنالك» منصوباً على الظرف متعلقاً بخبر «الولاية»

وهو «لله» أو بما تعلَّق به «لله» أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ منها، والعاملُ الاستقرار في «لله» عند مَنْ يُجيز تقدُّمَ الحالِ على عاملِها المعنويِّ، أو يتعلَّق بنفس «الولاية» . والثالث: أَنْ يُجْعَلَ «هنالك» هو الخبر، و «لله» فَضْلةٌ، والعاملُ فيه ما تقدَّم في الوجه الأول. ويجوز أن يكونَ «هنالك» مِنْ تتمة ما قبلها فلم يَتِمَّ الكلامُ دونَه، وهو معمولٌ ل «منتصِراً» ، أي: وما كان منتصراً في الدار الآخرة، و «هنالك» إشارةٌ إليها. وإليه نحا أبو إسحاق. وعلى هذا فيكون الوقفُ على «هنالِك» تامَّاً، والابتداءُ بقولِه «الوَلايةُ لله» فتكونُ جملةً مِنْ مبتدأ وخبر. والظاهرُ في «هنالك» : أنَّه على موضوعِه مِنْ ظرفيةِ المكان كما تقدَّم معناه. وتقدَّم أنَّ الأَخَوين يَقْرآن «الوِلاية» بالكسرِ، والفرقُ بينها وبين قراءةِ الباقين بالفتح في سورة الأنفال فلا معنى لإِعادتِه. وحُكي عن أبي عمروٍ والأصمعيِّ أنَّ كسرَ الواوِ هنا لحنٌ. قالا: لأنَّ فِعالة إنما تجيءُ فيما كان صنعةً أو معنى متقلداً، وليس هناك تَوَلِّي أمورٍ.

قوله: «الحق» قرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ برفع «الحقُّ» والباقون بجرِّه، والرفعُ، من ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه صفةٌ للوَلاية. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو، أي: ما أَوْحيناه إليك. الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبرُه مضمرٌ، أي: الحقُّ ذلك. وهو ما قُلْناه. والجرُّ على أنه صفةٌ للجلالةِ الكريمة. وقرأ زيدُ بن علي وأبو حيوة وعمرو بن عبيد ويعقوب «الحقَّ» نصباً على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة كقولك: هذا عبدُ اللهِ الحقَّ لا الباطلَ «. قوله:» عُقباً «عاصمٌ وحمزةُ بسكونِ القافِ، والباقون بضمها. فقيل: لغتان كالقُدُس والقُدْس. وقيل: الأصل الضمُّ، والسكونُ تخفيفٌ. وقيل: بالعكس كالعُسْر واليُسْر، وهو عكسُ معهودِ اللغةِ. ونصبُها ونصبُ» ثواباً «و» أملاً «على التمييز لأفعل التفضيل قبلها. ونقل الزمخشري أنه قُرئ» عُقْبى «بالألف وهي مصدرٌ أيضاً كبُشْرى، وتُروى عن عاصم.

45

قوله: {كَمَآءٍ} : فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أن تكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، فقدَّره ابنُ عطية هي: أي: الحياة الدنيا. والثاني: أنه متعلقٌ

بمعنى المصدر، أي: ضرباً كماء. قاله الحوفي. وهذا بناءً منهما على أن «ضَرَب» هذه متعديةٌ لواحدٍ فقط. والثالث: أنه في موضعِ المفعول الثاني ل «اضْرِبْ» لأنها بمعنى صَيَّرَ. وقد تقدَّم. قال الشيخ بعدما نقل قولَيْ ابن عطية والحوفي: «وأقولُ: إنَّ» كماء «في موضعِ المفعولِ الثاني لقولِه» واضربْ «، أي: وصَيِّرْ لهم مَثَلَ الحياة، أي: صفتَها شبهَ ماء» . قلت: وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء. و «أَنْزَلَناه» صفةٌ ل «ماء» . قوله: {فاختلط بِهِ} يجوز في هذه الباءِ وجهان أحدهما: أن تكونَ سببيةً. الثاني: أَنْ تكونَ معدِّية. قاله الزمخشري: «فالتفَّ بسببِه وتكاثف حتى خالط بعضُه بعضاً. وقيل: نَجَعَ الماءُ في النبات حتى رَوِيَ ورَفَّ رَفِيْفاً. وكان حقُّ اللفظِ على هذا التفسيرِ: فاختلط بنباتِ الأرضِ. ووجه صحتِه: أنَّ كلَّ مختلطَيْنِ موصوفٌ كلُّ واحدٍ منهما بصفةِ الآخرَ» . قوله: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً} «أصبح» يجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها؛ فإنَّ أكثرَ ما يَطْرُقُ مِن الآفاتِ صباحاً، كقولِه: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] ويجوز أَنْ تكونَ بمعنى صار مِنْ غير تقيُّدٍ بصَباحٍ كقوله: 316 - 7- أَصْبَحْتُ لا أَحْمِلُ السلاحَ ولا ... اَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا

والهَشِيمُ: واحدُه هَشِيْمَة وهو اليابس. وقال الزجاج وابن قتيبة: كل ما كان رطباً فَيَبِسَ. ومنه {كَهَشِيمِ المحتظر} [القمر: 31] . ومنه: هَشَمْتُ الفتَّ. ويقال: هَشَمَ الثَّريدَ: إذا فَتَّه. قوله: «تَذْرُوْه» صفةٌ ل «هَشيماً» والذَّرْوُ: التفريقُ، وقيل: الرفْعُ. قوله: «تَذَرُوْه» بالواو. وقرأ عبد الله «تَذْرِيه» من الذَّرْي، ففي لامه لغتان: الواوُ والياءُ. وقرأ ابنُ عباس «تُذْرِيه» بضم التاء من الإِذْراء. وهذه تحتمل أَنْ تكونَ من الذَّروِ وأَنْ تكونَ من الذَّرْيِ. والعامَّةُ على «الرياح» جمعاً. وزيد بن علي والحسن والنخعي في آخرين «الرِّيحُ» بالإِفراد.

46

قوله: {زِينَةُ الحياة} : إنما افرد «زينة» وإن كانت خبراً عن بَنِين لأنَّها مصدرٌ، فالتقدير: ذوا زِيْنة، إذ جُعلا نفسَ المصدر مبالغةً؛ إذ بهما تَحْصُلُ الزينة، أو بمعنى مُزَيِّنَتَيْنِ. وقرئ شاذاً «زينتا الحياة» على التثنية، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين فَيُتَوَهَّمُ أنه قرئ بنصب «زينة الحياة» .

47

قوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ} : «يومَ» منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ بعده تقديرُه: نقول لهم نُسَيِّر الجبال: لقد جِئْتمونا. وقيل: بإضمار اذكر. وقيل: هو معطوفٌ على «عند ربك» فيكونُ معمولاً لقولِه «خيرٌ» .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمِّ التاء وفتح الياء مبنياً للمفعول. «الجبالُ» بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعل، وحَذَفَ الفاعلَ للعِلْمِ به وهو الله، أو مَنْ يأمرُه من الملائكة. وهذه القراءةُ موافقةٌ لِما اتُّفق عليه في قوله {وَسُيِّرَتِ الجبال} [النبأ: 20] ، ويؤيِّدها قراءةُ عبدِ الله هنا {وَسُيِّرَتِ الجبال} فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول. والباقون «نُسَيِّر» بنون العظمة، والياءُ مكسورةٌ مِنْ «سَيَّر» بالتشديد؛ «الجبالَ» بالنصب على المفعول به، وهذه القراءةُ مناسِبةٌ لِما بعدها مِنْ قولِه {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ} . وقأ الحسنُ كقراءةِ/ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه إلا أنه بالياءِ مِنْ تحتُ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وقرأ ابن محيصن، ورواها محبوبٌ عن أبي عمرو: «تَسِيْر» بفتحِ التاءِ من فوقُ ساكن الياء مِنْ سارَتْ تسيرُ، و «الجبالُ» بالرفع على الفاعليةِ. قوله: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} «بارزةً» حالٌ؛ إذ الرؤيةُ بَصَريةٌ. وقرأ عيسى «وتُرى الأرضُ» مبنياً للمفعول، و «الأرضُ» قائمةٌ مقامَ الفاعل. قوله: «وحَشَرْناهم» فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ماضٍ مُرادٌ به، المستقبلُ، أي: ونَحْشُرهم، وكذلك {وَعُرِضُواْ} [الكهف: 48] {وَوُضِعَ الكتاب} [الكهف: 49] .

والثاني: أن تكونَ الواوُ للحالِ، والجملةُ في محلِّ النصب، أي: نفعل التسييرَ في حال حَشْرِهم ليشاهدوا تلك الأهوالَ. والثالث: قال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ جِيْءَ ب» حَشَرْناهم «ماضياً بعد» نُسَيِّر «و» تَرَى «؟ قلت: للدلالة على أنَّ حَشْرَهم قبل التَّسْييرِ وقبل البروزِ ليعاينوا تلك الأهوالَ العِظامَ، كأنه قيل: وحَشَرناهم قبل ذلك» . قال الشيخ: «والأَوْلَى أَنْ تكونَ الواوُ للحال» فَذَكَرَ نحواً ممَّا قدَّمْتُه. قوله: «فلم نغادِر» عطفٌ على «حَشَرْناهم» فإنه ماضٍ معنى. والمغادَرَةُ هنا: بمعن الغَذْر وهو الترك، أي: فلم نتركْ. والمفاعلةُ هنا ليس فيها مشاركةٌ. وسُمِّيَ الغَدْرُ غَدْراً لأنَّ به تُرِكَ الوفاءُ. وغَديرُ الماء مِنْ ذلك لأنَّ السيلَ غادَرَه، أي: تَرَكَه فلم يَجِئْهُ أو ترك فيه الماءَ، ويُجْمع على «غُدُر» و «غُدْران» كَرغِيف ورُغْفان، واسْتَغْدَرَ الغَدِيرَ: صار فيه الماء. والغَدِيْرة: الشَّعْرُ الذي تُرِكَ حتى طالَ. والجمع غَدائِر. قال امرؤ القيس: 316 - 8- غَدائِرُه مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقرأ قتادة «فلم تُغادِرْ» بالتاءِ من فوقُ، والفاعلُ ضميرُ الأرض، ِ أو الغَدْرَةِ المفهومةِ من السياق. وأبان «يُغادَرْ» مبنياً للمفعول، «أحدٌ» بالرفع.

والضحاك: «نُغْدِرْ» بضم النونِ وسكونِ العينِ وكسرِ الدالِ مِنْ «أَغْدَرَ بمعنى غَدَرَ.

48

قوله: {صَفَّاً} : حالٌ من مرفوعِ «عُرِضوا» وأصلُه المصدرية. يُقال منه: صَفَّ يَصِفُّ صَفًّاً، ثم يُطْلَقُ على الجماعة المُصطَفِّين. واخْتُلَِف هنا في «صَفَّاً» : هل هو مفردٌ وقع مَوْقع الجمعِ، إذ المرادُ صفوفاًَ، ويَدُلُّ عليه الحديث الصحيح: «يَجْمَع اللهُ الأوَّلين والآخرين في صَعيدٍ واحدٍ صُفوفاً» وفي حديث آخر: «أهل الجنةِ مئةٌ وعشرون صَفَّاً، أنتم منهم ثمانون» وقيل: ثَمَّ حَذْفٌ، أي: صَفَّاً صَفَّاً. ومثلُه قولُه في موضع: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] . وقال في آخرَ: {يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38] يريد: صفاً صفاً، بدليل الآيةِ الأخرى فكذلك هنا. وقيل: بل كلُّ الخلائقِ يكونون صفاً واحداً، وهو أبلغُ في القُدرة. وأمَّا الحديثان فيُحملان على اختلافِ أحوال، لأنه يومٌ طويلٌ كما شهد له بقولِه {كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فتارةً يكونون فيه صَفَّاً واحداً وتارةً صفوفاً. قوله: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} على إضمارِ قولٍ، أي: وقُلْنا لهم: كيت وكيت. وتقدَّم أنَّ هذا القولَ هو العاملُ في {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} [الكهف: 47] . ويجوز ان يُضمر هذا القولُ حالاً من مرفوعِ «عُرِضُوا» ، أي: عُرِضُوا مَقُولاً لهم كذا.

قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ} ، أي: مجيئاً مُشْبِهاً لخلقِكم الأول حفاةً عُراة غُرْلاً، لا مالَ ولا ولدَ معكم. وقال الزمخشري: «لقد بَعَثْناكم كما أَنْشَأْناكم أولَ مرة» فعلى هذين التقديرين، يكونُ نعتاً للمصدرِ المحذوفِ، وعلى رأي سيبويه يكون حالاً مِنْ ضميرِه. قوله: {أَلَّن نَّجْعَلَ} «أَنْ» هي المخففةُ، وفُصِل بينها وبين خبرِها لكونِه جملةً متصرفةً غيرَ دعاءٍ بحرفِ النفي. و «لكم» يجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير. و «مَوْعِداً» هو الأول. ويجوز أَنْ يكونَ مُعَلَّقاً بالجَعْل، أو يكونَ حالاً مِنْ «مَوْعداً» إذا لم يُجعل الجَعْلُ تصييراً، بل بمعنى لمجردِ الإِيجاد. و «بل» في قولِه: «بل زَعَمْتُمْ» لمجردِ الانتقال من غيرِ إبطالٍ.

49

قوله: {وَوُضِعَ الكتاب} : العامَّةُ على بنائه للمفعول. وزيد بن علي على بنائِه للفاعل، وهو الله أو المَلَك. و «الكتابَ» منصوبٌ مفعولاً به. و «الكتابُ» جنسٌ للكتب؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً يَخُصُّه. وقد تقدَّم الوقفُ على {مَالِ هذا الكتاب} وكيف فُصِلَتْ لامُ الجرِّ مِنْ مجرورِها خطاً في سورة النساء عند {فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ} [النساء: 78] .

و «لا يغادِرُ» جملةٌ/ حالية من «الكتاب» . والعاملُ الجارُّ والمجرورُ لقيامِه مَقامَ الفعلِ، أو الاستقرارُ الذي تعلَّق به الحالُ. قوله: «إلا أحْصاها» في محلِّ نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة. ويجوز أن تكونَ الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني؛ لأنَّ يُغَادِرُ بمعنى يترك، و «يترك» قد يتعدَّى لاثنين كقوله: 316 - 9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فقد تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشبِ في أحدِ الوجهين.

50

قوله: {وَإِذَا قُلْنَا} : أي: اذْكُرْ. قوله: {كَانَ مِنَ الجن} فيه وجهان، أظهرهما: أنه استئنافٌ يفيد التعليلَ جواباً لسؤالٍ مقدَّر. والثاني: أنَّ الجملةَ حاليةٌ، و «قد» معها مرادةٌ. قاله أبو البقاء وليس بالجليِّ. قوله: «فَفَسَقَ» السببيةُ في الفاءِ ظاهرةٌ، تَسَبَّبَ عن كونِه من الجنِّ الفِسْقُ. وقال أبو البقاء: إنما أدخل الفاءَ هنا لأنَّ المعنى: «إلا إبليس امتنع فَفَسَق» . قلت: إنْ عَنَى أنَّ قولَه {كَانَ مِنَ الجن} وُضِعَ موضعَ قولِه «امتنع» فيُحتمل مع بُعْدِه، وإنْ عنَى أنه حُذِفَ فِعْلٌ عُطِفَ عليه هذا فليس بصحيحٍ للاستغناءِ عنه. قوله: «عَنْ أمر» «عن» على بابها من المجاوزة، وهي متعلِّقَةٌ

ب «فَسَق» ، أي: خرج مجاوزاً أمرَ ربِّه. وقيل: هي بمعنى الباء، أي: بسببِ أمرِه، فإنه فَعَّالٌ لِما يريدُ. قوله: «وذُرِّيَّتَه» يجوز في الواو أَنْ تكونَ عاطفةً وهو الظاهرُ، وأنْ تكونَ بمعنى مع. و «مِنْ دوني» يجوز تعلُّقُه بالاتخاذ، وبمحذوفٍ على أنه صفةٌ لأَوْلِياء. قوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولِ الاتخاذِ أو فاعلِه؛ لأنَّ فيها مصحِّحاً لكلٍ من الوجهين وهو الرابطُ. قوله: «بِئْسَ» فاعُلها مضمرٌ مفسَّرٌ بتمييزه. والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: بِئْسَ البَدَلُ إبليسُ وذريتُه و «للظالمين» متعلِّقٌ بمحذوفٍ حالاً مِنْ «بَدَلاً» . وقيل: متعلِّقٌ بفعل الذَّمِّ.

51

قوله: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ} : أي: إبليسَ وذريتَه، أو ما أشهدْتُ الملائكةَ فكيف تعبدونهم؟ أو ما أشهدْتُ الكفارَ فكيف تَنْسُبون إليَّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدْتُ جميعَ الخَلْقِ. وقرأ أبو جعفر وشيبةُ والسختياني في آخرين: «أشهَدْناهم» على التعظيم. قوله: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين} وُضع الظاهرُ موضعَ المضمر؛ إذ المراد بالمُضِلِّين مَنْ نفى عنهم إشهادَ خَلْقِ السماواتِ، وإنما نبَّه بذلك على وَصْفِهم القبيحِ. وقرأ العامَّةُ «كُنْتُ» بضمِّ التاء إخباراً عنه تعالى. وقرأ الحسن

والجحدري وأبو جعفر بفتحها خطاباً لنبيِّنا محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه {مُتَّخِذَ المضلين} نوَّن اسمَ الفاعلِ ونَصَبَ به، إذ المرادُ به الحالُ أو الاستقبالُ. وقرأ عيسى «عَضْداً» بفتح العين وسكون الضاد، وهو تخفيفٌ شائعٌ كقولِ تميم: سَبْع ورَجْل في: سَبْع ورَجْل. وقرأ الحسن «عُضْداً» بالضم والسكون: وذلك أنه نَقَل حركةَ الضادِ إلى العينِ بعد سَلْبِ العينِ حركتَها. وعنه أيضاً «عَضَداً» بفتحتين و «عُضُداً» بضمتين. والضحاك «عِضَداً» بكسر العين وفتحِ الضاد. وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ. والعَضُدُ من الإِنسانِ وغيرِه معروفٌ. ويُعَبَّر به عن العونِ والنصير فيقال: فلان عَضُدي. ومنه {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] أي: سنُقَوِّي نُصْرَتَك ومعونَتك.

52

قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ} : معمولٌ ل «اذكر» أي: ويوم نقولُ يجري كيت وكيت. وقرأ حمزة «نقولُ» بنون العظمة مراعاةً للتكلم في قوله: «ما أَشْهَدْتُهم» إلى أخره. والباقون بياءِ الغَيْبَةِ لتقدُّمِ اسمِ الشريفِ الظاهر. قوله: «مَوْبِقاً» مفعولٌ أولُ للجَعْلِ، والثاني الظرفُ المُقَدَّم. ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ، فيتعلَّق الظرفُ بالجَعْلِ أو بمحذوفٍ على الحال مِنْ «مَوْبَقا» .

والمَوْبِقُ: المَهْلَكُ، يقال: وَبِقَ يَوْبِق وَبَقاً، أي: هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً: هَلَكَ وأَوْبَقه ذنبُه. وعن الفراء: «جَعَلَ اللهُ تواصُلَهم هَلاكاً» فجعل البَيْنَ بمعنى الوَصْلِ، وليس بظرفٍ كقولِه: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] في وجهٍ. وعلى هذا فيكون «بينَهم» مفعولاً أولَ ومَوْبِقاً «مفعولاً ثانياً. والمَوْبِقُ هنا: يجوز أَنْ يكونَ مصدراً وهو الظاهر. ويجوزُ أَنْ يكونَ مكاناً/.

53

قوله: {مَصْرِفاً} : المَصْرِفُ: المَعْدِل. قال الهذلي: 317 - 0- أزهيرُ هل عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ ... أم لا خُلُوْدَ لباذِلٍ متكلِّفِ ويجوز أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو زمانٍ. وقال أبو البقاء: «مَصْرِفاً: أي انْصِرافاً، ويجوز أَنْ يكونَ مكاناً» . قلت: وهذا سَهْوٌ فإنه جَعَلَ المَفْعِل بكسرِ العينِ مصدراً لِما مضارعُه يَفْعِل بالكسرِ من الصحيح، وقد نصُّوا على أنَّ اسمَ مصدر هذا النوعِ مفتوحُ العين، واسمَ زمانِه ومكانِه مكسوراها نحو: المَضْرَب والمَضْرِب. وقرأ زيدُ بن عليّ رضي الله عنه «مَصْرِفاً» بفتح الراء جعله مصدراً؛

لأنَّه مكسور العين في المضارع فهو كالمَضْرَب بمعنى الضَّرْب، وليت أبا البقاءِ ذكر هذه القراءةَ وَوَجَّهَها بما ذكره قبلُ.

54

قوله: {مِن كُلِّ مَثَلٍ} : يجوز أَنْ يكونَ «مِنْ كلِّ» صفةً لموصوفٍ محذوفٍ، وهو مفعولٌ «صَرَّفنا» ، أي: صَرَّفنا مَثَلاً مِنْ كلِّ مَثَل. ويجوز أَنْ تكونَ «مِنْ» مزيدةً على رَأْيِ الأخفش والكوفيين. قوله: «جَدَلاً» منصوبٌ على التمييز. وقوله: «أكثرَ شيءٍ» ، أي: أكثر الأشياء التي يتاتَّى منها الجِدال إنْ فَصَّلْتها واحداً واحداً، يعني أنَّ الإِنسانَ أكثرُ جدلاً مِنْ كلِّ شيءٍ يُجادل، فَوَضَعَ «شيءٍ» مَوْضِعَ الأشياء. وهل يجوزُ أَنْ يكونَ جَدَلاً منقولاً مِنْ اسم كان إذ الأصل: وكان جَدَلُ الإِنسانِ أكثرَ شيء؟ فيه نظرٌ. وكلامُ أبي البقاء مُشْعِرٌ بجوازِهِ فإنه قال: «فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ شيئاً هنا في معنى مُجادِل؛ لأنَّ أَفْعل يُضافٌ إلى ما هو بعضٌ له، وتمييزُه ب» جَدَلاً «يَقْتَضي أَنْ يكونَ الأكثرَ مُجادلاً. وهذا مِنْ وَضْعِ العامِّ موضعَ الخاصِّ. والثاني: أنَّ في الكلام محذوفاً تقديره: وكان جَدَلُ الإِنسانِ أكثرَ شيءٍ، ثم مَيَّزه» . فقوله: «تقديرُه: وكان جَدَلُ الإِنسانِ» يفيد أنَّ إسنادَ «كان» إلى الجَدَلِ جائزٌ إلى الجملة، إلا أنه لا بُدَّ من تتميمٍ لذلك: وهو أَنْ تَتَجَوَّزَ فتجعَلَ للجَدَلِ جَدَلاً كقولِهِم: «شِعْرٌ شاعرٌ» يعني أنَّ لجدل الإِنسانِ جَدَلاً وهو أكثرُ من جَدَلَِ سائرِ الأشياءِ.

55

قوله: {وَمَا مَنَعَ} : وقد تقدَّم في آخرِ السورة قبلها.

وقوله: «قُبُلاً» قد تقدَّم خلافُ القراء فيه وتوجيهُ ذلك.

56

قوله: {لِيُدْحِضُواْ} : متعلِّقٌ ب «يُجَادِل» والإِدْحاض: الإِزْلاق يقال: أَدْحَضَ قدمَه، أي: أَزْلَقَها وأَزَلَّها عن موضعِها، والحجة الداحضة التي لا ثباتَ لها لزلزلةِ قَدَمِها. والدَّحْضُ: الطينُ لأنه يَزْلِقُ فيه. قال: 317 - 1- أبا مُنْذِرٍ رُمْتَ الوفاءَ وهِبْتَه ... وحِدْتَ كما حادَ البعيرُ الدَّحْضِ وقال آخر: 317 - 2- وَرَدْتُ ونَجَّى اليَشْكرِيِّ حِذارُه ... وحادَ كما حادَ البَعيرُ عن الدَّحْضِ و «مكانٌ دَحْضٌ» مِنْ هذا. قوله: {وَمَا أُنْذِرُواْ} يجوزُ في «ما» هذه أَنْ تكونَ مصدريةً، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف. وعلى التقديرين فهي عطفٌ على «آياتي» .

و «هُزُوا» مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ. وتقدَّم الخلافُ في «هُزُوا» . وتقدَّم إعرابُ ما بعد هذه الآية في الأنعام.

58

قوله: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} : يجوز في «المَوْعِد» أَنْ يكونَ مصدراً أو زماناً أو مكاناً. والمَوْئِلُ: المَرْجِعُ مِنْ وَأَلَ يَئِلُ، أي: رَجَعَ، وهو من التأويل. وقال الفراء: «المَوْئِلُ: المَنْجى، وَأَلَتْ نَفْسُه، أي: نَجَتْ» . قال الأعشى: 313 - 7- وقد أٌخَالِسُ رَبَّ البيتِ غَفْلَتَهُ ... وقد يُحاذِرُ مِنِّي ثم ما يَئِلُ أي: ما يَنْجُو. وقال ابن قتيبة: «المَوْئل: المَلْجَأ» . يقال: وَأَلَ فلان إلى فلان يَئِل وأَلاً، ووُؤُوْلاً، إذا لَجَأ إليه وهو هنا مصدرٌ. و «مِنْ دونِه» متعلِّقٌ بالوِجْدان لأنه متعدٍّ لواحدٍ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «مَوْئِلاً» .

وقرأ أبو جعفر «مَوِلا» بواوٍ مسكورةٍ فقط. والزُّهْري: بواوٍ مشددة فقط. والأُوْلَى أقيسُ تخفيفاً.

59

قوله: {وَتِلْكَ القرى} : يجوزُ أَنْ يكونا مبتدأ وخبراً، و «أهلكناهم» حينئذ: إمَّا خبرٌ ثانٍ أو حالٌ. ويجوز أن تكونَ «تلك» مبتدأ، و «القرى» صفتها أو بيان لها أو بدل منها و «أَهْلكناها» الخبرُ. ويجوز أن يكون «تلك» منصوبَ المحل بفعلٍ مقدر على الاشتغال. والضميرُ في «أَهْلَكْناهم» عائدٌ على «أهل» المضافِ إلى القرى، إذ التقديرُ: وأهل تلك القُرى، فراعى المحذوفَ فأعاد عليه الضميرَ. وتقدَّم ذلك في أول الأعراف. و {لَمَّا ظَلَمُواْ} يجوُ أَنْ يكونَ حرفاً، وأن يكونَ ظرفاً وقد عُرِف ما فيها. قوله: «لِمَهْلِكِهِمْ» قرأ عاصم «مَهْلَك» بفتح الميم، والباقون بضمها، وحفصٌ بكسر اللام. والباقون بفتحها. فتحصَّل مِنْ ذلك ثلاثُ

قراءاتٍ، لعاصم قراءتان: فتحُ الميم/ مع فتحِ اللامِ، وهي روايةُ أبي بكرٍ عنه. والثانية فتح الميم مع كسر اللام وهي روايةُ حفصٍ عنه. والثالثةُ: ضمُّ الميمِ وفتحُ اللام، وهي قراءةُ الباقين. فأمَّا قراءةُ أبي بكر ف «مَهْلَك» فيها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وجوَّز أبو عليّ أن يكونَ مضافاً لمفعوله. وقال: «إنَّ» هَلَك «يتعدَّى دون همز وأنشد: 317 - 4- ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا ... ف» مَنْ «معمولٌ ل» هالكٍ «وقد مَنَع الناسُ ذلك وقالوا: لا دليلَ في البيتِ لجواز أن يكونَ مِنْ بابِ الصفةِ المشبهةِ. والأصل: هالك مَنْ تعرَِّجا. ف» مَنْ تعرَّج «فاعلٌ بهالك، ثم أَضْمر في» هالِك «ضميرَ» مَهْمه «ونَصَبَ» مَنْ تعرَّج «نَصْبَ» الوجهَ «في قولِك:» مَرَرْتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهَ «ثم أضاف الصفة وهي» هالك «إلى معمولها، فالإِضافةُ مِنْ نصبٍ، والنصبُ مِنْ رفعٍ. فهو كقولك:» زيدٌ منطلقُ اللسان ومنبسط الكفِّ «، ولولا تقديرُ النصبِ لامتنعَتِ الإِضافةُ؛ إذ اسمُ الفَاعلِ لا يُضاف إلى مرفوعِه. وقد يُقال: لا حاجةَ إلى تقديرِ النصب، إذ هذا جارٍ مَجْرَى الصفةِ المشبهة، والصفةُ المشبهةُ تُضافُ إلى مرفوعها، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر وهو:

هل يقعُ الموصولُ في بابِ الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه. قال الشاعر: 317 - 5- فَعُجْتُها قِبََلَ الأخيار منزلةً ... والطيِّبي كلِّ ما التاثَتْ به الأُزُرُ وقال الهذلي: 317 - 6- أَسِيْلاتُ أبدانٍ دِقاقٌ خُصورُها ... وَثِيراتُ ما التفَّتْ عليها الملاحِفُ وقال الشيخ في قراءة أبي بكر هذه:» إنه زمانٌ «ولم يذكرْ غيرَه. وجوَّز غيرُه فيه الزمانَ والمصدرَ. وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعلَ متى كُسِرَتْ عينُ مضارعِهِ فُتِحَتْ في المَفْعَل مراداً به المصدرُ، وكسِرَتْ فيه مراداً به الزمانُ والمكانُ، وكأنه اشتبهَتْ عليه بقراءةِ حفصٍ فإنَّه بكسرِ اللام كما تقدَّم، فالمَفْعِلُ منه للزمانِ والمكان. وجوَّز أبو البقاء في قراءته أَنْ يكونَ المَفْعِل فيها مصدراً. قال:»

وشَذَّ فيه الكسرُ كالمَرْجِعِ «. وإذا قلنا إنه مصدرٌ فهل هو مضافٌ لفاعِله أو مفعولِه؟ يجيءُ ما تقدَّم في قراءةِ رفيقِه. وتخريجُ أبي عليّ واستشهادُه بالبيت والردُّ عليه، كلُّ ذلك عائدٌ هنا. وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ. و» مُهْلَك «فيها يجوز أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعولِه، وأَنْ يكون زماناً، ويَبْعُدُ أن يُرادَ به المفعولُ، أي: وجَعَلْنا للشخصِ أو الفريقِ المُهْلِكِ منهم. والمَوْعِدُ: مصدرٌ أو زمان.

60

قوله: {وَإِذْ قَالَ موسى} : «إذ» منصوبٌ ب اذكر، أو وقتَ قال لفتاه جرى ما قَصَصْنا عليك مِنْ خبرِه. قوله: «لا أَبْرَحُ» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ ناقصةً فتحتاجَ إلى خبر. والثاني: أن تكونَ تامةً فلا تحتاج إليه. فإن كانَتِ الناقصةَ ففيها تخريجان، أحدُهما: أن يكونَ الخبرُ محذوفاً للدلالةِ عليه تقديرُه: لا أبرحُ أسيرُ حتى أبلغَ، إلا انَّ حَذْفَ الخبرِ في هذا البابِ نَصَّ بعضُ النَّحْويين على أنه لا يجوزُ ولو بدليلٍ، إلا في ضرورة كقوله: 317 - 7- لَهَفي عليكَ للِهْفَةٍ مِنْ خائفٍ ... يَبْغي جوارَك حينَ ليس مُجِيْرُ أي: حين ليس في الدنيا مُجير. والثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: لا يَبْرَحُ مسيري حتى أبلغَ، ثم حذف «مسير» وأقيمت الياء مُقامَه، فانقلبَتْ مرفوعةً مستترة بعد أن كانت مخفوضةَ المحلِّ بارزةً، وبقي «حتى أَبْلُغَ» على حالِه هو الخبر.

وقد خَلَطَ الزمخشريُّ هذين الوجهين فجَعَلَهما وجهاً واحداً، ولكنْ في عبارةٍ حسنةٍ جداً، فقال: «فإن قلت» «لا أبرح» إن كان بمعنى «لا أَزُوْل» مِنْ بَرِح المكانَ فقد دلَّ على الإِقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى «لا أزال» فلا بُدَّ من خبر. قلت: هي بمعنى لا أزال، وقد حُذِفَ الخبرُ لأنَّ الحالَ والكلامَ معاً يَدُلاَّن عليه: أمَّا الحالُ فلأنها كانت حالَ سَفَرٍ، وأمَّا الكلامُ فإنَّ قولَه «حتى أَبْلُغَ» غايةٌ مضروبةٌ تَسْتدعي ما هي غايةٌ له، فلا بد أن يكون المعنى: [لا أبرح أسير حتى أبلغَ. ووجهٌ آخرُ وهو أَنْ يكونَ المعنى:] لا يبرح مسيري حتى أبلغَ على أنَّ «حتى أبلغَ» هو الخبرُ، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُقيم المضافُ إليه مُقامه وهو ضميرُ المتكلم، فانقلب الفعلُ مِنْ ضمير الغائبِ إلى لفظِ المتكلم وهو وجهٌ لطيفٌ «. قلت: وهذا على حُسْنِه فيه نظرٌ لا يخفى وهو: خلوُّ الجملةِ الواقعةِ خبراً عن» مسيري «في الأصل مِنْ رابط يَرْبِطُها به. ألا ترى أنه ليس في قوله» حتى أبلغ «ضميرٌ يعودُ على» مَسيري «إنما يعودُ على المضافِ إليه المستتر، ومِثْلُ ذلك لا/ يُكتفى به. ويمكن أَنْ يُجابَ عنه: بانَّ العائدَ محذوفٌ، تقديرُه حتى أبلغَ به، أي: بمسيري. وإن كانت التامةَ كان المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى ألزمُ المسيرَ والطَّلَبَ، ولا أفارقه ولا أتركه، حتى أبلغَ، كما تقول: لا أبرحُ المكانَ. قلت: فعلى هذا يُحتاجُ أيضاً إلى حَذْفِ مفعولٍ به كما تقدَّمَ تقريرُه، فالحذفُ لا بُدَّ منه على تقديرَيْ التمامِ والنقصانِ في أحدِ وجهَيْ النقصان.

وقرأ العامَّة «مَجْمَعَ» بفتح الميمِ وهو مكانُ الاجتماع، وقيل: مصدر. وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار بكسرها، وهو شاذ، لفتحِ عينِ مضارعِه. قوله: «حُقُبا» منصوبٌ على الظرفِ وهو بمعنى الدهر. وقيل: ثمانون سنة. وقيل: سنةٌ واحدة بلغة قريش. وقيل: سبعون. وقرأ الحسن. «حُقْباً» بإسكان القاف فيجوزُ أَنْ يكونَ تخفيفاً، وأن يكونَ لغةً مستقلة. ويُجمع على «أَحْقاب» كعُنُق وأَعْناق. وفي معناه الحِقْبَةُ بالكسر. قال امرؤ القيس: 317 - 8- فإنْ تَنْأَ عنها حَقْبَةً لا تُلاقِها ... فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ والحُقْبَة بالضمِّ أيضاً. وتُجمع الأُولى على حِقَب بكسر الحاء كقِرَب، والثانيةُ على حُقَب بضمِّها كقُرَب. وقوله: «أو أَمْضِيَ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه منسوقٌ على «أَبْلُغَ» يعني

بأحد أمرين: إمَّا ببلوغِه المَجْمَعَ، أو بمضيِّه حُقُباً. والثاني: انه تَغْيِيَةٌ لقوله لا أَبْرَحُ، فيكون منصوباً بإضمارِ، «أَنْ» بعد «أو» بمعنى «إلى» نحو «لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي» . قال الشيخ: «فالمعنى: لا أبرحُ حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرَيْنِ، إلى أن اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواتَ مجمعِ البحرَيْن» قلت: فيكونُ الفعلُ المنفيُّ قد غُيِّيَ بغايَتْين مكاناً وزماناً، فلا بُدَّ من حصولهِما معاً نحو: «لأسيرَنَّ إلى بيتِك إلى الظهر» فلا بُدَّ من حصولِ الغايتين. والمعنى الذي ذكره الشيخُ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّنُ فيه فواتَ مجمعِ البحرين. وجَعَلَ أبو البقاء «أو» هنا بمعنى «إلاَّ» في أحدِ الوجهين، قال: «والثاني: أنَّها بمعنى: إلا أَنْ اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواَ مجمعِ البحرين» . وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنىً صحيحٌ، فأخذ الشيخ هذا المعنى، رَكَّبه مع القولِ بأنها بمعنى «إلى» المقتضيةِ للغايةِ، فمِنْ ثَمَّ جاء الإِشكالُ.

61

قوله: {نَسِيَا} الظاهرُ نسبةُ النِّسْيانِ إلى موسى وفتاه، يعني نَسِيا تفقُّدَ أَمْرِه، فإنه كان علامةً لهما على ما يَطْلبانه. وقيل: نَسِي موسى ان يأمرَه بالإِتيانِ به ونسيَ يوشع أَنْ يفكِّرَه بأمرِه. وقيل: الناس يوشع فقط، وهو على حذفِ مضافٍ، أي: نَسِيَ أحدُهما كقولِه: «يَخْرُجُ منهما اللؤلؤُ والمَرْجان» . قوله: {فِي البحر سَرَباً} «سَرَبا» مفعولٌ ثانٍ ل «اتَّخذ» . و «في البحر»

يجوز أن يتعلَّق ب «اتَّخَذَ» ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني. والهاءُ في «سبيلَه» تعودُ على الحُوْت. وكذا المرفوع في «اتَّخَذَ» .

62

قوله: {جَاوَزَا} : مفعولُه محذوفٌ، أي: جاوزا الموعدَ. وقيل: جاوزا مجمعَ البحرَيْن. قوله: «هذا» إشارةٌ إلى السَّفََر الذي وقع بعد مجاوزتِهما المَوْعِدَ، أو مجمعَ البحرين. و «نَصَبا» هو المفعول ب «لَقِيْنا» . والعامَّةُ على فتح النون والصاد. وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمِّهما. وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة. كذا قال أبو الفضلِ الرازي في «لوامحه» .

63

قوله: {أَرَأَيْتَ} : قد تقدَّم الكلامُ فيها مُشْبعاً في الأنعام. وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً رأيت نَقْلَه وهو «أنَّ العربَ اَخْرَجَتْها عن معناها بالكلية، فقالوا: أَرَأَيْتَك وأَرَيْتَكَ بحذفِ الهمزة إذا كانت بمعنى اَخْبِرْني، وإذا كانت بمعنى اَبْصَرْتَ لم تُحْذَفْ همزتُها. وشَذَّت أيضاً فألزَمْتَها الخطابَ على هذا المعنى، ولا تقولُ فيها أبداً:» أراني زيداً عمراً ما صَنَعَ «وتقولُ هذا على معنى» اعلَمْ «. وشذَّتْ أيضاً

فَأَخْرَجْتَها عن موضعِها بالكلية بدليلِ دخولِ الفاءِ ألا ترى قولَه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي} فما دخلتِ الفاءُ إلا وقد اُخْرِجَتْ إلى معنى: أمَّا أو تنبَّهْ. والمعنى: أمَّا إذا أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ. وقد أَخْرَجْتَها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدَّمْنا. وإذا كانت/ بمعنى أخبِرْني فلا بُدَّ بعدها من الاسمِ المستخبَرِ عنه، وتلزَمُ الجملةُ التي بعدها الاستفهامَ، وقد تَخْرُجُ لمعنى» أمَّا «، ويكون أبداً بعدها الشرطُ وظروفُ الزمان، فقوله:» فإنِّي نَسِيْتُ «معناه: أمَّا إذ أَوَيْنا فإنِّي، أو تَنَبَّه إذ أوينا، وليستِ الفاءُ إلا جواباً لأَرَأَيْتَ لأنَّ» إذْ «لا يَصِحُّ أَنْ يُجازي بها إلا مقرونةً ب» ما «بلا خلافٍ» . وقال الزمخشري: «أرأيتَ بمعنى أخبِرْني. فإن قلتَ: ما وجهُ التئامِ هذا الكلامِ، فإنَّ كلَّ واحدٍ مِنْ» أرأيت «ومِنْ» إذ أَوَيْنا «، ومِنْ» فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ « [لا متعلِّقَ له] ؟ قلت: لَمَّا طَلَب موسى الحوتَ ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه مِنْ نِسيانه إلى تلك الغايةِ، ودُهِش فَطَفِقَ يسأل موسى عن سبب ذلك كأنَّه قال: أرأيتَ ما دهاني إذ أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نسيتُ الحوت. فحذف ذلك» . قال الشيخ: «وهذان مَفْقودانِ في تقديرِ الزمخشري» أرأيتَ بمعنى أخبرني «. يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش مِنْ أنَّه لا بُدَّ بعدها من الاسم المستخبَرِ عنه ولزومِ الاستفهامِ الجملةَ التي بعدها. قوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ} قرأ حفص بضمِّ الهاء. وكذا في قوله: {

عَلَيْهُ الله} [الآية: 10] في سورة الفتح. قيل: لأنَّ الياءَ هنا أصلُها الفتح، والهاءُ بعد الفتحةِ مضمومةٌ فنظر هنا إلى الأصل. وأمَّا في سورة الفتح فلأنَّ الياءَ عارضةٌ إذ اصلُها الألفُ، والهاءُ بعد الألف مضمومةٌ فنظر إلى الأصلِ أيضاً؟ والباقون بالكسر نظراً إلى اللفظِ، فإنها بعد ياءٍ ساكنة. وقد جمع حفص في قراءتِه بين اللغات في هاء الكناية: فإنه ضمَّ الهاء في» أنسانِيْه «في غيرِ صلةٍ، ووصَلَها بياءٍ في قوله: {فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 69] على ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى. وقرأ كأكثرِ القراء فيما سوى ذلك. قوله: {أَنْ أَذْكُرَهُ} في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ هاء «أنسانِيْه» بدلِ اشتمال، أي: أَنْساني ذكرَه. قوله: «عَجَباً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «اتَّخذ» . و «في البحرِ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالاتخاذِ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني. وفي فاعل «اتَّخذ» وجهان، أحدُهما: هو الحوت، كما تقدَّم في «اتَّخذ» الأولى. والثاني: هو موسى.

الوجهُ الثاني مِنْ وجهَيْ «عَجَباً» أنه مفعولٌ به، والعاملُ فيه محذوفٌ، فقال الزمخشري: «أو قال: عَجَباً في آخرِ كلامِه تَعَجُّباً مِنْ حاله. وقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} اعتراضٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه» . فظاهرُ هذا أنَّه مفعولٌ ب «قال» ، أي: قال هذا اللفظَ. الثالث: أنه مصدر، فالعاملُ فيه مقدَّرٌ تقديرُه: فتعجَّب مِنْ ذلك عَجَباً. الرابع: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، ناصبُه «اتَّخذ» ، أي: اتخذ سبيلَه في البحر اتِّخاذاً عَجَباً. وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون «في البحر» مفعولاً ثانياً ل «اتَّخَذَ» إن عَدَّيْناها لمفعولين.

64

قوله: {نَبْغِ} : حذفَ نافع وأبو عمرو والكسائي ياء «نَبْغي» وقفاً، وأثبتوها وصلاً. وابن كثير أثبتها في الحالين. والباقون حَذَفوها في الحالين اتِّباعاً للرسم. وكان مِنْ حَقِّها الثبوتُ، وإنما حُذِفت تشبيهاً بالفواصلِ، أو لأنَّ الحَذْفَ يُؤْنِسُ بالحذفِ فإنَّ «ما» موصولةٌ حُذِفَ عائدُها، وهذه بخلافِ التي في يوسف فإنها ثابتةٌ عند الجميعِ، وقد تقدَّم ذلك في مَوْضِعِه.

قوله: «قَصَصاً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، أي: قاصِّيْن. الثاني: أنه مصدرٌ منصوبٌ بفعلٍ مِنْ لفظِه مقدَّرٍ، أي: يَقُصَّان قَصَصاً. الثالث: أنه منصوبٌ ب «ارتَدَّا» لأنه في معنى فَقَصَّا. وقرأ الكسائيُّ «أنسانِيْهِ» بالإِمالة. وعبد الله «أَنْ أذكرَكَه» . وأبو حيوة «واتخاذَ سبيلِه» عَطَفَ هذا المصدرَ على مفعول «اذكره» .

65

قوله: {عِلْماً} : مفعولٌ ثان ل «عَلَّمْناه» ، قال أبو البقاء: «ولو كان مصدراً لكان تعليماً» يعني لأنَّ فعلَه على فَعَّل بالتشديد، وقياسُ مصدرِه التفعيلُ. و {مِن لَّدُنَّا} يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عِلْماً» .

66

قوله: {على أَن تُعَلِّمَنِ} : في موضعِ / الحال من الكاف في «أَتَّبِعُك» ، أي: أَتَّبِعُك باذلاً لي علمَك. قوله: «رُشْداً» مفعولٌ ثانٍ ل «تُعَلِّمَني» ، لا لِقوله: «ممَّا عُلِّمْتَ» . قال أبو البقاء: «لأنَّه لا عائد إذن على الذي» يعني أنه إذا تعدَّى لمفعولٍ ثانٍ غيرِ ضميرِ الموصولِ لم يَجُزْ أَنْ يتعدَّى لضميرِ الموصولِ؛ لئلاَّ يتعدَّى إلى

ثلاثةٍ، ولكن لا بُدَّ مِنْ عائدٍ على الموصول. وقد تقدَّم خلافُ القرَّاء في «رُشْدا» في سورة الأعراف. وهل هما بمعنى واحدٍ أم لا؟

68

قوله: {خُبْراً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه تمييزٌ لقولِه «تُحِطْ» وهو منقولٌ مِنَ الفاعليةِ، إذ الأصل: مما لم يُحِطْ به خَبَرُك. والثاني: أنه مصدرٌ لمعنى لم تُحِط، إذ هو في قوة: لم يُخْبِرْه خُبْراً. وقرأ الحسن «خُبُراً» بضمتين.

69

قوله: {وَلاَ أَعْصِي} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنََّها لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافِها. وفيه بُعْدٌ. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ عطفاً على «سَتَجِدُني» لأنَّها منصوبةُ المحلِّ بالقول. وقال الشيخ: «ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على» سَتَجِدُني «فلا يكونُ له محلٌّ من الإِعراب؟ وهذا سَهْوٌ؛ فإنَّ» ستجِدُني «منصوبُ المحلِّ لأنه منصوبٌ بالقول، فكذلك ما عُطِفَ عليه، ولكن الذي غَرَّ الشيخَ أنَّه رأى كلامَ الزمخشري كذلك، ولم يتأمَّلْه فتبعه في ذلك، فمن ثَمَّ جاء السهو. قال الزمخشري: ولا أَعْصِي: في محلِّ النصبِ عطفاً على» صابراً «، أي: ستجدني صابراً وغيرَ عاصٍ. أو» لا «في محلِّ عطفاً على» سَتَجِدُني «.

الرابع: أنَّه في محلِّ نصبٍ عطفاً على» صابراً «كما تقدَّم تقريرُه.

70

قوله: {فَلاَ تَسْأَلْني} : قد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في هذا الحرفِ في سورة هود: وقرأ أبو جعفر هنا بفتحِ السينِ واللامِ وتشديدِ النونِ من غيرِ همزٍ.

71

قوله: {لِتُغْرِقَ} : في اللام وجهان، أحدُهما: هي لامُ العلة. والثاني: هي لامُ الصَّيْرورة. وقرأ الأخَوان: «ليَغْرَقَ» بفتح الياء مِنْ تحتُ وسكونِ الغين وفتحِ الراء، «أهلُها» بالرفع فاعلاً. والباقون بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الراء، أي: لتُغْرِق أنت أهلَها بالنصب مفعولاً به. والحسن وأبو رجاء كذلك، إلا أنَّهما شَدَّدا الراءَ. والسفينة معروفةٌ، وتُجمع على سُفُن وسَفائن نحو: صحيفة وصُحُف وصحائف. وتُحذف منها التاءُ مراداً بها الجمعُ، فتكونُ اسمَ جنسٍ نحو: ثَمَرَ وبَلَح. إلا أنه هذا المصنوع قليلٌ جداً نحو: جَرَّة وجَرَّ، وعِمامة وعِمام. قال الشاعر: 317 - 9-

متى تَأْتيه تأتي لُجَ بَحْرٍ ... تقاذَفُ في غوارِبِه السَّفينُ واشتقاقها مِن السَّفْنِ وهو القَشْر؛ لأنها تقشُر الماءَ. كما سُمِّيَتْ «بِنْتَ مَخْرٍ» لأنها تَمْخُر الماء، أي: تَشُقُّه. قوله: «إمْراً» شيئاً عظيماً، يقال: أَمِرَ الأَمْرُ، أي: عَظُم وتفاقَمَ. قال: 318 - 0- داهِيَةً دَهْياءَ إمْراً ...

73

قوله: {عُسْراً} : كفعولٌ ثانٍ ل «تُرْهِقْني» مِنْ أَرْهَقَه كذا إذا حَمَّله إياه وغشَّاه به. و «ما» في «بما نَسِيْتَ» مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ.

74

قوله: {زاكِيَةً} : قرأ «زاكية» بألفٍ وتخفيفِ الياءِ نافعٌ وابنُ كثير وابو عمرو. وبدون الألف وتشديد الياء الباقون. فَمَنْ قَرَأ «زاكية» فهو أسمُ فاعلٍ على أصلِه. ومَنْ قرأ «زَكِيَّة» فقد أخرجه إلى فَعِيلة للمبالغة.

والغُلام: مَنْ لم يَبْلُغْ. وقد يُطْلق على البالغِ الكبيرِ. فقيل: مجازاً باعتبارِ ما كان. ومنه قولُ ليلى: 318 - 1- شَفاها مِنَ الدَّاءِ الذي قد أصابها ... غُلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها وقال آخر: 318 - 2- تَلَقَّ ذُبابَ السَّيْفِ عني فإنني ... غلامٌ إذا هُوجِيْتُ لَسْتُ بشاعرِ وقيل: بل هو حقيقةٌ لأنه مِن الإِغلام وهو السَّبْق، وذلك إنما يكونُ في الإِنسانِ المحتلِمِ. وقد تقدَّم ترتيبُ أسماءِ الآدمي مِنْ لَدُن هو جنينٌ إلى أن يضير شيخاً ولله الحمد/. قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ قيل:» حتى إذا رَكِبا في السفينةِ خَرَقَها «بغير فاءٍ، و» حتى إذا لَقِيا غلاماً فَقَتَله «بالفاء؟ قلت» جَعَل «خَرَقَها» جزاءً للشرطِ، وجَعَل «قَتَله» من جملةِ الشرط معطوفاً عليه، والجزاءُ «قال: أَقْتَلْتَ» . فإنْ قلت: لِمَ خُولف بينهما؟ قلت: لأنَّ الخَرْقَ لم يتعقَّبِ الركوبَ، وقد تعقَّبَ القتلُ لقاءَ الغلامِ «. قوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: انها متعلقةٌ ب» قَتَلْتَ «. الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنَ الفاعلِ أو من المفعولِ،

أي: قَتَلْتَه ظالماً أو مظلوماً، كذا قَدَّرَه أبو البقاء. وهو بعيدٌ جداً. الثالث: أنها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: قَتْلاً بغيرِ نفسٍ. قوله:» نُكْراً «قرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان بضمتين، والباقون بضمة وسكون. وهما لغتان، أو أحدهما أصل. و» شيئاً «: يجوز أن يُراد به المصدرُ، أي: مَجيئاً نُكْرا، وأن يُراد به المفعولُ به، أي: جِئْتَ أمراً مُنْكَراً. وهل النُّكْرُ أَبْلَغُ من الإِمر أو بالعكس. فقيل: الإِمْرُ أبلغُ؛ لأنَّ قَتْلَ أَنْفُسٍ بسبب الخَرْقِ أعظمُ مِنْ قَتْل نفسٍ واحدة. وقيل: بل النُّكْر أبلغُ لأن معه القَتْلَ الحَتْمَ، بخلاف خَرْقِ السفينة فإنه يمكن تدارُكُه، ولذلك قال:» ألم أَقُلْ لك «ولم يأتِ ب» لك «مع» إمراً «.

76

قوله: {فَلاَ تُصَاحِبْنِي} : العامَّةُ على «تصاحِبْني» من المفاعلة. وعيسى ويعقوب: «فلا تَصْحَبَنِّي» مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه. وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء، مِنْ أصحب يُصْحِب، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: فلا تُصْحِبْني نفسك. وقرأ أُبَيٌّ «فلا تُصْحِبْني عِلْمَك» فأظهر المفعول. قوله: {مِن لَّدُنِّي} العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون. وذلك أنَّهم

اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على «لَدُن» لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون «مِنْ» و «عَنْ» فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون: مِنِّي وعَنِّي بالتشديد. ونافعٌ بتخفيف النون. والوجهُ فيه: أنه لم يُلْحِقْ نونَ الوقاية ل «لَدُن» . إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال: «لا يجوزُ أَنْ تأتيَ ب» لَدُنْ «مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية» . وهذه القراءةُ حجةٌ عليه. فإنْ قيل: لِمَ لا يُقال: إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ، وإنما اتصلَتْ ب «لَدُ» لغةً في «لَدُن» حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة؟ قيل: لا يَصِحُّ ذلك من وجهين، أحدهما: أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها. ودون النون لا يُسَكِّنون؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ، فلا حاجةَ إلى النون. والثاني: أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال: «لَدُني» بالتخفيف. وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ «عَنْ» و «مِنْ» في قوله: 318 - 3- أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ ... لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على «لَدْ» الساكنة الدال، لغةً في «لدن» فالتقى ساكنان

فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها. وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد «عَضْد» وبابِه. وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل. واختلف القرَّاء في هذا الإِشمامِ، فقائلٌ: هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإِشمام الذي في الوقف، وهذا هو المعروف. وقائلٌ: هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى، يعني: أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ. وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه {لاَ تَأْمَنَّا} [الآية: 11] ، وفي قوله في هذه السورةِ «مِنْ لدنه» في قراءة شعبة أيضاً، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا. وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ «عُذُراً» بضمتين. وعن أبي عمرو أيضاً «عُذْرِي» مضافاً لياءِ المتكلم. و {مِن لَّدُنِّي} متعلقٌ ب «بَلَغْتَ» ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عُذْرا» .

77

قوله: {استطعمآ أَهْلَهَا} : جواب «إذا» ، أي: سألاهم الطعامَ. وفي تكريرِ «أهلَها» وجهان، أحدهما: أنه توكيدٌ من بابِ إقامةِ الظاهر مُقامِ المضمر كقوله: 318 - 4-

لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... نغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا والثاني: أنَّه للتأسيسِ؛ وذلك أنَّ الأهلَ المَأْتِيِّين ليسوا جميعَ الأهل، إنما هم البعضُ، إذ لا يمكن أَنْ يأتيا جميعَ الأهلِ في العادة في وقتٍ واحد، فلمَّا ذَكَرَ الاستطعامَ ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل كأنهما تَتَبَّعا الأهلَ واحداً واحداً، فلو قيل: استطعماهم لاحتمل أنَّ الضميرَ/ يعودُ على ذلك البعضِ المأتِيِّ دونَ غيرِه، فكرَّر الأهلَ لذلك. قوله: {أَن يُضَيِّفُوهُمَا} مفعولٌ به لقولِه «أبَوْا» . والعامَّة على التشديد مِنْ ضَيَّفَه يُضَيِّفه. والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف مِنْ: أضافَه يُضيفه وهما مثل: مَيَّله وأماله. قوله: {أَن يَنقَضَّ} مفعولُ الإِرادة. و «انقَضَّ» يُحتمل أن يكونَ وزنُه انْفَعَلَ، من انقِضاضِ الطائرِ أو مِنْ القِضَّة وهي الحَصَى الصِّغار. والمعنى: يريدُ اَنْ يتفتَّتَ كالحصى، ومنه طعامٌ قَضَضٌ إذا كان فيه حَصَى صِغارٌ. وأن يكونَ وزنُه افْعَلَّ كاحْمَرَّ مِن النَّقْضِ يقال: نَقَضَ البناءَ يَنْقُضُه إذا هَدَمه. ويؤيِّد هذا ما في حرفِ عبدِ الله وقراءةِ الأعمش «يريد ليُنْقَضَ» مبنياً للمفعول واللامِ، كهي في قولِه {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] . وما قرأ به اُبَيٌّ كذلك إلا أنَّه {يُرِيدُ أَن يُنقَضَ} بغير لام كي.

وقرأ الزُّهْري «أنْ يَنْقَاضَ» بألفٍ بعد القاف. قال الفارسيُّ: «هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ» أي: هَدَمْتُه فانهدم «. قلت: فعلى هذا يكونُ وزنُه يَنْفَعِل. والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً. ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال:» مثل: يَحْمارّ «ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه يَفْعالَّ. ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيفِ الضاد قال:» وهو مِنْ قولِك: انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم «. وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وعكرمة في آخرين» يَنْقاص «بالصاد مهملةً، وهو مِنْ قاصَه يَقِيْصُه، أي: كسره. قال ابنُ خالويه:» وتقول العرب «انقاصَتِ السِّنُّ: إذا انشقَّتْ طولاً» . وأُنْشِدُ لذي الرُّمَّة: 318 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . مُنْقاصٌ ومُنْكِثبُ وقيل: إذا تَصَدَّعَتْ كيف كان. وأُنْشِد لأبي ذؤيب: 3186 - فِراقٌ كقَيْصِ السِّنِّ، فالصَّبْرَ إنَّه ... لكلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبورُ ونسبةُ الإِرادةِ إلى الجدارِ مجازٌ وهو شائعٌ جداً. ومِنْ أنكر المجازَ

مطلقاً أو في القرآنِ خاصةً تَأَوَّلَ ذلك على أنه خُلِقَ للجِدار حياةٌ وإرادة كالحيوانات. أو أنَّ الإِرادةَ صدرت من الخَضِرِ ليَحْصُلَ له ولموسى من العَجَبِ. وهو تَعَسُّفٌ كبيرٌ. وقد أنحى الزمخشريُّ على هذا القائِل إنحاءً بليغاً. قوله: «لاتَّحّذْتَ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لتَخِذْتَ» بفتح التاءِ وكسرِ الخاءِ مِنْ تَخِذَ يَتْخَذُ كتَعِبَ ويتعَبُ. والباقون:: لاتَّخَذْتَ «بهمزةِ الوصلِ وتشديدِ التاءِ وفتحِ الخاءِ مِنَ الاتِّخاذ. واختُلِفَ: هل هما مِن الأَخْذ، والتاءُ بدلٌ من الهمزة، ثم تُحْذَفُ التاءُ الأولى فيُقال: تَخِذَ، كتَقِيَ مِنْ اتَّقَى نحو: 318 - 7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تَتْلُوْ أم هما مِنْ تَخِذَ والتاءُ أصيلةٌ، ووزنُهما فَعِل وافْتَعَل؟ قولان تقدَّم تحقيقُهما في هذا الموضوع. والفِعْلُ هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ لأنَّه بمعنى الكسب.

78

قوله: {فِرَاقُ بَيْنِي} : العامَّةُ على الإِضافةِ اتِّساعاً في

الظرف. وقيل: هو بمعنى الوَصْلِ. ومِثلُه قولُه: 318 - 8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجِلْدَةُ بين العَيْنِ والأَنْفِ سالِمُ وقرأ ابنُ أبي عبلة «فِراقٌ» بالتنوين على الأصل. وتكريرُ المضافِ إليه عطفاً بالواو هو الذي سَوَّغ إضافةَ «بَيْنَ» إلى غيرِ متعدِّدٍ، ألا ترى أنَّك لو اقتصَرْتَ على قولك: «المالُ بيني» لم يكن كلاماً حتى تقولَ: بيننا، أو بيني وبين فلان. وقرأ ابن وثاب «سَأُنْبِيْكَ» بإخلاص الياء بدلَ الهمزة.

79

قوله: {لِمَسَاكِينَ} : العامَّةُ على تخفيفِ السِّين، جمعَ «مِسْكين» . وقرأ عليَّ أميرُ المؤمنين - كرَّم الله وجهَه - بتشديدِها جمع «مَسَّاك» . وفيه قولان، أحدُهما: أنه الذي يُمْسِك سكان السفينة. وفيه بعضُ مناسبة. والثاني: أنه الذي يَدْبَغُ المُسُوك جمعَ «مَسْك» بفتح الميم وهي الجُلود. وهذا بعيدٌ، لقولِه {يَعْمَلُونَ فِي البحر} . ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين. و «يَعْملون» صفةٌ لمساكين. قوله: {وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} «وراء» هنا قيل: يُراد بها المكانُ. وقيلَ: الزمانُ. واخْتُلِف/ أيضاً فيها: هل هي على حقيقتِها أو بمعنى أمام؟ وأنشدوا على هذا الثاني: 318 - 9-

اليس ورائي أَنْ أَدِبَّ على العَصا ... فَيَأْمَنَ أعدائي ويَسْأَمَني أَهْلي وقولَ لبيد: 319 - 0- أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي ... لُزومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ وقول سَوَّار بن المُضَرِّبِ السَّعْدي: 319 - 1- أَيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي ... وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا ومثله قولُه تعالى: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] ، أي: بين يديه. قوله: «غَصْباً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ في موضعِ الحال، أو منصوبٌ على المصدرِ المبيِّنِ لنوعِ الأَخْذِ، أو منصوبٌ على المفعولِ له. وهو بعيدٌ في المعنى. وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً فقال: «فإنْ قلتَ: قولُه» «فَأَرَدْتُ أَنْ أعيبَها» مُسَبَّبٌ عن خوفِ الغَصْبِ عليها فكان حقُّه أن يتأخرَ عن السبب فلِمَ قُدِّم عليه؟ قلت: النيةُ به التأخيرُ، وإنما قُدِّمَ للعنايةِ به، ولأنَّ خَوْفَ الغَصبِ ليس هو السببَ وحدَه، ولكن مع كونِها للمساكينِ، فكان بمنزلةِ قولِك: زيدٌ ظنَِّي مقيمٌ «.

80

قوله: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} : التثنيةُ للتغليبِ، يريد: أباه وأمه، فغلَّب المذكرَ، وهو شائعٌ. ومثلُه: القمران والعُمَران. وقد تقدَّم

في يوسف: أنَّ الأبوين يُراد بهما الأبُ والخالَةُ فهذا أقربُ. والعامَّةُ على «مُؤْمِنَيْنِ» بالياء. وأبو سعيد الخُدريُّ والجحدري «مؤمنان» بالألف. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه على لغة بين الحارث وغيرهم. الثاني: أنَّ في «كان» ضميرَ الشأنِ، و «أبواه مؤمنان» مبتدأ وخبرٌ في محلِّ النصبِ كقوله: 319 - 2-إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفانِ شامِتٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فهذا أيضاً محتمِلٌ للوجهين. الثالث: أن في «كان» ضميرَ الغلامِ، أي: فكان الغلامُ والجملةُ بعده الخبرُ. وهو أحسنُ الوجوهِ.

81

قوله: {أَن يُبْدِلَهُمَا} : قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال مِنْ «بَدَّلَ» هنا، وفي التحريم {أَن يُبْدِلَهُ} وفي القلم {أَنْ يُبْدِلَنا} والباقون بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدالِ مِنْ «أَبْدَلَ» في المواضعِ الثلاثة. فقيل: هما لغتان بمعنىً واحد. وقال ثعلب: الإِبدالُ تَنْحِيَةُ جوهرَةٍ،

واستئنافُ أخرى. وأنشد: 319 - 3- عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ ... قال: ألا تراه نَحَّى جسماً، وجعل مكانَه آخرَ. والتبديلُ: تغييرُ الصورةِ إلى غيرِها، والجوهرةُ باقيةٌ بعينِها. واحتجَّ الفراء بقولِه تعالى: {يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] قال: «والذي قال ثعلبٌ حسنٌ، إلا أنَّهم يجعلون اَبْدَلْتُ بمعنى بَدَّلْتُ» . قلت: ومِنْ ثَمَّ اختلف الناسُ في قولِه تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض} [إبراهيم: 48] : هل يتغير الجسمُ والصفةُ، أو الصفةُ دونَ الجسمِ؟ قوله: «رُحْماً» قرأ ابن عامر «رُحُماً» بضمتين. والباقون بضمةٍ وسكونٍ وهما بمعنى الرحمة. قال رؤبة: 319 - 2- يا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدْريسا ... ومُنْزِلَ اللَّعْنِ على إِبْليسا وقيل: الرُّحْم بمعنى الرَّحِم. وهو لائقٌ هنا مِنْ أجلِ القَرابةِ بالولادة. ويؤيِّده قراءةُ ابنِ عباس «رَحِماً» بفتحِ الراءِ وكسرِ الحاءِ. و «زكاة ورُحْماً» منصوبان على التمييز.

82

قوله: {رَحْمَةً} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أوضحُها: أنَّه مفعولٌ له. الثاني: أَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ من الفاعل، أي: أراد ذلك راحماً،

وهي حالٌ لازمةٌ. الثالث: أَنْ ينتصِبَ انتصابَ المصدرِ لأنَّ معنى {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ} معنى «فَرَحِمَهما» . قوله: تَسْطِعْ «، قيل: أصلُه استطاع، فَحُذِفَتْ تاءُ الافتعالِ. وقيل: المحذوفُ: الطاءُ الأصلية ثم أُبْدِلت تاءُ الافتعال طاءً بعد السِّين. وهذا تكلُّفشٌ بعيدٌ. وقيل: السينُ مزيدةٌ عوضاً من قلبِ الواوِ ألفاً، والأصلُ: أطاع. ولتحقيقِ القولِ فيه موضعٌ غيرُ هذا. ويقال:» استتاعَ «بتاءين، و» اسْتاعَ «بتاء واحدة، فهذه أربعُ لغاتٍ، حكاها ابن السكيت.

83

قوله: {مِّنْهُ ذِكْراً} : أي: مِنْ أخبارِهِ وقَصَصِه.

84

قوله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ} : مفعولُه محذوفٌ، أي: أمره وما يريد.

85

قوله: {فَأَتْبَعَ} : قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو «فَأَتْبَعَ» و «ثم أَتْبَعَ» في المواضعِ الثلاثة بهمزةِ وصلٍ وتشديدِ التاء. والباقون بهمزةِ القطع وسكونِ التاء. فقيل: هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ. وقيل: «أتبع» بالقطعِ متعدٍ لاثنين حُذِف أحدُهما تقديرُه: فأتبع سبباً سبباً آخرَ، أو فأتبع أمرَه سبباً. ومنه {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} [القصص: 42] فعدَّاه لاثنين/

ومِنْ حَذْفِ أحدِ المفعولين: قولُه تعالى: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] ، أي: أَتْبعوهم جنودَهم. واختار أبو عبيد «اتَّبع» بالوصل، قال: «لأنه من المسيرِ» قال «تقول» تَبِعْتُ القومَ واتَّبَعْتُهم. فأما الإِتباعُ بالقَطْع فمعناه اللَّحاق، كقولِه تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] . وقال يونس وأبو زيد: «أَتْبَعَ» بالقطع عبارةٌ عن المُجِدِّ المُسْرِعِ الحثيثِ الطلبِ. وبالوصل إنما يتضمَّن الاقتفاءَ دونَ هذه الصفات.

86

قوله: {حامِيَةٍ} : قرأ ابن عامر وأبو بكر والأخَوان بالألف وياءٍ ضريحة بعد الميم. والباقون دون ألفٍ وهمزة بعد الميم. فأمَّا القراءةُ الأولى فإنها اسمُ فاعلٍ مِنْ حَمِي يَحْمِي، والمعنى: في عينٍ حارَّة. واختارها أبو عبيدٍ، قال: «لأنَّ عليها جماعةً من الصحابة» وسمَّاهم. وأمَّا الثانيةُ فهي مِنَ الحَمْأةِ وهي الطينُ. وكان ابنُ عباس عند معاويةَ. فقرأ معاويةُ «حاميةٍ» فقال ابن عباس: «حَمِئَةٍ» . فسأل معاويةُ ابنَ عمرَ كيف تقرأ؟ فقال: كقراءةِ أمير المؤمنين. فبعث معاويةُ، فسأل كعباً فقال: «أَجِدُها تغرُب في ماءٍ وطين» . فوافق ابن عباس. وكان رجلٌ حاضرٌ هناك فأنشد قولَ تُبَّع: 319 - 5-

فرأى مغيبَ الشمسِ عند مآبِها ... في عينِ ذي خُلُبٍ وثَأْطٍ حَرْمِدِ ولا تناقضَ بين القراءتينِ؛ لأنَّ العينَ جامعةٌ بين الوصفين: الحرارةِ وكونِها مِنْ طين. قوله: {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} يجوز في {أَن تُعَذِّبَ} الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ، أي: إمَّا تعذيبُك واقعٌ، أو الرفعُ على خبرٍ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو تعذيبُك. والنصبُ، أي: إمَّا أَنْ تَفْعَلَ أَنْ تُعَذَّبَ.

88

قوله: {جَزَآءً الحسنى} : قرأ الأخوان وحفصٌ بنصب «جزاءً» وتنوينِه. والباقون برفعِه مضافاً. فالنصبُ على المصدر المؤكِّد لمضمونِ الجملة، فتُنْصَبُ بمضمرٍ أو مؤكِّدٍ لعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍٍ، أي: يَجْزِي جزاء. وتكونُ الجملةُ معترضةً بين المبتدأ وخبرِه المقدَّمِ عليه. وقد يُعْترض على الأولِ: بأنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لمضمونِ جملةٍ لا يتقدَّمُ عليها، فكذا لا يَتَوسَّط. وفيه نظرٌ يحتمل الجوازَ والمنعَ، وهو إلى الجوازِ أقربُ.

الثالث: أنه في موضع الحالِ. والقراءةُ الثانية رفعُه فيها على الابتداء، والخبرُ الجارُّ قبلَه. و «الحُسْنى» مضاف إليها. والمرادُ بالحُسْنى الجنَّةُ. وقيل: الفَعْلَة الحسنى. الرابع: نصبُه على التفسيرِ. قاله الفراء. يعني التمييزَ. وهو بعيدٌ. وقرأ ابن عباس ومسروقٌ بالنصبِ والإِضافةِ. وفيها تخريجان، أحدُهما: أنَّ المبتدأَ محذوفٌ، وهو العاملُ في «جزاءَ الحسنى» التقديرُ: فله الجزاءُ جزاءَ الحسنى. والثاني: أنه حَذَفَ التنوينَ لالتقاءِ الساكنين كقوله: 319 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا ذكره المهدويُّ. وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق «جزاءً» مرفوعاً منوناً على الابتداء. و «الحُسْنى» بدلٌ أو بيان، أو منصوبةٌ بإضمار «أَعْني» ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. و «يُسْراً» نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً ذا يُسْرٍ. وقرأ أبو جعفر بضمِّ «اليُسْر» حيث وَرَدَ.

90

قوله: {مَطْلِعَ} : العامَّةُ على كسر اللام، والمضارعُ يَطْلُع بالضم، فكان القياسُ فتحَ اللامِ في المَفْعَل مطلقاً، ولكنها مع أخواتٍ لها سُمع فيها الكسر، وقياسُها الفتح. وقد قرأ ابن الحسن وعيسى

وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن ابن كثير وأهلِ مكة. قال الكسائي: «هذه اللغةُ قد ماتَتْ» يعني: أي: بكسر اللام من المضارع والمفْعِل. وهذا يُشْعِرُ أنَّ مِن العرب مَنْ كان يقول: طَلَع يَطْلِعُ بالكسرِ في المضارع.

91

قوله: {كَذَلِكَ} : الكافُ: إمَّا مرفوعةُ المحلِّ، أي: الأمر كذلك. أو منصوبتُه، أي: فَعَلْنا مثلَ ذلك. قوله: {بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} «بين» هنا يجوز أن يكونَ طرفاً، والمفعولُ محذوفٌ، أي: بلغ غَرَضَه ومقصودَه، وأَنْ يكونَ مفعولاً به على الاتِّساع، أي: بلغ المكانَ الحاجزَ بينهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح سين «السَّدَّين» و «سَدَّا» في هذه السورةِ، وحفص فتح الجميع، أعني موضعَيْ هذه السورة وموضعَيْ سورةِ يس. وقرأ الأخَوان بالفتح في «سَدَّاً» في سورتيه وبالضمِّ في «السُّدَّيْن» . والباقون بالضم في الجميع. فقيل: هما بمعنى واحد. / وقيل: المضمومُ ما كان من فِعْلِ اللهِ تعالى، والمفتوحُ ما كان مِنْ فِعْلِ الناس. وهذا مرويٌ عن عكرمةَ والكسائي وأبي عبيد. وهو مردودٌ: بأن السَّدَّيْن في هذه السورة جَبَلان، سَدَّ ذو القرنين بينهما بسَدّ، فهما مِنْ فِعْلِ اللهِ، والسَّدُُّ الذي فعله

ذو القرنين مِنْ فِعْل المخلوق. و «سَدّاً» في يس مِنْ فِعْلِ الله تعالى لقولِه: «وجَعَلْنا» ، ومع ذلك قُرِئ في الجميع بالفتح والضمِّ. فَعُلِم أنهما لغتان كالضَّعْف والضُّعف والفَقْر والفُقْر. وقال الخليل: المضمومُ اسمٌ، والمفتوحُ مصدرٌ. وهذا هو الاختيارُ.

93

قوله: {يَفْقَهُونَ} : قرأ الأخَوان بضمِّ الياء وكسرِ القافِ مِنْ أَقْفَهَ غيرَه، فالمفعولُ محذوفٌ، أي: لا يُفْقهون غيرهم قولاً. والباقون بفتحها، أي: لا يَفْهمون كلامَ غيرِهم، وهو بمعنى الأول. وقيل: ليس بمتلازِمٍ؛ إذ قد يَفْقَهُ الإِنسانُ قولَ غيرِه ولا يَفْقَه غيرُه قولَه. وبالعكس.

94

قوله: {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} : قرأ عاصمٌ بالهمزة الساكنة، والباقون بألفٍ صريحة. واخْتُلِف في ذلك فقيل: هما أعجميان. لا اشتقاقَ لهما ومُنعا من الصرف للعلَميَّة والعُجْمة. ويحتمل أَنْ تكونَ الهمزةُ أصلاً والألفُ بدلٌ عنها، أو بالعكسِ؛ لأنَّ العربَ تتلاعب بالأسماءِ الأعجمية. وقيل: بل هما عربيَّان واختلفوا في اشتقاقِهما: فقيل: اشتقاقُهما مِنْ أَجيج النار وهو التهابُها وشِدَّةُ تَوَقُّدِها. وقيل: مِنَ الأَجَّة. وهو الاختلاطُ أو شدةُ الحَرِّ. وقيل: من الأجِّ، وهو سُرْعةُ العَدْوِ. ومنه قوله: 319 - 7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تؤجُّ كما أجَّ الظَّليمُ المُنَفَّرُ

وقيل: من الأُجاجِ، وهو الماءُ المِلْحُ الزُّعاق. ووزنهما يَفْعُوْل ومَفْعُول. وهذا ظاهرٌ على قراءةِ عاصمٍ. وأمَّا قراءةُ الباقين فيُحتمل أن تكونَ الألفُ بدلاً من الهمزة الساكنة، إلا أنَّ فيه أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ ليس أصلُه قَلْبَ الهمزةِ الساكنةِ وهم الأكثرُ. ولا ضَيْرَ في ذلك. ويُحتمل أَنْ تكونَ ألفُهما زائدتين، ووزنُهما فاعول مِنْ يَجَّ ومَجَّ. ويُحتمل أَنْ يكونَ ماجوج مِنْ ماج يموج، أي: اضطرب ومنه المَوْجُ فوزنُه مَفْعول والأصل: مَوْجُوج. قاله أبو حاتم. وفيه نظرٌ من حيث ادِّعاءُ قَلْبِ حَرْفِ العلة وهو ساكنٌ. وشذوذُه كشذوذِ «طائيّ» في النسب إلى طيِّئ. وعلى القولِ بكونِهما عربيين مشتقين فَمَنْعُ صرفِهما للعَلَميَّةِ والتأنيثِ بمعنى القبيلة، كما تقدَّم لك تحقيقهُ في سورة هود. ومثلُ هذا الخلافِ والتعليلِ جارٍ في سورة الأنبياء عليهم السلام. والهمزةُ في يَأْجوج ومَأْجوج لغةُ بني أسد. وقرأ رؤبة وأبوه العجاج «آجوج» . قوله: «خَراجاً» قرأ ابن عامر «خَرْجاً» هنا وفي المؤمنين بسكون الراء، والأخَوان «خراجاً» «فَخَراج» في السورتين بالألف، والباقون كقراءةِ ابن عامر في هذه السورة، والأول في المؤمنين وفي الثاني وهو «

فَخَراج» كقراءة الأخوين. فقيل: هما بمعنى واحد كالنَّوْل والنَوال. وقيل: الخراجُ بالألف ما صُرِفَ على الأرضِ من الإِتاوة كلَّ عام، وبغير ألف بمعنى الجُعْل، أي: نُعْطيك مِنْ أموالِنا مرةً واحدة ما تَسْتعين به على ذلك. قال مكي رحمه الله: «والاختيارُ تَرْكُ الألف؛ لأنهم إنما عَرَضوا عليه أن يُعطوه عَطِيَّة واحدة على بناءه، لا أَنْ يُضْرَبَ ذلك عليهم كلَّ عام. وقيل: الخَرْج ما كان على الرؤوس، والخراج ما كان على الأرض، يقال: أَدَّ خَرْجَ رأسِكَ، وخراجَ أرضِك. قاله ابن الأعرابي. وقيل: الخَرْجُ أخصُّ، والخَراجُ أعَمُّ. قاله ثعلب. وقيل: الخَرْجُ مصدرٌ، والخَراج اسمٌ لِما يُعطى، ثم قد يُطلق على المفعول المصدرُ كالخَلْق بمعنى المخلوق.

95

قوله: {مَا مَكَّنِّي} : «ما» بمعنى الذي. وقرأ ابن كثير «مكَّنني» بإظهار النون. والباقون بإدغامِها في نون الوقاية للتخفيف.

96

قوله: {آتُونِي} : قرأ أبو بكر «ايتوني» بهمزةِ وصل مِنْ أتى يَأتي في الموضعين من هذه السورة بخلافٍ عنه في الثاني. وافقه حمزةُ على الثاني من غيرِ خلافٍ عنه. والباقون بهمزةِ القطعِ فيهما.

ف «زُبُرَ» على قراءةِ همزةِ الوصل منصوبةٌ على إسقاط الخافض، أي: جيئوني بزُبُرِ الحديد. وفي قراءة قَطْعِها على المفعول الثاني لأنه يتعدَّى/ بالهمزة إلى اثنين. وعلى قراءة أبي بكر يُحتاج إلى كسر التنوين من «رَدْماً» لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ همزةَ الوصلِ تسقط دَرْجاً فيُقْرأ له بكسر التنوين، وبعده همزةٌ ساكنة هي فاءُ الكلمة. وإذا ابتدأت بكلمتي «ائتوني» في قراءتِه وقراءةِ حمزة تبدأ بهمزةٍ مكسورةٍ للوصل ثم ياءٍ صريحة، هي بدلٌ من همزةِ فاء الكلمة، وفي الدَّرْجِ تسقط همزةُ الوصل، فتعود الهمزةُ لزوالِ موجِبِ إبدالها. والباقون يَبْتَدِئون ويَصِلُون بهمزةٍ مفتوحة لأنها همزة قطع، ويتركون تنوين «رَدْماً» على حاله من السكون، وهذا كلُّه ظاهرٌ لأهلِ النحو، خَفِيٌّ على القُرَّاء. والزُّبَرُ جمع زُبْرَة كغُرْفَة وغُرَف. وقرأ الحسن بضم الباء. قوله: «ساوَى» هذه قراءةُ الجمهور، وقتادة «سوَّى» بالتضعيف. وعاصمٌ في رواية «سُوِّيَ» مبنياً للمفعول.

قوله: «الصَّدَفَيْن» قرأ أبو بكر بضم الصاد وسكون الدال. وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمِّهما، والباقون بفتحهما. وهذه لغاتٌ قُرِئ بها في السبع. وأبو جعفر وشيبة وحميد بالفتح والإِسكان، والماجِشون بالفتح والضم، وعاصم في روايةٍ بالعكس. والصَّدَفان: ناحيتا الجبلين. وقيل: أَنْ يتقابلَ جبلان وبينهما طريق، فالناحيتان صَدَفان لتقابُلِهما وتصادُفِهما، مِنْ صادَفْتُ الرجلَ، أي: لاقَيْتُه وقابَلْته. وقال أبو عبيد: «الصَّدَفُ: كل بناءٍ مرتفع وليس بمعروفٍ، والفتح لغة تميم، والضمُّ لغة حِمْير» . قوله: «قِطْراً» هو المتنازَعُ فيه. وهذه الآيةُ أشهر أمثلةِ النحاةِ في باب التنازع، وهي من إعمالِ الثاني للحذف من الأول. والقِطْر: النُّحاس أو الرَّصاصُ المُذاب.

97

قوله: {فَمَا اسطاعوا} : قرأ حمزة بتشديد الطاء، والباقون بتخفيفها. والوجهُ في الإِدغام كما قال أبو علي: «لمَّا لم يمكن

إلقاءُ حركةِ التاءِ على السين لئلا يُحَرَّكَ ما لا يتحرك» - يعني أنَّ سين استفعل لا تتحرك - أُدْغم مع الساكن، وإن لم يكن حرف لين. وقد قرأت القراءُ غيرَ حرفٍ من هذا النحو. وقد أنشد سيبويه «ومَسْحِيِ» يعني في قول الشاعر: 319 - 8- كأنَّه بعد كَلالِ الزَّاجِرِ ... ومَسْحِي مَرُّ عُقُابٍ كاسِرِ يريد «ومَسْحِه» فأدغم الحاء في الهاء بعد أَنْ قَلَبَ الهاءَ حاءً، وهو عكسُ قاعدةِ الإِدغام في المتقاربين. وهذه القراءةُ قد لحنَّها بعضُ النحاة. قال الزجاج: «مَنْ قرأ بذلك فهو لاحِنٌ مخطئٌ» وقال أبو علي: «هي غيرُ جائزة» . وقرأ الأعشى، عن أبي بكر «اصْطاعوا» بإبدال السين صاداً. والأعمش «استطاعوا» كالثانية.

98

قوله: {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} : الظاهرُ ان الجَعْلَ هنا بمعنى التصيير فتكون «دَكَّاء» مفعولاً ثانياً. وجوَّز ابنُ عطية أن يكونَ حالاً، و «جعل»

بمعنى خلق، وفيه بُعدٌ؛ لأنه إذ ذاك موجودٌ. وقد تقدَّم خلافٌ القراء في «دَكَّاء» في الأعراف. قوله: {وَعْدُ رَبِّي} الوَعْدُ هنا مصدرٌ بمعنى الموعود أو على بابه.

99

قوله: {يَمُوجُ} : مفعولٌ ثانٍ ل «تَرَكْنا» والضمير في «بعضَهم» يعودُ على «يَأْجُوج ومَأْجوج» أو على سائر الخلق. قوله: «يومئذ» التنوينُ عوضٌ من جملةٍ محذوفة. تقديرُها: يوم إذ جاء وَعْدُ ربي، أو إذ حَجَرَ السَّدُّ بينهم.

101

قوله: {الذين كَانَتْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً من «للكافرين» أو بياناً أو نعتاً، وأن يكونَ منصوباً بإضمار أَذُمُّ، وأن يكونَ مرفوعاً خبرَ ابتداءٍ مضمر.

102

قوله: {أَفَحَسِبَ} : العامَّةُ على كسرِ السين وفتح الباء فعلاً ماضياً. و {أَن يَتَّخِذُواْ} سادٌّ مَسَدَّ المفعولين. وقرأ أمير المؤمنين على بن أبي طالب وزيد علي وابن كثير ويحيى بن يعمر في آخرين،

بسكون السينِ ورفعِ الباءِ على الابتداء، والخبر «أَنْ» وما في حَيَّزها. وقال الزمخشري: «أو على الفعلِ والفاعلِ لأن اسمَ الفاعلِ إذا اعتمد على الهمزةِ ساوى الفعلَ كقولك:» أقائمٌ الزيدان «وهي قراءةٌ مُحْكَمةٌ جيدةٌ» . قال الشيخ: والذي يظهرُ أنَّ هذا الإِعرابَ لا يجوزُ لأنَّ حَسْباً ليس باسمِ فاعل فيعمل، ولا يلزم مِنْ تفسير شيءٍ بشيء أن تجريَ عليه / أحكامُه. وقد ذكر سيبويه أشياءَ مِنَ الصفات التي تجري مَجْرى الأسماءِ، وأنَّ الوجهَ فيها الرفعُ. ثم قال: وذلك نحو: مررتُ برجلٍ خيرٌ [منه] أبوه، ومررتُ برجلٍ سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ، ومررت برجلٍ أبٌ له صاحبُه، ومررت برجلٍ حَسْبُك مِنْ رجلٍ هو، ومررت برجلٍ أيُّما رجلٍ هو. ثم قال الشيخ: «ولا يَبْعُدُ أَنْ يُرْفَعَ به الظاهرُ، فقد أجازوا في» مررت برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه «ان يرتفعَ» أبوه «بأبي عشرة لأنه في معنى والدِ عشرة» . قوله: «نزلاً» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على الحالِ جمعَ «نازِل» نحوشارِف وشُرُف. الثاني: أنه اسمُ موضعِ النزول. الثالث: أنَّه اسمُ

ما يُعَدُّ للنازلين من الضيوفِ، ويكونُ على سبيلِ التهكُّم بهم، كقولِه تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ، وقوله: 319 - 9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تحيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وجميعُ ونصبُه على هذين الوجهين مفعولاً به: أي: صَيَّرنا. وأبو حيوة «نُزلاً» بسكونِ الزاي، وهو تخفيفُ الشهيرةِ.

103

قوله: {أَعْمَالاً} : تمييزٌ للأَخْسَرين، وجُمِعَ لاختلافِ الأنواع.

104

قوله: {الذين ضَلَّ} : يجوز فيه الجرُّ نعتاً وبدلاً وبياناً، والنصبُ على الذمِّ، والرفعُ على خبر ابتداء مضمر. قوله: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} يُسَمَّى في البديع «تجنيسَ التصحيف» وتجنيس الخَطِّ، وهذا مِنْ أحسنِه. وقال البحتري: 320 - 0- ولم يكن المُغْتَرُّ بالله إذ شَرَى ... لِيُعْجِزَ والمُعْتَزُّ بالله طالبُهْ فالأولُ من الغُرور، والثاني مِن العِزِّ. ومِنْ أحسنِ ما جاء في تجنيس التصحيف قوله: 320 - 1-

سَقَيْنَني رِيِّيْ وغَنِّيْنَنِيْ ... يُحْتُ بحبِّي حين بِنَّ الخُرُدْ يصحف بنحو: 320 - 2- شَقَيْتَني ربي وعَنَّيْتِنيْ ... بحُبِّ يحيى خَتَنِ ابن الجُرُدْ وفي بعضِ رسائلِ الفصحاء: «قَبَّلَ قبلَ يَدِكَ ثَراك، عبدٌ عند رَخاك رجاك، آمِلٌ أَمَّك» .

105

وقرأ ابن عباس «فَحَبِطَتْ» بفتح الباء. والعامَّة على «نُقيم» بنون العظمة مِنْ «أقام» . ومجاهد وعبيد بن عمير. «فلا يُقيم» بياءِ الغَيبة لتقدُّم قولِه: {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} ، فالضميرُ يعود عليه. ومجاهدٌ أيضاً «فلا يقومُ لهم» مضارع قام، «وزنٌ» بالرفع. وعن عبيد بن عمير أيضاً «فلا يقومُ وزناً» بالنصبِ كأنه تَوَهَّم أنَّ «قام» متعدٍّ. كذا قال الشيخ. والأحسنُ مِنْ هذا أنْ تُعْرَبَ هذه القراءةُ على ما قاله أبو البقاء أَنْ يُجْعَلَ فاعلُ «يقومُ» صنيعُهم أو سَعْيهُم، وينتصِبُ حينئذٍ «وَزْناً» على أحد وجهين: إمَّا على الحال، وإمَّا على التمييز.

106

قوله: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ} : فيه أوجهُ كثيرةٌ

أحدُها: أَنْ يكونَ «ذلك» خبرَ مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، و «جزاؤُهم جهنَّم» جملةٌ برأسها. الثاني: أن يكون «ذلك» مبتدأ اولَ، و «جزاؤهم» مبتدأٌ ثانٍ و «جهنُم» خبرُه، وهو وخبرُه خبرُ الأول. والعائدُ محذوف، أي: جزاؤهم به، كذا قال أبو البقاء، فالهاء في «به» تعود على «ذلك» ، و «ذلك» مُشارٌ به إلى عدم إقامة الوزن. قال الشيخ: «ويحتاج هذا التوجيهُ إلى نظر» . قلت: إنْ عَنَى النظرَ من حيث الصناعةُ فَمُسَلَّمٌ. ووجهُ النظر: أنَّ العائدَ حُذِفَ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ إلا بتكليفٍ، فإنَّ العائدَ على المبتدأ إذا كان مجروراً لا يُحْذَفُ إلا إذا جُرَّ بحرفِ تبعيضٍ أو ظرفية، أو يَجُرُّ عائداً جُرَّ قبله بحرفٍ، جُرَّ به المحذوفُ كقولِه: 320 - 2- أَصِخْ فالذي تُدْعَى به أنت مُفْلِحٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: مفلحٌ به. وإنْ عَنَى من حيث المعنى فهو معنى جيدٌ.

الثالث: أن يكون «ذلك» مبتدأً، و «جزاؤهم» بدلٌ أو بيان، و «جهنم» خبره. الرابع: أن يكون «ذلك» مبتدأ أيضاً، و «جزاؤهم» خبره و «جهنمُ» بدلٌ أو بيانٌ أو خبر ابتداء مضمر. الخامس: أن يُجعل «ذلك» مبتدأ و «جزاؤهم» بدلٌ أو بيان و «جهنم» خبر ابتداءٍ مضمرٍ، و «بما كفروا» خبر الأول، والجملة اعتراضٌ. السادس: أن يكون «ذلك» مبتدأً، والجارُّ الخبر، و «جزاؤهم جهنمُ» جملةٌ معترضةٌ وفيه بُعْدٌ. السابع: أن يكون «ذلك» إشارةً إلى جماعة / وهم مذكورون في قوله: «بالأخسرين» ، وأُشير إلى الجمع كإشارة الواحد كأنه قيل: أولئك جزاؤهم جهنَّمُ، والإِعرابُ المتقدمُ يعودُ إلى هذا التقدير. قوله: «واتَّخذوا» فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه عطفٌ على «كفروا» ، فيكونُ محلُّه الرفعَ لعطفِه على خبر «إنَّ» . الثاني: أنه متسأنفٌ فلا مَحَلَّ له. والباء في قوله: «بما كفروا» لا يجوزُ تعلُّقُها ب «جزاؤهم» للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه.

107

قوله: {نُزُلاً} : فيه ما تقدَّم: من كونِه اسمَ مكانِ النزولِ، او ما يُعَدُّ للضيفِ. وفي نصبه وجهان، أحدهما: أنه خبر «كانت» ، و «لهم» متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حال مِنْ «نُزُلا» ، أو على البيان، أو ب «كانت» عند مَنْ يرى ذلك. والثاني: أنه حالٌ من «جنات» ، أي: ذوات نُزُلٍ، والخبرُ الجارُّ.

108

قوله: {لاَ يَبْغُونَ} : الجملةُ حالٌ: إمَّا مِنْ صاحب «خالدين» ، وإمَّا من الضمير في «خالدين» ، فتكونُ حالاً متداخلة.

والحِوَل: قيل: مصدرٌ بمعنى التحوُّل: يُقال: حال عن مكانه حِوَلاً، فهو مصدرٌ كالعِوَج والعِوَد والصِّغَر قال: 320 - 4- لكلِّ دولةٍ أجلُ ... ثم يُتاحُ لها حِوَل وقال الزجاج: «هو عند قومٍ بمعنى الحِيلة في التنقُّل» . وقال ابن عطية: «والحِوَلُ: بمعنى التحوُّل» قال مجاهد: «مُتَحَوَّلاً» وأنشد الرجز المتقدم ثم قال: «وكأنه اسم جمع، وكأنَّ واحدَة حوالة» قلت: وهذا غريب والمشهورُ الأولُ. والتصحيح في فِعَل هو الكثير إن كان مفرداً نحو: الحِوَل وإن كان جمعاً فالعكسُ نحو: «ثِيَرة» و. . . .

109

قوله: {تَنفَدَ} : قرأ الأَخوان «يَنْفَذَ» بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي. والباقون بالتاء من فوقُ لتأنيثِ اللفظ. وقرأ السُّلمي -

ورُويت عن أبي عمرو وعاصم - تَنَفَّدَ - بتشديدِ الفاءِ، وهو مُطاوَعُ نَفَّدَ بالتشديد نحو: كسَّرته فتكسَّر. وقراءةُ الباقين مطاوعُ أَنْفَدْته. قوله: «ولو جِئنا» جوابُها محذوف لِفَهْمِ المعنى تقديره: لنفِدَ. والعامَّةُ على «مَدَداً» بفتح الميم. والأعمشُ قرأ بكسرها، ونصبُه على التمييز كقوله: 320 - 5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّ الهوى يَكْفِيْكه مثلُه صَبْرا وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس «مِداداً» كالأول. ونصبُه على التمييز أيضاً عند أبي البقاء. وقال غيرُه - كأبي الفضل الرازي -: إنه منصوب على المصدرِ بمعنى الإِمداد نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] قال: والمعنى: ولو أَمْدَدْناه بمثلِه إمداداً.

110

قوله: {أَنَّمَآ إلهكم} : «أنَّ» هذه مصدرية وإنْ كانت مكفوفةً ب «ما» . وهذا المصدر قائمٌ مقامَ الفاعلِ كأنه قيل: إنما يُوْحَى إليَّ التوحيدُ. قوله: {وَلاَ يُشْرِكْ} العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ، عُطِفَ بها على أمرٍ. ورُوي عن أبي عمروٍ {وَلاَ تُشْرِكْ} بالتاءِ مِنْ فوقُ خطاباً على الالتفات من الغَيْبة إلى الخطاب ثم التُفِتَ في قولِه {بِعِبَادَةِ رَبِّهِ} إلى الأول. ولو جيْءَ على

الالتفات الثاني: لقيل: ربك. والباءُ سببية، أي: بسبب. وقيل: بمعنى في. والفِرْدوس: الجَنَّةُ مِن الكَرْم خاصة. وقيل: بل ما كان غالبُها كَرْماً. وقيل: كل ما حُوِطَ فهو فِرْدوسٌ والجمع فراديس. وقال المبرد: «الفِرْدوس فيما سمعتُ من العرب: الشجرُ الملتفُّ، والأغلبُ عليه أن يكون من العِنَب» . وحكى الزجاج أنها الأَوْدِيَة التي تُنْبِتُ ضُروباً من النَّبْت. واختُلف فيه: فقيل: هو عربيٌّ وقيل: أعجمي. وهل هو روميٌّ أو فارسيٌّ أو سُرْيانيٌّ؟ قيل: ولم يُسْمع في كلام العرب إلا في بيت حَسَّان: 320 - 6- وإنَّ ثوابَ اللهِ كلَّ مُوحِّدِ ... جِنانٌ من الفردوسِ فيها يُخْلَّدُ وهذا ليس بصحيح، لأنه سُمع في شعرِ أميةَ بنِ أبي الصلت: 320 - 7- كانت منازلُهمْ إذ ذاك ظاهرةً ... فيها الفَراديسُ ثم الثومُ والبَصَلُ ويقال: كَرْمٌ مُفَرْدَسٌ، أي: مُعَرَّشٌ، ولهذا سُمِّيَتِ الروضةُ التي دونَ اليَمامة فِرْدَوساً. وإضافةُ «جنَّات» إلى الفِرْدوس إضافةٌ تبيينٍ.

مريم

قوله: {ذِكْرُ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍِ. أحدُها: أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبر، تقديرُه: فيما يُتْلَى عليكم ذِكْرُ. الثاني: أنه خبرٌ محذوفٌ المبتدأ، تقديرُه: المَتْلُوُّ ذِكْرُ، أو هذا ذِكْرُ. الثالث: أنه خبرُ الحروفِ المتقطعةِ، وهو قولُ يحيى بن زياد. قال أبو البقاء: «وفيه بُعْدٌ؛ لأن الخبرَ هو المبتدأُ في المعنى، وليس في الحروفِ المقطَّعةِ ذِكْرُ الرحمةِ، ولا في ذكرِ الرحمة معناها» . والعامَّةُ على تسكينِ أواخرِ هذه الأحرفِ المقطَّعةِ، وكذلك كان بعضُ القُرِّاءِ يقفُ على كلِّ حرفٍ منها وَقْفَةً يسيرةً مبالغَةً في تمييزِ بعضِها مِنْ بعضٍ. وقرأ الحسنُ «كافُ» بالضم، كأنه جَعَلها معربةً، ومَنَعها من الصَّرْف للعَلَميَّةِ والتأنيث. وللقُرَّاء خلافٌ في إمالة «يا» و «ها» وتفخيمِهما.

وبعضُهم يُعَبِّر عن التفخيم بالضمِّ، كما يُعَبِّر عن الإِمالةِ بالكسرِ، وإنما ذكَرْتُه لأنَّ عبارتَهم في ذلك مُوْهِمَةٌ. وأظهر دالَ صاد قبل ذال «ذَكْرُ» نافعٌ وابنُ كثير وعاصم لأنه الأصل، وأدغمها فيها الباقون. والمشهورُ إخفاءُ نونِ «عَيْن» قبل الصاد؛ لأنها تُقاربها، ويشتركان في الفم، وبعضُهم يُظْهِرُها لأنها حروف مقطعة يُقْصَدُ تمييزُ بعضِها [من بعض] . و «ذِكْرُ» مصدرٌ مضافٌ. قيل: إلى مفعولِه وهو الرحمةُ، والرحمةُ في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعلِه، و «عبدَه» مفعولٌ به. والناصبُ له نفسُ الرحمةِ، ويكونُ فاعلُ الذِّكْرِ غيرَ مذكورٍ لفظاً، والتقدير: أَنْ ذَكَرَ اللهُ رحمتَه عبدَه. وقيل: بل «ذِكْرُ» مضافٌ إلى فاعلِه على الاتِّساعِ ويكون «عبدَه» منصوباً بنفسِ الذِّكْر، والتقديرُ: أَنْ ذَكَرَتِ الرحمةُ عبدَه، فَجَعَلَ الرحمةَ ذاكرةً له مجازاً. و «زكريَّا» بدلٌ أو عطفٌ بيانٍ، أو مصنوبٌ بإضمار «أَعْني» . وقرأ يحيى بن يعمر - ونقلها الزمخشريُّ عن الحسنِ - «ذَكَّرَ» فعلاً ماضياً مشدِّدا، و «رحمةَ» بالنصبِ على أنها مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَتْ على

الأولِ، وهو «عبدَه» والفاعلُ: إمَّا ضميرُ القرآنِ، أو ضميرُ الباري تعالى. والتقدير: أَنْ ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ - أو ذَكَّر اللهُ - عَبْدَه رحمتَه، أي: جَعَلَ العبدَ يَذْكرُ رحمتَه. ويجوز على المجازِ المتقدِّمِ أن تكون «رحمةَ ربك» هو المفعولَ الأولَ، والمعنى: أنَّ اللهَ جَعَلَ الرحمةَ ذاكرةً للعبدِ. وقيل: الأصلُ: ذكَّرَ برحمةٍ، فلمَّا انْتُزِعَ الجارُّ نُصِب مجرورُه، ولا حاجةَ إليه. وقرأ الكلبيُّ «ذَكَرَ» بالتخفيفِ ماضياً، «رحمةَ» بالنصبِ على المفعول به، «عبدُه» بالرفع فاعلاً بالفعلِ قبلَه، «زكريَّا» بالرفعِ على البيانِ او البدلِ او على إضمارِ مبتدأ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى. وقرأ يحيى بن يعمر - فيما نقله عنه الدانيُّ - «ذَكَّرْ» فعلَ أمرٍ، «رحمةَ» و «عبدةَ» بالنصب فيهما على أنهما مفعولان، وهما على ما تقدَّم مِنْ كونِ كلِّ واحدٍ يجوز أَنْ يكونَ المفعولَ الأولَ أو الثاني، بالتأويلِ المتقدِّم في جَعْلِ الرحمة ذاكرةً مجازاً.

3

قوله: {إِذْ نادى} : في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍٍ، أحدُها: أنَّه «ذِكْرُ» ولم يذكر الحوفيُّ غيرَه. والثاني: أنَّه «رحمة» ، وقد ذكر الوجهين أبو البقاء. والثالث: أنَّه بدلٌ مِنْ «زكريَّا» بدلُ اشتمالٍ لأنَّ الوقتَ مُشْتملٌ عليه وسيأتي مِثْلُ هذا عند قولِه {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} [مريم: 16] ونحوِه.

4

قوله: {قَالَ رَبِّ} : لا مَحَلَّ لهذهِ الجملةِ لأنها تفسيرٌ

لقولِه «نادى ربَّه» وبيانٌ، ولذلك تُرِكَ العاطفُ بينهما لشدَّة الوَصْلِ. قوله: «وَهَنَ» العامَّةُ على فتحِ الهاء. وقرأ الأعمشُ بكسرِها. وقُرِئ بضمِّها، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ. ووَحَّد العظمَ لإِرادةِ الجنسِ، يعني أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عَمُوْدُ البدنِ، وأشدُّ ما فيه وأَصْلَبُه، قد أصابه الوَهْنُ، ولو جُمع لكان قصداً أخرَ: وهو أنه لم يَهِنْ منه بعضُ عظامه ولكن كلُّها، قاله الزمخشري: وقيل: أُطْلِقَ المفردُ، والمرادُ به الجمعُ كقولِه: 320 - 8- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها ... فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ أي: جلودُها، ومثلُه: 320 - 9- كُلوا في بعضِ بطنِكُم تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ أي: بطونكم. و «مَنَّي» حالٌ من «العَظْمِ» . وفيه رَدُّ على مَنْ يقول: إن الألفَ واللامَ تكونُ عِوَضاً من الضميرِ المضافِ إليه؛ لأنه قد جُمع بينهما هنا وإن كان الأصلُ: وَهَنَ عَظْمِي. ومثلُه في الدَّلالةِ على ذلك ما أنشدوه شاهداً على ما ذَكَرْتُ: 321 - 0- رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفْيقَةٌ ... بجَسِّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ قوله: «شَيْباً» في نصبه ثلاثةُ اوجهٍ، احدُها: - وهو المشهورُ- أنه

تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية؛ إذ الأصلُ: اشتعلَ شيبُ الرأسِ. قال الزمخشري: «شبَّه الشيبَ بشُواظِ في بياضِه وانتشارِه في الشعر وفُشُوِّه فيه، وأَخْذِه منه كلَّ مَأْخَذٍ باشتعال النار، ثم أخرجه مُخْرَجَ الاستعارةِ، ثم أَسْنَدَ الاشتعالَ إلى مكانِ الشِّعْر ومَنْبَتِه وهو الرأسُ، وأخرج الشَّيْبَ مميَِزاً، ولم يُضِفِ الرأسَ اكتفاءً بعِلْم المخاطب أنه رأسُ زكريا، فمِنْ ثَمَّ / فَصُحَتْ هذه الجملةُ وشُهِد لها بالبلاغةِ» . انتهى. وهذا مِنْ استعارةِ محسوسٍ لمحسوسٍ، ووجهُ الجمع: الانبساطُ والانتشارُ. والثاني: أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ، فإنَّ معنى «اشتعلَ الرأسُ» شابَ. الثالث: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، اي: شائباً أو ذا شيبٍ. قوله: «بدُعائِك» فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ المصدرَ مضافٌ لمفعولِه، أي: بدعائي إياك. والثاني: أنه مضافُ لفاعلِه، أي: لم أكنْ بدعائِك لي إلى الإِيمانِ شَقِيَّا.

5

قوله: {خِفْتُ الموالي} : العامَّةُ على «خَفْتُ» بكسر الحاء وسكونِ الفاء، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلم. و «المَوالي» مفعولٌ به بمعنى: أنَّ مَوالِيه كانوا شِرارَ بني إسرائيل، فخافَهم على الدِّين. قاله الزمخشري.

قال أبو البقاء: «لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: عَدَمَ المَوالي أو جَوْرَ المَوالي» . وقرأ الزُّهري كذلك، إلا أنه سَكَّن ياءَ «المَواليْ» وقد تَقَدَّم أنَّه قد تُقَدَّر الفتحةُ في الياء والواو، وعليه قراءةُ زيدِ بنِ عليّ {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وتقدَّم إيضاحُ هذا. وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن العاص ويحيى بن يعمر وعلي بن الحسين في آخرين: «خَفَّتِ» بفتحِ الخاءِ والفاءِ مشددةً وتاءِ تأنيثٍ، كُسِرَتْ لالتقاءِ السَّاكنين. و «المَوالِيْ» فاعلٌ به، بمعنى دَرَجُوا وانقرضُوا بالموت. قوله: {مِن وَرَآئِي} هذا متعلِّقٌ في قراءةِ الجُمهورِ بما تضمنَّه المَوالي مِنْ معنى الفِعْلِ، أي: الذين يَلُوْن الأمرَ بعدي. ولا يتعلق ب «خَفْتُ» لفسادِ المعنى، وهذا على أَنْ يُرادَ ب «ورائي» معنى خلفي وبعدي. وأمَّا في قراءةِ «خَفَّتْ» بالتشديد فيتعلَّق الظرفُ بنفسِ الفعل، ويكونُ «ورائي» بمعنى قُدَّامي. والمرادُ: أنهم خفُّوا قدَّامَه ودَرَجُوا، ولم يَبْقَ منهم مَنْ به تَقَوٍّ واعْتِضادٌ. ذكر هذين المعنيين الزمخشري.

والمَوالي: بنو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشاعرِ لهم بذلك في قوله: 321 - 1- مَهْلاً بني عَمَّنا مَهْلاً مَواليَنا ... لا تَنْبُشوا بَيْنَنا ما كان مَدْفُوْنا وقال آخر: 321 - 2- ومَوْلَىً قد دَفَعْتُ الضَّيْمَ عنهُ ... وقد أمْسَى بمنزلةِ المَضِيْمِ والجمهورُ على «ورائي» بالمدِّ. وقرأ ابنُ كثير - في روايةٍ عنه - «وَرايَ» بالقصر، ولا يَبْعُدُ ذلك عنه فإنه قَصَرَ «شُرَكاي» في النحل كما تقدَّم، وسيأتي أنَّه قَرَأ {أَنْ رَاْه اسْتَغْنى} في العَلَق، كأنه كان يُؤْثِرُ القَصْر على المدِّ لخفَّتِهن ولكنه عند البصريين لا يجوزُ سَعَةً. و {مِن لَّدُنْكَ} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «هَبْ» . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ «وَليَّاً» لأنه في الأصل صفةٌ للنكرةِ فقُدِّمَ عليها.

6

قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} : قرأ أبو عمروٍ والكسائي بجزمِ الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر إذ تقديرُه: إن يَهَبْ يَرِثْ. والباقون برفِعهما على أنَّهما صفةٌ ل «وليَّاً» .

وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه - وابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وقتادة في آخرين: «يَرِثُني» بياء الغيبة والرفع، وأَرثُ «مُسْنداً لضمير المتكلم. قال صاحب» اللوامح «: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والتقديرُ: يَرِثُ نبوَّتي إن مِتُّ قبلَه وأَرِثُه مالَه إنْ مات قبلي» . ونُقِل هذا عن الحسن. وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والجحدري «يَرِثُني وارثٌ» جعلوه اسمَ فاعلٍ، أي: يَرِثُني به وارِثٌ، ويُسَمى هذا «التجريدَ» في علم البيان. وقرأ مجاهد «أُوَيْرِثٌ» وهو تصغيرُ «وارِث» ، والأصلُ وُوَيْرِث بواوين. وَجَبَ قَلْبُ أولاهما همزةً لاجتماعهما متحركتين أولَ كلمةٍ، ونحو «أُوُيْصِل» تصغيرَ «واصل» . والواو الثانية بدلٌ عن ألفِ فاعِل. وأُوَيْرِث مصروفٌ. لا يُقال: ينبغي أن يكونَ غيرَ مصروفٍ لأنَّ فيه علتين الوصفيةَ ووزنَ الفعل، فإنه بزنة أُبَيْطِر مضارع بَيْطَر، وهذا مِمَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير. لا يُقال ذلك لأنه غَلَطٌ بَيِّنٌ؛ لأنَّ «أُوَيْرِثاً» وزنُه فُوَيْعِل لا أُفَيْعِل بخلافِ «أُحَيْمِر» تصعير «أَحْمَر» .

وقرأ الزُّهْري «وارِث» بكسرِ الواو، ويَعْنون بها الإِمالةَ. قوله: «رَضِيَّا» مفعولٌ ثانٍ، وهو فَعِيْل بمعنى فاعِل، وأصلُه رَضِيْوٌ لأنه مِنَ الرِّضْوان.

7

قوله: {يحيى} : فيه قولان: أحدُهما: أنه سامٌ أعجميٌّ لا اشتقاقَ له، وهذا هو الظاهرُ، ومَنْعُه من الصَّرْفِ للعَلَمِيَّةِ والعُجْمة. وقيل: بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ كما سَمَّوْا بيَعْمُرَ ويَعيشَ ويَموتَ، وهو يموتُ بنُ المُزَرَّع. والجملةُ مِنْ قولِه: {اسمه يحيى} في محلِّ جَرٍّ صفةً ل «غُلام» وكذلك {لَمْ نَجْعَل} . و «سَمِيَّا» كقوله: «رَضِيَّا» إعراباً وتصريفاً لأنَّه من السُّمُوِّ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين: أنَّ الاسمَ من السُّمُوِّ، ولو كان من الوَسْم لقيل: وَسِيما.

8

قوله: {عِتِيّاً} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مفعولٌ به، أي: بَلَغْتُ عِتِيَّاً من الكِبَرِ، فعلى هذا {مِنَ الكبر} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «بَلَغْتُ» ، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عِتِيَّا» لأنه في الأصلِ صفةٌ له كما قَدَّرْتُه لك. الثاني: أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً مِنْ الفعل، لأنَّ / بلوغَ

الكِبرَ في معناه. الثالث: أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من فاعل «بَلَغْتُ» ، أي: عاتياً أو ذاعِتِيّ. الرابع: أنه تمييزٌ. وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ ف «مِنْ» مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء، والأولُ هو الوجهُ. والعُتُوُّ: بزنة فُعُوْل، وهو مصدرُ عَتا يَعْتُو، أي: يَبِس وصَلُب. قال الزمخشري: «وهو اليُبْس والجَسَاوَةُ في المفاصِلِ والعظام كالعُوْدِ القاحِل يُقال: عَتا العُوْدُ وجَسا، أو بَلَغْتُ مِنْ مدارجِ الكِبَر ومراتبِه ما يُسَمَّى عِتِيَّا» يريد بقوله: «أو بَلَغْتُ» أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عتا يَعْتُو، أي: فَسَدَ. والأصل: عُتُوْوٌ بواوين فاسْتُثْقِل واوان بعد ضمتين، فَكُسِرَتِ التاءُ تخفيفاً فانقلبت الواوُ الأولى ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِمت فيها الياءُ الأُولى. وهذا الإِعلالُ جارٍ في المفرد كهذا، والجمعِ نحو: «عِصِيّ» إلا أنَّ الكثيرَ في المفردِ التصحيحُ كقولِه: «وعَتَوْا عُتُوَّاً كبيراً» وقد يُعَلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمع والإِعلالُ، وقد يُصَحَّحُ نحو: «إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة» وقالوا: فُتِيَ وفُتُوّ.

وقرا الأخَوان «عِتِيَّا» و «صِلِيَّا» و «بِكِيَّا» و «جِثِيَّا» بكسر الفاء للإِتباع، والباقون بالضمِّ على الأصل. وقرأ عبدُ الله بن مسعود بفتح الأول مِنْ «عَتِيَّا» و «صَلِيَّا» جَعَلَهما مصدَرَيْن على زنة فَعيل كالعَجيج والرَّحيل. وقرأ عبد الله ومجاهد «عُسِيَّا» بضم العين وكسر السينِ المهملة. وتقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف وتصريفُها.

9

قوله: {كذلك} : في محلِّ هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنه رفعٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ كذلك، ويكون الوقف على: «كذلك» ثم يُبْتَدَأ بجملة أخرى. والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، فَقَدَّره أبو البقاء ب «أَفْعَلُ مثلَ ما طلبْتَ، وهو كنايةٌ عن مطلوبِه، فَجَعَلَ ناصبَه مقدَّراً، وظاهرُه أنَّه مفعولٌ به. وقال الزمخشري:» أو نصبٌ ب «قال» و «ذلك» إشارةٌ إلى مُبْهم

يُفَسِّره {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ، ونحوُه: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] . وقرأ الحسن {وهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ولا يُخَرَّجُ هذا إلا على الوجه الأول، أي: الأمرُ كما قلت، وهو على ذلك يَهُون عليَّ. ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ يُشارَ ب «ذلك» إلى ما تقدَّم من وَعْدِ الله، لا إلى قولِ زكريَّا. و «قال» محذوفٌ في كلتا القراءتين. - في كلتا القراءتين: يعني قراءةَ العامة وقراءةَ الحسنِ - أي: قال هو عليَّ هيِّن، قال: وهو عَلَيَّ هَيِّن، وإن شئتَ لم تَنْوِه، لأنَّ اللهَ هو المخاطَبَ، والمعنى أنه قال ذلك، ووَعْدُه وقولُه الحق «. وفي هذا الكلامِ قَلَقٌ؛ وحاصلُه يَرْجع إلى أنَّ» قال «الثانيةَ هي الناصبةُ للكاف. وقوله:» وقال محذوفٌ «يعني تفريغاً على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند» قال ربك «ويُبْتَدأ بقولِه: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} . وقوله:» وإنْ شِئْتَ لم تَنْوِه «أي: لم تَنْوِ القولَ المقدَّرَ، لأنَّ اللهَ هو المتكلَّمُ بذلك. وظاهرُ كلامِ بعضهِم: أنَّ» قال «الأولى مُسْنَدةٌ إلى ضميرِ المَلَكِ، وقد صَرَّح بذلك ابنُ جريرٍ، وتبعه ابن عطية. قال الطبري:» ومعنى قولِه «قال كذلك» ، أي: الأمران اللذان ذكرْتَ مِنَ المرأةِ العاقرِ والكِبَرِ هو كذلك، ولكم قال ربُّكِ، والمعنى عندي: قال المَلَكُ: كذلك، أي: على هذه الحال، قال ربك: هو عليَّ هَيِّنٌ «انتهى. وقرأ الحسن البصري» عَلَيِّ «بكسر ياء المتكلم كقوله: 321 - 3-

عَلَيَّ لعمروٍ نِعْمَةٌ بعد نِعْمةٍ ... لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقَارِبِ أنشدوه بالكسر. وقد أَمْنَعْتُ الكلامَ في هذه المسألة في قراءةِ حمزةَ {بِمُصْرِخِيِّ} . قوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} هذه جملة مستأنفة. وقرأ الأخَوان» خَلَقْناك «أسنده إلى الواحدِ المعظِّمِ نفسَه. والباقون» خَلَقْتُكَ «بتاءِ المتكلم. وقوله: {وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} جملةٌ حاليةٌ، ومعنى نَفْيِ كونِه شيئاً، أي: شيئاً يُعْتَدُّ به كقوله: 321 - 4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا رَأَى غيرَ شَيْءٍ ظَنَّه رَجُلاً وقالوا: عَجِبْتُ مِنْ لا شيء. ويجوز أن يكونَ قال ذلك؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ.

10

قوله: {سَوِيّاً} : حالٌ مِنْ فاعل «تُكَلِّمَ» . وعن ابن عباس: أنَّ «سَوِيَّاً» من صفةِ الليالي بمعنى كاملات، فيكونُ نصبُه على النعتِ للظرف. والجمهورُ على نصب ميم «تُكَلَّم» جعلوها الناصبةَ. وابن أبي عبلة بالرفعِ، جَعَلها المخففةَ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ شانٍ محذوف، و «لا» فاصلةٌ. وتقدَّم تحقيقُه.

11

قوله: {أَن سَبِّحُواْ} : يجوز في «أَنْ» أَنْ تكونَ مفسِّرةً لأَوْحى، وأَنْ تكونَ مصدريةًَ مفعولةً بالإِيحاء. و {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} ظرفا زمانٍ للتسبيح. وانصرفَتْ «بُكْرَة» لأنه لم يُقْصَد بها العَلَمِيَّةُ، فلو قُصِد بها العَلَميةُ امتنعت عن الصرف. وسواءً قُصد بها وقتٌ بعينه نحو: لأسيرنَّ الليلةَ إلى بكرةَ، أم لم يُقصد نحو: بكرةُ وقتٌ نشاط [لأنَّ عَلَمِيَّتها جنسيَّة كأُسامة] ، ومثلُها في ذلك كله «غدوة» . وقرأ طلحة «سَبَّحوه» بهاءِ الكناية. وعنه أيضاً: «سَبِّحُنَّ» بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكَّداً بالثقيلة وهو كقولِه: {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] وقد تقدَّم تصريفه.

12

قوله: {بِقُوَّةٍ} : حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي: ملتبساً أنت، أو ملتبساً هو بقوة. و «صَبِيَّا» حال من هاء «آتيناه» .

13

{وَحَنَاناً} : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به نَسَقاً على «الحُكْمَ» ، أي: وآتيناهُ تَحَنُّناً. والحنانُ: الرحمةُ واللِّيْن، وأنشد أبو / عبيدة: 321 - 5- تحنَّنْ عليَّ هداك المليكُ ... فإنَّ لكلِّ مقامٍ مَقالا

قال: «وأكثر استعمالِه مثنَّى كقولِهم: حَنَانَيْكَ، وقولِه: 321 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ وجوَّز فيه أبو البقاء أَنْ يكونَ مصدراً، كأنَّه يريد به المصدرَ الواقعَ في الدعاء نحو: سَقْياً ورَعْياً، فنصبُه بإضمارِ فِعْلٍ كأخواتِه. ويجوز أَنْ يرتفعَ على خبر ابتداءٍ مضمرٍ نحو: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] و {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الاعراف: 46، الرعد: 24، الزمر: 73] في أحد الوجهين: وأنشد سيبويه: 321 - 7- وقالَتْ حَنانٌ ما أَتَى بك هَهنا ... أذو نَسَبٍ أَمْ أنتَ بالحَيِّ عارِفُ وقيل لله تعالى: حَنان، كما يقال له» رَحيم «قال الزمخشري:» وذلك على سبيل الاستعارة «. و {مِّن لَّدُنَّا} صفةٌ له.

14

قوله: {وَبَرّاً} : يجوز أن يكون نَسَقاً على خبر «كان» ، أي: كان تقيَّاً بَرَّاً. ويجوز أَنْ يكون منصوباً بفعلٍ مقدر، أي: وجَعَلْناه بَرَّاً. وقرأ الحسن «بِرَّاً» بكسر الباء في الموضعين. وتأويلُه واضح كقوله: {

ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] وتقدَّم تأويلُه. و «بِوالِدَيْهِ» متعلِّقٌ ب «بَرَّاً» . و «عَصِيَّا» يجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعُولاً، والأصل: عَصُوْيٌ فَفُعِل فيه ما يُفْعَل في نظائره، وفَعُول للمبالغة كصَبُوْر. ويجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعِيلاً، وهو للمبالغة أيضاً.

16

قوله: {إِذِ انتبذت} : في «إذ» أوجهٌ، أحدُها: أنَّها منصوبةٌ ب «اذكُرْ» على أنها خَرَجَتْ عن الظرفية، إذ يستحيل أنْ تكونَ باقيةً على مُضِيِّها. والعاملُ فيها ما هو نَصٌّ في الاستقبال. الثاني: أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم تقديره: واذكر خبرَ مريم، أو نَبَأَها، إذ انْتَبَذَتْ، ف «إذ» منصوبٌ بذلك الخبر أو النبأ. والثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوف تقديره: وبَيَّنَ، أي: اللهُ تعالى، فهو كلامُ آخرُ. وهذا كما قال سيبويه في قوله: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} [النساء: 171] وهو في الظرف أقوى وإنْ كان مفعولاً به. والرابع: أن يكونَ منصوباً على الحال مِنْ ذلك المضافِ المقدَّر، أي: خبر مريم أو نبأ مريم. وفيه بُعْدٌ. قاله أبو البقاء. والخامس: أنه بدلٌ مِنْ «مريمَ» بدلُ اشتمال. قال الزمخشري: «لأنَّ الأحيانَ مشتملةٌ على ما فيها، وفيه: أنَّ المقصودَ بِذِكْر مريم ذِكْرُ وقتها هذا لوقوع هذه القصةِ العجيبةِ فيه» . قال أبو البقاء: - بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجهَ - «وهو

بعيدٌ؛ لأنَّ الزمانَ إذا لم يكنْ حالاً من الجثة ولا خبراً عنها ولا صفةً لها لم يكن بَدَلاً منها» . وفيه نظرٌ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صحةِ ما ذَكَرَ عَدَمُ صحةِ البدلية، ألا ترى نحو: «سُلِبَ زيدٌ ثوبُه» ف «ثوبُه» لا يَصِحُّ جَعْلُه خبراً عن «زيد» ولا حالاً منه ولا وصفاً له، ومع ذلك فهو بدلٌ اشتمالٍ. السادس: أنَّ «إذ» بمعنى «أَنْ» المصدرية كقولك: «لا أُكْرِمُك إذ لم تكرِمْني» ، أي: لأنَّك لا تُكْرِمُني، فعلى هذا يَحْسُن بدلُ الاشتمال، أي: واذكر مريمَ انتباذَها. ذكره أبو البقاء. والانْتِباذُ: افتعالٌ من النَّبْذِ وهو الطَّرْحُ، وقد تقدَّم بيانُه.

17

والجمهورُ على ضَمِّ الراء مِنْ «رُوْحِنا» وهو ما يَحْيَوْن به. وقرأ أبو حيوة وسهلٌ بفتحها، أي: ما فيه راحةٌ للعباد كقوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] . وحكى النقاش أنه قد قُرِئ «رُوْحَنَّا» بتشديدِ النون، وقال: هو اسم مَلَكٍ من الملائكة. قوله: {بَشَراً سَوِيّاً} حالٌ مِنْ فاعل «تَمَثَّلَ» . وسَوَّغ وقوعَ الحالِ جامدة وَصْفُها، فلمَّا وُصِفَتِ النكرةُ وقعت حالاً.

19

قوله: {لأَهَبَ} : قرأ نافع وأبو عمرو «لِيَهَبَ» بالياء

والباقون «لأَِهَبَ» بالهمزة. فالأُوْلَى: الظاهرُ فيها أنَّ الضميرَ للربِّ، أي: ليَهَبَ الرَّبُّ. وقيل: الأصلُ: لأَهَبَ بالهمز، وإنما قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ فتتَّفِقُ القراءتان وفيه بُعْدٌ. وأمَّا الثانيةُ فالضميرُ للمتكلم، والمرادُ به المَلَكُ وأسنده لنفسِه لأنه سببٌ فيه. ويجوز أَنْ يكونَ الضمير لله تعالى ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف. ويُقَوِّي الذي قبله أنَّ في بعض المصاحف: أَمَرَني أَنْ أَهَبَ لك. وقوله: {إِن كُنتَ تَقِيّاً} [مريم: 18] جوابُه محذوفٌ أو متقدم.

20

قوله: {بَغِيّاً} : في وزنِه قولان، أحدُهما - وهو قولُ المبردِ - أنَّ وزنَه فُعول، والأصل بَغُوْيٌ فاجتمعت الياء والواو فَفُعِل فيه ما هو معروفٌ. قال أبو البقاء: «ولذلك لم تَلْحَقْ تاءُ التأنيث كما لم تَلْحَقْ في صبور وشكور» . ونَقَل الزمخشري عن أبي الفتح أنها فَعِيْل، قال: «ولو كانَتْ فَعُولاً لقيل: بَغُوٌ، كما يقال: فلان نَهُوٌ عن المنكر» ولم يُعْقِبْه بنكير. ومَنْ قال: إنها فَعِيْل فهل هي بمعنى فاعِل او بمعنى مَفعول؟ فإنْ كانَتْ بمعنى فاعِل فينبغي أَنْ تكونَ بتاء التأنيث نحو: امراةٌ قديرةٌ وبَصيرة. وقد أُجيب عن ذلك: بأنها بمعنى النسب كحائِض وطالِق، أي ذات بَغْي. وقال أبو البقاء حين جَعَلَها بمعنى فاعِل: «ولم تَلْحَقِ التاءُ أيضاً لأنها للمبالغة» فجعل العلةَ

في عدم اللِّحاق كونَه للمبالغة. وليس بشيءٍ. وإن قيل بأنها بمعنى مَفْعول فَعَدَمُ الياءِ واضحٌ.

21

قوله: {كذلك} : تقدَّم نظيرُه. قوله: «وَلِنَجْعَلَه» يجوز أن يكونَ علةً، ومُعَلَّلُه محذوفٌ تقديره: لنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك. ويجوز أَنْ يكونَ نَسَقاً على علةٍ محذوفةٍ تقديره: لِنُبَيِّنَ به قُدْرَتَنا ولنجعَله آيةً. والضميرُ عائدٌ على الغلام، واسم «كان» مضمرٌ فيها، أي: وكان الغلامُ، أي: خَلْقُه وإيجادُه أمراً لا بُدَّ منه/.

22

قوله: {فانتبذت بِهِ} : الجارُّ والمجرورُ في محل نصب على الحال، أي: انتبذَتْ وهو مصاحبٌ لها، كقولِه: 321 - 8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَدْوْسُ بنا الجَماجِمَ والتَّرِيْبا

23

قوله: {فَأَجَآءَهَا} : الأصلُ في «جاء» أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه، فإذا دَخَلَتْ عليه الهمزةُ كان القياسُ يقتضي تَعَدِّيَه لاثنين. قال الزمخشري: «إلا أنَّ استعمالَه قد تغيَّر بعد النقلِ إلى معنى الإِلْجاء، ألا تراكَ لا تقول: جِئْتُ المكانَ وأَجَاْءَنْيهِ زيدٌ، كما تقول: بَلَغْتُه وأَبْلَغَنِيْه، ونظيرُه» آتى «حيث لم يُستعمل إلا في الإِعطاء ولم تَقُلْ: أتيت المكانَ وآتانِيه فلان» . وقال أبو البقاء: الأصلُ «جاءها» ثم عُدِّيَ بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ، واسْتُعمل بمعنى أَلْجَأَها «.

قال الشيخ:» قوله وقولُ [غيرِه] : إنَّ «أجاءها» بمعنى أَلْجَأَها يحتاج إلى نَقْلِ أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك مِنْ لسانِ العرب. والإِجاءةُ تدلُّ على المُطلق، فَتَصْلُح لِما هو بمعنى الإِلجاءِ ولِما هو بمعنى الاختيار، كما تقول: «أَقَمْتُ زيداً» فإنه يَصْلُحُ أَنْ تكونَ إقامتُك له قَسْراً أو اختياراً. وأمَّا قوله: «ألا ترك لا تقول» إلى آخره فَمَنْ رَأَى أنَّ التعديةَ بالهمزة قياسٌ أجاز ذلك وإنْ لم يُسْمَعْ، ومَنْ منع فقد سُمِع ذلك في «جاء» فيُجيز ذلك. وأمَّا تنظيرُه ذلك ب «آتى» فليس تنظيراً صحيحاً؛ لأنَّه بناه على أنَّ همزتَه للتعديةِ، وأنَّ أصلَه «أتى» ، بل «آتى» ممَّا بُني على أَفْعَل، ولو كان منقولاً مِنْ «آتى» المتعدِّي لواحد لكان ذلك الواحدُ هو المفعولَ الثاني، والفاعلُ هو الأولُ، إذا عَدَّيْتَه بالهمزةِ تقولُ: «أتى المالُ زيداً» و «آتى عمروٌ زيداً المالَ» فيختلف التركيب بالتعدية لأنَّ «زيداً» عند النحويين هو المفعولُ الأول، و «المالُ» هو المفعولُ الثاني، وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس، فَدَلَّ على أنَّه ليس على ما قاله، وأيضاً فآتى مُرادِفٌ لأَعْطَى، فهو مخالِفٌ من حيث الدَّلالةُ في المعنى. وقوله: «ولم تَقُلْ: أتيت المكانَ وآتانِيْه» هذا غيرُ مُسَلَّمٍ بل تقول: «أتيتُ المكانَ» كما تقول: «جئت المكان» . وقال الشاعر: 321 - 9-

أَتَوْا ناري فقلتُ مَنُوَّنَ أنتُمْ ... فقالوا: الجنُّ قلتُ عِمُوا ظَلاما ومَنْ رأى التعديةَ بالهمزةِ قياساً، قال: «آتانيه» وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ معه ظاهرُه الأجوبة، فلا نُطَوِّلُ بذِكْرِها. وقرأ الجمهورُ «فَأَجَاْءَها» ، أي: أَلْجأها وساقَها، ومنه قولُه: 322 - 0- وجارٍ سارَ مُعْتَمِداً إليكم ... أَجَاْءَتْهُ المَخافةُ والرَّجاءُ وقرأ حَمَّاد بن سَلَمة «فاجَأَها» بألفٍ بعد الفاء وهمزةٍ بعد الجيم، من المفاجأة، بزنة قابَلَها. ويقرأ بألفين صريحتين كأنهم خفَّفوا الهمزةَ بعد الجيمِ، وكذلك رُوِيَت بينَ بينَ. والجمهور على فتحِ الميم من «المَخاض» وهو وَجَعُ الوِلادةِ. ورُوي عن ابن كثير بكسرِ الميمِ، فقيل: هما بمعنى. وقيل: المفتوح اسمُ مصدرٍ كالعَطاء والسَّلام، والمكسورُ مصدرٌ كالقتال واللِّقاء، والفِعال قد جاء مِنْ واحد كالعِقاب والطَّراق. قاله أبو البقاء. والميمُ أصليةٌ لأنه مِنْ تَمَخَّضَتِ الحامِلُ تتمخَّضُ. و {إلى جِذْعِ} يتعلقُ في قراءة العامَّة ب «أَجاءها» ، أي: ساقَها إليه.

وفي قراءةِ حَمَّاد بمحذوفٍ لأنه حالٌ من المفعولِ، أي: فاجَأَها مستندةً إلى جِذْعِ النخلةِ. قوله: «نَسْيَاً» الجمهورُ على كسرِ النون وسكون السين وبصريح الياء بعدها. وقرأ حمزةُ وحفص وجماعة بفتح النون، فالمكسورُ فِعْلُ بمعنى مَفْعول كالذَّبْح والطَّحْن، ومعناه الشيءُ الحقيرُ الذي مِنْ شأنه أن يُنْسَى كالوَتِدِ والحَبْلِ وخِرْقةِ الطَّمْثِ ونحوِها. قال ابن الأنباري: «مَنْ كسر فهو اسمٌ لما يُنْسَى كالنَّقْصُ اسمٌ لما يَنْقص، والمفتوحُ مصدرٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الوصفِ» . وقال الفراء: «هما لغتان كالوَتْر والوِتْر، الكسرُ أحَبُّ إليَّ» . وقرأ محمدُ بن كعب القَرَظيُّ «نِسْئاً» بكسر النون، والهمزةُ بدلُ الياء. ورُوي عنه أيضاً وعن بكر بن حبيب السَّهْمي فتحٌ مع الهمز. قالوا: وهو مِنْ نَسَأْتُ اللَّبَنَ إذا صَبَبْتَ فيه ماءً فاستُهْلِك فيه، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيءُ المُسْتَهْلَكُ، والمفتوحُ مصدر كما كان ذلك من النِّسْيان ونَقَل ابن عطية عن بكر بن حبيب «نَسَا» بفتح النون والسين والقصرِ كعَصَا، كأنه جَعَل فَعَلاً بمعنى مَفْعول كالقَبَض بمعنى المَقْبُوض. و «مَنْسِيَّاً» نعتٌ على البمالغةِ، وأصلُه مَنْسُوْي فَأُدْغم. وقرأ أبو جعفر

والأعمش «مِنْسِيَّاً» بكسر الميم للإِتباع لكسرةِ السين، ولم يَعْتَدُّوا بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصينٍ كقولهم: «مِنْتِن» و «مِنْخِر» .

24

قوله: {مِن تَحْتِهَآ} : قرأ الأخَوَان ونافع وحفص بكسر ميم «مِنْ» ، وجَرَّ «تحتِها» على الجار والمجرور. والباقون بفتحها ونصب «تحتَها» . فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكونَ الفاعلُ في «نادَى» مضمراً وفيه تأويلان، أحدهما: هو جبريل ومعنى كونِه {مِن تَحْتِهَآ} أنه في مكانٍ أسفلَ منها. ويَدُل على ذلك قراءةُ ابنِ عباس «فناداها مَلَكٌ مِنْ تحتها: فَصَرَّح به. و {مِن تَحْتِهَآ} على هذا فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بالنداء، أي: جاء النداء مِنْ هذه الجهةِ. والثاني: أنه حالٌ من الفاعل، أي: فناداها وهو تحتَها. وثاني التأويلين: أنَّ الضمير لعيسى، لأي: فناداها المولودُ مِنْ تحت ذَيْلها. والجارُّ فيه الوجهان: مِنْ كونِه متعلِّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ. والثاني أوضح. والقراءةُ الثانية: تكون فيها» مَنْ «موصولةً، والظرفُ صلتُها، والمرادُ بالموصولِ: إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى. قوله: {أَلاَّ تَحْزَنِي} يجوزُ في» أَنْ «أَنْ تكونَ مفسرةً لتقدُّمِها ما هو بمعنى

القول، و» لا «على هذا ناهيةٌ، وحَذْفُ النونِ للجزم؛ وأَنْ تكونَ الناصبةَ و» لا «حينئذٍ نافيةٌ، وحَذْفُ النونِ للنصبِ. ومَحَلُّ» أنْ «: إمَّا نصب أو جرٌّ لأنها على حَذْفِ حرفِ الجر، أي: فناداها بكذا. والضمير في» تحتها «: إمَّا لمريمَ عليها السلام، وإمَّا للنخلةِ، والأولُ أَوْلَى لتوافُقِ الضميرين. قوله:» سَرِيَّا «يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً أولَ، و» تحتك «مفعولٌ ثان لأنها بمعنى صَيَّر. ويجوز أن تكون بمعنى خَلَق، فتكون» تحتك «لغواً. والسَّرِيُّ فيه قولان، أحدهما: أنه الرجلُ المرتفعُ القَدْرِ، مِنْ سَرُوَ يَسْرُو كشَرُف يَشْرُف، فهو سَرِيٌّ. وأصله سَرِيْوٌ، فأُعِلَّ إعلالَ سَيِّد، فلامُه واوٌ. والمرادُ به في الآية عيسى بن مريم عليه السلام، ويُجْمع» سَرِيُّ «على» سَراة «بفتح السين، وسُرَواء كظُرَفاء، وهما جمعان شاذَّان، بل قياسُ جَمْعِه» أَسْرِياء «، كغنِيِّ وأَغْنِياء. وقيل: السَّرِيُّ: مِنْ سَرَوْتُ الثوبَ، أي: نَزَعْتُه، وسَرَوْتُ الجُلَّ عن الفَرَس، أي: نَزَعْتُه. كأنَّ السَّرِيَّ سَرَى ثوبَه، بخلاف المُدَّثِّر والمُتَزَمِّل. قاله الراغب. والثاني: أنه النهرُ الصغير، ويناسِبُه» فكُلي واشربي «واشتقاقه مِنْ سَرَى يَسْرِي، لأن الماءَ يَسْري فيه، فلامُه على هذا ياء، وأنشدوا للبيد: 322 - 1-

فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ فَصَدَّعا ... مَسْجورةً مُتَجاوِزاً قُلاَّمُها

25

قوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ} : يجوز أَنْ تكونَ الباءُ في «بِجَذْعِ» زائدةً كهي في قولِه تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] [وقولِه:] 322 - 2-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْن بالسُّوَر وأنشد الطبري: 322 - 3- بوادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرَه ... وأَسْفَلُه بالمَرْخِ واشَّبَهانِ أي: هُزِّي جِذْعَ النخلةِ. ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوفِ تقديرُه: وهُزِّي إليك رُطَباً كائناً بجذع النخلة. ويجوز أن يكونَ هذا محمولاً على المعنى؛ إذِ التقدير: هُزِّي الثمرةَ بسبب هَزِّ الجِذْع، أي: انفُضِي الجِذْع. وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: «أو افْعَلي الهَزَّ كقولِه: 322 - 4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . يَجْرَحْ في عراقيبِها نَصْلي قال الشيخ:» وفي هذه الآيةِ وفي قولِه تعالى: {واضمم إِلَيْكَ

جَنَاحَكَ} [القصص: 32] ما يَرُدُّ على القاعدةِ المقررةِ في علم النحو: من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصلِ إلا في باب ظنٍّ، وفي لفظَتَيْ فَقَد وعَدِمَ، لا يُقالُ: ضَرَبْتَكَ ولاَ ضَرَبْتُني، أي: ضربْتَ أنت نفسَك وضربْتُ أنا نفسي، وإنما يُؤْتى في هذا بالنفس، وحكمُ المجرورِ بالحرفِ حكمُ المنصوبِ فلا يقال: هَزَزْتَ إليك، ولا زيدٌ هَزَّ إليه، ولذلك جَعَلَ النحويون «عن» و «على» اسْمَيْن في قولِ امرِئ القيس: 322 - 5- دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِه ... ولكنْ حَديثاً ما حديثُ الرواحلِ وقول الآخر: 322 - 6- هَوَّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ ... بِكَفِّ الإِلهِ مقادِيْرُها وقد ثبت بذلك كونُهما اسمين لدخولِ حرفِ الجر عليهما في قوله: 322 - 7- غَدَتْ مِنْ عليهِ بعدما تَمَّ ظِمْؤُها ... تَصِلُّ وعن قَيْضٍ ببَيْداءَ مَجْهَلِ وقولِ الآخر: 322 - 8-

فقُلْتُ للرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلا بِهِمْ ... مِنْ عَنْ يمينِ الحُبيَّا نظرةٌ قَبْلُ وإمَّا «إلى» فحرفٌ بلا خلافٍ، فلا يمكنُ فيها أَنْ تكونَ اسماً ك «عَنْ» و «على» . ثم أجاب: بأنَّ «إليك» في الآيتين لا تتعلَّقُ بالفعلِ قبله، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان تقديرُه: أَعْني إليك «. قال:» كما تَأَوَّلوا ذلك في قولِه: {لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] في أحد الأوجه «. قلت: وفي ذلك جوابان آخران، أحدهما: أن الفعلَ الممنوعَ إلى الضمير المتصل إنما هو حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير، والضميرُ مَحَلٌّ له نحو:» دَعْ عنك «» وهَوِّنْ عليك «وأمَّا الهَزُّ والضَّمُّ فليسا واقعين بالكاف فلا محذورَ. والثاني: أنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ تقديره: هُزِّي إلى جهتِكِ ونحوك، واضمُمْ إلى جهتِك ونحوك. قوله:» تُساقِطْ «قرأ حمزة» تَسَاقَطْ «بفتح التاء وتخفيفِ السين وفتح القاف. والباقون - غيرَ حفصٍ - كذلك إلا أنَّهم شَدَّدوا السين، وحفص بضم التاء وتخفيفِ السين وكسر القاف. فأصلُ قراءةِ غيرِ حفص» تَتَساقط «بتاءين، مضارعَ» تساقَطَ «فحذف حمزةُ إحدى التاءين تخفيفاً نحو:» تَنَزَّلٌ «و» تَذَكَّرون «، والباقون أدغموا التاءَ في السِّيْن. وقراءةُ حفص مضارع «ساقَطَ» .

وقرأ الأعمش والبراء بن عازب «يَسَّاقَطْ» كالجماعة إلا أنه بالياء مِنْ تحتُ، أدغم التاء في السين، إذ الأصلُ: يتساقط فهو مضارع «اسَّاقط» وأصلُه يَتَساقط، فأُدْغم واجِتُلِبَتْ همزةُ الوصل ك «ادَّارَأ» في تَدَارَأَ. ونُقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ: / وافقه مسروقٌ في الأولى، وهي «تُسْقِط» بضم التاء وسكون السين وكسر القاف مِنْ أَسْقَط. والثانية كذلك إلا أنه بالياء مِنْ تحت. الثالثة كذلك إلا أنه رفع «رُطَباً جَنِيَّاً» بالفاعلية. وقُرِئَ «تَتَساقط» بتاءين مِنْ فوقُ، وهو أصلُ قراءةِ الجماعة. وتَسْقُط ويَسْقُط بفتح التاء والياء وسكون السين وضَمَّ القاف. فَرَفْعُ الرُّطَبِ بالفاعلية، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة. ومَنْ قرأ بالتاءِ مِنْ فوقُ الفعلُ مسندٌ: إمَّا للنخلة، وإمَّا للثمرةِ المفعومة من السِّياق، وإمَّا للجِذْع. وجاز تأنيثُ فِعْلِه لإِضافتِه إلى مؤنث، فهو كقوله: 322 - 9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّم وكقراءة «تَلْتَقِطْه بعض السيارة» . ومَنْ قرأ بالياء مِنْ تحتُ فالضميرُ للجِذْع وقيل: للثمر المدلولِ عليه بالسياق. وأمَّا نَصْبُ «رُطَباً» فلا يَخْرُجُ عن كونِه تمييزاً أو حالاً موطِّئة إنْ كان الفعل قبلَه لازماً، أو مفعولاً به إن كان الفعل متعدَّياً، والذكيُّ يَرُدُّ كلَّ شيء

إلى ما يليق به من القراءات. وجَوَّز المبردُ في نصبه وجهاً غريباً: وهو أَنْ يكونَ مفعولاً به ب «هُزِّيْ» وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات: وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّياً، وتكونَ المسألةُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول. وقرأ طلحة بن سليمان «جَنِيَّاً» بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون. والرُّطَبُ: اسمُ جنسٍ لرُطَبَة بخلافِ «تُخَم» فإنَّع لتُخَمة، والفرق: أنهم لَزِموا تذكيرَه فقالوا: هو الرُّطَبُ، وتأنيثَ ذاك فقالوا: هي التُّخَم، فذكَّروا «الرطب» باعتبار الجنس، وأنَّثوا «التُّخَم» باعتبار الجمعية، وهو فرقٌ لطيفٌ. ويُجْمَعُ على «أَرْطاب» شذوذاً كرُبَع وأَرْباع. والرُّطَب: ما قُطِع قبل يُبْسِه وجَفافِه، وخُصَّ الرُّطَبُ بالرُّطَبِ من التَّمْرِ. وأَرْطَبَ النخلُ نحو: أَتْمَرَ وأَجْنَى. والجَنِيُّ: ما كابَ وصَلُحَ للاجْتِناء. وهو فَعيل بمعنى مفعول وقيل: بمعنى فاعِل: أي: طَرِيَّاً، والجَنَى والجَنِيُّ أيضاً: المُجَتَنَى من العَسَلِ، وأَجْنَى الشجرُ: أَدْرَك ثَمَرُه، وأَجْنَتِ الأرضُ كَثُرَ جَناها. واسْتُعير من ذلك «جَنَى فلانٌ جنايةً» كما استعير «اجْتَرَم جريمةً» .

26

قوله: {وَقَرِّي عَيْناً} : «عَيْناً» نصبٌ على التمييز منقولٌ من الفاعل، إذ الأصلُ: لِتَقَرَّ عينُك. والعامَّة على فتحِ القاف مِنْ «قَرِّيْ» أمراً مِنْ قَرَّتْ عَيْنُه تَقَرُّ، بكسر العين في الماضي، وفتحِها في المضارع. وقُرِئ بكسرِ القاف، وهي لغةُ نجدٍ يقولون: قَرَّتْ عينُه تَقِرُّ بفتح

العين في الماضي وكسرِها في المضارع، والمشهورُ أن مكسورَ العين في الماضي للعين، والمفتوحَها في المكان. يقال: قَرَرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به، وقد يُقال: قَرِرْتُ بالمكانِ بالكسر. وسيأتي ذلك في قولِه تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] . وفي وَصْفِ العين بذلك تأويلان، أحدُهما: أنَّه مأخوذٌ مِنَ «القُرّ» وهو البَرْدُ: وذلك أنَّ العينَ إذا فَرِح صاحبُها كان دَمْعُها قارَّاً أي بارداً، وإذا حَزِن كان حَرَّاً ولذلك قالوا في الدعاء عليه: «أَسْخَنَ اللهُ عينَه» ، وفي الدعاء له: «أقرَّ اللهُ عينَه. وما أَحْلى قولَ أبي تمام: 323 - 0- فأمَّا عيونُ العاشِقينَ فَأُسْخِنَتْ ... وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ والثاني: أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى: أعطاه الله ما يُسَكِّنُ عينَه فلا تطمحُ إلى غيره. قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} دخلت» إنْ «الشرطية على» ما «الزائدة للتوكيد، فَأُدْغِمت فيها، وكُتِبَتْ متصلةً. و» تَرَيْنَ «تقدَّم تصريفُه. والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة وقرأ أبو عمروٍ في رواية» تَرَئِنَّ «بهمزة مكسورةٍ بدلَ

الياء، وكذلك رُوي عنه» لَتَرَؤُنَّ «بإبدالِ الواوِ همزةُ. قال الزمخشري:» هذا مِنْ لغةِ مَنْ يقول: لَبَأْتُ بالحَجِّ وحَلأْتُ السَّوِيْقَ «- يعني بالهمز - وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللين» . وتجرَّأ ابن خالَوَيْة على أبي عمرو فقال: «هو لحنٌ عند أكثر النحويين» . وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ وشيبة وطلحة «تَرَيْنَ» بياءٍ ساكنة ونونٍ خفيفة. قال ابن جني: «وهي شاذَّةٌ» . قلت: لأنه كان ينبغي أَنْ يُؤَثِّر الجازمُ، وتُحذفَ نونُ الرفع. كقول الأَفْوه: 323 - 1- إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى به ... ماسُ زمانٍ ذيٍ انتكاثٍ مَؤُؤْسِ ولم يؤثِّرْ هنا شُذوذاً. وهذا نظيرُ قولِ الآخر: 323 - 2- لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ ... يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُوْنَ بالجارِ فلم يُعْمِلْ «لم» ، وأبقى نونَ الرفعِ. و «من البشر» حالٌ من «أحداً» لأنه لو تأخَّر لكان وصفاً. وقال أبو البقاء: «أو مفعول» يعني أنه متلِّعق بنفسِ الفعل قبله. قوله: فَقُولِيْ «بين هذا الجوابِ وشرطِه جملةٌ محذوفةٌ، تقديرُه: فإمَّا

تَرَيْنَّ من البشر أحداً فسألكِ الكلامَ فَقُولي. وبهذا المقدَّر نَخْلُصُ من إشكالٍ: وهو أنَّ قولَها {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} / كلامٌ، فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كَلَّمَتْ إنْسِيَّاً بهذا الكلامِ. وجوابُه ما تَقَدَّم: وقيل: المرادُ بقوله» فقُولي «إلى آخره، أنه بالإِشارة. وليس بشيء. بل المعنى: فلن أكلِّمَ اليومَ إنْسِيَّاً بعد هذا الكلامِ. وقرأ زيد بن علي» صِياماً «بدل» صوم «، وهما مصدران.

27

قوله: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} : «به» في محلَِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعل «أَتَتْ» ، أي: أتَتْ مصاحِبَةً له نحو: جاء بثيابِه، أي: ملتبساً بها. ويجوز أَنْ تكونَ الباءُ متعلِّقةً بالإِتيان. وأمَّا تَحَمُّلُه فيجوز أن يكونَ حالاً ثانية مِنْ فاعل «أَتَتْ» . ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الهاء في «به» . وظاهرُ كلام أبي البقاء أنها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً وفيه نظرٌ. قوله: «شيئاً» مفعولٌ به، أي: فَعَلْتِ. أو مصدرٌ، أي: نوعاً من المجيء فَرِيَّاً. والفَرِيُّ: العظيم من الأمر، يقالُ في الخير والشرِّ. وقيل: الفَرِيُّ: العجيب. وقيل المُفْتَعَلُ. ومن الأول: الحديثُ في وصفِ عمرَ رضي الله عنه: فلم أرَ عبقَرِيَّاً يَفْرِيْ فَرْيَّة «. والفَرْيُ: قَطْعُ الجِلْدِ للخَرْزِ والإِصلاح. والإِفراء: إفسادُه. وفي المثل: جاء يَفْري الفَرِيَّ، أي: يعمل

العملَ العظيم. وقال: 323 - 3- فَلأَنْتَ تَفْرِيْ ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْري وقرأ أبو حيوة فيما نَقَل عنه ابن خالويه» فَرِيْئاً «بالهمز. وفيما نقل ابن عطية» فَرْياً «بسكون الراء.

28

وقرأ عُمَرُ بن لجأ {مَا كَانَ أَباكِ امرؤ سَوْءٍ} جَعَلَ النكرةَ الاسمَ، والمعرفةَ الخبرَ، كقوله: 323 - 4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكونُ مِزاجُها عَسَلٌ وماءُ [وكقوله:] 3235 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكِ الوَدَاْعا وهنا أحسنُ بوجودِ الإِضافةِ في الاسم.

29

قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ} : الإِشارةُ معروفةٌ تكونُ باليد والعين وغير ذلك وألفُها عن ياءٍ. وأنشدوا لكثيِّر: 323 - 0-

فقلتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ... ألا حَبَّذا يا عَزُّ ذاك التَّشايُرُ قوله: {مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} في «كان» هذه أقوالٌ. أحدُها: أنها زائدةٌ وهو قولُ أبي عبيد، أي: كيف نُكَلِّمُ مَنْ في المهد. و «صَبِيَّا» على هذا نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ الواقع صلةً. وقد رَدَّ أبو بكرٍ هذا القولَ - أعني كونَها زائدةً - بأنها لو كانَتْ زائدةً لَما نَصَبَتِ الخبرَ، وهذه قد نصَبتْ «صَبيَّا» . وهذا الردُّ مردودٌ بما ذكرتُه مِنْ نصبِه على الحال لا الخبرِ. الثاني: أنها تامةٌ بمعنى حَدَث ووُجد. والتقدير: كيف نكلِّم مَنْ وُجْد صبيَّا، و «صَبِيَّاً» حال من الضمير في «كان» . الثالث: أنها بمعنى صار، أي: كيف نُكَلِّم مَنْ صار في المهد صَبِيَّا، و «صَبِيَّا» على هذا خبرُها، فهو كقوله: 323 - 7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قَطا الحَزْن قد كانَتْ فِراخاً بُيُوضُها الرابع: أنها الناقصةُ على بابها مِنْ دلالتِها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي مِنْ غيرِ تَعَرُّضٍ للانقطاع كقوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] ، ولذلك يُعَبِّر عنها بأنها ترادِف «لم تَزَلْ» . قال الزمخشري: «كان» لإِيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماضٍ مبهمٍ صالحٍ للقريبِ والبعيد.

وهو هنا لقريبِه خاصةً، والدالُّ عليه معنى الكلام، وأنه مسوقٌ للتعجب. ووجه آخر: وهو أَنْ يكونَ «نُكَلِّمُ» حكاية حالٍ ماضيةٍ، أي: كيف عُهِد قبل عيسى أَنْ يُكَلِّمَ الناسَ صبيَّا في المهد حتى نُكَلِّمَه نحن «؟ وأمَّا» مَنْ «فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي. ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفة، أي: كيف نُكَلِّم شخصاً أو مولوداً. وجَوَّز الفراء والزجاج فيها أَنْ تكون شرطيةً. و» كان «بمعنى» يكنْ «، وجوابُ الشرطِ: إمَّا متقدِّمٌ وهو» كيف نُكَلِّم «، أو محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه، اي: مَنْ يكنْ في المهدِ صبياً فكيف نُكَلِّمه؟ فهي على هذا مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ، وعلى ما قبله منصوبتُه ب» نكلِّم «. وإذا قيل بأنَّ» كان «زائدةٌ. هل تتحمَّل ضميراً أم لا؟ فيه خلاف، ومَنْ جَوَّز استدلَّ بقوله: 323 - 8- فكيف إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ فرفع بها الواوَ. ومَنْ منع تأوَّل البيتَ بأنها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ خبرَها هو» لنا «قُدِّم عليها، وفُصِل بالجملة بين الصفة والموصوف. وأبو عمروٍ يُدغم الدالَ في الصاد. والأكثرون على أنه إخفاءٌ.

31

قوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنتُ} : هذه شرطيةٌ. وجوابُها: إمَّا محذوفٌ مَدْلولٌ عليه بما تقدَّمَ، أي: أينما كنتُ جَعَلني مباركاً، وإمَّا متقدِّمٌ

عند مَنْ يرى ذلك. ولا جائزٌ أن تكونَ استفهاميةً؛ لأنه يلزمُ أَنْ يعملَ فيها ما قبلها، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ، فيتعيَّنُ أن تكونَ شرطيةً لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين. قوله: «ما دُمْتُ» «ما» مصدريةٌ ظرفيةٌ وتقدُّمُ [ما] على «دام» شرطٌ في إعمالها. والتقدير: مدةَ دوامي حياً. ونقل ابن عطية عن عاصمٍ وجماعة أنهم قرؤوا «دُمْتُ» بضم الدال، وعن ابن كثير وأبي عمرو وأهلِ المدينة «دِمت» بكسرها، وهذا لم نَرَه لغيره وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذة التي بين أيدينا، فيجوز أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصحفٍ غريب. ولا شك أنَّ في «دام» لغتين، يقال: دُمْتَ تَدُوْم، وهي اللغةُ العالية، ودِمْتَ تَدام كخِفْتَ تَخاف، وهذا كما تقدم لك/ في مات يموت وماتَ يَمات.

32

قوله تعالى: {وَبَرّاً} : العامَّةُ بفتحِ الباء، وفيه تأويلان، أحدُهما: أنه منصوبٌ نَسَقاً على «مباركاً» ، أي: وجَعَلَنِي بَرَّاً. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ. واخْتِير هذا على الأولِ لأنَّ فيه فَصْلاً كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلِّقِها. وقُرئ «بِرَّاً» بكسرِ الباءِ: إمَّا على حَذْفِ مضاف، وإمَّا على المبالغة في جَعْلِه نفسَ المصدر. وقد تقدَّم في البقرة أنه يجوز أن يكونَ وصفاً على

فِعْل. وحكى الزهراويُّ وأبو البقاء أنه قُرئ بكسر الباء والراء. وتوجيهُه: أنه نَسَقٌ على «الصلاة» ، أي: وأوصاني بالصلاةِ وبالزكاةِ وبالبِرِّ. و «بوالَديَّ» متعلقٌ بالبَرّ أو البِرّ.

33

قوله: {والسلام} : الألفُ واللامُ فيه للعهدِ؛ لأنه قد تقدَّمَ لفظُه في قولِه: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ} [مريم: 15] ، فهو كقولِه {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 1516] ، أي: ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوَجَّهٌ إليَّ. وقال الزمخشري- بعد ذِكْرِه ما قدَّمْتُه -: «والصحيحُ أن يكونَ هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متهمي مريمَ عليها السَّلامِ وأعدائِها من اليهود. وتحقيقُه: أنَّ اللامَ للجنسِ، فإذا قال وجنسُ السَّلامِ عليَّ خاصة فقد عَرَّضَ بأنَّ ضِدَّه عليكم. وتنظيرُه: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] . قوله: {يَوْمَ وُلِدْتُّ} منصوبٌ بما تضمنَّه» عليَّ «من الاستقرار. ولا يجوزُ نَصْبُه ب» السَّلام «للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه. وقرأ زيد بن على» وَلَدَتْ «جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضميرِ مريمَ، والتاءُ للتأنيث. و» حَيَّاً «حالٌ مؤكِّدَةٌ.

34

قوله تعالى: {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق} : يجوز أَنْ

يكونَ «عيسى» خبراً ل «ذلك» ، ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً أو عطفَ بيانٍ. و «قولُ الحق» خبره. ويجوز أَنْ يكونَ «قولُ الحق» خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هو قولُ: و «ابن مريم» يجوز أَنْ يكونَ نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو خبراً ثانياً. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر «قولَ الحق» بالنصبِ والباقون بالرفع. فالرفعُ على ما تقدَّم. قال الزمخشري: «وارتفاعُه على أنَّه خبرٌ بعد خبرٍ، أو بدلٌ» قال الشيخ: «وهذا الذي ذكرَه لا يكونُ إلا على المجازِ في قولٍ: وهو أن يُراد به كلمةُ اللهِ؛ لأنَّ اللفظَ لا يكون الذاتَ» . والنصب: يجوز فيه أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولِك: «هو عبدُ الله الحقَّ لا الباطِلَ، أي: أقولُ قولَ الحق، فالحقُّ الصدقُ وهو مِنْ إضافةِ الموصوف إلى صفتِه، أي: القول الحق، كقولِه: {وَعْدَ الصدق} [الاحقاف: 16] ، أي: الوعدَ الصدقَ. ويجوز أن يكونَ منصوباً على المدح، أي: أُريد بالحقِّ البارِيْ تعالى، و» الذي «نعتٌ للقول إنْ أُرِيْدَ به عيسى، وسُمِّي قولاً كما سُمِّي كلمةً لأنه عنها نشأ. وقيل: هو منصوبٌ بإضمار أعني. وقيل: هو منصوبٌ على الحالِ من» عيسى «. ويؤيِّد هذا ما نُقِل عن الكسائي في توجيهِ الرفعِ: أنه صفةٌ لعيسى. وقرأ الأعمشُ» قالُ «برفع اللام، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً. وقرأ

الحسن» قُوْلُ «بضم القاف ورفع اللام، وهي مصادر لقال. يقال: قال يَقُولُ قَوْلاً وقالاً وقُوْلاً، كالرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْب. وقال أبو البقاء:» والقال: اسمٌ [للمصدرِ] مثل: القيل، وحُكي «قُولُ الحق» بضمِّ القاف مثل «الرُّوْح» وهي لغةٌ فيه «. قلت: الظاهرُ أنَّ هذه مصادرٌ كلُّها، ليس بعضُها اسماً للمصدرِ، كما تقدَّم تقريرُه في الرَّهْب والرَّهَب والرُّهْب. وقرأ طلحةُ والأعمش» قالَ الحقُّ «جعل» قال «فعلاً ماضياً، و» الحقُّ «فاعلٌ به، والمرادُ به الباري تعالى. أي: قال اللهُ الحقُّ: إنَّ عيسى هو كلمةُ الله، ويكونُ قولُه {الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} خبراً لمبتدأ محذوف. وقرأ علي بن أبي طالب والسُّلَمي وداود بن أبي هند ونافع والكسائي في رواية عنهما» تَمْتَرون «بتاء الخطاب. والباقون بياءِ الغَيْبة. وتَمْتَرُون تَفْتَعِلُون: إمَّا مِنْ المِرْية وهي الشكُّ، وإمَّا من المِراء وهو الجِدالُ.

35

وتقدَّم الكلامُ على نصبِ «فيكونَ» وما قيل فيه.

36

قوله تعالى: {وَإِنَّ الله} : قرأ ابن عامرٍ والكوفيون «وإنَّ» بكسر «إنَّ» على الاستئناف، ويؤيِّدها قراءةُ أُبَيّ {إِنَّ الله} بالكسر دون واو.

وقرأ الباقون بفتحها، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها على حَذْفِ حرفِ الجرِّ متعلِّقاً بما بعده، والتقدير: ولأنَّ اللهَ ربي وربُّكم فاعبُدوه، كقوله تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} [الجن: 18] والمعنى لوَحْدانيَّته أَطِيْعوه. وإليه ذهب الزمخشري تابعاً للخليل وسيبويه. الثاني: أنها عطفٌ على «الصلاةِ» والتقدير: وأوصاني بالصلاةِ وبأنَّ اللهَ. وإليه ذهب الفراء، ولم يذكر مكيٌّ غيرَه. ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ «وبأنَّ اللهَ ربي» بإظهار الباءِ الجارَّة. وقد استُبْعِد هذا القولُ لكثرةِ الفواصلِ بين المتعاطفَيْن. وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أَُبَيّ فلا يُرَجِّحُ هذا لأنها باءُ السببيةِ، والمعنى: بسبب أنَّ الله ربي وربُّكم فاعبُدوه فهي كاللام. الثالث: أَنْ تكونَ «أنَّ» وما بعدها نَسَقاً على «أمراً» المنصوبِ ب «قَضَى» والتقدير: وإذا قضى أمراً، وقضى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. ذكر ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء. واستبعد الناسُ صحةَ هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العِلْم والمعرفة بمنزلٍ يمنعُه من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عَطَفَ على «أمراً» لزم أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الشرطِ ب «إذا» ، وكونُه تبارك وتعالى ربُّنا لا يتقيَّد بشرطٍ البتةَ، بل هو ربُّنا على

الإِطلاق. ونسبوا هذا الوهمَ لأبي عبيدةَ كان ضعيفاً في النحو، وعَدُّوا له غَلَطاتٍ، ولعلَّ ذلك منها. الرابع: أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، تقديرُه: والأمرُ أنَّ الله ربي وربُّكم. ذُكِر ذلك عن الكسائي، ولا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ. الخامس: أَنْ/ يكونَ في محلِّ نصبٍ نَسَقاً على «الكتاب» في قولِه «قال: إني عبد الله آتاني الكتابَ» على أن يكونَ المخاطَبُ بذلك معاصِرِي عيسى عليه السلام، والقائلُ لهم ذلك عيسى. وعن وَهْب: عَهِدَ إليهم عيسى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. قال هذا القائل: ومَنْ كسرَ الهمزةَ يكون قد عَطَفَ {إِنَّ الله} على قوله «إني عبدُ الله» فهو داخِلٌ في حَيِّز القولِ. وتكون الجملُ من قوله {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ} إلى آخرها جملَ اعتراض، وهذا من البُعْدِ بمكانٍ.

37

قوله تعالى: {مِن مَّشْهِدِ} : «مَشْهد» مَفْعَل: إمَّا من الشهادة، وإمَّا من الشهود وهو الحضورُ. و «مَشْهد: هنا يجوز أن يُراد به الزمانُ أو المكان أو المصدر: فإذا كان من الشهادة، والمراد به الزمان، فتقديره: مِنْ وقتِ شهادة. وإن أريد به المكانُ فتقديره: من مكانِ شهادة يوم. وأنْ أريد به المصدرُ فتقديرُه: من شهادةِ ذلك اليومَ، وأَنْ تشهدَ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم والملائكةُ والأنبياءُ. وإذا كان من الشهود وهو الحضورُ فتقديرُه: مِنْ شهود الحساب والجزاء يوم القيامة، أو من مكانِ الشهود فيه وهو الموقفُ

أو من وقتِ الشهود؟ وإذا كان مصدراً بحالتيه المتقدمتين فتكون إضافتُه إلى الظرف من بابِ الاتساعِ، كقوله {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] . ويجوز أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعلِه على أن يُجْعَلَ اليومُ شاهداً عليهم: إمَّا حقيقة وإمَّا مجازاً.

38

قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} : هذا لفظُه أمرٌ ومعناه التعجبُ، وأصَحُّ الأعاريبِ فيه كما تقرَّر في علم النحو: أنَّ فاعلَه هو المجرورِ بالباءِ، والباءُ زائدةٌ، وزيادتُها لازمةٌ إصلاحاً للَّفظِ، لأنَّ أَفْعِلْ أمراً لا يكون فاعلُه إلا ضميراً مستتراً، ولا يجوزُ حَذْفُ هذه الباءِ إلا مع أَنْ وأنَّ كقوله: 323 - 9- تَرَدَّدَ فيعا ضَوْءَها وشُعاعُها ... فَاَحْصِنْ وأَزْيِنْ لامرِئٍ أن تَسَرْبَلا أي: بأَنْ تَسَرْبَلَ، فالمجرور مرفوعُ المحلِّ، ولا ضميرِ في أَفْعَلِ. ولنا قولُ ثانٍ: إن الفاعلَ مضمرٌ، والمرادُ به المتكلمُ كأنَّ المتكلمَ يأمر نفسَه بذلك والمجرورُ بعده في محلِّ نصب، ويُعزَى هذا للزجاج.

ولنا قول ثالث: أن الفاعلَ ضميرُ المصدرِ، والمجرورَ منصوبُ المحلِّ أيضاً، والتقديرُ: أحسِنْ يا حُسْنُ بزيدٍ. ولشَبَهِ هذه الفاعلِ عند الجمهور بالفَضْلَة لفظاً جاز حَذْفُه للدلالةِ عليه كهذه الآيةِ فإنَّ تقديرَه: وأَبْصِرْ بهم. وفيه أبحاثٌ موضوعُها كتبُ النحو. وقوله {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} معمولٌ ل «أَبْصِرْ» . ولا يجوز أن يكونَ معمولاً ل «أَسْمِعْ» لأنه لا يُفْصَلُ بين فعلِ التعجبِ ومعمولِه، ولذلك كان الصحيحُ أنه لا يجوزُ أن تكونَ المسألة من التنازع. وقد جَوَّزه بعضُهم ملتزِماً إعمالَ الثاني، وهو خلافُ قاعدةِ الإِعمال. وقيل بل هو أمرٌ حقيقةً، والمأمورُ به رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى: أَسْمِعِ الناسَ وأَبْصِرْهم بهم وبحديثهم: ماذا يُصنع بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية. وقوله «اليوم» منصوبٌ بما تضمنَّه الجارُّ مِنْ قولِه «في ضلال مبين» ، أي: لكن الظالمون استقروا في ضلال مبين اليوم. ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يُخْبَر عن الجثةِ بالزمان بخلافِ قولك: القتال اليوم في دارِ زيدٍ، فإنه يجوز الاعتباران.

39

قوله تعالى: {إِذْ قُضِيَ الأمر} : يجوز أن يكونَ منصوباً بالحَسْرَةِ، والمصدرُ المعرَّفُ بأل يعملُ في المفعولِ الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف؟ ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «يوم» فيكون معمولاً ل «أَنْذر» كذا قال أبو البقاء والزمخشري وتبعهما الشيخُ، ولم يَذْكر غيرَ البدل.

وهذا لا يجوزُ أن كان الظرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أَنْ يعملَ المستقبل في الماضي، فإن جَعَلْتَ «اليوم» مفعولاً به، أي: خَوِّفْهم نفسَ اليومِ، أي: إنهم يخافون اليومَ نفسَه، صَحَّ ذلك لخروجِ الظرفِ إلى حَيِّزِ المفاعيل الصريحة. وقوله: {لكن الظالمون} من إيقاعِ الظاهرِ موقعَ المضمرِ. قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} جملتان حاليتان وفيهما قولان، أحدهما: أنهما حالان من الضميرِ المستترِ في قولِه {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ، أي: استقرُّوا في ضلالٍ مبين على هاتين الحالتين السَّيئتين. والثاني: أنهما حالان مِنْ مفعولِ «أَنْذِرْهُم» أي: أَنْذِرهم على هذه الحالِ وما بعدَها، وعلى الاولِ يكون قولًُه {وَأَنْذِرْهُم} اعتراضاً.

40

وقرأ العامَّةُ «يُرْجَعون» بالياء من تحت مبنياً للمفعول. والسلمي وابن أبي إسحاق وعيسى مبنياً للفاعل، والأعرج بالتاء مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول على الخطاب، ويجوز أن يكونَ التفاتاً وأن لا يكونَ.

42

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لأًبِيهِ} : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من «إبراهيم» بدلَ اشتمال كما تقدَّم في {إِذِ انتبذت} [مريم: 16] وعلى هذا فقد فَصَل بين البدلِ والمبدلِ منه بقولِه: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} نحو: رأيت زيداً - ونِعْم الرجلُ - أخاك «. وقال الزمخشري:» ويجوز أن يتعلَّقَ «إذ» ب «كان» أو

ب «صِدِّيقاً نبيَّاً» ، أي: كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين طلب خاطب أباه تلك المخاطباتِ «. ولذلك جَوَّز أبو البقاء أن يعمل فيه {صِدِّيقاً نبيَّاً} أو معناه. قال الشيخ:» الإِعرابُ الأولُ - يعني البدليةَ - يقتضي تصرُّفَ «إذ» وهي لا تتصرَّفُ، والثاني فيه إعمالُ «كان» في الظرف وفيه خلافٌ، والثالث لا يكون العاملُ مركباً من مجموع لفظَيْنِ بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ. ولا جائز أن يكونَ معمولاً ل «صِدِّيقاً» لأنه قد وُصِفَ، إلا عند الكوفيين. ويَبْعُدُ أن يكونَ معمولاً ل «نبيَّاً» لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَةَ كانت في وقتِ هذه المقالة «. قلت: العاملُ فيه ما لخَّصه أبو القاسم ونَضَّده بحسنِ صناعتِه من مجموع اللفظين كما رأيتَ في قوله» أي: كان جامعاً / لخصائصِ الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه «.

43

وقد تَقَدَّمت قراءةُ ابن عامر «يا أبَتِ» وفي مصحف عبد الله «وا أبتِ» ب «وا» التي للنُّدْبة.

46

قوله تعالى: {أَرَاغِبٌ أَنتَ} : يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكون «راغبٌ» مبتدأً لاعتمادِه على همزةِ الاستفهام، و «أنت» فاعلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخبر. والثاني: أنه خبر مقدمٌ، و «أنت» مبتدأ مؤخر ورُجِّح الأولُ بوجهين،

أحدهما: أنه ليس فيه تقديمٌ ولا تأخير؛ إذ رتبهُ الفاعلِ التأخيرُ عن رافعِه. والثاني أنه لا يلزم فيه الفصلُ بين العاملِ ومعمولِه بما ليس معمولاً للعامل؛ وذلك لأنَّ {عَنْ آلِهَتِي} متعلقٌ ب «راغِبٌ» ، فإذا جُعل «أنت» فاعلاً فقد فُصِل بما هو كالجزءِ من العامل، بخلافِ جَعْلِه خبراً فإنه أجنبي إذ ليس معمولاً ل «راغبٌ» . قوله: «مَلِيَّاً» في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني، أي: زمناً طويلاً، ومنه «المَلَوان» للَّيلِ والنهارِ، وَمَُِلاوةُ الدَّهْر بتثليث الميم قال: 324 - 0- فَعُسْنا بها من الشَّبابِ مَلاوةً ... فالحجُّ آيات الرسولِ المحبِّبِ وأنشد السدِّي على ذلك لمهلهل: 324 - 1- فتصَدَّعَتْ صُمُّ الجِبالِ لمَوْتِه ... وبَكَتْ عليه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا والثاني: أنه منصوبٌ على الحال معناه: سالماً سَويَّاً. كذا فسَّره ابن عباس: فهو حالٌ مِنْ فاعلِ «اهْجُرْني» ، وكذلك فَسَّره ابنُ عطيةَ قال: «معناه: مُسْتَبداً، أي: غنيَّاً من قولهم هو مَلِيٌّ بكذا وكذا» . قال الزمخشري: «أي: مُطيقاً» والثالث: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: هَجْراً مَلِيَّاً يعني: واسعاً متطاولاً كتطاول الزمان الممتد.

47

وقرأ أبو البرهسم «سَلاماً» بالنصب، وتوجيهُها واضحٌ ممَّا تقدَّم.

49

قوله تعالى: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} : «وكُلاًّ» مفعولٌ مقدم هو الأول، و «نبيَّا» هو الثاني.

52

قوله تعالى: {نَجِيّاً} : حالٌ مِنْ مفعولِ «قَرَّبْناه» وأصلُه نَجِيْوا، لأنه مِنْ نجا يَنْجو، والأَيْمَن: الظاهر أنه صفةٌ لجانب بدليل أنه تبعه في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن} [طه: 80] . وقيل: إنه صفةٌ للطور؛ إذ اشتقاقُه من اليُمْن والبركة.

53

قوله تعالى: {مِن رَّحْمَتِنَآ} : في «مِنْ» هذه وجهان، أحدهما: أنها تعليليةٌ، أي: مِنْ أَجْل رحمتِنا. و «أخاه» على هذا مفعولٌ به، و «هرون» بدلٌ أو عطف بيان، أو منصوبٌ بإضمار أَعْني، و «نَبِيَّاً» حالٌ. والثاني: أنها تبعيضيةٌ، أي: بعض رحمتِنا. قال الزمخشري: «وأخاه على هذا بدلٌ، وهرونَ عطف بيان» . قال الشيخ: «الظاهرُ أنَّ» أخاه «مفعولُ» وَهَبْنَا «، ولا تُرادِفُ» مِنْ «بعضً فَتُبْدِلُ» أخاه «منها» .

55

قوله تعالى: {مَرْضِيّاً} : العامَّةُ على قراءته كذلك معتلاًّ

وأصلُه مَرْضُوْوٌ، بواوين: الأولى زائدةٌ كهي في مَضْروب، والثانية لام الكلمة لأنه من الرِّضْوان، فأُعِلَّ بقلب الواو ياءً وأُدْغِمَتْ الأخيرة ياءً، واجتمعت الياءُ والواو فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغمت ويجوز النطقُ بالأصلِ. وقد تقدَّم تحريرُ هذا. وقرأ ابن أبي عبلة بهذا الأصلِ وهو الأكثرُ، ومن الإِعلالِ قولُه: 324 - 2- لقد عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أنني ... أنا المَرْءُ مَعْدِيَّاً عليه وعادِيا وقالوا: أَرْضٌ مَسْنِيَّةٌ ومَسْنُوَّة، أي: مُسْقاة بالسَّانية.

58

قوله: {مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ} : «مِن» الأولى للبيان؛ لأنَّ كلَّ الأنبياء مُنَعَّمٌ عليهم، فالتبعيضُ مُحالٌ، والثانيةُ للتبعيض، فمجرورُها بدلٌ مما قبلَه بإعادة العاملِ، بدلُ بعضٍ من كل. قوله: «وإسرائيلَ» عطفٌ على «إبراهيمَ» . قوله: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} يحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على {مِّنَ النبيين} ، وأن يكونَ عطفاً على {مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ} . قوله: {إِذَا تتلى} جملةٌ شرطيةٌ فيها قولان، أظهرهما: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها. والثاني: أنها خبرُ «أولئك» ، والموصولُ قبلها صفةٌ لاسم الإِشارة، وعلى الأول يكون الموصولُ نفسَ الخبر. وقرأ العامَّةُ «تُتلى» بتاءين مِنْ فوقُ. وقرأ عبد الله وشيبةُ وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر وورشٌ عن نافع في

رواياتٍ شاذة بالياء أولاً مِنْ تحتُ، والتأنيثُ مجازيٌّ فلذلك جاء في الفعلِ الوجهان. قوله: «سُجَّدا» حالٌ مقدرة. قال الزجاج: «لأنهم وقتَ الخُرورِ ليسوا سُجَّداً» . و «بُكِيَّا» فيه وجهان، أظهرهما: أنه جمع باكٍ، وليس بقياسِه، بل قياسُ جَمْعِه على فُعَلة، كقاضٍ وقُضاة، ولم يُسمع فيه هذا الأصلُ. وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسِران فاءَه على الإِتباع. والثاني: أنه مصدرٌ على فُعُوْل نحو: جَلَسَ جُلُوْساً، وقَعَدَ قُعوداً. والأصلُ فيه على كِلا القولين بُكُوْي بواوٍ وياء، فأُعِلَّ الإِعلالَ المشهور في مثله. وقال ابن عطية: «وبكيَّا بكسر [الباء] وهو مصدرٌ لا يحتمل غيرَ ذلك» . قال الشيخ: «وليس بسديدٍ بل الإِتباعُ جائزٌ فيه» . وهو جمعٌ كقولِهم عُصِيّ ودُليّ، جمع عَصا ودَلْو، وعلى هذا فيكون «بكيَّاً» : إمَّا مصدراً مؤكداً لفعلٍ محذوف، أي: وبَكَوْا بُكِيَّاً، أي: بكاءً، وإمَّا مصدراً واقعاً موقع الحال، أي: باكين أو ذوي بكاءً، أو جُعِلوا [نفس] البكاءِ مبالغةً.

60

قوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه استثناءٌ متصلٌ. وقال الزجاج: «هو منقطعٌ» وهذا بناءً منه على أنَّ المُضَيِّعَ للصلاة من الكفار. وقرأ عبد الله والحسن والضحاك وجماعةٌ «الصلوات» جمعاً. والغَيُّ تقدم. وقرأ الحسنُ هنا وجميعَ ما في القرآن «يُدْخَلون» مبنياً للمفعول. ونقل الأخفش أنه قُرِئ «يُلَقَّوْن» بضم الياء وفتح اللام وتشديدِ القاف، مِنْ لقَّاه مضعفاً. وستأتي هذه القراءة لبعض السبعة في آخر الفرقان. و «شيئاً» ، إمَّا / مصدرٌ، أي: شيئاً من الظلم، وإمَّا مفعولٌ به.

61

قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} : العامَّةُ على كسر التاء نصباً على أنها بدل مِن «الجنةَ» ، وعلى هذه القراءةِ يكون قولُه {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} فيه وجهان، أحدهما: أنه اعتراضٌ بين البدلِ والمبدلِ منه. الثاني: أنه حالٌ، كذا قال الشيخ. وفيه نظرٌ: من حيث إن المضارع المنفيِّ ب «لا» كالمُثْبَتِ في أنه لا تباشِرُه واوُ الحالِ.

وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمر والأعمش «جناتُ» بالرفع وفيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتد مضمرٍ تقديرُه: تلك، أو هي جناتُ عدنٍ. الثاني: - وبه قال الزمخشري - أنها مبتدأ، يعني ويكون خبرُها {التي وَعَدَ} . وقرأ الحسن بن حيّ وعلي بن صالح والأعمشُ في روايةٍ «جَنَّةَ عَدْنٍ» نصباً مفرداً. واليماني والحسنُ والأزرقُ عن حمزةَ «جنةُ» رفعاً مفرداً، وتخريجُها واضحٌ ممَّا تقدَّم. قال الزمخشري: «لَمَّا كانت مشتملةٌ على جناتِ عدنٍ أبْدِلَتْ منها كقولِك:» أَبْصَرْتُ دارَكَ القاعةَ والعلاليَّ «، و» عَدْنٍ «معرفةٌ علمٌ بمعنى العَدْنِ وهو الإِقامةُ كما جعلوا فينةَ وسحَر وأمسَ - فيمن لم يَصْرِفْه - أعلاماً لمعاني الفنية والسَّحَر والأمس، فجرى مَجْرى العَدْن لذلك، أو هو عَلَمٌ لأرضِ الجنةِ لكونِها دارَ إقامة، ولولا ذلك لَما ساغَ الإِبدالُ لأنَّ النكرةَ لا تُبْدَلُ من المعرفةِ إلاَّ موصوفةً، ولَما ساغ وصفُها بالتي» . قال الشيخ: «وما ذكره متعقِّبٌ: أمَّا دعواه أنَّ عَدْناً، عَلَمٌ لمعنى العَدْنِ

فيحتاج إلى تَوْقيفٍ وسَماعٍ من العرب، وكذا دعوى العَلَميةِ الشخصيةِ فيه. وأمَّا قولُه» ولولا ذلك «إلى قوله» موصوفة «فليس مذهبَ البصريين؛ لأنَّ مذهبَهم جوازُ إبدالِ النكرةِ من المعرفةِ وإن لم تكون موصوفةً، وإنما ذلك شيءٌ قاله البغداديون، وهم مَحْجُوْجون بالسَّماعِ على ما بيَّناه، وملازمتُه فاسدةٌ. وأمَّا قولُه» ولَما ساغَ وصفُها ب «التي» فلا يتعيَّن كون «التي» صفةً، وقد ذَكَرْنا أنه يجوزُ إعرابُه بدلاً «. قلت: الظاهر أنَّ» التي «صفةٌ، والتمسُّكُ بهذا الظاهرِ كافٍ، وأيضاً فإنَّ الموصولَ في قوةِ المشتقات، وقد نَصُّوا على أنَّ البدلَ بالمشتقِّ ضعيفٌ فكذا ما في معناه. قوله:» بالغيبِ «فيه وجهان: أحدهما: أن الباءَ حاليةٌ. وفي صاحب الحالِ احتمالان، أحدُهما: ضميرُ الجنَّة وهو عائدٌ الموصولِ، أي: وعَدَعا، وهي غائبةٌ عنهم لا يُشاهدونها. والثاني: أن يكونَ مِنْ» عبادَة «، أي: وهم غائبون عنها لا يَرَوْنها، إنما آمنوا بمجردِ الإِخبار منه. والوجه الثاني: أن الباءَ سببيةٌ، أي: بسببِ تصديقِ الغيب، وبسببِ الإِيمان به. قوله:» إنه كان «يجوز في هذا الضميرِ وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الباري تعالى يعودُ على الرحمن، أي: إنَّ الرحمن كان موعدُه مَأْتِيَّا. والثاني: أنه ضميرُ الأمرِ والشأن؛ لأنه مَقامُ تعظيمٍ وتفخيمٍ، وعلى الأول يجوز أَنْ يكونَ في «كان» ضميرٌ هو اسمُها يعودُ على اللهِ تعالى، و «وعدُه» بدلٌ من ذلك الضميرِ بدلُ اشتمال، و «مَأْتِيَّاً» خبرُها. ويجوز أَنْ لا يكون فيها ضميرُ،

بل هي رافعةٌ ل «وَعِدُه» و «مَأْتِيَّاً» ، الخبرُ أيضاً، وهو نظير: «إنَّ زيداً كان أبوه منطلقاً» . ومَأْتِيَّاً فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ على بابِهِ، والمرادُ بالوعدِ الجنةُ، أُطْلِقَ عليها المصدرُ أي موعوده نحو: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ. وقيل: الوَعْدُ مصدرٌ على بابه ومَأْتِيَّاً مفعولٌ بمعنى فاعِل ولم يَرْتِضِه الزمخشريُّ فإنه قال: «قيل في» مَأْتِيَّاً «مفعولٌ بمعنى فاعِل. والوجهُ: أنَّ الوعدَ هو الجنة، وهم يَأْتونَها، أو هو مِنْ قولِك: أتى إليه إحساناً، أي: كان وعدُه مفعولاً مُنْجِزاً» .

62

قوله: {إِلاَّ سَلاَماً} : أبدى الزمخشريُّ فيه ثلاثةَ أوجهٍ أحدُها: أَنْ يكونَ معناه: إنْ كان تَسْلِيمُ بعضِهم على بعض - أو تسليمُ الملائكة عليهم - لغواً، فلا يسمعون لغواً إلى ذلك فهو مِنْ وادي قولِه: 323 - 4- ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهنَّ فُلولٌ من قراعِ الكتائبِ الثاني: أنهم لا يَسْمعون فيها إلا قولاً يَسْلَمون فيه من العيبِ والنقيصةِ، على الاستثناء المنقطع. الثالث: أنَّ معنى السلامِ هو الدعاءُ بالسلامةِ، ودارُ السلام هي دارُ السلامةِ، وأهلُها عن الدعاءِ بالسلامةِ أغنياءُ، فكان ظاهرُه من باب اللَّغْوِ وفُضولِ الحديث، لولا ما فيه من فائِدةِ الإكرامِ. قلت: ظاهرُ هذا أنَّ الاستثناء على الأول وأخر متصلٌ؛ فإنه صَرَّح بالمنقطع في الثاني. أمَّا اتصالُ الثالثِ فواضحٌ، لأنه أَطْلَقَ اللغوَ على السلامِ

بالاعتبارِ الذي ذكره، وأمَّا الاتصالُ في الأولِ فَعَسِرٌ؛ إذ لا يُعَدُّ ذلك عيباً، فليس من جنس الأول، وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قولِه تعالى {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] .

63

قوله: {نُورِثُ} : قرأ الأعمش «نُورِثها» بإبراز عائدِ الموصول. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة «نُوَرِّثُ» بفتحِ الواوِ وتشديد الراء مِنْ «وَرَّثَ» مضعِّفاً.

64

قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ} : قال ابن عطية: «الواو عاطفةٌ جملةَ كلامٍ على أخرى، واصلةٌ بين القولين وإن لم يكن / معناهما واحداً» . وقد أغربَ النقاشُ في حكايتِه لقولٍ: وهو أنَّ قولَه {وَمَا نَتَنَزَّلُ} ، متصلٌ بقولِه {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ} [مريم: 19] . وقال أبو البقاء: «وما نَتَنَزَّل، أي: وتقول الملائكةُ» فَجَعَلَه معمولاً لقولٍ مضمر. وقيل: هو من كلامِ أهل الجنة وهو أقربُ ممَّا قبله. ونَتَنَزَّل مطاوعُ نَزَّل بالتشديدِ ويقتضي العملَ في مُهْلة وقد لا يقتضيها. قال الزمخشري: «التَنَزُّلُ على معنيين: معنى النزولِ على مَهْلٍ، ومعنى

النزولِ على الإِطلاق كقوله: 324 - 4- فَلَسْتُ لإِنسيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جوِّ السَّماءِ يصوبُ لأنه مطاوع نَزَّل، ونزَّل يكون بمعنى أَنْزَلَ، ويكون بمعنى التدريج، واللائقُ بهذا الموضعِ هو النزولُ على مَهْلٍ، والمراد: أنَّ نزولَنا في الأحايين وقتاً غِبَّ وقتٍ» . قلت: وقد تقدم أنه يُفَرِّق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضع. وقرأ العامَّةُ «نَتَنَزَّل» بنون الجمع. وقرأ الأعرج «يَتَنزَّل» بياء الغيبة. وفي الفاعل حينئذ قولان، أحدهما: أنه ضميرُ جبريل. قال ابن عطية: «ويَرُدُّه قولُه» له لما بين أيدينا وما خَلْفَنَا «لأنه يَطَّرِدُ معه، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أنَّ القرآن لا يَتَنَزَّل إلا بأمر الله في الأوقات التي يُقَدَّرها» . وقد يُجاب عما قال ابن عطية: بأنَّه على إضمار القول: أي: قائلاً: «له ما بين أيديدنا» . الثاني: أنه يعود على الوَحْي، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل، والضميرُ للوحي، ولا بد من إضمار هذا القولِ الذي ذكرتُه أيضاً. قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} استدلَّ بعضُ النحاة على أنَّ الأزمنةَ ثلاثةُ:

ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلٌ بهذه الآية، وهو كقولِ زهير: 324 - 5- وأعلمُ عِلْمَ اليومِ والأمسِ قبلَه ... ولكنني عن عِلْمِ ما في غَدٍ عَمِ

65

قوله: {رَّبُّ السماوات} : فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدها: كونُه بدلاً مِنْ «ربُّك» . الثاني: كونُه خبرَ مبتدأ، أي: هو ربُّ. الثالث: كونُه مبتدأً، والخبرُ الجملةُ الأمريةُ بعده وهذا ماشٍ على رَأْي الأخفش: أنه يُجَوِّزُ زيادةَ الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً. قوله: لعبادتِه «متعلَّقٌ ب» اصْطَبِرْ «وكان مِنْ حَقِّه تعديتُه ب» على «لأنها صلتُه كقولِه: {واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132] ولكنه ضُمِّن معنى الثبات، لأنَّ العبادةَ ذاتُ تكاليفَ قَلَّ مَنْ يَثْبُتُ لها فكأنه قيل: واثْبُتْ لها مُصْطَبراً. قوله:» هل تعلم «أدغم الأخَوان وهشام وجماعة لام» هل «في التاء، وأنشدوا على ذلك بيت مزاحم العقيلي. 324 - 6- فدَعْ ذا ولكن هَتُّعِيْنُ مُتَيَّماً ... على ضوءِ بَرْقٍ آخرَ الليلِ ناصِبِ

66

قوله: {أَإِذَا مَا مِتُّ} : «إذا» منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ

عليه بقوله تعالى {لَسَوْفَ أُخْرَجُ} تقديرُه: إذا مِتُّ أُبْعَثُ أو أُحيا. ولا يجوز أن يكونَ العاملُ فيه «أُخْرِج» لأنَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبلها. قال أبو البقاء: «لأنَّ ما بعد اللامِ وسوف لا يَعْمل فيما قبلها كإنَّ» قلت: قد جَعَلَ المانعَ مجموعَ الحرفين: أمَّا اللامُ فمُسَلَّمٌ، وأمَّا حرفُ التنفيسِ فلا مَدْخَلَ له في المنع؛ لأنَّ حرفَ التنفيسِ يَعْمَلُ ما بعده فيما قبله. تقول: زيداً سأضرب، وسوف أضرب، ولكنْ فيه خلافٌ ضعيفٌ، والصحيحُ الجوازُ، وأنشدوا عليه: 324 - 7- فلمَّا رَأَتْع أمُّنا هانَ وَجْدُها ... وقالت: أبونا هكذا سوف يَفْعَلُ ف «هكذا» منصوب ب «يَفْعَل» بعد حرف التنفيس. وقال ابن عطية: واللامُ في قوله: «لَسَوْف» مجلوبةٌ على الحكاية لكلامٍ تقدَّم بهذا المعنى، كأنَّ قائلاً قال للكافر: إذا مِتَّ يا فلان لسوف تُخْرَجُ حَيَّاً، فقرَّر الكلامَ على الكلام على جهةِ الاستبعادِ، وكرَّر اللامَ حكايةً للقول الأول «. قال الشيخ:» ولا يُحتاج إلى هذا التقدير، ولا أن هذا حكايةُ لقولٍ تقدَّمَ، بل هو من كلامِ الكافرِ، وهو استفعامٌ فيه معنى الجحدِ والاستبعادِ «. وقال الزمخشري:» لامُ الابتداءِ الداخلةُ على المضارع تعطي معنى

الحالِ فكيف جامَعَتْ حرفَ الاستقبال؟ قلت: لم تجامِعْها إلا مُخْلِّصَةً للتوكيد كما أَخْلَصَت الهمزةُ في «يا الله» للتعويض، واضمحلَّ عنها معنى التعريف «. قال الشيخ:» وما ذَكَرَ مِنْ أنَّ اللامَ تعطي الحالَ مخالَفٌ فيه، فعلى مذهبِ مَنْ لا يرى ذلك يُسْقط السؤال. وأمَّا قولُه: «كما أَخْلَصَت الهمزة» فليس ذلك إلا على مذهبِ مَنْ يزعم أنَّ أصلَه إلاه، وأمَّا مِنْ يزعم أنَّ أصله: لاه، فلا تكون الهمزةُ فيه للتعويضِ؛ إذ لم يُحْذَفْ منه شيءٌ، ولو قلنا: إن أصلَه إلاه، وحُذِفَتْ فاءُ الكلمة، لم يتعيَّنْ أنَّ الهمزةَ فيه في النداء للتعويض، إذ لو كانَتْ عوضاً من المحذوف لَثَبَتَتْ دائماً في النداء وغيرِه، ولَمَات جاز حذفُها في النداء، قالوا: «يا الله» بحَذْفِها، وقد نَصُّوا على أن [قطعَ] همزةِ الوصل في النداء شاذ «. وقرأ الجمهور» أإذا «بالاستفهامِ وهو استبعادٌ كما تقدَّم. وقرأ ابن ذكوان بخلافٍ عنه وجماعةٌ» إذا «بهمزةٍ واحدة على الخبر، أو للاستفهامِ وحذَف أداتَه للعلمِ بها، ولدلالةِ القراءةِ الأخرى عليها. وقرأ طلحة بن مصرف» لَسَأَخْرَجُ «بالسين دون سوف، هذا نَقْلُ الزمخشريِّ عنه، وغيرُه نَقَل عنه» سَأَخْرُج «دونَ لامِ ابتداء، وعلى هذه

القراءةِ يكونُ العاملُ في الظرف نفسَ» أُخْرَج «، ولا يمنع حرفُ التنفيسِ على الصحيح. وقرأ العامَّةُ» أُخْرَجُ «مبنياً للمفعول. والحسن وأبو حيوة» أَخْرِجُ «مبنياً للفاعل. و» حَيَّاً «حالٌ مؤكِّدة لأنَّ مِنْ لازمِ خروجِه أن يكونَ» حَيَّاً «وهو كقولِه: {أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وجماعة» يَذْكُرُ «مخففاً مضارعَ» ذكر «، والباقون بالتشديد مضارعَ تَذَكَّر، والأصل» يتذكَّر «فأُدْغِمَتْ التاءُ في الذال. وقد قرأ بهذا الأصلِ وهو يَتَذَكَّر: أُبَيُّ.

67

والهمزةُ في قوله {أَوَلاَ يَذْكُرُ} مؤخرةٌ عن حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور. وقد رَجَع الزمخشري إلى رأي الجمهورِ هنا فقال: «الواوُ عَطَفَتْ {لاَ يَذْكُرُ} على» يقول «/ ووُسِّطَتْ همزةُ الإِنكار بين المعطوف وحرفِ العطف» ومذهبُه أَنْ يُقَدِّرَ بين حرفِ العطفِ وهمزة الاستفهام جملةً يُعْطَف عليها ما بعدها، وقد فعل هذا - أعني الرجوعَ إلى قولِ الجمهور - في سورة الأعراف كما نبَّهت عليه في موضعِه. قوله: {مِن قَبْلُ} ، أي: مِنْ قبلِ بَعْثه. وقَدَّره الزمخشري «من قبلِ

الحالةِ التي هو فيها وهي حالةُ بقائه» .

68

قوله: {جِثِيّاً} : حالٌ مقدرةٌ مِنْ مفعولِ «لَنُحْضِرَنَّهُمْ» و «جِثِيّاً» جمعُ جاثٍ جمعٌ على فُعُوْل نحو: قاعِد وقُعود وجالِس وجُلوس. وفي لامِه لغتان، إحداهما الواو، والأخرى الياء يُقال: جثا يَجْثُو جُثُوَّاً، وجَثِيَ يَجْثِي جِثايةً، فعلى التقدير الأول يكون أصلَه «جُثُوْوٌ» بواوين: الأُوْلى زائدةٌ علامةً للجمع، والثانيةُ لامُ الكلمةِ، ثم أُعِلَّتْ إعلالَ عِصِيّ ودُلِيّ، وتقدَّم تحقيقُه في «عِتِيَّاً» . وعلى الثاني يكون الأصلُ جُثُوْياً، فَأُعِلَّ إعلالَ هَيِّن ومَيِّت. وعن ابن عباس: أنه بمعنى جماعاتٍ جماعاتٍ جمعَ جُثْوَة، وهو: المجموعُ من التراب والحجارة. وفي صحتِه عنه نظرٌ من حيث إنَّ فُِعْلَة لا يُجمع على فُعُوْل. ويجوز في «جِثِيَّا» أن يكون مصدراً على فُعول، وأصلُه كما تقدَّم في حالِ كونِه جمعاً: إمَّا جُثُوٌّ، وإمَّا جُثُوْيٌ. وقد تقدَّم «أنَّ الأخوين يكسران فاءَه، والباقون يَضُمونها. والجُثُوُّ: القُعُودُ على الرُّكَب.

69

قوله: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} : في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ، أظهرُها

عند الجمهور من المعربين، وهو مذهب سيبويه: أن «أيُّهم» موصولةٌ بمعنى الذي، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه، لخروجِها عن النظائر، و «أَشَدُّ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ ل «أيُّهم» ، و «أيُّهم» وصلتُها في محل نصب مفعولاً بها بقوله «لَنَنْزِعَنَّ» . ول «ايّ» أحوالٌ أربعةٌ، أحدُها: تُبْنى فيها وهي - كما في الآيةِ - أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها، ومثلُه قولُ الشاعر: 324 - 8- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ ... فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ بضم «أيُّهم» وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو. وزعم الخليل رحمه الله أنَّ «أيُّهم» هنا مبتدأٌ، و «أشدُّ» خبرُه، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير: لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم: أيُّهم أشدُّ. وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر: 324 - 9- ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ ... فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ وقال تقديره: فَأَبِيْتُ يُقال فيَّ: لا حَرِجٌ ولا محرومُ. وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأةٌ، ما بعدها خبرُها كقولِ

الخليلِ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ ل «نَنْزِعَنَّ» فهي في محلِّ نصب، لأنَّه يُجَوِّز التعليقَ في سائر الأفعال، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب، كما يَخُصُّه بها الجمهور. وقال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} كقوله: {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا} [مريم: 50] ، أي: لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال: مَنْ هم؟ فقيل: أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا» . فجعل «أيُّهم» موصولةً أيضاً، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم الذين هم أشدُّ «. قال الشيخ: وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين» . وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ {كُلِّ شِيعَةٍ} و «مِنْ» مزيدةٌ، قال: وهما يجيزان زيادةَ «مِنْ» ، و «أيُّ» استفهامٍ «، أي: للنزِعَنَّ كلَّ شيعة. وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ، وهذا يؤدي إلى العمومِ، إلا أَنْ تجعلَ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان.

وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى» لننزِعَنَّ «لننادِيَنَّ، فعوملَ معامَلَته، فلم يعمل في» أيّ «. قال المهدوي:» ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ، فيعملُ في المعنى، ولا يعملُ في اللفظِ «. وقال المبرد:» أيُّهم «متعلِّقٌ ب» شيعةٍ «فلذلك ارتفع، والمعنى: من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا» . ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولاً ل «نَنْزِعَنَّ» محذوفاً. وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد: من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم. قال النحاس: «وهذا قولٌ حسنٌ، وقد حكى الكسائي تَشايَعُوا بمعنى تعاونوا» . قلت: وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون، وبيَّنه أبو البقاء، لكنْ جَعَلَ «أيُّهم» فاعلاً لِما تَضَمَّنَتَهْ «شيعة» من معنى الفعلِ، قال: «التقدير: لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم، وهي على هذا بمعنى الذي» . ونُقِل عن الكوفيين أنَّ «أيُّهم» في الآية بمعنى الشرط. والتقدير: إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم، أو لم يَشْتَدَّ، كما تقول: ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ، المعنى: إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا. وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ

عن الأعمش «أيُّهم» نصباً. قلت: فعلى هذه القراءة والتي قبلَها: ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها. قال النحاس: «ما علمتُ أحداً من النحويين إلا وقد خطَّأ سيبويه» قال: «وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول:» ما تبيَّن لي أن سيبويه غَلِط في كتابه إلا في موضعين، هذا أحدُهما «قال» وقد أعرب سيبويه «أيَّاً» وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ، فكيف يبنيها مضافةً «؟ وقال الجرميُّ:» خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحداً يقول: «لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ» بالضمِّ بل يَنْصِبُ «. و {عَلَى الرحمن} متعلقٌ ب» أشدُّ «، و» عِتِيَّاً «منصوبٌ على / التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ، إذ التقديرُ: أيُّهم هو عتوُّه أشدُّ، ولا بدَّ مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ، التقدير: فَنُلْقِيهِ في العذابِ، أو فنبدأ بعذابه. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: بِمَ تتعلَّقُ على والباء؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه «. قلت: هما للبيان لا للصلةِ، أو يتعلَّقان ب» أَفْعَل «، أي: عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم:» هو أَشَدُّ على خَصْمه، وهو أَوْلَى بكذا «.

قلت: يعني ب» على «قولَه» على الرحمن «، وبالباء قولَه» بالذين هم «. وقوله» بالمصدر «يعني بهما» عِتيَّا «و» صِلِيَّاً «وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه. وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ» عِتِيَّاً «و» صِلِيَّاً «في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ، وجَوَّزَ أَنْ يكونا جمعَ عاتٍ وصالٍ فانتصابُهما على هذا الحال. وعلى هذا يجوزُ أَنْ تتعلقَ على والباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ.

71

قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ} : في هذه الواوِ وجهان، أحدهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما قبلَها. وقال ابن عطية « {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه، ويُفَسِّره قولُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» مَنْ ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ «قال الشيخ:» وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى، إلا إذا كان الجوابُ باللامِ أو ب «إنْ» والجوابُ هنا على زَعْمه ب «إنْ» النافيةِ فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَصُّوا. وقوله: «والواو تَقْتَضِيه» يدلُّ على أنها عنده واوُ القسم، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه، كما أوَّلوا في قولهم: «

نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ» ، أي: على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ، وقولِ الشاعر: 325 - 0- واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ ... أي: برجلٍ نام صاحبُهْ، وهذه الآيةُ ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه «. و» إنْ «حرفُ نفيٍ، و» منكم «صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: وإنْ أحدٌ منكم. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وإن منكم إلا مَنْ هو وارِدُها. وقد تقدَّم لذلك نظائرُ. والخطابُ في قولِه» منكمْ «يَحْتمل الالتفاتَ وعدمَه. قال الزمخشري:» التفاتٌ إلى الإِنسان، ويَعْضُدُه قراءةُ ابن عباس وعكرمةَ «وإنْ منهم» أو خطابٌ للناس مِنْ غير التفاتٍ إلى المذكور «.

والحَتْمُ: القضاءُ والوجوبُ. حَتَمَ، أي: أوجب [وحَتَمَه] حتماً، ثم يُطلق الحتم على الأمر المحتوم مقوله تعالى:» هذا خَلْقُ الله «و» هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ «. و» على ربِّك «متعلِّقٌ ب» حَتْم «لأنه في معنى اسمِ المفعول، ولذلك وصَفَه ب» مَقْضِيَّاً «.

72

وقرأ العامَّةُ {ثُمَّ نُنَجِّيْ} بضمِّ «ثمَّ» على أنَّها العاطفةُ وقرأ عليٌّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباسٍ وأُبيُّ والجحدريُّ ويعقوبُ «ثَمَّ» بفتحها على أنها الظرفيةُ، ويكون منصوباً بما بعده، أي: هناك نُنَجِّي الذين اتَّقَوا. وقرأ الجمهور «نُنَجِّيْ» بضم النونِ الأولى وفتحِ الثانية وتشديدِ الجيم، مِنْ «نجَّى» مضعفاً. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن «نُنْجِي» مِنْ أَنْجى. والفعلُ على هاتين مضارعٌ. وقرأَتْ فِرقةٌ «نُجِّيْ» بنونٍ واحدةٍ مضمومةٍ وجيمٍ مشددة. وهو على هذه القراءةِ ماضٍ مبني للمفعول، وكان مِنْ حق قارئها أن يفتحَ الياءَ، ولكنه سكَّنه تخفيفاً. وتحتمل هذه القراءةُ توجيهاً آخرَ سيأتي في قراءة متواترةٍ آخرَ سورةِ الأنبياء. وقرأ عليُّ بن أبي طالب أيضاً «نُنَجِّي» بحاءٍ مهملة، من التَّنْحِيَة.

ومفعول «اتَّقوا» إمَّا محذوفٌ مرادٌ للعلمِ به، أي: اتَّقُوا الشركَ والظلمَ. قوله: جِثِيَّا «إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كان» نَذَرُ «يتعدَّى لاثنين بمعنى نترك ونُصَيِّر، وإمَّا حالٌ إنْ جَعَلْتَ» نَذَرُ «بمعنى نُخَلِّيْهم. و» جِثِيَّاً «على ما تقدَّم. و» فيها «يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب» نَذَرُ «، وأَنْ يتعلَّقَ ب» جِثِيَّاً «إنْ كان حالاً، ولا يجوزُ ذلك فيه إنْ كان مصدراً. ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ» جِثِيَّاً «لأنه في الأصلِ صفةٌ لنكرةٍ قُدِّم عليها فَنُصِبَ حالاً.

73

قوله: {مَّقَاماً} : قرأ ابن كثير «مُقاماً» بالضم، ورُوِيَتْ عن أبي عمرو، وهي قراءةُ ابن محيصن. والباقون بالفتح. وفي كلتا القراءتين يحتمل أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو اسمَ مصدر، إمَّا من «قام» ثلاثياً، أو مِنْ «أقام» ، أي: خير مكانِ قيامِ أو إقامةٍ. والنَّدِيُّ: فَعِيل، أصلُه نَدِيْوٌ لأنَّ لامَه واوا، يقال: نَدَوْتُهم أَنْدَوْهم، أي: أَتَيْتُ ناديَهم، والنادي مثلُه. ومنه {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] ، أي: أهل نادية. والنَّدِيُّ والنادي: مجلسُ القومِ ومُتَحَدِّثُهم. وقيل: هو مشتقٌ من النَّدى وهو الكَرَمُ؛

لأن الكرماء يجتمعون فيه، وانْتَدَيْتُ المكانَ والمُنْتدى كذلك. وقال حاتم: 325 - 1- ودُعِيْتُ في أَوْلَى النَّدِيَّ ولم ... يُنْظَرْ إليَّ بأَعْيُنٍ خُزْرِ والمصدرُ: النَّدْوُ. و «مَقاماً» و «نَدِيَّا» منصوبان على التمييز من أفْعل. وقرأ أبو حيوةَ والأعرجُ وابن محيصن «يُتْلَى» بالياء مِنْ تحتُ، والباقون/ بالتاءِ من فوقُ واللامُ في «للذين» يحتمل أَنْ تكونَ للتبليغِ، وهو الظاهر، وأن تكونَ للتعليلِ.

74

قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} : «كم» مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدرَ الكلامِ لأنها إمَّا: استفهاميةٌ أو خبريةٌ، وهي محمولةٌ على الاستفهاميةِ، و «أَهلَكْنا» مُتَسَلِّطٌ على «كم» أي: كثيراً من القرون أَهْلَكْنا. و «مِنْ قَرنٍ» تمييزٌ ل «كَمْ» مُبَيِّنٌ لها. قوله: {هُمْ أَحْسَنُ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: - وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء - أنَّها في محلِّ نصب، صفةً ل «كم» . قال الزمخشري: «ألا ترى أنَّك لو أَسْقَطْتَ» هم «لم يكن لك بَدٌّ مِنْ نصبِ» أحسنُ «على الوصفية» . وفي هذا نظرٌ لأنَّ النَّحْويين نَصُّوا: على أنَّ «كم»

استفهاميةٌ كانت أو خبريةً لا تُوْصَفُ ولا يُوْصَفُ بها. الثاني: أنها في محلِّ جرٍّ صفةً ل «قَرْن» ولا محذورَ في هذا، وإنما جُمِعَ في قوله: «هم» لأنَّ قَرْناً وإن كان لفظُه مفرداً فمعناه جمعٌ، ف «قَرْن» كلفظِ «جميع» و «جميع» يجوز مراعاةُ لفظِه تارةً فيُفْرَدُ كقولِه تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] ومراعاةُ معناه أخرى فيُجمع مالَه كقوله تعالى: {لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] . قوله: «ورِئْياً» الجمهورُ على «رِئْياً» الجمهورُ على «رِئْيا» بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلاً ووفقاً، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز، ثم له بعد ذلك وجهان: الإِظهارُ اعتباراً بالأصل، والإِدغامُ اعتباراً باللفظ، وفي الإِظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى، وفي الإِدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى: وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء والنَّضارة، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه. وقرأ قالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر «ورِيَّا» بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ، فقيل: هي مهموزةُ الأصلِ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً وأُدْغِمَتْ. والرَّأْيُ بالهمز، قيل: مِنْ رُؤْية العَيْن، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول، أي: مَرْئِيٌّ. وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر. وقيل: بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس مهموزَ الأصلِ، والمعنى: أحسنُ منظراً لأنَّ الرِّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ ضِدَّيْهما. وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى «وَرِيْئاً» بياءٍ ساكنةٍ

بعدَها همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ «رِئْياً» في قراءةِ العامَّةِ، ووزنه فِلْعٌ، وهو مِنْ راءه يَرْآه كقولِ الشاعر: 325 - 2- وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ ... مِنَ أجلِكَ: هذا هامةُ اليومِ أوغدِ وفي القلب من القلبِ ما فيه. ورَوَى اليزيديُّ قراءةَ «ورِياء» بياءٍ بعدها ألف، بعدها همزة، وهي من المُراءاة، أي: يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها ياءً، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ. وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة «وَرِيَاً» بياء فقط مخففةٍ. ولها وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ أصلُها كقراءةِ قالون، ثم خَفَّفَ الكلمةَ بحذفِ إحدى الياءَيْن، وهي الثانيةُ لأنَّ بها حَصَلَ الثِّقَلُ، ولأنَّها لامُ الكلمةِ، والأواخرُ أَحْرَى بالتغيير. والثاني: أن يكونَ أصلُها كقراءةِ حميد «وَرِيْئا» بالقلب، ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الياءِ قبلها، وحَذَفَ الهمزةَ على قاعدةِ تخفيفِ الهمزةِ بالنقل، فصار «وَرِيا» كما ترى. وتجاسَرَ بعضُ الناسِ فجعل هذه القراءة لَحْناً، وليس اللاحنُ غيرَه، لخَفَاءِ توجيهِها عليه. وقرأ ابن عباس أيضاً وابنُ جُبَيْر وجماعةٌ «وزِيَّا» بزايٍ وياءٍ مشددة، والزَّيُّ: البِزَّة الحسنة والآلاتُ المجتمعة، لأنه مِنْ زَوَى كذا يَزْوِيه، أي: يَجْمعه، والمُتَزَيِّنُ يَجْمع الأشياء التي تُزَيِّنه وتُظْهِرُ زِيَّه.

75

قوله: {مَن كَانَ فِي الضلالة} : «مَنْ» يجوز ان تكونَ شرطيةً، وهو الظاهر، وأن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ في الخبرِ لِما تَضَمَّنه الموصولُ مِنْ معنى الشرط. وقولُه: «فَلْيَمْدُدْ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه طَلَبٌ على بابه، ومعناه الدُّعاءُ. والثاني: لفظُه لفظُ الأمرِ، ومعناه الخبر. قال الزمخشري: أي: مَدَّ له الرحمنُ، بمعنى أَمْعَلَه فأُخْرِجَ على لفظِ الأمرِ إيذاناً بوجوبِ ذلك. أو فَمُدَّ له في معنى الدعاء بأن يُمْهِلَه الله ويُنَفِّسَ في مدةِ حياتِه «. قوله:» حتى إذا «في» حتى «هذه ما تقدَّمَ في نظائرِها مِنْ كونِها: حرفَ جرٍّ أو حرفَ ابتداءٍ، وإنما الشأنُ فيما هي غايةٌ له على كلا القولين. فقال الزمخشري:» وفي هذه الآيةِ وجهان: أن تكونَ موصولةً، بالآيةِ التي هي رابِعَتُها، والآيتان اعتراضٌ بينهما، أي: قالوا: أيُّ الفريقينِ خيرٌ مقاماً وأَحْسَنُ نَدِيَّاً، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون، أي: لا يَبْرَحون يقولون هذا القولَ ويَتَوَلَّعُون [به] لا يَتَكَافَوْن عنه إلى أن يُشاهدون الموعودَ رأيَ العينِ «وذكر كلاماً حسناً. ثم قال:» والثاني: أن تتصلَ بما يليها، والمعنى أنَّ الذينَ في الضلالةِ ممدودٌ لهم «وذكر كلاماً طويلاً. ثم قال:» إلى أَنْ يُعايِنوا نُصْرَةَ / اللهِ للمؤمنين، أو يشاهدوا السَّاعة ومُقَدِّماتها. فإنْ قلت: «حتى» هذه ما هي؟

قلت: هي التي تُحْكى بعدها الجملُ، ألا ترى الجملةَ الشرطيةَ واقعةً بعدها، وهي {إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ. . . فَسَيَعْلَمُونَ} . قال الشيخ: - مُسْتبعداً للوجه الأول- «وهو في غاية البُعْدِ لطولِ الفَصْلِ بين قولِه:» قالوا أيُّ الفريقينِ «وبين الغايةِ، وفيه الفصلُ بجملتيْ اعتراَس ولا يُجيزه أبو علي» . وهذا الاستبعادُ قريبٌ. وقال أبو البقاء: «حتى» يُحْكَى ما بعدها ههنا، وليست متعلقةً بفعلٍ «. قوله: {إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة} قد عَرَفْتَ [ما] في» إمَّا «: من كونِها حرفَ عطفٍ أولا، ولا خلاف أن أحدَ معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة. و» العذابَ «و» الساعةَ «بدلانِ مِنْ قوله: {مَا يُوعَدُونَ} المنصوبةِ ب» رَأَوْا «و» فَسَيَعْلمون «جوابُ الشرط. و {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً} يجوز أَنْ تكونَ» مَنْ «موصولةً بمعنى الذي، وتكونَ مفعولاً ل» يَعْلَمون «. ويجوزُ أَنْ تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و» هو «مبتدأُ ثانٍ، و» شَرٌّ «خبرُه، والمبتدأُ والخبرُ خبرُ الأول. ويجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مُعَلَّقةً لفعل الرؤيةِ فالجملةُ في محلِّ نصبٍ على التعليق.

76

قوله: {وَيَزِيدُ الله} : في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها، فإنها سِيْقَتْ للإِخبار بذلك. وقال

الزمخشري: «إنها معطوفةٌ على موضعِ» فَلْيَمْدُدْ «لأنه واقعٌ موقعَ الخبر، تقديرُه:» مَنْ كان في الضلالة مَدَّ - أو يَمُدُّ - له الرحمنُ ويَزيدُ «. قال الشيخ: ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ» ويَزيدُ «معطوفاً على» فَلْيَمْدُدْ «سواءً كان دعاءً أم خبراً بصورةِ الأمر؛ لأنه في موضع الخبرِ إنْ كانت» مَنْ «موصولةً، أو في موضعِ الجوابِ إن كانت» مَنْ «شرطيةً، وعلى كلا التقديرين فالجملةُ مِنْ قولِه:» ويزيدُ اللهُ الذين اهتدَوا هدىً عاريةٌ من ضميرٍ يعود على «مَنْ» يَرْبِطُ جملةَ الخبرِ بالمبتدأ، أو جملةَ الشرطِ بالجزاء الذي هو «فَلْيَمْدُدْ» وما عُطِفَ عليه؛ لأنَّ المعطوفَ على الخبر خبرٌ، والمعطوفَ على جملةِ الجزاءِ جزاءٌ. وإذا كانت اداةُ الشرطِ اسماً لا ظرفاً تَعَيَّنَ أَنْ يكونَ في جملة الجزاءِ ضميرُه أو ما يقوم مَقامه، وكذا في الجملةِ المعطوفةِ عليها «. قلت: وقد ذكر أبو البقاء أيضاً كما ذكر الزمخشري. وقد يُجاب عمَّا قالاه: بأنَّا نختار على هذا التقدير أَنْ تكونَ» مَنْ «شرطيةً. قوله:» لا بُدَّ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ غيرِ الظرف «ممنوعٌ لأنَّ فيه خلافاً قدَّمْتُ تحقيقَه وما يُسْتَدَلُّ به عليه في سورة البقرة. فقد يكون الزمخشريُّ وأبو البقاء من القائلين بأنه لا يُشْتَرَطُ.

77

قوله: {أَفَرَأَيْتَ} : عطفٌ بالفاء إيذاناً بإفادةِ التعقيبِ كأنه قيل: أَخْبَرَ أيضاً بقصة هذا الكافر عَقِيْبَ قصةِ أولئك. و «أَرَأَيْتَ» بمعنى أَخْبَرَني كما قد عَرَفْتَه. والموصولُ هو المفعول الأول، والثاني هو الجملةُ

الاستفهاميةُ مِنْ قولِه {أَطَّلَعَ الغيب} و «لأُوْتَيَنَّ» جوابُ قسمٍ مضمرٍ، والجملةُ القسميةُ كلُّها في محلِّ نصبٍ بالقول. وقوله هنا: «وَوَلداً» وفيها {قَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} [مريم: 88، 91] . موضعان. وفي الزخرف {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} [الآية: 81] وفي نوح {مَالُهُ وَوَلَدُهُ} [الآية: 21] . قرأ الأربعةَ الأخَوان بضم الواو وسكونِ اللام. وافقهما ابن كثير وأبو عمرو. . . على الذي في نوحٍ دون السورتين، والباقون وهم نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ قرؤوا ذلك كلَّه بفتح الواو واللام. فأمَّا القراءةُ بفتحتين فواضحةٌ وهو اسمٌ مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع. وأمَّا قراءةُ الضمِّ والإِسكانِ، فقيل: هي كالتي قبلها في المعنى، يقال: وَلَدَ ووُلْد، كما يقال: عَرَب وعُرْب، وعَدَمَ وعُدْم. وقيل: بل هي جمع لوَلَد نحو: أَسَد وأُسْد، وأَنْشَدوا على ذلك: 325 - 3- ولقد رَأَيْتُ معاشراً ... قد ثَمَّروا مالاً وَوُلْدا

وأنشدوا شاهداً على أنَّ الوَلَدَ والوُلْد مترادِفان الآخر: 325 - 4- فَلَيْتَ فلاناً كان في بَطْنِ أمِّه ... وليت فلاناً كان وُلْدَ حمارِ وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر «ووِلْدا» بكسر الواو، وهي لغةٌ في الوَلَد، ولا يَبْعُدُ أَنْ يكون هذا من باب الذَّبْح والرَّعْي، فيكون وِلْدٌ بمعنى مَوْلود، وكذلك في الذي بفتحتين نحو: القَبَض بمعنى المَقْبوض.

78

قوله: {أَطَّلَعَ} : هذه همزةُ استفهامٍ سَقَطَ من أجلها همزةُ الوصل. وقد قُرِئ بسقوطِها دَرْجاً وكَسْرِها ابتداءً على أنَّ همزةَ الاستفهام قد حُذِفَتْ لدلالةِ «أم» عليها كقوله: 325 - 5- لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإن كنتُ دارِيا ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ واطَّلع مِنْ قولِهم: اطَّلَعَ فلانٌ الجبلَ، أي: ارتقى أَعْلاه. قال جرير: 325 - 6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لا قَيْتُ مُطَّلَعَ الجِبالِ وُعُوْرا

ف «الغيبَ» ، مفعول به، لا على إسقاط حرف الجر، أي: على الغيبِ، كما زعمه بعضُهم.

79

قوله: {كَلاَّ} : للنحويين في هذه اللفظةِ ستةُ مذاهبَ. أحدها: - وهو مذهبُ جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس - أنها حرفُ رَدْعٍ وزَجْر، وهذا معنىً لائقٌ بها حيث وَقَعَتْ في القرآن، وما أحسنَ ما جاءَتْ في هذه الآيةِ حيث زَجَرَتْ وَرَدَعَتْ ذلك القائلَ/. والثاني: - وهو مذهبُ النَّضْر بن شميل أنها حرفُ تصديقٍ بمعنى نعم، فتكون جواباً، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ أَنْ يتقدَّمَها شيءٌ لفظاً أو تقديراً. وقد تُسْتعمل في القسم. والثالث: - وهو مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصير بن يوسف وابن واصل - أنها بمعنى حقاً. والرابع - وهو مذهبُ أبي عبد الله محمد بن الباهلي- أنها رَدٌّ لما قبلها وهذا قريبٌ من معنى الرَّدْع. الخامس: أنها صلةٌ في الكلام بمعنى «إي» كذا قيل. وفيه نظرٌ فإنَّ «إي» حرفُ جوابٍ ولكنه مختصٌّ بالقسم. السادس: أنها حرفُ استفتاحٍ وهو قولُ أبي حاتم. ولتقريرِ هذه المواضعِ موضوعٌ هو أليقُ بها قد حققتُها بحمدِ الله تعالى فيه.

وقد قُرِئ هنا بالفتح والتنوين في «كَلاَّ» هذه، وتُرْوى عن أبي نُهَيْك. وسيأتي لك ان الزمخشريَّ يحكي هذه القراءةَ ويَعْزِيْها لابن نُهَيْك في قوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ} [مريم: 82] ويحكي أيضاً قراءةً بضم الكاف والتنوين، ويَعْزِيْها لابن نهيك أيضاً. فأمَّا قولُه: «ابن نهيك» فليس لهم ابنُ نهيك، إنما لهم ابو نُهَيْك بالكُنْية. وفي قراءةِ الفتحِ والتنوينِ أربعةُ اوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظها تقديرُه: كَلُّوا كَلاًّ، أي: أَعْيَوْا عن الحق إعْياءً، أو كَلُّوا عن عبادةِ الله لتهاونِهم بها، من قولِ العرب: «كَلَّ السيفُ» إذا نَبا عن الضَّرْب، وكَلَّ زيد، أي: تَعِبَ. وقيل: المعنى: كَلُّوا في دَعْواهم وانقطعوا. والثاني: أنَّه مفعولٌ به بفعلٍ مقدرٍ من معنى الكلام تقديره: حَمَلُوا كَلاَّ، والكَلُّ أيضاً: الثَّقْل. تقول: فلان كَلٌّ على الناس، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} [النحل: 76] والثالث: أنَّ التنوينَ بدلٌ مِنْ ألف «كَلاَّ» وهي التي يُراد بها الرَّدْعُ والزَّجْر، فيكونُ صَرْفاً أيضاً. قال الزمخشري: «ولقائلٍ أَنْ يقول: إنْ صَحَّتْ هذه الروايةُ فهي» كَلاَّ «التي للردع، قَلَبَ الواقفُ عليها ألفَها نوناً كما في قوله: {قَوَارِيرَاْ} [الإِنسان: 15] . قال الشيخ:» وهذا ليس بجيد لأنه قال: «التي للرَّدْع» والتي للرَّدْعِ حرفٌ

ولا وجهَ لقَلْبِ ألفِها نوناً، وتشبيهُه ب «قواريراً» ليس بجيدٍ لأن «قواريراً» اسمٌ رُجِعَ به إلى أصلِه، فالتنوينُ ليس بدلاً مِنْ ألف بل هو تنوينُ الصَّرْف، وهذا الجمعُ مختلفٌ فيه: أيتحتَّم مَنْعُ صَرْفِه أم يجوز؟ قولان ومنقول أيضاً أنَّ لغةَ بعضِ العرب يصرفون ما لا يَنْصَرِفُ فهذا القولُ: إمَّا على قولِ مَنْ لا يَرَى بالتحتُّم، أو على تلك اللغة «. والرابع: أنه نعتٌ ل» آلهة «قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ، إذ ليس المعنى على ذلك. وقد يظهر له وجهٌ: أن يكونَ قد وَصَفَ الآلهة بالكَلِّ الذي هو المصدرُ بمعنى الإِعياءُ والعَجْز، كأنه قيل: آلهةً كالَّيْنَ، أي: عاجِزين منقطعين، ولمَّا وَصَفهم بالمصدر وَحَّده.

82

وروى ابن عطية والدانيُّ وغيرُه عن أبي نهيك أنه قرأ «كُلاَّ» بضم الكافِ والتنوين. وفيها تأويلان، أحدهما: أن ينتصِبَ على الحالِ، أي: سيكفرون جميعاً. كذا قَدَّره أبو البقاء واستبعدَه. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، أي: يَرْفُضون أو يَجْحَدون أو يُتْرَكُون كُلاًّ، قاله ابن عطية. وحكى ابن جرير أنَّ أبا نهيك قرأ «كُلٌّ» بضم الكاف ورفع اللام منونةً على أنَّه مبتدأ، والجملةُ الفعليةُ بعد خبرُه. وظاهرُ عبارةِ هؤلاء أنه لم يُقرأ بذلك إلا في «كُلاَّ» الثانية.

وقرأ عليٌّ بن أبي طالب «ونُمِدُّ» مِنْ أمَدَّ. وقد تقدَّم القولُ في مَدَّه وأمدَّه: قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] يجوز في «ما» وجهان؛ أحدهما: أَنْ تكونَ مفعولاً بها. والضميرُ في «نَرِثُه» منصوبٌ على إسقاط الخافضِ تقديرُه: ونَرِثُ منه ما يقولُه. الثاني: أن تكونَ بدلاً من الضمير في «نَرِثُه» بدلَ الاشتمال. وقدَّر بعضُهم مضافاً قبل الموصولِ، أي: نَرِثُه معنى ما يقول، أو مُسَمَّى ما يقول، وهو المال والولد؛ لأنَّ نفس القول لا يُورَّث. و «فَرْداً: حال: إمَّا مقدَّرةٌ نحو: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] أو مقارنةِ، وذلك مبنيٌّ على اختلافٍ في معنى الآية مذكور في الكشاف. والضمير في {سَيَكْفُرُونَ} يجوز أن يعودَ على الآلهةِ لأنه أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ الضميرَ في» يكونون «أيضاً عائدٌ عليهم فقط. ومثلُه: {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} [النحل: 86] ثم قال: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} . وقيل: يعود على المشركين» . ومثلُه قولُه: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . إلا أنَّ فيه عَدَمَ توافقِ الضمائرِ إذ الضميرُ في «يكونون» عائدٌ على الآلهة، و «بعبادتهم» مصدرٌ مضافٌ إلى فاعِلِه إنْ عاد الضميرُ في «عبادتهم» على المشركين العابدين، وإلى المفعولِ إنْ عاد إلى الآلهة.

وقوله: «ضِدَّاً» إنما وَحَّده، وإن كان خبراً عن جَمْع، لأحدِ وجهين: إمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ، والمصادرُ مُوَحَّدةٌ مُذَكَّرَةٌ، وإمَّا لأنه مفردٌ في معنى الجمع. قال الزمخشري: «والضِّدُّ: العَوْنُ، وُحِّدَ توحيدَ» وهم يَدٌ على مَنْ سواهم «لاتفاق كلمتِهم، وأنَّهم كشيءٍ واحدٍ لفَرْطِ تَضَامَّهم وتوافُقِهم والضِّدُّ: العَوْن والمُعاوَنَة. ويقال: مِنْ أضدادكم، أي: أَعْوانكم» . قيل: وسُمِّي العَوْنُ ضِدَّاً لأنه يُضادُّ مَنْ يُعاديك ويُنافيه بإعانتِك له عليه. وفي التفسير: أنَّ الضدَّ هنا الأعداءُ. وقيل: القِرْن. وقيل: البلاءُ وهذه تناسِبُ معنى الآية.

83

قوله: {أَزّاً} : مصدر مؤكِّدٌ والأَزُّ والأَزيز والهَزُّ والاستفزاز. قال الزمخشري: «أَخَواتٌ، وهو التَّهِييجُ وشِدَّةُ الإِزعاج» . والأزُّ أيضاً: شِدَّة الصوتِ، ومنه «أَزَّ المِرْجَلُ أَزَّاً» وأَزِيْزاً: أي: غلا واشتد غَلَيانُه حتى سُمع له صوتٌ. وفي الحديث: «فكان له أَزِيز» ، أي: للجِذْع حين فارقه النبيُّ [صلى الله] عليه وسلم.

85

قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ} : منصوبٌ ب «سَيَكْفرون» أو ب «يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أو ب» نَعُدُّ «تَضَمَّن معنى المجازاة، أو بقوله:» لا يَمْلكون «الذي بعده، أو بمضمرٍ وهو» اذْكُرْ «أو احْذَرْ. وقيل: هو معمولٌ لجوابِ سؤالٍ مقدرٍ، كأنه قيل: متى يكون ذلك؟ فقيل: يكون

يوم يُحْشَرُ. وقيل: / تقديرُه: يوم نَحْشُر ونَسُوق نَفْعَلُ بالفريقين ما لا يٌحيط به الوصفُ. قوله:» وَفْداً «نصبٌ على الحال، وكذلك» وِرْداً «. والوَفْدُ: الجماعة الوافِدُون. يُقال: وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً وَوُفُوداً ووِفادَةً، أي: قَدِمَ على سبيل التَّكرِمة، فهو في الأصل مصدرٌ ثم أُطْلِق على الأشخاصِ كالصَّفِّ. وقال أبو البقاء:» وَفْدُ جُمعُ وافِد مثلَ راكِب ورَكْب وصاحِب وصَحْب «وهذا الذي قاله ليس مَذهبَ سيبويه لأنَّ فاعِلاً لا يُجْمَعُ على فَعْل عند سيبويه. وأجازه الأخفش. فأمَّا رَكْبٌ وصَحْبٌ فأسماءُ جمعٍ لا جَمْعٌ بدليلِ تصغيرها على ألفاظها، قال: 325 - 7- أَخْشَى رُجَيْلاً ورُكَيْباً غادِيا ... فإن قلت: لعلَّ أبا البقاء أراد الجمعَ اللغويَّ. فالجواب: أنَّه قال بعد قوله:» والوِرْدُ اسمٌ لجمعِ وارِد «فَدَلَّ على أنه قصد الجمعَ صناعةً المقابلَ لاسمِ الجمع.

86

والوِرْدُ: اسمٌ للجماعةِ العِطاشِ الوارِدينَ للماءِ، وهو في الأصلِ أيضاً مصدرٌ أطْلِقَ على الأشخاص يقال: وَرَدَ الماءَ يَرِدُه وِرْداً

ووُرُوْداً. قال الشاعر: 325 - 8- رِدِي رِدي وِرْدَ قَطاةٍ صَمَّا ... كُدْرِيَّةٍ أَعٍجَبَها بَرْدُ المَا وقال أبو البقاء: «هو اسمٌ لجمعِ وارِد. وقيل: هو بمعنى وارِد. وقيل هو محذوفٌ مِنْ» وارِد «وهو بعيدٌ» يعني أنه يجوز أَنْ يكونَ صفةً على فِعْل. وقرأ الحسن والجحدريُّ «يُحْشَر المتقون، ويُساق المجرمون» على ما لم يُسَمَّ فاعلُه.

87

قوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ} : في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقت للإِخبارِ بذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ممَّا تقدَّم. وفي هذه الواوِ قولان، أحدهما: أنها علامةٌ للجمع ليسَتْ ضميراً البتَة، وإنما هي علامةٌ كهي في لغةِ «أكلوني البراغيث» والفاعلُ «مِنْ اتَّخَذَ» لأنه في معنى الجمع. قاله الزمخشري. وفيه بُعْدٌ، وكأنه قيل: لا يملك الشفاعةَ إلا المتخذون عَهْداً. قال الشيخ: «ولا ينبغي حَمْلُ القرآنِ على هذه اللغةِ القليلةِ مع وضوحِ جَعْلِ الواوِ ضميراً. وقد قال الأستاذ أبو الحسن ابنُ عصفور: إنها لغة ضعيفة» .

قلت: قد قالوا ذلك في قوله تعالى: {عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71] {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] فلهذا الموضعِ بهما أُسْوَةٌ. ثم قال الشيخ: «وأيضاً فالألفُ والواوُ والنونُ التي تكون علاماتٍ لا ضمائرَ لا يُحْفَظُ ما يجيءُ بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع وصريحِ التثنية أو العطفِ، أمَّا أنْ يأتيَ بلفظٍ مفردٍ، ويُطلَقَ على جمع أو مثنى، فيُحتاج في إثباتِ مثلِ ذلك إلى نَقْلِ. وأمَّا عُوْدُ الضمائرِ مثناةً أو مجموعةً على مفردٍ في اللفظِ يُراد به المثنى والمجموعُ فمسموعٌ معروفٌ في لسانِ العرب، على أنه يمكنُ قياسُ هذه العلاماتِ على تلك الضمائرِ، ولكن الأَحْوَطَ أن لا يُقال إلا بسماعٍ» . والثاني: أن الواوَ ضميرٌ. وفيما تعود عليه حينئذٍ أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: انها تعودُ على الخَلْق جميعِهم لدلالة ذِكْر الفريقين - المُتَّقين والمجرمين - عليهم، إذ هما قِسْماه. والثاني: أنه يعودُ على المتقين والمجرمين، وهذا لا تظهر مخالفتُه للأولِ أصلاً لأنَّ هذين القسمين هما الخَلْقُ كله. والثالث: أنه يعودُ على المُتَّقين فقط أو المجرمين فقط، وهو تَحَكُّمٌ. قوله: {إِلاَّ مَنِ اتخذ} هذا الاستثناءُ يترتيب على عَوْدِ الواو على ماذا؟ فإنْ قيل بأنَّها تعودُ على الخَلْقِ أو على الفريقَيْن المذكورَيْن أو على المتَّقين فقط فالاستثناءُ حينئذٍ متصلٍ. وفي محلِّ المستثنى الوجهان المشهوران: إمَّا على الرفعُ على البدلِ، وإمَّا النصبُ على

أصلِ الاستثناء. وإنْ قيل: إنه يعودُ على المجرمينَ فقط كان استثناءً منقطعاً، وفيه حينئذٍ اللغتان المشهورتان: لغةُ الحجازِ التزامُ النصبِ، ولغةُ تميمٍ جوازُه مع جوازِ البدلِ كالمتصل. وجَعَلَ الزمخشريُّ هذا الاستثناء من «الشفاعة» على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: لا يملكونَ الشفاعةَ إلا شفاعةَ مَنِ اتَّخذ، فيكون نصبُه على وَجْهَي البدلِ وأصلِ الاستثناء، نحو: «ما رأيت أحداً إلا زيداً» . وقال بعضُهم: إن المستثنى منه محذوفٌ والتقديرُ: لا يملكون الشفاعةَ لأحدٍ لِمَن اتَّخَذَ عند الرحمن عَهْداً، فَحُذِفَ المستثنى منه للعلم به فهو كقول الآخر: 325 - 9- نجا سالمٌ والنفسُ منه بِشِدْقِهِ ... ولم يَنْجُ إلا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا أي: ولم يَنْجُ شيءٌ. وجَعَلَ ابنُ عطية الاستثناءَ متصلاً وإن عاد الضميرُ في {لاَّ يَمْلِكُونَ} على المجرمين فقط على أَنْ يُراد بالمجرمين الكفرةُ والعُصاةُ من المسلمين. قال الشيخ: «وحَمْلُ المجرمين على الكفارِ والعُصاة بعيدٌ» . قلت: ولا بُعْدَ فيه، وكما اسْتَبْعَدَ إطلاقَ المجرمين على العصاة كذلك يَسْتَبعد غيرُه إطلاقَ المُتَّقين على العُصاة، بل إطلاقُ المجرمِ على العاصي أشهرُ مِنْ إطلاقِ المتَّقي عليه.

89

قوله: {شَيْئاً إِدَّاً} : العامَّةُ على كسر الهمزة مِنْ «إدَّاً»

وهو الأمرُ العظيمُ المنكَرُ المتعجَّبُ منه. وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها. وخَرَّجوه على حَذْفِ مضاف، أي: شيئاً أدَّاً، لأنَّ الأدَّ بالفتحِ مصدرٌ يُقال: أدَّه الأمرُ، وأدَّني يَؤُدُّني أدَّاً، أي: أَثْقَلني. وكان الشيخ ذكر أنَّ الأَدَّ والإِدَّ بفتح الهمزةِ وكسرِها هو العَجَبُ. وقيل: هو العظيم المُنْكَر، والإِدَّة: الشِّدَّة/. وعلى قوله: «وإن الإِدَّ والأدَّ بمعنى واحد» ينبغي أَنْ لا يُحتاج إلى حَذْفِ مضاف، إلا أَنْ يريدَ أنه أراد بكونِهما بمعنى العَجَب في المعنى لا في المصدرية وعَدَمِها.

90

قوله: {تَكَادُ} : قرأ نافع والكسائي بالياءِ من تحتُ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ، وهما واضحتان إذ التأنيثُ مجازِيٌّ، وكذلك في سورة الشورى. وقرأ أبو عمروٍ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ وحمزةَ «يَنفَطِرْنَ» مضارع انْفَطَرَ. والباقون «يتفطَّرْن» مضارعَ تَفَطَّرَ بالتشديدِ في هذه السورة. وأمَّا التي في الشورى فقرأها حمزة وابنُ عامرٍ بالتاء والياء وتشديد الطاء والباقون على أصولِهم في هذه السورة. فتلَخَّصَ من ذلك أن أبا عمروٍ وأبا بكر يقرآن بالتاء والنون في السورتين، وأن نافعاً وابن كثير والكسائيَّ

وحفصاً عن عاصم يقرؤون بالتاء والياء وتشديد الطاء فيهما، وانَّ حمزة وابن عامر في هذه السورةِ بالتاء والنون، وفي الشورى بالتاء والياء وتشديد الطاء. فالانفِطارُ مِنْ «فَطَرَه» إذا شَقَّه، والتفطُّر مِنْ «فطَّره» إذا شَقَّقَه، وكَرَّر فيه الفعلَ. قال أبو البقاء: «وهو هنا أَشْبَهُ بالمعنى» . أي: التشديد. و «يَتَفَطَّرْنَ» في محلِّ نصب خبراً ل «تكادُ» وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإِرادة وأنشد: 326 - 0- كادَتْ وكِدْتُ وتلك خيرُ إرادةٍ ... لو عادَ مِنْ زمنِ الصَّبابةِ ما مَضَى قوله: «هَدَّاً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مصدرٌ في موضعِ الحال، أي: مَهْدُودَةً وذلك على أن يكونَ هذا المصدرُ مِنْ هدَّ زيدٌ الحائطَ يَهُدُّه هَدَّاً، أي: هَدَمه. والثاني: وهو قولُ أبي جعفر أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ لمَّا كان في معناه لأنَّ الخُرورَ السُّقوطُ والهَدْمُ، وهذا على أن يكون مِنْ هَدَّ الحائطُ يَهِدُّ، أي: انهدمَ، فيكون لازماً. والثالث: أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله. قال الزمخشريُّ: «أي: لأنَّها تُهَدُّ» .

91

قوله: {أَن دَعَوْا} : في محلِّه خمسةُ اوجه، أحدها: أنه في محلِّ نصبٍ على المفعولِ مِنْ أجله. قاله أبو البقاء والحوفي، ولم يُبَيِّنا: ما العاملُ فيه؟ ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ «تكاد» أو «تَحِزُّ» أو «هَدَّاً» أي: تَهِدُّ لأَنْ دَعَوْا، ولكنَّ شَرْطَ النصبِ فيها مفقودٌ وهو اتِّحادُ الفاعلِ في المفعولِ له والعاملِ فيه، فإن عَنَيَا أنه على إسقاطِ اللامِ - وسقوطُ اللامِ يَطَّرِدُ مع أنْ - فقريبٌ. وقال الزمخشري: «وأَنْ يكونَ منصوباً بتقديرِ سقوطِ اللام وأفضاءِ الفعلِ، أي: هدَّاً لأَنْ دَعَوْا، عَلَّلَ الخرورَ بالهدِّ، والهدِّ بدعاءِ الوَلَدِ للرحمن» . فهذا تصريحٌ منه بأنَّه على إسقاطِ الخافضِ، وليس مفعولاً له صريحاً. الوجه الثاني: أَنْ يكونَ مجروراً بعد إسقاطِ الخافض، كما هو مذهبُ الخليلِ والكسائي. والثالث: أنه بدلٌ من الضمير في «مِنْه» كقولِه: 326 - 1- على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حاتماً ... على جودِهِ لضَنَّ بالماءِ حاتِمِ بجر «حاتم» الأخير بدلاً من الهاء في «جودِه» . قال الشيخ: «وهو بعيدٌ لكثرةِ الفصلِ بين البدلِ والمبدلِ منه بجملتين» .

الوجه الرابع: أَنْ يكونَ مرفوعاً ب «هَدَّاً» . قال الزمخشري أي: هَدَّها دعاءُ الولدِ للرحمن «. قال الشيخ:» وفيه بُعْدٌ لأنَّ الظاهرَ في «هَدَّاً» أن يكونَ مصدراً توكيدياً، والمصدرُ التوكيديُّ لا يعملُ، ولو فَرَضْناه غيرَ توكيديّ لم يَعْمَلْ بقياسٍ إلا إنْ كان أمراً أو مستفهماً عنه نحو: «ضَرْباً زيداً» و «أضَرْباً زيداً» على خلافٍ فيه. وأمَّا إنْ كان خبراً، كما قدَّره الزمخشري «أي: هَدَّها دعاءُ الوَلَدِ للرحمن» فلا يَنْقاس، بل ما جاءَ من ذلك هو نادرٌ كقولِ امرِئ القيس: 326 - 2- وُقوفاً بها صَحْبِيْ عليَّ مطيَّهم ... يقولون: لا تَهْلَِكَ أَسَىً وتجمَّلِ أي: وقف صحبي. الخامس: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: المٌوْجِبُ لذلك دعاؤهم، كذا قَدَّره أبو البقاء. و «دَعا» يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى سَمَّى فيتعدَّى لاثنين، ويجوز جَرُّ ثانيهما بالباءِ. قال الشاعر: 326 - 3- دَعَتْنِي أخاها أمُّ عمروٍ ولم أكنْ ... أخاها ولم أَرْضَعْ بلَبانِ دَعَتْني أخاها بعد ما كان بينَنا ... من الفعلِ ما لا يَفْعَلُ الأَخَوانِ

وقول الآخر: 326 - 4- ألا رُبَّ من يُدْعَى نَصيحاً وإنْ يَغِبْ ... تَجِدْه بغَيْبٍ منكَ غيرَ نَصِيْحِ وأوَّلُهما في الآية محذوفٌ. قال الزمخشري: «طلباً للعموم والإِحاطة بكلِّ ما يُدْعَى له ولداً. ويجوز أن يكونَ مِنْ» دعا «بمعنى نَسَبَ الذي مُطاوِعُه ما في قولِه عليه السلام» مَنِ ادَّعَى إلى غير مَوالِيه «وقول الشاعر: 326 - 5- إنَّا بني نَهْشَلٍ لا نَدَّعِيْ لأَبٍ ... عنه ولا هو بالأَبْناءِ يَشْرِيْنا أي: لا نَنْتَسِبُ إليه.

92

و {يَنبَغِي} : مضارع انْبَغَى. وانْبَغَى مطاوعٌ لبَغَى، أي: طَلَبَ، و {أَن يَتَّخِذَ} فاعلُه. وقد عَدَّ ابن مالك «يَنْبَغي» في الأفعالِ التي لا تَتَصَرَّف. وهو مردودٌ عليه، فإنه قد سُمِعَ فيه في الماضي قالوا: انْبَغَى.

93

قوله: {مَن فِي السماوات} : يجوز في «مَنْ» أن تكونَ نكرةً موصوفة، وصفتُها الجارُّ بعدها. ولم يذكر أبو البقاء غيرَ ذلك، وكذلك الزمخشري. إلا أنَّ ظاهرَ عبارتِه يقتضي أنه لا يجوز / غيرُ ذلك، فإنه قال: «مَنْ موصوفةٌ؛ فإنها وقعَتْ بعد كل نكرةٍ وقوعَها بعد» رُبَّ «في قولِه: 326 - 6- رُبَّ مَنْ أنضجْتُ غيظاً صدرَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . انتهى. ويجوز أن تكونَ موصولةً. قال الشيخ:» أي: ما كلُّ الذي في السماوات، و «كُلٌّ» تدخلُ على «الذي» لأنها تأتي للجنسِ كقولِه تعالى: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ونحوه: 326 - 7- وكلُّ الذي حَمَّلْتني أَتَحَمَّلُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يعني أنَّه لا بدَّ مِنْ تأويلِ الموصول بالعموم حتى تَصِحَّ إضافةُ «كل» إليه، ومتى أُريد به معهودٌ بعينِه شَخَص واستحال إضافةُ «كل» إليه. و {آتِي الرحمن} خبرُ «كلُّ» جُعِل مفرداً حَمْلاً على لفظِها ولو جُمع لجاز وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعِ أنها متى أُضيفت لمعرفةٍ جاز الوجهان. وقد

تكلَّم السهيليُّ في ذلك فقال: «كُلٌّ» إذا ابْتُدِئَتْ، وكانتْ مضافةً لفظاً - يعني لمعرفةٍ - فلا يَحْسُنُ إلا إفرادُ الخبرِ حَمْلاً على المعنى. تقول: كلُّكم ذاهبٌ، أي: كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ، هكذا هذه المسألةُ في القرآنِ والحديثِ والكلامِ الفصيح. فإنْ قلت: في قولِه: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} [مريم: 95] إنما هو حَمْلٌ على اللفظ لأنه اسمٌ مفردٌ. قلنا: بل هو اسم للجمع، واسمُ الجمع لا يُخْبَرُ عنه بإفراد. تقول: «القومُ ذاهبون» ولا تقولُ: ذاهبٌ، وإن كان لفظُ «القوم» لفظَ المفردِ. وإنما حَسُن «كلُّكم ذاهب» لأنهم يقولون: كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ، فكان الإِفرادُ مراعاةً لهذا المعنى «. قال الشيخ:» ويَحتاج «كلُّكم ذاهبون» ونحوُه إلى سَماعٍ ونَقْلٍ عن العرب «. يُقَرِّر ما قاله السهيليُّ. قلت: وتسميةُ الإِفرادِ حَمْلاً على المعنى غيرُ الاصطلاحِ، بل ذلك حَمْلٌ على اللفظ، الجمعُ هو الحَمْلُ على المعنى. وقال أبو البقاء:» وَوُحِّدَ «آتِيْ» حَمْلاً على لفظ «كل» وقد جُمِعَ في موضعٍ آخرَ حَمْلاً على معناها «. قلت: قوله في موضعٍ آخرَ إنْ عَنَى في القرآن فلم يأتِ الجمعُ إلا» وكلٌّ «مقطوعةٌ عن الإِضافة نحو: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] وإنْ عَنَى في غيرِه فيَحْتاج إلى سماعٍ عن العرب كما تقدَّم.

والجمهورُ على إضافة» آتِي «إلى» الرحمن «. وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنوينه ونصبِ» الرحمن «. وانتصبَ» عَبْداً «و» فَرْداً «على الحال.

96

قوله: {وُدّاً} : العامَّةُ على ضمِّ الواوِ. وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها، وجناح بن حبيش بكسرِها، فَيُحتمل أَنْ يكونَ المفتوحُ مصدراً، والمضمومُ والمكسورُ اسمين.

97

قوله: {بِلِسَانِكَ} : يجوز أن يكونَ متعلِّقاًَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ. واللِّسان هنا: اللغةُ، أي: نَزَّلناه كائِناً بلسانِكَ. وقيل: هي بمعنى على، وهذا لا حاجةَ إليه بل لا يظهرُ له معنى. و «لُدَّاً» جمع أَلَدّ «وهو الشديدُ الخصومةِ كالحُمْر جمعَ أَحْمر.

98

وقرأ الناسُ «تُحِسُّ» بضمِّ التاء وكسرِ الحاء مِنْ أَحَسَّ. وقرأ أبو حيوةَ وأبو جعفرٍ وابن أبي عبلة «تَحُسُّ» بفتح التاء وضم الحاء. وقرأ بعضُهم «تَحِسُّ» بالفتح والكسر، من حَسَّه، أي: شَعَرَ به، ومنه «الحواسُّ الخَمس» . و «منهم» حالٌ مِنْ «أحد» إذ هو في الأصلِ صفةٌ له، و «مِنْ أحدٍ» مفعولٌ زِيْدَتْ فيه «مِنْ» .

وقرأ حنظلةُ «تُسْمَعُ» مضمومَ التاء، مفتوحَ الميمِ مبنياً للمفعولِ، و «رِكْزاً» مفعولٌ على كلتا القراءتين إلا أنه مفعولٌ ثانٍ في القراءة الشاذة. والرِّكْزُ الصوت الخفي دونَ نطقٍ بحروفٍ ولا فمٍ، ومنه «رَكَزَ الرمحَ» ، أي: غَيَّبَ طَرَفَه في الأرضِ وأَخفاه، ومنه الرِّكازُ، وهو المال المدفونُ لخفائِه واستتارِه. وأنشدوا: 326 - 8- فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الأنيسِ فَرَاعَها ... عن ظهر غَيْبٍ، والأَنِيْسُ سَقامُها

طه

قد تقدَّم الكلامُ في الحروفِ المُقَطَّعةِ أولَ هذا الموضوعِ، و «طه» مِنْ ذاك، هذا هو الصحيح. وقيل: إنَّ معنى «طه» يا رجلُ في لغةِ عَك، وقيل: عُكْل، وقيل: هي لغة يمانية. وحكى الكلبي أنك لو قلتَ في عَكّ: يا رجلُ، لم يُجِبْ حتى تقولَ: طه. وقال الطبري: «طه في عَكّ بمعنى: يا رجلُ» ، وأنشدَ قولَ شاعرهم: 3269 - دَعَوْتُ بِطهَ في القتالِ فلم يُجِبْ ... فَخِفْتُ عليهِ أَنْ يكونَ مُوائِلا

وقول آخر: 3270 - إنَّ السَّفاهةَ طه في خلائِقِكمْ ... لا قَدَّسَ اللهُ أرواحَ المَلاعينِ قال الزمخشري: «وأثرُ الصَّنْعَةِ ظاهرٌ في البيت المستشهدِ به» فذكره، وقال السدي: «معناه: يا فلانُ» . وقال الزمخشري أيضاً: «ولعل عَكَّاً تَصَرَّفوا في» يا هذا «، كأنهم في لغتهم قالبون الياءَ طاءً، فقالوا: في يا: طا، واختصروا» هذا «فاقتصورا على» ها «. يعني فكأنه قيل في الآية الكريمة: يا هذا. وفيه بُعدٌ كبيرٌ. قال الشيخ:» ثم تَخَرَّص وحَزَرَ على عَك ما لم يَقُلْه نحويٌّ: وهو أنهم يقلبون يا التي للنداء طاءً، ويحذفون اسم الإِشارة ويقتصرون منه على «ها» التي للتنبيه «. قلت: وهذا وإن كان قريباً مما قاله عنه إلاَّ أنه أنحى عليه في عبارته بقوله» تَخَرَّص «. وقيل:» طه «أصلُه طَأْها بهمزة» طَأْ «أمراً مِنْ وَطِىء يَطَأُ، و» ها «ضميرُ مفعولٍ يعودُ على الأرض، ثم أبدل الهمزَة لسكونها ألفاً، ولم يَحْذِفْها في الأمرِ نظراً إلى أصلها أي: طَأ الأرضَ بقدمَيْكَ. وقد جاء في التفسير:» أنه قام حتى تَوَرَّمَتْ قدماه «.

وقرأ الحسنُ وعكرمةُ وأبو حنيفةَ وورشٌ في اختياره/ بإسقاطِ الألفِ بعد الطاء، وهاءٍ ساكنة. وفيها وجهان، أحدهما: أنَّ الأصلَ» طَأْ «بالهمز أمراً أيضاً مِنْ وَطِىء يَطَأُ، ثم أبدلَ الهمزةَ هاءً كإبدالهم لها في» هَرَقْتُ «و» هَرَحْتُ «و» هَبَرْتُ «. والأصلُ: أَرَقْتُ وأَرَحْتُ وأَبَرْت. والثاني: أنه أبدل الهمزةَ ألفاً، كأنه أَخَذه مِنْ وَطِي يَطا بالبدل كقوله: 3271 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . لا هَنَاكِ المَرْتَعُ ثم حَذَفَ الألفَ حَمْلاً للأمرِ على المجزومِ وتناسِياً لأصل الهمز ثم ألحق هاءَ السكتِ، وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. وقد تقدَّم في أولِ يونس الكلامُ على إمالةِ طا وها فأغنى عن أعادتِه هنا.

2

قوله: {أَنَزَلْنَا} : هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ طلحةُ «ما نُزِّلَ» مبنياً للمفعول، «القرآنُ» رُفِعَ لقيامه مَقامَ فاعلِه. وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً إِنْ جُعِلت «طه» تعديداً لأسماءِ الحروفِ، ويجوز أن تكونَ خبراً ل طه إنْ جَعَلْتَها اسماً للسورة ويكون القرآنُ ظاهراً واقعاً موقعَ المضمرِ؛ لأنَّ طه قرآنٌ أيضاً، ويجوز أن تكونَ جوابَ قسمٍ، إنْ جَعَلْتَ طه مُقْسَماً به، وقد تقدَّم تفصيلُ القول في هذا.

3

قوله: {إِلاَّ تَذْكِرَةً} : في نصبه أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ مفعولاً من أجله. والعاملُ فيه فِعْلُ الإِنزال، وكذلك «تَشْقَى» علةٌ له أيضاً، ووجبَ مجيءُ الأولِ مع اللام لأنه ليس لفاعلِ الفعلِ المُعَلَّل، ففاتَتْه شريطةُ الانتصابِ على المفعولية، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. هذا كلام الزمخشري، ثم قال: «فإن قلتَ:» هل يجوزُ أن تقولَ: ما أَنْزَلْنا، أن تَشقى كقوله {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2] ؟ قلت: بلى ولكنها نصبةٌ طارئة كالنصبةِ في {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] وأما النصبةُ في «تَذْكِرةً» فهي كالتي في «ضَرَبْت زيداً» لأنه أحدُ المفاعيلِ الخمسةِ التي هي أصولٌ وقوانينُ لغيرِها «. قلت: قد منع أبو البقاء أن تكونَ» تَذْكرةً «مفعولاً له لأَنْزَلْنا المذكورةِ، لأنها قد تعدَّتْ إلى مفعولٍ له وهو» لتشقى «فلا تتعدى إلى آخرَ مِنْ جنسِه. وهذا المنعُ ليس بشيءٍ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الفعلُ بعلتين فأكثرَ، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يُفضِي العاملُ من هذه الفَضَلاتِ إلاَّ شيئاً واحداً، إلاَّ بالبدلية أو العطف. الثاني: أن تكونَ» تذكرة «بدلاً مِنْ محلِّ» لتَشْقَى «وهو رأيُ الزجاج، وتبعه ابنُ عطية، واستبعده أبو جعفر، ورَدَّه الفارسيُّ بأنَّ التذكرةَ ليسَتْ

بشقاءٍ. وهو ردٌّ واضحٌ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا فقال:» فإنْ قلتَ: هل يجوزُ أن تكونَ «تذكرةً» بدلاً مِنْ محلِّ «لِتشْقى» ؟ قلت: لا؛ لاختلافِ الجنسينِ ولكنها نُصِبَتْ على الاستثناءِ المنقطع الذي «إلاَّ» فيه بمعنى «لكن» . قال الشيخُ: «يعني باختلافِ الجنسَيْنِ أن نَصْبَةَ» تذكرةً «نصبةٌ صحيحةٌ ليست بعارضةٍ، والنصبةُ التي تكون في» لِتشقى «بعد نَزْعِ الخافضِ نصبةُ عارضةٌ. والذي نقول: إنه ليس له محلٌّ البتَةَ فيتوهمُ البدلُ منه» . قلت: ليس مُرادُ الزمخشري باختلافِ الجنسين إلاَّ ما ذكرتُه عن الفارسيِّ ردَّاً على الزجاج، وأيُّ أثرٍ لاختلاف النصبين في ذلك؟ الثالث: أن يكونَ منصوباً على الاستثناء المنقطع أي: لكنْ أَنْزَلْناه تذكرةً. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعلٍ مقدرٍ، أي: لكنْ ذَكَّرْنا، أو تذكَّرْ به أنت تَذْكِرة. الخامس: أنه مصدرٌ في موضع الحال أي: إلاَّ مُذَكِّراً. السادس: أنه بدلٌ من «القرآن» ، ويكون القرآنُ هو التذكرةَ، قاله الحوفي. السابع: أنه مفعولٌ له أيضاً، ولكن العاملَ فيه «لِتَشْقَى» ويكون المعنى كما قال الزمخشريُّ: «إنا أَنْزَلْنا عليك القرآنَ لتحتمل متاعبَ التبليغِ ومقاولةَ العُتاةِ من أعداءِ الإِسلام ومقاتلتَهم، وغيرَ ذلك من أنواعِ المشاقِّ وتكاليفِ النبوة، وما أنزلنا عليك هذا المَتْعَبَ الشاقَّ إلاَّ ليكونَ تذكرةً. وعلى هذا الوجهِ يجوزُ أن يكونَ «تذكرةً» حالاً ومفعولاً له «انتهى. فإنْ قلتَ: مِنْ أين أَخَذْتَ أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أنَّ العاملَ فيه»

لِتَشْقَى «؟ وما المانعُ أن يريدَ بالعاملِ فيه فعلَ الإِنزال؟ فالجوابُ أنَّ هذا الوجهَ قد تقدَّم له في قولِه:» وكلُّ واحدٍ مِنْ «لتشقى» و «تذكرةً» علةٌ للفعل «. وأيضاً فإنَّ تفسيرَه للمعنى المذكور منصبٌّ على تسلُّطِ» لِتَشْقَى «على» تذكرةً «. إلاَّ أنَّ أبا البقاء لمَّا لم يظهرْ له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري مَنَعَ مِنْ عملِ» لِتَشْقَى «في» تذكرةً «فقال:» ولا يَصِحُّ أن يعملَ فيها «لِتَشْقى» لفساد المعنى «وجوابُه ما تقدَّم. ولا غَرْوَ في تسميةِ التعبِ شقاءً. قال الزمخشري:» والشقاءُ يجيء في معنى التعب. ومنه المثل: «أتعبُ مِنْ رائضِ مُهْر» و «أشقى مِنْ رائض مُهْر» . و {لِّمَن يخشى} متصلٌ ب «تذكرةً» . وزيدت اللام في المفعولِ تقويةً للعاملِ لكونِه فَرْعاً، ويجوز أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «تذكرةً» .

4

قوله: {تَنزِيلاً} : في نصبِه أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ بدلاً مِنْ «تذكرةً» إذا جُعِل حالاً لا إذا كان مفعولاً [له] لأنَّ الشيءَ لا يعَلَّلُ بنفسِه. قلت: لأنه يصيرُ التقديرُ: ما أنزَلْنا القرآنَ إلاَّ للتنزيل. الثاني: أن ينتصبَ ب نزَّل مضمراً. الثالث: أن ينتصبَ ب «أَنْزَلْنا» لأنَّ معنى ما أنزلناه إلاَّ تذكرةً: أنزَلْناه تذكرةً. الرابع: أن ينتصبَ على المدحِ والاختصاصِ.

الخامس: أن ينتصبَ ب «يخشى» مفعولاً به أي: أنزله للتذكرةِ لمَنْ يخشى تنزيلَ الله، وهو معنى حسنٌ وإعرابٌ بيِّن. قال الشيخُ: ولم يُنْصِفْه «والأحسنُ ما قدَّمناه أولاً من أنه منصوبٌ ب» نَزَّل «مضمرةً. وما ذكره الزمخشري مِنْ نصبه على غيره فمتكلَّفٌ: أمَّا الأولُ ففيه جَعْلُ تذكرةً وتنزيلاً حالين، وهما مصدران. وجَعْلُ المصدرِ/ حالاً لا ينقاسُ. وأيضاً فمدلولُ» تذكرةً «ليس مدلولَ» تنزيلَ «، ولا» تنزيلاً «بعضُ تذكرة. فإن كان بدلاً فيكونُ بدلَ اشتمالٍ على مذهبِ مَنْ يرى أن الثاني مشتملٌ على الأولِ؛ لأنَّ التنزيلَ مشتملٌ على التذكرة وغيرِها. وأمَّا قولُه:» لأنَّ معنى ما أنزلناه إلاَّ تذكرة: أَنْزَلْناه تذكرةً «فليس كذلك لأنَّ معنى الحصرِ يَفُوت في قولِه أنزلناه تذكرةً. وأمَّا نصبُه على المدحِ فبعيدٌ. وأمَّا نصبُه ب» يخشى «ففي غاية البُعْدِ لأنَّ» يخشى «رأسُ آيةٍ وفاصلٌ، فلا يناسبُ أن يكونَ» تنزيلاً «منصوباً ب» يخشى «، وقوله فيه» وهو حسنٌ وإعرابٌ بيِّنٌ «عُجمةٌ وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة» . قلت: ويَكْفيه ردُّه الشيءَ الواضحَ مِنْ غير دليل، ونسبةُ هذا الرجلِ إلى عدمِ الفصاحةِ ووجودِ العُجْمة. قوله: {مِّمَّنْ خَلَق} يجوز في «مِنْ» أن تتعلق ب «تنزيلاً» ، وأن تتعلقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «تنزيلاً» . وفي «خَلَق» التفاتٌ مِنْ تَكَلُّمٍ في قوله «

أَنْزَلْنا» إلى الغَيْبة. وجوَّز الزمخشري أن يكونَ «ما أنزَلْنا» حكايةً لكلامِ جبريل وبعضِ الملائكة فلا التفاتَ على هذا. وقوله: {العلى} جمع عُلْيا نحو: دنيا ودُنا. ونظيرُه في الصحيح كُبْرى وكُبَر، وفُضْلى وفُضَل.

5

قوله: {الرحمن} : العامَّةُ على رفعهِ، وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في «خَلَق» . ذكره ابنُ عطية. وردَّه الشيخُ بأن البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه، ولو حَلَّ هنا مَحَلَّه لم يَجُزْ لخلوِّ الجملةِ الموصولِ بها مِنْ رابطٍ يربطُها به. الثاني: أن يرتفعَ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ، تقديرُه: هو الرحمن. الثالث: أن يرتفعَ على الابتداءِ مشاراً بلامِه إلى مَنْ خَلَقَ، والجملةُ بعده خبرُه. وقرأ جناح بن حبيش «الرحمنِ» مجروراً. وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ من الموصولِ. لا يقال إنه يؤدي إلى البدلِ بالمشتق وهو قليلٌ؛ لأنَّ الرحمنَ جرى مَجْرى الجوامدِ لكثرة إيلائِه العواملَ. والثاني: أن يكونَ صفةً للموصول أيضاً. قال الشيخ: «ومذهبُ الكوفيين أنَّ الأسماءَ النواقصَ ك» مَنْ «

و» ما «لا يُوصَف منها إلاَّ» الذي «وحدَه، فعلى مذهبِهم لا يجوز أن يكونَ صفةً» . قال ذلك كالرادِّ على الزمخشري. والجملةُ مِنْ قولِه {عَلَى العرش استوى} خبرٌ لقولِه «الرحمنُ» على القول بأنه مبتدأٌ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ إنْ قيل: إنه مرفوعٌ على خبر مبتدأ مضمر، وكذلك في قراءةِ مَنْ جَرَّه. وفاعلُ «استوى» ضميرٌ يعودُ على الرحمنِ، وقيل: بل فاعلُه «ما» الموصولةُ «بعده أي: استوى الذي له في السماوات، قال أبو البقاء:» ويقال بعضُ الغلاةِ: «ما» فاعلُ «استوى» . وهذا بعيدٌ، ثم هو غيرُ نافعٍ له في التأويل، إذ يبقى قولُه {الرحمن عَلَى العرش} كلاماً تاماً ومنه هرب «. قلت: هذا يُروى عن ابنِ عباس، وأنه كان يقف على لفظ» العرش «، ثم يبتدِىءُ» استوى له ما في السماوات «وهذا لا يَصِحُّ عنه.

6

قوله: {الثرى} : هو الترابُ النديُّ، ولامُه ياءٌ بدليل تثنية على ثَرَيَيْن، وقولهم ثَرِيَتْ الأرَضُ تَثْرَى ثَرَىً. والثرى يستعمل في انقطاعِ المودة. قال جرير: 3272 - فلا تَنْبُشُوا بيني وبينَكُمُ الثرى ... فإنَّ الذي بيني وبينَكُمُ مُثْرِي

والثَّراءُ بالمدِّ: كثرةُ المالِ قال: 3273 - أَماوِيَّ ما يُغْني الثراءُ عن الفتى ... إذا حَشَرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ وما أحسنَ قولَ ابنِ دريد: 3274 - يوماً تصيرُ إلى الثَّرى ... ويفوزُ غيرُك بالثَّراءِ فجمع في هذه القصيدةِ بين الممدودِ والمقصورِ باختلاف معنىً.

7

قوله: {وأخفى} : جَوَّزوا فيه وجهين، أحدهما: أنه أفعلُ تفضيل، أي: وأخْفَى من السِّر. والثاني: أنه فعلٌ ماضٍ أي: وأَخْفى اللهُ عن عبادهِ غيبَه كقولِه: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110] .

8

والجلالةُ: إمَّا مبتدأٌ، والجملةُ المنفيةُ خبرُها، وإمَّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي: هو الله. و «الحُسْنى» تأنيثُ الأحسن. وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ جمعَ التكسيرِ في غير العقلاء يُعامَلُ معاملةَ المؤنثة الواحدة.

10

قوله: {إِذْ رأى} : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بالحديث وهو الظاهرُ. ويجوز أن ينتصِبَ ب «اذكر» مقدَّراً، كما قاله أبو البقاء، أو بمحذوفٍ بعدَه أي: إذ رأى ناراً كان كيتَ وكيتَ، كما قاله الزمخشريُّ.

و «هل» على بابها مِنْ كونِها استفهامَ تقريرٍ، وقيل: بمعنى قد، وقيل: بمعنى النفي. وقرأ «لأهلِهُ امكثُوا» بضم الهاء حمزة وقد تقدم أنه الأصلُ وهو لغةُ الحجاز، وقال أبو البقاء: «إن الضمَّ للإِتباع» . قوله: {آنَسْتُ} أي: أبصرْتُ. والإِيناسُ: الإِبصارُ البيِّنُ، ومنه إنسانُ العينِ؛ لأنه يُبْصَر به الأشياءُ، وقيل: هو الوِجْدان، وقيل: الإِحساسُ فهو أعمُّ من الإِبصار، وأنشدوا للحارث بن حِلِّزة: 3275 - آنسَتْ نَبْأَةً وأَفْزَعَها القُنْ ... ناصُ عَصْراً وقد دنا الإِمْساءُ والقَبَسُ: الجَذْوَةُ من النار، وهي الشُّعْلةُ في رأسِ عُوْدٍ أو قَصَبةٍ ونحوِهما. وهو فَعَلٌ بمعنى مَفْعول كالقَبَض والنَّقَضِ بمعنى المَقْبوض والمَنْقوض. ويقال: أَقْبَسْتُ الرجلَ علماً وقَبَسْتُه ناراً، ففرقوا بينهما، هذا قولُ المبردِ. وقال الكسائيُّ: إن فَعَلَ وأَفْعَلَ يُقالان في المعنيين، فيقال: قَبَسْتُه ناراً وعلماً، وأَقْبَسْته أيضاً عِلْماً وناراً. وقوله {مِّنْهَا} يجوز أَنْ يتعلق/ ب «آتِيكم» أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ قَبَس. وأمال بعضُهم ألفَ «هدى» وقفاً. والجيدُ أَنْ لا تُمالَ لأنَّ الأشهر أنها بدلٌ من التنوين.

11

قوله: {نُودِيَ} : القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ موسى وقيل: ضميرُ المصدرِ أي: نُودي النداء. وهو ضعيفٌ، ومنعوا أن يكونَ القائمُ مَقامه الجملةَ مِنْ «يا موسى» ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونَ فاعلاً.

12

قوله: {إني} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح، على تقديرِ الباءِ بأني؛ لأنَّ النداءَ يُوْصَلُ بها تقول: نادَيْتُه بكذا. قال الشاعر: أنشده الفارسيُّ 3276 - نادَيْتُ باسمِ ربيعةَ بنِ مُكَدَّمٍ ... إنَّ المُنَوَّهَ باسمِه المَوْثُوْقُ وجَوَّز ابنُ عطية أن يكون بمعنى لأجْلِ. وليس بظاهر. والباقون بالكسرِ: إمَّا على إضمارِ القولِ كما هو رأيُ البصريين، وإمَّا لأنَّ النداءَ في معنى القولِ عند الكوفيين. وقوله: {أَنَاْ} يجوزُ أن يكونَ مبتدأ، وما بعده خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّ» . ويجوزُ أن يكونَ توكيداً للضميرِ المنصوب، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَصْلاً. قوله: «طوى» قرأ الكوفيون وابنُ عامر «طُوىً» بضمِّ الطاءِ والتنوين. والباقون بضمِّها من غيرِ تنوين. وقرأ الحسنُ والأعمش وأبو حيوةَ وابن محيصن

بكسرٍ الطاءِ منوَّناً. وابو زيدٍ عن أبي عمروٍ بكسرِها غيرَ منونٍ. فمَنْ ضَمَّ ونَوَّنَ فإنه صَرَفَه لأنَّه أَوَّله بالمكان. ومَنء مَنَعه فيحتمل أوجهاً، أحدها: أنه مَنَعه للتأنيث باعتبار البُقْعَةِ والعَلَمِيَّة. الثاني: أنه مَنَعه للعَدْل إلى فُعَل، وإن لم يُعْرَفِ اللفظُ المعدولُ عنه، وجعله كعُمَر وزُفَر. والثالث: أنه اسمٌ أعجمي فَمَنْعُه للعَلَمِيَّة والعُجْمة. ومَنْ كَسَر ولم يُنَوِّن فباعتبارِ البُقْعة أيضاً. فإن كان اسماً فهو نظيرُ عِنَب، وإن كان صفةً فهو نظير عِدَى وسِوَى. ومَنْ نَوَّنَه فباعتبار المكان. وعن الحسنِ البَصْريِّ أنه بمعنى الثنى بالكسرِ والقَصْر، والثنى: المكررُ مرتين، فيكون معنى هذه القراءة أنه ظهر مرتين، فيكون مصدراً منصوباً بلفظ «المقدَّس» لأنه بمعناه كأنه قيل: المقدَّس مرتين، من التقديس. وقرأ عيسى بن عمر والضحَّاك «طاوِيْ اذهَبْ» . و «طوى» : إمَّا بدلٌ من الوادي، أو عطفُ بيانٍ له، أو مرفوعٌ على إضمارِ مبتدأ، أو منصوبٌ على إضمار أعني.

13

قوله: {وَأَنَا اخترتك} : قرأ حمزةُ في آخرين «وأنَّا اخترناك» بفتحِ الهمزة بضمير المتكلمِ المعظمِ نفسَه. وقرأ السلميُّ والأعمش وابن هرمز كذلك، إلاَّ أنهم كسروا الهمزةَ. والباقون «وأنا اخْتَرْتُك» بضميرِ المتكلم وحدَه. وقرأ أُبَيٌّ «وأني اخترتك» بفتح الهمزة.

فأمَّا قراءةُ حمزة فعطفٌ على قوله {إني أَنَاْ رَبُّكَ} ، وذلك أنه بفتح الهمزة هناك، ففعل ذلك لَمَّا عطف غيرَها عليها. ومَنْ كسرها فلأنه يقرأ «إنِّي أنا ربك» بالكسر. وقراءة أُبَيّ كقراءةِ حمزة بالنسبة للعطف. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ الفتحُ على تقديرِ: ولأنَّا اخترناك فاستمع، فعلَّقه باستمع. والأولُ أَوْلَى. ومفعولُ «اخترتك» الثاني محذوف أي: اخترتك مِنْ قومك. قوله {لِمَا يوحى} الظاهرُ تعلُّقه ب «استمِعْ» . ويجوزُ أن تكونَ اللامُ مزيدةً في المفعول على حَدِّ قولِه تعالى: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] . وجَوَّز الزمخشريُّ وغيرُه أن تكونَ المسألة من باب التنازع بين «اخْتَرْتُك» وبين «استمع» كأنه قيل: اخترتُك لِما يوحى فاستمع لِما يوحى. قال الزمخشري: «فَعَلَّق اللامَ ب» استمعْ «أو ب» اخترتُك «. وقد رَدَّ الشيخُ هذا بأنْ قال:» ولا يجوزُ التعليقُ ب «اخترتك» لأنَّه مِنْ بابِ الإِعمال، يجب أو يُختار إعادةُ الضميرِ مع الثاني فكان يكونُ: فاستمعْ له لِما يوحى، فَدَلَّ على أنه من باب إعمال الثاني «. قلت: الزمخشريُّ عنى التعليقَ المعنويَّ من حيث الصلاحيةُ، وأما تقديرُ الصناعةِ فلم يَعْنِه. و» ما «يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً، وبمعنى الذي أي: فاستمعْ للوحيِ أو للذي يوحى.

14

قوله: {لذكري} : يجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعلِه ِأي: لأنِّي ذكرتُها في الكتب، أو لأنِّي أذكرُك. ويجوز أن يكونَ مضافاً لمفعولِه أي: لأِنْ تذكرَني. وقيل: معناه ذِكْرُ الصلاةِ بعد نِسْيانِها كقولِه عليه السلام: «مَنْ نام عن صلاةٍ أو نَسِيها فَلْيُصَلِّها إذا ذكرها» قال الزمخشري: «وكان حقٌّ العبارة:» لذكرها «. ثم قال:» ومَنْ يَتَمَحَّلْ له أن يقول: إذا ذَكَر الصلاة فقد ذكر [اللهَ] ، أو على حذفِ مضاف أي: لذكر صلاتي، أو لأنَّ الذِّكْرَ والنيسانَ من الله تعالى في الحقيقة «. وقرأ أبو رجاء والسُّلمي» للذكرى «بلام التعريف وألفِ التأنيث. وبعضهم» لذكرى «منكرةً، وبعضهم» للذكر «بالتعريف والتذكير. قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} العامةُ على ضمِّ الهمزةِ مِنْ» أُخْفيها «. وفيها تأويلاتٌ، أحدُها: أن الهمزةَ في» أُخْفيها «للسَّلْبِ والإِزالةِ أي: أُزيل خفاءَها نحو: أعجمتُ الكتابَ أي: أزلْتُ عُجْمَتَه. ثم في ذلك معنيان، أحدهما: أنَّ الخفاءَ بمعنى السَّتْر، ومتى أزال سَتْرَها فقد أظهرَها. والمعنى: أنها لتحقُّق وقوعِها وقُرْبِها أكادُ أُظْهِرُها لولا ما تَقْتضيه الحكمةُ من التأخير. والثاني: أنَّ الخفاءَ هو الظهورُ كما سيأتي. والمعنى: أزيلُ ظهورَها، وإذا أزالَ ظهورَها فقد استترَتْ. والمعنى: أني لِشدَّةِ أبهامها أكاد أُخْفيها فلا أُظْهِرُها/ البتةَ، وإن كان

لا بد من إظهارِها؛ ولذلك يوجدُ في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ: أكاد أُخْفيها مِنْ نفسي فكيف أُظْهِرُكُمْ عليها؟ وهو على عادةِ العرب في المبالغة في الإِخفاء قال: 3277 - أيامَ تَصْحَبُني هندٌ وأُخْبِرُها ... ما كِدْت أكتُمُه عني من الخبرِ وكيف يُتَصَوَّرُ كِتْمانُه مِنْ نفسه؟ والتأويلُ الثاني: أنَّ» كاد «زائدةٌ. قاله ابنُ جُبَيْر. وأنشدَ غيرُه شاهداً عليه قولَ زيدِ الخيل: 3278 - سريعٌ إلى الهَيْجاء شاكٍ سلاحُه ... فما إنْ يكادُ قِرْنُه يتنفَّسُ وقال آخر: 3279 - وألاَّ ألومَ النفسَ فيما أصابني ... وألا أكادَ بالذي نِلْتُ أَبْجَحُ ولا حُجَّةَ في شيءٍ منه.

والتأويل الثالث: أنَّ الكَيْدُوْدَةَ بمعنى الإِرادة ونُسِبت للأخفش وجماعةٍ، ولا ينفعُ فيما قصدوه. والتأويل الرابع: أنَّ خبرَها محذوفٌ تقديره: أكاد آتي به لقُرْبها. وأنشدوا قول ضابىء البرجمي: 3280 - هَمَمْتُ ولم أفْعَلْ وكِدْتُ وليتني ... تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكي حلائِلُهْ أي: وكِدْتُ أفعلُ، فالوقفُ على» أكادُ «، والابتداء ب» أُخْفيها «، واستحسنه أبو جعفر. وقرأ أبو الدرداء وابنُ جبير والحسنُ ومجاهدٌ وحميدٌ» أَخْفيها «بفتح الهمزة. والمعنى: أُظْهرها، بالتأويل المتقدم يقال: خَفَيْتُ الشيءَ: أظهَرْتُه، وأَخْفَيْتُه: سترته، هذا هو المشهور. وقد نُقِل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنىً. وحُكي عن أبي عبيد أنَّ» أَخْفى «من الأضدادِ يكون بمعنى أظهر وبمعنى سَتَر، وعلى هذا تَتَّحد القراءتان. ومِنْ مجيءِ خَفَيْتُ بمعنى أظهَرْت قولُ امرىء القيس:

3281 - خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفاقِهِنَّ كأنما ... خفاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ وقول الآخر: 3282 - فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ ... وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ قوله: {لتجزى} هذه لامُ كي، وليسَتْ بمعنى القسمِ أي: لَتُجْزَيَنَّ كما نقله أبو البقاء عَنْ بعضهم. وتتعلَّق هذه اللامُ ب «اُخْفيها» . وجعلها بعضُهم متعلقةً ب «آتيةٌ» وهذا لا يَتِمُّ إلاَّ إذا قَدَّرْتَ أنَّ «أكاد أُخْفيها» معترضةٌ بين المتعلَّقِ والمتعلَّقِ به، أمَّا إذا جعلتَها صفةً لآتِيَةٌ فلا يتجه على مذهب البصريين؛ لأن اسمَ الفاعلِ متى وُصِفَ لم يعملْ، فإنْ عَمِل ثم وُصِف جاز. وقال أبو البقاء: «وقيل ب» آتِيَةٌ «، ولذلك وَقَفَ بعضُهم عليه وَقْفَةً يسيرةً إيذاناً بانفصالِها عن أخفيها» . قوله: {بِمَا تسعى} متعلقٌ ب «تجزى» . و «ما» يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً أو موصولةً اسميةً، ولا بدَّ من مضاف أي: تُجْزى بعقابِ سَعْيها أو بعقابِ ما سَعَتْه.

16

قوله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} : {مَن لاَّ يُؤْمِنُ} هو المَنْهيٌّ صورةً، والمرادُ غيرُه، فهو من بابِ «لا أُرَيَنَّك هَهنا» . وقيل: إنَّ صَدَّ الكافر عن التصديقِ بها سببٌ للتكذيب، فذكر السببَ

ليدُلَّ على المسبَّب. والضميران في «عنها» و «بها» للساعة. وقيل: للصلاة. وقيل في «عنها» للصلاة، وفي «بها» للساعة. قوله: {فتردى} يجوزُ فيه أَنْ ينتصبَ في جوابِ النهيِ بإضمارِ «أنْ» ، وأن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: فأنت تردى. وقرأ يحيى «تردى» بكسر التاء. وقد تقدم أنها لغةٌ. والردى: الهلاك يقال: رَدِيَ يردى رَدى. قال دُرَيْدُ بن الصِّمَّة: 3283 - تنادَوْا فقالوا أَرْدَتِ الخيلُ فارساً ... فقلتُ أَعَبْدُ اللهِ ذلكُمُ الرَّدِي

17

قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} : «ما» مبتدأةٌ استفهامية. و «تلك» خبره. و «بيمنيك» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حال كقوله: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] . والعاملُ في الحال المقدرة معنى الإِشارة. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ «تلك» موصولةً بمعنى التي، و «بيمينك» صلتُها. ولم يذكر ابنُ عطية غيره، وهذا ليس مذهبَ البصريين، لأنهم لم يجعلوا من أسماءِ الإِشارة موصولاً إلاَّ «ذا» بشروطٍ ذكرْتُها أولَ هذا الكتابِ. وأمَّا الكوفيون فيُجيزون ذلك في جميعها، ومنه هذه الآيةُ عندهم أي: «وما التي بيمينك» وأنشدوا أيضاً: 3284 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

نَجَوْتِ وهذا تحملينَ طَليقُ أي: والذي تحملين.

18

قوله: {هِيَ عَصَايَ} : «هي» تعود على المُسْتَفْهَمِ عنه. وقرأ العامَّةُ «عصايَ» بفتح الياء، والجحدري وابن أبي إسحاق «عَصَيَّ» بالقلب والإِدغام. وقد تقدم في أول البقرة توجيهُ ذلك، ولمَنْ تُنْسَبُ هذه اللغةُ، والشعرُ المَرْوِيُّ في ذلك. ورُوي عن أبي عمرو وابن أبي إسحاق أيضاً «عَصَاْيْ» بسكونها وصلاً. وقد فَعَلَ نافعٌ مثلَ ذلك في «مَحْيَاْيْ» فجمع بين ساكنين وصلاً، وتقدَّم الكلام هناك. قوله: {أَتَوَكَّأُ} يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ل «هي» ، ويجوز أن يكونَ حالاً: إمَّا مِنْ «عصايَ» ، وإمَّا من الياء. وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ مجيءَ الحالِ من المضاف/ إليه قليلٌ، وله مع ذلك شروطٌ ليس فيه شيءٌ منها هنا. ويجوز أن تكون جملةً مستأنفةً. وجَوزَّ أبو البقاء نقلاً عن غيره أن تكونَ «عصايَ» منصوبةً بفعل مقدَّر، و «أتوكَّأُ» هو الخبر، ولا ينبغي أَنْ يقال ذلك. والتوَكُّؤ: التحامُلُ على الشيءِ، وهو بمعنى الاتكاء. وقد تقدَّم تفسيرُه في يوسف فهما من مادةٍ واحدة، وذكَرْتُه هنا لاختلاف وَزْنَيْهما.

والهَشُّ بالمعجمةِ الخَبْطُ. يقال: هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّه أي: خَبَطْتُه ليسقطَ، وأمَّا هَشَّ يَهِش بكسر العين في المضارع فبمعنى البَشاشة، وقد قرأ النخعي بذلك فقيل: هو بمعنى أهُشُّ بالضمِّ، والمفعولُ محذوفٌ في القراءتين أي: أهشُّ الورقَ أو الشجرَ. وقيل: هو في هذه القراءةِ مِنْ هَشَّ هَشاشةً إذا مال. وقرأ الحسن وعكرمة «وأَهُسُّ» بضم الهاءِ والسينِ المهملة وهو السَّوْقُ، ومنه الهَسُّ والهَساس، وعلى هذا فكان ينبغي أن يتعدى بنفسه، ولكنه ضُمِّنَ معنى ما يتعدَّى ب «على» وهو أَقوم. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ «وأُهِشُّ» بضم الهمزة وكسر الهاء مِنْ «أَهَشَّ» رباعياً وبالمهملة، ونقلها عنه الزمخشري بالمعجمة فيكون عنه قراءات. ونقل صاحب «اللوامح» عن مجاهد وعكرمة «وأَهُشُ» بضم الهاء وتخفيف الشين قال: «ولا أعرف لها وجهاً» إلاَّ أَنْ يكونَ قد استثقل التضعيف مع تفشِّي الشين فخفف، وهو بمعنى قراءة العامة. وقرأ بعضهم «غَنْمي» بسكون النون ولا ينقاس. والمآرب: جمع مَأْرَبة وهي الحاجة وكذلك الإِرْبة أيضاً. وفي راء «المأربة» الحركاتُ الثلاثُ.

و «أخرى» كقوله: {الأسمآء الحسنى} [الإسراء: 110] وقد تقدم قريباً. قال أبو البقاء: «ولو قيل» أُخَر «لكانَ على اللفظ» يعني: «أُخَر» بضمِّ الهمزة وفتح الخاء، وباللفظ لفظ الجمع. ونقل الأهوازي عن شيبة والزهري «مارب» قال «بغيرِ همزٍ» كذا أَطْلق. والمرادُ بغير همز محقق بل مُسَهَّلٌ بين بين، وإلاَّ فالحذفُ بالكليَّةِ شاذٌّ.

20

قوله: {تسعى} : يجوز أن يكون خبراً ثانياً عند مَنْ يُجَوِّز ذلك. ويجوز أن يكونَ صفةً ل «حيَّة» .

21

قوله: {سِيَرتَهَا} : في نصبها أوجه، أحدها: أن تكونَ منصوبةً على الظرف أي: في سيرتها أي: طريقتها. الثاني: أنها منصوبةٌ على أنها بدلٌ من ها «سنعيدها» بدلُ اشتمال؛ لأن السيرةَ الصفة أي: سنعيدها صفتها وشكلها. الثالث: أنها منصوبة على إسقاط الخافض أي: إلى سيرتها. قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون مفعولاً، مِنْ عاده أي: عاد إليه، فيتعدى لمفعولَيْنِ، ومنه بيتُ زهير: 3285 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وعادَكَ أَنْ تُلاَقِيَها العَداءُ

وهذا هو معنى قولِ مَنْ قال: إنه على إسقاط إلى، وكان قد جَوَّز أن يكونَ ظرفاً كما تقدَّم. إلاَّ أن الشيخ ردَّه بأنه ظرفٌ مختص، ولا يَصِلُ إليه الفعلُ إلاَّ بوساطة» في «إلاَّ فيما شَذَّ. والسِّيرة: فِعْلَة تدل على الهيئة من السَيْر كالرِّكْبَة من الركوب، ثم اتُّسِع فعُبِّر بها عن المذهب والطريقة. قال خالد الهُذَلي: 3286 - فلا تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍ أنت سِرْتَها ... فأولُ راضٍ سيرةً مَنْ يَسِيرُها وجَوَّز أيضاً أن ينتصبَ بفعلٍ مضمرٍ أي: يسير سيرتَها الأولى، وتكون هذه الجملةُ المقدرةُ في محلِّ نصبٍ على الحال أي: سنعيدها سائرةً سيرتَها.

22

قوله: {واضمم} : لا بدَّ هنا مِنْ حَذْف، والتقدير: واضمُمْ يَدك تنضمَّ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ، فحذف من الأول والثاني، وأبقى مقابلَيْهما ليدلا على ذلك إيجازاً واختصاراً، وإنما احتيج إلى هذا لأنه لا يترتَّبُ على مجردِ الضمِّ الخروجُ. قوله: {بَيْضَآءَ} حالٌ مِنْ فاعل «تَخْرُجْ» . قوله: {مِنْ غَيْرِ سواء} يجوز أن يكونَ متعلِّقاً ب «تخرجْ» ، وأن تكونَ متعلقةً ب «بيضاءَ» لِما فيها من معنى الفعل نحو: ابيضَّتْ من غيرِ سوءٍ. ويجوز أن تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ على أنها حال من الضمير في «بيضاء» . وقوله: {مِنْ غَيْرِ سواء} يُسَمَّى عند أهل البيان «الاحتراس» وهو: أن يؤتى بشيءٍ يرفعُ تَوَهُّمَ

مَنْ يتوهَّمُ غيرَ المراد؛ وذلك أن البياضَ قد يُرادُ به البَرَصُ والبَهَقُ، فأتى بقوله: {مِنْ غَيْرِ سواء} نفياً لذلك. قوله: {آيَةً} فيها أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ حالاً أعنى أنها بدلٌ مِنْ «بيضاءَ» الواقعةِ حالاً. الثاني: أنها حالٌ من الضمير في «بيضاءَ» . الثالث: أنها حالٌ من الضمير في الجارِّ والمجرور. الرابع: أنها منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ. فقدَّره أبو البقاء: جَعَلْناها آيةً، أو آتَيْناك آيةً. وقَدَّره الزمخشري: خُذْ آيةً، وقدَّر أيضاً: دنوكَ آية. وردَّ الشيخُ هذا: بأن من باب الإِغراء. ولا يجوز إضمارُ الظروفِ في الإِغراء. قال: لأنَّ العاملَ حُذِفَ، وناب هذا مَنابَه فلا يجوز أن يُحْذَفَ النائبُ أيضاً. وأيضاً فإنَّ أحكامَها تخالفُ العاملَ الصريحَ، فلا يجوز إضمارُها، وإنْ جاز إضمارُ الأفعال.

23

قوله: {لِنُرِيَكَ} : متعلقٌ بما دَلَّتْ عليه «آية» أي: دَلَلْنا بها لِنُرِيَكَ، أو بجعلناها، أو بآتيناك المقدَّرِ. وقدَّره الزمخشريُّ «لِنريك فَعَلْنا ذلك» . وَجوَّز الحوفيُّ أن يتعلقَ ب «اضْمُمْ» . وجَوَّزَ غيرُه أَنْ يتعلَّقَ ب «تَخْرُجْ» . ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بلفظ «آية» لأنها قد وُصِفَتْ وقدَّره الزمخشريُّ أيضاً: «لِنُرِيَكَ خُذْ هذه الآية أيضاً» . قوله: {مِنْ آيَاتِنَا الكبرى} يجوزُ أَنْ يتعلقَ «مِنْ آياتنا» بمحذوفٍ على أنه

حالٌ مِن «الكبرى» ويكون «الكبرى» على هذا مفعولاً ثانياً ل «نُرِيَكَ» . والتقديرُ: لِنُرِيَك الكبرى حالَ كونِها مِنْ آياتنا، أي: بعض آياتِنا. ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ الثاني نفسَ «مِنْ آياتنا» ، فتتعلقَ بمحذوفٍ أيضاً، وتكون «الكبرى» على هذا صفةً ل «آياتنا» وصفاً لجمع المؤنثِ غيرِ العاقل وصفَ الواحدةِ على حَدِّ {مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] و {الأسمآء الحسنى} [الإسراء: 110] . وهذان الوجهان قد نقلهما الزمخشري والحوفي وأبو البقاء وابنُ عطية. واختار الشيخُ الثاني قال: «لأنه يلزمُ من ذلك أَنْ تكونَ آياتُه كلُّها هي الكُبَرَ؛ لأنَّ ما كان بعضَ [الآيات] الكبر صَدَقَ عليه أنه الكبرى، وإذا جَعَلْتَ» الكبرى «مفعولاً ثانياً لم تتصِفْ الآياتُ بالكُبَرِ؛ لأنها هي المتصفةُ بأفعل التفضيل. وأيضاً إذا جَعَلْتَ» الكبرى «مفعولاً فلا يمكنُ أَنْ تكونَ صفةً للعصا واليد معاً، إذ كان يلزم التثنية. ولا جائزٌ أَنْ يَخُصَّ إحداهما بالوصف دونَ الأخرى، لأنَّ التفضيلَ في كلٍ منهما. ويَبْعُدُ ما قاله الحسنُ: من أنَّ اليدَ أعظمُ في الإِعجاز من العصا؛ فإنه جعل» الكبرى «مفعولاً ثانياً لِنُرِيَك، وجعل ذلك راجعاً للآية القريبة، وقد ضَعُفَ قولُه بأنَّ منافعَ العصا أكبرُ. وهو غيرُ خفيّ» . انتهى ملخصاً.

25

قوله: {لِي صَدْرِي} : «لي» متعلق ب «اشرح» . قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت:» لي «في قوله: {اشرح لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} ما جدواه والأمرُ مستتبٌّ بدونه؟ قلت: قد أبهم الكلامَ أولاً فقال: اشرح لي ويَسِّر لي، فَعُلِمَ أنَّ ثَمًَّ مشروحاً ومُيَسَّراً، ثم بَيَّن ورفع الإِبهامَ بذكرِهما فكان آكدَ لطلبِ الشرحِ لصدرِه والتيسير لأمره» .

26

ويقال: يَسَّرْتُه لكذا، ومنه {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} [الليل: 7] ويَسَّرْتُ له كذا، ومنه هذه الآيةُ.

27

قوله: {مِّن لِّسَانِي} : يجوز أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «عُقْدَةً» أي: مِنْ عُقَدِ لساني. ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه. ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ «احلُلْ» والأولُ أحسنُ.

29

قوله: {واجعل لِّي وَزِيراً} : يجوز أَنْ يكونَ «لي» مفعولاً ثانياً مقدماً، و «وزيراً» هو المفعولُ الأول. و «مِنْ أهلي» على هذا يجوز أَنْ يكونَ صفةً ل «وزيراً» . ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً بالجَعْلِ. و «هارونَ» بدلٌ مِنْ «وزيراً» . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ «هارونَ» عطفَ بيانٍ ل «وزيراً» . ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه. ولَمَّا حكى الشيخُ هذا

لم يُعْقِبْه بنَكير، وهو عجيبٌ منه؛ فإنَّ عطفَ البيان يُشترط فيه التوافقُ تعريفاً وتنكيراً، وقد عَرَفْتَ أنَّ «وزيراً» نكرةٌ و «هارونَ» معرفة، والزمخشري قد تقدَّم له مثلُ ذلك في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] وقد تقدم الكلام معه هناك وهو عائد هنا. ويجوز أَنْ يكونَ «هارونَ» منصوباً بفعلٍ محذوف كأنه قال: أخصُّ من بينهِم هارون أي: مِنْ بينِ أهلي. ويجوز أَنْ يكونَ «وزيراً» مفعولاً ثانياً، و «هارونَ» هو الأول، وقَدَّم الثاني عليه اعتناءً بأَمْرِ الوِزارة. وعلى هذا فقولُه «لي» يجوز أن يتعلَّق بنفسِ الجَعْل، وأَنْ يتعلقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «وزيراً» ؛ إذ هو في الأصل صفةُ له. و «مِنْ أهلي» على ما تقدَّم من وَجْهَيْه. ويجوز أن يكون «وزيراً» مفعولاً أولَ، و «مِنْ أهلي» هو الثاني. وقوله «لي» مثلُ قولِه {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] يَعْنُون أنه به يتمُّ المعنى، ذكر ذلك أبو البقاء. ولَمَّا حكاه الشيخ لم يتعقبه بنكير، وهو عجيب؛ لأنَّ شرطَ المفعولَيْن في باب النواسخ صحةٌ انعقادِ الجملة الاسمية، وأنت لو ابتَدَأْتَ ب «وزير» وأخبرْتَ عنه ب «من أهلي» لم يَجُزْ إذ لا مُسَوِّغ للابتداءِ به. و «أخي» بدلٌ أو عطفُ بيانٍ ل «هارونَ» . وقال الزمخشري: «وإنْ جُعِل عطفَ بيانٍ آخرَ جاز وحَسُنَ. قال الشيخ:» ويَبْعُدُ فيه عطفُ البيان؛ لأنَّ

عطفَ البيان الأكثرُ فيه أن يكونَ الأولُ دونَه في الشُّهرة وهذا بالعكس «. قلت: لم يُرِدْ الزمخشري أنَّ» أخي «عطفُ بيانٍ ل» هارون «حتى يقول الشيخ إن الأولَ وهو» هارون «أشهرُ من الثاني وهو» أخي «، إنما عَنَى الزمخشريُّ أنه عطفُ بيان أيضاً ل» وزيراً «ولذلك قال:» آخَر «. ولا بُدَّ من الإِتيان بلفظِه ليُعْرَفَ أنه لم يُرِدْ إلاَّ ما ذكرتُه قال:» وزيراً وهارونَ مفعولا قولِه «اجعَلْ» ، أو «لي وزيراً» مفعولاه، و «هارونَ» عطفُ بيان للوزير، و «أخي» في الوجهين بدلٌ من «هارون» ، وإن جُعل عطفَ بيانٍ أخرَ جاز وحَسُن «. فقوله «آخر» تعيَّنَ أن يكونَ عطفَ بيانٍ لما جعله عنه عطف بيان قبل ذلك. وجَوَّز الزمخشري في «أخي» أن يرتفعَ بالابتداء، ويكونَ خبرُه الجملةَ مِنْ قوله: «اشْدُدْ به» ، وذلك على قراءةِ الجمهور له بصيغة الدعاء، وعلى هذا فالوقفُ على «هارونَ» . وقرأ ابن عامر «أَشْدُدْ» بفتح الهمزة للمضارعة وجزمِ الفعلِ جواباً للأمر، «وأُشْرِكْهُ» بضم الهمزة للمضارعة وجزمِ الفعلِ نَسَقاً على ما قبلَه. وقرأ الباقون بحذف همزة الوصل من الأول، وفتحِ همزة القطع في الثاني، على أنهما دعاءٌ من موسى لربِّه بذلك. وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملةُ قد تُرِكَ فيها العطفُ خاصةً دونَ ما تقدَّمَها مِنْ جمل الدعاء. وقرأ الحسنُ «أُشَدِّدُ» مضارعَ شَدَّد بالتشديد.

والوَزير: قيل: مشتقٌّ من الوِزْر وهو الثِّقَل. وسُمِّي بذلك لأنه يَحْمل أعباءَ المُلْكِ ومُؤَنَهُ فهو مُعِيْنٌ على أمر/ الملك ويأتَمُّ بأمره. وقيل: بل هو من الوَزَرِ وهو الملجأُ، كقوله تعالى: {لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11] وقال: 3287 - من السِّباع الضَّواري دونَه وَزَرٌ ... والناسُ شَرُّهُمُ ما دونَه وَزَرُ كم مَعْشرٍ سَلِموا لم يُؤْذِهِمْ سَبُعٌ ... وما نرى بَشَراً لم يُؤْذِهِمْ بَشَرُ وقيل: من المُؤَازَرَة وهي المعاونةُ. نقله الزمخشري عن الأصمعي قال: «وكان القياسُ أَزِيراً» يعني بالهمزةِ؛ لأنَّ المادةَ كذلك. قال الزمخشريُّ: «فَقُلِبَت الهمزةُ إلى الواو ووجهُ قَلْبِها إليها أنَّ فَعيلاً جاء بمعنى مُفاعِل مجيئاً صالحاً كقولهم: عَشِير وجَلِيس وخليط وصديق وخليل ونديم، فلمَّا قُلِبت في أخيه قُلِبَتْ فيه، وحَمْلُ الشيءِ على نظيره ليس بعزيزٍ، ونظراً إلى يُوازِرُ وأخواتِه وإلى المُوَازَرة» . قلت: يعني أنَّ وزيراً بمعنى مُوازِر، ومُوازر تقلب فيه الهمزةُ واواً قلباً قياسياً؛ لأنها همزةُ مفتوحةٌ بعد ضمه فهو نظيرُ «مُوَجَّل» و «يُوَاخذكم»

وشبهِه، فحُمِل «أزير» عليه في القلب، وإن لم يكنْ فيه سببُ القلبِ.

33

قوله: {كَثِيراً} : نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ من ضمير المصدر، كما هو رأيُ سيبويه. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون نعتاً لزمانٍ محذوفٍ أي: زماناً كثيراً.

36

قوله: {سُؤْلَكَ} : فعل هنا بمعنى مَفْعول نحو: أُكْل بمعنى مَأْكول، وخُبْر بمعنى مَخْبور. ولا ينقاس.

37

و «مرة» مصدرٌ. و «أخرى» تأنيث أخَر بمعنى غير. وزعم بعضُهم أنها بمعنى آخِرَة، فتكونُ مقابِلةً للأولى، وتحيَّل لذلك بأن قال: «سَمَّاها أخرى وهي أولى لأنها أخرى في الذِّكْرِ» .

38

قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَآ} : العاملُ في «إذ» «مَنَنَّا» أي: مَنَنَّا عليك في وقتِ إلجائنا إلى أمِّك، وأُبْهِم في قوله {مَا يوحى} للتعظيم كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] .

39

قوله: {أَنِ اقذفيه} : يجوز أن تكون «أنْ» مفسرةً؛ لأنَّ الوَحْيَ بمعنى القول، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه، وجوَّز غيرُه أن تكونَ مصدريةً. ومحلُّها حينئذٍ النصبُ بدلاً مِنْ «ما يوحى» والضمائرُ في قوله {أَنِ اقذفيه} إلى آخرها عائدةٌ على موسى عليه السلام لأنه المُحَدَّثُ عنه. وجَوَّز

بعضُهم أن يعودَ الضمير في قوله {فاقذفيه فِي اليم} للتابوت، وما بعده وما قبله لموسى عليه السلام. وعابَه الزمخشريّ وجعله تنافراً أو مُخْرِجاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال: «والضمائر كلُّها راجعة إلى موسى، ورجوعُ بعضها إليه وبعضِها إلى التابوت فيه هُجْنَةٌ لِما يُؤَدِّي إليه من تنافُرِ النَّظْم. فإنْ قلت: المقذوفُ في البحر هو التابوتُ وكذلك المُلْقى إلى الساحل. قلت: ما ضرَّك لو جَعَلْتَ المقذوفَ والمُلْقى به إلى الساحل هو موسى في جوفِ التابوت حتى لا تُفَرَّقَ الضمائرُ فيتنافرَ عليك النظمُ الذي هو أمُّ إعجاز القرآن والقانونُ الذي وقع عليه التحدِّي، ومراعاتُه أهمُّ ما يجب على المفسِّر» . قال الشيخ: «ولقائلٍ أن يقولَ: إن الضمير إذا كان صالحاً لأَنْ يعودَ على الأقربِ وعلى الأبعدِ كان عودُه على الأقربِ راجحاً وقد نَصَّ النحويون على هذا فَعَوْدُه على التابوتِ في قولِه {فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم} راجحٌ. والجواب: أنَّ أحدَهما إذا كان مُحَدَّثاً عنه والآخرُ فضلةً، كان عودُه على المحدَّثِ عنه أرجحَ. ولا يُلْتَفَتُ إلى القُرْبِ؛ ولهذا رَدَدْنا على أبي محمد ابن حزم في دَعْواه: أنَّ الضميرَ في قولِه تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] عائدٌ على» خنزير «لا على» لحم «لكونه أقربَ مذكورٍ، فَيَحْرُمُ بذلك شحمُه وغُضْرُوْفُه وعظمُه وجِلْدُه، فإن المحدَّث عنه هو» لحمَ خنزيرٍ «لا خنزير» . قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ في الأنعام وما تكلَّم الناسُ فيها. قوله: {فَلْيُلْقِهِ اليم} هذا أمرٌ معناه الخبرُ، ولكنه أمراً لفظاً جُزِم جوابُه في

قوله: {يَأْخُذْهُ} . وإنما خَرَجَ بصيغة الأمر مبالغةً؛ إذ الأمرُ أقطعُ الأفعالِ وآكدُها. وقال الزمخشري: «لَمَّا كانَتْ مشيئةُ اللهِ وإرادتُه أَنْ لا تُخْطِىءَ جَرْيَةُ ماءِ اليَمِّ الوصولَ به إلى الساحل، وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيلَ المجاز، وجعل اليَمَّ كأنه ذو تمييزٍ، أمر بذلك ليطيع الأمرَ ويَمْتَثِلَ رسمَه» . و «بالساحل» يحتمل أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن الباءَ للحالِ أي: ملتبساً بالساحل، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعل على أنَّ الباءَ ظرفيةٌ بمعنى «في» . قوله: {مِّنِّي} فيه وجهان. قال الزمخشري: «لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يتعلقَ ب» أَلْقَيْتُ «فيكون المعنى: على أني أَحْبَبْتُك، ومَنْ أحبَّه اللهُ أحبَّتْه القلوبُ، وإمَّا أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو صفةٌ ل» محبةً «أي: محبةً حاصلةً، أو واقعةً مني، قد رَكَزْتُها أنا في القلوب وزَرَعْتُها فيها» . قوله: {وَلِتُصْنَعَ} قرأ العامَّةُ بكسر اللام وضم التاء وفتحِ النون على البناءِ للمفعول، ونصبِ الفعلِ بإضمار أَنْ بعد لام. وفيه وجهان، أحدهما: أن هذه العلةَ معطوفةٌ على علةٍ مقدرة قبلها. والتقديرُ: ليتلطَّفَ بك ولتُصْنَعَ، أو ليعطفَ عليك وتُرامَ ولتصنعَ. وتلك العلةٌ المقدرةُ متعلقةٌ بقوله: «وألقيتُ» أي: ألقيتُ عليكم المحبة ليَعْطفَ عليك ولتُصْنَعَ. ففي الحقيقة هو متعلقٌ بما قبله من إلقاءِ المحبة. والثاني: أن هذه اللامَ تتعلقُ بمضمرٍ/ بعدها تقديرُه: ولتُصْنَعَ على عيني فعلتُ ذلك، أو كان كيت وكيت. ومعنى لتُصْنَعَ أي: لتربى ويُحْسَنَ إليك، وأنا مراعِيْكَ ومراقُبكَ كما يراعي الإِنسانُ الشيءَ بعينِه إذا اعتنى به. قاله الزمخشري.

وقرأ الحسن وأبو نهيك «ولِتَصْنَعَ» بفتح التاء. قال ثعلب: «معناه لتكون حركتُك وتصرُّفُك على عينٍ مني. وقال قريباً منه الزمخشري. وقال أبو البقاء:» أي لتفعلَ ما آمُرك بمرأى مني «. وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ» ولْتُصْنَعْ «بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمرٌ معناه: ليُرَبَّ وليُحْسَن إليك. وروي عن أبي جعفر في هذه القراءةِ كسرُ لامِ الأمر. قلت: ويحتمل مع كسرِ اللام أو سكونِها حالةً تسكينِ العين أن تكونَ لامَ كي، وإنم سُكِّنَتْ تشبيهاً بكَتْف وكَبْد، والفعل منصوب. والتسكينُ في العين لأجل الإِدغام لا يُقْرأ في الوصل إلاَّ بالإِدغام فقط.

40

قوله: {إِذْ تمشي} : في عاملِ هذا الظرفِ أوجهٌ، أحدها: أن العامل فيه «ألقيتُ» أي: ألقيتُ عليك محبةً مني في وقتِ مَشْيِ أختِك. الثاني: أنه منصوبٌ بقولِه «ولتُصْنَعَ» أي: لتربى ويُحْسَنَ إليك في هذا الوقتِ. قال الزمخشري: «والعاملُ في» إذ تشمي «» ألقيتُ «أو» لتُصْنع «. وقال أبو البقاء:» إذ تمشي «يجوز أَنْ يتعلَّقَ بأحد الفعلين» . قلت: يعني بالفعلينِ ما تقدَّم مِنْ ألقيتُ أو لتُصْنَعَ. وعلى هذا فيجوز أن تكونَ المسألةُ من بابِ التنازع؛ لأنَّ كلاً من هذين العاملين يطلب هذا الظرفَ من حيث المعنى،

ويكونُ من إعمال الثاني للحذف من الأول. وهذا إنما يتجه كلَّ الاتجاه إذا جعلْتَ «ولِتُصْنَعَ» معطوفاً على علةٍ محذوفةٍ متعلقةٍ ب «أَلْقَيْتُ» ، أمَّا إذا جعلته متعلقاً بفعلٍ مضمرٍ بعده فيبعدُ ذلك أو يمتنع، لكونِ الثاني صار من جملةٍ أخرى. الثالث: أن تكونَ «إذ تمشي» بدلاً من «إذ أَوْحَيْنا» . قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف يَصِحُّ البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصحُّ وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل: لَقِيْت فلاناً سنةَ كذا فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك، وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها» . قال الشيخ: «وليس كما ذكر لأن السنةَ تقبل الاتساع، فإذاً وقع لُقِيُّهما فيها، بخلاف هذين الظَّرفين فإنَّ كل واحدٍ منهما ضيقٌ ليس بمتسعٍ لتخصصهما بما أضيفا إليه، فلا يمكن أن يقعَ الثاني في الظرف الذي وقع فيه الأول؛ إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحيِ فيه ووقوعِ مَشْي الأخت، فليس وقتُ وقوعِ الفعل مشتملاً على أجزاءٍ وقع في بعضها المشي بخلاف السنة» . قلت: وهذا تحمُّلٌ منه عليه فإنَّ زمنَ اللُّقِيِّ أيضاً ضيقٌ لا يَسَعُ فِعْلَيْهما، وإنما ذلك مبنيٌّ على التساهل؛ إذ المراد أن الزمانَ مشتملٌ على فعليهما. وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ بدلاً من» إذ «الأولى، لأنَّ مَشْيَ أختِه كان مِنَّةً عليه» يعني أن قولَه «إذ أَوْحَيْنا» منصوبٌ بقوله: «مَنَنَّا» فإذا جُعِل «إذ تمشي» بدلاً منه كان أيضاً مُمْتَنَّاً به عليه.

الرابع: أن يكونَ العاملُ فيه مضمراً تقديره: اذكر إذ تمشي. وهو على هذا مفعولٌ به لفساد المعنى على الظرفية. وقرأ العامَّةُ «كي تَقَرَّ» بفتح التاء والقاف. وقرأَتْ فرقة «تَقِرَّ» بكسر القاف، وقد تقدم أنهما لغتان في سورة مريم. وقرأ جناح بن حبيش «تُقَرُّ» بضمِّ التاءِ وفتحِ القاف على البناء للمفعول. «عينُها» رفعاً لِما لَم يُسَمَّ فاعلُه. قوله: {فُتُوناً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ على فُعُوْل كالقُعود والجُلُوس، إلاَّ أنَّ فُعُولاً قليلٌ في المتعدِّي. ومنه الشُّكُوْر والكُفور والثُّبور واللُّزوم. قال تعالى: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] . والثاني: أنه جمعُ فَتْنٍ أو فِتْنَة على تَرْك الاعتداد بتاء التأنيث ك «حُجُور» و «بُدُوْر» في حَجْرة وبَدْرة أي: فَتَنَّاك ضُروباً من الفتن. عن ابن عباس: أنه وُلِد في عامٍ يُقتل فيه الوِلْدَان، وألقَتْه أمُّه في البحر، وقتل القبطيَّ وأَجَر نفسَه عشرَ سنين، وضَلَّ عن الطريق، وتفرَّقَتْ غنمُه في ليلةٍ مظلمة. ولمَّا سأل سعيدُ بن جبير عن ذلك أجابه بما ذكرْتُه، وصار يقول عند كل واحدة: فهذه فتنةٌ يا ابن جبير. قال معناه الزمخشري. وقال غيره: بفُتُوْنٍ من الفِتَنِ أي المِحَنِ تُخْتبر بها.

قوله: {على قَدَرٍ} متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعل «جئت» أي: جئتَ موافقاً لِما قُدِّر لك. كذا قدَّره أبو البقاء، وهو تفسيرُ معنىً. والتفسير الصناعي: ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين. كقول الآخر: 3288 - نال الخلافةَ أو جاءَتْ على قَدَرٍ ... كما أتى رَبَّه موسى على قَدَرِ

41

ومعنى «اصْطَنَعْتُكَ» أي: أَخْلَصْتُك. واصْطَفَيْتُكَ افتعال من الصُّنْع، فأُبْدِلَتْ التاءُ طاءً لأجل حرف الاستعلاء، وهذا مجازٌ عن قُرْبِ منزلتِه ودُنُوِّه مِنْ ربه؛ لأنَّ أحداً لا يَصْطَنع إلاَّ مَنْ يختاره.

42

قوله: {وَلاَ تَنِيَا} : يقال: ونى يَني وَنْياً كوَعَدَ/ يَعِد وَعْداً إذا فَتَرو. . . والوَنْيُ الفُتور. ومنه امرأةٌ أَناة، وصفوها بفُتور القيام كناية عن ضَخامتها قال: 3289 - مِنَّا الأَناةُ وبعضُ القومِ يَحْسَبُنا ... أَنَّا بِطاءٌ وفي إبطائِنا سَرَعُ والأصل وَناة. فأبدلوا الهمزة من الواو كأَحَد في وَحَد. وليس بالقياس، وفي الحديث: «إن فيك لخَصْلتين يحبهما الله: الحِلْمُ والأناة» .

والواني: المقصِّرُ في أمره. قال الشاعر: 3290 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فما أنا بالواني ولا الضِّرَعِ الغُمْرِ وونى فعلٌ لازمٌ لا يتعدى، وزعم بعضهم أنه يكون مِنْ أخواتِ زَال وانفك فيعمل بشرط النفيِ أو شبهِه عَمَلَ كان فيقال: «ما وَنى زيدٌ قائماً» أي: مازال قائماً. وأنشد الشيخُ جمالُ الدين بنُ مالكٍ شاهداً على ذلك قول الشاعر: 3291 - لا يَنِيْ الحُبُّ شِيْمةَ الحِبِّ ما دا ... مَ فلا تَحْسَبَنَّه ذا ارْعِواءِ أي لا يزال الحُبُّ أي بضم الحاء شيمةَ الحِبِّ أي بكسرِها وهو المُحِبُّ. ومَنْ منع ذلك يتأوَّلُ البيتَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ فإنَّ هذا الفعلَ يتعدى تارةً ب عَنْ وتارة ب في. يُقال: ما وَنَيْتُ عن حاجتك أو في حاجتك. فالتقدير: لا يَفْتُرُ الحُبُّ في شِيمة المُحِبِّ وفيه مجازٌ بليغ. وقد عُدِّيَ في الآيةِ الكريمة ب في. وقرأ يحيى بنُ وثَّاب «ولا تِنِيا» بكسر التاء إتباعاً لحركةِ النون. وسَكَّن

الياءَ مِنْ «ذِكْرِيْ» . . . . . . .

43

وذَكرَ المذهوبَ إليه في قوله: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} وحَذَفه في الأولِ في قوله: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} اختصاراً في الكلام. وقيل: أُمِرا أولاً بالذهابِ لعمومِ الناسِ ثم ثانياً لفرعونَ بخصوصه، وفيه بُعد؛ بل الذهابان متوجِّهان لشيءٍ واحدٍ وهو فرعونَ بخصوصه، وفيه بُعد؛ بل الذهابان متوجِّهان لشيءٍ واحدٍ وهو فرعونُ، وقد حَذَفَ من كلٍ من الذهابين ما أثبته في الآخر: وذلك أنه حذف المذهوبَ إليه من الأول وأثبته في الثاني، وحَذَفَ المذهوبَ به وهو «بآياتي» من الثاني وأثبته في الأول.

44

وقرأ أبو معاذٍ «قولاً لَيْناً» وهو تخفيف مِنْ لَيِّن كمَيْت في مَيِّت. وقوله: {لَّعَلَّهُ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «لعلَّ» على بابها من التَّرَجِّي: وذلك بالنسبة إلى المُرْسَل، وهو موسى وهارون أي: اذهبا على رجائِكما وطَمَعِكما في إيمانه، اذهبا مُتَرَجِّيَيْنِ طامِعَيْن، وهذا معنى قولِ الزمخشري، ولا يَسْتقيمُ أن يَرِدَ ذلك في حق الله تعالى إذ هو عالمٌ بعواقب الأمور، وعن سيبويه: «كلُّ ما وَرَدَ في القرآن مِنْ لعلَّ وعسى فهو من الله واجبٌ» ، يعني أنه مستحيلٌ بقاءُ معناه في حق الله تعالى. والثاني: أنَّ لعلَّ بمعنى كي فتفيد العلةَ.

وهذا قول الفراء، قال: «كما تقول: اعمل لعلك تأخذُ أَجْرَك أي: كي تأخذ» . والثالث: أنها استفهاميةٌ أي: هل يتذكَّر أو يخشى؟ وهذا قولٌ ساقط؛ وذلك أنه يَسْتحيل الاستفهامُ في حق الله تعالى كما يستحيل الترجِّي. فإذا كان لا بُدَّ من التأويل فَجَعْلُ اللفظِ على مدلولِه باقياً أولى مِنْ إخراجِه عنه.

45

قوله: {أَن يَفْرُطَ} : «أَنْ يَفْرُطَ» مفعولُ «نخاف» . ويقال: فَرَطَ يَفْرُط: سَبَقَ وَتَقَدَّم، ومنه الفارِطُ. وهو الذي يتقدَّم الورادةَ إلى الماء وفَرَسٌ فَرَطٌ: يسبقُ الخيلَ، أي: نخافُ أَنْ يُعَجِّلَ علينا بالعقوبةِ ويبادِرَنا بها، قاله الزمخشري، ومِنْ وُرودِ الفارط بمعنى المتقدِّم على الواردة قولُ الشاعر: 3292 - واسْتعجلونا وكانوا مِنْ صحابَتنا ... كما تَقَدَّم فُرَّاطُ لوُرَّادِ وفي الحديث: «أنا فَرَطُكم على الحَوْضِ» أي: سابقُكم ومتقدِّمُكم.

وقرأ يحيى بن وثاب وابنُ محيصن وأبو نَوْفلٍ «يُفْرَط» بضمِّ حرف المضارعة وفتح الراء على البناء للمفعول، والمعنى: خافا أن يُسْبَقَ في العقوبةِ. أي: يحملُه حامِلٌ عليها وعلى المعاجلة بها: إمَّا قومُه وإمَّا حُبُ الرئاسةِ، وإمَّا ادِّعاؤه الإِلَهيةَ. وقرأ ابن محيصن في روايةٍ والزعفراني «أَن يُفَرِّطَ» بضمِّ حرفِ المضارَعَةِ وكسر الراء مِنْ أفرط. قال الزمخشري: «مِنْ أَفْرَطَه غيرُه إذا حمله على العَجَلة، خافا أَنْ يَحْمِلَه حاملٌ على المُعاجلة بالعقاب» . قال كعب ابن زهير. 3293 - تَنْفِي الرياحُ القذى عنه وأَفْرَطَه ... مِنْ صَوْبِ ساريةٍ بِيْضٌ يَعالِيْلُ أي: سَبَقَتْ إليه هذه البِيْضُ لتملأَه. وفاعلُ «يَفْرُطَ» ضميرُ فرعون. وهذا هو الظاهر الذي ينبغي أَنْ لا يُعْدَلَ عنه. وجعله أبو البقاء مضمراً لدلالة الكلامِ عليه فقال «فيجوز أن يكون التقدير: أن يَفْرط علينا منه قولٌ، فأضمر

القولَ لدلالة الحالِ عليه كما تقول: فَرَطَ مني قول، وأن يكونَ الفاعلُ ضميرَ فرعون كما كان في» يطغى «.

46

ومفعولُ {أَسْمَعُ وأرى} محذوفٌ فقيل: تقديره: أسمع أقوالكما وأرى أفعالَكما، وعن ابن عباس: أسمعُ جوابَه لكما وأرى ما يَفْعل بكما، أو يكون مِنْ حَذْفِ الاقتصار نحو: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [آل عمران: 156] .

47

قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} : قال الزمخشري: هذه الجملةُ جاريةٌ من الجملة الأولى وهي: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} مَجْرى البيانِ والتفسير؛ لأنَّ دعوى الرسالةِ لا تَثْبُتُ إلاَّ بِبَيِّنَتِها التي هي مجيءُ الآيةِ. وإنما وَحَّدَ ب «آية» ولم تُثَنَّ ومعه آيتان؛ لأنَّ المرادَ في هذا الموضعِ تثبيتُ الدعوى ببرهانها، فكأنه قيل: قد جِئْناك بمعجزةٍ وبرهانٍ وحجة على ما ادَّعَيْناه/ من الرسالة، وكذلك قال: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 105] {فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 154] {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} [الشعراء: 30] . و {على مَنِ اتبع الهدى} يحتمل أَنْ يكونَ مأموراً بقوله: فيكونَ منصوبَ المَحَلِّ كأنه قيل: فَقُولا أيضاً: والسلامُ على مَنْ اتَّبع الهدى، ويحتمل أَنْ يكونَ تسليما منهما لم يُؤْمَرا بقوله، فتكون الجملةُ مستأنفةً لا محل لها من الإِعراب. وزعم بعضُهم أن «على» بمعنى اللام أي: والسلام لمَنْ اتَّبع الهدى. وهذا لا حاجةَ إليه.

48

قوله: {أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ} : «أنَّ» وما في حَيِّزها في محل الرفع لقيامِها مَقامَ الفاعل الذي حُذِف في {أُوحِيَ إِلَيْنَآ} . وسببُ بنائِه للمفعول خوفاً أن يَبْدُرَ مِنْ فرعونَ بادرةٌ لمَنْ أوحى لو سَمَّياه، فَطَوَيا ذِكْرَه تَعظيماً له واستهانَةً بالمخاطب.

49

قوله: {ياموسى} : نادى موسى وحدَه بعد مخاطبته لهما معاً: إمَّا لأنَّ موسى هو الأصلُ في الرسالة، وهارونُ تَبَعٌ ورِدْءٌ ووزيرٌ، وإمَّا لأنَّ فرعونَ كان لخُبْثِه يعلمُ الرُّتَّة التي في لسان موسى، ويعلم فصاحةَ أخيه بدليلِ قوله {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القصص: 34] وقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] فأراد استنطاقَه دون أخيه، وإمَّا لأنه حَذَفَ المعطوفَ للعلمِ به أي: يا موسى وهارون. قاله أبو البقاء، وبدأ به، ولا حاجةَ إليه، وقد يُقال: حَسَّنَ الحذفَ كونَ موسى فاصلةً، لا يُقال: كان يُغني في ذلك أَنْ تُقَدِّمَ هارون وتؤخِّرَ موسى فيقال: يا هارونُ وموسى فتحصُلُ مجانسةٌ الفواصلِ مِنْ غيرِ حَذْفٍ لأنَّ البَدْءَ بموسى أهمُّ فهو المبدوءُ به.

50

قوله: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} : في هذه الآية وجهان: أحدهما: أن يكونَ «كلَّ شيءٍ» مفعولاً أولَ، و «خَلْقَه» مفعولاً ثانياً على معنى: أعطى كلَّ شيءٍ شكلَه وصورَته، الذي يطابقُ المنفعةَ المنوطةَ

به، كما أعطى العينَ الهيئةَ التي تطابق الإِبصارَ، والأذنَ الشكلَ الذي يطابقُ الاستماعَ ويوافقه، وكذلك اليدُ والرِّجلُ واللسانُ، أو أعطى كلَّ حيوانٍ نظيرَه في الخَلْق والصورةِ حيث جعل الحصانَ والحِجْر زوجين، والناقةَ والبعيرَ، والرجلَ والمرأةَ، ولم يزاوِجْ شيءٌ منها غيرَ جنسِه، ولا ما هو مخالفٌ لخَلْقِه. وقيل: المعنى: أعطى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خَلْقَه أي: هو الذي ابتدعه. وقيل: المعنى: أعطى كلَّ شيءٍ ممَّا خَلَق خِلْقَتَه وصورتَه على ما يناسبه من الإِتقانِ. لم يجعل خَلْقَ الإِنسانِ في خَلْقِ البهائم، ولا بالعكس، بل خَلَق كلَّ شيءٍ فَقدَّره تقديراً. والثاني: أن يكونَ «كلَّ شيءٍ» مفعولاً ثانياً، و «خَلْقَه» هو الأول، فَقَدَّم الثاني عليه، والمعنى: أعطى خليقته كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه ويَرْتفقون به. وقرأ عبدُ الله والحسنُ والأعمشُ وأبو نهيكٍ وابنُ أبي إسحاق ونصير عن الكسائي وناسٌ من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم «خَلَقَه» بفتح اللام فِعْلاً ماضياً. وهذه الجملةُ في هذه القراءةِ تحتمل أَنْ تكونَ منصوبةً المحلِّ صفةً ل «كل» أو في محلِّ جَرِّ صفةً ل «شيء» ، وهذا معنى قولِ الزمخشري: «صفةٌ للمضاف يعني» كل «أو للمضافِ إليه» يعني «شيءٍ» . والمفعولُ الثاني على هذه القراءةِ محذوفٌ، فيُحتملُ أَنْ يكونَ حَذْفُه حَذْفَ اختصارٍ للدلالةِ عليه أي: أعطى كلَّ شيءٍ خَلَقَه ما يحتاج إليه ويُصْلحه أو كمالَه، ويحتمل أن يكونَ حذفُه حَذْفَ اقتصارٍ، والمعنى: أن كلَّ شيءٍ خَلَقه الله لم يُخْلِه من إنعامِه وعطائِه.

51

والبالُ: الفِكْرُ. يقال: خَطَر ببالِه كذا، ولا يثنى ولا يُجْمَعُ، وشَذَّ جمعُه على «بالات» . ويقال للحال المُكْتَرَثِ بها، ولذلك يُقال: ما بالَيْتُ بالةً، والأصل. . . . . . فحذف لامه تخفيفاً.

52

قوله: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} في خبر هذا المبتدأ أوجهٌ، أحدها: أنه «عند ربي» وعلى هذا فقولُه «في كتاب» متعلقٌ بما تعلق به الظرفُ من الاستقرار، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضمير المستتر في الظرف، أو خبرٌ ثان. الثاني: أنَّ الخبرَ قولُه «في كتاب» فعلى هذا قولُه «عند ربي» معمولٌ للاستقرار الذي تعلَّق به «في كتاب» كا تقدَّم في عكسه، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً. وفيه خلاف أعني تقديمَ الحالِ على عاملها المعنوي. والأخفش يجيزه ويستدلُّ بقراءة {والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وقوله: 3294 - رَهْطُ ابنِ كوزٍ مُحقِبيْ أَدْراعِهمْ ... فيهم ورَهْطُ رَبيعةَ بنِ حُذارِ وقال بعَضُ النحويين: إنه إذا كان العاملُ معنوياً، والحالُ ظرفٌ أو عديلُه، حَسُن التقديمُ عند الأخفشِ وغيرِه، وهذا منه. أو يكونُ ظرفاً للعلم نفسه، أو يكونُ حالاً من المضاف إليه وهو الضمير في «عليها» . ولا يجوزُ أن يكونَ «في كتاب» متعلِّقاً ب «عِلْمها» على قولِنا إنَّ «عند ربي» الخبر كما جاز

تعلُّقُ «عند» به لئلا يلزمَ الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي، وقد تقدم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمامِ صلته. الثالث: أن يكونَ الظرفُ وحرفُ الجرِّ معاً خبراً واحداً في المعنى، فيكونَ بمنزلةِ «هذا حُلْوٌ حامِض» قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ إذ كلُّ منها يستقلُّ بفائدةِ الخبريةِ، بخلاف «هذا حلو حامِضٌ» . والضمير في «عِلْمُها» فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على القرون. والثاني: عَوْدُه على القيامةِ للدلالةِ ذِكْرِ القرون على ذلك؛ لأنه سأله عن بَعْثِ الأممِ، والبعثُ يدلُّ على القيامة. قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي} في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ جرٍّ صفةً ل «كتاب» ، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: في كتاب لا يَضِلُّه ربي، أو لا يَضِلُّ حِفْظَه ربي، ف «ربي» فاعل «يَضِلُّ» على هذا التقدير، وقيل: تقديرُه: الكتابَ ربي. فيكون في «يَضِلُّ» ضميرٌ يعود على «كتاب» ، وربي منصوبٌ على التعظيمِ. وكان الأصلُ: عن ربي، فحُذِفَ الحرفُ اتِّساعاً، يُقال: ضَلَلْتُ كذا وضَلَلْتُه بفتح اللام وكسرها، لغتان مشهورتان وشُهراهما الفتحُ. الثاني: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب ساقها تبارك وتعالى لمجرد الإِخبارِ بذلك حكايةً عن موسى. وقرأ الحسنُ وقتادة والجحدريُّ وعيسى الثقفي وابن محيصن

وحَمَّاد بن سلمة «لا يُضِلُّ» بضم الياء أي: لا يُضِلُّ ربي الكتابَ أي: لا يُضَيِّعه يقال: أَضْلَلْتُ الشيءَ أي: أضعتُه. ف «ربي» فاعلٌ على هذا التقدير. وقيل: تقديرُه: لا يُضِلُّ أحدٌ ربي عن علمه أي: عن علم الكتاب، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم. وفرَّق بعضُهم بين ضَلَلْتُ وأَضْلَلْت فقال: «ضَلَلْتُ منزلي» ، بغيرِ ألفٍ، و «أَضْلَلْت بعيري» ونحوَه من الحيوان بالألفِ. نقل ذلك الرمانيُّ عن العرب، وقال الفراء: «يقال: ضَلَلْتُ الشيءَ إذا أَخطأْتَ في مكانه وضَلِلْتُ لغتان، فلم تهتدِ له، كقولك: ضَلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ولا يُقال: أَضْلَلْتُه إلاَّ إذا ضاع منك كالدَّابة انفلَتَتْ، وشبهِها. قوله: {وَلاَ ينسى} في فاعل» ينسى «قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على» ربي «أي: ولا ينسى ربي ما أَثْبَتَه في الكتاب. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الكتاب على سبيل المجاز، كما أُسند إليه الإِحصاءُ مجازاً في قوله {إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] لمَّا كان مَحَلاًّ للإِحصاء.

53

قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ} : في هذا الموصولِ وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو منصوبٌ بإضمار «أمدح» ، وهو على هذين التقديرين مِنْ كلامِ الله تعالى لا مِنْ كلامِ موسى، وإنما احْتجنا إلى ذلك لأنَّ قولَه {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ، وقوله: {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} وقولَه {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} إلى قوله {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} لا يَتَأتَّى أن يكونَ مِنْ كلام موسى؛ فلذلك جَعَلْناه من كلامِ الباري تعالى. ويكون فيه التفاتٌ من ضمير الغَيْبةِ إلى ضمير المتكلِّم المعظمِ نفسَه، فإن قلتَ: أجعلهُ مِنْ كلامِ موسى، يعني أنه وَصَفَ ربَّه تعالى بذلك ثم

التفتَ إلى الإِخبار عن الله بلفظِ المتكلِّمِ. قيل: إنما جَعَلناه التفاتاً في الوجهِ الأول؛ لأنَّ المتكلمَ واحدٌ بخلاف هذا، فإنه لا يتأتى فيه الالتفاتُ المذكورُ وأخواتُه من كلام الله. والثاني: أنَّ «الذي» صفةٌ ل «ربي» فيكونُ في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من إعراب «ربي» . وفيه ما تقدَّم من الإِشكال في نظمِ الكلام مِنْ قوله «فأَخْرَجْنا» وأخواتِه من عدم جوازٍ الالتفاتِ، وإن كان قد قال بذلك الزمخشري والحوفي. وقال ابن عطية: «إن كلامَ موسى تَمَّ عند قوله {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وإنَّ قولَه» فأخرَجْنا «إلى آخره مِنْ كلام الله تعالى» وفيه بُعْدٌ. وقرأ الكوفيون «مَهْداً» بفتح الميم وسكونِ الهاء من غير ألفٍ. والباقون «مِهاداً» بكسرِ الميم وفتح الهاء وألفٍ بعدها. وفيه وجهان: أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحد يقال: مَهَدْتُه مَهْداً ومِهاداً، والثاني: أنهما مختلفان، فالمِهادُ هو الاسمُ والمَهْد هو الفعل، أو أنَّ مِهاداً جمعُ مَهْد نحو: فَرْخ وفِراخ وكَعْب وكِعاب. ووَصْفُ الأرضِ بالمَهْدِ: إمَّا مبالغةً، وإمَّا على حذف مضاف أي: ذات مَهْدٍ. قوله {شتى} : «شَتَّى» فَعْلَى. وألفُه للتأنيث، وهو جمعٌ لشَتِيْت نحو: مَرْضى في جمع مريض، وجرحى في جمع جريح، وقتلى في جمع قتيل. يقال: شَتَّ

الأمر يَشِتُّ شَتَّاً وشَتاتاً فهو شَتٌّ أي تفرَّق. وشَتَّان اسمُ فعلٍ ماضٍ بمعنى افترق، ولذلك لا يُكتفى بواحد. وفي «شَتَّى» أوجهٌ، أحدُها: أنَّها منصوبةٌ نعتاً ل «أَزْواجاً» أي: أزواجاً متفرقةً بمعنى: مختلفة الألوانِ والطُّعوم. والثاني: أنها منصوبةٌ على الحال مِنْ «أزواجاً» وجاز مجيءُ الحالِ من النكرة لتخصُّصِها بالصفةِ وهي «مِنْ نبات» . الثالث: أَنْ تنتصِبَ على الحال أيضاً مِنْ فاعل الجارِّ؛ لأنه لَمَّا وقع وصفاً رفع ضميراً فاعِلاً. الرابع: أنَّه في محلِّ جر نعتاً ل «نبات» ، قال الزمخشري: «يجوز أن يكونَ صفةً لنبات، ونبات مصدرٌ سُمِّيَ به النابت كما سُمِّي بالنَّبْت، فاستوى فيه الواحدُ والجمع، يعني أنها شَتَّى مخلتفةُ النفعِ والطعمِ واللونِ والرائحةِ والشكلِ، بعضُها يَصْلُح للناس، وبعضُها للبهائم» ووافقه أبو البقاء أيضاً. ولكنَ الظاهرَ الأولُ.

54

قوله: {كُلُواْ} : منصوبٌ بقولٍ محذوف، وذلك القولُ منصوبٌ على الحال مِنْ فاعل «أَخْرَجْنا» تقديره: فأخرَجْنا كذا قائلين: كُلوا. وتَرَكَ مفعولَ الأكل على حَدِّ تَرْكِه في قولِه تعالى: {كُلُواْ واشربوا} [البقرة: 60] . «وارْعَوْا» رعى يكون لازماً ومتعدِّياً يقال: رعى دابَّته/ رَعْياً فهو راعِيها. ورَعَتِ الدابَّةُ ترعى رَعْياً فيه راعيةٌ، وجاء في الآيةِ متعدِّياً. والنهى فيه قولان، أحدهما: أنه جَمْعُ نُهْيَة كغُرَف جمع غُرْفَة. والثاني: أنها اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ كالهدى والسرى. قاله أبو عليّ. وكنت قد قدَّمْتُ أولَ

هذا الموضوع أنهم قالوا: لم يأتِ مصدرٌ على فُعَل من المعتل اللام إلاَّ سرى وهدى وبكى، وأنَّ بعضهم زادَ «لقى» وأنشدْتُ عليه بيتاً ثَمَّة، وهذا لفظٌ آخرُ فيكون خامساً. والنهى: العَقْلُ. قالوا: سُمِّي بذلك لأنه يَنْهى صاحبَه عن ارتكابِ القبائح.

56

قوله: {أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا} : هي مِنْ «رأى» البصَريةِ فَلَمَّا دخلَتْ همزةُ النقل تَعَدتْ بها إلى اثنين أولُهما الهاء، والثاني «آياتِنا» ، والمعنى: أَبْصَرْناه. والإِضافةُ هنا قائمةٌ مقامَ التعريفِ العَهْدي أي: الآياتِ المعروفةَ كالعصا واليد ونحوهما، وإلاَّ فلم يُرِ اللهُ تعالى فرعونَ جميعَ ِآياتِه. وجَوَّز الزمخشري أن يُرادَ بها الآياتُ على العموم بمعنى: أنَّ موسى عليه السلام أراه الآياتِ التي بُعِث بها وعَدَّد عليه الآياتِ التي جاءَتْ بها الرسلُ قبله عليهم السلام، وهو نبيٌّ صادقٌ، لا فرقَ بين ما يُخْبِرُ عنه وبين ما يُشاهَدُ به «. قال الشيخ:» وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ الإِخبارَ بالشيءِ لا يُسَمَّى رؤيةً له إلاَّ بمجازٍ بعيد. وقيل: بل الرؤيةُ هنا رؤيةٌ قلبيةٌ، فالمعنى: أَعْلَمْناه «وأيَّد ذلك: بأنه لم يكن أراه إلاَّ اليدَ والعصا فقط. ومَنْ جَوَّز استعمالَ اللفظِ في حقيقتِه ومجازِه أو إعمالَ المشتركِ في معنَيَيْه يجيزُ يُرادَ المعنيان جميعاً. وتأكيدُه

للآيات ب» كلَّها «يدلُّ على إرادةِ العمومِ لأنَّهم قالوا: فائدةٌ التوكيدِ ب» كل «وأخواتِها رَفْعُ تَوَهُّمِ وَضْعِ الأخَصِّ مَوْضعَ الأعمِّ، فلا يُدَّعَى أنه أراد بالآياتِ آياتٍ مخصوصةً، وهذا يتمشى على أن الرؤيةَ قلبيةٌ، ويُراد بالآيات ما يَدُلُّ على وَحْدانيةِ الله وصِدْقِ المبلِّغ. ولم يذكر معفولَ التكذيب والإِباءِ تعظيماً له، وهو معلومٌ.

58

قوله: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ} : جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: واللهِ لَنَأْتِيَنَّك. وقوله: «بسِحْرٍ» يجوز أن يتعلَّقَ بالإِتيان، وهذا هو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ الإِتيان أي: ملتبسين بسِحْرٍ. قوله: {مَوْعِداً} يجوز أن يكونَ زماناً. ويُرَجِّحه قولُه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} والمعنى: عَيَّن لنا وقتَ اجتماع؛ ولذلك أجابهم بقوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} . وضَعَّفوا هذا: بأنه يَنْبُوا عنه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ} ، وبقوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ} . وأجاب عن قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ} بأنَّ المعنى: لا نُخْلِفُ الوقتَ في الاجتماع. ويجوز أن يكون مكاناً. والمعنى: بَيِّنْ لنا مكاناً معلوماً نعرفه نحن وأنت. . . ويُؤَيَّدُ بقوله: {مَكَاناً سُوًى} قال: فهذا يَدُلُّ على أنه مكانٌ، وهذا يَنْبُوْ عه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} . ويجوز أَنْ يكونَ مصدراً، ويؤيِّد هذا قولُه: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ}

لأنَّ المواعدَة تُوْصَفُ بالخُلْفِ وعدمِه. وإلى هذا نحا جماعةٌ مختارين له. ورُدَّ عليهم بقولِه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} فإنه لا يطابقه. وقال الزمخشري: «إنْ جَعَلْتَه زماناً نظراً في أن قولَه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} مطابقٌ له لَزِمك شيئان: أن تجعلَ الزمان مُخْلَفاً، وأن يَعْضُلَ عليك ناصبٌ» مكاناً «، وإن جَعَلْتَه مكاناً لقوله: {مَكَاناً سُوى} لَزِمك أيضاً أَنْ تُوْقِعَ الإِخلاف على المكان، وأن لا يطابِقَ قولَه موعدُكم يومُ الزينة، وقرءةُ الحسن غيرُ مطابقةٍ له زماناً ومكاناً جميعاً لأنَّه قرأ» يومَ الزينة «بالنصب، فبقي أن يُجْعل مصدراً بمعنى الوَعْدِ، ويقدَّرَ مضافٌ محذوفٌ أي: مكان الوعد، ويُجْعلَ ضميرُ في» نُخلِفُه «للموعِد، و» مكاناً «، بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: فكيف طابقه قولُه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} ، ولا بُدَّ من أن تجعلَه زماناً، والسؤالُ واقعٌ عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابقٌ معنىً، وإن لم يطابقْه لفظاً؛ لأنهم لا بُدَّ لهم أن يجتمعوا يومَ الزينة في مكانٍ بعينه مُشْتَهِرٍ باجتماعِهم فيه في ذلك الزمان. فبذِكْر الزمانِ عُلِمَ المكانُ. وأما قراءةُ الحسنِ فالموعدُ فيها مصدرٌ لا غيرَ. والمعنى: إنجازُ وعدِكم يومَ الزينة، وطابقَ هذا أيضاً من طريق المعنى. ويجوز أن لا يُقَدَّرَ مضافٌ محذوف، ويكون المعنى: اجعل بيننا وبينك وعداً لا نُخْلفه» . وقال أبو البقاء: «هو هنا مصدر لقوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} .

والجَعْل هنا بمعنى التصيير. ومَوْعِداً مفعولٌ أولُ والظرفُ هو الثاني. والجملةُ مِنْ قوله:» لا نُخْلِفُه «صفةٌ لموعداً. و» نحن «توكيدٌ مُصَحِّحٌ للعطفِ على الضميرِ المرفوعِ المستترِ في» نُخْلفه «و» مكاناً «بدلٌ من المكان المحذوف كما قرره الزمخشري. وجَوَّز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصِبَ» مكاناً «على المفعول الثاني ل» اجعَلْ «قال:» ومَوْعداً على هذا مكانٌ أيضاً، ولا ينتصِبُ ب مَوْعد لأنه/ مصدرٌ قد وُصِف «يعني أنه يَصِحُّ نصبُه مفعولاً ثانياً، ولكنْ بشرطِ أن يكونَ المَوْعِدُ بمعنى المكان؛ ليتطابقَ المبتدأُ أو الخبرُ في الأصل. وقوله: «ولا ينتصِبُ بالمصدر» يعني أنه لا يجوزُ أن يُدَّعَى انتصابُ «مكاناً» ب مَوْعد. والمرادُ بالموعد المصدرُ وإنْ كان جائزاً مِنْ جهة المعنى؛ لأنَّ الصناعةَ تَأباه وهو وصفُ المصدرِ، والمصدرُ شرطُ إعمالِه عَدَمُ وصفِه قبل العملِ عند الجمهور. وهذا الذي منعه الفارسيُّ وأبو البقاء، جَوَّزه الزمخشريُّ وبدأ به فقال: «فإن قلتَ: فبمَ ينتَصِبُ مكاناً؟ قلت: بالمصدرِ، أو بما يَدُلُّ عليه المصدر. فإنْ قلت: كيف يطابقُه الجوابُ؟ قلت: أمَّا على قراءةِ الحسن فظاهرٌ، وأمَّا على قراءةِ العامَّةِ فعلى تقدير: وَعْدُكم وَعْدُ يومِ الزينة» . قال الشيخ: «وقوله: إنَّ مكاناً ينتصب بالمصدر ليس بجائزٍ؛ لأنه قد وُصِف قبل العملِ بقوله:» لا نُخْلِفُه «وهو موصولٌ، والمصدر إذا وُصِفَ قبل

العملِ لم يَجُزْ أَنْ يعملَ عندهم» . قلت: الظروفَ والمجروراتُ يُتَّسعُ فيها ما لم يُتَّسَعْ في غيرِها. وفي المسألة خلافٌ مشهورٌ وأبو القاسم نحا إلى جواز ذلك. وجعل الحوفيُّ انتصابَ «مكاناً» على الظرف، وانتصابَه ب «اجعل» . فتحصَّل في نصبِ «مكاناً» خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنه بدلٌ مِنْ «مكاناً» المحذوفِ. الثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ للجَعْل. الثالث: أنه نُصِب بإضمار فعل. الرابع: أنه منصوبٌ بنفس المصدر. الخامس: أنه منصوبٌ على الظرف بنفس «اجْعَلْ» . وقرأ أبو جعفرٍ وشيبةُ «لا نُخْلِفْه» بالجزم على جوابِ الأمر، والعامَّةُ بالرفع على الصفةِ لِمَوْعِد، كما تقدَّم. وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والحسن «سُوَىً» بضم السينِ منوناً وصلاً. والباقون بكسرِها. فالكسرُ والضمُّ على أنها صفةٌ بمعنى مكانٍ عَدْلٍ، إلا أنَّ الصفةَ على فُعَلٍ كثيرةٌ نحو: لُبَد وحُطَم، وقليلةٌ على فِعَل. وحكى سيبويه «لحم زِيَم» ولم يُنَوَّن الحسنُ «سوى» أجرى الوصلَ مُجْرى الوقف. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ مَنَعَ صَرْفَه للعَدْل على فُعَلٍ كعُمَر لأن ذلك في الأعلام. وأمَّا فُعَل في الصفاتِ فمصروفَةٌ نحو: حُطَم ولُبَد.

وقرأ عيسى بن عمر «سِوى» بالكسر من غيرِ تنوين. وهي كقراءة الحسنِ في التأويل. وسوى معناه «عَدْلاً ونَصَفَة» . قال الفارسي: «كأنه قال: قُرْبُه منكم قُرْبُه مِنَّا» . قال الأخفش: «سوى» مقصورٌ إنْ كَسَرْتَ سينَه أو ضَمَمْتَ، وممدودٌ إنْ فَتَحْتَها، ثلاثُ لغات، ويكون فيها جميعها بمعنى غير، وبمعنى عَدْل ووسط بين الفريقين. قال الشاعر: 3295 - وإنَّ أبانا كان حَلَّ ببلدةٍ ... سِوَىً بين قَيْسٍ قيسِ عَيْلانَ والفِزْرِ قال: «وتقول: مررتُ برجلٍ سِواك وسُواك وسَوائِك أي: غيرِك ويكون للجميع» وأعلى هذه اللغاتِ الكسرُ، قاله النحاس. وزعم بعضُ أهلِ اللغة والتفسير أنَّ معنى مكاناً سوى: مستوٍ من الأرض، لا وَعْرَ فيه ولا حُزُوْنَة.

59

قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} : العامَّةُ على رفع «يومُ الزينة» خبراً ل «موعدُكم» . فإنْ جَعَلْتَ «موعدكم» زماناً لم تَحتجْ إلى

حَذْفِ مضاف؛ إذ التقديرُ: زمانُ الوعدِ يومُ الزينة، وإن جعلتَه مصدراً احتجْتَ إلى حَذْفِ مضافِ تقديرُه: وَعْدُكم وَعْدُ يومِ الزينة. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى وعاصم في بعض طُرُقِه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة «يومَ» بالنصب. وفيه أوجهُ، أحدها: أن يكونَ خبراً ل «موعدكم» على أنَّ المرادَ بالموعد المصدرُ أي: وعْدُكم كائن في يوم الزينة كقولِك: القتالُ يومَ كذا والسفر غداً. الثاني: أن يكونَ «موعدُكم» مبتدأً، والمرادُ به الزمان، و «ضُحَى» خبرُه على نيةِ التعريفِ فيه؛ لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه، قاله الزمخشري، ولم يُبَيِّنْ ما الناصبُ ل «يومَ الزينة» ؟ ولا يجوز أن يكونَ منصوباً، ب «موعدُكم» على هذا التقديرِ؛ لأنَّ مَفْعِلاً مراداً به الزمانُ أو المكانُ لا يعملُ وإنْ كان مشتقاً، فيكونُ الناصبُ له فعلاً مقدَّراً. وواخذه الشيخ في قوله «على نيةِ التعريف» قال: «لأنَّه وإن كان ضُحى ذلك اليومِ بعينه فليس على نية التعريفِ، بل هو نكرةٌ، وإن كان من يومٍ بعينه؛ لأنه ليس معدولاً عن الألفِ واللام كسَحَر ولا هو معرَّفٌ بالإِضافةِ ولو قلت:» جئت يوم الجمعة بَكَراً «لم نَدَّعِ أن بَكَراً معرفةٌ وإن كنت تعلمُ أنه من يومٍ بعينه» . الثالث: أن يكونَ «موعدُكم» مبتدأً، والمرادُ به المصدرُ و «يومَ الزينةِ» ظرفٌ له. «وضحى» منصوبٌ على الظرفِ خبراً للموعد، كما أخبر عنه في الوجهِ الأول بيوم الزينة نحو: القتالُ يومَ كذا «.

قوله: {وَأَن يُحْشَرَ} في محلِّه وجهان، أحدُهما: الجرُّ نَسَقاً على الزينة أي: موعدُكم يومُ الزينة ويومُ أن يُحْشر. أي: ويومُ حَشْرِ الناس. والثاني: الرفعُ: نَسَقاً على» يومُ «التقديرُ: موعدُكم يومُ كذا، وموعدكم أَنْ يُحْشَرَ الناسُ أي: حَشْرُهم. وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو نهيك وعمرو بن فائد» وأن تَحْشُرَ الناسَ «بتاء الخطاب في» تَحْشُرَ «، ورُوي/ عنهم» يَحْشُرَ «بياء الغَيْبة. و» الناسَ «نصبٌ في كلتا القراءتين على المفعوليَّة. والضميرُ في القراءتين لفرعونَ أي: وأَنْ تَحْشُرَ أنت يا فرعونُ، أو وأن يَحْشُرَ فرعونُ. وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميرَ اليوم في قراءة الغَيْبة؛ وذلك مجازٌ لمَّا كان الحشرُ واقعاً فيه نُسِبَ إليه نحو: نهارُه صائمٌ وليلُه قائمٌ. و» ضُحَىً «نصبٌ على الظرف، العاملُ فيه» يُحْشَر «وتُذَكَّر وتؤنَّث. والضَّحاء بالمد وفتح الضاد فوق الضحى؛ لأن الضُّحى ارتفاعُ النهارِ، والضَّحاء بعد ذلك، وهو مذكَّرٌ لا غير.

60

قوله: {كَيْدَهُ} : فيه حَذْفُ مضافٍ أي: ذوي كيدِه.

61

قوله: {فَيُسْحِتَكُم} : قرأ الأخَوان وحفص عن عصام «فيُسْحِتَكم» بضم الياء وكسر الحاء. والباقون بفتحهما. فقراءة الأخوين مِنْ أسْحَتَ رباعياً وهي لغةُ نجدٍ وتميم. قال الفرزدق التميمي:

3296 - وعَضُّ زمانٍ يا بنَ مروانَ لم يَدَعْ ... من المالِ إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ وقراءةُ الباقين مِنْ سَحَتَه ثلاثياً وهي لغةُ الحجاز. وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الاستقصاءِ والنَّفاد. ومنه سَحَتَ الحالقُ الشَّعْرَ أي: استقصاه فلم يتركْ منه شيئاً، ويستعملُ في الإِهلاك والإِذهاب. ونصبُه بإضمار «أَنْ» في جواب النهي. ولَمَّا أنشد الزمخشريُّ قولَ الفرزدق «إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجْلَّفُ» قال بعد ذلك: «في بيتٍ لم تَزَلِ الرُّكَبُ تَصْطَكُّ في تسويةِ إعرابه» . قلت: يعني أن هذا البيتَ صعبُ الإِعرابِ، وإذ قد ذَكَر فَلأَذْكُرْ ما ورد في هذا البيتِ من الروايات، وما قال الناس في ذلك على حسبِ ما يليق بهذا الموضوعِ، فأقولُ وبالله الحَوْلُ: رُوي هذا البيتُ بثلاثِ روايات، كل واحدة لا تَخْلو من ضرورةٍ: الأُولى «لم يَدَعْ» بفتح الياءِ والدال ونصب «مُسْحَت» . وفي هذه خمسةُ أوجه: الأول: أنَّ معنى لم يَدَعْ من المال إلاَّ مُسْحتاً: لم يَبْقَ إلاَّ مُسْحَت، فلما كان هذا في قوة الفاعل عَطَفَ عليه قولَه: «أو مُجَلَّفُ» بالرفع. وبهذا البيتِ استشهد الزمخشريُّ على قراءة أُبَيّ والأعمش «فَشربوا منه إلاَّ قليلٌ» برفع «قليل» وقد تقدَّم ذلك. الثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه لم يَدَعْ، والتقدير: أو بقي مُجَلَّفٌ. الثالث: «أن» مُجَلَّفُ «مبتدأ، وخبرُه مضمرٌ تقديره: أو مُجَلَّف كذلك وهو تخريج الفراء. الرابع: أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر

في» مُسْحتاً «، وكان مِنْ حقِّ هذا أن يَفْصِل بينهما بتأكيدٍ أو فاصلٍ ما. إلاَّ أنَّ القائلَ بذلك لا يَشْترط وهو الكسائيُّ. وأيضاً فهو جائزٌ في الضرورة عند الكل. الخامس: أن يكونَ» مُجَلَّف «مصدراً بزنة اسم المفعول كقولِه تعالى: {كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] أي: تَجْليف وتمزيق، وعلى هذا فهو نَسَقٌ علت» عَضُّ زمانٍ «إذ التقدير: رَمَتْ بنا همومٌ المُنَى وعَضُّ زمانٍ أو تجليف، فهو فاعلٌ لعطفِه على الفاعل، وهو قولُ الفارسيِّ. وهو عندي أحسنُها. الروايةُ الثانية: فتحُ الياءِ وكسرُ الدال ورفعُ مُسْحت. وتخريجُها واضحٌ: وهو أن تكون مِنْ وَدَع في بيته يَدِع فهو وادع، بمعنى: بقي يبقى فهو باقٍ، فيرتفعُ مُسْحَتٌ بالفاعلية، ويُرْفَعُ» مُجَلَّفُ «بالعطفِ عليه. ولا بُدَّ حينئذٍ من ضميرٍ محذوفٍ وتقديرُه: مِنْ أجله أو بسببه. . . . الكلام. الرواية الثالثة:» يُدَعْ «بضمِّ الياء وفتح الدال على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، و» مُسْحَت «بالرفع لقيامِه مَقام الفاعلِ، و» مُجَلَّف «عطفٌ عليه. وكان مِنْ حَقِّ الواو أن لا تُحْذف، بل تَثْبُتُ لأنها لم تقع بين ياءٍ وكسرة، وإنما حُذِفَتْ حملاً للمبني للمفعول على المبني للفاعل. وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا تركتُه

اختصاراً وهذا لُبُّه. وقد ذكرته في البقرة وفَسَّرْت معناه ولغَته، ووَصَلْتُه بما قبله فعليك بالالتفاتِ إليه.

63

قوله: {إِنْ هذان} : اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة: فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه «إنْ هذانِّ» بتخفيف إنْ، والألفِ، وتشديدِ النون. وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ «هذانٍ» . وقرأ أبو عمرو «إنَّ» بالتشديد «هذين» بالياء وتخفيفِ النون. والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ «هذان» بالألف. فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا «إنْ» المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر. ف «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك. وأمَّا تشديدُ نونِ «هذان» فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك.

وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمعنى ما، واللامُ بمعنى إلاَّ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم «ما هذانِ إلاَّ ساحران» . وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى. أمَّا الإِعرابُ ف «هذَيْن» اسمُ «إنَّ» وعلامةُ نصبِه الياءُ. و «لَساحِران» خبرُها، ودخَلَتِ اللام توكيداً. وأمَّا مِنْ حيث المعنى: فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ. قال أبو إسحاق: «لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ» . وقال أبو عبيد: «رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان» هذن «ليس فيها ألفٌ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء، ولا يُسْقِطونها» . قلت: وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس. فإن قلتَ: ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ: فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم، ساقطةٌ من خَطِّ

المصحفِ. فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء. وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب. يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ. وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أن «إنَّ» بمعنى نَعَمْ، و «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، وكَثُرَ ورودُ «إنَّ» بمعنى نعم وأنشدوا: 3297 - بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ ... بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ أي: فقلت: نَعَمْ. والهاءُ للسَّكْتِ. وقال رجلٌ لابن الزبير: لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ. فقال: «إنَّ وصاحبَها» أي: نعم. ولَعَنَ صاحبَها. وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين. وهو مردودٌ من وجهين، أحدهما: عدمُ ثبوتِ «إنَّ» بمعنى نعم، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ: أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه: إنه كذلك. وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر «إنَّ»

للدلالةِ عليه، تقديره: إنَّها وصاحَبها ملعونان، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب «إنَّ» المكسورةِ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه: 3298 - أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ ... تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ وقد يُجاب عنه: بأنَّ «لَساحِران» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه: لهما ساحران. وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه. الثاني: أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو «ها» التي قبل «ذان» وليست ب «ها» التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ، والتقدير: إنَّ القصةَ ذانِ لساحران. وقد رَدُّوا هذا من وجهين، أحدهما: من جهةِ الخَطِّ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ «إنها» فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من «إنَّ» متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً، وهو واضح. الثاني: أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ. وقد يُجاب عنه بما تقدَّم. الثالث: أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ

بعدَه في محلِّ رفعٍ خبراً ل «إنَّ» ، التقديرُ: إنَّه، أي: الأمرُ والشأنُ. وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدهما: حَذْفُ اسمِ «إن» ، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ «إنَّ» فعلاً كقولِه: 3299 - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماً ... يَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ / والثاني: دخولُ اللام في الخبرِ. وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ، أعني جوابَه بذلك. الرابع: أنَّ «هذان» اسمُها، و «لَساحران» خبرُها. وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ «هذين» بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو. وقد أُجيب عن ذلك: بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم. وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي. قال أبو زيد: «سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفاً» ، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفاً في جميع أحواله، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ، وأنشدوا قولَه: 3300 - فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى ... مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما

أي: لنابَيْه. وقولَه: 3301 - إنَّ أباها وأبا أباها ... قد بَلَغا في المجدِ غايتاها أي: غايتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد. وقرأ ابن مسعود: «أنْ هذان ساحِران» بفتح «أَنْ» وإسقاط اللامِ: على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من «النجوى» كذا قاله الزمخشري، وتبعه الشيخ ولم ينكره. وفيه نظرٌ: لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ. وأيضاً فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ «أنْ هذان ساحران» بدلاً من «النجوى» ؟ . قوله: {بِطَرِيقَتِكُمُ} الباءُ في «بطريقتكم» مُعَدِّيَةٌ كالهمزة. والمعنى: بأهلِ طريقتكم. وقيل: الطريقةُ عبارةُ عن السَّادة فلا حَذْفَ.

64

قوله: {فَأَجْمِعُواْ} : قرأ أبو عمرو «فاجْمَعُوا» بوصل

الألِف وفتحِ الميمِ. والباقون بقطعِها مفتوحةً وكسرِ الميمِ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة يونس، وما قاله الناسُ في الفرقِ بين الثلاثي والرباعي. و «كيدَكم» مفعولٌ به. وقيل: هو على إسقاطِ الخافض أي: على كَيْدكم. وليس بشيءٍ. قوله: {صَفّاً} يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل «ائتُوا» أي: ائتُوا مُصْطَفِّين أي: ذوي صفٍّ فهو مصدرٌ في الأصل. وقيل: هو مفعولٌ به أي: ائتوا قوماً صَفاً، وفيه التسميةُ بالمصدر، أو هو على حذفِ المضاف أي: ذوي صف. قوله: {وَقَدْ أَفْلَحَ} قال الزمخشري: «اعتراضٌ يعني: وقد فاز مَنْ غلب» . قلت: يعني بالاعتراض أنه جِيء بهذه الجملة أجنبيةً بين كلامِهم ومقولهم، لأنَّ من جملة قولهم «قالوا يا موسى: إمَّا أَنْ تُلْقي» وهذه الجملةُ أعني قولَه وقد أفلَح مِنْ كلامِ الله تعالى فهي اعتراضٌ. بهذا الاعتبارِ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهرَ أنها مِنْ مقولاتِهم، قالوا ذلك تحريضاً لقومِهم على القتالِ، وحينئذٍ فلا اعتراضَ.

65

قوله: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ تقديرُه: اخْتَرْ أحدَ الأمرين، كذا قدَّره الزمخشري قال الشيخ: «وهذا تفسيرُ معنىً لا تفسيرُ إعرابٍ، وتفسيرُ الإِعرابِ:» إمَّا تختارُ الإِلقاءَ «. والثاني: أنَّه مرفوعٌ على خبرِ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: الأمرُ إمَّا إلقاؤُك

إو إلقاؤُنا، كذا قدَّره الزمخشريُّ. الثالث: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه: إلقاؤُك أولٌ. ويَدُلُّ عليه قولُه: وإمَّا أَنْ نكونَ أولَ مَنْ أَلْقى» . واختار هذا الشيخُ، وقال: «فَتَحْسُنُ المقابلةُ من حيث المعنى، وإنْ لم تَحْصُلْ مقابلةٌ من حيث التركيبُ اللفظيُّ» . ثم قال: «وفي تقديرِ الزمخشريِّ» الأمرُ إلقاؤُك «لا مقابلةَ فيه» وهذا تَقَدَّم نظيرُه في الأعراف.

66

قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ} : هذه الفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ دَلَّ عليها السياقُ. والتقدير: فَأَلْقَوْا فإذا. و «إذا» هذه التي للمفاجَأة. وفيها ثلاثة أقوال تقدَّمت. أحدُها: أنها باقيةٌ على ظرفيةِ الزمان. الثاني: أنها ظرفُ مكانٍ. الثالث: أنها حرفٌ. قال الزمخشري: «والتحقيق فيها أنها الكائنةُ بمعنى الوقتِ الطالبةُ ناصباً لها، وجملةً تُضاف إليها خُصَّتْ في بعضِ المواضع بأن يكونَ الناصبُ لها فعلاً مخصوصاً، وهو فِعْلُ المفاجأةِ، والجملةٌ ابتدائيةٌ لا غير. فتقديرُ قولِه تعالى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} : ففاجأ موسى وقتَ تخييلِ سَعْيِ حبالِهم وعِصيِّهم، [وهذا تمثيل. والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعصيُهم مُخَيِّلَةً إليه السَّعْيَ» انتهى] . قال الشيخ: «قوله» إنَّها زمانية «مرجوحٌ، وهو مذهب الرِّياشي. وقوله»

الطالبةُ ناصباً «صحيحٌ. وقوله:» وجملةٌ تضاف إليها «ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ هي خبراً لمبتدأ، وإمَّا أَنْ تكونَ معمولةً لخبر المبتدأ. وإذا كان كذلك استحال أَنْ تُضافَ إلى الجملةِ؛ لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ بعضَ الجملةِ، أو معمولةً لبعضِها فلا يمكن الإِضافةُ. وقوله:» خُصَّتْ في بعض المواضع إلى آخره «قد بَيَّنَّا الناصبَ لها. وقولُه:» والجملةُ بعدها ابتدائيةٌ لا غير «هذا الحَصْرُ ليس بصحيحٍ بل قد جَوَّز الأخفشُ، ونصَّ على أن الجملةَ الفعليةَ المقترنةَ ب» قد «تقع بعدَها نحو» خرجْتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمروٌ «برفعِ» زيد «ونصبِه على الاشتغال. وقوله:» والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعِصِيُّهم مخيِّلةً إليه السَّعْيَ «فهذا عكسُ ما قُدِّر بل المعنى: على مفاجأةِ حبالِهم وعصيِّهم إياه. فإذا قتل:» خَرَجْتُ فِإذا السَّبُعُ «فالمعنى: أنه فاجأني السَّبُعُ وهجم ظهورُه» انتهى ما رَدَّ به. قوله وما رَدَّ به عليه غيرُ لازمٍ له، لأنه يَرُدُّ عليه بقولِ بعض النحاةِ، وهو لا يلتزم ذلك القولَ حتى يَرُدَّ عليه لا سيما إذا كان المشهورُ غيرَه، ومقصودُه تفسيرُ المعنى. وقال أبو البقاء: الفاءُ جوابُ ما حُذِف، تقديرُه «فَأَلْقَوْا فإذا» ، ف «إذا» في هذا ظرفُ مكانٍ، العاملُ فيه «أَلْقَوْ» . وفي هذا نظر؛ لأنَّ «أَلْقَوْا» هذا المقدَّرَ لا يَطْلُبُ جواباً حتى يقول: الفاءُ جوابُه، بل كان ينبغي أَنْ يقولَ: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ الفجائية على جملةٍ أخرى مقدرةٍ. وقولُه «ظرف مكانٍ» ، هذا مذهبُ المبردِ، وظاهرُ قولِ سيبويه أيضاً، وإن كان المشهورَ بقاؤها على

الزمان. وقوله: «إن العامل فيها» فأَلْقَوا «لا يجوز لأنَّ الفاءَ تمنع من ذلك. هذا كلامُ الشيخ ثم قال بعده:» ولأنَّ «إذا» هذه إنما هي معمولةٌ لخبرِ المبتدأ الذي هو «حبالُهم وعِصٍيُّهم» إن لم يجَعلْها هي في موضع الخبر؛ لأنه يجوزُ أن/ يكونَ الخبرُ «يُخَيَّل» ، ويجوز أَنْ تكونَ «إذا» و «يُخَيَّل» في موضعِ الحال. وهذا نظير: «خرجْتُ فإذا الأسدُ رابضٌ ورابضاً» فإذا رَفَعْتَ «رابضاً» كانت «إذا» معمولةً له، والتقدير: فالبحضرة الأسدُ رابضٌ، أو في المكان. وإذا نَصَبْتَ كانت «إذا» خبراً. ولذلك يُكْتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً، نحو: «خَرَجْتُ فإذا الأسدُ» . قوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} قرأ العامَّة «يُخَيَّل» بضمِّ الياء الأولى وفتحِ الثانية مبنياً للمفعول. و «أنَّها تَسْعى» مرفوعٌ بالفعلِ قبلَه لقيامِه مقامَ الفاعلِ تقديرُه: يُخَيَّل إليه سَعْيُها. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين: أحدهما: أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرَ الحبالِ والعِصِيِّ، وإنما ذُكِّرَ ولم يَقُلْ ِ «تُخَيَّل» بالتاء مِنْ فوقُ؛ لأنَّ تأنيثَ الحبالِ غيرُ حقيقي. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المُلْقى، ولذلك ذُكِّرَ. وعلى الوجهين ففي قولِه «أنها تسعى» وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلُ اشتمالٍ من ذلك الضمير المستترِ في «يُخَيَّل» . والثاني: أنه مصدرٌ في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستتر أيضاً. والمعنى: يُخَيَّل إليه هي أنها ذاتُ سَعْيٍ. ولا حاجةَ إلى هذا، وأيضاً فقد نَصُّوا على أنَّ المصدرَ المؤول لا يقع موقعَ الحالِ. لو قلت: «جاء زيدٌ أَنْ يركضَ» تريد ركضاً، بمعنى ذا ركض، لم يَجُزْ. وقرأ ابن ذكوان «تُخَيَّلُ» بالتاء من فوق. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ

الفعلَ مُسْنَدٌ لضميرِ الحبالِ والعِصِيِّ أي: تُخَيَّلُ الحبالُ والعِصِيُّ، و «أنَّها تَسْعَى» بدلُ اشتمال من ذلك الضميرِ. الثاني: كذلك إلاَّ أنَّ «أنَّها تَسْعى» حالٌ أي: ذات سعي كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك. الثالث: أن الفعلَ مسندٌ لقولِه «أنَّها تَسْعى» كقراءةِ العامَّةِ في أحدِ الأوجهِ، وإنما أَنَّثَ الفعلَ لاكتسابِ المرفوعِ التأنيثَ بالإِضافة؛ إذا التقديرُ: تُخَيَّلُ إليه سعيُها فهو كقوله: 3302 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ [وقوله تعالى:] {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] . وقرأ أبو السَّمَّال «تَخَيَّلُ» بفتح التاءِ والياء مبنياً للفاعلِ، والأصلُ: تَتَخَيَّلُ فَحَذَفَ إحدى التاءَيْن نحو: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] ، و «أنَّها تسعى» بدلُ اشتمالٍ أيضاً من ذلك الضمير. وجَوَّز ابنُ عطيةَ أيضاً أنه مفعولٌ مِنْ أجله. ونقل ابنُ جُبارة الهُذَليُّ قراءة أبي السمَّال «تُخَيِّل» بضمِّ التاء مِنْ فوقُ وكسر الياء، فالفعلُ مسندٌ لضميرِ الحِبال، و «أنها تسعى» مفعولٌ أي: تُخَيِّلُ الحبالُ سَعْيَها. ونَسَبَ ابنُ عطيةَ هذه القراءةَ للحسنِ وعيسى الثقفيِّ. وقرأ أبو حيوةَ «نُخَيِّل» بنونِ العظمة، و «أنها تسعى» مفعولٌ به أيضاً على هذه القراءةِ.

وقرأ الحسنُ والثقفيُّ «عُصِيُّهم» بضم العين حيث وقع، وهو الأصلُ. وإنما كُسِرَت العينُ إتباعاً للصادِ وكُسِرت الصادُ إتباعاً للياء. والأصلُ عُصُوْوٌ بواوين فَأُعِلَّ كما ترى بقَلْب الواوين ياءَيْن استثقالاً لهما، فكُسِرَت الصادُ لتصِحَّ، وكُسِرَتِ العينُ إتباعاً. ونقل صاحبُ «اللوامح» أنَّ قراءةَ الحسنِ «عُصْيهُم» بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع، وهو أيضاً جمع كالعامَّة، إلاَّ أنه على فُعْلٍ كحُمْرٍ، والأولُ على فُعُوْل كفُلُوس. والجملةُ من «يُخَيَّل» يُحتمل أَنْ تكونَ في محلِّ رفع خبراً ل «هي» على أن «إذا الفجائية» فَضْلَةٌ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، على أنَّ «إذا» الفجائية هي الخبر. والضميرُ في «إليه» الظاهرُ عَوْدُه على موسى. وقيل: يعود على فرعون، ويَدُلُّ للأولِ قولُه تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} .

69

قوله: {تَلْقَفْ} : قرأ العَامَّةُ بفتح اللام وتشديد القافِ وجزمِ الفاءِ على جواب الأمر. وقد تقدم أنَّ حَفْصاً يقرأ «تَلْقَفْ» بسكون اللامِ وتخفيفِ القاف. وقرأ ابن ذكوان هنا «تَلْقَفُ» بالرفع: إمَّا على الحالِ،

وإمَّا على الاستئناف. وأَنَّثَ الفعلَ في «تَلْقَف» حَمْلاً على معنى «ما» لأنَّ معناها العصا، ولو ذُكِّر ذهاباً إلى لفظِها لجاز، ولم يُقرأ به. [وقال أبو البقاء: «يجوز أَنْ يكونَ فاعلُ» تَلْقَف «ضميرَ موسى» فعلى هذا يجوز أَنْ يكونَ «تلقفُ» في قراءة الرفع حالاً من «موسى» . وفيه بُعْدٌ] . قوله: {كَيْدُ سَاحِرٍ} العامَّةُ على رَفْع «كَيْدُ» على أنه خبرُ «إنَّ» و «ما» موصولةٌ. و «صَنَعُوا» صلَتُها، والعائدُ محذوفٌ، والموصولُ هو الاسمُ، والتقدير: إنَّ الذي صنعوه كيدُ ساحرٍ. ويجوز أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً فلا حاجةَ إلى العائد، والإِعرابُ بحالِه. والتقدير: إنَّ صُنْعَهم كيدُ ساحرٍ. وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن على «كَيْدَ» بالنصب على أنه مفعولٌ به، و «ما» مزيدة مُهَيِّئَةٌ. وقرأ الأخَوان «كيدُ سِحْر» على أنَّ المعنى: كيدُ ذوي سِحْرٍ، أو جُعِلوا نفسَ السحر مبالغةً، أو تبيينٌ للكيد؛ لأنه يكون سِحْراً وغيرَ سحرٍ، كما تُمَيَّزُ سائرُ الأعدادِ بما يُفَسِّرها نحو «مئة درهمٍ، وألف دينار» . ومثلُه: علمُ فقه،

وعلمُ نحو. وقال أبو البقاء: «كيدُ ساحر» إضافةُ المصدر إلى الفاعلِ و «كيدُ سِحْر» إضافةُ الجنسِ إلى النوع «. والباقون» ساحر «. وأفرد/ ساحراً، وإنْ كان المرادُ به جماعةً. قال الزمخشري:» لأن القَصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العددِ، فلو جمِع لخُيِّل أنَّ المقصودَ هو العددُ «.

71

قوله: {فَلأُقَطِّعَنَّ} : قد تقدَّم نحوُ ذلك. و «مِنْ خِلافٍ» حالٌ أي: مختلفة. و «مِنْ» لابتداءِ الغاية، وقد تقدَّم أيضاً تحريرُ هذا وما قُرِىء به هناك. قوله: {فِي جُذُوعِ النخل} يُحتمل أن يكونَ حقيقةً، وفي التفسير: أنه نَقَرَ جذوعَ النخلِ حتى جَوَّفَها، ووضعهم فيها، فماتوا جوعاً وَعَطَشاً، وأن يكونَ مجازاً، وله وجهان، أحدهما: أنه وضعَ حرفاً مكانَ آخر. والأصلُ: على جذُوع النخل كقول الآخر: 3303 - بَطَلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ ... يحذى نِعالَ السَّبْتِ ليس بتوءَمِ والثاني: أنه شَبَّه تمكُّنَهم بتمكُّنِ مَنْ حواه الجِذْعُ واشتمل عليه. ومِنْ تَعَدِّي «صَلَب» ب «في» قولُه:

3304 - وقد صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فلا عَطَسَتْ شَيْبانُ إلاَّ بأَجْدَعا قوله: {أَيُّنَآ أَشَدُّ} مبتدأٌ وخبرٌ. وهذه الجملةٌ سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ إنْ كانت «عَلِمَ» على بابها، ومَسَدَّ واحدٍ إنْ كانَتْ عِرْفانيةً. ويجوز على جَعْلِها عِرفانيةً أن تكونَ «أيُّنا» موصولةً بمعنى الذي، وبُنِيَتْ لأنه قد أُضِيفَتْ، وحُذِفَ صدرُ صلتِها، و «أشَدُّ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ. والجملةُ من ذلك المبتدأ وهذا الخبرِ صلةٌ ل «أيّ» و «أيّ» وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً بها، كقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن} [مريم: 69] في أحدِ أوجهِه كما تقدم.

72

قوله: {والذي فَطَرَنَا} : فيه وجهان، أحدهما: أن الواوَ عاطفةٌ، عَطَفَتْ هذا الموصولَ على «ما جاءنا» أي: لن نؤثرَك على الذي جاءنا، ولا على الذي فطرنا. وإنما أخَّروا ذِكْرَ البارِيْ تعالى لأنه من باب الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى. والثاني: أنها واوُ قسمٍ، والموصولُ مقسمٌ به. وجوابُ القسمِ محذوفٌ أي: وحَقِّ الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق. ولا يجوز أن يكونَ الجوابُ «لن نُؤْثرك» عند مَنْ يَجَوِّزُ تقديمَ الجواب؛ لأنه لا يُجاب القسمُ ب «لن» إلاَّ في شذوذٍ من الكلام.

قوله: {مَآ أَنتَ قَاضٍ} يجوز في «ما» وجهان، أظهرُهما: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، و «أنت قاضٍ» صلتُها والعائدُ محذوفٌ، اي: قاضِيه. وجاز حَذْفُه، وإنْ كان مخفوضاً، لأنه منصوب المحل. أي: فاقضِ الذي أنت قاضِيْه. والثاني: أنها مصدريةٌ ظرفيةٌ، والتقدير: فاقضِ أمرك مدةَ ما أنتَ قاضٍ. ذكر ذلك أبو البقاء. وقد منع بعضُهم ذلك أعني جَعْلَها مصدريةً قال: لأنَّ: «ما» المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية. وهذا المَنْعُ ليس مجمعاً عليه، بل جَوَّز ذلك جماعةٌ كثيرة. ونقل ابنُ مالك أنَّ ذلك يَكْثُر إذا دَلَّتْ «ما» على الظرفية. وأنشد: 3305 - واصِلْ خليلَك ما التواصُلُ مُمْكِنٌ ... فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قليلٍ ذاهِبُ وَيِقلُّ إنْ كانت غيرَ ظرفية. وأنشد: 3306 - أحْلامُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شافيةٌ ... كما دِماؤُكُمُ تَشْفي مِن الكَلَبِ قوله: {إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة} يجوز في «ما» هذه وجهان، أحدهما: أن تكونَ المهيئةَ لدخول «إنَّ» على الفعل و «الحياةَ الدنيا» ظرفٌ ل «تَقضي» ، ومفعولُه محذوفٌ أي: تقضي غرضَك وأمرَك. ويجوز أن تكونَ «الحياةَ» مفعولاً

به على الاتساع، ويدلُّ لذلك قراءةُ أبي حيوة «تقضى هذه الحياةُ» ببناء الفعلِ للمفعول ورَفْعِ «الحياة» لقيامها مقام الفاعلِ؛ وذلك أنه اتُّسِع فيه فقام مقامَ الفاعلِ فرُفِعَ. والثاني: أن تكونَ «ما» مصدريةً هي اسمُ «إنَّ» ، والخبرُ الظرفُ. والتقدير: إنَّ قضاءَكَ في هذه الحياةِ الدنيا، يعني: إن لك الدنيا فقط، ولنا الآخرةَ. وقال أبو البقاء: «فإنْ كان قد قُرِيء بالرفع فهو خبرُ إنَّ» . يعني لو قرىء برفعِ «الحياة» لكان خبراً ل «إنَّ» ويكون اسمُها حينئذٍ «ما» ، وهي موصولةٌ بمعنى الذي، وعائدُها محذوفٌ تقديره: إنَّ تَقْضِيه هذه الحياةُ لا غيرُها.

73

قوله: {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا} : يجوز في «ما» هذه وجهان، أحدهما: أنها موصولةٌ بمعنى الذي. وفي محلها احتمالان، أحدهما: أنها منصوبةُ المحلِّ نَسَقاً على «خطايانا» اي: ليغفر لنا أيضاً الذي أكرهتنا. والثاني من الاحتمالين: أنها مرفوعةُ المحلِّ على الابتداء والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: والذي أكرَهْتَنا عليه مِنَ السحر محطوطٌ عنا، أو لا نؤاخَذُ به ونحوُه. والوجه الثاني: أنها نافيةٌ. قال أبو البقاء: «وفي الكلامِ تقديمٌ، تقديرُه: ليغفر لنا خطايانا من/ السِّحرِ، ولم تُكْرِهْنا عليه» وهذا بعيدٌ عن المعنى. والظاهرُ هو الأولُ. و «من السحرِ» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الهاءِ في «عليه» أو من الموصولِ. ويجوزُ أن تكونَ لبيانِ الجنسِ.

74

قوله: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ} : الهاءُ ضميرُ الشأنِ. والجملةُ الشرطيةُ خبرُها. و «مُجْرِماً» حالٌ مِنْ فاعلِ «يأْتِ» . وقولُه: {لاَ يَمُوتُ} يجوز أن يكونَ حالاً مِنَ الهاءِ في «له» وأَنْ يكونَ حالاً من «جهنَّم» ؛ لأنَّ في الجملة ضميرَ كلٍ منهما.

76

[قوله: {جَنَّاتُ} : بدلٌ من «الدرجات» أو بيانٌ] . قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: هي جناتُ؛ لأن» خالدين «حالٌ. وعلى هذا التقديرِ لا يكونُ في الكلام ما يعملُ في الثاني، وعلى الأولِ يكونُ العاملُ في الحال الاستقرارَ أو معنى الإِشارة» .

77

قوله: {طَرِيقاً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به؛ وذلك على سبيلِ المجاز: وهو أنَّ الطريقَ مُتَسَبِّبٌ عن ضَرْب البحرِ، إذ المعنى: اضربْ البحرَ لينغلقَ لهم فيصيرَ طريقاً، فبهذا صَحَّ نسبةُ الضربِ إلى الطريق. وقيل: «ضرب» هنا بمعنى جَعَلَ أي: اجعل لهم طريقاً وأَشْرِعْه فيه. والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ. قال أبو البقاء: «التقدير: موضعَ طريقٍ، فهو مفعولٌ به على الظاهر. ونظيرُه قولُه {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] وهو مثلُ» ضربْتُ زيداً «. وقيل:» ضرب «هنا بمعنى» جعل «و» شرع «

مثلَ قولهم: ضربْتُ له بسَهْم» انتهى. فقولُه على الظاهر يعني أنه لولا التأويلُ لكان ظرفاً. قوله: {يَبَساً} صفةٌ ل «طريقاً» وصَفَه به لِما يَؤُول إليه؛ لأنه لم يكنْ يَبَساً بعدُ، إنما مرَّت عليه الصَّبا فجفَّفَتْه، كما يروى في التفسيرِ. وهل في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به مبالغةً، أو على حذفِ مضافٍ أو جمع يابس كخادم وخَدَم، وُصِف به الواحدُ مبالغةً كقولِه: 3307 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . ومِعَىً جِياعاً أي: كجماعةٍ جِياع، وَصَفَ به لفَرْط جوعه؟ وقرأ الحسنُ «يَبْساً» بالسكونِ. وهو مصدرٌ أيضاً. وقيل: المفتوحُ اسمٌ، والساكنُ مصدرٌ. وقرأ أبو حيوة «يابساً» اسمُ فاعل. قوله: {لاَّ تَخَافُ} العامَّةُ على «لا تَخاف» مرفوعاً، وفيه أوجهٌ، أحدها: أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب. الثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل «اضرِبْ» أي: اضرب غيرَ خائفٍ. والثالث: أنه صفةٌ ل «طريقاً» ، والعائدُ محذوفٌ أي لا تخافُ فيه.

[وقرأ] حمزةُ وحدَه من السبعة «لا تَخَفْ» بالجزم على النهي. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ نَهْياً مستأنِفاً. الثاني: أنه نهيٌ أيضاً في محلِّ نصب على الحال من فاعل «اضرِبْ» أو صفةٌ لطريقاً، كما تقدَّم في قراءةِ العامَّةِ، إلاَّ أن ذلك يحتاج إلى إضمار قول أي: مقولاً لك، أو طريقاً مقولاً فيها: لا تخف. كقوله: 3308 - جاؤوا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطّ ... الثالث: مجزومٌ على جوابِ الأمر أي: إن تضربْ طريقاً يَبَساً لا تَخَفْ. قوله: {وَلاَ تخشى} لم يُقْرأ إلاَّ ثابتَ الألفِ. وكان مِنْ حَقِّ مَنْ قرأ «لا تَخَفْ» جزماً أن يَقْرأ «لا تَخْشَ» بحذفِها، كذا قال بعضُهم. وليس بشيءٍ لأنَّ القراءةَ سُنَّةٌ. وفيها أوجه أحدها: أن تكونَ حالاً. وفيه إشكالٌ: وهو أنَّ المضارعَ المنفيَّ ب «لا» كالمُثْبَتِ في عدمِ مباشرةِ الواو له. وتأويلُه على حذف مبتدأ أي: وأنت لا تخشى كقولِه: 3309 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالِكا والثاني: أنه مستأنفٌ. أخبره تعالى أنه لا يَحْصُل له خوفٌ. والثالث: أنه مجزومٌ بحذفِ الحركةِ تقديراً كقولِه: 3310 - إذا العَجوْزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ... ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ

وقولِ الآخر: 3311 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كَأَنْ لم تَرَى قبلي أسيراً يمانيا ومنه {فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] في أحد القولين، إجراءً لحرفِ العلة مُجْرى الحرفِ الصحيح. وقد تقدَّم لك من هذا جملةٌ صالحة في سورةِ يوسف عند {مَن يَتَّقِ} [الآية: 90] . والرابع: أنه مجزومٌ أيضاً بحذفِ حرفِ العلةِ. وهذه الألفُ ليسَتْ تلك، أعني لامَ الكلمة، إنما هي ألفُ إشباع أُتِيَ بها موافقةً للفواصلِ ورؤوسِ الآي، فهي كالألفِ في قولِه: {الرسولا} [الأحزاب: 66] و {السبيلا} [الأحزاب: 67] و {الظنونا} [الأحزاب: 10] وهذه الأوجهُ إنما يحتاجُ إليها في قراءةِ جزمِ «لا تَخَفْ» . وأمَّا من قرأه مرفوعاً فهذا معطوفٌ عليه. وقرأ أبو حيوة «دَرْكاً» بسكون الراء. والدَّرَك والدَّرْك [اسمان] من الإِدراك أي: لا يُدركك فرعونُ وجنوده. وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء، وإنَّ الكوفيين قرؤوه بالسكونِ كأبي حيوةَ هنا.

78

قوله: {بِجُنُودِهِ} : فيه أوجهٌ: أحدها: أن تكونَ الباءُ للحالِ: وذلك على أنَّ «أَتْبَعَ» متعدٍّ لاثنين حُذف ثانيهما. والتقدير: فَأَتْبَعهم

فرعونُ عقابهُ. وقدَّره الشيخ: «رُؤَساءه وحَشَمه» والأول أحسن. والثاني: أنَّ الباءَ زائدةٌ في المفعولِ الثاني. والتقدير: فَأَتْبَعهم فرعونُ جنودَه فهو كقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] [وقولِ الشاعر] : 3312 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْن بالسُّوَرِ وأتبع قد جاء متعدِّياً لاثنين مُصَرَّحٍ بهما قال: «وَأَتْبَعْنَاهُم. . . .» . والثالث: أنها مُعَدِّيَةٌ على أنَّ «أَتْبَعَ» قد يتعدَّى لواحدٍ بمعنى مع، ويجوزُ على هذا الوجه أن تكونَ الباءُ للحالِ أيضاً، بل هو الأظهرُ. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ والحسنُ «فاتَّبَعَهُمْ» بالتشديد، وكذلك قراءة الحسن في جميع القرآن/ إلاَّ في قولِه: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] . قوله: {مَا غَشِيَهُمْ} فاعلُ «غَشِيَهم» ، وهذا من باب الاختصار وجوامعِ الكَلِمِ التي يَقِلُّ لفظُها ويكثُر معناها أي: فغشِيَهم ما لا يَعْلم كُنْهَه إلاَّ اللهُ تعَالى. وقرأ الأعمش: «فَغَشَّاهم» مضعَّفاً. وفي الفاعل حينئذٍ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه «ما غَشَّاهم» كالقراءةِ قبله. أي: غَطَّاهم من اليَمِّ ما غَطَّاهم.

والثاني: هو ضميرُ الباري تعالى أي: فَغَشَّاهم اللهُ. والثالث: هو ضميرُ فرعونَ لأنه السببُ في إهْلاكهم. وعلى هذين الوجهين ف «ما غَشَّاهم» في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً.

80

قوله: {قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ} : قرأ الأخَوان «قد أَنْجَيْتُكم» و «واعَدْتُكم» و {رَزَقْتُكم} بتاءِ المتكلم. والباقون «أَنْجَيْناكم» و «رَزَقْناكم» و «واعَدْناكم» بنونِ العظمة. واتفقوا على «ونَزَّلْنا» . وتقدَّم خلافُ أبي عمرو في «وَعَدْنا» في البقرة. وقرأ حميد «نَجَّيْناكم» بالتشديد. وقُرِىء «الأَيْمَنِ» بالجرِّ. قال الزمخشري: «خَفْضٌ على الجِوارِ، كقولِهِم:» جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ «وجعله الشيخ شاذاً ضعيفاً. وخَرَّجه على أنه نعتٌ للطُّور قال:» وُصِفَ بذلك لما فيه من اليُمْن، أو لكونِه على يمين مَنْ يستقبلُ الجَبَلَ «. و» جانبَ «مفعولٌ ثانٍ على حَذْفِ مضاف أي: إتيانَ جانبِ. ولا يجوزُ أن يكونَ المفعولُ الثاني محذوفاً. و» جانب «ظرف للوعد. والتقدير: وواعَدْناكم التوراةَ في هذا المكانِ؛ لأنه ظرفُ مكانٍ مختصّ، لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسِه ولو قيل: إنه تُوُسِّعَ في هذا الظرفِ فجُعِل مفعولاً به أي: جُعل نفسَ الموعود نحو:» سِيْر عليه فرسخان وبريدان «لجاز.

81

قوله: {فَيَحِلُّ} : قرأ العامة «فيحِلُّ» بكسر الحاء، واللام من «يَحْلِلْ» . والكسائيُّ في آخرين بضمِّهما، وابن عتيبة وافق العامَّةَ في الحاء، والكسائيَّ في اللام. فقراءةُ العامَّةِ مِنْ حَلَّ عليه كذا أي: وَجَبَ، مِنْ حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ أي: وَجَبَ قضاؤُه. ومنه قولُه: {حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ومنه أيضاً {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [الزمر: 40] . وقراءةُ الكسائي مِنْ حَلَّ يَحُلُّ أي: نَزَل، ومنه {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} [الرعد: 31] . والمشهورُ أنَّ فاعلَ «يَحلُّ» في القراءتين هو «غضبي» . وقال صاحب «اللوامح» : «إنه مفعولٌ به، وإنَّ الفاعلَ تُرِك لشُهْرَته، والتقدير: فيحِلُّ عليكم طُغْيانُكم غضبي، ودَلَّ عليه» ولا تَطْغَوا «. ولا يجوز أن يُسْند إلى» غضبي «فيصيرَ في موضعِ رفعٍ بفعله» . ثم قال: «وقد يُحْذَفُ المفعولُ للدليلِ عليه، وهو» العذابَ «ونحوه» . قلت: فعنده أنَّ حَلَّ متعدٍّ بنفسِه لأنه من الإِحلال كما صَرَّح هو به. وإذا كان من الإِحْلال تعدى لواحدٍ، وذلك المتعدى إليه: إمَّا «غضبي» ، على أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الطغيانِ، كما قَدَّره، وإمَّا محذوفٌ، والفاعل «غضبي» . وفي عبارته قَلَقٌ. وقرأ طلحة «لا يَحِلَّنَّ عليكم» ب «لا» الناهيةِ وكسرِ الحاء، وفتحِ اللامِ

مِنْ يَحِلَّنَّ، ونونِ التوكيد المشددة أي: لا تتعرَّضوا للطُغْيان فيحقَّ عليكم غضبي، وهو من باب «لا أُرَيَنَّك ههنا» . وقرأ زيدُ بن علي «ولا تَطْغُوا» بضم الغين مِنْ طغا يَطْغُوا، كغَدا يَغْدو. وقوله: {فَيَحِلَّ} يجوز أن يكونَ مجزوماً عطفاً على «لا تَطْغَوا» كذا قال أبو البقاء، وفيه نظر؛ إذ المعنى ليس على نَهْيَ الغضبِ أن يَحِلَّ بهم. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ ِ «أَنْ» في الجواب. وهو واضحٌ.

83

قوله: {وَمَآ أَعْجَلَكَ} : مبتدأٌ وخبرٌ و «ما» استفهاميةٌ عن سببِ التقدُّم على قومِه. قال الزمخشري: «فإن قلت:» ما أَعْجلك «سؤالٌ عن سببِ العَجَلة، فكان الذي ينطبقُ عليه من الجواب أَنْ يُقَالَ: طَلَبُ زيادةِ رضاك والشوقِ إلى كلامِك وتَنَجُّزِ مَوْعِدك. وقوله: {هُمْ أولاء على أَثَرِي} كما ترى غيرُ منطبقٍ عليه. قلت: قد تَضَمَّنَ ما واجَهَه به رَبُّ العزةِ شيئين، أحدهما: إنكارُ العَجَلة في نفسها. والثاني: السؤالُ عن سببِ المُسْتَنْكَر والحاملِ عليه، فكان أهمُّ الأمرَيْن إلى موسى بَسْطَ العُذْرِ وتمهيدَ العلةِ في نفس ما أَنْكر عليه، فاعتَلَّ بأنه لم يوجَدْ مني إلاَّ تقدُّمٌ يسيرٌ، مثلُه لا يُعْتَدُّ به في العادةِ ولا يُحتفل به، وليس بيني وبين مَنْ سبقتُه إلاَّ مسافةٌ قريبةٌ، يتقدَّمُ بمثلِها الوفدَ رأسُهم ومقدمتُهم. ثم عَقَّبه بجوابِ السؤالِ عن السبب فقال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} .

84

قوله: {هُمْ أولاء على أَثَرِي} : كقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ} [البقرة: 85] و «على أَثَري» يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً. وقرأ الجمهور «اُوْلاء» بهمزةٍ مكسورة. والحسن وابن معاذ بياء مكسورة، أبدال الهمزةَ ياءً تخفيفاً. وابن وثاب «أُوْلاَ» بالقصرِ دونَ همزةٍ. وقرأَتْ طائفةٌ «أولايَ» بياءٍ مفتوحةٍ، وهي قريبةٌ من الغَلَط. والجمهورُ على أَثَري «بفتح الهمزة، والياء. وأبو عمروٍ في روايةِ عبد الوارث وزيدُ بن علي» إثْري «بكسر الهمزةِ وسكونِ الياء. وعيسى بضمِّها وسكون الياء، وحكاها الكسائيُّ لغةً.

85

قوله: {وَأَضَلَّهُمُ} : العامَّةُ على أنَّه فعلٌ ماضٍ مسندٌ إلى السامريّ. وقرأ أبو معاذ في آخرين «وأَضَلُّهم» مرفوعاً بالابتداءِ، وهو أفعلُ تفضيلٍ. و «السامريُّ» خبره.

86

قوله: {غَضْبَانَ أَسِفاً} : حالان. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة الأعراف. قوله: {وَعْداً حَسَناً} / يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكداً، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه: يَعِدُكم بالكتاب وبالهداية، أو يُترك المفعولُ الثاني ليعُمَّ. ويجوز أن يكونَ الوعدُ بمعنى الموعود فيكونَ هو المفعولَ الثاني. قوله: {مَّوْعِدِي} مصدرٌ. ويجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه بمعنى: أَوَجَدْتُموني أخلَفْتُكم ما وعدْتُكم. وأن يكونَ مضافاً لمفعوله، بمعنى: أنهم وَعَدُوْه أن يتمسَّكوا بدينه وشيعته.

87

قوله: {بِمَلْكِنَا} : قرأ الأخَوان بضم الميم. ونافع وعاصم بفتحها، والباقون بكسرها: فقيل: لغاتٌ بمعنى واحدٍ كالنَّقْض والنِّقْضِ. ومعناها: القُدْرَةُ والتسلُّطُ. وفرَّق الفارسيُّ وغيرُه بينها فقال: «المضمومُ معناه: لم يكنْ [لنا] مُلْكٌ فَنُخْلِفَ موعدَك بسُلْطَانِه، وإنما فَعَلْناه بنظرٍ واجتهادٍ، فالمعنى على: أَنْ ليس لهم مُلْكٌ. كقول ذي الرمة:

3313 - لا تُشْتكى سَقْطَةٌ منها وقد رَقَصَتْ ... بها المفاوِزُ حتى ظهرُها حَدِبُ أي: لا يقع منها سَقْطَةٌ فتشتكى» . وفتحُ الميمِ مصدرٌ مِنْ مَلَكَ أمرَه. والمعنى: ما فعلناه بأنَّا مَلَكْنا الصوابَ، بل غَلَبَتْنا أنفسُنا. وكسرُ الميمِ كَثُر فيما تَحُوْزه اليدُ وتحويه، ولكنه يُسْتعمل في الأمورِ التي يُبْرِمُها الإِنسانُ ومعناها كمعنى التي قبلها. والمصدرُ في هذين الوجهين مضافٌ لفاعلِه، والمفعولُ محذوفٌ أي: بملكِنا الصوابَ. قوله: {حُمِّلْنَآ} قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ بضم الحاء وكسر الميم مشددة. وأبو جعفرٍ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف الميم، والباقون بفتحِهما خفيفةَ الميمِ. فالقراءةُ الأولى والثانية نَسَبوا فيهما الفعلَ إلى غيرِهم، وفي الثالثةِ نَسَبُوه إلى أنفسهم. و {أَوْزَاراً} مفعولٌ ثانٍ على غيرِ القراءة الثالثة. و {مِّن زِينَةِ} يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً ب «حُمِّلْنا» ، وأن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «أَوْزار» . وقوله: {فَكَذَلِكَ} نعتٌ لمصدرٍ، أو حالٌ من ضميره عند سيبويه أي: إلقاءً مثلَ إلقائِنا ألقى السامريُّ.

89

قوله: {أَلاَّ يَرْجِعُ} : العامَّةُ على «يرجعُ» لأنها المخففةُ من الثقيلة. ويدلُّ على ذلك وقوعُ أصلِها وهو المشدَّدةُ في قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: 148] .

وقرأ أبو حيوةَ والشافعيُّ وأبانُ بنصبه. جعلوها الناصبةَ. والرؤيةُ على الأولى يقينيةُ، وعلى الثانية بَصَريةٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذين القولين في سورة المائدة. والسامريُّ: منسوبٌ لقبيلةٍ يُقال لها: سامرة. وقرأ الأعمشُ «فنسْي» بسكون السين وهي لغةٌ فصيحةٌ. والضميرُ في «نسي» يجوز أن يعود على السامِرِيِّ، وعلى هذا فهو مِنْ كلامِ اللهِ تعالى، ويجوز أن يعودَ على موسى صلَّى الله عليه وسلَّم. وعلى هذا فهو من كلامِ السامريِّ أي: نَسِي إلهَه. والقولان منقولان لأهل التفسير.

90

وقرأ العامَّةُ: «إنما فُتِنْتُم» و «إنَّ ربَّكم الرحمنُ» بالكسر فيهما، لأنهما بعد القول لا بمعنى الظن. وقرأت فرقة بفتحِهما وخُرِِّجت على لغة سُلَيْم: وهو أنهم يفتحون «أنَّ» بعد القول مطلقاً. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ، والحسن وعيسى بن عمر بفتح «أنَّ ربَّكم» فقط. وخُرِّجَتْ على

وجهين، أحدهما: أنها وما بعدها بتأويل مصدرٍ في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديرُه: والأمرُ أَنْ ربَّكم الرحمنُ فهو مِنْ عطفِ الجملِ لا مِنْ عطفِ المفرداتِ. والثاني: أنها مجرورةٌ بحرفٍ مقدَّرٍ ِأي: لأنَّ ربَّكم الرحمنُ فاتَّبعوني. وقد تقدَّم القولُ في نظيرِ ذلك بالنسبة إلى هذه الفاء.

92

و «إذْ» منصوبٌ ب «مَنَعَك» أي: أيُّ شيءٍ مَنَعَك وقتَ ضلالِهم؟

93

و «لا» فيها قولان. أحدُهما: أنها مزيدةٌ. أي ما منعك مِنْ أَنْ تَتَّبِعَني. والثاني: أنها دَخَلَتْ حَمْلاً على المعنى، إذ المعنى: ما حملك على أن لا تتبعَني، وما دعاك إلى أَنْ تَتَّبِعَني؟ ذكره علي بن عيسى. وقد تقدَّم تحقيقُ هذين القولين بحمدِ الله في أول الأعراف.

94

وتَقَدَّم الكلامُ والقراءةُ في «يا بنَ أُمَّ» . والجمهورُ على كسرِ اللامِ من اللِّحْيةِ وهي الفصحى. وفيها الفتح. وبه قرأ عيسى بن سليمان الحجازي. والفتحُ لغة الحجاز. ويجمع على لِحَى كقِرَب. ونُقل فيها الضمُّ، كما قالوا: صِوَر بالكسر، وحقُّها الضمُّ. والباء في «بلِحْيَتي» ليست زائدةً: إمَّا لأنَّ المعنى: لا يكنْ منك أَخْذٌ، وإمَّا لأنَّ المفعولَ

محذوفٌ أي: لا تَأْخُذْني. ومَنْ زعم زيادتَها كهي في {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] فقد تَعَسَّف. قوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} هذه الجملةُ محلُّها النصبُ نَسَقاً [على] {فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ} أي: أن تقولَ: فَرَّقْتَ بينهم، وأَنْ تقولَ: لم تَرْقُبْ قولي أي: لم. . . . وقرأ أبو جعفر «تُرْقِبْ» بضمِّ حرفِ المضارعةِ مِنْ أَرْقَبَ.

95

قوله: {فَمَا خَطْبُكَ} مبتدأٌ وخبر. والخَطْبُ تقدَّم الكلامُ عليه في يوسف. وقال ابن عطية هنا: / «إنه يقتضي انتهاراً كأنه قال: ما نَحْسُك وما شؤمك» ؟ وردَّ عليه الشيخ بقوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} [الحجر: 57] .

96

قوله: {بَصُرْتُ} : يقال: بَصُرَ بالشيءِ أي عَلِمه، وأبصرَه. أي: نظر إليه. كذا قاله الزجاج. وقال غيره: «بَصْرَ به وأبصره بمعنى علم» .

والعامَّةُ على ضم الصاد في الماضي ومضارعِه. وقرأ الأعمش وأبو السَّمَّال «بَصِرْتُ» بالكسر، يَبْصَروا بالفتح وهي لغة. وعمرُو بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين أي: أُعْلِمْتُ بما لم يُعْلَموا به. وقرأ الأخَوان «تَبْصُروا» خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] و [قوله] : 3314 -. . . . . . . حَرَّمْتُ النساءَ سواكُمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والباقون بالغَيْبة عن قومه. والعامَّةُ على فتحِ القافِ من «قَبْضَة» وهي المرَّةُ من قَبَضَ. قال الزمخشري: «وأمَّا القَبْضَةُ فالمَرَّةُ من القَبْض، وإطلاقُها على المقبوضِ مِنْ تسمية المفعولِ بالمصدر» قلت: والنحاة يقولون: إن المصدرَ الواقعَ كذلك لا يُؤَنَّثُ بالتاء تقول: هذه حُلَّةٌ نَسْجُ اليمن «ولا تقول: نَسْجَةُ اليمن. ويعترضون بهذه الآية، ثم يُجيبون بأنَّ الممنوعَ إما هو التاءُ الدالةُ على التحديدِ لا على مجرد التأنيث. وهذه التاءُ دالَّةٌ على مجردِ التأنيث، وكذلك قوله: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67] .

وقرأ الحسن» قُبْضَة «بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغة في معنى المَغْروف والمقبوض. ورُوي عنه» قُبْصَة «بالصاد المهملة. والقَبْضُ بالمعجمة بجميع الكفِّ، وبالمهملة بأطرافِ الأصابع. وله نظائر كالخَضْمِ وهو الأكلُ بجميع الفمِ، والقَضْمِ بمقدَّمِه. والقَصْمُ: قطعٌ بانفصالٍ، والفَصْمُ بالفاء باتصالٍ. وقد تقدم شيءٌ من ذلك في البقرة. وأدغم ابن محيصن الضادَ المعجمة في تاءِ المتكلم مع إبقائه الإِطباقَ، كما تقدَّم [في] » بَسَطْتَ «. وأدغم الأخَوان وأبو عمروٍ الذال في التاء مِنْ» فَنَبَذْتُها «.

97

قوله: {لاَ مِسَاسَ} : قرأ العامَّةُ بكسرِ الميمِ وفتحِ السين. وهو مصدرٌ ل فاعَل كالقِتال مِنْ قاتَل، فهو يقتضي المشاركةَ. وفي التفسير: لا تَمَسُّني ولا أَمَسُّك، وإنَّ مَنْ مَسَّه أصابَتْه الحمى. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. قلت: هكذا عَبَّر الشيخُ وتَبعَ فيه أبا البقاء. ومتى أَخَذْنا بظاهِر

هذه العبارة لَزِم أن يُقرأ «مَسِيس» بقلب الألفِ ياءً لانكسارِ ما قبلها ولكن لم يُرْوَ ذلك، فينبغي أَنْ يكونوا أرادوا بالكسرِ الإِمالةَ. ويَدُلُّ على ما قُلْتُه ما قاله الزمخشريُّ: «وقُرِىء لا مَساسِ بوزن فَجار. ونحوُه قولهم في الظباء:» إن وَرَدَتِ الماءَ فلا عَباب وإن فَقَدَتْه فلا أَباب «وهي أعلامٌ للمَسَّة والعَبَّة والأَبَّة وهي المرَّة من الأَبِّ وهو الطلَبُ» . فهذا تصريحٌ منه ببقاء الألفِ على حالِها. ويدلُّ أيضاً قولُ صاحبِ «اللوامح» : «هو على صورة نَزَالِ ونَظارِ من أسماء الأفعال بمعنى انْزِلْ وانْظُرْ» فهذا أيضاً تصريحٌ بإقرار الألِف على حالها. ثم قال صاحب «اللوامح» : «فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةِ معارفُ، ولا تدخُلُ عليها» لا «النافيةُ التي تَنْصِبُ النكراتِ، نحو» لا مالَ لك «لكنه فيه نَفْيُ الفعلِ فتقديرُه: لا يكون منك مساسٌ، ومعناه النهيُ أي: لا تَمَسَّني» . وقال ابنُ عطية: «لا مَساسِ هو معدولٌ عن المصدرِ كفَجارِ ونحوِه. وشبَّهه أبو عبيدة وغيرُه بَنزالِ ودَراكِ ونحوه، والشَّبَهُ صحيحٌ من حيث هُنَّ معدولاتٌ. وفارقه في أنَّ هذه عُدِلَتْ عن الأمر، ومَساس وفَجار عُدلت عن المصدر. ومِن هذا قولُ الشاعر:

3315 - تميمٌ كرَهْطِ السَّامِرِيِّ وقَوْلِه ... ألا لا يريدُ السَّامِرِيُّ مَساسِ فكلامُ الزمخشريِّ وابنِ عطيةَ يعطي أنَّ» مَساس «على هذه القراءةِ معدولٌ عن المصدرِ كفجَار عن الفَجَرة، وكلامُ صاحبِ اللوامحِ يقتضي أنها معدولةٌ عن فعل أمرٍ، إلا أَنْ يكونَ مرادُه أنها مَعْدُوْلَةٌ، كما أنَّ اسمَ الفعلِ معدولٌ، كما تَقَدَّم توجيهُ ابنِ عطية لكلام أبي عبيدة. قوله: {لَّن تُخْلَفَهُ} قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو بكسرِ اللامِ على البناء للفاعل. والباقون بفتحِها على البناءِ للمفعولِ. وقرأ أبو نهيك فيما حكاه عنه ابن خالويه بفتح التاء من فوقُ، وضمِّ اللام، وحكى عنه صاحب» اللوامح «كذلك، إلاَّ أن بالياء مِنْ تحتُ. وابنُ مسعودٍ والحسن بضمِّ نونِ العظمة وكسرِ اللام. فأمَّا القراءةُ الأولى فمعناها: لن تجدَه مُخلَّفاً كقولك: أَحْمَدْتُه وأَجْبَنْتُه/ أي: وَجَدْتُه مَحْمُوداً وجَباناً. وقيل: المعنى: سيصلُ إليك، ولن تستطيعَ الرَّوَغانَ ولا الحَيْدَة عنه. قال الزمخشري:» وهذا مِنْ أَخْلَفْتُ الوعدَ إذا وجدتَه مُخْلَفاً. قال الأعشى:

3316 - أثوى وقَصَّر لَيْلَةً لِيُزَوَّدا ... فمضى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدا ومعنى الثانيةِ: لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك. وأمَّا قراءتا أبي نهيك فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي: الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك الذي تقولُه. وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ. قال أبو حاتم: «لا نعرف لقراءةِ أبي نهيك مذهباً» وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالى. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي: لن يُخْلِفَكه. قوله: {ظَلْتَ} العامَّةُ على فتح الظاء، وبعدها لامٌ ساكنة. وابنُ مسعودٍ وقتادةُ والأعمشُ بخلافٍ عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر [على] كسرِ الظاء. ورُوي عن ابن يعمر ضمُّها أيضاً. وأُبَيٌّ والأعمش في الرواية الأخرى «ظَلِلْتَ» بلامَيْنِ أولاهما مكسورةٌ «. فأمَّا قراءةُ العامَّة ففيها: حَذْفُ أحدِ المِثْلين، وإبقاءُ الظاءِ على حالِها مِنْ حركتها، وإنما حُذف تخفيفاً. وعدَّه سيبويه في الشاذ. يعني شذوذَ قياسٍ لا شذوذَ استعمالٍ، وعَدَّ معه ألفاظاً أُخَرَ نحو: مَسْتُ وأَحَسْتُ كقولِه: 3317 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ

وعَدَّ ابنُ الأنباري» هَمْتُ «في» هَمَمْتُ «ولا يكونُ هذا الحذفُ إلاَّ إذا سُكِّنَتْ لامُ الفعلِ. وذكر بعضُ المتأخرين أن هذا الحذفَ منقاسٌ في كلِّ مضاعفِ العينِ واللامِ سَكَنَتْ لامُه، وذلك في لغة سُلَيْم. والذي أقولُه: إنه متى التقى التضعيفُ المذكورُ والكسرُ نحو: ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذفِ. وهل يَجْري الضمُّ مجرى الكسرِ في ذلك؟ فالظاهرُ أنه يجري. بل بطريق الأَوْلى؛ لأن الضمَّ أثقلُ من الكسر نحو: غُضْنَ يا نسوةُ أي: أغْضُضْنَ أبصارَكُنَّ، ذكره جمال الدين ابن مالك. وأمَّا الفتحُ فالحذفُ فيه ضعيفٌ نحو:» قَرْن يا نسوةُ في المنزل «ومنه في أحدِ توجيهَيْ قراءةِ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] كا سيأتي إنْ شاء الله تعالى. وأمَّا الكسرُ فوجهُه أنه نَقَل كسرةَ اللامِ إلى الفاءِ بعد سَلْبِها حركتَها لتدُلَّ عليها. وأمَّا الضمُّ فيحتمل أن يكونَ جاء فيه لغةٌ على فَعَل يفعُل بفتحِ العينِ في الماضي وضمِّها في المضارع، ثم نُقِلَتْ، كما تقدّم ذلك في الكسر. وأمَّا ظَلِلْت بلامين فهذه هي الأصلُ، وهي مَنْبَهَةٌ على غيرِها. و» عاكفاً «خبرُ» ظلَّ «. قوله: {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي: واللهِ لَنُحَرِّقَنَّهُ. والعامَّة على ضمِّ النونِ وكسرِ الراءِ مشددةً مِنْ حَرَّقه يُحرِّقُه بالشديد. وفيها تأويلان. أظهرُهما: أنها مِنْ حَرَّقه بالنار. والثاني: أنه مِنْ حَرَق نابُ البعير، إذا وقع عَضُّ ببعضِ أنيابِه على بعضٍ. والصوتُ المسموعُ منه يُقال له الصَّريفُ.

والمعنى: لنَبْرُدَنَّه بالمِبْرد بَرْداً نمحقُه به كما يفعل البعيرُ بأنيابِه بعضها على بعض. وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر» لَنُحْرِقَنَّه «بضم النون وسكونِ الحاءِ وكسرِ الراء، مِنْ أحرق رباعياً. وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر» لَنَحْرُقَنَّه «كذلك إلاَّ أنه ضمَّ الراء. فيجوز أن يكونَ أَحْرق وحرَّق بمعنى كأَنْزَل ونَزَّل. وأمَّا القراءةُ الأخيرة فبمعنى لنَبْرُدَنَّه بالمبرد. قوله: {لَنَنسِفَنَّهُ} العامَّةُ على فتح النون الأولى وسكونِ الثانية وكسرِ السين خفيفةً. وقرأ عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم بضمِّ النون الأولى وفتح الثانية وكسر السينِ مشددةً. والنَّسْفُ: التفرقةُ والتَّذْرِيَةُ وقيل: قَلْعُ الشيء مِنْ أصله يقال: نَسَفَه يَنْسُِفه بكسر السين وضمها في المضارع، وعليه القراءتان. والتشديد للتكثير.

98

قوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} : العامَّةُ على كسر السين خفيفةً. و «عِلْماً» على هذه القراءةِ تمييزٌ منقولٌ من الفاعلِ؛ إذِ الأصلُ: وَسِعٍ كلَّ شيءٍ عِلْمُه. وقرأ مجاهد وقتادة بفتح السين مشددةً. وفي انتصاب «

علماً» حينئذ [وجهان] ، أحدهما: أنه مفعولٌ به. قال الزمخشري: «وَجْهُه أنَّ وَسِع متعدٍّ إلى مفعولٍ واحد. وأمَّا» عِلْماً «فانتصابُه على التمييز فاعلاً في المعنى. فلما ثُقِّل نُقِل إلى التعديةِ إلى مفعولَيْنِ فنصبُهما معاً على المفعولية؛ لأن المُميِّز فاعلٌ في المعنى، كما تقول في» خاف زيد عمراً «:» خَوَّفْت زيداً عمراً «فتردُّ بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً» . وقال أبو البقاء: «والمعنى: أعطى كل شيء عِلْماً» فضمَّنه معنى أعطى. وما قاله الزمخشريُّ أولى. والوجه الثاني: أنه تمييزٌ أيضاً كما هو في قراءةِ التخفيفِ. قال أبو البقاء: «وفيه وجهٌ آخرُ: / وهو أن يكونَ بمعنى: عَظَّم خَلْقَ كلِ شيءٍ كالأرض والسماء، وهو بمعنى بَسَط، فيكون عِلْماً تمييزاً» . وقال ابن عطية: «وسَّع خَلْقَ الأشياءِ وكَثَّرها بالاختراع» .

99

قوله: {كذلك نَقُصُّ} : الكافُ: إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المقدَّرِ. والتقديرُ: كَقَصِّنا هذا النبأ الغريبَ نَقُصُّ. و «من أنباءِ» صفةٌ لمحذوفٍ هو مفعولُ نَقُصُّ أي: نَقُصُّ نبأً من أنباءِ.

100

قوله: {مَّنْ أَعْرَضَ} : يجوزُ أَنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً أو موصولة. والجملةُ الشرطيةُ أو الخبريةُ الشبيهةُ بها في محلِّ نصبٍ صفةً ل «ذِكْراً» .

101

قوله: {خَالِدِينَ} : حالٌ مِنْ فاعل «يَحْمِلُ» . فإنْ قيل: كيفَ [وقع] الجمعُ حالاً من مفردٍ؟ فالجوابُ أنه حُمِل على لفظ «مَنْ» فَأُفْرِدَ الضميرُ في قولِه «أَعْرَضَ» و «فإنَّه» و «يَحْمِلُ» ، وعلى معناها فَجُمِعَ في «خالدين» و «لهم» . والضميرُ في «فيه» يعود ل «وِزْراً» . والمرادُ في العقاب المتسَبِّبِ عن الوِزْرِ وهو الذنبُ فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّبِ. وقرأ داود بن رفيع «يُحَمَّلُ» مُضَعَّفاً مبنياً للمفعول والقائمُ مقامَ فاعلِه ضميرُ «مَنْ» . و «وِزْراً» مفعولٌ ثانٍ. قوله: {وَسَآءَ} هذه «ساء» التي بمعنى بِئْس. وفاعلُها مستترٌ فيها يعودُ على «حِمْلاً» المنصوبِ على التمييز، لأنَّ هذا البابَ يُفَسَّر الضمير فيه بما بعدَه. والتقديرُ: وساء الحِمْل حِمْلاً. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: وساء الحِمْل حِمْلاً وِزْرُهم: ولا يجوز أن يكون الفاعلُ ل «بِئْس» ضميرَ الوِزْرِ، لأنَّ شَرْطَ الضميرِ في هذا الباب أن يعودَ على نفس التمييز. فإن قلت: ما أنكْرتَ أن يكونَ في «ساء» ضميرُ الوِزْر؟ قلت: لا يَصِحُّ أن يكونَ في «ساء» وحكمُه حكمُ «بئس» ضميرُ شيءٍ بعينه غيرِ مبهمٍ. ولا جائزٌ أن تكونَ «ساء» هنى بمعنى أهمَّ وأحزنَ، فتكونَ متصرفةً كسائر الأفعال. قال الزمخشري: «كفاك صادَّاً عنه أَنْ يَؤُول كلامُ الله تعالى إلى [قولِك] : وأحزن

الوِزرُ لهم يومَ القيامة حِمْلاً. وذلك بعد أن تَخْرَجَ عن عُهْدةِ هذه اللامِ وعُهْدَةِ هذا المنصوب» انتهى. واللامُ في «لهم» متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيلِ البيان، كهي في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] .

102

قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ} : «يومَ» بدل من «يومَ القيامة» أو بيانٌ له، أو منصوبٌ بإضمار فعل، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وبُني على الفتحِ على رأي الكوفيين كقراءةِ {هذا يَوْمَ يَنفَعُ} [المائدة: 119] وقد تقدم. وقرأ أبو عمروٍ «نَنْفُخُ» مبنياً للفاعل بنونِ العظمة، أُسْنِدَ الفعلُ إلى الآمِر به تعظيماً للمأمورِ، وهو المَلَكُ إسرافيل. والباقون بالياءِ مضمومةً مفتوحَ الفاءِ على البناءِ للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ بعدَه. والعامَّةُ على إسكانِ الواو. وقرأ الحسنُ وابنُ عامرٍ في روايةٍ بفتحها جمعَ «صُوْرَة» كغُرَف جمع غُرْفَة. وقد تقدَّم القولُ في «الصور» في الأنعام. وقرىء «يَنْفُخُ» و «يَحْشُر» بالياءِ مفتوحةً مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى

أو المَلَكُ. وقرأ الحسنُ وطلحةُ وحميدٌ «يُنْفَخ» كالجمهور و «يَحْشر» بالياءِ مفتوحةً مبنياً للفاعل. والفاعلُ كما تقدَّم ضمير الباري أو ضميرُ المَلَك. ورُوي عن الحسن أيضاً و «يُحْشَر» مبنياً للمفعول «المجرمون» رفعٌ به. و «زُرْقاً» حال من المجرمين. والمرادُ زُرْقَةُ العيونِ. وجاءَتِ الحالُ هنا بصفةٍ تشبه اللازمةَ؛ لأنَّ أصلَها على عَدَمِ اللزومِ، ولو قلتَ في الكلامِ: «جاءني زيدٌ أزرقَ العينِ» لم يَجُزْ إلاَّ بتأويلٍ.

103

قوله: {يَتَخَافَتُونَ} : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً ثانية من «المجرمين» ، وأن يكونَ حالاً من الضميرِ المستتر في «زرقاً» فتكونَ حالاً متداخلةً إذ هي حالٌ من حال. ومعنى «يَتَخافَتُون:» أي: يتساْرُّوْن فيما بينهم. وقوله: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ} هو مفعولٌ المَسارَّة. وقوله: {إِلاَّ عَشْراً} يجوز أن يُرادَ الليالي، فَحَذْفُ التاءِ من العددِ قياسٌ، وأن يرادَ الأيامُ فيُسألَ: لم حُذِفت التاء؟ فقيل: إنْ لم يُذْكَرِ المميِّز في عددِ المذكرِ جازت التاءُ وعدمُها. سُمع من كلامهم «صُمْنا من الشهر خمساً» والمَصُوْمُ إنما هو الأيامُ دون الليالي. وفي الحديث: «مَنْ صامَ رمضانَ وأتبعه بسِتٍّ من شوال» وحَسُن الحذف هنا لكونِه رأسَ آيةٍ وفاصلة.

104

قوله: {إِذْ يَقُولُ} : منصوبٌ ب «أعلمُ» وطريقةً «نصبٌ على التمييز.

106

قوله: {فَيَذَرُهَا} : في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه ضميرُ الأرضَ أُضْمِرَتْ للدلالةِ عليها؟ والثاني: ضمير الجبال، وذلك على حَذْفِ مضاف أي: فَيَذَرُ مراكزَها ومَقارَّها. و «نَذَرُ» يجوز أن يكونَ بمعنى يُخَلِّيها، فيكونَ «قاعاً» حالاً، وأن يكونَ بمعنى يترك التصييريةِ فيتعدَّى لاثنين ف «قاعاً» ثانيهما. وفي «القاع» أقوالٌ فقيل: هو مستنقعُ الماء/ ولا يليقُ معناه هنا. والثاني: أنه المنكشِفُ من الأرض. قاله مكي. الثالث: أنَّه المكانُ المستوي ومنه قول ضرار بن الخطاب: 3318 - لَتَكُوْنَنَّ بالبطاحِ قُرَيْشٌ ... فَقْعَةَ القاع في أَكُفِّ الإِماءِ الرابع: أنه الأرضُ التي لا نباتَ فيها ولا بناءَ. والصَّفْصَفُ: الأرض المَلْساء. وقيل: المستوية، فهما قريبان من المترادِفِ. وجمعُ القاعِ: أقْوع وأَقْواع وقِيْعان.

107

قوله: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً} : يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً من الجبال، ويجوزُ أن تكونَ صفةً للحال المتقدمةِ وهي «قاعاً» على أحدِ التأويلين، أو صفة للمفعولِ الثاني على التأويل الآخر. والعِوَج: تقدم الكلامُ عليه. قال الزمخشري هنا: «فإنْ قلتَ: قد

فَرَّقوا بين العَوَج والعِوَج. قالوا: العِوَج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأَعْيان، والأرضُ عينٌ، فكيف صَحَّ فيها كَسْرُ العينِ؟ قلت: اختيارُ هذا اللفظِ له موقعٌ حَسَنٌ بديعٌ في وصفِ الأرضِ بالاستواءِ والمَلاسة ونفيِ الاعوجاج عنها، على أبلغِ ما يكونُ: وذلك أنك لو عَمَدْتَ إلى قطعةِ أرضٍ فَسَوَّيْتَها، وبالَغْتَ في التسوية على عينِك وعيونِ البُصَراء، واتَّفَقْتُمْ على أنَّه لم يَبْقَ فيها اعوجاجٌ قطٌ، وثم استَطْلَعْتَ رأي المهندس فيها وأمرته أن يَعْرِضَ استواءَها على المقاييسِ الهندسيةِ لَعَثَر فيها على عِوَجٍ في غير موضعٍ، لا يُدْرَكُ ذلك بحاسَّةِ البصرِ، ولكن بالقياسِ الهندسِيِّ، فنفى اللهُ تعالى ذلك العِوَجَ الذي دَقَّ ولَطُفَ عن الإِدراك، اللهم إلاَّ بالقياس الذي يَعْرِفُه صاحبُ التقديرِ الهندسيِّ. وذلك الاعوجاجُ كمَّا لم يُدْرَكْ إلاَّ بالقياسِ دون الإِحساسِ لَحِقَ بالمعاني فقيل فيه» عِوج «بالكسر» . والأمْتُ: النُّبُوُّ اليسيرُ. يقال: مَدَّ حبلَه حتى ما فيه أَمْتٌ. وقيل: الأمْتُ: التَلُّ، وهو قريبٌ من الأولِ. وقيل: الشُّقوقُ في الأرضِ. وقيل: الأكامُ.

108

قوله: {يَوْمَئِذٍ} : منصوبٌ ب «يَتَّبِعُون» . وقيل: بدلٌ من {يَوْمَ القيامة} . قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ للفصل الكثير. وأيضاً فإنه يبقى «يَتَّبِعُون» غيرَ مرتبطٍ بما قبلَه، وبه يفوتُ المعنى. والتقدير: يومَ إذ نُسِفت الجبال. قوله: {لاَ عِوَجَ لَهُ} يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مُستأنفةً، وأن تكونَ حالاً من «

الداعي» . ويجوز أن تكونَ الجملةُ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه: يَتَّبِعُونه اتِّباعاً لا عِوَجَ له. والضميرُ في «له» فيه أوجهٌ، أظهرُها: أنه يعودُ على الداعي أي: لا عِوَجَ لدعائِه بل يَسْمع جميعَهم، فلا يميلُ إلى ناسِ دونَ ناسٍ. وقيل: هو عائدٌ على ذلك المصدرِ المحذوفِ أي لا عِوَج لذلك الاتِّباع. الثالث: أنَّ في الكلام قلباً. تقديرُه لا عِوَجَ لهم عنه. قوله: {إِلاَّ هَمْساً} مفعولٌ به وهو استثناءٌ مفرغٌ. والهَمْسُ: الصوتُ الخفيُّ. قيل: هو تحريكُ الشفتين دون نطقٍ. قال الزمخشري: «هو الرِّكْزُ الخفيُّ. ومنه الحروفُ المهموسةُ» . وقيل: هو ما يُسْمع مِنْ وَقْعِ الأقدامِ على الأرض. ومنه هَمَسَتِ الإِبلُ: إذا سُمع ذلك مِنْ وَقْعِ أخفافِها على الأرض قال: 3319 - وهُنَّ يَمْشِيْنَ بنا هَمِيْسا ...

109

قوله: {يَوْمَئِذٍ} : بدلٌ ممَّا تقدم أو منصوب بما بعد «لا» عند مَنْ يُجيز ذلك. والتقديرُ: يومَ إذ يَتَّبِعُون لا تنفعُ الشفاعةُ. قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ} فيه أوجه. أحدُها: أنه منصوبٌ على المفعولِ به. والناصبُ له «تَنْفَعُ» . و «مَنْ» حينئذٍ واقعةٌ على المشفوعِ له. الثاني: أنه في محلِّ رفعٍ بدلاً من الشفاعةِ، ولا بدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ تقديرُه: إلاَّ شفاعةَ مَنْ أَذِن له. الثالث: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ من الشفاعةِ بتقدير المضاف المحذوف، وهو استثناءٌ متصلٌ على هذا. ويجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً منقطعاً إذا لم تقدِّرْ شيئاً، وحينئذٍ يجوزُ أن يكونَ منصوباً وهي لغةُ الحجازِ، أو مرفوعاً وهو

لغة تميم. وكلُّ هذه الأوجهِ واضحةٌ ممَّا تقدم فلا أُطيل بتقريرها. و «له» في الموضعين للتعليل كقوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [الأحقاف: 11] أي: لأجله ولأجلهم.

111

قوله: {وَعَنَتِ الوجوه} : يُقال: عَنا يَعْنُو إذا ذَلَّ وخَضَع. وأَعْناه غيرُه أي: أذلَّه. ومنه العُنَاة جمع عانٍ. وهو الأسيرُ قال: 3320 - فيا رُبَّ مَكْروبٍ كرَرْتُ وراءَه ... وعانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عنه فَفَدَّاني وقال أمية بن أبي الصلت: 3321 - مَلِيكٌ على عَرْشِ السماء مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّته تَعْنُوا الوجوهُ وتَسْجُد وفي الحديث: «فإنَّهنَّ عَوانٍ» . قوله: {وَقَدْ خَابَ} يجوز أَنْ تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً، ويجوز أن تكونَ اعتراضاً. قال الزمخشري: «وقد خابَ وما بعده اعتراضٌ

كقولك: خابوا وخَسِروا، وكلُّ مَنْ ظَلَم فهو خائبٌ خاسِرٌ» ، ومرادُه بالاعتراضِ هنا أنَّه خَصَّ الوجوهَ بوجوهِ العصاةِ حتى تكونَ الجملةُ قد دَخَلَتْ بين العُصاةِ وبين {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} فهذا/ عنده قسيمُ «وعَنَتِ الوجوهُ» فلهذا كان اعتراضاً. وأمَّا ابنُ عطية فجعل الوجوهَ عامة، فلذلك جعل «وقد خابَ مَنْ حَمَل ظلماً» معادَلاً بقولِه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} إلى آخره.

112

قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} : جملةٌ حاليةٌ. وقوله: {فَلاَ يَخَافُ} . قرأ ابنُ كثيرٍ بجزمِه على النهي. والباقون برفعِه على النفي والاستئنافِ أي: فهو لا يَخافُ. والهَضْمُ: النَّقْصُ. تقول العرب: «هَضَمْتُ لزيدٍ مِنْ حقي» أي: نَقَصْتُ منه، ومنه «هَضِيم الكَشْحَيْن» أي ضامِرُهما. ومِنْ ذلك أيضاً {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 148] أي: دقيقٌ متراكِبٌ، كأنَّ بعضَه يظلم بعضاً فيُنْقِصُه حقَّه. ورجل هضيم ومُهْتَضَم أي: مظلومٌ. وهَضَمْتُه واهْتَضَمْتُه وتَهَضَّمْتُه، كلٌ بمعنىً. اقل المتوكل الليثي: 3322 - إنَّ الأذِلَّةَ واللِّئامَ لَمَعْشَرٌ ... مَوْلاهُمُ المُتَهَضِّمُ المظلومُ قيل: والظلمُ والهَضْمُ متقاربان. وفَرَّق القاضي الماوردي بينهما

فقال: «الظلمُ مَنْعُ جميعِ الحقِّ، والهضمُ مَنْعُ بعضِه» .

113

قوله: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ} : نسقٌ على {كذلك نَقُصُّ} . قال الزمخشري: «ومِثْلُ ذلك الإِنزالِ، وكما أنزَلْنا عليك هؤلاء الآيات أَنْزَلْنا القرآنَ كلَّه على هذه الوتيرةِ» . وقال غيرُه: «والمعنى: كما قَدَّرْنا هذه الأمورَ وجَعَلْناها حقيقةً بالمرصادِ للعبادِ، كذلك حَذَّرْنا هؤلاءِ أمرَها وأنزَلْناه قرآناً» . قوله: {مِنَ الوعيد} صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ أي: صَرَّفْنا في القرآنِ وعيداً مِن الوعيد، والمرادُ به الجنسُ. ويجوزُ أَنْ تكونَ «مِنْ» مزيدةً على رأيِ الأخفشِ في المفعولِ به. والتقديرُ: وصَرَّفْنا فيه الوعيدَ. وقرأ الحسن «أو يُحْدِثْ» كالجماعة، إلاَّ أنه سَكَّن لامَ الفعل. وعبد الله والحسنُ أيضاً في روايةٍ ومجاهدٌ وأبو حيوة: «نُحْدِثْ» بالنون وتسكينِ اللام أيضاً. وخُرِّجَ على إجراء الوصل مُجْرى الوقفِ، أو على تسكينِ الفعل استثقالاً للحركة، كقول امرىء القيس: 3323 - فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقول جرير: 3324 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

أو نهرُ تيرى فلا تَعْرِفْكُمُ النَّفَرُ وقد فعلَه كما تقدَّم أبو عمروٍ في الراءِ خاصةً نحو {يَنصُرُكُم} [آل عمران: 160] . وقُرِىء «تُحْدِثُ» بتاء الخطاب أي: تُحْدِثُ أنت.

114

قوله: {يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} : العامَّةُ على بناء «يقضى» للمفعولِ ورفع «وَحْيُه» لقيامه مقامَ الفاعلِ. والجحدري وأبو حيوةَ والحسنُ وهي قراءةُ عبد الله «نَقْضي» بنون العظمة مبنياً للفاعلِ، «وَحْيَه» مفعول به. وقرأ الأعمشُ كذلك، إلاَّ أنه سَكَّن لامَ الفعلِ. استثقلَ الحركةَ وإن كانَتْ خفيفةً على حرفِ العلةِ. وقد تقدَّم لك منه شواهدُ عند قراءةِ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْالِيكُمْ} [المائدة: 89] .

115

وقرأ اليماني «فَنُسِي» بضم النون وتشديد السين بمعنى: نَسَّاه الشيطانُ. قوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} يجوزُ أن تكونَ «وجد» علميةً فتتعدى لاثنين، وهما «له عَزْما» ، وأنْ تكونَ بمعنى الإِصابة فتتعدى لواحدٍ، وهو «عَزْما» . و «له»

متعلقٌ بالوجدانِ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عَزْما» إذ هو في الأصل صفةٌ له قُدِّمَتْ عليه.

116

قوله: {أبى} : جملة مستأنفةٌ لأنها جوابُ سؤالٍ مقدرٍ. أي: ما منعه منِ السجود؟ فأُجيب بأنه أبى واستكبر. ومفعولُ الإِباءِ يجوز أن يكونَ مُراداً. وقد صَرَّح به في الآيةِ الأخرى في قولِه {أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 31] . وحَسَّن حَذْفَه هنا كونُ العاملِ رأسَ فاصلةٍ، ويجوز أَنْ لا يُرادَ البتةَ، وأنَّ المعنى: إنه مِنْ أهلِ الإِباءِ والعصيانِ، من غيرِ نظرٍ إلى متعلَّقِ الإِباء ما هو؟

117

قوله: {فتشقى} : منصوبٌ بإضمار «أَنْ» في جواب النهي. والنهيُ في الصورةِ لإِبليس، والمرادُ به هما أي: لا تتعاطيا أسبابَ الخروجِ فيحصُلَ لكما الشقاءُ، وهو الكَدُّ والتعبُ الدنيوي خاصة. ويجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعاً على الاستئنافِ أي: فأنت تَشْقَى. كذا قَدَّره الشيخ. وهو بعيدٌ أو ممتنع؛ إذ ليس المقصودُ الإِخبارَ بأنه يشْقَى، بل إنْ وَقَع الإِخراجُ لهما من إبليسَ حَصَلَ ما ذكر. وأسند الشقاوةَ إليه دونَها؛ لأنَّ الأمورَ معصوبةٌ برؤوس الرجال. وحسَّن ذلك كونُه رأسَ فاصلةٍ.

118

قوله: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ} في محلِّ نصب اسماً ل «إنَّ» . والخبرُ «لك» . والتقديرُ: إنَّ لك عَدَمَ الجوع والعريِ. ف «تعرى» منصوبٌ تقديراً نَسَقاً على «تجوعَ» . والعُرْيُ: تجرُّدُ الجِلْدِ عن شيءٍ يَقيه. يُقال منه: عَرِي يعرى عُرِيَّاً قال الشاعر:

3325 - وإنْ يَعْرَيْنَ إن كُسِيَ الجَواري ... فَتَنْبُو العينُ عن كَرَمٍ عِجافِ

119

قوله: {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ} : قرأ نافع وأبو بكر و «إنك» بكسرِ الهمزةِ. والباقون بفتحها. فَمَنْ كَسَرَ فيجوز أن يكونَ ذلك استئنافاً، وأن يكونَ نَسَقاً على «إنَّ» الأولى. ومَنْ فتح فلأنَّه عَطَفَ مصدراً مؤولاً على اسمِ «إنَّ» الأولى. والخبرُ «لك» المتقدمُ. والتقديرُ: إنَّ لك عَدَمَ الجوعِ وعدمَ العُرِيِّ وعَدَمَ الظمأ والضُّحا. وجاز أن تكون «أنَّ» بالفتح أسماً ل «إنَّ» بالكسر للفصل بينهما، ولولا ذلك لم يَجُزْ. لو قلت: «إن إنَّ زيداً قائم/ حَقٌّ» لم يَجُزْ فلمَّا فُصِل بينهما جاز. وتقول: «إنَّ عندي أن زيداً قائم» ف «عندي» هو الخبرُ قُدِّم على الاسمِ وهو «أنَّ» وما في تأويلِها لكونِه ظرفاً، والآيةُ من هذا القبيل؛ إذ التقديرُ: وإنَّ لك أنَّك لا تظمأ. وقال الزمخشري: «فإنْ قلت:» إنَّ «لا تدخل على» أنَّ «فلا يُقال:» إنَّ أنَّ زيداً منطلق «، والواوُ نائبةٌ عن» أنَّ «، وقائمةٌ مقامَها فِلمَ دَخَلَتْ عليها؟ قلت: الواوُ لم تُوْضَعْ لتكون أبداً نائبةً عن» أنَّ «إنما هي نائبةٌ عن كلِّ عاملٍ، فلمَّا لم تكنْ حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة ك» إنَّ «لم يمتنعْ اجتماعُهما كما [امتنع اجتماع] إنَّ وأنَّ» . وضحى يَضْحَى أي: برز للشمسِ. قال عمر بن أبي ربيعة:

3326 - رَأَتْ رجلاً أَيْما إذا الشمسُ عارَضَتْ ... فيضحى وأيْما بالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ وذكر الزمخشريُّ هنا معنًى حسناً في كونِه تعالى ذكر هذه الأشياءَ بلفظ النفي، دونَ أَنْ يذكرَ أضدادَها بلفظِ الإِثباتِ. فيقول: إنَّ لك الشِّبَعَ والكِسْوةَ والرِّيَّ والاكتنانَ في الظلِّ فقال: «وَذَكَرها بلفظِ النفيِ لنقائضِها التي هي الجوعُ والعُرِيُّ والظمأُ والضَّحْوُ ليطرُقَ سمعَه بأسامي أصنافِ الشِّقْوَةِ التي حَذَّره منها حتى يَتحامى السببَ الموقعَ فيها كراهةً لها.

120

قوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ} : وَسْوَسَ إليه أي: أنهى إليه الوسوسةَ. وأمَّا وَسْوس له فمعناه لأجلِه. الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف عدى» وَسْوس «تارة باللامِ في قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} [الأعراف: 20] وأخرى ب إلى؟ قلت: وَسْوَسَةُ الشيطانِ كوَلْوَلَةِ الثَّكْلى ووَقْوَقَةِ الدجاجة في أنها حكاياتٌ للأصواتِ، فحكمُها حكمُ صوتٍ أو جَرْسٍ. ومنه وَسْوَسة المُبَرْسَم، وهو مُوَسْوِس بالكسر. والفتحُ لحنٌ. وأنشد ابن الأعرابي: 3327 - وَسْوَسَ يَدْعو مُخْلِصاً رَبَّ الفَلَقْ ... فإذا قلت: وَسْوَسَ له فمعناه لأجلِه كقوله:

3328 - أجْرِسْ لها يا ابنَ أبي كِباشِ ... ومعنى وَسْوس إليه: أنهى إليه الوَسْوَسة لكونِه بمعنى ذكر له. ويكون بمعنى لأجله.

121

قوله: {فغوى} : الجمهورُ على فتحِ الواوِ وبعدها ألفٌ. وتفسيرُها واضحٌ. وقيل: معناه بَشِمَ. من قولهم: «غَوِي البعير» بكسر الواو، والياء، إذا أصابه ذلك. وقد حكى أبو البقاء هذه قراءةً وفسَّروها بهذا المعنى. قال الزمخشريُّ: «وعن بعضِهم: فَغَوى فبشِم من كثرةِ الأكل. وهذا وإن صَحَّ على لغةِ مَنْ يَقْلِبُ الياءَ المكسورَ ما قبلَها ألفاً فيقولُ في فَنِي وبَقِي: فَنا وبَقا وهم بنو طيِّىء تفسيرٌ خبيثٌ» . قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على أنه قُرِىء بكسر الواو، ولو اطَّلع عليها لَرَدَّها. وقد فَرَّ القائلُ بهذه المقالةِ مِنْ نسبةِ آدمَ عليه السلام إلى الغَيِّ.

124

قوله: {ضَنكاً} : صفةٌ ل «معيشة» ، وأصلُه المصدرُ فلذلك لم يُؤَنَّثْ. ويقع للمفردِ والمثنى والمجموعِ بلفظٍ واحدٍ. وقرأ الجمهورُ «ضَنْكاً» بالتنوينَ وَصْلاً وإبدالِه ألفاً وقفاً كسائِرِ المعربات. وقرأتْ فرقةٌ قوله: «ضنكى» بألفٍ كسكرى. وفي هذه الألف احتمالان،

أحدهما: أنها بدلٌ من التنوين، وإنما أجرى الوصلَ مجرى الوقف كنظائرَ له مَرَّتْ. وسيأتي منها بقيةٌ إن شاء الله تعالى. والثاني: أن تكونَ ألفَ التأنيث، بُني المصدرُ على فَعْلى نحو دعوى. والضَّنْكُ: الضِّيقُ والشِّدة. يُقال منه: ضَنُكَ عيشُه يَضْنُك ضَنَاكة وضَنْكاً. وامرأة ضِناك كثيرةُ لحمِ البدنِ، كأنهم تخيَّلوا ضِيْقَ جِلْدِها به. وقرأ العامَّةُ «ونَحْشُرُه» بالنونِ ورَفْعِ الفعلِ على الاستئناف. وقرأ أبانُ ابن تغلب في آخرين بتسكينِ الراءِ. وهي محتملةٌ لوجهين، أحدُهما: أن يكونَ الفعلُ مجزوماً نَسَقاً على مَحَلِّ جزاء الشرط، وهو الجملةُ مِنْ قولِه {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} فإنَّ محلَّها الجزمُ، فه كقراءةِ ِ {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرْهُمْ} [الأعراف: 186] بتسكين الراء. والثاني: أَنْ يكونَ السكونُ سكونَ تخفيفٍ نحو {يَأْمُرْكُمْ} [البقرة: 67] وبابِه. وقرأ فرقةٌ بياءِ الغَيْبة وهو اللهُ تعالى أو المَلَك. وأبان بن تغلب في رواية «ونَحْشُرهْ» بسكونِ الهاء وصلاً. وتخريجُها: إمَّا على لغةِ بني عقيل وبني كلاب، وإمَّا على إجراء الوصل مُجرى الوقف. و «أعمى» نصب على الحال.

125

قوله: {وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} : جملةٌ حالية من مفعولِ «حَشَرْتني» . وفَتَحَ الياءَ مِنْ «حَشَرْتني» قبل الهمزةِ نافعٌ وابن كثير.

126

قوله: {كذلك أَتَتْكَ} : قال أبو البقاء: / «كذلك» في موضعِ نصبٍ أي: حَشْراً مثلَ ذلك، أو فَعَلْنا مثلَ ذلك، أو إتياناً مثلَ ذلك، أو جزاءً مثلَ إعراضِك أو نِسْياناً «. وهذه الأوجهُ التي قالها تكون الكافُ في بعضها نصباً على المصدر، وفي بعضها نَصْباً على المفعول به. ولم يذكر الزمخشريُّ فيه غيرَ المفعولِ به فقال:» أي: مثلَ ذلك فَعَلْتَ أنت، ثم فُسِّر بأنَّ آياتِنا أَتَتْك واضحةً مستنيرةً فلم تنظر إليها بعينِ المُعْتَبِرِ «.

127

قوله تعالى: {وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} : أي: ومثلَ ذلك الجزاءِ نَجْزي مَنْ أسرف.

128

قوله: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} : في فاعل «يَهْدِ» أوجهٌ، أحدها: أنه ضميرُ الباري تعالى. ومعنى يَهْدي: يُبَيِّن. ومفعولُ يهدي محذوفٌ تقديرُه: أفلم يُبَيِّنِ اللهُ لهم العبرَ وفِعْلَه بالأمم المكذبة. قال أبو البقاء: «وفي فاعلِه وجهان، أحدهما: ضميرُ اسم الله تعالى، وعَلَّق» بَيَّن «هنا إذا كانَتْ بمعنى اعلمْ، كما عَلَّقه في قولِه تعالى: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] . قال

الشيخ: و» كم «هنا خبريةٌ ل تعَُلِّق العاملَ عنها» . وقال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يكونَ فيه ضميرُ اللهِ أو الرسولِ. ويدلُّ عليه القراءةُ بالنونِ. الوجه الثاني: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يُفَسِّره ما دَلَّ عليه من الكلام بعدَه. قال الحوفي:» كم أَهْلكنا «قد دَلَّ على هلاك القرونِ. التقدير: أفلم يَتَبَيَّن لهم هلاكُ مَنْ أَهْلكنا من القرن ومَحْوُ آثارِهم فيتَّعِظوا بذلك. وقال أبو البقاء:» الفاعلُ ما دَلَّ عليه قوله: {أَهْلَكْنَا} أي إهلاكنا والجملةُ مفسِّرةٌ له «. الوجه الثالث: أنَّ الفاعلَ نفسُ الجملة بعده. قال الزمخشري:» فاعلُ «لم يَهْدِ» الجملةُ بعده. يريدُ: ألم يَهْدِ لهم هذا بمعناه ومضمونِه. ونظيرُه قولُه تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين} [الصافات: 79] أي تَرَكْنا عليه هذا الكلامَ «. قال الشيخ:» وكَوْنَ الجملةِ فاعلَ «يَهْدِ» هو مذهبٌ كوفي. وأمَّا تشبيهُه وتنظيرُه بقولِه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين} فإنَّ «تركْنا» معناه معنى القول، فحُكِيَتْ به الجملةُ كأنه قيل: وقُلْنا عليه وأَطْلقنا عليه هذا اللفظ، والجملةُ تحكى بمعنى القولِ كما تُحْكَى بالقولِ «.

الوجهُ الرابعُ: أنه ضميرُ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنه هو المُبَيِّن لهم بما يوحى إليه من أخبار الأممِ السالفةِ والقرونِ الماضية. وهذا الوجهُ تقدَّم نَقْلُه عن أبي القاسم الزمخشري. الوجهُ الخامسُ: أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، قال ابنُ عطية نقلاً عن غيره:» إن الفاعلَ مقدرٌ تقديرُه: الهدى أو الأمرُ أو النظرُ والاعتبار «قال ابن عطية:» وهذا عندي أحسنُ التقادير «. قال الشيخ:» وهو قولُ المبردِ، وليس بجيدٍ؛ إذ فيه حَذْفُ الفاعلِ وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسينُه أَنْ يقالَ: الفاعل مضمر تقديره: يهد هو أي الهدى «، قلت: ليس في هذا القولِ أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، بل فيه أنه مقدرٌ، ولفظٌ» مقدرٌ «كثيراً ما يُستعمل في المضمر. وأما مفعولُ» يَهْدِ «ففيه وجهان أحدهما: أنه محذوف. والثاني: أن يكونَ الجملةَ من» كم «وما في حَيِّزها؛ لأنها معلِّقَةٌ له فهي سادَّة مَسَدَّ مفعولِه. الوجه السادس: أنَّ الفاعلَ» كم «، قاله الحوفي وأنكره على قائله؛ لأنَّ» كم «استفهامٌ لا يَعْمل فيها ما قبلها. قال الشيخ: «وليست هنا استفهاماً بل هي خبرية» . واختار الشيخ أن يكون الفاعلُ ضميرَ الله تعالى فقال: «وأحسنُ التخاريجِ أن يكونَ الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى فكأنه قال: أفلم يبيِّنِ الله. ومفعول» يُبَيِّن «محذوفٌ أي: العبر بإهلاك القرونِ السابقة. ثم قال: {كَمْ أَهْلَكْنَا} أي: كثيراً أَهْلَكْنا ف» كم «مفعولةٌ بأهلكنا، والجملةُ كأنها مفسِّرةٌ للمفعولِ المحذوف ل» يَهْدِ «.

قوله: {مِّنَ القرون} في محلِّ نصبٍ نعتاً ل» كم «لأنها نكرة. ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من النكرة. ولا يجوزُ أن يكونَ تمييزاً على قواعد البصريين، و» مِنْ «داخلةٌ عليه على حَدِّ دخولِها على غيرِه من التمييزات لتعريفِه. وقرأ العامَّةُ» يَهْدِ «بياءِ الغَيْبة. وتقدَّم الكلامُ في فاعِله. وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن بالنونِ المُؤْذِنَةِ بالتعظيم، وهي مؤيدةٌ لكونِ الفاعلِ في قراءةِ العامَّةِ ضميرَ الله تعالى. قوله: {يَمْشُونَ} حالٌ من القرون أو مِنْ مفعولِ» أهلَكْنا «. والضميرُ على هذين عائدٌ على القرونِ المُهْلَكَة. ومعناه: إنَّا أهلكناكم وهم في حالِ أَمْنٍ ومَشْيٍ وتَقَلُّبٍ في حاجاتهم كقوله: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في» لهم «. والضميرُ في» يَمْشُون «على هذا عائدٌ على مَنْ عاد عليه الضمير في» لهم «، وهم المشركون المعاصرون لرسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم. والعاملُ فيها» يَهْدِ «. / و [المعنى] : أنكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفةِ، وتتصرَّفون في بلادهم، فينبغي أَنْ تعتبروا لئلاَّ يَحُلَّ بكم ما حلَّ بهم. وقرأ ابن السميفع» يُمَشَّوْن «مبنياً للمفعول مضعَّفاً؛ لأنه لَمَّا تعدى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول.

129

قوله: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} : في رفعِه وجهان، أظهرُهما: عطفُه على «كلمةٌ» أي: ولولا أجلٌ مُسَمَّى لكان العذابُ لازماً لهم.

الثاني: جَوَّزه الزمخشريُّ وهو أَنْ يكونَ مرفوعاً عطفاً على الضمير المستتر. والضميرُ عائدٌ على الأخذِ العاجلِ المدلولِ عليه بالسياقِ. وقام الفصلُ بالجرِّ مَقامَ التأكيدِ. والتقدير: ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِنْ ربك لكان الأخذُ العاجل وأجلٌ مُسَمَّى لازِمَيْن لهم، كما كانا لازِمَيْنِ لعادٍ وثمودَ، ولم ينفردِ الأجلُ المسمى دون الأخذِ العاجل. قلت: فقد جعل اسمَ «كان» عائداً على ما دَلَّ عليه السياقُ، إلاَّ أنه قد تُشْكِلُ عليه مسألةٌ: وهو أنه قد جَوَّز في «لزام» وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ مصدرَ لازَمَ كالخِصام، ولا إشكال على هذا. والثاني: أن يكون وصفاً على فِعال بمعنى مُفْعِل أي: مُلْزِم، كأنه آلةُ اللُّزوم لفَرْطِ لُزومه كما قالوا: لِزازُ خَصْمٍ، وعلى هذا فيُقال: كان ينبغي أَنْ يطابق في التثنية فيقال: لِزَامَيْنِ بخلاف كونه مصدراً فإنه يُفْرَدُ على كل حال. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ «لزاماً» جمعَ لازم كقِيام جمعَ قائِم.

130

قوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} : حالٌ أي: وأنت حامدٌ له. قوله: {وَمِنْ آنَآءِ الليل} متعلِّقٌ ب «سَبِّحْ» الثانيةِ، وقد تقدَّم ما في هذه الفاء. قوله: {وَأَطْرَافَ} العامَّةُ علت نصبِه. وفيه وجهان أحدُهما: أنه عطفٌ

على محلِّ {وَمِنْ آنَآءِ الليل} . والثاني: أنه عطفٌ على «قبلَ» . وقرأ الحسنُ وعيسى بنُ عمر «وأطرافِ» بالجرِّ عَطْفاً على «آناءِ الليل» . وقوله هنا «أطرافَ» وفي هود {طَرَفَيِ النهار} [الآية: 114] فقيل: هو مِنْ وَضْعِ الجمعِ موضعَ التثنيةِ كقوله: 3329 - ظَرْاهما مثلُ ظُهورِ التُّرْسَيْنْ ... وقيل: هو على حقيقتِه. والمرادُ بالأَطْراف: الساعات. قوله: {ترضى} قرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم تُرْضَى «مبنياً للمفعول. والباقون مبنياً للفاعلِ، وعليه {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] .

131

قوله: {أَزْوَاجاً} : في نصبِه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المفعولِ به وهو واضح. والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من الهاء في «به» . راعى لفظَ «ما» مرةً، ومعناها أخرى، فلذلك جَمَع. قال الزمخشري: «ويكون الفعلُ واقعاً على» منهم «. قال الزمخشري:» كأنه قيل: إلى الذي مَتَّعْنا به وهو أصنافُ بعضِهم وناساً منهم «. قوله: {زَهْرَةَ} في نصبه تسعة أوجه، أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ لأنه ضَمَّن مَتَّعْنا معنى أَعْطَيْنا. ف» أزواجاً «مفعولٌ أولُ، و» زهرةَ «هو الثاني. الثاني: أن يكونَ بدلاً من» أَزْواجاً «، وذلك: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذوي زهرة، وإمَّا

على المبالغةِ جُعِلوا نفسَ الزهرة. الثالث: أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ دَلَّ عليه» مَتَّعْنا «تقديرُه: جَعَلْنا لهم زهرةً. الثالث: نَصْبُه على الذَّمِّ، قال الزمخشري:» وهو النصبُ على الاختصاص «. الرابع: أن يكونَ بدلاً من موضعِ الموصولِ. قال أبو البقاء:» واختاره بعضُهم. وقال آخرون: لا يجوزُ لأنَّ قولَه {لِنَفْتِنَهُمْ} مِنْ صلة «مَتَّعْنا» فيلزمُ الفصلُ بين الصلةِ والموصولِ بالأجنبي «. وهو اعتراضٌ حسنٌ. الخامس: أن ينتصبَ على البدلِ من محلِّ» به «. السادس: أن ينتصِبَ على الحال مِنْ» ما «الموصولةِ. السابع: أنه حالٌ من الهاء في» به «وهو ضميرُ الموصولِ فهو كالذي قبله في المعنى، فإنْ قيل: كيف تقع الحالُ معرفةً؟ فالجوابُ أن تجعلَ» زهرةَ «منونةً نكرة، وأنما حُذِفَ التنوينُ لالتقاء الساكنين نحو: 3330 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا وعلى هذا: فيم جُرَّتِ الحياة؟ فقيل: على البدل مِنْ» ما «الموصولة. الثامن: أنه تمييزٌ ل» ما «أو للهاءِ في» به «قاله الفراء. وقد رَدُّوه عليه بأنه

معرفةٌ، والمميِّزُ لا يكون معرفة. وهذا غيرُ لازمٍ له؛ لأنه يجوزُ تعريفُ التمييز على أصول الكوفيين. التاسع: أنه صفةٌ ل» أَزْواجاً «بالتأويلين المذكورَيْن في نصبِه حالاً. وقد منع أبو البقاء من هذا الوجهِ بكونِ الموصوفِ نكرةً، والوصفِ معرفةً، وهذا يُجابُ عنه بما أُجيب في تسويغِ نصبهِ حالاً، أعني حذفَ التنوينِ لالتقاءِ الساكنين. والعامَّةُ على تسكينِ الهاء. وقرأ الحسن وأبو البرهسم وأبو حيوةَ بفتحِها، فقيل: بمعنى، ك جَهْرَة وجَهَرَة. وأجاز الزمخشري أَنْ يكونَ جمعَ زاهر كفاجِر وفَجَرة وبارّ وبَرَرَة، وروى الأصمعي عن نافع» لنُفْتِنَهم «بضمِّ النون مِنْ أَفْتَنَه إذا أوقعه في الفتنةِ. والزَّهْرَةُ: بفتحِ الهاء وسكونِها كنَهْر ونَهَر، ما يَرُوْقُ من النَّوْر. وسِراجٌ زاهِرٌ لبريقِه، ورجلٌ أزهرُ وأمرأةٌ زهراءُ من ذلك. والأنجمُ الزهرُ هي المضيئةُ.

132

قوله: {للتقوى} : أي: لأهلِ التقوى. ويؤيد هذا قولُه في موضعٍ أخرَ {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] ، وقرأ ابن وثاب «نَرْزقُك» بإدغام

القاف في الكاف. / والمشهورُ عنه أنه لا يدُغِمُ إلاَّ إذا كانَتِ الكافُ متصلةً بميمٍ جمعٍ نحو {خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] وقد تقدم.

133

قوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ} : قرأ نافع وأبو عمرو وحفص «تأتهم» بالتأنيثِ والباقون بالياء مِنْ تحت؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي. وقرأ العامَّةُ «بَيِّنَةُ ما» بإضافة «بَيِّنَة» إلَى «ما» مرفوعةً وهي واضحةٌ. وقرأ أبو عمروٍ فيما رواه أبو زيدٍ بتنوينِ «بَيِّنَةٌ» مرفوعةً. وعلى هذه القراءةِ ففي «ما» أوجهٌ، أحدُها: أنها بدلٌ من «بَيِّنَةٌ» بدل كل من كل. والثاني: أن تكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هي ما في الصحف الأولى. والثالث أَنْ تكونَ «ما» نافيةً. قال صاحب: اللوامح «:» وأُريدَ بذلك ما في القرآن من الناسخ والفصلِ ممَّا لم يكنْ في غيرِه من الكتب «. وقرأَتْ جماعةٌ» بَيِّنَةً «بالتنوين والنصب. ووجهُها أَنْ تكونَ» ما «فاعلةً، و» بَيِّنَةً «نصب على الحال، وأنَّث على معنى» ما «. ومَنْ قرأ بتاء التأنيث فحملاً على معنى» ما «، ومَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة فعلى لفظِها. وقرأ ابنُ عباس بسكونِ الحاء.

134

والهاءُ في «قَبْلِهِ» يجوزُ أَنْ تعودَ للرسول بدليلِ قولِه: {لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} . وجَوَّز الزمخشري وغيرُه أَنْ تعودَ على «بَيِّنَةٍ» باعتبارِ أنها في معنى البرهان والدليل.

قوله: {فَنَتَّبِعَ} نصبٌ بإضمار «أَنْ» في جوابِ التخصيص. وفي إعراب أبي البقاء: «في جوابِ الاستفهام» وهو سهوٌ. وقرأ ابنُ عباس وابنُ الحنفية والحسن وجماعةٌ كثيرة «نُذَلَّ ونخزى» . مبنيين للمفعول.

135

و «مُتَرَبِّصٌ» خبرُ «كل» ، أَفرَدَ حملاً على لفظ «كل» . قوله: {مَنْ أَصْحَابُ} يجوز في «مَنْ» هذه وجهان، أظهرهما: أَنْ تكونَ استفهاميةً مبتدأةً، و «أصحابُ» خبره. والجملةُ في محلِّ نصبٍ سادَّة مَسَدَّ المفعولَيْن. والثاني ويعزى للفراء أن تكونَ موصولةً بمعنى الذين. و «أصحابُ» خبر مبتدأ مضمر أي: هم أصحاب، وهذا على مقتضى مذهبِهم، يحذفون مثلَ هذا العائدِ وإن لم تَطُلِ الصلةُ. ثم «عَلِمَ» يجوز أَنْ تكونَ عرفانيةً فتكتفيَ بهذا المفعولِ، وأن تكون على بابها فلا بُدَّ مِنْ تقديرِ ثانيهما. وقرأ العامَّةُ: «السَّوِيِّ» على وزن فَعيل بمعنى المُسْتَوي. وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير «السَّواء» بفتحِ السينِ والمدِّ، بمعنى الوسط الجيِّد. وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري «السوءى» على فعلى باعتبار أن الصراط يُذَكَّرُ ويؤنث. وقرأ ابن عباس «السَّوْء» بفتح السين بمعنى الشرِّ.

ورُوي عنهما «السوى» بضم السين وتشديد الواو. ويحتمل ذلك وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ قَلَبَ الهمزةَ واواً، وأدغم الواوَ في الواو، وأَنْ يكونَ فُعْلَى من السَّواء. وأصلُه السُّوْيا فقُلِبَتِ الياءُ واواً وأُدْغم أيضاً. وكان قياسُ هذه السُّيَّا؛ لأنه متى اجتمع ياءٌ وواوٌ وسَبَقت إحداهما بالسكون قُلبت الواوُ ياءً وهنا فُعِل بالعكس. وقُرِىء «السُّوَيِّ» بضم السين وفتح الواو وتشديد الياءِ تصغيرَ «سُوْء» قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وليس بجيدٍ إذ لو كانَ كذلك لثَبَتَتْ همزةُ» سوء «. والأجودُ أَنْ يكونَ تصغيرَ» سواء «، كقولِهم عُطَيّ في عَطاء» . قلت: وقد جعله أبو البقاء أيضاً تصغيرَ السَّوْء يعني بفتح السين. ويَرِدُ عليه ما تقدَّم إيرادُه على الزمخشريِّ، وإبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ جائزٌ فلا إيرادَ. قوله: {وَمَنِ اهتدى} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ استفهاميةً، وحكمُها كالتي قبلها إلاَّ في حَذْفِ العائِد. الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ على ما تقدَّم في الاستفهاميةِ. الثالث: أنها في محلِّ جرٍّ نَسَقاً على «الصراطِ» أي: وأصحابُ مَنِ اهتدى. وعلى هذين الوجهين تكونُ موصولةً، قال أبو البقاء في الوجه الثاني: «وفيه عَطْفُ الخبرِ على الاستفهام، وفيه تقويةٌ قولِ الفرَّاءِ» يعني أنه إذا جَعَلَها موصولةً كانت خبريةً.

الأنبياء

قوله: {اقترب لِلنَّاسِ} : اللامُ متعلقٌ ب «اقترب» . قال الزمخشري: «هذه اللامُ لا تخلُو: إمَّا أَنْ تكونَ صلةً لاقترب، أو تأكيداً لإِضافةِ الحسابِ إليهم كقولك: أَزِفَ للحَيِّ رحيلُهم الأصل: أَزِفَ رحيلُ الحيِّ، ثم أَزِفَ للحيِّ الرحيلُ، ثم أزف للحيِّ رحيلُهم، ونحوه ما أوردَه سيبويه في باب» ما يثنى فيه المستقِرُّ توكيداً «نحو:» عليك زيدٌ حريصٌ عليك «، و» فيك زيد راغب فيك «، ومنه قولهم:» لا أبا لك «لأنَّ اللاَم مؤكدةٌ لمعنى الإِضافة. وهذا الوجهُ أغربُ من الأول. قال الشيخ: /» يعني بقولِه صلةً لاقتربَ أي: متعلقةً به. وأمَّا جَعْلُه اللامَ تأكيداً لإِضافة الحسابِ إليهم مع تقدُّمِ اللامِ ودخولِها على الاسمِ الظاهرِ، فلا نعلم أحداً يقول ذلك، وأيضاً فتحتاج إلى ما تتعلَّقُ به. ولا يمكن تعلُّقها ب «حسابُهم» ؛ لأنه مصدرٌ موصولٌ، لأن قُدِّم معمولُه عليه. وأيضاً فإنَّ التوكيدَ يكونُ متأخراً عن المُؤَكَّد، وأيضاً فلو أُخِّر في هذا التركيبِ لم يَصِحَّ. وأمَّا تشبيهُه بما أورد سيبويهِ فالفرقُ واضحٌ

فإنَّ «عليك» معمولٌ ل «حريصٌ» ، و «عليك» المتأخرةُ تأكيدٌ، وكذلك «فيك زيدٌ راغبٌ فيك» يتعلَّقُ «فيك» ب «راغبٌ» ، و «فيك» الثانيةُ توكيدٌ. وإنما غَرَّه في ذلك صحةُ تركيبِ حسابِ الناس، وكذلك «أَزِفَ رحيلُ الحيِّ» فاعتقدَ إذا تقدَّم الظاهرُ مجروراً باللامِ وأُضيف المصدرُ لضميرِه أنَّه من بابِ «فيك زيد راغب فيك» ، فليس مثلَه. وأمَّا «لا أبا لك» فهي مسألةٌ مشكلةٌ، وفيها خلاف، ويمكن أن يقال فيها ذلك؛ لأنَّ اللامَ فيها جاوَرَتِ الإِضافةَ، ولا يُقاس عليها لشذوذِها وخروجها عن الأقيسةِ «. قلت: مسألةُ الزمخشري أشبهُ شيءٍ بمسألةِ» لا أبا لَك «، والمعنى الذي أَوْرده صحيحٌ. وأمَّا كونُها مشكلةً فهو إنما بناها على قولِ الجمهورِ، والمُشْكِلُ مقررٌ في بابِه، فلا يَضُرُّنا القياسُ عليه لتقريرِه في مكانِه. قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} يجوز أَنْ يكونَ الجارُّ متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في» مُعْرِضُون «، وأن يكون خبراً للضمير، و» مُعْرِضون «خبر ثانٍ. وقولُ أبي البقاء في هذا الجارِّ» إنه خبرٌ ثانٍ «يعني في العددِ، وإلاَّ فهو أولٌ في الحقيقة. وقد يقال: لَمَّا كان في تأويلِ المفرد جُعِل المفردُ الصريحُ مقدَّماً في الرتبةِ فهو ثانٍ بهذا الاعتبارِ. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من» للناس «.

2

قوله: {مُّحْدَثٍ} : العامَّةُ على جَرِّ «من» مُحْدَثٍ «نعتاً ل» ذِكْرٍ «على اللفظِ. وقوله: {مِّن رَّبِّهِمْ} فيه أوجهٌ، أجودُها: أن يتعلَّقَ ب» يَِأْتيهم «وتكونُ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ مجازاً. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الضمير المستترِ في» مُحْدَثٍ «. الثالث: أن يكونَ حالاً مِنْ نفسِ» ذِكْرٍ «وإنْ

كان نكرةً لأنَّه قد تَخَصَّصَ بالوصفِ ب» مُحْدَثٍ «، وهو نظيرُ» ما جاءني رجلٌ قائماً منطلقٌ «فَفَصَل بالحالِ بين الصفةِ والموصوفِ. وأيضاً فإنَّ الكلامَ نفيٌ وهو مُسَوِّغٌ لمجيء الحالِ من النكرةِ. الرابع: أَنْ يكونَ نعتاً ل» ذِكْر «فيجوزُ في محلِّه الوجهان: الجرُّ باعتبارِ اللفظِ، والرفعُ باعتبارِ المحلِّ لأنه مرفوعُ المحل إذ» مِنْ «مزيدةٌ فيه، وسيأتي. وفي جَعْلِه نعتاً ل» ذِكْرٍ «إشكالٌ من حيث إنه قد تقدَّم غيرُ الصريحِ على الصريحِ. وتقدَّم تحريرُه في المائدة. الخامس: أَنْ يتعلَّقَ بمَحذوفٍ على سبيلِ البيان. وقرِأ ابنُ أبي [عَبْلة] » مُحْدَثٌ «رفعاً نعتاً ل» ذِكْرٍ «على المحلِّ لأنَّ» مِنْ «مزيدةٌ فيه لاستكمالِ الشرطين. وقال أبو البقاء:» ولو رُفِع على موضع «مِنْ ذكْر» جاز «. كأنه لم يَطَّلِعْ عليه قراءةً. وزيدُ بنُ علي» مُحْدَثاً «نصباً على الحال مِنْ» ذِكْر «، وسَوَّغ ذلك وصفُه ب» مِنْ ربِّهم «إنْ جَعَلْناه صفةً، أو اعتمادُه على النفي. ويجوز أن يكونَ من الضمير المستتر في» مِنْ ربهم «إذا جَعَلْناه صفةً. قوله: {إِلاَّ استمعوه} هذه الجملةُ حالٌ من مفعول» يأتيهم «، وهو استثناءٌ مفرغٌ، و» قد «معه مضمرةٌ عند قوم. قوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حالٌ مِنْ فاعل» استمعوه «.

3

قوله: {لاَهِيَةً} : يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعل «اسْتَمَعوه» عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الحالِ فتكونَ الحالان مترادِفَتَيْنِ، وأن تكون

حالاً من فاعل «يَلْعَبون» فتكونَ الحالان متداخلتين. وعَبَّر الزمخشري عن ذلك فقال: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} حالان مترادفتان أو متداخلتان «وإذا جعلناهما حالَيْنِ مترادفتين ففيه تقديمُ الحالِ غيرِ الصريحة على الصريحة، وفيه من البحثِ كما في باب النعت. و» قلوبُهم «مرفوعٌ ب» لاهِيَةً «. والعامَّةُ على نصب» لاهِيَةً «. وابنُ أبي عبلة بالرفع على أنها خبرٌ ثانٍ بقولِه» وهم «عند مَنْ يُجَوِّز ذلك، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ عند مَنْ لا يُجَوِّزه. قوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} يجوزُ في محلِّ» الذين «ثلاثةُ أوجهٍ: الرفعُ والنصبُ والجرُّ. فالرفعُ مِنْ أوجهٍ، أحدها: أنه بدلٌ من واو» أَسَرُّوا «تنبيهاً على اتِّسامهم بالظلمِ الفاحش، وعزاه ابن عطية لسيبويه، وغيره للمبرد. الثاني: أنه فاعلٌ. والواوُ علامةُ جمعٍ دَلَّتْ على جمعِ الفاعل، كما تَدُلُّ التاءُ على تأنيثه، وكذلك يفعلون في التثنية فيقولون: قاما أخواك. وأنشدوا: 3331 - يَلُوْمونني في اشتراء النَّخي ... لِ أهلي فكلُّهُمُ أَلْوَمُ وقد تقدَّمت هذه المسألة في المائدة عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ

كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [الآية: 71] وإليه ذهب الأخفش وأبو عبيدة. وضعَّف بعضُهم هذه اللغةَ، وبعضُهم حَسَّنها ونسبها لأزد شنوءة، وقد تقدمت هذه المسألة في المائدة عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} . الثالث: أن يكونَ» الذين «مبتدأً، و» أَسَرُّوا «جملةً خبريةً قُدِّمَتْ على المبتدأ، ويُعْزَى للكسائي. الرابع: أن يكون» الذين «مرفوعاً بفعلٍ مقدرٍ فقيل تقديره: يقولُ الذين. واختاره النحاس قال:» والقول كثيراً ما يُضْمَرُ. ويَدُلُّ عليه قولُه بعد ذلك: {هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} . وقيل: تقديرُه: أَسَرَّها الذين ظلموا. الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هم الذين ظلموا. السادس: أنه مبتدأٌ. وخبرُه الجملةُ من قوله: {هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ} ولا بُدَّ من إضمار القولِ على هذا القول تقديرُه: الذين ظلموا يقولون: هل هذا إلاَّ بَشَرٌ، والقولُ يُضمر كثيراً. والنصبُ مِنْ وجهين، أحدُهما: الذمُّ. الثاني: إضمار أعني. والجرُّ من وجهين أيضاً: أحدهما: النعت، والثاني: البدلُ، من «للناس» ، ويعزى هذا للفراءِ وفيه بُعْدٌ.

قوله: {هَلْ هاذآ} إلى قوله: {تُبْصِرُونَ} يجوز في هاتَيْن الجملتين الاستفهاميتين أَنْ يكونا في محلِّ نصب بدلاً من «النجوى» ، وأَنْ يكونا في محلِّ نصبٍ بإضمار القول. قالهما الزمخشريُّ، وأَنْ يكونا في محلِّ نصبٍ على أنهما محكيَّتان بالنجوى، لأنها في معنى القولِ. {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل «تَأْتُون» .

4

قوله: {قُلْ رَبِّي} : قرأ الأخَوان وحفصٌ «قال» على لفظِ الخبرِ. والضميرُ للرسولِ عليه السلام. والباقون «قُلْ» على الأمرِ له. قوله: {فِي السمآء} في أوجهٌ، أحدها: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من القول. والثاني: أنه حالٌ من فاعل «يعلمُ» . وضَعَّفَه أبو البقاء، وينبغي أَنْ يمتنعَ. والثالث: أنه متعلقٌ ب «يَعْلَمُ» ، وهو قريبٌ مِمَّا قبله. وحَذْفُ متعلَّق السميع العليم للعلمِ به.

5

قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} : خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو أضغاثُ. والجملةُ نصبٌ بالقول. قوله: {كَمَآ أُرْسِلَ} يجوزُ في هذه الكاف وجهان، أحدهما: أن تكونَ في محلِّ جرٍّ نعتاً ل «آيةٍ» أي: بآية مثلِ آيةِ إرسالِ الأوَّلين. ف «ما» مصدريةٌ. والثاني: أن تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: إتياناً مثلَ إرسال الأولين.

6

قوله: {أَهْلَكْنَاهَآ} و {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} : قد تقدَّمَ نظيرُه.

7

قوله: {نوحي إِلَيْهِمْ} : قرأ حفصٌ «نُوْحي» بنون العظمة مبنياً للفاعلِ أي: نوحي نحن. والباقون بالياء وفتحِ الحاء مبنياً للمفعولِ، وقد تقدَّم ذلك في يوسف. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ نعتاً ل «رِجالاً» و «إليهم» في القراءةِ الأُوْلى منصوبُ المحلِّ. والمفعولُ محذوفٌ أي: نُوحي إليهم القرآنَ أو الذِّكْرَ، ومرفوعُ المحلِّ في القراءةِ الثانيةِ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ. قوله: {إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} جوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي: فاسْأَلوهم، حُذِفَ لدلالةِ ما تقدَّم عليه. ومفعولا العِلْمِ يجوز أَنْ يُرادا أي: لا تَعْلمون أنَّ ذلك كذلك، ويجوزُ أن لا يُرادا أي: إنْ كنتم مِنْ غيرِ ذوي العلمِ.

8

قوله: {لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} : في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنَّها في محلِّ نصب نعتاً ل «جَسَداً» ، و «جَسَداً» مفردٌ يُراد به الجمعُ، وهو على حذفِ مضافٍ أي: ذوي أجسادٍ غيرِ آكلينَ الطعامَ. وهذا رَدٌّ لقولِهم: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} [الفرقان: 7] . و «جعل» يجوز أن يكونَ بمعنى صَيَّر فيتعدى لاثنين، ثانيهما «جسداً» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى خلق وأنشأ فيتعدى لواحدٍ، فيكون «جسداً» حالاً بتأويلِه بمشتقٍ أي: مُتَغَذِّيْنَ؛ لأنَّ الجسدَ لا بُدَّ له من الغذاءِ. وقال أبو البقاء: «إنَّ» لا يأكلون «حالٌ أخرى بعد» جَسَداً «إذا قلنا

إنَّ» جعل «يتعدى لواحدٍ» . وفيه نَظَرٌ، بل هي صفةٌ ل «جَسَداً» بالاعتبارين، لا يليق المعنى إلاَّ به.

9

قوله: {صَدَقْنَاهُمُ الوعد} : «صَدَق» يتعدَّى لاثنينِ إلى ثانيهما بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذف. تقولُ: صَدَقْتُك الحديثَ، وفي الحديث. نحو: أمر واستغفر وقد تقدَّم في آل عمران.

10

قوله: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً في محلِّ نصبٍ صفةً ل «كتاباً» ويجوزُ أَنْ يكونَ «فيه» هو الوصفَ وحدَه و «ذِكْرُكم» فاعلٌ. وقال بعضهم: «في الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديرُه: فيه ذِكْرُ شَرَفِكم. و» ذَكَر «هنا مصدرٌ يجوز أن يكونَ مضافاً لمفعولِه أي: ذِكْرُنا إياكم. ويجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه أي: ما ذَكَرْتُمْ من الشِّرْك وتكذيبِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

11

قوله: / {وَكَمْ قَصَمْنَا} : في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً ب «قَصَمْنا» . و «من قرية» تمييزٌ. والظاهرُ أنَّ «كم» هنا خبريةٌ لأنها تفيدُ التكثيرَ. قوله: {كَانَتْ ظَالِمَةً} في محلِّ جرٍّ صفةً ل «قريةٍ» . ولا بُدَّ من مضافٍ محذوفٍ قبل «قرية» أي: وكم قَصَمْنا من أهلِ قرية بدليلِ عَوْدِ الضميرِ في قوله: {فلمَّا أحَسُّوا} ولا يجوز أَنْ يعودَ على قولِه «قوماً» ؛ لأنه لم يَذْكُرْ لهم ما يَقْتَضي ذلك.

12

قوله: {إِذَا} : هذه فجائيةٌ. وقد تقدَّمَ الخلافُ فيها مُشْبَعاً. و «هم» مبتدأٌ، و «يَرْكُضون» خبرُه، وتقدَّم في أولِ هذه الموضوعِ أنَّ هذه الآيةَ وأمثالَها دالَّةٌ على أن «لَمَّا» ليست ظرفيةً، بل حرفُ وجوبٍ لوجوب لأنَّ الظرفَ لا بُدَّ له مِنْ عاملٍ ولا عاملَ هنا لأنَّ ما بعدَ إذا لا يعملُ فيما قبلَها. والجواب: أنه عَمِل فيها معنى المفاجأةِ المدلولِ عليه ب «إذا» . والضميرُ في «مِنْها» يعودُ على «قرية» . ويجوز أَنْ يعودَ على «بَأْسَنا» لأنه في معنى النِّقْمة والبأساء، فَأَنَّثَ الضميرَ حملاً على المعنى. و «مِنْ» على الأولِ لابتداءِ الغايةِ، وللتعليل على الثاني. والرَّكْضُ: ضَرْبُ الدابَّة بالرِّجْلِ. يُقال: رَكَضَ الدابَّةَ يَرْكُضها رَكْضاً.

15

قوله: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} : اسم «زالَتْ» «تلك» و «دعواهم» الخبرُ، هذا هو الصواب. وقد قال الحوفي والزمخشري وأبو البقاء بجواز العكس. وهو مردودٌ بأنه إذا خَفِي الإِعرابُ مع استوائِهما في المُسَوِّغ لكونِ كلٍ منهما اسماً أو خبراً وَجَبَ جَعْلُ المتقدِّم اسماً والمتأخرِ خبراً، وهو من باب «ضرب موسى عيسى» وقد تقدَّم إيضاحُ هذا في أول سورة الأعراف. وهناك شيءٌ لا يتأتى ههنا فَلْيُلْتَفَتْ إليه. و «تلك» إشارةٌ إلى الجملةِ المقولة.

قوله: {حَصِيداً} مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجعلَ هنا تصييرٌ. و {حَصِيداً خَامِدِينَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ من باب «هذا حلوٌ حامِضٌ» . كأن قيل: جَعَلْناهم جامعين بين الوصفين جميعاً. ويجوز أن يكونَ «خامِدِيْن» حالاً من الضمير في «جَعَلْناهم» ، أو من الضميرِ المستكنِّ في «حَصِيداً» فإنَّه في معنى مَحْصُود. ويجوزُ أن يكونَ مِنْ باب ما تعدَّد فيه الخبرُ نحو: «زيدٌ كاتبٌ شاعرٌ» . وجَوَّز أبو البقاء فيه أيضاً أن يكونَ صفةً ل «حَصيداً» وحَصِيد بمعنى مَحْصود كما تقدَّم؛ فلذلك لم يُجْمع. وقال أبو البقاء: «والتقدير: مثل حصيدٍ، فلذلك لم يُجْمع كما لم يُجْمَعْ» مثل «المقدر» انتهى. وإذا كان بمعنى مَحْصُودين فلا حاجة.

16

قوله: {لاَعِبِينَ} : حالٌ من فاعل «خَلَقْنا» .

17

قوله: {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} : في «إنْ» هذه وجهان، أحدهما: أنها نافيةٌ أي: ما كُنَّا فاعلين. والثاني: أنها شرطيةٌ. وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ جوابِ «لو» عليه. والتقدير: إنْ كُنَّا فاعلينَ اتَّخَذْناه.

18

قوله: {فَيَدْمَغُهُ} : العامَّةُ على رفع الغين نَسَقاً على ما قبله. وقرأ عيسى بن عمر بنصبِها. قال الزمخشري: «وهو في ضَعْفِ

قولِه: 3332 - سأَتْركُ منزلي لبني تميمٍ ... وألحقُ بالحجازِ فَأَسْتَريحا وقرىء شاذاً» فيَدْمُغُه «بضمِّ الميم، وهي محتملةٌ لأن يكونَ في المضارع لغتان: يَفْعَلُ ويَفْعُل، وأن يكونَ الأصلُ الفتحَ، والضمة للإِتباع في حرف الحلق. ويدمغه: أي يصيب دماغه، من قولهِم دَمَغْتُ الرجلَ أي: ضَرَبْتُه في دماغِه كقولهم رَأَسَه وكَبَده ورَجَله، إذا أصاب منه هذه الأعضاءَ. قوله: {مِمَّا تَصِفُونَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه متعلقٌ بالاستقرار الذي تَعَلَّق به الخبرُ أي: استقرَّ لكم الويلُ من أجلِ ما تَصِفُون. و» مِنْ «تعليليَّةٌ. وهذا وجهٌ وجيهٌ. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ، والثالث: أنه حالٌ من الويلِ أي: الويلُ واقعاً مِمَّا تَصِفون، كذا قَدَّره أبو البقاء. و» ما «في {مِمَّا تَصِفُونَ} يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً فلا عائدَ عند الجمهورِ، وأن تكونَ بمعنى الذي، أو نكرةً موصوفةً ولا بُدَّ من العائد، عند الجميع، حُذِف لاستكمالِ الشروطِ.

19

قوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ} : يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على «مَنْ» الأولى. أخبرَ تعالى عن مَنْ في السماوات والأرض، وعن مَنْ عنده بأنَّ الكلَّ له في مِلْكِه، وعلى هذا فيكون من باب ذِكْرِ الخاصِّ بعد العام مَنْبَهَةً على شرفه. لأنَّ قولَه: {مَن فِي السماوات} شَمَل مَنْ عنده، وقد مَرَّ

نظيرُه في قولِه: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . وقوله: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} على هذا فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه حال/ مِنْ «مَنْ» الأولى أو الثانية أو منهما معاً. وقال أبو البقاء: «حالٌ: إمَّا مِن الأولى أو الثانيةِ على قولِ مَنْ رَفَع بالظرف» يعني أنَّه إذا جَعَلْنا «مَنْ» في قولِه {وَلَهُ مَن فِي السماوات} مرفوعاً بالفاعليةِ، والرافعُ الظرفُ؛ وذلك على رأي الأخفش، جاز أَنْ يكونَ «لا يَسْتبكرون» حالاً: إمَّا مِنْ «مَنْ» الأولى، وإمَّا مِن الثانية؛ لأن الفاعلَ يجيءُ منه الحالُ. ومفهومُه أنَّا إذا جَعَلْنا مبتدأً لا يجيءُ «يستكبرون» حالاً، وكأنه يرى أنَّ الحالَ لا تجيءُ من المبتدأ، وهو رأيٌ لبعضِهم. وفي المسألةِ كلامٌ مقررٌ في غيرِ هذا الموضوعِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ «لا يستكبرون» حالاً من الضميرِ المستكنِّ في «عندَه» الواقعِ صلةً، وأن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في «له» الواقع خبراً. والوجهُ الثاني من وجهَيْ «مَنْ» : أن تكونَ مبتدأً، و «لا يستكبرون» خبرُه، وهذه جملةٌ معطوفةٌ على جملةٍ قبلَها. وهل الجملةُ مِنْ قوله {وَلَهُ مَن فِي السماوات} استئنافيةٌ أو معادِلَةٌ لجملة قولِه: {وَلَكُمُ الويل} أي: لكم الوَيْلُ، ولله تعالى جميعُ العالَمِ عُلْوِيِّه وسُفْلِيِّه؟ والأولُ أظهرُ. ولا يَسْتَحْسِرون أي: لا يَكِلُّون ولا يَتْبعون. يقال: اسْتَحْسر البعيرُ أي كَلَّ وتَعِب. قال: علقمة بن عبدة: 3333 - بها جِيَفُ الحسرى فأمَّا عِظامُها ... فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ

ويقال: حَسَر البعيرُ، وحَسَرْته أنا، فيكون لازماً ومتعدياً. وأَحْسَرْتُه أيضاً. فيكون فَعَل وأفْعَلَ بمعنىً في أحدِ وجهَيْ فَعَل. قال الزمخشري: «الاستحسارُ مبالغةٌ في الحُسورِ. فكان الأبلغُ في وصفِهم أَنْ ينفيَ عنهم أَدْنى الحُسورِ. قلت: في الاستحسارِ بيانُ أنَّ ما هُمْ فيه يوجب غايةَ الحُسور وأقصاه، وأنَّهم أَحِقَّاءُ لتلك العباداتِ الباهظة بأَنْ يَسْتَحْسِروا فيما يَفْعلون» وهو سؤالٌ حسنٌ وجوابٌ مطابق.

20

قوله: {يُسَبِّحُونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً من الفاعل في الجملةِ قبلَه. و {لاَ يَفْتُرُونَ} يجوز فيه الاستئنافُ والحالُ من فاعلِ «يُسَبِّحون» .

21

قوله: {أَمِ اتخذوا} : هذه «أم» المنقطعةُ، فتتقدَّرُ ب بل التي لإِضرابِ الانتقال، وبالهمزةِ التي معناها الإِنكار. و «اتَّخذ» يجوزُ أََنْ يكونَ بمعنى صَنَع، فتتعلَّقَ «مِن» به. وجَوَّز الشيخُ أن يكونَ بمعنى صَيَّر التي في قوله: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] قال: «وفيه معنى الاصطفاءِ والاختيار» . و {مِّنَ الأرض} يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالاتخاذ كما تقدَّم، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها نعتٌ ل «آلهة» أي: مِنْ جنسِ الأرض. قوله: {هُمْ يُنشِرُونَ} جملةٌ في محلِّ نصبٍ صفةً لآلهة. وقرأ العامَّةُ «يُنْشِرون» بضمِّ حرفِ المضارعة مِنْ أَنْشَر. وقرأ الحسن بفتحها وضم الشين يُقال: أَنْشَر اللهُ الموتى فَنَشَروا، ونَشَر يكون لازماً ومتعدياً.

22

قوله: {إِلاَّ الله} : «إلاَّ» هنا صفةٌ للنكرة قبلها بمعنى «غَيْر» . والإِعرابُ فيها متعذَّر، فَجُعِل على ما بعدها. وللوصفِ بها شروطٌ منها: تنكيرُ الموصوفِ، أو قُرْبُه من النكرة بأَنْ يكونَ معرفاً بأل الجنسية. ومنها أَنْ يكونَ جمعاً صريحاً كالآية، أو ما في قوةِ الجمعِ كقوله: 3334 - لو كان غيري سُلَيْمى اليومَ غيَّره ... وَقْعُ الحوادِثِ إلاَّ الصارمُ الذَّكَرُ ف «إلاَّ الصارِمُ» صفةُ لغيري لأنه في معنى الجمع. ومنها أَنْ لا يُحْذَفَ موصوفُها عكسَ «غير» . وقد أَتْقَنَّا هذا كلَّه في «إِيضاحِ السبيل إلى شرح التسهيل» فعليك به. وأنشد سيبويهِ على ذلك قولَ الشاعر: 3335 - وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أخُوه ... لَعَمْرُ أبيكَ إلاَّ الفرقدانِ أي: وكلُّ أخٍ غيرُ الفرقدين مفارِقُه أخوه. وقد وقع الوصفُ ب إلاَّ كما وقع الاستثناء ب «غير» ، والأصلُ في «إلاَّ» الاستثناءُ وفي «غير» الصفةُ. ومن مُلَحِ كلامِ أبي القاسم الزمخشري: «واعلم أنَّ» إلاَّ «وغير يَتَقَارضان» . ولا يجوزُ أَنْ ترتفعَ الجلالةُ على البدل مِنْ «آلهة» لفسادِ المعنى. قال

الزمخشري: «فإن قلت: ما مَنَعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأنَّ» لو «بمنزلةِ» إنْ «في أنَّ الكلامَ معها موجَبٌ، والبدلُ لا يَِسُوغ إلاَّ في الكلام غيرِ الموجبِ كقوله تعالى: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك} [هود: 81] وذلك لأنَّ أعمَّ العامِّ يَصِحُّ نفيُه ولا يَصِحُّ إيجابُه» . فجعل المانعَ صناعياً مستنداً إلى ما ذُكِر مِنْ عدم صحةِ إيجاب أعمِّ العام. وأحسنُ مِنْ هذا ما ذكره أبو البقاء مِنْ جهة المعنى فقال: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً، لأنَّ المعنى يصيرُ إلى قولك: لو كان فيهما اللهُ لَفَسَدَتا، ألا ترى أنَّك لو قلت:» ما/ جاءني قومُك إلاَّ زيدٌ «على البدلِ لكان المعنى: جاءني زيدٌ وحدَه. ثم ذكر الوجه الذي رَدَّ به الزمخشريُّ فقال:» وقيل: يمتنعُ البدلُ لأنَّ قبلها إيجاباً «. ومنع أبو البقاء النصبَ على الاستثناء لوجهين، أحدُهما: أنه فاسدٌ في المعنى، وذلك أنك إذا قلتَ:» لو جاءني القومُ إلاَّ زيداً لقتلتُهم «كان معناه: أنَّ القَتْلَ امتنع لكونِ زيدٍ مع القوم. فلو نُصِبَتْ في الآية لكان المعنى: إنَّ فسادَ السماواتِ والأرض امتنع لوجود الله تعالى مع الآلهة. وفي ذلك إثباتُ إلهٍ مع الله. وإذا رُفِعَتْ على الوصفِ لا يلزمُ مثلُ ذلك؛ لأنَّ المعنى: لو كان فيهما غيرُ اللهِ لفسدتا. والوجهُ الثاني: أنَّ آلهة هنا نكرةٌ، والجمعُ إذا كان نكرةً لم يُسْتثنَ منه عند جماعةٍ من المحققين؛ إذ لا عمومَ له بحيث يدخلُ فيه المستثنى لولا الاستثناءُ» . وهذا الوجهُ الذي منعاه أعني الزمخشري وأبا البقاء قد أجازه

أبو العباس المبرد وغيره: أمَّا المبردُ فإنه قال: «جاز البدلُ لأنَّ ما بعد» لو «غيرُ موجَبٍ في المعنى. والبدلُ في غير الواجبِ أحسنُ من الوصفِ. وفي هذه نظرٌ من جهة ما ذكره أبو البقاء من فسادِ المعنى. وقال ابنُ الضائعِ تابعاً للمبرد: لا يَصِحُّ المعنى عندي إلاَّ أن تكون» إلاَّ «في معنى» غير «التي يُراد بها البدلُ أي: لو كان فيهما آلهةٌ عِوَضَ واحدٍ أي بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا. وهذا المعنى أرادَ سيبويه في المسألةِ التي جاء بها توطئةً. وقال الشَّلَوْبين في مسألةِ سيبويه» لو كان معنا رجلٌ إلاَّ زيدٌ لَغُلِبْنا «: إنَّ المعنى: لو كانَ معنا رجلٌ مكانَ زيد لَغُلبنا، ف» إلاَّ «بمعنى» غير «التي بمعنى مكان. وهذا أيضاً جنوحٌ من أبي عليّ إلى البدلِ. وما ذكره ابنُ الضائع من المعنى المتقدمِ مُسَوِّغٌ للبدل. وهو جوابٌ عَمَّا أَفْسَد به أبو البقاء وجهَ البدل، إذ معناه واضحٌ، ولكنه قريبٌ من تفسير المعنى لا من تفسيرِ الإِعراب.

24

قوله: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} : العامَّةُ على إضافة «ذِكْر» إلى «مَنْ» إضافةَ المصدرِ إلى مفعولِه، كقولِه تعالى: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص: 24] . وقُرِىء «ذِكْرٌ» بالتنوين فيهما، و «مَنْ» مفتوحة الميم، نُوِّنَ

المصدرُ ونُصِبَ به المفعولُ كقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14-15] . وقرأ يحيى بن يعمر «ذِكْرٌ» بتنوينه و «مِنْ» بكسرِ الميم، وفيه تأويلان، أحدُهما: أنَّ ثَمَّ موصوفاً محذوفاً قامَتْ صفتُه وهي الظرف مَقامَه. والتقدير: هذا ذِكْرٌ مِنْ كتاب معي، ومِنْ كتابٍ قبلي. والثاني: أنَّ «معي» بمعنى عندي. ودخولُ «مِنْ» على «مع» في الجملة نادرٌ؛ لأنها ظرفٌ لا يَتَصَرَّف. وقد ضَعَّف أبو حاتم هذه القراءةَ، ولم يَرَ لدخول «مِنْ» على «مع» وجهاً. وقرأ طلحةُ «ذِكْرٌ معي وذكرٌ قبلي» بتنوينهما دونَ «مِنْ» فيهما. وقرأَتْ طائفةٌ «ذكرُ مَنْ» بالإِضافة ل «مَنْ» كالعامَّة، «وذكرٌ مِنْ قبلُ» بتنوينِه وكسرِ ميم «مِنْ» . ووجهها واضحٌ ممَّا تتقدم. قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ الحق} العامَّةُ على نصب «الحق» . وفيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه مفعولٌ به بالفعلِ قبلَه. والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّد. قال الزمخشريُّ: «ويجوزُ أَنْ يكونَ المنصوبُ أيضاً على التوكيدِ لمضمونِ الجملةِ السابقة، كما تقول:» هذا عبدُ الله الحقَّ لا الباطل «فأكَّدَ انتفاءَ العِلْم» . وقرأ الحسن وابن محيصن وحميد برفع «الحق» . وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مبتدأٌ والخبرُ مضمرٌ. والثاني: أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ. قال الزمخشري: «وقُرِىء» الحقُّ «بالرفعِ على توسيطِ التوكيد بين السببِ والمُسَبَّب. والمعنى: أن إعراضَهم بسببِ الجهلِ هو الحقُّ لا الباطلُ» .

26

قوله: {بَلْ عِبَادٌ} : «عبادٌ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم عبادٌ. و «مُكْرَمون» في العامَّة مخففٌ، وقراءة عكرمة مشدداً.

27

قوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ} : جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «عبادٌ» . والعامَّةُ على كسرِ الباء في «يَسْبِقونه» وقُرىء بضمِّها. وخُرِّجَتْ على أنه مضارعٌ سَبَقه أي غلبه في السبق يُقال: سابقه فَسَبقه يَسْبُقه أي: غلبه في السَّبْق. ومضارع فَعَلَ في المغالبة مضمومُ العينِ مطلقاً إلاَّ في ياءَيْ العينِ أو اللام، والمرادُ: لا يَسْبقونه بقوله، فَعَوَّض الألفَ واللامَ عن الضمة عند الكوفيين، والضميرُ محذوفٌ عند البصريين أي بالقول منه.

29

قوله: {فذلك نَجْزِيهِ} : يجوزُ في ذلك وجهان أحدُهما: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ. وهذا وجهٌ حسنٌ. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ. والمسألةُ من بابِ الاشتغال. وفي هذا الوجهِ إضمارُ عاملٍ مع الاستغناءِ عنه، فهو مرجوحٌ والفاءُ وما في حَيِّزها في موضعِ جزمٍ جواباً للشرط و «كذلك» نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضمير المصدر أي: جزاءً مثلَ ذلك الجزاءِ، أو نجزي الجزاءَ حالَ كونِه مثلَ ذلك. وقرأ العامَّةُ «نجزي» بفتحِ النونِ. وأبو عبد الرحمن المقرىء بضمِها.

وجهُها أنه مِنْ أجزأ بالهمز، مِنْ أجزأني كذا أي: كفاني، ثم خَفَّفَ الهمزةَ فانقلبت إلى الياء.

30

قوله: {أَوَلَمْ يَرَ} : قرأ ابن كثير «ألم يرَ» من غير واو. والباقونَ/ بالواوِ بين همزةِ الاستفهام و «لم» . ونظيرُ حذفِ الواوِ وإثباتِها هنا ما تقدَّم في البقرة وآل عمران في قولِه {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116] {سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ} [البقرة: 133] وقد تقدَّم حكمُ ذلك. والرؤيةُ هنا يجوز أن تكونَ قلبيةً، وأن تكونَ بَصَريةً. ف «أنَّ» وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْنِ عند الجمهور على الأول، ومَسَدَّ واحدٍ والثاني محذوف، عند الأخفش، وسادَّةٌ مسدَّ واحدٍ فقط على الثاني. قوله: {كَانَتَا} الضميرُ يعودُ على السماوات والأرض بلفظِ التثنيةِ، والمتقدِّم جمعٌ. وفي ذلك أوجه أحدُها: ما ذكره الزمخشري فقال: «وإنما قيل» كانتا «دونَ» كُنَّ «لأنَّ المرادَ جماعةُ السماواتِ وجماعةُ الأرَضين. ومنه قولُهم:» لِقاحان سَوْداوان «أي: جماعتان. فَعَلَ في المضمر نحوَ ما فَعَل في المظهر. الثاني: قال أبو البقاء:» الضميرُ يعودُ على الجنسين «. الثالث: قال الحوفي:» قال: كانتا رَتْقاً والسماوات جمعٌ لأنه أراد الصِّنْفَيْنِ. قال الأسودُ ابنُ

يَعْفَر: 3336 - إن المنيَّةَ والحُتُوفَ كِلاهما ... يُوفي المخارم يَرْقُبان سوادي لأنه أراد النوعين، وتبعه ابن عطية في هذا فقال: «وقال:» وكانتا «من حيث هما نوعان. ونحوُه قولُ عمرِو بن شييم: 3337 - ألم يُحْزِنْكَ أنَّ حبالَ قيسٍ ... وتَغْلِبَ قد تباينتا انقطاعا ورَتْقاً: خبرٌ. ولم يُثَنَّ لأنَّه في الأصلِ مصدرٌ. ثم لك أن تجعلَه قائماً مقامَ المفعولِ كالخَلْقِ بمعنى المَخْلوق، أو تجعلَه على حَذْفِ مضافٍ أي: ذواتَيْ رَتْقٍ. وهذه قراءةُ الجمهور. وقرأ الحسنُ وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى» رَتَقاً «بفتحِ التاءِ وفيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ أيضاً، ففيه الوجهان المتقدِّمان في الساكنِ التاءِ. والثاني: أنه فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبَض والنَّقَض بمعنى المَقْبوض والمَنْقوض، وعلى هذا فكان ينبغي أَنْ يطابقَ بخبرِه في التثنية. وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال:» هو على تقديرِ موصوفٍ أي: كانتا شيئاً رَتَقاً «. ورَجَّح بعضُهم

المصدريةَ بعدمِ المطابقَةِ في التثنية، وقد عرفت جوابه. وله أن يقولَ: الأصلُ عدمُ حذفِ الموصوف فلا يُصارُ إليه دونَ ضرورةٍ. والرَّتْقُ: الانضمامُ. ارْتَتَقَ حَلْقُه: أي: انضمَّ. وامرأةٌ رَتْقاءُ أي: مُنْسَدَّة الفَرْجِ، فلم يُمْكِنْ جماعُها من ذلك. والفَتْقُ: فَصْل ذلك المُرْتَتِقِ، وهو من أحسن البديع هنا؛ حيث قابل الرَّتْقَ بالفَتْق. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: متى رَأَوْهما رَتْقاً حتى جاء تقريرُهم بذلك؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه وارِدٌ في القرآن الذي هو معجِزٌ في نفسِه، فقام مقامَ المَرْئيِّ المشاهَدِ. والثاني: أنَّ تَلاصُقَ السماءِ والأرضِ وتبايَنهما كلاهما جائزٌ في العقلِ فلا بُدَّ للتباين دون التلاصُقِ من مخصِّصٍ وهو القديمُ سبحانه «. قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} يجوز في «جَعَل» هذه أَنْ تكونَ بمعنى «خلق» فتتعدى لواحدٍ وهو كلُّ شيءٍ، و {مِنَ المآء} متعلقٌ بالفعلِ قبلَه. ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «كل شيء» لأنه في الأصلِ يجوز أن يكونَ وَصْفاً له، فلما قُدِّم عليه نُصِبَ على الحال. ومعنى خَلْقِه من الماء أحدُ شيئين: إمَّا شدةُ احتياجِ كلِّ حيوانٍ للماء فلا يعيشُ بدونِه، وإمَّا لأنه مخلوقٌ من النُّطْفَة التي تسمى ماءً. ويجوز أن تكونَ «جَعَلَ» بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لاثنين، ثانيهما الجارُّ بمعنى: أنَّا صَيَّرْنا كلَّ شيء حيّ بسبب من الماء لا بُدَّ له منه. والعامَّةُ على خفض «حيّ» صفةً لشَيْء. وقرأ حميد بنصبه على أنه مفعولٌ ثانٍ ل جَعَلْنا. والظرفُ لغوٌ. ويَبْعُد على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ «جعل» بمعنى «خَلَقَ» ، وأنْ ينتصبَ «حَيَّاً» على الحال.

31

قوله: {أَن تَمِيدَ} مفعولٌ من أجله أي: أن لا تميدَ فَحُذِفَتْ «لا» لفَهْمِ المعنى، أو كراهةَ أَنْ تميد. وقَدَّره أبو البقاء فقال: «مخافَةَ أن تميدَ» . وفيه نظرٌ لأنَّا إنْ جَعَلْنا المخافةَ مسندةً إلى المخاطبين أخْتَلَّ شرطٌ من شروطِ النصبِ في المفعولِ له وهو الفاعل. وإنْ جَعَلْناها مسندةً لفاعل الجَعْل استحال ذلك، لأنَّه تبارك وتعالى لا يُسْنَدُ إليه الخوف. وقد يقال: يُختارُ أن تُسْنَدَ المخافةُ إلى المخاطبين. قولكم: يختلُّ شرطٌ من شروطِ النصب. جوابُه: أنه ليس بمنصوبٍ، بل مجرورٌ بحرف العلةِ المقدرِ. / وحَذْفُ حرفِ الجر مُطَّردٌ مع أنْ وأنَّ بشرطه. قوله: {فِجَاجاً سُبُلاً} في «فجاجاً» وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به و «سُبُلا» بدلٌ منه. والثاني: أنه منصوب على الحال مِنْ «سبلاً» لأنه في الأصلِ صفةٌ له فلمَّا قُدِّم انتصبَ حالاً كقولِه: 3338 - لميَّةَ موحشاً طَلَلُ ... يلوحُ كأنَّه خِلَلُ ويدلُّ على ذلك مجِيْئُه صفةً في الآية الأخرى، وهي قولُه تعالى: {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 20] . قال الزمخشري: «فإن قلت: في الفجاجِ معنى الوصفِ، فما لها قُدِّمَتْ على السُّبُل ولم تُؤَخَّرْ، كقولِه تعالى: {لِّتَسْلُكُواْ

مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} ؟ قلت: لم تُقَدَّم وهي صفةٌ ولكنْ جُعِلَتْ حالاً كقولِه: 3339 - لِعَزَّةَ مُوْحِشاً طَلَلٌ قديمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بينهما من جهةِ المعنى؟ قلتُ: أحدُهما أعلامٌ بأنه جَعَلَ فيها طرقاً واسعة. والثاني: أنه حينَ خَلَقها خَلَقها على تلك الصفةِ، فهو بيانٌ لما أُبْهِم ثمةَ» . قال الشيخ: «يعني بالإِبهامِ أنَّ الوصفَ لا يلزمُ أَنْ يكونَ الموصوفُ متصفاً به حالةَ الإِخبارِ عنه، وإن كان الأكثرُ قيامَه به حالةَ الإِخبارِ عنه. ألا ترى أنه يُقال: مررتُ بوَحْشيٍّ القاتلِ حمزةَ، وحالةَ المرورِ لم يكن قائماً به قَتْلُ حمزة» . والفَجُّ: الطريقُ الواسعُ. والجمعُ: الفِجاجُ. والضميرُ في «فيها» يجوزُ أن يعودَ على الأرض، وهو الظاهرُ كقولِه: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 19-20] وأَنْ يعودَ على الرَّواسي، يعني أنه جعل في الجبال طُرُقاً واسعة.

32

قوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا} : جملةٌ استئنافيةٌ، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً مقدرةً. وقرأ مجاهد وحميد «عن آيتِها» بلفظِ الإِفراد. جَعَلَ الخلقَ آيةً، وهي مشتملةٌ على آياتٍ، أو أطلق الواحدَ وأراد به الجنسَ.

33

قوله: {كُلٌّ} : أي: كلُّ منهما أي: من الشمس والقمر، أو مِنها أي: من الليل والنهار والشمس والقمر. و «يَسْبَحون» يجوز أن يكونَ خبرَ «كلٌ» على المعنى. و «في فلك» متعلقٌ به، ويجوزُ أن يكونَ حالاً. والخبرُ الجارُّ وهو «في فَلك» . وهذا الذي: ذَكَرْتُه من كونِ المضافِ إليه يجوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بالأربعةِ الأشياءِ المذكورةِ. ذكره أبو البقاء. وأمَّا غيرُه فلم يذكرْ إلاَّ أنَّ المضافَ إليه الشمسُ والقمرُ. وهو الظاهر؛ لأنَّ السباحةَ من صفتِهما دونَ الليلِ والنهار، وعلى هذا فيُعْتَذَر عن الإِتيانِ بضميرِ الجمعِ، وعن كونِه جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ. أمَّا الأولُ فقيل: إنما جُمِع لأنَّ ثَمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه: والنجومُ، كما دَلَّتْ عليه آياتٌ أُخَرُ. وقال الزمخشري: «الضميرُ للشمسِ والقمرِ، والمرادُ بهما جنسُ الطوالِع كلَّ يومٍ وليلةٍ، جعلوها متكاثرةً لتكاثُرِ مَطالِعِها، وهو السببُ في جمعهما بالشموسِ والأقمارِ» . انتهى. والذي حَسَّن ذلك كونُه رأسَ آيةً. وقال أبو البقاء: «يَسْبَحُون» خبر «كلٌ» على المعنى؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ إذا سَبَح فكلُّها تَسْبَحُ. وقيل: يَسْبَحُون على هذا الوجهِ حالٌ. والخبر «في فَلَكٍ» .

وقيل: التقدير: كلُّها، والخبر «يَسْبَحُون» ، أتى بضميرِ الجمعِ على معنى «كل» . وفي هذا الكلامِ نظرٌ: من حيث إنه لمَّا جَوَّز أن يكونَ المضافُ إليه شيئين جَعَل الخبرَ الجارَّ، و «يَسْبَحون» حالاً، فِراراً من عدم مطابقةِ الخبر للمبتدأ، فَوَقَعَ في تخالُفِ الحالِ وصاحبِها. وأمَّا الثاني فلأنَّه لَمَّا أَسْنَدَ إليها السباحةَ التي هي مِنْ أفعالِ العقلاء جَمَعَها جَمْعَ العقلاءِ كقولِه: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] و {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] . وهذه الجملةُ يجوز أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافِها. ويجوزُ أَنْ يكونَ محلُّها النصبَ على الحال. فإنْ قُلْنا: إن السباحةَ تُنْسَبُ إلى الليل والنهار، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء في أحدِ الوجهين فتكونُ حالاً من الجميع. وإن كان لا يَصِحُّ نِسْبَتُها إليهما كانت حالاً من الشمسِ والقمرِ. وتأويلُ الجمعِ قد تقدَّم. قال الشيخ: «أو مَحَلُّها النصبُ على الحالِ من الشمس والقمر؛ لأنَّ الليلَ والنهارَ لا يَتَّصِفان بأنهما يَجْرِيان في فَلَكٍ، فهو كقولك: رأيتُ زيداً وهنداً متبرِّجةً» انتهى. وهذا قد سبقه إليه الزمخشري فَنَقَله عنه، يعني أنه قد دَلَّ دليلٌ على أنَّ الحالَ من بعضِ ما تقدَّم كما في المثالِ المذكور. والسِّباحةُ: العَوْمُ في الماءِ. وقد يُعَبَّر به عن مطلقِ الذهابِ، وقد تقدَّم اشتقاقُه في «سُبْحانك» .

34

قوله: {أَفَإِيْن مِّتَّ} : قد تقدَّم نظيرُ ذلك في آل عمران عند قولِه: {أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم} [الآية: 144] . وفي هذه الآيةِ دليلٌ لمذهب سيبويه: وهو أنه إذا اجتمع شرطٌ واستفهام أُجيب الشرطُ. فتكونُ الآيةُ قد دَخَلَتْ فيها همزةُ الاستفهامِ على جملةِ الشرطِ. والجملةُ المقترنةُ بالفاءِ جوابُ الشرطِ، وليسَتْ مَصَبَّ الاستفهامِ، وزَعَمَ يونس أنَّ الاستفهامَ/ مُنْصَبٌّ على الجملةِ المقترنةِ بالفاء، وأنَّ الشرطَ معترضٌَ بين الاستفهامِ وبينَها، وجوابه محذوف. وليس بشيءٍ إذ لو كان كما قال لكان التركيبُ: أفإن مِتَّ هم الخالدون، بغير فاء. وكأنَّ ابنَ عطية نحا منحى يونسَ فإنه قال: «وألفُ الاستفهامِ داخلةٌ في المعنى على جوابِ الشرطِ» .

35

قوله: {فِتْنَةً} : في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ من أجله. الثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ أي: فاتِنين. الثالث: أنَّه مصدرٌ مِنْ معنى العاملِ لا من لفظِه؛ لأن الابتلاءَ فتنةٌ فكأنَّه قيل: نَفْتِنُكم فتنةً. وقرأ العامَّة «تُرْجَعُوْن» بتاءِ الخطابِ مبنياً للمفعول. وغيرُهم بياءِ الغَيْبة على الالتفات.

36

قوله: {إِن يَتَّخِذُونَكَ} : «إنْ» هنا نافيةٌ، وهي وما في حَيِّزها جوابُ الشرط ب إذا، و «إذا» مخالفةٌ لأدواتِ الشرطِ في ذلك، فإنَّ أدواتِ الشرطِ متى أُجِيبت ب «إنْ» النافيةِ أو ب «ما» النافيةِ وَجَبَ الإِتيانُ بالفاءِ تقول: إن أَتَيْتَني فإنْ أَهَنْتُك وفما أَهَنْتُك. وتقول: إذا أَتَيْتَني ما أَهَنْتُك بغير فاءٍ يَدُلُّ له قولُه تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] . و «اتَّخَذَ» هنا متعديةٌ لاثنين. و «هُزُوا» هو الثاني: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ، وإمَّا على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً، وإمَّا على وقوعِه مَوْقِعَ اسمِ المفعول. وفي جواب «إذا» قولان، أحدهما: أنه «إنْ» النافيةُ، وقد تقدَّم ذلك. والثاني: أنه محذوفٌ، وهو القولُ الذي قد حكى به الجملةَ الاستفهاميةَ في قوله: {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} إذ التقديرُ: وإذا رآك الذين كفروا يقولونَ: أهذا الذي. وتكونُ الجملةُ المنفيةُ معترضةً بين الشرطِ وبين جوابهِ المقدَّرِ. قوله: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ} «هم» الأولى مبتدأٌ مخبرٌ عنه ب «كافرون» ، و «بِذكْر» متعلقٌ بالخبرِ. والتقديرُ: وهم كافرون بذِكْر. و «هم» الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً، فوقع الفصلُ بين العاملِ ومعمولِه بالمؤكِّد، وبين المؤكَّدِ والمؤكِّدِ بالمعمولِ. وفي هذه الجملةِ قولان، أحدُهما: أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ

فاعلِ القولِ المقدَّرِ أي: يقولون ذلك وهم على هذه الحالةِ. والثاني: أنها حالٌ مِنْ فاعلِ «يَتَّخِذونك» ، وإليه نحا الزمخشريُّ، فإنه قال: «والجملةُ في موضعِ الحالِ أي: يَتَّخِذُونك هُزُواً وهم على حالٍ هي أصلُ الهزْءِ والسخريةِ، وهي الكفرُ باللهِ» .

37

قوله: {مِنْ عَجَلٍ} : فيه قولان، أحدهما: أنه من بابِ القلبِ. والأصلُ: خُلِقَ العَجَلُ من الإِنسانِ لشدةِ صدورِه منه وملازَمتِه له. وإلى هذا ذهب أبو عمروِ. وقد يتأيَّد هذا بقراءةِ عبدِ الله «خُلِقَ العَجَلُ من الإِنسانِ» والقلبُ موجودٌ. قال الشاعر: 3340 - حَسَرْتُ كَفِّيْ عن السِّربالِ آخُذُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يريد: حسرت السِّرْبالَ عن كفي. ومثلُه في الكلامِ: «إذا طَلَعَت الشِّعْرى استوى العُوْدُ على الحِرْباء» وقالوا: عَرَضْتُ الناقةَ على الحَوْضِ. وقد قَدَّمْتُ منه أمثلةً غيرَ هذه. إلاَّ أن بعضَهم يَخُصُّه بالضرورةِ، وقد قَدَّمْتُ فيه مذاهبَ ثلاثةً.

والثاني: أنه لا قلبَ فيه وفيه تأويلاتٌ، أحسنُها: أن ذلك على المبالغةِ، جَعَلَ ذاتَ الإِنسانِ كأنها خُلِقَتْ من نفسِ العَجَلة، دلالةً على شدةِ اتصاف الإِنسانِ بها، وأنها مادتُه التي أُخِذ منها. ومثلُه في المبالغة من جانب النفي قولُه عليه السلام: «لستُ من الدَّدِ، ولا الدَّدُ مني» والدَّدُ: اللِّعِبُ. وفيه لغاتٌ: «دَدٌ» محذوفُ اللامِ و «ددا» مَقْصوراً ك «عصا» و «دَدَن» بالنون. وألفه في إحدى لغاتِه مجهولةُ الأصل لا ندري: أهي عن ياءٍ أو واوٍ؟ . وقيل: العَجَلُ: الطين بلغة حمير، أنشد أبو عبيدة على ذلك لشاعرٍ منهم: 3341 - النَّبْعُ في الصَّخْرةِ الصَّمَّاء مَنْبِتُه ... والنَّخْلُ مَنْبِتُه في الماءِ والعَجَلِ قال الزمخشري بعد إنشادِه عَجُزَ هذا البيتِ: واللهُ أعلمُ بصحتِه «وهو معذورٌ. وهذا الجارُّ يحتملُ تَعَلُّقُه ب» خُلِقَ «على المجاز أو الحقيقةِ المتقدِّمَيْن، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ كأنه قيل: خُلِق الإِنسانُ عَجِلاً. كذا قال أبو البقاء. والأولُ أولى.

وقرأ العامَّة» خُلِق «مبنياً للمفعول.» الإِنسانُ «مرفوعاً لقيامِه مقامَ الفاعلَ. وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم» خَلَقَ «مبنياً للفاعل.» الإِنسانَ «نصباً مفعولاً به.

38

قوله: {متى هذا} : «متى» خبرٌ مقدمٌ، فهي في محلِّ رفعٍ. وزعم بعضُ أهلِ الكوفةِ أنها في محلِّ نصبٍ على الظرفِ. والعاملُ فيها فعلٌ مقدرٌ رافعٌ لهذا. والتقديرُ: متى يجيءُ هذا الوعدُ، أو متى يأتي؟ ونحوُه. والأولُ هو المشهورُ.

39

قوله: {لَوْ يَعْلَمُ} : جوابُها مقدَّرٌ لأنه أبلغُ في الوعيدِ. فقدَّره الزمخشريُّ: «لَما كانوا بتلك الصفةِ/ من الكفرِ والاستهزاءِ والاستعجالِ، ولكنَّ جَهْلَهم به هو الذي هَوَّنه عندهم» . وقَدَّره ابنُ عطية: «لَما استعجلوا» . وقدَّره الحوفي «لَسارعوا» . وقَدَّره غيرُهم «لَعَلِموا صحةَ البعث» . و «حينَ» مفعولٌ به ل «عَلِموا» وليس منصوباً على الظرفِ. أي: لو يَعْلمون وقتَ عدمِ كفِّ النار. وقال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» يعلمُ «متروكاً بلا تَعْدِيةٍ بمعنى: لو كان معهم علمٌ ولم يكونوا جاهلين لَما كانوا

مستَعْجِلين. و» حينَ «منصوبٌ بمضمرٍ أي: حين لا يَكُفُّون عن وجوهِهم النارَ يعلمونَ أنهم كانوا على الباطلِ» ، وعلى هذا ف «حين» منصوبٌ على الظرفِ لأنه جَعَلَ مفعولَ العلمِ «أنَّهم كانوا» . وقال الشيخ: «والظاهرُ أنَّ مفعولَ» يعلم «محذوفٌ لدلالة ما قبلَه أي: لو يعلم الذين كفروا مجيْءَ الموعودِ الذي سَألوا عنه واسْتَنْبطوه. و» حين «منصوبٌ بالمفعولِ الذي هو» مجيءَ «. ويجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ الإِعمالِ على حَذْفِ مضافٍ، وأعملَ الثاني. والمعنى: لو يعلمون مباشرةَ النارِ حين لا يَكُفُّونها عن وجوهِهم» .

40

قوله: {بَغْتَةً} : في موضعِ نصبٍ على الحالِ أي مباغتةً. والضميرُ في «تَأْتيهم» يعودُ على النار. وقيل: يعودُ على الحين لأنه في معنى الساعة. وقيل: على الساعةِ التي يُصَيِّرهم فيها إلى العذابِ. وقيل: على الوعد؛ لأنَّه في معنى النار التي وُعِدُوها، قاله الزمخشري وفيه تكلُّفٌ. وقرأ الأعمش: «بل يَأْتيهم» بياء الغَيْبة. «بَغَتة» بفتح الغين. «فيَبْهَتُهُمْ» بالياء أيضاً. فأمَّا الياءُ فَأعاد الضميرَ على الحين أو على الوعد. وقال بعضُهم: «هو عائدٌ على النار، وإنما ذكَّر ضميرها لأنها في معنى العذاب، ثم راعى لفظ النار فأنَّثَ في قوله:» رَدَّها «. وقوله: {بَلْ تَأْتِيهِم} إضرابُ انتقالٍ. وقال ابن عطية:» بل «استدراكٌ مقدرٌ قبلَه نفيٌ، تقديرُه:» إنَّ الآياتِ لا تأتي على حَسَب اقتراحهم «. وفيه نظرٌ؛

لأنه يَصيرُ التقديرُ: لا تأْتيهم الآياتُ على حسبِ اقتراحِهم، بل تأتيهم بغتةً، فيكون الظاهرُ أن الآياتِ تأتي بغتةً، وليس ذلك مُراداً قطعاً. وإنْ أراد أن يكونَ التقديرُ: بل تَأتيهم الساعةُ أو النارُ فليس مطابقاً لقاعدةِ الإِضراب.

42

قوله: {مِنَ الرحمن} : متعلقٌ ب «يَكْلؤُكم» على حذفِ مضافٍ أي من أمرِ الرحمنِ أو بَأْسِه كقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] . و «بالليل» بمعنى في الليل. والكِلاءَةُ: الحِفْظُ يقال: كَلأَه يَكْلَؤُه اللهُ كِلاءة بالكسر. كذا ضبطه الجوهري فهو كالِىءٌ ومَكْلُوْءٌ. قال ابنُ هَرْمة: 3342 - إنَّ سُلَيْمَى واللهُ يَكْلَؤُها ... ضَنَّتْ بشَيْءٍ ما كان يَرْزَؤها واكْتَلأْتُ منه: احتَرَسْتُ، ومنه سُمِّي النباتُ كَلأً؛ لأنَّ به تقومُ بُنْيَةُ البهائمِ وتُحْرس. ويقال: «بَلَّغَ الله بك أَكْلأَ العُمُرِ» والمُكَلأُ: موضعٌ تُحْفظ فيه السفن. وفي الحديث: «نهى عن بيع الكالِىء بالكالِىءِ» أي: بَيْعِ الدَّيْن بالدَّيْن؛ كأنَّ كلاً من رَبِّ الدَّيْنَيْنِ يكلأُ الآخَرَ أي: يراقبه.

وقوله: {بَلْ هُمْ} إضرابٌ عن ما تَضَمَّنه الكلامُ الأول من النفي، إذ التقدير: ليس لهم كالىءٌ ولا مانعٌ غيرُ الرحمنِ. وقرأ الزهري وابن القعقاع «يَكْلَوُكم» بضمةٍ خفيفةٍ دونَ همزٍ. وحكى الكسائي والفراء «يَكْلَوْكم» بفتحِ اللامِ وسكونِ الواو ولم أعرفْها قراءةً، وهو قريبٌ من لغةِ مَنْ يخفِّف «أكلَتْ الكلا على الكلَوْ» وقفاً إلاَّ أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.

43

قوله: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ} : «أم» منقطعةٌ أي: بل ألهم آلهةٌ. وقد تقدم ما فيها. وقوله: {مِّن دُونِنَا} فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ ب «تَمْنَعُهم» قيل: والمعنى: ألهم آلهةٌ تجعلُهم في مَنْعَةٍ وعزٍّ. وإلى هذا ذهب الحوفي. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «آلهة» أي: آلهةٌ من دونِنا تمنعُهم؛ ولذلك قال ابن عباس: «إنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً» . وقوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} مستأنفٌ فلا محلَّ له، ويجوز أن يكونَ صفةً ل «آلهة» وفيه بُعْدٌ من حيث المعنى.

45

قوله: {وَلاَ يَسْمَعُ} : قرأ ابنُ عامر هنا «ولا تُسْمِعُ» بضمِّ التاءِ للخطابِ وكسر الميم، «الصُّمَّ الدعاءَ» منصوبين. وقرأ ابنُ كثير

كذلك في النمل والروم. وقرأ باقي السبعةِ بفتح ياء الغَيْبة والميمِ، «الصُّمُّ» بالرفع، «الدعاءَ» بالنصب في جميع القرآن. وقرأ الحسن كقراءة ابن عامر إلاَّ أنه بياءِ الغَيْبة وروى عنه ابنُ خالويه «ولا يُسْمَعُ» بياءٍ الغيبة مبنياً للمفعول، «الصُّمُّ» رفعاً، «الدعاءَ» نصباً. ورُوي عن أبي عمرو بن العلاء «ولا يُسْمِعُ» بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ وكسرِ الميمِ «الصُّمَّ» ، نصباً «الدعاءُ» رفعاً. فأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وانب كثير فالفاعل فيها ضميرُ المُخاطبِ وهو الرسولُ عليه السلام، فانتصب «الصُّمَّ» و «الدعاءَ» على المفعولين، وأَوَّلُهما هو الفاعلُ المعنوي. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فالفعلُ مسندٌ ل «الصُّمَّ» فانتصب الدعاء مفعولاً به/ وأمَّا قراءةُ الحسنِ الأولى فَأُسْند الفعلُ فيها إلى ضميرِ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم. وهي كقراءةِ ابنِ عامر في المعنى. وأمَّا قراءتُه الثانيةُ فإنه أُسْنِدَ الفعلُ فيها إلى «الصُّمُّ» قائماً مقامَ الفاعلِ، فانتصب الثاني وهو «الدعاء» . وأمَّا قراءةُ أبي عمرو فإنه أُسْند الفعلُ فيها إلى الدعاء على سبيل الاتساع، وحُذِف المفعولُ الثاني للعلمِ به. والتقديرُ: ولا يُسْمِعُ الدعاءُ الصمَّ

شيئاً البتة. ولمَّا وصل أبو البقاء هنا قال: «ولا يَسْمَعُ» فيه قراءاتٌ وجوهها ظاهرة «ولم يَذْكُرْها. و [قوله] :» إذا «في ناصِبه وجهان، أحدُهما: أنَّه» يَسْمَعُ «. الثاني: أنه» الدعاءُ «فأَعمل المصدرَ المعرَّفَ ب أل، وإذا أعملوه في المفعولِ الصريحِ ففي الظرفِ أحرى.

46

قوله: {نَفْحَةٌ} : قال الزمخشري: «في هذا ثلاثُ مبالغاتٍ: لفظُ المَسَّ وما النفحِ مِنْ معنى القلَّةِ والنَّزَارةِ. يقال: نَفَحَتْه الدابَّةُ: رَمَحَتْه رَمْحاً يسيراً. ونَفَحه بعَطيَّةٍ أي: بنائلٍ قليلٍ، ولبناء المَرَّةِ منه أي: بأدنى إصابة يخضعون. والنَّفْحُ: الخَطْرة. ونَفَحَ له من عطائِه: أي رَضَخَ له بشيءٍ. قال الشاعر: 3343 - إذا رَيْدَةٌ من حيث ما نَفَحَتْ له ... أتاه برَيَّاها خليلٌ يواصِلُهْ و {مِّنْ عَذَابِ} صفةٌ ل» نَفْحَة «.

47

قوله: {القسط} : في نصب «القِسْطَ» وجهان أحدهما: أنه نعتٌ للموازين، وعلى هذا: فلِمَ أُفْرِد؟ وعنه جوابان، أحدهما:

أنه في الأصلِ مصدرٌ، والمصدر يوحَّد مطلقاً. والثاني: أنَّه على حَذْفِ مضاف. الوجه الثاني: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجلِ القسطِ. إلاَّ أنَّ في هذا نظراً من حيث إن المفعولَ له إذا كان معرَّفاً بأل يَقِلُّ تجرُّده من حرف العلة تقول: جئتُ للإِكرام، ويَقِلُّ: جئت الإِكرامَ، كقول الآخر: 3344 - لا أَقْعُدُ الجبنَ عن الهَيْجاءِ ... ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ وقرىء «القِصْطَ» بالصاد لأجل الطاء، وقد تقدم. قوله: {لِيَوْمِ القيامة} في هذه اللام أوجه، أحدها: قال الزمخشري: «مثلُها في قولك: جِئْتُ لخمسٍ خَلَوْنَ من الشهر، ومنه بيتُ النابغة. 3345 - تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها ... لستةِ أعوام وذا العامُ سابعُ والثاني: أنها بمعنى في. وإليه ذهب ابن قتيبة وابن مالك. وهو رأيُ الكوفيين ومنه عندهم: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] وكقول مسكين

الدارمي: 3346 - أولئك قومي قد مضَوْا لسبيلِهم ... كما قد مضى مِنْ قبلُ عادٌ وتُبَّعُ وكقول الآخر: 3347 - وكلُّ أبٍ وابنٍ وإنْ عُمِّرا معاً ... مُقِيْمَيْنِ مفقودٌ لوقتٍ وفاقدُ والثالث: أنَّها على بابِها مِنَ التعليل، ولكنْ على حَذْفِ مضاف. أي: لحسابِ يومِ القيامة. قوله: {شَيْئاً} يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وأن يكون مصدراً، أي: شيئاً من الظلم. قوله: {مِثْقَال} قرأ نافعٌ هنا وفي لقمان برفع» مِثْقال «على أنَّ» كان «تامة، أي: وإنْ وُجِد مثقال. والباقون بالنصب على أنَّها ناقصةٌ، واسمها مضمر أي: وإنْ [كان] العملُ. و {مِّنْ خَرْدَلٍ} صفةٌ لحَبَّة. وقرأ العامَّة» أَتَيْنَا «من الإِتيان بقَصْرِ الهمزة أي: جِئْنا بها، وكذا قرأ ابن مسعود وهو تفسيرُ معنى لا تلاوة. وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ وسعيد وابن أبي

إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمدٍ» آتَيْنا «بمدِّ الهمزة وفيها أوجهٌ، أحدُها: وهو الصحيحُ أنه فاعَلْنا من المؤاتاة وهي المجازاةُ والمكافَأَة. والمعنى: جازَيْنا بها، ولذلك تعدى بالباء. الثاني: أنها مُفاعَلَةٌ من الإِتيان بمعنى المجازاة والكافأةِ لأنهم أَتَوْه بالأعمال وأتاهم بالجزاءِ، قاله الزمخشري. الثالث: أنه أفْعَل من الإِيتاء. كذا توهَّمَ بعضُهم وهو غلطٌ. قال ابن عطية:» ولو كان آتَيْنا أعطينا لَما تعدَّى بحرفِ جرّ. ويُوْهِنُ هذه القراءةَ أنَّ بدلَ الواوِ المفتوحةِ همزةً ليس بمعروفٍ، وإنما يُعْرَفُ ذلك في المضمومةِ والمكسورة «يعني أنَّه كان مِنْ حَقِّ هذا القارىءِ أَنْ يَقْرَأَ» واتَيْنا «مثل واظَبْنا؛ لأنها من المُواتاةِ على الصحيح، فأبدل هذا القارِىءُ الواوَ المفتوحةًَ همزةَ. وهو قليلٌ ومنه أَخَذَ» واتاه «. وقال أبو البقاء:» ويُقرأ بالمدِّ بمعنى جازَيْنا بها، فهو يَقْرُبُ مِنْ معنى أَعْطَيْنا؛ لأنَّ الجزاءَ إعطاءٌ، وليس منقولاً مِنْ أَتَيْنا، لأن ذلك لم يُنْقَلْ عنهم. وقرأ حميد «أَثَبْنا» من الثواب. والضمير في «بها» عائد على المِثْقال، وأنَّث ضميرَه لإِضافتِه لمؤنث فهو كقوله: 3348 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ

في اكتسابِه بالإِضافةِ التأنيثَ.

48

قوله: {وَضِيَآءً وَذِكْراً} : يجوزُ أن يكونَ من باب عطفِ الصفاتِ، فالمرادُ به شيءٌ واحدٌ أي: آتَيْناه الجامعَ بين هذه الأشياءَ. وقيل: الواوُ زائدةٌ. قال أبو البقاء: «ف» ضياءً «حالٌ على هذا» /.

49

قوله: {الذين يَخْشَوْنَ} : في محلِّه ثلاثةُ الأوجهِ: وهي الجرُّ على النعتِ أو البدلُ أو البيانُ. والرفعُ والنصبُ على القطع.

51

قوله: {رُشْدَهُ} : مفعول ثان. وقرأ العامَّة «رُشْدَه» بضم الراء وسكونِ الشين. وعيسى الثقفي بفتحِهما. وقد تقدَّم الكلامُ عليهما. قوله: {مِن قَبْلُ} أي: من قبلِ موسى وهارون. وهذا أحسنُ ما قُدِّر به المضافُ إليه. وقيل: من قبلِ بلوغِه أو نبوَّتِه. والضميرُ في «به» يعودُ على إبراهيم. وقيل: على «رُشْدَه» .

52

قوله: {إِذْ قَالَ} : يجوزُ أن يكونَ منصوباً ب «آتَيْنا» أو ب «رُشْدَه» أو بعالِمين أو بمضمر أي: اذكر وقت قوله. وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكونَ بدلاً من موضع قبلُ أي: إنه يَحُلُّ مَحَلَّه فيَصِحُّ المعنى، إذ يصير التقديرُ: ولقد آتَيْناه رُشْدَه إذ قال. وهو بعيدٌ من المعنى بهذا التقديرِ. قوله: {لَهَا} قيل: اللامُ للعلةِ أي: عاكفون لأجلها. وقيل: بمعنى على

أي: عاكفون عليها. وقيل: ضَمَّنَ «عاكفون» معنى عابِدين فلذلك أتى باللام. وقال أبو البقاء: وقيل: أفادت معنى الاختصاصِ. وقال الزمخشري: «لم يَنْوِ للعاكفين محذوفاً» ، وأَجْراه مُجْرى ما لا يَتَعدَّى كقوله: فاعِلون العكوفَ «. قلت: الأَولى أن تكونَ اللامُ للتعليل، وصلةُ» عاكفون «محذوفة أي: عاكفون عليها لأجلها لا لشيءٍ آخرَ. والتماثيل: جمع تِمْثال، وهو الصورةُ المصنوعةُ من رُخامٍ أو نحاسٍ أو خَشَبٍ، يُشَبَّه بخَلْقِ الآدميِّ وغيرِه من الحيوانات. قال امرؤ القيس: 3349 - فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ ... بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تمثالِ

53

قوله: {لَهَا عَابِدِينَ} : «عابدين» مفعولٌ ثانٍ ل «وَجَدْنا» و «لها» لا تَعَلُّقَ له؛ لأنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعول به لتقدُّمه.

54

قوله: {أَنتُمْ} : تأكيدٌ للضميرِ المتصلِ. قال الزمخشري: «وأنتم من التأكيدِ الذي لا يَصِحُّ الكلامُ مع الإِخلالِ به؛ لأنَّ

العطفَ على ضميرٍ هو في حكمِ بعضِ الفعلِ ممتنعٌ. ونحوه {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35] . قال الشيخ:» وليس هذا حكماً مُجْمعاً عليه؛ فلا يَصِحُّ الكلامُ مع الإِخلالِ به؛ لأنَّ الكوفيين يُجيزون العطفَ على الضمير المتصلِ المرفوعِ من غير تأكيدٍ بالضمير المنفصل ولا فصلٍ. وتنظيرُ ذلك ب {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} مخالِفٌ لمذهبِه في {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} لأنَّ مذهبَه يزعم أنَّ «وزوجُك» ليس معطوفاً على الضمير المستكنِّ في «اسكُنْ» ، بل مرفوعٌ بفعلٍ مضمر أي: وَلْتَسْكُنْ، فهو عنده من قبيل عطفِ الجمل، وقوله هذا مخالفٌ لمذهبِ سيبويه «. قلت: لا يَلْزَمُ من ذلك أنه خالفَ مذهبَه، إذ يجوزُ أن يُنَظَّر بذلك عند مَنْ يعتقدُ ذلك، وإنْ لم يعتقدْه هو. و {فِي ضَلاَلٍ} يجوز أَنْ يكونَ خبراً إنْ كانَتْ» كان «ناقصةً، أو متعلقاً ب» كنتم «إن كانَتْ تامةً.

55

قوله: {بالحق} : متعلقٌ ب «جِئْتَ» . وليس المرادُ به حقيقةَ المجيء؛ إذ لم يكنْ غائباً. و «أم أنت» «أم» متصلةٌ وإنْ كان بعدها جملةٌ لأنها في حكم المفردِ، إذ التقديرُ: أيُّ الأمرَيْن واقعٌ: مجيئُك بالحقِّ أم لَعِبُك؟

كقوله: 3350 - ما أبالي أنَبَّ بالحَزْنِ تَيْسٌ ... أم جفاني بظهرِ غَيْبٍ لئيمُ وقوله: 3351 - لَعَمْرُك ما أَدْرِي وإن كنتُ دارياً ... شُعَيْثُ بنُ سَهْمٍ أم شُعَيْثُ بنُ مِنْقَرِ يريد: أيُّ الأمرَيْنِ واقع؟ ولو كانَتْ منقطعةً لقُدِّرَتْ ب بل والهمزةِ، وليس ذلك مُراداً.

56

قوله: {الذي فطَرَهُنَّ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعَ الموضعِ، أو منصوبَه على القطع. والضميرُ المنصوبُ في «فَطَرَهُنَّ» للسماواتِ والأرض. قال الشيخ: «ولَمَّا لم تكنْ السماواتُ والأرضُ تبلُغُ في العددِ الكَثيرِ منه جاء الضميرُ ضميرَ القلة» . قلت: إنْ عنى لم يَبْلُغْ كلُّ واحدٍ من السماواتِ والأرض فمُسَلَّم، ولكنه غيرُ مرادٍ بل المرادُ المجموعُ. وإنْ عنى لم يبلُغْ المجموعُ منهما فغيرُ مُسَلَّمٍ؛ لأنه يبلغ أربعَ عشرةَ، وهو في حَدّ جمع الكثرةِ،

اللهم إلاَّ أَنْ نقولَ: إنَّ الأرضَ شخصٌ واحدٌ، وليسَتْ بسبعٍ كالسماءِ على ما رآه بعضُهم فَيَصِحُّ له ذلك ولكنه غيرُ مُعَوَّلٍ عليه. وقيل: على التماثيل. قال الزمخشري: «وكونُه للتماثيل أثبتُ لتَضْليلِهم، وأدخلُ في الاحتجاجِ عليهم» . وقال ابن عطية: فَطَرَهُنَّ عبارةٌ عنها كأنها تَعْقِلُ، وهذه من حيث لها طاعةٌ وانقيادٌ، وقد وُصِفَتْ في مواضعَ بوَصْفِ مَنْ يَعْقِلُ «. وقال غيرُه:» فَطَرَهُنَّ: أعادَ ضميرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا صَدَرَ منهنَّ من الأحوالِ التي تَدُلُّ على أنَّها من قبيل مَنْ يَعْقِلُ؛ فإنَّ اللهَ تعالى أخبر بقولِه: {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] . وقوله عليه السلام: «أطَّتِ السماءُ وحُقَّ لها أَنْ تَئِطَّ» . قلت: كأنَّ ابنَ عطيةَ وهذا القائلَ تَوَهَّما أن «هُنَّ» ، من الضمائرِ المختصةِ بالمؤنثات العاقلاتِ، وليس كذلك بل هو لفظٌ/ مشتركٌ بين العلاقاتِ وغيرها. قال تعالى: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] ثم قال تعالى: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ} . قوله: {على ذلكم} متعلقٌ بمحذوفٍ، أو ب «الشاهدين» اتساعاً، أوعلى البيان. وقد تقدَّم نظيرُه نحو: {لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] .

57

قوله: {وتالله} : قرأ العامَّة بالتاءِ مثنَّاةً من فوقُ. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالباء موحدة. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: ما الفرقُ بين الباءِ والتاءِ؟ قلت: الباءُ هي الأصلُ، والتاءُ بدلٌ من الواوِ المُبْدَلِ منها، وإنَّ التاءَ فيها زيادةٌ معنىً، وهو التعجبُ، كأنه تَعَجَّبَ من تسهيلِ الكيدِ على يدِه وتَأَتِّيه» . أمَّا قولُه: «إن الباءَ هي الأصلُ» فيدلُّ على ذلك تَصَرُّفُها في الباب، بخلافِ الواوِ والتاءِ، وإن كان السهيليُّ قد رَدَّ كونَ الواوِ بدلاً منها. وقال الشيخ: «النظرُ يقتضي أنَّ كلاً منها أصلٌ. وأمَّا قولُه» التعجبُ «فنصوصُ النَّحْويين أنه يجوزُ فيها التعجبُ وعدمُه، وإما يلزمُ ذلك مع اللامِ كقوله: 3352 - للهِ يَبْقى على الأيَّامِ ذو حِيَدٍ ... بمُشْمَخِرّ به الظَّيَّانُ والآوسُ و» بعدَ «منصوبٌ ب» لأَكِيْدَنَّ «. و» مُدْبرين «حالٌ مؤكّدةٌ، لأنَّ» تُوَلُّوا «

تُفْهِمُ معناها. وقرأ العامَّة» تُوَلُّوا «بضم التاءِ واللامِ مضارعَ» ولى «مشدداً. وقرأ عيسى بن عمر» تَوَلَّوا «بفتحِهما مضارعَ» تولى «والأصل» تَتَوَلَّوا «فحذف إحدى التاءين: إمَّا الأولى على رأي هشام، وإمَّا الثانية على رأي البصريين. ويَنْصُرُها قراءةُ الجميع {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 90] ولم يقرأ أحدٌ» فَوَلَّوْا «وهي قياسُ قراءةِ الناس هنا. وعلى كلتا القراءتين فلامُ الكلمةِ محذوفٌ وهو الياءُ لأنه مِنْ وَلي. ومتعلِّقُ هذا الفعلِ محذوفٌ تقديرُه: تُوَلُّو إلى عيدكم، ونحوُه.

58

قوله: {جُذَاذاً} : قرأ العامَّة «جُذاذاً» بضمِّ الجيم. والكسائيُّ بكسرِها، وابن عباس وأبو نهيك وأبو السَّمَّال بفتحِها. قال قطرب: هي في لغاتها كلِّها مصدرٌ فلا يثنَّى ولا يُجمع ولا يؤنَّثُ. والظاهرُ أن المضمومَ اسمٌ للشيءِ المكسَّرِ كالحُطام والرُّفات والفُتاتِ بمعنى الشيء المحطَّمِ والمفتَّتِ. وقال اليزيديُّ: «المضمومُ جمعُ جُذاذة بالضم نحو: زُجاج في زُجاجة، والمكسورُ جمع جَذيذ نحو: كِرام في كريم» . وقال بعضُهم: المفتوحُ مصدرٌ بمعنى المفعولِ أي: مَجْذوذين. ويجوز على هذا أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذوات جُذاذ. وقيل: المضمومُ جمع جُذاذَة بالضمِّ، والمسكورُ جمع جِذاذَة بالكسر، والمفتوح مصدرٌ. وقرأ ابن وثاب «جُذُذاً» بضمَّتين دونَ إلفٍ بين الذَّالَيْن، وهو جمع جَذِيذ كقَليب وقُلُب. وقُرِىء بضمِّ الجيمِ وفتحِ الذال. وفيها وجهان، أحدهما:

أن يكونَ أصلٌُها ضمتين، وإنما خُفِّف بإبدال الضمةِ فتحةً نحو: سُرَر وذُلَل في جمع سَرير وذَليل، وهي لغةٌ لبني كَلْب. والثاني: أنه جمع جُذَّة نحو: فُتَت في فُتَّة، ودُرَر في دُرَّة. والجَذُّ: القطعُ والتكسير، وعليه قوله: 3353 - بنو المهلبِ جَذَّ اللهُ دابِرَهُمْ ... أَمْسَوْا رَماداً فلا أَصْلٌ ولا طَرَفُ وقد تقدَّم هذا مستوفىً في هود. وأتى ب «هم» وهو ضميرُ العقلاءِ معاملةً للأصنام معاملةً العقلاءِ، حيث اعتقدوا فيها ذلك. قوله: {إِلاَّ كَبِيراً} استثناءٌ من المنصوب في «فَجَعَلهم» ، أي: لم يكسِرْه بل تركه. و «لهم» صفةٌ له، والضمير يجوز أن يعود على الأصنام. وتأويلُ عودِ ضميرِ العقلاءِ عليها تقدَّم. ويجوز أن يكون عائداً على عابديها. والضميرُ في «إليه» يجوز أن يعود إلى إبراهيم أي: يَرْجِعون إلى مقالتِه حين يظهر لهم الحقُّ، ويجوز أَنْ يكونَ عائداً على الكبير، وبكلٍ قِيل.

59

قوله: {مَن فَعَلَ} : يجوز في «مَنْ» أن تكونَ استفهاميةً. وهو الظاهر. فعلى هذا تكونُ الجملةُ مِنْ قولِه «إنَّه لمِن الظالمين» استئنافاً لا محلَّ لها من الإِعراب، ويجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، وعلى هذا فالجملةُ من «إنَّه» في محلِّ رفع خبراً للموصولِ. والتقديرُ: الذي فَعَلَ هذا بآلهتنا إنه.

60

قوله: {يَذْكُرُهُمْ} : في هذه الجملةِ [وجوهٌ] أحدُها: أنَّ «سمع» هنا تتعدَّى لاثنين لأنها متعلقةٌ بعين، فيكونُ «فتىً» مفعولاً أول، و «يَذْكُرُهم» هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ/ مفعولاً ثانياً، ألا ترى أنَّك لو قلتَ: «سمعتُ زيداً» وسكتَّ لم يكن كلاماً بخلافِ سمعت قراءتَه وحديثَه. والثاني: أنَّها في محلِّ نصب أيضاً صفةً لإِبراهيم، قال الزمخشري: «فإن قلتَ: ما حكمُ الفعلَيْن بعد» سمعنا «وما الفرقُ بينهما؟ قلت: هما صفتان ل» فَتَىً «؛ إلاَّ أنَّ الأولَ وهو» يَذْكُرهم «لا بُدَّ منه ل» سَمِعَ «؛ لأنك لا تقول: سمعت زيداً، وتسكتُ، حتى تذكرَ شيئاً ممَّا يُسْمع، وأمَّا الثاني فليس كذلك» . قلت: هذا الذي قاله لا يتعيَّنُ؛ لِما عَرَفْتَ أنَّ «سَمِعَ» إنْ تعلَّقَتْ بما يُسْمع نحو «سمعت مقالةَ بكرٍ» فلا خلاف أنها تتعدَّى لواحدٍ، وإن تَعَلَّقَتْ بما لا يُسْمَع فلا يُكتْفى به أيضاً بلا خلافٍ؛ بل لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شيءٍ يُسْمَعُ فلو قلت: «سمعتُ زيداً» وسَكَتَّ، أو «سمعتُ زيداً يركبُ» لم يَجُزْ. فإنْ قلتَ: سمعتُه يَقْرأ صَحَّ. وجرى في ذلك خلافٌ بين النحاةِ، فأبوا علي يجعلُها متعديةً لاثنين ولا يتمشى عليه قولُ الزمخشري، وغيرُه يَجْعلها متعديةً لواحد، ويجعلُ الجملةَ بعد المعرفةِ حالاً، وبعد النكرةِ صفةً، وهذا أراد الزمخشري. قوله: {إِبْرَاهِيمُ} في رفع «ابراهيمُ» أوجهٌ أحدُها: أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه أي: قال له هذا اللفظَ، ولذلك قال أبو البقاء: «فالمرادُ الاسمُ لا المُسَمَّى» وفي هذه المسألةِ خلافٌ بين النحويين: أعني تَسَلُّطَ القولِ على المفردِ الذي لا يؤدي معنى جملة، ولا هو مقتطعٌ من جملة، ولا هو مصدرٌ ل «قال» ، ولا هو صفةٌ لمصدرِه نحو: قلتُ زيداً، أي: قلت هذا اللفظ،

فاختاره جماعة كالزجاجيِّ والزمخشريِّ وابنِ خروف وابنِ مالك، ومنعه آخرون. وممَّن اختارَ رفعَ «إبراهيمُ» على ما ذكرْتُ الزمخشري وابنُ عطية. أمَّا إذا كان المفردُ مؤدياً معنى جملةٍ كقولهم: قلتُ خطبةً وشعراً وقصيدةً، أو اقْتُطِع من جملة كقوله: 3354 - إذا ذُقْتُ فاها قلت طعمُ مُدامَةٍ ... مُعَتَّقَةٍ ممَّا يجيءُ به التُّجُرْ أو كان مصدراً نحو: قلتُ قولاً، أو صفةً له نحو: قلتُ حقاً أو باطلاً، فإنَّه يَتَسَلَّطُ عليه. كذا قالوا: وفي قولهم «المفردُ المقتطعُ من الجملة» نظرٌ لأن هذا لم يَتَسَلَّطْ عليه القولُ، إنما يتسلَّطُ على الجملةِ المشتملةِ عليه. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: يقال له: هذا إبراهيمُ، أو هو إبراهيمُ. الثالث: أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبر أي: يقال له: إبراهيمُ فاعلٌ ذلك. الرابع: أنّه منادى وحرف النداءِ محذوفٌ أي: يا إبراهيمُ، وعلى الأوجه الثلاثةِ فهو مقتطعٌ من جملةٍ، وتلك الجملةُ مَحْكِيَّةٌ بيُقال. وقد تقدَّم تقريرُ هذا في البقرة عندَ {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [الآية: 58] رفعاً ونصباً. وفي الأعرافِ عند قولِه {قَالُواْ مَعْذِرَةً} [الآية: 164] رفعاً ونصباً. والجملةُ من «يُقال له» يُحتمل أَنْ تكونَ مفعولاً آخرَ نحو قولك: «ظننتُ

زيداً كاتباً شاعراً» وأن تكونَ صفةً على رأيِ الزمخشريِّ ومَنْ تابعه، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ «فتى» . وجاز ذلك لتخصُّصِها بالوصف.

61

قوله: {على أَعْيُنِ} : في محلِّ نصبٍ على الحال من الهاء في «به» أي: ائتُوا به ظاهراً مكشوفاً بمَرْأَىً منهم ومَنْظَرٍ. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما معنى الاستعلاء في» على «؟ قلت: هو واردٌ على طريقِ المثلِ أي: يَثْبُتُ إتيانُه في الأعين ويتمكَّنُ ثباتَ الراكبِ على المركوبِ وتمكُّنه منه» .

62

قوله: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ} : في «أنت» وجهان، أحدهما: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّرُه الظاهرُ بعدَه. والتقدير: أفعلتَ هذا بآلهتِنا، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصَلَ الضميرُ. والثاني: أنه مبتدأٌ، والخبرُ بعده الجملةُ. والفرقُ بين الوجهين من حيثُ اللفظُ واضحٌ: فإنَّ الجملةَ مِنْ قولِه «فَعَلْتَ» الملفوظِ بها على الأولِ لا محلَّ لها لأنها مُفَسّرةٌ، ومحلُّها الرفعُ على الثاني، ومن حيث المعنى: إن الاستفهامَ إذا دَخَلَ على الفعلِ أَشْعَرَ بأن الشَّكَّ إنما تعلَّق به: هل وقع أم لا؟ من غيرِ شكٍ في فاعلِه. وإذا دخل على الاسم وقع الشكُّ فيه: هل هو الفاعلُ أم غيرُه، والفعل غيرُ مشكوكٍ في وقوعه، بل هو واقعٌ فقط. فإذا قلت: «أقام زيدٌ» ؟ كان شكُّك في قيامِه. وإذا قلتَ: «أزيدٌ قام» وجعلتَه مبتدأً كان شُكَّكَ في صدورِ الفعل منه أم من عمرٍو. والوجه الأولُ هو المختارُ عند النحاةِ لأنَّ الفعلَ تقدَّم ما يطلبُه وهو أداةُ الاستفهام.

63

قوله: {بَلْ فَعَلَهُ} : هذا الإِضرابُ عن جملةٍ محذوفةٍ تقديرُه: لم أفعَلْه، إنما الفاعلُ حقيقةً اللهُ تعالى، بل فعله. وإسنادُ الفعلِ إلى «كبيرهم» مِنْ أبلغِ/ المعاريض.

قوله: {هذا} فيه ستةٌ أوجه، أحدُها: أن يكونَ نعتاً ل «كبيرُهم» ، الثاني: أن يكونَ بدلاً من «كبيرُهم» . الثالث: أن يكونَ خبراً ل «كبيرهم» على أنَّ الكلامَ يَتِمُّ عند قوله {بَلْ فَعَلَهُ} ، وفاعل الفعلِ محذوفٌ، كذا نقله أبو البقاء، وقال: «وهذا بعيدٌ لأنَّ حَذْفَ الفاعلِ لا يَسُوغ» ، قلت: وهذا القولُ يعزى للكسائي، وحينئذٍ لا يَحْسُن الردُّ عليه بحذفِ الفاعلِ فإنه يُجيز ذلك ويلتزمُه، ويجعلُ التقديرَ: بل فعله مَنْ فعله. ويجوزُ أَنْ يكونَ أراد بالحذفِ الإِضمارَ لأنه لَمَّا لم يُذكر الفاعلُ لفظاً سُمِّي ذلك حَذْفاً. الرابع: أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ «فتى» . الخامس: أن يكون الفاعلُ ضميرَ «إبراهيمُ» . وهذان الوجهان يؤيِّدان ما ذكَرْتُ من أنه قد يكون مرادُ القائلِ بحذفِ الفاعل إنما هو الإِضمارُ. السادس: أنَّ «فَعَلَه» ليس فعلاً، بل الفاء حرف عطف دخلَتْ على «عَلَّ» التي أصلها «لعلَّ» حرفَ تَرَجّ. وحَذْفُ اللامِ الأولى ثابتٌ، فصار اللفظُ فَعَلَّه أي فَلَعَلَّه، ثم حُذفت اللامُ الأولى وخُفِّفت الثانيةُ. وهذا يُعْزَى للفراء. وهو قولٌ مرغوبٌ عنه وقد اسْتَدَلَّ على مذهبِه بقراءةِ ابنِ السَّمَيْفَع «فَعَلَّه» بتشديدِ اللام وهذه شاذَّةٌ، لا يُرْجَعُ بالقراءة المشهورة إليها، وكأن الذي حَمَلَهم على هذا خفاءُ وجهِ صدورِ هذا الكلامِ من النبيِّ عليه السلام.

قوله: {إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} جوابُه محذوفٌ لدلالة ما قبلَه. ومَنْ يجوِّزْ التقديمَ يجعلْ «فسألوهم» هو الجوابَ.

65

قوله: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} : قرأ العامَّةُ «نُكِسُوا» مبنياً للمفعول مخففةَ الكاف أي: نَكَسَهم اللهُ أو خَجَّلهم. و {على رُءُوسِهِمْ} حالٌ أي: كائنين على رؤوسهم. ويجوز أن يتعلَّق بنفسِ الفعل. والنَّكْسُ والتَّنْكيسُ: القَلْبُ يقال: نَكَس رأسَه ونَكَّسه مخففاً ومشدداً أي: طَأطأه حتى صار أعلاه أسفله. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن الجارود وابن مقسم «نُكِّسوا» بالتشديد. وقد تقدَّم أنه لغةٌ في المخفف، فليس التشديدُ لتعديةٍ ولا تكثيرٍ. وقرأ رضوان بن عبد المعبود «نَكَسُوا» مخففاً مبنياً للفاعل، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: نَكَسوا أنفسَهم على رؤوسهم. قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ} هذه الجملةُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ، والقسمُ وجوابُه معمولان لقولٍ مضمرٍ، وذلك القولُ المضمرُ حالٌ من مرفوع «نُكِسُوا» أي: نُكِسُوا قائلين واللهِ لقد علمتَ. قوله: {مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} يجوز أَنْ تكونَ «ما» هذه حجازيةً فيكونَ «هؤلاء» اسمَها و «يَنْطِقون» في محلِّ نصب خبرَها، أو تميميةً فلا عملَ لها. والجملةُ المنفيةُ بأَسْرِها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ، إن كانت «عَلِمْتَ» على بابِها، ومَسَدَّ واحدٍ إن كانَتْ عِرْفانية.

67

وقد تقدَّم الكلامُ على «أف» في سبحان ولغاتها. واللام في «لكم» وفي «لِما» لامُ التبيينِ أي: التأفيفُ لكم لا لغيرِكم وهي نظيرةُ {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] .

69

قوله: {بَرْداً} : أي: ذاتَ بَرْد. والظاهر في «سلاماً» أنه نَسَقٌ على «بَرْدا» فيكونُ خبراً عن «كُوني» . وجَوَّز بعضُهم أن ينتصِبَ على المصدرِ المقصودِ به التحيةُ في العُرْفِ. وقد رُدَّ هذا بأنَّه لو قُصِد ذلك لكان الرفعُ فيه أولى نحو قولِ إبراهيم: {سَلاَمٌ} [هود: 69] . وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يأتيَ القرآنُ على الفصيحِ والأفصحِ. ويَدُلُّ على ذلك أنه جاء منصوباً، والمقصودُ به التحيةُ نحو قول الملائكة: {قَالُواْ سَلاَماً} [هود: 69] . وقوله: {على إِبْرَاهِيمَ} متعلق بنفس «سلام» إنْ قُصِد به التحيةُ. ويجوزُ أن يكونَ صفةً فيتعلَّقَ بمحذوفٍ. وعلى هذا فيُحْتمل أَنْ يكونَ قد حَذَف صفةً الأول لدلالةِ صفةِ الثاني عليه تقديرُه: كوني بَرْداً عليه وسلاماً عليه.

71

قوله: {وَلُوطاً} : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على المفعولِ قبلَه، والثاني: أن يكونَ مفعولاً معه. والأولُ أَوْلى. وقوله: {إِلَى الأرض} يجوز فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يتعلَّق بِنَجَّيْناه على أن يُضَمَّنَ معنى أخرَجناه بالنجاة. فلمَّا ضُمِّنَ معنى أخرج تعدَّى تعديتَه. والثاني: أنه لا تضمينَ فيه، وأنَّ حرفَ الجرِّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنه/ حالٌ من الضمير في «نَجَّيْناه» أي: نَجَّيْناه مُنْتَهياً إلى الأرض. كذا قدَّره الشيخ. وفيه

نظرٌ: من حيث إنه قَدَّر كوناً مقيَّداً، وهو كثيراً ما يَرُدُّ على الزمخشري وغيرِه ذلك.

72

قوله: {نَافِلَةً} : قيل في تفسير النافِلة: إنها العَطِيَّةُ. وقيل: الزيادةُ. وقيل: وَلَدُ الولد. فعلى الأول تنتصِبُ انتصابَ المصادر من معنى العامل وهو «وهبنا» ، لا من لفظِه؛ لأنَّ الهِبَةَ والإِعطاءَ متقاربان فهي كالعاقبةِ والعافية. وعلى الأخيرين تنتصِبُ على الحالِ، والمرادُ بها يعقوب. والنافِلَةُ مختصةٌ ب يعقوب على كلِّ تقديرٍ؛ لأن إسحاقَ ولدُه لصُلْبه. قوله: {وَكُلاًّ} مفعولٌ أولُ ل «جَعَلْنا» و «صالحين» هو الثاني، توسَّط العاملُ بينهما. والأصل: وجَعَلْنا أي: صيَّرْنا كُلاًّ من إبراهيم ومَنْ ذُكر معه صالِحِين.

73

وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} : كما تقدَّم إلاَّ أنه لم يُوَسَّطِ العاملُ. و «يَهْدون» صفةٌ ل «أئمة» . و «بأَمْرِنا» متعلق ب «يَهْدُون» . وقد تقدَّم التصريفُ المتعلِّق بلفظ أئمة وقراءةُ القراءِ فيها. قوله: {فِعْلَ الخيرات} قال الزمخشري: «أصلُه أن تُفْعَلَ الخيراتُ، ثم فِعْلاً الخيراتِ، ثم فِعْلَ الخيراتِ، وكذلك» وإقامَ الصلاة وإيتاءَ الزكاةِ «. قال الشيخ:» كأنَّ الزمخشريَّ لمَّا رأى أَنَّ فِعْلَ الخيراتِ وإقامَ الصلاةِ وإيتاءَ الزكاةِ ليس من الأحكامِ المختصةِ بالموحى إليهم، بل هم وغيرُهم في ذلك مشتركون بُني الفعلُ للمفعولِ، حتى لا يكونَ المصدرُ مضافاً من حيث المعنى

إلى ضميرِ المُوْحَى إليهم، فلا يكونُ التقدير: فِعْلَهم الخيراتِ، وإقامتَهم الصلاةَ، وإيتاءَهم الزكاةَ. ولا يلزَمُ ذلك؛ إذ الفاعلُ مع المصدرِ محذوفٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ من حيث المعنى مضافاً إلى ظاهرٍ محذوفٍ، ويشملُ الموحى إليهم وغيرَهم. والتقديرُ: فِعْلَ المكلَّفين الخيراتِ. ويجوز أن يكونَ مضافاً إلى ضمير الموحى إليه أي: [أن] يفعلوا الخيراتِ، ويُقيموا الصلاةَ، ويُؤْتُوا الزكاةَ، وإذا كانوا هم قد أُوْحي إليهم ذلك فأتباعُهم جارُوْن مَجْراهم في ذلك، ولا يَلْزَمُ اختصاصُهم به. ثم اعتقادُ بناءِ المصدرِ للمفعولِ مختلَفٌ فيه. أجاز ذلك الأخفشُ. والصحيحُ مَنْعُه فليس ما اختاره الزمخشريُّ بمختارٍ «. قلت: الذي يَظْهر أنَّ الزمخشريَّ لم يُقَدِّرْ هذا التقديرَ، لِما ذكره الشيخ، حتى يُلْزِمَه ما قاله، بل إنما قَدَّر ذلك لأنَّ نفسَ الفعلِ الذي هو معنى صادرٌ مِنْ فاعلِه لا بوَحْيٍ، إنما بوحيَ ألفاظٍ تَدُلُّ عليه، وكأنه قيل: وأَوْحَيْنا هذا اللفظ، وهو أن تُفْعَلَ الخيراتُ، ثم صاغ ذلك الحرفَ المصدريَّ مع ما بعده مصدراً منوَّناً ناصباً لِما بعده، ثم جَعَلَه مصدراً مضافاً لمفعولِه. وقال ابن عطية:» والإِقام مصدرٌ. وفي هذا نظر «. انتهى. يعني ابن عطية بالنظر أنَّ مصدرَ أَفْعَل على الإِفعال. فإن كان صحيحَ العينِ جاء تامَّاً كالإِكرام، وإنْ كان معتلَّها حُذِف منه إحدى الألفين، وعُوِّض منه تاءُ التأنيث فيقال إقامة. فلمَّا لم يُقَلْ كذلك جاء فيه النظر المذكور. قال الشيخ:»

وأيُّ نظرٍ في هذا؟ وقد نَصَّ سيبويه على أنَّه مصدرٌ بمعنى الإِقامة وإنْ كان الأكثرُ الإِقامةَ بالتاء، وهو المقيسُ في مصدر أفْعَل إذا اعتلَّتْ عينُه. وحَسَّن ذلك أنه قابَلَ {وَإِيتَآءَ الزكاة} وهو بغير تاءٍ، فتقع الموازنةُ بين قولِه {وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة} . وقال الزجاج: «حُذِفَتِ التاءُ مِنْ إقامة لأنَّ الإِضافةَ عوضٌ عنها» وهذا قولُ الفراءِ: زعم أنَّ التاءَ تُحْذَفُ للإِضافةِ كالتنوين. وقد تقدم بَسْطُ القولِ في ذلك عند قراءةِ مَنْ قرأ في براءة {عُدَّةً ولكن كَرِهَ} [التوبة: 46] .

74

قوله: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ} : «لُوْطاً» منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يُفَسِّره الظاهرُ بعدَه، تقديره: وآتَيْنا لوطاً آتَيْناه، فهي من الاشتغالِ. والنصبُ في مثلِه هو الراجحُ؛ ولذلك لم يُقرَأْ إلاَّ به لعَطْفِ جملتِه على جملةٍ فعليةٍ، وهو أحدُ المُرَجِّحات. قوله: {مِنَ القرية} أي: من أهلِ. يدلُّ على ذلك قولُه بعد ذلك: {إِنَّهُمْ كَانُواْ} ، وكذلك إسنادُ عملِ الخبائثِ أليها، والمرادُ أهلُها. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. والخبائثُ: / صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: تعملُ الأعمالَ الخبائثَ.

76

قوله: {وَنُوحاً} : فيه وجهان: أحدُهما: أنَّه منصوبٌ عَطْفاً على «لُوْطاً» فيكونُ مشتَرِكاً معه في عامِلِه الذي هو «آتَيْنا» المفسَّرِ

ب «آتيناه» الظاهرِ. وكذلك {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الآية: 78] والتقدير: ونوحاً آتيناه حُكْماً، وداودَ وسليمان آتيناهما حكماً. وعلى هذا ف «إذ» بدلٌ مِنْ «نوحاً» ومِنْ «داود وسليمان» بدلُ اشتمالٍ. وقد تقدَّم تحقيقُ مثلِ هذا في طه. الثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ «اذكُرْ» أي: اذكر نوحاً وداودَ وسليمانَ أي: اذْكُرْ خبَرهم وقصتَهم، وعلى هذا فتكونُ «إذ» منصوبةً بنفسِ المضافِ المقَّدرِ أي: خبرَهم الواقعَ في وقتٍ كان كيتَ وكيتَ. وقوله: {مِن قَبْلُ} أي: مِنْ قبلِ هؤلاءِ المذكورين.

77

قوله: {مِنَ القوم} : فيه أوجهٌ، أحدها: أن يُضَمَّن «نَصَرْناه» معنى منَعْناه وعَصَمْناه. ومثلُه {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} [غافر: 29] فلمَّا ضُمِّنَ معناه تَعَدَّى تعَديتَه. الثاني: أنَّ نَصَر مطاوِعُهُ انتصر، فتعدى تعديةً ما طاوعه. قال الزمخشري: «وهو نَصَر الذي مطاوِعُه انتصر. وسمعتُ هُذَِليَّاً يدعو على سارِقٍ» اللهم انْصُرْهم منه «أي: اجْعَلْهم منتصِرين منه» . ولم يظهر فرقٌ بالنسبةِ إلى التضمين المذكور؛ فإنَّ معنى قولِه «منتصرين منه» أي: ممتنعين أو مَعْصُوْمين منه. الثالث: أن «مِنْ» بمعنى على أي: على القوم.

78

قوله: {لِحُكْمِهِمْ} : في الضميرِ المضافِ إليه «حكمَ» أوجهٌ. أحدُها أنه ضميرٌ يُرادُ به المثنى، وإنَّما وقع الجمعُ موقعَ التثنيةِ مجازاً، أو لأنَّ التثنيةَ جمعٌ، وأقلُّ الجمعِ اثنان. ويدل على أنَّ المرادَ التثنيةُ قراءةُ

ابن عباس «لحُكْمِهما» بصيغةِ التثنيةِ. الثاني: أنَّ المصدرَ مضافٌ للحاكِمِيْن وهما داودُ وسليمانُ والمحكوم له والمحكوم، وعليه فهؤلاء جماعةٌ. وهذا يلزَمُ منه إضافةُ المصدرِ لفاعلِه ومفعولِه دُفْعَةً واحدةً، وهو إنما يُضافُ لأحدِهما فقط. وفيه الجمعُ بين الحقيقةِ والمجازِ، فإنَّ الحقيقةَ إضافةُ المصدرِ لفاعِله، والمجازَ إضافتُه لمفعولِه، والثالث: أن هذا مصدرٌ لا يُرادُ به الدلالةُ على عِلاجٍ، بل جِيْءَ به للدلالةِ على أنَّ هذا الحدثَ وقع وصدَر كقولِهم: له ذكاءٌ ذكاءَ الحكماءِ وفَهْمٌ فهمَ الأذكياء، فلا يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ، وإذا كان كذلك فهو مضافٌ في المعنى للحاكمِ والمحكومِ له والمحكومِ عليه. ويَنْدَفع المحذوران المذكوران.

79

وقرأ العامَّةُ «فَفَهَّمْناها» بالتضعيفِ الذي للتعدية، والضميرُ للمسألةِ أو للفُتْيا. وقرأ عكرمةُ «فَأَفْهَمْناها» بالهمزةِ عَدَّاه بالهمزةِ، كما عَدَّاه العامَّةُ بالتضعيف. قوله: {يُسَبِّحْنَ} في موضعِ نصبٍ على الحال. و «الطيرَ» يجوز أن ينتصبَ نَسَقاً على الجبالِ، وأن ينتصِبَ على المفعولِ معه. وقيل: «يُسَبِّحْن» مستأنفٌ فلا محلَّ له. وهو بعيدٌ، وقُرِىء «والطيرُ» رفعاً، وفيه وجهان. أحدهما: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: والطيرُ مُسَخَّراتٌ أيضاً. والثاني: أنه نَسَقٌ على الضمير في «يُسَبِّحْن» ولم يؤكَّدْ ولم يُفْصَلْ، وهو موافق لمذهب الكوفيين.

والنَّفْشُ: الانتشارُ، ومنه {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] ونَفَشَتِ الماشيةُ: أي: رَعَتْ ليلاً بغير راعٍ عكسَ الهَمَلِ وهو رَعْيُها نهاراً مِنْ غيرِ راعٍ.

80

قوله: {لَبُوسٍ} : الجمهورُ على فتح اللام، وهو الشيءُ المُعَدُّ لِلُّبْس. قال الشاعر: 3355 - البَسْ لكلِّ حالةٍ لَبُوْسَها ... إمَّا نَعيمَها وإمَّا بُوْسَها وقُرِىء «لُبُوْس» بضمِّها، وحينئذٍ: إمَّا أَنْ يكونَ جمعَ لُبْسِ المصدرِ الواقعِ موقعَ المفعول، وإمَّا أَنْ لا يكونَ واقعاً موقعَه، والأولُ أقربُ. و «لكم» يجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بعَلَّمْناه، وأَنْ يتعلَّقَ بصَنْعَة. قاله أبو البقاء. وفيه بُعْد، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لِلَبوس. قوله: {لِتُحْصِنَكُمْ} هذه لامُ كي. وفي متعلِّقها أوجهٌ، أحدها: أن يتعلَّقَ بَعَلَّمْناه. وهذا ظاهرٌ على القولين الأخيرين. وأمَّا على القولِ الثالثِ فيُشْكِلُ. وذلك أنه يلزمُ تَعَلُّقُ حَرْفَيْ جر متحدَيْن لفظاً ومعنىً. ويُجاب عنه: بأَنْ يُجْعَلَ بدلاً من «لكم» بإعادةِ العاملِ، كقوله تعالى: {لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] / وهو بدلُ اشتمالٍ وذلك أنَّ «أنْ» الناصبةَ للفعلِ المقدرِ مؤولةٌ هي

ومنصوبُها بمصدرٍ. وذلك المصدرُ بدلٌ من ضميرِ الخطابِ في «لكم» بدلُ اشتمالٍ، والتقدير: وعَلَّمْناه صنعةَ لَبوسٍ لتحصينِكم. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ ب «صَنْعَةَ» على معنى أنه بدلٌ من «لكم» كما تقدَّم تقريرُه، وذلك على رأي أبي البقاء فإنه عَلَّق «لكم» ب «صَنْعَةَ» . والثالث: أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي تعلَّقَ به «لكم» إذا جَعَلْناه صفةً لِما قبله. وقرأ الحَرَمِيَّان والأخَوان وأبو عمرو «ليُحْصِنَكم» بالياء من تحتُ. والفاعلُ اللهُ تعالى وفيه التفاتٌ على هذا الوجهِ إذ تَقَدَّمَه ضميرُ المتكلم في قولِه: {وَعَلَّمْنَاهُ} أو داودُ أو التعليمُ أو اللَّبوس. وقرأ حفصٌ وابن ُ عامر بالتاء من فوقُ. والفاعل الصَّنْعَةُ أو الدِّرْعُ وهي مؤنثةٌ، أو اللَّبوس؛ لأنها يُراد بها ما يُلْبَسُ، وهو الدِّرْعُ، والدِّرْعُ مؤنثة كما تقدم. وقرأ أبو بكر «لِنُحْصِنَكم» «بالنونِ جرياً على» عَلَّمْناه «وعلى هذه القراءاتِ الثلاثِ: الحاءُ ساكنةٌ والصادُ مخففةٌ. وقرأ الأعمش» لتُحَصِّنَكم «وكذا الفقيمي عن أبي عمروٍ بفتحِ الحاءِ وتشديد الصادِ على التكثير. إلاَّ أنَّ الأعمشَ بالتاءِ من فوقُ، وأبو عمروٍ بالياء من تحتُ. وقد تقدَّم ما هو الفاعلُ.

81

قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح} : العامَّةُ على النصب أي: وسَخَّرْنا الريحَ لسليمانَ، فهي منصوبةٌ بعاملٍ مقدرٍ. وقرأ ابنُ هرمزٍ،

وأبو بكر عن عاصم في روايةٍ، بالرفع على الابتداءِ، والخبرُ الجارُّ قبلَه. وقرأ الحسن وأبو رجاء بالجمعِ والنصبِ. وأبو حيوةَ بالجمعِ والرفعِ. وقد تقدَّم الكلامُ على الجمع والإِفرادِ في البقرة، وبعضُ هؤلاء قرأ كذلك في سبأ. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله: {عَاصِفَةً} حالٌ. والعاملُ فيها على قراءةِ مَنْ نصب: سَخَّرْنا المقدَّر، وفي قراءةِ مَنْ رَفَع: الاستقرارُ الذي تعلَّقَ به الخبرُ. يُقال: عَصَفَتِ الريحُ تَعْصِفُ عَصْفاً وعُصُوفاً فيه عاصِفٌ وعاصفةٌ. وأسدٌ تقولُ: أَعْصَفَتْ بالألفِ تُعْصِفُ، فهي مُعْصِفٌ ومُعْصِفَةٌ. و «تَجْري» يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثانيةً، وأَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في «عاصفةً» فتكونُ حالَيْنِ متداخلين. وزعم بعضُهم أنَّ {التي بَارَكْنَا فِيهَا} صفةٌ للريح، وفي الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والتقدير: الريحَ التي بارَكْنا فيها إلى الأرضِ، وهو تَعَسُّفٌ.

82

قوله: {مَن يَغُوصُونَ} : يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً. وعلى كلا التقديرين فموضعُها: إمَّا نَصْبٌ نَسَقاً على «الريح» أي: وسَخَّرْنا له مَنْ يَغُوْصُون، أو رفعٌ على الابتداءِ. والخبرُ في الجارِّ قبلَه. وجُمِع الضميرُ حَمْلاً على معنى «مَنْ» . وحَسَّنَ ذلك تقدُّمُ الجمعِ في قولِه {الشياطين} ، فلمَّا تَرَشَّح جانبُ المعنى رُوْعِي. ونظيرُه قولُه:

3356 - وإنَّ مِن النَّسْوان مَنْ هي روضةٌ ... تَهِيْجُ الرياضُ قبلَها وتَصُوْحُ راعى التأنيثَ لتقدُّمِ قولِه «وإنَّ مِن النِّسْوانِ» . و {دُونَ ذلك} صفةٌ ل «عَمَلاً» .

83

قوله: {وَأَيُّوبَ} : كقولِه: {وَنُوحاً} [الآية: 76] وما بعده. وقرأ العامَّةُ «أني» لتسليطِ النداءِ عليها بإضمار حرفِ الجرِّ أي: بأنِّي. وعيسى بن عمر بكسرٍ. فمذهبُ البصريين إضمارُ القولِ أي: نادى فقال: إني. ومذهبُ الكوفيين إجراءُ النداءِ مجرى القولِ. والضُّرُّ بالضمِّ: المَرَضُ في البدنِ، وبالفتح: الضررُ في كلِّ شيءٍ فهو أعمُّ من الأول.

84

قوله: {رَحْمَةً} : فيها وجهان، أظهرهما: أنها مفعولٌ من أجلِه. والثاني: أنها مصدرٌ لفعلٍ مقدرٍ أي: رَحِمْناه رحمةً. و {مِّنْ عِندِنَا} صفةٌ ل «رحمةً» .

85

قوله: {وَذَا الكفل} : و {وَذَا النون} [الآية: 87] عطفٌ على «أيوبَ» ، و «ذا» بمعنى صاحب. والكِفْلُ هنا: الكَفالة يقال: إنه تكفَّلَ بأمورٍ فوفى بها.

87

{وَذَا النون} : الحُوْتُ، ويُجمع على نِيْنان، كحُوْت وحِيْتان. وسُمِّي بذلك، لأنَّ النونَ ابتلعه. قوله: {مُغَاضِباً} حالٌ مِنْ فاعِل «ذهب» . والمفاعلةُ هنا تحتملُ أَنْ تكونَ على بابِها من المشاركةِ. أي: غاضَبَ قومه وغاضَبوه، حين لم يُؤْمِنُوا في أول الأمر. وفي بعض التفاسير: مُغاضباً لربِّه. فإنْ صَحَّ ذلك عَمَّن يُعتبر قولُه، فينبغي أَنْ تكونَ اللامُ للتعليلِ لا للتعديةِ للمفعول أي: لأجلِ ربِّه ولدينِه. ويُحتمل أَنْ تكونَ بمعنى: غضبانَ فلا مشاركةَ كعاقَبْتُ وسافَرْتُ. والعامَّة على «مُغاضِباً» اسمَ فاعلٍ. وقرأ أبو شرف «مغاضَباً» بفتح الضادِ على ما لم يُسََمَّ فاعلُه. كذا نقله الشيخ، ونقله الزمخشري عن أبي شرف «مُغْضَباً» دون ألفٍ مِنْ أَغْضَبْتَه فهو مُغْضَب. قوله: {أَن لَّن} «أَنْ» هذه المخففةُ، واسمُها ضمير الشأنِ محذوفٌ. و {لَّن نَّقْدِرَ} هو الخبرُ. والفاصلُ/ حرفُ النفي المعنى: أَنْ لَنْ نُضَيِّق عليه، من باب قوله: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] ، {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] . والعامَّةُ على «نَقْدِرَ» بنون العظمة مفتوحةً وتخفيفِ الدالِ. والمفعولُ محذوفٌ أي: الجهات والأماكن. وقرأ الزُّهريُّ بضمِّها وتشديد الدال. وقرأ ابنُ

أبي ليلى وأبو شرفٍ والكلبي وحميد بن قيس «يُقْدَر» بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ وفتحِ الدالِ خفيفةً مبنياً للمفعول. وقرأ الحسنُ وعيسى بنُ عمرَ بفتح الياءِ وكَسرِ الدالِ خفيفةً. وعليُ بن أبي طالب واليمانيُّ بضم الياءِ وكسرِ الدالِ مشددةً. والفاعلُ على هذين الوجهين ضميرٌ يعود على اللهِ تعالى. قوله: {أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ} يجوزُ في «أَنْ» وجهان، أحدُهما: أنها المخففةُ من الثقيلةِ. فاسمُها كا تقدَّم محذوفٌ. والجملةُ المنفيةُ بعدها الخبرُ. والثاني: أنها تفسيريةٌ؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القولِ لا حروفِه.

88

قوله: {وكذلك نُنجِي} : الكاف نعتٌ لمصدرٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ. وقرأ العامَّة «نُنْجي» بضم النونِ الأولى وسكونِ الثانية مِنْ أَنْجى يُنْجي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم «نُجِّيْ» بتشديد الجيمِ وسكونِ الياءِ. وفيها أوجهٌ، أحسنها: أن يكونَ الأصل «نُنَجِّي» بضمِّ الأولى وفتح الثانيةِ وتشديد الجيمِ، فاستثقل توالي مِثْلين، فحُذِفت الثانيةٌ، كما حُذِفَت في قوله {وَنُزِّلَ الملائكة} [الفرقان: 25] في قراءةِ مَنْ قرأه كما تقدَّم، وكما حُذِفَتْ التاءُ الثانيةُ في قولِه {تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] و {تَظَاهَرُونَ} [البقرة: 85] وبابِه. ولكنَّ أبا البقاء استضعَفَ هذا التوجيهَ بوجهين فقال: «أحدهُما: أنَّ النونَ

الثانية أصلٌ، وهي فاءُ الكلمةِ فَحَذْفُها يَبْعُدُ جداً. والثاني: أنَّ حركَتها غيرُ حركةِ النونِ الأولى، فلا يُسْتَثْقَلُ الجمعُ بينهما بخلافِ» تَظاهَرون «ألا ترى أنَّك لو قلتَ:» تُتَحامى المظالِمُ «لم يَسُغْ حَذْفُ الثانية» . أمَّا كونُ الثانيةِ أصلاً فلا أثرَ له في مَنْعِ الحَذْفِ، ألا ترى أن النَّحْويين اختلفوا في إقامة واستقامة: أيُّ الألفينِ المحذوفة؟ مع أنَّ الأولى هي أصلٌ لأنَّها عينُ الكلمةِ. وأمَّا اختلافُ الحركةِ فلا أثرَ له أيضاً؛ لأنَّ الاستثقالَ باتحادِ لفظِ الحرفين على أيِّ حركةٍ كانا. الوجه الثاني: أن «نُجِّي» فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول، وإنما سُكِّنَتْ لامُه تخفيفاً، كما سُكِّنت في قوله: {مَا بَقِيْ مِنَ الربا} [البقرة: 278] في قراءةٍ شاذةٍ تقدَّمَتْ لك. قالوا: وإذا كان الماضي الصحيحُ قد سُكِّن تخفيفاً فالمعتلُّ أولى، فمنه: 3357 - إنّما شِعْرِيَ قَيْدٌ ... قد خُلِطْ بجُلْجُلانِ وقد ذَكَرْتُ منه جملةً صالحةً. وأُسْنِدَ هذا الفعلُ إلى ضميرِ المصدرِ مع وجودِ المفعول الصريحِ

كقراءةِ أبي جعفرٍ {ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] وهذا رأيُ الكوفيين والأخفش. وقد ذكرْتُ له شواهدَ فيما مضى من هذا التصنيفِ، والتقدير: نُجِّيَ النَّجاءُ. قال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ من وجهين، أحدُهما: تسكينُ آخرِ الفعلِ الماضي، والآخرُ إقامةُ المصدرِ مع وجودِ المفعولِ الصَّريح» . قلت: عَرَفْتَ جوابَهما ممَّا تقدم. الوجه الثالث: أنَّ الأصلَ: ننجِّي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنَّ النونَ الثانيةَ قُلِبَتْ جيماً، وأُدغِمت في الجيم بعدها. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن النونَ لا تُقارِبُ الجيمَ فتُدغَمُ فيها. الوجه الرابع: أنه ماضٍ مسندٌ لضمير المصدرِ أي: نُجِّي النَّجاءُ كما تقدم في الوجه الثاني، إلاَّ أن «المؤمنين» ليس منصوباً بنجِّي بل بفعلٍ مقدرٍ، وكأنَّ صاحبَ هذا الوجهِ فَرَّ من إقامةِ غيرِ المفعول به مع وجودِه، فجعله مِنْ جملةٍ أخرى. وهذا القراءةُ متواترةٌ، ولا التفاتَ على مَنْ طَعَن على قارئِها، وإنْ كان أبو عليٍ قال: «هي لحنٌ» . وهذه جرأةٌ منه قد سبقه إليها أبو إسحاق الزجَّاج. وأمَّا الزمخشري فلم يَطْعن عليها، إنما طعن على بعضِ الأوجهِ التي قدَّمْتُها فقال: «ومَنْ تَمَحَّل لصحتِه فجعله فُعِل وقال: نُجِّي النَّجاءُ

المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدرِه ونَصَبَ المؤمنين، فتعسُّفٌ باردُ التعسُّفِ» . قلت: فلم يَرْتَضِ هذا التخريجَ بل للقراءةِ عنده تخريجٌ آخرُ. وقد يمكنُ أن يكونَ هو الذي بدأت به لسلامتِه ممَّا تقدَّم من الضعف.

90

قوله: {وَيَدْعُونَنَا} : العامَّةُ على ثبوتِ الرفع قبل «ن» مفكوكةً منها. وقرأَتْ فرقةٌ «يَدْعُوْنا» بحذفِ نونِ الرفع. وطلحة بإدغامِها فيها. وهذان الوجهان فيهما إجراءُ نون «ن» مُجْرَى نونِ الوقاية. وقد تقدَّم ذلك. قوله: {رَغَباً وَرَهَباً} يجوز أَنْ يَنْتَصِبا/ على المفعولِ من أجله، وأَنْ ينتصِبا على أنهما مصدران واقعان موقعَ الحال أي: راغبين راهبين، وأن ينتصِبا على المصدرِ الملاقي لعاملِه في المعنى دون اللفظِ لأنَّ ذلك نوعٌ منه. والعامَّةُ على فتحِ الغينِ والهاء. وابن وثاب والأعمش ورُويت عن أبي عمروٍ بسكون الغين والهاءِ. ونُقِل عن الأعمش وهو الأشهرُ عنه بضمِّ الراء وما بعدها. وقرأَتْ فِرْقَةٌ بضمةٍ وسكونٍ فيهما.

91

قوله: {والتي أَحْصَنَتْ} : يجوز أَنْ ينتصِبَ نَسَقاً على ما قبلَها، وأن ينتصِبَ بإضمارِ اذكُرْ، وأن يرتفعَ بالابتداء، والخبرُ محذوف أي: وفيما يُتْلى عليكم التي أحصنت. ويجوز أن يكونَ الخبرُ «فنفَخْنا» وزِيْدَت

الفاءُ على رأي الأخفش نحو: «زيدٌ فقائمٌ» . وفي كلامِ الزمخشري «فَنَفَخْنا الروحَ في عيسى فيها» . قال الشيخ مؤاخِذاً له: «فاستعمل» نَفَخَ «متعدياً» . والمحفوظُ أنه لا يتعدى فيحتاج في تَعَدِّيه إلى سماعٍ، وغيرَ متعدٍّ استعمله هو في قولِه «أي: نَفَخَتْ في المِزْمار» انتهى ما واخَذَه به. قلت: وقد سُمِعَ «نَفَخَ» متعدياً. ويَدُلُّ على ذلك ما قُرِىء في الشاذ «فأنفخها فيكونُ طائراً» وقد حكاها هو قراءةً فكيف يُنْكِرُها؟ فعليك بالالتفات إلى ذلك. قوله: {آيَةً} إنما لم يطابِقْ المفعولَ الأولَ فيُثَنَّي الثاني؛ لأنَّ كلاً منهما آيةٌ بالآخر فصارا آيةً واحدة. أو نقولُ: إنَّه حُذِف من الأولِ لدلالةِ الثاني، أو بالعكس أي: وَجَعْلنا ابنَ مريمَ آيةً. وأمَّه كذلك. وهو نظيرُ الحذفِ في قولِه {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وقد تقدَّم.

92

قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} : العامَّةُ على رفع «أمتكُم» خبراً ل «إنَّ» ونصب «أمةً واحدةً» على الحالِ. وقيل على البدل من «هذه» ، فيكونُ قد فُصِلَ بالخبرِ بين البدلِ والمبدلِ منه نحو «إن زيداً قائمٌ أخاك» .

وقرأ الحسنُ «أُمَّتَكم» بالنصبِ على البدل من «هذه» أو عطف البيان. وقرأ أيضاً هو وابن أبي إسحاق والأشهبُ العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وهارون عن أبي عمرو «أُمَّتُكم أمَّةٌ واحدةٌ» برفع الثلاثة على أنْ تكونَ «أمتُكم» خبرَ «إنَّ» كما تقدَّم و «أمةٌ واحدةٌ» بدلٌ منها بدلُ نكرةٍ من معرفةٍ، أو تكونَ «أمةٌ واحدةٌ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ.

93

قوله: {أَمْرَهُمْ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الخفضِ أي: تَفَرَّقوا في أمرِهم. الثاني: أنه مفعولٌ به، وعدى تَقَطَّعوا لأنه بمعنى قَطَّعوا. الثالث: أنه تمييزٌ. وليس بواضحٍ معنىً وهو معرفةٌ، فلا يَصِحُّ من جهة صناعةِ البصريين. قال أبو البقاء: «وقيل: هو تمييزٌ أي تقَّطع أمرُهم» فجعله منقولاً من الفاعلية. و «زُبُراً» يجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً على أن يُضَمَّنَ «تقطَّعوا» معنى صَيَّروا بالتقطيع، وإمَّا أن ينتصِبَ على الحالِ من المفعول أي: مثلَ زُبُرٍ أي: كُتُبٍ؛ فإنَّ الزُّبُرَ جمعُ زَبُور كرُسُل جمعَ رسول، أو يكون حالاً من الفاعل. نقله أبو البقاء في سورة المؤمنين. وفيه نظرٌ؛ إذ لا معنى له، وإنما يَظْهر كونُه حالاً من الفاعلِ في قراءةِ «زُبَرا» بفتح الباءِ أي فِرَقاً. والمعنى: صَيَّروا أمرهم زُبُراً أو تقطَّعوه في هذه الحالِ. والوجهان مأخوذان مِنْ تفسير الزمخشري لمعنى الآية الكريمة، فإنه قال: «والمعنى: جعلوا أَمْرَ دينهم

فيما بينهم قِطَعاً كما يتوزَّعُ الجماعةُ [الشيءَ] ويقتسمونه، فيطير لهذا نصيبٌ ولذلك نصيبٌ، تمثيلاً لاختلافهِم فيه وصيرورتِهم فِرَقاً وأحزاباً» . وفي الكلامِ التفاتٌ من الخطاب وهو قوله «أمتُكم» إلى الغَيْبة تشنيعاً عليهم بسوءِ صنيعهم. وقرأ الأعمش بفتحِ الباء جمع زُبْرَة، وهي قطعة الحديد في الأصل. ونصبُه على الحال من ضمير الفاعِل في «تقطَّعوا» وقد تقدَّم. ولم يَتَعرَّض له أبو البقاء في هذه السورة وتَعَرَّض له في المؤمنين فذكر فيه الأوجهَ المتقدمة وزاد أنه قُرِىء «زُبْراً» بكونِ الباء، وهو بمعنى المضمومِها.

94

قوله: {فَلاَ كُفْرَانَ} الكُفْران: مصدرٌ بمعنى الكُفْر. قال: 3358 - رأيتُ أُناساً لا تَنام جُدُوْدُهُمْ ... وجَدّيْ ولا كفرانَ لله نائمُ و «لِسَعْيه» متعلقٌ بمحذوفٍ أي: يكفُر لسَعْيه، ولا يتعلَّق بكفران؛ لأنه يَصير مُطوَّلاً، والمطوَّل يُنْصَبُ. وهذا مبنيُّ. والضميرُ في «له» يعودُ على السعي.

95

قوله: {وَحَرَامٌ} : قرأ الأخَوان وأبو بكر ورُوِيَتْ عن أبي عمرو «وحِرْمٌ» بكسرِ الحاء وسكونِ الراءِ. وهما لغتان كالحِلِّ والحَلال. وقرأ بن عباس وعِكْرمة و «حَرِمَ» بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم، على أنه فعلٌ ماضٍ، ورُوي عنهما أيضاً وعن أبي العالية بفتح الحاء والميم وضمِّ الراءِ بزنة كُرمَ، وهو فعلٌ ماض أيضاً. ورُوي عن ابن عباس فتحُ الجميع. وهو فعلٌ ماضٍ أيضاً. واليمانيُّ بضم الحاء وكسر الراءِ مشددةً وفتح الميم ماضياً مبنياً للمفعول. ورُوي عن عكرمةَ بفتح الحاء وكسرِ الراء وتنوين الميم. فَمَنْ جعله اسماً: ففي رفعه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ/ وفي الخبر حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدهُا: قوله {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} وفي ذلك حينئذٍ أربعةُ تأويلاتٍ، التأويلُ الأولُ: أنَّ «لا» زائدةٌ والمعنى: وممتنعٌ على قريةٍ قدَّرْنا إهلاكَها لكفرِهم رجوعُهم إلى الإِيمانِ، إلى أَنْ تقومَ الساعةُ. وممَّن ذهب إلى زيادتِها أبو عمروٍ مستشهداً عليه بقولِه تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] يعني في أحدِ القولين. التأويل الثاني: أنها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ المعنى: أنَّهم غيرُ راجعين عن معصيتهم وكفرِهم. التأويلُ الثالث: أنَّ الحرامَ يُرادُ به الواجب. ويَدُلُّ عليه قولُه تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: 151] وتَرْكُ الشِّرْكِ واجبٌ، ويَدُلُّ عليه أيضاً قولُ الخنساء:

3359 - حرامٌ عليَّ لا أرى الدهرَ باكياً ... على شَجْوِه إلا بَكَيْتُ على صَخْرِ وأيضاً فمن الاستعمالِ إطلاقُ أحدٍ الضدين على الآخرِ. ومِنْ ثَمَّ قال الحسن والسدي: لا يَرْجِعون عن الشرك. وقال قتادة: إلى الدنيا. التأويل الرابع: قال أبو مسلم ابن بَحْر: «حرامٌ: ممتنع. وأنهم لا يرجعون: انتفاء الرجوعِ إلى الآخرةِ، فإذا امتنع الانتفاءُ وَجَبَ الرجوعُ. فالمعنى: أنه يجبُ رجوعُهم إلى الحياة في الدار الآخرة. ويكون الغرضُ إبطالَ قولِ مَنْ يُنْكر البعثَ. وتحقيقُ ما تقدَّم من أنه لا كُفْرانَ لسَعْي أحدٍ، وأنه يُجْزَى على ذلك يومَ القيامةِ» . وقولُ ابن عطية قريبٌ من هذا قال: «وممتنعٌ على الكفرةَ المُهْلَكين أنهم لا يَرْجعون إلى عذاب الله وأليم عِقابِه، فتكون» لا «على بابِها، والحرامُ على بابه» . الوجه الثاني: أنَّ الخبرَ منحذوفٌ تقديرُه: حرامٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثهم، ويكونُ «أنَّهم لا يَرْجعون» علةً لما تقدَّم من معنى الجملة، ولكن لك حينئذ في «لا» احتمالان، الاحتمال الأول: أَنْ تكونَ زائدةً. ولذلك قال أبو البقاء في هذا الوجهِ بعدَ تقديرِه الخبرَ المتقدم: «إذا جَعَلْتَ لا زائدةً» قلت: والمعنى عنده: لأنهم يَرْجعون إلى الآخرة وجزائها. الاحتمال الثاني: أن تكونَ غيرَ زائدةٍ بمعنى: ممتنعٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثِهم؛ لأنهم لا يَرْجعون إلى الدنيا فَيَسْتدركوا فيها ما فاتهم من ذلك.

الوجهُ الثالث: أَنْ يكونَ هذا المبتدأ لا خبرَ له لفظاً ولا تقديراً، وإنما رَفَع شيئاً يقوم مقامَ خبرِه من باب «أقائم أخواك» . قال أبو البقاء: «والجيدُ أن يكونَ» أنهم «فاعلاً سَدَّ مَسَدَّ الخبر» ، قلت: وفي هذا نظرٌ؛ لأن ذلك يًُشْترطُ فيه أن يَعتمد الوصفُ على نفيٍ أو استفهامٍ، وهنا فلم يعتمِدْ المبتدأُ على شيءٍ من ذلك، اللهم إلاَّ أَنْ ينحوَ نَحْوَ الأخفشِ، فإنه لا يَشترطُ ذلك. وقد قررتُ هذه المسألةَ في غيرِ هذا الموضوع، والذي يظهر قولُ الأخفش، وحينئذ يكون في «لا» الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدمِها، باختلاف معنيين: أي امتنع رجوعُهم إلى الدنيا أو عن شركِهم إذا قَدَّرْتَها زائدةٌ، أو امتنع عدمُ رجوعِهم إلى عقابِ اللهِ في الآخرة إذا قَدَّرْتها غيرَ زائدة. الوجه الثاني: من وجهَيْ رفعِ «حرام» أنه خبرُ مبتدأ محذوف، فقدَّره بعضهم: الإِقالةُ والتوبةُ حرامٌ. وقَدَّره أبو البقاء: «أي ذلك الذي ذُكِرَ من العملِ الصالحِ حرامٌ» . وقال الزمخشري: «وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها ذَاك، وهو المذكورُ في الآية المتقدمةِ من العملِ الصالح والسَّعيِ المشكورِ غير المكفورِ. ثم عَلَّل فقيل: إنهم لا يرجعون عن الكفر فكيف لا يمتنع ذلك؟ وقرأ العامَّةُ» أَهْلكناها «بنونِ العظمة. وقرأ أبو عبد الرحمن وقتادةُ»

أهلكتُها «بتاءِ المتكلم. ومَن قرأ» حَرِمٌ «بفتح الحاءِ وكسرِ الراء وتنوينِ الميم، فهو في قراءتِه صفةٌ على فَعلِ نحو: حَذِر. وقال: 3360 - وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ ومَنْ قرأه فعلاً ماضياً فهو في قراءتِه مسندٌ ل» أنَّ «وما في حَيِّزها. ولا يَخْفى الكلامُ في» لا «بالنسبة إلى الزيادةِ وعدمِها/ فإنَّ المعنى واضحٌ مما تقدَّم وقُرِىء» إنَّهم «بالكسرِ على الاستئناف، وحينئذٍ فلا بد من تقديرِ مبتدأ يَتِمُّ به الكلام، تقديرُه: ذلك العملُ الصالحُ حرامٌ. وتقدَّم تحريرُ ذلك.

96

قوله: {حتى إِذَا} : قد تقدم الكلام على «حتى» الداخلةِ على «إذا» مشبعاً. وقال الزمخشري هنا: «فإنْ قلت: بمَّ تعلَّقَتْ» حتى «واقعةً غايةً له وأيَّة الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقةٌ ب» حرامٌ «وهي غايةٌ له؛ لأنَّ امتناعَ رجوعِهم لا يزول حتى تقومَ القيامةُ، وهي» حتى «التي يحكى بعدها الكلامُ، والكلامُ المحكيُّ هو الجملةُ من الشرطِ والجزاءِ، أعني» إذا «وما في حيزها» . وأبو البقاء نَحا هذا النحوَ فقال: «وحتى» متعلقةٌ في المعنى ب «حرامٌ» أي: يستمرُّ الامتناع إلى هذا الوقتِ، ولا عملَ لها في «إذا» . وقال الحوفي: «هي غايةٌ، والعاملُ فيها ما دَلَّ عليه المعنى مِنْ تأسُّفِهم

على مافَرَّطوا فيه من الطاعةِ حين فاتَهم الاستداركُ» . وقال ابنُ عطية: «حتى» متعلقةٌ بقوله «وتَقَطَّعوا» . وتحتملُ على بعضِ التأويلاتِ المتقدمة أَنْ تتعلَّق ب «يَرْجِعون» ، وتحتمل أَنْ تكونَ حرفَ ابتداءٍ، وهو الأظهر؛ بسبب «إذا» ؛ لأنها تقتضي جواباً هو المقصودُ ذِكْرُه «. قال الشيخ:» وكونُ «حتى» متعلقةً ب «تَقَطَّعوا» فيه بُعْدٌ من حيثن كثرةُ الفصلِ لكنه من حيث المعنى جيدٌ: وهو أنهم لا يزالون مختلفين على دين الحقِّ إلى قُرْب مجيءِ الساعةِ، فإذا جاءت الساعةُ انقطع ذلك كلُّه «. وتلخَّصَ في تعلُّق» حتى «أوجهُ، أحدها: أنها متعلقةٌ ب» حرامٌ «. الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه المعنى، وهو قولُ الحوفيِّ. الثالث: أنها متعلقةٌ ب» تَقَطَّعوا «. الرابع: أنها متعلقةٌ ب» يَرْجِعون «. وتلخَّص في» حتى «وجهان، أحدهما: أنها حرفُ ابتداءٍ وهو قولُ الزمخشري وابنِ عطية فيما اختاره، الثاني: حرفُ جرّ، بمعنى إلى. وقرأ» فُتِّحَتْ «بالتشديد ابنُ عامر. والباقون بالتخفيفِ. وقد تقدَّم ذلك أولَ الأنعام، وفي جواب» إذا «أوجهٌ أحدُها: أنه محذوفٌ فقدَّره أبو إسحاق:» قالوا يا وَيْلَنا «، وقدَّره غيرُه: فحينئذٍ يُبعثون. وقوله» فإذا هي شاخصة «عطفٌ على هذا المقدرِ. الثاني: أنَّ جوابَها الفاءُ في قولِه» فإذا هي «قاله الحوفي والزمخشري وابن عطية. فقال الزمخشري:» وإذا هي

المفاجأةُ، وهي تقع في المجازاة سادَّةً مَسَدَّ الفاءِ كقوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] فإذا جاءت الفاءُ معها تعاونَتا على وَصْل الجزاء بالشرط فيتأكَّدُ. ولو قيل: إذا هي شاخصة كان سديداً. وقال ابن عطية: «والذي أقول: إنَّ الجوابَ في قوله» فإذا هي شاخِصَةٌ «، وهذا هو المعنى الذي قُصِد ذِكْرُه؛ لأنه رجوعُهم الذي كانوا يُكَذِّبون به وحَرَّم عليهم امتناعَه» . وقوله: {يَأْجُوجُ} هو على حذفِ مضاف أي: سدٌّ يأجوجَ ومَأْجوجَ. وتقدَّم الكلامُ فيهما قريباً. قوله: «وهم» يجوز أَنْ يعودَ على يأجوج ومأجوج، وأن يعودَ على العالَم بأَسْرِهم. والأولُ أظهر. وقرأ العامَّةُ: «يَنْسِلون» بكسر السين، وأبو السمَّالِ وابنُ أبي إسحاق بضمها. والحَدَب: النَّشَزُ من الأرض أي: المرتفعُ، ومنه الحَدَبُ في الظهر وكلُّ كُدْية أو أَكَمَةٍ فهي حَدَبَة، وبها سُمِّيَ القبرُ لظهورِه على وجه الأرض، والنَّسَلان مقارَبَةُ الخَطْوِ مع الإِسراعِ، يُقال: نَسَل ينسِل وينسُل بالفتح في الماضي، والكسرِ والضم في المضارع، ونسل وعَسَل واحد، قال الشاعر: 3361 - عَسَلانَ الذئبِ أمسى قارِباً ... بَرَدَ الليلُ عليه فَنَسَلْ

والنَّسْلُ من ذلك وهو الذُّرِّيَّة، أطلقَ المصدرَ على المَفْعول. و «نَسَلْتُ ريشَ الطائر» من ذلك. وقُدِّمَ الجارُّ على متعلقه لتواخي رؤوسِ الآي. وقرأ عبد الله وابن عباس «جَدَث» بالثاء المثلثة، وهو القبرُ. وقُرِىء بالفاء وهي بدلٌ منها. قال الزمخشري: «الثاء للحجاز والفاء لتميم» . وينبغي أَنْ يكونا أصلين؛ لأنَّ كلاً منهما لغةٌ مستقلةٌ، ولكن قد كَثُر إبدال الثاء من الفاء قالوا: مَعْثُور في مَعْفور، وقالوا: «فُمَّ» في ثُمَّ، فأبدلت هذه من هذه تارةً، وهذه من هذه أخرى.

97

قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ} : فيه أوجهٌ أحدُها: وهو الأجود أن تكونَ «هي» ضميرَ القصة، و «شاخصةٌ» خبرٌ مقدمٌ، و «أبصارُ» مبتدأ مؤخر، والجملةُ خبرٌ ل «هي» لأنها لا تُفَسَّر إلاَّ بجملةٍ مصرِّحٍ بجزأيها، وهذا مذهبُ البصريين. الثاني: أن تكونَ «شاخصة» مبتدأ، و «أبصارُ» فاعلٌ سدَّ مَسَدَّ الخبرِ، وهذا يتمشى على رأي الكوفيين؛ لأنَّ

ضميرَ القصةِ يُفَسَّر عندهم بالمفردِ العاملِ عملَ الفعلِ فإنَّه في قوة الجملة. الثالث: قال الزمخشري: «هي» ضميرٌ مُبْهَمٌ تُوَضِّحه الأبصارُ وتُفَسِّره، كما فُسِّر {الذين ظَلَمُواْ} {وَأَسَرُّواْ} [الأنبياء: 3] . ولم يَذْكر غيرَه. قلت: وهذا هو قولُ الفراء؛ فإنَّه قال: «هي» ضميرُ الأبصارِ تقدَّمَتْ لدلالة الكلام ومجيءِ ما يُفَسِّرها «. وأنشد شاهداً على ذلك: / 3362 - فلا وأبيها لا تقول حَليلتي ... ألا فَرَّعني مالكُ بنُ أبي كعبِ الرابع: أن تكونَ» هي «عماداً، وهو قول الفراء أيضاً، قال:» لأنه يَصْلُح موضعَها «هو» وأنشد: 3363 - بثوبٍ ودينارٍ وشاةٍ ودِرْهمٍ ... فهل هو مرفوعٌ بما ههنا راسُ وهذا لا يَتَمَشَّى إلاَّ على أحدِ قولي الكسائي: وهو أنه يُجيز تقدُّمَ الفصلِ مع الخبرِ المقدَّم نحو: «هو خيرٌ منك زيد» الأصل: زيدٌ هو خيرٌ منك،

وقال الشيخ: «أجاز هو القائمُ زيدٌ، على أنَّ» زيداً «هو المبتدأ و» القائم «خبره و» هو «عمادٌ. وأصلُ المسألةِ: زيدٌ هو القائم» . قلتُ: وفي هذا التمثيلِ [نظرٌ] ؛ لأنَّ تقديمَ الخبرِ هنا ممتنعٌ لا ستوائِهما في التعريفِ، بخلاف المثال الذي قَدَّمْتُه، فيكون أصلُ الآيةِ الكريمة: فإذا أبصارُ الذين كفروا هي شاخصةٌ، فلما قُدِّم الخبرُ وهو «شاخصةٌ» قُدِّم معها العِمادُ. وهذا أيضاً إنما يجيءُ على مذهبِ مَنْ يرى وقوعَ العمادِ قبل النكرة غيرِ المقاربةِ للمعرفةِ. الخامس: أَنْ تكونَ «هي» مبتدأً، وخبرُه مضمرٌ، ويَتِمُّ الكلامُ حينئذٍ على «هي» ، ويُبْتَدأ بقوله «شاخصة أبصار» . والتقديرُ: فإذا هي بارزةٌ أي: الساعةُ بارزةٌ أو حاضرة، و «شاخصةٌ» خبرٌ مقدمٌ و «أبصارُ» مبتدأٌ مؤخرٌ. ذكره الثعلبي. وهو بعيدٌ جداً لتنافرِ التركيبِ، وهو التعقيدُ عند علماءِ البيان. قوله: {ياويلنا} معمولٌ لقولٍ محذوفٍ، وفي هذا القولِ المحذوفِ وجهان، أحدُهما: أنَّه جوابُ «حتى إذا» كما تقدَّم. والثاني: في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «الذين كفروا» ، قاله الزمخشري.

98

قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} : أتى هنا ب «ما» وهي لغيرِ العقلاءِ، لأنه متى اختلطَ العاقلُ بغيرِه تَخَيَّر الناطقُ بين ما ومَنْ. وقرأ العامَّةُ «حَصَبُ» بالمهملتين والصادُ مفتوحةٌ، وهو ما يُحْصَبُ أي: يرمى في النارِ، ولا يقالُ له حَصَب إلاَّ وهو في النارِ. فأمَّا [ما] قبل ذلك فَحَطَبٌ وشجرٌ وغير ذلك وقيل: هي لغةٌ حبشية. وقيل: يُقال له حَصَبٌ قبل الإِلقاء

في النار. وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عبلة ورُويت عن ابنِ كثير بسكونِ الصادِ وهو مصدرٌ، فيجوز أن يكونَ واقعاً موقع المفعول، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ. وقرأ ابن عباس بالضاد معجمةً مفتوحة أو ساكنةً، وهو أيضاً ما يُرمَى به في النار، ومنه المِحْضَبُ: عُوْدٌ تُحَرَّك به النارُ لِتُوقَدَ. وأًنْشِدَ: 3364 - فلا تَكُ في حَرْبِنا مِحْضَباً ... فتجعلَ قومَك شَتَّى شُعوبا وقرأ أميرُ المؤمنين وأُبَيٌّ وعائشة وابن الزبير «حَطَبُ» بالطاء، ولا أظنُّها إلاَّ تفسيراً لا تلاوةً.

99

قوله: {آلِهَةً} : العامَّةُ على النصب خبراً ل «كان» وقرأ طلحة بالرفع. وتخريجُها كتخريج قوله: 3365 - إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفَانِ. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ففيها ضمير الشأن. وقوله: {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} جَوَّز أبو البقاء في هذه الجملةِ ثلاثةَ أوجه،

أحدها: أن تكونَ بدلاً من «حَصَبُ جنهم» . قلت: يعني أن الجملةَ بدلٌ من المفردِ الواقعِ خبراً، وإبدال الجملةِ من المفردِ إذا كان أحدُهما بمعنى الآخر جائز، إذ التقديرُ: إنكم أنتم لها واردون. والثاني: أن تكونَ الجملةُ مستأنفةً. والثالث: أن تكونَ في محلِّ نصب على الحال من «جهنم» ذكره أبو البقاء. وفيه نظرٌ من حيث مجيءُ الحالِ من المضافِ إليه في غيرِ المواضعِ المستثناةِ.

101

قوله: {مِّنَّا} : يجوز أن يتعلَّقَ ب «سَبَقَتْ» ، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من الحسنى.

102

قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ} : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من «مُبْعَدُون» لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، فيغني عنه، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستترِ في «مُبْعَدون» . قوله: {وَهُمْ فِي مَا اشتهت} إلى قوله «وتَتَلقَّاهم» كلُّ جملةٍ من هذه الجملِ يحتمل أَنْ تكونَ حالاً مِمَّا قبلها. وأن تكون مستأنفةً. وكذا الجملةُ المضمرةُ من القولِ العاملِ في جملة قولِه «هذا يومُكم» إذا التقديرُ: وتَتَلَقَّاهم يقولون: هذا يومُكم.

104

قوله: {يَوْمَ نَطْوِي} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ ب «لا يَحْزُنُهم» . والثاني: أنه منصوبٌ ب «تتلقَّاهم» . الثالث أنه منصوبٌ بإضمار اذكر أو أعني. الرابع: أنه بدلٌ من العائدِ المقدرِ تقديرُه: تُوْعَدُونه/ يومَ نَطْوي ف «يومَ» بدل من الهاء. ذكره أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ إذ يَلْزَمُ مِنْ ذلك خُلُوُّ الجملةِ الموصولِ بها من عائدٍ على الموصول، ولذلك مَنَعُوا «

جاء الذي مررتُ به أبي عبد الله» على أن يكونَ «أبي عبد الله» بدلاً من الهاء لِما ذكرْتُ، وإن كان في المسألة خلاف. الخامس: أنه منصوبٌ بالفزع، قاله الزمخشري، وفيه نظر؛ من حيث إنه أَعْمَلَ المصدرَ الموصوفَ قبل أَخْذِه معمولَه. وقد تقدَّم أنَّ نافعاً يقرأ «يُحْزِنُ» بضم الياء إلاَّ هنا، وأن شيخَه ابن َ القَعْقاع يَقْرأ «يَحْزُن» بالفتح إلاَّ هنا. وقرأ العامَّة «نَطْوي» بنون العظمة وشيبة بن نصاح في آخرين «يطوي» بياء الغَيْبة، والفاعلُ هو الله تعالى، وقرأ أبو جعفر في آخرين «تطوى» بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وفتحِ الواوِ مبنياً للمفعول. وقرأ العامَّةُ «السِّجِلِّ» بكسر السينِ والجيمِ وتشديدِ اللامِ كالطِّمِرِّ. وقرأ أبو هريرة وصاحبُه أبو زرعةَ بن عمرو بن جرير بضمِّهما، واللامُ

مشددةٌ أيضاً بزنةِ «عُتُلّ» . ونقل أبو البقاء تخفيفَها في هذه القراءةِ أيضاً، فتكونَ بزنةِ عُنُق، وأبو السَّمَّال وطلحة والأعمش بفتح السين. والحسن وعيسى بن عمر [بكسرِها] . والجيمُ في هاتين القراءتين ساكنةٌ واللامُ مخففةٌ، قال أبو عمرو: «قراءةُ أهلِ مكةً مثل قراءةِ الحسن» . والسِّجِلُّ: الصحيفةُ مطلقاً. وقيل: بل هو مخصوصٌ بصحيفةِ العهد، وهي من المساجلةِ، والسَجْل: الدَلْوُ الملأى. وقال بعضهم: هو فارسيٌّ معرَّب فلا اشتقاقَ له. و «طَيّ» مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ. والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: كما يطوي الرجلُ الصحيفةَ ليكتبَ فيها، أَو لما يكتُبه فيها من المعاني، والفاعلُ يُحْذف مع المصدرِ باطِّراد. والكلامُ في الكاف معروفٌ أعني كونَها نعتاً لمصدرٍ مقدرٍ أو حالاً مِنْ ضميرِه. وأصلُ طيّ: طَوْيٌ فأُعِلَّ كنظائره. وقيل: السِّجِلُّ سامُ مَلَكٍ يَطْوي كتبَ أعمالِ بني آدم. وقيل: اسمُ رجلٍ كان يكتب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وعلى هذين القولين يكون المصدرُ مضافاً لفاعله. و «الكتاب» اسمٌ للصحيفةِ المكتوبِ فيها. وقال أبو إسحاق: «السِّجِلُّ: الرجلُ بلسان الحبشة» . وقال الزمخشري: كما

يطوى الطُّومارُ للكتابة، أي: ليُكتبَ فيه، أو لما يُكتب فيه؛ لأن الكتابَ أصلُه المصدرُ كالبناء ثم يوقع على المكتوب «. فقدَّره الزمخشريُّ من الفعلِ المبنيِّ للمفعول. وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف. واللام في «للكتاب» : إمَّا مزيدةٌ في المفعولِ إنْ قلنا إنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه، وإمَّا متعلقةٌ بطَيّ، وإمَّا بمعنى «على» . وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ لبُعْدِ معناه على كل قولٍ. والقراءاتُ المذكورةُ في «السِّجِلْ» كلُّها لغات. وقرأ الأخَوان وحفص «للكتب» جمعاً، والباقون «للكتاب» مفرداً، والرسُم يحتملهما: فالإِفرادُ يُراد به الجنسُ، والجمعُ للدلالةِ على الاختلافِ. قوله: {كَمَا بَدَأْنَآ} في متعلِّقِ هذه الكافِ وجهان، أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ ب «نُعِيده» ، و «ما» مصدريةٌ و «بدأنا» صلتُها، فهي وما في حَيِّزِها في محلِّ جر بالكاف. و «أولَ خَلْقٍِ» مفعولُ «بَدَأْنا» ، والمعنى: نُعيد أولَ خَلْقٍ إعادةً مثلَ بَداءَتِنا له أي: كما أبْرَزْناه من العَدَمِ إلى الوجودِ نُعيده من العَدَمِ إلى الوجود. وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال: «الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: نُعيده عَوْداً مثلَ بَدْئه» وفي قولِه: «عَوْد» نظرٌ إذ الأحسنُ أَنْ يقولَ: إعادة. والثاني: أنها تتعلَّقُ بفعلٍ مضمرٍ. قال الزمخشري: «ووجهٌ آخرُ:

وهو أَنْ تَنْتَصِبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره» نُعيده «و» ما «موصولةٌ أي: نُعيد مثلَ الذي بَدَأْنا نُعيده، و» أولَ خَلْقٍ «ظرف ل» بَدَأْناه «أي: أولَ ما خلق، أو حالٌ من ضميرِ الموصولِ السَّاقط من اللفظِ الثابتِ في المعنى» . قال الشيخ: «وفي تقديرِه تهيئةُ» بَدَأْنا «لأَنْ يَنْصِبَ» أولَ خَلْقٍ «على المفعوليةِ وقَطْعُه عنه، من غيرِ ضرورةٍ تدعو إلى ذلك، وارتكابُ إضمارٍ بعيدٍ مُفَسَّراً ب» نُعِيْدُه «، وهذه عُجْمَةٌ في كتاب الله. وأمَّا قولُه» ووجهٌ آخرُ: وهو أن تنتصبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّرُه «نُعِيْدُه» فهو ضعيفٌ جداً؛ لأنه مبنيٌّ على أن الكافَ اسمٌ لا حرفٌ، وليس مذهبَ الجمهور، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفشُ. وكونُها اسماً عند البصريين مخصوصٌ بالشعرِ «. قلت: كلُّ ما قَدَّره فهو جارٍ على القواعدِ المنضبطةِ، وقادَه إلى ذلك المعنى الصحيحُ، فلا مُؤَاخَذَةَ عليه. يظهرُ ذلك بالتأمُّلِ لغيرِ الفَطِنِ. وأمَّا قوله:» ما «ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها مصدريةٌ. والثاني: أنَّها بمعنى الذي. وقد تقدَّم تقريرُ هذين والثالث: أنها كافةٌ للكافِ عن العملِ كما هي في قولِه: 3366 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما الناسُ مَجْرُوْمٌ عليه وجارِمُ فيمَنْ رفع» الناس «. قال الزمخشري:» أولَ خَلْقٍ «مفعولُ» نُعيد «

الذي يُفَسِّره» نُعِيده «، والكافُ مكفوفةٌ ب» ما «. والمعنى: نُعيد أولَ الخَلْقِ كما بَدَأْناه تَشْبيهاً للإِعادةِ بالابتداء في تناوُلِ/ القُدْرَةِ لهما على السَّواء. فإنْ قلتَ: فما أولُ الخَلْقِ حتى يُعيدَه كما بدأه؟ قلت: أوَّلُه إيجادُه عن العَدَمِ، فكما أوجدَه أولاً عن عدمٍ يُعيده ثانياً عن عدمٍ «. وأمَّا» أولَ خلق «فتَحصَّل فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مفعولُ» بَدَأْنا «. والثاني: أنه ظرفٌ ل» بَدَأْنا «. والثالث: أنه منصوبٌ على الحال مِنْ ضميرِ الموصولِ كما تقدَّم تقريرُ كل ذلك. والرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعول» نُعيده «قاله أبو البقاء، والمعنى: مثلَ أولِ خَلْقِه. وأمَّا تنكيرُ» خَلْقِ «فللدلالةِ على التفصيلِ. قاله الزمخشري:» فإن قلتَ «ما بالُ» خَلْقٍ «منكَّراً؟ قلت: هو كقولِك:» هو أولُ رجلٍ جاءني «تريد: أول الرجال. ولكنك وَحَّدْتَه ونَكَّرتَه إرادةَ تفصيلِهم رجلاً رجلاً، وكذلك معنى» أولَ خَلْقٍ «بمعنى: أول الخلائق؛ لأنَّ الخَلْقَ مصدرٌ لا يُجْمَعُ» . قوله: {وَعْداً} منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة المتقدِّمة، فناصبُه مضمرٌ أي: وَعَدْنا ذلك وَعْداً.

105

قوله: {مِن بَعْدِ الذكر} : يجوزُ أَنْ يتعلًَّق ب «كَتْبنا» ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ «الزَّبُورِ» لأنَّه بمعنى المَزْبُور أي: المكتوب أي: المَزْبُور مِنْ بَعْدِ. ومفعولُ «كَتَبْنا» أنَّ وما في حَيِّزها أي: كَتَبْنا وِراثَةَ الصالحينِ للأرضِ أي: حَكَمْنا به.

107

قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً} : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له أي: لأجلِ الرَّحْمة. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الحال مبالغةً في أَنْ جَعَلَه نفسَ الرحمة، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا رحمةٍ أو بمعنى راحِم. وفي الحديث «يا أيها الناسُ إنما أنا رحمةٌ مُهْداة» . قوله: {لِّلْعَالَمِينَ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «رَحْمَةً» أي: كائنةً للعالمين. ويجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «أَرْسَلْناك» عند مَنْ يَرَى تَعَلُّقَ ما بعد «إلاَّ» بما قبلها جائزاً أو بمحذوفٍ عند مَنْ لا يَرَى ذلك. هذا إذا لم يُفَرَّغ الفعلُ لِما بعدها، أما إذا فُرِّغَ فيجوزُ نحو: ما مررتُ إلاَّ بزيدٍ، كذا قاله الشيخ هنا. وفيه نظرٌ من حيث إن هذا أيضاً مفرغ؛ لأنَّ المفرَّغَ عبارةٌ عمَّا افتقر ما بعد «إلاَّ» لِما قبلها على جهةِ المعمولية له.

108

قوله: {أَنَّمَآ إلهكم} : «أنَّ» وما في حَيِّزِها في محلِّ رفعٍ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ؛ إذا التقديرُ: إنما يوحى إليَّ وَحْدانيةُ إلهكم. وقال الزمخشري: «إنَّما» لقَصْرٍ الحكمِ على شيءٍ أو لقَصْرِ الشيءِ على حكمٍ كقولِك: «إنما زيدٌ قائم» و «إنما يقومُ زيدٌ» . وقد اجتمع المثالان في هذه الآيةِ؛ لأنََّ {إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ} مع فاعلِه بمنزلةِ «إنما يقومُ زيد» ، و {أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} بمنزلةِ «إنَّما زيد قائم» . وفائدةُ اجتماعِهما الدلالةُ على أنَّ الوَحْيَ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مقصورٌ على استئثارِ اللهِ بالوَحْدانية «. قال الشيخ:» أمَّا ما ذكره في «أنَّما» أنَّها لقَصْرِ ما ذَكَر، فهو مبنيٌّ على أن «أنَّما» للحصر، وقد قررنا أنها لا تكون للحصر وأنَّ «ما» مع «أنَّ» كهي مع

كأنَّ ومع لعلَّ. فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي، فكذلك لا تفيده مع «أنَّ» . وأما جَعْلُه «أنما» المفتوحةَ الهمزةِ مثلَ المكسورتِها تدلُّ على القَصْر فلا نعلم الخلاف إلاَّ في «إنما» بالكسر، وأما «أنما» بالفتح فحرفٌ مصدريٌّ، ينسَبِكُ منه مع ما بَعْدَه مصدرٌ، فالجملةُ بعدها ليسَتْ جملةً مستقلةً. ولو كانَتْ «أنما» دالةً على الحصر لزم أَنْ يُقال: إنه لم يُوْحَ إليه شيءٌ إلاَّ التوحيدُ، وذلك لا يَصِحُّ الحَصْرُ فيه، إذ قد أُوْحي له أشياءُ غيرُ التوحيد «. قلت: الحَصْرُ بحسب كلِّ مقامٍ على ما يناسِبُه؛ فقد يكون هذا المقامُ يقتضي الحصرَ في إيحاءِ الواحدنية لشيءٍ جرى من إنكارِ الكفارِ وحدانيتَه تعالى، وأنَّ اللهَ لم يُوْحِ إليه لها شيئاً. وهذا كما أجاب الناسُ عن هذا الإِشكالِ الذي ذكره الشيخُ في قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} [الرعد: 7] {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ} [الكهف: 110] {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد 36] إلى غير ذلك. و» ما «من قوله {إِنَّمَآ يوحى} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ كافةً وقد تقدَّم. والثاني: أن تكونَ موصولةً كهي في قوله: {إِنَّمَا صَنَعُواْ} [طه: 69] ويكون الخبرُ هو الجملةَ مِنْ قوله: {أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} تقديرُه: إن الذي يوحى إليَّ هو هذا الحكمُ. قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} استفهامٌ معناه الأمرُ بمعنى أَسْلِموا، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا.

109

قوله: {آذَنتُكُمْ} : أي: أَعْلَمْتُكم. فالهمزةُ فيه للنقلِ. قال الزمخشري: «آذن منقولٌ مِنْ أَذِنَ إذا عَلِمَ، ولكنه كَثُرَ استعمالُه في الجَرْيِ مجرى الإِنذار. ومنه قولُه تعالى: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} [البقرة: 279] وقول ابن حِلِّزَة: / 3367 - آذَنَتْنا بِبَيْنِها أسماءُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قلت: وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة. قوله: {على سَوَآءٍ} في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل والمفعول معاً، أي: مُسْتَوِين في العلم بما أَعْلَمْتُكم به لم يَطْوِه عن أحدٍ منهم. قوله: {وَإِنْ أدري} العامَّةُ على إرسالِ الياء ساكنةً، إذ لا مُوْجِبَ لغيرِ ذلك. ورُوي عن أبن عباس أنه قرأ:» وإنْ أَدْريَ أقريبٌ «،» وَإِنْ أَدْرِيَ لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ «بفتح الياءَيْن. وخُرِّجَتْ على التشبيهِ بياءِ الإِضافة. على أن ابنَ مجاهدٍ أنكر هذه القراءةَ البتة. وقال ابن جني:» هو غَلَطٌ، لأنَّ «إنْ» نافيةٌ لا عملَ لها «. ونَقَل أبو البقاء عن غيرِه أنه قال في تخريجها:» إنه ألقى

حركةَ الهمزةِ على الياءِ فتحرَّكَتْ وبقيتْ الهمزةُ ساكنةً، فأُبْدِلَتْ ألفاً لانفتاحِ ما قبلها، ثم أُبْدِلَتْ همزةً متحركةً؛ لأنها في حُكْمِ المبتدأ بها، والابتداءُ بالساكنِ مُحالٌ. وهذا تخريجٌ متكلِّفٌ لا حاجةَ إليه. ونِسْبَةُ راويها عن ابن عباس إلى الغلطِ أَوْلَى من هذا التكلُّفِ، فإنها قراءةٌ شاذةٌ مُنْكَرَة. وهذا التخريجُ وإنْ نَفَعَ في الأولى فلا يُجْدي في الثانيةِ شيئاً. وسيأتي لك قريبٌ من ادِّعاء قَلْبِ الهمزةِ ألفاً ثم قَلْبِ الألفِ همزةً في قوله: {مِنسَأَتَهُ} [سبأ: 14] إنْ شاء اللهُ تعالى، وبذلك يَسْهُلُ الخَطْبُ في التخريج المذكور. والجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ ب «أدْري» لأنها معلِّقَةٌ لها عن العملِ، وأَخَّر المُسْتَفْهَمَ عنه لكونِه فاصلةً. ولو وَسَّطه لكان التركيبُ: أقريب ما تُوعدون أم بعيدٌ، ولكنه اُخِّر مراعاةً لرؤوسِ الآي. و {مَّا تُوعَدُونَ} يجوز أَنْ يكونَ مبتدأ، وما قبله خبرٌ عنه ومعطوفٌ عليه. وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يرتفعَ فاعلاً ب «قريبٌ» . قال: «لأنه اعتمد على الهمزة» . قال: «ويُخَرَّج على قولِ البصريينَ أن يرتفعَ ب» بعيد «لأنه أقربُ إليه» . قلت: يعني أنه يجوزُ أَنْ تكونَ المسألةُ من التنازع فإنَّ كلاً من الوصفَيْنِ يَصِحُّ تَسَلُّطُه على «ما تُوْعَدون» من حيث المعنى.

110

قوله: {مِنَ القول} : حالٌ مِنْ «الجهر» .

111

قوله: {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ} : الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ معلِّقةٌ ل «أَدْري» ، والكوفيون يُجْرون الترجِّي مجرى الاستفهام في ذلك، إلاَّ أنَّ

النَّحْويين لم يَعُدُّوا من المعلِّقات «لعلَّ» وهي ظاهرةٌ في ذلك كهذه الآيةِ وكقولِه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 3] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] .

112

قوله: {قَالَ} : قرأ حفص «قال» خبراً عن الرسولِ عليه السلام. الباقون «قل» على الأمر. وقرأ العامَّةُ «رَبِّ» بكسرِ الباءِ اجتراءً بالكسرةِ عن ياءِ الإِضافةِ، وهي الفصحى. وقرأ أبو جعفر بضمِّ الباءِ، فقال صاحبُ «اللوامح» : «إنه منادى مفردٌ ثم قال:» وحَذْفُ حَرْفِ النداء فيما جاز أن يكونَ وصفاً ل «أَيّ» بعيدٌ، بابُه الشعرُ «. قلت: ليس هذا من المنادى المفردِ، بل نَصَّ بعضُهم على أنَّ هذه بعضُ اللغاتِ الجائزةِ في المضافِ إلى ياء المتكلم حالَ ندائه. وقرأ العامَّةُ» احْكُمْ «على صورةِ الأمر. وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر» رَبِّيْ «بسكونِ الياء» أَحْكَمُ «أفعلُ تفضيلٍ فهما مبتدأ وخبر.

وقُرِىء» أَحْكَمَ «بفتح الميم كألزَمَ، على أنَّه فعلٌ ماضٍ في محلِّ خبرٍ أيضاً ل» ربِّي «وقرأ العامَّةُ» تَصِفُوْن «بالخطاب. وقرأ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على أُبَي رضي الله عنه» يَصِفُون «بالياء مِنْ تحت، وهي مَرْوِيَّةٌ أيضاً عن عاصم وابن عامر. والغيبة والخطاب واضحان.

الحج

قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة} يجوزُ في هذا المصدرِ وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ مضافاً لفاعله وذلك على تقديرين. أحدُ التقديرَيْن: أَنْ يكونَ مِنْ زلزل اللازمِ بمعنى تزَلْزَلَ فالتقدير: إنَّ تَزَلْزُلَ الساعةِ. والتقديرُ الثاني: أَنْ يكونَ مِنْ زَلْزَل المتعدِّي، ويكون المفعولُ محذوفاً تقديرُه: إنَّ زِلْزالَ الساعةِ الناسَ. كذا قَدَّره أبو البقاء. وأحسنُ مِنْ هذا أن يُقَدَّرَ: إنَّ زِلْزالَ الساعةِ للأرض. يَدُلُّ عليه قولُه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض} [الزلزلة: 1] ونسبة التَّزَلْزُلِ أو الزلزال إلى الساعة على سبيل المجاز. الوجه الثاني: أن يكونَ المصدرُ مضافاً الى المفعولِ به، على طريقةِ الاتِّساع في الظرف كقوله: 3368 - طَبَّاخِ ساعاتِ الكرى زادَ الكَسِلْ ... وقد أوضح الزمخشريُّ ذلك بقولِه: «ولا تَخْلو الساعةُ من أَنْ تكونَ

على تقديرِ الفاعلةِ لها، كأنها هي التي تُزَلْزِلُ الأشياءَ، على المجازِ الحُكْمي، فتكونُ الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعِله، أو على تقديرِ/ المفعولِ فيها على طريقةِ الاتِّساعِ في الظرفِ، وإجرائه مجرى المفعولِ به، كقولِه تعالى: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33] .

2

قوله: {يَوْمَ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يَنْتَصِبَ ب «تَذْهَلُ» ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره. الثاني: أنه منصوبٌ ب «عظيم» . الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار اذكر. الرابع: أنه بدلٌ من الساعة. وإنما فُتح لأنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى الفعلِ. وهذا إنما يتمشى على قولِ الأخفش، وقد تَقَدَّم تحقيقُه آخرَ المائدة. الخامس: أنه بدلٌ من «زلزلة» بدلُ اشتمالٍ؛ لأنَّ كلاً من الحدثِ والزمانِ يَصْدُقُ أنه مشتملٌ على الآخر، ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ ب «زلزلة» لِمَا يَلْزَمُ من الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر. قوله: {تَرَوْنَهَا} في هذا الضميرِ قولان، أظهرهما: أنه ضميرُ الزلزلةِ لأَنها المحدَّثُ عنها، ويؤيِّدُه أيضاً قولُه {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} . والثاني: أنه ضميرُ الساعةِ. فعلى الأولِ يكونُ الذُّهولُ والوَضْعُ حقيقةً لأنه في الدنيا، وعلى الثاني يكونُ على سبيلِ التعظيم والتهويل، وأنها بهذه الحيثيةِ، إذ المرادُ بالساعةِ القيامةُ، وهو كقولِه: {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [المزمل: 17] . قوله: {تَذْهَلُ} في محلِّ نصب على الحال من «ها» في «تَرَوْنَها» فإنَّ الرؤيَةَ هنا بَصَريةٌ، وهذا إنما يَجِيْءُ على غيرِ الوجهِ الأولِ. وأمَّا الوجهُ الأولُ

وهو أنَّ «تَذْهَلُ» ناصِبٌ ل «يومَ تَرَوْنَها» فلا محلَّ للجملةِ من الإِعرابِ لأنها مستأنفةٌ، أو يكونُ محلُّها النصبَ على الحال من الزلزلة، أو من الضمير في «عظيم» ، وإنْ كان مذكراً، لأنَّه هو الزَّلْزَلَةُ في المعنى، أو من الساعة، وإن كانت مضافاً إليها، لأنها: إمَّا فاعلٌ أو مفعولٌ كما تقدَّم. وإذا جَعَلْناها حالاً فلا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ تقديرُه: تَذْهَلُ فيها. وقرأ العامة «تَذْهَلُ» بفتح التاءِ والهاءِ، مِنْ ذَهِل عن كذا يَذْهَلُ. وقرأ ابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسرِ الهاءِ ونصبِ «كل» على المفعولية، مِنْ أَذْهَلَه عن كذا يُذْهِله عَدَّاه بالهمزةِ، والذُّهولُ: الاشتغالُ عن الشيءِ. وقيل: إذا كان مع دَهْشَة. وقيل: إذا كان ذلك لطَرَآنِ شاغِلٍ مِنْ هَمٍّ ومَرَضٍ ونحوِهما. وذُهْل بنُ شَيْبان أصلُه من هذا. والمُرْضِعَةُ: مَنْ تَلَبَّسَتْ بالفعل، والمُرْضِعُ: مَنْ شَأْنُها أَنْ تُرْضِعَ كحائض، فإذا أريد التلبُّسُ قيل: حائِضة. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ قيل مُرْضِعَة دون مُرْضع؟ قلت: المُرْضِعَةُ التي هي في حال الإِرضاعِ ملقمةٌ ثديَها الصبيَّ، والمرضعُ التي مِنْ شأنِها أَنْ تُرْضِعَ وإن لم تباشِرْ الإِرضاعَ في حالِ وَصْفِها به» والمعنى: إنَّ مِنْ شِدَّة الهَوْلِ تَذْهَلُ هذه عن ولدِها فكيف بغيرِها؟ وقال بعضُ الكوفيين: المُرْضِعَةُ تقال للأمِّ، والمُرْضِعُ تقال للمستأجَرَةِ غيرِ الأمِّ، وهذا مردودٌ بقولِ

الشاعر: 3369 - كمُرْضِعَةٍ أولادَ أخرى وضَيَّعَتْ ... بني بطنِها هذا الضلالُ عن القصدِ فأَطْلَقَ المُرْضِعَةَ بالتاء على غير الأمِّ. وقولُ العرب مُرْضِعَة يَرُدُّ أيضاً قولَ الكوفيين: إنَّ الصفاتِ المختصةَ بالمؤنثِ لا يلحقها تاءُ التأنيثِ نحو: حائِض وطالق. فالذي يُقال: إنْ قُصِد النَّسَبُ فالأمرُ على ما ذَكَروا، وإنْ قُصِد الدلالةُ على التلبُّسِ بالفعلِ وَجَبَتِ التاءُ فيقال: حائضة وطالقة وطامِثة. قوله: {عَمَّآ أَرْضَعَتْ} يجوزُ في «ما» أَنْ تكونَ مصدريةً أي: عن إرْضاعِها. ولا حاجةَ إلى تقديرِ حَذْفٍ على هذا. ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي فلا بُدَّ من حَذْفِ عائدٍ أي: أَرْضَعَتْه. ويُقَوِّيه تعدِّي «تَضَعُ» إلى مفعولٍ دونَ مصدرٍ. والحَمْلُ بالفتحِ: ما كان في بَطْنٍ أو على رأسِ شجرة، وبالكسرِ ما كان على ظَهْرٍ. قوله: {وَتَرَى الناس سكارى} العامَّةُ على فتحِ التاءِ من «ترى» على خطابِ الواحد. وقرأ زيدُ بن علي بضمِّ التاءِ وكسرِ الراءِ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الزلزلةِ أو الساعةِ. وعلى هذه القراءةِ فلا بُدَّ من مفعولٍ أولَ محذوفٍ ليَتِمَّ المعنى به أي: وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ الخَلْقَ الناسَ سكارى. ويؤيِّد هذا قراءةُ أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك «ترى الناس سكارى» . بضمِّ التاء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله، ونصب «الناسَ» ، بَنَوْه من المتعدِّي لثلاثةٍ: فالأولُ قام مَقامَ الفاعلِ، وهو ضميرُ الخطابِ، و «الناسَ سُكارى» هما الأولُ والثاني.

ويجوز أن يكونَ متعدِّياً لاثنين فقط على معنى: وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ/ [الناسَ] قوماً سكارى. فالناسَ هو الأول و «سكارى» هو الثاني. وقرأ الزعفرانيُّ وعباسٌ في اختياره «وترى» كقراءة أبي هريرة إلاَّ أنهما رفعاً «الناسُ» على أنه مفعول لم يُسَمَّ فاعلُه. والتأنيثُ في الفعلِ على تأويلِهم بالجماعة. وقرأ الأخَوان «سكرى» «وما هم بسكرى» على وزنِ وَصْفِ المؤنثةِ بذلك. واخْتُلف في ذلك: هل هو صيغةٌ جمعٍ على فَعْلَى كمَرْضى وقَتْلى، أو صفةٌ مفردةٌ اسْتُغني بها في وصفِ الجماعة؟ خلافٌ مشهورٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه في قوله: «أسرى» . وظاهرُ كلامِ سيبويه أنه جمعُ تكسيرٍ فإنه قال: «وقومٌ يقولون: سكرى، جَعَلوه مثلَ مرضى لأنهما شيئان يَدْخلان على الإِنسان، ثم جَعَلوا» روبى «مثلَ سكرى وهم المُسْتَثْقلون نَوْماً من شربِ الرائب. وقال الفارسي:» ويَصِحُّ أن يكونَ جمعَ «سَكِر» كزَمِن وزمنى. وقد حُكي «رجلٌ سَكِر» بمعنى سَكْران فيجيءُ سكرى حينئذٍ لتأنيث الجمع «. قلت: ومِنْ ورودِ» سَكِر «بمعنى سَكْران قولُه:

3370 - وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني ... ثَوْبي فأنهضُ نَهْضَ الشاربِ السَّّكِرِ وكنتُ أَمْشي على رِجْلين مُعْتَدِلاً ... فصِرْتُ أَمْشِي على أخرى من الشَّجر ويُروى البيتُ الأول» الشارِبِ الثَّمِلِ «، والأولُ أَصَحُّ لدلالةِ البيت الثاني عليه. وقرأ الباقون» سكارى «بضمِّ السين. وقد تَقَدَّم لنا في البقرة خلافٌ: هل هذه الصيغةُ جمعُ تكسيرٍ أو اسمُ جمع؟ وقرأ أبو هريرةَ وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما، وهو جمع تكسير، واحدُه سَكْران. قال أبو حاتم: «وهي لغةُ تميم» . وقرأ الحسنُ والأعرج وأبو زرعة والأعمش «سكرى» «بسكرى» بضمِّ السين فيهما. فقال ابن جني: «هي اسمٌ مفردٌ كالبُشْرَى. بهذا أفتاني أبو علي» . وقال أبو الفضل: «فُعْلَى بضمِّ الفاءِ مِنْ صفةِ الواحدةِ من الإِناثِ، لكنها لَمَّا جُعِلَتْ من صفاتِ الناس وهم جماعة، أُجْرِيَتْ الجماعة بمنزلة المؤنثِ الموحَّدِ» . وقال الزمخشري: «هو غريبٌ» . قلت: ولا غرابةَ؛ فإنَّ فعلى بضم الفاء كَثُر مجيئُها في أوصافِ المؤنثة نحو الربى والحبلى

وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكونَ محذوفاً مِنْ سكارى. وكان مِنْ حَقِّ هذا القارىء أَنْ يُحَرِّكَ الكافَ بالفتح إبقاءً لها على ما كانَتْ عليه. وقد رواها بعضُهم كذلك عن الحسن. وقُرِىء «ويرى الناسُ» بالياء من تحت ورفع «الناسُ» . وقرأ أبو زرعة في روايةٍ «سَكْرى» بالفتح، «بسُكْرى» بالضم. وعن ابن جبير كذلك، إلاَّ أنه حَذَف الألفَ من الأول دون الثاني. وإثباتُ السُّكْرِ وعَدَمُه بمعنى الحقيقة والمجاز أي: وترى الناس سكرى على التشبيه، وما هم بسَكْرى على التحقيق. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ قيل أولاً: تَرَوْن، ثم قيل:» ترى «على الإِفراد؟ قلت: لأنَّ الرؤيةَ أولاً عُلِّقَتْ بالزلزلة، فَجُعِل الناسُ جميعاً رائِيْنَ لها، وهي معلَّقَةٌ أخيراً بكونِ الناسِ على حالِ السُّكر، فلا بُدَّ أن يُجْعَلَ كلُّ واحدٍ منهم رائياً لسائرِهم» .

3

و «مَنْ» في {مَن يُجَادِلُ} يجوزُ أَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً، وأن تكونَ موصولةً. و {فِي الله} أي في صفاتِه. و {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مفعولٌ أو حالٌ مِنْ فاعلِ «يُجادل» . وقرأ زيد بن علي «وَتْبَعُ» .

4

قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ} : قرأ العامَّةُ «كُتِبَ» مبنياً للمفعولِ وفتحَ «أنَّ» في الموضعين. وفي ذلك وجهان، أحدُهما: أنَّ الضميرَ وما في حَيِّزه في محلِّ رفعٍ لقيامِه مقامَ الفاعل. فالهاءُ في «عليه» وفي «أنه»

يعودان على «مَنْ» المتقدمةِ. و «مَنْ» الثانية يجوز أن تكونَ شرطيةً والفاءُ جوابُها، وأن تكونَ موصولةً، والفاءُ زائدةٌ في الخبرِ لشَبَهِ المبتدأ بالشرط. وفُتِحَتْ «أنَّ» الثانيةُ لأنها وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، تقديره: فشأنهُ وحالُه أنه يُضِلُّه. أو يُقَدَّر «فَأَنَّه» مبتدأ، والخبر محذوفٌ أي: فله أنَّه يَضِلُّه. الثاني: قال الزمخشري: «ومَنْ فَتَحَ فلأنَّ الأولَ فاعلُ» كُتِب «، والثاني عَطْفٌ عليه» . قال الشيخ: «وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَ» فأنَّه «عطفاً على» أنَّه «بقيت» أنَّه «بلا استيفاءِ خبرٍ، لأنَّ» مَنْ تَوَلاَّه «» مَنْ «فيه مبتدأةٌ. فإنْ قَدَّرْتَها موصولةً فلا خبرَ لها حتى تَسْتقلَّ خبراً ل» أنه «. وإنْ جَعَلْتَها شرطيةً فلا جوابَ لها؛ إذ جُعِلَتْ» فأنَّه «عَطْفاً على» أنه «. قلت: وقد ذَهبَ ابنُ عطية رحمه الله إلى مثلِ قولِ الزمخشري فإنه قال:» وأنَّه «في موضعِ رفعٍ على المفعولِ الذي: لم يُسَمَّ فاعلُه و» أنَّه «الثانيةُ عطفٌ على الأولى مؤكدةً مثلَها» . وهذا رَدٌّ واضحٌ. وقُرِىء «كَتَبَ» مبنياً للفاعلِ أي: كَتَبَ اللهُ. ف «أنَّ» وما في حَيِّزها في محل نصب على المفعول به، وباقي الآية على ما تقدم. وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو «إنه» «فإنه» بكسرِ الهمزتين. وقال ابن عطية: «وقرأ أبو عمروٍ» إنَّه «» فإنه «بالكسر فيهما» ، وهذا يُوْهم أنَّه

مشهورٌ عنه وليس كذلك. وفي تخريجِ هذه القراءةِ/ ثلاثةُ أوجهٍ ذكرها الزمخشري وهي: أَنْ تكونَ على حكايةِ المكتوبِ كما هو، كأنه قيل: كُتِب عليه هذا اللفظُ، كما تقول: كُتِبَ عليه: إنَّ الله هو الغني الحميد. الثاني أن يكونَ على إضمار «قيل» . الثالث: أنَّ «كُتِبَ» فيه معنى قيل. قال الشيخ: أمَّا تقديرُ «قيل» يعني فيكون «عليه» في موضعِ مفعولِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه و «أنه مَنْ تولاَّه» الجملةُ مفعولٌ لم يُسَمَّ ل قيل المضمرة. وهذا ليس مذهبَ البصريين فإن الجملة عندهم لا تكون فاعلاً ولا تكون مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه «وكأنَّ الشيخَ قد اختارَ ما بدأ به الزمخشريُّ أولاً، وفيه ما فَرَّ منه: وهو أنه أسندَ الفعلَ إلى الجملةِ فاللازمُ مُشْتَرَكٌ. وقد تقدَّم تقريرُ مثلِ هذا في أولِ البقرة. ثم قال: «وأمَّا الثاني يعني أنه ضُمِّنَ» كُتِب «معنى القول فليس مذهبَ البصريين لأنَّه لا تُكْسَرُ» إنَّ «عندهم إلاَّ بعد القول الصريح لا ما هو بمعناه» . والضميران في «عليه» و «أنه» عائدان على «مَنْ» الأولى كما تقدَّم، وكذلك الضمائرُ في «تَوَلاَّه» و «فأنه» ، والمرفوعُ في «يُضِلُّه» و «يَهْديه» ؛ لأنَّ «مَنْ» الأول هو المحدَّثُ عنه. والضميرُ المرفوعُ في «تَوَلاَّه» والمنصوبُ في «يُضِِلُُّه» و «يَهْدِيه» عائدٌ على «مَنْ» الثانيةِ. وقيل: الضميرُ في «عليه» لكلِّ

شيطانٍ. والضميرُ في «فأنَّه» للشأن. وقال ابن عطية: «الذي يَظْهَرُ لي أنَّ الضميرَ الأولَ في» أنَّه «يعودُ على كل شيطان، وفي» فأنَّه «يعودُ على» مَنْ «الذي هو المُتَوَلِّي» .

5

قوله: {مِّنَ البعث} : يجوزُ أن يتعلَّق ب «ريب» ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل ريب. وقرأ الحسن «البَعَث» بفتح العينِ. وهي لغة كالطَّرَدِ والجَلَب في الطَّرْد والجَلْب بالسكون. قال الشيخ: «والكوفيون إسكانُ العينِ عندهم تخفيفٌ [يقيسونه] فيما وسطَه حرفُ حلقٍ كالنَّهْرِ والنَّهَر والشّعْرِ والشَّعَر، والبَصْريون لا يقيسونه، وما وَرَدَ من ذلك هو عندهم ممَّا جاء فيه لغتان» قلت: فهذا يُوْهِمُ ظاهرُه أنَّ الأصلَ البَعَث بالفتح، وإنما خُفِّف، وليس الأمرُ كذلك، وإنما مَحَلُّ النزاع إذا سُمِع الحلقيُّ مفتوحَ العين: هل يجوزُ تسكينُه أم لا؟ لا أنه كلُّ ما جاء ساكنَ العينِ من الحَلْقِيِّها يُدَّعى أن أصلَها الفتحُ كما هو ظاهرُ عبارتِه. قوله: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} العامَّةُ على الجرِّ في «مُخَلَّقةٍ» ، وفي «غير» ، على النعت. وقرأ ابن أبي عبلة بنصبِهما على الحالِ من النكرةِ، وهو قليلٌ جداً وإن كان سيبويه قاسه.

والعَلَقَةُ: القطعةُ من الدم الجامدة. وعن بعضهم وقد سُئِل عن أصعبِ الأشياءِ فقال: «وَقْعَ الزَّلَقِ على العَلَق» أي: على دمِ القتلى في المعركة. والمُضْغَةُ: القطعةُ من اللحمِ قَدْرَ ما تُمضَغُ نحو: الغُرفة والأُكْلة بمعنى: المغروفة والمأكولة. والمُخَلَّقَةُ: المَلْساء التي لا عَيْبَ فيها مِنْ قولهم: صخرةٌ خَلْقاءُ أي: مَلْساء. وخَلَقْتُ السِّواك: سَوَّيْتُه ومَلَسْتُه. وقيل: التضعيفُ في «مُخَلَّقَة» دلالةٌ على تكثيرِ الخَلْق لأنَّ الإِنسانَ ذو أعضاءٍ متباينةٍ وخُلُقٍ متفاوتةٍ. قاله الشعبي وقتادة وأبو العالية. وهو معنى حسنٌ. قوله: {وَنُقِرُّ} العامَّةُ على رفع «ونُقِرُّ» لأنه مستأنفٌ، وليس علةً لما قبلَه فينتصبَ نَسَقاً على ما تقدَّمه. وقرأ يعقوب وعاصم في روايةٍ بنصبه. قال أبو البقاء: «على أَنْ يكونَ معطوفاً في اللفظ، والمعنى مختلف؛ لأنَّ اللامَ في» لُنبِيِّنَ «للتعليل، واللامَ المقدرةَ من» نُقِرُّ «للصيرورة» وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَه «معطوفاً في اللفظ» يَدْفعه قولُه: «واللامُ المقدرة» فإنَّ تقديرَ اللام يقتضي النصبَ بإضمارِ «أَنْ» بعدها لا بالعطفِ على ما قبله. وعن عاصم أيضاً «ثم نُخْرِجَكم» بنصب الجيم. وقرأ ابن أبي عبلة «ليبيِّنَ ويَقِرُّ» بالياء من تحتُ فيهما، والفاعلُ هو اللهُ تعالى كما في قراءة النون. وقرأ يعقوب في رواية «ونَقُرُّ» بفتح النون وضم القاف ورفع الراء، مِنْ قَرَّ الماءَ

يَقُرُّه أي: صَبَّه. وقرأ أبو زيد النحوي «ويَقِرَّ» بفتح الياءِ من تحتُ وكسرِ القاف ونصبِ الراء أي: وَيقِرَّ الله. وهو مِنْ قرَّ الماء إذا صبَّه. وفي «الكامل» لابن جبارة «لِنُبَيِّن ونُقِرَّ ثم نُخْرِجَكم» بالنصبِ فيهنَّ يعني وبالنون في الجميع المفضل. بالياء فيهما مع النصب: أبو حاتم، وبالياء والرفع عمر بن شبة «انتهى. وقال الزمخشري: /» والقراءةُ بالرفع إخبارٌ بأنه تعالى يُقِرُّ في الأرحامِ ما يشاءُ أَنْ يُقِرَّه «. ثم قال:» والقراءةُ بالنصب تعليلٌ، معطوفٌ على تعليلٍ. معناه: خلقناكم مُدَرَّجين، هذا التدريجُ لغرضين، أحدهما: أن نبيِّنَ قدرتنا. والثاني: أَنْ نُقِرَّ في الأرحام مَنْ نُقِرُّ، ثم يُوْلَدوا ويَنْشَؤوا ويَبْلُغوا حَدَّ التكليفِ فأُكَلِّفَهم. ويَعْضُد هذه القراءةَ قولُه {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} . قلت: تسميةُ مثلِ هذه الأفعالِ المسندة إلى الله تعالى غَرَضاً لا يجوز. وقرأ ابن وثاب «نِشاء» بكسر النون، وهو كسرُ حرفِ المضارعة، وقد تقدَّم ذلك في أولِ هذا الموضوعِ. قوله: {طِفْلاً} حالٌ مِنْ مفعول «نُخْرِجكم» ، وإنما وُحِّد لأنَّه في الأصل

مصدرٌ كالرِّضا والعَدْل، فيَلْزَمُ الإِفرادُ والتذكيرُ، قاله المبرد: إمَّا لأنه مرادٌ به الجنسُ، وإمَّا لأن المعنى: يُخْرِجُ كلَّ واحدٍ منكم نحو: القوم يُشْبعهم رغيفٌ أي: كلُّ واحدٍ منهم. وقد يطابِقُ به ما يُراد به، فيقال: طفلان وأطفال. وفي الحديث: «سئل عن أطفال المشركين» والطِّفْلُ يُطْلَقُ على الولدِ مِنْ حين الانفصالِ إلى البلوغ. وأمَّا الطَفْل بالفتح فهو الناعم، والمرأة طَفْلة قال: 3371 - ولقد لَهَوْتُ بِطَفْلةٍ مَيَّالَةٍ ... بَلْهاءَ تُطْلِعُني على أَسْرارِها أمَّا الطَّفَل بفتح الطاءِ والفاءِ فوقتُ ما بعد العصر، مِنْ قولِهم: طَفَلَت الشمسُ إذا مالَتْ للغُروب. وأطفلتِ المرأةُ أي: صارت ذاتَ طِفْلٍ. وقرأت فِرْقَةٌ «يَتَوَفَّى» بفتح الياء. وفيه تخريجان، أحدهما: أنَّ الفاعلَ ضميرُ الباري تعالى أي: يَتَوَفَّاهُ اللهُ تعالى، كذا قدَّره الزمخشري. والثاني: أن الفاعلَ ضميرُ «مَنْ» أي: يتوفى أجلَه. وهذا القراءةُ كالتي في البقرة {والذين يَتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} [الآية: 234] أي: مدتهم.

ورُوي عن أبي عمروٍ ونافع أنهما قرآ «العُمْر» بسكون العينِ وهو تخفيفٌ قياسيُّ نحوة «عُنْق» في «عُنُق» . قوله: {لِكَيْلاَ} متعلقٌ ب «يُرَدُّ» . وتقدَّم نظيره في النحل. و «هامدةً» نصب على الحال لأن الرؤيةَ بصريةٌ. والهُمُود: السكونُ والخُشُوع. وهَمَدَت الأرضُ: يَبِست ودَرَسَتْ. وهَمَدَ الثوبُ: بَلِي. قال الأعشى: 3372 - قالَتْ قُتَيْلَةُ ما لجِسْمِكَ شاحباً ... وأرى ثيابَكَ بالِياتٍ هُمَّدا والاهتزازُ: التحرُّكُ، وتُجُوِّز به هنا عن إنباتِ الأرض نباتَها بالماء. والجمهورُ على «رَبَتْ» أي: زادَت، مِنْ رَبا يَرْبُو. وقرأ أبو جعفر وعبد الله ابن جعفر وأبو عمرٍو في رواية «وَرَبَأَت» بالهمزِ أي ارتفَعَتْ. يقال: رَبَأَ بنفسه عن كذا أي: ارتفعَ عنه. ومنه الرَّبِيئَةُ وهو مَنْ يَطْلُعُ على موضعٍ عالٍ لينظر للقوم ما يأتيهم. ويقال له «رَبِيْءٌ» أيضاً قال الشاعر: 3373 - بَعَثْنا رَبِيْئاً قبلَ ذلك مُخْمِلاً ... كذئب الغضى يمشي الضَّراء ويَتَّقي

قوله: {مِن كُلِّ زَوْجٍ} فيه وجهان، أحدهما: أنه صفةٌ للمفعولِ المحذوفِ تقديره: وأنبتَتْ ألواناً أو أزواجاً من كلِّ زَوْج. والثاني: أنَّ «مِنْ» زائدة أي: أنبتَتْ كلَّ زوج. وهذا ماشٍ عند الكوفيين والأخفش. والبهيجُ: الحَسَن الذي يُسِرُّ ناظرَه. وقد بَهُجَ بالضم بَهاجَةً وبَهْجَة أي: حَسُن. وأبهجني كذا أي: سرَّني بحُسْنه.

6

قوله: {ذلك} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مبتدأ، والخبرُ الجارُّ بعدَه. والمُشارُ إليه ما تقدَّم مِنْ خَلْقِ بني آدمَ وتطويرهم. والتقدير: ذلك الذي ذكَرْنا من خلقِ بني آدم وتطويرهم حاصلٌ بأنَّ اللهَ هو الحق وأنه، إلى آخره. والثاني: أنَّ «ذلك» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك. الثالث: أنَّ «ذلك» منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: فَعَلْنا ذلك بسببِ أنَّ الله هو الحق. فالباء على الأولِ مرفوعةُ المحلِّ، وعلى الثاني والثالث منصوبَتُه.

7

قوله: {وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه عطفٌ على المجرورِ بالباء أي: ذلك بأنَّ الساعةَ. والثاني: أنه لَيس معطوفاً عليه ولا داخلاً في حَيِّزِ السببية. وإنما هو خبرٌ. والمبتدأ محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، والتقدير: والأمرُ أنَّ الساعةَ. و «لا ريبَ فيها» يُحتمل أَنْ تكونَ هذه الجملةُ خبراً ثانياً وأن تكونَ حالاً.

8

قوله: {ومِنَ الناس} : جعل ابنُ عطية هذه الواوَ للحال فقال: «وكأنه يقولُ: هذه الأمثالُ في غاية الوضوحِ، ومن الناس مع ذلك

مَنْ يجادِلُ، فكأن الواوَ واوُ الحال، والآية المتقدمةُ الواوُ فيها واوُ عطف» . قال الشيخ: «ولا يُتَخَيَّلُ أنَّ الواوَ في {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ} واوُ حال، وعلى تقديرِ الجملة التي قَدَّرها قبله لو كان مُصَرَّحاً بها فلا تتقدر ب» إذ «، فلا تكونُ للحالِ وإنما هي للعطف» . قلت: ومَنْعُه مِنْ تقديرها ب «إذ» فيه نظرٌ، إذ لو قُدِّر لم يلزَمْ/ منه محذورٌ. قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يجوز أن يتعلَق ب «يُجادِلُ» ، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ فاعل «يجادل» أي: يجادِلُ ملتبساً بغير عِلْمٍ أي: جاهلاً.

9

قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} : حالٌ مِنْ فاعلِ «يُجادل» أي: معترضاً. وهي إضافةٌ لفظيةٌ نحو {مُّمْطِرُنَا} . والعامَّةُ على كسرِ العين وهو الجانُب، كنى به عن التكبُّر. والحسن بفتح العين، وهو مصدرٌ بمعنى التعطُّف، وصفة بالقسوةِ. قوله: {لِيُضِلَّ} متعلقٌ: إمَّا ب «يُجادِلُ» ، وإمَّا ب «ثانيَ عِطْفِهِ» . وقرأ العامَّة بضم الياء مِنْ «يُضِلُّ» والمفعولُ محذوفٌ أي: ليُضِلَّ غيرَه. وقرأ مجاهد وأبو عمروٍ في روايةٍ فتحها أي: ليَضِلَّ هو في نفسه. قوله: {لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ} هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حالاً مقارِنَةً أي: مُسْتحقاً ذلك، وأن تكونَ حالاً مقدرةً، وأن تكونَ مستأنفةً. وقرأ زيد بن علي «

وأُذِيْقُه» بهمزة المتكلم. «وعذابَ الحريق» يجوز أَنْ يكون من باب إضافة الموصوف لصفتِه، إذ الأصلُ: العذاب الحريق أي: المُحْرِق كالسَّميع بمعنى المُسْمِع.

10

قوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ} : كقوله: {ذلك بِأَنَّ الله} [الآية: 6] . وكذا قولُه: {وَأَنَّ الله} يجوز عطفُه على السبب. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: والأمرُ أنَّ الله، فيكون منقطعاً عما قبله. وقوله: «ظَلاَّمٍ» مثالُ مبالغةٍ. وأنت إذا قلت: «ليس زيدٌ بظلاَّمٍ» لا يلزمُ منه نفيُ أصلِ الظلمِ؛ فإنَّ نَفْيَ الأخصِّ لا يَسْتلزم نَفْيَ الأعمِّ. والجواب: أن المبالغةَ إنما جِيْءَ بها لتكثيرِ مَحَالِّها فإن العبيدَ جمعٌ. وأحسنُ منه أنَّ فعَّالاً هنا للنسَبِ أي: [ليس] بذي ظلم لا للمبالغة.

11

قوله: {على حَرْفٍ} : حالٌ من فاعل «يَعْبُدُ» أي: مُتَزَلْزلاً. ومعنى «على حرف» أي: على شك أو على انحرافٍ، أو على طرفِ الدين لا في وسطه، كالذي يكونُ في طرف العَسْكَر: إنْ رأى خيراً ثبت وإلاَّ فرَّ. قوله: {خَسِرَ} قرأ العامَّةُ «خَسِرَ» فعلاً ماضياً. وهو يحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ: الاستئنافَ، والحاليةَ مِنْ فاعلِ، «انقلبَ» ، ولا حاجةَ إلى إضمارِ «قد» على الصحيحِ، والبدليةُ مِنْ قولِه «انقلَبَ» ، كما أبدل المضارعَ مِنْ مثِله في قوله: {يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ} [الفرقان: 69] .

وقرأ مجاهدٌ والأعرجُ وابنُ محيصن والجحدري في آخرين «خاسِرَ» بصيغة اسم فاعلٍ منصوبٍ على الحال، وهي تؤيدُ كونَ الماضي في قراءةِ العامَّةِ حالاً. وقُرِىء برفعهِ. وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ فاعِلاً ب «انقلبَ» ويكونُ مْنْ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ أي: انقلب خاسرُ الدنيا. والأصلُ: انقلبَ هو. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو خاسرُ. وهذه القراءةُ تُؤَيِّدُ الاستئنافَ في قراءةِ المُضِيِّ على التخريج الثاني. وحَقُّ مَنْ قَرَأ «خاسر» رفعاً ونصباً أَنْ يَجُرُّ «الآخرةِ» لعطفِها على «الدنيا» المجرورِ بالإِضافةِ. ويجوز أن يبقى النصبُ فيها؛ إذ يجوزُ أَنْ تكونَ «الدنيا» منصوبةً. وإنما حُذِفَ التنوينُ من «خاسر» لالتقاءِ الساكنين نحو قولِه: 3374 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا

13

قوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} : فيه عشرةُ أوجه، وذلك أنَّه: إمَّا بجَعْلِ «يَدْعُو» متسلِّطاً على الجملة مِنْ قولِه: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} أو لا. فإنْ جَعَلْنَاه مُتَسَلِّطاً عليها كان في سبعةُ أوجه، أحدها: أنَّ «يَدْعُو» بمعنى يَقُوْل، واللامُ للابتداء، و «مَنْ» موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتدء. و «ضَرُّه» مبتدأ ثانٍ و «أقربُ» خبرُه. وهذه الجملةُ صلةٌ للموصول، وخبرُ الموصولِ محذوفٌ تقديرُه: يقول لَلَّذي ضَرُّه أقربُ من نَفْعِه إلهٌ أو إلهي أو نحوُ ذلك. والجملةُ كلُّها في محلٍّ نصبٍ ب «يَدْعُو» لأنَّه بمعنى

يَقُول، فهي محكيَّةٌ به. وهذا قولُ أبي الحسنِ. وعلى هذا فيكون قولُه: {لَبِئْسَ المولى} مستأنفاً ليس داخلاً في المَحْكيِّ قبلَه؛ لأنَّ الكفار لا يقولون في أصنامِهم ذلك. وقد رَدَّ بعضُهم هذا القولَ بأنه فاسدُ المعنى، والكافرُ لا يَعتقد في الأصنامِ أنَّ ضَرَّها أقربُ مِنْ نفعِها البتةَ. الثاني: أنَّ «يَدْعُو» مُشَبَّهٌ بأفعالِ القلوب؛ لأنَّ الدعاءَ لا يَصْدُرُ إلاَّ عن اعتقادٍ، وأفعال القلوب تُعَلَّق، ف «يَدْعُو» مُعَلَّقٌ أيضاً باللام. و «مَنْ» مبتدأٌ موصولٌ. والجملةُ بعده صلةٌ، وخبرُه محذوفٌ على ما مَرَّ في الوجهِ قبلَه. والجملة في محلِّ نصبٍ، كما تكون كذلك بعد أفعالِ القلوب. الثالث: أَنْ يُضَمَّن يَدْعُو معنى يزعم، فيُعَلَّق كما يُعَلَّقُ، والكلامُ فيه كالكلامِ في الوجهِ الذي قبله. الرابع: أن الأفعالَ كلَّها يجوزُ أَنْ تُعَلَّق قلبيةً كانت أو غيرَها فاللامُ معلِّقَةٌ ل «يَدْعوا» ، وهو مذهبُ يونسَ. فالجملةُ بعده الكلامُ فيها كما تقدَّم. الخامس: أنَّ «يَدْعُوا» بمعنى يُسَمِّي، فتكونَ اللامُ مزيدةً في المفعولِ الأولِ وهو الموصولُ وصلتُه، ويكون المفعولُ الثاني محذوفاً تقديرُه: يُسَمِّي الذي ضَرُّه أقربُ مِنْ نفعِه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك. السادس: أنَّ اللامَ مُزالَةٌ/ مِنْ موضِعها. والأصلُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّه أقربُ. فقُدِّمَتْ مِنْ تأخيرٍ. وهذا قولُ الفراء. وقد رَدُّوا هذا بأنَّ ما في صلةِ الموصولِ لا يتقدَّمُ على الموصولِ. السابع: أنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعول به وهو «مَنْ» . والتقديرُ: يَدْعُو مَنْ ضَرُّه أقرب. ف «مَنْ» موصولٌ، والجملةُ بعدَها صلتُها، والموصولُ هو المفعولُ

ب «يَدْعُو» زِيْدتْ فيه اللامُ كزيادتِها في قولِه {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] في أحدِ القولين. وقد رُدَّ هذا بأنَّ زيادةَ اللام إنما تكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً، أو بتقديم المعمول. وقرأ عبد الله «يَدْعُو مَنْ ضَرُّه» بعيرِ لامِ ابتداءٍ، وهي مؤيدةٌ لهذا الوجهِ. وإنْ لم تجعَلْه متسلِّطاً على الجملةِ بعدَه كان فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّ «يَدْعُو» الثاني توكيدٌ ل «يَدْعو» الأولِ فلا معمولَ له، كأنه قيل: يَدْعو يَدْعو مِنْ دونِ الله الذي لا يَضُرُّه ولا ينفعه. وعلى هذا فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه {ذلك هُوَ الضلال} معترضةً بين المؤكَّدِ والتوكيدِ؛ لأنَّ فيها تَسْديداً وتأكيداً للكلام، ويكون قولُه {لَمَنْ ضَرُّهُ} كلاماً مستأنفاً. فتكونُ اللامُ للابتداء و «مَنْ» موصولةٌ، و «ضَرُّه» مبتدأ و «أقربُ» خبرُه. والجملةُ صلةٌ، و «لَبِئْسَ» جوابٌ قسمٍ مقدر. وهذا القسمُ المقدرُ وجوابُه خبرُ المبتدأ الذي هو الموصول. الثاني: أن يُجْعَلَ «ذلك» موصولاً بمعنى الذي. و «هو» مبتدأ، و «الضلالُ» خبره والجملةُ صلةٌ. وهذا الموصولُ مع صلتِه في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب «يَدْعو» أي: يدعو الذي هو الضلالُ. وهذا منقولٌ عن أبي علي

الفارسي، وليس هذا بماشٍ على رأي البصريين؛ إذ لا يكونُ عندهم من أسماءِ الإِشارةِ موصولٌ إلاَّ «ذا» بشروطٍ ذكرْتُها فيما تقدَّم. وأمَّا الكوفيون فيُجيزون في أسماءِ الإِشارة مطلقاً أن تكونَ موصولةً، وعلى هذا فيكونُ «لَمَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ» مستأنفاً، على ما تقدَّم تقريرُه. والثالث: أن يُجْعَلَ «ذلك» مبتدأ. و «هو» : جوَّزوا فيه أن يكونَ بدلاً أو فَصْلاً أو مبتدأً، و «الضلالُ» خبرُ «ذلك» أو خبرُ «هو» على حَسَبِ الخلافِ في «هو» و «يَدْعُو» حالٌ، والعائدُ منه محذوفٌ تقديرُه: يَدْعوه، وقدَّروا هذا الفعلَ الواقعَ موقعَ الحال ب «مَدْعُوَّاً» قال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ» ، ولم يُبَيِّنْ وجه ضَعْفِه. وكأنَّ وجهَه أنَّ «يَدْعُو» مبنيٌّ للفاعلِ فلا يناسِبُ أن تُقَدَّرَ الحالُ الواقعةُ موقعَه اسمَ مفعولٍ، بل المناسِبُ أن تُقَدَّرَ اسمَ فاعل، فكان ينبغي أَنْ يُقَدِّروه: داعياً ولو كان التركيبُ «يدعى» مبنياً للمفعول لَحَسُن تقديرُهم مَدْعُوَّاً. ألا ترى أنَّك إذا قلتَ: «جاء زيدٌ يضربُ» كيف تُقَدِّره ب «ضارب» لا ب مَضْروب. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، وتقديرُه: لبِئْسَ المولى ولبئس العشيرُ ذلك المَدْعُوُّ.

15

قوله: {مَن كَانَ} : يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً. وقوله: {فَلْيَمْدُدْ} إمَّا جزاءٌ للشرط أو خبرٌ للموصولِ، والفاءُ للتشبيه بالشرطِ.

والجمهورُ على كسرِ اللام مِنْ «لِيَقْطَعْ» وسَكَّنها بعضُهم، كما سَكَّنها بعد الفاءِ والواوِ لكونِهنَّ عواطفَ. وكذلك أَجْرَوْا «ثم» مُجْراهما في تَسكينِ هاء «هو» و «هي» بعدها، وهي قراءةُ الكسائي ونافعٍ في رواية قالون عنه. قوله: {هَلْ يُذْهِبَنَّ} الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ؛ لأنَّ النظرَ يُعَلَّقُ بالاستفهام، وإذا كان بمعنى الفكر تَعَدَّى ب في. وقوله: {مَا يَغِيظُ} «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ هو الضميرُ المسستر. و «ما» وصلتُها مفعولٌ بقوله «يُذْهِبَنَّ» أي: هل يُذْهِبَنَّ كيدُه الشيءَ الذي يَغِيْظُه. فالمرفوعُ في يَغيظه عائدٌ على الذي، والمنصوبُ على مَنْ كان يظن. وقال الشيخ: «وما في» ما يَغيظ «بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أو مصدريةٌ» . قلت: كلا هذين القولينِ لا يَصِحُّ. أمَّا قولُه: «العائدُ محذوفٌ» فليس كذلك، بل هو مضمرٌ مستترٌ في حكم الموجودِ كما تقدَّم تقريرُه قبلَ ذلك وإنما يُقال محذوفٌ فيما كان منصوبَ المحلِّ أو مجرورَه. وأمَّا قولُه: «أو مصدريةٌ» فليس كذلك أيضاً؛ إذ لو كانت مصدريةً لكانت حَرْفاً على الصحيح، وإذا كانَتْ حرفاً لم يَعُدْ عليها ضميرٌ، وإذا لم يَعُدْ عليها ضميرٌ بقي الفعل بلا فاعلٍ. فإن قلتَ: أُضْمِرُ في «يَغيظ» ضميراً فاعلاً يعود على مَنْ كان يظنُّ. فالجواب: أنَّ مَنْ كان يظنُّ، في المعنى مَغِيظٌ لا غائظٌ، وهذا بحثٌ حسنٌ فتأمَّلْه/. والضمير في «يَنْصُرَه» الظاهرُ عَوْدُه على «مَنْ» وفُسِّر النصرُ بالرزقِ. وقيل: يعودُ على الدينِ والإِسلامِ فالنصرُ على بابه.

16

قوله: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ} : الكافُ: إمَّا حالٌ من ضميرِ المصدرِ المقدرِ، وإمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من الخلاف أي: ومثلَ ذلك الإِنزالِ أنْزَلْنا القرآنَ كلَّه آياتٍ بيناتٍ. ف «آياتٍ» حالٌ. قوله: {وَأَنَّ الله يَهْدِي} يجوز في «أنَّ» ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنَّها منصوبةٌ المحلِّ عَطْفاً على مفعولِ «أَنْزَلْناه» أي: وأنزَلْنا أنَّ الله يَهْدِي مَنْ يريد. أي: أَنْزَلْنا هدايةَ اللهِ لمن يريدُ هدايتَه. الثاني: أنها على حَذْف حرفِ الجر، وذلك الحرفُ متعلقٌ بمحذوفٍ. والتقديرُ: ولأنَّ اللهَ يهدِي مَنْ يريدُ أَنْزَلناه، فيجيءُ في موضعها القولان المشهوران: أفي محلِّ نَصْبٍ هي أم جر. وإلى هذا ذهب الزمخشريُّ وقال في تقدِيره: «ولأنَّ الله يهديْ به الذي يعلمُ أنهم يؤمنونَ أنزله كذلك مبيَّناً» . الثالث: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمر، تقديرُه: والأمرُ أنَّ الله يهدِي مَنْ يريد.

17

قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} : الآية فيها ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنَّ «إنَّ» الثانيةَ واسمَها وخبرَها في محلِّ رفع خبراً ل «إنَّ» الأولى. قال الزمخشري: «وأُدْخِلَتْ» إنَّ «على كلِّ واحدٍ من جُزْأَي الجملةِ لزيادةِ التأكيدِ. ونحوُه قولُ جريرٍ:

3375 - إنَّ الخليفةَ إنَّ اللهَ سَرْبلَه ... سِرْبالَ مُلْكٍ به تُرْجَى الخواتيمُ قال الشيخ:» وظاهرُ هذا أنه شَبَّه البيتَ بالآيةِ، وكذلك قرنه الزَّجَّاج بالآية، ولا يتعيَّنُ أن يكونَ البيتُ كالآية؛ لأنَّ البيتَ يَحْتمل أَنْ يكونَ «الخليفةَ» خبرُه «به ترجى الخواتيمُ» ، ويكونَ «إنَّ اللهَ سَرْبَله» جملةَ اعتراضٍ بين اسمِ «إنَّ» وخبرِها، بخلافِ الآيةِ، فإنه يتعيَّنُ قولُه: {إِنَّ الله يَفْصِلُ} . وحَسَّنَ دخولَ «إنَّ» على الجملةِ الواقعةِ خبراً طولُ الفَصْلِ بينهما بالمعاطيف «. قلت: قوله:» فإنَّه يتعيَّنُ قولُه إن الله يَفْصِل «يعني أن يكونَ خبراً. ليس كذلك لأنَّ الآيةَ محتمِلةٌ لوجهين آخرين ذكرهما الناسُ. الأول: أن يكونَ الخبرُ محذوفاً تقديرُه: يفترقون يومَ القيامة ونحُوه، والمذكورُ تفسيرٌ له. كذا ذكره أبو البقاء. والثاني: أنَّ» إنَّ «الثانيةَ تكريرٌ للأولى على سبيلِ التوكيدِ. وهذا ماشٍ على القاعدة: وهو أنَّ الحرفَ إذا كُرِّرَ توكيداً أُعِيْدَ معه ما اتَّصل به أو ضميرُ ما اتَّصل به، وهذا قد أُعِيدَ معه ما أتَّصل به أولاً: وهي الجلالةُ المعظمةُ، فلم يتعيَّنْ أَنْ يكونَ قولُه: {إِنَّ الله يَفْصِلُ} خبراً ل» إنَّ «الأَوْلى كما ذُكر. وقد تقدَّم تفسيرُ ألفاظِ هذه الآيةِ، إلاَّ المجوسَ. وهم قومٌ اختلف أهلُ العلمِ فيهم فقيل: قومٌ يعبدون النارَ. وقيل: الشمسَ والقمرَ. وقيل: اعتزلوا النصارى ولَبِسوا المُسُوْح. وقيل: أَخَذوا من دين النصارى شيئاً، ومن دينِ

اليهودِ شيئاً، وهم القائلونَ بأنَّ للعالم أصلين: نورٌ وظلمةٌ. وقيل: هم قومٌ يستعملون النجاساتِ، والأصل: نَجوس بالنونِ فأُبْدِلَتْ ميماً.

18

قوله: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس} : فيه أوجهٌ أحدُها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: ويَسْجُدُ له كثيرٌ من الناس. وهذا عند مَنْ يمنعُ استعمالَ المشتركِ في معَنيْيه، أو الجمعَ بين الحقيقة والمجازِ، في كلمةٍ واحدةٍ؛ وذلك أنَّ السجودَ المسندَ لغيرِ العقلاءِ غيرُ السجود المسندِ للعقلاءِ، فلا يُعْطَفُ «كثيرٌ من الناس» على ما قبلَه لاختلافِ الفعلِ المسندِ إليهما في المعنى. ألا ترى أنَّ سجودَ غيرِ العقلاءِ هو الطَّواعيةُ والإِذعانُ لأمرِه، وسجودَ العقلاءِ هو هذه الكيفيةُ المخصوصةٌ. الثاني: أنَّه معطوفٌ على ما تقدَّمه. وفي ذلك ثلاثةُ تأويلاتٍ أحدُها: أنَّ المرادَ بالسجودِ القَدْرُ المشتركُ بين الكلِّ العقلاءِ وغيرِهم وهو الخضوعُ والطواعيةُ، وهو من بابِ الاشتراكِ المعنويِّ. والتأويلُ الثاني: أنه مشتركٌ اشتراكاً لفظياً، ويجوز استعمالُ المشتركِ في معنييه. والتأويلُ الثالث: أنَّ السجودَ المسندَ للعقلاءِ حقيقةٌ ولغيرِهم مجازٌ. ويجوز الجمعُ بين الحقيقةِ والمجازِ. وهذه الأشياءُ فيها خلافٌ، لتقريرِه موضوعٌ هو أليقُ به من هذا. الثالثُ من الأوجه المتقدمة: أن يكونَ «كثيرٌ» مرفوعاً بالابتداء. وخبرُه محذوفٌ وهو «مُثابٌ» لدلالة خبرِ مقابلِه عليه، وهو قولُه: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} كذا قَدَّره الزمخشريُّ. وقَدَّره أبو البقاء: «مُطيعون أو مُثابون أو نحوُ ذلك» .

الرابع: أَنْ يرتفعَ «كثيرٌ» على الابتداءِ أيضاً، ويكون خبرُه «من الناس» أي: من الناس الذين هم الناسُ على الحقيقةِ، وهم الصالحون والمتَّقون. والخامسُ: أن يرتفعَ بالابتداءِ أيضاً. ويُبالَغَ في تكثير المحقوقينِ بالعذاب، فيُعطفَ «كثيرٌ» على «كثير» ثم يُخْبَرَ عنهم ب {حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} ذكر ذلك الزمخشري. قال الشيخ: بعد أن حكى عن الزمخشريِّ الوجهين الآخرين قال: «وهذان التخريجان ضعيفان» ولم يُبَيِّنْ وجهَ ضعفِهما. قلت: أمَّا أوَّلُهما فلا شكَّ في ضعفِه؛ إذ لا فائدةَ طائلةٌ في الإِخبارِ بذلك. / وأمَّا الثاني فقد يظهر: وذلك أنَّ التكريرَ يفيد التكثيرَ، وهو قريبٌ مِنْ قولِهم: «عندي ألفٌ وألفٌ» ، وقوله: 3376 - لو عُدَّ قبرٌ وقبرٌ كنتَ أَكْرَمَهم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقرأ الزهري «والدَّوابُ» مخففَ الباءِ. قال أبو البقاء: «ووجهُها: أنه حَذَف الباءَ الأولى كراهيةَ التضعيفِ والجمعِ بين ساكنين» . وقرأ جناح بن حبيش و «كبيرٌ» بالباء الموحدة. وقرىء «وكثيرٌ حَقَّاً» بالنصب.

وناصبُه محذوفٌ وهو الخبرُ، تقديرُه: وكثير حَقَّ عليه العذابُ حقاً. «والعذابُ» مرفوع بالفاعلية. وقُرِىء «حُقَّ» مبنياً للمفعولِ. وقال ابن عطية: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} يحتمل أن يكونةَ معطوفاً على ما تقدَّم أي: وكثير حَقَّ عليه العذابُ يسجد أي كراهيةً وعلى رَغْمِه: إما بظلِّه، وإمَّا بخضوعِه عند المكاره «. قلت: فقولُه:» معطوفٌ على ما تقدَّم «يعني عطفَ الجملِ لا أنه هو وحدَه عطفٌ على ما قبله، بدليلِ أنه قَدَّره مبتدأً. وخبرُه قوله:» يَسْجد «. قوله: {وَمَن يُهِنِ الله} » مَنْ «مفعولٌ مقدمٌ، وهي شرطيةٌ. جوابُها الفاءُ مع ما بعدها. والعامَّةُ على» مُكْرِمٍ «بكسرِ الراء اسمَ فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة بفتحِها، وهو اسمُ مصدرٍ أي: فما له مِنْ إكرام.

19

قوله: {هذان خَصْمَانِ} : الخَصْم في الأصل: مصدرٌ؛ ولذلك يُوحَّدُ ويذكَّرُ غالباً، وعليه قولُه تعالى: {نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ} [ص: 21] . ويجوز أنْ يُثَنَى ويجمعَ ويؤنَّثَ، وعليه هذه الآيةُ. ولمَّا كان كلُّ خَصْمٍ فريقاً يَجْمَعُ طائفةً قال: «اختصَمُوا» بصيغةِ الجمع كقولِه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] فالجمعُ مراعاةً للمعنى. وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما» مراعاةً للفظِه وهي مخالفةٌ للسَّواد. وقال

أبو البقاء: وأكثرُ الاستعمالِ توحيدُه فَمَنْ ثَنَّاه وجَمَعه حَمَله الصفات والأسماء، و «اختصموا» إنما جُمِعَ حملاً على المعنى لأنَّ كلَّ خصمٍ [فريقٌ] تحته أشخاصٌ «. وقال الزمخشري:» الخصم صفةٌ وُصِفَ بها الفوجُ أو الفريقُ فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان مختصمان. وقوله: «هذان» للَّفظِ، و «اختصموا» للمعنى كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ} [محمد: 16] ولو قيل: هؤلاء خصمان أو اختصما جاز أن يُراد: المؤمنون والكافرون «. قلت: إنْ عنى بقوله:» إن «خَصْماً» صفةٌ «بطريقِ الاستعمال المجازي فمُسَلَّم؛ لأنَّ المصدرَ يكثرُ الوصفُ به، وإنْ أراد أنه صفةٌ حقيقةً فَخَطَؤُه ظاهرٌ لتصريِحهم بأن نحوَ» رجلٌ خصمٌ «مثل» رجلٌ عَدْل «وقوله:» هذان للفظِ «أي: إنما أُشير إليهم إشارةُ المثنى وإنْ كان في الحقيقة المرادُ الجمعَ، باعتبار لفظِ الفوجَيْن والفريقين ونحوهما. وقوله كقولِهم: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ} إلى آخره فيه نظرٌ؛ لأنَّ في تيك الآيةِ تقدَّمَ شيءٌ له لفظٌ ومعنىً، وهو» مَنْ «، وهنا لم يتقدَّمْ شيءٌ له لفظٌ ومعنىً. وقوله تعالى: {فِي رَبِّهِمْ} أي: في دين ربهم، فلا بُدَّ من حذف مضاف. وقرأ الكسائيُّ في روايةٍ عنه» خِصمان «بكسر الخاء. وقوله: {فالذين كَفَرُواْ} هذه الجملةُ تفصيلٌ وبيانٌ لفصلِ الخصومة المَعْنِيِّ بقوله تعالى: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} [الآية: 17] قال الزمخشري. وعلى هذا فيكونُ {هذان

خَصْمَانِ} معترضاً. والجملة مِنْ» اختصموا «حاليةٌ، وليست مؤكدةً؛ لأنها أخصُّ مِنْ مطلقِ الخصومةِ المفهومةِ من» خصمان «. وقرأ الزعفراني في اختياره» قُطِعَتْ «مخففَ الطاءِ. والقراءةُ المشهورةُ تفيدُ التكثيرَ، وهذه تحتمله. قوله: {يُصَبُّ} هذه الجملةُ تحتمل أَنْ تكون خبراً ثانياً للموصول، وأن تكونَ حالاً من الضميرِ في» لهم «، وأن تكونَ مستأنفةً.

20

قوله: {يُصْهَرُ} جملةٌ حاليةٌ من الحميم. والصَّهْرُ: الإِذابَةُ. يُقال: صَهَرْتُ الشحم أي: أَذَبْتُه والصُّهارة: الأَلْيَةُ المُذابة، وصَهَرَتْهُ الشمسُ: أذابَتْه بحرارتها قال: 3377 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَصْهَرُه الشمسُ فما يَنْصَهِرْ وسُمِّي الصِّهْرُ صِهْراً لامتزاجِه بأصهاره تخيُّلاً لشدةِ المخالطة. وقرأ الحسن في آخرين «يُصَهَّرُ» بفتحِ الصادِ وتشديدِ الهاء مبالغةً وتكثيراً لذلك. قوله: {والجلود} فيه وجهان، أظهرُهما: عَطْفُه على «ما» الموصولة أي: يُذابُ الذي في بطونِهم من الأمعاءِ، وتُذاب أيضاً الجلودُ أي: يُذاب ظاهرُهم وباطنُهم. والثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ أي: وتُحْرَقُ الجلودُ. قالوا: لأن

الجلدَ لا يُذابُ، إنما يَنْقَبِضُ وينكمشُ إذا صَلِي النارَ وهو في التقدير كقوله: 3378 - عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقوله] . 3379 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا [وقولِه تعالى] : {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] . فإنه على تقديرِ: وسَقَيْتُها ماءً، وكَحَّلُنَ العُيونا، واعتقدوا الإِيمانَ.

21

قوله: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ} : يجوزُ في هذا الضميرِ وجهان، أظهرُهما: أنه يعودُ على الذين كفروا، وفي اللام حينئذٍ قولان، أحدهما: أنها للاستحقاقِ. والثاني: أنها بمعنى «على» كقولِه: و {لَهُمُ اللعنة} [الرعد: 25] وليس بشيءٍ. الوجه الثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ على الزبانية أعوانِ جهَّنَم ودَلَّ عليهم سياقُ الكلامِ، وفيه بُعْدٌ. و «مِنْ حديدٍ» صفةٌ لمقامِع وهي جمعُ «مِقْمَعَه» بكسرِ الميمِ لأنَّها آلةُ القمعِ. يقال: قَمَعَه يَقْمَعُه إذا ضَرَبه بشيءٍ يَزْجُرُه به ويُذِلُّه، والمِقْمَعَةُ: المِطْرَقَةُ. وقيل: السَّوْطُ.

22

قوله: {كُلَّمَآ أرادوا} : كلَّ: نصبٌ على الظرفِ. وقد تقدَّم الكلامُ في تحقيقِها في البقرة. والعاملُ فيها هنا قوله: {أُعِيدُواْ} . و {مِنْ

غَمٍّ} فيه وجهان أحدُهما: أنه بدلٌ من الضميرِ في «منها» بإعادةِ العاملِ، بدلُ اشتمالٍ كقولِه: {لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] . ولكن لا بُدَّ في بدلِ الاشتمال من رابطٍ، ولا رابطَ، فقالوا: هو مقدرٌ تقديره: مِنْ غَمِّها. والثاني: أنه مفعولٌ له، ولمَّا نَقَصَ شرطٌ من شروطِ النصبِ جُرَّ بحرفِ السَّببِ. وذلك الشرطُ: هو عدمُ اتحادِ الفاعلِ؛ فإن فاعل الخروجِ غيرُ فاعلِ الغَمِّ، فإنَّ الغَمَّ من النارِ والخروجَ من الكفار. قوله: {وَذُوقُواْ} منصوبٌ بقولٍ مقدرٍ معطوفٍ على «أُعِيْدُوا» أي: وقِيل لهم: ذُوْقوا.

23

قوله: {يُحَلَّوْنَ} : العامَّةُ على الياءِ وفتحِ اللامِ مشددةً، مِنْ حَلاَّه يُحَلِّيه إذا ألبسَه الحُلِيَّ. وقُرِىءَ بسكون الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً، وهو بمعنى الأول، كأنَّهم عَدَّوْه تارةً بالتضعيف وتارةً بالهمزةِ. قال أبو البقاء: «مِنْ قولك: أحلى أي ألبسَ الحُلِيَّ، وهو بمعنى المشدَّد» . وقرأ أبنُ عباسٍ بفتحِ الياءِ وسكونِ الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّه من حَلِيَتْ المرأةُ تَحْلَى فهي حالٍ. وكذلك حَلِيَ الرجلُ فهو حالٍ، إذا لَبِسا الحُلِيَّ أو صارا دونَ حُلِيّ. الثاني: أنَّه من حَلِيَ بعيني كذا يَحْلَى إذا اسْتَحْسَنْته. و «مِنْ» مزيدةٌ في قولِه {مِنْ أَسَاوِرَ} قال: «فيكونُ المعنى: يَسْتَحْسِنون فيها الأساور الملبوسة» . ولما نقل الشيخ هذا الوجهَ عن أبي الفضل الرازي قال: «وهذا ليس بجيد لأنه جَعَلَ حَلِيَ فعلاً

متعدياً، ولذلك حَكَم بزيادةِ» مِنْ «في الواجبِ. وليس مذهبَ البصريين. وينبغي على هذا التقديرِ أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا يُحْفَظُ بهذا المعنى إلاَّ لازِماً، فإنْ كان بهذا المعنى كانَتْ» مِنْ «للسببِ أي: بلباسِ أساورِ الذهبِ يَحْلَوْن بعينِ مَنْ رآهم، أي: يحلى بعضُهم بعينِ بعضٍ» . قلت: وهذا الذي نقله عن أبي الفضلِ قاله أبو البقاء، وجَوَّز في مفعولِ الفعلِ وجهاً آخرَ فقال: «ويجوزُ أن يكونَ مِنْ حَلِيَ بعيني كذا إذا حَسُن، وتكونُ» مِنْ «زائدةً أو يكونُ المفعولُ محذوفاً، و» مِنْ أساورَ «نعتٌ له» . فقد حكمَ عليه بالتعدِّي ليس إلاَّ، وجَوَّز في المفعول الوجهَيْن المذكورَيْن. الثالث: أنَّه مِنْ حَلِيَ بكذا إذا ظَفِرَ به، فيكونُ التقديرُ: يَحْلَوْن بأساورَ. ف «مِنْ» بمعنى الباء. ومِنْ مجيءِ حَلِيَ بمعنى ظَفِرَ قولُهم: لم يَحْلَ فلانٌ بطائلٍ أي: لم يظفرْ به. واعلم أنَّ حَلِي بمعنى لبس الحلية، أو بمعنى ظَفِر من مادةِ الياءِ لأنهما مِن الحِلْيَةِ. وأمَّا حَلِيَ بعيني كذا فإنه من مادة الواو لأنه من الحلاوة، وإنما قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها. قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} في «مِنْ» الأولى ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها زائدةٌ، كما تقدَّم تقريره عن الرازي وأبي البقاء. وإن لم يكنْ مِنْ أصولِ البصريين. والثاني: أنَّها للتعبيضِ أي: بعض أساور. والثالث: أنها لبيانِ الجنسِ، قاله ابن عطية، وبه بدأ. وفيه نظرٌ إذ لم يتقدَّمْ شيءٌ مبهمٌ. وفي «مِنْ ذهب» لابتداءِ الغايةِ، هي نعتٌ لأساورَ كما تقدَّم. وقرأ ابن عباس «مِنْ أَسَوِرَ» دونَ ألفٍ ولا هاءٍ، وهو محذوفٌ مِنْ «

أساوِر» كما [في] جَنَدِلٍ والأصل جَنادِل، قال الشيخ: «وكان قياسه صَرْفَه؛ لأنه نَقَصَ بناؤُه فصار كجَنَدِلٍ، لكنه قَدَّر المحذوفَ موجوداً فمعنه الصرف» . قلت: فقد جعل أنَّ التنوينَ في جَنَدِلٍ المقصور مِنْ «جنادل» تنوينُ صَرْفٍ. وقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوينُ عوضٍ كهو في جَوارٍ وغَواشٍ وبابِهما. قوله: {وَلُؤْلُؤاً} قرأ نافعٌ وعاصمٌ بالنصبِ. والباقون بالخفضِ. فأمَّا النصبُ ففيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ تقديرُه: ويُؤْتَوْن لُؤْلؤاً. ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه/، وكذا أبو الفتح حَمَله على إضمار فعلٍ. الثاني: أنَّه منصوبٌ نَسَقاً على موضع «مِنْ أساور» ، وهذا كتخريجِهم «وأرجُلَكُمْ» بالنصب عطفاً على محلِّ {برؤوسكم} [المائدة: 6] ، ولأن {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} في قوة: «يَلْبَسون أساور» فَحُمِل هذا عليه. والثالث: أنه عطفٌ على «أساور» ؛ لأنَّ «مِنْ» مزيدةٌ فيها كما تقدَّم تقريرُه. الرابع: أنه معطوفٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ. التقديرُ: يُحَلَّوْن فيها الملبوسَ مِنْ أساور ولؤلؤاً. ف «لؤلؤاً» عطفٌ على الملبوس.

وأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن، أحدُهما: عطفُه على «أساور» . والثاني: عَطْفُه على «مِنْ ذهبٍ» لأنَّ السِّوارَ يُتَّخَذُ من اللؤلؤ أيضاً، يُنْظَمُ بعضُه إلى بعضٍ. وقد منع أبو البقاء العطفَ على «ذهب» قال: «لأنَّ السِّوار لا يكونَ مِنْ لؤلؤ في العادة ويَصِحُّ أن يكونَ حُلِيّاً» . واختلف الناسُ في رَسْمِ هذه اللفظةِ في الإِمام: فنقل الأصمعيُّ أنها في الإِمام «لؤلؤ» بغير ألفٍ بعد الواو، ونقل الجحدريُّ أنها ثابتةٌ في الإِمامِ بعد الواو. وهذا الخلافُ بعينه قراءةً وتوجيهاً جارٍ في حَرْف فاطر أيضاً. وقرأ أبو بكر في رواية المُعَلّى بن منصور عنه «لؤلوا» بهمزةٍ أولاً وواوٍ آخِراً. وفي روايةِ يحيى عنه عكسُ ذلك. وقرأ الفياض «ولُوْلِيا» بواوٍ أولاً وياءٍ أخيراً، والأصل: لُؤْلُؤاً أبدل الهمزتينِ واوَيْن، فبقي في آخرِ الاسم واوٌ بعد ضمةٍ. فَفُعِل فيها ما فُعِل ب أَدْلٍ جمعَ دَلْو: بأنْ قُلِبَتْ الواوُ ياءً والضمةُ كسرةً. وقرأ ابنُ عباس: «وَلِيْلِيا» يياءَيْنِ، فَعَل ما فَعَل الفياض، ثم أتبعَ الواوَ

الأولى للثانيةِ في القلبِ. وقرأ طلحة «وَلُوْلٍ» بالجر عطفاً على المجرورِ قبلَه. وقد تقدم، والأصل «ولُوْلُوٍ» بواوين، ثم أُعِلَّ إعلالَ أَدْلٍ. واللُّؤْلُؤُ: قيل: كِبارُ الجوهر وقيل صغِارُه.

24

قوله: {مِنَ القول} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من «الطيِّب» ، وأن يكونَ حالاً مِن الضميرِ المستكِنِّ فيه. و «مِنْ» للتبعيضِ أو للبيانِ.

25

قوله: {وَيَصُدُّونَ} : فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه معطوفٌ على ما قبلَه. وحينئذٍ ففي عطفِه على الماضي ثلاثةُ تأويلاتٍ. أحدُها: أنَّ المضارعَ قولاً يُقْصَدُ به الدلالةُ على زمنٍ معينٍ من حالٍ، أو استقبالٍ، وإنما يُراد به مجردُ الاستمرارِ. ومثلُه {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28] . الثاني: أنه مؤولٌ بالماضي لعطفِه على الماضي. الثالث: أنه على بابِه، وأنَّ الماضي قبلَه مُؤَوَّل بالمستقبل. الوجه الثاني: أنَّه حالٌ من فاعل «كفروا» وبه بدأ أبو البقاء. وهو فاسدٌ ظاهراً؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ، وما كان كذلك لا تَدْخُل عليه الواو، وما ورد منه على قِلَّتِه مؤولٌ فلا يُحْمل عليه القرآنُ، وعلى هذين القولَيْنِ فالخبرُ محذوفٌ. واختلفوا في موضعِ تقديرِه: فقدَّره ابن عطية بعد قولِه «والبادِ» أي: إن الذين كفروا خَسِروا أو هلكوا ونحو ذلك. وقدَّره الزمخشري بعد قوله {والمسجد

الحرام} أي: إنَّ الذين كفروا نُذِيْقُهم من عذاب أليم. وإنما قَدَّره كذلك لأن قوله: {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يَدُلُّ عليه. إلاَّ أنَّ الشيخَ قال في تقدير الزمخشري بعد المسجد الحرام: «لا يصحُّ» ، قال: «لأنَّ» الذي «صفة للمسجد الحرام، فموضعُ التقديرِ هو بعد» البادِ «يعني: أنه يلزمُ من تقديرِه الفصلُ بينَ الصفةِ والموصوفِ بأجنبيّ، وهو خبرُ» إنّ «، فيصيرُ التركيبُ هكذا: إنَّ الذين كفروا ويَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ والمسجدِ الحرام نُذيقُهم مِنْ عذابٍ أليمٍ الذي جَعَلْناه للناس. وللزمخشريِّ أّنْ ينفصِلَ عن هذا الاعتراضِ بأن» الذي جَعَلْناه «لا نُسَلِّمُ أنَّه نعتٌ للمسجد حتى يَلْزَمَ ما ذَكَر، بل نَجْعَلُه مقطوعاً عنه نَصْباً أو رفعاً. ثم قال الشيخ:» لكنَّ مُقَدَّرَ الزمخشريِّ أحسنُ من مقدَّرِ ابنِ عطية؛ لأنه يَدُلُّ عليه الجملةُ الشرطية بعدُ مِنْ جهة اللفظ، وابنُ عطية لَحَظَ من جهةِ المعنى؛ لأنَّ مَنْ أّذيق العذابَ خَسِر وهَلَكَ «. الوجه الثالث: أنَّ الواوَ في» ويَصُدُّون «مزيدةٌ في خبر» إنَّ «تقديرُه: إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون. وزيادةُ الواوِ مذهبٌ كوفي تقدَّم بُطلانُه، وقال ابنُ عطية:» وهذا مْفْسِدٌ للمعنى المقصودِ «. قلت: ولا أَدْري فسادَ المعنى من أيِّ جهة؟ ألا ترى أنه لو صُرِّح بقولِنا: إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون لم يكنْ فيه فسادُ معنى. فالمانع إنما هو أمرٌ صناعيٌّ عند أهل البصرة لا معنويٌّ. اللهم إلاَّ أَنْ يريدَ معنىً خاصاً/ يَفْسُدُ لهذا التقديرِ فيُحتاج إلى بيانه.

قوله: {الذي جَعَلْنَاهُ} يجوزُ جَرُّه على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ، والنصبُ بإضمار فعلٍ، والرفعُ بإضمارِ مبتدأ. و» جَعَلَ «يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صَيَّر، وأَنْ يتعدَّى لواحدٍ. والعامَّةُ على رفعِ ِ «سواءٌ» وقرأه حفصٌ عن عاصم بالنصبِ هنا وفي الجاثية: {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ} [الآية: 21] . ووافق على الذي في الجاثيةِ الأخَوان، وسيأتي توجيهُه. فأمَّا على قراءةِ الرفع فإن قلنا: إنَّ جَعَلَ بمعنى صَيَّر كان في المفعولِ الثاني أوجهٌ، أحدها: وهو الأظهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه {سَوَآءٌ العاكف فِيهِ} هي المفعولُ الثاني، ثم الأحسنُ في رفع «سواءٌ» أن يكون خبراً مقدماً، والعاكفُ والبادي مبتدأ مؤخر. وإنما وُحِّد الخبرُ وإن كان المبتدأُ اثنين؛ لأنَّ سواء في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به. وقد تقدَّم هذا أولَ البقرة. وأجاز بعضُهم أن يكون «سواءٌ» مبتدأ، واما بعدَه الخبر. وفيه ضَعْفٌ أو مَنْعٌ من حيث الابتداءُ بالنكرة من غير مُسَوِّغٍ، ولأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جُعِلت المعرفةُ المبتدأ. وعلى هذا الوجهِ أعني كونَ الجملة مفعولاً ثانياً فقولُه «للناس» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلق بالجَعْل أي: جَعَلْناه لأجلِ الناسِ كذا. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ، على أنَّه حالٌ مِنْ مفعول «جَعَلْناه» ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجهِ غيرَ ذلك وليس معناه متضحاً. الوجه الثاني: أنَّ «للناس» هو المفعولُ الثاني. والجملةُ مِنْ قوله {سَوَآءٌ

العاكف} في محلِّ نصب على الحال: إمَّا من الموصول، وإمَّا مِنْ عائِدِه. وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنه جعل هذه الجملةَ التي هي محطُّ الفائدةِ فَضْلةً. الوجه الثالث: أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ، قال ابن عطية: «والمعنى: الذي جَعَلْناه للناس قِبْلةً ومتعبَّداً. فتقدير ابنِ عطية هذا مُرْشِدٌ لهذا الوجهِ. إلاَّ أن الشيخ» . قال «ولا يُحتاج إلى هذا التقديرِ، إلاَّ إنْ كان أراد تفسيرَ المعنى لا الإِعراب. فيَسُوغ لأنَّ الجملةَ في موضعِ المفعولِ الثاني، فلا يُحتاج إلى هذا التقديرِ. وإنْ جَعَلْناها متعديةً لواحدٍ كان قولُه» للناس «متعلقاً بالجَعْلِ على العِلَّيَّة. وجَوَّزَ فيه أبو البقاء وجهين آخرين، أحدهما: أنه حالٌ من مفعولِ» جَعَلْناه «. والثاني: أنه مفعولٌ تعدَّى إليه بحرف الجر. وهذا الثاني لا يُتَعَقَّل، كيف يكون» للناس «مفعولاً عُدِّي إليه الفعلُ بالحرف؟ هذا ما لا يعقلُ. فإن أراد أنه مفعولٌ مِنْ أجله فهي عبارةٌ بعيدةٌ من عبارة النحاة. وأمَّا على قراءةِ حفصٍ: فإنْ قلنا:» جَعَلَ «يتعدى لاثنين كان» سواءً «مفعولاً ثانياً. وإنْ قُلْنا يتعدَّى لواحدٍ كان حالاً من هاءِ» جَعَلْناه «وعلى التقديرين: فالعاكفُ مرفوعٌ به على الفاعليةِ؛ لأنه مصدرٌ وُصِفَ به فهو في قوةِ اسم الفاعل المشتقِّ تقديرُه: جَعَلْناه مُسْتوياً فيه العاكفُ. ويَدُلُّ عليه

قولُهم:» مررتُ برجلٍ سواءٍ هو والعَدَمُ «. ف» هو «تأكيدٌ للضميرِ المستترِ فيه، و» العَدَمُ «نسقٌ على الضميرِ المستترِ ولذلك ارتفعَ. ويروى: «سواءٍ والعدمُ» بدونِ تأكيدٍ وهو شاذٌّ. وقرأ الأعمش وجماعةٌ «سَواءً» نصباً، «العاكف» جراً. وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ من «الناس» بدلُ تفصيل. والثاني: أنه عطفٌ بيانٍ. وهذا أراد ابنُ عطية بقولِه «عَطْفاً على الناس» ويمتنع في هذه القراءةِ رفعُ «سواء» لفسادِه صناعةً ومعنىً؛ ولذلك قال أبو البقاء: «وسواءً على هذا نصبٌ لا غير» . وأثبتَ ابنُ كثير ياءَ «والبادي» وصلاً ووقفاً، وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً. وحَذَفَها الباقون وَصْلاً ووَقْفاً وهي محذوفةٌ في الإِمام. قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ مفعولَ «يُرِدْ» محذوفٌ، وقولُه: «بإلحادٍ بظلم» حالان مترادفتان. والتقديرُ: ومَنْ يُرِدْ فيه مراداً ما، عادِلاً عن القصدِ ظالماً، نُذِقْه من عذابٍ أليم. وإنما حُذِفَ ليتناولَ كلَّ متناوَلٍ. قال معناه الزمخشريُّ. والثاني: أن المفعولَ أيضاً محذوفٌ تقديرُه: ومَنْ يُرِدْ فيه تَعَدِّياً، و «بإلحادٍ» حال أي: مُلْتَبِساً بإلحادٍ. و «بظُلْمٍ» بدلٌ بإعادةِ الجارِّ. الثالث: أَنْ يكونَ «بظلمٍ» متعلقاً ب «يُرِدْ» ، والباءُ للسببيةِ

أي بسببِ الظلم و «بإلحاد» مفعولٌ به. والباءُ مزيدةٌ فيه كقولِه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] [وقولِه:] 3380 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر وإليه ذهب أبو عبيدة، وأنشد للأعشى: 3381 - ضَمِنَتْ برزقِ عيالِنا أرماحُنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: ضَمِنَتْ رزقَ. ويؤيِّده قراءة الحسن «ومَنْ يُرِدْ إلحادهُ بظُلْمٍ» . قال الزمخشري: أراد إلحاده فيه فأضافه على الاتِّساعِ في الظرف ك {مَكْرُ اليل} [سبأ: 33] ومعناه: ومَنْ يُرِدْ أن يُلْحِدَ فيه ظالماً. الرابع: أن يُضَمَّنَ «يُرِدْ» معنى يتلبَّس، فلذلك تعدى بالباء أي: ومَنْ يتلَبَّسْ بإلحادٍ مُرِيْداً له.

والعامَّةُ على «يُرِدْ» بضم الياء من الإِرادة. وحكى الكسائي والفراء أنه قُرِىء «يَرِدْ» بفتح الياء. وقال الزمخشري: «من الوُرُوْد ومعناه: مَنْ أتى فيه بإلحادٍ ظالماً» .

26

قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا} : أي: اذكرْ حينَ. واللامُ في «لإِبراهيم» فيها ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنها للعلةِ، ويكون مفعولُ «بَوَّأْنا» محذوفاً أي: بَوَّأْنا الناسَ لأجل إبراهيم مكانَ البيت. و «بَوَّأَ» جاء متعدياً صَرِيحاً قال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ} [يونس: 93] ، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58] . وقال الشاعر: 3382 - كَمْ مِنْ أَخٍ ليَ صالحٍ ... بَوَّأْتُه بيَديَّ لَحْدا والثاني: أنها مزيدةٌ في المفعولِ به. وهو ضعيفٌ؛ لِما عَرَفْتَ أنها لا تُزاد إلاَّ إنْ تَقَدَّم المعمولُ، أو كان العاملُ فرعاً الثالث: أَنْ تكونَ مُعَدِّيَةً للفعل على أنه مُضَمَّنٌ معنى فعل يتعدَّى بها أي: هَيَّأنا له مكانَ البيتِ كقولك: هَيَّأْتُ له بيتاً، فتكونُ اللامُ مُعدِّيَةً قال معناه أبو البقاء. وقال الزمخشري: «

واذكرْ حينَ جَعَلْنا لإِبراهيمَ مكان البيت مباءة» ففسَّر المعنى بأنه ضَمَّن «بَوَّأْنا» معنى جَعَلْنا، ولا يريد تفسيرَ الإِعرابَ. وفي {مَكَانَ البيت} وجهان، أظهرُهما: أنَّه مفعولٌ به. والثاني: قال أبو البقاء: «أَنْ يكونَ ظرفاً» . وهو ممتنعٌ من حيث إنَّه ظرفٌ مختصٌّ فحَقُّه أن يتعدى إليه ب في. قوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ} في «أنْ هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها هي المفسَّرةُ. قال الزمخشري: بعد أَنْ ذكَرَ هذا الوجه:» فإن قلتَ: كيف يكونُ النهيُ عن الشرك والأمرِ بتطهيرِ البيتِ تفسيراً للتبوِئَةِ؟ قلت: كانت البتوئةُ مقصودةً من أجل العبادةِ، وكأنه قيل: تعبَّدْنا إبراهيمَ قُلْنا له: لا تُشْرِكْ «. قلت: يعني أبو القاسم أنَّ» أنْ «المفسرةَ لا بُدَّ أن يتقَدَّمها ما هو بمعنى القولِ لا حروفِه، ولم يتقدَّم إلاَّ التَّبْوِئَةُ وليست بمعنى القول، فضَمَّنها معنى القول، ولا يريدُ بقولِه» قلنا: لا تشرك «تفسيرَ الإِعراب بل تفسيرُ المعنى؛ لأنَّ المفسِّرةَ لا تفسِّر القولَ الصريح. وقال أبو البقاء:» تقديرُه: قائِلين له: لا تشركْ ف «أنْ» مفسرةٌ للقولِ المقدَّر «وهذا. . . . الثاني: أنَّها المخففةُ من الثقيلةِ، قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ من حيث

إن» أَنْ «المخففةَ لا بُدَّ أَنْ يتقدَّمَها فعلُ تحقيقٍ أو ترجيح، كحالِها إذا كانَتْ مشددة. الثالث: أنها المصدريةُ التي تنصِبُ المضارعَ، وهي تُوْصَلُ بالماضي والمضارعِ والأمرِ، والنهي كالأمر. وعلى هذا ف» أنْ «مجرورةٌ بلام العلةِ مقدرةً أي: بَوَّأناه لئلا تشركَ. وكان من حقِّ اللفظِ على هذا الوجه أن يكون» أن لا يشرك «بياء الغَيْبةِ، وقد قُرىء بذلك. قال أبو البقاء:» وقوى ذلك قراءةُ مَنْ قرأه بالياء «يعني مِنْ تحتُ. قلت: ووجهُ قراءةِ العامَّةِ على هذا التخريج أن تكونَ من الالتفاتِ من الغيبة إلى الخطاب. الرابع: أنها الناصبةٌ، ومجرورةٌ بلام أيضاً. إلاَّ أن اللامَ متعلقةٌ بمحذوفٍ أي: فَعَلْناه ذلك لئلا تشركَ، فجعل النهيَ صلةً لها. وقوَّى ذلك قراءةُ الياء. قاله أبو البقاء والأصلُ عدمُ التقديرِ مع عدمِ الاحتياج إليه. وقرأ عكرمة وأبو نهيك «أن لا يُشرِك» بالياء. قال الشيخ: «على معنى: أَنْ يقولَ معنى القول الذي قيل له» . وقال أبو حاتم: «ولا بُدَّ مِنْ نصبِ الكافِ على هذه القراءةِ بمعنى لئلا تشركَ» . قلت: كأنه لم يظهرْ له صلةٌ «أنْ المصدرية بجملةِ النهي. فجعل» لا «نافيةً، وسلَّط» أنْ «على المضارعِ بعدها، حتى صار علةً للفعل قبله. وهذا غيرُ لازمٍ لِما تقدَّم لك من وضوحِ المعنى مع جَعْلِها ناهيةً.

27

قوله: {وَأَذِّن} : قرأ العامَّةُ بتشديد الذال بمعنى نادِ. وقرأ الحسنُ وابن محيصن «آذِنْ» بالمدِّ والتخفيف بمعنى أعْلِمْ. ويُبْعِدُه قوله: {فِي الناس} إذ كان ينبغي أَنْ يتعدَّى بنفسِه. وقرآ أيضاً فيما نقله عنهما أبو الفتح «أَذِنَ» بالقصر وتخفيف الذال. وخرَّجها أبو الفتح وصاحب «اللوامح» على أنها عطفٌ على «بَوَّأنا» أي: واذكرْ/ إذ بَوَّأْنا وإذ أَذِنَ في الناس وهي تخريجٌ واضح. وزاد صاحب «اللوامح» فقال: «فيصيرُ في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ويصير» يأتوك «جزماً على جواب الأمر الذي في» وطهِّرْ «: ونَسَب ابنُ عطية أبا الفتح في هذه القراءةِ إلى التصحيفِ فقال بعد أن حكى قراءةَ الحسنِ وابن محيصنٍ» وآذِنْ «بالمَدِّ و» تَصَحَّفَ هذا على ابن جني فإنَّه حكى عنهما «وأَذِنَ» على فعلٍ ماضٍ. وأعربَ على ذلك بأَنْ جَعَلَه عطفاً على «بَوَّأْنا» . قلت: ولم يَتَصَحَّفْ فِعْلُه، بل حكى تلك القراءةَ أبو الفضل الرازي في «اللوامح» له عنهما، وذكرها أيضاً ابنُ خالويه، ولكنه لم يَطَّلِعْ عليها فنسَب مَنْ اطَّلع إلى التصحيفِ ولو تأنَّى أصاب أو كاد. وقرأ ابنُ أبي إسحاقَ «بالحِجِّ» بكسرِ الحاء حيث وَقَع كما قَدَّمْتُه عنه. قوله: {رِجَالاً} نصبٌ على الحالِ، وهو جمعُ راجِل نحو: صاحِب

وصِحاب وتاجِر وتِجار وقائِم وقِيام. وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز «رُجَّالاً» بضمِّ الراء وتشديدِ الجيمِ. ورُوي عنهم تخفيفُها. وافقهم ابنُ أبي إسحاق على التخفيفِ وجعفر من محمد ومجاهدٌ على التشديد. ورُوِيَتْ عن ابن عباس بالألف. فالمخفف اسمُ جمعٍ كظُؤَار، والمشدَّدُ جمعُ تكسيرٍ كصائم وصُوَّام. ورُوي عن عكرمةَ أيضاً «رُجَالى» كنُعامى بألف التأنيث، وكذلك عن ابنِ عباس وعطاء، إلاَّ أنهما شدَّدا الجيمَ. قوله: {وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} نسَقٌ على «رِجالاً» فيكون حالاً أي: مُشاةً وركباناً. قوله: {يَأْتِينَ} النونُ ضميرُ «كلِّ ضامِرٍ» حَمْلاً على المعنى؛ إذ المعنى: على ضوامرَ. و «يَأْتِيْنَ» صفةٌ ل «ضامِر» . وأتى بضميرِ الجمعِ حَمْلاً على المعنى. وكان قد تقرَّر أولَ هذا التصنيفِ أنَّ «كل» إذا أُضِيْفَتْ إلى نكرةٍ لم يُراعَ معناها، إلاَّ في قليلٍ كقوله: 3383 - جادَتْ عليه كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ حَديقةٍ كالدِّرْهَمِ وهذه الآيةُ تَرُدُّه؛ فإنَّ «كلاً» فيها مضافةٌ لنكرةٍ وقد روعي معناها. وكان

بعضُهم أجاب عن بيتِ زهير بأنه إنما جاز ذلك لأنه في جملتين، فقلت: فهذه الآيةُ جملةٌ واحدةٌ لأنَّ «يَأْتِيْنَ» صفةٌ ل «ضامِر» . وجَوَّز الشيخ أَنْ يكونَ الضميرُ يَشْمَلُ رجالاً وكل ضامر قال: «على معنى الجماعات والرفاق» قلت: فعلى هذا يجوزُ أَنْ يقالَ عنده: الرجال يَأْتِيْنَ. ولا ينفعُه كونُه اجتمع مع الرجال هنا كلُّ ضامر فيقال: جاز ذلك لَمَّا اجتمع معه ما يجوزُ فيه ذلك؛ إذ يلزمُ منه تغليبُ غيرِ العاقلِ على العاقلِ، وهو ممنوعٌ. وقرأ ابن مسعود والضحاك وابنُ أبي عبلة «يَأْتُونَ» تغليباً للعقلاءِ الذكورِ، وعلى هذا فيحتمل أَنْ يكونَ قولُه: {وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} حالاً أيضاً. ويكون «يَأْتُون» مستأنفاً يتعلَّقُ به {مِن كُلِّ فَجٍّ} أي: يَأْتُوك رِجالاً وركباناً ثم قال: يأتون من كلِّ فَج، وأَنْ يتعلَّقَ بقوله: «يَأْتُون» أي: يأتون على كلِّ ضامرٍ من كلِّ فَج، و «يَأْتُون» مستأنفٌ أيضاً. ولا يجوز أن يكونَ صفةً ل «رجالاً» ول «ضامِر» لاختلافِ الموصوفِ في الإِعرابِ؛ لأنَّ أحدَهما منصوبٌ والآخَرَ مجرورٌ. لو قلت «رأيتُ زيداً ومررت بعمرٍو العاقِلَيْن» على النعتِ لم يَجُزْ، بل على القطعِ. وقد جَوَّزَ ذلك الزمخشري فقال: «وقرىء» يِأْتُون «صفةً للرجال والركبان» وهو مردودٌ بما ذكرتُه. والضَّامِرُ: المَهْزولِ، يقال:. . . . والعميق: البعيدُ سُفلاً. يقال: بئر عَميق ومَعِيق، فيجوز أن يكون مقلوباً، لأنه أَقَلُّ من الأول قال:

3384 - إذا الخيلُ جاءت مِنْ فِجاجٍ عميقةٍ ... يَمُدُّ بها في السيرِ أشعثُ شاحِبُ يقال: عَمِقَ وعَمُقَ بكسر العين وضَمِّها عَمْقاً بفتح الفاء. قال الليث: عَميق ومَعِيق، والعَميق في الطريق أكثرُ «. وقال الفراء:» عميق «لغةُ الحجازِ، و» مَعِيْق «لغةُ تميم» . وأَعْمَقْتُ البئرَ وأَمْعَقْتُها، وعَمُقَتْ ومَعُقَتْ عَماقَةً ومَعَاقة وإعْماقاً وإمْعاقاً. قال رؤبة: 3385 - وقاتمِ الأعماقِ خاوي المُخْتَرَقْ ... الأعماقُ هنا بفتح الهمزة جمع عُمْق، وعلى هذا فلا قلبَ في مَعِيق لأنها لغة مستقلة، وهو ظاهرُ قولِ الليث أيضاً. وقرأ ابن مسعود «فج مَعِيق» بتقديم الميم. ويقال: غَمِيق بالغين المعجمةِ أيضاً.

28

قوله: {لِّيَشْهَدُواْ} : يجوز في هذه اللامِ وجهان أحدهما: أن يتعلَّقَ ب «أَذِّن» أي: أَذِّن لِيَشْهدوا. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «يأْتُوْك» وهو الأظهرُ. قال الزمخشري: «ونكَّر منافع لأنه أرادَ منافع مختصةً بهذه العبادةِ دينية ودنياوية لا تُوْجَدُ في غيرها من العبادات» .

29

قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ} : العامَّةُ على كسرِ اللامِ وهي لامُ الأمرِ. وقرأ نافع والكوفيون والبزي بسكونِها إجراءً للمنفصلِ مُجْرى المتصل نحو «كَتْف» وهو نظيرُ تسكينِ هاء «هو» بعد «ثُمَّ» في قراءةِ الكسائي وقالون حيث أُجْرِيَتْ «ثُمَّ» مجرى الواو والفاء. والتَّفَثُ قيل: أصلُه مِنْ التَّفِّ وهو وَسَخُ الأظفارِ، قُلِبَت الفاءُ ثاءً ك مُغْثُور في مُغْفُور. وقيل: هو الوسخُ والقَذَرُ يقال: ما تَفَثُكَ؟ وحكى قطرب: تَفِثَ الرجلُ أي: كَثُرَ وسخُه في سَفَره. ومعنى «ليقْضُوا تَفَثَهم» : ليصنعوا ما يصنعه المُحْرِمُ مِنْ إزالةِ شعرٍ وشَعْثٍ ونحوِهما عند حِلِّه، وفي ضمن هذا قضاءُ جميعِ المناسك، إذ لا يُفعل هذا إلاَّ بعد فِعْل المناسِك كلِّها. قوله: {وَلْيُوفُواْ} قرأ أبو بكر «وليُوَفُّوا» بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وقد تقدم في البقرة أن فيه ثلاث لغاتٍ: وَفَى ووفَّى وأوفى. وقرأ

بن ذكوان «ولِيُوْفوا» بكسر اللام، والباقون بسكونها، وكذلك هذا الخلاف جارٍ في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُواْ} .

30

قوله: {ذلك} : خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ والشأنُ ذلك. قال الزمخشري: «كما يُقَدِّمُ الكاتبُ جملةً من كتابِه في بعضِ المعاني، ثم إذا أرادَ الخوضَ في معنى آخرَ قال: هذا وقد كان كذا» . وقَدَّره ابنُ عطية: «فَرْضُكُمْ ذلك، أو الواجبُ ذلك» . وقيل: هو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ. أي: ذلك الأمرُ الذي ذكرتُه. وقيل: في محلِّ نصب أي: امتثلوا ذلك. ونظيرُ هذه الإِشارةِ قولُ زهير، بعد تقدُّم جُمَل في وَصْفِ هَرِم ابن سنان: 3386 - هذا وليس كمَنْ يَعْيا بخُطْبَتِه ... وسَطَ النَّدِيِّ إذا ما ناطقٌ نَطَقا قوله: «فهو» «هو» ضميرُ المصدرِ المفهومِ من قولِه {وَمَن يُعَظِّمْ} أي: وتعظيمُه حرماتِ الله خيرٌ له كقولِه تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] و «خيرٌ» هنا ظاهرُها التفضيلُ بالتأويلِ المعروفِ. قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} يجوز أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً، ويُصْرَفُ إلى ما يُحَرَّمُ مِنْ بهيمةِ الأنعام لسببٍ عارضٍ كالموت ونحوه، وأن يكونَ استثناءً منقطعاً؛ إذ ليس فيها مُحَرَّمٌ وقد تقدَّم تقريرٌ هذا الوجهِ أولَ المائدةِ.

قوله: {مِنَ الأوثان} في «مِنْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لبيانِ الجنسِ، وهو مشهورُ قول المُعْرِبين، ويَتَقَدَّرُ بقولك: الرِّجْسُ الذي هو الأوثان. وقد تقدَّم أنَّ شرطَ كونِها بيانيةً ذلك. وتجيءُ مواضعُ كثيرةٌ لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضُه. والثاني: أنَّها لابتداءِ الغايةِ. وقد خَلَط أبو البقاء القولين فجَعَلَهما قولاً واحداً فقال: «ومِنْ لبيانِ الجنسٍ أي: اجْتَنِبوا الرجسَ من هذا القبيل، وهو بمعنى ابتداء الغاية ههنا» يعني أنه في المعنى يَؤُول إلى ذلِك، ولا يَؤُول إليه البتةَ. الثالث: أنها للتبعيض. وقد غَلَّط ابنُ عطية القائلَ بكونِها للتبعيضِ، فقال: «ومَنْ قال: إن» مِنْ «للتبعيض قَلَبَ معنى الآيةِ فأفسده» وقد يُمْكِنُ التبعيضُ فيها: بأَنْ يَعْني بالرِّجْسِ عبادة الأوثانِ. وبه قال ابنُ عباس وابنُ جريج، فكأنه قال: فاجْتَنِبوا من الأوثانِ الرِّجسَ وهو العبادةُ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ من الأوثان إنما هو العبادةُ ألا ترى أنه قد يُتَصَوَّرُ استعمالُ الوثَنِ في بناءٍ وغيرِه ممَّا لم يُحَرِِّمِ الشرعُ استعمالَه، وللوَثَنِ جهاتٌ منها عبادتُها، وهي بعض جهاتِها. قاله الشيخ. وهو تأويلٌ بعيدٌ.

31

قوله: {حُنَفَآءَ} : حالٌ مِنْ فاعلِ «اجْتَنِبوا» . وكذلك {غَيْرَ مُشْرِكِينَ} وهي حالٌ مؤكدة، إذ يلزَمُ من كونِهم حُنَفاءَ عدمُ الإِشراك. قوله: {فَتَخْطَفُهُ} قرأ نافعٌ بفتحِ الخاءِ والطاء مشددةً. وأصلُها تَخْتَطِفُه فأدغم. وباقي السبعةِ «فَتَخْطَفُه» بسكون الخاء وتخفيفِ الطاء. وقرأ الحسنُ والأعمشُ وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد. ورُوِي عن الحسن

أيضاً فتحُ الطاءِ مشددةً مع كسرِ التاءِ والخاءِ. ورُوِي عن الأعمش كقراءةِ العامَّةِ إلاَّ أنه بغير فاء: «تَخْطَفُه» . وتوجيهُ هذه القراءاتِ قد تقدَّم مستوفى في أوائل البقرة عند ذِكْري القراءاتِ في قولِه تعالى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ} [البقرة: 20] فلا أُعيدها. وقرأ أبو جعفر «الرياحُ» جمعاً. وقولِه «خَرَّ» في معنى يَخِرُّ؛ ولذلك عُطِفَ عليه المستقبلُ وهو «فَتَخْطَفُهُ» ، ويجوز أن يكون على بابه، ولا يكونُ «فَتَخْطَفُه» عطفاً عليه، بل هو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: فهو يَخْطَفُه. قال الزمخشري: «ويجوزُ في هذا التشبيهِ أن يكونَ من المركب والمفرَّق. فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: مَنْ أشرك بالله فقد أهلكَ نفسَه إهلاكاً ليس بعده [هلاكٌ] : بأَنْ صَوَّر حالَه بصورةِ حالِ مَنْ خَرَّ من السماءِ فاخْتَطَفَتْه الطيرُ، فتفرَّق مِزَعاً في حَواصلِها، أو عَصَفَتْ به الريحُ حتى هَوَتْ به في بعض المطاوحِ البعيدةِ. وإن كان مُفَرَّقاً فقد شَبَّه الإِيمانَ في عُلُوِّه بالسماءَ، والذي تركَ الإِيمانَ وأشرك بالله، بالساقط من السماء، والأهواءَ التي تتوزَّعُ أفكارَه بالطير المتخطفةِ، والشيطانَ الذي يُطَوِّحُ به في وادي الضَّلالةِ بالريح التي تهوي بما عَصَفَتْ به في بعض المهاوي المُتْلِفَةِ» . قلت: وهذه العبارةُ من أبي القاسم مما يُنَشِّطُك إلى تَعَلُّم عِلْمِ البيان فإنها في غاية/ البلاغة. والأَوْثان: جمع وَثَن. والوَثَنُ يُطْلَقُ على ما صُوِّر من نحاسٍ وحديدٍ وخَشَبٍ. ويُطْلَقُ أيضاً على الصَّليب. «عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه

قال لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً: أَلْقِ هذا الوثنَ عنك» وقال الأعشى: 3387 - يطوفُ العبادُ بأبوابِه ... كطَوْفِ النصارى ببَيْتِ الوَثَنْ واشتقاقُه مِن وَثَن الشيءُ أي: أقام بمكانه وثَبَتَ فهو واثِنٌ. وأُنشد لرؤبة: 3388 - على أَخِلاَّء الصَّفاءِ الوُثَّنِ ... أي: المقيمين على العهد. وقد تقدَّم الفرقُ بين الوَثَنِ والصنم. والسَّحيقُ: البعيدُ. ومنه سَحَقَه اللهُ أي: أبعده. وقوله عليه السلام: «فأقولُ سُحْقاً سُحْقاً» أي: بُعْداً بُعْداً. والنَّخْلة السَّحُوقُ: الممتدةُ في السماء، من ذلك.

32

قوله: {ذلك} : إعرابُه كإعرابِ «ذلك» المتقدمِ وتقدَّم تفسيرُ «الشَّعيرة» واشتقاقُها في المائدة.

قوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} في هذا الضميرِ وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الشعائرِ، على حَذْفِ مضافٍ. أي: فإن تعظيمَها مِنْ تقوى القلوبِ. والثاني: أنه ضميرُ المصدرِ المفهومِ من الفعل قبلَه أي: فإنَّ التعظيمةَ مِنْ تقوى القلوب. والعائدُ على اسمِ الشرط من هذه الجملةِ الجزائيةِ مقدرٌ، تقديرُه: فإنها مِنْ تَقَوى القلوب منهم. ومَنْ جوَّز إقامةَ أل مُقام الضميرِ وهم الكوفيون أجاز ذلِك هنا، والتقدير: مِنْ تقوى قلوبِهم، كقوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] وقد تقدَّم تقريرُه. وقال الزمخشري: أي فإنَّ تعظيمَها من أفعالِ ذوي تقوى القلوبِ فحُذِفَتْ هذه المضافاتُ، ولا يَسْتقيمُ المعنى إلاَّ بتقديرِها؛ لأنه لا بُدَّ من راجعٍ من الجزاء إلى «مَنْ» لتَرْتَبِط به «قال الشيخ:» وما قَدَّره عارٍ من راجعٍ من الضميرِ من الجزاء إلى «مَنْ» . ألا ترى أنَّ قولَه «فإنَّ تعظيمَها من أفعال ذوي تقوى القلوب» ليس في شيءٍ منه ضميرٌ يَرْجِعُ من الجزاء إلى «مَنْ» يربطه به. وإصلاحُه أن يقولَ: فإنَّ تعظيمَها منه، فالضميرُ في «منه» عائدٌ على «مَنْ» . والعامَّة على خفض «القلوب» . وقُرىء برفعِها فاعلةً للمصدرِ قبلها وهو «تقوى» .

33

[قوله: {فِيهَا} :] والضميرُ في «فيها» عائدٌ على الشعائر بمعنى الشرائع أي: لكم في التمسُّكِ بها، وقيل: عائدٌ على بهيمةِ الأنعام.

34

قوله: {مَنسَكاً} : قرأ الأخَوان هذا وما بعده «مَنْسِكاً» بالكسر، والباقون بالفتح. فقيل: هما بمعنىً واحد. والمرادُ بالمَنْسَك مكانُ النُّسُكِ أو المصدرُ. وقيل: المكسورُ مكانٌ، والمفتوحُ مصدرٌ. قال ابنُ عطية: «والكسرُ في هذا من الشاذِّ، ولا يَسُوغُ فيه القياس. ويُشْبِهُ أَنْ يكونَ الكسائيُّ سمعه من العرب» . قلت: وهذا الكلامُ منه غير مَرْضِيّ: كيف يقول: ويُشْبه أَنْ يكنَ الكسائيُ سَمِعه. الكسائي يقول: قرأتُ به فكيف يحتاج إلى سماعٍ مع تمسُّكِه بأقوى السَّماعات، وهو روايتُه لذلك قرآناً متواتراً؟ وقوله: «من الشاذِّ» يعني قياساً لا استعمالاً فإنه فصيحٌ في الاستعمال؛ وذلك أنَّ فَعَل يَفْعُل بضم العين في المضارع قياسُ المَفْعَل منه: أن تُفتَحَ عينُه مطلقاً أي: سواءٌ أُريد به الزمانُ أم المكانُ أم المصدرُ. وقد شَذَّتْ ألفاظُ ضَبَطها النحاةُ في كتبهم وذكرتُها أيضاً في هذا الموضوعِ.

35

قوله: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} : يجوز أن يكونَ هذا الموصولُ في موضعِ جرٍّ أو نصبٍ أو رفعٍ. فالجرُّ من ثلاثةِ أوجهٍ: النعتُ للمُخْبِتِيْن، أو البدلُ منهم، أو البيانُ لهم. والنصبُ على المدحِ. الرفعُ على إضمار «هم» وهو مدحٌ أيضاً، ويُسَمِّيه النحويون «قَطْعاً» . قوله: {والمقيمي الصلاة} العامَّةُ على خفضِ «الصلاةِ» بإضافةِ المقيمين إليها. وقرأ الحسن وأبو عمروٍ في روايةٍ بنَصْبِها على حذفِ النونِ تخفيفاً، كما يُحْذف التنوينُ لالتقاءِ السَاكنين. وقرأ ابنُ مسعودٍ والأعمشُ بهذا

الأصل: «والمقيمينَ الصلاةَ» بإثباتِ النونِ، ونصبِ «الصلاة» . وقرأ الضحَّاكُ «والمقيمَ الصلاةَ» بميمٍ ليس بعدها شيء. وهذه لا تخالِفُ قراءةَ العامَّةِ لفظاً، وإنما تظهرُ مخالفتُها لها وَقْفاً وخَطَّاً.

36

قوله: {والبدن} : العامَّةُ على نصب «البُدْنَ» على الاشتغال. ورُجِّح النصبُ وإن كان مُحْوِجاً لإِضمارٍ، على الرفع الذي لم يُحْوِجْ إليه، لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ على جملةِ الاشتغالِ. وقُرِىء برفعِها على الابتداءِ، والجملةُ بعدها الخبرُ. والعامَّةُ أيضاً على تسكينِ الدالِ. وقرأ الحسن وتُرْوى نافعٍ وشيخةِ أبي جعفر بضمِّها، وهما جمعان ل «بَدَنَة» نحو: ثَمَرةٍ وثُمُرٍ وثُمْرٍ. فالتسكينُ يحتمل أن يكونَ تخفيفاً من المضمومِ، وأَنْ يكونَ أصلاً. وقيل: البُدْنُ والبُدُنُ جمعُ بَدَن، والبَدَنُ جمعٌ لبَدَنَة نحو: خَشَبة وخَشَب، ثم يُجْمع خَشَباً على خُشُب وخُشْب. / وقيل: البُدْنُ اسمٌ مفردٌ لا جمعٌ يَعْنُون اسمَ جنسٍ. وقرأ ابنُ أبي إسحاق «البُدُنَّ» بضم الباء والدال وتشديد النون. وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه قرأ كالحسن، فوقَفَ على الكلمةِ وضَعَّفَ لامَها كقولِهم: «هذا فَرُخّْ» ثم أجرى الوصلَ مجرى الوقفِ في ذلك. ويُحتمل أَنْ يكونَ اسماً على فُعُل ك عُتُلّ. وسُمِّيَت البَدَنة بَدَنةً لأنها تُبْدَنُ أي: تُسَمَّنُ. وهنل تختصُّ بالإِبل؟ الجمهورُ على ذلك. قال الزمخشري: «والبُدْنُ: جمعُ بَدَنَة سُمِّيَتْ لعِظَمِ

بَدَنِها، وهي الإِبِلُ خاصةً؛ لأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألحق البقرَ بالإِبل حين قال:» البَدَنَةُ عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعة «فجَعَلَ البقرَ في حُكْمِ الإِبلِ، صارَت البَدَنةُ متناوَلَةً في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابِه، وإلاَّ فالبُدْنُ هي الإِبلُ وعليه تَدُلُّ الآيةُ» . وقيل لا تختصُّ، فقال الليث: البَدَنَةُ بالهاء تقعُ على الناقةِ والبقرة والبعير وما يجوز في الهَدْي والأضاحي، ولا تقعُ على الشاة. وقال عطاءٌ وغيرُه: ما أشعر مِنْ ناقة أو بقرةٍ. وقال آخرون: البُدْنُ يُراد به العظيمُ السِّنِّ من الإِبل والبقر. ويقال للسَّمين من الرجال. وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ. قوله: {مِّن شَعَائِرِ الله} هو المفعولُ الثاني للجَعْل بمعنى التصيير. قوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} الجملةُ حالٌ: إمَّا من «ها» «جَعَلْناها» ، وإمَّا مِنْ شعائر الله. وهذان مبنيَّان على أن الضميرَ في «فيها» هل هو عائدٌ على «البُدْن» أو على شعائر؟ والأولُ قولُ الجمهورِ. قوله: {صَوَآفَّ} نصبٌ على الحال أي: مُصْطَفَّةً جنبَ بعضِها إلى بعض. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم «صَوافي» جمعَ صافِيَة أي: خالصةً لوجهِ الله تعالى. وقرأ عمرو بن عبيد كذلك، إلاَّ أنه نَوَّنَ الياءَ

فقرأ «صَوافياً» . واسْتُشْكِلَتْ من حيث إنه جمعٌ متَناهٍ. وخُرِّجَتْ على وجهين، أحدُهما: ذكره الزمخشري وهو أَنْ يكونَ التنوينُ عِوَضاً من حرفِ الإِطلاقِ عند الوقف. يعني أنه وَقَفَ على «صَوافي» بإشباع فتحةَ الياءِ فَتَوَلَّد منها أَلِفٌ يُسَمَّى حرفَ الإِطلاق، ثم عَوَّضَ عنه هذا التنوينَ، وهو الذي يُسَمِّيه أهلُ النحوِ تنوينَ الترنُّم. والثاني: أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ ما لا يَنْصَرِفُ. وقرأ الحسنُ «صَوافٍ» بالكسرِ والتنوين. وتوجيهُها: أنه نصبها بفتحة مقدرةٍ، فصار حكمُ هذه الكلمةِ كحكمِها حالةً الرفعِ والجرِّ في حَذْفِ الياءِ وتعويض التنوينِ نحو: «هؤلاء جوارٍ» ، ومررت بجوارٍ. وتقديرُ الفتحةِ في الياءِ كثيرٌ كقولهم: «أعْطِ القوسَ بارِيْها» وقولِه: 3389 - كأنَّ أيْدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ ... أيديْ جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِق وقوله: 3390 - وكَسَوْتُ عارٍ لَحْمُه. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويدلُّ على ذلك قراءةُ بعضِهم «صَوافيْ» بياءٍ ساكنةٍ من غيرِ تنوينٍ، نحو: «رأيتُ القاضيْ يا فتى» بسكون الياء. ويجوز أن يكونَ سكَّن الياءَ في هذه القراءةِ للوقفِ ثم أَجْرَى الوصلَ مُجْراه. وقرأ العبادلة ومجاهدٌ والأعمش «صَوافِنْ» بالنون جمعَ «صَافِنَة» وهي التي تقومُ على ثلاثٍ وطرفِ الرابعة، إلاَّ أنَّ ذلك إنما يُسْتَعْمَلُ في الخيلِ كقوله: {الصافنات الجياد} [ص: 31] ، وسيأتي، فيكون استعمالُه في الإِبلِ استعارةً. والوجوبُ: السُّقوطُ. وجَبَتِ الشَمسُ ِأي: سَقَطَتْ. ووجَبَ الجِدَارُ أي: سَقَطَ، ومنه الواجبُ الشرعي كأنه وقع علينا ولَزِمَنا. وقال أوس بن حجر: 3391 - ألم تُكْسَفِ الشمسُ شمسُ النَّها ... رِ والبدرُ للجبل الواجبِ قوله: «القانِعَ والمعتَّر» فيهما أقوالٌ. فالقانِعُ: السائل والمُعْتَرُّ: المعترضُ من غيرِ سؤالٍ. وقال قومٌ بالعكس. وقال ابن عباس: القانِعُ: المستغني بما أعطيتَه، والمعترُّ: المعترضُ من غيرِ سؤالٍ. وعنه أيضاً: القانعُ: المتعفِّفُ، والمعترُّ: السائلُ. وقال بعضُهم: القانِعُ: الراضي بالشيءِ اليسيرِ. مِنْ قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً فهو قانِعٌ. والقَنِعُ: بغير ألفٍ هو السَّائلُ. ذكره أبو البقاء. وقال

الزمخشري: «القانِعُ: السَّائلُ. مِنْ قَنِعْتُ وكَنَعْتُ إذا خَضَعْتَ له. وسألتُه قُنُوْعاً. والمُعْتَرُّ: المعترِّضُ بغيرِ سؤالٍ، أو القانِعُ الراضي. بما عندَه، وبما يعطى، من غيرِ سؤالٍ. مِنْ قَنِعْتُ قَنَعاً وقَناعة. والمعترُّ: المتعرض بالسؤال» . انتهى. وفرَّق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال: قَنِعَ يَقْنَع قُنوعاً أي سأل، وقَناعة أي: تعفَّف ببُلْغَته واستغنى بها. وأنشد للشماخ: 3392 - لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فيُغْني ... مَفاقِرَه أَعَفُّ من القُنوعِ وقال ابن قتيبة: «المُعْتَرُّ: المتعرِّضُ من غير سؤال. يُقال: عَرَّه/ واعتَرَّه وعَراه واعْتراه أي: أتاه طالباً معروفَه قال: 3393 - لَعَمْرُك ما المُعتَرُّ يَغْشى بلادَنا ... لِنَمْنَعَه بالضائعِ المُتَهَضِّمِ وقوله الآخر: 3394 - سَلي الطارِقَ المعترَّ يا أمَّ مالِكٍ ... إذا ما اعْتَراني بينَ قِدْري ومَجْزَري

وقرأ أبو رجاء» القَنِع «دون ألف. وفيها وجهان، أحدهما: أنَّ أصلَها» القانِع «فَحَذَفَ الألف كما قالوا: مِقْوَل ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في: مِقْوال ومِخْياط وجَنَادل وعُلابط. والثاني: أن القانِعَ هو الراضي باليسير، والقَنِع: السائلُ، كما تقدَّم تقريره، قال الزمخشري:» والقَنِعُ: الراضي لا غير «. وقرأ الحسن:» والمُعْتري «اسمُ فاعلٍ مِنْ اعْتَرى يَعْتري. وقرأ إسماعيل وتروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً» والمُعْتَرِ «بكسر الراء اجتزاءً بالكسرة عن لامِ الكلمة. وقُرِىء» المُعْتَرِيَ «بفتح الياء. قال أبو البقاء:» وهو في معناه «أي: في معنى» المعترّ «في قراءة العامَّة. و [قوله:] {كذلك سَخَّرْنَاهَا} الكافُ نعتُ مصدرٍ أوحالٌ من ذلك المصدرِ.

37

وكذلك قوله: {كذلك سَخَّرَهَا} : و {لِتُكَبِّرُواْ} : متعلقٌ به. {على مَا هَدَاكُمْ} متعلقٌ بالتكبير. عُدِّيَ ب «على» لتضمُّنِه معنى الشكر.

قوله: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا} : العامَّةُ على القراءةِ بياءِ الغَيْبة في الفعلين؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي وقد وُجد الفصلُ بينهما. وقُرىء بالتاء فيهما اعتباراً باللفظ. وقرأ زيد بن علي «لحومَها ولا دماءَها» بالنصب، والجلالةُ بالرفع، و «لكن يُنالُه» بضم الياء، على أن يكونَ القائمَ مقامَ الفاعلِ، «التقوى» ، و «منكم» حالٌ من «التقوى» ، ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ «تَنالُه» .

38

قوله: {يُدَافِعُ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو «يَدْفَعُ» والباقون «يُدافع» . وفيه وجهان، أحدهما: أنَّ فاعَلَ بمعنى فَعَل المجردِ نحو: جاوَزْته وجُزْتُه، وسافَرْتُ، وطارَقْتُ. والثاني: أنه أُخْرِجَ على زِنَةِ المُفاعلة مبالغةً فيه؛ لأنَّ فِعْلَ المفاعلةِ أبلغُ مِنْ غيره. وقال ابن عطية: «فَحَسُنَ دفاع لأنه قد عَنَّ للمؤمنين [مَنْ] يَدْفَعُهم ويؤذيهم فتجيء مقاومتُه ودَفْعُه عنهم مُدافَعَةً» يعني: فيُلْحَظُ فيها المفاعلةُ.

39

قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ} : قرأه مبنياً للمفعول نافع وأبو عمرو وعاصم. والباقون قرؤوه مبنياً للفاعل. وأمَّا «يُقاتِلون» فقرأه مبنياً للمفعول

نافع وابن عامر وحفص. والباقون مبنياً للفاعل. وحَصَلَ من مجموع الفعلين: أن نافعاً وحفصاً بَنَياهما للمفعول، وأنَّ ابنَ كثيرٍ وحمزةَ والكسائي بَنَياهما للفاعل، وأن أبا عمرو وأبا بكر بَنَيا الأول للمفعول والثاني للفاعل. وأن ابنَ عامر عكسُ هذا فهذِه أربعُ رُتَبٍ. والمأذونُ فيه محذوفٌ للعلمِ به أي: للذين يقاتَلون في القتال. و {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} متعلقٌ ب «أّذِنَ» والباءُ سببيةٌ أي: بسبب أنهم مظلومون.

40

قوله: {الذين أُخْرِجُواْ} : يجوز أن يكونَ في محلِّ جرٍّ، نعتاً للموصول الأولِ أو بياناً له، أو بدلاً منه، وأن يكونَ في محلِّ نصبٍ على المدح، وأن يكونَ في محلِّ رفعٍ على إضمارِ مبتدأ. قوله: {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع، وهذا ممَّا يُجْمِعُ العربُ على نصبه؛ لأنه منقطعٌ لا يمكنُ تَوَجُّهُ العاملِ إليه، وما كان كذا أجمعوا على نصبهِ، نحو: «ما زاد إلاَّ ما نقصَ» ، «وما نفعَ إلاَّ ما ضَرَّ» . فلو توجَّهَ العاملُ جاز فيه لغتان: النصبُ وهو لغةُ الحجاز، وأَنْ يكونَ كالمتصلِ في النصبِ والبدل نحو: «ما فيها أحدٌ إلاَّ حمارٌ» ، وإنما كانت الآيةُ الكريمةُ من الذي لا يتوجَّه عليه العاملُ؛ لأنك لو قلت: «الذين أُخْرِجوا مِنْ ديارهم إلا أَنْ يقولوا ربُّنا الله» لم يَصحَّ. الثاني: أنه في محلِّ جر بدلاً من «حَقّ» قال الزمخشري: «أي بغير موجِبٍ سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإِقرارِ والتمكينِ لا موجبَ الإِخراجِ والتسييرِ. ومثلُه: {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله} [المائدة: 59] .

وممَّنْ جَعَلَه في موضع جرٍّ بدلاً ممَّا قبله الزجاجُ. إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ذلك فقال:» ما أجازاه من البدل لا يجوز؛ لأنَّ البدلَ لا يجوزُ إلاَّ حيث سبقه نفيٌ أو نهيٌ أو استفهامٌ في معنى النفي. وأمَّا إذا كان الكلام موجَباً أو أمراً فلا يجوزُ البدلُ؛ لأنَّ البدلَ لا يكون إلا حيثُ يكونُ العاملُ يَتَسَلَّطُ عليه. ولو قلت: «قام إلاَّ زيدٌ» ، و «لْيَضْرِبْ إلاَّ عمروٌ» لم يجز. ولو قلت في غير القرآن: «أُخْرِجَ الناسُ مِنْ ديارِهم إلاَّ بأَنْ يقولوا: لا إلهَ إلاَّ اللهُ» لم يكن كلاماً. هذا إذا تُخُيِّل أَنْ يكونَ {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} في موضعِ جرٍّ بدلاً من «غير» المضاف إلى «حَقٍّ» . وأمَّا إذا كان بدلاً من «حق» كما نَصَّ عليه الزمخشريُّ فهو في غايةِ الفسادِ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ البدلُ يلي «غيراً» فيصير التركيبُ: بغير إلاَّ أَنْ يقولوا، وهذا لا يَصِحُّ، ولو قَدَّرْنا [إلاَّ] ب «غير» كما/ يُقَدَّرُ في النفي في: «ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٍ» فتجعلُه بدلاً لم يَصِحَّ؛ لأنه يصيرُ التركيبُ: بغير غيرِ قولِهم ربُّنا اللهُ، فتكون قد أضَفْتَ غيراً إلى «غير» وهي هي فيصير: بغير غير، ويَصِحُّّ في «ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٍ» أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حيث مَثَّل البدلَ قَدَّره: بغير موجبٍ سوى التوحيدِ، وهذا تمثيلٌ للصفة جَعَلَ [إلاَّ] بمعنى سِوَى، ويَصِحُّ على الصفةِ فالتبسَ عليه بابُ الصفة بباب البدل. ويجوز أن تقولَ: «مررتُ بالقومِ إلاَّ زيدٍ» على الصفة لا على البدل «.

قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله} قد تقدَّم الخلافُ فيه في البقرة وتوجيهُ القراءتين. وقرأ» لَهُدِمَتْ «بالتخفيفِ نافعٌ وابن كثير. والباقون بالتثقيل الدالِّ على التكثيرِ؛ لأنَّ المواضعَ كثيرةٌ متعددةٌ، والقراءةُ الأولى صالحةٌ لهذا المعنى أيضاً. والعامَّةُ على» صَلَواتٌ «بفتح الصاد واللام جمعَ صلاةٍ. وقرأ جعفر ابن محمد» وصُلُوات «بضمِّهما. ورُوي عنه أيضاً بكسرِ الصاد وسكونِ اللام. وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام. وأبو العالية بفتح الصادِ وسكونِ اللام. والجحدريُّ أيضاً» وصُلُوْت «بضمِّهما وسكونِ الواو، بعدها تاءٌ مثناةٌ من فوقُ مثلَ: صُلْب وصُلُوب. والكلبيُّ والضحاكُ كذلك، إلاَّ أنهما أَعْجَما التاءَ بثلاثٍ مِنْ فوقها. والجحدريُّ أيضاً وأبو العاليةِ وأبو رجاءٍ ومجاهدٌ كذلك، إلاَّ أنَّهم جعلوا بعد الثاءِ المثلثة ألفاً فقرؤوا» صُلُوْثا «ورُوي عن مجاهدٍ في هذه التاءِ المثنَّاةِ مِنْ فوقُ أيضاً. ورُوي عن الجحدريِّ أيضاً» صُلْواث «بضم الصادِ وسكونِ اللامِ وألفٍ بعد الواوِ والثاءِ مثلثةً. وقرأ عكرمة» صلويثى «بكسر الصاد وسكون اللام، وبعدها واوٌ مكسورةٌ بعدَها ياءٌ مثنَّاةٌ مِنْ تحتُ بعدها ثاءٌ مثلثةٌ، وحكى ابنُ مجاهد أنه قُرِىءَ» صِلْواث «بكسر الصاد وسكون اللام. بعدها واوٌ، بعدها ألف، بعدها ثاءٌ مثلثةٌ. وقرأ الجحدري» وصُلُوب «مثل كُعُوْب بالباء الموحدةِ وهو جمع»

صليب «، وفُعُوْل جمعُ فعيل شاذٌّ نحو: ظريف وظروف وأَسِينة وأُسُون، ورُوي عن أبي عمرو» صلواتُ «كالعامَّةِ، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّن، مَنَعه الصرفَ للعلميَّة والعجمة؛ لأنه جعله اسمَ موضعٍ، فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً، المشهورُ منها واحدةٌ، وهي هذه الصلاةُ المعهودة. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ليَصِحَّ تَسَلُّطُ الهَدْمِ عليها أي: مواضع صلواتٍ، أو يُضَمَّن» هُدِّمَتْ «معنى» عُطِّلَتْ «فيكون قَدْراً مشتركاً بين المواضع والأفعال؛ فإنَّ تعطيلَ كلِّ شيءٍ بِحَسبِه. وأخَّر المساجدَ لحُدوثِها في الوجود، أو الانتقالِ إلى الأشرفِ. والصلواتُ في الأمم. . . . . . صلاةُ كلِّ مِلَّةٍ بحَسَبِها. وظاهرُ كلام الزمخشري أنها بنفسِها اسمُ مكان فإنه قال:» وسُمِّيَتْ الكنسيةُ صلاةً لأنه يُصَلَّى فيها. وقيل: هي كلمةٌ مُعَرَّبَةٌ أصلُها بالعبرانيةِ صَلُوثا «. انتهى. وأمَّا غيرُها من القراءات فقيل: هي سريانيةٌ أو عبرانيةٌ دَخَلَتْ في لسانِ العربِ. ولذلك كَثُر فيها اللغاتُ. والصَّوامِعُ: جمعُ صَوْمَعَة وهي البناءُ المرتفعُ الحديدُ الأعلى، مِنْ قولِهم رجلٌ أصمعُ، وهو الحديدُ القولِ. ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة. وهي متعبَّد الرهبانِ لأنهم ينفردون. وقيل: متعبَّدُ الصَّابِئين. والبِيَعُ: جمع بِيْعَة، وهي متعبَّدُ النصارى. وقيل: كنائس اليهود.

والأشهر أنَّ الصوامِعَ للرهبانِ والبِيَعَ للنصارى، والصَّلَواتِ لليهود، والمساجدَ للمسلمين. و {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله} يجوز أَنْ يكونَ صفةً للمواضعِ المتقدمةِ كلِّها، إنْ أَعَدْنا الضميرَ مِنْ» فيها «عليها، أو صفةً للمساجد فقط، إنْ خَصَصْنا الضميرَ في» فيها «بها، والأولُ أظهر.

41

قوله: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ} : يجوزُ في هذا الموصولِ ما جاز في الموصولِ قبلَه. ويزيد هذا عليه: بأَنْ يجوزَ أن يكونَ بدلاً مِنْ «مَنْ يَنْصُرُه» ذكره الزجاج أي: ولَيَنْصُرَنَّ اللهُ الذي إنْ مَكَّنَّاهم. وإنْ مَكَّنَّاهم «شرطٌ. و» أقاموا «جوابُه، والجُملةُ الشرطيةُ بأَسْرِها صلةُ الموصولِ.

44

قوله: {نَكِيرِ} : النكيرُ مصدرٌ بمعنى الإِنكار كالنَّذير بمعنى الإِنذار. وأثبتَ ياءَ «نَكيري» حيث وقع ورشٌ في الوصل، وحذفها في الوقف. والباقون بحذفِها وَصْلاً ووَقْفاً.

45

قوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} : يجوز أن تكونَ «كأيِّنْ» منصوبةً المحل على الاشتغالِ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسره «أهلكناها» وأَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، والخبر «أَهْلكناها» . وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها. قوله: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} جملةٌ حالية مِنْ هاء «أَهْلكناها» . قوله: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} عطفٌ على «أَهْلَكْناها» ، فيجوزُ أن تكونَ في محلِّ

رفعٍ لعطفِها على الخبر على القول الثاني، وأنْ لا يكونَ لها محلٌّ لعطفِها على الجملةِ المفسِّرة على القول الأول. وهذا عنى الزمخشريُّ بقوله: «والثانيةُ يعني قولَه: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} لا محلَّ لها لأنها معطوفةٌ على» أهلكناها «، وهذا الفعلُ ليس له محلٌ تفريعاً/ على القولِ بالاشتغالِ. وإلاَّ فإذا قلنا: إنه خبرٌ ل» كأيِّن «كان له محلٌّ ضرورةً. وقرأ أبو عمروٍ» أهلكتُها «. والباقون» أَهْلكناها «وهما واضحتان. قوله: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} عطفٌ على» قريةٍ «، وكذلك و» قَصْرٍ «أي: وكأيِّن من بئرٍ وقصرٍ أَهْلكناها أيضاً، هذا هو الوجهُ. وفيه وجهٌ ثانٍ: أَنْ تكونَ معطوفةً وما بعدها على» عروشِها «أي: خاوية على بئرٍ وقصرٍ أيضاً. وليس بشيءٍ. والبِئْرُ: مِنْ بَأَرْتُ الأرض أي حفرتُها. ومنه» التَّأْبِير «وهو شَقُّ. . . . . . الطلع. والبِئْر فِعْل بمعنى مَفْعول كالذِّبْح بمعنى المَذْبوح وهي مؤنثةٌ، وقد تُذَكَّرُ على معنى القليب. وقوله: 3395 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وبِئْري ذو حَفَرْتُ وذو طَوَيْتُ

يَحتمل التذكيرَ والتأنيثَ. والمُعَطَّلَةُ: المُهْملة، والتعطيل: الإِهمال. وقرىء» مُعْطَلَةٍ «بالتخفيف يقال: أَعْطَلْتُ البئر وعَطَّلْتُها فَعَطَلَت بفتح الطاء، وأما عَطِلَتْ المرأةُ من الحُلِيَّ فبكسرِ الطاءِ. والمَشِيْدُ: قد تَقدَّم أنه المرتفعُ أو المُجَصَّصُ. وإنما بني هنا مِنْ شادَه، وفي النساء مِنْ شَيَّده؛ لأنه هناك بعد جمعٍ فناسَبَ التكثيرَ، وهنا بعد مفردٍ فناسَب التخفيفَ، ولأنه رأسُ آيةٍ وفاصلةٍ.

46

قوله: {فَتَكُونَ} : هو منصوبٌ على جوابِ الاستفهامِ. وعبارةُ الحوفي «على جوابِ التقريرِ» . وقيل: على جوابِ النفيِِ، وقرأ مبشِّر بنُ عبيد «فيكونَ» بالياءِ من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. ومتعلَّقُ الفعلِ محذوفٌ أي: ما حَلَّ بالأممِ السالفةِ. قوله: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى} الضميرُ للقصةِ. و {لاَ تَعْمَى الأبصار} مُفَسِّرَةٌ له. وحَسَّنَ التأنيثَ في الضمير كونُه وَليَه فِعْلٌ بعلامةِ تأنيثٍ، ولو ذُكِّر في الكلامِ فقيل: «فإنه» لجازَ، وهي قراءةٌ مَرْوِيَّةٌ عن عبد الله، والتذكيرُ باعتبارِ الأمرِ والشأنِ. وقال الزمخشري: «ويجوزُ أن يكون ضميراً مُبْهماً يُفَسِّره» الأبصارُ «وفي» تَعْمَى «راجعٌ إليه» . قال الشيخ: «وما ذكره لا يجوزُ لأن الذي يُفَسِّره ما بعدَه محصورٌ، وليس هذا واحداً منه: وهو من باب» رُبَّ «، وفي باب نِعْم

وبئس، وفي باب الإِعمال، وفي باب البدل، وفي باب المبتدأ والخبر، على خلافٍ في بعضها، وفي باب ضمير الشأن، والخمسةُ الأُوَلُ تُفَسَّر بمفرد إلاَّ ضميرَ الشأنِ، فإنه يُفَسَّر بجملةٍ، وهذا ليس واحداً من الستة» . قلت: بل هذا من المواضع المذكورةِ، وهو باب المبتدأ. غايةُ ما في ذلك أنه دَخَلَ عليه ناسخٌ وهو «إنَّ» فهو نظيرُ قولِهم: «هي العروبُ تقول ما شاءَتْ، وهي النفسُ تتحمَّل ما حَمَلْتْ» وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا} [الأنعام: 29] . وقد جعل الزمخشريُّ جميعَ ذلك مِمَّا يُفَسَّر بما بعده، ولا فرقَ بين الآيةِ الكريمةِ وبين هذه الأمثلةِ إلاَّ دخولُ الناسخِ ولا أثرَ له، وعَجِبْتُ من غَفْلَةِ الشيخ عن ذلك. قوله: {التي فِي الصدور} صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ. وهل هو توكيدٌ؛ لأنَّ القلوبَ لا تكونُ في غير الصدور، أو لها معنى زائدٌ؟ كما قال الزمخشري: «الذي قد تُعُوْرِف واعتُقِدَ أنَّ العمى في الحقيقة مكانُه البصرُ، وهو أن تصابَ الحَدَقَةُ بما يَطْمِسُ نورَها، واستعمالُه في القلبِ استعارةٌ ومَثَلٌ. فلمَّا أُريدَ إثباتُ ما هو خلافُ المعتقدِ مِنْ نسبةِ العمى إلى القلوبِ حقيقةً، ونفيُه عن الأبصارِ، احتاج هذا التصويرُ إلى زيادةِ تعيينٍ وفَضْلِ تعريفٍ؛ ليتقرَّرَ أنَّ مكانَ العمى هو القلوبُ لا الأبصارُ، كما تقولُ: ليس المَضَاءُ للسَّيْفَ، ولكنه لِلِسانِك الذي بينَ فَكَّيْكَ. فقولُك:» الذي بين فَكَّيْكَ «تقريرٌ لِما ادَّعَيْتَه لِلِسانِه وتثبيتٌ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَضاءِ هو هو لا غير، وكأنَّك قلتَ: ما نَفَيْتُ المَضاءَ عن السيفِ وأثبتَّه لِلِسانِك فلتةً مني ولا سَهواً، ولكن تَعَمَّدْتُ به إيَّاه بعينه تَعَمُّداً.

وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم قولَه:» تَعَمَّدْتُ به إياه «وجعل هذه العبارةَ عُجْمَةً من حيث إنه فَصَلَ الضميرَ، وليس من مواضعِ فَصْلِه، وكان صوابُه أن يقول: تعمَّدْتُه به كما تقول:» السيفُ ضربتُك به «لا» ضربْتُ به إياك «. قلت: وقد تقدَّم لك نظيرُ هذا الردِّ والجوابُ عنه بما أُجيب عن قولِه تعالى: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] ، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] : وهو أنه مع قَصْدِ تقديمِ غيرِ الضميرِ عليه لغرضٍ يمتنعُ اتصالُه، وأيُّ خطأ في مثل هذا حتى يَدَّعي العُجْمَةَ على فصيحٍ شَهِدَ له بذلك أعداؤُه، وإن كان مُخْطِئاً في بعضِ الاعتقاداتِ ممَّا لا تَعَلُّقَ له فيما نحن بصدِده؟ وقال الإِمامُ فخر الدين: «وفيه عندي وجهٌ آخرُ: وهو أنَّ القلبَ قد يُجْعَلُ كنايةً عن الخاطرِ والتدبُّرِ، كقولِه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] . وعند قومٍ أنَّ محلَّ الذِّكْرِ هو الدماغُ، فاللهُ تعالى بيَّن أنَّ مَحَلَّ ذلك هو الصدرُ» . وفي محلِّ العقلِ خلافٌ مشهورٌ، وإلى الأولِ مَيْلُ ابنِ عطية قال: «هو مبالغةٌ كما تقول: نظرتُ إليه بعيني، وكقوله: يقولون بأَفْواههم» . قلت: وقد أَبْدَيْتُ فائدةً في قوله «بأفواههم» زيادةً على التأكيد.

47

قوله: {مِّمَّا تَعُدُّونَ} : قرأ الأخَوان وابن كثير «يَعُدُّون» بياءِ الغَيْبة. والباقون بتاءِ الخطاب وهما واضحتان.

48

قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} : قد تقدَّم نظيرُها. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ عُطِفَتْ الأولى بالفاء، وهذه بالواو؟ قلت الأولى وَقَعَتْ بدلاً مِنْ قولِه {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} و [أمَّا] هذه فحكمُها حكمُ الجملتين قبلها المعطوفَتَيْن بالواو، أعني قولَه {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} .

51

قوله: {مُعَاجِزِينَ} : قرأ أبو عمرو وابن كثير بالتشديد في الجيم هنا، وفي حرفَيْ سبأ، والباقون «مُعاجزين» في الأماكن الثلاثة. والجحدري كقراءة ابن كثير وأبي عمرو في جميع القرآن وابن الزبير: «مُعْجِزين» بسكون العين. فأمَّا الأُولى ففيها وجهان، أحدُهما: قال الفارسي: معناه: ناسِبين أصحابَ النبيِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى العَجْز نحو: فَسَّقْتُه أي نَسَبْتَه إلى الفسق «. والثاني: أنها للتكثير. ومعناها: مُثَبِّطِيْنَ الناسَ عن الإِيمان. وأمَّا الثانيةُ فمعناها: ظانِّين أنهم يَعْجِزوننا. وقيل: معاندِين. وقال

الزمخشري:» عاجَزَه: سابقَه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما في طَلَب إعجازِ الآخرِ عن اللِّحاق به. فإذا سبقه قيل: أعجزه وعَجَزه. فالمعنى: سابقين أو مُسابقين في زعمهم وتقديرِهم طامِعين أنَّ كيدَهم للإِسلامِ يَتِمُّ لهم. والمعنى: سَعَوا في معناها بالفسادِ «. وقال أبو البقاء: إنَّ معاجزين في معنى المُشَدَّدِ، مثلَ عاهَدَ وعَهَّد. وقيل: عاجَزَ سابَقَ، وعَجَز سَبَق» .

52

قوله: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان} : في هذه الجملةِ بعد «إلاَّ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من «رسول» والمعنى: وما أَرْسَلْناه إلاَّ حالُهُ هذه، والحالُ محصورةً. الثاني: أنها في محلِّ الصفةِ ل «رسول» ، فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعها بالجرِّ باعتبارِ لفظِ الموصوف، وبالنصبِ باعتبارِ محلِّه؛ فإنَّ «مِنْ» مزيدةٌ فيه. الثالث: أنَّها في موضعِ استثناءٍ من غيرِ الجنس. قاله أبو البقاء. يعني أنه استثناءٌ منطقعٌ. و «إذا» هذه يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً، وهو الظاهر، وإليه ذهب الحوفيُّ، وأَنْ تكونَ لمجردِ الظرفية. قال الشيخ: «ونَصَّوا على أنَّه يَليها في النفي يعني» إلاَّ «المضارعُ بلا شرطٍ نحو: ما زيدٌ إلاَّ يفعلُ، وما رأيتُ زيداً إلاَّ يفعلُ، والماضي بشرطِ تقدُّم فِعلٍ نحو: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ} [يس: 30]

أو مصاحبةِ قد [نحو:] » ما زيدٌ إلاَّ قد فعل «. وما جاء بعد» إلاَّ «في الآية جملةُ شرطية، ولم يَلِها ماضٍ مصحوبٌ ب» قَدْ «ولا عارٍ منها. فإنْ صَحَّ ما نَصُّوا عليه يُؤَوَّل على أنَّ» إذا «جُرِّدَتْ للظرفية ولا شرطَ فيها وفُصِل بها بين» إلاَّ «والفعلِ الذي هو» أَلْقى «، وهو فصلٌ جائز، فتكونُ» إلاَّ «قد وَلِيها ماضٍ في التقديرِ ووُجِد شرطُه: وهو تقدُّم فعلٍ قبل» إلاَّ «وهو» وما أَرْسَلْنا «. قلت: ولا حاجةَ إلى هذا التكليفِ المُخْرِجِ للآيةِ عن معناها. بل هو جملةٌ شرطيةٌ: إمَّا حالٌ، أو صفةٌ، أو استثناء، كقوله: {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ} [الغاشية: 23] وكيف يدعى الفصلُ بها وبالفعلِ بعدَها بين» إلاَّ «وبين» ألقى «مِنْ غير ضرورةٍ تدعو إليه ومع عدم صحةِ المعنى؟ وقوله تعالى: {إِذَا تمنى} : إنما أُفْرِد الضميرُ، وإن تقدَّمه شيئان معطوفٌ أحدُهما على الآخر بالواو؛ لأنَّ في الكلام حذفاً تقديرُه: وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلِك مِنْ رسولٍ إلاَّ إذا تمنَّى ولا نبيٍّ إلاَّ إذا تمنَّى كقولِه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . والحذفُ: إمَّا من الأول أو من الثاني. والضميرُ في» أُمْنِيَّتِه «فيه قولان، أحدُهما: وهو الذين ينبغي أن يكونَ أنه ضميرُ الشيطان. والثاني: أنه ضميرُ الرسولِ، ورَوَوْا في ذلك تفاسيرَ اللهُ أعلم بصحتها.

53

قوله: {لِّيَجْعَلَ} : في متعلَّق هذه اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها متعلقةٌ ب «يُحْكِم» أي: يُحْكِم اللهُ آياتِه ليجعلَ. وقولُه: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} جملةُ اعتراضٍ. وإليه نحا الحوفيُّ. والثاني: أنها متعلقةٌ

ب «يَنْسَخُ» وإليه نحا ابن عطية. وهو ظاهرٌ أيضاً. الثالث: أنها متعلقةٌ بألقى، وليس بظاهر. وفي اللامِ قولان، أحدهما: أنها للعلةِ، والثاني: أنها للعاقبةِ. و «ما» في قولِه {مَا يُلْقِي} الظاهرُ: أنَّها/ بمعنى الذي، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً. قوله: {والقاسية} أل في «القاسية» موصولةٌ، والصفةُ صلتُها، و «قلوبُهم» فاعلٌ بها، والضميرُ المضافُ إليه هو عائدُ الموصول وأُنِّثَتْ الصلةُ لأنَّ مرفوعَها مؤنثُ مجازي، ولو وُضع فعلٌ موضعَها لجاز تأنيثُه. و «القاسيةِ» معطوفٌ على «الذين» أي: فتنةً للذين في قلوبِهم مَرَضٌ وفتنةً للقاسيةِ قلوبُهم. قوله: {وَإِنَّ الظالمين} مِنْ وَضْع الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ؛ إذ الأصلُ: «وإنهم في ضلال» ولكن أُبْرِزُوا ظاهرين للشهادةِ عليهم بهذه الصفةِ الذَّميمةِ.

54

قوله: {وَلِيَعْلَمَ الذين} : عطفٌ على «ليجعلَ» عطفَ علةٍ على مثلِها. والضميرُ في «أنَّه» فيه قولان، أحدهما وإليه ذهب الزمخشري أنه عائدٌ على تمكينِ الشيطانِ أي: ليَعْلَمَ المؤمنون ِأن تمكينَ الشيطانِ هو الحق. الثاني وإليه نحا ابن عطية أنه عائدٌ على القرآنِ. وهو وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ فهو في قوة المنطوق. قوله: {فَيُؤْمِنُواْ} عطفٌ على «وليعلمَ» و «فَتُخْبِتَ» عطفٌ عليه. وما أحسنَ ما وقعَتْ هذه الفاءاتُ. وقرأ العامَّةُ «لهادِيْ الذين» بالإِضافةِ تخفيفاً. وابنُ أبي عبلة وأبو حيوةَ بتنوينِ الصفةِ وإعمالِها في الموصول.

55

والمرِْيَةُ والمُرْيَةُ بالكسر والضم لغتان مشهورتان. وظاهرُ كلامِ أبي البقاء أنهما قراءتان، ولا أحفظ الضم هنا. والضمير في «منه» قيل: يعودُ على القرآن. وقيل: على الرسول. وقيل: على ما ألقاه الشيطان. قوله: {عَقِيمٍ} العَقيم: من العُقْم. وفيه قولان، أحدهما: أنه السَّدُّ يقال: امرأةٌ مَعْقُومَةُ الرَّحِمِ أي: مسدودتُه عن الولادة. وهذا قول أبي عبيد. والثاني: أن أصلَه القطعُ. ومنه «المُلْك عَقيم» أي: لأنه يقطع صلةَ الرحم بالتزاحُمِ عليه. ومنه العقيمُ لانقطاع ولادِتها. والعُقْم: انقطاعُ الخير، ومنه «يومٌ عقيم» . قيل: لأنَّه لا ليلةَ بعده ولا يومَ فشُبِّه بمَنْ انقطع نَسْلُه. هذا إنْ أريد به يومُ القيامة. وإن أريد به يومُ بدرٍ فقيل: لأنَّ أبناءَ الحربِ تُقْتَلُ فيه، فكأنَّ النساء لم تَلِدْهُنَّ، فيكُنَّ عُقُماً. ويقال: رجل عقيم وامرأة عقيمة أي: لا يُولد لهما، والجمعُ عُقُم.

56

قوله: {يَوْمَئِذٍ} : منصوبٌ بما تَضَمَّنه «لله» من الاستقرارِ لوقوعه خبراً. و «يَحْكم» يجوزُ أن يكونَ حالاً من اسم الله، وأن يكون مستأنفاً. والتنوينُ في «يومئذٍ» عوضٌ من جملة فقدَّرها الزمخشري: «يوم يؤمنون» وهو لازمٌ لزوال المِرْيَةِ. وقدَّره أيضاً «يوم تزولُ مِرْيَتُهم» .

57

قوله: {والذين كَفَرُواْ} : مبتدأ. وقوله: {فأولئك} وما بعده خبرُه. ودَخَلَتِ الفاءُ لِما عَرَفْتَ مِنْ تضمُّنِ المبتدأ معنى الشرطِ بالشرطِ المذكور. و «لهم» يُحتمل أن يكونَ خبراً عن «أولئك» . و «عذاب» فاعلٌ به لاعتمادِه على المخبرِ عنه، وإن يكونَ خبراً مقدَّماً، وما بعده مبتدأُ، والجملةُ خبرُ «أولئك» .

58

قوله: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ} : جوابُ قَسَمٍ مقدرٍ. والجملةُ القسميةُ وجوابُها خبرُ قولِه: {والذين هَاجَرُواْ} وفيه دليلٌ على وقوعِ الجملةِ القسَميةِ خبراً لمبتدأ. ومَنْ يَمْنَعُ يُضْمِرْ قولاً هو الخبر تُحكى به هذه الجملةُ القَسَمية. وهو قولٌ مرجوح. قوله: {رِزْقاً} يجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً على أنه من باب الرِّعْي والذِّبْح أي: مرزوقاً حسناً، وأَنْ يكونَ مصدراً مؤكَّداً. وقوله: {ثُمَّ قتلوا} وقوله «مُدْخَلاً» قد تقدم الخلافُ في القراءةِ بهما في آل عمران وفي النساء.

59

والجملُة مِنْ «لَيُدْخِلَنَّهُمْ» يجوزُ أن تكونَ بدلاً مِنْ «لَيَرْزُقَنَّهم» ، وأن تكونَ مستأنفةً.

60

قوله: {ذلك} : خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك. وما بعده مستأنفٌ. والباء في قوله: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} للسببيةِ في الموضعين. قاله أبو البقاء. الذين يظهر أن الأُولى يُشبه أن تكونَ للآله. و {وَمَنْ عَاقَبَ} مبتدأ، خبرُه {لَيَنصُرَنَّهُ الله} .

61

قوله: {ذلك} : مبتدأ، و {بِأَنَّ الله} خبرُه أي: ذلك النصر بسببِ أنَّ الله يُوْلج. وقرأ العامَّةُ و «أنَّ ما» عطفاً على الأولى والحسن بكسرِها استنافاً.

62

قوله: {هُوَ الحق} : يجوز أَنْ يكونَ فَصلآً ومبتدأً. وجوَّز أبو البقاء أن يكونَ توكيداً. وبه بدأ. وهو غلط؛ لأنَّ المضمرَ لا يُؤَكِّدُ المُظْهَرَ، ولكان صيغةُ النصبِ أَوْلَى به من الرفعِ فيُقال: «إياه» لأنَّ المتبوعَ منصوبٌ. وقرأ الأخَوان وحفصٌ وأبو عمروٍ هنا وفي لقمان «يَدْعُون» بالياء من تحتُ. والباقون بالتاءِ من فوقُ. والفعلُ مبنىٌّ للفاعلِ. وقرأ مجاهدٌ واليماني بالياء من تحتُ مبنياً للمفعول. والواوُ التي هي ضميرٌ تعودُ على «ما» على معناها والمرادُ بها الأصنامُ أو الشياطينُ.

63

قوله: {فَتُصْبِحُ} : فيه قولان، أحدهما: أنه مضارعٌ لفظاً ماضٍ معنى، تقديرُه فأصبحَتْ، فهو عطفٌ على أَنْزَل. قاله أبو البقاء. ثم قال بعد أن عطف على «أَنْزل» : «فلا موضعَ له إذن» وهو كلامٌ متهافِتٌ؛ لأنَّ عَطْفَه على «أَنْزَلَ» يَقْتضي أن يكونَ له محلٌّ من الإِعرابِ: وهو الرفعُ خبراً ل «أنَّ» ، لكنه لا يجوزُ لعدم الرابطِ. والثاني: أنه على بابِه، ورَفْعُه على

الاستئنافِ. قال/ أبو البقاء: «فهي أي القصة، وتُصْبِحُ الخبر» . قلت: ولا حاجةَ إلى تقديرِ مبتدأ، بل هذه جملةٌ فعليةٌ مستأنفةٌ، ولا سيما وقَدَّر المبتدأ ضميرَ القصة ثم حذفه وهو لا يجوز؛ لأنه لا يؤتى بضميرِ القصة إلاَّ للتأكيدِ والتعظيم، والحذفُ يُنافيه. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: هلا قيل: فَأَصْبحت، ولِمَ صُرِفَ إلى لفظِ المضارع؟ قلت: لنكتةٍ فيه: وهي إفادةُ بقاءِ أثرِ المطرِ زماناً بعد زمانٍ كما تقول: أنعم عليَّ فلانٌ عامَ كذا فأرُوْح وأَغْدوا شاكراً له. ولو قلت: رُحْتُ وغَدَوْتُ لم يَقَعْ ذلك الموقعَ. فإن قلت: فما له رُفِعَ ولم يُنْصَبْ جواباً للاستفهام؟ قلت: لو نُصِب لأعطى عكسَ الغرضِ لأنَّ معناه إثباتُ الاخضرارِ، فينقلبُ بالنصب إلى نفي الاخضرار. مثالُه أن تقولَ لصاحبِك: ألم تَرَ أني أنعمتُ عليك فتشكر» إن نَصَبْتَ فأنتَ نافٍ لشكره شاكٍ تفريطَه [فيه] ، وإن رَفَعْتَه فأنت مُثْبِتٌ للشكرِ، وهذا وأمثالُه ممَّا يجب أَنْ يَرْغَبَ له من اتَّسم بالعلم في علم الإِعراب وتوقير أهله «. وقال ابنُ عطية:» قوله: «فتصبحُ» بمنزلة قوله فتضحى أو تصير، عبارةٌ عن استعجالِها إثْرَ نزولِ الماءِ واستمرارها لذلك عادةً. ورَفْعُ قولِه «فتُصْبِحُ» من حيث الآيةُ خبرٌ، والفاء عاطفةٌ وليسَتْ بجواب، لأنَّ كونَها جواباً لقوله: {أَلَمْ تَرَ} فاسدُ المعنى «. قال الشيخ:» ولم يبين هو ولا الزمخشري قبله كيف يكون النصبُ نافياً

للاخضرار، إلاَّ كونَ المعنى فاسداً؟ قال سيبويه: «وسألتُه يعني الخليل عن {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} فقال: هذا واجبٌ وتنبيه. كأنك قلت: أتسمعُ أنزل اللهُ من السماءِ ماء فكان كذا وكذا» . قال ابن خروف: وقوله: «هذا واجبٌ» وقوله: «فكان كذا» يريدُ أنهما ماضيان، وفَسَّر الكلام ب «أتسمع ليريَكَ أنه لا يتصل بالاستفهام لضعفِ حكمِ الاستفهامِ فيه. وقال بعضُ شُرَّاح الكتاب:» فتصبحُ «لا يمكن نصبُه؛ لأنَّ الكلامَ واجب. ألا ترى أن المعنى: أن اللهَ أنزلَ، فالأرضُ هذه حالُها. وقال الفراء:» ألم تَرَ «خبرٌ كما تقولُ في الكلام: علم أنَّ الله يفعل كذا فيكون كذا» . ويقول: «إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا؛ لأنَّ النفيَ إذا دخل عليه الاستفهامُ، وإن كان يقتضي تقريراً في بعضِ الكلام هو مُعامَلٌ معاملةَ النفيِ المَحْضِ في الجوابَ» . ألا ترى إلى قولِه تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وكذلك الجوابُ بالفاءِ إذا أَجَبْتَ النفيَ كان على معنيين في كل منهما يَنْتفي الجوابُ. فإذا قلت: «ما تأتِيْنا فتحدِّثَنا» بالنصب، فالمعنى: ما تأتينا محدِّثاً، وإنما تأتينا ولا تحدث. ويجوزُ ِأن يكون المعنى: أنك لا تأتي فكيف تحدّثُ؟ فالحديثُ منتفٍ في الحالتين، والتقريرُ بأداةِ الاستفهام كالنفي المَحْض في الجواب يُثْبت ما دَخَلْتْه الهمزةُ، وينتفي الجوابُ، فيلزَمُ من هذا الذي قَرَّرْناه إثباتُ الرؤيةِ وانتفاءُ الاخضرارِ، وهو خلافُ المقصودِ. وأيضاً فإنَّ جوابَ الاستفهامِ ينعقدُ منه مع الاستفهامِ السابقِ شَرْطٌ وجزاءٌ كقوله:

3396 - ألم تَسْألْ فَتُخْبِرْكَ الرُّسومُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يتقدر: إنْ تسألْ تخبرْك الرسوم، وهنا لا يتقدَّر: إنْ تَرَ إنزالَ المطر تصبح الأرضُ مخضرةً؛ لأنَّ اخضرارَها ليس مترتباً على عِلْمِك أو رؤيتِك، إنما هو مترتبٌ على الإِنزال وإنما عَبَّر بالمضارعِ؛ لأن فيه تصويراً للهيئة التي الأرضُ عليها والحالةِ التي لابَسَتِ الأرضَ، والماضي يفيد انقطاعَ الشيءِ. وهذا كقولِ جَحْدَرِ بنِ مَعُونة يصف حاله مع أشدِّ نازلةٍ في قصةٍ جَرَتْ له مع الحجاج ابن يوسف الثقفي، وهي أبياتٌ فمنها: / 3397 - يَسْمُوا بناظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فيهما ... لِما أَجالهما شعاعَ سِراج لَمَّا نَزَلْتُ بحُصْنِ أَزْبَرَ مُهْصِرٍ ... للقِرْن أرواحَ العدا مَجَّاجِ فأكرٌّ أحملُ وهو يُقعي باسْته ... فإذا يعودُ فراجعٌ أدراجي وعلمْتُ أني إنْ أَبَيْتَ نِزالَه ... أني من الحَجَّاج لستُ بناجي فقوله: «فأكرٌّ» تصويرٌ للحالةِ التي لابَسَها «. قلت: أمَّا قولُه» وأيضاً فإنَّ جوابَ الاستفهامِ ينعقدُ منه مع الاستفهامِ «إلى قولِه:» إنما هو مترتِّبٌ على الإِنزال «منتزعٌ مِنْ كلامِ أبي البقاء. قال

أبو البقاء:» إنما رُفع الفعلُ هنا وإنْ كان قبلَه استفهامٌ لأمرين، أحدهما: أنه استفهامٌ بمعنى الخبر أي: قد رأيت، فلا يكون له جوابٌ. الثاني: أنَّ ما بعدَ الفاءِ ينتصِبُ إذا كان المستفهمُ عنه سبباً له، ورؤيته لإِنزالِ الماءِ لا يُوْجِبُ اخضرارَ الأرض، وإنما يجبُ عن الماء «وأمَّا قولُه:» وإنما عَبَّر بالمضارع «فهو معنى كلامِ الزمخشري بعينه، وإنما غَيَّر عبارتَه وأَوْسَعَها. وقوله:» فتصبحُ «استدلَّ به بعضُهم على أن الفاءَ لا تقتضي التعقيبَ قال:» لأنَّ اخضرارَها متراخٍ عن إنزالِ الماء، هذا بالمشاهدةِ «. وقد أُجيب عن ذلك بما نقله عكرمةٌ: مِنْ أَنَّ أرضَ مكة وتهامةَ على ما ذُكر، وأنها تُمْطِرُ الليلةَ فتصبح الأرضُ غُدْوَةً خَضِرةً، فالفاءُ على بابها. قال ابن عطية:» وشاهَدْتُ هذا في السُّوس الأقصى، نَزَل المطر ليلاً بعد قَحْط، فأصبحت تلك الأرضُ الرَّمِلةُ التي تَسْفيها الرياحُ قد اخضرَّت بنباتٍ ضعيف «وقيل: تراخي كلِّ شيء بحَسَبه. وقيل: ثَمَّ جملٌ محذوفةٌ قبل الفاءِ تقديره: فتهتَزُّ وتَرْبُو وتَنْبُتُ فتصبحُ. يبيِّنُ ذلك قولُه: {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ} وهذا من الحذفِ الذي يَدُلُّ عليه فَحْوَى الكلام كقوله تعالى: {فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا} [يوسف: 45-46] . إلى آخر القصة. و «تُصْبِحُ» يجوزُ أَنْ تكونَ الناقصةَ، وأَنْ تكونَ التامَّة. و «مُخْضَرَّةً» حالٌ. قاله أبو البقاء. وفيه بُعْدٌ عن المعنى إذ يصير التقديرُ: فَتَدخُلُ الأرضُ في وقتِ الصباح على هذه الحالِ. ويجوزُ فيها أيضاً أن تكونَ على بابِها من الدلالةِ على اقترانِ مضمونِ الجملة بهذا الزمنِ الخاصِّ. وإنما خَصَّ هذا

الوقتَ لأن الخضرةَ والبساتينَ أبهجُ ما ترى فيه. ويجوزُ أن تكونَ بمعنى تَصير. وقرا العامَّةُ بضمِّ الميم وتشديدِ الراء اسمَ فاعلٍ، مِنْ اخْضَرَّت فهي مُخْضَرَّةٌ. والأصلُ مُخْضَرِرَة بكسر الراء الأولى، فأُدْغِمَتْ في مثلها. وقرأ بعضُهم «مَخْضَرَة» بفتح الميم وتخفيفِ الراء بزنة مَبْقَلَة ومَسْبَعَة. والمعنى: ذات خُضْرَواتٍ وذات سِباعٍ وذات بَقْلٍ.

65

قوله: {والفلك} : العامَّةُ على نصبِ «الفلك» وفيه وجهان، أحدهما: أنها عطفٌ على {مَّا فِي الأرض} أي: سَخَّر لكم ما في الأرض، وسَخَّر لكم الفلك. وأفردها بالذِّكْرِ، وإن انْدَرَجَتْ بطريقِ العمومِ تحت «ما» . ومن قوله: {مَّا فِي الأرض} لظهورِ الامتنانِ بها ولعجيب تسخيرِها دونَ سائر المُسَخَّرات. و «تَجْري» على هذا حال. الثاني: أنها عَطْفٌ على الجلالة بتقدير: ألم تَرَ أن الفلكَ تَجْري في البحر، فتجري خبرٌ على هذا. وضمَّ لامَ «الفُلُكَ» هنا الكسائي فيما رواه عن الحسن، وهي قراءةُ ابن مقسم. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأعرج وأبو حيوة والزعفراني برفع «والفلكُ» على الابتداء وتجري بعده الخبر. ويجوز أن يكونَ ارتفاعُه عطفاً على محلِّ اسم «أنَّ» عند مَنْ يُجَوِّز ذلك نحو: «إنَّ زيداً وعمروٌ قائمان» وعلى هذا ف «تجري» حال أيضاً. و «بأمرِه» الباءُ/ للسببية. قوله: {أَن تَقَعَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ لأنها على حَذْفِ حرفِ الجرِّ تقديرُه:

من أن تقعَ. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ فقط؛ لأنها بدلٌ من «السماء» بدلُ اشتمالٍ. أي: ويُمْسِكُ وقوعَها يَمْنَعُه. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على المفعولِ مِنْ أجلِه، فالبصريون يقدِّرون: كراهَة أن تقعَ. والكوفيون: لئلا تقعَ. قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} في هذا الجارِّ وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلقٌ ب «تقعَ» أي: إلاَّ بإذنه فتقع. والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بيُمْسِكُ. قال ابن عطية: «ويحتمل أَنْ يعودَ قولُه {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} على الإِمساك، لأنَّ الكلامَ يَقْتضي بغير عَمَدٍ ونحوَه، كأنه أراد: إلاَّ بإذنِه فبه يُمْسِكها» قال الشيخ: «ولو كان على ما قال لكان التركيبُ: بإذنِه، دونَ أداةِ الاستثناءِ. ويكونُ التقديرُ: ويُمْسِك السماءَ بإذنه» . قلت: وهذا الاستثناءُ مُفَرَّغٌ، ولا يقعُ في موجَبٍ، لكنه لَمَّا كان الكلامُ قبلَه في قوةِ النفي ساغَ ذلك، إذ التقديرُ: لا يَتْرُكُها تقعُ إلاَّ بإذنه. والذي يظهرُ أنَّ هذه الباءَ حاليةٌ أي: إلاَّ ملتبسةً بأمرِه.

67

قوله: {هُمْ نَاسِكُوهُ} : هذه الجملةُ صفةٌ ل مَنْسَكاً. وقد تقدَّم أنه يُقْرَأُ بالفتح والكسر. وتقدَّم الخلافُ فيه: هل هو مصدرٌ أو مكانٌ؟ وقال ابنُ عطية: «ناسِكوه يُعطي أنَّ المَنْسَك المصدرُ، ولو كان مكاناً لقال: ناسِكون فيه» يعني أنَّ الفعلَ لا يتعدى إلى ضمير الظرفِ إلاَّ بواسطةِ «في» . وما قاله غيرُ لازمٍ؛ لأنه قد يُتَّسع في الظرف فيجري مجرى المفعولِ به، فيصِلُ الفعلُ إلى ضميرِه بنفسه، وكذا ما عَمِلَ عَمَلَ الفعل. ومن الاتِّساع في ظرفِ الزمان قوله:

3398 - ويومٍ شَهِدْنَاه سُلَيْمَى وعامراً ... قليلٍ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ ومن الاِّتساع في ظرفِ المكان قولُه: 3399 - ومَشْرَبٍ أَشْرَبُه وَشِيْلِ ... لا أَجِنِ الطَّعْمِ ولا وَبِيْلِ يريد: أشرب فيه. قوله: {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ} وقُرِىء بالنون الخفيفة. وقرأ أبو مجلز: «فلا يَنْزِعُنَّك» مِنْ كذا أي: قَلَعْتُه منه. وقال الزجاج: «هو مِنْ نازَعْتُه فَنَزَعْته أنْزَعُه أي: غَلَبْتُهُ في المنازَعَة» . ومجيءُ هذهِ الآيةِ كقولِه تعالى: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} وقولهم: لا أُرَيَنَّك ههنا. وهنا جاء قولُه {لِّكُلِّ أُمَّةٍ} من غير واوٍ عطفٍ، بخلافِ ما تَقَدَّم مِنْ نظيرتِها فإنها بواوِ عطفٍ. قال الزمخشري: «لأنَّ» تلك «وَقَعَتْ مع ما يُدانيها ويناسِبُها من الآيِ الواردةِ في أمر النسائِكِ، فَعُطِفَتْ على أخواتها، وأمَّا هذه فواقعةٌ مع أباعدَ مِنْ معناها فلم تجد مَعْطَفاً.

72

قوله: {تَعْرِفُ} : العامَّةُ على «تَعْرِف» خطاباً مبنياً للفاعل. «المُنْكَرَ» مفعول به. وعيسى بن عمر «يُعْرَفُ» بالياءِ من تحتُ مبنياً

للمفعول، و «المنكرُ» مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ. والمُنْكَرُ اسمُ مصدرٍ بمعنى الإِنكارِ. وقوله: {الذين كَفَرُواْ} من إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ للزيادةِ عليهم بذلك. قوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} هذه حالٌ: إمَّا مِنَ الموصولِ، وإنْ كان مضافاً إليه، لأنَّ المضافَ جزؤُه، وإمَّا من الوجوه لأنها يُعَبَّر بها عن أصحابِها، كقوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40] ثم قال: «أولئك هم» . و «يَسْطُون» ضُمِّن معنى يَبْطِشُون فيعدى تعديَته، وإلاَّ فهو متعدٍّ ب على يُقال: سَطا عليه. وأصلُه القهرُ والغَلَبَةُ. وقيل: إظهارُ ما يُهَوِّلُ للإِخافةِ. ولفلان سَطْوَةٌ أي: تَسَلُّطٌ وقهرٌ. قوله: «النار» يُقرأ بالحركاتِ الثلاث: فالرفعُ مِنْ وجهين. أحدُهما: الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ الجملةُ مِنْ «وَعَدَها الله» والجملةُ لا محلَّ لها فإنها مفسِّرةٌ للشرِّ المتقدِّمِ. كأنه قيل: ما شَرٌّ من ذلك؟ فقيل: النارُ وعدها الله. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ كأنه قيل: ما شرُّ من ذلك؟ فقيل: النارُ أي: هو النارُ، وحينئذٍ يجوزُ في «وعدها الله» الرفعُ على كونِها خبراً بعد خبرٍ. وأُجيز أن تكون بدلاً من «النار» . وفيه نظرٌ: من حيث إنَّ المُبْدَلَ منه مفردٌ. وقد يُجاب عنه: بأنَّ الجملةَ في تأويلِ مفردٍ، وتكونُ بدلَ اشتمالٍ. كأنه قيل النارُ وعدها اللهُ الكفارَ. وأجيز أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها. ولا يجوزُ ِأَنْ تكونَ حالاً. قال أبو البقاء: «لأنه ليس في الجملةِ ما يَصْلُح أَنْ يَعْمَلَ في

الحال» . وظاهرُ نَقْلِ الشيخ عن الزمخشري أنه يُجيز كونَها حالاً فقال: «وأجاز الزمخشريُّ اَنْ تكونَ» النار «مبتدأً، و» وعدَها «خبرٌ، وأَنْ يكونَ حالاً على الإِعرابِ الأول» . انتهى. والإِعرابُ الأولُ هو كونُ «النار» خبرَ مبتدأ مضمرِ. والزمخشريُّ لم يجعَلْها حالاً إلاَّ إذا نَصَبْتَ «النار» أو جَرَرْتَها بإضمار «قد» هذا نصُّه. وإنما مَنَعَ ذلك لِما تقدَّم من قولِ أبي البقاء، وهو عدمُ العاملِ. والنَصبُ وهو قراءةُ زيدِ بن علي وابن أبي عبلة من ثلاثةِ أوجهٍ، أحدها: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الفعلُ الظاهرُ، والمسألةُ من الاشتغال. الثاني: أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ، قاله الزمخشري. الثالث: أن ينتصبَ بإضمارِ أعني، وهو قريبٌ ممَّا قبله أو هو هو. / والجرُّ وهو قراءةُ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح على البدل مِنْ «شر» . والضميرُ في «وعدها» . قال الشيخ: «الظاهرُ أنَّه هو المفعولُ الأولُ على أنَّه تعالى وَعَدَ النارَ بالكفار أن يُطْعِمَها إيَّاهم، ألا ترى إلى قولِه تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] ويجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ هو المفعولَ الثاني،

و {الذين كَفَرُواْ} هو المفعولَ الأولَ كما قال: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 68] . قلت: ينبغي أن يتعيَّنَ هذا الثاني؛ لأنَّه متى اجتمع بعدما يتعدَّى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارةً عن الأول، فالفاعلُ المعنويُّ رتبتُه التقديمُ وهو المفعولُ الأولُ. ونعني بالفاعلِ المعنويِّ مَنْ يتأتَّى منه فِعْلٌ. فإذا قلتَ: وَعَدْتُ زيداً ديناراً فالدينار هو المفعول؛ لأنه لا يتأتَّى من فِعْلٌ، وهو نظير:» أعطيت زيداً درهماً «ف» زيدٌ «هو الفاعلُ لأنه آخذُ للدرهم. قوله: {وَبِئْسَ المصير} المخصوصُ محذوفٌ. تقديرُه: وبئس المصيرُ هي النارُ.

73

قوله: {ضُرِبَ مَثَلٌ} : قال الأخفش: «ليس هنا مَثَلٌ، وإنما المعنى: جَعَلَ الكفارُ للهِ مثلاً» وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: الذي جاء به ليس مَثَلاً فكيف سَمَّاه مَثَلاً؟ قلت: قد سُمِّيَتِ الصفةُ والقصةُ الرائعةُ المتلقَّاةُ بالاستحسانِ والاستغرابِ مثلاً؛ تشبيهاً لها ببعض الأمثالِ المسيَّرةِ لكونِها مستغربةً مستحْسنةً» . وقال غيره: هو مَثَلٌ «من حيث المعنى؛ لأنه ضُرِب مثلُ مَنْ يعبد الأصنامَ بمن يعبد ما لا يخلقُ ذُباباً» . وقرأ العامَّةُ «تَدْعُون» بتاء الخطاب. والحسن ويعقوب وهارون

ومحبوب عن أبي عمرو بالياء من تحت. وهو في كلتيهما مبنيٌّ للفاعل. وموسى الأسواري واليماني: «يُدْعَوْن» بالياء مِنْ أسفلُ مبنياً للمفعول. قوله: {لَن يَخْلُقُواْ} جعل الزمخشري نَفْي «لن» للتأبيد وقد تقدَّم البحث معه في ذلك. والذبابُ معروفٌ. ويُجمع على ذِبَّان وذُبَّان بكسر الذال وضمِّها وعلى ذُبّ. والمِذَبَّة ما يُطْرَدُ بها الذبابُ. وهو اسمُ جنسٍ واحدتُه ذُبابة، يقع للمذكورِ والمؤنثِ فيفرَّقُ بالوصف. قوله: {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} قال الزمخشري: «نصبٌ على الحالِ كأنه قال: يَسْتحيل خَلْقُهم الذبابَ مشروطاً [عليهم] اجتماعُهم جميعاً لخَلْقِه وتعاونُهم عليه» وقد تقدم غيرَ مرة أنَّ هذه الواوَ عاطفةٌ هذه الجملةَ الحاليةَ على حال محذوفةٍ أي: انتفى خَلْقُهم الذبابَ على كلِّ حال، ولو في هذه الحالِ المقتضيةِ لخَلْقِهِم لأجلِ الذباب، أو لأجلِ الصنَمِ. والسَّلْبُ: اختطافُ الشيءِ بسرعة. يُقال: سَلَبَه نِعْمَتَه. والسلَبُ: ما على القتيل. وفي الحديث: «مَنْ قتل قتيلاً فله سَلَبُه» والاستنقاذ: استفعالٌ بمعنى الإفعال يقال: أنقذه مِنْ كذا أي: أنجاه منه، وخَلَّصه. ومثله أَبَلَّ المريضُ واسْتَبَلَّ وقوله: «ضَعُفَ الطالبُ» قيل هو إخبار. وقيل: هو تعجُّبٌ والأولُ أظهرُ.

75

قوله: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} : قيل: تقديرُه: ومن الناسِ رسلاً. ولا حاجةَ لذلك، بل قوله {وَمِنَ الناس} مقدَّرُ التقديمِ أي: يصطفي من الملائكة، ومن الناس رسلاً.

78

قوله: {حَقَّ جِهَادِهِ} : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على المصدرِ. وهو واضح. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: جهاداً حَقَّ جهادِه» وفيه نظر من حيث إنَّ هذا معرفةٌ فكيف يُجعل صفةً لنكرةِ؟ قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: ما وَجْهُ هذه الإِضافةِ، وكان القياسُ حَقَّ الجهادِ فيه، أو حَقَّ جهادِكم فيه. كما قال: {وَجَاهِدُوا فِي الله} ؟ قلت: إلإِضافةُ تكون بأدنى ملابسةٍ واختصاصٍ، فلمَّا كان الجهادُ/ مختصاً بالله من حيث إنه مفعولٌ من أجلِه ولوجهِه صحَّتْ إضافتُه إليه. ويجوز أن يُتَّسَعَ في الظرف كقولِه: 3400 - ويومٍ شَهِدْناه سليمى وعامِراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يعني بالظرفِ الجارَّ والمجرورَ، كأنه كان الأصلُ: حَقَّ جهادٍ فيه، فحذف حرفَ الجرِّ وأُضيف المصدرُ للضميرِ، وهو من باب» هو حقُّ عالم وجِدُّ عالم «أي: عالِمٌّ حقاً وعالِمٌ جدَّاً. قوله: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ} فيه أوجهٌ أحدُها: أنها منصوبةٌ ب» اتَّبِعوا «مضمراً قاله الحوفي، وتبعه أبو البقاء. الثاني: أنها على الاختصاصِ أي: أعني بالدين

ملةَ أبيكم. الثالث: أنها منصوبةٌ بما تقدَّمها، كأنه قال: وَسَّع دينَكم تَوْسِعَةً ملَّةِ أبيكم، ثم حُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه. قاله الزمخشري. الرابع: أنه منصوبٌ ب» جَعَلها «مُقَدراً، قاله ابن عطية. الخامس: أنها منصوبةٌ على حَذْف كافِ الجرِّ أي كملَّةِ إبراهيمَ، قاله الفراء. وقال أبو البقاء قريباً منه. فإنه قال:» وقيل: تقديرُه: مثلَ ملةِ؛ لأن المعنى: سَهَّل عليكم الدينَ مثلَ ملةِ أبيكم، فَحُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه «. وأَظْهَرُ هذه الثالثُ. و» إبراهيم «بدلٌ أو بيانٌ، أو منصوبٌ بأَعْني. قوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ} في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على» إبراهيم «فإنه أقربُ مذكورٍ. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ قال:» وفي هذه اللفظةِ يعني قولَه «وفي هذا» ضَعْفُ قَوْلِ مَنْ قال: الضمير لإِبراهيم. ولا يَتَوَجَّه إلاَّ بتقديرِ محذوفٍ من الكلامِ مستأنفٍ «انتهى. ومعنى» ضَعْف قولِ مَنْ قال بذلك «أنَّ قوله» وفي هذا «عطفٌ على» مِنْ قبلُ «، و» هذا «إشارةٌ إلى القرآن المشارَ إليه إنما نزل بعد إبراهيم بمُدَدٍ طِوالٍ؛ فلذلك ضَعُفَ قولُه. وقوله:» إلاَّ بتقديرِ محذوفٍ «الذي ينبغي أَنْ يقدَّرَ: وسُمِّيْتُم في هذا القرآن المسلمين. وقال أبو البقاء:» قيل الضميرُ لإِبراهيم، فعلى هذا الوجهِ يكونُ قولُه «وفي

هذا» أي: وفي هذا القرآن سببُ تسميتِهم «. والثاني: أنه عائدٌ على اللهِ تعالى ويَدُلُّ له قراءةُ أُبَيّ:» الله سَمَّاكم «بصريح الجلالةِ أي: سَمَّاكم في الكتبِ السالفةِ وفي هذا القرآنِ الكريمِ أيضاً. قوله: {لِيَكُونَ الرسول} متعلقٌ بسَمَّاكم. وقوله: {فَنِعْمَ المولى} أي: اللهُ. وحَسَّن حذفَ المخصوصِ وقوعُ الثاني رأسَ آيةٍ وفاصلةٍ.

المؤمنون

قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} : العامَّةُ على «أَفْلَحَ» مفتوحَ الهمزةِ والحاءِ فعلاً ماضياً مبنياً للفاعلِ. وورشٌ على قاعدتِه مِنْ نَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها وحَذْفِها. وعن حمزةَ في الوقف خلفٌ: فرُوِيَ عنه كورشٍ، وكالجماعة. وقال أبو البقاء: «مَنْ ألقى حركةَ الهمزةِ على الدالِ وحَذَفَها فَعِلَّتُه: أنَّ الهمزةَ بعد حَذْفِ حركتِها صُيِّرَتْ ألفاً، ثم حُذِفَتْ لسكونِها وسكونِ الدالِ قبلها في الأصل. ولا يُعْتَدُّ بحركةِ الدال لأنها عارضةٌ» . وفي كلامِه نظرٌ من وجهين، أحدهما: أنَّ اللغةَ الفصيحةَ في النقلِ حَذْفُ الهمزةِ من الأصلِ فيقولون: المَرَة والكَمَة في: المَرْأَة والكَمْأَة. واللغةُ الضعيفةُ فيه إبقاؤُها وتَدْييرُها بحركةِ ما قبلَها فيقولون: المَراة والكَماة بمَدَّةٍ بدل الهمزةِ كراس وفاس فيمَنْ خفَّفَهما. فقولُه: «صُيِّرَتْ ألفاً» ارتكابٌ لأضعفِ اللغتين. الثاني: أنه وإنْ سُلِّمَ أنَّها صُيِّرَتْ ألفاً فلا نُسَلِّم أنَّ حَذْفَها لسكونِها وسكونِ الدالِ في ألأصل، بل حَذْفُها لساكنٍ محققٌ في اللفظِ وهو الفاء مِنْ «أفلح» ، ومتى وُجد سببٌ ظاهرٌ أُحيل الحُكْمُ عليه دونَ السبب المقدر.

وقرأ طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد «أُفْلِحَ» مبنياً للمفعول أي: دَخَلوا في الفلاح. فيُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ أفلح متعدِّياً. يقال: أَفْلحه أي: أصاره إلى الفلاح، فيكون «أفلح» مستعملاً لازماً ومتعدِّياً. وقرأ طلحة أيضاً «أَفْلَحُ» بفتح الهمزة واللام وضمِّ الحاء. وتخريجُها على أنَّ الأصلَ «أَفْلحوا المؤمنون» بلحاقِ علامةِ جمعٍ قبل الفاعلِ كلغة «أكلوني البراغيث» فيجيءُ فيها ما قَدَّمْتَه في قول: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71] {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] قال عيسى: «سمعتُ طلحةَ يقرؤُها. فقلتُ له: أتلحنُ؟ قال: نعم كما لحن أصحابي» يعني اتَّبَعْتُهم فيما قَرَأْتُ به. فإنْ لَحَنوا على سبيلِ فَرْضِ المُحالِ فِأنا لاحنٌ تَبَعاً لهم. وهذا يدلُّ على شدِّةِ اعتناءِ القدماءِ بالنَّقْلِ وضَبْطِه خلافاً لمن يُغَلِّطُ الرواةَ. وقال ابن عطية: «وهي قراءةٌ مردودةٌ» . قلت: ولا أدري كيف يَرُدُّونها مع ثبوتِ مِثْلِها في القرآن بإجماع وهما الآيتان المتقدمتان؟ وقال الزمخشري: «وعنه أي عن طلحةَ» أَفْلَحُ «بضمةٍ بغير واو، اجتزاءً بها عنها كقوله: 3401 - فلَوْ أنَّ الأَطِبَّا كانُ حَوْلي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنَّ الواوَ لا تَثْبُتُ في مثلِ هذا دَرْجاً لئلاً يلتقي ساكنان، فالحَذْفُ هنا لا بُدَّ منه فكيف يقول اجتزاءً عنها بها؟ وأمَّا تنظيرُه بالبيتِ

فليس بمطابقٍ؛ لأنَّ حَذْفَها من الآيةِ ضروريٌّ ومن البيتِ ضرورةٌ. وهذه الواوُ لا يظهر لفظُها في الدَّرْجِ، بل يظهرُ في الوقفِ وفي الخَطِّ. وقد اختلف النَّقَلَةُ لقراءةِ طلحة: هل يُثَبِتُ للواوِ صورةً؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء، وفي» اللوامح «:» وحُذِفَتْ الواوُ بعد الحاءِ لالتقائِهما في الدَّرج، وكانت الكتابةُ عليها محمولةً على الوصلِ نحو: {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] . قلت: ومنه {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] ، {صَالِ الجحيم} [الصافات: 163] . و «قد» هنا للتوقُّع. قال الزمخشري: «قد: نقيضَةُ» لَمَّا «، هي تُثْبِتُ المتوقَّعَ و» لَمَّا «تَنْفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقِّعين لهذه البشارةِ، وهي للإِخبار بثباتِ الفَلاحِ لهم فَخُوطبوا بما دَلَّ على ثباتِ ما تَوَقَّعوه» .

2

قوله: {فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} : الجارُّ متعلِّقٌ بما بعدَه وقُدِّمَ للاهتمام، وحَسَّنه كونَ متعلَّقِه فاصلةً، وكذلك فيما بعده مِنْ أخواتِه. وأُضِيْفَتْ الصلاةُ إليه لأنهم هم المُنْتَفِعون بها، والمُصَلَّى له غَنِيٌّ عنها، فلذلك أُضِيْفَتْ إليهم دونَه.

4

قوله: {لِلزَّكَاةِ} : اللامُ مزيدةٌ في المفعولِ لتقدُّمِه على عامِلِه ولكونِه فرعاً. والزكاةُ في الأصلِ مصدرٌ، ويُطْلَقُ على القَدْرِ المُخْرَجِ من

الأعْيانِ. قال الزمخشري: «اسمٌ مشتركٌ بين عَيْنٍ ومَعْنى، فالعينُ: القَدْرُ الذي يُخْرِجُه المُزَكِّي مِنَ النِّصاب، والمعنى: فِعْلُ المُزَكِّي، وهو الذي أراده الله فجعل المزكِّيْنَ فاعِلين له ولا يَسُوغ فيه غيرُه لأنَّه ما مِنْ مصدرٍ إلاَّ يُعَبَّرُ عنه بالفِعْلِ. ويُقال لمُحَدِثِه فاعلٌ. تقول للضارب: فاعلُ الضَرْبِ، وللقاتل فاعلُ القَتْل، وللمزكِّي فاعلُ التَّزْكية، وعلى هذا الكلامُ كله. والتحقيقُ في هذا أنَّك تقولُ في جميع الحوادث: مَنْ فاعلُها؟ فيُقال لك: الله أو بعضُ الخَلْق. ولم تمتنعِ الزكاةُ الدالَّةُ على العينِ أَنَ يتعلَّقَ بها [فاعلون] لخروجِها مِنْ صحةِ أَنْ يتناولَها الفاعلُ، ولكن لأنَّ الخَلْقَ ليسوا بفاعليها. وقد أنشدوا لأميةَ بن أبي الصلت: 3402 - المُطْعِمُون الطعامَ في السَّنَة ال ... أزمةِ والفاعلون للزكواتِ ويجوز أن يُرادَ بالزكاة العَيْنُ، ويُقَدَّرَ مضافٌ محذوفٌ وهو الأداءُ، وحَمْلُ البيتِ على هذا أَصَحُّ لأنها فيه مجموعةٌ» . قلت: إنما أحوجَ أبا القاسمِ إلى هذا أنَّ بعضَهم زعم أنه يتعيَّنُ أَنْ تكونَ الزكاةُ هنا المصدرَ؛ لأنه لو أراد العينَ لقال مُؤَدُّوْن، ولم يقل فاعلون، فقال الزمخشري: لم يمتنعْ ذلك لعدمِ صحةِ تناوُلِ فاعِل لها، بل لأنَّ الخَلْقَ ليسوا بفاعِليها، وإنما جَعَلَ الزكَواتِ في بيتِ أميةَ أعياناً لِجَمْعِها؛ لأنَّ المصدر لا يُجْمع. وناقشه الشيخ فقال: «يجوز أَنْ مصدراً وإنما جُمِعَ لاختلافِ أنواعِه» .

قوله: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه متعلقٌ ب «حافِظون» على التضمين. يعني مُمْسِكين أو قاصِرين. وكلاهما يتعدى ب على. قال تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] الثاني: أن «على» بمعنى «مِنْ» أي: إلاَّ مِنْ أزواجهم. ف «على» بمعنى «مِنْ» ، كما جاءَتْ «مِنْ» بمعنى «على» في قوله {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] ، وإليه ذَهَب الفراءُ. الثالث: أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحالِ. قال الزمخشري: أي إلاَّ والين على أزواجِهم أو/ قَوَّامين عليهنَّ. مِنْ قولِك: كان فلان على فلانةَ فمات عنها، فخلف عليها فلانٌ. ونظيرُه: كان زيادٌ على البصرة أي: والياً عليها. ومنه قولُهم: «ثلاثةٌ تحت فلان، ومِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ المرأةُ فِراشاً» . الرابع: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه «غيرُ مَلومين» . قال الزمخشري: «كأنه قيل: يُلامُون إلاَّ على أزواجِهم أي: يلامون على كلِّ مباشِر إلاَّ على ما أُطْلِقَ لهم فإنهم غيرُ ملومين عليه» . قلت: وإنما لم يَجْعَلْه متعلقاً ب «ملومين» لوجهين. أحدهما: أنَّ ما بعد «إنَّ» لا يَعْمل فيما قبلها. والثاني: أنَّ المضافَ إليه لا يَعْمل فيما قبلَ المضاف، ولفسادِ المعنى أيضاً. الخامس: أَنْ يُجْعل صلةً لحافظين. قال الزمخشري: «مِنْ قولِك: احفَظْ عَلَيَّ عِنَانَ فرسي» ، على تضمينِه معنى النفي كما ضُمِّن قولُهم: «نَشَدْتُك

باللهِ إلاَّ فَعَلْتَ» معنى: ما طَلَبْتُ منك إلاَّ فِعْلَك. يعني: أَنَّ صورتَه إثباتُ ومعناه نفيٌ. قال الشيخ بعدما ذكَرْتُه عن الزمخشري: «وهذه وجوهٌ متكلَّفَةٌ ظاهرٌ فيها العُجْمَةُ» قلت: وأيُّ عُجْمَةٍ في ذلك؟ على أنَّ الشيخَ جعلها متعلقةً ب «حافظون» على ما ذكره مِنَ التضمين. وهذا لا يَصِحُّ له إلاَّ بأَنْ يرتكبَ وجهاً منها: وهو التأويلُ بالنفيِ ك «نَشَدْتُك الله» لأنه استثناءٌ مفرغ، ولا يكونُ إلاَّ بعد نفيٍ أو ما في معناه. السادس: قال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ ب حافِظُون» على المعنى؛ لأنَّ المعنى: صانُوها عن كل فَرْجٍ إلاَّ عن فروجِ أزواجِهم «. قلت: وفيه شيئان، أحدهما: تضمين» حافظون «معنى صانُوا، وتضمينُ» على «معنى» عن «. قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ} » ما «بمعنى اللاتي. وفي وقوعها على العقلاءِ وجهان، أحدهما: أنها واقعةٌ على الأنواعِ كقوله: {فانكحوا مَا طَابَ} أي: أنواعَ. والثاني: قال الزمَخشري:» أُريد من جنسِ العقلاءِ ما يَجْري مجرى غيرِ العقلاءِ وهم الإِناثُ «. قال الشيخ:» وقوله: «وهم» ليس بجيدٍ؛ لأنَّ لفظَ «هم» مختصٌّ بالذكورِ، فكان ينبغي أَنْ يقولَ: «وهو» على لفظ «ما» . أو «وهُنَّ»

على معنى «ما» قلت: والجواب عنه: أن الضميرَ عائدٌ على العقلاءِ، فقوله «وهم» أي: والعقلاءُ الإِناث.

8

قوله: {لأَمَانَاتِهِمْ} : قرأ ابن كثير هنا وفي «سأل» «لأماناتِهم» بالتوحيد. والباقون بالجمع. وهما في المعنى واحد؛ إذ المرادُ العمومُ والجمعُ أوفقُ. والأمانة في الأصلِ مصدرٌ، ويُطْلق على الشيء المُؤْتَمَنِ عليه كقوله: {أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] {وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] وإنما يؤدى ويُخان الأعيانُ لا المعاني، كذا قال الزمخشري. أمَّا ما ذكره من الآيتين فَمُسَلَّم. وأمَّا هذا الآيةُ الكريمةُ فتحتمل المصدرَ، وتحتمل العينَ. وقرأ الأخَوان «على صلاتِهم» بالتوحيد. والباقون «صَلَواتهم» بالجمع. وليس في المعارج خلافٌ والإِفرادُ والجمعُ كما تقدَّم في «أمانتهم» و «أماناتهم» . قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف كرَّرَ ذِكْرَ الصلاةِ أولاً وآخراً؟ قلت: هما ذِكْران مختلفان، وليس بتكريرٍ، وُصِفُوا أولاً بالخشوعِ في صلاتهم، وآخِراً بالمحافظةِ عليها» . ثم قال: «وأيضاً فقد وُحِّدَتْ أولاً ليُفادَ الخُشوعُ في جنسِ الصلاةِ أيَّ صلاةٍ كانَتْ، وجُمعت آخراً لتُفادَ المحافظةُ على أعدادِها، وهي الصلواتُ الخمسُ والوِتْرُ والسُّنَنُ الراتبةُ» .

قلت: وهذا إنما يَتَّجِهُ في قراءةِ غير الأخَوين. وأمَّا الأخوانِ فإنهما أُفْرِدا أولاً وآخراً. على أن الزمخشريَّ قد حَكَى الخلافَ في جَمْعِ الصلاة الثانية وإفرادِها بالنسبة إلى القراءة.

11

قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : يجوز في هذه الجملةِ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً مقدرةً: إمَّا من الفاعلِ ب «يَرِثُون» ، وإمَّا مِنْ مفعولِه؛ إذ فيها ذِكْرُ كلٍ منهما.

12

قوله: {مِن سُلاَلَةٍ} : فيه وجهان: أحدهما: وهو الظاهرُ أَنْ يتعلَّقَ ب خَلَقْنا و «مِنْ» لابتداءِ الغاية. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من الإِنسان. والسُّلالَةُ: فُعالة. وهو بناءٌ يَدُلُّ على القِلَّة كالقُلامة. وهي مِنْ سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استَخْرَجْتَه منه، ومنه قولُهم: هو سُلالَةُ أبيه كأنه انْسَلَّ مِنْ ظَهْرِه وأُنْشِد: 3403 - فجاءت به عَضْبَ الأَديمِ غَضَنْفَراً ... سُلالةَ فَرْجٍ كان غيرَ حَصِيْنِ وقال أمية بن أبي الصلت: 3404 - خَلَقَ البَرِيَّةَ مِنْ سُلالةِ مُنْتِنٍ ... وإلى السُّلالَةِ كلِّها سَنعودُ /

وقال الزمخشري: «السُّلالَةُ: الخُلاصة لأنَّها تُسَلُّ من بين الكَدَر» . وهذه الجملةُ جوابُ قسمٍ محذوف. أي: والله لقد خَلَقْنا. وعُطِفَت على الجملةِ قبلَها لِما بينهما من المناسبةِ؛ وهو أنَّه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ المُتَّصِفين بتلك الأوصافِ يَرِثون الفردوسَ، فتضَمَّنَ ذِكْرَ المعادِ الأُخْروي، ذَكَرَ النشأةَ الأولى ليستدِلَّ بها على المَعَادِ، فإن الابتداء في العادة أصعبُ من الإِعادةِ كقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] . وهذا أحسنُ مِنْ قولِ ابن عطية: «هذا ابتداءُ كلامٍ، والواو في أولِه عاطفةٌ جملةَ كلامٍ على جملةِ كلامٍ، وإنْ تبايَنَتا في المعنى» لأنِّي قَدَّمْتُ لك وَجْهَ المناسبة. قوله: {مِّن طِينٍ} في «مِنْ» وجهان، أحدهما: أنها لابتداءِ الغايةِ. والثاني: أنها لبيانِ الجنسِ. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين» مِنْ «ومِنْ» ؟ قلت الأُوْلى للابتداءِ، والثانيةٌ للبيانِ كقولِه: {مِنَ الأوثان} . قال الشيخ: «ولا تكونُ للبيان؛ إلاَّ إذا قلنا: إنَّ السُّلالةَ هي الطينُ. أمَّا إذا قُلْنا: إنه مِنْ أُنْسِل من الطين ف» مِنْ «لابتداءِ الغاية» . وفيما تتعلَّق به «مِنْ» هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها تتعلَّقُ بمحذوفٍ إذ هي صفةٌ ل «سُلالة» . الثاني: أنَّها تتعلَّقُ بنفس «سُلالة» ؛ لأنها بمعنى مَسْلولة. الثالث: أنها تتعلَّقُ ب «خَلَقْنا» لأنها بدلٌ مِن الأولى، إذا قلنا: إن السُّلالةَ هي نفسُ الطين.

13

قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} : في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه يعودُ للإِنسانِ. فإنْ أُريد غيرُ آدمَ فواضحٌ، ويكون خَلْقُه مِنْ سُلالةِ الطينِ خَلْقَ أصلِه وهو آدمُ، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ. وإن كان المرادُ به آدمَ فيكونُ الضميرُ عائداً على نَسْلِه أي: جَعَلْنا نَسْلَه فهو على حَذْفِ مضافٍ أيضاً. أو عاد الضميرُ على الإِنسانِ اللائقِ به ذلك، وهو نَسْلُ آدمَ، فلفظُ الإِنسانِ من حيث هو صالحٌ للأصلِ والفرعِ، ويعود كلُّ شيءٍ لِما يليقُ به. وإليه نحا الزمخشري. قوله: {فِي قَرَارٍ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالجَعْل، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «نُطْفَة» . والقَرار: المستقَرُّ وهو مَوْضِعُ الاستقرارِ. والمرادُ بها الرَّحِمُ. ووُصِفَتْ ب «مَكِيْن» لمكانةِ التي هي صفةٌ المُسْتَقِرِّ فيها، لأحدِ معنيين: أمَّا على المجازِ كطريقٍ سائر، وإنما السائرُ مَنْ فيه، وإمَّا لمكانتِها في نفسِها لأنها تمكَّنَتْ بحيث هي وأُحْرِزَتْ.

14

قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} : وما بعدها. ضَمَّنَ «خَلَق» معنى جَعَلَ التصييريةِ فتعَدَّت لاثنين كما تَضَمَّنَ جَعَلَ معنى خَلَق فيتعدَّى لواحدٍ نحوَ: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] . قوله: {عِظَاماً} قرأ العامَّةُ «عِظاماً» و «العظام» بالجمع فيهما. وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «عَظْماً» و «العظم» بالإِفراد فيهما. والسُّلمي والأعرج والأعمش بإفرادِ الأول وجَمْعِ الثاني. وأبو رجاء ومجاهد وإبراهيم ابن

أبي بكر بجمع الأولِ وإفرادِ الثاني عكسَ ما قبله. فالجمعُ على الأصل لأنه مطابِقٌ لِما يُراد به، والإِفرادُ للجنسِ كقولِه: {وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] . وقال الزمخشري: «وَضَعَ الواحدَ موضع الجمعِ لزوالِ اللَّبْسِ لأنَّ الإِنسانَ ذو عِظامٍ كثيرة» . قال الشيخ: «هذا عند سيبويه وأصحابِه لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ وأنشدوا: 3405 - كُلوا في بَعْضِ بطنِكُم تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإن كان مَعْلوماً أنَّ كلَّ واحدٍ له بطنٌ» . قلت: ومثله: 3406 - لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبِيْنا ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجينا يريد: في حُلوقكم. ومثلُه قولُ الآخر: 3407 - به جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها ... فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ

يريد: جلودُها، ومنه {وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] وقد تقدَّم طَرَفٌ مِنْ هذا. قوله: {أَحْسَنَ الخالقين} فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدها: أنه بدلٌ مِن الجلالة. الثاني: أنَّه نعتٌ للجلالة وهو أَوْلَى مِمَّا قبلَه؛ لأن البدلَ بالمشتقِ يَقِلُّ. الثالث: أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو أحسنُ. والأصلُ عدمُ الإِضمارِ. وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ وصفاً قال: «لأنه نكرةٌ وإنْ أُضيف لمعرفةٍ؛ لأنَّ المضافَ إليه عِوضٌ مِنْ» مِنْ «وهكذا جميعُ أَفْعَل منك» . قلت: وهذا بناءً منه على أحد القولين في أَفْعَلِ التفضيلِ إذا أُضيف: هل إضافتُه محضةٌ أم لا؟ والصحيحُ الأول. والخالقين أي: المقدِّرين كقولِ زهير: 3408 - ولأنتَ تَفْرِيْ ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي /والمميِّزُ لأَفْعَل محذوفٌ لدلالةِ المضافِ إليه عليه أي: أحسن الخالقين خَلْقاً أي: المقدِّرين تقديراً كقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] أي: في القِتال. حُذِف المأذونُ فيه لدلالةِ الصلةِ عليه.

15

قوله: {بَعْدَ ذلك} : أي: بعدما ذُكِر، ولذلك أُفْرِد اسمُ الإِشارة. وقرأ العامَّةُ «لَمَيِّتُون» . وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن

محيصن «لَمائِتون» والفرقُ بينهما: أنَّ الميِّتَ يدلُّ على الثبوت والاستقرار، والمائِت على الحدوثِ كضيِّق وضائق، وفرَِح وفارِح. فيُقال لِمَنْ سيموتُ: ميِّت ومائت، ولمن مات: مَيّت فقط دون مائت لاستقرارِ الصفةِ وثبوتِها وسيأتي مثلُه في الزمر إن شاء الله تعالى، فإن قيل: الموتُ لم يَخْتَلِفْ فيه اثنان، وكم مِنْ مخالفِ في البعثِ فلِمَ أَكَّد المُجْمَعَ عليه أبلغَ تأكيدٍ، وتُرك المختلَفُ فيه من تلك المبالغةِ في التأكيد؟ فالجواب: أنَّ البعثَ لمَّا تظاهَرَتْ أدلتُه وتضافَرَتْ أَبْرَزَ في صورةِ المُجْمَعِ عليه المستغني عن ذلك، وأنَّهم لَمَّا لم يعملوا للموتِ ولم يهتموا بأمورِه نُزِّلوا منزلةَ مَنْ يُنكره فأبرزهم في صورةِ المُنْكِرِ الذي استبعدوه كلَّ استبعادٍ. وكان الشيخُ، سُئِل عن ذلك. فأجاب بأنَّ اللامَ غالباً تُخَلِّص المضارعَ للحال، ولا يمكنُ دخولُها في «تُبْعثون» لأنه مخلِّصٌ للاستقبال لعملِه في الظرف المستقبل. واعترض على نفسِه بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [النحل: 124] فإنَّ اللامَ دَخَلَتْ على المضارع العاملِ في ظرفٍ مستقبلٍ وهو يومُ القيامة. وأجاب بأنه خَرَجَ هذا بقوله «غالباً» أو بأنَّ العاملَ في يوم القيامة مقدرٌ، وفيه نظرٌ لا يَخْفى؛ إذ فيه تهيئةٌ العاملِ للعملِ وقَطْعُه عنه. و «بعد ذلك» متعلقٌ ب «مَيِّتون» ولا تَمْنَعُ لامُ الابتداءِ من ذلك.

18

قوله: {على ذَهَابٍ بِهِ} : «على ذَهابٍ» متعلقٌ ب «لَقادرون» واللامُ كما تقدَّم غيرُ مانعةٍ من ذلك، و «به» متعلقٌ ب «ذَهاب»

وهي مرادِفَةٌ للهمزةِ كهي في {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] أي على إذهابه.

20

قوله: {وَشَجَرَةً} : عطفٌ على «جناتٍ» . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سِيناء» بكسر السين. والباقون بفتحها. والأعمش كذلك إلاَّ أنه قَصَرها. فأمَّا القراءةُ الأولى فالهمزةُ فيها ليسَتْ للتأنيثِ؛ إذ ليس في الكلام فِعْلاء بكسر الأول، وهمزتُه للتأنيث، بل للإِلحاقِ ك «سِرْداح» و «قِرْطاس» فهي كِعلْباء فتكونُ الهمزةُ منقلبةً عن ياءٍ أو واوٍ؛ لأن الإِلحاقَ يكون بهما، فلمَّا وقع حرفُ العلةِ متطرفاً بعد ألفٍ زائدة قُلِبَتْ همزةً كرِداء وكِساء، قال الفارسي: «وهي الياءُ التي ظهرَتْ في» دِرْحايَة «. والدِّرْحاية: الرجلُ القصيرُ السمينُ. وجعل أبو البقاءِ هذه الهمزةَ أصليةً فقال:» والهمزةُ على هذا أصلٌ مثل «حِمْلاق» وليسَتْ للتأنيثِ إذ ليس في الكلام مثلُ [حِمْراء والياءُ أصلٌ إذ ليس في الكلام «سنأ» ] يعني: مادة سين ونون وهمزة. وهذا مخالِفٌ لِما تَقَدَّمَ مِنْ كونِها بدلاً من زائدٍ ملحقٍ بالأصل. على أن كلامَه محتملٌ للتأويلِ إلى ما تقدَّم، وعلى هذا فَمَنْعُ الصرفِ للتعريف والتأنيث؛ لأنها اسمُ بُقعةٍ بعينها،

وقيل: للتعريف والعُجْمة، قال بعضهم: والصحيحُ أن «سِيْناء» اسمٌ أعجمي نَطَقَتْ به العربُ فاختلفَتْ فيه لغاتُها فقالوا: سَيْناء كحَمْراء وصَفْراء، وسِيناء كعِلباء وحِرْباء وسِيْنين كخِنْذِيْذ وزِحليل، والخِنْذِيْذ: الفحلُ والخَصِيُّ أيضاً، فهو مِن الأضداد، وهو أيضاً رأسُ الجبلِ المرتفعُ، والزِّحْلِيلُ: المُتَنَحِّي مِنْ زَحَل إذا تنحى. وقال الزمخشري: «طُوْرُ سيناء وطور سينين: لا يخلوا: إمَّا أن يُضافَ فيه الطورُ إلى بقعةٍ اسمُها سيناء، وسينون، وإمَّا أَنْ يكونَ اسماً للجبلِ مركباً مِنْ مضافٍ ومضافٍ إليه كامرىء القيس وبعلبك، فيمَنْ أضاف. فَمَنْ كَسَرَ سينَ» سيناء «فقد مَنَعَ الصرفَ للتعريفِ والعجمةِ، أو التأنيثِ، لأنها بقعة وفِعْلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعِلْباء وحِرْباء. قلت: وكونُ ألفِ فِعْلاء بالكسر ليست للتأنيث هو قولُ أهل البصرة، وأمَّا الكوفيون فعندهم أن ألفها تكون للتأنيثِ، فهي عندهم ممنوعةٌ للتأنيثِ اللازم كحمراء وبابها. وكسرُ السين من» سِيْناء «لغةُ كِنانة. وأمَّا القراءة الثانية فألِفُها للتأنيث، فَمَنْع الصرف واضحٌ. قال أبو البقاء:» وهمزتُه للتأنيث إذ ليس في الكلامِ فَعْلال بالفتح. وما حكى الفراء مِنْ قولهم: ناقةٌ فيها خَزْعال «لا يَثْبُتُ، وإنْ ثبت فهو شاذٌّ لا يُحمل عليه» .

وقد وَهِم بعضُهم فجعل «سيناء» مشتقةً من السَّنا وهو الضوءُ، ولا يَصِحُّ ذلك لوجهين أحدُهما: أنه ليس عربيَّ الوَضْعِ. نَصُّوا على ذلك كما/ تقدم، الثاني: أنَّا وإنْ سلَّمنا أنه عربيُّ الوَضْعِ، لكنْ المادتان مختلفتان، فإنَّ عَيْنَ «السنا» نونٌ وعينَ «سيناء» ياء. كذا قال بعضُهم. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّم أن عينَ «سيناء» ياءٌ، بل هي عينُها نونٌ وياؤُها مزيدةٌ، وهمزتُها منقلبةٌ عن واوٍ كما قُلِبت السَّناء، ووزنها حينئذٍ فِيْعال، وفِيْعال موجودٌ في كلامِهم كمِيْلاع وقِيْتال مصدرُ قاتلَ. قوله «تنبُتُ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو، «تُنْبِتُ» بضمِّ التاءِ وكسرِ الباءِ. والباقون بفتح التاء وضم الباء. فأمَّا الأولى ففيها ثلاثةٌ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ «أنبت» بمعنى نَبَتَ فهو مما اتَّفق فيه فَعَل وأَفْعَل وأنشدوا لزهير: 3409 - رأيتُ ذوي الحاجات عند بيوتهِم ... قَطِيْناً لها حتى إذا أَنْبَتَ البقلُ أي: نبت، وأنكره الأصمعي الثاني: أنَّ الهمزةَ للتعديةِ، والمفعولَ محذوفٌ لفهم المعنى أي: تُنْبِتُ ثمرَها أو جَناها. و «بالدهن» أي: ملتبساً بالدهن. الثالث: أنَّ الباءَ مزيدةٌ في المفعولِ به كهي في {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] وقولِ الشاعر: 3410 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

سُوْدُ المَحاجرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ وقول الآخر: 3411 - نَضْربُ بالسَّيْفِ ونرْجُو بالفَرَجْ ... وأما القراءةُ الأخرى فواضحةٌ، والباءُ للحال من الفاعل أي: ملتسبةً بالدُّهْن، يعني: وفيها الدهن. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تُنْبِتُ» مبنياً للمفعول، مِنْ أنبتها الله. و «بالدهن» حالٌ من القائمِ مقامَ الفاعلِ أي: ملتسبةً بالدهن. وقرأ زر بن حبيش «تُنْبِتُ الدُّهْنَ» مِنْ أَنْبَتَ، وسقوطُ الباء هنا يَدُلُّ على زيادتها في قراءة مَنْ أثبتها. والأشهب وسليمان بن عبد الملك «بالدِّهان» وهو جمع دُهْن كرُمْح ورِماح. وأمَّا قراءة أُبَي «تُثْمر» ، وعبد الله «تَخْرج» فتفسيرٌ لا قراءةٌ لمخالفة السواد. والدُّهْنُ: عُصارة ما فيه دَسَمٌ. والدَّهْن بالفتح المَسْح بالدُّهن مصدرٌ دَهَن يَدْهُنُ، والمُداهَنَةُ مِنْ ذلك؛ كأنه يَمْسَح على صاحبه ليقِرَّ خاطرُه.

قوله: {وَصِبْغٍ} العامَّةُ على الجرِّ نَسَقاً على «بالدُّهْن» . والأعمش «وصبغاً» بالنصبِ نَسَقاً على موضع «بالدُّهْن» كقراءةِ «وأَرْجلَكم» في أحدِ محتملاته، وعامر بن عبد الله «وصِباغ» بالألف، وكانت هذه القراءةُ مناسبةً لقراءةِ مَنْ قرأ «بالدِّهان» . والصَبْغ والصِّباغ كالدَّبْغ والدِّباغ وهو اسمُ ما يُفْعل به. وللآكلين «صفةٌ.

21

قوله: {نُّسْقِيكُمْ} : قد ذُكر ما في النحل، وقُرِىء «تَسْقيكم» بالتاءِ مِنْ فوقُ أي: أي: الأنعام.

29

قوله: {مُنزَلاً مُّبَارَكاً} : قرأ أبو بكرٍ فتح الميم وكسر الزاي، والباقون بضمِّ الميم وفتحِ الزاي. والمَنْزِل والمُنْزَل كلٌّ منهما يحتملُ أَنْ يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِنزالُ والنُّزُول، وأَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ للنزولِ والإِنزالِ، إلاَّ أنَّ القياسَ «مُنْزَلاً» بالضم والفتح لقوله «أَنْزِلْني» ، وأما الفتح والكسر فعلى نيابةِ مصدرٍ الثلاثي مَناب مصدرِ الرباعي كقوله {أَنبَتَكُمْ

مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، وقد تقدم نظيرُه في مَدْخَل ومُدْخَل في سورةِ النساء. و «إنْ» في قوله: {وَإِن كُنَّا} مخففةٌ. واللامُ فارقةٌ. وقيل: «إنْ» نافيةٌ، واللامُ بمعنى «إلاَّ» ، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرة.

32

قوله: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ} : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: حَقُّ» أَرْسَلَ «أَنْ يَتَعَدَّى ب» إلى «كأخواتِه التي هي: وَجَّه وأنفذ وبَعَثَ، فما بالُه عُدِّي في القرآن ب إلى تارة وب في أخرى كقوله {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ} [الرعد: 30] ؟ قلت: لم يُعَدَّ ب» في «كما عُدِّي ب» إلى «ولم يجعَلْه صلةً مثلَه، ولكن الأُمَّةَ أو القريةَ جُعِلَتْ مَوْضِعاً للإِرسالِ كقولِ رُؤْبة: 3412 - أرسلْتَ فيها مُصْعباً ذا إقحامِ ... وقد جاء» بعث «على ذلك كقولِه تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} [الفرقان: 51] . قوله: {أَنِ اعبدوا} يجوز أَنْ تكونَ المصدريةَ أي: أَرْسَلْناه بأَنِ اعبدوا أي: بقوله اعبدوا، وأَنْ تكونَ مفسِّرةً.

قال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: ذَكَر مقالةَ هود في جوابه في سورةِ الأعراف، وسورة هود، بغير واو: {قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66] {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53] وههنا مع الواوِ فأيُّ فَرْقٍ بينهما؟ قلت: الذي بغيرِ واوٍ على تقديرِ سؤالِ سائلٍ: قال: فماذا قيل له؟ فقيل له: قالوا: كيتَ وكيتَ. وأمَّا الذي مع الواو فَعَطْفٌ لِما قالوه على ما قاله، ومعناه أنه اجتمع في الحصول: هذا الحقُّ وهذا الباطلُ، وشتان ما بينهما «. قلت: ولقائلٍ أَنْ يقولَ: هذا جوابٌ بنفس الواقعِ، والسؤالُ باقٍ/؛ إذ يَحْسُنُ أن يُقال: لِمَ لا يُجْعَلْ هنا قولُهم أيضاً جوباً لسؤالِ سائلٍ كما في نظيرتَيْها لو عكس الأمر؟ .

33

قوله: {مِمَّا تَشْرَبُونَ} : أي: منه، فَحَذَفَ العائدَ لاستكمالِ شروطِه وهو: اتِّحادُ الحرفِ والمتعلَّقِ، وعدمُ قيامِه مقامَ مرفوع، وعدمُ ضميرٍ آخرَ. هذا إذا جَعَلْناها بمعنى الذي فإنْ جَعَلْتَها مصدراً لم تَحْتج إلى عائدٍ، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ أي: مِنْ مَشْروبكم. وقال في التحرير: «وزعم الفراء أنَّ معنى» ما تَشْربون «على حذفٍ أي: تشربون منه.

وهذا لا يجوز عند البصريين، ولا يَحْتَاج إلى حَذْفٍ البتةَ لأنَّ» ما «إذا كانَتْ مصدريةً لم تحتجْ إلى عائدٍ، فإنْ جعلتَها بمعنى الذي حَذَفْتَ العائدَ، ولم يُحْتَجْ إلى إضمار» مِنْ «. يعني أنَّه يُقَدَّرُ: تَشْربونه من غيرِ حرفِ جرّ، وحينئذٍ تكون شروطُ الحذفِ أيضاً موجودةً، ولكنه تَفُوْتُ المقابلةُ إذ قولُه {تَأْكُلُونَ مِنْهُ} فيه تبعيضٌ، فَلَوْ قَدَّرْتَ هذا: تشربونه مِنْ غير» مِنْ «فاتَتْ المقابلةُ. ثم إنَّ قولَه:» وهو لا يجوز عند البصريين «ممنوع بل هو جائزٌ لوجود شروطِ الحذف.

34

قوله: {إِذَنْ} : قال الزمخشري: «واقعٌ في جزاءِ الشرط وجوابٌ للذين قاولوهم مِنْ قومِهم» . قال الشيخ: «وليس» إذن «واقعاً في جزاءِ الشرط بل واقعاً بين» إنَّكم «والخبر، و» إنكم «والخبرُ ليس جزاءً للشرط، بل ذلك جملةٌ جوابِ القَسمِ المحذوفِ قبل» إن «الشرطيةِ. ولو كانت» إنكم «والخبرُ جواباً للشرطِ، لَزِمَتِ الفاءُ في» إنكم «، بل لو كان بالفاءِ في تركيبِ غيرِ القرآنِ لم يكنْ ذلك التركيبُ جائزاً إلاَّ عند الفراءِ. والبصريون لا يُجيزونه. وهو عندهم خطأٌ» . قلت: يعني أنه إذا توالَى شرطٌ وقسم أُجيب سابقُهما، والقَسَمُ هنا متقدِّمٌ فينبغي أَنْ يُجَابَ ولا يجابَ الشرطُ، ولو أُجيب الشرطُ لاختلَّتْ القاعدةُ إلاَّ عند بعضِ الكوفيين، فإنَّه يُجيب الشرطَ وإنْ تأخَّر. وهو موجودٌ في الشعر.

35

قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ} : الآيةُ في إعرابها ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ اسم «أنَّ» الأولى مضافٌ لضميرِ الخطاب حُذِفَ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، والخبرُ قولُه: {إِذَا مِتٌّمْ} و {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} تكريرٌ ل «أنَّ» الأولى للتأكيدِ والدلالةِ على المحذوفِ والمعنى: أنَّ إخراجَكم إذا مِتُّمْ وكُنْتُم.

الثاني: أنَّ خبرَ «أنَّ» الأولى هو «مُخْرَجُون» ، وهو العامل في «إذا» ، وكُرِّرَتْ الثانيةُ توكيداً لَمَّا طال الفصلُ. وإليه ذهبَ الجرميُّ والمبردُّ والفراءُ. الثالث: أنَّ {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} مُؤَولٌ بمصدرٍ مرفوع بفعلٍ محذوفٍ، ذلك الفعلُ المحذوفُ هو جوابُ «إذا» الشرطيةِ، وإذا الشرطيةُ وجوابُها المقدَّرُ خبرٌ ل «أنَّكم» الأولى، تقديرُه: يَحْدُث أنكم مُخْرَجون. الرابع: كالثالثِ في كونِه مرفوعاً بفعلٍ مقدرٍ، إلاَّ أنَّ هذا الفعلَ المقدَّرَ خبرٌ ل «أنَّ» الأولى، وهو العاملُ في «إذا» . الخامس: أنَّ خبر الأولى محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الثانيةِ عليه، تقديرُه: أنكم تُبْعَثُون، وهو العاملُ في الظرف، وأنَّ الثانية وما في حَيِّزِها بدلٌ من الأولى، وهذا مذهبُ سيبويه. السادس: أنَّ {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} مبتدأٌ، وخبرُه الظرفُ مقدَّماً عليه، والجملةُ خبرٌ عن «أنكم» الأولى، والتقديرُ: أيَعِدُكم أنَّكم إخراجُكم كائنٌ أو مستقرٌ وقتَ موتِكم. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في «إذا» «مُخْرَجُون» على كلِّ قولٍ؛ لأنَّ ما في حيِّز «أنَّ» لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها «مِتُّم» لأنه مضافٌ إليه، و «أنَّكم» وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ أو جرّ بعد حَذْفِ الحرفِ، إذ الأصلُ: أيَعِدُكم بأنَّكم. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ حرفُ جرّ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ فقط نحو: وَعَدْتُ زيداً خيراً.

36

قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} : اسمُ فعلٍ معناه: بَعُدَ، وكُرِّر للتوكيدِ، فليسَتِ المسألةُ من التنازعِ. قال جرير: 3413 - فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه ... وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُهْ وفَسَّره الزجَّاجُ في ظاهر عبارتِه بالمصدرِ فقال: «البُعْدُ لِما تُوعدون، أو بَعُدَ لِما توعدون» . فظاهرُها أنَّه مصدرٌ بدليلِ عَطْفِ الفعل عليه. ويمكنُ أَنْ يكونَ فَسَّر المعنى فقط. و «هيهاتَ» اسمُ فعلٍ قاصرٍ يرفعُ الفاعلَ، وهنا قد جاء ما ظاهرُه الفاعلُ مجروراً باللامِ: فمنهم مَنْ جعله على ظاهِره وقال: «ما توعدون» فاعلٌ به، وزِيْدت فيه اللامُ. التقديرُ: بَعُدَ بَعُدَ ما تُوْعَدُون. وهو ضعيفٌ إذ لم يُعْهَدْ زيادتُها في الفاعلِ. ومنهم مَنْ جَعَل الفاعلَ مضمراً لدلالةِ الكلامِ عليه، فقَدَّره أبو البقاء: «هيهاتَ التصديقُ أو الصحةُ لِما تُوْعَدون» . وقدَّره غيرُه: بَعُدَ إخراجُكم، و «لِما تُوْعدون» للبيانِ. قال/ الزمخشريُّ: «لبيانِ المُسْتَبْعَدِ ما هو بَعْدَ التصويبِ بكلمةِ الاستبعادِ؟ كما جاءَتِ اللامُ في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] لبيانِ المُهَيَّتِ به» . وقال الزجاج: «البُعْدُ لِما تُوعدون» فجعله مبتدأً، والجارُّ بعدَه الخبرُ. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما تُوعدون هو

المستبعَدُ، ومِنْ حَقِّه أَنْ يرتفع ب» هيهاتَ «كما ارتفع بقولِه: فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فما هذه اللام؟ قلت: قال الزجاجُ في تفسيرِه:» البُعْدُ لِما تُوْعَدون، أو بُعْدٌ لِما تُوْعَدون فيمَنْ نَوَّن فَنَزَّلَه مَنْزِلَةَ المصدر «. قال الشيخ:» وقولُ الزمخشري: فَمَنْ نَوَّنَه نَزَّله منزلةَ المصدرِ، ليس بواضحٍ، لأنهم قد نَوَّنوا أسماءَ الأفعال ولا نقول: إنها إذا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ منزلةَ المصادر «. قلت: الزمخشريُّ لم يَقُل كذا، إنما قال فيمن نَوَّن نَزَّله منزلةَ المصدرِ لأجلِ قولِه:» أو بُعْدٌ «فالتنوينُ علةٌ لتقديره إياه نكرةً لا لكونِه مُنَزَّلاً منزلةَ المصدرِ؛ فإنَّ أسماءَ الأفعال ما نُوِّن منها نكرةٌ، وما لم يُنَوَّنْ معرفةٌ نحو: صَهْ وصَهٍ، تقديرُ الأول بالسكوت، والثاني بسكوتٍ ما. وقال ابن عطية:» طَوْراً تلي الفاعلَ دون لامٍ، تقول: هيهات مجيءُ زيدٍ أي: بَعُدَ، وأحياناً يكون الفاعلُ محذوفاً عند اللام كهذه الآيةِ. التقديرُ: بَعُدَ الوجودُ لِما تُوْعدون «. ولم يَسْتَجْوِزْه الشيخُ ومن حيث قولُه حُذِفَ الفاعلُ، والفاعلُ لا يُحْذَفُ. ومن حيث إن فيه حَذْفَ المصدرِ وهو الوجودُ وإبقاءَ معمولِه وهو» لِما تُوعدون «. وهيهاتَ الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً. وقد جاء غيرَ مؤكَّدٍ كقوله:

3414 - هيهات مَنْزِلُنا بنَعْفِ سُوَيْقَةٍ ... كانت مباركةً على الأيام وقال آخر: 3415 - هيهاتَ ناسٌ مِنْ أُناسٍ ديارُهُمْ ... دُقاقٌ ودارُ الآخرين الأوانسُ وقال رؤبة: 3416 - هيهاتَ مِنْ مُنْخَرِقٍ هَيْهاؤه ... قال القيسي شارحُ» أبيات الإِيضاح «:» وهذا مِثْلُ قولِك: بَعُدَ بُعْدُه؛ وذلك أنه بنى من هذه اللفظةِ فَعْلالاً، فجاء به مجيءَ القَلْقَال والزَّلْزال. والألفُ في «هيهات» غيرُ الألفِ في «هيهاؤه» ، وهي في «هيهات» لامُ الفعلِ الثانيةُ كقاف الحَقْحَقَة الثانية، وهي في «هيهاؤه» ألف الفَعْلال الزائدة «. وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ كثيرةٌ تزيد على الأربعين، وأذكر هنا مشهورَها وما قُرِىء به: فالمشهورُ هَيْهات بفتح التاءِ من غيرِ تنوينٍ، بُني لوقوعِه موقعَ

المبنيِّ أو لشِبْهِه بالحرفِ وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وبها قرأ العامَّةُ وهي لغة الحجازيين. و» هَيْهاتاً «بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمروٍ في روايةِ هارون عنه. ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس. و» هَيْهاتٌ «بالضمِّ والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة. وبالضم من غير تنوين، وتروى عن أبي حيوةَ أيضاً، فعنه فيها وجهان، وافقه أبو السَّمَّال في الأول دونَ الثانية. و» هَيْهاتٍ «بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس، وبالكسرِ من غير تنوين، وهي قرءاةُ أبي جعفرٍِ وشَيْبة، وتروى عن عيسى أيضاً، وهي لغة تميم وأسد. وهَيْهاتْ بإسكانِ التاء، وبها قرأ عيسى أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج. وهَيْهاهْ» بالهاء آخراً وصلاً ووَقْفاً. و «أَيْهاتَ» بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعضُ القرَّاء فيما نقل أبو البقاء. فهذه تسعُ لغاتٍ قد قُرِىء بهن، ولم يتواتَرْ منها غيرُ الأولى. ويجوز إبدالُ الهمزةِ من الهاء الأولى في جميعِ ما تقدَّم فيَكْمُل بذلك ستَ عشرةَ لغةً. و «إيهان» بالنون آخراً، و «أيهى» بالألفِ آخراً. فَمَنْ فَتَح التاءَ قالوا فهي عنده اسم مفرد. ومَنْ كسرها فهي عنده جمعٌ تأنيثٍ كزَيْنبات وهنِْدات

ويُعْزى هذا لسيبويه لأنه قال: «هي مثل بَيْضات» فنُسِب إليه أنه جَمْعٌ مِنْ ذلك، حتى قال بعض النحويين: مفردُها هَيْهَة مثل بَيْضَة. وليس بشيءٍ بل مفردُها هَيْهات قالوا: وكان ينبغي على أصلِه أن يُقال فيها: هَيْهَيَات بقلب ألف هَيْهات ياءً لزيادتِها على الأربعة نحو: مَلْهَيات ومَغْوَيَات ومَرْمَيات؛ لأنها من بناتِ الأربعة المضعَّفة من الياء من باب حاحَيْت وصِيصِيَة. وأصلُها بوزنِ القَلْقَلة والحَقْحَقَةُ/ فانقلبت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَتْ هَيْهاة كالسَّلْقاة والجَعْباة، وإنْ كانت الياءُ التي انقلبَتْ عنها ألفُ «سَلْقاة» و «جَعْباة» زائدةً، وياء هَيْهَيَة أصلاً، فلمَّا جُمِعت كان قِياسُها على قولِهم أَرْطَيات وعَلْقيات أن يقلولوا فيها هَيْهَيَات، إلاَّ أنهم حَذَفوا الألف لالتقاء الساكنين لما كانت في آخر اسمٍ مبنيٍّ، كما حَذَفوها في ذان واللتان وتان ليَفْصِلوا بين الألفاتِ في أواخر المبنية والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أُوْلات وذوات لتخالِفَ ياء «حَصَيَات» و «نَوَيات» . وقالوا: مَنْ فتح تاء «هيهات» فحقُّه أَنْ يكتبَها هاء لأنها في مفرد كتمرة

ونواة. ومَنْ كسرها فَحَقُّه أَنْ يكتبَها تاءً لأنها في جمعٍ كهندات. وكذلك حكمُ الوقفِ سواءٌ. ولا التفاتَ إلى لغة «كيف الإِخوةُ والأخَواهْ» ولا «هذه ثَمَرَتْ» لقلَّتِها. وقد رُسِمَتْ في المصحفِ بالهاء. واختلف القراءُ في الوقفِ عليها: فمنهم مَنْ اتَّبع الرسمَ فَوَقَفَ بالهاءِ وهما الكسائيُّ والبزيُّ عن ابن كثير. ومنهم مَنْ وَقَفَ بالتاءِ، وهم الباقونَ. وكان ينبغي أَنْ يكونَ الأكثرُ على الوقفِ بالهاءِ لوجهين، أحدُهما: موافقةُ الرسمِ. والثاني: أنهم قالوا: المفتوح اسمٌ مفردٌ أصله هَيْهَيَة كزَلْزَلة وقَلْقَلَة من مضاعفِ الرُّباعي. وقد تقدَّم: أنَّ المفردَ يُوقف على تاء تأنيثِه بالهاء. وأمَّا التنوينُ فهو على قاعدةِ تنوينِ أسماء الأفعال: دخولُه دالٌّ على التنكيرِ، وخروجُه دالٌّ على التعريف. قال القَيْسِيُّ: «مَنْ نَوَّن اعتقد تنكيرَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ النكرةِ كِأنه قال: بُعْداً بُعْداً. ومَنْ لم ينوِّنْ اعتقد تعريفَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ المعرفةِ كأنه قال: البُعْدَ البُعْدَ فجعل التنوينَ دليلَ التنكيرِ وعدمَه دليلَ التعريفِ» . انتهى. ولا يُوجد تنوينُ التنكير إلاَّ في نوعين: أسماءِ الأفعال وأسماءِ الأصوات نحو: سيبويهِ وسيبويهٍ، وليس بقياسٍ: بمعنى أنه ليس لك أَنْ تُنَوِّن منها ما شِئْتَ بل ما سُمِع تنوينُه اعَتُقِد تنكيرُه. والذي يُقال في القراءاتِ المتقدمةِ: إنَّ مَنْ نَوَّن جعله للتنكيرِ كما تقدَّمَ، ومَنْ لم يُنَوِّنْ جَعَلَ عدَم التنوينَ للتعريفِ. ومَنْ فَتَحَ فللخِفَّةِ وللإِتْباع، ومَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين، ومن ضم فتشبيهاً بقبلُ وبعدُ، ومَنْ سَكَّن فلأنَّ أصلَ البناءِ السكونُ، ومَنْ وقف بالهاءِ فإتْباعاً للرسم، ومن وقف بالتاءِ فعلى الأصلِ سواءً كُسِرت

التاءُ أو فُتحت؛ لأنَّ الظاهرَ أنهما سواءٌ، وإنما ذلك مِنْ تغييرِ اللغاتِ، وإن كان المنقولُ مِنْ مذهب سيبويه ما تقدَّم. هكذا ينبغي أن تُعَلَّل القراءاتُ المتقدمةُ. وقال ابنُ عطية فيمَنْ ضَمَّ ونَوَّن: «إنه اسمٌ معربٌ مستقلٌ مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبرُه» لِما تُوْعَدون «أي: البعدُ لوعدكم كما تقول: النُّجح لسَعْيك» . وقال الرازي في «اللوامح» : «فأمَّا مَنْ رَفع ونَوَّنَ احتمل أَنْ يكونا اسمين متمكنين مرفوعين [بالابتداء] ، خبرُهما من حروف الجر بمعنى: البُعْدُ لِما تُوعدون. والتكرارُ للتأكيد. ويجوز أَنْ يكونا اسماً للفعل. والضمُّ للبناء مثل: حَوْبُ في زَجْرِ الإِبل، لكنه نَوَّنه نكرةً» . قلت: وكان ينبغي لابنِ عطيةَ ولأبي الفضل أن يَجْعلاه اسماً أيضاً في حالةِ النصبِ مع التنوين، على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الفعلِ. قرأ ابنُ أبي عبلةَ «هَيْهات هَيْهات ما تُوْعدون» من غير لامِ جرٍّ. وهي واضحةٌ مؤيِّدَةٌ لمدَّعي زيادتِها في قراءةِ العامَّة. و «ما» في «لِما تُوْعدون» تحتمل المصدريةَ أي: لِوَعْدِكم، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي، / والعائدُ محذوفٌ أي: تُوْعَدُوْنَه.

37

قوله: {إِنْ هِيَ} : «هي» ضميرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ أي: إنْ حياتُكم إلاََّ حياتُنا. قال الزمخشري: «هذا ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُرادُ به إلاَّ بما يَتْلوه مِنْ بيانِه. وأصلُه: إنِ الحياةُ إلاَّ حياتُنا الدنيا، فوَضَعَ» هي «مَوْضِعَ» حياتُنا «لأنَّ الخبرَ يَدُلُّ عليها ويُبَيِّنها. ومنه» هي النفس تتحمَّل ما حَمَلت «و» هي العربُ تقولُ ما شاءَتْ «. وقد جَعَلَ بعضُهم هذا القِسْمَ ممَّا يُفَسَّر بما بعدَه لفظاً ورتبةً ونسبه إلى الزمخشريِّ متعلقاً بهذا الكلام الذي نقلتُه عنه، لا تَعَلُّقَ له في ذلك. قوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} جملةٌ مفسِّرةٌ لما ادَّعَوْه مِنْ أَنْ حياتَهم ما هي إلاَّ كذا. وزعم بعضُهم أنَّ فيها دليلاً على عدمِ الترتيبِ في الواو، إذ المعنى: نحيا ونموتُ إذ هو الواقعُ. ولا دليلَ فيها؛ لأنَّ الظاهرَ مِنْ معناها: يموت البعض مِنَّا، ويَحْيا آخرون، وهَلُمَّ جرَّا. يُشيرون إلى انقراضِ العصرِ وخَلْفِ غيرِه مكانَه. وقيل: نموت نحن ويَحْيا أبناؤنا. وقيل: القومُ يعتقدونَ الرَّجْعَةَ أي: نموت ثم نَحْيا بعد ذلك الموتِ.

40

قوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} : في «ما» هذه وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ بينَ الجارِّ ومجرورِه للتوكيدِ كما زِيْدَتْ في الباءِ نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} [آل عمران: 159] . وفي «مِنْ» نحو {مِّمَّا خطيائاتهم} [نوح: 25] . و «قليلٍ» صفةٌ لزمنٍ محذوفٍ أي عَنْ زمنٍ قليل. والثاني: أنها غيرُ زائدةٍ بل هي نكرةٌ بمعنى شيء أو زمن. و «قليل» صفتُها أو بدلٌ منها. وهذا الجارُّ فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّه متعلقٌ بقولِه: {

لَّيُصْبِحُنَّ} أي لَيُصْبِحُن عن زمنٍ قليل نادمين. والثاني: أنه متعلقٌ ب «نادمين» . وهذَا على أحدِ الأقوالِ في لام القسم، وذلك أنَّ فيها ثلاثةَ أقوال: جوازَ تقديمِ معمولِ ما بعدها عليها مطلقاً. وهو قول الفراء وأبي عبيدة. والثاني: المَنْعُ مطلقاً وهو قولُ جمهورِ البصريين. والثالث: التفصيلُ بين الظرفِ وعديلِه، وبين غيِرهما، فيجوزُ فيهما الاتساعُ، ويمتنعُ في غيرِهما، فلا يجوز في: «والله لأضربنَّ زيداً» : «زيداً لأضرِبَنَّ» لأنه غيرُ ظرفٍ ولا عديلِه. والثالث من الأوجه المتقدمة: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: عَمَّا قليلٍ نُنْصَرُ حُذِف لدلالةِ ما قبلَه عليه. وهو قولُه «رَبِّ انْصُرْني» . وقرىء «لَتُصْبِحُنَّ» بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ، أو على أن القولَ صدرَ من الرسولِ لقومِه بذلك.

41

قوله: {غُثَآءً} : مفعولٌ ثانٍ للجَعْل بمعنى التصيير. والغُثاء: قيل هو الجُفاء وقد تقدَّم في الرعد. قاله الأخفش. وقال الزجاج: «هو البالي مِنْ ورق الشجر، إذا جرى السيلُ خالَطَ زَبَدَه» . وقيل: كل ما يُلْقيه السَّيْلُ والقِدْرُ مِمَّا لا يُنْتَفَعُ به، وبه يُضْرَبُ المَثَلُ في ذلك. ولامُه واوٌ لأنه مِنْ غثا الوادي يَغْثُو غَثْوَاً وكذلك غَثَت القِدْرُ. وأمَّا غَثِيَتْ نفسُه تَغْثِي

غَثَياناً أي: خَبُثَتْ فهو قريبٌ مِنْ معناه، ولكنه مِنْ مادة الياء. وتُشَدَّدُ ثاء «الغُثَّاء» وتُخَفَّفُ وقد جُمع على «أَغْثاء» وهو شاذُّ، بل كان قياسُه أن يُجْمَعَ على أَغْثِيَة كأَغْرِبة، أو على غِثْيان كغِرْبان وغِلْمان. وأنشدوا لامرىء القيس: 3417 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... من السَّيْلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مُغْزَلِ بتشديد الثاء وتخفيفها والجمع أي: والأَغْثاء. قوله: {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ} : بُعْداً: مصدرٌ بَدَلٌ من اللفظِ بفعلِه، فناصبُه واجبُ الإِضمارِ لأنَّه بمعنى الدعاءِ عليهم. والأصلُ: بَعُدَ بُعْدَاً وبَعَداً نحو: رَشَدَ رُشْداً ورَشَداً. وفي هذه اللامِ قولان أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّها متعلقةٌ بمحذوفٍ للبيانِ كهي في سَقْياً له وجَدْعاً له. قاله الزمخشري. الثاني: أنها متعلقةٌ ب بُعْداً. قاله الحوفي. وهذا مردودٌ؛/ لأنه لا يُحْفَظُ حَذْفُ هذه اللامِ ووصولُ المصدرِ إلى مجرورِها البتةَ، ولذلك منعوا الاشتغالَ في قولِه {والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} [محمد: 8] لأنَّ اللام لا تتعلَّقُ ب «تَعْساً» بل بمحذوفٍ، وإن كان الزمخشريُّ جَوَّزَ ذلك، وسيأتي في موضِعه إنْ شاءَ الله تعالى.

44

قوله: {تَتْرَى} : فيه وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ «رُسُلَنا» بمعنى متواتِرين أي: واحداً بعد

واحدٍ، أو مُتتابعين على حَسَبِ الخلافِ في معناه كما سيأتي. وحقيقتُه أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ. والثاني: أنه نعتٌ مصدرٍ محذوف تقديرُه: إرسالاً تَتْرى أي: متتابعين أو إرسالاً إثرَ إرْسال. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهي قراءةُ الشافعيِّ «تَتْرَىً» بالتنوين. وباقي السبعةِ «تترى» بألفٍ صريحةٍ دونَ تنوينٍ. وهذه هي اللغةُ المشهورةُ، فَمَنْ نَوَّن فله وجهان، أحدُهما: أنَّ وَزْنَ الكلمةِ فَعْل كفَلْس، فقوله: «تَتْرَىً» كقولك: نَصَرْتُه نَصْراً. وَوَزْنُه في قراءتِهم فَعْلاً. وقد رُدَّ هذا الوجهُ بأنَّه لم يُحْفَظْ جَرَيانُ حركاتِ الإِعرابِ على رائِه، فيُقال: هذا تَتْرٌ ومررت بتَتْرٍ نحو: هذا نَصْرٌ، ورأيت نصراً، ومررتُ بنصرٍ. فإذا لم يُحْفَظْ ذلك بَطَلَ أَنْ يكونَ وزنُه فَعْلاً. الثاني: أن ألفَه للإِلحاقِ ب جَعْفر كهي في أَرْطى وعَلْقى فلمَّا نُوِّن ذَهَبَتْ لالتقاءِ الساكنين. وهذا أقربُ مِمَّا قبلَه، ولكنه يلزمُ منه وجودُ ألفِ الإِلحاقِ في المصادرِ وهو نادرٌ، الثالث: أنها للتأنيثِ كدعوى. وهي واضحةً فتحصَّلَ في ألفِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها بدلٌ من التنوينِ في الوقفِ. الثاني: أنها للإِلحاق. الثالث للتأنيث. واخْتُلف فيها: هل هي مصدرٌ كدعوى وذكرى، أو اسمُ جمعٍ كأسرى وشتى، كذا قالهما الشيخ. وفيه نظرٌ، إذ المشهورُ أنَّ أسرى وشَتَّى جمعا تكسيرٍ لا اسما جمعٍ. وفاؤُها في الأصلِ واوٌ؛ لأنَّها من المُواترة والوِتْر، فقُلِبَتْ تاءً كما قُلِبَتْ تاءً في تَوْارة وتَوْلج

وتَيْقُور وتُخَمَة وتُراث وتُجاه، فإنها من الوَرْي والوُلوج والوَقار والوَخامة والوِراثة والوَجْه. واختلفوا في مَدْلُولِها: فعن الأصمعيِّ: واحداً بعد واحد، وبينهما مُهْلَة. وقال غيره: هي من المُواترة وهي التتابُعُ بغير مُهْلة. وقال الراغب: «والتواتُرُ: تتابُعُ الشيءِ وِتْراً وفرادى. قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} والوَتِيْرَة: السَّجِيَّةُ والطريقة. يقال: هم على وَتيرةٍ واحدةٍ. والتِرَةُ: الذَّحْلُ. والوَتيرة: الحاجزُ بين المَنْخِرَيْن. قوله: {أَحَادِيثَ} قيل: هو جمعُ» حديث «ولكنه شاذٌّ. وقيل: بل هو جمعُ أُحْدُوْثَة كأُضْحُوكة. وقال الأخفش:» لا يُقال ذلك إلاَّ في الشَّرِّ. ولا يُقال في الخير. وقد شَذَّتِ العربُ في أُلَيْفاظ فجمعوها على صيغة مَفاعيل كأَباطيل وأَقاطيع «. وقال الزمخشري:» الأحاديث تكونَ اسمَ جمعٍ للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم «. قال الشيخ:» وأَفاعيل ليس من

أبنيةِ اسمِ الجمع، وإنما ذكرَه أصحابُنا فيما شَذَّ من الجموعِ كقَطيع وأقاطيع، وإذا كان عَباديد قد حكموا عليه بأنه جمعُ تكسيرٍ مع أنهم لم يَلْفِظوا له بواحدٍ فأحرى «أحاديث» وقد لُفِظ له بواحدٍ وهو «حديث» فاتضح أنه جمُع تكسيرٍ لا اسمُ جمعٍ لما ذكَرْنا «.

45

قوله: {هَارُونَ} : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً، وأَنْ يكونَ بياناً، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمار «أَعْني» .

47

قوله: {لِبَشَرَيْنِ} : «بَشَر» يقع على الواحدِ والمثنى والمجموع والمذكرِ والمؤنثِ. قال تعالى: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ} وقد يُطابق. ومنه هذه الآيةُ. وأما إفراد «مِثْلِنا» فلأنَّه يَجْري مَجْرى المصادرِ في الإِفراد والتذكير، ولا يُؤَنَّثُ أصلاً، وقد يطابقُ ما هو له تثنيةً كقوله: {مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} [آل عمران: 13] وجمعاً كقولِه: {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] . وقيل: أُريد المماثلةُ في البشرية لا الكميَّة. وقيل: اكتُفي بالواحدِ عن الاثنين. قوله: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} جملةٌ حاليةٌ.

49

قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب} : قيل: أراد قومَ موسى فَحُذِفَ المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه؛ ولذلك أعاد الضميرَ مِنْ قولِه «لعلَّهم» عليهم. وفيه/ نظرٌ؛ إذ يجوز عَوْدُ الضميرِ على القومِ مِنْ غيرِ تقديرِ إضافتِهم إلى موسى، وتكونُ هِدايتُهم مُتَرَتِّبةً على إيتاء التوراةِ لموسى.

50

قوله: {وَمَعِينٍ} : صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: وماءٍ مَعِيْنٍ. وفيه أحدهما: أنَّ ميمَه زائدةٌ، وأصله مَعْيُوْن أي: مُبْصَرٌ بالعينِ، فأُعِلَّ إعْلالَ «مبيع» وبابه، وهو مثلُ قولِهم «كَبَدْتُه» أي ضربْتُ كَبِدَه، ورَأَسْتُه أي: أصبتُ رأسَه، وعِنْته أي: أدركتُه بعيني. ولذلك أدخلَه الخليلُ في مادة ع ي ن. والثاني: أن الميمَ أصليةٌ، ووزنُه فَعيل مشتقٌّ من المَعْن. واختُلِف في المَعْن فقيل: هو الشيءُ القليلُ ومنه الماعُون. وقيل: هو مِنْ مَعَنَ الشيءُ مَعانَةً أي كَثُر. قال جرير: 3418 - إنَّ الذين غَدَوْا بِلُبِّك غادَروا ... وَشَلاً بعينِك لا يَزال مَعيناً وقال الراغب: «وهو مِنْ مَعَن الماءُ: جرى» وسمى مجاري الماءِ مُعْنان. «وأمعنَ الفرس: تباعَدَ في عَدْوِه، وأَمْعَنَ بحقي ذهبَ به، وفلان مَعَنٌ في حاجته» . يعني سريعاً. قلت: كلُّه راجعٌ إلى معنى الجَرْيِ والسُّرْعة.

51

قوله: {واعملوا صَالِحاً} : يجوزُ أَنْ يكونَ «صالحاً» نعتاً لمصدرٍ محذوف ِأي: واعملوا عَمَلاً صالحاً من غير نظرٍ إلى ما يَعْملونه كقولهم: تُعْطي وتمْنع. ويجوز أن يكونَ مفعولاً به وهو واقعٌ على نفسِ المعمولِ.

52

قوله: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ} : قرأ ابن عامر وحده «وأنْ» هذه بفتحِ الهمزةِ وتخفيفِ النون. والكوفيون بكسرها والتثقيل، والباقون بفتحها والتثقيل. فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ فهي المخففةُ من الثقيلة. وسيأتي توجيِهُ الفتح في الثقيلة فيتضحُ معنى قراءتِه. وأمَّا قراءةُ الكوفيين فعلى الاستئنافِ. وأمَّا قراءة الباقين ففيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنها على حذف اللام أي: ولأَِنَّ هذه، فلمَّا حُذِف الحرفُ جرى الخلافُ المشهورُ. وهذه اللامُ تتعلَّقُ ب «اتَّقون» . والكلامُ في الفاءِ كالكلامِ في قوله: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] . والثاني: أنها منسوقَةٌ على «بما تَعْملون» أي: إنيِّ عليمٌ بما تَعْملون وبأنَّ هذه. فهذه داخلةٌ في حَيِّز المعلومِ. والثالث: أنَّ في الكلام حَذْفاً تقديره: واعلموا أنَّ هذه أمَّتُكم.

53

وقد تقدَّم {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} وما قيل فيهما، وما قُرِىء به فأغنى عن إعادِته.

54

قولهم: {فِي غَمْرَتِهِمْ} مفعولٌ ثانٍ ل «ذَرْهم» أي: اتْرُكهم مُسْتَقِرِّين في غَمْرَتهم. ويجوز أّنْ يكونَ ظرفاً للتَّرْكِ. والمفعول الثاني محذوفٌ. والغَمْرَةُ في الأصلِ: الماءُ الذي يَغْمُرُ القامةِ، والغَمْرُ: الماءُ الذي

يَغْمُر الأرضَ، ثم استُعير ذلك للجَهالةِ، فقيل: فلانٌ في غَمْرَة، والمادة تدلُ على الغِطاء والاستتارِ، ومِنه الغُمْرُ بالضم لمَنْ لم يُجَرِّبِ الأمورَ، وغُِمارُ الناسِ وخُمَارُهم: زِحامهم. والغِمْر بالكسر الحقد؛ لأنه يُغَطي القلب. والغَمَرات: الشدائدُ. والغامِرُ: الذي يُلْقي نفسَه في المهالِك. وقال الزمخشري: «والغَمْرَةُ: الماءُ الذي يَغْمُر القامةَ، فضُرِبَتْ لهم مَثَلاً لِما هم [مَغْمورون] فيه مِنْ جَهْلهم وعَمايتهم. أو شُبِّهوا باللاعبين في غَمْرَةِ الماءِ؛ لِما هم عليه من الباطلِ كقوله: 3419 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأنني ضاربٌ في غَمْرَةٍ لَعِبُ وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبد الرحمن» غَمَراتهم «بالجمع؛ لأنَّ لكلٍّ منهم غَمْرَةً تَخُصُّه. وقراءةُ العامَّةِ لا تأبى هذا المعنى فإنه اسمُ جنسٍ مضافٌ.

55

قوله: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} : في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها بمعنى الذي وهي اسمُ «أنْ» و «نُمِدُّهم» صلتُها وعائدُها. «

ومن مال» حالٌ من الموصولِ، أو بيانٌ له، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «نُسارعُ» خبرُ «أنَّ» والعائدُ من هذه الجملةِ إلى اسم «أنَّ» محذوفٌ تقديرُه: نُسارِعُ لهم به، أو فيه، إلاَّ أنَّ حَذْفَ مثلِه قليلٌ. وقيل: الرابطُ بين هذه الجملةِ باسم «أنَّ» هو الظاهرُ الذي قامَ مقامَ الضميرِ مِنْ قولِه «في الخيرات» ، إذ الأصل: نُسارِعُ لهم فيه، فأوقع «الخيرات» موقعَه تعظيماً وتنبيهاً على كونِه من الخيرات. وهذا يتمشى على مذهبِ الأخفشِ؛ إذ يَرَى الرَّبْطَ بالأسماءِ الظاهرةِ، وإن. لم يكنْ بلفظِ الأولِ، فيُجيز «زيد الذي قام أبو عبد الله» إذا كان «أبو عبد الله» كنيةَ «زيد» . وتقدَّمَتْ منه أمثلةُ. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ» مِنْ مالٍ «لأنه كان» مِنْ مال «، فلا يُعاب عليهم [ذلك، وإنما يعابُ عليهم] اعتقادُهم أنَّ تلك الأموالَ خيرٌ لهم» . الثاني: أن تكونَ «ما» مصدريةً فينسَبِكُ منه ومِمَّا بعدَها مصدرٌ هو اسم «أنَّ» و «نُسارع» هو الخبرُ. وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ «أنْ» المصدريةِ قبل «نُسارع» ليصِحَّ الإِخبارُ، تقديرُه: أَنْ نسارعَ. فلمَّا حُذِفَتْ «أنْ» ارتفعَ المضارعُ بعدَها. والتقديرُ: أَيَحْسَبون أنَّ إِمْدادَنا لهم من كذا مسارعةٌ منَّا لهم في الخيرات. والثالث: أنها مُهَيِّئَة كافَّةٌ. وبه قال الكسائي في هذه/ الآية وحينئذٍ يُوقف على «وَبَنِين» لأنه قد حَصَل بعد فِعْلِ الحُسْبانِ نسبةٌ مِنْ مسندٍ ومسندٍ إليه نحو: حَسِبْتُ أنَّما ينطلق عمروٌ، وأنما تقومُ أنت. وقرأ يحيى بنُ وَثَّاب «إنما» بكسرِ الهمزة على الاستئنافِ، ويكونُ

حَذْفُ مفعولَي الحُسْبان اقتصاراً أو اختصاراً. وابنُ كثيرٍ في روايةٍ «يُمِدُّهم» بالياءِ، وهو اللهُ تعالى. وقياسُه أَنْ يقرأ «يُسارع» بالياء أيضاً. وقرأ السلمي وابن أبي بكرةَ «يُسارع» بالياءِ وكسرِ الراء. وفي فاعِله وجهان، أحدُهما: الباري تعالى الثاني: ضميرُ «ما» الموصولة إنْ جَعَلْناها بمعنى الذي، أو على المصدرِ إنْ جَعَلْناها مصدريةً. وحينئذٍ يكون «يسارِعُ لهم» الخبرَ. فعلى الأولِ يُحتاجُ إلى تقديرِ عائدٍ أي: يُسارع اللهُ لهم به أو فيه. وعلى الثاني لا يُحْتاج إذ الفاعلُ ضميرُ «ما» الموصولةِ. وعن أبي بكرة المتقدمِ أيضاً «يُسارَع» بالياء مبنياً للمفعول و «في الخيرات» هو القائمُ مَقامَ الفاعل. والجملةُ خبرُ «أنَّ» والعائدُ محذوفٌ على ما تقدَّم وقرأ الحسن «نُسْرع» بالنون مِنْ «أَسْرَعَ» وهي ك «نُسارع فيما تقدَّم. و {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} إضرابٌ عن الحُسْبانِ المُسْتفهمِ عنه استفهامَ تقْريعٍ، وهو إضرابُ انتقالٍ.

57

قوله: {مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنها لبيانِ الجنسِ. قال ابن عطية: «هي لبيانِ جنسِ الإِشفاق» . قلت: وهي عبارةٌ قلقة. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «مُشْفِقُون» قاله الحوفي، وهو واضح.

60

قوله: {يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ} : العامَّةُ على أنَّه من الإِتياء أي: يُعْطون ما أَعْطَوا. وقرأت عائشة وابن عباس والحسن والأعمش «يَأْتُون

ما أَتَواْ» من الإِتيان أي: يفعلون ما فَعَلوا من الطاعاتِ. واقتصر أبو البقاء في ذكر الخلاف على «أتَوْا» بالقصرِ فقط. وليس بجيدٍ لأنه يُوهم أنَّ مَنْ قرأ «أَتَوْا» بالقَصْرِ قرأ «يُؤْتُون» من الرباعي. وليس كذلك. قوله: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل «يُؤْتُوْن» ، فالواوُ للحال. قوله «أنَّهم» يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: وَجِلةُ مِنْ أنَّهم، أي: خائفةٌ مِنْ رجوعِهم إلى ربهم. ويجوزُ أن يكون «لأنَّهم» أي: سَبَبُ الوجَلِ الرجوعُ إلى ربهم.

61

قوله: {أولئك يُسَارِعُونَ} : هذه الجملةُ خبرُ «إنَّ الذين» . وقرأ الأعمش «إنهم» بالكسرِ على الاستئنافِ فالوقفُ على «وَجِلة» تامٌّ أو كافٍ. وقرأ الحُرُّ «يُسْرِعُون» منْ أَسْرع. قال الزجاج: «يُسارِعُون أَبْلَغُ» يعني من حيث إنَّ المفاعَلة تَدُلُّ على قوةِ الفعلِ لأجلِ المغالبةِ. قوله: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} في الضمير في «لها» أوجهٌ، أظهرها: أنَّه يعودُ على «الخيرات» لتقدُّمِها في اللفظ. وقيل: يعودُ على الجنة. وقيل: على

السعادة. وقيل: على الأمم. والظاهرُ أنَّ «سابقون» هو الخبرُ. و «لها» متعلقٌ به قُدِّمَ للفاصلةِ وللاختصاصِ. واللامُ قيل: بمعنى إلى. يقال: سَبَقْتُ له وإليه بمعنىً. ومفعولُ «سابقون» محذوفٌ تقديرُه: سابقون الناسَ إليها. وقيل: اللامُ للتعليل أي: سابِقُون الناسَ لأجلِها. وتكونُ هذه الجملةُ مؤكدةً للجملةِ قبلها، وهي «يُسارِعُون في الخيرات» ولأنها تفيدُ معنىً آخرَ وهو الثبوتُ والاستقرارُ بعدما دَلَّتِ الأولى على التجدد. وقال الزمخشري: «أي فاعلون السَّبْقِ لأجلها أو سابقونَ الناسَ لأجلها» . قال الشيخ: «وهذان القولان عندي واحدٌ» . قلت: ليسا بواحدٍ إذ مرادُه بالتقدير الأول أَنْ لا يُقَدَّرَ للسَّبْقِ مفعولٌ البتةَ، وإنما الغرضُ الإِعلامُ بوقوعِ السَّبْقِ منهم غيرِ نَظَرٍ إلى مَنْ سَبقوه كقولِه: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] {وَكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 187] «يعطي ويمنع» وغرضُه في الثاني تقديرُ مفعولٍ حُذِف للدلالةِ، واللام للعلة في التقديرين. وقال الزمخشري أيضاً: «أو إياها سابقون أي: ينالونها قبل الآخرة، حيث عُجِّلت لهم في الدنيا» . قلت: يعني أنَّ «لها» هو المفعولُ ب «سابقون» وتكون اللامُ قد زِيْدَتْ في المفعولِ. وحَسَّن زيادتَها شيئان، / كلٌّ منهما لو انفرد لاقتضى الجوازَ: كونُ العاملِ فرعاً، وكونُه مقدَّماً عليه معمولُه. قال الشيخ: «ولا يَدُل لفظُ» لها سابِقُون «على هذا التفسيرِ لأنَّ سَبْقَ الشيءِ

الشيءَ يدلُّ على تقدُّمِ السابقِ على المسبوقِ فكيفَ يقول: وهم يَسْبقون الخيراتِ؟ وهذا لا يَصِحُّ» . قلت: ولا أَدْري: عدمُ الصحةِ من أيِّ جهةٍ؟ وكأنه تخيَّل أنَّ السابِقَ يتقدَّم على المسبوق فكيف يتلاقيان؟ لكنه كان ينبغي أن يقولَ: فكيف يقول: وهم ينالون الخيرات وهم لا يُجامِعُونها لتقدُّمهم عليها؟ إلاَّ أنْ يكونَ قد سبقه القلمُ فكَتَبَ بدل «وهم يَنالون» : «وهم يَسْبِقون» ، وعلى كلِّ تقديرٍ فأين عَدَمُ الصِّحة؟ . وقال الزمخشري أيضاً: «ويجوز أَنْ يكونَ» وهم لها سابقون «خبراً بعد خبرٍ، ومعنى» وهم لها «كمعنى قوله: 3420 - أنت لها أحمدُ مِنْ بينِ البَشَرْ ... يعني أنَّ هذا الوصفَ الذي وَصَفَ به الصالحين غيرُ خارجٍ من حَدِّ الوُسْعِ والطاقةِ» . فتحصَّل في اللامِ ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّها بمعنى «إلى» . الثاني: أنها للتعليلِ على بابِها. الثالث: أنَّها مزيدةٌ. وفي خبرِ المبتدأ قولان، أحدُهما: أنه «سابِقون» وهو الظاهرُ. والثاني: أنه الجارُّ كقولِه: أنت لها أحمدُ مِنْ بينِ البَشَرْ ...

وقد رجَّحه الطبريُّ، وهو مرويٌّ عن ابنِ عباس.

62

قوله: {يَنطِقُ} : صفةُ ل «كِتاب» . و «بالحق» يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «يَنْطِقُ» ، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ، حالاً من فاعلِه أي: يَنْطِق مُلْتسباً بالحق.

63

قوله: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} : كقولِه {هُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .

64

قوله: {حتى إِذَآ} : «حتى» هذه: إمَّا حرفُ ابتداءٍ والجملةُ الشرطيةُ بعدَها غايةٌ لِما قبلها، و «إذا» الثانيةُ فجائيةُ هي جوابُ الشرطيةِ، وإمَّا حرفُ جَرٍّ عندَ بعضِهم. وقد تقدَّم تحقيقُه غيرَ مرةٍ. وقال الحوفيُّ: «حتى غايةُ، وهي عاطفةٌ،» إذا «ظرفٌ مضافٌ لِما بعده، فيه معنى الشرطِ،» إذا «الثانية في موضعِ جواب الأولى، ومعنى الكلامِ عاملٌ في» إذا «والمعنى جَاَْرُوا. والعاملُ في الثانيةِ» أَخَذْنا «. وهو كلامٌ لا يَظْهر. وقال ابن عطية: و» حتى «حرفُ ابتداءٍ لا غيرُ. و» إذا «والثانيةٌ التي هو جوابٌ تمنعان مِنْ أَنْ تكونَ» حتى «غايةً ل» عامِلُون «. قلت: يعني أن الجملةَ الشرطيةَ وجوابَها لا يَظْهر أَنْ تكونَ غايةً ل» عامِلون «. وظاهرُ كلامِ

مكي أنها غايةٌ ل» عامِلون «فإنَّه قال:» أي لكفارِ قريش أعمالُ من الشرِّ دونَ أعمالِ أهلِ البرِ لها عاملون، إلى أن يأخذَ اللهُ أهلَ النِّعْمةِ والبَطَرِ منهم إذا هم يَضِجُّون «. انتهى. والجُؤَار: الصُّراخُ مطلقاً. وأنشد الجوهري: 3421 - يُراوِحُ مِنْ صَلَواتِ المَلِيْ ... كِ طَوْراً سُجوداً وطَوْراً جُؤارا وقد تقدَّم هذه مستوفىً في النحل.

66

قوله: {على أَعْقَابِكُمْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «تَنْكِصُون» . كقوله {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48] ؟ والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حال مِنْ فاعلِ «تَنْكِصُون» قاله أبو البقاء ولا حاجةَ إليه. وقرأ أميرُ المؤمنين «تَنْكُصُون» بضم العين. وهي لغةٌ.

67

قوله: {مُسْتَكْبِرِينَ} : حالٌ مِنْ فاعل «تَنْكِصُون» . قوله: «به» فيه قولان، أحدُهما: أنَّه يتعلقُ ب «مُسْتكْبرين» . والثاني أنه متعلقٌ ب «سامِراً» . وعلى الأولِ فالضميرُ للقرآن أو للبيتِ شَرَّفه اللهُ تعالى، أو للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو للنُكوصِ المدلولِ عليه ب «تَنْكِصون» ،

كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] . والباءُ في هذا كلِّه للسببية؛ لأنه استكبروا بسببِ القرآنِ لَمَّا تُلِيَ عليهم، وبسببِ البيتِ لأنَّهم يقولون: نحن وُلاتُه وبالرسولِ لأنهم يقولون: هو مِنَّا دونَ غيرِه، أو بالنُّكوصِ لأنه سببُ الاستكبارِ. وقيل: ضَمَّنَ الاستكبارَ معنى التكذيبِ؛ فلذلك عُدِّيَ بالباءِ، وهذا يَتَأَتَّى على أن يكونَ الضميرُ للقرآنِ أو للرسولِ. وأمَّا على الثاني وهو تَعَلُّقُه ب «سامِراً» فيجوزُ أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عادَ عليه فيما تقدَّم، إلاَّ النكوصَ لأنهم كانوا يَسْمُرُون بالقرآن وبالرسول أي: يجعلونَهما حديثاً لهم يَخُوضون في ذلك كما يُسْمَرُ بالأحاديث، وكانوا يَسْمُرُون في البيتِ، فالباء ظرفيةٌ على هذا، و «سامِراً» / نصبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ فاعل «تَنْكِصُون» ، وإمَّا مِنَ الضمير في «مُسْتَكْبرين» . وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عباس وأبو حيوة وتروى عن أبي عمرٍو «سُمَّراً» بضمِّ الفاءِ وفتحِ العين مشددةً. وزيد بن علي وأبو رجاء وابن عباس أيضاً «سُمَّاراً» كذلك، إلاَّ أنَّه بزيادةِ ألفٍ بين الميمِ والراء، وكلاهما جمعٌ ل «سامِِر» . وهما جمعان مَقيسان ل «فاعِل» الصفةِ نحو: ضُرَّب وضُرَّاب في ضارِب. والأفصحُ الإِفرادُ؛ لأنه يقعُ على ما فوق الواحِد بلفظ الإِفرادِ تقول: قومٌ سامِرٌ. والسَّامِرُ مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو سَهَرُ الليلِ، مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو ما يقعُ على الشجر من ضوءِ القمر، فيجلِسُون إليه يتحدثون مُسْتَأْنِسين به. قال الشاعر:

3422 - كأَن لم يكُنْ بين الحَجونِ إلى الصَّفا ... أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكةَ سامِرُ وقال الراغب: «السَّامِرُ: الليلُ المظلم، ولا آتِيْكَ ما سَمَر ابنا سَمِيرٍ، يَعْنُون الليل والنهار. والسُّمْرة: أحدُ الألوان، والسَّمْراء: كُني بها عن الحِنْطة» . قوله: {تَهْجُرُونَ} قرأ العامَّةُ بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ، وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أنَّها مِن الهَجْرِ بسكونِ الجيمِ، وهو القطع والصَّدُ، أي: تهجُرُون آياتِ الله ورسولَه وتَزْهَدون فيهما، فلا تَصِلُونهما. الثاني: أنها من الهَجَرِ بفتحها وهو الهَذَيانُ. يقال: هَجَر المريضُ هَجَراً أي هذى فلا مفعولَ له. ونافع وابن محيصن بضم التاءِ وكسرِ الجيم مِنْ أهجر إهْجاراً أي: أَفْحَشَ في مَنْطِقِه. قال ابن عباس: «يعني سَبَّ الصحابةِ» . زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضمِّ التاءِ وفتحِ الهاء وكسرِ الجيمِ مشددةً مضارعَ هَجَّر بالتشديد. وهو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ تضعيفاً للهَجْر أو الهَجَر أو الهُجْر. وقرأ ابن أبي عاصم كالعامَّةِ، إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ وهو التفاتٌ.

71

قوله: {وَلَوِ اتبع} : الجمهورُ على كسرِ الواوِ لالتقاء الساكنين. وابن وثاب بضمِّها تشبيهاً بواوِ الضميرِ كما كُسِرَتْ واوُ الضميرِ تشبيهاً بها.

قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ} العامَّةُ على إسناد الفعل إلى ضميرِ المتكلمِ المعظِّمِ نفسَه. والمرادُ: أَتَتْهم رسلُنا. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ «آتيناهم» بالمدِّ بمعنى أَعْطيناهم، فيُحتمل أَنْ يكونَ المفعولُ الثاني غيرَ مذكورٍ. ويُحتمل أَنْ يكونَ «بذِكْرِهم» والباءُ مزيدةٌ فيه. وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمرٍو أيضاً «أَتَيْتُهم» بتاءِ المتكلم وحدَه. وأبو البرهسم وأبو حيوة والجحدري وأبو رجاء «أَتَيْتُهُمْ» بتاء الخطاب، وهو للرسول عليه السلام وعيسى «بذكراهم» بألفِ التأنيث. وقتادةُ «نُذَكِّرُهم» بنون المتكلمِ المعظمِ نفسَه مكانَ باءِ الجرِّ مضارعَ «ذَكَّر» المشدَّدِ، ويكون «نُذَكِّرُهم» جملةً حاليةً. وقد تقدَّم الكلامُ في «خَرْجاً» و «خَراج» في الكهف.

74

قوله: {عَنِ الصراط} : متعلقٌ ب «ناكِبون» ، ولا تمنعُ لامُ الابتداءِ مِنْ ذلك على رأيٍ قد تقدَّم تحقيقه. والنُّكُوب والنَّكْبُ: العدولُ والمَيْلُ. ومنه النَّكْباءُ للريح بين رِيْحَيْنِ، سُمِّيَتْ بذلك لعُدولها عن المَهَابِّ ونَكَبَتْ حوداثُ الدهر أي: هَبَّتْ هبوبَ النَّكْباء، والمَنْكِبُ: مُجْتَمَعُ ما بينَ العَضُدِ والكَتِفِ. والأَنْكَبُ المائلُ المَنْكِبِ. ولفلانٍ نِكابة في قومه أي: نِقابة فيشبه أن تكونَ الكافُ بدلاً من القاف. ويقال: نَكَبَ ونَكَّب مُخَففاً ومُثَقلاً.

75

قوله: {لَّلَجُّواْ} : جواب «لو» . وقد توالى فيه لامان وفيه تَضْعيفٌ لقول مَنْ قال: إنَّ جوابها إذا نفي ب «لم» ونحوِها مِمَّا صُدِّر فيه حرفُ النفي بلام، إنه لا يجوزُ دخولُ اللامِ لو قلت: «لو قام زيدٌ لَلَمْ يقم

عمروٌ» لم يَجُزْ قال: لئلاَّ يتوالى لامان. وهذا موجودٌ في الإِيجابِ كهذهِ الآية ولم يَمْنَعْ، وإلاَّ فما الفرقُ بين النفي والإِثباتِ في ذلك؟ واللَّجاجُ: التَّمادِي في العِناد في تعاطي الفعلِ المزجورِ عنه. ومنه اللَّجَّة بالفتح لتردُّد الصوت كقوله: 4323 - في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ ... ولُجَّة البحرِ لتردُّدِ أمواجه. ولُجَّةُ الليلِ لتردُّدِ ظَلامِه. واللَّجْلَجَةُ تردُّدُ الكلامِ، وهو تكريرُ لَجَّ. ويقال: لَجَّ وأَلجَّ.

76

قوله: {فَمَا استكانوا} : قد تقدم قبلَه استكان في آل عمران. وجاء الأولُ ماضياً، والثاني مضارعاً ولم يَجِيْئا ماضيين ولا مضارعين، ولا جاء الأول مضارعاً والثاني ماضياً؛ لإفادةِ الماضي وجودَ الفعلِ وتحقُّقَه وهو بالاستكانةِ أليقُ بخلافِ التضرُّع، فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبالِ. وأمَّا الاستكانةُ فقد تُوْجَدُ منهم. وقال الزمخشري: «فإن قلت: هلاَّ قيل: وما تَضَرَّعوا فما يَسْتَكِيْنون. قلت: لأن المعنى مَحَنَّاهم فما وُجِدَتْ

منهم عقيبَ المِحْنَةِ استكانةٌ، وما من عادةِ هؤلاء أَنْ يَسْتَكينوا ويتضرعوا حتى/ يُفْتَحَ عليهم بابٌ العذابِ الشديد» . قلت: فظاهرُ هذا أنَّ «حتى» غايةٌ لنفيِ الاستكانةِ والتضرُّعِ.

77

وقرىء «فَتَّحنا» بالتشديدِ. والكلام في «إذا» و «إذا» قد تقدم قريباً. وقرأ السُّلميُّ «مُبْلَسُوْن» بفتحِ اللامِ مِنْ أَبْلَسه أي: أدخله في الإِبْلاس.

80

قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} : قرأ أبو عمرٍو في روايةٍ «يَعْقِلون» بياء الغيبةِ على الالتفات.

85

قوله: {سَيَقُولُونَ اللَّهُ} : قرأ أبو عمرو «سيقولون اللهُ» في الأخيرتين من غير لامِ جَرّ، رَفَعَ الجلالةَ، جواباً على اللفظِ لقولِه «مَنْ» [مِنْ] قولِه: «سيقولون اللهُ، قل: أفلا تَتَّقون» «سيقولون اللهُ، قُلْ فأنى تُسْحَرون» لأنَّ المسؤولَ به مرفوعٌ المحلِّ وهو «مَنْ» فجاء جوابُه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِمَ الموضعان في مصاحفِ البَصرة. والباقون «لله» في الموضعين باللام، وهو جوابٌ على المعنى؛ لأنَّه لا فَرْقَ بين قولِه «مَنْ ربُّ السماوات» وبين قولِه «لِمَنِ السماوات» . ولا بينَ قولِه «مَنْ بيده» ولا «لِمَنْ له» إلاَّ جارُّه. وهذا كقولِك: مَنْ ربُّ هذه الدار؟ فيقال: زيدٌ. وإن شِئْتَ: لزيدٍ؛ لأنَّ

السؤالَ لا فرقَ فيه بين أن يقال: لِمَنْ هذه الدارُ، ومَنْ ربُّها؟ واللامُ مرسومةٌ في مصاحفهم فوافقَ كلٌ مُصْحَفَه، ولم يُخْتَلَفْ في الأول أنه «لله» لأنه مرسومٌ باللام. وجاء الجوابُ باللامِ كما في السؤال. ولو حُذِفَتْ من الجواب لجاز؛ لأنه لا فرقَ بين «لِمَن الأرضُ» و «مَنْ رَبُّ الأرض» إلاَّ أنَّه لم يَقْرَأْ به أحدٌ.

90

قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ} قد قُرىء هنا ببعض ما قُرىء به في نظيره: فقرأ ابنُ أبي إسحاق «أَتَيْتَهم» بتاء الخطاب، وغيرُه بتاء المتكلم.

91

قوله: {إِذاً لَّذَهَبَ} : «إذَنْ» جوابٌ وجزاءٌ. قال الزمخشري: «فإن قلتَ:» إذَنْ «لا تَدْخُلُ إلاَّ على كلامٍ هو جوابٌ وجزاءٌ، فكيف وقع قولُه:» لَذَهَبَ «جواباً وجزاءً، ولم يتقدَّمْه شرطٌ ولا سؤالُ سائلٍ؟ قلت: الشرطُ محذوفٌ تقديرُه:» لو كان معه آلهةٌ «حُذف لدلالةِ» وما كان معه مِنْ إلَهٍ «. قلت: هذا رأي الفراء، وقد تقَّدم ذلك في الإِسراء في قوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ} [الآية: 73] . قوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} . وقرىء تَصِفُون، بتاء الخطابِ. وهو التفاتٌ.

92

قوله: {عَالِمِ الغيب} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابنُ عامرٍ وحفصٌ عن عاصم بالجرِّ على البدل من الجلالةِ. وقال

الزمخشري: «صفة لله» كأنَّه تَمَحَّضَ للإِضافةِ فتعرَّفَ المضافُ. والباقون بالرفع على القطعِ خبرَ مبتدأ محذوفٍ. قوله: {فتعالى} عطفٌ على معنى ما تَقَدَّم كأنه قال: عَلِمَ الغيبَ فتعالى كقولِك: زيدٌ شجاعٌ فَعَظُمَتْ منزلتُه أي: شَجُعَ فعَظُمَتْ. أو يكونُ على إضمارِ القولِ أي: أقول: فتعالى اللهُ.

93

قوله: {إِمَّا تُرِيَنِّي} : قرأ العامَّةُ «تُرِيَنِّي» بصريحِ الياء. والضحَّاك «تُرِئَنِّي» بالهمز عوض الياء وهذا كقراءته: «فإمَّا تَرَئِنَّ» «لَتَرَؤُنَّ» بالهمز وهو بدلٌ شاذُّ.

94

قوله: {فَلاَ تَجْعَلْنِي} : جوابُ الشرط. و «رَبِّ» نداءٌ معترضٌ بين الشرطِ وجزائِه.

95

قوله: {على أَن نُّرِيَكَ} : متعلقٌ ب لَقادِرون أو بمحذوفٍ على خلافٍ سَبَقَ: في أنَّ هذه اللامَ تمنعُ ما بعدها أَنْ تعملَ فيما قبلها.

97

قوله: {مِنْ هَمَزَاتِ} : جمع هَمْزَة وهي النَّخْسَة والدَّفْعَةُ بيدٍ وغيرِها. والمِهْماز: مِفْعال من ذلك كالمِحْراث من الحَرْث. والهَمَّاز: الذي يَعيبُ الناسَ كأنه يَدْفع بلسانه ويَنْخُس به.

99

قوله: {حتى إِذَا} : في «حتى» هذه أوجهٌ، أحدُها: أنها غايةٌ لقولِه: «بما يَصِفون» . والثاني: أنها غايةٌ ل «كاذبون» . وبَيَّنَ هذين الوجهين قولُ الزمخشري: «حتى تتعلق ب» يَصِفون «أي: لا يزالون على سوءِ الذكر إلى هذا الوقت، والآيةُ فاصلةٌ بينهما على وجهِ الاعتراضِ والتأكيدٍ» . ثم قال: «أو على قولِه» وإنهم لكاذِبون «. قلت: قوله: أو على قولِه كذا» كلام محمولٌ على المعنى إذ التقدير «حتى» مُعَلَّقَةٌ على «يَصِفُون» أو على قوله: «لَكاذِبون» . وفي الجملة فعبارةٌ مُشْكلة. الثالث: قال ابنُ عطية: «حتى» في هذه المواضع حرفُ ابتداءٍ. ويُحتمل أَنْ تكونَ غايةً مجردةً بتقديرِ كلامٍ محذوفٍ. والأولُ أَبْيَنُ؛ لأنَّ ما بعدها هو المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكْرُه «. قال الشيخ:» فَتَوَهَّمَ ابنُ عطية أن «حتى» إذا كانت حرفَ ابتداءٍ لا تكونَ غايةً، وهي وإنْ كانَتْ: حرفَ ابتداءٍ، فالغايةُ معنًى لا يُفاريقها، ولم يُبَيِّنْ الكلامَ المحذوفَ المقدَّرَ «. وقال أبو البقاء:» حتى «غايةٌ في معنى العطفِ» . وقال الشيخ: «والذي يَظْهر لي أن قبلها جملةً محذوفةً تكون» حتى «غايةً لها يَدُلُّ عليها ما قبلها. التقديرُ: فلا أكونُ كالكفارِ الذين تَهْمِزُهم الشياطينُ ويَحْضُرونهم، حتى إذا جاء. ونظيرُ

حَذْفِها قولُ الشاعر: 3424 - فيا عَجَبا حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: يَسُبُّني الناسُ كلُّهم حتى كُلَيْبٌ. إلاَّ أن في البيت دَلَّ ما بعدها عليها بخلافِ الآيةِ الكريمة. قوله: {رَبِّ ارجعون} في قوله» ارْجِعُون «بخطابِ الجمع ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أنه على سبيلِ التعظيمِ كقولِ الشاعر: 3425 - فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ ... وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا وقال آخر: 2326 - ألا فارْحَمُوني يا إلَهَ محمدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قد يُؤْخَذُ من هذا البيتِ ما يَرُدُّ على الشيخ جمال الدين بن مالك حيث قال:» إنه لم يَعْلَمْ أحداً أجاز للداعي يقول: يا رحيمون «. قال:» لئلاَّ يؤْهِمُ خلافَ التوحيِد «. وقد أخْبر تعالى عن نفسه بهذه الصيغةِ وشِبْهِها للتعظيمِ في غيرِ موضعٍ من كتابِه الكريم. الثاني: أنه نادى ربَّه، ثم خاطب ملائكةَ ربِّه بقوله:» ارْجِعُون «ويجوز على هذا الوجهِ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: يا ملائكةً ربي، فحذف

المضافَ ثم التفت إليه عَوْدِ الضميرِ كقوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} ثم قال: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] التفاتاً ل» أهل «المحذوف. الثالث: أنَّ ذلك يَدُلُّ على تكريرِ الفعل، كأنه قال: ارْجِعُون ارْجِعون ارْجِعون. نقله أبو البقاء. وهو يُشْبِهُ ما قالوه في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثُنِّي الفعلُ للدلالةِ على ذلك، وأنشدوا قولَه: 3427 - قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: قِفْ قِفْ.

100

قوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ} : من بابِ إطْلاقِ الجزءِ وإرادةِ الكلِّ. كقوله: «أصدقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةٌ لبيدٍ» يعني قوله: 3428 - ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم طَرَفٌ مِنْ هذا بأوسعِ عبارةٍ في آلِ عمران. و «هو قائلُها» صفلةٌ ل «كلمة» . قوله: {بَرْزَخٌ} البَرْزَخْ: الحاجِزُ بين المتنافِيَيْنِ. وقيل: الحِجابُ بين

الشيئين أَنْ يَصِلَ أحدُهما للآخر، وهو بمعنى الأول. وقال الراغب: «أصلُه بَرْزَه بالهاءِ فَعُرِّب. وهو في القيامة الحائلُ بين الإِنسانِ وبين المنازلِ. الرفيعة. والبَرْزَخُ قبلَ البعثِ: المَنْعُ بين الإِنسانِ وبين الرَّجْعَةِ التي يتمنَّاها» .

101

قوله: {فِي الصور} : قرأ العامَّةُ بضم الصادِ وسكونِ الواو. وابن عباسٍ والحسنُ بفتحِ الواوِ جمعَ صورة. وأبو رزين بكسر الصاد وفتح الواوِ وهو شاذٌّ، وهذا عكسُ «لحى» بضم اللام جمعَ «لِحْية» بكسرِها. قوله: {فَلاَ أَنسَابَ} الأنسابُ: جمعُ نَسَب وهو القَرَابةُ مِنْ جهةِ الوِلادة، ويُعَبَّر به عن التواصلِ، وهو في الأصلِ مصدرٌ. قال الشاعر: 3429 - لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلَّةً ... اتَّسَعَ الخَرْقُ على الرَّاقِع قوله: {بَيْنَهُمْ} يجوزُ تَعَلُّقُه بنفسِ «أنساب» ، وكذلكَ «يومئذٍ» أي: فلا قرابةَ بينهم في ذلك اليوم. ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «أَنْساب» . والتنوينُ في «يومئذٍ» عوضٌ من جملةٍ، تقديرهُ: يومَ إذ يُنْفخ في الصُّور.

103

قوله: {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ «خالِدون» خبراً ثانياً ل «أولئك» وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هم خالدون، وقال الزمخشري: {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} بدلٌ مِنْ «خَسِروا أنفسَهم» ، ولا محلَّ

للبدلِ والمبدلِ منه؛ لأنَّ الصلة لا مَحَلَّ لها. قال الشيخ: «جَعَلَ» في جهنم «بدلاً مِنْ» خَسِروا «وهذا بدلٌ غريبٌ. وحقيقتُه أَنْ يكونَ البدلُ الفعلَ الذي تَعَلَّق به» في جهنم «أي: استقرُّوا في جهنم، وهو بدلُ شيءٍ مِنْ شيء؛ لأنَّ مَنْ خَسِر نفسَه استقرَّ في جهنَم» . قلت: فجعل الشيخُ الجارُّ والمجرورَ البدلَ دون «خالدون» والزمخشريُّ جعل جميع ذلك بدلاً، بدليلِ قولِه بعد ذلك: «أو خبرٌ بعد خبرٍ ل» أولئك «أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ» . وهذان إنما يليقان ب «خالدون» ، وأمَّا «في جهنم» فمتعلِّقٌ به، فيحتاج كلامُ الزمخشريِّ إلى جوابٍ. وأيضاً فيصير «خالدون» مُفْلتاً. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ الموصولُ نعتاً لاسمِ الإِشارة وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ كونُه خبراً له.

104

قوله: {تَلْفَحُ} : يجوزُ استئنافُه، ويجوز حاليَّتُه. ويجوز كونُه خبراً آخرَ ل «أولئك» ، واللَّفحُ: إصابةُ النارِ الشيءَ/ وكَلْحُها وإِحْراقُها له، وهو أشَدُّ من النَّفْخِ. وقد تقدَّم النفخ في الأنبياء. قوله: {كَالِحُونَ} الكُلُوح: تَشْميرُ الشَّفَةِ العليا، واسترخاءُ السُّفْلى. وفي الترمذي: تَتَقَلَّصُ شَفَتُه العليا، حتى تبلغَ وسطَ رأسِه، وتَسْتَرْخي السفلى

حتى تَبْلُغَ سُرَّته «ومنه» كُلوحُ الأَسَدِ «أي: تكشيرُه عن أنيابِه. ودهرٌ كالِحٌ، وبردٌ كالحٌ أي: شديد. وقيل: الكُلُوْحُ هو: تَقْطيبُ الوجهِ وبُسُورُه. وكَلَح الرجلُ يَكْلَحُ كُلُوحاً وكِلاحاً.

106

قوله: {شِقْوَتُنَا} : قرأ الأخَوان: «شَقاوتُنا» بفتح الشين وألفٍ بعد القاف. والباقون بكسرِ الشينِ وسكونِ القافِ وهما مصدران بمعنى واحدٍ، فالشَّقاوة كالقَساوة وهي لغةٌ فاشِيَةٌ، والشِّقْوةُ كالفِطْنَة والنِّعْمة. وأنشد الفراء: 3430 - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوَتِهْ ... بنتَ ثمانِيَْ عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ وهي لغةُ الحجاز. قرأ قتادة والحسن في روايةٍ كالأَخَوَيْن إلاَّ أنهما كَسَرا الشينَ. وشبلٌ في اختياره كالباقين، إلاَّ أنَّه فَتَح الشينَ.

109

قوله: {إِنَّهُ كَانَ} : العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ استئنافاً. وأُبَيّ والعتكيُّ بفتحها أي: لأنه. والهاءُ ضميرُ الشأنِ.

110

قوله: {سِخْرِيَّاً} : مفعولٌ ثانٍ للاتخاذ. وقرأ

الأخَوان ونافعٌ هنا وفي ص بكسرِ السين. والباقون بضمِّها في المؤمنين. واختلف الناس في معناهما. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، وهو قولُ الخليلِ وسيبويه والكسائي وأبي زيد. وقال يونس: «إن أُرِيْدَ الخِدْمَةُ والسُّخْرة فالضمُّ لا غيرُ. وإنْ أريدَ الهُزْءُ فالضمُّ والكسر. ورجَّح أبو عليٍ وتبعه مكي قراءةَ الكسرِ قالا: لأنَّ ما بعدها أليقُ لها لقولِه: {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} . قلت: ولا حجةَ فيه لأنَّهم جمعوا بين الأمرَيْن: سَخَّروهم في العمل، وسَخِروا منهم استهزاءً. والسُّخْرَة بالتاء: الاستخدام، و» سُخْرِيَّاً «بالضمِّ منها، والسُّخْرُ بدونها: الهزء، والمكسورُ منه. قال الأعشى: 3431 - إنِّي أتاني حديثٌ لا أُسَرُّ به ... مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيه ولا سُخْرُ ولم يَختلف السبعةُ في ضَمِّ ما في الزخرف؛ لأنَّ المرادَ الاستخدامُ وهو يُقَوِّي قولَ مَنْ فَرَّق بينهما. إلاَّ أنَّ ابنَ محيصن وابن مسلم وأصحابَ

عبدِ الله كسروه أيضاً، وهي مُقَوِّيَةٌ لقولِ مَنْ جعلهما بمعنى. والياءُ في» سِخريَّاً «و» سُخْريَّاً «للنسبِ زِيْدَتْ للدلالةِ على قوةِ الفعل، فالسُّخْرِيُّ أقوى من السُّخْر، كما قيل في الخصوص: خصوصيَّة، دلالةً على قوةِ ذلك، قال معناه الزمخشري.

111

قوله: {أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون} : قرأ الأخوان بكسرِ الهمزةِ استئنافاً. والباقون بالفتحِ، وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه تعليلٌ وهي موافقةٌ للأولى فإنَّ الاستئنافَ يُعَلَّلُ به أيضاً. والثاني ولم يذكُرْ الزمخشري غيرَه أنَّه مفعولٌ ثانٍ لجَزَيْتُهم. أي: بأنهم أي: فَوزْهم. وعلى الأول يكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً.

112

قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} : قرأ الأخَوان «قل: كم لَبِثْتُمْ» . «قُلْ إنْ لبثتم» بالأمر في الموضعين، وابن كثير كالأخوين في الأول فقط، والباقون «قال» في الموضعين، على الإِخبار عن الله أو المَلَك. والفعلان مرسومان بغيرِ ألفٍ في مصاحفِ الكوفة، وبألفٍ في مصاحفِ مكةَ

والمدينةِ والشامِ والبصرةِ، فحمزةُ والكسائيُّ وافقا مصاحفَ الكوفة وخالفها عاصمٌ، أو وافقها على تقديرِ حَذْفِ الألفِ من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحفَ مكة، وفي الأولِ غيرَها، أو أتاها على تقديرِ حَذْفِ الألف وإرادتِها. وأمَّا الباقون فوافقوا مصاحفَهم في الأول والثاني. و «كم» في موضعِ نصبٍ على ظرفِ الزمانِ أي: كم سنة. و «عددَ» بدلٌ مِنْ «كم» قاله أبو البقاء: وقال غيره: إن «عد سنين» تمييز ل «كم» وهذا هو الصحيحُ. وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم «عَدَداً» منوناً. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ «عدداً» مصدراً أُقيم مُقام الاسمِ، فهو نعتٌ تقدَّم على المنعوت. قاله صاحب «اللوامح» . يعني أن الأصل: «سنين عدداً» أي: معدودة، لكنه يُلتزم تقديمُ النعتِ على المنعوتِ، فصوابُه أن يقول: فانتصبَ حالاً. هذا مذهبُ البصريين. والثاني: أنَّ «لَبِثْتُم» بمعنى عَدَدْتُم. فيكون نصبُ «عدداً» على المصدر و «سنين» بدلٌ منه. وقال صاحب «اللوامح» أيضاً: «وفيه بُعْدٌ؛ لعدم دلالة اللُّبث على العدد» . والثالث: أنَّ «عدداً» تمييزٌ ل «كم» و «سنين» بدلٌ منه.

113

قوله: {العآدين} : جمعُ «عادٍّ» من العَدَد. وقرأ الحسن والكسائي في روايةٍ بتخفيفِ الدالِ جمعَ «عادٍ» اسم فاعل مِنْ عدا

أي/: الظَّلَمَة. وقال أبو البقاء: «وقُرىء بالتخفيفِ على معنى العادِيْن المتقدِّمين كقولك:» وهذه بِئْرٌ عادية «، أي: سَلْ من تقدَّمَنا. وحَذَفَ إحدى ياءَي النسَب كما قالوا الأشعرون وحَذَفَ الأخرى لالتقاء الساكنين» . قلت: المَحْذوفُ أولاً مِن الياء الثانية لأنها المتحركةُ، وبحذفِها يلتقي ساكنان. ويؤيِّد ما ذكره أبو البقاء ما ذكره الزمخشري فقال: «وقُرىء» العادِيِّين «أي: القدماء المُعَمَّرين فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم؟» . وقال ابن خالويه: «ولغةٌ أخرى» العاديِّين «يعني بياءٍ مشددة جمع عادِيَّة بمعنى القدماء» .

114

قوله: {لَّوْ أَنَّكُمْ} : جوابُها محذوفٌ، تقديرُه: لو كنتم تعلمونَ مقدارَ لُبْثِكم من الطول لَمَا أَجَبْتُم بهذه المدة. وانتصب «قليلاً» على النعتِ لزمنٍ محذوفٍ أو لمصدرٍ محذوف أي: إلاَّ زمناً قليلاً أو إلاَّ لُبْثاً قليلاً.

115

قوله: {عَبَثاً} : في نصبه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: عابثين. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله أي: لأجل العَبَثِ. والعَبَثُ: اللَّعِبُ وما لا فائدةَ فيه وكلُّ ما ليس له غَرَضٌ صحيحٌ. يقال: عَبَثَ يَعْبَثُ عَبَثاً إذا خَلَط عَمَلَه بلَعِبٍ. وأصله من قولِهم: عَبَثْتُ الأَقِطَ أي: خَلَطْتُه. والعَبِيْثُ طعام مخلوط بشيء، ومنه العَوْبَثَانِيُّ لتمر وسَوِيْقٍ وسمن مختلط. قوله: {وَأَنَّكُمْ} يجوز أَنْ يكونَ معطوفاتً على {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ} فيكونُ

الحُسْبانُ منسحباً عليه، وأن يكون معطوفاً على «عبثاً» إذا كان مفعولاً مِنْ أجله. قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على» عبثاً «أي: للعبث ولتَرْكِكِم غيرَ مرجوعين» . وقدَّم «إلينا» على «تُرْجَعون» لأجل الفواصلِ. قوله: {لاَ تُرْجَعُونَ} هو خبر «أنَّكم» . وقرأ الأخوان «تَرْجِعُون» مبنياً للفاعل. والباقون مبنياً للمفعول. وقد تقدَّم أنَّ «رَجَعَ» يكون لازماً ومتعدياً. وقيل: لا يكون إلاَّ متعدِّياً والمفعولُ محذوفٌ.

116

قوله: {الكريم} : قرأه العامَّةُ مجروراً نعتاً للعرش وُصِفَ بذلك لتَنَزُّل الخيراتِ منه أو لنسبتِه إلى أكرمِ الأكرمين. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب مرفوعاً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه نعتٌ للعرش أيضاً. ولكنه قُطِع عن إعرابه لأجلِ المدحِ على خبر مبتدأ مضمر. وهذا جيدٌ لتَوافُقِ القراءتين في المعنى. الثاني: أنه نعتٌ ل «رب» .

117

قوله: {وَمَن يَدْعُ} : شرطٌ. وفي جوابِه وجهان أصحُّهما: أنه قوله «فإنما حِسابُه» وعلى هذا ففي الجملة المتقدمة وهي قولُه: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وجهان، أحدُهما: أنها صفةٌ ل «إلهاً» وهو صفةٌ لازمةٌ. أي: لا يكون الإِلَهُ المَدْعُوُّ من دون اللهِ إلاَّ كذا، فليس لها مفهومٌ لفسادِ المعنى. ومثلُه {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] لا يُفْهم أنَّ ثَمَّ إلَهاً آخرَ مَدْعُوَّاً من دونِ اللهِ له برهان، وأن ثَمَّ طائراً يطير بغير جناحيه. الثاني: أنها جملةٌ اعتراضٍ بين الشرطِ وجوابِه. وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقولِه: «وهي صفةٌ لازمةٌ كقوله:»

يَطير بجناحيه «، جيء بها للتوكيد لا أَنْ يكونَ في الآلهة ما يجوز أَنْ يقومَ عليه بُرْهانٌ. ويجوز أَنْ يكونَ اعتراضاً بين الشرطِ والجزاءِ كقولك:» مَنْ أحسن إلى زيدٍ لا أحقَّ بالإِحسان منه فاللهُ مُثيبُه «. الثاني: من الوجهين الأولين: أنَّ جوابَ الشرطِ» قولُه لا بُرْهانَ له به «كأنه فَرَّ مِنْ مفهومِ الصفةِ لِما يلزمُ مِنْ فسادِه فَوَقَعَ في شيءٍ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ، وهو حَذْفُ فاءِ الجزاءِ من الجملةِ الاسميةِ، كقوله: 3432 - مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. وقد تقدَّم تخريجُ كونِ» لا برهانَ له «على الصفةِ. ولا إشكال؛ لأنها صفةٌ لازمةٌ، أو على أنها جملةٌ اعتراضٍ. قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} الجمهور على كسرِ الهمزةِ على الاستئنافِ المُفيد للعلمِ. وقرأ الحسنُ وقتادةُ» أنه «بالفتح. وخَرَّجَه الزمخشري على أَنْ يكنَ خبر» حِسابُه «قال: ومعناه: حسابُه عدمُ الفلاحِ. والأصلُ: حسابُه أنه لا يُفلح هو، فوضع» الكافرون «في موضع الضمير، لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع وكذلك» حِسابُه أنه لا يُفلح «في معنى: حسابهم أنهم لا يُفْلحون» انتهى. ويجوزُ أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي [ل] أنَّه لا يُفْلح. وقرأ الحسن «لا يَفْلح» بفتح الياءِ واللام، مضارعَ فَلَح بمعنى أفلح، فَعَل وأَفْعَل فيه بمعنىً. والله أعلم، وهو يقول الحقَّ ويَهْدي السبيلَ.

النور

قوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} : يجوزُ في رَفْعِها وجهان. أحدهما: أن يكونَ مبتدأً. والجملةُ بعدَها صفةٌ لها، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداءِ بالنكرةِ. وفي الخبرِ وجهان، أحدُهما: أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه: {الزانية والزاني} وإلى هذا نحا ابنُ عطية، فإنه قال: «ويجوز أن يكونَ مبتدأً. والخبرُ {الزانية والزاني} وما بَعد ذلك. والمعنى: السورةٌ المُنَزَّلَةُ المَفْرُوْضَةُ كذا وكذا؛ إذ السورةُ عبارةٌ عن آياتٍ مسرودةٍ لها بَدْءٌ وخَتْم» . والثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ أي: فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ، أو فيما أَنْزَلْنا سورةٌ. والوجهُ الثانِ مِنَ الوجَهين الأَوَلَيْن: أَنْ يكونَ خبرُ المبتدأ مضمراً أي: هذه سورةٌ. وقال أبو البقاء: «سورةٌ بالرفع على تقديرِ: هذه سورةٌ، أو مِمَّا يُتْلى عليك سورةٌ فلا تكونُ» سورةٌ «مبتدأَةً لأنها نكرةٌ» . وهذه عبارةٌ مُشكلة على ظاهِرها. كيف يقول: لا تكونُ مبتدأً مع تقديرِه: فيما يُتْلى عليك سورةٌ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرةٌ مع تقديرِه لخبرِها جارَّاً مُقَدَّماً عليها، وهو مُسَوِّغٌ للابتداء بالنكرة.

وقرأه العامَّةُ بالرفعِ على ما تقدَّم. وقرأ الحسن بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهدٌ وأبو حيوة في آخرين «سورةً» بالنصبِ. وفيها أوجهٌ، أحدها: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ غير مفسَّرٍ بما بعدَه. تقديره: اتْلُ سورةً أو اقرأ سورةً. والثاني: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده. والمسألةُ من الاشتغال. تقديرُه: أَنْزَلْنا سورةً أنزلناها. والفرقُ بين الوجهين: أنَّ الجملةَ بعد «سورةً» في محلِّ نصبٍ على الأول، ولا محلَّ لها على الثاني. الثالث: أنها منصوبةٌ على الإِغراء، أي: دونَكَ سورةً. قال الزمخشري، ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يجوزُ حَذْفُ أداة الإِغْراءِ، واستشكل الشيخُ أيضاً على وجهِ الاشتغالِ جوازَ الابتداءِ بالنكرةِ من غيرِ مُسَوِّغٍ. ومعنى ذلك: أنه ما مِنْ مَوْضع يجوز [فيه] النصبُ على الاشتغالُ إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداءِ، وهنا لو رُفِعَتْ «سورة» بالابتداءِ لم يَجُزْ؛ إذ لا مُسَوِّغٍ. فلا يُقال: رجلاً ضربتُه لامتناعهِ: رجلٌ ضربتُه. ثم أجاب: بأنه إنْ اعتُقد حَذْفُ وصفٍ جاز، أي: سورة مُعَظَّمة أو مُوَضَّحة أَنْزَلْناها، فيجوزُ ذلك. الرابع: أنَّها منصوبةٌ على الحال مِنْ «ها» في «أَنْزِلْناها» . والحالُ من المكنى يجوز أن تتقدَم عليه. قاله الفراء. وعلى هذا فالضميرُ في «أَنْزَلْناها» ليس عائداً على سورة بل على الأحكام. كأنه قيل: أَنْزلنا الأحكامَ سورةً مِنْ سُوَرِ القرِآن، فهذه الأحكامُ ثابتةٌ بالقرآنِ، بخلافِ غيرِها فإنَّه قد ثَبَتَتْ بالسُّنة.

قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديدِ. والباقون بالتخفيف. فالتشديد: إمَّا للمبالغةِ في الإِيجاب وتوكيداً، وإمَّا لتكثير المفروض عليهم، وإمَّا لتكثيرِ الشيءِ المفروض. والتخفيفُ بمعنى: أَوْجَبْناها وجعلناها مقطوعاً بها.

2

قوله: {الزانية والزاني} : في رفعهما وجهان: مذهب سيبويه أنَّه مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ أي: فيما يُتْلَى عليكم حكمُ الزانية. ثم بَيَّن ذلك بقوله: {فاجلدوا} إلى آخره. والثاني وهو مذهبُ الأخفش وغيرِه: أنه مبتدأٌ. والخبرُ جملة الأمر. ودخلت الفاءُ لشِبْه المبتدأ بالشرط. وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المسألةِ مستوفىً عند قولِه {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] وعند قولِه {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] فأغنى عن إعادتِه. وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وشيبة ورُوَيْس بالنصبِ على الاشتغال. قال الزمخشري: «وهو أحسنُ

مِنْ» سورةً أنزلناها «لأجلِ الأمر. وقُرِىء» واللذَّانِ «بلا ياءٍ. قوله: {رَأْفَةٌ} قرأ العامَّةُ هنا، وفي الحديد، بسكون الهمزة، وابنُ كثير بفتحها. وقرأ ابن جُرَيْج وتُروى أيضاً عن ابن كثير وعاصم» رَآفة «بألفٍ بعد الهمزة بزنةِ سَحابة، وكلُها مصادِرُ ل رَأَفَ به يَرْؤُف. وقد تقدَّم معناه. وأشهرُ المصادرِ الأولُ. ونقل أبو البقاء فيها لغةً رابعةً: وهي إبدالُ الهمزةِ ألفاً. ومثلُ هذا ظاهرٌ غيرُ محتاجٍ للتنبيهِ عليه فإنها لغةٌ مستقلةٌ وقراءةٌ متواترة. وقرأ العامَّةُ» تَأْخُذْكم «بالتأنيثِ مراعاةً للَّفظِ. وعلي بن أبي طالب والسُّلمي ومجاهد بالياء مِنْ تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ وللفصلِ بالمفعولِ والجارِّ. و» بهما «متعلقٌ ب» تَأْخُذْكم «أو بمحذوفٍ على سبيل البيانِ. ولا يتعلَّقُ ب» رَأْفة «لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه، وفي» دين الله «متعلقٌ بالفعلِ قبله أيضاً. وهذه الجملةُ دالَّةٌ على جوابِ الشرطِ بعدَها، أو هي الجوابُ عند بعضِهم.

3

قوله: {وَحُرِّمَ ذلك} : قرأ أبو البرهسم «وحرَّم» مبنياً للفاعل مشدِّداً. زيد بن علي «وحَرُمَ» بزنة كَرُم.

4

قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} : كقولِه: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] ، فيعودُ فيه ما تقدَّم بحاله. وقوله: {المحصنات} فيه وجهان أحدُهما: أنَّ المرادَ به النساءُ فقط، وإنَّما خَصَّهُنَّ بالذِّكْر؛ لأنَّ قَذْفَهُنَّ أشنعُ. والثاني: أنَّ المرادَ بهنَّ النساءُ والرجال، وعلى هذا فيقالُ: كيف غَلَّبَ المؤنَّثَ على المذكر؟ والجوابُ: أنه صفةٌ لشيء محذوفٍ يَعُمُّ الرجالَ والنساءَ، أي: الأنفسَ المحصناتِ وهو بعيدٌ. أو تقولُ: ثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ لفهمِ المعنى، والإِجماعُ على أنَّ حكمَهم حكمُهن أي: والمُحْصَنين. قوله: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} العامَّة على إضافة اسمِ العددِ للمعدود. وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بالتنوينِ في العدد، واستفصحَ الناسُ هذه القراءةَ حتى جاوزَ بعضُهم الحدَّ، كابنِ جني، ففضَّلها على قراءة العامَّةِ قال: «لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجودُ الإِتباعُ دونَ الإِضافةِ. تقول: عندي ثلاثةُ ضاربون، ويَضْعُفُ ثلاثةُ ضاربين» وهذا غلطٌ، لأن الصفةَ التي جَرَتْ مجرى الأسماءِ تُعْطى حكمَها فيُضاف إليها العددُ، و «شهداء» مِنْ ذلك؛ فإنه كَثُرَ حَذْفُ موصوفِه. قال تعالى: {مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] وتقول: عندي ثلاثةُ أَعْبُدٍ، وكلُّ ذلك صفةٌ في الأصل. ونَقَل ابنُ عطية عن سيبويهِ أنه لا يُجيزَ تنوينَ العددِ إلاَّ في شعرٍ، وليس

كما نقله عنه، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماءِ نحو: ثلاثةُ رجالٍ، وأمَّا الصفاتُ ففيها التفصيلُ المتقدمُ. وفي {شُهَدَآءَ} على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه تمييزٌ. وهذا فاسد؛ لأنَّ مِنْ ثلاثة إلى عشرة يُضافُ لمميِّزه ليس إلاَّ، وغيرُ ذلك ضرورةٌ. الثاني: أنه حالٌ وهو ضعيفٌ أيضاً لمجيئها من النكرةِ من غيرِ مخصِّص. الثالث: أنها مجرورةٌ نعتاً لأربعة، ولم ينصَرِفْ لألف التأنيث. قوله: {وأولئك هُمُ الفاسقون} يجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً. وهو الأظهرُ، وجَوَّزَ أبو البقاء فيها أن تكونَ حالاً.

5

قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} : في هذا الاستثناءِ خلافٌ: هل يعودُ لِما تقدَّمه من الجملِ أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟ وتكلم عليها من النحاةِ ابنُ مالك والمهاباذي. فاختار ابنُ مالك عَوْدَه إلى الجملةِ المتقدمةِ، والمهاباذي إلى الأخيرة. وقال الزمخشري: «ردُّ شهادةِ القاذفِ مُعَلَّقٌ عند أبي حنيفة رحمه الله باستيفاءِ الحدِّ. فإذا شهد [به] قبل الحَدَّ أو قبلَ تمام استيفائِه قُبِلَتْ شهادتُه. فإذا اسْتُوفي لم تُقْبَلْ شهادتُه أبداً، وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء. وعند الشافعيِّ رحمه الله يتعلَّقُ رَدُّ شهادِته بنفسِ القَذْفِ. فإذا تاب عن القَذْفِ بأَنْ يرجعَ عنه عاد مقبولَ الشهادة. وكلاهما متمسِّكٌ بالآية: فأبو حنيفةَ رحمه الله جَعَلَ جزاءَ الشرطِ الذي هو الرميُ الجَلْدَ ورَدَّ

الشهادةِ عقيبَ الجَلْدِ على التأبيد، وكانوا مردودي الشهادة عندَه في أَبَدِهم وهومدةُ حياتِهم، وجعل قولَه {وأولئك هُمُ الفاسقون} كلاماً مستأنفاً غيرَ داخلٍ في حَيِّزِ جزاءِ الشرط، كأنه حكايةُ حالِ الرامين عند الله بعد انقضاءِ الجملةِ الشرطيةِ، و {إِلاَّ الذين تَابُواْ} استثناءٌ من» الفاسقين «. ويَدُلُّ عليه قولُه: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . والشافعيُّ رحمه الله جَعَل جزاءَ الشرطِ الجملتين أيضاً، غيرَ أنه صَرَفَ الأبدَ إلى مدةِ كونهِ قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة [والرجوع] عن القذف، وجعل الاستثناء بالجملةِ الثانية متعلقاً» . انتهى، وإنما ذكرتُ الحكمَ؛ لأنَّ الإِعرابَ متوقفٌ عليه. ومَحَلُّ المستثنى فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. الثاني: أنه مجرورٌ بدلاً من الضمير في «لهم» وقد أوضح الزمخشري ذلك بقولِه «وحَقُّ المستثنى عنده أي الشافعي أن يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ» هم «في» لهم «، وحقُّه عند أبي حنيفة أن يكونَ منصوباً؛ لأنه عن مُوْجَبٍ. والذي يقتضيه ظاهرُ الآيةِ ونظمُها أن تكونَ الجملُ الثلاثُ بمجموعِهِنَّ جزاءَ الشرط كأنه قيل: ومَنْ قَذَفَ المُحْصناتِ فاجْلِدوهم، ورُدُّوا شهادتَهم وفَسِّقوهم أي: فاجْمَعُوا لهم الجَلْدَ والردَّ والتفسيقَ، إلاَّ الذين تابوا عن القَذْفِ وأصلحوا فإنَّ اللهَ يغفرُ لهم فينقلبون غيرَ مجلودِين ولا مَرْدودين ولا مُفَسَّقين» . قال الشيخ: «وليس ظاهرُ الآية يقتضي عَوْدَ الاستثناءِ إلى الجملِ الثلاثِ، بل الظاهرُ/ هو ما يَعْضُده كلامُ العرب وهو الرجوعُ إلى الجملةِ التي تَليها» .

والوجه الثالث: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ من قولِه {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . واعتُرِض بخُلُوِّها مِنْ رابطٍ. وأُجيب بأنه محذوفٌ أي: غفورٌ لهم، واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناءِ: هل هو متصلٌ أو منقطع؟ والثاني ضعيفٌ جداً.

6

قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} : في رفع «أنفسهم» وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ مِنْ «شهداء» ، ولم يذكر الزمخشري في غضونِ كلامِه غيرَه. والثاني: أنه نعتٌ له، على أنَّ «إلاَّ» بمعنى «غير» . قال أبو البقاء: «ولو قُرىء بالنصبِ لجاز على أن يكونَ خبرَ كان، أو منصوباً على الاستثناء. وإنما كان الرفعُ هنا أقوى؛ لأنَّ» إلاَّ «هنا صفةٌ للنكرةِ كما ذَكْرنا في سورة الأنبياء» . قلت: وعلى قراءةِ الرفعِ يُحتمل أَنْ تكونَ «كان» ناقصةً، وخبرُها الجارُّ، وأَنْ تكونَ تامةً أي: ولم يُوجَدْ لهم شهداءُ. وقرأ العامَّةُ «يكن» بالياءِ من تحتُ، وهو الفصيحُ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ لِما بعدَ «إلاَّ» على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو: «ما قام إلاَّ هندٌ» ولا يجوز: ما قامَتْ، إلاَّ في ضرورة كقوله: 3433 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجَراشعُ أو في شذوذٍ كقراءةِ الحسنِ: «لا ترى إلاَّ مَساكنُهم» وقرىء «ولم تَكُنْ» بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه. قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مبتدأ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي: فعليهم شهادة، أو مُؤَخَّرهُ أي: فشهادة أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ. الثاني: أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: فالجوابُ شهادةُ أحدِهم. الثالث: أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي: فيكفي. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعلِ. وقرأ العامَّةُ «أربعَ شهاداتٍ» بالنصبِ على المصدر. والعاملُ فيه «شهادة» فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه، كما تقدَّم في قولِه {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] . وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع «أربع» على أنها خبرُ المبتدأ، وهو قوله: «فشهادة» . ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله: «بالله» ، فعلى قراءةِ النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ بشهادات؛ لأنه أقربُ إليه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بقوله: «فشهادةُ» أي: فشهادةُ أحدِهم بالله. ولا يَضُرُّ الفصلُ ب «أربع» لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً. والثالث: أن المسألةَ

من باب التنازعِ؛ فإنَّ كلاً مِنْ شهادة وشهادات تَطْلُبه من حيث المَعنى، وتكون المسألةُ من إعْمال الثاني للحَذْفِ من الأول، وهو مختار البصريين. وعلى قراءةِ الرفعِ يتعيَّن تَعَلُّقُه بشهادات؛ إذ لو عَلَّقْتَه بشهادة لَزِمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالجرِّ، ولا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ. ولم يُختلفْ في «أربع» الثانية وهي قولُه «أَنْ تَشْهد أربعَ شهاداتٍ أنها منصوبةٌ للتصريح بالعاملِ فيها. وهو الفعلُ.

7

قوله: {والخامسة} : اتفق السبعةُ على رفع الخامسة الأولى، واختلفوا في الثانية: فنصبها حفصٌ، ونَصَبهما معاً الحسنُ والسلمي وطلحة والأعمش. فالرفعُ على الابتداءِ، وما بعده مِنْ «أنَّ» وما في حَيِّزها الخبرُ. وأمَّا نصبُ الأولى فعلى قراءةِ مَنْ نصبٍ «أربعَ شهادات» يكون النصبُ للعطفِ على المنصوبِ قبلها. وعلى قراءةِ مَنْ رَفَعَ يكونُ النصبُ بفعلٍ مقدرٍ أي: ويَشْهَدُ الخامسةَ. وأمَّا نصبُ الثانيةِ فعطفٌ على ما قبلَها من المنصوبِ وهو «أربع شهادات» . والنصبُ هنا أقوى منه في الأولى لقوةِ النصبِ فيما قبلَها كما تقدَّم تقريرُه: ولذلك لم يُخْتَلَفْ فيه. وأمَّا «أنَّ» وما في حَيِّزها: فعلى قراءةِ الرفعِ تكونُ في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ كما تقدَّم، وعلى قراءةِ النصبِ تكونُ على إسقاطِ الخافضِ، ويتعلَّقُ الخافضُ بذلك الناصبِ للخامسةِ أي: ويشهد الخامسةَ بأنَّ لعنةَ الله وبأنَّ غضبَ اللهِ. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ بدلاً من الخامسة. قوله: {أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ} قرأ العامَّةُ بتشديد «أنَّ» في الموضعين. وقرأ

نافعٌ بتخفيفها في الموضعين، إلاَّ أنه يقرأ «غَضِبَ اللهُ» بجَعْلِ «غَضِبَ» فعلاً ماضياً، والجلالة فاعلَه. كذا نقل الشيخ عنه التخفيفَ في الأولى أيضاً، ولم ينقُلْه غيره. فعلى قراءتِه يكون اسمُ «أنْ» ضميرَ الشأنِ في الموضعين، و «لعنةُ الله» مبتدأ و «عليه» خبرُها. والجملةُ خبرُ «أنْ» . وفي الثانية يكون «غضِبَ الله» جملةً فعليةً في محل خبر «أنْ» أيضاً، ولكنه يقال: يلزمُكم أحدُ أَمْرَيْن، وهو إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المخففةِ والفعلِ الواقعِ خبراً، وإمَّا وقوعُ الطلبِ خبراً في هذا البابِ وهو ممتنعٌ. تقريرُ ذلك: أنَّ خبرَ المخففةِ متى كان فعلاً متصرفاً/ غير مقرونٍ ب «قد» وَجَبَ الفصلُ بينهما. بما تقدَّم في سورة المائدة. فإنْ أُجيب بأنه دعاءٌ اعتُرِض بأنَّ الدعاءَ طلبٌ، وقد نَصُّوا على أنَّ الجملَ الطلبيةَ لا تقع خبراً ل «إنَّ» . حتى تأوَّلوا قولَه: 3434 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إنَّ الرِّياضةَ لا تُنْصِبْك للشَّيْبِ وقوله: 3435 - إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ ... لا تَحْسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما على إضمارِ القول. ومثلُه {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] . وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلميُّ وعيسى بتخفيف «أنْ و» غَضَبُ الله «بالرفع على الابتداء، والجارُّ بعدَه خبرُه. والجملةُ خبرُ» أنْ «.

وقال ابنُ عطية:» وأنْ الخفيفةُ على قراءة الرفعِ في قوله: «أَنْ غَضِبَ» وقد وليها الفعلُ. قال أبو علي: «وأهلُ العربيةِ يَسْتَقْبِحون أَنْ يليَها الفعلُ إلاَّ بأَنْ يُفْصل بينها وبينه بشيء نحو قولِه {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ} [المزمل: 20] {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ} [طه: 89] فأمَّا قولُه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ} [النجم: 39] فذلك لقلةِ تمكُّنِ» ليس «في الأفعال. وأمَّا قولُه: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} ف» بُوْرِكَ «في معنى الدعاء فلم يَجىءْ دخولُ الفاصلِ لئلا يَفْسُدَ المعنى» . قلت: فظاهرُ هذا أنَّ «غَضِبَ» ليس دعاءً، بل هو خبرٌ عن «غَضَِبَ الله عليها» والظاهرُ أنه دعاءٌ، كما أنَّ «بُورك» كذلك. وليس المعنى على الإِخبارِ فيهما فاعتراضُ أبي علي ومتابعةُ أبي محمد له ليسا بمَرْضِيَّيْنِ.

10

قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} : جوابُ «لولا» محذوفٌ أي: لَهَلَكْتُمْ.

11

قوله: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك} : في خبر «إنَّ» وجهان، أحدهما: أنه «عُصْبةٌ» و «منكم» صفتُه. قال أبو البقاء: «وبه أفادَ الخبر» . والثاني: أنَّ الخبرَ الجملةُ مِنْ قولِه {لاَ تَحْسَبُوهُ} ويكونُ «عُصْبَةٌ» بدلاً من فاعلِ «جاؤوا» . قال ابن عطية: «التقديرُ: إنَّ فِعْلَ الذين. وهذا أنْسَقُ

في المعنى وأكثرُ فائدةً من أَنْ يكونَ» عُصبةٌ «خبرَ إنَّ. كذا أورده عنه الشيخ غيرَ معترِضٍ عليه. والاعتراضُ عليه واضحٌ: من حيث إنه أوقع خبرَ» إنَّ «جملةً طلبيةً، وقد تقدم أنه لا يجوزُ. وإن وَرَدَ منه شيءٌ في الشعر أُوِّل كالبيتين المتقدمين، وتقديرُ ابنِ عطيةَ ذلك المضافَ قبل الموصولِ ليَصِحَّ به التركيبُ الكلاميُّ؛ إذ لو لم يُقَدِّرْ لكان التركيبُ: لا تَحْسَبوهم. ولا يعودُ الضمير في» لا تَحْسَبوه «على قولِ ابنِ عطيةَ على الإِفكِ لئلا تَخْلُوَ الجملةُ من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ. وفي قولِ غيرِه يجوزُ أَنْ يعودَ على الإِفك أو على القَذِف، أو على المصدرِ المفهومِ من» جاؤوا «أو على ما نال المسلمين من الغَمِّ. قوله: {كِبْرَهُ} العامَّةُ على كسرِ الكافِ، وضَمَّها في قراءته الحسنُ والزهريُّ وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعمرة بنت عبد الرحمن، ورُوِيَتْ أيضاً عن أبي عمروٍ والكسائيّ فقيل: هما لغتان في مصدرِ كَبُرَ الشيءُ أي: عَظُم، لكن غَلَبَ في الاستعمالِ أنَّ المضمومَ في السِّنِّ والمكانةِ يُقال: هو كُبْرُ القومِ بالضمِّ أي: أكبرُهم سِنَّاً أو مكانةً. وفي الحديث في قصة مُحَيِّصَة وحُوَيِّصَة» الكُبْرَ الكُبْرَ «وقيل: الضم معظمُ الإِفْكِ، وبالكسرِ البُداءَةُ به. وقيل: بالكسر الإِثمُ.

12

قوله: {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون} : هذه تحضيضيةٌ، و «إذ» منصوبٌ ب ظَنَّ. والتقدير: لولا ظَنَّ المؤمنين بأنفسِهم إذ سَمِعْتُموه. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ. قال الزمخشري: «فإنْ قُلْتَ: هلاَّ قيل: لولا إذ سَمِعْتُموه ظَنَنْتُمْ بأنفسِكم خيراً وقُلْتم. ولِمَ عَدَلَ عن الخطابِ إلى الغَيْبة، وعن الضميرِ إلى الظاهرِ؟ قلت: ليُبالِغَ في التوبيخِ بطريقةِ الالتفاتِ، وليُصَرِّحَ بلفظِ الإِيمانِ دلالةً على أنَّ الاشتراكَ فيه مُقْتَضٍ أَنْ لا يُصَدِّقَ أحدٌ قالةً في أخيه» . وقوله «لِمَ عَدَلَ الخطابِ» ؟ يعني في قولِه «وقالوا» فإنَّه كان الأصلُ: وقلتم فعدل عن هذا الخطاب إلى الغَيْبة في: «وقالوا» . وقوله: «وعن الضميرِ» يعني أنَّ الأصلَ كان: ظَنَنْتُمْ فَعَدَلَ عن ضميرِ الخطابِ إلى لفظِ المؤمنين.

13

قوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ} : «إذْ» منصوبٌ ب «الكاذبون» في قوله: {فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} . وهذا الكلامُ في قوةِ شرطٍ وجزاء.

15

قوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} : «إذْ» منصوبٌ ب «مَسَّكُمْ» أو ب «أَفَضْتُمْ» . وقرأ العامَّةُ «تَلَقَّوْنه» . والأصلُ: تَتَلَقَّوْنه فحُذِفَتْ إحدى التاءَيْن ك {تَنَزَّلُ} [القدر: 4] ونحوه. ومعناه: يتلقَّاه بعضُكم من بعض. والبزيُّ على أصله: في أنه يُشَدِّد التاءَ وصلاً. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة نحو {وَلاَ تَيَمَّمُواْ} [البقرة: 267] وهو هناك سَهَّلَ لأنَّ ما قبله حرفُ لِيْنٍ بخلافِه هنا. وأبو عمرو والكسائي وحمزةُ على

أصولِهم في إدغامِ الذالِ في التاء. وقرأ أُبَيّ «تَتَلَقَّوْنَه» بتاءين، وتقدَّم أنها الأصلُ. وقرأ ابن السميفع في روايةٍ عنه «تُلْقُوْنَه» بضمِّ التاءِ وسكونِ اللام وضمِّ القافِ مضارِعَ «ألقى» إلقاءً. وقرأ هو في روايةٍ أخرى «تَلْقَوْنه» بفتح التاءٍ وسكونِ/ اللامِ وفتحِ القاف مضارع لَقِيَ. وقرأ ابنُ عباس وعائشةُ وعيسى وابنُ يعمر وزيد بن علي بفتحِ التاءِ وكسرِ اللامِ وضَمِّ القافِ مِنْ وَلَقَ الرجلُ إذا كَذِبَ. قال ابن سيده: «جاؤوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي. وعندي أنه أراد تَلِقُوْن فيه فحذف الحرف ووصل الفعلُ للضمير» . يعني أنهم جاؤوا ب «تَلِقُوْنه» وهو متعدٍ مُفَسَّراً ب «تُكذِّبون» وهو غيرُ متعد ثم حَمَّله ما ذكر. وقال الطبري وغيره: «إن هذه اللفظةَ مأخوذةٌ من الوَلْقِ وهو الإِسراعُ بالشيءِ بعد الشيءِ كعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ وكلامٍ في إثرِ كلامٍ يُقال: وَلَقَ في سَيْرِه أي: أسرع وأنشد: 3436 - جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّأْمِ تَلِقْ ... وقال أبو البقاء: أي: تُسْرعون فيه. وأصله من الوَلْقِ وهو الجنون» . وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر «تَأْلِقُوْنه» بفتح التاء وهمزةٍ ساكنةٍ ولامٍ مكسورةٍ وقافٍ مضمومةٍ من الأَلْقِ وهو الكذبُ. وقرأ يعقوب «تِيْلَقُوْنه» بكسر التاءِ من فوقُ، بعدها ياءٌ ساكنةٌ ولامٌ مفتوحةٌ وقافٌ مضمومةٌ، وهو مضارع وَلِق بكسر اللامِ كما قالوا يِْيجَلُ مضارعَ وجِل.

وقوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ} كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] وقد تقدَّم.

16

قوله: {ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} : كقوله: {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ} [الآية: 12] ولكن لا التفاتَ فيه. وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف جاز الفصلُ بين» لولا «و» قُلْتم «. قلت: للظروفِ شأنٌ ليس لغيرِها لأنها لا يَنْفَكُّ عنها ما يقعُ فيها فلذلك اتُّسِع فيها» . قال الشيخ: «وهذا يُوْهِمُ اختصاص ذلك بالظروف، وهو جارٍ في المفعول به تقول، لولا زيداً ضَرَبْتَ، ولولا عمراً قَتَلْتَ» . وقال الزمخشري أيضاً: «فإِنْ قلتَ: أيُّ فائدةٍ في تقديمِ الظرف حتى أَوْقَعَ فاصلاً؟ قلت: الفائدة فيه بيانُ أنَّه كان الواجبُ عليهم أن يتفادَوْا أولَ ما سمعوا بالإِفْك عن التكلُّم به، فلمَّا كان ذِكْر الوقتِ أهَّم وَجَبَ تقديمُه. فإنْ قلتَ: ما معنى» يكون «والكلامُ بدونه مُتْلَئِبٌّ لو قيل: ما لنا أن نتكلَّم بهذا؟ قلت: معناه ينبغي ويَصِحُّ، أي: ما ينبغي وما يصِحُّ كقولِه: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ} [المائدة: 116] .

17

قوله: {أَن تَعُودُواْ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مفعولٌ من أجلهِ أي: يَعِظُكم كراهةَ أَنْ تعودوا. الثاني: أنه على حَذْفِ «في» أي: في أَنْ تعودوا نحو: وَعَظْتُ فلاناً في كذا فتركه. الثالث: أنَّه ضُمِّن معنى فِعْلٍ يتعدى ب عَنْ، ثم حُذِفَتْ أي: يَزْجُرُكم بالوَعْظِ عن العَوْدِ. وعلى هذين القولين يجْيءُ القولان في محلِّ «أنْ» بعد نَزْعِ الخافضِ.

21

قوله: {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ} : في هذه الهاءِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنها ضميرُ الشَّأْن. وبه بدأ أبو البقاء. والثاني: أنها ضميرُ الشيطان. وهذان الوجهان إنما يجوزان على رَأْيِ مَنْ لا يَشْترط عَوْدَ ضميرٍ على اسمِ الشرط مِنْ جملة الجزاء. والثالث: أنه عائدٌ على «مَنْ» الشرطيَةِ. قوله: {مَا زَكَا} العامَّةُ على تخفيفِ الكاف يقال: زكا يَزْكُو. وفي ألفه الإِمالةُ وعدمُها. وقرأ الأعمش وأبو جعفر بتشديدها. وكُتبت ألفُه ياءً وهو شاذٌّ لأنه من ذواتِ الواو كغزا. وإنما حُمِل على لغةِ مَنْ أمال أو على كتابةِ المُشَدَّدِ. فعلى قراءة التخفيفِ يكون «مِنْ أحد» فاعلاً. وعلى قراءةِ التشديدِ يكونُ مفعولاً. و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن. والفاعلُ هو اللهُ تعالى.

22

قوله: {وَلاَ يَأْتَلِ} : يجوزُ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِن الأَلِيَّة وهي الحَلْف كقوله: 3437 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . .

وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ ونَصَرَ الزمخشري هذا بقراءة الحسن «ولا يَتَأَلَّ» من الأَلِيَّة كقوله: «مَنْ تألَّ على اللهِ يُكَذِّبْه» . ويجوزَ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَوْتُ أي قَصَّرْتُ كقوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] قال: 3438 - وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نَفْسِه ... بمُدْرِكِ أَطْراف الخُطوب ولا آلِ وقال أبو البقاء: وقُرِىء «ولا يَتَأَلَّ» على يَتَفَعَّل وهو من الأَلِيَّة أيضاً «. قلت: ومنه: 3439 - تَأَلَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّني ... إلى نِسْوةٍ كأنَّهنَّ مَفائِدُ قوله: {أَن يؤتوا} هو على إسقاطِ الجارِّ، وتقديرُه على القول الأولِ، ولا يَأْتَلِ أُولوو الفَضْلِ على أَنْ لا يُحِسنوا. وعلى الثاني: ولا يُقَصِّر أُولو

الفَضْل في أَنْ يُحِسنوا. وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن قطيب» تُؤْتُوا «بتاء الخطاب. وهو التفاتُ موافِقٌ لقولِه:» ألا تُحِبون «. وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين: وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا، بالخطاب، وهو موافِقٌ لِما بعده.

24

قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ} : ناصبُه الاستقرارُ الذي تَعَلَّق به «لهم» . وقيل: بل ناصبُه «عذابُ» . ورُدَّ بأنه مصدرٌ موصوفٌ وأجيب: بأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه/ ما لا يُتَّسَعُ في غيرِه. وقرأ الأخَوان «يَشْهَدُ» بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ، وقد وقعَ الفَصْلُ. والباقون بالتاءِ مراعاةً للَّفظِ.

25

والتنوينُ في «إذ» عوضٌ من الجملة، تقديرُه: يوم إذ تشهد. وقد تقدَّمَ خلافُ الأخفش فيه، وقرأ زيد بن علي «يُوْفِيْهِمْ» مخففاً مِنْ أوفى. وقرأ العامَّةُ بنصب «الحق» نعتاً ل «دينَهم» ، وأبو حيوة وأبو رَوْق ومجاهدٌ وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ برفعِه نعتاً لله تعالى.

26

قوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} : يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً، وأن تكونَ في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً، ويجوزُ أَنْ يكونَ «لهم» خبرَ «أولئك» و «مغفرةٌ» فاعلُه.

27

قوله: {تَسْتَأْنِسُواْ} : يجوزُ أن يكونَ من الاستئناس؛ لأنَّ الطارِقَ يَسْتَوْحِشُ من أنه: هل يُؤْذن له أو لا؟ فيُزالُ استيحاشُه، وهو رَدِيْفُ الاستئذانِ فَوُضِع موضعَه. وقيل: من الإِيناس وهو الإِبْصار أي: حتى تَسْتَكْشفوا الحالَ. وفسَّره ابن عباس «حتى تَسْتَأْذِنُوا» وليست قراءةً. وما يُنقل عنه أنه قال: «تستأنسوا خطأٌ من الكاتب، إنما هون تستأذنوا» . . . . . منحولٌ عليه. وهو نظيرُ ما تقدَّم في الرعد {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} [الرعد: 31] وقد تقدَّم القول فيه. والاستِئْناسُ: الاسْتِعْلام، قال: 3440 - كأنَّ رَحْلِيْ وقد زال النهارُ بنا ... يومَ الجليلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَِدِ وقيل: هو من الإِنْس بكسرِ الهمزةِ أي: يتعرَّفُ: هل فيها إنسِيُّ أم لا؟ وحكى الطبريُّ أنه بمعنى: وتُؤْنِسُوا أنفسَكم «. قال ابنُ عطية:» وتصريفُ الفعل يَأْبى أَنْ يكونَ مِنْ آنسَ «.

29

قوله: {أَن تَدْخُلُواْ} : أي: في أن تدخلوا. والجارُّ متعلِّقٌ بجُناح.

30

قوله: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} : في «مِنْ» أوجهٌ، أحدُها: أنها للتبعيضِ لأنَّه يعفى عن الناظِر أولُ نظرةٍ تقعُ مِنْ غيرِ قَصْدٍ. والثاني: لبيانٍ الجنسِ. قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّه لم يتقدَّمْ مُبْهَمٌ يكونُ مفسَّراً ب «مِنْ» . والثالث: أنها لابتداءِ الغاية. وقاله ابنُ عطية. والرابعُ: أنها مزيدةٌ. وهو قولُ الأخفشِ.

31

قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ} : ضَمَّن «يَضْرِبْنَ» معنى يُلْقِيْنَ فلذلك عدَّاه ب «على» . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بكسرِ لامِ الأمرِ. وقرأ طلحة «بخُمْرِهنَّ» بسكونِ الميمِ، وتسكين فُعُل في الجمع أَوْلَى مِنْ تسكينِ المفردِ. وكَسَر الجيمَ مِنْ «جُيُوْبِهِنَّ» ابنُ كثير والأخَوان وابن ذَكْوان. والغَضُّ: إطباقُ الجَفْنِ بحيث يمنعُ الرؤية. قال: 3441 - فَغُضِّ الطَرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ ... فلا كعباً بَلَغْتَ ولا كِلابا والخُمُر: جمع خِمار. وفي القلَّة يُجْمَعُ على «أَخْمِرَة» ، قال امرؤُ القيس:

3442 - وَتَرى الشَّجْراءَ في رَيِّقِهِ ... كَرُؤوسِ قُطِعَتْ فيها الخُمُرْ والجَيْبُ: ما في طَوْقِ القميصِ، يبدو منه بعضُ الجَسَدِ. قوله: {غَيْرِ أُوْلِي} قرأ ابن عامر وأبو بكر «غيرَ» نصباً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه استثناءٌ، والثاني: أنَّه حالٌ، والباقون «غيرِ» بالجرِّ نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً، والإِرْبَةُ: الحاجةُ. وتقدَّم اشتقاقُها في طه. قوله: {مِنَ الرجال} حالٌ من «أُولي» وأمَّا قولُه: «أو الطفلِ الذين» فقد تقدَّم في الحج أن «الطفلَ» يُطْلَقُ عل المثنى والمجموعِ فلذلك وُصِفَ بالجمع. وقيل: لَمَّا قُصِد به الجنسُ رُوْعي فيه الجمعُ فهو كقولِهم: «أهلكَ الناسَ الدينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ» . و «عَوْرات» جمعُ عَوْرَة وهو: ما يريدُ الإِنسانُ سَتْره من بَدَنِه، وغَلَبَ في السَّوْءَتين. والعامَّةُ على «عَوْرات» بسكون الواوِ، وهي لغةُ عامَّةِ العربِ، سَكَّنوها تخفيفاً، لحرفِ العلة. وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ «عَوَرات» بفتح العين. ونقل ابن خالويه أنها قراءةُ ابن أبي إسحاق والأعمش. وهي لغةُ هُذَيْلِ بن مُدْرِكَة. قال الفراء: «وأنشدَني بعضُهم:

3443 - أخُو بَيَضاتٍ رائِحٌ متأوِّبُ ... رفيقٌ بمَسحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ وجعلها ابن مجاهد لحناً وخطأ، يعني من طريق الرواية، وإلاَّ فهي لغة ثابتة. قوله: {أَيُّهَا المؤمنون} العامَّةُ على فتح الهاء وإثباتِ ألفٍ بعد الهاء، وهي» ها «التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف {ياأيها الساحر} [الآية: 49] ، في الرحمن {أَيُّهَا الثقلان} [الآية: 31] بضم الهاء وصلاً، فإذا وَقَفَ سَكَّن. ووجْهُها: أنه لَمَّا حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنين اسْتُخِفَّتْ الفتحةُ على حرفٍ خَفِيّ فَضُمَّتْ الهاءُ إتباعاً. وقد رُسِمَتْ هذه المواضعُ الثلاثةُ دونَ ألفٍ. فوقَفَ أبو عمروٍ والكسائيُّ بألفٍ، والباقون بدونِها، إتْباعاً للرَّسْمِ ولموافقةِ الخَطِّ للفظِ، وثَبَتَتْ في غير هذه المواضعِ حَمْلاً لها على الأصل، نحو: {يَاأَيُّهَا الناس} [البقرة: 21] ، {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [البقرة: 153] وبالجملةِ فالرسمُ سُنَّةُ مُتَّبَعَةٌ.

32

قوله: {الأيامى} : هو جمعُ «أيِّم» بزنةِ فَيْعِل. يُقال منه: آمَ يَئِيْم كباع يبيع قال الشاعر:

3444 - كلُّ امرىءٍ سَتَئِيْمُ مِنْهُ ... العِرْسُ أو منها يَئِيْمُ وقياسُ جمعِه «أيائم» كسَيِّد وسِيائِد. و «أيامى» فيه وجهان، أظهرُهما: من كلام سيبويه أنه جمعٌ على فعالى غيرَ مقلوبٍ وكذلك «يتامى» ، وقيل: إن الأصل أيايِم ويتايِم في: أيِّم ويتيم فقُلبا. والأَيِّم: مَنْ لا زوجَ له ذكراً كان أو أنثى. وخَصَّه أبو بكر الخَفَّافُ بمَنْ فَقَدَتْ زوجَها فإطلاقُه على البِكْر مجازٌ. و «منكم» حالٌ، وكذا «مِنْ عبادِكم» .

33

قوله: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء. والخبرُ الجملةُ المقترنةُ بالفاء، لِما تضمَّنَه المبتدأ من معنى الشرط. ويجوز نصبه بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال. وهذا أرجحُ لمكان الأمر. وقال الزمخشري: «وقد آم وآمَتْ وتَأَيَّما: إذا لم يتزوَّجا، بِكْرين كانا

أو ثِّيَبْن. قال: 3445 - فإن تنكِحي أنكِحْ وإن تتأيَّمي ... وإن كنتُ أفتى منكمُ أتَأَيَّمُ وعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم:» اللهم إنَّا نعوذ بك من العَيْمة والغيمة والأيمة والكَزَم والقَرَم «قلت: أما العَيْمَة بالمهملة فشدةُ شهوةِ اللبن، وبالمعجمةِ شدةُ العطشِ. والأَيْمة: طول العُزْبَة، والكَزَم: شدةُ شهوةِ الأكل. والقَرَمُ: شدةُ شهوةِ اللحم. قوله: {عَلَى البغآء} » البغاء «مصدرُ بَغَت المرأةُ تَبْغي بِغاءً، أي: زَنَتْ. وهو مختصٌّ بزِنى النساء. ولا مفهومَ لهذا الشرطِ؛ لأن الإِكراهَ لا يكونُ مع الإِرداة. قوله: {فِإِنَّ الله} جملةٌ وقعَتْ جواباً للشرط. والعائدُ على اسمِ الشرط محذوفٌ تقديرُه: غفور لهم. وقدَّره الزمخشري في أحدِ تقديراتِه، وابن عطية، وأبو البقاء: فإنَّ اللهَ غفورٌ لهنَّ أي: للمُكْرَهات، فَعَرِيَتْ جملةُ الجزاءِ عن رابطٍ يَرْبِطُها باسمِ الشرطِ. لا يُقال: إن الرابطَ هو الضميرُ المقدَّرُ الذي هو فاعلُ المصدرِ؛ إذ التقديرُ: مِنْ بعد إكراهِهم لهنَّ فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابطِ المقدَّرِ؛ لأنهم لم يَعُدُّوا ذلك من الروابطِ، تقول:» هندٌ عجبْتُ مِنْ

ضَرْبِها زيداً «فهذا جائزٌ، ولو قلت: هندٌ عجبتُ مِنْ ضَرْبِ زيدٍ أي: من ضَرْبِها، لخلوِّها من الرابطِ وإنْ كان مقدَّراً. وقد ضَعَّفَ الإِمامُ الرازي تقديرَ» بهم «ورَجِّح تقديرَ» بهنَّ «فقال:» فيه وجهان، أحدُهما: غفورٌ لهنَّ؛ لأن الإِكراهَ يُزيل الإِثمَ والعقوبةَ عن المُكْرَهِ فيما فَعَلَ. والثاني: فإنَّ اللهَ غفورٌ للمكرِه بشرطِ التوبةِ. وهذا ضعيفٌ لأنه على التفسيرِ الأولِ لا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ «. وفيه نظرٌ لِما عَرَفْتَ من أنَّه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ عند الجمهورِ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرةِ. ولَمَّا قَدَّر الزمخشريُّ» لهنَّ «أورد سؤالاً فقال:» فإن قلتَ: لا حاجةَ إلى تعليقِ المغفرةِ بِهنَّ، لأنَّ المُكْرَهَةَ على الزنى بخلاف المكرِه [عليه في أنها] غيرُ آثمةٍ. قلت: لعل الإِكراهَ غيرُ ما اعتبَرَتْه الشريعةُ من إكراهٍ بقَتْلٍ أو ممَّا يُخافُ منه التَّلَفُ أو فواتُ عضوٍ حتى تَسْلَمَ من الإِثمِ. وربما قَصَّرَتْ عن الحدِّ الذي تُعْذَرُ فيه فتكونُ آثمةً «.

34

وتقدَّمَ الخلافُ في «مُبَيّنات» كسراً وفتحاً. قوله: {وَمَثَلاً} عطفٌ على «آيات» أي: وأَنْزَلْنا مثلاً مِنْ أمثال الذين قبلكم.

35

قوله: {الله نُورُ السماوات} : مبتدأٌ وخبرٌ: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذو نورٍ السماوات. والمرادُ بالنور عَدْلُه. ويؤْيِّد هذا قولُه {

مَثَلُ نُورِهِ} . وأضاف النورَ لهذين الظرفين: إمَّا دَلالةً على سَعَةِ إشراقِه وفُشُوِّ إضاءته، حتى تضيءَ له السماواتُ والأرضُ، وإمَّا لإِرادةِ أهلِ السماوات والأرضِ، وأنَّهم يَسْتضيئون به. ويجوز أَنْ يبالَغَ في العبارةِ على سبيلِ المَدْحِ كقولهم: فلانٌ شمسُ البلاد وقمرُها، قال النابغة: 3446 - فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا ظهرَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبُ وقال: 3447 - قَمَر القبائلِ خالدُ بن يزيد ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ واقِعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: مُنَّوِّرُ السماواتِ. ويؤيِّد هذا الوجهَ قراءةُ أميرِ المؤمنين وزيدِ بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي «نَوَّرَ» فعلاً ماضياً. وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى، و «السماواتِ» مفعولُه فكَسْرُه نصبٌ. و «الأرضَ» بالنصبِ نَسَقٌ عليه. وفَسَّره الحسنُ فقال: الله مُنَوِّرُ السماوات. قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} مبتدأٌ وخبرٌ أيضاً. وهذه الجملةُ إيضاحٌ لِما قبلَها وتفسيرٌ فلا محلَّ لها. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: كَمَثَلِ نورِ مشْكاة. قال

الزمخشري: «أي: صفةُ نورِه العجيبِ الشأنِ في الإِضاءةِ كَمِشْكاةٍ أي: كصفةِ مِشْكاة» . واختلفوا في الضمير في «نُوره» فقيل: هو للهِ تعالى، وهو الأولى، والمرادُ بالنورِ على هذا: الآياتُ المبيناتُ المتقدمةُ، أو الإِيمان، وقيل: إنه عائدٌ على المؤمنين أو المُؤْمنِ أو مَنْ آمن به. وقد قرأ أُبَيّ بهذه الألفاظِ كلِّها. وأعاد الضميرَ على ما قرأ به. وقيل: يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يتقدَّمْ لهذه الأشياءِ ذِكْرٌ. وأمَّا عَوْدُه على المؤمنين في قراءةِ أُبَيّ، ففيه إشكالٌ من حيث الإِفراد. / قال مكي: «يُوْقَفَ على» الأرض «في هذه الأقوالِ الثلاثةِ» . واختلفوا أيضاً في هذا التشبيهِ: أهو تشبيهٌ مركَّبٌ أي: قُصِدَ فيه تشبيهُ جملةٍ بجملةٍ، من غير نَظَرٍ إلى مقابلة جزءٍ بجزءٍ، بل قَصَدَ تشبيهَ هُداه وإتقانَ صنعتِه في كلِّ مخلوقٍ على الجُملة بهذه الجملةِ من النور الذي يَتَّخذونه. وهو أبلغُ صفاتِ النورِ عندكم؟ أو تشبيهٌ غيرُ مركبٍ أي: قُصِدَ مقابلةُ جزءٍ بجزءٍ؟ ويترتَّبُ الكلامُ فيه بحسَبِ الأقوال في الضمير في «نوره» . والمِشْكاةُ: الكُوَّةُ غيرُ النافِذَةِ. وهل هي عربية أم حبشية مُعَرَّبة؟ خلافٌ. وقيل: هي الحديدةُ أو الرَّصاصة التي يوضع فيه الذُّبال وهو الفتيل، وتكون في جَوْفُ الزجاجة، وقيل: هي العمودُ الذي يوْضَعُ على رأسِه

المصباحُ، وقيل: ما يُعَلَّقُ فيه القنديلُ من الحديدِ، وأمال «المِشْكاة» الدُّوري عن الكسائي لتقدُّمِ الكسرِ، وإنْ وُجِدَ فاصلٌ. ورُسِمَتْ بالواو كالزكاة والصلاة. والمِصْباح: السِّراجُ الضخمُ. والزجاجةُ: واحدةٌ الزجاج، وهو جوهرٌ معروفٌ. وفيه ثلاثُ لغاتٍ: فالضم لغةُ الحجاز، وهو قراءةُ العامَّة، والكسرُ والفتحُ لغةُ قيس. وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابنِ مجاهد. وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في روايةٍ عنه، وأبو رجاء. وكذلك الخلافُ في قوله «الزجاجةُ» . والجملةُ مِنْ قوله: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} صفةُ ل «مِشْكاة» . ويجوزُ أن يكونَ الجارُّ وحدَه هو الوصفَ، و «مصباحٌ» مرتفعٌ به فاعلاً. قوله: {دُرِّيٌّ} ، قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. والباقون بضمِّ الدال وتشديد الياءِ من غيرِ همزةٍ، وهذه الثلاثةُ في السبع، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء. وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء. وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيَّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً «دَرِّيْء» بفتح الدال وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ. فأما الأولى فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو «سِكِّين» وفي الصفاتِ نحوِ «سِكِّير» .

وأمَّا القراءةُ الثانية فهي مِنْ الدِّرْءِ بمعنى الدَّفْع أي: يدفع بعضُها بعضاً أو يَدْفعُ ضوءُها خَفاءَها، قيل: ولم يوجد شيءٌ وزنُه فُعِّيل إلاَّ مُرِّيْقاً للعُصْفُر وسُرِّيَّة على قولنا: إنها من السرور، وإنه أُبْدل مِن إحدى المضعَّفاتِ ياءٌ، وأُدْغِمَتْ فيها ياءُ فُعِّيل، ومُرِّيخاً للذي في داخلِ القَرْنِ اليابس، ويقال بكسرِ الميمِ أيضاً، وعُلِّيَّة ودُرِّيْء في هذه القراءة، وذُرِّيَّة أيضاً في قولٍ. وقال بعضهم: «وزن دُرِّيْء في هذه القراءةِ فُعُّول كسُبُّوح قُدُّوْس، فاستُثْقِل توالي الضمِّ فنُقِل إلى الكسرِ، وهذا منقولٌ أيضاً في سُرِّية وذُرِّيَّة. وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ كقراءةِ حمزةَ، إلاَّ أنه أَبْدَلَ مِنَ الهمزةِ ياءً، وأَدْغم، فَيَتَّحدُ معنى القراءتين، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها. وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى الدُّر. والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ.

وأمَّا فتحُ الدالِ مع المدِّ والهمز ففيها إشكالٌ. قال أبو الفتح:» وهو بناءٌ عزيزٌ لم يُحْفَظْ منه إلاَّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين «. قلت: وقد حكى الأخفشُ:» فَعَلَيْه السَّكِّينة والوَقار «و» كوكَبٌ دَرِّيْءٌ «مِنْ» دَرَاْتُه «. قولِه: {يُوقَدُ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو» تَوَقَّدَ «بزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح، ولا يعودُ على» كوكب «لفسادِ المعنى. والأخوان وأبو بكر» تُوْقَدُ «بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ، مضارعَ أَوْقَدَ. وهو مبنيٌّ للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على» زجاجة «فاسْتَتَرَ في الفعل. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ. والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح. وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك، إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال، جعله مضارع «تَوَقَّدَ» ، والأصلُ: تَتَوَقَّد بتاءَيْن، فحُذِفَ إحداهما ك «تَذَكَّرُ» . والضميرُ أيضاً للزُّجاجة. وقرأ عبد الله «وَقَّدَ» فعلاً ماضياً بزنةِ قَتَّلَ مشدداً، أي: المصباح. وقرأ الحسنُ وسَلاَّم أيضاً «يَوَقَّدُ» بالياء مِنْ تحتُ، وضَمِّ الدال، مضارعَ تَوَقَّدَ. والأصلُ يَتَوَقَّدُ بياءٍ من تحتُ، وتاءٍ مِنْ فوقُ، فَحُذِفَتْ التاءُ مِنْ فوقُ. هذا شاذٌ

إذ لم يتوالَ مِثْلان، ولم يَبْقَ في اللفظِ ما يَدُلُّ على المحذوف، بخلافِ «تَنَزَّلُ» و «تَذَكَّرُ» وبابِه؛ فإنَّ فيه تاءَيْن، والباقي يَدُلُّ على ما فُقِد. / وقد يُتَمَحَّلُ لصحتِه وجهٌ من القياس وهو: أنهم قد حَمَلوا أَعِدُ وتَعِدُ ونَعِدُ على يَعِدُ في حَذْفٍ الواوِ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ فكذلك حَمَلوا يَتَوَقَّد بالياء والتاء على تَتَوَقَّد بتاءين، وإنْ لم يكنْ الاستثقالُ موجوداً في الياء والتاء. قوله: {مِن شَجَرَةٍ} «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: مِنْ زيتِ شجرةٍ. وزَيْتونة فيها قولان أشهرُهما: أنَّها بدلٌ مِنْ «شجرةٍ» . الثاني: أنها عطفٌ بيان، وهذا مذهبُ الكوفيين وتَبِعهم أبو عليّ. وقد تقدَّم هذا في قوله {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] . قوله: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ} صفةٌ ل «شَجَرة» ودَخَلَتْ لتفيدَ النفيَ. وقرأ الضحَّاك بالرفعِ على إضمارِ مبتدأ أي: لا هي شرقيةٌ. والجملةُ أيضاً في محل جَرٍّ نعتاً ل «شَجَرة» . قوله: {يَكَادُ} هذه الجملةُ أيضاً نعتُ ل «شجرةٍ» . قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} جوابُها محذوفٌ أي: لأضاءَتْ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه، والجملةُ حاليةٌ. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في قولِه «رُدُّوا السَّائلَ ولو جاءَ على فَرَس» وأنها لاستقصاءِ الأحوالِ: حتى في هذه الحال. وقرأ

ابن عباس والحسن «يَمْسَسْه» بالياءِ لأنَّ المؤنَّثَ مجازيٌّ، ولأنه قد فُصِلَ بالمفعولِ أيضاً. قوله: {نُّورٌ على نُورٍ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: ذلك نورٌ. و «على نورٍ» صفةٌ ل «نور» .

36

قوله: {فِي بُيُوتٍ} : فيها ستةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها صفةٌ ل «مِشْكاةٍ» أي: كمِشْكاةٍ في بيوتٍ أي: في بيتٍ من بيوتِ الله. الثاني: أنه صفةٌ لمصباح. الثالث: أنه صفةٌ ل «زجاجة» . الرابع: أنه متعلقٌّ ب «تُوْقَدُ» . وعلى هذه الأقوالِ لا يُوقف على «عليم» . الخامس: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ كقولِه {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] أي: يُسَبِّحونه في بيوت. السادس: أَنْ يتعلَّقَ ب «يُسَبِّحُ» أي: يُسَبِّحُ رجالٌ في بيوت. وفيها تكريرٌ للتوكيدِ كقولِه: {فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] . وعلى هذه القولَيْن فيُوْقَفُ على «عليم» . وقال الشيخ: «وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ» ولم يُذْكر سوى قولين. قوله: {أَذِنَ الله} في محلِّ جرٍّ صفةً ل «بيوتٍ» ، و «أن تُرفع» على حَذْفِ الجارِّ أي: في أَنْ تُرْفَعَ. ولا يجوزُ تَعَلُّقُ «في بيوت» بقوله: «ويُذْكَرُ» لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز «أَنْ» ، وما بعد «أَنْ» لا يتقدَّم عليها. قوله: {يُسَبِّحُ} قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ.

والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة. والأولى منها بذلك الأولُ لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه، والذي يليه أولى. و «رجالٌ» على هذه القراءةِ مرفوعٌ على أحدِ وجهين: إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه، وكأنه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحه؟ فقيل: يُسَبِّحُه رجالٌ. وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر: 3448 - لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ كأنه قيل: مَنْ يبكيه؟ فقيل: يَبْكيه ضارعٌ. إلاَّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً، منهم مَنْ جَوَّزَه، ومنهم مَنْ مَنعه. والوجهُ الثاني في البيت: أنَّ «يَزيدُ» منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي: يا يزيد، وهو ضعيف جداً. والثاني: أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: المُسَبِّحه رجالٌ. وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال. وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل. والفاعلُ «رجال» فلا يُوْقَفُ على الآصال. وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة «تُسَبِّح» بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها. وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ. وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء، كقولهم: «صِيْد عليه يومان» أي: وَحْشُها.

وخَرَّّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي: تُسَبَّح التسبيحةُ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين، كما خَرَّجوا قراءةَ أَبي جعفرٍ أيضاً {ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] أي: ليجزى الجزاءُ قوماً، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية؛ إذ ليس هنا مفعولٌ صريح.

37

قوله: {لاَّ تُلْهِيهِمْ} : في محلِّ رفعٍ صفةً ل «رجالٌ» . قوله: {يَخَافُونَ} يجوزُ أَنْ تكونَ نعتاً ثانياً لرجال، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ مفعول «تُلْهِيْهم» ، و «يوماً» مفعولٌ به لا ظرفٌ على الأظهر. و «يتقلَّبُ» صفةٌ ل يوماً.

38

قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ} : يجوز تعلُّقُه ب «يُسَبِّح» أي: يُسَبِّحون لأجل الجزاء. ويجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ أي: فعلوا ذلك ليَجْزيهم. وظاهرُ كلامِ الزمخشري أنه من بابِ الإِعمال فإنه قال: «والمعنى: يُسَبِّحونَ، ويَخافون ليجزِيَهم، ويكونُ على إعمالِ الثاني للحذف من الأول. قوله: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي ثوابَ أحسنِ، أو أحسنَ جزاءِ ما عملوا. و» ما «مصدريةٌ أو بمعنى الذي أنكرة.

39

قوله: {بِقِيعَةٍ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لسراب. والثاني: أنَّه ظرفٌ. والعاملُ فيه الاستقرارُ العاملُ في كاف التشبيه. والسَّرابُ: ما يتراءى للإِنسانِ في القَفْرِ في شِدةِ الحرِّ مِمَّا يُشْبِه الماءَ. وقيل: ما يتكاثَفُ في قُعُوْر القِيْعان. قال الشاعر:

3449 - فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ ... كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا مُتَأَلِّقِ يُضرب به المَثَلُ لِمَنْ يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيَخْلُفُ. / وقيل: هو الشُّعاع الذي يَرْمي به نصفُ النهار في شدَّةِ الحَرِّ، يُخَيَّل للناظرِ أنه الماءُ السارِبُ أي الجاري. والقِيْعَةُ: بمعنى القاعِ. وهو المُنبَسِطُ من الأرضِ. وقد تقدَّم في طه. وقيل: بل هي جمعُه كجارٍ وجِيْزَة. وَقرأ مسلمة بن محارب بتاء ممطوطة. وروي عنه بتاءٍ شَكْلِ الهاء، ويَقف عليها بالهاء. وفيها أوجهٌ، أحدها: أَنْ تكونَ بمعنى قِيْعَة كالعامَّةِ، وإنما أَشْبع الفتحةَ فتولَّد منها ألِفٌ كقولِه: «مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ» قاله صاحب «اللوامح» . والثاني: أنه جمع قِيْعَة، وإنما وَقَف عليها بالهاء ذهاباً به مَذْهَبَ لغةِ طيِّىء في قولهم: «الإِخْوةُ والأخواهْ، ودَفْنُ البناهُ مِنْ المَكْرُماهُ» أي: والأخوات، والبنات، والمَكْرُمات. وهذه القراءةُ تؤيِّدُ أنَّ قِيْعَة جمع قاع. الثالث قال الزمخشري: «وقولُ بعضِهم: بقيعاة بتاء مُدَوَّرَة كرجلٍ عِزْهاة» فظاهرُ هذا أنه جعل هذا بناءً مستقلاً ليس جمعاً ولا اتِّساعاً.

وقوله: {يَحْسَبُهُ الظمآن} جملةٌ في محل الجرِّ صفةً لسَراب أيضاً. وحَسُن ذلك لتقدُّمِ الجارِّ على الجملةِ. هذا إنْ جَعَلْنا الجارَّ صفةً. والضمائرُ المرفوعةُ في «جاءَه» وفي «لم يَجِدْه» وفي «وَجَد» ، والضمائرُ في «عنده» وفي «وَفَّاه» وفي «حسابه» كلُّها تَرْجِع إلى الظمآن؛ لأنَّ المرادَ به الكافرُ المذكورُ أولاً. وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ. وقيل: بل الضميران في «جاءه» و «وجد» عائدان على الظمآن، والباقيةُ عائدةٌ على الكافر، وإنما أُفْرِدَ الضميرُ على هذا وإنْ تَقَدَّمه جمعُ وهو قولُه: {والذين كفروا} حَمْلاً على المعنى، إذِ المعنى: كلُّ واحدٍ من الكفار. والأولُ أَوْلى لاتساقِ الضمائرِ. وقرأ أَبو جعفر ورُوِيَتْ عن نافع «الظَّمان» بإلقاءِ حركةِ الهمزةِ على الميمِ.

40

قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} : فيه: أوجهٌ، أحدها: أنه نَسَقٌ على «كسَراب» ، على حَذْفِ مضافٍ واحدٍ تقديرُه: أو كذي ظُلُمات. ودَلَّ على هذا المضافِ قولُه: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فالكنايةُ تعودُ إلى المضافِ المحذوفِ وهو قولُ أبي عليّ. الثاني: أنه على حَذْفِ مضافين تقديرُهما: أو كأعمال ذي ظلمات، فتُقَدِّر «ذي» ليصِحَّ عَوْدُ الضميرِ إليه في قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ} ، وتُقَدِّر «أعمال» ليَصِحَّ تشبيهُ أعمالِ الكفارِ بأعمالِ صاحبِ الظُلْمَةِ، إذ لا معنى لتشبيهِ العملِ بصاحبِ الظُّلْمةِ. الثالث: أنه لا حاجةَ

إلى حَذْفٍ البتة. والمعنى: أنه شَبَّه أعمالَ الكفارَ في حَيْلولَتِها بين القلبِ وما يَهْتدي به بالظُّلْمة. وأمَّا الضميران في «أَخْرج يَده» فيعودان على محذوفٍ دَلَّ عليه المعنى أي: إذا أخرج يَدَه مَنْ فيها. و «أو» هنا للتنويعِ لا للشَّكِّ. وقيل: بل هي للتخييرِ أي: شَبَّهوا أعمالَهم بهذا أو بهذا. وقرأ سفيان بن حسين «أوَ كظٌلُمات» بفتح الواو، جَعَلها عاطفةً دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام الذي معناه التقريرُ. وقد تَقدَّم ذلك في قولِه: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} [الأعراف: 98] . قوله: {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} : «في بحرٍ» صفةٌ لظلمات فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. واللُّجِّيُّ منسوبٌ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ البحرِ. كذا قال الزمخشري. وقال غيرُه: منسوبٌ إلى اللُجَّة بالتاء وهي أيضاً مُعْظمه، فاللجِّيُّ هو العميقُ الكثيرُ الماءِ. قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} صفةٌ أخرى ل «بَحْرٍ» هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في «يَغْشاه» على «بحرٍ» وهو الظاهر. وإنْ قدَّرنا مضافاً محذوفاً أي: أو كذي ظُلُمات كما فَعَل بعضُهم كان الضمير في «يَغْشاه» عائداً عليه، وكانت الجملةُ حالاً منه لتخصُّصِه بالإِضافة، أو صفةً له. قوله: {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مِنْ مبتدأ وخبر، صفةً ل «موجٌ» الأول. ويجوزُ أن يُجْعَلَ الوصفُ الجارَّ والمجرورَ فقط و «مَوْجٌ» فاعلٌ به لاعتمادهِ على الموصوفِ.

قوله: {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} فيه الوجهان المذكوران قبلَه: من كونِ الجملةِ صفةً ل «موج» الثاني، أو الجارِّ فقط. قوله: {ظُلُمَاتٌ} قرأ العامَّةُ بالرفع وفيه وجهان، أجودُهما: أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هذه، أو تلك ظلمات. الثاني: أَنْ يكونَ «ظُلُمات» مبتدأً. والجملةُ من قولِه «بعضُها فوقَ بعض» خبرُه. ذكره الحوفي. وفيه نظرٌ لأنَّه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرةِ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يُقالَ: إنها موصوفةً تقديراً، أي: ظلماتٌ كثيرةٌ متكاثفةٌ كقولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بدرهم» . وقرأ ابن كثير «ظلماتٍ» بالجرِّ إلاَّ أنَّ البزيَّ روى عنه حينئذٍ حَذْفَ التنوينِ من «سَحاب» ، فقرأ البزي عنه «سحابُ ظلماتٍ» بإضافة «سَحابُ» ل «ظلمات» . وروى قنبل عنه التنوينَ في «سَحابٌ» كالجماعة مع جرِّه ل «ظُلُماتٍ» . فأمَّا روايةُ البزي فقال أبو البقاء: / «جَعَلَ الموجَ المتراكمَ بمنزلةِ السحابِ» ، وأمَّا روايةُ قنبل فإنه جَعَلَ «ظلماتٍ» بدلاً مِنْ «ظلماتٍ» الأولى. قوله: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ في موضعِ رفعٍ أو خبرٍ على حَسَبِ القراءتين في «ظلمات» قبلَها لأنها صفةٌ لها. وجَوَّز الحوفيُّ على قراءةِ رفع «ظلماتٌ» في «بعضُها» أن يكونَ بدلاً من «ظلمات» . ورُدَّ عليه من حيث المعنى؛ إذ المعنى على الإِخبارِ بأنها ظلماتٌ، وأنَّ بعضَ تلك الظلماتِ

فوق بعضٍ وصفاً لها بالتراكم، لا أنَّ المعنى: أن بعضَ تلك الظلماتِ فوقَ بعضٍ، من غيرِ إخبارٍ بأن تلك الظلماتِ السابقةَ ظلماتٌ متراكمةٌ. وفيه نظرٌ؛ إذ لا فرقَ بين قولِك «بعضُ الظلماتِ فوقَ بعض» ، وبين قولك «الظلماتُ بعضُها فوقَ بعضٍ» وإنْ تُخُيِّل ذلك في بادِىءِ الرَّأْيِ. وقد تقدَّم الكلامُ في «كاد» ، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها نفيٌ. وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري هنا: «لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي: لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلاً أنْ يَراها. ومنه قولُ ذي الرمة: 3450 - إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ ... رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ أي: لم يَقْرُبْ مِنْ البَراح فما بالُه يَبْرَحُ» . وقال أبوة البقاء: «أختلف الناسُ في تأويلِ هذا الكلامِ. ومَنْشَأُ الاختلافِ فيه: أنَّ موضوعَ» كاد «إذا نُفِيَتْ: وقوعُ الفعلِ. وأكثرُ المفسِّرين على أن المعنى: أنَّه لا يرى يدَه، فعلى هذا: في التقديرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ التقديرَ: لم يَرَها ولم يَكَدْ، ذَكرَه جماعةٌ من النحويين. وهذا خطأٌ؛ لأنَّ قولَه» لم يَرَها «جزمٌ بنفيِ الرؤيةِ وقوله:» لم يَكَدْ «إذا أخرجها على مقتضى البابِ كان التقديرُ: ولم يكَدْ يَراها كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية. فإنْ أراد هذا القائلُ أنَّه لم يَكَدْ يراها، وأنه رآها بعد جُهْدٍ، تناقَضَ؛ لأنه نفى الرؤية ثم أَثْبَتها، وإنْ كان معنى» لم يكَدْ يَراها «: لم يَرَها البتةَ

على خلافِ الأكثرِ في هذا الباب، فينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه مِنْ غير أَنْ يُقَدِّرَ لم يَرَها. والوجه الثاني: أنَّ» كاد «زائدةٌ وهو بعيدٌ. والثالث: أنَّ» كاد «أُخْرِجَتْ ههنا على معنى» قارب «والمعنى: لم يقارِبْ رؤيتَها، وإذا لم يقارِبْها باعَدَها. وعليه جاء قولُ ذي الرمة: إذا غَيَّر النَّأْيُ. . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. أي: لم يقارِبِ البَراحَ. ومِنْ هنا حُكي عن ذي الرمة أنه لَمَّا رُوْجِع في هذا البيت قال: لم أجِدْ بدل «لم يَكَدْ» . والمعنى الثاني: أنَّه رآها بعد جُهْدٍ. والتشبيهُ على هذا صحيحٌ لأنَّه مع شدَّة الظُّلْمة إذا أَحَدَّ نظرَه إلى يدِه وقرَّبها مِنْ عَيْنِه رآها «انتهى. أمَّا الوجهُ الأولُ وهو ما ذكره أنه قولُ الأكثرِ: مِنْ أنَّه يكونَ إثباتاً، فقد تقدَّم أنه غيرُ صحيحٍ وليس هو قولَ الأكثرِ، وإنما غَرَّهم في ذلك آيةُ البقرة. وما أَنْشَدْناه عن بعضِهم لُغْزاً وهو: 3451 - أَنْحْوِيَّ هذا العصرِ ماهي لفظَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيتين. وأمَّا [ما] ذكره مِنْ زيادةِ» كاد «فهو قولُ أبي بكرٍ وغيرِه، ولكنه مردودٌ عندَهم. وأمَّا ما ذكره من المعنى الثاني: وهو أنه رآها بعد جُهْدٍ فهو

مذهبُ الفراء والمبرد. والعجبُ كيف يَعْدِلُ عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشريُّ وهو المبالغةُ في نفي الرؤية؟ وقال ابنُ عطية ما معناه:» إذا كان الفعلُ بعد «كاد» منفياً دَلَّ على ثبوتِه نحو: كاد زيدٌ لا يقوم، أو مُثْبَتاً دَلَّ على نفيه نحو: «كاد زيد يقوم» وإذا تقدَّم النفيُ على «كاد» احتمل أن يكونَ مُوْجَباً، وأَنْ يكونَ منفياً. تقول: «المفلوج لا يَكاد يَسْكُن» فهذا يتضمَّن نَفْيَ السكونِ. وتقول: رجل منصرف لا يكاد يَسْكُن، فهذا تضمَّن إيجابَ السكونِ بعد جُهْد «.

41

قوله: {والطير} : قرأ العامَّةُ «والطيرُ» رفعاً. «صافاتٍ» نصباً: فالرفعُ عطفٌ على «مَنْ» والنصبُ على الحال. وقرأ الأعرج «والطيرَ» نصباً على المفعولِ معه و «صافَّاتٍ» حالٌ أيضاً. وقرأ الحسن وخارجة عن نافع «والطيرُ صافَّاتٌ» برفعِهما على الابتداءِ والخبر. ومفعولُ «صافَّاتٌ» محذوفٌ أي: أجنحَتَها. قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ} في هذه الضمائرِ أقوالٌ، أحدُها: أنَّها كلَّها

عائدةٌ على «كل» أي: كلٌّ قد عَلِمَ هو صلاةَ نفسِه وتسبيحَها. وهذا/ أولى لتوافُقِ الضمائر. والثاني: أنَّ الضميرَ في «عَلِمَ» عائدٌ على اللهِ تعالى، وفي «صلاتَه وتسبيحَه» عائدٌ على «كل» . الثالث: بالعكس أي: عَلِمَ كلٌ صلاةَ الله وتسبيحَه أي: أَمَرَ بهما، وبأن يُفْعَلا كإضافةِ الخَلْقِ إلى الخالق. ورَجَّحَ أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ «كل» قال: «لأنَّ القراءة برفع» كلٌّ «على الابتداء، فَيَرْجِعُ ضميرُ الفاعلِ إليه، ولو كان فيه ضميرُ اسمِ اللهِ لكان الأوْلى نَصْبَ» كل «لأنَّ الفعلَ الذي بعدها قد نَصَبَ ما هو مِنْ سببِها، فيَصيرُ كقولك:» زيداً ضربَ عمروٌ غلامَه «فتنصِبُ» زيداً «بفعلٍ دَلَّ عليه ما بعده، وهو أقوى من الرفع، والآخر جائز» . قلت: وليس كما ذكر مِنْ ترجيحِ النصب على الرفعِ في هذه الصورةِ، ولا في هذه السورة، بل نصَّ النحويون على أن مثلَ هذه الصورةِ يُرَجَّحُ رفعُها بالابتداء على نصبها على الاشتغال؛ لأنه لم يكُنْ ثَمَّ قَرينةٌ من القرائنِ التي جعلوها مُرَجِّحةً للنصب، والنصب يُحْوِجُ إلى إضمارٍ، والرفعُ لا يُحْوج إليه، فكانَ أرجحَ.

43

قوله: {بَيْنَهُ} : إنما دخلَتْ «بينَ» على مفردٍ وهي إنما تَدْخُلُ على المثَّنى فما فوقَه لأنه: إمَّا أَنْ يُرادَ بالسحاب الجنسُ فعاد الضميرُ عليه على حكمِه، وإمَّا أَنْ يُرادَ حَذْفُ مضافٍ أي: بين قِطَعِه، فإنَّ كلَّ قطعةٍ سَحابةٌ. قوله: {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} تقدَّم الخلافُ في «خِلال» هل هو مفرد

كحِجاب أم جمعٌ كجِبال جمع جَبَل؟ ويؤيِّد الأولَ قراءةُ ابنِ مسعودٍ والضحاكِ، ويروى عن أبي عمروٍ أيضاً «مِنْ خَلَلِه» بالإِفرادِ. والوَدْقُ قيلأ: هو المطرُ ضعيفاً كان أوشديداً. قال: 3452 - فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها وقيل: هو البَرْقُ. وأَنْشد: 3453 - أَثَرْنَ عَجاجةً وخَرَجْنَ منها ... خُروج الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحابِ والوَدْقُ في الأصل: مصدرٌ يقال: وَدَقَ السحابُ يَدِقُ وَدْقاً و «يَخْرجُ» حالٌ لأنها بَصَرية. قوله: {مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} «مِن» الأولى لابتداء الغايةِ اتفاقاً. وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لابتداءِ الغايةِ أيضاً فهي ومجرورُها بدلٌ من الأولى بإعادة العامِل. والتقدير: ويُنَزِّلُ من جبالِ السماءِ أي: من جبالٍ فيها، فهو بدل اشتمالٍ. الثاني: أنها للتبعيض، قاله الزمخشري وابنُ عطية. فعلى هذا هي ومجرُورها في موضعِ مفعولِ

الإِنزالِ كأنه قال: ويُنَزِّل بعضَ جبالٍ. الثالثَ: أنها زائدة أي: يُنَزِّل من السماءِ جبالاً. وقال الحوفيُّ: «مِنْ جبال بدلٌ مِن الأُولى» . ثم قال: «وهي للتبعيضِ» . ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا تَسْتَقيم البدليَّةُ إلا بترافقهما معنىً. لو قلت: «خَرَجْتُ من بغدادَ من الكَرْخِ» لم تكنِ الأولى والثانية إلاَّ لابتداءِ الغاية. وأمَّا الثالثة ففيها أربعةُ أوجهٍ: الثلاثةُ المتقدمةُ. والرابع: أنها لبيانِ الجنسِ. قاله الحوفي والزمخشري، فيكون التقديرُ على قولِهما: ويُنَزِّل من السماء بعضَ جبالٍ التي هي البَرَدُ، فالمُنَزَّل بَرَدٌ لأنَّ بعضَ البَرَدِ بَرَدٌ. ومفعولُ «يُنَزِّلُ» هو «مِنْ جبال» كما تقدَّمَ تقريرُه. وقال الزمخشري: «أو الأَوْلَيان للابتداء، والثالثةُ للتبعيض» قلت: يعني أن الثانيةَ بدلٌ من الأولى كما تقدَّم تقريرُه، وحنيئذ يكون مفعول «يُنَزِّل» هو الثالثةَ مع مجرورها تقديرُه: ويُنَزِّلُ بعضَ بردٍ من السماء مِنْ جبالِها. وإذا قيل: بأنَّ الثانيةَ والثالثةَ زائدتان فهل مجرورُهما في محلِّ نصبٍ، والثاني بدلٌ من الأول، والتقدير: ويُنَزِّلُ من السماء جبالاً بَرَداً، وهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، أو بعضٍ مِنْ كلٍ، أو الثاني في محلِّ نصبٍ مفعولاً ل «يُنَزِّل» ، والثالثُ في محل رفعٍ على الابتداء، وخبرُه

الجارُّ قبلَه؟ خلافٌ. الأولُ قولُ الأخفشِ، والثاني قولُ الفراءِ. وتكون الجملةُ على قولِ الفراءِ صفةً ل «جبال» ، فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً باللفظِ، أو بالنصبِ اعتباراً بالمَحَلِّ. ويجوزُ أن يكونَ «فيها» وحدَه هو الوصفَ، ويكون «مِنْ بَرَدٍ» فاعلاً به؛ لاعتمادِه أي: استقرَّ فيها. وقال الزَّجاج: «معناه: ويُنَزِّلُ مِن السماءِ مِنْ جبالِ بَرَدٍ فيها كما تقولُ:» هذا خاتمٌ في يدي من حديدٍ «أي: خاتم حديدٍ في يدي. وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب» مِنْ «لمَّا فرَّقْتَ، ولأنَّك إذا قلت: هذا خاتمٌ مِنْ حديدٍ وخاتمٌ حديدٍ كان المعنى واحداً» انتهى. فيكونُ «مِنْ بَرَدٍ» في موضعِ جَرٍّ صفةً/ ل «جبال» ، كما كان «من حديد» صفةً ل «خاتم» ، ويكونُ مفعولُ «يُنَزِّل» «من جبال» . ويَلْزَمُ مِنْ كونِ الجبال برداً أَنْ يكونَ المُنَزَّلُ بَرَداً. وقال أبو البقاء: «والوجه الثاني: أنَّ التقدير: شيئاً من جبالٍ، فحُذِفَ الموصوفُ واكتُفِي بالصفةِ. وهذا الوجهُ هو الصحيحُ؛ لأنَّ قولَه {فِيهَا مِن بَرَدٍ} يُحْوِجُك إلى مفعولٍ يعودُ الضميرُ إليه، فيكونُ تقديرُه: ويُنَزِّلُ مِنْ جبالِ السماء جبالاً فيها بَرَدٌ. وفي ذلك زيادَةُ حَذْفٍ، وتقديرٌ مُسْتغنى عنه» . وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ الضميرَ له شيءٌ يعودُ عليه وهو السماء، فلا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه مُسْتغنى عنه، وليسَ ثَمَّ مانعٌ يمنعُ مِنْ عَوْدِه على السماء. وقوله آخراً: «

وتَقْديرٌ مستغنى عنه» ، وينافي قولَه: «وهذا الوجه هو الصحيح» . والضميرُ في «به» يجوزُ أن يعودَ على البَرد وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الوَدْق والبَرَد معاً، جرياً بالضمير مَجْرى اسمِ الإِشارةِ. كأنه قيل: فَيُصيب بذلك، وقد تقدَّم نظيرُه في مواضعَ. قوله: {سَنَا بَرْقِهِ} العامَّةُ على قَصْر «سَنا» وهو الضَّوْءُ، وهو مِنْ ذواتِ الواوِ، يُقال: سَنا يَسْنُو سَناً. أي: أضاءَ يُضيْءُ. قال امرؤُ القيس: 3454 - يضيءُ سَناه، أو مصابيحُ راهِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والسَّنا بالمدِّ: الرِفْعَةُ. قال: 3455 - وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَناءً وسُنَّماً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقرأ ابنُ وثَّاب «سَناءُ بُرَقِه» بالمدِّ، وبضمِّ الباء مِنْ «بُرَقِه» وفتح الراء. ورُوي عنه ضَمُّ الراءِ أيضاً. فأمَّا قراءةُ المدِّ فإنه شَبَّه المحسوسََ من البرقِ

لارتفاعِه في الهواءِ بغير المحسوسِ من الإنسانِ. وأمَّا «بُرَقِه» فجمعُ بُرْقَة، وهي المقدارُ من البرقِ كقُرَب. وأمَّا ضمُّ الراءِ فإتباعٌ كظُلُمات بضمِّ اللام إتباعاً لضم الظاء. وإنْ كان أصلُها السكونَ. وقرأ العامَّة أيضاً «يَذْهَبُ» بفتح الياء والهاء. وأبو جعفر بضمِّ الياءِ وكسرِ الهاءِ مِنْ أَذْهَبَ. وقد خَطَّأ هذه القراءةَ الأخفشُ وأبو حاتم قالا: «لأنَّ الباءَ تُعاقِبُ الهمزة» . وليس رَدُّهما بصوابٍ؛ لأنها تَتَخَرَّج على ما خُرِّج ما قُرِىء به في المتواتر {تُنْبِتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] من أنَّ الباء مزيدةٌ، أو أنَّ المفعولَ محذوفٌ، والباءُ بمعنى «مِنْ» تقديرُه: يُذْهِبُ النُّورَ من الأَبْصارِ كقولِه: 3456 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... شُرْبَ النَّزِيف بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ

45

قوله: {مِّن مَّآءٍ} : فيها وجهان. أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ ب «خَلَق» أي: خَلَقَ مِنْ ماءٍ كلَّ دابة. و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. وعلى هذا فيُقال: وُجِدَ من الدوابِّ ما لم يُخْلَقْ مِنْ ماءٍ كآدمَ فإنه مِنْ تراب، وعيسى فإنَّه مِنْ رُوحٍ، والملائكةِ فإنَّهم مِنْ نُور، والجِنِّ فإنهم مِنْ نارٍ. وأُجيب بأنَّ الأمرَ الغالِبَ ذلك. وفيه نظرٌ فإنَّ الملائكةَ أَضعافُ الحيوان، والجنَّ أيضاً أضعافُهم. وقيل:

لأنَّ الحيوانَ لا يَعيش [إلاَّ] به، فجُعِل منه لذلك، وإن كان لنا من الحيوانِ ما لا يَحْتاج إلى الماءِ البتة، ومنه الضبُّ. وقيل: جاء في التفسير: أنه كان خَلَق في الأولِ جوهرة فنظرَ إليها فذابَتْ ماء، فمنها خَلَق ذلك. والثاني: أنَّ «مِنْ» متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «دابَّة» والمعنى: الإِخبارُ بأنه خَلَق كلَّ دابةٍ كائنةٍ من الماء، أي: كلُّ دابة من ماءٍ هي مخلوقةٌ للهِ تعالى. قاله القفَّال. ونكَّر «ماء» وعَرَّفه في قوله: {مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] لأنَّ المقصودَ هنا التنويعُ. قوله: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي} إلى آخره. إنما أَطْلَقَ «مَنْ» على غيرِ العاقلِ لاختلاطِه بالعاقلِ في المفصَّل ب «مَنْ» وهو «كلَّ دابة» ، وكان التعبيرُ ب «مَنْ» أولى لِتَوافُقِ اللفظِ. وقيل: لمَّا وصفَهم بما يُوصف به العقلاء وهو المَشْيُ أَطْلق عليها «مَنْ» . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذه الصفةَ ليسَتْ خاصةً بالعقلاء، بخلافِ قولِه تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] . [وقوله:] 3457 -. . . . . . . . . . . . . . هل مَنْ يُعِيْرُ جناحَه ... لَعَلِّي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيت. وقد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في {خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} في سورة إبراهيم. واستعير المَشْيُ للزَحْفِ على البطنِ، كما استُعير المِشْفَرُ للشَّّفَةِ وبالعكسِ.

48

قوله: {لِيَحْكُمَ} : أفردَ الضميرَ وقد تقدَّمه اسمان وهما: اللهُ ورسوله، فهو كقولِه تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] [لأنَّ] حكمَ رسولِه هو حكمُه. قال الزمخشري: «كقولك:» أعجبني زيدٌ وكَرَمَهُ «أي: كرمُ زيدٍ/ ومنه: 3458 - ومَنْهَلٍ من الفَلا في أوسَطِهْ ... غَلَسْتُه قبل القَطا وفُرَّطِهْ أي: قبل فُرَّط القَطا، يعني قبل تقدُّمِ القطا. وقرأ أبو جعفرٍ» ليُحْكَمَ بينَهم «هنا والتي بعدَها مبنياً للمفعولِ، والظرفُ قائمٌ مقامَ الفاعل. قوله: {إِذَا فَرِيقٌ} » إذا «هي الفجائيةُ. وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها. وهي جوابُ» إذا «الشرطيةِ أولاً. وهذا أحدُ الأدلةِ على مَنْعِ أن يَعْمَلَ في» إذا «

الشرطيةِ جوابُها؛ فإنَّ ما بعدَ الفجائيةِ لا يَعْمَلُ فيما قبلها، كذا ذكره الشيخ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا، وجوابُ الجمهور عنه.

49

قوله: {إِلَيْهِ} : يجوزُ تعلُّقُه ب «يَأْتُوا» لأنَّ أتى وجاء قد جاءا مُعَدَّيَيْنِ ب «إلى» . ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ب «مُذْعِنين» ؛ لأنه بمعنى مُسرِعين في الطاعة. وصَحَّحَه الزمخشري قال: «لِتقدُّم صلتِه ودلالتِه على الاختصاص» . و «مُذعِنين» حالٌ. والإِذْعان: الانقيادُ يُقال: أَذْعَنَ فلانٌ لفِلان أي: انقادَ له. وقال الزجاج: «الإِذعانُ الإِسْراعُ مع الطاعةِ» .

50

قوله: {أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ} : «أَمْ» فيهما منقطعٌ، تتقدَّرُ عند الجمهورِ بحرفِ الإِضراب وهمزةِ الاستفهامِ. تقديرُه: بل ارْتابوا، بل أيخافون. ومعنى الاستفهام هنام التقريرُ والتوقيفُ، ويُبالَغُ به تارةً في الذمِّ كقوله: 3459 - ألَسْتَ من القومِ الذينَ تعاهَدُوْا ... على اللُّؤْمِ والفَحْشاءِ في سالفِ الدهر وتارةً في المدح كقولِ جرير: 3460 - أَلَسْتُمْ خيرَ مَنْ ركبَ المَطايا ... وأندى العالمينَ بُطونَ راحِ

و [قوله] : {أَن يَحِيفَ} مفعول الخوف. والحَيْفُ: المَيْلُ والجَوْرُ في القضاءِ. يقال: حاف في قضائِه أي: مال.

51

قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين} : العامَّةُ على نصبِه خبراً ل كان، والاسمُ «أنْ» المصدريةُ وما بعدَها. وقرأ أمير المؤمنين والحسنُ وابن أبي إسحاق برفعِه على أنه الاسمُ و «أَنْ» وما في حيِّزها الخبرُ. وهي عندهم مَرْجوحةٌ؛ لأنه متى اجتمع معرفتان فالأَوْلى جَعْلُ الأعرفِ الاسمَ، وإنْ كان سيبويه خَيَّر في ذلك بين كلِّ معرفتين، ولم يُفَرِّق هذه التفرقةَ. وقد تَقَدَّم تحقيقُ هذا في آل عمران.

52

قوله: {وَيَتَّقْهِ} : القُرَّاءُ فيه بالنسبةِ إلى القافِ على مرتبتين: الأُولى تسكينُ القافِ، ولم يَقْرأ بها إلاَّ حفصٌ، والباقون بكسرِها وأمَّا بالنسبةِ إلى هاءِ الكنايةِ فهي على خمسِ مراتبَ: الأولى تحريكُها مفصولة قولاً واحداً، وبها قرأ ورشٌ وابن ذكوان وخلف وابن كثير والكسائي. الثانيةُ: تسكينُها قولاً واحداً. وبها قرأ أبو عمروٍ وأبو بكر عن عاصم. الثالثةُ: إسكانُ الهاءِ أو وَصْلُها بياءٍ وبها قرأ خَلاَّدُ. الرابعةُ: تحريكها من غير صلةٍ. وبها قرأ قالون وحفص. الخامسةُ: تحريكُها موصولةً أو مقصورةً. وبها قرأ هشامٌ. فأمَّا إسكانُ الهاءِ وقَصْرُها وإشباعُها فقد مَرَّ تحقيقُها مستوفىً في مواضعَ

من هذا التصنيفِ. وأمَّا تسكينُ القافِ فإنهم حَمَلوا المنفصِلَ على المتصلِ: وذلك أنهم يُسَكِّنون عين فَعِل فيقولون: كَبْد وكَتْف وصَبْر في: كَبِد وكَتِف وصَبِر، لأنها كلمةٌ واحدة، ثم أُجْريَ ما أشبَه ذلك من المنفصل مجرى المتصل؛ فإنَّ «يَتَّقْهِ» صار منه «تَقِهِ» بمنزلة «كَتِف» فَسُكِّن كما تُسَكَّن. ومنه: 3461 - قالَتْ سليمى اشْتَرْ لنا سَوِيقا ... بسكونِ الراءِ، كما سَكَّن الآخرُ: 3462 - فبات مُنْتَصْباً وما تَكَرْدَسا ... والآخر: 3463 - عَجِبْتَ لمَوْلُودٍ وليسَ له أَبُ ... وذي وَلَدٍ لم يَلْدَهُ أبوان يريد: مُنْتَصِباً، ولم يَلِدْه. وقد تَقَدَّم في أولِ البقرةِ تحريرُ هذا الضابطِ في قوله: {فَهِيَ كالحجارة} [الآية: 74] ، وهي وهو ونحوها.

وقال مكي: «كان يجبُ على مَنْ أسكن القاف أَنْ يَضُمَّ الهاءَ؛ لأنَّ هاءَ الكنايةِ إذا سَكَن ما قبلها، ولم يكنْ الساكنُ ياءً ضُمَّتْ نحو: مِنْهُ وعَنْهُ. ولكن لمَّا كان سكونُ القافِ عارضاً لم يُعْتَدَّ به، وأبقى الهاءَ على كسرتِها التي كانت عليها مع كسرِ القافِ، ولم يَصِلْها بياءٍ، لأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاءِ مقدرةٌ مَنْويَّةٌ، فبقي الحذفُ الذي في الياءِ قبل الهاءِ على أصلِه» . وقال الفارسي: «الكسرةُ في الهاءِ لالتقاءِ الساكنين، وليسَتْ/ الكسرةَ التي قبل الصلةِ؛ وذلك أنَّ هاءَ الكنايةِ ساكنةٌ في قراءتِه، ولمَّا أُجْرِيَ» تَقْهِ «مجرى» كَتْف «وسكَّن القافَ التقى ساكنان، ولَمَّا التَقَيا اضْطُرَّ إلى تحريكِ أحدِهما: فإمَّا أَنْ يُحَرِّكَ الأولَ أو الثاني. لا سبيلَ إلى تحريكِ الأولِ لأنه يعودُ إلى ما فَرَّ منه وهو ثِقَلُ فَعِل فحرَّك ثانيهما. وأصلُ التقاءِ الساكنين [الكسر] فلذلك كسرَ الهاءَ ويؤيِّدهُ قولُه: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . لم يَلْدَه أَبَوانِ وذلك أنَّ أصلَه» لَمْ يلِده «بكسرِ اللام وسكونِ الدال للجزمِ، ثم لَمَّا سَكَّن اللامَ التقى ساكنان، فلو حَرَّك الأولَ لعادَ إلى ما فَرَّ منه، فحَرَّك ثانيهما وهو الدالُ وحَرَّكَها بالفتحِ، وإنْ كان على خلافِ أصلِ التقاءِ الساكنين مراعاةً لفتحةِ الياءِ. وقد رَدَّ القاسم بن فيره قولَ الفارسي ويقول:» لا يَصِحُّ قولُه: إنه

كسر الهاءَ لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ حفصاً يُسَكِّن الهاءَ في قراءتِه قط «. وقد رَدَّ أبو عبد الله شارحُ قصيدتِه هذا الردَّ وقال: «وعجبتُ مِنْ نَفْيِه الإِسكانَ عنه مع ثبوتِه عنه في» أَرْجِهْ «و» فَأَلْقِهْ «وإذا قرأه في» أَرْجِهْ «و» فَأَلْقِهْ «احتمل أن يَكونَ» يَتَّقْهِ «عنده قبل سكون القاف كذلك، وربما تَرَجَّح ذلك بما ثَبَتَ عن عاصم مِنْ قراءته إياه بسكونِ الهاء مع كسرِ القاف» . قلت: لم يَعْنِ الشاطبي بأنه لم يُسَكِّنِ الهاءَ قط، الهاء من حيث هي هي، وإنما عَنَى هاءَ «يَتَّقْهِ» بخصوصِها. وكان الشاطبيُّ أيضاً يعترض التوجيهَ الذي قدَّمْتُه عن مكيّ ويقولُ: «تعليلُه حَذْفَ الصلةِ: بأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاء مقدرةٌ مَنْوِيَّةٌ فبقي في حَذْفِ الصلةِ بعد الهاءِ على أصلِه، غيرُ مستقيم مِنْ قِبَلِ أنه قرأ» يُؤَدِّهي «وشبهِه بالصلة، ولو كان يَعْتَبِرُ ما قاله من تقدير الياءِ قبل الهاءِ لم يَصِلْها. قال أبو عبد الله:» وهو وإنْ قَرَأ «يؤدِّهي» وشِبْهَه بالصلةِ فإنه قرأ «يَرْضَهُ» بغيرِ صلةٍ فألحقَ مكي «يَتَّقْهِ» ب «يَرْضَهُ» وجعله ممَّا خَرَجَ فيه عن نظائرِه لاتِّباع الأثَرِ والجمعِ بين اللغتين. وترجَّح ذلك عنده لأنَّ اللفظَ عليه. وَلَمَّا كانت القافُ في حكمِ المكسورةِ بدليلِ كسرِ القافِ بعدَها صار كأنه «يَتَّقِهِ» بكسرِ القافِ والهاء من غيرِ صلةٍ كقراءةِ قالون وهشام في أحدِ وجهَيْه، فَعَلَّله بما يُعَلِّلُ به قراءتَهما. والشاطبيُّ ترجَّح عنده حَمْلُه على الأكثرِ ممَّا قَرَأَ به، لا على ما قَلَّ ونَدَر، فاقتضى تعليلَه بما ذكَرَ.

53

قوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ بدلاً من اللفظِ بفعلِه إذ أَصْلُ «أُقْسِمُ باللهِ جَهْدَ اليمين» : أُقْسِمُ بجَهْدِ اليمينِ جَهْداً، فَحُذِفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ موضوعاً مَوْضِعَه مضافاً إلى المفعولِ ك {َضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] ، قاله الزمخشري. والثاني أنه حالٌ تقديرُه: مجتهدين في أَيْمانِهم كقولِهم: أفعَلْ ذلك جَهْدَك وطاقَتَك. وقد خلَطَ الزمخشري الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعدَ ما قَدَّمْتُه عنه: «وحكمُ هذا المنصوبِ حكمُ الحالِ كأنه قيل: جاهدين أَيْمانَهم» . وقد تقدَّم الكلامُ على {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الآية: 53] في المائدة. قوله: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: أمرُنا طاعةٌ أو المطلوبُ طاعةٌ. الثاني: أنها مبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ أي: أَمْثَلُ، أو أولى. وقد تقدَّمَ أنَّ الخبرَ متى كان في الأصلِ مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه وَجَبَ حَذْفُ مبتدئِه كقولِه: {صَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] ولا يَبْرز إلاَّ اضطراراً كقوله: 3464 - فقالَتْ على اسمِ اللهِ أَمرُك طاعةٌ ... وإنْ كُنْتُ قد كُلِّفتُ ما لم أُعَوَّدِ على خلافٍ في ذلك. والثالث: أَنْ تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي: ولْتَكُنْ طاعةٌ ولْتُوْجَدْ طاعةٌ. واستُضْعِفَ ذلك: بأنَّ الفعلَ لا يُحْذَفُ إلاَّ إذا تَقَدَّم

مُشْعِرٌ به كقوله: {يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36] . / في قراءةِ مَنْ بناه للمفعولِ أي: يُسَبِّحه رجالٌ أو يُجاب به نَفْيٌ كقولِكَ: «بلى زيدٌ» لمَنْ قال: لم يقم أحدٌ، أو استفهامٌ كقوله: 3465 - ألا هَلْ أتى أمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ ... بلى خالد إنْ لم تُعِقْه العَوائقُ والعامَّةُ على رفعِ «طاعةٌ» على ما تقدَّم. وزيد بن علي واليزيديُّ على نَصبِها بفعلٍ مضمرٍ، وهو الأصلُ. قال أبو البقاء «ولو قُرِىء بالنصبِ لكانَ جائزاً في العربية، وذلك على المصدرِ أي: أَطِيْعوا طاعةً وقولوا قولاً. وقد دَلَّ عليه قولُه تعالى بعدَها {قُلْ أَطِيعُواْ الله} . قلت ما وَدَّ أن يُقرأَ به قد قُرِىء به كما تقدَّم نَقْلُه. وأمَّا قولُه: و {قُولُواْ قَوْلاً} فكأنه سَبَق لِسانُه إلى آية القتال وهي: {فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} [محمد: 21] ولكن النصبَ هناك ممتنعٌ أو بعيدٌ.

54

قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ ماضياً، وتكون الواوُ ضميرَ الغائبين. ويكونُ في الكلام التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة. وحَسَّن الالتفاتَ هنا كونُه لم يواجِهْهم بالتَّوَلِّي والإِعراضِ، وأن يكونَ مضارعاً حُذِفَتْ إحدى تاءَيْه. والأصل: تَتَوَلَّوْا. ويُرَجَّحُ هذا قراءةُ البزيِّ بتشديدِ التاء: «فإنْ تَّوَلَّوْا» وإن كان بعضُهم يَسْتَضْعِفُها للجمعِ بينَ ساكنين على غيرِ حَدِّهما.

ويُرَجِّحه أيضاً الخطابُ في قولِه: {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} . ودعوى الالتفاتِ من الغيبةِ إلى الخطابِ ثانياً بعيدٌ.

55

قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} : فيه وجهان، أحدُهما: هو جوابُ قسمِ مضمرٍ أي: أُقْسِم لَيَسْتَخْلِفَنَّهم ويكونُ مفعولُ الوعدِ محذوفاً تقديرُه: وَعَدَهم الاستخلافَ لدلالةِ قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} عليه. والثاني: أَنْ يجريَ «وعد» مَجْرى القسمِ لتحقُّقِه، فلذلك أُجيب بما يُجاب به القَسَمُ. قوله: {كَمَا استخلف} أي: استخلافاً كاستخلافهم. والعامَّةُ على بناء «اسْتَخْلَفَ» للفاعل. وأبو بكر بناه للمفعول. فالموصولُ منصوبٌ على الأول، ومرفوعٌ على الثاني. قوله: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} قرأ ابن كثير وأبو بكرٍ «ولَيُبْدِلَنَّهم» بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدال مِنْ «أَبْدَلَ» . وقد تقدَّم توجيهُها في الكهف في قولِه: {أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} [الكهف: 81] . قوله: {يَعْبُدُونَنِي} فيه سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مستأنفٌ أي: جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر كأنه قيل: ما بالُهم يُسْتَخْلَفون ويُؤَمَّنون؟ فقيل: يَعْبُدونني. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم يعبدونني. والجملةُ أيضاً استئنافيةٌ تقتضي المدحَ. الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ «وَعَدَ اللهُ» . الرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعولُ «

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» . الخامس: أن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِه. السادس: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ مفعولِ «لَيُبَدِّلَنَّهُمْ» . السابع: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلِه. قوله: {لاَ يُشْرِكُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «يَعْبُدُونَنِي» أي: يَعْبُدونني مُوَحِّدين، وأن يكونَ بدلاً من الجملةِ التي قبلَه الواقعةِ حالاً وقد تَقَدَّم ما فيها.

56

قوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} : فيه وجهان. أحدُهما: أنه معطوفٌ على {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [الآية: 54] . وليس ببعيدٍ أن يقعَ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه فاصلٌ وإنْ طال؛ لأنَّ حَقَّ المعطوفِ أن يكونَ غيرَ المعطوفِ عليه. قاله الزمخشري. قلت: وقولُه: «لأنَّ حَقَّ المعطوفِ» إلى أخره لا يَظْهَرُ علةً للحكمِ الذي ادَّعاه. والثاني: أنَّ قولَه {وَأَقِيمُواْ} من بابِ الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ. وحَسَّنَهُ الخطابُ في قولِه قبل ذلك «منكم» .

57

قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ} : قرأ العامَّة «لا تَحْسَبنَّ» بتاءِ الخطابِ. والفاعلُ ضميرُ المخاطبِ أي: لا تَحْسَبَنَّ أيها المخاطبُ. ويمتنعُ أو يَبْعُدُ جَعْلُه للرسولِ عليه السلام؛ لأنَّ/ مِثْلَ هذا الحُسْبانِ لا يُتَصوَّر منه حتى ينهى عنه. وقرأ حمزةُ وابن عامرٍ «لا يَحْسَبَنَّ» بياء الغَيْبة وهي قراءةُ حسنةٌ واضحة. فإنَّ الفاعلَ فيها مضمرٌ يعودُ على ما دَلَّ السِّياقُ عليه أي: لا يَحْسَبَنَّ حاسِبٌ أو أحدٌ وإمَّا على الرسولِ لتقدُّم ذِكْرِه. ولكنه ضعيفٌ للمعنى المتقدِّم خلافاً لِمَنْ لَحَّن قارىءَ هذه القراءةِ كأبي حاتم وأبي جعفر

والفراء. قال النحاس: «ما عَلِمْتُ أحداً مِنْ أهلِ العربية بَصْرياً ولا كوفياً إلاَّ وهو يُلَحِّنُ قراءةَ حمزةَ، فمنهم مَنْ يقولُ: هي لحنٌ لأنه لم يأتِ إلاَّ بمفعولٍ واحدٍ ل» يَحْسَبَنَّ «. وقال الفراء:» هو ضعيفٌ «وأجازه على حَذْفِ المفعولِ الثاني. التقديرُ:» لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجِزين «قلت: وسببُ تَلْحينِهم هذه القراءةَ أنهم اعتقدوا أنَّ» الذين «فاعلٌ، ولم يكُنْ في اللفظِ إلاَّ مفعولٌ واحدٌ وهو» معجزين «، فلذلك قالوا ما قالوا. والجوابُ عن ذلك مِنْ وجوهٍ أحدُها: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعودُ على ما تقدَّم، أو على ما يُفْهَمُ من السياق، كما سَبَقَ تحريرُه. الثاني: أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ تقديرُه: لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجزين. إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحدِ المفعولَيْنِ ضعيفٌ عند البصريين. ومنه قولُ عنترةَ: 3466 - ولَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه ... مني بمَنزِلَة المُحَبِّ المُكْرَمِ أي: لا تظني غيرَه واقعاً. ولمَّا نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال:» وأن يكونَ الأصلُ: لا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا مُعْجِزين، ثم حُذِف الضميرُ الذي هو المفعولُ الأول. وكأنَّ الذي سَوَّغ ذلك أنَّ الفاعلَ والمفعولَيْن

لَمَّا كانَتْ لشيءٍ واحدٍ اقْتَنَعَ بذكرِ اثنين عن ذِكْر الثالث «فقَدَّرَ المفعولَ الأول ضميراً متصلاً. قال الشيخ:» وقد رَدَدْنا هذا التخريجَ في أواخرِ آلِ عمران في قولِه: {لاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} في قراءةِ مَنْ قرأه بالغَيْبة، وجَعَل الفاعلَ «الذين يَفْرحون» . وملخَّصُه: أن هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدَها فلا يتقدَّر «لا يَحْسَبَنَّهم» إذ لا يجوزُ: «ظَنَّه زيدٌ قائماً» على رَفْعِ «زيدٌ» ب «ظنَّه» قلت: وقد تقدَّم في الموضعِ المذكورِ رَدُّ هذا الردِّ فعليك بالالتفاتِ إليه. الثالث: أنَّ المفعولَيْنِ هما قولُه: {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} قاله الكوفيون. ولمَّا نحا إليه الزمخشريُّ قال: «والمعنى: لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ اللهَ في الأرض حتى يَطْمَعوا هم في مثلِ ذلك. وهذا معنىً قويٌّ جيد» . قلت: قيل: هو خطأٌ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ في «الأرض» ب «مُعْجِزين» فجعله مفعولاً ثانياً كالتهيئةِ للعملِ والقطعِ عنه، وهو نظيرُ: «ظَنَنْتُ قائماً في الدار» . قوله: {وَمَأْوَاهُمُ النار} فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّ هذه الجملةَ عطفٌ على جملةِ النهيِ قبلَها مِنْ غيرِ تأويلٍ ولا إضمارٍ، وهو مذهبُ سيبويهِ أعني عَطْفَ الجملِ بعضِها على بعض، وإن اختلفَتْ أنواعُها خبراً وطَلَباً وإنشاءً. وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ هذا الموضوعِ والدليلُ عليه. الثاني: أنَّها معطوفةٌ عليها، ولكن بتأويلِ جملةِ النهي بجملةٍ خبريةٍ. والتقدير: الذين كفروا لاَ يُفوتون اللهَ ومَأْواهم النار. قاله الزمخشري. كأنه يرى تناسُبَ الجملِ شرطاً في العطفِ. هذا ظاهرُ حالِه. الثالث: أنها معطوفةٌ على جملةٍ مقدرةٍ.

قال الجرجاني: «لا يُحتمل أَنْ يكونَ» ومَأْواهم «متصلاً بقولهِ:» لا تَحْسَبَنَّ ذاك «أي: وهذا إيجابٌ فهو إذن معطوفٌ بالواو على مضمرٍ قبلَه تقديرُه: لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا مُعْجِزين في الأرضِ بل هم مقهورون، ومَأْواهم النار» .

58

قوله: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني أي: ثلاثةَ أوقاتٍ، ثم فَسَّر تلك الأوقاتَ بقوله: {مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ} {وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء} . والثاني: أنه منصوبٌ على المصدريةِ أي ثلاثةَ استئذاناتٍ. ورجَّحَ الشيخُ هذا فقال/: «والظاهرُ مِنْ قوله» ثلاثَ مرات «. ثلاثةَ استئذاناتٍ لأنَّك إذا قلتَ: ضربْتُ ثلاثَ مراتٍ لا تفْهَمُ منه إلاَّ ثلاثَ ضَرَبات. ويؤيِّده قولُه عليه السلام:» الاستئذانُ ثلاث «قلت: مُسَلَّمٌ أنَّ الظاهرَ كذا، ولكنَّ الظاهرَ هذا متروكٌ للقرينةِ المذكورةِ وهي التفسيرُ بثلاثةِ الأوقاتِ المذكورةِ. وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في رواية» الحُلْمَ «بسكونِ العينِ وهي تميميةٌ. قوله: {مِّن قَبْلِ صلاوة} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ قوله» ثلاث «فتكونُ في محلِّ نصبٍ. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ» عورات «فيكونُ في محلِّ جر. الثالث: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي من قبلِ أي: تلك المراتُ فيكونُ في محلِّ رفعٍ. قوله: {مِّنَ الظهيرة} فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما: أنَّ» مِنْ «لبيانِ الجنس أي:

حين ذلك الذي هو الظهيرةُ. الثاني: أنها بمعنى» في «أي تَضَعُونها في الظهيرةِ. الثالث: أنَّها بمعنى اللام أي مِنْ أَجْلِ حَرِّ الظهيرةِ. وأمَّا قولُه: {وَحِينَ تَضَعُونَ} فعطفٌ على محلِّ {مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر} ، وقوله: {وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء} عطفٌ على ما قبلَه، والظَّهيرةُ: شِدَّةُ الحَرِّ، وهو انتصافُ النهارِ. قوله: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} قرأ الأخَوان وأبو بكر» ثلاثَ «نصباً. والباقون رفعاً. فالأولى تَحْتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: وهو الظاهر أنَّها بدلٌ مِنْ قوله: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} . قال ابن عطية:» إنما يَصِحُّ البدلُ بتقديرِ: أوقات ثلاثِ عَوْراتٍ، فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه «، وكذا قَدَّره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء. ويحتمل أَنَّه جَعَل نفسَ ثلاثِ المراتِ نفسَ ثلاثِ العوراتِ مبالغةً، فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضافٍ. وعلى هذا الوجهِ أعني وجهَ البدل لا يجوزُ الوقفُ على ما قبل {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} لأنه بدلٌ منه وتابعٌ له، ولا يُوْقَفُ على المتبوعِ دونَ تابعِه. الثاني: أنَّ {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} بدلٌ مِنَ الأوقاتِ المذكورةِِ قاله أبو البقاء. يعني قولَه: {مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر} وما عُطِفَ عليه، ويكونُ بدلاً على المحلِّ؛ فلذلك نُصِبَ.

الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ. فقَدَّره أبو البقاء أعني. وأَحْسَنُ من هذا التقديرِ» اتَّقوا «أو» احْذروا «ثلاثَ. وأمَّا الثانية ف» ثلاثُ «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ. وقدَّره أبو البقاء مع حَذْفِ مضافٍ فقال:» أي: هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ، فحُذِف المبتدأُ والمضافُ «. قلت: وقد لا يُحتاج إليه على جَعْلِ العوراتِ نفسَ الأوقاتِ مبالغةً وهو المفهومُ من كلامِ الزمخشريِّ، وإن كان قد قَدَّره مضافاً كما قدَّمْتُه عنه. قال الزمخشري: «وسمى كلَّ واحدٍ من هذه الأحوالِ عورةً؛ لأنَّ الناسَ يَخْتَلُّ تَسَتُّرُهم وتَحَفُّظُهم فيها. والعَوْرَةُ: الخَلَلُ ومنه أَعْوَرَ الفارِسُ، وأَعْوَرَ المكانُ. والأَعْوَرُ: المختلُّ العينِ» فهذا منه يُؤْذِنُ بعدمِ تقديرِ أوقاتِ، مضافةً ل «عَوْراتٍ» بخلافِ كلامِه أولاً. فيُؤْخَذُ من مجموعِ كلامِه وجهان، وعلى قراءةِ الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريجِ قراءةِ النصبِ يُوقف على ما قبلَ {ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ} لأنَّها ليسَتْ تابعةً لما قبلها. وقرأ الأعمش «عَوَرات» وهي لغةُ هُذَيْلٍ وبني تميم: يفتحون عينَ فَعَلات واواً أو ياءً وأُنشِدَ: 3467 - أخو بَيَضاتٍ رائحٌ متأوِّبٌ ... رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبينِ سَبُوْحُ

قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ وهو الرفعُ نعتاً لثلاث عَوْرات في قراءةِ مَنْ رفعها كأنه قيل: هُنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ مخصوصةً بعدمِ الاستئذانِ، وأنْ لا يكونَ لها محلٌّ، بل هي كلامٌ مقرِّر للأمرِ بالاستئذانِ في تلك الأحوالِ خاصةً، وذلك في قراءةِ مَنْ نصب «ثلاثَ عَوْراتٍ» . قوله: {بَعْدَهُنَّ} قال أبو البقاء: «التقديرُ: بعد استئذانِهم فيهنَّ، ثم حَذَفَ حرفَ الجرِّ والفاعلَ، فبقي: بعد استئذانِهم، ثم حَذَفَ المصدرَ» يعني بالفاعل الضميرَ المضافَ إليه الاستئذانُ فإنه فاعلٌ معنويٌّ بالمصدر. وهذا غيرُ ظاهرٍ، بل الذي/ يَظْهَرُ أنَّ المعنى: ليس عليكم جناحٌ. ولا عليهم أي: العبيدِ والإِماءِ والصبيانِ، في عَدَمِ الاستئذانِ بعد هذه الأوقاتِ المذكورةِ، ولا حاجةَ إلى التقديرِ الذي ذكره. قوله: {طوافون} خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هم طَوَّافون، و «عليكم» متعلِّقٌ به. قوله: {بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ} في «بعضُكم» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، و «على بعض» الخبرُ، فقدَّره أبو البقاء «يَطُوْفُ على بعض» . وتكونُ هذه الجملةُ بدلاً مِمَّا قبلها. ويجوز أن تكونَ مؤكدةً مُبَيِّنة. يعني: أنها أفادَتْ إفادَةَ الجملةِ التي قبلها فكانَتْ بدلاً، أو مؤكِّدةَ. ورَدَّ الشيخ هذا: بأنه كونٌ مخصوصٌ فلا يجوزُ حَذْفُه. والجوابُ عنه: أن الممتنعَ الحذفِ إذا لم يَدُلَّ عليه دليلٌ وقُصِد إقامةُ الجارِّ والمجرورِ مُقامَه، وهنا عليه دليلٌ ولم يُقْصَدْ إقامةُ

الجارِّ مُقامَه، ولذلك قال الزمخشري: «خبرُه» على بعض «، على معنى: طائف على بعض، وحُذِفَ لدلالةِ» طَوَّافون «عليه» . الثاني: أن يَرْتَفِعَ بدلاً مِنْ «طوَّافون» قاله ابن عطية. قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ إنْ قُدِّر الضميرُ ضميرَ غَيْبةٍ لتقدير المبتدأ» هم «لأنَّه يصيرُ التقديرُ: هم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ، وهو لا يَصِحُّ. فإنْ جَعَلْتَ التقدير: أنتم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ، فيدفَعُه أنَّ قولَه» عليكم «يَدُلُّ على أنهم هم المَطُوفُ عليهم، و» أنتم طَوَّافون «يَدُلُّ على أنَّهم طائِفون فتعارضا» . قلت: نختار أنَّ التقديرَ: أنتم، ولا يلزَمُ محذورٌ. قوله: «فيدفعه إلى آخره» لا تعارُضَ فيه لأنَّ المعنى: كلٌّ منكم ومِنْ عبيدِكم طائفٌ على صاحبِه، وإن كان طوافُ أحدِ النوعين غيرَ طوافِ الآخَرِ؛ لأنَّ المرادَ الظهورُ على أحوالِ الشخصِ، ويكونُ «بعضُكم» بدلاً من «طَوَّافون» وقيل: «بعضُ» بدلٌ مِنْ «عليكم» بإعادة العاملِ فَأَبْدَلْتَ مرفوعاً مِنْ مرفوعٍ، ومجروراً من مجرور. ونظيرُه قولُ الشاعرِ: 3468 - فلمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بعضَه ... ببعضٍ أبَتْ عِيدانُه أَنْ تكَسَّرا

ف «بعضُه» بدلُ من «النبعَ» المنصوب، و «ببعض» بدلٌ من المجرورِ بالباء. الثالث: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّر أي: يطوفُ بعضُكم على بعضٍ، حُذِفَ لدلالةِ «طَوَّافون» عليه. قاله الزمخشري. وقرأ ابن أبي عبلة «طوَّافين» بالنصبِ على الحال من ضميرِ «عليهم» .

60

قوله: {والقواعد} : جمع «قاعِد» من غيرِ تاءِ تأنيثٍ. ومعناه: القواعدُ عن النكاحِ، أو عن الحيضِ، أو عن الاستمتاعِ، أو عن الحَبَل، أو عن الجميع. ولولا تَخَصُّصُهُنَّ بذلك لوَجَبَتِ التاءُ نَحو: ضارِبة وقاعِدة من القعود المعروف. وقوله: {مِنَ النسآء} وما بعدَه بيانٌ لهن و «القواعدُ» مبتدأٌ. و «من النساء» حالٌ و «اللاتي» صفةٌ للقواعد لا للنساء. وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ} الجملةُ خبرُ المبتدأ، وإنما دَخَلَتْ لأَنْ المبتدأَ موصوفٌ بموصول، لو كان ذلك الموصولُ مبتدأً لجاز دخولُها في خبرِه، ولذلك مَنَعْتُ أَنْ تكونَ «اللاتي» صفةً للنساء؛ إذ لا يبقى مسوِّغٌ لدخولِ الفاءِ في خبر المبتدأ. وقال أبو البقاء: «ودَخَلَتْ الفاءُ لِما في المبتدأ من معنى الشرطِ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ بمعنى الذي» . وهذا مذهب الأخفش، وتقدم تحقيقُه في المائدة. ولكن هنا ما يُغْني عن ذلك: وهو ما ذَكَرْتُه من وصفِ المبتدأ بالموصولِ المذكورِ. و {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ} حالٌ مِنْ «عليهنَّ» . والتبرُّجُ: الظهورُ، مِن البُرْج: وهو البناءُ الظاهرُ. و «بزينةٍ» متعلقٌ به.

قوله: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} مبتدأٌ بتأويل: استعفافُهن، و «خيرٌ» خبرُه.

61

قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} : العامةُ على فتح/ الميمِ، واللامُ مخففةٌ. وابن جبير «مُلِّكْتُم» بضمِ الميمِ وكسرِ اللامِ مشددةً أي: مَلَّككم غيرُكم. والعامَّةُ علكى «مفاتحَه» دونَ ياءٍ جمع مِفْتَح. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون جمع «مِفْتَح» بالكسرِ وهو الآلةُ، وأن يكون جمعَ «مَفْتح» بالفتح وهو المصدر. بمعنى الفتح. وابن جبير «مفاتيحَه» بالياء بعد التاء جمع مِفْتاح. والأولُ أقيسُ. وقرأ أبو عمرو في روايةِ هارونَ عنه «مِفتْاحَه» بالإِفراد وهي قراءةُ قتادة. قوله: {أوْ صَدِيقِكُمْ} العامَّةُ على فتحِ الصادِ. وحميد الخزاز روى كسرَها إتْباعاً لكسرةِ الدال. والصَّدِيْق يقع للواحِد والجمع كالخَليط والقَطِين وشِبْهِهما. قوله: {جَمِيعاً} حالٌ من «تَأْكُلوا» ، و «أَشْتاتاً» عطفٌ عليه وهو جمعُ شَتّ. قوله: {تَحِيَّةً} منصوبٌ على المصدرِ مِنْ معنى «فسَلِّموا» فهو من بابِ قَعَدْتُ جُلوساً. وقد تقدَّم وزن التحيَّة. و {مِّنْ عِندِ الله} يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «تحيةً» ، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ «تحيِّة» أي: التحية صادرةً من

جهةِ الله. و «مِنْ» لابتداء الغايةِ مجازاً، إلاَّ أنه يُعَكِّر على الوصفِ تأخُّرُ الصفةِ الصريحةِ عن المُؤَولةِ. وقد تقدَّم ما فيه.

62

قوله: {على أَمْرٍ جَامِعٍ} : «جامع» مِن الإِسنادِ المجازيِّ؛ لأنَّه لَمَّا كان سبباً في جَمْعِهم نُسِبَ الفعلُ إليه مجازاً. وقرأ اليمانيُّ «على أَمْرٍ جميعٍ» فيُحتمل أَنْ تكونَ صيغةَ مبالغةٍ بمعنى مُجَمِّع، وأَنْ لا تكونَ. والجملةُ الشرطيةُ مِنْ قولِه: {وَإِذَا كَانُواْ} وجوابِها عطفٌ على الصلةِ مِنْ قوله: «آمَنوا» . قوله: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} تعليلٌ أي: لأجلِ بعضِ حاجتِهم. وأظهر العامَّةُ الضادَ عند الشينِ، وأدغَمها أبو عمرٍو فيها لِما بينهما من التقارُبِ؛ لأنَّ الضادَ من أقصى حافةِ اللسانِ، والشينَ مِنْ وسَطِه. وقد اسْتَضْعَفَ جماعةٌ من النَّحَويين هذه الروايةَ واسْتَبْعدوها عن أبي عمرٍو رأسِ الصناعةِ من حيث إن الضادَ أقوى من الشين، ولا يُدْغم الأقوى في الأضعف. وأساء الزمخشري على راويها السوسي. وقد أجاب الناس فقال: «وجهُ الإِدغامِ أن الشينَ أشدُّ استطالةً من الضادِ، وفيها نَفَسٌ ليس في الضادِ، فقد صارَتِ الضادُ أنقصَ منها، وإدغامُ الأنقصِ في الأَزْيد جائزٌ» . قال: «ويؤيِّد هذا أن سيبويه حكى عن بعضِ

العرب» اطَّجَعَ «في» اضْطجع «، وإذا جاز إدغامُها في الطاءِ فإدغامُها في الشين أَوْلى» . والخَصْمُ لا يُسَلِّمُ جميعَ ما ذُكِرَ، وسَنَدُ المَنْعِ واضحٌ.

63

قوله: {دُعَآءَ الرسول} : يجوزُ أَنْ يكونَ هذا المصدرُ مضافاً لمفعولِه أي: دعاءَكم الرسولَ بمعنى: أنَّكم لا تنادُوه باسمِه فتقولون: يا محمدُ، ولابكُنيته فتقولون: يا أبا القاسمِ، بل نادُوه وخاطِبوه بالتوقير: يا رسولَ الله يا نبيَّ الله. وعلى هذا جماعةٌ كثيرةٌ، وأَنْ يكونَ مضافاً للفاعل. واختلفت عباراتُ الناسِ في هذا المعنى فقيل: لا تَجْعَلوا دعاءَه إيَّاكم كدعاءِ بعضٍ لبعضٍ فتتباطَؤُون عنه، كما يتباطَأُ بعضُكم عن بعضٍ إذا دعاه لأمرٍ، بل يجبُ عليكم المبادرةُ لأمرِه. واختاره أبو العباس، ويؤيِّدُه قوله: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} . وقيل: معناه لا تَجْعَلوا دعاءَ الرسولِ ربَّه مثلَ ما يَدْعو صغيرُكم كبيرَكم، وفقيرُكم غنيَّكم يَسْأله حاجةً، فرُبمَّا تُجابُ دعوتُه، ورُبَّما لا تُجاب. وإنْ دَعَواتِ الرسولِ عليه السلام مسموعةٌ مستجابةٌ. . . في التخريجةِ الأخرى. وقرأ الحسنُ «نَبِيِّكم» بتقديم النونِ على الباء المكسورةِ [بعدَها] ياءٌ مشدَّدةٌ مخفوضةٌ مكانَ «بينَكم» الظرفِ في قراءة العامَّة. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه بدلٌ من الرسول. الثاني: أنه عطفُ بيانٍ له لأنَّ النبيَّ [رسولٌ] ، بإضافتِه إلى المخاطبين صار أشهرَ من الرسول. الثالث: أنَّه نعتٌ. لا يُقال: إنَّه

لا يجوزُ لأنَّ هذا كما قَرَّرْتُمْ أعرفُ، والنعتُ لا يكونُ أعرفَ مِنَ المنعوتِ. بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ؛ لأنَّ الرسولَ صار عَلَماً بالغَلَبةِ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فقد تَسَاويا تعريفاً. قوله: {قَدْ يَعْلَمُ الله} قد تَدُلُّ على التقليلِ مع المضارع إلاَّ في أفعالِ اللهِ تعالى، فتدُلُّ على التحقيقِ كهذه الآيةِ. وقد رَدَّها بعضُهم إلى التقليلِ لكنْ إلى متعلِّقٍ العلمِ، يعني أنَّ الفاعِلين لذلك قليلٌ، فالتقليلُ ليس في العِلْمِ بل في متعلَّقِه. قوله: {لِوَاذاً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ من معنى الفعلِ الأولِ؛ إذ التقديرُ: يَتَسَلَّلُون منكم تَسَلُّلاً، أو يُلاوِذُون لِواذاً. والثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ أي مُلاوِذين. واللِّواذُ: مصدرُ لاوَذَ. وإنَّما صَحَّتِ الواوُ وإنْ انكسَرَ ما قبلها، ولم تُقْلَبْ ياءً كما قُلِبَتْ في قيام وصِيام؛ لأنها صَحَّتْ في الفعلِ نحو: لاوَذَ فلو أُعِلَّتْ في الفعلِ أُعِلَّتْ في المصدرِ نحو: القيام والصِّيام لقَلْبها ألفاً في قام وصام. فأمَّا مصدرُ لاذَ بكذا يَلُوْذُ بهِ/ فمعتلٌّ نحو: لاذَ لِياذاً، مثل: صام صِياماً وقام قِياماً. واللِّواذُ والمُلاوَذَةُ: التَّسَتُّرُ يُُقال: لاَوَذَ فلانٌ بكذا أي: اسْتَتَر به. واللَّوْذُ: ما يَطِيْفُ بالجبل. وقيل: اللِّواذُ: الرَّوَغانُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ في خُفْيَةٍ. وفي التفسير: أنَّ المنافقين كانوا يَخْرُجون مُتَسَترين بالناسِ من غيرِ استئذانٍ حتى لا يُرَوا. والمفاعَلَةُ: لأنَّ كلاً منهم يَلُوْذُ بصاحبهِ فالمشاركةُ موجودةٌ. وقرأ يزيد بن قطيب «لَواذاً» بفتحِ اللامِ، وهي محتملةٌ لوجهين

أحدُهما: أَنْ تكونَ مصدرَ «لاذ» ثلاثياً فتكون مثلَ: طافَ طَوافاً. وصَلَحَتْ أَنْ تكونَ مصدرَ لاوَذَ، إلاَّ أنَّه فُتِحَتْ الفاءُ إتباعاً لفتحةِ العينِ وهو تعليلٌ ضعيفٌ يَصْلُحُ لمثلِ هذه القراءةِ. قوله: {فَلْيَحْذَرِ الذين} فيه وجهان، أشهرُهما: وهو الذي لا يَعْرِف النحاةُ غيرَه أنَّ الموصولَ هو الفاعلُ و «أن تصيبَهم» مفعولُه أي: فَلْيَحْذَرِ المخالفون عن أمرِه إصابتَهم فتنةٌ. والثاني: أنَّ فاعل «فَلْيَحْذَرْ» ضميرٌ مستترٌ، والموصولُ مفعولٌ به. وقد رُدَّ على هذا بوجوهٍ منها: أنَّ الإِضمارَ على خلافِ الأصلِ. وفيه نظرٌ؛ لأن هذا الإِضمارَ في قوةِ المنطوقِ به، فلا يُقال: هو خلافُ الأصلِ. ألا ترى أنَّ نحوَ: قُمْ ولْتقم فاعلُه مضمرٌ، ولا يُقال في شيءٍ منه: هو خلافُ الأصلِ، وإنما الإِضمارُ خلافُ الأصلِ فيما كان حَذْفاً نحو: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] . ومنها أنَّ هذا الضميرَ لا مَرْجعَ له أي: ليس له شيءٌ يعودُ عليه فَبَطَلَ أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً، وأُجيب: بأنَّ الذي يعودُ عليه الضميرُ هو الموصولُ الأولُ أي: فَلْيَحْذَرِ المُتَسَلِّلون المخالِفينَ عن أمرِه فيكونون قد أُمِرُوا بالحَذَرِ منهم أي: أُمِروا باجتنابهم كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ. وقد رَدُّوا هذا بوجهين، أحدُهما: أنَّ الضميرَ مفردٌ، والذي يعودُ عليه جمعٌ، فقاتَتِ المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسيرِ الضمائر. الثاني: أنَّ المُتَسَللين هم المخالِفُون، فلو أُمِروا بالحَذَرِ عن الذين يُخالِفُون لكانوا قد أُمِروا بالحَذَرِ من أنفسهم، وهو لا يجوز؛ لأنَّه لا يمكِنُ أَنْ يُؤْمَروا بالحَذَرِ من أنفسهم. ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن الأولِ: بأنَّ الضميرَ وإن كان مفرداً فإنما عاد على

جمعٍ باعتبارِ أنَّ المعنى: فليحذَرْ هو. أي: مِنْ ذِكْرِ مثلِ ذلك. وحكى سيبويه «ضرَبني وضربْتُ قومَك» أي: ضربني مَنْ ثَمَّ ومَنْ ذُكِر، وهي مسألةٌ معروفةٌ في النحوِ، أو يكونُ التقديرُ: فليحذَرْ كلُّ واحدٍ من المُتَسَلِّلين. وعن الثاني: بأنه يجوزُ أَنْ يُؤْمَرَ الإِنسانُ بالحَذَرِ عن نفسِه مجازاً. يعني أنَّه لا يطاوعُها على شهواتِها وما تُسَوِّلُه له من السوءِ. كأنه قيل: فَلْيحذرِ المخالفونَ أنفسَهم، فلا يُطِيْعوها في ما تَأْمُرُهُمْ به، ولهذا يُقال: أَمَر نفسَه ونهاها، وأَمَرَتْه نفسُه باعتبار المجازِ. ومنها: أنَّه يَصيرُ قولُه: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مُفْلَتاً ضائِعاً؛ لأنَّ «يَحْذَرُ» يتعدَّى لواحدٍ، قد أَخَذَه على زَعْمِكم وهو «الذين يُخالفون» ، ولا يتعدى إلى اثنين حتى يَقُولوا: إنَّ «أنْ تصيبَهم فتنةٌ» في محلِّ مفعولِه الثاني فبقي ضائعاً. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يُسَلَّم ضَياعُه؛ لأنه مفعولٌ من أجله. واعتُرِضَ على هذا: بأنه لم يَسْتكمل شروطَ النصبِ لاختلافِ الفاعلِ؛ لأنَّ فاعلَ الحَذَرِ غيرُ فاعلِ الإِصابةِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ يَطَّرِدُ مع أَنْ وأنَّ. فنقول: مُسَلَّمٌ شروطُ النصبِ غيرُ موجودة، وهو مجرورٌ باللامِ تقديراً، وإنما حُذِفَتْ مع «أَنْ» لطولِها بالصلة. و «يُخالِفُون» يتعدى بنفسِه نحو: خالَفْتُ أَمْرَ زيدٍ، و «إلى» نحو: خالَفْتُ إلى كذا، فكيف تعدى هذا بحرفِ المجاوزِة؟ وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه ضُمِّن معنى صَدَّ وأَعْرَضَ أي: صدَّ عن أمرِه وأَعْرَضَ عنه مخالِفاً له. والثاني: قال ابن عطية: «معناه يَقَعُ خلافُهم بعدَ/ أَمْرِه، كما تقول: كان المطر عن ريحِ

كذا، وعَنْ لما عدا الشيءَ» . الثالث: أنها مزيدةٌ أي: يخالفون أمرَه، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة، والزيادةُ خلافُ الأصلِ. وقُرِىء «يُخَلِّفون» بالتشديد، ومَفْعولُه محذوفٌ أي: يُخَلِّفون أنفسَهم.

64

قوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} : قال: الزمخشري: «أَدْخَلَ» قد «ليؤكِّد عِلْمَه بما هم عليه من المخالفةِ عن الدينِ والنفاق، ويرجع توكيدُ العلمِ إلى توكيدِ الوعيدِ: وذلك أنَّ» قد «إذا دَخَلَتْ على المضارعِ كانت بمعنى» رُبَّما «فوافَقَتْ» رُبَّما «في خروجِها إلى معنى التكثير في نحو قوله: 3469 - فإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناءِ فرُبَّما ... أقامَ به بعدَ الوُفودِ وُفودُ ونحوٌ من ذلك قولُ زهير: 3470 - أَخي ثقةٍ لا تُهْلِكُ الخمرُ مالَه ... ولكنَّه قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ قال الشيخ:» وكونُ «قد» إذا دَخَلَت على المضارعِ أفادَتِ التكثير قولٌ

لبعضِ النحاةِ. وليس بصحيحٍ، وإنما التكثيرُ مفهومٌ من السِّياق. والصحيحُ: أنَّ «رُبَّ» للتقليلِ للشيءِ، أو لتقليلِ نظيرِه. وإنْ فُهِم تكثيرٌ فمِنْ السِّياقِ لا منها «. {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ} في» يوم «وجهان أحدُهما: أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ لعطفِه على قولِه: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي: يعلمُ الذي أنتم عليه مِنْ جميعِ أحوالِكم، ويَعْلَمُ يومَ يُرْجَعُون كقولِه: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} . والثاني: أنه ظرفٌ لشيءٍ محذوف. قال ابن عطية:» ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: والعلمُ الظاهرُ لكم أو نحو هذا يومَ، فيكونُ النصبُ على الظرفِ «انتهى. وقرأ العامَّةُ» يُرْجَعون «مبنياً للمفعول. وأبو عمرو في آخرين مبنياً للفاعلِ. وعلى كلتا القراءتين فيجوزُ وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ في الكلامِ التفاتٌ من الخطابِ في قولِه: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} إلى الغَيْبة في قوله:» يُرْجَعون «. والثاني: أنَّ» ما أنتم عليه «خطابٌ عامٌّ لكلِّ أحدٍ. والضميرُ في» يُرْجَعُون «للمنافقين خاصةً، فلا التفاتَ حينئذٍ.

الفرقان

قوله: {لِيَكُونَ} : اللامُ متعلقةٌ ب «نَزَّل» . وفي اسم «يكون» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرٌ يعودُ على الذي نزَّل. أي: ليكونَ الذي نَزَّل الفرقانَ نذيراً. الثاني: أنه يعودُ على الفرقانِ وهو القرآنُ. أي: ليكون الفرقانُ نذيراً. الثالث: أنه يعودُ على «عبدِه» أي: ليكونَ عبدُه محمد صلَّى الله عليه وسلَّم نذيراً. وهذا أحسنُ الوجوهِ معنىً وصناعةً لقُرْبِه ممَّا يعودُ عليه، والضميرُ يعودُ على أقربِ مذكورٍ. و «للعالمين» متعلقٌ ب «نذيراً» وإنما قُدِّم لأجلِ الفواصلِ. ودعوى إفادةِ الاختصاصِ بِعيدةٌ لعدمِ تأتِّيها هنا. ورَجَّح الشيخ عَوْدَه على «الذي» قال: «لأنه العُمْدةُ المسندُ إليه الفعلُ، وهو مِنْ وصفِه تعالى كقوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: 3] . و» نذيراً «الظاهرُ فيه أنه بمعنى مُنْذِر. وجَوَّزوا أَنْ يكونَ مصدراً بمعنى الإِنذار كالنكير مبعنى الإنكار ومنه {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] .

2

قوله: {الذي لَهُ مُلْكُ} : يجوز في «الذي» الرفعُ نعتاً للذي الأولِ، أو بياناً، أو بدلاً، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أو النصبُ على

المدحِ. وما بعد «نَزَّل» من تمام الصلة فليس أجنبياً، فلا يضُرُّ الفصلُ به بين الموصولِ الأولِ والثاني إذا جَعَلْنا الثاني تابعاً له. قوله: {وَخَلَقَ} الخَلْقُ هنا عبارةٌ عن الإِحداثِ والتهيئةِ لِما يَصْلُح له حتى يجيءَ قولُه: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} مفيداً؛ إذ لو حَمْلَنا {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام: وقَدَّر كلَّ شيءٍ فقدَّره.

3

قوله: {واتخذوا} : يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على الكفارِ الذينُ يَضُمُّهم لَفْظُ «العالمين» ، وأن يعودَ على مَنْ ادَّعَى للهِ شريكاً وَولداً لدلالةِ قولِه: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} ، وأنْ يعودَ على المُنْذَرين لدلالة «نذيراً» عليهم. قوله: {لاَّ يَخْلُقُونَ} صفةٌ ل «آلهةً» ، وغَلَّبَ العقلاءَ على غيرَهم؛ لأنَّ الكفارَ/ كانوا يَعْبُدون العقلاءَ كعُزَيْرٍِ والمسيح والملائكةِ وغيرِهم كالكواكبِ والأصنامِ. ومعنى «لا يَخْلُقُون» لا يَقْدِرُوْن على التقدير، والخَلْقُ يُوْصَفُ به العبادُ. قال زهير: 3471 - وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القوم يَخْلُقُ ثم لا يَفْري ويقال: خَلَقْتُ الأَديمَ أي: قدَّرْتُه. هذا إذا أُريد بالخَلْقِ التقديرُ. فإنْ أُريد به الإِيجادُ فلا يُوْصَفُ به غير الباري تعالى وقد تقدَّم. وقيل: بمعنى يَخْتَلِقون، كقوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17] .

4

قوله: {افتراه} : الهاءُ تعودُ على إفك. وقال أبو البقاء: «الهاء تعود على» عَبْدِه «في أول السورة» ولا أظنَّه إلاَّ غَلَطاً، وكأنه أراد أَنْ يقولَ: الضمير المرفوع في افتراه فَغَلِط. قوله: {ظُلْماً} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ به؛ لأنَّ «جاء» يتعدى بنفسِه وكذلك «أتى» . والثاني: أنه على إسقاطِ الخافضِ أي: جاؤوا بظلمٍ. الثالث: أنه في موضعِ الحال، فيجيءُ فيه ما في قولك «جاء زيدٌ عَدْلاً» من الأوجه.

5

قوله: {اكتتبها} : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحُدها: أَنْ يكونَ حالاً من أساطيرُ، والعاملُ فيها معنى التنبيه، أو الإِشارةِ المقدرةِ؛ فإنَّ «أساطيرُ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هذه أساطيرُ الأَوَّلِين مُكْتَتَبَةً. والثاني: أن يكونَ في موضع خبرٍ ثانٍ ل «هذه» . والثالث: أَنْ يكونَ «أساطيرُ» مبتدأً و «اكْتَتَبها» خبرُه، واكْتَتَبها: الافتعالُ هنا يجوز أَنْ يكونَ بمعنى أَمَر بكتابتها كاقتصد واحتَجم، إذا أَمَر بذلك، ويجوز أَنْ يكونَ بمعنى كَتَبَها، وهو مِنْ جملةِ افترائِهم عليه لأنه [عليه السلام] كان أمِّيَّاً لا يَقْرأ ولا يَكْتب، ويكون كقولهم: اسْتَكَبَّه واصْطَبَّه أي: سكبه وصبَّه. والافتعالُ مُشْعِرٌ بالتكلُّفِ. ويجوز أَنْ يكونَ مِنْ كَتَبَ بمعنى جَمَعَ، من الكَتْبِ وهو الجَمْعُ، لا من الكتابة بالقلَم. وقرأ طلحةُ «اكْتُتِبَها» مبنياً للمفعولِ. قال الزمخشري: «والمعنى اكتتبها له كاتِبٌ لأنه كان أمِّيَّاً لا يكتُب بيدِه، ثم حُذِفَتِ اللامُ فأفضى الفعلُ إلى الضمير فصار: اكتتبها إياه كاتبٌ. كقولِه: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ثم بُني

الفعلُ للضمير الذي هو» إياه «فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً، وبقي ضمير الأساطير على حالِه فصارَ» اكْتُتِبَها «كما ترى» . قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ ذلك على مذهبِ جمهورِ البصريين؛ لأنَّ» اكتتبها له كاتب «وَصَل الفعلُ فيه لمفعولين أحدُهما مُسَرَّح، وهو ضميرُ الأساطير، والآخرُ مقيدٌ، وهو ضميرُه عليه السلام، ثم اتُّسِع في الفعلِ فحُذِفَ حرفُ الجر، فصار: اكتتبها إياه كاتبٌ. فإذا بُني هذا للمفعولِ: إنما ينوبُ عن الفاعلِ المفعولُ المُسَرَّحُ لفظاً وتقديراً لا المسرَّحُ لفظاً، المقيَّدُ تقديراً. فعلى هذا يكون التركيب اكْتُتِبَه لا اكتتبها، وعلى هذا الذي قُلْناه جاء السماعُ. قال: الفرزدق: 3472 - ومِنَّا الذي اختير الرجالَ سماحةً ... وجوداً إذا هَبَّ الرياحُ الزَّعازِعُ ولو جاء على ما قَرَّره الزمخشريُّ لجاء التركيبُ:» ومنا الذي اختيره الرجالُ «لأنَّ» اخْتير «تَعدَّى إلى الرجال بإسقاطِ حرفِ الجرِّ؛ إذ تقديرُه: اختير من الرِّجال» . قلت: وهو اعتراضٌ حَسَنٌ بالنسبة إلى مذهبِ الجمهورِ، ولكن الزمخشريَّ قد لا يلْتزمه، ويوافق الأخفشَ والكوفيين، وإذا كان الأخفشُ وهم، يتركون المَسرَّحَ لفظاً وتقديراً، ويُقيمون المجرورَ بالحرفِ مع وجودِه فهذا أَوْلَى وأحرى. والظاهر أنَّ الجملةَ مِنْ قوله: {اكتتبها فَهِيَ تملى} مِنْ تَتِمَّةِ قولِ الكفارِ. وعن الحسن أنَّها من كلامِ الباري تعالى، وكان حَقُّ الكلام على هذا أَنْ يَقْرَأَ «

أَكْتَتَبها» بهمزةٍ مقطوعةٍ مفتوحةٍ للاستفهام كقولِه: {أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] . ويمكنُ أن يُعْتَذَرَ عنه: أنه حَذَفَ الهمزةَ للعلمِ بها كقولِه تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] . وقول الآخر: 3473 - أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصا نَبْلا يريدُ: أو تلك، وأَأَفْرَحُ، فُحُذِفَ لدلالةِ الحالِ، وحَقُّه أَنْ يقفَ على «الأوَّلين» . قال الزمخشري: «كيف قيل: اكْتَتَبها فهي تُمْلَى عليه، وإنما يُقال: أَمْلَيْتُ عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان، أحدُهما: أراد اكتتابَها وطَلَبه فهي تُمْلَى عليه أو كُتِبَتْ له وهو أُمِّيٌّ فهي تُمْلَى عليه أي: تُلْقَى عليه مِنْ كتابٍ يَتَحفَّظُها؛ لأنَّ صورةَ الإِلقاءِ على الحافظِ كصورة الإِلقاءِ على الكاتبِ» . وقرأ عيسى وطلحة «تُتْلَى» بتاءَيْن مِنْ فوقُ، من التلاوة. و {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ظرفا زمان للإِملاء. والياءُ في «تملَى» بدلٌ من اللامِ كقولِه: {فَلْيُمْلِلْ} [البقرة: 282] وقد تقدَّمَ.

7

قوله: {مَالِ هذا} : «ما» استفهاميةٌ مبتدأةٌ. والجارُّ بعدَها خبرٌ. «ويَأْكل» جملةٌ حاليةٌ، وبها تَتِمُّ فائدةُ الإِخبار كقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} . وقدت تقدم في النساء أنَّ الجرِّ كُتِبَتْ مفصولةً من مجرورِها وهو خارجٌ عن قياسِ الخطِّ. / والعاملُ في الحالِ الاستقرارُ العاملُ في الجارِّ، أو نفسُ الجارِّ، ذكرَه أبو البقاء. قوله: {فَيَكُونَ} العامَّةُ على نصبِه. وفيه وجهان، أحدُهما: نصبٌ على جوابِ التحضيضِ. والثاني قال أبو البقاء: فيكونَ منصوبٌ على جوابِ الاستفهام «وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ما بعدَ الفاءِ لا يَتَرَتَّبُ على هذا الاستفهامِ. وشرطُ النصبِ: أن ينعقدَ منها شرطٌ وجزاءٌ. وقُرِىء» فيكونُ «بالرفعِ، وهو معطوفٌ على» أُنْزِل «. وجاز عطفُه على الماضي؛ لأنَّ المرادَ بالماضي المستقبلُ، إذ التقدير: لولا نُنَزِّلُ.

8

قوله: {أَوْ يلقى} : «أو تكونُ» معطوفان على «أُنْزِلَ» لِما تقدَّم مِنْ كونِه بمعنى نُنَزِّل. ولا يجوزُ أَنْ يُعْطفا على «فيكونَ» المنصوبِ في الجواب، لأنهما مُنْدَرجان في التحضيض في حكم الواقعِ بعد «لولا» . وليس المعنى على أنهما جوابٌ للتحضيضِ فيعطفا على جوابِه. وقرأ الأعمش وقتادةُ «أو يكونُ له» بالياء من تحتُ؛ لأن تأنيثَ الجنةِ مجازيٌّ.

قوله: {يَأْكُلُ مِنْهَا} الجملةُ في موضعِ الرفعِ صفةً ل «جنةٌ» . وقرأ الأخَوان «نَأْكُلُ» بنون الجمعِ. والباقون بالياء من تحتُ أي: الرسول. قوله: {وَقَالَ الظالمون} وَضَعَ الظاهرَ موضعَ المضمرِ، إذ الأصل: وقالوا. قال الزمخشري: «وأرادَ بالظالمين إياهم بأعيانهم» . قال الشيخ: «وقوله ليس تركيباً سائغاً، بل التركيبُ العربيُّ أَنْ يقولَ: أرادَهم بأعيانِهم» .

10

قوله: {جَنَّاتٍ} : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «خيراً» ، وأَنْ يكونَ عطفَ بيانٍ عند مَنْ يُجَوِّزه في النكراتِ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمارِ أعني. و {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفةٌ. قوله: {وَيَجْعَل لَّكَ} قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع «ويجعَلُ» والباقون بإدغامِ لامِ «يَجْعَلْ» في لام «لك» . وأمَّا الرفعُ ففيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مستأنفٌ. والثاني: أنه معطوفٌ على جوابِ الشرط. قال الزمخشري: «لأنَّ الشرطَ إذا وقع ماضياً جاز في جوابِه الجزمُ، والرفعُ كقولِه: 3474 - وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ

قال الشيخ:» وليس هذا مذهبَ سيبويه، بل مذهبُه: أنَّ الجوابَ محذوفٌ، وأنَّ هذا المضارعَ مَنْوِيُّ به التقديمُ، ومذهبُ المبرد والكوفيين أنه جوابٌ على حَذْفِ الفاءِ. ومذهبُ آخرين: أنه جوابٌ لا على حَذْفِها، بل لمَّا كان الشرطُ ماضياً ضَعُفَ تأثيرُ «إنْ» فارتفع «. قلت: فالزمخشريُّ بنى قولَه على هذين المذهبين. ثم قال الشيخ:» وهذا التركيبُ جائزٌ فصيحٌ. وزعم بعضُ أصحابِنا أنه لا يجيءُ إلاَّ في ضرورة «. وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فتحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّ سكونَ اللامِ للجزمِ عطفاً على مَحَلِّ» جَعَل «؛ لأنَّه جوابُ الشرط. والثاني: أنه مرفوعٌ، وإنما سُكِّن لأجلِ الإِدغام. قال الزمخشري وغيرُه وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ مِنْ جملةِ مَنْ قرأ بذلك وهو نافعٌ والأخَوان وحفصٌ ليس مِنْ أصولِهم الإِدغامُ، حتى يدعى لهم في هذا المكانِ. نعم أبو عمرو أصلُه الإِدغامُ وهو يقرأ هنا بسكونِ اللامِ، فيُحتمل ذلك على قراءته، وهذا من محاسِنِ علمِ النحوِ والقراءاتِ معاً. وقرأ طلحةُ بن سليمان» ويَجْعَلَ «بالنصبِ؛ وذلك بإضمارِ» أنْ «على

جوابِ الشرطِ، واستضعفها ابنُ جني. ومثلُ هذه القراءة: 3475 - فإنْ يَهْلَكْ أبو قابوسَ يَهْلَكْ ... رَبيعُ الناسِ والبَلدُ الحرامُ ونَأْخُذْ بعدَه بذِنابِ عيشٍ ... أَجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ بالتثليث في» نَأْخذ «.

12

قوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ} : هذه الجملةُ الشرطيةُ في موضعِ نصبٍ صفةً ل «سَعيراً» لأنَّه مؤنَّثٌ. قوله: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} إنْ قيل: التغيُّظُ لا يُسْمع. فالجوابُ من ثلاثةِ أوجه، أحدُها: أنه على حَذْفِ مضافٍ أي: صوتَ تغيُّظِها. والثاني: أنه على حَذْفٍ تقديرُه: سَمِعوا وَرَأَوْا تغيُّظاً وزفيراً، فيرتفع كلُّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به أي: رَأَوْا تغيُّظاً وسَمِعوا زَفيراً. والثالث: أَنْ يُضَمَّن «سمعوا» معنىً يَشْمَلُ الشيئين أي: أَدْرَكوا لها تغَيُّظاً وزفيراً. وهذان الوجهان الأخيران منقولان من قولِه: 3476 - يا ليتَ زوجَك قد غَدا ... متقلِّداً سيفاً ورُمْحاً ومن قوله: 3477 - فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي: ومُعْتَقِلاً رمحاً، وسَقَيْتُها ماءً، أو تضمِّنُ «مُتَقَلِّداً» معنى مُتَسَلِّحاً، و «عَلَفْتُها» معنى: أَطْعَمْتُها تِبْناً وماءً بارداً.

13

قوله: {مَكَاناً} : منصوب على الظرف و «منها» في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ «مكان» لأنه في الأصل صفةٌ له. و «مُقَرَّنين» حال مِنْ مفعول «أُلْقُوا» . و «ثُبوراً» مفعول به. فيقولون: يا ثُبوراه. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من معنى «دُعُوا» وقيل: منصوبٌ بفعلٍ من لفظِه مقدرٍ تقديرُه: ثَبَرْنا ثُبوراً. وقرأ/ معاذ بن جبل «مُقَرَّنُوْنَ» بالواو. ووجهُها أَنْ تكونَ بدلاً من مفعول «أُلْقُوا» . وقرأ عمر بن محمد «ثَبورا» بفتح الثاء. والمصادرُ التي على فَعُوْل بالفتح قليلةٌ جداً. ينبغي أن يُضَمَّ هذا إليها، وقد ذكرْتُها في البقرةِ عند قولِه {وَقُودُهَا الناس} [البقرة: 24] .

16

قوله: {خَالِدِينَ} : منصوبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ فاعل «يَشاؤون» وإمَّا مِنْ فاعل «لهم» لوقوعِه خبراً. والعائدُ على «ما» محذوفٌ أي: لهم فيها الذي يَشاؤُونه حالَ كونِهم خالدين. قوله: {كَانَ على رَبِّكَ} في اسمِ كان وجهان، أحدهما: أنه ضميرُ «

ما يَشاؤون» ، ذكره أبو البقاء. والثاني: أَنْ يعودَ على الوَعْدَ المفهومِ مِنْ قولِه {وُعِدَ المتقون} . و {مَّسْئُولاً} على المجازِ أي: يُسْأَلُ: هل وُفِّي بك أم لا؟ أو يَسْأله مَنْ وُعِدَ به؟ .

17

قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} : قرأ ابنُ عامر «نَحْشُرهم» ِ «فنقول» بالنون فيهما. وابنُ كثير وحفصٌ بالياء مِنْ تحت فيهما. والباقون بالنونِ في الأولِ، وبالياءِ في الثاني. وهنَّ واضحاتٌ. وقرأ الأعرج «نَحْشِرُهم» بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: «هي قليلةٌ في الاستعمالِ قويةٌ في القياس؛ لأنَّ يَفْعِلِ بكسرِ العين في المتعدِّي أَقْيَسُ مِنْ يَفْعُل بضمِّ العين» . وقال أبو الفضل الرازي: «وهو القياس في الأفعالِ الثلاثيةِ المتعديةِ؛ لأنَّ يَفْعُل بضهم العين قد يكونُ من اللازمِ الذي هو فَعُل بضمِّها في الماضي» . قال الشيخ: «وليس كما ذكرا، بل فِعْلُ المتعدِّي الصحيحُ جميعُ حروفِه، إذا لم يكن للمغالبةِ ولا حلقيَّ عينٍ ولا لامٍ فإنه جاء على يَفْعِل ويَفْعُل

كثيراً. فإنْ شُهرِ أحدُ الاستعمالين اتُّبعَ، وإلاَّ فالخيارُ. حتى إنَّ بعضَ أصحابِنا خَيَّر فيهما: سُمِعا للكلمة أو لم يُسْمَعا» . قلت: الذي خَيَّرَ في ذلك هو ابنُ عصفور فيُجيزُ أَنْ تقولَ: «زيد يَفْعِل» بكسرِ العينِ، و «يَضْرُب» [بضمِّ] الراءِ مع سماعِ الضمِّ في الأول والكسرِ في الثاني. وسبَقَه إلى ذلك ابنُ درستويهِ، إلاَّ أنَّ النحاةَ على خلافِه. قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ} عطفٌ على مَفْعولِ «نَحْشُرهم» ويَضْعُفُ نصبُه على المعيَّة. وغَلَّب غيرَ العاقلِ فأتى ب «ما» دونَ «مَنْ» . قوله: {هَؤُلاَءِ} يجوزُ أن يكونَ نعتاً لعِبادي، أو بدلاً، أو بياناً. قوله: {ضَلُّوا السبيل} على حَذْفِ الجرِّ وهو «عن» ، كما صَرَّح به في قوله {يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 117] ثم اتُّسِع فيه فَحُذِف نحو: «هَدَى» ، فإنه يتعدَّى ب «إلى» ، وقد يُحْذَفُ اتِّساعاً. و «ظَلَّ» مطاوعُ أَضَلَّ.

18

قوله: {يَنبَغِي} : العامَّةُ على بنائِه للفاعل. وأبو عيسى الأسودُ القارىء «ينبغى» مبنياً للمفعولِ. قال ابنُ خالويه: «

زعم سيبويه أن ينبغى لغة» . قوله: {أَن نَّتَّخِذَ} فاعلُ «ينبغي» أو مفعولٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الأسود. وقرأ العامَّةُ «نَتَّخِذَ» مبنياً للفاعل. و «من أولياء» مفعولُه، وزِيْدَتْ فيه «مِنْ» . ويجوز أن يكونَ مفعولاً أولَ على أنَّ «اتَّخَذَ» متعديةٌ لاثنين، ويجوز أَنْ لا تكون المتعديةَ لاثنين بل لواحدٍ، فعلى هذا «مِنْ دونِك» متعلِّقٌ بالاتِّخاذ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ «أولياء» . وقرأ أبو الدَّرْداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر في آخرين «نُتَّخَذَ» مبنيَّاً للمفعول. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها المتعديةُ لاثنينِ، والأولُ همز ضمير المتكلمين. والثاني: قولُه: «مِنْ أولياء» و «مِنْ» للتبعيضِ أي: ما كان ينبغي أَنْ نَتَّخِذَ بعضَ أولياء، قاله الزمخشري. الثاني: أنَّ «مِنْ أولياء» هو المفعولُ الثاني ايضاً، إلاَّ أنَّ «مِنْ» مزيدةٌ في المفعولِ الثاني. وهذا مردودٌ: بأنَّ «مِنْ» لا تُزاد في المفعول الثاني، إنما تُزاد في الأولِ. قال ابن عطية: «ويُضْعِفُ هذه القراءةَ دخولُ» مِنْ «في قوله:» مِنْ أولياء «. اعتَرَض بذلك سعيدُ بن جبير وغيرُه» . الثالث: أَنْ يكونَ «مِنْ أولياء» في موضعِ الحالِ. قاله ابن جني إلاَّ أنه قال: «ودَخَلَتْ» مِنْ «زيادةً لمكانِ النفيِ المتقدم، كقولك: ما اتَّخذت زيداً مِنْ وكيل» . قلت: فظاهرُ هذا أنه جَعَلَ

الجارَّ والمجرورَ في موضعِ الحالِ، وحينئذٍ يَسْتحيلُ أَنْ تكونَ «مِنْ» مزيدةً، ولكنه يريدُ أنَّ هذا المجرورَ هو الحالُ نفسُه و «مِنْ» مزيدةٌ فيه، إلاَّ أنه لا تُحفظ زيادةُ «مِنْ» في الحالِ وإنْ كانَتْ منفيةً، وإنما حُفِظ زيادةُ الباءِ فيها على خلافٍ في ذلك. وقوله: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ} {أَمْ هُمْ ضَلُّوا} إنما قَدَّم الاسمَ على الفعل لمعنىً ذكرْتُه في قولِه تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] . وقرأ الحَجَّاج «نتخذ مِنْ دونِك [أولياءَ] » فبلغ عاصماً فقال: «مُقِتَ المُخْدِجُ. أَوَ عَلِم أنَّ فيها» مِنْ «؟ قوله: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ} لَمَّا تََضَمَّن كلامُهم أنَّا لم نُضِلَّهم، ولم نَحْمِلْهم على الضلالِ، حَسُن هذا الاستدراكُ وهو أَنْ ذَكَرُوا سبَبَه أي: أَنْعَمْتَ عليهم وتَفَضَّلْتَ فَجَعَلوا ذلك ذَرِيْعةً إلى ضلالهم عكسَ القضية. قوله: {بُوراً} يجوز فيه وجهان أحدُهما: أنه جمعُ بائرِ كعائذِ وعُوذ. والثاني: أنه مصدرٌ في الأصلِ، فَيَسْتوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنثُ. وهو مِنْ البَوارِ وهو الهَلاكُ. وقيل: من الفسادِ. وهي لغةٌ للأزد يقولون: / بارَتْ بضاعتُه أي: فَسَدَتْ. وأمرٌ بائِرٌ أي: فاسدٌ. وهذا

معنى قولِهم:» كَسَدَتِ البضاعةُ «. وقال الحسن:» وهو مِنْ قولِهم: أرضُ بُوْرٌ أي: لا نباتَ بها. وهذا يَرْجعُ إلى معنى الهلاكِ والفساد «.

19

قوله: {بِمَا تَقُولُونَ} : هذه الجملةُ من كلامِ اللهِ تعالى اتفاقاً، فهي على إضمارِ القولِ والالتفاتِ. قال الزمخشري: «هذه المفاجأةُ بالاحتجاجِ والإِلزامِ حسنةٌ رائعةٌ، وخاصةً إذا انضمَّ إليها الالتفاتُ وحَذْفُ القولِ. ونحُوها قولُه عَزَّ وجَلَّ {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19] وقولُ القائل: 3478 - قالوا خُراسانُ أَقْصى ما يُرادُ بنا ... ثم القُفُوْلُ فقد جِئْنا خُرسانا انتهى. يريد: أن الأصلَ في الآيةِ الكريمة: فقُلْنا: قد كَذَّبوكم، وفي البيت فقلنا: قد جِئْنا. والخطابُ في» كَذَّبوكم «للكفارِ، فالمعنى: فقد كَذَّبكم المعبودون بما تقولون مِنْ أنَّهم أَضَلُّوكم. وقيل: المعنى: فقد كَذَّبوكم فيما تقولون من الافتراءِ عليهم أنَّهم أَضَلُّوكم وقيل: هو خطابٌ للمؤمنين في الدنيا أي: فقد كَذَّبكم أيَّها المؤمنون الكفارَ بما تقولون من التوحيدِ في الدنيا. وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياءِ مِنْ تحتُ

أي: فقد كَذَّبكم الآلهةُ بما يقولون {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ} إلى آخِرِه. وقيل: المعنى: فقد كَذَّبكم أيها المؤمنونَ الكفَّارُ بما يقولون من الافتراءِ عليكم. قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} قرأ حفص بتاءِ الخطاب والمرادُ عبادُها. والباقون بياءِ الغَيْبة. والمرادُ الآلهةُ التي كانوا يعبُدونها مِنْ عاقلٍ وغيرِه؛ ولذلك غَلَّب العاقَل فجيْءَ بواوِ الضميرِ. قوله: {نُذِقْهُ} العامَّةُ بنونِ العظمةِ، وقرىء بالياءِ وفي الفاعلِ وجهان، أظهرهُما: أنَّه اللهُ تعالى لدلالةِ قراءةِ العامَّةِ على ذلك. والثاني: أنه ضميرُ الظلمِ المفهومِ من الفعل. وفيه تَجَوُّزُ بإسناد إذاقةِ العذابِ إلى سببِها وهو الظلمُ.

20

قوله: {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ} : في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ، فقدِّره الزمخشريُّ تابعاً للزجَّاج: «وما أَرْسَلْنا قبلَك أحداً من المرسلين إلاَّ آكلين وماشِين» وإنما حُذِف لمكانِ الجارِّ بعدَه. وقَدَّره ابنُ عطية: «رجالاً أو رُسُلاً» . والضميرُ في «إنهم» وما بعدَه عائدٌ على هذا الموصوفِ المحذوفِ. والثاني: أنه لا محلَّ لها من الإِعرابِ، وإنما هي صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ هو المفعولُ لأَرْسَلْنا، تقديرُه: إلاَّ مَنْ إنهم، فالضميرُ في «إنهم» وما بعدَه عائدٌ

على معنى «مَنْ» المقدرةِ، وإليه ذهب الفراء. وهو مردودٌ: بأنَّ حَذْفَ الموصولِ لا يجوزُ إلاَّ في مواضعَ تَقَدَّم التنبيهُ عليها في البقرةِ. الثالث: أنَّ الجملةَ محلُّها النصبُ على الحالِ. وإليه ذهب أبو بكر بن الأنباري. قال: التقديرُ: إلاَّ وإنهم، يعني أنَّها حاليةٌ، فقدَّر معها الواوَ بياناً للحالية. ورُدَّ: بكونِ ما بعدَ «إلاَّ» صفةً لِما قبلَها. وقدَّره أبو البقاء أيضاً. والعامَّةُ على كسرِ «إنَّ» لوجودِ اللامِ في خبرِها، ولكونِ الجملةِ حالاً على الراجحِ. قال أبو البقاء: «وقيل: لو لم تكنِ اللامُ لكُسِرَتْ أيضاً؛ لأنَّ الجملةَ حاليةٌ، إذ المعنى: إلاَّ وهم [يأْكلون» ] . وقُرِىء «أنهم» بالفتح على زيادةِ اللامِ، و «أَنْ» مصدريةٌ. التقدير: إلاَّ لأنَّهم. أي: ما جَعَلْناهم رسلاً إلى الناسِ إلاَّ لكونِهم مِثْلَهم. وقرأ العامَّةُ «يَمْشُوْن» خفيفةً. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد الله «يُمَشَّوْن» مشدَّداً مبنياً للمفعولِ. أي: تُمَشِّيهم حوائجُهم أو الناسُ. وقرأ [أبو] عبد الرحمن «يُمَشُّون» بالتشديدِ مبنياً للفاعل، وهي بمعنى «يَمْشُون» . قال الشاعر: 3479 - ومشى بأعطانِ المَبَأءَةِ وابتغى ... قلائِصَ مِنْها صَعْبَةٌ ورَكُوْبُ

قال الزمخشري: «ولو قُرِىء» يُمَشُّون «لكان أوجهَ، لولا الروايةُ» يعني بالتشديد. قلت: قد قرأ بها السُّلَمِيُّ ولله الحمد. قوله: {أَتَصْبِرُونَ} المعادِلُ محذوفٌ أي: أم لا تصبرون. وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ قال الزمخشري: «موقعُها بعد الفتنةِ موقع» أيُّكم «بعد الابتلاءِ في قولهِ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} [الملك: 2] يعني أنها معلَّقةٌ لِما فيها مِنْ معنى فِعْلِ القلبِ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ على إسقاطِ الخافضِ.

21

قوله: {عُتُوّاً} : مصدرٌ. وقد صَحَّ هنا، وهو الأكثرُ، وأُعِلَّ في سورة مريم في {عِتِيّاً} [الآية: 8] لمناسبةٍ ذُكِرَتْ هناك وهي تواخي رؤوسِ الفواصلِ.

22

قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ يَدُلُّ عليه قوله: «لا بشرى» أي: يُمْنعون البشرى يومَ يَرَوْن. الثاني: أنه منصوبٌ باذْكُرْ، فيكونُ مفعولاً به. الثالث: أنه منصوبٌ ب «يُعَذَّبون» مقدَّراً. ولا يجوز أَنْ يعملَ فيه نفسُ البشرى/ لوجهين، أحدهما: أنها مصدرٌ، والمصدرُ لا يعملُ فيما قبله. والثاني: أنها منفيةٌ ب «لا» ، وما بعدَها لا يَعْمل فيما قبلَها. قوله: {لاَ بشرى} هذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ أي: يَرَوْنَ الملائكةَ يقولون: لا بشرى، فالقولُ حالٌ من الملائكة. وهو نظيرُ التقديرِ في قولِه

تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23] . قال الشيخ: «واحْتَمَلَ» بُشْرَى «أَنْ يكونَ مبنياً مع» لا «، واحْتَمَل أن يكونَ في نيةِ التنوينِ منصوبَ اللفظِ، ومُنِع من الصرفِ للتأنيثِ اللازمِ. فإنْ كان مبنياً مع» لا «احْتَمَلَ أَنْ يكونَ» يومئذٍ «خبراً، و» للمجرمين «خبرٌ بعد خبرٍ، أو نعتاً ل» بشرى «، أو متعلقاً بما تَعَلَّق به الخبرُ، وأَنْ يكونَ» يومئذٍ «صفةً ل» بُشْرَى «، والخبرُ» للمجرمين «ويجيءُ خلافُ سيبويهِ والأخفشِ: هل الخبرُ لنفسِ لا، أو الخبرُ للمبتدأ الذي هو مجموعُ» لا «وما بُني معها؟ وإن كان في نيةِ التنوينِ وهو معربٌ جاز أن يكونَ» يومئذٍ «و» للمجرمين «. خبرين، وجاز أَنْ يكونَ» يومئذٍ «خبراً و» للمجرمين «صفةً. والخبرُ إذا كان الاسمُ ليس مبنيَّاً لنفسِ» لا «بإجماع» . قلت: قوله: «واحْتَمَلَ أَنْ يكونَ في نيةِ التنوينِ» إلى آخره لا يتأتى إلاَّ على قولِ أبي إسحاقَ. وهو أنَّه يرى أنَّ اسمَ «لا» النافيةِ للجنسِ معربٌ، ويَعْتَذِرُ عن حذفِ التنوينِ بكثرةِ الاستعمالِ، ويَسْتَدِلُّ عليه بالرجوعِ إليه في الضرورةِ. ويُنشِد: 3480 - أَلا رجلاً جزاهُ اللهُ خيراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويتأَوَّلُه البصريون على إضمار: ألا تَرَوْنَني رجلاً. وكان يمكنُ الشيخُ أنْ يجعلَه معرباً كما ادَّعى بطريق أخرى: وهي أن يَجْعَلَ «بشرَى» عاملةً في «يومَئذٍ» أو في «للمجرمين» فيصيرُ من قبيلِ المُطَوَّل، والمُطوَّلُ معربٌ، لكنه لم يُلِمَّ بذلك. وسيأتي شيءٌ من هذا في كلام أبي البقاء رحمه الله. ويجوز أَن يكونَ «بُشرى» معرباً منصوباً بطريقٍ أخرى. وهي أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ أي: لا يُبَشَّرون بشرى كقولِه تعالى: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} [ص: 59] ، «لا أهلا ولا سهلاً» . إلاَّ أنَّ كلامَ الشيخِ لا يمكنُ تنزيلهُ على هذا لقولهِ: «جاز أَنْ يكونَ» يومَئذٍ «و» للمجرمين «خبرين» فقد حكمَ أنَّ لها خبراً. وإذا جُعِلَتْ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ لا يكون ل «لا» حينئذٍ خبرٌ، لأنها داخلةٌ على ذلك الفعلِ المقدرِ. وهذا موضعٌ حَسَنٌ فتأمَّلْه. قوله: {يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} قد تقدَّم من «يومئذٍ» أوجهٌ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً ب «بشرى» قال: «إذا قَدَّرْتَ أنها منونةٌ غيرُ مبنيةٍ مع» لا «ويكونُ الخبرُ» للمجرمين «. وجَوَّز أيضاً هو والزمخشريُّ أَنْ يكونَ» يومئذٍ «تكريراً ل» يومَ يَرَوْن «. ورَدَّه الشيخ سواءً أُريد بالتكريرِ التوكيدُ اللفظيُّ أم أريد به البدلُ قال:» لأنَّ

يومَ منصوبٌ بما تقدَّم ذِكْرُه مِنْ «اذْكُر» ، أو مِنْ يَعْدِمون البشرى. وما بعد «لا» العاملةِ في الاسمِ لا يَعْمَل فيه ما قبلَها. وعلى تقدير ما ذكراه يكون العاملُ فيه ما قبل لا «. قلت: وما رُدَّ به ليس بظاهرٍ؛ وذلك لأنَّ الجملةَ المنفيَّةَ معمولةٌ للقولِ المضمرِ الواقعِ حالاً مِنَ» الملائكة «، والملائكةُ معمولةٌ ل» يَرَوْن «، ويَرَوْن معمولٌ ل» يوم «خفضاً بالإِضافة، ف» لا «وما في حَيِّزها مِنْ تتمةِ الظرفِ الأولِ من حيث إنَّها معمولةٌ لبعضِ ما في حَيِّزِه فليسَتْ بأجنبيةٍ ولا مانعةٍ مِنْ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما بعدَها. والعجبُ له كيف تَخَيَّلَ هذا، وغَفَلَ عَمَّا قُلْتُه فإنه واضحٌ مع التأمُّل؟ و» للمُجْرمين «مِنْ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ شهادةً عليهم بذلك. والضميرُ في» يقولون «يجوزُ عَوْدُه للكفارِ و» للملائكة «. و» حِجْراً «من المصادرِ المُلْتَزَمِ إضمارُ ناصبها، ولا يُتَصَرَّف فيه. قال سيبويه:» ويقولُ الرجلُ للرجل: أَتفعل كذا؟ فيقول: حِجراً «. وهي مِنْ حَجَره إذا مَنَعَه؛ لأن المستعيذَ طالبٌ من اللهِ أن يمنعَ المكروهَ لا يَلْحَقُه. وكأن المعنى: أسأل اللهَ أَنْ يمنعَه مَنْعاً ويَحْجُرَه حَجْراً. والعامَّةُ على كسرِ الحاء. والضحاك والحسن وأبو رجاء على ضَمِّها وهو لغةٌ فيه. قال الزمخشري:» ومجيئُه على فِعْل أو فُعْل في قراءةِ الحسنِ تَصَرُّفٌ فيه لاختصاصِه بموضعٍ واحد، كما كان قَعْدَك وعَمْرك كذلك.

وأنشدتُ لبعض الرُجاز: 3481 - قالَتْ وفيها حَيْدَةٌ وذُعْرُ ... عَوْذٌ بربِّي منكُمُ وحُجْرُ وهذا الذي أنشده الزمخشريُّ يقتضي تَصَرُّفَ «حجراً» وقد تقدَّم نصُّ سيبويهِ على أنَّه يلزمُ النصبَ. وحكى أبو البقاءِ فيه لغةً ثالثةً وهي الفتحُ. قال: «وقد قُرِىء بها» . فَعَلى هذا كَمَلَ فيه ثلاثُ لغاتٍ مقروءٌ بهنَّ. ومَحْجُوْراً صفةٌ مؤكَّدةٌ للمعنى كقولهم: ذَيْل ذائِل، ومَوْت مائتِ. والحِجْر: العقلُ لأنه يمنعُ صاحبَه.

23

قوله: {هَبَآءً} : الهَباءُ والهَبْوَة: الترابُ الدقيق قاله ابن عرفة. قال الجوهري: «يُقال منه: هبا يَهْبو إذا ارتفع وَأَهْبَيْتُه أنا إهْباءً» . وقال الخليل والزجَّاج: «هو مثلُ الغبارِ الداخلِ في الكُوَّة يتراءَى مع ضوءِ الشمس» . وقيل: الهَباء ما تطايَرَ مِنْ شَرَرِ النارِ إذا أُضْرِمَتْ. والواحدةُ هَباءة على حَدّ تَمْر وتمرة. ومَنْثوراً أي مُفَرَّقاً، نَثَرْتُ الشيء: فَرَّقْتُه. والنَّثْرَة:

لنجومٍ متفرقة. والنَّثْرُ: الكلامُ غيرُ المنظوم على المقابلةِ بالشعرِ. وفائدةُ الوصفِ به أنَّ الهباءَ تراه منتظماً مع الضوء/ فإذا حَرَّكْتُه تَفَرَّقَ فجِيِْءَ بهذه الصفةِ لتفيدَ ذلك. وقال الزمخشري: «أو مفعولٌ ثالثٌ لجَعَلْناه أي: فَجَعَلْناه جامِعاً لحقارةِ الهَباء والتناثُرِ كقوله تعالى: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] أي: جامعين للمَسْخِ والخَسْءِ» . قال الشيخ: «وخالَفَ ابنُ درستويه، فخالف النحويين في مَنْعِه أن يكونَ لكان خبران وأزيدُ، وقياسُ قولِه في» جَعَلَ «أَنْ يمنعَ أن يكونَ لها خبرٌ ثالث» . قلت: مقصودُه أنَّ كلامَ الزمخشريِّ مردودٌ قياساً على ما مَنَعَه ابنُ درستويه مِنْ تعديدِ خبر «كان» .

24

قوله: {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ} : في أفْعَل هنا قولان، أحدُهما: أنها على بابِها من التفضيل. والمعنى: أنَّ المؤمنين خيرٌ في الآخرة مستقراً مِنْ مستقرِّ الكفارِ، وأحسنُ مقيلاً مِنْ مَقِيلهم، لو فُرِض أَنْ يكونَ لهم ذلك، أو على أنهم خيرٌ في الآخرةِ منهم في الدنيا. والثاني: أَنْ تكونَ لمجردِ الوصفِ مِنْ غيرِ مفاضلةٍ.

25

قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} : العاملُ في «يومَ» : إمَّا اذْكُرْ، وإمَّا: ينفردُ اللهُ بالمُلْك يومَ تَشَقَّقُ، لدلالة قوله: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} [الفرقان: 26] عليه. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو هنا وفي ق «تَشَقَّق» بالتخفيف. والباقون

بالتشديدِ. وهما واضحتان. حَذَفَ الأَوَّلون تاءَ المضارعةِ، أو تاءَ التَّفَعُّلِ، على خلافٍ في ذلك. والباقون أَدْغموا تاء التَفَعُّل في الشين لِما بينهما من المقاربَةِ، وهما «كَتَظَاهَرون وتَظَّاهرون» حَذْفاً وإدغاماً. وقد مضى في البقرة. قوله: {بالغمام} في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: على السببيَّة أي: بسببِ الغَمام، يعني بسببِ طُلوعِه منها. ونحو {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] كأنَّه الذي تَنْشَقُّ به السماءُ. الثاني: أنها للحالِ أي: ملتبسَةً بالغَمام. الثالث: أنها بمعنى عَنْ أي: عن الغمامِ كقوله: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ} [ق: 44] . قوله: {وَنُزِّلَ الملائكة} فيها اثنتا عشرة قراءة: ثِنْتان في المتواتِر، وعشرٌ في الشاذ. فقرأ ابن كثير من السبعة «ونُنْزِلُ» بنونِ مضمومةٍ ثم أُخْرى ساكنةٍ وزايٍ خفيفةٍ مكسورةٍ مضارعَ «أَنْزَلَ» ، و «الملائكةَ بالنصبِ مفعولٌ به. وكان من حَقِّ المصدرِ أَنْ يجيءَ بعد هذه القراءةِ على إنْزال. قال أبو علي:» لَمَّا كان أَنْزَل ونَزَّل يَجْريان مَجْرىً واحِداً، أجرى مصدرَ أحدِهما على مصدرِ الآخر: وأنشدَ: 3482 - وقد تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الحِضْبِ ...

لأنَّ تَطَوَّيْتُ وانْطَوَيْتُ بمعنىً «. قلت: ومثلُه {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] أي: تَبَتُّلاً. وقرأ الباقون من السبعةِ» ونُزِّل «بضمِّ النون وكسرِ الزاي المشدَّدةِ وفتحِ اللامِ، ماضياً مبنياً للمفعول.» الملائكةُ «بالرفعِ لقيامةِ مقامَ الفاعلِ. وهي موافقةٌ لمصدرِها. وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء» ونَزَّلَ «بالتشديد ماضياً مبنياً للفاعلِ، وهو الله تعالى،» الملائكةَ «مفعولٌ به. وعنه أيضاً» وأَنْزَل «مبنياً للفاعلِ عَدَّاه بالتضعيفِ مرةً، وبالهمزة أخرى. والاعتذارُ عن مجيء مصدرِه على التفعيلِ كالاعتذارِ عن ابنِ كثير. وعنه أيضاً» وأُنْزِل «مبنياً للمفعولِ. وقرأ هارون عن أبي عمرٍو» وتُنَزِّل الملائكةُ «بالتاء من فوق وتشديدِ الزايِ ورفعِ اللام مضارعاً مبنياً للفاعل،» الملائكةُ «بالرفعِ، مضارعَ نَزَّل بالتشديد، وعلى هذه القراءةِ فالمفعولُ محذوفٌ أي: وتُنَزِّل الملائكةُ ما أُمِرَتْ أَنْ تُنَزِّلَه. وقرأ الخَفَّاف عنه، وجناح بن حبيش» ونَزَل «مخففاً مبنياً للفاعلِ» الملائكةُ «بالرفع. وخارجة عن أبي عمرٍو أيضاً وأبو معاذ» ونُزِّلُ «بضم النون وتشديدِ الزاي ونصب» الملائكةَ «. والأصل: ونُنَزِّلُ بنونين حُذِفَتْ إحداهما. وقرأ أبو عمرٍو وابنُ كثير في روايةٍ عنهما بهذا الأصلِ» ونُنَزِّل «بنونين وتشديدِ الزايِ. وقرأ أُبَيُّ و» نُزِّلَتْ «بالتشديدِ مبنياً للمفعولِ. و» تَنَزَّلَتْ «بزيادةِ تاءٍ في أولهِ، وتاءِ التأنيث فيهما.

وقرأ أبو عمرٍو في طريقةِ الخَفَّاف عنه «ونُزِلَ» بضمِّ النون وكسرِ الزايِ خفيفةَ مبنياً للمفعول، قال صاحب اللوامح: «فإنْ صَحَّتِ القراءةُ فإنَّه حُذِفَ منها المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، تقديره: ونُزِل نزولُ الملائكةِ، فحُذِفَ النزولُ، ونُقِل إعرابُه إلى الملائكة. بمعنى: نُزِل نازلُ الملائكةِ؛ لأنَّ المصدرَ يجيءُ بمعنى الاسمِ. وهذا ممَّا يجيءُّ على مذهب سيبويهِ/ في ترتيب بناءِ اللازمِ للمفعولِ به؛ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على مصدره» ، قلت: وهذا تَمَحُّلٌ كثيرٌ دَعَتْ إليه ضرورةُ الصناعةِ، وقال ابن جني: «وهذا غيرُ معروفٍ؛ لأنَّ نَزَلَ لا يتعدى إلى مفعولٍ فيبنى هنا للملائكة. ووجهُه: أَْنْ يكونَ مثل: زُكِم الرجلُ وجُنَّ، فإنه لا يُقال: إلاَّ: أَزْكمه وأَجَنَّه الله، وهذا بابُ سماعٍ لا قياسٍ» . قلت: ونظيرُ هذه القراءة ما تقدَّم في سورة الكهفِ في قراءةِ مَنْ قرأ {فَلاَ يقوم له يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الآية: 105] بنصب «وَزْناً» من حيث تَعْدِيَةُ القاصرِ وتَقَدَّم ما فيها.

26

قوله: {الملك يَوْمَئِذٍ} : فيه ِأوجهٌ، أحدها: أن يكونَ «المُلْكُ» مبتدأً، والخبر: «الحق» ، و «يومئذٍ» متعلِّقٌ بالمُلْك. و «للرحمن» متعلقٌ بالحق، أو بمحذوفٍ على التبيين، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ للحق. الثاني: أنَّ الخبرَ «يومئذٍ» ، و «الحقُّ» نعتٌ للمُلْك. و «للرحمن» على ما تقدَّم. الثالث: أنَّ الخبرَ «للرحمن» و «يومئذٍ» متعلقٌ بالمُلْك، و «الحقُّ» نعتٌ للمُلك.

27

قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ} : معمولٌ لمحذوفٍ، أو معطوفٌ على «يومَ تَشَقَّقُ» . و «يَعَضُّ» مضارعُ عَضَّ، ووزنُه فَعِل بكسرِ العينِ، بدليلِ

قولِهم: عَضِضْتُ أَعَضُّ، وحكى الكسائيُّ فتحَها في الماضي، فعلى هذا يُقال: أَعِضُّ بالكسر في المضارع. والعَضُّ هنا كنايةٌ عن شدَّةِ اللزومِ. ومثله: حَرَقَ نابَه، قال: 3483 - أبى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نابَه ... عليه فأفضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ وهذه الكنايةُ أبلغُ من تصريحِ المكنى عنه. وأَلْ في «الظالم» تحتملُ العهدَ، والجنسَ، على حَسَبِ الخلافِ في ذلك. قوله: {يَقُولُ} هذه الجملةُ حال مِنْ فاعل «يَعَضُّ» . وجملةُ التمنِّي بعد القولِ مَحْكيَّةٌ به. وتقدَّم الكلامُ في مباشرة «يا» ل «ليت» في النساء. وفلانٌ كنايةٌ عن عَلَمِ مَنْ يَعْقِل وهو منصرفٌ، وفُلُ كنايةٌ عن نكرةِ مَنْ يَعْقِل من الذكور، وفُلَةُ عَمَّن يَعْقِلُ من الإِناثِ، والفلانُ والفلانةُ بالألف واللام عن غير العاقلِ. ويختصُّ فُلُ وفُلَةُ بالنداءِ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله: 3484 - في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ ... وليس «فُلُ» مُرَخَّماً من فلان خلافاً للفراء، وزعم الشيخ أنَّ

ابنَ عصفورِ وابنَ مالك وابن العلج وَهِمُوا في جَعْلهم «فُلُ» كنايةً عن عَلَم مَنْ يَعْقِلُ كفُلان. ولامُ فُل وفلان فيها وجهان، أحدهما: أنها واوٌ. والثاني: أنها ياءٌ، وقرأ الحسن «يا ويلتي» بكسرِ التاء وياءٍ صريحةٍ بعدها، وهي الأصلُ، وقرأ الدُّوريُّ بالإِمالة، قال أبو عليّ: «وتَرْكُ الإِمالةِ أحسنُ؛ لأنَّ أصلَ هذه اللفظةِ الياءُ، فبُدِّلت الكسرةُ فتحةً، والياءُ ألفاً؛ فِراراً من الياءِ. فَمَنْ أمال رَجَعَ إلى الذي منه فَرَّ أولاً» قلت: وهذا منقوضٌ بنحو «باع» فإنَّ أصلَه الياءُ ومع ذلك أمالوا، وقد أمالُوا {يا حسرتى عَلَى مَا فَرَّطَتُ} [الزمر: 56] و {يَا أَسَفَى} [يوسف: 84] وهما ك «يا ويلتى» في كونِ ألفِهما عن ياءِ المتكلم.

29

قوله: {وَكَانَ الشيطان} : يُحتمل أَنْ تكونَ هذه الجملةُ من مقولِ الظالمِ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ بالقولِ، وأَنْ تكونَ من مقولِ الباري تعالى: فلا مَحَلَّ لها لاستئنافِها.

30

قوله: {مَهْجُوراً} : مفعولٌ ثانٍ ل «اتَّخَذُوا» أو حال. وهو مفعولٌ مِنْ الهَجْرِ بفتحِ الهاءِ وهو التَّرْكُ والبُعْدُ. أي: جعلوه متروكاً بعيداً.

وقيل: هو من الهُجْر بالضم أي: مهجوراً فيه، حيث يقولون فيه: إنه شِعْرٌ وأساطيرُ، وجَعَل الزمخشري مفعولاً هنا مصدراً بمعنى الهَجْر قال: «كالمَجْلود والمَعْقُول» . قلت: وهو غيرُ مَقيسٍ، ضَبَطَه أهلُ اللغةِ في أًُلَيْفاظٍ فلا تتعدى إلاَّ بنَقْلٍ.

31

قوله: {هَادِياً} : حالٌ أو تمييزٌ. وقد تقدَّم إعرابُ مثلِ هذه الجملةِ.

32

قوله: {جُمْلَةً} : حالٌ من القرآن، إذ هي في معنى مُجْتمعاً. قوله: {كَذَلِكَ} إمَّا مرفوعةٌ المَحَلِّ أي: الأمرُ كذلك. و «لِنُثَبِّتَ» علةٌ لمحذوفٍ أي: لِنُثَبِّتَ فَعَلْنا ذلك. وإمَّا منصوبتُه على الحالِ أي: أنزل مثلَ ذلك، أو على النعت لمصدر محذوفٍ، و «لِنُثَبِّتَ» متعلقٌ بذلك الفعلِ المحذوفِ. وقال أبو حاتمٍ: «هي جوابُ قسمٍ» وهذا قولٌ مرجُوْحٌ نحا إليه الأخفش وجَعَلَ منه «ولتصغى» ، وقد تقدَّم في الأنعام. وقرأ عبد الله «لِيُثَبِّتَ» بالياءِ أي: اللهُ تعالى. والتَّرْتيل: التفريقُ. ومجيءُ الكلمةِ بعد الأخرى بسكونٍ يسيرٍ دونَ قَطْع النَّفَسِ. ومنه ثَغْرٌ رَتْلٌ ومُرَتَّل أي: مُفَلَّجُ الأسنان، بين أسنانِه فُرَجٌ يسيرةٌ.

قال الزمخشري: «ونُزِّل هنا بمعنى: أَنْزَل لا غير ك خَبَّر بمعنى أَخْبر، وإلاَّ تدافَعا» يعني أنَّ «نَزَّلَ» بالتشديدِ يقتضي بالأصالةِ التنجيمَ والتفريق، فلو لم يُجْعَلْ بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك لتدافعَ مع قولِه «جُمْلَةً» لأنَّ الجملةَ تُنَافي التفريقَ، وهذا بناءً منه على معتقدِه وهو أنَّ التضعيفَ يَدُلُّ على التفريقِ. وقد نَصَّ على ذلك في مواضعَ من كتابة «الكشاف» . وتقدَّم ذلك في البقرةِ وأولِ آل عمران وآخرِ الإِسراء، وحكى هناك عن ابنِ عباس ما يُقَوِّي ظاهرُه صحتَه.

33

قوله: {إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق} هذا الاستثناءُ مفرَّغٌ. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: لا يَأْتُونك بمَثَلٍ إلاَّ في حالِ إتيانِنا إياك كذا. والمعنى: ولا يَأْتُونك بسؤالٍ عجيبٍ إلاَّ جِئْناك بالأمرِ الحقِّ. و «تَفْسيراً» تمييزٌ، والمفضلُ عليه محذوفٌ أي: تفسيراً مِنْ مِثْلِهم.

34

قوله: {الذين يُحْشَرُونَ} : يجوز رفعُه خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هم الذين. ويجوزُ نصبُه على الذمِّ، ويجوز أن يرتفعَ بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه {أولئك شَرٌّ مَّكَاناً} . ويجوز أَنْ يكونَ «أولئك» بدلاً من أو بياناً للموصول، و «شَرٌّ مكاناً» خبر الموصول.

35

قوله: {هَارُونَ} : بدلٌ أو بيانٌ، أو منصوبٌ على القطع. و «وزيراً» مفعولٌ ثانٍ، وقيل: حالٌ، والمفعولُ الثاني قوله: «معه» .

36

قوله: {فَدَمَّرْنَاهُمْ} : العامَّةُ على «فَدَمَّرْنا» فعلاً ماضياً معطوفاً على محذوفٍ أي: فَذَهبا فكذَّبُوهما فدَمَّرْناهم. وقرأ عليٌّ كرَّم اللهُ

وجهَه «فَدَمِّراهم» أمراً لموسى وهارون. وعنه أيضاً «فَدَمِّرانِّهم» كذلك أيضاً، ولكنه مؤكَّدٌ بالنونِ الشديدةِ. وعنه أيضاً: «فدَمِّرا بهم» بزيادةِ باءِ الجر بعد فعلِ الأمرِ، وهي تُشْبِهُ القراءةَ قبلَها في الخَط. ونَقَلَ عنه الزمخشري «فَدَمَّرْتُهم» بتاءٍ المتكلِّمِ.

37

قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ} : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً، عطفاً على مَفْعول «دَمَّرْناهم» . ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره قولُه «أغْرَقْناهم» . ويُرَجَّح هذا بتقدُّم جملةٍ فعليةٍ قبلَه. هذا إذا قُلنا: إنَّ «لَمَّا» ظرفُ زمانٍ، وأمَّا إذا قُلْنا إنَّها حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ فلا يتأتى ذلك؛ لأنَّ «أَغْرقناهم» حينئذٍ جوابٌ «لَمَّا» ، وجوابُها لا يُفَسِّر، ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ لا على سبيلِ الاشتغالِ، أي: اذكرْ قومَ نوحٍ.

38

قوله: {وَعَاداً} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أَنْ يكونَ معطوفاً على قومِ نوح، وأنْ يكونَ معطوفاً على مفعولِ «جَعَلْناهم» ، وأَنْ يكونَ معطوفاً على محلِّ «للظالمين» لأنَّه في قوةِ: وَعَدْنا الظالمين بعذابٍ. قوله: {وَأَصْحَابَ الرس} فيه وجهان، أحدهما: من عَطْفِ المغايِرِ. وهو الظاهرُ. والثاني: أنَّه من عطفِ بعضِ الصفاتِ على بعضٍ. والمرادُ بأصحابِ الرِّسِّ ثمودُ؛ لأنَّ الرَّسَّ البِئْرُ التي لم تُطْوَ، عن أبي عبيد، وثمودُ أصحابُ آبار. وقيل: الرَّسُ نهرٌ بالمشرق، ويقال: إنهم أناسٌ عبدةُ أصنامٍ قَتَلوا نبيَّهم، ورسَوْه في بئرٍ أي: دَسُّوه فيها.

قوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} «ذلك» إشارةٌ إلى مَنْ تقدَّم ذكرُه، وهم جماعاتٌ، فلذلك حَسُنَ «بين» عليه.

39

قوله: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} : يجوزُ نصبُه بفعلٍ يفسِّره ما بعده أي: وحَذَّرْنا أو ذكَّرْنا، لأنهما في معنى: ضَرَبْنا له الأمثالَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما تقدَّم، و «ضَرَبْنا» بيانٌ لسببِ إهْلاكهم. وأمَّا «كلاً» الثانيةُ فمفعولٌ مقدمٌ.

40

قوله: {مَطَرَ السوء} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مصدرٌ على حَذْفِ الزوائدِ أي: إمْطار السَّوْء. الثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ؛ إذ المعنى: أعطيتُها وأَوْلَيْتُها مطرَ السَّوْء. الثالث: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: إمطاراً مثلَ مطرِ السَّوْء. وقرأ: زيد بن علي «مُطِرَت» ثلاثياً مبنياً للمفعولِ و «مَطَرَ» متعدٍ قال: 3485 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كَمَنْ بِوادِيْه بعد المَحْلِ مَمْطورِ وقرأ أبو السَّمَّال «مَطَرَ السُّوء» . بضم السين. وقد تقدَّم الكلامُ على السُّوء والسَّوْء في براءة.

وقوله: {أَتَوْا عَلَى القرية} إنما عدى «أتى» ب «على» لأنه ضُمِّنَ معنى «مَرَّ» .

41

قوله: {إِن يَتَّخِذُونَكَ} : «إنْ» نافيةٌ و «هُزُواً» مفعولٌ ثانٍ، ويحتمل أَنْ يكونَ التقديرُ: موضعَ هُزْء، وأَنْ يكونَ مَهْزُوَّاً بك. وهذه الجملةُ المنفيةُ تحتمل وجهين، أحدهما: أنها جوابُ الشرطية. واختصَّت «إذا» بأنَّ جوابها متى كان منفياً ب «ما» أو «إنْ» أو «لا» ، لا يَحْتاج إلى الفاءِ، بخلافِ غيرِها مِنْ ِأدواتِ الشرط. فعلى هذا يكون قولُه: «أهذا الذي» في محلِّ نصبٍ بالقولِ المضمرِ. وذلك القولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: إنْ يَتَّخذونك قائلين ذلك. والثاني: أنَّها جملةٌ معترضةً بين «إذا» وجوابِها، وجوابُها: هو ذلك القولُ المضمرُ المَحْكيُّ به «أهذا الذي» والتقديرُ: وإذا رَأَوْك قالوا: أهذا الذي بعثَ، فاعترض بجملة النفي. ومفعولُ «بَعَثَ» محذوفٌ هو عائدٌ الموصولِ أي: بَعَثَه. و «رسولاً» على بابِه من كونِه صفةً فينتصبُ على الحالِ. وقيل هو مصدرٌ/ بمعنى رِسالة فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا رسولٍ، بمعنى: ذا رسالة، أو يُجْعَلُ نفسَ المصدرِ مبالغةً، أو بمعنى مُرْسَل. وهو تكلُّف.

42

قوله: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا} : قد تقدَّم نظيرُه في «سبحان» . قوله: {لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا} جوابُها محذوفٌ أي: لضَلَلْنا عن آلهتِنا، قال الزمخشري: «ولولا في مثلِ هذا الكلامِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصنعةُ مَجْرى التقييدِ للحكمِ المطلقِ» .

قوله: {مَنْ أَضَلُّ} جملةُ الاستفهامِ معلِّقةٌ ل «يَعْلمون» ، فهي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْها إنْ كانَتْ على بابِها، ومَسَدَّ واحدٍ إنْ كانَتْ بمعنى عَرَفَ. ويجوزُ في «مَنْ» أَنْ تكنَ موصولةً. و «أَضَلُّ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، هو العائدُ على «مَنْ» تقديرُه: مَنْ هو أضلُّ. وإنما حُذِفَ للاستطالةِ بالتمييزِ كقولِهم: «ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً» ، وهذا ظاهرٌ إن كانَتْ متعديةً لواحد، وإنْ كانَتْ متعديةً لاثنين فتحتاجُ إلى تقديرٍ ثانٍ ولا حاجةَ إليه.

43

قوله: {مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} مفعولا الاتِّخاذِ مِنْ غيرِ تقديمٍ ولا تأخيرٍ لاستوائِهما في التعريفِ، وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ أَخَّر» هواه «والأصلُ قولُك: اتَّخذ الهوى إلَهاً» ؟ قلت: ما هو إلاَّ تقديمُ المفعولِ الثاني على الأولِ للعنايةِ به، كما تقولُ «عَلِمْتُ منطلقاً زيداً» لفضلِ عنايتِك بالمنطَلقِ «. قال الشيخ:» وادِّعاءُ القلبِ يعني التقديمَ ليس بجيدٍ لأنَّه من ضرائرِ الأشعارِ «. قلت: قد تقدَّم فيه ثلاثةُ مذاهبَ. على أنَّ هذا ليس من القلبِ المذكورِ في شيء، إنما هو تقديمٌ وتأخيرٌ فقط. وقرأ ابن هرمز» إلاهَةً هواه «على وزن فِعالة. والإَهة بمعنى: المألوه، والهاءُ للمبالغةِ كعلاَّمَة ونسَّابة. وإلاهَةً مفعولٌ ثانٍ قُدِّم لكونِه نكرةً، ولذلك صُرِفَ. وقيل: الإَهَةً هي الشمسُ. ورُدَّ هذا: بأنَّه كان ينبغي أن يمتنعَ من الصرفِ للعلميةِ والتأنيث. وأُجيب بأنها تدخُل عليها أل كثيراً فلمَّا نُزِعَتْ منها صارَتْ نكرةً جاريةً مجرى الأوصافِ. ويُقال: أُلاهَة بضمِّ الهمزةِ أيضاً اسماً للشمس.

وقرأ بعضُ المدنيين» آلهةً هواه «جمع إلَه، وهو أيضاً مفعولٌ مقدَّمٌ، وجمُِع باعتبارِ الأنواعِ، فقد كان الرجلُ يعبُدُ آلهةً شَتى. ومفعولُ» أرأيتَ «الأولِ» مَنْ «، والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ.

45

قوله: {كَيْفَ} : منصوبةٌ ب «مَدَّ» وهي مُعَلِّقَةٌ ل «تَر» فهي في موضعِ نصبٍ وقد تقدَّم القولُ في «ألم تَرَ» . قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا} قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ:» ثم «في هذين الموضعين كيف موقعُها؟ قلت: موقعُها لبيانِ تَفاضُلِ الأمورِ الثلاثةِ، كأنَّ الثاني أعظمُ من الأولِ، والثالثَ أعظمُ منهما تشبيهاً؛ لتباعُدِ ما بينها في الفَضْلِ بتباعُدِ ما بينها في الوقتِ» .

49

قوله: {لِّنُحْيِيَ بِهِ} : فيه وجهان أظهرُهما: أنَّه متعلقٌ بالإِنزالَ. والثاني: وهو ضعيفٌ أنَّه متعلقٌ ب «طَهورٍ» . وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: إنزالُ الماءِ موصوفاً بالطهارة، وتعليلُه بالإِحياءِ والسَّقْيِ يُؤْذِنُ بأنَّ الطهارةَ شرطٌ في صحةِ ذلك كما تقول:» حَمَلني الأميرُ على فَرَس جوادٍ لأَصِيْدَ عليه الوحشَ «، قلت: لَمَّا كان سَقْيُ الأناسيِّ مِنْ جملة ما أُنْزِل له الماءُ وُصِفَ بالطهارة إكراماً لهم وتَتْميماً للمِنَّةِ عليهم» . و «طَهُور» يجوز أَنْ يكونَ صفةَ مبالغةٍ منقولاً من طاهر كقوله تعالى: {شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] ، وقال:

3486 - إلى رُجَّح الأَكْفالِ غِيْدٍ من الصِّبا ... عِذابِ الثَّنايا رِيْقُهُنَّ طَهُوْرُ وأَنْ يكونَ اسمَ ما يُتَطَهَّرُ به كالسَّحُور، وأَنْ يكونَ مصدراً كالقَبول والوَلُوع. ووصفُ «بَلْدةً» ب «مَيْت» وهي صفةٌ للمذكورِ لأنها بمعنى البلد. قوله: {وَنُسْقِيَهِ} العامَّةُ على ضمِّ النونِ. وقرأ أبو عمرو وعاصم في روايةٍ عنهما وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بفتحها. وقد تقدم أنه قُرىء بذلك في النحل والمؤمنين. وتقدم كلامُ الناسِ عليهما. قوله: {مِمَّا خَلَقْنَآ} يجوز أن تَتَعلَّقَ ب «نُسْقيه» ، وهي لابتداء الغاية. ويجوزُ أن تَتَعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ مِنْ «أنعاماً» . ونُكِّرَتِ الأنعام والأناسيّ: قال الزمخشري: «لأنَّ عليَّةَ الناسِ وجُلَّهم مُنيخون بالأودية والأنهارِ، فبهم غُنْيَةٌ عن سقْي الماء، وأعقابُهم وهم كثيرٌ منهم لا يُعَيِّشهم إلاَّ ما يُنْزِلُ اللهُ مِنْ رحمتِه وسُقْيا سمائِه» . قوله: {وَأَنَاسِيَّ} فيه وجهان، أحدهما: وهو مذهبُ سيبويه أنَّه جمعُ

إنسان. والأصلُ: إنسان وأنَاسين، فَأُبْدِلَتِ النونُ ياءً وأُدْغم فيها الياءُ قبلَها، ونحوَ ظِرْبانِ وظَرابِيّ. والثاني: وهو قولُ الفراء والمبرد والزجَّاج أنه جمع إنْسِيّ. وفيه نظرٌ لأنَّ فَعالِيّ إنما يكونُ جمعاً لِما فيه ياءٌ مشددةٌ لا تدلُّ على نَسَبٍ نحو: كُرْسِيّ وكَرَاسيّ. / فلو أُريد ب كرسيّ النسبُ لم يَجُزْ جمعُه على كراسيّ. ويَبْعُدُ أَنْ يُقالَ: إن الياءَ في إِنْسِي ليست للنسبِ وكان حقُّه أَنْ يُجْمَعَ على أَناسِية نحو: مَهالبة في المُهَلَّبي وأَزارِقة في الأَزْرقي. وقرأ يحيى بن الحارث الذِّماري والكسائي في رواية «وأناسِيَ» بتخفيف الياء. قال الزمخشري: «بحذفِ ياءِ أفاعيل كقولك: أناعِم في أناعِيم» . وقال: «فإنْ قلت لِمَ قَدَّمَ إحياءَ الأرضِ وسَقْيَ الأنعامِ على سَقْي الأناسي. قلت: لأن حياةَ الأناسيِّ بحياةِ أرضِهم وحياةِ أنعامهم، فقدَّم ما هو سببُ حياتِهم، ولأنَّهم إذا ظَفِروا بسُقيْا أرضِهم وسَقْيِ أنعامِهم لم يَعْدِموا سُقْياهم» .

50

قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} : يجوزُ أَنْ تعودَ الهاءُ على القرآن، وأن تعودَ على الماءِ أي: صَرَّفنا نُزولَه مِنْ وابِل وَطلّ وجَوْد ورَذاذ وغيرِ ذلك. وقرأ عكرمة «صَرَفْناه» بتخفيف الراء.

52

قوله: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} : أي بالقرآن، أو بتركِ الطاعةِ المدلولِ عليها بقولهِ {فَلاَ تُطِعِ} ، أو بما دَلَّ عليه {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} مِنْ كونِه نذيرَ كافةِ القُرى أو بالسيف.

53

قوله: {مَرَجَ البحرين} : في مَرَجَ قولان، أحدهما: بمعنى: خَلَطَ ومَرَجَ، ومنه مَرَجَ الأمرُ أي: اختلط قاله ابن عرفة. وقيل: مَرَجَ: أجرى. وأَمْرَجَ لغةٌ فيه. قيل: مَرَجَ لغةُ الحجاز، وأَمْرَجَ لغةُ نجدٍ. وفي كلامِ بعضِ الفصحاء: «بَحْران أحدُهما بالآخرِ ممروجٌ، وماءُ العذب منهما بالأُجاج ممروج» . قوله: {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ، جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ. كأنَّ قائلاً قال: كيف مرْجُهما؟ فقيل: هذا عَذْبٌ وهذا مِلْحٌ. ويجوز على ضَعْفٍ أن تكونَ حاليةً. والفُراتُ المبالِغُ في الحلاوةِ. والتاءُ فيه أصليةٌ لامُ الكلمةُ. ووزنُه فُعال، وبعضُ العربِ يقفُ عليها هاءً. وهذا كما تقدَّم لنا في التابوت. ويُقال: سُمِّي الماءُ الحُلْوُ فُراتاً؛ لأنه يَفْرُتُ العطشَ أي: يَشُقُّه ويَقْطَعُه. والأُجاج: المبالِغُ في الملُوحة. وقيل: في الحرارةِ. وقيل: في المَرارة، وهذا من أحسنِ المقابلةِ، وحيث قال تعالى عَذْبٌ فُراتٌ ومِلْحٌ أُجاجٌ. وأنشدْتُ لبعضهم: 3487 - فلا واللهِ لا أَنْفَكُّ أَبْكي ... إلى أَنْ نَلْتَقِي شُعْثاً عُراتا أألحى إنْ نَزَحْتُ أُجاجَ عَيْني ... على جَدَثٍ حوى العَذْبَ الفُراتَا

ما أحسنَ ما كنى عن دَمْعِه بالأجاج، وعن المبكيِّ عليه بالعذب الفُراتِ، وكان سببَ إنشادِي هذين البيتين أنَّ بعضَهم لحَّن قائلَهما في قولِه «عُراتا» : كيف يَقِفُ على تاءِ التأنيث المنونة بالألفِ؟ فقلت: إنها لغةٌ مستفيضةٌ يَجْعلون التاءَ كغيرِها فيُبْدلون تنوينَها بعد الفتحِ ألفاً. حَكَوْا عنهم. أكلْتُ تَمْرَتا، نحو: أكلْتُ زَيْتا. وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي «مَلِحٌ» بفتح الميم وكسرِ اللام، وكذا في سورة فاطر، وهو مقصورٌ مِنْ مالح، كقولهم: بَرِد في بارد قال: 3488 - وصِلِّيانا بَرِدا ... وماء مالح لغةٌ شاذةٌ. وقال أبو حاتم: «وهذه قراءةٌ مُنْكَرَةٌ» . قوله: {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} : الظاهرُ عطفُه على «بَرْزَخاً» . وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: حِجراً مَحْجُوراً ما معناه؟ قلت: هي الكلمةُ التي يَقُولُها المتعوِّذُ، وقد فَسَّرناها، وهي هنا واقعةٌ على سبيلِ المجازِ. كأنَّ كلَّ واحدٍ من البحرَيْن يقول لصاحبِه: حِجْراً مَحْجُوراً، وهي من أحسنِ الاستعاراتِ» ، فعلى ما قالَه يكونُ منصوباً بقولٍ مضمرٍ. قوله: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} يجوزُ أَنْ يكونَ الظرفُ متعلِّقاً بالجَعْل، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ «بَرْزَخاً» ، والأولُ أظهرُ.

54

قوله: {مِنَ المآء} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بخَلَقَ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالاً مِنْ «ماء» و «مِنْ» للابتداء أو للتبعيض. والصِّهْرُ: قال الخليل: «لا يُقال لأهلِ بيتِ المرأةِ إلاَّ» أَصْهار «، ولا لأهلِ بيتِ الرَّجل إلاَّ» أَخْتان «. قال:» ومن العربِ مَنْ يُطلق الأصهارَ على الجميع «. وهذا هو الغالب.

55

قوله: {على رَبِّهِ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «ظَهيراً» وهو الظاهر، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه خبرُ «كان» و «ظهيراً» حالٌ. والظَّهير: المُعاوِن.

57

قوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ} : فيه وجهان، أحدُهما: هو منقطعٌ أي: لكنْ مَنْ شاءَ أَنْ يتَّخِذَ إلى ربه سبيلاً فَلْيَفْعَلْ. والثاني: أنه متصلٌ على حَذْفِ مضافٍ يعني: إلاَّ أجرَ مَنْ، أي: الأجر الحاصل على دعائِه إلى الإِيمانِ وقَبولِه؛ لأنَّه تعالى يَأْجُرُني على ذلك. كذا حكاه الشيخ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لم يُسْنِدِ السؤالَ المنفيَّ في الظاهر إلى اللهِ تعالى، إنما أسندَه إلى المخاطبين. فكيف يَصِحُّ هذا التقديرُ؟

59

قوله: {الذي خَلَقَ السماوات} : يجوزُ فيه على قراءةِ العامَّةِ في «الرحمنُ» بالرفع أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ مبتدأ و «الرحمنُ» خبره، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مقدرٍ أي: هو الذي خَلَقَ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ، وأَنْ يكونَ صفةً للحيِّ الذي لا يموت أو بدلاً/ أو بياناً. وأمَّا على قراءةِ زيدِ بن علي «الرحمنِ» بالجرِّ فيتعيَّن أَنْ يكونَ «الذي خلق» صفةً للحيِّ فقط؛ لئلا يُفْصَلَ بين النعتِ ومنعوتِه بأجنبيّ.

قوله: {الرحمن} مَنْ قرأ بالرفعِ ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنه خبرُ «الذي خَلَق» وقد تقدَّم. أو يكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو الرحمنُ، أو يكونُ بدلاً من الضمير في «استوى» أو يكونُ مبتدأ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه {فَسْئَلْ بِهِ} على رأيِ الأخفش. كقوله: 3489 - وقائلةٍ خَوْلانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أو يكونُ صفةً للذي خلق، إذا قلنا: إنه مرفوعٌ. وأمَّا على قراءةِ زيدٍ فيتعيَّن أَْن يكونَ نعتاً. قوله: «به» في الباء قولان: أحدهما: هي على بابِها، وهي متعلقةٌ بالسؤالِ. والمرادُ بالخبير اللهُ تعالى، ويكونُ مِنَ التجريدِ، كقولك: لقيت به أَسَداً. والمعنى: فاسألِ اللهَ الخبيرَ بالأشياء. قال الزمخشري: «أو فاسْأَلْ بسؤالِه خبيراً، كقولك: رأيتُ به أسداً أي: برؤيتِه» انتهى. ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ صلةً «خبيراً» و «خبيراً» مفعول «اسْأَلْ» على هذا، أو منصوبٌ على الحالِ المؤكِّدة. واستضعفه أبو البقاء. قال «ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ خبيراً حالاً مِنْ فاعل» اسألْ «لأنَّ الخبيرَ لا يُسْأل إلاَّ على جهةِ التوكيد كقوله: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً} [البقرة: 91] ثم قال:» ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من «الرحمن» إذا رَفَعْتَه ب استوى.

والثاني: أن تكونَ الباءُ بمعنى «عن» : إمَّا مطلقاً، وإمَّا مع السؤالِ خاصةً كهذه الآيةِ الكريمةِ وكقولِ الشاعر: 3490 - فإنْ تَسْأَلُوني بالنِّساءِ. . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. والضميرُ في «عنه» للهِ تعالى و «خبيراً» من صفاتِ المَلَكِ وهو جبريلُ عليه السلام. ويجوز على هذا أعني كونَ «خبيراً» من صفاتِ جبريل أَنْ تكونَ الباءُ على بابِها، وهي متعلقةٌ ب «خبيراً» كما تقدَّم أي: فاسْأَلِ الخُبَراء به.

60

قوله: {لِمَا تَأْمُرُنَا} : قرأ الأخَوان «يأْمُرُنا» بياءِ الغَيْبة يعني محمد صلَّى الله عليه وسلَّم. والباقون بالخطاب يعني: لِما تأمرنا أنت يا محمد. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي. والعائدُ محذوفٌ؛ لأنه متصلٌ؛ لأنَّ «أَمَرَ» يَتَعَدَّى إلى الثاني بإسقاطِ الحرفِ. ولا حاجةَ إلى التدريجِ الذي ذكره أبو البقاء: وهو أنَّ الأصلَ: لِما تَأْمُرنا بالسُّجودِ له، ثم بسجودِه، ثم تَأْمُرُناه، ثم تأْمُرُنا. كذا قَدَّره، ثم قال: هذا على مذهبِ أبي الحسن، وأَمَّا على مذهبِ سيبويهِ فَحَذْفُ ذلك مِنْ غيرِ تَدْريج «. قلت: وهذا ليس مذهبَ سيبويه. ويجوزُ أَنْ تكونَ موصوفةً، والكلامُ في عائِدها موصوفةً كهي موصولةً. ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً، وتكونَ اللامُ للعلةِ أي: أَنَسجُدُ مِنْ أجلِ أَمْرِكَ، وعلى هذا يكونُ المسجودُ له محذوفاً. أي: أَنَسْجُدُ للرحمن لِما تَأْمُرُنا. وعلى

هذا لا تكونُ» ما «واقعةً على العالِم. وفي الوجهين الأوَّلَيْن يُحْتمل ذلك، وهو المتبادَرُ للفَهْمِ.

61

قوله: {سِرَاجاً} : قرأ الجمهورُ بالإِفراد، والمرادُ به الشمسُ، ويؤيِّده ذِكْرُ القمرِ بعدَه. والأخَوان «سُرُجاً» بضمتين جمعاً، نحو حُمُر في حِمار. وجُمِعَ باعتبارِ الكواكبِ النيِّرات. وإنما ذُكِرَ القمرُ تَشْريفاً له كقولِه: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بعد انتظامِهما في الملائكةِ. وقرأ الأعمش والنخعي وابن وثاب كذلك، إلاَّ أنه بسكونِ الراءِ تخفيفاً. والحسن والأعمش والنخعي وعاصم في روايةِ عصمة و «قُمْراً» بضمةٍ وسكونٍ، وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْراء. والمعنى: وذا ليالٍ قُمْرٍ منيرا، فحذف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ثم التفتَ إلى المضاف بعد حَذْفِه فوصفَه ب «منيرا» . ولو لم يَعْتَبِرْه لقال: منيرةً، ونظيرُ مراعاتِه بعد حذفِه قولُ حسان: 3491 - يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريْصَ عليهمِ ... بردى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ

الأصل: ماء بَرَدَى، فحَذَفَه ثمَّ راعاه في قولهِ: «يُصَفِّقُ» بالياءِ مِنْ تحتُ، ولو لم يكنْ ذلك لقالَ «تُصَفِّقُ» بالتاء مِنْ فوقُ. على أنَّ بيتَ حَسَّان يَحْتمل أن يكون كقولِه: 3492 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالها مع أنَّ ابنَ كيسان يُجيزه سَعَةً.

62

قوله: {خِلْفَةً} : فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ ثانٍ. والثاني: أنه حالٌ بحَسَبِ القَوْلَيْن في «جَعَل» . وخِلْفَة يجوزُ أن يكونَ مصدراً مِنْ خَلَفَه يَخْلُفه، إذا جاء مكانَه، وأَنْ يكونَ اسمَ هيئةٍ كالرِّكْبَةِ، وأَنْ يكونَ من الاختلافِ كقولِه: 3493 - ولها بالماطِرُوْنَ إذا ... أكلِ النملُ الذي جَمَعا خِلْفةً حتى إذا ارتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيعاً في بيوتٍ وَسْطَ دَسْكَرةٍ ... حَوْلَها الزيتونُ قد يَنَعا ومثلُه قول زهير:

3494 - بها العِيْنُ والآرام يَمْشِيْنَ خِلْفَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَفْرَدَ «خِلْفَةً» قال أبو البقاء: «لأنَّ المعنى: يَخْلُفُ/ أحدُهما الآخرَ، فلا يتحقَّق هذا إلاَّ منهما» انتهى. والشُّكور: بالضم مصدرٌ بمعنى الشُكر، وبالفتحِ صفةُ مبالغةٍ.

63

قوله: {وَعِبَادُ الرحمن} : رفعٌ بالابتداءِ. وفي خبره وجهان، أحدهما: الجملةُ الأخيرةُ في آخرِ السورة: {أولئك يُجْزَوْنَ} [الآية: 75] وبه بَدَأ الزمخشريُّ. «والذين يَمْشُون» وما بعده صفاتٌ للمبتدأ. والثاني: أنَّ الخبرَ «يَمْشُوْن» . العامَّةُ على «عباد» . واليماني «عُبَّاد» بضمِّ العين، وشدِّ الباءِ جمع عابد. والحسن «عُبُد» بضمتين. والعامَّةُ «يَمْشُوْن» بالتخفيفِ مبنياً للفاعل. واليماني والسُلميُّ بالتشديد مبنياً للمفعول. قوله: {هَوْناً} : إمَّا نعتُ مصدرٍ أي: مَشْياً هَوْناً، وإمَّا حالٌ أي: هَيِّنِيْن. والهَوْن: اللِّيْنُ والرِّفْقُ. قوله: {سَلاَماً} : يجوز أن ينتصبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: نُسَلِّم سَلاماً، أو نُسَلِّمُ تَسْليماً منكم لا نُجاهِلكم، فأُقيم السِّلام مُقامَ التسليمِ.

ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المفعول به أي: قالُوا هذا اللفظَ. قال الزمخشري: أي قالوا سَداداً مِنَ القولِ يَسْلَمُوْن فيه من الأذى. والمرادُ سَلامُهم من السَّفَهِ كقوله: 3495 - ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا ورَجَّح سيبويه أنَّ المرادَ بالسَّلام السَّلامةُ لا التسليمُ؛ لأنَّ المؤمنين لم يُؤْمَروا قَطُّ بالتسليم على الكفرة، وإنما أُمِروا بالمُسالَمَةِ، ثم نُسِخَ ذلك، ولم يَذْكُرْ سيبويهِ في كتابِه نَسْخاً إلاَّ في هذه الآيةِ.

64

قوله: {سُجَّداً} : خبرُ «يَبِيْتُون» ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ تامةَ. أي: دَخَلوا في البَيات. و «سُجَّداً» حال. و «لربِّهم» متعلقٌ بسُجَّداً وقَدَّمَ السجودَ على القيام، وإن كان بعدَه في الفعلِ لاتفاق الفواصل. وسُجَّداً جمعُ ساجِد كضُرِّب في ضارِب. وقرأ أبو البرهسم «سُجوداً» بزنة قُعُود. و «يَبِيْتُ» هي اللغةُ الفاشيةُ، وأَزْدُ السَّراة وبُجَيْلَة يقولون: يَباتُ وهي لغةُ العوامِّ اليوم.

65

قوله: {غَرَاماً} : أي: لازمِاً دائماً. وعن الحسن: كلُّ غَريمٍ يفارِقُ غَريمه إلاَّ غريمَ جهنَّمَ. وأنشدُوا قولَ بشر بن أبي خازم: 3496 - ويومُ النِّسَارِ ويومُ الجِفا ... رِ كانا عَذاباً وكانا غَراما وقال الأعشى: 3497 - إن يُعاقِبْ يكُنْ غَراماً وإنْ يُع ... طِ جَزِيلاً فإنَّه لا يُبالي ف «غراماً» بمعنى لازم.

66

قوله: {سَآءَتْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى أَخْزَنَتْ فتكونَ متصرفةً، ناصبةً المفعولَ به، وهو هنا محذوفٌ أي: إنها أي: جهنَم أَحْزَنَتْ أصحابَها وداخليها. ومُسْتقراً: يجوزُ أن يكونَ تمييزاً، وأَنْ يكونَ حالاً. ويجوز أَنْ تكونَ «ساءَتْ» بمعنى بِئْسَتْ فتعطى حكمَها. ويكونُ المخصوصُ محذوفاً. وفي ساءَتْ ضميرٌ مبهمٌ. و «مُسْتَقَراً» يتعيَّنُ أنْ يكونَ تمييزاً أي: ساءَتْ هي. ف «هي» مخصوصٌ. وهو الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين ما وَقَعَتْ خبراً عنه، وهو «إنَّها» ، وكذا قَدَّره الشيخ. وقال أبو البقاء: «ومُسْتَقَرَّاً تمييزٌ. وساءَتْ بمعنى بِئْسَ» . فإن قيلَ: يَلْزَمُ من هذا إشكالٌ، وذلك أنه يَلْزَمُ تأنيثُ فعلِ الفاعلِ المذكَّرِ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ لذلك، فإنَّ الفاعلَ في «ساءَتْ»

على هذا يكون ضميراً عائداً على ما بعدَه، وهو «مُسْتقراً ومُقاماً» ، وهما مذكَّران فمِنْ أين جاء التأنيثُ؟ والجوابُ: أن المستقرَّ عبارةٌ عن جهنَّمَ فلِذلك جاز تأنيثُ فِعْلِه. ومثلُه قولُه: 3498 - أَوْ حُرَّةٌ عَيْطَلٌ ثَبْجاءُ مُجْفَرَةٌ ... دعائمُ الزَّوْرِ نعْمَتْ زَوْرَقُ البلدِ ومُسْتقراً ومُقاماً: قيل: مُترادفان، وعُطِفَ أحدُهما على الآخر لاختلافِ لَفْظَيْهما. وقيل: بل هما مختلفا المعنى، فالمستقرُّ: للعُصاةِ فإنهم يَخْرُجون. والمُقام: للكفَّارِ فإنَّهم يَخْلُدون. وقرأت فرقةُ «مَقاماً» بفتح الميم أي: مكانَ قيامِ. وقراءةُ العامَّةِ هي المطابِقَةُ للمعنى أي: مكانَ إقامةٍ وثُوِيّ وقوله: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً} يُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ كلامِهم، فتكونَ منصوبةً المحلِّ بالقول، وأَنْ تكونَ مِنْ كلامِ اللهَ تعالى.

67

قوله: {وَلَمْ يَقْتُرُواْ} : قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء وابن كثير وأبو عمرٍو بالفتحِ والكسرِ. ونافع وابن عامر بالضم والكسر مِنْ

أَقْتَرَ. وعليه {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} [البقرة: 236] . وأنكر أبو حاتم/ «أقتر» وقال: «لا يُناسِب هنا فإنَّ أَقْتَرَ بمعنى افتقر، ومنه {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} . ورُدَّ عليه: بأن الأصمعيَّ وغيرَه حَكَوْا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّق. وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسرِ التاء المشددةِ في قَتَّر بمعنى ضَيَّق. قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} في اسم كان وجهان، أشهرهما: أنه ضميرٌ يعودُ على الإِنفاقِ المفهومِ مِنْ قوله:» أَنْفَقُوا «أي: وكان إنفاقُهم مُسْتوياً قَصْداً لا إسرافاً ولا تَقْتيراً. وفي خبرِها وجهان. أحدُهما: هو قَواماً و» بينَ ذلك «: إمَّا معمولٌ له، وإمَّا ل» كان «عند مَنْ يرى إعمالَها في الظرف، وإمَّا لمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ» قَواما «. ويجوزُ أَنْ يكونَ» بين ذلك قواماً «خبرَيْن ل» كان «عند مَنْ يرى ذلك، وهم الجمهور خلافاً لابن دُرُسْتَوَيْه. الثاني: أن الخبرَ» بين ذلك «و» قَواماً «حالٌ مؤكدةٌ. والثاني: من الوجهين الأَوَّلين: أَنْ يكونَ اسمُها» بين ذلك «وبُني لإضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ، و» قواماً «خبرُها. قاله الفراء. قال الزمخشري:» وهو من جهةِ الإِعرابِ لا بأسَ به، ولكنه من جهةِ المعنى ليس بقويٍ، لأنَّ ما بينَ الإِسْرافِ والتَّقْتيرِ قَوامٌ لا مَحالةَ، فليس في الخبر الذي هو معتمدُ الفائدةِ فائدةٌ «. قلت: هو يُشْبِهُ قولَك» كان سيدُ الجارية مالكَها «. وقرأ حسان بن عبد الرحمن» قِواما «بالكسرِ فقيل: هما بمعنىً. وقيل:

بالكسرِ اسمُ ما يُقام به الشيءُ. وقيل: بمعنى سَداداً ومِلاكاً.

68

قوله: {إِلاَّ بالحق} : يَجُوزُ أَنْ تتعلَّقَ الباءُ بنفسِ «يَقْتُلون» أي: لا يَقْتُلونها بسببٍ من الأسبابِ إلاَّ بسببِ الحق، وأَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ للمصدرِ أي: قَتْلاً ملتبساً بالحقِّ، أو على أنها حالٌ أي: إلاَّ مُلْتَبِسين بالحقِّ. قوله: «ذلك» إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم لأنه بمعنى: ما ذُكِر، فلذلك وُحِّدَ. والعامَّةُ على «يَلْقَ» مجزوماً على جزاءِ الشرط بحذفِ الألِف. وعبد الله وأبو رجاء «يلقى» بإثباتها كقوله: {فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] على أحدِ القولين، وكقراءةِ: {لاَّ تَخَفْ دَرَكاً وَلاَ تخشى} [طه: 77] في أحدِ القولين أيضاً، وذلك بأَنْ نُقَدِّرَ علامةَ الجزمِ حَذْفَ الضمة المقدِرة. وقرأ بعضُهم «يُلَقَّ» بضمِّ الياءِ وفتحِ اللامِ وتشديدِ القاف مِنْ لَقَّاه كذا. والأَثام مفعولٌ على قراءةِ الجمهورِ، ومفعولٌ ثانٍ على قراءةِ هؤلاء. والأَثام: العقوبةُ. قال الشاعر: 3499 - جزى اللهُ ابنَ عُرْوَةَ حيث أمسى ... عَقوقاً والعُقوقُ له أَثامُ أي: عقوبةٌ. وقيل: هو الإِثمُ نفسُه. والمعنى: يَلْقَ جزاءَ إثمِ، فأطلقَ

اسمَ الشيءِ على جزائِه. وقال الحسن: «الأَثامُ اسمٌ مِنْ أسماءِ جهنَّم. وقيل: بئرٌ فيها. وقيل: وادٍ. وعبد الله» أيَّاماً «جمعُ» يوم «يعنى شدائدَ، والعرب تُعَبِّر عن ذلك بالأيام.

69

قوله: {يُضَاعَفْ} : قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع «يُضاعَفُ» و «يَخْلُدُ» على أحدِ وجهين: إمَّا الحالِ، وإمَّا على الاستئنافِ. والباقون بالجزمِ فيها، بدلاً من الجزاء بدلَ اشتمال. ومثلُه قولُه: 3500 - متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا فأبدلَ من الشرطِ كما أبدل هنا مِنَ الجزاءِ. وابنُ كثير وابنُ عامرٍ على ما تقدَّم لهما في البقرةِ من القَصْر والتضعيفِ في العين، ولم يذكرِ الشيخُ ابنَ عامرٍ مع ابنِ كثير، وذكرَه مع الجماعة في قراءتهم. وقرأ أبو جعفر وشيبة «نُضَعِّفْ» بالنون مضمومة وتشديدِ العين، «العذابَ» نصباً على المفعول به. وطلحة «يُضاعِف» مبنياً للفاعل أي اللَّهُ، «العذابَ» نصباً. وطلحة بن سليمان و «تَخْلُدْ» بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ. وأبو حيوةَ «وُيخَلِّد» مشدداً مبنياً للمفعولِ. ورُوِي عن أبي عمروٍ كذلك، إلاَّ أنه بالتخفيف.

قوله: {مُهَاناً} حالٌ. وهو اسمُ مفعولٍ. مِنْ أَهانه يُهِيْنُه أي: أذلَّه وأَذاقه الهوان.

70

قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ} : فيه وجهان، أحدُهما: وهو الذي لم يَعْرف الناسُ غيرَه أنَّه استثناءٌ متصلٌ لأنَّه من الجنسِ. الثاني: أنه منقطع. قال الشيخ: «ولا يَظْهَرْ يعني الاتصال لأنَّ المستثنى منه مَحْكومٌ عليه بأنَّه يُضاعَفُ له العذابُ، فيصيرُ التقديرُ: إلاَّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالحاً فلا يُضاعَفُ له. ولا يَلزَمُ من انتفاءِ التضعيفِ انتفاءُ العذابِ غيرِ المضعَّفِ، فالأولى عندي أَنْ يكونَ استثناءً منقطعاً أي: لكن مَنْ/ تابَ وآمنَ وعَمِل عملاً صالحاً فأولئك يُبَدِّل اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ. وإذا كان كذلك فلا يَلْقَى عذاباً البتةَ» . قلت: والظاهرُ قولُ الجمهورِ. وأمَّا ما قاله فلا يَلْزَمُ؛ إذ المقصودُ الإِخبارُ بأنَّ مَنْ فعل كذا فإنه يَحُلُّ به ما ذَكَرَ، إلاَّ أَنْ يتوبَ. وأمَّا إصابةُ أصلِ العذابِ وعدمُها فلا تَعرُّضَ في الآية له. قوله: {سَيِّئَاتِهِمْ} هو المفعولُ الثاني للتبديلِ، وهو المقيَّدُ بحرفِ الجر، وإنما حُذِفَ لفهم المعنى وحَسَنات هو الأولُ المُسَرَّح وهو المأخوذُ، والمجرورُ بالباءِ هو المتروكُ. وقد صَرَّح بهذا في قولِه تعالى: {بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] . وقال الراجز:

3501 - تَضْحَكُ منِّي أختُ ذاتِ النِّحْيَيْنْ ... أَبْدلكِ اللهُ بلونٍ لَوْنَيْنْ سوادَ وجهٍ وبياضَ عَيْنَيْنُ ... وقد تقدم تحقيقُ هذا في البقرةِ عند قولِه: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} [البقرة: 211] .

72

قوله: {الزُّورَ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به أي: لا يَحْضُرون الزُّوْرَ. وفُسِّر بالصنمِ واللهوِ. الثاني: أنه مصدرٌ، والمرادُ شهادةُ الزُّوْرِ. قوله: {بِاللَّغْوِ} أي بأهِله.

73

قوله: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً} : النفيُ مُتَسَلِّطٌ على القيدِ، وهو الصَّمَمُ والعمى أي: إنهم يَخِرُّون عليها، لكنْ لا على هاتين الصفتين. وفيه تعريضٌ بالمنافقين.

74

قوله: {مِنْ أَزْوَاجِنَا} : يجوزُ أَنْ تكونَ «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وأنْ تكونَ للبيانِ. قاله الزمخشري، وجعله من التجريدِ، أي: هَبْ لنا قُرّةَ أَعْيُنٍ من أزواجِنا كقولِك: «رأيت منك أسداً» وقرأ أبو عمرٍو والأخَوان وأبو بكر «ذُرِّيَّتِنا» بالتوحيدِ، والباقون بالجمعِ سلامةً. وقرأ أبو هريرة وأبو الدرداء وابن مسعود «قُرَّاتِ» بالجمعِ. وقال الزمخشري: «أتى هنا ب» أَعْيُن «صيغةِ القلةِ، دون» عيون «صيغةٍ الكثرة، إيذاناً بأنَّ عيونَ المتقين

قليلةٌ بالنسبةِ إلى عُيون غيرهم» . ورَدَّه الشيخُ بأنَّ أَعْيُناً يُطْلَقُ على العشرة فما دونَها، وعيونَ المتقين كثيرةٌ فوق العَشرة «، وهذا تَحَمُّل عليه؛ لأنه إنما أراد القلةَ بالنسبة إلى كثرةِ غيرِهم، ولم يُرِدْ قَدْراً مخصوصاً. قوله: {إِمَاماً} فيه وجهان، أَحدُهما: أنَّه مفردٌ، وجاء به مفرداً إرادةً للجنس، وحَسَّنَه كونُه رأسَ فاصلةٍ. أو المراد: اجعَلْ كلَّ واحدٍ منا إماماً، وإمَّا لاتِّحادِهم واتفاقِ كلمتِهم، وإمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ كصِيام وقِيام. والثاني: أنه جمعُ آمّ كحالٍّ وحِلال، أو جمعُ إِمامة كقِلادة وقِلاد.

75

قوله: {الغرفة} : مفعولٌ ثانٍ ل «يُجْزَوْن» . والغُرْفَةُ ما ارتفعَ من البناءِ، والجمعُ غُرَفٌ. قوله: {بِمَا صَبَرُواْ} أي: «بصَبْرِهم» أي: بسببِه أو بسببِ الذي صبروه. والأصلُ: صبروا عليه، ثم حُذِفَ بالتدريج. والباءُ للسببية كما تقدَّم. وقيل: للبدلِ كقوله: 3502 - فليت لي بهُم قَوْماً. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. ولا حاجةَ إلى ذلك. قوله: {وَيُلَقَّوْنَ} قرأ الأَخَوان وأبو بكر بفتح الياء، وسكونِ اللام، مِنْ لَقِيَ يلقى. الباقون بضمِّها وفتحِها وتشديدِ القافِ على بنائِه للمفعول.

77

قوله: {لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} : جوابُها محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم. أي: لولا دعاؤُكم ما عَنَى بكم ولا اكترَثَ. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً. وهو الظاهرُ. وقيل: استفهاميةٌ بمعنى النفي، ولا حاجةَ إلى التجوُّزِ في شيءٍ يَصِحُّ أَنْ يكونَ حقيقةً بنفسه. و «دعاؤُكم» : يجوز أن يكونَ مضافَاً للفاعلِ أي: لولا تَضَرُّعُكم إليه. ويجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً للمفعول أي: لولا دعاؤُه إيَّاكم إلى الهدى. ويقال: ما عَبَأْتُ بك أي: ما اهتَمَمْتُ ولا اكتَرَثْتُ. ويقال: عَبَأْتُ الجيشَ وعَبَّأته أي: هَيَّأْتُه وأَعْدَدْتُه، والعِبْء: الثِّقَلُ. قوله: {لِزَاماً} خبرُ «يكون» واسمُها مضمرٌ أي: يكون العذابُ ذا لِزام. واللِّزام: بالكسرِ مصدرٌ كقوله: 3503 - فإمَّا يَنْجُوَا مِنْ حَتْفِ أرضٍ ... فقد لَقِيا حُتوفَهما لِزاما وقرأ المنهال وأبان بن تغلب وأبو السمَّال «لَزاماً» بفتح اللامِ. وهو مصدرٌ أيضاً نحو: البَيات. وقرأ أبو السمَّالَ أيضاً «لَزامِ» بكسر الميم كأنه جَعَله مصدراً معدولاً نحو: «بَدادِ» فبَناه على لغةِ الحجاز فهو معدولٌ عن اللزَمةِ كفَجارِ عن الفَجْرة قال: 3504 - إنَّا اقْتَسَمْنا خُطَّتَيْنا بينَنا ... فَحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ

الشعراء

قوله: {طسم} : أظهر حمزةُ نونَ «سين» قبل الميمِ كأنه ناوِي الوقفِ/ وإلاَّ فإدغامُ مثلِه واجبٌ. والباقون يُدغمون. وقد تقدَّم إعرابُ الحروفِ المقطعة. وفي مصحفِ عبد الله ط. س. م. مقطوعةً من بعضها. قيل: وهي قراءةُ أبي جعفر، يَعْنُون أنه يقف على كلِّ حرفٍ وَقْفَةً يميز بها كلَّ حرفٍ، وإلاَّ لم يُتَصَوَّرْ أَنْ يُلْفَظُ بها على صورتِها في هذا الرسمِ. وقرأ عيسى وتروى عن نافع بكسر الميم هنا وفي القصص على البناء. وأمال الطاءَ الأخَوان وأبو بكر. وقد تقدَّم ذلك.

4

قوله: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ} : العامَّةُ على نونِ العظمةِ فيهما. ورُوِي عن أبي عمرٍو بالياء فيهما أي: إنْ يَشَأْ اللهُ يُنَزَّلْ. و «إنْ» أصلُها أَنْ تدخلَ على المشكوكِ أو المحقَّقِ المبهمِ زمانُه، والآيةُ من هذا الثاني. قوله: {فَظَلَّتْ} عطفٌ على «نُنَزِّلْ» فهو في محلِّ جزمٍ. ويجوز أن يكونَ

مستأنفاً غيرَ معطوفٍ على الجزاءِ. ويؤيِّد الأولَ قراءةُ طلحة «فَتَظْلِلْ» بالمضارعِ مفكوكاً. قوله: {خَاضِعِينَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ عن «أعناقُهم» . واستُشْكِلَ جمعُه جمعَ سلامةٍ لأنه مختصٌّ بالعقلاءِ. وأُجيب عنه بأوجهٍ، أحدُها: أنَّ المرادَ بالأعناق الرؤساءُ، كما قِيل: لهم وجوهٌ وصدورٌ قال: 3505 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في مَجْمَعٍ مِنْ نواصِي الخيلِ مَشْهودِ الثاني: أنه على حذفِ مضافٍ أي: فظلَّ أصحابُ الأعناقِ، ثم حُذِفَ وبقي الخبرُ على ما كان عليه قبل حَذْفِ المُخْبَرِ عنه مراعاةً للمحذوفِ. وقد تقدَّم ذلك قريباً عند قراءةِ {وَقُمْراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61] . الثالث: أنه لَمَّا أُضيفَتْ إلى العقلاءِ اكتسَبَ منهم هذا الحكمَ، كما يُكتسب التأنيثُ بالإِضافةِ لمؤنث في قولِه: 3506 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناةِ من الدمِ

الرابع: أنَّ الأعناقَ جمعُ عُنُق من الناس، وهم الجماعةُ، فليس المرادُ الجارحةَ البتة. ومن قولُه: 3507 - أنَّ العراقَ وأهلَه ... عُنُقٌ إليك فَهَيْتَ هَيْتا قلت: وهذا قريبٌ مِنْ معنى الأولِ. إلاَّ أنَّ هذا القائلَ يُطْلِقُ الأعناقَ على جماعةِ الناسِ مطلقاً، رؤساءَ كانوا أو غيرَهم. الخامس: قال الزمخشري: «أصلُ الكلامِ: فظلًُّوا لها خاضعين، فَأُقْحِمَتِ الأعناقُ لبيانِ موضع الخضوع، وتُرِكَ الكلامُ على أصله، كقولهم: ذهبَتْ أهلُ اليمامة، فكأن الأهلَ غيرُ مذكور» . قلت: وفي التنظير بقولِه: ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ «نظرٌ؛ لأنَّ» أهل «ليس مقحماً البتة؛ لأنه المقصودُ بالحكم وأمَّا التأنيثُ فلاكتسابِه التأنيثَ. السادس: أنها عُوْمِلَتْ معاملةَ العقلاءِ لَمَّا أُسْند إليهم ما يكونُ فِعْلَ العقلاءِ كقوله {ساجِدِين} و {طائِعِين} في يوسف والسجدة. والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ في» أعناقُهم «قاله

الكسائي، وضَعَّفه أبو البقاء قال:» لأنِّ «خاضعين» يكون جارياً على غيرِ فاعلِ «ظَلَّتْ» فيَفْتَقِرُ إلى إبرازِ ضميرِ الفاعل، فكان يجبُ أَنْ يكونَ «خاضعين هم» . قلت: ولم يَجْرِ «خاضعين» في اللفظِ والمعنى إلاَّ على مَنْ هو له، وهو الضمير في «أعناقُهم» ، والمسألة التي قالها: هي أَْن يجريَ الوصفُ على غير مَنْ هو له في اللفظِ دونَ المعنى، فكيف يلزمُ ما ألْزَمه به؟ على أنه لو كان كذلك لم يَلْزَمْ ما قاله؛ لأنَّ الكسائيَّ والكوفيين لا يُوْجِبون إبرازَ الضميرِ في هذه المسألةِ إذا أُمِنَ اللَّبْسُ، فهو يَلْتَزِمُ ما ألزمه به، ولو ضَعَّفه بمجيءِ الحالِ من المضاف إليه لكان أقربَ. على أنه لا يَضْعُفُ لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه كقولِه: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] .

5

قوله: {إِلاَّ كَانُواْ} : جملةٌ حاليةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا وما قبلَه في أول الأنبياء.

7

قوله: {كَمْ أَنبَتْنَا} : «كم: للتكثيرِ فهي خبريةٌ، وهي منصوبةٌ بما بعدَها على المفعولِ به أي: كثيراً من الأزواج أنْبتنا. و {مِن كُلِّ زَوْجٍ} تمييزٌ. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً ولا معنى له. قال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: ما معنى الجمعِ بين كم وكل؟ ولو قيل: أنبتنا فيها مِنْ كل زوج؟ قلت: قد دَلَّ «كل» على الإِحاطةِ بأزواجِ النباتِ

على سبيلِ التفصيلِ، و «كم» على أن هذا المحيطَ متكاثرٌ مُفْرِطٌ «.

10

قوله: {وَإِذْ نادى} : العامُ فيه مضمرٌ. فقدَّره الزجَّاج: اتلُ، وغيرُه: اذكر. قوله: {أَنِ ائت} يجوزُ أن تكونَ مفسِّرةً، وأن تكونَ مصدريةً أي بأن.

11

قوله: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} : بدلٌ أو عطفُ بيانٍ للقومِ الظالمين. وقال أبو البقاء: «إنه مفعولٌ» تَتَّقون «على قراءةِ مَنْ قرأ» تتقون «بالخطاب وفتح النون كما سيأتي. ويجوز على هذه القراءةِ أن يكونَ منادى» . قوله: {أَلا يَتَّقُونَ} العامَّةُ على الياء في «يتَّقون» وفتحِ النون، والمرادُ قومُ فرعونَ. والمفعولُ محذوفٌ أي: يتقون عقابَ. قرأ عبد الله بن مسلم ابن يسار وحماد وشقيق بن سلمة بالتاء من فوق على الالتفات، خاطبهم بذلك توبيخاً، والتقدير: يا قومَ فرعونَ/ وقرأ بعضُهم «يتقونِ» بالياءِ مِنْ تحتُ وكسرِ النونِ. وفيها تخريجان، أحدهما: أنَّ يتَّقونِ «مضارعٌ، ومفعولُه ياءُ المتكلم، اجتُزِىءَ عنها بالكسرةِ. الثاني: جَوَّزَه الزمخشري أن تكونَ» يا «للنداء. و» اتقون «فعلُ أمرٍ كقوله:» ألا يا اسْجدوا «أي يا قومِ اتقونِ. أو ياناسُ اتقونِ. وسيأتي تحقيقُ مثلِ هذا في النمل. وهذا تخريجٌ بعيد.

وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ. وجَّوزَ الزمخشري أن تكونَ حالاً من الضمير في الظالمين أي: يَظْلِمون غيرَ متقين اللهَ وعقابَه. فأُدْخلت همزةُ الإِنكارِ على الحالِ. وخطَّأه الشيخ من وجهين، أحدهما: أنه يلزَمُ منه الفصلُ بين الحالِ وعامِلها بأجنبيّ منهم، فإنه أعربَ» قومَ فرعون «عطفَ بيانٍ للقوم الظالمين. والثاني: أنه على تقديرِ تسليمِ ذلك لا يجوزُ أيَضاً؛ لأنَّ ما بعد الهمزةِ لا يعمل فيه ما قبلها. قال:» وقولك: جئت أمسرعاً «إن جعلت» مسرعاً «معمولاً ل جئت لم يَجُزْ فإنْ أضمرْتَ عاملاً جاز. والظاهرُ أن» ألا «للعرض. وقال الزمخشري:» إنها لا النافيةُ دخلت عليها همزةُ الإِنكار «. وقيل: هي للتنبيهِ.

12

قوله: {أَن يُكَذِّبُونِ} : مفعولُ «أخافُ» أي: «أخاف تكذيبهم إيَّاي» .

13

قوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ} : الجمهورُ على الرفع. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه مستأنفٌ، أخبر بذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على خبر «إنَّ» . وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى والأعمش بالنصب فيهما. والأعرج بنصبِ الأولِ ورفعِ الثاني: فالنصبُ عطفٌ على صلة «أنْ» فتكونُ الأفعالُ الثلاثة: يُكَذِّبُونِ، ويَضيقُ،

ولا يَنْطَلِقُ، داخلةً في حَيِّز الخوف. قال الزمخشري: «والفرقُ بينهما أي الرفع والنصب أن الرفعَ فيه يُفيد أن فيه ثلاثَ عللٍ: خوفَ التكذيبِ، وضيقِ الصدر، وامتناعَ انطلاقِ اللسانِ. والنصبُ: على أنَّ خَوْفَه متعلقٌ بهذه الثلاثة. فإنْ قلتَ: في النصبِ تعليقُ الخوفِ بالأمور الثلاثةِ. وفي جُملتها نفيُ انطلاقِ اللسانِ، وحقيقةُ الخوف إنماهي غَمٌّ يَلْحَقُ الإِنسانَ لأمرٍ سيقعُ، وذلك كان واقعاً، فكيف جازَ تعليقُ الخوفِ به؟ قلت: قد عَلَّقَ الخوفَ بتكذيبهم، وبما يَحْصُل له [بسببِه] من ضيقِ الصدرِ، والحَبْسَةُ في اللسانِ زائدةٌ على ما كان به. على أن تلك الحَبْسَةَ التي كانَتْ به زالَتْ بدعوتِه. وقيل: بَقيَتْ منها بقيةٌ يسيرةٌ. فإنْ قلت: اعتذارُك هذا يَرُدُّه الرفعُ؛ لأن المعنى: إني خائفٌ ضَيِّقُ الصدرِ غيرُ منطلقِ اللسانِ. قلت: يجوز أن يكونَ هذا قبلَ الدعوةِ واستجابتِها. ويجوز أَنْ يريدَ القَدْرَ اليسيرَ الذي بقي» . قوله: {فَأَرْسِلْ} أي: فأَرْسِلْ جبريلَ أو المَلَكَ، فحذف المفعولَ به.

15

قوله: {فاذهبا} : عطفٌ على ما دَلَّ عليه حرفُ الرَّدْعِ من الفعل. كأنه قيل: ارتدِعْ تظنُّ فاذهَبْ أنت وأخوكَ.

16

قوله: {إِنَّا رَسُولُ} : إنما أَفْرد رسولاً: إمَّا لأنه مصدرٌ بمعنى رسالة، والمصدرُ يُوَحَّد. ومن مجيءِ «رسول» بمعنى رسالة قوله: 3508 - لقد كَذَبَ الواشُون ما فُهْتُ عندهمْ ... بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهُمْ برسولِ

أي: برسالة، وإمَّا لأنهما ذوا شريعةٍ واحدة فنُزِّلا منزلةَ رسول، وإمَّا لأنَّ المعنى: أنَّ كلَّ واحدٍ منا رسولٌ، وإمَّا لأنه مِنْ وَضْعِ الواحدِ موضعَ التثينةِ لتلازُمِهما، فصارا كالشيئين المتلازِمَيْن كالعينين واليدين، وحيث لم يقصِدْ هذه المعانيَ طابَقَ في قولِه: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه: 47] .

17

قوله: {أَنْ أَرْسِلْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ مفسِّرةً ل «رسول» إذ قيل: بأنَّه بمعنى الرسالة، شرحا الرسالة بهذا، وبَيَّناها به. ويجوز أَنْ تكونَ المصدريةَ أي: رسولٌ بكذا.

18

قوله: {وَلِيداً} : حال من مفعول «نُرَبِّكَ» وهو فَعيل بمعنى مَفْعول. والوليد: الغلامُ تسميةً له بما كان عليه. قوله: {مِنْ عُمُرِكَ} حال من «سنين» . وقرأ أبو عمرٍو في روايةٍ بسكونِ الميم تخفيفاً ل فُعُل.

19

وقرأ «فِعْلتَك» بالكسرِ على الهيئة: الشعبيُّ لأنها نوع من القَتْلِ وهي الوَكْزَةُ. و {أَنتَ مِنَ الكافرين} يجوز أن تكونَ حالاً، وأَن تكونَ مستأنفةً.

20

قوله: {إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} : إذن هنا حرفُ جوابٍ فقط. وقال الزمخشري: «إنها جوابٌ وجزاءٌ معاً» قال: «فإنْ قلتَ:

إذَنْ حرفُ جوابٍ وجزاءٍ معاً، والكلامُ وقع جواباً لفرعون فكيف وقع جزاءً؟ قلت: قولُ فرعون» وفَعَلْتَ فعْلتَك «فيه معنى: أنك جازَيْتَ نعمتي بما فعلْتَ. فقال له موسى: نعم: فعلتُها مُجازياً لك تسليماً لقولِه، كأنَّ نعمتَه كانت عنده جديرةً بأَنْ تجازى/ بنحوِ ذلك الجزاءِ» . قال الشيخ: «وهذا مذهبُ سيبويهِ يعني أنها للجزاءِ والجوابِ معاً. قال: ولكنَّ شُرَّاح الكتابِ فهموا أنَّه قد تتخلَّفُ عن الجزاءِ، والجوابُ معنىً لازمٌ لها» .

21

قوله: {لَمَّا خِفْتُكُمْ} : العامَّة على تشديدِ الميم وهي «لَمَّا» التي هي حرف وجوبٍ عند سيبويهِ أو بمعنى حين عند الفارسي. وروي عن حمزةَ بكسرِ اللام وتخفيف الميم أي: لتخَوُّفي منكم. و «ما» مصدريةٌ. وهذه القراءةُ تُشْبِهُ قراءتَه في آل عمران: «لِما آتَيْتُكم» وقد تقدَّمَتْ مستوفاةً. وقرأ عيسى «حُكُماً» بضمِّ الكاف إتباعاً.

22

قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} : فيه وجهان أحدُهما: أنه خبرٌ على سبيلِ التهكُّمِ أي: إن كانَ ثَمَّ نعمةُ فليسَتْ إلاَّ أنَّك جَعَلْتَ قومي عبيداً لك. وقيل: حرفُ الاستفهام محذوفٌ لفهمِ المعنى أي: أو تلك وهذا مذهب الأخفش، وجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر:

3509 - أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم هذا مشبعاً في سورة النساء عند قوله تعالى: {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [الآية: 79] وفي غيرِه. قوله: {أَنْ عَبَّدتَّ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنها في محلِّ رفعٍ عطفَ بيان ل «تلك» ، كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ} [الحجر: 66] . الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً مِنْ أجلِه. والثالثَ: أنها بدلٌ من «نعمةٌ» . الرابع: أنها بدلٌ من «ها» في «تَمُنُّها» . الخامس: أنها مجرورةٌ بباءٍ مقدرةٍ أي: بأَن عَبَّدْت. السادس: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي. السابعُ: أنها منصوبةٌ بإضمار أعني. والجملة مِنْ «تَمُنُّها» صفةٌ لنعمة. و «تُمُنُّ» يتعدَّى بالباء فقيل: هي محذوفةٌ أي: تمُنُّ بها، وقيل: ضَمَّنَ «تَمُنُّ» معنى تَذْكُرُ.

23

قوله: {وَمَا رَبُّ العالمين} : إنما أتى ب «ما» دون «مَنْ» ؛ لأنها يُسْأل بها عن طلبِ الماهيةِ كقولك: ما العنقاء؟ ولَمَّا كان جوابُ هذا السؤالِ لا يمكنُ عَدْلُ موسى عليه الصلاة والسلام إلى جوابٍ ممكنٍ، فأجاب بصفاتِه تعالى، وخَصَّ تلك الصفاتِ لأنه لا يشارِكُه تعالى فيها أحدٌ. وفيه إبطالٌ لدعواه أنه إلَهٌ. وقيل: جَهِلَ السؤالَ، فأتى ب «ما» دون «مَنْ» وليس بشيءٍ. وقيل: إنما سأَلَ عن الصفاتِ. ذكره أبو البقاء. وليس بشيءٍ؛ لأنَّ أهلَ البيانِ نَصُّوا على أنها يُطْلَبُ بها الماهياتِ وقد جاء ب «مَنْ» في قوله: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} [طه: 49] .

24

قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَآ} : عادَ ضميرُ التثنيةِ على جمعَيْن: اعتباراً بالجنسَيْن كما فَعَلَ ذلك في الظاهر في قول الشاعرِ: 3510 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بين رِماحَيْ مالِكٍ ونَهْشَلِ

29

قوله: {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} : إنما عَدَل عن لأَسْجُنَنَّك وهو أَخَصُّ منه؛ لأنَّ فيه مبالغةً ليسَتْ في ذاك، أو معناه: لأَجْعَلَنَّك مِمَّنْ عَرَفْتَ حالَه في سُجوني.

30

قوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ} : هذه واوُ الحالِ. وقال الحوفي: «للعطف» . وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} [الآية: 170] في البقرة. وغالبُ الجملِ هنا تقدَّم إعرابُها.

34

قوله: {حَوْلَهُ} : حالٌ من «الملأ» . ومفعولُ القولِ قولُه: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} ، وقيل: صلةٌ للملأ فإنه بمعنى الذي. وقيل: الموصولُ محذوفُ، وهما قولان للكوفين.

44

قوله: {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ} : يجوزُ أن يكون قَسَماً، وجوابُه: {إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} . ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: نَغْلِبُ بسببِ عزَّتِه، يَدُلُّ عليه ما بعدَه، ولا يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «الغالبون» ، لأنَّ ما في حَيِّز «إنَّ» لا يتقدم عليها.

46

قوله: {فَأُلْقِيَ} : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: فاعلُ الإِلقاءِ ما هو لو صُرِّح به؟ قلت: هو اللهُ عزَّ وجل» ، ثم قال: «ولك أَن لا تقدِّرَ فاعلاً؛ لأنَّ» أُلْقُوا «بمعنى خَرُّوا وسقطوا» . قال الشيخ: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه لا يبنى الفعلُ للمفعولِ إلاَّ وله فاعلٌ ينوبُ المفعولُ به عنه. أما أنه لا يُقَدَّر له فاعلٌ فقولُ ذاهِبٌ عن الصوابِ» . قوله: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} قد تقدَّم خلافُهم فيها. وقال ابن عطية هنا: «وقرأ البزي وابن فليح عن ابن كثير بشدِّ التاءِ وفتح اللام وشدِّ القاف. ويلزم على هذه القراءةِ إذا ابتدَأَ أن يحذف همزةَ الوصلِ، وهمزةُ الوصلِ لا تدخلُ على الأفعالِ المضارعةِ كما لا تدخُل على أسماءِ الفاعلين» ، قالا لشيخ: «كأنه يُخَيِّل إليه أنه لا يمكن الابتداءُ بالكلمةِ إلاَّ باجتلابِ همزةِ الوصلِ، وهذا ليس بلازم، كثيراً ما يكون الوصلُ مخالفاً للوقفِ، والوقفُ مخالفاً للوصل، ومَنْ له تَمَرُّنٌ في القراءات/، عَرَفَ ذلك» . قلت: يريد قولَه: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} فإن البزيَّ يُشَدِّد التاء، إذ الأصل: تَتَلَّقَّفُ بتاءَيْن فَأَدْغم، فإذا وَقَفَ على «هي» وابتدأ تَتَلَقَّفَ فحقُّه أَنْ يَفُكَّ ولا يُدْغِمَ؛ لئلا يُبتدأَ بساكنٍ وهو غيرُ مُمْكِنٍ، وقولُ ابن عطية: «ويَلْزمُ على هذه القراءةِ» إلى آخره تضعيفٌ للقراءةِ لِما ذكره هو: مِنْ أنَّ همزةَ الوصلِ لا تَدْخُل على الفعلِ المضارعِ، ولا يمكن الابتداءُ

بساكنٍ، فمِنْ ثَمَّ ضَعُفَتْ. وجوابُ الشيخ بمَنْعِ الملازَمَةِ حَسَنٌ، إلاَّ أنه كان ينبغي أن يُبْدِلَ لفظةَ الوقفِ بالابتداء؛ لأنه هو الذي وقع الكلامُ فيه، أعني الابتداءَ بكلمة «تَّلَقَّفُ» .

51

قوله: {أَن كُنَّآ} : قرأ العامَّة بفتح «أَنْ» أي: لأَنْ كُنَّا مبدأ القول بالإِيمان. وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ بكسرِ الهمزةِ. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّها شرطيةٌ، والجوابُ محذوفٌ لفهمِ المعنى أو متقدمٌ عند مَنْ يُجِيزه. والثاني: أنها المخففةُ من الثقيلة واسْتُغْني عن اللامِ الفارقةِ لإِرشادِ المعنى: إلى الثبوت دونَ النفي، كقوله: 3511 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإنْ مالِكٌ كانَتْ كرامَ المعادنِ وفي الحديث: «إن كانَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُحِبُّ العَسَلَ» أي: ليُحبه.

53

قوله: {حَاشِرِينَ} : هو مفعولُ «أَرْسَلَ» و «حاشرين» معناه: حاشرين السحرةَ.

54

قوله: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ} : معمولٌ لقولٍ مضمرٍ أي: قال إنَّ هؤلاءِ. وهذا القولُ يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: أَرْسَلَهم قائلاً ذلك، ويجوز أَنْ يكونَ مفسِّراً ل أَرْسَلَ، والشِّرْذِمَةُ: الطائفةُ من الناسِ. وقيل: كلُّ بقيةٍ مِنْ شيءٍ خسيسٍ يُقال لها: شِرْذِمة، ويقال: ثوبٌ شَراذم أي: أَخْلاق، قال: 3512 - جاء الشتاءُ وقميصي أُخْلاقْ ... شراذِمٌ يضحكُ منه الخَلاَّقْ وأنشد أبو عبيدة: 3513 -[يُحْذَيْنَ] في شَراذِمِ النِّعالِ ...

56

قوله: {حَاذِرُونَ} : قرأ الكوفيون وابن ذكوان «حاذِرُون» بالألفِ، والباقون «حَذِرُوْن» بدونهِا، فقال أبو عبيدة: «هما بمعنىً واحد يُقال: رجلٌ حَذِرٌ وحَذُرٌ وحاذِرٌ بمعنىً» وقيل: بل بينهما فرقٌ. فالحَذِرُ: المُتَيَقِّظُ. والحاذِرُ: الخائفُ. وقيل: الحَذِر: المخلوقُ مَجْبُولاً على الحَذَرِ. والحاذِرُ: ما عُرِض في ذلك، وقيل: الحَذِرُ: المُتَسَلِّح أي: له شوكةُ سلاحٍ. وأنشد سيبويهِ في إعمال حَذِر على أنه مثالُ مبالغةٍ مُحَوَّلٌ مِنْ حاذر قولَه:

3514 - حَذِرٌ أموراً لا تَضِيْرُ وآمِنٌ ... ما ليسَ مُنْجِيَه من الأَقْدارِ وقد زعم بعضُهم أنَّ سيبويهِ لمَّا سأله: هل تحفظُ شيئاً في إعمالَ فَعِل؟ صنع له هذا البيتَ. فعيب على سيبويه: كيف يأخذُ الشواهدَ الموضوعةَ؟ وهذا غَلَطٌ؛ فإن هذا الشخصَ قد أقرَّ على نفسِه بالكذبِ فلا يُقْدَحُ قولُه في سيبويهِ. والذي ادعى أنَّه صنعَ البيتَ هو اللاحقيُّ. وحَذِر يتعدَّى بنفسه، قال تعالى: {يَحْذَرُ الآخرة} [الزمر: 9] ، وقال العباس بن مرادس: 3515 - وإني حاذِرٌ أَنْمِيْ سِلاحي ... إلى أوصالِ ذَيَّالٍ مَنيعِ وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عمار «حاذِرُوْن» بالدال المهملة من قولهم: «عَيْنٌ حَدْرَة» أي: عظيمة، كقوله: 3516 - وعَيْنٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والمعنى: عظيماً. وقيل: الحادِرُ: القويُّ الممتلىء. وحُكي: رجلٌ حادِرٌ أي: ممتلِىءٌ غَيْظاً، ورجلٌ حادِرٌ أي: أحمقُ كأنه ممتلىءٌ مِنْ الحَمَقِ، قال: 3517 - أُحِبُّ الغلامَ السَّوْءَ من أجلِ أُمِّه ... وأُبْغِضُهُ من بُغْضِها وهو حادِرُ ويقال: أيضاً: رجلٌ حَذُر، بزنة «يَقُظ» مبالغةً في حاذِر، من هذا المعنى قلت: فقد صار يُقال: حَذِرَ وحَذُر وحاذر بالدال المعجمة والمهملة، والمعنى مختلف.

58

قوله: {وَمَقَامٍ} : قرأ العامَّةُ بفتحِ الميمِ، وهو مكانُ القيامِ، وقتادة والأعرج بضمِّها. وهو مكانُ الإِقامة.

59

قوله: {كَذَلِكَ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، قال الزمخشري: «يَحْتمل ثلاثةَ أوجهٍ: النصبَ على» أخْرَجْناهم مثلَ ذلك الإخراج الذي وَصَفْنا. والجرُّ على أنَّه وصفٌ ل مَقامٍ أي: ومقامٍ كريمٍ مثلِ ذلك المَقامِ الذي كان لهم. والرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي: الأمر كذلك «. قال الشيخ:» فالوجهُ الأولُ لا يَسُوْغُ؛ لأنه يَؤُوْل إلى تشبيهِ الشيءِ بنفسِه، وكذلك الوجهُ الثاني لأنَّ/ المَقامَ الذي كان لهم هو المَقامُ الكريمُ فلا يُشَبَّهُ الشيءُ بنفسِه «قلت: وليس في ذلك تشبيهُ الشيِءِ بنفسِه؛ لأنَّ المرادَ في الأول: أَخْرَجْناهم إخراجاً مثلَ الإِخراجِ المعروفِ المشهورِ، وكذلك الثاني.

قوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا} عطفٌ على» فَأَخْرَجْناهم «.

60

قوله: {فَأَتْبَعُوهُم} : العامَّةُ بقطع الهمزة مِنْ أَتْبَعَه أي: ألحقه نفسَه، فحذف الثاني، وقيل: يُقال: أتبعه بمعنى اتَّبعه بوصل الهمزة أي: لحقه، والحسن والحارث الذماري بوصِلها وتشديدِ التاءِ وهي بمعنى اللَّحاق. قوله: {مُّشْرِقِينَ} منصوبٌ على الحالِ. والظاهرُ أنه من الفاعلِ. ومعنى مُشْرِقين أي: داخِلين في وقتِ الشروقِ كأصبح وأمسى أي: دخَلَ في هذين الوقتين، وقيل: داخلين نحو: المَشْرق كأَنْجَدَ وأَتْهَمَ، وقيل: مُشْرقين بمعنى مُضيئين. وفي التفسير: أنَّ بني إسرائيل كانوا في نُوْر، والقِبْطَ في ظُلمة، فعلى هذا يكون «مُشْرِقين» حالاً من المفعول، وعندي أنه يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل والمفعول، إذا جَعَلْنا «مُشرِقين» داخلين في وقتِ الشُّروق، أو في مكانٍ المَشْرِق؛ لأنَّ كلاً من القبيلين كان داخِلاً في ذلك الزمانِ، أو في ذلك المكان.

61

قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان} : قرأ العامَّةُ «تراءى» بتحقيقِ الهمزة، وابن وثاب والأعمش من غير همزٍ. وتفسيرُه أن تكنَ الهمزةُ مخففةً بينَ بينَ، لا بالإِبدال المحض؛ لئلا تجتمعَ ثلاثُ أَلِفاتٍ: الأولى الزائدةُ بعد الراءِ، والثانيةُ المبدلةُ عن الهمزةِ، والثالثةُ لامُ الكلمة، لكن الثالثة لا تَثْبُتُ وَصْلاً. لحذفِها لالتقاء الساكنين. ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فأقول: هذا الحرف إمَّا أَنْ يُوْقَفَ عليه أو لا. فإن وُقِفَ عليه: فحمزةُ يُميل ألفَه الأخيرةَ لأنها طرفٌ منقبلةٌ عن ياء. ومن ضرورةِ إمالتِها إمالةُ فتحةِ الهمزةِ

المُسَهَّلَةٍ؛ لأنه إذا وُقف على مثلِ هذه الهمزةِ سَهَّلَها على مقتضى مذهبِه، وأمال الألفَ الأولى إتْباعاً لإِمالةِ فتحةِ الهمزةِ. ومِنْ ضرورةِ إمالَتِها إمالةُ فتحةِ الراءِ قبلها. وهذا هو الإِمالةُ لإِمالةٍ. وغيرُه من القُرَّاءِ لا يُميل شيئاً من ذلك، وقياسُ مذهبِ الكسائيِّ أَنْ يُميلَ الألفَ الأخيرةَ وفتحةَ الهمزةِ قبلها. وكذا نقله ابنُ الباذش عنه وعن حمزةَ. وإنْ وُصِلَ: فإنَّ ألفَه الأخيرةَ تَذْهَبُ لالتقاءِ الساكنين، ولذهابِها تَذْهَبُ إمالةُ فتحةِ الهمزة وتبقى إمالةُ الألف الزائدة. وإمالةُ فتحةِ الراءِ قبلَها عنده اعتداداً بالألفِ المحذوفةِ. وعند ذلك يُقال: حُذِفَ السببُ وبقي المُسَبَّبُ؛ لأن إمالةَ الألفِ الأولى إنما كان لإِمالةِ الألفِ الأخيرةِ كما تقدَّم تقريرُه، وقد ذَهَبَتِ الأخيرةُ، فكان ينبغي أَنْ لا تُمال الأولى لذهابِ المُقْتضي لذلك، ولكنه راعى المحذوفَ، وجعلَه في قوةِ المنطوقِ، ولذلك نحا عليه أبو حاتمٍ فقال: «وقراءةُ هذا الحرفِ بالإِمالةِ مُحالٌ: قلت: وقد تقدَّم في الأنعام عند» رأى القمر «و» رأى الشمس «ما يُشْبه هذا العملَ فعليك باعتبارِه ثَمَّة. قوله: {لَمُدْرَكُونَ} العامَّةُ على سكونِ الدالِ اسمَ مفعولٍ مِنْ أَدْرك أي: لمُلْحَقُون. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدالِ مشدَّدةً وكسرِ الراء. قال الزمخشري:» والمعنى: متتابِعُون في الهَلاك على أيديهم. ومنه بيت الحماسة:

3518 - أَبَعْدَ بَني أمِّي الذين تتابَعُوا ... أُرَجِّيْ الحياةَ أم مِنْ الموتِ أجْزَعُ يعني: أن ادَّرَك على افْتَعَل لازمٌ بمعنى فَنِي واضْمَحَلَّ. يقال: ادَّرَكَ الشيءُ يَدَّرِكُ فهو مُدَّرِك أي: فَنِيَ تتابعاً، ولذلك كُسِرَت الراءُ. وممَّنْ نَصَّ على كسرِها أبو الفضلِ الرازي قال: «وقد يكون» ادَّرَكَ «على افْتَعَل بمعنى أَفْعَلَ متعدِّياً، ولو كانَتِ القراءةُ مِنْ هذا لَوَجَبَ فتحُ الراءِ، ولم يَبْلُغْني عنهما يغني عن الأعرجِ وعُبيد إلاَّ الكسرُ» .

63

قوله: {فانفلق} : قبلَه جملةٌ محذوفةٌ أي: فضربَ فانفلقَ. وزعم ابنُ عُصْفور أنَّ المحذوفَ إنما هو ضَرَبَ وفاءُ انفلقَ، وأن الفاءَ الموجودَة هي فاء «فَضَرَبَ» ، فأبقى من كلٍ ما يُدْلُّ على المحذوفِ. أبقى الفاءَ مِنْ «فضرب» لِتَدُلَّ على «ضَرَبَ» وأبقى «انفلق» لِتَدُلَّ على الفاء المتصلةِ به، وهذا كلامٌ متهافتٌ. واختلفَ القُراء في ترقيقِ راءِ «فِرْق» عن ورشٍ لأجلِ القاف. وقُرِىء «فِلْق» بلامٍ بَدَلِ الراءِ لموافقةِ «فانفلقَ» . والطَّوْدُ: الجبلُ العظيمُ/ المتطاولُ في السماءِ.

64

قوله: {وَأَزْلَفْنَا} : أي: قَرَّبْنا مِنَ النجاةِ. و «ثَمَّ» ظرفُ مكانٍ بعيدٍ. و «الآخرين» هم موسى وأصحابُه، وقرأ الحسن وأبو حيوة «

وزَلَفْنا» ثلاثياً، وقرأ أُبَيُّ وابن عباس وعبد الله بن الحارث بالقاف أي: أَزْلَلْنا. والمرادُ بالآخَرين في هذه القراءة فرعونُ وقومُه.

70

قوله: {إِذْ قَالَ} : العاملُ في «إذ» «نَبَأَ» أو اتْلُ. قاله الحوفي. وهذا لا يتأتى إلاَّ على كونِ «إذ» مفعولاً به. وقيل: «إذ» بدلٌ مِنْ «نَبَأ» بدلُ اشتمالٍ. وهو يَؤُوْلُ إلى أنَّ العاملَ فيه «اتْلُ» بالتأويلَ المذكورِ. قوله: {وَقَوْمِهِ} الهاءُ تعودُ على «إبراهيم» لأنَّه المُحَدَّثُ عنه. وقيل: تعودُ على أبيه، لأنَّه أقربُ مذكورٍ، أي: قال لأبيه وقومِ أبيه، ويؤيِّده {إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ} [الأنعام: 74] ، حيث أضافَ القومَ إليه.

71

قوله: {نَعْبُدُ أَصْنَاماً} : أَتَوْا في الجوابِ بالتصريحِ بالفعل ليَعْطِفُوا عليه قولَهم «فَنَظَلُّ» افتخاراً بذلك وابتهاجاً به، وإلاَّ فكان قولُهم «أصناماً» كافياً، كقوله تعالى: {قُلِ العفو} [البقرة: 219] {قَالُواْ خَيْراً} [النحل: 30] .

72

قوله: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} : لا بُدَّ مِنْ محذوفٍ أي: يسمعون دعاءَكم، أو يَسْمَعُوْنكم تَدْعُون. فعلى التقديرِ الأولِ: هي متعديةٌ لواحدٍ اتفاقاً، وعلى الثاني: هي متعديةٌ لاثنين، قامَتِ الجملةُ المقدرَّةُ مَقام الثاني. وهو قولُ الفارِسيِّ. وعند غيرِه الجملةُ المقدَّرَةُ حالٌ. وقد تقدَّمَ تحقيقُ

القولَيْن. وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضمِّ الياءِ وكسرِ الميمِ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ. أي: يُسْمِعُونَكم الجوابَ. قوله: {إِذْ تَدْعُونَ} منصوبٌ بما قبلَه، فما قبله وما بعده ماضيان معنىً، وإنْ كانا مستقبلَيْنِ لفظاً، لعملِ الأولِ في «إذ» ، ولعَمَلِ «إذ» في الثاني. وقال بعضُهم: «إذ» هنا بمعنى إذا. وقال الزمخشري: «إنه على حكاية الحالِ الماضيةِ، ومعناه: اسْتَحْضِروا الأحوالَ [الماضيةَ] التي كنتم تدَّعُونها فيها، [وقولوا] : هل سَمِعُكم أو أَسْمَعُوا، وهو أبلغ في التَّبْكِيْتِ» . وقد تقدَّم أنه قُرِىءَ بإدغامِ ذال «إذا» وإظهارِها في التاء. وقال ابنُ عطيةَ: ويجوز فيه قياسُ «مُدَّكِر» ونحوِه. ولم يَقْرَأْ به أحدٌ. والقياسُ أن يكون اللفظُ به «إدَّدْعون» والذي مَنَعَ من هذا اللفظِ اتصالُ الدالِ الأصلية في الفعل، فكَثُرَتْ المتماثلاتُ «قلت: يَعْني فيكون اللفظُ بدالٍ مشددةٍ مهملةٍ ثم بدالٍ ساكنةٍ مهملةٍ أيضاً» . قال الشيخ: «وهذا لا يَجُوز؛ لأنَّ هذا الإِبدالَ إنما هو في تاءِ الافتعالِ بعد الدالِ والذالِ والزايِ نحو: ادَّهَنَ وادَّكَرَ وازْدَجَر، وبعد جيمٍ

شذوذاً نحو:» اجْدمَعُوا «في» اجتمعوا «، أو في تاء الضميرِ بعد الدالِ والزايِ نحو» فُزْدُ «في» فُزْتُ «و» جَلَدَّ «في» جَلَدْتُ «أو تاء» تَوْلَج «قالوا فيها:» دَوْلج «، وتاء المضارعة ليس شيئاً مِمَّا ذَكر. وقوله:» والذي مَنَعَ إلى آخرِه «يَقْتضي جوازَه لو لم يُوْجَدْ ما ذُكِر، فعلى مقتضى قولِه يجوز أَنْ تقولَ في إذْ تَخْرج: ادَّخْرُج، ولا يقول ذلك أحدٌ، بل يقولون: اتَّخْرُج، فيُدغمون الذالَ في التاءِ» .

74

قوله: {كَذَلِكَ} : منصوبٌ ب «يَفْعَلون» أي: يَفْعَلون مثلَ فِعْلِنَا. ويَفْعَلُون في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً ل «وَجَدْنا» .

77

قوله: {عَدُوٌّ} : اللغةُ العاليةُ إفرادُ «عَدُوّ» وتذكيرُه. قال تعالى: {هُمُ العدو} [المنافقون: 4] . وإنما فُعِل به ذلك تَشْبيهاً بالمصادرِ نحو: الوَلُوع والقَبُول. وقد يُقال: أعداءٌ وعَدُوَّة. وقوله: {عَدُوٌّ لي} على أصلِه مِنْ غيرِ تقديرِ مضافٍ ولا قلبٍ. وقيل: الأصنامُ لا تُعادِي لأنها جَمادٌ، فالتقديرُ: فإنَّ عُبَّادَهم عدوُّ لي. وقيل: بل في الكلامِ قَلْبٌ، تقديرُه: فإنِّي عدوٌّ لهم وهذان مرجوحان لاستقامةِ الكلامِ بدونِهما. قوله: {إِلاَّ رَبَّ العالمين} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه منقطعٌ أي: لكنْ ربُّ العالمين ليس بعدُوّ لي. وقال الجرجاني: «فيه تقديمٌ وتأخيرٌ أي: أفَرَأَيْتُمْ ما كنتم تَعْبُدُوْنَ أنتم وآباؤكم الأَقْدمون، إلاَّ ربَّ العالمين فإنهم عدوٌّ لي، و» إلاَّ «بمعنى/» دون «و» سوى «. والثاني: أنه متصلٌ. وهو قول الزجاج؛ لأنهم كانوا يَعْبدون اللهَ تعالى والأصنامَ.

78

قوله: {الذي خَلَقَنِي} : يجوز فيه أوجهٌ: النصبُ على النعتِ ل «رَبَّ العالمَين» أو البدلِ، أو عطفِ البيانِ، أو على إضمارِ أعني. والرفعُ على خبرِ ابتداءِ مضمرٍ أي: هو الذي خلقني أو على الابتداءِ. و [قوله] : {فَهُوَ يَهْدِينِ} جملةٌ اسميةٌ في محلِّ رفعٍ خبراً له. قال الحوفي: «ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تَضَمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرط» . وهذا مردودٌ؛ لأنَّ الموصولَ مُعَيَّنٌ ليس عامَّاً، ولأنَّ الصلةَ لا يمكنُ فيها التجدُّدُ، فلم يُشْبِهِ الشرطَ. وتابع أبو البقاء الحوفيَّ ولكنه لم يتعرَّضْ للفاء. فإنْ عنى ما عناه الحوفيُّ فقد تقدَّمَ ما فيه. وإن لم يَعْنِهِ فيكونُ تابعاً للأخفش في تجويزِه زيادةَ الفاءِ في الخبر مطلقاً نحو: «زيدٌ فاضربه» ، وقد تقدَّم تحريرُه.

79

قوله: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي} : يجوز أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوفٌ. وكذلك ما بعده. ويجوزُ أَنْ يكونوا أوصافاً للذي خَلَقني. ودخولُ الواوِ جائزٌ. وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ البقرةِ كقوله: 3519 - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... وليثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ وأثبت ابنُ أبي إسحاقَ وتُرْوى عن عاصم أيضاً ياءَ المتكلمِ في «يَسْقِينِ» و «يَشْفِينْ» و «يُحْيِيْنِ» . والعامَّةُ «خَطِيئَتي» بالإفرادِ. والحسن «

خطاياي» جمعَ تكسيرٍ.

85

قوله: {مِن وَرَثَةِ} : إمَّا أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً أي: مستقِرَّاً أو كائناً مِنْ وَرَثَةِ، وإمَّا أَنْ يكونَ صفةً لمحذوفٍ هو المفعولُ الثاني، أي: وارِثاً مِنْ وَرَثَةِ.

88

قوله: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ} : بدلٌ مِنْ «يوم» قبلَه. وجعل ابنُ عطيةَ هذا من كلامِ اللهِ تعالى إلى آخر الآياتِ مع إعرابِه «يومَ لا ينفعُ» بدلاً مِنْ «يوم يُبْعَثون» . ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ العامِلَ في البدلِ هو العامِلُ في المبدلِ منه، أو آخرُ مثلُه مقدَّرٌ. وعلى كِلا هذين القولَين لا يَصِحُّ لاختلافِ المتكلِّمين.

89

قوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منقطِعٌ أي: لكنْ مَنْ أتى اللهَ بقَلْبٍ سليمٍ فإنه ينفَعُه ذلك. وقال الزمخشري: «ولا بُدَّ لك مع ذلك مِنْ تقديرِ مضافٍ وهو الحالُ المرادُ بها السلامةُ، وليست من جنسِ المالِ والبنينَ، حتى يَؤول المعنى إلى: أنَّ البنينَ والمالَ لا ينفعانِ، وإنما ينفعُ سَلامةُ القلبِ، ولو لم يُقَدَّرِ المُضافُ لم يَتَحصَّلْ للاستثناءِ معنى» . قال الشيخ: «ولا ضرورةَ تَدْعُو ألى حذفِ المضافِ كما ذكر» . قلت: إنما قَدَّرَ المضافَ ليُتَوَهَّمَ دخولُ المستثنى في المستثنى منه؛ لأنه متى لم يُتَوَهَّمْ ذلك لم يَقعِ الاستثناءُ، ولهذا مَنَعوا: «صَهَلَتِ الخيلُ إلاَّ الإِبِلَ» إلاَّ بتأويلٍ.

الثاني: أنه مفعولٌ به لقوله: «لا يَنْفَعُ» أي: لا ينفعُ المالُ والبنونَ إلاَّ هذا الشخصَ فإنه ينفَعُه فإنه ينفَعُه مالُه المصروفُ في وجوهِ البِرِّ، وبنوه الصلحاءُ، لأنه عَلَّمهم وأحسنَ إليهم. الثالث: أنه بدلٌ مِن المفعولِ المحذوفِ، أو مستثنى منه، إذ التقديرُ: لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ أحداً من الناس إلاَّ مَنْ كانت هذه صفتَه. والمستثنى منه يُحْذَفُ كقوله: 3520 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولم يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سيفٍ ومِئْزرا أي: ولم يَنْجُ بشيءٍ. الرابع: أنه بدلٌ مِنْ فاعلٍ «يَنْفَعُ» فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء: «وغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ فيكون التقديرُ: إلاَّ مالُ مَنْ، أو بنو مَنْ فإنه ينفع نفسَه وغيرَه بالشفاعة» . قلت: وأبو البقاء خَلَط وجهاً بوجهٍ: وذلك أنه إذا أرَدْنا أن نجعلَه بدلاً من فاعل «ينفع» فلنا فيه طريقان، أحدهما: طريقةُ التغليب أي: غَلَّبْنا البنين على المالِ، فاستثنى من البنين، فكأنه قيل: لا ينفعُ البنونَ إلاَّ مَنْ أتى مِن البنين بقلبٍ سليم فإنه ينفع نفسَه بصلاحِه، وغيرَه بالشفاعةِ. والطريقة الثانية: أَنْ تُقَدِّر مضافاً محذوفاً قبل «مَنْ» أي: إلاَّ مالُ مَنْ أو بنو مَنْ فصارَتِ الأوجُه خمسةً. ووجَّه الزمخشريُّ اتصالَ الاستثناءِ، بوجهين، أحدُهما: إلاَّ حالَ مَنْ أتى اللهِ بقلبٍ سليمٍ، وهو مِنْ قوله: 3521 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ «وما ثوابُه إلاَّ السيفُ» ومثاله أن يقال: هل لزيدٍ مالٌ وبنون؟ فيقال: مالُه وبَنُوه سلامةُ قلبِه. تريد نَفْيَ المالِ والبنين عنه، وإثباتَ سلامةِ قلبِه بدلاً عن ذلك. والثاني قال: «وإن شِئْتَ حَمَلْتَ الكلامَ على المعنى وجَعَلْتَ المالَ والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يومَ لا يَنْفع غِنَى إلاَّ غَنى مَنْ أتى، لأنَّ غِنى الرجلِ في دينِه بسلامةِ قلبِه، كما أنَّ غِناه في دنياه بمالِه وبنيه.» .

91

قوله: {وَبُرِّزَتِ} : قرأ مالك بن دينار «وَبَرَزَتْ» بفتح الباء والراء خفيفةً، مبنياً للفاعل، مسنداً للجحيم فلذلك رُفِعَ.

94

قوله: {فَكُبْكِبُواْ} : أي: أُلْقُوا، وقُلِبَ بعضُهم/ على بعض. قال الزمخشري: «الكَبْكَبَةُ تكريرُ الكَبِّ. جَعَلَ التكريرَ في اللفظِ دليلاً على التكريرِ في المعنى» . وقال ابن عطية نحواً منه، قال: «وهو الصحيحُ لأنَّ تكريرَ الفعلِ بَيِّنٌ نحو: صَرَّ وصَرصَرَ» وهذا هو مذهب الزجاج. وفي مثل هذا البناءِ ثلاثةُ مذاهبَ، أحدها: هذا. والثاني: وهو مذهبُ البصريين أنَّ الحروفَ كلَّها أصولٌ. والثالث وهو قول الكوفيين أنَّ الثالثَ مُبْدَلٌِ من مثلِ الثاني، فأصل كَبْكَبَ: كَبَّبَ بثلاثِ

باءات. ومثلُه: لَمْلَمَ وكَفْكَفَ. هذا إذا صَحَّ المعنى بسقوطِ الثالث. فأمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه كانَتْ كلُّها أصولاً من غيرِ خلافٍ نحو: سِمسِم وخِمْخِم. وواو «كُبْكِبوا» قيل: للأصنام؛ إجراءً لها مُجْرى العقلاءِ. وقيل: لعابديها.

96

قوله: {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} : جملةٌ حاليةٌ معترضةٌ بين القولِ ومعمولِه، ومعمولُه الجملةُ القسميةُ.

97

قوله: {إِن كُنَّا لَفِي} مذهبُ البَصْريين: أنَّ «إنْ» مخففة واللامَ فارقةٌ، ومذهبُ الكوفيين: أنَّ «إنْ» نافية، واللامَ بمعنى «إلاَّ» .

98

قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ} : «إذ» منصوبٌ: إمَّا ب «مُبين» ، وإمَّا بمحذوفٍ أي: ضَلَلْنا في وقتِ تَسْويتنا لكم بالله في العبادةِ. ويجوز على ضَعْفٍ أَنْ يكونَ معمولاً ل «ضلال» ، والمعنى عليه. إلاَّ أنَّ ضعفَه صناعيٌّ: وهو أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يَعْمَلُ بعد وصفِه.

101

قوله: {حَمِيمٍ} : الحميمُ: القريبُ مِنْ قولِهم: «حامَّةُ فلانٍ» أي: خاصَّتُه. وقال الزمخشري: «الحميمُ مِنَ الاحتمامِ، وهو من الاهتمام، أو من الحامَّةِ وهي الخاصَّةُ، وهو الصديقُ الخالص» والنفي هنا يَحْتمل نفيَ الصديقِ من أصلِه، أو نفيَ صفتِه فقط فهو من باب:

3522 - على لاحِبٍ لا يهتدى بمنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والصديقُ: يحتمل أَنْ يكونَ مفرداً، وأَنْ يكونَ مُسْتَعملاً للجمع، كما يُسْتعمل العدوُّ له يقال: هم صديق وهم عدو.

102

قوله: {فَلَوْ أَنَّ} : يجوزُ أَنْ تكونَ المُشْرَبَةَ معنى التمني، فلا جوابَ لها على المشهورِ. ويكون نصبُ «فنكونَ» جواباً للتمني الذي أَفْهَمَتْه «لو» ويجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها، وجوابُها محذوفٌ أي: لَوَجَدْنا شُفَعاءَ وأصدقاءَ أو لَعَمِلْنا صالحاً. وعلى هذا فنَصْبُ الفعلِ ب «أَنْ» مضمرةً عطفاً على «كَرَّةً» أي: لو أنَّ لَنا كَرَّةً فكوناً، كقولها: 3523 - لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

105

قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ} : إنَّما أَنَّثَ فعلَ القومِ؛ لأنه مؤنثُ بدليلِ تصغيره على قُوَيْمَة. وقيل: لأنَّه بمعنى «أُمَّة» ولمَّا كانَتْ آحادُه عقلاءَ ذكوراً وإناثاً عاد الضميرُ عليه باعتبارِ تغليبِ الذكورِ فقيل: «لهم أخوهم» . وحَذَفَ مفعولَ «تتَّقون» أي: ألا تتَّقون عقابَ الله.

111

قوله: {واتبعك الأرذلون} : جملةٌ حاليةٌ مِنْ كاف «لك» . وقرأ عبد الله وابن عباس وأبو حيوة «وأَتْباعُك» مرفوعاً، جمعَ

تابع كصاحِب وأَصْحاب، أو تَبِيْع كشَريف وأشراف، أو تَبع ك بَرَم وأَبْرام. وفي رفعه وجهان، أحدهما: أنَّه مبتدأٌ، و «الأَرْذَلُون» خبرُه. والجملةُ حاليةٌ أيضاً. والثاني: أنه عطفٌ على الضميرِ المرفوعِ في «نُؤْمِنُ» وحَسَّن ذلك الفصلُ بالجارِّ. و «الأرذلون» صفتُه. وقرأ اليماني: «وأتباعِك» بالجرِّ عطفاً على الكاف في «لك» . وهو ضعيفٌ أو ممنوعٌ عند البصريين. وعلى هذا فيرتفع «الأَرْذَلُون» على خبر ابتداء مضمر أي: هم الأرذلون. وقد تقدَّم مادة «الأَرْذَل» في هود.

112

قوله: {وَمَا عِلْمِي} : يجوز في «ما» وجهان، أحدهما: وهو الظاهر أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء. و «علمي» خبرها. والباء متعلقة به. والثاني: أنها نافيةٌ. والباءُ متعلقةٌ ب «عِلْمي» أيضاً. قاله الحوفي، ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلامُ به جملةً.

113

قوله: {لَوْ تَشْعُرُونَ} : جوابُها محذوفٌ، ومفعولُ «تَشْعُرون» أيضاً. وقرأ الأعْرج وأبو زرعة «لو يَشْعُرون» بياء الغَيْبة، وهو التفاتٌ. ولا يَحْسُنُ عَوْدُه على المؤمنين.

118

قوله: {فَتْحاً} : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به، بمعنى المفتوحِ/، وأَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً.

قوله: {وَنَجِّنِي} المنجى منه محذوفٌ لفهمِ المعنى أي: ممَّا يَحُلُّ بقومي. و {مِنَ المؤمنين} بيانٌ لقولِه {مَنْ مَّعِي} .

119

قوله: {المشحون} : أي المَمْلوءُ المُؤْقَرُ. يقال: شَحَنَها عليهم خَيْلاً ورِجالاً. والشَّحْناء: العَداوةُ؛ لأنها تملأَ الصدورَ إحَناً. والفُلْكُ هنا مفردٌ بدليلِ وَصْفِه بالمفردِ. وقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة.

128

قوله: {تَعْبَثُونَ} : جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ «تَبْنُون» . والرِّيع بكسر الراء وفتحها: جمع رَِيْعة. وهو في اللغةِ المكانُ المرتفعُ. قال ذو الرمة: 3524 - طِراقُ الخَوافي مُشْرِفٌ فوقَ رِيْعَةٍ ... ندى ليلِه في رِيْشه يَتَرَقْرَقُ وقال أبو عبيدة: «هو الطريقُ» وأنشد للمسيَّب بن عَلَس يصفُ ظُعُناً: 3525 - في الآلِ يَخْفِضُها ويَرْفَعُهما ... رِيْعٌ يَلُوْحُ كأنه سَحْلُ

واختلفَ المفسِّرون في العبارة عنه على أقوالٍ كثيرةٍ. والرَّيْعُ بالفتح: ما يَحْصُل مِنَ الخَراج.

129

قوله: {تَخْلُدُونَ} : العامَّةُ على تخفيفِه مبنياً للفاعلِ. وقتادَةُ بالتشديدِ مبنياً للمفعول. ومنه قولُ امرِىء القيس: 3526 - وهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعِيْدٌ مُخَلَّدٌ ... قليلُ الهُمومِ ما يَبِيْتُ بأَوْجالِ و «لَعَلَّ» هنا على بابِها. وقيل: للتعليل. ويؤيِّده قراءةُ عبدِ الله «كي تَخْلُدون» فقيل: للاستفهام، قال زيد بن علي. وبه قال الكوفيون. وقيل: معناها التشبيهُ أي: كأنكم تَخْلُدُون. ويؤيِّدُه ما في حرفِ أُبَيّ «كأنكم تَخْلُدون» . وقُرِىء «كأنَّكم خالِدُون» . وكم مَنْ نَصَّ عليها أنَّها تكونُ للتشبيهِ. والمصانِعُ: جمعُ مَصْنَعَة، وهي بِرَكُ الماء. وقيل: القصور. وقيل: بُروجُ الحَمام.

130

قوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ} : أي: وإذا أَرَدْتُمْ. وإنما احْتَجْنا إلى تقديرِ الإِرادة لئلا يَتَّحدَ الشرطُ والجزاءُ. و «جَبَّارِين» حالٌ.

132

قوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ} : فيه وجهان، أحدهما: أنَّ الجملةَ الثانيةَ بيانٌ للأولى، وتفسيرٌ لها. والثاني: أَنَّ «بأَنْعامٍ» بدلٌ مِنْ قولِه: {

بِمَا تَعْلَمُونَ} بإعادةِ العاملِ كقولِه {اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} [يس: 20 - 21] قال الشيخ: «والأكثرون لا يَجْعَلُون هذا بدلاً، وإنما يَجْعلونه تكريراً وإما يَجْعلون بدلاً بإعادةِ العاملِ إذا كانَ حرفَ جرّ مِنْ غيرِ إعادةِ متعلِّقِه نحو:» مَرَرْتُ بزيدٍ بأخيكَ «ولا يقولون:» مَرَرْت بزيدٍ، مررتُ بأخيك «على البدل» .

136

قوله: {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين} : معادِلٌ لقولِه: {أَوَعَظْتَ} ، وإنما أتى المعادِلِ كذا، دونَ قولِه: «أم لم تَعِظْ» لتواخي القوافي، وأبدى له الزمخشريُّ معنىً فقال: وبينهما فرقٌ، لأنَّ المعنى: سَواءٌ علينا أَفَعَلْتَ هذا الفعلَ الذي هو الوعظُ أم لم تَكُنْ أصلاً مِنْ أهلِه ومباشرَتِه، فهو أبلغُ في قِلَّةِ اعْتِدادِهم بوَعْظِه. مِنْ قولِك: أَمْ لم تَعِظْ «. وقرأ العامَّةُ» أَوَعَظْتَ «باظهارِ الظاءِ قبل التاءِ، ورُوِيَ عن أبي عمرٍو والكسائيِّ وعاصمٍ، وبها قرأ الأعمشُ وابن محيصن بالإِدْغامِ، وهي ضعيفةٌ؛ لأنَّ الظاءَ أقوى ولا يُدْغَمُ الأقوى في الأضعفِ، على أنَّه قد جاء من هذا في القرآنِ العزيزِ أشياءُ متواترةٌ يجبُ قَبولُها نحو: {زُحْزِحَ عَنِ} [آل عمران: 185] و {لَئِن بَسَطتَ} [المائدة: 28] .

137

قوله: {إِلاَّ خُلُقُ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتحِ الخاءِ وسكونِ اللامِ. والباقون بضمَّتين فقيل: معناهما الاختلاقُ وهو الكَذِبُ. وكذا قرأ ابنُ مسعودٍ. وقيل: ما نحن فيه من البِنْية حياةٌ وموتٌ هو خُلُقُ الأوَّلينَ وعادَتُهُم. وروى الأصمعيُّ عن نافعٍ، وبها قرأ أبو قلابة، بضمِّ الخاءِ وسكونِ اللام وهي تخفيفُ المضمومَةِ.

147

قوله: {فِي جَنَّاتٍ} : بدلٌ مِنْ «فيما ههنا» بإعادةِ العاملِ؛ فَصَّل بعدما أَجْمَلَ كما في الآيةِ قبلَها. و «ما» موصولةٌ، وظرفُ المكان صلتُها.

148

قوله: {وَنَخْلٍ} : يجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ ذِكْرِ الخاص بعد العامِّ؛ لأنَّ الجناتِ تشمَل النخلَ، ويجوزَ أَنْ يكونَ تكريراً للشيءِ الواحدِ بلفظٍ آخَرَ، فإنَّهم يُطْلِقُوْن الجنةَ ولا يريدونَ إلاَّ النخلَ. قال زهير: 3527 - كأنَّ عَيْنَيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلةٍ ... من النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقا / وسُحُقاً: جمعُ «سَحُوْق» ولا يُوْصَفُ به إلاَّ النخلُ والطَّلْعُ الكفرى،

وهو عُنقودُ التَّمْرِ قبل خروجهِ من الكُمِّ. قال الزمخشري: «الطَّلْعَةُ: هي التي تَطْلُع من النخلةِ كنَصْلِ السيفِ، في جَوْفه شماريخُ القِنْو. والقِنْو هو اسمٌ للخارج من الجِذْعِ كما هو بعُرْجُوْنِه» . والهَضِيْمُ: اللطيفُ، مِنْ قولهم: «كَشْحٌ هضيمٌ» . وقيل المتراكِبُ.

149

قوله: {وَتَنْحِتُونَ} العامَّةُ على الخطابِ وكسرِ الحاءِ. والحسنُ وعيسى وأبو حيوة بفتحها، وعن الحسن أيضاً «تَنْحاتون» بألفٍ للإِشباعِ، وعنه وعن أبي حيوة «يَنْحِتُون» بالياء مِنْ تحتُ. وقد تَقَدَّم ذلك كلُّه في الأعراف. قوله: {فَارِهِينَ} قرأ الكوفيون وابنُ عامر «فارِهيْنَ» بالألف كما قرؤوا «حاذِرون» بها والباقونَ «فَرِهين» بدون ألف، كما قرؤوا «حَذِرُون» بدونِها. والفَراهَةُ: النشاطُ والقوةُ. وقيل: الحِذْقُ. يقال: دابَّة فارِهٌ، ولا يقال: فارِهَة، وقد فَرُه يَفْرُه فَراهة.

155

قوله: {لَّهَا شِرْبٌ} : صفةٌ ل «ناقَةٌ» . ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه الجارَّ والمجرورَ و «شِرْبٌ» فاعلٌ به لاعتمادِه. وقرأ ابن أبي عبلة «شُرْبٌ» بالضمِّ فيهما. والشِّرْبُ: بالكسرِ النصيبُ كالسِّقْيِ، وبالضمِّ المصدرُ.

168

قوله: {لِعَمَلِكُمْ} : كقولِه: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] وقد تقدَّم. وقيل: «من القالِيْن» صفةٌ لخبرٍ محذوفٍ. وهذا الجارُّ متعلِّقٌ به. أي: إنِّي قالٍ لِعملكم من القالِيْنَ.

173

قوله: {فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} : المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: مَطَرهم. والقالي: المُبْغِضُ. يقال: قَلاه يَقْليه قِلَىً ويَقْلاه، وهي شاذَّة. قال: 3528 - وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أي: أنتَ مُذْنِبٌ ... وتَقْلِينني لكنَّ إياكِ لا أَقْلي وقال آخر: 3529 - واللهِ ما فارَقْتُكم عَنْ قِلَىً لكمْ ... ولكنَّ ما يقضى فسوفَ يكونُ واسمُ المفعولِ منه: مَقْلِيّ. والأصلُ مَقْلُوْي. فأُدْغِمَ ك مَرْمِيّ قال: 3530 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وَلسْتُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قالِ أي: لا يَبْغُضُني غيري ولا أَبْغَضُه. وغَلِط بعضُهم فَجَعَلَ ذلك مِنْ قولهم قلا اللحمَ أي: شواه، فكأنه: قلا كَبِدَه بالبُغْض. ووَجْهُ الغَلَطِ: أنَّ هذا من

ذواتِ الياءِ، وذَلك من ذواتِ الواوِ. ويُقال: قلا اللحمَ يَقْلُوه قَلْواً فهو قالٍ كغازٍ، ومَقْلُوٌّ.

176

قوله: {الأيكة} : قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابن عامر «لَيْكَةَ» بلامٍ واحدةٍ وفتح التاء. جعلوه اسماً غيرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافاً إليه «أصحاب» هنا، وفي ص خاصة. والباقون «الأَيْكَةِ» مُعَرَّفاً بأل موافقةً لِما أُجْمِعَ عليه في الحجر وفي ق. وقد اضْطَرَبَتْ أقوالُ الناسِ في القراءةِ الأُولى. وتجرَّأَ بعضُهم على قارئها، وسأذكر لك من ذلك طرفاً. فَوَجْهُها على ما قال أبو عُبيد: «أَنَّ لَيْكَةَ اسمٌ للقريةِ التي كانوا فيها، والأيْكَةَ اسمٌ للبلدِ كله. قال أبو عبيد:» لا أُحِبُّ مفارقَةَ الخَطِّ في شيءٍ من القرآنِ إلاَّ ما يَخْرُج من كلامِ العربِ، وهذا ليسَ بخارجٍ من كلامِها مع صحةِ المعنى في هذه الحروفِ؛ وذلك أنَّا وَجَدْنا في بعضِ التفسيرِ الفرقَ بين لَيْكة والأَيْكة فقيل: لَيْكة هي اسمُ القرية التي كانوا فيها، والأَيْكَةُ: البلادُ كلُّها فصار الفرقُ بينهما شبيهاً بما بين بَكَّة ومَكَّة، ورَأَيْتُهُنَّ مع هذا في الذي يقال: إنه الإِمامُ مصحفُ عثمانَ مفتَرِقاتٍ، فوجَدْتُ التي في الحجر والتي في ق «الأَيْكَة» ، ووَجَدْتُ التي في الشعراءِ والتي في ص «لَيْكَة» ، ثم اجْتَمَعَتْ عليها مصاحفُ الأمصارِ بعدُ، فلا نَعْلَمُها اختلفَتْ فيها. وقرأ أهلُ المدينةِ على هذا اللفظِ الذي قَصَصْنا يعني بغيرِ ألفٍ ولامٍ ولا إجراءٍ «. انتهى

ما قاله أبو عبيد. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعدما نقَلْتُه عنه:» هذه عبارتُه وليسَتْ سديدةَ؛ فإن اللامَ موجودةٌ في «لَيْكة» وصوابُه بغير ألفٍ وهمزةٍ «. قلت: بل هي سديدةٌ. فإنه يعني بغيرِ ألفٍ ولامِ معرفةٍ لا مُطْلقَ لامٍ في الجملة. وقد تُعُقِّبَ قولُ أبي عبيدٍ، وأنكروا عليه، فقال أبو جعفر:» أَجْمع القرَّاءُ على خفضِ التي في الحجر وق فيجبُ أَنْ يُرَدَّ ما اخْتُلِفَ/ فيه إلى ما اتُّفِقَ عليه إذا كان المعنى واحداً. فأمَّا ما حكاه أبو عبيدٍ مِنْ أَنَّ «ليكَةَ» اسمُ القرية، وأن الأَيْكَةَ اسمُ البلدِ كلِّه فشيْءٌ لا يَثْبُتُ ولا يُعْرَفُ مَنْ قاله، ولو عُرِفَ لكان في نظرٌ؛ لأنَّ أهلَ العلمِ جميعاً من المفسِّرين والعالِمين بكلامِ العرب على خلافِه. ولا نَعْلم خلافاً بين أهلِ اللغة أنَّ الأَيْكَة الشجرُ الملتفُّ. فأمَّا احتجاجُ بعضِ منِ احتجَّ لقراءة مَنْ قَرَأ في هذين الموضعين بالفتح أنَّه في السَّوادِ «لَيْكة» فلا حجَّةَ فيه. والقولُ فيه: أنَّ أصلَه: الأَيْكَة، ثم خُفِّفَتِ الهمزةُ فَأُلْقِيَتْ حركتُها على اللامِ فسَقَطَتْ واستَغْنَيْتَ عن ألفِ الوصلِ؛ لأنَّ اللامَ قد تحرَّكَتْ، فلا يجوزُ على هذا إلاََّ الخفضُ، كما تقول: مررتُ بالأَحْمَرِ على تحقيقِ الهمزةِ، ثم تُخَفِّفُها فتقول: بِلَحْمَرِ فإنْ شِئْتَ كَتَبْتَه في الخَطِّ على ما كتبتَه أولاً، وإن شِئْتَ كَتَبْتَه بالحَذْفِ ولم يَجُزْ إلاَّ الخفضُ، فلذلك لا يجوزُ في «الأَيْكَةِ» إلاَّ الخفضُ. قال سيبويه: «واعلَمْ أنَّ كلَّ ما لم يَنْصَرِفْ إذا دَخَلَتْه الألفُ واللامُ أو أَضَفْتَه انصرَفَ» ، ولا نعلمُ أحداً خالَف سيبويه في هذا «.

وقال المبردُ في كتاب» الخط «» كَتَبُوا في بعضِ المواضعِ «كَذَّبَ أصحابُ لَيْكَة» بغير ألفٍ؛ لأن الألفَ تذهبُ في الوصلِ، ولذلك غَلِطَ القارىءُ بالفتحِ فَتَوَهَّم أنَّ «لَيْكَةَ» اسمُ شيءٍ، وأنَّ اللامَ أصلٌ فَقَرأ: أصحابُ ليكةَ «. وقال الفراء:» نرى والله أعلم أنها كُتِبَتْ في هذين الموضعين بتركِ الهمزِ فسَقَطَتِ الألفُ لتحريكِ اللام «. قال مكي: تَعَقَّب ابنُ قتيبَة على أبي عبيد فاختار» الأَيْكَةِ «بالألفِ والهمزةِ والخفضِ قال:» إنما كُتِبَتْ بغيرِ ألفٍ على تخفيفِ الهمزِ «. قال:» وقد أجمعَ الناسُ على ذلك، يعني في الحجر وق، فوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ ما في الشعراء وص بما أَجْمَعوا عليه، فما أَجْمَعُوا عليه شاهِدٌ لما اخْتَلفوا فيه «. وقال أبو إسحاق:» القراءة بجَرِّ قوله: «ليكةِ» وأنت تريد «الأيكة» أجودُ مِنْ أَنْ تجعلَها «لَيْكَةَ» ، وتفتَحها؛ لأنَّها لا تنصرفُ؛ لأنَّ لَيْكَة لا تُعَرَّفُ، وإنما هي أَيْكة للواحدِ، وأَيْك للجمعِ مثل: أَجَمَة وأَجَم. والأَيْكُ: الشجرُ الملتفُّ فأجودُ القراءةِ فيها الكسرُ، وإسقاطُ الهمزة، لموافقة المصحف ولا أعلمه إلاَّ قد قُرِىء به «. وقال الفارسيُّ:» قولُ مَنْ قال «ليكةَ» ففتحَ التاءَ مُشْكِلٌ، لأنه فَتَحَ معِ لَحاقِ اللامِ الكلمةَ. وهذا في الامتناعِ كقولِ مَنْ قال: «مَرَرْتُ بِلَحْمَرَ» ففتحَ

الأخِرَ مع لَحاقِ لامِ المعرفةِ، وإنما كُتِبَتْ «لَيْكَةَ» على تخفيفِ الهمزِ، والفتحُ لا يَصِحُّ في العربيةِ؛ لأنه فَتْحُ حرفِ الإِعرابِ في موضع الجرِّ مع لامِ المعرفةِ، فهو على قياسِ قَوْلِ مَنْ قال «مررتُ بلَحْمَرَ» . ويَبْعُدُ أَنْ يفتحَ نافعٌ ذلك مع ما قال عنه ورش «. قلت: يعني أنَّ وَرْشاً نَقَلَ عن نافعٍ نَقْلَ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها، حيث وُجِد بشروطٍ مذكورةٍ، ومن جملةِ ذلك: ما في سورةِ الحجر وق مِنْ لفظِ» الأيكة «فقرَأ على قاعدتِه في السورتين بنَقْلِ الحركةِ وطَرْحِ الهمزةِ وخَفْضِ الياءِ، فكذلك ينبغي أَنْ يكونَ الحكمُ في هذين الموضعينِ أيضاً. وقال الزمخشري:» قُرِىءَ «أصحابُ الأَيْكة» بالهمزة وتخفيفها وبالجرِّ على الإِضافةِ، وهو الوجهُ. ومَنْ قَرَأَ بالنصبِ وزعَمَ أنَّ لَيْكَة بوزنِ لَيْلة اسمُ بلد، فَتَوَهُّمٌ قاد إليه خطُّ المصحفِ، وإنما كُتبت على حكمِ لفظِ اللافظ كما يكتب أَصحاب [النحو] ، لأن. . . على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف، وقد كُتِبَتْ في سائرِ القرآنِ على الأصلِ، والقصة واحدةٌ. على أنَّ لَيْكَة اسمٌ لا يُعْرَفُ. ورُوي أنَّ أصحابَ الأَيْكة كانوا أصحابَ شجرٍ مُلْتَفٍّ وكان شجرُهم الدَّوْمَ، يعني أنَّ مادةَ لام ي ك مفقودةٌ في لسانِ العرب كذا قال النُّقَّابُ مِمَّنْ تَتَبَّع ذلك قال: «وهذا كما نَصُّوا على أن الخاء والذال المعجمتين لم يُجامعا الجيمَ في لغةِ العربِ» ولذلك لم يَذْكرها صاحب «

الصحاح» مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ عن أبي عبيد، ولو كانت موجودةً في اللغةِ لذكرها مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ لشدة الاحتياجِ إليها. وقال الزجاج أيضاً: «أهلُ المدينة يفتحون على ما جاء في التفسيرِ: أن اسمَ المدينة التي كان فيها شعيبٌ لَيْكة» قال أبو علي: «لو صَحَّ هذا فلِمَ/ أجمعَ القرَّاءُ على الهمزِ في قوله: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة} [الآية: 78] في الحجر. والأَيْكة التي ذُكِرَتْ ههنا هي الأَيْكَةُ التي ذُكِرَتْ هناك. وقد قال ابن عباس:» الأَيْكَةُ: الغَيْضَةُ «ولم يُفَسِّرْها بالمدينةِ ولا البلدِ» . قلت: وهؤلاء كلُّهم كأنَّهم زعموا أن هؤلاء الأئمةَ الأثباتَ إنما أَخَذوا هذه القراءةَ مِنْ خَط المصاحفِ دونَ أفواهِ الرجالِ، وكيف يُظَّنُّ بمثلِ أَسَنِّ القراءِ وأعلاهُمْ إسناداً، الآخذِ للقرآن عن جملةٍ من جُلَّة الصحابةِ أبي الدرداء وعثمان بن عفان وغيرهما، وبمثل إمامِ مكةَ شَرَّفها الله تعالى وبمثل إمامِ المدينةِ؟ وكيف يُنْكَرُ على أبي عبيدٍ قولُه، أو يُتَّهَمُ في نَقْلِه؟ ومَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ، والتواتُرُ قَطْعِيٌّ فلا يُعارَضُ بالظنِّي. وأمَّا اختلافُ القراءةِ مع اتحادِ القصةِ فلا يَضُرُّ ذلك، عَبَّر عنها تارةً

بالقريةِ خاصةً، وتارةً بالمصرِ الجامعِ للقرى كلِّها، الشاملِ هو لها. وأمَّا تفسيرُ ابنِ عباس فلا ينافي ذلك، لأنَّه عَبَّر عنها كَثُر فيها. ومَنْ رأى ما ذكرْتُه من مناقبِ هؤلاء الأئمةِ في شَرْحِ «حرز الأماني» اطَّرَحَ ما طُعِنَ به عليهم، وعَرَفَ قَدْرهم ومكانتَهم. وقال أبو البقاء في هذه القراءةِ: «وهذا لا يَسْتقيمُ؛ إذ ليس في الكلامِ» لَيْكة «حتى يُجْعَلَ عَلَماً. فإن ادُّعِي قَلْبُ الهمزة لاماً فهو في غايةِ البُعْدِ» . قلت: 3531 - وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ «أطرقْ كرا إنَّ النِّعامِ بالقرى» «مَنْ أنت وزيداً» .

184

قوله: {الجبلة} العامَّةُ على كسرِ الجيمِ والباءِ وشَدِّ اللامِ. وأبو حُصَيْن والأعمشُ والحسن بضمِّهما وشدِّ اللام. والسُّلمي بفتحِ الجيمِ أو كسرها مع سكون الباء. وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ ومعناه:

الخَلْقُ المتَّحِدُ الغليظُ مأخوذٌ من الجَبَل. قال الشاعر: 3532 - والمَوْتُ أعظمُ حادِثٍ ... فيما يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ وقال المهدَوِيُّ: «الجِبْلُ والجَبْلُ والجُبْلُ لغاتٌ، وهو الجمعُ الكثيرُ العددِ من الناس. وقيل: الجِبِلَّةُ مِنْ قولِهم: جُبِل على كذا أي: خُلِق وطُبِع عليه. وسيأتي في يس إنْ شاء الله تعالى تمامُ الكلامِ على ذلك عند قولهِ: {جِبِلاًّ كَثِيراً} [يس: 62] واختلافُ القراء فيه.

186

قوله: {وَمَآ أَنتَ} : جاء في قصةِ هود «ما أنت» بغير واو وهنا «وما أنت» بالواو، فقال الزمخشري: «إذا دَخَلَتْ الواوُ فقد قُصِدَ مَعْنيان كلاهما مخالِفٌ للرسالةِ عندهم: التسخيرُ والبَشَريَّةُ، وأنَّ الرسولَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ مُسَخَّراً ولا بَشَراً. وإذا تُرِكَتِ الواوُ فلم يُقْصَدْ إلاَّ معنىً واحدٌ وهو كونُه مُسَخَّرا، ثم قَرَّر بكونِه بشراً» . وتقدَّم الخلافُ في «كِسَفاً» واشتقاقُه في الإِسراء.

192

قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ} : الهاءُ تعودُ على القرآنِ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ به. وتنزيل بمعنى مُنَزَّل، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: ذو تنزيل.

193

قوله: {نَزَلَ} : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص «نَزَل» مخففاً. و {الروح الأمين} مرفوعان على إسنادِ الفعلِ للروحِ، والأمينُ نعتُه، والمرادُ به جبريل. وباقي السبعة بالتشديدِ مبنياً للفاعل، وهو اللهُ تعالى. «الروحَ الأمينَ» منصوبان على المفعولِ. و «الروحُ الأمينُ» مرفوعان على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه. و «به» إمَّا متعلِّقٌ ب «نَزَلَ» أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ.

194

قوله: {على قَلْبِكَ لِتَكُونَ} : قال الشيخ: الظاهرُ تعلُّقُ «على قلبِك» و «لتكون» ب «نَزَل» ولم يَذْكُرْ ما يقابلُ هذا الظاهرَ. وأكثرُ ما يُتَخيل أنَّه يجوزُ أن يتعلقا ب «تنزيل» أي: وإنه لتنزيلُ ربِّ العالمين على قلبك لتكون. ولكنْ فيه ضَعْفٌ من حيث الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بجملة «نَزَلَ به الروحُ» . وقد يُجاب عنه بوجهين، أحدُهما: أنَّ هذه الجملةَ اعتراضيةٌ وفيها تأكيدٌ وتسديدٌ، فليسَتْ بأجنبية. والثاني: الاغتفارُ في الظرفِ وعديلِه. وعلى هذا فلا يَبْعُدُ أن يجيءَ في المسألةِ بابُ الإِعمالِ؛ فإنَّ كُلاًّ من/ «تنزيل» و «نَزَل» يطلبُ هذين الجارَّيْن.

195

قوله: {بِلِسَانٍ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب المُنْذِرين أي: ليكونَ من الذين أَنْذَرُوا بهذا اللسانِ العربيِّ وهم: هودٌ وصالحٌ وشعيبٌ وإسماعيلُ ومحمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. ويجوز أن يتعلَّقَ ب «نَزَلَ» أي: نَزَلَ باللسانِ العربيِ لتنذرَ به؛ لأنه لو نَزَلَ بالأعجمي لقالوا: لِمَ نَزَل علينا

ما لا نفهمُه؟ وجَوَّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من «به» بإعادةِ العاملِ قال: «أي: نَزَلَ بلسانٍ عربيّ أي: برسالة أو لغة» .

196

قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ} : أي: وإن القرآنَ. وقيل: وإن محمداً. وفيه التفاتٌ؛ إذ لو جرى على ما تقدَّم لقيل: وإنَّك لفي زُبُر. وقرأ الأعمش «زُبْرِ» بسكون الباء، وهي مخففةٌ من المشهورةِ.

197

قوله: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً} : قرأ ابن عامر «تكن» بالتاء مِنْ فوقُ «آيةٌ» بالرفع. والباقون «يكنْ» بالياء مِنْ تحتُ «آيةً» بالنصب. وابن عباس «تكن» بالتاء مِنْ فوقُ و «آيةً» بالنصبِ. فأمَّا قراءةُ ابن عامرٍ ف «تكون» تُحتمل أَنْ تكونَ تامةً، وأَنْ تكونَ ناقصةً. فإن كانَتْ تامةً جاز أن يكونَ ِ «لهم» متعلقاً بها، و «آيةٌ» فاعلاً بها. و «أَنْ يعلَمَه» : إمَّا بدلٌ مِنْ آية، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: أو لم يَحْدُثْ لهم علامَةُ عِلْمِ علماءِ بني إسرائيل. وإنْ كانَتْ ناقصةً جاز فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ اسمُها مضمراً فيها بمعنى القصةِ، و «آيةٌ أَنْ يَعْلَمَه» جملةٌ قُدِّم فيها الخبرُ واقعةٌ موقعَ خبر «تكن» . الثاني: أن يكونَ اسمُها ضميرَ القصةِ أيضاً، و «لهم» خبرٌ مقدمٌ، و «آيةٌ» مبتدأٌ مؤخر، والجملةُ خبر «تكن» و «أَنْ يعلَمَه» : إمَّا بدلٌ من «آيةٌ» ، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي أَنْ يعلَمه. الثالث: أَنْ يكونَ «لهم» خبرَ «تكنْ» مقدَّماً على اسمها، و «آيةٌ» اسمُها و «أَنْ يعلَمَه» على الوجهين المتقدِّمين:

البدليةِ وخبرِ ابتداءٍ مضمرٍ. الرابع: أَنْ يكونَ «آيةٌ» اسمَها و «أَنْ يعلمَه» خبرُها. وقد اعتُرِضَ هذا: بأنه يَلْزَمُ جَعْلُ الاسمِ نكرةً، والخبرِ معرفةً. وقد نصَّ بعضُهم على أنه ضرورةٌ كقوله: 3533 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا يَكُ مَوْقِفٌ منكِ الوَداعا وقوله: 3534 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءُ وقد اعتُذِر عن ذلك: بأنَّ «آية» قد تخصَّصَتْ بقوله: «لهم» فإنه حالٌ منها، والحال صفة، وبأن تعريفَ الجنسِ ضعيفٌ لعمومه. وهو اعتذارٌ باطلٌ ولا ضرورةَ تَدْعُو إلى هذا التخريجِ، بل التخريجُ ما تقدم. وأمَّا قراءةُ الباقينَ فواضحةٌ جداً ف «آيةً» خبرٌ مقدمٌ، و «أَنْ يَعْلَمه» اسمُها مؤخرٌ، و «لهم» متعلِّقٌ بآية حالاً مِنْ «آية» . وأمَّا قراءةُ ابنِ عباس فكقراءةِ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهم إلاَّ أَنْ قَالوا} [الأنعام: 23] وكقول لبيد: 3535 - فمضَى وقدَّمها وكانت عادَةً ... منه إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها

إمَّا لتأنيثِ الاسمِ لتأنيِث [الخبر] ، وإمَّا لأنه بمعنى المؤنث. ألا ترى أنَّ «أَنْ يعلَمَه» في قوةِ «المعرفةِ» و «إلاَّ أَنْ قالوا» في قوة «مقالتهم» وإقدامها «بإقدامتها» . وقرأ الجحدريُّ: «أَنْ تعلمَه» بالتاء من فوق. شَبَّه البنين بجمع التكسير في تغيُّر واحدِه صورةً، فعامَلَ فعلَه المسندَ إليه معاملةَ فعلِه في لَحاقِ علامةِ التأنيثِ. وهذا كقوله: 3536 - قالَتْ بنو عامرٍ خالُوا بني أَسَدٍ ... يا بؤسَ للجَهْلِ ضَرَّاراً لأَقْوامِ وكتبوا في الرسم الكريم «عُلَمؤا» بواو الميمِ والألف. قيل: هو على لغة مَنْ يُميل الألفَ نحو الواوِ، وهذا كما فُعِلَ في الصلاةِ والزكاةِ.

198

قوله: {الأعجمين} : قال صاحب «التحرير» : «الأعْجَمين جمع أعجمي بالتخفيف. ولولا هذا التقديرُ لم يَجُزْ أَنْ يُجمعَ جَمْعَ سلامةٍ» قلت: وكان سببُ مَنْعِ جمعهِ: أنه من بابِ أَفْعَل فَعْلاء كأَحْمر حَمْراء.

والبصريون لا يُجيزون جَمْعَه جمعَ سلامة إلاَّ ضرورةً كقوله: 3537 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حلائلَ أَسْوَدِيْنَ وأَحْمَرينا فلذلك قَدَّره منسوباً فخففَ الياء. وقد جعله ابنُ عطية جمعَ أَعْجَم فقال: ألأَعْجَمون جمعُ أَعْجَمُ/ وهو الذي لا يُفْصِحُ، وإن كان عربيَّ النسبِ يقال له «أعجمُ» وذلك يقال للحيوانات. ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «جُرْحُ العجماء جُبار» وأسند الطبريُّ عن عبدِ الله بن مطيع: أنه كان واقفاً بعرفةَ وتحته جَمَلٌ فقال: جملي هذا أعجمُ، ولو أنه أُنْزِل عليه ما كانوا يُؤْمِنون. والعَجَمِيُّ: هو الذي نِسْبَتُه في العَجَمِ، وإن كان أفصحَ الناسِ «. وقال الزمخشريُّ:» الأعجمُ: الذي لا يُفْصِحُ، وفي لسانِه عُجْمَةٌ أو استعجامٌ. والأعجميُّ مثلُه، إلاَّ أنَّ فيه زيادةَ النسَبِ توكيداً «قلت: وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا في سورة النحلِ. وقد صَرَّح أبو البقاء بمَنْع أن يكون»

الأعجمين «جمعَ» أَعْجم «وإنما هو جمعُ أعجمي مخففاً مِنْ أعجميّ ك» الأَشْعرون «في الأشعري قال:» الأعجمين [أي] : الأعجميين فحذف ياءَ النسب كما قالوا: الأشعرون أي: الأشعريُّون، وواحدُه أعجمي، ولا يجوز أن يكونَ جمعَ أعجم لأنَّ مؤنثَه عَجْماء. ومثلُ هذا لا يُجْمَعُ جَمْعَ التصحيح «. قلت: وقد تقدَّم ذلك. ففيما قال ابنُ عطية نظرٌ. وأمَّا الزمخشري فليس في كلامِه أنه جمع أَعْجم مخففاً أو غيرَ مخففٍ، وإنْ كان ظاهرُه أنَّه جمع أعجم مِنْ غيرِ تخفيفٍ. ولكن الذي قاله ابن عطية تَبِعَ فيه الفراء فإنه قال:» الأعجمين جمعَ أَعْجم أو أعجمي على حَذْفِ ياءِ النِّسَبِ كما قالوا: الأشعرين وواحدهم أشعري. وأنشد للكميت: 3538 - ولو جَهَّزْتَ قافيةً شَرُوْدا ... لقد دَخَلَتْ بيوتَ الأَشْعَريْنا لكنَّ الفراء لا يَضُرُّه ذلك فإنه من الكوفيين. وقد قَدَّمْتُ عنهم أنهم يُجيزون جمع أَفْعَل فَعْلاء. و [قرأ] الحسن وابن مقسم «الأَعْجميِّين» بياءَي النسب، وهي مؤيدةٌ لتخفيفِه منه في قراءةِ العامَّة.

200

قوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} : أي: مثلَ ذلك، أو الامر كذلك. والضمير في «سَلَكْناه» عائدٌ على القرآن وهو الظاهرُ أي: سلكناه في

قلوبِ المجرمين، كما سَلَكْناه في قلوبِ المؤمنين. ومع ذلك لم ينجَعْ فيهم. وقيل: عائدٌ على التكذيبِ أو الكفر.

201

قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} : في الجملةِ وجهان، أحدُهما: الاستئنافُ على جهةِ البيانِ والإِيضاح لِما قبله. والثاني: أنها حالٌ من الضمير في «سَلَكْناه» أي: سَلَكْناه غيرَ مُؤْمَنٍ به. ويجوز أن يكونَ حالاً من «المجرمين» لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه.

202

قوله: {فَيَأْتِيَهُم} : و «فيقولوا» عطفٌ على «يَرَوْا» . وقرأ العامة بالياءِ مِنْ تحتُ. والحسن وعيسى بالتاء مِنْ فوقُ. أَنَّث ضميرَ العذابِ لأنَّه في معنى العقوبة. وقال الزمخشري: «أنَّثَ على أن الفاعل ضميرُ الساعة» . وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: ما معنى التعقيب في قوله:» فَيَأْتِيَهم «؟ قلت: ليس المعنى التعقيبَ في الوجود، بل المعنى تَرَتُّبُها في الشدَّة. كأنَّه قيل: لا يُؤْمِنُون بالقرآنِ حتى تكونَ رُؤْيَتُهم العذابَ [فما هو] أشدُّ منها. ومثالُ ذلك أن تقول:» إنْ أسَأْتَ مَقَتَك الصالحون فَمَقَتَك اللهُ «، فإنَّك لا تَقْصِدُ [بهذا الترتيب] أنَّ مَقْتَ اللهِ بعد مَقْتِ الصالحين، وإنما

قَصْدُك إلى ترتيبِ شدَّةِ الأمرِ على المسيء» . وقرأ الحسن «بَغَتَةً» بفتحِ الغين.

205

قوله: {أَفَرَأَيْتَ} : قد تقدَّمَ تحقيقُه. وقد تنازَعَ «أفرأيت» و «جاءهم» في قوله: «ما كانوا يُمَتَّعون» فإن أَعْمَلْتَ الثاني وهو «جاءهم» رَفَعْتَ به «ما كانوا» فاعلاً به، ومفعولُ «أرأَيْتَ» الأولُ ضميرُه، ولكنه حُذِفَ، والمفعولُ الثاني هو الجملةُ الاستفهاميةُ في قوله: «ما أَغْنَى عنهم» . ولا بُدَّ مِنْ رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين المفعولِ الأولِ المحذوفِ، وهو مقدَّرٌ، تقديره: أفرأيْتَ ما كانوا يُوْعَدُون ما أغنى عنهم تَمَتُّعُهم، حين حَلَّ أي: الموعودُ به. ودَلَّ على ذلك قوةُ الكلامِ. وإنْ أَعْمَلَتْ الأولَ نصبْتَ به «ما كانوا يُوْعَدُون» وأَضْمَرْتَ في «جاءهم» ضميرَه فاعلاً به. والجملةُ الاستفهاميةُ مفعولٌ ثانٍ أيضاً. والعائدُ مقدرٌ على ما تقرَّرَ في الوجهِ قبلَه، والشرطُ معترضٌ، وجوابُه محذوفٌ. وهذا كلُّه مفهومٌ مما تقدَّم في سورةِ الأنعامِ، وإنما ذكرْتُه هنا لأنه تقديرُ عَسِرٌ يحتاج إلى تأمُّلٍ وحسنِ صناعةٍ، وهذا كلُّه إنَّما يتأتى على قولِنا: إنَّ «ما» استفهاميةٌ، ولا يَضُرُّنا تفسيرُهم لها بالنفي، فإن الاستفهامَ قد يَرِدُ بمعنى النفي. وأمَّا إذا جَعَلْتَها نافيةً حرفاً، كما قال أبو البقاء، فلا يتأتى ذلك؛ لأنَّ مفعولَ «أرأيت» الثاني لا يكونُ إلاَّ جملةً استفهاميةً كما تقرَّر غيرَ مرة.

207

قوله: {مَآ أغنى} : يجوز أَنْ تكونَ «ما» استفهاميةً في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدَّماً، و «ما كانوا» هو الفاعلُ، و «ما» مصدريةٌ بمعنى: أيُّ شيءٍ أغنى عنهم كونَهم متمتِّعين. وأَنْ تكونَ نافيةً والمفعولُ محذوفٌ أي: لم يُغْنِ عنهم تمتُّعُهم شيئاً. وقرىء «يُمْتَعُون» بإسكانِ الميم وتخفيف التاءِ، مِنْ أَمْتَع اللهُ زيداً بكذا.

208

قوله: {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} : يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً ل «قريةٍ» ، وأَنْ تكونَ حالاً منها. وسَوَّغَ ذلك سَبْقُ النفيِ. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف عَزَلْتَ الواوَ عن الجملةِ بعدَ» إلاَّ «ولم تُعْزَلْ عنها في قولِه: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] قلت: الأصلُ عَزْلُ الواوِ؛ لأنَّ الجملةَ صفةٌ ل» قريةٍ «. وإذا زِيْدَتْ فلتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ كما قي قوله: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] . قال الشيخ:» ولو قدَّرنا «لها مُنْذِرُون» جملةً لم يَجُزْ أن تجيءَ صفةً بعد «إلاَّ» . ومذهبُ الجمهورِ أنه لا تجيءُ الصفةُ بعد «إلاَّ» معتمدةً على أداةِ الاستثناءِ نحو: ما جاءَني أحدٌ إلاَّ راكبٌ. وإذا سُمِع مثلُ هذا خَرَّجوه على البدلِ، أي: إلاَّ رجلٌ را كبٌ. ويَدُلُّ على صحةِ هذا المذهبِ أنَّ العربَ تقولُ: «ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ قائماً» ولا يُحْفَظُ عنهم «إلاَّ قائمٍ» بالجرِّ. فلو كانت الجملةُ صفةً بعد «إلاَّ لَسُمِعَ الجرُّ في هذا. [وأيضاً فلو كانَتْ الجملةُ صفةً

للنكرة لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفةِ بعد» إلاَّ «يعني نحو:» ما مررتُ بزيدٍ إلاَّ العاقلِ «] . ثم قال:» فإنْ كانَتِ الصفةُ غيرَ معتمدةٍ على الأداةِ جاءَتِ الصفةُ بعد «إلاَّ» نحو: «ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمروٍ» . التقدير: ما جاءني أحدٌ خيرٌ من عمرٍو إلاَّ زيدٌ. وأمَّا كونُ الواوِ تُزاد لتأكيد وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ فغيرُ معهودٍ في عبارةِ النَّحْويين. لو قلتَ: «جاءني رجلٌ وعاقلٌ» أي: «رجلٌ عاقلٌ» لم يَجُزْ. وإنما تدخل الواوُ في الصفاتِ جوازاً إذا عُطِفَ بعضُها على بعضٍ، وتَغَايَرَ مدلُولها نحو: مررت بزيدٍ الشجاعِ والشاعرِ. وأمَّا {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] فتقدَّم الكلامُ عليه «. قلت: أمَّا كونُ الصفةِ لا تقعُ بعد» إلاَّ «معتمدةً، فالزمخشريُّ يختارُ غيرَ هذا، فإنَّها مسألةً خلافيةً. وأمَّا كونُه لم يُقَلْ» إلاَّ قائماً «بالنصبِ دونَ» قائم «بالجرِّ فذلك على أحدِ الجائزين وليس فيه دليلٌ على المَنْعِ مِنْ قَسيمِه. وأمَّا قولُه» فغيرُ معهودٍ من كلامِ النحويين «فمَمنوعٌ. هذا ابنُ جني نَصَّ عليه في بعضِ كتبه. وأمَّا إلزامُه أنها لو كانَتِ الجملةُ صفةً بعد» إلاَّ «للنكرةٍ لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفة بعد» إلاَّ «فغيرُ لازمٍ؛ لأنَّ ذلك مختصٌّ بكونِ الصفةِ جملةً. وإذا كانت جملةً تعذَّر كونُها صفةً للمعرفةِ. وإنما اختصَّ ذلك بكونِ الصفةِ جملةً؛ لأنها لتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ، والتأكيد لائقٌ بالجملةِ. وأمَّا قولُه:» لو قلتَ: جاءني رجلٌ وعاقلٌ لم يَجُزْ «فمُسَلَّمٌ، ولكن إنما امتنع ذلك في جملةً، فإنَّ اللَّبْسَ مُنْتَفٍ. وقد تقدَّم {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ} فَلْيُلْتَفَتْ إليه ثَمَّة.

209

قوله: {ذكرى} : يجوزُ فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها مفعولٌ مِنْ أجله. وإذا كانَتْ مفعولاً مِنْ أجلهِ ففي العاملِ فيه وجهان، أحدهما: «مُنْذِرُوْن» ، على أنَّ المعنى: مُنْذِرون لأجلِ الموعظةِ والتذكرةِ. الثاني: «أَهْلَكْنا» . قال الزمخشري: «والمعنى: وما أهلَكْنا مِنْ أهلِ قريةٍ ظالمين إلاَّ بعدَما ألزَمْناهم الحُجَّةَ بإرسالِ المُنْذَرِين إليهم ليكون [إهلاكُهم] تذكرةً وعبرةَ لغيرِهم فلا يَعْصُوا مثلَ عصيانِهم» ثم قال: «وهذا الوجهُ عليه المُعَوَّل» . قال الشيخ «وهذا لا مُعَوَّلَ عليه؛ فإنَّ مذهبَ الجمهورِ أنَّ ما قبل» إلاَّ «لا يعمل فيما بعدها، إلاَّ أَنْ يكونَ مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعاً له غيرَ معتمدٍ على الأداة نحو:» ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٌ من عمروٍ «، والمفعولُ له ليس واحداً من هذه. ويتخرَّج مذهبُه على مذهبِ الكسائي والأخفشِ، وإن كانا لم يَنُصَّا على المفعولِ له بخصوصيَّته» . قلت: والجواب ما تقدَّم قبلَ ذلك مِنْ أنَّه يختارُ مذهبَ الأخفش. الثاني: من الأوجهِ الأُوَلِ: أنَّها في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي: هذه ذكرى. وتكونُ الجملةُ اعتراضيةً. الثالث: أنها صفةٌ ل مُنْذِرُوْن: إمَّا على المبالغةِ، وإمَّا على الحذفِ أي: مُنْذروْن ذَوو ذكرى، أو على وقوعِ المصدرِ وقوعَ اسمِ الفاعلِ أي: مُنْذِرون مُذكِّرون. وقد تقدَّم تقريرُ ذلك. الرابع: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال أي: مُذَكِّرين، أو ذوي ذكرى، أو جُعِلوا نفسَ الذكرى مبالغةً. الخامس: أنها منصوبةٌ على المصدرِ المؤكِّد.

وفي العاملِ فيها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: لفظُ «مُنْذِرُون» لأنَّه مِنْ معناها فهما ك «قَعَدْتُ جلوساً» . والثاني: أنه محذوفٌ مِنْ لفظِها أي: تَذْكُرون ذِكْرى. وذلك المحذوفُ صفةٌ ل «مُنْذِرون» .

210

قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} : العامَّةُ على الياء/ ورفعِ النونِ، وهو جمعُ تكسيرِ. وقرأ الحسن البصري وابن السَّمَيْفع والأعمش بالواوِ مكانَ الياءِ، والنونُ مفتوحةٌ إجراءً له مُجْرى جمعِ السلامة. وهذه القراءةُ قد رَدَّها جمعٌ كثيرٌ من النحويين. قال الفراء: «غَلِطَ الشيخُ ظنَّ أنها النونُ التي على هِجاءَيْن» . وقال النضر بن شميل: «إنْ جاز أن يُحْتَجَّ بقولِ العَجَّاجِ ورؤبةَ فهلا جازَ أَنْ يُحْتَجَّ بقولِ الحسنِ وصاحبِه يعني محمد بن السميفع، مع أنَّا نعلُم أنَّهما لم يُقْرآ به إلاَّ وقد سَمِعا فيه» . وقال النحاس: «هو غَلَطٌ عند جميعِ النَّحْويين» . وقال المهدويُّ: «هو غيرُ جائزٍ في العربيةِ» . وقال أبو حاتم: «هي غلطٌ منه أو عليه» . وقد أَثْبَتَ هذه القراءةَ جماعةٌ من أهلِ العلمِ، ودفعوا عنها الغَلَطَ، فإنَّ القارىءَ بها من العلمِ بمكانٍ مَكينٍ، وأجابوا عنها بأجوبةٍ صالحةٍ. فقال: النضر بن شميل: «قال يونس بن حبيب: سمعتُ أعرابياً يقول:» دَخلتُ بساتينَ من ورائِها بساتُون «فقلت: ما أشبَه هذا بقراءةِ الحسنِ» وخرَّجها بعضُهم على أنها جمعُ شَيَّاط بالتشديد مِثالَ مبالغةٍ، مثلَ «ضَرَّاب» و «قتَّال» ، على أَنْ يكونَ مشتقاً من شاط يَشِيْط أي: أَحْرَقَ، ثم جُمِع جَمْعَ سلامةٍ مع تخفيفِ الياءِ فوزنُه

فَعالُون مخففاً مِنْ فعَّالين بتشديد العين. ويَدُلُّ على ذلك أنَّهما وغيرَهما قرؤُوا بذلك أعني بتشديدِ الياءِ. وهذا منقولٌ عن مؤرج السدوسي ووجَّهها آخرون: بأنَّ أخِرَه لَمَّا كان يُشْبِهُ آخرَ يَبْرِين وفِلَسْطين أُجْري إعرابُه تارةً على النونِ، وتارةً بالحرفِ كما قالوا: هذه يَبْرِينُ وفِلَسْطينُ ويبرونَ وفلسطونَ. وقد تقدَّم القولُ في ذلك في البقرة. والهاء في «به» تعود على القرآن. وجاءت هذه الجمل الثلاث منفيةً على أحسنِ ترتيبٍ نفى أولاً تنزيلَ الشياطين به؛ لأنَّ النفيَ في الغالبِ يكونُ في الممكنِ، وإنْ كان الإِمكانُ هنا منتفياً. ثم نفى ثانياً انْبِغاءَ ذلك أي: ولو فُرِضَ الإِمكانُ لم يكونوا أهلاً له، ثم نفى ثالثاً الاستطاعةَ والقُدْرَةَ، ثم ذكر علةَ ذلك، وهي انعزالهُم عن السَّماع من الملأِ الأعلى؛ لأنهم يُرْجَمُون بالشُّهُبِ لو تَسَمَّعوا.

213

قوله: {فَتَكُونَ} : منصوبٌ في جوابِ النهي.

216

قوله: {فَإِنْ عَصَوْكَ} : في هذه الواوِ وجهان، أحدُهما: أنَّها ضميرُ الكفارِ أي: فإنْ عَصاك الكفارُ في أَمْرِك لهم بالتوحيدِ. الثاني: أنها ضميرُ المؤمنين أي: فإنْ عَصاك المؤمنون في فروعِ الإِسلام وبعضَ الأحكامِ بعد تصديقِك والإِيمان برسالتِك. وهذا في غاية البعد.

217

قوله: {وَتَوكَّلْ} : قرأ نافعٌ وابنُ عامر بالفاءِ. والباقون بالواوِ. فأمَّا قراءةُ الفاءِ جَعَلَ فيها ما بعد الفاءِ كالجزاءِ لِما قبلها مُتَرَتِّباً عليه، وقراءةُ الواوِ لمجرَّدِ عَطْفِ جملةٍ على أخرى.

218

قوله: {الذي يَرَاكَ} : يجوزُ أنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أو منصوبَه على المدحِ، أو مجرورَهُ على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ.

219

قوله: {وَتَقَلُّبَكَ} : عطفٌ على مفعول «يَراك» أي: ويرى تَقَلُّبَك. وهذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ جناح بن حبيش بالياء مِنْ تحتُ مضمومةً، وكسر اللامِ ورفعِ الباء جَعَلَه فعلاً، ومضارع «قَلَّب» بالتشديد، وعَطَفْه على المضارعِ قبلَه، وهو «يراك» أي: الذي يُقَلِّبُك.

221

قوله: {على مَن تَنَزَّلُ} متعلِّقٌ «ب» تَنَزَّلُ «بعده. وإنما قُدِّمَ لأنَّ له صدَر الكلامِ، وهو مُعَلِّقٌ لِما قبله مِنْ فعلِ التنبئةِ لأنَّها بمعنى الِعلْمِ. ويجوزُ أَنْ تكونَ هنا متعديةً لاثنين فتسدَّ الجملةُ المشتملةُ على الاستفهام مَسَدَّ الثاني؛ لأن الأولَ ضميرُ المخاطبين، وأَنْ تكونَ متعدِّيةً لثلاثة فتسدَّ مَسَدَّ اثنين. وقرأ البزي» على مَنْ تَّنَزَّلُ «بتشديد التاء [مِنْ تنزَّل] في الموضعين، والأصل تَتَنَزَّلُ بتاءَيْن، فأدغم. والإِدغامُ في الثاني سَهْلٌ لتحرُّكِ

ما قبل المُدْغَمِ، وفي الأول صعوبةٌ لسكونِ ما قبلَه، وهو نونُ» مَنْ «وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] .

223

قوله: {يُلْقُونَ} : يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على «الشياطين» ، فيجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ «يُلْقُون» حالاً، وأَنْ تكونَ مستأنفةً. ومعنى إلقائِهم السمعَ: إنصاتُهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُّوا شيئاً، أو يُلْقُوْن الشيءَ المسموعَ إلى الكهنةِ. ويجوزُ أَنْ يعودَ على {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} من حيثُ إنَّه جَمْعٌ في المعنى. فتكونُ الجملة: إمَّا مستأنفةً، وإمَّا صفةً ل «كلِّ أَفَّاكٍ» ومعنى الإِلقاء ما تقدَّم. وقال الشيخ حالَ عَوْدِ الضميرِ على «الشياطين» ، وبعدما ذكر المعنيين المتقدِّمين في إلقاءِ السَّمْعِ قال: «فعلى معنى الإِنْصاتِ يكونُ» يُلْقُون «استئنافَ إخبار، وعلى إلقاءِ المسموع إلى الكَهَنَةِ يُحْتَمَلُ الاستئنافُ، واحْتُمِلَ الحالُ من» الشياطين «أي: تَنَزَّل على كلِّ أَفَّاكٍ أثيمٍ مُلْقِِيْنَ ما سَمِعُوا» . انتهى وفي تخصيصه الاستئنافَ بالمعنى الأولِ، وتجويزِه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ؛ لأنَّ جوازَ الوجهين جارٍ في المعنَيَيْن فيُحتاج في ذلك إلى دليلٍ.

224

قوله: {يَتَّبِعُهُمُ} : قد تقدَّمَ أن نافعاً يقرأ بتخفيف التاء ساكنة وفتح الباء في سورة الأعراف عند قولِه: {لاَ يَتَّبِعُوكم} [الأعراف: 193] والفرقُ بين المخفَّفِ والمثقَّلِ، فَلْيُنْظَرْ ثَمَّة. وسكَّن الحسنُ العينَ، ورُوِيَتْ عن

أبى عمروٍ، وليسَتْ ببعيدةِ عنه ك {يَنْصُرْكم} [آل عمران: 160] وبابِه. وروى هارونُ عن بعضِهم نصبَ العينِ وهي غلط. والقولُ بأنَّ الفتحةَ للإِتباعِ خطأٌ. والعامَّةُ على رَفْعِ «الشعُراءُ» بالابتداءِ. والجملةُ بعدَه الخبرُ. وقرأ عيسى بالنصبِ على الاشتغال.

225

قوله: {يَهِيمُونَ} : يجوزُ أنْ تكون هذه الجملةُ خبرَ «أنَّ» . وهذا هو الظاهرُ؛ لأنَّه مَحَطُّ الفائدةِ. و «في كل وادٍ» متعلقٌ به. ويجوزُ أَنْ يكونَ «في كل وادٍ» هو الخبرَ، و «يهيمون» حالٌ من الضميرِ في الخبر. والعاملُ ما تَعَلَّق به هذا الخبرُ أو نفسُ الجارِّ، كما تقدَّم في نظيرِه غيرَ مرة. ويجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ خبراً بعد خبرٍ عند مَنْ يرى تعدُّدَ الخبرَ مطلقاً وهذا من بابِ الاستعارةِ البليغةِ والتمثيلِ الرائعِ، شبَّه جَوَلانَهم في أفانينِ القولِ وطرائقِ المدحِ والذمِّ والتشبيهِ وأنواعِ الشعرِ بِهَيْمِ الهائمِ في كلِّ وادٍ وطريقٍ. والهائِمُ: الذي يَخْبِط في سَيْرِه ولا يَقْصِدُ موضعاً معيَّناً. هام على وجهه: أي ذَهَبَ. والهائِمُ: العاشِقُ من ذلك. والهيمانُ: العَطْشانُ. الهُيام: داءُ يأخذُ الإِبلَ من العطشِ. وجمل أَهْيَمُ، وناقةٌ هَيْماءُ. والجمع فيهما: هِيم. قال تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} [الواقعة: 55] . والهَيام من الرَّمْلِ: اليابسُ كأنهم تَخَيَّلُوا فيه معنى العطشِ.

227

قوله: {أَيَّ مُنقَلَبٍ} : منصوبٌ على المصدرِ. والناصبُ له «يَنْقَلِبُون» وقُدِّمَ لتضمُّنِهِ معنى الاستفهامِ. وهو مُعَلِّق ل «سَيَعْلَمُ» سادَّاً مَسَدَّ مفعولَيْها. وقال أبو البقاء: «أيَّ مُنْقَلبٍ صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أَيْ: يَنْقلبون انقلاباً أيَّ مُنْقَلَبٍ. ولا يعملُ فيه» سَيَعْلم «لأنَّ الاستفهامَ لا يعمل فيه ما قبله» . وهذا الذي قاله مردودٌ: بأنَّ أَيَّاً الواقعةَ صفةً لا تكونُ استفهاميةً وكذلك الاستفهاميةُ لا تكونُ صفةً لشيء، بل هما قِسْمان، كلٌّ منهما قِسْمٌ برأسِه. و «أيّ» تنقسمُ إلى أقسامٍ كثيرةٍ وهي: الشرطيةُ، والاستفهاميةُ، والموصولةُ، والصفةُ والموصوفةُ عند الأخفش خاصة، والمناداةُ نحو: يا أيُّهذا، والمُوْصِلَةُ لنداءِ ما فيه أل نحو: يا أيُّها الرجلُ، عند غير الأخفش. والأخفشُ يجعلُها في النداءِ موصولةً. وقد أَتْقَنْتُ ذلك في «شرح التسهيل» . وقرأ ابن عباس والحسن «أي مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُون» بالفاءِ والتاءِ من فوقُ. من الانفلاتِ، ومعناها واضحٌ. والله أعلم.

النمل

قوله: {وَكِتَابٍ} : العامَّةُ على جَرِّه عطفاً على القرآن، وهل المرادُ نفسُ القرآنِ فيكونَ من عطفِ بعضِ الصفاتِ على بعضٍ، والمدلولُ واحدٌ، أو اللوحُ المحفوظُ أو نفس السورةِ؟ وقيل: القرآنُ والكتابُ عَلَمان للمنزَّلِ على نبيِّنا محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فهما كالعبَّاسِ وعَبَّاس. يعني فتكون أل فيهما لِلَمْحِ الصفةِ. وهذا خطأٌ؛ إذ لو كانا عَلَمَيْن لما وُصِفا بالنكرةِ، وقد وُصِف «قرآن» بها في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الآية: 1] في سورة الحجر. ووُصِفَ بها «كتاب» كما في هذه الآية الكريمةِ. والذي يُقال: إنه نكرةٌ هنا لإِفادةِ التفخيم، كقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] . وقرأ ابن أبي عبلة «كتابٌ مبينٌ» برفعِهما، عطفٌ على «آياتُ» المُخْبِرِ بها عن «تلك» . فإن قيل: كيف صَحَّ أَنْ يُشارَ لاثنين، أحدُهما مؤنثٌ، والآخرُ مذكرٌ باسم إشارةِ المؤنثِ ولو قلتَ: «تلك هندٌ وزيدٌ» لم يَجُزْ؟ فالجواب من ثلاثةِ أوجه: أحدُهما: أنَّ المرادَ بالكتابِ هو الآياتُ؛ لأنَّ الكتابَ عبارةٌ عن

آياتٍ مجموعةٍ فلمَّا كانا شيئاً واحداً/ صَحَّتْ الإِشارةُ إليهما بإشارةِ الواحدِ المؤنثِ. الثاني: أنَّه على حَذْفِ مضافٍ أي: وآياتُ كتابٍ مبين. الثالث: أنه لَمَّا وَليَ المؤنثَ ما يَصِحُّ الإِشارةُ به إليه اكتُفي به وحَسُنَ، ولو أُوْلِيَ المذكرَ لم يَحْسُنْ. ألا تراك تقولُ: «جاءَتْني هندٌ وزيدٌ» ولو حَذَفْتَ «هند» أو أَخَّرْتَها لم يَجُزْ تأنيثُ الفعلِ.

2

قوله: {هُدًى وبشرى} : يجوزُ فيهما أوجهٌ، أحدُها: أنَّ يكونا منصوبَيْنِ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظِهما أي: يَهْدي هُدَىً ويُبَشِّر بُشْرَى. الثاني: أن يكونا في موضعِ الحالِ من «آياتُ» . والعاملُ فيها ما في «تلك» مِنْ معنى الإِشارةِ. الثالث: أَنْ يكونا في موضعِ الحالِ من «القرآن» . وفيه ضعفٌ من حيث كونُه مضافاً إليه. الرابع: أَنْ يكونَ حالاً من «كتاب» في قراءة مَنْ رَفَعه. ويَضْعُفُ في قراءة مَنْ جرَّه لِما تقدَّمَ مِنْ كونِه في حكمِ المضافِ إليه لعَطْفِه عليه. الخامس: أنهما حالان من الضميرِ المستترِ في «مبين» سواءً رَفَعْتَه أم جَرَرْتَه. السادس: أَنْ يكونا بَدَلَيْن مِنْ «آيات» . السابع: أَنْ يكونا خبراً بعد خبر. الثامن: أن يكونا خبرَيْ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي هدىً وبشرى.

3

قوله: {الذين يُقِيمُونَ} : يجوزْ أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتاً للمؤمنين، أو بدلاً، أو بياناً، أو منصوبه على المدحِ أو مرفوعَه على تقديرِ مبتدأ أي: هم الذين. قوله: {وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} «هم» الثاني تكريرٌ للأول على سبيلِ التوكيدِ اللفظيَّ. وفهم الزمخشري منه الحَصْرَ أي: لا يُوقِنُ بالآخرةِ حقَّ الإِيقانِ إلاَّ هؤلاءِ المتصفونَ بهذه الصفاتِ. و «بالآخرةِ» متعلقٌ ب «يُوقنون»

ولا يَضُرُّ الفصلُ بينهما بالتوكيدِ. وهذه الجملةُ يُحتمل أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ داخلةً في حَيِّزِ الموصولِ، وحينئذٍ يكون قد غايَرَ بين الصلتين لمعنىً: وهو أنَّه لَمَّا كان إقامةُ الصلاةِ وإيتاءُ الزكاةِ ممَّا يتكرَّرُ ويتجدَّدُ أتى بالصلتين جملةً فعليةً فقال: «يُقيمون» و «يُؤْتُون» . ولمَّا كان الإِيقانُ بالآخرةِ أمراً ثابتاً مطلوباً دوامُه أتى بالصلةِ جملةً اسميةً مكَّرراً فيها المسندُ إليه مُقَدَّماً فيها المُوْقَنُ به الدالُّ على الاختصاصِ ليدلَّ على الثباتِ والاستقرارِ. وجاء بخبرِ المبتدأ في هذه الجملةِ فعلاً مضارعاً، دلالةً على أنَّ ذلك مُتَجَدِّدٌ كلَّ وقتٍ غيرُ منقطعٍ. ويُحتمل أَنْ تكونَ مستأنفةً غيرَ داخلةٍ في حَيِّز الموصولِ. قال الزمخشري: «ويُحتمل أَنْ تَتِمَّ الصلةُ عنده» أي: عند قولِه: «وهم» . قال «وتكونُ الجملةُ اعتراضيةً» يريد أنَّ الصلةَ تَمَّتْ عند «الزكاةِ» فيجوزُ في ذلك. وإلاَّ فكيف يَصِحُّ إذا أخَذْنا بظاهرِ كلامِه أنَّ الصِّلةَ تَمَّتْ عند قولِه «وهم» ؟ وتسميتُه هذا اعتراضاً يعني من حيث المعنى، وسياقُ الكلام، وإلاَّ فالاعتراضُ في الاصطلاحِ لِما يكون بين متلازِمَيْنِ من مبتدأ وخبرٍ، وشرطٍ وجزاءٍ، وقَسَمٍ وجوابِه، وتابعٍ ومتبوعٍ، وصلةٍ وموصولٍ، وليس هنا شيءٌ من ذلك.

5

قوله: {الأخسرون} في أَفْعَل قولان، أحدهما: وهو الظاهرُ أنَّها على بابِها من التفضيل، وذلك بالنسبةِ إلى الكفَّار من حيث اختلافُ الزمانِ والمكانِ. يعني: أنَّهم أكثرُ خُسْراناً في الآخرةِ منهم في الدنيا، أي: إنَّ خُسْرانَهم في الآخرة أكثرُ من خُسْرانِهم في الدنيا. وقال جماعةٌ منهم الكرماني: «هي هنا للمبالغةِ لا للشِّرْكة؛ لأن المؤمنَ لا خُسْران له في الآخرةِ البتة» . وقد تقدَّم جوابُ ذلك: وهو أنَّ الخسرانَ راجعٌ إلى شيءٍ واحدٍ. باعتبارِ اختلافِ زمانهِ ومكانِه.

وقال ابن عطية: «الأَخْسرون جمع» أَخْسَر «لأنَّ أَفْعَلَ صفةٌ لا يُجْمَعُ، إلاَّ أن يُضافَ فَتَقْوى رتبتُه في الأسماء، وفي هذا نظرٌ» . قال الشيخ: «ولا نظرَ في أنَّه يُجمع جَمْعَ سلامةٍ أو جمعَ تكسيرٍ إذا كان بأل، بل لا يجوزُ فيه إلاَّ ذلك، إذا كان قبله ما يُطابِقُه في الجمعيَّةِ. فتقول:» الزيدون هم الأفضلون والأفاضل «و» الهندات هنَّ الفُضْلَياتُ «، والفُضُلُ. وأمَّا قوله:» لا يُجْمَعُ إلاَّ أَنْ يُضَافَ «فلا يَتَعَيَّنُ إذ ذاك جَمْعُه، بل إذا أُضيف إلى نكرةٍ لا يجوزُ جَمْعُه، وإن أضيف إلى معرفةٍ جاز في الجمعُ والإِفرادُ» .

6

قوله: {لَتُلَقَّى} : «لَقِيَ» مخفَّفاً يتعدى لواحدٍ، وبالتضعيف يتعدى لاثنين فأُقيم أَوَّلُهما هنا مُقامَ الفاعلِ، والثاني «القرآنَ» . وقول من قال: إنَّ أصلَه تَلَقَّنَ بالنون/ تفسيرُ معنىً فلا يَتَعَلَّقُ به مُتَعَلَّقٌ، فإنَّ النونَ أُبْدِلَتْ حرفَ علةٍ.

7

قوله: {إِذْ قَالَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار اذكُرْ أو تَعَلَّمْ مقدَّراً مدلولاً عليه ب عَليم أو ب حَليم. وفيه ضعفٌ لتقيُّدِ الصفةِ بهذا الظرفِ. قوله: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} قرأ الكوفيون بتنوين «شهاب» على أنَّ قَبَساً بدلٌ مِنْ «شهاب» أو صفةً له؛ لأنه بمعنى مَقْبوس كالقَبَضِ والنَّقَضِ. والباقون

بالإِضافةِ على البيانِ؛ لأن الشهابَ يكونُ قَبَساً وغيرَه. والشِّهابُ: الشُّعلةُ. والقَبَس: القطعةُ منها، تكونُ في عُوْدٍ وغيرِ عُوْد. و «أَوْ» على بابِها من التنويع. والطاء في «تَصْطَلُون» بدلٌ مِنْ تاءِ الافتعال لأنه مِنْ صَلِيَ بالنار.

8

قوله: {نُودِيَ} : في القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ موسى، وهو الظاهرُ. وفي «أَنْ» حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها المُفَسِّرَةُ لتقدُّمِ ما هو بمعنى القول. والثاني: أنها الناصبةُ للمضارعِ، ولكنْ وُصِلَتْ هنا بالماضي. وتقدَّم تحقيقُ ذلك، وذلك على إسقاطِ الخافضِ أي: نُوْدي موسى بأَنْ بُورِك. الثالث: أنها المخففةُ، واسمُها ضميرُ الشأنِ، و «بُوْرِك» خبرُها، ولم يَحْتَجْ هنا إلى فاصلٍ؛ لأنه دعاءٌ، وقد تقدَّم نحوُه في النور في قوله: {أَنْ غَضِب} [النور: 9] في قراءته فعلاً ماضياً. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: هل يجوزُ أن تكونَ المخففةَ من الثقيلةِ، والتقدير: بأنَّه بُورك. والضميرُ ضميرُ الشأنِ والقصةِ؟ قلت: لا لأنه لا بُدَّ مِنْ» قد «. فإنْ قلتَ: فعلى إضمارِها؟ قلت: لا يَصِحُّ لأنها علامةٌ ولا تُحْذَفُ» . انتهى. فمنع أَنْ تكونَ مخففةً لِما ذًُكِر، وهذا بناءً منه على أَنَّ «بُوْرِكَ» خبرٌ لا دعاءٌ. أمَّا إذا قُلْنا: إنه دعاءٌ كما تقدَّم في النورِ فلا حاجةَ إلى الفاصلِ كما تقدَّم. وقد تقدَّم فيه استشكالٌ: وهو أنَّ الطلبَ لا يَقَعُ خبراً في هذا البابِ فكيف وَقَعَ هذا خبراً ل «أَنْ» المخففةِ وهو دُعاءٌ؟

الثاني: من الأوجهِ الأُوَلِ: أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ نفسُ «أَنْ بُوْرِكَ» على حَذْفِ حرفِ الجرِّ أي: بأَنْ بُوْرِكَ. و «أَنْ» حينئذٍ: إمَّا ناصبةٌ في الأصلِ، وإمَّا مخففةٌ. الثالث: أنه ضميرُ المصدرِ المفهومِ من الفعلِ أي: نُودي النداءُ، ثم فُسِّر بما بعدَه. ومثلُه {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] . قوله: {مَن فِي النار} «مَنْ» قائمٌ مقامَ الفاعلِ ل «بُوْرك» . وبارَكَ يتعدى بنفسِه، ولذلك بُني للمفعولِ. يقال: بارَكَكَ اللهُ، وبارَكَ عليكَ، وبارَكَ فيك، وبارك لكَ، وقال الشاعر: 3539 - فَبُوْرِكْتَ مَوْلُوداً وبُوْرِكْتَ ناشِئاً ... وبُوْرِكْتَ عند الشِّيْب إذ أَنْتَ أَشْيَبُ وقال عبدُ الله بن الزبير: 3540 - فبُوْرِكَ في بَنِيْكَ وفي بَنيهمْ ... إذا ذُكِروا ونحن لك الفِداءُ وقال آخر: 3541 - بُوْرِك الميِّتُ الغرِيبُ كما بُوْ ... رِكَ نَضْحُ الرُّمانِّ والزيتونِ والمرادُ ب «مَنْ» : إمَّا الباري تعالى، وهو على حَذْفٍ مضافٍ أي: مَنْ

قُدْرَتُه وسُلْطانه في النار. وقيل: المرادُ به موسى والملائكةُ، وكذلك بمَنْ حولَها. وقيل: المرادُ ب «مَنْ» غيرُ العقلاءِ وهو النورُ والأمكنةُ التي حولَها. قوله: {وَسُبْحَانَ الله} فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه من تتمَّةِ النداءِ أي: نُوْدِي بالبركةِ وتَنْزِيْهِ ربِّ العزَّةِ. أي: نُودي بمجموعِ الأمرَيْنِ. الثاني: أنه من كلامِ اللهِ تعالى مخاطِباً لنبيِّنا محمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ، وهو على هذا اعتراضُ بين أثناءِ القصةِ. الثالث: أنَّ معناه: وبُوْرِك مَنْ سَبَّح اللهَ. يعني أنه حَذَفَ «مَنْ» وصلَتها وأبقى معمولَ الصلةِ إذ التقدير: بُوْرِكَ مَنْ في النار ومَنْ حَوْلَها، ومَنْ قال: سبحان الله و «سُبْحانَ» في الحقيقةِ ليس معمولاً ل «قال» بل لفعلٍ مِنْ لفظِه، وذلك الفعلُ هو المنصوبُ بالقول.

9

قوله: {إِنَّهُ أَنَا الله} : في اسمِ «إنَّ» وجهان، أظهرهما: أنه ضميرُ الشأن. و {أَنَا الله} مبتدأ وخبرُه، و {العزيز الحكيم} صفتان لله. والثاني: أنه ضميرٌ راجعٌ إلى ما دلَّ عليه ما قبله، يعني: أنَّ مُكَلِّمَكَ أنا، و «الله» بيانٌ ل «أنا» . واللهُ العزيزُ الحكيمُ صفتان للبيانِ. قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وإذا حُذِفَ الفاعلُ وبُنِيَ الفعلُ للمفعولِ فلا يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على ذلك/ المحذوفِ، إذ قد غُيِّرَ الفعلُ عن بنائِه له. وعُزِمَ على أَنْ لا يكونَ مُحَدَّثاً عنه، فَعَوْدُ الضميرِ إليه مِمَّا يُنافي ذلك؛ إذ يصيرُ مُعْتَنَىً به» . قلت: وفيه نظرٌ؛ لأنَّه قد يُلْتَفَتُ إليه. وقد تقدَّم ذلك في قوله في البقرة {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} [الآية: 178] ثم قال: «وأداءٌ إليه» قيل: أي: الذي عفا، وهو وليُّ الدمِ،

على ما تقدَّم تحريره. ولَئِنْ سُلِّم ذلك فالزمخشريُّ لم يَقُلْ: إنه عائدٌ على ذلك الفاعلِ، إنما قال: راجعٌ إلى ما دَلَّ عليهِ ما قبلَه، يعني مِن السِّياقِ. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ» رَبّ «أي: إنَّ الرَّبَّ أنا الله، فيكون» أنا «فَصْلاً، أو توكيداً، أو خبراً إنَّ، واللهُ بدلٌ منه» .

10

قوله: {وَأَلْقِ} : عطفٌ على ما قبلَه من الجملةِ الاسميةِ الخبريةِ. وقد تقدَّم أنَّ سيبويهِ لا يَشْترط تناسُبَ الجملِ، وأنه يُجيز «جاء زيدٌ ومَنْ أبوك» وتقدَّمت أدلَّتُه في أول البقرة. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ علامَ عَطَفَ قولَه: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} ؟ قلت: على قولِه» بُوْرِكَ «لأنَّ المعنى: نُوْدِيَ أَنْ بُوْرِكَ. وقيل له: أَلْقِ عَصاك. والدليلُ على ذلك قولُه:» وأَنْ أَلْقِ عَصاك «بعد قولِه» يا موسى إنَّه أنا اللهُ «على تكريرِ حرفِ التفسيرِ كما تقول:» كتْبْتُ إليه أَنْ حُجَّ واعْتَمِرْ «وإنْ شِئْتَ: أَنْ حُجَّ وأَنِ اعْتَمِرْ» . قال: الشيخ: «وقولُه:» إنه معطوفٌ على «بُوْرِكَ» منافٍ لتقديرِه «وقيل له:» أَلْقِ عصاك «لأَنَّ هذه جملةٌ معطوفةٌ على» بُوْرِكَ «وليس جُزْؤها الذي هو معمول» وقيل «معطوفاً على» بُوْرِكَ «، وإنما احتاج إلى تقديرِ» وقيل له: أَلْقِ «لتكونَ جملةً خبريةً مناسِبَةً للجملةِ الخبريةِ التي التي عُطِفَتْ عليها. كأنه يرى في العطفِ تناسُبَ الجملِ المتعاطفةِ. والصحيحُ أنَّه لا يُشْتَرَطُ ذلك» ثم ذكرَ مذهبَ سيبويه.

قوله: {تَهْتَزُّ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ هاء «تَراها» لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ. قوله: {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثانيةً، وأَنْ تكونَ حالاً من ضمير «تَهْتَزُّ» فتكونَ حالاً متداخلةً. وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد «جَأَنٌّ» بهمزةٍ مكانَ الألفِ، وتقدَّم تقريرُ هذا في آخرِ الفاتحةِ عند {وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] . قوله: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} يجوز أن يكونَ عطفاً على «ولى» ، وأَنْ يكونَ حالاً أخرى. والمعنى: لم يَرْجِعْ على عَقِبِه. كقوله: 3542 - فما عَقَّبوا إذ قيلَ: هل مَنْ مُعَقِّبٍ ... ولا نَزَلُوا يومَ الكَريهةِ مَنْزِلا

11

قوله: {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ المرسلين مَعْصُومون من المعاصي. وهذا هو الظاهرُ الصحيحُ. والثاني: أنه متصلٌ. وِلأهلِ التفسيرِ فيه عباراتٌ ليس هذا موضعَها. وعن الفراء: أنَّه متصلٌ. لكن من جملةٍ محذوفةٍ، تقديرُه: وإنما يَخاف غيرُهم إلاَّ مَنْ ظَلَمَ. وردَّه النحاس: بأنه لو جاز هذا لجازَ «لا أضرب القوم إلاَّ زيداً» أي: وإنما أَضْرِبُ غيرَهم إلاَّ زيداً، وهذا ضدُّ البيانِ والمجيءُ بما لا يُعْرَفُ معناه. وقَدَّره الزمخشري ب «لكن» . وهي علامةٌ على أنه منقطعٌ، وذكر كلاماً

طويلاً. فعلى الانقطاعِ يكونُ منصوباً فقط على لغةِ الحجاز. وعلى لغةِ تميمٍ يجوزُ فيه النَصبُ والرفعُ على البدلِ من الفاعلِ قبلَه. وأمَّا على الاتصالِ فيجوزُ فيه الوجهان على اللغتين، ويكون الاختيارُ البدلَ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ. وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم «ألا» بفتح الهمزة وتخفيفِ اللامِ جعلاها حرفَ تنبيهٍ. و «مَنْ» شرطيةٌ، وجوابُها {فَإِنِّي غَفُورٌ} . والعامَّةٌ على تنوينِ «حُسْناً» . ومحمد بن عيسى الأصبهاني غيرَ منوَّن، جعله فُعْلى مصدراً كرُجْعَى فمنعَها الصرفَ لألفِ التأنيثِ. وابنُ مقسم بضم الحاء والسين منوناً. ومجاهد وأبو حيوة ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ بفَتْحِهما. وقد تقدَّم تحقيقُ القراءتين في البقرة.

12

قوله: {تَخْرُجْ} : الظاهرُ أنه جوابٌ لقولِه «أَدْخِلْ» أي: إنْ أَدْخَلْتَها تَخْرُجْ على هذه الصفةِ، وقيل: في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه: وأَدْخِلْ يدَك تَدْخُلْ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ. فَحَذَفَ من الثاني ما أَثْبَتَه في الأولِ، ومن الأولِ ما أَثْبته في الثاني. وهذا تقديرُ ما لا حاجةَ إليه. قوله: {بَيْضَآءَ} حالٌ مِنْ فاعلِ «تَخْرُجْ» . و {مِنْ غَيْرِ سواء} يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً أخرى، أو مِن الضميرِ في «بَيْضاء» أو صفةً ل «بَيْضاءَ» . قوله: {فِي تِسْعِ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنهُ حالٌ ثالثة. قال أبو البقاء.

يعني: مِنْ فاعل يَخْرُجْ «/ أي: آيةً في تسعِ آياتٍ. كذا قدَّره، والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي: اذهَبْ في تسعِ. وقد تَقَدَّم اختيارُ الزمخشري لذلك في أولِ هذه الموضوعِ عند ذِكْر البَسْملةِ، ونَظَّره بقولِ الآخرِ: 3543 - وقُلْتُ إلى الطَعامِ فقالَ منهم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقولهم:» بالرَّفاهِ والبنين «، وجَعَلَ هذا التقديرَ أعربَ وأحسنَ. الثالث: أَنْ يتعلَّقَ بقولِه:» وأَلْقِ عَصاكَ وأَدْخِلْ «. قال الزمخشري:» ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى: وأَلْقِ عَصاكَ وأَدْخِلْ يَدك في تسع آياتٍ أي: في جملةِ تسعِ آياتٍ. ولقائلٍ أَنْ يقولَ: كانَتِ الآياتُ إحدى عشرةَ منها اثنتان: اليدُ والعَصا. والتِّسْعُ: الفَلْقُ والطُّوفانُ والجَرادُ والقُمَّلُ والضفادِعُ والدَّمُ والطَّمْسَةُ والجَدْبُ في بَواديهم، والنُّقْصانُ في مزارِعهم «انتهى. وعلى هذا تكونُ» في «بمعنى» مع «لأنَّ اليدَ والعَصا حينئذٍ خارِجتان مِن التِّسْع، وكذا فعلَ ابنُ عطية، أعني أنه جَعَلَ» في تِسْع «متصلاً ب» أَلْقِ «و» أَدْخِلْ «إلاَّ أنَّه جَعَلَ اليدَ والعَصا مِنْ جملةِ التسعِ. وقال:» تقديرُه نُمَهِّد لكَ ذلك، ونُيَسِّر في [جملةِ] تسعِ «. وجَعَلَ الزجاجُ أنَّ» في «بمعنى» مِنْ «قال: كما تقول: خُذْ لي من الإِبلِ عشراً فيها فَحْلان أي: منها فَحْلان» .

قولُه: {إلى فِرْعَوْنَ} هذا متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به «في تسعِ» ، إذا لم تَجْعَلْه حالاً، فإنْ جَعَلْناه حالاً عَلَّقْناه بمحذوفٍ، فقدَّره أبو البقاء «مُرْسَلاً إلى فرعون» . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه كونٌ مقيدٌ وسبَقَه إلى هذا التقديرِ الزجاجُ، وكأنهما أرادا تفسيرَ المعنى دونَ الإِعرابِ. وجَوَّزَ أبو البقاء أيضاً أن تكونَ صفةً لآيات، وقدَّره: «واصلةً إلى فرعونَ» . وفيه ما تقدَّم.

13

قوله: {مُبْصِرَةً} : حالٌ، ونَسَبَ الإبصارَ إليها مجازاً؛ لأنَّ بها تُبْصِرُ، وقيل: بل هي مِنْ أَبْصَرَ المنقولةِ بالهمزةِ مِنْ بَصِرَ أي: إنها تُبْصِرُ غيرَها لِما فيها من الظهور. ولكنه مجازٌ آخرُ غيرُ الأولِ، وقيل: هو بمعنى مفعول نحو: ماءٌ دافِقٌ أي: مَدْفُوق. وقرأ علي بن الحسين وقتادة بفتح الميم والصادِ أي: على وزنِ «أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ» ذاتُ سِباع، ونصبُها على الحالِ أيضاً، وجَعَلها أبو البقاء في هذه القراءةِ [مفعولاً مِنْ أجله. وقد تَقَدَّم ذلك] .

14

قوله: {واستيقنتهآ} : يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ معطوفةً على الجملةِ قبلَها. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «جَحَدُوا» وهو أبلغُ في الذَّمِّ. واسْتَفْعل هنا بمعنى تَفَعَّل نحو: اسْتَعظم واسْتَكْبر، بمعنى: تَعَظَّم وتَكَبَّر.

قوله: {ظُلْماً وَعُلُوّاً} يجوزُ أَنْ يكونا في موضعِ الحالِ أي: ظالِمين عالِين، وأَنْ يكونا مفعولاً مِنْ أجلِهما أي: الحامِلُ على ذلك الظُّلْمُ والعُلُوُّ. وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة «وعِليَّاً» بكسر العينِ واللامِ، وقَلْبِ الواوِ ياءً. وقد تقدَّم تحقيقُه في «عِتيَّا» في مريم. ورُوي عن الأعمش وابن وثاب ضمُّ العين كما في «عِتيّا» . وقرىء و «غُلُوَّاً» بالغينِ مُعَجَمَةً، وهو قريبٌ من هذا المعنى. قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} «كيف» خبرٌ مقدمٌ «وعاقبةُ» اسمُها، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ؛ لأنها مُعَلِّقةٌ ل «انْظُرْ» بمعنى تَفَكَّرْ.

15

قوله: {وَقَالاَ} : قال الزمخشري: فإن قلتَ: أليسَ هذا موضعَ الفاءِ دونَ الواو كقولك: «أَعْطَيْتُه فَشَكر» و «مَنَعْتُه فَصَبرَ» ؟ قلت: بلى. ولكنَّ عَطْفَه بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاه بعضُ ما أَحْدَثَ فيهما إيتاءُ العِلْمِ وشيءٌ من مَواجبِهِ، فأضمرَ ذلك ثُمَّ عَطَفَ عليه التحميدَ، كأنه قال: «ولقد آتيناهُما عِلْماً فَعَمِلا به، وعَلَّماه وعَرَفاه حَقَّ مَعْرِفَتِه وقالا:» الحمد «انتهى. وإنما نَكَّر» عِلْماً «تَعْظيماً له أي: علماً سَنِيَّاً، أو دلالةً على التبعيضِ لأنه قليلٌ جداً بالنسبةِ إلى عِلْمِه تعالى.

17

قوله: {مِنَ الجن} : وما بعَده بيانٌ لجنودِه، فيتعلَّق بمحذوفٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الجارُّ حالاً، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً.

قوله: {يُوزَعُونَ} أي: يُمْنَعون ويُكَفُّون. والوَزْعُ: الكَفُّ والحَبْسُ، يقال: وَزَعَه يَزَعُهُ فهو وازِعٌ ومَوْزُوْع، وقال عثمان رضي الله عنه: «ما يَزَعُ السلطانُ أكثرُ مِمَّا يَزَغُ القرآنُ» وعنه: / «لا بُدَّ للقاضي مِنْ وَزَغَةٍ» . وقال الشاعر: 3544 - ومَن لم يَزَعْه لُبُّه وحَياؤُه ... فليس له مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْه وازِعُ وقوله: {أوزعني أَنْ أَشكُرَ} بمعنى: أَلْهِمْني، من هذا؛ لأن تحقيقَه: اجعلني أَزَعُ نفسي عن الكفر.

18

قوله: {حتى إِذَآ} : في المُغَيَّا ب «حتى» وجهان، أحدهما: هو يُوْزَعُون؛ لأنَّه مُضَمَّنٌ معنى: فهم يسيرون ممنوعاً بعضُهم مِنْ مفارقةِ بعضٍ حتى إذا. والثاني: أنَّه محذوفٌ أي: فسارُوا حتى. وتقدَّم الكلامُ في «حتى» الداخلةِ على «إذا» هل هي حرفُ ابتداءٍ أو حرفُ جرّ؟ قوله: «وادي» متعلقٌ ب «أَتَوْا» وإنما عُدِّيَ ب «على» لأنَّ الواقعَ كذا؛ لأنَّهم كانوا محمولِيْنَ على الرِّيح فهم مُسْتَعْلُون. وقيل: هو مِنْ قولِهم: أَتَيْتُ عليه، إذا اسْتَقْصَيْتَه إلى آخره والمعنى: أنهم قَطَعوا الواديَ كلَّه وبَلَغُوا آخرَه.

ووقف القُراءُ كلُّهم على «وادِ» دونَ ياءٍ اتِّباعاً للرَّسْمِ، ولأنها محذوفةٌ لفظاً لالتقاءِ الساكنين في الوصلِ، ولأنها قد حُذِفَتْ حيث لم تُحْذَفْ لالتقاءِ الساكنين نحو: {جَابُواْ الصخر بالواد} [الفجر: 9] فَحَذُفها وقفاً وقد عُهِدَ حَذْفُها دونَ التقاء ساكنين أولى. إلاَّ الكسائيَّ فإنه وَقَفَ بالياء قال: «لأنَّ المُوْجِبَ للحذفِ إنما هو التقاءُ ساكنين بالوصلِ، وقد زالَ فعادَتِ اللامُ» ، واعتَذَر عن مخالفةِ الرسمِ بقوةِ الأصلِ. والنَّمْلُ اسمُ جنسٍ معروفٌ، واحده نَمْلة، ويقال: نُمْلَة ونُمْلٌ بضمِّ النونِ وسكونِ الميم، ونُمُلَةٌ ونُمُلٌ بضمهما ونَمُلَة بالفتح والضم، بوزن سَمُرة، ونَمُل بوزن رَجُل. واشتقاقُه من التنمُّلِ لكثرةِ حركتِه. ومنه قيل للواشي: المُنْمِل، يقال: أَنْمَلَ بين القومِ يُنْمِلُ أي: وشى، ونَمَّ لكثرةِ تَرَدُّدِه وحركتِه في ذلك، قال: 3545 - ولَسْتُ بذي نَيْرَبٍ فيهمُ ... ولا مُنْمِشٍ فيهمُ مُنْمِلُ ويقال أيضاً: نَمَل يَنْمُلُ فهو نَمِل ونَمَّال. وتَنَمَّل القوم: تفرَّقوا للجمع تفرُّقَ النملِ. وفي المثل: «أجمعُ مِنْ نملة» . والنَّّمْلَةُ أيضاً: فُرْجَةٌ تخرج في الجَنْب تشبيهاً بها في الهيئة، والنَّمْلَة أيضاً: شَقٌّ في الحافِر، ومنه: فَرَسٌ مَنْمولُ القوائم. والأَنْمُلَة طرفُ الإِصْبَعِ مِنْ ذلك لِدِقَّتِها وسُرْعَةِ حركتِها. والجمعُ: أَنامِل.

قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} هذه النملةُ هنا مؤنثةٌ حقيقيةٌ بدليلِ لَحاقِ علامةِ التأنيثِ فِعْلَها؛ لأنَّ نملةَ يُطْلَقُ على الذَّكَرِ وعلى الأنْثى، فإذا أُريد تمييزُ ذلك قيل: نَمْلَةٌ ذَكَرٌ ونملةٌ أُنْثى نحو: حَمامةٌ ويَمامةٌ. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه. أنه وقف على قتادةَ وهو يقول: سَلُوني. فأمَرَ مَنْ سأله عن نملةِ سليمان: هل كانت ذكراً أو أنثى؟ فلم يُجب. فقيل لأبي حنيفة في ذلك؟ فقال: كانَتْ أنثى. واستدل بلَحاقِ العلامةِ. قال الزمخشري: «وذلك أنَّ النَّمْلَةَ مثلُ الحمامةِ والشاةِ في وقوعِهما على المذكَّرِ والمؤنثِ فيُمَيَّزُ بينهما بعلامةٍ نحو قولهم: حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامَةٌ أُنْثى، وهو وهي» انتهى. إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ هذا فقال: «ولَحاقُ التاءِ في» قالَتْ «لا يَدُلُّ على أنَّ النملةَ مؤنثٌ، بل يَصِحُّ أن يُقال في المذكر:» قالت نملة «؛ لأنَّ» نملة «وإنْ كانَتْ بالتاء هو ممَّا لا يتميَّزُ فيه المذكرُ من المؤمث، وما كان كذلك كالنَّمْلَةِ والقَمْلة مِمَّا بَيْنَه في الجمعِ وبين واحدِه تاءُ التأنيثِ من الحيوان، فإنَّه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ، ولا يَدُلُّ كونُه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ على أنه ذَكَرٌ أو أنثى؛ لأن التاءَ دخلت فيه للفَرْقِ لا للدلالةِ على التأنيثِ الحقيقيِّ، بل دالةٌ على الواحدِ من هذا الجنس» ، قال: «وكان قتادةُ بصيراً بالعربيةِ. وكونُه أُفْحِمَ يَدُلُّ على معرفتهِ باللسانِ؛ إذْ عَلِم أنَّ النملةَ يُخبر عنها إخبارُ المؤنث، وإنْ كانَتْ تنطلقُ على الأنثى والذكرِ إذْ لا يَتَمَيَّزُ فيه أحدُ هذين. ولحاقُ العلامةِ لا يَدُلُّ، فلا يُعْلَمُ التذكيرُ والتأنيثُ إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى «قال:» وأمَّا استنباطُ تأنيثِه من كتابِ اللهِ ب «قالَتْ» ولو كان ذَكَراً لقيل: قال، فكلامُ النحاةِ على خِلافه، وأنَّه لا يُخْبر عنه ألاَّ إخبارُ المؤنثِ سواءً كان ذكراً أم أنثى «، قال:» وأمَّا تشبيهُ الزمخشري/

النملةَ بالحمامةِ والشاةِ ففيهما قَدْرٌ مشتركٌ يتميَّزُ فيهما المذكرُ من المؤنثِ فيمكن أَنْ يقول: حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامةٌ أنثى فتمييزُه بالصفة، وأمَّا تمييزُه ب هو وهي فإنه لا يجوزُ. لا تقول: هو الحمامةُ ولا هو الشاةُ، وأمَّا النملةُ والقملةُ فلا يَتَمَيَّزُ فيه المذكرُ من المؤنثِ فلا يجوز في الإِخبار إلاَّ التأنيثُ، وحكمُه حكمُ المؤنثِ بالتاءِ من الحيوان نحو: المرأة، أو غيرِ العاقل كالدابَّة، إلاَّ إنْ وَقَعَ فَصْلٌ بين الفعلِ وبين ما أُسْنِدَ إليه من ذلك، فيجوزُ أَنْ تَلحق العلامةُ وأن لا تَلْحَقَها على ما تقرَّر في علم العربية «انتهى. أمَّا ما ذكره ففيه نظرٌ: من حيث إنَّ التأنيثَ: أمَّا لفظيٌّ أو معنويٌّ، واللفظيُّ لا يُعتبر في لحاقِ العلامةِ البتة، بدليلِ أنه لا يجوز:» قامَتْ ربعةُ «وأنت تعني رجلاً؛ ولذلك لا يجوز: قامت طلحةُ ولا حمزةُ عَلَمَيْ مذكرٍ، فَتَعَيَّنَ أن يكونَ اللَّحاقُ إنما هو للتأنيثِ المعنويِّ، وإنما تعيَّن لفظُ التأنيثِ والتذكيرِ في بابِ العددِ على معنى خاصٍّ أيضاً: وهو أنَّا ننظر إلى ما عامَلَتِ العربُ ذلك اللفظَ به من تذكيرٍ أو تأنيثٍ، من غيرِ نَظَرٍ إلى مدلولهِ فهناك له هذا الاعتبارُ، وتحقيقُه هنا يُخْرِجُنا عن المقصودِ، وإنما نَبَّهْتُك على القَدْرِ المحتاج إليه. وأمَّا قولُه:» وأمَّا النملةُ والقَمْلةُ فلا يَتَمَيَّزُ «يعني: لا يُتَوَصَّلُ لمعرفةِ الذَّكرِ منهما ولا الأنثى بخلافِ الحمامةِ والشاةِ؛ فإنَّ الاطلاعِ على ذلك ممكنٌ فهو أيضاً ممنوعٌ. قد يمكن الاطلاعُ على ذلك، وإنَّ الاطلاع على ذكوريَّةِ الحمامةِ والشاةِ أسهلُ من الاطلاعِ على ذُكورِيَّةِ النملةِ والقملةِ. ومَنْعُه أيضاً أن يقال: هو الشاةُ، وهو الحمامة، ممنوعٌ.

وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان النَّمُل ونَمُلة بضم الميم وفتح النون بزنةِ رَجُل وسَمُرَة. وسليمان التميمي بضمتين فيهما. وقد تقدَّم أن ذلك لغاتٌ في الواحدِ والجمعِ. قوله: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه نهيٌ. والثاني: أنه جوابٌ للأمرِ، وإذا كان نَهْياً ففيه وجهان، أحدُهما: أنه نهيٌ مستأنِفٌ لا تَعَلُّقَ له بما قبله من حيث الإِعرابُ، وإنما هو نهيٌ للجنودِ في اللفظِ، وفي المعنى للنَّمْلِ أي: لا تكونوا بحيث يَحْطِموْنَكُمْ كقولهِم: «لا أُرَيَنَّك ههنا» . والثاني: أنه بدلٌ من جملةِ الأمرِ قبلَه، وهي ادْخلوا. وقد تَعَرَّضَ الزمخشريُّ لذلك فقال: «فإنْ قلتَ: لا يَحْطِمَنَّكم ما هو؟ قتل: يُحتمل أَنْ يكونَ جواباً للأمرِ، وأَنْ يكونَ نهياً بدلاً من الأمرِ. والذي جَوَّزَ أَنْ يكونَ بدلاً أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، فيَحْطِمَنَّكم، على طريقةِ» لا أُرَيَنَّك ههنا «أرادَتْ: لا يَحْطِمنكم جنودُ سليمان، فجاءت بما هو أبلغُ. ونحوُه» عَجِبْتُ من نفسي ومن إشْفاقِها «. قال الشيخ: أمَّا تخريجُه على أنه جوابٌ للأمرِ فلا يكون ذلك إلاَّ على قراءةِ الأعمشِ فإنه مجزومٌ، مع أنه يُحْتمل أن يكونَ اشتئنافَ

نهي» قلت: يعني أنَّ الأعمشَ قرأ «لا يَحْطِمْكم» بجزم الميمِ، دونَ نونِ توكيدٍ. قال: وأمَّا مع وجودِ نونِ التوكيد فلا يجوزُ ذلك، إلاَّ إنْ كان في شعرٍ، وإذا لم يَجُزْ ذلك في جوابِ الشرطِ إلاَّ في الشعر فأحرى أَنْ لا يجوزَ في جوابِ الأمرِ إلاَّ في الشعرِ. وكونُه جوابُ الأمرِ متنازعٌ فيه على ما قُرِّرَ في علمِ النحوِ. ومثالُ مجِيءِ النونِ في جوابِ الشرطِ قولُ الشاعر: 3546 - نَبَتُّمْ نباتَ الخَيْزُرانةِ في الثَّرَى ... حديثاً متى يأتِك الخيرُ يَنْفَعا وقول الآخر: 3547 - فمهما تَشَأْ منه فَزارةُ تُعطِكُمْ ... ومهما تَشَأْ منه فَزارةُ تَمْنعا قال سيبويه: «وهو قليلٌ في الشعرِ شَبَّهوه بالنهيِ حيث كان مجزوماً غيرَ واجب» قال: «وأما تخريجُه على البدلِ فلا يجوزُ لأنَّ مدلولَ»

لا يَحْطِمَنَّكم «مخالِفٌ لمدلولِ» ادْخُلوا «. وأمَّا قولُه لأنَّه بمعنى: لا تكونوا حيث أنتم فَيَحْطِمَنَّكم فتفسيرُ معنى لا إعراب/ والبدلُ من صفةِ الألفاظِ. نعم لو كان اللفظُ القرآنيُّ: لا تكونوا بحيث لا يَحْطِمَنَّكم لتُخُيِّلَ فيه البدلُ؛ لأنَّ الأمرَ بدخولِ المساكنِ نهيٌ عن كونِهم بظاهرِ الأرضِ. وأمَّا قوله:» إنه أراد لا يحْطِمَنَّكم جنودُ سليمان إلى آخرِه «فسوِّغُ زيادةَ الأسماءِ وهي لا تجوزُ، بل الظاهرُ إسنادُ الحكمِ إلى سليمانَ وإلى جنودِه. وهو على حَذْفِ مضافٍ أي: خيلُ سليمانَ وجنودُه، أو نحو ذلك، مما يَصِحُّ تقديره» . انتهى. أمَّا مَنْعُه كونَه جوابَ الأمرِ مِنْ أجلِ النون فقد سبقه إليه أبو البقاء فقال: «وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ جوابَ الشرطِ لا يؤكَّدُ بالنونِ في الاختيار» . وأمَّا مَنْعُهُ البدلَ بما ذَكَر فلا نُسَلِّم تغايُرَ المدلولِ بالنسبةِ لِما يَؤُول إليه المعنى. وأمَّا قوله: «فيُسَوِّغُ زيادةَ الأسماءِ» لم يُسَوِّغ ذلك، وإنما فَسَّر المعنى. وعلى تقدير ذلك فقد قيل به. وجاء الخطابُ في قولها: «ادْخُلوا» كخطابِ العقلاء لَمَّا عُوْمِلوا معاملتَهم. وقرأ أُبَيٌّ «ادْخُلْنَ» ، «مَساكِنَكُنَّ» ، «لا يَحْطِمَنْكُنَّ» بالنونِ الخفيفةِ جاءَ به على الأصل. وقرأ شهر بن حوشب «مَسْكَنَكُمْ» بالإِفراد. وقرأ حسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضمِّ الياءِ، وفتحِ الحاءِ،

وتشديدِ الطاءِ والنونِ، مضارعَ حَطَّمه بالتشديد. وعن الحسن أيضاً قراءاتان: فتحُ الياءُ وتشديدُ الطاءِ مع سكونِ الحاءِ وكسرِها. والأصل: لا يَحْتَطِمَنَّكم فأَدْغَم. وإسكانُ الحاءِ مُشْكِلٌ تقدَّم نظيرُه في «لا يَهِدِّي» ونحوِه. وقرأ ابن أبي إسحاقَ ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ نونِ التوكيدِ. قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملة حالية. والحَطْمُ: الكَسْر. يقال منه: حَطَمْتُه فحَطِمَ ثم اسْتُعمِل لكلِّ كَسْرٍ مُتَناهٍ. والحُطامُ: ما تكسَّر يُبْساً، وغَلَبَ على الأشياءِ التافهةِ. والحُطَمُ: السائق السريع كأنه يَحْطِمُ الإِبل قال: 3548 - قد لَفَّها الليلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ ... ليس براعي إبِلٍ ولا غَنَمْ ولا بَجَزَّارٍ على ظهرِ وَضَمْ ... والحُطَمَةُ: من دَرَكاتِ النار. ورجلٌ حُطَمة: للأكولِ. تشبيهاً لبطنه بالنارِ كقوله:

3549 - كأنمَّا في جَوْفِه تَنُّوْرُ ...

19

قوله: {ضَاحِكاً} : قيل: هي حالٌ مؤكدةٌ؛ لأنَّها مفهومةٌ مِنْ تَبَسَّمَ. وقيل: بل هي حالٌ مقدرةٌ فإنَّ التبسُّمَ ابتداءُ الضحكِ. وقيل: لَمَّا كان التبسُّمُ قد يكون للغَضَبِ، ومنه: تَبَسَّم تَبَسُّمَ الغَضْبانِ، أتى بضاحكاً مبيِّناً له. قال عنترة: 3550 - لمَّا رآني قد قَصَدْت أُرِيْدُه ... أبدى نواجِذَه لِغَيْرِ تَبَسُّمِ وتَبَسَّمَ تفعَّل، بمعنى بَسَمَ المجرد. قال: 3551 - وتَبْسِمُ عن ألمى كأن مُنَوَّراً ... تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ له نَدِي وقال بعض المُوَلَّدين: 3552 - كأنَّما تَبْسِمُ عن لؤلؤٍ ... مُنَضَّدٍ أو بَرَدٍ أو أَقَاحِ وقرأ ابن السمفيع «ضَحِكاً» مقصوراً. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى تَبَسَّم لأنه بمعناه. والثاني: أنه في موضعِ الحالِ فهو في

المعنى كالذي قبله. الثالث: أنه اسمُ فاعل كفَرِح؛ وذلك لأنَّ فِعْلَه على فَعِل بكسر العين وهو لازم فَهو كفَرحِ وبَطرِ. قوله: {أَنْ أَشْكُرَ} مفعولٌ ثانٍ لأَوْزِعْني لأنَّ معناه أَلْهِمْني. وقيل: معناه اجْعَلني أَزَعُ شكرَ نعمتك أي: أكُفُّه وأمنعُه حتى لا ينفلتَ مني، فلا أزال شاكراً. وتفسير الزَّجاج له ب «امْنَعْني أن أكفَر نعمتَك» من بابِ تفسيرِ المعنى باللازم.

20

قوله: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} : هذا استفهامُ توقيفٍ، ولا حاجةَ إلى ادِّعاء القَلْب، وأنَّ الأصلَ: ما للهدهد لا أراه؟ إذ المعنى قويٌّ دونه. والهُدْهُدُ معروفٌ. وتصغيره على هُدَيْهِد وهو القياس. وزعم بعضُ النحويين أنه تُقْلَبُ ياءُ تصغيره ألفاً، فيقال: هُداهِد. وأنشد: 3553 - كهُداهِدٍ كَسَرَ الرماةُ جناحَه ... يَدْعو بقارعةِ الطريق هَدِيْلا كما قالوا دُوابَّة وشُوابَّة، في: دُوَيْبَّة وشُوَيْبَّة. ورَدَّه بعضُهم: بأن الهُداهِد الحَمامُ، الكثيرُ ترجيعِ الصوتِ. تزعُمُ العربُ أن جارحاً في زمان الطُّوفانِ، اخْتَطَفَ فرخَ حمامةٍ تسمَّى الهديل. قالوا: فكلُّ حمامةٍ تبكي فإنما تبكي على الهديل.

قوله: {أَمْ كَانَ} هذه «أم» المنقطعةُ وقد تقدَّم الكلامُ فيها. وقال ابن عطية: «قوله مالي لا أرى الهدهد» مَقْصَدُ الكلامِ: الهُدْهُدُ غاب، ولكنه أَخَذَ اللازمَ عن مُغَيَّبِه: وهو أَنْ لا يَراه، فاستفهم على جهةِ التوقُّفِ عن اللازمِ، وهذا ضَرْبٌ من الإِيجاز. والاستفهامُ الذي في قوله: «مالي» نابَ منابَ الألفِ التي تحتاجُها «أم» . قال الشيخ: «فظاهرُ كلامِه أنَّ» أم «متصلةٌ، وأن الاستفهامَ الذي في قوله» مالي «ناب منابَ ألفِ الاستفهام. فمعناه: أغاب عني الآن فلم أَرَهُ حال التفقُّد أم كان مِمَّنْ غابَ قبلُ، ولم أَشْعُرْ بغَيْبَتِه؟» . قلت: لا يُظَّنُّ بأبي محمد ذلك، فإنه لا يَجْهَلُ أنَّ شَرْطَ المتصلةِ تَقَدُّمُ همزةِ الاستفهامِ أو التسويةِ لا مطلقُ الاستفهامِ.

21

قوله: {عَذَاباً} : أي: تَعْذِيباً، فهو اسمُ مصدرٍ أو مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد ك {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . وقد كتبوا «أو لأَاذْبَحَنَّه» بزيادةِ ألفٍ بين لامِ ألفٍ والذال. ولا يجوز أن يُقرأ بها. وهذا كما تقدم أنهم كتبوا «ولأَاوْضَعوا خلالَكم» بزيادة ألف بين لام ألف والواو. قوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} قرأ ابنُ كثيرٍ بنون التوكيد المشددة، بعدها نونُ الوقايةِ. وهذا هو الأصلُ واتَّبع مع ذلك رَسْمَ مصحفِه. والباقون بنونٍ مشدَّدَةٍ

فقط. الأظهرُ أنها نونُ التوكيدِ الشديدةِ، تُوُصِّل بكسرِها لياءِ المتكلم. وقيل بل هي نونُ التوكيدِ الخفيفةِ أُدْغِمَتْ في نونِ الوقايةِ. وليس بشيءٍ لمخالَفَةِ الفعلين قبلَه. وعيسى بن عمر بنونٍ مشددةٍ مفتوحة لم يَصِلْها بالياء.

22

قوله: {فَمَكَثَ} : قرأ عاصم بفتحِ الكافِ. والباقون بضمِّها. وهما لغتان. إلاَّ أنَّ الفتحَ أشهرُ، ولذلك جاءت الصفة على «ماكِث» دون مَكِيْث. واعْتُذِر عنه بأنَّ فاعِلاً قد جاء لفَعُل بالضمِّ نحو: حَمُض فهو حامِض، وخَثُرَ فهو خاثِرٌ، وفَرُهَ فهو فارِهٌ. قوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ} يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للمصدرِ أي: مُكْثاً غيرَ بعيدٍ، وللزمان أي: زماناً غيرَ بعيدٍ، وللمكان أي: مكاناً غيرَ بعيدٍ. والظاهرُ أنَّ الضمير في «مكث» للهُدْهُدِ. وقيل: لسليمان عليه السلام.

قوله: {مِن سَبَإٍ} : قرأ البَزِّيُّ وأبو عمروٍ بفتحِ الهمزةِ، جعلاه اسماً للقبيلة، أو البُقْعَةِ، فَمَنَعاه من الصرفِ للعَلَمِيَّةِ والتأنيث. وعليه قولُه: 3554 - مِنْ سَبَأَ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذ ... يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِها العَرِما وقرأ قنبل بسكونِ الهمزةِ، كأنه نوى الوقفَ وأجرى الوَصْلَ مُجْراه. والباقون بالجَرِّ والتنوينِ، جعلوه اسماً للحَيِّ أو المكانِ. وعليه قولُه: 3555 - الوارِدُون وتَيْمٌ في ذُرا سَبَأٍ ... قد عَضَّ أعناقََهم جِلْدُ الجواميسِ وهذا الخلافُ جارٍ بعينِه في سورة سَبَأ. وفي قوله: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} فيه من البديع: «التجانُسُ» وهو تَجْنيسُ التصريفِ. وهو عبارةٌ عن انفرادِ كلِّ كلمةٍ من الكلمتين عن الأخرى بحرفٍ كهذه الآيةِ. ومثلُه: {تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ

الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] وفي الحديث: «الخيلُ مَعْقُوْدٌ بنواصِيها الخيرُ» . وقال آخر: 3556 - للهِ ما صَنَعَتْ بنا ... تلك المَعاجِرُ والمحَاجِرْ وقال الزمخشري: «وقوله: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} مِنْ جنسِ الكلامِ الذي سَمَّاه المُحْدَثون بالبدِيع. وهو من محاسنِ الكلامِ الذي يتعلَّقُ باللفظِ، بشرطِ أَنْ يجيْءَ مطبوعاً، أو يصنَعه عالمٌ بجَوْهَرِ الكلامِ، يَحْفَظُ معه صحةَ المعنى وسَدادَه، ولقد جاء هنا زائداً على الصحةِ فَحَسُنَ وبَدُعَ لفظاً ومعنىً. ألا ترى أنه لو وُضِع مكان» بنَبَأ «» بخبر «لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصَحُّ؛ لِما في النبأ من الزيادة التي يطابِقُها وصفُ الحال» . يريد بالزيادة: أنَّ النبأ أخصُّ من الخبرِ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ فيما له شَأْنٌ من الأخبارِ بخلافِ الخبرِ فإنه يُطْلَقُ على ماله شَأْنٌ، وعلى ما لا شأنَ له، فكلُّ نبأ خبرٌ مِنْ غيرِ عكسٍ. وبعضُهم يُعَبِّرُ عن نحوِ {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} في علم البديع بالتَّرْدِيد. قاله صاحب «التحرير» . وقال

غيرُه: إنَّ الترِديدَ عبارةٌ عن رَدِّ أعجاز البيوت على صدورِها، أو رَدِّ كلمةٍ من النصفِ الأولِ إلى النصف الثاني. فمثالُ الأولِ قولُه: 3557 - سَريعٌ إلى ابنِ العَمِّ يَلْطِمُ وَجْهَه ... وليس إلى داعي الخَنا بسَريعِ ومثالُ الثاني قولُه: 3558 - والليالي إذا نَأَيْتُمْ طِوالٌ ... والليالي إذا دَنَوْتُمْ قِصَارُ وقرأ ابن كثير في روايةٍ «مِنْ سَبَاً» مقصوراً منوَّناً. وعنه أيضاً: «مِنْ سَبْأَ» بسكون الباءِ وفتحِ الهمزةِ، جعله على فَعْل ومَنَعَه من الصرفِ لِما تقدَّم. وعن الأعمش «مِنْ سَبْءِ» بهمزةٍ مكسورةٍ غير منونةٍ. وفيها إشكالٌ؛ إذ لا وجهَ للبناء. والذي يظهر لي أنَّ تنوينَها لا بدَّ أَنْ يُقْلَبَ ميماً وصلاً ضرورةَ ملاقاتِه للباء، فسمعها الراوي، فظنَّ أنه كَسَر مِنْ غيرِ تنوينٍ. ورُوِيَ عن أبي عمروٍ «مِنْ سَبَا» بالألفِ صريحةً كقولِهم: «تَفَرَّقُوا أَيْدِيْ سَبا» . وكذلك قُرِىء «بنَبَا» بألفٍ خالصةٍ، وينبغي أَنْ يكونا لقارِىءٍ واحدٍ. و «سَبَأ» في الأصلِ اسمُ رجلٍ مِنْ قَحْطانَ، واسمه عبد شمس، وسَبَأُ

لقبٌ له. وإنما لُقِّبَ به لأنه أولُ مَنْ سبى، وَوُلِدَ له عشرةُ أولادٍ، تيامَنَ ستةٌ وهم: حِمْيَرُ وكِنْدَةُ والأَزْدُ وأَشْعَرُ وَخَثْعَمُ وبُجَيْلَةُ، وتشاءَمَ أربعةٌ وهم: لَخْمٌ وجُذامُ وعامِلَةُ وغَسَّانُ.

23

قوله: {وَأُوتِيَتْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على «تَمْلِكُهم» . وجاز عَطْفُ الماضي على المضارع؛ لأنَّ المضارعَ بمعناه أي: مَلَكَتْهُمْ. ويجوز أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ «تَمْلِكُهم» ، و «قد» معها مضمرةٌ عند مَنْ يرى ذلك. وقوله: {مِن كُلِّ شَيْءٍ} عامٌّ مخصوصٌ بالعَقْلِ لأنها لم تُؤْتَ ما أُوْتِيَه سُلَيْمانُ. قوله: {وَلَهَا عَرْشٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مستقلةً بنفسِها سِيْقَتْ للإِخبارِ بها، وأَنْ تكونَ معطوفةً على «أُوْتِيَتْ» ، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ مرفوعِ «أُوْتِيَتْ» . والأحسنُ أَنْ تُجْعَلَ الحالُ الجارَّ، و «عَرْشٌ» مرفوعٌ به، وبعضُهم يَقِفُ على «عَرْشٌ» ، ويَقْطَعُه عن نَعْتِه. قال الزمخشري: «ومِنْ نَوْكَى القُصَّاص مَنْ يقفُ على قولِه: {وَلَهَا عَرْشٌ} ثم يَبْتَدِىءُ» عظيمٌ وَجَدْتُها «يريد: أمرٌ عظيمٌ أَنْ وَجَدْتُها، فَرَّ مِنْ استعظامِ الهُدْهُدِ عرشَها فوقع في عظيمةٍ وهي مَسْخُ كتابِ الله» . قلت: النوكى: الحمقى جمعَ أَنْوكِ. وهذا الذي ذكرَه مِنْ أَمْرِ الوقف نقله الدانيُّ عن نافعٍ، وقَرَّره، وأبو بكر بن الأنباري، ورفعه إلى

بعضِ أهل العلمِ، فلا ينبغي أَنْ يُقال: «نوكى القُصَّاص» . وخرَّجه الدانيُّ على أَنْ يكونَ «عظيم» مبتدأ و «وَجَدْتُها» الخبرُ. وهذا خطأٌ كيف يُبْتدأ بنكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ، ويُخْبَرُ عنها بجملةٍ لا رابطَ بينها وبينَه؟ والإِعرابُ ما قاله الزمخشريُّ: مِنْ أنَّ عظيماً صفةٌ لمحذوفٍ خبراً مقدماً [و «وَجَدْتُها» مبتدأٌ مؤخرٌ مُقَدَّراً معه حرفٌ مصدريٌّ أي: أمرٌ عظيمٌ وُجْداني إياها وقومَها غيرَ عابدي اللهِ تعالى.

24

قوله: {وَجَدتُّهَا} : هي التي بمعنى لَقِيْتُ] وأَصَبْتُ/ فتتعدى لواحدٍ، فيكونُ «يَسْجُدون» حالاً مِنْ مفعولِها وما عُطِفَ عليه. قوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} : قرأ الكسائيُّ بتخفيف «ألا» ، والباقون بتشديدها. فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ ف «ألا» فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ، و «يا» بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و «اسْجُدوا» فعلُ أمرٍ. وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ «يا اسْجُدوا» ، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ «يا» وهمزةَ الوصلِ من «اسْجُدوا» خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً، ووَصَلُوا الياءَ بسين «اسْجُدوا» ، فصارَتْ صورتُه «يَسْجُدوا» كما ترى، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً. واختلف النحويون في «يا» هذه: هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ، والمنادى محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه: {ياليتني} [الآية: 73] في سورة النساء. والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ. ألا ترى أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ، فلو ادَّعَيْتَ

حَذْفَ المنادى كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ. ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو «ألا» . وقد اعْتُذِرَ عن ذلك: بأنه جُمِع بينهما تأكيداً. وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله: 3559 - فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فغيرُ العامِلَيْن أولى. وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى، كقوله: 3560 - فلا واللهِ لا يلفى لِما بي ... ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ فهذا أَوْلَى. وقد كَثُرَ مباشرةُ «يا» لفعلِ الأمرِ وقبلَها «ألا» التي للاستفتاح كقوله: 3561 - ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي ... ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي وقوله: 3562 - ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى ... ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْعائِكِ القَطْرُ

وقوله: 3563 - ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ ... وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ وقوله: 364 - ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ ... وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ وقوله: 3565 - ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ ... لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري وقوله: 3566 - ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله: 3567 - فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ ... فقلتُ: سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي وقد جاءَ ذلك، وإنْ لم يكنْ قبلَها «ألا» كقوله: 3568 - يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي ... بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم. وقد سُمع ذلك في النثر، سُمِع بعضُهم يقول: ألا يا ارحموني، ألا يا تَصَدَّقوا علينا. وأمَّا قولُ الأخرِ: 3569 - يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ ... والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء، والمنادى محذوف، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ. واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على «يَهْتَدون» تامٌّ. وله أن يَقِفَ على «ألا يا» معاً ويَبْتَدىءَ «اسْجُدوا» بهمزة مضمومةٍ، وله أَنْ يقفَ على «ألا» وحدَها، وعلى «يا» وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان. وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما، إلاَّ بما يتصلان به،

وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً. فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ، والخطبُ فيها سَهْلٌ. وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ. وفيه أوجهٌ كثيرةٌ، أحدها: أنَّ «ألاَّ» أصلُها: أَنْ لا، ف «أنْ» ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ، و «لا» بعدها حَرفُ نفيٍ. و «أنْ» وما بعدها في موضع مفعولِ «يَهْتَدون» على إسقاطِ الخافضِ، أي: إلى أن/ لا يَسْجُدوا. و «لا» مزيدةٌ كزيادتِها في {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] . الثاني: أنه بدلٌ مِنْ «أعمالَهم» وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه: وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله. الثالث: أنه بدلٌ من «السبيل» على زيادةِ «لا» أيضاً. والتقديرُ: فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالى. الرابع: أنَّ {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} مفعول له. وفي متعلَّقه وجهان، أحدهما: أنه زَيَّن أي: زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا. والثاني: أنَّه متعلِّقٌ ب «صَدَّهم» أي: صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا. وفي «لا» حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه ليسَتْ مزيدةً، بل نافيةٌ على معناها من النفي. والثاني: أنها مزيدةٌ والمعنى: وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم. وعدمُ الزيادةِ أظهرُ. الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وهذا المبتدأُ: إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على «أعمالَهم» التقديرُ: هي أن لا يَسْجدوا، فتكون «لا» على بابِها من النفي، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على «السبيل» . التقديرُ: هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون «لا» مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنى. وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على «يَهْتدون» لأنَّ ما بعدَه: إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ «زَيَّن» و «صَدَّ» ، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ «

أعمالَهم» أو من «السبيل» على ما قُرِّر وحُرِّرَ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه. وقد كُتِبَتْ «ألاَّ» موصولةً غيرَ مفصولةٍ، فلم تُكْتَبْ «أنْ» منفصِلةً مِنْ «لا» فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على «أنْ» وحدَها لاتِّصالِها ب «لا» في الكتابةِ، بل يُوْقَفُ لهم على «ألاَّ» بجملتِها، كذا قال القُراء. والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً ب «لا» غيرُ مانعٍ من ذلك. ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها ب «لا» ، فيكتبونها: أَنْلا، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها، قالوا ذلك تسامحاً. وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً: وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال: «فإنْ قلتَ: أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعاً أو في واحدةٍ فيهما؟ قلت: هي واجبةٌ فيهما، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ، والأخرى ذَمٌّ للتارك» . فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه.

قلت: وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ، وظاهرُه الوجوبُ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه، على أنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر: وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه. فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال: يَقْتضي الوجوبَ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد وهو الظاهرُ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يخفى. وقرأ الأعمشُ «هَلاَّ» ، و «هَلا» بقلب الهمزة هاءً مع تشديدِ «لا» وتخفيفها وكذا هي في مصحفِ عبد الله. وقرأ عبدُ الله «تَسْجُدون» بتاء الخطابِ ونونِ الرفع. وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ. فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ أو التخفيفِ للتحضيضِ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضاً نحو: «ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث» وفي حرف عبدِ الله أيضاً: «ألا هَلْ تَسْجدُون» بالخطاب. قوله: {الذي يُخْرِجُ الخبء} يجوز أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتاً له أو بدلاً منه أو بياناً، أو منصوبَه/ على المدحِ، ومرفوعَه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ. والخَبْءُ مصدرُ خَبَأْتُ الشَيءَ أخبَؤُه خَبْئاً أي: سَتَرْتُهُ، ثم أُطْلِقَ على الشيءِ المَخْبوء. ونحُوه: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] . وفي التفسير: الخَبْءُ في السماواتِ: المطرُ، وفي الأرض: النباتُ. والخابِيَةُ مِنْ هذا، إلاَّ أنهم التزموا فيها تَرْكَ الهمزةِ كالبَرِيَّة والذُّرِّيَّة عند بعضِهم. وقرأ أُبَيٌّ وعيسى «الخَبَ» بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الباءِ، وحَذْفِ الهمزة، فيصيرُ نحوَ: رأيتُ الأَبَ. وقرأ عبد الله وعكرمةُ ومالك بن دينار «الخبا» بألفٍ صريحة. ووجْهُها: أنه أبدلَ الهمزةَ ألفاً

فلزِمَ تحريكُ الباءِ، وذلك على لغةِ مَنْ يَقِفُ من العرب بإبدال الهمزةِ حرفاً يجانِسُ حركتَها فيقول: هذا الخَبُوْ، ورأيتُ الخَبا ومررت بالخَبِي، ثم أُجْرِي الوصلُ مجرى الوقفِ. وعندي أنه لَمَّا نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها لم يَحْذِفْها، بل تركها فسكنَتْ بعد فتحةٍ فدُيِّرَتْ بحركةِ ما قبلها، وهي لغةٌ ثابتةٌ يقولون: المَراة والكَماة بألفٍ مكانَ الهمزةِ بهذه الطريقةِ. وقد طَعن أبو حاتم على هذه القراءةِ وقال: «لا يجوزُ في العربيةِ؛ لأنه إنْ حَذَفَ الهمزة ألقى حركتَها على الباء، فقال: الخَبَ، وإن حَوَّلها قال: الخَبْيَ بسكونِ الباءِ وياءٍ بعدَها» قال المبرد: «كان أبو حاتم دونَ أصحابِه في النحوِ، لم يَلْحَقْ بهم، إلاَّ أنه إذا خَرَجَ مِنْ بلدِهم لم يَلْقَ أَعْلَمَ منه» . قوله: {فِي السماوات} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «الخَبْءَ» أي: المخبوءَ في السماواتِ. والثاني: أنه متعلقٌ ب «يُخْرِجُ» على أنَّ معنى «في» معنى «مِنْ» أي: يُخْرِجُه من السماواتِ. وهو قول الفراء. قوله: {مَا تُخْفُونَ} قرأ الكسائيُّ وحفص بالتاء مِنْ فوقُ فيهما، والباقون بالياءِ مِنْ تحتُ. فالخطابُ ظاهرٌ على قراءةِ الكسائي؛ لأنَّ قبلَه أمْرَهم بالسجودِ وخطابَهم به. والغَيْبَةُ على قراءةِ الباقينِ غيرَ حفصٍ ظاهرةٌ أيضاً؛ لتقدُّمِ الضمائرِ الغائبةِ في قوله: «لهم» و «أعمالهم» و «صَدَّهم» و «فهمْ» . وأمَّا قراءةُ حفصٍ فتأويلُها أنه خَرَجَ إلى خطابِ الحاضرين بعد أَنْ

أتمَّ قضيةَ أهلِ سَبَأ. ويجوز أَنْ يكونَ التفاتاً على أنه نزَّل الغائبَ منزلةَ الحاضرِ فخاطبه مُلْتَفِتاً إليه. وقال ابن عطية: «القراءةُ بياءِ الغَيْبة تعطي أن الآيةَ من كلامَ الهُدْهد، وبتاءِ الخطابِ تعطي أنها من خطابِ الله لأمةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم» . وقد تقدَّم أنَّ الظاهر أنه من كلامِ الهدهد مطلقاً. وكذلك الخلافُ في قولِه {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} هل هو من كلامِ الهدهدِ استدراكاً منه، لَمَّا وَصَفَ عَرْشَ بلقيسَ العظيمَ، أو من كلامِ اللهِ تعالى رَدَّا عليه في وَصْفِه عَرْشَها بالعظيم؟ .

26

والعامَّةُ على جرِّ «العظيم» تابعاً للجلالة. وابن محيصن بالرفعِ. وهو يحتمل وجهين. أن يكونَ نعتاً للربِّ، وأَنْ يكونَ مقطوعاً عن تبعيَّةِ العرش إلى الرفعِ بإضمارِ مبتدأ.

27

قوله: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ} : الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ ب «نَنْظُرُ» لأنها معلَّقةٌ لها. و «أم» هنا متصلةٌ. وقوله: {أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} أبلَغُ مِنْ قولِه: «أم كَذَبْتَ» وإنْ كان هو الأصلَ؛ لأنَّ المعنى: مِن الذين اتَّصفوا وانْخَرَطوا في سِلْكِ الكاذبين.

28

قوله: {هذا} : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل «كتابي» أو بدلاً منه أو بياناً له. قوله: {فَأَلْقِهْ} قرأ أبو عمرو وحمزةُ وأبو بكر بإسكان الهاء، وقالون

بكسرها فقط من غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ عنه. وهشام عنه وجهان بالقصرِ والصلةِ. والباقون بالصلة بلا خلاف. وقد تقدَّم توجيهُ ذلك كلَّه في آل عمران والنساء وغيرِهما عند {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] و {نُوَلِّهِ مَا تولى} [النساء: 115] . وقرأ مسلم بن جندب بضمِّ الهاءِ موصولةً بواوِ: «فَأَلْقِهُوْ إليهم» وقد تقدَّم أنَّ الضمَّ الأصلُ. [قوله:] «ثم تَوَلَّ عنهم» زعم أبو علي وغيرُه أنَّ في الكلام تقديماً وأن الأصلَ: فانظرْ ماذا يَرْجِعون ثم تَوَلَّ عنهم. ولا حاجةَ إلى هذا [لأن المعنى بدونِه صحيحٌ أي: قِفْ قريباً منهم لتنظرَ ماذا يكون] . قوله: {مَاذَا يَرْجِعُونَ} إنْ جَعَلْنا «انظر» بمعنى تأمَّلْ وتَفَكَّرْ كانت «ما» استفهاميةً. وفيها حينئذٍ وجهان، / أحدُهما: أَنْ تُجْعَلَ مع «ذا» بمنزلةِ اسمٍ واحد، وتكونُ مفعولةً ب «يَرْجِعُون» تقديرُه: أيَّ شيء يَرْجِعون. والثاني: أن تُجْعل «ما» مبتدأً، و «ذا» بمعنى الذي و «يَرْجِعُون» صلتَها، وعائدُها محذوفٌ تقديرُه: أيُّ شيء الذي يَرْجِعونه. وهذا الموصولُ هو خبر «ما» الاستفهامية، وعلى التقديرين فالجملة الاستفهاميةُ مُعَلَّقَةُ ل «انْظُرْ» فمحلُّها النصبُ على إسقاطِ الخافضِ أي: انْظُرْ في كذا وفَكِّر فيه، وإنْ جَعَلْناه بمعنى انتظرْ مِنْ قوله: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13] كانت «ماذا» بمعنى الذي، و «يَرْجِعون» صلةٌ،

والعائدُ مقدرٌ كما مرَّ تقريرُه. وهذا الموصولُ مفعولٌ به أي: انتظر الذي يَرْجِعونه. وقال الشيخ: «وماذا: إنْ كان معنى» انظرْ «معنى التأمُّلِ بالفكر كان» انظر «مُعَلَّقاً. و» ماذا «: إمَّا أَنْ يكونَ استفهاماً في موضعِ نصبٍ، وإمَّا أَنْ يكونَ» ما «استفهاماً، وذا موصول بمعنى الذي. فعلى الأولِ يكونُ» يَرْجِعون «خبراً عن» ماذا «، وعلى الثاني يكون» ذا «هو الخبرََ، وَيَرْجِعُون صلة» انتهى. وهذا غَلَطٌ: إمَّا من الكاتبِ، وإمَّا مِنْ غيرِه؛ وذلك أنَّ قولَه «فعلى الأولِ» يعني به أنَّ «ماذا» كلَّه استفهامٌ في موضع نصبٍ يمنعُ قولَه: «يَرْجِعون» خبرٌ عن «ماذا» . كيف يكون خبراً عنه وهو منصوبٌ به كما تقدَّم تقريرُه؟ وقد صَرَّح هو بأنه منصوبٌ يعنى بما بعدَه، ولا يعملُ فيه ما قبلَه. وهذا نظيرُ ما تقدَّم في آخرِ السورةِ قبلَها في قولِه: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] في كونِ اسمِ الاستفهامِ معمولاً لِما بعدَه، وهو مُعَلِّقٌ لِما قبله، فكما حَكَمْتَ على الجملةِ مِنْ «يَنْقَلِبُوْن» وما اشتملَتْ عليه من اسمِ الاستفهامِ المعمولِ لها بالنصبِ على سبيلِ التعليقِ، كذلك تَحْكُمُ على «يَرْجِعُون» فكيف تقول: إنها خبرٌ عن «ماذا» ؟ .

30

قوله: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} : العامَّةُ على كسرِ الهمزتين على الاستئنافِ جواباً لسؤالِ قومِها كأنَّهم قالوا: مِمَّن الكتابُ؟ وما فيه؟ فأجابَتْهم بالجوابَيْن. وقرأ عبد الله «وإنَّه مِنْ سليمانَ» بزيادةِ واوٍ عاطفةٍ «إنه من سليمان»

على قولِه: {إني أُلْقِيَ إِلَيَّ} . وقرأ عكرمةُ وابن أبي عبلةَ بفتح الهمزتين. صَرَّح بذلك الزمخشري وغيرُه، ولم يذكر أبو البقاء إلاَّ الكسرَ في «إنه من سليمان» ، وكأنه سكتَ عن الثانيةِ؛ لأنها معطوفةٌ على الأولى. وفي تخريجِ الفتح فيهما أوجهٌ، أحدُهما: أنه بدلٌ من «كتاب» بدلُ اشتمالٍ، أو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، كأنه قيل: أُلْقِي إليَّ أنه من سليمانَ، وأنه كذا وكذا. وهذا هو الأصحُّ. والثاني: أنه مرفوعٌ ب «كريمٌ» ذكره أبو البقاء، وليس بالقويِّ. الثالث: أنه على إسقاطِ حرفِ العلةِ. قال الزمشخري: «ويجوز أَنْ تريدَ: لأنه مِنْ سليمانَ، ولأنَّه، كأنها عَلَّلَتْ كرمَه بكونِه من سليمان وتصديرَه باسم الله» . قال مكي: «وأجاز الفراء الفتحَ فيهما في الكلامِ» كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءةٌ. وقرأ أُبَيٌّ «أَنْ مِنْ سليمانَ، وأنْ بسمِ اللهِ» بسكون النون فيهما. وفيها وجهان، أظهُرهما: أنَها «أنْ» المفسرةُ، لتقدُّم ما هو بمعنى القول. والثاني: أنَّها المخففةُ، واسمُها محذوفٌ وهذا لا يتمشى على أصول البصريين؛ لأنَّ اسمَها لا يكونُ إلاَّ ضميرَ شأنٍ، وضميرُ الشأنِ لا يُفَسَّر إلاَّ بجملةٍ مُصَرَّحٍ بُجُزْأَيْها.

31

قوله: {أَلاَّ تَعْلُواْ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «أنْ»

مفسِّرةٌ، كما تقدَّمَ في أحد الأوجهِ في «أنْ» قبلَها في قراءةِ عكرمة، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. وهو وجهٌ حسنٌ لِما في ذلك من المشاكلةِ: وهو عطفُ الأمرِ عليه وهو قولُه «وَأْتُوْني» . والثاني: أنها مصدرية في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ «كتاب» كأنه قيل: أُلْقِيَ إليَّ: أَنْ لا تَعْلُوا عليَّ. والثالث: أنها في موضعِ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو أَنْ لا تَعْلُوا. والرابع: أنَّها على إسقاطِ الخافضِ أي: بأَنْ لا تَعْلُوا، فيجيْءُ في موضِعها القولان المشهوران. والظاهر أنَّ «لا» في/ هذه الأوجهِ الثلاثة للنهيِ. وقد تقدَّم أنَّ «أَنْ» المصدريةَ تُوْصَلُ بالمتصرفِ مطلقاً. وقال الشيخ: «وأَنْ في قولِه:» أن لا تَعْلُوا عليَّ «في موضع رفعٍ على البدلِ من» كتاب «. وقيل: في موضعِ نصبٍ على [معنى] : بأن لا تَعْلُوا. وعلى هذين التقديرين تكون» أنْ «ناصبةً للفعل» . قلت: وظاهرُ هذا أنها نافيةٌ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ تكونَ ناهيةً بعد «أَنْ» الناصبةِ للمضارع. ويؤيِّد هذا ما حكاه عن الزمخشريِّ فإنه قال: «وقال الزمخشريُّ: وأنْ في» أَنْ لا تَعْلُوا «مفسرةٌ» قال: «فعلى هذه تكون» لا «في» لا تَعْلُوا «للنهي، وهو حسنٌ لمشاكلة عطفِ الأمرِ عليه» . فقوله: «فعلى هذا» إلى آخره صريحٌ أنها على غيرِ هذا يعني الوجهين المتقدمين ليست للنهي

فيهما. ثم القولُ بأنَّها للنفيِ لا يَظْهَرُ؛ إذ يصيرُ المعنى على الإِخبارِ منه عليه السلامُ بأنهم لا يَعْلُون عليه، وليس هذا مقصوداً، وإنما المقصودُ أَنْ يَنْهاهُمْ عن ذلك. وقرأ ابن عباس والعقيلي «تَغْلُوا» بالغين مُعْجمةً من الغُلُوِّ وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ.

33

قوله: {مَاذَا تَأْمُرِينَ} : «ماذا» هو المفعولُ الثاني ل «تَأْمُرين» ، والأولُ محذوفٌ، تقديره: تَأْمُرِيْنَنَا. والاستفهامُ مُعَلِّق للنظرِ، ولا يخفى حكمُه ممَّا تقدَّم قبلَه.

34

قوله: {وكذلك يَفْعَلُونَ} : أي: مِثْلَ ذلك الفعلِ يَفْعلون. وهل هذه الجملةُ مِنْ كلامِها وهو الظاهرُ فتكونُ منصوبةً بالقولِ أو مِنْ كلامِ اللهِ تعالى، فهي استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ، وهي معترضَةٌ بين قَوْلَيْها؟

35

والهَدِيَّةُ: ما بُعِثَ على جهةِ الإِكرامِ، وهي اسمٌ للمهدى فيحتمل أَنْ يكونَ اسماً صريحاً، ويُحتملُ أَنْ يكونَ في الأصلِ مصدراً أُطْلِقَ على اسمِ المفعولِ، وليسَتْ مصدراً قياسياً؛ لأنَّ الفعلَ منها «أهدى» رباعياً فقياسُ مصدرِه: إهداءً. قوله: {فَنَاظِرَةٌ} : عطفٌ على «مُرْسِلَة» . و «بمَ» متعلقٌ ب «يَرجِعُ» . وقد وَهِمَ الحوفيُّ فجعَلَها متعلقةً ب «ناظِرَةٌ» وهذا لا يستقيمُ؛ لأنَّ اسمَ الاستفهامِ له صدرُ الكلامِ. «وبمَ يَرْجِعُ» مُعَلِّقٌ ل «ناظِرَةٌ» .

36

قوله: {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ} : أي: فلمَّا جاء الرسولُ، أضمرَه لدلالةِ قَولِها «مُرْسِلَةٌ» فإنه يَسْتَلْزِمُ رسولاً. والمرادُ به الجنسُ لا حقيقةُ رسولٍ واحدٍ بدليلِ خطابِه لهم بالجمع في قوله: «أتُمِدُّونَنِ» إلى آخره. ولذلك قرأ عبد الله «فلمَّا جْاؤُوا» وقرأ «فارْجِعوا» إليهم اعتباراً بالأصلِ المشارِ إليه. قوله: {أَتُمِدُّونَني} استفهامُ إنكارٍ. وقرأ حمزةُ بإدغام نونِ الرفع في نونِ الوقايةِ. وأمَّا الياءُ فإنه يَحْذِفُها وقفاً ويُثْبِتُها وصلاً على قاعدتِه في الزوائد. والباقون بنونَيْنِ على الأصل. وأمَّا الياءُ فإنَّ نافعاً وأبا عمروٍ كحمزةَ يُثْبِتانها وصلاً ويَحْذِفانها وَقْفاً، وابنُ كثيرٍ يُثْبِتُها في الحالَيْن، والباقون يَحْذِفونها في الحالَيْن. ورُويَ عن نافعٍ أنه يَقْرأ بنونٍ واحدة، فتكمَّلَتْ ثلاثُ قراءات، كما في {تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] . قال الزمخشري: «فإن قلتَ ما الفرق بين قولِك: أتُمِدُّونني بمال وأنا أَغْنى منكم، وبين أَنْ تقولَه بالفاء؟ قلت: إذا قلتُه بالواوِ فقد جَعَلْتُ مخاطَبي عالماً بزيادتي عليه في الغِنَى، وهو مَعَ ذلك يَمُدُّني بالمال. وإذا قُلْتُه بالفاءِ فقد جَعَلْتُه مِمَّن خَفِي عليه حالي، وإنما أُخْبِره الساعةَ بما لا أَحْتاجُ معه إلى إمدادهِ كأني أقولُ: أُنْكِرُ عليك

ما فَعَلْتَ فإني غَنِيٌّ عنه، وعليه وَرَد قولُه: {فَمَآ آتَانِي الله} انتهى. وفي هذا الفرِق نَظَرٌ؛ إذ لا يُفهم ذلك بمجردِ الواوِ والفاءِ، ثم إنه لم يُجِبْ عن السؤال الأول: وهو أنه لِمَ عَدَلَ عن قوله:» وأنا أغنى منكم «إلى قوله: {فَمَآ آتَانِي الله} ؟ وجوابُه: أنه أًُسْنِدَ إيتاءُ الغنى إلى اللهِ إظهاراً لنعمتِه عليه، ولو قال: وأنا أغنى منكم، كان في افتخارٌ من غيرِ ذِكْرٍِ لنعمةِ اللهِ عليه. قوله: {بَلْ أَنتُمْ} إضرابُ انتقالٍ. قال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: فما وجه الإِضرابِ؟ قلت: لَمَّا أَنْكر عليهم الإِمدادَ، وعَلَّل إنكارَه، أَضْرَبَ عن ذلك إلى بيان السببِ الذي حَمَلَهم عليه، وهو أنَّهم لا يَعْرِفُون سببَ رضا إلاَّ ما يهدى إليهم/ من حُظوظِ الدنيا التي لا يَعْرِفُون غيرَها. والهديَّة يجوزُ إضافتُه إلى المُهْدي. وإلى المهدى إليه وهي هنا محتملةٌ للأمرَيْن «. قال الشيخ:» وهي هنا مضافةٌ للمهدى إليه. وهذا هو الظاهرُ. ويجوز أَنْ تكونَ مضافةً إلى المُهْدِي أي: بل أنتم بهديَّتِكم هذه التي أَهْدَيْتُموها تَفْرَحُوْنَ فَرَحَ افتخارٍ «. قلت كيف يَجْعَلُ هذا الأولَ هو الظاهرَ، ولم يُنْقَلْ أنَّ سليمان صلَّى الله عليه وسلَّم أرسلَ إليهم هديةً في هذه الحالةِ حتى يُضيفَها إليهم؟ ، بل الذي يتعيَّن إضافتُها إلى المُهْدِي.

37

قوله: {ارجع} : الظاهرُ أنَّ الضميرَ يعودُ على الرسولِ. وتقدَّمَتْ قراءةُ عبدِ الله «ارْجِعُوا» . وقيل: يعودُ على الهُدْهُدِ.

قوله: {لاَّ قِبَلَ} : صفةٌ ل «جُنودٍ» ومعنى لا قِبَلَ: لا طاقَةَ. وحقيقتُه لا مقابلةَ. والضميرُ في «بها» عائدٌ على «جنود» لأنه جمعُ تكسيرٍ فيجري مجرى المؤنثةِ الواحدةِ كقولهِم: «الرجال وأَعْضادُها» . وقرأ عبد الله «بهم» على الأصلِ. وقوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} حالٌ ثانيةٌ. والظاهرُ أنها مؤكِّدةٌ؛ لأنَّ «اَذِلَّة» تُغْني عنها. إنْ قيل: قولُه: «فَلَنَأْتِيَنَّهم» و «لنُخْرِجَنَّهُمْ» قسمٌ فلا بدَّ أن يقعَ. فالجوابُ: أنه مُعَلَّقٌ على شرطٍ حُذِفَ لفَهْمِ المعنى أي: إنْ لم يأْتُوْني مُسْلِمين.

39

قوله: {عِفْرِيتٌ} : العامَّةُ على كسرِ العينِ وسكونِ الياء بعدها تاءٌ مجبورةٌ. وقرأ أبو حيوةَ بفتح العينِ. وأبو رجاء وأبو السَّمَّال ورُوِيَتْ عن أبي بكر الصدِّيق «عِفْرِيَةٌ» بياءٍ مفتوحةٍ بعدها تاءٌ التأنيثِ المنقلبةُ هاءً وَقْفاً. وأنشدوا على ذلك قولَ ذي الرمة: 3570 - كأنه كوكبٌ في إِثْر عِفْرِيَةٍ ... مُصَوَّبٌ في سوادِ الليلِ مُنْقَضِبُ وقرأَتْ طائفةٌ «عِفْرٌ» بحذفِ الياء والتاء. فهذه أربعُ لغاتٍ، وقد قُرِىء بهِنَّ. وفيه لغتان أُخْرَيان وهما عَفارِيَة، وطيِّىء وتميمٌ يقولون: عفرى بألفِ التأنيثِ كذكرى. واشتقاقُه من العَفْرِ وهو الترابُ يقال: عافَرَه فَعَفَرَه أي صارَعَه

فَصَرَعَه، وألقاء في العَفْرِ وهو الترابُ. وقيل: من العُفْر وهو القُوَّةُ، والعِفْريتُ من الجنِّ المارِدُ الخبيثُ. ويقال: عِفْريت نِفْريت وهو إتْباعٌ كشَيْطان لَيْطان، وحَسَن بَسَن. ويُستعار للعارِمِ من الإِنس، ولاشتهارِ هذه الاستعارةِ وُصِفَ في الآيةِ بكونِه من الجِنِّ تمييزاً له. وقال ابن قتيبة: «العِفْرية: المُوَثَّقُ الخَلْقِ» وعِفْرِيَةُ الدِّيكِ والحبارى: الشَّعْر الذي على رأسِهما، وعفرنى للقويِّ، ورجلٌ عِفِرّ بتشديدِ الراءِ للمبالغةِ مثل: شَرٌّ شِمِرٌّ.

40

قوله: {أَنَاْ آتِيكَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ فعلاً مضارعاً، فوزنُه أفْعِلُ نحو: أَضْرِبُ، والأصل أَأْتِيْك بهمزتين، فَأُبْدلت الثانيةُ ألفاً، وأن يكونَ اسمَ فاعِلٍ، وزنُه فاعِل والألفُ زائدةٌ، والهمزةُ أصليةٌ عكسُ الأول. وأمالَ حمزةُ «آتِيْكَ» في الموضعين من هذه السورةِ بخلافٍ عن خَلاَّد. قوله: {طَرْفُكَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه الجَفْنُ. عَبَّر به عن سُرْعةِ الأمرِ. وقال الزمخشري: «هو تحريكُ أجفانِك إذا نظرْتَ فوُضِعَ مَوْضِعَ النظرِ» . والثاني: أنه بمعنى المَطْروفِ أي: الشيء الذي تَنْظُره. والأولُ هو الظاهرُ؛ لأنَّ الطَّرْفَ قد وُصِفَ بالإِرسال في قولِه: 3571 - وكنتَ متى أرسَلْتَ طرفَك رائداً ... لقلبِك يوماً أَتْعَبَتْكَ المناظِرُ رأيتُ الذي لا كلُّه أنت قادِرٌ ... عليه ولا عَنْ بَعْضِه أنتَ صابرُ

قوله: {مُسْتَقِرّاً} حالٌ لأنَّ الرؤيةَ بَصَريةٌ. و «عنده» معمولٌ له. لا يُقال: إذا وقع الظرفُ حالاً وَجَبَ حَذْفُ متعلَّقِه فكيف ذُكِرَ هنا؟ لأنَّ الاستقرارَ هنا ليس هو ذلك الحصولَ المطلقَ بل المرادُ به هنا الثابتُ الذي لا/ يَتَقَلْقَلُ، قاله أبو البقاء. وقد جَعَلَه ابنُ عطيةَ هو العاملَ في الظرفِ الذي كان يجبُ حَذْفُه فقال: «وظهرَ العاملُ في الظرفِ مِنْ قولِه» مُسْتَقرًّا «وهذا هو المقدَّرُ أبداً مع كلِّ ظرفٍ جاء هنا مُظْهَراً، وليس في كتابِ اللهِ مثلُه» . وما قاله أبو البقاءِ أحسنُ. على أنَّه قد ظهرَ العاملُ المُطْلَقُ في قولِه: 3572 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فأنتَ لدى بُحْبُوْحَةِ الهَوْنِ كائنُ وقد تقدَّم ذلك مُحقَّقاً في أولِ الفاتحة، فعليكَ بالالتفاتِ إليه. قوله: {أَأَشْكُرُ} مُعَلِّقُ «لِيَبْلُوَني» و «أم» متصلةٌ، وكذلك قولُه {نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] . قوله: {وَمَن شَكَرَ} {وَمَن كَفَرَ} يُحْتمل أَنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً أو موصولةً مُضَمَّنَةً معنى الشرطِ، فلذلك دَخَلَتِ الفاءُ في الخبر. والظاهرُ: أنَّ جوابَ الشرطِ الثاني أو خبرَ الموصولِ قولُه: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} ولا بدَّ حينئذٍ مِنْ ضميرٍ يعودُ على «مَنْ» تقديرُه: غنيٌّ عن شكرِه. وقيل: الجوابُ محذوفٌ تقديرهُ: فإنَّما كفرُه عليه؛ لدلالةِ مقابلِهِ وهو قولُه: {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} عليه.

41

قوله: {نَنظُرْ} : العامَّةُ على جزمِه جواباً للأمرِ قبله. وأبو حيوةَ بالرفعِ جَعَلَه استئنافاً.

42

قوله: {أَهَكَذَا} : فَصَلَ بحرفِ الجرِّ بينَ حرفِ التنبيهِ واسمِ الإِشارةِ. والأصلُ: أكهذا أي: أَمِثْلُ هذا عرشُكِ؟ ولا يجوزُ ذلك في غير الكافِ، لو قلت: أبهذا مَرَرْتَ، وأَلِهذا فعلتَ، لم يَجُزْ أن يُفْصَلَ بحرفِ الجرِّ بين «ها» و «ذا» فتقول: أها بِذا مَرَرْتَ، وأها لِذا فَعَلْتَ. قوله: {وَأُوتِينَا العلم} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مِنْ كلامِ بلقيسَ. والضميرُ في «قَبْلِها» راجعٌ للمعجزةِ والحالةِ الدالِّ عليهما السياقُ. والمعنى: وأُوتيِنا العلمَ بنبوةِ سليمانَ من قبلِ ظهورِ هذه المعجزةِ، أو من هذه الحالةِ؛ وذلك لِما رأَتْ قبلَ ذلك من أمرِ الهُدْهُدِ ورَدِّ الهديةِ. والثاني: أنه من كلامِ سليمانَ وأتباعِه، فالضميرُ في «قَبْلِها» عائدٌ على بلقيسَ.

43

قوله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ} : في فاعلِ «صَدَّ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: ضميرُ الباري. والثاني: ضميرُ سليمان. وعلى هذا ف {مَا كَانَت تَّعْبُدُ} منصوبٌ على إسقاطِ الخافضِ أي: وصدَّها اللهُ، أو سليمانُ، عن ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دونِ الله، قاله الزمخشري مُجَوِّزاً له. وفيه نظرٌ: من حيث إنَّ حَذْفَ الجارِّ ضرورةٌ كقوله: 3573 - تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوْجُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كذا قاله الشيخ. وقد تقدَّم لك آياتٌ كثيرةٌ من هذا النوعِ فلهذه بِهِنَّ أُسْوَةٌ. والثالث: أنَّ الفاعلَ هو «ما كَانَتْ» أي: صَدَّها ما كانَتْ تعبدُ عن الإِسلامِ وهذا واضِحٌ. والظاهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه «وصَدَّها» معطوفةٌ على قولِه: «وأُوْتِيْنا» . وقيل: هي حالٌ مِنْ قوله: «أم تكونَ من الذينَ» و «قد» مضمرةٌ وهذا بعيدٌ جداً. وقيل: هو مستأنَفٌ إخبارٍ من اللهِ تعالى بذلك. قوله: «إنَّها» العامَّةُ على كسرِها استئنافاً وتعليلاً. وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوةَ بالفتح، وفيها وجهان، أحدهما: أنها بدلٌ مِنْ «ما كانَتْ تعبدُ» ، أي: وصَدَّها أنها كانَتْ. والثاني: أنها على إسقاطِ حَرْفِ العلةِ أي: لأنَّها، فهي قريبةٌ من قراءةِ العامة.

44

قوله: {الصرح} : قد تقدم الخلافُ في الظرف الواقع بعد «دخل» : هل هو منصوبٌ على الظرفِ؟ وشَذَّ ذلك مع «دخل» خاصةً كما قاله سيبويه، أو مفعول به كهَدَمْتُ البيتَ كما قاله الأخفش. والصَّرْحُ: القَصْرُ أو صَحْنُ الدارِ أو بَلاطٌ متخَذٌ مِنْ زُجاج. وأصلُه من التصرِيح، وهو الكشفُ. وكَذِبٌ صُراحٌ أي: ظاهرٌ مكشوفٌ وَلُؤْمٌ صُراحٌ. والصَّريحُ: مقابِلُ الكنايةِ لظهورِه واستتارِ ضدِّه. وقيل: الصريحُ: الخالِصُ، مِنْ قولِهم: لَبَنٌ صَريحٌ بَيِّنُ الصَّراحَةِ والصُّرُوْحَةِ. وقال الراغب: «الصَّرْحُ: بيتٌ عالٍ مُزَوَّقٌ، سمِّي بذلك اعتباراً بكونِه صَرْحاً عن/ الشَّوْبِ أي: خالصاً» .

قوله: {سَاقَيْهَا} العامَّةُ على ألفٍ صريحةٍ. وقنبل روى همزَها عن ابنِ كثير. وضَعَّفَها أبو عليّ. وكذلك فعل قنبل في جمع «ساق» في ص، وفي الفتح هَمَزَ واوَه. فقرأ «بالسُّؤْقِ والأَعْناق» «فاستوى على سُؤْقِه» بهمزةٍ مكانَ الواوِ. وعنه وجهٌ آخرٌ: «السُّؤُوْق» و «سُؤُوْقة» بزيادة واوٍ بعد الهمزةِ. ورُوِي عنه أنه كان يَهْمِزُه مفرداً في قوله: {يُكْشَفُ عَن سَأْقٍ} [القلم: 42] . فأمَّا هَمْزُ الواوِ ففيها أوجهٌ، أحدُها: أنَّ الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلَها يَقْلِبُها بعضُ العربِ همزةَ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في أولِ البقرةِ عند «يُوْقنون» وأنشَدْتُ عليه: 3574 - أَحَبُّ المُؤْقِدِين إليَّ موسى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكان أبو حَيَّةَ النميري يَهْمِزُ كلَّ واوٍ في القرآن، هذا وَصْفُها. الثاني: أنَّ ساقاً على فَعَلَ كأَسَدٍ، فجُمِعَ على فُعُل بضمِّ العين كأُسُدٍ. والواوُ المضمومةُ تُقْلب همزةً نحو: وُجوه، ووُقِّتَتْ، ثم بعد الهمزِ سَكَنَتْ.

الثالث: أنَّ المفردَ سُمِعَ هَمْزُه، كما سيأتي تقريرُه، فجاء جَمْعُه عليه. وأمَّا «سُؤُوْق» بالواوِ بعد الهمزةِ فإنَّ ساقاً جُمِع على «سُوُوق» بواوِ، فهُمِزَتْ الأولى لانضمامِها. وهذه الروايةُ غريبةٌ عن قنبلٍ، وقد قَرَأْنا بها ولله الحمدُ. وأمَّا «سَأْقَيْها» فوجهُ الهمزِ أحدُ أوجهٍ: إمَّا لغةُ مَنْ يَقْلِبُ الألفَ همزةَ، وعليه لغةُ العَجَّاج في العَأْلَمِ والخَأْتَمِ. وأنشد: 3575 - وخِنْدِفٌ هامَةُ هذا العَأْلَمِ ... وسيأتي تقريرُه أيضاً في «مِنْسَأَته» في سبأ إنْ شاء اللهُ تعالى، وتقدَّم طَرَفٌ منه في الفاتحة، وإمَّا على التشبيهِ برِأْس وكَأْس، كما قالوا: «حَلأْت السَّويق» حَمْلاً على حَلأُتُه عن الماء أي طَرَدْتُه، وإمَّا حَمْلاً للمفرد والمثنى على جَمْعِهما. وقد تَقَرَّر في جمعِهما الهمزُ. قوله: {مُّمَرَّدٌ} أي مُمَلَّسٌ. ومنه الأَمْرَدُ لِمَلاسَةِ وجهه من الشَّعر. وبَرِّيَّة مَرْدَاء: لخُلُوِّها من النباتِ، ورَمْلَةٌ مَرْداء: لا تُنْبِتُ شيئاً. والمارِدُ من الشياطين: مَنْ تعرى من الخيرِ وتَجَرَّد منه. ومارِدٌ: حِصْنٌ معروفٌ. وفي أمثال الزَّبَّاء: «تَمَرَّد مارِدٌ وعَزَّ الأَبْلَقُ» قالَتْها في حِصْنَيْنِ امتنع فَتْحُهما عليها.

والقوارِيْرُ: جمعُ قارُوْرة، وهي الزُّجاج الشفافُ. و «مِنْ قواريرَ» صفةٌ ثانية ل «صَرْحٌ» . قوله: {مَعَ سُلَيْمَانَ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ، ولا يتعلَّقُ ب «أَسْلَمْتُ» ؛ لأنَّ إسلامَه سابقٌ إسلامَها بزمانٍ. وهو وجهٌ لطيفٌ. وقال ابن عطية: «ومع ظرفٌ بُنِيَ على الفتحِ. وأمَّا إذا أُسْكِنَتِ العينُ فلا خِلافَ أنه حرفٌ» قلتُ: قد تقدَّم القولُ في ذلك. وقد قال مكي هنا نحواً مِنْ قولِ ابنِ عطيةَ.

45

قوله: {أَنِ اعبدوا} : يجوز في «أَنْ» أَنْ تكونَ مُفَسِّرةً، وأَنْ تكونَ مصدريةً أي: بأَنْ اعْبُدوا، فيجيء في محلِّها القولان. قوله: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} تقدَّم الكلامُ في «إذا» الفجائيةِ. والمرادُ بالفريقين: قومُ صالحٍ، وأنهم انقسموا فريقين: مؤمن وكافر. وقد صَرَّح بذلك في الأعراف حيث قال تعالى: {الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ} [الأعراف: 75] . وجَعَلَ الزمخشري الفريقَ الواحدَ صالحاً وحدَه، والأخر جميعَ قومِه. وحَمَلَه على ذلك العطفُ بالفاءِ؛ فإنَّه يُؤْذِنُ أنه بمجرَّدِ إرسالهِ صاروا فريقَيْنِ،

ولا يصيرُ قومُه فريقين إلاَّ بعد زمانٍ ولو قليلاً. و «يَخْتَصمون» صفةٌ ل «فريقان» كقولِه: {هذان خَصْمَانِ اختصموا} {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} . واختير هنا مراعاةُ الجَمْعِ لكونِها فاصلةً.

47

وقُرِىءَ «تَطَيَّرْنا بك» وهو الأصلُ وأُدْغِمَ. وقد تقدَّم تقريرُه. قوله: {تُفْتَنُونَ} جاء بالخطاب مراعاةٌ لتقدُّمِ الضميرِ. ولو رُوْعِيَ ما بعدَه لقيل: «يُفْتَنُون» بياءٍ الغَيْبة، وهو جائزٌ، ولكنه مرجوحٌ. وتقول: أنت رجلٌ تَفْعل، ويَفْعل، بالتاء والياء، ونحن قومٌ نقرأ ويَقْرؤون.

48

قوله: {تِسْعَةُ رَهْطٍ} : الأكثرُ أَنَّ تمييزَ العددِ بهذا مجرورٌ ب «مِنْ» كقولِه: {أَرْبَعَةً مِّنَ الطير} [البقرة: 260] . وفي المسألةِ مذاهبُ، أحدُها: أنه لا يجوزُ إلاَّ في قليلٍ. الثاني: أنه يجوزُ، ولكن لا ينقاس. الثالث: التفصيل بين أن/ يكونَ للقلة كرَهْطٍ ونَفَرٍ فيجوزَ أو للكثرةِ فقط، أو لها وللقلةِ فلا يجوز، نحو: تسعةُ قوم. ونَصَّ سيبويه على امتناعِ «ثلاث غنم» . قال الزمخشري: «وإنما جاز تمييزُ التسعةِ بالرَّهْطِ لأنه في معنى الجمعِ كأنه قيل: تسعةُ أنفسٍ» قال الشيخ: «وتقديرُ غيرِه» تسعة رجالٍ «هو الأولى لأنه من حيث أضافَ إلى أَنْفُس كان ينبغي أَنْ يقولَ» تِسْع أنفس «، على تأنيث

النفس؛ إذ الفصيحُ فيها التأنيثُ. ألا تراهُمْ عَدُّوا من الشذوذِ قولَ الشاعر: 3576 - ثلاثةُ أَنْفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قلت: وإنما أراد تفسيرَ المعنى. قوله: {يُفْسِدُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً للمعدودِ أو العددِ، فيكونَ في موضع جرٍّ أو رفعٍ. قوله: {وَلاَ يُصْلِحُونَ} قيل: مؤكِّدٌ للأولِ. وقيل: ليس مؤكِّداً؛ لأنَّ بعض المفسدين قد يُصْلِحُ في وقتٍ ما، فأخْبَرَ عن هؤلاءِ بانتفاءِ تَوَهُّمِ ذلك.

49

قوله: {تَقَاسَمُواْ} : يجوز في «تقاسموا» أَنْ يكونَ أمراً أي: قال بعضُهم لبعضٍ: احْلِفُوا على كذا. ويجوز أن يكونَ فعلاً ماضياً، وحينئذٍ يجوز أَنْ يكونَ مفسِّراً ل «قالوا» ، كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: تقاسَمُوا. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار «قد» أي: قالوا ذلك متقاسِمِيْن، وإليه ذهب الزمخشري، فإنه قال: «يُحْتمل أَنْ يكونَ أمراً وخبراً في محلِّ الحالِ بإضمار قد» . قال الشيخ: «أمَّا قولهُ:» وخبراً «فلا يَصِحُّ لأنَّ الخبرَ أحدُ قسمَيْ الكلام؛ لأنه ينقسم إلى الخبرِ والإِنشاء، وجميعُ معانيه إذا حُقِّقَتْ راجعةٌ إلى هذين القسمين» . قلت: ولا أدري: عدمُ الصحة مِنْ ماذا؟ لأنه جَعَلَ الماضي خبراً لاحتمالِه الصدقَ والكذبَ مقابلاً للأمرِ الذي لا يَحْتَملهما. أمَّا كونُ الكلامِ لا ينقسِمُ إلاَّ إلى خبر وإنشاء، وأنَّ معانِيَه إذا حُقِّقَتْ تَرْجِعُ إليهما، فأيُّ مَدْخلٍ لهذا في الردِّ على أبي القاسم؟

ثم قال الشيخ: والتقييدُ بالحالِ ليس إلاَّ من باب نسبةٍ التقييدِ لا من نسبةِ الكلامِ التي هي الإِسنادُ، فإذا أُطْلِقَ عليها الخبرُ كان ذلك على تقديرِ: أنَّها لو لم تكنْ حالاً لجازَ أَنْ تُستعملَ خبراً. وكذلك قولُهم في الجملةِ الواقعةِ صلةٌ: هي خبريةٌ فهو مجازٌ والمعنى: أنها لو لم تكن صلةً لجاز أَنْ تُستَعْمَلَ خبراً وهذا فيه غموضٌ «. قلت: مُسَلَّمٌ أنَّ الجملةَ ما دامَتْ حالاً أو صلةً لا يُقال لها: خبرية، يعني أنها تَسْتَقِلُّ بإفادةِ الإِسنادِ؛ لأنها سِيْقَتْ مَسَاقَ القَيْدِ في الحالِ ومَسَاقَ جزءِ كلمةٍ في الصلةِ، وكان ينبغي أن تُذْكَرَ أيضاً الجملةُ الواقعةُ صفةً فإن الحكمَ فيها كذلك. ثم قال:» وأمَّا إضمارُ «قد» فلا يُحتاج إليه لكثرةِ وقوع الماضي حالاً دون «قد» ، كثرةً ينبغي القياسُ عليها «قلت: الزمخشريُّ مشى مع الجمهورِ؛ فإنَّ مذهَبهم أنه لا بُدَّ من» قد «ظاهرةً أو مضمرةً لِتُقَرِّبَه من الحال. وقرأ ابنُ أبي ليلى» تَقَسَّموا «دونَ ألفٍ مع تشديد السين. والتقاسُمُ والتَّقَسُّم كالتظاهُر والتظَهُّر. قوله: {بالله} إن جَعَلْتَ» تقاسَمُوا «أمراً تَعَلَّق به الجارُّ قولاً واحداً، وإنْ جَعَلْتَه ماضياً احْتَمَلَ أَنْ يَتَعلَّقَ به، ولا يكونُ داخلاً تحت المَقُولِ، والمقولُ هو» لَنُبَيِّتَنَّه «إلى آخره. واحتمل أَنْ يَتَعَلَّقَ بمحذوفٍ هو فعلُ القسمِ، وجوابه» لَنُبَيِّتَنَّه «فعلى هذا يكونُ مع ما بعده داخلاً تحتَ المَقُوْلِ. قوله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} قرأ الأخَوان بتاءِ الخطابِ المضمومةِ وضمِّ التاءِ،

والباقون بنونِ المتكلِّمِ وفتحِ التاءِ.» ثم لَنَقولَنَّ «قرأه الأخَوان بتاءِ الخطابِ المفتوحةِ وضمِّ اللامِ. والباقون بنونِ المتكلمِ وفتحِ اللامِ. ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخَوَيْن، إلاَّ أنه بياءٍ الغَيْبة في الفعلين. وحميد ابن قيس كهذه القراءةِ في الأولِ وكقراءةِ غير الأخوين من السبعةِ في الثاني. فأمَّا قراءةُ الأخَوَيْن: فإنْ جَعَلْنا «تقاسَمُوا» فعلَ أمرٍ فالخطابُ واضحٌ رجوعاً بآخرِ الكلامِ إلى أولِه. وإنْ جَعَلْناه ماضياً فالخطابُ على حكايةِ خطابِ بعضِهم لبعضٍ بذلك. وأمَّا قراءةُ بقيةِ السبعةِ: فإنْ جَعَلْناه ماضياً أو أمراً، فالأمرُ فيها واضحٌ وهو حكايةُ/ أخبارِهم عن أنفسِهم. وأمَّا قراءةُ الغَيْبَةِ فيهما فظاهرةٌ على أن يكونَ «تَقاسَمُوا» ماضياً رُجُوعاً بآخرِ الكلامِ على أولِه في الغَيْبَةِ. وإنْ جَعَلْناه أمراً كان «لَنُبيِّتَنَّه» جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل: كيف تقاسَمُوا؟ فقيل: لنبيِّتَنه. وأمَّا غيبةُ الأولِ والتكلمُ في الثاني فتعليلُه مأخوذٌ مِمَّا تقدَم في تعليلِ القراءتين. قال الزمخشري: «وقُرِىءَ» لَنُبيِّتَنَّه «بالياء والتاء والنون. فتقاسَموا مع التاءِ والنونِ يَصِحُّ فيه الوجهان» يعني يَصِحُّ في «تقاسَمُوا» أن يكونَ أمراً، وأَنْ يكونَ خبراً قال: «ومع الياء لا يَصِحُّ إلاَّ أَنْ يكونَ خبراً» . قلت: وليس كذلك لِما تقدَّم: مِنْ أنَّه يكونُ أمراً، وتكون الغيْبَةُ فيما بعده جواباً لسؤالٍ مقدرٍ. وقد تابع الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال: «تقاسَمُوا» فيه وجهان، أحدهما: هو أمرٌ أي: أمَرَ بعضُهم بذلك بعضاً. فعلى هذا يجوزُ في «لَنُبَيِّتَنَّه» النونُ تقديرُه: قولوا: لَنُبَيِّتَنَّهُ، والتاءُ على خطابِ الآمرِ المأمورَ. ولا يجوزُ الياء. والثاني: هو فعل ماضٍ. وعلى هذا يجوز الأوجهُ الثلاثةُ يعني بالأوجه: النونَ

والتاءَ والياءَ. قال: «وهو على هذا تفسيرٌ» أي: تقاسَمُوا على كونِه ماضياً: مُفَسِّرٌ لنفسِ «قالوا» . وقد سبقَهما إلى ذلك مكيٌّ. وقد تقدَّم توجيهُ ما منعوه ولله الحمدُ والمِنَّة. وتنزيلُ هذه الأوجه بعضِها على بعضٍ مما يَصْعُبُ استخراجُه مِنْ كلام القوم، وإنما رَتَّبْتُه من أقوالٍ شَتَّى. وتقدَّم الكلامُ في {مَهْلِكَ أَهْلِهِ} في النمل.

51

قوله: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} : قرأ الكوفيون بالفتح. والباقون بالكسر. فالفتح من أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ أي: لأَنَّا دَمَّرْناهم. و «كان» تامةٌ و «عاقبةٌ» فاعلٌ بها، و «كيفِ» حالٌ. الثاني: أَنْ يكونَ بدلاً من «عاقبة» أي: كيف كان تدميرُنا إيَّاهم بمعنى: كيف حَدَثَ. الثالث: أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هي أنَّا دَمَّرْناهم أي: العاقبةُ تدميرُنا إياهم. ويجوزُ مع هذه الأوجهِ الثلاثةِ أَنْ تكونَ «كان» ناقصةً، وتُجْعَلَ «كيف» خبرَها، فتصيرَ الأوجهُ ستةً: ثلاثةً مع تمام «كان» وثلاثةً مع نُقْصانها. ويُزاد مع الناقصة وجهٌ أخر: وهو أَنْ تُجْعَلَ «عاقبة» اسمَها و «أنَّا دَمْرناهم» خبرَها و «كيف» حالٌ. فهذه سبعةُ أوجهٍ. والثامن: أَنْ تكونَ «كان» «زائدةً، و» عاقبة «مبتدأٌ، وخبرُه» كيف «و» أنَّا دَمَّرْناهم «بدلٌ مِنْ» عاقبة «أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وفيه تَعَسُّفٌ. التاسع: أنها على حَذْفِ الجارِّ أيضاً، إلاَّ أنه الباءُ أي: بأنَّا دمَّرْناهم، ذكره أبو البقاء. وليس بالقويِّ. العاشر: أنها بدل مِنْ» كيف «وهذا وَهْمٌ من قائِله لأنَّ المبدل من اسمِ

الاستفهام يَلْزَمُ معه إعادةُ حرفِ الاستفهامِ نحو:» كم مالكُ أعشرون أم ثلاثون «؟ وقال مكي:» ويجوز في الكلام نصبُ «عاقبة» ، ويُجْعَلُ «أنَّا دمَّرْناهم» اسمَ كان «انتهى. بل كان هذا هو الأرجحَ، كما كان النصبُ في قولِه» فما كان جوابَ قومه إلاَّ أَنْ قالوا «ونحوِه أرجحَ لِما تقدَّم مِنْ شَبَهِهِ بالمضمرِ لتأويلِه بالمصدرِ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. وقرأ أُبَيٌّ» أَنْ دَمَّرْناهم «وهي أَنْ المصدريةُ التي يجوزُ أَنْ تَنْصِبَ المضارعَ، والكلامُ فيها كالكلامِ على» أنَّا دَمَّرْناهم «. وأمَّا قراءةُ الباقين فعلى الاستئنافِ، وهو تفسيرٌ للعاقبةِ. و» كان «يجوز فيها التمامُ والنقصانُ والزيادةُ. وكيف وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على إسقاطِ الخافض، لأنه مُعَلِّق للنظرِ. و» أَجْمعين «تأكيدٌ للمعطوفِ والمعطوفِ معاً.

52

قوله: {خَاوِيَةً} : العامَّةُ على نصبِها حالاً. والعاملُ فيها معنى اسمِ الإِشارة. وقرأ عيسى «خاويةٌ» بالرفع: إمَّا على خبر «تلك» «بيوتُهم» بدلٌ مِنْ «تلك» ، وإمَّا خبرٌ ثانٍ و «بيوتُهم» خبرٌ أولُ، وإمَّا على خبرِ مبتدأ محذوف أي: هي خاويةٌ، وهذا إضمارٌ مستغنى عنه. و {بِمَا ظلموا} متعلقٌ ب «خاوية» / أي: بسببِ ظُلْمهم.

54

قوله: {وَلُوطاً} : إمَّا منصوبٌ عطفاً على «صالحاً»

أي: وَأَرْسَلْنا لُوْطاً، وإمَّا عطفاً على الذين آمنوا أي: وأَنْجَيْنا لوطاً، وإمَّا ب «اذْكُرْ» مضمرةً. قوله: {إِذْ قَالَ} : بدلٌ اشتمالٍ مِنْ «لوطاً» . وتقدَّم نظيرُه في مريم وغيرِها.

55

قوله: {شَهْوَةً} : مفعولٌ مِنْ أَجْله، أو في موضعِ الحالِ، وقد تقدَّم.

56

قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} : خبرٌ مقدَّمٌ، و «إلاَّ أْن قالوا» في موضعِ الاسمِ. وقرأ الحسنُ وابنُ أبي إسحاق برفعِه اسماً، و «إلاَّ أنْ قالوا» خبراً. وهو ضعيفٌ لِما عَرَفْتَ غيرَ مرةٍ. وتقدَّم قرآناً «قَدَّرْنا» تشديداً وتخفيفاً.

58

والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ. أي: فساءَ مَطَرُ المنذَرينَ مَطَرُهم.

59

قوله: {قُلِ الحمد لِلَّهِ} : العامَّةُ على كسرِ لام «قُلِ» لالتقاءِ الساكنين. وأبو السَّمَّال بفتحِها تخفيفاً، وكذا في قولِه: {وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [النمل: 93] . و «سلامٌ» مبتدأٌ سَوَّغَ الابتداءَ به كونُه دعاءً. قوله: «أَمْ ما» «أم» هذه متصلةٌ عاطفةٌ لاستكمالِ شروطِها. والتقديرُ: أيُّهما خيرٌ؟ و «خيرٌ» : إمَّا تفضيلٌ على رغمِ الكفارِ وإلزامِ الخَصْمِ، أو صفةٌ لا تفضيلَ فيها. و «ما» في «أَمْ ما» بمعنى الذي. وقيل: مصدرٌ. وذلك على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ أي: أتوحيدُ اللهِ خيرٌ أم شِرْكُهم. وقرأ أبوعمرٍو وعاصم «أَمْ ما يُشْرِكون» بالغَيْبَةِ حَمْلاً على ما قبلَه من قوله. . . .

60

قوله: {أَمْ مَنْ خَلَقَ} : أَمْ هذه منقطعةٌ؛ لعدمِ تقدُّمِ همزةِ استفهامٍ ولا تَسْويةٍ. «ومَنْ خَلَقَ» مبتدأٌ. وخبرُه محذوفٌ، فَقَدَّره الزمخشري: «خيرٌ أَمْ ما تُشْرِكُون» فَقَدَّرَ ما أَثْبَته في الاستفهامِ الأولِ، وهو حَسَنٌ، وقدَّره ابنُ عطيةً: «يُكْفَرُ بنعمتِه ويُشْرك به، ونحوَ هذا من المعنى» .

وقال أبو الفضل الرازي: «لا بُدَّ من إضمارِ جملةٍ معادِلةَ، وصار ذلك المضمرُ كالمنطوق [به] لدلالةِ الفحوى عليه. وتقديرُ تلك الجملة: أَمَنْ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ كمَنْ لم يَخْلُقْ، وكذلك أخواتُها. وقد أظهرَ في غيرِ هذا الموضعِ ما أَضْمَرَ فيها، كقولِه تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] . قال الشيخ:» وتَسْمِيَةُ هذا المقدَّرِ جملةً: إنْ أراد بها جملةً من الألفاظِ فصحيحٌ، وإنْ أراد الجملةَ المصطلحَ عليها في النحوِ فليس بصحيحٍ، بل هو مضمرٌ من قبيلِ المفردِ «. وقرأ الأعمش:» أمَنْ «بتخفيفِ الميمِ جَعَلَها» مَنْ «الموصولةَ، داخلةً عليها همزةُ الاستفهام. وفيه وجهان، أحدهما: أن تكونَ مبتدأَةً، والخبرُ محذوفٌ. وتقديرُه ما تقدَّم من الأوجهِ. ولم يذكُرْ الشيخُ غيرَ هذا. والثاني: أنها بدلٌ من» الله «كأنه قيل: أمَنْ خلَقَ السماواتِ والأرضَ خيرٌ أَمْ ما تُشْركون. ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيره. ويكون قد فَصَل بين البدلِ والمبدلِ منه بالخبرِ وبالمعطوف على المبدل منه. وهو نظيرُ قولك:» أزيدٌ خيرٌ أم عمروٌ أأخوك «على أن يكونَ» أَأخوك «بدلاً من» أزيد «، وفي جوازِ مثلِ هذا نظرٌ. قوله: {فَأَنبَتْنَا} هذا التفاتٌ من الغَيْبَةِ إلى التكلمِ لتأكيدِ معنى اختصاصِ

الفعلِ بذاتِه، والإِنذارِ بأنَّ إنباتَ الحدائقِ المختلفةِ الألوانِ والطُّعوم مع سَقْيها بماءٍ واحدٍ لا يَقْدِرُ عليه إلاَّ هو وحدَه؛ ولذلك رشَّحه بقولِه: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} . والحَدائِقُ: جمعُ حديقة، وهي البستان. وقيل: القطعةُ من الأرضِ ذاتِ الماء. قال الراغب:» سُمِّيَتْ بذلك تشبيهاً بحَدَقَةِ العين في الهيئة وحُصولِ الماءِ فيه «وقال غيرُه: سُمِّيَتْ بذلك لإِحداقِ الجُدْران بها. وليس بشيءٍ لأنها يُطْلَقُ عليها ذلك مع عَدَمِ الجُدْران. ووقف القراء على» ذات «مِنْ» ذاتَ بَهْجَة «بتاءٍ مجبورة. والكسائي بهاءٍ لأنها تاءُ تأنيثٍ. قوله: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ} » أن تُنْبِتُوا «اسمُ/ كان، و» لكم «خبرٌ مقدمٌ» . والجملةُ المنفيةُ يجوزُ أَنْ تكون صفةً ل «حدائق» ، وأن تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفةِ. وقرأ ابنُ أبي عبلة «ذواتَ بَهَجة» بالجمعِ وفتحِ هاءِ «بَهَجة» .

61

قوله: {خِلاَلَهَآ} : يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لجَعَلَ بمعنى خَلَقَ المتعديةِ لواحدٍ، وأَنْ يكونَ في مَحَلِّ المفعولِ الثاني على أنها بمعنى صَيَّر. قوله: {بَيْنَ البحرين} : يجوزُ فيه ما جازَ في «خلالَها» . والحاجزُ: الفاصِلُ. حَجَزَ بينَهم يَحْجِزُ أي: مَنَعَ وفَصَل.

وقُرِىءَ «أَإِلَهٌ» بتحقيق الهمزتين. وتخفيفِ الثانيةِ وإدخالِ ألفِ بينهما تخفيفاً وتَسْهيلاً. وهذا كلُّه معروفٌ مِنْ أولِ هذا الموضوعِ. وقُرِىء «أإلهاً» بالنصبِ على إضمارِ: أَتَدْعُوْنَ أو أَتُشْرِكون إلهاً.

62

والمُضْطَرُّ: اسمُ مفعولٍ. مأخوذٌ مِنْ اضْطُرَّ، ولا يُسْتعمل إلاَّ مبنياً للمفعول. وإنما كُرِّر الجَعْلُ هنا، ولم يُشْرَكْ بين المعمولاتِ في عاملٍ واحد، لأنَّ كلَّ واحدٍ مِنْ هذه منه مستقلةٌ فَأَمْرَرَها في جملةٍ مستقلةٍ بنفسِها.

63

قوله: {بُشْرَاً} : قد تقدَّم في الأعراف.

65

قوله: {إِلاَّ الله} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه فاعلُ «يَعْلَمُ» و «مَنْ» مفعولُه. و «الغيبَ» بدلٌ مِنْ «مَنْ السماواتِ» أي: لا يعلمُ غيبَ مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلاَّ اللهُ أي: الأشياءَ الغائبةَ التي تَحْدُثُ في العالَمِ.

وهو وجهٌ غريبٌ ذكره الشيخ. الثاني: أنه مستثنى متصلٌ مِنْ «مَنْ» ، ولكن لا بُدَّ من الجمعِ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ على هذا الوجهِ بمعنى: أنَّ عِلْمَه في السماوات والأرضِ، فيَنْدَرِجُ في {مَن فِي السماوات والأرض} بهذا الاعتبارِ وهو مجازٌ وغيرُه مِنْ مخلوقاتِه في السماواتِ والأرضِ حقيقةٌ، فبذلِك الاندراجِ المُؤَوَّل اسْتُثْنِي مِنْ «مَنْ» وكان الرفعُ على البدلِ أَوْلَى لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ. وقد رَدَّ الزمخشريُّ هذا: بأنه جَمْعٌ بين الحقيقةِ والمجازِ، وأوجبَ أن يكونَ منقطعاً فقال: «فإنْ قلتَ: لِمَ رُفِعَ اسمُ اللهِ، واللهُ يتعالى أن يكونَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرض؟ قلت: جاء على لغةِ بني تميمٍ حيث يقولون:» ما في الدار أحدٌ إلاَّ حمارٌ «يريدون: ما فيها إلاَّ حمارٌ، كأنَّ» أحداً «لم يُذْكَرْ. ومنه قولُه: 3577 - عَشِيَّةَ ما تُغْني الرِّماحُ مكانَها ... ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ وقولُهم:» ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ، وما أعانني إخوانكم إلاَّ إخوانُه «. فإنت قلت: ما الداعي إلى اختيارِ المذهبِ التميمي على الحجازي؟ قلت: دَعَتْ إليه نُكْتَةٌ سِرِّيَّةُ حيث أُخْرِج المستثنى مُخْرَجَ قولِه: 3578 - إلاَّ اليَعافِيرُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

بعد قوله: 3579 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . لَيْسَ بها أنيسُ ... ليَؤُوْلَ المعنى إلى قولك: إنْ كان الله مِمَّنْ في السماوات والأرضَ فهم يعلمون الغيبَ. يعني: أنَّ عِلْمَهم الغيبَ في استحالتِه كاستحالةِ أن يكونَ اللهُ منهم. كما أنَّ معنى ما في البيت: إنْ كانت اليعافيرُ أَنيساً ففيها أنيسٌ، بَتَّاً للقولِ بخُلُوِّها من الأنيسِ. فإن قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن اللهَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرضِ، كما يقول المتكلمون:» إنَّ الله في كلِّ مكان «على معنى: أنَّ عِلْمَه في الأماكن كلها، فكأنَّ ذاتَه فيها حتى لا يُحْمَل على مذهبِ بني تميمٍ» قلتُ: يأبى ذلك أنَّ كونَه في السمواتِ والأرضِ مجازٌ، وكونَهم فيهنَّ حقيقةٌ، وإرادةُ المتكلمِ بعبارةٍ واحدةٍ حقيقةً ومجازاً غيرُ صحيحٍ. على أنَّ قولَك «مَنْ في السماوات والأرض: وجَمْعَك بينه وبينهم في إطلاقِ اسمٍ واحدٍ، فيه إيهامُ تَسْويةٍ، والإِيهاماتُ مُزَالةٌ عنه وعن صفاتِه. ألا ترى كيف» قال عليه السلام لِمَنْ قال: «ومَنْ يَعْصِهما فقد غوى» «بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت» «قلت: فقد رَجَّحَ الانقطاعَ واعتذر عن ارتكابِ مذهبِ التميمين بما ذَكَر. وأكثرُ العلماءِ أنه لا يُجْمَعُ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدة. وقد قال به الشافعيُّ» . قوله: {أَيَّانَ} هي هنا، بمعنى «متى» / وهي منصوبةٌ ب «يُبْعَثون» فتعلُّقُه ب «يَشْعُرون» فهي مع ما بعدها في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الباءِ أي: ما يَشْعرون بكذا. وقرأ السُّلميٌّ «إيَّان» بكسرِ الهمزةِ، وهي لغةُ قومِه بني سُلَيْم.

66

قوله: {ادارك} : قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو ونافع «أَدْرَكَ» كأَكْرم. والباقون من السبعةِ «ادَّارك» بهمزةِ وَصْلٍ، وتشديدِ الدالِ المفتوحةِ، بعدها ألفٌ. والأصلُ: تَدارك وبه قرأ اُبَيٌّ، فأُريد إدغامُ التاءِ في الدالِ فأُبْدِلَتْ دالاً، وسُكِّنَتْ فتعذَّر الابتداءُ بها لسكونهِا، فاجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار ادَّارك كما ترى، وتحقيقُ هذه قد تقدَّم في رأسِ الحزبِ من البقرة: {فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] . وقراءةُ ابنِ كثير قيل: تَحْتمل أن يكونَ أَفْعَلُ فيها بمعنى تَفاعَلَ فتَتََّحِدَ القراءتان. وقيل: أَدْرَكَ بمعنى بَلَغَ وانتهى. وقرأ سليمان وعطاء ابنا يَسار «بلَ ادَّرَكَ» بفتحِ لامِ «بل» وتشديد الدالِ دونَ ألفٍ بعدَها. وتخريجُها: أنَّ الأصلَ ادَّرك على وزن افْتَعَل فأُبْدِلَتْ تاءُ الافتعالِ دالاً لوقوعِها بعد الدال. قال الشيخ: «فصار فيه قَلْبُ الثاني للأولِ كقولِهم: اثَّرَدَ، وأصلُه اثْتَرَدَ من الثَّرْدِ» . انتهى. قلت: ليس هذا مما قُلِب فيه الثاني للأولِ لأجلِ الإِدغام ك اثَّرَدَ في اثْتَرَدَ؛ لأنَّ تاءَ الافتعال تُبدَلُ دالاً بعد أحرفٍ منها الدالُ نحو: ادَّان في افْتَعَل من الدَّيْن فالإِبدالُ لأجلِ كونِ الدالِ

فاءً لا للإِدغام، فليس مثلَ اثَّرَدَ في شيءٍ فتأمَّلْه فإنه حَسَنٌ. فلمَّا أُدْغِمَت الدالُ في الدال أُدْخِلَتْ همزةُ الاستفهامِ فسقَطَتْ همزةُ الوصلِ فصار اللفظُ «أَدْرَكَ» بهمزةِ قطعٍ مفتوحةٍ، ثم نُقِلَتْ حركةُ هذه الهمزةِ إلى لامِ «بل» فصار اللفظ: «بَلَ دَّرَكَ» . وقرأ أبو رجاءٍ وشيبةٌ والأعمشُ والأعرجُ وابنُ عباس، وتروى عن عاصم كذلك، إلاَّ أنَّه بكسرِ لام «بل» على أصلِ التقاءِ الساكنين، فإنهم لم يَأْتوا بهمزةِ استفهامٍ. وقرأ عبد الله وابن عباس والحسن وابن محيصن «أادْرَكَ» بهمزةٍ ثم ألفٍ بعدَها. وأصلُها همزتان أُبْدِلَتْ ثانيتُهما ألفاً تخفيفاً. وأنكرها أبو عمرٍو. قلت: وقد تقدَّم أولَ البقرةِ أنه قُرىءُ «أَانْذَرْتَهم» بألفٍ صريحةٍ فلهذه بها أسوةٌ. وقال أبو حاتم: «لا يجوزُ الاستفهامُ بعد» بل «لأنَّ» بل «إيجاب، والاستفهامُ في هذا الموضعِ إنكارٌ بمعنى: لم يكن، كقولِه تعالى {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19] أي: لَم يَشْهدوا، فلا يَصِحُّ وقوعُهما معاً للتنافي الذي بين الإِيجاب والإِنكارِ» . قلت: وفي منع هذا نظرٌ؛ لأنَّ «بل» لإِضرابِ الانتقالِ، فقد أضربَ عن الكلامِ الأولِ، وأَخَذَ في استفهامِ ثانٍ. وكيف يُنْكَرُ هذا والنَّحْويون يُقَدِّرون «أم» المنقطعةَ ب بل والهمزة؟ وعجِبْتُ من الشيخِ كيف قال هنا: «وقد أجاز بعضُ المتأخرين الاستفهامَ بعد» بل «وشبهه؟ يقول القائل:» أخبزاً أكلْتَ، بل أماءً شرِبْتَ «على تَرْكِ الكلامِ الأولِ والأَخْذِ في الثاني» . انتهى

فتخصيصُه ببعضِ المتأخرين يُؤْذِنُ أن المتقدِّمينَ وبعضَ المتأخرين يمنعونه، وليس كذلك لِما حَكَيْتُ عنهم في «أم» المنقطعةِ. وقرأ ابنُ مسعودٍ «بل أَأَدْرَكَ» بتحقيقِ الهمزتين. وقرأ ورش في رواية «بلَ ادْرَكَ» بالنقل. وقرأ ابنُ عباس أيضاً «بلى ادْرَك» بحرف الإِيجاب أختِ نَعَم. و «بَلى آأَدْرك» بألفٍ بين الهمزتين. وقرأ أُبَيٌّ ومجاهد «أم» بدلَ «بل» وهي مخالفةٌ للسَّواد. قوله: {فِي الآخرة} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ «في» على بابها و «أَدْرَك» وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً؛ لأنه كائنٌ قطعاً كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] وعلى هذا ف «في» متعلقٌ ب «ادَّاركَ» . والثاني: أنَّ «في» بمعنى الباء أي بالآخرة. وعلى هذا فيتعلَّق بنفسِ عِلْمِهم كقولِك: «عِلْمي بزيدٍ كذا» . وأمَّا قراءةُ مَنْ قرأ «بلى» فقال الزمخشري: «لَمَّا جاء ب» بلى «بعد قولِه: {وَمَا يَشْعُرُونَ} كان مَعْناه:» بلى يَشْعْرون «ثم فَسَّر/ الشعورَ بقولِه {أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} على سبيلِ التهكمِ الذي معناه المبالغةُ في نَفْي العلمِ» ثم قال: و «أمَّا قراءةُ» بلى أَأَدْرك «على الاستفهامِ فمعناه: بلى يَشْعُرون متى يُبْعثون. ثم أنكر علمَهم بكونِها، وإذا أنكر علمَهم بكونِها لم يتحصَّلْ لهم شعورٌ بوقتِ كونِها؛ لأنَّ العلمَ بوقتِ الكائنِ تابعٌ للعلم بكونِ الكائنِ» ثم قال: «فإنْ قلتَ ما معنى هذه الإِضراباتِ الثلاثةِ؟ قتل: ما هي إلاَّ تنزيلٌ

لأحوالِهم، وَصَفَهم أولاً بأنهم لا يَشْعُرون وقتَ البعثِ ثم بأنَّهم لا يعلمون أنَّ القيامةَ كائنةٌ ثم بأنَّهم يَخْبِطُون في شكٍّ ومِرْيَة» . انتهى. فإنْ قِيل: «عَمِيَ» يتعدى ب «عن» تقول: عَمِيَ فلانٌ عن كذا فلِمَ عُدِّيَ ب «مِنْ» في قولِه: «مِنْها عَمُوْن» ؟ فالجوابُ: أنه جَعَلَ الآخرةَ مَبْدأ عَماهم ومَنْشَأَه.

67

قوله: {أَإِذَا} : قد تقدَّم الكلامُ في الاستفهامين إذا اجتمعا في سورةِ الرعدِ وتحقيقُه. والعاملُ في «إذا» محذوفٌ يَدُلُّ عليه «لَمُخْرَجُون» تقديره: نُبْعَثُ ونَخْرُجُ. ولا يجوزُ أَنْ يعملَ فيها «مُخْرَجُون» لثلاثةِ موانَع: الاستفهامِ، و «إنَّ» ، ولامِ الابتداءِ. وفي لامِ الابتداء في خبر «إنَّ» خلافٌ. وتكايَسَ الزمخشري هنا فعَبَّر بعبارةٍ حُلْوة فقال: لأنَّ بينَ يَدَيْ عَمَلِ اسمِ الفاعل فيه عِقاباً، وهي: همزةُ الاستفهام وإنَّ ولامُ الابتداء، وواحدةٌ منها كافيةٌ فكيف إذا اجتمَعْنَ؟ «. وقال أيضاً:» فإنْ قُلْتَ: قَدَّم في هذه الآيةِ «هذا» على {نَحْنُ وَآبَآؤُنَا} وفي آيةٍ أخرى قَدَّم {نَحْنُ وَآبَآؤُنَا} على «هذا» !! قلتُ: التقديمُ دليلٌ على أنَّ المُقَدَّمَ هو المَعْنِيُّ المعتمدُ بالذِّكْرِ، وأنَّ الكلامَ إنما سِيْق لأجلِه، ففي إحدى الآيتين دَلَّ على أنَّ إيجادَ البعثِ هو الذي تُعُمِّد بالكلام، وفي الأخرى على إيجاد المبعوث بذلك الصدد «.

و» آباؤُها عطفٌ على اسمِ كان. وقام الفَصْلُ بالجرِّ مقامَ الفَصْلِ بالتوكيدِ.

72

قوله: {رَدِفَ لَكُم} : فيه أوجهٌ، أظهرُها: أنَّ «رَدِفَ» ضُمِّن معنى فِعْلٍ يتعدَّى باللامِ. أي: دنا وقَرُب وأَزِفَ. وبهذا فسَّره ابنُ عباس و «بعضُ الذي» فاعِلٌ به وقد عُدِّي ب «مِنْ» أيضاً على تَضْمينِه معنى دَنا، قال: 3580 - فلمَّا رَدِفْنا مِنْ عُمَيْرٍ وصَحْبِه ... توَلَّوْا سِراعاً والمنيَّةُ تُعْنِقُ أي: دَنَوْنَا مِنْ عُمَيْر. والثاني: أنَّ مفعولَه محذوف، واللامُ للعلةِ أي: رَدِفَ الخَلْقُ لأَجْلكم ولِشُؤْمِكم. والثالث: أنَّ اللامَ مزيدةٌ في المفعولِ تأكيداً لزيادتِها في قولِه: 3581 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَنَخْنا لِلكَلاكِلِ فارْتَمَيْنا وكزيادةِ الباء في قولِه تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] وعلى هذه الأوجهِ الوقفُ على «تَسْتَعجلون» . والرابع: أنَّ فاعل «رَدِفَ» ضميرُ الوعدِ أي: رَدِفَ الوعدُ أي: قَرُبَ ودَنا مُقْتضاه. و «لكم» خبرٌ مقدمٌ و «بعضُ» مبتدأ مؤخرٌ. والوقفُ على هذا على «رَدِفَ» وهذا فيه تفكيكُ للكلامِ. والخامس: أنَّ

الفعلَ محمولٌ على مصدرِه أي: الرَّدافةُ لكم، و «بعضُ» على تقديرِ: رَدافةِ بعضٍ، يعني حتى يتطابقَ الخبرُ والمخبرُ عنه. وهذا أضعفُ مِمَّا قبله. وقرأ الأعرج «رَدَفَ» بفتح الدال وهي لغةٌ، والكسر أشهرُ.

73

قوله: {لاَ يَشْكُرُونَ} : يجوز أن يكونَ مفعولُه محذوفاً أي: لا يشكرون نِعَمَه. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ؛ بمعنى: لا يعترفون بنعمهِ، فعبَّر عن انتفاءِ مَعْرِفتِهم بالنعمةِ بانتفاءِ ما يترتَّبُ على معرفتِها وهو الشكرُ.

74

قوله: {مَا تُكِنُّ} : العامَّةُ على ضمِّ تاءِ المضارعةِ، مِنْ أَكَنَّ. قال تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ} [البقرة: 235] . وابن محيصن وابن السَّمَيْفع وحُمَيْد بتفحها وضمِّ الكاف. يقال: كَنَنْتُه وأكْنَنْتُه، بمعنى: أَخْفَيْتُ وسَتَرْتُ.

75

قوله: {وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ} : في هذه التاءِ قولان، أحدُهما: أنها للمبالغةِ كراوِيَة وعَلاَّمة. والثاني: أنها كالتاءِ الداخلةِ على المصادرِ نحو: العاقِبَة والعافِيَة. قال الزمخشري: «ونظيرُهما: الذَّبيحةُ والنَّطيحةُ والرَّمْيَةُ في أنها أسماءُ غيرُ صفاتٍ» .

78

قوله: {بِحُكْمِهِ} : العامَّةُ على ضمِّ الحاءِ وسكونِ الكاف. وجناح بن حبيش بكسرِها وفتحِ الكاف جمعَ «حِكْمة» .

80

قوله: {وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء} : تقدَّم تحريره في الأنبياء عليهم السلام.

81

قوله: {بِهَادِي العمي} : العامَّةُ/ على «هادِيْ» مضافاً للعُمْي. وحمزة «يَهْدِي» فعلاً مضارعاً، و «العمُيَ» نصبٌ على المفعول به، وكذلك التي في الروم ويحيى بن الحارث وأبو حيوة «بهاد» منوَّناً «العُمْيَ» منصوب به، وهو الأصلُ. واتفق القُرَّاء على أَنْ يقفوا على «هاد» في هذه السورةِ بالياءِ؛ لأنَّها رُسِمَتْ في المصحفِ ثابتةً. واختلفوا في الروم. فوقف الأخوان عليها بالياءِ أيضاً كهذه. أمَّا حمزةُ فلأنه يقرَؤُها «يَهْدي» فعلاً مضارعاً مرفوعاً فياؤه ثابتة. قال الكسائيُّ: «مَنْ قرأ» يَهْدِي «لَزِمَه أَنْ يقفَ بالياء، وإنما لزمه ذلك؛ لأن الفعلَ لا يَدْخُلُه تنوينٌ في الوصلِ تُحذف له الياء فيكونُ في الوقفِ كذلك، كما يَدْخُلُ تنوينٌ على» هادٍ «ونحوهِ فتَذْهبُ الياءُ في الوصل، فيجري الوقفُ على ذلك كَمَنْ وقف بغير ياءٍ» . انتهى. ويَلْزَمُ على ذلك أَنْ يُوْقَفَ على {يَقْضِي بالحق} [غافر: 20] {وَيَدْعُ الإنسان} [الإسراء: 11] بإثباتِ الياءِ والواوِ. ولكنْ يَلْزَمُ حمزةَ مخالفَةُ الرسمِ دونَ

القياسِ. وأمَّا الكسائيُّ فإنه يَقْرَأُ «بهادي» اسمَ فاعلٍ كالجماعةِ، فإثباتُه للياءِ بالحَمْلِ على «هادِي» في هذه السورةِ، وفيه مخالفَةٌ الرسمِ السلفيِّ. قوله: {عَن ضَلالَتِهِمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «يَهْدي» . وعُدِّي ب «عن» لتضمُّنِه معنى يَصْرِفهم. والثاني: أنه متعلقٌ بالعُمْي لأنَّك تقول: عَمِيَ عن كذا، ذكره أبو البقاء.

82

قوله: {وَإِذَا وَقَعَ القول} : أي: مضمونُ القول، أو أَطْلَقَ المصدرَ على المفعولِ أي: المَقُوْلُ. قوله: {تُكَلِّمُهُمْ} العامَّةُ على التشديد. وفيه وجهان، الأظهر: أنه من الكلامِ والحديث، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيٍّ «تُنَبِّئُهم» وقراءةُ يحيى بن سَلام «تُحَدِّثُهم» وهما تفسيران لها. والثاني: «تَجْرَحُهم» ويَدُلُّ عليه قراءةُ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وأبي زُرْعَةَ والجحدري «تَكْلُمُهم» بفتحِ التاءِ وسكونِ الكافِ وضمِّ اللامِ من الكَلْمِ وهو الجُرْحُ. وقد قُرِىء «تَجْرَحُهم» وفي التفسير أنها تَسِمُ الكافَر. قوله: {أَنَّ الناس} قرأ الكوفيون بالفتح، والباقون بالكسرِ، فأمَّا الفتحُ فعلى تقديرِ الباءِ أي: بأنَّ الناسَ. ويدلُّ عليه التصريحُ بها في قراءةِ عبدِ الله «

بأنَّ الناسَ» . ثم هذه الباء تُحتملُ أَنْ تكونَ مُعَدِّيَةً، وأن تكونَ سببيةً، وعلى التقديرين: يجوزُ أَنْ يكونَ «تُكَلِّمهم» بمعنَيَيْه من الحديثِ والجَرْح أي: تُحَدِّثهم بأنَّ الناسَ أو بسببِ أنَّ الناسَ، أو تجرَحهم بأنَّ الناس أي: تَسِمُهم بهذا اللفظِ، أو تَسِمُهم بسبب انتفاءِ الإِيمانِ. وأمَّا الكسرُ فعلى الاستئناف. ثم هو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ من كلامِ اللهِ تعالى وهو الظاهرُ، وأَنْ يكونَ من كلامِ الدابَّةِ، فيُعَكِّرَ عليه «بآياتنا» . ويُجاب عنه: إمَّا باختصاصِها، صَحَّ إضافةُ الآياتِ إليها، كقولِ أتباعِ الملوكِ: دوابُّنا وخَيْلُنا، وهي لِمَلِكهم، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: بآيات ربِّنا. وتُكَلِّمهم إنْ كان من الحديثِ فيجوزُ أَنْ يكونَ: إمَّا لإجراءِ «تُكَلِّمُهم» مجرى تقولُ لهم، وإمَّا على إضمارِ القولِ أي: فتقول كذا. وهذا القولُ تفسيرٌ ل «تُكَلِّمُهم» .

83

قوله: {مِن كُلِّ أُمَّةٍ} : يجوزُ أَنْ يكونَ متعلِّقاً بالحشر، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «فَوْجاً» ؛ لأن يجوزُ أن يكونَ صفةً له في الأصل. والفَوْجُ: الجماعة كالقوم، وقيَّدهم الراغبُ فقال: الجماعةُ المارَّةُ المسرعةُ «وكأنَّ هذا هو الأصلُ ثم أُطْلِقَ، وإنْ لم يكُن مرورٌ ولا إسراعٌ. والجمعُ: أفواجٌ وفُؤُوج. و» مِمَّنْ يُكَذِّبُ «صفةٌ له. و» ِمنْ «في» مِنْ كلِّ «تبعيضيةٌ، وفي» مِمَّن يُكَّذِّبُ «تَبْيينيَّة.

84

والواو في «ولم تُحِيْطُوا» يجوزُ أَنْ تكونَ العاطفةَ، وأن تكونَ الحاليَّةَ. و «عِلْماً» تمييزُ.

قوله: «أَمْ ماذا» «أم» هنا منقطعةٌ. وتقدَّم حكمُها و «ماذا» يجوز أَنْ يكونَ برُمَّتِه استفهاماً منصوباً ب «تَعْمَلون» الواقعِ خبراً عن «كنتم» ، وأَنْ تكونَ «ما» استفهاميةً مبتدأً، و «ذا» موصولٌ خبرُه، والصلةُ «كنتمُ تعملون» ، وعائدُه محذوفٌ أي: أيَّ شيءٍ الذي كنتم تَعْملونه. وقرأ أبو حيوةَ «أَمَا» بتخفيفِ الميمِ، جَعَلَ همزةَ الاستفهامِ داخلةً على اسمِه تأكيداً كقولِه: 3582 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ

85

قوله: {بِمَا ظَلَمُواْ} : أي: بسببِ ظُلْمِهم. ويَضْعُفُ جَعْلُ «ما» بمعنى الذي.

86

قوله: {لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} : قيل: قد حُذِفَ من الأولِ ما أُثْبت نظيرُه في الثاني، ومن الثاني ما أُثبتْ نظيرهُ في الأولِ؛ إذ التقديرُ: جَعَلْنا الليلَ مُظْلماً/ لِيَسْكنوا فيه، والنهارَ مُبْصِراً ليَتَصَرَّفوا فيه. فحذف «مُظْلِماً» لدلالةِ «مُبْصِراً» ، و «لِيتصَرَّفوا» لدلالة «لَيَسْكُنُوا» . وقولُه «مُبْصِراً» كقولِه: {آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] وتقدَّمَ تحقيقه في الإِسراء. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما للتقابلِ لم يُراعَ في قولِه:» لِيَسْكُنوا «و» مُبْصِراً «حيث كان أحدُهما علةَ والآخرُ حالاً؟ قلت: هو مُراعَى من حيث المعنى، وهكذا النظمُ المطبوعُ غيرُ المتكلَّفِ» .

87

قوله: {فَفَزِعَ} : دونَ فَيَفْزعُ؛ لتحقُّقِه كقوله: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين} [الحجر: 2] و {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . قوله: {أَتَوْهُ} قرأ حمزة وحفص «أَتَوْه» فعلاً ماضياً. ومفعولُه الهاءُ. والباقون «آتُوْه» اسمَ فاعلٍ مضافاً للهاءِ. وهذا حَمْلٌ على معنى «كُل» وهي مضافةٌ تقديراً أي: وكلَّهم. وقرأ قتادةُ «أتاه» مُسْنداً لضميرِ «كُل» على اللفظِ، ثم حُمِلَ على معناها فقرأ «داخِرين» . والحسن والأعرج «دَخِرين» بغير ألفٍ.

88

قوله: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} : هذه الجملةُ حاليةٌ مِنْ فاعلِ «ترى» ، أو مِنْ مفعولهِ؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَريةٌ. قوله: {وَهِيَ تَمُرُّ} الجملةُ حاليةٌ أيضاً. وهكذا الأجرامُ العظيمةٌ تراها واقفةً وهي مارَّة. قال النابغةُ الجعديُّ يصف جيشاً كثيفاً: 3583 - بأَرْعَنَ مثلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهم ... وُقوفٌ لِحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ و «مرَّ السَّحابِ» مصدرٌ تشبيهيٌّ. قوله: {صُنْعَ الله} مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ السابقةِ. عاملُه مضمرٌ.

أي: صَنَعَ اللهُ ذلك صُنْعاً، ثم أُضِيف بعد حَذْفِ عامِله. وجعلَه الزمخشريُّ مؤكِّداً للعاملِ في {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} [النمل: 87] وقَدَّره «ويومَ يُنْفَخُ» وكان كيتَ وكيتَ أثابَ اللهُ المحسنين، وعاقَبَ المسيئين، في كلامٍ طويلٍ حَوْماً على مذهبه. وقيل: منصوبٌ على الإِغراء أي: انظروا صُنْعَ اللهِ وعليكم به. والإِتْقانُ: الإِتيانُ بالشيءِ على أكملِ حالاتِه. وهو مِنْ قولِهم «تَقَّن أَرْضَه» إذا ساقَ إليها الماءَ الخاثِرَ بالطينِ لتَصْلُحَ لِلزراعة. وأرضٌ تَقْنَةٌ. والتَّقْنُ: فِعْلُ ذلك بها، والتَّقْنُ أيضاً: ما رُمِيَ به في الغدير من ذلك أو الأرض. قوله: {بِمَا تَفْعَلُونَ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو وهشام بالغَيْبة جرْياً على قولِه: «وكلٌّ أَتَوْهُ» . والباقون بالخطاب جَرْياً على قولِه: «وتَرى» لأنَّ المرادَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأمَّتُه.

89

قوله: {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} : في «خيرٌ» وجهان، أحدُهما: أنها للتفضيلِ باعتبارِ زَعْمهم، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: خيرٌ مِنْ قَدْرِها واستحقاقِها ف «مِنْها» في محلِّ نصبٍ، وأَنْ لا تكونَ للتفضيلِ. فيكونَ «منها» في موضعِ رفعٍ صفةً لها. قوله: {مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} قد تقدَّم في هود فتحُ «يوم» وجَرُّه، و «إذ» مضافةٌ لجملةٍ حُذِفَتْ وعُوِّض عنها التنوينُ. والأحسنُ أَنْ تُقَدَّرَ: يومَ إذ جاءَ

بالحسنةِ. وقيل: يومَ إذ ترى الجبالَ. وقيل: يومَ إذ يُنْفَخُ في الصُّور. والأولُ أَوْلى لقُرْب ما قُدِّر منه.

90

قوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ} : على إضمار قولٍ، وهذا القولُ حالٌ مِمَّا قبله أي: كُبَّتْ وجوهُهم مقولاً لهم ذلك القولُ.

91

قوله: {الذي حَرَّمَهَا} : هذه قراءةُ الجمهورِ صفةً للرَّب. وابن مسعودٍ وابن عباس «التي» صفةً للبَلْدة، والسياقُ إنما هو للربِّ لا للبلدة، فلذلك كانتِ العامَّةُ واضحةً.

92

قوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن} : العامَّةُ على إثباتِ الواوِ بعد اللام. وفيها تأويلان، أحدُهما وهو الظاهر أنَّه من التلاوةِ وهي القراءةُ، وما بعدَه يُلائمه. والثاني: من التُّلُوِّ وهو الاتِّباعُ كقولِه: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} [يونس: 109] . وقرأ عبد الله «أنْ اتْلُ» أمراً له عليه السلام، ف «أن» يجوز أَنْ تكونَ المفسِّرة، وأَنْ تكونَ المصدريةَ وُصِلَتْ بالأمر. وقد تقدَّم ما فيه. قوله: {وَمَن ضَلَّ} يجوز أَنْ يكونَ الجوابُ قولَه: {فَقُلْ إِنَّمَآ} . ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ عائدٍ على اسمِ الشرط. اي: مِنَ المنذِرين له؛ لِما تَقَدَّم في البقرة. وأَنْ يكونَ الجوابُ محذوفاً، أي: فوبالُ ضلالهِ عليه.

93

قوله: {عَمَّا تَعْمَلُونَ} : قد تقدَّمَ أنه قُرِىء بالياءِ والتاءِ في آخرِ هود.

القصص

قوله: {نَتْلُواْ} : يجوز أَنْ يكونَ مفعولُه محذوفاً، دَلَّتْ عليه صفتُه وهي {مِن نَّبَإِ موسى} ، تقديرُه: نَتْلو عليك شيئاً مِنْ نَبأ موسى. ويجوزُ أَنْ تكونَ «مِنْ» مزيدةً على رَأْيِ الأخفش. أي: نَتْلُو عليك نَبَأ موسى. قوله: {بالحق} يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «نَتْلو» أو من مفعولِه أي: مُلْتبسين أو مُلْتبساً بالحقِّ، أو متعلقٌ بنفسِ «نَتْلو» بمعنى: نَتْلوه بسببِ الحقِّ. و «لقوم» / متعلقٌ بفعلِ التلاوةِ أي: لأجلِ هؤلاء.

4

قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} : هذا هو المتلُوُّ فجيءَ به في جملةٍ مستأنفةٍ مؤكِّدة. قوله: {يَسْتَضْعِفُ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مستأنِفٌ، بيانٌ بحالِ الأهل الذين جَعَلهم فِرَقاً وأصنافاً. الثاني: أنه حالٌ مِنْ فاعلِ «جَعَل» أي: جعَلَهم كذا حالَ كونِه مُسْتَضْعِفاً طائفةً منههم. الثالث: أنه صفةٌ ل «شِيَعاً» .

قوله: {يُذَبِّحُ} يجوزُ فيه ثلاثةُ الأوجهِ: الاستئنافُ تفسيراً ل «يَسْتَضْعِفُ» ، أو الحالُ مِنْ فاعِله، أو صفةٌ ثانيةٌ لطائفة. والعامَّةُ على التشديدِ في «يُذَبِّح» للتكثير. وأبو حيوة وابن محيصن «يَذْبَحُ» مفتوحَ الياءِ والباءِ مضارعَ «ذَبَحَ» مخففاً.

5

قوله: {وَنُرِيدُ} : فيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على قولِه: «إنَّ فرعونَ» ، عطفَ فعليةٍ على اسميةٍ، لأنَّ كلتيهما تفسيرٌ للنبأ. والثاني: أنَّها حالٌ مِنْ فاعلِ «يَسْتَضْعِفُ» . وفيه ضعفٌ من حيث الصناعةُ، ومن حيث المعنى. أمَّا الصناعةُ فلكونِه مضارعاً مُثْبتاً فحقُّه أن يتجرَّد مِن الواوِ. وإضمارُ مبتدأ قبلَه أي: ونحن نريدُ كقولِه: 3584 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . وأرْهَنُهُمْ مالِكاً تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه. وأمَّا المعنى فكيف يَجْتمع استضعافُ فرعونَ وإرادةُ المِنَّةِ من اللهِ؟ لأنه متى مَنَّ الله عليهم تَعَذَّرَ استضعافُ فرعونَ إياهم. وقد أُجيب عن ذلك. بأنَّه لمَّا كانت المِنَّةُ بخلاصِهِم مِنْ فرعونَ سريعةَ الوقوعِ، قريبتَه، جُعِلَتْ إرادةُ وقوعِها كأنها مقارِنَةٌ لاستضعافِهم.

6

قوله: {وَنُمَكِّنَ} : العامَّةُ على ذلك مِنْ غير لامِ علةٍ. والأعمش «ولِنُمَكِّنَ» بلامِ العلةِ، ومتعلَّقُها محذوفٌ أي: ولنمكِّنَ فَعَلْنا ذلك.

قوله: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ} قرأ الأخوانَ «يرى» بفتح الياءِ والراءِ مضارعَ «رَأى» مسنداً إلى فرعونَ وما عُطِفَ عليه فلذلك رفعوا. والباقون بضمِّ النون وكسرِ الراءِ مضارعَ «أرى» ؛ ولذلك نُصِبَ فرعنن وما عُطِف عليه مفعولاً أولَ. و «ما كانوا» هو الثاني و «منهم» متعلِّقٌ بفعلِ الرؤيةِ أو الإِراءة، لا ب «يَحْذَرون» لأنَّ ما بعد الموصولِ لا يَعْمَلُ فيما قبلَه. ولا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نقول: اتُسِعَ فيه.

7

قوله: {أَنْ أَرْضِعِيهِ} : يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرة والمصدريةَ. وقرأ عمر بن عبد العزيز وعمر بن عبد الواحد بكسرِ النونِ على التقاءِ الساكنين كأنه حَذَف همزةَ القطعِ على غيرِ قياسٍ، فالتقى ساكنان، فكُسِرَ أَوَّلُهما.

8

قوله: {لِيَكُونَ} : في اللامِ الوجهان المشهوران: العِلِّيَّةُ المجازيةُ بمعنى: أنَّ ذلك لَمَّا كان نتيجةَ فِعْلِهم وثمرتَه، شُبِّه بالداعي الذي يفعلُ الفاعلُ الفعلَ لأجله، أو الصيرورةُ. وقرأ العامَّةُ بفتحِ الحاءِ والزاي وهي لغةُ قريشٍ والأخوان بضمٍ وسكونٍ. وهما لغتان بمعنىً واحدٍ كالعُدْمِ والعَدَم.

قوله: {خَاطِئِينَ} : العامَّةُ على الهمزِ. مأخوذٌ من الخَطأ ضدَّ الصواب. وقُرِىءَ بياءٍ دونَ همزةٍ، فاحْتُمِلَ أن يكونَ كالأولِ ولكن خُفِّفَ، وأَنْ يكونَ مِنْ خطا يَخْطُو، أي: تجاوزَ الصوابَ.

9

قوله: {قُرَّةُ عَيْنٍ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو قُرَّةُ عينٍ. والثاني: وهو بعيدٌ جداً أَنْ يكونَ مبتدأ، والخبرُ «لا تَقْتُلوه» . وكأنَّ هذا القائلَ حقُّه أَنْ يُذَكَّر فيقول: لا تقتلوها إلاَّ أنه لمَّا كان المرادُ مذكراً ساغَ ذلك. والعامَّة من القرَّاء والمفسرين وأهلِ العلم يقفون على «ولَكَ» . ونقل ابن الأنباري بسنده إلى ابن عباس عنه أنه وَقَف على «لا» أي: هو قُرَّةُ عينٍ لي فقط، ولك لا، أي ليس هو لك قرةَ عين، ثم يَبْتَدِىء بقوله «تَقْتُلوه» ، وهذا لا ينبغي أن يَصِحَّ عنه، وكيف يَبْقَى «تَقْتُلوه» من غيرِ نونِ رفعٍ ولا مُقْتَضٍ لحَذْفِها؟ ولذلك قال الفراء: «هو لحنٌ. قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملةٌ حاليةٌ. وهل هي من كلامِ الباري تعالى وهو الظاهرُ، أو من كلامِ امرأةِ فرعون؟ كأنَّها لَمَّا رأَتْ مَلأَه أشاروا بقتلِه قالَتْ له كذا أي: افعلَ أنتَ ما أقولُ لك، وقومُك لا يَشْعُرون. وجَعَل الزمخشريُّ الجملةَ مِنْ قولِه: {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ} معطوفةً على» فالتقطه «، والجملةَ مِنْ قولِه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} إلى» خاطئين «معترضاً بين المتعاطفين/، وجَعَلَ

متعلَّقَ الشعور مِنْ جنسِ الجملةِ المعترضةِ أي: لا يَشْعُرون أنهم على خطأ في التقاطِه. قال الشيخ:» ومتى أمكن حَمْلُ الكلامِ على ظاهرِه مِنْ غيرِ فصلٍ كان أحسنَ «.

10

قوله: {فَارِغاً} : خبرُ «أصبحَ» أي: فارغاً من العقلِ، أو من الصبرِ، أو من الحُزْن. وهو أبعدُها. ويَرُدُّه قراءاتٌ تُخالِفهُ: فقرأ فضالةُ والحسنُ «فَزِعاً» بالزاي، مِنَ الفزعِ. وابن عباس «قَرِعاً» بالقافِ وكسرِ الراء وسكونِها، مِنْ قَرِِعَ رأسُه: إذا انحسَرَ شعرُه. والمعنى: خلا مِنْ كلِّ شيء، وانحسَر عنه كلُّ شيءٍ، إلاَّ ذِكْرَ موسى. وقيل: الساكنُ الراءِ مصدرُ قَرَعَ يَقْرَعُ أي: أصيب. وقُرِىء «فِرْغاً» بكسر الفاءِ وسكونِ الراء. والغينِ معجمةً، أي: هَدْراً. كقوله: 3585 - فإنْ يَكُ قَتْلى قد أُصيبَتْ نفوسُهُمْ ... فلَنْ يَذْهبُوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبالِ «فَرْغاً» حالٌ مِنْ «بِقَتْلِ» . وقرأ الخليلُ «فُرُغاً» بضم الفاء والراء وإعجامِ الغين، من هذا المعنى. قوله: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي} «إنْ» : إمَّا مخففةٌ، وإمَّا نافيةٌ. واللامُ: إمَّا فارقةٌ، وإمَّا بمعنى إلاَّ. قوله: {لولا أَن رَّبَطْنَا} جوابُها محذوفٌ أي: لأَبْدَتْ، كقولِه: {وَهَمَّ بِهَا

لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] . و {لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} متعلقٌ ب «رَبَطْنا» . والباء في «به» مزيدةٌ في المفعولِ أي: لِتُظْهِرَه وقيل: ليسَتْ زائدةً بل سببيةٌ. والمفعولُ محذوفٌ أي: لَتُبْديْ القولَ بسببِ موسى أو بسببِ الوَحْي. فالضميرُ يجوزُ عَوْدُه على موسى أوعلى الوحي.

11

قوله: {قُصِّيهِ} : أي: قُصِّي أثرَه أي: تَتَبَّعيه. قوله: {فَبَصُرَتْ بِهِ} أي: أَبْصَرَتْه، وقرأ قتادةُ «بَصَرَتْ» بفتح الصاد. وعيسى بكسرِها. وتقدَّم معناه في طه. قوله: {عَن جُنُبٍ} في موضعِ الحال: إمَّا مِنَ الفاعلِ أي: بَصُرَتْ به مُسْتَخْفِيَةً كائنةً عن جُنُبٍ، وإمَّا مِن المجرورِ، أي: بعيداً منها. وقرأ العامَّةُ «جُنُبٍ» بضمتين وهو صفةٌ لمحذوفٍ. أي: مِنْ مكان بعيد. وقال أبو عمرو ابن العلاء: «أي: عن شوق» ، وهي لغةُ جُذام يقولون: جَنِبْتُ إليك أي: اشْتَقْتُ. وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي بفتح الجيمِ وسكونِ النونِ، وعن قتادةَ أيضاً بفتحهما. وعن الحسن «جُنْبِ» بالضم والسكونِ. وعن سالم «عن جانبٍ» وكلُّها بمعنى واحد. ومثلُه: الجَنَابُ والجَنابَة.

قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملةٌ حاليةٌ، ومتعلَّق الشعورِ محذوفٌ أي: أنها تَقُصُّه، أو أنه سيكونُ لهم عَدُوَّاً وحَزَناً.

12

قوله: {المراضع} : قيل: يجوزُ أَنْ تكونَ جمعَ مُرْضِع، وهي المرأة. وقيل: جمعُ «مَرْضَعْ» بفتح الميمِ والضاد. ثم جَوَّزوا فيه أَنْ يكونَ مكاناً أي: مكان الإِرضاع وهو الثَّدْيُ، وأَنْ يكونَ مصدراً أي: الإِرْضاعاتِ أي: أنواعَها. قوله: {مِن قَبْلُ} أي: مِنْ قبلِ قَصِّها أثرَه. قوله: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} الظاهرُ أنه ضميرُ موسى. وقيل: لفرعون. ومن طريف ما يحكى: أنها لَمَّا قالَتْ لهم ذلك استنكروا حالَها وتفرَّسوا أنها قَرابَتُه. فقالَتْ: إنما أردْتُ: وهم للمَلِكِ ناصحون. فتخلَّصَتْ منهم. قاله ابن جريج. قلت: وهذا يُسَمَّى عند أهلِ البيانِ «الكلامَ المُوَجَّه» ومثلُه لَمَّا سُئل بعضُهم وكان بين أقوامٍ، بعضُهم يُحِبُّ عليَّاً دونَ غيرِه، وبعضُهم أبا بكر، وبعضُهم عمرَ، وبعضُهم عثمانَ، فقيل له: أيُّهم أحبُّ إلى رسول الله؟ فقال: مَنْ كانت ابنتُه تحته.

13

قوله: {وَلاَ تَحْزَنَ} : عطفٌ على «تَقَرَّ» . ودمعةُ الفرحِ قارَّةٌ، ودمعة التَّرَحِ حارَّة. قال أبو تمام: 3586 - فأمَّا عيونُ العاشِقين فَأُسْخِنَتْ ... وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ

وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في مريم.

15

قوله: {على حِينِ غَفْلَةٍ} : في موضع الحال [إمَّا] من الفاعل: كائناً على حين غَفْلَةٍ ِأي: مُسْتَخْفِياً، وإمَّا من المفعول. وقرأ أبو طالبٍ القارىء «على حينَ» بفتح النون. وتكلَّف الشيخُ تخريجَها على أنه حَمَلَ المصدرَ على الفعل في أنه إذا أضيف الظرفُ إليه جاز بناؤه على الفتح كقوله: 3587 - على حينَ عاتَبْتُ المشيب على الصِّبا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و «مِنْ أهلِها» صفةٌ ل «غَفْلَة» أي: صادرةٍ من أهلها. قوله: {يَقْتَتِلاَنِ} صفةٌ ل «رجلين» . وقال ابن عطية: «حال منهما» وسيبويه وإنْ كان جَوَّزَها مِن النكرة/ مُطْلقاً. إلاَّ أنَّ غيرَه وهم الأكثرون يَشْتَرِطون فيها ما يُسَوِّغُ الابتداءَ بها وقرأ نعيم بن ميسرة «يَقَتِّلان» بالإِدغام نَقَلَ فتحَة التاءِ الأولى إلى القافِ وأدغمَ.

قوله: {هذا مِن شِيعَتِهِ} مبتدأٌ وخبرٌ في موضعِ الصفةِ ل «رجلين» أو الحالِ من الضمير في «يَقْتَتِلان» وهو بعيدٌ لعدمِ انتقالها. وقوله: «هذا، وهذا» على حكايةِ الحالِ الماضيةِ فكأنهما حاضران. وقال المبردُ: «العربُ تُشير ب هذا إلى الغائب وأنشد الجرير: 3588 - هذا ابنُ عَمِّي في دمشقَ خليفةً ... لو شِئْتُ ساقَكُمُ إليَّ قَطِينا قوله: {فاستغاثه} هذه قراءةُ العامَّةِ، من الغَوْثِ أي: طَلَبَ غَوْثَه ونَصْرَه. وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة، والنون، من الإِعانة. قال ابنُ عطية:» هي تصحيفٌ «. وقال ابن جبارة صاحب» الكامل «:» الاختيارُ قراءةُ ابنِ مقسم؛ لأنَّ الإِعانة أولى في هذا البابِ «. قلت: نسبةُ التصحيفِ إلى هؤلاء غيرُ محمودةٍ، كما أن تَعالِيَ الهُذَليِّ في اختيارِ الشاذِّ غيرُ محمودٍ. قوله: {فَوَكَزَهُ} أي: دَفَعَه بجميع كَفَّه. والفرقُ بين الوَكْزِ واللَّكْزِ: أنَّ الأولَ بجميعِ الكفِّ، والثانيْ بأطرافِ الأصابِع وقيل: بالعكسِ. والنَّكْزُ كاللَّكْزِ. قال:

3589 - يا أَيُّها الجاهِلُ ذو التَّنَزِّي ... لا تُوْعِدَنِّي حَيَّةً بالنَّكْزِ وقرأ ابنُ مسعود» فَلَكَزه «و» فَنَكَزَه «باللام والنونِ. قوله: {فقضى} أي: موسى، أو الله تعالى، أو ضميرُ الفعلِ ِأي: الوَكْزُ قوله: {مِنْ عَمَلِ} : مِنْ وَسْوَسَتِه وتَسْوِيْلِه والإِشارةُ إلى القَتْلِ الصادرِ منه.

17

قوله: {بِمَآ أَنْعَمْتَ} : يجوزُ في الباءِ أن تكونَ قَسَماً، والجوابُ: لأَتُوْبَنَّ مقدراً. ويُفَسِّره «فَلَنْ أكونَ» ، وأَنْ تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ، ومعناها السببيَّةُ. أي: اعْصِمْني بسببِ ما أَنْعَمْتَ به عليَّ، ويترتَّبُ عليه قولُه: «فلن أكونَ ظَهيراً» . و «ما» مصدريةٌ، أو بمعنى الذي. والعائدُ محذوفٌ. وقوله: «فلن» نفيٌ على حقيقتِه. وزعمَ بعضُهم أنه دعاءٌ، وأنَّ «لن» واقعةٌ موقعَ «لا» . وأجاز قومٌ ذلك مُسْتَدِلِّينَ بهذه الآية، وبقولِ الشاعر: 3590 - لَنْ تَزالُوا كذلِكُمْ ثُمَّ لا زِلْ ... تَ لهمْ خالِداً خُلُوْدَ الجبالِ وليس فيهما دلالةٌ لظهورِ النفيِ فيهما مِنْ غيرِ تقديرِ دعاءٍ، وإنْ كان في البيت أقوى.

18

قوله: {خَآئِفاً} : الظاهرُ أنه خبرُ «أَصْبح» و «في

المدينة» [متعلِّقٌ] به. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً، والخبرُ «في المدينة» . ويَضْعُفُ تمامُ «أصبحَ» أي: دَخَل في الصباح. قوله: {يَتَرَقَّبُ} يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ حالاً ثانيةً، وأن يكونَ بدلاً من الحالِ الأولى، أو الخبر الأول، أو حالاً من الضميرِ في «خائفاً» فتكونُ متداخلةً. ومفعولُ «يترقَّبُ» محذوفٌ، أي: يترقَّبُ المكروهَ، أو الفرَجَ، أو الخبر: هل وصل لفرعونَ أم لا؟ قوله: {فَإِذَا الذي} «إذا» فجائيةٌ. و «الذي» مبتدأ. وخبره: إمَّا «إذا» ، ف «يَسْتَصْرِخُه» حالٌ، وإمَّا «يَسْتَصْرِخُه» ف «إذا» فَضْلةٌ على بابها. و «بالأمس» معربٌ؛ لأنه متى دَخَلَتْ عليه أل أو أُضيفَ أُعْرِبَ، ومتى عَرِيَ منهما فحالُه معروفٌ: الحجازُ تَبْنيه، والتميميُّون يَمْنعونه الصرفَ كقولِه: 3591 - لقد رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسا ... على أنَّه قد يبنى مع أل نُدوراً، كقوله: 3592 - وإنِّي حُبِسْتُ اليومَ والأمسِ قبلَه ... إلى الشمسِ حتى كادَتِ الشمسُ تَغْرُبُ

يروى بكسر السين. قوله: {قَالَ لَهُ موسى} الضميرُ: قيل: للإِسرائيليِّ؛ لأنه كان سبباً في الفتنةِ الأولى. وقيل: للقبطيِّ.

19

قوله: {فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ} : الظاهرُ أنَّ الضميرَيْن لموسى. وقيل: للإِسرائيليِّ والعدوُّ هو القِبْطي. والضميرُ في «قال يا موسى» للإِسرائيليِّ، كأنه تَوَهَّم مِنْ موسى مُخاشَنَةً، فمِنْ ثَمَّ قال كذلك، وبهذا فشا خبرُه، وكان مَشْكوكاً في قاتِله. و «أنْ» تَطَّرِدُ زيادتُها في موضعين، أحدُهما: بعد «لَمَّا» كهذِه. والثاني قبل «لو» مسبوقةً بقَسَمٍ كقولِه: 3593 - أَمَا واللهِ أنْ وكنتُ حُرّاً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقولِه] : 3594 - فَأُقْسِمُ أَنْ لو التَقَيْنَا وأنتُمُ ... لكان لنا يومٌ مِنْ الشَّرِّ مُظْلِمُ والعامَّةُ على «يَبْطِشُ» بالكسرِ. وضَمَّها أبو جعفر.

20

قوله: {يسعى} : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً، وأَنْ يكونَ حالاً؛ لأنَّ النكرةَ قد تَخَصَّصَتْ بالوصفِ بقولِه: {مِّنْ أَقْصَى المدينة} فإن

جَعَلتْ «مِنْ أَقْصَى» متعلقاً ب «جاء» ف «يَسْعَى» صفةٌ ليس إلاَّ. قاله الزمخشريُّ، بناءً منه على مذهب الجمهورِ وقد تقدَّم/ أنَّ سيبويه يجيز ذلك مِنْ غيرِ شرطٍ. وفي آية يس تقدَّم «مْن أقصى» على «رجل» لأنَّه لم يكنْ مِنْ أقصاها، وإنما جاء منه، وهنا وصَفَه بأنه مِنْ أقصاها، وهما رجلان مختلفان وقِصَّتان متباينتان. قوله: {يَأْتَمِرُونَ} أي: يَتَآمَرُوْنَ بمعنى يَتشاورون، كقولِ النَّمِر ابنِ تَوْلب: 3595 - أرى الناسَ قد أَحْدَثُوا شِيْمَةً ... وفي كلِّ حادثةٍ يُؤْتَمَرْ وعن ابن قتيبة: يأمرُ بعضُهم بعضاً. أخذَه مِنْ قولِه تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] . قوله: «لك» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بما يَدُلُّ «الناصحين» عليه أي: ناصحٌ لك من الناصحين، أو بنفسِ «الناصحين» للاتِّساع في الظرف، أو على جهةِ البيان أي: أعني لك.

21

قوله: {يَتَرَقَّبُ} : أي: يترقَّبُ هِدايتَه وغَوْثَ الله إياه.

23

قوله: {تَذُودَانِ} : صفةٌ ل «امرَأَتَيْنِ» لا مفعولٌ ثان لأنَّ «وَجَدَ» بمعنى لَقِيَ. والذَّوْدُ: الطَّرْدُ والدَّفْعُ قال: 3596 - فَقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسَيْفِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقيل: حَبَسَ، ومفعولُه محذوفٌ أي: تَذُوْدان الناسَ عن غَنَمِهما، أو غَنَمَهما عن مزاحمةِ الناس. و «مِنْ دونِهم» أي من مكانٍ أسفلَ مِنْ مكانِهم. قوله: {مَا خَطْبُكُمَا} قد تقدَّم في طه. وقال الزمخشري هنا: «وحقيقتُه ما مَخْطُوْبُكما؟ أي: ما مطلوبُكما من الذِّياد، سمى المخطوبَ خَطْباً، كما سُمِّي المَشْؤُوْن شأناً في قولك: ما شَأْنُك؟ يُقال: شَأَنْتُ شَأْنَه أي: قََصَدْتُ قَصْدَه» . وقال ابنُ عطية: «السؤالُ بالخَطْبِ إنما هو في مُصابٍ أو مُضْطَهَدٍ» أو مَنْ يَشْفَقُ عليه، أو يأتي بمنكرٍ من الأمرِ «. وقرأ شمر» خِطْبُكما «بالكَسْر أي: ما زوجُكما؟ أي: لِمَ تَسْقِيان ولم يَسْقِ زوجُكما؟ وهي شاذَّةٌ جداً.

قوله: {يُصْدِرَ} قرأ أبو عمرٍو وابنُ عامرٍ بفتح الياءِ وضمِّ الدالِ مِنْ صَدَرَ يَصْدُر وهو قاصرٌ أي: يَصْدُرون بمواشِيهم. والباقون بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ مضارعَ أَصْدَرَ مُعَدَّى بالهمزةِ، والمفعولُ محذوفٌ أي: يُصْدِرون مواشِيَهم. والعامَّةُ على كسرِ الراءِ من» الرِّعاء «وهو جمعُ تكسيرٍ غيرُ مَقيس؛ لأنَّ فاعِلاً الوصفَ المعتلَّ اللامِ كقاضٍ قياسُه فُعَلَة نحو: قُضَاة ورُمَاة. وقال الزمخشري:» وأما الرِّعاء بالكسرِ فقياسٌ كصِيامٍ وقِيامٍ «وليس كما ذَكَر لما ذَكَرْتُه. وقرأ أبو عمرٍو في روايةٍ بفتحِ الراءِ. قال أبو الفضل:» هو مصدرٌ أُقيم مُقامَ الصفةِ؛ فلذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ «، أو على حَذْفِ مضافٍ. وقُرِىء بضمِّها وهو اسمُ جمعٍ ك رُخَال، وثُناء. وقرأ ابن مصرف» لا نُسْقي «بضمِّ النونِ مِنْ أسقى، وقد تقدَّم الفرقُ بين سقى وأسقى في النحل.

24

قوله: {فسقى لَهُمَا} : مفعولُه محذوفٌ أي: غَنَمَهما لأجلِهما.

قوله: {لِمَآ أَنزَلْتَ} متعلقٌ ب «فقيرٌ» . قال الزمخشري: «عَدَّى» فقيرٌ «باللام لأنه ضُمِّن معنى سائلٌ وطالبٌ. ويُحتمل: إني فقيرٌ من الدنيا لأجلِ ما أَنْزَلْتَ إليَّ من خيرِ الدين، وهو النجاةُ من الظالمين» . قلت: يعني أنَّ افْتَقَرَ يتعدَّى ب «مِنْ» ، فإمَّا أن تجعلَه من بابِ التضمين، وإمَّا أَنْ تُعَلِّقَه بمحذوفٍ. و «أَنْزَلْتَ» قيل: ماضٍ على أصلِه. ويعني بالخيرِ ما تقدَّم مِنْ خيرِ الدين. وقيل: بمعنى المستقبل.

25

قوله: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} : قرأ ابن محيصن «فجاءَتْه حْداهما» بحذفِ الهمزةِ تخفيفاً على غيرِ قياسٍ كقولِهم: يا با فلان، وقولِه: 3597 - يا با المُغيرة رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ ... فَرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها و «وَيْلُمِّه» أي: ويلٌ لأمِّه. قال: 3598 - وَيْلُمِّها خُلَّةً لو أنَّها صَدَقَتْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و «تَمْشي» حالٌ، و «على استحياء» حالٌ أخرى: إمَّا مِنْ «جاءَتْ» ، وإمَّا مِنْ «تَمْشي» .

27

قوله: {أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى} : رُوِيَ عن أبي عمرٍو: «أُنْكِحك حدى» بحَذْفِ همزةِ «إحدى» ، وهذه تُشْبِهُ قراءةَ ابن محيصن «فجاءَتْه حْداهما» . وتقدَّم التشديدُ في نونِ «هاتَيْن» في سورةِ النساء. قوله: {على أَن تَأْجُرَنِي} في محلِّ نصبٍ على الحالِ: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول أي: مَشْروطاً على، أو عليك ذلك. «وتَأْجُرَني» مضارعُ أَجَرْتُه: كنتُ له أَجيراً. ومفعولُه الثاني محذوفٌ أي: تَأْجُرني نفسَك. و «ثماني حِجَج» ظرفٌ له. ونقل الشيخ عن الزمخشري أنها هي المفعولُ الثاني: قلتُ: الزمخشريُّ لم يَجْعَلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجهِ، وإنما جَعَلَها مفعولاً ثانياً على وجهٍ آخرَ. وأمَّا على هذا الوجهِ فلم يَجْعَلْها غيرَ ظرفٍ. وهذا نصُّه ليتبيَّنَ لك. قال: «تَأْجُرُني مِنْ أَجَرْتُه إذا كنتَ له أَجيراً، كقولك: أَبَوْتُه إذا كنتَ له أباً. وثماني حِججٍ ظرفٌ، أو مِنْ آجَرْتُه [كذا] : إذا أَثْبَتَّه [إياه] . ومنه تعزيةٌ/ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم:» آجَرَكم اللهُ ورَحِمَكم «و» ثمانيَ حِجَجٍ «مفعولٌ به. ومعناه رِعْيَةَ ثَمانِي حِججٍ» . فنقل الشيخُ عنه الوجهَ الأولَ من المعنيَيْن المذكورَيْن ل «تَأْجُرَني» فقط، وحكى عنه أنه أعربَ «ثمانيَ حِجَج» مفعولاً به. وكيف يَسْتقيم ذلك أو يَتَّجه؟ وانظر إلى الزمخشريِّ كيف

قَدَّر مضافاً ليَصِحَّ المعنى به أي: رَعْيَ ثماني حِجج؛ لأنَّ العملَ هو الذي تقع الإِثابة عليه لا نفسُ الزمان فكيف تُوَجَّه الإِجازةُ على الزمان؟ قوله: {فَمِنْ عِندِكَ} يجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: فهي مِنْ عندِك، أو نصبٍ أي: فقَد زِدْتها أو تَفَضَّلْتَ بها مِنْ عندِك. قوله: {أَنْ أَشُقَّ} مفعولُ «أُرِيْدُ» . وحقيقةُ قولِهم «شَقَّ عليه» أي: شَقَّ ظَنَّه نِصْفَيْن، فتارةً يقول: أُطيق، وتارة: لا أُطيق. وهو مِنْ أحسنِ مجازٍ.

28

قوله: {ذَلِكَ} : مبتدأٌ. والإِشارةُ به إلى ما تعاقَدَا عليه، والظرفُ خبرُه. وأُضِيْفَتْ «بين» لمفردٍ لتكررِها عطفاً بالواوِ. ولو قلتَ: «المالُ بين زيدٍ فعمرٍو» لم يَجُزْ. فأمَّا قولُه: 3599 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ فكان الأصمعيُّ يَأْباها ويَرْوي «وحَوْمَلِ» بالواو. والصحيحُ بالفاءِ، وأوَّلَ البيتَ على: «الدَّخولِ وَحَوْمَلِ» مكانان كلٌّ منهما مشتملٌ على أماكنَ، نحو قولِك: «داري بين مصرَ» لأنه به المكانُ الجامع. والأصل: ذلك بَيْنَنا، ففرَّق بالعطف. قوله: {أَيَّمَا الأجلين} «أيّ» شرطيةٌ. وجوابُها «فلا عُدْوانَ» عليَّ. وفي «ما» هذه قولان، أشهرُهما: أنها زائدةٌ كزيادتِها في أخواتِها مِنْ أدواتِ الشرط. والثاني: أنها نكرةٌ. والأَجَلَيْن بدلٌ منها. وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في رواية «

أَيْما» بتخفيفِ الياءِ، كقوله: 3600 - تَنَظَّرْتُ نَصْراً والسِّماكَيْنِ أَيْهُما ... عليَّ من الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مواطِرُهْ وقرأ عبد الله «أَيَّ الأَجَلَيْنِ ما قَضَيْتُ» بإقحام «ما» بين «الأجلين» و «قَضَيْتُ» . قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين موقعَيْ زيادةِ» ما «في القراءتين؟ قلت: وقعَتْ في المستفيضة مؤكِّدةً لإِبهامِ» أيّ «زائدةً في شِياعِها، وفي الشاذَّة تأكيداً للقضاءِ كأنه قال: أيَّ الأجلين صَمَّمْتُ على قضائه، وجَرَّدْت عَزيمتي له» . وقرأ أبو حيوةَ وابنُ قطيب «عِدْوان» . قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: تَصَوُّرُ العُدْوان إنما هو في أحد الأجلَيْن الذي هو أقصرُهما، وهو المطالبةُ بتتمَّة العَشْر، فما معنى تعلُّقِ العُدْوانِ بهما جميعاً؟ قلت: معناه كما أنِّي إنْ طُوْلِبْتُ بالزيادةِ على العشر [كان عدواناً] لا شك فيه، فكذلك إنْ طولِبْتُ بالزيادةِ على الثمان. أراد بذلك تقريرَ ِأمرِ الخِيارِ، وأنه ثابتٌ مستقرٌّ، وأن الأجلَيْنِ على السَّواء: إمَّا هذا وإمَّا هذا» . ثم قال: «وقيل: معناه: فلا أكونُ متعدياً. وهو

في نَفْي العدوان عن نفسه كقولِك: لا إثمَ علي ولا تَبِعَةَ» . قال الشيخ: «وجوابُه الأولُ فيه تكثيرٌ» . قلتُ: كأنه أعجبه الثاني، والثاني لم يَرْتَضِه الزمخشريُّ؛ لأنه ليس جواباً في الحقيقة؛ فإن السؤالَ باقٍ أيضاً. وكذلك نَقَلَه عن غيره. وقال المبرد: «وقد عَلِم أنه لا عُدْوانَ عليه في أتَمِّهما، ولكنْ جَمَعَهما ليجعلَ الأولَ كالأَتَمِّ في الوفاء» .

29

قوله: {أَوْ جَذْوَةٍ} : قرأ حمزة بضم الجيم. وعاصم بالفتح. والباقون بالكسرِ. وهي لغاتٌ في العُود الذي في رأسِه نارٌ، هذا هو المشهورُ. قال السُّلمي: 3601 - حمى حُبِّ هذي النارِ حُبُّ خليلتي ... وحُبُّ الغواني فهو دونَ الحُباحُبِ وبُدِّلْتُ بعد المِسْكِ والبانِ شِقْوةً ... دخانَ الجُذا في رأسِ أشمطَ شاحبِ وقيَّده بعضُهم فقال: في رأسِه نارٌ مِنْ غيرِ لَهَبٍ. قال ابن مقبل:

3602 - باتَتْ حواطِبُ ليلى يَلْتَمِسْنَ لها ... جَزْلَ الجُذا غَيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرِ الخَوَّارُ: الذي يتقصَّفُ. والدَّعِرُ: الذي فيه لَهَبٌ، وقد وَرَدَ ما يقتضي وجودَ اللهبِ فيه. قال الشاعر: 3603 - وأَلْقَى على قَبْسٍ من النارِ جَذْوةً ... شديداً عليها حَمْيُها والتهابُها وقيل: الجَذْوَة: العُوْدُ الغليظُ سواءً كان في رأسه نارٌ أم لم يكنْ، وليس المرادُ هنا إلاَّ ما في رأسِه نارٌ. قوله: {مِّنَ النار} صفةٌ ل جَذْوَةٍ، ولا يجوزُ تَعَلُّقها ب «آتِيْكُمْ» كما تَعَلَّق به «منها» ؛ لأنَّ هذه النارَ ليسَتْ النارَ المذكورةَ، والعربُ إذا تقدَّمَتْ نكرةٌ وأرادَتْ إعادَتَها أعادَتْها مضمرةً، أو معرَّفَةً ب أل العهديةِ، وقد جُمِع الأمران هنا.

30

قوله: {مِن شَاطِىءِ} : «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. والأَيْمن صفةٌ للشاطىء أو للوادي. والأَيمن من اليُمْن وهو البركة أو من اليمين المعادِلِ لليسار من العُضْوَيْن. ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى أي: الذي يَلي يمينَكَ دونَ يسارِك. والشاطىء ضفَّةُ الوادي والنهر أي حافَّتُه وطرفُه، وكذلك الشَّطُّ والسِّيْفُ والساحلُ كلُّها بمعنى. وجَمْعُ الشاطىء/ أشْطَاء قاله الراغب. وشاطَأْتُ فلاناً: ماشَيْتُه على الشاطىء. قوله: {فِي البقعة} متعلقٌ ب «نُوْدِيَ» أو بمحذوفٍ على أنها حالٌ من

الشاطىء. وقرأ العامَّةُ بضم الباء وهي اللغةُ العاليةُ. وقرأ مَسْلَمَةُ والأشهبُ العُقيلي بفتحها. وهي لغةٌ حكاها أبو زيدٍ. قال: «سَمِعْتُهم يقولون: هذه بَقْعَةٌ طيِّبةٌ» . قوله: {مِنَ الشجرة} هذا بدلٌ مِنْ «شاطىء» بإعادةِ العاملِ، وهو بدلُ اشتمال. قوله: {أَن ياموسى} «أنْ» هي المفسِّرةُ. وجُوِّز فيها أَنْ تكونَ المخففةَ. واسمُها ضميرُ الشأنِ. وجملةُ النداءِ مفسِّرةٌ له. وفيه بُعدٌ. قوله: {إني أَنَا الله} العامَّةُ على الكسرِ على إضمار القولِ، أو على تضمينِ النداءِ معناه. وقُرِىء بالفتح. وفيه إشكالٌ؛ لأنه إنْ جُعِلَتْ «أَنْ» تفسيريةً وَجَبَ كسرُ «إِنِّي» للاستئنافِ المفسِّر للنداء بماذا كان؟ وإنْ جَعلْتَها مخففةً لَزِم تقديرُ «أَنِّي» بمصدرٍ، والمصدرُ مفردٌ، وضميرُ الشأن لا يُفَسَّرُ بمفردٍ. والذي ينبغي أَنْ تُخَرَّج عليه هذه القراءةُ أَنْ تكون «أَنْ» تفسيريةً و «أني» معمولةٌ لفعلٍ مضمرٍ، تقديرُه: أنْ يا موسى اعلَمْ أنِّي أنا الله.

32

قوله: {مِنَ الرهب} : متعلِّقٌ بأحدِ أربعةِ أشياء: إمَّا ب «ولى» ، وإمَّا ب «مُدْبِراً» ، وإمَّا ب «اضْمُمْ» ويظهر هذا الثالث إذا فَسَّرنا الرَّهْبَ بالكُمِّ، وإمَّا بمحذوفٍ أي: [تَسْكُن] من الرَّهْب. وقرأ حفصٌ بفتح الراءِ

وإسكانِ الهاء. والأخَوان وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ بالضمِّ والإِسكان. والباقون بفتحتين. والحسن وعيسى والجحدريُّ وقتادة بضمتين. وكلُّها لغاتٌ بمعنى الخَوْفِ. وقيل: هو بفتحتين الكُمُّ بلغةِ حِمْير وحنيفة. قال الزمخشري: «هو مِنْ بِدَع التفاسير» قال: «وليت شعري كيف صِحَّتُه في اللغةِ، وهل سُمِع من الثقاتِ الأثباتِ الذين تُرْتَضَى عربيتُهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعُه في الآيةِ وكيف تطبيقُه المفصَّلُ كسائرِ كلماتِ التنزيل. على أنَّ موسى صلوات الله عليه ليلةَ المُناجاة ما كان عليه إلاَّ رُزْمانِقَةٌ من صوف لا كُمَّيْ لها» الرُّزْمانِقَةُ: المِدْرَعَة. قال الشيخ: «هذا مرويٌّ عن الأصمعي، وهو ثقةٌ سمعهم يقولون: أَعْطِني ما رَهْبِك أي: كُمِّك. وأمَّا قولُه كيف موقعُه؟ فقالوا: معناه أخرِجْ يدَك مِنْ كُمِّك» قلت: كيف يَسْتقيم هذا التفسير؟ يُفَسِّرون اضْمُمْ بمعنى أَخْرِجْ. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: قد جُعِل الجناحُ وهو اليدُ في أحد الموضعين مضموماً، وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقوله {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} فما التوفيقُ بينهما؟ قلت: المرادُ بالجناحِ المضمومِ [هو] اليدُ اليمنى، وبالجناح المضمومِ إليه هو اليدُ اليسرى، وكلُّ واحدةٍ مِنْ يُمْنى اليدين ويُسْراهما جناح» .

قوله: {فَذَانِكَ} قد تقدَّمَ قراءةُ التخفيفِ والتثقيلِ في سورة النساء وقرأ ابن مسعود وعيسى وشبل وأبو نوفل بياءٍ بعد نونٍ مكسورةٍ، وهي لغةُ هُذَيْلٍ. وقيل: تميمٌ. وروى شبل عن ابن كثير بياءٍ بعد نونٍ مفتوحةٍ. وهذا على لغةِ مَنْ يفتح نونَ التثنيةِ، كقوله: 3604 - على أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقلَّتْ عَشِيَّةً ... فما هي إلاَّ لَمْحَةٌ وتَغيبُ والياءُ بدلٌ من إحدى النونين ك «تَظَنَّيْت» . وقرأ عبد الله بتشديدِ النون وياءٍ بعدها. ونُسِبَتْ لهُذَيْل. قال المهدوي: بل لغتُهم تخفيفُها. ولا أظنُّ الكسرةَ هنا إلاَّ إشباعاً كقراءةِ هشام {أَفْئِيدَةً مِّنَ الناس} [إبراهيم: 37] . و «ذانِكَ» إشارةٌ إلى العصا واليد وهما مؤنثتان، وإنما ذُكِّر ما أُشير به إليهما لتذكيرِ خبرِهما وهو برهانان، كما أنه قد يُؤَنَّثُ لتأنيثِ خبرِه كقراءةِ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] فيمَنْ أََنَّثَ، ونَصَبَ «فِتْنَتَهم» ، وكذا قولُ

الشاعر: 3605 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فقد خابَ مَنْ كانَتْ سَرِيْرَتَه الغَدْرُ وتقدَّم إيضاحُ هذا في الأنعام. والبُرْهان تقدَّم اشتقاقُه. وقال الزمخشري هنا: «فإنْ قلتَ: لِمَ سُمِّيَتِ الحُجَّةُ بُرْهاناً؟ قلت: لبياضِها وإنارتِها، مِنْ قولِهم للمرأةِ البيضاء» بَرَهْرَهَةُ «بتكريرِ العين واللام. والدليلُ على زيادةِ النون قولهم: أَبْرَهَ الرجلُ إذا جاء بالبُرْهان. ونظيرُه تسميتُهم إياها سُلْطاناً، من السَّليطِ وهو الزيتُ لإِنارتِها» . قوله: {إلى فِرْعَوْنَ} متعلقٌ بمحذوفٍ فقدَّره أبو البقاء «مُرْسَلاً إلى فرعونَ» وغيرُه: اذهَبْ إلى فرعون. وهذا المقدَّرُ ينبغي أن يكونَ حالاً مِنْ «برهانان» أي: مُرْسَلاً بهما إلى فرعونَ. والعاملُ في هذه الحالِ ما في اسمِ الإِشارةِ.

34

قوله: {هُوَ أَفْصَحُ} : الفَصاحَةُ لغةً: الخُلوصُ. ومِنْه فَصُحَ اللبنُ وأَفْصَحَ فهو مُفْصِحٌ وفَصيح أي: خَلَصَ من الرَّغْوَة. ورُوِي/ قولُهم: 3606 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

وتحتَ الرَّغْوَةِ اللبنُ الفَصيحُ ومنه فَصُحَ الرجل: جادَتْ لغُته. وأَفْصَحَ: تكلَّم بالعربية. وقيل: بالعكس. وقيل: الفصيح الذي يَنْطِقُ. والأعجمُ: الذي لا ينطقُ. وعن هذا اسْتُعير أَفْصَح الصبحُ أي: بدا ضَوْءُه. وأفصح النصرانيُّ: دنا فِصْحُه بكسرِ الفاءِ وهو عيدٌ لهم. وأمَّا في اصطلاحِ أهل البيانِ فهي خُلُوصُ الكلمة من تنافرِ الحروفِ كقوله: «ترعى الهِعْخِع» . ومن الغرابةِ. كقوله: 3607 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومَرْسِناً مُسَرَّجاً ... ومِنْ مخالفةِ القياس اللغوي كقوله: 3608 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العَليِّ الأَجْلَل ... وخُلوصُ الكلام من ضعفِ التأليف كقوله: 3609 - جزى ربُّه عني عَدِيَّ بنَ حاتمٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومن تنافرِ الكلماتِ كقولهِ: 3610 - وقبرُ حربٍ بمكانٍ قَفْرِ ... وليسَ قربَ قبرِ حَرْبٍ قبرُ ومن التعقيدِ وهو: إمَّا إخلالُ نظمِ الكلامِ فلا يدرى كيفُ يُتوصَّلُ إلى معناه؟ كقوله: 3611 - وما مثلُه في الناسِ إلاَّ مُمَلَّكاً ... أبو أمِّه حيٌّ أبوه يُقارِبُهْ وإمَّا عَدَمُ انتقالِ الذهنِ من المعنى الأول إلى المعنى الثاني، الذي هو لازِمه والمرادُ به، ظاهراً كقوله:

3612 - سأطلبُ بُعْدَ الدارِ عنكم لِتَقْرَبُوا ... وَتَسْكُبُ عينايَ الدموعَ لتَجْمُدا وخُلوصُ المتكلم من النطقِ بجميع ذلك فصارتِ الفصاحةُ يوصف بها ثلاثةُ أشياءَ: الكلمةُ والكلامُ والمتكلمُ بخلاف البلاغةِ فإنه لا يُوْصَفُ بها إلاَّ الأخيران. وهذا له موضوعٌ يُوَضَّحُ فيه، وإنما ذكَرْتُ لك ما ينبِّهُك على أصلِه. و [قوله] : «لِساناً» تمييز. قوله: «رِدْءاً» منصوبٌ على الحال. والرِّدْءُ: العَوْنُ وهو فِعْلٌ بمعنى مَفْعول كالدِّفْءِ بمعنى المَدْفوء به. ورَدَأْتُه على عَدُوِّه أَعَنْتُه عليه. ورَدَأْتُ الحائط: دَعَمْتُه بخشَبَة كيلا يَسْقُطَ. وقال النحاس: «يقال:» رَدَأْته وأَرْدَأْته «. وقال سلامة بن جندل: 3613 - ورِدْئي كلُّ أبيضَ مَشْرَفيٍّ ... شَحيذِ الحَدِّ أبيضَ ذي فُلولِ وقال آخر: 3614 - ألم تَرَ أنَّ أَصْرَمَ كان رِدْئي ... وخيرَ الناسِ في قُلٍّ ومالِ

وقرأ نافع» رِدا «بالنقل، وأبو جعفر كذلك إلاَّ أنه لم يُنَوِّنْه كأنه أجرى الوصلَ مجرى الوقفِ. ونافعٌ ليس من قاعدتِه النقلُ في كلمةٍ إلاَّ هنا. وقيل: ليس فيه نَقْلٌ وإنما هو مِنْ أردى على كذا. أي: زاد. قال الشاعر: 3615 - وأسمرَ خَطِّيّاً كأنَّ كُعُوبَه ... نوى القَسْبِ قد أردى ذِراعاً على العَشْرِ أي: زاد [وأنشده الجوهريُّ: قد أربى، وهو بمعناه] . قوله: {يُصَدِّقُنِي} قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالرفع على الاستئناف أو الصفةِ ل» رِدْءاً «أو الحالِ من هاء» أَرْسِلْه «، أو من الضميرِ في» رِدْءاً «. والباقون بالجزمِ جواباً للأمرِ. وزيد بن علي واُبَيٌّ» يُصَدِّقوني «ِأي: فرعونُ ومَلَؤُه. قال ابن خالويه:» وهذا شاهدٌ لِمَنْ جَزَم؛ لأنه لو كان رفعاً لقال «يُصَدِّقونَني» يعني بنونين «. وهذا سهوٌ من ابن خالويه؛ لأنه متى اجتمعَتْ نونُ الرفعِ من نون الوقايةِ جازَتْ أوجهٌ، أحدها: الحذفُ، فهذا يجوزُ أن يكونَ مرفوعاً، وحَذْفُ نونِه لما ذكرْتُ لك. وقد تقدم تحقيقُ هذا في الأنعام وغيرِها. وحكاه الشيخُ عن ابنِ خالَويه ولم يُعْقِبْه بنَكير.

35

قوله: {عَضُدَكَ} : العامَّةُ على فتحِ العينِ وضمِّ الضادِ. والحسن وزيد بن علي بضمِّهما. وعن الحسن بضمةٍ وسكونٍ وعيسى بفتحِهما، وبعضُهم بفتحِ العينِ وكسرِ الضادِ. وفيه لغةٌ سادسةٌ: فتح العينِ وسكونُ الضادِ. ولا أعلمُها قراءةً. وهذا كنايةٌ عن التقوِيَةِ له بأخيه. قوله: {بِآيَاتِنَآ} يجوزُ فيه أوجهٌ: أَنْ يتعلَّقَ ب «نَجْعَلُ» أو ب «يَصِلُوْن» ، أو بمحذوفٍ أي: اذْهبا، أو على البيان، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً، أو ب «الغالبون» ، على أنَّ أل ليست موصولةً، أو موصولةٌ واتُّسِعَ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيرِه، أو قَسَمٌ وجوابُه متقدِّمٌ وهو «فلا يَصِلُون» ، أو مِنْ لَغْوِ القسمِ. قالهما الزمخشري. ورَدَّ عليه الشيخُ بأنَّ جوابَ القسمِ لا تدخُلُه الفاءُ عند الجمهور. ويريدُ بلَغْوِ القسمِ أنَّ جوابَه محذوفٌ أي: وحَقِّ آياتِنَا لتَغْلُبُنَّ.

37

قوله: {وَقَالَ موسى} : هذه قراءةُ العامَّة بإثباتِ واوِ العطفِ. وابنُ كثيرٍ حَذَفَها، وكلٌ وافقَ مصحفَه؛ فإنها ثابتةٌ في المصاحفِ غيرَ مصحفِ مكةَ. وإثباتُها وحَذْفُها واضحان، وهو الذي يسميِّه أهلُ البيان الوصلَ والفصلَ. قوله: {وَمَن تَكُونُ} قرأ العامَّةُ «تكون» بالتأنيث و «له» خبرُها «وعاقبةُ» اسمُها. ويجوزُ أَنْ يكونَ اسمُها ضميرَ القصةِ، والتأنيثُ لأجلِ ذلك، و {لَهُ عَاقِبَةُ الدار} جملةٌ في موضع الخبرِ. وقرىء بالياء مِنْ تحتُ، على أَنْ تكونَ «

عاقبةٌ» اسمَها والتذكيرُ للفصلِ؛ لأنه تأنيثٌ مجازيٌّ. ويجوزُ أن يكون اسمُها ضميرَ الشأنِ. والجملةُ خبرٌ كما تقدم. ويجوزُ أَنْ تكونَ تامةً، وفيها ضميرٌ يرجِعُ إلى «مَنْ» ، والجملةُ في موضعِ الحالِ. ويجوز أن تكونَ ناقصةً، واسمُها ضميرُ «مَنْ» /، والجملةُ خبرُها.

39

قوله: {بِغَيْرِ الحق} : حالٌ أي: استكبروا مُلتبسينَ بغيرِ الحقِّ. قوله: {لاَ يُرْجَعُونَ} قرأ نافعٌ والأخوان مبنياً للفاعل. والباقون للمفعول.

41

قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ} أي: صَيَّرْناهم. وقال الزمخشري: «دَعَوْناهم» كأنه فرََّ مِنْ نسبةِ ذلك إلى الله تعالى، أعني التصييرَ؛ لأنه لا يوافِقُ مذهبَه. و «يَدْعُون» صفةٌ ل «أَئمةً» . قوله: {وَيَوْمَ القِيَامَةِ} فيه أوجهٌ، أحدها: أَنْ يتعلَّقَ ب «المقبوحين» على أنّ أل ليست موصولةً، أو موصولةٌ واتُّسِع فيه، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ يُفَسِّره المقبوحين، كأنه قيل: وقُبِّحُوا يومَ القيامةِ نحو: {لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الشعراء: 168] أو يُعْطَفَ على موضع «في الدنيا» أي: وأَتْبَعْناهم لعنةً يوم القيامة، أو معطوفةٌ على «لعنةً» على حذفِ مضافٍ أي: ولعنةَ يوم القيامة. والوجهُ الثاني أظهرُها. والمقبوحُ: المطرودُ. قبَّحه الله: طرده. قال:

3616 - ألا قَبَّح اللهُ البراجِمَ كلِّها ... وجَدَّعَ يَرْبُوعاً وعَقَّر دارِما وسُمِّيَ ضِدُّ الحُسْنِ قبيحاً؛ لأنَّ العينَ تَنْبُو عنه، فكأنها تطردُه يُقال: قَبُح قَباحةً. وقيل: من المقبوحينَ: من المَوْسومين بعلامةً مُنْكَرَةٍ كزُرْقة العيون وسوادِ الوجوهِ. والقبيحُ أيضاً: عَظْمُ الساعدِ ممَّا يلي النصفَ منه إلى المِرْفَقِ.

43

قوله: {بَصَآئِرَ} : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً له، وأن يكونَ حالاً: أمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا بصائرَ أو على المبالغة.

44

قوله: {بِجَانِبِ الغربي} : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ حَذْفِ الموصوف وإقامةِ صفتهِ مُقامَة أي: بجانبِ المكانِ الغربيِّ، وأَنْ يكونَ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه، وهو مذهبُ الكوفيين. ومثلُه: «بَقْلةُ الحمقَاء، ومَسْجد الجامع» .

45

قوله: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا} : وجهُ الاستداركِ: أنَّ المعنى وما كنتَ شاهداً لموسى ما جَرَى عليه، ولكنَّا أَوْحَيْناه إليك. فذكر سببَ الوَحْيِ الذي هو إطالةُ الفترةِ، ودَلَّ به على المسَبَّب، على عادةِ الله تعالى في اختصاراته. فإذن هذا الاستداركُ هو شبيهُ بالاستدراكَيْن بعده. قاله الزمخشري بعد كلامٍ طويل. قوله: {ثَاوِياً} أي: مُقيماً يقال: ثوى يَثْوِي ثَواءً وَثَوِّياً، فهو ثاوٍ ومَثْوِيٌّ. قال ذو الرمة:

3617 - لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثوَيْتُه ... تَقَضِّي لُباناتٍ ويُسْأَمُ سائِمُ وقال آخر: 3618 - طال الثَّواءُ على رُسومِ المنزلِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال العجاج: 3619 - فباتَ حيث يَدْخُلُ الثَّوِيُّ ... يعني: الضيفَ المقيم. قوله: {تَتْلُواْ} يجوز أن يكونَ حالاً مِن الضميرِ في «ثاويا» ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأنْ يكونَ هو الخبرَ و «ثاوياً» حالٌ. وجعله الفراء منقطعاً مِمَّا قبلَه أي: مستأنفاً كأنه قيل: وها أنت تَتْلُو على أمَّتِك. وفيه بُعدٌ.

46

قوله: {مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} : في موضع الصفةِ ل «قوماً» . [قوله:] {ولكن رَّحْمَةً} أي: أَرْسَلْناك رحمةً أو أَعْلمناك بذلك رحمةً. وقرأ عيسى وأبو حيوةَ بالرفع أي: أنت رحمةٌ.

47

قوله: {ولولا أَن تُصِيبَهُم} : هي الامتناعيةُ. وأنْ وما في حَيِّزها في موضعِ رفعٍ بالابتداءِ. أي: ولولا إصابتُهم المصيبةَ. وجوابُها محذوفٌ فقدَّره الزجاج: «ما أرْسَلْنا إليهم رُسُلاً» يعني: أنَّ الحاملَ على إرسالِ الرسلِ إزاحةُ عِلَلِهم بهذا القولِ فهو كقولِه: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] . وقدَّره ابنُ عطية: «لعاجَلْناهم» ولا معنى لهذا. و «فَيَقولوا» عطفٌ [على] «تُصيبَهم» ، و «لولا» الثانيةُ تحضيضٌ و «فنَتَّبِعَ» جوابُه، فلذلك نُصِبَ بإضمار «أَنْ» . قال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف استقامَ هذا المعنى، وقد جُعِلَتْ العقوبةُ هي السببية لا القولُ؛ لدخولِ حرفِ الامتناعِ عليه دونَه؟ قلت: القولُ هو المقصودُ بأَنْ يكونَ سبباً للإِرسال ولكنَّ العقوبةَ لَمَّا كانت هي السببَ للقولِ، وكان وجودُه بوجودِها جُعِلَتِ العقوبةُ كأنها سببٌ للإِرسالِ بواسطة القولِ فَأُدْخلَتْ عليها» لولا «. وجيْءَ بالقول معطوفاً عليها بالفاءِ المُعْطِيَةِ معنى السببية، ويَؤُول معناه إلى قولِك:» ولولا قولُهم هذا إذا أصابَتْهم مصيبةٌ لَمَا أَرْسَلْنا «ولكن اخْتِيْرَتْ هذه الطريقةُ لنُكتةٍ: وهي أنهم لو لم يُعاقَبوا مثلاً على كفرِهم وقد عاينوا ما أُلْجِئوا به إلى العلمِ اليقين لم يقولوا: لولا أَرْسَلْتَ إلينا رسولاً، وإنما السببُ في قولِهم هذا هو العقابُ لا غيرَ، لا التأسُّفُ على ما فاتهم من الإِيمان بخالِقهم» .

48

قوله: {مِن قَبْلُ} : إمَّا أَنْ يتعلَّقَ بيَكْفروا، أو ب «أُوْتِي» أي: مِنْ قبلِ ظهورِك.

قوله: {سِحْرَانِ} قرأ الكوفيون «سِحْران» أي: هما. أي: القرآن/ والتوراة، أو موسى وهارون وذلك على المبالغةِ، جعلوهما نفسَ السِّحْرِ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: ذَوا سِحْرَيْن. ولو صَحَّ هذا لكانَ يَنبغي أن يُفْرَدَ «سِحْر» ولكنه ثُنِّيَ تنبيهاً على التنويع. وقيل: المرادُ موسى ومحمدٌ عليهما السلام أو التوراةُ والإِنجيلُ. والباقون «ساحران» أي: موسى وهارون أو موسى ومحمدٌ كما تقدَّم. قوله: {تَظَاهَرَا} العامَّةُ على تخفيفِ الظاءِ فعلاً ماضياً صفةً ل «سِحْران» أو «ساحران» أي: تَعاوَنا. وقرأ الحسن ويحيى بن الحارث الذِّماري وأبو حيوة واليزيدي بشديدِها. وقد لحَّنهم الناسُ. قال ابن خالويه: «تشديدُه لَحْنٌ؛ لأنه فعلٌ ماضٍ. وإنما يُشَدَّد في المضارع» . وقال الهُذَلي: «لا معنى له» وقال أبو الفضل: «لا أعرفُ وجهَه» . وهذا عجيبٌ من هؤلاءِ وقد حُذِفَتْ نونُ الرفع في مواضعَ، حتى في الفصيح، كقولِه عليه السلام: «لا تَدْخلوا الجنةَ حتى تؤْمِنوا ولا تُؤْمنوا حتى تحابُّوا» ولا فرقَ بين كونِها بعد واوٍ وألفٍ أو ياءٍ، فهذا أصلُه «تَتَظاهران» فَأُدْغِم وحُذِفت نونُه تخفيفاً. وقرأ الأعمش وطلحة وكذا في مصحف عبد الله «اظَّاهَرا» بهمزةِ وصلٍ وشدِّ الظاءِ، وأصلُها «تَظاهرا» كقراءةِ العامةِ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَّنْتَ الأولَ فاجْتُلبَتْ همزةُ الوصل.

49

قوله: {أَتَّبِعْهُ} : جوابُ الأمرِ وهو «فَأْتوا» . «منهما» أي: من التوراةِ والقرآنِ، وهو مؤيدٌ لقراءة «سِحْران» ، أو مِنْ كتابَيْهُما على حذف مضافٍ، وهو مؤيد لقراءةِ «ساحِران» . وزيد بن علي «أتَّبِعُه» بالرفع استئنافاً أي: فأنا أتَّبعُه.

50

[قوله] : {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} : استجاب بمعنى أجاب. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين فعلِ الاستجابة في الآيةِ وبينه في قولِه: 3620 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجِيْبُ حيثُ عُدِّيَ بغيرِ لامٍ؟ قلت: هذا الفعلُ يتعدى إلى الدعاء بنفسِه وإلى الداعي باللام، ويُحْذَفُ الدعاء إذا عُدِّي إلى الداعي في الغالب، فيقال:» استجاب اللهُ دعاءَه «أو» استجاب له «، ولايكاد يُقال: استجاب له دعاءَه. وأمَّا البيتُ فمعناه: فلم يَسْتَجبْ دعاءَه على حذفِ المضاف» . قلت: قد تقدَّم تقريرُ هذا في البقرة، وأنَّ استجابَ بمعنى أجاب. والبيتُ الذي أشار إليه هو: وداعٍ دَعا يا مَنْ يُجيب إلى الندى ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ

51

قوله: {وَصَّلْنَا} : العامَّةُ على التشديد: إمَّا من الوصلِ ضدِّ القطع أي: تابَعْنا بعضَه ببعض. وأصلُه مِنْ وَصْلِ الحَبْل. قال الشاعر: 3621 - فَقُلْ لبني مروانَ ما بالُ ذِمَّتي ... بحبلٍ ضعيفِ لا يَزال يُوَصَّل وإمَّا: جَعَلْناه أَوْصالاً، أي: أنواعاً من المعاني. قاله مجاهد. والحسن قرأ بتخفيفِ الصاد. وهو قريبٌ ممَّا تقدَّم.

52

قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ} : مبتدأٌ، و «هم» مبتدأ ثانٍ، و «يؤْمِنون» خبرُه. والجملةُ خبرُ الأولِ و «به» متعلِّقٌ ب «يُؤْمِنون» . وقد يُعَكِّر على الزمخشريِّ وغيرِه مِنْ أهل البيانِ حيث قالوا: التقديمُ يُفيد الاختصاصَ وهنا لا يتأتَّى ذلك، لأنهم لو خَصُّوا إيمانَهم بهذا الكتابِ فقط لَزِمَ كفرُهم بما عَداه، وهو عكسُ المرادِ، وقد أبدى أهلُ البيانِ هذا في قوله: {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] فقالوا: لو قَدَّم «به» لأَوْهَمَ الاختصاصَ بالإِيمان بالله وحدَه دونَ ملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخر، وهذا بعينِه جارٍ هنا. والجوابُ: أنَّ الإِيمانَ بغيرهِ معلومٌ فانصَبَّ الغرضُ إلى الإِيمانِ بهذا.

54

قوله: {مَّرَّتَيْنِ} : منصوبٌ على المصدرِ. و {بِمَا صَبَرُواْ} «ما» مصدريةٌ. والباءُ تتعلَّق ب «يُؤْتَوْن» أو بنفسِ الأَجْر.

57

قوله: {نُتَخَطَّفْ} : العامَّةُ على الجزمِ جواباً للشرطِ. والمنقَري بالرفعِ على حَذْفِ الفاءِ كقوله: 3622 - مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكرها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكقراءة «يُدْرِكُكُمْ» [النساء: 78] بالرفع أو على التقديم، وهو مذهب سيبويه. قوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً} قال أبو البقاء: «عَدَّاه بنفسه لأنه بمعنى جَعَلَ. وقد صَرَّح به في قولِه {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً} [العنكبوت: 67] ومَكَّن متعدٍّ بنفسِه مِنْ غيرِ أنُ يُضَمِّنَ معنى» جَعَلَ «كقوله: {مَكَّنَّاهم} . وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنعام. و» آمِناً «قيل: بمعنى مُؤَمَّن/ أي: يُؤَمَّن مَنْ دخله. وقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ أي: آمناً أهلُه. وقيل: فاعِل بمعنى النَّسبِ أي: ذا أَمنٍ. قوله: {يجبى} قرأ نافعٌ بتاءِ التأنيثِ مراعاةً للفظِ» ثَمَرات «. والباقون

بالياء للفَصْلِ، ولأنه تأنيثٌ مجازيٌ. والجملةُ صفةٌ ل» حرماً «أيضاً. وقرأ العامَّةُ» ثَمَرات «بفتحَتْين. وأبان بضمتين جمع ثُمُر بضمتَيْن. وبعضُهم بفتحٍ وسكونٍ. قوله:» رِزْقاً «إنْ جَعَلْتَه مصدراً جاز انتصابُه على المصدر المؤكِّد؛ لأنَّ معنى» يجبى إليه «: يَرْزُقهم، وأَنْ ينتصِبَ على المفعولِ له. والعاملُ محذوفٌ أي نَسُوْقه إليه رِزْقاً، وأَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ مِنْ» ثَمَرات «لتخصيصِها بالإِضافةِ، وإنْ جَعَلْتَه اسماً للمرزوقِ انتصبَ على الحال مِنْ» ثَمَرات «.

58

قوله: {مَعِيشَتَهَا} : فيه أوجهٌ: مفعولٌ به على تضمينِ بَطِرَتْ خَسِرَت، أو على الظرف أي: أيام معيشتها قاله الزجاج أو على حذف «في» أي: في معيشتِها، أو على التمييز، أو على التشبيه بالمفعول به وهو قريبٌ مِنْ {سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] . قوله: {لَمْ تُسْكَن} جملةٌ حاليةٌ، والعاملُ فيها معنى «تلك» . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} أي: إلاَّ سَكَناً قليلاً كسكونِ المسافر ونحوِه، أو إلاَّ زمناً قليلاً، أو إلاَّ مكاناً قليلاً. يعني أن القليلَ منها قد سكن.

60

قوله: {فَمَتَاعُ} : أي: فهو مَتاعُ. وقُرِىء «فمتاعاً

الحياةَ» بنصبِ «متاعاً» على المصدر أي: يتمتَّعون متاعاً، و «الحياةَ» نصبٌ على الظرف. قوله: {تَعْقِلُونَ} قرأ أبو عمرو بالياءِ مِنْ تحتُ التفاتاً. والباقون بالخطاب جَرْياً على ما تقدَّم.

61

وقرأ طلحة «أمَنْ وَعَدْناه» بغيرِ فاءٍ. قوله: {ثُمَّ هُوَ} : الكسائي وقالون بسكونِ الهاءِ إجراءً ل ثم مجرى الواو والفاء. والباقون بالضمِّ على الأصل.

62

قوله: {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} : مفعولاه محذوفان أي: تزعمونهم شركاءَ.

63

قوله: {هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ} فيه وجهان، أحدهما، أنه مبتدأ، و «الذين أَغْوَيْنا» صفةٌ للمبتدأ. والعائدُ محذوفٌ أي: أَغْويناهم، والخبر «أَغْوَيْناهم» . و {كَمَا غَوَيْنَا} نعتٌ لمصدرٍ محذوف. ذلك المصدرُ مطاوِعٌ لهذا الفعلِ أي: [أَغْوَيناهم] فَغَوَوْا غَيَّاً كما غَوَيْنا. قاله الزمخشريُّ. وهذا الوجهُ مَنعه أبو علي قال: «لأنه ليس في الخبر زيادةُ فائدةٍ على ما في صفتِه» . قال: «فإنْ قلتَ: قد وُصِل بقوله {كَمَا غَوَيْنَا} وفيه

زيادةٌ. قلت: الزيادةُ في الظرفِ لا تُصَيِّره أصلاً في الجملة لأنَّ الظروفَ صِلاتٌ» ثم أعرب هو «هؤلاء» مبتدأً و «الذين أَغْوَيْناهم» خبرَه. و «أَغْوَيْناهم» مستأنف. وأجابَ أبو البقاء وغيرُه عن الأول: بأنَّ الظرفَ قد يَلْزَمُ كقولك: «زيد عمرٌو في دارِه» . قوله: {مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} «إيَّانا» مفعولُ «يَعْبُدون» قدِّم لأجلِ الفاصلةِ. وفي «ما» وجهان، أحدهما: هي نافيةٌ، والثانيةُ مصدريةٌ. ولا بُدَّ مِنْ تقديرِ حرفِ جرٍّ أي: تَبَرَّأْنا مِنْ ما كانوا أي: مِنْ عبادتِهم إيانا. وفيه بُعدٌ.

64

قوله: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ} : جوابُها محذوفٌ أي: لَمَا رَأَوَا العذابَ أو لَدَفعوه.

66

قوله: {فَعَمِيَتْ} : العامَّةُ على تخفيفها. وقرأ الأعمشُ وجناح بن حبيش بضمِّ العينِ وتشديدِ الميم. وقد تقدَّمت القراءتان للسبعةِ في هود. وقرأ طلحة «لا يَسَّاءَلُوْن» بتشديدِ السينِ على إدغامِ التاءِ في السينِ كقراءةِ {تَسَّآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] .

68

قوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} : فيه أوجهٌ، أحدها: أن «ما» نافيةٌ فالوقفُ على «يَخْتار» . والثاني: «ما» مصدريةٌ أي: يختار اختيارَهم، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي: مُختارهم. الثالث: أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: ما كان لهم الخيرةُ فيه كقولِه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] أي: منه. وجَوَّزَ ابنُ عطية أَنْ تكونَ «كان» تامةً و «لهم الخِيَرَةُ» جملةٌ مستأنفةٌ. قال: «ويَتَّجه عندي أن تكون» ما «مفعولةً إذا قدَّرْنا كان التامةَ أي: إنَّ اللهَ يختار كلِّ كائنٍ. و» لهم الخيرةُ «مستأنفٌ. معناه تعديدُ النِّعمِ عليهم في اختيار الله لهم لو قَبلوا» . وجعل بعضُهم في «كان» ضميرَ الشأن/ وأنشد: 3633 - أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العين تَذْرِيْفُ ... لو كان ذا منك قبل اليوم معروفُ ولو كان «ذا» اسمَها لقال: «معروفاً» . وابنُ عطيةَ منع ذلك في الآية قال: «لأنَّ تفسيرَ الأمرِ والشأنِ لا يكون بجملةٍ فيها محذوف» . قلت: كأنه يريد أنَّ الجارَّ متعلقٌ بمحذوفٍ. وضميرُ الشأنِ لا يُفَسَّر إلاَّ بجملةٍ مصرَّح بجزْأَيْها. إلاَّ أنَّ في هذا نظراً إنْ أراده؛ لأن هذا الجارَّ قائمٌ مقامَ الخبرِ. ولا أظنُّ أحداً يمنعُ «هو السلطان في البلد» و «هي هندٌ في الدار» .

والخِيَرَةُ مِنَ التخيير، كالطِّيَرَةِ من التَّطَيُّرِ فيُستعملان استعمالَ المصدر. وقال الزمخشري: «ما كان لهم الخيرةُ بيانٌ لقولِه» ويختار «لأنَّ معناه: ويختار ما يشاءُ، ولهذا لم يَدْخُلِ العاطفُ. والمعنىؤ: أنَّ الخِيَرَةَ للهِ تعالى في أفعالِه، وهو أعلمُ بوجوهِ الحكمة فيها ليس لأحدٍ مِنْ خَلْقِه أَنْ يختار عليه» . قتل: لم يَزَلِ الناسُ يقولون: إن الوقفَ على «يختار» ، والابتداءَ ب «ما» على أنها نافيةٌ هو مذهبُ أهلِ السنةِ. ونُقِل ذلك عن جماعةٍ كأبي جعفرٍ وغيرِه، وأنَّ كونَها موصولةً متصلةً ب «يختار» غيرَ موقوفٍ عليه مذهبُ المعتزلة. وهذا الزمخشريُّ قد قَّررَ كونَها نافيةً، وحَصَّل غرضَه في كلامِه، وهو موافقٌ لكلامِ أهلِ السُّنةِ ظاهراً، وإنْ كان لا يريده. وهذا الطبريُّ مِنْ كبار أهل السنة مَنَعَ أَنْ تكونَ [ما] نافيةً قال: لئلا يكون المعنى: أنَّه لم تكنْ لهم الخيرةُ فيما مضى، وهي لهم فيما يُستقبل، وأيضاً فلم يتقدَّمْ نفيٌ «. وهذا الذي قاله ابنُ جريرٍ مَرْوِيٌّ عن ابن عباس. وقال بعضُهم: ويختار لهم ما يشاء من الرسلِ، ف» ما «على هذا واقعةٌ على العقلاء.

71

قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} : «أَرَأَيْتُمْ» و «جَعَلَ» تنازعا في «الليلَ» وأعملَ الثاني. ومفعولُ «أَرَأَيْتُم» هي جملةُ الاستفهامِ بعده. والعائدُ منها على «الليل» محذوفٌ، وتقديرُه: بضياءٍ بعدَه. وجوابُ الشرطِ محذوفٌ. وتحريرُ هذا قد مَضَى في الأنعام فهو نظيرُه.

و «سَرْمَداً» مفعولٌ ثانٍ، إنْ كان الجَعْلُ تصييراً، أو حالٌ إن كان خَلْقاً وإنشاءً. والسَّرْمَدُ: الدائمُ الذي لا ينقطعُ. قال طرفة: 3624 - لَعَمْرُكَ ما أَمْريْ عليَّ بغُمَّةٍ ... نهاري ولا لَيْلي عَلَيَّ بسَرْمَدِ والظاهرُ أنَّ ميمَهُ أصليةٌ، ووزنُه فَعْلَل كجَعْفَر. وقيل: هي زائدةٌ. واشتقاقُه من السَّرْد، وهو تتابُعُ الشيءِ على الشيءِ، إلاَّ أنَّ زيادةِ الميمِ وَسَطاً وأخيراً لا يَنْقاسُ نحو: دُلامِص، وزُرْقُم، من الدِّلاص والزُّرْقَة. قوله: {إلى يَوْمِ} متعلقٌ ب «جَعَل» ، أو ب «سَرْمداً» ، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «سَرْمَداً» .

73

قوله: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ} : من باب اللَّفِّ والنشر. ومنه: 3625 - كأنَّ قلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً ... لدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي

76

قوله: {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ} : «ما» موصولةٌ بمعنى الذي،

صلتُها «إنَّ» وما في حَيِّزها، ولهذا كُسِرَتْ. ونَقَل الأخفش الصغير عن الكوفيين مَنْعَ الوَصْلِ ب «إنَّ» ، وكان يَسْتَقْبح ذلك عنهم. يعني لوجودِه في القرآن. قوله: {لَتَنُوءُ بالعصبة} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الباءَ للتعديةِ كالهمزةِ، ولا قَلْبَ في الكلام. والمعنى: لَتُنِيْءُ المفاتيحُ العُصْبَةَ الأقوياءَ، كما تقولُ: أَجَأْتُه وجِئْتُ به، وأَذْهَبْتُه وذَهَبْتُ به. ومعنى ناء بكذا: نَهَضَ بِهِ بثِقَلٍ. قال: 3626 - تَنُوْءُ بأُخْراها فَلأْياً قِيامُها ... وَتَمْشِي الهوينى عن قَريبٍ فَتَبْهَرُ وقال أبو زيد: «نُؤْتُ بالعَمَل أي: نَهَضْتُ» . قال: 3627 - إذا وَجَدْنا خَلَفاً بِئْسَ الخَلَفْ ... عبداً إذا ما ناء بالحِمْلِ وَقَفْ وفَسَّره الزمخشريُّ بالإِثْقال. قال: «يُقال: ناء به الحِمْلُ، حتى أَثْقله وأماله» وعليه يَنْطبقُ المعنى أي: لَتُثْقِلُ المفاتحُ العُصْبةَ. والثاني: أنَّ في الكلام قَلْباً، والأصلُ: لَتَنُوْءُ العُصْبةُ بالمفاتحِ، أي:

لَتَنْهَضُ بها. قاله أبو عبيد، كقولهم: «عَرَضْتُ الناقةَ على الحَوْضِ» . وقد تقدم الكلامُ في القَلْبِ، وأنَّ فيه ثلاثةَ مذاهبَ. وقرأ بُدَيْل بن مَيْسَرة «لَيَنُوْءُ» بالياء مِنْ تحتُ والتذكير؛ لأنه راعى المضافَ المحذوفَ. إذ التقديرُ: حِمْلُها أو ثِقْلُها. وقيل: الضَمير في «مفاتِحَه» لقارون، فاكتسب المضافُ من المضاف إليه التذكيرَ كقولِهم: «ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ» قاله الزمخشري. يعني كما اكتسبَ «أهلُ» التأنيثَ اكتسَبَ هذا التذكيرَ. قوله: {إِذْ قَالَ} فيه أوجهٌ: أَنْ يكونَ معمولاً لتنوءُ. قاله الزمخشري: أو ل «بغى» قاله ابنُ عطية. ورَدَّهما الشيخُ: / بأنَّ المعنى ليس على التقييد بهذا الوقتِ. أو ل «آتيناه» قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ: بأن الإِتياءَ لم يكنْ ذلك الوقتَ، أو لمحذوفٍ فقدَّره أبو البقاء: بَغَى عليهم. وهذا يَنْبغي أَنْ يُرَدَّ

بما رُدَّ به قولُ ابنِ عطية. وقَدَّره الطبري: اذكُرْ، وقَدَّره الشيخُ: أظهر الفرحَ وهو مناسِبٌ. وقُرِىء «الفارِحين» حكاها عيسى الحجازي.

77

قوله: {فِيمَآ آتَاكَ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «ابْتَغٍ» ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ أي: مُتقلِّباً فيما آتاكَ. و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذي. قوله: {كَمَآ أَحْسَنَ} أي: إحْساناً كإحسانه إليك. قوله: {فِي الأرض} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «تَبْغِ» أو بالفساد، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ وهو بعيدٌ.

78

قوله: {على عِلْمٍ} : حالٌ مِنْ مرفوع «أُوتِيْتُه» . قوله: {عندي} إمَّا ظرفٌ ل «أُوْتِيْتُه» ، وإمَّا صفةٌ للعلم. قوله: {مَنْ هُوَ أَشَدُّ} : «مَنْ» موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ. وهو في موضع المفعولِ ب «أَهْلَكَ» . و «مِنْ قبلِه» متعلقٌ به. و «مِنَ القرون» يجوزُ فيه ذلك، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «مَنْ هو أشدُّ» . قوله: {وَلاَ يُسْأَلُ} هذه قراءةُ العامَّةِ على البناء للمفعول، وبالياءِ مِنْ تحتُ ورَفْعِ الفعلِ. وقرأ أبو جعفر «ولا تُسْأَلْ» بالتاء مِنْ فوقُ والجزم. وابنُ سيرين وأبو العالية كذلك، إلاَّ أنه مبنيٌّ للفاعل وهو المخاطَبُ. قال ابن أبي إسحاق: «

لا يجوزُ ذلك حتى تنصبَ المجرمين» . قال صاحب اللوامح: «هذا هو الظاهرُ؛ إلاَّ أنه لَمْ يَبْلُغْني فيه شيء. فإنْ تَرَكاه مرفوعاً فيحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ ِ» المجرمون «خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم المجرمون. والثاني: أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ أصلِ الهاءِ والميم في» ذُنوبهم «، لأنهما مرفوعا المحلِّ» يعني أنَّ ذنوباً مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. قال: «فحمل المجرمون على الأصلِ، كما تقدَّم لنا في قراءةِ {مَثَلاً مَّا بَعُوضَةٍ} [البقرة: 26] بجرِّ بعوضة. وكان قد خَرَّجها على أن الأصلَ: بضَرْب مَثَلِ بعوضةٍ» وهذا تعسُّفٌ كثيرٌ. ولا ينبغي أَنْ يَقْرأ ابنُ سيرين وأبو العالية إلاَّ «المجرمين» بالياءِ فقط، وإنما تُرِك نَقْلُها لظهورِه.

79

قوله: {فِي زِينَتِهِ} : إمَّا متعلِّقٌ ب «خَرَجَ» ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ «خَرَجَ» .

80

قوله: {وَيْلَكُمْ} : منصوبٌ بمحذوفٍ أي: أَلْزمَكم اللهُ وَيْلَكم. قوله: {وَلاَ يُلَقَّاهَآ} أي: هذه الخَصْلَةُ، وهي الزهدُ في الدنيا والرغبةُ فيما عند الله.

81

قوله: {فَخَسَفْنَا بِه وَبِدَارِه} : المشهورُ كَسْرُ هاءِ الكنايةِ في «به» و «بداره» لأجلِ كسرِ ما قبلَها. وقُرِىءَ بضمِّها. وقد تقدَّم أنها الأصلُ، وهي لغةُ الحجازِ.

قوله: {مِن فِئَةٍ} يجوز أن تكونَ اسمَ كان، إنْ كانَتْ ناقصةً، و «له» الخبرُ، أو «يَنْصُرونه» ، وأَنْ تكونَ فاعلةً إنْ كانَتْ تامَّةً، و «يَنْصُرونه» صفةٌ ل «فِئَة» فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ لفظاً وبالرفعِ معنى؛ لأنَّ «مِنْ» مزيدةٌ فيها.

82

قوله: {وَيْكَأَنَّ الله} : و «ويْكَأنَّه» فيه مذاهبُ منها: أنَّ «وَيْ» كلمةٌ برأسِها وهي اسمُ فعلٍ معناها أَعْجَبُ أي أنا. والكافُ للتعليل، وأنَّ وما في حَيِّزها مجرورةٌ بها أي: أَعْجب لأنه لا يفلحُ الكافرون، وسُمِع «كما أنه لا يَعْلَمُ غفر اللهُ له» . وقياسُ هذا القولِ أَنْ يُوْقَفَ على «وَيْ» وحدها، وقد فعل ذلك الكسائيُّ. إلاَّ أنه يُنْقل عنه أنه يُعتقدُ في الكلمةِ أنَّ أصلَها: وَيْلَكَ كما سيأتي، وهذا يُنافي وَقْفَه. وأنشد سيبويه: 3628 - وَيْ كأنْ مَنْ يكنْ له نَشَبٌ يُحْ ... بَبْ ومَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ الثاني: قال بعضهم: قوله: «كأنَّ» هنا للتشبيه، إلاَّ أنه ذهب منها معناه، وصارت للخبرِ واليقين. وأنشد: 3629 - كأنني حين أُمْسِي لا تُكَلِّمُني ... مُتَيَّمٌ يَشْتهي ما ليس موجودا وهذا أيضاً يناسِبُه الوقفُ على «وَيْ» .

الثالث: أنَّ «وَيْكَ» كلمةٌ برأسِها، والكافَ حرفُ خطابٍ، و «أنَّ» معمولٌه محذوفٌ أي: أعلمُ أنه لا يُفْلِحُ. قاله الأخفش. وعليه قولُه: 3630 - ألا وَيْكَ المَسَرَّةُ لا تَدُوْمُ ... ولا يَبْقى على البؤسِ النعيمُ وقال عنترةُ: 3631 - ولقد شَفَى نفسي وأَبْرَأَ سُقْمَها/ ... قيلُ الفوارسِ وَيْكَ عنترَ أَقْدمِ وحقُّه أَنْ يقفَ على «وَيْكَ» وقد فعله أبو عمرو بن العلاء. الرابع: أنَّ أصلَها وَيْلك فحذف. وإليه ذهب الكسائيُّ ويونس وأبو حاتم. وحقُّهم أَنْ يقفوا على الكافِ كما فعل أبو عمرٍو. ومَنْ قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين؛ فإنه يُحتمل أَنْ يكونَ الأصلُ فيهما: وَيْلَكَ، فحذف. ولم يُرسَمْ في القرآن إلاَّ: وَيْكأنَّ، ويْكَأنَّه متصلةً في الموضعين، فعامَّةُ القراءِ اتَّبعوة الرسمَ، والكسائيُّ وقف على «وَيْ» ، وأبو عمرٍو على وَيْكَ. وهذا كلُّه في وَقْفِ الاختبارِ دونَ الاختيارِ كنظائرَ تقدَّمَتْ. الخامس: أنَّ «وَيْكأنَّ» كلَّها كلمةٌ متصلةٌ بسيطةٌ، ومعناها: ألم تَرَ، ورُبَّما

نُقِل ذلك عن ابن عباس. ونَقَلَ الكسائيُّ والفراء أنها بمعنى: أما ترى إلى صُنْعِ الله. وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى: رَحْمَةً لك، في لغة حِمْير. قوله: {لولا أَن مَّنَّ} قرأ الأعمشُ «لولا مَنَّ» بحذفِ «أنْ» وهي مُرادةٌ؛ لأنَّ «لولا» هذه لا يَليها إلاَّ المبتدأُ. وعنه «مَنُّ» برفع النونِ وجَرِّ الجلالةِ وهي واضحةٌ. قوله: {لَخَسَفَ} حفص: «لَخَسَفَ» مبنياً للفاعل أي: الله تعالى. والباقون ببنائِه للمفعولِ. و «بنا» هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ. وعبد الله وطلحةُ «لا نْخُسِفَ بنا» أي: المكان. وقيل: «بنا» هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ، كقولك «انقُطِع بنا» وهي عبارةٌ. . . وقيل: الفاعلُ ضميرُ المَصدرِ أي: لا نخسَفَ الانخسافَ، وهي عِيٌّ أيضاً. وعن عبدِ الله «لَتُخُسِّفَ» بتاءٍ من فوقُ وتشديدِ السين مبنياً للمفعولِ، و «بنا» قائمةٌ مقامَه.

83

قوله: {تِلْكَ الدار} : مبتدأٌ وصفتُه. و «نجعلها» هو الخبرُ. ويجوز أَنْ تكونَ «الدارُ» خبراً، و «نَجْعَلُها» خبرٌ آخرُ، أو حالٌ. والأول أحسنُ. قوله: {وَلاَ فَسَاداً} كَرَّر «لا» ليُفيدَ أنَّ كلاً منهما مستقلٌ في الآية لا مجموعُهما.

84

قوله: {فَلاَ يُجْزَى الذين} : مِنْ إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ تَشْنيعاً عليهم. قوله: {إِلاَّ مَا كَانُواْ} أي: إلاَّ مثلَ ما كانوا.

85

قوله: {إلى مَعَادٍ} : تنكيرُه للتعظيم أَيْ: مَعادٍ أيِّ مَعادٍ وهو مكةُ أو الجنة. قوله: {مَن جَآءَ بالهدى} منصوبٌ بمضمرٍ أي: يعلمُ أو ب أَعْلم، إنْ جَعَلْناها بمعنى عالم وأَعْمَلْناها إعمالَه.

86

قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً} : فيه وجهان، أحدهما: هو منقطعٌ أي لكنْ رَحِمَكَ رحمةً. والثاني: أنه متصلٌ. قال الزمخشري: «هذا كلامٌ محمولٌ على المعنى. كأنه قيل: وما ألقى إليك الكتابَ إلاَّ رحمةً» فيكونُ استثناءً من الأحوالِ أو من المفعولِ له. قوله: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ} قرأ العامَّةُ بفتح الياء وضمِّ الصاد، مِنْ صَدَّه، يَصُدَّه. وقٌرِىء بضمِّ الياء وكسرِ الصاد مِنْ أصَدَّه بمعنى صَدَّه، حكاها أبو زيدٍ عن كلبٍ. قال: 3632 - أناسٌ أَصَدُّوا الناسَ بالسيفِ عنهم ... صُدودَ السَّوافي عن أُنوفِ المَخارِمِ

وأصلُ يَصُدُّونك: يَصُدُّونَنَّك، فَفُعِل فيه ما فُعِل في {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] .

88

قوله: {إِلاَّ وَجْهَهُ} : مَنْ جَعَل «شيئاً» يُطْلَق على الباري تعالى وهو الصحيح قال: هذا استثناءٌ متصلٌ، والمرادُ بالوجهِ الذاتُ، وإنما جرى على عادةِ العربِ في التعبير بالأشرفِ عن الجملة. ومَنْ لم يُطْلِقْ عليه جَعَله متصلاً أيضاً، وجعل الوجهَ ما عُمِل لأجله أو الجاهَ الذي بين الناس، أو يجعلُه منقطعاً أي: لكن هو بحاله لم يَهْلَكْ. قوله: {تُرْجَعُونَ} العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ. وعيسى على بنائِه للفاعل، وهي حسنةٌ.

العنكبوت

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {أَن يتركوا} : سَدَّ مَسَدَّ مفعولَيْ حَسِب عند الجمهور، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ. قوله: «أنْ يقولوا» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ «أَنْ يُتْرَكوا» ، أبدلَ مصدراً مؤولاً مِنْ مثلِه. الثاني: أنها على إسقاط الخافض وهو الباءُ، أو اللام، أي: بأَنْ يَقولوا، أو لأن يقولوا. قال ابن عطية وأبو البقاء: «وإذا قُدِّرَتِ الباءُ كان حالاً» . قال ابن عطية: «والمعنى في الباء واللام مختلفٌ؛ وذلك أنَّه في الباء كما تقول:» تركْتُ زيداً بحالِه «/ وهي في اللام بمعنى مِنْ أجل أي: أَحَسِبوا أنَّ إيمانَهم عِلةٌ للترك» انتهى. وهذا تفسيرُ معنى، ولو فَسَّر الإِعرابَ لقال: أَحُسْبانُهم التركَ لأجل تلفُّظِهم بالإِيمان. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: فأين الكلامُ الدالُّ على المضمونِ الذي يَقْتضيه الحُسبانُ؟ قلت: هو في قولِه: {أَن يتركوا أَن يقولوا: آمَنَّا، وَهُمْ

لاَ يُفْتَنُونَ} . وذلك أنَّ تقديرَه: أَحَسِبُوا تَرْكَهم غيرَ مفتونين لقولِهم: آمنَّا، فالتركُ أولُ مفعولَيْ» حَسِب «و» لقولهم آمنَّا «هو الخبر. وأمَّا غيرَ مفتونين فتتمةُ التركِ؛ لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله: 3633 - فَتَرَكْتُه جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ألا ترى أنك قبل المجيء بالحُسْبان تَقْدِرُ أَنْ تقولَ: تَرَكَهم غيرَ مفتونين لقولِهم: آمنَّا على [تقدير] : حاصل ومستقر قبل اللام. فإنْ قلت:» أَنْ يَقُولوا «هو علةُ تَرْكِهم غيرَ مَفْتونين، فكيف يَصِحُّ أن يقعَ خبرَ مبتدأ؟ قلت: كما تقول: خروجُه لمخافةِ الشرِّ وضَرْبُه للتأديب، وقد كان التأديبُ والمخافةُ في قولِك: خَرَجْتُ مخافةَ الشرِّ وضَرَبْتُه تأديباً تعليلين. وتقول أيضاً: حَسِبْتُ خروجَه لمخافةِ الشَّرِّ، وظنَنْتُ ضربَه للتأديب، فتجعلهما مفعولين كما جعلتَهما مبتدأ وخبراً» . قال الشيخ بعد هذا كلِّه: «وهو كلامٌ فيه اضطرابٌ؛ ذكر أولاً أنَّ تقديرَه غيرَ مفتونين تتمةٌ، يعني أنه حالٌ لأنه سَبَكَ ذلك مِنْ قولِهِ {وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} وهي جملةٌ حالية، ثم ذكر أَنَّ» يُتْركوا «هنا من الترك الذي هو تَصْييرٌ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ مفعولَ» صيَّر «الثاني لا يَسْتقيمُ أَنْ يكونَ» لقولِهم «؛ إذا يصيرُ التقديرُ: أن يُصَيَّروا

لقولِهم وهم لا يُفْتنون، وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ. وأمَّا ما مَثَّله به من البيت فإنه يَصِحُّ أن يكون» جَزَرَ السِّباع «مفعولاً ثانياً ل تَرَكَ بمعنى صَيَّر، بخلاف ما قَدَّر في الآية. وأمَّا تقديرهُ تَرَكهم غيرَ مفتونين لقولهم [آمَنَّا] على تقديرِ حاصل ومستقر قبل اللام فلا يَصِحُّ إذا كان تركُهم بمعنى تصييرهم، وكان غيرَ مفتونين حالاً؛ إذ لا يَنْعَقِد مِنْ تَرْكِهم بمعنى تصييرِهم وَتَقَوُّلِهم مبتدأٌ وخبرٌ، لاحتياجِ تَرْكِهم بمعنى تصييرِهم إلى مفعولٍ ثانٍ لأنَّ غيرَ مفتونين عنده حالٌ لا مفعولٌ ثانٍ. وأمَّا قولُه: فإنْ قلت: أَنْ يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فَضْلِ فَهْمٍ: وذلك أنَّ قولَه: «أَنْ يقولوا» هو علةُ تَرْكِهم فليس كذلك؛ لأنه لو كان علةً له لكان به متعلقاً كما يتعلَّقُ بالفعلِ، ولكنه علةٌ للخبرِ المحذوفِ الذي هو مستقر أو كائن، والخبرُ غيرُ المبتدأ، ولو كان «لقولِهم» علةً للترك لكان مِنْ تمامِه فكان يحتاج إلى خبرٍ. وأمَّا قولُه كما تقول: خروجُه لمخافةِ الشرِّ ف «لمخافة» ليس علةً للخروجِ بل للخبر المحذوف الذي هو مستقرٌّ أو كائن «انتهى. قلت: وهذا الذي ذكره الشيخُ كلُّه جوابُه: أنَّ الزمخشريَّ إنما نظر إلى جانب المعنى، وكلامُه عليه صحيحٌ. وأمَّا قولُه: ليس علةً للخروج ونحو ذلك يعني في اللفظ. وأمَّا في المعنى فهو علةٌ له قطعاً، ولولا خَوْفُ الخروج عن المقصود.

3

قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ} : العامَّةُ على فتح الياء مضارعَ «عَلِم» المتعديةِ لواحد. كذا قالوا. وفيه إشكالٌ تقدَّمَ غيرَ مرةٍ: وهو أنها إذا تَعَدَّتْ لمفعولٍ كانَتْ بمعنى عَرَفَ. وهذا المعنى لا يجوز إسنادُه إلى الباري تعالى؛ لأنه يَسْتَدعي سَبْقَ جهلٍ؛ ولأنه يتعلَّقُ بالذاتِ فقط دون ما هي عليه من الأحوالِ.

وقرأ عليٌّ وجعفرُ بن محمد بضمِّ الياءِ، مضارعَ أَعْلم. ويحتمل أَنْ يكونَ مِنْ عَلِم بمعنى عَرَفَ، فلمَّا جِيْءَ بهمزةِ النقلِ أَكْسَبَتْها مفعولاً آخرَ فَحُذِفَ. ثُم هذا المفعولُ يُحتمل أَنْ يكونَ هو الأولَ أي: لَيُعْلِمَنَّ اللَّهُ الناسَ الصادقين، وليُعْلِمنَّهم الكاذبين، أي: بشهرةٍ يُعْرَفُ بها هؤلاءِ مِنْ هؤلاء. وأن يكونَ الثاني أي: ليُعْلِمَنَّ هؤلاء منازِلَهم، وهؤلاءِ منازلَهم في الآخرةِ. ويُحتمل أَنْ يكونَ من العلامةِ وهي السِّيمِياء، فلا يتعدَّى إلاَّ لواحدٍ. أي: لنجعلَنَّ لهم علامةً يُعرفون بها. وقرأ الزهريُّ الأولى كالمشهورةِ، والثانيةَ كالشاذة.

4

قوله: {أم حَسِبَ} : «أم» هذه منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ عند الجمهورِ، والإِضرابُ انتقالٌ لا إبطال. وقال ابنُ عطية: «أم» معادِلَةٌ/ للألفِ في قولِه «أَحَسِبَ» ، وكأنَّه عَزَّ وجَلَّ قَرَّر الفريقين: قرر المؤمنين على [ظَنِّهم أنَّهم] لا يُفْتَنُون، وقَرَّر الكافرين أنهم يَسْبِقُون عقابَ اللَّهِ «. قال الشيخ:» ليسَتْ معادِلةً؛ إذ لو كانت كذلك لكانَتْ متصلةً. ولا جائزٌ أَنْ تكونَ متصلةً لفَقْدِ شرطَيْن، أحدهما: أنَّ ما بعدَها ليس مفرداً، ولا ما في قوته. والثاني: أنَّه لم يكن هنا ما يُجابُ به مِنْ أحد شيئين أو أشياء. وجَوَّز الزمخشريُّ في «حَسِبَ» هذه أَنْ تتعدَّى لاثنين، وجعل «أنَّ» وما

في حَيِّزها سادةً مَسَدَّهما كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} [البقرة: 214] ، وأَنْ تتعدَّى لواحدٍ على أنها تَضَمَّنَتْ معنى «قَدَّر» . إلاَّ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاسُ. قوله: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} : «ساء» يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى بِئْس، فتكونُ «ما» : إمَّا موصولةً بمعنى الذي، و «يَحْكمون» صلتُها. وهي فاعلُ «ساء» . والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: حُكْمُهم. ويجوز أَنْ تكونَ «ما» تمييزاً، و «يَحْكُمون» صفتُها، والفاعلُ مضمرٌ يُفَسِّره «ما» ، والمخصوصُ أيضاً محذوفٌ. ويجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً، وهو قولُ ابنِ كَيْسان. فعلى هذا يكونُ التمييزُ محذوفاً، والمصدرُ المؤولُ مخصوصٌ بالذمِّ أي: ساءَ حُكْماً حكمُهم. وقد تقدَّمَ حكمُ «ما» إذا اتصلَتْ ب «بِئْسَ» مُشْبعاً في البقرة. ويجوزُ أَنْ تكونَ «ساء» بمعنى قَبُح، فيجوز في «ما» أَنْ تكونَ مصدريةً، وبمعنى الذي، ونكرةً موصوفَةً. وجيْءَ ب «يَحْكمون» دونَ حُكْمِه: إمَّا للتنبيهِ على أن هذا دَيْدَنُهم، وإمَّا لوقوعِه مَوْقِعَ الماضي لأجلِ الفاصلة.

5

قوله: {مَن كَانَ} : يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً، وأَنْ تكونَ موصولةً، والفاءُ: لشَبَهِها بالشرطيةِ. والظاهرُ أنَّ هذا ليس بجوابٍ؛ لأنَّ أجلَ اللَّهِ آتٍ لا مَحالةَ من غيرِ تقييدٍ بشرطِ، بل الجوابُ محذوفٌ أي: فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحاً، ولا يُشْرِكْ بعبادةِ ربِّه أحداً، كما قد صَرَّح به.

7

قوله: {والذين آمَنُواْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ، والخبرُ جملةُ القسمِ المحذوفةُ وجوابُها، أي: واللَّهِ لنُكَفِّرَنَّ. ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ على الاشتغال أي: ولَيُخَلِّصَنَّ الذين آمنُوا مِنْ سيئاتهم. قوله: {أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قيل: على حَذْفِ مضافٍ أي: ثوابَ أحسنِ. والمرادُ ب «أَحْسَن» هنا مجردُ الوصفِ. قيل: لئلا يَلْزَمَ أَنْ يكونَ جزاؤُهم بالحُسْن مسكوتاً عنه. وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه من بابِ الأَوْلى إذا جازاهم بالأحسنِ جازاهم بما دَوْنَه فهو من التنبيهِ على الأَدْنى بالأعلى. قوله: {والذين آمَنُواْ} : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء، والنصبُ على الاشتغالِ.

8

قوله: {حُسْناً} : فيه أوجهٌ، أحدُها، أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي إيصاءً حُسْناً: إمَّا على المبالغةِ، جُعِل نفسَ الحُسْن، وإمَّا على حَذْفِ مضاف أي: ذا حُسْن. الثاني: أنه مفعولٌ به. قال ابنُ عطية: «وفي ذلك تَجَوَّزٌ. والأصلُ: ووَصَّيْنا الإِنسانَ بالحُسْن في فِعْله مع والدَيْه. ونظيرُ هذا قولُ الشاعر: 363 - 4-

عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذ تَشْكُوْنا ... ومِنْ أبي دَهْماءَ إذ يُوصِيْنا خيراً بنا كأنَّنا جافُونا ... ومثلُه قولُ الحطيئة: 363 - 5- وَصَّيْتُ مِنْ بَرَّةَ قلباً حُرَّاً ... بالكَلْبِ خيراً والحَماةِ شَرَّاً وعلى هذا فيكونُ الأصلُ: وصَّيْناه بحُسْنٍ في أَمْرِ والدَيْه ثم جُرَّ الوالدان بالباء فانتصَبَ» حُسْناً «، وكذلك البيتان. والباءُ في الآية والبيتين في هذه الحالةِ للظرفيةِ. الثالث: أنَّ» بوالديه «هو المفعولُ الثاني: فينتصبُ» حُسْناً «بإضمار فعلٍ أي: يَحْسُن حُسْناً، فيكونُ مصدراً مؤكداً. كذا قيل. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ عاملَ المؤكِّد لا يُحْذَفُ. الرابع: أنَّه مفعولٌ به على التضمينِ أي: أَلْزَمْناه حُسْناً. الخامس: أنَّه على إسقاطِ الخافض أي: بحُسْنٍ. وعبَّر صاحب» التحرير «عن ذلك بالقطع. السادس: أنَّ بعضَ الكوفيين قَدَّره: ووصَّيْنا الإِنسانَ أَنْ يَفْعَلَ بوالديه حُسْناً. وفيه حَذْفُ» أنْ «وصلتِها وإبقاءُ معمولِها. ولا يجوزُعند البصريين. السابع: أنَّ التقديرَ: ووصَّيْناه بإيتاءِ والدَيْه حُسناً. وفيه حَذْفُ المصدرِ، وإبقاءُ معمولِه. ولا يجوزُ. الثامن: أنَّه منصوبٌ انتصابَ» زيداً «في قولِك لمَنْ رأيتَه مُتَهيِّئاً للضَرْب: زيداً أي: اضرِبْ زيداً. والتقديرُ هنا: أَوْلِهما حُسْناً أو افعلْ بهما حُسْناً. قالهما الزمخشري.

وقرأ عيسى والجحدري/» حَسَناً «بفتحتين، وهما لغتان كالبُخْلِ والبَخَل، وقد تقدَّم ذلك أوائل البقرة.

10

قوله: {لَيَقُولُنَّ} : العامَّةُ على ضَمِّ اللامِ ليُسْنِدَ الفعلَ لضمير جماعةٍ حَمْلاً على معنى «مَنْ» بعد أَنْ حُمِل على لفظِها. ونقل أبو معاذ النحوي أنه قُرِئ «لَيَقُولَنَّ» بالفتح جَرْياً على مراعاةِ لفظِها أيضاً. وقراءةُ العامَّةِ أحسنُ لقولِه «إنَّا كُنَّا» .

12

قوله: {وَلْنَحْمِلْ} : أمرٌ في معنى الخبر. وقرأ الحسن وعيسى بكسرِ لامِ الأمرِ. وهو لغةُ الحجاز. وقال الزمخشري: «وهذا قولُ صناديدِ قريشٍ كانوا يقولون لمَنْ آمنَ منهم: لا نُبْعَثُ نحن ولا أنتم، فإنْ عَسَى كان ذلك فإنَّا نَتَحَمَّلُ» . قال الشيخ: «هو تركيبٌ أعجميٌّ مِنْ جهةِ إدخالِ حرفِ الشرطِ على» عسى «، وهي جامدةٌ، واستعمالِها مِنْ غيرِ اسمٍ ولا خبرٍ وإيلائِها كان» . وقرأ العامَّةُ «خطاياكُمْ» جمعَ تكسيرٍ. وداود بن أبي هند «مِنْ

خَطِيْئاتهم» جمعَ سلامةٍ. وعنه أيضاً «خَطيئتِهم» بالتوحيد، والمرادُ الجنسُ. وهذا شبيهٌ بقراءتَيْ {وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} [البقرة: 81] و «خطيئاته» وعنه أيضاً «خَطَئِهم» . قيل: بفتحِ الطاءِ وكسرِ الياءِ. يعني بكسرِ الهمزةِ القريبةِ من الياء لأجلِ تسهيلِها بينَ بينَ. و «مِنْ شيء» هو مفعولٌ ب «حامِلين» ، و «مِنْ خطاياهم» حالٌ منه، لمَّا تقدَّم عليه انتصبَ حالاً.

14

قوله: {أَلْفَ سَنَةٍ} : منصوبٌ على الظرفِ. {إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} منصوبٌ على الاستثناءِ، وفي وقوع الاستثناءِ مِنْ أسماءِ العددِ خلافٌ. وللمانعين منه جوابٌ عن هذه الآيةِ. وقد رُوْعِيَتْ هنا نكتةٌ لطيفةٌ: وهو أَنْ غايرَ بين تمييزَيْ العددَيْن فقال في الأول: «سَنَة» وفي الثاني: «عاماً» لئلا يَثْقُلَ اللفظُ. ثم إنه خَصَّ لفظَ العامِ بالخمسين إيذاناً بأنَّ نبيَّ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا استراح منهم بقيَ في زمنٍ حسنٍ، والعربُ تُعَبِّرُ عن الخِصْبِ بالعام، وعن الجَدْبِ بالسَّنَة.

15

قوله: {وَجَعَلْنَاهَآ} : أي: العقوبَة أو الطَّوْفَةَ، ونحو ذَلك.

16

قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ} : العامَّةُ على نصبِه عَطفاً على «نوحاً» ، أو بإضمار اذْكُرْ، أو عطفاً على هاء «أَنْجَيْناه» . والنخعي وأبو جعفر وأبو حنيفةَ «وإبراهيمُ رفعاً على الابتداءِ، والخبرُ مقدَّرٌ أي: ومن المرسلينَ إبراهيمُ. قوله:» إذ قالَ «بدلٌ مِنْ» إبراهيمَ «بدلُ اشتمالِ.

17

قوله: {وَتَخْلُقُونَ} : العامَّةُ بفتحِ التاءِ وسكونِ الخاءِ وسكونِ اللامِ، مضارعَ خَلَقَ، «إفكاً» بكسرِ الهمزةِ وسكون الفاء أي: وَتَخْتَلِقُوْن كذباً أو تَنْحِتُون أصناماً. وعلي بن أبي طالب وزيدُ بن علي والسُّلمي وقتادةُ بفتح الخاءِ واللامِ مشددةً، وهو مضارعُ «تَخَلَّقَ» والأصلُ: تَتَخَلَّقُوْن بتاءَيْن، فَحُذِفَت إحداهما ك تَنزَّلُ ونحوِه. ورُوي عن زيد بن علي أيضاً «تُخَلِّقُوْن» بضم التاء وتشديد اللام مضارعَ خَلَّق مضعَّفاً. وقرأ ابن الزُّبير وفضيل بن زُرْقان «أَفِكاً» بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدرٌ كالكَذِب معنىً ووزناً. وجَوَّز الزمخشري في الإِفْك بالكسرِ والسكون وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ مخففاً من الأَفِك بالفتح والكسر كالكِذْب واللِّعْب، وأصلُهما الكَذِب واللَّعِب، وأن يكونَ صفةً على فِعْل أي خَلْقاً إفكاً أي:

ذا إفك. قلتُ: وتقديرُه مضافاً قبلَ إفْك مع جَعْلِه له صفةً غيرُ محتاجٍ إليه، وإنما كان يُحْتاجُ إليه لو جَعَلَه مصدراً. قوله: «رِزْقاً» يجوزُ أن يكونَ منصوباً على المصدرِ، وناصبُه «لا يَمْلِكون» لأنَّه في معناه. وعلى أصولِ الكوفيين يجوزُ أَنْ يكونَ الأصلُ: لا يملِكُون أن يَرْزُقوكم رِزْقاً، ف «أَنْ يَرْزُقوكم» هو مفعولُ «يَمْلكون» . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى المَرْزوق، فينتصبَ مفعولاً به.

19

قوله: {يَرَوْاْ كَيْفَ} : قرأ الأخَوان وأبو بكر بالخطاب، على خطابِ إبراهيمِ لقومِه بذلك. والباقون بالغَيْبة ردَّاً على الأممِ المكذِّبةِ. قوله: «كيف يُبْدِئُ» العامَّةُ على ضَمِّ الياءِ مِنْ أَبْدَأَ. والزبيري وعيسى وأبو عمرو بخلافٍ عنه «يَبْدَأُ» مضارعَ بدأ. وقد صَرَّح بماضيه هنا حيث قال: {كَيْفَ بَدَأَ الخلق} [العنكبوت: 20] وقرأ الزهري: «كيف بَدا» بألفٍ صريحةٍ، وهو تخفيفٌ على غيرِ قياسٍ. وقياسُه بين بينَ، وهو في الشذوذ كقولِه: 3636 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَارْعَيْ فَزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ

20

قوله: {النشأة} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو «النَّشاءةَ» بالمد هنا والنجم والواقعة. والباقون بالقصرِ مع سكونِ الشين، وهما لغتان كالرَّأْفة والرَّآفة. وانتصابُهما على المصدرِ المحذوفِ الزوائدِ. والأصلُ الإِنشاءة. أو على حَذْف العاملِ أي: يُنْشِئ فَيَنْشَؤون النشأةَ. وهي مرسومةٌ بالألفِ وهو يُقَوِّيَ قراءةَ المدِّ.

22

قوله: {وَلاَ فِي السمآء} : على تقديرِ أَنْ يكونوا فيها كقولِه: {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات} [الرحمن: 33] أي: على تقديرِ أَنْ يكونوا فيها. وقال ابن زيد والفراء: «معناه ولا مَنْ في السماءِ أي: يُعْجِزُ إنْ عَصَى» يعني: أنَّ مَنْ في السماواتِ عطفٌ على «أنتم» بتقدير: إنْ يَعْصِ. قال الفراء: «وهذا من غوامضِ العربيةِ» . قلت: وهذا على أصلِه حيث يُجَوِّز حَذْفَ الموصولِ الاسميِّ وتَبْقى صلتُه. وأنشد: 3637 - أمَن يهْجُو رسولَ الله منكُمْ ... ويَنْصُرُه ويَمْدَحُه سَواءُ وأبعدُ مِنْ ذلك مَنْ قدَّر موصولين محذوفين أي: وما أنتم بمعجِزِين مَنْ في الأرض مِن الإِنسِ والجنِّ ولا مَنْ في السماء من الملائكة، فكيف تُعْجِزُون خالقِها؟ وعلى قولِ الجمهورِ يكونُ المفعولُ محذوفاً أي: وما أنتم بمعجِزين أي: فائِتينَ ما يريدُ اللَّهُ بكم.

وقوله: «ثم يُعيدُه» {ثُمَّ الله يُنشِىءُ} مُسْتأنفان، من إخبارِ الله تعالى، فليس الأولُ داخلاً في حَيِّزِ الرؤيةِ، ولا في الثاني في حَيِّزِ النظَر.

24

قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} : العامَّةُ على نصبِه. والحسن وسالمٌ الأفطسُ برفعِه. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا.

25

قوله: {إِنَّمَا اتخذتم} : في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، وهو المفعولُ الأول. و «أَوْثاناً» مفعولٌ ثانٍ. والخبرُ «مَوَدَّةُ» في قراءةِ مَنْ رفع كما سيأتي. والتقدير: إنَّ الذي اتَّخذتموه أوثاناً مودةُ، أي: ذو مودةٍ، أو جُعلِ نفسَ المودةِ، ومحذوفٌ على قراءةِ مَنْ نَصَبَ «مَوَدَّةَ» أي: إنَّ الذي اتخذتموه أوثاناً لأجلِ المودةِ لا يَنْفَعُكم، أو «يكونُ عليكم» ، لدلالةِ قولِه: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} . الثاني: أن تُجْعَلَ «ما» كافةً، و «أوثاناً» مفعولٌ به. والاتِّخاذ هنا متعدٍ لواحدٍ، أو لاثنين، والثاني، هو {مِّن دُونِ الله} فَمَنْ رفع «مودةُ» كانَتْ خبرَ مبتدأ مضمرٍ. أي: هي مودة، أي: ذاتُ مودة، أو جُعِلت نفسَ المودةِ مبالغةً. والجملةُ حينئذٍ صفةٌ ل «أَوْثاناً» أو مستأنفةٌ. ومَنْ نصبَ كانَتْ مفعولاً له، أو بإضمار أَعْني. الثالث: أَنْ تُجْعَلَ «ما» مصدريةً، وحينئذٍ يجوز أن يُقَدَّر مضافاً من الأول أي: إنَّ سببَ اتَّخاذِكم أوثاناً مودةُ، فيمَنْ رفَعَ «مودةُ» . ويجوز أَنْ لا يُقَدَّرَ، بل

يُجْعَلُ نفسُ الاتخاذِ هو المودةَ مبالغةً. وفي قراءةِ مَنْ نَصَبَ يكونُ الخبرُ محذوفاً، على ما مَرَّ في الوجه الأول. وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ والكسائيُّ برفع «مودةُ» غيرَ منونة وجَرِّ «بَيْنِكم» . ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب «مودةً» منونةً ونصبِ «بينَكم» . وحمزةُ وحفص بنصب «مودةَ» غيرَ منونةٍ وجرِّ «بَيْنِكم» . فالرفعُ قد تقدَّم. والنصبُ أيضاً تقدَّم فيه وجهان، ويجوز وجهٌ ثالثٌ، وهو أن تُجْعَلَ مفعولاً ثانياً على المبالغةِ، والإِضافةُ للاتِّساعِ في الظرف كقولِهم: 3638 - يا سارِقَ الليلةِ أهلَ الدارِ ... ومَنْ نصبَه فعلى أصلِه. ونُقِل عن عاصمٍ أنه رَفَع «مودةُ» غيرَ منونةٍ ونَصَبَ «بينَكم» . وخُرِّجَتْ على إضافة «مودةُ» للظرف، وإنما بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كقراءةِ {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] بالفتح إذا جعلنا «بينَكم» فاعلاً. وأمَّا «في الحياة» ففيه [أوجهٌ] أحدها: أنه هو و «بينَكم» متعلقان ب «مودَّة» إذا نُوِّنَتْ. وجازَ تعلُّقُهما بعاملٍ واحدٍ لاختلافِهما. الثاني: أَنْ يتعلَّقا بمحذوفٍ على أنهما صفتان ل «مودَّة» . الثالث: أن يتعلَّق «بَيْنَكم» بموَدَّة. و «في الحياة» صفةٌ ل «مودة» . ولا يجوز العكسُ لئلا يلْزَم إعمالُ المصدرِ الموصوفِ. والفرقُ بينَه وبين الأول أنَّ الأولَ عَمِلَ فيه المصدرُ قبل أَنْ يُوْصَفَ، وهذا عَمِلَ فيه بعد

أَنْ وُصِفَ. على أنَّ ابنَ عطية جَوَّز ذلك هو وغيرُه وكأنهم اتَّسَعوا في الظرف. فهذا وجهٌ رابعٌ. الخامس: أَنْ يتعلَّقَ «في الحياة» بنفس «بينَكم» لأنه بمعنى الفعل، إذ التقديرُ: اجتماعُكم ووَصْلُكم. السادس: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ نفسِ «بينَكم» . السابع: أن يكونَ «بينَكم» صفةً ل «مودة» . و «في الحياة» حالٌ من الضميرِ المستكنِّ فيه. الثامن: أَنْ يتعلَّقَ «في الحياة» ب «اتَّخذتُمْ» على أَنْ تكون «ما» كافةً و «مودة» منصوبةً. قال أبو البقاء: «لئلا يؤدِّي إلى الفصلِ/ بين الموصولِ وما في الصلة بالخبر» .

28

قوله: {وَلُوطاً} : كقولِه: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ} [العنكبوت: 16] . قوله: «ما سَبَقكم» يجوز أَنْ تكونَ استئنافيةً جواباً لمَنْ سأل عن ذلك، وأَنْ تكونَ حاليةً، أي: مُبْتَدِعين لها.

33

قوله: {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ} : تقدَّم نظيرُها. إلاَّ أَنَّ هنا زِيْدَتْ «أَنْ» وهو مطردٌ تأكيداً. قوله: «إنَّا مُنَجُّوك» في الكافِ وما أشبهها مذهبان: مذهبُ سيبويهِ: أنها في محلِّ جرٍ. فعلى هذا في نَصْبِ «وأهلَكَ» وجهان: إضمارُ فعلٍ،

أو العطفُ على المحلِّ. ومذهبُ الأخفشِ وهشام أنها في محلِّ نصبٍ، وحُذِفَ التنوينُ والنونُ لشدةِ اتصالِ الضميرِ. وقد تقدَّمَتْ قراءتا التخفيفِ والتثقيلِ في «لنُنَجِّيَنَّه» و «مُنَجُّوك» في الحجر.

34

وقُرئ «مُنْزِلون» مخففاً ومشدداً. وقرأ ابن محيصن «رُجْزاً» بضم الراء. والأعمش وأبو حيوة «يَفْسِقون» بالكسر.

35

قوله: {تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً} : فيه وجهان: أحدُهما: أنَّ بعضَها باقٍ وهو آيةٌ باقيةٌ إلى اليوم. الثاني: أنَّ «مِنْ» مزيدةٌ. وإليه نحا الفراء أي: تَرَكْناها آيةً، كقوله: 363 - 9- أمْهَرْت مِنْها جُبَّة وتَيْسا ...

أي: أَمْهَرْتُها. وهذا يجيءُ على رَأْيِ الأخفش.

36

قوله: {وإلى مَدْيَنَ} : أي: وأَرْسَلْنَا، أو بَعَثْنا إلى مَدْيَنَ أخاهم. و «شُعَيباً» بدلٌ أو بيانٌ أو بإضمار أعني.

38

قوله: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ} : نصبٌ بأَهْلَكْنا مقدَّراً، أو عطفٌ على مفعولِ «فأَخَذْتُهم» ، أو على مفعول {فَتَنَّا} [العنكبوت: 3] أول السورة وهو قولُ الكسائيِّ وفيه بُعْدٌ كبيرٌ. وتقدَّمَ تنوينُ ثمود وعدمه في هود. وقرأ ابن وثاب «وعادٍ وثمودٍ» بالخفض عَطْفاً على «مَدْيَنَ» عُطِف لمجرَّد الدلالةِ، وإنْ لا يَلْزمْ أن يكون «شعيباً» مرسَلاً إليهما. وليس كذلك. قوله: {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم} أي: ما حلَّ بهم. وقرأ الأعمش «مساكنُهم» بالرفع على الفاعلية بحذف «مِنْ» .

39

قوله: {وَقَارُونَ} : عطفٌ على «عاداً وثمودَ» أو على مفعول «فَصَدَّهم» أو بإضمار اذكر.

40

قوله: {فَكُلاًّ} : منصوبٌ ب «أَخَذْنا» . و «بذَنْبه» أي: بسبب أو مصاحباً لذنبه.

قوله: «مَنْ أَغْرَقْناه» عائدهُ محذوفٌ لأجلِ شِبْهِ الفاصلةِ.

41

قوله: {العنكبوت} : معروفٌ. ونونُه أصليةٌ، والواوُ والتاءُ مزيدتان، بدليل قولِهم في الجمعِ: عناكِب، وفي التصغير عُنَيْكِب. ويُذَكَّر ويُؤنث فمن التأنيثِ: قولُه: «اتَّخَذَتْ» . ومن التذكير قوله: 3640 - على هَطَّالِهم منهمْ بيوتٌ ... كأنَّ العنكبوتَ هو ابْتَناها وهذا مُطَّرِدٌ في أسماءِ الأجناس، تُذَكَّر وتؤنَّث. قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُه محذوفٌ أي: لَمَا اتَّخذوا مَنْ يُضْرَبُ له بهذه الأمثالِ لحقارتِه. ومتعلَّق «يَعْلمون» لا يجوز أَنْ يكونَ مِنْ جنسِ قولِه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت} ؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلمُ ذلك، وإنما متعلَّقُه مقدرٌ مِنْ جنسِ ما يدلُّ عليه السياقُ. أي: لو كانوا يعلمونَ أنَّ هذا مثلُهم.

42

قوله: {مَا يَدْعُونَ} : قرأ أبو عمروٍ وعاصم بياء الغيبة، والباقون بالخطاب. و «ما» يجوز فيها أَنْ تكونَ موصولةً منصوبةً ب «يَعْلَم» أي: يَعْلَم الذين يَدْعُوْنَهم، ويَعْلَم أحوالهم. و «منْ شيء» مصدرٌ. وأَنْ تكونَ استفهاميةً، وحينئذٍ يجوز فيها وجهان: أَنْ تكونَ هي وما عَمل فيها معترضاً بين قوله: «يَعْلَمُ» وبين قولِه: {وَهُوَ العزيز الحكيم} كأنه قيل: أيَّ شيءٍ يَدْعون مِنْ دونه. والثاني: أن تكونَ معلِّقَةً ل «يَعْلَم» ، فتكونَ في موضع نصبٍ

بها، وإليه ذهب الفارسي، وأن تكونَ نافيةً و «مِنْ» في «من شيء» مزيدةٌ في المفعول به. كأنه قيل: ما يَدْعُون مِنْ دونِه ما يَسْتَحِقُّ أن يُطلق عليه شيء. والوجهُ فيها حينئذٍ: أَنْ تكونَ الجملةُ معترضةً كالأولِ مِنْ وجهَيْ الاستفهامية، وأن تكونَ مصدريةً. قال أبو البقاء: «وشيء مصدرٌ» . وفي هذا نظرٌ؛ إذ يصيرُ التقدير: ويعلمُ دعاءَكم مِنْ/ شيءٍ من الدعاء.

43

قوله: {نَضْرِبُهَا} : يجوز أَنْ يكونَ خبر «تلك» و «الأمثالُ» نعتٌ أو بدلٌ أو عطفٌ بيانٍ، وأَنْ [تكونَ] «الأمثالُ» خبراً و «نَضْرِبُها» حال، وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً.

46

قوله: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} : استثناءٌ متصلٌ. وفيه معنيان، أحدهما: إلاَّ الظَّلَمَةَ فلا تُجادلوهم البتةَ. بل جادِلوهم بالسيف. والثاني: جادِلوهم بغير التي هي أحسنُ أي: أَغْلِظوا لهم كما أَغْلَظوا عليكم. وقرأ ابن عباس «ألا» حرفُ تنبيهٍ أي: فجادِلوهم.

48

قوله: {مِن كِتَابٍ} : مفعولُ «تَتْلُو» و «مِنْ» زائدةٌ. و «مِنْ قبلِه» حالٌ مِنْ «كتاب» ، أو متعلِّقٌ بنفسِ «تَتْلو» . قوله «إذاً لارتابَ» جوابٌ وجزاءٌ أي: لو تَلَوْتَ كتاباً قبلَ القرآنِ، أو كنتَ مِمَّن يكتبُ لارتابَ المُبْطلون.

49

قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ} : قرأ قتادةُ «آيةٌ» بالتوحيد.

50

قوله: {آيَاتٌ} : قرأ الأخَوان وابن كثير وأبو بكر «آيةٌ» بالإِفراد؛ لأنَّ غالِبَ ما جاء في القرآن كذلك. والباقون «آياتٌ» بالجمعِ؛ لأنَّ بعدَه {قُلْ إِنَّمَا الآيات} بالجمعِ إجماعاً، والرسمُ محتملٌ له.

51

قوله: {أَنَّآ أَنزَلْنَا} : فاعل «يَكْفِهم» .

55

قوله: {وَيِقُولُ} : قرأ الكوفيون ونافع بياءِ الغَيْبة أي: الله تعالى أو المَلَك. وباقي السبعة بنونِ العظمة لله تعالى، أو لجماعة الملائكةِ. وأبو البرهسم بالتاءِ من فوقُ أي: جهنم كقوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] . وعبد الله وابن أبي عبلة «ويُقال» مبنياً للمفعول.

56

قوله: {فاعبدون} : جعله الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدرٍ، وجعل تقديمَ المفعولِ عوضاً مِنْ حَذْفِه مع إفادتِه للاختصاصِ. وقد تقدَّم منازعةُ الشيخِ له في نظيره.

57

قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} : قرأه بالغيبة أبو بكر،

وكذا في الروم في قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] وافقه أبو عمرو في الروم فقط. والباقون بالخطاب فيهما. وقُرِئ «يَرْجِعُون» مبنياً للفاعل.

58

قوله: {والذين آمَنُواْ} : يجوز فيه الوجهان المشهوران: الابتداءُ والاشتغال. والأخَوان قرآ بثاءٍ مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النونِ، وياءٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من الثَّواء وهو الإِقامةُ. والباقونَ بباءٍ مُوَحَّدة مفتوحةٍ بعد النونِ وهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من المَباءة وهي الإِنزالُ. و «غُرفاً» على القراءةِ الأولى: إمَّا مفعولٌ به على تضمين «أَثْوَى» أنزل، فيتعدَّى لاثنين، لأنَّ ثوى قاصرٌ، وأكسبته الهمزةُ التعدِّيَ لواحدٍ، وإمَّا على تشبيهِ الظرف المختصِّ بالمبهمِ كقولِه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} [الأعراف: 16] وإمَّا على إسقاطِ الخافضِ اتِّساعاً أي: في غُرَف. وأمَّا في القراءةِ الثانيةِ فمفعولٌ ثانٍ، لأنَّ «بَوَّأ» يتعدَّى لاثنين، قال تعالى: {تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ} [آل عمران: 121] ويتعدَّى باللامِ قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ} [الحج: 26] . وقد قُرِئ «لَنُثَوِّيَنَّهم» بالتشديد مع الثاء المثلثة، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة. و «تَجْرِي» صفةٌ ل «غُرَفاً» .

59

قوله: {الذين صَبَرُواْ} : يجوز فيه الجرُّ والنصبُ والرفعُ كنظائرَ له تقدَّمتْ.

60

قوله: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ} : جوَّز أبو البقاء في «كَأَيِّن» وجهين، أحدهما: أنها مبتدأٌ، و «لا تحملُ» صفتها، و «اللَّهُ يَرْزُقها» خبره، و «مِنْ دابَّةٍ» تبيينٌ. والثاني: أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ بإضمار فعل يُفَسِّره «يَرْزُقها» ويُقدَّرُ بعد «كَأَيِّنْ» يعني لأنَّ لها صدرَ الكلامِ. وفي الثاني نظرٌ؛ لأنَّ مِنْ شرط المفسِّرِ العملَ، وهذا المفسِّر لا يعملُ؛ لأنه لو عَمِلَ لحلَّ مَحَلَّ الأولِ، لكنه لا يَحُلُّ مَحَلَّه؛ لأنَّ الخبرَ متى كان فعلاً رافعاً لضميرٍ مفردٍ امتنع تقديمُه على المبتدأ، وإذا أرَدْتَ معرفةَ هذه القاعدة فعليك بسورةِ هود عند قولِه: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً} [هود: 8] .

64

قوله: {الحيوان} : قدَّر أبو البقاء وغيرُه قبل المبتدأ، مضافاً أي: وإنَّ حياةَ الدارِ الآخرة. وإنما قدَّروا ذلك ليتطابقَ المبتدأ والخبر، والمبالغةُ أحسنُ. وواوُ «الحيوان» عن ياءٍ عند سيبويه وأتباعِه. وإنما أُبْدِلَتْ واواً شذوذاً، وكذا في «حَيْوَة» عَلَماً. وقال أبو البقاء: «لئلا يلتبسَ بالتثنيةِ» يعني لو قيل: حَيَيان. قال: «ولم تُقْلب ألفاً لتحركِها وانفتاحِ ما قبلها لئلا تُحْذَفَ إحدى

الألفين» . وغيرُ سيبويه حَمَلَ ذلكَ على ظاهرِهِ، فالحياة عنده لامُها واوٌ. ولا دليلَ لسيبويهِ في «حَيِي» لأنَّ الواو متى انكسرَ ما قبلها قُلِبَتْ ياءً نحو: غُزِي ودُعِي ورَضِيَ. قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} / أي: لو كانوا يعلمون أنها الحَيَوانُ لَما آثروا عليها الدنيا.

65

قوله: {فَإِذَا رَكِبُواْ} قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بم اتصلَ قولُه: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك} ؟ قلت: بمحذوفٍ دلَّ عليه ما وَصفَهم به وشَرَحَ مِنْ أمرِهم. معناه: هم على ما وُصِفوا به من الشِرْكِ والعنادِ فإذا ركبوا» .

66

قوله: {لِيَكْفُرُواْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ لامَ كي، وهو الظاهرُ، وأن تكون لامَ أمرٍ. قوله: «ولِيَتَمَتَّعوا» قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسرها وهي محتملةٌ للأمرين المتقدمين. والباقون بسكونها. وهي ظاهرةٌ في الأمر. فإنْ كان يُعتقد أن اللامَ الأولى للأمر فقد عطفَ أمراً على مثله، وإن كان يُعتقد أنها للعلةِ، فيكون قد عطف كلاماً على كلام. وقرأ عبد الله {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعلَمُونَ} وأبو العالية «فيُمَتَّعوا» بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول.

67

قوله: {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} : قرأ العامَّةُ «يُؤْمنون» و «يكفرون» بياء الغيبة. والحسن والسلمي بتاء الخطاب فيهما.

68

قوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ} : استفهامُ تقريرٍ كقوله: 364 - 1- ألَسْتُمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ المطايا ... وأندى العالمين بطونَ راحِ

69

قوله: {والذين جَاهَدُواْ} : يجوز فيه ما جاز في قوله: {والذين آمَنُواْ} [العنكبوت: 7] أول السورة. وفيه رَدٌّ على ثعْلب: حيث زعم أنَّ جملةَ القسم لا تقع خبراً للمبتدأ. قوله: «لَمع المحسنين» من إقامة الظاهر مُقامَ المضمرِ إظهاراً لشرفِهم.

الروم

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {في أَدْنَى الأرض} : زعم بعضُهم أنَّ أل عِوَضٌ من الضميرِ، وأنَّ الأصلَ «في أَدْنى أَرْضِهم» وهو قولٌ كوفيٌّ. وهذا على قولِ: إن الهَرَب كان مِنْ جهة بلادِهم. وأمَّا مَنْ يقول: إنه من جهةِ بلادِ العَرَبِ فلا يَتَأَتَّى ذلك. وقرأ العامَّةُ «غُلِبَتْ» مبنياً للمفعول. وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائِه للفاعلِ. قوله: «غَلَبِهم» على القراءةِ الشهيرةِ يكون المصدرُ مضافاً لمفعولِه. ثم هذا المفعولُ: إمَّا أَنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ المضافَ إليه مأخوذٌ مِنْ مبنيّ للمفعولِ على خلافٍ في ذلك، وإمَّا منصوبَ المحلِّ على أنَّ المصدرَ مِنْ مبني للفاعل، والفاعلُ محذوفٌ تقديره: مِن بعد أَنْ غَلَبَهم عدوُّهم، وهم فارس. وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فهو مضافٌ لفاعلِه.

قوله: «سَيَغْلِبون» خبرُ المبتدأ. و {مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} متعلقٌ به. والعامَّةُ - بل نقل بعضُهم الإِجماعَ - على «سَيَغْلِبون» مبنياً للفاعل. فعلى الشهيرةِ واضحٌ أي: مِنْ بعدِ أن غَلَبَتْهُمْ فارسُ سيَغْلِبون فارسَ. وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فأخبرَ أنهم سيَغْلبون ثانياً بعد أن غَلَبوا أولاً. ورُوِي عن ابنِ عمرَ أنه قرأ ببنائه للمفعول. وهذا مخالِف لِما وَرَدَ في سبب الآية وما وَرَدَ في الأحاديث. وقد يُلائم هذا بعضَ ملاءَمَةٍ مَنْ قرأ «غَلَبَتْ» مبنياً للفاعلِ. وقد تقدَّم أن ابن عمرَ ممَّن يقرأُ بذلك. وقد خَرَّج النحاسُ قراءةَ عبدِ الله بن عمرَ على تخريجٍ حَسَنٍ، وهو أن المعنى: وفارسُ مِنْ بعدِ غَلَبِهم للرومِ سيُغْلَبون. إلاَّ أنَّ فيه إضمارَ ما لم يُذْكَرْ، ولا جَرى سببُ ذِكْرِه.

4

قوله: {فِي بِضْعِ} : متعلِّقٌ بما قبلَه. وتقدَّم تفسيرُ البِضْع واشتقاقُه في يوسف. وقال الفراء: «الأصلُ في» غَلَبِهم «: غَلَبَتِهم بتاءِ التأنيثِ فَحُذِفت للإِضافة ك» وإقامَ الصلاةِ «. وغَلَّطه النحاسُ: بأنَّ إقامَ الصلاةِ قد يُقال فيه ذلك لاعتلالِها، وأمَّا هنا فلا ضرورةَ تَدْعو إليه.

وقرأ ابنُ السَّمَيْفَع وأبو حيوة» غَلْبِهم «بسكونِ اللام، فَتَحْتملُ أَنْ تكونَ تخفيفاً شاذاً، وأن تكونَ لغةً في المفتوحِ كالظَّعْن والظَّعَن. قوله: {مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} العامَّةُ على بنائِهما ضمَّاً لقَطْعِهما عن الإِضافة. وأراد بها أي: مِنْ قبل الغَلَبِ ومِنْ بعدِه. أو من قَبْلِ كل أمرٍ ومِنْ بعده. وحكى الفراء كَسْرهما مِنْ غير تنوين. وغَلَّطه النحاسُ، وقال:» إنما يجوز مِنْ قبلٍ ومِنْ بعدٍ/ يعني مكسوراً منوناً «. قلت: وقد قُرِئ بذلك. ووجهُه أنه لم يَنْوِ إضافتَهما فَأَعْرَبهما كقوله: 3642 - فساغَ لي الشَّرابُ وكنتُ قَبْلاً ... أَكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ [وقوله:] 3643 - ونحنُ قَتَلْنا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ ... فما شَرِبُوا بَعْداً على لَذَّةٍ خَمْرا

وحُكي» مِنْ قبلٍ «بالتنوينِ والجرِّ،» ومِنْ بعدُ «بالبناءِ على الضم. وقد خَرَّج بعضُهم ما حكاه الفراء على أنه قَدَّر أنَّ المضافَ إليه موجودٌ فتُرِكَ الأولُ بحالِه. وأنشد: 3644 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... بين ذراعَيْ وَجبْهةِ الأَسَدِ والفرقُ لائحٌ؛ فإنَّ في اللفظ مِثْلَ المحذوفِ، على خلافٍ في تقديرِ البيت أيضاً. قوله:» ويومَئذٍ «أي: إذ يغلِبُ الرومُ فارسَ. والناصب ل» يومَ «» يفرحُ «.

5

وقوله: {بِنَصْرِ الله يَنصُرُ} : مِن التجنيس. وتَقَدَّم آخرَ الكهف. قوله: «بِنَصْرِ الله» الظاهرُ تعلُّقُه ب «يَفْرَح» . وجَوَّز فيه أَنْ يتعلَّقَ ب «يَنْصُرُ» أبو البقاء. وهذا تفكيكٌ للنَّظْمِ.

6

قوله: {وَعْدَ الله} : مصدرٌ مؤكدٌ ناصبُه مضمرٌ أي: وَعَدَهم اللَّهُ ذلك وَعْداً. وقوله {لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} مقرِّرٌ لمعنى هذا المصدرِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من المصدر، فيكونَ كالمصدرِ الموصوف فهو مبيِّنٌ للنوعِ كأنه قيل: وَعَد اللَّهُ وَعْداً غيرَ مُخْلِفٍ.

8

قوله: {في أَنفُسِهِمْ} : ظرفٌ للتفكُّر. وليس مفعولاً للتفكُّر، إذ متعلِّقُه [ما] خَلَق السماواتِ والأرضَ. قوله: «ما خَلَقَ» «ما» نافيةٌ. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا تَعَلُّقَ لها بما قبلَها. والثاني: أنها معلِّقَةٌ للتفكُّرِ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ. ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ استفهاميةً بمعنى النفيِ. وفيها الوجهان المذكوران. و «بالحقِّ إمَّا سببيَّةٌ، وإمَّا حاليةٌ. قوله:» بلقاءِ «متعلقٌ ب» لَكافرون «. واللامُ لا تَمْنَعُ مِنْ ذلك لكونِها في حَيِّزِ» إنَّ «.

9

قوله: {أَكْثَرَ مِمَّا} : نعتُ مصدرٍ محذوف أي: عِمارةً أكثرَ مِنْ عِمارتِهم. وقُرِئ «وآثاروا» بألفٍ بعد الهمزة وهي إشباعٌ لفتحة الهمزة.

10

قوله: {عَاقِبَةَ الذين} : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالرفع. والباقون بالنصب. فالرفعُ على أنها اسمُ كان، وذُكِّر الفعلُ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وفي الخبرِ حينئذٍ وجهان، أحدهما: «السُّوْءَى» أي: الفَعْلَة السُّوْءَى أو الخَصْلَةَ السُّوْءى. والثاني: «أَنْ كَذَّبوا» أي: كان آخرُ أَمْرِهم التكذيبَ. فعلى الأولِ يكونُ في «أَنْ كَذَّبوا» وجهان: أحدُهما: أنه على إسقاطِ الخافض: إمَّا لامِ العلةِ أي: لأَنْ كَذَّبوا، وإمَّا باءِ السببيةِ أي: بأَنْ كَذَّبوا. فلمَّا حُذِفَ الحرفُ جَرَى القولان المشهوران بين الخليلِ وسيبويه في محلِّ «أَنْ» . والثاني: أنه بدلٌ من «السُّوْءَى» أي: ثم كان عاقبتُهم التكذيبَ، وعلى الثاني يكونُ «السُّوْءَى» مصدراً ل أساْءُوا، أو يكونُ نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ أي: أساْءُوا الفَعْلَةَ السُّوْءَى، والسُّوْءَى تأنيثُ الأَسْوَأ. وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ خبرُ كان محذوفاً للإِبهامِ، والسُّوْءَى: إمَّا مصدرٌ، وإمَّا مفعولٌ كما تقدَّم أي: اقْتَرَفوا الخطيئةَ السُّوْءَى أي: كان عاقبتُهم الدَّمارَ. وأمَّا النصبُ فعلى خبر كان. وفي الاسم وجهان، أحدهما: السُّوْءى أي: كانت الفَعْلَةُ السُّوْءَى عاقبةَ المُسيئين، و «أنْ كَذَّبُوا» على ما تقدَّم. والثاني: أن الاسمَ «أنْ كَذَّبُوا» والسُّوْءَى على ما تقدَّم أيضاً.

12

قوله: {يُبْلِسُ} : قرأ العامَّةُ ببنائه للفاعلِ، وهو المعروفُ يُقال: أَبْلَسَ الرجلُ أي: انقطعَتْ حُجَّتُه فسكتَ، فهو قاصرٌ

لا يتعدَّى. قال العجاج: 3645 - يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكَرَّسَاً ... قال نعم أعرِفُه وأَبْلَسا وقرأ السُّلمي «يُبْلَسُ» مبنياً للمفعول وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ أَبْلَسَ لا يتعدَّى. وقد خُرِّجَتْ هذه القراءةُ على أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ مصدرُ الفعلِ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامه؛ إذ الأصلُ: يُبْلِس إبلاسَ المجرمين. ويُبْلِس هو الناصبُ ل «يومَ تقومُ» .

14

و {يَوْمَئِذٍ} : مضافٌ لجملةٍ، تقديرُها: يومئذٍ تقومُ. وهذا كأنه تأكيدٌ لفظيٌّ؛ إذ يصيرُ التقدير: يُبْلِس المجرمون يومَ تقومُ الساعةُ، يومَ تقومُ الساعة.

15

قوله: {يُحْبَرُونَ} : أي: يُسَرُّون. والحَبْرُ والحُبُور: السُّرور. وقيل: هو مِن التحبير وهو التحسين. يُقال: هو حَسَنُ الحِبْر والسِّبر بكسر الحاء والسين وفتحهما. وفي الحديث: «يَخْرج من النارِ رجلٌ ذَهَبَ حِبْرُه وسِبْرُه» فالمفتوح مصدرٌ والمكسورُ اسمٌ. والرَّوضةُ: الجنَّةُ. قيل: ولا تكونُ روضةً إلاَّ وفيها نبتٌ. وقيل: إلاَّ وفيها ماءٌ. وقيل: ما كانَتْ منخفضةً، والمرتفعةُ يقال لها تُرْعَة. وقيل: لا يُقال لها: رَوْضة/ إلاَّ وهي في مكانٍ غليظ مرتفعٍ. قال الأعشى:

3646 - ما رَوْضَةٌ مِنْ رياض الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خضراءُ جادَ عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ وأصل رِياض: رِواض، فقُلِبت الواوُ ياءً على حَدِّ: حَوْض وحِياض.

17

قوله: {حِينَ تُمْسُونَ} : تُمْسُون وتُصْبحون تامَّان أي: تَدْخلون في المساء والصباح، كقولهم: «إذا سَمِعْتَ بسُرى القَيْنِ فاعلَمْ بأنَّه مُصْبِحٌ» أي: مُقيم في الصباح. والعامَّةُ على إضافة الظرف إلى الفعلِ بعده. وقرأ عكرمةُ «حيناً» بالتنوين. والجملةُ بعده صفةٌ له. والعائدُ حينئذٍ محذوفٌ أي: تُمْسُون فيه كقولِه: {واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} [لقمان: 33] . والناصب لهذا الظرفِ «سُبْحانَ» لأنه نابَ عن عاملِه.

18

قوله: {وَعَشِيّاً} : عطفٌ على «حينَ» ، وما بينهما اعتراضٌ. و «في السماوات» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفس الحمد أي: إنَّ الحمدَ يكون في هذين الظرفين.

19

وقد تقدم خلافُ القُراء في تخفيفِ «الميت» وتثقيلِه وكذا قوله: «تُخْرَجون» في سورة الأعراف. و «كذلك» نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: ومثلَ ذلك الإِخراجِ العجيبِ تُخْرَجون.

20

قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ} : مبتدأٌ وخبر أي: ومن جملةِ علامات توحيدِه وأنه يَبْعَثكُم خَلْقُكم واختراعُكم. و «مِنْ» لابتداءِ الغاية. قوله: {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ} . الترتيبُ والمُهْملة هنا ظاهران؛ فإنهم إنما يصيرون بَشَراً بعد أطوارٍ كثيرةٍ. «وتَنْتشرون» حالٌ. و «إذا» هي الفجائيةُ. إلاَّ أنَّ الفجائيةَ أكثرُ ما تقع بعد الفاء لأنها تَقْتضي التعقيبَ. ووجهُ وقوعِها مع «ثُمَّ» بالنسبة إلى ما يليقُ بالحالةِ الخاصةِ أي: بعد تلك الأطوارِ التي قَصَّها علينا في موضعٍ آخرَ مِنْ كونِنا نُطْفَةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم عَظْماً مجرداً ثم عَظْماً مَكْسُوَّاً لحماً فاجأ البشريَّةَ والانتشارَ.

22

قوله: {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ} : أي: لغاتِكم من عَرَبٍ وعَجَمٍ، مع تنوُّعِ كلٍ من الجيلين إلى أنواعٍ شتى لا سيما العجمُ، فإن لغاتِهم مختلفةٌ، وليس المرادُ بالألسنةِ الجوارحَ. قوله: «للعالمين» قرأ حفصٌ بكسر اللام جعله جمعَ عالِم ضدَّ الجاهل. ونحوُه {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43] والباقون بفتحها؛ لأنها آياتٌ لجميع الناس، وإن كان بعضُهم يَغْفُلُ عنها. وقد تقدَّم أولَ الفاتحةِ الكلامُ في «العالمين» : هل هو جمعٌ أو اسمُ جمع؟ فعليك باعتبارِه ثَمَّةَ.

23

قوله: {مَنَامُكُم بالليل والنهار} : قيل: في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ ليكونَ كلُّ واحدٍ مع ما يلائمه. والتقدير: ومِنْ آياتِه منامُكم بالليل

وابتغاؤكم مِنْ فضلِه بالنهارِ، فحُذِف حرفُ الجرِّ لاتصالِه بالليل وعَطْفِه عليه؛ لأنَّ حرفَ العطفِ قد يقومُ مَقامَ الجارِّ. والأحسنُ أَنْ يُجْعَلَ على حالِه، والنومُ بالنهار ممَّا كانَتِ العربُ تَعُدُّه نعمةً من الله، ولا سيما في أوقاتِ القَيْلولة في البلاد الحارَّة.

24

قوله: {يُرِيكُمُ البرق} : فيه أوجهٌ، أحدُها: - وهو الظاهرُ الموافقُ لإِخوانِه - أَنْ يكونَ جملةً من مبتدأ أو خبرٍ، إلاَّ أنه حُذِفَ الحرفُ المصدريُّ، ولمَّا حُذِفَ بَطَلَ عملُه. والأصل: ومِنْ آياتِه أَنْ يُرِيَكم كقوله: 3647 - ألا أيُّهذا الزاجرِيْ أَحْضُرُ الوغَى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الثاني: أنَّ «مِنْ آياتِه» متعلِّقٌ ب «يُرِيكم» أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من البرق. والتقديرُ: ويُرِيْكم البرقَ مِنْ آياته، فيكون قد عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسمية. الثالث: أنَّ «يُرِيْكُم» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: ومِنْ آياتِه آيةٌ يُريكم بها، أو فيها البرقُ فحُذِفَ الموصوف والعائدُ عليه. ومثلُه: 3648 - وما الدَّهْرُ إلاَّ تارَتان فمِنْهما ... موتُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: فمنهما تارةٌ أموتُ فيها. الرابع: أنَّ التقديرَ: ومن آياتِه سحابٌ

أو شيءٌ يُريكم. ف «يُريكم» صفةٌ لذلك المقدرِ، وفاعلُ «يُريكم» ضميرٌ يعود عليه بخلافِ الوجهِ قبله؛ فإنَّ الفاعلَ ضميرُ الباري تعالى.

25

قوله: {مِّنَ الأرض} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلِّقٌ ب «دَعاكم» وهذا أظهرُ. الثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ صفةً ل دَعْوة. الثالث: أنه متعلِّق بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه «تَخْرُجون» أي: خَرَجْتُمْ من الأرض. ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق ب «تَخْرُجون» لأنَّ ما بعد «إذا» لا يعملُ فيما قبلها. وللزمخشري هنا عبارةٌ/ جيدة.

27

قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} : في «أَهْوَن» قولان، أحدهما: أنها للتفضيل على بابِها. وعلى هذا يُقال: كيف يُتَصَوَّرُ التفضيلُ، والإِعادةُ والبُداءة بالنسبةِ إلى اللَّهِ تعالى على حدٍّ سواء؟ في ذلك أجوبة، أحدها: أنَّ ذلك بالنسبةِ إلى اعتقاد البشرِ باعتبارِ المشاهَدَة: مِنْ أنَّ إعادَة الشيءِ أهونُ من اختراعِه لاحتياجِ الابتداءِ إلى إعمالِ فكر غالباً، وإن كان هذا منتفياً عن الباري سبحانَه وتعالى فخوطبوا بحسَبِ ما أَلِفوه. الثاني: أنَّ الضميرَ في «عليه» ليس عائداً على الله تعالى، إنما يعودُ على الخَلْقِ أي: والعَوْدُ أهونُ على الخَلْقِ أي أسرعُ؛ لأن البُداءةَ فيها تدريجٌ مِنْ طَوْرٍ إلى طَوْر، إلى أنْ صار إنساناً، وَالإِعادةُ لا تحتاجُ إلى هذه التدريجاتِ فكأنه قيل: وهو أقصرُ عليه وأَيْسَرُ وأقلُّ انتقالاً. الثالث: أنَّ الضميرَ في «عليه» يعودُ على المخلوق، بمعنى: والإِعادةُ أهونُ على المخلوقِ أي إعادتُه شيئاً بعدما أَنْشأه، هذا في عُرْفِ المخلوقين، فكيف يُنْكِرون ذلك في جانب اللَّهِ تعالى؟

والثاني: أنَّ «أهونُ» ليسَتْ للتفضيل، بل هي صفةٌ بمعنى هَيِّن، كقولهم: اللَّهُ أكبرُ [أي] : الكبير. والظاهرُ عَوْدُ الضمير في «عليه» على الباري تعالى ليُوافِقَ الضميرَ في قوله: {وَلَهُ المثل الأعلى} . قال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ أُخِّرَتِ الصلةُ في قوله {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقُدِّمَتْ في قولِه {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ؟ قلت: هنالك قُصِدَ الاختصاصُ، وهو مَحَزُّه فقيلِ: هو عليَّ هيِّنٌ وإن كان مُسْتَصعباً عندك أن يُوْلَدَ بين هِمٍّ وعاقِر، وأمَّا هنا فلا معنى للاختصاص. كيف والأمرُ مبنيٌّ على ما يعقلون من أنَّ الإِعادةَ أسهلُ من الابتداء؟ فلو قُدِّمَت الصلة لَتَغيَّر المعنى» . قال الشيخ: «ومبنى كلامِه على أنَّ التقديمَ يُفيد الاختصاصَ وقد تكلَّمْنا معه ولم نُسَلِّمه» . قلت: الصحيحُ أنه يُفيده، وقد تقدَّم جميعُ ذلك. قوله: {وَلَهُ المثل الأعلى} يجوز أَنْ يكونَ مرتبطاً بما قبلَه، وهو قولُه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي: قد ضَرَبه لكم مَثَلاً فيما يَسْهُل وفيما يَصْعُبُ. وإليه نحا الزجَّاج أو بما بعدَه مِنْ قولِه: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [الروم: 28] وقيل: المَثَلُ: الوصفُ. «وفي السماوات» يجوز أَنْ يتعلَّق بالأَعْلى أي: إنه علا في

هاتين الجهتين، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِن الأعلى، أو مِن المَثَل، أو مِن الضمير في «الأَعْلى» فإنه يعودُ على المَثَل. قوله: «مِنْ أَنْفُسكم» «مِنْ» لابتداء الغاية في موضع الصفةِ ل مَثَلاً أي: أَخَذَ مثلاً، وانتزعه مِنْ أقربِ شيءٍ منكم هو أنفسكُم.

28

قوله: {هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ} : «مِنْ شركاء» مبتدأٌ، و «مِنْ» مزيدةٌ فيه لوجودِ شرطَيْ الزيادة. وفي خبره وجهان، أحدهما: الجارُّ الأولُ وهو «لكم» و {مِّن مَّا مَلَكَتْ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «شركاءَ» لأنه في الأصل نعتُ نكرةٍ، قُدِّم عليها. والعاملُ فيه العاملُ في هذا الجارِّ الواقع خبراً. والخبرُ مقدرٌ بعد المبتدأ، و {فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} متعلِّقٌ بشركاء. [وما في «ممَّا» بمعنى النوع] تقديرُ ذلك كلِّه: هل شركاءُ فيما رَزَقْناكم كائنون مِن النوع الذي مَلَكَتْه أَيْمانُكم مستقِرُّون لكم. فكائنون هو الوصفُ المتعلِّقُ به «ممَّا مَلَكَتْ» ولَمَّا تقدَّم صار حالاً، و «مستقرُّون» هو الخبرُ الذي تعلَّق به «لكم» . والثاني: أنَّ الخبرَ «مِمَّا مَلَكَتْ» و «لكم» متعلِّقٌ بما تَعَلَق به الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «شركاء» أو بنفس «شركاء» كقولك: «لك في الدنيا مُحِبٌّ» ف «لك» متعلقٌ ب مُحِبّ. و «في الدنيا» هو الخبرُ. قوله: {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} هذه الجملةُ جوابُ الاستفهامِ الذي بمعنى النفي، و «فيه» متعلِّقٌ ب «سَواء» . قوله: «تَخافونهم» فيه وجهان، أحدهما: أنها خبرٌ ثانٍ ل أنتم. تقديرُه:

فأنتم مُسْتَوُوْن معهم فيما رَزَقْناكم، خائفوهم كخَوْفِ بعضِكم بعضاً أيها السادة. والمرادُ نَفْيُ الأشياء الثلاثة أعني الشِّرْكةَ والاستواءَ مع العبيد وخوفَهم إياهم. وليس المرادُ ثبوتَ الشركة ونَفْيَ الاستواءِ والخوفِ، كما هو أحدُ الوجهين في قولك: «ما تأتينا فتحدِّثَنا» بمعنى: ما تأتينا مُحدِّثاً بل تأتينا ولا تحدثنا، بل المرادُ نفيُ الجميع كما تقدَّم. وقال أبو البقاء: {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} الجملةُ في موضع نصبٍ على جوابِ الاستفهامِ أي: «هل لكم فَتَسْتَوُوا» انتهى. وفيه نظرٌ؛ كيف جَعَل جملةً اسمية حالَّةً محلَّ جملةٍ فعلية، ويَحْكمُ على موضع الاسمية بالنصب بإضمارِ ناصبٍ؟ هذا ما لا يجوزُ ولو أنه فَسَّر المعنى وقال: إنَّ الفعلَ لو حَلَّ بعدَ الفاءِ لكان منصوباً بإضمار «أن» لكان صحيحاً. ولا بُدَّ أَنْ يُبَيَّنَ أيضاً أنَّ النصبَ على المعنى الذي قَدَّمْتُه مِنْ نَفْيِ الأشياءِ الثلاثة. والوجه الثاني: أنَّ «تخافونهم» في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير الفاعل/ في «سَواء» أي: فتساوَوْا خائِفاً بعضُكم بعضاً مشاركتَه له في المال. أي: إذا لم تَرْضَوا أن يشارِكَكم عبيدُكم في المال فكيف تُشرِكون بالله مَنْ هو مصنوعٌ له؟ قاله أبو البقاء. وقال الرازي معنى حسناً، وهو: «أنَّ بين المَثَلِ والمُمَثَّلِ به مشابهةً ومخالفةً. فالمشابهةُ معلومةٌ، والمخالفةُ مِنْ وجوه: قوله: «مِنْ أنفسكم» أي: مِنْ نَسْلِكم مع حقارةِ الأنفس ونَقْصِها وعَجْزِها، وقاسَ نفسَه عليكم مع جلالتِها وعظمتِها وقُدْرَتِها. قوله: {مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: عبيدِكم والمِلْكُ طارئ

قابلٌ للنقلِ بالبيع وللزوالِ بالعِتْقِ، ومملوكُه تعالى لا خروجَ له عن المِلْكِ، فإذا لم يَجُزْ أَنْ يُشْرِكَكم مملوكُكُم، وهو مِثْلُكم إذا تحرَّرَ مِنْ جميعِ الوجوهِ، ومثلُكم في الآدميَّةِ حالةَ الرِّق فكيف يُشْرَكُ باللَّهِ تعالى مملوكُه مِنْ جميع الوجوهِ، المباينُ له بالكلية؟ وقوله: «فيما رَزَقْنَاكم» يعني أنه ليس لكم في الحقيقة، إنما هو لله تعالى ومَنْ رَزَقه حقيقةً. فإذا لم يَجُزْ أَنْ يَشْرَكَكم فيما هو لكم، من حيث الاسمُ، فكيف يكون له تعالى شريكٌ فيما له من جهة الحقيقة؟ «انتهى وإنما ذكرْتُ هذا المعنى مَبْسوطاً لأنَّه مبيِّنٌ لِما ذكرته مِنْ وجوهِ الإِعراب. وقوله:» كَخِيْفَتِكم «أي: خِيْفَةً مثلَ خِيْفتكم. والعامَّةُ على نصب» أنفسَكم «لأنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافةِ المصدرِ لمفعولِه. واستقبح بعضُهم هذا إذا وُجِد الفاعلُ. وقال بعضُهم: ليس بقبيحٍ بل يجوزُ إضافتُه إلى كلٍ منهما إذا وُجدا. وأنشد: 3649 - أَفْنَى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ القواريزِ أفواهَ الأباريقِ بنصب» الأفواه «ورَفْعِها. قوله:» كذلك نُفَصِّل «أي: مثلَ ذلك التفصيلِ البيِّنِ نُفَصِّل. وقرأ

أبو عمرو في رواية» يُفَصِّلُ «بياء الغيبة رَدًّا على قوله:» ضَرَبَ لكم «. والباقون بالتكلم رَدًّا على قوله:» رَزَقْناكم «.

30

قوله: {حَنِيفاً} : حالٌ مِنْ فاعل «أَقِمْ» أو مِنْ مفعولِه أو مِن «الدِّين» . قوله: «فِطْرَةَ الله» فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملة كقوله: {صِبْغَةَ الله} [البقرة: 138] و {صُنْعَ الله} [النمل: 88] . والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل. قال الزمخشري: «أي: الزموا فطرةَ الله، وإنما أَضْمَرْتُه عَلَى خطابِ الجماعة لقولِه:» مُنِيبيْن إليه «. وهو حالٌ من الضمير في» الزَموا «. وقولُه:» واتَّقوه، وأقيموا، ولا تكونوا «معطوفٌ على هذا المضمر» . ثم قال: «أو عليكم فطرةَ» . ورَدَّه الشيخُ: «بأنَّ كلمةَ الإِغراءِ لا تُضْمَرُ؛ إذ هي عِوَضٌ عن الفعلِ، فلو حَذَفْتَها لَزِمَ حَذْفُ العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه. وهو إحجافٌ» . قلت: هذا رأيُ البصريين. وأمَّا الكسائيُّ وأتباعُه فيُجيزون ذلك.

31

قوله: {مُنِيبِينَ} : حالٌ مِنْ فاعل «الزموا» المضمرِ كما تقدَّم، أو مِنْ فاعل «أَقِمْ» على المعنى؛ لأنَّه ليس يُرادُ به واحدٌ بعينِه، إنما المرادُ الجميعُ. وقيل: حالٌ من الناس إذا أُريد بهم المؤمنون. وقال الزجَّاج: «بعد قوله: وَجْهَكَ» معطوفٌ محذوف تقديره: فأقمْ وجهَك وأمتك. فالحالُ من الجميع. وجاز حَذْفُ المعطوفِ لدلالةِ «مُنيبين» عليه كما جاز حَذْفُه

في قوله: {ياأيها النبي} [الطلاق: 1] أي: والناسُ لدلالة {إِذَا طَلَّقْتُمُ} عليه. كذا زعم الزجَّاج في {ياأيها النبي} . وقيل: على خبرِ كان أي: كونوا مُنِيبين؛ لدلالة قوله: «ولا تكونوا» .

32

قوله: {فَرِحُونَ} : الظاهر أنَّه خبرُ «كلُّ حِزْب» وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يرتفعَ صفةً ل «كل» قال: «ويجوز أن يكونَ» من الذين «منقطعاً مَمَّا قبله. ومعناه: من المفارقين دينَهم كلُّ حزب فَرِحين بما لديهم، ولكنه رَفَع فرحين وصفاً ل» كل «كقولِه: 3650 - وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نَفْسِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قال الشيخ:» قَدَّر أولاً «فرحين» مجروراً صفةً ل حِزْب ثم قال: ولكنه رُفِع على الوصف ل «كل» لأنك إذا قلتَ: «مِنْ قومِك كلُّ رجلٍ صالح» جاز في «صالح» الخفضُ نعتاً لرجل وهو الأكثر، كقوله: 3651 - جادَتْ عليه كلُّ عينٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كلَّ حديقةٍ كالدِّرْهمِ وجاز الرفعُ نعتاً ل «كل» كقوله:

3652 - وَلِهَتْ عليه كلُّ مُعْصِفَةٍ ... هَوْجاءُ ليس لِلُبِّها زَبْرُ برفع «هوجاء» صفةً ل «كل» . انتهى. وهو تقريرٌ حسنٌ.

33

قوله: {إِذَا فَرِيقٌ} : هذه «إذا» الفجائيةُ وقعَتْ جوابَ الشرطِ لأنها كالفاء في أنها للتعقيبِ، ولا تقع أولَ/ كلامٍ، وقد تجامِعُها الفاءُ زائدةً.

34

قوله: {لِيَكْفُرُواْ} : يجوز أن تكونَ لامَ كي، وأَنْ تكونَ لامَ الأمرِ، ومعناه التهديدُ نحو: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] . قوله: «فَتَمَتَّعُوْا» قرأ العامَّة بالخطاب فيه وفي «تَعْلمون» . وأبو العاليةِ بالياء فيهما، والأولُ مبنيٌّ للمفعول. وعنه «فَيَتَمَتَّعوا» بياءٍ قبل التاء. وعن عبد الله «فَلْيَتَمَتعوا» بلامِ الأمر.

35

قوله: {سُلْطَاناً} : أي: بُرْهاناً وحُجَّة. فإنْ جَعَلْناه حقيقةً كان «يتكلم» مجازاً، وإنْ جَعَلْناه حقيقةً كان «يتكلم» مجازاً، وإنْ جَعَلْناه على حذف مضاف أي: ذا سلطان كان «يتكلَّم» حقيقةً. وقال أبو البقاء هنا: «وقيل: هو جمعُ سَلِيْط ك رَغِيف ورُغْفان» انتهى. وهذا لا يجوزُ لأنه كان ينبغي أَنْ يُقال: فهم يتكلمون. و «فهو يتكلمُّ» جوابُ الاستفهام الذي تضمَّنَتْه «أم» المنقطعةُ.

39

قوله: {لِّيَرْبُوَ} : العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ مفتوحةً، أسند الفعلَ لضمير الرِّبا أي: ليزدادَ. ونافع بتاءٍ مِنْ فوقُ مضمومةً خطاباً للجماعة. فالواوُ على الأولِ لامُ كلمة، وعلى الثاني كلمةُ ضميرٍ لغائبين. وقد تقدَّمتْ قراءتا «آتيتم» بالمدِّ والقصرِ في البقرة. قوله: «المُضْعِفُون» أي: أصحابُ الأضعاف. قال الفراء: «نحو مُسْمِن، ومُعْطِش أي: ذي إبِل سمانٍ وإبل عِطاش» . وقرأ أُبَيُّ بفتح العين، جعله اسمَ مفعولٍ. وقوله: «فأولئك هم» قال الزمخشري: «التفاتٌ حسن، كأنه [قال] لملائكتِه: فأولئك الذين يريدون وجهَ اللَّهِ بصدقاتِهم هم المُضْعِفون. والمعنى: هم المُضْعِفُون به؛ لأنه لا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يَرْجِعُ إلى ما» انتهى. يعني أنَّ اسم الشرط متى كان غيرَ ظرفٍ وَجَبَ عَوْدُ ضميرٍ من الجواب عليه. وتقدَّم ذلك في البقرة عند قوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] الآية. ثم قال:

ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ يكونَ تقديرُه: فَمُؤْتُوْه فأولئك هم المُضْعَفُون. والحَذْفُ لِما في الكلامِ مِن الدليلِ عليه. وهذا أسهلُ مَأْخَذاً، والأولُ أمْلأُ بالفائدة «.

40

قوله: {الله الذي خَلَقَكُمْ} : يجوز في خبر الجلالة وجهان، أظهرهما: أنه الموصولُ بعدها. الثاني: أنه الجملةُ مِنْ قولِه {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ} والموصولُ صفةٌ للجلالة. وقَدَّر الزمخشري الرابطَ بين المبتدأ والجملةِ الواقعةِ خبراً فقال: «وقوله:» مِنْ ذلكم «هو الذي رَبَط الجملةَ بالمبتدأ؛ لأنَّ معناه مِنْ أفعاله» . قال الشيخ: «والذي ذكره النحويون أنَّ اسمَ الإِشارةِ يكون رابطاً إذا أُشيرَ به إلى المبتدأ، وأمَّا» ذلك «هنا فليس إشارةً إلى المبتدأ لكنه شبيهٌ بما أجازه الفراءُ مِن الربطِ بالمعنى، وخالفه الناسُ، وذلك في قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] قال:» التقدير: يتربَّصُ أزواجُهم «. فقدر الرَّبْط بمضافٍ إلى ضميرِ الذين فحصل به الربطُ، كذلك قدَّر الزمخشريُّ» من ذلكم «:» مِنْ أفعالِه «بمضافٍ إلى الضميرِ العائد إلى المبتدأ» . قوله: «مِنْ شركائِكم» خبرٌ مقدمٌ و «مِنْ» للتبعيض. و «مَنْ يَفْعَلُ» هو المبتدأ و «مِنْ ذلكم» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ «شيء» بعده؛ فإنَّه في الأصل صفةٌ له. و «مِنْ» الثالثةُ مزيدةٌ في المفعولِ به؛ لأنه في حَيِّزِ النفي المستفادِ من الاستفهام. والتقدير: ما الذي يَفْعَلُ شيئاً مِنْ ذلكم مِنْ شركائكم.

وقال الزمخشري: «ومِنْ الأولى والثانية كلُّ واحدةٍ مستقلةٌ بتأكيدٍ لتعجيز شركائِهم وتجهيل عَبَدَتهم» . قال الشيخ: «ولا أَدْري ما أراد بهذا الكلام؟» وقرأ الأعمش «تُشْرِكون» خطاباً.

41

قوله: {بِمَا كَسَبَتْ} : أي بسببِ كَسْبهم. والباءُ متعلقةٌ ب «ظَهَر» ، أو بنفس الفساد، وفيه بُعْدٌ. قوله: «لِيُذِيقَهم» اللامُ للعلةِ متعلقةٌ ب «ظهر» . وقيل: بمحذوفٍ أي: عاقبهم بذلك لِيُذِيقَهم. وقيل: اللامُ للصيرورةِ. وقرأ قنبل «لنُذِيْقَهم» بنون العظمة. والباقون بياء الغيبة.

43

قوله: {لاَّ مَرَدَّ لَهُ} : المَرَدُّ مصدر رَدَّ. و «مِن الله» يجوز أن يتعلَّقَ ب يأتي أو بمحذوفٍ يدلُّ عليه المصدر أي: لا يَرُدُّهُ من الله أحدٌ. ولا يجوز أن يعملَ فيه «مَرَدّ» لأنَّه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ؛ إذ هو من قبيل المطوَّلات.

44

قوله: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} : و «فلأَنْفُسِهم يَمْهَدون» تقديمُ الجارَّيْنِ يُفيد الاختصاصَ بمعنى: أن ضَرَرَ كفرِ هذا ومنفعةَ عملِ هذا لا يتعدَّاه «.

45

قوله: {لِيَجْزِيَ} : في متعلَّقِه أوجهٌ، أحدها: «يَمْهدون» . والثاني «يَصَّدَّعون» ، والثالث محذوف. قال ابن عطية: «تقديره ذلك ليجزيَ. وتكون الإِشارةُ إلى ما تقرر مِنْ قوله» مَنْ كفر «و» مَنْ عمل «. وجعل الشيخُ قسيمَ قوله {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ} محذوفاً لدلالة قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} عليه. هذا إذا عَلَّقْنا اللام ب» يَصَّدَّعون «أو بذلك المحذوفِ قال:» تقديرُه ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ مِنْ فَضْلِه والكافرين بعَدْلِه «.

46

قوله: {الرياح} : قرأ العامَّةُ «الرياحَ» جمعاً/ لأجلِ مبشِّراتٍ. والأعمش بالإِفراد، وأراد الجنسَ لأجلِ «مبشِّرات» . قوله: «ولِيُذيْقَكم» إمَّا عطفٌ على معنى «مُبَشِّرات» ؛ لأنَّ الحالَ والصفةَ يُفْهِمان العلةَ، فكأنَّ التقديرَ: ليبشِّرَ وليذيقَكم، وإمَّا أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، أو وليذيقَكم أرسلَها، وإمَّا أَنْ تكون الواوُ مزيدةً على رأيٍ، فتتعلَّقَ اللامُ ب «أَنْ يُرْسِلَ» .

47

قوله: {وَكَانَ حَقّاً} : بعضُ الوَقَفَةِ يقف على «حقاً» ويَبْتدِئ بما بعدَه، يجعل اسمَ كان مضمراً فيها و «حقاً» خبرُها. أي: وكان

الانتقامُ حقاً. قال ابن عطية: «وهذا ضعيفٌ؛ لأنه لم يَدْرِ قَدْرَ ما عَرَضَه في نَظْمِ الآية» يعني الوقفَ على «حَقَّاً» . وجعل بعضُهم «حَقَّاً» منصوباً على المصدر، واسمُ كان ضميرُ الأمرِ والشأن، و «علينا» خبرٌ مقدمٌ، و «نَصْرُ» مبتدأ مؤخرٌ. وبعضُهم جَعَلَ «حقاً» منصوباً على المصدر أيضاً، و «علينا» خبرٌ مقدم، و «نَصْرُ» اسمٌ مؤخر. والصحيحُ أنَّ «نَصْر» اسمها، و «حَقَّاً» خبرُها، و «علينا» متعلقٌ ب «حَقاً» أو بمحذوفٍ صفةً له.

49

قوله: {مِّن قَبْلِهِ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه تكريرٌ ل «مِنْ قَبلِ» الأولى على سبيلِ التوكيد. والثاني: أَنْ يكونَ غيرَ مكررٍ. وذلك أن يُجعلَ الضميرُ في «قَبْله» للسحاب. وجاز ذلك لأنه اسمُ جنسٍ يجوز تذكيرُه وتأنيثُه، أو للريح، فتتعلَّقُ «مِنْ» الثانيةُ ب «يُنَزَّل» . وقيل: يجوزُ عَوْدُ الضمير على «كِسَفا» كذا أطلق أبو البقاء. والشيخ قَيَّده بقراءةِ مَنْ سَكَّن السين. وقد تقدَّمَتْ قراءاتُ «كِسَفاً» في «سبحان» . وللناس في هذا الموضعِ كلامٌ كثيرٌ رأيتُ ذِكْرَه لتوضيحِ معناه. وقد أبْدى كلٌّ من الشيخَيْن: الزمخشريِّ وابنِ عطية فائدةَ التأكيدِ المذكور. فقال ابن عطية: «أفادَ الإِعلامَ بسرعةِ تَقَلُّب قلوبِ البشر من الإِبلاسِ إلى الاستبشار؛ وذلك أن قولَه {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يحتملُ الفُسْحَةَ في الزمانِ، أي: من قبلِ أَنْ يُنَزِّل بكثيرٍ كالأيَّامِ ونحوِه فجاء» مِنْ قبله «، بمعنى أنَّ ذلك متصلٌ بالمطر فهو تأكيدٌ مفيدٌ» .

وقال الزمخشري: «ومعنى التوكيد فيه الدلالةُ على أن عَهْدَهم بالمطرِ قد بَعُدَ فاسْتحكم يَأْسُهم وتمادَى إبْلاسُهم، فكان استبشارُهم على قَدْرِ اغتمامهم بذلك» . وهو كلامٌ حسنٌ. إلاَّ أنَّ الشيخَ لم يَرْتَضِه منهما فقال: «ما ذكراه من فائدةِ التأكيدِ غيرُ ظاهرٍ، وإنما هو لمجرَّدِ التوكيد ويُفيد رَفْعَ المجازِ فقط» . انتهى. ولا أدري عدمُ الظهورِ لماذا؟ وقال قطرب: «وإن كانوا مِنْ قبلِ التنزيل مِنْ قبل المطَر. وقيل: التقديرُ مِنْ قبلِ إنزالِ المطرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَزْرعوا. ودَلَّ المطرُ على الزرع؛ لأنه يَخْرج بسببِ المطر. ودلَّ على ذلك قولُه» فَرَأَوْه مُصْفَرَّاً «يعني الزرعَ؛ قال الشيخ:» وهذا لا يَسْتقيم؛ لأنَّ {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ} متعلِّقٌ ب «مُبْلِسِيْن» ولا يمكن مِنْ قَبْل الزَّرْع أَنْ يتعلَّقَ بمُبْلِسين؛ لأنَّ حرفَيْ جرّ لا يتعلَّقان بعاملٍ واحدٍ إلاَّ بوساطةِ حرفِ العطف أو البدلِ، وليس هنا عطفٌ والبدلُ لا يَجوز؛ إذ إنزالُ الغيثِ ليس هو الزرعَ ولا الزرعُ بعضَه. وقد يُتَخَيَّلُ فيه بدلُ الاشتمالِ بتكلُّفٍ: إمَّا لاشتمالِ الإِنزالِ على الزَّرْع، بمعنى: أنَّ الزرعَ يكون ناشِئاً عن الإِنزال، فكأن الإِنزالَ مُشْتملٌ عليه. وهذا على مذهبِ مَنْ يقول: الأولُ مشتملٌ على الثاني «. وقال المبردُ:» الثاني السحابُ؛ لأنهم لَمَّا رَأَوْا السحابَ كانوا راجين المطرَ «انتهى. يريد مِنْ قبل رؤيةِ السحاب. ويحتاج أيضاً إلى حَرْفِ عطفٍ ليصِحَّ تعلُّقُ الحرفين ب» مُبْلِسين «. وقال الرمَّاني:» من قبلِ الإِرسال «.

والكرماني:» من قَبْلِ الاستبشارِ؛ لأنه قَرَنه بالإِبلاس، ولأنه مَنَّ عليهم بالاستبشار «. ويحتاج قولُهما إلى حرفِ العطفِ لِما تقدَّم، وادِّعاءُ حرفِ العطفِ ليس بالسهلِ؛ فإنَّ فيه خلافاً: بعضُهم يَقيسُه، وبعضُهم لا يقيسه. هذا كلُّهُ في المفردات. أمَّا إذا كان في الجمل فلا خلافَ في اقتياسِه.

50

قوله: {إلى آثَارِ} : قرأ ابن عامر والأخَوان وحفص بالجمع، والباقون بالإِفراد. وسلام بكسرِ الهمزة وسكون الثاء، وهي لغةٌ فيه. وقرأ العامَّةُ «كيف يُحْيي» بياء الغَيْبة أي: أثر الرحمة فيمَنْ قرأ بالإِفراد، ومَنْ قرأ بالجمع فالفعلُ مسندٌ لله تعالى، وهو مُحْتَمَلٌ في الإِفراد أيضاً. والجحدري وأبو حيوة وابن السَّمَيْفع «تُحْيي» بتاء التأنيث. وفيها تخريجان، أظهرهما: أنَّ الفاعلَ عائدٌ على الرحمة. والثاني قاله أبو الفضل: عائدٌ على أثر، وأنَّثَ «أثر» لاكتسابه بالإِضافةِ التأنيثَ، كنظائرَ له تقدَّمَتْ. ورُدَّ عليه: بأن شرطَ ذلك كَوْنُ المضافِ بمعنى المضاف إليه، أو مِنْ سببِه لا أجنبياً، وهذا أجنبيٌّ. و «كيف يُحْيي» مُعَلِّقٌ ل «انظرْ» فهو في محلِّ نصب على/ إسقاطِ الخافضِ. وقال أبو الفتح: «الجملةُ مِنْ» كيف يُحْيي «في موضعِ نصبٍ على الحال حَمْلاً على المعنى» . انتهى وكيف تقع جملةُ الطلب حالاً؟

51

قوله: {فَرَأَوْهُ} : أي: فَرَأَوْا النباتَ، لدلالة السياق عليه، أو على الأثر؛ لأنَّ الرحمةَ هي الغيث، وأثرُها هو النبات. وهذا ظاهرٌ على قراءةِ الإِفراد، وأمَّا على قراءة الجمع فيعودُ على المعنى. وقيل: الضمير

للسَّحابِ. وقيل: للريح. وقرأ جناح بن حبيش «مُصْفارَّاً» بألفٍ. و «لَظَلُّوا» جوابُ القسمِ الموطَّأ له ب «لَئِنْ» ، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى كقولِه: {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] . وتقدَّم الكلامُ على نحوِ {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ} إلى آخره في الأنبياء وفي النمل، وكذلك في قراءَتَيْ «ضعف» وما الفرقُ بينهما في الأنفال؟ والضميرُ في «مِنْ بعدِه» يعودُ على الاصفرارِ المدلولِ عليه بالصفة كقولِه: 3653 - إذا نُهِي السَّفيهُ جَرَى إليه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: إلى السَّفَهِ لدلالة «السَّفيه» عليه.

55

قوله: {مَا لَبِثُواْ} : جوابُ قولِه «يُقْسِم» وهو على المعنى، إذ لو حُكي قولُهم بعينِه لقيل: ما لَبِثْنا. و «كذلك» أي: مِثْلَ ذلك الإِفك كانوا يُؤْفَكون.

56

قوله: {فِي كِتَابِ الله} : الظاهرُ أنه متعلِّقٌ ب «لَبِثْتم» بمعنى فيما وَعَدَ به في كتابه من الحشرِ والبعث. وقال قتادة: على التقديم

والتأخيِرِ، والتقدير: «وقال الذين أُوْتُوا العلم في كتابِ الله لقد لَبِثْتُمْ، و» في «بمعنى الباء أي: العلم بكتاب الله. وصدورُه عن قتادةَ بعيدٌ. والعامَّةُ على سكون عَيْن» البعث «. والحسنُ بفتحها. وقُرِئ بكسرِها. فالمكسورُ اسمٌ، والمفتوحُ مصدرٌ. قوله:» فهذا يومُ «في الفاءِ قولان، أظهرهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على» لَقَدْ لَبِثْتُمْ «. وقال الزمخشري:» هي جوابُ شرطٍ مقدرٍ كقوله: 3654 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . فقد جِئْنا خُراسانا كأنه قيل: إنْ صَحَّ ما قُلتم: إنَّ خراسان أقصى ما يُراد بكم، وآن لنا أن نَخْلُصَ، وكذلك إنْ كنتم منكرينَ للبعث فهذا يومُ البعث «ويشير إلى البيت المشهور وهو: قالوا: خراسانُ أَقْصى ما يُراد بنا ... ثم القُفولُ فقد جِئْنا خُراسانا قوله:» لا تَعْلَمُوْن «أي البعثَ أي: ما يرادُ بكم، أو لا ُيُقَدَّرُ له مفعولٌ أي: لم يكونوا مِنْ أولي العلم. وهو أبلَغُ.

57

قوله: {فَيَوْمَئِذٍ} : أي: إذ يقعُ ذلك، ويقولُ الذين أوتوا العلمَ تلك المقالة.

قوله: «لا يَنْفَعُ» هو الناصبُ ل «يومئذٍ» قبله. وقرأ الكوفيون هنا وفي غافر بالياءِ مِنْ تحتُ. وافقهم نافعٌ على ما في غافر، لأن التأنيثَ مجازيٌّ ولأنه قد فُصِل أيضاً. والباقون بالتأنيث فيهما مراعاةً لِلَّفْظِ. قوله: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} قال الزمخشري: «مِنْ قولك: اسْتَعْتَبني فلانٌ فَأَعْتَبْتُه أي: استرضاني فَأَرْضَيْتُه، وكذلك إذا كنتَ جانياً عليه. وحقيقةُ أَعْتَبْتَه. أَزَلْتَ عَتْبَه ألا ترى إلى قوله: 3655 - غَضِبَتْ تميمٌ أَنْ يُقتَّل عامرٌ ... يومَ النسارِ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ كيف جعلهم غِضاباً؟ ثم قال:» فَأُعْتِبوا «أي: أُزيل غَضَبُهم. والغضب في معنى العَتْبِ. والمعنى: لا يُقال لهم: أرْضُوا ربَّكم بتوبة وطاعةٍ. ومثلُه قولُه تعالى: {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35] فإنْ قلتَ: كيف جُعِلوا غيرَ مُسْتَعْتِبين في بعضِ الآيات وغيرَ مُعْتَبين في بعضها، وهو قولُه: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} [فصلت: 24] . قلت: أمَّا كونُهم غيرَ مُسْتَعْتِبين فهذا معناه، وأمَّا كونُهم غيرَ مُعْتَبين فمعناه: أنهم غيرُ راضين بما هم فيه، فشُبِّهَتْ حالُهم بحالِ قومٍ جُني عليهم فهم عاتِبون على الجاني، غيرُ راضين عنه بما هم

فيه. فإنْ يَسْتَعتبوا الله أي يَسْألوه إزالة ما هم فيه فما هم مِن المجابين» انتهى. وقال ابن عطية: «ويَسْتَعْتِبون بمعنى يَعْتِبون كما تقول: يَمْلك ويَسْتملك. والبابُ في استفعل طلبُ الشيءِ، وليس هذا منه؛ لأنَّ المعنى كان يَفْسُدُ؛ إذ كان المفهومُ منه: ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبى» . قلت: وليس فاسداً لِما تقدَّم مِنْ قولِ أبي القاسم.

58

قوله: {وَلَئِن جِئْتَهُمْ} : إنما وُحِّد هنا، وجُمع بعده في قوله: «أنتم» لنكتَةٍ: وهو أنه تعالى أخبر في موضعٍ آخرَ فقال: «ولَئِنْ جئتَهم بكل آية» أي جاءَتْ بها الرسلُ. فقال الكفار: ما أنتم أيها المدَّعون الرسالةَ كلُّكم إلاَّ كذا.

59

قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ} : أي: مثلَ ذلك الطبعِ يطبعُ.

60

قوله: {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ} : العامَّةُ من الاستخفاف بخاء معجمة وفاء. ويعقوب وابن أبي إسحاق بحاءٍ مهملةٍ وقاف من الاستحقاق. وابن أبي عبلة ويعقوب بتخفيف نونِ التوكيد. والنهي من باب قولهم «لا أُرَيَنَّكَ ههنا» .

لقمان

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {الكتاب الحكيم} : قيل: فَعيل بمعنى مُفْعَل وهذا قليلٌ قالوا: أَعْقَدْتُ اللبنَ فهو عَقِيْدٌ أي مُعْقَد، أو بمعنى فاعِل، أو بمعنى ذي الحِكْمة، أو أصلُه: الحكيم قائلُه، ثم حُذِف/ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهو الضميرُ المجرورُ، فانقلب مرفوعاً، فاستتر في الصفةِ. قاله الزمخشري وهو حَسَنُ الصناعةِ.

3

قوله: {هُدًى وَرَحْمَةً} : العامَّةُ على النصبِ على الحال مِنْ «آيات» والعاملُ ما في اسمِ الإشارةِ من معنى الفعل، أو المدح. وحمزة بالرفعِ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ. وجَوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ «هدىً» منصوباً على الحال حالَ رَفْع «رحمة» . قال: «ويكون رَفْعُها على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: وهو رحمَةٌ» . وفيه بُعْدٌ.

4

قوله: {الذين يُقِيمُونَ} : صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ لِما قبلَه، أو منصوبٌ أو مرفوعٌ على القطعِ. وعلى كل تقديرٍ فهو تفسير للإِحسان. وسُئِل الأصمعيُّ عن الألمعيِّ. فأنشد: 3656 - الأَلْمَعِيُّ الذي يَظُنُّ بك الظْ ... ظَنَّ كأنْ قد رَأَى وقد سمعا يعني أنَّ الألمعيَّ هو الذي إذا ظَنَّ شيئاً كان كمَنْ رآه وسَمِعه. كذلك المحسنون هم الذين يَفْعلون هذه الطاعاتِ. ومثلُه: وسُئِل بعضُهم عن الهَلُوع فلم يَزِدْ أَنْ تلا {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [المعارج: 20، 21] .

6

قوله: {لَهْوَ الحديث} : من بابِ الإِضافةِ بمعنى «مِنْ» لأنَّ اللهو يكون حديثاً وغيره كبابِ ساجٍ وجُبَّةِ خَزٍّ. وقيل: هو على حذف مضاف أي: يشتري ذواتِ لَهْوِ الحديثِ؛ لأنها نزلتْ في مشتري المغنِّيات. والأولُ أبلغُ. قوله: «لِيُضِلَّ» قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ «لِيَضِلَّ» بفتح حرفِ المضارعةِ. والباقون بضمِّه، مِنْ أضَلَّ غيرَه، فمفعولُه محذوفٌ. وهو مُسْتَلْزِمٌ للضلالِ؛ لأنَّ مَنْ أضَلَّ فقد ضَلَّ مِنْ غيرِ عكسٍ. وقد تقدَّمَ ذلك في سورة إبراهيم. قال

الزمخشري هنا: «فإنْ قلت: القراءةُ بالرفعِ بَيِّنَةٌ؛ لأنَّ النَّضِرَ كان غرضُه باشتراءِ اللَّهْوِ أن يَصُدَّ النَاسَ عن الدخولِ في الإِسلام واستماعِ القرآن ويُضِلَّهم عنه فما معنى القراءةِ بالفتح؟ قلت: معنيان، أحدُهما: ليَثْبُتَ على ضلالِه الذي كان عليه ولا يَصْدِفَ عنه، ويَزِيدَ فيه ويَمُدَّه؛ فإن المخذولَ كان شديدَ الشَّكيمةِ في عداوةِ الدين، وصَدِّ الناسِ عنه. الثاني: أَنْ يُوْضَعَ» لِيَضِلَّ «موضعَ ليُضِلَّ؛ مِنْ قِبَلِ أنَّ مَنْ أَضَلَّ كان ضالاًّ لا محالةَ فدَلَّ بالرَّديفِ على المَرْدُوف» . قوله: «بغير عِلْمٍ» حالٌ أي: يشتري بغيرِ علمٍ بأحوالِ التجارة حيث اشترى ما يَخْسَرُ فيه الدارَيْنِ. قوله: وَيَتَّخِذَها «قرأ الأخوانَ وحفصٌ بالنصب عطفاً على» لِيُضِلَّ «فهو علةٌ كالذي قبلَه. والباقون بالرفع عطفاً على» يَشْتري «فهو صلةٌ. وقيل: الرفعُ على الاستئنافِ من غير عطفٍ على الصلةِ. والضميرُ المنصوبُ يعود على الآيات المتقدِّمةِ أو السبيلِ؛ لأنه يُؤَنَّثُ، أو الأحاديثِ الدال عليها» الحديث «لأنه اسمُ جنسٍ. قوله:» أولئك لهم «حُمِلَ أولاً على لفظ» مَنْ «فَأُفْرِدَ، ثم على معناها فجُمِعَ، ثم على لفظِها فأُفْرِد في قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ} . وله نظائرُ تقدَّمَ التنبيهُ عليها في المائدة، عند قولهِ تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] . وقال الشيخ:» ولا نعلم جاءَ في القرآن ما حُمِلَ على اللفظ ثم على المعنى ثم

على اللفظ غيرَ هاتين الآيتين «. قلت: وُجِدَ غيرُهما كما قَدَّمْتُ التنبيهَ عليه في المائدة.

7

قوله: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} : حالٌ مِنْ فاعل «وَلَّى» أو مِنْ ضمير «مُسْتَكْبراً» . قوله: {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} حالٌ ثالثةٌ أو بدلٌ ممَّا قبلها، أو حالٌ مِنْ فاعل «يَسْمَعْها» ، أو تبيينٌ لِما قبلها. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ جملتا التشبيهِ استئنافيتين.

9

قوله: {خَالِدِينَ} : هو حالٌ. وخبرُ «إنَّ» الجملةُ مِنْ قولِه: «لهم جَنَّاتُ» . والأحسنُ أَنْ يُجْعَلَ «لهم» هو الخبرَ وحده، و «جناتُ» فاعلٌ به. وقرأ زيدُ بن علي «خالدون» بالواو فيجوزُ أَنْ يكون هو الخبرَ، والجملة - أو الجارُّ وحده - حالٌ. ويجوز أَنْ يكونَ «خالدون» خبراً ثانياً ل إنَّ. قوله: «وَعْدَ اللَّهِ» مصدرٌ مؤكِّدٌ لنفسِه لأنَّ قوله: «لهم جنات» في معنى: وَعَدَهم اللَّهُ ذلك. و «حَقَّاً» مصدرٌ مؤكِّدٌ لغيره، أي: لمضمونِ تلك الجملةِ الأولى، وعاملُهما مختلِفٌ: فتقديرُ الأولِ: وَعَدَ اللَّهُ ذلك وَعْداً، وتقديرُ الثاني: أحقُّ ذلك حقاً.

10

قوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} : تقدَّم في الرعد.

11

قوله: {مَاذَا خَلَقَ} : «ما» استفهامٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة.

12

ولقمان قيل: أعجميٌّ. وهو الظاهر. فمنعُه للتعريفِ والعُجْمةِ الشخصية. وقيل: عربيٌّ مشتقٌّ مِن اللَّقْمِ وهو حينئذٍ مرتجلٌ؛ لأنه لم يَسْبِقْ له وَضْعٌ في النكرات. ومَنْعُه حينئذٍ للتعريفِ وزيادةِ الألفِ والنون.

13

والعاملُ في «إذ» مضمرٌ. «وهو يَعِظَهُ» جملةٌ حاليةٌ. «يا بُنيَّ» قد تقدَّم خلافُ القرَّاء فيه. وتقدَّم الكلامُ أيضاً على {وَصَّيْنَا الإنسان} في العنكبوت [الآية: 8] .

14

قوله: {وَهْناً على وَهْنٍ} : يجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الحال مِنْ «أمُّه» أي: ضَعْفاً على ضَعْفٍ، أو مِنْ مفعولِ «حَمَلَتْه» أي: عَلَقَةً ثم نطفة ثم مُضغة. وكلاهما جاء في التفسير. وقيل: منصوبٌ على إسقاطِ الخافض أي: في وَهْنٍ. قاله أبو البقاء. و «على وَهْن» صفةٌ ل «وَهْناً» . وقرأ الثقفي وأبو عمروٍ في روايةٍ {وَهَناً على وَهْنٍ} بفتحِ الهاءِ فيهما. فاحتمل أَنْ يكونا لغتين كالشَّعْر والشَّعَر، واحتمل أنْ يكونَ المفتوحَ مصدرَ وَهِنَ بالكسر يَوْهَنُ وَهَناً. وقرأ الجحدريُّ وقتادةُ وأبو رَجاءٍ/ «وفَصْلُه» دونَ ألفٍ أي: وفِطامُه.

قوله: «أن اشْكُرْ» في «أنْ» وجهان، أحدهما: أنها مفسرة. والثاني: أنها مصدريةٌ في محلِّ نصبٍ ب «وَصَّيْنا» . وهو قولُ الزجَّاج.

15

قوله: {مَعْرُوفاً} : صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: صِحاباً معروفاً وقيل: الأصلُ: بمعروفٍ. قوله: «إليَّ» متعلِّقٌ ب أنابَ. «ثم إليَّ» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه خبرُ «مَرْجِعُكم» .

16

قوله: {إِنَّهَآ إِن تَكُ} : ضميرُ القصةِ. والجملةُ الشرطيةُ مفسِّرةٌ للضميرِ. وتقدَّم أنَّ نافعاً يقرأُ «مثْقال» بالرفع على أنَّ «كان» تامةٌ وهو فاعلُها. وعلى هذا فيُقال: لِمَ لَحِقَتْ فعلَه تاءُ التأنيث؟ قيل: لإِضافته إلى مؤنث، ولأنه بمعنى: زِنَةُ حَبَّة. وجَوَّز الزمخشري في ضمير «إنها» أَنْ تكونَ للهِنَةِ من السَّيِّئاتِ أو الإِحسان في قراءةِ مَنْ نصب «مِثْقال» . وقيل: الضميرُ يعودُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ أي: إنَّ التي سألْتَ عنها إنْ تَكُ. وفي التفسير: أنه سأل أباه: أرأيتَ الحبة تقع في مَغاصِ البحر: أيعلُمها اللَّه؟ وقرأ عبد الكريم الجَزَرِيُّ «فَتَكِنَّ» بكسرِ الكاف وتشديد النونِ مفتوحةً أي: فتستقرَّ. وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي «فَتُكَنَّ» كذلك إلاَّ أنه مبنيٌّ

للمفعول. وقتادة «فَتَكِنُ» بكسرِ الكاف وتخفيف النونِ مضارعَ «وَكَنَ» أي: استقرَّ في وَكْنِه ووَكْرِه.

17

قوله: {مِنْ عَزْمِ} : عَزْم مصدرٌ. يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى مفعول أي: مِنْ معزوماتِ الأمورِ أو بمعنى عازِم كقولِه: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} [محمد: 21] وهو مجازٌ بليغٌ. وزعَم المبرد أنَّ العينَ تُبْدَلُ حاءً فقال: حَزْمٌ وعَزْمٌ. والصحيحُ أنهما مادَّتان مختلفتان اتَّفَقتا في المعنى.

18

قوله: {وَلاَ تُصَعِّرْ} : قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ والأخَوان «تَصاعَرَ» بألفٍ وتخفيفِ العينِ. والباقون دون ألفٍ وتشديد العين، والرسمُ يَحْتمِلُهما؛ فإنَّ الرسمَ بغيرِ ألفٍ. وهما لغتان: لغةُ الحجازِ التخفيفُ، وتميمٌ التثقيلُ. فمِن التثقيلِ قوله: 3657 - وكُنَّا إذا الجبارُ صَعَّر خَدَّه ... أقَمْنا له مِنْ مَيْلِه فَيُقَوَّمُ ويقال أيضاً: تَصَعَّر. قال: 3658 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَقَمْنا له مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّرِ

وهو من المَيْل؛ وذلك أنَّ المتكبِّر يَميل بخَدِّه تكبُّراً كقولِه {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج: 9] . قال أبو عبيدة: «أصلُه من الصَّعَر، داءٌ يأخُذُ الإِبِلَ في أعناقِها فتميلُ وتَلْتوي» . وتفسيرُ اليزيديِّ له بأنَه التَّشَدُّقُ في الكلامِ لا يوافِقُ الآية هنا.

19

قوله: {واقصد} : هذا قاصِرٌ بمعنى اقتصِدْ واسْلُكْ الطريقةَ الوُسْطى بين ذلك قَواما. وقُرِئ «وأَقْصِدْ» بهمزةِ قطعٍ، مِنْ أَقْصَدَ إذا سَدَّدَ سهمَه للرَّمْيَةِ. قوله: «مِنْ صَوْتِك» تبعيضيَّةٌ. وعند الأخفش يجوزُ أَنْ تكونَ مزيدةً. ويؤيِّدُه {يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} [الحجرات: 3] وقيل: «مِنْ صوتِك» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: شيئاً مِنْ صوتِك وكانت الجاهليةُ يتمدَّحون برفعِ الصوتِ قال: 3659 - جَهيرُ الكلامِ جَهيرُ العُطاس ... جَهيرُ الرُّواءِ جَهيرُ النِّعَمْ قوله: «إنَّ أَنْكَرَ» قيل: «أنكَر» مبنيٌّ للمفعولِ نحو: «أَشْغَلُ مِنْ ذاتِ النَّحْيَيْن» . وهو مختلَفٌ فيه. ووُحِّد «صوت» لأنه يُرادُ به الجنسُ ولإِضافتِه لجمع.

20

قوله: {نِعَمَهُ} : قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفص «نِعَمَه» جمعَ نِعْمة مضافاً لهاءِ الضمير، ف «ظاهرةً» حالٌ منها. والباقون «نِعْمةً» بسكون العين، وتنوينِ تاء التأنيث، اسمَ جنسٍ يُراد به الجمعُ ف «ظاهرة» نعتٌ لها. وقرأ ابنُ عباس ويحيى بن عمارة «وأَصْبَغَ» بإبدال السينِ صاداً. وهي لغةُ كلبٍ يفعلون ذلك مع الغينِ والخاء والقاف. وتقدَّم نظيرُ هذه الجملِ كلِّها في البقرة، والكلامُ على «أَوَلَوْ» ونحوِه.

22

وقرأه عليٌّ والسلميُّ «يُسَلِّم» بالتشديد.

27

قوله: {والبحر} : قرأ أبو عمرو بالنصب، والباقون بالرفع. فالنصبُ من وجهين، أحدُهما: العطفُ على اسمِ «أنَّ» . أي: ولو أنَّ البحرَ، و «يَمُدُّه» الخبرُ. والثاني: النصبُ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره «يمدُّه» والواوُ حينئذٍ للحال. والجملةُ حاليةٌ، ولم يُحْتَجْ إلى ضميرٍ رابطٍ بين الحالِ وصاحبِها، للاستغناءِ عنه بالواوِ. والتقديرُ: ولو أنَّ الذي في الأرضِ حَالَ كونِ البحرِ ممدوداً بكذا. وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهين، أحدُهما: العطفُ على أنَّ وما في حَيِّزها. وقد

تقدَّم لك في «أنَّ» الواقعةِ/ بعد «لو» مذهبان: مذهبُ سيبويهِ الرفعُ على الابتداء، ومذهبُ المبردِ على الفاعليةِ بفعلٍ مقدر، وهما عائدان هنا. فعلى مذهبِ سيبويه يكون تقديرُ العطفِ: ولو البحر. إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: إنه لا يلي «لو» المبتدأُ اسماً صريحاً إلاَّ في ضرورةٍ، كقوله: 3660 - لو بغير الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا القولُ يُؤَدِّيْ إلى ذلك. ثم أجابَ بأنه يُغْتَفَرُ في المعطوفِ ما لا يُغْتَفَرُ في المعطوفِ عليه كقولهم: «رُبَّ رجلٍ وأخيه يقولان ذلك» . وعلى مذهبِ المبرد يكون تقديرُه: ولو ثَبَت البحرُ، وعلى التقديرَيْن يكون «يمدُّه» جملةً حالية من البحر. والثاني: أنَّ «البحر» مبتدأٌ، و «يَمُدُّه» الخبر، والجملةُ حالية كما تقدَّم في جملةِ الاشتغال، والرابط الواو. وقد جَعَله الزمخشريُّ سؤالاً وجواباً. وأنشد:

3661 - وقد أَغْتَدِيْ والطيرُ في وُكُناتِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . و «مِنْ شجَرة» حالٌ: إمَّا من الموصولِ، أو من الضميرِ المستترِ في الجارِّ الواقعِ صلةً، و «أقلامٌ» خبرُ «أنَّ» . قال الشيخُ: «وفيه دليلٌ على مَنْ يَقولُ - كالزمخشريِّ ومَنْ يتعصَّب له من العجم - على أنَّ خبر» أنَّ «الواقعة بعد» لو «لا يكونُ اسماً البتة لا جامداً ولا مشتقاً، بل يتعيَّنُ أَنْ يكونَ فعلاً» قال: «وهو باطِلٌ» وأنشد: 3662 - ولو أنها عُصْفورَةٌ لَحَسِبْتُها ... مُسَوَّمَةً تَدْعو عبيداً وأَزْنَما وقال: 3663 - ما أطيبَ العَيْشَ لو أنَّ الفتى حَجَرٌ ... تَنْبُو الحوادِثُ عنه وهْو مَلْمُومُ

وقال: 3664 - ولو أنَّ حياً فائتُ الموتِ فاته ... أخو الحربِ فوقَ القارِحِ العَدَوانِ قال: «وهو كثيرٌ في كلامِهم» . قلت: وقد تقدمَ أولَ هذا الموضوع أنَّ هذه الآيةَ ونحوَها تُبْطِلُ ظاهرَ قولِ المتقدمين في «لو» أنها حرفُ امتناعٍ لامتناعٍ؛ إذ يَلْزَمُ محذورٌ عظيمٌ: وهو أنَّ ما بعدها إذا كان منفيًّا لفظاً فهو مُثْبَتٌ معنىً، وبالعكس. وقوله: «ما نَفِدَتْ» منفيٌّ لفظاً، فلو كان مثبتاً معنىً فَسَدَ المعنى، فعليك بالالتفاتِ إلى أولِ البقرةِ. وقرأ عبد الله «وبَحْرٌ» بالتنكير وفيه وجهاه معرَّفاً. وسَوَّغ الابتداءَ بالنكرةِ وقوعُها بعد واوِ الحال، وهو معدودٌ من مسوِّغات الابتداء بالنكرةِ. وأنشدوا: 3665 - سَرَيْنا ونجمٌ قد أضاء فَمُذْ بَدا ... مُحَيَّاك أخفى ضَوْءُه كلَّ شارِقِ وبهذا يظهرُ فسادُ قولِ مَنْ قال: إنَّ في هذه القراءةِ يتعيَّنُ القولُ بالعطفِ على «أنَّ» ، كأنه تَوَهَّم أنه ليس ثَمَّ مُسَوِّغٌ.

وقرأ عبد الله وأُبَيٌّ «تَمُدُّه» بالتأنيثِ لأجل «سبعة» . والحسن وابن هرمز وابن مصرف «يُمِدُّه» بالياء من تحتُ مضمومةً وكسرِ الميم مِنْ أمَدَّه. وقد تقدَّم اللغتان في آخر الأعراف وأوائل البقرةِ. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ قيل:» مِنْ شجرة «بالتوحيد؟ قلت: أُريد تفصيلُ الشجرِ وتَقَصِّيها شجرةً شجرةً حتى لا يَبْقَى من جنس الشجرِ واحدةٌ إلاَّ قد بُرِيَتْ أقلاماً» . قال الشيخ: وهو مِنْ وقوع المفردِ موقعَ الجمع والنكرةِ موقعَ المعرفةِ، كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] قلت: وهذا يَذْهبُ بالمعنى الذي أبداه الزمخشري. وقال أيضاً: «فإنْ قلت:» الكلماتُ «جمع قلةٍ، والموضعُ موضعُ تكثيرٍ، فهلا قيل: كَلِم. قلت: معناه أنَّ كلماتِه لا تَفي بكَتْبَتِها البحارُ، فكيف بكَلمِهِ» ؟ قلت: يعني أنه من بابِ التثنية بطريق الأَوْلى. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ جَمْعَ السلامة متى عُرِّف بأل غيرِ العَهْدية أو أُضيف عَمَّ. قلت للناسِ خلافٌ في «أل» هل تعُمُّ أو لا؟ وقد يكونُ الزمخشريُّ ممَّنْ لا يَرَى العمومَ، ولم يَزَلِ الناسُ يسألونَ في بيت حَسَّان رضي الله عنه:

3666 - لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . ويقولون: كيف أتى بجمع القِلَّة في مقام المدح؟ ولِمَ لم يَقُلْ الجِفان؟ وهو تقريرٌ لِما قاله الزمخشريُّ واعترافٌ بأنَّ أل لا تؤثِّر في جمع القلةِ تكثيراً.

28

قوله: {إِلاَّ كَنَفْسٍ} : خبرُ «ما خَلْقُكم» والتقدير: إلاَّ كخَلْقِ نَفْسٍ واحدةٍ وبَعْثِها. وهنا «إلى أَجَل» وفي الزمر {لأَجَلٍ} [الآية: 5] لأنَّ المعنيين لائِقان بالحرفَيْن فلا عليك في أيِّهما وقع.

29

وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ: {وَأَنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ} بياءِ الغَيْبة. والباقون بالتاء خطاباً.

31

قوله: {بِنِعْمَةِ الله} : يجوز/ أَنْ يتعلَّقَ ب «تَجْري» أو بمحذوفٍ على أنها حالٌ: ملتبسةً بنعمةِ اللَّهِ. والأعمش والأعرج «بنِعْمات» جمعاً. وابنُ أبي عبلة كذلكَ إلاَّ أنه فتح النونَ وكسر العَيْن. وموسى بن الزبير «الفُلُك» بضمتين.

32

قوله: {خَتَّارٍ} : مثالُ مبالغةٍ مِن الخَتْرِ، وهو أشَدُّ الغَدْرِ. قال الأعشى:

3667 - بأبلقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْماءَ مَنْزِلُه ... حِصْنٌ حَصينٌ وجارٌ غيرُ خَتَّار وقال عمرو بن معد يكرب: 3668 - فإنَّك لو رَأَيْتَ أبا عُمَيْرٍ ... مَلأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وخَتْرِ وقالوا: «إنْ مَدَدْتَ لنا شِبْراً من غَدْر مَدَدْنا لك باعاً مِنْ خَتْر» .

33

قوله: {وَلاَ مَوْلُودٌ} : جوَّزوا فيه وجهين، أحدهما: أنه مبتدأٌ، وما بعدَه الخبرُ. والثاني: أنه معطوفٌ على «والدٌ» ، وتكون الجملةُ صفةً له. وفيه إشكالٌ: وهو أنه نَفَى عنه أن يَجْزيَ، ثم وَصَفَه بأنه جازٍ. وقد يُجاب عنه: بأنه وإن كان جازياً عنه في الدنيا فليس جازياً عنه يوم القيامة فالحالان باعتبار زَمَنين. وقد منع المهدويُّ أَنْ يكونَ مبتدأً قال: «لأنَّ الجملةَ بعده صفةٌ له فيبقى بلا خبرٍ، ولا مُسَوِّغَ غيرُ الوصف» . وهو سهوٌ. لأنَّ النكرةَ متى اعتمدَتْ على نفيٍ ساغ الابتداءُ بها. وهذا مِنْ أشهرِ مُسَوِّغاتِه. وقال الزمخشري: «فإن قلت: قوله: {وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} وارِدٌ على طريقٍ من التوكيد لم يَرِدْ عليه ما هو معطوفٌ عليه. قلت: الأمر كذلك لأنَّ الجملةَ الاسميَّةَ آكدُ من الفعلية، وقد انضَمَّ إلى ذلك قولُه:» هو «وقوله:» مولودٌ «. قال:» ومعنى التوكيدِ في لفظِ المولود: أنَّ الواحدَ منهم لو شَفَعَ للوالدِ الأَدْنَى الذي وُلِد منه

لم تُقْبَلْ منه فضلاً أَنْ يَشْفَعَ لمَنْ فوقَه مِنْ أجدادِه لأنَّ «الولدَ» يقع على الولدِ وولدِ الولدِ، بخلاف المولودِ فإنه للذي وُلِد منك «قال:» والسببُ في مجيئِه على هذا السَّنَنِ أنَّ الخطابَ للمؤمنين، وعِلِّيَّتُهم قُبِضَ آباؤُهم على الكفر، فأريد حَسْمُ أطماعِهم وأطماعِ الناسِ فيهم «. والجملةُ مِنْ قولِه:» لا يَجْزِي «صفةٌ ل» يومٍ «، والعائدُ محذوفٌ أي: فيه، فحُذِف برُمَّتهِ أو على التدريج. وقرأ عكرمة» لا يُجْزَى «مبنياً للمفعول. وأبو السَّمَّال وأبو السِّوار» لا يُجْزِئ «بالهمز، مِنْ أَجْزأ عنه أي: أغنى. قوله:» شيئاً «منصوبٌ على المصدر وهو من الإِعمال؛ لأنَّ» يَجْزي «و» جازٍ «يَطْلبانِه. والعاملُ جازٍ، على ما هو المختارُ للحذفِ من الأول. قوله:» فلا تَغُرَّنَّكُمْ «العامَّةُ على تشديد النون. وابنُ أبي إسحاق وابنُ أبي عبلة ويعقوبُ بالخفيفة، وسماك بن حرب ويعقوب» الغُرور «بالضمِّ وهو مصدرٌ، والعامَّةُ بالفتح صفةُ مبالغةٍ كشَكُور. وفُسِّر بالشيطان. على أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ المضمومَ مصدراً واقعاً وصفاً للشيطان.

34

قوله: {مَّاذَا تَكْسِبُ} : يجوزُ أَنْ تكونَ «ما»

استفهاميةً فتُعَلِّقَ الدِّراية، وأن تكونَ موصولةً فتنتصِبَ بها، وقد عُرِفَ حكمُ «ماذا» أولَ الكتابَ، وتكرَّر في غُضُونه. قوله: «بأيِّ أرضٍ» متعلقٌ ب «تموتُ» وهو مُعَلِّقٌ للدِّراية، فهو في محلِّ نصبٍ. وقرأ موسى الأسواري «بأيةِ أرضٍ» على تأنيثها. وهي لغة ضعيفة، كتأنيث «كل» حيث قالوا: كلتهن، فعلَّق ذلك. والباءُ ظرفيةٌ بمعنى: في: أيْ: في أرض نحو: زيد بمكة أي: فيها.

السجدة

بسم الله الرحمن قوله: {تَنزِيلُ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه خبرُ «ألم» لأنَّ «ألم» يُرادُ به السورةُ وبعضُ القرآنِ. وتنزيلُ بمعنى مُنزِّل. والجملةُ مِنْ قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} حالٌ من «الكتاب» . والعاملُ فيها «تنزيلُ» لأنه مصدرٌ. و «مِنْ رَبِّ» متعلِّقٌ به أيضاً. ويجوزُ أن يكون حالاً من الضمير في «فيه» لوقوعِه خبراً. والعاملُ فيه الظرفُ أو الاستقرارُ. الثاني: أَنْ يكونَ «تَنْزِل» مبتدأً، ولا «ريبَ فيه» خبرُه. و {مِن رَّبِّ العالمين} حالٌ من الضمير في «فيه» . ولا يجوزُ حينئذٍ أَنْ يتعلَّقَ ب تنزيل؛ لأنَّ المصدرَ قد أُخْبِر عنه فلا يَعْمَلُ. ومَنْ يَتَّسِعُ في الجارِّ لا يبالي بذلك. الثالث: أَنْ يكونَ «تنزيلُ» مبتدأ أيضاً. و «مِنْ رَبِّ» خبرُه و «لا/ ريبَ» حالٌ أو معترضٌ. الرابع: أن يكون «لا ريب» و {مِن رَّبِّ العالمين} خبرين ل «تنزيلُ» . الخامس: أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ، وكذلك «لا ريبَ» ، وكذلك «مِنْ ربّ» ، فتكونُ كلّ جملةٍ مستقلةً برأسِها. ويجوزُ أَنْ يكونا حالَيْن من «

تنزيلُ» ، وأن يكونَ «مِنْ رب» هو الحالَ، و «لا ريبَ» معترضٌ. وأولُ البقرةِ مُرْشِدٌ لهذا، وإنما أَعَدْتُه تَطْرِيَةً. وجَوَّز ابنُ عطية أَنْ يكونَ {مِن رَّبِّ العالمين} متعلِّقاً ب «تنزيل» قال: «على التقديم والتأخير» . ورَدَّه الشيخ: بأنَّا إذا قُلنا: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} اعتراضٌ لم يكنْ تقديماً وتأخيراً، بل لو تأخَّر لم يكنْ اعتراضاً. وجَوَّز أيضاً أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب «لا ريبَ» أي: لا ريبَ فيه مِنْ جِهةِ ربِّ العالمين، وإنْ وَقَعَ شَكٌّ للكفرةِ فذلك لا يُراعَى.

3

قوله: {أَمْ يَقُولُونَ} : هي المنقطعةُ، والإِضرابُ انتقالٌ لا إبطالٌ. قوله: {بَلْ هُوَ الحق} إضرابٌ ثانٍ. ولو قيل بأنَّه إضرابُ إبطالٍ لنفسِ «افتراه» وحدَه لكان صواباً، وعلى هذا يُقال: كلُّ ما في القرآنِ إضرابٌ فهو انتقالٌ إلاَّ هذا، فإنه يجوزُ أَنْ يكونَ إبطالاً؛ لأنه إبطالٌ لقولِهم أي: ليس هو كما قالوا مفترى بل هو الحقُّ. وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يُرْشِدُ إلى هذا فإنه قال: «والضميرُ في» فيه «راجعٌ إلى مضمونِ الجملة. كأنه قيل: لا ريبَ في ذلك، أي: في كونِه مِنْ رب العالمين. ويَشْهَدُ لِوجاهَتِه قولُه: {أَمْ يَقُولُونَ: افتراه} ؛ لأنَّ قولهم» هذا مفترى «إنكارٌ لأَنْ يكونَ مِنْ ربِّ العالمين، وكذلك قوله: {بَلْ

هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ} وما فيه تقريرٌ أنه من عندِ الله. وهذا أسلوبٌ صحيحٌ مُحْكَمٌ» . قوله: «مِنْ ربِّك» حالٌ من «الحقّ» والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة، وهو العاملُ في «لِتُنْذِرَ» أيضاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في «لتنذر» غيرَه أي: أنزله لِتنذِرَ. قوله: {قَوْماً مَّآ أَتَاهُم} الظاهرُ أنَّ المفعولَ الثاني للإِنذار محذوفٌ. و «قوماً» هو الأولُ؛ إذ التقديرُ: لتنذِرَ قوماً العقابَ، و «ما أتاهم» جملةٌ منفيَّةٌ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «قوماً» يريد: الذين في الفترةِ بين عيسى ومحمدٍ عليهما السلام. وجعله الزمخشري كقوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} [يس: 6] فعلى هذا يكونُ «مِنْ نذير» هو فاعلَ «أتاهم» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. و «مِنْ قبلِك» صفةٌ لنذير. ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ «مِنْ قبلك» ب «أَتاهم» . وجَوَّزَ الشيخُ أَنْ تكونَ «ما» موصولةً في الموضعين، والتقدير: لتنذِرَ قوماً العقابَ الذي أتاهم مِنْ نذيرٍ مِنْ قبلك. و «مِنْ نذير» متعلقٌ ب «أَتاهم» أي: أتاهم على لسانِ نذيرٍ مِنْ قبلِك، وكذلك {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} [يس: 6] أي: العقابَ الذي أُنْذِرَه آباؤهم. ف «ما» مفعولةٌ في الموضعين، و «لِتُنْذرَ» يتعدَّى إلى اثنين. قال تعالى: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13] . وهذا القولُ جارٍ على ظواهر القرآن. قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن

بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19] . قلت: وهذا الذي قاله ظاهرٌ. ويظهر أنَّ في الآية الأخرى وجهاً آخرَ: وهو أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً تقديرُه: لتنذِرَ قوماً إنذاراً مثلَ إنذارِ آبائِهم؛ لأنَّ الرسلَ كلَّهم متفقون على كلمة الحق.

5

قوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ} : العامَّةُ على بنائِه للفاعل. وابنُ أبي عبلة على بنائِه للمفعول. والأصلُ: يُعْرَجُ به، ثم حُذِفَ الجارُّ فارتفع الضميرُ واستتر. وهو شاذٌّ يَصْلُحُ لتوجيهِ مثلِها. قوله: «مِمَّا تَعُدُّون» العامَّةُ على الخطاب. والحسن والسلميُّ وابنُ وثَّاب والأعمش بالغَيْبة. وهذا الجارُّ صفةٌ ل «أَلْف» أو ل «سَنة» .

6

قوله: {ذلك عَالِمُ} : العامَّةُ على رفع «عالمُ» و «العزيز» و «الرحيم» على أَنْ يكونَ «ذلك» مبتدأً، و «عالمُ» خبرَه. و «العزيز الرحيم» خبران أو نعتان، أو العزيز الرحيم مبتدأٌ وصفتُه، و «الذي أَحْسَنَ» خبرُه، أو «العزيزُ الرحيم» خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وقرأ زيد بن علي بجرِّ الثلاثة. وتخريجُها على إشكالها: أن يكونَ «ذلك» إشارةً إلى الأمر المدبَّر، ويكونَ فاعلاً ل «يَعْرُجُ» ، والأوصافُ الثلاثة بدلٌ من الضمير في «إليه» . كأنه قيل: ثم يعرُج الأمرُ المدبَّرُ إليه عالمِ الغيب أي: إلى عالم الغيب. وأبو زيد برفع «عالمُ» وخفض «العزيزِ الرحيمِ» على أن يكونَ «ذلك

عالمُ» مبتدأً وخبراً، والعزيزِ الرحيمِ بدلان من الهاء في «إليه» أيضاً. وتكون الجملةُ بينهما اعتراضاً.

7

قوله: {الذي أَحْسَنَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً لِما قبله في قراءتَيْ الرفع والخفض، وأن يكونَ خبراً آخرَ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، وأن يكونَ منصوباً على المدح. قوله: «خَلَقَه» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بسكونِ اللام. والباقون بفتحها. فأمَّا الأُولى ففيها أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ «خَلْقَه» بدلاً مِنْ «كلَّ شيء» بدلَ اشتمالٍ مِنْ «كلَّ شيءٍ» ، والضميرُ عائدٌ على كل شيء. وهذا هو المشهورُ المتداوَلُ. الثاني: أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل، والضميرُ على هذا عائدٌ على الباري تعالى. ومعنى «أحسن» : /حَسَّن؛ لأنه ما مِنْ شيءٍ خَلَقَه إلاَّ وهو مُرَتَّبٌ على ما تَقْتَضيه الحكمةُ، فالمخلوقاتُ كلُّها حسنةٌ. الثالث: أن يكونَ «كلَّ شيءٍ» مفعولاً أول، و «خَلْقَه» مفعولاً ثانياً على أَنْ يُضَمَّن «أحسَنَ» معنى أَعْطى وأَلْهَمَ. قال مجاهد: «أعطى كلَّ جنسٍ شكله» . والمعنى: خَلَقَ كلَّ شيءٍ على شكلِه الذي خصَّه به. الرابع: أن يكون «كلَّ شيء» مفعولاً ثانياً قُدِّم، و «خَلْقَه» مفعولاً أول أُخِّر، على أَنْ يُضَمَّنَ «أَحْسَنَ» معنى أَلْهَمَ وعَرَّف. قال الفراء: «ألهم كلَّ شيءٍ خَلْقَه فيما يحتاجون إليه فيكونُ أَعْلَمهم ذلك» . قلت: وأبو البقاء ضَمَّن أحسنَ معنى عَرَّف. وأَعْرَبَ على نحوِ ما تقدَّم، إلاَّ أنه لا بُدَّ أن يُجْعَلَ الضميرُ لله تعالى، ويُجعلَ الخَلْقُ بمعنى المَخْلوق أي:

عَرَّف مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه، فيَؤول المعنى إلى معنى قولِه: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] . الخامس: أن تعودَ الهاء [على الله تعالى] وأَنْ يكون «خَلْقَه» منصوباً على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمون الجملةِ كقولِه: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] ، وهو مذهبُ سيبويه أي: خَلَقَه خَلْقاً. ورُجِّحَ على بدلِ الاشتمال: بأنَّ فيه إضافةَ المصدرِ إلى فاعِله، وهو أكثرُ مِنْ إضافتِه إلى المفعول، وبأنه أبلغُ في الامتنانِ لأنه إذا قال: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} كان أبلغَ مِنْ «أَحْسَنَ خَلْقَ كلِّ شيء» ؛ لأنه قد يَحْسُنُ الخلقُ - وهو المحاولةُ - ولا يكون الشيء في نفسِه حَسَناً. وإذا قال: أحسنَ كلَّ شيْءٍ اقتضى أنَّ كلَّ شيءٍ خَلَقَه حَسَنٌ، بمعنى أنه وَضَعَ كلَّ شيءٍ في موضعِه. وأمَّا القراءةُ الثانية ف «خَلَقَ» فيها فعلٌ ماضٍ، والجملةُ صفةٌ للمضافِ أو المضافِ إليه، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مجرورتَه. قوله: «وَبَدَأ» العامَّةُ على الهمزِ. وقرأ الزهريُّ «بدا» بألفٍ خالصةٍ، وهو خارجٌ عن قياسِ تخفيفِها، إذ قياسُه بينَ بينَ. على أن الأخفش حكى «

قَرَيْتُ» وجوَّز الشيخ أن يكونَ مِنْ لغةِ الأنصار. يقولون في بدأ: «بَدِي» يكسِرون الدالَ وبعدها ياءٌ، كقولِ عبدِ الله بن رواحة الأنصاري: 3669 - بسمِ الإِلهِ وبه بَدِيْنا ... ولو عَبَدْنا غيرَه شَقِيْنا قال: «وطيِّئٌ تقول في بَقِي: بَقَا» . قال: «فاحتمل أَنْ تكونَ قراءةُ الزهري من هذه اللغةِ، أصلُه بَدِي، ثم صار بدا» . قلت: فتكون القراءةُ مركبةً مِنْ لغتَيْن.

9

قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ} : هذا التفاتٌ مِنْ ضميرِ غائبٍ مفردٍ في قوله: «نَسْلَه» إلى آخره، إلى خطاب جماعة.

10

قوله: {أَإِذَا ضَلَلْنَا} : تقدَّم اختلافُ القراء في الاستفهامين في سورة الرعد. والعاملُ في «إذا» محذوفٌ تقديرُه: نُبْعَثُ أو نُخْرَجُ، لدلالةِ «خَلْقٍ جديد» عليه. ولا يَعْمَلُ فيه «خَلْق جديد» لأنَّ ما بعد «إنَّ» والاستفهامَ لا يعملُ فيما قبلهما. وجوابُ «إذا» محذوفٌ إذا جعلتَها شرطيةً. وقرأ العامَّةُ «ضَلَلْنا» بضادٍ معجمةٍ ولامٍ مفتوحةٍ بمعنى: ذَهَبْنا وضِعْنا، مِنْ قولِهم: ضَلَّ اللبنُ في الماء. وقيل: غُيِّبْنا. قال النابغة: 3670 - فآبَ مُضِلُّوه بعينٍ جَلِيَّة ... وغُوْدِر بالجَوْلانِ حَزْمٌ ونائِلُ

والمضارعُ مِنْ هذا: يَضِلُّ بكسر العين وهو كثيرٌ. وقرأ يحيى ابن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء بكسرِ اللامِ، وهي لغةُ العالية. والمضارعُ من هذا يَضَلُّ بالفتح. وقرأ عليٌّ وأبو حيوة «ضُلِّلْنا» بضم الضاد وكسر اللام المشددة مِنْ ضَلَّلَه بالتشديد. وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد «صَلَلْنا» بصادٍ مهملةٍ ولامٍ مفتوحة. وعن الحسن أيضاً «صَلِلْنا» بكسرِ الصادِ. وهما لغتان. يقال: صَلَّ اللحمُ يَصِلُّ، ويَصَلُّ بفتح الصادِ وكَسرِها لمجيءِ الماضي مفتوحَ العين ومكسورَها. ومعنى صَلَّ اللحمُ: أنتنَ وتَغيَّرتْ رائحتُه. ويُقال أيضاً: أَصَلَّ بالألف قال: 3671 - تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فيها أَنِيْضٌ ... أَصَلَّتْ، فَهْيَ تحت الكَشْحِ داءُ وقال النحاس: «لا نعرفُ في اللغة» صَلِلْنا «ولكن يُقال: صَلَّ اللحمُ، وأصلَّ، وخَمَّ وأَخَمَّ» وقد عَرَفها غيرُ أبي جعفر.

11

قوله: {تُرْجَعُونَ} : العامَّةُ على بنائِه للمفعول. وزيد بن علي على بنائِه للفاعل.

12

قوله: {وَلَوْ ترى} : في «لو» هذه وجهان، أحدهما: أنها لِما كان سيقع لوقوع غيره. وعَبَّر عنها الزمخشريُّ بامتناعٍ لامتناعٍ. وناقشه الشيخ في ذلك. وقد تقدَّم في أول البقرة تحقيقُه. وعلى هذا جوابُها محذوفٌ أي: لَرَأَيْتَ أمراً فظيعاً. الثاني: أنَّها للتمني. قال الزمخشري: كأنه قيل: وَلَيْتَكَ ترى. وفيها إذا كانت للتمني خلافٌ: هل تقتضي جواباً أم لا؟ وظاهرُ تقديرِ الزمخشري هنا أنه لا جوابَ لها. قال الشيخ: «والصحيحُ/ أنَّ لها جواباً» . وأنشدَ قولَ الشاعر: 3672 - فلو نُبِشَ المقابرُ عن كُلَيْبٍ ... فَيُخبِرَ بالذَّنائبِ أيُّ زِيْرِ بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لَقَرَّ عيناً ... وكيف لِقاءُ مَنْ تحتَ القُبورِ قال الزمخشري: «و» لو «تجيءُ في معنى التمني كقولك: لو تأتيني فتحدثَني كما تقول: ليتك تأتيني فتحدثني» . قال ابن مالك: «إن أراد به الحذفَ أي: وَدِدْتُ لو تأتيني فتحدثَني فصحيحٌ، وإن أراد أنها موضوعةٌ له فليس بصحيح؛ إذ لو كانت موضوعةً له لم يُجْمَعْ بينها وبينه كما لم يُجْمَعْ بين»

ليت «وأتمنى، ولا» لعلَّ «وأترجَّى، ولا» إلاَّ «وأَسْتَثْني. ويجوز أن يُجْمَعَ بين لو وأتمنى تقول: تمنَّيْتُ لو فعلتُ كذا» . وهل المخاطبُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو غيرُه؟ خلاف. و «إذ» على بابها من المضيِّ لأنَّ «لو» تَصْرِفُ المضارِعَ للمضيِّ. وإنما جيءَ هنا ماضياً لتحقُّقِ وقوعِه نحو: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] وجعله أبو البقاء ممَّا وَقَع فيه «إذ» موقعَ «إذا» ولا حاجةَ إليه. قوله: «ناكِسُو» العامَّةُ على أنه اسمُ فاعلٍ مضافٌ لمفعوله تخفيفاً. وزيدُ بن علي «نَكَسُوا» فعلاً ماضياً، «رؤوسَهم» ، مفعولٌ به. قوله: «ربَّنا» على إضمارِ القول وهو حالٌ. أي قائلين ذلك. وقدَّره الزمخشريُّ «يَسْتغيثون بقولهم» وإضمارُ القول أكثرُ. قوله: «أَبْصَرْنا وسَمِعْنا» يجوزُ أَنْ يكونَ المفعولُ مقدراً أي: أَبْصَرْنا ما كُنَّا نُكَذِّبُ، وسَمِعْنا ما كنا نُنْكِرُ. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ أي: صِرْنا بُصَراءَ سميعين. قوله: «صالحاً» يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به، وأَنْ يكونَ نعتَ مصدرٍ.

14

قوله: {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ} : يجوزُ في هذه الآيةِ أوجهٌ، أحدها: أنها مِن التنازعِ؛ لأنَّ «ذُوقوا» يطلبُ «لقاءَ يومِكم» و «نَسِيْتُمْ» يطلبه أيضاً. أي: ذوقوا عذابَ لقاءِ يومِكم هذا بما نَسِيْتُمْ عذابَ لقاءِ يَوْمِكم هذا، ويكونُ من إعمالِ الثاني عند البصريين، ومن إعمالِ الأول عند الكوفيين، والأولُ أصَحُّ للحَذْفِ من الأول؛ إذ لو أعمل الأولَ لأَضْمَرَ في الثاني. الثاني: أن مفعولَ «ذُوْقوا» محذوفٌ أي: ذُوْقوا العذابَ بسببِ نسيانِكم لقاءَ يومكم

و «هذا» على هذين الإِعرابين صفةٌ ل «يومِكم» . الثالث: أن يكونَ مفعولُ «ذوقوا» «هذا» والإِشارةُ به إلى العذاب، والباءُ سببيةٌ أيضاً أي: فذوقوا هذا العذابَ بسببِ نِسيانِكم لقاءَ يومكم. وهذا يَنْبُو عنه الظاهرُ.

16

قوله: {تتجافى} : يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً، وكذلك «يَدْعُون» وإذا جَعَلَ «يَدْعُون» حالاً احْتَمَل أن يكون حَالاً ثانياً، وأن يكونَ حالاً مِن الضمير في «جُنوبُهم» لأنَّ المضافَ جزءٌ. والتجافي: الارتفاعُ، وعَبَّر به عن تَرْكِ النومِ قال ابنُ رَواحة: 3673 - نبيٌّ يُجافي جَنْبُه عن فراشِه ... إذا اسْتَثْقَلَتْ بالمشركين المضاجعُ و «خَوْفاً وطَمَعاً» : إمَّا مفعولٌ مِنْ أجلِه، وإمَّا حالان، وإمَّا مصدران لعاملٍ مقدر.

17

قوله: «أُخْفِيَ» قرأه حمزةُ «أُخْفِيْ» فعلاً مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم، فلذلك سَكَنَتْ ياؤُه لأنه مرفوعٌ. وتؤيدها قراءةُ ابنِ مسعود «ما نُخْفي» بنون العظمة. والباقون «أُخْفِيَ» ماضياً مبنياً للمفعول، فمِنْ ثَمَّ فُتحت ياؤُه. وقرأ محمد بن كعب «أَخْفى» ماضياً مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى، ويؤيِّده قراءةُ الأعمش «ما أَخْفَيْتُ» مسنداً للمتكلم. وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرةَ «مِّن قُرَّاتِ أَعْيُنٍ» جمعاً بالألف والتاء. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أي: لا نَعْلَمُ الذي أخفاه اللَّهُ. وفي الحديث: «ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أُذُن سَمِعَت،

ولا خَطَر على قَلْب بشر» وأَنْ تكونَ استفهاميةً معلِّقَةً ل «تَعْلَمُ» . فإن كانَتْ متعديةً لاثنين سَدَّت مَسَدَّهما، أو لواحدٍ سَدَّتْ مَسَدَّه. و «جزاءً» مفعول له، أو مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبلَه. وإذا كانَتْ استفهاميةً فعلى قراءةِ مَنْ قرأ ما بعدها فعلاً ماضياً تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والفعلُ بعدها الخبرُ. وعلى قراءةِ مَنْ قرأه مضارعاً تكونُ مفعولاً مقدَّماً، و «مِنْ قُرَّة» حالٌ مِنْ «ما» .

18

قوله: {لاَّ يَسْتَوُونَ} : مستأنفٌ ورُوِي عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه كان يعتمد الوقفَ على قوله: «فاسقاً» ثم يَبْتَدئ «لا يَسْتوون» .

19

وقرأ طلحة «جَنَّةُ المَأْوى» بالإِفراد. والعامَّةُ بالجمع. وأبو حيوة «نُزْلاً» بضمٍ وسكون، وتقدَّم تحقيقُه في آخر آل عمران.

20

قوله: {الذي كُنتُمْ بِهِ} : صفةٌ ل «عذابَ» . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ صفةً للنار قال: وذُكِّرَ على معنى الجحيم والحريق.

22

قوله: {ثُمَّ أَعْرَضَ} : هذه لبُعْدِ ما بين الرتبتَيْن معنىً. وشبَّهها الزمخشريُّ بقوله: 367 - 4-

وما يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثم يَزورُها قال: «استبعدَ أن يزورَ غَمَراتِ الموتِ بعد أَنْ رآها وعَرفها واطَّلع على شدَّتِها» .

23

قوله: {فِي مِرْيَةٍ} : قرأ الحسنُ بالضمِّ وهي لغةٌ. قوله: «مِنْ لقائِه» في الهاءِ أقوالٌ، أحدُها: أنها عائدةٌ على موسى. والمصدرُ مضافٌ لمفعولِه أي: مِنْ لقائِك موسى ليلةَ الإِسراء. وامتحن المبردُ الزجَّاج في هذه المسألةِ فأجابه بما ذُكر. الثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ على الكتاب. وحينئذٍ يجوزُ أن تكونَ الإِضافةُ للفاعلِ أي: من لقاءِ الكتاب لموسى، أو المفعولِ أي: مِنْ لقاءِ موسى الكتاب؛ لأنَّ اللقاءَ تَصِحُّ نسبتُه إلى كلٍ منهما. الثالث: أنه يعودُ على الكتاب، على حَذْفِ مضاف أي: من لقاءِ مثل كتابِ موسى. الرابع: أنه عائدٌ على مَلَكَ الموتِ لتقدُّم ذِكْره. الخامس: عَوْدُه على الرجوعِ المفهومِ مِن الرجوع في قوله: {إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي: لا تَكُ في مِرْيةٍ مِنْ لقاء الرجوع. السادس: أنه يعودُ على ما يُفهَمُ مِنْ سياقِ الكلام ممَّا ابْتُلِي به موسى مِن البلاء والامتحان. قاله الحسن أي: لا بُدَّ أنَ تَلْقَى ما لَقِيَ موسى من قومه. وهذه أقوالٌ بعيدة ذكرْتُها للتنبيه على ضَعْفها. وأظهرُها: أنَّ الضميرَ: إمَّا لموسى، وإما للكتاب. أي: لا تَرْتَبْ في أنَّ موسى لقي الكتابَ وأُنْزِلَ عليه.

24

قوله: {لَمَّا [صَبَرُواْ] } : قرأ الأخوان بكسر اللام وتخفيفِ الميم على أنها لامُ الجرِّ، و «ما» مصدريةٌ. والجارُّ متعلِّقٌ بالجَعْلِ أي: جَعَلْناهم كذلك لصَبْرهم ولإِيقانِهِم. والباقون بفتحِها وتشديدِ الميم. وهي «لمَّا» التي تَقْتضي جواباً. وتقدم فيها قولا سيبويه والفارسيِّ.

27

قوله: {يُبْصِرُونَ} : العامَّةُ على الغَيْبة، وابن مسعود على الخطاب التفاتاً. وقرئ «الجُرْز» بسكون الراء. وقد تقدَّم أولُ الكهف.

29

قوله: {يَوْمَ الفتح} : منصوبٌ ب «لا يَنْفَعُ» و «لا» غيرُ مانعةٍ من ذلك. وقد تقدَّم فيها مذاهبُ.

30

قوله: {مُّنتَظِرُونَ} : العامَّة على كسرِ الظاءِ اسمَ فاعل. والمفعولُ من انتظِرْ، ومِنْ منتظرون، محذوفٌ أي: انتظرْ ما يَحُلُّ بهم، إنهم منتظرون على زَعْمِهم ما يَحُلُّ بك. وقرأ اليمانيُّ «مُنْتَظَرُون» اسمَ مفعول.

الأحزاب

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وبعده بقليلٍ: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب: 9] قرأهما أبو عمروٍ بياءِ الغَيْبة. والباقون بتاءِ الخطابِ، وهما واضحتان: أمَّا الغَيْبَةُ في الأولِ فلقولِه «الكافرين» و «المنافقين» ، وأمَّا الخطابُ فلقولِه: {يا أَيُّهَا النبي} لأنَّ المرادَ هو وأمتُه، أو خوطب بالجمع تعظيماً، كقولِه: 3675 - فإنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكُمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . وجَوَّز الشيخُ أَنْ يكونَ التفاتاً، يعني عن الغائبين الكافرين والمنافقين. وهو بعيدٌ. وأمَّا الغَيْبَةُ في الثاني فلقولِه: {إِذْ جَآءَتْكُمْ} [الأحزاب: 9] . وأمَّا الخطابُ فلقولِه: {ياأيها الذين آمَنُوا} [الأحزاب: 9] .

4

قوله: {اللائي} : قرأ الكوفيون وابن عامر بياءٍ ساكنةٍ بعد همزةٍ مكسورةٍ. وهذا هو الأصلُ في هذه اللفظةِ لأنه جمعُ «التي» معنًى. وأبو عمروٍ والبزيُّ «اللاَّيْ» بياءٍ ساكنةٍ وصلاً بعد ألفٍ مَحْضَةٍ في أحدِ وجهَيْهما. ولهما وجهٌ آخرُ سيأتي. ووجهُ هذه القراءةِ أنهما حَذَفا الياءَ بعد الهمزةِ تخفيفاً، ثم أبدلا الهمزةَ ياءً، وسَكَّناها لصيرورتِها ياءً مكسوراً ما قبلها كياءِ القاضي والغازِي، إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس، وإنما القياسُ جَعْلُ الهمزةِ بينَ بينَ. قال أبو علي: «لا يُقْدَمُ على مثلِ هذا البدلِ إلاَّ أَنْ يُسْمَعَ» . قلت: قال أبو عمروٍ ابن العلاء: «إنها لغةُ قريشٍ التي أُمِر الناسُ أَنْ يَقْرَؤوا بها» . وقال بعضهم: لم يُبْدِلوا وإنما كتبوا فعبَّر عنهم القُرَّاء بالإِبدال. وليس بشيء. وقال أبو علي وغيره: «إظهارُ أبي عمرو» اللايْ يَئِسْنَ «يدلُّ على أنه يُسَهِّلُ ولم يُبْدِلْ» وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ البدلَ عارضٌ. فلذلك لم يُدْغِمْ. وقرآ - هما أيضاً - وورشٌ بهمزةٍ مُسَهَّلة بينَ بينَ. وهذا الذي زعم بعضُهم أنه لم يَصِحَّ عنهم غيرُه وهو تخفيفٌ قياسيٌّ، وإذا وقفوا سكَّنوا الهمزةَ، ومتى سَكَّنوها استحالَ تسهيلُها بينَ بينَ لزوالِ حركتِها/ فتُقْلَبُ ياءً لوقوعِها ساكنةً بعد كسرةٍ، وليس مِنْ مذهبِهم تخفيفُها فتُقَرَّ همزةً. وقرأ قنبل وورشٌ بهمزةٍ مكسورةٍ دونَ ياءٍ، حَذَفا الياءَ واجتَزَآ عنها

بالكسرةِ. وهذا الخلافُ بعينِه جارٍ في المجادلة أيضاً والطلاق. قوله: «تُظاهِرون» قرأ عاصمٌ «تُظاهِرون» بضم التاء وكسر الهاءِ بعد ألفٍ، مضارعَ ظاهَرَ. وابنُ عامرٍ «تَظَّاهرون» بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارعَ تَظاهَر. والأصل «تتظاهرون» بتاءَيْن فأدغم. والأخوان كذلك، إلاَّ أنهما خَفَّفا الظاءَ. والأصل أيضاً بتاءَيْن. إلاَّ أنهما حَذَفا إحداهما، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو: إمَّا الإِدغامُ، وإمَّا الحَذْفُ. وقد تقدَّم تحقيقُه في نحو: «يَذَّكَّرْ» و «تَذَكَّرُون» مثقلاً ومخففاً. وتقدَّم نحوُه في البقرة أيضاً. والباقون «تَظَّهَّرون» بفتح التاءِ والهاءِ وتشديدِ الظاء والهاء دونَ ألفٍ. والأصل: تَتَظَهَّرُوْن بتاءَيْن فأدغَم نحو: «تَذَكَّرون» . وقرأ الجميع في المجادلة كقراءتِهِم هنا في قوله: {يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} [المجادلة: 3] إلاَّ الأخَوَيْن، فإنَّهما خالَفا أصلهما هنا فقرآ في المجادلة بتشديدِ الظاءِ كقراءةِ ابنِ عامر. والظِّهارُ مشتقٌّ من الظَّهْرِ. وأصلُه أن يقولَ الرجلُ لامرأتِه: «أنتِ علي كظهرِ أمي» ، وإنما لم يَقْرأ الأخَوان بالتخفيفِ في المجادلة لعدم المسوِّغِ له وهو الحذفُ؛ لأنَّ الحذفَ إنما كان لاجتماع مِثْلَيْن وهما التاءان، وفي المجادِلة ياءٌ من تحتُ

وتاءٌ من فوقُ، فلم يجتمعْ مِثْلان فلا حَذْفَ، فاضْطُرَّ إلى الإِدغام. هذا ما قُرِئ به متواتراً. وقرأ ابنُ وثَّاب «تُظْهِرُون» بضم التاء وسكون الظاء وكسرِ الهاء مضارعَ أَظْهَرَ. وعنه أيضاً «تَظَهَّرُون» بفتح التاء والظاءِ مخففةً، وتشديدِ الهاء، والأصل: تَتَظَهَّرون، مضارعَ تَظَهَّر مشدداً فحذف إحدى التاءين. وقرأ الحسن «تُظَهِّرون» بضمِّ التاء وفتح الظاءِ مخففةً وتشديد الهاء مكسورةً مضارعَ ظَهَّر مشدداً. وعن أبي عمروٍ «تَظْهَرُون» بفتحِ التاء والهاء وسكونِ الظاءِ مضارعَ «ظهر» مخففاً. وقرأ أُبَي - وهي في مصحفِه كذلك - تَتَظَهَّرون بتاءَيْن. فهذه تسعُ قراءات: أربعٌ متواترةٌ، وخمسٌ شاذةٌ. وأَخْذُ هذه الأفعالِ مِنْ لفظِ الظَّهْر كأَخْذِ لَبَّى من التَّلْبية، وتأَفَّفَ مِنْ أُفٍّ. وإنما عُدِّي ب «مِنْ» لأنه ضُمِّن معنى التباعد. كأنه قيل: يتباعَدُون مِنْ نسائِهم بسببِ الظِّهار كما تقدَّم في تعديةِ الإِيلاء ب «مِنْ» في البقرة. قوله: «ذلكمْ قولُكم» مبتدأٌ وخبرٌ أي: دعاؤكُم الأدعياءَ أبناءً مجردُ قولِ لسانٍ مِنْ غيرِ حقيقةٍ. والأَدْعياءُ: جمعُ دَعِيّ بمعنى مَدْعُوّ فَعيل بمعنى مَفْعول. وأصلُه دَعِيْوٌ فأُدْغم ولكن جَمْعَه على أَدْعِياء غيرُ مَقيس؛ لأنَّ أَفْعِلاء إنما يكونُ جمعاً لفَعيل المعتلِّ اللامِ إذا كان بمعنى فاعِل نحو: تقِيّ وأَتْقِياء، وغَنيّ

وأغنياء، وهذا وإنْ كان فَعيلاً معتلَّ اللام إلاَّ أنه بمعنى مَفْعول، فكان قياسُ جمعِه على فَعْلَى كقتيل وقَتْلَى وجريح وجَرْحى. ونظيرُ هذا في الشذوذِ قولُهم: أَسير وأُسَراء، والقياس أَسْرَى، وقد سُمِع فيه الأصل.

5

قوله: {هُوَ أَقْسَطُ} : أي: دعاؤُهم لآبائهم، فأضمرَ المصدرَ لدلالةِ فعلِه عليه كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] . قوله: {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ} يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أنها مجرورةُ المحلِّ عطفاً على «ما» قبلها المجرورةِ ب «في» ، والتقديرُ: ولكنَّ الجُناحَ فيما تعمَّدت. والثاني: أنها مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ. تقديرُه: تُؤَاخَذُون به، أو عليكم فيه الجُناحُ. ونحوُه.

6

قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} : أي: مثلُ أمِّهاتهم في الحكمِ. ويجوزُ أن يُتناسى التشبيهُ، ويُجْعلون أمَّهاتِهم مبالغةً. قوله: «بعضُهم» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ بدلاً من «أُوْلُو» . والثاني: أنه مبتدأٌ وما بعده خبرُه، والجملةُ خبرُ الأولِ. قوله: {فِي كِتَابِ الله} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «أَوْلَى» ؛ لأنَّ أَفْعَلَ التفضيلِ يعملُ في الظرفِ. ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في «أَوْلَى» والعاملُ فيها «أَوْلَى» لأنها شبيهةٌ بالظرفِ. / ولا جائزٌ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «أُوْلُو» للفَصْلِ بالخبرِ، ولأنَّه لا عامِلَ فيها. قوله: «من المؤمنين» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنها «مِنْ» الجارَّةُ للمفضولِ كهي في «زيدٌ أفضلُ من عمروٍ» المعنى: وأُولو الأرحامِ أَوْلَى بالإِرثِ من المؤمنين والمهاجرين الأجانب. والثاني: أنَها للبيانِ جيْءَ بها بياناً

لأُوْلي الأرحامِ، فتتعلَّق بمحذوف أي: أعني. والمعنى: وأُولوا الأرحام من المؤمنين أَوْلَى بالإِرث مِن الأجانب. قوله: {إِلاَّ أَن تفعلوا} هذا استثناءٌ مِنْ غيرِ الجنس، وهو مستثنىً مِنْ معنى الكلامِ وفحواه، إذ التقديرُ: أُولو الأرحامِ بعضُهم أَوْلَى ببعض في الإِرث وغيرِه، لكن إذا فَعَلْتُمْ مع غيرِهم مِنْ أوليائِكم خيراً كان لكم ذلك. وعُدِّي «تَفْعَلوا» ب «إلى» لتضمُّنِه معنى تَدْخُلوا.

7

قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا} : يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ منصوباً ب اذكر. أي: واذْكُرْ إذ أَخَذْنا. والثاني: أَنْ يكونَ معطوفاً على محلِّ «في الكتاب» فيعملَ فيه «مَسْطُوراً» أي: كان هذا الحكمُ مَسْطوراً في الكتاب ووقتِ أَخْذِنا. قوله: «ميثاقاً غليظاً» هو الأولُ، وإنما كُرِّر لزيادةِ صفتِه وإيذاناً بتوكيده.

8

قوله: {لِّيَسْأَلَ} : فيها وجهان، أحدُهما: أنها لامُ كي أي: أَخَذْنا ميثاقَهم ليَسْأل المؤمنين عن صدقهم، والكافرين عن تكذيبهم، فاستغنى عن الثانِي بذِكْر مُسَبِّبه وهو قولُه: «وأَعدَّ» . والثاني: أنها للعاقبة أي: أَخَذَ الميثاقَ على الأنبياء ليصيرَ الأمرُ إلى كذا. ومفعولُ «صدقِهم» محذوفٌ أي: صِدْقِهم عهدَهم. ويجوز أن يكون «صِدْقِهم» في معنى «تَصْديقهم» ، ومفعولُه محذوفٌ أيضاً أي: عن تصديقِهم الأنبياءَ. قوله: «وأَعَدَّ» يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه «ليَسْألَ الصادقين» ؛ إذ التقديرُ: فأثاب الصادقين وأعَدَّ للكافرين. والثاني: أنه معطوفٌ على «أَخَذْنا» لأنَّ المعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى أكَّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ

إلى دينه لإِثابة المؤمنين وأعَدَّ للكافرين. وقيل: إنه قد حَذَفَ من الثاني ما أثبت مقابلَه في الأول، ومن الأولِ ما أثبتَ مقابلَه في الثاني. والتقدير: ليسألَ الصادقينِ عن صِدْقِهم فأثابهم، ويَسْألَ الكافرين عَمَّا أجابوا به رُسُلَهم، وأعَدَّ لهم عذاباً أليماً.

9

قوله: {إِذْ جَآءَتْكُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً ب «نعمةَ» أي: النعمة الواقعة في ذلك الوقتِ. ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب اذكروا على أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «نعمة» بدلَ اشتمال.

10

قوله: {إِذْ جَآءُوكُمْ} : بدلٌ من «إذ» الأولى. وقرأ الحسنُ «الجَنود» بفتح الجيم. والعامَّةُ بضمِّها. و «جنوداً» عطفٌ على «ريحاً» . و «لم تَرَوْها» صفةٌ لهم. ورُوِي عن أبي عمرو وأبي بكرة «لم يَرَوْها» بياءِ الغَيْبة. قوله: «الحَناجرَ» جمع حَنْجَرة وهي رأسُ الغَلْصَمَة، والغَلْصَمَةُ مُنتهى الحُلْقوم، والحُلْقُوْمُ مَجْرى الطعامِ والشرابِ. وقيل: الحُلْقُوم مَجْرى النَّفَس، والمَرِي: مَجْرى الطعام والشراب وهو تحت الحُلْقوم. وقال الراغب: «رأسُ الغَلْصَمَة من خارج» .

وقوله: «الظنونا» قرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر بإثبات ألفٍ بعد نون «الظُّنونا» ولامِ «الرسول» في قوله: {وَأَطَعْنَا الرسولا} [الأحزاب: 66] ولام «السَّبيل» في قوله: {فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67] وَصْلاً ووَقْفاً موافقةً للرسمِ؛ لأنهنَّ رُسِمْنَ في المصحف كذلك. وأيضاً فإنَّ هذه الألفَ تُشْبه هاءَ السكتِ لبيانِ الحركة، وهاءُ السكتِ تَثْبُتُ وقفاً، للحاجة إليها. وقد ثَبَتَتْ وصلاً إجراءً للوصل مُجْرى الوقف كما تقدَّم في البقرة والأنعام. فكذلك هذه الألفُ. وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ بحَذْفِها في الحالَيْن؛ لأنها لا أصلَ لها. وقولُهم: «أُجْرِيَتْ الفواصلُ مُجْرى القوافي» غيرُ مُعْتَدٍّ به؛ لأنَّ القوافي يَلزَمُ الوقفُ عليها غالباً، والفواصلُ لا يَلْزَمُ ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها. والباقون بإثباتِها وَقْفاً وحَذْفِها وَصْلاً إجراءً للفواصلُ مُجْرى القوافي في ثبوتِ ألفِ الإِطلاق كقولِه: 3676 - اسْتأثَرَ اللَّهُ بالوفاءِ وبال ... عَدْلِ ووَلَّى المَلامَةَ الرَّجُلا وقوله: 3677 - أقِلِّي اللومَ عاذلَ والعِتابا ... وقُولي إن أَصَبْتُ لقد أصابا ولأنها كهاءِ السكت، وهي تَثْبُتُ وقفاً وتُخَفَّفُ وصلاً. قلت: كذا يقولون

تشبيهاً للفواصلِ بالقوافي، وأنا لا أحب هذه العبارةَ فإنها مُنْكَرَة لفظاً ولا خلافَ في قوله: {وَهُوَ يَهْدِي السبيل} [الأحزاب: 4] أنه بغيرِ ألفٍ في الحالين. قوله: «هنالك» منصوبٌ ب «ابْتُلِيَ» وقيل: ب «تَظُنُّون» . واسْتَضْعَفَه ابنُ عطية. وفيه وجهان، أظهرهما: أنه ظرفُ مكانٍ/ بعيدٍ أي: في ذلك المكان الدَّحْضِ وهو الخندقُ. الثاني: أنه ظرفُ زمانٍ، وأنشد بعضُهُم على ذلك: 3678 - وإذا الأمورُ تَعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ ... فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ قوله: «وزُلْزِلُوا» قرأ العامَّةُ بضمِّ الزاي الأولى وكسرِ الثانية على أصل ما لم يُسَمَّ فاعلُه. ورَوَى غيرُ واحدٍ عن أبي عمروٍ كَسْرَ الأولى. وروى الزمخشريُّ عنه إشمامَها كسراً. ووجهُ هذه القراءةِ أَنْ يكونَ أتبعَ الزايَ الأولى للثانيةِ في الكسرِ، ولم يَعْتَدَّ بالساكنِ لكونِه غيرَ حصينٍ، كقولهم: «مِنْتِن» بكسرِ الميم، والأصل ضمُّها. قوله: «زِلْزالاً» مصدر مُبَيِّنٌ للنوعِ بالوصف. والعامَّةُ على كسر الزاي.

وعيسى والجحدري فتحاها. وهما لغتان في مصدرِ الفعل المضعَّفِ إذا جاء على فِعْلال نحو: زِلْزال وقِلْقال وصِلْصال. وقد يُراد بالمفتوح اسمُ الفاعل نحو: صَلْصال بمعنى مُصَلْصِل، وزَلزال بمعنى مُزَلْزِل.

13

قوله: {ياأهل يَثْرِبَ} : يثرب اسمُ المدينةِ. وامتناعُ صَرْفها إمَّا: للعلميةِ والوزنِ، أو للعلميَّةِ والتأنيثِ، وأمَّا «يَتْرَب» بالتاء المثناة وفتح الراء فموضعٌ آخرُ قال: 3679 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... مواعيدَ عُرْقوبٍ أخاه بيَتْرَبِ قوله: {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} قرأ حفصٌ بضم الميم، ونافع وابن عامر بضم ميمِه أيضاً في الدخان في قوله: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ} [الدخان: 51] ولم يُخْتَلَفْ في الأول أنه بالفتح وهو {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 26] والباقون بفتح الميم في الموضعين. والضمُّ والفتح مفهومان من سورة مريم عند قوله: {خَيْرٌ مَّقَاماً} [مريم: 73]

قوله: «عَوْرَةٌ» أي: ذاتُ عَوْرة. وقيل: منكشِفةٌ للسارقِ. قال الشاعر: 3680 - له الشَّدَّةُ الأُوْلى إذا القِرْنُ أَعْورا ... وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء وأبو حيوة وآخرون «عَوِرة» بكسرِ الواو، وكذلك {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} وهي اسمُ فاعلٍ يُقال: عَوِر المنزلُ يَعْوَر عَوْراً وعَوْرَة فهو عَوِر وبيوتٌ عَوْرَةٌ. قال ابن جني: «تصحيحُ الواوِ شاذٌ» يعني حيث تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلها، ولم تُقْلَبْ ألفاً. وفيه نظرٌ لأنَّ شرطَ ذاك في الاسم الجاري على الفعلِ أَنْ يَعْتَلَّ فِعْلُه نحو: مَقام ومَقال. وأمَّا هذا ففعلُه صحيحٌ نحوَ: عَوِر. وإنما صَحَّ الفعلُ وإنْ كان فيه مُقْتضى الإِعلال لِمَدْرَكٍ آخرَ: وهو أنه في معنى ما لا يُعَلُّ وهو أَعْوَر ولذلك لم يُتَعَجَّبْ مِنْ عَوِر وبابه. وأَعْوَرَ المنزلُ: بَدَتْ عَوْرَتُه، وأَعْوَرَ الفارسُ: بدا منه خَلَلٌ للضربِ. قال الشاعر: 3681 - متى تَلْقَهم لم تَلْقَ في البيتِ مُعْوِراً ... ولاَ الضيفَ مَسْجوراً ولا الجارَ مُرْسَلاً

14

قوله: {مِّنْ أَقْطَارِهَا} : الأَقْطار جمع قُطْر بضمِّ

القاف، وهي الناحيةُ. وفيه لغةٌ: قُتْر وأَقْتار بالتاء. والقُطْر: الجانب أيضاً. ومنه قَطَرْتُه أي: أَلْقَيْتُه على قُطْرِه فَتَقَطَّر أي: وقع عليه. قال الشاعر: 3682 - قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... ما قَطَّر الفارسَ إلاَّ أنا وفي المَثَل «الانفضاض يقطر الحلب» تفسيرُه: أنَّ القومَ إذا انَفَضُّوا أي: فَني زادُهم احتاجوا إلى حَلْبِ الإِبلِ. وسُمِّي القَطْرا قَطْراً لسقوطِه. قوله: «ثم سُئِلوا» قرأ مجاهد «سُوْيِلُوا» بواوٍ ساكنة ثم ياءٍ مكسورةٍ كقُوتلوا. حكى أبو زيد هما يَتَساوَلان بالواو. والحسنُ «سُوْلُوا» بواوٍ ساكنةٍ فقط، فاحتملت وجهين، [أحدهما] : أَنْ يكونَ أصلُها سُئِلوا كالعامَّةِ ثم خُفِّفَتِ الكسرةُ فسَكَنَتْ، كقولِهم في «ضَرِب» بالكسر: ضَرْب بالسكون فَسَكَنت الهمزةُ بعد ضمة فقُلِبت واواً نحو: بُوْس في بُؤْس. والثاني: أن تكونَ مِنْ لغة الواو. ونُقل عن أبي عمرو أنه قرأ «سِيْلُوا» بياءٍ ساكنةٍ بعد كسرةٍ نحو: مِيْلُوا. قوله: «لأَتَوْها» قرأ نافعٌ وابن كثيرِ بالقصر بمعنى لَجأْؤُوْها

وغَشِيُوها. والباقون بالمدِّ بمعنى: لأَعْطَوْها. ومفعولُه الثاني محذوفٌ تقديره: لآتَوْها السَّائلين. والمعنى: ولو دَخَلْتَ البيوتَ أو المدينة مِنْ جميع نواحيها، ثم سُئِل أهلُها الفتنةَ لم يمتنعوا من إعطائِها. وقراءةُ المَدِّ تَسْتَلْزِمُ قراءةَ القصرِ من غيرِ عكسٍ بهذا المعنى الخاص. قوله: «إلاَّ يَسِيراً» أي: إلاَّ تَلَبُّثاً أو إلاَّ زماناً يسيراً. وكذلك قولُه: {إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 16] أي: إلا تَمَتُّعاً أو إلاَّ زماناً قليلاً.

15

قوله: {لاَ يُوَلُّونَ} : جوابٌ لقولِه «عاهَدوا» لأنَّه في معنى أَقْسَموا. وجاء على حكايةِ اللفظ فجاء بلفظِ الغَيْبة/ ولو جاء على حكايةِ المعنى لقيل: لا يُوَلِّي. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي: لا يُوَلُّون العَدُوَّ الأدبارَ. وقال أبو البقاء: «ويُقرأ بتشديد النون وحَذْفِ الواوِ على تأكيدِ جواب القسم» . قلت: ولا أظنُّ هذا إلاَّ غلطاً منه، وذلك أنه: إمَّا أَنْ يُقْرأ مع ذلك ب «لا» النافية أو بلامِ التأكيد. الأولُ لا يجوزُ؛ لأنَّ المضارع المنفيَّ ب «لا» لا يؤكَّد بالنون إلاَّ ما نَدَر، مِمَّا لا يُقاس عليه. والثاني فاسدُ المعنى.

16

قوله: {إِن فَرَرْتُمْ} : جوابُه محذوفٌ لدلالةِ النفيِ قبلَه عليه، أو متقدِّمٌ عند مَنْ يرى ذلك. قوله: {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ} «إذن» جوابٌ وجزاءٌ. ولمَّا وقعَتْ بعد عاطفٍ جاءَتْ على الأكثر، وهو عدمُ إعمالِها، ولم يَشِذَّ هنا ما شَذَّ في الإِسراء فلم

يُقْرأ بالنصب. والعامَّةُ على الخطاب في «تُمَتَّعون» . وقُرِئ بالغَيْبة.

17

قوله: {مَن ذَا الذي} : قد تقدَّم في البقرة. قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: كيف جُعِلَتِ الرحمةُ قرينةَ السوءِ في العِصْمة، ولا عِصْمَةَ إلاَّ من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكم رحمةً، فاختصر الكلامَ وأجري مُجْرى قولِه: 3683 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحاً أو حُمِلَ الثاني على الأول، لِما في العِصْمة من معنى المَنْع» . قال الشيخ: «أمَّا الوجهُ الأولُ ففيه حَذْفُ جملةٍ لا ضرورةَ تَدْعو إلى حَذْفِها، والثاني هو الوجهُ، لا سيما إذا قُدِّر مضافٌ محذوفٌ أي: يَمْنَعُكم مِنْ مراد الله» قلت: وأين الثاني مِن الأول ولو كان معه حَذْفُ جُمَلٍ؟

18

قوله: {هَلُمَّ} : قد تقدَّم الكلامُ فيه آخرَ الأنعام. وهو هنا لازمٌ وهناك متعدٍّ لنصبِه مفعولَه وهو «شُهداءَكم» بمعنى: أَحْضِروهم

وههنا بمعنى احْضَروا وتعالَوْا، وكلامُ الزمخشريِّ هنا مُؤْذِنٌ بأنه متعدٍّ أيضاً، وحُذِفَ مفعولُه فإنه قال: وَهلمُّوا إلينا أي: قَرِّبوا أنفسَكم إلينا قال: وهي صوتٌ سُمِّي به فعلٌ متعدٍّ مثل: أحضِرْ وقََرِّب. وفي تسميته إياه صَوْتاً نظرٌ؛ إذ أسماءُ الأصواتِ محصورةٌ ليس هذا منها.

19

قوله: {أَشِحَّةً} : العامَّةُ على نصبه. وفيه وجهان، أحدهما، أنَّه منصوبٌ على الشتم. والثاني: على الحال. وفي العاملِ فيه أوجهٌ، أحدها: «ولا يأتون» قاله الزجاج. الثاني: «هلمَّ إلينا» . قاله الطبري. الثالث: يُعَوِّقُون مضمراً. قاله الفراء. الرابع: المُعَوِّقين. الخامس: «القائلين» . ورُدَّ هذان الوجهان الأخيران: بأنَّ فيهما الفصلَ بين أبعاضِ الصلة بأجنبي. وفي الردِّ نظرٌ؛ لأنَّ الفاصلَ بين أبعاضِ الصلةِ مِنْ متعلَّقاتها. وإنما يظهر الردُّ على الوجه الرابعِ لأنه قد عُطِفَ على الموصولِ قبل تمامِ صلتِه فتأمَّلْه فإنه حَسَنٌ. وأمَّا «ولا يأتُون» فمعترِضٌ، والمعترضُ لا يمنعُ من ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة «أَشِحَّةٌ» بالرفع على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هم أَشِحَّةٌ. وأشحَّة جَمْعُ شَحيح، وهو جمعٌ لا ينقاس؛ إذ قياسُ فَعِيل الوصفِ الذي عينُه ولامُه مِنْ وادٍ واحدِ أن يُجْمَعَ على أفْعِلاء نحو: خليل وأَخِلاَّء، وظَنين وأَظِنَّاء وضَنين وأَضِنَّاء. وقد سُمِعَ أشِحَّاء، وهو القياس. والشُّحُّ: البخل. وقد تقدَّم في آل عمران.

قوله: «يَنْظُرون» في محلِّ حالٍ مِنْ مفعول «رَأَيْتَهم» لأن الرؤيةَ بَصَرية. قوله: «تَدُورُ» إمَّا حالٌ ثانية، وإمَّا حالٌ مِنْ «يَنْظُرون» . قوله: «كالذي يُغْشَى» يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ حالاً مِنْ «أعينُهم» أي: تدورُ أعينُهم حالَ كونِها مُشْبِهَةً عينَ الذي يُغْشى عليه من الموتِ. الثاني: أنه نعتُ مصدرٍ مقدَّرٍ لقوله «يَنْظُرون» تقديرُه: ينظرون إليك نَظَراً مثلَ نَظَرِ الذي يُغْشى عليه من الموت، ويُؤَيَّدُهُ الآيةُ الأخرى «يَنْظُرون إليك نَظَرَ المَغْشِيِّ عليه من الموت» . الثالث: أنه نعتٌ لمصدرٍ مقدَّرٍ أيضاً ل «تدورُ» أي: دَوَراناً مثلَ دَوَرانِ عَيْنِ الذي. وهو على الوجهين مصدرٌ تشبيهيٌّ. قوله: «سَلَقوكم» يقال: سَلَقه أي: اجترأ عليه في خِطابه، وخاطبه مُخاطبةً بليغةً. وأصلُه البَسْط ومنه: سَلَقَ امرأتَه أي: بَسَطَها وجامَعَها. قال مسيلمةُ لسجاح لعنهما الله تعالى: / 3684 - ألا هُبِّي إلى المضجَعْ ... فإنْ شِئْتِ سَلَقْنَاك ... وإن شِئْتِ على أربعْ والسَّليقَةُ: الطبيعةُ المتأتِّيَةُ. والسَّلِيقُ: المَطمئنُّ من الأرض. وخطيبٌ مِسْلاق وسَلاَّق. ويقال بالصاد قال الشاعر:

3685 - فَصَلَقْنا في مُرادٍ صَلْقَةً ... وصُداءٍ أَلْحَقَتْهُمْ بالثَّلَلْ و «أشحةً» نصب على الحال مِنْ فاعلِ «سَلَقُوكم» . وابن أبي عبلة على ما تقدَّم في أختها.

20

قوله: {يَحْسَبُونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً أي: هم من الخوفِ بحيث إنهم لا يُصَدِّقُوْن أن الأحزابَ قد ذهبوا عنهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ أحدِ الضمائر المتقدمةِ إذا صَحَّ المعنى بذلك، ولو بَعُدَ العاملُ، كذا قال أبو البقاء. قوله: «بادُوْن» هذه قراءةُ العامَّةِ جمعُ بادٍ. وهو المُقيم بالباديةِ. وقرأ عبد الله وابن عباس وطلحة وابن يعمر «بُدَّى» بضم الباءِ وتشديدِ الدالِ مقصوراً كغازٍ وغُزَّى، وسارٍ وسُرَّى. وليس بقياسٍ. وإنما قياسُه في التكسير «بُداة» كقُضاة وقاضٍ. ولكنْ حُمِلَ على الصحيح كقولِهم: «ضُرَّب» . ورُوِي عن ابن عباس أيضاً قراءةٌ ثانيةٌ «بَدِيْ» بزنةِ عَدِي، وثالثةٌ «بَدَوْا» فعلاً ماضياً. قوله: «يَسْألون» يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعِل «يَحْسَبُون» . والعامَّةُ على سكونِ السين بعدها همزةٌ. ونَقَل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى السينِ كقولِه: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 211] . وهذه ليسَتْ بالمشهورةِ عنهما، ولعلها نُقِلَتْ عنهما شاذَّةً، وإنما

هي معروفةٌ بالحَسَنِ والأعمش. وقرأ زيد بن علي والجحدري وقتادة والحسن «يَسَّاءَلُون» بتشديدِ السين والأصلُ: يتساءَلون فأدغم أي: يَسْأَلُ بعضُهم بعضاً.

21

قوله: {أُسْوَةٌ} : قرأ عاصم بضمِّ الهمزة حيث وقعَتْ هذه اللفظةُ. والباقون بالكسر. وهما لغتان كالعِدْوَة والعُدْوَة، والقِدوة والقُدْوَة. والأُسْوة بمعنى الاقتداء. وهي اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المصدرِ وهو الائْتِساء، فالأُسْوَةُ من الائتساء كالقُدْوة من الاقتداء. وائْتَسَى فلانٌ بفلانٍ أي اقتدى به. و «أسوةٌ» اسمُ «كان» . وفي الخبرِ وجهان، أحدهما: هو «لكم» فيجوزُ في الجارِّ الآخرِ وجوهٌ: التعلُّقُ بما يتعلَّقُ به الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «أُسْوَة» ، إذ لو تأخَّر لكان صفةً، أو ب «كان» على مذهبِ مَنْ يراه. والثاني: أنَّ الخبرَ هو {فِي رَسُولِ الله} ، و «لكم» على ما تَقَدَّم في {فِي رَسُولِ الله} ، أو تتعلَّقُ بمحذوفٍ على التبيين أي: أَعْني لكم. قوله: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ من الكافِ في «لكم» ، قاله الزمخشري. وقد منعه أبو البقاء. وتابعه الشيخُ. قال أبو البقاء: «وقيل: هو بدلٌ مِنْ ضمير المخاطبِ بإعادةِ الجارِّ. ومَنَعَ منه

الأكثرون؛ لأنَّ ضميرَ المخاطبِ لا يُبْدَلُ مِنْه» . وقال الشيخُ: «قال الزمخشريُّ: بدلٌ من» لكم «كقولِه: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] قال:» ولا يجوزُ على مذهب جمهورِ البصريين أن يُبْدَلَ من ضميرِ المتكلم ولا من ضمير المخاطب بدلُ شيءٍ مِنْ شيءٍ، وهما لعينٍ واحدةٍ. وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش. وأنشد: 3686 - بكم قُرَيْشٍ كُفِيْنا كلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأَمَّ نَهْجَ الهُدى مَنْ كان ضِلِّيلا قلت: لا نُسَلِّمُ أنَّ هذا بدلُ شيءٍ مِنْ شيءٍ وهما لعينٍ واحدة، بل بدلُ بعضٍ مِنْ كل باعتبارِ الواقع؛ لأنَّ الخطابَ في قولِه «لكم» أَعَمُّ مِنْ {مَن كَانَ يَرْجُو الله} وغيرِه، ثم خَصَّصَ ذلك العمومَ لأنَّ المتأسِّيَ به عليه السلام في الواقعِ إنما هم المؤمنون. ويَدُلُّك على ما قلتُه ظاهرُ تشبيهِ الزمخشريِّ هذه الآيةَ بآيةِ الأعراف، وآيةُ الأعرافِ البدلُ فيها بدلُ كل مِنْ كل. ويُجاب: بأنَّه إنما قَصَد التشبيهَ في مجردِ إعادةِ العاملِ. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «حَسَنةٌ» . الثالث: أَنْ يتعلَّقَ بنفس «حَسَنة» قالهما أبو البقاء. ومَنَعَ أَنْ يَتَعَلَّقَ ب «أُسْوَة» قال: «لأنها قد وُصِفَتْ» . و «كثيراً» أي: ذِكْراً كثيراً.

22

قوله: {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} : مِنْ تكريرِ الظاهرِ تعظيماً كقوله:

3687 - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولأنه لو أعادَهما مُضْمَرَيْنِ لجَمَعَ بين اسمِ الباري تعالى واسمِ رسولِه في لفظةٍ واحدةٍ، فكان يُقال: وصدقا، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد كَرِه ذلك، / وردَّ على مَنْ قاله حيث قال: «مَنْ يطعِ اللَّهَ ورسولَه فقد رَشَدَ، ومَنْ يَعْصِهما فقد غَوى» . وقال له: «بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت. قل: ومن يَعْصِ اللَّهَ ورسولَه» قصداً إلى تعظيمِ اللَّهِ. وقيل: إنما رَدَّ عليه لأنه وقف على «يَعْصِهما» . وعلى الأولِ استشكل بعضُهم قولَه [عليه السلام] : «حتى يكونَ اللَّهَ ورسولُه أحَبَّ إليه مِمَّا سِواهما» فقد جَمَعَ بينهما في ضميرٍ واحدٍ. وأُجيبَ: بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعرفُ بقَدْرِ اللَّهِ تعالى مِنَّا فليس لنا أَنْ نقولَ كما يقول. قوله: «وما زادَهُمْ» فاعلُ «زادهم» ضميرُ الوَعْدِ أي: وما زادهم وَعْدُ اللَّهِ أو الصدقُ. وقال مكي: «ضميرُ النظر؛ لأنَّ قولَه:» لَمَّا رأى «بمعنى: لَمَّا نظر» . وقال أيضاً: «وقيل: ضمير الرؤية. وإنما ذُكِّر لأن تأنيثها غيرُ حقيقي» ولم يَذْكُرْ غيرَهما. وهذا عجيبٌ منه؛ حيث حَجَّر واسعاً مع الغُنْيَةِ عنه. وقرأ ابنُ أبي عبلة «وما زادُوهم» بضمير الجمع. ويعود للأحزابِ؛

لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبرهم أنَّ الأحزابَ تَأْتيهم بعد عشرٍ أو تسعٍ.

23

قوله: {صَدَقُواْ} : «صَدَقَ» يتعدَّى لاثنين لثانيهما بحرفِ الجرِّ، ويجوز حَذْفُه. ومنه المثل: «صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ» أي في سِنِّ. والآيةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مِنْ هذا، والأولُ محذوفٌ أي: صدقوا الله فيما عاهدوا اللَّهَ عليه. ويجوز أَنْ يتعدَّى لواحدٍ كقولك: صَدَقني زيدٌ وكَذَبني عمرو أي: قال لي الصدقَ، وقال لي الكذبَ. ويكون المعاهَدُ عليه مصدوقاً مجازاً. كأنهم قالوا للشيءِ المُعاهَد عليه: لنُوفِيَنَّ بك وقد فعلوا. و «ما» بمعنى الذي؛ ولذلك عاد عليها الضميرُ في عليه. وقال مكي: «ما» في موضعِ نصبٍ ب صَدَقوا. وهي والفعلُ مصدرٌ تقديرُه: صَدَقوا العهدَ أي: وَفَوْا به «وهذا يَرُدُّه عَوْدُ الضميرِ. إلاَّ أنَّ الأخفشَ وابنَ السراج يذهبان إلى اسميةِ» ما «المصدريةِ. قوله:» قضى نَحْبَه «النَّحْبُ: ما التزمه الإِنسانُ، واعتقد الوفاءُ به. قال: 3688 - عَشِيَّةَ فَرَّ الحارِثيُّون بعدَما ... قضى نَحْبَه في مُلْتَقَى القومِ هَوْبَرُ

وقال آخر: 3689 - بطَخْفَةَ جالَدْنا الملوكَ وخَيْلُنا ... عَشيَّةَ بِسْطامٍ جَرَيْنَ على نَحْبِ أي: على أَمْرٍ عظيمٍ؛ ولهذا يُقال: نَحَبَ فلانٌ أي: نَذَرَ نَذْراً التزمه، ويُعَبَّر به عن الموتِ كقولِهم:» قَضَى أجله «لَمَّا كان الموتُ لا بُدَّ منه جُعِل كالشيءِ الملتَزمِ. والنَّحِيْبُ: البكاءُ معه صَوْتٌ. والنُّحاب: السُّعالُ.

24

قوله: {لِّيَجْزِيَ الله} : في اللام وجهان، أحدهما: أنها لامُ العلة. الثاني: أنها لامُ الصيرورةِ. وفي ما تتعلَّقُ به أوجهٌ: إمَّا ب «صَدَقوا» ، وإمَّا ب «زادهم» ، وإما ب «ما بَدَّلُوا» وعلى هذا قال الزمخشري: «جُعِل المنافقون كأنهم قَصَدوا عاقبةَ السوءِ، وأرادُوها بتبديلهم، كما قَصَدَ الصادقون عاقبةَ الصدقِ بوفائِهم؛ لأنَّ كلا الفريقَيْنِ مَسُوقٌ إلى عاقبتِه من الثوابِ والعقاب، فكأنَّهما اسْتَوَيا في طلبهما والسَّعْيِ لتحصيلهما» . قوله: «إنْ شاءَ» جوابُه مقدَّرٌ. وكذلك مفعول «شاء» . أي: إنْ شاءَ تعذيبَهم عَذَّبهم. فإنْ قيل: عذابُهم مُتَحَتِّمٌ فكيف يَصِحُّ تعليقُه على المشيئةِ وهو قد شاءَ تعذيبَهم إذا ماتوا على النفاق؟ فأجاب ابنُ عطية: بأنَّ تعذيبَ المنافقين ثمرةُ إدامتِهم الإِقامةَ على النفاقِ إلى موتِهم، والتوبةُ موازِيَةٌ لتلك الإِقامةِ، وثمرةُ التوبةِ تَرْكُهم دونَ عذاب فهما درجتان: إقامةٌ على نفاقٍ، أو توبةٌ منه، وعنهما ثمرتان: تعذيبٌ أو رحمة. فذكر تعالى على جهةِ الإِيجازِ

واحدةً من هاتين، وواحدةً مِنْ هاتين ودَلَّ ما ذكر على ما تَرَكَ ذِكْرَه. ويَدُلُّ على أنَّ معنى قولِه: «لِيُعَذِّب» ليُديمَ على النفاقِ قولُه: «إن شاء» ومعادلتُه بالتوبةِ وحرفِ أو «. قال الشيخ:» وكأنَّ ما ذَكَر يَؤُوْلُ إلى أنَّ التقديرَ: ليُقيموا على النفاقِ فيموتُوا عليه إنْ شاء فيُعَذِّبَهم، أو يتوبَ عليهم فيرحمَهم. فحذف سببَ التعذيبِ وأثبت المسبَّب وهو التعذيبُ، وأثبت سببَ الرحمةِ والغفرانِ وحَذَفَ المُسَبَّبَ وهو الرحمةُ والغُفْران «.

25

قوله: {بِغَيْظِهِمْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ سببيةً، وهو الذي عَبَّر عنه أبو البقاء بالمفعولِ أي: إنها مُعَدِّية. والثاني: أَنْ تكونَ للمصاحبة، فتكونَ حالاً أي/ مُغيظين. قوله: {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} حالٌ ثانيةٌ أو حالٌ من الحال الأولى فهي متداخِلَةٌ. ويجوز أَنْ تكونَ حالاً من الضمير المجرور بالإِضافة. وجَوَّز الزمخشري فيها أَنْ تكونَ بياناً للحالِ الأولى أو مستأنفةً. ولا يظهر البيانُ إلاَّ على البدل، والاستئنافُ بعيد.

26

قوله: {وَأَنزَلَ الذين} : أي وأنزل اللَّهُ. و {مِّنْ أَهْلِ الكتاب} بيانٌ للموصولِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. ويجوز أن يكونَ حالاً. و «مِنْ صَياصِيْهم» متعلِّقٌ ب «أَنْزل» و «مِنْ» لابتداءِ الغاية. والصَّياصِي جمعُ «صِيْصِيَة» وهي الحصونُ. ويقال لكل ما يُمتنع به ويُتَحَصَّن: صِيْصيَة. ومنه قيل لقَرْنِ

الثور ولشوكة الديك: صِيْصِيَة. والصَّياصِي أيضاً: شَوْك الحاكَةِ ويُتَّخَذُ مِنْ حديد قال دُرَيْد بن الصِّمَّة: 3690 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كوَقْعِ الصَّياصِيْ في النسيجِ المُمَدَّدِ قوله: «فريقاً تَقْتُلون» «فريقاً» منصوبٌ بما بعده. وكذلك «فريقاً» منصوب بما قبله. والجملةُ مبيِّنَةٌ ومقررةٌ لقَذْفِ الله الرعبَ في قلوبهم. والعامَّةُ على الخطابِ في الفعلين. وابن ذكوان في روايةٍ بالغَيْبةِ فيهما. واليمانيُّ بالغَيْبة في الأول فقط. وأبو حيوة «تَأْسرون» بضم السين. قوله: «لم تَطؤُوْها» الجملةُ صفةٌ ل «أرضاً» . والعامَّةُ على همزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ مضارعَ وَطِئ. وزيد بن علي «تَطُوْها» بواوٍ بعد طاءٍ مفتوحةٍ. ووجهُها: أنها أَبْدَلَ الهمزةَ ألفاً على غيرِ قياسٍ كقولِه:

3691 - إنَّ الأُسودَ لَتَهْدا في مَرابِضِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فلمَّا أَسْنده للواو التقى ساكنان فَحُذِف أولهما نحو: لم يَرَوْها. وهذا أحسنُ مِنْ أَنْ تقول: ثم أجرى الألفَ المبدَلةَ مِنْ الهمزةِ مُجْرَى الألفِ المتأصِّلةِ فَحَذَفها جزماً؛ لأنَّ الأحسنَ هناك أَنْ لا تُحْذَفَ اعتداداً بأصلها. واستشهد بعضُهم على الحَذْفِ بقولِ زهير: 3692 - جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظلمِه ... سَريعاً وإن لا يُبْدَ بالظُّلمِ يَظْلِمِ

28

قوله: {أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} : العامَّةُ على جَزْمِهِما. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه مجزومٌ على جواب الشرط. وما بين الشرط وجوابِه معترضٌ، ولا يَضُرُّ دخولُ الفاءِ على جملة الاعتراضِ. ومثلُه في دخول الفاء قولُه: 3693 - واعلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعُه ... أَنْ سَوْفَ يَأْتيْ كلُّ ما قُدِرا يريد: واعلَمْ أَنْ سوفَ يأتي. والثاني: أنَّ الجوابَ قولُه: «فَتَعالَيْنَ، وأُمَتِّعْكن» جوابٌ لهذا الأمرِ.

وقرأ زيد بن علي «أُمْتِعْكُنَّ» بتخفيف التاء من أَمْتَعَه. وقرأ حميد الخزاز «أُمَتِّعُكُن وأُسَرِّحْكُن» بالرفع فيهما على الاستئنافِ. و «سَراحاً» قائمٌ مقامَ التَّسْريحِ.

30

قوله: {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ} : العامَّةُ على «يَأْتِ» بالياء من تحتُ حَمْلاً على لفظ «مَنْ» . وزيد بن علي والجحدري ويعقوب بالتاءِ مِنْ فوقُ حَمْلاً على معناها؛ لأنه تَرَشَّح بقولِه: «منكُنَّ» ، و «منكنَّ» حالٌ من فاعل «يَأْتِ» . وتقدَّم القراءةُ في «مُبَينة» بالنسبة لكسرِ الياء وفتحها في النساء. قوله: «يُضاعَفْ» قرأ أبو عمرو «يُضَعَّفْ» بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحةً على البناء للمفعول. «العذابُ» بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل. وقرأ ابن كثير وابن عامر «نُضَعِّفْ» بنونِ العظمةِ، وتشديد العين مكسورةً، على البناءِ للفاعل. قوله: العذابَ «بالنصب على المفعول به. وقرأ الباقون» يُضاعَفْ «من المفاعلة مبنياً للمفعول.» العذابُ «بالرفعِ لقيامِه مَقامَ الفاعل. وقد تقدَّم توجيهُ التضعيف والمضاعَفة في سورة البقرة فأغنى عن إعادتِه.

31

قوله: {وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ} : قرأ الأخَوان «ويَعْمَلْ ويُؤْتِ» بالياء مِنْ تحتُ فيهما. والباقون «وتَعْمل» بالتاء من فوق. «نُؤْتِها» بالنون. فأمَّا الياءُ في «ويَعْمَلْ» فلأجل الحَمْلِ على لفظ «مَنْ» وهو الأصلُ. والتاءُ مِنْ فوقُ على معناها؛ إذ المرادُ بها مؤنثٌ، وتَرَشَّح هذا بتقدُّمِ لفظِ المؤنث وهو «مِنْكُنَّ» ومثلُه قولُه: 3694 - وإنَّ مِن النِّسْوان مَنْ هي روضةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . /لَمَّا تقدَّم قولُه: «مِن النسوانِ» تَرَجَّح المعنى فَحَمَل عليه. وأمَّا «يُؤْتِها» بالياءِ مِنْ تحتُ فالضمير لله تعالى لتقدُّمِه في «لله ورسوله» . وبالنون فهي نونُ العظمة. وفيه انتقالٌ من الغَيْبة إلى التكلُّم. وقرأ الجحدريُّ ويعقوب وابن عامر في رواية وأبو جعفر وشيبةُ «تَقْنُتْ» بالتاءِ مِنْ فوقُ حَمْلاً على المعنى وكذلك «وتَعْمَل» . وقال أبو البقاء: «إنَّ بعضَهم قرأ» ومَنْ تَقْنُتْ «بالتأنيث حَمْلاً على المعنى و» يَعْمَلْ «بالتذكير حملاً على اللفظ» . قال: «فقال بعض النحويين: هذا ضعيفٌ؛ لأنَّ التذكيرَ أصلٌ فلا يُجْعَلُ تَبَعاً للتأنيث. وما عَلَّلوه به قد جاء مثلُه في القرآن. قال تعالى: {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا} » [الأنعام: 139] .

32

قوله: {كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء} : قال الزمخشري: «

أَحَد» في الأصل بمعنى وَحَد. وهو الواحد، ثم وُضِع في النفي العام مستوياً فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ وما وراءَه. والمعنى: لَسْتُنَّ كجماعةٍ واحدةٍ من جماعات النساء أي: إذا تَقَصَّيْتَ جماعةَ النساءِ واحدةً واحدةً لم توجَدْ منهنَّ جماعةٌ واحدة تُساويكُنَّ في الفضل والسابقةِ. ومنه قوله: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} [النساء: 152] يريد بين جماعة واحدةٍ منهم تسويةً بين جميعِهم في أنهم على الحقِّ المُبين. قال الشيخ: «أمَّا قوله» أحد «في الأصل بمعنى وَحَد وهو الواحد فصحيح. وأمَّا قولُه:» وُضِع «إلى قوله:» وما وراءه «فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الذي يُسْتعمل في النفي العامِّ مدلولُه غيرُ مدلولِ واحد؛ لأنَّ واحداً ينطلقُ على كلِّ شيءٍ اتصفَ بالوحدةِ، وأحداً المستعمل في النفي العامِّ مختصٌ بمَنْ يَعْقِل. وذكر النحويون أنَّ مادتَه همزة وحاء ودال، ومادة» أحد «بمعنى واحد: واو وحاء ودال، فقد اختلفا مادةً ومدلولاً. وأمَّا قولُه: لَسْتُنَّ كجماعة واحدة، فقد قُلنا: إن معناه ليسَتْ كلُّ واحدةٍ منكنَّ. فهو حَكَمَ على كلِّ واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموعٌ. وأمَّا {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} [النساء: 152] فاحتمل أَنْ يكونَ الذي يُستعمل في النفي العام؛ ولذلك جاء في سِياقِ النفي فعَمَّ. وصلَحَت البَيْنِيَّة للعموم. ويحتمل أَنْ يكونَ» أحد «بمعنى واحد، وحُذِفَ معطوف، أي: بين أحدٍ وأحدٍ.

كما قال: 3695 - فما كان بينَ الخيرِ لو جاء سالماً ... أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قَلائِلُ أي: بين الخير وبيني» . انتهى. قلت: أمَّا قولُه فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فَمُسَلَّمٌ. ولكن الزمخشريَّ لم يجعلْ أحداً الذي أصله واحد بمعنى أَحَد المختصِّ بالنفي، ولا يمنع أن أحداً الذي أصلُه واحد أن يقعَ في سياقِ النفيِ. وإنما الفارقُ بينهما: أنَّ الذي همزتُه أصلٌ لا يُستعمل إلاَّ في النفي كأخواته من عَرِيْب وكَتِيْع ووابِر وتامِر. والذي أصله واحد يجوز أن يُستعمل إثباتاً ونفياً. والفرقُ أيضاً بينهما: أنَّ المختصَّ بالنفي جامدٌ، وهذا وصْفٌ. وأيضاً المختصُّ بالنفي مختصٌّ بالعقلاء وهذا لا يختصُّ. وأمَّا معنى النفي فإنه ظاهرٌ على ما قاله الزمخشريُّ من الحكم على المجموعِ، ولكنَّ المعنى على ما قاله الشيخ أوضحُ وإن كان خلافَ الظاهر. قوله: «إنِ اتَّقَيْتُنَّ» في جوابه وجهان، أحدهما: أنه محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي: إنْ اتَّقَيْتُنَّ اللَّهَ فَلَسْتُنَّ كأحدٍ. فالشرط قيدٌ في نفي أَنْ يُشَبَّهْنَ بأحدٍ من النساء. الثاني: أنَّ جوابَه قولُه: «فلا تَخْضَعْنَ» والتقوى على بابها. وجَوَّزَ الشيخُ على هذا أن يكونَ اتَّقى بمعنى استقبل أي: استَقْبَلْتُنَّ أحداً

فلا تَلِنَّ له القولَ. واتقى بمعنى استقبل معروفٌ في اللغة. وأنشد: 3696 - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فتناوَلَتْهُ واتَّقَتْنا باليَدِ أي: واستقبَلَتْنا باليد. قال: «ويكون هذا المعنى أبلغَ في مدحِهنَّ إذ لم يُعَلِّقْ فضيلتَهنَّ على التقوى ولا على نَهْيه عن الخضوع بها؛ إذ هنَّ مُتَّقِياتٌ لله تعالى في أنفسهنَّ. والتعليقُ يقتضي ظاهرُه أنهنَّ لَسْنَ متحلِّياتٍ بالتقوى» . قلت: هذا خروجٌ عن الظاهرِ من غير ضرورةٍ. وأمَّا البيتُ فالاتِّقاءُ أيضاً على بابِه/ أي صانَتْ وجهَها بيدِها عنا. قوله: «فَيَطْمَعَ» العامَّةُ على نصبه جواباً للنهي. والأعرج بالجزم فيكسِرُ العينَ لالتقاءِ الساكنين. ورُوي عنه وعن أبي السَّمَّال وابن عمر وابن محيصن بفتح الياء وكسر الميم. وهذا شاذٌّ؛ حيث تَوافَقَ الماضي والمضارعُ في حَرَكةٍ. ورُوي عن الأعرج أيضاً أنه قرأ بضمِّ الياء وكسرِ الميم مِنْ أطمع. وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً عائداً على الخضوعُ المريضَ القلبِ. ويحتمل أن يكون «الذي» فاعلاً، ومفعوله محذوف أي: فيُطْمِع المريضُ نفسَه. قوله: «وَقَرْنَ» قرأ نافع وعاصم بفتح القاف. والباقون بكسرها. فأمَّا

الفتحُ فمِنْ وجهين، أحدهما: أنه أمرٌ من قَرِرْتُ - بكسرِ الراءِ الأولى - في المكان أَقَرُّ به بالفتح. فاجتمع راءان في اقْرَرْنَ، فحُذِفت الثانيةُ تخفيفاً ونُقِلَتْ حركةُ الراء الأولى إلى القاف، فحُذفت همزةُ الوصلِ استغناءً عنها فصار قَرْن. ووزنُه على هذا: فَعْن؛ فإنَّ المحذوفَ هو اللامُ لأنه حَصَلَ به الثقلُ. وقيل: المحذوفُ الراءُ الأولى؛ لأنه لَمّا نُقِلَتْ حركتُها بقيَتْ ساكنةً، وبعدها أخرى ساكنةٌ فحُذِفَتِ الأولى لالتقاءِ الساكنين، ووزنُه على هذا: فَلْنَ؛ فإنَّ المحذوفَ هو العين. وقال أبو علي: «أُبْدِلت الراءُ الأولى ياءً ونُقِلَتْ حركتُها إلى القاف، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ الياءُ لالتقائِهما» . فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في توجيهِ أنها أمرٌ مِنْ قَرِرْت بالمكان. والوجه الثاني: أنها أمرٌ مِنْ قارَ يَقارُ كخاف يخافُ إذا اجتمع. ومنه «القارَةُ» لاجتماعِها، فحُذِفت العين لالتقاء الساكنين فقيل: قَرْنَ كخَفْنَ. ووزنُه على هذا أيضاً فَلْن. إلاَّ أنَّ بعضَهم تكلَّم في هذه القراءةِ مِنْ وجهين، أحدهما: قال أبو حاتم: يقال: قَرَرْتُ بالمكان بالفتح أقِرُّ به بالكسر وقَرَّتْ عينُه بالكسر تَقَرُّ بالفتح، فكيف يُقرأ «وَقَرْنَ» بالفتح؟ والجوابُ عن هذا: أنه قد جُمِعَ في كلٍ منهما الفتحُ والكسرُ، حكاه أبو عبيد. وقد تقدَّم ذلك في سورة مريم. الثاني: سَلَّمْنا أنه يُقال: قَرِرْت بالمكان بالكسر أَقَرُّ به بالفتح، وأنَّ

الأمرَ منه اقْرَرْنَ، إلاَّ أنه لا مُسَوِّغَ للحذفِ؛ لأن الفتحةَ خفيفةٌ، ولا يجوز قياسُه على قولِهم «ظَلْتُ» وبابِه؛ لأن هناك شيئَيْن ثقيلين: التضعيفَ والكسرةَ فحَسُنَ الحذفُ، وأمَّا هنا فالتضعيفُ فقط. والجوابُ: أنَّ المقتضِيَ للحذفِ إنما هو التكرارُ. ويؤيد هذا أنهم لم يَحْذِفوا مع التكرارِ ووجودِ الضمةِ، وإنْ كانت أثقلَ نحو: اغْضُضْنَ أبصارَكنَّ، وكان أَوْلَى بالحذفِ فيُقالُ: غُضْنَ. لكنَّ السماعَ خلافُه. قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] . على أن الشيخَ جمالَ الدين بن مالك قال: «إنه يُحْذَفُ في هذا بطريقِ الأَوْلى» أو تقولُ: إنَّ هذه القراءةَ إنما هي مِنْ قارَ يَقارُ بمعنى اجتمع. وهو وجهٌ حسنٌ بريءٌ من التكلُّفِ، فيندفع اعتراضُ أبي حاتمٍ وغيرِه، لولا أنَّ المعنى على الأمرِ بالاستقرارِ لا بالاجتماع. وأمَّا الكسرُ فمِنْ وجهين أيضاً أحدهما: أنه أمرٌ من قَرَّ بالمكانِ بالفتح في الماضي، والكسرِ في المضارع، وهي اللغةُ الفصيحةُ، ويجيءُ فيه التوجيهاتُ الثلاثةُ المذكورةُ أولاً: إمَّا حَذْفُ الراءِ الثانية أو الأولى، أو إبدالُها ياءً، وحَذْفُها كما قال الفارسيُّ. ولا اعتراض على هذه القراءةِ لمجيئها على مشهورِ اللغة فيندفعُ اعتراضُ أبي حاتم، ولأنَّ الكسرَ ثقيلٌ، فيندفعُ الاعتراضُ الثاني، ومعناها مطابقٌ لِما يُرادُ بها من الثبوتِ والاستقرار. والوجه الثاني: أنها أمرٌ مِنْ وَقَرَ يَقِرُ أي: ثبتَ واستقرَّ. ومنه الوَقارُ. وأصلُه اِوْقِرْن فحُذِفت الفاءُ وهي الواوُ، واسْتُغني عن/ همزةِ الوصل فبقي «قِرْن» وهذا كالأمرِ مِنْ وَعَد سواء. ووزنُه على هذا عِلْنَ. وهذه الأوجهُ المذكورةُ إنما يَتَهَدَّى إليها مَنْ مَرِنَ في علمِ التصريف، وإلاَّ ضاق بها ذَرْعاً.

قوله: «تَبَرُّجَ الجاهليةِ» مصدرٌ تشبيهيٌّ أي: مثلَ تبرُّجِ. والتبرُّجُ: الظهورُ مِن البُرْجِ لظهورِه وقد تقدَّم. وقرأ البزي «ولا تَّبَرَّجْنَ» بإدغامِ التاء في التاء. والباقون بحذفِ إحداهما. وتقدَّم تحقيقُه في البقرة في «ولا تَيَمَّموا» . قوله: «أهلَ البيتِ» فيه أوجه: النداء والاختصاص، إلاَّ أنه في المخاطب أقلُّ منه في المتكلم. وسُمِعَ «بك اللَّهَ نرجو الفضلَ» والأكثر إنما هو في المتكلم كقولِها: 3697 - نحن بناتِ طارِقْ ... نَمْشِي على النمارِقْ [وقوله] : 3698 - نحن بني ضَبَّةَ أصحابُ الجملْ ... الموتُ أَحْلَى عندنا من العَسَلْ «نحن العربَ أَقْرَى الناسِ للضيف» «نحن معاشرَ الأنبياءِ لا نورث» أو على المدح أي: أمدحُ أهلَ البيتِ.

34

قوله: {مِنْ آيَاتِ الله} : بيانٌ للموصول فيتعلَّقُ ب أعني. ويجوز أن يكون حالاً: إمَّا من الموصول، وإمَّا من عائده المقدر فيتعلقُ بمحذوفٍ أيضاً.

35

قوله: {والحافظات} : حُذِفَ مفعولُه لتقدُّم ما يَدُلُّ عليه. والتقديرُ: والحافظاتِها. وكذلك «والذاكراتِ» . وحَسَّن الحذفَ رؤوسُ الفواصِلِ وغَلَّبَ المذكرَ على المؤنثِ في «لهم» ولم يَقُلْ «ولَهُنَّ» .

36

قوله: {أَن يَكُونَ} : هو اسمُ كان. والخبرُ الجارُّ متقدمٌ. وقوله: {إِذَا قَضَى الله} يجوزُ أن يكونَ مَحْضَ ظَرْفٍ معمولُه الاستقرار الذي تَعَلَّق به الخبرُ أي: وما كان مستقِرّاً لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ وقتَ قضاءِ اللَّهِ كَوْنُ خِيَرَةٍ، وأَنْ تكونَ شرطيةً، ويكونُ جوابُها مقدراً مدلولاً عليه بالنفيِ المتقدمِ. وقرأ الكوفيون وهشام «يكونَ» بالياءِ من أسفلِ؛ لأنَّ «الخِيَرَة» مجازيُّ التأنيثِ، وللفصلِ أيضاً. والباقون بالتاء من فوقُ مراعاةً للفظِها. وقد تقدَّم أنَّ الخِيَرَةَ مصدرُ تَخَيَّر كالطِّيَرَة مِنْ تَطَيَّر. ونَقَل عيسى بن سليمان أنه قُرِئَ «الخِيْرَة» . بسكون الياء. و «مِنْ أمرِهم» حالٌ من «الخِيَرة» وقيل: «من» بمعنى في. وجَمَعَ الضمير في «أمرِهم» وما بعده؛ لأنَّ المرادَ بالمؤمن والمؤمنة الجنسُ. وغلَّب المذكرَ على المؤنث. وقال الزمخشري: «كان مِنْ حَقِّ

الضميرِ أن يُوَحَّد كما تقول: ما جاءني مِنْ رجلٍ ولا امرأة، إلاَّ كان مِنْ شأنه كذا» . قال الشيخ: «وليس بصحيحٍ؛ لأنَّ العطفَ بالواوِ فلا يجوزُ ذلك إلاَّ بتأويلِ الحَذْفِ» .

37

قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ} : نَصَّ بعضُ النَّحْويين على أن «على» في مثلِ هذا التركيبِ اسمٌ. قال: «لئلا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصلِ إلى ضميرِه المتصلِ في غير باب ظنَّ وفي لفظتَيْ: فَقَد وعَدِم. وجعل مِنْ ذلك: 3699 - هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ ... بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها وكذلك حَكَم على» عَنْ «في قولِه: 3700 - دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِهِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم لك ذلك مشبعاً في النحل في قوله: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]

وفي قوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ} [مريم: 25] {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] . قوله:» وتُخْفي «فيه أوجهٌ، أحدها: أنه معطوفٌ على» أَمْسِكْ «أي: وإذ تجمعُ بين قولك كذا وإخفاءِ كذا، وخشيةِ الناس. قاله الزمخشري. الثاني: أنها واوُ الحالِ أي: تقول كذا في هذه الحالةِ. قاله الزمخشري أيضاً. وفيه نظرٌ من حيث إنه مضارعٌ مثبتٌ فكيف تباشِرُه الواوُ؟ وتخريجُه كتخريجِ» قمتُ وأَصُكُّ عينَه «أعني على إضمارِ مبتدأ. الثالث: أنه مستأنفٌ. قاله الحوفي. وقوله: {والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} قد تقدَّم مثلُه في براءة. قوله:» وَطَراً «مفعولُ» قَضَى «. والوَطَرُ: الشَّهْوَةُ والمحبةُ، قاله المبرد. وأنشد: 3701 - وكيف ثَوائي بالمدينةِ بعدَما ... قَضَى وَطَراً منها جميلُ بنُ مَعْمَرِ وقال أبو عبيدة:» الوَطَرُ: الأَرَبُ والحاجةُ «. وأنشد للضُّبَيْعِ الفزاري: 3702 - ودَّعَنا قبلَ أَنْ نُوَدِّعَهْ ... لَمَّا قضى مِنْ شبابِنا وَطَراً

وقرأ العامَّةُ» زوَّجْناكها «. وقرأ عليٌّ وابناه الحسنان رضي الله عنهم وأرضاهم» زَوَّجْتُكَها «بتاءِ المتكلم. و» لِكَيْلا «متعلقٌ ب» زَوَّجْناكها «وهي هنا ناصبةٌ فقط لدخولِ الجارِّ عليها. واتصل الضميران بالفعلِ لاختلافِهما رتبةً.

38

قوله: {سُنَّةَ الله} : منصوبٌ على المصدر ك {صُنْعَ الله} [النمل: 88] / و {وَعْدَ الله} [النساء: 122] أو اسمٌ وُضِع مَوْضِعَ المصدرِ، أو منصوبٌ ب جَعَل. أو بالإِغراءِ أي: فعليه سنةَ الله. قاله ابن عطية. ورَدَّه الشيخ بأنَّ عاملَ الإِغراءِ لا يُحْذَفُ، وبأنَّ فيه إغراءَ الغائبِ. وما وَرَدَ منه مؤولٌ على ندورِه نحو: «عليه رجلاً لَيْسَني» . قلت: وقد وَرَدَ قولُه عليه السلام «وإلاَّ فعليه بالصوم» ، فقيل: هو إغراء. وقيل ليس به، وإنما هو مبتدأٌ وخبرٌ، والباءُ زائدةٌ في المبتدأ. وهو تخريجٌ فاسدُ المعنى؛ لأن الصومَ ليس واجباً على ذلك.

39

قوله: {الذين يُبَلِّغُونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً للذين خَلَوْا، وأَنْ يكونَ مقطوعاً عنه رفعاً ونصباً على إضمارِ «هم» أو أعني أو أمدحُ.

40

قوله: {ولكن رَّسُولَ الله} : العامَّةُ على تخفيف «لكن» ونصبِ رسول. ونصبُه: إمَّا على إضمارِ «كان» لدلالة «كان» السابقة عليها أي: ولكن كان، وإمَّا بالعطفِ على «أبا أَحَدٍ» . والأولُ أليقُ لأنَّ «لكن» ليست عاطفةً لأجلِ الواو، فالأليقُ بها أن تدخلَ على الجملِ كمثل التي لَيَستْ بعاطفةٍ. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بتشديدها؛ على أنَّ «رسولَ الله» اسمُها، وخبرُها محذوفٌ للدلالةِ أي: ولكن رسولَ الله هو أي: محمدٌ. وحَذْفُ خبرها شائعٌ. وأُنْشِد: 3707 - فلو كنتَ ضَبِّيَّاً عَرَفْتَ قَرابتي ... ولكنَّ زَنْجِيَّاً عظيمَ المَشافِرِ أي: أنت. وهذا البيت يَرْوُوْنه أيضاً: ولكنَّ زَنْجيٌّ بالرفع شاهداً على حَذْفِ اسمِها أي: ولكنك. وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع «رسولُ» على الابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: هو. أو بالعكس أي: ولكن هو رسول كقوله: 3704 - ولَسْتُ الشاعرَ السَّفسافَ فيهمْ ... ولكنْ مِدْرَهُ الحربُ العَوانِ أي: ولكن أنا مِدْرَهُ.

قوله: «وخاتم» قرأ عاصمٌ بفتح التاء، والباقون بكسرِها. فالفتح اسمٌ للآلةِ التي يُخْتَمُ بها كالطابَع والقالَبِ لما يُطْبَعُ به ويُقْلَبُ فيه، هذا هو المشهور. وذكر أبو البقاء فيه أوجهاً أُخَرَ منها: أنه في معنى المصدرِ قال: «كذا ذُكِرَ في بعض الأعاريب» . قلت: وهو غَلَطٌ مَحْضٌ كيف وهو يُحْوِجُ إلى تجوُّزٍ وإضمار؟ ولو حُكِي هذا في «خاتِم» بالكسر لكان أقربَ؛ لأنه قد يجيء المصدرُ على فاعِل وفاعِلة. وسيأتي ذلك قريباً. ومنها: أنه اسمٌ بمعنى آخِر. ومنها: أنه فعلٌ ماضٍ مثل قاتَلَ فيكون «النبيين» مفعولاً به قلت: ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله «خَتَم النبيين» . والكسرُ على أنه اسمُ فاعلٍ، ويؤيِّده قراءةُ عبد الله المتقدمة. وقال بعضُهم: هو بمعنى المفتوح، يعني بمعنى آخرهم.

43

قوله: {وَمَلاَئِكَتُهُ} : إمَّا عطفٌ على فاعل «يُصَلِّي» وأغنى الفصلُ بالجارِّ عن التأكيد بالضمير. وهذا عند مَنْ يرى الاشتراكَ أو القَدْرَ المشترك أو المجازَ، لأنَّ صلاةَ الله تعالى غيرُ صلاتِهم، وإمَّا مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ أي: وملائكتُه يُصَلُّون. وهذا عند مَنْ يرى شيئاً ممَّا تقدَّم جائزاً إلاَّ أن فيه بحثاً: وهو أنهم نَصُّوا على أنه إذا اختلفَ مَدْلولا الخبرَيْن فلا يجوزُ حَذْفُ أحدِهما لدلالةِ الآخرِ عليه، وإن كان بلفظٍ واحدٍ فلا تقول: «زيد ضاربٌ وعمروٌ» يعني: وعمروٌ ضاربٌ في الأرض أي: مسافرٌ.

44

قوله: {تَحِيَّتُهُمْ} : يجوزُ أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعوله، وأن يكون مضافاً لفاعلِه، ومفعولِه، على معنى: أنَّ بعضَهم يُحَيِّي

بعضاً. فيَصِحُّ أَنْ يكونَ الضميرُ للفاعلِ والمفعول باعتبارَيْن، لا أنه يكون فاعلاً ومفعولاً مِنْ وجهٍ واحدٍ كقول مَنْ قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] إنه مضافٌ للفاعلِ والمفعولِ.

45

قوله: {شَاهِداً} : حالٌ مقدرةٌ أو مقارِنةٌ لقُرْبِ الزمان.

46

قوله: {بِإِذْنِهِ} : حالٌ أي: مُلْتَبِساً بتسهيله ولا يريدُ حقيقةَ الإِذنِ لأنه مستفادٌ مِنْ «أَرْسلْناك» . قوله: «وسِراجاً» يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على ما تقدم: إمَّا على التشبيه وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا سِراج. وجَوَّزَ الفراء أَنْ يكونَ الأصلُ: وتالياً سِراجاً. ويعني بالسِّراج القرآنَ. وعلى هذا فيكونُ مِنْ عطفِ الصفات وهي لذاتٍ واحدة: لأنَّ التاليَ هو المُرْسَل. وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يُعْطَفَ على مفعول «أَرْسَلْنَاك» وفيه نظرٌ؛ لأنَّ السِّراجَ هو القرآنُ، ولا يُوْصَفُ بالإِرسال بل الإِنزال، إلاَّ أنْ يُقالَ: إنه حُمِلَ على المعنى، كقوله: 370 - 5- عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأيضاً فيُغْتَفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائل.

48

قوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ «أذاهم» مضافاً

لمفعوله أي: اتْرُكْ أذاك لهم أي: عقابَك إياهم، وأن يكون مضافاً لفاعلِه أي: اتركْ ما آذَوْك به فلا تؤاخِذْهم حتى تؤمرَ.

49

قوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} : إنْ قيل: ما الفائدةُ بالإِتيان ب «ثم» ، وحُكْمُ مَنْ طُلِّقَتْ على الفورِ بعد العَقْد كذلك؟ / فالجوابُ: أنه جَرَى على الغالب. وقال الزمخشري: «نَفْيُ التوهُّم عَمَّن عسى يَتَوَهَّمُ تفاوُتَ الحُكْمِ بين أَنْ يُطَلِّقَها قريبة العهدِ بالنكاح، وبين أن يَبْعَدَ عهدُها بالنكاح وتتراخى بها المدةُ في حيالةِ الزوجِ ثم يُطَلِّقها» . قال الشيخ «واستعمل عَسَى صلةً ل» مَنْ «وهو لا يجوز» . قلتُ: يُخَرَّجُ قولُه على ما خُرِّجَ عليه قولُ الشاعر: 3706 - وإني لَرامٍ نَظْرَةً قِبَلَ التي ... لَعَلِّي وإنْ شَطَّتْ نَواها أَزورها وهو إضمارُ القول. قوله: «تَعْتَدُّوْنَها» صفةٌ ل «عِدَّة» و «تَعْتَدُّونها» تَفْتَعِلُونها: إمَّا مِن العَدَدِ، وإمَّا مِن الاعتدادِ أي: تَحْتَسِبُونها أو تَسْتَوْفون عَدَدَها مِنْ قولِك: عَدَّ الدراهمَ فاعتدَّها. أي: استوفى عَدَدها نحو: كِلْتُه فاكتاله، ووَزَنْتُه فاتَّزَنَه. وقرأ

ابن كثير في روايةٍ وأهلُ مكةَ بتخفيف الدال. وفيها وجهان، أحدهما: أنها من الاعتدادِ، وإنما كَرِهوا تضعيفَه فَخَفَّفوه. قاله الرازي قال: «ولو كانَ من الاعتداءِ الذي هو الظلمُ لَضَعُفَ؛ لأنَّ الاعتداءَ يتعدَّى ب على» . قيل: ويجوز أَنْ يكونَ من الاعتداء وحَذَفَ حرفَ الجرِّ أي: تَعتَدُون عليها أي: على العِدَّة مجازاً ثم تَعْتَدُوْنها كقوله: 3707 - تَحِنُّ فَتُبْدِيْ ما بها مِنْ صَبابةٍ ... وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضاني أي: لقضى عليَّ. قال الزمخشري: «وقُرِئ» تَعْتَدُونها «مخففاً أي: تعتدون فيها. كقوله: 3708 - ويومٍ شَهِدْناه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. والمرادُ بالاعتداءِ ما في قولِه: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ} [البقرة: 231] يعني: أنه حَذَفَ الحرفَ كما حَذَفَ في قولِه: ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامِراً ... قليلٍ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ وقيل: معنى تَعْتَدُونها أي: تَعْتَدُوْن عليهنَّ فيها. وقد أنكر ابنُ عطية القراءةَ عن ابن كثير وقال:» غَلِطَ ابنُ ابي بَزَّة عنه «وليس كما قال. والثاني:

أنها من العُدْوان والاعتداء، وقد تقدَّم شَرْحُه، واعتراضُ أبي الفضل عليه: بأنه كان ينبغي أَنْ يتعَدَّى ب» على «، وتقدَّم جوابُه. وقرأ الحسن» تَعْدُّونها «بسكون العين وتشديدِ الدالِ، وهو جمعٌ بين ساكنَيْن على غيرِ حَدَّيْهما.

50

قوله: {مِمَّآ أَفَآءَ} : بيانٌ لِما مَلَكَتْ وليس هذا قَيْداً، بل لو ملكَتْ يمينُه بالشراء كان الحكمُ كذا، وإنما خَرَجَ مَخَرَجَ الغالِب. قوله: «وامرأةً» العامَّةُ على النصب. وفيه وجهان، أحدهما: أنها عطفٌ على مفعولِ «أَحْلَلْنا» أي: وأَحْلَلْنا لك امرأةً موصوفةً بهذين الشرطين. قال أبو البقاء: «وقد رَدَّ هذا قومٌ وقالوا:» أَحْلَلْنا «ماضٍ و» إنْ وَهَبَتْ «وهو صفةُ المرأة مستقبلٌ، فأَحْلَلْنا في موضع جوابِه، وجوابُ الشرط لا يكونُ ماضياً في المعنى» قال: «وهذا ليس بصحيحٍ لأنَّ معنى الإِحلالِ ههنا الإِعلامُ بالحِلِّ إذا وقع الفعلُ على ذلك كما تقول: أَبَحْتُ لك أَنْ تُكلِّمَ فلاناً إنْ سَلَّم عليك» . الثاني: أنه ينتصِبُ بمقدرٍ تقديرُه: ويُحِلُّ لك امرأةً. قوله: «إنْ وَهَبَتْ. . . إنْ أرادَ» هذا من اعتراضِ الشرط على الشرطِ، والثاني هو قيدٌ في الأولِ، ولذلك نُعْرِبه حالاً، لأنَّ الحالَ قيدٌ. ولهذا اشترط الفقهاءُ أن يتقدَّمَ الثاني على الأولِ في الوجود. فلو قال: «إنْ أكلْتِ إنْ ركبْتِ فأنتِ طالقٌ» فلا بُدَّ أنْ يتقدَّم الركوبُ على الأكلِ. وهذا لِتَتَحَقَّقَ الحاليةُ والتقييدُ كما ذكرْتُ لك؛ إذ لو لم يتقدَّمْ لخلا جزءٌ من الأكل غيرُ مقيدٍ بركوبٍ، فلهذا اشترطُوا تقدُّمَ الثاني. وقد مضى تحقيقُ هذا، وأنَّه بشرطِ أَنْ لا تكونَ ثَمَّ قرينةٌ تمنعُ من تقدُّمِ الثاني على الأولِ. كقولك: «إنْ تَزَوَّجْتُكِ إنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدي حُرٌّ» لا يُتَصَوَّرُ هنا تقديمُ الطلاق على التزويج.

إلاَّ أني قد عَرَضَ لي إشكالٌ على ما قاله الفقهاء بهذه الآية: وذلك أن الشرطَ الثاني هنا لا يمكُنُ تقدُّمُه في الوجودِ بالنسبةِ إلى الحكمِ الخاص بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم، لا أنه لا يمكن عقلاً. وذلك أن المفسِّرين فَسَّروا قولَه تعالى: «إنْ أرادَ» بمعنى قبِلَ الهِبَةَ؛ لأنَّ بالقبول منه عليه السلام يَتِمُّ نكاحُه وهذا لا يُتَصَوَّرُ تقدُّمه على الهِبة؛ إذ القبولُ متأخرٌ. وأيضاً فإنَّ القصةَ كانَتْ على ما ذَكَرْتُه مِنْ تأخُّر إرادتِه عن هِبَتِها، وهو مذكورٌ في التفسيرِ. والشيخ لَمَّا جاء إلى ههنا جعلَ الشرطَ الثاني متقدِماً على الأول على القاعدة العامةِ ولم يَسْتَشْكِلْ شيئاً مِمَّا ذكرته. وقد عَرَضْتُ هذا الإِشكالَ على جماعةٍ من أعيان زمانِنا فاعترفوا به، ولم يَظْهر عنه جوابٌ، إلاَّ ما/ قَدَّمْتُه مِنْ أنه ثَمَّ قرينةٌ مانعةٌ من ذلك كما مثَّلْتُ لك آنفاً. وأبو حيوةَ «وامرأة» بالرفع على الابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: أَحْلَلْناها لك أيضاً. وفي قوله: {إِنْ أَرَادَ النبي} التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة بلفظِ الظاهر تنبيهاً على أنَّ سببَ ذلك النبوَّةُ، ثم رَجَعَ إلى الخطاب فقال: خالصةً لك. وقرأ أُبَيُّ والحسنُ وعيسى «أَنْ» بالفتح وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ مِنْ «امرأة» بدلُ اشتمالٍ، قاله أبو البقاء. كأنه قيل: وأَحْلَلْنا لك هِبَةَ

المرأةِ نفسَها لك. الثاني: أنَّه على حَذْفِ لامِ العلَّة أي: لأَنْ وهبت. وزيدُ بن علي «إذ وَهَبَتْ» وفيه معنى العِلِّيَّة. قوله: «خالصةً» العامَّةُ على النصبِ. وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعلِ «وَهَبَتْ» . أي: حالَ كونِها خالصةً لك دونَ غيرك. الثاني: أنها حالٌ من «امرأةٌ» لأنها وُصِفَتْ فتخصَّصَتْ وهو بمعنى الأول. وإليه ذهب الزجَّاج. الثالث: أنها نعتُ مصدرٍ مقدرٍ أي: هِبةً خالصةً. فنصبَها بوَهَبَتْ. الرابع: أنها مصدرٌ مؤكدٌ ك {وَعْدَ الله} [النساء: 122] . قال الزمخشري: «والفاعلُ والفاعلةُ في المصادر غيرُ عزيزَيْن كالخارِج والقاعِد والكاذِبة والعافِية» . يريد بالخارج ما في قولِ الفرزدق: 3709 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا خارِجاً مِنْ فِيَّ زُوْرُ كَلامِ وبالقاعدِ ما في قولهم «أقاعِداً وقد سار الرَّكْبُ» وبالكاذبة ما في قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} . وقد أنكر الشيخُ عليه قولَه «غير عزيزَيْن»

وقال: «بل هما عزيزان، وما وَرَدَ متأوَّلٌ» . وقُرِئ «خالِصَةٌ» بالرفع. فإنْ كانَتْ «خالصةً» حالاً قُدِّرَ المبتدأُ «هي» أي: المرأةُ الواهبةُ. وإن كانَتْ مصدراً قُدِّر: فتلك الحالةُ خالصة. وَ «لك» على البيان أي: أعني لك نحو: سَقْياً لك. قوله: «لكيلا» متعلِّقٌ ب «خالصةً» وما بينهما اعتراضٌ و «مِنْ دون» متعلِّقٌ ب «خالصةً» كما تقول: خَلَصَ مِنْ كذا.

51

قوله: {وَمَنِ ابتغيت} : يجوزُ في «مَنْ» وجهان. أحدهما: أنها شرطيةٌ في محلِّ نصبٍ بما بعدها. وقوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} جوابُها. والمعنى: مَنْ طَلَبْتَها من النسوةِ اللاتي عَزَلْتَهُنَّ فليس عليك في ذلك جُناحٌ. الثاني: أَنْ تكونَ مبتدأةً. والعائدُ محذوفٌ. وعلى هذا فيجوزُ في «مَنْ» أَنْ تكونَ موصولةً، وأنْ تكونَ شرطيةً و {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} خبرٌ أو جوابٌ أي: والتي ابتَغَيْتَها. ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ ضميرٍ راجعٍ إلى اسم الشرط من الجوابِ أي: في ابتغائِها وطَلَبها. وقيل: في الكلامِ حذفُ معطوفٍ تقديرُه: ومَنِ ابتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ومَنْ لم تَعْزِلْ سواءٌ لا جُناح عليك كما تقول: مَنْ لَقِيَكَ مِمَّن لم يَلْقَك جميعُهم لك شاكرٌ. تريد: مَنْ لَقِيَكَ ومَنْ لم يَلْقَكَ. وهذا فيه إلغازٌ. قوله: «ذلك» أي: التفويضُ إلى مَشيئتِك أقربُ إلى قرَّة أعينِهنَّ. والعامَّةُ «تَقَرَّ» مبنياً للفاعل مُسْنداً ل «أَعْيُنُهُنَّ» . وابنُ محيصن «تُقِرَّ» مِنْ أَقَرَّ رباعياً. وفاعلُه ضمير المخاطب. «أعينَهُنَّ» نصبٌ على المفعولِ به.

وقُرِئ «تُقَرَّ» مبنياً للمفعول. «أعينهُنَّ» رفعٌ لقيامِه مَقامَ الفاعل. وقد تَقَدَّم معنى «قُرَّة العين» في مريم. قوله: «كلُّهن» العامةُ على رفعِه توكيداً لفاعلِ «يَرْضَيْن» . وأبو أناس بالنصب توكيداً لمفعولِ «آتيتهُنَّ» .

52

قوله: {لاَّ يَحِلُّ} : قرأ أبو عمرٍو «تَحِلُّ» بالتأنيث اعتباراً باللفظ. والباقون بالياء؛ لأنه جنسٌ وللفصل أيضاً. قوله: «مِنْ بَعْدُ» أي: مِنْ بعدِ اللاتي نَصَصْنا لك على إحْلالِهِنَّ. وقد تقدَّم. وقيل: مِنْ بعدِ إباحةِ النساءِ المسلماتِ دونَ الكتابيات. قوله: «مِنْ أزواجٍ» مفعولٌ به. و «مِنْ» مزيدةٌ فيه لاستغراق الجنس. قوله: «ولو أعجبكَ» كقولِه: «أَعْطُوا السائل ولو على فَرَس» أي: في كل حال، ولو على هذه الحالِ المنافية. قوله: «إلاَّ ما مَلَكَتْ» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مستثنى من «النساء» ، فيجوز فيه وجهان: النصبُ على أصل الاستثناء، والرفعُ على البدل. وهو المختار. الثاني: أنه مستثنى من أزواج. قاله أبو البقاء. فيجوزُ أَنْ يكونَ في موضعِ

نصبٍ على أصل الاستثناء، وأنْ يكونَ/ في موضع جَرّ بدلاً مِنْ «هنَّ» على اللفظِ، وأن يكونَ في موضع نصبٍ بدلاً مِنْ «هُنَّ» على المحلِّ. وقال ابن عطية: «إنْ كانَتْ» ما «مصدريةً فهي في موضعِ نصبٍ لأنه مِنْ غير الجنس. وليس بجيد؛ لأنه قال بعد ذلك: والتقديرُ: إلاَّ مِلْك اليمين. ومِلْك بمعنى مَمْلوك» . انتهى. وإذا كان بمعنى مَمْلوك صار من الجنس، وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعاً. على أنه على تقدير انقطاعه لا يَتَحَتَّمُ نصبُه بل يجوزُ عند تميم الرفعُ بدلاً، والنصبُ على الأصلِ كالمتصل، بشرط صحةِ توجُّهِ العاملِ إليه كما حَقَّقْتُه غيرَ مرة. وهذا يمكنُ توجُّهُ العاملِ إليهِ ولكنَّ اللغةَ المشهورةَ لغةُ الحجازِ: وهو لزومُ النصبِ في المنقطعِ مطلقاً كما ذكره أبو محمدٍ آنفاً.

53

قوله: {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنها في موضعِ نصبٍ على الحالِ تقديرُه: إلاَّ مَصْحوبين بالإِذن. الثاني: أنها على إسقاطِ باءِ السببِ تقديرُه: إلاَّ بسببِ الإِذنِ لكم كقولِه: فاخْرُجْ به أي بسببه. الثالث: أنه منصوبٌ على الظرف. قال الزمخشري: «إلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ: في معنى الظرف تقديره: إلاَّ وقتَ أَنْ يُؤْذَنَ لكم. و» غيرَ ناظرين «حالٌ مِنْ» لا تَدْخُلوا «، وقع الاستثناء على الحالِ والوقتِ معاً، كأنه قيل: لا تَدْخُلوا بيوتَ النبيِّ إلاَّ وقتَ الإِذن، ولا تَدْخُلوا إلاَّ غير ناظرين إناه» . وردَّ الشيخُ الأولَ: بأنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنَّ «أنْ» المصدريةَ لا تقعُ

موقعَ الظرفِ. لا يجوز: «آتيكَ أَنْ يصيحَ الديك» وإن جاز ذلك في المصدرِ الصريح نحو: آتيك صياحَ الديك. ورَدَّ الثاني: بأنه لا يقعُ بعد «إلاَّ» في الاستثناء إلاَّ المستثنى أو المستثنى منه أو صفتُه. ولا يجوز في ما عدا هذا عند الجمهور. وأجاز ذلك الكسائيُّ والأخفش. وأجازا «ما قام القومُ إلاَّ يومَ الجمعة ضاحِكِين» . و «إلى طعامٍ» متعلقٌ ب «يُؤْذَنَ» ؛ لأنه بمعنى: إلاَّ أن تُدْعَوا إلى طعام. وقرأ العامةُ «غيرَ ناظرين» بالنصب على الحال كما تقدم، فعند الزمخشري ومَنْ تابعه: العاملُ فيه «يُؤْذَنَ» وعند غيرِهم العاملُ فيه مقدرٌ تقديره: ادْخُلوا غيرَ ناظرين. وقرأ ابن أبي عبلة «غيرِ» بالجرِّ صفةً ل طعام. واستضعفها الناسُ مِنْ أجل عدمِ بروزِ الضميرِ لجريانِه على غيرِ مَنْ هُو له، فكان مِنْ حقِّه أَنْ يُقال: غيرَ ناظرين إناه أنتم. وهذا رأيُ البصريين. والكوفيون يُجيزون ذلك إن لم يُلْبَسْ كهذه الآيةِ. وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ وفروعُها وما قيل فيها. وهل ذلك مختصٌّ بالاسمِ أو يَجْري في الفعل؟ خلافٌ مشهور قَلَّ مَنْ يَضْبِطُه. وقرأ العامَّةُ «إناه» مفرداً أي: نُضْجَه. يقال: أَنَى الطعام إنىً نحو: قَلاه قِلىً. وقرأ الأعمشُ «آناءه» جمعاً على أفْعال فأُبْدِلَتْ الهمزةُ الثانية ألفاً، والياءُ همزةً لتطرُّفها بعد ألفٍ زائدةٍ، فصار في اللفظ كآناء من قوله: {وَمِنْ آنَآءِ الليل} [طه: 130] وإن كان المعنى مختلفاً.

قوله: «ولاَ مُسْتَأْنِسِين» يجوز أَنْ يكونَ منصوباً عطفاً على «غيرَ» أي: لا تَدْخُلوها غيرَ ناظرين ولا مستأنِسين. وقيل: هذا معطوفٌ على حالٍ مقدرة أي: لا تدخُلوا هاجمين ولا مستأنِسين، وأنْ يَكونَ مجروراً عطفاً [على] «ناظرين» أي: غيرَ ناظرين وغيرَ مُسْتَأْنسين. قوله: «لحديثٍ» يُحتمل أَنْ تكونَ لامَ العلةِ أي: مستأنسين لأجل أَنْ يُحَدِّثَ بعضُكم بعضاً، وأن تكونَ المقوِّيةَ للعامل لأنه فرعٌ أي: ولا مُسْتأنسين حديثَ أهلِ البيت أو غيرِهم. قوله: «إنَّ ذلكم» أي: إنَّ انتظارَكم واستئناسَكم فأُشير إليهما إشارةَ الواحدِ كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . أي: إنَّ المذكور. وقُرئ «لا يَسْتَحِي» بياءٍ واحدةٍ، والأخرى محذوفةٌ. واخْتُلِفَ فيها: هل هي الأولى أو الثانية؟ وتقدَّم ذلك في البقرة، وأنها روايةٌ عن ابن كثير. وهي لغةُ تميمٍ. يقولون: اسْتَحى يَسْتَحي، مثل: اسْتَقَى يَسْتقي. وأنشدْتُ عليه هناك ما سُمِع فيه. قوله: «أَنْ تُؤْذُوا» هي اسمُ كان. و «لكم» الخبرُ. و {وَلاَ أَن تنكحوا} عطفٌ على اسم كان. و «أبداً» ظرف.

55

[قوله] : {واتقين} : عطف على محذوفٍ أي: امْتَثِلْن ما أُمِرْتُنَّ به واتَّقين.

56

قوله: {وَمَلاَئِكَتَهُ} : العامَّة على النصبِ نَسَقاً على اسم «إنَّ» . و «يُصَلُّون» هل هو خبرٌ عن الله وملائكتِه، أو عن الملائكةِ فقط، وخبرُ الجلالةِ محذوفٌ لتغايُرِ الصَّلاتَيْن؟ خلافٌ تقدَّم قريباً. وقرأ ابنُ عباسٍ ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ «وملائكتُه» رفعاً، فيُحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على محلِّ اسم «إنَّ» عند بعضهم/ وأَنْ يكونَ مبتدأً، والخبرُ محذوفٌ، وهو مذهبُ البصريين. وقد تقدَّم فيه بحثٌ نحو: «زيدٌ ضاربٌ وعمرٌو» أي ضاربٌ في الأرض.

57

قوله: {يُؤْذُونَ الله} : فيه أوجهٌ أي: يقولون فيه ما صورتُه أذىً، وإنْ كان سبحانه وتعالى لا يَلْحَقُه ضررُ ذلك حيث وصفُوْه بما لا يَليقُ بجلالِه: مِنِ اتِّخاذِ الأَنْداد، ونسبةِ الولد والزوجة إليه؛ وأَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: أولياءَ الله. وقيل: أتى بالجلالةِ تعظيماً، والمرادُ: يُؤْذُون رسولي كقولِه تعالى: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] .

58

قوله: {فَقَدِ احتملوا} : خبرُ «والذين» . ودخلتِ الفاءُ لشِبْهِ الموصولِ بالشرط.

59

قوله: {يُدْنِينَ} : كقوله: {قُل لِّعِبَادِيَ. . . يُقِيمُواْ} [إبراهيم: 31] و «مِنْ» للتبعيض.

قوله: «ذلك أَدْنَى» أي: إدناءُ الجلابيبِ أقربُ إلى عِرْفانهنَّ فعَدَمِ أذاهنَّ.

60

قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} : أي: إلاَّ زماناً قليلاً، أو إلاَّ جِواراً قليلاً. وقيل: «قليلاً» نصبٌ على الحال مِنْ فاعل «يُجاوِرونك» أي: إلاَّ أَقِلاَّءَ أَذِلاَّء بمعنى: قليلين. وقيل: «قليلاً» منصوبٌ على الاستثناء أي: لا يُجاوِرُكَ إلاَّ القليلُ منهم على أذلِّ حالٍ وأقلِّه.

61

قوله: {مَّلْعُونِينَ} : حالٌ مِنْ فاعل «يُجاوِرونك» قاله ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء. قال ابن عطية: «لأنه بمعنى يَنْتَفُوْن منها ملعونين» . وقال الزمخشري: «دَخَلَ حرفُ الاستثناء على الحالِ والظرفِ معاً كما مَرَّ في قوله: {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ} [الأحزاب: 53] . قلت: وقد تقدَّم بحثُ الشيخِ معه وهو عائدٌ هنا. وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ ينتَصِبَ على الشتمِ. وجَوَّز ابنُ عطية أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ» قليلاً «على أنه حال كما تقدَّم تقريرُه. ويجوزُ أَنْ يكونَ» مَلْعونين «نعتاً ل» قليلاً «على أنه منصوبٌ على الاستثناءِ مِنْ واو» يُجاوِرُوْنَك «كما تقدَّم تقريرُه. أي: لا يُجاورُك منهم أحدٌ إلاَّ قليلاً ملعوناً. ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب» أُخِذُوا «الذي هو جوابُ الشرطِ. وهذا

عند الكسائيِّ والفراء فإنهما يُجيزان تقديمَ معمولِ الجواب على أداةِ الشرط نحو:» خيراً إْن تَأْتِني تُصِبْ «. وقد منع الزمخشريُّ ذلك فقال:» ولا يَصِحُّ أنْ ينتصِبَ ب «أُخِذُوا» لأنَّ ما بعد كلمة الشرطِ لا يَعْمل فيما قبلَها «. وهذا منه مَشْيٌ على الجادَّةِ. وقوله:» ما بعد كلمةِ الشرط «يشملُ فعلَ الشرطِ والجوابِ. فأمَّا الجوابُ فتقدَّم حكمُه، وأمَّا الشرطُ فأجاز الكسائيُّ أيضاً تقديمَ معمولِه على الأداة نحو:» زيداً إنْ تَضْرِبْ أُهِنْكَ «. فتلخَّص في المسألة ثلاثةُ مذاهبَ: المَنعُ مطلقاً، الجوازُ مطلقاً، التفصيلُ: يجوز تقديمُه معمولاً للجواب، ولا يجوزُ تقديمُه معمولاً للشرط، وهو رأيُ الفرَّاء. قوله:» وقُتِّلوا «العامَّةُ على التشديد. وقُرِئ بالتخفيف. وهذه يَرُدُّها مجيءُ المصدرِ على التَّفْعيل إلاَّ أَنْ يُقالَ: جاء على غيرِ صَدْرِه. وقوله:» سُنَّةُ اللَّهِ «قد تقدَّم نظيرها.

63

قوله: {لَعَلَّ الساعة} : الظاهرُ أنَّ «لعلَّ» تُعَلِّق كما يُعَلِّق التمني. و «قريباً» خبرُ كان على حَذْفِ موصوفٍ أي: شيئاً قريباً. وقيل: التقديرُ: قيامَ الساعة، فرُوْعِيَتِ الساعةُ في تأنيث «تكون» ، ورُوْعي المضافُ

المحذوفُ في تذكير «قريباً» . وقيل: قريباً كَثُر استعمالُه استعمالَ الظروفِ فهو هنا ظرفٌ في موضعِ الخبر.

65

قوله: {فِيهَآ} : أي: في السَّعير لأنها مؤنثة، أو لأنه في معنى جهنم. و «لا يَجِدُون» حالٌ ثانية أو مِنْ «خالدين» .

66

قوله: {يَوْمَ} : معمول ل «خالدين» ، أو ل «يَجدون» ، أو ل «نصيراً» أو ل «اذْكُرْ» ، أو ل «يقولون» بعده. وقرأ العامَّةُ «تُقَلَّبُ» مبنياً للمفعول. «وجوهُهم» رفعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وقرأ الحسن وعيسى والرؤاسي «تَقَلَّبُ» بفتح التاء أي: تتقلَّب. «وجوهُهم» فاعلٌ به. أبو حيوةَ «نُقَلِّبُ» بالنون أي نحن. «وجوهَهم» بالنصب. وعيسى البصرة «تُقَلِّبُ» بضمِّ التاءِ وكسرِ اللام أي: تُقَلِّبُ السَّعيرُ أو الملائكةُ. «وجوهَهم» بالنصب على المفعول به. «يقولون» حالٌ و «يا لَيْتَنا» مَحْكِيٌّ.

67

قوله: {سَادَتَنَا} : قرأه ابنُ عامر في آخرين بالجمع بالألف والتاء. والباقون «سادَتنا» على أنه جمعُ تكسير غيرُ مجموعٍ بألفٍ وتاء. ثمَّ «سادة» يجوز أن يكونَ جمعاً لسَيِّد، ولكنْ لا ينقاسُ؛ لأنَّ فَيْعِلاً لا يُجْمع على فَعَلَة، وسادَة فَعَلَة؛ إذ الأصلُ سَوَدَة. ويجوزُ أنْ يكونَ جمعاً لسائدِ نحو: فاجِر وفَجَرة، وكافِر وكَفَرة وهو أقربُ إلى القياس/ ممَّا قبله، وابنُ عامرٍ جمع هذا ثانياً بالألفِ والتاء، وهو غيرُ مقيسٍ أيضاً نحو: بيُوتات وجِمالات.

68

وقرأ «كبيراً» بالباءِ الموحَّدة عاصمٌ. والباقون بالمثلثة، وتقدَّم معناهما في البقرة.

69

قوله: {عِندَ الله} : العامَّةُ على «عند» الظرفية المجازية. وابن مسعود والأعمشُ وأبو حيوةَ «عَبْداً» من العبودية، «لله» جارٌّ ومجرورٌ وهي حسنةٌ. قال ابن خالويه: «صَلَّيْتُ خلفَ ابن شنبوذ في رمضانَ فسمعتُه يقرأ بقراءةِ ابنِ مسعود هذه» . قلت: وكان - رحمه اللَّهُ - مُولعاً بنَقْلِ الشاذِّ، وحكايتُه مع ابن مُقْلة الوزيرِ وابن مجاهدٍ في ذلك مشهورةٌ. و «ما» في «ممَّا قالُوا» : إمَّا مصدريةٌ، وإمَّا بمعنى الذي.

72

وقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا} : إمَّا حقيقةٌ، وإما تمثيلٌ وتخييلٌ. وقوله: «فَأَبَيْنَ» أتى بضميرِ هذه كضميرِ الإِناث؛ لأنَّ جَمْعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يجوز فيه ذلك، وإنْ كان مذكراً، وإنما ذكَرْتُه لئلا يُتَوَهَّم أنه قد غَلَّبَ المؤنثَ وهو «السماوات» على المذكر وهو «الجبالُ» .

73

قوله: {لِّيُعَذِّبَ} : متعلِّقٌ بقولِه «وحَمَلها» فقيل: هي لامُ الصيرورةِ لأنه لم يَحْملها لذلك. وقيل: لامُ العلةِ على المجاز؛ لَمَّا كانت نتيجةُ حَمْلِه ذلك جُعِلَتْ كالعلَّة الباعثةِ. ورَفَعَ الأعمشُ «ويتوبُ» استئنافاً.

سبأ

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {الذي لَهُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً، وأنْ يكونَ مقطوعاً نصباً أو رفعاً على المدحِ فيهما. و {مَا فِي السماوات} يجوز أن يكونَ فاعلاً به «له» وهو الأحسنُ، وأَنْ يكونَ مبتدأ. قوله: «في الآخرةِ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفس الحمد، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ به خبرُه. «وهو الحكيمُ» يجوزُ أَنْ يكونَ معترضاً إذا أَعْرَبْنا «يَعْلَمُ» حالاً مؤكدةً مِنْ ضمير الباري تعالى، ويجوزُ أَنْ يكونَ «يَعْلَمُ» مستأنفاً، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير في «الخبير» .

2

قوله: {وَمَا يَنزِلُ} : العامَّةُ على «يَنْزِلُ» مفتوحَ الياءِ، مخففَ الزاي مُسنَداً إلى ضميرِ «ما» . وعلي رضي الله عنه والسلمي بضمِّها وتشديد الزاي أي الله تعالى.

3

قوله: {بلى} : جوابٌ لقولِهم «لا تَأْتينا» وما بعده قسمٌ على ذلك. وقرأ العامَّةُ «لَتَأْتِيَنَّكم» بالتأنيث. وطلق بالياء فقيل: أي: البعثُ.

وقيل: هي على معنى الساعة، أي: اليوم. قاله الزمخشري. ورَدَّه الشيخ بأنه ضرورةٌ، كقوله: 3710 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أَرْضَ أبْقَلَ إبْقالَها وليس مثلَه. وقيل: أي الله بمعنى أمْرُه. ويجوز على قياسِ هذا الوجهِ أَنْ يكونَ «عالمُ» فاعلاً ل «يَأْتَيَنَّكم» في قراءةِ مَنْ رفعه. قوله: «عالم» قرأ الأخَوان «عَلاّم» على صيغة المبالغة وخفضِه نعتاً ل رَبِّي «أو بدلاً منه وهو قليلٌ لكونِه مشتقاً. ونافع وابن عامر» عالمُ «بالرفع على هو عالم أو على أنه مبتدأٌ، وخبره» لا يَعْزُب «أو على أنَّ خبرَه مضمرٌ أي هو. ذكره الحوفي. وفيه بُعْد. والباقون» عالم «بالخفض على ما تقدَّم. وإذا جُعِل نعتاً فلا بُدَّ مِنْ تقدير تعريفِه. وقد تقدَّم أنَّ كلَّ صفةٍ يجوزُ أن تتعرَّفَ بالإِضافةِ إلاَّ الصفةَ المشبهةَ. وتقدَّمتْ قراءتا» يَعْزُب «في سورةِ يونس. قوله:» ولا أَصْغَرُ «العامَّةُ على رفعِ» أصغر «و» أكبر «. وفيه وجهان، أحدُهما: الابتداء، والخبرُ {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} . والثاني: النسقُ على» مثقالُ «وعلى

هذا فيكونُ {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} تأكيداً للنفيِ في» لا يَعْزُبُ «كأنه قال: لكنه في كتاب مُبين. وقرأ قتادةُ والأعمش، ورُوِيَتْ عن أبي عمرو ونافع أيضاً، بفتح الراءَيْن. وفيهما وجهان، أحدهما: أنها» لا «التبرئةُ بُني اسمُها معها. والخبرُ قولُه: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} . الثاني: النسقُ على» ذَرَّةٍ «. وتقدَّم في يونس أنَّ حمزةَ قرأ بفتح راءِ» أصغر «و» أكبر «وهنا وافقَ على الرفع. وتقدَّم البحثُ هناك مُشْبَعاً. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: هَلاَّ جاز عطفُ «ولا أصغرُ» على «مثقال» ، وعطف «ولا أكبرَ» على «ذَرَّة» . قلت: يَأْبَى ذلك حرفُ الاستثناءِ إلاَّ إذا جَعَلْتَ الضميرَ في «عنه» للغيبِ، وجَعَلْتَ «الغيب» اسماً للخَفِيَّات قبل أنْ تُكتبَ في اللَّوْح؛ لأنَّ إثباتَها في اللوحِ نوعٌ من البروزِ عن الحجاب على معنى: أنه لا يَنْفَصِلُ عن الغيب شيءٌ ولا يَزِلُّ عنه/ إلاَّ مَسْطوراً في اللوح «. قال الشيخ:» ولا يُحتاجُ إلى هذا التأويلِ إذا جَعَلْنا الكتابَ ليس اللوحَ المحفوظ «. وقرأ زيد بن علي بخفض راءَيْ» أصغر «و» أكبر «وهي مُشْكلةٌ جداً. وخُرِّجَتْ على أنهما في نية الإِضافة؛ إذ الأصلُ: ولا أصغرِه ولا أكبره، وما

لا ينصرف إذا أُضيفَ انْجَرَّ في موضعِ الجرِّ، ثم حُذِفَ المضافُ إليه ونُوي معناه فَتُرِك المضَافُ بحالِه، وله نظائرُ كقولهم: 3711 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بين ذراعَيْ وجَبْهَةِ الأسَدِ و [قوله:] 3712 - يا تَيْمَ عَدِيٍّ. . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . على خلافٍ. وقد يُفَرَّقُ: بأن هناك ما يَدُلُّ على المحذوفِ لفظاً بخلاف هنا. وقد رَدَّ بعضُهم هذا التخريجَ لوجود «مِنْ» ؛ لأنَّ أفعلَ متى أُضيف لم يجامِعْ «مِنْ» . وأُجيب عن ذلك بوجهين، أحدهما: أنَّ «مِنْ» ليسَتْ متعلقةً ب أَفْعَل؛ بل بمحذوفٍ على سبيل البيانِ لأنه لَمَّا حُذِفَ المضافُ إليه انبهم المضافُ فتبَيَّن ب «مِنْ» ومجرورِها أي: أعني من ذلك. والثاني: أنَّه مع تقديرِه للمضافِ إليه نُوي طَرْحُه، فلذلك أُتي ب «مِنْ» . ويدلُّ على ذلك أنه قد وَرَدَ التصريحُ بالإِضافةِ مع وجود «مِنْ» قال الشاعر:

3713 - نحن بغَرْسِ الوَدَي أَعْلَمُنا ... مِنَّا بركضِ الجيادِ في السُّدَفِ وخُرِّجَ على هذين الوجهين: إمَّا التعلُّقِ بمحذوفٍ، وإمَّا نيةِ اطِّراحِ المضاف إليه. قلت: وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين أل ومِنْ في أفعلَ كقوله: 3714 - ولستُ بالأكثرِ منهم حَصَىً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذه توجيهاتُ شذوذٍ، لا يُطْلَبُ فيها أكثرُ مِنْ ذلك فلْيُقْنَعْ بمثله.

4

قوله: {لِّيَجْزِيَ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه متعلِّقٌ ب لا يَعْزُب. وقال أبو البقاء: «يتعلَّقُ بمعنى لا يَعْزُب، أي يُحْصي ذلك ليَجزيَ» وهو حسنٌ، أو بقوله: «لتَأْتِيَنَّكم» أو بالعاملِ في قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} أي: إلاَّ استقرَّ ذلك في كتاب مبينٍ ليجْزِيَ. وتقدم في الحج قراءتا «مُعاجزين» .

5

قوله: {أَلِيمٌ} : قرأ ابن كثير وحفص هنا، وفي الجاثية، «أليمٌ» بالرفع. والباقون بالخفض. فالرفعُ على أنه نعتٌ ل «عذاب»

والخفضُ على أنه نعتٌ ل «رِجْز» إلاَّ أن مكيَّاً ضَعَّفَ قراءةَ الرفعِ واستبعدها قال: «لأنَّ الرِّجْزَ هو العذابُ فيصير التقديرُ: عذابٌ أليمٌ مِنْ عذاب، وهذا معنى غيرُ متَمكِّنٍ» . قال: «والاختيارُ خفضُ» أليم «لأنه أصَحُّ في التقدير والمعنى؛ إذ تقديرُه: لهم عذاب مِنْ عذاب أليم، أي: هذا الصنفُ مِنْ أصنافِ العذابِ لأنَّ العذابَ بعضُه آلمُ مِنْ بعض» . قلت: وقد أُجيبَ عَمَّا قاله مكيٌّ: بأنَّ الرِّجْزَ مُطلق العذاب، فكأنه قيل لهم: هذا الصنفُ من العذابِ من جنسِ العذاب. وكأن أبا البقاءِ لَحَظَ هذا حيث قال: «وبالرفعِ صفةً ل عذاب، والرِّجْزُ مُطْلَقُ العذابِ» . قوله: «والذين سَعَوْا» يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنها مبتدأٌ و «أولئك» وما بعده خبرُه. والثاني: أنه عطفٌ على الذين قبلَه أي: ويَجْزي الذين سَعَوْا، ويكون «أولئك» الذي بعده مستأنفاً، و «أولئك» الذي قبله وما في حَيِّزه معترضاً بين المتعاطفَيْن.

6

قوله: {وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم} : فيه وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على «ليَجْزِيَ» قال الزمخشري: «أي: وليعلمَ الذين أُوتُوا العِلْمَ عند مجيءِ الساعة» . قلت: إنما قَيَّده بقولِه: «عند مجيءِ السَّاعةِ» لأنه عَلَّق «ليجزيَ» بقوله: «لتأتينَّكم» ؛ فبنى هذا عليه، وهو من أحسنِ ترتيب. والثاني: أنه مستأنَفٌ أخبر عنهم بذلك، و «الذي أُنْزِلَ» هو المفعول الأولُ و «هو» فصلٌ و «الحقَّ» مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الرؤيةَ عِْلمية.

وقرأ ابن أبي عبلة «الحقُ» بالرفع على أنه خبرُ «هو» . والجملةُ في موضعِ المفعول الثاني وهو لغةُ تميمٍ، يجعلون ما هو فصلٌ مبتدأً، و «مِنْ رَبِّك» حالٌ على القراءتين. قوله: «ويَهْدِي» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مستأنفٌ. وفي فاعله احتمالان، أظهرهما: أنه ضميرُ الذي أُنْزِل. والثاني: ضميرُ اسمِ الله ويَقْلَقُ هذا لقولِه إلى صراط العزيز؛ إذ لو كان كذلك لقيل: إلى صراطه. ويُجاب: بأنه مِنْ الالتفاتِ، ومِنْ إبرازِ المضمر ظاهراً تنبيهاً على وَصْفِه بها بين الصفتين. الثاني من الأوجه المتقدمة: أنه معطوفٌ/ على موضع «الحقَّ» و «أَنْ» معه مضمرةٌ تقديره: هو الحقَّ والهداية. الثالث: أنه عطفٌ على «الحق» عطفُ فعلٍ على اسم لأنه في تأويلِه كقوله تعالى: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] أي: وقابضاتٍ، كما عُطِفَ الاسمُ على الفعلِ لأن الفعلَ بمعناه. كقول الشاعر: 3715 - فأَلْفَيْتُه يوماً يُبير عدوَّه ... وبحرَ عطاءٍ يستخِفُّ المعابرا كأنه قيل: ولِيَروْه الحقَّ وهادياً. الرابع: أنَّ «ويَهْدي» حالٌ من «الذي أُنْزِل» ، ولا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ أي: وهو يَهْدي نحو: 3716 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مالِكا وهو قليلٌ جداً.

7

قوله: {إِذَا مُزِّقْتُمْ} : «إذا» منصوبٌ بمقدرٍ أي: تُبْعَثون وتُجْزَوْن وقتَ تمزيقكم لدلالةِ {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} عليه. ولا يجوز أن يكونَ العاملُ «يُنَبِّئكم» لأن التنبئةَ لم تقعْ ذلك الوقتَ. ولا «خَلْقٍ جديدٍ» لأنَّ ما بعد «إنَّ» لا يعمل فيما قبلها. ومَنْ تَوَسَّعَ في الظرف أجازه. هذا إذا جَعَلْنا «إذا» ظرفاً مَحْضاً. فإنْ جَعَلْناه شرطاً كان جوابُها مقدراً أي: تُبْعَثون، وهو العاملُ في «إذا» عند جمهور النحاة. وجَوَّز الزجَّاج والنحاس أن يكون معمولاً ل «مُزِّقْتُمْ» . وجعله ابنُ عطية خطأً وإفساداً للمعنى. قال الشيخ: «وليس بخطأ ولا إفسادٍ. وقد اخْتُلف في العامل في» إذا «الشرطية، وبَيَّنَّا في» شرح التسهيل «أنَّ الصحيحَ أنَّ العامَل فيها فعلُ الشرط كأخواتِها من أسماء الشرط» . قلت: لكنَّ الجمهورَ على خلافِه. ثم قال الشيخ: «والجملةُ الشرطيةُ يُحتمل أَنْ تكونَ معمولة ل» يُنَبِّئُكم «لأنه في معنى: يقول لكم إذا مُزِّقْتُمْ: تُبْعَثُون. ثم أكَّد ذلك بقوله: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} . ويُحتمل أن يكون {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ} مُعلِّقاً ل» يُنَبِّئكم «سادًّا مَسَدَّ

المفعولين، ولولا اللام لفُتِحَتْ» إنَّ «وعلى هذا فجملةُ الشرطِ اعتراضٌ. وقد منع قومٌ التعليقَ في» أعلم «وبابِها، والصحيحُ جوازُه. قال: 3717 - حَذارِ فقد نُبِّئْتُ إنكَ لَلَّذيْ ... سَتُجْزَى بما تَسْعَى فتسعدَ أو تَشْقَى وقرأ زيد بن علي بإبدالِ الهمزةِ ياءً. وعنه» يُنْبِئُكم «من أَنْبأ كأكرم. ومُمَزَّقٌ فيه وجهان، أحدهما: أنه اسمُ مصدرٍ، وهو قياسُ كلِّ ما زاد على الثلاثة أي: يجيءُ مصدرُه وزمانُه ومكانُه على زِنَةِ اسم مفعولِه أي: كلَّ تمزيق. والثاني: أنه ظرفُ مكانٍ. قاله الزمخشري، أي: كلَّ مكانِ تمزيقٍ من القبورِ وبطون الوَحْشِ والطير. ومِنْ مجيءِ مُفَعَّل مجيءَ التفعيلِ قوله: 3718 - ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القوافِيْ ... فلا عِيَّاً بهنَّ ولا اجْتِلابا أي: تَسْريحي. والتَّمْزِيق: التخريقُ والتقطيع. يُقال: ثوب مُمَزَّق ومَمْزوق. ويُقال: مَزَقه فهو مازِقٌ ومَزِقٌ أيضاً. قال:

3719 - أتاني أنهم مَزِقُون عِرْضِيْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال الممزق العبدي - وبه سُمِّي المُمَزَّق: 3720 - فإنْ كنتُ مأكولاً فكن خيرَ آكلٍ ... وإلاَّ فأدْرِكْني ولَمَّا أُمَزَّقِ أي: ولما أُبْلَ وأُفْنَ. و» جديد «عند البصريين بمعنى فاعِل يقال: جَدَّ الشيءُ فهو جادُّ وجديد، وعند الكوفيين بمعنى مفعول مِنْ جَدَدْتُه أي: قَطَعْتُه.

8

قوله: {أفترى} : هذه همزةُ استفهامٍ. وحُذِفَتْ لأجلها همزةُ الوصل، فلذلك تَثْبُتُ هذه الهمزةُ وصلاً وابتداءً. وبهذه الآيةِ استدلَّ الجاحظُ على أنَّ الكلامَ ثلاثةُ أقسامٍ: صدقٍ، كذبٍ، لا صدقٍ ولا كذبٍ. ووَجْهُ الدلالةِ منه على القسمِ الثالث أنَّ قولَه: {أَم بِهِ جِنَّةٌ} لا جائزٌ أن يكون كذباً لأنه قسيمُ الكذبِ، وقسيمُ الشَيءِ غيرُه، ولا جائزٌ أن يكون صِدْقاً لأنهم لم يعتقدوه، فثبت قسمٌ ثالث. وقد أجيب عنه بأن المعنى: أم لم يَفْتَرِ. ولكن عَبَّر عن هذا بقولهم {أَم بِهِ جِنَّةٌ} لأن المجنونَ لا افتراءَ له. والظاهرُ في «أم» هذه متصلةٌ؛ لأنها تتقدَّرُ بأي الشيئين. ويجابُ بأحدِهما، كأنه قيل: أيُّ الشيئين واقعٌ: افتراؤه الكذبَ أم كونُه مجنوناً؟

ولا يَضُرُّكونُها بعدها جملةٌ؛ لأنَّ الجملةَ بتأويلِ المفردِ كقوله: / 3721 - لا أُبالي أَنَبَّ بالحَزْنِ تَيْسٌ ... أم جفاني بظهرِ غَيْبٍ لئيمُ ومثلُه قولُ الآخر: 3722 - لَعَمْرُك ما أدْري وإنْ كنتُ دارياً ... شُعَيْثُ ابن سَهْمٍ أم شُعَيْثُ ابنُ منقرِ «ابن منقر» خبرٌ، لا نعت. كذا أنشده بعضُهم مستشهداً على أنها جملةٌ، وفيه حَذْفُ التنوين مِمَّا قبل «ابن» وليس بصفةٍ. وقد عَرَفْتَ ما أَشَرْتُ إليه هنا من سورة التوبة.

9

قوله: {أَفَلَمْ} : فيه الرأيان المشهوران: قدَّره الزمخشري: أعَمُوْا فلم يَرَوْا، وغيرُه يَدَّعِي أن الهمزةَ مقدَّمةٌ على حرفِ العطف. قوله «من السماء» بيانٌ للموصولِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً فتتعلَّقَ به أيضاً. قيل: وثَمَّ حالٌ محذوفةٌ تقديرُه: أفلم يَرَوْا إلى كذا مقهوراً تحت قدرتِنا أو مُحيطاً بهم. ثم قال: إنْ نَشَأْ. قوله: «إنْ نَشَأْ» قرأ الأخَوان «يَشَأْ» يَخْسِفْ، يُسْقِطْ، بالياء في

الثلاثة. والباقون بنون العظمة فيها، وهما واضحتان. وأدغم الكسائيُّ الفاءَ في الباء، واستضعفها الناسُ من حيث أدغم الأَقْوى في الأضعفِ. قال الفارسي: «وذلك لا يجوز؛ لأنَّ الباءَ أضعفُ في الصوت من الفاءِ فلا تُدْغم فيها، وإنْ كانت الباءُ تُدْغم فيها نحو:» اضربْ فلاناً «كما تُدْغَمُ الباءُ في الميم كقولك: اضربْ مالِكاً، وإن كانت الميمُ لا تُدْغَمُ في الباءَ نحو:» اضمُمْ بكراً «؛ لأنَّ الباءَ انحطَّتْ عن الميم بفَقْد الغُنَّة» . وقال الزمخشري: «وليست بالقويةِ» ، وهذا لا ينبغي لأنها تواتَرَتْ. قوله: «يا جِبالُ» مَحْكِيٌّ بقولٍ مُضْمَرٍ. ثم إنْ شِئْتَ قَدَّرْتَه مصدراً. ويكونُ بدلاً مِنْ «فَضْلاً» على جهةِ تفسيرِه به كأنه قيلَ: آتَيْناه فَضْلاً قولَنا: يا جبالُ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَه فِعْلاً. وحينئذٍ لك وجهان: إنْ شِئْتَ جَعَلْتَه بدلاً مِنْ «آتَيْنا» وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه مستأنفاً. قوله: «أَوِّبِيْ» العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ وتشديدِ الواوِ، أمراً من التَّأْوِيْب وهو التَّرجِيْع. وقيل: التسبيحُ بلغةِ الحبشة. والتضعيفُ يحتملُ أَنْ يكونَ للتكثيرِ. واختار الشيخ أَنْ يكونَ للتعدِّي. قال: «لأنهم فَسَّروه ب رَجِّعي معه التسبيحَ» . ولا دليلَ؛ لأنه تفسيرُ معنى. وقرأ ابنُ عباس والحسنُ

وقتادة وابن أبي إسحاق «أُوْبي» بضمِّ الهمزةِ وسكونِ الواو أمراً مِنْ آب يَؤُوْبُ أي: ارْجِعي معه بالتسبيح. قوله: «والطيرَ» العامَّةُ على نصبِه وفيه أوجهٌ، أحدها: أنه عطفٌ على محلِّ «جبالُ» لأنَّه منصوبٌ تقديراً. الثاني: أنه مفعولٌ معه. قاله الزجاج. ورُدَّ عليه: بأنَّ قبلَه لفظةَ «معه» ولا يَقْتَضي العاملُ أكثرَ مِنْ مفعولٍ معه واحدٍ، إلاَّ بالبدلِ أو العطفِ لا يُقال: «جاء زيدٌ مع بكرٍ مع عمروٍ» . قلت: وخلافُهم في تقضية حالَيْنِ يَقْتضي مجيئَه هنا. الثالث: أنه عطفٌ على «فضْلاً» قاله الكسائيُّ. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: آتيناه فضلاً وتسبيحَ الطيرِ. الرابع: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ أي: وسَخَّرْنا له الطيرَ، قاله أبو عمروٍ. وقرأ السُّلَمِيُّ والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وأبو يحيى وعاصم في رواية «والطيرُ» بالرفع. وفيه أوجهٌ: النسقُ على لفظ قوله: «جبالُ» . وأُنْشِد قولُه: 3723 - ألا يا زيدُ والضَّحاكُ سِيْرا ... فقد جاوَزْتُما خَمَرَ الطريقِ بالوجهين. وفي عَطْفِ المعرَّفِ بأل على المنادى المضمومِ ثلاثةُ مذاهبَ. الثاني: عطفُه على الضميرِ المستكنِّ في «أوِّبي» . وجاز ذلك

للفَصْل بالظرفِ. والثالث: الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ مضمرٌ. أي: والجبالُ كذلك أي: مُؤَوَّبَةٌ. قوله: «وألَنَّا» عطف على «آتَيْنا» ، وهو من جملةِ الفَضْلِ.

11

قوله: {أَنِ اعمل} : فيها وجهان، أظهرهما: أنها مصدريةٌ على حَذْفِ الحرفِ أي: لأن. والثاني قاله الحوفي وغيره أنها مُفَسِّرةٌ. ورُدَّ هذا: بأنَّ شَرْطَها تقدُّمُ ما هو بمعنى القولِ ولم يتقدَّمْ إلاَّ «أَلَنَّا» . واعتذر بعضُهم عن هذا: بأنْ قَدَّر ما هو بمعنى القولِ أي: وأَمَرْناه أَنِ اعْمَلْ ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك. وقُرِئ «صابغاتٍ» لأجلِ الغينِ. وتقدَّم تقريرُه في لقمان عند «وأَسْبَغَ» .

12

قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح} : العامَّةُ على النصبِ بإضمارِ فعلٍ أي: وسَخَّرْنا لسليمانَ. / وأبو بكرٍ بالرفعِ على الابتداءِ، والخبرُ في الجارِّ قبلَه أو محذوفٌ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ فاعلاً، يعني بالجارِّ، وليس بقويِّ لعدمِ اعتمادِه. وكان قد وافقه في الأنبياء غيرُه.

وقرأ العامَّةُ «الريحَ» بالإِفراد. والحسن وأبو حيوةَ وخالد بن إلياس «الرياحَ» جمعاً. وتقدَّم في الأنبياء أنَّ الحسنَ يقرأُ مع ذلك بالنصبِ، وهنا لم يُنْقَلْ له ذلك. قوله: «غُدُوُّها شَهْرٌ» مبتدأ وخبر. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي: غُدُوُّها مَسيرةَ شهرٍ أو مقدارُ غدوِّها شهرٌ. ولو نُصِب لجازَ، إلاَّ أنَّه لم يُقْرَأ به فيما علمْتُ. وقرأ ابنُ أبي عبلةَ «غَدْوَتُها ورَوْحَتُها» على المَرَّةِ. والجملةُ: إمَّا مستأنفةٌ، وإمَّا في محلِّ الحال. قوله: «مَنْ يَعْمَلُ» يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعاً بالابتداء. وخبرُه في الجارِّ قبلَه أي: من الجنِّ مَنْ يعملُ، وأنْ يكونَ في موضعِ نصبٍ بفعلٍ مقدرٍ أي: وسَخَّرْنا له مَنْ يعملُ. و «من الجنّ» يتعلقُ بهذا المقدرِ أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ أو بيانٌ. و «بإذن» حالٌ أي: مُيَسَّراً بإذنِ ربِّه. والإِذْنُ: مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وقُرِئ «ومَنْ يُزِغْ» بضمِّ الياءِ مِنْ أزاغَ، ومفعولُه محذوفٌ أي: ومَنْ يُزغْ نفسَه أي: يُميلُها. و «مِنْ عذاب» : «مِنْ» لابتداء الغاية أو للتبعيض.

13

و: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ} : مُفَسِّرٌ لقولِه «مَنْ يعمل» . و «مِنْ مَحاريب» بيانٌ لِما يَشاء. قوله: «كالجوابِ» قرأ ابنُ كثير بإثباتِ ياء «الجوابي» وصلاً ووقفاً.

وأبو عمروٍ وورشٌ بإثباتِها وَصْلاً، وحَذْفِها وقفاً. والباقون بحَذْفِها في الحالَيْن. و «كالجواب» صفةٌ ل «جِفان» . والجِفانُ: جمعُ جَفْنَة. والجوابي: جمع جابِيَة كضارِبة وضوارِب. والجابيةُ: الحَوْضُ العظيم سُمِّيَتْ بذلك لأنه يُجْبى إليها الماءُ. وإسنادُ الفعلِ إليها مَجازٌ؛ لأنه يُجْبَى فيها كما قيل: خابِية لِما يُخَبَّأُ فيها. قال الشاعر: 3724 - بجِفانٍ تَعْتَرِي نادِيَنا ... مِنْ سَدِيْفٍ حين هاجَ الصِّنَّبِرْ كالجوابي لاتِني مُتْرَعَةً ... لِقِرى الأضيافِ أو للمحتضِرْ وقال الأعشى: 3725 - نَفَى الذَّمَّ عن آلِ المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ ... كجابِيَةِ السَّيْحِ العِراقيِّ تَفْهَقُ وقال الأفوه: 3726 - وقُدُوْرٍ كالرُّبا راسِيَةٍ ... وجِفانٍ كالجَوابي مُتْرَعَهْ

قوله: «شُكْراً» يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مفعولٌ به أي: اعْمَلوا الطاعةَ. سُمِّيَتِ الصلاةُ ونحوُها شكراً لسَدِّها مَسَدَّه. الثاني: أنه مصدرٌ مِنْ معنى اعْمَلوا، كأنه قيل: اشكروا شكراً بعملكم، أو اعملوا عملَ شكرٍ. الثالث: أنه مفعولٌ من أجله. أي: لأجل الشكر. الرابع: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: شاكرين. الخامس: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظِه، تقديره: واشكروا شكراً. السادس: أنه صفةٌ لمصدرِ «اعْمَلوا» تقديره: اعْمَلوا عَمَلاً شُكْراً أي: ذا شكر. قوله: «وقليلٌ» خبرٌ مقدمٌ. و «من عبادِيْ» صفةٌ له و «الشَّكورُ» مبتدأ.

14

قوله: {تَأْكُلُ} : إمَّا حالٌ أو مستأنفة. وقرأ «مِنْسَأْتَه» ، بهمزةٍ ساكنةٍ ابنُ ذكوان. وبألفٍ مَحْضةٍ نافعٌ وأبو عمرٍو، وبهمزة مفتوحةٍ الباقون. والمِنْسَأَةُ: العَصا اسمُ آلةٍ مِنْ نَسَأه أي: أخَّرَه كالمِكْسَحَةِ والمِكْنَسَة. وفيها الهمزةُ وهو لغةُ تميم وأُنشِد: 3727 - أمِنْ أَجْلِ حَبْلٍ لا أَباك ضَرَبْتَه ... بمِنْسَأَةٍ قد جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلا والألف وهي لغةُ الحجازِ. وأنشد: 3728 - إذا دَبَبْتَ على المِنْسَاة مِنْ كِبَرٍ ... فقد تباعَدَ عنك اللهوُ والغَزَلُ

فأمَّا بالهمزةِ المفتوحةِ فهي الأصلُ؛ لأنَّ الاشتقاقَ يدلُّ ويشهد له، والفتحُ لأَجْلِ بناء مِفْعَلة كمِكْنَسَة. وأمَّا سكونُها ففيه وجهان، أحدهما: أنه أبدلَ الهمزةَ ألفاً، كما أبدلها نافعٌ وأبو عمروٍ. وسيأتي، ثم أبدل هذه الألفَ همزةً على لغةِ مَنْ يقولُ: العَأْلَم والخَأْتَم. وقوله: 372 - 9- وخِنْدِفٌ هامَةُ هذا العَأْلَمِ ... ذكره ابن مالك. وهذا لا أدري ما حمله عليه، كيف يُعْتَقَدُ أنه هَرَبَ مِنْ شيءٍ ثم يعودُ إليه؟ وأيضاً فإنهم نَصُّوا على أنه إذا أبدلَ من الألفِ همزةً: فإن كان لتلك الألفِ أصلٌ حُرِّكَتُ هذه الهمزةُ بحركةِ أصلِ الألفِ. وأنشد أبو الحسن ابن عُصفور على ذلك: 3730 - وَلَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قال: الأصل زَوْزاة. وأصلُ هذا: زَوْزَوَة، فلمَّا أُبْدِلَتْ من الألفِ/ همزةً حَرَّكها بحركةِ الواوِ. إذا عَرَفْتَ هذا فكان ينبغي أن تُبْدَلَ هذه الألفُ همزةً مفتوحةً؛ لأنَّها عن أصلٍ متحركٍ، وهو الهمزةُ المفتوحةُ، فتعودُ إلى الأول، وهذا لا يُقالُ. الثاني: أنه سَكَّن الفتحةَ تخفيفاً، والفتحةُ قد سَكَنَتْ في مواضِعَ تقدَّم التنبيهُ عليها وشواهدُها. ويُحَسِّنُه هنا: أنَّ الهمزةَ تُشْبه حروفَ العلةِ، وحرفُ العلةِ تُسْتَثْقَلُ عليه الحركةُ مِنْ حيثُ الجملةُ، وإنْ كان لا تُسْتثقل الفتحةُ

لخفَّتِها. وأَنْشدوا على تسكينِ همزتها: 3731 - صريعُ خَمْرٍ قام مِنْ وُكَاءَتِهْ ... كقَوْمَةِ الشيخ إلى مِنْسَأْتِهْ وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ، ونَسَبوا راوِيَها إلى الغلط. قالوا: لأنَّ قياسَ تخفيفِها إنما هو تسهيلُها بينَ بينَ، وبه قرأ ابنُ عامرٍ وصاحباه، فظَنَّ الراوي أنهم سَكَّنوا. وضَعَّفها أيضاً بعضُهم: بأنه يَلْزَمُ سكونُ ما قبل تاءِ التأنيثِ، وما قبلها واجبُ الفتحِ إلاَّ الألفَ. وأمَّا قراءةُ الإِبدالِ فقيل: هي غيرُ قياسيةٍ، يَعْنُون أنها ليسَتْ على قياسِ تَخْفيفِها. إلاَّ أنَّ هذا مردودٌ: بأنها لغةُ الحجازِ، ثابتةً، فلا يُلْتَفَتُ لمَنْ طَعَن. وقد قال أبو عمرو: - وكَفَى به - «أنا لا أَهْمِزُها، لأنِّي لا أَعْرِفُ لها اشتقاقاً، فإنْ كانَتْ مما لا يُهْمَزُ فقد أُخْطِئُ. وإن كانَتْ تُهْمَزُ فقد يجوزُ لي تَرْكُ الهمزِ فيما يُهْمَزُ» . وهذا الذي ذكره أبو عمرٍو أحسنُ ما يقالُ في هذا ونظائرِه. وَقُرئ «مَنْسَأَتَه» بفتح الميم مع تحقيقِ الهمزةِ، وإبدالِها ألفاً، وحَذْفِها تخفيفاً، و «مِنْسَاْءَتَه» بزنة مِفْعَالَتَه كقولهم: مِيْضَأَة ومِيْضاءَة وكلُّها لغاتٌ. وقرأ ابنُ جُبَيْر «مِنْ سَأَتِه» فَصَل «مِنْ» وجَعَلَها حَرفَ جَرٍّ، وجَعَل «سأَتِه» مجرورةً بها. والسَّأَةُ والسِّئَةُ هنا العصا. وأصلُها يَدُ القوسِ العليا والسفلى يقال: سَاةُ القوسِ مثلُ شاة، وسِئَتُها، فَسُمِّيَتِ العصا بذلك على وجهِ الاستعارة. والمعنى: تأكلُ

مِنْ طَرَفِ عصاه. ووجهُ ذلك كما جاء في التفسير: أنه اتَّكأ على عصا خضراءَ مِنْ خَرُّوب، والعصا الخضراءُ متى اتُّكِئ عليها تَصيرُ كالقوسِ في الاعوجاجِ غالباً. وساة فَعَلة، وسِئَة: فِعلة نحو: قِحَة وَقَحة، والمحذوفُ لامُهما. وقال ابن جني: «سَمَّى العَصا ساءة لأنها تَسُوء، فهي فَلَة، والعينُ محذوفةٌ» قلت: وهذا يَقْتضي أَنْ تكون القراءة بهمزةٍ ساكنةٍ، والمنقولُ أن هذه القراءةَ بألفٍ صريحة ولأبي الفتح أَنْ يقولَ: أصلُها الهمزُ، ولكن أُبْدِلَتْ. وقوله: «دابَّةُ الأرضِ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ الأرضَ هذه المعروفةُ. والمرادُ بدابَّةِ الأرضِ الأَرَضَةُ دُوَيْبَّةٌ تأكُل الخَشَبَ. الثاني: أن الأرضَ مصدرٌ لقولك: أرَضَتِ الدابةُ الخشبةَ تَأْرِضُها أَرْضاً أي: أكلَتْها. فكأنه قيل: دابَّةٌ الأكل. يُقال: أرَضَتِ الدابَّةُ الخشبةَ تَأْرِضها أَرْضاً فأَرِضَتْ بالكسر تَأْرَض هي بالفتح أرَضاً بالفتح أيضاً نحو: أكَلَت القوادحُ الأسنانَ تأكلُها أكلاً فأَكِلت هي بالكسر تَأْكَلُ أَكَلاً بالفتح. ونحوُه أيضاً: جَدَعْتُ أنفَه جَدْعاً فجَدِع هو جَدَعاً بفتح عين المصدر. وبفتح الراء قرأ ابن عباس والعباس بن الفضل وهي مقويةُ المصدرية في القراءة المشهورة. وقيل: الأرضَ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أَرَضَة، وعلى هذا يكونُ من باب إضافةِ العامِّ إلى الخاصِّ لأنَّ الدابَّةَ أعمُّ من الأَرَضة وغيرِها من الدوابِّ. قوله: «فلمَّا خَرَّ» الظاهر أنَّ فاعلَه ضميرُ سليمان عليه السلام. وقيل:

عائدٌ على الباب لأنَّ الدابَّةَ أكلَتْه فوقع. وقيل: بل أكلَتْ عَتَبَةَ البابِ، وهي الخارَّة. ونُقِل ذلك في التفسير، وينبغي أَنْ لا يَصِحَّ؛ إذ كان يكون التركيبُ خرَّتْ بتاءِ التأنيث. و: 3732 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَبْقَل إبْقالَها ضرورةٌ أو نادرٌ. وتأويلُها بمعنى العُوْد أَنْدَرُ منه. قوله: «تَبَيَّنَتْ» العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ مسنداً للجنِّ. وفيه تأويلاتٌ، أحدُها: أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: تبيَّن أَمْرُ الجنِّ أي: ظهر وبان. و «تبيَّن» يأتي بمعنى بان لازماً، كقولِه: 3733 - تَبَيَّنَ لي أنَّ القَماءَةَ ذِلَّةٌ ... وأنَّ أَعِزَّاءَ الرجالِ طِيالُها فلمَّا حُذِفَ المضافُ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وكان ممَّا يجوز تأنيثُ فعلِه، أُلْحِقَتْ علامةُ التأنيثِ. وقوله: {أَن لَّوْ كَانُواْ} بتأويلِ المصدرِ مرفوعاً بدلاً من الجنِّ. والمعنى: ظهر كَوْنُهم لو عَلِموا الغيبَ لَما لَبِثوا في العذاب أي: ظَهَرَ جَهْلُهُمْ. الثاني: أنَّ «تبيَّن» بمعنى بانَ وظَهَر أيضاً. و «الجنُّ» فاعلٌ. ولا/ حاجةَ إلى حَذْفِ مضاف و {أَن لَّوْ كَانُواْ} بدلٌ كما تقدَّم تحريرُه. والمعنى: ظهر للجن جَهْلُهم للناسِ؛ لأنهم كانوا يُوْهِمُون الناسَ بذلك، كقولك: بان زيدٌ جهلُه. الثالث: أنَّ «تَبَيَّن» هنا متعدٍّ بمعنى أَدْرك وعَلِم، وحينئذٍ يكون المرادُ بالجنِّ ضَعَفَتَهم، وبالضميرِ

في «كانوا» كبارَهُمْ ومَرَدَتَهم، و {أَن لَّوْ كَانُواْ} مفعولٌ به، وذلك أنَّ المَرَدَةَ والرؤساءَ من الجنِّ كانوا يُوْهِمون ضعفاءَهم أنهم يَعْلمون الغيبَ. فلمَّا خَرَّ سليمان عليه السلامَ مَيِّتاً، مكثوا بعده عاماً في العملِ، تبيَّنَتِ السَّفَلَةُ من الجنِّ أنَّ الرؤساءَ منهم لو كانوا يعلمون الغيبَ كما ادَّعَوْا ما مكثوا في العذابِ. ومِنْ مجيءِ «تَبَيَّن» متعدِّياً بمعنى أَدْرك قولُه: 3734 - أفاطِمُ إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيَّني ... ولا تَجْزَعي كلُّ الأنامِ يموتُ أي: تَبَيَّني ذلك. وفي كتاب أبي جعفر ما يَقْتضي أنَّ بعضَهم قرأ «الجنَّ» بالنصب، وهي واضحةٌ أي: تبيَّنت الإِنسُ الجنَ. و {أَن لَّوْ كَانُواْ} بدلٌ أيضاً من «الجن» . وقرأ ابن عباس ويعقوب «تُبُيِّنَتِ الجنّ» على البناءِ للمفعولِ، وهي مؤيِّدَةٌ لِما نَقَله النحاسُ. وفي الآيةِ قراءاتٌ كثيرةٌ أَضْرَبْتُ عنها لمخالفتِها السَّوادَ. و «أن» في {أَن لَّوْ كَانُواْ} الظاهرُ أنها مصدريةٌ مخففةٌ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الشأنِ. و «لو» فاصلةٌ بينها وبينَ خبرِها الفعليِّ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك كقوله: {وَأَلَّوِ استقاموا} [الجن: 16] {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ} [الأعراف: 100] . وقال ابن عطية: «وذهب سيبويه إلى أنَّ» أَنْ «لا موضعَ لها من

الإِعرابِ، إنما هي مُؤْذِنَةٌ بجوابِ ما يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ القسمِ من الفعل الذي معناه التحقيقُ واليقينُ؛ لأنَّ هذه الأفعالَ التي هي: تَحقَّقْتُ وَتَيَقَّنْتُ وعَلِمْتُ ونحوُها تَحُلُّ مَحَلَّ القَسَمِ، ف» ما لَبِثُوا «جوابُ القسمِ لا جوابُ» لو «، وعلى الأقوالِ الأُوَلِ يكون جوابَها» . قلت: وظاهرُ هذا أنها زائدةٌ لأنهم نَصُّوا على اطِّرادِ زيادتِها قبل «لو» في حَيِّزِ القسمِ. وللناسِ خلافٌ: هل الجوابُ للواوِ أو للقسمِ؟ والذي يَقْتَضيه القياسُ أَنْ يُجابَ أَسْبَقُهما كما في اجتماعِه مع الشرطِ الصريحِ ما لم يتقدَّمْهما ذو خبرٍ، كما تقدَّم بيانُه. وتقدَّم الكلامُ والقراءاتُ في سبأ في سورة النمل.

15

قوله: {مَسْكَنِهِمْ} : قرأ حمزةٌ وحفصٌ «مَسْكَنِهم» بفتح الكاف مفرداً، والكسائيُّ كذلك، إلاَّ أنه كسرَ الكافَ، والباقون «مَساكِنِهم» جمعاً. فأمَّا الإِفرادُ فلِعَدَمِ اللَّبْسِ؛ لأن المرادَ الجمعُ، كقولِه: 3735 - كُلوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والفتحُ هو القياسُ؛ لأنَّ الفعلَ متى ضُمَّتْ عينُ مضارِعه أو فُتِحَتْ جاء المَفْعَلُ منه زماناً ومكاناً ومصدراً بالفتحِ، والكسرُ مَسْموعٌ على غيرِ قياس. وقال

أبو الحسن: «كسرُ الكافِ لغةٌ فاشيةٌ، وهي لغةُ الناسِ اليومَ، والكسرُ لغةُ الحجازِ» . وهي قليلةٌ. وقال الفراء: «هي لغةٌ يمانِيَّةٌ فصيحة» . و «مَسْكَنِهِمْ» يُحْتمل أَنْ يرادَ به المكانُ، وأَنْ يُرادَ به المصدرُ أي: السُّكْنى. ورجَّحَ بعضُهم الثاني قال: لأنَّ المصدرَ يشملُ الكلَّ فليس فيه وَضْعُ مفردٍ مَوْضِعَ جمع بخلافِ الأول؛ فإنَّ فيه وَضْعَ المفرد مَوْضِعَ الجمعِ كما قَرَّرْتُه، لكنَّ سيبويه يَأْباه إلاَّ ضرورةً كقولِه: 3736 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قد عضَّ أعناقَهم جِلْدُ الجَواميسِ أي جلود. وأمَّا الجمعُ فهو الظاهرُ؛ لأنَّ لكلِّ واحدٍ مَسْكناً. ورُسِمَ في المصاحفِ دونَ ألفٍ بعد الكافِ: فلذلك احتَمَلَ القراءاتِ المذكورةَ. قوله: «جَنَّتان» فيه ثلاثةُ أوجهٍ: الرفعُ على البدلِ من «آيةٌ» وأبدلَ مثنَّى مِنْ مفرد؛ لأنَّ هذا المفردَ يَصْدُقُ على هذا المثنى. وتقدَّم في قولِه: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وضَعَّفَ ابنُ عطيةَ الأولَ ولم يُبَيِّنْه. ولا يَظْهَرُ ضَعْفُه بل قوتُه، وكأنه توهَّمَ أنهما مختلفان إفراداً وتثنية؛ فلذلك ضَعُفَ البدلُ عنده. واللَّهُ أعلمُ. الثالث: - وإليه نحا ابن عطية - أَنْ يكونَ «جَنَّتان» مبتدأً، وخبرُه {عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} . ورَدَّه

الشيخُ: بأنه ابتداءُ نكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ. واعتذر عنه: بأنَّه قد يُعْتَقَدُ حَذْفُ صفةٍ أي: جنتان لهم، أو جنتان عظيمتان [إنْ] صَحَّ ما ذهبَ إليه. وقرأ ابنُ أبي عبلة «جَنَّتَيْن» بالياءِ نصباً على خبرِ كان، واسمُها «آية» . فإنْ قيل: اسمُ «كان» كالمبتدأ، / ولا مُسَوِّغَ للابتداء به حتى يُجْعَلَ اسم كان. والجوابُ أنه تخصَّصَ بالحالِ المقدَّمَةِ عليه، وهي صفتُه في الأصل. ألا ترى أنه لو تأخَّر «لسبأ» لكان صفةً ل «آيةٌ» في هذه القراءةِ. قوله: «عن يمينٍ» إمَّا صفةٌ ل «جَنَّتان» أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هما عن يمين. قوله: «كُلُوا» على إضمارِ القولِ أي: قال الله أو المَلَكُ. قوله: «بَلْدَةٌ» أي: بَلْدَتُكُمْ بَلْدَةٌ، وربُّكم ربٌّ غفورٌ. وقرأ رُوَيْس بنصب «بَلْدَة ورَب» على المدحِ، أو اسكنوا واعبدوا. وجعله أبو البقاء مفعولاً به، والعامِلُ فيه «اشكروا» وفيه نظرٌ؛ إذ يَصيرُ التقدير: اشكروا لربِّكم رَبَّا غفوراً.

16

قوله: {سَيْلَ العرم} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه من باب إضافةِ الموصوفِ لصفتِه في الأصلِ، إذ الأصلُ: السَّيْلُ العَرِمُ. والعَرِمُ: الشديدُ. وأصله مِنَ العَرامَةِ، وهي الشَّراسَةُ والصعوبةُ. وعَرِمَ فلانٌ فهو عارِمٌ وعَرِمٌ. وعُرامُ الجيش منه. الثاني: أنه من بابِ حَذْفِ الموصوفِ وإقامة صفتِه

مُقامه. تقديرُه: فأَرْسَلْنا عليهم سَيْلَ المطرِ العَرِم أو الجُرذ العرم أي الشديد الكثير. الثالث: أنَّ العَرِمَ اسمٌ للبناءِ الذي يُجْعَلُ سَدَّاً. وأُنْشد: 3737 - مِنْ سبأ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذْ ... يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِه العَرِما أي البناء القويُّ. الرابع: أنَّ العَرِمَ اسمٌ للوادي الذي كان فيه الماءُ نفسُه. الخامس: أنه اسمٌ للجُرَذِ وهو الفَأْر. قيل: هو الخُلْدُ. وإنما أُضيفَ إليه لأنه تَسَبَّبَ عنه إذ يُرْوى في التفسيرِ: أنه قَرَضَ السِّكْرَ إلى أن انفتح عليهم فغرِقوا به. وعلى هذه الأقوال الثلاثةِ تكون الإِضافةُ إضافةً صحيحةً مُعَرِّفة نحو: غلام زيد أي: سيل البناء، أو سيل الوادي الفلاني، أو سيلُ الجُرَذِ. وهؤلاء هم الذين ضَرَبَتْ بهم العربُ في المثل للفُرْقةِ فقالوا: «تَفَرَّقوا أَيْدِي سبأ وأيادي سبأ» . قوله «» بجنَّتَيْهم جَنَّتَيْن «قد تقدَّم في البقرة أن المجرورَ بالباء هو الخارج، والمنصوبَ هو الداخلُ؛ ولهذا غَلِط مَنْ قال من الفقهاء:» فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بَطَلَتْ صلاتُه «بل الصواب أَنْ يُقال: ظاءً بضادٍ. قوله:» أُكُلٍ خَمْطٍ «قرأ أبو عمرو على إضافة» أُكل «غير المضاف إلى»

خَمْط «. والباقون بتنوينه غيرَ مضافٍ وقد تقدم في البقرةِ أنَّ ابنَ عامرٍ وأبا عمرو والكوفيين يضمون كاف» أكل «غير المضاف لضمير المؤنثةِ، وأن نافعاً وابن كثير يُسَكِّنونها بتفصيل هناك تقدَّمَ تحريرُه، فيكونُ القرَّاءُ هنا على ثلاثِ مراتبَ، الأولى: لأبي عمروٍ» أُكُلِ خَمْط «بضم كاف» أُكُلٍ «مضافاً ل» خَمْطٍ «. الثانية: لنافعٍ وابن كثير تسكينُ كافِه وتنوينِه. الثالثة: للباقين ضَمُّ كافِه وتنوينه. فَمَنْ أضافَ جَعَلَ» الأكل «بمعنى الجنى والثمر. والخَمْطُ قيل: شجرُ الأَراك. وقيل: كلُّ شجرٍ ذي شَوْكٍ. وقيل: كلُّ نَبْتٍ أَخَذَ طعماً مِنْ مرارة. وقيل: شجرةٌ لها ثَمَرٌ تشبه الخَشْخاشَ لا يُنْتَفَعُ به. قوله: {وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ} معطوفان على» أُكُل «لا على» خَمْط «لأنَّ الخَمْطَ لا أُكُلَ له. وقال مكي:» لَمَّا لم يَجُزْ أَنْ يكونَ الخمطُ نعتاً للأكل؛ لأنَّ الخَمْطَ اسمُ شجرٍ بعينه، ولا بدلاً لأنه ليس الأولَ ولا بعضَه، وكان الجنى والثمرُ من الشجر، أُضيف على تقدير «مِنْ» كقولِك: هذا ثوبُ خَزّ «. ومَنْ نَوَّنَ جَعَلَ خَمْطاً وما بعدَه: إمَّا صفةً لأُكُل. قال الزمخشري: «أو وُصِفَ الأُكُلَ بالخَمْط، كأنه قيل: ذواتَيْ أُكُلٍ بَشِعٍ» . قال الشيخُ: «والوصفُ بالأسماءِ لا يَطَّردُ، وإنْ كان قد جاء منه شيءٌ نحو قولهم: مررْتُ بقاع عَرْفَجٍ كلِّه» . الثاني: البدلُ مِنْ «أُكُل» قال أبو البقاء: «وجعل خَمْطاً أُكُلاً لمجاوَرَتِه إياه وكونِه سبباً له» . إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ كونَه بدلاً. قال: «لأنَّ الخَمْطَ ليس

بالأُكُلِ نفسِه» . وقد تقدَّمَ جوابُ أبي البقاء. وأجاب بعضُهم عنه - وهو مُنْتَزَعٌ مِنْ كلام الزمخشري - أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: ذواتَيْ أُكُلٍ أُكُلِ خَمْطٍ. قال: والمحذوفُ هو الأولُ في الحقيقةِ. قلت: وهو حسنٌ في المعنى. الثالث: أنه عطفُ بيانٍ، وجعله أبو عليٍ أحسنَ ما في الباب. قال: «كأنَّه بَيَّنَ أنَّ الأُكُلَ هذه الشجرةُ» إلاَّ أنَّ عَطْفَ البيانِ لا يُجيزه البصريُّون في النكرات إنما يَخُصُّونه بالمعارفِ/. قوله: «قليلٍ» نعتٌ ل «سِدْر» . وقيل: نعتٌ ل «أُكل» . وقال أبو البقاء: «ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً ل» خَمْطٍ وأَثْلٍ وسِدْرٍ «. وقُرِئ» وأَثْلاً وشَيْئاً «بنصبهما عطفاً على جَنَّتَيْن. والأَثْلُ: شجرُ الطَّرْفاءِ، أو ما يُشْبِهها. والسِّدرَ سِدْران: سِدْرٌ له ثمرةٌ عَفْصَةٌ لا تُؤْكَلُ ولا يُنْتَفَعُ بورقِه في الاغتسال وهو الضالُّ، وسِدْرٌ له ثمرٌ يُؤْكَلُ وهو النَّبْقُ، ويُغْتَسُل بورقِه. ومراد الآيةِ: الأولُ.

17

قوله: {وَهَلْ نجازي} : قرأ الأخَوان وحفصٌ «نُجازي» بنونِ العظمة وكسرِ الزاي أي: نحن. «إلاَّ الكَفورَ» مفعولٌ به. والباقون بضمِّ الياء وفتح الزاي مبنيًّا للمفعول. «إلاَّ الكفورُ» رَفْعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. ومسلم بن جندب «يُجْزَى» مبنياً للمفعول، «إلاَّ الكفورُ» رَفْعٌ على ما تقدَّمَ. وقُرِئ «يَجْزِي» مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى، «الكفورَ» نصباً على المفعولِ به.

19

قوله: {رَبَّنَا} : العامَّةُ بالنصبِ على النداء. وابن كثيرٍ وأبو عمروٍ وهشام «بَعِّدْ» بتشديدِ العَيْنِ فعلَ طلبٍ. والباقون «باعِدْ» طلباً أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي. وقرأ ابنُ الحنفية وسفيان بن حسين وابن السَّمَيْفع «بَعُدَ» بضم العين فعلاً ماضياً. والفاعلُ المَسِيْرُ أي: بَعُدَ المَسِيْرُ. و «بَيْنَ» ظرفٌ. وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلاَّ أنَّه ضَمَّ نونَ «بين» جعله فاعلَ «بَعُدَ» ، فأخرجه عن الظرفية كقراءةِ «تَقَطَّع بينكُم» رفعاً. فالمعنى على القراءةِ المتضمِّنةِ للطلبِ يكونُ المعنى: أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ. وعلى القراءة المتضمِّنة للطلبِ يكونُ المعنى: أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ. وعلى القراءة المتضمِّنة للخبرِ الماضي يكونُ شكوى مِنْ بُعْدِ الأسفار التي طلبوها أيضاً. وقرأ جماعةٌ كثيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن فائد «ربُّنا» رفعاً على الابتداءِ، «بَعِّدْ» بتشديد العين فعلاً ماضياً خبرُه. وأبو رجاءٍ والحسنُ ويعقوب كذلك إلاَّ أنه «باعَدَ» بالألف. والمعنى على هذه القراءة: شكوى بُعْدِ أسفارِهم على قُرْبها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم. وقُرِئ «بُوعِدَ» مبنياً للمفعول. وإذا نصَبْتَ «بينَ» بعد فعلٍ متعدٍّ مِنْ هذه المادةِ في إحدى هذه القراءاتِ سواءً كان أمراً أم ماضياً فجعله الشيخ منصوباً

على المفعول به لا ظرفاً. قال: «ألا ترى إلى قراءةِ مَنْ رفع كيف جَعَلَه اسماً» ؟ قلت: إقرارُه على ظرفيَّتِه أَوْلَى، ويكون المفعولُ محذوفاً، تقديره: بَعِّدِ السيرَ بينَ أسفارِنا. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ «بَعُدَ» بضم العين «بينَ» بالنصب، فكما تُضْمِرُ هنا الفاعلَ وهو ضميرُ السَّيْرِ كذلك تُبْقي هنا «بينَ» على بابِها، وتَنْوي السيرَ. وكان هذا أَوْلى؛ لأنَّ حَذْفَ المفعولِ كثيرٌ جداً لا نِزاع فيه، وإخراجُ الظرفِ غير المتصرِّفِ عن ظرفيتِه فيه نزاعٌ كثيرٌ، وتحقيقُ هذا والاعتذارُ عن رفعِ «بينكم» مذكورٌ في الأنعام. وقرأ العامَّةُ «أَسْفارِنا» جمعاً. وابن يعمر «سَفَرِنا» مفرداً.

20

قوله: {صَدَّقَ} : قرأ الكوفيون «صَدَّق» بتشديد الدال. والباقون بتخفيفها. فأمَّا الأولى ف «ظنَّه» مفعولٌ به. والمعنى: أنَّ ظنَّ إبليس ذهب إلى شيءٍ فوافق، فصدَّق هو ظنَّه على المجاز والاتساعِ. ومثلُه: كذَّبْتُ ظني ونفسي وصَدَّقْتُهما، وصَدَّقاني وكَذَّباني. وهو مجازٌ سائغ. أي: ظَنَّ شيئاً فوقع. وأصلُه: مِنْ قولِه: «ولأُغْوِيَنَّهم» و «لأُضِلَّنَّهم» وغيرِ ذلك. وأمَّا الثانيةُ فانتصب «ظنَّه» على ما تقدَّم من المفعول به كقولهم: أَصَبْتُ ظني، وأَخْطَأْت ظني. أو على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: يظنُّ ظنَّه، أو على

إسقاطِ الخافضِ أي: في ظنه. وزيدُ بن علي والزهريُّ برفعِ «ظَنُّه» ونصب «إبليس» كقول الشاعر: 3738 - فإنْ يَكُ ظَنِّي صادِقاً وهو صادِقي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جعل ظنَّه صادقاً فيما ظَنَّه مجازاً واتساعاً. ورُوي عن أبي عمروٍ برفعِهما وهي واضحةٌ. جعل «ظنَّه» بدلَ اشتمال من إبليس. والظاهر أنَّ الضميرَ في «عليهم» عائدٌ على أهل سبأ، و «إلاَّ فريقاً» استثناءٌ من فاعل «اتبعوه» و «من المؤمنين» صفةُ «فريقاً» . و «مِنْ» للبيان لا للتبعيضِ لئلا يَفْسُدَ/ المعنى؛ إذ يلزمُ أَنْ يكونَ بعضُ مَنْ آمن اتَّبع إبليسَ.

21

قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} : استثناءٌ مفرغٌ مِنَ العللِ العامَّةِ، تقديرُه: ما كان له عليهم استيلاءٌ لشيءٍ من الأشياءِ إلاَّ لهذا، وهو تمييزُ المُحِقِّ من الشاكِّ. قوله: «منها» متعلقٌ بمحذوفٍ على معنى البيان أي: أعني منها وبسببها. وقيل: «مِنْ» بمعنى في. وقيل: هو حالٌ من «شك» . وقوله: «مَنْ يؤمِنُ» يجوز في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أنَّها استفهاميةٌ فَتَسُدُّ مَسَدَّ مفعولَيْ العِلْم. كذا ذكره أبو البقاء وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ المعنى: إلاَّ لنُمَيِّزَ ونُظْهِرَ للناسِ مَنْ يؤمِنُ مِمَّن لا يُؤْمِنُ فعبَّر عن مقابِلِه بقولِه: {مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} ؛ لأنَّه مِنْ نتائجه ولوازِمِه. والثاني: أنها موصولةٌ، وهذا هو الظاهرُ على ما تقدَّم تفسيرُه.

22

قوله: {الذين زَعَمْتُمْ} : مفعولُه الأولُ محذوفٌ هو عائدُ الموصولِ، والثاني أيضاً محذوفٌ، قامَتْ صفتُه مَقامَه. أي: زَعَمْتموهم شركاءَ مِنْ دونِ الله. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ «مِنْ دون» هو المفعولَ الثاني؛ إذ لا يَنْعَقِدُ منه مع ما قبلَه كلامٌ. لو قلتَ: «هم من دونِ الله» أي: مِنْ غيرِ نيةِ موصوفٍ لم يَجُزْ. ولولا قيامُ الوصفِ مَقامَه أيضاً لم يُحْذَفْ؛ لأنَّ حَذْفَه اختصاراً قليلٌ. على أنَّ بعضَهم مَنَعَه.

23

قوله: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنَّ اللامَ متعلقةٌ بنفسِ الشفاعة. قال أبو البقاء: «كما تقول: شَفَعْتُ له» . الثاني: أَنْ يتعلَّقَ ب «تَنْفَعُ» ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ: وهو أنه يَلْزَمُ أحدُ أمرَيْن: إمَّا زيادةُ اللامِ في المفعولِ في غيرِ مَوْضِعها، وإمَّا حَذْفُ مفعولِ «تنفع» وكلاهما خلافُ الأصلِ. الثالث: أنه استثناءٌ مفرَّغٌ مِنْ مفعولِ الشفاعة المقدرِ أي: لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لمَنْ أَذِنَ له. ثم المستثنى منه المقدرُ يجوزُ أن يكون هو المشفوعَ له، وهو الظاهرُ، والشافعُ ليس مذكوراً إنما دَلَّ عليه الفَحْوى. والتقدير: لا تنفُع الشفاعةُ لأحدٍ من المشفوع لهم إلاَّ لمَنْ أَذن تعالى للشافعين أَنْ يَشْفعوا فيه. ويجوز أَنْ يكونَ هو الشافِعَ، والمشفوعُ له ليس مذكوراً تقديرُه: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ لشافعٍ أُذِن له أَنْ يَشْفَعَ. وعلى هذا فاللامُ في «له» لامُ التبليغِ لا لامُ العلةِ. الرابع: أنه استثناءٌ مفرَّغٌ أيضاً، لكنْ من الأحوال العامة. تقديرُه: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له. وقرَّرَه الزمخشري فقال: «تقول:» الشفاعة لزيدٍ «على معنى:

أنه الشافعُ كما تقول: الكَرْمُ لزيدٍ، وعلى معنى أنه المشفوعُ له كما تقول: القيامُ لزيدٍ فاحتمل قولُه: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أَنْ يكونَ على أحدِ هذين الوجهين أي: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له من الشافعين ومطلقةً له، أو لا تنفع الشفاعة إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له أي: لشفيعِه، أو هي اللامُ الثانية في قولك:» أُذِنَ لزيدٍ لعمروٍ «أي: لأجله فكأنه قيل: إلاَّ لمَنْ وقع الإِذنُ للشفيعِ لأجلِه. وهذا وجهٌ لطيفٌ وهو الوجه» . انتهى. فقولُه: «الكَرْم لزيدٍ» يعني: أنَّها ليسَتْ لامَ العلة بل لامُ الاختصاصِ. وقوله: «القيامُ لزيد» يعني أنها لام العلة كما هي في «القيام لزيد» . وقوله: «أُذن لزيدٍ لعمروٍ» يعني: أنَّ الأولى للتبليغ، والثانيةَ لامُ العلَّةِ. وقرأ الأخَوان وأبو عمروٍ «أُذِنَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ. والباقون مبنيّاً للفاعل أي: أَذِنَ اللَّهُ وهو المرادُ في القراءة الأخرى. وقد صَرَّح به في قولِه: {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله} [النجم: 26] {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38] . قوله: «حتى إذا» هذه غايةٌ لا بُدَّ لَها مِنْ مُغَيَّا. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه قولُه: {فاتبعوه} [سبأ: 20] على أَنْ يكونَ الضميرُ في عليهم من قولِه: {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ} [سبأ: 20] وفي «قلوبِهم» عائداً على جميع الكفار، ويكون التفزيعُ حالةَ

مفارقةِ الحياةِ، أو يُجْعَلُ اتِّباعُهم إياه مُسْتصحِباً لهم إلى يوم القيامة مجازاً. والجملةُ مِنْ قوله: «قل ادْعُوا» إلى آخرها معترضةٌ بين الغايةِ والمُغَيَّا. ذكره الشيخ. وهو حسنٌ. والثاني: أنه محذوفٌ. قال ابن عطية: «كأنه قيل: ولا هم شفعاءُ كما تحبون أنتم، بل هم عَبَدَةٌ أو مُسْلمون أي: منقادون. حتى إذا فُزِّع عن قلوبِهم» انتهى. وجعل الضميرَ في «قلوبهم» عائداً على الملائكة. وقَرَّر ذلك، وضَعَّفَ قولَ مَنْ جعله عائداً على الكفار، أو جميعِ العالم وليس هذا مَوْضِعَ تنقيحه. وقوله: «قالوا: ماذا» هو جوابُ «إذا» ، وقوله: «قالوا الحقَّ» جوابٌ لقولِه: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} . و «الحقَّ» منصوبٌ ب «قال» مضمرةً أي: قالوا قال ربُّنا الحقَّ. أي: القولَ الحقَّ. إلا أنَّ الشيخَ رَدَّ هذا فقال: «فما قَدَّره ابنُ عطية لا يَصِحُّ لأنَّ ما بعدَ الغايةِ/ مخالِفٌ لِما قبلَها، هم منقادون عَبَدَةٌ دائماً، لا ينفكُّون عن ذلك لا إذا فُزِّع عن قلوبِهم، ولا إذا لم يُفَزَّعْ» . الثالث: أنه قولُه: «زَعَمْتُم» أي: زعمتم الكفر إلى غايةِ التفزيع ثم تركْتُمْ ما زعمتم وقلتم قال الحقَّ. وعلى هذا يكونُ في الكلام التفاتٌ مِنْ خطابٍ في قولِه: «زَعَمْتم» إلى الغَيْبة في قوله: «قلوبهم» .

الرابع: أنه ما فُهِم مِنْ سياقِ الكلامِ. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بأيِّ شيءٍ اتَّصل قولُه: {حتى إِذَا فُزِّعَ} ولأيِّ شيء وقعت» حتى «غايةً؟ قلت: بما فُهِم من هذا الكلامِ مِنْ أَنَّ ثَمَّ انتظاراً للإِذْنِ وتوقُّفاً وتمهُّلاً وفَزَعاً مِن الراجين للشفاعةِ والشفعاءِ هل يُؤْذَنُ لهم، أو لا يُؤْذَن؟ وأنه لا يُطْلَقُ الإِذنُ إلاَّ بَعْد مَلِيٍّ من الزمان وطولٍ من التربُّصِ. ودَلَّ على هذه الحالِ قولُه: [تعالى {رَّبِّ السماوات} إلى قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 37-38] فكأنه قيل: يَتَرَبَّصون ويتوقَّفون مَلِيَّاً فَزِعينَ وَهِلين، حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبِهم أي: كُشِفَ الفَزَعُ عن قلوبِ الشافعين والمشفوعِ لهم بكلمةٍ يتكلم بها ربُّ العزةِ في إطلاقِ الإِذن، تباشروا بذلك، وسأل بعضُهم بعضاً: ماذا قال ربُّكم قالوا: الحق. أي: القولَ الحقَّ وهو الإِذنُ بالشفاعةِ لِمَنْ ارْتَضَى» . وقرأ ابنُ عامر «فَزَّع» مبنياً للفاعل. فإنْ كان الضميرُ في «قلوبهم» للملائكةِ فالفاعلُ في «فَزَّع» ضميرُ اسمِ الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه. وإن كان للكفارِ فالفاعلُ ضميرُ مُغْوِيْهم. كذا قال الشيخ. والظاهر أنه يعودُ على الله مطلقاً. وقرأ الباقون مبنيَّاً للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ بعده. وفَعَّل بالتشديد معناها السَّلْبُ هنا نحو: قَرَّدْتُ البعيرَ أي: أَزَلْتُ قُراده، كذا هنا أي: أزالَ الفَزَعَ عنها.

وقرأ الحسن «فُزِعَ» مبنياً للمفعول مخففاً كقولِك: ذُهِب بزيدٍ. والحسن أيضاً وقتادة ومجاهد «فَرَّغَ» مبنياً للفاعل من الفراغ. وعن الحسن أيضاً تخفيفُ الراء. وعنه أيضاً وعن ابنِ عُمَر وقتادة مشددَ الراءِ مبنياً للمفعول. والفَراغُ: الفَناء والمعنى: حتى إذا أَفْنى اللَّهُ الوَجَلَ أو انتفى بنفسِه، أو نُفِي الوَجَلُ والخوفُ عن قلوبهم فلمَّا بُني للمفعولِ قام الجارُّ مَقامَه. وقرأ ابن مسعود وابن عمر «افْرُنْقِعَ» من الافْرِنْقاع. وهو التفرُّقُ. قال الزمخشري: «والكلمةُ مركبةٌ مِنْ حروف المفارقة مع زيادة العين، كما رُكِّب» اقْمَطَرَّ «من حروفِ القَمْطِ مع زيادة الراء» . قال الشيخ: «فإنْ عَنَى أنَّ العينَ من حروفِ الزيادة، وكذا الراء، وهو ظاهرُ كلامِه فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ العين والراءَ ليسا مِنْ حروف الزيادةِ. وإنْ عنى أنَّ الكلمة فيها حروفُ ما ذُكِر، وزائداً إلى ذلك العينُ والراءُ، والمادةُ فَرْقَعَ وقَمْطَر فهو صحيحٌ» انتهى. وهذه قراءةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد، ومع ذلك هي لفظةٌ غريبةٌ ثقيلةُ اللفظِ، نَصَّ أهلُ البيانِ عليها وَمثَّلوا بها. وحَكَوْا عن عيسى بنِ عمر أنه غُشِيَ عليه ذاتَ يومٍ فاجتمع عليه النَّظَّارَةُ فلمَّا أفاق قال: «أراكم تَكَأْكَأْتُمْ عليَّ تَكَأْكُؤَكم على ذي جِنَّةٍ افرَنْقِعوا عني» أي: اجتمعتُمْ عليَّ اجتماعَكم على المجنونِ تَفَرَّقوا عني، فعابَها الناسُ عليه، حيث استعمل مثلَ هذه الألفاظِ الثقيلةِ المستغربةِ. وقرأ ابن أبي عبلة «الحقُّ» بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: قالوا قولُه الحقُّ.

24

قوله: {أَوْ إِيَّاكُمْ} : عطفٌ على اسم إنَّ. وفي الخبرِ أوجهٌ، أحدها: أنَّ الملفوظَ به الأولُ وحُذِفَ خبرُ الثاني للدلالة عليه. أي: وإنَّا لعَلى هُدىً أو في ضلال، أو إنكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ. والثاني: العكسُ أي: حُذِف الأولُ، والمَلْفوظُ به خبرُ الثاني. وهو خلافٌ مشهورٌ تقدَّم تحقيقُه عند قولِه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . وهذان الوجهان لا يَنْبغي أَنْ يُحْمَلا على ظاهرهِما قطعاً؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَشُكَّ أنه على هدىً ويقينٍ، وأنَّ الكفارَ على ضلالٍ، وإنما هذا الكلامُ جارٍ على ما يَتَخاطَبُ به العربُ من استعمالِ الإِنصاف في محاوراتِهم على سبيل الفَرَضِ والتقدير ويُسَمِّيه أهلُ البيانِ الاستدراجِ وهو: أَنْ يَذْكُرَ لمخاطبهِ أمراً يُسَلِّمه، وإنْ كان بخلافِ ما يَذْكر حتى يُصْغَي إلى ما يُلْقيه إليه، /إذ لو بدأه بما يَكْرَهُ لم يُصْغِ. ونظيرُه قولُهم: أَخْزَى اللَّهُ الكاذبَ مني ومنك. ومثلُه قولُ الشاعر: 3739 - فَأَيِّي ما وأيُّك كان شَرَّاً ... فَقِيْدَ إلى المَقامةِ لا يَرَاها وقولُ حسان: 3740 - أَتَهْجُوه ولَسْتَ له بكُفْءٍ ... فَشَرُّكُما لخيرِكما الفِداءُ مع العلم لكلِّ أحدٍ أنه صلَّى الله عليه وسلَّم خيرُ خَلْقِ اللَّهِ كلِّهم. الثالث: أنه من بابِ اللفِّ والنَّشْرِ. والتقدير: وإنَّا لعلى هُدَىً وإنكم لفي ضلال مبين. ولكن لَفَّ الكلامين وأخرجَهما كذلك لعدمَ اللَّبْسِ، وهذا لا يتأتَّى

إلاَّ أَنْ تكونَ «أو» بمعنى الواوِ وهي مسألةُ خلافٍ. ومِنْ مجيءِ «أو» بمعنى الواو قولُه: 3741 - قَوْمٌ إذا سَمِعوا الصَّرِيْخَ رَأَيْتَهُمْ ... ما بين مُلْجم مُهْره أو سافِعِ وتقدَّم تقريرُ هذا وهذا الذي ذكرْتُه منقولٌ عن أبي عبيدة. الرابع: قال الشيخ: «وأو هنا على موضوعِها لكونِها لأحدِ الشيئَيْن وخبرُ {إِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ} هو {لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ولا يُحتاج إلى تقديرِ حذفٍ؛ إذ المعنى: أنَّ أحَدنا لَفي أحدِ هذَيْن كقولِك: زيدٌ أو عمروٌ في القصر أو في المسجدِ لا يُحتاج إلى تقديرِ حَذْفٍ إذ معناه: أحدُ هذَيْن في أحدِ هذين. وقيل: الخبرُ محذوفٌ، ثم ذَكَرَ ما قَدَّمْتُ إلى آخره. وهذا الذي ذكره هو تفسيرُ معنًى لا تفسيرُ إعرابٍ، والناسُ نظروا إلى تفسيرِ الإِعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرْتُ.

26

قوله: {الفتاح العليم} : صِفتا مبالغةٍ. وقرأ عيسى بن عمر «الفاتحُ» اسمَ فاعلٍ.

27

قوله: {أَرُونِيَ} : فيها وجهان، أحدهما: أنها عِلْميةٌ متعديةٌ قبل النَّقْلِ إلى اثنين فلمَّا جيْءَ بهمزةِ النقلِ تَعَدَّتْ لثلاثةٍ أوَّلُها: ياءُ المتكلم، ثانيها: الموصولُ، ثالثها: «شركاءَ» وعائدُ الموصول محذوفٌ أي: أَلْحَقْتموهم به. الثاني: أنها بَصَرِيَّةٌ متعديةٌ قبل النقل لواحدٍ وبعده لاثنين، أوَّلُهما ياءُ المتكلم، ثانيهما الموصولُ، و «شركاءَ» نصبٌ على الحالِ مِنْ عائد الموصول أي: بَصِّرُوْني المُلْحقين به حالَ كونِهم شركائي.

قال ابن عطية في هذا الثاني: «ولا غَناء له» أي لا مَنْفعةَ فيه يعني: أنَّ معناه ضعيفٌ. قال الشيخ: «وقوله: لا غَناء له ليس بجيدٍ، بل في ذلك تبكيْتٌ لهم وتوبيخٌ، ولا يريد حقيقةَ الأمرِ بل المعنى: الذين هم شركائي على زَعْمِكم هم مِمَّنْ إنْ أَرَيْتُموهم افْتََضَحْتُمْ؛ لأنهم خشبٌ وحجرٌ وغيرُ ذلك» . قوله: «بل هو» في هذا الضميرِ قولان، أحدُهما: أنه ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى أي: ذلك الذي أَلْحَقْتُمْ به شركاءَ هو اللَّهُ. والعزيز الحكيم صفتان. والثاني: أنه ضميرُ الأمرِ والشأنِ. واللَّهُ مبتدأ، والعزيزُ الحكيمُ خبران. والجملةُ خبر «هو» .

28

قوله: {كَآفَّةً} : فيه أوجه، أحدها: أنه حالٌ من كاف «أَرْسَلْناك» والمعنى: إلاَّ جامعاً للناس في الإِبلاغ. والكافَّةُ بمعنى الجامع، والهاءُ فيه للمبالغة كهي في: عَلاَّمة وراوِية. قاله الزجاج. وهذا بناءً منه على أنه اسمُ فاعلٍ مِنْ كَفَّ يَكُفُّ. وقال الشيخ: «أمَّا قولُ الزجَّاج: إن كافَّة بمعنى جامعاً، والهاءُ فيه للمبالغة؛ فإنَّ اللغَةَ لا تُساعِدُه على ذلك؛ لأنَّ كَفَّ ليس معناه محفوظاً بمعنى جَمَعَ» يعني: أن المحفوظَ في معناه مَنَع. يقال: كَفَّ يَكُفُّ أي: مَنَع. والمعنى: إلاَّ مانعاً لهم من الكفرِ، وأن يَشُذُّوا مِنْ تَبْليغِك، ومنه الكفُّ لأنها تمنع خروج ما فيه. الثاني: أنَّ «كافَّة» مصدرٌ جاء على الفاعِلة كالعافِية والعاقِبَة. وعلى هذا فوقوعُها حالاً: إمَّا على المبالغةِ، وإمَّا على حذف مضافٍ أي: ذا كافَّةٍ للناس.

الثالث: أنَّ «كافَّة» صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه: إلاَّ إرْسالةً كافَّةً. قال الزمخشري: «إلاَّ إرْسالةً عامةً لهم محيطةً بهم؛ لأنها إذا شَمِلَتْهُم فقد كَفَتْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ منها أحدٌ منهم» . قال الشيخ: «أمَّا كافَّة بمعنى عامَّة، فالمنقولُ عن النحويين أنها لا تكونُ إلاَّ حالاً، ولم يُتَصَرَّفْ فيها بغير ذلك، فَجَعْلُها صفةً لمصدرٍ محذوفٍ خروجٌ عَمَّا نقلوا، ولا يُحْفَظُ أيضاً استعمالُها صفةً لموصوفٍ محذوفٍ» . / الرابع: أنَّ قوله: «كافَّةً» حالٌ من «للناس» أي: للناس كافَّة. إلاَّ أن هذا قد رَدَّه الزمخشريُّ فقال: «ومَن جَعَلَه حالاً من المجرور متقدِّماً عليه فقد أخطأ؛ لأنَّ تَقَدُّمَ حالِ المجرورِعليه في الإِحالةِ بمنزلةِ تقدُّمِ المجرورِ على الجارِّ. وكم تَرَى مِمَّنْ يَرْتكبُ مثلَ هذا الخطأ، ثم لا يَقْنَعُ به حتى يَضُمَّ إليه أن يَجْعَلَ اللامَ بمعنى إلى، لأنه لا يَسْتوي له الخطأُ الأولُ إلاَّ بالخطأ الثاني، فلا بُدَّ له أَنْ يرتكبَ الخطأَيْن معاً» . قال الشيخ: «أمَّا قوله كذا فهو مختلَفٌ فيه: ذهب الجمهورُ إلى أنه لا يجوزُ، وذهب أبو عليّ وابن كَيْسانَ وابن بَرْهانَ وابن ملكون إلى جوازه» . قال: «وهو الصحيحُ» . قال: «ومِنْ أمثلةِ أبي عليّ:» زيدٌ خيرَ ما يكونُ خيرٌ منك «. التقدير: زيدٌ خيرٌ منك خيرَ ما يكونُ، فجعل» خيرَ ما يكون «حالاً من الكاف في» مِنْكَ «وقَدَّمها عليها وأنشد:

3742 - إذا المَرْءُ أَعْيَتْه المروءةُ ناشِئاً فمطلبُها كهْلاً عليه شديدُ ... أي: فمطلَبُها عليه كَهْلاً. وأنشد أيضاً: 3743 - تَسَلَّيْتُ طُرَّاً عنكُمُ بَعْدَ بَيْنِكُمْ ... بذِكْراكمُ حتى كأنَّكُمُ عندي أي: عنكم طُرَّاً. وقد جاء تقديمُ الحالِ على صاحبِها المجرور وعلى ما يتعلق به قال: 3744 - مَشْغُوفَةً بكِ قد شُغِفْتُ وإنَّما ... حَتَمَ الفراقُ فما إليك سبيلُ أي: قد شُغِفَتْ بك مَشْغوفةً. وقال آخر: 3745 - غافِلاً تَعْرِضُ المنيَّةُ للمَرْ ... ءِ فيُدْعَى ولات حينَ إباءُ أي: تَعْرِضُ المنيَّةُ للمَرْءِ غافِلاً «. قال:» وإذا جازَ تقديمُها على صاحبها وعلى العاملِ فيه، فتقديمُها على صاحبِها وحدَه أجوزُ «. قال:» ومِمَّنْ حمله على الحال ابنُ عطيةَ فإنه قال: «قُدِّمَتْ للاهتمام» والمنقولُ

عن ابن عباس قولُه: إلى العرب والعجم وسائر الأمم، وتقديره إلى الناس كافة. قال: «وقولُ الزمخشريِّ: لا يَسْتوي له الخطأ الأول إلخ فشَنيعٌ؛ لأنَّ القائلَ بذلك لا يحتاجُ إلى جَعْلِ اللامِ بمعنى إلى لأنَّ أَرْسَلَ يتعدَّى باللام قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء: 79] و» أرسلَ «ممَّا يتعدَّى باللامِ، وب» إلى «أيضاً. وقد جاءتِ اللامُ بمعنى» إلى «و» إلى «بمعناها» . قلت: أمَّا {أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ} فلا دَلالةَ فيه؛ لاحتمالِ أَنْ تكونَ اللامُ لامَ العلةِ المجازيَّةِ. وأمَّا كونُها بمعنى «إلى» والعكسُ فالبصريُّون لا يَتَجوَّزُون في الحروف. و «بشيراً ونذيراً» حالان أيضاً.

30

قوله: {لَّكُم مِّيعَادُ} : مبتدأٌ وخبرٌ. والميعادُ يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مصدرٌ مضافٌ لظرفِه، والميعادُ يُطْلق على الوعدِ والوعيدِ. وقد تقدَّم أنَّ الوعدَ في الخيرِ، والوعيدَ في الشرِّ غالباً. الثاني: اسمٌ أُقيم مُقامَ المصدرِ. والظاهرُ الأولُ. قال أبو عبيدة: «الوَعْدُ والوعيدُ والميعاد بمعنىً» . الثالث: أنه هنا ظرفُ زمانٍ. قال الزمخشري: «الميعادُ ظرفُ الوعدِ، من مكانٍ أو زمانٍ، وهو هنا ظرفُ زمانٍ. والدليلُ عليه قراءةُ مَنْ قرأ» ميعادٌ يومٌ «يعني برفعِهما منوَّنَيْنِ، فأبدل منه اليوم. وأمَّا الإِضافةُ فإضافةُ تبيينٍ، كقولك: سَحْقُ ثوبٍ وبعيرُ سانِيَةٍ» . قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ ما قال؛ لاحتمالِ أَنْ يكونَ التقديرُ: لكم ميعادُ

ميعادِ يومٍ، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُعْرِب المضافُ إليه بإعرابه» . قلت: الزمخشريُّ لو فَعَلَ مثلَه لسَمَّع به. وجَوَّزَ الزمخشريُّ في الرفع وجهاً آخرَ: وهو الرفعُ على التعظيمِ، يعني على إضمارِ مبتدَأ، وهوالذي يُسَمَّى القطعَ. وسيأتي هذا قريباً. وقرأ ابنُ أبي عبلةَ واليزيديُّ «ميعادٌ يوماً» بتنوين الأولِ، ونصبِ «يوماً» منوَّناً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ. والعاملُ فيه مضافٌ مقدرٌ، تقديرُه: لكم إنجازُ وعدٍ في يومٍ صفتُه كيتَ وكيتَ. الثاني: أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ. قال الزمخشريُّ: «وأمَّا نصبُ اليوم فعلى التعظيم بإضمارِ فعلٍ، تقديرُه: أعني يوماً. ويجوز أَنْ يكونَ الرفعُ على هذا، أعني التعظيمَ» . وقرأ عيسى بتنوين الأول، ونصبِ «يوم» مضافاً للجملة بعده. / وفيه الوجهانِ المتقدِّمان: النصبُ على التعظيم، أو الظرفُ. قوله: {لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ} يجوزُ في هذه الجملةِ أَنْ تكونَ صفةً ل «مِيْعاد» إنْ عاد الضميرُ في «عنه» عليه، أو ل «يوم» إنْ عاد الضميرُ في «عنه» عليه، فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِها بالرفع أو الجرِّ. وأمَّا على قراءةِ عيسى فينبغي أَنْ يعودَ الضميرُ في «عنه» على «ميعاد» ليس إلاَّ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ الظرفَ إذا أُضيفَ إلى جملةٍ لم يَعُدْ منها إليه ضميرٌ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله:

3746 - مَضَتْ سَنَةٌ لِعامَ وُلِدْتُ فيه ... وعَشْرٌ بعد ذاكَ وحِجَّتانِ

31

قوله: {وَلَوْ تَرَى ا} : مفعولُ «ترى» وجوابُ «لو» محذوفان للفهم. أي: لو ترى حالَ الظالمين وقتَ وقوفِهم راجعاً بعضُهم إلى بعض القولَ لرَأَيْتَ حالاً فظيعة وأمراً مُنْكراً. و «يَرْجِعُ» حالٌ مِنْ ضميرِ «مَوْقوفون» ، والقولُ منصوبٌ ب «يَرْجِعُ» لأنه يَتَعَدَّى. قال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} [التوبة: 83] . وقولُه: {يَقُولُ الذين استضعفوا} إلى آخره تفسيرٌ لقولِه: «يَرْجِعُ» فلا مَحَلَّ له. و «أنتم» بعد «لولا» مبتدأٌ على أصَحِّ المذاهبِ. وهذا هو الأفصحُ. أعني وقوعَ ضمائرِ الرفعِ بعد «لولا» خلافاً للمبرد؛ حيث جَعَلَ خلافَ هذا لَحْناً، وأنه لم يَرِدْ إلاَّ في قولِ يزيدَ: 3747 - وكم مَوْطَنٍ لَوْلاي. . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. والأخفشُ جَعَلَ أنه ضميرُ نصبٍ أو جرٍ قامَ مقامَ ضميرِ الرفع. وسيبويهِ جعلَه ضميرَ جَرّ.

33

قوله: {بَلْ مَكْرُ الليل} : يجوز رفعُه مِنْ ثلاثةِ أوجه، أحدها: الفاعليةُ تقديره: بل صَدَّنا مَكْرُكُمْ في هذين الوقتين. الثاني:

أَنْ يكونَ مبتدأً خبرُه محذوفٌ، أي: مَكْرُ الليلِ صَدَّنا. الثالث: العكسُ أي: سببُ كفرِنا مَكْرُكم. وإضافةُ المَكْرِ إلى الليلِ والنهار: إمَّا على الإِسنادِ المجازيِّ كقولهم: ليلٌ ماكرٌ، فيكونُ مصدراً مضافاً لمرفوعِه، وإمَّا على الاتساعِ في الظرف فجُعِل كالمفعولِ به، فيكونُ مضافاً لمنصوبِه. وهذان أحسنُ مِنْ قول مَنْ قال: إنَّ الإِضافةَ بمعنى «في» أي: في الليل؛ لأنَّ ذلك لم يَثْبُتْ في غيرِ مَحَلِّ النِّزاع. وقرأ العامَّةُ «مَكْرُ» خفيفَ الراءِ ساكنَ الكاف مضافاً لِما بعده. وابن يعمر وقتادةُ بتنوين «مكرٌ» وانتصابِ الليل والنهار ظرفَيْن. وقرأ أيضاً وسعيد بن جبير وأبو رُزَيْن بفتحِ الكافِ وتشديدِ الراء مضافاً لِما بعده. أي: كُرورُ الليل والنهار واختلافُهما، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ، إذا جاء وذهب. وقرأ ابن جُبير أيضاً وطلحة وراشد القارئ - وهو الذي كان يصحِّحُ المصاحفَ أيامَ الحَجَّاج بأمرِه - كذلك إلاَّ أنه بنصبِ الراء. وفيها أوجهٌ، أظهرُها: ما قاله الزمخشري، وهو الانتصابُ على المصدرِ قال: «بل تَكُرُّون الإِغواءَ مَكَرَّاً دائماً لا تَفْتَرُون عنه» . الثاني: النصبُ على الظرفِ بإضمارِ فِعْلٍ أي: بل صَدَدْتُمونا مَكَرَّ الليلِ والنهارِ أي: دائماً. الثالث: أنه منصوبٌ بتَأْمُرُوننا، قاله أبو الفَضل الرازي، وهو غلطٌ؛ لأنَّ ما بعد المضافِ لا يَعْمل فيما قبلَه إلاَّ في مسألةٍ واحدةٍ: وهي «غير» إذا كانَتْ بمعنى «لا» كقوله:

3748 - إنَّ أمْرَأً خَصَّني عَمْداً مَوَدَّتَه ... على التَّنائي لَعِندي غيرُ مَكْفورِ وتقريرُ هذا تقدَّمَ أواخرَ الفاتحة. وجاء قولُه: {قَالَ الذين استكبروا} بغيرِ عاطفٍ؛ لأنَّه جوابٌ لقولِ الضَّعَفَةِ، فاسْتُؤْنِفَ، بخلافِ قولِه: {وَقَالَ الذين استضعفوا} فإنه لَمَّا لم يكنْ جواباً عُطِف. والضميرُ في «وأَسَرُّوا الندامةَ» للجميع: للأتباع والمتبوعين.

34

قوله: {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} : جملةٌ حاليةٌ مِنْ «قرية» وإن كانَتْ نكرةً؛ لأنَّها في سياقِ النفي. قوله: «بما أُرْسِلْتُمْ» متعلقٌ بخبر «إنَّ» و «به» متعلِّقٌ ب «أُرْسِلْتُمْ» . والتقدير: إنَّا كافرون بالذي أُرْسِلْتم به، وإنما قُدِّم للاهتمامِ. وحَسَّنه تواخي الفواصلِ.

36

قوله: {وَيَقْدِرُ} : أي: يُضَيِّق بدليل مقابلتِه ل «يَبْسُط» . وهذا هو الطباقُ البديعيُّ. وقرأ الأعمش «ويُقَدِّر» بالتشديد/ في الموضعين.

37

قوله: {بالتي تُقَرِّبُكُمْ} : صفةٌ للأموالِ والأولادِ؛ لأنَّ جمعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثةِ الواحدة. وقال الفراء والزجَّاج: إنَّه حذفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه. قالا: والتقدير

وما أموالُكم بالتي تُقَرِّبُكم عندنا زُلْفَى، ولا أولادُكم بالتي تُقَرِّبُكم. وهذا لا حاجةَ إليه أيضاً. ونُقِل عن الفراء ما تقدَّمَ: مِنْ أنَّ «التي» صفةٌ للأموالِ والأولادِ معاً. وهو الصحيح. وجعل الزمخشري «التي» صفةً لموصوفٍ محذوفٍ. قال: «ويجوزُ أَنْ تكون هي التقوى وهي المقرِّبةُ عند الله زُلْفَى وحدها أي: ليسَتْ أموالُكم وأولادُكم بتلك الموصوفةِ عند الله بالتقريبِ» . وقال الشيخ: «ولا حاجةَ إلى هذا الموصوفِ» قلت: والحاجةُ إليه بالنسبة إلى المعنى الذي ذكره داعيةٌ. قوله: «زُلْفَى» مصدرٌ مِنْ معنى الأول، إذ التقدير: تُقَرِّبكم قُرْبى. وقرأ الضحَّاك «زُلَفاً» بفتح اللام وتنوين الكلمة على أنها جمعُ زُلْفَى نحو: قُرْبَة وقُرَب. جُمِع المصدرُ لاختلافِ أنواعِه. قوله: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه استثناءٌ منقطعٌ فهو منصوبُ المحلِّ. الثاني: أنه في محلِّ جَرّ بدلاً من الضمير في «أموالكم» . قاله الزجاج. وغَلَّطه النحاس: بأنه بدلٌ من ضمير المخاطب. قال: «ولو جاز هذا لجازَ» رَأَيْتُك زيداً «. وقولُ أبي إسحاقَ هذا هو قولُ الفراءِ» . انتهى.

قال الشيخُ: «ومذهبُ الأخفش والكوفيين أنه يجوزُ البدلُ مِنْ ضميرِ المخاطبةِ والمتكلم؛ إلاَّ أنَّ البدلَ في الآيةِ لا يَصِحُّ؛ ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تفريغُ الفعلِ الواقعِ صلةً لما بعد» إلاَّ «لو قلتَ:» ما زيدٌ بالذي يَضْرِب إلاَّ خالداً «لم يَجُزْ. وَتَخَيَّلَ الزجَّاجُ أنَّ الصلةَ - وإن كانَتْ مِنْ حيث المعنى منفيَّةً - أنه يجوزُ البدلُ، وليس بجائزٍ، إلاَّ أَنْ يَصِحَّ التفريغُ له» . قلت: ومَنْعُهُ قولَك: «ما زيدٌ بالذي يَضْرب إلاَّ خالداً» فيه نظرٌ، لأنَّ النفيَ إذا كان مُنْسَحباً على الجملة أُعْطي حُكْمَ ما لو باشَرَ ذلك الشيءَ. ألا ترى أنَّ النفيَ في قولك «ما ظننتُ أحداً يَفْعلُ ذلك إلاَّ زيدٌ» سَوَّغَ البدلَ في «زيد» مِنْ ضميرِ «يَفْعَل» وإنْ لم يكنِ النفيُ مُتَسَلِّطاً عليه. قالوا: ولكنه لمَّا كان في حَيِّزِ النفي صَحَّ فيه ذلك، فهذا مثلُه. والزمخشريُّ أيضاً تَبع الزجَّاجَ والفراءَ في ذلك من حيث المعنى، إلاَّ أنَّه لم يَجْعَلْه بدلاً بل منصوباً على أصل الاستثناء، فقال: «إلاَّ مَنْ آمنَ استثناءٌ من» كم «في تُقَرِّبُكم. والمعنى: أنَّ الأموالَ لا تُقَرِّبُ أحداً إلاَّ المؤمنَ الذي يُنْفقها في سبيلِ الله. والأولاد لا تُقَرِّبُ أحداً إلاَّ مَنْ عَلَّمهم الخيرَ، وفَقَّهَهم في الدين، ورَشَّحهم للصلاح» . ورَدَّ عليه الشيخُ بنحوِ ما تقدَّم فقال: «لا يجوزُ: ما زيدٌ بالذي يَخْرُج إلاَّ أخوه، وما زيدٌ بالذي يَضْرب إلاَّ عَمْراً» . والجوابُ عنه ما تقدم، وأيضاً فالزمخشريُّ لم يجعَلْه بدلاً بل استثناءً صريحاً، ولا يُشْتَرَطُ في الاستثناء التفريغُ اللفظيُّ بل الإِسنادُ المعنويُّ، ألا ترى أنك تقول: «قام

القومُ إلاَّ زيداً» ولو فَرَّغْتَه لفظاً لامتنع؛ لأنه مُثْبَتٌ. وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ هو الوجهُ الثالثُ في المسألة. الرابع: أنَّ «مَنْ آمَنَ» في محلِّ رفع على الابتداء. والخبرُ قولُه: {فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف} . وقال الفراء: «هو في موضعٍ رفعٍ تقديرُه: ما هو المقرَّب إلاَّ مَنْ آمن» وهذا لا طائلَ تحته. وعَجِبْتُ من الفَرَّاءِ كيف يقوله؟ وقرأ العامَّةُ: «جزاءُ الضِّعْفِ» مضافاً على أنه مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، أي: أَنْ يُجازِيَهم الضِّعْفَ. وقَدَّره الزمخشريُّ مبنيَّاً للمفعول أي: يُجْزَوْن الضِّعْفَ. ورَدَّه الشيخ: بأنَّ الصحيحَ مَنْعُه. وقرأ قتادة برفعِهما على إبدالِ الضِّعْف مِنْ «جزاء» . وعنه أيضاً وعن يعقوبَ بنصبِ «جزاءً» على الحال. والعاملُ فيها الاستقرار، وهذه كقولِه: {فَلَهُ جَزَآءً الحسنى} [الكهف: 88] فيمَنْ قرأ بنصبِ «جزاء» في الكهف. قوله: «في الغُرُفاتِ» قرأ حمزةُ «الغُرْفَة» بالتوحيد على إرادةِ الجنس ولعدمِ اللَّبْسِ؛ لأنه مَعْلومٌ أنَّ لكلِّ أحدٍ غرفةً تَخُصُّه. وقد أُجْمِعَ على التوحيدِ في قوله: {يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75] ولأنَّ لفظَ الواحدِ أخفُّ فوُضِعَ مَوْضِعَ الجمعِ مع

أَمْنِ اللَّبْسِ. والباقون «الغُرُفات» جمعَ سَلامة. وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58] والرسمُ مُحْتَمِلٌ للقراءَتَيْن. وقرأ الحسن بضمِّ راء «غُرُفات» على الإِتباع. وبعضُهم يَفْتحها. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك أول البقرة. وقرأ ابنُ وثَّاب «الغُرُفَة» بضمِّ الراء والتوحيد.

39

قوله: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ/ «ما» موصولةً في محلِّ رَفْعٍ بالابتداء. والخبرُ قولُه: «فهو يُخْلِفُه» ودخلتِ الفاءُ لشَبَهِه بالشرطِ. و «مِنْ شَيْءٍ» بيانٌ، كذا قيلَ. وفيه نظرٌ لإِبهامِ «شيء» فأيُّ تبيينٍ فيه؟ الثاني: أَنْ تكونَ شرطيةً فتكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدَّماً، و «فهو يُخْلِفُه» جوابُ الشرطِ. قوله: «الرازِقين» إنما جُمِع من حيث الصورةُ؛ لأنَّ الإِنسانَ يرزقُ عيالَه مِنْ رزقِ اللَّهِ، والرازقُ في الحقيقة للكلِّ إنما هو الله تعالى.

40

قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ} : قد تقدَّم أنه يُقْرأ بالنونِ والياءِ في الأنعام. قوله: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} «إيَّاكم» منصوبٌ بخبر كان، قُدِّمَ لأجلِ الفواصلِ والاهتمامِ. واسْتُدِلَّ به على جوازِ تقديم خبر «كان» عليها إذا كان خبرُها جملةً فإنَّ فيه خلافاً: جَوَّزه ابن السَّراج، ومنعَه غيرُه. وكذلك

اختلفوا في: توسُّطه إذا كان جملةً، قال ابن السَّراج: «القياسُ جوازُه، ولكنْ لم يُسْمَعْ» . قلت: قد تقدَّم في قوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137] ونحوه أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ تقديمِ الخبرِ وأَنْ لا يكون. ووجهُ الدلالةِ هنا: أنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤْذِنُ بتقديمِ العاملِ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في هود عند قولِه: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً} [هود: 8] ومَنْعُ هذه القاعدةِ.

42

قوله: {التي كُنتُم بِهَا} : صفةُ النارِ، وفي السجدة وَصْفُ العذاب. قيل: لأنَّ ثَمَّ كانوا مُلْتَبسين بالعذابِ متردِّدِين فيه فَوُصِفَ لهم ما لابَسُوه، وهنا لم يُلابِسُوه بَعْدُ؛ لأنه عَقيبُ حَشْرِهم.

44

قوله: {يَدْرُسُونَهَا} : العامَّةُ على التخفيفِ مضارعَ درس مخففاً أي: حَفِظَ. وأبو حيوةَ «يَدَّرِسُوْنَها» بفتح الدال مشددةً وكسرِ الراء. والأصلُ يَدْتَرِسُوْنها من الادِّراس على الافتعالِ فأُدْغم. وعنه أيضاً بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ وشَدِّ الراءِ من التدريس. قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ} أي: إلى هؤلاء المعاصرين لك لم نُرْسِلْ إليهم نذيراً يُشافِهُهم بالنِّذارةِ غيرَك، فلا تَعارُضَ بينَه وبينَ قولِه: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ

إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] إذِ المرادُ هناك آثارُ النَّذيرِ، ولا شَكَّ أنَّ هذا كان موجوداً، يَذْهَبُ النبيُّ، وتَبْقَى شريعتُه.

45

قوله: {وَمَا بَلَغُواْ} الظاهرُ أن الضميرُ في «بَلَغُوا» وفي «آتيناهم» للذين مِنْ قبلهم ليناسِقَ قوله: «فكذَّبُوا رُسُلي» بمعنى: أنهم لم يَبْلُغوا في شُكْر النِّعْمَة وجزاءِ المِنَّةِ مِعْشارَ ما آتيناهم من النعمِ والإِحسانِ إليهم. وقيل: بل ضميرُ الرفع لقريشٍ والنصبِ للذين مِنْ قبلهم، وهو قولُ ابنِ عباس على معنى أنهم كانوا أكثرَ أموالاً. وقيل: بالعكس على معنى: إنَّا أَعْطَيْنا قريشاً من الآياتِ والبراهينِ ما لم نُعْطِ مَنْ قبلَهم. واخْتُلِفَ في المِعْشار فقيل: هو بمعنى العُشْرِ، بنى مِفْعال مِنْ لفظِ العُشْر كالمِرْبَاع، ولا ثالثَ لهما من ألفاظِ العدد لا يقال: مِسْداسَ ولا مِخْماس. وقيل: هو عُشْرُ العُشْرِ. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيَّة أنكره وقال: «ليس بشيء» . وقال الماوردي: «المِعْشارُ هنا: هو عُشْرُ العُشَيْرِ، والعُشَيْرُ هو عُشْرُ العُشْر، فيكون جزءاً من ألفٍ» . قال: «وهو الأظهرُ؛ لأنَّ المرادَ به المبالغةَ في التقليل» . قوله: «فَكَذَّبوا» فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوف على {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} . والثاني: أنه معطوف على «وما بَلَغُوا» وأوضحَهما الزمخشريُّ فقال: «

فإنْ قُلْتَ: ما معنى» فكذَّبُوا رُسُلي «وهو مستغنى عنه بقوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} ؟ قلت: لمَّا كان معنى قولِه: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} : وفَعَلَ الذين مِنْ قبلِهم التكذيبَ، وأَقْدَمُوا عليه جُعِلَ تكذيبُ الرسلِ مُسَبَّباً عنه. ونظيرُه أَنْ يقولَ القائلُ: أقدمَ فلانٌ على الكفر فَكَفَرَ بمحمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. ويجوزُ أَنْ يُعْطَفَ على قَولِه:» وما بَلَغوا «كقولك: ما بلغ زيدٌ مِعْشارَ فضل عمروٍ فتَفَضَّلَ عليه» . و «نَكير» مصدرٌ مضافٌ لفاعِله أي: إنكاري. وتقدَّمَ حَذْفُ يائِه وإثباتُها.

46

قوله: {أَن تَقُومُواْ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنها مجرورةُ المحلِّ بدلاً مِنْ «واحدة» على سبيلِ البيان. قاله الفارسيُّ. الثاني: أنها عطفُ بيانٍ ل «واحدة» / قاله الزمخشريُّ. وهو مردودٌ لتخالُفِهِما تعريفاً وتنكيراً. وقد تقدَّم هذا عند قولِه: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] . الثالث: أنها منصوبةٌ بإضمارِ أعني. الرابع: أنها مرفوعةٌ على خبر ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي أَنْ تقومُوا. ومَثْنى وفُرادى: حال. ومضى تحقيقُ القولِ في «مَثْنى» وبابِه في سورة النساء، وتقدَّم القولُ في «فُرادى» في سورةِ الأنعام. قوله: «ثم تتفَكَّروا» عَطْفٌ على «أَنْ تَقُوموا» أي: قيامِكم ثم تَفَكُّرِكم.

والوقفُ عند أبي حاتم على هذه الآية، ثم يَبْتَدِئُ «ما بصاحبِكم» . وفي «ما» هذه قولان، أحدُهما: أنها نافيةٌ. والثاني: أنها استفهاميةٌ، لكن لا يُراد به حقيقةُ الاستفهامِ، فيعودُ إلى النفي. وإذا كانت نافيةً فهل هي مَعَلِّقَةٌ، أو مستأنفةٌ، أو جوابُ القسمِ الذي تضمَّنه معنى «تَتَفَكَّروا» لأنه فعلُ تحقيقٍ كتبيَّن وبابِه؟ ثلاثةُ أوجه. نقل الثالثَ ابنُ عطية، وربما نَسَبه لسيبويه. وإذا كانَتْ استفهاميةً جاز فيها الوجهان الأوَّلان، دونَ الثالث. و «مِنْ جِنَّةٍ» يجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً بالجارِّ لاعتمادِه، وأَنْ يكونَ مبتدأً. ويجوز في «ما» إذا كانَتْ نافيةً أَنْ تكونَ الحجازيَّةَ، أو التميميَّةَ.

47

قوله: {مَا سَأَلْتُكُم} : في «ما» وجهان، أحدُهما: أنَّها شرطيةٌ فتكونُ مفعولاً مقدماً، و «فهو لكم» جوابُها. الثاني: أنها موصولَةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ، والعائدُ محذوفٌ أي: سَأَلْتُكموه. والخبر «فهو لكم» . ودخَلَتِ [الفاءُ] لِشَبَهِ الموصولِ بالشرط. والمعنى يحتمل أنَّه لم يَسْأَلْهم أجراً البتةَ، كقولك: «إنْ أَعْطَيْتَني شيئاً فَخُذْه» مع عِلْمِك أنه لم يُعْطِك شيئاً. ويُؤَيِّدُه {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} ويُحْتمل أنه سألهم شيئاً نَفْعُه عائدٌ عليهم، وهو المرادُ بقوله: {إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] .

48

قوله: {يَقْذِفُ بالحق} : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولُه محذوفاً؛ لأنَّ القَذْفَ في الأصلِ الرَّمْيُ. وعَبَّر به هنا عن الإِلقاءِ أي: يُلْقي

الوحيَ إلى أنبيائِه بالحقِّ. أي: بسبب الحق، أو مُلْتَبِساً بالحقِّ. ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: يَقْذِفُ الباطِلَ بالحقِّ أي: يَدْفَعُه ويَطْرَحُه به، كقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} [الأنبياء: 18] . ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ زائدةً، أي: يُلقي الحقَّ كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] ، أو يُضَمَّنُ «يقْذِفُ» معنى يَقْضي ويَحْكُمُ. قوله: «عَلاَّمُ الغيوبِ» العامَّةُ على رفعه. وفيه أوجهٌ، أظهرُها: أنه خبرٌ ثانٍ ل «إنَّ» ، أو خبرُ مبتدأ مُضْمرٍ، أو بدلٌ من الضمير في «يَقْذِفُ» ، أو نعتٌ له على رأي الكسائي؛ لأنه يُجيز نعتَ الضميرِ الغائبِ، وقد صَرَّح به هنا. وقال الزمخشريُّ: «رَفْعٌ على محلِّ» إنَّ «واسمِها، أو على المستكنِّ في» يَقْذِفُ «. قلتُ: يعني بقولِه:» محمولٌ على مَحَلِّ إنَّ واسمِها «يعني به النعتَ، إلاَّ أنَّ ذلك ليس مذهبَ البصريين، لم يَعْتبروا المحلَّ إلاَّ في العطفِ بالحرف بشروطٍ عند بعضِهم. ويريدُ بالحَمْل على الضمير في» يَقْذِفُ «أنَّه بدلٌ منه، لاَ أنه نعتٌ له؛ لأنَّ ذلك انفرد به الكسائيُّ. وزيد بن علي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب نعتاً لاسم» إنَّ «أو بدلاً منه على قلةِ الإِبدالِ بالمشتق أو منصوبٌ على المدح.

وقرئ» الغيوبِ «بالحركاتِ الثلاثِ في الغين. فالكسرُ والضمُّ تقدَّما في» بيوت «وبابِه، وأمَّا الفتحُ فصيغةُ مبالغةٍ كالشَّكور والصَّبور، وهو الشيءُ الغائبُ الخفيُّ جداً.

49

قوله: {وَمَا يُبْدِىءُ} : يجوز في «ما» أَنْ يكونَ نفياً، وأَنْ يكونَ استفهاماً، ولكنْ يَؤُول معناه إلى النفي، ولا مفعولَ ل «يُبْدِئُ» ولا ل «يُعِيْد» ؛ إذ المرادُ: لا يُوْقِع هذين الفعلَيْن، كقوله: 3749 - أَقْفَرَ مِنْ أهلِه عبيدُ ... أصبحَ لا يُبْدِيْ ولا يُعيدُ وقيل: مفعولُه محذوفٌ أي: ما يُبْدِئُ لأهلِه خيراً ولا يُعيدُه، وهو تقديرُ الحسنِ.

50

قوله: {إِن ضَلَلْتُ} : العامَّةُ على فتحِ لامه في الماضي وكسرِها في المضارع، ولكنْ يُنْقَلُ إلى الساكنِ قبلها، والحسن وابنُ وثَّاب بالعكس، وهي لغةُ تميمٍ، وتقدَّم ذلك.

قوله: «فبما يُوْحِي» يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي: بسببِ إيحاءِ ربي إليَّ، وأَنْ تكونَ موصولةً أي: بسبب الذي يُوْحِيه، فعائدُه محذوفٌ.

51

قوله: {فَلاَ فَوْتَ} : العامَّةُ على بنائِه/ على الفتح، و «أُخِذُوا» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول معطوفاً على «فَزِعُوا» . وقيل: على معنى فلا فَوْتَ أي: فلم يَفُوْتُوا وأُخِذوا. وقرأ عبد الرحمن مَوْلى بني هاشم وطلحة «فلا فَوْتٌ» و «أَخْذٌ» مرفوعين منوَّنَيْنِ، وأُبَيٌّ بفتح «فَوْت» ورَفْع «أَخْذ» . فرَفْعُ «فَوْت» على الابتداء أو على اسمِ «لا» اللَّيْسِيَّةِ. ومَنْ رَفَعَ «وأَخْذٌ» رَفَعَه بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ أي: وأَخْذٌ هناك، أو على خبر ابتداءٍ مضمرٍ أي: وحالُهم أَخْذٌ، ويكونُ مِنْ عَطْفِ الجملِ، عَطَفَ مثبتةً على منفيةٍ.

52

والضميرُ في «آمنَّا به» لله تعالى، أو للرسول، أو للقرآن، أو للعذاب، أو للبعث. قوله: «التَّناوُشُ» مبتدأ، و «أنَّى» خبرُه أي: كيف لهم التناوشُ. و «لهم» حالٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «لهم» رافعاً للتناوش لاعتمادِه على الاستفهامِ، تقديرُه: كيف استقرَّ لهم التناوش؟ وفيه بُعْدٌ. والتناؤُش مهموزٌ في قراءة الأخوَيْن وأبي عمرو وأبي بكر، وبالواوِ في قراءةِ غيرِهم، فيُحتمل أن تكونا مادتين مستقلَّتين مع اتِّحاد معناهما. وقيل: الهمزةُ عن الواو لانضمامِها كوُجوه وأُجُوه،

ووُقِّتَتْ وأُقِّتَتْ. وإليه ذهب جماعةٌ كثيرةٌ كالزَّجَّاج والزمخشري وابن عطية والحوفي وأبي البقاء. قال الزجَّاج: «كلُّ واوٍ مضمومةٍ ضمةً لازمةً فأنت فيها بالخِيار» وتابعه الباقون قريباً مِنْ عبارِته. ورَدَّ الشيخ هذا الإِطلاقَ وقَيَّده: بأنَّه لا بُدَّ أَنْ تكونَ الواوُ غيرَ مُدْغَمٍ فيها تحرُّزاً من التعَوُّذ، وأَنْ تكونَ غيرَ مُصَحَّحةٍ في الفعلِ، فإنها متى صَحَّت في الفعل لم تُبْدَلْ همزةً نحو: تَرَهْوَكَ تَرَهْوُكاً، وتعاوَنَ تعاوُناً. وبهذا القيدِ الأخير يَبْطُلُ قولُهم؛ لأنها صَحَّتْ في تَنَاوَشَ يتناوَشُ، ومتى سُلِّم له هذان القيدان أو الأخِيرُ منهما ثَبَتَ رَدُّه. والتناوُش: الرُّجوع. وأُنْشِدَ: 3750 - تَمَنَّى أَنْ تَؤُوْبَ إليَّ مَيٌّ ... وليس إلى تناوُشِها سبيلُ

أي: إلى رجوعِها. وقيل: هو التناوُل يقال: ناشَ كذا أي: تناولَه. ومنه: تناوَشَ القوم بالسِّلاح كقوله: 3751 - ظَلَّتْ سُيوفُ بني أَبيه تَنُوْشُه ... للهِ أرحام هناك تُشَقَّقُ وقال آخر: 3752 - فَهْيَ تَنُوْشُ الحَوْضَ نَوْشاً مِنْ عَلا ... نَوْشاً به تَقْطَعُ أجوازَ الفَلا وفَرَّق بعضُهم بين المهموزِ وغيرِه، فجعله بالهمزِ بمعنى التأخُّر. قال الفراء: «مِنْ نَأَشْتُ أي: تَأخَّرْتُ» . وأنشد: 3753 - تَمَنَّى نَئِيْشاً أَنْ يكونُ مُطاعِناً ... وقد حَدَثَتْ بعد الأمورِ أمورُ

وقال آخر: 3754 - قَعَدْتَ زماناً عن طِلابك للعُلا ... وجِئْتَ نَئيشاً بعد ما فاتَكَ الخبرُ وقال الفراء: «أيضاً هما متقاربان. يعني الهمزَ وتَرْكَه مثل: ذِمْتُ الرجلَ، وذَأََمْتُه أي: عِبْتُه» وانتاش انتِياشاً كَتَناوَشَ تناوُشاً. قال: 3755 - باتَتْ تَنُوْشُ العَنَقَ انْتِياشاً ... وهذا مصدرٌ على غيرِ الصدرِ. و «مِنْ مكانٍ» متعلِّقٌ بالتَّناوش.

53

قوله: {وَقَدْ كَفَرُواْ} : جملةٌ حالية، و «مِنْ قبلُ» أي من قبل زوال العذاب. ويجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً. والأولُ أظهرُ. قوله: «ويَقْذِفُون» يجوز فيها الاستئناف، والحال. وفيه بُعْدٌ عكسَ الأولِ لدخول الواو على مضارعٍ مثبتٍ. والضمير في «به» كما تقدَّم فيه بعد «آمنَّا» . وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو و «يُقْذَفون» مبنياً للمفعول أي: يُرْجمون بما يَسُوْءُهم مِنْ جَرَّاءِ أعمالِهم من حيث لا يَحْتسبون.

54

قوله: {وَحِيلَ} : قد تقدَّمَ فيه الإِشمامُ والكسر أولَ البقرة والقائمُ مقامَ الفاعلِ ضميرُ المصدرِ أي: وحِيْلَ هو أي الحَوْلُ. ولا تُقَدِّره مصدراً مؤكَّداً بل مختصاً حتى يَصِحَّ قيامُه. وجَعَلَ الحوفيُّ القائمَ مقامَ الفاعلِ «بينهم» واعْتُرِض عليه: بأنه كان ينبغي أن يُرْفَعَ. وأُجيب عنه بأنَّه إنما بُني على الفتح لإِضافتِه إلى غير متمكنٍ. ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يُبْنى المضافُ إلى غيرِ متمكنٍ مطلقاً، فلا يجوز: «قام غلامَك» ولا «مررتُ بغلامَك» بالفتح. قلت وقد تقدَّم في قولِه: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] ما يُغْنِيْنا عن إعادتِه هنا/. ثم قال الشيخ: «وما يقولُ قائلُ ذلك في قولِ الشاعر: 3756 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد حِيْلَ بين العَيْرِ والنَّزَوانِ فإنه نصب» بين «مضافةً إلى مُعْربٍ. وخُرِّجَ أيضاً على ذلك قولُ الآخر:

3757 - وقالَتْ متى يُبْخَلُ عليك ويُعْتَلَلْ ... يَسُؤْكَ وإن يُكشَفْ غرامُك تَدْرَبِ أي: يُعْتَلَلْ هو أي الاعتلال» . قوله: «مِنْ قبلُ» متعلِّقٌ ب «فُعِل» أو «بأشياعهم» أي: الذين شايَعوهم قبلَ ذلك الحينِ. قوله: «مُريب» قد تقدَّم أنه اسمُ فاعلٍ مِنْ أراب أي: أتى بالرَّيْب، أو دخل فيه، وأَرَبْتُه أي: أوقعتَه في الرِّيْبَة. ونسبةُ الإِرابةِ إلى الشكِّ مجازٌ. وقال الزمخشري هنا: «إلاَّ أنَّ ههنا فُرَيْقاً: وهو أنَّ المُريبَ من المتعدِّي منقولٌ مِمَّن يَصِحُّ أَنْ يكونَ مُريباً، من الأعيان، إلى المعنى، ومن اللازمِ منقولٌ من صاحبِ الشكِّ إلى الشَّكِّ، كما تقول: شعرٌ شاعرٌ» وهي عبارةٌ حسنةٌ مفيدةٌ. وأين هذا مِنْ قولِ بعضِهم: «ويجوز أَنْ يكونَ أَرْدَفَه على الشَّكِّ، ليتناسَقَ آخرُ الآية بالتي قبلَها مِنْ مكانٍ قريبٍ» . وقولُ ابنِ عطية: «المُريبُ أَقْوى ما يكون من الشكِّ وأشدِّه» . وقد تقدَّم تحقيقُ الرَّيْب أولَ البقرةِ وتشنيعُ الراغب على مَنْ يُفَسِّره بالشَّك.

فاطر

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {فَاطِرِ السماوات} : إنْ جَعَلْتَ إضافتَه مَحْضَةً كان نعتاً لله، وإنْ جَعَلْتَها غيرَ محضةٍ كان بدلاً. وهو قليلٌ من حيث إنه مشتقٌّ. وهذه قراءةُ العامَّةِ: «فاطر» اسمَ فاعلٍ. والزهريُّ والضحَّاك «فَطَر» فعلاً ماضياً. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ أي: الذي فَطَر، كذا قَدَّره أبو الفضل. ولا يَليق بمذهب البصريين؛ لأنَّ حَذْفَ الموصولِ الاسميِّ لا يجوزُ. وقد تقدَّمَ هذا الخلافُ مُسْتَوْفَى في البقرة. الثاني: أنه حال على إضمار «قد» قاله أبو الفضل أيضاً. الثالث: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو فَطَر. وقد حكى الزمخشري قراءةً تؤيِّد ما ذَهَبَ إليه الرازيُّ فقال: «وقُرِئَ الذي فَطَر وجعل» فصَرَّح بالموصولِ. قوله: «جاعل» العامَّةُ أيضاً على جَرِّه نعتاً أو بدلاً. والحسن بالرفعِ

والإِضافةِ، وروي عن أبي عمروٍ كذلك، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّنْ، ونَصَبَ «الملائكة» ، وذلك على حَذْفِ التنوينِ لالتقاء الساكنين، كقولِه: 3758 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً وابن يعمر وخليد بن مشيط «جَعَلَ» فعلاً ماضياً بعد قراءة «فاطر» بالجر، وهذه كقراءةِ {فَالِقُ الإصباح، وَجَعَلَ الليل} [الأنعام: 96] . والحسن وحميد «رُسْلاً» بسكونِ السين، وهي لغةُ تميم. وجاعل يجوز أَنْ يكونَ بمعنى مُصَيِّر أو بمعنى خالق. فعلى الأول يجري الخلاف: هل نَصْبُ الثاني باسم الفاعل، أو بإضمار فعلٍ، هذا إن اعْتُقِد أنَّ جاعلاً غيرُ ماضٍ، أمَّا إذا كان ماضياً تَعَيَّن أن يَنتصبَ بإضمار فعلٍ. وقد حُقِّق ذلك في الأنعام. وعلى الثاني ينتصِبُ على الحالِ. و {مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} صفةٌ ل «أجنحة» . و «أُوْلي» صفة ل «رُسُلاً» . وقد تقدَّم تحقيقُ الكلامِ في «مَثْنى» وأختيها في سورة النساء مستوفى. قال الشيخ: «وقيل:» أُوْلي أجنحة «معترضٌ و» مَثْنَى «حالٌ، والعاملُ فعلٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه» رسلاً «أي: يُرْسَلون مَثْنى وثلاثَ ورباع» وهذا لا يُسَمَّى اعتراضاً لوجهين، أحدهما: أنَّ «أُولي» صفةٌ ل «رُسُلاً» ، والصفةُ لا يُقال فيها معترضةٌ. والثاني: أنها لَيسَتْ حالاً من «رُسُلاً» بل من محذوفٍ فكيف يكون ما قبلَه معترضاً؟ ولو

جعله حالاً من الضمير في «رسلاً» لأنه مشتقٌّ لَسَهُلَ ذلك بعضَ شيءٍ، ويكون الاعتراضُ بالصفةِ مَجازاً، مِنْ حيث إنه فاضلٌ في السورة. قوله: «يزيدُ» مستأنَفٌ. وما «يَشاء» هو المفعولُ الثاني للزيادة، والأولُ لم يُقْصَدْ، فهو محذوفٌ اقتصاراً، لأنَّ ذِكْرَ قولِه: «في الخَلْق» يُغْني عنه.

2

قوله: {مِن رَّحْمَةٍ} : تبيينٌ أو حالٌ مِنْ اسمِ الشرطِ، ولا يكون صفةً ل «ما» ؛ لأنَّ اسمَ الشرط لا يُوْصَفُ. قال الزمخشري: «وتنكيرُ الرحمة للإِشاعةِ والإِبهامِ، كأنه قيل: أيَّ رحمةٍ كانت سماويةً أو أرضيَّةً» . قالَ الشيخ: «والعمومُ مفهومُ من اسمِ الشرطِ و» مِنْ رحمة «بيانٌ لذلك العامِّ من أي صنف هو، وهو مِمَّا اجْتُزِئَ فيه بالنكرة المفردة عن الجمعِ المعرَّفِ المطابِقِ في العمومِ لاسمِ الشرطِ، وتقديرُه: مِنَ الرَّحَمات. و» من «في موضع الحال» . انتهى. قوله: «وما يُمْسِكْ» يجوز أَنْ يكونَ على عمومه، أي: أيَّ شيءٍ أَمْسَكه، مِنْ رحمةٍ أو غيرِها. فعلى هذا التذكيرُ في قوله: / «له» ظاهرٌ؛ لأنه عائدٌ على ما يُمْسِك. ويجوزُ أَنْ يكونَ قد حُذِفَ المبيَّن من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه تقديرُه: وما يُمْسِكْ مِنْ رحمةٍ. فعلى هذا التذكيرُ في قولِه: «له» على لفظِ «ما» وفي قولِه أولاً {فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} التأنيثُ فيه حُمِل على معنى «ما» ، لأنَّ المرادَ به الرحمةُ فحُمِل أولاً على المعنى، وفي الثاني على اللفظِ. والفتحُ والإِمساكُ استعارةٌ حسنةٌ.

3

قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} : قرأ الأخَوان «غيرِ» بالجر نعتاً ل «خالقٍ» على اللفظِ. و «مِنْ خالق» مبتدأٌ مُزادٌ فيه «مِنْ» . وفي خبرِه قولان، أحدُهما: هو الجملةُ مِنْ قوله: «يَرْزُقُكم» . والثاني: أنه محذوفٌ تقديرُه: لكم ونحوُه، وفي «يَرْزُقكم» على هذا وجهان، أحدهما: أنَّه صفةٌ أيضاً ل «خالق» فيجوزُ أن يُحْكَمَ على موضعِه بالجرِّ اعتباراً باللفظ، وبالرفعِ اعتباراً بالموضع. والثاني: أنه مستأنفٌ. وقرأ الباقون بالرفع. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه خبرُ المبتدأ. والثاني: أنه صفةٌ ل «خالق» على الموضعِ. والخبرُ: إمَّا محذوفٌ، وإمَّا «يَرْزُقُكم» . والثالث: أنه مرفوعٌ باسم الفاعل على جهةِ الفاعليةِ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ قد اعْتَمَدَ على أداةِ الاستفهام. إلاَّ أنَّ الشيخَ تَوَقَّفَ في مثلِ هذا؛ من حيث إنَّ اسم الفاعل وإن اعتمدَ، إلاَّ أنه لم تُحْفَظْ فيه زيادةُ «مِنْ» قال: «فيُحتاج مثلُه إلى سَماعٍ» ولا يَظهرُ التوقُّف؛ فإنَّ شروط الزيادةِ والعملِ موجودةٌ. وعلى هذا الوجهِ ف «يَرْزُقُكم» : إمَّا صفةٌ أو مستأنَفٌ. وجَعَل الشيخُ استئنافَه أَوْلَى قال: «لانتفاءِ صِدْقِ» خالق «على» غير الله «بخلافِ كونِه صفةً فإنَّ الصفةَ تُقَيِّد، فيكون ثَمَّ خالقٌ غيرُ اللَّهِ لكنه ليس برازق» . وقرأ الفضل بن إبراهيم النَّحْوِيُّ «غيرَ» بالنصبِ على الاستثناء. والخبر «

يَرزُقكم» أو محذوفٌ و «يَرْزُقكم» مستأنفٌ، أو صفةٌ. وقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مستأنفٌ.

5

قوله: {الغرور} : العامَّةُ بالفتح، وهو صفةُ مبالغةٍ كالصَّبورِ والشَّكورِ. وأبو السَّمَّال وأبو حيوةَ بضمِّها: إمَّا جمع غارّ كقاعِد وقُعود، وإمَّا مصدرٌ كالجُلوس.

7

قوله: {الذين كَفَرُواْ} : يجوزُ رَفْعُه ونصبُه وجَرُّه. فرفعُه مِنْ وجهين، أقواهما: أَنْ يكونَ مبتدأً. والجملةُ بعده خبرُه. والأحسنُ أَنْ يكونَ «لهم» هو الخبرَ، و «عذابٌ» فاعلَه. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ واوِ «ليكونوا» . ونصبُه مِنْ أوجهٍ: البدلِ مِنْ «حزبَه» ، أو النعتِ له، وإضمارِ فعلِ «أَذُمُّ» ونحوِه. وجرُّه مِنْ وجهَين: النعتِ أو البدليةِ من «أصحابِ» . وأحسنُ الوجوهِ: الأولُ لمطابقةِ التقسيم. واللامُ في «ليكونوا» : إمَّا للعلَّةِ على المجازِ، مِنْ إقامةِ المُسَبَّبِ مُقام السببِ، وإمَّا للصيروة.

8

قوله: {أَفَمَن} : موصولٌ مبتدأٌ. وما بعدَه صلتُه، والخبرُ محذوفٌ. فقدَّره الكسائيُّ {تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} لدلالةِ «فلا تَذْهَبْ» عليه. وقَدَّره الزجَّاجُ وأضلَّه اللَّهُ كمَنْ هداه. وقَدَّره غيرُهما: كمن لم يُزَيَّن

له، وهو أحسنُ لموافقتِه لفظاً ومعنىً. ونظيرُه: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [هود: 17] ، {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] . والعامَّةُ على «زُيِّن» مبنياً للمفعولِ «سوءُ» رُفِعَ به. وعبيد بن عمير «زَيَّنَ» مبنياً للفاعلِ وهو اللَّهُ تعالى، «سُوْءَ» نُصِبَ به. وعنه «أَسْوَأُ» بصيغةِ التفضيلِ منصوباً. وطلحة «أمَنْ» بغيرِ فاءٍ. قال أبو الفضل: «الهمزةُ للاستخبارِ بمعنى العامَّةِ، للتقرير. ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى حرفِ النداء، فَحَذَفَ التمامَ كما حَذَفَ مِن المشهورِ الجوابَ. يعني أنه يجوزُ في هذه القراءةِ أَنْ تكونَ الهمزةُ للنداء، وحُذِف التمامُ، أي: ما نُوْدي لأَجْلِه، كأنه قيل: يا مَنْ زُيِّن له سوءُ عملِه ارْجِعْ إلى الله وتُبْ إليه. وقوله:» كما حُذِفَ الجوابُ «يعني به خبرَ المبتدأ الذي تقدَّم تقريرُه. قوله:» فلا تَذْهَبْ «العامَّة على فتح التاءِ والهاءِ مُسْنداً ل» نفسُك «مِنْ بابِ» لا أُبَيْنَّك ههنا «أي: لا تَتَعاطَ أسبابَ ذلك. وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهبُ بضمِّ التاء وكسرِ الهاء مُسْتداً لضميرِ المخاطب» نَفْسَك «مفعولٌ به. قوله:» حَسَراتٍ «/ فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه أي: لأجلِ الحَسَرات. والثاني: أنه في موضعِ الحالِ على المبالغةِ، كأنَّ كلَّها

صارَتْ حَسَراتٍ لفَرْطِ التحسُّرِ، كما قال: 3759 - مَشَقَ الهَواجِرُ لَحْمَهُنَّ مع السُّرى ... حتى ذَهَبْنَ كَلاكِلاً وصُدورا يريد: رَجَعْنَ كَلاكِلاً وصدوراً، أي: لم تَبْقَ إلاَّ كلاكلُها وصدورها كقولِه: 3760 - فعلى إثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسي ... حَسَراتٍ وذكْرُهُمْ لي سَقامُ وكَوْنُ كلاكِل وصدور حالاً قولُ سيبويه، وجَعَلهما المبردُ تمييزَيْنِ منقولَيْنِ من الفاعلية.

9

قوله: {فَتُثِيرُ} : عَطْفٌ على «أَرْسَلَ» ؛ لأنَّ أَرْسَلَ بمعنى المستقبل، فلذلك عَطَفَ عليه، وأتى بأَرْسَلَ لتحقُّقِ وقوعِه و «تُثير» لتصوُّرِ الحالِ واستحضارِ الصورة البديعةِ كقوله: {أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] كقول تأَبَّط شرَّاً:

3761 - ألا مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيانَ فَهْمٍ ... بما لاقَيْتُ عند رَحا بِطانِ بأنِّي قد لَقِيْتُ الغُوْلَ تَهْوِيْ ... بسَهْبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحانِ فقلت لها: كِلانا نَضْوُ أرضٍ ... أخو سَفَرٍ فَخَلِّي لي مكانِي فشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوي فأهْوَتْ ... لها كَفِّي بمَصْقولٍ يَمانِ فأَضْرِبُها بلا دَهْشٍ فَخَرَّتْ ... صَريعاً لليدَيْن وللجِرانِ حيث قال: فَأَضْرِبُها ليصَوِّرَ لقومِه حالَه وشجاعتَه وجرأتَه. وقوله: «فَسُقْناه» و «أَحْيَيْنا» مَعْدولاً بهما عن لفظِ الغيبة إلى ما هو أَدْخَلُ في الاختصاصِ وأَدَلُّ عليه. قوله: «كذلك النُّشورُ» مبتدأٌ، وخبرُه مقدَّمٌ عليه، والإِشارةُ إلى إحياءِ الأرضِ بالمطرِ، والتشبيهُ واضحٌ بليغٌ.

10

قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ} : شرطٌ جوابُه مقدرٌ، ويختلف تقديرُه باختلافِ التفسير في قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} فقال مجاهد: «معناه مَنْ كان يريد العزَّةَ بعبادةِ الأوثان، فيكونُ تقديرُه: فَلْيَطْلبها» . وقال قتادة: «مَنْ كان يريد العزَّة وطريقه القويم ويحب نيْلَها على وجهِها، فيكون تقديره

على هذا: فليطلبها» . وقال الفراء: «من كان يريد عِلمَ العزة، فيكون التقدير: فليَنْسُبْ ذلك إلى الله تعالى» . وقيل: مَنْ كان يريد العزة التي لا تَعْقُبها ذِلَّةٌ، فيكونُ التقديرُ: فهو لا يَنالُها. ودَلَّ على هذه الأجوبةِ قولُه: «فَلِلَّهِ العِزَّةُ» وإنما قيل: إن الجوابَ محذوفٌ، وليس هو هذه الجملةَ لوجهين، أحدهما: أنَّ العزَّةَ لله مطلقاً، مِنْ غيرِ ترتُّبِها على شرطِ إرادةِ أحدٍ. الثاني: أنَّه لا بُدَّ في الجواب مِنْ ضميرٍ يعودُ على اسم الشرط، إذا كان غيرَ ظرف، ولم يُوْجَدْ هنا ضميرٌ. و «جميعاً» حالٌ، والعاملُ فيها الاستقرارُ. قوله: «إليه يَصْعَدُ» العامَّةُ على بنائِه للفاعل مِنْ «صَعِد» ثلاثياً، «الكَلِمُ الطيِّبُ» برفعِهما فاعِلاً ونعتاً. وعلي وابن مسعود «يُصْعِدُ» مِنْ أَصْعَدَ، «الكلمَ الطيبَ» منصوبان على المفعولِ والنعت. وقُرئ «يُصْعَدُ» مبنيَّاً للمفعول. وقال ابنُ عطية: «قرأ الضحَّاك» يُصْعد «بضم الياء» لكنه لم يُبَيِّن كونَه مبنيَّاً للفاعلِ أو للمفعول. قوله: «والعملُ الصالحُ» العامَّةُ على الرفعِ. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه معطوفٌ على «الكلمُ الطيبُ» فيكون صاعداً أيضاً. و «يَرْفَعُه» على هذا استئنافُ إخبارٍ من اللَّهِ تعالى بأنه يرفعُهما، وإنِّما وُحِّد الضميرُ، وإنْ كان المرادُ الكَلِمَ والعملَ ذهاباً بالضميرِ مَذْهَبَ اسمِ الإِشارة، كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وقيل: لاشتراكِهما في صفةٍ واحدةٍ، وهي الصعودُ. والثاني: أنه مبتدأٌ،

و «يرفَعُه» الخبرُ، ولكن اختلفوا في فاعل «يَرْفَعُه» على ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ اللَّهِ تعالى أي: والعملُ الصالحُ يرفعه اللَّهُ إليه. والثاني: أنه ضميرُ العملِ الصالحِ. وضميرُ النصبِ على هذا فيه وجهان، أحدُهما: أنه يعودُ على صاحب العمل، أي يَرْفَعُ صاحبَه. والثاني: أنه ضميرُ الكلمِ الطيبِ أي: العمل الصالح يرفع الكلمَ الطيبَ. ونُقِلَ عن ابن عباس. إلاَّ أنَّ ابنَ عطية منع هذا عن ابن عباس، وقال: «لا يَصِحُّ؛ لأنَّ مَذْهَبَ أهلِ السنَّة أنَّ الكلمَ الطيبَ مقبولٌ، وإنْ كان صاحبُه عاصياً» . والثالث: أنَّ ضميرَ الرفعِ للكَلِمِ، والنصبِ للعملِ، أي: الكَلِمُ يَرْفَعُ العملَ. وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بنصبِ «العمل الصالح» على الاشتغالِ، والضميرُ المرفوعُ للكلم أو للَّهِ تعالى، والمنصوبُ للعملِ. قوله: «يَمْكُرون السَّيِّئات» يمكرون أصلُه قاصِرٌ فعلى هذا ينتصِبُ «السيِّئاتِ» على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي: المَكَراتِ/ السيئاتِ، أو نعتٍ لمضافٍ إلى المصدر أي: أصناف المَكَراتِ السيئاتِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «يَمْكُرون» مضمَّناً معنى يَكْسِبُون «فينتصِبُ» السيئاتِ «مفعولاً به. قوله:» هو يَبُوْرُ «» هو «مبتدأٌ و» يبورُ «خبرُه. والجملةُ خبرُ قولِه:» ومَكْرُ أولئك «. وجَوَّزَ الحوفيُّ وأبو البقاء أَنْ يكونَ» هو «فَصْلاً بين المبتدأ وخبرِه. وهذا مردودٌ: بأنَّ الفَصْلَ لا يقعُ قبل الخبرِ إذا كان فعلاً، إلاَّ أن الجرجاني

جَوَّز ذلك. وجَوَّز أبو البقاء أيضاً أَنْ يكونَ» هو «تأكيداً. وهذا مَرْدودٌ بأنَّ المضمرَ لا يُؤَكِّدُ الظاهرَ.

11

قوله: {مِنْ أنثى} : «مِنْ» مزيدةٌ في «أُنْثى» وكذلك في «مِنْ مُعَمَّر» إلاَّ أنَّ الأولَ فاعلٌ، وهذا مفعولٌ قام مَقامَه و «إلاَّ بعِلْمِه» حالٌ. أي: إلاَّ ملتبسةً بعلمه. قوله: «مِنْ عُمُرِه» في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه يعودُ على مُعَمَّرٍ آخرَ؛ لأنَّ المرادَ بقوله: «مِنْ مُعَمَّر» الجنسُ فهو يعودُ عليه لفظاً، لا معنى، لأنه بعدَ أَنْ فَرَضَ كونَه معمَّراً، استحال أَنْ يَنْقُصَ مِنْ عمرِه نفسِه، كقول الشاعر: 3762 - وكلُّ أناسٍ قارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهم ... ونحن خَلَعْنا قيدَه فهو ساربُ ومنه «عندي درهمٌ ونصفُه» أي: ونصفُ درهمٍ آخرَ. الثاني: أنه يعودُ على «مُعَمَّر» لفظاً. ومعنى ذلك: أنه إذا مضى مِنْ عُمُره حَوْلٌ أُحْصِيَ وكُتِبَ، ثم حَوْلٌ آخرُ كذلك، فهذا هو النَّقْصُ. وإليه ذهب ابنُ عباس وابن جبير وأبو مالك. ومنه قولُ الشاعرِ:

3763 - حياتُك أَنْفاسٌ تُعَدُّ فكلَّما ... مضى نَفَسٌ منكَ انْتَقَصْتَ به جُزْءا وقرأ يعقوبُ وسلام - وتُرْوى عن أبي عمروٍ - «ولا يَنْقُصُ» مبنياً للفاعلِ. وقرأ الحسن «مِنْ عُمْره» بسكون الميم.

12

قوله: {سَآئِغٌ شَرَابُهُ} : يجوزُ أَنْ يكونا مبتدأً وخبراً. والجملةُ خبرٌ ثانٍ، وأَنْ يكونَ «سائغٌ» خبراً، وشرابُه فاعلاً به، لأنه اعتمد. وقرأ عيسى - وتُرْوى عن أبي عمروٍ وعاصمٍ - «سَيِّغٌ» مثلُ سَيِّد ومَيِّت. وعن عيسى بتخفيف يائِه، كما يُخَفَّف هَيْن ومَيْت. وقرأ طلحةُ وأبو نهيك «مَلِحٌ» بفتح الميمِ وكسرِ اللام. فقيل: هو مقصورٌ مِنْ مالِح، ومالِحٌ لُغَيَّةٌ شاذةٌ. وقيل: «مَلِحٌ» بالفتحِ والكسرِ لغةٌ في «مِلْحٌ» بالكسرِ والسكون.

13

قوله: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} : «ذلكمْ» مبتدأٌ و «اللَّهُ» خبرُه، و «ربُّكم» خبرٌ ثانٍ أو نعتٌ لله. وقال الزمخشري: «ويجوز في حكم الإِعرابِ إيقاعُ اسمِ الله صفةً لاسمِ الإِشارةِ، أو عطفَ بيانٍ، و» رَبُّكم «خبرٌ،

لولا أنَّ المعنَى يَأْباه» . ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ اللَّهَ عَلَمٌ لا جنس فلا يُوْصَفُ به. ورَدَّ قولَه: «إن المعنى يَأْباه» قال: «لأنه يكونُ قد أَخْبر عن المشارِ إليه بتلك الصفاتِ والأفعالِ أنَّه مالِكُكُمْ ومُصْلِحُكم» . قوله: «والذين تَدْعُوْن» العامَّةُ على الخطاب في «تَدْعُون» لقوله: «ربُّكم» . وعيسى وسلام ويعقوب - وتُرْوى عن أبي عمرٍو - بياءِ الغَيْبة: إمَّا على الالتفاتِ، وإمَّا على الانتقال إلى الإِخبارِ. والفرقُ بينهما: أنه في الالتفاتِ يكون المرادُ بالضميرَيْن واحداً بخلافِ الثاني؛ فإنهما غَيْران. و «ما يَمْلِكون» هو خبرُ الموصولِ. و «مِنْ قِطْمير» مفعولٌ به، و «مِنْ» فيه مزيدةٌ. والقِطْميرُ: المشهورُ فيه أنَّه لُفافَةُ النَّواةِ. وهو مَثَلٌ في القِلَّة، كقوله: 3764 - وأبوكَ يَخْصِفُ نَعْلَه مُتَوَرِّكاً ... ما يَمْلك المِسْكينُ مِنْ قِطْميرِ وقيل: هو القُمْعُ. وقيل: ما بين القُمْعِ والنَّواةِ. وقد تقدَّم أنَّ في النَّواةِ أربعةَ أشياءَ يُضْرَبُ بها المَثَلُ في القِلَّة: الفَتِيلُ، وهو ما في شِقِّ النَّواةِ، والقِطْميرُ: وهو اللُّفافَةُ، والنَّقِيْرُ، وهو ما في ظهرها، والثُّفْروقُ، وهو ما بين القُمْع والنَّواة.

14

قوله: {بِشِرْكِكُمْ} : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه.

18

قوله: {وَازِرَةٌ} : أي: نفسٌ وازِرَةٌ، فحذف الموصوفَ للعِلْم [به] . ومعنى تَزِرُ: تَحْمِلُ أي: لا تحملُ نَفْسٌ حامِلَةٌ حِمْلَ نفسٍ أخرى.

قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي: نفسٌ مُثْقَلَةٌ بالذنوب نفساً إلى حِمْلِها. فحذف المفعولَ به للعِلْم به. والعامَّةُ «لا يُحْمَلُ» مبنياً للمفعولِ و «شيءٌ» قائمٌ مَقامَ فاعلِه. وأبو السَّمَّال وطلحة - وتُرْوى عن الكسائي - بفتح التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الميم. أَسْنَدَ الفعلَ إلى ضميرِ النفسِ المحذوفةِ التي جعلها مفعولةً ل «تَدْعُ» أي: لا تَحْمِل تلكَ النفسُ المدعوَّةُ. «شيئاً» مفعولٌ ب «لا تَحْمِل» . قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} [أي:] ولو كان المَدْعُوُّ ذا قُرْبى. وقيل: التقديرُ: ولو كان الداعِي ذا قُرْبى. والمعنيان حسنان. وقُرِئ «ذو» بالرفعِ، على أنها التامَّةُ أي: ولو حَضَرَ/ ذو قُرْبى نحو: «قد كان مِنْ مطْر» ، {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] . قال الزمخشري: «ونَظْمُ الكلامِ أحسن ملاءَمةً للناقصةِ؛ لأنَّ المعنى: على أنَّ المُثْقَلَةَ إذا دَعَتْ أحداً إلى حِمْلِها لا يُحْمَلُ منه شيءٌ، ولو كان مَدْعُوُّها ذا قُرْبى، وهو مُلْتَئِمٌ. ولو قلت: ولو وُجِد ذو قُرْبى لخَرَج عن التئامِه» . قال الشيخ: «وهو ملْتَئِمٌ على المعنى الذي ذكَرْناه» . قلت: والذي قاله هو «أي: ولو حَضَرَ إذ ذاك ذُو قربى» ثم قال: «وتفسيرُ الزمخشريِّ» كان «- وهو مبنيٌّ للفاعل» يُوْجَدُ «وهو مبنيٌّ للمفعول - تفسيرُ معنى، والذي يفسِّر النحويُّ به» كان «التامَّةَ هو حَدَث وحَضَر ووقَعَ» . قوله: بالغَيْب «حالٌ من الفاعل أي: يَخْشَوْنه غائبين عنه، أو من المفعول أي: غائباً عنهم. قوله:» ومَنْ تَزَكَّى «قرأ العامَّةُ» تَزَكَّى «تَفَعَّل،» فإنما يَتَزَكَّى «يتفعَّل. وعن

أبي عمروٍ» ومَنْ يَزَّكِّى «» فإنما يَزَّكَّى «والأصلُ فيهما: يَتَزَكَّى فأُدْغِمَتْ التاءُ في الزايِ كما أُدْغِمت في الذال نحو:» يَذَّكَّرون «في» يتذكَّرون «وابنُ مَسْعود وطلحة» ومَنْ ازَّكَّى «والأصلُ: تَزَكَّى فَأُدْغِمَ باجتلابِ همزةِ الوصلِ،» فإنما يَزَّكَّى «أصلُه يَتَزَكَّى فأُدْغِمَ، كأبي عمروٍ في غيرِ المشهورِ عنه.

19

قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} : استوى من الأفعال التي لا يُكْتَفَى فيها بواحدٍ لو قلت: «استوى زيدٌ» لم يَصِحَّ، فمِنْ ثَمَّ لَزِمَ العطفُ على الفاعلِ أو تعدُّدُه. و «لا» في قوله: «ولا الظلماتُ» إلى آخره مكررةٌ لتأكيدِ النفيِ. وقال ابنُ عطية: «دخولُ» لا «إنما هو على نيةِ التَّكْرارِ، كأنه قال: ولا الظلماتُ والنورُ، ولا النورُ والظلماتُ، فاسْتُغْني بذِكْرِ الأوائل عن الثواني، ودَلَّ مذكورُ الكلامِ على مَتْروكِه» . قال الشيخ: «وهذا غير مُحْتاجٍ إليه؛ لأنه إذا نُفِي اسْتواؤُهما أولاً فأيُّ فائدةٍ في نَفْي اسْتوائِهما ثانياً» وهو كلامٌ حَسَنٌ إلاَّ أنَّ الشيخَ هنا قال: «فدخولُ» لا «في النفيِ لتأكيدِ معناه، كقوله: {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} [فصلت: 34] . قلت: وللناسِ في هذه الآيةِ قولان، أحدهما: ما ذُكِر. الثاني: أنها غيرُ مؤكِّدة؛ إذ يُراد بالحسنةِ الجنسُ، وكذلك» السيئة «فكلُّ واحدٍ منهما متفاوتٌ في جنسِه؛ لأنَّ الحسناتِ درجاتٌ متفاوتةٌ، وكذلك السَّيئاتُ، وسيأتي لك تحقيقُ هذا إنْ شاء اللَّهُ تعالى. فعلى هذا يمكنُ أَنْ يُقالَ بهذا هنا: وهو أنَّ المرادَ نَفْيُ استواءِ الظلماتِ ونَفْيُ استواءِ جنسِ النورِ، إلاَّ أنَّ هذا غيرُ

مُرادً هنا في الظاهر، إذ المرادُ مقابَلَةُ هذه الأجناسِ بعضِها ببعضٍ لا مقابلةُ بعضِ أفرادِ كلِّ جنسٍ على حِدَتِه. ويُرَجِّح هذا الظاهرَ التصريحُ بهذا في قوله أولاً: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} حيث لم يُكرِّرْها. وهذا من المواضعِ الحسنةِ المفيدة. والحَرُوْرُ: شدةُ حَرِّ الشمس. وقال الزمخشري:» الحَرورُ السَّمُوم، إلاَّ أنَّ السَّمومَ بالنهارِ، والحَرورَ فيه وفي الليل «. قلت: وهذا مذهبُ الفراءِ وغيرِه. وقيل: السَّمومُ بالنهار، والحَرورُ بالليل خاصةً، نقله ابنُ عطية عَن رؤبةَ. وقال:» ليس بصحيحٍ، بل الصحيحُ ما قاله الفراءُ «. وهذا عجيبٌ منه كيف يَرُدُّ على أصحاب اللسانِ بقولِ مَنْ يأخذُ عنهم؟ وقرأ الكسائي في روايةِ زاذانَ عنه» وَمَا تَسْتَوِي الأحيآء «بالتأنيث على معنى الجماعة. وهذه الأشياءُ جيْءَ بها على سبيلِ الاستعارةِ والتمثيلِ، فالأعمى والبصيرُ، الكافرُ والمؤمنُ، والظلماتُ والنورُ، الكفرُ والإِيمان، والظلُّ والحَرورُ، الحقُّ والباطلُ، والأحياء والأمواتُ، لمَنْ دَخَل في الإِسلامِ لَمَّا ضَرَبَ الأعمى والبصيرَ مَثَلَيْن للكافرِ والمؤمنِ عَقَّبَه بما كلٌّ منها فيه، فالكافرُ في ظلمةٍ، والمؤمنُ في نورٍ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ النظر لا بُدَّ له مِنْ ضوءٍ

يُبْصِرُ به، وقَدَّم الأعمى لأنَّ البصيرَ فاصلةٌ فَحَسُنَ تأخيره، ولمَّا تقدَّم الأعمى في الذكر ناسَبَ تقديمَ ما هو فيه، فلذلك قُدِّمَتِ الظلمةُ على النور، ولأنَّ النورَ فاصلةٌ، ثم ذَكَر ما لكلٍّ منهما فللمؤمنِ الظلُّ وللكافرِ الحَرورُ، وأخّر الحرورَ لأجلِ الفاصلةِ كما تقدَّم. وقولي «لأجلِ الفاصلةِ» هنا وفي غيرِه من الأماكنِ أحسنُ مِنْ قولِ بَعْضِهم لأجلِ السَّجْع؛ لأنَّ القرآن يُنَزَّه عن ذلِك. وقد منع الجمهورُ/ أَنْ يُقال في القرآن سَجْعٌ، وإنما كرَّر الفعلَ في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء} مبالغةً في ذلك؛ لأنَّ المنافاةَ بين الحياةِ والموتِ أتمُّ من المنافاةِ المتقدمةِ، وقدَّم الإِحياءَ لشرفِ الحياةِ ولم يُعِدْ «لا» تأكيداً في قولِه: «الأَعمى والبصير» وكرَّرها في غيره؛ لأنَّ منافاةَ ما بعدَه أتمُّ، فإن الشخصَ الواحدَ قد يكونُ بصيراً ثم يصيرُ أَعْمى، فلا منافاةَ إلاَّ من حيث الوصفُ بخلافِ الظلِّ والحرورِ، والظلماتِ والنور، فإنها متنافيةٌ أبداً، لا يَجْتمع اثنان منها في محلّ، فالمنافاةُ بين الظلِّ والحرورِ وبين الظلمةِ والنورِ دائمةٌ. فإنْ قيل: الحياةُ والموتُ بمنزلةِ العمى والبصرِ، فإنَّ الجسمَ قد يكون مُتَّصفاً بالحياةِ ثم يتصفُ بالموت. فالجواب: أنَّ المنافاةَ بينهما أتمُّ من المنافاةِ بين الأعمى والبصيرِ؛ لأنَّ الأعمى والبصيرَ يشتركان في إدراكات كثيرةٍ، ولا كذلكَ الحيُّ والميت، فالمنافاةُ بينهما أتمُّ، وأفردَ الأعمى والبصيرَ لأنَّه قابلَ الجنسَ بالجنسِ، إذ قد يُوْجد في أفراد العُمْيان ما يُساوي بعضَ أفرادِ البُصَراءِ كأعمى ذكي له بصيرةٌ يُساوي بصيراً بليداً، فالتفاوتُ بين الجنسين مقطوعٌ به لا بين الأفراد. وجَمَعَ الظلماتِ لأنها عبارةٌ عن الكفرِ والضلالِ، وطرقُهما كثيرةٌ متشعبةٌ، ووحَّد النورَ لأنه عبارةٌ عن التوحيدِ وهو واحدٌ، فالتفاوتُ بين كلِّ فردٍ مِنْ أفرادِ الظلمة، وبين هذا الفردِ الواحد. والمعنى: الظلماتُ كلُّها لا تجدُ فيها

ما يساوي هذا الواحدَ كذا قيل. وعندي أنه ينبغي أَنْ يُقال: إن هذا الجمعَ لا يُساوي هذا الواحدَ فيُعْلَمُ انتفاءُ مساواةِ فردٍ منه لهذا الواحدِ بطريقِ الأَوْلى، وإنما جَمَع الأحياءَ والأمواتَ لأنَّ التفاوتَ بينهما أكثرُ؛ إذ ما من ميتٍ يُساوي في الإِدراك حيَّاً، فذكَرَ أنَّ الأحياءَ لا يُساوون الأموات سواءً قابَلْتَ الجنسَ بالجنسِ، أم الفردَ بالفرد.

24

قوله: {بالحق} : يجوزُ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه حالٌ من الفاعلِ أي: أَرْسلناك مُحِقِّين، أو من المفعولِ أي: مُحِقًّا، أو نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: إرسالاً مُلْتَبِساً بالحق، أو متعلقٌ ب بشير ونذير. قال الزمخشري: «على: بشيراً بالوعدِ الحقِّ، ونذيراً بالوعيد الحق» قال الشيخ: «ولا يمكن أَنْ يتعلَّقَ» بالحق «هذا ب» بشير ونذير «معاً، بل ينبغي أَنْ يُتَأوَّل كلامُه على أنه أراد أنَّ ثَمَّ محذوفاً. والتقدير: بشيراً بالوعد الحق، ونذيراً بالوعيد الحق» . قلت: وقد صرَّحَ الرجلُ بهذا. قوله: {إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} خبر «مِنْ أمةٍ» وحَذَفَ مِنْ هذا ما أثبته في الأول؛ إذ التقديرُ: إلاَّ خَلا فيها نذيرٌ وبشير.

27

قوله: {فَأَخْرَجْنَا} : هذا التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلم. وإنما كان ذلك لأنَّ المِنَّةَ بالإِخراج أبلغُ من إنزال الماءِ. و «مختلفاً» نعتٌ ل «ثمرات» ، و «ألوانُها» فاعلٌ به، ولولا ذلك لأنَّث «مختلفاً» ، ولكنه لمَّا أُسْند إلى جمعِ تكسيرٍ غيرِ عاقلٍ جاز تذكيرُه، ولو أنَّثَ فقيل: مختلفة، كما تقول: اختلفَتْ ألوانُها لجازَ، وبه قرأ زيد بن علي.

قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} العامَّةُ على ضمِّ الجيمِ وفتح الدالِ، جمعَ «جُدَّة» وهي الطريقةُ. قال ابن بحر: «قِطَعٌ، مِنْ قولك: جَدَدْت الشيءَ قَطَعْتُه» . وقال أبو الفضل: «هي ما تخالَفَ من الطرائق لونُ ما يليها، ومنه جُدَّة الحِمارِ للخَطِّ الذي في ظهرِه. وقرأ الزهري» جُدُد «بضم الجيم والدال جمع جَدِيْدَة، يقال: جديدة وجُدُد وجَدائد. قال أبو ذُؤيب: 3765 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربعُ نحو: سفينة وسُفُن وسفائِن. وقال أبو الفضل:» جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان «. وعنه أيضاً جَدَد بفتحهما. وقد رَدَّ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ من حيثُ الأثرُ والمعنى، وقد صَحَّحهما غيرُه. وقال: الجَدَدُ: الطريق الواضح البيِّن، إلاَّ أنه وضع المفرَد موضعَ الجمعِ؛ إذ المرادُ الطرائقُ والخطوطُ. قوله:» مختلِفٌ ألوانُها «» مختلف «صفةٌ ل» جُدَد «أيضاً. و» ألوانُها «فاعلٌ به كما تقدَّم في نظيره. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ» مختلفٌ «خبراً مقدماً، و» ألوانُها «مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملةُ صفةٌ؛ إذ كان يجبُ أَنْ يُقال: مختلفةٌ لتحمُّلِها ضميرَ

المبتدأ. وقوله: /» ألوانُها «يحتمل معنيين، أحدهما: أنَّ البياضَ والحمرةَ يتفاوتان بالشدة والضعفِ فرُبَّ أبيضَ أشدُّ من أبيضَ، وأحمرَ أشدُّ مِنْ أحمرَ، فنفسُ البياضِ مختلفٌ، وكذلك الحمرةُ، فلذلك جَمَع» ألوانها «فيكونُ من باب المُشَكَّل. الثاني: أن الجُدَدَ كلَّها على لونين: بياضٍ وحُمْرَةٍ، فالبياضُ والحُمْرَةُ وإنْ كانا لونَيْن إلاَّ أنهما جُمِعا باعتبارِ مَحالِّهما. وقوله:» وغَرابيبُ سُوْدٌ «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على» حمرٌ «عَطْفَ ذي لون على ذي لون. الثاني: أنه معطوفٌ على» بِيضٌ «. الثالث: أنه معطوفٌ على» جُدَدٌ «. قال الزمخشري:» معطوف على «بيض» أو على «جُدَد» ، كأنه قيل: ومن الجبالِ مخططٌ ذو جُدَد، ومنها ما هو على لونٍ واحد «ثم قال:» ولا بُدَّ من تقديرِ حذفِ المضافِ في قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} بمعنى: ومن الجبالِ ذو جُدَدٍ بيضٍ وحمرٍ وسُوْدٍ، حتى يَؤُول إلى قولِك: ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانها، كما قال: {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} . ولم يذكُرْ بعد «غرابيب سود» «مختلفٌ ألوانُها» كما ذكر ذلك لك بعد بيض وحُمْر؛ لأنَّ الغِرْبيبَ هو المبالِغُ في السوادِ، فصار لوناً واحداً غيرَ متفاوتٍ بخلافِ ما تقدَّم «. وغرابيب: جمعُ غِرْبيب وهو الأسودُ المتناهِي في السوادِ فهو تابعٌ للأسودِ كقانٍ وناصعٍ وناضِرٍ ويَقَق، فمِنْ ثَمَّ زعَم بعضُهم أنه في نيةِ التأخير، ومِنْ مذهبِ هؤلاءِ يجوز تقديمُ الصفةِ على موصوفِها، وأنشدوا: 3766 - والمُؤْمِن العائذاتِ الطير. . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد: والمؤمنِ الطيرَ العائذات، وقولَ الآخر: 3767 - وبالطويلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً ... يريد: وبالعمر الطويل. والبصريُّون لا يَرَوْن ذلك ويُخَرِّجُون هذا وأمثالَه على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول ف سود والطير والعمر أبدالٌ مِمَّا قبلها. وخَرَّجه الزمخشريُّ وغيرُه على أنه حَذَفَ الموصوفَ وقامَتْ صفتُه مقامَه، وأن المذكورَ بعد الوصفِ دالٌّ على الموصوفِ. قال الزمخشري:» الغِرْبيبُ: تأكيدٌ للأَسْوَدِ، ومِنْ حَقِّ التوكيدِ أَنْ يَتْبَعَ المؤكِّد كقولك: أصفَرُ فاقِعٌ وأبيضٌ يَقَقٌ. ووجهه: أَنْ يُضْمَرَ المؤكَّدُ قبلَه، فيكون الذي بعده تفسيراً لِما أُضْمِر كقوله: والمؤمِنِ العائذاتِ الطيرِ. . . . . . . . . . . . . . . ... وإنما يُفْعَلُ ذلك لزيادةِ التوكيدِ حيث يدلُّ على المعنى الواحد من طريقَيْ الإِظهار والإِضمار «يعني فيكونُ الأصلُ: وسودٌ غرابيبُ سودٌ، والمؤمنُ الطيرَ العائذاتِ الطيرَ. قال الشيخ:» وهذا لا يَصِحُّ إلاَّ على مذهب مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ المؤكَّد. ومن النحويين مَنْ مَنَعَه وهو اختيارُ ابنِ مالك «. قلت: ليس هذا هو التوكيدَ المختلفَ في حَذْفِ مؤكَّدهِ؛ لأنَّ هذا من باب الصفة والموصوف.

ومعنى تسميةِ الزمخشريِّ لها تأكيداً من حيث إنها لا تفيد معنًى زائداً، إنما تفيدُ المبالغةَ والتوكيدَ في ذلك اللونِ، والنَّحْويون قد سَمَّوا الوصفَ إذا لم يُفِدْ غيرَ الأولِ تأكيداً فقالوا: وقد يجيْءُ لمجرِد التوكيد نحو: نعجةٌ واحدةٌ، وإلهين اثنين، والتوكيدُ المختلفُ في حَذْف مؤكَّده، وإنما هو من باب التوكيدِ الصناعي، ومذهب سيبويه جوازُه، أجاز» مررت بأخويك أنفسُهما (أنفسَهما) «بالنصب أو الرفع، على تقدير: أَعْنيهما أنفسَهما، أو هما أنفسُهما فأين هذا من ذاك؟ إلاَّ أنه يُشْكِلُ على الزمخشري هذا المذكورُ بعد» غَرابيب «ونحوِه بالنسبة إلى أنه جعله مُفَسِّراً لذلك المحذوفِ، وهذا إنما عُهِد في الجملِ، لا في المفرداتِ، إلاَّ في باب البدل وعَطف البيانِ فبأيِّ شيءٍ يُسَمِّيه؟ والأَوْلَى فيه أن يُسَمَّى توكيداً لفظياً؛ إذ الأصلُ: سود غرابيب سود.

28

قوله: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} : مختلفٌ نعتٌ لمنعوتٍ محذوف هو مبتدأ، والجارُّ قبلَه خبرُه، أي: من الناس صِنْفٌ أو نوعٌ مختلفٌ؛ وكذلك عملُ اسمِ الفاعلِ كقولِ الشاعر: 376 - 8- كناطِحٍ صَخْرَةً يوماً لِيَفْلِقَها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقرأ ابن السَّميفع «ألوانُها» وهو ظاهرٌ. وقرأ الزهري «والدوابُ» خفيفةَ الباءِ فِراراً مِنْ التقاء الساكنين، كما حُرِّك أولُهما في «الضألِّين» و «جأنّ» .

قوله: «كذلك» فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلِّقٌ بما قبله أي: مختلفٌ اختلافاً مثلَ الاختلافِ في الثمرات والجُدَدِ. والوقفُ على «كذلك» . والثاني: أنه متعلِّقٌ بما بعده، والمعنى: مثلَ ذلك/ المطرِ والاعتبارِ في مخلوقات الله تعالى واختلافِ ألوانِها يَخْشَى اللَّهَ العلماءُ. وإلى هذا نحا ابن عطية وهو فاسدٌ من حيث إنَّ ما بعد «إنَّما» مانِعٌ من العمل فيما قبلها، وقد نَصَّ أبو عُمر الداني على أنَّ الوقفَ على «كذلك» تامٌّ، ولم يَحْكِ فيه خِلافاً. قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله} العامَّةُ على نصب الجلالة ورفع «العلماءُ» وهي واضحةٌ. وقرأ عمرُ بن عبد العزيز وأبو حنيفةَ فيما نقل الزمخشريُّ وأبو حيوةَ - فيما نَقَلَ الهذليُّ في كامله - بالعكس، وتُؤُوِّلت على معنى التعظيم، أي: إنما يُعَظِّمُ اللَّهُ مِنْ عبادِه العلماءَ. وهذه القراءة شبيهةٌ بقراءة {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] برفع «إبراهيم» ونصب «رَبَّه» وقد تقدَّمَتْ.

29

قوله: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ} : في خبر «إنَّ» وجهان، أحدهما: الجملةُ مِنْ قولِه «يَرْجُون» أي: إنَّ التالِين يَرْجُون و «لن تبورَ» صفةُ «تجارةً» و «لِيُوَفِّيَهُمْ» متعلقٌ ب «يَرْجُون» أو ب «تَبُور» أو بمحذوفٍ أي: فعلوا ذلك ليوفِّيهم، وعلى الوجهين الأوَّلَيْن يجوزُ أَنْ تكونَ لام العاقبة. الثاني: أن الخبرَ {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} جَوَّزه الزمخشري على حَذْفِ العائدِ أي: غفورٌ لهم. وعلى هذا ف «يَرْجُون» حالٌ مِنْ «أنْفَقُوا» أي: أَنْفَقوا ذلك راجين.

31

قوله: {مِنَ الكتاب} : يجوزُ أَنْ تكونَ «مِنْ» للبيان، وأن تكونَ للجنسِ، وأَنْ تكونَ للتبعيضِ، و «هو» فصلٌ أو مبتدأٌ و «مُصَدِّقاً» حالٌ مؤكدة.

32

قوله: {الكتاب الذين اصطفينا} : مفعولا «أَوْرَثْنا» . و «الكتابَ» هو الثاني قُدِّمَ لشَرفِه، إذ لا لَبْسَ. قوله: «من عبادِنا» يجوزُ أَنْ تكونَ للبيانِ على معنى: أنَّ المصطفَيْن هم عبادُنا، وأن تكونَ للتبعيضِ، أي: إن المصطفَيْن بعضُ عبادِنا لا كلُّهم. وقرأ أبو عمران الجوني ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ «سَبَّاق» مثالَ مبالغةٍ.

33

قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً، والجملةُ بعدها الخبرُ، وأن يكونَ بدلاً مِن «الفضلُ» قاله الزمخشري وابنُ عطية. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ اعترض وأجاب فقال: «فإن قلتَ: كيف جَعَلْتَ قوله:» جنات عدنٍ «بدلاً من» الفضل «الذي هو السَّبْقُ بالخيرات المشارُ إليه ب» ذلك «؟ قلت: لَمَّا كان السببَ في نيل الثواب نُزِّل منزلةَ المُسَبَّب، كأنه هو الثواب، فَأَبْدَل عنه» جناتُ عدن «. وقرأ رزين والزهري» جَنَّةُ «مفرداً. والجحدري» جناتِ «بالنصب على

الاشتغال، وهي تؤيِّدُ رَفْعَها بالابتداء. وجوَّز أبو البقاء أن يكونَ» جناتُ «بالرفع خبراً ثانياً لاسم الإِشارة، وأن يكون خبرَ مبتدأ محذوفٍ. وتقدَّمت قراءةُ» يَدْخُلونها «مبنياً للفاعل أو المفعول وباقي الآية في الحج.

34

قوله: {الحزن} : العامَّةُ بفتحتَيْن. وجناح ابن حبيش بضم وسكون. وتقدَّم معنى ذلك أولَ القصص.

35

قوله: {دَارَ المقامة} : مفعولٌ ثانٍ ل «أَحَلَّنا» ولا يكونُ ظرفاً لأنه مختصٌّ فلو كان ظرفاً لتعدَّى إليه الفعلُ ب في. والمُقامةُ: الإِقامة. «من فضلِه» متعلقٌ ب «أحَلَّنا» و «مِنْ» : إمَّا للعلةِ، وإمَّا لابتداءِ الغاية. قوله: «لا يَمَسُّنا» حالٌ مِنْ مفعولِ «أَحَلَّنا» الأول أو الثاني؛ لأن الجملةَ مشتملةٌ على ضميرِ كل منهما، وإن كان الحالُ من الأول أظهرَ. والنَّصَبُ: التعبُ والمشقةُ. واللُّغوبُ: الفتورُ الناشئُ عنه، وعلى هذا فيقال: إذا انتفى السببُ نُفِي المُسَبَّب يقال: «لم آكُلْ» فيُعلمُ انتفاءُ الشِّبع، فلا حاجةَ إلى قولِه ثانياً: «فلم أشبَعْ» بخلاف العكسِ، ألا ترى أنه يجوز: لم أشبع ولم آكل، والآية الكريمة على ما قررتُ مِن نفي السبب ثم نفي المسبب فأي فائدة في ذلك؟ وقد أجيب بأنه بيَّن مخالفةَ الجنة لدار الدنيا؛ فإنَّ أماكنَها على قسمين: موضعٍ تَمَسُّ فيه المشاق كالبراري، وموضعٍ يَمَسُّ فيه الإِعياءُ كالبيوتِ والمنازل التي فيها الأسفارُ. فَقيل: لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ لأنها ليست مَظانَّ

المتاعبِ كدارِ الدنيا، ولا يَمَسُّنا فيها لُغوبٌ أي: ولا نَخْرُج منها إلى مواضعَ نَتْعَبُ ونَرْجِعُ إليها فيمسُّنا فيها الإِعياء. وهذا الجوابُ ليس بذلك، والذي يقال: إن النَّصَب هو تعبُ البدنِ واللُّغوبُ تعبُ النفسِ. وقيل: اللغوبُ الوَجَعُ وعلى هذين فلا يَرِدُ السؤالُ المتقدِّمُ. وقرأ عليٌّ والسُّلميُّ بفتح لام «لَغُوْب» وفيه أوجه، أحدها: أنَّه مصدرٌ على فَعُوْل كالقَبول. / والثاني: أنه اسمٌ لِما يُلْغَبُ به كالفَطور والسَّحور. قاله الفراء. الثالث: أنه صفةٌ لمصدرٍ مقدرٍ أي: لا يَمَسُّنا لُغوبٌ لَغوبٌ نحو: شعرٌ شاعرٌ ومَوْتٌ مائتٌ. وقيل: صفةٌ لشيءٍ غيرِ مصدرٍ أي: أمرٌ لَغوبٌ.

36

قوله: {فَيَمُوتُواْ} : العامَّةُ على نصبِه بحذفِ النونِ جواباً للنفي. وهو على أحدِ معنَييْ نَصْبِ «ما تأتينا فتحدِّثَنا» ، أي: ما يكون منك إتيانٌ فلا حديثٌ، انتفى السببُ وهو الإِتيانُ، فانتفى مُسَبَّبُه وهو الحديثُ. والمعنى الثاني: إثباتُ الإِتيانِ ونفيُ الحديثِ أي: ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا غيرَ مُحَدِّثٍ. وهذا لا يجوزُ في الآيةِ البتةَ. وقرأ عيسى والحسن «فيموتون» بإثباتِ النونِ. قال ابنُ عطية: «هي ضعيفةٌ» . قلت: وقد وَجَّهها المازنيُّ على العطفِ على {لاَ يقضى عَلَيْهِمْ} فلا يموتون. وهو أحدُ الوجهين في معنى الرفعِ في قولك: «ما تأتينا فتحدِّثنا» أي: انتفاءُ الأمرَيْن معاً، كقولِه: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] ، أي:

فلا يعتذرون. و «عليهم» قائمٌ مقامَ الفاعلِ، وكذلك «عنهم» بعد «يُخَفَّفُ» . ويجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ «من عذابها» و «عنهم» منصوبُ المحلِّ. ويجوز أَنْ تكونَ «مِنْ» مزيدةً عند الأخفش، فَتَعيَّن لقيامِه مَقامَ الفاعلِ لأنه هو المفعولُ به. وقرأ أبو عمرٍو في رواية «ولا يُخَفَّفْ» بسكون الفاء، شبَّه المنفصل بِ «عَضْد» كقوله: 3769 - فاليومَ أشْرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قوله: «كذلك» إمَّا مرفوعُ المحل أي: الأمرُ كذلك، وإمَّا منصوبُه أي: مثلَ ذلك الجزاءِ نَجْزي. وقرأ أبو عمرٍو «يُجْزَى» مبنيَّاً للمفعول، «كلُّ» رفعٌ به. والباقون «نَجْزي» بنونِ العظمة مبنيَّاً للفاعل، «كلَّ» مفعول به.

37

قوله: {رَبَّنَآ} : على إضمارِ القولِ، وذلك القولُ إنْ شئْتَ قَدَّرْتَه فعلاً مُفَسِّراً ل «يَصْطَرِخون» أي: يقولون في صُراخِهم: ربَّنا أَخْرِجْنا، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَه حالاً مِنْ فاعل «يَصْطَرخون» أي: قائلين ربَّنا. ويَصْطَرخون: يَفْتَعِلون مِن الصُّراخ وهو شدَّةُ رَفْعِ الصوتِ فأُبْدِلت التاءُ صاداً لوقوعِها قبلَ الطاء. قوله: {صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} يجوزُ أَنْ يكونا بمعنى مصدرٍ محذوفٍ

أي: عملاً صالحاً غيرَ الذي كنا نعملُ، وأَنْ يكونا بمعنى مفعولٍ به محذوفٍ أي: نعمل شيئاً صالحاً غيرَ الذي كنَّا نعملُ، وأَنْ يكونَ «صالحاً» نعتاً لمصدرٍ، و {غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} هو المفعولُ به. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: فهَلاَّ اكْتُفي ب» صالحاً «كما اكْتُفِي به في قولِه: {فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً} [السجدة: 12] ، وما فائدةُ زيادةِ {غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} على أنه يُوْهِمُ أنهم يعملون صالحاً آخرَ غيرَ الصالحِ الذي عملوه؟ قلت: فائدتُه زيادةُ التحسُّر على ما عَمِلوه من غيرِ الصالح مع الاعترافِ به. وأمَّا الوهمُ فزائلٌ بظهورِ حالهم في الكفرِ وظهورِ المعاصي، ولأنَّهم كانوا يَحْسَبُون أنهم على سيرةٍ صالحةٍ، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] فقالوا: أَخْرِجْنا نعمَلْ صالحاً غيرَ الذي كُنَّا نَحْسَبُه صالحاً فنعملُه» . قوله: «ما يَتَذكَّر» جوَّزوا في «ما» هذه، وجهين، أحدهما: - ولم يَحْكِ الشيخُ غيرَه - أنها مصدريةٌ ظرفية قال: أي مدةَ تَذَكُّرِ. وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّ الضميرَ في «فيه» يمنعُ مِنْ ذلك لعَوْدِهِ على «ما» ، ولم يَقُلْ باسميَّةِ «ما» المصدريةِ إلاَّ الأخفشُ وابنُ السَّراج. الثاني: أنها نكرةٌ موصوفةٌ أي تعمُّراً يتذكر فيه، أو زماناً يتذكَّر فيه. وقرأ الأعمشُ «ما يَذَّكَّرُ» بالإِدغام «مَنِ اذَّكَّر» . قال الشيخُ: «بالإِدغام واجتلابِ همزةِ الوصلِ ملفوظاً بها في الدَّرْج» . وهذا

غريبٌ حيث أُثْبِتَتْ همزةُ الوصلِ مع الاستغناءِ عنها، إلاَّ أَنْ يكونَ حافَظَ على سكون «مَنْ» وبيانِ ما بعدها. قوله: «وجاءكم» عطفٌ على «أولم نُعَمِّرْكم» لأنَّه في معنى: قد عَمَّرْناكم، كقولِه: {أَلَمْ نُرَبِّكَ} [الشعراء: 18] ثم قال: {وَلَبِثْتَ} [الشعراء: 18] ، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} [الانشراح: 1] ثم قال {وَوَضَعْنَا} [الانشراح: 2] إذ هما في معنى: رَبَّيْناك، وشَرَحْنا. قوله: «مِنْ نصير» يجوزُ أَنْ يكون فاعِلاً بالجارِّ لاعتمادِه، وأنْ يكونَ مبتدأً مُخْبَراً عنه بالجارِّ قبلَه. وقُرِئ «النُّذُرُ» جمعاً.

38

قوله: {عَالِمُ غَيْبِ} : العامَّةُ على الإِضافةِ تخفيفاً. وجناح بن حبيش بتنوين «عالمٌ» ونصب «غَيْبَ» .

40

قوله: {أَرَأَيْتُمْ} : فيها/ وجهان، أحدهما: أنها ألفُ استفهامٍ على بابِها، ولم تتضمَّنْ هذه الكلمةُ معنى أَخْبِروني، بل هو استفهامٌ حقيقيٌّ. وقوله: «أَرُوْني» أمرُ تَعْجيزٍ. والثاني: أنَّ الاستفهامَ غيرُ مُرادٍ، وأنها ضُمِّنَتْ معنى أَخْبروني. فعلى هذا تتعدَّى لاثنين، أحدُهما: «شركاءَكم» ، والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه: «ماذا خَلَقوا» . و «أَرُوْني» يُحتمل أَنْ تكونَ جملةً اعتراضيةً. الثاني: أَنْ تكونَ المسألةُ مِنْ بابِ الإِعمالِ، فإنَّ «أَرَأَيْتُمْ» يطلبُ «ماذا خَلَقُوا» مفعولاً ثانياً، و «أَرُوْني» أيضاً يطلبُه مُعَلِّقاً له، وتكونُ المسألةُ مِنْ بابِ إعمال الثاني على مختار البصريين، و «أَروني» هنا بَصَرِيَّةٌ تعدَّتْ للثاني بهمزةِ النقلِ، والبصَريةُ قبل النقلِ تُعَلَّقُ بالاستفهامِ

كقولِهم: «أما ترى أيُّ بَرْقٍ ههنا» ؟ وقد تقدَّم الكلامُ على «أَرَأَيْتُمْ» هذه في الأنعامِ مشبعاً. وقال ابنُ عطية هنا: «إنَّ أرأيتُمْ يَتَنَزَّلُ عند سيبويهِ مَنْزِلةَ أَخْبروني؛ ولذلك لا يَحْتاج إلى مَفْعولين» . وهو غَلَطٌ بل يَحْتاجُ كما تقدَّم تقريرُه. وجَعَلَ الزمخشريُّ الجملةَ مِنْ قولِه: «أَرُوْني» بدلاً مِنْ قولِه «أَرَأَيْتُمْ» قال: «لأنَّ معنى أَرَأَيْتُمْ أَخْبروني» . وردَّه الشيخ: بأنَّ البدلَ مِمَّا دَخَلَتْ عليه أداةُ الاستفهامِ يَلْزَم إعادتُها في البدلِ ولم تُعَدْ هنا. وأيضاً فإبدالُ جملةٍ مِنْ جملةٍ لم يُعْهَدْ في لسانِهم. قلت: والجوابُ عن الأولِ: أنَّ الاستفهامَ فيه غيرُ مرادٍ قطعاً فلم تَعُدْ أداتُه لعدمِ إرادتِه. وأمَّا قولُه: «لم يُوْجَد في لسانِهم» فقد وُجِدَ. ومنه: 3770 - متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا. . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. [وقولُه:]

إنَّ عليَّ اللَّهَ أن تُبايِعا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. وقد نَصَّ النَّحْوِيون: على أنَّه متى كانت الجملةُ في معنى الأولِ ومُبَيِّنةً لها أُبْدِلَتْ منها. قوله: {فَهُمْ على بَيِّنَةٍ} الضميرُ في «آتَيْناهم» و «فهم» الأحسنُ أَنْ يعودَ على الشركاء لتتناسَقَ الضمائرُ. وقيل: يعودُ على المشركين، فيكونُ التفاتاً مِنْ خطابٍ إلى غَيْبة. وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وابن كثير وحفصٌ «بَيِّنَةٍ» بالإِفراد. والباقون «بَيِّناتٍ» بالجمع. و «إنْ» في «إنْ يَعِدُ» نافيةٌ.

41

قوله: {أَن تَزُولاَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً من أجله. أي: كراهةَ أَنْ تَزُولا. وقيل: لئلا تَزُولا. ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً على إسقاطِ الخافِضِ أي: يمنَعُهما مِنْ أَنْ تَزُوْلا. كذا قَدَّره أبو إسحاق. ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ اشتمالٍ أي: يمنعُ زوالَهما. قوله: «إنْ أَمْسَكَهما» جوابُ القسمِ الموطَّأ له بلام القسمِ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدلُّ عليه جوابُ القسمِ، ولذلك كانَ فعل الشرط ماضياً. وقولُ الزمخشري: إنه يَسُدُّ مَسَدَّ الجوابَيْن، يعني أنه دالٌّ على جوابِ الشرطِ. قال الشيخ: «وإنْ أُخِذ كلامُه على ظاهرِه لم يَصِحَّ؛ لأنه لو سَدَّ مَسَدَّهما لكان له

موضعٌ من الإِعرابِ، من حيث إنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ الشرط، ولا موضعَ له من حيث إنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ القسم، والشيءُ الواحدُ لا يكونُ معمولاً غيرَ معمولٍ» . و «مِنْ أحدٍ» «مِنْ» مزيدةٌ لتأكيدِ الاستغراق. و «مِنْ بعدِه» : «مِنْ» لابتداءِ الغاية.

42

قوله: {لَّيَكُونُنَّ} : جوابٌ للقسمِ المقدَّرِ. والكلامُ فيه كما تقدَّم وقوله: «لَئِنْ جاءَهم» حكايةٌ لمعنى كلامِهم لا للفظِه، إذ لو كان كذلك لكان التركيبُ: لَئِنْ جاءَنا لنَكونُنَّ. قوله: {مِنْ إِحْدَى الأمم} أي: من الأمَّةِ التي يُقال فيها: هي إحدى الأمم، تفضيلاً لها. كقولِهم: هو أحدُ الأَحَدَيْن. قال: 3772 - حتى استثارُوا بيَ إحدى الإِحَدِ ... لَيْثاً هِزَبْراً ذا سلاحٍ مُعْتَدِيْ قوله: «ما زادَهم» جوابُ «لَمَّا» . وفيه دليلٌ على أنها حرفٌ لا ظرفٌ؛ إذ لا يعملُ ما بعد «ما» النافيةِ فيما قبلها. وتقدَّمَتْ له نظائرُ. وإسنادُ الزيادةِ للنذير مجازٌ؛ لأنه سببٌ في ذلك، كقولِه: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] .

43

قوله: {استكبارا} : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له أي: لأجل الاستكبارِ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «نُفوراً» ، وأنْ يكونَ حالاً أي: حالَ كونِهم مُسْتكبرين. قاله الأخفش.

قوله: «ومَكْرَ السَّيِّئِ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على «استكباراً» . والثاني: أنه عطفٌ على «نُفوراً» وهذا مِنْ إضافة الموصوفِ إلى صفتِه في الأصلِ؛ إذ الأصلُ: والمكرَ السَّيِّئ. والبصريون يُؤَوِّلونه على حَذْفِ موصوفٍ/ أي: العمل السِّيِّئ. وقرأ العامَّةُ بخفضِ همزةِ «السَّيِّئ» ، وحمزة والأعمش بسكونِها وَصْلاً. وقد تَجَرَّأتِ النحاةُ وغيرُهم على هذه القراءةِ ونسبوها لِلَّحْنِ، ونَزَّهوا الأعمشَ عَنْ أَنْ يكونَ قرأ بها. قالوا: وإنما وَقَفَ مُسَكِّناً، فظُنَّ أنه واصَلَ فَغُلِط عليه. وقد احتجَّ لها قومٌ آخرون: بأنه إجراءٌ للوَصْلِ مُجْرَى الوقفِ، أو أَجْرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ. وحَسَّنه كونُ الكسرةِ على حَرْفٍ ثقيل بعد ياءٍ مشددةٍ مكسورةٍ. وقد تقدَّم أنَّ أبا عمروٍ يَقْرأ «إلى بارِئْكم» بسكونِ الهمزةِ. فهذا أَوْلَى لزيادةِ الثقلِ ههنا. وقد تقدَّمَ هناك أمثلةٌ وشواهدُ فعليك باعتبارِها. ورُوِيَ عن ابنِ كثير «ومَكْرَ السَّأْيِ» بهمزةٍ ساكنةٍ بعد السينِ ثم ياءٍ مكسورةٍ. وخُرِّجَتْ على أنها مقلوبةٌ من السَّيْئِ، والسَّيْئُ مخففٌ من السَّيِّئ كالميْت من الميِّت قال الحماسي: 3773 - ولا يَجْزُوْنَ مِنْ حَسَنٍ بسَيْءٍ ... ولا يَجْزُون مِنْ غِلَظٍ بلِيْنِ

وقد كَثُر في قراءتِه القلبُ نحو «ضِئاء» و «تَاْيَسوا» و «لا يَاْيَسُ» كما تقدم تحقيقُه. وقرأ عبد الله: «ومَكْراً سَيِّئاً» بالتنكيرِ، وهو موافِقٌ لما قبلَه. وقُرِئ «ولا يُحيق» بضمِّ الياء، «المكْرَ السَّيِّئَ» بالنصب على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الله تعالى أي: لا يُحيط اللَّهُ المكرَ السيِّئَ إلاَّ بأهله. قوله: «سُنَّةَ الأوَّلِيْن» مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، و «سنةِ الله» مضافٌ لفاعلِه؛ لأنَّه تعالى سَنَّها بهم، فصَحَّتْ إضافتُها إلى الفاعلِ والمفعولِ.

44

قوله: {وكانوا أَشَدَّ} : جملةٌ في موضع نصبٍ على الحال. ونظيرتُها في الروم «كانوا» بلا واوٍ على أنها مستأنفةٌ فالمَقْصَدان مختلفان.

45

قوله: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا} : تقدَّم نظيرُها في النحل إلاَّ أنَّ هناك لم يَجْرِ للأرض ذِكْرٌ، بل عاد الضميرُ على ما فُهِم من السِّياق وهنا قد صَرَّح بها في قوله: {فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} . وهنا «على ظهرها» استعارةً مِنْ ظَهْرِ الدابَّةِ دَلالةً على التمكُّنِ والتقلُّب عليها. والمَقامُ هنا يناسِبُ ذلك لأنَّه حَثٌّ على السَّيْرِ للنظر والاعتبار.

يس

بسم الله الرحمن الرحيم قرأ العامَّةُ «يَسِيْنْ» بسكونِ النونِ. وأظهر النونَ عند الواوِ بعدَها ابنُ كثير وأبو عمرٍو وحمزةُ وحفصٌ وقالونُ وورشٌ بخلافٍ عنه، وكذلك النونُ مِنْ {ن والقلم} [القلم: 1] وأدغمهما الباقون. فَمَنْ أَدْغَمَ فللخِفَّةِ، ولأنَّه لَمَّا وَصَل والتقى متقاربان مِنْ كلمتين أوَّلُهما ساكنٌ وَجَبَ الإِدغامُ. ومَنْ أظهرَ فللمبالغةِ في تفكيكِ هذه الحروفِ بعضِها من بعض لأنه بنيَّةِ الوَقْفِ، وهذا أَجْرى على القياسِ في الحروفِ المقَطَّعَةِ ولذلك التقى فيها الساكنان وَصْلاً، ونَقَل إليها حركةَ همزةِ الوصلِ على رَأْيٍ نحو: {ألف لام ميم الله} كما تقدَّم تقريرُه. وأمال الياءَ مِنْ «يس» الأخَوان وأبو بكر لأنها اسمٌ من الأسماءِ كما تقدَّم تقريرُه أولَ البقرةِ. قال الفارسيُّ: «وإذا أمالوا» يا «وهي حرفُ نداءٍ فلأَنْ

يُميلوا» يا «مِنْ يس أجدرُ» . وقرأ عيسى وابنُ أبي إسحاق بفتح النون: إمَّا على البناءِ على الفتح تخفيفاً كأَيْن وكيفَ، وإمَّا على أنَّه مفعولٌ ب «اتْلُ» ، وإمَّا على أنَّه مجرورٌ بحرفِ القسمِ. وهو على الوجهَيْن غيرُ منصرفٍ للعلَميَّةِ والتأنيث. ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً على إسقاطِ حرفِ القسمِ، كقولِه: 3774 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ وقرأ الكلبي بضم النون. فقيل: على أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذه يس، ومُنِعَتْ من الصرفِ لِما تقدَّم. وقيل: بل هي حركةُ بناءٍ ك حيث فيجوز أَنْ يكونَ خبراً كما تقدَّم، وأَنْ يكونَ مُقْسَماً بها نحو: «عَهْدُ اللَّهِ لأفعلَنَّ» . وقيل: لأنها منادى فبُنِيَتْ على الضم؛ ولهذا فَسَّرها الكلبيُّ القارئُ لها ب «يا إنسانُ» قال: «وهي لغةُ طيِّئ» . قال الزمخشري: «إنْ صَحَّ معناه فوجهُه أن يكونَ أصلُه يا أُنَيْسِيْنُ فَكَثُر النداءُ به على ألسنتِهم، حتى اقتصروا على شَطْرِه، كما قالوا في القسم: مُ الله في» ايْمُنُ اللَّهِ «. قال الشيخ:» والذي نُقِل عن العرب في تصغير إنْسان: أُنَيْسِيان بياءٍ بعدها ألفٌ فدَلَّ على/ أنَّ أصلَه إنْسِيان؛ لأنَّ التصغيرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها، ولا نعلمُ أنَّهم قالوا في تصغيره: أُنَيْسِين. وعلى تقدير أنه يُصَغَّر كذلك فلا يجوزُ ذلك، إلاَّ أَنْ يُبنى

على الضمِّ؛ لأنه منادى مُقْبَلٌ عليه ومع ذلك فلا يجوزُ لأنه تحقيرٌ، ويمتنعُ ذلك في حَقِّ النبوة «. قلت: أمَّا الاعتراضُ الأخيرُ فصحيحٌ نصُّوا على أنَّ التصغيرَ لا يَدْخُلُ في الأسماءِ المعظمةِ شَرْعاً. ولذلك يُحْكى أنَّ ابنَ قتيبةَ لمَّا قال في المُهَيْمن: إنَّه مصغرٌ مِنْ مُؤْمِن، والأصل مُؤَيْمِن، فأبْدِلَتِ الهمزةُ هاءً. قيل له: هذا يقرُبُ من الكفرِ فليتَّقِ اللَّهَ قائلُه. وقد تقدَّمَتْ هذه الحكايةُ في المائدةِ مطوَّلةً وما قيل فيها. وقد تقدَّم للزمخشريِّ في طه ما يَقْرُبُ من هذا البحثِ، وتقدَّم للشيخِ معه كلامٌ. واقرأ ابنُ أبي إسحاق أيضاً وأبو السَّمَّال» يَسنِ «بكسرِ النونِ، وذلك على أصلِ التقاءِ الساكنين. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ حركةَ إعرابٍ.

2

قوله: {والقرآن} : إمَّا قسمٌ مستأنفٌ، إنْ لم يُجْعَلْ ما تقدَّم قَسَماً، وإمَّا عَطْفٌ على ما قبلَه إنْ كانَ مُقْسَماً به. وقد تقدَّم كلامٌ عن الخليل في ذلك أولَ آياتِ البقرةِ فعليكَ باعتبارِه هنا، فإنَّه حَسَنٌ جداً. وتقدَّم الكلامُ على «الحكيم» .

3

قوله: {إِنَّكَ} : جوابُ القسمِ و «على صِراط» يجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً بالمرسَلين. تقول: أَرْسَلْتُ عليه كذا. قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً} [الفيل: 3] ، وأنْ يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الضمير المستكنِّ في «لَمِنَ المُرْسَلين» لوقوعِه خبراً، وأنْ يكونَ حالاً من المرسلين، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ل «إنَّك» .

5

قوله: {تَنزِيلَ} : قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو تنزيل. ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ إذا جَعَلْتَ يس اسماً للسورة أي: هذه السورة المسمَّاة ب يس تنزيلُ، أو هذه الأحرفُ المقطعةُ تنزيلُ. والجملةُ القسميةُ على هذا اعتراضٌ. والباقون بالنصبِ على المصدرِ، أو على المدح. وهو في المعنى كالرفع على خبر ابتداءٍ مضمر. وتنزيل مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وقيل: هو بمعنى مُنْزَل. وقرأ أبو حيوة واليزيديُّ وأبو جعفر وشيبة «تنزيلِ» بالجرِّ على النعتِ للقرآنِ أو البدلِ منه.

6

قوله: {لِتُنذِرَ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِ تنزيل أو بمعنى المرسلين، يعني بإضمارِ فِعْل يَدُلُّ عليه هذا اللفظُ أي: أَرْسَلْناك لتنذِرَ. قوله: {مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» هذه بمعنى الذي، وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً. والعائدُ على الوجهين مقدَّرٌ أي: ما أُنْذِرَه آباؤهم فتكونُ «ما» وصلتُها أو وَصْفُها في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لقولِه: «لتُنْذِرَ» كقولِه: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً} [النبأ: 40] والتقدير: لتنذرَ قوماً الذي أُنْذِرَه آباؤهم مِن العذابِ، أو لتنذرَ قوماً عذاباً أُنْذِرَه آباؤهم. ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً أي: إنذارَ آبائهم أي: مثلَه. ويجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً، وتكونُ الجملةُ المنفيةُ صفةً ل «قوماً» أي: قوماً غيرَ مُنْذَرٍ آباؤهم. ويجوزُ أَنْ تكونَ زائدةً أي: قوماً أُنْذِر آباؤهم، والجملةُ المثبتةُ أيضاً صفةٌ ل «قوماً» قاله أبو البقاء وهو مُنافٍ للوجهِ الذي قبلَه.

8

قوله: {فَهِىَ إِلَى الأذقان} : في هذا الضميرِ وجهان، أحدهما: - وهو المشهورُ - أنه عائدٌ على الأَغْلال، لأنها هي المُحَدَّثُ عنها، ومعنى هذا الترتيبِ بالفاءِ: أن الغِلَّ لغِلَظِه وعَرْضِه يَصِلُ إلى الذَّقَنِ لأنه يَلْبَسُ العُنُقَ جميعَه. الثاني: أن الضميرَ يعودُ على الأَيدي؛ لأنَّ الغِلَّ لا يكونُ إلاَّ في العُنُقِ واليدين، ولذلك سُمِّي جامِعَةً. ودَلَّ على الأيدي هذه الملازَمَةُ المفهومةُ من هذه الآلةِ أعني الغِلَّ. وإليه ذهب الطبري. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال: «جعل الإِقْماحَ نتيجةَ قولِه: {فَهِىَ إِلَى الأذقان} ولو كان للأيدي لم يكن معنى التَّسَبُّبِ في الإِقماحِ ظاهراً. على أنَّ هذا الإِضمارَ فيه ضَرْبٌ من التعسُّفِ وتَرْكِ الظاهر» . / وللناس في هذا الكلامِ قولان، أحدهما: أنَّ جَعْلَ الأغلالِ حقيقةٌ. والثاني: أنه استعارةٌ. وعلى كلٍّ من القولين جماعةٌ من الصحابةِ والتابعين. وقال الزمخشري: «مَثَّل تصميمَهم على الكفر، وأنه لا سبيلَ إلى ارْعوائِهم بأنْ جَعَلَهم كالمَغْلُوْلِين المُقْمَحِيْن في أنهم لا يَلْتَفِتون إلى الحق ولا يَعْطِفُون أعناقَهم نحوَه، ولا يُطَأْطِئُون رؤوسَهم له وكالحاصلين بين سَدَّيْن لا يُبْصِرون ما قُدَّامَهم وما خَلْفَهم في أَنْ لا تأمُّلَ لهم ولا تَبَصُّرَ، وأنهم مُتَعامُوْن عن آياتِ الله» . وقال غيره: «هذه استعارةٌ لمَنْعِ اللَّهِ إياهم مِن الإِيمانِ وحَوْلِه بينَهم وبينه» . قال ابن عطية: «وهذا أَرْجَحُ الأقوالِ؛ لأنه تعالى لَمَّا ذَكَرَ أنهم

لا يُؤْمِنون لِما سَبَقَ لهم في الأَزَلِ عَقَّبَ ذلك بأنْ جَعَلَ لهم من المَنْعِ وإحاطةِ الشقاوةِ ما حالُهم معه حالُ المَغْلُوْلين» انتهى. وتقدَّم تفسيرُ الأذقان. قوله: «فهم مُقْمَحُوْن» هذه الفاءُ لأحسنِ ترتيبٍ؛ لأنه لَمَّا وَصَلَتِ الأغلالُ إلى الأَذْقان لِعَرْضِها لَزِم عن ذلك ارتفاعُ روؤسِهم إلى فوقُ، أو لَمَّا جُمِعَتْ الأيدي إلى الأَذْقان وصارت تحتَها لَزِم مِنْ ذلك رَفْعُها إلى فوقُ، فترتفعُ رؤوسُهم. والإِقْماح: رَفْعُ الرأسِ إلى فوقُ كالإِقناع، وهو مِنْ قَمَحَ البعيرُ رَأْسَه إذا رفَعها بعد الشُّرْبِ: إمَّا لبرودةِ الماءِ وإمَّا لكراهةِ طَعْمِه قُموحاً وقِماحاً بكسرِ القافِ وضمِّها. وأَقْمَحْتُه أنا إقماحاً والجمع قِماح وأنشد: 3775 - ونحن على جوانبِها قُعودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِماحِ يصفُ نفسَه وجماعةً كانوا في سفينة فأصابهم المَيْدُ. قالَ الزجاج: «قيل للكانونَيْنِ شَهْرا قُمِاح؛ لأنَّ الإِبِلَ إذا وَرَدَتِ الماءَ رَفَعَتْ رؤوسَها لشدَّةِ البردِ» . وأنشد أبو زيد للهذلي: 3776 - فَتَىً ما ابنُ الأَغَرِّ إذا شَتَوْنا ... وحُبَّ الزادُ في شَهْرَيْ قُماحِ

كذا رَواه بضمِّ القافِ، وابن السكيت بكسرِها. وهما لغتان في المصدرِ كما تقدَّمَ. وقال الليث: القُموح: رَفْعُ البعيرِ رَأْسَه إذا شَرِبَ الماءَ الكريهَ ثم يعودُ. وقال أبو عبيدة: «إذا رَفَعَ رأسَه عن الحوض، ولم يشرَبْ» والمشهورُ أنه رَفْعُ الرأسِ إلى السماء كما تقدَّمَ تحريرُه. وقال الحسن: «القامِحُ: الطامِحُ ببصرِه إلى مَوْضِعِ قَدَمِه» وهذا يَنْبُو عنه اللفظُ والمعنى. وزاد بعضُهم مَع رَفْعِ الرأس غَضَّ البصرِ مُسْتَدِلاًّ بالبيتِ المتقدم: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِل القِماحِ وزاد مجاهدٌ مع ذلك وَضْعَ اليدِ على الفم. وسأل الناسُ أميرَ المؤمنين علياً كرَّم اللَّهُ وجهه عن هذه الآيةِ فجعل يديه تحت لِحْيَيْه ورَفَعَ رأسَه ولعَمْري إنَّ هذه الكيفيةَ تُرَجِّح قولَ الطبريِّ في عَوْدِ «فهي» على الأيدي.

9

قوله: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} : تقدَّم خلافُ القُرَّاء في فتح السين وضمِّها والفرقُ بينهما، مستوفى في آخر الكهف. قوله: «فأَغْشَيْناهم» العامَّةُ على الغين المعجمة أي: غَطَّيْنا أبصارَهم فهو على حَذْفِ مضافٍ. وابن عباس وعمر بن عبد العزيز والحسن وابن يعمر وأبو رجاء في آخرين بالعين المهملة، وهو ضَعْفُ البصَرِ. يُقال: عَشِي بَصَرُه وأَعْشَيْتُه أنا، وقوله تعالى هذا يحتمل الحقيقةَ والاستعارةَ كما تقدَّم.

10

قوله: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ} : تقدَّم تحريرُه أولَ البقرةِ.

12

قوله: {وَنَكْتُبُ} : العامَّةُ على بنائِه للفاعل، فيكونُ «ما قَدَّموا» مفعولاً به، و «آثارهم» عطفٌ عليه. وزر ومسروق مبنياً للمفعول، و «آثارُهم» بالرفعِ، عطف على «ما قَدَّموا» لقيامِه مَقامَ الفاعل. قوله: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} العامَّةُ على نصبِه على الاشتغالِ. وأبو السَّمَّال قرأه مرفوعاً بالابتداءِ. والأرجحُ قراءةُ العامَّةِ لعطفِ جملةِ الاشتغالِ على جملةٍ فعلية. وقد تقدَّم الكلامُ على نحو {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً} في البقرة، والنحل.

13

و: {إِذْ جَآءَهَا} : بدلُ اشتمالٍ تقدَّم نظيرُه. و «إذْ أَرْسَلْنا» بدلٌ من «إذ» الأولى.

14

قوله: {فَعَزَّزْنَا} : قرأ/ أبو بكر بتخفيفِ الزاي

بمعنى غَلَّبْنا، ومنه قولُه: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23] . ومنه قولُهم: «مَنْ عَزَّ بَزَّ» أي صار له بَزٌّ. والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنا. يقال: عزَّز المطرُ الأرضَ أي: قَوَّاها ولبَّدها. ويُقال لتلك الأرضِ: العَزازُ، وكذا كلُّ أرضٍ صُلْبةٍ. وتَعَزَّزَ لحمُ الناقةِ أي: صَلُبَ وقَوِيَ. وعلى كلتا القراءتَيْن المفعولُ محذوفٌ أي: فَقَوَّيناهما بثالثٍ أو فَغَلَّبْناهما بثالث. وقرأ عبد الله «بالثالث» بألف ولام. قوله: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} جَرَّد خبرَ «إنَّ» هذه من لام التوكيد، وأَدْخَلها في خبر الثانيةِ، لأنَّهم في الأولى استعملوا مجرَّدَ الإِنكارِ فقابَلَتْهم الرسُلُ بتوكيدٍ واحدٍ وهو الإِتيانُ ب «إنَّ» ، وفي الثانيةِ بالمبالغة في الإِنكار فقابَلَتْهم بزيادة التوكيدِ فأتَوْا ب إنَّ وباللام. قال أهل البيان: الأخبارُ ثلاثةُ أقسامٍ: ابتدائيٌّ وطلبيٌّ وإنكاريٌّ، فالأولُ يُقال لمن لم يتردَّدْ في نسبةِ أحدِ الطرفين إلى الآخر نحو: زيد عارفٌ، والثاني لِمَنْ هو متردِّدٌ في ذلك، طالِبٌ له منكِرٌ له بعضَ إنكارٍ، فيقال له: إنَّ زيداً عارِفٌ، والثالثُ لِمَنْ يبالِغُ في إنكارِه، فيُقال له: إنَّ زيداً لعارِفٌ. ومِنْ أحسن ما يُحْكى أن رجلاً جاء إلى أبي العباس الكِنْدِيِّ فقال: إني أجد في كلامِ العربِ حَشْواً قال: وما ذاك؟ قال: يقولون: زيدٌ قائمٌ، وإنَّ زيداً قائمٌ، وإنَّ زيداً لَقائمٌ. فقال: «كلا بل المعاني مختلفةٌ، فزيد قائمٌ إخبارٌ بقيامِه، وإنَّ زيداً

قائمٌ جوابٌ لسؤالِ سائلٍ، وإنَّ زيداً لَقائمٌ جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ» . قلت: هذا هو الكنديٌّ الذي سُئل أن يعارِضَ القرآنَ ففتح المصحفَ فرأى سورةَ المائدةِ فكعَّ عن ذلك. والحكايةُ ذكرتُها أولَ المائدة. وقال الشيخ: «وجاء أولاً» مُرْسَلون «بغير لام؛ لأنه ابتداءُ إخبارٍ فلا يَحْتاجُ إلى توكيدٍ، وبعد المحاورة» لَمُرْسَلون «بلامِ التوكيد؛ لأنه جوابٌ عن إنكار» وهذا قصورٌ عن فَهْم ما قاله أهلُ البيان، فإنه جَعَلَ المقام الثاني وهو الطلبيُّ مكانَ المقامِ الأولِ، وهو الابتدائيُّ.

19

قوله: {طَائِرُكُم} : العامَّةُ على «طائر» اسمَ فاعل أي: ما طارَ لكم من الخيرِ والشرِّ فعبَّر عن الحَظِّ والنصيب. وقرأ الحسن - فيما رَوَى عنه الزمخشري - «اطَّيُّرُكم» مصدرُ اطَّيَّر الذي أصلُه تطَيَّر فلمَّا أُرِيْدَ إدغامُه أُبْدِلَتِ التاءُ طاءً، وسُكِّنَتْ واجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار اطَّيَّرَ فيكون مصدره اطَّيُّرَاً. ولَمَّا ذكر الشيخ هذا لم يَرُدَّ عليه، وكان هو في بعضِ ما رَدَّ به على ابن مالك في «شرح التسهيل» في باب المصادر قال: «إن مصدرَ تَطَيَّر وتدارَأ إذا أدغما وصارا اطَّيَّرَ وادَّارأ لا يجيءُ مصدرُهما عليهما بل على أصلهما فيقال: اطَّيَّر تَطَيُّراً، وادَّارأ تدارُؤاً، ولكنَّ هذه القراءةَ تَرُدُّه إنْ صَحَّتْ وهو بعيدٌ. وقد رَوَى غيرُه عنه» طَيْرُكم «بياء ساكنة ويَغْلِبُ على الظنِّ أنَّها هذه، وإنما تَصَحَّفَتْ على الرائي فحَسِبها مصدراً، وظنَّ أنَّ ألف» قالوا «همزةُ وَصْلٍ.

قوله:» أإنْ ذُكِّرْتُمْ «قرأ السبعةُ بهمزةِ استفهام بعدها» إنْ «الشرطيةُ، وهم على ما عَرَفْتَ مِنْ أصولِهم: من التسهيلِ والتحقيق وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين وعدمِه في سورةِ البقرة. واختلف سيبويهِ ويونسُ إذ اجتمع استفهامٌ وشرطٌ أيُّهما يُجابُ؟ فذهبَ سيبويهِ إلى إجابةِ الاستفهام، ويونسُ إلى إجابة الشرطِ، فالتقديرُ عند سيبويهِ:» أإن ذُكِّرْتُمْ تتطيَّرون «وعند يونسَ» تطيَّرُوا «مجزوماً، فالجوابُ للشرطِ على القولين محذوفٌ. وقد تقدَّم هذا في سورة الأنبياء. وقرأ أبو جعفر وطلحة وزرٌّ بهمزتين مفتوحتين إلاَّ أن زرَّاً لم يُسَهِّلَ الثانيةَ كقوله: 3777 - أإنْ كُنْتَ داودَ بنَ أحوى مُرَجَّلاً ... فلستَ براعٍ لابنِ عمِّك مَحْرَما ورُوي عن أبي عمروٍ وزرٍّ أيضاً كذلك، إلاَّ أنهما فَصَلا بألفٍ بين الهمزتين. وقرأ الماجشون بهمزةٍ واحدةٍ مفتوحة. وتخريجُ هذه القراءاتِ الثلاثِ على حَذْفِ لامِ العلةِ أي: ألَئِنْ ذُكِّرْتم تطيَّرْتُمْ، ف تَطَيَّرْتُمْ هو المعلولُ، وأنْ ذُكِّرتم علتُه، والاستفهامُ منسَحِبٌ عليهما في قراءةِ الاستفهامِ وفي غيرِها يكونُ إخباراً بذلك.

وقرأ الحسن بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وهي شرطٌ من غير استفهامٍ، وجوابُه محذوفٌ أيضاً. وقرأ الأعمشُ والهمدانيُّ» أَيْنَ «بصيغةِ الظرفِ. وهي» أين «/ الشرطيةُ، وجوابُها محذوفٌ عند جمهور البصريين أي: أين ذُكرتم فطائرُكم معكم، أو صَحِبَكم طائرُكم، لدلالةِ ما تقدَّم مِنْ قولِه» طائرُكُمْ معكم «ومَنْ يُجَوِّزُ تقديمَ الجوابِ لا يَحْتاج إلى حَذْفٍ. وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصمعيُّ عن نافع» ذُكِرْتُمْ «بتخفيفِ الكاف.

21

قوله: {مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} : بدلٌ من «المرسلين» بإعادة العامل، إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: «النحاةُ لا يقولون ذلك إلاَّ إذا كان العاملُ حرف جر، وإلاَّ فلا يُسَمُّونه بدلاً بل تابعاً» وكأنه يريد التوكيدَ اللفظيَّ بالنسبة إلى العامل.

22

قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ} : أصلُ الكلامِ: «ومالكم لا تعبدون» ولكنه صَرَفَ الكلامَ عنهم، ليكون الكلامُ أسرعَ قبولاً ولذلك جاء قولُه «وإليه تُرْجَعون» دون «وإليه أرجعُ» .

23

قوله: {أَأَتَّخِذُ} : مبنيٌّ على كلامِه الأول، وهذه الطريقةُ أحسنُ من ادِّعاءِ الالتفاتِ. قوله: «مِنْ دونِه» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «أتخذُ» على أنها متعديةٌ لواحدٍ وهو «آلهةً» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ «آلهةً» ، وأنْ يكونَ مفعولاً ثانياً قُدِّمَ على أنها المتعديةُ لاثنين. قوله: «إنْ يُرِدْنِيْ» شَرْطٌ، جوابُه {لاَّ تُغْنِ عَنِّي} ، والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل آلهةً. وفتح طلحة السلماني - وقيل: طلحةُ ابنُ مصرِّفٍ - ياءَ المتكلم. قال الزمخشري: «وقُرِئ» {إِن يُرِدْنِي الرحمن بِضُرٍّ} بمعنى: إنْ يُوْردني ضَرَّاء، أي يجعله مَوْرِداً للضُرِّ «. قال الشيخُ:» وهذا - واللَّهُ أعلم - رأى في كتب القراءات بفتح الياءِ فتوهمَّ أنها ياءُ المضارعة فجعل الفعلَ متعدِّياً بالياء المعدِّية كالهمزةِ، فلذلك أَدْخَلَ همزةَ التعديةِ فنصَبَ به اثنين، والذي في كتبِ القراءات الشواذ أنها ياءُ الإِضافةِ المحذوفةُ خَطَّاً ونطقاً لالتقاء الساكنين «. قلت: وهذا رجلٌ ثقةٌ قد نَقَل هذه القراءةَ فتُقْبل منه.

25

قوله: {فاسمعون} : العامَّةُ على كسر النون، وهي نونُ الوقايةِ حُذِفَتْ بعدها ياءُ الإِضافةِ مُجْتَزَأً عنها بكسرةِ النونِ، وهي اللغةُ العاليةُ.

وقرأ عصمة عن عاصمٍ بفتحِها، وليسَتْ هذه إلاَّ غَلَطاً على عاصم، إذ لا وجهَ. وقد وقع لابنِ عطيةَ وهمٌ فاحشٌ في ذلك فقال: «وقرأ الجمهورُ» فاسمعونَ «بفتح النون، قال أبو حاتم: هذا خطأٌ، فلا يجوزُ لأنه أمْرٌ: فإمَّا حَذْفُ النون، وإمَّا كَسْرُها على جهةِ الياءِ» يعني ياءَ المتكلم، وقد يكونُ قولُه «الجمهور» سَبْقَ قَلَمٍ منه أو من النُّسَّاخِ وكأنَّ الأصلَ: «وقرأ غيرُ الجمهور» فسقط لفظةُ «غير» . وقال ابن عطية: «حُذِفَ من الكلام ما تواتَرَتِ الأخبارُ والرواياتُ به وهو أنهم قَتَلوه فقيل له عند مَوْتِه: ادْخُلِ الجنةَ» .

27

قوله: {بِمَا غَفَرَ لِي} : يجوز في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: المصدريةُ أي: يعلمون بغُفْرانِ ربي. والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: بالذي غَفَرَه لي ربي. واسْتُضعِفَ هذا: من حيثُ إنه يَبْقى معناه أنه تمنى أَنْ يعلمَ قومُه بذنوبِه المغفورةِ. وليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على تَمَنِّي عِلْمِهم بغفرانِ رَبِّه ذنوبَه. والثالث: أنها استفهاميةٌ، وإليه ذهب الفراء. ورَدَّه الكسائيُّ: بأنه كان ينبغي حَذْفُ ألفِها لكونِها مجرورةً وهو رَدٌّ صحيحٌ. وقال الزمخشري: «الأجودُ طَرْحُ الألفِ»

والمشهورُ مِنْ مذهبِ البصريين وجوبُ حَذْفِ ألفِها كقوله: 3778 - عَلامَ تقولُ الرُّمْحَ يُثْقِلُ عاتقي ... إذا أنا لم أَطْعَنْ إذا الخيلُ كَرَّتِ إلاَّ في ضرورةٍ، كقولِ الآخر: 3779 - على ما قام يَشْتِمُني لَئيمٌ ... كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ وقُرِئ «من المُكَرَّمين» بتشديدِ الراء.

28

قوله: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} : في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها نافيةٌ كالتي قبلَها فتكون الجملةُ الثانيةُ جاريةً مَجْرى التأكيد للأولى. والثاني: أنها مزيدةٌ. قال أبو البقاء: «أي: وقد كنَّا مُنْزِلين» . وهذا لا يجوزُ البتةَ لفسادِه لفظاً ومعنًى. الثالث: أنها اسمٌ معطوفٌ على «جند» . قال ابن عطية: «أي: مِنْ جندٍ ومن الذي كنَّا مُنْزِلين» . ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ «مِنْ» مزيدةٌ. وهذا التقديرُ يُؤدِّي إلى زيادتِها في الموجَبِ جارَّةً لمعرفةً، ومذهبُ البصريين - غيرَ الأخفشِ - أن يكونَ الكلامُ غيرَ موجَبٍ، وأَنْ يكونَ المجرورُ

نكرةً. قلت: فالذي يَنْبغي عند مَنْ يقولُ بذلك أَنْ يُقَدِّرَها/ بنكرةٍ أي: ومِنْ عذابٍ كنا مُنْزِليه. والجملةُ بعدها صفةٌ لها. وأمَّا قولُه: إنَّ هذا التقديرَ يؤدِّي إلى زيادتها في الموجَبِ فليس بصحيحٍ البتةَ. وتَعَجَّبْتُ كيف يُلْزِمُ ذلك؟

29

قوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً} : العامَّةُ على النصبِ على أنَّ «كان» ناقصةٌ. واسمُها ضميرُ الأَخْذَةِ، لدلالةِ السياقِ عليها. و «صيحةً» خبرُها. وقرأ أبو جعفر وشيبةُ ومعاذٌ القارئُ برفعِها، على أنها التامةُ أي: وقع وحَدَثَ وكان ينبغي أَنْ لا تلْحق تاءُ التأنيث للفصلِ ب «إلاَّ» بل الواجبُ في غير نُدورٍ واضطرارٍ حَذْفُ التاءِ نحو: «ما قام إلاَّ هند» وقد شَذَّ الحسنُ وجماعةٌ فقرؤوا {لاَ ترى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} كما سأبيِّنه في موضعه إن شاء الله وقال الشاعر: 3780 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلوعُ الجراشِعُ وقال آخرِ:

4781 - ما بَرِئَتْ مِنْ رِيْبَةٍ وذَمِّ ... في حَرْبِنا إلاَّ بناتُ العَمِّ

30

قوله: {ياحسرة} : العامَّةُ على نصبِها. وفيه وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على المصدرِ، والمنادى محذوفٌ تقديره: يا هؤلاء تَحَسَّروا حسرةً. والثاني: أنها منونةٌ لأنها منادى منكورٌ فنُصِبت على أصلها كقوله: 3782 - أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ ... نداماي مِنْ نَجْرانَ أنْ لا تَلاقِيا ومعنى النداءِ هنا على المجازِ، كأنه قيل: هذا أوانُكِ فاحْضُرِي. وقرأ قتادةُ وأُبَيٌّ في أحدِ وجهَيْه «يا حَسْرَةٌ» بالضم، جعلها مُقْبِلاً عليها، وأُبَيٌّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحسين {ياحسرة العباد} بالإِضافة. فيجوزُ أَنْ تكونَ الحَسْرةُ مصدراً مضافاً لفاعلِه أي: يتحسَّرون على غيرهم لِما يَرَوْنَ مِنْ عذابهم، وأَنْ يكونَ مضافاً لمفعوله أي: يَتَحَسَّر عليهم غيرُهم. وقرأ أبو الزِّناد وابن هرمز. وابن جندب «يا حَسْرَهْ» بالهاءِ المبدلةِ مِنْ تاءِ التأنيث وَصْلاً، وكأنَّهم أَجْرَوْا الوصلَ مُجْرى الوقفِ وله نظائرُ مَرَّتْ. وقال صاحب «

اللوامح» : «وقفوا بالهاء مبالغةً في التحسُّر، لِما في الهاءِ من التَّأَهُّه بمعنى التأوُّه، ثم وصلوا على تلك الحال» . وقرأ ابن عباس أيضاً «يا حَسْرَةَ» بفتح التاء من غير تنوين. ووجْهُها أنَّ الأصل: يا حَسْرتا فاجْتُزِئ بالفتحة عن الألف كما اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء. ومنه: 3783 - ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ مِنِّي ... بَلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لو اني أي: بلهفا بمعنى لَهْفي. وقُرئ «يا حَسْرتا» بالألف كالتي في الزمر، وهي شاهدةٌ لقراءةِ ابنِ عباس، وتكون التاءُ لله تعالى، وذلك على سبيل المجاز دلالةً على فَرْطِ هذه الحَسْرةِ. وإلاَّ فاللَّهُ تعالى لا يُوْصَفُ بذلك. قوله: «ما يَأْتِيْهم» هذه الجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرةٌ لسبب الحسرةِ عليهم. قوله: «إلاَّ كانوا» جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولٍ «يَأْتيهم» .

31

قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} : «كم» هنا خبرِيةٌ فهي مفعولٌ ب «أَهْلكنا» تقديرُه: كثيراً من القرونِ أهلَكْنا. وهي معلِّقَةٌ ل «يَرَوْا» ذهاباً بالخبريَّة مذهبَ الاستفهاميةِ. وقيل: بل «يَرَوْا» عِلْمية، و «كم» استفهاميةٌ كما سيأتي بيانُه. و {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ «كم» قال

ابن عطية: «وكم هنا خبريةٌ، و» أنهم «بدلٌ منها، والرؤيةُ بَصَرية» . قال الشيخ: «وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنها إذا كانَتْ خبريةً كانَتْ في موضعِ نصبٍ ب» أهلَكْنا «. ولا يَسُوغُ فيها إلاَّ ذلك. وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون» أنَّهم «بدلاً منها؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العاملِ. ولو سُلِّطت أَهْلكنا على» أنهم «لم يَصِحّ؛ ألا ترى أنك لو قلتَ: أهلَكْنا انتفاءَ رجوعِهم، أو أَهلكنا كونَهم لا يَرجعون، لم يكن كلاماً. لكنَّ ابنَ عطية تَوَهَّمَ أنَّ» يَرَوْا «مفعولُه» كم «فتوَهَّم أنَّ قوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بدلٌ منه؛ لأنه يُسَوِّغُ أَنْ يُسَلَّط عليه فتقول: ألم يَرَوْا أنهم إليهم لا يَرْجعون. وهذا وأمثالُه دليلٌ على ضَعْفِه في عِلْم العربية» . قلت: وهذا الإِنحاءُ تحاملٌ عليه؛ لأنه لقائلٍ أَنْ يقول: «كم» قد جعلها خبريةً، والخبريةُ يجوز أَنْ تكونَ معمولةً ل ما قبلها عند قومٍ، فيقولون: «ملكتُ كم عبدٍ» فلم يَلْزَمْ الصدرَ، فيجوزُ أَنْ يكونَ بنى هذا التوجيهَ على هذه اللغةِ وجعل «كم» منصوبةً ب «يَرَوْا» و «أنهم» بدلٌ منها، نَ التي أهلكناها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذٍ. الثاني: أنَّ «أنَّهم» بدلٌ من الجملةِ قبلَه. قال الزجاج: «هو بدلٌ من الجملة، والمعنى: ألم يَرَوْا أن القروأنهم لا يَرْجِعون؛ لأنَّ عَدَمَ الرجوعِ والهلاكَ بمعنى» . قال الشيخ: «وليس بشيءٍ؛ لأنه ليس بدلاً صناعياً، وإنما فَسَّر المعنى ولم يَلْحَظ صناعةَ النحو» . قلت: بل هو بدلٌ صناعي؛ لأنَّ الجملةَ في قوة المفرد؛ إذ هي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولِ «يَرَوْا» فإنها معلِّقَةٌ لها كما تقدَّم.

الثالث: قال الزمخشري: «ألم يَرَوْا» ألم يعلموا، وهو مُعَلَّق/ عن العمل في «كم» لأنَّ «كم» لا يعملُ فيها عاملٌ قبلها - كانَتْ للاستفهام أو للخبرِ - لأنَّ أصلَها الاستفهامُ، إلاَّ أنَّ معناها نافِذٌ في الجملةِ كما نفذ في قولك: «ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ» وإنْ لم يعملْ في لفظِه، وأنهم إليهم لا يَرْجِعون: بدلٌ مِنْ «كم أهلَكْنا» على المعنى لا على اللفظِ تقديرُه: ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم «. قال الشيخ: «قولُه لأنَّ» كم «لا يعملُ فيها ما قبلَها كانت للاستفهام أو للخبرِ» ليس على إطلاقِه؛ لأنَّ العاملَ إذا كان حرفَ جر أو اسماً مضافاً جاز أَنْ يعملَ فيها نحو: «على كم جِذْعٍ بيتُك؟ وابنُ كم رئيسٍ صحبتَ؟ وعلى كم فقير تصدَّقتُ أرجو الثواب؟ وابنُ كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟» . وقوله: «أو للخبر» والخبرية فيها لغتان: الفصيحةُ كما ذكر لا يتقدَّمُها عاملٌ إلاّ ما ذَكَرْنا من الجارِّ، واللغةُ الأخرى حكاها الأخفش يقولون: «ملكتُ كم غلامٍ» أي: ملكتُ كثيراً من الغِلْمان. فكما يجوزُ تقدُّم العاملِ على كثيراً كذلك يجوزُ على «كم» لأنها بمعناها. وقوله: «لأنها أصلها الاستفهامُ، والخبريةُ ليس أصلُها الاستفهامَ» بل كلُّ واحدةٍ أصلٌ بنفسِها، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر. وقوله: «لأنَّ معناها نافدٌ في الجملة» يعني معنى «يَرَوا» نافذٌ في الجملة؛ لأنَّه جعلَها مُعَلَّقة وشرحَ «يَرَوْا» ب يعلموا. وقوله: «كما نفذ في قولك: ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ» يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظُ لامتنع دخولُ اللامِ ولَفُتِحَتْ «إنَّ» فإنَّ «إنَّ» التي في

خبرها اللامُ من الأدوات المعلِّقة لأفعال القلوبِ. وقوله: «إنهم إليهم» إلى آخره كلامُه لا يَصِحُّ أن يكون بدلاً لا على اللفظِ ولا على المعنى. أمَّا على اللفظِ فإنه زعم أنَّ «يَرَوْا» معلَّقَةٌ فتكون «كم» استفهاميةً فهي معمولةٌ ل «أهلكنا» ، و «أهلكنا» لا يَتَسَلَّط على {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} . وقد تقدَّم لنا ذلك. وأمَّا على المعنى فلا يَصِحُّ أيضاً لأنه قال: تقديره: أي على المعنى ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم، فكونُهم غيرَ راجعين ليس كثرةَ الإِهلاكِ، فلا يكون بدلَ بعضٍ من كل، ولا يكون بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ بدلَ الاشتمال يَصِحُّ أن يضافَ إلى ما أُبْدِل منه، وكذلك بدلُ بعضٍ من كل. وهذا لا يَصِحُّ هنا. لا تقول: ألم يَرَوْا انتفاءَ رجوعِ كثرةِ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قبلهم، وفي بدلِ الاشتمال نحو: «أعْجَبَتْني الجاريةُ مَلاحتُها، وسُرِقَ زيدٌ ثوبُه» يصحُّ: «أعجبتني ملاحَةُ الجاريةِ، وسُرِق ثوبُ زيد» . الرابع: أَنْ يكونَ «أنهم» بدلاً مِنْ موضع «كم أهلَكْنا» ، والتقدير: ألم يَرَوْا أنهم إليهم. قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ: بأنَّ «كم أهلَكْنا» ، ليس بمعمولٍ ل «يَرَوْا» . قلت: قد تقدَّم أنها معمولةٌ لها على معنى أنها مُعَلِّقَةٌ لها. الخامس: - وهو قولُ الفراء - أن يكون «يَرَوْا» عاملاً في الجملتين من غير إبدالٍ، ولم يُبَيِّنْ كيفيةَ العملِ. وقوله «الجملتين» تجوُّزٌ؛ لأنَّ «أنهم» ليس بجملةٍ لتأويلِه بالمفرد إلاَّ أنه مشتملٌ على مُسْندٍ ومسند إليه. السادس: أنَّ «أنهم» معمولٌ لفعل محذوفٍ دَلَّ عليه السياقُ والمعنى،

تقديره: قَضَيْنا وحَكَمْنا أنهم لا يَرْجعون. ويَدُلُّ على صحةِ هذا قراءةُ ابنِ عباس والحسن «إنهم» بكسر الهمزةِ على الاستئناف، والاستئنافُ قَطْعٌ لهذه الجملةِ مِمَّا قبلها فهو مُقَوٍّ لأَنْ تكونَ معمولةً لفعلٍ محذوفٍ يقتضي انقطاعَها عَمَّا قبلَها. والضميرُ في «أنهم» عائدٌ على معنى «كم» وفي «إليهم» عائدٌ على ما عاد عليه واو «يَرَوْا» . وقيل: بل الأولُ عائدٌ على ما عاد عليه واو «يَرَوْا» . والثاني عائدٌ على المُهْلَكين.

32

قوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} : قد تقدم في هود تشديدُ «لَمَّا» وتخفيفُها وما قيل في ذلك. وقال الفخر الرازي في مناسبة وقوعِ «لَمَّا» المشدَّدةِ موقعَ إلاَّ: «إنَّ» لَمَّا «كأنها حرفا نفي، وهما لم وما، فتأكَّد النفيُ، و» إلاَّ «كأنَّها حرفا نفي: إنْ ولا فاستعمل أحدُهما مكانَ الآخر» . انتهى. وهذا يجوزُ أَنْ يكونَ أَخَذه من قول الفراءِ في «إلاَّ» في الاستثناء: إنها مركبةٌ من إنْ ولا. إلاَّ أنَّ الفراءَ جَعَلَ «إنْ» مخففةً من الثقيلة، وجعلها نافيةٌ، وهو قولٌ ركيكٌ رَدَّه عليه النحويون. وقال الفراء أيضاً: إن «لَمَّا» هذه أصلُها: لَمِمَّا فخُفِّفَ بالحذفِ. وهذا كلُّه قد تقدَّم موضَّحاً. وقوله: «كلٌّ» مبتدأ و «جميعٌ» خبرُه. و «مُحْضَرون» خبرٌ ثانٍ لا يختلف ذلك سواءً شَدَّدْتَ «لَمَّا» أم خفَّفْتها. لا يُقال: إنَّ جميعاً تأكيد لا خبرٌ، لأنَّ جميعاً هنا فَعيل بمعنى/

مَفعول أي: مجموعون ف «كل» تدلُّ على الإِحاطةِ والشمول، و «جميع» تَدُلُّ على الاجتماع فمعناها حُمِل على لفظها في قوله: {جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] وقَدَّمَ «جميع» في الموضعين لأجلِ الفواصلِ، و «لَدَيْنا» متعلِّقٌ ب «مُحْضَرون» فَمَنْ شَدَّدَ ف «لَمَّا» بمعنَى «إلاَّ» وَ «إنْ» نافيةٌ كما تقدَّمَ، ومَنْ خَفَّفَ فإنْ مخففةٌ، واللامُ فارقةٌ و «ما» مزيدةٌ. هذا قولُ البصريين، والكوفيون يقولون: «إنْ» نافيةٌ، واللامُ بعنى «إلاَّ» كما تقدَّم غيرَ مرةٍ.

33

قوله: {وَآيَةٌ} : خبرٌ مقدمٌ و «لهم» صفتُها أو متعلِّقَةٌ ب «آية» لأنها بمعنى علامة. و «الأرضُ» مبتدأ. وتقدَّم تخفيف الميتة وتشديدُها في أول آل عمران. ومنع الشيخُ أَنْ تكونَ «لهم» صفةً ل «آية» ولم يُبَيِّن وجهَه ولا وَجَّهَ له. وأعرب أبو البقاء «آية» مبتدأً و «لهم» الخبرُ و «الأرضُ الميتةُ» مبتدأٌ وصفتُه، و «أَحْييناها» خبرُه. والجملةُ مفسِّرَةٌ ل «آية» وبهذا بدأ ثم قال: وقيل: فذكر الوجهَ الذي بدأْتُ به. وكذلك حكى مكي أعني أَنْ يكونَ «آية» ابتداءً، و «لهم» الخبر. وجَوَّز مكي أيضاً أن تكونَ «آية» مبتدأً و «الأرضُ» خبرُه. وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا تُعْزَلُ المعرفةُ من الابتداءِ بها، ويُبْتَدأ بالنكرة إلاَّ في مواضعَ للضرورةِ. قوله: «أَحْيَيْناها» قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ «الأرض» ، ويجوزُ أيضاً أَنْ يكونَ حالاً من «الأرض» إذا جَعَلْناها مبتدأً، و «آية» خبرٌ مقدمٌ. وجَوَّزَ

الزمخشريُّ في «أَحْيَيْناها» وفي «نَسْلَخُ» أَنْ يكونا صفتين للأرض والليل، وإن كانا مُعَرَّفين بأل لأنه تعريفٌ بأل الجنسيةِ، فهما في قوةِ النكرة قال: كقوله: 3784 - ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لأنه لم يَقْصِدْ لئيماً بعينه. وردَّه الشيخُ: بأنَّ فيه هَدْماً للقواعد: مِنْ أنه لا تُنْعَتُ المعرفةُ بنكرةٍ. قال: وقد تبعه على ذلك ابنُ مالك. ثم خَرَّج الشيخُ الجملَ على الحال أي: الأرضُ مُحْياةً والليلُ مُنْسَلِخاً منه النهارُ، واللئيمُ شاتماً لي. قلت: وقد اعتبر النحاةُ ذلك في مواضع، فاعتبروا معنى المعرَّفِ بأل الجنسيةِ دونَ لفظِه فوصفوه بالنكرة الصريحةِ نحو: «بالرجلِ خيرٍ منك» على أحد الأوجه، وقوله: {إِلاَّ الذين} [العصر: 3] بعد {إِنَّ الإنسان} [العصر: 2] وقوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ} [النور: 31] و «أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدرهمُ البيض» . كلُ هذا رُوعي فيه المعنى دونَ اللفظ، وإن اختلف نوعُ المراعاةِ. ويجوز أن يكون «أحييناها» استئنافاً بَيَّن به كونَها آية.

34

قوله: {وَفَجَّرْنَا} : العامَّةُ على التشديد تكثيراً لأنَّ [

فَجَّر] مخففةً متعدٍّ. وقرأ جناح بن حبيش بالتخفيف. والمفعولُ محذوفٌ على كلتا القراءتين أي: ينبوعاً كما في آية سبحان.

35

قوله: {مِن ثَمَرِهِ} : قيل: الضميرُ عائدٌ على النخيل؛ لأنه أقربُ مذكورٍ، وكان مِنْ حَقِّ الضميرِ أَنْ يُثَنَّى على هذا لتقدُّم شيئين: وهما الأعنابُ والنخيلُ، إلاَّ أنه اكتفى بذِكْرِ أحدِهما. وقيل: يعود على جنات، وعاد بلفظ المفرد ذَهاباً بالضميرِ مَذْهَبَ اسم الإِشارةَ وهو كقولُ رُؤْبة: 3785 - فيها خُطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ ... كأنَّه في الجلدِ تَوْليعُ البَهَقْ فقيل له. فقال: أَرَدْتُ: كأنَّ ذاك وَيْلَكَ. وقيل: عائد على الماءِ المدلول عليه ب عيون. وقيل: بل عاد عليه لأنه مقدَّرٌ أي: من العيون. ويجوزُ أَنْ يعودَ على العيون. ويُعتذر عن إفراده بما تَقَدَّم في عَوْده على جنات. ويجوزُ أَنْ يعودَ على الأعناب والنخيل معاً، ويُعتذر عنه بما تقدَّم أيضاً. وقال الزمخشري: «وأصلُه: مِنْ ثمرنا، لقوله:» وفَجَّرْنا «و» جَعَلْنا «فنقل الكلامَ من التكلُّم إلى الغَيْبة على طريقة الالتفات، والمعنى: ليأكلوا مِمَّا خلقَه الَّلهُ مِن الثمر» . قلت: فعلى هذا يكون الضميرُ عائداً على الله تعالى، ولذلك فَسَّر معناه

بما ذكر. وقد تقدَّم قراءاتٌ في هذه اللفظةِ في سورةِ الأنعام وما قيل فيها بحمد الله تعالى. قوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} في «ما» هذه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها موصولةٌ أي: ومن الذي عَمِلَتْه أيديهم من الغرس والمعالجة. وفيه تَجَوُّزٌ على هذا. والثاني: أنها نافيةٌ أي: لم يعملوه هم، بل الفاعلُ له هو اللَّهُ تعالى. وقرأ الأخَوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون «وما عَمِلَتْه» بإثباتِها. فإنْ كانَتْ «ما» موصولةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حُذِف العائدُ كما حُذِف في قولِه: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] بالإِجماع. وعلى قراءةِ غيرِهم جيْءَ به على الأصل. وإن كانَتْ نافيةً فعلى قراءةِ الأخوين وأبي بكر لا ضميرَ مقدرٌ، ولكن المفعولَ محذوفٌ أي: ما عَمِلَتْ أيديهم شيئاً مِنْ ذلك، وعلى قراءةِ غيرِهم الضميرُ يعودُ على «ثَمَرِه» وهي مرسومةٌ بالهاء في غيرِ مصاحفِ الكوفةِ، وبحذفِها فيما عداها. / والأخَوان وأبو بكرٍ وافقوا مصاحفهم، والباقون - غير حَفْصٍ - وافقوها أيضاً، وجعفر خالَفَ مصحفَه، وهذا يَدُلُّ على أنَّ القراءةَ متلقَّاةٌ مِنْ أفواهِ الرجال، فيكون عاصمٌ قد أقرأها لأبي بكرٍ بالهاء ولحفصٍ بدونها. الثالث: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، والكلامُ فيها كالذي في الموصولة. والرابع:

أنها مصدريةٌ أي: ومِنْ عَمَلِ أيديهم. والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به، فيعودُ المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة.

37

قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل} : كقولِه و {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض} [يس: 33] . و «نَسْلَخُ» استعارةٌ بديعةٌ شبَّه انكشافَ ظلمةِ الليلِ بكَشْط الجِلْد عن الشاة. وقوله: «مُظْلِمون» أي: داخلون في الظلام كقوله: {مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] .

38

قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ} : قيل: في الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديره: تجري لجَرْي مستقرٍ لها. وعلى هذا فاللامُ للعلةِ أي: لأجل جَرْيِ مستقرٍ لها. والصحيحُ أنَّه لا حَذْفَ، وأنَّ اللامَ بمعنى إلى. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ بعضهم «إلى مُسْتقر» . وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزين العابدين وابنه الباقر والصادق بن الباقر «لا مُستقرَّ» ب لا النافيةِ للجنسِ وبناءِ «مستقرَّ» على الفتح، و «لها» الخبر. وابن أبي عبلة «لا مُسْتقرٌ» ب لا العاملةِ عملَ ليس، ف مُسْتَقرٌ اسمها، و «لها» في محلِّ نصبٍ خبرُها كقولِه: 3786 - تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقيا ... ولا وَزَرٌ مِمَّا قضى اللَّهُ واقيا والمرادُ بذلك أنها لا تستقرُّ في الدنيا بل هي دائمةُ الجريانِ، وذلك إشارةً إلى جَرْيها المذكور.

39

قوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ} : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرٍو برفعِه، والباقون بنصبِه. فالرفعُ على الابتداء، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ على الاشتغالِ، والوجهان مُسْتويانِ لتقدُّمِ جملةٍ ذاتِ وجهين، وهي قوله: «والشمسُ تجري» فإنْ راعَيْتَ صدرَها رَفَعْتَ لتعطِفَ جملةً اسميةً على مثلِها، وإنْ راعَيْتَ عَجْزَها نَصَبْتَ لتعطِفَ فعليةً على مثلِها. وبهذه الآيةِ يَبْطُلُ قولُ الأخفشِ: إنه لا يجوزُ النصبُ في الاسم إلاَّ إذا كان في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ يعود على الاسمِ الذي تضمَّنَتْه جملةٌ ذاتُ وجهين. قال: لأنَّ المعطوفَ على الخبرِ خبرٌ فلا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يعودُ على المبتدأ فيجوزُ: «زيدٌ قام وعمراً أكرمتُه في داره» ، ولو لم يَقُلْ «في داره» لم يَجُز. ووجهُ الردِّ مِنْ هذه الآية أنَّ أربعةً من السبعةِ نصبوا، وليس في جملة الاشتغال ضميرٌ يعودُ على الشمس. وقد أُجْمع على النصب في قولِه تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] بعد قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 5] . قوله: «منازلَ» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ «قَدَّرنا» بمعنى صَيَّرْنا. الثاني: أنه حالٌ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ قبل «منازل» تقديرُه: ذا منازلَ. الثالث: أنه ظرفٌ أي: قَدَّرْنا مسيرَه في منازلَ، وتقدَّم نحوُه أولَ يونس. قوله: «كالعُرْجُون» العامّةُ على ضَمِّ العينِ والجيم. وفي وزنِه وجهان، أحدهما: أنه فُعْلُول فنونُه أصليةٌ، وهذا هو المرجَّحُ. والثاني: وهو قولُ

الزجَّاج أنَّ نونَه مزيدةٌ، ووزنُه فُعْلُوْن، مشتقاً من الانعراجِ وهو الانعطافُ، وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم، وهما لغتان كالبُزيُوْن والبِزْيون. والعُرْجُوْن: عُوْد العِذْقِ ما بين الشَّماريخ إلى مَنْبِته من النخلةِ. وهو تشبيهٌ بديعٌ، شبَّه به القمرَ في ثلاثة أشياء: دقتِه واستقواسِه واصفرارِه.

40

قوله: {سَابِقُ النهار} : قرأ عمارة بنصب «النهارَ» حَذَفَ التنوين لالتقاءِ الساكنين. قال المبرد: «سمعته يقرؤُها فقلت: ما هذا؟ فقال: أَرَدْتُ» سابقٌ «بالتنوين فخفَّفْتُ» .

41

قوله: {أَنَّا حَمَلْنَا} : مبتدأ، و «آيةٌ» خبرٌ مقدمٌ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ «أنَّا حَمَلْنا» خبرَ مبتدأ محذوفٍ بناءٍ منه على أنَّ «آية لهم» مبتدأٌ وخبرٌ، كلامٌ مستقلٌ بنفسِه، كما تقدَّم في نظيرِه. والظاهرُ أنَّ الضميرين في «لهم» و «ذريتهم» لشيءٍ واحدٍ. ويُراد بالذريَّة آباؤهم المحمولون في سفينة نوح عليه السلام أو يكون الضميران مختلفَيْن أي: ذرية القرون الماضية. ووجهُ الامتنانِ عليهم: أنَّهم في ذلك مثلُ الذرِّية من حيث إنهم يَنْتفعون بها كانتفاعِ أولئك.

42

قوله: {مَا يَرْكَبُونَ} : هذا يَحْتمل أَنْ يكونَ من جنسِ الفلك إنْ أريد بالفَلَكِ سفينةُ نوحٍ عليه السلام خاصةً، وأن يكونَ مِنْ جنسٍ آخرَ كالإِبِلِ ونحوِها، ولهذا سَمَّتْها سُفُنَ البرِّ. وقد تقدَّم اشتقاقُ الذرِّيَّة في البقرة واختلافُ القُرَّاءِ فيها في الأعراف. قوله: «مِنْ مِثْله» أي: من مثلِ الفلك. وقيل: من مثل ما ذكرِ من خَلْقِ الأزواجِ.

43

وقرأ الحسن «نُغَرِّقْهُمْ» بتشديد الراء. قوله: «فلا صَرِيْخَ» / فَعيل بمعنى فاعِل أي: فلا مستغيثَ. وقيل: بمعنى مُفْعِل أي: فلا مغيثَ. وهذا هو الأليقُ بالآية. وقال الزمخشري: «فلا إغاثةَ» جعله مصدراً مِنْ أَصْرخ. قال الشيخ: «ويَحْتاج إلى نَقْلِ أنَّ صَريخاً يكون مصدراً بمعنى إصْراخ» . والعامَّةُ على فتح «صريخ» . وحكى أبو البقاء أنه قُرئ بالرفع والتنوين. قال: «ووجهُه على ما في قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 38] .

44

قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً} : منصوبٌ على المفعولِ له وهو استثناءٌ مفرغٌ. وقيل: استثناءٌ منقطعٌ. وقيل: على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ وعلى إسقاط الخافضِ. أي: إلاَّ برحمةٍ. والفاءُ في قوله: «فلا صريخَ» رابطةٌ لهذه

الجملةِ بما قبلها. فالضميرُ في «لهم» عائدٌ على «المُغرَقين» . وجوَّز ابن عطية هذا ووجهاً آخرَ، وجعله أحسنَ منه: وهو أَنْ يكونَ استئنافَ إخبارٍ عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مُغْرَقين، هم بهذه الحالةِ لا نجاةَ لهم إلاَّ برحمةِ اللَّهِ، وليس قولُه: {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} مربوطاً بالمغرقين. انتهى. وليس جَعْلُه هذا الأحسنَ بالحسنِ لئلا تخرجَ الفاءُ عن موضوعِها والكلامُ عن التئامِه.

45

قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} : جوابُها محذوفٌ. أي: أعرضوا.

46

قوله: {إِلاَّ كَانُواْ} : في محلِّ حالٍ. وقد تقدَّم نظيرُه.

47

قوله: {مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} : مفعولُ «أنطعمُ» و «أطعمه» جوابُ «لو» . وجاء على أحد الجائزين، وهو تجرُّدُه من اللامِ. والأفصحُ أنْ يكونَ بلامٍ نحو {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة: 65] .

49

قوله: {يَخِصِّمُونَ} : قرأ حمزةُ بسكون الخاء وتخفيف الصادِ مِنْ خَصِم يَخْصَمُ. والمعنى: يَخْصَمُ بعضُهم بعضاً، فالمفعولُ محذوفٌ. وأبو عمرٍو وقالون بإخفاءِ فتحةِ الخاء وتشديدِ الصاد. ونافعٌ

وابن كثير وهشام كذلك، إلاَّ أنَّهم بإخلاصِ فتحةِ الخاءِ. والباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصادِ. والأصلُ في القراءاتِ الثلاثِ: يَخْتَصِمون فأُدْغِمت التاءُ في الصاد، فنافعٌ وابن كثير وهشام نَقَلوا فتحَها إلى الساكنِ قبلَها نَقْلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتَها تنبيهاً على أنَّ الخاءَ أصلُها السكونُ، والباقون حَذَفُوا حركتَها، فالتقى ساكنان لذلك، فكسروا أوَّلَهما، فهذه أربعُ قراءاتٍ، قُرِئ بها في المشهور. ورُوِي عن أبي عمرٍو وقالون سكونُ الخاءِ وتشديدُ الصادِ. والنحاةُ يَسْتَشْكِلونها للجمعِ بَيْن ساكنين على غير حَدَّيْهما. وقرأ جماعةٌ «يِخِصِّمُون» بكسرِ الياءِ والخاءِ وتشديد الصاد وكسروا الياءَ إتباعا. وقرأ أُبَيٌّ «يَخْتَصِمُون» على الأصل. قال الشيخُ: «ورُوِي عنهما - أي عن أبي عمرٍو وقالون - بسكونِ الخاء وتخفيفِ الصاد مِنْ خَصِم» . قلت: هذه هي قراءةُ حمزةَ ولم يَحْكِها هو عنه وهذا يُشْبِهُ قولَه: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} في البقرةِ [الآية: 20] ، و {لاَّ يهدي} في يونس [الآية: 35] .

50

وقرأ ابن محيصن «يُرْجَعُون» مبنياً للمفعول.

51

والأعرج «في الصُّوَر» بفتح الواو. وقُرِئ «من الأَجْدافِ» وهي لغةٌ في «الأَجْداث» يُقال: جَدَث وجَدَف

ك ثُمَّ وفُمَّ، وثُوم وفُوم. وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو عمرٍو في روايةٍ «يَنْسُلون» بضم السين. يُقال: نَسَل الثعلبُ يَنْسِل وينسُل أي: أَسْرع في عَدْوِه.

52

قوله: {ياويلنا} : العامَّةُ على الإِضافةِ إلى ضمير المتكلمين دون تأنيثٍ. وهو «وَيْل» مضافٌ لِما بعده. ونقل أبو البقاء عن الكوفيين أنَّ «وَيْ» كلمةٌ برأسِها. و «لنا» جارٌّ ومجرور «. انتهى. ولا معنى لهذا إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ: هو أَنْ يكونَ يا عجبُ لنا؛ لأنَّ وي تُفَسَّرُ بمعنى اعجب منا. وابن أبي ليلى:» يا وَيْلتنا «بتاء التأنيث، وعنه أيضاً» يا ويْلتا «بإبدال الياءِ ألفاً. وتأويلُ هذه أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يقول: يا ويلتي. والعامَّةُ على فتح ميم» مَنْ و «بَعَثَنا» فعلاً ماضياً خبراً ل «مَنْ» الاستفهامية قبلَه. وابن عباس والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرفُ جر. و «بَعْثِنا» مصدرٌ مجرور ب مِنْ. ف «مِنْ» الأولى تتعلَّق بالوَيْل، والثانيةُ تتعلَّقُ بالبعث. والمَرْقَدُ يجوز أَنْ يكونَ مصدراً أي: مِنْ رُقادِنا، وأن يكونَ مكاناً، وهو مفردٌ أُقيم مُقامَ الجمعِ. والأولُ أحسنُ؛ إذ المصدرُ يُفْرَدُ مطلقاً. قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ} في «هذا» وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأٌ وما بعده/ خبرُه. ويكونُ الوقفُ تاماً على قوله «مِنْ مَرْقَدِنا» . وهذه الجملةُ حينئذٍ فيها وجهان، أحدهما: أنها مستأنفة: إمَّا من قولِ اللَّهِ تعالى، أو مِنْ قولِ

الملائكةِ. والثاني: أنها من كلام الكفارِ فتكون في محلِّ نصب بالقول. والثاني من الوجهين الأولين: «هذا» صفةٌ ل «مَرْقَدِنا» و «ما وَعَد» منقطعٌ عَمَّا قبله. ثم في «ما» وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: الذي وَعَدَه الرحمنُ وصَدَقَ فيه المرسلون حَقٌّ عليكم. وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا وَعْدُ الرحمن. وقد تقدَّم لك أولَ الكهف: أنَّ حَفْصاً يقف على «مَرْقَدنا» وَقْفةً لطيفةً دونَ قَطْعِ نَفَسٍ لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ اسمَ الإِشارةِ تابعٌ ل «مَرْقَدِنا» . وهذان الوجهان يُقَوِّيان ذلك المعنى المذكور الذي تَعَمَّد الوقفَ لأجلِه. و «ما» يَصِحُّ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً كما تقدَّم تقريرُه. ومفعولا الوعدِ والصدقِ محذوفان أي: وعَدَناه الرحمن وصَدَقَناه المرسلون. والأصل: صَدَقَنا فيه. ويجوز حَذْفُ الخافض وقد تقدَّم لك نحو «صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ» أي في سِنِّه. وتقدَّم قراءتا «صيحة واحدة» نصباً ورفعاً.

54

قوله: {فاليوم} : منصوبٌ ب «لا تُظْلَمُ» . و «شيئاً» : إمَّا مفعولٌ ثانٍ، وإمَّا مصدرٌ.

55

قوله: {فِي شُغُلٍ} : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ل «إنَّ» و «فاكهون» خبرٌ ثانٍ، وأنْ يكون «فاكهون» هو الخبر، و «في شُغُلٍ» متعلِّقٌ به

وأَنْ يكونَ حالاً. وقرأ الكوفيون وابنُ عامر بضمتين. والباقون بضمةٍ وسكونٍ، وهما لغتان للحجازيين، قاله الفراء. ومجاهد وأبو السَّمَّال بفتحتين. ويزيد النحوي وابن هُبَيْرَة بفتحةٍ وسكونٍ وهما لغتان أيضاً. والعامَّةُ على رفع «فاكِهون» على ما تقدَّم. والأعمش وطلحة «فاكهين» نصباً على الحالِ، والجارُّ الخبرُ. والعامَّةُ أيضاً على «فاكهين» بالألف بمعنى: أصحاب فاكهة، ك لابنِ وتامرِ ولاحمِ، والحسَنُ وأبو جعفر وأبو حيوةَ وأبو رجاءٍ وشيبةُ وقتادةُ ومجاهدٌ «فَكِهون» بغيرِ ألفٍ بمعنى: طَرِبُوْن فَرِحون، من الفُكاهةِ بالضمِ. وقيل: الفاكهُ والفَكِهُ بمعنى المتلذِّذُ المتنعِّمُ؛ لأنَّ كلاً من الفاكهةِ والفُكاهةِ مِمَّا يُتَلَذَّذُ به ويُتَنَعَّمُ. وقُرئ «فَكِهيْن» بالقَصْرِ والياء على ما تَقَدَّمَ. و «فَكُهُوْن» بالقصرِ وضمِّ الكافِ. يُقال: رجلٌ فَكِهٌ وفَكُهٌ كَرَجُلٍ نَدِس ونَدُسٍ، وحَذِر وحَذُر.

56

قوله: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} : يجوزُ في «هم» أَنْ يكونَ مؤكِّداً للضميرِ المستكِنِّ في «فاكهون» ، و «أزواجُهم» عَطْفٌ على المستكنِّ. ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للضميرِ المستكنِّ في «شُغُل» إذا جَعَلْناه خبراً. و «أزواجُهم» عَطْفٌ عليه أيضاً. كذا ذكره الشيخ. وفيه نظرٌ من حيث الفَصْلُ بين المُؤَكِّد والمؤكَّد بخبر «إنَّ» . ونظيرُه أن تقولَ: «إن زيداً في الدار قائمٌ هو

وعمروٌ» على أَنْ يُجْعَلَ «هو» تأكيداً للضمير في قولك «في الدار» . وعلى هذين الوجهين يكون قولُه «متكِئون» خبراً آخر ل «إنَّ» ، و «في [ظلال] » متعلِّقٌ به أو حالٌ. و «على الأرائِك» متعلقٌ به. ويجوزُ أَنْ يكون «هم» مبتدأً و «متكئون» خبرَه، والجارَّانِ على ما تقدَّمَ. وجَوَّزَ أبو البقاءِ أَنْ يكونَ «في ظلالٍ» هو الخبرَ. قال: «وعلى الأرائِكِ مستأنفٌ» وهي عبارةٌ مُوْهِمَةٌ غيرَ الصوابِ. ويريد بذلك: أنَّ «متكئون» خبرُ مبتدأ مضمرٍ و «متكئون» مبتدأٌ مؤخرٌ إذ لا معنى له. وقرأ عبد الله «متكئين» نصباً على الحال. وقرأ الأخَوان «في ظُلَلٍ» بضم الظاءِ والقصرِ، وهو جمع ظُلَّة نحو: غُرْفَة وغُرَف، وحُلَّة وحُلَل. وهي عبارةٌ عن الفُرُشِ والسُّتُور. والباقون بكسرِ الظاءِ والألفِ، جمعَ ظُلَّة أيضاً، كحُلَّة وحِلال، وبُرْمة وبِرام، أو جمعَ فِعْلة بالكسر، إذ يُقال: ظُلَّة وظِلَّة بالضمِّ والكسرِ فهو كلِقْحة ولِقاح، إلاَّ أنَّ فِعالاً لا ينقاس فيها، أو جمعَ فِعْل نحو: ذِئْب وذِئاب، وريْح ورِياح.

57

قوله: {مَّا يَدَّعُونَ} : في «ما» هذه ثلاثةُ أوجه: موصولةٌ اسميةٌ، نكرةٌ موصوفةٌ، والعائد على هذين محذوفٌ، مصدريةٌ. /

ويَدَّعُون مضارعُ ادَّعَى افْتَعَلَ مِنْ دعا يَدْعو. وأُشْرِبَ معنى التمني. قال أبو عبيدة: «العربُ تقول: ادَّعِ عَلَيَّ ما شِئْتَ أي تَمَنَّ» ، وفلانٌ في خيرِ ما يَدَّعي، أي: ما يتمنى. وقال الزجاج: «هو من الدعاء أي: ما يَدَّعُوْنه، أهلُ الجنة يأتيهم، مِنْ دَعَوْتُ غلامي» . وقيل: افْتَعَل بمعنى تفاعَلَ. أي: ما يتداعَوْنه كقولهم: ارتَمَوْا وترامَوْا بمعنىً. و «ما» مبتدأةٌ. وفي خبرها وجهان، أحدهما: - وهو الظاهر - أنَّه الجارُّ قبلَها. والثاني: أنه «سلامٌ» . أي: مُسَلَّمٌ خالِصٌ أو ذو سلامةٍ.

58

قوله: {سَلاَمٌ} : العامَّةُ على رفعِه. وفيه أوجهٌ، أحدها: ما تقدَّم مِنْ كونِه خبرَ «ما يَدَّعون» . الثاني: أنه بدلٌ منها، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وإذا كان بدلاً كان» ما يَدَّعُون «خصوصاً، والظاهر أنَّه عمومٌ في كلِّ ما يَدَّعُونه. وإذا كان عموماً لم يكن بدلاً منه» . الثالث: أنه صفةٌ ل «ما» ، وهذا إذا جَعَلْتَها نكرةً موصوفةً. أمَّا إذا جَعَلْتَها بمعنى الذي أو مصدريةً تَعَذَّر ذلك لتخالُفِهما تعريفاً وتنكيراً. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو سلامٌ. الخامس: أنه مبتدأٌ خبرُه الناصبُ ل «قَوْلاً» أي: سلامٌ يُقال لهم قولاً. وقيل: تقديرُه: سلامٌ عليكم. السادس: أنه مبتدأٌ، وخبرُه «مِنْ رَبٍ» . و «قولاً» مصدرٌ مؤكدٌ لمضمونِ الجملةِ، وهو مع عاملِه معترضٌ بين المبتدأ والخبر.

وأُبَيٌّ وعبد الله وعيسى «سَلاماً» بالنصب. وفيه وجهان، أحدهما: أنه حالٌ. قال الزمخشري: «أي: لهمْ مُرادُهُمْ خالصاً» . والثاني: أنه مصدرُ يُسَلِّمون سلاماً: إمَّا من التحيةِ، وإمَّا من السَّلامة. و «قَوْلاً» إمَّا: مصدرٌ مؤكِّدٌ، وإمَّا منصوبٌ على الاختصاصِ. قال الزمخشري: «وهو الأَوْجَهُ» . و «مِنْ رَبٍّ» إمَّا صفةٌ ل «قَوْلاً» ، وإمَّا خبرُ «سَلامٌ» كما تقدَّم. وقرأ القَرَظِيُّ «سِلْمٌ» بالكسرِ والسكونِ. وتقدَّم الفرق بينهما في البقرة.

59

قوله: {وامتازوا} : على إضمارِ قولٍ مقابلٍ لِما قيلَ للمؤمنين أي: ويُقال للمجرمين: امتازُوْا أي: انعَزِلوا، مِنْ مازه يَمِيزه.

60

قوله: {أَعْهَدْ} : العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ على الأصلِ في حرفِ المضارعة. وطلحة والهذيل بن شرحَبيل الكوفي بكسرِها. وقد تقدَّم أنَّ ذلك لغةٌ في حرفِ المضارعةِ بشروطٍ ذُكرت في الفاتحة وثَمَّ حكايةٌ. وقرأ ابنُ وثَّاب «أَحَّدْ» بحاءٍ مشددةَ. قال الزمخشري: «وهي لغةُ تميمٍ، ومنه» دَحَّا مَحَّا «أي: دَعْها معها، فقُلِبَتْ الهاءُ حاءً ثم العينُ حاءً، حين أُريد الإِدغامُ. والأحسنُ أَنْ يُقال: إنَّ العينَ أُبْدِلَتْ حاءً. وهي لغةُ هُذَيلٍ. فلمَّا

أُدْغِم قُلب الثاني للأول، وهو عكسُ بابِ الإِدغامِ. وقد مضى تحقيقُه آخرَ آلِ عمران. وقال ابن خالويه:» وابن وثاب والهذيل «أَلَمْ إعْهَدْ» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء، وهي على لغةِ مَنْ كسرَ أولَ المضارعِ سوى الياءِ. ورُوي عن ابنِ وثَّاب «اعْهِد» بكسرِ الهاءِ. يُقال: عَهِد وعَهَد «انتهى. يعني بكسر الميم والهمزة أنَّ الأصلَ في هذه القراءةِ أَنْ يكونَ كسرَ حَرْفَ المضارعةِ ثم نَقَلَ حركتَه إلى الميمِ فكُسِرَتْ، لا أنَّ الكسرَ موجودٌ في الميمِ وفي الهمزةِ لفظاً، إذ يَلْزَمُ من ذلك قَطْعُ همزةِ الوصلِ وتحريكُ الميمِ مِنْ غيرِ سبب. وأمَّا كَسْرُ الهاءِ فلِما ذُكِرَ من أنه سُمِعَ في الماضي» عَهَدَ «بفتحها. وقولُه:» سوى الياء «وكذا قال الزمخشريُّ هو المشهورُ. وقد نُقِل عن بعضِ كَلْبٍ أنهم يَكْسِرون الياءَ فيقولون: يِعْلَمُ. وقال الزمخشري فيه:» وقد جَوَّزَ الزجَّاجُ أن يكون من باب: نَعِمَ يَنْعِمُ، وضَرَب يَضْرِب «يعني أنَّ تخريجَه على أحدِ وجهين: إمَّا الشذوذِ فيما اتَّحذ فيه فَعِل يَفْعِلُ بالكسر فيهما، كنَعِمَ يَنْعِمُ وحَسِب يَحْسِبُ وبَئِسَ يَبْئِسُ، وهي ألفاظٌ عَدَدْتُها في البقرة، وإمَّا أنه سُمِعَ في ماضيه الفتحُ كضَرَبَ، كما حكاه ابنُ خالَوَيْه. وحكى الزمخشري أنه قُرِئ» أَحْهَدْ «بإبدالِ العينِ حاءً، وقد تقدَّم أنها لغةُ هُذَيْلٍ، وهذه تُقَوِّي أنَّ أصلَ» أَحَّد «: أَحْهَد فأُدْغِمَ كما تقدَّم.

62

قوله: {جِبِلاًّ} : قرأ نافعٌ وعاصمٌ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. وأبو عمروٍ وابن عامرٍ بضمةٍ وسكونٍ. والباقون بضمتين، واللامُ مخففةٌ في كلتيهما. وابنُ أبي إسحاق والزهري وابن هرمز بضمتين وتشديد اللام. والأعمش/ بكسرتين وتخفيفِ اللام. والأشهب العقيلي واليماني وحمادُ بن سلمة بكسرةٍ وسكون. وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ. وقد تقدَّم معناها آخرَ الشعراء. وقُرِئ «جِبَلاً» بكسر الجيم وفتح الباء، جمع جِبْلَة كفِطَر جمع فِطْرَة. وقرأ أمير المؤمنين عليٌّ «جِيْلاً» بالياء، مِنْ أسفلَ ثنتان، وهي واضحةٌ. وقرأ العامة: «أفلَمْ تكونوا» خطاباً لبني آدم. وطلحة وعيسى بياءِ الغَيْبة. والضمير للجِبِلِّ. ومِنْ حَقِّهما أن يَقْرآ {التي كانوا يُوعَدُونَ} لولا أَنْ يَعْتَذِرا بالالتفاتِ.

65

قوله: {اليوم نَخْتِمُ} : «اليومَ» ظرفٌ لِما بعدَه. وقُرِئ «يُخْتَمُ» مبنياً للمفعول، والجارُّ بعدَه قائمٌ مقام فاعلِهِ. وقُرئ «تَتَكلَّمُ» بتاءَيْن مِنْ فوقُ. وقُرِئ «ولْتَتَكَلَّمْ ولْتَشْهَدْ» بلامِ الأمرِ. وقرأ طلحةُ «ولِتُكَلِّمَنا ولِتَشهدَ» بلامِ كي ناصبةً للفعل، ومتعلَّقُها محذوفٌ أي: للتكلُّمِ وللشهادةِ خَتَمْنا. و «بما كانوا» أي: بالذي كانوا أو بكونِهِم كاسِبين.

66

قوله: {فاستبقوا} : عطفٌ على «لَطَمَسْنا» وهذا على سبيل الفَرَضِ والتقديرِ. وقرأ عيسى «فاسْتَبِقوا» أمراً، وهو على إضمارِ القول أي: فيُقال لهم: اسْتَبِقَوا. و «الصِّراطَ» ظرفُ مكانٍ مختصٍ عند الجمهور؛ فلذلك تَأوَّلوا وصولَ الفعل إليه: إمَّا بأنَّه مفعولٌ به مجازاً، جعله مسبوقاً لا مسبوقاً إليه، وتَضَمَّنَ «اسْتَبَقُوا» معنى بادَرُوا، وإمَّا على حَذفِ الجارِّ أي: إلى الصِّراط. وقال الزمخشري: «منصوب على الظرف، وهو ماشٍ على قولِ ابن الطَّراوة؛ فإن الصراط والطريق ونحوَهما ليسَتْ عنده مختصَّةً. إلاَّ أنَّ سيبويهِ: على أن قوله: 3787 - لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فيه كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ ضرورةٌ لنصبه الطريقَ» .

67

وقرأ أبو بكر «مَكاناتِهم» جمعاً. وتَقَدَّم في الأنعام. والعامَّةُ على «مُضِيَّاً» بضم الميم، وهو مصدرٌ على فُعُوْل. أصلُه مُضُوْي فأُدْغِمَ وكُسِرَ ما قبل الياءِ لتصِحَّ نحو: لُقِيّا.

وقرأ أبو حيوةَ - ورُوِيَتْ عن الكسائيِّ - بكسر الميم إتباعاً لحركة العين نحو «عِتِيًّا» و «صِلِيَّاً» وقُرئ بفتحها. وهو من المصادر التي وَرَدَتْ على فَعيل كالرَّسِيم والذَّمِيْل.

68

قوله: {نُنَكِّسْهُ} : قرأ عاصمٌ وحمزةٌ بضم النون الأولى وفتحِ الثانيةِ وكسرِ الكافِ مشددةً مِنْ نَكَّسَه مبالغةً. والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانيةِ وضمِّ الكافِ خفيفةً، مِنْ نَكَسَه، وهي محتملةٌ للمبالغة وعَدَمِها. وقد تقدَّمَ في الأنعام أنَّ نافعاً وابنَ ذكوان قرآ «تَعْقِلون» بالخطابِ والباقون بالغيبة.

69

قوله: {إِنْ هُوَ} : أي: إنِ القرآن. دَلَّ عليه السِّياقُ أو إنِ العِلْمُ إلاَّ ذكرٌ، يَدُلُّ عليه: «وما عَلَّمْناه» والضمير في «له» للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل: للقرآن.

70

قوله: {لِّيُنذِرَ} : قرأ نافع وابن عامر هنا، في

الأحقاف «لتنذرَ» خطاباً. والباقون بالغيبة بخلاف عن البزي في الأحقاف: والغيبة تحتمل أن يكون الضمير فيها للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم. وأن تكونَ للقرآن. وقرأ الجحدري واليماني «لِيُنْذِرَ» مبنياً للمفعول. وأبو السَّمَّال واليمانيُّ أيضاً «لِيَنْذَرَ» بفتحِ الياءِ والذال، مِنْ نَذِر بكسر الدال أي: عَلِمَ، فتكون «مَنْ» فاعلاً.

72

قوله: {رَكُوبُهُمْ} : أي: مَرْكوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المَفْعول وهو لا ينقاسُ. وقرأ أُبيٌّ وعائشة «رَكوبَتُهم» بالتاء. وقد عَدَّ بعضُهم دخولَ التاءِ على هذه الزِّنَةِ شاذًّا، وجعلهما الزمخشري: في قولِ بعضِهم جمعاً يعني اسمَ جمع، وإلاَّ فلم يَرِدْ في أبنيةِ التكسير هذه الزِّنَة. وقد عَدَّ ابنُ مالك أيضاً أبنيةَ أسماءِ الجموع، فلم يذكُرْ فيها فَعُولة. والحسن وأبو البرهسم والأعمش «رُكوبُهم» بضم الراء، ولا بدَّ من حذف مضاف: إمَّا من الأولِ، أي: فمِنْ منافعها رُكوبُهم، وإمَّا من الثاني، أي: ذو ركوبِهم. قال ابن خالويه: «العربُ تقول: ناقَةٌ رَكُوْبٌ ورَكُوْبَةٌ، وحَلُوب وحَلُوْبَة، ورَكْباةٌ حَلْباةٌ، ورَكَبُوْتٌ حَلَبُوْت، ورَكَبى حَلَبى، ورَكَبُوْتا حَلَبُوْتا [ورَكْبانَةٌ حَلْبانَة] » وأنشد:

3788 - رَكْبانَةٍ حَلْبَانَةٍ زَفُوْفِ ... تَخْلِطُ بينَ وَبَرٍ موصُوْفِ والمَشارِبُ: جمع مَشْرَب بالفتح مصدراً أو مكاناً. والضمير في «لا يَسْتَطيعون» إمَّا للآلهةِ، وإمَّا لعابديها. وكذلك/ الضمائرُ بعده. وتقدَّم قرءاةُ «يَحْزُن» و «يُحزن» . وقرأ زيد بن علي «ونسي خالقَه» بزنةِ اسمِ الفاعل.

78

قوله: {وَهِيَ رَمِيمٌ} : قيل: بمعنى فاعِل. وقيل: بمعنى مَفْعول، فعلى الأولِ عَدَمُ التاءِ غيرُ مَقيسٍ. وقال الزمخشري: «الرَّميمُ اسمٌ لما بَلِيَ من العِظام غيرُ صفةٍ كالرِّمَّةِ والرُّفاتِ فلا يُقال: لِمَ لَمْ يُؤَنَّثْ وقد وقع خبراً لمؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعِل أو مفعول» .

80

قوله: {الأخضر} : هذه قراءةُ العامَّةُ. وقُرِئ «الخضراء» اعتباراً بالمعنى. وقد تقدَّم أنه يجوزُ تذكيرُ اسمِ الجنسِ وتأنيثه. قال تعالى: {نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] و {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وقد تقدَّم أنَّ بني تميمٍ ونجداً يُذَكِّرونه، والحجازَ يؤنِّثونه إلاَّ ألفاظاً اسْتُثْنِيَتْ.

81

قوله: {بِقَادِرٍ} : هذه قراءةُ العامَّةِ، دخلتِ الباءُ زائدةً على اسم الفاعلِ. والجحدريُّ وابن أبي إسحاق والأعرج «يَقْدِرُ» فعلاً

مضارعاً. والضميرُ في «مِثْلهم» قيل: عائدٌ على الناسِ؛ لأنهم هم المخاطبونَ. وقيل: على السماواتِ والأرض لتضمُّنِهم مَنْ يَعْقِلُ. و «بَلَى» جوابٌ ل «ليس» وإنْ دَخل عليها الاستفهامُ المصيِّرُ لها إيجاباً. والعامَّة على «الخَلاَّق» صيغةَ مبالغةٍ. والجحدري والحسن ومالك بن دينار «الخالق» اسمَ فاعِل. وتقدَّم الخلافُ في «فيكون» نصباً ورفعاً وتوجيهُ ذلك في البقرة.

83

وقرأ طلحة والأعمش «مَلَكَة» بزنةِ شجرَة. وقُرِئ «مَمْلَكَةُ» بزنة مَفْعَلة وقُرِئ «ملك» . والمَلَكُوْتُ أبلغُ الجميع. والعامَّةُ على «تُرْجَعون» مبنياً للمفعول وزيدُ بن علي مبنيُّ للفاعلِ.

الصافات

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {والصافات صَفَّا} : قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامِ التاء من الصافَّاتِ، والزَّاجراتِ والتاليات، في صاد «صَفَّاً» وزاي «زَجْراً» وذال «ذِكْراً» ، وكذلك فَعَلا في {والذاريات ذَرْواً} [الذاريات: 1] وفي {فالملقيات ذِكْراً} [المرسلات: 5] وفي {العاديات ضَبْحاً} [العاديات: 1] بخلافٍ عن خلاَّد في الأخيرين. وأبو عمروٍ جارٍ على أصلِه في إدغام المتقاربَيْن كما هو المعروفُ مِنْ أصلِه. وحمزةُ خارجٌ عن أصلِه، والفرقُ بين مَذْهَبَيْهما أنَّ أبا عمرٍو يُجيز الرَّوْمَ، وحمزةَ لا يُجيزه. وهذا كما اتفقا في إدغام {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ} في سورة النساء [الآية: 81] ، وإن كان ليس من أصلِ حمزةَ إدغامُ مثلِه. وقرأ الباقون بإظهار جميعِ ذلك. ومفعولُ «الصَّافَّات» و «الزَّاجراتِ» غيرُ مرادٍ؛ إذ المعنى: الفاعلات لذلك. وأعرب أبو البقاء «صَفَّاً» مَفْعولاً به على أنه قد يَقَعُ على المصفوفِ.

قلت: وهذا ضعيفٌ. وقيل: هو مرادٌ. والمعنى: والصافاتِ أنفسَها وهم الملائكةُ أو المجاهدون أو المُصَلُّون، أو الصافَّاتِ أجنحتَها وهي الطيرُ، كقوله: {والطير صَآفَّاتٍ} [النور: 41] ، والزاجراتِ السحابَ أو العُصاةَ إنْ أُريد بهم العلماءُ. والزَّجْرُ: الدَّفْعُ بقوةٍ وهو قوةُ التصويتِ. وأنشد: 3789 - زَجْرَ أَبي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا ... أشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم وزَجَرْتُ الإِبِلَ والغنمَ: إذا فَزِعَتْ مِنْ صوتِك. وأمَّا «والتاليات» فَيجوز أَنْ يكونَ «ذِكْراً» مفعولَه. والمرادُ بالذِّكْر: القرآنُ وغيرُه مِنْ تسبيحٍ وتحميدٍ. ويجوز أَنْ يكونَ «ذِكْراً» مصدراً أيضاً مِنْ معنى التاليات. وهذا أوفقُ لِما قبلَه. قال الزمخشري: «الفاءُ في» فالزَّاجراتِ «» فالتالياتِ «: إمَّا أَنْ تدلَّ على ترتُّبِ معانيها في الوجودِ كقولِه: 3790 - أيا لَهْفَ زَيَّابةَ للحارثِ الصَّا ... بحِ فالغانِمِ فالآيِبِ كأنه قال: الذي صَبَحَ فغَنِمَ فآبَ، وإمَّا على ترتُّبهما في التفاوتِ من بعضِ الوجوه، كقوله: خُذِ الأفضلَ فالأكملَ، واعمل الأحسنَ فالأجملَ، وإمَّا على ترتُّبِ موصوفاتِها في ذلك كقولك:» رَحِمَ اللَّهُ المَحَلِّقين فالمقصِّرين «فأمَّا هنا فإنْ وحَّدْتَ الموصوفَ كانت للدلالةِ على ترتُّبِ الصفات في التفاضُلِ. فإذا كان الموحَّدُ الملائكةَ فيكون الفضلُ للصفِّ ثم للزَّجْرِ ثم للتلاوةِ، وإمَّا على

العكس. وإنْ ثَلَّثْتَ الموصوفَ فترتَّبَ في الفضل، فتكون الصافَّاتُ ذواتَ فضلٍ، والزاجراتُ أفضلَ، والتالياتُ أَبْهَرَ فضلاً، أو على العكس» يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضلَ إلى فاضلٍ إلى مَفْضولٍ، أو يُبْدَأُ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل. والواوُ في هذه للقسمِ، والجوابُ/ قولُه: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} . وقد عَرَفْتَ الكلامَ في الواوِ الثانيةِ والثالثةِ: هل هي للقسمِ أو للعطف؟

5

قوله: {رَّبُّ السماوات} : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً مِنْ «لَواحدٌ» ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر. وجَمْعُ المشارقِ والمغارِبِ باعتبارِ جميع السنة، فإنَّ للشمسِ ثلاثَمئةٍ وستين مشرقاً، وثلاثَمئة وستين مَغْرباً. وأمَّا قولُه: «المَشْرِقَيْن والمغربين» فباعتبار الصيف والشتاء.

6

قوله: {بِزِينَةٍ الكواكب} : قرأ أبو بكر بتنوين «زينة» ونصب «الكواكب» وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ الزينةُ مصدراً، وفاعلُه محذوفٌ، تقديره: بأنْ زَيَّنَ اللَّهُ الكواكبَ، في كونِها مضيئةً حَسَنةً في أنفسها. والثاني: أنَّ الزينةَ اسمٌ لِما يُزان به كاللِّيْقَةِ: اسمٌ لِما تُلاقُ به الدَّواةُ، فتكون «الكواكبُ» على هذا منصوبةً بإضمارِ «أَعْني» ، أو تكون بدلاً مِنْ سماء الدنيا بدلَ اشتمالٍ أي: كواكبها، أو من محل «بزينة» . وحمزةُ وحفصٌ كذلك، إلاَّ أنهما خَفَضا الكواكب على أنْ يُرادَ بزينة: ما يُزان به، والكواكب بدلٌ أو بيانٌ للزينة.

والباقون بإضافةِ «زينة» إلى «الكواكب» . وهي تحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ إضافةَ أعمَّ إلى أخصَّ فتكونَ للبيان نحو: ثوبُ خَزّ. الثاني: أنها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه أي: بأن زَيَّنَتِ الكواكبُ السماءَ بضوئِها. والثالث: أنه مضافٌ لمفعولِه أي: بأَنْ زَيَّنها اللَّهُ بأَنْ جَعَلها مشرِقةً مضيئةً في نفسِها. وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها، ورفعِ الكواكب. فإنْ جَعَلْتَها مصدراً ارتفع «الكواكب» به، وإنْ جَعَلْتَها اسماً لِما يُزان به فعلى هذا ترتفع «الكواكبُ» بإضمار مبتدأ أي: هي الكواكبُ، وهي في قوة البدلِ. ومنع الفراءُ إعمالَ المصدرِ المنوَّن. وزعمَ أنه لم يُسْمَعْ. وهو غلَطٌ لقولِه تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ} [البلد: 14] كما سيأتي إن شاء الله.

7

قوله: {وَحِفْظاً} : منصوبٌ على المصدر بإضمارِ فعلٍ أي: حَفِظْناها حِفْظاً، وإمَّا على المفعولِ مِنْ أجله على زيادة الواوِ. والعاملُ فيه «زيَّنَّا» ، أو على أَنْ يكونَ العاملُ مقدراً أي: لِحفْظِها زَيَّنَّاها، أو على الحَمْلِ على المعنى المتقدم أي: إنَّا خَلَقْنا السماءَ الدنيا زينةً وحِفظاً. و «من كلِّ» متعلقٌ ب «حِفْظاً» إنْ لم يكنْ مصدراً مؤكِّداً، وبالمحذوفِ إنْ جُعِل مصدراً مؤكداً. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل «حِفْظاً» .

8

قوله: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ} : قرأ الأخَوان وحفصٌ بتشديد

السين والميم. والأصل: يَتَسَمَّعون فأدغم. والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عبيد الأُوْلى وقال: «لو كان مخففاً لم يتعَدَّ ب» إلى «. وأُجيب عنه: بأنَّ معنى الكلامِ: لا يُصْغُون إلى الملأ. وقال مكي:» لأنه جرى مَجْرى مُطاوِعِه وهو يتَسَمَّعُون، فكما كان تَسَمَّع يتعدَّى ب «إلى» تَعَدَّى سَمِع ب «إلى» وفَعِلْتُ وافتعلْتُ في التعدِّي سواءٌ، فَتَسَمَّع مطاوع سمعَ، واستمع أيضاً مطاوع سَمِع فتعدَّى سَمِعَ تعدِّيَ مطاوعِه «. وهذه الجملةُ منقطعةٌ عَمَّا قبلها، ولا يجوزُ فيها أَنْ تكونَ صفةً لشيطان على المعنى؛ إذ يصير التقدير: مِنْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ غيرِ سامعٍ أو مستمعٍ. وهو فاسدٌ. ولا يجوزُ أيضاً أَنْ تكونَ جواباً لسؤال سائلِ: لِمَ تُحْفَظُ من الشياطين؟ إذ يَفْسُد معنى ذلك. وقال بعضهم: أصلُ الكلامِ: لئلا يَسْمَعوا، فَحُذِفت اللامُ، وأَنْ، فارتفع الفعلُ. وفيه تَعَسُّفٌ. وقد وَهِم أبو البقاء فجوَّزَ أَنْ تكون صفةً، وأنْ تكونَ حالاً، وأنْ تكونَ مستأنفةً، فالأولان ظاهرا الفسادِ، والثالثُ إن عنى به الاستئنافَ البيانيَّ فهو فاسدٌ أيضاً، وإنْ أرادَ الانقطاعَ على ما قَدَّمْتُه فهو صحيحٌ.

9

قوله: {دُحُوراً} : العامَّةُ على ضم الدال. وفيه أوجهٌ، المفعولُ له، أي: لأجلِ الطَّرْد. الثاني: أنه مصدرٌ ل «يُقْذَفُون» أي: يُدْحَرون دُحوراً أو يُقْذَفُون قَذْفاً. فالتجوُّزُ: إمَّا في الأول، وإمَّا في الثاني. الثالث: أنه مصدرٌ لمقدرٍ أي: يُدْحَرون دُحوراً. الرابع: أنه في موضع الحال أي ذَوي

دُحورٍ أو مَدْحورين. وقيل: هو جمعُ داحِر نحو: قاعِد وقُعود. فيكون حالاً بنفسه من غيرِ تأويلٍ. ورُوِي عن أبي عمرٍو أنه قرأ «ويَقْذِفُون» مبنياً لفاعل. وقرأ علي والسلمي وابن أبي عبلة «دَحورا» بفتح الدال، وفيها وجهان، أحدهما: أنها صفةٌ لمصدرٍ مقدرٍ، أي: قذفاً دَحُورا، وهو كالصَّبور والشَّكور. والثاني: أنه مصدرٌ كالقَبول والوَلوع. وقد تقدَّم أنه محصورٌ في أُلَيْفاظ.

10

قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مرفوعُ/ المحلِّ بدلاً مِنْ ضميرِ «لا يَسَّمَّعون» وهو أحسنُ؛ لأنه غيرُ موجَب. والثاني: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. والمعنى: أنَّ الشياطينَ لا يَسمعون الملائكةَ إلاَّ مَنْ خَطِف. قلت: ويجوز أَنْ تكون «مَنْ» شرطيةً، وجوابُها «فَأَتْبَعَه» ، أو موصولةً وخبرُها «فَأَتْبَعَه» وهو استثناءٌ منقطعٌ. وقد نَصُّوا على أنَّ مثلَ هذه الجملةِ تكونُ استثناءً منقطعاً كقوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} [الغاشية: 22 - 23] . والخَطْفَةُ مصدرٌ معرفٌ بأل الجنسية أو العهدية. وقرأ العامَّةُ «خَطِفَ» بفتح الخاء وكسرِ الطاءِ مخففةً. وقتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء، وهي لغةُ تميمِ بنِ مُرّ وبكرِ بن وائل. وعنهما أيضاً وعن عيسى بفتح الخاء وكسر الطاء مشددةً. وعن الحسن أيضاً خَطِفَ كالعامَّة. وأصل القراءَتَيْن: اخْتَطَفَ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَنت التاءُ وقبلها الخاءُ ساكنةً،

فكُسِرت الخاءُ لالتقاءِ الساكنين، ثم كُسِرت الطاءُ إتْباعاً لحركةِ الخاء. وهذه واضحةٌ. وأمَّا الثانية فمُشْكِلَةٌ جداً؛ لأنَّ كَسْرَ الطاء إنما كان لكسرِ الخاء وهو مفقودٌ. وقد وُجِّه على التوهُّم. وذلك أنهم لَمَّا أرادوا الإِدغام نقلوا حركة التاء إلى الخاء ففُتِحَتْ وهم يتوهَّمون أنها مكسورةٌ لالتقاءِ الساكنين كما تقدَّم تقريرُه، فأتبعوا الطاءَ لحركةِ الخاءِ المتوهَّمة. وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في مقتضياتِ الإِعرابِ فَلأَنْ يَفْعلوه في غيرِه أَوْلَى. وبالجملة فهو تعليلُ شذوذٍ. وقرأ ابن عباس «خَطِفَ» بكسر الخاء والطاء خفيفةً، وهو إتْباعٌ كقولِهم: نِعِمَ بكسر النون والعين. وقُرئ «فاتَّبَعَه» بالتشديد.

11

قوله: {أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} : العامَّةُ على تشديدِ الميم، الأصلُ: أم مَنْ وهي أم المتصلةُ، عُطِفَتُ «مَنْ» على «هم» . وقرأ الأعمش بتخفيفها، وهو استفهامٌ ثانٍ. فالهمزةُ للاستفهام أيضاً و «مَنْ» مبتدأ، وخبره محذوفٌ أي: ألذين خَلَقْناهم أشدُّ؟ فهما جملتان مستقلتان وغَلَّبَ مَنْ يَعْقل على غيره فلذلك أتى ب «مَنْ» . ولازِبٌ ولازِمٌ بمعنىً. وقد قُرئ «لازم» .

12

قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} : قرأ الأخَوان بضمِّ التاء، والباقون بفتحها. فالفتحُ ظاهرٌ. وهو ضميرُ الرسولِ أو كلِّ مَنْ يَصِحُّ منه ذلك. وأمَّا الضمُّ فعلى صَرْفِه للمخاطب أي: قُلْ يا محمدُ بل عَجِبْتُ أنا، أو على

إسنادِه للباري تعالى على ما يَليقُ به، وقد تقدَّم تحريرُ هذا في البقرة، وما وَرَدَ منه في الكتاب والسنَّة. وعن شُرَيْحٍ أنه أنكرها، وقال: «إنَّ الله لا يَعْجَبُ» فبلغَتْ إبراهيمَ النخعي فقال: «إن شريحاً كان مُعْجَباً برأيه، قرأها مَنْ هو أعلمُ منه» يعني عبد الله بن مسعود. قوله: «ويَسْخَرون» يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً وهو الأظهرُ، وأن يكونَ حالاً. وقرأ جناح بن حبيش «ذُكِروا» مخففاً.

17

قوله: {أَوَ آبَآؤُنَا} : قرأ ابن عامر وقالون بسكونِ الواوِ على أنَّها «أو» العاطفةُ المقتضيةُ للشكِّ. والباقون بفتحِها على أنها همزةُ استفهامٍ دخلَتْ على واوِ العطفِ. وهذا الخلافُ جارٍ أيضاً في الواقعة. وقد تقدَّم مثلُ هذا في الأعراف في قولِه: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} [الأعراف: 98] فمَنْ فتح الواوَ جاز «في آباؤنا» وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ «إنَّ» واسمِها. والثاني: أَنْ يكونَ معطوفاً على الضمير المستترِ في «لَمَبْعوثون» واستغنى بالفصلِ بهمزةِ الاستفهامِ. ومَنْ سَكَّنها تعيَّن فيه الأولُ دون الثاني على قولِ الجمهور لعَدَمِ الفاصل.

وقد أوضح هذا الزمخشريُّ حيث قال: «آباؤنا» معطوفٌ على محل «إنَّ» واسمِها، أو على الضميرِ في «مَبْعوثون» . والذي جَوَّز العطفَ عليه الفصلُ بهمزةِ الاستفهام «. قال الشيخُ: أمَّا قولُه:» معطوفٌ على محلِّ إنَّ واسمها «فمذهبُ سيبويه خلافُه؛ فإنَّ قولَك» إن زيداً قائمٌ وعمروٌ «» عمرٌو «فيه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ. وأمَّا قولُه:» أو علىلضميرِ في «مبعوثون» إلى آخره فلا يجوزُ أيضاً لأنَّ همزةَ الاستفهامِ لا تدخلُ إلاَّ على الجملِ لا على المفرد؛ لأنه إذا عُطِف/ على المفردِ كان الفعلُ عاملاً في المفرد بوساطة حرفِ العطفِ، وهمزةُ الاستفهام لا يَعْمَلُ ما قبلها فيما بعدها. فقوله: «أو آباؤنا» مبتدأٌ محذوفُ الخَبرِ، تقديرُه: أو آباؤنا مبعوثون، يَدُلُّ عليه ما قبله. فإذا قلتَ: «أقام زيدٌ أو عمرٌو» فعمرٌو مبتدأ محذوفُ الخبرِ لِما ذكرنا «. قلت: أمَّا الردُّ الأولُ فلا يَلْزَمُ؛ لأنه لا يلتزمُ مذهبَ سيبويه. وأمَّا الثاني فإنَّ الهمزةَ مؤكِّدة للأولى فهي داخلةٌ في الحقيقةِ على الجملةِ، إلاَّ أنه فَصَلَ بين الهمزتين ب» إنَّ «واسمها وخبرها. يَدُلُّ على هذا ما قاله هو في سورةِ الواقعة، فإنه قال:» دَخَلَتْ همزَةُ الاستفهامِ على حَرْفِ العطفِ. فإنْ قلت: كيف حَسُنَ العطفُ على المضمر «لَمبعوثون» من غيرِ تأكيدٍ ب «نحن» ؟ قلتُ: حَسُنَ للفاصلِ الذي هو الهمزةُ كما حَسُنَ في قولِه: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] لفَصْلِ المؤكِّدة للنفي «. انتهى. فلم يَذْكُرْ هنا غيرَ هذا الوجهِ،

وتشبيهَه بقوله: لفَصْلِ المؤكِّدةِ للنفي، لأنَّ» لا «مؤكدةٌ للنفي المتقدِّم ب» ما «. إلاَّ أنَّ هذا مُشْكِلٌ: بأنَّ الحرفَ إذا كُرِّر للتوكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلاَّ بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميرِه. وقد مضى القولُ فيه. وتحصَّل في رفع» آباؤنا «ثلاثةُ أوجهٍ: العطفُ على محلِّ» إن «واسمِها، العطفُ على الضمير المستكنِّ في» لَمبعوثون «، الرفعُ على الابتداء، والخبرُ مضمرٌ. والعامل في» إذا «محذوفٌ أي: أنُبْعَثُ إذا مِتْنا. هذا إذا جَعَلْتَها ظرفاً غيرَ متضمنٍ لمعنى الشرطِ. فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً كان جوابُها عاملاً فيها أي: أإذا مِتْنا بُعِثْنا أو حُشِرْنا. وقُرِئ» إذا «دونَ استفهامٍ. وقد مضى القولُ فيه في الرعد.

18

قوله: {وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} : جملةٌ حاليةٌ. العاملُ فيها الجملةُ القائمةُ مَقامَها «نعم» أي: تُبْعَثون وأنتم صاغرون أذلاَّءُ. قال الشيخ: «وقرأ ابنُ وثاب» نَعِمْ «بكسر العين. قلت: وقد تقدم في الأعراف أنَّ الكسائيَّ قرأها كذلك حيث وقعَتْ، وكلامُه هنا مُوْهِمٌ أنَّ ابنَ وثَّاب منفردٌ بها.

19

قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ} : قال الزمخشري: «فإنما هي جوابُ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه: إذا كان ذلك فما هي إلاَّ زَجْرَةٌ واحدةٌ» . قال الشيخ: «وكثيراً ما تُضْمَرُ جملةُ الشرطِ قبل فاءٍ إذا ساغ تقديرُه، ولا ضرورةَ

تَدْعُوْ إلى ذلك، ولا يُحْذَف الشرطُ ويبقى جوابُه، إلاَّ إذا انجزم الفعلُ في الذي يُطْلَقُ عليه أنه جوابٌ للأمرِ والنهي وما ذُكِر معهما. أمَّا ابتداءً فلا يجوزُ حَذْفُه» . قوله: «هي» ضميرُ البعثةِ المدلولِ عليها بالسِّياق لَمَّا كانَتْ بعثتُهم ناشئةً عن الزَّجْرَةِ جُعِلَتْ إياها مجازاً. وقال الزمخشري: «هي مبهمةٌ يُوَضِّحها خبرُها» . قال الشيخ: «وكثيراً ما يقول هو وابنُ مالك: إن الضميرَ يُفَسِّره خبرُه» .

20

ووقف أبو حاتمٍ على «وَيْلَنا» وجعل ما بعده من قول الباري تعالى. وبعضُهم جَعَلَ {هذا يَوْمُ الدين} مِنْ كلامِ الكفرة فيقف عليه. وقوله: {هذا يَوْمُ الفصل} مِنْ قولِ الباري تعالى. وقيل: الجميعُ مِنْ كلامهم، وعلى هذا فيكونُ قولُه «تُكَذِّبون» : إمَّا التفاتاً من التكلم إلى الخطاب، وإمَّا مخاطبةُ بعضِهم لبعض.

22

قوله: {وَأَزْوَاجَهُمْ} : العامَّةُ على نصبِه، وفيه وجهان، أحدهما: العطفُ على الموصول. والثاني: أنه مفعولٌ معه. قال أبو البقاء: «وهو في المعنى أقوى» . قلت: إنما قال في المعنى لأنَّه في الصناعةِ ضعيفٌ؛ لأنه أمكن العطفُ فلا يُعْدَلُ عنه. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بالرفعِ عَطْفاً على ضمير «ظَلموا» وهو ضعيفٌ لعدمِ العاملِ. وقوله: {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} لا يجوزُ فيه هذا لأنه لا يُنْسَبُ إليهم ظلمٌ، إنْ لم يُرَدْ بهم الشياطينُ: وإن أُريد بهم ذلك جاز فيه الرفعُ أيضاً على ما تقدَّم.

24

قوله: {إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} : العامَّةُ على الكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلة. وقُرِئ بفتحها على حَذْفِ لامِ العلةِ أي: قِفُوهم لأجل سؤال اللَّهِ إياهم.

25

قوله: {مَا لَكُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ منقطعاً عَمَّا قبله والمسؤولُ عنه غيرُ مذكورٍ، ولذلك قَدَّره بعضُهم: عن أعمالهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ هو المسؤولَ عنه في المعنى، فيكونَ معلِّقاً للسؤال. و «لا تَناصَرون» جملةٌ حاليةٌ. العاملُ فيها الاستقرارُ في «لكم» . وقيل: بل هي على حَذْفِ حرفِ الجرِّ، و «أنْ» الناصبةِ، فلمَّا حُذِفَتُ «أن» ارتفع الفعلُ. والأصل: في أنْ لا، وتقدَّمَتْ قراءةُ البزي «لا تَّناصرون» بتشديد التاء. وقُرِئ «تَتَناصرون» على الأصلِ.

28

قوله: {عَنِ اليمين} : حالٌ من فاعل «تَأْتُوننا» . واليمينُ: إمَّا الجارحَةُ عَبَّر بها عن القوةِ، وإمَّا الحَلْفُ؛ لأنَّ المتعاقِدَيْن بالحَلْفِ يَمْسَح كلٌّ منهما يمينَ الآخرِ، فالتقديرُ على الأول: تأتوننا أقوياءَ، وعلى الثاني مُقْسِمينَ حالفين. /

31

قوله: {إِنَّا لَذَآئِقُونَ} : الظاهر أنه مِنْ إخبارِ الكَفَرةِ المتبوعين أو الجنِّ بأنَّهم ذائِقون العذابَ. ولا عدُولَ في هذا الكلامِ. وقال الزمخشري: «فَلَزِمَنا قولُ ربِّنا إنَّا لَذائقون. يعني وعيدَ اللَّهِ بأنَّا لذائقون

لِعذابِه لا مَحالةَ. ولو حكى الوعيدَ كما هو لقال: إنَّكم لذائقونَ، ولكنه عَدَلَ به إلى لفظِ المتكلم؛ لأنهم متكلِّمون بذلك عن أنفسِهم. ونحوُه قولُ القائلِ: 3790 - ب لقد عَلِمَتْ هوازِنُ قَلَّ مالي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولو حكى قولَها لقال: قَلَّ مالُك. ومنه قولُ المُحَلِّفِ للحالِف: احْلِفْ» لأَخْرُجَنَّ «و» لَتَخْرُجَنَّ «الهمزةُ لحكايةِ الحالفِ، والتاءُ لإِقبالِ المحلِّف على المحلَّف» .

33

قوله: {يَوْمَئِذٍ} : أي: يومَ إذ يَسْألوا ويُراجِعوا الكلامَ فيما بينهم.

37

قوله: {وَصَدَّقَ المرسلين} : أي: صَدَّقهم محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقرأ عبد الله «صَدَقَ» خفيفةَ الدالِ. «المُرْسلون» فاعلاً به أي: صَدَقوا فيما جاؤوا به مِنْ بشارتهم به عليه السلام.

38

قوله: {لَذَآئِقُو العذاب} : العامة على حذْفِ النونِ

والجرِّ. وقرأ بعضُهم بإثباتِها، والنصبِ، وهو الأصلُ. وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم وأبو السَّمَّال في روايةٍ بحذف النون والنصبِ، أَجْرى النون مُجْرى التنوين في حَذْفِها لالتقاء الساكنين كقولِه: {أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1-2] [وقولِه] : 3791 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا وقال أبو البقاء: «وقُرِئ شاذَّاً بالنصب، وهو سهوٌ من قارئه لأنَّ اسمَ الفاعلِ تُحْذَفُ منه النونُ ويُنْصَبُ إذا كان فيه الألفُ واللامُ» . قلت: وليس بسَهْوٍ لِما ذكَرْتُه لك. وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً «لَذائِقٌ» بالإِفراد والتنوين، «العذابَ» نصباً. تخريجُه على حَذْفِ اسمِ جمعٍ هذه صفتُه، أي: إنكم لَفريقٌ أو لجمعٌ ذائِقٌ؛ ليتطابقَ الاسمُ والخبرُ في الجمعيَّةِ.

39

وقوله: {إِلاَّ مَا كُنْتُمْ} : أي: إلاَّ جزاءَ ما كنتم.

40

قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله} : استثناءٌ منقطعٌ.

41

وقوله: {أُوْلَئِكَ} : إلى آخره بيانٌ لحالِهم.

42

قوله: {فَوَاكِهُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «رزق» ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: ذلك الرزقُ فواكهُ.

44

وقوله: {على سُرُرٍ} : العامَّةُ على ضمِّ الراءِ. وأبو السَّمَّال بفتحها، وهي لغةُ بعضِ كلبٍ وتميمٍ: يفتحون عينَ فُعُل إذا كان اسماً مضاعَفاً. وأمَّا الصفةُ نحو «ذُلُل» ففيها خلافٌ: الصحيحُ أنه لا يجوزُ؛ لأنَّ السَّماعَ وَرَدَ في الجوامد دونَ الصفات. قوله: «في جنات» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «مُكْرَمون» ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأنْ يكونَ حالاً، وكذلك «على سُرُرٍ» . و «متقابلين» حالٌ. ويجوزُ أَنْ يتعلَّق «على سرر» بمتقابلين، و «يُطافُ» صفةٌ ل «مُكْرَمُون» ، أو حالٌ من الضمير في «متقابلين» ، أو من الضميرِ في أحدِ الجارَّيْن إذا جعلناه حالاً. والكأسُ من الزُّجاج ما دام فيها خمرٌ أو نبيذٌ وإلاَّ فهي قَدَحٌ. وقد تُطْلق الكأسُ على الخمرِ نفسِها، وهو مجازٌ سائغٌ. وأُنْشِدَ: 3792 - وكأسٍ شَرِبْتُ على لَذَّةٍ ... وأخرى تَداوَيْتُ منها بها و «من مَعين» صفةٌ ل «كأس» وتقدَّم الكلامُ على «معين» .

46

قوله: {بَيْضَآءَ} : صفةٌ ل «كَأْس» . وقال الشيخ: «صفةٌ ل كأس أو للخمرِ» . قلت: لم تُذْكَرِ الخمرُ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يَعْنيَ بالمَعين الخمرَ وهو بعيدٌ جداً.

وقرأ عبد الله «صفراءَ» وهي مخالِفَةٌ للسَّواد، إلاَّ أنه قد جاء وَصْفُها بهذا اللونِ. وأنشد لبعض المُوَلَّدين: 3793 - صَفْراءُ لا تَنْزِلُ الأحزانُ ساحتَها ... لو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتْه سَرَّاءُ و «لَذَّةٍ» صفةٌ أيضاً. وُصِفَتْ بالمصدرِ مبالغةً أو على حَذْفِ المضاف أي: ذات لذةٍ، أو على تأنيثِ لَذّ بمعنى لذيذ فيكون وصفاً على فَعْل كصَعْبٍ. يُقال: لَذَّ الشيءُ يَلَذُّ لَذَّاً فهو لَذيذ ولَذٌّ. وأنشد: 3794 - بحديثِها اللَّذِّ الذي لو كَلَّمَتْ ... أُسْدَ الفَلاةِ به أَتَيْنَ سِراعا وقال آخر: 3795 - ولَذٍّ كطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ تَرَكْتُه ... بأَرضِ العِدا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثانِ واللذيذُ: كلُّ شيءٍ مُسْتَطابٍ. وأُنْشِد:

3796 - تَلَذُّ لِطَعْمِه وتَخالُ فيه ... إذا نَبَّهْتَها بعدَ المَنامِ و «للشاربين» صفةٌ ل «لَذَّةٍ» .

47

و: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} : صفةٌ أيضاً. وبَطَل عَمَلُ «لا» وتكرَّرت لتقدُّمِ خبرِها. وقد تقدَّم أولَ البقرةِ فائدةُ تقديمَ مثلِ هذا الخبرِ ورَدُّ الشيخِ له والبحثُ معه، فعليك بالالتفات إليه. قوله: «يُنْزَفُون» قرأ الأخَوان «يُنْزِفون» هنا وفي الواقعة بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي. وافقهما عاصمٌ على ما في الواقعة فقط. والباقون بضم الياءِ وفتحِ الزاي. وابنُ أبي إسحاق بالفتح والكسر. وطلحةُ بالفتح والضمِّ. فالقراءةُ الأولى مِنْ أَنْزَفَ الرجلُ إذا ذهب عقلُه من السُّكْرِ فهو نَزِيْفٌ ومَنْزُوْف. وكان قياسُه مُنْزَف ك مُكْرَم. ونَزَفَ الرجلُ الخمرةَ فأَنْزَف هو، ثلاثيُّه متعدٍ، ورباعيُّه بالهمزةِ قاصرٌ، وهو نحو: كَبَيْتُه فأَكَبَّ وقَشَعَتِ الريحُ السَّحابَ فأَقْشَع/ أي: دخلا في الكَبِّ والقَشْع. وقال الأسودُ: 3797 - لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ ... لبِئْسَ النَّدامى أنتمُ آلَ أَبْجرا ويقال: أَنْزَفَ أيضاً أي: نَفِدَ شرابُه. وأمَّا الثانيةُ فمِنْ نُزِف الرجلُ ثلاثياً

مبنياً للمفعول بمعنى: سَكِر وذَهَبَ عَقْلُه أيضاً. ويجوزُ أَنْ تكونَ هذه القراءةُ مِنْ أُنْزِف أيضاً بالمعنى المتقدِّم. وقيل: هو مِنْ قولِهم: نَزَفْتُ الرَّكِيَّةَ أي: نَزَحْتُ ماءَها. والمعنى: أنهم لا تَذْهَبُ خمورُهم بل هي باقيةٌ أبداً. وضَمَّنَ «يُنْزَفُوْن» معنى يَصُدُّون عنها بسبب النزيف. وأمّا القراءتان الأخيرتان فيقال: نَزِف الرجلُ ونَزُف بالكسر والضم بمعنى: ذَهَبَ عَقْلُه بالسُّكْر. والغَوْلُ: كلُّ ما اغتالك أي: أَهْلَكك. ومنه الغُوْلُ بالضم: شيءٌ تَوَهَّمَتْه العربُ. ولها فيه أشعارٌ كالعَنْقاءِ يُقال: غالني كذا. ومنه الغِيْلَة في القَتْل والرَّضاع قال: 3798 - مَضَى أَوَّلُونا ناعِمِيْنَ بعيشِهِمْ ... جميعاً وغالَتْني بمكةَ غُوْلُ وقال آخر: وما زالَتِ الخَمْرُ تَغْتالنا ... وتَذْهَبُ بالأولِ الأولِ فالغَوْل اسمٌ عامٌّ لجميع الأَذَى.

48

و: {قَاصِرَاتُ الطرف} : يجوز أَنْ يكونَ من باب الصفةِ المشبهةِ أي: قاصراتٌ أطرافُهنَّ كمُنْطَلِق اللسانِ، وأَنْ يكونَ من باب اسم الفاعل على أصلِه. فعلى الأولِ المضافُ إليه مرفوعُ المحلِّ، وعلى

الثاني منصوبُه أي: قَصُرَتْ أطرافُهُنّ على أزواجِهِنَّ وهو مدحٌ عظيمٌ. قال امرؤ القيس: 3800 - من القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا والعِيْنُ: جمع عَيْناء وهي الواسعةُ العينِ. والذَّكَرُ أَعْيَنُ، والبَيْضُ جمعُ بَيْضَة وهو معروفٌ. والمرادُ به هنا بَيْضُ النَّعام. والمَكْنون المصُون مِنْ كَنَنْتُه أي: جَعَلْتُه في كِنّ. والعربُ تُشَبِّه المرأةَ بها في لَوْنِها، وهو بياضٌ مُشْرِبٌ بعضَ صُفْرَةٍ. والعربُ تُحبُّه. قال امرؤ القيس: 3801 - وبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرام خِباؤُها ... تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بها غيرَ مُعْجَلٍ كبِكْرِ مُقاناةِ البَياضِ بصُفْرَةٍ ... غَذاها نَمِيْرُ الماءِ غيرَ المُحَلَّلِ وقال ذو الرمة: 3802 - بيضاءُ في بَرَحٍ صَفْراءُ في غَنَجٍ ... كأنها فِضَّةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ وقال بعضُهم: إنما شُبِّهَتِ المرأةُ بها في أجزائِها، فإنَّ البيضةَ من أيِّ جهةٍ أتيتَها كانَتْ في رأي العينِ مُشْبهةً للأخرى وهو في غاية المدح. وقد

لَحَظ هذا بعضُ الشعراءِ حيث قال: 3803 - تناسَبَتِ الأعضاءُ فيها فلا تَرَى ... بهنَّ اختلافاً بل أَتَيْنَ على قَدْرِ ويُجْمع البَيْضُ على بُيُوْض قال: 3804 - بتَيْهاءَ قفرٍ والمَطِيُّ كأنَّها ... قطا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخاً بُيوضُها

50

قوله: {يَتَسَآءَلُونَ} : حالٌ من فاعل «أَقْبَلَ» و «أقبل» معطوفٌ على «يُطاف» أي: يَشْربون فيتحدثون. وكذا حالُ الشَّرْبِ حيث يَجْلسون كما قال: 3805 - وما بَقِيَتْ من اللَّذَّاتِ إلاَّ ... محادثة الكِرامِ على المُدامِ وأتى بقوله: «فأقْبَلَ» ماضياً لتحقُّقِ وقوعِه كقولِه: {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] {ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50] .

52

قوله: {لَمِنَ المصدقين} : العامَّةُ على تخفيفِ الصادِ من التصديق أي: لَمِنَ المُصَدِّقين بلقاءِ الله. وقُرِئ بتشديدِها من الصَّدَقة.

54

وقرأ العامَّةُ «مُطَّلِعُوْنَ» بتشديد الطاءِ مفتوحةً وبفتح النونِ. «فاطَّلَع» ماضياً مبنياً للفاعل، افْتَعَلَ من الطُّلوع. وقرأ ابنُ عباس في آخرين - ويُرْوَى عن أبي عمروٍ - بسكونِ الطاءِ وفتح النون «فأُطْلِعَ» بقطعِ همزةٍ مضمومةٍ وكسرِ اللامِ ماضياً مبنياً للمفعول. و «مُطْلِعُوْنَ» على هذه القراءةِ يحتمل أَنْ يكونَ قاصراً أي: مُقْبِلون مِنْ قولِك: أَطْلَعَ علينا فلانٌ أي: أَقْبَلَ، وأَنْ يكونَ متعدياً، ومفعولُه محذوفٌ أي: أصحابَكم. وقرأ أبو البرهسم وعَمَّار بن أبي عمار «مُطْلِعُوْنِ» خفيفةَ الطاء مكسورةَ النونِ، «فَأُطْلِعَ» مبنياً للمفعول. وقد رَدَّ الناسُ - أبو حاتم وغيرُه - هذه القراءةَ من حيث الجمعُ بين النونِ وضميرِ المتكلم؛ إذ كان قياسُها مُطْلِعيَّ، والأصل: مُطْلِعُوْي، فأُبْدِل وأُدْغِمَ نحو: جاء مُسْلِميَّ العاقلون، وقوله عليه السلام «أوَ مُخْرِجِيَّ هم» وقد وَجَّهها ابنُ جني على أنَّه أُجْرِيَ فيها اسمُ الفاعل مُجْرى المضارع، يعني في إثباتِ النونِ فيه مع الضميرِ. وأَنْشَدَ الطبريُّ على ذلك:

3806 - وما أَدْري وظَنِّي كلَّ ظنِّ ... أمُسْلِمُنِي إلى قومي شُراح /وإليه نحا الزمخشريُّ قال: «أو شَبَّه اسمَ الفاعلِ في ذلك بالمضارعِ لتآخي بينِهما كأنَّه قال:» يُطْلِعُونِ «. وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في شِعْرٍ. وذكر فيه توجيهاً آخر فقال:» أراد مُطْلِعونَ إياي فوضع المتصلَ موضعَ المنفصلِ، كقوله: 3807 - هم الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُوْنَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ورَدَّه الشيخ: بأنَّ هذا ليس مِنْ مواضِع المنفصلِ حتى يَدَّعِيَ أن المتصلَ وَقَعَ موقِعَه. لا يجوز: «هندُ زيدٌ ضاربٌ إياها، ولا زيدٌ ضارِبٌ إياي» قلت: إنما لم يَجُزْ ما ذَكَرَ؛ لأنه إذا قُدِرَ على المتصلِ لم يُعْدَلْ إلى المنفصلِ. ولقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ أنه يُقْدَرُ على المتصلِ حالةَ ثبوتِ النونِ والتنوينِ قبل الضميرِ، بل يصيرُ الموضعُ موضعَ الضميرِ المنفصلِ؛ فيَصِحُّ ما قاله الزمخشريُّ. وللنحاةِ في اسمِ الفاعلِ المنونِ قبل ياءِ المتكلمِ نحوَ البيتِ المتقدمِ، وقولِ الآخر: 3808 - فهَلْ فتىً مِنْ سَراةِ القَوْمِ يَحْمِلُني ... وليس حامِلَني إلاَّ ابنُ حَمَّالِ

وقول الآخر: 3809 - وليس بمُعْيِيْنِيْ وفي الناسِ مُمْتِعٌ ... صَديقٌ إذا أعْيا عليَّ صديقُ قولان، أحدُهما: أنَّه تنوينٌ، وأنه شَذَّ تنوينُه مع الضميرِ، وإنْ قلنا: إن الضمير بعده في محلِّ نصبٍ. والثاني: أنه ليس تنويناً، وإنما هو نونُ وقايةٍ. واستدلَّ ابنُ مالكٍ على هذا بقولِه: وليس بمُعْيِيْني. . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وبقوله أيضاً: 3810 - وليس المُوافِيني لِيُرْفَدَ خائباً ... فإنَّ له أَضْعافَ ما كان أمَّلا ووَجْهُ الدلالةِ من الأول: أنَّه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذفَ الياءَ قبلَه؛ لأنه منقوصٌ منونٌ، والمنقوص المنونُ تُحذف ياؤه رفعاً وجَرَّاً لالتقاء الساكِنَيْن. ووجهُها من الثاني: أنَّ الألفَ واللامَ لا تُجامِعُ النونَ والذي يُرَجِّح

القولَ الأولَ ثبوتُ النونِ في قوله: «والآمِرُوْنَه» وفي قولِه: 3811 - ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مَحْتَضِرُونَه ... جميعاً وأَيْدي المُعْتَفِيْنَ رواهِقُهْ فإنَّ النونَ قائمةٌ مقامَ التنوينِ تثنيةً وجمعاً على حَدِّها. وقال أبو البقاء: «ويُقْرأ بكسرِ النونِ، وهو بعيدٌ جداً؛ لأنَّ النونَ إنْ كانت للوقايةِ فلا تَلْحَقُ الأسماءَ، وإنْ كانَتْ نونَ الجمعِ فلا تَثْبُتُ في الإِضافةِ» . قلت: وهذا الترديدُ صحيحٌ لولا ما تقدَّم من الجوابِ عنه مع تَكَلُّفٍ فيه، وخروجٍ عن القواعد، ولولا خَوْفُ السَّآمةِ لاسْتَقْصَيْتُ مذاهبَ النحاةِ في هذه المسألة. وقُرِئ «مُطَّلِعُوْن» بالتشديد كالعامَّة، «فأَطَّلِعَ» مضارعاً منصوباً بإضمار «أَنْ» على جوابِ الاستفهامِ. وقُرِئ «مُطْلِعون» بالتخفيف «فَأَطْلَعَ» مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً منصوباً على ما تقدَّم. يُقال: طَلَع علينا فلانٌ وأَطْلع، كأكْرم، واطَّلَعَ بالتشديد بمعنًى واحد. وأمَّا قراءةُ مَنْ بنى الفعلَ للمفعولِ في القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مصدرُ الفعلِ أي: أُطْلِعَ الإِطلاعُ. الثاني: الجارُّ المقدرُ. الثالث - وهو الصحيح - أنه ضميرُ القائلِ لأصحابِه ما قاله؛ لأنه يُقال: طَلَعَ زيدٌ وأَطْلعه غيرُه، فالهمزَةُ فيه للتعدية. وأمَّا الوجهان الأوَّلان فذهب إليهما أبو الفضل الرازيُّ في «لوامحه» فقال: «طَلَعَ واطَّلع إذا بدا وظَهَر، وأَطْلَع إطلاعاً إذا جاء وأَقْبَلَ. ومعنى ذلك: هل أنتم مُقْبلون فأُقْبل. وإنما أُقيم المصدرُ

فيه مُقام الفاعلِ بتقدير: فأُطْلِعَ الإِطلاعُ، أو بتقدير حرفِ الجر المحذوف أي: أُطْلِعَ به؛ لأن أَطْلَعَ لازم كما أنَّ أَقْبَلَ كذلك» . وقد رَدَّ الشيخُ عليه هذين الوجهين فقال: «قد ذَكرْنا أنَّ أَطْلَعَ بالهمزةِ مُعَدَّى مِنْ طَلَعَ اللازمِ. وأمَّا قولُه:» أو حرف الجرِّ المحذوف أي: أُطْلِع به «فهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ مفعولَ ما لم يُسَمّ فاعلُه لا يجوزُ حَذْفُه لأنه نائبٌ عنه، فكما أنَّ الفاعلَ لا يجوزُ حَذْفُه دونَ عامِله فكذلك هذا. لو قلت:» زيدٌ ممرورٌ أو مغضوبٌ «تريد: به أو عليه لم يَجُزْ» . قلت: أبو الفضل لا يَدَّعِي أنَّ النائبَ عن الفاعل محذوفٌ، وإنما قال: بتقدير حرفِ الجرِّ المحذوفِ. ومعنى ذلك: أنه لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعاً انقلبَ الضميرُ مرفوعاً فاستتر في الفعلِ، كما يُدَّعى ذلك في حَذْفِ عائد الموصولِ المجرورِ عند عَدَمِ شروطِ الحذفِ/ ويُسَمَّى الحذفَ على التدريج.

55

قوله: {فَرَآهُ} : عطفٌ على «فاطَّلَعَ» . وسواءُ الجحيمِ وَسَطُها. وأحسنُ ما قيل فيه ما قاله ابنُ عباس: سُمِّي بذلك لاستواءِ المسافةِ منه إلى الجوانبِ. وعن عيسى بن عمر أنه قال لأبي عبيدةَ: «كنت أكْتُبُ حتى ينقطعَ سَوائي» .

56

قوله: {تالله} : قَسَمٌ فيه [معنى] تعجُّبٍ، و «إنْ» مخففةٌ أو نافية، واللام فارقةٌ أو بمعنى «إلاَّ» ، وعلى التقديرين فهي جوابُ القسمِ أعني إنْ وما في حَيِّزها.

58

قوله: {بِمَيِّتِينَ} : قرأ زيد بن علي «بمائِتين» وهما مثلُ: ضيِّق وضائق. وقد تقدَّم. وقوله: «أفما» فيه الخلافُ المشهورُ: فقدَّره الزمخشري: أنحن مُخَلَّدون مُنَعَّمون فما نحن بميِّتين. وغيرُه يجعلُ الهمزةَ متقدمةً على الفاءِ.

59

قوله: {إِلاَّ مَوْتَتَنَا} : منصوبٌ على المصدر. والعاملُ فيه الوصفُ قبلَه، ويكون استثناءً مفرَّغاً. وقيل: هو استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكنْ الموتةُ الأولى كانت لنا في الدنيا. وهذا قريبٌ في المعنى مِنْ قولِه تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] وفيها بَحْثٌ حَسَنٌ وهناك إنْ شاء اللَّهُ يأتي تحقيقُه.

60

وقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ} : إلى قوله: «العامِلون» يحتملُ أنْ يكونَ مِنْ كلامِ القائلِ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الباري تعالى.

62

قوله: {نُّزُلاً} : تمييزٌ ل «خَيْرٌ» ، والخيريَّةُ بالنسبة إلى ما اختاره الكفارُ على غيرِه. والزَّقُّوم: شجرةٌ مَسْمومة يَخْرج لها لبنٌ، متى مَسَّ جسمَ أحدٍ تَوَرَّم فماتَ. والتَزَقُّمُ البَلْعُ بشِدة وجُهْدٍ للأشياءِ الكريهة. وقولُ أبي جهلٍ - وهو من العرب العَرْباء - «لا نعرفُ الزَّقُّومَ إلاَّ التمرَ بالزُّبْدِ» من العِناد والكذب البَحْتِ.

65

قوله: {رُءُوسُ الشياطين} : فيه وجهان، أحدهما:

أنه حقيقةٌ، وأنَّ رؤوسَ الشياطينِ شجرٌ بعينِه بناحيةِ اليمن يُسَمَّى «الأسْتَن» وقد ذكره النابغةُ: 3812 - تَحِيْدُ عن أَسْتَنٍ سُوْدٍ أسافِلُها ... مثلَ الإِماءِ الغوادي تَحْمِل الحُزَمَا وهو شجرُ مُرٌّ منكَرُ الصورةِ، سَمَّتْه العربُ بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القُبْح ثم صار أصلاً يُشَبَّه به. وقيل: الشياطين صِنْفٌ من الحَيَّاتِ، ولهنَّ أعْراف. قال: 3813 - عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حينَ أَحْلِفُ ... كمثلِ شيطان الحَماطِ أَعْرَفُ وقيل: وهو شجرٌ يقال له الصَّوْمُ، ومنه قولُ ساعدةَ بن جُؤَيَّة: 3814 - مُوَكَّلٌ بشُدُوْفِ الصَّوْم يَرْقُبها ... من المَغَارِبِ مَخْطوفُ الحَشَا زَرِمُ فعلى هذا قد خُوْطِبَ العربُ بما تَعْرِفُه، وهذه الشجرةُ موجودةٌ فالكلامُ حقيقةٌ.

والثاني: أنَّه من بابِ التَّخْييل والتمثيل. وذلك أنَّ كلَّ ما يُسْتَنْكَرُ ويُسْتَقْبَحُ في الطِّباعِ والصورةِ يُشَبَّه بما يتخيَّله الوهمُ، وإن لم يَرَه. والشياطين وإن كانوا موجودين غيرَ مَرْئِيَّين للعرب، إلاَّ أنه خاطبهم بما أَلِفوه من الاستعارات التخييلية، كقوله: 3815 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغْوالِ ولم يَرَ أنيابَها، بل ليسَتْ موجودة البتةَ.

67

قوله: {لَشَوْباً} : العامَّةُ على فتح الشين، وهو مصدرٌ على أصلِه. وقيل: يُرادُ به اسمُ المفعولِ، ويَدُلُّ له قراءةُ شيبانَ النحويِّ «لَشُوباً» بالضمِّ. قال الزجاج: «المفتوحُ مصدرٌ والمضومُ اسمٌ بمعنى المَشُوْب» كالنَّقض بمعنى المنقوض. وعَطَفَ ب «ثمَّ» لأحدِ معنيين: إمَّا لأنه يُؤَخِّر ما يظنُّونه يَرْوِيْهم مِنْ عَطَشهم زيادةً في عذابهم، فلذلك أتى ب «ثم» المقتضيةِ للتراخي، وإمَّا لأنَّ العادة تقضي بتراخي الشُّرْبِ عن الأكلِ، فعَمِل على ذلك المِنْوالِ. وأمَّا مَلْءُ البطنِ فيَعْقُبُ الأكلَ، فلذلك عَطَفَ على ما قبلَه بالفاءِ و «مِنْ حميمٍ» صفةٌ ل «شَوْباً» . والشَّوْبُ: الخَلْطُ والمَزْجُ ومنه: شابَ اللبنَ يَشُوبُه أي: خَلَطه ومَزَجَه.

74

قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله} : /استثناءٌ مِن المُنْذَرين استثناءً منقطعاً لأنه وعيدٌ، وهم لم يَدْخُلوا في هذا الوعيدِ.

75

قوله: {فَلَنِعْمَ} : جوابٌ لقسَمٍ مقدَّرٍ أي: فواللَّهِ. ومثلُه قوله: 3816 - لَعَمْري لَنِعْمَ السَّيِّدانِ وُجِدْتُما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ أي: نحن.

79

قوله: {سَلاَمٌ على نُوحٍ} : مبتدأٌ وخبرٌ، وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه مُفَسِّرٌ ل «تَرَكْنا» . والثاني: أنه مُفَسِّرٌ لمفعولِه أي: تَرَكْنا عليه ثناءً وهو هذا الكلامُ. وقيل: ثَمَّ قولٌ مقدَّرٌ أي: فقُلْنا سلامٌ. وقيل: ضَمَّن معنى ترَكْنا معنى قلنا. وقيل: سَلَّط «تَرَكْنا» على ما بعده. قال الزمخشري: «وتركنا عليه في الآخِرين هذه الكلمةَ وهي: {سَلاَمٌ على نُوحٍ} ، بمعنى: يُسَلِّمون عليه تسليماً، ويَدْعُوْن له، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك: قرأْتُ سورةَ أَنْزَلْناها» وهذا الذي قالهُ قولُ الكوفيين: جعلوا الجملةَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب «تَرَكْنا» ، لا أنه ضُمِّنَ معنى القول بل هو على معناه بخلافِ الوجهِ قبلَه، وهو أيضاً مِنْ أقوالِهم. وقرأ عبد الله «سَلاماً» وهو مفعولٌ به ب «تَرَكْنا»

و «كذلك» نعتُ مصدرٍ، أو حالٌ مِنْ ضميرِه كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرَّة.

83

قوله: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ} : الضميرُ فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه يعودُ على نوح أي: مِمَّن كان يُشايِعُه أي: يتابِعُه على دينِه والتصلُّبِ في أمر الله. والثاني: أنه يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. والشِّيْعَةُ قد تُطْلَق على المتقدمِ كقوله: 3817 - وما ليَ إلاَّ آلَ أحمدَ شِيْعَةٌ ... وما لِيَ إلاَّ مَشْعَبَ الحقِّ مَشْعَبُ فجعلَ آلَ أحمدَ - وهم متقدِّمون عليه وهو تابعٌ لهم - شِيعةً له قاله الفراء. والمعروفُ أن الشِّيْعَةَ تكون في المتأخِّر.

84

قوله: {إِذْ جَآءَ} : في العاملِ فيه وجهان، أحدهما: اذكُرْ مقدَّراً، وهو المتعارَفُ. والثاني: قال الزمخشري: «ما في الشِّيْعَةِ مِنْ معنى المشايَعَة يعني: وإنَّ مِمَّنْ شايَعَه على دينِه وتقواه حين جاء رَبَّه» . قال الشيخ: «لا يجوز؛ لأنَّ فيه الفَصْلَ بين العاملِ والمعمولِ بأجنبي وهو» لإِبْراهيمَ «لأنه أجنبيٌّ مِنْ شِيْعته، ومِنْ» إذ «. وزاد المنعَ أَنْ قَدَّره» مِمَّنْ شايَعَه حين جاء لإِبراهيم « [لأنه قَدَّرَ مِمَّنْ شايَعَه، فجعل العاملَ قبلَه صلةً لموصول

وفَصَلَ بينه وبين» إذ «بأجنبي وهو لإِبراهيم] وأيضاً فلامُ الابتداءِ تمنعُ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما بعدها. لو قلت:» إن ضارباً لقادمٌ علينا زيداً «تقديره: إنَّ ضارباً زيداً لقادِمٌ علينا لم يَجُزْ» .

85

قوله: {إِذْ قَالَ} : بدلٌ مِنْ «إذ» الأولى أو ظرفٌ ل «سليم» أي: سَلِمَ عليه في وقتِ قولِه كَيْتَ وكَيْتَ، أو ظرفٌ ل «جاء» ذكره أبو البقاء، وليس بواضحٍ. وتقدَّم نظيرُ ما بعده.

86

قوله: {أَإِفْكاً} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ من أجله أي: أتُريدون آلهةً دونَ اللَّهِ إفكاً، ف «آلهةً» مفعولٌ به و «دونَ» ظرفٌ ل «تُرِيْدون» ، وقُدِّمَتْ معمولاتُ الفعلِ اهتماماً بها، وحَسَّنه كونُ العاملِ رأسَ فاصلةٍ، وقَدَّمَ المفعولَ مِنْ أجله على المفعول به اهتماماً به لأنه مُكافِحٌ لهم بأنَّهم على إفْكٍ وباطِلٍ. وبهذا الوجهِ بدأ الزمخشري. الثاني: أَنْ يكونَ مفعولاً به ب «تُريدون» ، ويكون «آلهةً» بدلاً منه جعلها نفسَ الإِفكِ مبالغةً فأبْدَلها منه وفَسَّره بها، ولم يَذْكر ابنُ عَطية غيرَه. الثالث: أنَّه حالٌ مِنْ فاعل «تُريدون» أي: أتُريدون آلهةً آفِكين أو ذوي إفْك. وإليه نحا الزمخشري. قال الشيخ: «وجَعْلُ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ إلاَّ مع» أمَّا «نحو: أمَّا عِلْماً فعالِمٌ» .

91

قوله: {فَرَاغَ} : أي: مال في خُفْيَةٍ. وأصلُه مِنْ رَوَغان الثعلبِ، وهو تَرَدُّدُه وعَدَمُ ثبوتِه بمكانٍ.

93

و «ضَرْباً» مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: فراغ عليهم ضارِباً أو مصدرٌ لفعلٍ، ذلك الفعلُ/ حالٌ تقديرُه: فراغَ يَضْرِب ضَرْباً، أو ضَمَّن «راغَ» معنى يَضْرِبُ، وهو بعيدٌ. و «باليمينِ» متعلِّقٌ ب «ضَرْباً» إن لم نجعَلْه مؤكِّداً وإلاَّ فبعامِلِه. واليمينُ: يجوزُ أن يُرادَ بها إحدى اليدين وهو الظاهرُ، وأنُ يُرادَ بها القوةُ، فالباءُ على هذا للحالِ أي: مُلْتبساً بالقوةِ، وأَنْ يُراد بها الحَلْفُ وفاءً بقولِه: {وتالله لأَكِيدَنَّ} [الأنبياء: 57] . والباءُ على هذا للسببِ. وعَدَّى «راغ» الثاني ب «على» لَمَّا كان مع الضَرْبِ المُسْتَوْلي عليهم مِنْ فَوقِهم إلى أسفلِهم بخلافِ الأولِ فإنه مع توبيخٍ لهم، وأتى بضميرِ العقلاء في قولِه «عليهم» جَرْياً على ظنِّ عَبَدَتها أنها كالعقلاءِ.

94

قوله: {يَزِفُّونَ} : حالٌ مِنْ فاعلِ «أَقْبَلوا» ، و «إليه» يجوزُ تَعَلُّقُه بما قبلَه أو بما بعده. وقرأ حمزةُ «يُزِفُّون» بضم الياء مِنْ أَزَفَّ وله معنيان، أحدهما: أنَّه مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ أي: دخل في الزَّفيفِ وهو الإِسراعُ، أو زِفافِ العَروسِ وهو المَشْيُ على هيئتِه؛ لأنَّ القومَ كانوا في طمأنينةٍ مِنْ أَمْرِهم، كذا قيل هذا الثاني وليس بشيءٍ؛ إذ المعنى: أنهم لَمَّا سمعوا بذلك بادروا مُسْرِعين، فالهمزة على هذا ليسَتْ للتعديةِ. والثاني: أنه مِنْ أَزَفَّ بعيرَه أي: حَمَله على الزَّفِيْفِ وهو الإِسراعُ أو على الزِّفافِ، وقد تقدَّم ما فيه. وباقي السبعةِ بفتحِ الياءِ مِنْ زَفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي: عَدا بسُرْعة. وأصلُ الزَّفيفِ للنَّعام.

وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة «يَزِفُون» مِنْ وَزَفَ يَزِفُ أي: أَسْرَعَ. إلاَّ أنَّ الكسائيَّ والفراء قالا: لا نعرفُها بمعنى زَفَّ، وقد عَرَفَها غيرُهما. قال مجاهد - وهو بعضُ مَنْ قرأ بها -: «الوزيف: النَّسَلان» . وقُرِئ «يُزَفُّون» مبنيَّاً للمفعول و «يَزْفُوْن» ك يَرْمُون مِنْ زَفاه بمعنى حَداه، كأنَّ بعضَهم يَزْفو بعضاً لتسارُعِهم إليه. وبين قولِه: «فأَقْبَلُوا» وقولِه: «فراغ عليهم» جُمَلٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها الفَحْوَى أي: فبلغَهم الخبرُ فرَجَعوا مِنْ عيدِهم، ونحو هذا.

96

قوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} : في «ما» هذه أربعةُ أوجه، أجودُها: أنها بمعنى الذي أي: وخَلَق الذي تَصْنَعونه، فالعملُ هنا التصويرُ والنحتُ نحو: عَمِل الصائغُ السِّوارَ أي: صاغه. ويُرَجِّح كونَها بمعنى الذي تَقَدُّمُ ما قبلَها فإنَّها بمعنى الذي أي: أتعبُدُوْنَ الذي تَنْحِتُون، واللَّهُ خلقكم وخَلَقَ ذلك الذي تَعْملونه بالنَّحْتِ. والثاني: أنها مصدريةٌ أي: خَلَقَكم وأعمالَكم. وجعلها الأشعريَّةُ دليلاً على خَلْقِ أفعال العباد لله تعالى، وهو الحقُّ. إلاَّ أَنَّ دليلَ ذلك مِنْ هنا غيرُ قويّ لِما تقدَّم مِنْ ظهورِ كَوْنِها بمعنى الذي. وقال مكي: «يجبُ أَنْ تكونَ» ما «والفعلُ مصدراً جيْءَ به لِيُفيدَ أنَّ اللَّهَ خالقُ الأشياءِ كلِّها» . وقال أيضاً: «وهذا أَلْيَقُ لقولِه تعالى: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] أجمع القراءُ على الإِضافةِ، فدَلَّ على أنه خالقُ الشَّرِّ. وقد فارق عمرو بن عبيد الناسَ فقرأ» مِنْ شرٍّ «بالتنوين ليُثْبِتَ

مع الله تعالى خالقاً» . وقد استفرضَ الزمخشري هذه المقالةَ هنا بكونِها مصدريةً، وشَنَّع على قائلِها. والثالث: أنها استفهاميةٌ، وهو استفهامُ توبيخٍ وتحقيرٍ لشأنِها أي: وأيَّ شيءٍ تَعْملونَ؟ والرابع: أنَّها نافيةٌ أي: إنَّ العملَ في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئاً. والجملةُ مِنْ قولِه: «والله خَلَقكم» حالٌ ومعناها حينئذٍ: أتعبدون الأصنام على حالةٍ تُنافي ذلك، وهي أنَّ اللَّهَ خالِقُكم وخالِقُهم جميعاً. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً.

102

قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ} : «معه» متعلِّقٌ بمحذوفٍ على سبيل البيان كأنَّ قائلاً قال: مع مَنْ بلغ السَّعْيَ؟ فقيل: مع أبيه. ولا يجوزُ تعلُّقُه ب «بَلَغَ» لأنَّه يَقْتضي بلوغَهما معاً حَدَّ السَّعْيِ. ولا يجوز تعلُّقُه بالسَّعْيِ؛ لأنَّ صلةَ المصدرِ لا تتقدَّمُ عليه فتعيَّن ما تقدَّم. قال معناه الزمخشريُّ. ومَنْ يَتَّسِعْ في الظرفِ يُجَوِّزْ تَعَلُّقَه بالسَّعْي. قوله: «ماذا ترى» يجوزُ أَنْ تكونَ «ماذا» مركبةً مغلَّباً فيها الاستفهامُ فتكونَ منصوبةً ب «تَرَى» ، وهي وما بعدها في محلِّ نصب ب «انْظُر» لأنها مُعَلِّقةٌ له، وأنْ تكونَ «ما» استفهاميةً، و «ذا» موصولةً، فتكون مبتدأً وخبراً، والجملةُ معلِّقَةٌ أيضاً، وأَنْ تكونَ «ماذا» بمعنى الذي فتكونَ معمولاً ل «انْظُرْ» . وقرأ الأخَوان «تُري» بالضم والكسر. والمفعولان محذوفان، أي: تُريني إياه مِنْ صبرك واحتمالك.

وباقي السبعة/ «تَرَى» بفتحتين مِن الرأي. وقرأ الأعمش والضحَّاك «تُرَى» بالضمِّ والفتح بمعنى: ما يُخَيَّلُ إليك ويَسْنَحُ بخاطرك. وقوله: «ما تُؤْمَرُ» يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» بمعنى الذي، والعائدُ مقدرٌ أي: تُؤْمَرُه، والأصلُ: تُؤْمَرُ به، ولكنَّ حَذْفَ الجارِّ مُطَّرِدٌ، فلم يُحْذَفْ العائدُ إلاَّ وهو منصوبُ المحلِّ، فليس حَذْفُه هنا كحذفِه في قولك: «جاء الذي مَرَرْتُ» . وأَنْ تكونَ مصدريةً. قال الزمخشري: «أو أَمْرَك، على إضافةِ المصدرِ للمفعول وتسميةِ المأمورِ به أمراً» يعني بقولِه المفعول أي: الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، إلاَّ أنَّ في تقدير المصدرِ بفعل مبنيّ للمفعولِ خلافاً مَشْهوراً.

103

قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} : في جوابِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها - وهو الظاهرُ - أنَّه محذوفٌ، أي: نادَتْه الملائكةُ، أو ظهرَ صَبْرُهما أو أَجْزَلْنا لهما أَجْرَهما. وقدَّره بعضُهم: بعد الرؤيا أي: كان ما كان مِمَّا يَنْطِقُ به الحالُ والوصفُ ممَّا لا يُدْرَكُ كُنْهُه. ونقل ابن عطية أنَّ التقديرَ: فلمَّا أَسْلَما أَسْلَما وَتلَّه، قال: كقوله: 3818 - فلمَّا أَجَزْنا ساحةً الحَيِّ. . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: فلمَّا أَجَزْنا أَجَزْنا وانتحى، ويُعْزَى هذا لسبيويه وشيخِه الخليلِ. وفيه نظرٌ: من حيثُ اتِّحادُ الفعلَيْنِ الجارِيَيْنِ مَجْرى الشرط والجواب. إلاَّ أَنْ يُقال:

جَعَلَ التغايرُ في الآية بالعطفِ على الفعل، وفي البيت يعمل الثاني في «ساحة» وبالعطف عليه أيضاً. والظاهر أنَّ مثلَ هذا لا يكفي في التغاير. الثاني: أنه «وتَلَّه للجبين» والواوُ زائدةٌ وهو قولُ الكوفيين والأخفشِ. والثالث: أنه «وناديناه» والواوُ زائدةٌ أيضاً. وقرأ علي وعبد الله وابن عباس «سَلَّما» . وقُرئ «اسْتَسْلَما» . و «تَلَّه» أي: صَرَعَه وأسقطه على شِقِّه. وقيل: هو الرميُ بقوةٍ، وأصله: مِنْ رَمَى به على التلِّ وهو المكانُ المرتفع، أو من التليل وهو العنُقُ أي: رماه على عُنُقِه، ثم قيل لكل إسقاطٍ، وإن لم يكنْ على تَلّ ولا على عُنُق. والمِتَلُّ: الرُّمْحُ الذي يُتَلُّ به. والجبينُ: ما اكْتَنَفَ الجبهةَ مِنْ هنا، ومِنْ هنا وشَذَّ جمعُه على أَجْبُن. وقياسُه في القلَّةِ أَجْبِنَة كأَرْغِفَة، وفي الكثرة: جُبُن وجُبْنان كرَغيف ورُغْفان ورُغُفُ.

112

قوله: {نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} : نصبٌ على الحالِ، وهي حال مقدرة. قال الشيخ: «إن كان الذَّبيحُ إسحاقَ فيظهر كونُها حالاً مقدرةً، وإنْ كان إسماعيلُ هو الذبيحَ، وكانت هذه البشارةُ بِشارةً بولادة إسحاقَ، فقد جَعَلَ الزمخشريُّ ذلك مَحَلَّ سؤالٍ قال:» فإنْ قلتَ: فرقٌ بين

هذا وبين قولِه: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] : وذلك أنَّ المَدْخولَ موجودٌ مع وجودِ الدخول، والخلودُ غيرُ موجودٍ معهما فقدَّرْت: مُقَدِّرين الخلودَ فكان مستقيماً، وليس كذلك المبشَّرُ به، فإنه معدومٌ وقتَ وجودِ البشارةِ، وعَدَمُ المبشَّرُ به أوجَبَ عدمَ حالِه؛ لأن الحالَ حِلْيَةٌ لا تقومُ إلاَّ بالمُحَلَّى، وهذا المبشَّرُ به الذي هو إسحاقُ حين وُجد لم تُوْجَدْ النبوَّةُ أيضاً بوجودِه بل تراخَتْ عنه مدةً طويلةً، فكيف يُجْعل «نبيَّاً» حالاً مقدرةً، والحالُ صفةٌ للفاعلِ والمفعولِ عند وجودِ الفعل منه أو به؟ فالخلودُ وإنْ لم يكنْ صفتَهم عند دخولِ الجنة فتَقدِّرُها صفتَهم؛ لأنَّ المعنى: مقدِّرين الخلودَ وليس كذلك النبوةُ، فإنَّه لا سبيلَ إلى أَنْ تكونَ موجودةً أو مقدرةً وقتَ وجودِ البِشارة بإسحاقَ لعدم إسحاق؟ قلت: هذا سؤالٌ دقيقٌ المَسْلَكِ. والذي يَحِلُّ الإِشكالَ: أنه لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مُضافٍ محذوف وذلك قولُه: وبَشَّرْناه بوجودِ إسحاقَ نبياً أي: بأَنْ يُوْجِد مَقْدرةَ نبوَّتِه، فالعاملُ في الحال الوجودُ/ لا فعلُ البشارة وبذلك يَرْجِعُ نظيرَ قولِه تعالى: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] . انتهى. وهو كلامٌ حَسَنٌ. قوله: «من الصالحين» يجوز أَنْ يكونَ صفةً ل «نَبِيَّاً» ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير في «نبيَّاً» فتكونَ حالاً متداخلةً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثانية. قال الزمخشري: «وُرُوْدُها على سبيلِ الثناءِ والتقريظ؛ لأنَّ كلّ نبيّ لا بُدَّ أَنْ يكونَ من الصالحين» .

116

قوله: {وَنَصَرْنَاهُمْ} : الضميرُ عائدٌ على موسى

وهارونَ وقومِهما. وقيل: عائدٌ على الاثنين بلفظِ الجمع تعظيماً كقولِه: 3819 - فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1] . قوله: «فكانوا هم» يجوز في «هم» أَنْ يكون تأكيداً، وأن يكونَ بدلاً، وأَنْ يكونَ فَصْلاً. وهو الأظهرُ.

123

قوله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ} : العامَّةُ على همزةٍ مكسورةٍ، همزةِ قطع. وابنُ ذكوان بوَصْلِها، ولم يَنْقُلْها عنه الشيخُ بل نقلها عن جماعةٍ غيرِه. ووجهُ القراءتَيْن أنه اسمٌ أعجميٌّ تلاعَبَتْ به العربُ فقطعَتْ همزتَه تارةً، ووَصَلَتْها أخرى وقالوا فيه: إلْياسين كجِبْرائين. وقيل: تحتمل قراءةُ الوصلِ أَنْ يكون اسمُه ياسين ثم دَخَلَتْ عليه أل المعرِّفةُ، كما دَخَلَتْ على ليَسَع وقد تقدَّم. وإلياس هذا قيل: هو ابنُ إلْياسين المذكورِ بعدُ، مِنْ وَلَدِ

هارونَ أخي موسى. وقيل: بل إلياس إدريسُ. ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله والأعمش وابن وثاب «وإنَّ إدْريس» . وقُرِئ «إدْراس» كإبْرَاهيمَ. وإبراهام. وفي مصحف أُبَيّ وقراءتِه: قوله: «وإن إيْليسَ» بهمزة مكسورة ثم ياءٍ ساكنةٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ثم لامٍ مكسورةٍ، ثم ياءٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ساكنةً، ثم سينٍ مفتوحةٍ.

124

قوله: {إِذْ قَالَ} : ظرفٌ لقولِه «لمن المرسلين» .

125

قوله: {بَعْلاً} : القرَّاءُ على تنوينِه منصوباً، وهو الرَّبُّ بلغة اليمن. سمع ابنُ عباس رجلاً منهم يَنْشُدُ ضالةً فقال آخر: أنا بَعْلُها فقال: اللَّهُ أكبرُ، وتلا الآيةَ. وقيل: هو عَلَمٌ لصنم بعينه، وله قصةٌ في التفسير. وقيل: هو عَلَمٌ لامرأةٍ بعينها أَتَتْهم بضلال فاتَّبعوها، كذا جاء في التفسير. وتأيَّد صاحبُ هذه المقالة بقراءةِ مَنْ قرأ «بَعْلاءَ» بزنة حَمْراء. قوله: «وتَذَرُوْنَ» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار مبتدأ، وأَنْ يكونَ عطفاً على «تَدْعُون» فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار.

126

قوله: {الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ} : قرأ الأخَوان وحفص بنصْبِ الثلاثةِ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ: النصبِ على المدحِ أو البدلِ أو البيانِ إنْ قلنا: إنَّ إضافةَ أَفْعَلَ إضافةٌ مَحْضَةٌ. والباقون بالرفع: إمَّا على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو اللَّهُ، أو على أنَّ الجلالةَ مبتدأٌ وما بعدَه الخبرُ. رُوِيَ عن

حمزةَ أنَّه كان إذا وَصَلَ نَصَبَ، وإذا وَقَفَ رَفَع. وهو حسنٌ جداً، وفيه جَمْعٌ بين الرِّوايَتيْن.

128

قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله} : استثناءٌ متصلٌ مِنْ فاعلِ «فكذَّبوه» وفيه دلالةٌ على أنَّ في قومِه مَنْ لم يُكَذِّبْه، فلذلك اسْتُثْنُوا. ولا يجوزُ أَنْ يكونوا مُسْتَثْنَيْن مِنْ ضمير «لَمُحْضَرون» لأنه يَلْزَمُ أَنْ يكونوا مَنْدَرجين فيمَنْ كَذَّبَ، لكنهم لم يُحْضَروا لكونِهم عبادَ اللَّهِ المُخْلِصين. وهو بَيِّنُ الفسادِ. لا يُقال: هو مستثنى منه استثناءً منقطعاً؛ لأنه يَصيرُ المعنى: لكنَّ عبادَ اللَّهِ المخلصين من غير هؤلاء لم يُحْضَروا. ولا حاجةَ إلى هذا بوجهٍ، إذ به يَفْسُدُ نَظْمُ الكلامِ.

130

قوله: {على إِلْ يَاسِينَ} : قرأ نافعٌ وابن عامر {على آلِ يَاسِينَ} بإضافةِ «آل» بمعنى أهل إلى «ياسينَ» . والباقون بكسرِ الهمزةِ وسكونِ اللامِ موصولةً ب «ياسين» كأنه جَمَعَ «إلياس» جَمْعَ سلامةٍ. فأمَّا الأُوْلى: فإنَّه أراد بالآل إلياسَ وَلَدَ ياسين كما تقدَّم وأصحابَه. وقيل: المرادُ بياسين هذا إلياسُ المتقدمُ، فيكونُ له اسمان. وآلُه: رَهْطُه وقومُه المؤمنون. وقيل: المرادُ بياسينَ محمدُ بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقيل: هي جمعُ إلياس المتقدمِ. وجُمِعَ باعتبارِ أصحابِه كالمَهالبةِ والأَشاعثةِ في المُهَلَّبِ وبنيه، والأَشعثِ وقومِه، وهو في الأصلِ جمعُ المنسوبين إلى إلياس، والأصلُ إلياسيّ كأشعَريّ. ثم اسْتُثْقِل

تضعيفُهما فحُذِفَتْ إحدى ياءَي النسَب/ فلمَّا جُمِعَ سَلامةٍ التقى ساكنان: إحدى الياءَيْن وياءُ الجمعِ، فحُذِفَتْ أولاهما لالتقاءِ السَّاكنين، فصار إلياسين كما ترى. ومثلُه: الأَشْعَرُون والخُبَيْبُون. قال: 3820 - قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِيْ ... وقد تقدَّم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند «الأَعْجَمِيْن» . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قد رَدَّ هذا: بأنَّه لو كان على ما ذُكِر لَوَجَب تعريفُه بأل فكان يُقال: على الإِلياسين. قلت: لأنه متى جُمِعَ العَلَمُ جَمْعَ سَلامةٍ أو ثُنِّي لَزِمَتْه الألفُ واللامُ؛ لأنه تَزُوْلُ عَلَميَّتُه فيقال: الزيدان، الزيدون، الزينبات ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم: جُمادَيان وعَمايتان عَلَمَيْ شهرَيْن وجبلَيْن لندورِهما. وقرأ الحسن وأبو رجاء «على إلياسينَ» بوصلِ الهمزةِ على أنه جَمْعُ إلياس وقومِه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحةٌ لوجودِ أل المعرفةِ فيه كالزيدِيْن. وقرأ عبد الله «على إدْراسين» لأنَّه قرأ في الأول «وإنَّ إدْريَس» . وقرأ أُبَيٌّ «على إيليسِيْنَ» لأنه قرأ في الأول «وإنَّ إيليسَ» كما حَرَّرْتُه عنه. وهاتان تَدُلاَّن على أن إلياسينَ جَمْعُ إلياس.

137

قوله: {مُّصْبِحِينَ} : حالٌ. وهو مِنْ أَصْبح التامَّة بمعنى داخلين في الصباح. ومنه «إذا سَمِعْتَ بسُرى القَيْنِ فاعلَمْ أنه مُصْبِح»

أي: مُقيم في الصباح. وقد تقدَّم ذلك في سورة الروم.

138

قوله: {وباليل} : عطفٌ على الحالِ قبلها أي: ومُلْتبسِيْنَ بالليل.

140

قوله: {إِذْ أَبَقَ} : ظرفٌ للمرسَلين، أي: هو من المرسلين حتى في هذه الحالة. وأَبَقَ أي: هَرَبَ. يُقال: أَبَقَ العبدُ يَأْبِقُ إباقا فهو آبِقٌ، والجمع أُبَّاق كضُرَّابِ. وفيه لغةٌ ثانية: أَبِقَ بالكسر يَأْبَق بالفتح. ويَأْبِقُ الرجل يُشَبَّه به في الاستتار. وقولُ الشاعر: 3821 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قد أُحْكِمَتْ حَكَماتِ القِدِّ والأَبَقا قيل: هو القِنَّبُ.

141

قوله: {فَسَاهَمَ} : أي: فغالَبَهم في المساهمة، وهي الاقتراعُ. وأصلُه أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ على مَنْ غلب.

142

قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} : حالٌ. والمليمُ: الذي أتى بما يُلامُ عليه. قال: 3822 - وكم مِنْ مُليْمٍ لم يُصَبْ بمَلامَةٍ ... ومُتَّبَعٍ بالذَّنْبِ ليس له ذَنْبٌ

يقال: ألام فلانٌ أي: فَعَلَ ما يُلامُ عليه. وقُرِئ «مَليم» بفتح الميم مِنْ لامَ يَلُوْمُ، وهي شاذَّةٌ جداً إذ كان قياسها «مَلُوْم» لأنَّها مِنْ ذوات الواوِ كمَقُول ومَصُون. قيل: ولكنْ أُخِذَتْ من لِيْم على كذا مبنياً للمفعول. ومثلُه في ذلك: شُبْتُ الشيءَ فهو مَشِيْب، ودُعِيَ فهو مَدْعِيّ، والقياسُ: مَشُوْب ومَدْعُوّ، لأنَّهما مِنْ يَشُوْبُ ويَدْعُو.

144

قوله: {فِي بَطْنِهِ} : الظاهرُ أنه متعلِّقٌ ب «لَبِثَ» وقيل: حالٌ أي: مستقراً.

145

قوله: {بالعرآء} : أي: في العَراء نحو: زيد بمكة. والعَراءُ: الأرضُ الواسعةُ التي لا نباتَ بها ولا مَعْلَمَ، اشتقاقاً من العُري وهو عَدَمُ السُّتْرَةِ، سُمِّيَتِ الأرضُ الجَرْداء لعدم اسْتِتارها بشيء. والعُرا بالقصر: الناحيةُ. ومنه اعتراه أي: قَصَدَ عُراه. وأما الممدودُ فهو - كما تقدَّم - الأرضُ الفَيْحاء. قال: 3823 - ورَفَعْتُ رِجْلاً لا أخافُ عِثارَها ... ونَبَذْتُ بالمَتْن العَراء ثيابي

146

قوله: {مِّن يَقْطِينٍ} : هو يَفْعيل مِنْ قَطَنَ بالمكانِ إذا أقام فيه لا يَبْرَح. قيل: واليَقْطِيْنُ: كلُّ ما لم يكُنْ له ساقٌ مِنْ عُوْدٍ كالقِثَّاء

والقَرْعِ والبِطِّيخ. وفي قوله: «شجرةً» ما يَرُدُّ قولَ بعضِهم إن الشجرةَ في كلامهم ما كان لها ساقٌ مِنْ عَوْدٍ، بل الصحيحُ أنها أَعَمُّ. ولذلك بُيِّنَتْ بقولِه: «مِنْ يَقْطِين» . وأمَّا قولُه: {والنجم والشجر} [الرحمن: 6] فلا دليلَ فيه لأنه استعمالُ اللفظِ العامِّ في أحدِ مَدْلولاته. وقيل: بل أَنْبَتَ اللَّهُ اليَقْطِيْنَ الخاصَّ على ساقٍ معجزةً له فجاء على أصلِه/ ولو بَنَيْتَ من الوَعْد مثلَ: يَقْطين لقلت: يَوْعِيْد لا يُقال: تُحذف الواوُ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرٍ ك «يَعِدُ» مضارعَ وَعَد؛ لأنَّ شَرْطَ تلك الياءِ أَنْ تكونَ للمضارعةِ. وهذه مِمَّا يَمْتَحِنُ بها أهلُ التصريفِ بعضَهم بعضاً.

147

قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} : في «أو» هذه سبعةُ أوجهٍ قد تقدَّمَتْ بتحقيقِها ودلائلها في أولِ البقرةِ عند قولِه {أَوْ كَصَيِّبٍ} [الآية: 19] فعليكَ بالالتفاتِ إليهما ثَمَّةَ: فالشَّكُّ بالنسبةِ إلى المخاطبين، أي: إن الرائي يَشُكُّ عند رؤيتِهم، والإِبهامُ بالنسبةِ إلى أن الله تعالى أَبْهَمَ أمْرَهم، والإِباحةُ أي: إن الناظرَ إليهم يُباح له أن يَحْزِرَهم بهذا القَدْر، أو بهذا القَدْرِ، وكذلك التخييرُ أي: هو مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَحْزِرَهم كذا أو كذا، والإِضرابُ ومعنى الواوِ واضحان.

149

قوله: {فاستفتهم} : قال الزمخشريُّ: «معطوفٌ على مثلِه في أولِ السورة، وإنْ تباعَدَتْ» . قال الشيخ: «وإذا كانوا قد عَدُّوا الفصلَ بجملةٍ نحو:» كُلْ لحماً واضْرِب زيداً وخبزاً «من أقبح التركيبِ، فكيف بجملٍ كثيرةٍ وقِصَصٍ متباينةٍ؟» قلت: ولقائلٍ أن يقول: إنَّ الفَصْلَ -

وإنْ كَثُرَ بين الجملِ المتعاطفةِ - مغتفرٌ. وأمَّا المثالُ الذي ذكره فمِنْ قبيلِ المفرداتِ. ألا ترى كيف عطف «خبزاً» على لَحْماً؟

150

قوله: {وَهُمْ شَاهِدُونَ} : جملةٌ حاليةٌ من الملائكة. والرابطُ: الواوُ، وهي هنا واجبةٌ لَعدم رابِطٍ غيرِها.

152

والعامَّةُ على «وَلَدَ اللَّهُ» فعلاً ماضياً مسنداً للجلالةِ أي: أتى بالولد، تعالى اللَّهُ عَمَّا يقولون عَلُوَّاً كبيراً. وقُرِئ «وَلَدُ اللَّهِ» بإضافة الولد إليه أي: يقولون: الملائكةُ وَلَدُه. فحُذِف المبتدأُ للعِلْمِ به، وأُبْقِيَ خبرُه. والوَلَدُ: فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَض؛ فلذلك يقع خبراً عن المفردِ والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً. تقول: هذي وَلَدي، وهم وَلَدي.

153

قوله: {أَصْطَفَى} : العامَّةُ على فتحِ الهمزة على أنها همزةُ استفهامٍ بمعنى الإِنكارِ والتقريعِ، وقد حُذِفَ معها همزةُ الوَصْلِ استغناءً عنها. وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشيبةُ والأعمش بهمزةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ ابتداءً وتَسْقُطُ دَرْجاً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه على نيةِ الاستفهامِ، وإنما حُذِفَ للعِلْمِ به. ومنه قولُ عُمَرَ بن أبي ربيعة: 3824 - ثم قالُوا: تُحِبُّها قلتُ بَهْراً ... عددَ الرَّمْلِ والحَصَى والترابِ

أي: أتُحبها. والثاني: أن هذه الجملةَ بَدَلٌ من الجملة المحكيَّةِ بالقول، وهي «وَلَدَ اللَّهُ» أي: يقولون كذا، ويقولون: اصطفى هذا الجنسَ على هذا الجنس. قال الزمخشري: «وقد قرأ بها حمزةُ والأعمشُ. وهذه القراءة وإنْ كان هذا مَحْمَلَها فهي ضعيفةٌ. والذي أَضْعَفَها أنَّ الإِنكارَ قد اكتنف هذه الجملةَ مِنْ جانَبيْها، وذلك قولُه:» وإنهم لَكاذبون «، {مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فمَنْ جَعَلَها للإَثباتِ فقد أَوْقَعها دخِيلةً بين نَسِيبَيْنِ» . قال الشيخ: «وليسَتْ دخيلةً بين نَسِيْبَيْن؛ لأنَّ لها مناسَبةً ظاهرةً مع قولِهم:» وَلَدَ اللَّهُ «. وأمَّا قولُه:» وإنهم لَكاذبون «فهي جملةُ اعتراضٍ بين مقالتَيْ الكفرة جاءَتْ للتنديدِ والتأكيدِ في كَوْنِ مقالتِهم تلك هي مِنْ إفْكِهم» . ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ «آصْطفى» بالمدِّ. قال: «وهو بعيدٌ جداً» .

154

قوله: {مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} : جملتان استفهاميتان ليس لإِحداهما تَعَلُّقٌ بالأُخْرى من حيث الإِعرابُ، استفهم أولاً عَمَّا استقرَّ لهم وثَبَتَ، استفهامَ إنكار، وثانياً استفهامَ تعجيب مِنْ حُكْمِهِم بهذا الحكم الجائرِ، وهو أنهم نَسَبوا أَخَسَّ الجنسَيْن وما يَتَطَّيرون منه، ويَتَوارى أحدُهم مِنْ قومِه عند بِشارَتِه به، إلى ربِّهم، وأحسنَ الجنسيْنِ إليهم.

160

قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله} : مُسْتثنى منقطعٌ. والمستثنى منه: إمَّا فاعلُ «جَعَلُوا» أي: جعلوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَباً إلاَّ

عبادَ الله. الثاني: أنه فاعلُ «يَصِفُوْن» أي: لكن عباد/ الله يَصْفُونه بما يَليق به تعالى. الثالث: أنه ضمير «مُحْضَرون» أي: لكنَّ عبادَ الله ناجُوْن. وعلى هذا فتكون جملةُ التسبيحِ معترضةً. وظاهرُ كلامِ أبي البقاء أنه يجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً لأنه قال: «مستثنى مِنْ» جَعَلُوا «أو» مُحْضَرون «. ويجوزُ أَنْ يكونَ منفصلاً» فظاهرُ هذه العبارةِ أنَّ الوجهين الأوَّلين هو فيهما متصلٌ لا منفصِلٌ. وليس ببعيدٍ كأنه قيل: وجَعَل الناسَ. ثم استثنى منهم هؤلاء وكلَّ مَنْ لم يجعل بين الله تعالى وبينَ الجِنَّةِ نَسَباً فهو عند الله مُخْلصٌ من الشِّرْك.

161

قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على اسم «إنَّ» . و «ما» نافيةٌ، و «أنتم» اسمُها أو مبتدأٌ، و «أنتم» فيه تغليبُ المخاطبِ على الغائبِ؛ إذ الأصلُ: فإنكمُ ومعبودَكم ما أنتم وهو، فغُلِّب الخطابُ. و «عليه» متعلقٌ بقوله: «بفاتِنين» . والضميرُ عائدٌ على «ما تعبدون» بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ وضُمِّنَ فاتنين معنى حاملين بالفتنة والتقدير: فإنكم وآلهتكم، ما أنتم وهم حامِلين على عبادته إلاَّ الذين سَبَقَ في عِلْمه أنَّه من أهل صَلْيِ الجحيم. فَمَنْ مفعولٌ ب «فاتِنين» والاستثناءُ مفرغٌ. والثاني: أنه مفعولٌ معه، وعلى هذا فيَحْسُنُ السكوتُ على «تعبدون» كما يَحْسُن في قولك: «إنَّ كلَّ رجلٍ وضَيْعَتَه» ، وحكى الكسائيُّ أن كلَّ ثوبٍ وثمنَه والمعنى: أنكم مع معبودِيْكم مُقْتَرنون. كما يُقَدَّر ذلك في «كلُ رجلٍ وضَيْعَتُه مقترنان» . وقولُه: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} مستأنفٌ أي: ما أنتم على ما تعبدون بفاتنين، أو بحاملين على الفتنة، إلاَّ مَنْ هو صالٍ منكم. قالها الزمخشريُّ. إلاَّ أنَّ

أبا البقاء ضَعَّفَ الثاني: وكذا الشيخُ تابعاً له في تضعيفِه بعَدَم تَبَادُرِهِ إلى الفهم. قلت: الظاهرُ أنه معطوفٌ، واستئنافُ {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} غيرُ واضحٍ، والحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يعودَ الضمير في «عليه» على اللَّهِ تعالى قال: «فإنْ قلتَ: كيف يَفْتِنُونهم على الله؟ قلت: يُفْسِدونهم عليه بإغوائهم، مِنْ قولِك: فتن فلانٌ على فلانٍ امرأتَه، كما تقول: أَفْسَدها عليه وخَيَّبها عليه» .

163

و «مَنْ هو» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أو موصوفةً. وقرأ العامَّةُ «صالِ الجحيم» بكسرِ اللامِ؛ لأنه منقوصٌ مضافٌ حُذِفَتْ لامُه لالتقاءِ الساكنين، وحُمِلَ على لفظ «مَنْ» فأَفْرَدَ كما أَفْرد هو. وقرأ الحسنُ وابن أبي عبلة بضمِّ اللامِ مع واوٍ بعدَها، فيما نقله الهذلي عنهما، وابن عطية عن الحسن. وقرآ بضمِّها مع عَدَمِ واوٍ فيما نقل ابنُ خالويه عنهما وعن الحسن فقط، فيما نقله الزمخشريُّ وأبو الفضل. فأمَّا مع الواو

فإنَّه جَمْعُ سَلامةٍ بالواو والنون، ويكون قد حُمِلَ على لفظ «مَنْ» أولاً فأفردَ في قوله «هو» ، وعلى معناها ثانياً فجُمِعَ في قوله: «صالُو» وحُذِفَتْ النونُ للإِضافة. وممَّا حُمِل فيه على اللفظ والمعنى في جملةٍ واحدةٍ وهي صلةٌ للموصولِ قولُه تعالى: {إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] فأفرد في «كان» وجُمِعَ في هوداً. ومثله قولُه: 3825 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكُمْ نِياما وأمَّا مع عَدَمِ الواو فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً أيضاً، وإنما حُذِفَتْ الواوُ خطاً كما حُذِفَتْ لفظاً. وكثيراً ما يَفْعلون هذا: يُسْقِطون في الخطِّ ما يَسْقط في اللفظِ. ومنه «يَقُضُّ الحق» في قراءةِ مَنْ قرأ بالضاد المعجمة، ورُسِمَ بغير ياءٍ، وكذلك {واخشون، اليوم} [المائدة: 3] . ويُحْتمل أَنْ يكونَ مفرداً، وحقُّه على هذا كسرُ اللامِ فقط لأنه عينُ منقوصٍ، وعينُ المنقوصِ مكسورةٌ أبداً وحُذِفَتِ اللامُ وهي الياءُ لالتقاءِ الساكنين نحو: هذا قاضِ البلد. وقد ذكروا فيه توجيهَيْن، أحدهما: أنه مقلوبٌ؛ إذا الأصلُ: صالي ثم صايل: قَدَّموا اللامَ إلى موضع العينِ، فوقعَ الإِعرابُ على العين، ثم حُذِفَتْ لامُ الكلمة بعد/ القلب فصار اللفظ كما ترى، ووزنُه على هذا فاعُ فيُقال على هذا: جاء صالٌ، ورأيتُ صالاً، ومررت بصالٍ، فيصيرُ في اللفظِ كقولك: هذا

بابٌ ورأيتُ باباً، ومررتُ ببابٍ. ونظيرُه في مجردِ القلبِ: شاكٍ ولاثٍ في شائك ولائث، ولكنْ شائِك ولائِث قبل القلب صحيحان، فصارا به معتلَّيْن منقوصَيْنِ بخلافِ «صال» فإنَّه قبلَ القلبِ معتلٌّ منقوصٌ فصار به صحيحاً. والثاني: أنَّ اللامَ حُذِفَتْ استثقالاً مِنْ غيرِ قَلْبٍ. وهذا عندي أسهلُ ممَّا قبلَه وقد رَأَيْناهم يتناسَوْن اللامَ المحذوفةَ، ويجعلون الإِعرابَ على العين. وقد قُرِئَ «وله الجوارُ» برفع الراءِ، {وَجَنَى الجنتين دَانٌ} برفعِ النونِ تشبيهاً ب جناح وجانّ. وقالوا: ما بالَيْت به بالة والأصل بالِية كعافِيَة. وقد تقدَّمَ طَرَف مِنْ هذا عند قولِه تعالى: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٌ} فيمَنْ قرأه برفع الشين.

164

قوله: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} : فيه وجهان، أحدهما: أنَّ «منَّا» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مبتدأٌ، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه: {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} تقديرُه: ما أحدٌ منا إلاَّ له مقامٌ، وحَذْفُ المبتدأ مع «مِنْ» جيدٌ فصيحٌ. والثاني: أنَّ المبتدأ محذوفٌ أيضاً، و {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} صفتُه حُذِفَ موصوفُها، والخبرُ على هذا هو الجارُّ المتقدم. والتقدير: وما منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ. قال الزمخشري: حَذَفَ الموصوفَ، وأقامَ الصفةَ مُقامَه كقولِه: 3826 - أنا ابنُ جَلا وطلاَّعُ الثَّنايا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[وقوله] : 3827 - تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمى البَشَرْ ... ورَدَّه الشيخُ فقال: «ليس هذا مِنْ حَذْفِ الموصوفِ وإقامةِ الصفةِ مُقامَه؛ لأنَّ المحذوفَ مبتدأٌ، و {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} خَبَرُه؛ ولأنه لا ينعقِدُ كلامٌ مِنْ قولِه:» وما منَّا أحد «، وقوله: {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} مَحَطُّ الفائدةِ، وإنْ تُخُيِّل أن {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} في موضع الصفةِ فقد نَصُّوا على أنَّ» إلاَّ «لا تكونُ صفةً إذا حُذِف موصوفُها، وأنها فارقتْ» غير «إذا كانتْ صفةً في ذلك لتمكّنِ» غير «في الوصف وَعَدَمِ تمكُّنِ» إلاَّ «فيه، وجَعَل ذلك كقولِه:» أنا ابنُ جَلا «أي: أنا ابنُ رجلٍ جَلا، و» بكفَّيْ كان «أي: رجل كان، وقد عَدَّه النَّحْويون مِنْ أقبحِ الضَّرائِر [حيث حَذَفَ الموصوفَ والصفةُ جملةٌ لم تتقدَّمْها» مِنْ «بخلافِ قولِه» مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام «يريدون: مِنَّا فريقٌ ظَعَن، ومنَّا فريقٌ أقام] وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في النساء عند قوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159] . وهذا الكلامُ وما بعده ظاهرُه أنه من كلامِ الملائكةِ. وقيل: مِنْ كلامِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. ومفعول» الصافُّون «و» المُسَبِّحون «يجوزُ أن يكونَ مُراداً أي: الصافُّون أقدامَنا أو أجنحتَنا، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى وأنْ لا يُرادَ البتةَ أي: نحن مِنْ أهلِ هذا الفعلِ.

172

قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} : تفسيرٌ للكلمة فيجوز أن لا يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، ويجوزُ أَنْ تكونَ خبرَ مبتدأ مضمر أو منصوبةً بإضمارِ فعل أي: هي أنَّهم لهم المنصورون، أو أعني بالكلمة هذا اللفظَ، ويكون ذلك على سبيلِ الحكايةِ؛ لأنَّك لو صَرَّحْتَ بالفعل قبلَها حاكياً للجملة بعده كان صحيحاً، كأنَّك قلت: عَنَيْتُ هذا اللفظ كما تقول: «كتبتُ زيدٌ قائمٌ» و «إنَّ زيداً لَقائمٌ» . وقرأ الضحَّاك «كلماتنا» جمعاً.

177

قوله: {نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} : العامَّةُ على «نَزَلَ» مبنياً للفاعلِ، وعبد الله ببنائه للمفعولِ، والجارُّ قائمٌ مقامَ فاعِله. والسَّاحةُ: الفِناءُ الخالي مِن الأبنية، وجَمْعُها سُوْحٌ فألفُها عن واوٍ، فتُصَغَّرُ على سُوَيْحَة. قال الشاعر: 3828 - فكان سِيَّانِ أَنْ لا يَسْرَحُوا نَعَماً ... أو يَسْرَحُوه بها واغْبَرَّت السُّوحُ وبهذا يتبيَّنُ/ ضَعْفُ قولِ الراغب: إنها مِنْ ذواتِ الياءِ؛ حيث عَدَّها في مادة «سيح» ثم قال: «السَّاحة: المكانُ الواسعُ. ومنه ساحةُ الدار. والسَّائحُ: الماءُ الجاري في الساحة. وساحَ فلانٌ في الأرضِ: مَرَّ مَرَّ السَّائح،

ورجلٌ سائحٌ وسَيَّاح» انتهى. ويُحتمل أَنْ يكونَ لها مادتان، لكنْ كان ينبغي أن يذكرَ: ما هي الأشهرُ، أو يذكرَهما معاً. وحُذِفَ مفعولُ «أبْصر» الثاني: إمَّا اختصاراً لدلالةِ الأولِ عليه، وإمَّا اقتصاراً. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: صباحُهم.

180

قوله: {رَبِّ العزة} : أُضيف الربُّ إلى العزَّةِ لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذو العزَّة كما تقول: صاحبُ صِدْقٍ لاختصاصِه به. وقيل: المرادُ العزَّةُ المخلوقةُ الكائنةُ بين خَلْقِه. ويترتَّبُ على القولين مسألةُ اليمين. فعلى الأول ينعقدُ بها اليمينُ؛ لأنها صفةٌ من صفاتِه تعالى بخلاف الثاني، فإنه لا ينعقدُ بها اليمينُ.

ص

بسم الله الرحمن الرحيم قرأ العامَّةُ بسكونِ الدالِ مِنْ «صادْ» كسائرِ حروف التهجِّي في أوائلِ السُور. وقد مرَّ ما فيه. وقرأ أُبَيٌّ والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وابنُ أبي عبلة وأبو السَّمَّال بكسرِ الدال مِنْ غير تنوينٍ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه كَسْرٌ لالتقاءِ الساكنين، وهذا أقربُ. والثاني: أنه أمرٌ من المصاداة وهي المعارَضَةُ ومنه صَوْتُ الصَّدى لمعارضتِه لصوتِك وذلك في الأماكن الصلبةِ الخاليةِ والمعنى: عارِضِ القرآنَ بعملك، فاعمَلْ بأوامرِه وانتهِ عن نواهيه. قاله الحسن. وعنه أيضاً: أنه مِنْ صادَيْتُ أي: حادَثْتُ. والمعنى: حادِثِ الناسَ بالقرآن. وقرأ ابن أبي إسحاق كذلك، إلاَّ أنه نَوَّنَه وذلك على أنَّه مجرورٌ بحرفِ قَسَمٍ مقدرٍ، حُذِفَ وبقي عَمَلُه كقولِهم: «اللَّهِ لأفعلَنَّ» بالجرِّ. إلاَّ أنَّ الجرَّ يَقِلُّ في غيرِ الجلالة، وإنما صَرَفه ذهاباً به إلى معنى الكتاب والتنزيل. وعن الحسنِ

أيضاً وابن السَّمَيْفَعِ وهارون الأعور صادُ بالضمِّ من غيرِ تنوينٍ، على أنه اسمٌ للسورةِ، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذه صاد. ومُنِعَ من الصرف للعَلميَّة والتأنيث، وكذلك قرأ ابن السَّمَيْفَع وهارون: قاف ونون بالضمِّ على ما تقَّدمَ. وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةِ محبوب «صادَ» بالفتح مِنْ غير تنوينٍ. وهي تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ. البناءَ على الفتح تخفيفاً ك أين وكيف، والجرَّ بحرفِ القسمِ المقدرِ، وإنما مُنع من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ كما تقدَّم، والنصبَ بإضمارِ فِعْل أو على حذفِ حَرْفِ القَسم نحوَ قولِه: 3829 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثريدُ وامتنعَتْ من الصرف لِما تقدَّم، وكذلك قرآ: «قاف» و «نون» بالفتح فيهما، وهما كما تقدَّم، ولم أحفَظْ التنوينَ مع الفتح والضم. قوله: «والقرآنِ» قد تقدَّم مثلُه في {يس والقرآن} [يس: 1-2] ، وجوابُ القسم فيه أقوالٌ كثيرةٌ، أحدها: أنه قولُه: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} [ص: 64] ، قاله الزجاج والكوفيون غيرَ الفراءِ. قال الفراء: «لا نجده مستقيماً لتأخيره جداً عن قولِه:» والقرآن «. الثاني: أنه قولُه:» كم أهلَكْنا «والأصلُ: لكم أهلَكْنا، فحذف اللامَ كما حَذَفها

في قولِه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] بعد قولِه: {والشمس} لَمَّا طال الكلام. قاله ثعلبٌ والفراء. الثالث: أنه قولُه: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} [ص: 14] قاله الأخفش. الرابع: أنه قولُه:» صاد «؛ لأنَّ المعنى: والقرآنِ لقد صدق محمد. قاله الفراء وثعلب أيضاً. وهذا بناءً منهما على جوازِ تقديمِ جوابِ القسم، وأنَّ هذا الحرفَ مُقْتَطَعٌ مِنْ جملةٍ هو دالٌّ عليها. وكلاهما ضعيفٌ. الخامس: أنه محذوفٌ. واختلفوا في تقديره، فقال الحوفي: / تقديرُه: لقد جاءَكم الحقُّ، ونحوُه. وقَدَّره ابن عطية: ما الأمرُ كما يَزْعمون. والزمخشري: إنه لَمُعْجِزٌ. والشيخ: إنَّك لمن المُرْسَلين. قال: «لأنه نظيرُ {يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 1-3] وللزمخشري هنا عبارةٌ بشعةٌ جداً. وهي:» فإنْ قلتَ: قولُه: ص والقرآنِ ذي الذكر بل الذين كفروا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ كلامٌ ظاهرُه متنافٍ غيرُ منتظِمٍ. فما وجهُ انتظامِه؟ قلت: فيه وجهان، أَنْ يكونَ قد ذكر اسمَ هذا الحرفِ من حروفِ المعجمِ على سبيلِ التحدِّي والتنبيه على الإِعجازِ كما مَرَّ في أَول الكتاب، ثم أتبعه القسمَ محذوفَ الجواب

لدلالةِ التحدِّي عليه، كأنه قال: والقرآنِ ذي الذِّكْرِ إنه لَكلامٌ مُعْجِزٌ. والثاني: أَنْ يكونَ «صاد» خبرَ مبتدأ محذوفٍ على أنها اسمٌ للسورةِ كأنه قال: هذه صاد. يعني هذه السورةَ التي أعْجَزَتِ العربَ والقرآنِ ذي الذِّكْر، كما تقول: «هذا حاتِمٌ واللَّهِ» تريد: هو المشهورُ بالسَّخاءِ واللَّهِ، وكذلك إذا أقسمَ بها كأنَّه قال: أَقْسَمْتُ بصاد والقرآنِ ذي الذِّكْر إنه لَمُعْجِزٌ. ثم قال: بل الذين كفروا في عِزَّةٍ واستكبارٍ عن الإِذعانِ لذلك والاعترافِ، وشِقاقٍ لله ورسوله، وإذا جَعَلْتَها مُقْسَمَاً بها، وعَطَفْتَ عليها {والقرآن ذِي الذكر} جازَ لك أَنْ تريدَ بالقرآنِ التنزيلَ كلَّه، وأَنْ تريدَ السورةَ بعينِها. ومعناه: أُقْسِمُ بالسورةِ الشريفة: والقرآنِ ذي الذِّكْر كما تقولُ: مَرَرْتُ بالرجلِ الكريم والنَّسْمَةِ المباركة، ولا تريد بالنَّسْمَةِ غيرَ الرجلِ «.

2

قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ} : إضْرابُ انتقالٍ من قصةٍ إلى أخرى. وقرأ الكسائيُّ في روايةِ سَوْرة وحماد بن الزبرقان وأبو جعفر والجحدري «في غِرَّةٍ» بالغَيْن معجمةً والراءِ. وقد رُوي أن حماداً الراوية قرأها كذلك تصحيفاً، فلمَّا رُدَّتْ عليه قال: «ما ظنَنْتُ أنَّ الكافرين في عِزَّة» وهو وهمٌ منه؛ لأن العِزَّةَ المُشارَ إليها حَمِيَّةُ الجاهلية. والتنكيرُ في «عزَّة وشِقاق» دلالةً على شِدَّتِهما وتَفاقُمهما.

3

قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} : «كم» مفعولُ «أهلَكْنا» ، و «مِنْ قَرْنٍ» تمييزٌ، و «مِنْ قبلِهم» لابتداء الغاية.

قوله: «ولات حين» هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «نادَوْا» أي: استغاثوا، والحالُ أنه لا مَهْرَبَ ولا مَنْجى. وقرأ العامَّةُ «لاتَ» بفتح التاء و «حينَ» بالنصبِ، وفيها أوجهٌ، أحدها: - وهو مذهبُ سيبويه - أنَّ «لا» نافيةٌ بمعنى ليس، والتاءُ مزيدةٌ فيها كزيادتِها في رُبَّ وثَمَّ، ولا تعملُ إلاَّ في الأزمان خاصةً نحو: لاتَ حينَ، ولات أوان، كقوله: 3830 - طلبُوا صُلْحَنا ولاتَ أَوانٍ ... فَأَجَبْنا أنْ ليسَ حينَ بقاءِ وقول الآخر: 3831 - نَدِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ ... والبَغيُ مَرْتَعٌ مُبْتَغِيْه وخيمُ والأكثرُ حينئذٍ حَذْفُ مرفوعِها تقديرُه: ولات الحينُ حينَ مناصٍ. وقد يُحْذَفُ المنصوبُ ويبقى المرفوعُ. وقد قرأ هنا بذلك بعضُهم كقوله:

3832 - مَنْ صَدَّ عَنْ نيرانِها ... فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَراحُ أي: لا براحٌ لي. ولا تعملُ في غيرِ الأحيان على المشهور، وقد تُمُسِّك بإعمالها في غير الأحيان بقولِه: 3833 - حَنَّتْ نَوارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وبدا الذي كانَتْ نَوارُ أجَنَّتِ فإنَّ «هَنَّا» مِنْ ظروفِ الأمكنةِ. وفيه شذوذٌ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ، أحدها: عَمَلُها في اسمِ الإِشارةِ وهو معرفةٌ ولا تعملُ إلاَّ في النكراتِ. الثاني: كونُه لا يَتَصَرَّفُ. الثالث: كونُه غيرَ زمانٍ. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنَّ «هَنَّا» قد خرجَتْ عن المكانية واسْتُعْمِلت في الزمان، كقولِه تعالى: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] وقولِ الشاعر: 3834 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ كما تقدم في سورة الأحزاب؛ إلاَّ أنَّ الشذوذَيْن الآخرَيْن باقيان. وتأوَّل بعضُهم البيتَ أيضاً بتأويلٍ آخرَ: وهو أَنَّ «لاتَ» هنا مهملةٌ لا عملَ لها و «هَنَّا» ظرفٌ خبرٌ مقدمٌ/ و «حَنَّتِ» مبتدأ بتأويلِ حَذْفِ «أنْ» المصدرية تقديرُه: أنْ حَنَّتْ نحو «تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَراه» . وفي هذا تكلُّفٌ وبُعْدٌ. إلاَّ أنَّ فيه الاستراحةَ من الشذوذاتِ المذكورات أو الشذوذَيْن.

وفي الوقفِ عليها مذهبان: المشهورُ عند العربِ وجماهيرِ القراءِ السبعةِ بالتاءِ المجبورةِ إتْباعاً لمرسومِ الخطِّ الشريفِ. والكسائيُّ وحدَه من السبعةِ بالهاء. والأولُ مذهبُ الخليلِ وسيبويه والزجاج والفراء وابن كَيْسان، والثاني مذهبُ المبرد. وأغرب أبو عبيد فقال: الوقفُ على «لا» والتاءُ متصلةٌ ب «حين» فيقولون: قُمْتُ تحينَ قمتَ، وتحينَ كان كذا فعلتُ كذا. وقال: «رأيتها في الإِمام كذا:» ولا تحين «متصلة. وأنْشَدَ على ذلك أيضاً قولَ الشاعر: 3835 - العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ ... والمُطْعِمون زمانَ لا من مُطْعِمِ والمصاحفُ إنما هي «ولاتَ حين» . وحَمَلَ العامَّةُ ما رآه على أنه ممَّا شَذَّ عن قياسِ الخَطِّ كنظائرَ له مَرَّتْ لك. وأمَّا البيتُ فقيل: إنَّه شاذٌّ لا يُلْتَفَتُ إليه. وقيل: إنه إذا حُذِفَ الحينُ المضافُ إلى الجملة التي فيها «لات» جاز أَنْ تُحْذَفَ «لا» وحدها ويُسْتَغْنى عنها بالتاء. والأصل: العاطفونَ حين لات حينَ لا مِنْ عاطفٍ، فحذف «حين» الأول و «لا» وحدَها، كما أنه قد صَرَّح بإضافة «حين» إليها في قول الآخر:

3836 - وذلك حينَ لاتَ أوانَ حِلْمٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ذكر هذا الوجهَ ابنُ مالك، وهو متعسِّفٌ جداً. وقد تُقَدَّرُ إضافةُ «حين» إليها مِنْ غيرِ حَذْفٍ لها كقولِه: 3837 - تَذَكَّرَ حُبَّ ليلى لاتَ حينَا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: حين لاتَ حين. وأيضاً فكيف يصنع أبو عبيدٍ بقوله: 3838 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ [وقوله] : 3839 -. . . . . . . . . . . . . . لات أوانَ. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فإنه قد وُجِدت التاءُ مع «لا» دون «حين» ؟ الوجه الثاني من الأوجه السابقة: أنها عاملةٌ عملَ «إنَّ» يعني أنها نافيةٌ

للجنسِ فيكون «حينَ مناص» اسمَها، وخبرُها مقدر تقديرُه: ولات حينَ مناصٍ لهم، كقولك: لا غلامَ سفرٍ لك، واسمها معربٌ لكونِه مضافاً. الثالث: أنَّ بعدها فعلاً مقدراً ناصباً ل «حين مَناص» بعدها أي: لات أَرى حينَ مَناصٍ لهم بمعنى: لستُ أرى ذلك ومثلُه: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} ولا أهلاً ولا سهلاً أي: لا أَتَوْا مَرْحباً، ولا لَقُوا أهلاً، ولا وَطِئوا سهلاً. وهذان الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان. وليس إضمارُ الفعلِ هنا نظيرَ إضماره في قوله: 3840 - ألا رَجُلاً جَزاه اللَّهُ خيراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لضرورةِ أنَّ اسمَها المفردَ النكرةَ مبنيٌّ على الفتح، فلمَّا رأينا هذا معرباً قدَّرْنا له فعلاً خلافاً للزجاج، فإنه يُجَوِّزُ تنوينَه في الضرورة، ويدَّعي أن فتحتَه للإِعراب، وإنما حُذِف التنوينُ للتخفيفِ ويَسْتَدِلُّ بالبيتِ المذكور وتقدَّم تحقيقُ هذا. الرابع: أن «لات» هذه ليسَتْ هي «لا» مُزاداً فيها تاءُ التأنيث، وإنما هي: «ليس» فأُبْدلت السينُ تاءً، وقد أُبْدِلت منها في مواضعَ قالوا: النات

يريدون: الناس. ومنه «سِتٌّ» وأصله سِدْس. قال: 3841 - يا قاتلَ اللَّهُ بني السَّعْلاتِ ... عمرَو بنَ يَرْبُوعٍ شرارَ الناتِ لَيْسوا بأخيارٍ ولا أَكْياتِ ... وقُرِئ شاذاً «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النات» إلى آخره. يريد: شرارَ الناسِ ولا أكياسِ، فأبْدل. ولَمَّا أبدل السينَ تاءً خاف من التباسها بحرفِ التمني فقلب الياءَ ألفاً فبقيَتْ «لات» وهو من الاكتفاء بحرف العلةِ؛ لأنَّ حرف العلة لا يُبْدل ألفاً إلاَّ بشروطٍ منها: أن يتحرَّكَ، وأَنْ ينفتحَ ما قبله، فيكون «حينَ مناص» خبرَها، والاسمُ محذوفٌ على ما تقدَّم، والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيةِ. وقرأ عيسى بن عمر {وَّلاَتِ حِينِ مَنَاصٍ} بكسر التاء وجرِّ «حين» وهي قراءةٌ/ مُشْكلةٌ جداً. زعم الفراء أنَّ «لات» يُجَرُّ بها، وأنشد: 3842 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولَتَنْدَمَنَّ ولاتَ ساعةِ مَنْدَمِ وأنشد غيرُه: 3843 - طلبوا صلحَنا ولاتَ أوانٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيت. وقال الزمخشري: «ومثلُه قول أبي زبيد الطائي: طلبوا صلحنا. البيت. قال: فإنْ قلتَ ما وجهُ الجرِّ في» أوان «؟ قلت: شُبِّه ب» إذ «في قوله: 3844 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . وأنتَ إذٍ صحيحُ في أنه زمانٌ قُطِع منه المضافُ إليه وعُوِّض منه التنوينُ لأن الأصلَ: ولات أوان صلح. فإن قلتَ: فما تقولُ في» حينَ مناصٍ «والمضافُ إليه قائمٌ؟ قلت: نَزَّلَ قَطْعَ المضافِ إليه مِنْ» مناص «- لأنَّ أصلَه: حين مناصِهم - منزلةَ قَطْعِه مِنْ» حين «لاتحاد المضاف والمضاف إليه، وجَعَل تنوينَه عوضاً من المضافِ المحذوفِ، ثم بَنى الحين لكونِه مضافاً إلى غير متمكن» . انتهى. وخرَّجه الشيخُ على إضمار «مِنْ» والأصل: ولات مِنْ حين مناص، فحُذِفت «مِنْ» وبقي عملُها نحو قولِهم: على كم جِذْعٍ بَنَيْتَ بيتك؟ أي: مِنْ جذع في أصحِّ القولَيْن. وفيه قولٌ آخر: أنَّ الجرَّ بالإِضافة، ومثله قوله: 3845 - ألا رَجُلٍ جزاه اللَّهُ خَيْراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أنشدوه بجرِّ «رَجُل» أي: ألا مِنْ رجل.

قلت: وقد يتأيَّد بظهورِها في قوله: 3846 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقالَ: ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ قال: «ويكونُ موضعُ» مِنْ حين مناصٍ «رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقولُ: ليس من رجلٍ قائماً، والخبرُ محذوفٌ، وعلى هذا قولُ سيبويه. وعلى أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ على قولِ الأخفشِ. وخَرَّج الأخفشُ» ولاتَ أَوانٍ «على حَذْفِ مضافٍ، يعني: أنه حُذِفَ المضافُ وبقي المضافُ إليه مجروراً على ما كان. والأصلُ: ولات حينُ أوانٍ. وقد رَدَّ هذا الوجهَ مكيٌّ: بأنه كان ينبغي أَنْ يقومَ المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب فيُرفعَ. قلت: قد جاء بقاءُ المضافِ إليه على جَرِّه. وهو قسمان: قليلٌ وكثيرٌ. فالكثيرُ أَنْ يكونَ في اللفظ مِثْلُ المضاف نحو: 3847 - أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا أي: وكلَّ نارٍ. والقليلُ أَنْ لا يكونَ كقراءة مَنْ قرأ {والله يُرِيدُ الآخرة}

بجر» الآخرةِ «فليكنْ هذا منه. على أنَّ المبردَ رواه بالرفعِ على إقامتِه مُقامَ المضافِ. وقال الزجَّاج:» الأصل: ولات أواننا، فحُذِفَ المضافُ إليه فوجَبَ أَنْ لا يُعْرَبَ، وكسرُه لالتقاءِ الساكنين «. قال الشيخ:» هذا هو الوجهُ الذي قرَّره الزمخشريُّ، أَخَذَه من أبي إسحاقَ «قلت: يعني الوجهَ الأولَ، وهو قولُه: ولاتَ أوان صلحٍ. هذا ما يتعلَّقُ بجرِّ «حين» . وأمَّا كسرُ تاءِ «لات» فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ك جَيْرِ، إلاَّ أنه لا تُعْرف تاءُ تأنيثٍ إلاَّ مفتوحةً. وقرأ عيسى أيضاً بكسرِ التاءِ فقط، ونصبِ «حين» كالعامَّةِ. وقرأ أيضاً «ولات حينُ» بالرفعِ، «مناصَ» بالفتح. وهذه قراءةٌ مشكلةٌ جداً لا تَبْعُدُ عن الغلطِ مِنْ راويها عن عيسى فإنه بمكانةٍ مِنْ العلمِ المانعِ له من مثلِ هذه القراءةِ. وقد خَرَّجها أبو الفضلِ الرازيُّ في «لوامحه» على التقديمِ والتأخيرِ، وأنَّ «حين» أُجْرِي مُجْرى قبل وبعد في بنائِه على الضمِّ عند قَطْعِه عن الإِضافة بجامع ما بينه وبينهما مِن الظرفيةِ الزمانيةِ. و «مَناصَ» اسمُها مبنيٌّ على الفتح فُصِل بينَه وبينها ب «حين» المقطوعِ عن الإِضافة. / والأصلُ: ولاتَ مناص حين كذا، ثم حُذِفَ المضافُ إليه «حين» ، وبُني على الضم وقَدَّم فاصلاً بين «لات» واسمِها. قال: «وقد يجوزُ أَنْ يكونَ لذلك معنًى لا أَعْرِفُه» . وقد رُوِي في تاءِ «لاتَ» الفتحُ والكسرُ والضمُّ.

وقوله: «فنادَوْا» لا مفعولَ له؛ لأنَّ القصدَ: فَعَلوا النداءَ، مِنْ غيرِ قصدِ منادى. وقال الكلبيُّ: «كانوا إذا قاتلوا فاضْطُرُّوا نادى بعضُهم لبعضٍ: مناص أي: عليكم بالفرارِ، فلَمَّا أتاهم العذابُ قالوا: مناص» . فقال اللَّهُ تعالى لهم: ولات حينَ مناصٍ «. قال القشيريُّ:» فعلى هذا يكونُ التقديرُ: فنادَوْا مناص، فحُذِف لدلالةِ ما بعده عليه «. قلت: فيكون قد حَذَفَ المنادى وهو بعضاً وما ينادُوْن به، وهو مناص، أي: نادَوْا بعضَهم بهذا اللفظِ. وقال الجرجانيُّ:» أي: فنادَوْا حين لا مناص أي: ساعةَ لا مَنْجَى ولا فَوْتَ، فلمَّا قَدَّم «لا» وأَخَّر «حين» اقتضى ذلك الواوَ كما تقتضي الحالُ إذا جُعِل ابتداءً وخبراً مثلَ ما تقول: «جاء زيدٌ راكباً» ثم تقول: جاء وهو راكبٌ. ف «حين» ظرفٌ لقولِه «فنادَوْا» . قال الشيخ: «وكونُ أصلِ هذه الجملةِ فنادَوْا: حين لا مناص، وأنَّ» حين «ظرفٌ لقولِه:» فنادَوْا «دعوى أعجميةٌ في نَظْمِ القرآن، والمعنى على نظمِه في غايةِ الوضوح» . قلت: الجرجانيُّ لا يَعْني أنَّ حين ظرفٌ ل «نادَوْا» في التركيبِ الذي عليه القرآن الآن، إنما يعني بذلك في أصلِ المعنى والتركيب، كما شَبَّه ذلك بقولِك «جاء زيدٌ راكباً» ثم ب «جاء زيدٌ وهو راكبٌ» ف «راكباً» في التركيبِ الأولِ حالٌ، وفي الثاني خبرُ مبتدأ، كذلك «حين» كان في الأصل ظرفاً للنداء، ثم صار خبرَ «لات» أو اسمَها على حسبِ الخلافِ المتقدِّم. والمناصُ: مَفْعَل مِنْ ناص يَنُوص أي: هَرَبَ فهو مصدرٌ يقال: نَاصه يَنُوصه إذا فاته فهذا متعدٍّ، وناصَ يَنُوص أي: تأخَّر. ومنه ناص عن قِرْنِه أي:

تأخَّر عنه جُبْناً. قاله الفراء، وأنشد قولَ امرئ القيس: 3848 - أمِنْ ذِكْرِ سَلْمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوْصُ ... فتَقْصُرُ عنها حِقْبةً وتَبُوْصُ قال أبو جعفر النحاس: «ناصَ يَنُوص أي: تقدَّم فيكون من الأضداد» . واستناص طلب المَناص. قال حارثة بن زيد: 3849 - غَمْرُ الجِراءِ إذا قَصَرْتُ عِنانَه ... بيديْ اسْتَناصَ ورام جَرْيَ المِسْحَلِ ويقال: ناص إلى كذا ينوص نَوْصاً أي: التجأ إليه.

4

قوله: {أن جاءكم} : أي: مِنْ أَنْ، وفيها الخلافُ المشهورُ. وقوله: «وقال الكافرون» من بابِ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضعَ المضمر شهادةً عليهم بهذا الوَصْفِ القبيح.

5

قوله: {عُجَابٌ} : مبالغةً في «عجيب» كقولهم: رجل طُوال وأَمْرٌ سُراع هما أبلغُ مِنْ: طويل وسريع. وعلي والسلمي وعيسى

وابن مقسم «عُجَّاب» بتشديد الجيم، وهي أبلغُ مِمَّا قبلَها فهي مثلُ رجل كريم وكُرام بالتخفيف، وكُرَّام بالتشديد. قال مقاتل: «وعُجاب - يعني بالتخفيفِ - لغةُ أزد شنوءة» . وهذه القراءةُ أعني بالتشديدِ كقوله: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} [نوح: 22] هو أبلغُ مِنْ كُبار، وكُبار أبلغُ مِنْ كبير. وقوله: «أجَعَلَ» أي: أصيَّرها إلهاً واحداً في قولِه وزَعْمه.

6

قوله: {أَنِ امشوا} : يجوزُ أَنْ تكونَ «أنْ» مصدريةً أي: انطلقوا بقولِهم: أن امْشُوا وأَنْ تكونَ مفسِّرةً: إمَّا ل انطلق لأنه ضُمِّنَ معنى القول. قال الزمخشريُّ: «لأنَّ المنطلقين عن مجلس التقاوُلِ/ لا بُدَّ لهم أَنْ يتكلموا ويتفاوضوا فيما جَرَى لهم» . انتهى. وقيل: بل هي مفسِّرةٌ لجملةٍ محذوفةٍ في محلِّ حالٍ تقديرُه: وانطلقوا يتحاورون أن امْشُوا. ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً معمولةً لهذا المقدرِ. وقيل: الانطلاقُ هنا الاندفاعُ في القولِ والكلامِ نحو: انطلق لسانُه، فأَنْ مفسرةٌ له من غير تضمينٍ ولا حَذْفٍ. والمَشْيُ: الظاهر أنه هو المتعارَفُ. وقيل: بل هو دعاءٌ بكثرة الماشيةِ، وهذا فاسِدٌ لفظاً ومعنى. أمَّا اللفظُ فلأنَّه إنما يقال من هذا المعنى «أَمْشَى الرجلُ» إذا كَثُرَتْ ماشيَتُه بالألفِ أي: صار ذا ماشيةٍ، فكان ينبغي على هذا أَنْ يقرأَ «أَمْشُوا» بقطع الهمزةِ مفتوحةً. وأمَّا المعنى فليس مراداً البتةَ، وأيُّ معنى على ذلك!! إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ ذكر وجهاً صحيحاً من حيث الصناعةُ وأقربُ معنًى ممَّا تقدَّم، فقال: «ويجوزُ أنَّهم قالوا: امشُوا أي: اكثروا واجتمعوا، مِنْ مَشَتِ المرأةُ: إذا كَثُرَتْ وِلادتها، ومنه الماشيةُ للتفاؤل» . انتهى. وإذا وُقِفَ على «أنْ»

وابْتُدِئ بما بعدَها فليُبْتَدَأْ بكسرِ الهمزةِ لا بضمِّها لأنَّ الثالثَ مكسورٌ تقديراً إذ الأصل: امْشِيُوا ثم أُعِلَّ بالحَذْفِ. وهذا كما يُبْتدأ بضم الهمزةِ في قولك «اغْزِي يا امرأةُ» . وإنْ كانت الزايُ مكسورةً لأنَّها مضمومةٌ في الأصل إذ الأصل: اغْزُوِي كاخْرُجي فأُعِلَّ بالحذفِ.

7

قوله: {فِى الملة} : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «سَمِعْنا» أي: لم نسمَعْ في المِلَّةِ الآخرة بهذا الذي جئتَ به. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ هذا أي: ما سمعنا بهذا كائناً في المِلَّةِ الآخرةِ. أي: لم نسمَعْ من الكُهَّانِ ولا مِنْ أهلِ الكتبِ أنه يَحْدُثُ توحيدُ اللَّهِ في الملَّةِ الآخرة، وهذا مِنْ فَرْط كَذِبِهم.

8

قوله: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر} : قد تقدَّم حكمُ هاتَيْن الهمزتين في أوائل آل عمران، وأنَّ الواردَ منه في القرآن ثلاثةُ أماكنَ. والإِضراباتُ في هذه الآيةِ واضحةٌ و «أم» منقطعةٌ.

10

قوله: {فَلْيَرْتَقُواْ} : قال أبو البقاء: «هذا كلامٌ محمولٌ على المعنى أي: إنْ زعموا ذلك فَلْيَرْتَقُوا» ، فجعلها جواباً لشرطٍ مقدرٍ، وكثيراً ما يَفْعَلُ الزمخشريُّ ذلك.

11

قوله: {جُندٌ} : يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم جُنْدٌ. و «ما» فيها وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ. والثاني: أنَّها صفةٌ ل «جُنْدٌ» على سبيلِ التعظيم للهُزْءِ بهم أن للتحقير، فإنَّ «ما» الصفة تُستعمل لهذين المعنيين. ومثلُه قولُ امرىءِ القيس: 3850 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وحَديثٌ ما على قِصَرِهْ وقد تقدَّم هذا في أوائلِ البقرة. و «هنالك» يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ خبر الجند و «ما» مزيدةٌ و «مَهْزُوم» نعتٌ ل «جُنْد» ذكره مكيٌّ. الثاني: أَنْ يكون صفةً ل «جند» . والثالث: أَنْ يكونَ منصوباً بمهزوم. ومَهْزوم يجوزُ فيه أيضاً وجهان، أحدهما: أنه خبرٌ ثانٍ لذلك المبتدأ المقدرِ. والثاني: أنه صفةٌ ل «جُنْد» إلاَّ أنَّ الأحسنَ على هذا الوجهِ أَنْ لا يُجْعَلَ «هنالك» صفةً بل متعلقاً به، لئلا يَلْزَمَ تقدُّم الوصفِ غيرِ الصريح على الصَّريح. و «هنالك» مشارٌ به إلى موضعِ التقاوُلِ والمجاوزةِ بالكلمات السابقة وهو مكةُ أي: سيُهزمون بمكةَ وهو إخبارٌ بالمغيَّبِ. وقيل: مُشارٌ به إلى نُصرةِ الأصنامِ. وقيل: إلى حَفْرِ الخندقِ يعني: إلى مكانِ ذلك. الثاني من الوجهين الأولين: أَنْ يكونَ «جندٌ» مبتدأ و «ما» مزيدةٌ. و «هنالك» نعتٌ و «مهزوم» خبرُه قاله أبو البقاء. قال الشيخ: «وفيه بُعْدٌ لتفلُّتِه عن الكلامِ الذي قبلَه» .

قلت: وهذا الوجهُ المنقولُ عن أبي البقاءِ سبقه إليه مكي. قوله: «من الأحزاب» يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل «جُند» ، وأنْ يكونَ صفةً ل «مهزومٌ» . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ متعلقاً به. وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ المرادَ بالأحزاب هم المهزومون.

12

قوله: {ذُو الأوتاد} : هذه استعارةٌ بليغةٌ: حيث شبَّه المُلْكَ ببيت الشَّعْر، وبيتُ الشَّعْرِ لا يَثبتُ إلاَّ بالأوتادِ والأطناب، كما قال الأفوه: 3851 - والبيتُ لا يُبْتَنى إلاَّ على عمدٍ ... ولا عمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ فاسْتعير لثباتِ العزِّ والمُلْكِ واستقرار الأمر، كقول الأسود: 3852 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في ظلِّ مُلْكٍ ثابتِ الأَوْتاد / والأَوْتادُ: جمعُ وَتِد. وفيه لغاتٌ: وَتِدٌ بفتح الواو وكسرِ التاءِ وهي الفصحى، ووَتَد بفتحتين، ووَدّ بإدغام التاء في الدال قال:

3853 - تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ ... وتُوارِيْه إذا ما تَشْتَكِرْ و «وَتَّ» بإبدالِ الدالِ تاءً ثم إدغام التاء فيها. وهذا شاذٌّ لأنَّ الأصلَ إبدالُ الأولِ للثاني لا العكسُ. وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قولِه تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} [آل عمران: 185] . ويُقال: وَتِدٌ واتِدٌ أي: قويٌّ ثابت، وهو مِثْلُ مجازِ قولهم: شُغْل شاغِلٌ. وأنشد الأصمعي: 3854 - ألاقَتْ على الماءِ جُذَيْلاً واتِداً ... ولم يَكُنْ يُخْلِفُها المَواعدا وقيل: الأوتادُ هنا حقيقةٌ لا استعارةٌ. ففي التفسير: أنه كان له أوتادٌ يَرْبط عليها الناسَ يُعَذِّبُهم بذلك. وتقدم الخلافُ في الأَيْكة في سورة الشعراء.

13

قوله: {أولئك الأحزاب} : يجوزُ أَنْ تكون مستأنفةً لا محلَّ لها، وأنْ تكونَ خبراً. والمبتدأ قال أبو البقاء: «من قوله: و» عادٌ «وأَنْ يكونَ من» ثمود «، وأَنْ يكونَ مِنْ قولِه:» وقومُ لوط «. قلت: الظاهرُ عطفُ» عادٌ «وما بعدَه على» قومُ نوحٍ «واستئنافُ الجملةِ بعدَه. وكان يَسُوْغُ على ما قالَه أبو البقاءِ أَنْ يكونَ المبتدأُ وحدَه» وأصحابُ الأَيْكَة «.

14

قوله: {إِن كُلٌّ} : «إنْ» نافيةٌ ولا عملَ لها هنا البتةَ ولو

على لغةِ مَنْ قال: 3854 - ب إن هو مُسْتَوْلِياً على أحدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وعلى قراءة {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَاداً} لانتقاض النفي ب «إلاَّ» فإنَّ انتقاضَه مع الأصلِ، وهي «ما» مُبْطِلٌ فكيف بفَرْعِها؟ وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للقَسم.

15

قوله: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} : يجوزُ أَنْ يكونَ «لها» رافعاً ل «مِنْ فَواق» بالفاعليةِ لاعتمادِه على النفي، وأَنْ يكونَ جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وعلى التقديرَيْن فالجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «صَيْحةً» و «مِنْ» مزيدةٌ. وقرأ الأخَوان «فُواق» بضمِّ الفاءِ، والباقون بفتحها. فقيل: [هما] لغتان بمعنًى واحدٍ، وهما الزمانُ الذي بين حَلْبَتَيْ الحالبِ ورَضْعَتَيْ الراضِع، والمعنى: ما لها مِنْ تَوَقُّفٍ قَدْرَ فُواقِ ناقةٍ. وفي الحديث: «العِيادَةُ قَدْرَ فُواقِ ناقة» وهذا في المعنى كقوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} [الأعراف: 34] . وقال ابن عباس: ما لها مِنْ رجوعٍ. مِنْ أفاق المريضُ: إذا رَجَعَ إلى صحته. وإفاقةُ الناقةِ ساعةَ يَرْجِعُ اللبنُ إلى ضَرْعِها. يقال: أفاقَتِ الناقةُ

تُفِيْقُ إفاقَةً رَجَعَتْ واجتمعَتْ الفِيْقَةُ في ضَرْعِها. والفِيْقَةُ: اللبنُ الذي يَجْتمع بين الحَلَبَتين ويُجْمع على أفْواق. وأمّا أفاوِيْقُ فجمعُ الجمع. ويُقال: ناقة مُفِيْقٌ ومُفِيْقَةٌ. وقيل: فَواق بالفتح: الإِفاقة والاستراحة كالجواب من أجاب. قاله مُؤرِّج السدوسيُّ والفراء. ومن المفسِّرين ابن زيد والسدِّي. وأمَّا المضمومُ فاسمٌ لا مصدرٌ. والمشهورُ أنهما بمعنىً واحدٍ كقَصاصِ [الشَّعْر] وقُصاصِه وحَمام المكُّوك وحُمامِه.

16

قوله: {قِطَّنَا} : أي: نصيبَنا وحَظَّنا. وأصلُه مِنْ قَطَّ الشيءَ أي: قطعَه. ومنه قَطَّ القلمَ. والمعنى: قَطْعه مِنْ ما وَعَدْتَنا به ولهذا يُطْلق على الصحيفةِ والصَّكِّ قِطٌّ لأنهما قطعتان تَقْطعان. ويقال للجائزة: أيضاً قِطٌّ لأنَّها قطعة من العَطِيَّةِ. قال الأعشى: 3855 - ولا المَلِكُ النعمانُ يومَ لَقِيْتَه ... بغِبْطَتِه يُعْطي القُطوطَ ويَأْفِقُ وأكثرُ استعمالِه في الكتابِ. قال أمية: 3856 - قومٌ لهمْ ساحَةٌ أرضُ العراقِ وما ... يُجْبَى إليهمْ بها والقِطُّ والقَلَمُ

ويُجمع على قُطوط كما تقدَّم، وعلى قِطَطَة نحو: قِرْد وقِرَدَة وقُرود. وفي القِلَّة على أَقِطَّة وأَقْطاط/ كقَدَح وأَقْدِحة وأَقْداح، إلاَّ أن أَفْعِلة في فِعْل شاذ.

17

قوله: {دَاوُودَ} : بدل أو عطف بيانٍ، أو منصوبٌ بإضمارِ أعني. و «ذا الأيْدِ» نعتٌ له. والأيْدُ: القوةُ. يقال: رجلٌ أَيْدٌ وأَيادٌ.

18

قوله: {يُسَبِّحْنَ} : جملةٌ حاليةٌ من «الجبال» . وأتى بها فِعْلاً مضارعاً دونَ اسمِ فاعلٍ فلم يَقُلْ مُسَبِّحات، دلالةً على التجدُّدِ والحدوثِ شيئاً بعد شيء، كقولِ الأعشى: 3857 - لعَمْري لَقَدْ لاحَتْ عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضوءِ نارٍ في يَفَاعٍ تُحَرَّقُ أي: تُحَرَّقُ شيئاً فشيئاً. ولو قال: مُحَرَّقة لم يَدُلَّ على هذا المعنى.

19

قوله: {والطير مَحْشُورَةً} : العامَّةُ على نَصْبِهما، عَطَفَ مفعولاً على مفعول وحالاً على حال، كقولِك: ضربْتُ زُيداً مكتوفاً وعمراً مُطْلَقاً. وأتى بالحالِ اسماً لأنه لم يَقْصِدْ أن الفعلَ وقع شيئاً فشيئاً لأنَّ حَشْرَها دُفْعَةً واحدةً أَدَلُّ على القدرة، والحاشرُ اللَّه تعالى. وقرأ ابن أبي عبلة والجحدريُّ برفعِهما جعلاهما جملةً مستقلة مِنْ مبتدأ وخبر. قوله: «كُلٌّ له» أي: كلٌّ من الجبالِ والطيرِ لداودَ. أي: لأجلِ تسبيحِه مُسَبِّح، فوضَع «أوَّاب» موضعَ مُسَبِّح. وقيل: الضمير للباري تعالى، والمرادُ كلٌّ مِنْ داودَ والجبالِ والطيرِ مُسَبِّح ورَجَّاع لله تعالى.

20

قوله: {وَشَدَدْنَا} : العامَّةُ على تخفيفِ «شَدَدْنا» أي: قَوَّيْنا كقوله: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بأخيك» . وابنُ أبي عبلة والحسن «شَدَدْنا» بالتشديد وهي مبالَغَةٌ لقراءةِ العامَّةِ.

21

قوله: {نَبَأُ الخصم} : قد تقدَّم أنَّ الخَصْمَ في الأصل مصدرٌ فلذلك يَصْلُحُ للمفردِ والمذكرِ وضِدَّيْهِما، وقد يطابِقُ. ومنه: {لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ} [ص: 22] و {هذان خَصْمَانِ} [الحج: 19] . والمرادُ بالخَصْمِ هنا جمعٌ بدليلِ قولِه: «إذ تَسَوَّرُوا» وقوله: «إذ دَخَلُوا» . قال الزَمخشريُّ: «وهو يقعُ للواحدِ والجمعِ كالضَّيْفِ. قال تعالى: {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الذاريات: 24] لأنه مصدرٌ في أصله يُقال: خَصَمه يَخْصِمُه خَصْماً كما تقول: ضافه ضَيْفاً. فإنْ قلتَ: هذا جمعٌ وقولُه:» خصمان «تثنيةٌ فكيف استقَامَ ذلك؟ قلت: معنى خصمان: فريقان خَصْمان، والدليلُ عليه قراءةُ مَنْ قرأ» [خَصْمَانِ] بغى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ «ونحوُه قوله تعالى: {هذان خَصْمَانِ اختصموا} . فإنْ قلتَ: فما تصنعُ بقولِه: {إِنَّ هَذَآ أَخِي} وهو دليلٌ على الاثنين؟ قلت: هذا قولُ البعضِ المراد به: {بَعْضُنَا على بَعْضٍ} . فإنْ قلت: فقد جاء في الرواية: أنه

بُعِثَ إليه مَلَكان. قلت: معناه أن التحاكمَ بين مَلَكَيْن، ولا يمنعُ ذلك أَنْ يَصْحَبَهما آخرون. فإن قلت: كيف سَمَّاهم جميعاً خَصْماً في قوله:» نَبَأ الخَصْمِ «و» خَصْمان «؟ قلتُ: لَمَّا كان صَحِبَ كلَّ واحدٍ من المتحاكميْن في صورةِ الخَصْمِ صَحَّت التسميةُ به» . قوله: «إذ تَسَوَّروا» في العامل في «إذ» أوجهٌ، أحدها: أنه معمولٌ للنبأ إذا لم يُرِدْ به القصة. وإليه ذهبَ ابنُ عطيةَ وأبو البقاء ومكي. أي: هل أتاك الخبرُ الواقعُ في وقتِ تَسَوُّرِهم المحرابَ؟ وقد رَدَّ بعضُهم هذا: بأنَّ النبأ الواقعَ في ذلك الوقتِ لا يَصِحُّ إتيانُه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنْ أريد بالنبأ القصةُ لم يكن ناصباً. قاله الشيخ. الثاني: أنَّ العاملَ فيه «أتاك» ورُدَّ بما رُدَّ به الأولُ. وقد صَرَّحَ الزمخشريُّ بالردِّ على هذين الوجهين، فقال: «فإنْ قلتَ بم انتصبَ» إذ «؟ قلت: لا يَخْلوا إمَّا أَنْ ينتصِبَ ب» أتاك «أو بالنبأ أو بمحذوفٍ. فلا يَسُوغ انتصابُه ب» أتاك «لأنَّ إتْيانَ النبأ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يقعُ إلاَّ في عهدِه لا في عهدِ دوادَ، ولا بالنبأ؛ لأنَّ النبأ واقِعٌ في عهدِ داودَ فلا يَصِحُّ إتيانُه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وإن أَرَدْتَ بالنبأ القصةَ في نفسِها لم يكنْ ناصباً، فبقي أَنْ يكونَ منصوباً بمحذوف، وتقديره: وهل أتاك نبأُ تحاكُمِ الخَصْمِ إذ، فاختار أن يكونَ معمولاً لمحذوفٍ. الرابع: أَنْ ينتصِبَ بالخصْم لِما فيه من معنى الفعلِ.

22

قوله: {إِذْ دَخَلُواْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه بدل مِنْ «إذ» الأولى. الثاني: أنَّه منصوبٌ ب «تَسَوَّرُوا» ومعنى تَسَوَّروا: عَلَوْا/ أعلى السُّورِ، وهو الحائطُ، غيرُ مهموزٍ كقولك: تَسَنَّم البعيرَ أَي: بَلَغَ سَنامَه. والضميرُ في «تَسَوَّروا» و «دخلوا» راجعٌ على الخصم لأنه جمعٌ في المعنى على ما تقدَّم، أو على أنَّه مثنى، والمثنى جمعٌ في المعنى، وقد مضى الخلافُ في هذا محققاً. قوله: «خَصْمان» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: نحن خَصْمان؛ ولذلك جاء بقولِه: «بَعْضُنا» . ومَنْ قرأ «بعضهم» بالغَيْبة يُجَوِّز أن يُقَدِّرَه كذلك، ويكون قد راعى لفظَ «خَصْمان» ، ويُجَوِّزُ أنْ يُقَدِّرَ هم خصمان ليتطابَقَ. ورُوِي عن الكسائي «خِصْمان» بكسر الخاء. وقد تقدَّم أنه قرأها كذلك في الحج. قوله: «بَغَى بَعْضُنا» جملةٌ يجوزُ أَنْ تكون مُفَسِّرَةً لحالِهم، وأن تكونَ خبراً ثانياً. قوله: «ولا تُشْطِطْ» العامَّةُ على ضَمِّ التاء وسكونِ الشينِ وكسرِ الطاءِ الأولى مِنْ أشْطَطَ يُشْطِطُ إشْطاطاً إذا تجاوز الحقَّ. قال أبو عبيدة: «شَطَطْتُ في الحُكْمِ؛ وأَشْطَطْتُ فيه، إذا جُرْتُ» فهو ممَّا اتفق فيه فَعَل وأَفْعَل، وإنما فَكَّه على أحدِ الجائزَيْن كقولِه: «مَنْ يَرْتَدِدْ» وقد تقدَّم تحقيقُه. وقرأ الحسن

وأبو رجاء وابنُ أبي عبلة «تَشْطُط» بفتح التاءِ وضَمِّ الطاءِ مِنْ شَطَّ بمعنى أشَطَّ كما تقدَّم. وقرأ قتادة «تُشِطَّ» مِنْ أشطَّ رباعياً، إلاَّ أنه أدغم وهو أحد الجائزَيْن كقراءة مَنْ قرأ {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ} ، وعنه أيضاً «تُشَطِّطْ» بفتح الشين وكسرِ الطاءِ مُشَدَّدةً شَطَّطَ يُشَطِّطُ. والتثقيلُ فيه للتكثيرِ. وقرأ زر بن حبيش «تُشاطِطْ» من المفاعلة.

23

قوله: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} : العامَّةُ على كسر التاءِ، وهي اللغةُ الفاشيةُ. وزيد بن علي والحسن بفتحها فيهما، وهي لُغَيَّةٌ. وقرأ العامَّةُ «نَعْجة» بفتح النون، والحسن وابن هرمز بكسرها. قيل: وهي لغةٌ لبعضِ بني تميمٍ. وكَثُرَ في كلامِهم الكنايةُ بها عن المرأةِ قال ابنُ عَوْنٍ: 3858 - أنا أبُوْهُنَّ ثلاثٌ هُنَّهْ ... رابِعَةٌ في البيتِ صُغْراهُنَّهْ ... ونَعْجتي خَمْساً تُوَفِّيْهِنَّهْ ... وقال آخر: 3859 - هما نَعْجَتان مِنْ نِعاج تَبالَةٍ ... لَدى جُؤْذُرَيْنِ أو كبعضٍ دُمَى هَكِرْ

وقوله: «وعَزَّني» أي: غَلَبني. قال الشاعر: 3860 - قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْ ... تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ يقال: عَزَّهُ يَعُزُّه بضمِّ العينِ وتقدَّم تحقيقُه في سورة يس. وقرأ طلحة وأبو حيوة «وَعَزَني» بالتخفيف. قال ابن جني: «حَذْف الزاي الواحدةِ تخفيفاً. كما قال: 3861 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ يريد: أَحْسَسْنَ» ، فحذف. وتُرْوَى هذه قراءةً عن عاصم. وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك «وعازَّني» بألفٍ مع تشديد الزاي، أي: غالبني.

24

قوله: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} : مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، والفاعلُ محذوفٌ أي: بأَنْ سَأَلك نعجَتك، وضُمِّنَ السؤالُ معنى الإِضافةِ والانضمامِ أي: بإضافةِ نعجتِك على سبيل السؤال، ولذلك عُدِّي ب إلى.

قوله: «لَيَبْغي» العامَّةُ على سكونِ الياءِ وهو مضارعٌ مرفوعٌ في محلِّ الخبرِ ل «إنَّ» وقُرِئ «لَيَبْغيَ» بفتح ياءَيْه. ووُجِّهَتْ: بأن الأصلَ: لَيَبْغِيَنْ بنونِ التوكيد الخفيفة والفعل جواب قسم مقدر، والقسم المقدر وجوابه خبر إنَّ تقديره: وإن كثيراً من الخلطاء والله ليبغين، فحُذِفَت كما حُذِفَ في قوله: 3862 - اضْرِبَ عَنْك الهمومَ طارِقَها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقُرِئ «ألم نَشْرَحَ» بالفتح وقوله: 3863 - مِنْ يومِ لم يُقْدَرَ أو يومَ قُدِرْ ... بفتح الراء. وقُرِئَ «لَيَبْغِ» بحَذْف الياء. قال الزمخشري: «اكتفى منها بالكسرة» وقال الشيخ: «كقوله: 3864 - محمدُ تَفِدْ نفسَك كلُّ نَفْسٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد» تَفْدِي «على أحدِ القولين» يعني: أنه حذفَ الياءَ اكتفاءً عنها بالكسرةِ. والقول الثاني: أنه مجزومٌ بلامِ الأمرِ المقدرةِ. وقد تقدَّم هذا في سورة إبراهيم عليه السلام، إلاَّ أنَّه لا يتأتَّى هنا لأنَّ اللامَ مفتوحةٌ. قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} استثناءٌ متصلٌ مِنْ قولِه: «بعضهم» وقوله: «وقليلٌ» خبرٌ مقدمٌ و «ما» مزيدةٌ للتعظيم. و «هم» مبتدأ. قوله: «فَتَنَّاه» بالتخفيفِ. وإسنادُه إلى ضميرِ المتكلمِ المعظِّم نفسَه قراءةُ العامَّةِ. وعمرُ بن الخطاب والحسن وأبو رجاء «فَتَّنَّاه» بتشديد/ التاء وهي مبالغةٌ. وقرأ الضحاك «أفتنَّاه» يُقال: فَتَنَه وأَفْتَنَه أي: حَمَله على الفتنةِ. ومنه قولُه: 3865 - لَئِنْ فَتَنَتْنِيْ لَهْيَ بالأَمْسِ أَفْتَنَتْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقرأ قتادةُ وأبو عمروٍ في روايةٍ «فَتَناه» بالتخفيف. و «فتنَّاه» بالتشديد والألفُ ضميرُ الخصمين. و «راكِعاً» حالٌ مقدرةٌ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ لظهورِ المقارنة.

25

قوله: {ذَلِكَ} : الظاهرُ أنَّه مفعولُ «غَفَرْنا» . وجَوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك وأيُّ حاجةٍ إلى هكذا؟

26

قوله: {فَيُضِلَّكَ} : فيه وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ في جوابِ النهي. والثاني: أنه عطفٌ على «لا تَتَّبِعْ» فهو مجزومٌ، وإنما فُتِحَتْ اللامُ لالتقاء الساكنين، وهو نهيٌ عن كل واحدٍ على حِدَتِه، والأولُ فيه النهيُ عن الجمع بينهما. وقد يَتَرَجَّح الثاني لهذا المعنى. وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في البقرة في قوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق} [البقرة: 42] . وفاعل «فَيُضِلَّك» يجوزُ أَنْ يكونَ «الهوى» ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ المصدرِ المفهوم من الفعل أي: فيُضِلَّك اتِّباعُ الهوى. والعامَّةُ على فتحِ «يَضِلُّون» ، وقرأ ابنُ عباس والحسن وأبو حيوة «يُضِلُّون» بالضمِّ أي: يُضِلُّون الناسَ، وهي مُسْتَلْزِمَةٌ للقراءةِ الأولى، فإنه لا يُضِلُّ غيرَه إلاَّ ضالٌّ بخلافِ العكسِ. قوله: «بما نَسُوا» «ما» مصدريَّةٌ. والجارُّ يتعلَّقُ بالاستقرار الذي تضمنَّه «لهم» . و «لهم عذابٌ» يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً خبراً ل «إنَّ» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ وحدَه الجارَّ. و «عذابٌ» فاعلٌ به وهوالأحسنُ لقُرْبِه من المفرد.

27

قوله: {بَاطِلاً} : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي: خَلْقاً باطلاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل «خَلَقْنا» أي: مُبْطِلين أو ذوي باطلٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً مِنْ أجلِه. أي: للباطل وهو العَبَثُ. و «أم» في الموضعَيْن منقطعةٌ وقد عَرَفْتَ ما فيها.

29

قوله: {كِتَابٌ} : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا كتابٌ و «أَنْزَلْناه» صفةٌ و «مبارَكٌ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أو خبرٌ ثانٍ، ولا يجوزُ أَنْ

يكونَ نعتاً ثانياً، لأنَّه لا يتقدَّمُ عند الجمهورِ غيرُ الصريحِ على الصريحِ. ومَنْ يرى ذلك استدلَّ بظاهِرها، وقد تقدَّم هذا محرَّراً في المائدة. و «لِيَدَّبَّروا» متعلقٌ ب «أَنْزَلْناه» . وقُرِئ «مبارَكاً» على الحالِ اللازمةِ؛ لأنَّ البركةَ لا تفارِقُه. وقرأ علي رضي الله عنه «لِيَتَدَبَّروا» وهي أصلُ قراءةِ العامَّةِ فأُدْغِمَتْ التاءُ في الدالِ. وأبو جعفر - ورُوِيَتْ عن عاصم والكسائي - «لِتَدَبَّروا» بتاءِ الخطاب وتخفيفِ الدالِ. وأصلُها لِتَتدَبَّروا بتاءَيْن فحُذِفَتْ إحداهما. وفيها الخلافُ المشهورُ: هل هي الأُوْلى أو الثانية؟

30

قوله: {نِعْمَ العبد} : مخصوصُها محذوفٌ أي: نِعْمَ العبدُ سليمانُ. وقيل: داودُ. والأولُ أظهرُ لأنه هو المَسُوْقُ للحديثِ عنه. وقُرِئ بكسرِ العين، وهي الأصلُ كقولِه: 3866 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَعِمَ السَّاعونَ في القومِ الشُّطُرْ

31

قوله: {إِذْ عُرِضَ} : في ناصبه أوجهٌ، أحدها: نِعْم، وهو أضعَفُها لأنه لا يَتَقَيَّدُ مَدْحُه بوقتٍ، ولعدمِ تَصَرُّفِ نِعْمَ. والثاني: «أوَّاب» وفيه تقييدُ وَصْفِه بذلك بهذا الوقت. والثالث: اذكرْ مقدراً وهو أَسْلَمُها و «الصَّافِناتُ» جمعُ صافنٍ. وفيه خلافٌ بين أهلِ اللغةِ. فقال الزجَّاجُ: هو

الذي يقفُ على إحدى يدَيْه ويَقِفُ على طَرَفِ سُنْبُكه، وقد يفعل ذلك بإحدى رجلَيْه. قال: «وهي علامةُ الفَراهةِ فيه، وأنشد: 3867 - أَلِفَ الصُّفُوْنَ فما يَزال كأنَّه ... مِمَّا يقومُ على الثلاثِ كَسِيْرا وقيل: هو الذي يَجْمَعُ يديه ويُسَوِّيهما. وأمَّا الذي يقفُ على سُنْبُكِه فاسمُه المُخِيْم قاله أبو عبيد. وقيل: هو القائمُ مطلقاً، أي: سواءً كان من الخيل أم مِنْ غيرها قاله القُتبيُّ، واستدلَّ بالحديث وهو قوله عليه السلام:» مَنْ سَرَّه أَنْ يقومَ الناسُ له صُفُوناً فَلْيتبوَّأْ مقعدَه من النار «أي: يُديمون له القيام. وحكاه قطرب أيضاً. وقيل: هو القيامُ مطلقاً سواءً وقفتَ على طَرَف سُنْبك أم لا. قال الفراء:» على هذا رأيْتُ أشعارَ العرب «. انتهى وقال النابغة: / 3868 - لنا قُبَّةٌ مَضْروبة بفِنائها ... عِتاقُ المَهارى والجياد الصَّوافِنُ والجِيادُ: إمَّا من الجَوْدَةِ يقال: جاد الفَرَسُ يجودُ جَوْدة وجُوْدة بالفتح

والضم فهو جَوادٌ للذكر والأنثى، والجمع: جِيادٌ وأَجْواد وأجاويد وقيل: جمع ل جَوْد بالفتح كثَوْب وثِياب. وقيل: جمع جَيِّد. وإما من الجِيْد وهو العُنُق والمعنى: طويلة الأجياد، وهو دالٌّ على فَراهتِها.

32

قوله: {حُبَّ الخير} : فيه أوجهٌ، أحدُها: هو مفعولُ «أَحْبَبْت» لأنه بمعنى آثَرْتُ، و «عَنْ» على هذا بمعنى على، أي: على ذِكْر ربي؛ لأنه يُرْوَى في التفسيرِ - واللَّهُ أعلم - أنه عَرَضَ الخيلَ حتى شَغَلَتْه عن صلاة العصرِ أولَ الوقتِ حتى غَرَبَتِ الشمسُ. وقال الشيخ: «وكأنه منقولٌ عن الفراء أنه ضَمَّن أَحْبَبْتُ معنى آثَرْتُ حتى نصبَ» حُبَّ الخير «مفعولاً به. وفيه نظرٌ؛ لأنه متعدٍّ بنفسه، وإنما يَحتاج إلى التضمين إنْ لو لم يكنْ متعدِّياً. الثاني: أنَّ» حُبَّ «مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد. والناصبُ له» أَحببتُ «. الثالث: أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ أي: حُباً مثلَ حُبِّ الخير. الرابع: أنه قيل: ضُمِّن معنى أَنَبْتُ، فلذلك تَعَدَّى ب» عن «. الخامس: أنَّ» أَحْبَبْتُ «بمعنى لَزِمْتُ. السادس: أنَّ» أَحْبَبْتُ «مِنْ أحَبَّ البعيرُ إذا سَقَطَ وبَرَك من الإِعْياء. والمعنى: قَعَدْتُ عن ذِكْر ربي، فيكون» حُبَّ الخيرِ «على هذا مفعولاً مِنْ أجله. قوله:» حتى تَوارَتْ «في الفاعل وجهان، أحدهما: هو» الصافنات «والمعنى: حتى دخلَتْ اصْطَبْلاتِها فتوارَتْ وغابَتْ. والثاني: أنه للشمس أُضْمِرَتْ لدلالة السِّياق عليها. وقيل: لدلالةِ العَشِيِّ عليها فإنها تشعر بها. وقيل: يدل عليها الإِشراق في قصة داود. وما أبعده. وقوله:» ذِكْرِ ربي «يجوز أَنْ يكونَ مضافاً للمفعول أي: عن أَنْ أذكر

ربي، وأَنْ يكونَ مضافاً للفاعل أي: عَنْ أَنْ ذَكرني ربي. وضميرُ المفعولِ في» رُدُّوها «للصافناتِ. وقيل: للشمس، وهو غريبٌ جداً.

33

قوله: {مَسْحاً} : منصوبٌ بفعلٍ مقدر، وهو خبر «طَفِق» أي: فَطَفِق يَمْسَح مَسْحاً؛ لأنَّ خبرَ هذه الأفعالِ لا يكونُ إلاَّ مضارعاً في الأمر العام. وقال أبو البقاء وبه بَدأ: «مصدرٌ في موضعِ الحالِ» . وهذا ليس بشيء لأنَّ «طَفِقَ» لا بُدَّ لها مِنْ خبر. وقرأ زيد بن علي: «مِساحاً» بزنةِ قِتال. والباءُ في «بالسُّوْق» مزيدةٌ، مِثْلُها في قولِه: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] . وحكى سيبويه «مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه» بمعنًى واحدٍ. ويجوز أن تكونَ للإِلصاق كما تقدَّم تقريرُه. وتقدَّم هَمْزُ السُّؤْق وعدمُه في النمل. وجعل الفارسي الهمزَ ضعيفاً. وليس كما قال؛ لِما تقدَم من الأدلة. وقرأ زيد بن عليّ «بالساق» مفرداً اكتفاءً بالواحدِ لعَدمِ اللَّبْسِ كقولِه: 3869 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ

وقولِه: 3870 - كلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقولِه: 3871 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجيْنا وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بمَ اتَّصَلَ قولُه:» رُدُّوها عليَّ «؟ قلت: بمحذوفٍ تقديرُه قال:» رُدُّوها «فأضمر، وأضمر ما هو جوابٌ له. كأنَّ قائلاً قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضعٌ مُقتَضٍ للسؤالِ اقتضاءً ظاهراً» . قال الشيخ: «وهذا لا يُحتاجُ إليه؛ لأنَّ هذه الجملةَ مُنْدَرِجَةٌ تحت حكايةِ القولِ وهو: {فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ} .

34

قوله: {جَسَداً} : فيه وجهان: أظهرُهما: أنه مفعولٌ به لأَلْقَيْنا. وفي التفسيرِ: أنه شِقُّ وَلَدٍ. والثاني: أنه حالٌ وصاحبُها: إمَّا سليمانُ؛ لأنه يُرْوى أنه مَرِضَ حتى صار كالجسد الذي لا رُوْحَ فيه، وإمَّا وَلَدُه. قالهما أبو البقاء: ولكنْ جسدٌ جامدٌ، فلا بُدَّ مِنْ تأويلِه بمشتقٍّ، أي: ضعيفاً أو فارغاً.

36

قوله: {تَجْرِي} : يجوزُ أَنْ تكونَ مُفَسِّرةً لقولِه: «سَخَّرْنا» ، وأَنْ تكونَ حالاً من الريح. والعامَّةُ على توحيد الريح، والمعنى على الجمعِ. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة «الرياح» و «رُخاءً» حالٌ مِنْ فاعل «تَجْري» . والرُّخاءُ: الليِّنَةُ مشتقةً من الرَّخاوة. ومعنى ذلك الطواعيةُ لأمْرِه. قوله: «حيث» ظرفٌ ل «تَجْري» أو ل «سَخَّرْنا» . و «أصاب» : أراد بلغةِ حِمْير. وقيل: بلغة هَجَر. وعن [رجلين مِنْ أهل اللغة] أنهما خرجا يَقْصِدان رؤبة ليسألاه عن هذا الحرف. فقال لهما: أين تُصيبان؟ فعَرفاها وقالا: هذه بُغْيَتُنا. وأنشد الثعلبي على ذلك: 3872 - أصابَ الجوابَ فلمْ يَسْتَطِعْ ... فأخْطا الجوابَ لدى المِفْصَلِ / أي: أراد الجوابَ. ويُقال: «أَصاب اللَّهُ بك خيراً» أي: أرده بك. وقيل: الهمزةُ في «أصاب» للتعديةِ مِنْ صابَ يَصُوْبُ أي: نَزَلَ، والمفعولُ محذوفٌ أي: أصاب جنودَه أي: حيث وجَّههم وجعلهم يصُوْبون صَوْبَ المطرِ.

37

قوله: {والشياطين} : نَسَقٌ على «الريحَ» . و «كلَّ بنَّاءٍ» بدلٌ من «الشياطين» ، وأتى بصيغةِ المبالغةِ لأنَّه في مَعْرِضِ الامتنانِ.

و «آخرين» عطفٌ على «كلَّ» فهو داخِلٌ في حكمِ البدلِ. وتقدَّم شَرْحُ {مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} [إبراهيم: 49] في آخرِ سورة إبراهيم.

39

قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ ب «عَطاؤُنا» أي: أَعْطيناك بغَير حِسابٍ ولا تقديرٍ، وهو دلالةٌ على كثرةِ الإِعطاء. الثاني: أنه حالٌ مِنْ «عَطاؤنا» أي: في حال كونِه غيرَ محاسَبٍ عليه لأنه جَمٌّ كثيرٌ يَعْسُر على الحُسَّاب ضَبْطُه. الثالث: أنه متعلقٌ ب «امْنُنْ» أو «أمسِكْ» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلهما أي غيرَ محاسَب عليه.

40

قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} : العامَّةُ على نصبِه نسقاً على اسم «إنَّ» وهو «لَزُلْفَى» . وقرأ الحسن وابن أبي عبلة برَفعِه على الابتداءِ، وخبرُه مُضْمَرٌ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه ويَقِفان على «لَزلْفَى» ويَبتَدِئان ب «حُسْنُ مآب» أي: وحُسْنُ مآب له أيضاً.

41

قوله: {أَيُّوبَ} : كقولِه: {عَبْدَنَا دَاوُودَ} [ص: 17] ففيه ثلاثةُ الأوجهِ. و «إذْ نادَى» بَدَلٌ منه بدلُ اشتمال. وقوله: «أني» جاء به على حكايةِ كلامِه الذي ناداه بسببه ولو لم يَحْكِه لقال: إنَّه مَسَّه لأنه غائبٌ. وقرأ العامَّةُ بفتح الهمزة على أنه هو المنادَى بهذا اللفظِ. وعيسى بن عمر بكسرِها على إضمار القولِ أو على إجراءِ النداءِ مُجْراه.

قوله: «بِنُصْبٍ» قرأ العامَّةُ بالضم والسكون. فقيل: هو جمعُ «نَصَبٍ» بفتحتين نحو: وَثَن ووُثْن، وأَسَدِ وأُسْدٍ. وقيل: هي لغةٌ في النَّصَبَ نحوُ: رُشْد ورَشَد، وحُزْن وحَزَن، وعُدْم وعَدَم. وأبو جعفر وشيبة وحفص ونافع في روايةٍ بضمتين وهو تثقيلُ نُصْب بضمة وسكون، قاله الزمخشري. وفيه بُعْدٌ لِماعَرَفْتَ أنَّ مقتضى اللغةِ تخفيفُ فُعُل كعُنُق لا تثقيل فُعْل كقُفْل، وفيه خلافٌ. وقد تقدَّم في العُسْر واليُسْر في البقرة. وقرأ أبو حيوة ويعقوبُ وحفصٌ في روايةٍ بفتحٍ وسكونٍ، وكلُّها بمعنًى واحدٍ: وهو التعبُ والمَشقةُ.

43

قوله: {رَحْمَةً} : و «ذكرى» مفعولٌ من أجله أي: وهَبْناهم له لأَجْلِ رحمتِنا إيَّاه وليتذكَّرَ بحالهِ أولو الألباب.

44

قوله: {ضِغْثاً} : الضِّغْثُ: الحُزْمَةُ الصغيرةُ من الحشيشِ والقُضْبان. وقيل: الحُزْمَةُ الكبيرةُ من القُضْبان. وفي المثل: «ضِغْثٌ على إبَّالَة» والإِبَّالةُ: الحُزْمَةُ من الحطبِ. قال الشاعر: 3873 - وأثقلَ مني نَهْدَةً قد رَبَطْتُها ... وأَلْقَيْتُ ضِغْثاً مِن خَلَىً مُتَطيَّبِ

وأصلُ المادة يَدُلُّ [على] جَمْعِ المختلطاتِ. وقد تقدَّم هذا في سورة يوسف في {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} [يوسف: 44] . قوله: «ولا تَحْنَثْ» الحِنْثُ: الإِثْمُ. ويُطْلَقُ على فِعْلِ ما حُلِفَ على تَرْكِه أو تَرْكِ ما حُلِفَ على فِعْله لأنَّهما سِيَّان فيه غالباً.

45

قوله: {عِبَادَنَآ} : قرأ ابنُ كثير «عَبْدَنا» بالتوحيد. والباقون «عبادَنا» بالجمعِ والرسمُ يحتملهما. فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير ف «إبراهيمَ» بدلٌ أو بيانٌ، أو بإضمار أَعْني، وما بعدَه عطفٌ على نفس «عبدَنا» لا على إبراهيم؛ إذْ يَلْزَمُ إبدالُ جمع مِنْ مفردٍ. ولقائلٍ أنْ يقولَ: لمَّا كان المرادُ بعبدنا الجنسَ جاز إبدالُ الجمعِ منه. وهذا كقراءةِ ابنِ عباس {وإله أبيك إِبْرَاهِيمَ} في البقرة في أحدِ القولين وقد تقدَّم. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ لأنَّها موافقةٌ للأولِ في الجمع. قوله: «الأَيْدي» العامَّة على ثبوتِ الياءِ، وهو جَمْعُ يدٍ: إمَّا الجارِحَةِ، وكنَى بذلك/ عن الأعمالِ؛ لأنَّ أكثرَ الأعمالِ إنما تُزاوَلُ باليدِ. وقيل: المرادُ بالأيدي جمعُ «يَدٍ» المراد بها النعمةُ. وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش «الأَيْد» بغيرِ ياء فقيل: هي الأُوْلى وإنَّما حُذِفَتِ الياءُ اجتزاءً عنها بالكسرة ولأنَّ أل تعاقِبُ التنوينَ، والياءُ تُحْذَفُ مع التنوين، فأُجْرِيَتْ مع أل

إجراءَها معه. وهذا ضعيفٌ جداً. وقيل: الأَيْد: القوةُ. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال: «وتَفْسيرُه بالأَيْد من التأييد قِلِقٌ غيرُ متمكن» انتهى. وكأنَّه إنما قَلِقَ عنده لعطفِ الأبصارِ عليه، فهو مناسبٌ للأيدي لا للأَيْد من التأييد. وقد يقال: إنه لا يُراد حقيقةُ الجوارح؛ إذ كلُّ أحدٍ كذلك، إنما المراد الكناية عن العمل الصالحِ والتفكُّرِ ببصيرتِه فلم يَقْلَقْ حينئذٍ؛ إذ لم يُرِدْ حقيقةَ الإِبصارِ. وكأنه قيل: أُولي القوةِ والتفكُّر بالبصيرةِ. وقد نحا الزمخشري إلى شيءٍ مِنْ هذا قبلَ ذلك.

46

قوله: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى} : قرأ نافعٌ وهشام «بخالصةِ ذكرَى» بالإِضافة. وفيها أوجه، أحدُها: أَنْ يكونَ أضافَ «خالصة» إلى «ذكرَى» للبيانِ؛ لأنَّ الخالصةَ تكونُ ذكرى وغيرَ ذكرْى كما في قولِه: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7] لأنَّ الشهابَ يكونُ قَبَساً وغيرَه. الثاني: أنَّ «خالصةً» مصدرٌ بمعنى إخلاص، فيكون مصدراً مضافاً لمفعولِه، والفاعلُ محذوفٌ أي: بأَنْ أَخْلَصوا ذكرى الدار وتناسَوْا عندها ذِكْرَ الدنيا. وقد جاء المصدرُ على فاعِلة كالعافِية، أو يكونُ المعنى: بأَنْ أَخْلَصْنا نحن لهم ذكرى الدار. الثالث: أنها مصدرٌ أيضاً بمعنى الخلوص، فتكونُ مضافةً لفاعِلها أي: بأنْ خَلَصَتْ لهم ذِكْرَى الدار. وقرأ الباقون بالتنوينِ وعَدَمِ الإِضافة. وفيها أوجهٌ، أحدها: أنها مصدرٌ بمعنى الإِخْلاص فيكون «ذكرى» منصوباً به، وأنْ يكونَ بمعنى الخُلوص فيكون «

ذكرى» مرفوعاً به كما تقدَّم ذلك، والمصدرُ يعملُ منوَّناً كما يَعْمَلُ مضافاً، أو يكونُ «خالصة» اسمَ فاعلٍ على بابِه، و «ذكرى» بَدَلٌ أو بيانٌ لها، أو منصوبٌ بإضمارِ أَعْني، أو مرفوع على إضمار مبتدأ. و «الدار» يجوز أن يكونَ مفعولاً به بذكرى، وأن يكونَ ظرفاً: إمَّا على الاتِّساعِ، وإمَّا على إسقاط الخافض، ذكرهما أبو البقاء. وخالصة إذا كانَتْ صفةً فهي صفةٌ لمحذوفٍ أي: بسببِ خَصْلَةٍ خَالصةٍ.

48

والأَخْيار جمعُ خَيِّر، أو خَيْر بالتثقيلِ والتخفيف كأموات جمع مَيِّت أو مَيْت.

49

قوله: {هذا ذِكْرٌ} : جملةٌ جيْءَ بها إيذاناً بأنَّ القصةَ قد تَمَّتْ وأَخَذَ في أخرى، وهذا كما فَعَل الجاحظ في كتبِه يقول: «فهذا بابٌ» ثم يَشْرَعُ في آخرَ. ويَدُلُّ على ذلك: أنه لمَّا أرد أَنْ يُعَقِّبَ بذِكْر أهل النارِ ذَكَرَ أهلَ الجنة. قال تعالى: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} [ص: 55] .

50

قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} : العامةُ على نصب «جنات» بدلاً من «حُسْنَ مَآب» سواءً كانَتْ جنات عدنٍ معرفةً أم نكرةً؛ لأنَّ المعرفةَ تُبْدَلُ من النكرة وبالعَكْس. ويجوزُ أن تكونَ عطفَ بيان إنْ كانَتْ نكرةً ولا يجوزُ ذلك فيها إنْ كانَتْ معرفةً. وقد جَوَّز الزمخشريُّ ذلك بعد حُكْمِه واستدلاله على أنها معرفةٌ، وهذا كما تقدَّم له في مواضِعَ يُجِيْزُ عطفَ البيان، وإنْ تَخالَفا تعريفاً وتنكيراً وقد تقدَّم هذا عند قولِه تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] ويجوزُ

أَنْ تَنْتَصِبَ «جناتِ عَدْنٍ» بإضمارِ فِعْلٍ. و «مُفَتَّحةً» حالٌ مِنْ «جنات عدن» أو نعتٌ لها إن كانَتْ نكرةً. وقال الزمخشري: «حالٌ. والعاملُ فيها ما في» للمتقين «مِنْ معنى الفعلِ» انتهى. وقد عَلَّلَ أبو البقاءِ بعلةٍ في قوله/: «مُتَّكئين» تقتضي مَنْعَ «مُفَتَّحة» أَنْ تكونَ حالاً، وإنْ كانَتْ العلةُ غيرَ صحيحةٍ. وقال: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ» متكئين «حالاً مِنْ» للمتقين «لأنه قد أخبر عنهم قبلَ الحال» وهذه العلةُ موجودةٌ في جَعْل «مُفَتَّحةً» حالاً من «للمتقين» كما ذكره الزمخشري. إلاَّ أنَّ هذه العلةَ ليسَتْ صحيحةً وهو نظيرُ قولِك: «إن لهندٍ مالاً قائمةً» . وأيضاً في عبارتِه تجَوُّزٌ: فإنَّ «للمتقين» لم يُخْبِرْ عنهم صناعةً إنما أخبر عنهم معنًى، وإلاَّ فقد أخبر عن «حُسْن مآب» بأنَّه لهم. وجعل الحوفيُّ العاملَ مقدراً أي: يَدْخلونها مفتحةً. قوله: «الأبواب» في ارتفاعِها وجهان، أحدهما: - وهو المشهورُ عند الناسِ - أنَّها مُرْتفعةٌ باسمِ المفعول كقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] . واعْتُرِضَ على هذا بأن «مُفتَحةً» : إمَّا حالٌ، وإمَّا نعتٌ ل «جنات» ، وعلى التقديرَيْن فلا رابطَ وأُجيب بوجهين، أحدهما: قولُ البصريين: وهو أنَّ ثَمَّ ضميراً مقدراً تقديرُه: الأبوابُ منها. والثاني: أنَّ أل قامَتْ مقامَ الضمير؛ إذِ الأصلُ: أبوابُها. وهو قول الكوفيين وتقدَّم تحقيقُ هذا. والوجهان جاريان في قولِه: {فَإِنَّ

الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] . الثاني: أنها مرتفعةٌ على البدلِ من الضميرِ في «مُفَتَّحَةً» العائدِ على «جنات» وهو قولُ الفارسيِّ، لمَّا رأى خُلُوَّها من الرابطِ لفظاً ادَّعَى ذلك. واعْتُرض على هذا: بأنَّ مِنْ بدلِ البعض أو الاشتمالِ، وكلاهما لا بُدَّ فيهما مِنْ ضميرٍ فيُضْطَرُّ إلى تقديره كما تقدَّم. ورَجَّح بعضُهم الأولَ: بأنَّ فيه إضماراً واحداً، وفي هذا إضماران وتَبعه الزمخشريُّ فقال: «والأبواب بدلٌ مِن الضمير في» مُفَتَّحَةً «أي: مفتحةً هي الأبواب كقولك: ضربَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ، وهو مِنْ بَدَلِ الاشتمال» فقوله: «بدلُ الاشتمال» إنما يعني به الأبواب، لأنَّ الأبواب قد يُقال: إنها ليسَتْ بعضَ الجنات، و «أمَّا ضَرَبَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ» فهو بعضٌ مِنْ كل ليسَ إلاَّ. وقرأ زيد بن علي وأبو حيوةَ {جَنَّاتُ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةٌ} برفعهما: إمَّا على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وإمَّا على أنَّ كلَّ واحدةٍ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي جناتٌ، هي مفتحةٌ.

51

قوله: {مُتَّكِئِينَ} : حالٌ مِنْ «لهم» العاملُ فيها «مفتحةً» . وقيل: العاملُ «تُوْعَدون» تأخَّر عنها، وقد تقدَّمَ مَنْعُ أبي البقاء أنها حال مِنْ «للمتقين» وما فيه. و «يَدْعُون» يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأَنْ يكونَ حالاً: إمَّا مِنْ ضمير «مُتَّكئين» وإمَّا حالاً ثانية.

53

قوله: {تُوعَدُونَ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا «

يُوْعَدون» بالغَيْبة. وفي ق ابنُ كثيرٍ وحدَه. والباقون بالخطاب فيهما ووجهُ الغَيْبةِ هنا وفي ق تَقَدُّمُ ذِكْرِ المتقين. ووجْهُ الخطابِ الالتفاتُ إليهم والإِقبالُ عليهم.

54

قوله: {مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} : «مِنْ نَفادٍ» : إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ، و «مِنْ» مزيدةٌ. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «رزقنا» أي: غيرَ فانٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً.

55

قوله: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ «هذا» مبتدأ والخبرُ مقدَّرٌ، فقدَّره الزمخشري: «هذا كما ذُكِر» . وقَدَّره أبو علي: «هذا للمؤمنين» . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ هذا.

56

قوله: {جَهَنَّمَ} : يجوزُ أن تكون بدلاً مِنْ «شرَّ مآبٍ» أو منصوبةً بإضمار فعلٍ. وقياسُ قولِ الزمخشري في «جناتِ عدن» أن تكون عطفَ بيانٍ، وأن تكونَ منصوبةً بفعل مقدرٍ على الاشتغالِ أي: يَصْلَوْن جهنَّمَ يَصْلَوْنَها. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: هي.

57

قوله: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ} : في «هذا» أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ مبتدأً، وخبرُه «حميمٌ وغَسَّاقٌ» . وقد تقدَّم أنَّ اسم الإِشارة يُكْتَفَى بواحدِه في المثنى كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] ، أو يكون المعنى: هذا جامِعٌ بين الوصفَيْن، ويكون قولُه: «فَلْيَذُوْقوه» جملةً اعتراضيةً. الثاني: أَنْ يكونَ «هذا» منصوباً بمقدَّرٍ على الاشتغال أي: لِيَذُوقوا هذا.

وشبَّهه الزمخشريُّ بقولِه تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] ، يعني على الاشتغال. والكلامُ على مثلِ هذه الفائدةِ قد تقدَّم. و «حميمٌ» على هذا خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو مبتدأٌ وخبره مضمرٌ أي: منه حميمٌ ومنه غَسَّاقٌ كقوله: 3874 - حتى إذا ما أضاءَ البرقُ في غَلَسٍ ... وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُوْدُ أي: منه مَلْوِيٌّ ومنه مَحْصود. الثالث: أَنْ يكونَ «هذا» مبتدأ، والخبرُ محذوفٌ أي: هذا كما ذُكِر، أو هذا للطاغين. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ هذا، ثم استأنف أمراً فقال: فَلْيذوقوه. الخامس: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه «فَلْيذوقوه» وهو رأيُ الأخفشِ. ومنه: 3875 - وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] / وقرأ

الأخَوان وحفصٌ «غَسَّاقٌ» بتشديد السينِ هنا وفي عمَّ يتساءَلْون، وخَفَّفه الباقون فيهما. فأمَّا المثقلُ فهو صفةٌ كالجَبَّار والضَّرّاب مثالَ مبالغةٍ، وذلك أنَّ فَعَّالاً في الصفاتِ أغلبُ منه في الأسماء. ومِنْ ورودِه في الأسماء: الكَلاَّء والجَبَّان والفَيَّاد لذَكَرِ البُوْم، والعَقَّارُ والخَطَّارُ وأمَّا المخففُ فهو اسمٌ لا صفةٌ؛ لأنَّ فَعَالاً بالتخفيفِ في الأسماءِ كالعَذاب والنَّكال أغلبُ منه في الصفاتِ، على أن منهم مَنْ جَعَله صفةً بمعنى ذي كذا أي: ذي غَسَقٍ. وقال أبو البقاء: «أو يكون فعَّال بمعنى فاعِل» . قلت: وهذا غيرُ مَعْروفٍ. والغَسَقُ: السَّيَلانُ. يقال: غَسَقَتْ عينُه أي: سالَتْ. وفي التفسير: أنه ماءٌ يَسيل مِنْ صَدِيدِهم. وقيل: غَسَق أي امتلأ. ومنه: غَسَقَتْ عينُه أي: امتلأت بالدمع ومنه الغاسقُ للقمرِ لامتلائِه وكمالِه. وقيل: الغَسَّاق ما قَتَل ببردِه. ومنه قيل لليلِ: غاسِق؛ لأنه أبردُ من النهار. وقيل: الغَسَق شدَّةُ الظُّلْمة، ومنه قيل لليل: «غاسِق» . ويقال للقمر: غاسِقٌ إذا كُسِفَ لاسْوِداده، ونُقِل القولان في تفسير قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} [الفلق: 3] .

58

قوله: {وَآخَرُ} : قرأ أبو عمروٍ بضمِّ الهمزةِ على أنه

جمع. وارتفاعُه من أوجهٍ، أحدها: أنه مبتدأٌ، و «من شَكْلِه» خبرُه، و «أزواجٌ» فاعلٌ به. الثاني: أنْ يكونَ مبتدأ أيضاً، و «مِنْ شكلِه» خبرٌ مقدَّمٌ، و «أزواج» مبتدأٌ والجملةُ خبرُه، وعلى هذين فيقال: كيف يَصِحُّ مِنْ غير ضميرٍ يعودُ على أُخَر، فإن الضميرَ في «شكله» يعودُ على ما تقدَّم أي: مِنْ شكل المَذُوق؟ والجوابُ: أن الضميرَ عائدٌ على المبتدأ، وإنما أُفْرد وذُكِّر لأنَّ المعنى: مِنْ شكلِ ما ذَكَرْنا. ذكر هذا التأويلَ أبو البقاءِ. وقد منع مكي ذلك لأجل الخُلُوِّ من الضمير، وجوابُه ما ذكرته لك. الثالث: أن يكون «مِنْ شكله» نعتاً ل أُخَر، وأزواج خبر المبتدأ أي: وأُخر من شكل المذوق أزواج. الرابع: أن يكون «من شكله نعتاً أيضاً، وأزواجٌ فاعل به، والضميرُ عائدٌ على أُخَر بالتأويل المتقدم، وعلى هذا فيرتفعُ» أُخَرُ «على الابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: ولهم أنواعٌ أُخَرُ، استقرَّ مِنْ شكلها أزواجٌ. الخامس: أنْ يكونَ الخبر مقدراً كما تقدَّم أي: ولهم أُخَرُ، ومِنْ شكلِه وأزواج صفتان ل أُخَر. وقرأ العامَّة» مِنْ شَكْلِه «بفتح الشين، وقرأ مجاهد بكسرِها، وهما لغتان بمعنى المِثْل والضرب. تقولُ: هذا على شَكْلِه أي: مِثْله وضَرْبه. وأما الشِّكْلُ بمعنى الغُنْج فالبكسر لا غير، قاله الزمخشري. وقرأ الباقون» وآخَرُ «بفتح الهمزة وبعدها ألفٌ بصيغةِ أَفْعَل التفضيل، والإِعرابُ فيه كما تقدَّم. والضمير في أحدِ الأوجه يعودُ عليه مِنْ غيرِ تأويل لأنه مفردٌ. إلاَّ أنَّ في أحد الأوجه يَلْزَمُ الإِخبارُ عن المفردِ بالجمع أو وَصْفُ المفردِ

بالجمع؛ لأنَّ مِنْ جملة الأوجهِ المتقدمةِ أنْ يكونَ» أزواج «خبراً عن» آخر «أو نعتاً له كما تقدَّم. وعنه جوابان، أحدُهما: أن التقديرَ: وعذابٌ آخرُ أو مَذُوقٌ، وهو ضُروب ودرجاتٌ فكان في قوةِ الجمع. أو يُجْعَلُ كلُّ جزءٍ من ذلك الآخرِ مثلَ الكلِّ، وسمَّاه باسمِه وهو شائعٌ كثيرٌ نحو: غليظ الحواجب، وشابَتْ مفارِقُه. على أنَّ لقائلٍ أنْ يقولَ: إنَّ أزواجاً صفةٌ لثلاثةِ الأشياءِ المتقدِّمة، أعني الحميم والغَسَّاق وآخرُ مِنْ شكلِه فيُلْغى السؤالُ.

59

قوله: {مُّقْتَحِمٌ} : مفعولُه محذوفٌ أي: مقتحِمٌ النارَ. والاقتحام: الدخولُ في الشيء بشدَّة، والقُحْمَةُ: الشدةُ. وقال الراغب: الاقتحام توسُّطُ شِدَّةٍ مُخيفةٍ. ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي: توغَّل به ما يُخافُ منه/. والمقاحيم: الذين يَتَقَحَّمون في الأمر الذي يُتَجَنَّب «. قوله:» معكم «يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ل فَوْج، وأَنْ يكونَ حالاً منه لأنه قد وُصِفَ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستتر في» مُقْتَحِم «. قال أبو البقاء:» ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لفسادِ المعنى «، ولم أَدْرِ مِنْ أَيِّ أوجهٍ يَفْسُدُ، والحاليةُ والصفةُ في المعنى كالظرفية؟ وقوله:» هذا فَوْجٌ «إلى قوله:» النار «يجوز أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرؤساء بعضِهم لبعضِ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الخَزَنَةِ، ويجوز أَنْ يكونَ» هذا فَوْجٌ «مِنْ كلامِ الملائكة، والباقي من كلام الرؤساء، وكان القياسُ على هذا أَنْ يُقال: بل هم لا مَرْحباً بهم لأنهم لا يقولون للملائكة ذلك، إلاَّ أنهم عَدَلُوا عن خطاب الملائكةِ إلى خطابِ أعدائِهم تَشَفِّياً منهم.

قوله: {لاَ مَرْحَباً} في» مَرْحباً «وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ أي: لا أتَيْتُمْ مَرْحباً أو لا سَمِعتم مرحباً. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ. قاله أبو البقاء أي: لا رَحِبَتْكم دارُكم مَرْحباً بَلْ ضَيِّقاً. ثم في الجملةِ المنفيةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للدعاءِ عليهم، وقوله:» بهم «بيانٌ للمدعُوِّ عليه. والثاني: أنها حاليةٌ. وقد يُعْتَرَضُ عليه: بأنه دعاءٌ، والدعاءُ طلبٌ والطلبُ لا يَقَعُ حالاً. والجوابُ أنه على إضمارِ القولِ أي: مَقُولاً لهم لا مَرْحباً.

61

قوله: {مَن قَدَّمَ} : يجوزُ أَنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً، و «فَزِدْه» جوابَها، وأنْ تكونَ استفهاميَّة، و «قَدَّم» خبرُها. أي: أيُّ شخصٍ قَدَّم لنا هذا، ثم استأنفوا دُعاءً بقولِهم «فَزِدْه» ، وأنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، وحينئذٍ يجوزُ فيها وجهان: الرفعُ بالابتداء، والخبر «فَزِدْه» والفاءُ زائدةٌ تَشْبيهاً له بالشرطِ. والثاني: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغالِ، والكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ قد تقدَّم، وهذا الوجهُ يجوزُ عند بعضِهم حالَ كونِها شرطيةً أو استفهاميةً أعني الاشتغالَ، إلاَّ أنَّه لا يُقَدَّرُ الفعلُ إلاَّ بعدها؛ لأنَّ لها صدرَ الكلامِ و «ضِعْفاً» نعتٌ لعذاب أي: مضاعَفاً. قوله: «في النارِ» يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل «زِدْه» ، أو نعتاً ل «عذاب» ، أو حالاً منه لتخصيصِه، أو حالاً من المفعول «زِدْه» .

63

قوله: {أَتَّخَذْنَاهُمْ} : قرأ الأخَوان وأبو عمروٍ بوَصْلِ

الهمزةِ، وهي تحتملُ وجهين، أحدهما، أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً ل «رِجالاً» كما وقع «كنا نَعُدُّهم» صفةً، وأَنْ يكونَ المرادُ الاستفهامَ وحُذِفَتْ أداتُه لدلالةِ أم عليه كقوله: 3876 - تَرُوْحُ من الحيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ ... وماذا عليك بأَنْ تَنْتَظِرْ ف أم متصلةٌ على هذا، وعلى الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة لأنها لم تتقدَّمْها همزةُ استفهامٍ ولا تسويةٍ. والباقون بهمزةِ استفهامٍ سَقَطَتْ لأجلِها همزةُ الوصلِ. والظاهر أنه لا محلَّ للجملةِ حينئذٍ لأنها طلبيةٌ. وجَوَّزَ بعضُهم فيها أَنْ تكونَ صفةً لكنْ على إضمارِ القولِ أي: رجالاً مَقُولاً فيهم: أتخذناهم كقوله: 3877 - جاؤُوْا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطْ ... إلاَّ أنَّ الصفةَ في الحقيقةِ ذلك القولُ المضمرُ. وقد تقدَّم الخلافُ في «سِخْرِيَّاً» في {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} . والمشهورُ أن المكسورَ في الهُزْء كقولِ الشاعر: 3778 - إني أتاني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها ... مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيها ولا سَخْرُ وتقدَّم معنى لَحاقِ الياءِ المشددَّةِ في ذلك. وأم مع الخبرِ منقطعةٌ فقط كما

تقدَّم، ومع الاستفهام يجوزُ أَنْ تكونَ متصلةً، وأن تكونَ منقطعةً كقولِك: «أزيدٌ عندك أم عندك عمروٌ» ، ويجوزُ أنْ يكونَ «أم زاغَتْ» متصلاً بقوله: «ما لنا» لأنه استفهامٌ، إلاَّ أنه يَتَعَيَّنُ انقطاعُها لعَدَمِ الهمزةِ، ويكون ما بينهما معترضاً على قراءةِ «أتَّخَذْناهم» بالاستفهام إنْ لم نجعَلْه صفةً على إضمارِ القولِ كما تقدَّمَ.

64

قوله: {تَخَاصُمُ} : العامَّةُ على رَفْعِ «تَخاصُمُ» مضافاً لأهل. وفيه أوجه، أحدها: أنَّه بدلٌ مِنْ «لَحَقٌّ» . الثاني: أنه عطفُ بيانٍ. الثالث: أنه بدلٌ مِنْ «ذلك» على الموضعِ، حكاه مكي، وهذا يُوافِقُ قولَ بعض الكوفيين. الرابع: أنه خبرُ ثانٍ ل «إنَّ» . الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو تخاصُمُ. السادس: أنه مرفوعٌ بقولِه «لَحَقٌّ» . إلاَّ أنَّ أبا البقاء قال: «ولو قيل: هو مرفوعٌ ب» حَقٌّ «لكان بعيداً لأنه يَصيرُ جملةً/ ولا ضميرَ فيها يعود على اسم» إن «. وهذا ردٌّ صحيحٌ. وقد يُجابُ عنه: بأنَّ الضميرَ مقدرٌ أي: لحقٌّ تخاصُمُ أهلِ النار فيه كقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] أي: منه. وقرأ ابن محيصن بتنوين» تخاصم «ورفع» أهلُ «فَرَفْعُ» تخاصُمٌ «على ما تقدَّم. وأمَّا رَفْعُ» أهلُ «فعلى الفاعلية بالمصدرِ المنونِ كقولك:» يُعْجبني تخاصمٌ الزيدون «أي: أنْ تخاصَموا. وهذا قولُ البصريين وبعضِ الكوفيين خلا الفراءَ.

وقرأ ابنُ أبي عبلة» تخاصُمَ «بالنصب مضافاً لأهل. وفيه أوجه، أحدها: أنه صفةٌ ل» ذلك «على اللفظِ. قال الزمخشري:» لأنَّ أسماءَ الإِشارة تُوْصَفُ بأسماءِ الأجناس «. وهذا فيه نظرٌ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ أسماء الإِشارة لا تُوْصَفُ إلاَّ بما فيه أل نحو:» يا هذا الرجلُ «، ولا يجوز» يا هذا غلامَ الرجل «فهذا أبعدُ، ولأن الصحيحَ أنَّ الواقع بعد اسمِ الإِشارة المقارنِ ل أل إنْ كان مشتقاً كان صفةً، وإلاَّ كان بدَلاً و» تخاصُم «ليس مشتقاً. الثاني: أنه بدلٌ من ذلك. الثالث: أنه عطفُ بيانٍ. الرابع: على إضمارِ» أعني «. وقال أبو الفضل:» ولو نُصِبَ «تخاصم» على أنَّه بدلٌ من «ذلك» لجاز «انتهى. وكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً. وقرأ ابن السَّمَيْفع» تخاصَمَ «فعلاً ماضياً» أهل «فاعلٌ به. وهي جملةٌ استئنافيةٌ.

65

قوله: {الواحد القهار} : إلى آخرها صفاتٌ للَّهِ تعالى. ويجوزُ أَنْ يكونَ «ربُّ السماواتِ» خبرَ مبتدأ مضمرٍ، وفيه معنى المدح.

67

قوله: {هُوَ نَبَأٌ} : «هو» يعودُ على القرآن وما فيه من القَصصِ والأخبارِ. وقيل: على {تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} . وقيل: على ما تقدَّمَ مِنْ أخبارِه عليه السلام: بأنَّه نذيرٌ مبينٌ، وبأنَّ اللَّهَ إلهٌ واحدٌ متصفٌ بتلك الصفاتِ الحسنى.

68

قوله: {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} : صفةٌ ل «نَبَأ» أو مستأنفةٌ.

69

قوله: {بالملإ} : متعلِّقٌ بقوله: «مِنْ عِلْم» وضُمِّن معنى الإِحاطة، فلذلك تَعَدَّى بالباء، وتقدَّم تحقيقُه.

وقوله: «إذ يَخْتَصِمُون» فيه وجهان، أحدهما: هو منصوبٌ بالمصدرِ أيضا. والثاني: بمضافٍ مقدر أي: بكلامِ الملأ الأَعْلى إذ، قاله الزمخشري. والضمير في «يَخْتَصِمُون» للمَلأ الأعلى. هذا هو الظاهرُ. وقيل: لقريش أي: يختصمون في الملأ الأعلى. فبعضُهم يقول: بناتُ الله وبعضهم يقولُ غيرَ ذلك. فالتقدير: إذ يختصمون فيهم.

70

قوله: {إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ} : العامَّةُ على فتح الهمزة «أنما» . وفيها وجهان، أحدهما: أنها مع ما في حَيِّزها في محلِّ رفع لقيامِها مقامَ الفاعلِ أي: ما يُوْحَى إليَّ إلاَّ الإِنذارُ، أو إلاَّ كَوْني نذيراً مبيناً. والثاني: أنها في محلِّ نصب أو جرٍ بعد إسقاطِ لامِ العلةِ. والقائم مقامَ الفاعلِ على هذا الجارُّ والمجرورُ أي: ما يُوْحى إليَّ إلاَّ للإِنذارِ أو لكَوْني نذيراً. ويجوز أَنْ يكونَ القائمُ مقامَ الفاعلِ على هذا ضميرِ ما يَدُلُّ عليه السِّياقُ أي: ما يُوْحى إليَّ ذلك الشيءُ إلاَّ للإِنذار. وقرأ أبو جعفر بالكسر، وهي القائمةُ مقامَ الفاعلِ على سبيلِ الحكايةِ، كأنه قيل: ما يُوْحى إليَّ إلاَّ هذه الجملةُ المتضمنةُ لهذا الإِخبارِ. وقال الزمخشري: «على الحكاية أي: إلاَّ هذا القولُ وهو أنْ أقولَ لكم: إنما أنا نذيرٌ مبين ولا أدَّعي شيئاً آخرَ» . قال الشيخ: «وفي تخريجه تعارُضٌ لأنه قال: إلاَّ هذا القولُ، فظاهرُه الجملةُ التي هي: {أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} . ثم قال: وهو أَن أقولَ لكم إني نذيرٌ فالمقامُ مقامُ الفاعلِ هو أَنْ أقولَ لكم، وإنِّي وما

بعده في موضعِ نصبٍ، وعلى قولِه:» إلاَّ هذا القولُ «يكون في موضع رفع فتعارضا» . قلت: ولا تعارُضَ البتةَ؛ لأنَّه تفسيرُ معنًى في التقدير الثاني، وفي الأول تفسير إعرابٍ، فلا تعارُضَ.

71

قوله: {إِذْ قَالَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «إذ» الأولى وأَنْ يكونَ منصوباً ب اذْكُرْ مقدَّراً، قال الأولَ الزمخشري وأطلق، وذكر أبو البقاءِ الثاني وأطلقَ. وأمَّا الشيخُ ففَصَّل فقال: «بدلٌ مِنْ» إذ يَخْتصمون «هذا إذا كانَتِ الخصومَةُ في شَأْنِ مَنْ يَسْتَخْلِفُ في الأرض، وعلى غيرِه من الأقوال يكون منصوباً ب اذكرْ» . انتهى قلت: وتلك الأقوالُ: أنَّ التخاصُمَ: إمَّا بين الملأ الأعلى أو بين قُرَيْشٍ وفي ماذا كان المخاصمة، خلافٌ يطول/ الكتابُ بذِكْرِه. قوله: «مِنْ طينٍ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «بَشَراً» ، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ «خالِقٌ» .

73

قوله: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} : تأكيدان. وقال الزمخشري: «كل» للإِحاطةِ و «أجمعون» للاجتماع، فأفادا معاً أنهم سَجَدوا عن آخِرهم، ما بقي منهم مَلَكٌ إلاَّ سَجَدَ، وأنهم سجدوا جميعاً في وقتٍ واحدٍ غيرَ متفرقين «. قلت: قد تقدَّم الكلامُ معه في ذلك في سورة الحجر.

75

قوله: {أَن تَسْجُدَ} : قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يَرَى أنَّ «لا» في {أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] في السورةِ الأخرى زائدةٌ؛ حيث سقطَتْ هنا والقصةُ واحدةٌ. وقوله: «لما خَلَقْتُ» قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يرى جوازَ وقوع «ما» على العاقل؛ لأنَّ المرادَ به آدمُ. وقيل: لا دليلَ فيه؛ لأنه كان فَخَّاراً غيرَ جسمٍ حَسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحال. وقيل: «ما» مصدريةٌ والمصدرُ غيرُ مُرادٍ، فيكون واقعاً موقعَ المفعولِ به أي: لمخلوقي. وقرأ الجحدري «لَمَّا» بتشديدِ الميمِ وفتحِ اللامِ، وهي «لَمَّا» الظرفيةُ عند الفارِسيِّ، وحرفُ وجوبٍ لوجوبٍ عند سيبويه. والمسجود له على هذا غيرُ مذكورٍ أي: ما مَنَعَك من السجود لَمَّا خلقْتُ أي: حين خَلَقْتُ لِمَنْ أَمَرْتُك بالسجود له. وقُرِئ «بيَدَيِّ» بكسرِ الياءِ كقراءةِ حمزةَ «بِمُصْرِخِيِّ» وقد تقدَّم ما فيها. وقُرِئ «بيدي» بالإِفرادِ. قوله: «أسْتَكْبَرْت» قرأ العامَّةُ بهمزةِ الاستفهام وهو استفهامُ توبيخٍ وإنكارٍ. و «أم» متصلةٌ هنا. هذا قولُ جمهورِ النحويين. ونقل ابنُ عطيةَ عن بعضِ النحويين أنها لا تكونُ معادِلَةً للألفِ مع اختلافِ الفعلَيْن، وإنما تكونُ معادِلةً إذا دَخَلَتا على فِعْلٍ واحد كقولِك: أقامَ زيدٌ أم عمروٌ، وأزيدٌ قام أم عمروٌ؟ وإذا اختلف الفعلان كهذه الآيةِ فليسَتْ معادِلةً. وهذا الذي حكاه عن

بعض النحويين مَذْهَبٌ فاسِدٌ، بل جمهورُ النحاةِ على خلافِه قال سيبويه: «وتقول:» أضرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَه؟ «فالبَدْءُ هنا بالفعل أحسنُ؛ لأنك إنما تَسْأل عن أحدِهما لا تدري أيهما كان؟ ولا تَسْأَلُ عن موضعِ أحدِهما كأنك قلت: أيُّ ذلك كان» انتهى. فعادل بها الألفَ مع اختلافِ الفعلين. وقرأ جماعةٌ - منهم ابنُ كثير، وليسَتْ مشهورةً عنه - «استكبَرْتَ» بألف الوصلِ، فاحتملَتْ وجهين، أحدهما: أنْ يكونَ الاستفهامُ مُراداً يَدُلُّ عليه «أم» كقولِه: 3879 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ وقول الآخر: 3880 - ترُوْحُ من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فتتفق القراءتان في المعنى، واحتمل أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً، وعلى هذا فأم منقطعةٌ لعدمِ شَرْطِها.

77

قوله: {مِنْهَا} : أي: من الجنةِ أو من الخِلْقة؛ لأنه كان حسناً فَرَجَعَ قبيحاً ونُوْرانياً فعاد مظلماً. وقيل: من السماوات. وقال هنا: «

لَعْنتي» وفي غيرها «اللعنةَ» ، وهما وإنْ كانا في اللفظ عاماً وخاصاً، إلاَّ أنهما من حيث المعنى عامَّان بطريق اللازم؛ لأنَّ مَنْ كانت عليه لعنة الله كانَتْ عليه [لعنة] كلِّ أحدٍ لا محالةَ. وقال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] . وباقي الجمل تقدَّم نظيرُه.

84

قوله: {فالحق والحق} : قرأهما العامَّةُ منصوبَيْن. وفي نصب الأول أوجهٌ، أحدُها: أنه مُقْسَمٌ به حُذِفَ منه حرفُ القسمِ فانتصَبَ كقولِه: 3881 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثَّرِيْدُ

85

وقوله: {لأَمْلأَنَّ} : جوابُ القسم. قال أبو البقاء: «إلاَّ أنَّ سيبويهِ يَدْفَعُه لأنه لا يُجَوِّزُ حَذْف حرفِ القسمِ إلاَّ مع اسم الله، ويكون قولُه:» والحقَّ أقولُ «معترضاً بين القسم وجوابِه» . قال الزمخشري: «كأنه قيل: ولا أقولُ إلاَّ الحقَّ» يعني أن تقديمَه المفعولَ أفاد الحصرَ. والمرادُ بالحق: إمَّا الباري تعالى كقوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 25] وإمَّا نقيضُ الباطل. والثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراءِ أي: الزموا الحقَّ. والثالث:

أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ قولِه: «لأَمْلأَنَّ» . قال الفراء: / «هو على معنى قولك: حقاً لا شكَّ، ووجودُ الألفِ واللام وطَرْحُهما سواءٌ أي: لأملأن جهنَّم حقاً» انتهى. وهذا لا يَتَمَشَّى على قولِ البصريين؛ فإنَّ شَرْطَ نَصْبِ المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة أَنْ يكونَ بعد جملةٍ ابتدائية خبراها معرفتان جامدان جموداً مَحْضاً. وجَوَّز ابنُ العِلْج أَنْ يكونَ الخبرُ نكرةً. وأيضاً فإنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لا يجوزُ تقديمُه على الجملةِ المؤكِّدِ هو لمضمونِها. وهذا قد تقدَّم. وأمَّا الثاني فمنصوبٌ ب «أقولُ» بعدَه. والجملةُ معترضةٌ كما تقدَّم. وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ يكونَ منصوباً على التكرير، بمعنى أنَّ الأول والثاني كليهما منصوبان ب أقولُ. وسيأتي إيضاحُ ذلك في عبارتِه. وقرأ عاصم وحمزةُ برفعِ الأولِ ونصبِ الثاني. فَرَفْعُ الأولِ من أوجهٍ، أحدها: أنه مبتدأ، وخبرُه مضمرٌ تقديرُه: فالحقُّ مني، أو فالحقُّ أنا. الثاني: أنه مبتدأ، خبرُه «لأملأنَّ» قاله ابن عطية. قال: «لأنَّ المعنى: أنْ أَمْلأَ» . قال الشيخ: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ لأملأنَّ جوابُ قسمٍ. ويجب أَنْ يكونَ جملةً فلا تتقدَّرُ بمفردٍ. وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرفٍ مصدري والفعل حتى

يَنْحَلَّ إليهما، ولكنه لَمَّا صَحَّ له إسنادُ ما قَدَّرَ إلى المبتدأ حَكَمَ أنه خبرٌ عنه» قلت: وتأويلُ ابنِ عطيةَ صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ. الثالث: أنه مبتدأٌ، خبرُه مضمرٌ تقديرُه: فالحقُّ قَسَمي، و «لأملأنَّ» جوابُ القسم كقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ولكنَّ حَذْفَ الخبرِ هنا ليسَ بواجبٍ، لأنه ليس نصاً في اليمين بخلافِ لَعَمْرك. ومثلُه قولُ امرئ القيس: 3882 - فقلت يمينُ اللَّهِ أبْرَحُ قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي وأمَّا نصبُ الثاني فبالفعل بعدَه. وقرأ ابنُ عباس ومجاهد والأعمش برفعهما. فرفْعُ الأولِ على ما تقدَّم، ورفعُ الثاني بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ بعده، والعائد محذوفٌ كقولهِ تعالى في قراءةِ ابنِ عامر: {وَكُلٌ وَعَدَ الله الحسنى} وقول أبي النجم: 3883 - قد أصبَحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي ... عليَّ ذَنباً كلُّه لم أَصْنَعِ ويجوز أَنْ يرتفعَ على التكريرِ عند الزمخشري وسيأتي. وقرأ الحسنُ وعيسى بجرِّهما. وتخريجُها: على أنَّ الأولَ مجرورٌ بواوِ القسم مقدرةً أي: فوالحقِ والحقِ عطفٌ عليه كقولِك: واللَّهِ واللَّهِ لأقومَنَّ، و «أقول» اعتراضٌ بين القسم وجوابِه. ويجوز أَنْ يكونَ مجروراً على الحكايةِ. وهو منصوبُ المحل

ب «أقولُ» بعده. قال الزمخشري: «ومجرورَيْن - أي وقُرئا مجرورَيْن - على أنَّ الأولَ مُقْسَمٌ به قد أُضْمِرَ حرفُ قَسَمِه كقولك:» اللَّهِ لأفعَلَنَّ «والحقَّ أقول أي: ولا أقول إلاَّ الحقَّ على حكايةِ لفظ المقسمِ به، ومعناه التوكيدُ والتشديدُ. وهذا الوجهُ جائزٌ في المرفوعِ والمنصوبِ أيضاً، وهو وجهٌ حسنٌ دقيق» انتهى. يعني أنه أعملَ القولَ في قوله: «والحق» على سبيلِ الحكايةِ فيكونُ منصوباً ب «أقول» سواءً نُصِب أو رُفِعَ أو جُرَّ، كأنه قيل: وأقولُ هذا اللفظَ المتقدمَ مُقَيَّداً بما لُفِظ به أولاً. قوله: «أجمعين» فيه وجهان، أظهرهما: أنه توكيدٌ للضمير في «منك» و «لمَنْ» عطفٌ في قوله: «ومِمَّنْ تَبِعك» وجيْء بأجمعين دونَ «كل» ، وقد تقدَّم أن الأكثرَ خلافُهُ. وجَوزَّ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ تأكيداً للضمير في «منهم» خاصةٌ فقدَّر «لأَمْلأَنَّ جهنم من الشياطين وممَّنْ تبعهم مِنْ جميع الناس لا تفاوتَ في ذلك بين ناسٍ وناسٍ» .

86

قوله: {عَلَيْهِ} : متعلقٌ ب «أسْألكم» لا بالأَجْر؛ لأنه مصدرٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً منه. والضمير: إمَّا للقرآن، وإمَّا للوحي، وإمَّا للدعاء إلى الله. و «لتعلمُنَّ» جواب قَسمٍ مقدرٍ معناه: ولَتَعْرِفُنَّ.

الزمر

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {تَنزِيلُ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هذا تنزيلُ. وقال الشيخ: «وأقولُ إنه خبرٌ، والمبتدأ» هو «ليعودَ على قولِه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [ص: 87] كأنه قيل: وهذا الذِّكْرُ ما هو؟ فقيل: هو تنزيلُ الكتابِ» . الثاني: أنه مبتدأٌ، والجارُّ بعده خبرُه أي: تنزيلُ الكتابِ كائنٌ من اللَّهِ. وإليه ذهب الزجاج والفراء. قوله: «مِنَ اللَّهِ» يجوزُ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مرفوعُ المحلِّ خبراً لتنزيل، كما تقدَّم تقريرُه. الثاني: أنه خبرٌ بعد خبرٍ إذا جَعَلْنا «تنزيلُ» خبرَ مبتدأ مضمرٍ كقولك: «هذا زيدٌ من أهل العراق» . الثالث: أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا تنزيلٌ، هذا من الله. الرابع: أنَّه متعلِّقٌ بنفسِ «تَنْزيل» إذا جَعَلْناه خبرَ مبتدأ مضمرٍ. الخامس: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «تنزيل» عَمِل فيه اسمُ الإِشارةِ المقدرُ، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً

عَمِلَ فيها معنى الإِشارةِ؛ لأنَّ معانيَ الأفعالِ لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفاً؛ ولذلك رَدُّوا على أبي العباس قولَه في بيت الفرزدق: 3884 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإذ ما مثلَهمْ بَشَرُ إن» مثلهم «منصوبٌ بالخبرِ المحذوف وهو مقدرٌ: وإذ ما في الوجود في حالِ مماثلتِهم بَشَرٌ. السادس: أنه حالٌ من» الكتاب «قاله أبو البقاء. وجاز مجيءُ الحالِ من المضاف إليه لكونِه مفعولاً للمضافِ؛ فإنَّ المضافَ مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه. والعامَّةُ على رَفْع» تَنْزيلُ «على ما تقدَّم. وقرأ زيد ابن علي وعيسى وابن أبي عبلة بنصبِه بإضمارِ فِعْلٍ تقديرُه: الزَمْ أو اقْرَأ ونحوهما.

2

قوله: {بالحق} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالإِنزال أي: بسبب الحق، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب، أي: مُلْتبسين بالحق أو ملتبساً بالحقِّ. وفي قوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} تكريرُ تعظيمٍ بسبب إبرازِه في جملةٍ أخرى مضافاً إنزالُه إلى المعظِّم نفسَه. قوله: «مُخْلِصاً» حالٌ مِنْ فاعل «اعبد» ، و «الدين» منصوبٌ باسمِ الفاعلِ. والفاءُ في «فاعبُدِ» للربطِ، كقولك: «أَحْسَنَ إليك فلانٌ فاشْكُرْه» . والعامَّةُ على نصبِ «الدينَ» كما تقدَّم. ورَفَعَه ابنُ أبي عبلة. وفيه وجهان،

أحدُهما: أنَّه مرفوعٌ بالفاعليةِ رافعُه «مُخْلِصاً» ، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ تجوُّزٍ وإضمارٍ. أمَّا التجوزُ فإسنادُ الإِخلاصِ للدين وهو لصاحبِه في الحقيقة. ونظيرُه قولُهم: شعرٌ شاعرٌ. وأمَّا الإِضمارُ فهو إضمارٌ عائدٌ على ذي الحالِ أي: مُخْلِصاً له الدينَ منك، هذا رَأْيُ البصريين في مثل هذا. وأمَّا الكوفيون فيجوزُ أَنْ يكونَ عندهم أل عوضاً مِن الضميرِ أي: مُخْلِصاً ديْنَك. قال الزمخشري: «وحَقٌّ لمَنْ رَفَعه أَنْ يَقرأ» مُخْلَصاً «بفتحِ اللامِ لقولِه تعالى: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} [النساء: 146] حتى يطابقَ قولَه: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} ، والخالِصُ والمُخْلَص واحدٌ إلاَّ أَنْ يصفَ الدينَ بصفةِ صاحبِه على الإِسنادِ المجازيِّ كقولِهم: شعرٌ شاعرٌ» . والثاني: أَنْ يَتِمَّ الكلامُ على «مُخْلِصاً» وهو حالٌ مِنْ فاعلِ «فاعبدْ» و «له الدينُ» مبتدأٌ وخبرٌ، وهذا قولُ الفراء. وقد رَدَّه الزمخشري، وقال: «فقد جاء بإعرابٍ رَجَع به الكلامُ إلى قولِك:» لله الدينُ « {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} قلت: وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ لا يظهرُ فيه رَدٌّ على هذا الإِعرابِ.

3

قوله: {والذين اتخذوا} : يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ «الدينُ» مبتدأً، وخبرُه قولٌ مضمرٌ حُذِف وبقي معمولُه وهو قولُه «ما نَعْبُدهم» . والتقديرُ: يقولون ما نعبدهم. الثاني: أن يكونَ الخبرُ قولَه: {إِنَّ الله يَحْكُمُ} / ويكونُ ذلك القولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحال أي:

والذين اتَّخذوا قائلين كذا، إنَّ اللَّهَ يحكمُ بينهم. الثالث: أَنْ يكونَ القولُ المضمرُ بدلاً من الصلةِ التي هي «اتَّخذوا» . والتقديرُ: والذين اتخذوا قالوا ما نعبدُهم، والخبرُ أيضاً: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} و «الذين» في هذه الأقوالِ عبارةٌ عن المشركين المتَّخِذين غيرَهم أولياءَ. الرابع: أن يكونَ «الذين» عبارةً عن الملائكةِ وما عُبِد من دونِ اللَّهِ كعُزَيْرٍ واللاتِ والعُزَّى، ويكونُ فاعلُ «اتَّخَذَ» عائداً على المشركين. ومفعولُ الاتخاذِ الأولُ محذوفٌ، وهو عائدُ الموصولِ، والمفعولُ الثاني هو «أولياءَ» . والتقديرُ: والذين اتَّخذهم المشركون أولياءَ. ثم لك في خبرِ هذا المبتدأ وجهان، أحدهما: القولُ المضمرُ، التقدير: والذين اتَّخذهم المشركون أَوْلِياءَ يقول فيهم المشركون: ما نعبدهم إلاَّ. والثاني: أنَّ الخبرَ هي الجملةُ مِنْ قولِه: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} . وقُرِئ «ما نُعْبُدُهم» بضمِّ النونِ إتباعاً للباءِ، ولا يُعْتَدُّ بالساكن. قوله: «زُلْفَى» مصدرٌ مؤكِّدٌ على غيرِ الصدرِ، ولكنه مُلاقٍ لعاملِه في المعنى، والتقدير: لَيُزْلِفُونا زُلْفى، أو لِيُقَرِّبونا قُربى. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ تكونَ حالاً مؤكدة. قوله: «كاذِبٌ كفَّارٌ» قرأ الحسنُ والأعرجُ - ويُرْوى عن أنسٍ - «كذَّابٌ كَفَّارٌ» ، وزيد بن علي «كَذُوبٌ كفورٌ» .

5

قوله: {يُكَوِّرُ اليل} : في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنَّها مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك. الثاني: أنها حالٌ، قاله أبو البقاء.

وفيه ضعفٌ؛ من حيث إن تكويرَ أحدِهما على الآخر، إنما كان بَعْدَ خَلْقِ السماواتِ والأرضِ، إلاَّ أَنْ يُقال: هي حالٌ مقدرةٌ، وهو خلافُ الأصلِ. والتكويرُ: اللفُّ واللَّيُّ. يقال: كارَ العِمامةَ على رأسه وكَوَّرها. ومعنى تكويرِ الليلِ على النهارِ وتكويرِ النهارِ على الليل على هذا المعنى: أنَّ الليلَ والنهارَ خِلْفَةٌ يذهب هذا ويَغْشى مكانه هذا، وإذا غَشِيَ مكانه فكأنما لَفَّ عليه وأَلْبَسَه كما يُلَفُّ اللباسُ على اللابِسِ، أو أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُغَيِّب الآخر إذا طرأ عليه، فشُبِّه في تَغْييبه إياه بشيءٍ ظاهرٍ لَفَّ عليه ما غَيَّبه عن مطامحِ الأبصار، أو أنَّ هذا يَكُرُّ على هذا كُروراً متتابِعاً، فَشُبِّه ذلك بتتابع أكوارِ العِمامة بعضِها على بعضٍ. قاله الزمخشريُّ، وهو أوفقُ للاشتقاقِ من أشياءَ قد ذُكِرَتْ. وقال الراغب: «كَوْرُ الشيءِ إدارتُه وضَمُّ بعضِه إلى بعضٍ كَكَوْر العِمامةِ. وقوله: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار} إشارةٌ إلى جَرَيانِ الشمسِ في مطالعها وانتقاصِ الليل والنهار وازديادِهما، وكَوَّره إذا أَلْقاه مجتمعاً. واكتار الفرسُ: إذا رَدَّ ذَنبَه في عَدْوِه. وكُوَّارَةُ النَّحْلِ معروفةٌ. والكُوْر: الرَّحْلُ. وقيل: لكل مِصْرٍ» كُوْرَة «، وهي البُقْعَةُ التي يَجْتمع فيها قُرىً ومحالُّ» .

6

قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا} : في «ثم» هذه أوجهٌ، أحدها: أنها على بابها من الترتيب بمُهْلة، وذلك أنه يُرْوى أنه تعالى أخرجَنا من ظهرِ آدمَ كالذَّرِّ ثم خَلَق حواءَ بعد ذلك بزمانٍ. الثاني: أنها على بابها أيضاً ولكنْ لمَدْركٍ آخرَ: وهو أن يُعْطَفَ بها ما بعدها على ما فُهِم من الصفة في قولِه: «واحدة» إذ التقدير: من نفسٍ وَحَدَتْ أي انفَرَدَتْ ثم جَعَلَ منها زَوْجَها. الثالث: أنَّها

للترتيب في الأخبار لا في الزمان الوجوديِّ كأنه قيل: كان مِنْ أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجَها. الرابع: أنها للترتيبِ في الأحوالِ والرُّتَبِ. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: وما وجهُ قولِه: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وما يُعطيه من التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملةِ الآياتِ التي عَدَّدها دالاًّ على وحدانيَّتِه وقُدْرَتِه بتشعيب هذا الخلقِ الفائتِ للحَصْرِ من نفسِ آدمَ عليه السلام وخَلْقِ حواء من قُصَيْراه، إلاَّ أَن إحداهما جعلها اللَّهُ عادةً مستمرةً، والأخرى لم تَجْرِ بها العادةُ ولم تُخْلَقْ أنثى غيرُ حواءَ من قُصيرى رجلٍ، فكانَتْ أَدخلَ في كَوْنها آيةً وأَجْلَبَ لعَجَبِ السامعِ، فعطفَها ب» ثم «على الآية الأولى للدلالةِ على مباينَتِها فضلاً ومزيةً، وتراخيها عنها فيما يرجِعُ إلى زيادةِ كونِها آيةً فهي من التراخي في الحالِ والمنزلةِ لا من التراخي في الوجودِ. قوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام} عطف على» خَلَقَكم «، والإِنزالُ يَحتمل الحقيقةَ. يُرْوى أنه خَلَقها في الجنةِ ثم أَنْزَلَها، ويُحتملُ المجازُ، وله وجهان، أحدهما: أنها لم تَعِشْ إلاَّ بالنبات والماء، والنباتُ إنما يعيش بالماء، والماءُ يَنْزِلُ من السحاب أطلق الإِنزالَ/ عليها وهو في الحقيقةِ يُطْلَقُ على سببِ السببِ كقولِه: 3885 - أَسْنِمَةُ الآبالِ في رَبابَهْ ... وقوله: 3886 - صار الثريدُ في رُؤوسِ العِيْدانْ ...

وقوله: 3887 - إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قَوْمٍ ... رَعَيْناه وإنْ كانوا غِضابا والثاني: أنَّ قضاياه وأحكامَه مُنَزَّلَةٌ من السماءِ من حيث كَتْبُها في اللوحِ المحفوظِ، وهو أيضاً سبَبٌ في إيجادِها. قوله:» يَخْلُقكم «هذه الجملةُ استئنافيةٌ، ولا حاجةَ إلى جَعْلِها خبرَ مبتدأ مضمرٍ، بل اسُتُؤْنفت للإِخبار بجملةٍ فعلية. وقد تقدَّم خلافُ القراءِ في كسرِ الهمزةِ وفتحِها وكذا الميمُ. قوله:» خَلْقاً «مصدرٌ ل» يَخْلُق «و {مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} صفةٌ له، فهو لبيانِ النوعِ من حيث إنه لَمَّا وُصِفَ زاد معناه على معنى عاملِه. ويجوز أن يتعلَّقَ {مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} بالفعل قبلَه، فيكون» خَلْقاً «لمجرد التوكيد. قوله:» ظُلُمات «متعلقٌ بخَلْق الذي قبله، ولا يجوز تعلُّقُه ب» خَلْقاً «المنصوبِ؛ لأنه مصدرٌ مؤكِّدٌ، وإن كان أبو البقاء جَوَّزه، ثم مَنَعَه بما ذكرْتُ فإنه قال:» و «في» متعلِّقٌ به أي ب «خَلْقاً» أو بخلق الثاني؛ لأنَّ الأولَ مؤكِّدٌ فلا يعملُ «ولا يجوزُ تعلُّقُه بالفعلِ قبله؛ لأنه قد تعلَّقَ به حرفٌ مثلُه، ولا يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنًى إلاَّ بالبدليةِ أو العطفِ. فإنْ جَعَلْتَ «في ظلمات» بدلاً مِنْ {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} بدلَ اشتمالٍ؛ لأن البطونَ مشتملةٌ عليها، وتكونُ بدلاً بإعادة العاملِ، جاز ذلك، أعني تعلُّقَ الجارَّيْن ب «يَخْلُقكم» . ولا يَضُرُّ الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه بالمصدرِ لأنه مِنْ تتمةِ العاملِ فليس بأجنبي.

قوله: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ «الله» خبراً ل «ذلكم» و «ربُّكم» نعتٌ للَّهِ أو بدلٌ منه. ويجوز أَنْ يكونَ «الله» بدلاً مِنْ «ذلكم» و «ربُّكم» خبرُه. قوله: «له المُلْكُ» يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً بعد خبر، وأَنْ يكونَ «الله» بدلاً مِنْ «ذلكم» و «ربُّكم» نعتٌ لله أو بدلٌ منه، والخبرُ الجملةُ مِنْ «له الملكُ» . ويجوزُ أَنْ يكون الخبرُ نفسَ الجارِّ والمجرور وحدَه و «المُلْكُ» فاعلٌ به، فهو من بابِ الإِخبارِ بالمفرد. قوله: {لا إله إِلاَّ هُوَ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأَنْ يكونَ خبراً بعد خبرٍ.

7

قوله: {يَرْضَهُ لَكُمْ} : قرأ «يَرْضَهُوْ» بالصلة - وهي الأصلُ مِنْ غيرِ خلافٍ - ابنُ كثيرٍ والكسائيُّ وابنُ ذكوان. وهي قراءةٌ واضحةٌ. وقرأ «يَرْضَهُ» بضم الهاءِ مِنْ غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ. وقرأ «يَرْضَهْ» بإسكانها وَصْلاً مِنْ غيرِ خلافٍ السوسيُّ عن أبي عمروٍ. وقرأ بالوجهين - أعني الإِسكانَ والصلةَ - الدُّوْريُّ عن أبي عمروٍ، وقرأ بالوجهين - أعني الإِسكانَ والتحريكَ مِنْ غيرِ صلة - هشامٌ عن ابنِ عامرٍ، فهذه خمسُ مراتبَ للقُرَّاءِ، وقد عَرَفْتَ توجيهَ الإِسكانِ والقصرِ والإِشباع ممَّا تقدَّم في أوائلِ هذا الموضوع، وما أَنْشَدْتُه عليه وأسْنَدْتُه لغةً إلى قائله. ولا يُلْتَفَتُ إلى أبي حاتمٍ في تَغْليطِه راويَ السكونِ، فإنها لغةٌ ثابتةٌ عن بني عُقَيْل وبني كلاب.

8

قوله: {مُنِيباً} : حالٌ مِن فاعل «دَعَا» و «إليه» متعلق ب «مُنيباً» أي راجِعاً إليه.

قوله: «خَوَّله» يُقال: خَوَّلَه نِعْمَةً أي: أعطاها إياه ابتداءً مِنْ غيرِ مُقْتَضٍ. ولا يُسْتَعْمَلُ في الجزاءِ بل في ابتداءِ العَطِيَّةِ. قال زهير: 3888 - هنالِك إنْ يُسْتَخْوَلُوا المالُ يُخْوِلُوْا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويُرْوَى «يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلوا» . وقال أبو النجم: 3889 - أَعْطَى فلم يُبْخَلْ ولم يُبَخَّلِ ... كُوْمُ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّلِ وحقيقةُ «خَوَّل» مِنْ أحدِ معنيين: إمَّا مِنْ قولِهم: «هو خائلُ مالٍ» إذا كان متعهِّداً له حَسَنَ القيام عليه، وإمَّا مِنْ خال يَخُول إذا اختال وافتخر، ومنه قولُه: «إنَّ الغنيَّ طويلُ الذيلِ مَيَّاسُ» ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ مُسْتوفىً في الأنعام. قوله: «منه» يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً ب «خَوَّل» ، وأنْ يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «نِعْمة» . قوله: {مَا كَانَ يدعوا} يجوزُ في «ما» هذه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، مُراداً بها الضُّرُّ أي: نسي الضرَّ الذي يَدْعو إلى كَشْفِه. الثاني: أنها بمعنى الذي/ مُراداً بها الباري تعالى أي: نَسِي اللَّهَ الذي كان يَتَضرَّعُ إليه. وهذا عند مَنْ يُجيزُ «ما» على أُوْلي العلمِ. الثالث: أَنْ تكونَ «ما»

مصدريةً أي: نَسِي كونَه داعياً. الرابع: أن تكونَ «ما» نافيةً، وعلى هذا فالكلامُ تامٌّ على قولِه: «نَسِيَ» ثم استأنَفَ إخباراً بجملةٍ منفيةٍ، والتقدير: نَسِيَ ما كان فيه. لم يكنْ دعاءُ هذا الكافرِ خالصاً لله تعالى. و «من قبلُ» أي: من قبلِ الضررِ، على القول الأخير، وأمَّا على الأقوالِ قبلَه فالتقديرُ: مِنْ قبل تخويلِ النِّعمة. قوله: «لِيُضِلَّ» قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمروٍ «لِيَضِلَّ» بفتح الياء أي: ليفعلَ الضلالَ بنفسه. والباقون بضمِّها أي: لم يقنع بضلالِه في نفسِه حتى يَحْمِلَ غيرَه عليه، فمفعولُه محذوفٌ وله نظائرُ تقدَّمَتْ. واللامُ يجوزُ أن تكونَ للعلةِ، وأن تكونَ للعاقبة.

9

قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} : قرأ الحَرميَّان: نافعٌ وابنُ كثير بتخفيف الميم، والباقون بتشديدها. فأمَّا الأُولى ففيها وجهان، أحدهما: أنها همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على «مَنْ» بمعنى الذي، والاستفهامُ للتقريرِ، ومقابلُه محذوفٌ، تقديرُه: أمَنْ هو قانتٌ كمَنْ جعل للَّهِ تعالى أنداداً، أو أَمَنْ هو قانِتٌ كغيرِه، أو التقدير: أهذا القانِتُ خيرٌ أم الكافرُ المخاطبُ بقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} ويَدُلُّ عليه قولُه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} فحذفَ خبرَ المبتدأ أو ما يعادِلُ المُسْتَفْهَم عنه. والتقديران الأوَّلان أَوْلى لقلةِ الحَذْفِ. ومن حَذْفِ المعادِلِ للدلالةِ قولُ الشاعر: 3890 - دَعاني إليها القلبُ إنِّي لأَمْرِها ... سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها

يريد: أم غَيٌّ. والثاني: أَنْ تكونَ الهمزةُ للنداءِ، و «مَنْ» منادى، ويكون المنادى هو النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو المأمورُ بقولِه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ} كأنه قال: يا مَنْ هو قانِتٌ قل كَيْتَ وكَيْتَ، كقولِ الآخرِ: 3891 - أزيدُ أخا وَرْقاءَ إنْ كنتَ ثائراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفيه بُعْدٌ، ولم يَقَعْ في القرآن نداءٌ بغير يا حتى يُحْمَلَ هذا عليه. وقد ضَعَّفَ الشيخُ هذا الوجهَ بأنه أيضاً أجنبيٌّ مِمَّا قبله وممَّا بعده. قلت: قد تقدَّمَ أنه ليس أجنبياً ممَّا بعدَه؛ إذ المنادَى هو المأمورُ بالقولِ. وقد ضَعَّفَه الفارسي أيضاً بقريبٍ مِنْ هذا. وقد تَجَرَّأ على قارئِ هذه القراءةِ أبو حاتم والأخفش. وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فهي «أم» داخلةً على «مَنْ» الموصولةِ أيضاً فأُدْغِمَتْ الميمُ. وفي «أم» حينئذٍ قولان، أحدهما: أنها متصلةٌ، ومعادِلُها محذوفٌ تقديرُه: آلكافرُ خيرٌ أم الذي هو قانِتٌ. وهذا معنى قولِ الأخفشِ. قال الشيخ: ويحتاج حَذْفُ المعادِلِ إذا كان أولَ إلى سَماعٍ «. وقيل:

تقديرُه: أمَّنْ يَعْصي أمَّن هو مطيعٌ فيستويان. وحُذِفَ الخبرُ لدلالةِ قولِه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ} . والثاني: أنَّها منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ أي: بل أمَّن هو قانِتٌ كغيرِه أو كالكافر المقولِ له: تمتَّعْ بكفرِك. وقال أبو جعفر:» هي بمعنى بل، و «مَنْ» بمعنى الذي تقديرُه: بل الذي هو قانتٌ أفضلُ مِمَّنْ ذُكِرَ قبله «. وانتُقِدَ عليه هذا التقديرُ: من حيث إنَّ مَنْ تَقَدَّم ليس له فضيلةٌ البتةَ حتى يكونَ هذا أفضلَ منه. والذي ينبغي أَنْ يُقَدَّرَ:» بل الذي هو قانِتٌ مِنْ أصحاب الجنة «؛ لدلالة ما لقسيمِه عليه مِنْ قولِه: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} . و» آناءَ «منصوبٌ على الظرفِ. وقد تقدَّم اشتقاقُه والكلامُ في مفردِه. قوله:» ساجِداً وقائماً «حالان. وفي صاحبهما وجهان، الظاهر منهما: أنه الضميرُ المستتر في» قانِتٌ «. والثاني: أنه الضميرُ المرفوعُ ب» يَحْذَرُ «قُدِّما على عامِلهما. والعامَّةُ على نصبِهما. وقرأ الضحاك برفعهما على أحد وجهين: إمَّا النعتِ ل» قَانِتٌ «، وإمَّا أنهما خبرٌ بعد خبر. قوله:» يَحْذَر «يجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في» قانتٌ «وأن يكونَ/ حالاً من الضمير في» ساجداً وقائماً «، وأَنْ يكونَ مستأنفاً جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل: ما شأنُه يَقْنُتُ آناءَ الليل ويُتْعِبُ نفسَه ويُكُدُّها؟ فقيل: يَحْذَرُ الآخرَة ويَرْجُو رحمةَ ربِّه، أي: عذابَ الآخرةِ. وقُرِئ {إِنَّمَا يَذَّكَّرُ أُوْلُو} بإدغامِ التاءِ في الذَّال.

10

قوله: {فِي هذه الدنيا} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالفعل قبله؛ وحُذِفَت صفةُ «حسنةٌ» ، إذ المعنى: حسنة عظيمة؛ لأنه لا يُوْعَدُ مَنْ عمل حسنةً في الدنيا، حسنةً مطلقاً بل مقيَّدةً بالعِظَم، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنْ حسنة كانَتْ صفةً لها، فلمَّا تَقَدَّمَتْ بقيَتْ حالاً. و «بغيرِ حسابٍ» حالٌ: إمَّا مِنْ «أَجْرَهم» ، وإمَّا من «الصابرون» أي: غيرَ محاسَبٍ عليه، أو غيرَ محاسَبين.

12

قوله: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ} : في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أنها للتعليلِ تقديره: وأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به لأَنْ أكونَ. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف عَطَفَ» أُمِرْت «على» أُمِرت «وهما واحدٌ؟ قلت: ليسا بواحدٍ لاختلافِ جهتيهما: وذلك أنَّ الأمرَ بالإِخلاصِ وتكليفَه شيءٌ، والأمرَ به ليُحْرِز به قَصَبَ السَّبْقِ في الدين شيءٌ آخرُ. وإذا اختلفَ وجها الشيء وصفتاه يُنَزَّل بذلك مَنْزِلَةَ شيئين مختلفين» . والثاني أن تكونَ اللامُ مزيدةً في «أَنْ» . قال الزمخشري: «ولك أن تَجْعَلَ اللامَ مزِيدَةً، مَثَلُها في قولك:» أَرَدْتُ لأَنْ أفعلَ «ولا تُزاد إلاَّ مع» أَنْ «خاصةً دونَ الاسمِ الصريح، كأنها زِيْدَتْ عوضاً من تَرْكِ الأصل إلى ما يقومُ مَقامَه، كما عُوِّض السينُ في» اسطاع «عوضاً من تَرْكِ الأصل الذي هو أَطْوَعَ. والدليلُ على هذا الوجهِ مجيئُه بغيرِ لامٍ في قولِه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72] {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} [يونس: 104] {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] انتهى.

قوله:» ولا تُزاد إلا مع أنْ «فيه نظرٌ، من حيث إنها تُزاد باطِّرادٍ إذا كان المعمولُ متقدماً، أو كان العامل فرعاً. وبغير اطِّرادٍ في غيرِ الموضعين، ولم يَذْكُرْ أحدٌ من النحويين هذا التفصيلَ. وقوله:» كما عُوِّض السينُ في اسْطاع «هذا على أحد القولين. والقول الآخر أنَّه استطاع فحُذِفَتْ تاءُ الاستفعالِ. وقوله:» والدليلُ عليه مجيئُه بغير لامٍ «قد يُقال: إنَّ أصلَه باللامِ، وإنما حُذِفَتْ لأنَّ حَرْفَ الجرِّ يَطَّرِدُ حَذْفُه مع» أنْ «و» أنَّ «، ويكون المأمورُ به محذوفاً تقديرُه: وأُمِرْت أن أعبدَ لأَنْ أكونَ.

14

قوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ} : قُدِّمَتِ الجلالةُ عند قومٍ لإِفادةِ الاختصاصِ. قال الزمخشريُّ: «ولدلالتِه على ذلك قَدَّمَ المعبودَ على فِعْلِ العبادةِ هنا، وأَخَّره في الأول، فالكلامُ أولاً واقعٌ في الفعل نفسِه وإيجادِه، وثانياً فيمن يفعلُ الفعلَ مِنْ أجلِه، فلذلك رَتَّبَ عَليه قولَه: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} » .

16

قوله: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} : يجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ أحدَ الجارَّيْنِ المتقدِّمَيْنِ، وإن كان الظاهرُ جَعْلَ الأولِ هو الخبرَ، ويكون «مِنْ فوقِهم» إمَّا حالاً مِنْ «ظُلَل» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، وإمَّا متعلقاً بما تعلَّق به الخبرُ، و «مِن النار» صفةٌ ل «ظُلَل» . وقوله: {وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} كما تقدَّم، وسَمَّاها ظلالاً بالنسبة لمَنْ تَحْتهم.

17

قوله: {أَن يَعْبُدُوهَا} : الضميرُ عائدٌ على الطاغوتِ لأنها تُؤَنَّثُ، وقد تقدَّم القولُ عليها مستوفىً في البقرة. و «أَنْ يعبدوها» في محلِّ نصبٍ على البدل من الطاغوت بدلِ اشتمالٍ، كأنه قيل: اجْتَنِبُوا عبادةَ الطاغوتِ. والموصولُ مبتدأٌ. والجملةُ مِنْ «لهم البشرى» الخبرُ. وقيل: «لهم» هو الخبرُ بنفسِه. «والبُشْرى» فاعلٌ به وهذا أَوْلَى لأنه مِنْ بابِ الإِخبار بالمفرداتِ. وقوله: «فبَشِّرْ عبادي» من إيقاع الظاهرِ مَوْقِعَ المضمرِ أي: فبَشِّرْهُمْ أي: أولئك المجتَنبين، وإنما فُعِلَ ذلك تصريحاً بالوصفِ المذكور.

18

قوله: {الذين يَسْتَمِعُونَ} : الظاهرُ أنه نعتٌ لعبادي، أو بدلٌ منه، أو بيانٌ له. وقيل: يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً. وقوله: {أولئك الذين} إلخ خبرُه. وعلى هذا فالوقفُ على قولِه: «عبادي» والابتداءُ بما بعدَه.

19

قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ} : في «مَنْ» هذه وجهان، أظهرهما: أنها موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء. وخبرُه محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء «كمَنْ نجا» . وقَدَّره الزمخشري: «فأنت تُخَلِّصُه» قال: «حُذِفَ لدلالةِ» أفأنت تُنْقِذُ «عليه. وقَدَّره غيرُه» تتأسَّفُ عليه «. وقدَّره آخرون» يَتَخَلَّص منه «أي: من العذاب/ وقدَّر الزمخشريُّ على عادته جملةً بين الهمزة والفاء. تقديرُه: أأنت مالِكُ أَمْرِهم، فمَنْ حَقَّ عليه كلمةُ العذاب. وأمَّا غيرُه فيدَّعي أن الأصلَ تقديمُ الفاءِ وإنما أُخِّرَتْ لِما تستحقُّه الهمزةُ من التصديرِ. وقد

تقدَّمَ تحقيق هذين القولين غيرَ مرةٍ. والثاني: أَنْ تكون» مَنْ «شرطيةً، وجوابُها: أفأنت. فالفاء فاءُ الجوابِ دَخَلَتْ على جملةِ الجزاءِ، وأُعيدتِ الهمزةُ لتوكيد معنى الإِنكار، وأوقع الظاهرَ وهو {مَن فِي النار} موقعَ المضمرِ، إذ كان الأصلُ: أفأنت تُنْقِذُه. وإنما وَقَعَ موقعَه شهادة عليه بذلك. وإلى هذا نحا الحوفيُّ والزمخشري. قال الحوفي:» وجيْءَ بألف الاستفهام لَمَّا طَال الكلامُ توكيداً، ولولا طولُه لم يَجُزْ الإِتيانُ بها؛ لأنه لا يَصْلُحُ في العربيةِ أَنْ يأتيَ بألف الاستفهام في الاسمِ وألفٍ أخرى في الجزاء. ومعنى الكلام: أفأنت تُنْقِذُه. وعلى القول بكونِها شرطيةً يترتَّبُ على قولِ الزمخشري وقولِ الجمهور مسألةٌ: وهو أنَّه على قولِ الجمهورِ يكونُ قد اجتمع شرطٌ واستفهامٌ. وفيه حينئذٍ خلافٌ بين سيبويه ويونسَ: هل الجملة الأخيرةُ جواب الاستفهام وهو قولُ يونسَ، أو جوابٌ للشرط، وهو قولُ سيبويه؟ وأمَّا على قَوْلِ الزمخشريِّ فلم يَجْتمع شرطٌ واستفهامٌ؛ إذ أداةُ الاستفهامِ عندَه داخلةٌ على جملةٍ محذوفةٍ عُطِفَتْ عليها جملةُ الشرط، ولم يَدْخُلْ على جملةِ الشرطِ. وقوله: «أفأنت تُنْقِذُ» استفهامُ توقيفٍ وقُدِّم فيها الضميرُ إشعاراً بأنك لست قادراً على إنقاذِه إنَّما القادرُ عليه اللَّهُ وحدَه.

20

قوله: {لكن الذين اتقوا} : استدراكٌ بين شيئين نقيضَيْن أو ضِدَّيْن، وهما المؤمنون والكافرون. وقوله: «وَعْدَ اللَّهِ» مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ، فهو منصوبٌ بواجبِ الإِضمار.

21

قوله: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ} : العامَّةُ على رَفْعِ الفعلِ نَسَقاً على ما قبلَه. وقرأ أبو بشر «ثم يَجْعَلَه» منصوباً. قال الشيخ: «قال صاحب الكامل:» وهو ضعيفٌ «انتهى. يعني بصاحب الكامل» الهذليَّ «ولم يُبَيِّنْ هو ولا صاحبُ الكامل وَجْهَ ضَعْفِه ولا تخريجَه. فأمَّا ضعفُه فواضحٌ حيث لم يتقدَّم ما يَقْتَضي نصبَه في الظاهر. وأمَّا تخريجُه فقد ذكر أبو البقاء فيه وجهين، أحدُهما: أَنْ ينتصِبَ بإضمار» أن «ويكونَ معطوفاً على قولِه: {أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} في أولِ الآيةِ، والتقدير: ألم تَرَ إنزالَ اللَّهِ ثم جَعْلَه. والثاني: أَنْ يكونَ منصوباً بتقدير تَرَى أي: ثم تَرَى جَعْلَه حُطاماً، يعني أنه يُنْصَبُ ب» أنْ «مضمرةً، وتكونُ» أنْ «وما في حَيِّزِها مفعولاً به بفعلٍ مقدرٍ وهو» تَرَى «لدلالة» ألم تَرَ «عليه.

22

قوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله} : {أَفَمَن يَتَّقِي} [الزمر: 24] كما تقدَّم في {أَفَمَنْ حَقَّ} [الزمر: 19] . والتقديرُ: أفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صدرَه للإِسلامِ كمَنْ قسا قلبُه، أو كالقاسي المُعْرِضِ، لدلالةِ {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} عليه. وكذا التقديرُ

في: أفَمَنْ يَتَّقِي أي: كمن أَمِنَ العذابَ، وهو تقديرُ الزمخشريِّ، أو كالمُنْعَمِيْنَ في الجنةِ، وهو تقديرُ ابنِ عطية.

23

قوله: {كِتَاباً} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه بدلٌ مِنْ «أحسنَ الحديث» . والثاني: أنه حالٌ منه. قال الشيخ - لَمَّا نقله عن الزمخشري -: «وكأنَّه بناءً على أنَّ» أَحْسَن الحديث «معرفةٌ لإِضافتِه إلى معرفةٍ، وأفعلُ التفضيلِ إذا أُضيف إلى معرفةٍ فيه خلافٌ. فقيل: إضافتُه مَحْضَةٌ. وقيل: غيرُ محضة» . قلت: وعلى تقديرِ كونِه نكرةً يَحْسُنُ أيضاً أَنْ يكونَ حالاً؛ لأنَّ النكرةَ متى أُضيفَتْ ساغ مجيءُ الحالِ منها بلا خلافٍ. والصحيحُ أنَّ إضافةَ أَفْعَلَ محضةٌ. و «مُتَشابِهاً» نعتٌ ل «كتاب» وهو المُسَوِّغُ لمجيءِ الجامدِ حالاً، أو لأنَّه في قوةِ مكتوب. وقرأ العامَّةُ «مثانيَ» بفتح الياء صفةً ثانية أو حالاً أخرى أو تمييزاً منقولاً من الفاعلية أي متشابهاً مثانيه وإلى هذا ذهب الزمخشري. وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بِشْرٍ بسكونها، وفيها وجهان، أحدُهما: أنه مِنْ تسكِينِ حرفِ العلةِ استثقالاً للحركةِ عليه كقراءة «تُطْعِمُوْن أهاليْكم» . [وقوله] : 3892 - كأنَّ أَيْدِيْهِنَّ. . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ونحوِهما. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو مثاني، كذا ذكره الشيخ. وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ وتُحْذَفَ ياؤُه لالتقاءِ الساكنين فيقال: مثانٍ، كما تقول: هؤلاء جوارٍ. وقد يُقال: إنه وُقِفَ عليه. ثم أُجْرِيَ الوصلُ مُجْرى/ الوقفِ لكنْ يُعْتَرَضُ عليه: بأنَّ الوَقْفَ على المنقوصِ المنونِ بحَذْفِ الياءِ نحو: هذا قاضٍ، وإثباتُها لغةٌ قليلةٌ. ويمكن الجوابُ عنه: بأنَّه قد قُرِئ بذلك في المتواترِ نحو: {مِنْ والي} و {باقي} و {هادي} في قراءة ابن كثير. قوله: «تَقْشَعِرُّ» هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل «كتاب» ، وأَنْ تكونَ حالاً منه لاختصاصِه بالصفةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً. واقشعرَّ جِلْدُه إذا تقبَّضَ وتَجَمَّعَ من الخوف، وقَفَّ شعرُه. والمصدرُ الاقشعرارُ والقُشَعْرِيرة أيضاً. ووزن اقْشَعَرَّ افْعَلَلَّ. ووزنُ القُشَعْرِيرة: فَعَلِّيْلَة. و «مَثاني» جمعُ مَثْنى؛ لأنَّ فيه تثنيةَ القصصِ والمواعظِ، أو جمعُ مَثْنى مَفْعَل مِنْ التثنية بمعنى التكرير. وإنما وُصِفَ «كتاب» وهو مفردٌ بمثاني، وهو جمعٌ؛ لأنَّ الكتابَ مشتملٌ على سورٍ وآياتٍ، أو هو من باب: بُرْمَةٌ أعشارٌ وثَوْبٌ أخلاقٌ. كذا قال الزمخشري: وقيل: ثَمَّ موصوفٌ محذوفٌ أي: فصولاً مثانيَ حُذِفَ للدلالةِ عليه.

28

قوله: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ منصوباً على المدح؛ لأنه لَمَّا كان نكرةً امتنع إتباعُه للقرآن. الثاني: أَنْ

ينتصِبَ ب «يتذكَّرون» أي: يتذكَّرون قرآناً. الثالث: أن ينتصبَ على الحال مِن القرآن على أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ، وتُسَمَّى حالاً موطئة لأنَّ الحالَ في الحقيقةِ «عربياً» و «قرآناً» توطئةٌ له نحو: «جاء زيدٌ رجلاً صالحاً» . رضي الله عنR> قوله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} نعتٌ ل «قرآناً» أو حالٌ أخرى. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: فهلاَّ قيل: مستقيماً أو غيرَ مُعْوَج. قلت: فيه فائدتان، إحداهما: نفيُ أَنْ يكونَ فيه عِوَجٌ قط كما قال: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] . والثاني: أنَّ العِوَجَ يختصُّ بالمعاني دونَ الأعيان. وقيل: المرادُ بالعِوَجِ الشكُّ واللَّبْسُ» . وأنشد: 3893 - وقد أتاكَ يقينٌ غيرُ ذي عِوَجٍ ... من الإِلهِ وقولٌ غيرُ مَكْذوبِ

29

قوله: {فِيهِ شُرَكَآءُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ هذا جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب صفةً لرجل، ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ الجارَّ وحدَه، و «شركاءُ» فاعلٌ به، وهو أَوْلَى لقُرْبه من المفردِ و «مُتَشاكِسُوْن» صفةٌ لشركاء. والتشاكُسُ: التخالُفُ. وأصلُه سوءُ الخُلُقِ وعُسْرُه، وهو سببُ التخالُفِ والتشاجُر. ويقال: التَّشاكس والتشاخُسُ بالخاء موضع الكاف. وقد تقدَّم الكلامُ على نصب المثل وما بعده الواقعين بعد «ضَرَب» . وقال الكسائي: انتصَبَ «رجلاً» على إسقاط الجارِّ أي: لرجل أو في رجل. وقوله: «فيه» أي: في رِقِّه. وقال أبو البقاء كلاماً لا يُشْبه أَنْ يَصْدُرَ مِنْ

مثله، بل ولا أَقَلَّ منه. قال: «وفيه شركاءُ الجملةُ صفةُ ل» رجل «و» في «متعلقٌ بمتشاكسون. وفيه دلالةٌ على جوازِ تقديمِ خبرِ المبتدأ عليه» انتهى. أمَّا هذا فلا أشُكُّ أنه سهوٌ؛ لأنه من حيث جَعَلَه جملةً كيف يقول بعد ذلك: إن «فيه» متعلقٌ ب «متشاكسون» ؟ وقد يقال: أراد مِنْ حيث المعنى، وهو بعيدٌ جداً. ثم قوله: «وفيه دلالةٌ» إلى آخره يناقضه أيضاً. وليست المسألةُ غريبةً حتى يقولَ: «وفيه دلالة» . وكأنه أراد: فيه دلالةٌ على تقديم معمولِ الخبر على المبتدأ، بناءً منه على أنَّ «فيه» يتعلق ب «مُتشاكسون» ولكنه فاسدٌ، والفاسدُ لا يُرام صَلاحُه. قوله: «سَلَماً لرَجُلٍ» قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ «سالماً» بالألفِ وكسرِ اللام. والباقون «سَلَماً» بفتح السين واللام. وابن جبير بكسرِ السينِ وسكونِ اللام. فالقراءةُ الأولى اسمُ فاعلٍ مِنْ سَلِمَ له كذا فهو سالمٌ. والقراءاتان الأُخْرَيان سَلَماً وسِلْماً فهما مَصدران وُصِف بهما على سبيل المبالغةِ، أو على حَذْفِ مضافٍ ما، أو على وقوعِهما موقعَ اسمِ الفاعل فتعودُ كالقراءةِ الأولى. وقُرِئ «ورجلٌ سالِمٌ» برفعِهما. وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ مبتدأً، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: وهناك رجلٌ سالمٌ لرجلٍ، كذا قَدَّره الزمخشري. الثاني: أنه مبتدأٌ و «سالمٌ» خبرُه. وجاز الابتداءُ بالنكرةِ؛ لأنه موضعُ تفصيلٍ، كقولِ امرئِ القيس: 3894 - إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصرَفَتْ له ... بشِقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ وقولهم: الناسُ رجلان رجلٌ أكرمْتُ، ورجلٌ أَهَنْتُ.

قوله: «مَثَلاً» منصوبٌ على التمييزِ المنقولِ من الفاعليةِ إذ الأصلُ: هل يَسْتَوي مَثَلُهما. وأُفْرد التمييزُ لأنه مقتصرٌ عليه أولاً في قولِه: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} . وقرِئَ «مِثْلَيْن» فطابَقَ حالَيْ الرجلين. وقال الزمخشري - فيمَنْ قرأ مِثْلين -: «إنَّ الضميرَ في» يَسْتَويان «للمِثْلين؛ لأنَّ التقديرَ: مِثْلَ رجلٍ، ومثلَ رجلٍ. والمعنى: هل يَسْتويان فيما يَرْجِعُ إلى الوصفيَّة كما تقول: كفى بهما رجلين «. قال الشيخ:» والظاهرُ أنه يعود الضميرُ في «يَسْتَويان» على «رَجُلَيْن» . وأمَّا إذا جَعَلْتَه/ عائداً إلى المِثْلَيْنِ اللذيْن ذَكَرَ أنَّ التقديرَ: مِثْلَ رجلٍ ومِثْلَ رجلٍ؛ فإنَّ التمييزَ يكون إذ ذاك قد فُهِمَ من المميَّز الذي هو الضميرُ؛ إذ يصيرُ التقدير: هل يَسْتوي المِثْلان مِثْلين «. قلت: هذا لا يَضُرُّ؛ إذ التقديرُ: هل يَسْتوي المِثْلان مِثْلَيْن في الوصفيةِ فالمِثْلان الأوَّلان مَعْهودان، والثانيان جنسان مُبْهمان كما تقول: كَفَى بهما رجلَيْن؛ فإنَّ الضميرَ في» بهما «عائدٌ على ما يُراد بالرجلين فلا فَرْقَ بين المسألتين. فما كان جواباً عن» كفَى بهما رجلين «يكونُ جواباً له.

30

قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} : العامَّةُ على «مَيِّت ومَيِّتون» . وقرأ ابنُ محيصن وابنُ أبي عبلة واليماني «مائِتٌ ومائتون» ، وهي صفةٌ مُشْعِرَةٌ بحدوثِها دون «مَيِّت» . وقد تقدَّمَ أنَّه لا خلافَ بين القرَّاءِ في تثقيلِ مثلِ هذا. «ثم إنكم» تغليباً للمخاطبِ، وإنْ كان واحداً في قوله: «إنَّك» على الغائبين في «وإنَّهم» .

33

قوله: {والذي جَآءَ} : بالصدق لَفْظُه مفردٌ، ومعناه جمعٌ لأنه أُريد به الجنسُ. وقيل: لأنه قُصِدَ به الجزاءُ، وما كان كذلك كَثُرَ فيه وقوعُ «الذي» موقع «الذين» ، ولذلك رُوْعي معناه فجُمِع في قولِه: {أولئك هُمُ المتقون} كما رُوْعِيَ معنى «مَنْ» في قولِه: «للكافرين» ؛ فإنَّ الكافرين ظاهرٌ واقعٌ موقعَ المُضْمرِ؛ إذ الأصلُ: مثوىً لهم. وقيل: بل الأصلُ: والذين جاء بالصدق، فحُذِفَتِ النونُ تخفيفاً، كقولِه: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69] . وهذا وهمٌ؛ إذ لو قُصِد ذلك لجاء بعده ضميرُ الجمع، فكان يُقال: والذي جاؤوا، كقوله: «كالذي خاضُوا» . ويَدُلُّ عليه أنَّ نونَ التثنيةِ إذا حُذِفَتْ عاد الضميرُ مَثْنى، كقولِه: 3895 - أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذا ... قَتَلا الملوكَ وفَكَّكا الأَغْلالا ولجاءَ كقوله: 3896 - وإنَّ الذيْ حانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ ... همُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ وقرأ عبدُ الله {والذي جَآؤوا بالصدق وَصَدَّقَوا بِهِ} وقد تقدَّم تحقيقُ مثلِ هذه الآيةِ في أوائلِ البقرة وغيرها. وقيل: «الذي» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ

بمعنى الجمعِ، تقديرُه: والفريق أو الفوج ولذلك قال: {أولئك هُمُ المتقون} . وقيل: المرادُ بالذي واحدٌ بعينِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكن لَمَّا كان المرادُ هو وأتباعُه اعْتُبر ذلك فجُمِعَ، فقال: «أولئك هم» كقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون: 49] . قاله الزمخشري وعبارتُه: «هو رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أراد به إياه ومَنْ تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومَه» . وناقشه الشيخ في إيقاعِ الضميرِ المنفصلِ موقعَ المتصلِ قال: «وإصلاحُه أَنْ يقولَ: أراده به كما أراده بموسى وقومِه» . قلت: ولا مناقَشَةَ؛ لأنَّه مع تقديم «به» و «بموسى» لغرضٍ من الأغراض استحالَ اتصالُ الضميرِ، وهذا كما تقدَّم لك بحثٌ في قولِه تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] ، وقوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] : وهو أنَّ بعضَ الناسِ زَعَمَ أنه يجوزُ الانفصالُ مع القدرةِ على الاتصال، وتقدَّم الجوابُ بقريبٍ مِمَّا ذكَرْتُه هنا، وبَيَّنْتُ حكمةَ التقديمِ ثمةَ. وقولُ الزمخشريِّ: «إن الضميرَ في» لعلهم يَهْتدون «لموسى وقومِه» فيه نظرٌ، بل الظاهرُ خصوصُ الضميرِ بقومِه دونَه؛ لأنَّهم هم المطلوبُ منهم الهدايةُ. وأمَّا موسى عليه السلام فمهتدٍ ثابتٌ على الهداية. وقال الزمخشري أيضاً: «ويجوز أن يريدَ: والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدقِ وصَدَّق به، وهم: الرسولُ الذي جاء بالصدقِ وصحابتُه الذين صَدَّقوا به» . قال الشيخ: «وفيه توزيعُ الصلةِ، والفوجُ هو الموصولُ، فهو

كقولِك: جاء الفريقُ الذي شَرُفَ وشَرُفَ، والأظهرُ عَدَمُ التوزيعِ بل المعطوفُ على الصلةِ صلةٌ لمَنْ له الصلة الأولى» . وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان/ ومحمد بن جُحادة مخففاً بمعنى صَدَقَ فيه، ولم يُغَيِّرْه. وقُرِئ «وصُدِّق به» مشدَّداً مبنياً للمفعول.

35

قوله: {لِيُكَفِّرَ} : في تعلُّقها وَجْهان، أحدهما: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي: يَسَّرَ لهم ذلك ليُكَفِّرَ. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المحسنين، كأنه قيل: الذين احسنوا ليُكَفِّرَ أي: لأجلِ التكفير. قوله: «أسْوَأَ الذي» الظاهرُ أنَّه أَفْعَلُ تفضيل، وبه قرأ العامَّةُ. وقيل: ليسَتْ للتفضيل بل بمعنى سَيِّئَ الذي عمِلوا كقولِهم: «الأَشَجُّ والناقص أعدلُ بني مروان» أي: عادلاهم. ويَدُلُّ على هذا قراءةُ ابنِ كثير في رواية «أَسْواءَ» بألفٍ بين الواوِ والهمزةِ بزنَةِ أَحْمال جمعَ سُوء، وكذا قرأ في حم السجدة.

36

قوله: {بِكَافٍ عَبْدَهُ} : العامَّةُ على توحيدِ «عبدَه» . والأخَوان «عبادَه» جمعاً وهم الأنبياءُ وأتباعُهم. وقُرِئ «بكافي عبادِه»

بالإِضافة. و «يُكافى» مضارعُ كافى، «عبادَه» نُصِب على المفعولِ به. ثم المفاعلةُ هنا تحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى فَعَل نحو: نُجازي بمعنى نَجْزي، وبُنِيَ على لفظةِ المُفاعلةِ لِما تقدَّم مِنْ أنَّ بناءَ المفاعلةِ يُشْعِ بالمبالغةِ؛ لأنه للمغالبة. ويُحتمل أَنْ يكونَ أصلُه يُكافِئ بالهمزِ، من المكافأة بمعنى يَجْزِيْهم، فخفَّف الهمزةِ. قوله: «ويُخَوِّفُونَك» يجوزُ أَنْ يكون حالاً؛ إذ المعنى: أليس كافيَك حالَ تَخْويفِهم إياك بكذا، ويَعْلَمُه. كأنَّ المعنى: أنَّه كافيه في كلِّ حالٍ حتى في هذه الحال. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً.

38

قوله: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ} : هي المتعديةُ لاثنين، أوَّلُهما «ما تَدْعوْن» وثانيهما الجملةُ الاستفهاميةُ. والعائدُ على المفعول منها قولُه: «هُنَّ» وإنما أنَّثَه تحقيراً لِما يَدْعُون مِنْ دونِه، ولأنهم كانوا يُسَمُّونها بأسماءِ الإِناث: اللات ومَناة والعُزَّى. وقد تقدَّم تحقيقُ هذه مستوفىً في مواضعَ. قوله: {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} قرأ أبو عمرو «كاشفاتٌ مُمْسِكاتٌ» بالتنوين ونصبِ «ضُرَّه» و «رحمتَه» ، وهو الأصلُ في اسم الفاعل. والباقون بالإِضافةِ وهو تخفيفٌ.

42

قوله: {والتي لَمْ تَمُتْ} : عطفٌ على الأنفس أي: يَتَوفَّى الأنفسَ حين تموتُ، ويَتَوَفَّى أيضاً الأنفسَ التي لم تَمُتْ في مَنامِها. ففي

منامِها ظرفٌ ل «يَتَوَّفَى» . وقرأ الأخَوان «قُضِيَ» مبنياً للمفعول، «الموتُ» رفعاً لقيامَه مَقامَ الفاعلِ.

43

وقوله: {أَمِ اتخذوا} : «أم» منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ. وتقدَّم الكلامُ على نحوِ «أَوَلَوْ» وكيف هذا التركيبُ.

45

قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ الذين} : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما العاملُ في» إذا ذُكِرَ «؟ قلت: العاملُ في» إذا «الفجائية، تقديرُه: وقتَ ذِكْرِ الذين مِنْ دونِه فاجَؤوا وقتَ الاستبشار» . قال الشيخُ: «أمَّا قولُ الزمخشريِّ فلا أَعْلَمُه مِنْ قولِ مَنْ ينتمي للنحوِ، وهو أنَّ الظَّرْفَيْنِ معمولان لفاجؤوا ثم» إذا «الأولى تَنْتَصِبُ على الظرفيةِ، والثانيةُ على المفعول به» . وقال الحوفي: «إذا هم يَسْتَبشرون» إذا «مضافةٌ إلى الابتداءِ والخبر، و» إذا «مكررةٌ للتوكيد، وحُذف ما تُضاف إليه. والتقدير: إذا كانَ ذلك هم يَسْتبشِرون فيكون هم يستبشرون هو العاملَ في» إذا «، المعنى: إذا كان كذلك استبشروا» . قال الشيخ: «وهذا يَبْعُدُ جداً عن الصواب، إذا جعل» إذا «مضافةً إلى الابتداء والخبر» ، ثم قال: «وإذا مكررةٌ للتوكيد وحُذِف ما تضاف إليه» إلى آخرِ كلامه فإذا كانَتْ «إذا» حُذِف ما تُضاف إليه، فكيف تكون مضافةً إلى الابتداء

والخبرِ الذي هو هم يَسْتَبْشِرون؟ وهذا كلُّه أَوْجبه عَدَمُ الإِتقانِ لعلمِ النحوِ والتحذُّقِ فيه «انتهى. وفي هذه العبارةِ تحامُلٌ على أهلِ العلمِ المرجوعِ إليهم فيه. واختار الشيخُ أَنْ يكونَ العاملُ في» إذا «الشرطيةِ الفعلَ بعدها لا جوابَها، وأنها ليسَتْ مضافةً لِما بعدها، وإنْ كان قولَ الأكثرين، وجَعَل» إذا «الفجائيةَ معمولةً لِما بعدها سواءً كانت زماناً أم مكاناً. أمَّا إذا قيل: إنها حرفٌ فلا تحتاجُ إلى عاملٍ وهي رابِطةٌ لجملةِ الجزاءِ بالشرطِ كالفاء. والاشمِئْزازُ: النُّفورُ والتقبُّضُ. وقال أبو زيد: هو الذُّعْرُ. اشْمَأَزَّ فلانٌ: إذا ذُعِرَ، ووزن افْعَلَلَّ كاقْشَعَرَّ. قال الشاعر: 3897 - إذا عَضَّ الثِّقافُ بها اشْمَأَزَّتْ ... ووَلَّتْه عَشَوْزَنَةً زَبُوْنا

48

قوله: {سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً أي: سَيِّئاتُ كَسْبِهم أو بمعنى الذي: سَيِّئات أعمالهم التي كَسَبوها.

49

قوله: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ} : يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مهيِّئةً زائدةً على «إنَّ» نحو: إنما قام زيد، وأَنْ تكونَ موصولةً، والضميرُ عائدٌ عليها مِنْ «أُوْتِيْتُه» أي: إنَّ الذي أُوْتِيْتُه على عِلْمٍ مني أو على عِلْمٍ من الله فيَّ، أي: أستحقُّ/ ذلك.

قوله: «بل هي» الضميرُ للنعمةِ. ذكَّرها أولاً في قوله: «إنما أوتيتُه لأنها بمعنى الإِنعامِ، وأنَّث هنا اعتباراً بلفظِها. وقيل: بل الحالةُ أو الإِتيانةُ.

50

قوله: {قَدْ قَالَهَا} : أي: قال القولةَ المَذْكورةَ. وقُرِئَ «قد قاله» أي: هذا القولَ أو الكلامَ. وإنما عُطِفَتْ هذه الجملةُ، وهي قوله: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان} بالفاء والتي في أول السورة بالواو؛ لأن هذه مُسَبَّبَةٌ عن قوله: «وإذا ذُكِر» أي: يَشْمَئِزُّون مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ويَسْتَبْشِرون بذِكْرِ آلهتِهم، فإذا مَسَّ أحدَهم بخلاف الأولى حيث لا تَسَبُّبَ فيها، فجيء بالواوِ التي لمطلقِ العطفِ، وعلى هذا فما [بين] السببِ والمُسَبَّبِ جملٌ اعتراضيةٌ، قال معناه الزمخشريُّ. واستبعده الشيخُ من حيث إنَّ أبا عليٍّ يمنع الاعتراضَ بجملتينِ فكيف بهذه الجملِ الكثيرةِ؟ ثم قال: «والذي يَظْهر في الرَّبْطِ أنه لَمَّا قال: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} [الزمر: 47] الآية كان ذلك إشعاراً بما يَنالُ الظالمين. مِنْ شِدَّةِ العذاب، وأنه يَظْهر لهم يومَ القيامة من العذاب، أَتْبع ذلك بما يَدُلُّ على ظُلمِه وبَغْيه، إذ كان إذا مَسَّه ضُرٌّ دعا اللَّهَ، فإذا أَحْسَن إليه لم يَنْسُبْ ذلك إليه» . قوله: «فما أَغْنى» يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» نافيةً أو استفهاميةً مؤولةً بالنفيِ، وإذا احْتَجْنا إلى تأويلها بالنفيِ فَلْنَجْعَلْها نافيةً استراحةً من المجاز.

53

قوله: {قُلْ ياعبادي} : قيل في هذه الآيةِ من أنواع المعاني والبيانِ أشياءُ حسنةٌ، منها: إقبالُه عليهم ونداؤهم، ومنها: إضافتُهم إليه

إضافةَ تشريفٍ، ومنها: الالتفاتُ من التكلم إلى الغَيْبةِ في قوله: {مِن رَّحْمَةِ الله} ، ومنها: إضافةُ الرحمةِ لأجلِ أسمائِه الحُسْنى، ومنها: إعادةُ الظاهرِ بلفظِه في قولِه: «إنَّ اللَّهَ» ، ومنها: إبرازُ الجملةِ مِنْ قولِه: {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} مؤكَّدةً ب «إنَّ» ، وبالفصلِ، وبإعادة الصفتين اللتين تضَّمَنَتْهما الآيةُ السابقةُ.

56

قوله: {أَن تَقُولَ} : مفعولٌ مِنْ أجلِه، فقدَّره الزمخشري كراهةَ أنْ تقول، وابنُ عطية: أَنِيْبوا مِنْ أَجْلِ أَنْ تقولَ. وأبو البقاء والحوفي: أَنْذَرْناكم مخافةَ أَنْ تقولَ. ولا حاجةَ إلى إضمارِ هذا العاملِ مع وجودِ «أَنيبوا» وإنما نَكَّر نفساً لأنه أراد التكثيرَ، كقولِ الأعشى: 3898 - ورُبَّ بَقيعٍ لو هَتَفْتُ بجَوِّه ... أتاني كريمٌ يَنْفُضُ الرأسَ مُغْضَبا يريد: أتاني كرام كثيرون لا كريمٌ فَذٌّ؛ لمنافاتِه المعنى المقصودَ. ويجوزُ أَنْ يريد: نفساً متميِّزةً من بينِ الأنفسِ باللَّجاجِ الشديدِ في الكفرِ أو بالعذابِ العظيمِ. قوله: «يا حَسْرتا» العامَّةُ على الألفِ بدلاً مِنْ ياءِ الإِضافةِ. وعن ابن كثير «يا حَسْرَتاهْ» بهاءِ السكت وَقْفاً، وأبو جعفر «يا حَسْرَتي» على

الأصل. وعنه أيضاً «يا حَسْرتاي» بالألفِ والياء. وفيها وجهان، أحدُهما: الجمعُ بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه. والثاني: أنه تثنيةُ «حَسْرَة» مضافةً لياءِ المتكلمِ. واعْتُرِضَ على هذا: بأنه كان ينبغي أَنْ يُقالَ: يا حَسْرتيَّ بإدغامِ ياءِ النَّصْبِ في ياءِ الإِضافةِ. وأُجيب: بأنه يجوزُ أَنْ يكونَ راعى لغة الحارِث ابن كعبٍ وغيرهم نحو: «رأيتُ الزيدان» . وقيل: الألفُ بدلٌ من الياءِ والياءُ بعدها مزيدةٌ. وقيل: الألفُ مزيدةٌ بين المتضايفَيْنِ، وكلاهما ضعيفٌ. قوله: {على مَا فَرَّطَتُ} «ما» مصدريةٌ أي: على تَفْرِيطي. وثَمَّ مضافٌ أي: في جَنْبِ طاعةِ الله. وقيل: {فِي جَنبِ الله} المرادُ به الأمرُ والجهةُ. يقال: هو في جَنْبِ فلانٍ وجانبِه، أي: جهته وناحيته. قال الراجز: 3899 - الناسُ جَنْبٌ والأميرُ جَنْبُ ... وقال آخر: 3900 - أفي جَنْبِ بَكْرٍ قَطَّعَتْني مَلامةً ... لَعَمْري لقد طالَتْ ملامَتُها بيا ثم اتُّسِع فيه فقيل: فَرَّط في جَنْبِه أي في حَقِّه. قال: 3901 - أَمَا تَتَّقِيْنَ اللَّهَ في جَنْبِ عاشِقٍ ... له كَبِدٌ حَرَّى عليكِ تَقَطَّعُ

58

قوله: {فَأَكُونَ} : في نصبِه وجهان، أحدهما: عَطْفُه على «كرَّة» فإنها مصدرٌ، فعُطِفَ مصدرٌ مؤولٌ على مصدرٍ مُصَرَّح به كقولها: 3902 - لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عَيْني ... أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفوفِ وقول الآخر: 3903 - فما لَكَ منها غيرُ ذكرى وحَسْرةٍ ... وتَسْأَلَ عن رُكْبانِها أينَ يَمَّموا والثاني: أنه منصوبٌ/ على جوابِ التمني المفهومِ مِنْ قولِه: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} . والفرقُ بين الوجهين: أن الأولَ يكونُ فيه الكونُ مُتَمَنَّى، ويجوزُ أَنْ تُضْمَرَ «أَنْ» وأَنْ تظهرَ، والثاني يكون فيه الكونُ مترتباً على حصولِ المُتَمَنَّى لا مُتمنى ويجب أَنْ تُضْمَرَ «أَنْ» .

59

قوله: {بلى} : حرفُ جوابٍ وفيما وقعَتْ جواباً له وجهان، أحدُهما: هو نَفْيٌ مقدرٌ. قال ابنُ عطية: «وحَقُّ بلى أَنْ تجيْءَ بعد نفيٍ عليه تقريرٌ، كأنَّ النفسَ قالَتْ: لم يَتَّسِعْ لي النظرُ ولم يَتَبَيَّنْ لي الأمرُ» . قال الشيخ: «ليس حَقُّها النفيَ المقررَ، بل حَقُّها النفيُ، ثم حُمِل التقريرُ عليه، ولذلك أجاب بعضُ العربِ النفيَ المقررَ ب نعم دونَ بَلى، وكذا وقع في

عبارةِ سيبويه نفسه» . والثاني: أنَّ التمنيَ المذكورَ وجوابَه متضمنان لنَفْيِ الهدايةِ، كأنه قال: لم أهتدِ، فَرَدَّ الله عليه ذلك. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: هَلاَّ قُرِنَ الجوابُ بما هو جوابٌ له، وهو قولُه: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي} ولم يَفْصِلْ بينهما. قلت: لأنه لا يَخْلو: إمَّا أَنْ يُقَدَّم على إحدى القرائنِ الثلاثِ فيُفَرَّقَ بينهنَّ، وإمَّا أن تُؤَخَّرَ القرينةُ الوسطى. فلم يَحْسُنِ الأولُ لِما فيه من تَبْتير النَّظْم بالجمع بين القرائنِ، وأمَّا الثاني فلِما فيه من نَقْضِ الترتيبِ وهو التحسُّر على التفريط في الطاعةِ ثم التعلُّلُ بفَقْدِ الهدايةِ ثم تمنِّي الرَّجْعَة، فكان الصواب ما جاءَ عليه: وهو أنَّه حكى أقوالَ النفسِ على ترتيبها ونَظْمِها، ثم أجاب مِنْ بينِها عَمَّا اقتضى الجوابَ» . وقرأ العَامَّةُ «جاءَتْكَ» بفتح الكاف فكذّبْتَ واستكبرتَ، وكنتَ، بفتح التاءِ خطاباً للكافر دونَ النفس. وقرأ الجحدريُّ وأبو حيوةَ وابن يعمر والشافعيُّ عن ابن كثير، ورَوَتْها أمُّ سَلَمَةَ عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وبها قرأ أبو بكر وابنتُه عائشةُ رضي الله عنهما، بكسرِ الكاف والتاءِ خطاباً للنفسِ. والحسن والأعرج والأعمش «جَأَتْكَ» بوزنِ «جَفَتْك» بهمزةٍ دون ألفٍ. فتحتمل أَنْ تَكونَ قَصْراً كقراءةِ قُنْبل {أَن رَّأهُ استغنى} وأَنْ يكونَ في الكلمةِ قَلْبٌ: بأَنْ قُدِّمَتِ اللامُ على العين، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ لالتقائِهما، نحو: رَمَتْ وغَزَتْ.

60

قوله: {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} : العامَّةُ على رفعِهما، وهي جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ. وفي محلِّها وجهان، أحدهما: النصبُ على الحالِ من الموصولاتِ؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ، وكذا أَعْرَبَها الزمخشريُّ. ومِنْ مذهبِه أنه لا يجوزُ إسقاطُ الواوِ مِنْ مثلِها إلاَّ شاذَّاً، تابعاً في ذلك الفراءَ فهذا رجوعٌ منه عن ذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً؛ لأنَّ الرؤيةَ قلبيةٌ. وهو بعيدٌ لأن تَعَلُّقَ الرؤيةِ البصريةِ بالأجسام وألوانِها أظهرُ مِنْ تعلُّقِ القلبيةِ بهما. وقُرِئ «وجوهَهم مُسْودَّة» بنصبِهما، على أنَّ «وجوهَهم» بدلُ بعضٍ مِنْ كل، و «مُسْوَدَّةً» على ما تقدَّم من النصبِ على الحال أو على المفعولِ الثاني. وقال أبو البقاء: «ولو قُرِئ» وجوهَهم «بالنصب لكانَ على بدلِ الاشتمالِ» . قلت: قد قُرِئ به والحمدُ لله، ولكنْ ليس كما قال على بدلِ الاشتمال، بل على بدلِ البعضِ، وكأنه سَبْقُ لسانٍ أو طغيانُ قَلَم. وقرأ أُبَيٌّ «أُجوهُهم» بقلبِ الواوِ همزةً، وهو فصيحٌ نحو: {أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] وبابِه.

61

قوله: {بِمَفَازَتِهِمْ} : قرأ الأخَوان وأبو بكرٍ «بمفازاتِهم» جمعاً لَمَّا اختلفَتْ أنواعُ المصدرِ جُمِعَ. والباقون بالإِفرادِ على الأصلِ. وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: بدواعي مَفازتِهم أو بأسبابِها. والمَفازَةُ: المَنْجاة. وقيل: لا حاجةَ لذلك؛ إذ المرادُ بالمَفازةِ الفلاحُ.

قوله: {لاَ يَمَسُّهُمُ السواء} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ مفسِّرةً لمفازَتهم كأنَّه قيل: وما مفازَتُهم؟ فقيل: لا يَمَسُّهم السوءُ فلا مَحَلَّ لها. ويجوزُ أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من الذين اتَّقَوا.

63

قوله: {لَّهُ مَقَالِيدُ} : جملةٌ مستأنفةٌ. والمَقاليد: جمعُ مِقْلاد أو مِقْليد، أو لا واحدَ له مِنْ لفظِه كأَساطير وأخواتِه ويُقال أيضاً: إِقْليد وأَقاليد، وهي المفاتيح والكلمةُ فارسيةٌ مُعَرَّبَةٌ. وفي هذا الكلامِ استعارةٌ بديعة نحو قولك: بيدِ فلانٍ مِفْتاحُ هذا الأمرِ، وليس ثَمَّ مِفْتاح وإنما هو عبارةٌ عن شِدَّةِ تمكُّنِهِ من ذلك الشيءِ. / قوله: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنَّها معطوفةٌ على قوله: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا} [الزمر: 61] أي: يُنَجِّي المتقين بمَفازَتِهم، والكافرون هم الخاسرون. واعتُرِضَ بينهما بأنَّه خالِقُ الأشياءِ كلِّها ومُهَيْمِنٌ عليها، قاله الزمخشري. واعترض عليه فخر الدين الرازي: بأنَّه عَطْفُ اسميةٍ على فعليةٍ، وهو لا يجوزُ، وهذا الاعتراضُ مُعْتَرَضٌ [عليه] إذ لا مانعَ من ذلك. الثاني: أنها معطوفةٌ على قولِه: {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات} ؛ وذلك أنه تعالى لَمَّا وَصَفَ نفسَه بأنَّه خالقُ كلِّ شيءٍ في السماوات والأرضِ، ومفاتيحُه بيده، قال: والذين كفروا أَنْ يكونَ الأمرُ كذلك أولئك هم الخاسرون.

64

قوله: {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو الظاهرُ - أنَّ «غير» منصوبٌ ب «أَعْبُدُ» . و «أعبدُ» معمولٌ ل «تَأْمرونِّي» على إضمارِ «أنْ» المصدريةِ، فلَمَّا حُذِفَت بَطَل عملُها وهو أحد

الوجهين. والأصل: أفتأمرونِّي بأَنْ أعبدَ غيرَ اللَّه، ثم قُدِّم مفعولُ «أعبدُ» على «تَأْمُرونِّي» العاملِ في عامِله. وقد ضَعَّف بعضُهم هذا: بأنه يَلْزَمُ منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول؛ وذلك أنَّ «غيرَ» منصوبٌ ب «أعبدُ» ، و «أعبدُ» صلةٌ ل «أنْ» وهو لا يجوزُ. وهذا الردُّ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ الموصولَ لمَّا حُذِفَ لم يُراعَ حُكْمُه فيما ذُكِرَ، بل إنما يراعَى معناه لتصحيح الكلامِ. قال أبو البقاء: «لو حَكَمْنا بذلك لأَفْضَى إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه، وذلك لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ. وهذا الذي ذكره فيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ هذا مختصٌّ ب» أنْ «دونَ سائرِ الموصولات، وهو أنها تُحْذَفُ وتَبْقى صلتُها، وهو منقاسٌ عند البصريين في مواضعَ تُحْذَفُ ويَبْقى عملُها، وفي غيرِها إذا حُذِفَتْ لا يبقى عملُها إلاَّ في ضرورةٍ، أو قليلٍ، ويُنْشَدُ بالوجهين: 3904 - ألا أيُّهذا الزاجريْ أحضرُ الوغى ... وأنْ أشهدَ اللذاتِ هل أنتَ مُخْلِدي ويَدُلُّ على إرادة» أنْ «في الأصل قراءةُ بعضِهم» أعبدَ «بنصب الفعل اعتداداً بأَنْ. الثاني: أنَّ» غيرَ «منصوبٌ ب» تأمرونِّي «و» أعبد «بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ، و» أنْ «مضمرةٌ معه أيضاً. والتقديرُ: أفغيرَ اللَّهِ تأمرونِّي عبادتَه. والمعنى: أفتأمرونِّي بعبادة غيرِ الله. وقدَّره الزمخشري: تُعَبِّدُوني وتقولون لي: اعْبُدْه. والأصل: تَأْمُرونني أن أعبدَ، فَحَذَفَ» أنْ «ورَفَع الفعلَ. ألا ترى

أنك تقول: أفغيرَ اللَّهِ تقولون لي اعبده، وأفغيرَ اللَّهِ تقولون لي: اعبد، فكذلك أفغيرَ الله تقولون لي أَن أعبده، وأفغيرَ الله تأمروني أَنْ أعبدَ. والدليلُ على صحةِ هذا الوجهِ قراءةُ مَنْ قرأ» أعبدَ «بالنصبِ. وأمَّا» أعبد «ففيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مع» أَنْ «المضمرةِ في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ» غير «وقد تقدَّم. الثاني: أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحال. الثالث: أنه لا محلَّ له البتَةَ. قوله:» تَأْمُرُوْنِّي «بإدغامِ نونِ الرفعِ في نونِ الوقايةِ وفتح الياءِ ابنُ كثير، وأَرْسلها الباقون. وقرأ نافع» تَأْمرونيَ «بنون خفيفة وفتح الياء. وابنُ عامر» تأْمرونني «بالفَكِّ وسكونِ الياء. وقد تقدَّم في سورة الأنعام والحجر وغيرِهما: أنه متى اجتمع نونُ الرفعِ مع نونِ الوقاية جاز ثلاثةُ أوجهٍ، وتقدَّم تحقيقُ الخلافِ في أيتِهما المحذوفةِ؟

65

قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} : الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ هي القائمةُ مَقامَ الفاعلِ لأنها هي المُوْحاةُ. وأصولُ البصريين تأبى ذلك، ويُقَدِّرون أنَّ القائمَ مقامَه ضميرُ المصدرِ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلاً عندهم، والقائمُ هنا مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ وهو «إليك» . وقرئ «لَيُحْبِطَنَّ» أي اللَّهُ. و «لَنُحْبِطَنَّ» بنونِ العظمةِ. و «عَمَلَكَ» مفعولٌ به على القراءتين.

66

قوله: {بَلِ الله فاعبد} : الجلالةُ منصوبةٌ ب «اعبُدْ» . وتقدَّم الكلامُ في مثل هذه الفاء/ في البقرة. وجعَلَه الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدرٍ أي: إنْ كنتَ عاقلاً فاعبدِ اللَّهَ فَحَذَفَ الشرطَ وجَعَلَ تقديمَ المفعولِ عِوَضاً منه. ورَدَّ الشيخُ عليه: بأنه يجوزُ أَنْ يجيءَ: «زيدٌ فعَمْراً اضرِبْ» فلو كان التقديمُ عِوَضاً لجمع بين العِوَضِ والمُعَوَّض منه. وقرأ عيسى «بل اللَّهُ» رفعاً على الابتداءِ، والعائدُ محذوفٌ أي: فاعْبُدْه.

67

وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى «قَدَّروا» بتشديد الدالِ، «حَقَّ قَدَره» بفتح الدال. وافقهم الأعمشُ على فتح الدالِ مِنْ «قَدَره» . قوله: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال أي: ما عَظَّموه حَقّ تعظيمِه والحالُ أنه موصوفٌ بهذه القدرةِ الباهرةِ، كقولِه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} [البقرة: 28] ؟ و «جميعاً» حالٌ وهي دالَّةٌ على أن المرادَ بالأرض الأَرَضُون، ولأنَّ الموضِعَ موضِعُ تَفْخيمٍ، ولِعَطْفِ الجمعِ عليها. والعاملُ في هذه الحالِ ما دَلَّ عليه قَبْضَتُه. ولا يجوز أَنْ يعملَ فيها «قبضَتُه» سواءً جَعَلْته مصدراً - لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمُوله - أم مراداً به المقدارُ.

قال الزمخشري: «ومع القصدِ إلى الجمع - يعني في الأرض - وأنَّه أُريد به الجمعُ وتأكيده بالجميعِ أتبعَ الجمعَ مؤكِّدَه قبل مجيْءِ الخبرِ ليُعْلَمَ أولَ الأمرِ أنَّ الخبرَ الذي يَرِدُ لا يقعُ عن أرضٍ واحدة ولكن عن الأراضي كلِّها» . وقال أبو البقاء: «وجميعاً حالٌ من الأرض، والتقدير: إذا كانَتْ مجتمعةً قبضَتُه أي: مقبوضه، فالعامل في» إذا «المصدرُ، لأنه بمعنى المفعولِ. وقال أبو علي في» الحجة «: التقدير: ذاتُ قبضَتِه. وقد رُدَّ عليه: بأنَّ المضافَ إليه لا يَعْمَلُ فيما قبلَه، وهذا لا يَصِحُّ لأنه الآن غيرُ مضافٍ إليه، وبعد حَذْفِ المضافِ لا يَبْقى حكمُه» انتهى. وهو كلامٌ فيه إشكالٌ؛ إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ العامل في «إذا» التي لم يُلْفَظْ بها. وقوله: «قَبْضَتُه» إنْ قَدَّرْنا مُضافاً كما قال الفارسي أي: ذاتُ قبضَتِه لم يكن فيه وقوعُ المصدرِ مَوْقِعَ مفعولٍ، وإنْ لم يُقَدَّرْ ذلك احتمل أَنْ يكونَ المصدرُ واقعاً موقعَه، وحينئذٍ يُقال: كيف أنَّثَ المصدرَ الواقعَ موقعَ مفعولٍ وهو غيرُ جائزٍ؟ لا يُقال: «حُلَّة نَسْجة اليمن» بل نَسْجُ اليمن أي: منسوجته. والجواب: أن الممتنعَ دخولُ التاءِ الدالةِ على التحديد، وهذه لمجرد التأنيثِ. كذا أُجيب، وليس بذاك، فإن المعنى على التحديدِ لأنه أَبْلَغُ في القدرةِ. واحتمل أَنْ يكونَ أُريد بالمصدر مِقْدارُ ذلك. والقَبْضَةُ بالفتحِ: المرَّةُ، وبالضم اسمٌ للمقبوضِ كالغَرْفة والغُرْفَة. والعامَّةُ على رفعِ «قَبْضَتُه» ، والحسنُ بنصبها. وخَرَّجها ابنُ خالويه وجماعةٌ على النصبِ على الظرفيةِ، أي: في قبضته. وقد رُدَّ هذا: بأنها ظرفٌ

مختصُّ فلا بُدَّ مِنْ وجود «في» وهذا هو رأيُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فهو جائزٌ عندهم؛ إذ يُجيزون: «زيد دارَك» بالنصب أي: في دارك. وقال الزمخشري: «جعلها ظرفاً تشبيهاً للمؤقت بالمبهم» فوافق الكوفيين. والعامَّةُ على رَفْعِ «مَطْوياتٌ» خبراً، و «بيمينِه» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلقٌ ب «مَطْوِيَّات» . الثاني: أنه حالٌ من الضمير في «مَطْوِيَّات» . الثالث: أنه خبرٌ ثانٍ، وعيسى والجحدري نصباها حالاً. واستدلَّ بها الأخفشُ على جوازِ تقدُّم الحالِ إذا كان العاملُ فيها حرفَ جَرّ نحو: «زيدٌ قائماً في الدار» . وهذه لا حُجَّةَ فيها لإِمكان تَخْريجِها على وجهين، أحدهما - وهو الأظهرُ - أَنْ تكونَ «السماوات» نَسَقاً على «الأرض» ، ويكون قد أَخْبر عن الأَرَضين والسماواتِ بأنَّ الجميعَ قبضَتُه، وتكون «مَطْوِيَّاتٍ» حالاً من «السماوات» كما كان «جميعاً» حالاً من «الأرض» ، و «بيمينه» متعلقٌ بمطويَّات. والثاني: أن يكون «مطويَّات» منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، و «بيمينه» الخبرُ، و «مَطْويَّات» وعاملُه جملةٌ معترضةٌ، وهو ضعيفٌ.

68

قوله: {فِي الصور} : العامَّةُ على سكونِ الواوِ، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمعَ «صُوْرة» . وهذه تَرُدُّ/ قولَ ابنِ عطية أنَّ الصُّوْرَ هنا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ القَرْنَ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ صُورَة. وقرِئَ «فَصُعِقَ» مبنياً للمفعولِ، وهو مأخوذٌ مِنْ قولهم: صَعَقَتْهم الصاعقةُ. يُقال: صَعَقَه اللَّهُ فصَعِقَ.

{إِلاَّ مَن شَآءَ الله} متصلٌ والمستثنى: إمَّا جبريلُ وميكائيل وإسْرافيلُ، وإمَّا رِضوانُ والحُوْرُ والزَّبانية، وإمَّا الباري تعالى قاله الحسن. وفيه نظرٌ من حيث قولُه: {مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} فإنه تعالى لا يَتَحَيَّزُ. فعلى هذا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ منقطعاً. قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى} يجوزُ أَنْ تكونَ «أخْرى» هي القائمةَ مقامَ الفاعلِ، وهي في الأصلِ صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: نُفِخَ فيه نَفْخَةٌ أخرى، ويؤيِّدُه التصريحُ بذلك في قولِه {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] فصرَّحَ بإقامة المصدرِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مقامَه الجارَّ، و «أخرى» منصوبةٌ على ما تقدَّم. قوله: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} العامَّة على رفع «قيام» خبراً. وزيد بن علي نصبَه حالاً وفيه حينئذٍ أوجهٌ، أحدهما: أنَّ الخبرَ «يَنْظرون» وهو العاملُ في هذه الحالِ أي: فإذا هم يَنْظُرون قياماً. والثاني: أنَّ العاملَ في الحالِ ما عَمِلَ في «إذا» الفجائيةِ إذا كانت ظرفاً. فإن كانت مكانيةً - كما قال سيبويه - فالتقدير: فبالحَضْرة هم قياماً. وإنْ كانت زمانيةً كقول الرُّمَّانيِّ ففي ذلك الزمانِ هم قياماً، أي: وجودهم. وإنما احتيج إلى تقديرِ مضافٍ في هذا الوجهِ لأنَّه

لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ. الثالث: أن الخبرَ محذوفٌ هو العاملُ في الحال أي: فإذا هم مبعوثون، أو مجموعون قياماً. وإذا جَعَلْنا الفجائيةَ حَرْفاً - كقولِ بعضِهم - فالعاملُ في الحالِ: إمَّا «يَنْظُرون» ، وإمَّا الخبرُ المقدرُ كما تقدَّم تحقيقُهما.

69

قوله: {وَأَشْرَقَتِ} : العامَّةُ على بنائِه للفاعل. وابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير على بنائه للمفعول، وهو منقولٌ بالهمزة، مِنْ شَرَقَتْ إذا طَلَعَتْ، وليس مِنْ أشرقَتْ بمعنى أضاءَتْ لأنَّ ذاك لازمٌ. وجعله ابنُ عطية مثل: رَجَعَ ورَجَعْتُه، ووَقَفَ ووقَفْته، يعني فيكون أَشْرَق لازماً ومتعدياً.

71

قوله: {زُمَراً} : حالٌ. وزُمَر جمع زُمْرَة، وهي الجماعاتُ في تفرقةٍ بعضُها في إثْر بعضٍ وتَزَمَّروا: تجمَّعُوا قال: 3905 - حتى احْزَألَّتْ زُمَرٌ بعد زُمَرْ ... هذا قولُ أبي عبيدة والأخفشِ. وقال الراغب: «الزُّمْرَة الجماعةُ القليلةُ، ومنه شاةٌ زَمِرة أي: قليلة الشَّعْر، ورجلٌ زَمِرٌ أي: قليلُ المروءةِ. وزَمَرَتِ النَّعامةُ تَزْمِرُ زَماراً، ومنه اشتقَّ الزَّمْرُ والزَّمَّارة كناية عن الفاجرة» .

قوله: «حتى إذا» تقدَّمَ الكلامُ في حتى الداخلةِ على «إذا» غيرَ مرةٍ. وجوابُ «إذا» قوله: «فُتِحت» وتقدَّم خلافُ القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام. وقرأ ابن هرمز «ألم تَأْتِكم» بتاء التأنيث الجمعِ. و «منكم» صفةٌ ل «رسل» أو متعلِّق بالإِتيان، و «يَتْلون» صفةٌ أخرى، و «خالدين» في الموضعَيْن حالٌ مقدرةٌ.

73

قوله: {وَفُتِحَتْ} : في جواب «إذا» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: قوله: «وفُتحت» والواو زائدةٌ، وهو رأيُ الكوفيين والأخفش، وإنما جيْءَ هنا بالواوِ دونَ التي قبلها؛ لأنَّ أبوابَ السجون مغلقةٌ إلى أَنْ يَجيْئَها صاحب الجريمة فتُفتَحَ له ثم تُغْلَقَ عليه فناسَبَ ذلك عَدَم الواوِ فيها، بخلافِ أبوابِ السرورِ والفرحِ فإنَّها تُفْتَحُ انتظاراً لمَنْ يَدْخُلُها. والثاني: أن الجوابَ قولُه: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} على زيادةِ الواوِ أيضاً أي: حتى إذا جاؤُوها قال لهم خَزَنَتُها. الثالث: أنَّ الجوابَ محذوفٌ، قال الزمخشري: وحَقُّه أَنْ يُقَدَّرَ بعد «خالدين» . انتهى يعني لأنه يجيْء بعد متعلَّقاتِ الشرطِ وما عُطِف عليه، والتقدير: اطمأنُّوا. وقدَّره المبرد: «سُعِدُوا» . وعلى هذين الوجهين فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه: و «فُتِحَتْ» في محلِّ نصب على الحال. وسَمَّى بعضُهم هذه

الواوَ واوَ الثمانية. قال: لأنَّ أبوابَ الجنة/ ثمانيةٌ، وكذا قالوا في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وقيل: تقديرُه حتى إذا جاؤوها وفُتِحَتْ أبوابُها، يعني أنَّ الجوابَ بلفظِ الشرطِ ولكنه بزيادةِ تقييده بالحالِ فلذلك صَحَّ.

74

قوله: {نَتَبَوَّأُ} : جملةٌ حاليةٌ، و «حيثُ» مفعولٌ به. ويجوز أن تكونَ ظرفاً على بابِها، وهو الظاهرُ.

75

قوله: {حَآفِّينَ} : جمعُ حافّ، وهو المُحْدِقُ بالشيءِ، مِنْ حَفَفْتُ بالشيءِ إذا أَحَطْتُ به قال: 3906 - يَحُفُّه جانبا نِيْقٍ وتُتْبِعُهُ ... مثلَ الزُّجاجةِ لم تُكْحَلْ من الرَّمَدِ وهو مأخوذٌ من الحِفاف وهو الجانبُ. قال الشاعر: 3907 - له لَحَظاتٌ عن حِفافي سَرِيْرِه ... إذا كرَّها فيها عقابٌ ونائل وقال الفراء وتبعه الزمخشري: «لا واحدَ ل حافِّين» وكأنهما رَأَيا أنَّ

الواحدَ لا يكون حافًّا؛ إذِ الحُفُوْفُ هو الإِحداقُ بالشيء والإِحاطةُ به، وهذا لا يتحقَّق إلاَّ في جمعٍ. قوله: «مِنْ حَوْلِ» في «مِنْ» وجهان أحدُهما - وهو قولُ الأخفش - أنها مزيدةٌ. والثاني: أنها للابتداءِ، والضميرُ في «بينهم» إمَّا للملائكةِ، وإمَّا للعبادِ، و «يُسَبِّحون» حالٌ من الضمير في «حافِّين» .

غافر

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {حم} : كقوله: {الم} وبابه. وقرأ الأخَوان وأبو بكر وابن ذكوان بإمالة حاء في السورِ السبعِ إمالةً محضةً وورش وأبو عمرو بالإِمالة بينَ بينَ، والباقون بالفتح. والعامَّةُ على سكونِ الميم كسائرِ الحروفِ المقطعة. وقرأ الزهري برفعِ الميم على أنَّها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو مبتدأٌ والخبرُ ما بعدها. وابن أبي إسحاق وعيسى بفتحِها، وهي تحتملُ وجهين، أحدهما: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: اقرأ حم، وإنما مُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ، أو للعلميَّة وشبهِ العُجمة. وذلك أنه ليس في الأوزان العربيةِ وزنُ فاعيل بخلافِ الأعجمية، نحو: قابيل وهابيل. والثاني: أنها حركةُ بناءٍ تخفيفاً ك أينَ وكيف. وفي احتمال هذين الوجهين قولُ الكميت: 3908 - وَجَدْنا لكم في آلِ حَمَ آيةً ... تَأَوَّلَها منا تقيٌّ ومُعْرِبُ

وقول شريح بن أوفى: 3909 - يُذَكِّرُني حمَ والرُّمْحُ شاجِرٌ ... فهلا تلا حمَ قبلَ التقدُّمِ وقرأ أبو السَّمَّال بكسرِها، وهل يجوزُ أَنْ تُجْمَعَ «حم» على حواميم، نَقَل ابنُ الجوزي عن شيخِه الجواليقي أنه خطأٌ، بل الصوابُ أَنْ يقولَ: قَرَأْتُ آلَ حم. وفي الحديث عن ابن مسعود عنه عليه السلام: «إذا وَقَعْتَ في آلِ حم وَقَعْتَ في رَوْضَاتٍ» وقال الكميت: 3910 - وَجَدْنا لكم في آلِ حم. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. ومنهم مَنْ جَوَّزَه. ورُويَ في ذلك أحاديثُ منها: «الحواميم ديباجُ القرآن» ومنها: «مَنْ أرادَ أَنْ يرتعَ في رياضٍ مُوْنَقَةٍ من الجنة فليقرأْ الحواميم» ومنها: «مَثَلُ الحواميم في القرآن مَثَلُ الحَبِرات في الثياب» فإنْ صَحَّتْ هذه الأحاديثُ فهي الفَيْصَلُ في ذلك.

2

قوله: {تَنزِيلُ} : إمَّا خبرٌ ل «حَم» إنْ كانت مبتدأً، وإمَّا خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، وإمَّا مبتدأٌ. وخبرُه الجارُّ بعدَه.

3

قوله: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب} في هذه الأوصافِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها كلَّها صفاتٌ للجلالة كالعزيز العليم. وإنما جازَ وَصْفُ المعرفةِ بهذه وإنْ كانَتْ إضافتُها لفظيةً؛ لأنه يجوزُ أَنْ تُجْعَلَ إضافتُها معنويةً فتتعرَّفَ بالإِضافةِ. نَصَّ سيبويه على أنَّ كلَّ ما إضافتُه غيرُ مَحْضةٍ جاز أن يُجْعَلَ مَحْضةً، وتُوصفَ به المعارفُ، إلاَّ الصفةَ المشبهةَ، ولم يَسْتَثْنِ غيرُه شيئاً وهم الكوفيون. يقولون في نحو: «حَسَنُ الوجهِ» إنه يجوزُ أن تصيرَ إضافتُه محضةً. وعلى هذا فقولُه «شديد العقابِ» من بابِ الصفةِ المشبهةِ فكيف أجزْتَ جَعْلَه صفةً للمعرفة وهو لا يَتَعَرَّفُ بالإِضافة؟ والجواب: إمَّا بالتزامِ مَذْهَبِ الكوفيين: وهو أنَّ الصفةَ المشبهةَ يجوزُ أَنْ تَتَمَحَّضَ إضافتُها أيضاً، فتكونَ معرفةً، وإمَّا بأنَّ شديداً بمعنى/ مُشَدِّد ك أَذِيْن بمعنى مُؤَذِّن فتتمحَّضُ إضافتُه. الثاني: أَنْ يكونَ الكلُّ أبدالاً لأنَّ إضافتَها غيرُ محضةٍ، قاله الزمخشري. إلاَّ أنَّ الإِبدال بالمشتقِّ قليلٌ جداً، إلاَّ أن يُهْجَرَ فيها جانبُ الوصفية.

الثالث: أَنْ يكونَ «غافر» و «قابل» نعتَيْن و «شديد» بدلاً، لِما تقدَّم: مِنْ أنَّ الصفةَ المشبهةَ لا تتعرَّفُ بالإِضافة، قاله الزجَّاج. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال: «جَعْلُ الزجَّاجِ» شديد العقاب «وحدَه بدلاً من الصفاتِ، فيه نُبُوٌّ ظاهرٌ، والوجهُ أن يُقال: لَمَّا صُودِفَ بين هذه المعارفِ هذه النكرةُ الواحدةُ فقد آذنَتْ بأنَّ كلَّها أبدالٌ غيرُ أوصافٍ. ومثالُ ذلك قصيدةٌ جاءت تفاعيلُها كلُها على مستفعلن فهي محكومٌ عليها أنها من الرَجَز، وإنْ وقع فيها جزءٌ واحدٌ على مَتَفاعلن كانت من الكامِل» . وقد ناقشه الشيخ فقال: «ولا نُبُوَّ في ذلك لأنَّ الجَرْيَ على القواعِدِ التي قد استقرَّتْ وصَحَّتْ هو الأصلُ وقوله:» فقد آذنَتْ بأنَّ كلّها أبدالٌ «تركيبٌ غيرُ عربيٍ؛ لأنه جَعَل» فقد آذنَتْ «جوابَ لَمَّا، وليس من كلامهم» لَمَّا قام زيدٌ فقد قام عمروٌ «. وقولُه: بأنَّ كلَّها أبدْالٌ فيه تكريرٌ للأبدالِ. أمَّا بَدَلُ البَداءِ عند مَنْ أثبتَه فقد تكرَّرَتْ فيه الأبدالُ. وأمَّا بدلُ كلٍ مِنْ كل وبعضٍ مِنْ كل وبدلُ اشتمالٍ فلا نصَّ عن أحد من النحويين أَعْرِفُه في جوازِ التكرارِ فيها أو مَنْعِه. إلاَّ أنَّ في كلامِ بعضِ أصحابِنا ما يَدُلُّ على أنَّ البدلَ لا يُكَرَّرُ، وذلك في قول الشاعر: 3911 - فإلى ابنِ أُمِّ أُناسٍ أَرْحَلُ ناقتي ... عمْروٍ فتُبْلِغُ حاجتي أو تُزْحِفُ مَلِكٍ إذا نَزَلَ الوفودُ ببابِه ... عَرَفُوا موارِدَ مُزْبِدٍ لا يُنْزَفُ

قال:» فَ «مَلكٍ» بدلٌ مِنْ «عمرو» بدلُ نكرةٍ مِنْ معرفة قال: «فإنْ قلتَ: لِمَ لا يكونُ بدلاً من» ابن أمِّ أناسٍ؟ «قلت: لأنَّه أبدلَ منه عَمْراً، فلا يجوزُ أَنْ يُبْدَلَ منه مرة أخرى لأنَّه قد طُرِحَ» انتهى. قال الشيخ: «فَدَلَّ هذا على أنَّ البدلَ لا يتكَرَّرُ ويَتَّحد المبدلُ منه، ودَلَّ على أنَّ البدلَ من البدلِ جائزٌ» . قلت: وقد تقدَّم له هذا البحثُ آخرَ الفاتحةِ عند قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] فعليك بمراجعته قال: «وقولُه تفاعيلُها هو جمعُ تِفْعال أو تَفْعُول أو تُفْعُول أو تَفْعيل وليس شيءٌ منها معدوداً من أجزاء العَروض فإنَّ أجزاءَه منحصرةٌ ليس فيها شيءٌ من هذه الأوزانِ، فصوابُه أَنْ يقولَ: جاءت أجزاؤُها كلُّها على مُستفعلن» . وقال الزمخشري أيضاً: «ولقائل أَنْ يقولَ: هي صفاتٌ وإنما حُذِفت الألفُ واللامُ مِنْ» شديد «ليزاوجَ ما قبلَه وما بعدَه لفظاً فقد غَيَّروا كثيراً مِنْ كلامِهم عن قوانينِه لأجلِ الازدواجِ، فقالوا:» ما يعرف سحادليه مِنْ عبادليه «فَثَنُّوا ما هو وِتْرٌ لأجلِ ما هو شَفْعٌ. على أن الخليلَ قال في قولهم:» ما يَحْسُنُ بالرجلِ مثلِك أَنْ يَفْعل ذلك «و» ما يَحْسُن بالرجلِ خيرٍ منك «إنه على نيةِ الألفِ واللامِ، كما كان» الجَمَّاء الغفير «على نيةِ طرحِ الألفِ واللامِ. ومما سهَّل ذلك الأمنُ من اللَّبْسِ وجَهالَةُ الموصوفِ» . قال الشيخُ: «ولا ضرورةَ

إلى حَذْفِ أل مِنْ» شديد العقاب «وتشبيهُه بنادرٍ مُغَيَّرٍ وهو تثنيةُ الوِتْر لأجلِ الشَّفْعِ، فيُنَزَّه كتابُ اللَّهِ عن ذلك» . قلت: أمَّا الازدواجُ - وهو المشاكلة - من حيث هو فإنه واقعٌ في القرآن، مضى لك منه مواضعُ. وقال الزمخشري أيضاً: «ويجوزُ أَنْ يقالَ: قد تُعُمِّد تنكيرُه وإبهامُه للدلالةِ على فَرْطِ الشِّدَّةِ وعلى ما لا شيءَ أَدْهَى منه وأَمَرُّ لزيادةِ الإِنذار. ويجوز أَنْ يُقالَ: هذه النكتةُ هي الداعيةُ إلى اختيار البدلِ على الوصفِ، إذا سُلِكَتْ طريقةُ الإِبدالِ» انتهى. وقال مكي: «يجوزُ في» غافر «و» قابل «البدلُ على أنهما نكرتان لاستقبالِهما، والوصفُ على أنهما معرفتان لمُضِيِّهما» . وقال فخر الدين الرازي: «لا نِزاعَ في جَعْل غافر وقابِل صفةً، وإنما كانا كذلك لأنهما يُفيدان معنى الدَّوامِ والاستمرارِ، فكذلك» شديدُ العقابِ «يُفيدُ ذلك؛ لأنَّ صفاتِه مُنَزَّهةٌ عن الحدوث والتجدُّدِ فمعناه كونُه بحيث شديدٌ عقابُه. وهذا المعنى حاصلٌ أبداً لا يُوْصَف/ بأنَّه حَصَلَ بعد أَنْ لم يكنْ» . قال الشيخ: «وهذا كلامُ مَنْ لم يَقِفْ على علمِ النحوِ ولا نظرَ فيه ويَلْزَمُه أَنْ يكونَ {حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] و {مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] معارفَ لتنزيهِ صفاتِه عن الحُدوثِ والتجدُّدِ، ولأنها صفاتٌ لم تَحْصُلْ بعد أَنْ لم تكنْ، ويكونُ تعريفُ صفاتِه بأل وتنكيرُها سواءً، وهذا لا يقولُه مُبْتدئ في علم النحو، بَلْهَ أَنْ يُصَنِّفَ فيه ويُقْدِمَ على تفسيرِ كتابِ اللَّهِ تعالى» انتهى.

وقد سُرِدَتْ هذه الصفاتُ كلُّها مِنْ غير عاطفٍ إلاَّ «قابِل التوب» قال بعضهم: «وإنما عُطِفَ لاجتماعِهما وتلازُمِهما وعَدَمِ انفكاكِ أحدِهما عن الآخر، وقَطَعَ» شديدِ «عنهما فلم يُعْطَفْ لانفرادِه» . قال الشيخ: «وفيه نَزْعَةٌ اعتزاليَّةٌ. ومَذْهَبُ أهلِ السنة جوازُ الغفران للعاصي وإن لم يَتُبْ إلاَّ الشركَ» . قلت: وما أبعده عن نزعةِ الاعتزال. ثم أقول: التلازمُ لازمٌ مِنْ جهةِ أنه تعالى متى قَبِل التوبة فقد غَفَرَ الذنب وهو كافٍ في التلازم. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما بالُ الواوِ في قولِه:» وقابلِ التَّوْبِ؟ «قلت: فيها نُكْتةٌ جليلةٌ: وهي إفادةُ الجمعِ للمذنب التائبِ بين رحمتين: بين أَنْ يَقْبَلَ توبتَه فيكتبَها طاعةً من الطاعات وأنْ يجعلَها مَحَّاءةً للذنوب كمَنْ لم يُذْنِبْ كأنه قال: جامع المغفرةِ والقَبول» انتهى. وبعد هذا الكلام الأنيق وإبرازِ هذه المعاني الحسنةِ. قال الشيخ: «وما أكثرَ تبجُّجَ هذا الرجلِ وشَقْشَقَتَه والذي أفاد أن الواوَ للجمعِ، وهذا معروفٌ من ظاهرِ عَلِمِ النحوِ» . قلت: وقد أنشدني بَعضُهم: 3912 - وكم مِنْ عائبٍ قَوْلاً صحيحاً ... وآفَتُه من الفَهْمِ السَّقيمِ وقال آخر:

3913 - قد تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ ... ويُنكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ والتَّوْبُ: يُحتمل أَنْ يكونَ اسماً مفرداً مُراداً به الجنسُ كالذَّنْب، وأَنْ يكونَ جمعاً لتَوْبة كتَمْرٍ وتَمْرَة. و «ذي الطَّوْلِ» نعتٌ أو بدلٌ كما تقدَّمَ. والطَّوْلُ: سَعَةُ الفَضْلِ. و {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} يجوزُ أَنْ يكون مستأنفاً، وأَنْ يكونَ حالاً، وهي حالٌ لازمةٌ، وقال أبو البقاء: «يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً» ، وعلى هذا ظاهرُه فاسدٌ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ صفةً للمعارفِ. ويمكنُ أَنْ يريدَ أنه صفةٌ ل «شديد العقاب» لأنَّه لم يتعرَّفْ عنده بالإِضافةِ. والقولُ في «إليه المصيرُ» كالقولِ في الجملةِ قبله، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الجملةِ قبلَه.

4

وقرأ العامَّةُ «فلا يَغْرُرْكَ» بالفكِّ، وهي لغةُ الحجازِ. وزيد ابن علي وعبيد بن عُمَيْر «فلا يَغُرَّكَ» بالإِدغامِ مفتوحَ الراءِ، وهي لغةُ تميمٍ.

5

وقرأ عبد الله «برَسولها» أعاد الضميرَ على لفظ «أُمَّة» . والجمهورُ على معناها، وفي قوله: «ليَأْخُذوه» عبارةٌ عن المُسَبَّبِ بالسبب؛ وذلك أنَّ القَتْلَ مُسَبَّبٌ عن الأَخْذِ، ومنه قيل للأسير: «أَخِيْذ» . وقال: 3914 - فإمَّا تَأْخُذُوني تَقْتُلوني ... فكَمْ مِنْ آخِذٍ يَهْوَى خُلودي

وقوله: «عِقابِ» فيه اجتزاءٌ بالكسرةِ عن ياء المتكلم وصلاً، ووقفاً، لأنَّها رأسُ فاصلةٍ.

6

قوله: {وَكَذَلِكَ} : تحتمل الكافُ أَنْ تكونَ مرفوعةَ المحلِّ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ أي: والأمرُ كذلك، ثم أخبر بأنه حَقَّتْ كلمةُ اللَّهِ عليهم بالعذاب، وأَنْ تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: مثلَ ذلك الوجوبِ مِنْ عقابِهم وَجَبَ على الكفرةِ. وقوله: «أنهم أصحابُ» يجوزُ أَنْ يكونَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ أي: لأنَّهم، فَحَذَفَ، فيجري في محلِّها القولان. ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ «كلمةُ» . وقد تقدَّم خلافُهم في إفراد «كلمة» وجَمْعِها.

7

قوله: {الذين يَحْمِلُونَ} : مبتدأٌ «ويُسَبِّحون» خبرُه. والعامَّةُ على فتح عين «العَرْش» . وابن عباس في آخرين بضمها فقيل: يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً ل «عَرْش» ك سُقْف في سَقْف. وقوله: «ومَنْ حَوْلَه» يَحْتمل أَنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ عطفاً على «الذين يَحْملون» أَخْبر عن الفريقين بأنهم يُسَبِّحون، وهذا هو الظاهرُ، وأَنْ يكونَ منصوبَ المحلِّ عَطْفاً على العرش، يعني أنَّهم يَحْملون أيضاً الملائكةَ الحافِّين بالعرشِ. وليس بظاهرٍ. قوله: «رَبَّنا» / معمولٌ لقولٍ مضمرٍ تقديرُه: يقولون ربَّنا. والقولُ المضمرُ

في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «يَسْتَغْفرون» أو خبرٌ بعد خبرٍ، و «رحمةً وعِلْماً» تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية، أي: وسِع كلَّ شيءٍ رحمتُك وعِلْمُك.

8

قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} : قد تقدَّمَ نظيرُها في مريم. والعامَّةُ على «جناتِ» جمعاً، والأعمش وزيد بن علي «جنة» بالإِفراد. قوله: «ومَنْ صَلَحَ» في محلِّ نصبٍ: إمَّا عطفاً على مفعولِ «أدْخِلْهُمْ» ، وإمَّا على مفعولِ «وَعَدْتَهم» . وقال الفراء والزجاج: «نصبُه مِنْ مكانَيْنِ: إنْ شئتَ على الضميرِ في» أَدْخِلْهم «، وإنْ شِئْتَ على الضميرِ في وَعَدْتَهم» . والعامَّةُ على فتحِ لامِ «صَلَح» يقال: صَلُح فهو صالحٌ. وابنُ أبي عبلة بضمِّها يُقال: صَلَح فهو صَليح. والعامَّةُ على «ذُرِّيَّاتهم» جمعاً. وعيسى «وذُرِّيَّتهم» إفراداً.

9

قوله: {يَوْمَئِذٍ} : التنوينُ عِوَضٌ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ، ولكنْ ليس في الكلامِ جملةٌ مُصَرَّحٌ بها، عُوِّض منها هذا التنوينُ، بخلافِ قولِه: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 84] أي: حينَ إذْ بَلَغَتِ الحلقومَ، لتقدُّمِها في اللفظِ، فلا بُدَّ مِنْ تقديرِ جملةٍ، يكون هذا عوضاً منها تقديرُه: يوم إذْ يُؤَاخَذُ بها.

10

قوله: {إِذْ تُدْعَوْنَ} : منصوبٌ بمقدرٍ، يَدُلُّ عليه هذا الظاهرُ، تقديرُه: مَقْتِكم إذ تُدْعَوْن. وقَدَّره بعضُهم: اذكُروا إذْ تُدْعَوْن. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ يكونَ منصوباً بالمَقْتِ الأول. ورَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّه يَلْزَمُ منه الفَصْلُ بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ. وقال: «هذا مِنْ ظواهرِ علمِ النحوِ التي لا تكاد تَخْفَى على المبتَدِئ فَضْلاً عَمَّنْ يُدْعَى من العجم أنه شيخُ العربِ والعَجَم» . قلت: مثلُ هذا لا يَخْفى على أبي القاسم، وإنما أراد أنه دالٌّ على ناصبِه، وعلى تقديرِ ذلك فهو مذهبٌ كوفيٌّ قال به، أو لأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيره. وأيُّ غُموضٍ في هذا حتى يُنْحِي عليه هذا الإِنْحاءَ؟ ولله القائلُ: 3915 - حَسَدُوا الفتى إذ لم يَنالُوا سَعْيَه ... فالقومُ أعداءٌ له وخُصومُ كضَرائرِ الحَسْناءِ قُلْنَ لِوَجْهها ... كَذِباً وزُوْراً إنه لدَمِيمُ وهذا الردُّ سبقه إليه أبو البقاء، فقال: «ولا يجوزُ أن يَعْمَلَ فيه» مَقْتُ الله «لأنه مصدرٌ أُخْبِرَ عنه، وهو قولُه:» أكبرُ «. فمِنْ ثَمَّ أَخَذه الشيخُ. ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ بالمَقْتِ الثاني؛ لأنهم لم يَمْقُتوا أنفسَهم وَقْتَ دعائِهم إلى الإِيمان، إنما مَقَتُوها يومَ القيامةِ. والظاهرُ أنَّ مَقْتَ اللَّهِ واقعٌ في الدنيا. وجَوَّزَ

الحسنُ أَنْ يكون في الآخرة. وضَعَّفه الشيخُ: بأنه» يَبْقى «إذْ تُدْعَوْن» مُفْلَتاً من الكلامِ؛ لكونِه ليس له عاملٌ مقدمٌ ولا ما يُفَسِّر عاملاً. فإذا كان المَقْتُ في الدنيا أَمْكَنَ أَنْ يُضْمَرَ له عاملٌ تقديرُه: مَقْتِكم «. قلت: وهذا التجرُّؤُ على مثلِ الحسنِ يُهَوِّنُ عليك تَجَرُّؤَه على الزمخشريِّ ونحوهِ. واللامُ في» لَمَقْتُ «لامُ ابتداءٍ أو قسمٍ. ومفعولُه محذوفٌ أي: لمقتُ اللَّهِ إياكم أو أنفسَكم، فهو مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه كالثاني. ولا يجوزُ أَنْ تكون المسألةُ من بابِ التنازع في» أنفسَكم «بين المقتَيْن لئلا يَلزمَ الفصلُ بالخبرِ بين المَقْتِ الأول ومعمولِه على تقديرِ إعمالِه، لكنْ قد اختلف النحاةُ في مسألةٍ: وهي التنازعُ في فِعْلَيْ التعجب، فَمَنْ مَنَعَ اعتَلَّ بما ذكرْتُه؛ لأنه لا يُفْصَلُ بين فعلِ التعجبِ ومعمولِه. ومَنْ جَوَّزَ قال: يُلتزم إعمالُ الثاني؛ حتى لا يَلْزَمَ الفَصْلُ. فليكُنْ هذا منه. والحقُّ عدمُ الجوازِ فإنَّه على خلافِ قاعدةِ التنازع.

12

قوله: {وَحْدَهُ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، وجاز كونُه معرفة لفظاً لكونِه في قوةِ النكرةِ كأنه قيل: منفرداً. والثاني: - وهو قولُ يونس - أنه منصوبٌ على الظرفِ، والتقدير: دُعِي على حِيالِه، وهو مصدرٌ محذوفُ الزوائدِ والأصلُ: أَوْحَدْتُه إيحاداً.

15

قوله: {رَفِيعُ} : فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ مبتدأً والخبرُ «ذو العرشِ» ، و «يُلْقي الروحَ» / يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأن يكونَ حالاً، ويجوزُ أَنْ تكونَ الثلاثةُ أخباراً لمبتدأ محذوفٍ. ويجوزُ أَنْ تكونَ الثلاثةُ أخباراً لقولِه: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} . قال الزمخشري: «ثلاثةُ أخبارٍ يجوزُ

أَنْ تكونَ مترتبةً على قولِه: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} ، أو أخبارَ مبتدأ محذوفٍ وهي مختلفةٌ تعريفاً وتنكيراً» . قلت: أمَّا الأولُ ففيه طولُ الفَصْلِ وتعدُّدُ الأخبارِ، وليسَتْ في معنى خبرٍ واحدٍ. وأمَّا الثاني ففيه تَعدُّدُ الأخبارِ وليسَتْ في معنى خبرٍ واحدٍ، وهي مسألةُ خلافٍ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ «ذو العرش» صفةً ل «رفيعُ الدرجاتِ» إنْ جَعَلْناه صفةً مشبهةً، أمَّا إذا جَعَلْناه مثالَ مبالغةٍ، أي: يرفع درجاتِ المؤمنين، فيجوزُ ذلك على أَنْ تُجْعَلَ إضافتُه مَحْضَةً، وكذلك عند مَنْ يُجَوِّزُ تمحُّضَ إضافةِ الصفةِ المشبهة أيضاً، وقد تقدَّمَ. وقُرِئ «رفيعَ» بالنصبِ على المدح، و «مِنْ أَمْرِه» متعلِّقٌ ب «يُلْقِي» و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. ويجوزُ أَن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الروح» . قوله: «لِيُنْذِرَ» العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ، ونصبِ اليوم. والفاعلُ هو اللَّهُ تعالى أو الروح أو مَنْ يشاء أو الرسول. ونَصْبُ اليوم: إمَّا على الظرفيَّةِ. والمُنْذَرُ به محذوفٌ تقديرُه: ليُنْذِرَ بالعذابِ يومَ التَّلاق، وإمَّا على المفعول به اتِّساعاً في الظرفِ. وقرأ أُبَيٌّ وجماعةٌ كذلك، إلاَّ أنه رَفَع اليوم على الفاعليَّةِ مجازاً أي: ليُنْذِر الناسَ العذابَ يومُ التلاق. وقرأ الحسن واليمانيُّ «لِتُنْذِرَ» بالتاءِ من فوقُ. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الفاعلَ ضميرُ المخاطبِ، وهو الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرُ الروحِ فإنَّها مؤنثةٌ على رَأْيٍ. وقرأ اليمانيُّ أيضاً «لِيُنْذَرَ» مبنياً للمفعول، «يومُ» بالرفعِ، وهي تُؤَيِّدُ نصبَه في قراءةِ الجمهورِ على المفعولِ به اتِّساعاً.

وأثبت ياءَ «التلاقي» وَصْلاً ووَقْفاً ابن كثير وأَثْبَتها في الوقف دونَ الوصل - مِنْ غير خِلافٍ - ورشٌ، وحَذَفها الباقون وَصْلاً ووقفاً، إلاَّ قالونَ فإنه رُوِيَ عنه وجهان: وجهٌ كورش، ووجهٌ كالباقين، وكذلك هذا الخلافُ بعينِه جارٍ في {يَوْمَ التناد} [غافر: 32] . وقد تقدَّم توجيهُ هذَيْن الوجهَيْن في الرعد في قولِه: {الكبير المتعال} [الرعد: 9] .

16

قوله: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} : في «يوم» أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه بدلٌ مِنْ «يوم التلاق» بدلُ كل مِنْ كل. الثاني: أَنْ ينتصِبَ بالتلاق أي: يقع التلاقي في يومِ بُروزِهم. الثالث: أنْ ينتصِبَ بقولِه: {لاَ يخفى عَلَى الله} ، ذكره ابنُ عطيةَ، وهذا على أحدِ الأقوالِ الثلاثةِ في «لا» : هل يعملُ ما بعدَها فيما قبلها؟ ثالثها: التفصيلُ بين أَنْ تقعَ جوابَ قسمٍ فيمتنعَ، أو لا فيجوزَ. فيجوزُ هذا على قولين من هذه الأقوالِ. الرابع: أن ينتصِبَ بإضمار «اذكُرْ» . و «يومَ» ظرفٌ مستقبلٌ ك «إذا» . وسيبويه لا يرى إضافةَ الظرفِ المستقبلِ إلى الجمل الاسمية، والأخفشُ يراه، ولذلك قدَّر سيبويه في قولِه: {إِذَا السمآء انشقت} [الانشقاق: 1] ونحوهِ فعلاً قبل الاسم، والأخفشُ لم يُقَدِّرْه، وعلى هذا فظاهرُ الآيةِ مع الأخفش. ويُجاب عن سيبويه: بأنَّ «هم» ليس مبتدأ بل مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّره اسمُ الفاعل أي: يومَ برزوا، ويكون «بارِزون»

خبرَ مبتدأ مضمر فلمَّا حُذِف الفعلُ انفصل الضميرُ فبقي كما ترى، وهذا كما قالوا في قوله: 3916 - لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري في أنَّ «حَلْقي» مرفوعُ فعلٍ يُفَسِّره «شَرِقٌ» لأنَّ «لو» لا يَليها إلاَّ الأفعالُ، وكذا قولُه: 3917 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فهَلاَّ نَفْسُ لَيْلى شَفيعُها لأنَّ «هَلاَّ» لا يَليها إلاَّ الأفعالُ، فالمُفَسَّرُ في هذه المواضعِ أسماءٌ مُسْبَقَةٌ، وهو نظيرُ «أنا زيداً ضاربُه» من حيث التفسيرُ. وحركة «يومَ هم» حركةُ إعرابٍ على المشهورِ. ومنهم مَنْ جَوَّزَ بناءَ الظرفِ، وإنْ أضيف إلى فعلٍ مضارعٍ أو جملة اسميةٍ، وهم الكوفيون. وقد وَهِم/ بعضُهم فحتَّم بناءَ الظرفِ المضافِ للجملِ الاسمية. وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّمَ أنه لا يُبْنَى عند البصريين إلاَّ ما أُضيف إلى فعلٍ ماض، كقولِه: 3918 - على حينَ عاتَبْتَ المشيبَ على الصِّبا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيت. وقد تقدَّم هذا مستوفىً في آخره المائدة. وكتبوا «يومَ هم» هنا وفي الذاريات منفصلاً، وهو الأصلُ. قوله: «لا يَخْفَى» يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأَنْ تكونَ حالاً من ضميرِ «بارِزون» وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً.

17

قوله: {اليوم} : ظرفٌ لقولِه «لِمَن المُلْكُ» ، و [يجوز] أَنْ يكونَ ظرفاً للجارِّ بعده؛ لأنَّ التقدير: المُلْكُ لله، فهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ، واليومَ معمولٌ ل «تُجْزَى» ، و «اليومَ» الأخير خبرُ «لا ظلمَ» .

18

قوله: {يَوْمَ الأزفة} : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به اتِّساعاً، وأَنْ يكونَ ظرفاً، والمفعولُ محذوفٌ. والآزِفَةُ: القريبةُ، مِنْ أَزِفَ الشيءُ، أي: قَرُبَ. قال النابغةُ: 3919 - أَزِف التَّرَحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا ... لَمَّا تَزَلْ برِحالِنا وكأنْ قَدِ وقال كعبُ بن زهير: 3920 - بان الشبابُ وهذا الشيبُ قد أَزِفا ... ولا أرَى لشبابٍ بائنٍ خلفا وقال الراغب: «أَزِفَ وأَفِدَ يتقارَبان، لكنَّ» أَزِفَ «يقال اعتباراً بضيقِ

وقتِها. ويقال: أزِفَ الشُّخوصُ. والأَزَفُ: ضيقُ الوقت» ، قلت: فجَعَلَ بينهما فَرْقاً، ويُرْوَى بيتُ النابغة: أَفِدَ الترحُّلُ. والآزِفَةُ: صفةٌ لمحذوفٍ، فيجوز أَنْ يكونَ التقديرُ: الساعة الآزِفَةُ أو الطامَّةُ الآزِفة. قوله: «إذ القلوبُ» بدْلٌ من يومِ الآزِفةِ، أو مِنْ «هم» في «أَنْذِرْهُمْ» بدلُ اشتمالٍ. قوله: «كاظِمين» نصبٌ على الحالِ. واختلفوا في صاحبها والعاملِ فيها. وقال الحوفي: «القلوبُ» مبتدأ. و «لدى الحناجِر» خبرُه، و «كاظمين» حالٌ من الضميرِ المستكنِّ فيه «. قلت: ولا بُدَّ مِنْ جوابٍ عن جمعِ القلوبِ جمعَ مَنْ يَعْقِل: وهو أنْ يكونَ لَمَّا أَسْند إليهم ما يُسْنَدُ للعقلاءِ جُمِعَتْ جَمْعَه، كقولِه: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] ، {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] . الثاني: أنها حالٌ من» القلوب «. وفيه السؤالُ والجوابُ المتقدِّمان. الثالث: أنه حالٌ من أصحاب القلوب. قال الزمخشري:» هو حالٌ مِنْ أصحاب القلوب على المعنى؛ إذ المعنى: إذْ قلوبُهم لدى الحناجر كاظمين عليها «. قلت: فكأنَّه في قوةِ أنْ جَعَلَ أل عِوَضاً من الضمير في حناجرهم: الرابع: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ» هم «في» أَنْذِرْهم «، وتكونُ حالاً مقدرةً؛ لأنهم وقتَ الإِنذارِ غيرُ كاظمين. وقال ابن عطية:» كاظِمين حالٌ ممَّا أُبْدِلَ منه «إذ القلوب» أو ممَّا تُضاف القلوبُ إليه؛ إذ المرادُ: إذ قلوبُ الناس لدى حناجرِهم، وهذا كقولِه: {تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42] أراد: تَشْخَصُ فيه أبصارُهم «. قلت: ظاهرُ قولِه أنه حالٌ ممَّا أُبْدِل منه.

قوله:» إذ القلوبُ «مُشْكِلٌ؛ لأنه أُبْدِل مِنْ قوله:» يومَ الآزِفَة «وهذا لا يَصِحُّ البتةَ، وإنما يريد بذلك على الوجه الثاني: وهو أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ» هم «في» أَنْذِرْهُمْ «بدلَ اشتمالٍ، وحينئذ يَصِحُّ. وقد تقدَّم الكلامُ على الكَظْمِ، والحناجر، في آل عمران والأحزاب. قوله: {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} » يُطاعُ «يجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِه بالجرِّ نعتاً على اللفظِ، وبالرفعِ نعتاً على المحلِّ؛ لأنه معطوفٌ على المجرور بمِنْ المزيدةِ. وقوله: {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} مِنْ باب: 3921 - على لاحِبٍ لا يُهْتَدى بمَنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: لا شفيعَ فلا طاعةَ، أو ثَمَّ شفيعٌ ولكن لا يُطاعُ.

19

قوله: {يَعْلَمُ} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو الظاهر - أنه خبرٌ آخرُ عن «هو» في قوله: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} . قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بِمَ اتَّصلَ قولُه: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين} ؟ قلت: هو خبرٌ من أخبارِ» هو «في قولِه: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ} مثل: {يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15] ولكنْ» يُلْقي الروحَ «قد عُلِّلَ بقولِه:» لِيُنْذِرَ «ثم استطرد لذِكْرِ أحوالِ يومِ التَّلاقِ إلى قوله: {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} فبَعُدَ لذلك عن أخواته» .

الثاني: أنه مُتَّصلٌ بقولِه: «وأَنْذِرْهم» لَمَّا أُمِرَ بإنذاره يوم الآزفة وما يَعْرِضُ فيه مِنْ شدَّة الغمِّ والكَرْبِ، وأنَّ الظالمَ لا يجدُ مَنْ يَحْميه، ولا شفيعَ له، ذَكَر اطِّلاعَه على جميع ما يَصْدُر مِنَ الخلقِ سِرّاً وجَهْراً. وعلى هذا فهذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها في قوة التعليلِ للأمرِ بالإِنذار. الثالث: أنها متصلةٌ بقولِه {سَرِيعُ الحساب} [غافر: 17] . الرابع: أنها متصلة بقولِه: {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غافر: 16] . وعلى هذين الوجهين فيُحْتمل أَنْ تكونَ جاريةً مَجْرَى العلةِ، وأنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال. وخائنةُ الأَعْيُن فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ كالعافيةِ، أي: يَعْلَمُ خيانةَ الأعين. / والثاني: أنها صفةٌ على بابِها، وهو مِنْ بابِ إضافةِ الصفةِ للموصوفِ، والأصلُ: الأعين الخائنة، كقوله: 3922 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإن سَقَيْتِ كِرامَ الناسِ فاسْقِينا وقد رَدَّه الزمخشريُّ وقال: «لا يَحْسُنُ أَنْ يُراد: الخائنة من الأعين؛ لأنَّ قولَه: {وَمَا تُخْفِي الصدور} لا يُساعِدُ عليه» يعني أنه لا يناسِبُ أن يقابلَ المعنى إلاَّ بالمعنى. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلِ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ «ما» في {وَمَا

تُخْفِي الصدور} مصدريةٌ حتى يَلْزَمَ ما ذكره، بل يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، وهو عبارةٌ عن نفس ذلك الشيءِ المَخْفِيِّ، فيكونُ قد قابَلَ الاسمَ غيرَ المصدرِ بمثلهِ.

20

قوله: {والذين يَدْعُونَ} : قرأ نافع وهشام «تَدْعُون» بالخطاب للمشركين، والباقون بالغَيْبة إخباراً عنهم بذلك.

21

قوله: {فَيَنظُرُواْ} : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً في جواب الاستفهام، وأَنْ يكونَ مجزوماً نَسَقاً على ما قبله كقولِه: 3923 - ألم تَسْأَلْ فتُخْبِرْكَ الرُّسومُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . رواه بعضُهم بالجزمِ والنصب. قوله: «منهم قوةً» قرأ ابنُ عامرٍ «منكم» على سبيلِ الالتفاتِ، والباقون بضميرِ الغَيْبة جَرْياً على ما سَبَقَ من الضمائرِ الغائبةِ. قوله: «وآثاراً» عطفٌ على «قوةً» ، وهو في قوة قولِه: {يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ} [الحجر: 82] ، وجعله الزمخشريُّ منصوباً بمقدر قال: «أو أراد: وأكثرَ آثاراً كقولِه: 3924 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قد غدا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحا يعني: ومُعْتَقِلاً رمحاً» . ولا حاجةَ إلى هذا مع الاستغناء عنه.

26

قوله: {أَوْ أَن} : قرأ الكوفيون «أو أَنْ» بأو التي للإِبهام والباقون بواو النسق على تَسَلُّط الحرفِ على التبديل وظهور الفساد معاً. وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفصٌ «يُظْهِرَ» بضم الياءِ وكسرِ الهاء مِنْ أَظْهر، وفاعلُه ضميرُ موسى عليه السلام، «الفسادَ» نصباً على المفعول به. والباقون بفتح الياء والهاء مِنْ ظهر، «الفسادُ» رفعاً بالفاعلية وزيدُ بن علي «يُظْهَرَ» مبنياً للمفعول، «الفسادُ» مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعل. ومجاهد «يَظَّهَّرَ» بتشديد الظاء والهاء، وأصلها يَتَظَهَّر مِنْ تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء. و «الفسادُ» رفعٌ على الفاعلية. وفتح ابن كثير ياءَ {ذروني أَقْتُلْ موسى} وسَكَّنها الباقون.

27

قوله: {عُذْتُ} : أدغم أبو عمروٍ والأخَوان، وأظهروا الذال مع التاء، والباقون بالإِظهار فقط. و «لا يُؤْمِنُ» صفةٌ لمتكبِّر.

28

قوله: {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} : يُحتمل أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب «يَكْتُمُ» بعده أي: يكتمه مِنْ آلِ فرعون. والثاني: - وهو الظاهرُ - أنَّه متعلق بمحذوفٍ صفةً لرجل. وجاء هنا على أحسنِ ترتيبٍ: حيث قَدَّمَ المفردَ ثم

ما يَقْرُبُ منه وهو حرفُ الجرِّ، ثم الجملةَ. وقد تقدم إيضاحُ هذه المسألةِ في المائدةِ وغيرِها. ويترتَّبُ على الوجهين: هل كان هذا الرجلُ مِنْ قَرابَةِ فرعونَ؟ فعلى الأولِ لا دليلَ فيه، وعلى الثاني فيه دليلٌ. وقد رَدَّ بعضُهم الأولَ: بأنه لا يُقال: كَتَمْتُ مِنْ فلانٍ كذا، إنما يقال: كَتَمْتُ فلاناً كذا، فيتعدَّى لاثنين بنفسِه. قال تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] . وقال الشاعر: 3925 - كَتَمْتُكَ هَمَّاً بالجَمومَيْنِ ساهِراً ... وهَمَّيْن هَمَّاً مُسْتَكِنَّاً وظاهراً أحاديثَ نَفْسٍ تشتكي ما برَبِّها ... ووِرْدَ هُمومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصادِرا أي: كتمتُك أحاديثَ نفسٍ وهَمَّيْن، فقدَّم المعطوفَ على المعطوفِ عليه، ومحلُّه الشعرُ. قوله: {أَن يَقُولَ رَبِّيَ} أي: كراهةَ أَنْ يقولَ أو لأَنْ يقولَ. والعامَّةُ على ضَمِّ عين «رَجُل» وهي الفصحى. والأعمش وعبد الوارث على تسكينها، وهي لغةُ تميمٍ ونجد. وقال الزمخشري: «ولك أَنْ تُقَدِّرَ مضافاً محذوفاً أي: وقت أَنْ يقولَ. والمعنى: أتقتلونه ساعةَ سَمِعْتم منه هذا القولَ من غير رَوِيَّةٍ ولا فِكْرٍ» . وهذا الذي أجازه رَدَّه الشيخ: بأنَّ تقديرَ هذا الوقتِ لا يجوزُ إلاَّ مع

المصدرِ المُصَرَّحِ به تقول: جِئْتُكَ صياحَ الدِّيْكِ أي: وقتَ صِياحِه، ولو قلت: أجيْئُك أنْ صاحَ الديكُ، أو أَنْ يصيحَ، لم يَصِحَّ. نصَّ عليه النحويون. قوله: «وقد جاءَكم» جملةٌ حالية يجوز أَنْ تكونَ من المفعول. فإنْ قيلَ: هو نكرةٌ. / فالجوابُ: أنه في حيِّزِ الاستفهام وكلُّ ما سَوَّغ الابتداءَ بالنكرةِ سَوَّغ انتصابَ الحال عنها. ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل. قوله: {بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} «بعض» على بابِها، وإنما قال ذلك ليهضِمَ موسى عليه السلام بعضَ حقه في ظاهرِ الكلام، فيُرِيَهم أنه ليس بكلامِ مَنْ أعطاه حقه وافياً فَضْلاً أَنْ يتعصَّبَ له، قاله الزمخشري. وهذا أَحسنُ مِنْ قولِ غيرِه: إنَّها بمعنى كل، وأنشدوا قولَ لبيد: 3926 - تَرَّاكُ أَمْكنةٍ إذا لم يَرْضَها ... أو يَرْتَبِطْ بعضُ النفوسِ حِمامُها وأنشدوا قولَ عمرو بن شُيَيْم: 3927 - قد يُدْرِكُ المتأنِّي بعضَ حاجتِه ... وقد يكونُ مع المستعجِلِ الزَّلَلُ وقول الآخر: 3928 - إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها ... دون الشيوخِ ترى في بعضِها خَلَلا

ولا أدري كيف فَهِموا الكلَّ من البيتين الأخيرين؟ وأَمَّا الأولُ ففيه بعضُ دليلٍ؛ لأنَّ الموتَ يأتي على الكلِّ. ولَمَّا حكى هذا الزمخشريُّ عن أبي عبيدة، وأنشد عنه بيتَ لبيدٍ قال: «إن صَحَّتِ الروايةُ عنه فقد حَقَّ فيه قولُ المازني في مسألة العَلْقى:» كان أَجْفَى مِنْ أن يفقهَ ما أقولُ له «. قلتُ: ومسألةُ المازني معه أنَّ أبا عبيدةَ قال للمازني: «ما أكذبَ النحويين!! يقولون: هاءُ التأنيثِ لا تدخل على ألفِ التأنيثِ وأن الألفَ في» عَلْقَى «مُلْحقة. قال: فقلت له: وما أنكرْتَ من ذلك؟ فقال: سَمِعْتُ رؤبةَ يُنْشِد: 3929 - يَنْحَطُّ في عَلْقَى وفي مُكُوْرِ ... فلم يُنَوِّنْها. فقلتُ: ما واحدُ عَلْقى؟ قال: عَلْقاةٌ. قال المازني: فامتنعْتُ ولم أُفَسِّرْ له لأنه كان أَغْلظَ مِنْ أَنْ يفهمَ مثلَ هذا» قلت: وإنما استغلظَه المازنيُّ؛ لأنَّ الألفَ التي للإِلحاق تَدْخُل عليها تاءُ التأنيثِ دالةً على الوَحْدة فيقال: أَرْطى وأَرْطاة، وإنما الممتنعُ دخولُها على ألفِ التأنيثِ نحو: دَعْوى وصَرْعى. وأمَّا عدمُ تنوين «عَلْقَى» فلأنَّه سَمَّى بها شيئاً بعينِه [

وألفُ الإِلحاقِ المقصورةُ حالَ العلميَّة تَجْري مَجْرى تاءِ التأنيث فيمتنعُ الاسمُ الذي هي فيه، كما تمتنعُ فاطمة. وتَنْصَرِفُ قائمة] .

29

قوله: {ظَاهِرِينَ} : حالٌ من الضميرِ في «لكم» ، والعاملُ فيها وفي «اليومَ» ما تَعَلَّقَ به «لكم» . قوله: «ما أُرِيْكُمْ» هي مِنْ رؤيةِ الاعتقادِ، فتتعدَّى لمفعولَيْن، ثانيهما {إِلاَّ مَآ أرى} . قوله: «الرَّشادِ» العامَّةُ على تخفيفِ الشينِ مصدرَ رشَدَ يَرْشُدُ. وقرأ معاذ بن جبل بتشديدِها، وخَرَّجها أبو الفتح وغيرُه على أنه صفةُ مبالغةٍ نحو: ضَرَب فهو ضرَّاب، وقد قال النحاس: «هو لحنٌ، وتَوَهَّمه من الرباعي» يعني أَرْشد. ورُدَّ على النحاس قولُه: بأنه يُحْتمل أَنْ يكونَ مِنْ رَشَدَ الثلاثي، وهو الظاهرُ. وقد جاء فَعَّال أيضاً مِنْ أَفْعَل وإنْ كان لا يَنْقاسُ. قالوا: أَدْرَك فهو دَرَّاك وأَجْبَرَ فهو جَبَّار، وأَقْصَر فهو قَصَّار، وأَسْأَر فهو سَآَّر، ويَدُلُّ على أنه صفةُ مبالغةٍ أنَّ معاذاً كان يُفَسِّرها بسبيل الله. قال ابنُ عطية: «ويَبْعُدُ عندي على معاذ - رضي الله عنه - وهل كان فرعونُ يَدَّعي إلاَّ الإِلهيَّة؟ ويَقْلَقُ بناءُ اللفظِ على هذا التركيبِ» . قلت: يعني

ابنُ عطية أنه كيف يقول فرعونُ ذلك، فيُقِرُّ بأنَّ ثَمَّ مَنْ يهدي إلى الرشادِ غيرُه، مع أنه يَدَّعي أنه إلهٌ؟ وهذا الذي عَزاه ابنُ عطية والزمخشري وابن جُبارة صاحب «الكامل» إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس في «الرشاد» الذي هو في كلامِ فرعونَ كما توهَّموا، وإنما هو في «الرشاد» الثاني الذي مِنْ قول المؤمنِ بعد ذلك. ويَدُلُّ على ذلك ما قاله أبو الفضل الرازي في كتابه «اللوامح» : «معاذ بن جبل» سبيل الرشاد «، الحرف الثاني بالتشديد، وكذلك الحسنُ، وهو سبيلُ اللَّهِ تعالى الذي أوضحه لعبادِه، كذلك فسَّره معاذ، وهو منقولٌ مِنْ مُرْشِد كدَرَّاك مِنْ مُدْرِك وجَبَّار مِنْ مُجْبر، وقَصَّار مِنْ مُقْصِر عن الأمر، ولها نظائرُ معدودةٌ. فأمَّا» قَصَّار الثوب «مِنْ قَصَر الثوبَ قِصارةً» فعلى هذا يزولُ إشكالُ ابنِ عطية المتقدمُ، وتتضح القراءةُ والتفسيرُ. وقال أبو البقاء: «وهو الذي يَكْثُر منه الإِرشادُ أو الرُّشْدُ» يعني يُحْتمل أنه مِنْ أرشدَ الرباعيِّ أو رَشَد الثلاثي. والأَوْلَى أَنْ يكونَ من الثلاثيِّ لِما عَرَفْتَ أنه يَنْقاسُ دونَ الأول.

31

قوله: {مِثْلَ دَأْبِ} : «مثل» يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً، وأَنْ يكون عطفَ بيانٍ.

32

قوله: {يَوْمَ التناد} : قد تقدَّم الخلافُ/ في يائِه:

كيف تُحذف وتُثْبَت؟ وهو مصدرُ «تَنادَى» نحو: تقاتَلَ تقاتُلاً. والأصلُ: تَنادُياً بضم الدالِ ولكنهم كسروها لتصِحَّ الياءُ. وقرأت طائفةٌ بسكون الدالِ إجراءً للوصل مُجْرى الوقفِ. وتنادَى القومُ أي: نادى بعضُهم بعضاً. قال: 3930 - تنادَوْا فقالوا أَرْدَتِ الخيلُ فارساً ... فقُلْنا: عُبَيْدُ الله ذلكمُ الرَّدِي وقال آخر: 3931 - تنادَوْا بالرحيلِ غَداً ... وفي تَرْحالِهم نَفْسي وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني في آخرين بتشديدِها، مصدرُ «تَنادَّ» مِنْ نَدَّ البعيرُ إذا هَرَبَ ونَفَرَ، وهو في معنى قولِه تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34] الآية. وفي الحديث: «إن للناسِ جَوْلةً يندُّون، يظنُّون أنهم يَجِدُون مهرباً» وقال أمية بن أبي الصلت: 3932 - وبَثَّ الخَلْقَ فيها إذ دَحاها ... فهُمْ سُكَّانُها حتى التنادي

33

قوله: {يَوْمَ تُوَلُّونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من «يوم التَّناد» ، وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ أعني. ولا يجوزُ أَنْ يُعْطَفَ عطفَ بيان لأنه نكرةٌ، وما قبله معرفةٌ. وقد تقدَّم لك في قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] أنَّ الزمخشريَّ جعله بياناً مع تخالُفِهما تعريفاً وتنكيراً، وهو عكسُ ما نحن فيه، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرةٌ، والأولُ معرفةٌ. قوله: {مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} يجوزُ في «مِنْ عاصِمٍ» أَنْ يكونَ فاعلاً بالجارِّ لاعتمادِه على النفي، وأَنْ يكون مبتدأ، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن. و «من الله» متعلقٌ ب «عاصِم» .

34

قوله: {حتى إِذَا} : غايةٌ لقولِه: «فما زِلْتُمْ» . وقُرئ {ألَن يَبْعَثَ الله} بإدخالِ همزةِ التقرير، يُقرِّر بعضُهم بعضاً. قوله: «كذلك» أي: الأمر كذلك. «ويُضِلُّ الله» مستأنفٌ أو نعتُ مصدرٍ أي: مثلَ إضلالِ اللَّهِ إياكم - حين لم يَقْبَلوا مِنْ يوسفَ عليه السلام - يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هو مُسْرِفٌ.

35

قوله: {الذين يُجَادِلُونَ} يجوز فيه عشرةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ قولِه: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} وإنما جُمِع اعتباراً بمعنى «مَنْ» . الثاني: أَنْ يكونَ بياناً له. الثالث: أَنْ يكونَ صفةً له. وجُمِع على معنى «مَنْ» أيضاً. الرابع: أَنْ ينتصِبَ بإضمار أعني. الخامس: أَنْ يرتفعَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هم الذين. السادس: أَنْ يرتفعَ مبتدأً، خبرُه «يَطْبَعُ اللَّهُ» . و «كذلك» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أيضاً، أي: الأمرُ كذلك. والعائدُ من الجملةِ وهي «يَطْبَعُ» على

المبتدأ محذوفٌ، أي: على كلِّ قلبِ متكبِّرٍ منهم. السابع: أنْ يكونَ مبتدأً، والخبر «كَبُرَ مَقْتاً» ، ولكنْ لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضاف ليعودَ الضميرُ مِنْ «كَبُرَ» عليه. والتقديرُ: حالُ الذين يُجادلون كَبُرَ مَقتاً ويكون «مَقْتاً» تمييزاً، وهو مَنْقولٌ مِنَ الفاعليةِ إذ التقديرُ: كَبُرَ مَقْتُ حالِهم أي: حالِ المجادلين. الثامن: أَنْ يكونَ «الذين» مبتدأً أيضاً، ولكن لا يُقَدَّرُ حَذْفُ مضافٍ، ويكونُ فاعلُ «كَبُرَ» ضميراً عائداً على جدالِهم المفهومِ من قوله: «ما يُجادِلُ» . والتقدير: كَبُرَ جِدالُهم مَقْتاً. و «مَقْتاً» على ما تقدَّمَ أي: كَبُرَ مَقْتُ جدالِهم. التاسع: أَنْ يكونَ «الذين» مبتدأً أيضاً، والخبرُ {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} . قاله الزمخشري: ورَدَّه الشيخ: بأنَّ فيه تفكيكَ الكلامِ بعضِه من بعضٍ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ «بغير سُلْطان» ب «يُجادلون» ، ولا يُتَعَقَّلُ جَعْلُه خبراً ل الذين لأنه جارٌّ ومجرورٌ، فيصيرُ التقديرُ: الذين يُجادلون كائنون أو مستقرون بغيرِ سلطان، أي: في غير سلطان؛ لأنَّ الباءَ إذ ذاك ظرفيةٌ خبرٌ عن الجُثَث. العاشر: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ أي: مُعانِدون ونحوه، قاله أبو البقاء. قوله: «كَبُرَ مَقْتاً» يُحْتمل أَنْ يُرادَ به التعجبُ والاستعظامُ، وأَنْ يُرادَ به الذمُّ كبِئْس؛ وذلك أنه يجوزُ أَنْ يُبْنَى فَعُل بضمِّ العَيْن مِمَّا يجوزُ التعجُّبُ منه، ويَجْري مَجْرى نِعْم وبئس في جميعِ الأحكامِ. وفي فاعلِه ستةُ أوجهٍ، الأول: أنه ضميرٌ عائدٌ على حالِ المضافِ إلى الذين، كما تقدَّم تقريرُه. / الثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على جدالِهم المفهوم مِنْ «يُجادلون» كما تقدَّم أيضاً. الثالث: أنه الكافُ في «كذلك» . قال الزمخشري: «وفاعلُ» كَبُرَ «قولُه:» كذلك «أي:

كَبُرَ مَقْتاً مثلُ ذلك الجدالِ، ويَطْبع اللَّهُ كلامٌ مستأنفٌ» ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ فيه تَفْكيكاً للكلامِ وارتكابَ مذهبٍ ليس بصحيحٍ. أمَّا التفكيكُ فلأنَّ ما جاء في القرآن مِنْ «كذلك نَطْبَعُ» أو «يَطْبع» إنما جاء مربوطاً بعضُه ببعض فكذلك هذا، وأمَّا ارتكابُ مذهبٍ غيرِ صحيح فإنه جَعَل الكافَ اسماً ولا تكونُ اسماً إلاَّ في ضرورةٍ، خلافاً للأخفش. الرابع: أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، نقله الزمخشري. قال: «ومَنْ قال: كَبُرَ مَقْتاً عند الله جِدالُهم، فقد حَذَفَ الفاعلَ، والفاعلُ لا يصِحُّ حَذْفُه» . قلت: القائلُ بذلك الحوفيُّ، لكنه لا يريدُ بذلك تفسيرَ الإِعراب، إنما يريدُ به تفسيرَ المعنى، وهو معنى ما قَدَّمْتُه مِنْ أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على جدالِهم المفهومِ مِنْ فعلِه، فصَرَّح الحوفيُّ بالأصلِ، وهو الاسمُ الظاهرُ، ومرادُه ضميرٌ يعودُ عليه. الخامس: أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على ما بعدَه، وهو التمييزُ نحو: «نِعْمَ رَجُلاً زيدٌ» ، و «بئس غلاماً عمروٌ» . السادس: أنه ضميرٌ يعودُ على «مَنْ» مِنْ قولِه: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} . وأعاد الضميرَ مِنْ «كَبُرَ» مفرداً اعتباراً بلفظِها، وحينئذٍ يكونُ قد راعَى لفظَ «مَنْ» أولاً في {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} ، ثم معناها ثانياً في قوله: {الذين يُجَادِلُونَ} إلى آخره، ثم لفظَها ثالثاً في قوله: «كَبُر» . وهذا كلُّه إذا أَعْرَبْتَ «الذين» تابعاً لمَنْ هو مُسْرِفٌ نعتاً أو بياناً أو بدلاً. وقد عَرَفْتَ أن الجملةَ مِنْ قولِه: «كَبُرَ مَقْتاً» فيها وجهان، أحدهما: الرفعُ إذا جَعلْناها خبراً لمبتدأ. والثاني: أنها لا محلَّ لها إذا لم تجْعَلْها خبراً. بل هي

جملةٌ استِئْنافية. وقوله: «عندَ الله» متعلقٌ ب «كَبُرَ» ، وكذلك قد تقدَّم أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، وأنْ يكونَ فاعلاً وهما ضعيفان. والثالث - وهو الصحيحُ - أنه معمولٌ ل «يَطْبَعُ» أي: مثلَ ذلك الطَّبْعِ يطبعُ اللَّهُ. و «يطبعُ اللَّهُ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مستأنفٌ. والثاني: أنه خبرٌ للموصولِ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك كلِّه. قوله: «قَلْبِ متكبِّرٍ» قرأ أبو عمروٍ وابن ذكوان بتنوين «قلب» ، وَصَفا القلبَ بالتكبُّر والجَبَروتِ؛ لأنهما ناشئان منه، وإنْ كان المرادُ الجملةَ، كما وُصِف بالإِثمِ في قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] . والباقون بإضافة «قلب» إلى ما بعدَه أي: على كلِّ قَلْبِ شخصٍ متكبِّرٍ. وقد قَدَّرَ الزمخشريُّ مضافاً في القراءةِ الأولى أي: على كلِّ ذي قلب متكبر، تجعلُ الصفةَ لصاحبِ القلب. قال الشيخ: «ولا ضرورةَ تَدْعو إلى اعتقادِ الحذفِ» . قلت: بل ثَمَّ ضرورةٌ إلى ذلك وهو توافُقُ القراءَتَيْن، فإنه يَصيرُ الموصوفُ في القراءتَيْن واحداً، وهو صاحبُ القلب، بخلافِ عَدَم التقديرِ، فإنه يَصيرُ الموصوفُ في إحداهما القلبَ وفي الأخرى صاحبَه.

37

قوله: {أَسْبَابَ السماوات} : فيه وجهان، أحدهما: أنه تابعٌ للأسبابِ قبله بدلاً أو عطفَ بيان. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار أَعْني، والأولُ أَوْلَى؛ إذ الأصلُ عدمُ الإِضمارِ.

قوله: «فَأَطَّلِعَ» العامَّةُ على رفعِه عَطْفاً على «أَبْلُغُ» فهو داخِلٌ في حَيِّزِ الترجِّي. وقرأ حفصٌ في آخرين بنصبِه. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه جوابُ الأمرِ في قولِه: «ابْنِ لي» فنُصِبَ بأَنْ مضمرةً بعد الفاءِ في جوابِه على قاعدة البصريين كقولِه: 3933 - يا ناقُ سِيْري عَنَقاً فَسِيحا ... إلى سليمانَ فَنَسْتريحا/ وهذا أَوْفَقُ لمذهب البصريين. الثاني: أنه منصوبٌ. قال الشيخ: «عَطْفاً على التوهُّمِ لأنَّ خبر» لعلَّ «كثيراً جاء مَقْروناً ب» أن «، كثيراً في النظمِ وقليلاً في النثر. فمَنْ نَصَبَ تَوَهَّم أنَّ الفعلَ المرفوعَ الواقعَ خبراً منصوبٌ ب» أنْ «، والعطفُ على التوهُّمِ كثيرٌ، وإنْ كان لا ينقاسُ» انتهى. الثالث: أن يَنْتَصِبَ على جوابِ الترجِّي في «لعلَّ» ، وهو مذهبٌ كوفي استشهد أصحابُه بهذه القراءةِ وبقراءة عاصم {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ} [عبس: 3-4] بنصب «فتنفَعَه» جواباً لِقوله: «لعلَّه» . وإلى هذا نحا الزمخشري قال: «تشبيهاً للترجِّي بالتمني» والبصريُّون يأبَوْن ذلك، ويُخَرِّجُون القراءتَيْنِ على ما تقدَّم.

وفي سورة عبس يجوز أن [يكون] جواباً للاستفهام في قولِه: «وما يُدْريك» فإنه مترتبٌ عليه معنىً. وقال ابن عطية وابن جُبارة الهُذلي: «على جواب التمني» وفيه نظرٌ؛ إذ ليس في اللفظِ تَمَنٍّ، إنَّما فيه تَرَجٍّ. وقد فَرَّقَ الناسُ بين التمني والترجِّي: بأنَّ الترجِّيَ لا يكونُ إلاَّ في الممكنِ عكسَ التمني، فإنه يكونُ فيه وفي المستحيلِ كقولِه: 3934 - لَيْتَ الشبابَ هو الرَّجيعُ على الفتى ... والشيبُ كان هو البَدِئُ الأولُ وقُرِئ «زَيَّنَ لفرعونَ» مبنياً للفاعلِ وهو الشيطانُ. وتقدَّم الخلافُ في {وَصُدَّ عَنِ السبيل} في الرعد فمَنْ بناه للفاعلِ حَذَفَ المفعولَ أي: صَدَّ قومَه عن السبيلِ. وابنُ وثَّاب «وصِدَّ» بكسرِ الصادِ، كأنه نَقَل حركةَ الدالِ الأولى إلى فاءِ الكلمة بعد توهُّمِ سَلْبِ حركتِها. وقد تقدَّم ذلك في نحو «رِدَّ» وأنه يجوزُ فيه ثلاثُ اللغاتِ الجائزةِ في قيل وبِيع. وابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة «وصَدٌّ» بفتح الصادِ ورفع الدالِ منونةً جعله مصدراً منسوقاً على «سوءُ عملِه» أي: زَيَّن له الشيطانُ سوءَ العملِ والصدَّ. والتَّباب: الخَسارُ. وقد تقدَّم ذلك في قوله: {غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] . وتقدَّم الخِلافُ أيضاً في

قوله: {يَدْخُلُونَ الجنة} في سورة النساء [الآية: 40] .

41

قوله: {وياقوم} : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ولِمَ جاء بالواوِ في النداء الثالثِ دونَ الثاني؟ قلت: لأنَّ الثاني داخلٌ في كلامٍ هو بيانٌ للمُجْمَلِ وتفسيرٌ له، فأُعْطِي الداخلُ عليه حكمَه في امتناعِ دخولِ الواو. وأما الثالثُ فداخِلٌ على كلامٍ ليس بتلك المَثابةِ» . قوله: {وتدعونني إِلَى النار} هذه الجملةُ مستأنفةٌ أخبر عنهم بذلك بعد استفهامِه عن دعاءِ نفسِه. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وما لكم تَدْعُونني إلى النارِ، وهو الظاهرُ. ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً أي: ما لكم أدعوكم إلى النجاةِ حالَ دعائِكم إياي إلى النار؟

42

قوله: {تَدْعُونَنِي} : هذه الجملةٌ بدلٌ مِنْ «تَدْعونني» الأولى على جهةِ البيان لها، وأتى في قولِه «تَدْعُونني» بجملةٍ فعليةٍ ليدُلَّ على أنَّ دعوتَهم باطلةٌ لا ثبوتَ لها، وفي قوله: «وأنا أَدْعوكم» بجملة اسميةٍ ليدُلَّ على ثبوتِ دعوتِه وتقويتِها. وقد تقدَّم الخلافُ في {لاَ جَرَمَ} [غافر: 43] . وقال الزمخشري هنا: ورُوي عن العرب «لا جُرْمَ أنه يفعل كذا» بضم الجيم وسكونِ الراء بمعنى لا بُدَّ، وفُعْل وفَعَل أخَوان كرُشْد ورَشَد وعُدْم وعَدَم «.

44

قوله: {وَأُفَوِّضُ} : هذه مستأنفةٌ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعل «أَقول» .

46

قوله: {النار} : الجمهورُ على رفعِها. وفيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ «سوءُ العذاب» . الثاني: أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو أي سوءُ العذابِ النارُ؛ لأنه جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ و «يُعْرَضُون» على هذين الوجهين: يجوز أَنْ يكون حالاً من «النار» ويجوز أن يكونَ حالاً من «آل فرعون» . الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبرُه «يُعْرَضون» . وقُرئ «النارَ» منصوباً. وفيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره «يُعْرَضون» من حيث المعنى أي: يَصْلَوْن النارَ يُعْرَضون عليها، كقوله: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ} [الإنسان: 31] . والثاني: أَنْ ينتصبَ على الاختصاص. قاله الزمخشري، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ ل «يُعْرَضُون» لكونِه مفسِّراً، وعلى الثاني هو حالٌ كما تقدَّمَ. قوله: «ويومَ تقومُ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها: أنه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ، وذلك القولُ المضمرُ محكيٌّ به الجملةُ الأمريَّةُ من قوله «أدخِلوا» والتقدير: ويُقال له/ يومَ تقومُ الساعةُ: أدْخِلوا. الثاني: أنه منصوبٌ بأَدخِلوا أي: أدْخِلوا يومَ تقومُ. وعلى هذين الوجهين فالوقفُ تامٌّ على قوله «وعَشِيَّاً» . والثالث: أنه معطوفٌ على الظرفَيْن قبلَه، فيكونُ معمولاً ل «يُعْرَضُون» . فالوقفُ على هذا على قولِه «الساعة» و «أَدْخِلوا» معمولٌ لقولٍ مضمرٍ أي: يُقال لهم كذا وكذا.

وقرأ الكسائي وحمزة ونافع وحفص «أدْخِلُوا» بقطع الهمزةِ أمراً مِنْ أَدْخَلَ، فآلَ فرعون مفعولٌ أولُ، و «أشدَّ العذاب» مفعولٌ ثانٍ. والباقون «ادْخُلوا» بهمزةِ وصلٍ مِنْ دَخَلَ يَدْخُلُ. فآلَ فرعونَ منادى حُذِف حرفُ النداءِ منه، و «أشدَّ» منصوبٌ به: إمَّا ظرفاً، وإمّا مفعولاً به، أي: ادخلوا يا آل فرعونَ في أشدِّ العذاب.

47

قوله: {وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ} : في العاملِ في «إذ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على «غُدُوَّاً» فيكونُ معمولاً ل «يُعْرَضون» أي: يُعْرَضُونَ على النار في هذه الأوقاتِ كلِّها، قاله أبو البقاء. والثاني: أنه معطوفٌ على قولِه {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر} [غافر: 18] قاله الطبري. وفيه نظرٌ لبُعْدِ ما بينهما، ولأنَّ الظاهرَ عَوْدُ الضميرِ مِنْ «يَتَحاجُّون» على آل فرعون. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمارِ «اذْكُرْ» وهو واضحٌ. قوله: «تَبَعاً» فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه اسمُ جمعٍ لتابعٍ، ونحوه: خادِم وخَدَم، وغائِب، وغَيَبَ، وأَديم وأَدَم. والثاني: أنه مصدرٌ واقع موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: تابِعين. والثالث: أنه مصدرٌ أيضاً، ولكنْ على حَذْفِ مضاف أي: ذوي تَبَع. قوله: «نصيباً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ ينتصبَ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُّ عليه

قولُه «مُغْنُون» تقديرُه: «هل أنتم دافِعون عنا نصيباً. الثاني: أَنْ يُضمَّنَ» مُغْنون «معنى حامِلين. الثالث: أَنْ ينتصبَ على المصدرِ. قال أبو البقاء:» كما كان «شيءٌ» كذلك، ألا ترى إلى قولِه {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً} [آل عمران: 116] ف «شيْئاً» في موضعِ غَناء، فكذلك «نصيباً» . و «من النار» صفةٌ ل «نَصيباً» .

48

قوله: {إِنَّا كُلٌّ} : العامَّةُ على رفع «كلٌ» ، ورفعُه على الابتداء و «فيها» خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّ» ، وهذا كقولِه في آل عمران: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلُّهُ للَّهِ} في قراءة أبي عمروٍ. وقرأ ابن السَّمَيْفع وعيسى بن عمر بالنصب وفيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ تأكيداً لاسم «إنَّ» . قال الزمخشري: «توكيدٌ لاسم إنَّ، وهو معرفةٌ. والتنوينٌ عوضٌ من المضافِ إليه، يريد: إنَّا كلَّنا فيها» انتهى. يعني فيكون «فيها» هو الخبر. وإلى كونِه تأكيداً ذهب ابنُ عطية أيضاً. وقد رَدَّ ابن مالكٍ هذا المذهبَ فقال في «تسهيله» : «ولا يُستغنى بنية إضافتِه خلافاً للزمخشري» : قلت: وليس هذا مذهباً للزمخشري وحدَه بل هو منقول عن الكوفيين أيضاً. الثاني: أَنْ تكونَ

منصوبةً على الحال، قال ابن مالك: «والقولُ المَرْضِيُّ عندي أنَّ» كلاً «في القراءة المذكورة منصوبةٌ على الحال من الضمير المرفوع في» فيها «، و» فيها «هو العاملُ وقد قُدِّمَتْ عليه مع عَدَمِ تصرُّفه، كما قُدِّمَتْ في قراءةِ مَنْ قرأ: {والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ} . وكقولِ النابغة: 3935 - رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحقِبيْ أَدْراعِهم ... فيهمْ ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذار وقول بعض الطائيين: 3936 - دعا فَأَجَبْنَا وَهْو بادِيَ ذلَّةٍ ... لديكمْ وكان النصرُ غيرَ بعيدِ يعني بنصب» باديَ «وهذا هو مذهبُ الأخفش، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ مَنَعَ مِنْ ذلك قال:» فإنْ قلتَ: هل يجوزُ أَنْ يكونَ «كلاًّ» حالاً قد عَمِل فيه «فيها» ؟ قلت: لا؛ لأنَّ الظرفَ لا يعملُ في الحال متقدمةً كما يعملُ في الظرفِ متقدِّماً. تقول: كلَّ يوم لك ثوبٌ. ولا تقول: قائماً في الدار زيد «. قال الشيخ:» وهذا الذي منعه أجازه الأخفشُ إذا توسَّطَتِ الحالُ نحو: «زيدٌ قائماً

في الدار» و «زيدٌ قائماً عندك» ، والمثالُ الذي ذكره ليس مطابقاً لِما في الآية؛ لأنَّ الآيةَ تَقَدَّمَ فيها المسندُ إليه الحكمُ وهو اسمُ إنَّ، وتوسَّطَتِ الحالُ إذا قلنا إنها حالٌ، وتأخَّر العاملُ فيها. وأمَّا تمثيلُه بقولِه: ولا تقولُ: «قائماً في الدار زيد» ، فقد تأخَّر فيه المسندُ والمسندُ إليه. وقد ذكر بعضُهم أنَّ المنعَ في ذلك إجْماعٌ من النحاة «. قلت: الزمخشريُّ مَنْعُه صحيحٌ لأنه ماشٍ على مذهبِ الجمهور، وأمَّا تمثيلُه بما ذَكَر فلا يَضُرُّه لأنه في محلِّ المَنْعِ، فعدمُ تجويزِه صحيحٌ. الثالث أنَّ» كلاً «بدلٌ مِنْ» ن «في» إنَّا «، لأَنَّ» كلاً «قد وَلِيَتْ العوامِل/ فكأنه قيل: إنَّ كلاً فيها. وإذا كانوا قد تأوَّلوا قولَه: 2937 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . حَوْلاً أَكْتعاً ... [وقوله:] . 2938 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وحَوْلاً أَجْمعا ... على البدلِ مع عدم تصرُّفِ أكتع وأَجْمع فلأَنْ يجوزَ ذلك في «كل» أَوْلَى

وأَحْرى. وأيضاً فإنَّ المشهورَ تعريفُ «كل» حالَ قَطْعها. حُكي في الكثير الفاشي: «مررتُ بكلٍ قائماً وببعض جالساً» ، وعزاه بعضُهم لسيبويه. وتنكيرُ «كل» ونصبها حالاً في غايةِ الشذوذ نحو: «مررت بهم كلاً» أي: جميعاً. فإن قيل: فيه بدلُ الكل من الكل في ضمير الحاضر، وهو لا يجوز. أجيب بوجهين، أحدهما: أن الكوفيين والأخفشَ يَرَوْن ذلك، وأنشدوا قولَه: 3939 - أنا سيفُ العشيرةِ فاعْرِفوني ... حُمَيْداً قد تَذَّرَّيْتُ السَّناما فحُميداً بدل من ياء «اعرِفوني» ، وقد تأوَّلَه البصريون على نصبه على الاختصاص. والثاني: أن هذا الذي نحن فيه ليس محلَّ الخلافِ لأنه دالٌّ على الإِحاطة والشمول. وقد قالوا: إنه متى كان البدل دالاًّ على ذلك جاز، وأنشدوا: 3940 - فما بَرِحَتْ أقدامنا في مكانِنا ... ثلاثتِنا حتى أُزِيْرُوا المنَائيا ومثلُه قولُه تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] ، قالوا «ثلاثتنا» بدلٌ من «ن» في «مكاننا» لدلالتِها على الإِحاطة، وكذلك «لأوَّلنا وآخِرنا» بدلٌ من «ن» في «لنا» ، فلأَنْ يجوزَ ذلك في «كل» التي هي أصلٌ في الشمولِ والإِحاطة بطريق الأَوْلَى. هذا كلامُ الشيخِ في الوجه الثالث وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المبردَ

ومكيَّاً نَصَّاً على أن البدلَ في هذه الآيةِ لا يجوزُ، فكيف يُدَّعَى أنه لا خِلافَ في البدلِ والحالةُ هذه؟ لا يُقال: إنَّ في الآية قولاً رابعاً: وهو أنَّ «كلاً» نعتٌ لاسم «إنَّ» وقد صَرَّح الكسائيُّ والفراء بذلك فقالا: هو نعتٌ لاسمِ «إنَّ» لأنَّ الكوفيين يُطْلقون اسمَ النعتِ على التأكيدِ، ولا يريدون حقيقةَ النعتِ. وممن نَصَّ على ما قلتُه من التأويلِ المذكورِ مكيٌّ رحمه الله تعالى، ولأنَّ الكسائيَّ إنما جَوَّز نعتَ ضميرِ الغائبِ فقط دونَ المتكلمِ والمخاطبِ.

49

قوله: {يَوْماً مِّنَ العذاب} : في «يوماً» وجهان، أحدهما: أنه ظرفٌ ل «يُخَفِّفْ» . ومفعولُ «يُخَفِّفْ» محذوفٌ أي: يُخَفِّف عنا شيئاً من العذاب في يوم. ويجوز على رأي الأخفش أن تكون «مِنْ» مزيدةً، فيكون «العذاب» هو المفعولَ، أي: يُخَفف عنا في يوم العذاب. الثاني: أَنْ يكونَ مفعولاً به، واليوم لا يُخَفَّف، وإنما يُخَفَّفُ مظروفُه فالتقديرُ: يُخَفِّف عذابَ يومٍ. وهو قَلِقٌ لقولِه «من العذاب» ، والقولُ بأنَّه صفةٌ مؤكِّدةٌ كالحالِ أقلقُ منه. والظاهرُ أنَّ «مِن العذاب» هو المفعولُ ل «يُخَفِّف» ، و «مِنْ» تبعيضيَّةٌ، و «يوماً» ظرفٌ. سألوا أَنْ يخففَ عنهم بعضَ العذابِ لا كلَّه في يومٍ ما، لا في كلِّ يومٍ ولا في يومٍ معين.

51

قوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} : قرأ الجمهور «يقوم» بالياء مِنْ أسفلَ. وأبو عَمْروٍ في روايةِ المنقريِّ عنه وابنُ هرمز وإسماعيل بالتاء مِنْ فوقُ لتأنيثِ الجماعةِ، والأشهادُ يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ شهيد ك شَريف

وأَشْراف، وهو مطابِقٌ لقولِه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] وأَنْ يكونَ جمعَ شاهِد ك صاحِب وأصحاب، وهو مطابِقٌ لقولِه: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} [الأحزاب: 45] .

52

قوله: {يَوْمَ} : بدلٌ مِنْ «يوم» قبلَه أو بيانٌ له، أو نُصِب بإضمار أَعْني. وقد تقدَّم الخلافُ في قولِه «يَنْفَع الظالمين» بالتاء والياء آخر الروم.

54

قوله: {هُدًى وذكرى} : فيهما وجهان، أحدهما: أنهما مفعولٌ مِنْ أجلهما أي: لأجلِ الهدى والذَّكْر. والثاني: أنهما مصدران في موضعِ الحالِ.

55

قوله: {لِذَنبِكَ} : قيل: المصدرُ مضافٌ للمفعولِ أي: لذنب أمَّتِك في حَقِّك. والظاهرُ أنَّ اللَّهَ يقولُ ما أرادَ، وإنْ لم يَجُزْ لنا نحن أَنْ نُضيفَ إليه صلَّى الله عليه وسلَّم ذنباً.

57

قوله: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} : المصدران مُضافان لمَفْعولِهما. والفاعلُ محذوفٌ وهو اللَّهُ تعالى. ويجوزُ أَنْ يكونَ الثاني مضافاً للفاعلِ أي: أكبرُ ممَّا يَخْلُقُه الناسُ أي: يَصْنَعونه. ويجوزُ أَنْ يكونا مصدرَيْن واقعَيْن موقعَ المخلوقِ أي: مَخلوقُهما أكبرُ مِنْ مَخْلوقهم أي: جُرْمُها أكبرُ مِنْ جُرْمِهم.

58

قوله: {وَلاَ المسياء} : «لا» زائدةٌ للتوكيدِ لأنه لَمَّا طالَ الكلامُ بالصلة بَعُدَ قَسِيْمُ المؤمنين، فأعاد معه «لا» توكيداً. وإنما قَدَّم

المؤمنين لمجاوَرَتهم/ قولَه: «والبصير» ، واعلَمْ أنَّ التقابلَ يجيْءُ على ثلاثِ طرقٍ، أحدُها: أَنْ يجاوِرَ المناسبُ ما يناسِبُه كهذه الآيةِ. والثانية: أَنْ يتأخَّرَ المتقابِلان كقولِه تعالى: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} [هود: 24] . والثالثة: أن يُقَدِّمَ مقابلَ الأولِ، ويُؤَخِّرَ مقابلَ الآخر، كقولِه تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} [فاطر: 19] وكلُّ ذلك تَفَنُّنٌ في البلاغة. وقَدَّم الأعمى في نَفْيِ التساوي لمجيئِه بعد صفةِ الذم في قولِه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} . قوله: «تَتَذَكَّرون» قرأ الكوفيون بتاء الخطاب، والباقون بياءِ الغَيْبة. فالخطابُ على الالتفاتِ للمذكورَيْن بعد الإِخبار عنهم، والغيبةُ نظراً لقولِه: {إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ} وهم الذين التفتَ إليهم في قراءةِ الخطاب.

62

قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} : العامَّةُ على الرفعِ، وزيد بن علي نصبَه، قال الزمخشري: «على الاختصاص» . وقرأ طلحة بيَاءِ الغيبة.

63

قوله: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ} : أي: مثلَ ذلك الإِفك.

64

قوله: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} : قرأ أبو رزين والأعمش: «صِوَرَكم» بكسر الصاد فِراراً من الضمة قبل الواوِ، وقرأَتْ فرقةٌ بضم الصادِ وسكونِ الواو وجَعَلْته اسمَ جنسٍ لصورةٍ كبُسْرٍ وبُسْرَة.

70

قوله: {الذين كَذَّبُواْ} : يجوز فيه أوجه: أَنْ يكونَ بدلاً من الموصول قبلَه، أو بياناً له، أو نعتاً، أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أو منصوباً على الذمِّ. وعلى هذه الأوجهِ فقولُه «فسوف يعلمونَ» جملةٌ مستأنفةٌ سِيقَتْ للتهديدِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه «فسوف يَعْلَمون» ودخولُ الفاءِ فيه واضحٌ.

71

قوله: {إِذِ الأغلال} : جَوَّزوا في «إذ» هذه أَنْ تكونَ بمعنى «إذا» لأنَّ العاملَ فيها محقَّقُ الاستقبالِ، وهو «فسوف يَعْلمون» ، قالوا: وكما تقع «إذا» موقعَ «إذ» في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] كذلك تقع «إذ» مَوْقِعَها، وقد مضى نحوٌ من هذا في البقرة عند قوله {وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب} [البقرة: 165] . قالوا: والذي حَسَّن هذا تَيَقَّنَ وقوعَ الفعلِ فأُخْرِجَ في صورةِ الماضي. قلت: ولا حاجةَ إلى إخراجِ «إذ» عن موضوعِها، بل هي باقيةٌ على دلالتِها على المضيِّ، وهي منصوبةٌ بقولِه «فسوفَ يَعْلَمون» نَصْبَ المفعولِ به أي: فسوف يعلمونَ يومَ القيامة وَقْتَ الأغلالِ في أعناقِهم أي: وقتَ سببِ الأغلالِ، وهي المعاصي التي كانوا يَفْعَلونها في الدنيا كأنَّه قيل: سيعرفون وقتَ معاصيهم التي تجعل الأَغلالَ في أعناقِهم. وهو وجهٌ واضحٌ، غايةُ ما فيه التصرُّف في «إذ» بجَعْلِها مفعولاً بها، ولا يَضُرُّ ذلك؛ فإنَّ

المُعْرِبين غالِبُ أوقاتِهم يقولون: منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدراً ولا يكون حينئذٍ إلاَّ مفعولاً به لاستحالةِ عملِ المستقبل في الزمنِ الماضي. وجَوَّزوا أَنْ يكونَ منصوباً ب اذْكُرْ مقدَّراً أي: اذكُرْ لهم وقتَ الأغلالِ ليخافوا ويَنْزَجِروا. فهذه ثلاثةُ أوجهٍ، خيرُها أوسطُها. قوله: «والسَّلاسِلُ» العامَّةُ على رَفْعِها. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه معطوفٌ على الأغلال، وأخبر عن النوعَيْن بالجارِ، فالجارُّ في نية التأخير. والتقديرُ: إذ الأغلالُ والسَّلاسلُ في أعناقِهم. الثاني: أنه مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأولِ عليه. الثالث: أنه مبتدأٌ أيضاً، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه «يُسْحَبُون» . ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ يعودُ عليه منها. والتقديرُ: والسَّلاسل يُسْحَبُون بها حُذِفَ لقوةِ الدلالةِ عليه. فَيُسْحَبُون مرفوع المحلِّ على هذا الوجهِ. وأمَّا في الوجهَيْن المتقدِّمين فيجوز فيه النصبُ على الحالِ من الضمير المَنْوِيِّ في الجارِّ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً. وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس وزيد بن علي وابن وثاب والمسيبي في اختيارِه «والسلاسلَ» نَصْباً «يَسْحَبون» بفتح الياءِ مبنياً للفاعلِ، فيكون «السلاسلَ» مفعولاً مقدماً، ويكونُ قد عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ. قال ابن عباس في معنى/ هذه القراءة: «إذ كانوا يَجُرُّوْنها، فهو أشدُّ عليهم يُكَلَّفون ذلك، ولا يُطيقونه» . وقرأ ابنُ عباس وجماعةٌ «والسلاسلِ» بالجرِّ، «يُسْحَبون» مبنياً للمفعولِ. وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ، أحدُها: الحَمْلُ على المعنى تقديرُه: إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسلِ، فلمَّا كان معنى الكلام ذلك حُمِل عليه في العطف. قال الزمخشري: «ووجهُه أنه لو قيل: إذ أعناقُهم

في الأغلال، مكانَ قوله: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} لكان صحيحاً مستقيماً، فلمَّا كانتا عبارتين مُعْتَقِبتين حَمَلَ قولَه:» والسلاسل «على العبارةِ الأخرى. ونظيرُه: 3941 - مَشائيمُ ليسوا مُصْلِحين عشيرةً ... ولا ناعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرابُها كأنه قيل: بمُصْلحين «وقُرِئ» بالسلاسِل «. وقال ابن عطية:» تقديرُه: إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسِل، فعُطِفَ على المرادِ من الكلام لا على ترتيبِ اللفظِ، إذ ترتيبُه فيه قَلْبٌ وهو على حَدِّ قولِ العرب «أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رأسي» . وفي مصحف أُبَيّ {وفي السلاسل يُسْحَبُونَ} . قال الشيخ بعد قولِ ابنِ عطيةَ والزمخشريِّ المتقدِّم: «ويُسمَّى هذا العطفَ على التوهُّم، إلاَّ أنَّ تَوَهُّمَ إدخالِ حرفِ الجرِّ على» مُصْلِحين «أقربُ مِنْ تغييرِ تركيب الجملةِ بأَسْرها، والقراءةُ مِنْ تغييرِ تركيبِ الجملةِ السابقة بأَسْرِها. ونظيرُ ذلك قولُه: 3942 - أجِدَّكَ لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ ... ولا بَيْداءَ ناجيةً ذَمُوْلا ولا متدارِكٍ والليلُ طَفْلٌ ... ببعضِ نواشِغِ الوادي حُمُوْلا

التقدير: لستَ براءٍ ولا متداركٍ. وهذا الذي قالاه سَبَقهما إليه الفراء فإنه قال:» مَنْ جَرَّ السلاسل حَمَله على المعنى، إذ المعنى: أعناقُهم في الأغلال والسلاسل «. الوجه الثاني: أنه عطفٌ على» الحميم «، فقدَّم على المعطوف عليه، وسيأتي تقريرُ هذا. الثالث: أن الجرَّ على تقدير إضمار الخافِضِ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبيّ» وفي السلاسل «وقرأه غيرُه» وبالسلاسل «وإلى هذا نحا الزجَّاج. إلاَّ أنَّ ابنَ الأنباري رَدَّه وقال:» لو قلتَ: «زيد في الدارِ» لم يَحْسُنْ أَنْ تُضْمَر «في» فتقول: «زيدٌ الدارِ» ثم ذكر تأويلَ الفراء. وخَرَّج القراءةَ عليه ثم قال: كما تقول: «خاصَمَ عبدُ الله زيداً العاقلَيْن» بنصب «العاقلين» ورفعِه؛ لأنَّ أحدَهما إذا خاصمه صاحبه، فقد خاصمه الآخرُ. وهذه المسألةُ ليسَتْ جاريةً على أصول البصريين، ونَصُّوا على مَنْعها، وإنما قال بها من الكوفيين ابنُ سعدان. وقال مكيٌّ: «وقد قُرِئَ والسلاسلِ، بالخفضِ على العطف على» الأَعْناق «وهو غَلَط؛ لأنه يَصير: الأغلال في الأعناق وفي السلاسل، ولا معنى للأغلال في السلاسل» . قلت: وقوله على العطفِ على «الأعناقِ» ممنوعٌ بل خَفْضُه على ما تقدَّم. وقال أيضاً: «وقيل: هو معطوفٌ على» الحميم «وهو أيضاً لا يجوزُ؛ لأنَّ المعطوفَ المخفوضَ لا يتقدَّم على المعطوفِ عليه، لو قلت:» مررتُ وزيدٍ بعمروٍ «لم يَجُزْ، وفي المرفوع يجوزُ نحو:» قام وزيدٌ عمرو «ويَبْعُد في المنصوب، لا يَحْسُنُ:» رأيتُ وزيداً عمراً «ولم يُجِزْه في المخفوض أحدٌ» . قلت: وظاهرُ كلامِه أنه يجوزُ في المرفوع بعيدٌ، وقد نصُّوا أنه لا يجوزُ

إلاَّ ضرورةً بثلاثة شروطٍ: أن لا يقعَ حرفُ العطفِ صدراً، وأَنْ يكونَ العاملُ متصرفاً، وأَنْ لا يكونَ المعطوفُ عليه مجروراً، وأنشدوا: 3943 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... عليكِ ورحمةُ اللَّهِ السَّلامُ إلى غيرِ ذلك من الشواهدِ، مع تَنْصيصِهم على أنه مختصُّ بالضرورة. والسِّلْسِلَةُ معروفةٌ. قال الراغب «وتَسَلْسَلَ الشيءُ: اضطرَبَ كأنه تُصُوِّرَ منه تَسَلُّلٌ مترددٌ، فتَرَدُّدُ لفظِه تنبيهٌ على تردُّد معناه. وماءٌ سَلسَلٌ متردد في مقرِّه» . والسَّحْبُ: الجرّ بعنفٍ، والسَّحابُ من ذلك؛ لأنَّ الريحَ تجرُّه، أو لأنه يجرُّ الماءَ. وسَجَرْتُ التنُّورَ أي: ملأتُه ناراً وهَيَّجْتُها. ومنه البحر المَسْجُور أي: المملوء. وقيل: المضطرِمُ ناراً. قال الشاعر: 3944 - إذا شاءَ طالعَ مَسْجُوْرَةً ... تَرَى حَوْلَها النَّبْعَ والشَّوْحَطا فمعنى قولِه تعالى هنا: {ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} أي: يُوْقَدُ لهم، كقوله: {وَقُودُهَا الناس} [البقرة: 24] والسَّجِيْرُ: الخليلُ الذي يُسْجَرُ في مودَّةِ خليلِه، كقولهم: فلان يحترق في مودةِ فلان.

75

قوله: {تَفْرَحُونَ} : «تَمْرَحون» مِنْ باب التجنيس المحرَّفِ، وهو أن يقعَ الفرقُ بين اللفظَيْنِ بحرفٍ.

76

قوله: {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} : المخصوصُ محذوفٌ أي: جهنم، أو مثواكم، ولم يَقُلْ فبِئْسَ مَدْخَلُ؛ لأنَّ الدخولَ لا يَدوم وإنما يَدُوْمُ الثَّواءُ؛ فلذلك خَصَّه بالذمِّ، وإنْ كان الدخولُ أيضاً مَذْموماً.

77

قوله: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} : قال الزمخشري: «أصلُه: فإنْ نَرَكَ و» ما «مزيدةٌ لتأكيدِ معنى الشرطِ، ولذلك أُلْحِقَتِ النونُ بالفعل. ألا تراك لا تقول: إنْ تُكْرِمَنّي أُكْرِمْك، ولكنْ إمَّا تُكْرِمَنِّي أكرمْك» . قال الشيخ: «وما ذكره مِنْ تلازُمِ النونِ، و» ما «الزائدة ليس مذهبَ سيبويه، إنما هو مذهبُ المبردِ والزجَّاجِ، ونصَّ سيبويه على التخيير» . / قلت: وهذه القواعدُ وإنُ تقدَّمَتْ مُسْتَوفاةً، إلاَّ أنِّي أذكُرها لذِكْرِهم إياها، وفي ذلك تنبيهٌ أيضاً وتذكيرٌ بما تقدَّم. قوله: «فإلينا يُرْجَعُون» ليس جواباً للشرطِ الأولِ، بل جواباً لِما عُطِفَ عليه، وجوابُ الأولِ محذوفٌ. قال الزمخشري: «فإلينا يُرْجَعُون» متعلِّق بقولِه: «نَتَوَفَّيَنَّك» وجوابُ «نُرِيَنَّك» محذوفٌ تقديرُه: فإنْ نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم مِنَ العذابِ وهو القَتْلُ يومَ بدرٍ فذاك، وإنْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبلَ يومِ بَدْرٍ فإلينا

يُرْجَعُون فننتقمُ منهم أشدَّ الانتقامَ «. قلت: قد تقدَّمَ مثلُ هذا في سورةِ يونس وبحثُ الشيخِ معه فَلْيُلْتَفَتْ إليه. وقال الشيخ:» وقال بعضُهم: جوابُ «فإمَّا نُرِيَنَّك» محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه أي: فَتَقَرُّ عَيْنك. ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ «فإلينا يُرْجَعُون» جواباً للمعطوفِ عليه والمعطوفِ، لأنَّ تركيبَ «فإمَّا نُرِيَنَّكَ بعضَ الذين نَعِدُهم في حياتك فإلينا يُرْجَعون» ليس بظاهرٍ، وهو يَصِحُّ أَنْ يكونَ جوابَ «أو نَتَوَفَّيَنَّك» أي: فإلينا يُرْجَعُون فننتقمُ منهم ونُعَذِّبُهم لكونِهم لم يَتَّبِعوك. نظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 42] إلاَّ أنه هنا صَرَّح بجوابِ الشرطَيْن «. قلت: وهذا بعينِه هو قولُ الزمخشريِّ. وقرأ السُّلميُّ ويعقوبُ» يَرْجَعون «بفتح ياءِ الغَيْبَةِ مبنياً للفاعلِ. وابنُ مصرف ويعقوب أيضاً بفتح تاءِ الخطابِ.

78

قوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا} : يجوزُ أَنْ يكونَ «منهم» صفةً ل «رُسُلاً» ، فيكون «مَنْ قَصَصْنا» فاعِلاً به لاعتمادِه، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً مقدماً، و «مَنْ» مبتدأٌ مؤخر. ثم في الجملة وجهان: الوصفُ ل «رُسُلاً» وهو الظاهرُ والاستئنافُ.

79

قوله: {مِنْهَا، وَمِنْهَا} : «مِنْ» الأولى يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيضِ، إذ ليس كلُّها تُرْكَبُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ إذ المرادُ

بالأنعامِ شيءٌ خاصٌّ، وهي الإِبل. قال الزجَّاج: «لأنه لم يُعْهَدْ للركوبِ غيرُها» . وأمَّا الثانيةُ فكالأولى. وقال ابنُ عطية: «هي لبيانِ الجنسِ» قال: «لأنَّ الخيلَ منها ولا تُؤْكَلُ» .

80

قوله: {وَعَلَى الفلك} : اخْتِير لفظُ «على» هنا على لفظِ «في» كقولِه: {قُلْنَا احمل فِيهَا} [هود: 40] لمناسبةِ قولِه: «وعليها» ، كذا أجابُوا. ويظهر أنَّ «في» هناك أليقُ؛ لأنَّ سفينةَ نوحٍ عليه السلام على ما يقالُ كانَتْ مُطْبِقَةً عليهم، وهي محيطةٌ بهم كالوعاءِ. وأمَّا غيرُها فالاستعلاءُ فيه واضحٌ؛ لأنَّ الناسَ على ظهرِها.

81

قوله: {فَأَيَّ آيَاتِ الله} : منصوبٌ ب «تُنْكِرون» وقُدِّمَ وجوباً؛ لأنَّ له صَدْرَ الكلامِ. قال مكي: «ولو كان مع الفعلِ هاءٌ لكان الاختيارُ الرفعَ في» أي «بخلافِ ألفِ الاستفهامِ تَدْخُلُ على الاسمِ، وبعدها فعلٌ واقعٌ على ضميرِ الاسمِ، فالاختيارُ النصبُ نحو قولِك: أزيداً ضَرَبْتُه، هذا مذهبُ سيبويهِ فرَّقَ بين الألفِ وبين أيّ» قلت: يعني أنَّك إذا قلتَ: «أيُّهم ضربْتَه» كان الاختيارُ الرفعَ لأنه لا يُحْوِج إلى إضمارٍ، مع أنَّ الاستفهامَ موجودٌ في «أزيداً ضربْتُه» يُختار النصبُ لأجلِ الاستفهامِ فكان مُقْتضاه اختيارَ النصبِ أيضاً، فيما إذا كان الاستفهامُ بنفس الاسمِ. والفرقُ عَسِرٌ. وقال

الزمخشري: «فأيَّ آياتِ جاءتْ على اللغةِ المستفيضةِ. وقولك:» فأيةَ آياتِ اللَّهِ «قليلٌ؛ لأنَّ التفرقةَ بين المذكرِ والمؤنثِ في الأسماءِ غير الصفاتِ نحو: حِمار وحِمارة غريبٌ، وهو في» أَيّ «أغربُ لإِبهامِه» . قال الشيخ: «ومِنْ قِلَّةِ تأنيثِ» أيّ «قولُه: 3945 - بأيِّ كتابٍ أم بأيةِ سُنَّةٍ ... ترى حُبَّهم عاراً عليَّ وتَحْسَبُ قوله:» وهو في أيّ أغربُ «إنْ عنى» أيًّا «على الإِطلاق فليس بصحيحٍ، لأنَّ المستفيضَ في النداء أَنْ يُؤَنَّثَ في نداء المؤنث كقولِه تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة} [الفجر: 27] ولا نعلَمُ أحداً ذكر تَذْكيرها فيه، فيقولُ: يا أيُّها المرأة، إلاَّ صاحبَ» البديع في النحو «، وإنْ عنى غيرَ المناداةِ فكلامُه صحيحٌ يَقِلُّ تأنيثها في الاستفهامِ وموصولةً وشرطيةً» . قلت: وأمَّا إذا وقعَتْ صفةً لنكرةٍ وحالاً لمعرفةٍ، فالذي ينبغي أَنْ يجوزَ الوجهان كالموصولةِ، ويكون التأنيثُ أقلَّ نحو: «مررتُ بامرأةٍ أيةِ امرأة» و «جاءَتْ هندٌ أيةَ امرأةٍ» ، وكان ينبغي للشيخِ أن ينبِّهَ على هذين الفرعَيْنِ.

82

قوله: {فَمَآ أغنى عَنْهُم} : يجوزُ في ما أَنْ تكونَ نافيةً، واستفهاميةً بمعنى النفي، ولا حاجةَ إليه.

قوله: «ما كانوا» يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، فلا عائدَ على الأولِ، وعلى الثاني هو محذوفٌ أي: يَكْسِبونه، وهي فاعلٌ ب «أَغْنَى» على التقديرَيْن.

83

قوله: {بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه تهكُّمٌ بهم. والمعنى: ليس عندهم علمٌ. الثاني: أنَّ ذلك جاء على زَعْمِهم أنَّ عندهم عِلْماً يَنْتَفعون به. الثالث: أنَّ «مِنْ» بمعنى بَدَل أي: بما عندهم من الدنيا بدلَ العلمِ. وعلى هذه الأوجه فالضميران للكفارِ. الرابع: / أَنْ يكونَ الضَميران للرسل أي: فَرِحَ الرسُل بما عندهم من العلم. الخامس: أنَّ الأولَ للكفارِ، والثاني للرسل، ومعناه: فَرِحَ الكفارُ فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بما عند الرسُلِ مِن العلمِ، إذ لم يَأْخُذوه بقَبولٍ ويمتثِلوا أوامرَ الوحيِ ونواهيه. وقال الزمخشري: «ومنها - أي من الوجوه - أَنْ يُوْضَعَ قولُه: {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} مبالغةً في نَفْيِ فَرَحِهم بالوحيِ الموجِبِ لأَقْصى الفرحِ والمَسَرَّةِ مع تهكُّمٍ بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم وجَهْلِهم» . قال الشيخ: «ولا يُعَبَّرُ بالجملةِ الظاهرِ كونُها مُثْبتةً عن الجملةِ المنفيةِ، إلاَّ في قليلٍ من الكلام نحو:» شَرٌّ أهرَّ ذا نابٍ «، على خلافٍ فيه، ولما آلَ أمرُه إلى الإِثباتِ المحصورِ جازَ. وأمَّا في الآيةِ فينبغي أَنْ لا يُحْمَلَ على القليلِ؛ لأن في ذلك تَخْليطاً لمعاني الجملِ المتباينةِ.

85

قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} : يجوزُ رفعُ «

إيمانُهم» اسماً ل «كان» ، و «يَنْفَعُهم» جملةٌ خبراً مقدماً، ويجوزُ أَنْ يرتفعَ بأنه فاعلُ «يَنْفَعُهم» ، وفي «كان» ضمير الشأن. وقد تقدَّم لك هذا مُحَقَّقاً عند قولِه: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137] وأنه لا يكونُ من بابِ التنازع فعليك بالالتفاتِ إليه، ودَخل حرفُ النفي على الكونِ لا على النفيِ؛ لأنه بمعنًى لا يَصِحُّ ولا ينبغي، كقوله: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] . قوله: «سُنَّةَ اللَّهِ» يجوزُ انتصابُها على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ، يعني: أنَّ الذي فَعَلَ اللَّهُ بهم سُنَّةٌ سابقةٌ من الله. ويجوزُ انتصابُها على التحذيرِ أي: احذروا سنةَ اللَّهِ في المكذِّبين التي قد خَلَتْ في عبادِه. و «هنالك» في الأصل مكان. قيل: واسْتُعير هنا للزمانِ، ولا حاجةَ له، فالمكانيَّةُ فيه ظاهرةٌ.

فصلت

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {تَنزِيلٌ} : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ «حم» على القولِ بأنها اسمٌ للسورةِ، أو خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هذا تنزيلٌ أو مبتدأٌ، وخبرُه «كتابٌ فُصِّلَتْ» .

3

قوله: {كِتَابٌ} : قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ل «تَنْزيل» ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «تَنْزيل» ، وأَنْ يكونَ فاعلاً بالمصدرِ، وهو «تنزيلٌ» أي: نَزَلَ كتابٌ، قاله أبو البقاء، و «فُصِّلَتْ آياتُه» صفةٌ لكتاب. قوله: «قُرْآناً» في نصبِه ستةُ أوجهٍ، أحدُها: هو حالٌ بنفسِه و «عربيَّاً» صفتُه، أو حالٌ موطِّئَةٌ، والحالُ في الحقيقةِ «عربيَّاً» ، وهي حالٌ غيرُ منتقلةٍ. وصاحبُ الحال: إمَّا «كتابٌ» لوَصْفِه ب «فُصِّلَتْ» ، وإمَّا «آياته» ، أو منصوبٌ على المصدرِ أي: تقرؤه قرآناً، أو على الاختصاصِ والمدحِ، أو مفعولٌ ثانٍ ل فُصِّلَتْ، أو منصوبٌ بتقديرِ فعلٍ أي: فَصَّلْناه قرآناً. قوله: «لقومٍ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يتعلَّقَ ب فُصِّلَتْ أي: فُصِّلَتْ لهؤلاءِ وبُيِّنَتْ لهم؛ لأنهم هم المنتفعون بها، وإنْ كانَتْ مُفَصَّلةً في نفسِها

لجميعِ الناسِ. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «قُرآناً» أي: كائناً لهؤلاءِ خاصةً لِما تقدَّم في المعنى. الثالث: أَنْ يتعلَّقَ ب «تَنْزِيلٌ» وهذا إذا لم يُجْعَلْ «من الرحمنِ» صفةً له؛ لأنَّك إنْ جَعَلْتَ «من الرحمن» صفةً له فقد أَعْمَلْتَ المصدرَ الموصوفَ، وإذا لم يكن «كتابٌ» خبراً عنه ولا بَدَلاً منه؛ لئلا يَلْزَمَ الإِخبارُ عن الموصولِ أو البدلِ منه قبلَ تمامِ صلتِه. ومَنْ يَتَّسِعْ في الظرف وعديلِه لم يُبالِ بشيءٍ من ذلك. وأمَّا إذا جَعَلْتَ «من الرحمن» متعلِّقاً به و «كتاب» فاعلاً به فلا يَضُرُّ ذلك؛ لأنه مِنْ تتمَّاته وليس بأجنبيّ، وهذا الموضعُ ممَّا يُظْهِرُ حُسْنَ علمِ الإِعرابِ، ويُدَرِّبُكَ في كثيرٍ من أبوابِه.

4

قوله: {بَشِيراً وَنَذِيراً} : يجوزُ أَنْ يكونا نعتَيْن ل «قُرْآناً» ، وأَنْ يكونا حالَيْنِ: إمَّا مِنْ «كتاب» ، وإمَّا مِنْ «آياته» ، وإمَّا من الضميرِ المَنْوِيِّ في «قُرْآناً» . وقرأ زيد بن علي برفعهما على النعتِ ل «كتاب» أو على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو بشيرٌ ونذيرٌ.

5

قوله: {في أَكِنَّةٍ} : قال الزمخشري: «فإنْ قُلْتَ: هَلاَّ قيل: على قلوبِنا أكنَّةٌ كما قيل: وفي آذاننا وَقْرٌ، ليكونَ الكلامُ على نَمَطٍ واحد. قلت: هو على نَمَطٍ واحدٍ؛ لأنَّه لا فَرْقَ في المعنى بين قولِك: قلوبُنا في أكنَّةٍ، وعلى قلوبِنا أكنَّةٌ، والدليلُ عليه قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: 25] ، ولو قيل: جَعَلْنا قلوبَهم في أكنَّةٍ لم يختلفِ المعنى، وترى المطابيعَ منهم لا يَرَوْن الطباقَ والملاحظةَ إلاَّ في المعاني» . قال الشيخ: «و» في «هنا

أَبْلَغُ مِنْ» على «لأنَّهم قَصَدوا الإِفراطَ في عَدَمِ القبول بحُصول قلوبِهِم في أكنَّةٍ احتوَتْ عليها احتواءَ الظرفِ على المظروفِ، فلا يمكنُ أَنْ يَصِلَ إليها شيءٌ، كما تقول:» المالُ في الكيس «بخلافِ قولِك:» على المالِ كيسٌ «، فإنَّه لا يَدُلُّ على الحصر وعدمِ الوصولِ دلالةَ الوعاءِ، وأمَّا» وجعلنا «فهو من إخبار اللَّهِ تعالى فلا يَحْتاجُ إلى مبالغةٍ» . وتقدَّمَ تفسيرُ الأَكنَّة والوقر. / وقرأ طلحة بكسر الواوِ وتقدَّم الفرقُ بينهما. قوله: «ممَّا تَدْعُوْنا» مِنْ في «ممَّا» وفي «ومِنْ بَيْنِنا» لابتداءِ الغايةِ فالمعنى: أنَّ الحجابَ ابتدأ مِنَّا وابتدأ منك، فالمسافةُ المتوسطةُ لجهتِنا وجهتِك مُسْتوعبةٌ لا فراغَ فيها، فلو لم تَأْت «مِنْ» لكان المعنى: أنَّ حجاباً حاصلٌ وسطَ الجهتين، والمقصودُ المبالغَةُ بالتبايُنِ المُفْرِط، فلذلك جيْءَ ب «مِنْ» قاله الزمخشري. وقال أبو البقاءِ: «هو محمولٌ على المعنى؛ لأنَّ المعنى: في أكنَّةٍ محجوبةٍ عن سماعِ ما تَدْعُونا إليه، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل» أكنَّة «؛ لأنَّ الأكنَّةَ الأغشيةُ، وليسَتِ الأغشيةُ ممَّا يُدْعَوْنَ إليه» .

6

قوله: {قُلْ} : قرأ ابنُ وثَّاب والأعمش «قال» فعلاً ماضياً خبراً عن الرسولِ. والرسمُ يَحْتَملهما، وقد تقدَّم مثلُ هذا في الأنبياءِ وآخرِ المؤمنين. وقرأ الأعمشُ والنخعيُّ «يُوْحِي» بكسر الحاء أي: اللَّهُ تعالى.

قوله: «فاسْتَقِيموا إليه» عُدِّيَ ب «إلى» لتضمُّنِه معنى تَوَجَّهوا، والمعنى: وَجِّهوا استقامتَكم إليه.

8

قوله: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} : قيل: غيرُ منقوص، وأنشدوا لذي الإِصبع العدواني: 3946 - إني لَعَمْرُكَ ما بابي بذي غَلقٍ ... على الصديقِ ولا خَيْري بمَمْنُوْنِ وقيل: مقطوعٌ، مِنْ مَنَنْتُ الحَبْلَ أي: قطعْتُه، وأنشدوا: 3947 - فَضْلَ الجوادِ على الخيلِ البِطاءِ فلا ... يُعْطِي بذلك مَمْنُوْناً ولا نَزِقا وقيل: غيرُ ممنونٍ، مِن المَنِّ؛ لأنَّ عطاءَ اللَّهِ تعالى لا يَمُنُّ به، إنما يَمُنُّ المخلوقُ.

9

قوله: {وَتَجْعَلُونَ} : عطفٌ على «لَتَكْفُرون» فهو داخلٌ في حَيِّزِ الاستفهام.

10

قوله: {وَجَعَلَ} : مستأنف. ولا يجوز عَطْفُه على صلةِ الموصولِ للفصلِ بينهما بأجنبيّ، وهو قولُه: «وتَجْعلون» فإنه معطوفٌ على «لَتَكْفرون» كما تقدَّم. قوله: {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} تقديرُه: في تمامِ أربعةِ أيام باليومَيْن المتقدِّمين.

وقال الزجاج: «في تتمةِ أربعةِ أيام» يريدُ بالتتمَّةِ اليومينِ. وقال الزمخشري: «في أربعة أيام فَذْلَكَةٌ لمدةِ خَلْقِ اللَّهِ الأرضَ وما فيها، كأنه قال: كلُّ ذلك في أربعةِ أيامٍ كاملةٍ مستويةٍ بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ» . قلت: وهذا كقولِك: بَنَيْتُ بيتي في يومٍ، وأكْمَلْتُه في يومَيْن. أي: بالأول. وقال أبو البقاء: «أي: في تمامِ أربعةِ أيامٍ، ولولا هذا التقديرُ لكانَتِ الأيامُ ثمانيةً، يومان في الأول، وهو قوله: {خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} ، ويومان في الآخِر، وهو قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [وأربعة في الوسط، وهو قولُه {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} ] . قوله:» سواءً «العامَّةُ على النصبِ، وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: استَوتْ استواءً، قاله مكي وأبو البقاء. والثاني: أنه حالٌ مِنْ» ها «في» أقواتها «أو مِنْ» ها «في» فيها «العائدةِ على الأرض أو من الأرض، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى: إنما هو وصفُ الأيامِ بأنها سواءٌ، لا وصفُ الأرضِ بذلك، وعلى هذا جاء التفسيرُ. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ» سَواءٍ «بالجرِّ صفةً للمضافِ أو المضافِ إليه. وقال السدي وقتادة: سواءً معناه: سواءً لمن

سألَ عن الأمرِ واستفهم عن حقيقةِ وقوعِه، وأرادَ العِبْرَةَ فيه، فإنه يَجِدُه كما قال تعالى، إلاَّ أنَّ ابنَ زيدٍ وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره أبو البقاء، فإنهم قالوا: معناه مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أمرُ هذه المخلوقاتِ ونَفْعُها للمحتاجين إليها من البشر، فعبَّر بالسائلين عن الطالبين. وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد» سَواءٍ «بالخفضِ على ما تقدَّمَ، وأبو جعفرٍ بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: أنه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي سواءٌ لا تَزيد ولا تنقصُ. وقال مكي:» هو مرفوعٌ بالابتداء «، وخبرُه» للسائلين «. وفيه نظرٌ: من حيث الابتداءُ بنكرةٍ من غيرِ مُسَوِّغٍ، ثم قال:» بمعنى مُسْتوياتٍ، لمن سأل فقال: في كم خُلِقَتْ؟ وقيل: للسَّائلين لجميع الخَلْقِ لأنهم يَسْألون الرزقَ وغيرَه مِنْ عند اللَّهِ تعالى «. قوله:» للسَّائلين «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه متعلقٌ ب» سواء «بمعنى: مُسْتويات للسائلين. الثاني: أنه متعلِّقٌ ب» قَدَّر «أي: قَدَّر فيها أقواتَها لأجلِ الطالبين لها المحتاجين المُقتاتين. الثالث: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ كأنه قيل: هذا الحَصْرُ لأجلِ مَنْ سأل: في كم خُلِقَتِ الأرضُ وما فيها؟

11

والدُّخان: ما ارتفع مِنْ لَهَبِ النار، ويُسْتعار لِما يُرى مِنْ بخارِ الأرضِ عند جَدْبِها. وقياسُ جَمْعِه في القلةِ: أَدْخِنة، وفي الكثرة: دِخْنان نحو

غُراب وأَغْرِبة وغِربان، وشذُّوا في جَمْعِه على دواخِن. قيل: هو جمعُ داخِنة تقديراً على سبيلِ الإِسناد المجازيِّ. ومثله: عُثان وعَواثِن. قوله: «وهي دُخانٌ» من باب التشبيهِ الصُّوري؛ لأن صورتِها صورةُ الدخان في رأي العَيْنِ. قوله: «أَتَيْنا» قرأ العامَّةُ «ائْتِيا» أمراً من الإِتْيان، «قالتا أَتَيْنا» منه أيضاً. وقرأ ابنُ عباس وابنُ جبير ومجاهدٌ: «آتِيا قالتا آتَيْنا» بالمدِّ فيهما. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه من المُؤَاتاة، وهي الموافَقَةُ أي: ليوافِقْ كلٌّ منكما الأخرى لِما يليقُ بها، وإليه ذهب الرازي والزمخشري. فوزنُ «آتِيا» فاعِلا كقاتِلا، و «آتَيْنا» وزنُه فاعَلْنا كقاتَلْنا. / والثاني: أنَّه من الإِيْتاء بمعنى الإِعطاء، فوزنُ آتِيا أَفْعِلا كأَكْرِما، ووزن آتَيْنا أَفْعَلْنا كأَكْرَمْنا. فعلى الأول يكونُ قد حَذَفَ مفعولاً، وعلى الثاني يكونُ قد حَذَفَ مفعولَيْن إذ التقدير: أَعْطِيا الطاعةَ مِنْ أنفسكما مَنْ أَمَرَكما. قالتا: أَعْطَيْناه الطاعة. وقد مَنَع أبو الفضل الرازيُّ الوجهَ الثاني. فقال: «آتَيْنا» بالمَدِّ على فاعَلْنا من المُؤاتاة، بمعنى سارَعْنا، على حَذْفِ المفعولِ به، ولا تكونُ من الإِيتاء الذي هو الإِعطاءُ لبُعْدِ حَذْفِ مفعولَيْه «. قلت: وهذا هو الذي مَنَعَ الزمخشريِّ أَنْ يَجْعَلَه من الإِيتاء. قوله» طَوْعاً أو كَرْهاً «مصدران في موضعِ الحال أي: طائِعتين

أو مُكْرَهَتَيْن. وقرأ الأعمشُ» كُرْهاً «بالضم. وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في النساء. قوله:» قالتا «أي: قالَتِ السماء والأرض. وقال ابنُ عطية:» أراد الفرقتَيْن المذكورتَيْن. جَعَلَ السماواتِ سماءً، والأرضين أرضاً، وهو نحوُ قولِ الشاعر: 3948 - ألم يُحْزِنْكَ أنَّ حبالَ قومي ... وقومِك قد تبايَنَتا انْقِطاعا عَبَّر عنهما ب «تَباينتا» . قال الشيخ: «وليس كما ذَكَر؛ لأنه لم يتقدَّمْ إلاَّ ذِكْرُ الأرضِ مفردةً والسماءِ مفردةً، فلذلك حَسُن التعبيرُ بالتثنيةِ. وأمَّا البيتُ فكأنه قال: حَبْلَيْ قومي وقومِك، وأنَّثَ في» تبايَنَتا «على المعنى لأنه عنى بالحبالِ المودَّة» . قوله: «طائِعِين» في مجيئِه مجيءَ جَمْعِ المذكرِين العقلاءِ وجهان، أحدهما: أنَّ المرادَ: أَتيا بمَنْ فيهما من العقلاء وغيرِهم، فلذلك غَلَّب العقلاءَ على غيرِهم، وهو رَأْيُ الكسائيِّ. والثاني: أنه لمَّا عامَلهما معاملةَ العقلاء في الإِخبارِ عنهما والأمرِ لهما جُمِعا كجَمْعِهم، كقولِه: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وهل هذه المحاوَرَةُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ وإذا كانت مجازاً فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ؟ خلافٌ.

12

قوله: {سَبْعَ} : في نصبه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «قَضاهُنَّ» ؛ لأنه ضُمِّن معنى صَيَّرهُنَّ بقضائِه سبعَ سماواتٍ. والثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ مفعولِ «قَضاهُنَّ» أي: قضاهُنَّ معدودةً، و «قضى» بمعنى صَنَع، كقولِ أبي ذؤيب: 3949 - وعليهما مَسْرُوْدتان قَضاهما ... داوُدُ أو صَنَعُ السَّوابغِ تُبَّعُ أي: صَنَعهما. الثالث: أنه تمييزٌ. قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميراً مبهماً مُفَسَّراً بسبعِ سماوات [على التمييز» ] يعني بقولِه «مبهماً» أنَّه لا يعودُ على السماء لا من حيث اللفظُ ولا مِنْ حيث المعنى، بخلاف كونِه حالاً أو مفعولاً ثانياً. الرابع: أنه بدلٌ مِنْ «هُنَّ» في «فقَضاهُنَّ» قاله مكي. وقال أيضاً: «السَّماء تذكَّرُ وتؤنَّثُ. وعلى التأنيثِ جاء القرآن، ولو جاء على التذكير لقيل: سبعة سماوات» . وقد تقدَّم تحقيقُ تذكيرِه وتأنيثِه في أوائل البقرة. قوله: «وحِفْظاً» في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ، أي: وحَفِظْناها بالثواقب من الكواكِبِ حِفْظاً. والثاني: أنه مَفْعولٌ مِنْ أجله على المعنى، فإنَّ التقديرَ: خلقنا الكواكبَ زينةً وحِفْظاً. قال الشيخ: «وهو تكلُّفٌ وعُدولٌ عن السَّهْلِ البيِّنِ» .

13

قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ} : التفاتٌ مِنْ خطابِهم بقولِه: «قل أئِنَّكم» إلى الغَيْبة لفِعْلهِم الإِعراضَ أعرضَ عن خطابِهم، وهو تناسُبٌ حَسَنٌ. وقرأ الجمهورُ «صاعقَةً مثلَ صاعقةِ» بالألفِ فيهما. وابن الزبير والنخعي والسلمي وابن محيصن «صَعْقَةً مثلَ صَعْقة» بحَذْفِها وسكونِ العين. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك في أوائلِ البقرة. يقال: صَعَقَتْه الصاعقةُ فصَعِقَ، وهذا مما جاء فيه فَعَلْته - بالفتح - ففَعِل بالكسر، ومثله جَدَعْتُه فَجَدِعَ. والصَّعْقَةُ المَرَّة.

14

قوله: {إِذْ جَآءَتْهُمُ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه ظرفٌ ل «أَنْذَرْتُكم» نحو: لَقِيْتُك إذ كان كذا. الثاني: أنه منصوبٌ بصاعقةٍ لأنَّها بمعنى العذاب أي: أنذرتُكم العذابَ الواقعَ في وقتِ مجيْءِ رسُلِهم. الثالث: أنه صفةٌ ل «صاعِقَة» الأولى. الرابع: أنه حالٌ من «صاعقة» الثانية، قالهما أبو البقاء وفيهما نظرٌ؛ إذ الظاهرُ أنَّ الصَّاعقةَ جثةٌ وهي قطعةُ نارٍ تَنْزِلُ من السماء فتحرقُ، كما تقدَّمَ في تفسيرِها أولَ هذا التصنيفِ؛ فلا يقعُ الزمانُ صفةً لها ولا حالاً عنها، وتأويلُها بمعنى العذابِ إخراجٌ لها عن مدلولِها مِنْ غيرِ ضرورةٍ، وإنما جعلَها وَصْفاً للأولى لأنها نكرةٌ، وحالاً مِن الثانية لأنها معرفةٌ لإِضافتها إلى عَلَم، ولو جعلها حالاً من الأولى؛ لأنها تخَصَّصَتْ بالإِضافةِ لجاز/ فتعودُ الوجوهُ خمسةً. قوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الظاهرُ أنَّ الضميرَيْن عائدان على

عادٍ وثمود. وقيل: الضميرُ في «خَلْفِهم» يعودُ على الرسلِ. واسْتُبْعِد هذا من حيث المعنى؛ إذ يصير التقديرُ: جاءتهم الرسلُ مِنْ خَلْفِ الرسلِ، أي: مِنْ خَلْفِ أنفسِهم. وقد يُجاب عنه: بأنَّه مِنْ باب «دِرْهمٌ ونصفُه» أي: ومن خَلْفِ رسُلٍ آخرين. قوله: {أَلاَّ تعبدوا} يجوزُ في «أَنْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ المخففةَ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الشأن محذوفٌ، والجملةُ النَّهْيِيةُ بعدها خبرٌ، كذا أعربه الشيخُ. وفيه نظرٌ مِنْ وجهين، أحدهما: أنَّ المخففةَ لا تقع بعد فِعْل إلاَّ مِنْ أفعال اليقين. الثاني: أنَّ الخبرَ في بابِ «إنَّ» وأخواتِها لا يكون طلباً، فإنْ وَرَدَ منه شيءٌ أُوِّلَ ولذلك تأوَّلوا [قولَ الشاعرِ:] 3950 - إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ ... لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلِكم ناما وقول الآخر: 3951 - ولو أصابَتْ لقالَتْ وَهْيَ صادِقةٌ ... إنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيْبِ على إضمارِ القولِ. الثاني: أنها الناصبةُ للمضارعِ، والجملةُ النَّهْييةُ بعدها صلتُها وُصِلَتْ بالنهي كما تُوْصَلُ بالأمر في «كَتبتُ إليه بأنْ قُمْ» ، وقد مَرَّ في وَصْلِها بالأمرِ إشكالٌ يأتي مثلُه في النهي. الثالث: أَنْ تكونَ مفسِّرَةً

لمجيئِهم لأنه يتضمَّنُ قولاً، و «لا» في هذه الأوجهِ كلِّها ناهيةٌ، ويجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً على الوجهِ الثاني، ويكون الفعلُ منصوباً ب «أنْ» بعد «لا» النافية، فإنَّ «لا» النافيةَ لا تمنعُ العاملَ أَنْ يعملَ فيما بعدها نحو: «جئتُ بلا زيدٍ» ، ولم يذكرْ الحوفي غيرَه. قوله: «لو شاءَ» قدَّر الزمخشريُّ مفعولَ «شاء» : لو شاءَ إرسالَ الرسلِ لأَنْزَلَ ملائكةً. قال الشيخ: «تَتَبَّعْتُ القرآنَ وكلامَ العربِ فلم أَجِدْ حَذْفَ مفعولِ» شاء «الواقع بعد» لو «إلاَّ مِنْ جنسِ جوابِها نحو: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} [الأنعام: 35] أي: لو شاءَ جَمْعَهم على الهدى لجَمَعهم عليه، {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة: 65] {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70] {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ} [يونس: 99] {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] {لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ} [النحل: 35] . وقال الشاعر: 3952 - فلو شاءَ ربِّي كنتُ قيسَ بنَ خالدٍ ... ولو شاءَ ربي كنتُ قيسَ بنَ مَرْثدِ وقال الراجز:

3953 - واللذِ لو شاءَ لكنْتُ صَخْراً ... أو جَبَلاً أشمَّ مُشْمَخِرَّا قال: «فعلَى ما تقرَّر لا يكونُ المحذوفُ ما قدَّره الزمخشريُّ، وإنما التقديرُ: لو شاء ربُّنا إنزالَ ملائكةٍ بالرسالةِ منه إلى الإِنسِ لأَنْزَلهم بها إليهم، وهذا أَبْلَغُ في الامتناع من إرسالِ البشرِ، إذ عَلَّقوا ذلك بإنزال الملائكة، وهو لم يَشَأْ ذلك فكيف يشاء ذلك في البشر؟» قلت: وتقديرُ أبي القاسم أوقَعُ معنىً وأخلصُ من إيقاع الظاهرِ موقعَ المضمرِ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ: لو شاءَ إنزالَ ملائكةٍ لأنزلَ ملائكةً. قوله: {بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ} هذا خطابٌ لهودٍ وصالحٍ وغيرِهم مِن الأنبياءِ عليهم السلام، وغَلَّب المخاطبَ على الغائبِ نحو: «أنت وزيدٌ تقومان» . و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي وعائدُها به، وأنْ تكونَ مصدريةً أي: بإرسالِكم، فعلى هذا يكون «به» [يعودُ] على ذلك المصدرِ المؤولِ، ويكون من بابِ التأكيد كأنه قيل: كافرون بإرسالِكم به.

16

قوله: {صَرْصَراً} : الصَّرْصَرُ: الريحُ الشديدة فقيل: هي الباردةُ مِن الصِّرِّ، وهو البردُ. وقيل: هي الشديدةُ السَّمومِ. وقيل هي المُصَوِّتَةُ، مِنْ صَرَّ البابُ أي: سُمِع صريرُه. والصَّرَّة: الصَّيْحَةُ. ومنه: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] . قال ابن قتيبة: «صَرْصَر: يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ، وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة، وهي الصيحةُ، ومنه: {

فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] . وقال الراغب:» صَرْصَر لفظة من الصِّرِّ، وذلك يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ «. قوله:» نَحِساتٍ «قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ، والباقون بسكونِها. فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضاً كفِعْلِهِ يقال: نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ. وأمال الليث/ عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه، حتى نسبه الدانيُّ للوَهْم. وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ مخففاً مِنْ فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ، وفيه توافُقُ القراءتين. والثاني: أنَّه مصدرٌ وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ. إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في الأصل. والثالث: أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ. ولكن أهلَ التصريفِ لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين، إلاَّ أوزاناً محصورةً ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا: فَرِحَ فهو فَرِحٌ، وحَوِرَ فهو أحورُ، وشَبعَ فهو شبعانُ، وسَلِمَ فهو سالمٌ، وبَلي فهو بالٍ. وفي معنى» نَحِسات «قولان، أحدهما: أنها مِن الشُّؤْم. قال السدِّي:

أي: مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف. والثاني: أنها شديدةُ البردِ. وأنشدوا على المعنى الأول قولَ الشاعرِ: 3954 - يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويوماً شَمْسا ... نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجماً نَحْسا وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ: 3955 - كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ ... يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا ومنه: 3956 - قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ ... للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ وقيل: يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي: قليلِ الغبار، وقد قيل بذلك في الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ. و» نَحِسات «نعتٌ لأيَّام، والجمعُ بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. و» لِنُذِيْقَهُمْ «متعلِّقٌ ب» أَرْسَلْنا «. وقُرِئ» لِتُذِيقَهم «بالتاءِ مِنْ فوقُ.

وفي الضمير قولان، أحدهما: أنه الريحُ أي: لتذيقَهم الريحُ أو الأيَّامُ على سبيل المجاز. وعذاب الخِزْيِ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه، ولذلك قال: {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} فإنه يَقْتضِي المشاركةَ وزيادةً. وإسنادُ الخِزْيِ إلى العذابِ مجازٌ لأنه سَبُبه.

17

قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ} : الجمهورُ على رَفْعِه ممنوعَ الصرفِ. والأعمشُ وابنُ وثَّاب مصروفاً، وكذلك كلُّ ما في القرآن إلاَّ قولَه: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة} [الإسراء: 59] قالوا: لأنَّ الرسم ثمود بغير ألفٍ. وقرأ ابنُ عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش في روايةٍ، وعاصمٌ في رواية «ثمود» منصوباً مصروفاً. والحسن وابنُ هرمز وعاصمٌ أيضاً منصوباً غيرَ منصرفٍ. فأمَّا الصرفُ وعَدَمُه فقد تقدَّمَ توجيهُهُما في هود. وأمَّا الرفعُ فعلى الابتداء، والجملةُ بعده الخبرُ، وهو مُتَعَيّنٌ عند الجمهورِ؛ لأنَّ «أمَّا» لا يليها إلاَّ المبتدأُ فلا يجوزُ فيما بعدها الاشتغالُ إلاَّ في قليلٍ كهذه القراءةِ، وإذا قَدَّرْتَ الفعلَ الناصبَ فقدِّرْه بعد الاسمِ المنصوبِ أي: وأمَّا ثمودَ هَدَيْناهم فهَدَيْناهم قالوا: لأنها لا يَليها الأفعالُ.

19

قوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ} : العاملُ في هذا الظرفِ فيه وجهان، أحدُهما: محذوفٌ دَلَّ عليه ما بعدَه مِنْ قولِه: «فهم يُوْزَعُون» تقديره: يُسَاقُ الناسُ يومَ يُحْشَر. وقَدَّرَه أبو البقاء: يُمْنَعون يومَ الحَشْرِ. الثاني: أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ أي: اذكُرْ يومَ. وقرأ نافع «نَحْشُرُ بنونِ العظمة وضمِّ الشين.»

أعداءَ «نصباً أي: نَحْشُر نحن. والباقون بياءِ الغَيْبة مضمومةً، والشينُ مفتوحةٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، و» أعداءُ «رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعلِ. وكَسَر الأعرجُ شين» نَحْشِر «و» حتى «غايةٌ ل» يُحْشَر «.

22

قوله: {أَن يَشْهَدَ} : يجوزُ فيه أوجهٌ، أحدها: مِنْ أَنْ يَشْهدَ. الثاني: خيفةَ أن يَشْهد. الثالث: لأَجْلِ أَنْ يَشْهد، وكلاهما بمعنى المفعول له. الرابع: عن أَنْ تَشْهَدَ أي: ما كنتم تَمْتَنِعون، ولا يُمْكِنُكم الاختفاءُ عن أعضائِكم والاستتارُ عنها. الخامس: أنه ضُمِّن معنى الظنِّ وفيه بُعْدٌ.

23

قوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّ «ظنُّكم» خبرُه، و «الذي ظَنَنْتُمْ» نعتُه، و «أَرْدَاكم» حالٌ و «قد» معه مقدرةٌ على رَأْيِ الجمهورِ خلافاً للأخفشِ. ومَنْعُ مكيّ الحاليةَ للخلوِّ مِنْ «قد» ممنوعٌ لِما ذكرْتُه. الثاني: أَنْ يكونَ «ظنُّكم» بدلاً والموصولُ خبرُه. و «أَرْدَاكم» حالٌ أيضاً. الثالث: أَنْ يكونَ الموصولُ خبراً ثانياً. الرابع: أَنْ يكونَ «ظَنُّكم» بدلاً أو بياناً، والموصول هو الخبر، و «أَرْداكم» خبرٌ ثانٍ. الخامس: أن يكون «ظَنُّكم» والموصولُ والجملةُ مِنْ «أَرْداكم» أخباراً. إلاَّ أنَّ الشيخ رَدَّ على الزمخشري قوله: «وظنُّكم وأَرْدَاكم خبران» . قال: «لأنَّ قوله:» وذلكم «إشارةٌ إلى ظَنِّهم السابقِ فيصير التقديرُ: وظَنُّكم بربكم أنه لا يعلم ظنُّكم بربكم، فاسْتُفيد من الخبر ما اسْتُفيد من المبتدأ وهو لا يجوزُ، وهذا نظيرُ

ما منعه النحاةُ مِنْ قولك:» سَيِّدُ الجارية مالِكُها «. / وقد منع ابنُ عطية كونَ» أَرْداكم «حالاً لعدمِ وجودِ» قد «وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك.

24

قوله: {يَسْتَعْتِبُواْ} : العامَّةُ على فَتْحِ الياءِ وكسرِ التاءِ الثانيةِ مبنيَّاً للفاعلِ. {فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} بفتح التاء اسمَ مفعول، ومعناه: وإنْ طَلبوا العُتْبى وهي الرِّضا فما هم مِمَّنْ يُعْطاها. وقيل: المعنى: وإنْ طَلَبوا زوالَ ما يُعْتَبُون فيه فما هم من المُجابين إلى إزالةِ العَتَبِ. وأصلُ العَتَبِ: المكانُ النائِي بنازِلَةٍ، ومنه قيل لأُسْكُفَّةِ الباب والمِرْقاة: عَتَبة، ويُعَبَّر بالعَتَبِ عن الغِلْظَة التي يَجدها الإِنسانُ في صدرِه على صاحبِه. وعَتَبْتُ فلاناً: أبرزْتُ له الغِلْظَة. وأَعْتَبْتُه: أَزَلْتُ عُتْباه كأَشْكَيْتُه. وقيل: حَمَلْتُه على العَتَب. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد «وإن يُسْتَعْتَبوا» مبنيَّاً للمفعولِ. {فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} اسمَ فاعلٍ بمعنى: إنْ يُطْلَبْ منهم أن يُرْضُوا فما هم فاعِلون ذلك، لأنهم فارَقوا دارَ التكليف. وقيل معناه: إنْ يُطْلَبْ ما لا يُعْتَبُون عليه فما هم مِمَّنْ يُزيل العُتْبى. وقال أبو ذؤْيبٍ: 3957 - أَمِنَ المَنُونِ ورَيْبِه تَتَوَجَّعُ ... والدهرُ ليسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ

25

قوله: {وَقَيَّضْنَا} : أصلُ التَّقْييضِ التيسيرُ والتهيئَةُ. قَيَّضْتُه له لكذا: هَيَّأْتُه ويَسَّرْتُه. وهذان ثوبان قَيْضان أي: كلٌّ منهما مكافِئٌ

للآخَر في الثمن. والمقايَضَةُ: المعاوَضَةُ. وقوله: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} [الزخرف: 36] أي: نُسَهِّلْ ليَسْتوليَ عليه استيلاءَ القَيْضِ على البَيْض. والقَيْضُ في الأصلِ: قِشْرُ البيضِ الأعلى. قوله: «في أُمَمٍ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير في «عليهم» والمعنى: كائنين في جملةِ أمم، وهذا كقولِه: 3958 - إنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنيعةِ مَأْ ... فُوْكاً ففي آخَرين قد أَفِكُوا أي: في جملة قومٍ آخرين. وقيل: إن «في» بمعنى مع.

26

قوله: {والغوا} : العامَّةُ على فتحِ الغين. وهي تحتملُ وجهين، أحدُهما: أَنْ يكون مِنْ لَغِي بالكسر يَلْغَى. وفيها معنيان، أحدُهما: مِنْ لَغِيَ إذا تكلَّم باللَّغْوِ، وهو ما لا فائدةَ فيه. والثاني: أنه مِنْ لَغِي بكذا، أي: رَمى به فتكونُ «في» بمعنى الباء أي: ارْمُوا به وانبِذُوه. والثاني من الوجهين الأوَّلين: أَنْ تكونَ مِنْ لَغا بالفتح يَلْغَى بالفتحِ أيضاً، حكاه الأخفش، وكان قياسُه الضمَّ كغزا يَغْزو، ولكنه فُتِح لأجلِ حَرْفِ الحلقِ. وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السَّمَّالِ والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم

الغين، مِنْ لَغا بالفتحِ يَلْغُو كدَعا يَدْعُو. وفي الحديث: «فقد لَغَوْتَ» ، وهذا موافِقٌ لقراءةِ غيرِ الجمهور.

28

قوله: {ذَلِكَ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ و «جزاءُ» خبره. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ ذلك و {جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار} جملةٌ مستقلةٌ مبيِّنَةٌ للجملةِ قبلَها. قوله: «النارُ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها بدلٌ مِنْ «جزاء» ، وفيه نظرٌ؛ إذ البدلُ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه، فيصيرُ التقديرُ: ذلك النار. الثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ. الثالث: أنها مبتدأٌ، و {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} الخبر. و «دارُ» يجوز ارتفاعُها بالفاعليَّة أو الابتداءِ. وقوله: {فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} يقتضي أَنْ تكونَ «دارُ الخلد» غيرَ النارِ، وليس الأمرُ كذلك، بل النارُ هي نفسُ دارِ الخُلْدِ. وأُجيب عن ذلك: بأنَّه قد يُجْعَلُ الشيءُ ظَرْفاً لنفسِه باعتبارِ متعلَّقِه على سبيل المبالغةِ، كأنَّ ذلك المتعلَّقَ صار مستقَراً له، وهو أبلغُ مِنْ نسبةِ المتعلَّقِ إليه على سبيلِ الإِخبارِ به عنه، ومثلُه قولُه: 3959 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وفي اللَّهِ إنْ لم يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، والرسولُ

عليه السلام هو نفسُ الأُسْوةِ. كذا أجابوا. وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ - وهو معنىً صحيحٌ منقولٌ - أنَّ في النار داراً تُسَمَّى دارَ الخلدِ، والنارُ مُحيطةٌ بها. قوله: «جَزاءً» في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، وهو مصدرٌ مؤكدٌ أي: يُجْزَوْن جزاءَ. الثاني: أَنْ يكونَ منصوباً بالمصدرِ الذي قبلَه، وهو {جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله} ، والمصدرُ يُنْصَبُ بمثلِه كقوله/: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً} [الإسراء: 63] . الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، و «بما» متعلِّقٌ ب «جَزاء» الثاني، إنْ لم يكنْ مؤكِّداً، وبالأول إن كان، و «بآياتِنا» متعلِّقٌ ب «يَجْحَدون» .

29

وتقدَّم الخلافُ في «أَرِنا» وفي نونِ «اللذَيْنِ» . قال الخليل: «إذا قلتَ: أَرِني ثوبَك بالكسرِ فمعناه بَصِّرْنِيْه، وبالسكون أَعْطِنيه» . وقال الزمخشري: «أي: بما كانوا يَلْغَوْن» ، فذكر الجحودَ؛ لأنه سببُ اللغْوِ انتهى. يعني أنه مِنْ بابِ إقامةِ السببِ مُقامَ المُسَبَّبِ وهو مجازٌ سائغٌ.

30

قوله: {ثُمَّ استقاموا} : ثم لتراخي الرتبة في الفضيلة. قوله: {أَلاَّ تَخَافُواْ} : يجوزُ في «أَنْ» أن تكونَ المخففةَ، أو المفسِّرةَ، أو الناصبةَ. و «لا» ناهيةٌ على الوجهين الأوَّلين، ونافيةٌ على الثالث. وقد تقدَّم ما في ذلك من الإِشكالِ، والتقديرُ: بأنْ لا تَخافوا أي: بانتفاءِ الخَوْفِ. وقال أبو البقاء: «التقديرُ بأَنْ لا تَخافوا، أو قائلين: أن

لا تخافوا، فعلى الأولِ هو حالٌ أي: نَزَلوا بقولِهم: لا تخافوا، وعلى الثاني الحالُ محذوفةٌ» . قلت يعني أنَّ الباءَ المقدرةَ حاليةٌ، فالحالُ غيرُ محذوفةٍ، وعلى الثاني الحالُ هو القولُ المقدَّر. وفيه تسامحٌ، وإلاَّ فالحالُ محذوفةٌ في الموضعَيْن، وكما قام المقولُ مَقامَ الحالِ كذلك قام الجارُّ مَقامَها. وقرأ عبدُ الله «لا تَخافوا» بإسقاط «أنْ» ، وذلك على إضمارِ القول أي: يقولون: لا تَخافوا.

32

قوله: {نُزُلاً} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على الحالِ من الموصولِ، أو من عائدِه. والمراد بالنُزُلِ الرزقُ المُعَدُّ للنازِل، كأنه قيل: ولكم فيها الذي تَدَّعُونه حال كونِه مُعَدًّا. الثاني: أنَّه حالٌ مِنْ فاعل «تَدَّعُوْن» ، أو من الضمير في «لكم» على أَنْ يكونَ «نُزُلاً» جمعَ نازِل كصابِر وصُبُر، وشارِف وشُرُف. الثالث: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مصدرَ نَزَل النزولُ لا النُّزُل. وقيل: هو مصدرُ أَنْزَل. قوله: «مِنْ غَفَورٍ» يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «نُزُلاً» ، وأَنْ يتعلَّقَ بتَدَّعون، أي: تَطْلبونه مِنْ جهةِ غفورٍ رحيمٍ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ الظرفُ في «لكم» من الاستقرارِ أي: استقرَّ لكم مِنْ جهةِ غفورٍ رحيم. قال أبو البقاء: «فيكونُ حالاً مِنْ» ما «. قلت: وهذا البناءُ منه ليس بواضحٍ، بل هو متعلِّقٌ بالاستقرارِ فَضْلةً كسائرِ الفضلاتِ، وليس حالاً مِنْ» ما «.

33

قوله: {وَقَالَ إِنَّنِي} : العامَّةُ على «إنني» بنونين، وابن أبي عبلةَ وابنُ نوح بنونٍ واحدةٍ.

34

قوله: {وَلاَ السيئة} : في «لا» هذه وجهان، أحدهما، أنها زائدةٌ للتوكيدِ، كقوله: {وَلاَ الظل وَلاَ الحرور} [فاطر: 21] وكقوله: {وَلاَ المسياء} [غافر: 58] ؛ لأنَّ «استوى» لا يكتفي بواحدٍ. والثاني: أنها مؤسِّسَةٌ غيرُ مؤكِّدةٍ، إذ المرادُ بالحسنةِ والسَّيئةِ الجنسُ أي: لا تَسْتوي الحسناتُ في أنفسِها، فإنها متفاوتةٌ ولا تستوي السيئاتُ أيضاً فرُبَّ واحدةٍ أعظمُ مِنْ أخرى، وهو مأخوذٌ من كلامِ الزمخشري. وقال الشيخُ: «فإنْ أَخَذْتَ الحسنةَ والسيئةَ جنساً لم تكنْ زيادتُها كزيادتِها في الوجهِ الذي قبلَ هذا» . قلت: فقد جَعَلها في المعنى الثاني زائدةً. وفيه نظرٌ لِما تَقَدَّم. قوله: «كأنَّه وليٌّ» في هذه الجملةِ التشبيهيةِ وجهان، أحدُهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحال، والموصولُ مبتدأٌ، و «إذا» التي للمفاجأةِ خبرُه. والعاملُ في هذا الظرفِ من الاستقرارِ هو العاملُ في هذه الحالِ، ومَحَطُّ الفائدةِ في هذا الكلامِ هي الحالُ، والتقدير: فبالحضرة المُعادي مُشْبِهاً القريبَ الشَّفوقَ. والثاني: أن الموصولَ مبتدأٌ أيضاً، والجملةُ بعده خبرُه، و «إذا» معمولةٌ لمعنى التشبيه، والظرفُ يتقدَّمُ على عامِله المعنويِّ. هذا إن قيل: إنها ظرفٌ، وإن قيل: إنها حرف فلا عاملَ.

35

قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا} : العامَّةُ على «يُلَقَّاها» من

التَلْقِيَةِ. وابنُ كثيرٍ في روايةٍ وطلحة بن مصرف «يُلاقاها» مِن الملاقاةِ والضميرُ للخَصْلَة، أو الكلمةِ أو الجنةِ أو لشهادةِ التوحيدِ.

37

قوله: {خَلَقَهُنَّ} : في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: / أنه يعودُ على الأربعةِ المتعاطفةِ. وفي مجيءِ الضميرِ كضميرِ الإِناثِ - كما قال الزمخشري - هو أنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ حكمُه حكمُ الأنثى أو الإِناث نحو: «الأقلامُ بَرَيْتُها وبَرَيْتُهنَّ» . وناقشه الشيخ من حيث إنه لم يُفَرِّقْ بين جمعِ القلةِ والكثرةِ في ذلك؛ لأنَّ الأفصحَ في جمعِ القلةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الإِناثِ، وفي جمع الكثرةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الأنثى فالأفْصحُ أَنْ يُقال: الأجذاعُ كَسَرْتُهُنَّ، والجذوعُ كَسَرْتُها. والذي تقدَّمَ في هذه الآيةِ ليس بجمعِ قلةٍ أعني بلفظٍ واحدٍ، ولكنه ذكر أربعةً متعاطفةً فتنزَّلَتْ منزلَة الجمعِ المعبَّرِ به عنها بلفظٍ واحد. قلت: والزمخشري ليس في مقام بيانِ الفصيح والأفصح، بل في مقامِ كيفيةِ مجيء الضميرِ ضميرَ إناث بعد تقدُّم ثلاثةِ أشياءَ مذكَّراتٍ وواحدٍ مؤنثٍ، فالقاعدةُ تغليبُ المذكرِ على المؤنثِ، أو لمَّا قال: «ومِنْ آياته» كُنَّ في معنى الآياتِ فقيل: خلقهنَّ، ذكره الزمخشريُّ أيضاً أنه يعود على لفظ الآياتِ. الثالث: أنه يعودُ على الشمس والقمر؛ لأنَّ الاثنين جمعٌ، والجمعُ مؤنثٌ، ولقولهم: شموس وأقمار.

41

قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} : في خبرها ستةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مذكورٌ وهو قولُه: «أولئك ينادَوْن» . وقد سُئِل بلال بن أبي بردة عن ذلك في مَحْكِيَّتِه فقال: لا أجدُ لها نفاذاً. فقال له أبو عمرو بن العلاء: إنَّه منك لقَريبٌ، أولئك ينادَوْن. وقد اسْتُبْعِدَ هذا من وجهَيْن، أحدُهما: كثرةُ الفواصلِ. والثاني: تقدُّمُ مَنْ تَصِحُّ الإِشارةُ إليه بقوله: «أولئك» ، وهو قولُه: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ} ، واسمُ الإِشارةِ يعودُ على أقربِ مذكورٍ. والثاني: أنه محذوفٌ لفَهْمِ المعنى وقُدِّر: مُعَذَّبون، أو مُهْلَكون، أو معانِدون. وقال الكسائي: «سَدَّ مَسَدَّه ما تقدَّم من الكلامِ قبلَ» إنَّ «وهو قولُه: {أَفَمَن يلقى فِي النار} . قلت: يعني في الدلالةِ عليه والتقديرُ: يُخَلَّدون في النارِ. وسأل عيسى بن عمر عمرَو بن عبيدٍ عن ذلك فقال: معناه في التفسير: إنَّ الذين كفروا بالذكْرِ لَمَّا جاءهم كفروا به. فقدَّر الخبرَ مِنْ جنسِ الصلةِ. وفيه نظرٌ؛ من حيث اتحادُ الخبرِ والمخبرِ عنه في المعنى من غيرِ زيادةِ فائدةٍ نحو:» سيدُ الجاريةِ مالكُها «. الثالث: أنَّ» الذين «الثانيةَ بدلٌ مِنْ» إنَّ الذين «الأولى، والمحكومُ به على البدلِ محكومٌ به على المبدلِ منه فيلزَمُ أَنْ يكونَ الخبرُ {لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} . وهو منتزَعٌ من كلامِ الزمخشري. الرابع: أنَّ الخبرَ قولُه: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل} والعائدُ محذوفٌ تقديره: لا يأتيه الباطلُ منهم نحو: السَّمْنُ مَنَوان بدرهم أي: مَنَوان منه. أو تكون أل عوضاً من

الضمير في رأيِ الكوفيين تقديرُه: إنَّ الذين كفروا بالذِّكر لا يأتيه باطلُهم. الخامسُ: أنَّ الخبرَ قولُه: {مَّا يُقَالُ لَكَ} ، والعائدُ محذوفٌ أيضاً تقديرُه: إنَّ الذين كفروا بالذكرِ ما يُقال لك في شَأنِهم إلاَّ ما قد قيل للرسلِ مِنْ قبلِك. وهذان الوجهان ذهب إليهما الشيخُ. السادس: ذهب إليه بعضُ الكوفيين أنه قولُه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} وهذا غيرُ متعقَّلٍ. والجملةُ مِنْ قوله:» وإنَّه لكتابٌ «حاليةٌ، و {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل} صفةٌ ل» كتاب «. و» تنزيلٌ «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أو صفةٌ ل» كتابٌ «على أنَّ» لا يأتيه «معترِضٌ أو صفةٌ كما تقدَّم على رأي مَنْ يجوِّزُ تقديمَ غيرِ الصريح من الصفاتِ على الصريح. وتقدَّم تحقيقُه في المائدة. و» مِنْ حكيمٍ «صفةٌ ل» تَنْزيلٌ «أو متعلقٌ به. و» الباطلُ «اسمُ فاعلٍ. وقيل: مصدرٌ كالعافية والعاقبة.

43

قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} : قيل: هو مُفَسِّر للمقولِ كأنه قيل: قيل للرسل: إنَّ ربَّك لَذو/. وقيل: هو مستأنفٌ.

44

قوله: {ءَاعْجَمِيٌّ} : قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيقِ الهمزة، وهشام بإسقاطِ الأولى. والباقون بتسهيلِ الثانية بينَ بينَ. وأمَّا المدُّ فقد عُرِف حكمُه مِنْ قولِه: «أأنذَرْتَهم» في أولِ هذا الموضوع. فمَنْ استفَهْم

قال: معناه أكتابٌ أَعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ. وقيل: ومُرْسَلٌ إليه عَربيٌّ. وقيل: معناه أَبَعْضُهُ أعجميٌّ وبعضُه عربيٌّ. ومَنْ لم يُثْبِتْ همزةَ استفهامٍ فيُحتمل أنه حَذَفها لفظاً وأرادها معنًى. وفيه توافُقُ القراءتين. إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز عند الجمهور، إلاَّ إنْ كان في الكلام «أم» نحو: 3960 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمان فإنْ لم تكنْ «أم» لم يَجُزْ إلاَّ عند الأخفش. وتقدَّم ما فيه، ويحتمل أَنْ يكونَ جعله خبراً مَحْضاً ويكونُ معناه: هَلاَّ فُصِّلَتْ آياتُه فكان بعضُها أعجمياً تفهمُه العجمُ، وبعضُها عربياً يفهمُه العربُ. والأعجميُّ مَنْ لا يُفْصِحُ، وإن كان مِنَ العرب، وهو منسوبٌ إلى صفته كأحمرِيّ ودَوَّاريّ، فالياءُ فيه للمبالغةِ في الوصفِ وليس النسبُ منه حقيقياً. وقال الرازيُّ في لوامحه: «فهو كياء كُرْسِيّ وبُخْتِيّ» . وفَرَّق الشيخُ بينهما فقال: «وليسَتْ كياءِ كُرْسِيّ فإن كرسيّ وبُخْتيّ بُنِيَتِ الكلمةُ عليها بخلافِ ياء» أعجميّ «فإنهم يقولون: رجل أَعْجم وأعْجميّ» . وقرأ عمرو بن ميمون «أَعَجَمِيٌّ» بفتح العين وهو منسوبٌ إلى العجم،

والياءُ فيه للنسَبِ حقيقةً يُقال: رجل أعجميٌّ وإنْ كان فصيحاً. وقد تقدَّم الكلامُ في الفرقِ بينهما في سورةِ الشعراء. وفي رفع «أَعْجميّ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، والخبرُ محذوف تقديرُه، أعجميٌّ وعربيٌّ يَسْتويان. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي: هو، أي: القرآن أعجميٌّ والمرسلُ به عربيٌّ. والثالث: أنه فاعلُ فعلٍ مضمرٍ أي: أيَسْتوي أعجميٌّ وعربيٌّ. وهذا ضعيفٌ؛ إذ لا يُحذف الفعلُ إلاَّ في مواضعَ بَيَّنْتُها غيرَ مرةٍ. قوله: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ مبتدأً، و «في آذانِهم» خبرُه و «وَقْرٌ» فاعلٌ، أو «في آذانهم» خبرٌ مقدم «ووقرٌ» مبتدأٌ مؤخر، والجملةُ خبرُ الأول. الثاني: أنَّ وَقْراً خبرُ مبتدأ مضمرٍ. والجملةُ خبرُ الأولِ والتقديرُ: والذين لا يُؤْمنون هو وَقْرٌ في آذانهم لَمَّا أَخْبر عنه بأنه هدىً لأولئك، أخبر عنه أنه وَقْرٌ في آذان هؤلاءِ وَعَمَىً عليهم. قال معناه الزمخشري. ولا حاجةَ إلى الإِضمار مع تمام الكلامِ بدونه. الثالث: أن يكونَ {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} عطفاً على «الذين آمنوا» ، و «وَقْرٌ» عطفٌ على «هدىً» وهذا من بابِ العطفِ على معمولَيْ عامِلَيْنِ. وفيه مذاهبُ تقدَّم تحريرُها. قوله: «عَمَىً» العامَّةُ على فتحِ الميم المنونةِ وهو مصدرٌ ل عَمِي يَعْمَى نحو: صَدِي يَصْدَى صَدَىً، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً. وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة «عَمٍ» بكسرِها منونةً اسماً منقوصاً وُصِفَ بذلك

مجازاً. وقرأ عمرو بن دينار ورُوِيت عن ابن عباس «عَمِيَ» بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً. وفي الضمير وجهان أظهرُهما: أنه للقرآن. والثاني: أنه للوَقْر والمعنى يأباه، و «في آذانهم» - إنْ لم تجعَلْه خبراً - متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه؛ لأنه صفةٌ في الأصلِ ولا يتعلَّق به، لأنَّه مصدرٌ، فلا يتقدَّم معمولُه عليه وقوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} كذلك في قراءة العامَّةِ، وأمَّا في القراءتين المتقدمتين فتتعلَّق «على» بما بعده؛ إذ ليس بمصدرٍ.

46

قوله: {فَلِنَفْسِهِ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ مقدر أي: فلنفسِه عملُه، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: فالعملُ الصالحُ لنفسِه. وقوله «فعليها» مثلُه. /

47

قوله: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ} : «ما» هذه يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً، جَوَّز ذلك أبو البقاء، ولم يُبَيِّنْ وجهَه. وبيانُه أنها تكونُ مجرورةَ المحلِّ عطفاً على الساعة أي: عِلْمُ الساعةِ وعِلْمُ التي تخرج، و «مِنْ ثمرات» على هذا حالٌ، أو تكون «مِنْ» للبيان. و «مِنْ» الثانية لابتداء الغاية. وأما «ما» الثانيةُ فنافيةٌ فقط. قال أبو البقاء: «لأنَّه عَطَفَ عليها» ولا تَضَعُ «، ثم نقض النفيَ ب» إلاَّ «، ولو كانَتْ بمعنى الذي معطوفةً على» الساعة «لم يَجُز ذلك» . وقرأ نافع وابن عامر «ثمرات» ويُقَوِّيه أنها رُسِمَتْ بالتاءِ الممطوطة.

والباقون «ثمرة» بالإِفرادِ والمرادُ بها الجنسُ. فإنْ كانَتْ «ما» نافيةً كانَتْ «مِنْ» مزيدةً في الفاعلِ، وإنْ كانَتْ موصولةً كانت للبيانِ كما تقدَّم. والأَكْمام: جمع كِمّ بكسرِ الكاف، كذا ضبطه الزمخشري، وهو ما يُغَطِّي الثمرةَ كجُفِّ الطَّلْعِ. وقال الراغب: «الكمُّ ما يُغَطِّي اليدَ من القميصِ، وما يغطي الثمرة، وجمعُه أكْمام فهذا يدلُّ على أنه مضموم الكاف، إذ جعله مشتركاً بين كُمِّ القيمصِ وكمِّ الثمرةِ. ولا خلافَ في كُمِّ القميصِ أنه بالضم، فيجوزُ أَنْ يكونَ في وعاءِ الثمرةِ لغتان، دون كُمِّ القميصِ، جمعاً بين قولَيْهما. وأمَّا أَكِمَّة فواحدُه كِمام كأَزِمَّة وزِمام. وفتح ابن كثير ياءَ» شُركائيَ «. قوله: {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} هذه الجملةُ المنفيةُ معلِّقَةٌ ل» آذنَّاك «لأنها بمعنى أَعْلَمْناك قال: 3961 - آذَنَتْنا ببَيْنِها أسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ منه الثَّواءُ وتقدَّم لنا خلافٌ في تعليقِ أعلم. . .، والصحيحُ وقوعُه سماعاً من العربِ. وجَوَّز أبو حاتمٍ أَنْ يوقف على» آذنَّاك «وعلى» ظنُّوا «ويُبتدأَ بالنفي

بعدَهما على سبيلِ الاستئناف. و» مِنَّا «خبرٌ مقدمٌ. و» مِنْ شهيد «مبتدأٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ» مِنْ شهيد «فاعلاً بالجارِّ قبلَه لاعتمادِه على النفي.

48

قوله: {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} : كقوله: {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} من غيرِ فرقٍ.

49

قوله: {مِن دُعَآءِ الخير} : مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، وفاعلُه محذوفٌ أي هو. وقرأ عبد الله «مِن دُعَآءِ بالخير» .

50

قوله: {لَيَقُولَنَّ هذا لِي} : جوابُ القسمِ لسَبْقِهِ الشرطَ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ، كما عُرِف تقريرُه. وقال أبو البقاء: «ليقولَنَّ» جوابُ الشرطِ، والفاءُ محذوفةٌ «. قلت: وهذا لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ كقولِه: 3962 - مَنْ يَفْعلِ الحسناتِ اللَّهُ يَشْكُرُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . حتى إنَّ المبردَ يمنعُه في الشعر. ويَرْوي البيت:» فالرحمن يشكرُه «.

52

قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} : قد تقدَّم الكلامُ عليها مراراً. ومفعولُها الأولُ هنا محذوفٌ تقديرُه: أرأيتم أنفسَكم، والثاني: هو الجملةُ الاستفهامية.

والآفاق جمع أُفُق وهو الناحيةُ. قال الشاعر: 3963 - لو نالَ حيٌّ مِن الدنيا بمنزلةٍ ... أفْقَ السماءِ لنالَتْ كفُّه الأُفُقا وهو كأَعْناق في عُنُق، أُبْدِلَتْ همزتُه ألفاً. ونقل الراغب أنه يقال: أَفَق بفتحِ الهمزةِ والفاءِ، فيكون ك جَبَل وأَجْبال. وآفَقَ فلانٌ أي: ذهب في الآفاقِ. والآفِقُ: الذي بلغ نهايةَ الكرم تشبيهاً في ذلك بالذاهبِ في الآفاقِ. والنسَبُ إلى الأُفُقِ أَفَقيٌّ بفتحهما قلت: ويُحتمل أنه نسبه إلى المفتوح واسْتَغنوا بذلك عن النسبة إلى المضمومِ. وله نظائر.

53

قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} فيه وجهان، أحدهما: أن الباءَ مزيدةٌ في الفاعلِ، وهذا هو الراجحُ. والمفعولُ محذوفٌ أي: أو لم يَكْفِكَ ربُّكَ. وفي قوله: {أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ مِنْ «بربك» فيكون مرفوعَ المحلِّ مجرورَ اللفظِ كمتبوعِه. والثاني: أنَّ الأصلَ بأنَّه، ثم حَذَفَ الجارَّ فجرى الخلافُ. الثاني من الوجهين الأولين: أَنْ يكون «بربك» هو المفعولَ، وأنه وما بعده هو الفاعلُ أي: أو لم يكْفِ ربُّك شهادتَه. وقُرئ {أَنَّهُ على كُلِّ} بالكسر، وهو على إضمارِ القولِ، أو على الاستئناف.

54

وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن «في مُرْيَة» بضم الميم، وقد تقدم أنَّها لغةٌ في المكسورةِ الميم. والله أعلم.

الشورى

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {كَذَلِكَ يوحي} : القُراء على «يُوْحي» بالياء مِنْ أسفلَ مبنياً للفاعلِ، وهو اللَّهُ تعالى. «والعزيزُ الحكيمُ» نعتان. والكافُ منصوبةُ المحلِّ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي: يوحي إيحاءً مثلَ ذلك الإِيحاءِ. وقرأ ابنُ كثير - وتُروى عن أبي عمروٍ - «يُوْحَى» بفتحِ الحاءِ مبنياً للمفعول. وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: ضميرٌ مستترٌ يعود على «كذلك» لأنه مبتدأٌ، والتقدير: مثلُ ذلك الإِيحاءِ يُوْحَى هو إليك. فمثلُ ذلك مبتدأٌ، ويُوْحى هو إليك خبرُه. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ «إليك» ، والكافُ منصوبُ المحلِّ على الوجهَيْن المتقدِّمَيْن. الثالث: أنَّ القائمَ [مَقامَه] الجملةُ مِنْ قولِه: «اللَّهُ العزيزُ» أي: يُوْحَى إليك هذا اللفظُ. وأصولُ البَصْريين لا تساعِدُ عليه؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَه. وقرأ أبو حيوةَ والأعمشُ وأبانٌ «نُوْحي» بالنون، وهي موافقةٌ للعامَّةِ. ويُحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ قولِه: «اللَّهُ العزيزُ» منصوبةَ المحلِّ مفعولةً

ب «نُوْحي» أي: نُوحي إليك هذا اللفظَ. إلاَّ أنَّ فيه حكايةَ الجملِ بغيرِ القولِ الصريحِ. و «نُوْحي» على اختلافِ قراءاتِه يجوزُ أَنْ يكونَ على بابه من الحالِ أو الاستقبالِ، فيتعلَّقَ قولُه: {وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} بمحذوفٍ لتعذُّرِ ذلك، تقديرُه: وأوحَى إلى الذين، وأَنْ يكونَ بمعنى الماضي. وجيْءَ به على صورةِ المضارعِ لغَرَضٍ وهو تصويرُ الحالِ. قوله: «اللَّهُ العزيزُ» يجوزُ أَنْ يرتَفِعَ بالفاعليةِ في قراءةِ العامَّةِ، وأَنْ يرتفعَ بفعلٍ مضمرٍ في قراءةِ ابنِ كثير، كأنه قيل: مَنْ يُوْحيه؟ فقيل: اللَّه، ك {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36] ، وقوله: 3964 - لِيُبْكَ يزيدُ ضارِعٌ. . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد مرَّ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداءِ، وما بعدَه خبرُه، والجملةُ قائمةٌ مَقامَ الفاعلِ على ما مَرَّ، وأَنْ يكون «العزيزُ الحكيمُ» خبَريْن أو نعتَيْن. والجملةُ مِنْ قولِه: {لَهُ مَا فِي السماوات} خبرٌ أولُ أو ثانٍ على حَسَبِ ما تقدَّم في «العزيزُ الحكيمُ» . وجوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ «العزيز» مبتدأً و «الحكيمُ» خبرَه، أو نعتَه، و {لَهُ مَا فِي السماوات} خبرَه. وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ تَبَعيَّتُهما للجلالة. وأنت إذا قلتَ: «جاء زيدٌ العاقلُ الفاضلُ» لا تجعلُ العاقل مرفوعاً على الابتداء.

5

قوله: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ} : قد مَرَّ في مريم الخلافُ والكلامُ فيه مُشْبَعاً. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ زاد هنا: «وروِيَ عن يونسَ عن أبي عمروٍ قراءةٌ غريبةٌ» تَتَفَطَّرْنَ «بتاءَيْن مع النونِ، ونظيرُهما حرفٌ نادرٌ رُوي في نوادر ابنِ الأعرابي:» الإِبلُ تَتَشَمَّمْن «. قال الشيخ:» والظاهرُ أنَّ هذا وهمٌ منه؛ لأنَّ ابن خالويه قال في «شاذِّ القراءاتِ» ما نَصُّه: «تَنْفَطِرْنَ» بالتاء والنون، يونس عن أبي عمروٍ «قال ابنُ خالَوَيْه:» وهذا حرفٌ نادرٌ لأنَّ العربَ لا تجمعُ بين علامَتَيْ التأنيثِ. لا يقال: النساءُ تَقُمْنَ، ولكن يَقُمْنَ، {والوالدات يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] ولا يقال: تُرْضَعْنَ. وقد كان أبو عُمَرَ الزاهدُ رَوَى في نوادرِ ابن الأعرابي: «الإِبلُ تَتشمَّمْن» فأنكَرْنَاه، فقد قَوَّاه الآن هذا «. قال الشيخ:» فإنْ كانَتْ نُسَخُ الزمخشريِّ متفقةً على قولِه: «بتاءَيْن مع النون» فهو وهمٌ، وإنْ كان في بعضها «بتاءٍ مع النونِ» كان موافقاً لقولِ ابن خالَوَيْهِ، وكان «بتاءَيْن» تحريفاً من النَّساخ. وكذلك كَتْبُهُم «تَتَفَطَّرْن» و «تَتَشَمَّمْنَ» بتاءَيْن «انتهى. قلت: كيف يَسْتقيم أَنْ يكونَ كتْبُهم تَتَشَمَّمْن بتاءَيْن وهماً؟ وذلك لأنَّ ابنَ خالَوَيْهِ أورَدَه في مَعْرِضِ النُّدْرَةِ والإِنكارِ، حتى تَقَوَّى عنده بهذه القراءةِ، وإنما يكون نادراً مُنْكَراً بتاءَيْن فإنه حينئذٍ يكونُ مضارِعاً مُسْنَداً لضمير الإِبلِ، فكان مِنْ حَقِّه أَنْ يكونَ حرفُ مضارَعَتِه ياءً منقوطةً مِنْ أسفلَ نحو:» النساءُ

يَقُمْنَ «فكان يَنْبغي أَنْ يقال: الإِبلُ يَتَشَمَّمْنَ بالياء مِنْ تحتُ ثم بالتاءِ مِنْ فوقُ، فلمَّا جاء بتاءَيْن كلاهما مِنْ فوقُ ظهرَ ندورُه وإنكارُه. ولو كان على ما قال الشيخُ: إنَّ كَتْبَهم بتاءَيْن وهمٌ، بل كان ينبغي كَتْبُه بتاءٍ واحدةٍ لَما كان فيه شذوذٌ/ ولا إنكارٌ؛ لأنه نظيرُ» النسوةُ قد خَرَجْنَ «فإنَّه ماضٍ مسندٌ لضميرِ الإِناثِ، وكذا لو كُتِب بياءٍ مِنْ تحتُ وتاءٍ مِنْ فوقُ لم يكنْ فيه شذوذٌ ولا إنكارٌ، وإنما يجيْءُ الشذوذُ والإِنكارُ إذا كان بتاءَيْنِ منقوطتَيْن مِنْ فوقُ، ثم إنَّه سواءٌ قُرِئَ» تَتَفَطَّرْنَ «بتاءَيْن أو بتاءٍ ونونٍ فإنه نادرٌ كما ذَكَرَ ابنُ خالوَيْه، وهذه القراءةُ لم يُقْرَأ بها في نظيرتِها في سورةِ مريم. قوله:» مِنْ فَوْقِهِنَّ «في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه عائدٌ على السماوات أي: يَبْتَدِئُ انفطارُهُنَّ مِنْ هذه الجهةِ ف» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ متعلقةً بما قبلَها. الثاني: أنه [عائد] على الأرضين لتقدُّم ذِكْرِ الأرضِ قبلَ ذلك. الثالث: أنه يعودُ على فِرَقِ الكفَّارِ والجماعاتِ المُلْحِدين، قاله الأخفش الصغير، وأنكره مكي، وقال:» لا يجوزُ ذلك في الذكور مِنْ بني آدم «. وهذا لا يُلْزِمُ الأخفشَ فإنَّه قال: على الفِرَقِ والجماعات، فراعى ذلك المعنى.

7

قوله: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} : فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولُ «أَوْحَيْنا» ، والكافُ للمصدرِ نعتاً أو حالاً. والثاني: أنَّه حالٌ من الكافِ، والكافُ هي المفعولُ ل «أَوْحَيْنا» أي: أَوْحَيْنا مثلَ ذلك الإِيحاءِ، وهو قرآنٌ عربيٌّ. وإليه نحا الزمخشريُّ، وكونُ الكافِ اسماً في النَّثْر مذهبُ الأخفش.

قوله: «ومَنْ حَوْلها» عطفٌ على «أهل» المقدرِ قبل «أمَّ القرى» أي: لِتُنْذِرَ أهلَ أمِّ القرى ومَنْ حَوْلَها. والمفعولُ الثاني محذوفٌ أي: العذابَ. وقُرِئَ «لِيُنْذِرَ» بالياءِ مِنْ تحتُ أي: القرآن. وقولُه: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} هو المفعولُ الثاني. والأولُ محذوفٌ أي: وتُنْذِرَ الناسَ عذابَ يومِ الجمع، فحذفَ المفعولَ الأولَ من الإِنذار الثاني، كما حَذَفَ المفعولَ الثاني مِنْ الإِنذار الأولِ. قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} إخبارٌ فهو مستأنَفٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «يومَ الجمع» ، وجعلَه الزمخشريُّ اعتراضاً وهو غيرُ ظاهرٍ صناعةً؛ إذ لم يَقَعْ بين متلازِمَيْنِ. قوله: «فَرِيقٌ» العامَّةُ على رَفْعِه بأحدِ وجهَيْنِ: إمَّا الابتداءِ، وخبرُه الجارُّ بعدَه. وساغ هذا في النكرةِ لأنَّه مَقامُ تفصيلٍ كقولِه: 3965 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فثوبٌ لَبِسْتُ وثَوْبٌ أَجُرّْ ويجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ مقدراً، تقديرُه: منهم فريقٌ. وساغ الابتداءُ بالنكرةِ لشيْئَيْنِ: تقديمِ خبرِها جارًّا ومجروراً، ووَصْفِها بالجارِّ بعدَها. والثاني: أنه خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هم، أي: المجموعون دَلَّ على ذلك قولُه: «يومَ الجَمْعِ» . وقرأ زيدُ بن علي «فريقاً، وفريقاً» نصباً على الحال مِنْ جملةٍ محذوفةٍ

أي: افترقوا أي: المجموعون. وقال مكي: «وأجاز الكسائيُّ والفراءُ النصبَ في الكلام في» فريقاً «على معنى: تُنْذِرُ فريقاً في الجنة وفريقاً في السَّعير يومَ الجمع» . قلت: قد تقدَّم أنَّ زيدَ بن علي قرأ بذلك، فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءةٌ؛ بل ظاهرُ نَقْلِه عن هذَيْن الإِمامَيْن أنهما لَم يَطَّلعا عليها، وجَعَل «فريقاً» مفعولاً أولَ ل «تُنْذِرَ» و «يومَ الجَمْعِ» مفعولاً ثانياً. وفي ظاهرِه إشكالٌ: وهو أنَّ الإِنذارَ لا يقعُ للفريقَيْنِ، وهما في الجنة، وفي السَّعير، إنَّما يكونُ الإِنذارُ قبل استقرارِهما فيهما. ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه: بأنَّ المرادَ مَنْ هو مِنْ أهلِ الجنة ومِنْ أهلِ السَّعير، وإنْ لم يكنْ حاصلاً فيهما وقتَ الإِنذارِ، و «في الجنة» صفةٌ ل «فَريقاً» أو متعلِّقٌ بذلك المحذوفِ.

9

قوله: {أَمِ اتخذوا} : هذه «أم» المنقطعةُ تتقَدَّر ب بل التي للانتقالِ وبهمزةِ الإِنكارِ، أو بالهمزةِ فقط، أو ب بل فقط. قوله: {فالله هُوَ الولي} . الفاءُ عاطفةٌ ما بعدَها على ما قبلَها. وجعلها الزمخشريُّ جوابَ شرطٍ مقدرٍ. كأنَّه قيل: إنْ أرادوا أولياءَ بحقٍ فاللَّهُ هو الوليُّ.

11

قوله: {فَاطِرُ} : العامَّةُ على رفعِه خبراً ل «ذلكم» أو نعتاً ل «ربِّي» على تَمَحُّضِ إضافتِه. و «عليه توكَّلْتُ» معترضٌ على هذا، أو مبتدأ، وخبرُه «جَعَلَ لكم» أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو. وزيد بن علي: «

فاطرِ» بالجرِّ نعتاً للجلالةِ في قوله: «إلى اللَّهِ» ، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلاً مِن الهاء في «عليه» أو «إليه» . وقال مكيٌّ: «وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء» . وقال غيرُه: على المدح. ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في «عليه» . قلت: قد قرأ بالخفضِ زيدُ بن علي. وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً. قوله: «يَذْرَؤُكُمْ فيه» يجوزُ أَنْ تكونَ «في» على بابِها. والمعنى: يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ. والضميرُ في «يَذرَؤُكم» للمخاطبين والأنعامِ. وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ. قال الزمخشري: «وهي/ من الأحكامِ ذاتِ العلَّتَيْن» . قال الشيخ: «وهو اصطلاحٌ غريبٌ، ويعني: أنَّ الخطابَ يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا» . ثم قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: ما معنى يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به. قلت: جُعِل هذا التدبيرُ كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ. ألا تَراك تقول: للحَيَوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] . والثاني: أنها للسببية كالباء أي: يُكَثِّرُكم بسبِبه. والضميرُ يعودُ للجَعْلِ أو للمخلوقِ» . قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في هذه الآيةِ أوجهٌ، أحدُها - وهو المشهورُ

عند المُعْرِبين - أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس، و «شيءٌ» اسمُها. والتقدير: ليس شيءٌ مثلَه. قالوا: ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له مِثْلٌ. وهو مُحالٌ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف: ليس مثلَ مثلِه شيءٌ، فنفى المماثلةَ عن مثلِه، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً، لا مثلَ لذلك المَثَلِ، وهذا مُحالٌ تَعالى اللَّه عن ذلك. وقال أبو البقاء: «ولو لم تكنْ زائدةً لأَفْضَى ذلك إلى المُحال؛ إذ كان يكونُ المعنى: أنَّ له مِثْلاً وليس لمثلِه مِثْلٌ. وفي ذلك تناقضٌ؛ لأنَّه إذا كان له مِثْلٌ فلِمِثْله مِثْلٌ وهو هو، مع أنَّ إثباتَ المِثْلِ لله تعالى مُحالٌ» . قلت: وهذه طريقةٌ غريبةٌ في تقريرِ الزيادةِ، وهي طريقةٌ حسنةٌ فيها حُسْنُ صناعةٍ. والثاني: أنَّ مِثْلاً هي الزائدةُ كزيادتِها في قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] . قال الطبري: «كما زِيْدَتِ الكافُ في قوله: 3966 - وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ ... وقولِ الآخر: 3967 - فصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مَأْكُوْلْ ...

وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماءِ ليسَتْ بجائزةٍ. وأيضاً يصيرُ التقديرُ ليس ك هو شيءٌ، ودخولُ الكافِ على الضمائرِ لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ. الثالث: أنَّ العربَ تقولُ «مثلُكَ لا يَفْعَلُ كذا» يعْنُون المخاطبَ نفسَه؛ لأنَّهم يُريدون المبالغةَ في نَفْيِ الوصفِ عن المخاطب، فينفونَها في اللفظِ عن مثلِه، فَيَثْبُتُ انتفاؤُها عنه بدليلِها. ومنه قول الشاعر: 3968 - على مِثْلِ ليلى يَقْتُل المرءُ نفسَه ... وإنْ باتَ مِنْ ليلى على اليأس طاويا وقال أوس بن حجر: 3969 - ليس كمثلِ الفتى زُهَيْرٍ ... خَلْقٌ يُوازِيه في الفضائلِ وقال آخر: 3970 - سَعْدُ بنُ زيدٍ إذا أبصرْتَ فضلَهُمُ ... فما كمِثْلِهِمْ في الناسِ مِنْ أَحَدِ قال ابن قتيبة: «العرب تُقيم المِثْلَ مُقامَ النفسِ فتقول: مثلي لا يُقال

له هذا، أي: أنا لا يُقال لي» . قيل: و [نظيرُ] نسبةُ المِثْل إلى مَنْ لا مِثْل له قولُك: فلانٌ يدُه مبسوطةٌ تريد أنه جَوادٌ، ولا نَظَرَ في الحقيقة إلى اليد، حتى تقولُ ذلك لمَنْ لا يَدَ له كقولِه تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] . الرابع: أَنْ يُرادَ بالمِثْلِ الصفةُ، وذلك أنَّ المِثْلَ بمعنى المَثَلَ والمَثَلُ الصفةُ، كقولِه تعالى: {مَّثَلُ الجنة} [الرعد: 35] فيكونُ المعنى: ليس مِثْلُ صفتِه تعالى شيءٌ من الصفات التي لغيرِه، وهو مَحْمَلٌ سهلٌ.

13

قوله: {أَنْ أَقِيمُواْ} : يجوز فيها أوجهٌ، أحدُها: أَنْ تكونَ مصدريةً في محلِّ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: هو أَنْ أَقيموا أي: الدينُ المشروعُ توحيدُ الله تعالى. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ بدلاً من الموصولِ كأنَّه قيل: شَرَعَ لكم توحيدَ الله تعالى. الثالث: أنَّها في محلِّ جرٍّ بدلاً من الدين. الرابع: أنَّها في محلِّ جَرٍّ أيضاً بدلاً من الهاء. الخامس: أَنْ تكونَ مُفَسِّرةً؛ لأنها قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول.

14

قوله: {أُورِثُواْ} : قرأ زيد بن علي «وُرِّثوا» بالتشديد [مِنْ] وُرِّثَ مبنياً للمفعول.

15

قوله: {فَلِذَلِكَ فادع} : في اللامِ وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ بمعنى إلى. والثاني: أنها للعلةِ أي: لأجلِ التفرُّقِ والاختلافِ ادْعُ للدِّين القيِّمِ.

قوله: «وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ» يجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: وأُمِرْت بذلك لأَعْدِلَ. وقيل: وأُمرت أَنْ أَعْدِلَ، فاللامُ مزيدةٌ. وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّك بعد زيادةِ اللام تحتاج إلى تقديرِ حرفِ جر أي: بأَنْ أَعْدِلَ.

16

قوله: {والذين يُحَآجُّونَ} : مبتدأٌ و «حُجَّتُهم» مبتدأٌ ثانٍ، و «داحِضَةٌ» خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبرٌ عن الأول. وأعربَ مكيٌّ «حُجَّتُهم» بدلاً/ من الموصول بدلَ اشتمال. والهاءُ في «له» تعودُ على الله أو على الرسول عليه السلام أي: مِنْ بعدِ ما استجاب الناسُ لله تعالى، أو مِنْ بعدِما استجاب اللَّهُ لرسولِه حين دعا على قومِه.

17

قوله: {لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} : إنما ذَكَّر «قَريب» وإنْ كان صفةً لمؤنث لأنَّ الساعةَ في معنى الوقتِ، أو البعثِ، أو على معنى النَّسب أي: ذاتُ قُرْب، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: مجيء الساعةِ. وقيل: للفرق: بينها وبين قرابةِ النسَبِ. وقيل: لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ، نقله مكي، وليس بشيءٍ؛ إذ لا يجوز: الشمسُ طالعٌ ولا القِدْرُ فائرٌ. وجملةُ الترجِّي أو الإِشفاقِ مُعَلِّقَةٌ للدرايةِ. وتقدَّم مثلُه آخرَ الأنبياء.

20

قوله: {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} : قد تَقَدَّم أنَّ كَوْنَ الشرطِ ماضياً والجزاءِ مضارعاً مجزوماً لا يختَصُّ مجيْئُه ب «كان» خلافاً لأبي الحكم مصنِّفِ «كتابِ الإِعراب» فإنَّه قال: «لا يجوز ذلك إلاَّ مع» كان «إلاَّ في ضرورةِ

شعرٍ» . وأطلق النَّحْويون جوازَ ذلك، وأنشدوا بيتَ الفرزدق: 3971 - دَسَّتْ رسولاً بأنَّ القوم إنْ قَدِرُوا ... عليك يَشْفُوا صدوراً ذاتَ تَوْغيرِ وقولَه أيضاً: 3972 - تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني لا تَخُونني ... نكنْ مِثْلَ مَنْ يا ذئبُ يصْطَحِبان وقرأ ابن مقسم والزعفراني ومحبوب «يَزِدْ» و «يُؤْتِه» بالياء مِنْ تحتُ أي: الله تعالى. وقرأ سلام «نُؤْتِهُ» بضمِّ هاءِ الكناية وهو الأصلُ، وهي لغةُ الحجاز. وتقدَّمَ خلافُ القُرَّاءِ في ذلك.

21

قوله: {شَرَعُواْ لَهُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ المرفوع عائداً على الشركاء، والمجرورُ على الكفار. ويجوز العكسُ؛ لأنَّهم جَعَلوا لهم أنْصِباءَ. قوله: «وإنَّ الظالمين» العامَّةُ بالكسر على الاستئناف. ومسلم ابن جندب والأعرج بفتحِها عطفاً على «كلمةُ» ، وفَصَلَ بين المتعاطفَيْن بجوابِ «لولا» تقديرُه: ولولا كلمةٌ واستقرارُ الظالمين في العذاب لقُضِيَ، وهو نظيرُ: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} [طه: 129] .

22

قوله: {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} : أي: والإِشفاقُ أو والعذاب. و «روضاتُ الجنَّات» : قال الشيخ: «واللغةُ الكثيرةُ تسكينُ الواوِ، ولغةُ هُذَيْلٍ فَتْحُ الواو، إجراءً لها مُجْرى الصحيح نحو: جَفَنات، ولم يقرأ أحد فيما عَلِمْناه بلغتِهم» . قلت: إن عَنى لم يَقْرأ أحدٌ بلغتهم في هذا البابِ من حيث هو هو فليس كذلك؛ لأني قد قَدَّمْتُ لك في سورة النور أنَّ الأعمشَ قرأ {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} [النور: 58] بفتحِ الواو. وإنْ عنى أنَّه لم يُقْرأ في «رَوْضات» بخصوصِها - وليس بظاهرِ عبارته - فيُحْتمل ذلك. قوله: «عندَ رَبِّهم» يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل «يَشاؤُون» قاله الحوفي، أو للاستقرارِ العاملِ في «لهم» قاله الزمخشريُّ، والعِنْدِيَّةُ مجازٌ.

23

قوله: {يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ} : كقولِه: {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] وقد تقدَّم تحقيقُه، وتقدَّمَتِ القراءاتُ في «يُبَشِّر» . وقرأ مجاهد وحميد بن قيس «يُبْشِرُ» بضمِّ الياءِ وسكونِ الباءِ وكسرِ الشينِ مِنْ أَبْشَر منقولاً مِنْ بَشِر بالكسر، لا مِنْ بَشَر بالفتح، لأنه متعدٍّ. والتشديدُ في «بَشَّر» للتكثيرِ لا للتعديةِ؛ لأنه متعدٍّ بدونها. ونقل الشيخ قراءةَ «يَبْشُرُ» بفتح الياء وضم الشين عن حمزةَ والكسائي من السبعة، ولم يذكرْ غيرَهما من السبعةِ، وقد وافَقَهما على ذلك ابن كثير وأبو عمرو. و «ذلك» مبتدأٌ والموصولُ بعده خبرُه،

وعائدُه محذوفٌ على التدريجِ المذكورِ في قولِه: {كالذي خاضوا} أي: يُبَشِّرُ به، ثم يُبَشِّره على الاتِّساع. وأمَّا على رأي يونسَ فلا تحتاج إلى عائدٍ لأنها عنده مصدريَّةٌ، وهو قول الفراء أيضاً. أي: ذلك تبشيرُ اللَّهِ عبادَه. و «ذلك» إشارةٌ إلى ما أَعَدَّه الله لهم من الكرامة. وقال الزمخشري: «أو ذلك التبشيرَ الذي يُبَشِّره اللَّهُ عبادَه» . قال الشيخ: «وليس بظاهرٍ؛ إذ لم يتقدَّمْ في هذه السورةِ لفظُ البُشْرى، ولا ما يَدُلُّ عليها مِنْ بَشَّر أو شبهِه» . قوله «إلاَّ المودَّةَ» فيها قولان، أحدهما: أنَّها استثناءٌ منقطعٌ؛ إذ ليسَتْ من جنسِ الأَجْرِ. والثاني: أنه متصلٌ أي: لا أسألُكم عليه أجراً إلاَّ هذا. وهو أَنْ تَوَدُّوا أهلَ قرابتي ولم يكنْ هذا أجراً في الحقيقةِ؛ لأنَّ قرابتَه قرابتُهم فكانت صلتُهم لازمةً لهم في المروءةِ، قاله الزمخشري. وقال أيضاً: «فإنْ قلت: هلاَّ قيل: إلاَّ مودةَ القُرْبَى، أو إلاَّ المودةَ للقُرْبى. قلت: جُعِلوا مكاناً للمودَّةِ ومَقَرًّا لها كقولِك: لي في آل فلان مَوَدَّة، وليست» في «صلةً للمودةِ كاللامِ إذا قلتَ: إلاَّ المودةَ للقربى، إنما هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تَعَلُّقَ الظَرفِ به في قولك:» المالُ في الكيس «، وتقديرُه: إلاَّ المودةَ ثابتةً في القُرْبَى ومتمكنةً

فيها» . قلت: وأحسنُ ما سَمِعْتُ في معنى هذه الآيةِ حكايةُ الشعبيِّ قال: أَكْثَرَ الناسُ علينا في هذه الآيةِ فكتَبْنا إلى ابن عباس نسألُه عنها. فكتب: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان أوسطَ الناسِ في قريش، ليس بطنٌ مِنْ بطونهم إلاَّ قد وَلَدَه، فقال الله تعالى: قل لا أسألُكم عليه أَجْراً إلاَّ أن تَوَدُّوني في قَرابتي منكم فارْعَوْا ما بيني وبينكم فصَدِّقوني. وقال أبو البقاء: «وقيل: متصلٌ أي/: لا أسألكم شيئاً إلاَّ المودةَ» . قلت: وفي تأويلِه متصلاً بما ذَكَر، نظرٌ لمجيئه ب «شيء» الذي هو عامٌّ، وما مِنْ استثناءٍ منقطع إلاَّ ويمكن تأويلُه بما ذَكَر، ألا ترى إلى قولِك: «ما جاءني أحدٌ إلاَّ حمارٌ» أنه يَصِحُّ: ما جاءني شيءٌ إلاَّ حماراً. وقرأ زيد بن علي «مَوَدَّة» دون ألفٍ ولام. قوله: {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} العامَّةُ على «نَزِدْ» بالنون للعظمة. وزيد ابن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمروٍ «يَزِدْ» بالياءِ مِنْ تحتُ أي: يَزِدِ اللَّهُ. والعامَّةُ على «حُسْناً» بالتنوين مصدراً على فُعْل نحو: شُكْر. وهو مفعولٌ به. وعبدُ الوارث عن أبي عمرو «حُسْنى» بألفِ التأنيث على وزنِ بُشْرَى ورُجْعَى وهو مفعولٌ به أيضاً. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ك فُضْلَى، فيكونَ وصفاً لمحذوف أي خَصْلَةً حسنى.

24

قوله: {وَيَمْحُ الله الباطل} : هذا مستأنَفٌ غيرُ داخلٍ في جزاءِ الشرطِ، لأنه تعالى يمحو الباطلَ مطلقاً، وسَقَطت الواوُ منه

لفظاً لالتقاءِ الساكنين في الدَّرْج، وخَطَّاً حَمْلاً للخط على اللفظِ كما كتبوا {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] عليه ولكن ينبغي أَنْ لا يجوزَ الوقفُ على هذا؛ لأنه إنْ وَقَفَ عليه بالأصلِ، وهو الواوُ، خالَفْنا خطَّ المصحفِ، وإنْ وَقَفْنا بغيرها موافَقَةً للرسمِ خالَفْنا الأصلَ، وقد مَرَّ لك بحثُ مثلِ هذا. وقد مَنَعَ مكي الوقفَ على نحوِ {وَمَن تَقِ السيئات} [غافر: 9] وبابِه. قوله: «ما تَفْعَلُون» قرأ الأخوَان وحفص «تَفْعلون» بالتاءِ مِنْ فوقُ نظراً إلى قولِه: «عن عبادِه» . والباقون بالخطاب إقبالاً على الناسِ عامَّة.

26

قوله: {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ الموصولُ فاعلاً أي: يُجيبون ربَّهم إذا دعاهُمْ كقولِه: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} [الأنفال: 24] . واستجابَ كأَجاب. ومنه: 3973 - وداعٍ دَاع يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاكَ مُجيبُ ويجوزُ أَنْ تكونَ السينُ للطلب على بابِها بمعنى: ويُسْتَدْعَى المؤمنون للإِجابة عن ربِّهم بالأعمالِ الصالحة. ويجوزُ أَنْ يكونَ الموصولُ مفعولاً به، والفاعلُ مضمرٌ يعودُ على الله بمعنى: ويُجيب اللَّهُ الذين آمنوا أي: دعاهم. وقيل: ثَمَّ لامٌ مقدرةٌ أي: ويَسْتجيب الله للذين آمنوا فَحَذَفها للعِلْم بها.

28

قوله: {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} : «ما» مصدريَّةٌ أي: مِنْ قُنوطهم. والعامَّةُ على فتح النون. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بكسرِها وهي لغةٌ، وعليها قُرِئ «يَقْنَطُ» {لاَ تَقْنَطُواْ} [الزمر: 53] بفتحِ النونِ في المتواتر. ولم يُقْرَأ بالكسر في الماضي إلاَّ شاذاً.

29

قوله: {وَمَا بَثَّ} : يجوزُ أَنْ تكونَ مجرورةَ المحلِّ عطفاً على «السماواتِ» أو مرفوعتَه عطفاً على «خَلْقُ» على حَذفِ مضافٍ أي: وخَلْقُ ما بَثَّ، قاله الشيخ. وفيه نظر؛ لأنَّه يَؤُول إلى جَرِّه بالإِضافةِ ل خَلْق المقدَّرِ، فلا يُعْدَلُ عنه. قوله: «فيهما» أي: السماوات والأرض. والسماءُ لا ذَوات فيها فقيل: هو مثلُ قولِه: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} ، [الكهف: 61] {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] . وقيل: بل خَلَقَ في السماء مَنْ يَدِبُّ. وقيل: مِن الملائكةِ مَنْ يمشي مع طَيَرانه. وقال الفارسي: «هو على حَذْفِ مضافٍ أي: وما بَثَّ في أحدِهما» وهذا إلغازٌ في الكلام. قوله: «إذا يَشاء» «إذا» منصوبةٌ ب «جَمْعِهم» لا ب «قديرٌ» . قال أبو

البقاء: «لأنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى أَنْ يَصيرَ المعنى: وهو على جَمْعِهم قديرٌ إذا يشاء، فتتعلَّقُ القدرةُ بالمشيئةِ وهو مُحالٌ» . قلت: ولا أَدْري ما وجهُ كونِه مُحالاً على مذهبِ أهلِ السُّنة؟ فإنْ كان يقولُ بقولِ المعتزلةِ: وهو أنَّ القدرةَ تتعلَّق بما لم يَشَأ الله يمشي كلامُه، ولكنه مذهبٌ رديْءٌ لا يجوزُ اعتقادُه، ونقول: يجوزُ تعلُّقُ الظرفِ به أيضاً.

30

قوله: {فَبِمَا} : قرأ نافعٌ وابنُ عامر «بما» دونَ فاءٍ. والباقون «فبما» بإثباتِها. ف «ما» في القراءةِ الأولى الظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي، والخبر الجارُّ مِنْ قولِه: «بما كَسَبَتْ» . وقال قومٌ منهم أبو البقاء: إنَّها شرطيةٌ حُذِفَتْ منها الفاءُ. قال أبو البقاء: «كقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] . وقولِ الشاعر: 3974 - مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللَّهُ يَشْكُرها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا ليس مذهبَ الجمهورِ، إنما قال به الأخفشُ وبعضُ البغداديين. وأما الآية ف» إنَّكم لَمُشْرِكون «ليس جواباً للشرط، إنما هو جوابٌ لقَسمٍ مقدرٍ حُذِفَتْ لامُه الموطِّئَةُ قبل أداةِ الشرطِ. وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فالظاهرُ أنها فيها شرطيةٌ، ولا يُلْتَفَتُ لقولِ أبي

البقاء:» إنَّه ضعيفٌ «. ويجوزُ أَنْ تكونَ الموصولةَ، والفاءُ داخلةٌ في الخبر تشبيهاً للموصولِ بالشرط، بشروطٍ ذكَرْتُها مُسْتوفاةً في هذا الموضوعِ بحمدِ الله تعالى. وقد وافق نافعٌ وابنُ عامرٍ مصاحفَهما؛ فإنَّ الفاءَ ساقطةٌ من مصاحفِ المدينةِ والشامِ، وكذلك الباقون فإنها ثابتةٌ في مصاحفِ مكةَ والعراقِ.

32

قوله: {الجوار} : أي: السفنُ الجوارِي. فإن قلت: الصفةُ متى لم تكن خاصَّةً بموصوفِها امتنع حَذْفُ الموصوفِ. لا تقولُ: مررتُ بماشٍ؛ لأنَّ المَشْيَ عامٌّ. وتقول: مررتُ بمهندسٍ وكاتبٍ، والجَرْيُ ليس من الصفاتِ الخاصةِ فما وجهُ ذلك؟ فالجوابُ: / أنَّ قولَه: «في البحر» قرينةٌ دالَّةٌ على الموصوفِ. ويجوزُ أَنْ تكونَ هذه صفةً غالبةً كالأَبْطَح والأَبْرَق، فَوَلِيَتِ العواملَ دونَ موصوفِها. و «في البحر» متعلقٌ ب «الجوَاري» إذا لم يَجْرِ مَجْرى الجوامدِ. فإنْ جَرَى مَجْراه كان حالاً منه، وكذا قولُه: «كالأَعْلام» هو حالٌ أي: مُشْبهةً بالأعلام - وهي الجبالُ - كقول الخنساء: 3975 - وإنَّ صَخْراً لَتَأْتَمُّ الهُداةُ به ... كأنَّه عَلَمٌ في رأسِه نارُ وسُمِع: هذه الجَوارُ، وركبْتُ الجوارَ، وفي الجوارِ، بالإِعراب على الراءِ تناسياً للمحذوفِ. وقد تقدَّم هذا في قولِه: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] في الأعراف.

33

قوله: {فَيَظْلَلْنَ} : العامَّةُ على فتحِ اللامِ التي هي عينٌ، وهو القياسُ؛ لأنَّ الماضيَ بكسرِها، تقول: ظَلِلْتُ قائماً. وقرأ قتادةُ بكَسْرِها، وهو شاذٌ نحو: حَسِب يَحْسِب وأخواتِه وقد تقدَّمَتْ. . . وقال الزمخشري: «مِنْ ظَلَّ يَظَلُّ ويَظِلُّ، نحو: ضَلَّ يَضَلُّ ويَضِلُّ» . قال الشيخ: «وليس كما ذَكر؛ لأنَّ يَضَلُّ بفتح العين مِنْ ضَلِلْتُ بكسرِها في الماضي، ويَضِلُّ بالكسر مِنْ ضَلَلْتُ بالفتحِ وكلاهما مَقيسٌ» يعني أنَّ كلاً منهما له أصلٌ يَرْجِعُ إليه بخلافِ «ظَلَّ» فإنَّ ماضيَه مكسورُ العينِ فقط. والنون اسمُها، «ورَواكدَ» خبرُها. ويجوزُ أَنْ تكونَ «ظَلَّ» هنا بمعنى صار؛ لأنَّ المعنى ليس على وقتِ الظُّلول وهو النهارُ فقط، وهو نظيرُ: «أين باتَتْ يدُه» من هذه الحيثيَّةِ. والرُّكودُ: الثبوتُ والاستقرارُ قال: 3976 - وقد رَكَدَتْ وسطَ السماءِ نجومُها ... رُكوداً بوادِي الرَّبْرَبِ المتفرِّقِ

34

قوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} : عطفٌ على «يُسْكِنْ» قال الزمخشري: «لأنَّ المعنى: إنْ يَشَأْ يُسْكِن فيركَدْن. أو يَعْصِفْها فيَغْرَقْنَ بعَصْفِها» . قال الشيخ: «ولا يَتَعَيَّنُ أَنْ يكونَ التقديرَ: أو يَعْصِفْها فيَغْرَقْنَ؛ لأنَّ

إهْلاكَ السفنِ لا يَتَعَيَّنُ أَنْ يكونَ بعَصْفِ الريح، بل قد يُهْلِكُها بقَلْعِ لوحٍ أو خَسْفٍ» . قلت: والزمخشريُّ لم يذكُرْ أنَّ ذلك مُتَعَيِّنٌ، وإنما ذَكَرَ شيئاً مناسباً؛ لأنَّ قولَه: «يُسْكِنِ الريحَ» يقابِلُه «يعْصِفْها» فهو في غايةِ الحُسْنِ والطِّباق. قوله: «ويَعْفُ» العامَّةُ على الجزمِ عطفاً على جزاءِ الشرط. واستشكلَه القُشَيْرِيُّ قال: «لأنَّ المعنَى: إن يَشَأ يُسْكِنِ الريحَ فتبقى تلك السفنُ رواكدَ، أو يُهْلِكْها بذنوبِ أهلها فلا يَحْسنُ عَطْفُ» ويَعْفُ «على هذا؛ لأنَّ المعنى يَصير: إنْ يَشَأْ يَعْفُ، وليس المعنى [على] ذلك بل المعنى: الإِخبارُ عن العفوِ مِنْ غير شرطِ المشيئةِ، فهو عطفٌ على المجزومِ من حيث اللفظُ لا من حيث المعنى. وقد قرأ قومٌ» ويَعْفُو «بالرفع وهي جيدةٌ في المعنى» . قال الشيخ: وما قاله ليس بجيدٍ إذ لم يَفْهَمْ مدلولَ التركيبِ والمعنى، إلاَّ أنَّه تعالى إنْ يَشَأْ أهلك ناساً وأَنْجَى ناساً على طريقِ العَفْوِ عنهم «. وقرأ الأعمش» ويَعْفُوْ «بالواو. وهي تحتملُ أَنْ يكونَ كالمجزومِ، وثَبَتَتِ الواوُ في الجزمِ كثبوتِ الياء في {مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} [يوسف: 90] . ويُحتمل أَنْ يكونَ الفعلُ مرفوعاً، أخبر تعالى أنَّه يَعْفو عن كثيرٍ من السيئات. وقرأ بعضُ أهلِ المدينة بالنصب، بإضمارِ» أَنْ «بعد الواوِ كنَصْبِه في قولِ النابغة: 3977 - فإنْ يَهْلَكْ أبو قابوسَ يَهْلَكْ ... ربيعُ الناسِ والبلدُ الحرَامُ

ونأخذْ بعدَه بذِنابِ عَيْشٍ ... أجَبَّ الظهرِ ليس له سَنامُ بنصبِ» ونَأْخُذ «ورفعِه وجَزْمِه. وهذا كما قُرِئ بالأوجه الثلاثة بعد الفاءِ في قولِه تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 284] وقد تقدَّم تقريرُه آخرَ البقرةِ، ويكونُ قد عَطَفَ هذا المصدرَ المؤولَ مِنْ» أَنْ «المضمرةِ والفعلِ على مصدرٍ مُتَوَهَّمٍ من الفعلِ قبلَه. تقديرُه: أو يقع إيباقٌ وعَفْوٌ عن كثيرٍ. فقراءةُ النصبِ كقراءة الجزم في المعنى، إلاَّ أنَّ في هذه عَطْفَ مصدرٍ مؤولٍ على مصدرٍ مُتَوَهَّمٍ، وفي تَيْكَ عطفَ فعلٍ على مثلِه.

35

قوله: {وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ} : قرأ نافعٌ وابنُ عامر برفعِه. والباقون بنصبِه. وقُرِئ بجزمِه أيضاً. فأمَّا الرفعُ فهو واضحٌ جداً، وهو يحتملُ وجهين: الاستئنافَ بجملةٍ فعليةٍ، والاستئنافَ بجملةٍ اسميةٍ، فتُقَدِّرُ قبل الفعل مبتدأً أي: وهو يعلمُ الذين، فالذين على الأول فاعلٌ، وعلى الثاني مفعولٌ. فأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها أوجهٌ، أحدُها: قال الزجَّاج: «على الصَّرْف» . قال: «ومعنى الصرفِ صَرْفُ العطف عن اللفظ إلى العطفِ على المعنى» . قال: «وذلك أنَّه لَمَّا لم يَحْسُنْ عطفُ» ويعلَمْ «مجزوماً على ما قبلَه إذ يكونُ المعنى: إنْ يَشَأْ/ يَعْلَمْ، عُدِل إلى العطف على مصدرِ الفعلِ الذي قبلَه. ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بإضمار» أنْ «ليكونَ مع الفعلِ في تأويلِ اسم» .

الثاني: قولُ الكوفيين أنه منصوبٌ بواوِ الصرف. يَعْنُون أنَّ الواوَ نفسَها هي الناصبةُ لا بإضمارِ «أنْ» ، وتقدَّم معنى الصرف. الثالث: قال الفارسيُّ - ونقله الزمخشري عن الزجاج - إن النصب على إضمار «أنْ» ؛ لأنَّ قبلها جزاءً تقول: «ما تصنعْ أصنعْ وأكرمَك» وإنْ شِئْتَ: وأكرمُك، على وأنا أكرِمُك، وإنْ شِئْتَ «وأكرمْك» جزْماً. قال الزمخشري: «وفيه نظرٌ؛ لِما أَوْردَه سيبويه في كتابه» قال: «واعلَمْ أنَّ النصبَ بالواوِ والفاء في قوله:» إنْ تَأْتِني آتِك وأعطيكَ «ضعيفٌ، وهو نحوٌ مِنْ قولِه: 3978 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْحَقُ بالحجازِ فَأَسْتريحا فهذا لا يجوزُ، لأنه ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه، إلاَّ أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجبٍ أنَّه يفعلُ، إلاَّ أَنْ يكونَ من الأولِ فِعْلٌ، فلمَّا ضارَعَ الذي لا يُوْجِبُهُ كالاستفهام ونحوِه أجازوا فيه هذا على ضَعْفِه» . قال الزمخشري: «ولا يجوزُ أَنْ تُحْمَلَ القراءةُ المستفيضةُ على وجهٍ ليس بحَدِّ

الكلامِ ولا وجهِه، ولو كانَتْ من هذا البابِ لَما أَخْلَى سيبويه منها كتابَه، وقد ذَكَرَ نظائرَها مِن الآياتِ المُشْكِلة» . الرابع: أَنْ ينتصِبَ عطفاً على تعليلٍ محذوفٍ تقديرُه: لينتقمَ منهم ويعلمَ الذين، ونحوُه في العطفِ على التعليلِ المحذوفِ غيرُ عزيزٍ في القرآن. ومنه: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} [مريم: 21] وخَلَق اللَّهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ، ولِتُجْزَى «قاله الزمخشري. قال الشيخ:» ويَبْعُدُ تقديرُه: لِيَنْتَقِمَ منهم؛ لأنه تَرَتَّبَ على الشرطِ إهلاكُ قومٍ ونجاةُ قومٍ فلا يَحْسُنُ لينتَقِمَ منهم. وأمَّا الآيتان فيمكنُ أَنْ تكونَ اللامُ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: ولنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك، ولُتْجزَى كلُّ نفسٍ فَعَلْنا ذلك، وهو - كثيراً - يُقَدِّرُ هذا الفعل مع هذه اللامِ إذا لم يكنْ فعلٌ يتعلَّقُ به «. قلت: بل يَحْسُنُ تقديرُ» لينتقمَ «لأنَّه يعودُ في المعنى على إهلاكِ قومٍ المترتبِ على الشرط. وأمَّا الجزمُ فقال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: كيف يَصِحُّ المعنى على جزم «ويعلَمْ» ؟ قلت: كأنه قيل: إنْ يَشَأْ يَجْمَعْ بين ثلاثةِ أمور: إهلاكِ قومٍ، ونجاةِ قومٍ، وتحذيرِ آخرين «. وإذا قُرِئَ بالجزم فتُكْسَرُ الميمُ لالتقاءِ الساكنين. قوله: {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْ العِلْم.

36

قوله: {فَمَآ أُوتِيتُمْ} : «ما» شرطيةٌ. وهي في محلِّ

نصبٍ مفعولاً ثانياً ل «أُوْتِيتم» والأولُ هو ضميرُ المخاطبين قامَ مقامَ الفاعلِ، وإنما قَدَّم الثاني لأنَّ له صَدْرَ الكلامِ. قوله: «مِنْ شَيءٍ» بيانٌ ل «ما» الشرطيةِ لِما فيها من الإِبْهام. قوله: «فمتاعُ» الفاءُ جوابُ الشرطِ، و «متاعُ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: فهو متاع. قوله: {وَمَا عِندَ الله} «ما» موصولةٌ مبتدأةٌ، و «خيرٌ» خبرها، و «الذين» متعلِّقٌ ب «أَبْقَى» .

37

قوله: {والذين يَجْتَنِبُونَ} : نَسَقٌ على «الذين» الأولى. وقال أبو البقاء: «الذين يَجْتَنبون في موضعِ جرّ بدلاً مِنْ» للذين آمنوا «. ويجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ بإضمار أعني، أو في موضع رفعٍ على تقدير: هم» . وهذا وهمٌ منه في التلاوةِ كأنه اعتقد أنَّ القرآن {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، والذين يَجْتَنِبُونَ} فبنى عليه ثلاثةَ الأوجهِ بناءً فاسداً. قوله: «كبائرَ» قرأ الأخوان هنا وفي النجم «كبيرَ الإِثم» بالإِفراد. والباقون «كبائرَ» بالجمع في السورتَيْن. والمفردُ هنا في معنى الجمع، والرسمُ يحتمل القراءتَيْن. قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ} هذه «إذا» منصوبةٌ ب «يَغْفِرُون» ، و «يَغْفِرُون» خبرٌ ل «هم» ، والجملةُ بأَسْرِها عطفٌ على الصلة، وهي «يَجْتَنِبون» والتقدير:

والذين يَجْتَنِبون وهم يَغْفِرون، عَطَفَ اسميةً على فعليةٍ. ويجوزُ أَنْ يكون «هم» توكيداً للفاعل في قوله: «غَضِبوا» ، وعلى هذا فيَغْفِرون جوابُ الشرطِ. وقال أبو البقاء: «هم مبتدأٌ ويَغْفِرون الخبرُ، والجملةُ جوابُ إذا» وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه لو كان جواباً ل «إذا» لاقترن بالفاء. تقول: «إذا جاء زيدٌ فعمروٌ منطلق» ولا يجوز: «عمروٌ ينطلق» وقيل: «هم» مرفوع بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره «يَغْفِرون» بعده، ولَمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ ولم يَسْتَبْعِدْه الشيخُ. وقال: «ينبغي أَنْ يجوزَ ذلك في مذهبِ سيبويه؛ لأنه أجازَه في الأداةِ الجازمةِ، تقول:» إنْ يَنْطَلِقْ، زيدٌ يَنْطَلِق «تقديرُه: ينطلِقْ زيدٌ ينطلِقْ. ف» ينطلقْ «واقعٌ جواباً، ومع ذلك فَسَّر الفعلَ فكذلك هذا، وأيضاً فذلك/ جائزٌ في فعلِ الشرطِ بعدَها نحو: {إِذَا السمآء انشقت} [الانشقاق: 1] فليَجُزْ في جوابِها أيضاً» .

39

قوله: {هُمْ يَنتَصِرُونَ} : كقولِه {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} سواءً ويجيْء فيه ما تقدَّم. إلاَّ أنَّه يزيدُ هنا أنه يجوزُ أَنْ يكونَ «هم» توكيداً للضميرِ المنصوبِ في «أصابَهم» أكَّد بالضميرِ المرفوعِ وليس فيه إلاَّ الفصلُ بين المؤكَّدِ والمؤكِّد بالفاعلِ. والظاهر أنَّه غيرُ ممنوعٍ.

41

قوله: {وَلَمَنِ انتصر} : هذه لامُ الابتداءِ. وجعلها الحوفي وابنُ عطيَّة للقسم. وليس بجيدٍ إذا جَعَلْنا «مَنْ» شرطيةً كما سيأتي؛ لأنه كان ينبغي أَنْ يُجابَ السابِقُ، وهنا لم يُجَبْ إلاَّ الشرطُ. و «مَنْ» يجوزُ أَنْ

تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، والفاءُ في «فأولئك» جواب الشرطِ، وأَنْ تكونَ موصولةً، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما عَرَفْتَ مِنْ شَبَهِ الموصولِ بالشرطِ. و «ظُلْمِه» مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ. وأيَّدها الزمخشريُّ بقراءةِ مَنْ قرأ «بعدما ظُلِمَ» مبنياً للمفعول.

43

قوله: {وَلَمَن صَبَرَ} : الكلامُ في اللام بَيِّنٌ كما تقدَّم. فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً ف «إنَّ» جوابُ القسمِ المقدَّر، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ للدلالةِ عليه. وإنْ كانَتْ موصولةً كان «إنَّ ذلك» هو الخبرُ. وجَوَّز الحوفي وغيرُه أن تكونَ «مَنْ» شرطيةً، وأنَّ ذلك جوابُها على حَذْفِ الفاء على حَدِّ حَذْفِها في البيت المشهور: 3979 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ. . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي الرابط قولان، أحدُهما: هو اسمُ الإِشارةِ إذا أُريد به المبتدأُ، ويكون حينئذٍ على حَذْفِ مضافٍ، تقديره: إنَّ ذلك لَمِنْ ذوي عَزْمِ الأمور والثاني: أنه ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه: لمِنْ عَزْمِ الأمورِ منه، أوله. وقولُه: «ولَمَنْ صَبَرَ» عطفٌ على قولِه: «ولَمَنِ انتصَرَ» . والجملةُ مِنْ قولِه: «إنما السبيلُ» اعتراضٌ.

45

قوله: {يُعْرَضُونَ} : حالٌ لأنَّ الرؤيةَ بصريةٌ. «خاشعين» حالٌ. والضميرُ مِنْ عليها يعودُ على النار لدلالةِ «العذاب» عليها.

وقرأ طلحةُ «من الذِّل» بكسر الذال. وقد تقدَّم الفرقُ بين الذُّل والذِّل. و «من الذُّل» يتعلَّقُ ب «خاشعين» أي: من أَجْل. وقيل: هو متعلقٌ ب «يَنْظُرون» . وقوله: «مِنْ طَرْفٍ» يجوزُ في «مِنْ» أَنْ تكونَ لابتداءِ الغاية، وأَنْ تكونَ تبعيضيَّةً، وأن تكونَ بمعنى الباء، وبكلٍ قد قيل. والطرفُ قيل: يُراد به العُضْوُ. وقيل: يُراد به المصدرُ. يقال: طُرِفَتْ عَيْنُه تُطْرَفُ طَرْفاً أي: يَنْظُرون نَظَراً خَفِيًّا. قوله: {وَقَالَ الذين آمنوا} يجوزُ أَنْ يَبْقَى على حقيقتِه، ويكون «يومَ القيامة» معمولاً ل «خَسِروا» . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى: يقول، فيكون «يوم القيامةِ» معمولاً له.

46

قوله: {يَنصُرُونَهُم} : صفةٌ ل «أَوْلِياء» فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً بلفظِ مَوْصوفِها، وبالرفعِ اعتباراً بمحَلِّه فإنه اسمٌ ل «كان» . قوله: «مِنْ سبيلٍ» إمَّا فاعلٌ، وإمَّا مبتدأٌ.

47

قوله: {مِنَ الله} : يجوزُ تعلُّقُه ب «يأتي» أي: يأتي من الله يومٌ لا مَرَدَّ له، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه لا مَرَدَّ له أي: لا يَرُدُّ ذلك اليومَ ممَّا حكم اللَّهُ به فيه. وجَوَّز الزمخشري أَنْ يتعلَّقَ ب «لا مَرَدَّ» . وردَّه الشيخُ: بأنه يكونُ مُطَوَّلاً فكان ينبغي أَنْ يُعْرَبَ فينصبَ منوَّناً.

48

قوله: {فَإِنَّ الإنسان} : مِنْ وقوعِ الظاهرِ مَوْقِعَ المضمرِ أي: فإنَّه كفورٌ. وقَدَّر أبو البقاء ضميراً محذوفاً فقال: «فإنَّ الإِنسانَ منهم» .

50

قوله: {ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} : حالٌ، وهي حالٌ لازمةٌ، وسَوَّغ مجيْئَها كذلك: أنَّها بعدما يجوزُ أَنْ يكونَ الأمرُ على خلافه؛ لأنَّ معنى «يُزَوِّجُهم» يَقْرِنُهم. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ قَدَّم الإِناثَ أولاً على الذكورِ مع تقديمِهم عليهنَّ، ثم رَجَعَ فقدَّمَهم؟ ولِمَ عَرَّف الذكورَ بعدما نَكَّر الإِناثَ؟ قلت: لأنَّه ذكر البلاءَ في آخر الآية الأولى، وكفرانَ الإِنسان بنسيانِه الرحمةَ السابقةَ، ثم عَقَّبَ بذِكْر مُلْكِه ومشيئتِه وذكرَ قسمةَ الأولادِ فقدَّم الإِناثَ؛ لأنَّ سياق الكلامِ أنه فاعلُ ما يشاءُ لا ما يشاؤه الإِنسانُ، فكان ذِكْرُ الإِناثِ التي مِنْ جملة ما لا يَشاؤه الإِنسانُ أهمَّ، والأهمُّ واجبُ التقديمِ، ولِيَليَ الجنسَ الذي كانت العربُ تَعُدُّه بلاءً، ذكر البلاء، وأخَّر الذكورَ، فلمَّا أَخّرهم تدارَك تأخيرَهم وهم أَحِقَّاءُ بالتقديم بتعريفَهم؛ لأنَّ تعريفَهم فيه تَنْويهٌ وتشهيرٌ، كأنه قال: ويَهَبَ لمَنْ يشاءُ الفرسانَ الأعلامَ المذكورين الذين لا يَخْفَوْن عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسَيْن حقَّه من التقديمِ والتأخيرِ، وعَرَّفَ أنَّ تقديمَهن لم يكُنْ لتقدُّمِهنَّ ولكنْ لمقتضٍ آخر، فقال: ذُكْراناً وإناثاً، كما قال: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13] {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39] .

51

قوله: / {أَن يُكَلِّمَهُ الله} : «أَنْ» ومنصوبُها اسمُ كان وليس «خبرَ» «ما» . وقال أبو البقاء: «أَنْ والفعلُ في موضع رفعٍ على الابتداءِ وما قبلَه الخبرُ، أو فاعلٌ بالجارِّ لاعتمادِه على حرفِ النفي» وكأنه [وَهِمَ في التلاوةِ، فزعَم أنَّ القرآنَ: وما لبشَرٍ أَنْ يُكَلِّمه] مع أنَّه يمكنُ الجوابُ عنه بتكلُّفٍ. و «إلاَّ وَحْياً» يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً أي: إلاَّ كلامَ وَحْيٍ. وقال أبو البقاء: «استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ الوَحْيَ ليس من جنس الكلام» وفيه نظرٌ لأنَّ ظاهرَه أنه مُفرَّغٌ، والمفرَّغُ لا يُوْصَفُ بذلك. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال. قوله: «أو يُرْسِل» قرأ نافعٌ «يُرْسِلُ» برفع اللامِ، وكذلك «فيوحِيْ» فسَكَنَتْ ياؤُه. والباقون بنصبهما. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجهٍ، أحدها: أنَّه رفعٌ على إضمارِ مبتدأ أي: أو هو يُرْسِلُ. الثاني: أنه عطفٌ على «وَحْياً» على أنَّه حالٌ؛ لأنَّ وَحْياً في تقديرِ الحال أيضاً، فكأنه قال: إلاَّ مُوْحِياً أو مرسِلاً. الثالث: أَنْ يُعْطَفَ على ما يتعلَّقُ به «من وراءه» ، إذ تقديرُه: أو يُسْمِعُ مِنْ وراءِ حجاب، و «وَحْياً» في موضعِ الحال، عُطِف عليه ذلك المقدَّرُ المعطوفُ عليه «أَوْ يُرْسِلُ» . والتقدير: إلاَّ مُوْحِياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجابٍ، أو مُرْسِلاً. وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يُعْطَفَ على المضمرِ الذي

يتعلَّقُ به {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} إذ تقديرُه: أو يُكَلِّمه مِنْ وراءِ حجابٍ. وهذا الفعلُ المقدَّر معطوفٌ على «وَحْياً» والمعنى: إلاَّ بوَحْي أو إسماعٍ مِنْ وراءِ حجاب أو إرسالِ رسولٍ. ولا يجوزُ أَنْ يُعَطفَ على «يكلِّمَه» لفسادِ المعنى. قلت: إذ يَصيرُ التقديرُ: وما كان لبشَرٍ أن يُرْسِلَ اللَّهُ رسولاً، فَيَفْسُدُ لَفْظاً ومعنى. وقال مكي: «لأنَّه يَلْزَم منه نَفْيُ الرسلِ ونفيُ المُرْسَلِ إليهم» . الثاني: أَنْ يُنْصَبَ ب «أنْ» مضمرةً، وتكونَ هي وما نَصَبَتْه معطوفَيْن على «وَحْياً» و «وَحْياً» حالٌ، فيكونَ هنا أيضاً [حالاً: والتقدير: إلاَّ مُوْحِياً أو مُرْسِلاً] . وقال الزمخشري: «وَحْياً وأَنْ يُرْسِلَ مصدران واقعان موقعَ الحال؛ لأنَّ أَنْ يُرْسِلَ في معنى إرسالاً. و {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} ظرفٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أيضاً، كقوله: {وعلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] . والتقدير: وما صَحَّ أَنْ يُكَلَّم أحداً إلاَّ مُوْحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجاب أو مُرسِلاً» . وقد رَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّ وقوعَ المصدرِ موقعَ الحالِ غيرُ منقاسٍ، وإنما قاسَ منه المبردُ ما كان نوعاً للفعلِ فيجوزُ: «أتيتُه رَكْضاً» ويمنعُ «أَتَيْتُه بكاءً» أي: باكياً. وبأنَّ «أَنْ يُرْسِلَ» لا يقعُ حالاً لنصِّ سيبويه على أنَّ «أَنْ» والفعلَ لا يَقَعُ حالاً، وإن كان المصدرُ الصريحُ يقع حالاً تقولُ: «جاء زيد ضَحِكاً» ، ولا يجوز «جاء أَنْ يضحكَ» .

الثالث: أنَّه عطفٌ على معنى «وَحْياً» فإنَّه مصدرٌ مقدَّرٌ ب «أنْ» والفعلِ. والتقديرُ: إلاَّ بأَنْ يوحيَ إليه أو بأَنْ يُرْسِلَ، ذكره مكي وأبو البقاء. وقوله: {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} العامَّةُ على الإِفراد. وابنُ أبي عبلةَ «حُجُبٍ» جمعاً. وهذا الجارُّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه: أو يُكَلِّمَه مِنْ وراء حجاب. وقد تقدَّم أن هذا الفعلَ معطوفٌ على معنى وَحْياً أي: إلاَّ أَنْ يوحيَ أو يكلِّمَه. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّق» مِنْ «ب» يُكَلِّمَه «الموجودةِ في اللفظِ؛ لأنَّ ما قبل الاستثناءِ لا يعملُ فيما بعد إلاَّ» ، ثم قال: «وقيل:» مِنْ «متعلِّقةٌ ب» يُكلِّمه «لأنه ظرفٌ، والظرفُ يُتَّسَعُ فيه» .

52

قوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب} : «ما» الأولى نافيةٌ، والثانيةُ استفهاميةٌ. والجملةُ الاستفهامية معلِّقَةٌ للدِّراية فهي في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْنِ. والجملةُ المنفيةُ بأَسْرِها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في «إليك» . قوله: «جَعَلْنَاه» الضميرُ يعودُ: إمَّا ل «رُوْحاً» وإمَّا ل «الكتاب» وإمَّا لهما؛ لأنَّهما مَقْصَدٌ واحدٌ فهو كقولِه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . وقرأ ابن حوشب «لتُهْدَى» مبنياً للمفعول. وابن السَّمَيْفَع «لتُهْدي» بضم التاء وكسر الدال مِنْ أهْدَى.

قوله: «نَهْدِي» يجوز أَنْ يكونَ مُسْتأنفاً، وأن يكونَ مفعولاً مكرَّراً للجَعْل، وأَنْ يكونَ صفةً ل «نُوْراً» .

53

قوله: {صِرَاطِ الله} : بدلٌ مِنْ «صراطٍ» قبلَه بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، معرفةٍ مِنْ نكرة. والله أعلم.

الزخرف

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {والكتاب} : إنْ جَعَلْتَ «حم» قَسَماً كانت الواوُ عاطفةً وإنْ لم، كانت الواو للقسم، وقد تقدَّم تحريرُ هذا.

3

قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} : جوابُ القَسَم، وهذا عندهم من البلاغةِ: وهو كونُ القَسَمِ والمُقْسَمِ عليه مِنْ وادٍ واحد. كقول أبي تمام: 3980 - وثناياك إنها إغريضُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إنْ أُرِيد بالكتابِ القرآنُ، وإنْ أُريد به جنسُ الكتبِ المنزَّلةِ غيرِ القرآنِ لم يكنْ مِنْ ذلك. والضميرُ في «جَعَلْناه» على الأولِ يعودُ على الكتاب. وعلى الثاني للقرآنِ، وإنْ لم يُصَرَّحْ بذِكْرِه. والجَعْلُ هنا تصييرٌ. ولا يُلْتَفَتُ لخطأ الزمخشريِّ في تجويزه أَنْ يكونَ بمعنى: خَلَقْناه.

4

قوله: {في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا} : يتعلَّقان بما بعدهما. ولا تَمْنَعُ اللامُ من ذلك. ويجوز أَنْ يكونا حالَيْنِ ممَّا بعدهما لأنَّهما كانا وصفَيْن له في الأصل فيتعلَّقان بمحذوفٍ. ويجوزُ أَنْ [يكون] «لدينا» متعلِّقاً بما تعلَّق به الجارُّ قبله إذا جَعَلْناه حالاً مِنْ «لَعَلِيٌّ» ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستترِ فيه، وكذا يجوزُ في الجارِّ أَنْ يتعلَّقَ بما تَعَلَّق/ به الظرفُ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ ضميرِه عند مَنْ يُجَوِّزُ تقديمَها على العاملِ المعنويِّ. ويجوزُ أَنْ يكونَ الظرفُ بدلاً من الجارِّ قبلَه، وأَنْ يكونا حالَيْنِ من «الكتاب» أو من «أُمِّ» ، ذَكَرَ هذه الأوجهَ الثلاثةَ أبو البقاء. وقال: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ واحدٌ من الظرفين خبراً؛ لأنَّ الخبرَ لَزِمَ أَنْ يكونَ» عَليٌّ «من أجلِ اللامِ» . قلت: وهذا يَمْنَعُ أَنْ تقولَ: إن زيداً كاتبٌ لَشاعرٌ؛ لأنه مَنَع أَنْ يكونَ غيرُ المقترنِ بها خبراً.

5

قوله: {صَفْحاً} : فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه مصدرٌ في معنى يَضْرِب؛ لأنه يُقال: ضَرَبَ عن كذا وأَضْرَبَ عنه، بمعنى أعرض عنه، وصَرَف وجهَه عنه. قال: 3981 - اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها ... ضَرْبَك بالسيفِ قَوْنَسَ الفرسِ والتقديرُ: أَفَنَصْفَحُ عنكم الذِّكْرَ أي: أفَنُزِيْلُ القرآنَ عنكم إزالةً، يُنْكِرُ عليهم ذلك. الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ من الفاعل أي: صافِحين. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ، فيكونَ عاملُه

محذوفاً، نحو: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] قاله ابنُ عطية. الرابع: أن يكونَ مفعولاً من أجله. الخامس: أَنْ يكونَ منصوباً على الظرف. قال الزمخشري: «وصَفْحاً على وجهَيْن: إمَّا مصدرٍ مِنْ صَفَح عنه إذا أَعْرَضَ عنه، منتصبٍ على أنَّه مفعولٌ له على معنى: أَفَنَعْزِلُ عنكم إنْزالَ القرآنِ وإلزامَ الحجةِ به إعراضاً عنكم. وإمَّا بمعنى الجانبِ مِنْ قولِهم: نَظَرَ إليه بصَفْحِ وَجْهِه. وصَفْحُ وَجْهِه بمعنى: أفَنُنَحِّيه عنكم جانباً، فينتصبُ على الظرف نحو: ضَعْه جانباً وامْشِ جانباً. وتَعْضُدُه قراءةُ» صُفْحاً «بالضم» . قلت: يشيرُ إلى قراءةِ حسان ابن عبد الرحمن الضبعي وسميط بن عمير وشبيل بن عزرة قَرؤوا «صُفْحاً» بضم الصاد. وفيها احتمالان، أحدهما: ما ذكره مِنْ كونِه لغةً في المفتوحِ ويكونُ ظرفاً. وظاهرُ عبارةِ أبي البقاء أنَّه يجوزُ فيه جميعُ ما جاز في المفتوح؛ لأنه جَعَله لغةً فيه كالسُّد والسَّد. والثاني: أنه جمعُ صَفُوح نحو: صَبور وصُبُر. فينتصبُ حالاً مِنْ فاعل نَضْرِب. وقَدَّر الزمخشري على عادته فِعْلاً بين الهمزةِ والفاءِ أي: أنُهمِلُكم فَنَضْرِب. وقد عَرَفْتَ ما فيه غيرَ مرةٍ.

قوله: «أنْ كُنتم» قرأ نافعٌ والأخَوان بالكسر على أنها شرطيةٌ، وإسرافُهم كان متحققاً، و «إنْ» إنما تدخلُ على غير المتحقِّق، أو المتحقِّقِ المبهم الزمانِ. وأجاب الزمخشريُّ: «أنَّه من الشرط الذي يَصْدُر عن المُدِلِّ بصحةِ الأمرِ والتحقيق لثبوتِه، كقول الأجير:» إنْ كنتُ عَمِلْتُ لك عملاً فَوَفِّني حقي «وهو عالمٌ بذلك، ولكنه يُخَيَّلُ في كلامِه أَنَّ تفريطَك في إيصالِ حقي فِعْلُ مَنْ له شكٌّ في استحقاقِه إياه تجهيلاً له» . وقيل: المعنى على المجازاةِ والمعنى: أفنضرِبُ عنكم الذِّكر صَفْحاً متى أَسْرَفتم أي: إنكم غيرُ متروكين من الإِنذار متى كنتم قوماً مُسْرفين. وهذا أراد أبو البقاء بقولِه: «وقرئ إنْ بكسرِها على الشرط، وما تقدَّم يدلُّ على الجواب» . والباقون بالفتحِ على العلَّة أي: لأَنْ كنتم، كقول الشاعر: 3982 - أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخليطُ المُوَدَّعُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومثله: 3983 - أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّتا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يُرْوَى بالكسر والفتح، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا أول المائدة، وقرأ زيد بن علي «إذ» بذالٍ عوضَ النونِ، وفيها معنى العلَّة.

6

قوله: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا} : «كم» خبريةٌ مفعولٌ مقدم. و «من نبيّ» تمييزٌ. و «في الأوَّلين» يتعلَّقُ بالإِرسالِ أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل نبي.

8

قوله: {بَطْشاً} : فيه وجهان، أحدهما: أنه تمييزٌ ل «أشدَّ» . والثاني: أنه حالٌ مِن الفاعل أي: أهلكناهم باطِشين.

9

قوله: {خَلَقَهُنَّ العزيز} : كرَّرَ الفعلَ للتوكيد؛ إذ لو جاء «العزيزُ» بغير «خَلَقَهُنَّ» لكان كافياً، كقولِك مَنْ قام؟ فيقال: زيد. وفيها دليلٌ على أنَّ الجلالةَ الكريمةَ مِنْ قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] مرفوعةٌ بالفاعلية لا بالابتداء للتصريح بالفعل في نظيرتِها. وهذا الجوابُ مطابقٌ للسؤالِ من حيث المعنى، إذ لو جاء على اللفظِ لجيْءَ/ فيه بجملةٍ ابتدائيةٍ كالسؤال.

11

قوله: {بَلْدَةً مَّيْتاً} : قرأه العامَّةُ مخفَّفاً. وعيسى وأبو جعفر مثقلاً. وقد تقدَّم الكلامُ فيه في آل عمران. وتقدَّم في الأعراف الخلافُ في تُخْرَجُون وتَخْرُجُون.

12

قوله: {مَا تَرْكَبُونَ} : «ما» موصولةٌ. وعائدُها محذوفٌ أي: ما تَرْكَبونه. و «ركب» بالنسبة إلى الفُلْك يتعدَّى بحرف الجر {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك} [العنكبوت: 65] وفي غيرِه بنفسه قال: {لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] فغلَّبَ هنا المتعديَ بنفسه على المتعدي بواسِطة فلذلك حَذَفَ العائدَ.

13

قوله: {لِتَسْتَوُواْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ هذه لامَ العلة وهو الظاهرُ، وأن تكونَ للصيرورة، فتُعَلَّقَ في كليهما ب «جَعَل» . وجَوَّز ابنُ عطيةَ أَنْ تكونَ للأمر، وفيه بُعْدٌ لقلَّة دخولها على أمر المخاطب. قُرِئ شاذاً «فَلْتَفْرحوا» وفي الحديث: «لِتَأْخُذوا مصافَّكم» وقال: 3984 - لِتَقُمْ أنت يا بنَ خيرِ قُرَيْشٍ ... فَتُقَضَّى حوائجُ المُسْلمينا نصَّ النحويون على قلِتَّها، ما عدا أبا القاسِم الزجاجيَّ فإنه جَعَلها لغةً جيدة. قوله: «على ظُهورِه» الضميرُ يعودُ على لفظِ «ما تَرْكَبون» ، فَجَمَعَ الظهورَ باعتبارِ معناها، وأفرد الضميرَ باعتبار لفظِها.

قوله: «له مُقْرِنين» «له» متعلق ب «مُقْرِنين» قُدِّمَ للفواصل. والمُقْرِنُ: المُطيق للشيء الضابطُ له، مِنْ أَقْرنه أي: أطاقه. والقَرَن الحَبْلُ. قال ابن هَرْمة: 3985 - وأَقْرَنْتُ ما حَمَّلْتِني ولَقَلَّما ... يُطاق احتمالُ الصَّدِّ يا دعدُ والهَجْرِ وقال عمرو بن معد يكرب: 3986 - لقد عَلِمَ القبائلُ ما عُقَيْلٌ ... لنا في النائباتِ بمُقْرِنينا وحقيقة أَقْرَنَه: وجده قَرينَه، لأنَّ الصعب لا يكون قرينَةَ الضعيفِ. قال: 3987 - وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ وقُرِئ «مُقْتَرنين» بالتاء قبل الراء.

15

قوله: {جُزْءًا} : مفعولٌ أولُ للجَعْل، والجَعْلُ تصييرٌ قوليٌّ. ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى: سَمَّوا واعتقدوا. وأغربُ ما قيل هنا أنَّ الجُزْء الأنثى. وأنشَدوا:

3988 - إنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يوماً فلا عَجَبٌ ... قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكارُ أحياناً وقال آخر: 3989 - زُوِّجْتُها مِنْ بنات الأَوْسِ مُجْزِئَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قال الزمخشري: «وأثرُ الصنعةِ فيهما ظاهرٌ» .

16

قوله: {وَأَصْفَاكُم} : يجوزُ أَنْ يكون داخلاً في حَيِّزِ الإِنكار معطوفاً على اتَّخذ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: أم اتَّخذ في هذه الحالةِ و «قد» مقدرةٌ عند الجمهور. وقد تقدَّم نظيرُ:

17

قَوْلِه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم} . وقرئ هنا «وجهُه مُسْوَدٌّ» برفع «مُسْوَدٌّ» على أنها جملةٌ في موضعِ خبرِ «ظَلَّ» . واسمُ «ظَلَّ» ضميرُ الشأن.

18

قوله: {أَوَمَن يُنَشَّأُ} : يجوزُ في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً بفعلٍ مقدر أي: أو يجعلون مَنْ يُنَشَّأُ في الحِلْية. والثاني: أنه مبتدأ وخبرُه محذوفٌ، تقديره: أو من يُنَشَّأ جزءٌ

أو ولدٌ؛ إذ جعلوه لله جزءاً. وقرأ العامَّةُ «يَنْشَأ» بفتح الياء وسكون النون مِنْ نَشَأَ في كذا يَنْشأ فيه. والأخوان وحفص بضم الياء وفتحِ النون وتشديدِ الشينِ مبنياً للمفعولِ أي: يُرَبَّى. وقرأ الجحدريُّ كذلك، إلاَّ أنَّه خَفَّف الشينَ، أَخَذَه مِنْ أنشأه. والحسن «يُناشَأُ» ك يُقاتَل مبنياً للمفعول. والمفاعَلَةُ تأتي بمعنى الإِفعال كالمُعالاة بمعنى الإِعلاء. قوله: {وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} الجملةُ حال. و «في الخصام» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه ما بعده. تقديره: وهو لا يَبين في الخصام. ويجوز أَنْ يتعلَّق ب «مُبين» وجاز للمضافِ إليه أن يعملَ فيما قبل المضافِ؛ لأن «غيرَ» بمعنى «لا» . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في آخر الفاتحة وما أنشدْتُه عليه وما في المسألةِ من الخلاف.

19

قوله: {عِبَادُ الرحمن} : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر «عند الرحمن» ظرفاً. والباقون «عبادَ» جمع عَبْد، والرسمُ يحتملهما. وقرأ الأعمش كذلك إلاَّ أنه نصبَ «عبادَ» على إضمارِ فعلٍ: الذين هم خُلِقوا عباداً ونحوِه. وقرأ عبدُ الله وكذلك هي في مصحفه «الملائكةَ عبادَ الرحمن» . وأُبَيٌّ وعبد الرحمن/ بالإِفراد. و «إناثاً» هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقادِ أو التصيير القولي. وقرأ زيدُ بنُ علي «أُنُثا» جمعَ الجمع.

قوله: «أشَهِدُوا» قرأ نافعٌ بهمزةٍ مفتوحة، ثم بأخرى مضمومةٍ مُسَهلةٍ بينها وبين الواو وسكونِ الشينِ. وقرأ قالون بالمدِّ يعني بإدخال ألفٍ بين الهمزتين والقصرِ، يعني بعدمِ الألف. والباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة. فنافع أدخل همزةَ التوبيخ على أُشْهِدوا [فعلاً] رباعياً مبنيَّاً للمفعول، فسَهَّلَ همزتَه الثانيةَ، وأدخل ألفاً بينهما كراهةً لاجتماعهما، وتارة لم يُدْخِلْها، اكتفاءً بتسهيل الثانية، وهي أوجهُ. والباقون أدخلوا همزةَ الإِنكار على «شهدوا» ثلاثياً، والشهادةُ هنا الحضورُ. ولم يَنْقُلِ الشيخُ عن نافع تسهيلَ الثانيةِ بل نَقَله عن علي بن أبي طالب. وقرأ الزهريُّ «أُشْهِدُوا» رباعياً مبنياً للمفعول. وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ لدلالةِ القراءةِ الأخرى، كما تقدَّم في قراءةِ «أعجميٌّ» . والثاني: أَنْ تكونَ الجملةُ خبريةً وقعَتْ صفةً ل «إناثاً» أي: أجعلوهم إناثاً مَشْهوداً خَلْقُهم كذلك؟ قوله: «سَتُكْتَبُ شهادتُهم» قرأ العامَّةُ «سَتُكْتَبُ» بالتاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول، «شهادتُهم» بالرفع لقيامه مَقامَ الفاعل. وقرأ الحسن «شهاداتُهم» بالجمع، والزهري: «سَيَكتب» بالياء مِنْ تحت وهو في الباقي كالعامَّة. وابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوةَ «سنكتبُ» بالنون للعظمة، «شهادتَهم» بالنصب مفعولاً به.

22

قوله: {على أُمَّةٍ} : العامَّةُ على ضم الهمزة، بمعنى الطريقة والدين. قال قيس بن الخطيم: 3990 - كُنَّا على أمةِ آبائِنا ... ويَقْتدي بالأولِ الآخِرُ أي: على طريقتهم. وقال آخر: 3991 - وهل يَسْتوي ذو أُمَّةٍ وكَفورُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: ذو دين. وقرأ مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز بالكسر قال الجوهري: «هي الطريقةُ الحسنةُ لغةً في أُمَّة بالضم» . وابن عباس بالفتح، وهي المَرَّةُ من الأَمّ، والمرادُ بها القصدُ والحال.

24

قوله: {قال} : قرأ ابن عامر وحفصٌ «قال» ماضياً مكان «قل» أمراً أي: قال النذير، أو الرسول وهو النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. والأمر في «قل» يجوز أَنْ يكونَ للنذير أو للرسول وهو الظاهر. وقرأ أبو جعفر وشيبة «جِئْناكم» بنون المتكلمين.

26

قوله: {بَرَآءٌ} : العامَّةُ على فتحِ الباءِ وألفٍ وهمزةٍ بعد

الراء. وهو مصدرٌ في الأصل وقع موقعَ الصفةِ وهي بَريْء، وبها قرأ الأعمش ولا يُثَنَّى «براء» ولا يُجْمع ولا يُؤَنث كالمصادر في الغالب. والزعفراني وابن المنادي عن نافع بضم الباء بزنة طُوال وكُرام. يقال: طَويل وطُوال وبَريء وبُراء. وقرأ الأعمش «إنِّي» بنونٍ واحدة.

27

قوله: {إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّهم كانوا عبدةَ أصنامٍ فقط. والثاني: أنه متصلٌ؛ لأنه رُوِي أنهم كانوا يُشْرِكون مع الباري غيرَه. الثالث: أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ «ما» الموصولة في قولِه: «ممَّا تعبدُون» قاله الزمخشريُّ. ورَدَّه الشيخ: بأنه لا يجوزُ إلاَّ في نفيٍ أو شبهه قال: «وغَرَّه كونُ براء في معنى النفي، ولا ينفعه ذلك لأنه موجَبٌ» . قلت: قد تأوَّل النحاةُ ذلك في مواضعَ من القرآن كقولِه تعالى: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ} [التوبة: 32] {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] والاستثناء المفرغُ لا يكونُ في إيجاب، ولكن لَمَّا كان «يأبى» بمعنى: لا يفعلُ، وإنها لكبيرة بمعنى: لا تَسْهُلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك، فهذا مثلُه.

الرابع: أَنْ تكونَ «إلاَّ» صفةً بمعنى «غير» على أن تكونَ «ما» نكرةً موصوفةً، قاله الزمخشريُّ قال الشيخ: «وإنما أخرجها في هذا الوجهِ عن كونِها موصولةً؛ لأنَّه يرى أنَّ» إلاَّ «بمعنى» غير «لا يُوْصَفُ بها إلاَّ النكرة» وفيها خلافٌ. فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» موصولةً و «إلاَّ» بمعنى «غير» صفةً لها.

28

قوله: {وَجَعَلَهَا} : الضميرُ المرفوعُ لإِبراهيمَ عليه السلام - وهو الظاهرُ - أو لله. والمنصوبُ لكلمة التوحيد المفهومةِ مِنْ قولِه: «إنني بَراءٌ» إلى آخره، أو لأنَّها بمنزلةِ الكلمة، فعاد الضمير على ذلك اللفظِ لأجل المَعْنِيِّ به. وقرئ «في عَقْبِه» بسكون القافِ. وقُرِئ «في عاقِبه» أي: وارِثه. وحميد بن قيس «كلمة» بكسر الكاف وسكون اللام.

29

والجمهورُ على «مَتَّعْتُ» بتاء المتكلم. وقتادةُ/ والأعمشُ بفتحِها للمخاطبِ، خاطبَ إبراهيمُ أو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم ربَّه تعالى بذلك. وبها قرأ نافعٌ في روايةِ يعقوبَ. والأعمشُ أيضاً «بل مَتَّعْنا» بنون العظمة.

31

قوله: {مِّنَ القريتين} : فيه حَذْفُ مضافٍ فقدَّره بعضُهم: من رَجُلَيْ القريَتَيْن. وقيل: من إحدى القريَتَيْن. والرجلان: الوليد ابن المغيرة وكان بمكة، وعروة بن مسعود الثقفي، وكان بالطائف. وقيل: كان يتردَّدُ بين القريتين فنُسب إلى كلتيهما. وقُرئ «رَجْل» بسكون العين وهي تميمةٌ. وقد مضى الكلامُ في «سُخْرِيَّا» في المؤمنين. وقرأ بالكسر هنا عمرو بن ميمون وابن محيصن وأبو رجاء وابن أبي ليلى والوليد بن مسلم وخلائق، بمعنى المشهورة، وهو الاستخدام. ويَبْعُدُ قولُ بعضِهم: إنه استهزاء الغني بالفقير.

33

قوله: {لِبُيُوتِهِمْ} : بدلُ اشتمالٍ بإعادةِ العاملِ. واللامان للاختصاص. وقال ابنُ عطية: الأُوْلى للمِلْك، والثانية للتخصيص. ورَدَّه الشيخ: بأنَّ الثاني بدلٌ فيُشترط أَنْ يكونَ الحرفُ متحدَ المعنى لا مختلفَه. وقال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونا بمنزلة اللامَيْن في قولك:» وَهَبْتُ له ثوباً لقميصِه «. قال الشيخ» ولا أدري ما أراد بقولِه هذا «؟ قلت:

أراد بذلك أن اللامَيْن للعلة أي: كانت الهِبَةُ لأجلك لأجلِ قميصِك، ف» لقميصك «بدلُ اشتمالٍ بإعادة العاملِ بعينه، وقد نُقِلَ أنَّ قولَه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [الأنعام: 84] أنها للعلة. قوله:» سُقُفا «قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين وسكون القاف بالإِفراد على إرادةِ الجنسِ. والباقون بضمتين على الجمعِ كرُهُن في جمع رَهْن. وفي» رُهُن «تأويلٌ لا يمكنُ هنا: وهو أَنْ يكونَ جَمْعَ» رِهان «جَمْعَ رَهْن؛ لأنه لم يُسْمَعْ سِقاف جمع سَقْف. وعن الفراء أنه جمع سقيفة فيكون كصحيفة وصُحُف. وقُرئ» سَقَفاً «بفتحتين لغةً في سَقْف، وسُقوفاً بزنة فَلْس وفُلوس. وأبو رجاء بضمة وسكون. و» مِنْ فِضَّة «يجوز أن يتعلَّق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف صفة لسُقُف. وقرأ العامَّة» معارِجَ «جمع مَعْرَج وهو السُّلَّم. وطلحة» معاريج «جمع مِعْراج، وهذا كمفاتِح لمَفْتَح، ومفاتيح لمفتاح.

34

قوله: {وَسُرُراً} : جمع سَرير. والعامَّةُ على ضم الراء. وقُرئ بفتحها وهي لغةُ بعض تميم وكلب. وقد تقدَّم أنَّ فعيلاً المضعَّفَ تفتحُ عينُه إذا كان اسماً أو صفةً نحو: ثوب جَديد وثياب جُدَد، وفيه كلامٌ للنحاة. وهل قوله: «مِنْ فضة» شاملٌ للمعارج والأبواب والسُّرُر؟ فقال

الزمخشري: نعم، كأنه يرى تشريكَ المعطوف مع المعطوف عليه في قيودِه. و «عليها يَتَّكئون» و «عليها يَظْهَرون» صفتان لِما قَبْلَهما.

35

قوله: {وَزُخْرُفاً} : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب جَعَلَ أي: وجَعَلْنا لهم زخرفا. وجوَّز الزمخشري أن ينتصبَ عطفاً على محلِّ «مِنْ فضة» كأنه قيل: سُقُفاً من فضةٍ وذَهَبٍ أي: بعضُها كذا، وبعضها كذا. وقد تقدَّم الخلافُ في «لَمَّا» تخفيفاً وتشديداً في سورة هود، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوةَ «لِما» بكسر اللام على أنها لامُ العلةِ دَخَلَتْ على «ما» الموصولة وحُذِفَ عائدُها، وإنْ لم تَطُل الصلةُ. والأصل: الذي هو متاعٌ كقولِه: {تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] برفع النون. و «إنْ» هي المخففةُ من الثقيلة، و «كل» مبتدأ، والجارُّ بعده خبرُه أي: وإن كل ما تقدَّم ذِكْرُه كائن للذي هو متاعُ الحياة، وكان الوجهُ أن تدخُلَ اللامُ الفارقة لعدم إعمالِها، إلاَّ أنَّها لما دَلَّ الدليلُ على الإِثباتِ جاز حَذْفُها كما حَذَفها الشاعرُ في قوله: 3992 - أنا ابنُ أباةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مالكٍ ... وإنْ مالكٌ كانَتْ كرامَ المعادنِ

36

قوله: {وَمَن يَعْشُ} : العامَّة على ضم الشين مِن عشا يعشو أي: يتعامى ويتجاهل. وقتادة ويحيى بن سلام «يَعْشَ» بفتحها

بمعنى يَعْمَ. وزيد بن علي «يَعْشو» بإثبات الواو. قال الزمخشري: «على أنّ» مَنْ «موصولة وحَقُّ هذا أن يقرأَ نقيضُ بالرفع» . قال الشيخ: «ولا تتعيَّنُ موصوليتُها بل تُخَرَّج على وجهين: إمَّا تقديرِ حذفِ حركةِ حرفِ العِلة، وقد حكاها الأخفش لغةً، وتقدَّم منه في سورةِ يوسفَ شواهدُ، وإمَّا على أنه جزمٌ ب» مَنْ «الموصولة تشبيهاً لها ب» مَنْ «الشرطيةِ» . قال: «وإذا كانوا قد جَزَموا ب» الذي «، وليس بشرطٍ قط فأَوْلَى بما اسْتُعْمِلَ شرطاً وغيرَ شرطٍ. وأنشد: 3993 - ولا تَحْفِرَنْ بِئْراً تُريد أخاً بها ... فإنّك فيها أنت مِنْ دونِه تقَعْ كذاكَ الذي يَبْغي على الناسِ ظالماً ... يُصِبْه على رَغْمٍ عواقبُ ما صَنَعْ /قال:» وهو مذهبُ الكوفيين، وله وَجْهٌ من القياسِ: وهو أنَّ «الذي» أَشْبَهَتْ اسمَ الشرطِ في دخولِ الفاءِ في خبرِها، فتُشْبِهُ اسمَ الشرطِ في الجزم أيضاً. إلاَّ أنَّ دخولَ الفاءِ منقاسٌ بشرطِه، وهذا لا ينقاسُ «. ويقال: عَشا يَعْشُو، وعَشِي يَعْشَى. فبعضُهم جعلهما بمعنىً، وبعضُهم فَرَّقَ: بأنَّ عَشِيَ يَعْشَى إذا حَصَلَتْ الآفَةُ من بَصَرَه، وأصلُه الواوُ وإنما قُلِبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها كرضِيَ يَرْضى وعَشَا يَعْشُو أي: تفاعَل ذلك. ونَظَرَ نَظَرَ

العَشِي ولا آفَةَ ببصرِه، كما قالوا: عَرَجَ لمَنْ به آفةُ العَرَجِ، وعَرُجَ لمَنْ تعارَجَ، ومَشَى مِشْيَةَ العُرْجان. قال الشاعر: 3994 - أَعْشُو إذا ما جارتي بَرَزَتْ ... حتى يُوارِيْ جارتي الخِدْرُ أي: أنظرُ نَظَرَ الَعَشِي. وقال آخر: 3995 - متى تَأْتِه تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نارِه ... تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ أي: تَنْظُرُ نَظَرَ العشِي لضَعْفِ بصرِه مِنْ كثرةِ الوَقودِ. وفَرَّق بعضُهم: بأنَّ عَشَوْتُ إلى النارِ إذا اسْتَدْلَلْتَ عليها بنظرٍ ضعيفٍ وقيل: وقال الفراء:» عَشا يَعْشى يُعْرِض، وعَشِي يَعْشَى عَمِيَ «. إلاَّ أنَّ ابن قتيبة قال:» لم نَرَ أحداً حكى عَشَوْتُ عن الشيء: أَعْرَضْتُ عنه، وإنما يقال: تعاشَيْتُ عن كذا إذا تغافَلْتَ عنه وتعامَيْتَ «. وقرأ العامَّةُ» نُقَيِّضْ «بنونِ العظمةِ. وعلي بن أبي طالب والأعمش ويعقوبُ والسلميُّ وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ عنهما» يُقَيِّضْ «بالياء من تحت

أي: يُقَيِّض الرحمنُ. و» شيطاناً «نصبٌ في القراءتين. وابن عباس» يُقَيَّضْ «مبنياً للمفعول،» شيطانٌ «بالرفع، قائمٌ مقامَ الفاعلِ.

37

قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} : الظاهرُ أنَّ ضميرَيْ النصبِ عائدان على «مَنْ» مِنْ حيث معناها، راعى لفظَها أولاً فأفردَ في «له» و «له» ، ثم راعى معناها، فجَمع في قولِه: «وإنَّهم ليَصُدُّوْنَهم» . والضميرُ المرفوعُ على الشيطان؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ، ولأنَّ كلَّ كافرٍ معه قَرِيْنٌ. وقال ابن عطية: «إنَّ الضميرَ الأولَ للشياطين، والثاني للكفار. التقدير: وإنَّ الشياطين ليَصُدُّوْنَ الكفارَ العابثين» .

38

قوله: {إِذَا جَآءَنَا} : قرأ أبو عمروٍ والأخوان وحفصٌ «جاءنا» بإسنادِ الفعلِ إلى ضميرٍ مفردٍ يعودُ على لفظ «مَنْ» وهو العاشي، وحينئذٍ يكونُ هذا ممَّا حُمِل فيه على اللفظ ثم على المعنى، ثم على اللفظ، فإنَّه حُمِلَ أولاً على لفظِها في قوله: «نُقَيِّضْ له» «فهو له» ، ثم جُمِع على معناها في قوله: «وإنَّهم ليَصُدُّونهم» و «يَحْسَبون أنهم» ، ثم رَجَعَ إلى لفظِها في قوله: «جاءنا» ، والباقون «جاءانا» مُسْنداً إلى ضميرِ تثنيةٍ، وهما العاشي وقَرينُه. قوله: «بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ» قيل: أراد المشرقَ والمغربَ، فغلَّبَ كالعُمَرَيْن والقَمَرَيْن. وقيل: أراد بمَشْرِقَيْ الشمسِ مَشْرِقَها في أقصرِ يومٍ ومَشْرِقَها في أطولِ يومٍ. وقيل: بُعْدَ المَشْرِقَيْن من المَغْرِبَيْن.

قوله: «فبِئْسَ القَرينُ» مخصوصُه محذوفٌ أي: أنت.

39

قوله: {وَلَن يَنفَعَكُمُ} : في فاعلِه قولان، أحدهما: أنه ملفوظٌ به، وهو «أنَّكم» وما في حَيِّزِها. التقدير: ولن يَنْفَعَكم اشتراكُكم في العذاب بالتأسِّي، كما يَنْفَعُ الاشتراكُ في مصائب الدنيا فيتأسَّى المُصاب بمثلِه. ومنه قولُ الخنساء: 3996 - ولولا كَثْرَةُ الباكِيْنَ حَوْلي ... على إخوانِهم لقَتَلْتُ نَفْسي وما يَبْكُون مثلَ أخي ولكنْ ... أُعَزِّي النفسَ عنه بالتأسِّي والثاني: أنّه مضمرٌ. فقدَّره بعضُهم ضميرَ التمنِّي المدلولَ عليه بقوله: {ياليت بَيْنِي} أي: لن يَنْفَعكم تَمَنِّيْكم البُعْدَ. وبعضُهم: لن ينفَعَكم اجتماعُكم. وبعضُهم: ظُلْمُكم وجَحْدُكم. وعبارةُ مَنْ عَبَّر بأنَّ الفاعلَ محذوفٌ مقصودُه الإِضمارُ المذكورُ لا الحذفُ؛ إذ الفاعلُ لا يُحْذَفُ إلاَّ في مواضعَ ليس هذا منها، وعلى هذا الوجهِ يكونُ قوله: «أنَّكم» تعليلاً أي: لأنَّكم، فحذفَ الخافضَ فجرى في مَحَلِّها الخلافُ: أهو نصبٌ أم جرٌّ؟ ويؤيِّد إضمارَ الفاعلِ، لا أنَّه هو «أنَّكم» ، قراءةُ «إنكم» بالكسرِ فإنَّه/ استئنافٌ مفيدٌ للتعليلِ. قوله: «إذْ ظَلَمْتُمْ» قد استشكل المُعْرِبون هذه الآيةَ. ووجهُه: أنَّ قولَه «

اليومَ» ظرفٌ حالِيٌّ، و «إذ» ظرفٌ ماضٍ، و «يَنْفَعَكم» مستقبلٌ؛ لاقترانِه ب «لن» التي لنفي المستقبلِ. والظاهرُ أنه عاملٌ في الظرفَيْن، وكيف يعملُ الحدثُ المستقبلُ الذي لم يقَعْ بعدُ في ظرفٍ حاضرٍ أو ماضٍ؟ هذا ما لا يجوزُ. فأُجيب عن إعماله في الظرفِ الحاليِّ على سبيلِ قُرْبِه منه؛ لأنَّ الحالَ قريبٌ من الاستقبالِ فيجوز في ذلك. قال تعالى: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن} [الجن: 9] وقال الشاعر: 3997 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سَأَسْعَى الآنَ إذ بَلَغَتْ أَناها وهو إقناعيٌّ، وإلاَّ فالمستقبلُ يَسْتحيلُ وقوعُه في الحالِ عقلاً. وأمَّا قولُه: «إذ» ففيها للناسِ أوجهٌ كثيرةٌ. قال ابن جني: «راجَعْتُ أبا عليّ فيها مِراراً فآخرُ ما حَصَّلْت منه: أنَّ الدنيا والآخرةَ متصلتان، وهما سواءٌ في حُكْم اللَّهِ تعالى وعِلْمِه، ف» إذ «بدلٌ من» اليوم «حتى كأنَّه مستقبلٌ أو كأنَّ اليومَ ماضٍ. وإلى هذا نحا الزمخشريُّ قال:» وإذْ بدلٌ من اليوم «وحَمَلَه الزمخشريُّ على معنى: إذْ تبيَّن وصَحَّ ظُلْمُكم، ولم يَبْقَ لأحدٍ ولا لكم شبهةٌ في أنَّكم كنتم ظالمين. ونظيرُه:

3998 - إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: تَبَيَّن أني وَلَدُ كريمةٍ» . وقال الشيخ: «ولا يجوزُ البدلُ ما دامت» إذ «على موضوعِها من المُضِيِّ، فإنْ جُعِلَتْ لمطلقِ الزمانِ جاز» . قلت: لم يُعْهَدْ في «إذ» أنها تكونُ لمطلقِ الزمان، بل هي موضوعةٌ لزمانٍ خاصٍ بالماضي كأَمْسِ. الثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: بعد إذ ظَلَمْتُمْ. الثالث: أنها للتعليلِ. وحينئذٍ تكونُ حرفاً للتعليلِ كاللام. الرابعُ: أنَّ العاملَ في «إذ» هو ذلك الفاعلُ المقدَّرُ لا ضميرُه. والتقدير: ولن ينفعَكم ظلمُكم أو جَحْدُكم إذ ظَلَمْتم. الخامس: أنَّ العاملَ في «إذ» ما دَلَّ عليه المعنى. كأنه قال: ولكن لن ينفعَكم اجتماعُكم إذ ظَلَمْتُمْ. قاله الحوفي، ثم قال: «وفاعلُ» يَنْفَعَكم «الاشتراكُ» انتهى. فظاهرُ هذا متناقضٌ؛ لأنَّه جَعَلَ الفاعلَ أولاً اجتماعَكم، ثم جعلَه آخِراً الاشتراكَ. ومنع أَنْ تكونَ «إذ» بدلاً مِن اليوم لتغايُرِهما في الدلالة. وفي كتاب أبي البقاء «وقيل: إذْ بمعنى» أَنْ «أي: أَنْ ظَلَمْتُم» . ولم يُقَيِّدْها بكونِها أن بالفتح أو الكسر، ولكن قال الشيخ: «وقيل: إذ للتعليلِ حرفاً بمعنى» أَنْ «يعني بالفتح؛ وكأنَّه أراد ما ذكره أبو البقاءِ، إلاَّ أنَّ تَسْمِيَتَه» أنْ «للتعليل مجازٌ، فإنها على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي: لأَنْ، فلمصاحبتِها لها، والاستغناءِ بها عنها سَمَّاها

باسمِها. ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ أنَّها في كتابِ أبي البقاء بالكسرِ على الشرطية؛ لأنَّ معناه بعيدٌ. وقُرِئ» إنكم «بالكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلةِ. وحينئذٍ يكونُ الفاعلُ مضمراً على أحدِ التقادير المذكورة.

41

قوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ} : قد تقدَّم الكلامُ عليه قريباً.

42

وقُرئ «نُرِيَنْكَ» : بالنونِ الخفيفة. والعامَّةُ على {أُوحِيَ} [الزخرف: 43] مبنيًّا للمفعولِ مفتوحَ الياء، وبعضُ قرَّاء الشام سَكَّنها تخفيفاً. والضحاك «أَوْحَى» مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى.

45

قوله: {مَنْ أَرْسَلْنَا} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّ «مَنْ» موصولة، وهي مفعولةٌ للسؤالِ. كأنه قيل: واسأل الذي أرْسَلْناه مِنْ قَبْلِك عَمَّا أُرْسِلوا به، فإنَّهم لم يُرْسَلوا إلاَّ بالتوحيد. الثاني: أنَّه على حَذْفِ حَرْفِ الجرِّ على أنه المسؤولُ عنه. والمسؤولُ الذي هو المفعولُ الأولُ محذوفٌ، تقديرُه: واسْأَلْنا عن مَنْ أَرْسَلْناه. الثالث: أنَّ «مَنْ» استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء، و «أَرْسَلَ» خبرُه. والجملةُ مُعَلِّقَةٌ للسؤالِ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ، وهذا ليس بظاهرٍ، بل الظاهرُ أنَّ المُعَلِّقَ للسؤال إنما هو الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه «أَجَعَلْنا» .

47

قوله: {إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف جازَ أَنْ تُجاب» لَمَّا «ب» إذا «المفاجأة؟ قلت: لأنَّ فِعْلَ المفاجأةِ معها مقدَّرٌ، وهو عاملُ النصبِ في مَحَلِّها، كأنه قيل: فلمَّا جاءهم بآياتنا فاجَؤُوا وقتَ ضَحِكهم» . قال الشيخ: «ولا نعلَمُ نحوَ ما ذهب إلى ما ذَهَب إليه مِنْ أنَّ» إذا «الفجائيةَ تكونُ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ تقديره: فاجأ، بل المذاهبُ ثلاثةٌ: إمَّا حرفٌ فلا تحتاجُ إلى عاملٍ، أو ظرفُ مكانٍ، أو ظرفُ زمانِ. فإنْ ذُكِرَ بعد الاسمِ الواقع بعدها خبرٌ كانت منصوبةً على الظرفِ، والعاملُ فيها ذلك الخبرُ نحوَ:» خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ «تقديره: خرجتُ ففي المكان الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ، أو ففي الوقتِ الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ، وإنْ لم يُذْكَرْ بعد الاسمِ خبرٌ، أو/ ذُكِرَ اسمٌ منصوبٌ على الحالِ: فإنْ كان الاسمُ جثةً وقُلنا: إنها ظرفُ مكانٍ كان الأمرُ واضحاً نحو: خرجْتُ فإذا الأسدُ أي: فبالحضرةِ الأسدُ، أو فإذا الأسدُ رابضاً. وإنْ قلنا: إنها ظرفُ زمانٍ كان على حذفِ مضافٍ لئلا يُخْبَرَ بالزمانِ عن الجثةِ نحو:» خَرَجْتُ فإذا الأسدُ «أي: ففي الزمانِ حضورُ الأسدِ، وإن كان الاسمُ حَدَثاً جازَ أن يكونَ مكاناً أو زماناً. ولا حاجةَ إلى تقديرِ مضافٍ نحو:» خرجْتُ فإذا القتالُ «إنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ فبالحضرة القتالُ، أو ففي الزمانِ القتالُ» . وفيه تلخيصٌ وزيادةٌ كبيرةٌ في الأمثلةِ رأيْتُ تَرْكَها مُخِلاًّ.

48

قوله: {إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ} : جملةٌ واقعةٌ صفةً لقولِه: «مِنْ آية» فيُحْكَمُ على موضِعها بالجَرِّ اعتباراً باللفظِ، وبالنصبِ اعتباراً بالمحلِّ،

وفي معنى قولِه: {أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أوجهٌ، أحدها: - قاله ابنُ عطية - وهو أنهم يَسْتَعْظِمون الآيةَ التي تأتي، لجِدَّةِ أَمْرِها وحُدوثِه؛ لأنهم أَنِسُوا بتلك الآيةِ السابقةِ فيَعْظُم أَمْرُ الثانيةِ ويَكْبرُ، وهذا كما قال: 3999 - على أنَّها تَعْفُو الكُلُوم، وإنما ... نُوَكَّلُ بالأَدْنى وإنْ جَلَّ ما يَمْضي الثاني: ما ذكرَه بعضُهم: مِنْ أنَّ المعنى: إلاَّ هي أكبرُ من أختها السابقةِ، فحذَفَ الصفةَ للعِلْمِ بها. الثالث: قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: هو كلامٌ متناقضٌ؛ لأنَّ معناه: ما مِنْ آيةٍ من التسعِ إلاَّ وهي أكبرُ مِنْ كلِّ واحدةٍ منها، فتكونُ كلُّ واحدةٍ منها فاضلةً ومفضولةً في حالةٍ واحدة. قلت: الغرضُ بهذا الكلامِ وَصْفُهُنَّ بالكبرِ لا يَكَدْنَ يتفاوَتْنَ فيه، وكذلك العادةُ في الأشياء التي تتقارَبُ في الفضلِ التقاربَ اليسيرَ، تختلفُ آراءُ الناس في تفضيلِها، فبعضُهم يفضِّل هذا، وبعضُهم يفضِّل هذا، وربما اختلفَتْ آراءُ الواحدِ فيها، كقول الحماسيِّ:

4000 - مَنْ تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ ... مثلَ النجومِ التي يَهْدِي بها السَّاري وقالت الأنمارية في الجُمْلة من أبنائها: ثَكِلْتُهُمْ إنْ كنتُ أعلمُ أيُّهم أفضلُ، هم كالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لا يُدْرى أين طرفاها» انتهى كلامُه. وأولُه فظيعٌ جداً كأن العباراتِ ضاقَتْ عليه حتى قال ما قال، وإنْ كان جوابُه حَسَناً فسؤالُه فظيعٌ. وقد تقدَّم الخلافُ في {ياأيها الساحر} في النور.

50

وقرأ أبو حيوةَ «يَنْكِثُوْن» بكسرِ الكافِ. وهي لغةٌ.

51

قوله: {وهذه الأنهار} : يجوزُ في «وهذه» وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ مبتدأةً، والواوُ للحالِ. والأنهارُ صفةٌ لاسمِ الإِشارةِ، أو عطفُ بيانٍ. و «تجري» الخبرُ. والجملةُ حالٌ مِنْ ياء «لي» . والثاني: أنَّ «هذه» معطوفةٌ على «مُلْك مِصْرَ» ، و «تَجْري» على هذا حالٌ أي: أليس مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهارُ جاريةً أي: الشيئان. قوله: «تُبْصِرونَ» العامَّةُ على الخطابِ لِمَنْ ناداه. وقرأ عيسى بكسر النون أي: تُبْصِروني. وفي قراءةِ العامَّةِ المفعولُ محذوفٌ أي: تُبْصِرون مُلْكي وعَظَمتي. وقرأ فهد بن الصقر «يُبْصِرون» بياء الغَيْبة: إمَّا على الالتفاتِ من الخطاب إلى الغَيْبة، وإمَّا رَدًّا على قوم موسى.

52

قوله: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ} : في «أم» أقوالٌ، أحدها: أنها منقطعةٌ، فتتقدَّرُ ب بل التي لإِضرابِ الانتقال، وبالهمزة التي للإِنكار. والثاني: أنها بمعنى بل فقط، كقوله: 4001 - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَق الضُّحى ... وصورتِها أم أنتِ في العينِ أَمْلَحُ أي: بل أنتِ. الثالث: أنها منقطعةٌ لفظاً، متصلةٌ معنىً. قال أبو البقاء: «أمْ هنا منقطعةٌ في اللفظ لوقوع الجملةِ بعدَها في اللفظ، وهي في المعنى متصلةٌ معادِلةٌ؛ إذ المعنى: أنا خيرٌ منه أم لا، وأيُّنا خيرٌ» وهذه عبارةٌ غريبةٌ: أن تكونَ منقطعةً لفظاً، متصلةً معنى، وذلك أنهما معنيان مختلفان؛ فإن الانقطاعَ يَقْتضي إضراباً: إمَّا إبطالاً، وإمّا انتقالاً. الرابع: أنها متصلةٌ، والمعادِلُ محذوفٌ تقديره: أم تُبْصِرون. وهذا لا يجوزُ إلاَّ إذا كانت «لا» بعد أم نحو: أتقومُ أم لا؟ أي: أم لا تقوم. وأزيدٌ عندك أم لا؟ أي: أم لا هو عندك. أمَّا حَذْفُه دون «لا» فلا يجوزُ، وقد جاء حَذْفُ «أم» مع المعادِلِ وهو قليلٌ جداً. قال الشاعر: 4002 - دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِها ... سميعٌ فلا أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها أي: أم غَيٌّ. وكان الشيخ قد نقل عن سيبويه أنَّ هذه هي «أم»

المعادِلَةُ أي: أم تُبْصِرُون الأمرَ الذي هو حقيقٌ أَنْ يُبْصَرَ عنده، وهو أنَّه خيرٌ مِنْ موسى. قال: «وهذا القولُ بدأ به الزمخشريُّ فقال:» أم/ هذه متصلة لأنَّ المعنى: أفلا تُبْصِرون أم تُبْصرون، إلاَّ أنه وَضَعَ قولَه: «أنا خيرٌ» موضعَ «تُبْصِرون» ؛ لأنهم إذا قالوا: أنت خيرٌ، فهم عنده بُصَراءُ، وهذا من إنزالَ السببِ منزلةَ المسبب «. قال الشيخ:» وهذا متكلَّفٌ جداً؛ إذ المعادِلُ إنما يكونُ مقابلاً للسابقِ. فإن كان المعادِلُ جملةً فعليةً كان السابقُ جملةً فعليةً أو جملةً اسميةً يتقدَّر منها فعليةٌ، كقوله: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] لأنَّ معناه: أم صَمَتُّم، وهنا لا تتقدَّرُ منها جملةٌ فعليةٌ؛ لأنَّ قولَه: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ} ليس مقابلاً لقولِه: «أفلا تُبْصِرون» . وإن كان السابقُ اسماً كان المعادِلُ اسماً، أو جملةً فعليةً يتقدَّر منها اسمٌ نحو قولِه: 4003 - أمُخْدَجُ اليدَيْنِ أم أَتَمَّتِ ... ف «أتمَّت» معادِلٌ للاسم، فالتقديرُ: أم مُتِمًّا «قلت: وهذا الذي رَدَّه على الزمخشريِّ رَدٌّ على سيبويه؛ لأنه هو السابقُ به، وكذا قولُه أيضاً: إنه لا يُحْذَفُ المعادِلُ بعد» أم «إلاَّ وبعدها» لا «فيه نظرٌ؛ من حيث تجويزُ سيبويه حَذْفُ المعادِلِ دون» لا «فهو رَدٌّ على سيبويهِ أيضاً.

[قوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً] . والعامَّة على» يُبين «مِنْ أبان، والباقر» يَبين «بفتحِها مِنْ بان أي: ظهر.

53

قوله: {أَسْوِرَةٌ} : قرأ حفص «أَسْوِرَة» كأَحْمِرَة. والباقون «أساوِرَة» . فأسْوِرَة جمع سِوار كحِمار وأَحْمِرَة، وهو جمعُ قلةٍ، وأساوِرَة جمعُ إسْوار بمعنى سِوار. يقال: سِوارُ المرأة وإسْوارُها، والأصل: أساوير بالياء، فَعُوِّضَ من حرف المدِّ تاءُ التأنيثِ كزَنادقة. وقيل: بل هي جمعُ أَسْوِرة فهي جمعُ الجمعِ. وقرأ أُبَيٌّ والأعمش - ويُرْوى عن أبي عمرو - «أساوِر» دونَ تاءٍ. ورُوِي عن أُبَيّ أيضاً وعبد الله أساْوِير. وقرأ الضحاك «أَلْقَى» مبنياً للفاعلِ أي الله. و «وأساوِرة» نصباً على المفعولية. و «مِنْ ذَهَبٍ» صفةٌ ل أَساورة. ويجوزُ أَنْ تكون «مِنْ» الداخلةَ على التمييز.

55

قوله: {آسَفُونَا} : منقولٌ بهمزةِ التعديةِ مِنْ أسِفَ بمعنى غَضِبَ، والمعنى: أَغْضَبونا بمخالَفَتِهم أمرَنا. وفي التفسيرِ: أحزنوا أولياءَنا يعني السَّحَرةَ.

56

قوله: {سَلَفاً} : قرأ الأخَوان بضمتين، والباقون

بفتحتين. فأمَّا الأُولى فتحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أنها جمعُ سَليف كرَغيف ورُغُف. وسمع القاسمُ بنُ مَعَن من العرب: «مضى سَليفٌ من الناس» . والسَّليفُ من الناس كالفريقِ منهم. والثاني: أنها جمعُ سالِف كصابِر وصُبُر. والثالث: أنها جمعُ سَلَف كأَسَد وأُسُد. والثانية تحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ جمعاً لسالِف كحارس وحَرَس، وخادِم وخَدَم. وهذا في الحقيقة اسمُ جمعٍ لا جمعُ تكسيرٍ؛ إذ ليس في أبنيةِ التكسير صيغةُ فَعَل. والثاني: أنه مصدرٌ يُطْلق على الجماعة تقول: سَلَفَ الرجلُ يَسْلُفُ سَلَفاً أي: تقدَّم. وسلَفُ الرجلِ آباؤه المتقدِّمون، والجمع أَسْلافٌ وسُلاف. وقال طفيل: 4004 - مَضَوْا سَلَفاً قَصْدُ السَّبيلِ عليهمُ ... صُروفُ المنايا بالرجالِ تَقَلَّبُ وقرأ عليٌّ كَرَّم اللَّهُ وجهَه ومجاهد «سُلَفاً» بضم السين وفتح اللام. وفيها وجهان، أشهرُهما: أنه جمعُ سُلْفَة كغُرْفَة وغُرَف، والسُّلْفَةُ الأمة. وقيل: الأصل «سُلُفاً» بضمتين، وإنما أَبْدل من الضمة فتحةً.

57

قوله: {مَثَلاً} : إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كانت بمعنى صَيَّر، وإلاَّ حالاً. قوله: «يَصِدُّون» قرأ نافع وابن عامر والكسائي «يَصُدُّون» بضمِ الصادِ. والباقون بكسرِها. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، وهو الصحيحُ، واللفظُ يُقال: صَدَّ يَصِدُّ ويَصُدُّ كعَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ، ويَعْرُشُ ويَعْرِشُ. وقيل: الضمُّ

مِن الصُّدود، وهو الإِعراضُ. وقد أنكر ابنُ عباسٍ الضمَّ، وقد رُوِي له عن علي رضي الله عنهما - والله أعلم - قبل بلوغِه تواتُرُه.

58

قوله: {وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ} : قرأ أهلُ الكوفة بتحقيق الهمزةِ الثانيةِ، والباقون بتسهيلِها بينَ بينَ، ولم يُدْخِلْ أحدٌ مِنْ القرَّاء الذين مِنْ قاعدتِهم الفصلُ بين الهمزتين بألفٍ، ألفاً، كراهةً لتوالي أربعةِ مُتشابهات، وأَبْدل الجميعُ الهمزةَ الثالثة ألفاً. ولا بُدَّ/ مِنْ زيادةِ بيان: وذلك أن «آلِهة» جمعُ إله كعِماد وأَعْمِدَة، فالأصلُ أَأْلِهَة بهمزتين: الأولى زائدةٌ، والثانيةُ فاء الكلمة وقعتِ الثانيةُ ساكنةً بعد مفتوحةٍ وَجَبَ قلْبُها ألفاً كأَمِن وبابِه، ثم دَخَلَتْ همزةُ الاستفهامُ على الكلمةِ، فالتقى همزتان في اللفظ: الأولى للاستفهامِ والثانيةُ همزةُ أَفْعِلة. والكوفيون لم يَعْتَدُّوا باجتماعِهما فأبْقَوْهما على حالِهما. وغيرُهم استثقَل فخفَّفَ الثانيةَ بالتسهيلِ بينَ بينَ، والثالثةُ بألفٍ محضةٍ لم تُغَيَّرْ البتةَ. وأكثرُ أهلِ العصرِ يُقرُّونَ هذا الحرفَ بهمزةٍ واحدة بعدها ألفٌ على لفظِ الخبرِ ولم يقرأْ به أحدٌ من السبعة فيما قَرَأْتُ به، إلاَّ أنَّه رُوِي أنَّ وَرْشاً قرأ كذلك في روايةِ أبي الأَزْهر، وهي تحتملُ الاستفهامَ كالعامَّةِ، وإنما حَذَفَ أداةَ الاستفهامِ لدلالة «أم» عليها وهو كثيرٌ، وتَحْتمل أنَّه قرأه خبراً مَحْضاً وحينئذٍ تكون «أم» منقطعةً فتُقَدَّرُ ب بل والهمزة.

وأمَّا الجماعةُ فهي عندهم متصلةٌ. فقوله: «أم هو» على قراءةِ العامة عطفٌ على «آلهتنا» وهو من عطفِ المفرداتِ. التقدير: أآلهتُنا أم هو خيرٌ أي: أيُّهما خيرٌ. وعلى قراءةِ ورشٍ يكونُ «هو» مبتدأً، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه: بل أهو خيرٌ، وليست «أم» حينئذٍ عاطفةً. قوله: «جَدَلاً» مفعولٌ مِنْ أجله أي: لأجلِ الجدلِ والمِراءِ لا لإِظهارِ الحقِّ. وقيل: هو مصدرٌ في موضعِ الحال أي: إلاَّ مُجادِلين. وقرأ ابنُ مقسم «جِدالاً» والوجهان جاريان فيه. والظاهر أنَّ «هو» لعيسى كغيره من الضمائر. وقيل: هو للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم.

60

قوله: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} : في «مِنْ» هذه أقوالٌ، أحدها: أنها بمعنى بَدَل أي: لَجَعَلْنا بَدَلكم. ومنه أيضاً {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] أي بَدَلَها. وأنشد: 4005 - أخَذُوا المَخاضَ من الفَصيل غُلُبَّةً ... ظُلْماً ويُكْتَبُ للأمير إفالا وقال آخر: 4006 - جارِيَةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقَا ... ولم تَذُقْ من البُقولِ الفُسْتقا والثاني: - وهو المشهورُ - أنها تبعيضِيَّةٌ. وتأويلُ الآية عندهم: لَوَلَّدْنا منكم يا رجالُ ملائكةً في الأرض يَخْلُفونكم كما يَخْلُفكم أولادُكم، كما وَلَّدْنا

عيسى مِنْ أنثى دونَ ذكرٍ، ذكره الزمخشري. والثالث: أنها تبعيضيَّةٌ. قال أبو البقاء: «وقيل: المعنى: لَحَوَّلْنا بعضَكم ملائكةً» . وقال ابن عطية: «لَجَعَلْنا بَدَلاً مِنْكم» .

61

قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ} : المشهورُ أنَّ الضمير لعيسى، يعني نزولَه آخر الزمان. وقيل الضميرُ للقرآن أي: فيه عِلْمُ الساعةِ وأهوالُها، أو هو علامةٌ على قُرْبها. وفيه {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] {اقتربت الساعة} [القمر: 1] . وقيل: للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم. ومنه «بُعِثْت أنا والساعةُ كهاتَيْن» . والعامَّةُ على «عِلْم» مصدراً، جُعِل عِلْماً مبالغَةً لَمَّا كان به يَحْصُلُ العِلْمُ، أو لَمَّا كان شَرْطاً يُعْلَم به ذلك أُطْلِق عليه عِلْم. وابن عباس وأبو هُرَيْرَة وأبو مالكِ الغِفاري وزيد بن علي «لَعَلَمٌ» بفتح الفاءِ والعينِ أي: لَشَرْطُ وعَلامةٌ، وقرأ أبو نضرة وعكرمةُ كذلك، إلاَّ أنهما عَرَّفا باللام، فقرآ «للعَلَمُ» أي: لَلْعلامَةُ المعروفةُ.

67

قوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ} : مبتدأ، وخبرُه «عَدُوٌّ» . والتنوين في «يومئذٍ» عِوَضٌ عن جملة تقديرُه: يومَ إذْ تَأْتيهم الساعةُ. والعامل في «يَوْمئذ» لفظُ «عَدُوٌّ» أي: عداوتُهم في ذلك اليوم.

68

قوله: {ياعبادي} : قرا أبو بكرٍ عن عاصمٍ «يا عبادِيَ، لا خَوْفٌ» بفتح الياء. والأخوانَ وابن كثير وحفصٌ بحَذْفِها وصلاً ووقفاً. والباقون بإثباتها ساكنةً. وقرأ العامَّة «لا خوفٌ» بالرفع والتنوينِ: إمَّا مبتدأً، وإمَّا اسماً لها، وهو قليلٌ. وابن محيصن دونَ تنوينٍ على حَذْفِ مضافٍ وانتظارِه: لا خوفُ شيءٍ. والحسنُ وابن أبي إسحاق بالفتح على «لا» التبرئةِ، وهي عندهم أَبْلَغُ.

69

قوله: {الذين آمَنُواْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل «عبادي» أو بدلاً منه، أو عطف بيانٍ له، أو مقطوعاً منصوباً أو مرفوعاً.

71

قوله: {يُطَافُ} : قبلَه محذوفٌ أي: يَدْخُلونُ يُطاف. والصِّحافُ: جمعُ صَحْفَة كجَفْنَة وجِفان. قال الجوهري: «الصَّحْفَةُ كالقَصْعَةِ. وقال الكسائيُّ: أعظمُ القَصاعِ الجَفْنةُ، ثم القَصْعَةُ تُشْبِع العَشَرة، ثم الصَّحْفَةُ تُشْبِعُ الخمسةَ، ثم المِئْكَلَة تُشْبِعُ/ الرجلين والثلاثة» . والصَّحيفة: الكتابُ، والجمعُ: صُحُف وصَحَائف. وأمال الكسائيُّ في

روايةٍ «بِصحاف» . والأَكْواب جمعٌ. فقيل: هو كالإِبْريق إلاَّ أنه لا عُرْوَةَ له. وقيل: إلاَّ أنه لا خُرْطومَ له. وقيل: إلاَّ أنه لا عُرْوَةَ له ولا خُرْطومَ معاً. قال الجواليقي: «ليتمكَّنَ الشاربُ مِنْ أين شاءَ، فإنَّ العُرْوَةَ تمنعُ من ذلك» . وقال عَدِيّ: 4007 - مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أبْوابُه ... يَسْعَى عليه العبدُ بالكُوبِ والتقدير: وأكواب مِنْ ذَهَب أو لم يُرِدْ تَقْييدَها. قوله: {مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} قرأ نافعٌ وابن عامرٍ وحفصٍ «تَشْتهيه» بإثباتِ العائدِ على الموصول كقوله: {الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان} [البقرة: 275] والباقون بحَذْفِه كقوله: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] وهذه القراءةُ شبيهةٌ بقوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] وتقدَّم ذلك في يس، وهذه الهاءُ في هذه السورةِ رُسِمَتْ في مصاحفِ المدينة والشام، وحُذِفَتْ مِنْ غيرِها. وقد وقع لأبي عبد الله الفاسيِّ شارحِ القصيدِ وَهَمٌ فسَبَقَ قلمُه فكتب: «والهاءُ منه محذوفةٌ في مصاحفِ المدينةِ والشامِ ثابتةٌ في

غيرِهما» . أراد أن يكتبَ «ثابتةٌ في مصاحف المدينة والشام محذوفةٌ من غيرِهما» فعكَسَ. وفي مصحفِ عبد الله {تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} بالهاء فيهما.

73

قوله: {مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} : «مِنْ» تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ، وقُدِّم الجارُّ لأجلِ الفاصلةِ.

75

قوله: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} : جملةٌ حاليةٌ، وكذلك {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} : وقرأ عبد الله «وهُمْ فيها» أي: في النار لدلالةِ العذاب عليها.

76

قوله: {ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} : العامَّةُ على الياء خبراً ل «كان» ، و «هم» إمَّا فَصْلٌ وإمَّا توكيدٌ. وقرأ عبد الله وأبو زيدٍ النحويان «الظالمون» على أنَّ «هو» مبتدأٌ. و «الظالمون» خبرُه. والجملةُ خبر كان، وهي لغةُ تميم. قال أبو زيد: «سَمِعْتُهم يَقْرؤون» تَجِدُوْه عند الله هو خيرٌ وأعظمُ أجراً «بالرفعِ. وقال قيس بن ذُرَيح: 4008 - تَحِنُّ إلى ليلى وأنت تَرَكْتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أقدرُ برفع» أقدرُ «و» أنت «فصلٌ أو توكيدٌ. قال سيبويه:» بَلَغَنا أنَّ رؤبةَ كان يقولُ: أظنُّ زيداً هو خيرٌ منك «يعني بالرفع.

77

قوله: {يامالك} : العامَّةُ مِنْ غير ترخيمٍ. وعلي بن أبي طالب وعبدُ الله وابنُ وثَّاب والأعمش «يا مالِ» مرخماً على لغة مَنْ ينتظر. وأبو السِّوار الغَنَويُّ «يا مالُ» مبنياً على الضم على لغةِ مَنْ لا يَنْوي.

79

قوله: {أَمْ أبرموا} : أم منقطعةٌ. والإِبرام: الإِتقانُ، وأصلُه في الفَتْلِ. يقال: أَبْرَمَ الحَبْلَ أي: أتقن فَتْلَه، وهو الفَتْلُ الثاني، والأولُ يُقال له: سَحِيل. قال زهير: 4009 - لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدان وُجِدْتُما ... على كل حالٍ مِنْ سَحِيلٍ ومُبرَمِ

81

قوله: {إِن كَانَ للرحمن} : قيل: هي شرطيةٌ على بابِها. واخْتُلِفَ في تأويلِه فقيل: إنْ صَحَّ ذلك فأنا أولُ مَنْ يَعْبُده لكنه لم يَصِحَّ البتةَ بالدليلِ القاطعِ، وذلك أنَّه عَلَّق العبادةَ بكيْنونة الولدِ، وهي مُحالٌ في نفسِها، فكان المُعَلَّقُ بها مُحالاً مثلَها، فهو في صورةِ إثباتِ الكينونةِ والعبادةِ، وفي معنى نَفْيهِما على أَبْلغِ الوجوهِ وأَقْواها، ذكره الزمخشريُّ. وقيل: إن كان له ولدٌ في زَعْمِكم. وقيل: العابدين بمعنى: الآنفين. مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إذا اشْتَدَّ أَنَفَةً فهو عَبِدٌ وعابِدٌ. ويؤيِّدُه قراءةُ السُّلَميِّ واليماني «العَبِدين» دون ألفٍ. وحكى الخليل قراءةً غريبةً وهي «العَبْدِيْن» بسكون الباءِ، وهي تخفيفُ قراءةِ

السُّلَمي فأصلها الكسرُ. قال ابنُ عرفة: «يقال: عَبِدَ بالكسر يَعْبَد بالفتح فهو عَبِد، وقلَّما يقال: عابِد، والقرآن لا يجيْءُ على القليلِ ولا الشاذِّ» . قلتُ: يعني فتخريج مَنْ قال: إنَّ العابدين بمعنى الآنفين لا يَصِحُّ، ثم قال كقول مجاهد. وقال الفرزدق: 4010 - أولئك آبائي فجِئْني بمثْلِهم ... وأَعْبَدُ أنْ أَهْجُوْ كُلَيْباً بدارِمِ أي: آنَفُ. وقال آخر: 4011 - متى ما يَشَأْ ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خليلَه ... ويُعْبَدْ عليه لا مَحالةَ ظالما وقال أبو عبيدة: «معناه الجاحِدين» . يقال: عَبَدَني حَقِّي أي: جَحَدنيه. وقال أبو حاتم: «العَبِدُ بكسر الباءِ: الشديدُ الغَضَبِ» ، وهو معنى حسنٌ أي: إنْ كان له ولدٌ على زَعْمِكم فأنا أولُ مَنْ يَغْضَبُ لذلك. وقيل: «إنْ» نافيةٌ أي: ما كان، ثم أَخْبَرَ بقولِه: {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين}

وتكونُ الفاءُ سببيةً. ومنع مكي أَنْ تكونَ نافيةً قال: «لأنه يُوْهِمُ أنَّك إنما نَفَيْتَ عن الله الولدَ فيما مضى دونَ ما هو آتٍ، وهذا مُحالٌ» . وقد رَدَّ الناسُ على مكيّ، وقالوا: كان قد تَدُلُّ على الدوامِ كقوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] إلى ما لا يُحْصَى، والصحيحُ من مذاهبِ النحاةِ: أنها لا تدُلُّ على الانقطاعِ، والقائلُ بذلك يقولُ: ما لم يكنْ قرينة كالآياتِ المذكورةِ. وتقدَّمَ الخلافُ في قراءَتَيْ: وَلَد ووُلْد في مريم.

83

قوله: {يُلاَقُواْ} : العامَّةُ من المُلاقاةِ. وابنُ محيصن - وتُرْوى عن أبي عمروٍ - «يَلْقَوا» مِنْ لَقِيَ.

84

قوله: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله} : «في السماء» متعلِّقٌ ب «إله» لأنه بمعنى معبودٌ أي: معبودٌ في السماء ومعبودٌ في الأرض، وحينئذٍ فيقال: الصلة لا تكونُ إلاَّ جملةً أو ما في تقديرِها وهو الظرفُ وعديلُه، ولا شيءَ منها هنا. والجوابُ: أنَّ المبتدأَ حُذِفَ لدلالة المعنى عليه، وذلك المحذوفُ هو العائدُ تقديرُه: وهو الذي في السماءِ إلهٌ، وهو في الأرض إلهٌ، وإنما/ حُذِف لطولِ الصلةِ بالمعمولِ فإنَّ الجارَّ متعلِّقٌ ب إله. ومثلُه «ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً» . وقال الشيخ: «وحَسَّنه طولُه بالعطفِ عليه، كما حَسَّنَ في قولِهم: قائل [

لك] شيئاً طولُه بالمعمولِ» . قلت: حصولُه في الآيةِ وفيما حكاه سواءٌ؛ فإن الصلةَ طالَتْ بالمعمولِ في كلَيْهما، والعطفُ أمرٌ زائدٌ على ذلك فهو زيادةٌ في تحسين الحَذْفِ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الجارُّ خبراً مقدماً، و «إله» مبتدأٌ مؤخرٌ لئلا تَعْرَى الجملةُ مِنْ رابطٍ، إذ يصيرُ نظيرَ «جاء الذي في الدار زيد» . فإن جَعَلْتَ الجارَّ صلةً وفيه ضميرٌ عائدٌ على الموصولِ وجَعَلْتَ «إله» بدلاً منه. قال أبو البقاء: «جاز على ضَعْفٍ؛ لأن الغَرَض الكليَّ إثباتُ الإِلهيةِ لا كونُه في السماء والأرض، فكان يَفْسُدُ أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو قولُه: {وَفِي الأرض إله} لأنه معطوفٌ على ما قبلَه، وإذا لم تُقَدِّرْ ما ذكرْنا صار منقطعاً عنه وكان المعنى: أنَّ في الأرض إلهاً» انتهى. وقال الشيخ: «ويجوزُ أَنْ تكونَ الصلةُ الجارَّ والمجرورَ، والمعنى: أنه فيهما بألوهِيَّتِه وربُوبِيَّتِه، إذ يَستحيل حَمْلُه على الاستقرار» . وقرأ عمرُ وعلي وعبد الله في جماعة {وَهُوَ الذي فِي السمآء الله} ضُمِّن العَلَمُ أيضاً معنى المشتقِّ، فيتعلَّقُ به الجارُّ. ومثله «هو حاتمٌ في طَيِّئ» أي: الجوادُ فيهم. ومثلُه: فرعون العذاب.

85

قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : الأخَوان وابن كثير بالياء مِنْ تحتُ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ، وهو في كلَيْهما مبني للمفعول. وقُرئ بالخطاب مبنياً للفاعل.

وقرأ العامَّةُ أيضاً «يَدْعُوْنَ» بياء الغَيْبة والضميرُ للموصل. والسلمي وابنُ وثابٍ بتاء الخطاب، والأسود بن يزيد بتشديد الدالِ، ونُقِل عنه القراءةُ مع ذلك بالتاء والياء.

86

قوله: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق} : فيه قولان، أحدهما: أنه متصلٌ والمعنى: إلاَّ مَنْ شهد بالحقِّ كعُزَيْرٍ والملائكةِ، فإنهم يملكون الشفاعةَ بتمليك اللَّهِ إياهم لها. وقيل: هو منقطعٌ بمعنى: أنَّ هؤلاءِ لا يَشْفَعُون إلاَّ فيمَنْ شَهِد بالحقِّ، أي: لكن مَنْ شَهِدَ بالحق يَشْفَعُ فيه هؤلاء، كذا قَدَّروه. وهذا التقديرُ يجوزُ فيه أَنْ يكونَ الاستثناءُ متصلاً على حَذْفِ المفعولِ، تقديرُه: ولا يملكون الذين يَدْعُون مِنْ دونه الشفاعةَ في أحدٍ إلاَّ فيمَنْ شَهِدَ.

87

وقرأ العامَّة «فأنَّى يُؤْفَكون» بالغَيْبة. ورُوي عن أبي عمروٍ بالخطاب.

88

قوله: {وَقِيلِهِ} : قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالجرِّ. والباقون بالنصب. فأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن، أحدهما: أنَّه عطفٌ على «الساعة» أي: عنده عِلْمُ قيلِه، أي: قولِ محمدٍ أو عيسى عليهما السلام. والقَوْلُ والقالُ والقِيْلُ بمعنى واحد جاءَتْ المصادرُ على هذه الأوزانِ. والثاني: أنَّ الواوَ

للقَسم. والجوابُ: إمَّا محذوفٌ تقديرُه: لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد، وإمَّا مذكورٌ وهو قولُه: {إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} ذكره الزمخشريُّ. وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثمانيةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ على محلِّ «الساعة» . كأنَّه قيل: إنه يَعْلَمُ الساعةَ ويعْلَمُ قِيْله كذا. الثاني: أنَّه معطوفٌ على «سِرَّهم ونجواهم» أي: لا نعلم سِرَّهم ونجواهم ولا نعلمُ قِيْلَه. الثالث: عطفٌ على مفعولِ «يكتُبون» المحذوفِ أي: يكتبون ذلك ويكتبون قيلَه كذا أيضاً. الرابع: أنَّه معطوفٌ على مفعولِ «يعلمون» المحذوفِ أي: يَعْلمون ذلك ويعلمون قيلَه. الخامس: أنه مصدرٌ أي: قالَ قيلَه. السادس: أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ أي: اللَّهُ يعلمُ قيلَ رسولِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. السابع: أَنْ ينتصِبَ على محلِّ «بالحق» أي: شَهِدَ بالحقِّ وبِقيْلِه. الثامن: أَنْ ينتصِبَ على حَذْفِ حرفِ القسمِ كقوله: 4012 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ وقرأ الأعرجُ وأبو قلابةَ ومجاهدٌ والحسنُ بالرفع، وفيه أوجه [أحدها:] الرفعُ عطفاً على «علمُ الساعةِ» بتقديرِ مضافٍ أي: وعنده عِلْمُ قِيْلِه، ثم حُذِفَ وأُقيم هذا مُقامَه. الثاني: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ، والجملةُ مِنْ قولِه: «يا رب» إلى آخره هي الخبر. الثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ تقديرِه: وقيلُه كيتَ وكيتَ مَسْموعٌ أو مُتَقَبَّلٌ. الرابع: أنه مبتدأ وأصلُه القسمُ كقولِهم: «ايمُنُ الله» و «لَعَمْرُ الله» فيكونُ خبرُه محذوفاً. والجوابُ كما تقدَّم، ذَكرَه الزمخشري أيضاً.

واختار القراءةَ بالنصب جماعةٌ. قال النحاس: «القراءةُ البَيِّنَةُ بالنصب من جهتَيْن، إحداهما: أنَّ التفرقةَ بين المنصوبِ وما عُطِفَ عليه مُغْتَفَرَةٌ بخلافِها بين المخفوضِ وما عُطِفَ عليه. والثانيةُ تفسيرُ أهلِ التأويل بمعنى النصب» . قلت: وكأنَّه يُريدُ ما قال أبو عبيدة قال: «إنما هي في التفسيرِ: أم يَحْسَبون أنَّا لا نَسْمع سِرَّهم ونجواهم ولا نسمعُ قِيْلَه يا رب. ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ من الأوجهِ المتقدمةِ شيئاً، وإنما اختار أَنْ تكونَ قَسَماً في القراءاتِ الثلاثِ، وتقدَّم تحقيقُها. وقرأ أبو قلابة» يا رَبَّ «بفتح الباءِ على قَلْب الياء ألفاً ثم حَذََفَها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة كقولِه: 4013 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بلَهْفَ ولا بِلَيْتَ. . . . . . . . . . . . . . . . . والأخفشُ يَطَّرِدُها.

89

قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} : قرأ نافعٌ وابنُ عامر «تَعْلمون» بالخطاب التفاتاً، والباقون بالغَيْبة نظراً لِما تقدَّم.

الدخان

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} : يجوزُ أن يكونَ جوابَ القسمِ، وأَنْ يكونَ اعتراضاً، والجوابُ قولُه: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} ، واختاره ابنُ عطية. وقيل: «إنَّا كُنَّا» مستأنفٌ، أو جوابٌ ثانٍ مِنْ غيرِ عاطِفٍ.

4

قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ} : يجوزُ أَنْ تكونَ مُسْتَأْنَفَةً، وأَنْ تكونَ صفةً ل «ليلة» وما بينهما اعتراضٌ. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: إنَّا كُنَّا مُنْذِرين، فيها يُفْرَقُ، ما موقعُ هاتين الجملتين؟ قلت: هما جملتان مستأنفتان مَلْفوفتان، فَسَّر بهما جوابَ القسمِ الذي هو» أَنْزَلْناه «كأنه قيل: أَنْزَلْناه؛ لأنَّ مِنْ شَأْنِنا الإِنذارَ والتحذيرَ، وكان إنزالُنا إياه في هذه الليلةِ خصوصاً؛ لأنَّ إنزالَ القرآنِ مِنَ الأمورِ الحكيمةِ، وهذه الليلةُ يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيم» . قلت: وهذا مِنْ محاسِنِ هذا الرجلِ. وقرأ الحسن والأعرج والأعمش «يَفْرُقُ» بفتح الياء وضمِّ الراءِ، «كلَّ» بالنصب أي: يَفْرُقُ اللَّهُ كلَّ أَمْرٍ. وزيد بن علي «نَفْرِقُ» بنونِ العظمةِ، «كلَّ»

بالنصبِ، كذا نقله الزمخشريُّ، ونَقَلَ عنه الأهوازي «يَفْرِق» بفتح الياء وكسرِ الراء، «كلَّ» بالنصب، «حكيمٌ» بالرفع على أنه فاعل «يَفْرِق» ، وعن الحسن والأعمش أيضاً «يُفَرَّقُ» كالعامَّةِ، إلاَّ أنه بالتشديد.

5

قوله: {أَمْراً} : فيه اثنا عشر وجهاً، أحدُها: أَنْ ينتصِبَ حالاً مِنْ فاعل «أَنْزَلْناه» . الثاني: أنه حالٌ مِنْ مفعولِه أي: أنزلناه آمِرِيْن، أو مَأْموراً به. الثالث: أَنْ يكونَ مفعولاً له، وناصبُه: إمَّا «أَنْزَلْناه» وإمَّا «مُنْذرِين» وإمَّا «يُفْرَقُ» . الرابع: أنه مصدرٌ مِنْ معنى يُفْرَق أي: فَرْقاً. الخامس: أنه مصدرٌ ل «أَمَرْنا» محذوفاً. السادس: أَنْ يكونَ «يُفْرَقُ» بمعنى يَأْمُر. والفرقُ بين هذا وما تقدَّم: أنَّك رَدَدْتَ في هذا بالعاملِ إلى المصدرِ وفيما تقدَّم بالعكس. السابع: أنَّه حالٌ مِنْ «كُلُّ» . الثامن: أنه حالٌ مِنْ «أَمْرٍ» وجاز ذلك لأنه وُصِفَ. إلاَّ أنَّ فيه شيئين: مجيءَ الحالِ من المضاف إليه في غيرِ المواضع المذكورة. والثاني: أنها مؤكدةٌ. التاسع: أنه مصدرٌ ل «أَنْزَل» أي: إنَّا أَنْزَلْناه إنزالاً، قاله الأخفش. العاشر: أنَّه مصدرٌ، لكن بتأويل العاملِ فيه إلى معناه أي: أَمَرْنا به أَمْراً بسببِ الإِنزال، كما قالوا ذلك في وَجْهي فيها يُفْرَقُ فَرْقاً أو يَنْزِل إنزالاً. الحادي عشر: أنه منصوبٌ على الاختصاص، قاله الزمخشري، ولا يَعْني بذلك الاختصاصَ الاصطلاحيَّ فإنه لا يكون نكرةً. الثاني عشر: أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «حكيم» . الثالث عشر: أَنْ ينتصِبَ

مفعولاً به ب «مُنْذِرين» كقولِه: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] ويكونُ المفعولُ الأول محذوفاً أي: مُنْذِرين الناسَ أمراً. والحاصلُ أنَّ انتصابَه يَرْجِعُ إلى أربعة أشياء: المفعولِ به، والمفعولِ له، والمصدريةِ، والحاليةِ، وإنما التكثيرُ بحَسبِ المحالِّ، وقد عَرَفْتَها بما قَدَّمْتُه لك. وقرأ زيد بن علي «أَمْرٌ» بالرفع. قال الزمخشري: «وهي تُقَوِّي النصبَ على الاختصاصِ» . قوله: «مِنْ عِنْدِنا» يجوز أَنْ يتعلَّق ب «يُفْرَقُ» أي: مِنْ جهتِنا، وهي لابتداءِ الغاية مجازاً. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل أَمْراً. قوله: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} جوابٌ ثالثٌ أو مستأنفٌ، أو بدلٌ من قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} .

6

قوله: {رَحْمَةً} : فيها خمسةُ أوجهٍ [أحدها] : المفعولُ له. والعاملُ فيه: إمَّا «أَنْزَلْناه» وإمَّا «أَمْراً» وإمَّا «يُفْرَقُ» وإمَّا «مُنْذِرين» . الثاني: مصدرٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: رَحِمْنا رَحْمَةً. الثالث: مفعولٌ ب مُرْسِلين. الرابع: حالٌ من ضمير «مُرْسِلين» أي: ذوي رحمة. الخامس: أنها بدلٌ مِنْ «أَمْراً» فيجيءُ فيها ما تقدَّم، وتكثرُ الأوجهُ فيها حينئذٍ. و «مِنْ رَبِّك» يتعلَّقُ برَحْمة، أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ. وفي «مِنْ ربِّك» التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة، ولو جَرَى على مِنْوالِ ما تقدَّمَ لقال: رحمةً منا.

7

قوله: {رَبِّ السماوات} : قرأ الكوفيون بخفض «رَبّ» ، والباقون برفعِه. فالجرُّ على البدلَ، أو البيانَ، أو النعتِ. والرفعُ على إضمارِ مبتدأ، أو على أنَّه مبتدأٌ، خبرُه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} .

8

قوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ} : العامَّةُ على الرفع بدلاً أو بياناً أو نعتاً ل «ربُّ السماوات» فيمَنْ رَفَعه، أو على أنَّه مبتدأٌ، والخبرُ {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أو خبرٌ بعد خبرٍ لقولِه: {إِنَّهُ هُوَ السميع} أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ عند الجميعِ أعني قُرَّاءَ الجرِّ والرفع، أو فاعلٌ لقولِه: «يُميت» . وفي «يُحْيي» ضميرٌ يَرْجِعُ إلى ما قبلَه أي: يُحْيي هو، أي: ربُّ السماوات ويميتُ هو، فأوقَعَ الظاهرَ مَوْقِعَ المضمرِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ «يُحيي ويُميت» من التنازع. ويجوزُ أَنْ يُنْسَبَ الرفعُ إلى الأول أو الثاني نحو: يَقُوم ويَقْعد زيد، وهذا عَنَى أبو البقاء بقولِه: «أو على شريطةِ التفسير» . وقرأ ابنُ محيصن وابنُ أبي إسحاق وأبو حيوة والحسن بالجرِّ/ على البدلِ أو البيانِ أو النعتِ ل «رب السماوات» ، وهذا يُوْجِبُ أَنْ يكونوا يَقْرؤون «رَبِّ السماوات» بالجرِّ. والأنطاكي بالنصب على المدحِ.

10

قوله: {يَوْمَ تَأْتِي} : منصوبٌ ب «ارْتَقِبْ» على الظرفِ. والمفعولُ محذوفٌ أي: ارتقِبْ وَعْدَ الله في ذلك اليومِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ هو المفعولَ المرتقبَ.

11

قوله: {يَغْشَى الناس} : صفةٌ ثانيةٌ أي: بدُخان مُبين غاشٍ. قوله: «هذا عَذابٌ» في محلِّ نصبٍ بالقول. وذلك القولُ حالٌ أي: قائلين ذلك، ويجوزُ أَنْ لا يكونَ معمولاً لقولٍ البتةَ، بل هو مجرَّدُ إخبارٍ.

13

قوله: {أنى لَهُمُ الذكرى} : يجوزُ أَنْ يكونَ «أنَّى» خبراً ل «ذِكْرى» و «لهم» تبيينٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «أنَّى» منصوباً على الظرفِ بالاستقرار في «لهم» ، فإن «لهم» وَقَعَ خبراً ل «ذِكْرى» . قوله: «وقد جاءَهم» حال مِنْ «لهم» . وقرأ زيد بن علي «مُعَلِّم» بكسر اللام.

15

قوله: {قَلِيلاً} : نعتٌ لزمانٍ أو مصدرٍ محذوف، أي: كَشْفاً قليلاً أو زماناً قليلاً.

16

قوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ} قيل: هو بدلٌ مِنْ «يَومَ تأتي» . وقيل: منصوبٌ بإضمارِ اذْكُر. وقيل: ب مُنْتَقِمون. وقيل: بما دَلَّ عليه «مُنْتَقِمون» وهو يَنْتقم. ورُدَّ هذا: بأنَّ ما بعد «إنَّ» لا يَعْمل فيما قبلها، وبأنه لا يُفَسَّر إلاَّ ما يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ.

قوله: «نَبْطِش» العامَّةُ على فتح النونِ وكسرِ الطاء أي: نَبْطِش بهم. وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء، وهي لغةٌ في مضارع بَطَشَ. والحسن وأبو رجاء وطلحة بضمِّ النونِ وكسرِ الطاءِ، وهو منقولٌ مِنْ بَطَشَ أي: تَبْطِشُ بهم الملائكةُ. والبَطْشَةُ على هذا يجوز أن تكونَ منصوبةً ب نُبْطِشُ على حَذْفِ الزائد نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] وأَنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ مقدر أي: تَبْطِشُ الملائكةُ بهم فيَبْطِشُون البطشةَ.

17

قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا} : قُرِئ «فَتَّنَّا» بالتشديدِ على المبالغة أو التكثيرِ لكثرةِ متعلَّقِه. و «جاءهم رسولٌ» يحتمل الاستئنافَ والحالَ.

18

قوله: {أَنْ أدوا} : يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ؛ لتقدُّمِ ما هو بمعنى القول، وأَنْ تكونَ المخفَّفَةَ، وأَنْ تكونَ الناصبةَ للمضارع، وهي تُوْصَلُ بالأمر. وفي جَعْلِها مخففةً إشكالٌ تَقَدَّم: وهو أنَّ الخبرَ في هذا البابِ لا يقع طلباً، وعلى جَعْلِها مصدريَّةً تكون على حَذْفِ الجرِّ أي: جاءهم بأَنْ أَدُّوا. و «عبادَ الله» يُحتمل أَنْ يكونَ مفعولاً به. وفي التفسير: أنَّه طلبَ منهم أَنْ يُؤَدُّوا إليه بني إسرائيل، ويَدُلُّ عليه {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} ، وأَنْ يكونَ منادى، والمفعولُ محذوفٌ أي: أَعْطوني الطاعةَ يا عبادَ الله.

19

قوله: {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ} : عطفٌ على «أَنْ» الأولى. والعامَّةُ على كسرِ الهمزةِ مِنْ قولِه: «إنِّي آتِيْكم» على الاستئنافِ. وقُرِئ بالفتح على تقديرِ اللامِ أي: وأَنْ لا تَعْلُوا لأنِّي آتِيْكم.

20

قوله: {أَن تَرْجُمُونِ} : أي: مِنْ أَنْ تَرْجُمون. وقوله: «إنِّي عُذْتُ» مستأنفٌ. وأدغم الذالَ في التاء أبو عمروٍ والأخَوان. وقد مَضَى توجيهُه في طه عند قوله: {فَنَبَذْتُهَا} [طه: 96] .

22

قوله: {أَنَّ هؤلاء} : العامَّةُ على الفتحِ بإضمارِ حرفِ الجرِّ أي: دعاه بأنَّ هؤلاء. وابنُ أبي إسحاق وعيسى والحسن بالكسرِ على إضمارِ القول عند البَصْرِيين، وعلى إجراءِ «دَعا» مُجْرى القول عند الكوفيين.

23

قوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي} : قد تقدَّم قراءتا الوصل والقطع. وقال الزمخشري: «وفيه وجهان: إضمارُ القولِ بعد الفاء: فقال أَسْرِ بعبادي، وجوابُ شرطٍ مقدرٍ، كأنَّه قال: إن كان الأمرُ - كما تقول - فَأَسْرِ بعبادي» . قال الشيخ: «وكثيراً ما يَدَّعي حَذْفَ الشرطِ ولا يجوزُ إلاَّ لدليلٍ واضحٍ كأَنْ يتقدَّمَه الأمرُ أو ما أشبهه» .

24

قوله: {رَهْواً} : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً على أنَّ «تَرَكَ» بمعنى صَيَّر، وأَنْ يكونَ حالاً على أنَّها ليسَتْ بمعناها. والرَّهْوُ قيل:

السكونُ، فالمعنى: اتْرُكْه ساكناً. يقال: رَهَا يَرْهُوا رَهْواً. ومنه جاءَتِ الخيلُ رَهْواً. قال النابغة: 4014 - والخيلَ تَمْزَعُ رَهْواً في أَعِنَّتِها ... كالطيرِ تَنْجُوْ مِنَ الشُّؤْبوب ذي البَرَدِ ورَهَا يَرْهُو في سيرِه. أي: تَرَفَّقَ. قال القطامي: 4015 - يَمْشِيْنَ رَهْواً فلا الأَعْجازُ خاذِلَةٌ ... ولا الصدورُ على الأعجازِ تَتَّكِلُ عن أبي عبيدةَ: رَهْواً: أي اتركْه مُنْفَتحاً فُرَجاً على ما تركْتَه. وفي التفسير: أنَّه لَمَّا انْفَلَق البحرُ لموسى وطَلَعَ منه خاف أن يتبعَه فرعونُ فأراد أَنْ يَضْرِبَه ليعودَ حتى لا يَلحقوه. فأَمَرَ أَنْ يتركَه فُرَجاً. وأصلُه مِنْ قولِهم: / رَها الرجلُ يَرْهُو رَهْواً فتح ما بينَ رِجْلَيْه، والرَّهْوُ والرَّهْوَةُ: المكانُ المرتفعُ والمنخفضُ يَجْتمع فيه فهو من الأضداد. والرَّهْوَةُ المرأةُ الواسعةُ الهَنِ. والرَّهْوُ: طائر يقال هو الكُرْكِيّ. وقد تقدَّم الكلامُ في الشعراء على نظير {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ} .

26

قوله: {وَمَقَامٍ} : العامَّةُ على فتح الميم وهو اسم مكان القيام. وابن هرمز وقتادة وابن السَّمَيْفع ونافعٌ في روايةِ خارجةَ بضمِّها اسمُ مكانٍ مِنْ أقام.

27

والنَّعْمَةُ بالفتح: نَضارةُ العيشِ ولَذاذَتُه. والجمهور على جَرِّها. ونَصَبَها أبو رجاءٍ عَطْفاً على «كم» أي: تركوا كثيراً مِنْ كذا، وتركوا نَعْمة. قوله: «فاكِهين» العامَّةُ على الألف أي: طَيِّبي الأنفسِ أو أصحابُ فاكهة ك لابنِ وتامرِ. وقيل: فاكهين لاهين. وقرأ الحسن وأبو رجاء «فَكِهين» أي: مُسْتَخِفِّين مُسْتهزئين. قال الجوهري: «يُقال: فَكِهَ الرجلُ بالكسرِ فهو فَكِهٌ إذا كان مَزَّاحاً والفَكِهُ أيضاً: الأشِرُ» .

28

قوله: {كَذَلِكَ} : يجوزُ أَنْ تكونَ الكافُ مرفوعةَ المحلِّ خبراً لمبتدأ مضمر أي: الأمرُ كذلك، وإليه نحا الزجَّاج. ويجوزُ أَنْ تكون منصوبةَ المحلِّ، فقَدَّرها الحوفيُّ: أَهْلكنا إهْلاكاً وانتقَمْنا انتقاماً كذلك. وقال الكلبيُّ: «كذلك أَفْعَلُ بمَنْ عَصاني» . وقيل: تقديرُه: يَفْعل فِعْلاً كذلك. وقال أبو البقاء: «تَرْكاً كذلك» فجعله نعتاً للتركِ المحذوفِ. وعلى هذه الأوجهِ كلِّها يُوْقَفُ على «كذلك» ويُبْتدأ «وأَوْرَثْناها» . وقال الزمخشري: «

الكافُ منصوبةٌ على معنى: مثلَ ذلك الإِخراجِ أَخْرَجْناهم منها وأَوْرَثْناها قوماً آخرين ليسوا منهم» ، فعلى هذا يكون «وأَوْرَثْناها» معطوفاً على تلك الجملةِ الناصبةِ للكاف، فلا يجوزُ الوقفُ على «كذلك» حينئذٍ.

29

قوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء} : يجوزُ أَنْ تكونَ استعارةً كقولِ الفرزدق: 4016 - الشمسُ طالِعَةٌ ليسَتْ بكاسِفَةٍ ... تَبْكي عليك نجومَ الليلِ والقمرا وقال جرير: 4017 - لَمَّا أتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ ... سُوْرُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ وقال النابغة: 4018 - بكى حارِثُ الجَوْلانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ ... وحَوْرَانُ منه خاشِعٌ مُتَضائِلُ

31

قوله: {مِن فِرْعَوْنَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلٌ من العذاب: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ عذابِ فرعونَ، وإمَّا على المبالغةِ جعلَه نفسَ العذابِ فأبدله منه. والثاني: أنه حالٌ من العذابِ تقديرُه: صادراً مِنْ فرعونَ.

وقرأ عبد الله {مِنَ عَذَابِ المهين} وهي مِنْ إضافةِ الموصوفِ لصفتِه؛ إذ الأصلُ: العذابُ المُهين، كالقراءةِ المشهورةِ. وقرأ ابن عباس «مَنْ فرعونُ» بفتح ميم «مَنْ» ورفع «فرعونُ» على الابتداءِ والخبرِ، وهو استفهامُ تحقيرٍ كقولِك: مَنْ أنتَ وزيداً. ثم بَيَّنَ حالَه بالجملة بعدُ في قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} .

32

قوله: {على عِلْمٍ عَلَى العالمين} : «على» الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ لأنَّها حالٌ من الفاعل في «اخْتَرْناهم» . والثانية متعلقةٌ ب «اخْتَرْناهم» . وفي عبارة الشيخ: أنَّه لَمَّا اختلفَ مدلولُها جاز تعلُّقُهما ب «اخْتَرْنا» . وأنشد الشيخُ نظيرَ ذلك: 4019 - ويَوْماً على ظَهْر الكَثِيْبِ تَعَذَّرَتْ ... عليَّ وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ ثم قال: «ف» على عِلْم «حالٌ: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول. و» على ظَهْر «حالٌ من الفاعل في» تَعَذَّرَتْ «. والعاملُ في الحال هو العاملُ في صاحبها» . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَه أولاً: «ولذلك تَعَلَّقا بفعلٍ واحدٍ لَمَّا اختلف المدلولُ» ينافي جَعْلَ الأولى حالاً؛ لأنَّها لم تتعلَّقْ به. وقولُه: «والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحبِها» لا يَنْفَعُ في ذلك.

37

قوله: {والذين مِن قَبْلِهِمْ} : يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ معطوفاً على «قومُ تُبَّع» . الثاني: أَنْ يكونَ مبتدأً، وخبرُه ما بعده مِنْ «أَهْلَكْناهم» ، وأمَّا على الأول ف «أَهْلَكْناهم» : إمَّا مستأنفٌ، وإمَّا حالٌ من الضمير الذي اسْتَكَنَّ في الصلة. الثالث: أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره «أَهْلَكْناهم» . ولا مَحَلَّ ل أَهْلكنا «حينئذٍ.

38

قوله: {لاَعِبِينَ} : حال. وقرأ عمرو بن عبيد «وما بينَهُنَّ» لأنَّ السماواتِ والأرضَ جمعٌ. والعامَّةُ «بينَهما» باعتبار النَوْعين.

39

قوله: {إِلاَّ بالحق} : حالٌ: إمَّا من الفاعلِ، وهو الظاهرُ، وإمَّا من المفعولِ أي: إلاَّ مُحِقِّين أو مُلْتَبِسين/ بالحق.

40

قوله: {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ} : العامَّةُ على رَفْعِ «ميقاتُهم» خبراً ل «إنَّ» . وقُرِئ بنصبِه على أنه اسمُ «إنَّ» و «يومَ الفصلِ» خبرُه. و «أَجْمعين» تأكيدٌ للضميرِ المجرور.

41

قوله: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي} : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من «يومَ الفصل» أو بياناً عند مَنْ لا يَشْتَرِط المطابقةَ تعريفاً وتنكيراً، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمار أَعْني. وأَنْ يكونَ صفةً ل «مِيقاتُهم» ولكنه بُنِي. قاله أبو البقاء. وهذا لا يتأتَّى عند البَصْريين لإِضافتِه إلى مُعْرَبٍ. وقد تقدَّمَ آخرَ المائدة، وأَنْ

يَنْتَصِبَ بفعلٍ يَدُلُّ عليه «يومَ الفَصْلِ» أي: يَفْصِلُ بينهم يومَ لا يُغْني. ولا يجوز أَنْ ينتصِبَ بالفصلِ نفسِه لِما يَلْزَمُ مِنْ الفَصْلِ بينهما بأجنبيّ وهو «ميقاتُهم» ، و «الفَصْل» مصدر لا يجوز فيه ذلك. وقال أبو البقاء: «لأنَّه قد أُخْبر عنه» ، وفيه تَجَوُّزٌ فإنَّ الإِخبارَ عَمَّا أُضِيْفَ إلى الفَصْلِ لاغي الفَصْلِ. قوله: «ولا هم» جُمِع الضميرُ عائداً به على «مَوْلَى» ، وإنْ كان مفرداً لأنه قَصَدَ معناه فجُمِعَ، وهو نكرةٌ في سِياق النفيِ فَعَمَّ.

42

قوله: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} يجوزُ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو قولُ الكسائيِّ - أنه منقطِعٌ. الثاني: أنه متصِلٌ تقديرُه: لا يُغْني قريبٌ عن قريبٍ إلاَّ المؤمنين فإنَّهم يُؤْذَنُ لهم في الشفاعةِ فيَشْفَعُون في بعضِهم. الثالث: أَنْ يكونَ مرفوعاً على البدليةِ مِنْ «مَوْلَى» الأول، ويكونُ «يُغْني» بمعنى يَنْفَعُ، قاله الحوفي. الرابع: أنه مرفوعُ المحلِّ أيضاً على البدلِ مِنْ واو «يُنْصَرُون» أي: لا يمنعُ من العذابِ إلاَّ مَنْ رحمه الله.

45

قوله: {كالمهل} : يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو كالمُهْلِ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «طعام الأثيم» . قال أبو البقاء: «لأنَّه لا عاملَ إذ ذاك» . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً، والعاملُ فيه معنى التشبيه، كقولك: زيدٌ أخوك شجاعاً. والأَثيم صفةُ مبالَغَةٍ. ويقال: الأَثُوم كالصَّبورِ والشَّكور. والمُهْل: قيل دُرْدِيُّ الزيت. وقيل عَكَر القَطِران. وقيل: ما أُذِيْبَ مِنْ ذَهَبٍ أو فضة. وقيل:

ما أُذِيْبَ منهما ومِنْ كُلِّ ما في معناهما من المُنْطبعات كالحديدِ والنحاس والرَّصاص. والمَهْلُ بالفتح: التُّؤَدَةُ والرِّفْقُ. ومنه {فَمَهِّلِ الكافرين} [الطارق: 17] . وقرأ الحسن «كالمَهْل» بفتح الميم فقط، وهي لغةٌ في المُهْلِ بالضم. قوله: «يَغْلي» قرأ ابن كثير وحفصٌ بالياءِ مِنْ تحتُ. والفاعلُ ضميرٌ يعود على طعام. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يعودَ على الزَّقُّوم. وقيل: يعود على المُهْلِ نفسِه، و «يَغْلي» حالٌ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ أي: مُشْبهاً المُهْلَ غالياً. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنَ المُهْلِ نفسِه. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو يَغْلي أي: الزقُّوم أو الطعامُ. والباقون «تَغْلي» بالتاء مِنْ فوقُ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الشجرةِ، والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ على رَأْيٍ، أو خبرُ مبتدأ مضمر أي: هي تَغْلي.

46

قوله: {كَغَلْيِ الحميم} : نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ مِنْ ضميرِه أي: تَغْلي غَلْياً مثلَ غَلْيِ الحميمِ أو يَغْليه مُشْبهاً غَلْيَ الحميمِ.

47

قوله: {فاعتلوه} : قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابن عامر بضمِّ عين «اعْتُلوه» . والباقون بكسرِها، وهما لغتان في مضارع عَتَله أي: ساقَه بجفاءٍ وغِلْظَة ك عَرَش يَعْرِش ويَعْرُش. والعُتُلُّ: الجافي الغليظُ.

49

قوله: {إِنَّكَ أَنتَ} : قرأه الكسائيُّ بالفتحِ على معنى العلَّةِ أي: لأنَّك. وقيل: تقديرُه: ذُقْ عذابَ أنَّك أنت العزيزُ. والباقون بالكسرِ على الاستئنافِ المفيدِ للعلَّة، فتتحدُ القراءاتان معنىً. وهذا الكلامُ على سبيلِ التهكمِ، وهو أغيَظُ للمُسْتَهْزَأ به، ومثلُه قولُ جريرٍ لشاعرٍ سَمَّى نفسه زهرةَ اليمن: 4020 - ألَمْ يَكُنْ في وُسُومٍ قد وَسَمْتُ بها ... مَنْ كان موعظةً يا زهرةَ اليَمَنِ وكان هذا الشاعرُ قد قال: 4021 - أبْلِغْ كُلَيْباً وأَبْلِغْ عَنْك شاعرَها ... أنِّي الأَغَرُّ وأنِّي زهرةُ اليمنِ

52

قوله: {فِي جَنَّاتٍ} : / يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه: «في مَقام» بتكرير العاملِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً.

53

قوله: {يَلْبَسُونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستكِنِّ في الجارِّ، وأَنْ يكونَ خبراً ل «إنَّ» فيتعلَّقَ الجارُّ به، وأَنْ يكون مُسْتأنفاً.

قوله: «مُتقابلين» حالٌ مِنْ فاعلِ «يَلْبَسون» وقد تقدَّم تفسيرُ هذه الألفاظِ: السُّنْدس والإِستبرق والمقام.

54

قوله: {كَذَلِكَ} : في هذه الكاف وجهان، أحدُهما: النصبُ نعتاً لمصدرٍ أي: نفعلُ بالمتقين فعلاً كذلك أي: مِثْلَ ذلك الفعلِ. والثاني: الرفعُ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: الأمرُ كذلك. وقَدَّر أبو البقاء قبلَه جملةً حاليةً فقال: «تقديرُه: فَعَلْنا ذلك والأمرُ كذلك» ، ولا حاجةَ إليه. والوقفُ على «كذلك» ، والابتداءُ بقولِه «وزَوَّجْناهم» . قوله: «بِحُوْرٍ عِيْنٍ» العامَّةُ على تنوين «حور» مَوْصوفين ب «عِيْن» . وعكرمة لم يُنَوِّن، أضافهنَّ لأنهنَّ ينقسِمْنَ إلى عِيْنٍ وغيرِ عِيْنٍ. وتقدَّم تفسيرُ الحُور العين.

55

قوله: {يَدْعُونَ} : حالٌ مِنْ مفعولِ «زَوَّجْناهم» ، ومفعولُه محذوفٌ أي: يَدْعُوْن الخَدَمَ بكلِّ فاكهةٍ. قوله: «آمِنين» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ثانية، وأَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ «يَدْعُون» فتكونَ حالاً متداخلةً.

56

قوله: {لاَ يَذُوقُونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «آمِنين» ، وأَنْ يكونَ حالاً ثالثةً أو ثانيةً مِنْ مفعولِ «زَوَّجْناهم»

و «آمنين» حالٌ مِنْ فاعلِ «يَدْعُون» كما تقدَّمَ، أو صفةٌ ل «آمِنين» أو مستأنفٌ. وقرأ عمرو بن عبيد «لا يُذاقون» مبنياً للمفعول. قوله: {إِلاَّ الموتة الأولى} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه منقطعٌ أي: لكنْ الموتةُ الأولى قد ذاقُوها. الثاني: أنه متصلٌ وتَأَوَّلوه: بأنَّ المؤمنَ عند موتِه في الدنيا بمنزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطاه منها، أو لِما يَتَيَقَّنُه مِنْ نعيمِها. الثالث: أنَّ «إلاَّ» بمعنى سِوى نقله الطبريُّ وضَعَّفَه. قال ابن عطية: «وليس تَضْعيفُه بصحيحٍ، بل هو كونُها بمعنى سِوى مستقيمٌ مُتَّسِقٌ» . الرابع: أن «إلاَّ» بمعنى بَعْد. واختاره الطبريُّ، وأباه الجمهورُ؛ لأنَّ «إلاَّ» بمعنى بعد لم يَثْبُتْ. وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف اسْتُثْنِيَتِ الموتةُ الأُولى المَذُوْقَةُ قبلَ دخول الجنةِ مِنَ الموتِ المنفيِّ ذَوْقُه؟ قلت: أُريدَ أَنْ يُقالَ: لا يَذُوْقون فيها الموتَ البتةَ، فوضع قولَه {إِلاَّ الموتة الأولى} مَوْضِعَ ذلك؛ لأنَّ الموتَةَ الماضيةَ مُحالٌ ذَوْقُها في المستقبل فهو من بابِ التعليقِ بالمُحال: كأنَّه قيل: إنْ كانت الموتةُ الاُولى يَسْتقيم ذَوْقُها في المستقبلِ؛ فإنَّهم يَذْوْقونها في الجنة» . قلت: وهذا عند علماءِ البيانِ يُسَمَّى نَفْيَ الشيء بدليلِه. ومثلُه قول النابغةِ: 4022 - لا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُمْ ... بهنَّ فُلولٌ مِنْ قِراعِ الكتائبِ يعني: إنْ كان أحدٌ يَعُدُّ فُلولَ السيوفِ مِنْ قِراع الكتائب عَيْباً فهذا

عيبُهم، لكنَّ عَدَّهُ من العيوبِ مُحالٌ، فانتفى عنهم العيبُ بدليل تعلُّقِ الأمرِ على مُحال. وقال ابن عطية بعد ما قَدَّمْتُ حكايَته عن الطبريِّ: فَبيَّنَ أنه نَفَى عنهم ذَوْقَ الموتِ، وأنه لا ينالُهم من ذلك غيرُ ما تقدَّم في الدنيا «. يعني أنه كلامٌ محمولٌ على معناه. قوله:» ووَقاهم «الجمهورُ على التخفيف. وقرأ أبو حيوةَ» ووقَّاهم «بالتشديد على المبالغة، ولا يكونُ للتعدية فإنَّه متعدٍّ إلى اثنين قبلَ ذلك.

57

قوله: {فَضْلاً} : هذا مفعولٌ مِنْ أجلِه، وهو مُرادُ مكي حيث قال: «مصدرٌ عَمِلَ فيه» يَدْعُون «. وقيل: العاملُ فيه» ووَقاهم «وقيل: آمِنين» فهذا إنما يظهر على كونِه مفعولاً مِنْ أجله. على أنَّه يجوزُ أن يكونَ مصدراً لأنَّ يَدْعُون وما بعده من باب التفضُّلِ، فهو مصدرٌ مُلاقٍ لعاملِه في المعنى. وجَعَله أبو البقاء منصوباً بمقدر أي: تَفَضَّلْنا بذلك فَضْلاً أي: تَفَضُّلاً.

58

قوله: {يَسَّرْنَاهُ} : أي: القرآن بلسانك أي بلغتك. والباءُ للمصاحبة/.

59

قوله: {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} : مفعولا الارتقاب محذوفان أي: فارتقب النصرَ مِنْ رَبِّك إنهم مُرْتَقِبون بك ما يتمنَّوْنَه من الدوائرِ والغوائلِ ولن يَضِيْرَك ذلك.

الجاثية

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {تَنزِيلُ} : قد تقدَّم مثلُه أولَ غافر. وقال أبو عبدِ الله الرازيُّ: «العزيزِ الحكيمِ إنْ كانا صفةً لله كان حقيقةً، وإنْ كانا صفةً للكتاب كان مجازاً» . وقد رَدَّ عليه الشيخ جَعْلَه إياهما صفةً للكتاب قال: «إذ لو كان كذلك لَوَلِيَتِ الصفةُ موصوفَها فكان يُقال: تَنزيلُ الكتابِ العزيزِ الحكيمِ من الله» قال: «لأنَّ» من الله «إنْ تَعَلَّقَ ب» تَنْزيل «وتنزيل خبرٌ ل حم أو لمبتدأ محذوفٍ لَزِمَ الفَصْلُ به بين الصفة والموصوف، ولا يجوزُ، كما لا يجوزُ» أعجبني ضَرْبُ زيدٍ بسوطٍ الفاضلِ؛ أو في موضع الخبر، و «تنزيلُ» مبتدأ، فلا يجوز الفصْلُ به أيضاً لا يجوز: ضرْبُ زيدٍ شديدٌ الفاضلِ «.

4

قوله: {وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه معطوفٌ على «خَلْقِكم» المجرورِ ب «في» والتقديرُ: وفي ما يَبُثُّ. والثاني: أنه معطوفٌ على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق، وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ

أُكِّد نحو: «مررتُ بك أنت وزيدٍ» يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول: إن أُكِّد جازَ، وإلاَّ فلا، فقولُه مذهبٌ ثالثٌ. قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} و {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قرأ «آياتٍ» بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان، والباقون برفعهما. ولا خلافَ في كسرِ الأولى لأنها اسمُ «إنَّ» . فأمَّا {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالكسر فيجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أنها معطوفةٌ على اسم «إنَّ» ، والخبرُ قولُه: «وفي خَلْقِكم» . كأنه قيل: وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آياتٍ. والثاني: أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيداً لآيات الأُولى، ويكونُ «في خَلْقكم» معطوفاً على «في السماوات» كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيداً. ونظيرُه أَنْ تقولَ: «إنَّ في بيتك زيداً وفي السوق زيداً» فزيداً الثاني تأكيدٌ للأول، كأنك قلت: إنَّ زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولَيْ عاملَيْن البتةَ. وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يُقرأ بكسر التاءِ، وفيه وجهان، أحدهما: أنَّ «إنَّ» مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة «إنَّ» الأُولى عليها، وليسَتْ «آيات» معطوفةً على «آيات» الأولى لِما فيه من العطفِ على معمولَيْ عامليْن. والثاني: أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد لأنها مِنْ لفظ «آيات» الأُوْلى، وإعرابُها كقولِك: «إن بثوبك دماً وبثوبِ زيد دماً» ف «دم» الثاني مكررٌ؛ لأنَّك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه «انتهى.

فقوله:» وليسَتْ معطوفةً على آياتِ الأولى لِما فيه من العطفِ على عامِلَيْن «وَهَمٌ؛ أين معمولُ العاملِ الآخر؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ» في «ساقطةٌ مِنْ قولِه:» وفي خَلْقِكم «أو اختلطَتْ عليه {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بهذه؛ لأنَّ تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضاً. وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضاً، أحدهما: أَنْ يكونَ» في خَلْقِكم «خبراً مقدَّماً، و» آياتٌ «مبتدأً مؤخراً، وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ. ب» إنَّ «. والثاني: أَنْ تكون معطوفةً على» آيات «الأولى باعتبار المحلِّ عند مَنْ يُجيزُ ذلك، لا سيما عند مَنْ يقولُ: إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ. وأمَّا قولُه: {واختلاف الليل والنهار} الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن يقرآن» آيات «بالكسرِ، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ، فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها كلاماً كثيراً، وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ، وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على عاملين. قلت: والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءةِ الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه أيضاً بقراءة الباقين، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. فأما قراءةُ الأخوين ففيها أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ «اختلافِ الليلِ» مجروراً ب «في» مضمرةً، وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ، وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ عليه دليلٌ/ جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه. وأنشَدَ سيبويه: 4023 - الآن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا ... فاذهَبْ فما بك والأيامِ من عَجَبِ تقديرُه: وبالأيام لتقدُّم الباءِ في «بك» ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف لأنه ليس مِنْ مذهبه - كما عَرَفْتَ - العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ

الجارِّ، فالتقديرُ في هذه الآيةِ: «وفي اختلافِ آيات» ف «آيات» على ما تقدَّم من الوجهين في «آيات» قبلَها: العطفِ أو التأكيدِ. قالوا: ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبد الله «وفي اختلافِ» تصريحاً ب «في» . فهذان وجهان. الثالث: أَنْ يُعْطَفَ «اختلافِ» على المجرورِ ب «في» وآياتٍ على المنصوبِ ب «إنَّ» . وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ، وتحقيقُه على معمولَيْ عاملين: وذلك أنَّك عَطَفْتَ «اختلاف» على خَلْق وهو مجرورٌ ب «في» فهو معمولُ عاملٍ، وعَطَفْتَ «آياتٍ» على اسمِ «إنَّ» وهو معمولُ عاملٍ آخرَ، فقد عَطَفْتَ بحرفٍ واحدٍ وهو الواوُ معمولين وهما «اختلاف» و «آيات» على معمولَيْن قبلَهما وهما: خَلْق وآيات. وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ. وفي المسألة أربعةُ مذاهب: المَنْعُ مطلقاً، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين. قالوا: لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ؛ لأنه لو جاز في عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ، ولا قائل به، ولأنَّ حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأنَّ القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه، والأحسنُ عنده أن لا يجوزَ، فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللَّهِ، ولأنه بمنزلةِ التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد، وهو غيرُ جائزٍ. قال ابن السراج: «العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ، غيرُ مَسْموع من العرب» ثم حَمَل ما في هذه الآيةِ على التكرارِ للتأكيد. قال الرمَّاني: «هو كقولِك:» إنَّ في الدارِ زيداً والبيتِ زيداً «فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ

الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جداً، لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللَّهِ إلاَّ عليه. وقد بَيَّنْتُ القراءةَ بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ، والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه، فقد تناهى في العيب، فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآيةِ إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه غيرُه» . قلت: وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآيةِ تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها. وقال الزجاج: «ومثلُه في الشعر: 4024 - أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا وأنشد الفارسيُّ للفرزدق: 4025 - وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه ... وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق وقول الآخر: 4026 - أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْباً حُرَّاً ... بالكلبِ خيراً والحَماةِ شَرا قلت: أمَّا البيتُ الأولُ فظاهرُه أنه عَطَفَ و» نارٍ «على» امرئ «المخفوض ب» كل «و» ناراً «الثانية على» امرَأ «الثاني. والتقدير: وتحسبين كلَّ نارٍ ناراً، فقد عطف على معمولَيْ عاملَيْن. والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه» جَنْبَيْه «على» بلبانه «وعَطَفَ» حَرَّ النارِ «على» الصلا «، والتقدير: وباشر بجَنْبَيْه حرَّ النار، والبيتُ

الثالث عَطَفَ فيه» الحَماة «على» الكلب «و» شَرًّا «على» خيراً «، تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شراً. وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ لكنه عُورض: بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمراً ضعيفٌ جداً، ألا ترى أنَّه لا يجوزُ» مررتُ زيدٍ «بخفضِ» زيد «إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه: 4027 - إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ ... أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ يريد: إلى كليب، وقولِ الآخر: 402 - 8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأعلامِ أي إلى الأعلام، فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه. وأُجيب عن ذلك: بأنه لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه، فكأنَّه ملفوظٌ به بخلافِ ما أَوْرَدْتموه في المثالِ والشعر. والمذهب الثاني: التفصيلُ - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ، أحدُهما: أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا. والثاني: أن يتصلَ المعطوفُ بالعاطفِ أو يُفْصَلَ بلا، مثالُ الأولِ الآيةُ الكريمةُ والأبياتُ التي قَدَّمْتُها. ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآيةِ. ومثالُ الفَصْل ب لا قولك:» ما في الدارِ

زيدٌ ولا الحجرةِ عمروٌ «، فلو فُقِدَ الشرطانِ نحو: إنَّ/ زيداً شَتَمَ بِشْراً، وواللَّهِ خالداً هنداً، أو فُقِدَ أحدُهما نحو: إنَّ زيداً ضربَ بَكْراً، وخالداً بشراً. فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند الجميعِ. وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ. الثالث: أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارَّاً، وأَنْ يكونَ متقدماً، نحوَ الآيةِ الكريمةِ، فلو لم يتقدَّمْ نحوَ:» إنَّ زيداً في الدار، وعمراً السوقِ «لم يَجُزْ، وكذا لو لم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه. الرابع: الجوازُ، ويُعْزَى للفَرَّاء. الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءةِ المذكورة: أَنْ تنتصِبَ» آيات «على الاختصاصِ. قاله الزمخشريُّ، وسيأتي فيما أَحْكيه عنه. وأمَّا قراءةُ الرفعِ ففيها أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ الأولُ والثاني ما تقدَّم في {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . الثالث: أَنْ تكونَ تأكيداً لآيات التي قبلها، كما كانَتْ كذلك في قراءةِ النصبِ. الرابع: أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ العطفِ على عامِلَيْن؛ وذلك أنَّ «اختلافِ» عطفٌ على «خَلْقِكم» وهو معمولٌ ل «في» و «آيات» معطوفةٌ على «آيات» قبلَها، وهي معمولةٌ للابتداءِ فقد عَطَفَ على معمولَيْ عامِلَيْنِ في هذه القراءةِ أيضاً. قال الزمخشري: «قُرِئَ {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالرفع والنصبِ على قولِك:» إنَّ زيداً في الدار وعمراً في السوقِ، أو وعمروٌ في السوق «. وأمَّا قولُه: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ فالعاملان في النصبِ هما:» إنَّ «، و» في «أُقيمت الواوُ مُقامَهما فعَمِلَتْ الجرَّ في و {واختلاف اليل والنهار} والنصبَ في» آياتٍ «.

وإذا رَفَعْتَ فالعاملانِ: الابتداءُ، و» في «عملت الرفع في» آيات «والجرَّ في» اختلاف «» . ثم قال في توجيهِ النصبِ: «والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ المجرور» . الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ «آياتٌ» على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي آياتٌ. وناقَشَه الشيخُ فقال: «ونسبةُ الجرِّ والرفعِ، والجرِّ والنصبِ للواوِ ليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الصحيحَ من المذاهبِ أنَّ حرفَ العطفِ لا يعملُ» قلت: وقد ناقشه الشيخُ شهابُ الدين أبو شامةَ أيضاً فقال: «فمنهم مَنْ يقولُ: هو على هذه القراءةِ أيضاً - يعني قراءةَ الرفعِ - عطفٌ على عاملَيْنِ وهما حرفُ» في «، والابتداءُ المقتضي للرفعِ. ومنهم مَنْ لا يُطْلِقُ هذه العبارةَ في هذه القراءةِ؛ لأنَّ الابتداءَ ليس بعاملٍ لفظي» . وقُرئ «واختلافُ» بالرفعِ «آيةٌ» بالرفعِ والتوحيدِ على الابتداء والخبر، وكذلك قُرئ {وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٌ آيةٌ} بالتوحيد. وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى «وتصريف الريح» كذا قال الشيخ. قلت وقد قرأ بهذه القراءةِ حمزةُ والكسائيُّ أيضاً، وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ.

6

قوله: {نَتْلُوهَا} : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ل «تلك» و «آيات الله» بدلٌ أو عطفُ بيانٍ. ويجوزُ أَنْ تكونَ «تلك آيات» مبتدأً أو خبراً،

و «نَتْلُوها» حالٌ. قال الزمخشري: «والعاملُ ما دَلَّ عليه» تلك «مِنْ معنى الإِشارةِ ونحوُه: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] . قال الشيخ:» وليس نحوَه؛ لأنَّ في {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] حرفَ تنبيه. وقيل: العاملُ في الحالِ ما دَل عليه حرفُ التنبيهِ أي: تَنَبَّهْ. وأمَّا «تلك» فليس فيها حرفُ تنبيهٍ؛ فإذا كان حرفُ التنبيهِ عاملاً بما فيه مِنْ معنى التنبيهِ، لأنَّ الحرفَ قد يَعْمَلُ في الحال، فالمعنى: تَنَبَّه لزيدٍ في حال شيخِه أو في حال قيامِه. وقيل: العاملُ في مثل هذا التركيبِ فعلٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه المعنى، أي: انظرْ إليه في حالِ شيخه، ولا يكون اسمُ الإِشارةِ عاملاً ولا حرفُ التنبيهِ إنْ كان هناك. قلت: بل الآيةُ نحوَ {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] من حيثيةِ نسبةِ العملِ لاسمِ الإِشارةِ. غايةُ ما ثَمَّ أنَّ في الآيةِ الأخرى ما يَصْلُحُ أَنْ يكونَ عاملاً، وهذا لا يَقْدَحُ في التنظيرِ إذا قَصَدْتَ جهةً مشتركةً. وأمَّا إضمارُ الفعلِ فهو مشتركٌ في الموضعَيْن عند مَنْ يَرَى ذلك. قال ابنُ عطيَة: «وفي» نتْلوها «حَذْفُ مضافٍ أي: نَتْلُوْ شَأْنَها وشَرْحَ العِبْرَةِ فيها. ويُحتمل أَنْ يريدَ بآيات الله القرآنَ المنزَّلَ في هذا المعنى، فلا يكونُ فيها حَذْفُ مضافٍ» / وقرأ بعضُهم «يَتْلوها» بياءِ الغَيْبةِ عائداً على الباري تعالى. و «بالحَقِّ» حالٌ من الفاعل أي: مُلْتَبسِينَ بالحق، ومن المفعولِ أي: مُلْتَبسةً بالحقِّ. ويجوزُ أَنْ تكونَ للسببيَّةِ فتتعلَّقَ بنفس «نَتْلوها» . قوله: {بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ} . قال الزمخشريُّ: «أي: بعد آياتِ اللَّهِ فهو

كقولِكَ: أَعْجبني زيدٌ وكرمُه تريدُ كرمَ زيدٍ» . ورَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّه ليس مُراداً، بل المرادُ إعجابان، وبأنَّ فيه إقحامَ الأسماءِ مِنْ غيرِ ضرورة. قال: «وهذا قَلْبٌ لحقائقِ النحو» . وقرأ الحرميَّان وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ «يُؤْمنون» بياء الغيبة. والباقون بتاءِ الخطاب. وقوله: «فبأيِّ» متعلِّقٌ به، قُدِّم لأنَّ له صدرَ الكلامِ.

8

قوله: {يَسْمَعُ} : يجوزُ فيه أَنْ يكونَ مستأنفاً أي: هو يَسْمَعُ، أو دونَ إضمارِ «هو» ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير في «أثيم» وأَنْ يكونَ صفةً. قوله: «تُتْلَى عليه» حالٌ مِنْ «آياتِ الله» ولا يَجيْءُ فيه الخلافُ: وهو أنه يجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً؛ لأنَّ شرطَ ذلك أَنْ يقعَ بعدها ما لا يُسْمَعُ نحو: «سمعت زيداً يقرأ» . أمَّا إذا وقع بعدها ما يُسْمَعُ نحو: «سمعتُ قراءةَ زيدٍ يترنَّم بها» فهي متعدية لواحدٍ فقط، والآياتُ مِمَّا يُسْمَعُ. قوله: «ثم يُصِرُّ» قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما معنى» ثم «في قوله: {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} ؟ قلت: كمعناه في قولِ القائل: 4029 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يرى غَمَراتِ الموتِ ثم يزورُها وذلك أنَّ غمراتِ الموتِ حقيقةٌ بأَنْ ينجوَ رائيها بنفسِه ويطلبَ الفِرارَ

منها، وأمَّا زَوْراتُها والإِقدامُ على مزاوَلَتِها فأمرٌ مُسْتَبْعَدٌ. فمعنى» ثم «الإِيذانُ بأنَّ فِعْلَ المُقْدِمِ عليها بعدما رآها وعاينها شيءٌ يُسْتَبْعَدُ في العاداتِ والطباعِ، وكذلك آياتُ اللَّهِ الواضحةُ الناطقةُ بالحق. فَمَنْ تُلِيَتْ عليه وسَمِعها كان مُسْتَبْعَداً في القول إصرارُه على الضلالةِ عندها واستكبارُه عن الإِيمان بها» . قوله: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكون مستأنفةً، وأَنْ تكونَ حالاً.

9

قوله: {وَإِذَا عَلِمَ} : العامَّةُ على فتح العينِ وكسرِ اللامِ خفيفةً مبنياً للفاعلِ. وقتادة ومطر الوراق «عُلِّم» مبنياً للمفعول مشدَّداً. قوله: «اتَّخَذها» الضميرُ المؤنث فيه وجهان، أحدهما: أنه عائد على «آياتِنا» . والثاني: أنه يعودُ على «شيئاً» وإنْ كان مذكراً؛ لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية: 4030 - نفْسي بشيءٍ من الدنيا مُعَلَّقَةٌ ... اللَّهُ والقائمُ المهدِيُّ يَقْضِيها لأنه أراد ب «شيء» جاريةً يقال لها: عُتْبَة. قوله: «أولئك» إشارةٌ إلى معنى «كلِّ أَفَّاكٍ» حُمِل أولاً على لفظها فَأُفْرِدَ، ثم على معناها فَجُمِعَ كقولِه: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] . قوله: {وَلاَ مَا اتخذوا} عطف على «ما كَسَبوا» ، و «ما» فيهما: إمَّا

مصدريةٌ أو بمعنى الذي أي: لا يُغْني كَسْبُهُمْ ولا اتِّخاذُهم، أو الذي كَسَبُوه ولا الذي اتَّخذوه.

11

وقوله: {مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} : قد ذُكِر في سبأ.

13

قوله: {جَمِيعاً مِّنْهُ} : «جميعاً» حالٌ مِنْ {مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أو توكيدٌ. وقد عدَّها ابنُ مالكٍ في ألفاظِه. و «منه» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «جميعاً» ، وأَنْ يتعلَّقَ ب «سَخَّر» أي: هو صادرٌ مِنْ جهته ومِنْ عندِه. وجَوَّزَ الزمخشريُّ في «منه» أَنْ يكونَ خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي جميعاً منه، وأَنْ تكونَ {وَمَا فِي الأرض} مبتدأً، و «منه» خبرَه. قال الشيخ: «وهذان لا يجوزان إلاَّ على رَأْيِ الأخفش مِنْ حيث إنَّ الحالَ تَقدَّمَتْ بمعنى جميعاً، فقُدِّمَتْ على عاملِها المعنويِّ، يعني الجارَّ، فهي نظيرُ:» زيد قائماً في الدار «. والعامَّةُ على» مِنْه «جارّاً ومجروراً. [وقرأ] ابن عباس بكسرِ الميمِ وتشديدِ النونِ ونصبِ التاءِ، جعله مصدراً مِنْ: مَنَّ يَمُنَّ مِنَّةً، فانتصابُه عنده على المصدرِ المؤكِّد: إمَّا بعاملٍ مضمرٍ، وإمَّا بسَخَّر؛ لأنَّه بمعناه. قال أبو حاتم:» سَندُ هذه القراءةِ إلى ابنِ عباسِ مظلمٌ «. قلت: قد رُوِيَتْ أيضاً عن جماعة جِلَّةٍ غيرِ ابنِ عباس، فنقلها ابنُ خالويه عنه وعن

عبيد بن عمير، ونقلها صاحبُ» اللوامح «وابنُ جني، عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير. وقرأ مَسْلمة بن محارب كذلك، إلاَّ أنَّه رفع التاءَ جَعَلَها خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي منه. وقرأ أيضاً في روايةٍ أخرى بفتحِ الميم وتشديدِ النون وهاءِ كنايةٍ مضمومة، جعله مصدراً مضافاً لضمير الله تعالى. ورَفْعُه من وجهين، أحدهما بالفاعلية ب» سَخَّر «أي: سَخَّر لكم هذه الأشياءَ مَنُّه عليكم. والثاني: أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو، أو ذلك مَنُّه عليكم.

14

قوله: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} : قد تقدَّم نظيرُه في سورة إبراهيم. قوله: «ليَجْزِيَ» قرأ ابنُ عامر والأخَوان «لنجزيَ» بنونِ العظمةِ أي: لنجزيَ نحن. وباقي السبعة «ليجزِيَ» بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للفاعلِ أي: ليجزيَ اللَّهُ. وأبو جعفر بخلافٍ عنه وشيبةُ وعاصم في روايةٍ كذلك، إلاَّ أنه مبنيٌّ للمفعولِ. هذا مع نصبِ «قوماً» . / وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: ضميرُ المفعولِ الثاني عادَ الضميرُ عليه لدلالةِ السِّياقِ تقديرُه: ليُجْزَى هو أي: الخيرُ قوماً. والمفعول الثاني مِنْ بابِ «أَعْطى» يقومُ مَقامَ الفاعلِ بلا

خلافٍ. ونظيرُه: «الدرهمُ أُعْطي زيداً» . الثاني: أنَّ القائمَ مقامَه ضميرُ المصدرِ المدلولِ عليه بالفعلِ أي: ليُجْزَى الجزاءُ. وفيه نظر؛ لأنه لا يُتْرَكُ المفعول به ويُقام المصدرُ ولا سيما مع عَدَم التصريحِ به. الثالث: أنَّ القائمَ مَقامَه الجارُّ والمجرورُ. وفيه حُجَّةٌ للأخفشِ والكوفيين، حيث يُجيزون نيابةَ غيرِ المفعولِ به مع وجودِه وأنشدوا: 4031 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لَسُبَّ بذلك الجَرْوِ الكِلابا [وقوله] : 4032 - لم يُعْنَ بالعلياءِ إلاَّ سَيِّدا ... والبصريون لا يُجيزونه.

18

قوله: {على شَرِيعَةٍ} : هو المفعولُ الثاني ل «جَعَلْناك» . والشريعةُ في الأصلِ: ما يَرِدُه الناسُ من المياهِ في الأنهارِ. يقال

لذلك الموضع: شَرِيعة. والجمعُ شرائِع قال: 4033 - وفي الشَّرائِع مِنْ جَيْلانَ مُقْتَنِصٌ ... رَثُّ الثيابِ خَفِيُّ الشخصِ مُنْسَرِبُ فاسْتُعير ذلك للدين لأنَّ العبادَ يَرِدُوْن ما تَحْيا به نفوسُهم.

20

قوله: {هذا بَصَائِرُ} : أي: هذا القرآنُ. جمعُ «بَصيرة» باعتبارِ ما فيه. وقُرِئ «هذه» رُجوعاً إلى الآياتِ؛ ولأنَّ القرآنَ بمعناها كقولِه: 4034 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سائِلْ بني أَسَدٍ ما هذه الصَّوْتُ لأنه بمعنى الصيحة.

21

قوله: {أَمْ حَسِبَ} : «أم» منقطعةٌ، فَتُقَدَّر ب بل والهمزةِ، أو ب بل وحدها، أو بالهمزة وحدَها. وتقدم تحقيق هذا. قوله: {كالذين آمَنُواْ} : هو المفعولُ الثاني للجَعْل أي: أَنْ نجعلَهم كائنين كالذين آمنوا أي: لا يَحْسَبُوْن ذلك، وقد تَقَدَّمَ في سورة الحج: أنَّ الأخَوَيْن وحفصاً قرؤُوا هنا «سواءً» بالنصب، والباقون

بالرفع، ووَعَدْتُ بالكلام عليه هنا، فأقول وبالله التوفيق: أمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تَنْتَصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ وهما: «كالذين آمنوا» ، ويكونُ المفعولُ الثاني للجَعْل «كالذين آمنوا» أي: أحَسِبوا أَنْ نَجْعَلَهم مثلَهم في حالِ استواءِ مَحْياهم ومماتِهم ليس الأمرُ كذلك. الثاني: أَنْ يكونَ «سواءً» هو المفعولَ الثاني للجَعْل، و «كالذين» في محلِّ نصبٍ على الحال أي: لن نجعلَهم حالَ كونِهم مثلَهم سواءً، وليس معناه بذاك. الثالث: أَنْ يكونَ «سواءً» مفعولاً ثانياً ل «حَسِب» . وهذا الوجهُ نحا إليه أبو البقاء، وأظنُّه غَلَطاً لِما سَيَظْهَرُ لك فإنَّه قال: «ويُقْرأ بالنصب. وفيه وجهان، أحدهما: هو حالٌ من الضميرِ في الكافِ أي: نجعلَهم مثلَ المؤمنين في هذه الحالِ. والثاني: أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً ل» حَسِب «والكافُ حالٌ، وقد دَخَلَ استواءُ مَحْياهم وممَاتُهم في الحُسْبان، وعلى هذا الوجهِ مَحْياهم ومماتُهم مرفوعان ب» سَواء «؛ لأنَّه قد قَوِيَ باعتمادِه» انتهى. فقد صَرَّح بأنه مفعولٌ ثانٍ للحُسْبان. وهذا لا يَصِحُّ البتةَ؛ لأنَّ «حَسِبَ» وأخواتِها إذا وَقَعَ بعدها «أنَّ» المشددةُ أو «أَنْ» المخففةُ أو الناصبةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين، وهنا قد وَقع بعد الحُسْبان «أنْ» الناصبةُ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ، فَمِنْ أين يكونُ «سواءً» مفعولاً ثانياً ل حَسِب؟ فإنْ قلتَ: هذا الذي قُلْتُه رأيُ الجمهورِ سيبويهِ وغيرِه، وأمَّا غيرُهم كالأخفشِ فيدَّعي أنها تَسُدُّ مَسَدَّ واحدٍ. إذا تقرَّر هذا فقد يجوزُ أنَّ أبا البقاءِ ذَهَبَ هذا المذهبَ، فأعرب «أَنْ نجعلَهم» مفعولاً أولَ و «سواءً» مفعولاً ثانياً.

فالجواب: أنَّ الأخفشَ صَرَّحَ بأنَّ المفعولَ الثاني حينئذٍ يكونُ محذوفاً. ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّه لا يُحْذَفُ امتنع مِنْ وجهٍ آخرَ: وهو أنه قد رفع به «محياهُم ومماتُهم» لأنه بمعنى مُسْتَوٍ كما تقدَّم، ولا ضميرَ يَرْجِعُ مِنْ مرفوعِه إلى المفعولِ الأولِ، بل رَفَعَ أجنبياً من المفعولِ الأولِ. وهو نظيرُ: «حَسِبْتُ قيامَك مُسْتوياً ذهابُك وعَدَمُه» . ومَنْ قرأ بالرفع فتحتمل قراءتُه وجهَيْن، أحدهما: أَنْ يكونَ «سواءٌ» خبراً مقدماً. و «مَحْياهم» مبتدأً مؤخراً/ ويكون «سواء» مبتدأً و «مَحْياهم» خبرَه. كذا أعربوه. وفيه نظرٌ تقدَّم في سورة الحج وهو: أنَّه نكرةٌ لا مُسَوِّغ فيها، وأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ النكرةَ خبراً لا مبتدأً. ثم في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها استئنافية. والثاني: أنها بدلٌ من الكافِ الواقعةِ مفعولاً ثانياً. قال الزمخشري: «لأنَّ الجملةَ تقع مفعولاً ثانياً فكانَتْ في حكمِ المفردِ. ألا تراكَ لو قُلْتَ: أن نجعلَهم سواءٌ مَحْياهم ومماتُهم، كان سديداً، كما تقول: ظننتُ زيداً أبوه منطلقٌ» . قال الشيخ: «وهذا - أَعْني إبدالَ الجملة من المفرد - أجازه ابنُ جني وابنُ مالك، ومنعَه

ابنُ العِلْجِ» ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقرير ذلك ثم قال: «والذي يَظْهَرُ أنه لا يجوزُ» ، يعني ما جَوَّزه الزمخشريُّ قال: «لأنَّها بمعنى التصييرِ ولا يجوزُ:» صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ «لأنَّ التصييرَ انتقالٌ من ذاتٍ إلى ذاتٍ، أو من وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها. وتلك الجملةُ الواقعةُ بعد مفعولِ» صَيَّرْت «المقدرةُ مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقالٌ مما ذكرْنا فلا يجوز» . قلت: ولِقائلٍ أَنْ يقولَ: بل فيها انتقالٌ مِنْ وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها؛ لأنَّ النحاة نَصُّوا على جوازِ وقوع الجملةِ صفةً وحالاً نحو: مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ، وجاء زيدٌ أبوه قائم. فالذي حكموا عليه بالوصفيَّةِ والحاليةِ يجوزُ أَنْ يقعَ في حَيِّز التَّصْيير؛ إذ لا فَرْقَ بين صفةٍ وصفةٍ من هذه الحيثيَّة. الثالث: أن تكونَ الجملةُ حالاً، التقدير: أم حَسِبَ الكفار أَنْ نُصَيِّرهم مثلَ المؤمنين في حالِ استواءِ محياهم ومماتِهم، ليسوا كذلك بل هم مُفْترقون. وهذا هو الظاهر عند الشيخِ. وعلى الوجهين الأخيرين تكونُ الجملةُ داخلةً في حَيِّز الحُسْبانِ. وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال: «يَقْتضي هذا الكلامُ أنَّ لفظَ الآية خبرٌ، ويظهر أنَّ قولَه: {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} داخلٌ في المَحْسَبَةِ المُنْكَرَةِ السيئةِ، وهذا احتمالٌ حسن والأولُ جيدٌ» انتهى. ولم يبين كيفيةَ دخولِه في الحُسْبانِ، وكيفيَّةُ أحدِ الوجهين الأخيرَيْن: إما البدلِ وإمَّا الحاليةِ كما عَرَفْتَه. وقرأ الأعمشُ «سواءً» نصباً «مَحْياهم ومَماتَهم» بالنصب أيضاً. فأمَّا «سواءً» فمفعولٌ ثانٍ أو حالٌ كما تقدَّم. وأمَّا نصب «مَحْياهم ومماتَهم» ففيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونا ظَرْفَيْ زمانٍ، وانتصبا على البدلِ مِنْ مفعولِ «

نَجْعَلَهم» بدلِ اشتمال، ويكون «سواءً» على هذا هو المفعولَ الثاني. والتقدير: أن نجعلَ محياهم ومماتَهم سواءً. والثاني: أَنْ ينتصِبا على الظرفِ الزمانيِّ. والعاملُ: إمَّا الجَعْلُ أو سواء. والتقدير: أَنْ نجعلَهم في هذَيْن الوقتَيْن سواءً، أو نجعلَهم مُسْتَوِين في هذين الوقتين. قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه: «ومَنْ قرأ بالنصبِ جَعَلَ» مَحْياهم ومماتَهم «ظَرْفَيْنِ كمَقْدَمِ الحاجِّ وخُفوقِ النجم» . قال الشيخ: «وتمثيلُه بخُفوق النجم ليس بجيدٍ؛ لأنَّ» خُفوقَ «مصدرٌ ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقةِ على حَذْفِ مضافٍ أي: وقتَ خُفوقِ بخلاف مَحْيا ومَمات ومَقْدَم فإنها موضوعةٌ على الاشتراك بين ثلاثةِ معانٍ: المصدريةِ والزمانيةِ والمكانيةِ. فإذا اسْتُعْملت مصدراً كان ذلك بطريق الوَضْعِ لا على حَذْفِ مضافٍ كخُفوق؛ فإنه لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ لكونِه موضوعاً للمصدرية» . وهذا أمرٌ قريبٌ لأنَّه إنما أراد أنه وَقَع هذا اللفظُ مُراداً به الزمانُ. أمَّا كونُه بطريق الأصالةِ أو الفرعيةِ فلا يَضُرُّ ذلك. والضميرُ في «مَحْياهم ومماتُهم» يجوزُ أَنْ يعودَ على القَبِيْلَيْنِ بمعنى: أنَّ مَحْيا المؤمنين ومماتَهم سواءٌ عند الله في الكرامةِ، ومَحْيا المجترحين ومماتَهم سواءٌ في الإِهانةِ عنده، فَلَفَّ الكلام اتِّكالاً على ذِهْنِ السَّامع وفهمِه. ويجوزُ أَنْ يعودَ على المُجْترحين فقط. أَخْبَرَ أَنَّ حالَهم في الزمانَيْن سواءٌ. قال أبو البقاء: «ويُقْرَأُ» مَماتَهم «بالنصب أي: في مَحْياهم ومماتَهم.

والعاملُ» نَجْعل «أو سواء. وقيل: هو ظرفٌ» . قلت: قوله: «وقيل» هو القولُ الأولُ بعينِه. قوله: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} قد تقدَّم إعرابُه. وقال ابنُ عطيةَ هنا: «ما» مصدريةٌ أي: ساء الحكمُ حُكْمُهم.

22

قوله: {بالحق} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ: حالٌ من الفاعلِ أو من المفعول أو الباءُ للسببيَّة. قوله: «ولِتُجْزَى» فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أَنْ يكونَ عطفاً على «بالحق» في المعنى؛ لأنَّ كلاً منهما سببٌ/ فعطفَ العلَة على مثلها. الثاني: أنَّها معطوفةٌ على مُعَلَّلٍ محذوفٍ تقديرُه: لِيَدُلَّ بها على الدلالةِ على قُدْرَتِه «ولتُجْزَى. الثالث: أنْ تكونَ لامَ الصيرورةِ أي: وصار الأمرُ منها مِنْ حيث اهْتدى بها قومٌ وضَلَّ عنها آخرون.

23

قوله: {أَفَرَأَيْتَ} : بمعنى: أَخْبِرْني، وتقدَّم حكمُها مشروحاً. والمفعولُ الأولُ «مَنْ اتَّخذ» ، والثاني محذوف، تقديره بعد غشاوة: أيهتدي، ودَلَّ عليه قولُه: «فَمَنْ يهْديه» وإنما قَدَّرْتَه بعد غشاوة لأجلِ صلاتِ الموصولِ. قوله: «على عِلْمٌ» حالٌ من الجلالةِ أي: كائناً على علمٍ منه فيه أنَّه أهلٌ لذلك. وقيل: حالٌ من المفعول أي: أضلَّه وهو عالِمٌ، وهذا أشنعُ له.

وقرأ الأعرجُ «آلهةً» على الجمع، وعنه كذلك مضافة لضميره: «آلهتَه هواه» . قوله: «غِشاوة» قرأ الأخَوان «غَشْوَة» بفتح الغين وسكونِ الشين. والأعمشُ وابن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهما كسرا الغَيْنَ. وباقي السبعة «غِشاوة» بكسر الغين. وابنُ مسعود والأعمشُ أيضاً بفتحها، وهي لغةُ ربيعةَ. والحسن وعكرمة وعبد الله أيضاً بضمِّها، وهي لغةُ عُكْلية. وتقدَّم الكلامُ في ذلك أولَ البقرة، وأنَّه قُرئ هناك بالعين المهملة. والعامَّةُ: «تَذَكَّرون» بالتشديد والجحدريُّ بتخفيفها. والأعمش بتاءَيْن «تَتَذَكَّرون» . قوله: {مِن بَعْدِ الله} أي: مِنْ بعد إضلالِ الله إياه.

24

قوله: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا} : تقدَّم نظيرُ هذه الآياتِ كلِّها. وقرأ زيد بن علي «نُحْيا» بضمِّ النون.

25

قوله: {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} : العامَّةُ على نصب الحجة. وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وعبيد بن عمير بالرفع وتقدَّمَ تأويلُ

ذلك، و «ما كان» جوابُ «إذا» الشرطية. وجعله الشيخُ دليلاً على عدمِ إعمالِ جواب «إذا» فيها؛ لأن «ما» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها قال: «وخالفَتْ غيرَها مِنْ أدواتِ الشرطِ، حيث لم تقترنْ الفاءُ بجوابِها إذا نُفِي ب» ما «.

27

قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ} : في عامِله وجهان، أحدُهما: أنه «يَخْسَرُ» ويومئذٍ بدلٌ مِنْ «يومَ تَقومُ» ، التنوينُ على هذا تنوينُ عوضٍ من جملةٍ مقدرةٍ، ولم يتقدَّم من الجمل إلاَّ «تقومُ الساعةُ» فيصير التقديرُ: ويومَ تقومُ الساعةُ يومئذٍ تقومُ الساعةُ. وهذا الذي قَدَّروه ليس فيه مزيدُ فائدةٍ، فيكونُ بدلاً توكيدياً. والثاني: أن العاملَ فيه مقدرٌ. قالوا: لأنَّ يومَ القيامةِ حالةٌ ثالثةٌ ليسَتْ بالسماءِ ولا بالأرضِ؛ لأنهما يتبدَّلان فكأنه قيل: ولله مُلْكُ السماواتِ والأرضِ، والمُلْكُ يومَ تقومُ. ويكون قولُه «يومئذ» معمولاً ليَخْسَرُ. والجملةُ مستأنفةٌ من حيث اللفظُ، وإنْ كان لها تعلُّقٌ بما قبلَها مِنْ حيث المعنى.

28

قوله: {جَاثِيَةً} : حالٌ؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّة. والجاثية أي: على الرُّكَبِ؛ لأنَّها خائفةٌ والمذنبُ مُسْتَوْفِزٌ. وقيل: مجتمعةً، ومنه: الجُثْوَةُ للقَبْر لاجتماع الأحجارِ عليه. قال: 4035 - تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرابٍ عليهما ... صَفائِحٌ صُمٌّ مِنْ صَفِيْحٍ مُنَضَّدِ وقُرِئ «جاذِيَةً» بالذال المعجمة، وهو أشدُّ اسْتيفازاً من الجاثي.

قوله: «كلُّ أمةٍ» العامَّةُ على الرفعِ بالابتداءِ. و «تُدْعى» خبرُها. ويعقوب بالنصبِ على البدلِ مِنْ «كُلُّ أمة» الأولى بدلِ نكرةٍ موصوفةٍ مِنْ مِثْلها. قوله: «اليومَ تُجْزَوْن» هذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ التقديرُ: يُقال لهم: اليومَ تُجْزَوْن. واليومَ معمولٌ لِما بعدَه «وما كُنتم» هو المفعولُ الثاني.

29

قوله: {يَنطِقُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ «كتابُنا» بدلاً و «يَنْطِقُ» خبرٌ وحده. و «بالحق» حال.

31

قوله: {أَفَلَمْ} : هو على إضمارِ القولِ أيضاً. وقدَّر الزمخشريُّ على عادتِه جملةً بين الهمزةِ والفاءِ أي: ألَمْ تَأْتِكم رُسُلي فلم تكنْ آياتي.

32

قوله: {إِنَّ وعْدَ الله} : العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ: لأنها مَحْكِيَّةٌ بالقولِ. والأعرج وعمرو بن فائد بفتحها. وذلك مُخَرَّجٌ على لغة سُلَيْمٍ: يُجْرُون القولَ مُجْرى الظنِّ مطلقاً. وفيه قولُه: 4036 - إذا قلتُ أنِّي آيِبٌ أهلَ بلدةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قوله: «والساعةُ» قرأ حمزة بنصبِها عطفاً على «وعدَ الله» . والباقون برفعها، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: الابتداءُ وما بعدها من الجملةِ المنفيَّة خبرُها. الثاني: العطفُ على محلِّ اسم «إنَّ» لأنَّه/ قبل دخولِها مرفوعٌ بالابتداءِ. الثالث: أنه عطفٌ على محلِّ «إنَّ» واسمِها معاً؛ لأنَّ بعضَهم كالفارسيِّ والزمخشريِّ يَرَوْنَ أنَّ ل «إنَّ» واسمِها موضعاً، وهو الرفعُ بالابتداء. قوله: «إلاَّ ظَنَّاً» هذه الآيةُ لا بُدَّ فيها مِنْ تأويلٍ: وذلك أنه يجوزُ تفريغُ العاملِ لِما بعده مِنْ جميعِ معمولاته، مرفوعاً كان أو غيرَ مرفوعٍ، إلاَّ المفعولَ المطلقَ فإنه لا يُفَرَّغُ له. لا يجوزُ «ما ضَرَبْتَ إلاَّ ضَرْباً» كأنه لا فائدةَ فيه؛ وذلك أنه بمنزلةِ تكريرِ الفعلِ فكأنَّه في قوةِ «ما ضرَبْتُ إلاَّ ضرَبْتُ» . وكانَتْ هذه العلةُ خَطَرَتْ لي حتى رأيتُ مكِّياً وأبا البقاءِ نَحَوا إليها فللَّه الحمدُ. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما معنى» إنْ نَظُنُّ إلاَّ ظَنًّا «؟ قلت: أصلُه نَظُنُّ ظنًّا. ومعناه إثباتُ الظنِّ فحسب. فأَدْخَلَ حرفَ النفي والاستثناءَ ليُفادَ إثباتُ الظنِّ ونفيُ ما سواه؛ وزِيْدَ نَفْيُ ما سوى الظنِّ توكيداً بقولِه: {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} . فظاهرُ كلامِه أنه لا يَتَأَوَّلُ الآيةَ بل حَمَلها على ظاهرِها؛ ولذلك قال الشيخ:» وهذا كلامُ مَنْ لا شعورَ له بالقاعدةِ النحوية: مِنْ أنَّ التفريغَ

يكونُ في جميع المعمولاتِ مِنْ فاعلٍ ومفعولٍ وغيرِهما إلاَّ المصدرَ المؤكِّدَ فإنه لا يكونُ فيه «. وقد اختلفَ الناسُ في تأويلِها على أوجهٍ، أحدُها: ما قاله المبردُ وهو: أنَّ الأصلَ: إنْ نحن إلاَّ نظنُّ ظنَّاً. قال:» ونظيرُه ما حكاه أبو عمروٍ «ليس الطِّيْبُ إلاَّ المِسْكُ» تقديرُه: ليس إلاَّ الطيبُ المسكُ «قلتُ: يعني أن اسمَ» ليس «ضميرُ الشأنِ مستترٌ فيها، وإلاَّ الطيبُ المسكُ في محل نصب خبرُها، وكأنه خَفِيَ عليه أنَّ لغةَ تميمٍ إبطالُ عملِ» ليس «إذا انتقض نفيُها ب» إلاَّ «قياساً على» ما «الحجازيةِ، والمسألةُ طويلةٌ مذكورةٌ في كتابي» شرح التسهيل «وعليها حكايةٌ جَرَتْ بين أبي عمروٍ وعيسى بن عمر. الثاني: أنَّ» ظنَّاً «له صفةٌ محذوفةٌ تقديره: إلاَّ ظناً بَيِّناً، فهو مختصٌّ لا مؤكِّد. الثالث: أَنْ يُضَمَّنَ» نظنُّ «معنى نَعْتقد، فينتصِبَ» ظَنَّاً «مفعولاً به لا مصدراً. الرابع: أنَّ الأصلَ: إنْ نظنُّ إلاَّ أنكم تظنون ظنَّاً، فحذف هذا كلَّه، وهو مَعْزُوٌّ للمبردِ أيضاً. وقد رَدُّوه عليه: من حيثُ إنَّه حَذَفَ أنَّ واسمَها وخبرَها وأبقى المصدرَ. وهذا لا يجوزُ. الخامس: أنَّ الظنَّ يكونُ بمعنى العِلْمِ والشكِّ فاستثنى الشكَّ كأنه قيل: ما لنا اعتقادٌ إلاَّ الشكَّ. ومثلُ الآية قولُ الأعشى: 4037 - وحَلَّ به الشَّيْبُ أثقالَه ... وما اعْتَرَّه الشيبُ إلاَّ اعْتِرارا يريد اعْتِراراً بَيِّناً.

34

قوله: {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} : من التوسُّعِ في

الظرف؛ حيث أضاف إليه ما هو واقعٌ فيه كقوله: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33] . وتقدَّم الخلافُ في قولِه: «لا يُخْرَجُون» في أولِ الأعراف. وتقدَّم معنى الاستعتاب.

36

قوله: {رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين} : قرأ العامَّةُ «ربِّ» في الثلاثة بالجرِّ تَبَعاً للجلالة بياناً أو بدلاً أو نعتاً. وابن محيصن برفع الثلاثةِ على المدح بإضمار «هو» .

37

قوله: {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات} : يجوزُ أَنْ يكونَ «في السماوات» متعلقاً بمحذوف حالاً مِنْ «الكبرياء» ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ به الظرفُ الأولُ لوقوعِه خبراً. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ «الكبرياء» لأنها مصدرٌ. وقال أبو البقاء: «وأَنْ يكونَ - يعني في السماوات - ظرفاً، والعاملُ فيه الظرفُ الأولُ والكِبْرياء؛ لأنَّها بمعنى العظمة» ولا حاجةَ إلى تأويل الكبرياء بمعنى العظمة فإنها ثابتةُ المصدرية.

الأحقاف

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {عَمَّآ أُنذِرُواْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً أي: عن إنذارهم، أو بمعنى الذي أي: عن الذي أُنْذِرُوْه. و «عن» متعلقةٌ بالإِعراض و «مُعْرِضون» خبرُ الموصول.

4

قوله: {أَرَأَيْتُمْ} : تقدَّمَ حُكْمُها. ووقع بعدَها «أَرُوْني» فاحتملت وجهين، أحدُهما: أَنْ تكونَ توكيداً لها لأنَّهما بمعنى أَخْبروني، وعلى هذا يكونُ المفعولُ الثاني ل «أَرَأَيْتُمْ» قولَه: «ماذا خَلَقوا» لأنه استفهامٌ، والمفعولُ الأولُ هو قولُه: «ما تَدْعُون» . والوجه الثاني: أنْ لا تكونَ مؤكِّدةً لها، وعلى هذا تكون المسألةُ من بابِ التنازعِ لأنَّ «أَرَأَيْتُمْ» يطلب ثانياً، و «أرُوْني» كذلك، وقولُه: «ماذا خَلَقوا» هو المتنازَعُ فيه، وتكون المسألةُ من إعمالِ الثاني والحذفِ من الأولِ. وجوَّزَ ابنُ عطية في «أَرَأَيْتُم» أنْ لا يتعدَّى. وجعل «ما تَدْعُوْن» استفهاماً معناه التوبيخُ. قال: «وتَدْعُوْنَ» معناه «تَعْبدون» قلت: وهذا رأيُ الأخفشِ وقد قال بذلك في قولِه: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة} [الكهف: 63] وقد مضَى ذلك.

قوله: «من الأرض» هذا بيانُ الإِبهامِ الذي في قوله: «ماذا خَلَقُوا» . قوله: «أَمْ لهم» هذه «أم» المنقطعةُ. والشِّرْكُ: المُشاركة. قوله: {مِّن قَبْلِ هاذآ} صفةٌ ل «كتاب» أي: بكتابٍ مُنَزَّلٍ من قبل هذا. كذا قَدَّره أبو البقاء. والأحسنُ أَنْ يُقَدَّرَ/ كونٌ مطلقٌ أي: كائِن مِنْ قبلِ هذا. قوله: «أَو أَثَارَةٍ» العامة على «أَثارة» وهي مصدرٌ على فَعالة كالسَّماحَة والغَواية والضَّلالة، ومعناها البقيةُ مِنْ قولِهم: سَمِنَتِ الناقةُ على أثارةٍ مِنْ لحم، إذا كانت سَمينةً ثم هَزَلَتْ، وبقِيَتْ بقيةٌ مِنْ شَحْمِها ثم سَمِنَتْ. والأثارَةُ غَلَبَ استعمالُها في بقيةِ الشَّرَف. يقال: لفلانٍ أثارةٌ أي: بقيةٌ أشرافٌ، ويُستعمل في غيرِ ذلك. قال الراعي: وذاتِ أثارَةٍ أكلَتْ عليها ... نباتاً في أكِمَّتِهِ قِفارا وقيل: اشتقاقها مِنْ أَثَر كذا أي: أَسْنَدَه. ومنه قول عمر: «ما حَلَفْتُ

ذاكراً ولا آثِراً» أي: مُسْنِداً له عن غيري. وقال الأعشى: 4039 - أإنَّ الذي فيه تَمارَيْتُما ... بُيِّنَ للسامعِ والآثِرِ وقيل فيها غيرُ ذلك. وقرأ عليُّ وابنُ عباس وزيد بن علي وعكرمة في آخرين «أَثَرَة» دونَ ألفٍ، وهي الواحدة. ويُجْمع على أثَر كقَتَرَة وقَتَر. وقرأ الكسائيُّ «أُثْرَة» و «إثْرَة» بضم الهمزة وكسرِها مع سكونِ الثاء. وقتادةُ والسُّلمي بالفتح والسكون. والمعنى: بما يُؤثَرُ ويُرْوى. أي: ايتوني بخبرٍ واحدٍ يَشْهَدُ بصحةِ قولِكم. وهذا على سبيلِ التنزُّلِ للعِلْمِ بكذِبِ المُدَّعي. و «مِنْ عِلْمٍ» صفةٌ لأَثارة.

5

قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ} : مبتدأ وخبرٌ. قوله: {مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ} «مَنْ» نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولةٌ، وهي مفعولٌ بقولِه: «يَدْعُو» . قوله: {وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ الضميران عائدَيْنِ على «مَنْ» مِنْ قولِه: {مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} وهم الأصنامُ وتُوْقَعُ عليهم «مَنْ» لمعاملتهم إياها معاملةَ العقلاءِ، أو لأنَّه أراد جميعَ مَنْ عُبِدَ مِنْ دونِ الله. وغَلَّب العقلاءَ، ويكون

قد راعى معنى «مَنْ» فلذلك جَمَعَ في قوله: «وهم» بعدما راعى لفظَها فأفردَ في قولِه: «يَسْتَجيب» وقيل: يعود على «مَنْ» مِنْ قولِه «ومَنْ أضَلُّ» ، وحُمِلَ أولاً على لفظها فَأُفْرِدَ في قولِه: «يَدْعُو» ، وثانياً على معناها فجُمِعَ في قوله: {وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} .

7

قوله: {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ} : هنا أقام ظاهرَيْن مُقامَ مضمَريْنِ؛ إذ الأصلُ: قالوا لها، أي للآياتِ، ولكنه أبرزَهما ظاهرَيْن لأجلِ الوصفَيْن المذكورَيْن. واللام في «للحق» للعلةِ.

9

قوله: {بِدْعاً} : فيه وجهان، أحدهما: على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: ذا بِدْعٍ، قاله أبو البقاء. وهذا على أَنْ يكونَ البِدْعُ مصدراً. والثاني: أَنَّ البِدْعَ بنفسِه صفةٌ على فِعْل بمعنى بديع كالخِفِّ والخَفيف. والبِدْعُ والبديعُ: ما لم يُرَ له مِثْلٌ، وهو من الابتداع وهو الاختراعُ. أنشد قطرب: 4039 - ب فما أنا بِدْعٌ مِنْ حوادِثَ تَعْتَري ... رجالاً عَرَتْ مِنْ بعدِ بُؤْسَى بأَسْعُدِ وقرأ عكرمة وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة «بِدَعاً» بفتح الدال جمع بِدْعة أي: ما كنتَ ذا بِدَع. وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ صفةً على فِعَل ك «دِين قِيَم» و «لحم زِيَم» . قال الشيخ: «ولم يُثْبِتْ سيبويه صفةً على فِعَل إلاَّ

قوماً عِدَا، وقد اسْتُدْرِك عليه» لحم زِيَم «أي: متفرق، وهو صحيحٌ. فأمَّا» قِيَم «فمقصورٌ مِنْ قيام، ولولا ذلك لصَحَّتْ عينُه كما صَحَّتْ في حِوَل وعِوَض. وأمَّا قولُ العربِ:» مكان سِوَىً «و» ماء رِوَىً «ورجل رِضَا وماء صِرَىً فمتأوَّلَةٌ عند التَّصْريفيِّين» قلت: تأويلُها إمَّا بالمصدريَّة أو القَصْر كقِيَم في قيام. وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهد «بِدَع» بفتح الباء وكسر الدال وهو وصفٌ كحَذِر. وقوله: «يُفْعَلُ» العامَّةُ على بنائه للمفعول. وابنُ أبي عبلة وزيد ابن علي مبنياً للفاعلِ أي: الله تعالى. والظاهرُ أنَّ «ما» في قولِه: {مَا يُفْعَلُ بِي} استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداءِ، وما بعدها الخبرُ، وهي معلِّقَةٌ لأَدْري عن العملِ، فتكونُ سادَّةً مَسَدَّ مفعولَيْها. وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ تكونَ موصولةً منصوبةً يعني أنها متعديةٌ لواحدٍ أي: لا أعْرِفُ الذي يفعلُه اللَّهُ تعالى. قوله: {إِلاَّ مَا يوحى} العامَّةُ على بناء «يُوْحَى» للمفعول. وقرأ ابن عُمير بكسرِ الحاءِ على البناءِ للفاعلِ، وهو اللَّهُ تعالى.

10

قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} : مفعولاها محذوفان تقديره: أرأيتم حالَكم إنْ كان كذا ألَسْتُمْ ظالمين/، وجوابُ الشرطِ أيضاً محذوفٌ تقديره: فقد ظَلَمْتُمْ، ولهذا أتى بفعل الشرط ماضياً. وقَدَّره الزمخشريُّ: ألستُمْ ظالمين. ورَدَّ عليه الشيخ: «بأنَّه لو كان كذلك لَوَجَبَتْ الفاءُ؛ لأنَّ الجملةَ الاستفهامية متى وقعت جواباً للشرط لَزِمَتِ الفاءُ. ثم إنْ كانت أداةُ الاستفهامِ همزةً تقدَّمَتْ على الفاء نحو:» إنْ تَزُرْنا أفما نُكْرِمُك «، وإنْ كانت غيرَها تقدَّمَتِ الفاءُ عليها، نحو: إنْ تَزُرْنا فهل تَرى إلاَّ خيراً» . قلت: والزمخشريُّ ذكر أمراً تقديريَّاً فَسَّر به المعنى لا الإِعرابَ. وقال ابن عطية: «وأَرَأَيْتُمْ تَحْتمل أن تكون مُنَبِّهةً، فهي لفظٌ موضوعٌ للسؤالِ لا يَقْتضي مفعولاً، وتحتمل أن تكونَ الجملةُ كان وما عملتْ فيه سادَّةً مَسَدَّ مفعولَيْها» . قال الشيخ: «وهذا خلافُ ما قَرَّره النحاة» . قلت: قد تقدَّم تحقيقُ ما قَرَّره. وقيل: جوابُ الشرطِ هو قولُه: «فآمَن واستكْبَرْتُمْ» وقيل: هو محذوفٌ تقديرُه: فَمَنْ المُحِقُّ منَّا والمُبْطِلُ. وقيل: فَمَنْ أَضَلُّ. قوله: «وكَفَرْتُمْ به» الجملةُ حاليةٌ أي: وقد كَفَرْتُمْ. ومنهم من لا يُضْمِرُ «قد» في مثلِه.

11

قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ لامَ العلة أي: لأجلِهم، وأَنْ تكونَ للتبليغ، ولو جَرَوْا على مقتضى الخطابِ لَقالوا:

ما سَبَقْتُمونا، ولكنهم التفَتُوا فقالوا: ما سَبَقُوْنا. والضميرُ في «كان» وإليه عائدان على القرآن، أو ما جاء به الرسولُ. قوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ} العامل في «إذْ» مقدرٌ أي: ظهر عِنادُهم وتَسَبَّب عنه قولُه: «فسَيقولون» . ولا يَعْمل في «إذ» «فسَيقولون» لتضادِّ الزمانَيْنِ ولأجل الفاءِ أيضاً.

12

قوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} : العامَّةُ على كسر ميم «مِنْ» حرفَ جرٍّ. وهي مع مجرورِها خبرٌ مقدَّمٌ. والجملةٌ حاليةٌ أو خبرٌ مستأنفٌ. وقرأ الكلبيُّ بنصبِ «الكتابَ» تقديرُه: وأَنْزَلَ مِنْ قبلِه كتابَ موسى. وقُرِئ «ومَنْ» بفتح الميم «كتابَ موسى» بالنصبِ على أن «مَنْ» موصولةٌ، وهي مفعولٌ أولُ لآتَيْنا مقدَّراً. وكتابَ موسى مفعولُه الثاني. أي: وآتَيْنا الذي قبلَه كتابَ موسى. قوله: «إماماً ورَحْمَةً» حالان مِنْ «كتاب موسى» . وقيل: منصوبان بمقدرٍ أي: أنْزَلْناه إماماً. ولا حاجةَ إليه. وعلى كَوْنِهما حالَيْن هما منصوبان بما نُصِبَ به «مِنْ قبل» من الاستقرار. قوله: «لِساناً» حالٌ مِن الضمير في «مُصَدِّقٌ» . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «كتاب» والعاملُ التنبيهُ، أو معنى الإِشارةِ و «عربيَّاً» [صفةٌ] ل «لساناً» ، وهو المُسَوِّغُ لوقوع هذا الجامد حالاً. [وجَوَّز أبو البقاء] أَنْ يكونَ مفعولاً به ناصبُهُ «

مُصَدِّقٌ» . وعلى هذا تكون الإِشارةُ إلى غيرِ القرآنِ؛ لأنَّ المرادَ باللسانِ العربيِّ القرآنُ وهو خلافُ الظاهر. وقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ أي: مُصَدِّقٌ ذا لسانٍ عربي، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل: هو على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي: بلسانٍ. وهو ضعيفٌ. قوله: «ليُنْذِرَ» متعلِّقٌ بمصدِّق. و «بُشْرَى» عطفٌ على محلِّه. تقديره: للإِنذار وللبشرى، ولمَّا اختلف العلةُ والمعلولُ وَصَلَ العاملُ إليه باللامِ، [وهذا فيمَنْ قرأ بتاء الخطابِ. فأمَّا مَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة. وقد تقدَّم ذلك في يس فإنهما مُتَّحدان. وقيل: بُشْرى] عطفٌ على لفظ «لتنذِرَ» أي: فيكونُ مجروراً فقط. وقيل: هي مرفوعةٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ. تقديرُه: هي بُشْرَى. وقيل: بل هي عطفٌ على «مُصَدِّقٌ» وقيل: هي منصوبةٌ بفعل مقدرٍ أي: وبَشِّر بُشْرى. ونقل الشيخُ وجهَ النصبِ عطفاً على محلِّ «لتنذِرَ» عن الزمخشري وأبي البقاء. ثم قال: «وهذا لا يَصِحُّ على الصحيح من مذاهبِ النحويين لأنهم يَشْتَرِطون في الحَمْلِ على المَحَلِّ أَنْ يكونَ بحقِّ الأصالة، وأَنْ يكونَ للموضعِ مُحْرِزٌ، وهنا المحلُّ ليسَ بحقِّ الأصالة، إذ الأصلُ في المفعولِ [له] الجرُّ، والنصبُ ناشِئ عنه، لكن لَمَّا كَثُرَ بالشروط المذكورةِ وَصَلَ إليه الفعلُ فنصبَه» انتهى.

قوله: «الأصلُ في المفعول له الجرُّ بالحرفِ» ممنوعٌ بدليل قولِ النَّحْويين: إنَّه يَنْصِبُ بشروطٍ ذكروها. ثم يقولون: ويجوزُ جرُّه بلامٍ، فقولُهم «ويجوز» ظاهرٌ في أنه فرعٌ لا أصلٌ. و «للمُحْسِنين» متعلقٌ ب «بُشْرَى» أو بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ لها.

13

قوله: {فَلاَ خَوْفٌ} : الفاءُ زائدةٌ في خبرِ الموصولِ لِما فيه من معنى الشرطِ، ولم تمنَعْ «إنَّ» من ذلك لبقاءِ معنى الابتداء بخلاف «ليت» و «لعلَّ» و «كأن» .

14

قوله: {خَالِدِينَ} : منصوبٌ على الحاليَّةِ. و «جزاءً» منصوب على المصدرِ: إمَّا بعاملٍ مضمرٍ أي: يُجْزَوْن جزاءً، أو بما تقدَّم؛ لأنَّ معنى أولئك أصحاب الجنة معنى جازَيْناهم بذلك.

15

قوله: {إِحْسَاناً} : قرأ الكوفيون «إحْساناً» وباقي السبعةِ «حُسْناً» بضمِّ الحاءِ وسكونِ السينِ، فالقراءةُ الأولى يكون «إحساناً» فيها منصوباً بفعلٍ مقدَّرٍ أي: وَصَّيْناه أَنْ يُحْسِنَ إليهما إحساناً. وقيل: بل هو مفعولٌ به على تضمينِ وصَّيْنا معنى أَلْزَمْنا، فيكونُ مفعولاً ثانياً. وقيل: بل هو منصوبٌ على المفعولِ به أي: وصَّيناه بهما إحساناً مِنَّا إليهما. وقيل: هو منصوبٌ على المصدرِ؛ لأنَّ معنى وصَّيْنا: أَحْسَنَّا فهو مصدرٌ صريحٌ. والمفعولُ الثاني/ هو

المجرورُ بالباء. وقال ابن عطية: «إنها تتعلَّق: إمَّا بوَصَّيْنا، وإمَّا بإحساناً» . ورَدَّ الشيخُ: هذا الثاني بأنَّه مصدرٌ مؤَوَّلٌ فلا يتقدَّم معمولُه عليه، ولأن «أَحْسَنَ» لا يتعدَّى بالباء، وإنما يتعدَّى باللامِ. لا تقول: «أحسَنْتُ بزيدٍ» على معنى وصول الإِحسان إليه. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بقولِه: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي} [يوسف: 100] وقيل: هو بغير هذا المعنى. وقدَّر بعضُهم: ووَصَّيْنا الإِنسانَ بوالدَيْه ذا إحسانٍ، يعني فيكونُ حالاً. وأمَّا «حُسْناً» فقيل فيه ما تقدَّم في إحسان. وقرأ عيسى والسُّلَمي «حَسَناً» بفتحِهما. وقد تقدَّمَ معنى القراءتَيْنِ في البقرة وفي لقمان. قوله: «كُرْهاً» قد تَقَدَّم الخلافُ فيه في النساء. وله هما بمعنىً واحد أم لا؟ وقال أبو حاتم: «الكَرْهُ بالفتح لا يَحْسُنُ لأنَّه بالفتح الغَصْبُ والغَلَبَةُ» . ولا يُلْتَفَتُ لِما قاله لتواتُرِ هذه القراءةِ. وانتصابُها: إمَّا على الحالِ من الفاعلِ أي: ذاتَ كُرْه. وإمَّا على النعت لمصدرٍ مقدرٍ أي: حَمْلاً كُرْهاً. قوله: «وحَمْلُه» أي: مدةُ حَمْلِه. وقرأ العامَّةُ «فِصالُه» مصدر فاصَلَ، كأنَّ الأمَّ فاصَلَتْهُ وهو فاصَلَها. والجحدري والحسن وقتادة «فَصْلُه» . قيل:

والفَصْلُ والفِصال بمعنىً كالفَطْمِ والفِطام، والقَطْفِ والقِطاف. ولو نَصَب «ثلاثين» على الظرفِ الواقعِ موقعَ الخبرِ جاز، وهو الأصلُ. هذا إذا لم نُقَدِّر مضافاً، فإنْ قَدَّرْنا أي: مدةُ حَمْلِه لم يَجُزْ ذلك وتعيَّن الرفعُ، لتصادُقِ الخبرِ والمُخْبَرِ عنه. قوله: {حتى إِذَا بَلَغَ} لا بُدَّ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ تكونُ «حتى» غايةً لها أي: عاش واستمرَّتْ حياتُه حتى إذا. قوله: «أربعين» أي: تمامَها ف «أربعين» مفعولٌ به. قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي} أَصْلَحَ يتعدَّى بنفسِه لقولِه: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] وإنما تعدَّى ب في لتضمُّنِه معنى الطُفْ بي في ذرِّيَّتي، أو لأنه جَعَلَ الذرِّيَّة ظرفاً للصَّلاح كقولِه: 4040 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلي

16

قوله: {نَتَقَبَّلُ} : قرأ الأخوان وحفص «نَتَقَبَّلُ» بفتح النون مبنيَّاً للفاعلِ ونصبِ «أَحْسَنَ» على المفعول به، وكذلك «ونتجاوَزُ» . والباقون ببنائِهما للمفعولِ ورفع «أحسنُ» لقيامِه مقام الفاعل ومكانَ النونِ ياءٌ مضمومةٌ في الفعلَيْن. والحسنُ والأعمش وعيسى بالياء منْ تحتُ، والفاعلُ اللَّهُ تعالى.

قوله: {في أَصْحَابِ الجنة} فيه أوجه، أحدُها: - وهو الظاهر - أنَّه في محلِّ حالٍ أي: كائنين في جملةِ أصحابِ الجنة كقولِك: أكرَمَني الأميرُ في أصحابِه، أي: في جملتهم. والثاني: أن «في» بمعنى «مع» . والثالث: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم في أصحاب الجنة. قوله: «وَعْدَ الصدقِ» مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملةِ السابقة؛ لأنَّ قولَه {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} في معنى الوعد.

17

قوله: {أُفٍّ} : قد تقدَّم الكلامُ على «أُفّ» مستوفى و «لكما» بيانٌ أي: التأفيفُ لكما نحو: {هَيْتَ} [يوسف: 23] . قوله: «أَتَعِدانِني» العامَّةُ على نونَيْن مكسورتَيْن: الأولى للرفع والثانية للوقاية، وهشام بالإِدغام، ونافع في روايةٍ بنونٍ واحدة. وهذه مُشَبَّهةٌ بقوله: {تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] . وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمروٍ بفتح النونِ الأولى، كأنَّهم فَرُّوا مِنْ توالي مِثْلَيْنِ مكسورَيْن بعدهما ياءٌ. وقال أبو البقاء: «وهي لغةٌ شاذَّةٌ في فتح نون الاثنين» قلت: إنْ عَنَى نونَ الاثنين في الأسماءِ نحو قولِه: 4041 - على أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فليس هذا منه. وإن عَنَى في الفعلِ فلم يَثْبُتْ ذلك لغةً، وإنَّما الفتحُ هنا لِما ذكَرْتُ. قوله: «أَنْ أُخْرَجَ» هو الموعودُ به، فيجوزُ أَنْ تُقَدِّرَ الباءَ قبل «أَنْ» وأَنْ لا تُقَدِّرَها. قوله: «وقد خَلَتْ» جملةٌ حاليةٌ. وكذلك {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله} أي: يَسْألان اللَّهَ. واستغاث يتعدَّى بنفسِه تارةً وبالباء أخرى، وإن كان ابنُ مالكٍ زعمَ أنَّه متعدٍّ بنفسِه فقط، وعابَ قولَ النحاةِ «مستغاث به» قلت: لكنه لم يَرِدْ في القرآن إلاَّ متعدَّياً بنفسِه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] {فاستغاثه الذي} [القصص: 15] {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29] قوله: «وَيْلَكَ» منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مُلاقٍ له في المعنى دونَ الاشتقاقِ. ومثله: وَيْحَه ووَيْسَه ووَيْبَه، وإمَّا على المفعولِ به بتقدير: ألزمَك الله وَيْلَكَ. وعلى كلا التقديرَيْن الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مقدرٍ أي: يقولان وَيْلَكَ آمِنْ. والقولُ في محلِّ نصب على الحال أي: يَسْتغيثان اللَّهَ قائلين ذلك. قوله: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} العامةُ على كسرِ «إنَّ» / استئنافاً أو تعليلاً. وقرأ عمرو بن فائد والأعرج بفتحِها على أنها معمولةٌ ل آمِنْ على حَذْفِ الباءِ أي: آمِنْ بأنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ.

18

قوله: {في أُمَمٍ} : كقوله: {في أَصْحَابِ الجنة} [الأحقاف: 16] .

19

قوله: {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} : مُعَلَّلهُ محذوفٌ تقديرُه: جازاهم بذلك. وقرأ ابن كثير وأبو عمروٍ وعاصمٌ وهشامٌ بالياء مِنْ تحتُ. وباقي السبعة بالنونِ. والسُّلمي بالتاءِ مِنْ فوقُ أَسْنَدَ التوفيةَ للدرجات مجازاً. قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} : إمَّا استئنافٌ، وإمَّا حالٌ مؤكِّدة.

20

قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ} : اليومَ منصوبٌ بقولٍ مقدرٍ أي: يُقال لهم: أَذْهَبْتُمْ في يومِ عَرْضِهم. وجَعَل الزمخشريُّ هذا مثل «عَرَضْتُ الناقةَ على الحوضِ» فيكونُ قَلْباً. ورَدَّه الشيخُ: بأنه ضرورةٌ. وأيضاً العَرْضُ أمرٌ نسبيٌّ فتصِحُّ نسبتُه إلى الناقةِ وإلى الحوضِ. وقد تقدَّم الكلامُ في القلبِ، وأنَّ فيه ثلاثةَ مذاهبَ. قوله: «أَذْهَبْتُم» قرأ ابن كثير «أَأَذْهَبْتُمْ» بهمزتَيْن: الأولى مخففةٌ، والثانيةُ مُسَهَّلَةٌ بينَ بينَ، ولم يُدْخِلْ بينهما ألفاً، وهذا على قاعدتِه في {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] ونحوِه. وابنُ عامرٍ قرأ أيضاً بهمزتَيْن، لكن اختلفَ راوياه عنه: فهشام سَهَّل الثانيةَ وخَفَّفَها، وأدخل ألفاً في الوجهيْن، وليس على أصلِه فإنه من

أهلِ التحقيق. وابنُ ذكوان بالتحقيقِ فقط دونَ إدخالِ ألفٍ. والباقون بهمزةٍ واحدةٍ فيكونُ: إمَّا خبراً، وإمَّا استفهاماً، فأُسْقِطَتْ أداتُه للدلالةِ عليها، والاستفهامُ معناه التقريعُ والتوبيخُ. قوله: «في حياتِكم» يجوزُ تَعَلُّقُه ب «أَذْهَبْتُمْ» ويجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ «طيباتكم» .

21

قوله: {إِذْ أَنذَرَ} : بدلٌ مِنْ «أَخا» بدلُ اشتمالٍ، وتقدَّم تحقيقُه. والأَحْقافُ: جمعُ حِقْف وهو الرَّمْلُ المستطيلُ المِعْوَجُّ ومنه «احْقَوْقَفَ الهِلالُ» قال امرؤ القيس: 4042 - فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى ... بنا بَطْنُ حِقْفٍ ذي قِفافٍ عَقَنْقَلِ قوله: «وقد خَلَتْ» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِن الفاعل أو من المفعولِ، والرابطُ الواوُ. والنُّذُر جمعُ نَذير. ويجوزُ أَنْ تكونَ معترضةً بين «أَنْذَرَ» وبين {أَلاَّ تعبدوا} أي: أَنْذَرهم بأَنْ لا.

24

قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} : في هاء «رَأَوْه» قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على «ما تَعِدُنا» . والثاني: أنه ضميرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُه «عارضاً» : إمَّا تمييزاً أو حالاً، قالهما الزمخشريُّ. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ التمييزَ المفسِّرَ للضميرِ محصورٌ في باب: رُبَّ وفي نِعْمَ وبِئْس، وبأنَّ الحالَ لم يَعْهَدُوها أَنْ تُوَضِّحَ الضميرَ قبلها، وأنَّ النَّحْويين لا يَعْرفون ذلك.

قوله: «مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهم» صفةٌ ل «عارِضاً» وإضافتُه غيرُ مَحْضةٍ، فمِنْ ثَمَّ ساغ أَنْ يكونَ نعتاً لنكرةٍ وكذلك «مُمْطِرُنا» وقع نعتاً ل «عارِض» ومثله: 4043 - يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يَطْلُبُكُمْ ... لاقى مباعَدَةً منكم وحِرْمانا والعارِضُ: المُعْتَرِضُ من السحاب في الجوِّ. قال: 4044 - يا مَنْ رَأَى عارِضاً أَرِقْتُ له ... بين ذراعَيْ وجَبْهَةِ الأَسَدِ وقد تقدَّم: أَنَّ أَوْدِيَة جمعُ «وادٍ» ، وأنَّ أَفْعِلة شذَّتْ جمعاً ل فاعِل في ألفاظٍ: كوادٍ وأَوْدِيَة، ونادٍ وأَنْدِية، وجائِز وأَجْوِزة. قوله: «ريحٌ» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو ريحٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «هو» . وقُرِئ «ما استُعْجِلْتُمْ» مبنياً للمفعول «وفيها عذابٌ» صفةٌ ل «ريحٌ» وكذلك «تُدَمِّرُ» . وقُرِئ {يَدْمُرُ كُلَّ شَيْءٍ} بالياءِ من تحتُ وسكونِ الدال وضمِّ الميم «كلُّ» بالرفع على الفاعلية أي: يهلك كلُّ شيء. وزيد بن علي كذلك إلاَّ أنه بالتاءِ مِنْ فوقُ ونصبِ «كلَّ» ، والفاعلُ ضميرُ الريح، وعلى هذا فيكون دَمَّر الثلاثي لازِماً ومتعدياً.

25

قوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} : قرأ حمزةُ وعاصم «لا يُرَى» بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ، «مَسَاكنُهم» بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ. والباقون من السبعةِ بفتح تاءِ الخطاب «مَساكنَهم» بالنصب مفعولاً به. والجحدريُّ والأعمش وابنُ أبي إسحاقَ والسُّلميُّ وأبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول. «مساكنُهم» بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل، إلاَّ أنَّ هذا عند الجمهور لا يجوزُ، أعني إذا كان الفاصلُ «إلاَّ» فإنه يمتنع لَحاقُ علامةِ التأنيثِ في الفعل إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه: / 4045 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجراشِعُ وقول الآخر: 4046 - كأنه جَمَلٌ هَمٌّ وما بَقِيَتْ ... إلاَّ النَّحِيزةُ والألواحُ والعَصَبُ وعيسى الهمداني «لا يُرى» بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول، «مَسْكَنُهم» بالتوحيد. ونصر بن عاصم بتاء الخطاب «مَسْكَنَهم» بالتوحيد أيضاً منصوباً، واجتُزِئ بالواحد عن الجمع.

26

قوله: {مَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} : «ما» موصولةٌ أو موصوفةٌ. وفي «إنْ» ثلاثةُ أوجهٍ: شرطية وجوابُها محذوفٌ. والجملةُ الشرطيةُ

صلةُ ما والتقديرُ: في الذي إنْ مَكَّنَّاكم فيه طَغَيْتُم. والثاني: أنها مزيدةٌ تشبيهاً للموصولةِ ب «ما» النافيةِ والتوقيتيةِ. وهو كقوله: 4047 - يُرَجِّي المرءُ ما إنْ لا يَراهُ ... وتَعرِضُ دونَ أَدْناه الخُطوبُ والثالث: - وهو الصحيحُ - أنها نافيةٌ بمعنى: مَكَّنَّاهم في الذي ما مكَّنَّاكم فيه من القوةِ والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق. ويدلُّ له قولُه تعالى في مواضعَ: {كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم: 9] وأمثالِه. وإنما عَدَلَ عن لفظِ «ما» النافية إلى «إنْ» كراهيةً لاجتماعِ متماثلَيْن لفظاً. قال الزمخشري: «وقد أَغَثَّ أبو الطيبِ في قولِه: 4048 - لَعَمْرُك ما ما بان منك لِضاربٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما ضَرَّه لو اقتدى بعُذوبة لفظِ التنزيل فقال:» ما إنْ بانَ منك «. قوله:» فما أَغْنَى «يجوزُ أَنْ تكونَ» ما «نفياً، وهو الظاهرُ أو استفهاماً للتقرير. واستبعده الشيخُ لأجْلِ قولِه:» مِنْ شيء «قال:» إذ يصيرُ التقديرُ:

أيُّ شيء أغنى عنهم مِنْ شيءٍ، فزاد «مِنْ» في الواجب، وهو لا يجوزُ على الصحيح «. قلت: قالوا تجوزُ زيادُتها في غيرِ الموجَبِ وفََسَّروا غيرِ الموجَبِ بالنفيِ والنهيِ والاستفهامِ، وهذا استفهامٌ. قوله:» إذ كانوا «معمولٌ ل» أَغْنى «وهي مُشْرَبَةٌ معنى التعليلِ أي: لأنهم كانوا يَجْحَدُون.

28

قوله: {قُرْبَاناً آلِهَةَ} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أوجَهُها: أنَّ المفعولَ الأولَ ل «اتَّخذوا» محذوفٌ هو عائدُ الموصولِ. «وقُرْباناً» نُصِبَ على الحال و «آلهةً» هو المفعولُ الثاني للاتخاذ. والتقدير: فهَلاَّ نَصَرهم الذين اتَّخَذُوْهم مُتَقَرَّباً بهم آلهةً. الثاني: أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ، كما تقدَّم تقريرُه، و «قُرْباناً» مفعولاً ثانياً و «آلهةً» بدلٌ منه. وإليه نحا ابنُ عطية والحوفيُّ وأبو البقاء. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ مَنَعَ هذا الوجهَ قال: «لفسادِ المعنى» ، ولم يُبَيِّنْ جهةَ الفساد. قال الشيخ: «ويَظْهَرُ أنَّ المعنى صحيحٌ على ذلك الإِعراب» قلت: ووجهُ الفسادِ - واللَّهُ أعلم - أنَّ القُرْبان اسمٌ لِما يُتَقَرَّبُ به إلى الإِله، فلو جَعَلْناه مفعولاً ثانياً، وآلهةً بدلاً منه لَزِمَ أَنْ يكونَ الشيءُ المتقرَّبُ به آلهةً، والفَرَضُ أنه غيرُ الآلهةِ، بل هو شيءٌ يُتَقَرَّب به إليها فهو غيرُها، فكيف تكون الآلهةُ بدلاً منه؟ هذا ما لا يجوزُ. الثالثُ: أنَّ «قُرْباناً» مفعولٌ مِنْ أجلِه، وعزاه الشيخُ للحوفيِّ. قلت: وإليه ذهب أبو البقاء

أيضاً، وعلى هذا ف «آلهةً» مفعول ثانٍ والأولُ محذوفٌ كما تقدَّم. الرابع: أَنْ يكونَ مصدراً، نقله مكيٌّ. ولولا أنَّه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعولُ مِنْ أجلِه لأوَّلْتُ كلامَه: أنَّه أراد بالمصدرِ المفعولَ مِنْ أجلِهِ لبُعْدِ معنى المصدر. قوله: «إفْكُهم» العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ وسكونِ الفاءِ، مصدرُ أَفَكَ يَأْفِك إفْكاً أي: كَذِبُهم. وابن عباس بالفتح وهو مصدرٌ له أيضاً. وابنُ عباس أيضاً وعكرمة والصباح بن العلاء «أَفَكَهُمْ» بثلاثِ فتحات فعلاً ماضياً. أي: صَرَفَهم. وأبو عياض وعكرمةُ أيضاً، كذلك إلاَّ أنَّه بتشديد الفاءِ للتكثير. وابن الزبير وابن عباس أيضاً «آفَكَهم» بالمدِّ فعلاً ماضياً أيضاً، وهو يحتملُ أَنْ يكونَ بزنةِ فاعَلَ، فالهمزةُ أصليةٌ، وأَنْ يكونَ بزنةِ أَفْعَل، فالهمزةُ زائدةٌ والثانيةُ بدلٌ مِنْ همزةٍ. وإذا قلنا: إنه أَفْعَلَ فهمزتُه تحتملُ أَنْ تكونَ للتعديةِ، وأَنْ يكونَ أَفْعَلَ بمعنى المجرد. وابنُ عباس أيضاً: «آفِكُهم» بالمدِّ وكسرِ الفاءِ ورَفْعِ الكافِ، جعله اسمَ فاعلٍ بمعنى صارِفهم. وقُرِئ «أَفَكُهم» بفتحتين ورفعِ الكافِ على أنَّه مصدرٌ لأَفَكَ أيضاً فتكونُ له ثلاثةُ مصادرَ: الأَفْكُ والإِفْكُ بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء. وزاد أبو البقاء أنه

قُرِئ «آفَكُهم» بالمدِّ وفتحِ الفاءِ ورفعِ الكافِ. قال: «بمعنى أَكْذَبُهم» فجعله أفْعَلَ تفضيلٍ. قوله: {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} / يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً وهو الأحسنُ ليُعْطَفَ على مثلِه، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: يَفْتَرُونه. والمصدرُ مِنْ قولِه: «إفْكُهم» يجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً إلى الفاعلِ بمعنى كَذبِهم، وإلى المفعول بمعنى صَرْفِهم.

29

قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَآ} : منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدَّراً. وقُرِئ «صَرَّفْنا» بالتشديدِ للتكثيرِ. «من الجنِّ» صفةٌ ل «نَفَراً» ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «صَرَفْنا» ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. قوله: «يَسْتَمِعُون» صفةٌ أيضاً ل «نَفَراً» أو حالٌ لتخصُّصهِ بالصفةِ، إنْ قلنا: إنَّ «مِنَ الجنِّ» صفةٌ له، وراعى معنى النَّفر، فأعاد عليه الضميرَ جمعاً، ولو راعَى لفظَه وقال: «يَسْتمع» لَجاز. قوله: «فلَمَّا حَضَرُوْه» يجوزُ أَنْ تكونَ الهاءُ للقرآنِ، وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ للرسولِ عليه السلام، وحينئذٍ يكونُ في الكلام التفاتٌ مِنْ قولِه: «إليك» إلى الغَيْبَةِ في قولِه: «حَضَرُوه» . قوله: «قُضِي» العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ أي: فَرَغَ [مِنْ] قراءةِ القرآنِ، وهو يُؤَيِّدُ عَوْدَ هاء «حَضَروه» على القرآن. وأبو مجلز. وحبيب بن عبد الله «

قَضَى» مبنياً للفاعلِ أي: أتَمَّ الرسولُ قراءتَه، وهي تؤيِّدُ عَوْدَها على الرسولِ عليه السلام.

31

قوله: {مِّن ذُنُوبِكُمْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً، وأن تكونَ مزيدةً عند مَنْ يرى ذلك.

33

قوله: {وَلَمْ يَعْيَ} : العامَّةُ على سكونِ العينِ وفتحِ الياءِ مضارعَ عَيِيَ بالكسر يَعْيا بالفتحِ، فلمَّا دَخَلَ الجازمُ حَذَفَ الألفَ. وقرأ الحسن «يَعِيْ» بكسر العين وسكون الياءِ. قالوا: وأصلُها عَيِيَ بالكسرِ، فجعلَ الكسرةَ فتحةً على لغةِ طَيِّئ فصارَ «عَيا» كما قالوا في بَقِيَ: بَقَا. ولَمَّا بُني الماضي على فَعَلَ بالفتح جاء بمضارعِه على يَفْعِل بالكسرِ، فصار يَعْيِي مثل: يَرْمي. فلمَّا دَخَلَ الجازمُ حَذَفَ الياءَ الثانيةَ فصار «لم يَعْيِ» بعين ساكنة وياء مكسورة ثم نَقَلَ حركةَ الياءِ إلى العينِ فصار اللفظُ كما ترى. وقد تَقَدَّم أن عَيِيَ وحَيِي فيهما لغتان: الفكُّ والإِدغامُ، فأمَّا «حِيِي» فتقدَّمَ في الأنفال. وعَيَّ فكقولِه: 4049 - عَيُّوا بأَمْرِهِمُ كما ... عَيَّتْ ببَيْضَتِها الحمَامَهْ والعِيُّ: عَدَمُ الاهتداءِ إلى جهةٍ. ومنه العِيُّ في الكلامِ، وعيِيَ بالأمرِ: إذا لم يَهْتَدِ لوَجْهه.

قوله: «بقادرٍ» الباءُ زائدةٌ. وحَسَّنَ زيادتَها كونُ الكلامِ في قوةِ «أليسَ اللَّهُ بقادرٍ» وقاس الزجَّاجُ «ما ظَنَنْتُ أنَّ أحداً بقائمٍ» عليها، والصحيحُ التوقُّفُ. وقرأ عيسى وزيد بن علي والجحدريُّ «يَقْدِرُ» مضارعَ قَدَرَ، والرسمُ يَحْتملُه. وقوله: «بلى» إيجابٌ لِما تضمَّنَه الكلامُ مِن النفي في قولِه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} .

34

قوله: {أَلَيْسَ هذا} : معمولٌ لقولٍ مضمرٍ هو حالٌ، كما تقدَّمَ في نظيرِه.

35

قوله: {فاصبر} : الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما تقدَّمَ، والسببيَّةُ فيها ظاهرةٌ. قوله: «من الرسُل» يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً، وعلى هذا فالرسلُ أولو عَزْمٍ وغيرُ أُولي عَزْمٍ. ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ، فكلُّهم على هذا أُوْلو عَزْم. قوله: «بلاغٌ» العامَّةُ على رَفْعِه. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، فقدَّره بعضُهم: تلك الساعةُ بلاغٌ، لدلالةِ قولِه: {إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} وقيل: تقديرُه هذا أي: القرآن والشرعُ بلاغٌ. والثاني: أنَّه مبتدأٌ، والخبرُ قولُه: «لهم» الواقعُ بعد قولِه: «ولا تَسْتَعْجِلْ» أي: لهم بلاغٌ، فيُوْقَفُ على «فلا تَسْتعجل» . وهو ضعيفٌ جداً للفصلِ بالجملةِ التشبيهية، لأنَّ الظاهرَ تَعَلُّقُ «لهم» بالاستعجال، فهو يُشْبِه التهيئةَ والقطعَ. وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى «بلاغاً» نصباً على المصدرِ أي: بَلَغَ بلاغاً، ويؤيِّده قراءةُ أبي مجلز «بَلِّغْ» أمراً. وقرأ أيضاً «بَلَغَ» فعلاً ماضياً.

ويُؤْخَذُ مِنْ كلامِ مكيّ أنه يجوزُ نصبُه نعتاً ل «ساعةً» فإنه قال: «ولو قُرِئ» بلاغاً «بالنصبِ على المصدر أو على النعتِ ل» ساعةً «جاز» . قلت: قد قُرِئ به وكأنه لم يَطَّلِعْ على ذلك. وقرأ «الحسن» أيضاً «بلاغ» بالجرِّ. وخُرِّجَ على الوصف ل «نهار» على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ نَهارٍ ذي بلاغ، أو وُصِف الزمانُ بالبلاغ مبالغةً. قوله: «يُهْلَكُ» العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ. وابن محيصن «يَهْلِك» بفتح الياء وكسرِ اللام مبنياً للفاعل. وعنه أيضاً فتحُ اللامِ وهي لغةٌ. والماضي هلِكَ بالكسر. قال ابن جني: «كلٌ مرغوبٌ عنها» . وزيد بن ثابت بضمِّ الياءِ وكسرِ اللام/ والفاعلُ اللَّهُ تعالى. «القومَ الفاسقين» نصباً على المفعولِ به. و «نُهْلك» بالنون ونصب «القوم» .

محمد

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {الذين كَفَرُواْ} : يجوزُ فيه الرفعُ على الابتداءِ. والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه: «أضَلَّ أعمالَهم» ، ويجوزُ نصبُه على الاشتغالِ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّرُه «أضَلَّ» من حيثُ المعنى أي: خَيَّبَ الذين كفروا.

2

قوله: {والذين آمَنُواْ} : يجوز فيه الوجهان المتقدمان. وتقديرُ الفعلِ: «رَحِمَ الذين آمنوا» . قوله: {بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} العامَّةُ على بنائِه للمفعول مشدَّداً. وزيد ابن علي وابن مقسم «نَزَّل» مبنياً للفاعل، وهو اللَّهُ تعالى. والأعمش «أُنْزِل» بهمزة التعدية مبنياً للمفعول. وقُرِئ «نَزَلَ» ثلاثياً مبنياً للفاعل. قوله: «وهو الحقُّ» جملةٌ معترضةٌ بين المبتدأ والخبرِ، أو بين المفسَّر والمفسِّر. وتقدَّم تفسيرُ البال في طه.

3

قوله: {ذَلِكَ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأٌ.

والخبرُ الجارُّ بعدَه. والثاني: قاله الزمخشري أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك بسببِ كذا. فالجارُّ في محلِّ نصبٍ. قال الشيخ: «ولا حاجةَ إليه» . قوله: «كذلك يَضْرِبُ» خرَّجَه الزمخشريُّ على: مِثْلَ ذلك الضربِ يَضْرِبُ اللَّهُ للناسِ أمثالَهم. والضميرُ راجعٌ إلى الفريقين أو إلى الناسِ، على معنى: أنه يَضْرِبُ أمثالَهم لأجلِ الناس ليَعْتَبِروا.

4

قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ} : العاملُ في هذا الظرفِ فعلٌ مقدر هو العاملُ في «ضَرْبَ الرِّقاب» تقديرُه: فاضربوا الرقابَ وقتَ ملاقاتِكم العدوَّ. ومنع أبو البقاء أَنْ يكونَ المصدر نفسُه عاملاً قال: «لأنه مؤكَّدٌ» . وهذا أحدُ القولَيْن في المصدرِ النائبِ عن الفعل نحو: «ضَرْباً زيداً» هل العملُ منسوبٌ إليه أم إلى عامِله؟ ومنه: 4050 - على حينَ أَلْهى الناسَ جُلُّ أمورِهمْ ... فنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالبِ فالمالَ منصوبٌ: إمَّا ب «انْدُلْ» أو ب «نَدْلا» ، والمصدر هنا أُضيف إلى معمولِه. وبه اسْتُدِلَّ على أنَّ العملَ للمصدرِ لإِضافتِه إلى ما بعدَه، ولو لم يكنْ عامِلاً لما أُضِيْفَ إلى ما بعده.

قوله: «حتى إذا» هذه غايةٌ للأمرِ بضَرْبِ الرقاب. وقرأ السُّلَمِيُّ «فَشِدُّوا» بكسر الشين. وهي ضعيفةٌ جداً. والوَثاق بالفتح - وفيه الكسر - اسمُ ما يُوْثَقُ به. قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} فيهما وجهان، أشهرهما: أنهما منصوبان على المصدر بفعلٍ لا يجوزُ إظهارُه؛ لأنَّ المصدرَ متى سِيْقَ تفصيلاً لعاقبةِ جملةٍ وَجَبَ نصبُه بإضمارِ فِعْلٍ لا يجوزُ إظهارُه والتقديرُ: فإمَّا أَنْ تَمُنُّوا مَنًّا، وإمَّا تُفادُوا فداءً. ومثله: 4051 - لأَجْهَدَنَّ فإمَّا دَرْءُ واقِعَةٍ ... تُخْشَى وإمَّا بلوغُ السُّؤْلِ والأَمَلِ والثاني: - قاله أبو البقاء - أنهما مفعولان بهما لعاملٍ مقدرٍ تقديره: «أَوْلُوْهُمْ مَنَّاً، واقْبَلوا منهم فداءً» . قال الشيخ: «وليس بإعرابِ نحوي» . وقرأ ابن كثير «فِدَى» بالقصر. قال أبو حاتم: «لا يجوزُ؛ لأنه مصدرُ فادَيْتُه» ولا يُلْتَفت إليه؛ لأنَّ الفراءَ حكى فيه أربعَ لغاتٍ: المشهورةُ المدُّ والإِعرابُ: فداء لك، وفداءٍ بالمد أيضاً والبناء على الكسر والتنوين، وهو غريبٌ جداً. وهذا يُشْبه قولَ بعضِهم «هؤلاءٍ» بالتنوين، وفِدى بالكسر مع القصر، وفَدَى بالفتح مع القصرِ أيضاً.

والأَوْزارُ هنا: الأَثْقال، وهو مجازٌ. قيل: هو مِنْ مجاز الحَذْف أي: أهل الحرب. والأَوْزار عبارةٌ عن آلاتِ الحرب. قال الشاعر: 4052 - وأَعْدَدْت للحَرْبِ أوزارَها ... رِماحاً طِوالاً وخَيْلاً ذُكوراً و «حتى» الأولى غايةٌ لضَرْبِ الرِّقاب، والثانيةُ ل «شُدُّوا» . ويجوزُ أَنْ يكونا غايتين لضَرْبِ الرِّقابِ، على أنَّ الثانيةَ توكيدٌ أو بدلٌ. قوله: «ذلك» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك، وأَنْ ينتصِبَ بإضمارِ افْعَلوا. قوله: «ليَبْلُوَ بَعْضَكم» أي: ولكنْ أَمَرَكم بالقتال ليَبْلُوَ. قوله: «قُتِلُوا» قرأ العامَّةُ «قاتلوا» وأبو عمروٍ وحفص «قُتِلوا» مبنياً للمفعولِ على معنى: أنَّهم قُتِلوا وماتوا، أصاب القتلُ بعضَهم كقولِه: {قُتِل مَعَهُ رِبِّيُّونَ} . وقرأ الجحدري «قَتَلوا» بفتح القاف والتاءِ خفيفةً، ومفعولُه محذوفٌ. وزيد بن ثابت والحسن وعيسى «قُتِّلوا» بتشديد التاء مبنياً للمفعول. / وقرأ أمير المؤمنين علي «تُضَلَّ» مبنياً للمفعولِ «أعمالُهم» بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعلِ. وقُرِئَ «تَضِلَّ» بفتح التاء، «أعمالُهم» بالرفع فاعلاً.

6

قوله: {عَرَّفَهَا} : يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ مستأنفةً. والثاني: أَنْ تكونَ حالاً فيجوزَ أَنْ تُضْمِرَ «قد» وأن لا تُضْمِرَ.

و «عَرَّفها» : من التعريف الذي هو ضدُّ الجهل. وقيل: من الرَّفْع. وقيل: من العَرْف وهو الطِّيب. وقرأ أبو عمروٍ في رواية «ويُدْخِلْهم» بسكون اللامِ. وكذا ميمُ {نُطْعِمُكُمْ} [الانسان: 9] وعين {يَجْمَعُكُمْ} [التغابن: 9] كأنه يَسْتَثْقِلُ الحركاتِ. وقد قرأتُ له بذلك في {يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] و {يَنصُرُكُمْ} [الملك: 20] وبابه.

7

قوله: {وَيُثَبِّتْ} : قرأه العامَّةُ مُشَدَّداً. ورُوي عن عاصم تخفيفُه مِنْ أَثْبَتَ.

8

قوله: {والذين كَفَرُواْ} : يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً، والخبرُ محذوفٌ. تقديره: فَتَعِسُوا وأُتْعِسُوا، يَدُلُّ عليه «فَتَعْساً» فتعساً منصوبٌ بالخبرِ. ودَخَلَتِ الفاءُ تشبيهاً للمبتدأ بالشرط. وقدَّرَ الزمخشري الفعلَ الناصبَ ل «تَعْساً» فقال: «لأنَّ المعنى: فقال تعساً أي: فقضى تَعْساً لهم» . قال الشيخ: «وإضمارُ ما هو من لفظِ المصدر أَوْلَى» . والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره «فتَعْساً لهم» كما تقول: زيداً جَدْعاً له، كذا قال الشيخ تابِعاً للزمخشريِّ. وهذا لا يجوزُ لأنَّ «لهم» لا يتعلَّقُ ب «تَعْساً» ، إنما هو

متعلقٌ بمحذوفٍ لأنَّه بيانٌ أي: أعني لهم: وقد تقدَّم تحقيقُ هذا والاستدلالُ عليه. فإنْ عَنَيا إضماراً مِنْ حيث مطلقُ الدلالةِ لا من جهةِ الاشتغالِ فَمُسَلَّمٌ، ولكنْ تَأْباه عبارتُهما وهي قولُهما: منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسره «فَتَعْساً لهم» ، و «أَضَلَّ» عطفٌ على ذلك الفعل المقدرِ أي: أتعسَهُم وأضلَّ أعمالهم. والتَّعْسُ: ضدُّ السَّعْدِ يقال: تَعَسَ الرجلُ بالفتح تَعْساً وأَتْعَسَهَ اللَّهُ. قال مجمِّع: 4053 - تقولُ وقد أَفْرَدْتُها مِنْ حَليلِها ... تَعِسْتَ كما أَتْعَسْتَني يا مُجَمِّعُ وقيل: تعِس بالكسرِ، عن أبي الهيثم وشَمِر وغيرِهما. وعن أبي عبيدة: تَعَسَه وأَتْعَسَه متعدِّيان فهما مما اتَّفَق فيهما فَعَل وأَفْعَل وقيل: التَّعْسُ ضدُّ الانتعاش. قال الزمخشري: «وتَعْساً له نقيض لَعَا له» يعني أنَّ كلمةَ «لَعا» بمعنى انتعش. قال الأعشى: 4054 - بذاتِ لَوْثٍ عَفَرْناةٍ، إذا عَثَرَتْ ... فالتَّعْسُ أَدْنى لها مِنْ أَنْ أقولَ لَعَا وقيل: التَّعْسُ الهَلاك. وقيل: التَّعْسُ الجَرُّ على الوجهِ، والنَّكْسُ الجرُّ على الرأس.

9

قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ «ذلك» مبتدأً، والخبرُ الجارُّ بعدَه، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. أي: الأمرُ ذلك بسبب أنهم كَرهوا،

أو منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ أي: فَعَل بهم ذلك بسببِ أنَّهم كَرِهوا، فالجارُّ في الوجهَيْن الأخيرَيْن منصوبُ المحلِّ.

10

قوله: {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حَذَفَ مفعولَه أي: أهلك اللَّهُ بيوتَهم وخَرَّبها عليهم، أو يُضَمَّنَ «دَمَّر» معنى: سَخِط اللَّهُ عليهم بالتدمير. قوله: «أمثالُها» أي: أمثال العاقبةِ المتقدِّمة. وقيل: أمثال العقوبة. وقيل: التَّدْميرة. وقيل: الهَلَكة. والأولُ أَوْلَى لتقدُّم ما يعودُ عليه الضميرُ صريحاً مع صحةِ معناه.

11

قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ} : كقولِه فيما تقدَّم. والوَلِيُّ هنا: الناصِرُ.

12

قوله: {كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} : إمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ المصدرِ أي: يأْكلوا الأكلَ مُشْبِهاً أَكْلَ الأنعام، وإمَّا نعتٌ لمصدرٍ أي: أكلاً مثلَ أكلِ الأنعامِ. قوله: {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ استئنافاً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً، ولكنَّها مقدرةٌ أي: يأكلون مُقَدَّراً ثَوِيُّهم في النار.

13

قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} يريد أهلَ قريةٍ، ولذلك راعى هذا المقدَّرَ في «أَهْلَكْناهم» {فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} بعد ما راعى المضافَ في قوله: «هي أشدُّ» والجملةُ مِنْ «هي أشدُّ» صفةٌ لقرية. وقال ابنُ عطية: «

نَسَبَ الإِخراجَ للقرية، حَمْلاً على اللفظِ، وقال:» أهلكناهم «حَمْلاً على المعنى» . قال الشيخ: «وظاهرُ هذا الكلامِ لا يَصِحُّ؛ لأن الضميرَ في» أهلكناهم «ليس عائداً على المضافِ إلى القرية التي أَسْنَدَ إليها الإِخراجَ، بل على أهلِ القرية، في قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} [فإنْ كان أرادَ بقولِه:» حَمْلاً على المعنى «أي: معنى القرية مِنْ قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} ] فهو صحيحٌ، لكنَّ ظاهرَ/ قولِه:» حَمْلاً على اللفظِ «و» حَمْلاً على المعنى «أَنْ يكونَ في مدلولٍ واحدٍ، وكان على هذا يَبْقى» كَأَيِّنْ «مُفْلَتاً غيرَ مُحَدَّثٍ عنه بشيء، إلاَّ أَنْ يُتَخَيَّلَ أنَّ» هي أشدُّ «خبرٌ عنه، والظاهرُ أنَّه صفةٌ ل قرية» . قلت: وابن عطيةَ إنما أراد لفظَ القريةِ مِنْ حيث الجملةُ لا من حيث التعيينُ.

14

قوله: {أَفَمَن كَانَ} : مبتدأٌ، والخبر «كَمَنْ زُيِّنَ» ، وحُمِل على لفظ «مَنْ» فأُفْرِدَ في قوله: {لَهُ سواء عَمَلِهِ} وعلى المعنى فجُمِعَ في قوله: {واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ} ، والجملةُ مِنْ «اتَّبعوا» عطفٌ على «زُيِّنَ» فهو صلةٌ.

15

قوله: {مَّثَلُ الجنة} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مبتدأٌ، وخبرُه مقدرٌ. فقدَّره النضر بن شميل: مثلُ الجنةِ ما تَسْمعون، ف «ما تَسْمعون» خبرُه، و «فيها أنهارٌ» مُفَسِّرٌ له. وقَدَّره سيبويه: «فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنة» ، والجملةُ بعدَها أيضاً مُفَسِّرةٌ للمَثل. الثاني: أن «مَثَل» زائدةٌ تقديرُه: الجنة التي وُعِدَ المتقون فيها أنهارٌ. ونظيرُ زيادةِ «مَثَل» هنا زيادةُ «اسم» في قولِه:

4055 - إلى الحَوْلِ ثم اسْمُ السَّلامِ عليكما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الثالث: أنَّ «مَثَل الجنة» مبتدأٌ، والخبر قولُه: «فيها أنهارٌ» ، وهذا ينبغي أَنْ يمتنعَ؛ إذ لا عائدَ من الجملةِ إلى المبتدأ، ولا ينْفَعُ كونُ الضميرِ عائداً على ما أُضيف إليه المبتدأ. الرابع: أنَّ «مَثَل الجنة» مبتدأٌ، خبرُه « {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار} ، فقَدَّره ابنُ عطية:» أمَثَلُ أهلِ الجنة كمَنْ هو خالدٌ «، فقدَّر حرفَ الإِنكارِ ومضافاً ليصِحَّ. وقدَّره الزمخشري:» أَمَثَلُ الجنةِ كمَثَلِ جزاءِ مَنْ هو خالدٌ «. والجملةُ مِنْ قولِه:» فيها أنهارٌ «على هذا فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: هي حالٌ من الجنة أي: مستقرَّةٌ فيها أنهارٌ. الثاني: أنها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ أي: هي فيها أنهارٌ، كأنَّ قائلاً قال: ما مَثَلُها؟ فقيل: فيها أنهار. الثالث: أَنْ تكونَ تكريراً للصلة؛ لأنَّها في حكمِها ألا ترى إلى أنَّه يَصِحُّ قولُك: التي فيها أنهار، وإنما عَرِيَ قولُه:» مَثَلُ الجنةِ «من حرفِ الإِنكار تصويراً لمكابرةِ مَنْ يُسَوِّي بين المُسْتَمْسِكِ بالبيِّنَةِ وبين التابِع هواه كمَنْ يُسَوِّي بين الجنة التي صفتُها كيتَ وكيتَ، وبين النارِ التي صفتُها أَنْ يُسْقَى أهلُها الحميمَ. ونظيرُه قولُ القائلِ: 4056 - أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلا هو كلامٌ مُنْكِرٌ للفرح برُزْئِه الكرامَ ووِراثةِ الذَّوْدِ، مع تَعَرِّيه من حرف الإِنكارِ، ذكر ذلك كلَّه الزمخشريُّ بأطولَ مِنْ هذه العبارةِ.

وقرأ عليُّ بن أبي طالب» مثالَ الجنةِ «. وعنه أيضاً وعن ابن عباس وابن مسعود» أمثالُ «بالجمع. قوله:» آسِنٍ «قرأ ابنُ كثير» أَسِنٍ «بزنة حَذِرٍ وهو اسمُ فاعلٍ مِنْ أَسِنَ بالكسرِ يَأْسَنُ، فهو أَسِنٌ ك حَذِرَ يَحْذَر فهو حَذِرٌ. والباقون» آسِنٍ «بزنةِ ضارِب مِنْ أَسَنَ بالفتح يَأْسِن، يقال: أَسَن الماءُ بالفتح يَأْسِن ويَأْسُن بالكسرِ والضمِّ أُسُوْناً، كذا ذكره ثعلب في» فصيحه «. وقال اليزيدي:» يقال: أَسِن بالكسرِ يَأْسَنُ بالفتح أَسَناً أي: تَغَيَّر طعمُه. وأمَّا أسِن الرجلُ - إذا دَخَل بئراً فأصابه مِنْ ريحِها ما جعل في رأسِه دُواراً - فأَسِن بالكسرِ فقط. قال الشاعر: 4057 - قد أترُكُ القِرْن مُصْفَرَّاً أنامِلُه ... يَميد في الرُّمْح مَيْدَ المائِح الأَسِنِ وقُرِئَ «يَسِنٍ» بالياء بدلَ الهمزةِ. قال أبو علي: «هو تَخفيفُ أَسِنٍ» وهو تخفيفٌ غريبٌ. قوله: {لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} صفةٌ ل «لبنٍ» . قوله: «لذة» يجوز أَنْ يكونَ تأنيثَ

لَذّ، ولَذٌّ بمعنى لذيذ، ولا تأويلَ على هذا، ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً وُصِفَ به. وفيه التأويلاتُ المشهورةُ. والعامَّةُ على جرِّ «لَذَّةٍ» صفةً ل «خَمْرٍ» وقُرِئ بالنصب على المفعولِ له، وهي تؤيِّدُ المصدريةَ في قراءةِ العامَّةِ، وبالرفع صفةً ل «أنهارٌ» ، ولم تُجْمَعْ لأنها مصدرٌ إنْ قيلَ به، وإنْ لا فلأنَّها صفةٌ لجمعٍ غيرِ عاقلٍ، وهو يُعامَلُ معاملةَ المؤنثةِ الواحدةِ. قوله: «مِنْ عَسَلٍ» نقلوا في «عَسَل» التذكيرَ والتأنيثَ، وجاء القرآنُ على التذكيرِ في قوله: «مُصَفَّى» . والعَسَلان: العَدْوُ. وأكثرُ استعمالِه في الذئبِ، يقال: عَسَل الذئبُ والثعلبُ، وأصلُه مِنْ عَسَلانِ الرُّمح وهو اهتزازُه، فكأنَّ العادِيَ يهزُّ أعضاءَه ويُحَرِّكها قال الشاعر: / 4058 - لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه ... فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ وكُنِي بالعُسَيْلة عن الجماعِ لِما بينهما. قال عليه السلام: «حتى تَذوقي عُسَيْلَتَه ويذوقَ عُسَيْلَتَك» . قوله: {مِن كُلِّ الثمرات} فيها وجهان، أحدهما: أن هذا الجارَّ صفةٌ لمقدرٍ، ذلك المقدَّرُ مبتدأٌ، وخبرُه الجارُّ قبلَه وهو «لهم» . و «فيها» متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به. والتقديرُ: ولهم فيها زوجان مِنْ كلِّ الثمراتِ، كأنه انَتَزَعَه مِنْ قولِه

تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] وقَدَّره بعضُهم: صِنْفٌ، والأولُ أليقُ. والثاني: أن: «مِنْ» مزيدةٌ في المبتدأ. قوله: «ومَغْفِرَةٌ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على ذلك المقدر لا بقَيْدِ كونِه في الجنة أي: ولهم مغفرةٌ، لأن المغفرةَ تكون قبلَ دخولِ الجنة أو بُعَيْدَ ذلك. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ حينئذٍ أي: ونعيمُ مغفرةٍ؛ لأنه ناشِئٌ عن المغفرةِ، وهو في الجنة. والثاني: أن يُجْعَلَ خبرُها مقدَّراً أي: ولهم مغفرةٌ. والجملةُ مستأنفةٌ. والفرقُ بين الوجهَيْنِ: أنَّ الوجهَ الذي قبل هذا فيه الإِخبارُ ب «لهم» الملفوظِ به عن سَنَنِ ذلك المحذوف، و «مغفرةٌ» ، وفي الوجه الآخر الخبر جارٌّ آخرُ، حُذِفَ للدلالةِ عليه. قوله: «كمَنْ هو» قد تقدَّم أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً عن «مَثَلُ الجنة» بالتأويلَيْن المذكورَيْن عن ابنِ عطيةَ والزمخشريِّ. وأمَّا إذا لم نجعَلْه خبراً عن «مَثَلُ» ففيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: أحال هؤلاء المتَّقين كحالِ مَنْ هو خالدٌ. وهذا تأويلٌ صحيحٌ. وذكر فيه أبو البقاء الأوجهَ الباقيةَ وقال: «وهو في موضعِ رفعٍ أي: حالُهم كحالِ مَنْ هو خالدٌ في النارِ. وقيل: هو استهزاءٌ بهم. وقيل: هو على معنى الاستفهامِ، أي: أكمَنْ هو خالدٌ. وقيل: في موضعِ نصبٍ أي: يُشْبِهون حالَ مَنْ هو خالدٌ في النار «انتهى. معنَى قولِه:» وقيل هو استهزاءٌ «أي: أن الإِخبار بقولِك: حالُهم كحالِ مَنْ، على سبيلِ الاستهزاءِ والتهكُّمِ.

قوله:» وسُقُوا «عطفٌ على الصلةِ، عَطَفَ فعليةً على اسمية، لكنه راعى في الأولِ لفظ» مَنْ «فأَفْرَدَ، وفي الثانيةِ معناها فجَمَعَ. والأَمْعاءُ: جمع مِعىً بالقصرِ، وهو المُصْرانُ الذي في البطن وقد وُصِفَ بالجمع في قوله: 4059 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . ومِعَىً جياعا على إرادةِ الجنسِ. وألفُه عن ياءٍ بدليلِ قولهم: مِعَيان.

16

قوله: {آنِفاً} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الحالِ، فقدَّره أبو البقاء: «ماذا قال مُؤْتَنِفا» . وقَدَّره غيرُه: مُبْتَدِئاً أي: ما القولُ الذي ائْتَنَفه الآن قبلَ انفصالِه عنه. والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ أي: ماذا قال الساعةَ، قاله الزمخشري. وأنكره الشيخ قال: «لأنَّا لم نعلَمْ أحداً عَدَّه من الظروف» . واختلفَتْ عبارتُهم في معناه: فظاهرُ عبارةِ الزمخشري أنه ظرفٌ حاليٌّ ك الآن، ولذلك فَسَّره بالساعة. وقال ابن عطية: «والمفسِّرون يقولون: آنِفاً معناه الساعةُ الماضيةُ القريبةُ منَّا وهذا تفسيرٌ بالمعنى» . وقرأ البزيُّ بخلافٍ عنه «أَنِفاً» بالقصرِ. والباقون بالمدِّ، وهما لغتان

بمعنىً واحدٍ، وهما اسما فاعِل ك حاذِر وحَذِر، وآسِن وأَسِن، إلاَّ أنَّه لم يُسْتعمل لهما فِعْلٌ مجردٌ، بل المستعملُ ائْتَنَفَ يَأْتَنِفُ، واسْتَأْنف يَسْتأنف. والائْتِنافُ والاسْتِئْناف: الابتداء. قال الزجَّاج: «هو مِنْ اسْتَأْنَفْتُ الشيءَ إذا ابتدَأْتَه أي: ماذا قال في أولِ وقتٍ يَقْرُب مِنَّا» .

17

قوله: {والذين اهتدوا} : يجوزُ فيه الرفعُ بالابتداءِ، والنصبُ على الاشتغالِ. و «تَقْواهم» مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. والضمير في «آتاهم» يعودُ على اللَّهِ أو على قولِ المنافقين؛ لأنَّ قولهم ذلك مِمَّا يزيدُ المؤمنينَ تقوى، أو على الرسول.

18

قوله: {أَن تَأْتِيَهُمْ} : بدلٌ من الساعة بدلُ اشتمالٍ. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي: «إنْ تَأْتِهم» ب إنْ الشرطيةِ، وجزمِ ما بعدها. وفي جوابِها وجهان، أحدهما: أنَّه قولُه: «فأنَّى لهم» قاله الزمخشريُّ. ثم قال: «فإنْ قلت: بِمَ يتصلُ قولُه: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} على القراءتَيْن؟ قلت: بإتيان السَّاعةِ، اتصالَ العلةِ بالمعلولِ كقولك: إنْ أكرَمَني زيدٌ فأنا حقيقٌ بالإِكرامِ أُكْرِمْه» . والثاني: أنَّ الجوابَ قولُه: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} ، وإتيانُ الساعةِ، وإنْ كان متحققاً، إلاَّ أنهم عُوْمِلوا مُعاملةَ الشاكِّ، وحالُهم كانت كذا. والأَشْراط: جمع شَرْط بسكونِ/ الراءِ وفتحِها. قال أبو الأسود: 4060 - فإن كنتِ قد أَزْمَعْتِ بالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فقد جَعَلَتْ أَشْراطُ أَوَّلِه تَبْدو

والأشراطُ: العلاماتُ، ومنه أَشْراط الساعةِ. وأَشْرَطَ الرجلُ نفسَه أي: ألزمها أموراً. قال أوس: 4061 - فأَشْرَطَ فيها نَفْسَه وهو مُعْصِمٌ ... فأَلْقَى بأسبابٍ له وتَوَكَّلا والشَّرْطُ: القَطْعُ أيضاً، مصدرُ شَرَطَ الجلدَ يَشْرِطُه (يَشْرُطُه) شَرْطاً. قوله: «فَأَنَّى لهم» «أنَّى» خبرٌ مقدمٌ و «ذِكْراهم» مبتدأٌ مؤخرٌ أي: أنَّى لهم التذكيرُ. وإذا وما بعدها معترضٌ وجوابُها محذوفٌ أي: كيف لهم التذكيرُ إذا جاءَتْهم الساعةُ؟ فيكف يتذكَّرون؟ ويجوز أن يكونَ المبتدأُ محذوفاً أي: أنَّى لهم الخَلاصُ، ويكون «ذِكْراهم» فاعلاً ب «جاءَتْهم» . وقرأ أبو عمروٍ في رواية «بَغَتَّةً» بفتح الغينِ وتشديدِ التاء، وهي صفةٌ، فنصبُها على الحال، ولا نظيرَ لها في الصفات ولا في المصادر، وإنما هي في الأسماء نحو: الجَرَبَّة للجماعةِ، والشَّرَبَّة للمكان. قال الزمخشري: «ما أَخْوَفني أن تكونَ غَلْطَةً من الراوي عن أبي عمرو، وأَنْ يكونَ الصوابُ» بَغَتَةً «بالفتح دون تشديد» .

20

قوله: {لَوْلاَ نُزِّلَتْ} : هذه بمعنى: هَلاَّ، ولا التفاتَ إلى قول بعضِهم: إنَّ «لا» زائدةٌ والأصلُ: لو نُزِّلَتْ. والعامَّةُ على رفع «سورةٌ مُحْكَمَةٌ» لقيامِها مقامَ الفاعل. وزيد بن علي بالنصبِ فيهما على الحالِ

والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ السورة المتقدمةِ، وسوَّغ وقوع الحال كذا وَصْفُها كقولك: الرجل جاءني رجلاً صالحاً. وقُرئ: {فَإِذَآ نَزَلَتْ سُورَةٌ} . وقرأ زيدُ بن علي وابن عمير «وذَكَرَ» مبنياً للفاعل أي: اللَّه تعالى. «القتالَ» نصباً. قوله: «نَظَرَ المَغْشِيِّ» الأصلُ: نَظَراً مِثْلَ نَظَر المَغْشِيِّ. قوله: {فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ} اختلف اللغويون والمُعْربون في هذه اللفظةِ، فقال الأصمعي: إنها فعلٌ ماضٍ بمعنى: قارَبَ ما يُهْلِكه وأنشد: 4062 - فعادَى بينَ هادِيَتَيْنِ مِنْها ... وَأَوْلَى أَنْ يزيدَ على الثلاثِ أي: قارَبَ أن يزيدَ. قال ثعلب: «لم يَقُلْ أحدٌ في» أَوْلَى «أحسنَ مِنْ قولِ الأصمعيِّ» ، ولكنْ الأكثرون على أنه اسمٌ. ثم اختلف هؤلاء فقيل: هو مشتقٌّ من الوَلْيِ وهو القُرْبُ كقوله: 4063 - يُكَلِّفُني لَيْلَى وقد شَطَّ وَلْيُها ... وعادَتْ عَوادٍ بيننا وخُطُوْبُ وقيل: هو مشتقُّ مِن الوَيْلِ. والأصلُ: فيه أَوْيَل فقُلبت العين إلى ما بعدَ اللام فصارَ وزنُه أَفْلَع. وإلى هذا نحا الجرجانيُّ. والأصلُ عدم القَلْبِ. وأمَّا معناها فقيل: هي تهديدٌ ووعيدٌ كقولِه:

4064 - فأَوْلَى ثم أَوْلَى ثم أَوْلَى ... وهَلْ للدَرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ وقال المبرد: يُقال لمَنْ هَمَّ بالغضبِ: أَوْلَى لك، كقولِ أعرابي كان يُوالي رَمْيَ الصيدِ فيَفْلَتُ منه فيقول: أَوْلى لك، ثم رمى صيداً فقارَبَه فأفلتَ منه، فقال: 4065 - فلو كان أَوْلَى يُطْعِمُ القومَ صِدْتُهم ... ولكنَّ أَوْلى يَتْرُكُ القومَ جُوَّعا هذا ما يتعلَّقُ باشتقاقِه ومعناه. أمَّا الإِعرابُ: فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «أَوْلَى» مبتدأٌ، و «لهم» خبرُه، تقديرُه: فالهلاكُ لهم. وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرة كونُه دعاءً نحو: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] . الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه العقابُ أو الهلاكُ أَوْلَى لهم، أي: أقربُ وأَدْنى. ويجوز أن تكونَ اللامُ بمعنى الباءِ أي: أَوْلَى وأحَقُّ بهم. الثالث: أنه مبتدأٌ، و «لهم» متعلِّقٌ به، واللامُ بمعنى الباء. و «طاعةٌ» خبره، والتقدير: أولَى بهم طاعةٌ دونَ غيرِها. وإنْ قلنا بقول الأصمعيِّ فيكون فعلاً ماضياً وفاعلُه مضمر، يَدُلُّ عليه السِّياقُ كأنه قيل: فأَوْلَى هو أي: الهلاكُ، وهذا ظاهرُ عبارةِ الزمخشري حيث قال: «ومعناه الدعاءُ عليهم بأَنْ يَلِيَهم المكروهُ» . وقال ابن عطية: / «المشهورُ من استعمالِ العرب أنك تقول: هذا أَوْلَى بك مِنْ هذا أي: أحقُّ. وقد تَسْتعملُ العربُ» أَوْلَى «فقط على جهةِ الحذفِ والاختصارِ لِما معها من القول فتقول:

أَوْلَى لك يا فلانُ على جهةِ الزَّجْرِ والوعيد» انتهى. وقال أبو البقاء: «أَوْلَى مؤنثة أَوْلات» وفيه نظر لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيَيْن، أمَّا التأنيثُ اللفظيُّ فلا يُقال فيه ذلك. وسيأتي له مزيدُ بيانٍ في سورة القيامة إنْ شاء الله. قوله: {طَاعَةٌ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه خبرُ «أَوْلَى لهم» على ما تقدَّم. الثاني: أنها صفةٌ ل «سورةٌ» أي: فإذا أُنْزِلَتْ سورةٌ مُحْكَمَةٌ طاعةٌ أي: ذاتُ طاعةٍ أو مُطاعةٌ. ذكره مكيٌّ وأبو البقاء وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفواصلِ. الثالث: أنها مبتدأٌ و «قولٌ» عطفٌ عليها، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: أَمْثَلُ بكم مِنْ غيرِهما. وقَدَّره مكي: مِنَّا طاعةٌ، فقدَّره مقدَّماً. الرابع: أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: أَمْرُنا طاعةٌ. الخامس: أنَّ «لهم» خبرٌ مقدمٌ، و «طاعةٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، والوقف والابتداء يُعْرَفان مِمَّا قدَّمْتُه فتأمَّلْه. قوله: «فإذا عَزَمَ» في جوابِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: قولُه: «فلو صَدَقُوا» نحو: «إذا جاءني طعامٌ فلو جِئْتَني أطعمتُك» . الثاني: أنه محذوفٌ تقديره: فاصْدُقْ، كذا قَدَّره أبو البقاء. الثالث: أن تقديرَه: فاقْضُوا. وقيل: تقديره: كَرِهوا ذلك و «عَزَمَ الأمرُ» على سبيل الإِسنادِ المجازيِّ كقولِه:

4066 - قد جَدَّتِ الحربُ بكم فَجُدُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أو يكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي: عَزَمَ أهلُ الأمرِ.

22

قوله: {أَن تُفْسِدُواْ} : خبرُ «عسى» ، والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابُه محذوفٌ لدلالةِ «فهل عَسَيْتُم» عليه أو هو يُفَسِّره «فهل عَسَيْتُمْ» عند مَنْ يرى تقديمَه. وقرأ عليٌّ «إنْ تُوُلِّيْتُمْ» بضم التاءِ والواوِ وكسرِ اللام مبنياً للمفعول مِن الوِلاية أي: إنْ وَلَّيْتُكم أمورَ الناس. وقُرئ «وُلِّيْتُمْ» من الوِلاية أيضاً. وهاتان تَدُلاَّن على أنَّ «تَوَلَّيْتُمْ» في العامَّةِ من ذلك. ويجوز أن يكونَ من الإِعراضِ وهو الظاهرُ. وفي قوله: «عَسَيْتُمْ» إلى آخره التفاتٌ مِنْ غَيْبة في قوله: {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} إلى خطابِهم بذلك زيادةً في توبيخِهم. وقرأ العامَّةُ «وتُقَطِّعوا» بالتشديد على التكثير. وأبو عمروٍ في روايةٍ وسلام ويعقوب بالتخفيف، مضارعَ قَطَعَ. والحسن بفتح التاء والطاءِ مشددةً. وأصلُها تَتَقَطَّعوا بتاءَيْن حُذِفَتْ أحداهما. وانتصابُ «أرحامَكم» على هذا على إسقاط الخافض أي: في أرحامكم.

23

قوله: {أولئك} : مبتدأ، والموصولُ خبرُه. والتقدير: أولئك المُفْسِدون، يَدُلُّ عليه ما تقدَّم. وقوله: «فأَصَمَّهم» . ولم يَقُلْ: فَأَصَمَّ آذانَهم، و «أَعْمى أَبْصَارهم» ولم يَقُلْ: أَعْماهم. قيل: لأنَّه لا يَلزَمُ مِنْ ذهابِ الأُذُنِ ذَهابُ السماع فلم يتعرَّضْ لها، والأَبْصار - وهي الأعينُ - يَلْزَمُ مِنْ

ذهابِها ذهابُ الإِبصارِ ولا يَرِد عليك {في آذَانِهِمْ وَقْرٌ} [فصلت: 44] ونحوه لأنه دونَ الصَّمَمِ، والصَّممُ أعظمُ منه.

24

قوله: {أَمْ على قُلُوبٍ} : أم منقطعةٌ. وقد عَرَفْتَ ما فيها. والعامَّةُ «على أَقْفالُها» بالجمع على أَفْعال. وقُرئ «أَقْفُلُها» على أَفْعُل. وقُرِئ «إقْفالُها» بكسرِ الهمزةِ مصدراً كالإِقبال. وهذا الكلامُ استعارةٌ بليغةٌ جُعِلَ ذلك عبارةً عن عَدَمِ وصولِ الحقِّ إليها.

25

قوله: {الشيطان سَوَّلَ} : هذه الجملةُ خبرُ {إِنَّ الذين ارتدوا} . وقد تقدَّم الكلامُ على «سَوَّل» معنًى واشتقاقاً. وقال الزمخشري هنا: «وقد اشتقَّه من السُّؤْل مَنْ لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاقِ جميعاً» كأنَّه يُشير إلى ما قاله ابن بحر: مِنْ أنَّ المعنى: أعطاهم سُؤْلَهم. ووجهُ الغلطِ فيه أنَّ مادةَ السُّؤْلِ من السؤال بالهمز، ومادةَ هذا بالواوِ فافترقا، فلو كان على ما قيل لقيل: سَأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو. وفيما قاله الزمخشريُّ نَظَرٌ؛ لأن السؤالَ له مادتان: سَأَل بالهمز، وسال بالألفِ المنقلبةِ عن واوٍ، وعليه قراءةُ «سال سايل» وقوله: 4067 - سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ

وقد تقدَّم هذا في البقرةِ مُسْتوفى. قوله: «وأَمْلَى» العامَّةُ على «أَمْلَى» مبنياً للفاعل، وهو ضمير الشيطان. وقيل: هو للباري تعالَى. قال أبو البقاء: «على الأول يكونُ معطوفاً على الخبر، وعلى الثاني يكونُ مُسْتأنفاً» . ولا يَلْزَمُ ما قاله بل هو معطوفٌ على الخبر في كلا التقديرَيْن، أخبر عنهم بهذا وبهذا. وقرأ أبو عمروٍ في آخرين «أُمْلِيَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ. وقيل: القائم مَقامَه ضميرُ الشيطان، ذكره أبو البقاء، ولا معنى لذلك. وقرأ يَعْقُوبُ وسلام ومجاهد/ «وأُمْلِيْ» بضمِ الهمزةِ وكسرِ اللام وسكونِ الياءِ. فاحتملَتْ وجهَيْن، أحدُهما: أَنْ يكونَ مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم أي: وأُمْلِي أنا لهم، وأَنْ يكونَ ماضياً كقراءة أبي عمروٍ سُكِّنَتْ ياؤه تخفيفاً. وقد مضى منه جملةٌ.

26

قوله: {إِسْرَارَهُمْ} : قرأ الأخَوان وحفصٌ بكسرِ الهمزة مصدراً، والباقون بفتحها جمعَ «سِرّ» .

27

قوله: {فَكَيْفَ} : إمَّا خبرٌ مقدمٌ أي: فكيف عِلْمُه بإسْرارِهم إذا تَوَفَّتْهم؟ وإمَّا منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ أي: فكيف يَصْنعون؟ وإمَّا خبرٌ ل «كان» مقدرةً أي: فكيف يكونون؟ والظرفُ معمولٌ لذلك المقدَّرِ.

وقرأ الأعمش «تَوَفَّاهم» دونَ تاءٍ فاحتملَتْ وجهين: أن يكونَ ماضياً كالعامَّةِ، وأن يكونَ مضارعاً حُذِفَت إحدى ياءَيْه. قوله: «يَضْرِبُون» حالٌ: إمَّا من الفاعلِ، وهو الأظهرُ، أو مِن المفعولِ.

29

قوله: {أَن لَّن يُخْرِجَ} : «أنْ» هذه مخففةٌ و «لن» وما بعدها خبرُها، واسمُها ضميرُ الشأن. والأَضْغان: جمعُ ضِغْن، وهي الأحقاد والضَّغِينة كذلك قال: 4068 - وذي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الوُدَّ عنه ... وكنتُ على إساءَتِه مُقِيتا وقال عمرو بن كلثوم: 4069 - فإنَّ الضِّغْنَ بعد الضِّغْنِ يَغْشُو ... عليكَ ويُخْرِجُ الداء الدَّفينا وقيل: الضِّغْنُ العداوةُ. وأُنْشِد: 4070 - قُلْ لابنِ هندٍ ما أردْتَ بمنطقٍ ... ساء الصديقَ وشَيَّد الأضغانا يقال: ضَغِنَ بالكسرِ يَضْغَنُ بالفتح وقد ضُغِنَ عليه. واضْطَغَنَ القومُ وتَضاغنوا، وأصل المادة من الالتواءِ في قوائم الدابةِ والقناة قال:

4071 - إنَّ قناتي مِنْ صَليباتِ القَنا ... ما زادَها التثقيفُ إلاَّ ضَغَنا وقال آخر: 4072 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كذاتِ الضِّغْنِ تَمْشي في الرِّفاقِ والاضْطِّغانُ: الاحتواءُ على الشيء أيضاً. ومنه قولُهم: اضْطَغَنْتُ الصبيَّ أي: اختصَصْتُه وأنشد: 4073 - كأنه مُضْطَغِنٌ صَبِيَّا ... وقال آخر: 4074 - وما اضْطَغَنْتُ سِلاحي عند مَغْرِضِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفرسٌ ضاغِنٌ: لا يَجْري إلاَّ بالضرب.

30

قوله: {لأَرَيْنَاكَهُمْ} : مِنْ رؤيةِ البصرِ. وجاء على الأفصح من اتصالِ الضميرَيْن، ولو جاء على: أَرَيْناك إياهم جازَ. قوله: «فَلَعَرَفْتَهُمْ» عطفٌ على جوابِ لو. وقوله: «ولَتَعْرِفَنَّهم» جواب قسمٍ محذوفٍ. قوله: {فِي لَحْنِ القول} اللحن يُقال باعتبارَيْن، أحدُهما: الكنايةُ بالكلامِ حتى لا يفهمَه غيرُ مخاطبَكِ. ومنه قولُ القَتَّالِ الكلابي في حكاية له: 4075 - ولقد وَحَيْتُ لكم لكيما تَفْهموا ... ولَحَنْتُ لَحْناً ليس بالمُرْتابِ وقال آخرُ: 4076 - منطِقٌ صائبٌ وتَلْحَنُ أَحْيا ... ناً وخيرُ الحديثِ ما كان لَحْناً واللَّحْنُ: صَرْفُ الكلامِ من الإِعراب إلى الخطأ. وقيل: يجمعُه هو والأولَ صَرْفُ الكلامِ عن وجهِه، يقال من الأول: لَحَنْتُ بفتح الحاء أَلْحَنُ له فأنا لاحِنٌ، وألحنتُه الكلامَ: أفهمتُه إياه فلَحِنَه بالكسر أي: فَهمه فهو لاحِنٌ. ويُقال من الثاني: لَحِن بالكسر إذا لم يُعْرِبْ فهو لَحِنٌ.

31

قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى} : قرأ «ولَيَبْلوَنَّكم حتى يَعْلم ويبلوَ أخبارَكم» أبو بكر الثلاثةَ بالياءِ مِنْ أسفلَ يعني اللَّهَ تعالى. والأعمش

كذلك وتسكين الواو والباقون بنون العظمةِ، ورُوَيس كذلك وتسكينُ الواوِ. والظاهرُ قَطْعُه عن الأول في قراءةِ تسكينِ الواو. ويجوزُ أَنْ يكونَ سَكَّن الواوَ تخفيفاً كقراءةِ الحسن {أَوْ يَعْفُوْ الذي} بسكونِ الواو.

35

قوله: {وتدعوا إِلَى السلم} : يجوز جَزْمُه عطفاً على فعل النهيِ. ونصبُه بإضمار «أَنْ» في جواب النهي. وقرأ أبو عبد الرحمن بتشديدِ الدال. وقال الزمخشري: «مِنْ ادَّعَى القومُ وتداعَوْا مثلَ: ارتَمَوْا إلى الصيد وتَرَامَوْا» . وقال غيره: بمعنى تَغْتَرُّوا يعني تَنْتَسِبوا. وتقدَّم الخلافُ في «السّلم» . قوله: «وأنتم الأَعْلَوْن» جملةٌ حاليةٌ. وكذلك «والله معكم» وأصل الأعْلَوْنَ: الأَعْلَيُون فأُعِلَّ. قوله: «يَتِرَكُمْ» أي: يُنْقِصكم، أو يُفْرِدكم عنها فهو مِنْ: وَتَرْتُ الرجلَ إذا قتلْتَ له قتيلاً، أو نهبْتَ مالَه، أو من الوِتْر وهو الانفرادُ. وقيل: كلا المعنيين يَرْجِعُ إلى الإِفراد؛ لأنَّ مَنْ قُتِل له قتيلُ أو نُهِبَ له مالٌ/ فقد أُفْرِد عنه.

37

قوله: {فَيُحْفِكُمْ} : عطفٌ على الشرط و «تَبْخَلوا» جوابُ الشرط. قوله: «ويُخْرِجْ أَضْغانَكم» العامَّةُ على إسنادِ الفعل إلى ضميرِ فاعلٍ: إمَّا

اللَّهِ تعالى أو الرسولِ أو السؤالِ؛ لأنَّه سببٌ وهو مجزومٌ عَطْفاً على جوابِ الشرط. ورُوي عن أبي عمروٍ رفعُه على الاستئنافِ. وقرأ أيضاً بفتح الياء وضمِّ الراء ورفعِ «أَضْغانُكم» فاعلاً بفعله. وابن عباس في آخرين «وتَخْرُجْ» بالتاء مِنْ فوقُ وضم الراء «أضغانُكم» فاعلٌ به. ويعقوب «ونُخْرِجْ» بنون العظمة وكسرِ الراء «أضغانَكم» نصباً. وقُرِئ «يُخْرَجْ» بالياء على البناء للمفعولِ «أَضْغانُكم» رفعاً به. وعيسى كذلك إلاَّ أنه نَصَبه بإضمار «أَنْ» عطفاً على مصدرٍ متوهَّمٍ أي: يَكُنْ بُخْلُكُمْ وإخراجُ أضغانِكم.

38

قوله: {هَا أَنتُمْ هؤلاء} : قال الزمخشري: «هؤلاء» موصولٌ صلتُه «تَدْعُوْن» أي: أنتم الذين تَدْعُون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفَهم كأنهم قالوا: وما وَصْفُنا؟ فقيل: تَدْعون «. قلت: قد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة آل عمران. قوله: {يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} بَخِلَ وضَنَّ يتعديَّان ب على تارةً وب عن أخرى. والأجودُ أَنْ يكونا حالَ تَعدِّيهما ب» عن «مضمَّنَيْن معنى الإِمْساك. قوله:» وإنْ تَتَوَلَّوْا «هذه الشرطيةُ عطفٌ على الشرطية قبلها، و {ثُمَّ لاَ يكونوا} عطفٌ على» يَسْتَبْدِلْ «.

الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} : متعلقٌ بفَتَحْنا، وهي لامُ العلةِ. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف جُعِل فتحُ مكةَ علةً للمغفرة؟ قلت: لم يُجْعَلْ علةً للمغفرةِ، ولكن لِما عَدَّد من الأمور الأربعة وهي: المغفرةُ، وإتمامُ النعمةِ، وهدايةُ الصراطِ المستقيمِ، والنصرُ العزيزُ؛ كأنه قال: يَسَّرْنا لك فتح مكة ونَصَرْناك على عدوِّك؛ لنجمعَ لك بين عِزِّ الدارَيْن وأغراضِ العاجلِ والآجل. ويجوزُ أَنْ يكونَ فَتْحُ مكةَ من حيث إنَّه جهادٌ للعدو سبباً للغفران والثواب» . وهذا الذي قاله مخالِفٌ لظاهرِ الآية؛ فإنَّ اللامَ داخلةٌ على المغفرة، فتكونُ المغفرةُ علةً للفتح، والفتحُ مُعَلَّلٌ بها، فكان ينبغي أَنْ يقولَ: كيف جُعِل فتحُ مكةَ مُعَلَّلاً بالمغفرةِ؟ ثم يقول: لم يُجْعَلْ مُعَلَّلاً. وقال ابنُ عطية: «المرادُ هنا أنَّ اللَّهَ تعالى فَتَح لك لكي يجعلَ الفتح علامةً لغفرانه لك، فكأنها لامُ صيرورة» وهذا كلامٌ ماشٍ على الظاهر. وقال بعضُهم: إنَّ هذه اللامُ لامُ القسمِ والأصلُ: لَيَغْفِرَنَّ فكُسِرَتْ اللامُ تشبيهاً ب لام كي، وحُذِفَتْ النونُ. ورُدَّ هذا: بأنَّ اللامَ لا تُكْسَرُ. وبأنَّها لا تَنْصِبُ المضارعَ. وقد

يقال: إنَّ هذا ليس بنصبٍ، وإنما هو بقاءُ الفتحِ الذي كان قبل نونِ التوكيد، بقي ليدُلَّ عليها، ولكنه قولٌ مردودٌ.

5

قوله: {لِّيُدْخِلَ} : في متعلَّق هذه اللامِ أربعةُ أوجهٍ، أحدها: محذوفٌ تقديرُه: يَبْتَلي بتلك الجنود مَنْ شاء فيقبلُ الخيرَ مِمَّنْ أهَّله له، والشرَّ مِمَّنْ قضى له به ليُدْخِلَ ويُعَذِّب. الثاني: أنها متعلقةٌ بقولِه: «إنَّا فَتَحْنا» . الثالث: أنَّها متعلقةٌ ب «يَنْصُرَك» . الرابع: أنها متعلقة ب «يَزْدادوا» . واسْتُشْكل هذا: بأنَّ قولَه تعالى: «ويُعَذِّبَ» عطفٌ عليه، وازديادُهم الإِيمانَ ليس مُسَبَّباً عن تعذيبِ اللَّهِ الكفارَ. وأجيب: بأنَّ اعتقادَهم أنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الكفارَ يزيدُ في إيمانِهم لا محالة. وقال الشيخ: «والازديادُ لا يكونُ سبباً لتعذيب الكفارِ. وأُجيب: بأنَّه ذُكِر لكونِه مقصوداً للمؤمنِ. كأنه قيل: بسببِ ازديادِكم في الإِيمانُ يُدْخِلُكم الجنة، ويُعَذِّبُ الكفار بأيديكم في الدنيا» . وفيه نظرٌ؛ كان ينبغي أن يقولَ: لا يكونُ مُسَبَّباً عن تعذيب الكفارِ، وهذا يُشْبِهُ ما تقدَّم في {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} [الفتح: 2] . قوله: «عندَ الله» متعلقٌ بمحذوفٍ، على أنه حال مِنْ «فوزاً» لأنَّه صفتُه في الأصل. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكون ظرفاً لمكانٍ، وفيه خلافٌ، وأَنْ يكونَ ظرفاً لمحذوفٍ دَلَّ عليه الفوز أي: يفوزون عند اللَّهِ. ولا يتعلَّق ب «فَوْزاً» لأنَّه مصدرٌ؛ فلا يتقدَّم معمولُه عليه. ومَنْ اغْتَفَر ذلك في الظرفِ جَوَّزَه.

6

قوله: {الظآنين بالله} : صفةٌ للفريقَيْن. وتقدَّم الخلافُ في «السوء» في التوبة. وقرأ الحسن «السُّوء» بالضم فيهما.

9

قوله: {لِّتُؤْمِنُواْ} : قرأ «ليؤمنوا» وما بعده بالياء مِنْ تحت ابنُ كثير وأبو عمروٍ رُجوعاً إلى قولِه: «المؤمنين والمؤمنات» . والباقون بتاءِ الخطاب. وقرأ الجحدري «تَعْزُرُوْه» بفتح التاء وضمِّ الزاي. وهو أيضاً وجعفر بن محمد كذلك إلاَّ أنهما كسرا الزاي. وابنُ عباس واليماني «ويُعَزِّرُوه» كالعامَّةُ، إلاَّ أنه بزاءَيْن من العزَّة. والضمائر المنصوبةُ راجعةٌ إلى الله تعالى. / وقيل: على الرسول إلاَّ الأخيرَ.

10

قوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} : خبرُ «إن الذين» . و {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} جملةٌ حاليةٌ، أو خبرٌ ثانٍ. وهو ترشيحٌ للمجازِ في مبايعةِ الله. وقرأ تمام بن العباس «يُبايعون الله» . والمفعولُ محذوفٌ أي: إنما يبايعونك لأجل الله. قوله: يَنْكُثُ «قرأ زيد بن علي» يَنْكِثُ «بكسر الكاف. والعامَّةُ على نصب الجلالة المعظمة. ورَفَعَها ابنُ أبي إسحاق على أنَّه تعالى

عاهدهم. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر» فَسَنُؤْتيه «بنون العظمة. والباقون بالياءِ مِنْ تحت. وقرئ» عَهِد عليه «ثلاثياً.

11

قوله: {شَغَلَتْنَآ} : حكى الكسائيُّ عن ابن نُوح أنه قرأ «شَغَّلَتْنا» بالتشديد. قوله: «ضَرَّاً» قرأ الأخَوان بضم الضاد. والباقون بفتحها فقيل: لغتان بمعنى كالفُقْر والفَقْر، والضُّعْف والضَّعْف. وقيل: بالفتح ضد النفع، وبالضم سوءُ الحال.

12

وقرأ عبد الله «إلى أهلِهم» دونَ ياءٍ، بل أضاف الأهل مفرداً. وقُرِئ «وزَيَّنَ» مبنياً للفاعل أي: الشيطان أو فِعْلُكم. و {كُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي: صِرْتُم. وقيل: على بابها من الإِخبار بكونِهم في الماضي كذا. والبُوْرُ: الهَلاك. وهو يحتمل أن يكونَ هنا مصدراً أُخْبر به عن الجمع كقولِه: 4077 - يا رسولَ الإِلهِ إنَّ لِساني ... راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُوْرُ

ولذلك يَسْتوي فيه المفردُ والمذكرُ وضدُّهما. ويجوز أن يكون جمع بائرِ كحائل وحُوْل في المعتلِّ. وبازِل وبُزْل في الصحيح.

13

قوله: {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن} : يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً أو موصولةً. والظاهرُ قائمٌ مقامَ العائدِ على كلا التقديرَيْن أي: فإنَّا أَعْتَدْنا لهم.

15

قوله: {يُرِيدُونَ} : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأَنْ يكونَ حالاً من «المخلَّفون» ، وأن يكونَ حالاً من مفعول «ذَرُوْنا» . قوله: «كلامَ الله» قرأ الأخَوان «كَلِمَ» جمع كِلْمة. والباقون «كلامَ» . وقرأ أبو حيوة «تَحْسِدُوْننا» بكسرِ السين.

16

قوله: {أَوْ يُسْلِمُونَ} : العامَّةُ على رَفْعِه بإثبات النون عطفاً على «تُقاتلونهم» أو على الاستئنافِ أي: أو هم يُسْلِمون. وقرأ أُبَيٌّ وزيد بن علي بحذفِ النون نَصَباه بحذِفها. والنصبُ بإضمارِ «أَنْ» عند جمهور البصريين وب «أو» نفسِها عند الجرميِّ والكسائي، ويكون قد عَطَفَ مصدراً مؤولاً على مصدر متوهَّم. كأنه قيل: يكنْ قتال أو إسلامٌ. ومثلُه في النصبِ قولُ امرئ القيس: 4078 - فقلتُ له لا تَبْكِ عَيْنُك إنما ... نُحاول مُلْكاً أو نموتَ فَنُعْذَرا

وقال أبو البقاء: «أو بمعنى: إلاَّ أَنْ، أو حتى» .

18

قوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} : منصوبٌ ب «رَضي» و «تحت الشجرة» يجوزُ أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب «يُبايعونك» ، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول. وفي التفسيرِ: أنه عليه السلام كان جالساً تحتها.

19

قوله: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً} : أي: وآتاكم مغانمَ، أو آتاهم مغانمَ، أو أثابَهم مغانم، أو أثابكم مغانمَ، وإنما قدَّرْتُ الخطابَ والغَيْبَة؛ لأنه يُقرأ «يَأْخُذونها» بالغيبة - وهي قراءة العامَّةِ - «وتَأْخُذونها» بالخطاب، وهي قراءةُ الأعمشِ وطلحةَ ونافعٍ في رواية سقلاب.

20

قوله: {وَلِتَكُونَ} : يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ بعده، تقديرُه: ولِتَكونَ فَعَلَ ذلك. الثاني: أنَّه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ، تقديرُه: وَعَدَ فعجَّل وكَفَّ لتنتَفِعوا ولتكونَ، أو لتشكروه ولتكونَ. الثالث: أنَّ الواوَ مزيدةٌ، والتعليلُ لِما قبلَه أي: وكَفَّ لتكونَ.

21

قوله: {وأخرى} : يجوزُ فيها أوجهٌ، أحدها: أَنْ تكونَ مرفوعةً بالابتداءِ، و {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} صفتُها. و {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} خبرُها. الثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ، مقدَّرٌ قبلها أي: وثَمَّ أُخْرى لم تَقْدِروا عليها. الثالث: أَنْ تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ على شريطةِ التفسيرِ، فيُقَدَّرُ الفعلُ مِنْ معنى المتأخِّر، وهو قد أحاط اللَّهُ بها أي: وقَضى اللَّهُ أخرى.

الرابع: أَنْ تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ لا على شريطةِ التفسير، بل لدلالةِ السِّياقِ أي: ووعَد أخرى، أو وآتاكم أخرى. الخامس: أنْ تكونَ مجرورةً ب «رُبَّ» مقدرةً، وتكونَ الواوُ واوَ «رُبَّ» ، ذكره الزمخشريُّ. وفي المجرورِ بعد الواوِ المذكورة خلافٌ مشهورٌ: هو برُبَّ مضمرةً أم بنفسِ الواو. إلاَّ أنَّ الشيخ قال: «ولم تَأْتِ رُبَّ جارَّةً في القرآنِ على كثرةِ دَوْرِها» يعني جارَّةً لفظاً، وإلاَّ فقد قيل: إنها جارَّةٌ تقديراً هنا وفي قولِه: «رُبَما» على قولنا: إنَّ «ما» نكرةٌ موصوفة. قوله: {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} / يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ل «أُخْرى» كما تقدَّم، أو صفةً ثانيةً إذا قيل: بأنَّ «أُخْرى» مبتدأٌ، وخبرُها مضمرٌ أو حال أيضاً.

23

قوله: {سُنَّةَ الله} : مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملةِ المتقدمة أي: سَنَّ اللَّهُ ذلك سُنَّةَ.

24

قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} : قرأ أبو عمروٍ «يَعْلمون» بالياء مِنْ تحتُ، رجوعاً إلى الغَيْبة في «أيديهم» و «عنهم» والباقون بالخطاب، رجوعاً إلى الخطاب في قوله: «أيديكم» و «عنكم» .

25

قوله: {والهدي} : العامَّةُ على نصبِه. والمشهورُ أنَّه نسقٌ على الضميرِ المنصوبِ في «صَدُّوْكم» . وقيل: نُصِبَ على المعيَّةِ. وفيه ضَعْفٌ لإِمكان العطفِ. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بجرِّه عطفاً على «المسجد

الحرام» ، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي: وعن نَحْرِ الهَدْي. وقُرِئ برفعِه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ لم يُسَمَّ فاعلُه أي: وصُدَّ الهَدْيُ. والعامة على فتح الهاءِ وسكونِ الدالِ ورُوي عن أبي عمروٍ وعاصم وغيرِهما كسرُ الدالِ وتشديدُ الياء. وحكى ابن خالويه ثلاثَ لغاتٍ: الهَدْيُ وهي الشهيرةُ لغةُ قريشٍ والهَدِيُّ والهَدَى. قوله: «مَعْكوفاً» حالٌ من الهدي أي: محبوساً يُقال: عَكَفْتُ الرجلَ عن حاجتِه. وأنكر الفارسيُّ تعديةَ «عَكَفَ» بنفسِه وأثبتَها ابنُ سيده والأزهريُّ وغيرُهما، وهو ظاهرُ القرآنِ لبناء اسمِ المفعول منه. قوله: «أَنْ يَبْلُغَ» فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه على إسقاطِ الخافضِ أي: عَنْ أَنْ، أو مِنْ أَنْ. وحينئذٍ يجوزُ في هذا الجارِّ المقدرِ أن يتعلَّقَ ب «صَدُّوكم» ، وأن يتعلَّقَ بمعكوفاً أي: مَحْبوساً عن بلوغِ محلِّه أو من بلوغِ مَحِلِّه. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله، وحينئذٍ يجوز أن يكونَ علة للصدِّ، والتقدير: صَدُّوا الهَدْيَ كراهةَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه، وأن يكون علةً لمعكوفاً أي: لأجل أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه، ويكون الحبسُ من المسلمين. الثالث: أنه بدلٌ من الهَدْي بدلُ اشتمالٍ أي: صَدُّوا بلوغَ الهَدْيِ مَحِلَّه. قوله: «لم تَعْلَموهم» صفةٌ للصِّنفَيْن وغَلَّب الذكورَ. قوله: «أَنْ تَطَؤُوْهم» يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ رجال ونساء، وغَلَّبَ الذكورَ كما تقدَّمَ، وأن يكونَ بدلاً مِنْ مفعول «تَعْلَموهم» فالتقدير على الأول: ولولا

وَطْءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين، وتقدير الثاني: لم تعلموا وَطْأَهم، والخبرُ محذوفٌ تقديره: ولولا رجالٌ ونساء موجودون أو بالحضرة. وأمَّا جوابُ «لولا» ففيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه محذوفٌ لدلالةِ جواب لو عليه. والثاني: أنه مذكورٌ. وهو «لَعَذَّبْنا» ، وجوابُ «لو» هو المحذوفُ، فَحَذَفَ من الأول لدلالةِ الثاني، ومن الثاني لدلالةِ الأول. والثالث: أنَّ «لَعَذَّبْنا» جوابُهما معاً وهو بعيدٌ إن أرادَ حقيقة ذلك. وقال الزمخشري قريباً مِنْ هذا، فإنَّه قال: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» لو تَزَيَّلوا «كالتكرير ل {لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} لمَرْجِعِهما إلى معنىً واحدٍ، ويكون» لَعَذَّبْنا «هو الجوابَ» . ومنع الشيخ مرجِعَهما لمعنى واحدٍ قال: «لأنَّ ما تعلَّق به الأولُ غيرُ ما تعلَّق به الثاني» . قوله: «فتُصيبَكم» نَسَقٌ على «أَنْ تَطَؤُوهم» . وقرأ ابن أبي عبلةَ وأبو حيوة وابنُ عونٍ «لو تَزايَلوا» على تفاعَلوا. والضمير في «تَزَيَّلوا» يجوز أَنْ يعودَ على المؤمنين فقط، أو على الكافرين أو على الفريقين أي: لو تَمَيَّز هؤلاء مِنْ هؤلاء لَعَذَّبْنا. والوَطْءُ هنا: عبارةٌ عن القتلِ والدَّوْسِ. قال عليه السلام: «اللَّهم اشدُدْ وَطْأتك على مُضَرَ» ، وأنشدوا:

4079 - ووَطِئْتَنا وَطْئاً على حَنَق ... وَطْءَ المقيَّدِ ثابِتَ الهَرْمِ والمَعَرَّة: الإِثم. قوله: «بغيرِ عِلْمٍ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «مَعَرَّةٍ» ، أو أَنْ يكونَ حالاً مِنْ مفعول «تُصيبكم» . وقال أبو البقاء: «من الضمير المجرورِ» يعني في «منهم» ولا يَظْهر معناه، أو أن يتعلَّقَ ب «يُصيبكم» ، أو أن يتعلَّقَ ب «تَطَؤُوْهم» . قوله: «لِيُدْخِلَ اللَّهُ» متعلقٌ بمقدرٍ أي: كان انتفاءُ التسليطِ على أهلِ مكةَ وانتفاءُ العذابِ ليُدْخِلَ اللَّهُ.

26

قوله: {إِذْ جَعَلَ} : العاملُ في الظرفِ: إما «لَعَذَّبْنا» أو «صَدُّوكم» أو اذكُرْ، فيكونُ مفعولاً به. قوله: «في قلوبهم» يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب جَعَلَ على أنها بمعنى أَلْقى فتتعدَّى لواحدٍ أي: إذ ألقى الكافرونَ في قلوبِهم الحميةَ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَ على أنها بمعنى صَيَّرَ. قوله: «حَمِيَّةَ الجاهليةِ» بدلٌ مِنْ «الحميةَ» قبلها. والحميَّةُ: الأنَفَةُ من الشيءِ. وأنشد للمتلمِّس: 4080 - ألا إنني منهمْ وعِرْضي عِرْضُهُمْ ... كذا الرأسُ يَحْمي أنفَه أَنْ يُهَشَّما

وهي المَنْعُ، ووزنُها فعيلة، وهي مصدرٌ يقال: حَمَيْتُ عن كذا حَمِيَّةً. قوله: «وكانوا أحَقَّ» الضميرُ يجوزُ أَنْ يعودَ على المؤمنين، وهو الظاهر أي: أحقَّ بكلمةِ التقوى من الكفار. وقيل: يعودُ على الكفار/ أي: كانت قُرَيْشٌ أَحَقَّ بها لولا حِرْمانُهم.

27

قوله: {لَّقَدْ صَدَقَ} : صَدَقَ يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ يُقال: صَدَقْتُكَ في كذا. وقد يُحْذَفُ كهذه الآيةِ. قوله: «بالحَقِّ» فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق ب «صدق» . الثاني: أَنْ يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أي: صِدْقاً مُلْتَبساً بالحق. الثالث: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الرؤيا» أي: مُلْتبسةً بالحق. الرابع: أنَّه قسمٌ وجوابُه «لَتَدْخُلُنَّ» فعلى هذا يُوقف على «الرؤيا» ويُبْتَدَأُ بما بعدَها. قوله: «لَتَدْخُلُنَّ» جوابُ قسمٍ مضمرٍ، أو لقوله: «بالحق» على ذلك القولِ. وقال أبو البقاء: «و» لَتَدْخُلُنَّ «تفسيرٌ للرؤيا أو مستأنَفٌ أي: والله لَتَدْخُلُنَّ» ، فجعل كونَه جوابَ قسمٍ قسيماً لكونِه تفسيراً للرؤيا. وهذا لا يَصِحُّ البتةَ، وهو أَنْ يكونَ تفسيراً للرؤيا غيرَ جوابٍ لقسم، إلاَّ أَنْ يريدَ أنه جوابُ قسمٍ، لكنه يجوزُ أَنْ يكونَ هو مع القسم تفسيراً، وأن يكونَ مستأنفاً غيرَ تفسيرٍ وهو بعيدٌ من عبارته. قوله: «آمِنين» حالٌ مِنْ فاعل «لَتَدْخُلُنَّ» وكذا «مُحَلِّقين ومُقَصِّرِين» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ «مُحَلِّقين» حالاً مِنْ «آمِنين» فتكونَ متداخلةً. قوله: «لا تَخافون» يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأنْ يكونَ حالاً ثالثةً، وأَنْ يكونَ حالاً: إمَّا مِنْ فاعل «لَتَدْخُلُنَّ» أو مِنْ ضميرِ «آمنين» أو «مُحَلِّقين»

أو «مقصِّرين» . فإن كانَتْ حالاً مِنْ «آمِنين» أو حالاً من فاعل «لَتَدْخُلُنَّ» فهي حالٌ للتوكيد و «آمنين» حالٌ مقاربةٌ، وما بعدها حالٌ مقدرةٌ إلاَّ قولَه: «لا تَخافون» إذا جُعِل حالاً فإنها مقارنةٌ أيضاً.

29

قوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، لأنه لَمَّا تقدَّمَ: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} دَلَّ على ذلك المقدَّرِ أي: هو أي: الرسولُ بالهدى محمدٌ، و «رسولُ» بدلٌ أو بيانٌ أو نعتٌ، وأن يكونَ مبتدأً أو خبراً، وأن يكونَ مبتدأً و «رسولُ اللَّهِ» على ما تقدَّم من البدلِ والبيانِ والنعتِ. و «الذين معه» عطفٌ على «محمدٌ» والخبرُ عنهم قوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} . وابن عامر في روايةٍ «رسولَ الله» بالنصبِ على الاختصاصِ، وهي تؤيِّدُ كونَه تابعاً لا خبراً حالةَ الرفعِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «والذين» على هذا الوجه مجروراً عطفاً على الجلالة أي: ورسولُ الذين آمنوا معه؛ لأنه لَمَّا أُرْسِل إليهم أُضيف إليهم فهو رسولُ اللَّهِ بمعنى: أنَّ اللَّهَ أرسله، ورسولُ أمتِه بمعنى: أنه مُرْسَلٌ إليهم، ويكون «أشدَّاءُ» حينئذٍ خبرَ مبتدأ مضمر أي: هم أشدَّاء. ويجوزُ أَنْ يكونَ تَمَّ الكلام على «رسولُ الله» و «الذين معه» مبتدأٌ و «أشدَّاءُ» خبره. وقرأ الحسن «أشداءَ، رحماءَ» بالنصبِ: إمَّا على المدحِ، وإمَّا على الحال من الضميرِ المستكنِّ في «معه» لوقوعِه صلةً، والخبرُ حينئذٍ عن المبتدأ. قوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} حالان؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ، وكذلك «يَبْتَغُون»

يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وإذا كانَتْ حالاً فيجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثالثةً مِنْ مفعول «تَراهم» وأن تكونَ من الضمير المستترِ في «رُكَّعاً سجداً» . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ «سُجَّداً» حالاً مِنَ الضمير في «رُكَّعاً» حالاً مقدرة. فعلى هذا يكونُ «يَبْتَغون» حالاً من الضميرِ في «سُجَّداً» فتكونُ حالاً مِنْ حال، وتلك الحالُ الأولى حالٌ مِنْ حال أخرى. وقرأ ابن يعمر «أَشِدَّا» بالقصرِ، والقصرُ مِنْ ضرائر الأشعار كقوله: 4081 - لا بدَّ مِنْ صَنْعا وإنْ طالَ السَّفرْ ... فلذلك كانَتْ شاذَّةً. قال الشيخ: «وقرأ عمرو بن عبيد» ورُضوانا «بضم الراء» . قلت: هذه قراءةٌ متواترةٌ قرأها عاصمٌ في روايةِ أبي بكرٍ عنه قَدَّمْتها في سورة آل عمران، واستثنيتُ له حرفاً واحداً وهو ثاني المائدة. وقُرِئ «سِيْمِياؤهم» بياء بعد الميمِ والمدِّ، وهي لغةٌ فصيحةٌ وأُنْشِد: 4082 - غلامٌ رَماه اللَّهُ بالحُسْن يافعاً ... له سِيْمِياءُ لا تَشُقُّ على البصَرْ

وتقدَّم الكلامُ عليها وعلى اشتقاقِها في آخر البقرة. و «في وجوههِم» خبرُ «سِيماهم» . قوله: {مِّنْ أَثَرِ السجود} حال من الضمير المستتر في الجارِّ، وهو «في وجوههم» . والعامَّةُ «مِنْ أَثَرِ» بفتحتين، وابن هرمز بكسرٍ وسكون، وقتادة «مِنْ آثارَ» جمعاً. قوله: «ذلك مَثَلُهم» «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدَّم من وَصْفِهم بكونهم أَشِدَّاءَ رُحَماءَ لهم سِيما في وجوههم، وهو مبتدأ خبرُه «مَثَلُهم» و «في التوراة» حالٌ مِنْ مَثَلُهم «والعاملُ معنى الإِشارة. قوله: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مبتدأٌ وخبرُه» كزَرْعٍ «فيُوقَفُ على قولِه:» في التوراة «فهما مَثَلان. وإليه ذهب ابن عباس. والثاني: أنه معطوفٌ على» مَثَلُهم «الأولِ، فيكونُ مَثَلاً/ واحداً في الكتابَيْن، ويُوْقَفُ حينئذٍ على» الإِنجيل «وإليه نحا مجاهدٌ والفراء، ويكون قولُه على هذا:» كزَرْع «فيه أوجهٌ، أحدها: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: مَثَلُهم كزَرْعٍ، فَسَّر بها المثل المذكور. الثاني: أنه حالٌ من الضمير في» مَثَلُهم «أي: مُماثِلين زَرْعاً هذه صفتُه. الثالث: أنها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: تمثيلاً كزرع، ذكره أبو البقاء. وليس بذاك. وقال الزمخشريُّ:» ويجوزُ أَنْ يكونَ «ذلك» إشارةً مُبْهَمَةً أُوْضِحَتْ بقولِه: «كَزَرْع» كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ} «.

قوله:» أَخْرَجَ شَطْأَه «صفةٌ لزرع. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان بفتح الطاء، والباقون بإسكانها، وهما لغتان. وفي الحرف لغاتٌ أخرى قُرِئَ بها في الشاذِّ: فقرأ أبو حيوةَ» شَطاءَه «بالمدِّ، وزيد بن علي» شَطاه «بألفٍ صريحةٍ بعد الطاءِ، فاحتملَتْ أَنْ تكونَ بدلاً من الهمزةِ بعد نقلِ حركتِها إلى الساكنِ قبلَها على لغةِ مَنْ يقولُ: المَراةُ والكَماةُ بعد النقلِ، وهو مقيسٌ عند الكوفيين، واحتملَ أَنْ يكونَ مقصوراً من الممدود. وأبو جعفر ونافعٌ في روايةٍ» شَطَه «بالنقل والحَذْفِ وهو القياسُ. والجحدري» شَطْوَه «أبدل الهمزة واواً، إذ تكونُ لغةً مستقلةً. وهذه كلُّها لغاتٌ في فراخِ الزَّرْع. يقال: شَطَأَ الزَّرْعُ وأَشْطَأ أي: أخرجَ فِراخَه. وهل يختصُّ ذلك بالحِنْطة فقط، أو بها وبالشعيرِ فقط، أو لا يختصُّ؟ خلاف مشهور قال: 4083 - أَخْرج الشَّطْءَ على وجهِ الثَّرى ... ومنَ الأشجارِ أفنانَ الثمرْ قوله:» فآزَرَه «العامَّةُ على المدِّ وهو على أَفْعَل. وغَلَّطوا مَنْ قال: إنه فاعَلَ كمجاهدٍ وغيرِه بأنَّه لم يُسْمَعْ في مضارِعه يُؤَازِرُ بل يُؤْزِرُ. وقرأ ابن ذكوان» فَأَزَره «مقصوراً جعله ثلاثياً. وقُرِئ» فأَزَّرَه «بالتشديدِ والمعنى في الكلِّ: قَوَّاه.

وقيل: ساواه. وأُنْشد: 4084 - بمَحْنِيَةٍ قد آزَرَ الضالُّ نَبْتَها ... مَجَرَّ جُيُوشٍ غانِميْنَ وخُيَّبِ قوله:» على سُوْقِه «متعلِّقٌ ب» اسْتوى «، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: كائناً على سُوْقِه أي: قائماً عليها. وقد تقدَّم في النمل أن قنبلاً يقرأ» سُؤْقِه «بالهمزةِ الساكنة كقولِه: 4085 - أحَبُّ المُؤْقِدين إليَّ موسى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وبهمزةٍ مضمومةٍ بعدها واوٌ كقُرُوْح، وتوجيهُ ذلك. والسُّوْق: جمع ساق. قوله: «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» حالٌ أي: مُعْجِباً، وهنا تَمَّ المَثَلُ. قوله: «ليَغيظَ» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه متعلِّقٌ ب «وَعَدَ» ؛ لأنَّ الكفارَ إذا سَمِعوا بعِزِّ المؤمنين في الدنيا وما أُعِدَّ لهم في الآخرة غاظَهم ذلك. الثاني: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ دَلَّ عليه تشبيهُهم بالزَّرْعِ في نَمائِهم وتَقْويتِهم. قاله

الزمخشري أي: شَبَّههم اللَّهُ بذلك ليَغيظَ. الثالث: أنه متعلِّقٌ بما دَلَّ عليه قولُه: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} إلى آخره أي: جعلهم بهذه الصفاتِ ليَغيظَ. قوله: «مِنْهم» «مِنْ» هذه للبيانِ لا للتبعيضِ؛ لأنَّ كلَّهم كذلك فهي كقولِه: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] . وقال الطبري: «منهم أي: من الشَّطْء الذي أخرجه الزرعُ، وهم الداخلون في الإِسلامِ إلى يومِ القيامة» ، فأعاد الضميرَ على معنى الشَّطْءِ، لا على لفظِه، وهو معنى حسنٌ.

الحجرات

قوله: {لاَ تُقَدِّمُواْ} : العامَّةُ على ضمِّ التاءِ وفتح القافِ وتشديدِ الدالِ مكسورةً، وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه متعدٍّ، وحُذِفَ مفعولُه: إمَّا اقتصاراً كقولهم: هو يعطي ويمنع، {وَكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 187] ، وإمَّا اختصاراً للدلالةِ عليه أي: لا تُقَدِّموا ما لا يَصْلُحُ. والثاني: أنه لازمٌ نحو: وَجَّه وتَوَجَّه، ويَعْضُدُه قراءةُ ابنِ عباس والضَّحَّاك «لا تَقَدَّمُوا» بالفتح في الثلاثة، والأصلُ: لا تَتَقَدَّمُوْا فحذَف إحدى التاءَيْن. وبعضُ المكِّيين «لا تَّقَدَّمُوْا» كذلك، / إلاَّ أنَّه بتشديد التاء كتاءات البزي. والمتوصَّلُ إليه بحرفِ الجرِّ في هاتَيْن القراءتَيْن أيضاً محذوفٌ أي: لا تَتَقَدَّموا إلى أمرٍ من الأمور. وقُرِىء «لا تُقْدِموا» بضمِّ التاءِ وكسرِ الدالِ مِنْ أَقْدَمَ أي: لا تُقْدِموا على شيءٍ.

2

قوله: {أَن تَحْبَطَ} : مفعولٌ من أجلِه. والمسألةُ من التنازعِ لأنَّ كُلاًّ مِنْ قولِه: «لا تَرْفَعوا» و {لاَ تَجْهَرُواْ لَهُ} يَطْلُبه من حيث

المعنى، فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارِهم، وللأولِ عند الكوفيين. والأولُ أَصَحُّ للحَذْفِ من الأولِ أي: لأَنْ تحبطَ. وقال أبو البقاء: «إنها لامُ الصيرورة» ولا حاجةَ إليه. {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} حالٌ.

3

قوله: {أولئك} : يجوزُ أَنْ يكونَ «أولئك» مبتدأ، و «الذين» خبرُه. والجملةُ خبر «إنَّ» ويكونُ «لهم مغفرةٌ» جملةً أخرى: إمَّا مستأنفةً وهو الظاهرُ، وإمَّا حاليةً. ويجوزُ أَنْ يكونَ «الذين امتحنَ» صفةً ل «أولئك» أو بدلاً منه أو بياناً، و «لهم مغفرةٌ» جملةٌ خبريةٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «لهم» هو الخبرَ وحده، و «مغفرةٌ» فاعلٌ به.

4

قوله: {مِن وَرَآءِ} : «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يمنعُ أنَّ «مِنْ» تكونُ لابتداءِ الغاية وانتهائِها. قال: «لأنَّ الشيءَ الواحدَ لا يكونُ مَبْدَأً للفعلِ ومنتهىً له» وهذا أثبتَه بعضُ الناس، وزعم أنَّها تَدُلُّ على ابتداءِ الفعلِ وانتهائِه في جهةٍ واحدةٍ نحو: «أَخَذْتُ الدرهمَ من الكيس» . والعامَّةُ على «الحُجُرات» بضمتين. وأبو جعفر وشَيْبَةُ بفتحها. وابنُ أبي عبلةَ بإسكانها وهي ثلاثُ لغاتٍ تقدَّم تحقيقُها

في البقرة في قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] . والحُجْرَةُ فُعْلَة بمعنى مَفْعولة كغُرْفة بمعنى مَغْروفة.

5

قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ} : قد تقدَّم مِثْلُه. وجعله الزمخشري فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي: ولو ثَبَتَ صبرُهم، وجعل اسمَ كان ضميراً عائداً على هذا الفاعلِ. وقد تقدَّم أنَّ مذهب سيبويهِ أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ، وحينئذٍ يكون اسمُ كان ضميراً عائداً على صبرِهم المفهومِ من الفعل.

6

قوله: {أَن تُصِيببُواْ} : مفعولٌ له، كقولِه: {أَن تَحْبَطَ} [الحجرات: 2] .

7

قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً: إمَّا من الضميرِ المجرور مِنْ «فيكم» ، وإمَّا من المرفوعِ المستترِ في «فيكم» لأدائِه إلى تنافُرِ النَّظْمِ. ولا يَظْهر ما قاله بل الاستئناف واضحٌ أيضاً. وأتى بالمضارعِ بعد «لو» لدلالةً على أنه كان في إرادتِهم استمرارُ عملِه على ما يتقوَّلون. قوله: {ولكن الله} الاستدراكُ هنا من حيث المعنى لا من حيث

اللفظُ؛ لأنَّ مَنْ حُبِّبَ إليه الإِيمانُ غايَرَتْ صفتُه صفةَ مَنْ تقدَّم ذِكْرُه. وقوله: {أولئك هُمُ} التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبَةِ.

8

قوله: {فَضْلاً} : يجوز أَنْ ينتصِبَ على المفعولِ من أجله. وفيما ينصِبُه وجهان، أحدهما: قوله: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} ، وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ مِنْ قولِه: {أولئك هُمُ الراشدون} . والثاني: أنه الراشدون. وعلى هذا فكيف جازَ مع اختلاف الفاعلِ لأنَّ فاعلَ الرُّشدِ غيرُ فاعلِ الفضل؟ فأجاب الزمخشريُّ: بأنَّ الرُّشْدَ لَمَّا وقع عبارةً عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندةً إلى أسمائِه صار الرُّشد كأنه فِعْلُه «. وجَوَّزَ أيضاً أَنْ ينتصِبَ بفعلٍ مقدرٍ أي: جرى ذلك أو كان ذلك. قال الشيخ:» وليس مِنْ مواضِع إضمارِ «كان» ، وجَعَلَ كلامَه الأولَ اعتزالاً. وليس كذلك؛ لأنه أراد الفعلَ المسندَ إلى فاعلِه لفظاً، وإلاَّ فالتحقيقُ أنَّ الأفعالَ كلَّها مخلوقةٌ للَّهِ تعالى، وإنْ كان الزمخشريُّ غيرَ موافقٍ عليه. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة السابقةِ لأنها فضلٌ أيضاً. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ جعله من المصدرِ المؤكِّد لنفسه. وجَوَّزَ الحوفيُّ أن ينتصبَ على الحالِ وليسَ بظاهرٍ، ويكون التقديرُ: مُتَفَضِّلاً مُنَعِّماً، أو ذا فضلٍ ونِعْمة.

9

قوله: {اقتتلوا} : عائدٌ على أفراد الطائفتَيْن، كقوله: {

هذان خَصْمَانِ اختصموا} [الحج: 19] وفي «بينهما» على اللفظ. وقرأ ابن أبي عبلة «اقْتتلَتا» مراعِياً لِلَّفْظ. وزيد بن علي وعبيد بن عمير «اقتتلا» أيضاً، إلاَّ أنه ذَكَّر الفعلَ باعتبار الفريقَيْن، أو لأنه تأنيثٌ مجازيٌّ. قوله: {حتى تفياء} العامَّةُ على همزِه مِنْ فاء يَفيء أي: رَجَعَ كجاء يجيْء. والزهري بياءٍ مفتوحةٍ كمضارع وَفَى، وهذا على لغةِ مَنْ يَقْصُرُ فيقول: جا، يَجي، دونَ همزٍ، وحينئذ فَتَحَ الياءَ لأنها صارَتْ حرفَ الإِعراب. /

10

قوله: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} : العامَّةُ على التثنيةِ، وزيد بن ثابت وعبد الله والحسن وحماد بن سلمة وابن سيرين «إخوانِكم» جمعاً على فِعْلان. وقد تقدَّم أنَّ «الإِخوان» تَغْلِبُ في الصداقة، والإِخْوَة في النَّسَب. وقد يُعْكس كهذه الآيةِ. ورُوي عن أبي عمروٍ وجماعةٍ «إخْوَتِكم» بالتاء مِنْ فوقُ. وقد رُوي عن أبي عمروٍ أيضاً القراءاتُ الثلاثُ. وتقدَّم الخلاف في «القوم» . وجَعَله الزمخشريُّ هنا جمعاً

ل «قائم» قال: «كصَوْمٍ وزَوْرٍ جمع صائم وزائر» وفَعْل ليس من أبنية التكسير إلاَّ عند الأخفش نحو: رَكْب وصَحْب. وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله «عَسَوْا» و «عَسَيْنَ» جعلاها ناقصةً وهي لغةُ تميمٍ. وقرأ العامَّةُ لغة الحجاز. وقرأ الحسن والأعرج «ولا تَلْمُزوا» بالضمِّ. واللَّمْزُ بالقول وغيرِه، والهَمْزُ باللسانِ فقط. قوله: {وَلاَ تَنَابَزُواْ} التنابُزُ: تفاعُلٌ من النَّبْزِ، وهو التداعِي بالنَّبْزِ. والنَّزْبُ، وهو مقلوبٌ منه لقلةِ هذا وكثرةِ ذاك ويُقال: تنابَزُوا وتنازَبُوا إذا دعا بعضُهم بعضاً بلقَبِ سُوْءٍ. وأصلُه من الرَّفْعِ كأنَّ النَّبْزَ يَرْفَعُ صاحبَه فيشاهَدُ، واللَّقَبُ: ما أَشْعَرَ بضَعَة المُسَمَّى كقُفَّة وبَطَّة، أو رِفْعَتِه كالصِّدِّيق وعتيق والفاروق وأسدِ الله وأسدِ رسوله، وله مع الاسم والكنيةِ أحكامٌ ذكَرْتُها في النحو.

12

قوله: {إِثْمٌ} : جعلَ الزمخشريُّ همزه بدلاً من واوٍ. قال: «لأنه يَثِمُ الأعمال أي: يكسِرُها» وهذا غيرُ مُسَلَّمٍ بل تلك مادةٌ أخرى. ولا تَجَسَّسوا: التجسُّسُ: التتبُّع، ومنه الجاسوسُ والجَسَّاسَةُ. وجَواسُّ الإِنسان وحواسُّه: مشاعِرُه:، وقد قرأ هنا بالحاء الحسنُ وأبو رجاء وابن سيرين.

قوله: {مَيْتاً} نصبٌ على الحالِ من «لحم» أو «أخيه» وتقدَّم الخلافُ في «مَيْتا» . قوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ} قال الفراء: «تقديرُه: فقد كرهتموه فلا تَفْعَلُوه» . وقال أبو البقاء: «المعطوفُ عليه محذوفٌ تقديره: عَرَضَ عليكم ذلك فكرِهْتموه، والمعنى: يُعْرَضُ عليكم فتكرهونه. وقيل: إنْ صَحَّ ذلك عندكم فأنتم تَكْرهونه» وقيل: هو خبرٌ بمعنى الأمرِ كقولهم: «اتقى اللَّهَ امرؤٌ فَعَلَ خيراً يُثَبْ عليه» . وقرأ أبو حيوةَ والجحدري «فَكُرِّهْتُموه» بضمِّ الكاف وتشديدِ الراءِ عُدِّيَ بالتضعيفِ إلى ثانٍ، بخلافِ قولِه أولاً: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر} [الآية: 7] ، فإنه وإنْ كان مُضَعَّفاً لم يَتَعَدَّ إلاَّ لواحدٍ لتضمُّنِه معنى بَغَّض.

13

قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ} : الشُّعوب: جمع شَعْب وهو أعلى طبقاتِ الأنسابِ، وذلك أن طبقاتِ النَّسَبِ التي عليها العربُ ستٌّ: الشَّعْبُ والقبيلة والعِمارة والبَطْنُ والفَخِذُ والفَصيلةُ، وكلُّ واحدٍ يَدْخُل فيما قبله، فالفصيلةُ تَدْخُلُ في الفَخِذ، والفَخِذُ في البطن. وزاد بعضُ الناسِ بعد الفَخِذ العشيرة، فجعلها سبعاً وسُمِّيَ الشَّعبُ شعباً لتشَعُّبِ القبائلِ منه، والقبائل سُمِّيَتْ بذلك لتقابُلها، شُبِّهَتْ بقبائلِ الرأسِ وهي قطعٌ متقابلةٌ. وقيل: الشُّعوب في العجم، والقبائل في

العرب، والأسباطُ في بني إسرائيل. وقيل: الشعبُ النَسبُ الأبعدُ، والقبيلةُ الأقربُ. وأنشد: 4086 - قبائلُ مِنْ شُعوبٍ ليس فيهِمْ ... كريمٌ قد يُعَدُّ ولا نَجيبُ والنسَبُ إلى الشَّعْب «شَعوبيَّة» بفتح الشين، وهم جيلٌ يَبْغَضون العربَ. قوله: {لتعارفوا} العامَّةُ على تخفيفِ التاء، والأصلُ: لتتعارفوا فحذفَ إحدى التاءَيْن. والبزيُّ بتشديدِها. وقد تقدَّم ذلك في البقرة. واللام متعلقةٌ بجَعَلْناكم. وقرأ الأعمش بتاءَيْن وهو الأصلُ الذي أدغمه البزيُّ وحَذَفَ منه الجمهورُ. وابن عباس: «لِتَعْرِفُوا» مضارعَ عَرَفَ. والعامَّةُ على كسرِ «إنَّ أكْرَمَكم» . وابن عباس على فتحها: فإنْ جَعَلْتَ اللامَ لامَ الأمرِ وفيه بُعْدٌ اتَّضَحَ أَن يكونَ قولُه: «أنَّ أَكْرَمَكم» بالفتح مفعولَ العِرْفان، أَمَرَهم أَنْ يَعْرِفوا ذلك، وإنْ جَعَلْتَها للعلة لم يظهرْ أَنْ يكونَ مفعولاً؛ لأنه لم يَجْعَلْهم شعوباً وقبائلَ ليعرِفوا ذلك، فينبغي أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً واللامُ للعلة أي: لِتَعْرِفوا الحقَّ؛ لأنَّ أكرمَكم.

14

قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ} : هذه الجملةُ مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك. وجعلها الزمخشريُّ حالاً من الضميرِ في «قولوا» . وقد تقدَّم الكلامُ في «لَمَّا» وما تدلُّ عليه والفرقُ بينها وبينَ «لم» . وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: هو بعدَ قولِه:» لم تؤمنوا «يُشْبِهُ التكريرَ من غير استقلالٍ بفائدةٍ مُتَجدِّدة. قلت: ليس كذلك فإنَّ فائدةَ قولِه:» لم تؤمنوا «هو تكذيبُ دَعْواهم. و» لَمَّا يَدْخُل «توقيتٌ لِما أُمِروا به أَنْ يقولوه» ثم قال: «وما في» لَمَّا «مِنْ معنى التوقع دليلٌ على أنَّ هؤلاء قد آمنوا فيما بعدُ» . قال الشيخ: «ولا أدري مِنْ أيِّ وجه يكونُ المنفيُّ ب» لَمَّا «يقعُ بعدُ» ؟ قلت: لأنَّها لنفيِ قد فَعَلَ، و «قد» للتوقع. قوله: {لاَ يَلِتْكُمْ} قرأ أبو عمروٍ و «لا يَأْلِتْكُمْ» بالهمز مِنْ أَلَتَه يَأْلُتُهُ بالفتح في الماضي، والكسرِ والضم في المضارع، والسوسيُّ يُبْدل الهمزةَ ألفاً على أصلِه. والباقون «يَلِتْكم» مِنْ لاته يَليتُه كباعه يَبيعه، وهي لغةُ الحجازِ، والأولى لغة غطفانَ وأَسَدٍ. وقيل: هي مِنْ وَلَتَه يَلِتُه كوَعَده يَعِدُه، فالمحذوفُ على القولِ الأول عينُ الكلمةِ ووزنُها يَفِلْكم، وعلى الثاني فاؤُها ووزنها يَعِلْكم. ويقال أيضاً: ألاتَه يُليته/ كأَباعه يُبِيعه، وآلتَهَ يُؤْلِتُه كآمَنَ يُؤْمِنُ. وكلُّها لغاتٌ في معنى: نَقَصَه حَقَّه. قال الحطيئة:

4087 - أَبْلِغْ سَراةَ بني سعدٍ مُغَلْغَلَةً ... جَهْدَ الرسالةِ لا أَلْتاً ولا كَذِباً وقال رؤبة: 4088 - وليلةٍ ذاتِ ندىً سَرَيْتُ ... ولم يَلِتْني عن سُراها ليتُ أي: لم يَمْنَعْني ويَحْبِسْني.

16

قوله: {أَتُعَلِّمُونَ} : هذه منقولةٌ بالتضعيفِ مِنْ عَلِمْتُ به بمعنى شَعَرْتُ به، فلذلك تَعَدَّتْ لواحدٍ بنفسِها ولآخرَ بالباء.

17

قوله: {أَنْ أَسْلَمُواْ} : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنَّه مفعولٌ به؛ لأنه ضُمِّن «يَمُنُّون» معنى يَعْتَدُّون «، كأنه قيل: يَعْتَدُّون عليك إسلامَهم مانِّيْنَ به عليك؛ ولهذا صَرَّح بالمفعولِ به في قولِه: {لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} أي:» لا تَعْتَدُّوا عليَّ إسلامَكم «كذا استدلَّ الشيخُ بهذا. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولِ: لا نُسَلِّمُ انتصابَ» إسلامَكم «على المفعولِ به، بل يجوزُ فيه المفعولُ مِنْ أجلِه، كما يجوزُ في محلِّ» أَنْ أَسْلَموا «وهو الوجهُ الثاني فيه، أي: يمنُّون عليك لأجلِ أَنْ أَسْلَمُوا، فكذلك في قولِه: {لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} وشروطُ النصبِ موجودةٌ، والمفعولُ له متى كان مضافاً استوى جَرُّه بالحرفِ ونصبُه. وقوله: {أَنْ هَداكُمْ} كقولِه:» أن أَسْلَموا «. وقرأ زيد بن علي»

إذ هَداكم «ب» إذ «مكانَ» أَنْ «وهي تفيد التعليلَ. وجوابُ الشرطِ مقدرٌ أي: فهو المانُّ عليكم لا أنتم عليه وعليَّ.

18

قوله: {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} : ابن كثير الغَيْبة نظراً لقولِه: «يَمُنُّون» وما بعده، والباقون بالخطابِ نظراً إلى قولِه: {لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} إلى آخره.

ق

قوله: {والقرآن} : قَسَمٌ. وفي جوابِه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه قولُه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض} . الثاني: {مَا يُبَدَّلُ القول} الثالث: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} . الرابع: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى} . الخامس {بَلْ عجبوا} وهو قولٌ كوفيٌّ. قالوا: لأنَّه بمعنى «قد عَجِبوا» السادس: أنَّه محذوفٌ، فقدَّره الزجَّاج والأخفشُ والمبردُ «لَتُبْعَثُنَّ» . وفَتَحَها عيسى، وكَسَرها الحسنُ وابن أبي إسحاق، وضمَّها هارونُ وابنُ السَّمَيْفَع. وقد مَضَى توجيهُ ذلك كلِّه. وهو أنَّ الفتحَ يحتمل البناءَ على الفتح للتخفيفِ، أو يكونُ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، ومُنِع الصرفَ، أو مجرورٌ بحرفِ قسمٍ مقدرٌ، وإنما مُنعَ الصرفَ أيضاً. والضمُّ على أنه مبتدأٌ أو خبرٌ، ومُنع الصرف أيضاً.

3

قوله: {أَإِذَا مِتْنَا} : قرأ العامَّةُ بالاستفهام، وابنُ عامر في روايةٍ، وأبو جعفر والأعمش والأعرج بهمزةٍ واحدةٍ، فتحتملُ الاستفهامَ كالجمهورِ، وإنما حَذَفَ الأداةَ للدلالةِ، وتحتملُ الإِخبارَ بذلك. والناصبُ للظرفِ في قراءةِ الجمهورِ مقدرٌ أي: أنُبْعَثُ أو أَنَرْجِعُ إذا مِتْنا. وجوابُ «إذا» على قراءةِ الخبرِ محذوفٌ أي: رَجَعْنا. وقيل: قولُه: «ذلك رَجْعٌ» على حذفِ الفاءِ، وهذا رأيُ بعضِهم. والجمهور لا يُجَوِّزُ ذلك إلاَّ في شعرٍ. وقال الزمخشريُّ: «ويجوزُ أَنْ يكونَ الرَّجْعُ بمعنى المَرْجوع هو الجوابَ، ويكونَ مِنْ كلامِ اللَّهِ تعالى، استبعاداً لإِنكارهم ما أُنْذِروا به من البَعْثِ. والوقفُ على ما قبلَه على هذا التفسيرِ حسنٌ» . فإنْ قلت: فما ناصبُ الظرفِ إذا كان الرَّجْعُ بمعنى المَرْجوع؟ قلت: ما دَلَّ عليه المنذِرُ من المنذَرِ به وهو البعثُ «وأَنْحَى عليه الشيخُ في فهمِه هذا الفهمَ.

5

قوله: {بَلْ كَذَّبُواْ} : هذا إضرابٌ ثانٍ. قال الزمخشري: «إضرابٌ أُتبع الإِضرابَ قبله للدلالةِ على أنَّهم جاؤُوا بما هو أفظعُ مِنْ تعجُّبهم، وهو الكذيبُ بالحق» . وقال الشيخ: «وكأن هذا الإِضرابَ الثاني بدلُ بدَاءٍ من الأول» . قلت: وإطلاقُ مثلِ هذا في

كتابِ الله لا يجوزُ البتةَ. وقيل: قبل هذه الآيةِ جملةٌ مُضْرَبٌ عنها. تقديرُها: ما أجادُوا النظرَ، بل كَذَّبوا. وما قاله الزمخشريُّ أحسنُ. والعامَّةُ على تشديد «لَمَّا» وهي: إمَّا حرفُ وجوبٍ لوجوب، أو ظرفٌ بمعنى حين، كما عَرَفْتَه. وقرأ الجحدريُّ بكسرِ اللام وتخفيفِ الميمِ على أنَّها لامُ الجرِّ دَخَلَت على «ما» المصدرية، وهي نظيرُ قولِهم: «كتبْتُه لخمسٍ خَلَوْن» أي: عندها. قوله: {مَّرِيجٍ} أي: مُخْتَلِط. قال أبو واقد: 4089 - مَرِجَ الدِّيْنُ فأَعْدَدْتُ له ... مُشْرِفَ الأَقْطارِ مَحْبوكَ الكَتَدْ وقال آخر: 4090 - فجالَتْ والتمسْتُ به حَشاها ... فَخَرَّ كأنَّه خُوْطٌ مَرِيْجُ وأصلُه من الحركةِ والاضطرابِ/ ومنه: مَرَجَ الخاتمُ في إصبعِه.

6

قوله: {فَوْقَهُمْ} : حالٌ من «السماء» وهي مؤكِّدةٌ. و «كيف» منصوبةٌ بما بعجها وهي معلِّقَةٌ للنظرِ قبلها.

8

قوله: {تَبْصِرَةً} : العامَّةُ على نصبِها على المفعول مِنْ أجله أي: تبصيرَ أمثالِهم وتذكيراً مِنَّا لهم. وقيل: منصوبان بفعلٍ مِنْ لفظِهما مقدرٍ أي: بَصِّرْهم تَبْصِرةً وذكِّرْهم تَذْكرةً. وقيل: حالان أي: مُبَصَّرين مُذَكَّرين. وقيل: حالٌ من المفعول أي: ذاتَ تَبْصِيرٍ وتَذْكيرٍ لمَنْ يَراها. وزيد بن علي بالرفع. وقرأ «وذِكْرٌ» أي: هي تبصرةٌ وذِكْرٌ. و «لكلِّ» : إمَّا صفةٌ، وإمَّا متعلِّقٌ بنفسِ المصدر.

9

قوله: {وَحَبَّ الحصيد} : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ بابِ حَذْفِ الموصوفِ للعِلْم به تقديرُه: وحَبَّ الزَرْع الحصيدِ نحو: مسجد الجامع وبابِه. وهذا مذهبُ البصريين؛ لئلا تَلْزَمَ إضافةُ الشيءِ إلى نفسِه. ويجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه؛ لأنَّ الأصلَ: والحَبَّ الحصيدَ أي: المحصود.

10

قوله: {والنخل} : منصوبٌ عطفاً على مفعول «أَنْبَتْنا» أي: وأَنْبَتْنا النخلَ. و «باسِقاتٍ» حالٌ. وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّها وقتَ الإِنباتِ لم تكن طِوالاً. والبُسُوْقُ: الطُّوْلُ. يُقال: بَسَقَ فلانٌ على أصحابِه أي: طالَ عليهم في الفَضْلِ. ومنه قولُ ابنِ نوفل في ابن هبيرة:

4091 - يا بنَ الذين بمَجْدِهمْ ... بَسَقَتْ على قَيْسٍ فَزارَهْ وهو استعارةٌ، والأصلُ استعمالُه في: بَسَقَتِ النخلةُ تَبْسُق بُسُوْقاً أي: طالَتْ. قال الشاعر: 4092 - لنا خَمْرٌ وليسَتْ خمرَ كَرْمٍ ... ولكنْ مِنْ نِتاجِ الباسِقاتِ كِرامٌ في السماءِ ذَهَبْنَ طُوْلاً ... وفاتَ ثمارَها أيدي الجُناةِ وبَسَقَتِ الشاةُ: وَلَدَتْ، وأَبْسَقَت الناقةُ: وَقَع في ضَرْعِها اللِّبَأ قبل النِّتاج، ونوقٌ مَباسِيْقُ من ذلك. والعامَّةُ على السين. وقرأ قطبة بن مالك ويَرْويها عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم «باصِقاتٍ» بالصاد، وهي لغةٌ لبني العَنْبر، يُبْدِلون السينَ صاداً قبل القافِ والغينِ والخاءِ والطاء إذا وَلِيَتْها، أو فُصِلَتْ منها بحرفٍ أو حَرْفين. قوله: {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً من النخل أو من الضمير في «باسِقاتٍ» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ الحالُ وحدَه لها، و «طَلْعٌ» فاعلٌ به، ونَضِيْدٌ بمعنى مَنْضود.

11

قوله: {رِّزْقاً} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: مرزوقاً

للعباد أي: ذا رزقٍ، وأَنْ يكونَ مصدراً مِنْ معنى أَنْبَتْنا؛ لأنَّ إنباتَ هذا رِزْقٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له. و «للعباد» إمَّا صفةٌ، وإمَّا متعلِّقٌ بالمصدرِ، وإمَّا مفعولٌ للمصدرِ، واللامُ زائدةٌ أي: رزْقاً للعباد. قوله: {بِهِ} أي: بالماءِ. و «مَيْتاً» صفةٌ ل «بَلْدة» . ولم يُؤَنَّثْ حَمْلاً على معنى المكانِ. والعامَّةُ على التخفيف. وأبو جعفر وخالد بالتثقيل.

14

قوله: {الأيكة} : قد تقدَّم الكلامُ عليها في الشعراء. وقرأ ههنا «لَيْكَة» بزِنَةِ لَيْلَة أبو جعفر وشيبةٌ. وقال الشيخُ: «وقرأ أبو جعفرٍ وشيبةُ وطلحةُ ونافع» الأَيْكةِ «بلام التعريفِ، والجمهور» لَيْكَة «وهذا الذي نقلَه غفلةٌ منه، بل الخلافُ المشهورُ إنما هو في سورة الشعراء وص كما حَقَّقْتُه ثَمَّةَ، وأمَّا هنا فالجمهورُ على لامِ التعريفِ. قوله: {كُلٌّ} التنوينُ عِوَضٌ من المضافِ إليه. وكان بعضُ النحاةِ يُجيز حَذْفَ تنوينِها وبناءَها على الضم كالعامَّةِ نحو: قبل وبعد.

15

قوله: {أَفَعَيِينَا} : العامَّةُ على ياءٍ مكسورةٍ بعدها

ياءٌ ساكنةٌ. وقد مَضَى معناه في الأحقاف. وقرأ ابنُ أبي عبلة «أفَعَيِّنا» بتشديدِ الياءِ مِنْ غيرِ إشباعٍ. وهذه القراءةُ على إشكالِها قرأ بها الوليد بن مسلم وأبو جعفر وشيبةٌ ونافعٌ في روايةٍ، وروى ابنُ خالويه عن ابن أبي عبلة «أفَعَيِّينا» كذلك لكنه أتى بعد الياء المشدَّدة بأخرى ساكنة. وخرَّجَها الشيخ على لغةِ مَنْ يقولُ عَيِيَ: عَيَّ، وفي حَيِيَ: حَيَّ بالإِدغام. ثم لَمَّا أَسْنَدَ هذا الفعلَ وهو مُدْغَمٌ، واعتبر لغةَ بكر بن وائلِ: وهو أنهم لا يَفُكُّون الإِدغامَ في مثلِ هذا إذا أَسْنَدوا ذلك الفعلَ المدغَم لتاءِ المتكلم، ولا إحدى أخَواتها التي تُسَكَّنُ لها لامُ الفعل، فيقولون في رَدَّ: رَدْتُ ورَدْنا، قال: «وعلى هذه اللغةِ/ تكونُ الياءُ مفتوحةً» . قلت: «ولم يَذْكُرْ توجيهَ القراءةِ الأخرى. وتوجيهُها: أنها مِنْ عَيَّا يُعَيِّي كحَلَّى يُحَلِّي.

16

قوله: {وَنَعْلَمُ} : خبرُ مبتدأ مضمرٍ. تقديرُه: ونحن نعلمُ. والجملةُ الاسميةُ حينئذٍ حالٌ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ هو حالاً بنفسه؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ باشَرَتْهُ الواو. وكذلك قولُه: «ونحن أقربُ» . قوله: {مِنْ حَبْلِ الوريد} هذا كقولهم: مسجد الجامع أي: حبلِ

العِرْقِ الوريد، أو لأنَّ الحبلَ أعمُّ للبيان نحو: بعير سانية، أو يراد حَبْلُ العاتق فأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتِق، لأنهما في عضو واحد. والوريد: إمَّا بمعنى الوارد، وإمَّا بمعنى المورود. والوريد: عِرْقٌ كبير في العنق يقال: إنهما وريدان. قال الزمخشري: «عِرْقان مُكْتنفان لصفحتَيْ العُنُق في مُقَدَّمِهما يتصلان بالوَتين، يَرِدان من الرأس إليه. ويسمَّى وريداً؛ لأنَّ الروحَ تَرِدُ إليه» . وأنشد: 4093 - كأنْ وَرِيْدَيْهِ رِشاءُ خُلْبِ ... وقال الأثرم: «هو نهرُ الجسدِ: هو في القلبِ الوَتينُ، وفي الظهر الأَبْهَرِ، وفي الذِّراعِ والفَخِذِ الأَكْحَلُ والنَّسا، وفي الخِنْصِرِ الأَسْلَم» .

17

قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى} : ظرفٌ ل «أَقْرَبُ» . ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً ب اذكُرْ. قوله: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} يجوز أَنْ يكونَ مفرداً على بابِه، فيكون بمعنى مُفاعِل كخليط بمعنى مُخالِط، أو يكونَ عَدَلَ مِنْ فاعِل إلى فعيل مبالغةً ك عليم. وجوَّز الكوفيون أَنْ يكونَ فعيل واقعاً مَوْقِعَ

الاثنين. وقال المبرد: «والأصل: عن اليمين قعيدٌ وعن الشِّمال، فأُخِّرَ عن موضعِه» وهذا لا يُنْجي مِنْ وقوعِ المفردِ موقعَ المثنى. والأَجْوَدُ أَنْ يُدَّعَى حَذْفٌ: إمَّا من الأول أي: عن اليمين قعيدٌ وعن الشِّمال قعيدٌ، وإمَّا من الثاني، فيكون قعيدٌ الملفوظُ به للأول، ومثلُه قولُ الآخر: 4094 - رَماني بأَمْرٍ كنتُ منه ووالدي ... بَريئاً ومِنْ أجل الطَّوِيِّ رَماني

18

قوله: {مَّا يَلْفِظُ} : العامَّةُ على كسرِ الفاء ومحمدُ بن أبي معدان على فتحِها. ورقيبٌ عتيدٌ قيل: هو بمعنى: رقيبان عتيدان.

19

قوله: {بالحق} : يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للحال أي: ملتبسةً بالحقِّ، ويجوزُ أَنْ تكونَ للتعديةِ. وقرأ عبد الله «سَكَراتُ» وتَحيد: تميلُ، مِنْ حادَ عن الشيء يَحيد حُيُوداً وحُيُوْدَة وحَيْداً.

21

قوله: {مَّعَهَا سَآئِقٌ} : جملةٌ في موضعِ جرّ صفةً

ل «نَفْسٍ» أو رفعٍ صفةً ل «كل» ، أو نصبٍ حالاً مِنْ «كلُّ» . والعامَّةُ على عدمِ الإِدغام في «معها» ، وطلحة على الإِدغام «مَحَّا» بحاءٍ مشددةٍ؛ وذلكَ أنه أدغم العينَ في الهاء، ولا يمكنُ ذلك، فقَلَبَ الهاءَ حاءً، ثم أدغم فيها العينَ فقلبها حاءً. وسُمِع «ذَهَبَ مَحُّمْ» أي: معهم. قال الزمخشري: «ومحلُّ» معها سائقٌ «النصبُ على الحال من» كلُّ «لتعرُّفِه بالإِضافة إلى ما هو في حكم المعرفة» . وأنحى عليه الشيخ مُتَحَمِّلاً على عادته، وقال: «لا يقولُ هذا مبتدِىءٌ في النحوِ، لأنه لو نُعِتَ» كلُّ نفسٍ «ما نُعِتَ إلاَّ بالنكرة» . وهذا منه غيرُ مَرْضيٍّ؛ إذ يَعْلم أنه لم يُرِدْ حقيقةً ما قاله.

22

قوله: {لَّقَدْ كُنتَ} : أي: يُقال له: لقد كنتَ، والقولُ: إمَّا صفة أو حالٌ. والعامَّةُ على فتح التاءِ والكافِ في «كنتَ» و «غِطاءَكَ» و «فبصَرُك» حَمْلاً على لفظ «كلُّ» من التذكير. والجحدري «كنتِ» بالكسر مخاطبةً للنفس، وهو وطلحة بن مصرف «عنكِ» ، «غطاءَكِ» ، «فبصَرُكِ» بالكسر مراعاةً للنفس أيضاً. ولم ينقل صاحبُ «اللوامح» الكسرَ في الكاف عن الجحدريِّ، وعلى الجملة فيكونُ قد راعى اللفظَ والمعنى أخرى.

23

قوله: {هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} : يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» نكرةً موصوفةً و «عتيدٌ» صفتُها و «لَدَيَّ» متعلقٌ ب «عتيدٌ» أي: هذا شيءٌ عَتيدٌ لديَّ أي: حاضرٌ عندي. ويجوزُ على هذا أَنْ يكونَ «لديَّ» وصفاً ل «ما» ، و «عتيدٌ» صفةٌ ثانيةٌ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو عتيدٌ. ويجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي. و «لَدَيَّ» صلتُها و «عتيدٌ» خبرُ الموصولِ، والموصولُ وصلتُها خبرُ الإِشارةِ. ويجوزُ أَنْ تكون «ما» بدلاً مِنْ «هذا» موصولةً كانت أو موصوفةً ب «لَدَيَّ» و «عتيدٌ» خبرُ «هذا» . وجَوَّز الزمخشريُّ في «عَتيدٌ» أَنْ يكونَ بدلاً أو خبراً بعد خبر أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ. / والعامَّةُ على رفعِه، وعبد الله نصبَه حالاً. والأجودُ حينئذٍ أَنْ تكونَ «ما» موصولةً؛ لأنها معرفةٌ، والمعرفةُ يَكْثُرُ مجيءُ الحالِ منها. قال أبو البقاء: «ولو جاء ذلك في غيرِ القرآنِ لجاز نصبُه على الحالِ» . قلت: قد جاء ما وَدَّه ولله الحمدُ، وكأنَّه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً.

24

قوله: {أَلْقِيَا} : اختلفوا: هل المأمورُ واحدٌ أم اثنان؟ فقال بعضُهم: واحد، وإنما أتى بضميرِ اثنين، دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل: أَلْقِ أَلْقِ. وقيل: أراد أَلْقِيَنْ بالنونِ الخفيفة فأبدلها ألفاً إجراءً للوَصْلِ مُجْرى الوقفِ، ويؤيِّده قراءةُ الحسنِ «أَلْقِيَنْ» بالنونِ.

وقيل: العرب تخاطِبُ الواحدَ مخاطبةَ الاثنين تأكيداً كقولِه: 4095 - فإن تَزْجُراني يا بنَ عَفَّانَ أَزْدَجِرْ ... وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعا وقال آخر: 4096 - فقُلْتُ لصاحبي لا تَحْبِسانا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. وقال بعضُهم: المأمور مثنى. وهذا هو الحقُّ لأنَّ المرادَ مَلَكان يفعلان ذلك.

26

قوله: {الذي جَعَلَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الذمِّ، أو على البدلِ مِنْ «كل» ، وأَنْ يكونَ مجروراً بدلاً من «كَفَّار» ، أو مرفوعاً بالابتداء، والخبرُ «فَأَلْقياه» . قيل: ودَخَلَتِ الفاءُ لشِبْهِه بالشرط. ويجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو الذي جَعَلَ، ويكونُ «فَأَلْقِياه» تأكيداً. وجَوَّز ابنُ عطية أَنْ يكونَ صفةً للكَفَّار قال: «من حيثُ يختصُّ»

كَفَّار «بالأوصافِ المذكورة، فجاز وَصْفُه بهذه المعرفة» ، وهذا مردودٌ. وقُرىء بفتح التنوينِ فِراراً مِن توالي أربعة متجانساتٍ.

27

قوله: {قَالَ قَرِينُهُ} : جاءَتْ هذه بلا واوٍ؛ لأنها قُصِدَ بها الاستئنافُ؛ كأنَّ الكافرَ قال: ربِّ هو أَطْغاني. فقال قَرينُه: ما أَطْغَيْتُه، بخلاف التي قبلَها، فإنها عُطِفَتْ على ما قبلَها للدلالة على الجمعِ بين معناها ومعنى ما قبلَها في الحصولِ، أعني مجيْءَ «كلُّ نفس» مع المَلَكَيْن وقولَ قرينِه ما قاله له.

28

قوله: {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ} : استئنافٌ أيضاً، كأن قائلاً قال: فماذا قال اللَّهُ له؟ فأُجيب ب «قال: لا تَخْتصموا» . قوله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ} جملةٌ حاليةٌ. ولا بُدَّ مِنْ تأويلِها. وذلك أنَّ النهيَ في الآخرةِ وتَقْدِمةَ الوعيدِ في الدنيا، فاختلف الزمنان، فكيف يَصِحُّ جَعْلُها حاليةً؟ وتأويلها: هو أن المعنى وقد صَحَّ أني قَدََّمْتُ، وزمانُ الصحةِ وزمانُ النهيِ واحدٌ، و «قَدَّمْتُ» يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى تَقَدَّمْتُ، فتكون التاءُ للحال، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: وقد تقدَّم قولي لكم مُلْتبساً بالوعيد. ويجوزُ أن يكونَ «قَدَّمْتُ» على حاله متعدِّياً، والباءُ مزيدةٌ في المفعولِ أي: قَدَّمْتُ إليكم الوعيدَ.

30

قوله: {يَوْمَ نَقُولُ} : «يوم» منصوبٌ: إمَّا بظَلاَّم، ولا مفهومَ لهذا؛ لأنه إذا لم يَظْلِمْ في هذا اليومِ فَنَفْيُ الظلمِ عنه في غيرِه أَحْرَى أو بقولِه: {وَنُفِخَ فِي الصور} [ق: 20] والإِشارة بذلك إلى «يومَ نقول» قاله الزمخشري، واستبعده الشيخُ بكثرةِ الفواصلِ، أو ب «اذْكُرْ» مقدَّراً أو بأَنْذِرْ، وهو على هذَيْن الأخيرَيْن مفعولٌ به لا ظرفٌ. قوله: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} سؤالُ تقريرٍ وتوقيفٍ. وقيل: معناه النفيُ. وقيل: السؤالُ لخَزَنَتِها. والجوابُ منهم، فلا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي: نقولُ لخزنةِ جهنمَ ويقولون، ثم حَذَفَ. وقرأ نافع وأبو بكر «يقول لجهنمَ» بياء الغَيْبة، والفاعلُ اللَّهُ تعالى لتقدُّم ذِكْرِه في قولِه: «مع الله» ، والباقون بنونِ المتكلِّمِ المعظِّم نفسَه لتقدُّم ذِكْرِه في قوله: «لديَّ» ، «وقد قَدَّمْتُ» . والأعمش «يُقال» مبنياً للمفعول. والمزيد يجوز أَنْ يكونَ مصدراً، وأن يكونَ اسمَ مفعولٍ أي: مِنْ شيءٍ تَزيدونَنِيْه أَحْرقه.

31

قوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ} : يجوزُأَنْ تكونَ حالاً من الجنة، ولم تُؤنَّثْ لأنها بمعنى البستان، أو لأنَّ فعيلاً لا يُؤَنَّثُ لأنه بزنةِ المصادرِ، قاله الزمخشري، ولم يُسَلِّمْه الشيخُ، وقد تقدَّم في قولِه: {

إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ} [الأعراف: 56] ما يُغْنِيك عن هذا. ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الظرفِ المكانيِّ أي: مكاناً غيرَ بعيدٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: إزْلافاً غيرَ بعيدٍ. وهو ظاهرُ عبارةِ الزمخشري فإنه قال: «أو شيئاً غيرَ بعيدٍ» .

32

قوله: {هذا مَا تُوعَدُونَ} : هذه الجملةُ يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ معترضةً بين البدلِ والمبدلِ منه؛ ولذلك أنَّ «لكل أَوَّابٍ» بدلٌ من «للمتقين» بإعادةِ العامل. والثاني: أَنْ تكونَ مصنوبةً بقولٍ مضمرٍ، ذلك القولُ منصوبٌ على الحالِ أي: مقولاً لهم. وقد تقدَّم في ص أنه قُرِىء «تُوْعَدون» بالتاء والياء. ونَسَبَ الشيخُ قراءةَ الياءِ مِنْ تحتُ هنا لابن كثيرٍ وأبي عمروٍ، وإنما هي عن ابن كثير وحدَه.

33

قوله: {مَّنْ خَشِيَ} : يجز أن يكونَ مجرورَ المحلِّ بدلاً أو بياناً ل «كل» . وقال الزمخشري: «إنه يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً بعد بدل تابعاً لكل» انتهى. يعني أنه بدلٌ مِنْ «كل» بعد أن أُبْدِلَتْ «لكل» مِنْ «للمتقين» ولم يَجْعَلْه بدلاً آخر من نفس «للمتقين» لأنَّه لا يتكرَّرُ البدلُ والمبدلُ منه واحدٌ/. ويجوز أن يكونَ بدلاً عن موصوفِ أَوَّاب وحفيظ،

قاله الزمخشري، يعني أن الأصلَ: لكل شخصٍ أوَّابٍ، فيكون «مَنْ خَشِي» بدلاً مِنْ شخص المقدر قال: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ في حُكم أوَّاب وحفيظ لأنَّن» مَنْ «لا يُوْصَفُ بها، ولا يُوْصَفُ مِنْ بين الموصولاتِ إلاَّ ب» الذي «. يعني بقولِه:» في حُكْمِ أوَّاب «أن يُجْعَل» مَنْ «صفةً، وهذا كما قال لا يجوزُ. إلاَّ أنَّ الشيخَ اسْتَدْرَكَ عليه الحصرَ فقال:» بل يوصف بغير «الذي» من الموصولاتِ كوَصْفِهم بما فيه أل الموصولة نحو: الضارب والمضروب، وكوَصْفِهم ب ذو وذات الطائيَّتين نحو قولهم: «بالفضل ذو فَضَّلكم اللَّهُ به والكرامةِ ذاتُ أكرمكم اللَّهُ بَهْ» . وجَوَّز ابنُ عطية في «مَنْ خَشِي» أَنْ يكونَ نعتاً لِما تقدَّم، وهو مردودٌ بما تقدَّم، ويجوز أَنْ يكونَ يرتفع «مَنْ خَشِي» على خبر ابتداءٍ مضمرٍ، أو يُنْصَبُ بفعلٍ مضمرٍ، وكلاهما على القطع المُشْعِرِ بالمدح، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه قولٌ مضمرٌ ناصبٌ لقولِه: «ادْخُلوها» أي: مَنْ خَشِي الرحمنَ يُقال لهم: ادْخُلوها. وحُمِل أولاً على اللفظِ، وفي الثاني على المعنى، وقيل: «مَنْ خَشي» منادى حُذِفُ منه حرفُ النداءِ أي: يا مَنْ خَشِي ادْخلُوها باعتبار الحَمْلَيْن المتقدِّمَيْنِ، وأَنْ تكونَ شرطيةً، وجوابُها محذوفٌ وهو ذلك القولُ، ولكن رُدَّ معه فاءٌ أي: فيقال لهم: و «بالغيب» حالٌ أي: غائباً عنه، فيُحتمل أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل

أو المفعول أو منهما. وقيل: الباءُ للسببية أي: خَشْيةً بسببِ الغيب الذي أَوْعَدَه مِنْ عذابِه. ويجوزُ أَنْ تكونَ صفةً لمصدرِ خشي أي: خَشيَه خَشْيْةً ملتبسةً بالغيب.

34

قوله: {بِسَلاَمٍ} : حالٌ من فاعل «ادْخلوها» ، أي: سالمين من الآفات، فهي حالٌ مقارِنةٌ أو مُسَلَّماً عليكم، فهي حالٌ مقدرةٌ كقوله: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] كذا قيل. وفيه نظر؛ إذ لا مانعَ من مقارنة تسليم الملائكةِ عليهم حالَ الدخول بخِلافِ {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] فإنه لا يُعْقَلُ الخلودُ إلاَّ بعد الدخولِ. قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الخلود} قال أبو البقاء: «أي زمنُ ذلك يومُ الخلود» كأنه جَعَلَ ذلك إشارةً إلى ما تقدَّم مِنْ إنعام اللَّهِ عليهم بما ذُكِرَ. ولا حاجةَ إلى ذلك؛ بل ذلك مُشارٌ به لما بعدَه من الزمانِ كقولك «هذا زيدٌ» . قوله: {فِيهَا} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب يَشاؤُون، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الموصول، أو مِنْ عائِده والأولُ أَوْلى.

36

قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} : «كم» نُصِب بما بعده. وقُدِّم: إمَّا لأنه استفهامٌ، وإمَّا لأنَّ الخبريَّة تَجْري مَجْرى الاستفهاميةِ في التصدير. و «مِنْ قَرْن» تمييزٌ، و «هم أشدُّ» صفةٌ: إمَّا ل «لكم» وإمَّا ل «قرن» . قوله: {فَنَقَّبُواْ} الفاءُ عاطفةٌ على المعنى كأنه قيل: اشتدَّ بَطْشُهم

فنَقَّبوا. والضمير في «نَقَّبوا» : إما للقرونِ المقتدمةِ وهو الظاهرُ، وإمَّا لقريش، ويؤيِّده قراءةُ ابنِ عباس وابن يعمر وأبي العالية ونصر ابن سيَّار وأبي حيوةَ والأصمعيِّ عن أبي عمرو «فَنَقِّبوا» بكسر القاف أَمْراً لهم بذلك. والتنقيب: التنقير والتفتيش، ومعناه التطوافُ في البلاد. قال الحارث بن حِلِّزة: 4097 - نَقَّبوا في البلاد مِنْ حَذَرِ الموْ ... تِ وجالُوا في الأرض كلَّ مجَالِ وقال امرؤ القيس: 4098 - وقد نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتى ... رَضِيْتُ مِن الغنيمة بالإِياب وقرأ ابن عباس وأبو عمروٍ أيضاً في رواية «نَقَبوا» بفتح القاف خفيفةً. ومعناها ما تقدَّم. وقُرِىء «نَقِبوا» بكسرها خفيفةً أي: تَعِبَتْ أقدامُهم وأقدامُ إِبِلهم ودَمِيَتْ، فَحُذِفَ المضافُ، وذلك لكثرةِ تَطْوافِهم. قوله: {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} مبتدأٌ، وخبرُه مضمرٌ تقديرُه: هل لِمَنْ

سَلَكَ طريقتَهم، أو هل لهم مِنْ مَحيصٍ، وهذه الجملةُ تحتمل أن تكون إلى إضمارِ قولٍ، وأَنْ لا تكونَ.

37

قوله: {أَوْ أَلْقَى} : العامَّةُ على «أَلْقى» مبنياً للفاعل. والسملي وطلحة والسُّدِّي وأبو البرهسم «أُلْقِي» مبنياً للمفعول «السَّمعُ» رُفِع به، وذُكِرت هذه القراءةُ لعاصمٍ عن السُّدِّي فمقته وقال: أليس يقول: «يُلْقُوْن السَّمْعَ» .

38

قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} : يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً، وأن تكونَ مستأنفةً. والعامَّةُ على ضمِّ لام اللُّغوب. وعلي وطلحة والسلمي ويعقوبُ بفتحِها، وهما مصدران بمعنىً. وينبغي أَنْ يُضَمَّ هذا إلى ما حكاه سيبويه من المصادر الجائيةِ على هذا الوزنِ وهي خمسة، وإلى ما زاده الكسائي وهو الوَزُوعُ، فتصير سبعةً. وقد أتقَنْتُ هذا في البقرة عند قوله: {وَقُودُهَا} [الآية: 24] .

40

قوله: {وَأَدْبَارَ} : قرأ نافع وابن كثير وحمزة «إِدْبار» بكسر الهمزة، على أنه مصدرٌ قام مَقامَ ظرفِ الزمان كقولهم: «

آتيك خُفوقَ النجمِ وخلافة الحجَّاج» . والمعنى: وقتَ إدبار الصلاة أي: انقضائِها وتمامِها. والباقون بالفتح جمعَ «دُبُر» وهو آخرُ الصلاة وعَقِبُها، ومنه قولُ أوس: 4099 - على دُبُرِ الشهرِ الحَرامِ فأَرْضُنا ... وما حولَها جَدْبٌ سِنونَ تَلْمَعُ ولم يختلفوا في {وَإِدْبَارَ النجوم} [الطور: 49] .

41

قوله: {واستمع} : هو استماعٌ على بابِه. وقيل: بمعنى الانتظارِ، وهو بعيدٌ. فعلى الأولِ يجوزُ أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً أي: استمعْ نداءَ المنادي أو نداءَ الكافر بالويلِ والثُّبور، فعلى هذا يكون «يومَ ينادي» ظرفاً ل «استمتعْ» أي: استمعْ ذلك في يوم. وقيل: استمعْ ما أقولُ لك. فعلى هذا يكون «يومَ يُنادي» . منصوباً ب «يَخْرجون» مقدَّراً مدلولاً عليه بقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} [ق: 42] ، وعلى الثاني يكون «يومَ ينادي» مفعولاً به أي: انتظرْ ذلك اليومَ. ووقف ابن كثير على «يُنادي» بالياء، والباقون دونَها. ووجهُ إثباتِها أنه لا مُقْتضٍ لحذفِها، ووجهُ حَذْفِها وَقْفاً اتِّباعُ الرسمِ، وكان الوقفُ مَحَلَّ تخفيفٍ. وأمَّا «المنادي» فأثبتَ ابنُ كثير أيضاً ياءَه وصلاً

ووقفاً، ونافع وأبو عمروٍ بإثباتِها وصلاً وحَذْفِها وقفاً، وباقي السبعةِ بحَذْفِها وَصْلاً ووقفاً. فمَنْ أثبت فلأنَّه الأصلُ، ومَنْ حَذَفَ فلاتِّباع الرسمِ، ومَنْ خَصَّ الوقفَ بالحذفِ فلأنَّه مَحَلُّ راحةٍ ومَحَلُّ تغييرٍ.

42

قوله: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ} : بدلٌ مِنْ «يومَ ينادي» و «بالحق» حالٌ من الصيحة أي: ملتسبةً بالحق، أو من الفاعلِ أي: يَسْمعون مُلْتبسين بسماع حق. قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} يجوز أَنْ يكونَ التقديرُ: ذلك الوقتُ أي: وقتُ النداءِ والسماع يومُ الخروجِ. ويجوز أَنْ يكونَ «ذلك» إشارةً إلى النداء، ويكونُ قد اتُّسِع في الظرف فأُخْبِرَ به عن المصدر، أو يُقَدَّرَ مضافٌ إلى ذلك النداءِ والاستماع: نداء يومِ الخروجِ واستماعِه.

44

قوله: {يَوْمَ تَشَقَّقُ} : «يوم» يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «يوم» قبله. وقال أبو البقاء: «إنه أُبْدِل مِنْ» يوم «الأول» وفيه نظرٌ مِنْ حيث تَعَدُّدُ البدلِ والمبدلُ منه واحدٌ. وقد تقدَّم أن الزمخشريَّ منعه. ويجوزُ أَنْ يكونَ اليوم ظرفاً للمصير. وقيل: ظرفٌ للخروج. وقيل: منصوبٌ ب «يَخْرُجون» مُقَدَّرا. وتقدَّمَ الخلافُ في «يَشَّقَّقُ» في الفرقان. وقرأ زيد «تَتَشَقَّق» بفكِّ الإِدغام. قوله: {سِرَاعاً} حالٌ من الضمير في «عنهم» ، والعاملُ فيها «تَشَقَّقُ» .

وقيل: عاملُها هو العامل في «يومَ تَشَقَّقُ» المقدر أي: يَخْرُجون سِراعاً يوم تَشَقَّقُ. قوله: {عَلَيْنَا} متعلق ب «يَسير» ففَصَل بمعمولِ الصفة بينها وبين موصوفِها، ولا يَضُرُّ ذلك. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه. لأنه في الأصلِ يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً. وقال الزمخشري: «التقديمُ للاختصاصِ، أي: لا يتيسَّر ذلك إلاَّ على الله وحده» . وقد تقدَّم الخلافُ في ياء «وعيد» إثباتاً وحَذْفاً.

الذاريات

قوله: {ذَرْواً} : منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد، العاملُ فيه فَرْعُه وهو اسمُ الفاعلِ. والمفعولُ محذوفٌ اقتصاراً؛ إذ لا نظيرَ لما يَذْرُوه هنا. وأدغم أبو عمروٍ وحمزةُ تاءَ «الذاريات» في ذال «ذَرْواً» .

2

قوله: {وَقْراً} : مفعولٌ به بالحاملات. والوِقْر بالكسر: اسمُ ما يُوْقَر أي: يُحْمَلُ. وقُرِىء «وَقْراً» بالفتح، وذلك على تسمية المفعول بالمصدر. ويجوز أن يكونَ مصدراً على حالِه، والعاملُ فيه معنى الفعلِ قبله؛ لأنَّ الحَمْلَ والوَقْرَ بمعنىً واحد، وإن كان بينهما عمومٌ وخصوصٌ/.

3

قوله: {يُسْراً} : يجوزُ أن يكونَ مصدراً مِنْ معنى ما قبلَه أي: جَرْياً يُسْراً، وأَنْ تكونَ حالاً أي: ذات يُسْرٍ أو مَيْسَرة أو جُعِلَتْ نفسَ اليُسْرِ مبالغةً.

4

قوله: {أَمْراً} : يجوزُ أن يكونَ مفعولاً به، وهو

الظاهر، وأَنْ يكون حالاً أي: مأمورَه، وعلى هذا فيحتاج إلى حَذْف مفعولِ «المُقَسِّمات» . وقد يقال: لا غرضَ لتقديرِه كما في «الذَّارِيات» . وهل هذه أشياءُ متختلفةٌ فتكونُ الواوُ على بابِها من عطفِ المتغايراتِ، فإنَّ الذارياتِ هي الرياحُ، والحاملاتِ الفلكُ، والجارياتِ الكواكبُ، والمُقَسِّماتِ الملائكةُ. وقال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يُراد الريحُ وحدَها لأنها تُنْشِىءُ السحابَ وتُقِلُّه وتُصَرِّفُه، وتجري في الجوِّ جَرْياً سهلاً» . قلت: فعلى هذا يكونُ مِنْ عطفِ الصفاتِ، والمرادُ واحدٌ كقولِه: 4100 - يا لَهْفَ زَيَّابَةَ للحارثِ الصَّا ... بِحِ فالغانِمِ فالآيِبِ وقولِ الآخر: 4101 - إلى المَلِك القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ... ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ وهذا قَسَمٌ جوابُه قولُه: «إنما تُوْعدون» .

5

و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ اسميةً، وعائدُها محذوفٌ أي: تُوْعَدونه، ومصدريةً فلا عائدَ على المشهور، وحينئذٍ يُحتمل أَنْ يكونَ «تُوْعدون» مبنياً من الوَعْدِ، وأَنْ يكونَ مبنيَّاً من الوعيد لأنه صالحٌ أَنْ يُقال: أَوْعَدْتُه فهو يُوْعَد، ووَعَدْتُه فهو يُوعَد لا يختلفُ، فالتقدير: إنَّ

وَعْدَكم، أو إنَّ وَعيدكم. ولا حاجةَ إلى قولِ مَنْ قالَ: إن قولَه: «لَصادِقٌ» وقع فيه اسمُ الفاعلِ موقع المصدرِ أي: لصِدْقٌ؛ لأنَّ لفظَ اسمِ الفاعل أَبْلَغُ إذ جُعِل الوعدُ أو الوعيدُ صادقاً مبالغةً، وإن كان الوصفُ إنما يقوم بمَنْ يَعِدُ أو يُوْعِدُ.

7

قوله: {ذَاتِ الحبك} : العامَّةُ على «الحُبُك» بضمتين وهي الطرائقُ نحو: طرائق الرَّمْل والماءِ إذا صَفَقَتْه الريحُ، وحُبُك الشَّعْر: آثارُ تَثَنِّيه وتَكَسُّرِه. قال زهير: 4102 - مُكَلَِلٌ بأصولِ النجم تَنْسُجُه ... ريحُ حَريقٍ لضاحي مائِه حُبُكُ والحُبُكُ: جمعٌ يُحتمل أَنْ يكونَ مفردُه «حَبيكة» كطريقةٍ وطُرُق أو حباكِ نحو: حِمار وحُمُر. قال الراجز: 4103 - كأنَّما جَلَّلها الحُوَّاكُ ... طِنْفِسَةٌ في وَشْيِها حِباكُ وأصلُ الحَبْكِ: إحكامُ الشيءِ وإتقانُه، ومنه يقال للدِّرع: مَحْبوكة. وقيل: الحَبْكُ الشَّدُّ والتوثُّقُ. قال امرؤ القيس: 4104 - قد غدا يَحْمِلُنِي في أَنْفِه ... لاحِقُ الإِطْلَيْنِ مَحْبوكٌ مُمَرّْ

وفي هذه اللفطةِ قراءاتٌ كثيرةٌ: فعن الحسن ستٌ: الحُبُك بالضم كالعامَّةِ، الحُبْك بالضمِّ والسكون، وتُروى عن ابن عباس وأبي عمروٍ، الحِبِك بكسرهما، الحِبْك بالكسر والسكون، وهو تخفيف المكسور، الحِبَك بالكسر والفتح، الحِبُك بالكسر والضم. فهذه سِتٌّ أقلقُها الأخيرةُ؛ لأنَّ هذه الزِّنةَ مهملةٌ في أبنية العربِ، قال ابنُ عطية وغيرُه: «هو من التداخُلِ» يعني: أن فيها لغتين: الكسرَ في الحاء والباء والضمَّ فيهما، فأخذ هذا القارىءُ الكسرَ من لغةٍ والضمَّ مِنْ أخرى. واستبعدها الناسُ؛ لأن التداخُلَ إنما يكون في كلمتين. وخَرَّجها الشيخ على أن الحاءَ أُتْبِعَتْ لحركة التاءِ في «ذات» قال: «ولم يَعْتَدَّ باللام فاصلةً لأنها ساكنةٌ فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ» . وقد وافق الحسنَ على هذه القراءةِ أو مالك الغفاريُّ. وقرأ عكرمةُ بالضمِّ والفتح جمعَ «حُبْكَة» نحو: غُرْفة وغُرَف. وابن عباس وأبو مالك «الحَبَك» بفتحتين جمعُ «حَبَ‍كة» كعَقَبة وعَقَب، فهذه ثمانِ قراءات.

8

قوله: {إِنَّكُمْ} : هذا جوابُ القسم.

9

قوله: {يُؤْفَكُ عَنْهُ} : صفةٌ لقول. والضميرُ في «عنه» للقرآن، أو للرسول، أو للدِّين أو لِما تُوْعَدون أي: يُصْرَفُ عنه. وقيل: «عن» للسبب. والمأفوكُ عنه محذوفٌ، والضميرُ في «عنه» على هذا ل «قولٍ مختلفٍ» أي: يُؤْفَكُ بسبب القولِ مَنْ أراد الإِسلام بأَنْ

يقول/: هو سحرٌ، هو كِهانَةٌ. والعامَّةُ على بناء الفعلَيْن للمفعول. وقتادة وابن جبير «يُؤْفَكُ عنه مَنْ أَفَك» الأول للمفعول، والثاني للفاعل أي: يُصْرَفُ عنه مَنْ صَرَف الناسَ عنه. وزيد بن علي يَأْفَكُ مبنياً للفاعل مِنْ أفك الشيء أي: يَصْرِف الناسَ عنه مَنْ هو مأفوك في نفسه. وعنه أيضاً: «يَأْفِكُ عنه مَنْ أَفَّك» بالتشديد أي: مَنْ هو أفَّاك في نفسِه. وقُرِىء «يُؤْفَنُ عنه مَنْ أُفِنَ» بالنون فيهما أي: يَحْرِمُه مَنْ حَرَمه، مِنْ أَفِنَ الضَّرْعَ إذا نهكَه حَلْباً.

10

وقُرِىءَ «قَتَل» مبنياً للفاعل هو اللَّهُ تعالى: «الخَرَّاصين» مفعولُه.

12

قوله: {أَيَّانَ يَوْمُ الدين} : مبتدأٌ وخبرٌ. قيل: وهما ظرفان فكيف يقع أحدُ الظرفين في الآخر؟ وأُجيب: بأنه على حَذْفِ حَدَثٍ، أي: أيَّان وقوعُ يومِ، فأيَّان ظرفٌ للوقوع. وتقدَّم قراءة «إيَّان» بالكسر في الأعراف.

13

قوله: {يَوْمَ هُمْ} : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بمضمرٍ أي: الجزاءُ كائنٌ يومَ هم. ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «يومُ الدين» ، والفتحةُ للبناء على رأي مَنْ يُجيز بناءَ الظرفِ وإنْ أُضيفَ إلى جملةٍ اسميةٍ، وعلى هذا فيكون حكايةً لمعنى كلامِهم قالوه على الاستهزاء، ولو جاء على حكايةِ لفظِهم المتقدِّمِ لقيل: يومَ نحن على النار نُفْتَنُ. ويومَ

منصوبٌ بالدين. وقيل: بمضمرٍ أي: يَحارون. وقيل: هو مفعولٌ ب أعني مقدراً. وعَدَّى «يُفْتَنون» ب على لأنه بمعنى يُخْتبرون. وقيل: على بمعنى في. وقيل «يومَ هم» خبرُ مبتدأ مضمر أي: هو يومَ هم. والفتحُ لِما تقدم، ويؤيِّد ذلك قراءةُ ابن أبي عبلة والزعفراني «يومُ هم» بالرفع، وكذلك يؤيِّد القولَ بالبدلِ. وتقدَّم الكلامُ في مثلِ هذا في غافر.

14

قوله: {ذُوقُواْ} : أي: يُقال لهم: ذُوقوا. و «هذا الذي كنتم» مبتدأٌ وخبر، هذا هو الظاهرُ. وجَوَّز الزمخشريُّ أن يكونَ «هذا» بدلاً مِنْ «فِتْنتكم» لأنها بمعنى العذاب.

16

قوله: {آخِذِينَ} : حالٌ من الضمير في قوله: «جناتٍ» . و «ما آتاهم» يعني من ما في الجنة فتكونُ حالاً حقيقية. وقيل: ما آتاهم مِنْ أوامِره ونواهيه في الدنيا، فتكون حالاً محكيَّةً لاختلافِ الزمانين. وجعل الجارَّ هنا خبراً، والصفةَ فضلةً، وعَكَسَ هذا في قولِه: {إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف: 74] . وقيل: لأن الخبرَ مقصودُ الجملة. والغرضُ هناك الإِخبارُ عن تخليدِهم؛ لأنَّ المؤمِنَ قد يَدْخُلُ النارَ، ولكن لا بُدَّ مِنْ خروجِه. وأمَّا آيةُ المتقين فجعل الظرفَ فيها خبراً لأَمْنِهم الخروجَ منها، فجعل لذلك مَحَطَّ الفائدةِ لتحصُل لهم الطمأنينةُ فانتصبَتْ الصفةُ حالاً.

17

قوله: {كَانُواْ قَلِيلاً} : فيه أوجهٌ؛ أحدها: أنَّ الكلامَ تَمَّ على «قليلاً» ، ولهذا وَقَفَ بعضُهم على «قليلاً» ليُؤاخيَ بها قولَه تعالى: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24] {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] ويَبْتدىء {مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} . أي: ما يَهْجَعون من الليل، وهذا لا يَظْهر من حيث المعنى ولا من حيث الصناعة: أمَّا الأول فلا بُدَّ أن يَهْجَعوا ولا يُتَصَوَّرُ نَفْيُ هجوعِهم. وأمَّا الصناعةُ فلأنَّ ما في حيِّز النفي لا يتقدَّم عليه عند البصريين، هذا إنْ جَعَلْتَها نافيةً، وإنْ جَعَلْتَها مصدريةً صار التقديرُ: من الليل هجوعُهم. ولا فائدةَ فيه لأنَّ غيرَهم من سائر الناس بهذه المَثابة. الثاني: أَنْ تجعلَ «ما» مصدريةً في محلِّ رفع ب «قليلاً» . والتقدير: كانوا قليلاً هجوعُهم. الثالث: أَنْ تجعلَ «ما» المصدريةَ بدلاً من اسمِ كان بدلَ اشتمال، أي: كان هجوعُهم قليلاً، و «من الليل» على هذين لا يتعلَّق ب «يَهْجَعون» ؛ لأنَّ ما في حَيِّز المصدر لا يتقدَّم عليه على المشهورِ؛ وبعَضُ المانعين اغتفره في الظرفِ، فيجوزُ هذا عنده، والمانع يُقَدِّر فعلاً يدلُّ عليه «يَهْجَعون» أي: يهجعون من الليل. الرابع: أن «ما» مزيدةٌ و «يَهْجَعون» خبرُ كان. والتقدير: كانوا يَهْجَعون من الليلِ هُجوعاً أو زمناً قليلاً؛ ف «قليلاً» نعتٌ لمصدرٍ أو ظرف. الخامس: أنها بمعنى الذي، وعائدُها محذوفٌ تقديره: كانوا قليلاً من الليل الوقتَ الذي يَهْجَعونه، وهذا فيه تكلُّفٌ.

18

قوله: {وبالأسحار} : متعلقٌ ب «يَسْتَغْفرون» . والباءُ بمعنى «في» ، قُدِّمَ متعلَّقُ الخبرِ على المبتدأ لجواز تقديمِ العامل.

21

قوله: {وفي أَنفُسِكُمْ} : نَسقٌ على «في الأرض» فهو خبر عن «آياتٌ» أيضاً. والتقدير: وفي الأرض وفي أنفسكم آياتٌ. وقال أبو البقاء: «ومَنْ رفع بالظرفِ جَعَل ضميرَ الآيات في الظرف» يعني مَنْ يرفعُ الفاعلَ بالظرفِ مطلقاً/ أي: وإنْ لم يَعْتَمِدْ يَرْفَعُ بهذا الجارِّ فاعلاً هو ضمير «آياتٌ» . وجَوَّز بعضُهم أَنْ يتعلَّقَ ب «تُبْصِرُون» وهو فاسدٌ؛ لأنَّ الاستفهامَ والفاء يمنعان جوازَه. وقرأ قتادة «آيَةٌ» [الذاريات: 20] بالإِفراد.

22

قوله {رِزْقُكُمْ} : أي: سببُ رزقِكم. وقرأ حميد وابن محيصن «رازِقُكم» اسمَ فاعل، واللَّهُ تعالى مُتَعالٍ عن الجهة.

23

والضميرُ في «إنَّه لحقٌّ» : إمَّا للقرآنِ، وإمَّا للدينِ، وإمَّا لليوم في قولِه: {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6] {يَوْمَ هُم} [الذاريات: 13] {يَوْمُ الدين} [الذاريات: 12] وإمَّا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. قوله {مِثْلَ مَا} الأخَوان وأبو بكر «مثلُ» بالرفع، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ،

أحدها: أنه خبرٌ ثانٍ مستقلٌّ كالأولِ. والثاني: أنه مع ما قبله خبرٌ واحدٌ نحو: هذا حُلْوٌ حامِضٌ، نقلهما أبو البقاء. والثالث: أنَّه نعتٌ ل «حق» و «ما» مزيدةٌ على ثلاثةِ الأوجهِ. و «أنَّكم» مضافٌ إليه أي: لَحَقٌّ مثلُ نُطْقِكم. ولا يَضُرُّ تقديرُ إضافتِها لمعرفةٍ لأنها لا تتعر‍َّفُ بذلك لإِبهامِها. والباقون بالنصبِ وفيه أوجهٌ، أشهرُها: أنه نعتٌ ل «حَقٌّ» كما في القراءةِ الأولى، وإنما بُنِي الاسم لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ، كما بناه الآخرُ في قولِه: 4105 - فتَداعَى مَنْخِراه بدَمٍ ... مثلَ ما أثمرَ حَمَّاضُ الجَبَلْ بفتح «مثلَ» مع أنها نعتٌ ل «دم» وكما بُنِيَتْ «غيرَ» في قوله: 4106 - لم يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَن نَطَقَتْ ... حمامةٌ في غُصونٍ ذاتِ أَوْقالِ «غيرَ» فاعلُ «يَمْنع» فبناها على الفتح لإِضافتِها إلى «أنْ نَطَقَتْ» وقد تقدَّم في قراءةِ {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] بالفتحِ ما يُغْني عن تقريرِ مثل هذا. الثاني: أنَّ «مثلَ» رُكِّب مع «ما» حتى صارا شيئاً واحداً. قال

المازني: «ومثلُه: وَيْحَما وهَيَّما وأَيْنَما» وأنشد لحميد بن ثور: 4107 - ألا هَيَّما مِمَّا لَقِيْتُ وهَيَّما ... ووَيْحاً لِمَنْ لم يَدْرِ ما هُنَّ وَيْحَما قال: فلولا البناءُ لكان منوَّناً. وأنشد أيضاً: 4108 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فأكْرِمْ بنا أُمَّاً وأكْرِمْ بنا ابْنَما وهذا الذي ذكرَه ذهب إليه بعضُ النَّحْويين، وأَنْشد: 4109 - أثورَ ما أَصِيْدُكم أم ثورَيْنْ ... أم هذه الجَمَّاءَ ذاتَ القرنَيْنْ وأمَّا ما أنشدَه مِنْ قولِه: «وأكرِمْ بنا ابنَما» فليس هذا من الباب لأنَّ هذا «ابن» زِيْدَتْ عليه الميم. وإذا زِيْدَتْ عليه الميمُ جُعِلَتِ النونُ تابعةً للميم في الحركاتِ على الفصيح، فتقول: هذا ابنمٌ، ورأيت ابنَماً، ومررت بابنِم، فتُجْري حركاتِ الإِعراب على الميم وتَتْبَعُها النونُ. «وابنما» في البيت منصوبٌ على التمييز، فالفتحُ لأجلِ النصبِ لا للبناءِ، وليس هذه «ما» الزائدةَ، بل الميمُ وحدَها زائدةٌ، والألفُ بدلٌ من التنوين.

الثالث: أنَّه منصوبٌ على الظرفِ، وهو قولُ الكوفيين، ويجيزون «زيدٌ مثلَك» بالفتح. ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن، ولكن بعبارةٍ مُشْكِلةٍ فقال: «ويُقْرَأ بالفتح، وفيه وجهان، أحدُهما: هو مُعْرَبٌ. ثم في نصبِه أوجهٌ» . ثم قال: «أو على أنه مرفوعُ الموضعِ، ولكنَّه فُتحَ كما فُتح الظرفُ في قوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] على قولِ الأخفَشِ «. ثم قال:» والوجه الثاني هو مبنيٌّ «. وقال أبو عبيد:» بعضُ العربِ يَجْعَلُ «مثلَ» نصباً أبداً فيقولون: هذا رجلٌ مثلَك «. الرابع: أنه منصوب على إسقاطِ الجارِّ، وهو كافُ التشبيهِ. وقال الفراء:» العربُ تَنْصِبُها إذا رُفِعَ بها الاسمُ، يعني المبتدأ، فيقولون: مثلَ مَنْ عبدُ الله؟ وعبدُ الله مثلَك، وأنت مثلَه؛ لأنَّ الكافَ قد تكونُ داخلةً عليها فتُنْصَبُ إذا أَلْقَيْتَ الكافَ «. قلت: وفي هذا نظرٌ، أيُّ حاجةٍ إلى تقدير دخولِ الكافِ و» مثْل «تفيدُ فائدتَها؟ وكأنه لمَّا رأى الكافَ قد دخلَتْ عليها في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] قال ذلك. الخامس: أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: لحَقٌّ حقاً مثلَ نُطْقِكم. السادس: أنه حالٌ من الضميرِ في» لَحَقٌّ «لأنه قد كَثُرَ الوصفُ بهذا المصدرِ، حتى جَرَى مَجْرى الأوصافِ المشتقةِ، والعاملُ فيها» حَقٌّ «. السابع: أنه حالٌ من نفس» حقٌّ «وإن كان نكرةً. وقد نَصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازِه، وتابعه أبو عمرَ على ذلك.

و» ما «هذه في مثلِ هذا التركيبِ نحو قولِهم:» هذا حَقٌّ كما أنَّك ههنا «لا يجوز حَذْفُها فلا يُقال:» هذا حَقٌّ كأنَّك هنا «. نَصَّ على ذلك الخليل رحمه الله تعالى فإذا جعلْتَ» مثلَ «معربةً كانت» ما «مزيدةً و» أنكم «في محلِّ خفضٍ بالإِضافةِ كما تقدَّم، وإذا جَعَلْتَها مبنيَّة: إمَّا للتركيب، وإمَّا لإِضافتِها إلى غيرِ متمكِّنٍ جاز في» ما «هذه وجهان الزيادةُ وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً/ كذا قال أبو البقاء. وفيه نظرٌ لعدم الوصفِ هنا. فإنْ قال: هو محذوفٌ فالأصلُ عَدَمُه. وأيضاً فنصُّوا على أن هذه الصفةَ لا تُحْذَفُ لإِبهامِ موصوفِها، وأمَّا» أنَّكم تَنْطِقون «فيجوز أَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ إنْ كانَتْ» ما «مزيدةً، وإنْ كانت نكرةً كان في موضعِ نصبٍ بإِضمارِ أعني أو رفعٍ بإضمار مبتدأ.

25

قوله: {إِذْ دَخَلُواْ} : في العاملِ في «إذ» أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه «حديثُ» أي: هل أتاك حديثُهم الواقعُ في وقت دخولِهم عليه. الثاني: أنه منصوبٌ بما في «ضَيْف» من معنى الفعل؛ لأنه في الأصلِ مصدرٌ، ولذلك استوى فيه الواحدُ المذكرُ وغيره، كأنه قيل: الذي أضافهم في وقتِ دخولِهم عليه. الثالث: أنَّه منصوبٌ ب «المُكْرَمين» إنْ أريد بإِكرامهِم أنَّ إبراهيمَ أكرمَهم بخدمتِه لهم. الرابع: أنه منصوبٌ بإضمارِ اذْكُر، ولا يجوزُ نصبُه ب «أتاك» لاختلافِ الزمانَيْن. وقرأ العامَّةُ «المُكْرَمين» بتخفيفِ الراءِ مِنْ أكرم. وعكرمة بالتشديد.

قوله: {سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} : قد تقدَّم تحريرُ هذا في هود. وقال ابن عطية: «ويتجهُ أن يعملَ في» سَلاماً «» قالوا «على أَنْ يُجعل» سلاماً «في معنى قولاً، ويكون المعنى حينئذٍ: أنهم قالوا تحية وقولاً معناه سلاماً. وهذا قولُ مجاهد» . قلت: ولو جُعِل التقدير أنَّهم قالوا هذا اللفظَ بعينِه لكان أَوْلى، وتفسيرُ هذا اللفظِ هو التحيةُ المعهودةُ. وتقدَّم أيضاً خلافُ القرَّاءِ في «سلاماً» بالنسبة إلى فتحِ سِينه وكسرِها وإلى سكونِ لامِه وفتحِها. والعامَّةُ على نصب «سلاماً» الأول ورفع الثاني، وقُرئا مرفوعَيْن، وقُرىء «سَلاماً قال: سِلْماً» بكسرِ سينِ الثاني ونصبِه، ولا يَخْفَى توجيهُ ذلك كلِّه مِمَّا تقدَّمَ في هود. قوله: {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ فقدَّروه: أنتم قومٌ، ولم يَسْتحسِنْه بعضُهم؛ لأنَّ فيه عَدَمَ أُنْسٍ فمثلُه لا يقعُ من إبراهيم عليه السلام، فالأَوْلَى أَنْ يُقَدَّر: هؤلاء قومٌ أو هم قومٌ، وتكون مقالتُه هذه مع أهلِ بيتِه وخاصَّتِه لا لنفسِ الضيفِ؛ لأنَّ ذلك يُوْحِشُهم.

26

وقوله: {فَجَآءَ} : عطفٌ على «فراغَ» ، وتَسَبُّبُه عنه واضحٌ. والهمزةُ في «ألا تأكلون» للإِنكار عليهم في عَدَمِ أكلِهم، أو للعَرْضِ أو للتحضيضِ.

29

قوله: {فِي صَرَّةٍ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل أي: كائنةً في صَرَّة. والصَّرَّة قيل: الصيحة. قال امرؤ القيس: 4110 - فَأَلْحَقَنا بالهادياتِ ودونَه ... جَواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيَّلِ قال الزمخشري: «مِنْ صَرَّ الجُنْدُبُ والبابُ والقلمُ. ومحلُّه النصبُ على الحالِ أي: فجاءَتْ صارَّةً» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً ب «أَقْبَلَتْ» أي: أقبلَتْ في جماعةِ نسوةٍ كُنَّ معها. والصَّرَّةُ: الجماعةُ من النساء. قوله: {فَصَكَّتْ} أي: لَطَمَتْ: واخْتُلف فيه، فقيل: هو الضَّرْبُ باليد مبسوطةً. وقيل: بل ضَرْبُ الوجهِ بأطرافِ الأصابعِ فِعْلَ المتعجِّبِ، وهي عادةُ النساءِ. قوله: «عجوزٌ» : خبرٌ مبتدأ مضمرٍ أي: أنا عجوزٌ عقيمٌ فكيف أَلِدُ؟ تفسِّرها الآيةُ الأخرى.

30

قوله: {كَذَلِكَ} : منصوبٌ على المصدرِ ب «قال» الثانية أي: مثلَ ذلك القولِ الذي أخبرناك به قال ربُّك أي: إنه من جهةِ اللَّهِ فلا تَتَعجَّبي منه.

34

قوله: {مُّسَوَّمَةً} : فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على النعتِ لحجارة. والثاني: أنَّه حالٌ من الضمير المستكنِّ في

الجارِّ قبله. الثالث: أنه حالٌ مِنْ «حجارة» وحَسَّن ذلك كونُ النكرةِ وُصِفَتْ بالجارِّ بعدها. قوله: {عِندَ رَبِّكَ} ظرفٌ ل «مُسَوَّمةً» أي: مُعْلَمَةً عنده.

37

قوله: {فِيهَآ آيَةً} : يجوز أن يعود الضمير على القرية أي: تَرَكْنا في القرية علامةً كالحجارةِ أو الماء المُنْتِنِ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الإِهلاكةِ المفهومةِ/ من السِّياق.

38

قوله: {وَفِي موسى} : فيه أوجهٌ، أحدُها: وهو الظاهر أنه عطفٌ على قولِه: «فيها» بإعادةِ الجارِّ؛ لأن المعطوفَ عليه ضميرٌ مجرورٌ فيتعلَّقُ ب «تَرَكْنا» من حيث المعنى، ويكونُ التقديرُ: وتَرَكْنا في قصةِ موسى آيةً. هذا معنىً واضحٌ. والثاني: أنه معطوفٌ على قولِه: {وَفِي الأرض آيَاتٌ} [الذاريات: 20] أي: وفي الأرضِ وفي موسى آياتٌ للموقِنين، قاله الزمخشري وابنُ عطية. قال الشيخُ: «وهذا بعيدٌ جداً يُنَزَّه القرآنُ عن مثلِه» . قلت: ووجهُ استبعادِه له: بُعْدُ ما بينهما، وقد فعل أهلُ العلمِ هذا في أكثرَ من ذلك. الثالث: أنه متعلقٌ ب «جَعَلْنا» مقدرةً لدلالةِ «وتَرَكْنا» . قال الزمخشري: «أو على قولِه يعني أو يُعْطَفُ على قولِ وترَكْنا فيها آيةً على معنى: وجَعَلْنا في موسى آيةً كقوله:

4111 - فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قال الشيخ:» ولا حاجةَ إلى إضمار «وجَعَلْنا» لأنه قد أمكن أَنْ يكونَ العامل في المجرور «وتَرَكْنا» . قلت: والزمخشريُّ إنما أراد الوجهَ الأولَ بدليلِ قوله: «وفي موسى معطوفٌ على» وفي الأرض «أو على قوله:» وتركْنا فيها «. وإنما قال:» على معنى «من جهةِ تفسيرِ المعنى لا الإِعراب، وإنما أظهر الفعلَ تنبيهاً على مغايرة الفعلَيْن. يعني: أن هذا التركَ غيرُ ذاك التركِ، ولذلك أبرزَه بمادةِ الجَعْلِ دون مادة التركِ لتظهرَ المخالفةُ. قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ} يجوز في هذا الظرفِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ منصوباً بآية على الوجهِ الأول أي: تركنا في قصة موسى علامةً في وقتِ إرْسالِنا إياه. والثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنَّه نعتٌ لآية أي: آيةً كائنةً في وقتِ إرْسالِنا. الثالث: أنه منصوبٌ ب» تَرَكْنا «. قوله: {بِسُلْطَانٍ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفس الإِرسال، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ: إمَّا مِنْ موسى، وإمَّا مِنْ ضميرِه أي: ملتبساً بسلطان، وهي الحُجَّةُ.

39

قوله: {بِرُكْنِهِ} : حالٌ من فاعل «تَوَلَّى» . قوله: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} «أو» هنا على بابِها من الإِبهام على السامعِ أو للشكِّ، نَزَّل نفسَه مع أنَّه يَعْرِفُه نبياً حقاً منزلةَ الشَّاكِّ في أمرِه

تَمْويهاً على قومِه. وقال أبو عبيدة: «أو بمعنى الواو» . قال: «لأنه قد قالهما، قال تعالى: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] . وقال في موضع آخرَ: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] . وتجيْءُ» أو «بمعنى الواو كقولِه: 4112 - أثَعْلَبَةَ الفوارِسَ أو رِياحا ... عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا وردَّ الناسُ عليه هذا وقالوا: لا ضرورةَ تَدْعُو إلى ذلك، وأمَّا الآيتان فلا تَدُلاَّن على أنَّه قالهما معاً، وإنما تفيدان أنه قالهما أعَمَّ مِنْ أَنْ يكونا معاً، وهذه في وقت وهذه في آخرَ.

40

قوله: {وَجُنُودَهُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على مفعول «أَخَذْناه» وهو الظاهرُ، وأَنْ يكونَ مفعولاً معه. قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} جملةٌ حاليةٌ، فإن كانت حالاً من مفعول «نَبَذْناهم» فالواوُ لازمةٌ إذ ليسَ فيها ذِكْرٌ يعودُ على صاحب الحال، وإن كانت حالاً من مفعول «أَخَذْناه» فالواوُ ليسَتْ واجبةٍ؛ إذ في الجملة ذِكْرٌ يعودُ عليه. وقد يُقال: إنَّ الضمير في «نَبَذْناهم» يعود على فرعون وعلى جنودِه، فصار في الحال ذِكْرٌ يعودُ على بعض ما شَمَلَه الضميرُ الأول. وفيه نظرٌ؛ إذ يصيرُ نظيرَ قولِك: «جاء السلطانُ وجنوده فأكرمتُهم راكباً فرسَه» فتجعل «راكباً» حالاً من بعضِ ما اشتمل عليه ضميرُ «أكرمتُهم» .

41

قوله: {وَفِي عَادٍ، وَفِي ثَمُودَ، وَفِي موسى} : تقدَّم مثلُه.

42

قوله: {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} : هذه الجملةُ في موضع المفعول الثاني ل «تَذَرُ» كأنه قيل: ما تَتْرك من شيءٍ إلاَّ مجعولاً نحو: ما تركتُ زيداً إلاَّ عالماً. وأعرَبها الشيخُ حالاً وليس بظاهرٍ.

44

قوله: {الصاعقة} : هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ الكسائي «الصَّعْقَة» ، والحسن «الصاقِعة» . وتقدَّم ذِكْرُ هذا كلِّه في البقرة. قوله: {وَهُمْ يَنظُرُونَ} جملةٌ حاليةٌ من المفعول. و «ينظرون» قيل: من النظر. وقيل: من الانتظار أي: ينتظرون ما وُعِدوه من العذاب.

46

قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ} : قرأ الأخَوان وأبو عمرو بجرِّ الميم، والباقون/ بنصبها. وأبو السَّمَّال وابن مقسم وأبو عمرو في روايةِ الأصمعيِّ «وقومُ» بالرفع. فأمَّا الخفضُ ففيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه معطوفٌ على «وفي الأرض» . الثاني: أنه معطوفٌ على «وفي موسى» الثالث: أنه معطوفٌ على «وفي عاد» . الرابع: أنه معطوفٌ على «وفي

ثمودَ» ، وهذا هو الظاهرُ لقُرْبِه وبُعْدِ غيرِه. ولم يذكرْ الزمخشريُّ غيرَه فإنه قال: «وقُرِىء بالجرِّ على معنى» وفي قوم نوح «. ويُقَوِّيه قراءةُ عبد الله» وفي قوم نوح «. ولم يَذْكُرْ أبو البقاء غيرَ الوجهِ الأخيرِ لظهورِه. وأمّا النصبُ ففيه ستةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ أي: وأهلَكْنا قومَ نوح؛ لأنَّ ما قبلَه يَدُلُّ عليه. الثاني: أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدراً، ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَهما. الثالث: أنَّه منصوبٌ عطفاً على مفعول» فأَخَذْناه «. الرابع: أنه معطوفٌ على مفعول {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} وناسَبَ ذلك أنَّ قومَ نوح مُغْرقون من قبلُ. لكنْ يُشْكِلُ أنَّهم لم يَغْرَقوا في اليمِّ. وأصلُ العطفِ أَنْ يقتضيَ التشريكَ في المتعلَّقات. الخامس: أنَّه معطوفٌ على مفعولِ» فَأَخَذَتْهم الصاعقةُ «. وفيه إشكالٌ؛ لأنهم لم تأخُذْهم الصاعقةُ، وإنما أُهْلكوا بالغَرَقِ. إلاَّ أَنْ يُرادَ بالصاعقةِ الداهيةُ والنازلةُ العظيمة من أيِّ نوع كانت، فيَقْرُبُ ذلك. السادس: أنه معطوفٌ على محلِّ» وفي موسى «، نقله أبو البقاء وهو ضعيفٌ. وأما الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ مقدَّرٌ أي: أهلَكْناهم. وقال أبو البقاء:» والخبرُ ما بعدَه «يعني مِنْ قولِه: إنهم كانوا قوماً فاسقين. ولا يجوز أَنْ يكونَ مرادُه قولَه:» من قبلُ «؛ إذ الظرفُ ناقصٌ فلا يُخبَرُ به.

47

قوله: {والسمآء بَنَيْنَاهَا} : العامة على النصب على الاشتغالِ، وكذلك قولُه: {والأرضَ فَرَشْناها} والتقديرُ: وبَنَيْنا السماءَ بَنَيْناها. وقال أبو البقاء: «أي: ورفَعْنا السماءَ» فقدَّر الناصبَ مِنْ غير لفظ الظاهر، وهذا إنما يُصار إليه عند تعذُّرِ التقديرِ الموافقِ لفظاً نحو: زيداً مررت به، وزيداً ضربْتُ غلامَه. وأمَّا في نحو «زيداً ضربتُه» فلا يُقَدَّر: إلاَّ ضربْتُ زيداً. وقرأ أبو السَّمَّال وابن مقسم برفعِهما على الابتداء، والخبرُ ما بعدهما. والنصبُ أرجحُ لعطفِ جملة الاشتغال على جملةٍ فعلية قبلَها. قوله: {بِأَيْدٍ} يجوز أَنْ يتعلقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ. وفيها وجهان، أحدهما: أنَّها حالٌ من فاعل «بَنَيْناها» أي: ملتبسين بقوةٍ: والثاني: أنها حالٌ مِنْ مفعولِه أي: ملتبسةً بقوةٍ. ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للسببِ أي: بسببِ قدرتِنا. ويجوزُ أَنْ تكون الباءُ مُعَدِّيَةً مجازاً، على أن تجعلَ الأَيْدَ كالآلةِ المبنيِّ بها كقولك: بَنَيْتُ بيتَك بالآجُرِّ. قوله: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً مِنْ فاعل «بَنَيْناها» ، ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من مفعوله، ومفعول «مُوْسِعون» محذوفٌ أي: موسِعون بناءَها. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّر له مفعولٌ؛ لأنَّ معناه «لَقادِرون» ، مِنْ قولك: ما في وُسْعي كذا أي: ما في طاقتي وقوتي.

48

قوله: {فَنِعْمَ الماهدون} : المخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ لفهمِ المعنى أي: نحن كقوله: {نِعْمَ العبد} [ص: 44] .

49

قوله: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «خَلَقْنا» أي: خَلَقْنا مِنْ كلِّ شيء زوجَيْن، وأَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ «زوجَيْن» ؛ لأنه في الأصل صفةٌ له؛ إذ التقديرُ: خَلَقْنا زوجَيْن كائنين من كلِّ شيءٍ، والأولُ أقوى في المعنى.

52

قوله: {كَذَلِكَ} : فيه وجهان، أظهرُهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ مثلُ ذلك. والإِشارةُ ب «ذلك» قال الزمخشريُّ: «إلى تكذيبهِم الرسولَ وتسميتِه ساحراً ومجنوناً» ثم فَسَّر ما أَجْمل بقولِه: «ما أَتى» . والثاني: أن الكاف في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوف، قاله مكي، ولم يُبَيِّنْ تقديرَه/ ولا يَصِحُّ أَنْ ينتصِبَ بما بعده لأجل «ما» النافية. وأمَّا المعنى فلا يمتنعُ، ولذلك قال الزمخشري: «ولا يَصِحُّ أن تكون الكافُ منصوبةً ب» أتى «لأنَّ» ما «النافيةَ لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولو قيل: لم يأتِ لكان صحيحاً» يعني لو أتى في موضع «ما» ب «لم» لجازَ أن تنتصِبَ الكافُ ب «أتى» لأن المعنى يَسُوغ عليه. والتقدير: كَذَّبَتْ قريشٌ تكذيباً مثلَ تكذيب الأمم السابقة رسلَهم. ويَدُلُّ عليه قولُه: {مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ} الآية. قوله: {إِلاَّ قَالُواْ} الجملةُ القوليةُ في محلِّ نصب على الحال من {الذين مِن قَبْلِهِمْ} ، و «من رسولٍ» فاعلُ «أتى» كأنه قيل: ما أتى الأوَّلين رسولٌ إلاَّ في حالِ قولهم: هو ساحرٌ. والضميرُ في «به» يعودُ على القولِ المدلولِ عليه ب «قالوا» أي: أتواصَى الأوَّلُوْن والآخرِون بهذا القولِ المتضمِّنِ لساحرٍ أو مجنونٍ، والاستفهامُ للتعجب.

56

قوله: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} : متعلقٌ ب «خَلَقْتُ» . واخْتُلف في الجن والإِنس: هل المرادُ بهم العمومُ، والمعنى: إلاَّ لأمْرِهم بالعبادة، ولِيقِرُّوا بها؟ وهذا منقولٌ عن عليّ، أو يكون المعنى: ليطيعونِ وينقادوا لقضائي، فالمؤمنُ يفعل ذلك طَوْعاً والكافرُ كَرْهاً، أو يكون المعنى: إلاَّ مُعَدِّين للعبادة. ثم منهم منْ يتأتَّى منه ذلك، ومنهم مَنْ لا كقولك: هذا القلمُ بَرَيْتُه للكتابة، ثم قد تكتب به وقد لا تكتب، أو المرادُ بهم الخصوص. والمعنى: وما خلقتُ الجنَّ والإِنس المؤمنين. وقيل: الطائعين. والأولُ أحسن.

57

قوله: {أَن يُطْعِمُونِ} : قيل: فيه حَذْفُ مضافٍ، أي: يُطعموا خَلْقي. وقيل: المعنى أَنْ ينفعونِ، فعبَّر ببعضِ وجوه الانتفاعات؛ لأنَّ عادةَ السادة أَنْ ينتفعوا بعبيدِهم، واللَّهُ سبحانه وتعالى مُسْتَغْنٍ عن ذلك.

58

قوله: {المتين} : العامَّةُ على رفعِه. وفيه أوجهٌ: إمَّا النعتُ للرزَّاق، وإمَّا النعتُ ل «ذو» ، وإمَّا النعتُ لاسم «إنَّ» على الموضع، وهو مذهبُ الجَرْميِّ والفراءِ وغيرِهما، وإمَّا خبرٌ بعد خبرٍ، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وعلى كل تقدير فهو تأكيدٌ لأن «ذو القوة» يُفيد فائدتَه. وقرأ ابن محيصن «الرازق» كما قرأ «وَفِي السمآء رازِقُكُمْ» كما تقدَّم. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش «المتينِ» بالجر فقيل: صفة

للقوة، وإنما ذَكَّر وصفَها لكونِ تأنيثها غيرَ حقيقي. وقيل: لأنها في معنى الأَيْد. وقال ابن جني: «هو خفضٌ على الجوارِ كقولِهم:» هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ «يعني أنه صفةٌ للمرفوع، وإنما جُرَّ لَمَّا جاور مجروراً. وهذا مرجوحٌ لإِمكانِ غيرِه، والجِوارُ لا يُصار إليه إلاَّ عند الحاجة.

59

قوله: {ذَنُوباً} : الذَّنوبُ في الأصل: الدَّلْوُ المَلأَى ماءً. وفي الحديث: «فأتى بذَنوبٍ من ماءٍ» فإنْ لم تكن مَلأَى فهو دَلْوٌ، ثم عُبِّر به عن النصيب. قال علقمة: 4113 - وفي كلِّ حَيٍّ قد خبَطْتُ بنِعْمَةٍ ... فحُقَّ لشاسٍ مِنْ نَداكَ ذَنوبُ ويُجْمع في القلةِ على: أَذْنِبة، وفي الكثرةِ على: ذَنائب. وقال المَلِكُ لَمَّا أُنْشد هذا البيتَ: نعم، وأَذْنِبَة. وقال الزمخشري: «الذَّنوبُ: الدَّلْوُ العظيمةُ. وهذا تمثيلٌ، أصلُه في السُّقاةِ يَقْتسمون الماءَ، فيكونُ لهذا ذَنُوب، ولهذا ذَنوب. قال الراجز: 4114 - لنا ذَنوبٌ ولكم ذَنُوبُ ... فإنْ أَبَيْتُمْ فلنا القَليبُ

وقال الراغبُ:» الذَّنوبُ: الدَّلْوُ الذي له ذَنَبٌ «انتهى. فراعى الاشتقاقَ، والذَّنُوب أيضاً: الفرسُ الطويلُ الذَّنَبِ وهو صفةٌ على فَعُوْل، والذَّنُوب: لحمُ أسفلِ المَتْن. ويُقال: يومٌ ذَنوبٌ أي: طويلُ الشَّرِّ استعارةً من ذلك.

60

قوله: {الذي يُوعَدُونَ} : حُذِفَ العائدُ لاستكمالِ شروطِه أي: يُوْعَدُونه/.

الطور

قوله: {والطور} : وما بعدَه أقسامٌ جوابُها: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 7] والواواتُ التي بعد الأولى عواطفُ لا حروفُ قسمٍ لِما قَدَّمْتُه في أولِ هذا الموضوعِ عن الخليل. ونَكَّر الكتاب تفخيماً وتعظيماً.

3

قوله: {فِي رَقٍّ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِمَسْطُور أي: مكتوبٍ في رَقّ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ نعتاً آخرَ ل «كتابٍ» وفيه نظرٌ؛ لأنه يُشبه تهيئةَ العاملِ للعملِ وقَطْعَه عنه. والرَقُّ بالفتح: الجِلْدُ الرقيقُ يُكتب فيه. وقال الراغب: «الرَّقُّ ما يُكتب فيه شِبْهُ كاغَد» انتهى. فهو أعمُّ مِنْ كونِه جِلْداً وغيرَه. ويقال فيه «رِقٌّ» بالكسر، فأمَّا المِلْكُ للعبيد فلا يُقال إلاَّ «رِقٌّ» بالكسر. وقال الزمخشري: «والرَّقُّ: الصحيفةُ. وقيل: الجِلْدُ الذي تُكتب فيه [الأعمال] » . انتهى. وقد غَلَّط

بعضُهم مَنْ يقول: كتبْتُ في الرِّق بالكسر، وليس بغلطٍ لثبوتِه لغةً بالكسر. وقد قرأ أبو السَّمَّال «في رِقّ» بالكسر.

6

قوله: {المسجور} : قيل: هو من الأضدادِ. ويقال: بحر مَسْجور أي: مملوء، وبحرٌ مَسْجور أي: فارغٌ. ورَوى ذو الرمة الشاعرُ عن ابنِ عباس أنه قال: خرَجَتْ أمَةٌ لتستقيَ فقالت: إن الحوضَ مَسْجور، أي فارغ. ويؤيِّد هذا أنَّ البحارَ يذهبُ ماؤُها يومَ القيامة. وقيل: المسجورُ المَمْسوك، ومنه ساجورُ الكلب لأنه يَمْسِكُه ويَحْبسه.

7

وقرأ زيدُ بن علي «إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ وَاقِعٌ» بغيرِ لامٍ.

8

قوله: {مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} : يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ خبراً ثانياً، وأَنْ تكونَ صفةً ل «واقعٌ» أي: واقعٌ غيرُ مدفوعٍ، قاله أبو البقاء. و «مِنْ دافِع» يجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً، وأَنْ يكونَ مبتدأً، و «مِنْ» مزيدةٌ على الوجهين.

9

قوله: {يَوْمَ تَمُورُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيه «واقعٌ» أي: يقعُ في ذلك اليومِ، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ المنفيةُ

معترضةً بين العاملِ ومعمولِه. ويجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيه «دافعٌ» قاله الحوفي، وأبو البقاء ومنعه مكي. قال الشيخ: «ولم يذكرْ دليلَ المنع» وقلت: قد ذَكَرَ دليلَ المنع في «الكشف» إلاَّ أنه ربما يكونُ غَلَطاً عليه، فإنه وهمٌ وانا أذكُر لك عبارتَه. قال رحمه الله: «العامل فيه» واقعٌ «أي: إنَّ عذاب ربك لَواقعٌ في يومِ تمورُ السماءُ مَوْراً. ولا يَعْمل فيه» دافعٌ «لأنَّ المنفيَّ لا يعمل فيما قبل النافي. لا تقول:» طعامَك ما زيدٌ آكلاً «، رفعْتَ» آكلاً «أو نَصَبْتَه أو أَدْخَلْتَ عليه الباءَ. فإن رَفَعْتَ الطعامَ بالابتداءِ وأوقَعْتَ» آكلاً «على هاءٍ جازَ، وما بعد الطعام خبرٌ» انتهى. وهذا كلامٌ صحيح في نفسِه، إلاَّ أنه ليس في الآية شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ العاملَ وهو «دافعٌ» والمعمولُ وهو «يومَ» ، كلاهما بعد النافي وفي حَيِّزه. وقوله: «وأوقَعْتَ» آكلاً «على هاء» أي على ضميرٍ يعود على الطعامِ، فتقول: طعامَك ما زيدٌ آكلَه. وقد يقال: إنَّ وجهَ المنعِ مِنْ ذلك خَوْفُ الوهَمِ: أنه يُفْهَمُ أن أحداً يدفعُ العذاب في غيرِ ذلك اليومِ، والفرضُ أنَّ عذابَ اللَّهِ لا يُدفع في كل وقت. وهذا أمرٌ مناسِبٌ قد ذُكِر مثلَه كثيرٌ؛ ولذلك مَنَعَ بعضُهم أن ينتصِبَ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} بقولِه: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29-30] لئلا يُفْهَمَ منه ما لا يَليق، وهو أبعدُ من هذا في الوهمِ بكثيرٍ. وقال

أبو البقاء: «وقيل: يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لِما دَلَّ عليه» فوَيْلٌ «. انتهى وهو بعيد. والمَوْرُ: الاضطرابُ والحركةُ يقال: مار الشيءُ أي: ذهب وجاء. وقال الأخفش وأبو عبيدة: تَكَفَّأ. وأنشد للأعشى: 4115 - كأن مِشْيتَها مِنْ بيتِ جارتِها ... مَوْرُ السَّحابةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ وقال الزمخشري:» وقيل هو تحرُّكٌ في تموُّج، وهو الشيءُ يتردَّدُ في عَرْضٍ كالداغِصة «. قلت: الداغِصَةُ: الجِلْدَةُ التي فوق قُفْل الرُّكْبةِ. وقال الراغب:» المَوْرُ: الجريان السريعُ. ومار الدمُ على وجهِه. والمُوْرُ بالضم: الترابُ المتردِّدُ به الريحُ «. وأكَّد بالمصدَرَيْن رفعاً للمجازِ أي: هذان الجُرْمان العظيمان مع كَثافتهما يقعُ ذلك منهما حقيقةً.

11

قوله: {يَوْمَئِذٍ} : منصوبٌ ب «وَيْل» . والخبرُ «للمكذِّبين» . والفاءُ في «فوَيْلٌ» قال مكي: «جوابُ الجملةِ المتقدمة. وحَسُن ذلك لأن في الكلام معنى الشرطِ؛ لأنَّ المعنى: إذا كان ما ذُكِر فَوَيْلٌ» .

13

قوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل «يُقال» المقدرةِ مع قولِه: «هذه النارُ» أي: يقال لهم هذه النارُ يوم يُدَعُّون. ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه «يومَ تمور» أو مِنْ «يومئذٍ» قبلَه. والعامَّةُ على/ فتح الدال وتشديد العين مِنْ دَعَّه يَدُعُّه أي: دفعه في صدرهِ بعنفٍ وشدةٍ. قال الراغب: «وأصلُه أَنْ يُقالَ للعاثر: دَعْ دَعْ، كما يقال له: لعَا» وهذا بعيدٌ من معنى هذه اللفظةِ. وقرأ علي والسلمي وأبو رجاء وزيد بن علي بسكونِ الدالِ وتخفيفِ العينِ مفتوحةٍ من الدعاء أي: يُدْعَوْن إليها فيقال لهم: هلمُّوا فادْخُلوها. و «هذه النارُ» جملةٌ منصوبةٌ بقولٍ مضمرٍ أي: تقولُ لهم الخزنة: هذه النارُ.

15

قوله: {أَفَسِحْرٌ} : خبرٌ مقدمٌ. و «هذا» مبتدأٌ مؤخرٌ. ودَخَلَتِ الفاءُ. قال الزمخشري: «يعني كنتمْ تقولون للوحي: هذا سحرٌ، فسحر هذا، يريد: أهذا المصداقُ أيضاً سِحْرٌ، ودخَلَت الفاءُ لهذا المعنى» .

16

قوله: {سَوَآءٌ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه خبرٌ مبتدأ محذوفٍ أي: صبرُكم وتَرْكُه سواءٌ، قاله أبو البقاء. والثاني: أنه

مبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ أي: سواءٌ الصبرُ والجَزَعُ، قاله الشيخ: والأولُ أحسنُ لأنَّ جَعْلَ النكرةِ خبراً أَوْلَى مِنْ جَعْلِها مبتدأً وجَعلِ المعرفةِ خبراً. ونحا الزمخشريُّ مَنْحَى الوجهِ الثاني فقال: «سواء خبرُه محذوفٌ أي: سواءٌ عليكم الأمران: الصبرُ وعَدَمُه» .

17

قوله: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، أخبر تعالى بذلك بشارةً، ويجوزُ أَنْ يكونَ من جملة المقول للكفار زيادةً في غَمِّهم وتَحَسُّرهم.

18

قوله: {فَاكِهِينَ} : هذه قراءةُ العامَّةِ، نُصِبَ على الحال، والخبرُ الظرفُ. وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستترُ في الظرف. وقرأ خالد «فاكهون» بالرفع، فيجوزُ أن يكونَ الظرفُ لَغْواً متعلقاً بالخبر، ويجوزُ أن يكونَ خبراً آخر عند مَنْ يُجيز تَعْدادَ الخبرِ. وقُرىء «فَكِهين» مقصوراً. وسيأتي أنه قَرَأ به في المطففين في المتواتر حفصٌ عن عاصم. قوله: {بِمَآ آتَاهُمْ} يجوزُ أن تكونَ الباء على أصلها، وتكونَ «ما» حينئذٍ واقعةً على الفواكه التي في الجنة أي: مُتَلَذِّذين بفاكهة الجنة. ويجوز أن تكونَ بمعنى «في» أي: فيما آتاهم من الثمارِ وغيرِ ذلك. ويجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً أيضاً.

قوله: {وَوَقَاهُمْ} يجوزُ فيه أوجهٌ، أظهرها: أنَّه معطوفٌ على الصلة أي: فَكهين بإيتائِهم ربُّهم وبوقايتِه لهم عذابَ الجحيم. والثاني: أنَّ الجملةَ حالٌ، فتكونُ «قد» مقدرةً عند مَنْ يشترطُ اقترانَها بالماضي الواقعِ حالاً. والثالث: أَنْ يكونَ معطوفاً على «في جنات» ، قاله الزمخشريُّ، يعني فيكونُ مُخْبَراً به عن المتقين أيضاً. والعامَّةُ على تخفيفِ القاف من الوِقاية. وأبو حيوة بتشديدها.

19

قوله: {كُلُواْ} : على إضمارِ القولِ كقوله: «هذه النار» وشَتَّان ما بين القَوْلين. قوله: {هَنِيئَاً} قد تقدَّم القولُ فيه وفي «مريئاً» مُشْبَعاً في النساء. وقال الزمخشري هنا: «يُقال لهم: كُلوا واشربوا أَكْلاً وشُرْباً هنيئاً، أو طعاماً وشَراباً هَنيئاً، وهو الذي لا تَنْغيصَ فيه. ويجوز أَنْ يكونَ مثلُه في قوله: 4116 - هَنِيئاً مَرِيئاً غيرَ داءٍ مُخامِرٍ ... لِعَزَّةَ من أعراضِنا ما اسْتَحلَّتِ أعني صفةً اسْتُعْمِلَتْ استعمالَ المصدرِ القائم مقامَ الفعلِ مرتفعاً به» ما استحلَّت «كما يرتفع بالفعلِ كأنه قيل: هَنَأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ من أعراضنا، وكذلك معنى» هنيئاً «هنا: هَنَأَكم الأكلُ والشربُ، أو هَنَأَكم

ما كنتم تعملون، أي: جزاءُ ما كنتم تعملون، والباء مزيدةٌ كما في {وكفى بالله} [النساء: 45] والباءُ متعلقةٌ ب» كلوا واشربوا «إذا جَعَلْتَ الفاعلَ الأكلَ والشربَ» . قلت: وهذا مِنْ محاسنِ كلامِه. قال الشيخ: «أمَّا تجويزُه زيادةَ الباءِ فليسَتْ بمقيسةٍ في الفاعل إلاَّ في فاعلِ كفى على خلافٍ فيها، فتجويزُها هنا لا يَسُوغُ. وأمَّا قولُه: إنها تتعلَّقُ ب» كُلوا واشربوا «فلا يَصِحُّ إلاَّ على الإِعمال فهي تتعلَّقُ بأحدهما» . انتى وهذا قريبٌ.

20

قوله: {مُتَّكِئِينَ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه حالٌ من فاعلِ «كُلوا» الثاني: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ «آتاهم» . الثالث: أنَّه حالٌ من مفعولِ «وَقَاهم» . الرابع: أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الظرف. الخامس: أنه حالٌ من الضمير/ في «فاكهين» وأحسنُها أن يكونَ حالاً من ضميرِ الظرفِ لكونِه عمدةً. و «على سُرُر» متعلقٌ بمتكئين، وقراءةُ العامَّةِ بضم الراءِ الأولى. وأبو السَّمَّال بفتحِها. وقد تقدَّم أنها لغةٌ لكَلْب في المضعَّف يَفِرُّون من توالي ضمتين في المضعَّفِ. وقرأ عكرمة «بحورِ عينٍ» بإضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه على التأويل المشهور.

21

قوله: {والذين آمَنُواْ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مبتدأٌ، والخبرُ الجملةُ من قولِه: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} والذُّرِّيَّةُ هنا تَصْدُق على الآباء وعلى الأبناء أي: إنَّ المؤمنَ إذا كان عملُه أكبرَ أُلْحِقَ

ما كنتم تعملون، أي: جزاءُ ما كنتم تعملون، والباء مزيدةٌ كما في {وكفى بالله} [النساء: 45] والباءُ متعلقةٌ ب» كلوا واشربوا «إذا جَعَلْتَ الفاعلَ الأكلَ والشربَ» . قلت: وهذا مِنْ محاسنِ كلامِه. قال الشيخ: «أمَّا تجويزُه زيادةَ الباءِ فليسَتْ بمقيسةٍ في الفاعل إلاَّ في فاعلِ كفى على خلافٍ فيها، فتجويزُها هنا لا يَسُوغُ. وأمَّا قولُه: إنها تتعلَّقُ ب» كُلوا واشربوا «فلا يَصِحُّ إلاَّ على الإِعمال فهي تتعلَّقُ بأحدهما» . انتى وهذا قريبٌ.

20

قوله: {مُتَّكِئِينَ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه حالٌ من فاعلِ «كُلوا» الثاني: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ «آتاهم» . الثالث: أنَّه حالٌ من مفعولِ «وَقَاهم» . الرابع: أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الظرف. الخامس: أنه حالٌ من الضمير/ في «فاكهين» وأحسنُها أن يكونَ حالاً من ضميرِ الظرفِ لكونِه عمدةً. و «على سُرُر» متعلقٌ بمتكئين، وقراءةُ العامَّةِ بضم الراءِ الأولى. وأبو السَّمَّال بفتحِها. وقد تقدَّم أنها لغةٌ لكَلْب في المضعَّف يَفِرُّون من توالي ضمتين في المضعَّفِ. وقرأ عكرمة «بحورِ عينٍ» بإضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه على التأويل المشهور.

21

قوله: {والذين آمَنُواْ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مبتدأٌ، والخبرُ الجملةُ من قولِه: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} والذُّرِّيَّةُ هنا تَصْدُق على الآباء وعلى الأبناء أي: إنَّ المؤمنَ إذا كان عملُه أكبرَ أُلْحِقَ

به مَنْ دونَه في العمل، ابناً كان أو أباً، وهو منقولٌ عن ابن عباس وغيرِه. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ. قال أبو البقاء: «على تقدير وأكرَمْنا الذين آمنوا» . قلت: فيجوزُ أَنْ يريدَ أنه من باب الاشتغالِ وأنَّ قولَه: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} مُفَسِّر لذلك الفعلِ من حيث المعنى، وأَنْ يريدَ أنه مضمرٌ لدلالةِ السياقِ عليه، فلا تكونُ المسألةُ من الاشتغالِ في شيء. والثالث: أنه مجرورٌ عطفاً على «حورٍ عينٍ» . قال الزمخشري: «والذين آمنوا معطوفٌ على» حورٍ عينٍ «أي: قَرَنَّاهم بالحورِ وبالذين آمنوا أي: بالرُّفَقاءِ والجُلَساءِ منهم، كقوله: {إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] فيتمتَّعون تارةً بملاعبةِ الحُور، وتارةً بمؤانسةِ الإِخوانِ» . ثم قال الزمخشري: «ثم قال تعالى: {بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: بسببِ إيمانٍ عظيمٍ رفيعِ المحلِّ وهو إيمانُ الآباءِ أَلْحَقْنا بدَرَجَتِهم ذرِّيَّتَهم، وإنْ كانوا لا يَسْتَأهِلُونها تَفَضُّلاً عليهم» . قال الشيخ: «ولا يتخيَّلُ أحدٌ أنَّ» والذين آمنوا «معطوفٌ على» بحورٍ عينٍ «غيرُ هذا الرجلِ، وهو تخيُّلُ أعجميٍّ مُخالفٍ لِفَهْمِ العربيِّ القُحِّ ابنِ عباسٍ وغيرِه» . قلت: أمَّا ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شكَّ في حُسْنِه ونَضارَتِه، وليس في كلامِ العربيِّ القُحِّ ما يَدْفَعُه، بل لو عُرِض على ابنِ عباسٍ وغيرِه لأَعْجبهم. وأيُّ مانعٍ معنوي أو صناعي يمنعُه؟ . وقوله: {واتبعتهم} يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على الصلةِ، ويكونَ «والذين» مبتدأً، ويتعلقَ «بإيمان» بالاتِّباع بمعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى يُلْحق الأولادَ الصغارَ، وإن لم يَبْلغوا الإِيمانَ، بأحكام الآباءِ المؤمنين. وهذا المعنى منقولٌ عن ابنِ عباس والضحاك. ويجوزُ أَنْ يكونَ معترضاً بين المبتدأ والخبر، قاله الزمخشري. ويجوزُ أَنْ يتعلَّق «بإيمان» بألحَقْنا كما تقدَّم. فإنْ قيل: قولُه: «اتَّبَعتْهم ذُرِّيَّتَهم» يفيد فائدةَ قولِه: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . فالجوابُ أنَّ قولَه: «أَلْحَقْنا بهم» أي: في الدرجات والاتِّباعُ إنما هو في حُكْمِ الإِيمان، وإن لم يَبْلُغوه كما تقدَّم. وقرأ أبو عمرو و «وأَتْبَعْناهم» بإسناد الفعل إلى المتكلمٍ المعظِّمِ نفسَه. والباقون «واتَّبَعَتْهم» بإسنادِ الفعلِ إلى الذرِّيَّة وإلحاقِ تاء التأنيث. وقد تَقَدَّم الخلافُ في إفرادِ «ذُرِّيَّتهم» وجمعِه في سورة الأعرافِ محرراً بحمد الله تعالى. قوله: {أَلَتْنَاهُمْ} قرأ ابن كثير «أَلِتْناهم» بكسر اللام، والباقون بفتحِها. فأمَّا الأولى فَمِنْ أَلِتَ يَأْلَتُ بكسرِ العينِ في الماضي وفتحِها في المضارع كعَلِمَ يَعْلَمُ. وأمَّا الثانيةُ فتحتمل أَنْ تكونَ مِنْ أَلَتَ يَأْلِتُ كضَربَ يَضْرِبُ، وأَنْ تَكونَ مِنْ أَلات يُليت كأَماتَ يُميت، فَأَلَتْناهم كأَمَتْناهم.

وقرأ ابن هرمز «آلَتْناهم» بألفٍ بعد الهمزة، على وزنِ أَفْعَلْناهم. يقال: آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ. وعبد الله وأُبَيٌّ والأعمش وطلحة، وتُرْوى عن ابنِ كثير «لِتْناهم» بكسر اللام كبِعْناهم يُقال: لاتَه يَليته، كباعه يَبيعه. / وقرأ طلحة والأعمش أيضاً «لَتْناهم» بفتح اللام. قال سهل: «لا يجوز فتحُ اللامِ مِنْ غير ألفٍ بحالٍ» ولذلك أَنْكر «آلَتْناهم» بالمدِّ: وقال: «لا يَدُلُّ عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ» . وليس كما زعم؛ بل نَقَلَ أهلُ اللغةِ: آلَتَ يُؤْلِتُ. وقُرِىء «وَلَتْناهم» بالواو ك «وَعَدْناهم» نَقَلها هارون. قال ابن خالويه: «فيكونُ هذا الحرفُ مِنْ لاتَ يَليت، ووَلَتَ يَلِتَ، وأَلِتَ يَأْلَت، وأَلَت، وأَلات يُليت. وكلُّها بمعنى نَقَص. ويقال: أَلَتَ بمعنى غَلَّظ. وقام رجلٌ إلى عمر يَعِظُه فقال له رجل: لا تَأْلِتْ أميرَ المؤمنين أي: لا تُغْلِظْ عليه» . قلت: ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الأثرُ على حالِه، والمعنى: لا تُنْقِصْ أميرَ المؤمنين حَقَّه، لأنه إذا أَغْلَظَ له القولَ نَقَصَه حَقَّه. قوله: {مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} «مِنْ شيءٍ» مفعولٌ ثانٍ ل «أَلَتْناهم» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. والأُولى في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «شيء» لأنَّها في الأصلِ صفةٌ له، فلَمَّا قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ ب «أَلَتْناهم» وليس بظاهرٍ. وفي الضمير في «أَلَتْناهم» وجهان، أظهرهما: أنَّه عائدٌ على المؤمنين. والثاني: أنَّه عائد على أبنائهم. قيل: ويُقَوِّيه قولُه: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} .

23

قوله: {يَتَنَازَعُونَ} : في موضع نصبٍ على الحال مِنْ مفعول «أَمَدَدْناهم» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً. وتقدَّم الخلافُ في قولِه: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} في البقرة. والجملةُ في موضع نصبٍ صفةً ل «كأس» وقوله: «فيها» أي: في شُرْبِها.

24

والجملة مِنْ قولِه {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} صفةٌ ثانية لغِلمان.

25

قوله: {يَتَسَآءَلُونَ} : جملةٌ حاليةٌ مِنْ «بعضُهم» ومعنى يتنازَعون: أي يتعاطَوْنها بتجاذُبٍ لأنه كمالُ اللذة قال: 4117 - نازَعْتُه طَيِّبَ الراحِ الشَّمولِ وقد ... صاح الدَّجاجُ وحانَتْ وَقْعَةُ السَّاري

27

قوله: {وَوَقَانَا} : العامَّةُ على التخفيفِ، وأبو حيوةَ بالتشديد وقد تقدَّم. والسَّمُومُ في الأصل: الريحُ الحارةُ التي تَتَخَلَّلُ المَسامَّ، والجمع سَمائِم. وسُمَّ يومُنا أي: اشتدَّ حَرُّه. وقال ثعلب: «السَّمومُ شدَّةُ الحرِّ أو شدَّةُ البردِ في النهار» . وقال أبو عبيدة: «السَّمومُ بالنهار، وقد تكون بالليلِ، والحَرور بالليل، وقد تكون بالنهار، وقد

تُستعمل السَّموم في لَفْح البردِ، وهو في لَفْحِ الحرِّ والشمسِ أكثرُ» . وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في سورة فاطر.

28

قوله: {إِنَّهُ هُوَ البر} : قرأ نافع والكسائي بفتح الهمزة على التعليل، أي: لأنه. والباقون بالكسرِ على الاستئنافِ الذي فيه معنى العلةِ فيتحدُ معنى القراءتين.

29

قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مُقْسَمٌ به متوسطٌ بين اسم «ما» وخبرها، ويكونُ الجوابُ حينئذٍ محذوفاً لدلالة هذا المذكورِ عليه، التقدير: ونعمةِ ربِّك ما أنت بكاهنٍ ولا مجنونٍ. الثاني: أنَّ الباءَ في موضع نصبٍ على الحالِ، والعامل فيها «بكاهن» أو «مجنون» والتقدير: ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمةِ ربِّك، قاله أبو البقاء، وعلى هذا فهي حالٌ لازمةٌ؛ لأنه عليه السلام لا يُفارِقْ هذه الحال. الثالث: أنَّ الباءَ متعلقةٌ بما دَلَّ عليه الكلامُ، وهو اعتراضٌ بين اسم «ما» وخبرِها. والتقدير: ما أنت في حالِ إذكارِك بنعمةِ ربك بكاهنٍ ولا مجنون، قاله الحوفي. ويظهر وجهٌ رابعٌ: وهو أَنْ تكونَ الباء سببيةً، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمضمون الجملةِ المنفيةِ، وهذا هو مقصودُ الآيةِ الكريمةِ. والمعنى: انتفى عنك الكهانةُ والجنونُ بسبب نعمةِ اللَّهِ عليك، كما تقول: ما أنا بمُعْسِر بحمد الله وغَنائه.

30

قوله: {أَمْ يَقُولُونَ} : قال الثعلبي: «قال الخليل:

كلُّ ما في سورة الطور/ مِنْ» أم «فاستفهامٌ وليس بعطفٍ» . وقال أبو البقاء: «أم في هذه الآياتِ منقطعةٌ» . قلت: وتقدَّم لك الخلافُ في المنقطعةِ: هل تتقدَّرُ ب بل وحدَها، أو ب بل والهمزةِ، أو بالهمزةِ وحدَها، والصحيحُ الثاني. وقال مجاهد في قوله: «أم تأمرهم» تقديره: بل تأمرهم. وقرأ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونُ} بدلَ «أم هم» . قوله: {نَّتَرَبَّصُ} في موضعِ رفعٍ صفةً لشاعر. والعامَّةُ على «نتربَّصُ» بإسنادِ الفعل لجماعة المتكلمين «ريبَ» بالنصب. وزيدُ بن علي «يتربَّص» بالياء مِنْ تحتُ على البناء للمفعولِ «ريبُ» بالرفع. وريبُ المنونِ: حوادثُ الدهرِ وتقلُّباتُ الزمانِ لأنها لا تدوم على حالٍ كالرَّيْبِ وهو الشَّكُّ، فإنه لا يبقى، بل هو متزلزِلٌ قال الشاعر: 4118 - تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المنونِ لَعَلَّها ... تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها وقال أبو ذُؤَيْب: 4119 - أمِن المَنونِ ورَيْبِه تتَوَجَّعُ ... والدهرُ ليس بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ والمنون في الأصل: الدهرُ. وقال الراغب: «المنون المنيَّة، لأنها

تَنْقُصُ العددَ وتَقْطَعُ المَدَدَ» ، وجَعَل مِنْ ذلك قولَ: {أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8] أي: غيرُ مقطوع. وقال الزمخشري: «وهو في الأصلِ فَعُول مِنْ منَّه إذا قطعه لأنَّ الموتَ قَطوعٌ ولذلك سُمِّيت شَعُوب» . و «ريبَ» مفعولٌ به أي: نَنْتَظِرُ به حوادثَ الدهرِ أو المنيَّة.

34

قوله: {بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} : العامَّةُ على تنوين «حديث» ووصفِه بمثله. والجحدريُّ وأبو السَّمَّال «بحديثِ مثلِه» بإضافة «حديث» إلى «مثلِه» على حذفِ موصوفٍ أي: بحديثِ رجلٍ مثلِه مِنْ جنسه.

35

قوله: {مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} : يجوزُ أَنْ تكونَ «مِنْ» لابتداءِ الغاية على معنى: أم خُلِقوا مِنْ غير شيء حيّ كالجماد، فهم لا يُؤْمَرون ولا يُنْهَوْن كما الجماداتُ. وقيل: هي للسببية على معنى: مِنْ غيرِ علةٍ ولا لغايةِ ثوابٍ ولا عقابٍ.

37

قوله: {المصيطرون} : المُسَيْطِرُ: القاهرُ الغالِبُ. مِنْ سَيْطَرَ عليه إذا راقَبَه وحَفِظه أو قَهَرَه. ولم يَأْتِ على مُفَيْعِل إلاَّ خمسةُ ألفاظٍ، أربعةٌ صفةٌ اسمُ فاعلٍ نحو: مُهَيْمِن ومُبَيْقِر ومُسَيْطِر ومُبَيطِر، وواحدٌ اسمُ جبلٍ وهو المُجَيْمِر. قال امرؤ القيس:

4120 - كأن ذُرا رأسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً ... من السيلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ والعامَّةُ «المُصَيْطِرون» بصادٍ خالصةٍ مِنْ غيرِ إشمامِها زاياً لأجلِ الطاءِ، لِما تقدَّم في {صِرَاطَ} . وقرأ بالسين الخالصة التي هي الأصلُ هشام وقنبل من غير خلافٍ عنهما، وحفص بخلافٍ عنه. وقرأ خلاَّد بصادٍ مُشَمَّةٍ زاياً من غير خلافٍ عنه. وقرأ خلاَّد بالوجهين، أعني كخَلَفٍ وكالعامَّةِ. وتوجيهُ هذه القراءتِ كلِّها واضحةٌ مِمَّا تقدَّم لك أولَ الفاتحة.

38

قوله: {يَسْتَمِعُونَ} : صفةٌ لسُلَّم. «وفيه» على بابِها من الظرفيةِ. وقيل: هي بمعنى «على» ولا حاجةَ إليه. وقَدَّره الزمخشري متعلقاً بحالٍ محذوفة تقديره: صاعدِين فيه. ومفعول «يَسْتَمعون» محذوفٌ، فقدَّره الزمخشري: «يَسْتمعون ما يُوحي إلى الملائكةِ مِنْ عِلْمِ الغيب» . وقَدَّرَهُ غيرُه: يَسْتمعون الخبرَ بصحة ما يَدَّعُون. والظاهر أنه لا يُقدَّر له مفعولٌ بل المعنى: يُوْفِعون الاستماع.

42

قوله: {فالذين كَفَرُواْ} : هذا مِنْ وقوعِ الظاهر موقعَ المضمر تنبيهاً على اتِّصافهِم بهذه الصفةِ القبيحة. والأَصلُ: أم يريدون كَيْداً فهم المَكيدون، أو حَكَمَ على جنسٍ هم نوعٌ منه فيندرجون اندراجاً أوَّلياً لتوغُّلهم في هذه الصفةِ.

44

قوله: {وَإِن يَرَوْاْ} : «إنْ» هذه شرطيةٌ على بابِها. وقيل: هي بمعنى «لو» وليس بشيءٍ. قوله: {سَحَابٌ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا سحابٌ. والجملةُ نصبٌ بالقول.

45

قوله: {يُلاَقُواْ يَوْمَهُمْ} : «يَوْمَهم» مفعولٌ به لا ظرفٌ. وقرأ أبو حيوةَ «يَلْقَوْا» مضارعَ لَقِي. ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً، و «يَوْمَهم» ظرفٌ، أي: يُلاقُوا أو يَلْقَوا جزاءَ أعمالِهم في يَوْمِهم. / قوله: {يُصْعَقُونَ} قرأ ابن عامر وعاصم بضم الياء مبنياً للمفعول. وباقي السبعةِ بفتحها مبنياً للفاعل. وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وكسر العين. فأمَّا الأُولى فيُحتمل أن تكونَ مِنْ صُعِقَ فهو مَصْعُوق مبنياً للمفعولِ، وهو ثلاثي، حكاه الأخفش، فيكونُ مثلَ سُعِدوا، وأَنْ يكونَ مِنْ أَصْعَقَ رباعياً. يقال: أَصْعَق فهو مُصْعَق، قاله الفارسيُّ. والمعنى: أنَّ غيرَهم أَصْعَقَهم. وقراءةُ السلمي تُؤْذِنُ أنَّ أَفْعَلَ بمعنى فَعَل. وقوله: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي} بدلٌ مِنْ «يومَهم» .

47

قوله: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} : يجوزُ أَنْ يكون مِنْ إيقاعِ الظاهر موقعَ المضمرِ، وأَنْ لا يكونَ كما تقدَّم فيما قبلُ.

48

قوله: {بِأَعْيُنِنَا} : قراءةُ العامة بالفك. وأبو السَّمَّال بإدغامِ النونِ فيما بعدَها. وناسَبَ جمعَ الضميرِ هنا جمعُ العين. ألا تراه أفردَ حيث أفردَها في قوله: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] قاله الزمخشري.

49

قوله: {وَإِدْبَارَ النجوم} : العامَّةُ على كسر الهمزة مصدراً بخلافِ التي في آخر قاف كما تقدَّم؛ فإن الفتحَ هناك لائقٌ لأنه يُراد به الجمعُ لدُبْرِ السجود أي: أعقابِه. على أنه قد قرأ سالم الجعدي ويعقوب والمنهال بن عمرو بفتحِها هنا أي: أعقابَ النجوم. وإدْبارُها: إذا غَرَبَتْ. والله أعلم.

النجم

قوله: {إِذَا هوى} : في العاملِ في هذا الظرفِ أوجهٌ، وعلى كلٍ فيها إشكال. أحدُ الأوجهِ: أنه منصوبٌ بفعل القسمِ المحذوفِ تقديرُه: أُقْسِمُ بالنجم وقتَ هُوِيِّه، قاله أبو البقاء وغيرُه. وهو مُشْكِلٌ فإن فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ، والإِنشاءُ حالٌ، و «إذا» لِما يُسْتقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ الثاني: أنَّ العاملَ فيه مقدرٌ على أنَّه حالٌ من النجم أي: أُقْسِم به حالَ كونِه مستقراً في زمانِ هُوِيِّه. وهو مُشْكِلٌ مِنْ وجهين، أحدهما: أن النجم جثةٌ، والزمانُ لا يكونُ حالاً عنها كما لا يكونُ خبراً عنها. والثاني: أنَّ «إذا» للمستقبلِ فكيف يكونُ حالاً؟ وقد أُجيب عن الأول: بأنَّ المرادَ بالنجم القطعةُ من القرآن، والقرآنُ قد نَزَلَ مُنَجَّماً في عشرين سنةً. وهذا تفسيرُ ابن عباس وغيرِه. وعن الثاني: بأنها حالٌ مقدرةٌ. الثالث: أنَّ العاملَ فيه نفسُ النجم إذا أُريد به القرآنُ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القرآنَ لا يَعْمل في الظرف إذا أُريد به أنه اسمٌ لهذا الكتابِ المخصوص. وقد يُقال: إن النجمَ بمعنى المُنَجَّم كأنه قيل: والقرآنِ المنجَّمِ في هذا الوقتِ. وهذا البحثُ وارِدٌ في مواضعَ منها {

والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] وما بعدَه، وقولُه: {والليل إِذَا يغشى} [الليل: 1] ، {والضحى والليل إِذَا سجى} [الضحى: 1] . وسيأتي في الشمس بحثٌ أخصُّ مِنْ هذا تقف عليه إنْ شاء الله تعالى. وقيل: المراد بالنجم هنا الجنسُ وأُنْشد: 4121 - فباتَتْ تَعُدُّ النجمَ في مُسْتَحيرةٍ ... سريعٍ بأيدي الآكلين جمودُها أي: تَعُدُّ النجومَ، وقيل: بل المرادُ نجمٌ معين. فقيل: الثُّريَّا. وقيل: الشِّعْرَى لذِكْرِها في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} [النجم: 49] . وقيل: الزُّهْرة لأنها كانت تُعْبَدُ. والصحيح أنها الثريَّا، لأنَّ هذا صار عَلَماً بالغَلَبة. ومنه قولُ العرب: «إذا طَلَعَ النجمُ عِشاءً ابتغى الراعي كِساءً» . وقالوا أيضاً: «طَلَعَ النجمُ غُدْيَة فابتغى الراعي كُسْيَة» . وهَوَى يَهْوي هُوِيّاً أي: سقط من علو، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً أي: صَبَا. وقال الراغب: «الهُوِيُّ سقوطٌ مِنْ عُلُوّ» . ثم قال: والهُوِيُّ: ذهابٌ في انحدارٍ. والهوى: ذهابٌ في ارتفاع وأَنْشد: / 4122 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجدَلِ

وقيل: هَوَى في اللغة خَرَقَ الهوى، ومَقْصَدُه السُّفْلُ، أو مصيرُه إليه وإن لم يَقْصِدْه. قال: 4123 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... هُوِيَّ الدَّلْوِ أسْلَمَها الرِّشاءُ وقد تقدَّم الكلامُ في هذا مُشْبَعاً.

2

وقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} : هذا جوابُ القسم. و «عن الهوى» أي ما يَصْدُرُ عن الهوى نُطْقُه ف «عن» على بابِها. وقيل: هي بمعنى الباء. وفي فاعِل «يَنْطِق» وجهان، أحدُهما: هو ضميرُ النبيِّ عليه السلام، وهو الظاهرُ. والثاني: أنه ضميرُ القرآنِ كقولِه: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] .

4

قوله: {إِنْ هُوَ} : أي: إنْ الذي يَنْطِق به، أو إنْ القرآنُ. قوله: {يوحى} صفةٌ ل «وَحْيٌ» . وفائدةُ المجيْءِ بهذا الوصفِ أنه

يَنْفي المجازَ أي: هو وحيٌ حقيقةً لا بمجردِ تسميتِه، كما تقول: هذا قولٌ يقال. وقيل: تقديرُه: يُوحى إليه، وفيه مزيدُ فائدةٍ.

5

قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ} : يجوز أَنْ تكونَ هذه الهاءُ للرسول، وهو الظاهرُ، فيكونَ المفعولُ الثاني محذوفاً أي: عَلَّم الرسولَ الوحيَ أي: المُوْحى، وأن تكونَ للقرآنِ والوحيِ، فيكونَ المفعولُ الأولُ محذوفاً أي: عَلَّمه الرسولَ. وشديدُ القُوى: قيل: جبريلُ وهو الظاهرُ. وقيل: الباري تعالى لقوله: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1-2] وشديدُ القُوى: من إضافة الصفةِ المشبهة لمرفوعِها فهي غيرُ حقيقية.

6

قوله: {مِرَّةٍ} : المِرَّةُ: القوةُ والشدةُ. ومنه «أَمْرَرْتُ الحَبْلَ» إذا أَحْكَمْتَ فَتْلَه، والمَرِير: الحَبْلُ، وكذلك المَمَرُّ، كأنه كُرِّر فَتْلُه مرةً بعد أخرى. وقال قطرب: «العربُ تقول لكلِّ جَزْلِ الرأي حصيفِ العقلِ: ذو مِرَّة» وأنشد: 4124 - وإني لَذو مِرَّةٍ مُرَّةٍ ... إذا رَكِبَتْ خالةٌ خالَها

7

قوله: {وَهُوَ بالأفق} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأٌ، و «بالأفق» خبرُه، والضميرُ لِجبريلَ أو للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. ثم في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنَّ هذه الجملةَ حالٌ مِنْ فاعل «استوى» قاله مكي. والثاني: أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك. والثاني:

أنَّ «هو» معطوفٌ على الضميرِ المستترِ في «استوى» . وضميرُ «استوى» و «هو» : إمَّا أن يكونا لله تعالى، وهو قولُ الحسنِ. وقيل: ضميرُ «استوى» لجبريل و «هو» لمحمد عليه السلام. وقيل: بالعكس. وهذا الوجهُ الثاني إنما يتمشَّى على قول الكوفيين؛ لأن فيه العطفَ على الضمير المرفوع المتصل مِنْ غيرِ تأكيدٍ ولا فاصلٍ. وهذا الوجهُ منقولٌ عن الفراء والطبريِّ.

8

قوله: {فتدلى} : التدلِّي: الامتداد من عُلُوٍّ إلى سُفْل، فَيُستعمل في القُرْب من العلوِّ، قاله الفراء وابن الأعرابي. وقال الهُذلي: 4125 - تَدَلَّى علينا وهو زَرْقُ حَمامةٍ ... له طِحْلِبٌ في مُنْتهى القَيْظِ هامِدُ وقال آخر:

4126 - تَدَلَّى عليها بين سِبٍّ وخَيْطَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويقال: «هو كالقِرِلَّى، إن رأى خيراً تدلَّى، وإن لم يَرَه تولَّى» . واستوى قال مكي: «يقع للواحد، وأكثرُ ما يقع من اثنين، ولذلك جَعَل الفراء الضميرَ لاثنين» .

9

قوله: {فَكَانَ قَابَ} : ههنا مضافاتٌ محذوفاتٌ يُضْطَرُّ لتقديرِها أي: فكان مقدارُ مسافةِ قُرْبِه منه مثلَ مقدارِ مسافةِ قابٍ. وقد فَعَلَ أبو علي هذا في قولِ الشاعر: 4127 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد جَعَلَتْني مِنْ حَزِيْمَةَ إصبعا أي: ذا مقدارِ مسافةِ إصبع. والقابُ: القَدْرُ. تقول: هذا قابُ هذا أي: قَدْرُه. ومثلُه: القِيبُ والقادُ والقِيس قال الزمخشري: «وقد جاء التقديرُ بالقوس والرُّمْح والسَّوْط والذِّراع والباعِ والخُطْوة والشُّبر والفِتْر والإِصبع، ومنه: لا صَلاةَ إلى أن ترتفعَ الشمسُ مِقدار رُمْحين. وفي

الحديث:» لَقابُ قوس أحدِكم من الجنة وموضعُ قِدِّه خيرٌ من الدنيا وما فيها «، والقِدُّ السَّوْط. وألفُ» قاب «عن واوٍ. نصَّ عليه أبو البقاء. وأمَّا» قِيْبٌ «فلا دَلالة فيه على كونِها ياءً؛ لأنَّ الواوَ إذا انكسر ما قبلها قُلِبت ياءً كدِيْمة وقِيمة، وذكره الراغب أيضاً في مادة» قوب «إلاَّ أنه قال في تفسيره:» هو ما بين المَقْبَضَ والسِّيَةِ من القوس «فعلى هذا يكون مقدارَ نصفِ القوس؛ لأن المَقْبَضَ في نصفِه. والسِّيَةُ هي الفُرْضَة التي يُخَطُّ فيها الوَتَرُ. وفيما قاله نظرٌ لا يخفى. ويُرْوى عن مجاهد: أنه من الوَتَر إلى مَقْبَضِ القوس في وسَطه. وقيل: إنَّ القوسَ ذراعٌ يُقاس به، نُقل ذلك عن ابن عباس وأنه لغةٌ للحجازيين. والقَوْسُ معروفةٌ، وهي مؤنثةٌ، وشَذُّوا في تصغيرِها فقالوا: قُوَيْس من غيرِ تأنيثٍ كعُرَيْبٍ وحُرَيْبٍ، ويُجْمع على قِسِيّ، وهو مَقْلوب مِنْ قُوُوْس، ولتصريفِه موضعٌ آخر. / قوله: {أَوْ أدنى} هي كقوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] لأنَّ المعنى: فكان بأحدِ هذين المقدارَيْنِ في رَأْيِ الرائي، أي: لتقارُبِ ما بينهما يَشُكُّ الرائي في ذلك. وأَدْنى أفعلُ تفضيلٍ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ أي: أو أدنى مِن قاب قوسين.

10

قوله: {فأوحى} : أي اللَّهُ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ

لعدم اللَّبْس. وقوله: «ما أَوْحى» أُبْهِم تعظيماً له ورَفْعاً مِنْ شأنِه، وبه استدلَّ جمال الدين ابن مالك على أنه لا يُشْتَرَطُ في الصلة أَنْ تكونَ معهودة عند المخاطبِ. ومثلُه {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] ، إلاَّ أنَّ هذا الشرطَ هو المشهورُ عند النَّحْوِيين.

11

قوله: {مَا كَذَبَ} : قرأ هشامٌ بتشديدِ الدال. والباقون بتخفيفها. فأمَّا [القراءةُ] الأولى فإنَّ معناها أنَّ ما رآه محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم بعينِه صَدَّقه قلبُه، ولم يُنْكِرْه أي: لم يَقُلْ له: لم أَعْرِفْك و «ما» مفعولٌ به موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ. ففاعِلُ «رأى» ضميرٌ يعودُ على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. وأمَّا قراءةُ التخفيفِ فقيل فيها كذلك. و «كذَبَ» يتعدى بنفسِه. وقيل: هو على إسقاطِ الخافضِ: أي: فيما رآه، قاله مكي وغيرُه. وجوَّز في «ما» وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ بمعنى الذي. والثاني: أَنْ تكونَ مصدريةً، ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ «رأى» ضميراً يعودُ على الفؤادِ أي: لم يَشُكَّ قلبُه فيما رآه بعينِه.

12

قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ} : قرأ الأخَوان «أَفَتَمْرُوْنَه» بفتح التاء وسكون الميمِ، والباقون «تُمارونه» . وعبد الله بن مسعود

والشعبي «أَفَتُمْرُوْنَه» بضمِّ التاءِ وسكون الميم. فأمَّا الأولى ففيها وجهان، أحدهما: أنها مِنْ مَرَيْتُه حَقَّهُ إذا غَلَبْتَه وجَحَدْتَه إياه. وعُدِّي ب «على» لتضمُّنِه معنى الغَلَبة. وأُنشِد: 4128 - لَئِن هَجَرْتَ أخا صدقٍ ومَكْرُمَةٍ ... لقد مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْرِيكا لأنه إذا جَحَده حقَّه فقد غَلَبه عليه. والثاني: أنها مِنْ مَراه على كذا أي: غَلَبه عليه فهو مِن المِراء وهو الجِدالُ. وأمَّا الثانيةُ فهي مِنْ ماراه يُماريه مُراءاة أي: جادَلَه. واشتقاقُه مِنْ مَرْي الناقةِ؛ لأنَّ كلَّ واحد من المتجادِلِيْن يَمْري ما عند صاحبه. وكان مِنْ حَقِّه أن يتعدَّى ب «في» كقولك: جادَلْتُه في كذا، وإنما ضُمِّن معنى الغَلَبة فعُدِّيَ تَعْدِيَتَها. وأمَّا قراءةُ عبد الله فمِنْ أمراه رباعياً.

13

قوله: {نَزْلَةً أخرى} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها منصوبةٌ على الظرفِ. قال الزمخشري: «نَصْبَ الظرفِ الذي هو مَرَّة؛ لأنَّ الفَعْلَةَ اسمٌ للمَرَّة من الفعلِ فكانَتْ في حُكْمها» قلت: وهذا ليس مذهبَ البصريين، وإنما هو مذهبُ الفرَّاء، نقله عنه مكي. الثاني: أنها منصوبةٌ نَصْبَ المصدرِ الواقعِ موقعَ الحالِ. قال مكي: «

أي: رآه نازلاً نَزْلة أخرى» ، وإليه ذهب الحوفيُّ وابنُ عطية. والثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد، فقدَّره أبو البقاء: «مرةً أخرى أو رُؤْيةٌ أخرى» . قلت: وفي تأويلِ «نَزْلَةً» برؤية نظرٌ. و «أخرى» تَدُلُّ على سَبْقِ رؤيةٍ قبلها.

14

قوله: {عِندَ سِدْرَةِ} : ظرفٌ لِرَآه و «عندها جنةُ» جملةٌ ابتدائيةٌ في موضعِ الحالِ. والأحسنُ أَنْ يكونَ الحالُ الظرفَ، و «جَنَّةُ المَأْوى» فاعلٌ به. والعامَّةُ على «جنَّة» اسمٌ مرفوعٌ. وقرأ أمير المؤمنين وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر بن حبيش ومحمد بن كعب «جَنَّة» فعلاً ماضياً. والهاء ضميرُ المفعول يعود للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم. والمَأْوَى فاعلٌ بمعنى: سَتَره إيواءُ اللَّهِ تعالى. وقيل: المعنى: ضَمَّه المبيتُ والليلُ. وقيل: جَنَّه بظلالِه ودَخَلَ فيه. وقد رَدَّت عائشةُ رضي الله عنها هذه القراءةَ وتبعها جماعةٌ وقالوا: «أجَنَّ اللَّهُ مَنْ قرأها» ، وإذا ثبتت قراءةً عن مثلِ هؤلاء فلا سبيلَ إلى رَدِّها، ولكنِّ المستعملَ إنما/ هو أَجَنَّه رباعياً، فإن استعمل ثلاثياً تَعَدَّى ب «على» كقولِه {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} [الأنعام: 76] . وقال أبو البقاء: «وهو شاذٌّ والمستعملُ أجنَّه» . وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في الأنعام. و «إذ يَغْشَى» منصوبٌ ب رآه. وقولُه: «ما يَغْشَى» كقولِه: {مَآ أوحى} [النجم: 10] .

18

قوله: {الكبرى} فيه وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّ «الكبرى» مفعولُ رأى، و {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} حالٌ مقدمةٌ. والتقدير: لقد رأى الآياتِ الكبرى من آياتِ ربه. والثاني: أنَّ {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} وهو مفعولُ الرؤية والكُبْرى صفةٌ لآيات ربِّه. وهذا الجمعُ يجوزُ وَصْفُه بوَصْف المؤنثةِ الواحدةِ، وحَسَّنه هنا كونُه فاصلةً. وقد تقدَّم مِثْلُه في طه [الآية: 23] كقوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى}

19

قوله: {اللات} : اسمُ صَنَمٍ. قيل: كان لثَقيفِ بالطائف، قاله: قتادة. وقيل: بنخلة. وقيل: بعُكاظ. ورَجَّح ابنُ عطيةً الأولَ بقولِ الشاعر: 4129 - وفَرَّتْ ثَقِيْفٌ إلى لاتِها ... بمُنْقَلَبِ الخائبِ الخاسرِ والألف واللام في «اللات» زائدةٌ لازمةٌ. فأمَّا قولُه: «إلى لاتِها» فَحَذَفَ للإِضافة. وهل هي والعُزَّى عَلَمان بالوَضْع، أو صفتان غالبتان؟ خلافٌ ويَتَرَتَّبُ على ذلك جوازُ حَذْفِ أل وعدمُه. فإنْ قلنا: إنهما ليسا وصفَيْن في الأصلِ فلا تُحْذَفُ منهما أل. وإنْ قلنا: إنهما صفتان، وإنَّ أل لِلَمْحِ الصفةِ جاز، وبالتقديرَيْن فأل زائدةٌ. وقال أبو البقاء: «وقيل: هما صفتان غالبتان مثلَ: الحارث والعباس فلا تكون أل زائدة» انتهى.

وهو غَلَطٌ لأن التي لِلَمْحِ الصفةِ منصوصٌ على زيادِتها، بمعنى أنها لم تؤثِّرْ تعريفاً. واخْتُلِف في تاء «اللات» فقيل: أصلٌ، وأصلُه مِنْ لات يليتُ فألفُها عن ياءٍ، فإنَّ مادةَ ل ي ت موجودةٌ. وقيل: زائدة، وهي مِنْ لَوَى يَلْوي لأنهم كانوا يَلْوُوْن أعناقَهم إليها، أو يَلْتَوون أي: يَعْتكِفُون عليها، وأصلُها لَوَيَة فحُذِفت لأمُها، فألفُها على هذا مِنْ واوٍ. وقد اختلف القراءُ في الوقف على تائِها. فوقف الكسائيُّ عليها بالهاء والباقون بالتاء، وهو مبنيُّ على القولَيْن المتقدمَيْن: فَمَنْ اعتقدَ تاءَها أصليةً أقَرَّها في الوقف كتاء بَيْت، ومَنْ اعتقد زيادتَها وَقَف عليها هاءً. والعامَّةُ على تخفيفِ تائِها. وقرأ ابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو الجوزاء وأبو صالح وابن كثير في روايةٍ بتشديدِ التاء. وقيل: هو رجلٌ كان يَلُتُّ السَّوِيْق ويُطْعِمُ الحاجَّ، فهو اسمُ فاعلٍ في الأصل غَلَبَ على هذا الرجلِ، وكان يجلسُ عند حَجَرٍ، فلما مات سُمِّي الحَجَرُ باسمِه وعُبِدَ مِنْ دون الله تعالى. والعُزَّى فُعْلى من العِزِّ، وهي تأنيثُ الأَعَزِّ كالفُضْلى، والأفضل، وهي اسمُ صنمٍ. وقيل: شجرةٌ كانت تُعْبَدُ.

20

قوله: {وَمَنَاةَ} : قرأ ابن كثير «مَناءَة» بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألف، والباقون بألفٍ وحدَها، وهي صخرةٌ كانت تُعْبَدُ من

دونِ اللَّه. فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فاشتقاقُها من النَّوْء، وهو المطرُ لأنهم يَسْتَمطرون عندها الأَنْواء، ووزنُها حينئذٍ مَفْعَلَة فألفُها عن واوٍ، وهمزتُها أصليةٌ، وميمُها زائدةٌ. وأنشدوا على ذلك: 4130 - ألا هل أَتَى تَيْمَ بنَ عبدِ مَناءة ... علَى النَّأْيِ فيما بيننا ابنُ تميمِ وقد أَنْكر أبو عبيد قراءةَ ابن كثير، وقال: «لم أسمع الهمز» . قلت: قد سمعه غيرُه، والبيتُ حُجَّةٌ عليه. وأمَّا قراءةُ العامَّة فاشتقاقُها مِنْ مَنى يَمْني أي: صبَّ؛ لأن دماءَ النَّسائِكِ كانت تُصَبُّ عندها، وأنشدوا لجرير: 4131 - أزيدَ مَناةَ تُوْعِدُ يا بنَ تَيْمٍ ... تَأَمَّلْ أين تاهَ بك الوعيدُ وقال أبو البقاء: «وألفه من ياءٍ لقولِك: مَنَى يَمْني إذا قدَّر، ويجوز أَنْ تكونَ من الواو، ومنه مَنَوان» فوزْنُها على قراءة القصر فَعْلة. «والأُخْرى» صفةٌ لمَناة. قال أبو البقاء: «والأُخْرى توكيدٌ؛ لأنَّ الثالثةَ لا تكونُ إلاَّ أُخرَى» . وقال الزمخشري: «والأُخْرى ذَمٌ وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ، كقولِه: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 38] أي: وُضَعاؤُهم

لأَشْرافِهم، ويجوزُ أَنْ تكونَ الأَوَّليةُ والتقدمُ عندهم لِلاَّت والعُزَّى» . انتهى. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الأخرى إنما تدلُّ على الغَيْرِيَّة وليس فيها تَعَرُّضٌ لمَدْح ولا ذَمٍّ، فإن جاء شيءٌ مِنْ هذا فلقرينةٍ خارجيةٍ. وقيل: الأُخْرى صفةٌّ للعُزَّى؛ لأنَّ الثانيةَ أُخْرى بالنسبة إلى الأُوْلى. وقال الحسين ابن الفضل: «فيه تقديمٌ وتأخيرٌ» أي: العُزَّى الأخرى ومناةَ الثالثة، ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ الأصلَ عدمُه. و «أرأيت» بمعنى أَخْبِرْني فيتعدَّى لاثنين، أوَّلُهما: «اللات وما عُطِف عليها. والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه:» أَلكُمُ الذَّكَرَ «فإنْ قيل: لم يَعُدْ من هذه الجملةِ ضميرٌ على المفعول الأولِ. فالجوابُ: أنَّ قولَه:» وله الأنثى «في قوةِ» وله هذه الأصنامُ «وإن كان أصلُ التركيبِ: ألكم الذَّكَر وله هُنَّ، أي: تلك الأصنامُ، وإنما أُوْثِرَ هذا الاسمُ الظاهرُ لوقوعِه رَأْسَ فاصلةٍ. / وقد جَعَلَ الزجَّاجُ المفعولَ الثاني محذوفاً فإنَّه قال:» وجهُ تَلْفيقِ هذه الآيةِ مع ما قبلَها فيقول: أَخْبِروني عن آلهتِكم هل لها شيءٌ من القدرةِ والعظمة التي وُصِفَ بها ربُّ العزَّةُ في الآي السالفة «انتهى. فعلى هذا يكونُ قولُه:» ألكم الذَّكَرُ «متعلقاً بما قبلَه من حيث المعنى، لا من حيث الإِعرابُ. وجَعَل ابنُ عطية الرؤية هنا بَصَريةً فقال:» وهي من رؤيةِ العين؛ لأنَّه أحال على أَجْرام مرئيةٍ، ولو كانَتْ «أَرَأَيْتَ» التي هي استفتاءٌ لم تَتَعَدَّ «وهذا كلامٌ مُثْبَجٌ، وقد تقدَّم لك الكلامُ عليها مُشْبَعاً في الأنعام وغيرها.

22

قوله: {ضيزى} : قرأ ابنُ كثير «ضِئْزَى» بهمزةٍ ساكنةٍ، والباقون بياءٍ مكانَها. وزيدُ علي «ضَيْزَى» بفتح الضادِ والياءِ الساكنة. فأمَّا قراءةُ العامَّةِ فيُحْتمل أَنْ تكونَ مِنْ ضازه يَضَيزه إذا ضامه وجارَ عليه. فمعنى ضِيْزَى أي: جائرة. قال الشاعر: 4132 - ضازَتْ بنو أُسْدٍ بحُكْمِهِمُ ... إذ يَجْعلون الرأسَ كالذَّنَبِ وعلى هذا فتحتملُ وجهين، أحدُهما: أَنْ تكونَ صفةً على فُعْلى بضم الفاءِ، وإنما كُسِرت الفاءُ لتصِحَّ الياءُ كبِيْض. فإنْ قيل: وأيُّ فالجوابُ أن سيبويه حكى أنه لم يَرِدْ في الصفاتِ فِعْلَى بكسر الفاء إنما وَرَدَ بضمِّها نحو: حُبْلى وأُنْثى ورُبَّى وما أشبهه. إلاَّ أنه قد حَكى غيرُه في الصفات ذلك، حكى ثعلب: «مِشْية حِيْكى» ، ورجلٌ كِيْصَى. وحكى غيرُه: أمرأةٌ عِزْهى، وامرأة سِعْلى، وهذا لا يُنْقَضُ لأن

سيبويه يقول: حِيْكى وكِيْصى كقولِه في «ضيزَى» لتَصِحَّ الياءُ، وأما عِزْهَى وسِعْلى فالمشهورُ فيهما: سِعْلاة وعِزْهاة. والوجه الثاني: أَنْ تكونَ مصدراً كذِكْرى، قال الكسائي: يقال: ضازَ يَضيز ضِيْزَى، كذَكَر يَذْكُر ذِكْرى. ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ ضَأَزَه بالهمز كقراءةِ ابن كثير، إلاَّ أنه خُفِّفَ همزُها، وإن لم يكنْ من أصولِ القُرَّاءِ كلِّهم إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ ياءً لكنها لغةٌ التُزِمَتْ فقرؤُوا بها، ومعنى ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز: نَقَصه ظُلماً وجَوْراً، وهو قريبٌ من الأول. ومِمَّن جَوَّز أَنْ تكونَ الياءُ بدلاً مِنْ همزة أبو عبيد، وأَنْ يكونَ أصلُها ضُوْزَى بالواوِ لأنه سُمِع ضازَه يَضُوْزُه ضُوْزى، وضازه يَضِيْزُه ضِيْزى، وضَأَزه يَضْأَزُه ضَأْزاً، حكى ذلك كلَّه الكسائيُّ، وحكى أبو عبيد ضِزْتُه وضُزْته بكسرِ الفاء وضمِّها. وكُسِرت الضادُ مِنْ ضُوْزَى لأنَّ الضمةَ ثقيلةٌ مع الواو، وفعلوا ذلك ليَتَوَصَّلوا به إلى قَلْب الواوِ ياءً، وأنشد الأخفش على لغةِ الهمز: 4133 - فإن تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقِصْك وإن تَغِبْ ... فَسَهْمُكَ مَضْؤُوْزٌ وأَنْفُكَ راغِمُ و «ضِئْزَى» في قراءةِ ابن كثير مصدرٌ وُصِفَ به، ولا يكون وصفاً أصلياً لِما تقدَّم عن سيبويه. فإنْ قيل: لِم لا قيل في «ضِئْزى» بالكسر والهمز: إنَّ أصلَه ضُئْزَى بالضم فكُسِرَتِ الفاءُ كما قيل فيها مع الياء؟ فالجواب: أنه لا مُوْجِبَ هنا للتغيير؛ إذ الضمُّ مع الهمز لا يُسْتثقل

استثقالَه مع الياء الساكنة، وسُمع منهم «ضُوْزَى» بضم الضاد مع الواو أو الهمزة. وأمَّا قراءةُ زيدٍ فَتَحْتمل أَنْ تكونَ مصدراً وُصِف به كدَعْوى، وأَنْ تكونَ صفةً كسَكْرى وعَطْشَى.

23

قوله: {إِنْ هِيَ} : في «هي» وجهان، أحدهما: أنها ضميرٌ للأصنام أي: وما هي إلاَّ أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمَّياتٌ في الحقيقة لأنكم تَدَّعُوْن الإِلهية لِما هو أبعدُ شيءٍ منها وأشدُّ منافاةً لها، كقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ} [يوسف: 40] . والثاني: أن تكونَ ضميرَ الأسماءِ، وهي اللاتُ والعُزَّى ومَناة، وهم يَقْصِدُون بها أسماءَ الآلهة، يعني: وما هذه الأسماءُ إلاَّ أسماءٌ سَمَّيْتموها بهواكم وشهواتِكم ليس لكم على صحةِ تَسْمِيَتِها بُرْهانٌ تتعلَّقون به، قاله الزمخشري. وقال أبو البقاء: «أسماء» يجب أن يكون المعنى: ذواتُ أسماءٍ: لقوله «سَمَّيْتُموها» لأنَّ الاسمَ لا يُسَمَّى «. قوله: {إِن يَتَّبِعُونَ} العامَّةُ على الغَيْبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم. وقرأ عبد الله/ وابن عباس وطلحة وعيسى بن عمر وابن وثاب بالخطاب، وهو حسنٌ موافِقٌ.

قوله: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} نَسَقٌ على الظنِّ، و» ما «مصدريةٌ، أو بمعنى الذي. قوله: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ» يَتَّبعون «أي: يَتَّبعون الظنَّ وهَوَى النفس في حالِ تنافي ذلك وهي مجيْءُ الهدى مِنْ عند ربِّهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ اعتراضاً فإنَّ قولَه:» أم للإِنسان «متصلٌ بقولِه: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} وهي أم المنقطعةُ فتتقدَّر ب بل والهمزةِ على الصحيح. قال الزمخشري:» ومعنى الهمزةِ فيها الإِنكارُ أي: ليس للإنسانِ ما تَمَنَّى «.

26

قوله: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ} : كم هنا خبريةٌ تفيد التكثيرَ، ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ «ولا تُغْني شفاعتُهم» هو الخبرُ. والعامَّةُ على إفراد الشفاعة وجُمِعَ الضميرِ اعتباراً بمعنى مَلَكَ وبمعنى «كم» . وزيد بن علي «شفاعتُه» بإفرادها اعتبر لفظ «كم» ، و «مَلَكَ» . وابن مقسم «شفاعاتُهم» بجمعها. و «شيئاً» مصدرٌ أي: شيئاً من الإِغناء.

28

قوله: {وَمَا لَهُم بِهِ} : أي: بما يقولون أو بذلك. وقال مكي: «الهاءُ تعود على الاسمِ لأنَّ التسميةَ والاسمَ بمعنى» . وقرأ أُبي «بها» أي: بالملائكة أو بالتسمية، وهذا يُقَوِّي قولَ مكي.

30

قوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ} : قال الزمخشري: «هو

اعتراض أي: فأَعْرِضْ عنه ولا تُقابِلْه، إنَّ ربك هو أعلمُ [بالضالِّ] » . قال الشيخ: «كأنه يقول: هو اعتراضٌ بين» فأعرِضْ «وبين» إنَّ ربك «، ولا يظهر هذا الذي يقولُه من الاعتراضِ» . قلت: كيف يقولُ: كأنه يقول هو اعتراضٌ وما بمعنى التشبيه، وهو قد نَصَّ عليه وصرَّح به فقال: أي فأعرِضْ عنه ولا تقابِلْه، إنَّ ربك؟ وقوله: «ولا يَظْهر» ، ما أدري عدمَ الظهورِ مع ظهور أنَّ هذا علةٌ لذاك، أي: قوله: «إنَّ ربَّك» علةٌ لقولِه: «فأعْرِضْ» والاعتراضُ بين العلةِ والمعلولِ ظاهرٌ، وإذا كانوا يقولون: هذا معترضٌ فيما يجيءُ في أثناء قصةٍ فكيف بما بين علةٍ ومعلول؟ وقوله: {أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} جوَّزَ مكي أن يكونَ على بابِه من التفضيل أي: هو أعلمُ مِنْ كل أحد، بهذين الوصفَيْن وبغيرِهما، وأَنْ يكونَ بمعنى عالِم وتقدَّم نظيرُ ذلك مراراً.

31

قوله: {لِيَجْزِيَ} : في هذه اللامِ أوجهٌ: أحدها: أَنْ تتعلَّقَ بقولِه: {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} ذكره مكي. وهو بعيدٌ من حيث اللفظُ ومن حيث المعنى. الثاني: أَنْ تتعلَّقَ بما دَلَّ عليه قولُه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات} أي: له مِلْكُهما يُضِلُّ مَنْ يشاء ويَهْدي مَنْ يشاء ليجزيَ المحسنَ والمسيءَ. الثالث: أَنْ تتعلَّق بقولِه: «بمنْ ضَلَّ وبمَنْ اهتدى» . واللام للصيرورةِ أي: عاقبة أمرهم جميعاً للجزاءِ بما عملوا، قال معناه

الزمخشري. الرابع: أن تتعلَّقَ بما دَلَّ عليه قولُه: {أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} أي: حَفِظ ذلك ليجزيَ، قاله أبو البقاء. وقرأ زيد بن علي «لنجزيَ، ونجزيَ» بنونِ العظمة، والباقون بياء الغَيْبَةِ.

32

قوله: {الذين يَجْتَنِبُونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً للذين أحسنوا، وبإضمار أَعْني، وأن يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ أي: هم الذين، وقد تقدَّم الخلاف في «كبائر» و «كبير الإِثم» . قوله: {إِلاَّ اللمم} فيه أوجه، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ اللَّمَمَ الصغائرُ، فلم تندرِجْ فيما قبلَها، قاله جماعةٌ وهو المشهور. الثاني: أنه صفةٌ و «إلاَّ» بمنزلة «غير» كقولِه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله} [الأنبياء: 22] أي: كبائرَ الإِثم والفواحش غيرِ اللمم. الثالث: أنه متصلٌ وهذا عند مَنْ يُفَسِّر اللممَ بغير الصغائرِ، والخلاف مذكور في التفسير. وأصلُ اللَّمَم: ما قَلَّ وصَغُر، ومنه اللَّمَمُ وهو المَسُّ من الجنون، وألمَّ بالمكان قلَّ لُبْثُه به، ألَمَّ بالطعام أي: قَلَّ أكلُه منه. وقال أبو العباس: «أًصلُ اللَّمم: أَنْ يُلِمَّ بالشيء من غير أن يركَبَه يقال: ألمَّ بكذا إذا قاربه، ولم يُخالِطْه» . وقال الأزهري: «العربُ تستعمل الإِلمامَ في معنى الدُنوِّ والقُرْب» . وقال جرير:

4134 - بنفسي مَنْ تجنُّبُه عزيزٌ ... عليَّ ومَنْ زيارَتُه لِمامُ وقال آخر: 4135 - متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجا وقال آخر: 4136 - لقاءُ أخِلاَّءِ الصَّفاءِ لِمامُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومنه لِمَّة الشَّعْرِ لِما دونَ الوَفْرةِ. قوله: {أَجِنَّةٌ} جمع جَنين، وهو الحَمْلُ في البطنِ لاستتارِه. وجنين وأَجِنَّةَ كسرير وأَسِرة.

34

قوله: {وأكدى} : أصلُه مِنْ أكدى الحافرُ إذا حفر شيئاً فصادفَ كُدْيَةً مَنَعَتْه من الحفر، ومثلُه أَجْبَلَ أي: صادف جبلاً منعه من الحفر، وكُدِيَتْ أصابِعُه: كلَّتْ من الهزِّ، ثم اسْتُعْمل في كلِّ مَنْ/ طلب شيئاً، فلم يَصِلْ إليه أو لم يُتَمِّمْه. وأَرَأَيْتَ بمعنى أخبرني.

35

و {أَعِندَهُ عِلْمُ} : هو المفعولُ الثاني. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ اقتصاراً لأعطى.

قوله: «فهو يَرَى» هذه الجملةُ مترتبةٌ على ما قبلَها ترتُّباً ظاهراً. وقال أبو البقاء: «فهو يرى» جملةٌ اسميةٌ واقعةٌ موقعَ الفعليةِ. والأصل: أَعنده عِلْمُ الغيبِ فيَرى. ولو جاء على ذلك لكان نصباً على جوابِ الاستفهام «انتهى. وهذا لا حاجةَ إليه مع ظهورِ الترتُّبِ بالجملةِ الاسميةِ، وقد تقدَّم له نظيرُ هذا الكلامِ في موضعٍ آخرَ وتقدَّمَ الردُّ عليه.

37

قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ} : عطفٌ على «موسى» ، وإنما خَصَّ هذين النبيَّيْن عليهما السلامُ بالذِّكْر؛ لأنه كان بين إبراهيم وموسى يُؤْخَذُ الرجلُ بجَريرةِ غيره، فأولُ مَنْ خالفهم إبراهيمُ عليه السلام. و «أم» منقطعةٌ أي: بل ألم يُنَبَّأ. والعامَّةُ على «وَفَّى» بالتشديد. وقرأ أبو أمامةَ الباهلي وسعيد بن جبير وابن السَّمَيْفع «وَفَى» مخففاً. وقد تقدَّم أنَّ فيه ثلاثَ لغاتٍ، وأَطْلَقَ التوفيةَ والوفاءَ ليتناولا كلَّ ما وَفَى.

38

قوله: {أَلاَّ تَزِرُ} : «أَنْ» مخففةٌ من الثقيلة، واسمُها محذوفٌ هو ضميرُ الشأنِ. ولا تزرُ هو الخبرُ وجيْءَ بالنفيِ لكونِ الخبرِ جملةً فعليةً متصرفةً غيرَ مقرونةٍ ب «قد» ، كما تقدَّم تحريرُه في المائدة و «أنْ» وما في حَيِّزها فيها قولان، أظهرهُما: الجرُّ بدلاً مِنْ «ما» في قولِه: {بِمَا فِي صُحُفِ} . والثاني: الرفعُ خبراً لمبتدأ مضمر أي: ذلك أَنْ

لا تَزِرُ أو هو أَنْ لا تَزِرُ، وهو جوابٌ لسؤالٍ مقدر كأنَّ قائلاً قال: وما في صُحُفهما؟ فأجيب بذلك. قلت: ويجوزُ أَنْ يكونَ نصباً بإضمار أعني جواباً لذلك السَّائل. وكلُّ موضعٍ أُضْمِرَ فيه هذا المبتدأُ لهذا المعنى أُضْمِرَ فيه هذا الفعلُ.

39

قوله: {وَأَن لَّيْسَ} : هي المخففةُ أيضاً. ولم يُفْصَلْ هنا بينها وبين الفعلِ لأنه لا يَتَصَرَّفُ. ومحلُّها الجرُّ أو الرفعُ أو النصبُ لعَطْفِها على أَنْ قبلَها، وكذلك محلُّ «وأَنَّ سَعْيَه» و «يُرَى» مبني للمفعول فيجوزُ أَنْ يكونَ من البصرية أي: يُبْصَر، وأن يكونَ من العِلميَّة، فيكونُ الثاني محذوفاً أي: يُرى حاضراً، والأولُ أوضحُ. وقال مكي: «وأجاز الزجَّاج» يَرى «بفتح الياء على إضمارِ الهاءِ أي: سوفَ يَراه، ولم يُجِزْه الكوفيون لأنَّ سَعْيَه يَصير قد عملَ فيه» أنَّ «و» يَرى «وهو جائزٌ عند المبرد وغيرِه؛ لأن دخولَ» أنَّ «على» سَعْيَه «وعملَها يَدُلُّ على أن الهاء المحذوفة مِنْ» يَرَى «، وعلى هذا جَوَّز البصريون:» إنَّ زيداً ضربْتُ «بغير هاء» . قلت: وهو خلافٌ ضعيفٌ؛ توهَّموا أن الاسمَ تَوَجَّه عليه عاملان مختلفان في الجنسيةِ، وإنما قلتُ في الجنسية لأنَّ رأيَ بعضِهم أنه يُعْمِلُ فعلَيْن في معمولٍ واحدٍ، ومنه بابُ التنازع في بعض صورِه نحو: قام وقعد زيدٌ، وضربْتُ وأكرمْتُ عَمْراً، وأن يعملَ عاملٌ واحدٌ في اسمٍ وفي ضميرِه معاً نحو: «زيداً ضربتُه» في باب الاشتغال، وهذا توهُّمٌ باطلٌ لأنَّا نقولُ «سَعْيَه» منصوبٌ ب «أنَّ» ، و «يَرى» متسلِّطٌ على ضميره المقدر.

قلت: فظاهرُ هذا أنه لم يُقْرَأْ به، وقد حكى أبو البقاء أنه قُرِىء به شاذَّاً، ولكنه ضَعَّفه مِنْ جهةٍ أخرى فقال: «وقُرِىء بفتح الياء وهو ضعيفٌ؛ لأنه ليس فيه ضميرٌ يعودُ على اسم» أنَّ «وهو السَّعْي، والضميرُ الذي فيه للهاءِ، فيبقى الاسمُ بغير خبرٍ، وهو كقولِك:» إنَّ غلامَ زيدٍ قامَ «وأنت تعني: قام زيدٌ، فلا خبرَ لغلام. وقد وُجِّه على أن التقديرَ: سوف يَراه فتعودُ الهاءُ على السعي وفيه بُعْدٌ» انتهى. وليت شعري كيف توهَّم المانعَ المذكورَ، وكيف نَظَّره بما ذكر؟ ثم أيُّ بُعْدٍ في تقدير: سوف يَرى سعي نفسِه؟ وكأنَّه اطلع على مذهبِ الكوفيين في المنعِ إلاَّ أنَّ المُدْرَك غيرُ المُدْرِك.

41

قوله: {ثُمَّ يُجْزَاهُ} : يجوزُ فيه وجهان، أظهرهما: أنَّ الضميرَ المرفوعَ عائدٌ على الإِنسان، والمنصوبَ عائدٌ على سعيه. والجزاء مصدرٌ مبيِّنٌ للنوع. والثاني: قال الزمخشريُّ: «ويجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ للجزاء، ثم فَسَّره بقولِه» الجزاءَ «، أو أبدلَه عنه كقولِه: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] . قال الشيخ:» وإذا كان تفسيراً للضميرِ المنصوبِ في «يُجْزاه» فعلى ماذا ينتصِبُ، وأمَّا إذا كان بدلاً فهو مِنْ بدلِ الظاهرِ/ من المضمرِ، وهي مسألةُ خلافٍ والصحيحُ المنعُ «. قلت: العجبُ كيف يقولُ: فعلى ماذا ينتصِبُ؟ وانتصابُه من

وجهَيْن، أحدُهما: وهو الظاهرُ البيِّن - أنْ يكونَ عطفَ بيانٍ، وعطفُ البيانِ يَصْدُقُ عليه أنه مُفَسِّرٌ، وهي عبارةٌ سائغةٌ شائعةٌ. والثاني: أَنْ ينتصِبَ بإضمار أَعْني، وهي عبارةٌ سائغةٌ أيضاً يُسَمُّون مثلَ ذلك تفسيراً. وقد مَنَعَ أبو البقاء أن ينتصِبَ الجزاء الأَوْفى على المصدرِ، فقال:» الجزاءَ الأوفى هو مفعولُ «يُجْزاه» وليس بمصدرٍ لأنَّه وَصَفَه بالأَوْفى، وذلك مِنْ صفةِ المَجْزِيِّ به لا من صفةِ الفعلِ «. قلت: وهذا لا يَبْعُدُ عن الغلطِ؛ لأنه يلزَمُ أَنْ يتعدَّى يُجْزى إلى ثلاثةِ مفاعيل. بيانه: أنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، والثاني: الهاءُ التي هي ضميرُ السعي، والثالث: الجزاءَ الأوفى. وأيضاً فكيف يَنْتَظم المعنى؟ وقد يُجاب عنه: بأنه أراد أنه بدلٌ من الهاءِ كما تقدَّم نَقْلُه عن الزمخشريَّ فيَصِحُّ أَنْ يُقالَ: هو مفعولُ» يُجْزاه «، فلا يتعدَّى لثلاثةٍ حينئذٍ، إلاَّ أنه بعيدٌ مِنْ غَرَضِه، ومثلُ هذا إلغازٌ. وأمَّا قولُه:» والأوفى ليس من صفات الفعل «ممنوعٌ، بل هو من صفاتِه مجازٌ، كما يُوْصف به المجزيُّ به مجازاً، فإن الحقيقةَ في كليهما منتفيةٌ، وإنما المُتَّصِفُ به حقيقةُ المُجازَى.

42

قوله: {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ} : العامَّةُ على فتح هذه الهمزةِ وما عُطِفَ عليها بمعنى: أن الجميعَ في صُحُفِ موسى وإبراهيم. وقرأ أبو السَّمَّال بالكسرِ في الجميع على الابتداءِ. وقولُه: «أَضْحك وأَبْكى» وما بعده: هذا يُسَمِّيه البيانيون الطباقَ والتضادَّ، وهو نوعٌ من البديعِ، وهو أَنْ يُذْكَرَ ضدان أو نَقْيضان أو متنافيان بوجهٍ من الوجوه.

48

قوله: {أقنى} : قال الزمخشريُّ: «أعطى القُنْيَة وهي المالُ الذي تَأَثَّلْتَه وعَزَمْتَ أن لا يَخْرُج مِنْ يَدِك» . قال الجوهري: «قَنِيَ الرجلُ يَقْنَى قِنَىً، مثلَ: غنِيَ يَغْنَى غِنَى» . ثم يتعدَّى بتغييرِ الحركة فيقال: قَنَيْتُ مالاً أي: كَسَبْتُه، وهو نظير: شَتِرَتْ عينُه بالكسر وشَتَرَها اللَّهُ بالفتح، فإذا دَخَلَتْ عليه الهمزةُ أو التضعيفُ اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال: أَقْناه الله مالاً، وقَنَّاه إياه أي: أَكْسَبه إياه، قال الشاعر: 4137 - كم مِنْ غنيٍّ أصاب الدهرُ ثَرْوَته ... ومِنْ فقيرٍ تَقَنَّى بعد إقْلالِ أي: تقنَّى مالاً، فحذف الثاني، وحُذِفَ مفعولا أغْنى وأَقْنى؛ لأنَّ المرادَ نسبةُ هذين الفعلين إليه وحدَه وكذلك في باقيها. وألفُ «أَقْنى» عن ياءٍ لأنه مِنَ القُنِيْةِ قال: 4138 - ألا إنَّ بَعْد العُدْمِ للمَرْءِ قُنِيَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقيل: أقْنى أَرْضَى. قال الراغب: «وتحقيقُه: أنه جَعَلَ له قُنْية من الرضا وقَنَيْتُ كذا واقْتَنَيْتُه قال: 4139 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

قَنِيْتُ حَيائي عِفَّةً وتَكَرُّما

49

قوله: {رَبُّ الشعرى} : الشِّعْرى في لسان العرب كوكبان يُسَمَّى أحدُهما: الشِّعْرى العَبُور، وهو المرادُ في الآيةِ الكريمةِ فإنَّ خُزاعةَ كانت تَعْبُدها، وسَنَّ عبادتَها أبو كبشةَ رجلٌ مِنْ ساداتِهم، وكانت قريشٌ تقولُ لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أبو كبشَة تشبيهاً بذلك الرجل، في أنه أَحْدَثَ ديناً غيرَ دينهم. والشِّعْرى العَبُور تَطْلُعُ بعد الجوزاءِ في شدَّةِ الحرِّ، ويُقال لها: مِرْزَمُ الجَوْزاء ويُسَمَّى كلبَ الجبَّار. والثاني: / الشِّعْرَى الغُمَيْصاء، وهي التي في الذِّراع. وسبب تَسْميتها بذلك ما زَعَمَتْه العربُ: مِنْ أنَّهما كانا أخْتَيْن أو زوجَيْن لسُهَيْل، فانحدر سهيلٌ إلى اليمنِ، فاتَّبَعْته الشِّعْرى العَبُوْر فعبَرَتْ المَجَرَّة فسُمِّيَتِ العَبورَ، وأقامَتِ الغُمَيْصاءُ، وبَكَتْ لفَقْدِه حتى غَمَصَتْ عَيْنُها، ولذلك كانت أَخْفَى من العَبُوْر.

50

قوله: {عَاداً الأولى} : اعلَمْ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ مِنْ أشكلِ الآياتِ نَقْلاً وتوجيهاً، وقد يَسَّر اللَّهُ تعالى تحريرَ ذلك كلِّه بحولِه وقوتِه فأقول: إنَّ القرَّاءَ اختلفوا في ذلك على أربعِ رُتَبٍ، إحداها: قرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون «عادَاً الأُولى» بالتنوين مكسوراً

وسكونِ اللام وتحقيقِ الهمزةِ بعدها، هذا كلُّه في الوصلِ فإذا وقفوا على «عاداً» وابتدؤوا ب «الأُوْلى» فقياسُهم أَنْ يقولوا «الأولى» بهمزةِ الوصلِ وسكونِ اللامِ وتحقيقِ الهمزة. الثانيةُ: قرأ قالون «عاداً لُّؤْلَى» بإدغامِ التنوين في اللامِ، ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى لام التعريفِ، وهمزِ الواوِ، هذا في الوصل. وأمَّا في الابتداءِ بالأولى فله ثلاثةُ أوجهٍ، الأولُ: «الُّؤْلَى» بهمزةِ وصل، ثم بلامٍ مضمومة، ثم بهمزةٍ ساكنة. الثاني: «لُؤْلَى» بلامٍ مضمومةٍ ثم بهمزةٍ ساكنةٍ. الثالث: كابتداءِ ابنِ كثير ومَنْ معه. الثالثة: قرأ ورش «عاداً لُّوْلى» بإدغامِ التنوين في اللام ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إليها كقالون، إلاَّ أنه أبقى الواوَ على حالِها غيرَ مبدلةٍ همزةً هذا في الوصل. وأمَّا في الابتداءِ بها فله وجهان: «ألُّوْلَى» بالهمزةِ والنقلِ، و «لُوْلَى» بالنقلِ دونَ همزِ وصلٍ، والواوُ ساكنةٌ على حالِها في هذَيْن الوجهَيْن. الرابعة: قرأ أبو عمروٍ كوَرْشٍ وَصْلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ، إلاَّ أنه يزيدُ عليه في الابتداءِ بوجهٍ ثالثٍ، وهو وجهُ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه، فقد تحصَّل أنَّ لكلّ مِنْ قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ، وأنَّ لورشٍ وجهين. فتأمَّلْ ذلك فإنَّ تحريرَه صعبُ المأخذِ من كتب القراءات هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات. وأمَّا توجيهُها فيُوقف على معرفةِ ثلاثةِ أصولٍ، الأول: حكمُ التنوينِ إذا وقع بعدَه ساكنٌ. الثاني: حكمُ حركةِ النقلِ. الثالث: أصلُ «أُوْلَى» ما هو؟ إمَّا الأولُ فحكمُ التنوينِ الملاقي أنْ يُكْسَرَ لالتقاءِ الساكنين نحو: {

قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإِخلاص: 1] أو يُحْذَفَ تشبيهاً بحرفِ العلةِ كقراءةِ {أَحَدٌ الله الصمد} ، وكقولِ الشاعر: 4140 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً وهو قليلٌ جداً، وقد مضى تحقيقُه. وأمَّا الثاني فإنَّ للعرب في الحركة المنقولةِ مذهبين: الاعتدادَ بالحركةِ، وعدمَ الاعتدادِ بها، وهي اللغةُ العالية. وأمَّا الثالثُ فأُوْلَى تأنيثُ أَوَّل، وقد تقدَّم الخلافُ في أصلِه مستوفى في أولِ هذا التصنيفِ فعليك باعتبارِه. إذا تقرَّرَتْ هذه الأصولُ الثلاثةُ فأقولُ: أمَّا قراءةُ ابنِ كثير ومَنْ معه فإنهم صرفوا «عاداً» : إمَّا لأنه اسمٌ للحيِّ أو الأبِ فليس فيه ما يمنعُه، وإمَّا لأنَّه كان مؤنثاً اسماً للقبيلةِ أو الأمِّ، إلاَّ أنَّه مثلُ هِنْد ودَعْد فيجوزُ فيه الصرفُ وعدمُه فيكونُ كقوله: 4141 - لم تَتَلَفَّعْ بفَضْلِ مِئْزَرِها ... دَعْدٌ ولم تُسْقَ دعدُ في العُلَب فصرفَها أولاً ومَنَعَها ثانياً، ولَم يَنْقُلوا حركةَ الهمزةِ إلى لام التعريف فالتقى ساكنان، فكسروا التنوينَ لالتقائِهما على ما هو المعروفُ من

اللغتين وحذفوا همزةَ الوصلِ من «الأُوْلى» للاستغناءِ عنها بحركة التنوين وَصْلاً فإذا ابتدَؤوا بها احتاجُوا إلى همزة الوصل فأَتَوْا بها فقالوا: الأُوْلى كنظيرِها/ من هَمَزاتِ الوصلِ. وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الغَفيرُ. وأمَّا قراءة مَنْ أدغم التنوينَ في لامِ التعريفِ وهما نافعٌ وأبو عمرو مع اختلافِهما في أشياءَ كما تقدَّم بيانُه فوجْهُه الاعتدادُ بحركةِ النقل؛ وذلك أنَّ مِنَ العربِ مَنْ إذا نَقَل حركة الهمزةِ إلى ساكنٍ قبلَها كلامِ التعريفِ عامَلَها معاملَتَها ساكنةً، ولا يَعْتَدُّ بحركةِ النقلِ، فيكسرُ الساكَنَ الواقعَ قبلَها، ولا يُدْغِم فيها التنوينَ، ويأتي قبلها بهمزةِ الوصلِ فيقول: لم يَذْهَبِ لَحْمَرُ، ورأيت زياداً لَعْجَم، من غيرِ إدغام التنوينِ، والَحْمَرُ والَعْجَمُ بهمزة الوصلِ لأن اللامَ في حكمِ السكونِ، وهذه هي اللغةُ المشهورة. ومنهم مَنْ يَعْتَدُّ بها، فلا يكسِر الساكنَ الأولَ، ولا يأتي بهمزةِ الوصلِ، ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقولُ: لم يَذْهَبْ لَحْمر بسكون الباء، ولَحْمَرُ ولَعْجَمُ من غيرِ همزٍ، وزيادُ لّعجم بتشديدِ اللامِ، وعلى هذه اللغةِ جاءَتْ هذه القراءةُ، هذا من حيث الإِجمال. وأمَّا من حيث التفصيلُ فأقول: أمَّا قالون فإنه نَقَلَ حركة الهمزةِ إلى لام التعريف، وإنْ لم يكنْ من أصلِه النقلُ لأجل قَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام، ولَمَّا نقل الحركةَ اعْتَدَّ بها، إذ لا يمكن الإِدغامُ في ساكنٍ ولا ما هو في حُكْمِه. وأمَّا همزُه الواوُ ففيه وجهان منقولان، أحدُهما: أَنْ تكونَ أُوْلى أصلُها عنده وُؤْلَى مِنْ وَأَل أي: نجا، كما هو قولُ الكوفيين، ثم أَبْدَلَ

الواوَ همزةً لأنها واوٌ مضمومةٌ، وقد تقدَّم لك أنها لغةٌ مطردةٌ، فاجتمع همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ فَوَجَبَ قلبُها واواً نحو: «أُوْمِنُ» ، فلمَّا حُذِفَتْ الهمزةُ الأولى بسببِ نَقْلِ حركتِها رَجَعَتْ الثانيةُ إلى أصلِها من الهمزةِ لأنَّها إنما قُلِبت واواً من أجلِ الأُولى، وقد زالَتْ، وهذا كما رأيتَ تكلُّفٌ لا دليلَ عليه. والثاني: أنَّه لَمَّا نَقَلَ الحركةَ إلى اللامِ صارَت الضمةُ قبل الواوِ كأنَّها عليها، لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه، فأبدل الواوَ همزةً كقولِه: 4142 - أَحَبُّ المُؤْقِدِيْنَ إليَّ موسى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكقراءةِ «يُؤْقنون» وهمزِ «السُّؤْقِ» و «سُؤْقِه» وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، وهذا بناءً منه على الاعتدادِ بالحركةِ أيضاً. وليس في هذا الوجهِ دليلٌ على أصلِ «أُوْلى» عنده ما هو؟ فيُحتمل الخلافُ المذكورُ جميعُه. وأمَّا ابتداؤُه الكلمةَ من غير نَقْلٍ فإنه الأصلُ، ولأنه إنما نَقَلَ في الوصلِ لقَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام، ولا إدغامَ في الابتداءِ فلا حاجةَ إلى النقلِ. وأمَّا الابتداءُ له بالنقلِ فلأنه محمولٌ على الوصل ليجريَ اللفظُ فيهما على سَنَنٍ واحدٍ. وعلةُ إثباتِ ألفِ الوصلِ مع النقلِ في أحدِ الوجهَينِ: تَرْكُ الاعتدادِ

بحركةِ اللامِ على ما عليه القراءةُ في نظائرِه ممَّا وُجِدَ فيه النقلُ؛ إذ الغَرَضُ إنما هو جَرْيُ اللفظِ في الابتداءِ والوصلِ على سَنَنٍ واحدٍ، وذلك يَحْصُل بمجرد النقلِ وإنْ اختلفا في تقديرِ الاعتدادِ بالحركةِ وتركِه. وعلةُ تَرْكِ الإِتيانِ بالألفِ في الوجهِ الثاني حَمْلُ الابتداءِ على الوصلِ في النقلِ والاعتدادِ بالحركةِ جميعاً. ويُقَوِّي هذا الوجهَ رسمُ «الأولى» في هذا الموضع بغيرِ ألفٍ. والكلامُ في همز الواوِ مع النقل في الابتداءِ كالكلامِ عليه في الوَصْل كما تقدَّم. وأمَّا ورشٌ فإنَّ أصلَه أن ينقلَ حركةَ الهمزةِ على اللام في الوصلِ فنقل على أصلِه، إلاَّ أنه اعتدَّ بالحركةِ ليصِحَّ ما قَصَدَه في التخفيفِ بالإِدغامِ، وليس من أصله الاعتدادُ بالحركة في نحو ذلك. ألا ترى أنه يَحْذِفُ الألفَ في {سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21] و {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} [الأعلى: 11] ولو اعْتَدَّ بالحركةِ لم يَحْذِفْها. وأمَّا ما جاء عنه في بعضِ الرواياتِ: {قَالُواْ لآنَ جِئْتَ بالحق} [البقرة: 71] فإنه وجهٌ نادرٌ مُعَلَّلٌ باتِّباعِ الأثرِ والجَمْعِ بين اللغتين. والابتداءُ له بالنَّقْلِ على أصلِه في ذلك أيضاً، والابتداءُ له بألفِ الوصلِ على تَرْكِ الاعتدادِ بالحركةٍِ، إذْ لا حاجةَ إلى قَصْد ذلك في/ الابتداءِ، وتَرْكِ الإِتْيانِ له بالألف على الاعتدادِ له بالحركة حَمْلاً للابتداءِ على الوصل وموافقةَ الرسمِ أيضاً، لا يُبْتَدأ له بالأصل، إذ ليس مِنْ أصلِه ذلك، و «الأُوْلَى» في قراءتِه تَحْتَمل الخلافَ المذكورَ في أصلِها. وأمَّا أبو عمروٍ فالعلةُ له في قراءتِه في الوصلِ والابتداءِ كالعلةِ

المتقدمةِ لقالون، إلاَّ أنَّه يُخالفه في همزِ الواو لأنه لم يُعْطِها حكمَ ما جاوَرَها، وليسَتْ عنده مِنْ وَأل بل مِنْ غيرِ هذا الوجهِ، كما تقدَّم لكَ الخلافُ فيه أولَ هذا الموضوع، ويجوز أَنْ يكونَ أصلُها عندَه مِنْ وَأَل أيضاً إلاَّ أنه أَبْدَلَ في حالِ النقلِ مبالغةً في التخفيف، أو موافَقَةً لحالِ تَرْكِ النَّقلِ، وقد عاب هذه القراءةَ أعني قراءةَ الإِدغامِ أبو عثمانَ، وأبو العباس، ذهاباً منهما إلى أنَّ اللغةَ الفَصيحة عدمُ الاعتدادِ بالعارِضِ، ولكن لا التفاتَ إلى رَدِّهما لثبوتِ ذلك لغةً وقراءةً، وإن كان غيرُها أَفْصَحَ منها. وقد ثَبَتَ عن العرب أنَّهم يقولون: الَحْمَر ولَحْمَر بهمزةِ الوصلِ وعَدَمِها مع النقل، واللَّهُ أعلمُ. وقرأ أُبَيٌّ وهي في حَرْفِه «عادَ الأُولى» ، غيرَ مصروفٍ ذهاباً إلى القبيلةِ أو الأمِّ كما تقدَّم، ففيه العلَمِيَّةُ والتأنيثُ، ويَدُلُّ على التأنيثِ قولُه: «الأُوْلَى» فوصَفَها بوَصْفِ المؤنث.

51

وقد تقدَّمَ الخلافُ في «ثمود» بالنسبة للصَرْفِ وعَدَمِه في سورة هود، وفي انتصابِه هنا وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على «عاداً» . والثاني: أنَّه منصوبٌ بالفعلِ المقدَّرِ، أي: وأهلَك، قاله أبو البقاء، وبه بَدَأ، ولا حاجةَ إليه، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ ب «أَبْقَى» لأنَّ ما بعد «ما» النافيةِ لا يعملُ فيما قبلها، والظاهرُ أنَّ متعلَّقَ «أَبْقَى»

عائدٌ على مَنْ تقدَّم مِنْ عادٍ وثمودَ، أي: فما أَبْقَى عليهم، أي: على عادٍ وثمودَ، أو يكونُ التقديرُ: فما أَبْقَى منهم أحداً ولا عَيْناً تَطْرُفُ.

52

و {قَوْمَ نُوحٍ} : كالذي قبلَه. و «مِنْ قبلُ» ، أي: مِنْ قَبْلِ عادٍ وثمودَ. وقوله: {إِنَّهُمْ} يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ الضميرُ لقومِ نوحٍ خاصةً، وأن يكونَ لجميعِ مَنْ تقدَّمَ مِن الأمم الثلاثةِ. وقوله: {كَانُواْ هُمْ} يجوز في «هم» أَنْ يكون تأكيداً، وأَنْ يكون فَصْلاً، ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ بدلاً، والمفضَّل عليه محذوفٌ، تقديرُه: مِنْ عادٍ وثمودَ، على قولنا: إن الضميرَ لقومِ نوحٍ خاصةً، وعلى القول بأنَّ الضميرَ للكلِّ يكون التقديرُ: مِنْ غيرهم. و «المُؤْتَفِكَة» منصوبٌ ب «أَهْوَى» وقُدِّمَ لأَجْلِ الفواصل.

54

قوله: {مَا غشى} : كقولِه {مَآ أوحى} [النجم: 10] في الإِبهام وهو المفعولُ الثاني، إنْ قلنا: إنَّ التضعيفَ للتعديةِ، وإن قُلْنا: إنه للمبالغةِ والتكثيرِ فتكونُ «ما» فاعلةً كقولِه: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] .

55

قوله: {فَبِأَيِّ} متعلقٌ ب «تَتَمارَى» والباءُ ظرفيةٌ بمعنى في. وقرأ ابنُ محيصن ويعقوبُ «تَمارى» بالحذف كقراءةِ «تَذَكَّرون» .

56

و {هذا} : إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الآي أو إلى القرآن، وإلى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ونذير: يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً، وأَنْ يكونَ اسمَ فاعلٍ، وكلاهما لا يَنْقاس، بل القياسُ في مصدرِه إنذار، وفي اسمِ فاعلِه مُنْذِر، والنُّذُر يجوز أَنْ يكونَ جمعاً لنَذير بمعنَييْهِ المذكوريَنْ، و «الأَُوْلَى» صفةٌ حملاً على معنى الجماعةِ كقولِه: {مَآرِبُ} ، [طه: 18] والآزِفَةُ، أي: الساعةُ الآزفة، كقولِه: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] ، ويجوز أن تكونَ الآزفةُ عَلَماً للقيامة بالغَلَبة.

58

قوله: {كَاشِفَةٌ} : يجوز أَنْ يكونَ وصفاً، وأَنْ يكونَ مصدراً، فإنْ كانَتْ وصفاً احتمل أَنْ يكونَ التأنيثُ/ لأجلِ أنَّه صفةٌ لمؤنثٍ محذوفٍ وقيل: تقديرُه: نفسٌ كاشفةٌ، أو حالٌ كاشِفة، واحتمل أَنْ تكونَ التاءُ للمبالغة كعلاَّمَة ونَسَّابة، أي ليس لها إنسانٌ كاشفةٌ، أي: كثيرُ الكشف، وإن كان مصدراً فهو كالعافِية والعاقِبَة وخائِنَةِ الأَعْين، ومعنى الكَشْفِ هنا: إمَّا مِنْ كَشَفَ الشيءَ، أي: عَرَفَ حقيقتَه كقولِه: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} ، وإمَّا مِنْ كَشَفَ الضُرَّ، أي: أزاله، أي: ليس لها مَنْ يُزيلها ويُنَجِّيها غيرُ اللَّهِ تعالى، وقد تقدَّم الكلامُ على مادة «أزف» في سورة غافر.

59

قوله: {أَفَمِنْ هذا الحديث} : متعلِّقٌ ب «تَعْجَبون»

ولا يجيءُ فيه الإِعمالُ؛ لأنَّ مِنْ شرطِ الإِعمال تأخُّرَ المعمولِ عن العوامل، هنا هو متقدِّمٌ. وفيه خلافٌ بعيدٌ، وعليه تَتَخَرَّج الآيةُ الكريمةُ. فإنَّ كلاً مِنْ قولِه: تَعْجبون، وتَضْحكون ولا تَبكون يَطْلُبُ هذا الجارَّ مِنْ حيث المعنى. والعامَّةُ على فتح التاءِ والجيم والحاءِ مِنْ تَعْجَبون، تَضْحكون. والحسن: بضم التاءَ وكسرِ الجيمِ والحاءِ مِنْ غيرِ واوٍ عاطفةٍ بين الفعلَيْن، وهي أبْلَغُ: مِن حيث إنَّهم إذا أَضْحكوا غيرَهم كان تجرُّؤُهم أكثرَ. وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله كالجماعةَ، إلاَّ أنهما بلا واوٍ عاطفةٍ كالحسن، فيُحتمل أَنْ تكونَ «تضحكون» حالاً، وأَنْ تكونَ استئنافاً كالتي قبلها.

61

قوله: {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} : هذه الجملةُ تَحْتمل أَن تكونَ مستأنفةً، أخبرَ اللَّهُ تعالى عنهم بذلك، وتَحْتمل أَنْ تكونَ حالاً أي: انتفى عنكم التباكي حالَ كونِكم «سامدونَ» . والسُّمُود قيل الإِعراضُ. وقيل: اللهوُ. وقيل: الجمود. وقيل: الاستكبار. قال الشاعر: 4143 - رَمَى الحِدْثانُ نِسْوَةَ آلِ سَعْدٍ ... بمقدارٍ سَمَدْن له سُمودا

فرَدَّ شعرورَهن السودَ بِيْضاً ... ورَدَّ وجوهَهن البيضَ سُودا فهذا بمعنى الجمود والخُشوع، وقال آخر: 4144 - ألا أيها الإِنسانُ إنَّك سامِدٌ ... كأنَّك لا تَفْنَى ولا أنت هالكُ فهذا بمعنى لاهٍ لاعِبٌ، وقال أبو عبيدة/: «السُّمود» : الغناءُ بلغة حمير، يقولون: يا جاريةُ اسْمُدي لنا، أي: غَنِّي، وقال الراغب: «السَّامِدُ: اللاهي الرافعُ رأسَه، مِنْ قولهم: بعيرٌ سامِدٌ في سَيْرِه، وقيل: سَمَّدَ رأسَه وسَبَّدَه، أي: استأصلَ شَعْرَه» .

القمر

قوله: {وانشق القمر} : هذا ماضٍ على حقيقتِه وهو قولُ عامَّةِ المسلمين، إلاَّ مَنْ لا يُلْتَفَتُ إلى قولِه، وقد صَحَّ في الأخبار أنه انشقَّ على عهدَِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّتين. وقيل: انشَقَّ بمعنى: سينشَقُّ يومَ القيامةِ، فأوقع الماضيَ موضع المستقبلِ لتحقُّقِه، وهو خلافُ الإِجماع. وقيل: انشَقَّ بمعنى انْفَلَقَ عنه الظلامُ عند طلوعِه، كما يُسَمَّى الصبحُ فَلَقاً. وأنشد للنابغة: 4145 - فلمَّا أَدْبَرُوا ولهُم دَوِيٌّ ... دعانا عند شَقِّ الصُّبْحِ داعي وإنما ذَكَرْتُ لك تنبيهاً على ضَعْفِه وفسادِه.

2

قوله: {مُّسْتَمِرٌّ} فيه أقوالٌ، أحدها: أنَّ معناه: دائمٌ مُطَّرِدٌ. وكلُّ شيءٍ قد انقادَتْ طريقتُه ودامَتْ حالُه قيل فيه: استمرَّ. قاله الزمخشري. ومِنْه قولُه:

4146 - ألا إنما الدنيا ليالٍ وأَعْصُرٌ ... وليسَ على شيءٍ قويمٍ بمُسْتَمِرّ أي: بدائم باقٍ. الثاني: أنَّ معناه: مُوَثَّقٌ مُحْكَمٌ مِنْ قولِهم: أَمَرَّ الحبلَ، أي: أَحْكَمَ فَتْلَه. قال: 4147 - حتى اسْتَمَرَّتْ على شَزْرٍ مَريرتُه ... صِدْقُ العزيمةِ لا رثَّاً ولا ضَرَعا الثالث: أنَّ معناه مارٌّ ذاهب مَنَّوْا أنفسَهم بذلك. الرابع: أنَّ معناه شديدُ المرارة. قال الزمشخري: «أي: مُسْتَبْشَعٌ عندنا، مُرٌّ على لَهَواتنا، ولا نَقْدِرُ أَنْ نَسِيْغَه كما لا نَسيغُ المُرَّ المَقِرَ» انتهى. يقال: مَرَّ الشيءُ بنفسِه ومَ‍رَّه غيرُه، فيكون متعدياً ولازِماً ويقال: أَمَرَّه أيضاً. الخامس: أنَّ معناه/ مُشْبِهٌ بعضُه بعضاً، أي: استمرَّتْ أفعالُه على هذا الحالِ. قاله الشيخ، وهو راجِعٌ إلى المعنى الأول، أعني الدوامَ والاطِّرادَ، وكان هو قد حكاه قبل ذلك. وأتى بهذه الجملةِ الشرطيةِ تنبيهاً على أَنَّ حالَهم في المستقبلِ كحالِهم في الماضي. وقُرِىء «يُرَوْا» مبنياً للمفعول مِنْ أَرى.

3

قوله: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} : العامَّة على كسرِ القافِ

ورفعِ الراءِ اسمَ فاعلٍ ورفعِه خبراً ل «كل» الواقعِ مبتدأً. وقرأ شَيْبَةُ بفتح القافِ، وتُروَى عن نافعٍ. قال أبو حاتم: «لا وجهَ لها» وقد وَجَّهها غيرُه على حَذْفِ مضافٍ، أي: وكلُّ أمرٍ ذو استقرار، أو زمانَ استقرارٍ أو مكانَ استقرارٍ، فجاز أن يكونَ مصدراً، وأن يكون ظرفاً زمانياً أو مكانياً، قال معناه الزمخشري. وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر القاف وجَرِّ الراء وفيها أوجهٌ، أحدُها: ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَه أَنْ يكونَ صفةً لأمر. ويرتفعُ «كلُّ» حينئذٍ بالعطفِ على «الساعة» ، فيكونُ فاعلاً، أي: اقتربَتِ الساعةُ وكلُّ أمرٍ مستقرٍ. قال الشيخ: «وهذا بعيدٌ لوجودِ الفصلِ بجملٍ ثلاثٍ، وبعيدٌ أَنْ يوجدَ مثلُ هذا التركيبِ في كلام العربِ نحو: أكلتُ خبزاً، وضربْتُ خالداً، وإن يَجِىءْ زيدٌ أُكْرِمْه، ورَحَل إلى بني فلان، ولحماً، فيكونُ» ولحماً «معطوفاً على» خبزاً «بل لا يوجَدُ مثلُه في كلام العربِ. انتهى» . قلت: وإذا دلَّ دليلٌ على المعنى فلا نبالي بالفواصلِ. وأين فصاحةُ القرآن من هذا التركيبِ الذي ركَّبه هو حتى يَقيسَه عليه في المنع؟ الثاني: أَنْ يكونَ «مُسْتقرٍ» خبراً ل «كلُّ أمرٍ» وهو مرفوعٌ، إلاَّ أنه

خُفِضَ على الجِوار، قاله أبو الفضل الرازي. وهذا لا يجوزُ؛ لأن الجِوارَ إنما جاء في النعتِ أو العطفِ، على خلافٍ في إثباته، كما قدَّمْتُ لك الكلامَ فيه مستوفى في سورةِ المائدة. فكيف يُقال في خبر المبتدأ: هذا ما لا يجوزُ؟ الثالث: أنَّ خبرَ المبتدأ قولُه «حكمةٌ بالغةٌ» أخبر عن كلِّ أمرٍ مستقرٍ بأنَّه حكمةٌ بالغةٌ، ويكون قولُه: «ولقد جاءهم من الأنباءِ ما فيه مُزْدَجَرٌ» جملةَ اعتراضٍ بين المبتدأ وخبرِه. الرابع: أنَّ الخبرَ مقدرٌ، فقدَّره أبو البقاء: معمولٌ به، أو أتى. وقدَّره غيرُه: بالغوه لأنَّ قبلَه {وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} ، أي: وكلُّ أمرٍ مستقرٍّ لهم في القَدَر مِن خيرٍ أو شرٍّ بالغوه.

4

قوله: {مُزْدَجَرٌ} : يجوزُ أَنْ يكونَ فاعِلاً ب «فيه» ؛ لأنَّ «فيه» وقع صلةً، وأَنْ يكونَ مبتدأ، و «فيه» الخبرُ. والدال بدلٌ مِنْ تاءِ الافتعال. وقد تقدَّم أنَّ تاءَ الافتعال تُقْلَبُ دالاً بعد الزاي والدال والذال؛ لأنَّ الزايَ حرفٌ مجهورٌ، والتاءَ حرفٌ مهموسٌ، فأبدلوها إلى حرفٍ مجهورٍ قريبٍ من التاءِ، وهو الدالُ. ومُزْدَجَر هنا اسمُ مصدرٍ، أي: ازْدِجار، أو اسمُ مكانٍ، أي: موضعَ ازْدِجار. وقُرِىء «مُزَّجَر» بقَلْبِ تاءِ الافتعال زاياً ثم أُدْغِمَ. وزيد بن علي «مُزْجِر» اسمَ فاعلٍ من أَزْجر، أي: صار ذا زَجْر كأَعْشَبَ، أي: صار ذا عُشْبٍ.

5

قوله: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلٌ من «ما فيه مُزْدَجر» كأنه قيل: ولقد جاءَهُمْ حكمةٌ بالغةٌ من الأنباء،

وحينئذٍ يكونُ بدلَ كلٍ مِنْ كلٍ، أو بدلَ اشتمال. الثاني: أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو حكمةٌ، أي: ذلك الذي جاءهم. وقد تقدَّم أنه يجوزُ على قراءةِ أبي جعفرٍ وزيدٍ أَنْ يكونَ خبراً ل «كلُّ أمرٍ مستقرٍ» . وقُرِىء «حكمةً» بالنصب حالاً مِنْ «ما» قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: إن كانَتْ» ما «موصولةً ساغ لك أَنْ تَنْصِبَ» حكمةً «حالاً، فكيف تعمل إنْ كانت موصوفةً وهو الظاهرُ؟ قلت: تَخَصُّصُها بالصفةِ فيَحْسُنُ نَصْبُ الحالِ عنها» انتهى. وهو سؤال واضحٌ جداً. قولَه: {فَمَا تُغْنِ النذر} يجوزُ في «ما» أَنْ تكونَ استفهاميةً، وتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً، أي: أيُّ شيءٍ تُغْني النذرُ؟ وأن تكون نافيةً، أي: لم تُغْنِ النذرُ شيئاً. والنُّذُرُ: جمعُ نذيرٍ المرادِ به المصدرُ أو اسمُ الفاعل، كما تقدَّم في آخر النجم. وكُتِب «تُغْنِ» إتباعاً لِلَفْظِ الوصلِ فإنَّها ساقطةٌ لالتقاء الساكنين: قال بعضُ النحويين: وإنما حُذِفَتْ الياءُ مِنْ «تُغْني» حَمْلاً ل «ما» على «لم» فجَزَمَتْ كما تَجْزِمُ «لم» . قال مكي: «وهذا خطأٌ؛ لأنَّ» لم «تَنْفي الماضيَ وتَرُدُّ المستقبلَ ماضياً، و» ما «تنفي الحالَ، فلا يجوزُ أَنْ تقعَ إحداهما موقع الأخرى لاختلافِ معنَيَيْهما» .

6

قوله: {يَوْمَ يَدْعُ الداع} : منصوبٌ: إمَّا ب «اذْكُرْ» مضمرةً وهو أقربُها، وإليه ذهب الرُّمَّاني والزمخشري، وإمَّا

ب «يَخْرُجون» بعده وإليه ذهب الزمخشريُّ أيضاً، وإمَّا بقولِه «فما تُغْني» ، ويكون قولُه «فَتَوَلَّ عنهم» اعتراضاً، وإمَّا منصوباً بقولِه {يَقُولُ الكافرون} [القمر: 8] وفيه بُعْدٌ لبُعْدِه منه، وإمَّا بقولِه «فَتَوَلَّ» وهو ضعيفٌ جداً؛ لأنَّ المعنى ليس أَمْرَه/ بالتوليةِ عنهم في يومِ النفخ في الصُّورِ، وإمَّا بحذفِ الخافض، أي فَتَوَلَّ عنهم إلى يوم؛ قاله الحسن. وضُعِّف من حيث اللفظُ، ومن حيث المعنى. أمَّا اللفظُ: فلأنَّ إسقاطَ الخافضِ غيرُ مُنْقاسٍ. وأمَّا المعنى: فليس تَوَلِّيه عنهم مُغَيَّا بذلك الزمان، وإمَّا ب انتظرْ مضمراً. فهذه سبعةُ أوجهٍ في ناصب «يومَ» . وحُذِفَتْ الواوُ مِنْ «يَدْعُ» خَطَّاً اتِّباعاً للِّفْظِ، كما تقدَّم في {يُغْنِ} {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] وشبهِه، والياءُ من «الداعِ» ، مبالغةً في التخفيف إجراءً لأل مُجْرى ما عاقبها وهو التنوينُ فكما تُحْذَفُ الياءُ مع التنوينِ كذلك مع ما عاقَبها. قوله: {نُّكُرٍ} العامَّةُ على ضمِّ الكاف وهو صفةٌ على فُعُل، وفُعُل في الصفات عزيزٌ، منه: أمرٌ نُكُرٌ، ورجلٌ شُلُل، وناقةٌ أُجُد، وروضةٌ أُنُفٌ، ومِشْيَةٌ سُجُحٌ. وابن كثير بسكونِ الكافِ فيُحتمل أَنْ يكونَ أصلاً، وأَنْ يكونَ مخفَّفاً مِنْ قراءةِ الجماعةِ. وقد تقدَّم لك هذا محرَّراً

في اليُسْر والعُسْر في المائدة. وسُمِّي الشيءُ الشديدُ نُكُراً لأن النفوس تُنْكِره قال مالك بن عوف: 4148 - اقْدُمْ مَحاجِ إنه يومٌ نُكُرْ ... مِثْلي على مِثْلِك يَحْمي ويَكُرّْ وقرأ زيدُ بنُ علي والجحدري وأبو قلابة «نُكِرَ» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعولِ؛ لأنَّ «نَكِرَ» يتعدى قال: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ} [هود: 70] .

7

قوله: {خُشَّعاً} : قرأ أبو عمر والأخَوان «خاشِعاً» وباقي السبعة «خُشَّعاً» . فالقراءةُ الأولى جاريةٌ على اللغةِ الفُصْحى مِنْ حيث إن الفعلَ وما جرى مَجْراه إذا قُدِّمَ على الفاعلِ وُحِّد. تقول: تَخْشَع أبصارُهم ولا تقولُ: تَخْشَعْن أبصارُهم، وأنشد قولَ الشاعر: 4149 - وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إيادِ بنِ نزارِ بنِ مَعَدّْ وقال آخر:

4150 - يَرْمي الفِجاجَ بها الرُّكبانُ معْتَرِضاً ... أعناقَ بُزَّلِها مُرْخى لها الجُدُلُ وأمَّا الثانيةُ فجاءَتْ على لغة طَيِّىء يقولون: أكلوني البراغيث. وقد تقدَّم القولُ في هذا مشبعاً في المائدة والأنبياء. ومثلُه قولُ الآخر: 4151 - بمُطَّرِدٍ لَدْنٍ صِحاح كُعُوبُه ... وذي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ القَوانِسا وقيل: وجمعُ التكسير في اللغة في مثل هذا أكثرُ من الإِفراد. وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله «خاشعةً» على تَخْشَعُ هي. وقال الزمخشري: «وخُشَّعاً على: تخشَعْن أبصارهم، وهي لغةُ مَنْ يقول: أكلوني البراغيث وهم طيىء» ، قال الشيخ: «ولا يَجْري جمعُ التكسيرِ مَجْرى جمعِ السلامةِ، فيكون على تلك اللغةِ النادرِ القليلةِ. وقد نَصَّ سيبويه على أنَّ جمعَ التكسيرِ في كلام العربِ أكثرُ، فكيف يكونُ أكثرَ، ويكون على تلك اللغةِ

النادرةِ القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإِفراد مذكراً ومؤنثاً وجمعَ التكسيرِ، قال:» لأنَّ الصفةَ متى تَقَدَّمَتْ على الجماعة جاز فيها جميعُ ذلك، والجمعُ موافِقٌ لِلَفْظِها فكان أشبهَ «قال الشيخ:» وإنما يُخَرَّجُ على تلك اللغةِ إذا كان الجمعُ جَمْعَ سلامةٍ نحو: «مَرَرْتُ بقومٍ كريمين آباؤُهم» والزمخشريُّ قاسَ جَمْعَ التكسيرِ على جَمْعِ السلامةِ وهو قياسٌ فاسدٌ يَرُدُّه النَّقْلُ عن العربِ: أنَّ جَمْعَ التكسيرِ أجودُ من الإِفرادِ، كما ذكره سيبويهِ، ودَلَّ عليه كلامُ الفراء «. قلت: قد خَرَّج الناسُ قولَ امرىء القيس: 4152 - وُقوفاً بها صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ على أنَّ» صحبي «فاعل ب» وقوفاً «وهو جمعُ واقِف في أحدِ القولين في» وقوفاً «. وفي انتصابِ خاشعاً وخُشَّعاً وخاشعةً أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ به وناصبُه» يَدْعُ الداعِ «وهو في الحقيقةِ لموصوفٍ محذوفٍ تقديرهُ: فريقاً خاشعاً، أو فوجاً خاشعاً. والثاني: أنه حالٌ مِنْ فاعل» يَخْرُجون «المتأخرِ عنه. ولَمَّا كان العاملُ متصرِّفاً جاز تقدُّمُ الحالِ عليه، وهو رَدٌّ على الجرميِّ حيث زعم أنه لا يجوزُ. ورُدَّ عليه أيضاً بقول العرب:» شَتَّى تَؤُوب الحَلَبَة «، ف» شتى «حالٌ من» الحلَبَة «وقال الشاعر:

4153 - سَريعاً يهون الصَّعْبُ عند أُولي النُّهى ... إذا برجاءٍ صادقٍ قابلوا البأسا الثالث: أنه حالٌ من الضمير في» عنهم «ولم يذكر/ مكيٌّ غيره. الرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعولَ «يَدْعُو» المحذوفِ تقديره: يومَ يَدْعوهم الداعي خُشَّعاً، فالعامل فيها «يَدْعو» ، قاله أبو البقاء. وهو تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه. وارتفع «أبصارهم» على وجهين: إمَّا الفاعلية بالصفةِ قبلَه وهو الظاهرُ، وإمَّا على البدلِ من الضمير المستتر في «خُشَّعاً» لأنَّ التقديرَ: خُشَّعاً هم. وهذا إنما يتأتَّى على قراءةِ «خُشَّعاً» فقط. وقرِىء «خُشَّعٌ أبصارهم» على أنَّ خشعاً خبرٌ مقدمٌ و «أبصارُهُمْ» مبتدأ. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ وفيه الخلافُ المذكورُ مِنْ قبلُ كقوله: 4154 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وَجَدْتُه حاضِراه الجودُ والكرمُ قوله: {يَخْرُجُونَ} يجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في «أبصارُهم» ،

وأنْ يكونَ مستأنفاً. والأَجْداث: القبورُ. وقد تقَدَّم ذكرُه في سورةِ يس. قوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «يَخْرُجون» أو مستأنفةً. و «مُهْطِعين» حالٌ أيضاً مِنْ اسم كان أو مِنْ فاعلِ «يَخْرُجون» عند مَنْ يرى تعدُّدَ الحال. قال أبو البقاء: «ومُهْطِعين حالٌ من الضميرِ في» مُنْتَشِرٌ «عند قوم. وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الضميرَ في» مُنتشِر «للجراد، وإنما هو حالٌ مِنْ فاعل» يَخْرُجون «أو من الضمير المحذوف» انتهى. وهو اعتراضٌ حسنٌ على هذا القول. والإِهْطاعُ: الإِسراعُ وأُنْشِد: 4155 - بدِجلَةَ دارُهُمْ ولقد أَرَاهُمْ ... بدِجْلةَ مُهْطِعين إلى السَّماع وقيل: الإِسراعُ مع مَدِّ العُنُق. وقيل: النظر. وأنشد: 4156 - تَعَبَّدَني نِمْرُ بنُ سَعْدٍ وقد أُرَى ... ونِمْرُ بنُ سَعْدٍ لي مُطيعٌ ومُهْطِعُ وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في سورة إبراهيم.

قوله: {يَقُولُ الكافرون} قال أبو البقاء: «حالٌ من الضمير في» مُهْطعين «. وفيه نظرٌ من حيث خلوُّ الجملةِ مِنْ رابطٍ يَرْبُطُها بذي الحال. وقد يُجابُ عنه: بأنَّ» الكافرون «هم الضميرُ في المعنى، فيكونُ من باب الربطِ بالاسمِ الظاهر عند مَنْ يرى ذلك، كأنه قيل: يقولون هذا. وإنما أَبْرزهم تشنيعاً عليهم بهذه الصفةِ القبيحةِ.

9

قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} : مفعولُه محذوفٌ، أي: كَذَّبَتِ الرسلَ؛ لأنهم لَمَّا كذَّبوا نوحاً عليه السلام فقد كَذَّبوا جميعَ الرسل. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ المسألةُ من باب التنازع؛ إذ لو كان منه لكان التقدير: كَذَّبَتْ قبلَهم قومُ نوحٍ عبدَنا فكذَّبوه، ولو لُفِظ بهذا لكان تأكيداً، إذ لم يُفِدْ غيرَ الأولِ. وشرطُ التنازعِ أَنْ لا يكونَ الثاني تأكيداً، لذلك منعوا أَنْ يكونَ قولُه: 4175 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أتاكِ أتاكِ اللاحقون احْبِسِ احبسِ من ذلك. وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يُجَوِّزُه فإنه أخرجه عن التأكيدِ فقال: «فإنْ قلتَ ما معنى قولِه» فكذَّبوا «بعد قولِه» كَذَّبَتْ «؟ قلت: معناه كذَّبوا فكذَّبوا عبَدنا أي: كذَّبوه تكذيباً عَقِبَ تكذيبٍ كلما مضى منهم قَرَنٌ مُكَذِّبٌ تَبِعه قرنٌ مكذبٌ» فهذا معنى حسن يسوغُ معه التنازعُ. و «مجنون»

خبرُ ابتداءٍ مضمر أي: هو مجنون. والدالُ في «ازْدُجِر» بدلٌ مِنْ تاء كما تَقَدَّم. وهل هو مِنْ مَقولِهم، أي: قالوا: إنه ازْدُجِرَ، أي: ازْدَجَرَتَهُ الجنُّ، وذهبَتْ بلُبِّه، قاله مجاهد، أو هو مِنْ كلام الله تعالى، أخبر عنه: بأنه انْتُهِر وزُجِرَ بالسبِّ وأنواع الأذى.

10

قوله: {أَنِّي مَغْلُوبٌ} : العامَّةُ على فتح الهمزة، أي: دعاه بأني مغلوبٌ وجاء هذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظِ لقال: إنه مغلوبٌ، وهما جائزان. وقرأ ابنُ أبي إسحاق والأعمشُ ورُويت عن عاصمٍ بالكسر: إمَّا على إضمارِ القولِ، أي: فقال، فَسَّر به الدعاءَ، وهو مذهبُ البصريين، وإمَّا إجراءً للدعاءِ مُجْرى القولِ وهو مذهبُ الكوفيين. وقد تقدَّم الخلاف في «فَتَحْنا» في الأنعام ولله الحمد.

11

قوله: {مُّنْهَمِرٍ} : المنهمر: الغزيرُ النازلُ بقوة. وأُنشد: 4158 - راحَ تَمْرِيْه الصَّبا ثم انتحى ... فيه شُؤْبُوْبُ جَنوبٍ مُنْهَمِرْ / واسْتُعير ذلك في قولهم: هَمَر الرجلُ في كلامِه، وفلانٌ يُهامِر الشيءَ، أي: يَجْرُفُهُ، وهَمَرَه مِنْ ماله: أعطاه بكثرةٍ.

وفي الباء في «بماء» وجهان، أظهرهما: أنها للتعدية ويكونُ ذلك على المبالغة في أنه جَعَلَ الماءَ كالآلةِ المُفْتتحِ بها كما تقول: فَتَحْتُ بالمفتاح. والثاني: أنها للحال، أي: فَتَحْناها ملتبسةً بهذا الماء. وقرأ عبد الله وأبو حيوة وعاصم في رواية «وفَجَرْنا» مخففاً، والباقون مثقلاً.

12

قوله: {عُيُوناً} : فيه أوجهٌ، أشهرها: أنه تمييزٌ، أي: فَجَّرْنا عيونَ الأرض فنَقله من المفعوليةِ إلى التمييز، كما يُنقل من الفاعلية. ومنعه بعضُهم، وتأوَّل هذه الآية على ما سيأتي: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} أبلغُ مِنْ «فَجَّرْنا عيونَ الأرض» لِما ذُكِر في نظيرِه غيرَه مرةٍ. الثاني: أنه منصوبٌ على البدلِ من «الأرض» . ويُضْعِفُ هذا خُلُوُّه من الضميرِ فإنه بدلُ بعضٍ مِنْ كل. ويُجاب عنه: بأنَّه محذوفٌ، أي: عيوناً منها كقوله {الأخدود النار} [البروج: 4-5] فالنار بدلُ اشتمالٍ. ولا ضميرَ فهو مقدرٌ. الثالث: أنه مفعولٌ ثانٍ لأنه ضُمِّن «فَجَّرنا» معنى صَيَّرْناها بالتفجير عيوناً. الرابع: أنها حالٌ. وفيه تَجَوُّزان: حَذْفُ مضافٍ، أي: ذات عيون، وكونُها حالاً مقدرة لا مقارنةً. قوله: {فَالْتَقَى المآء} لَمَّا كان المرادُ بالماءِ الجنسَ صَحَّ أَنْ يُقالَ: فالتقى الماء، كأنه: فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض. وهذه قراءة العامَّة. وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن كعب، وتُرْوَى عن أمير

المؤمنين أيضاً «الماءان» يتثنيةٍ، والهمزةُ سالمةٌ. وقرأ الحسن أيضاً «الماوان» بقَلْبها واواً. قال الزمخشري: «كقولهم: عِلْباوان يعني: أنه شَبَّه الهمزةَ المقلبةَ عن هاء بهمزةِ الإِلحاق. ورُوِي عنه أيضاً» المايان «بقَلْبها ياءً وهي أشدُّ مِمَّا قبلَها. وقوله: {قَدْ قُدِرَ} العامَّةُ على التخفيفِ. وقرأ ابنُ مقسم وأبو حيوةَ بالتشديد، وهما لغتان قُرِىء بهما: قولُه {قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 3] ، {قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] كما سيأتي.

13

قوله: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} :، أي: سفينةٌ ذاتُ ألواحٍ قال الزمخشري: وهي من الصفات التي تقوم مَقام الموصوفات فتنوب مَنابها وتؤدي مُؤَدَّاها، بحيث لا يُفْصَلُ بينها وبينها. ونحوه: 4159 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولكنْ ... نَ قميصي مَسْرودةٌ مِنْ حديدِ

أراد: ولكنَّ قميصي دِرْع. وكذلك: 4160 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولو في عيونِ النازياتِ بأَكْرُعِ أراد: ولو في عين الجَراد. ألا ترى أنَّك لو جَمَعْتَ بين السفينة وبين هذه الصفاتِ أو بين عيونِ الجراد والدِّرْع وهاتَيْن الصفتَيْن لم يَصِحَّ، وهذا من فصيحِ الكلام وبديعِه «. والدُّسُرُ: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه المساميرُ جمع دِسار نحو: كُتُب في جمع كِتاب. وقال الزمخشري:» جمعُ دِسار وهو المِسمارُ فِعال، مِنْ دَسَره إذا دَفَعه؛ لأنه يُدْسَرُ به مَنْفَذُه «وقال الراغب:» الواحدُ دَسْر يعني فيكونُ مثلَ: سَقْف وسُقُف وأصل الدِّسْرِ الدَّفْعُ الشديدُ بقَهْر، دَسَرَه بالرُّمْح، ومِدْسَرٌ مثلُ مِطْعَنْ ورُوِي: «ليس في العَنْبَر زكاةٌ إنما هو شيءٌ دَسَرَه البحرُ» ، أي: دفعه. الثاني: أنها الخيوطُ التي تُشَدُّ بها السفنُ. الثالث: أنها عَوارِضُ السفينة. الرابع: أنها أضلاعُها.

14

قوله: {بِأَعْيُنِنَا} : أي: مُلْتبسةً بحِفْظِنا وهو في المعنى كقولِه تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] . وقرأ زيد بن علي وأبو السَّمَّال «بأَعْيُنَّا» بالإِدغام. قوله: {جَزَآءً} منصوبٌ على المفعولِ له ناصبُه «فَفَتْحْنا» وما بعده. وقيل: منصوب على المصدرِ: إمَّا بفعلٍ مقدرٍ، ي: جازَيْناهم جزاءً، وإمَّا على التجوُّزِ: / بأنَّ معنى الأفعالِ المتقدِّمة: جازَيْناهم بها جزاءً. قوله: {لِّمَن كَانَ كُفِرَ} العامَّةُ على «كُفِرَ» مبنياً للمفعول والمرادُ ب مَنْ كُفِر نوحٌ عليه السلام، أو الباري تعالى. وقرأ مسلمة به محارب «كُفْر» بإسكان الفاء كقوله: 4161 - لو عُصْرَ منه المِسْكُ والبانُ انعصَرْ ... وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة «كَفَر» مبنياً للفاعل. والمرادُ ب «مَنْ» حينئذٍ قومُ نوحٍ. و «كُفِرَ» خبرُ كان. وفيه دليلُ على وقوع خبر كان ماضياً مِنْ غير «قد» وبعضُهم يقولُ: لا بُدَّ من «قَدْ» ظاهرةً أو مضمرةً. ويجوز أَنْ تكونَ «كان» مزيدةً. وضميرُ «تَرَكْناها» إمَّا للقصة. أو الفَعْلة، أو السفينة، وهو الظاهرُ.

15

قوله: {مُّدَّكِرٍ} : أصلُه مُذْتَكِر، فأُبْدِلت التاءُ دالاً مهملة، ثم أُبْدِلت المعجمة مهملةً لمقاربتها وقد تَقَدَّم هذا في قوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] . وقد قُرِىء «مُذْتكِر» بهذا الأصلِ وقرأ قتادة فيما نَقَل عنه أبو الفضل «مُذَكِّر» بفتح الذالِ مخففةً وتشديد القاف مِنْ ذَكَّر بالتشديد، أي: ذكر نفسه أو غيره بما مضى مِنْ قَصَص الأولين. ونَقَلَ عنه ابنُ عطية كالجماعة، إلاَّ أنَّه بالذال المعجمة وهو شاذٌّ، لأنَّ الأولَ يُقْلَبُ للثاني، لا الثاني للأولِ.

16

قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي} : «كان» الظاهرُ فيها أنها ناقصةٌ ف «كيف» خبرٌ مقدمٌ. وقيل: يجوزُ أَنْ تكون تامة فتكون «كيف» في محلِّ نصبٍ: إمَّا على الظرف، وإمَّا على الحال، كما تقدَّم تحقيقُه في البقرة.

17

ومعنى يَسَّرْنا القرآن: هَيَّأْناه للذِّكْر مِنْ قولِهم: يَسَّر فَرَسَه، أي: هَيَّأه للركوب بإلْجامِه. قال الشاعر: 4162 - فَقُمتُ إليه باللِّجام مُيَسَّراً ... هنالك يَجْزِيني الذي كنتُ أصنع

19

قوله: {صَرْصَراً} : أي الشديدةُ الصوتِ مِنْ

صَرْصَرَ البابُ أو القلمُ إذا صوَّت، أو الشديدة البرد مِنْ الصِّرِّ وهو البرد. وهو كله أصولٌ عند الجمهور. وقال مكي: أصلُه صَرَّر مِنْ صرَّ البابُ إذا صَوَّتَ لكنْ أبدلوا من الراء المشدة صاداً «. قلت: وهذا قول الكوفيين. ومثلُه: كَبْكَبَ وكَفْكَفَ، وتقدَّم هذا في فُصِّلَتْ وغيرها. قولُه: {يَوْمِ نَحْسٍ} العامّةُ على إضافة» يوم «إلى» نَحْس «بسكونِ الحاءِ. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه من إضافة الموصوف إلى صفتِه. والثاني: وهو قَولُ البصريين أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، أي: يوم عذابِ نحس، وقرأ الحسن بتنوينه ووَصْفِه ب نَحْس، ولم يُقَيِّدْه الزمخشريُّ بكسر الحاء. وقَيَّده الشيخ. وقد قُرِىء قولُه تعالى {في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} [فصلت: 16] بسكونِ الحاءِ وكسرِها. وتنوين» أيام «عند الجميع كما تقدَّم تقريره» ومُسْتمر «صفةٌ ل» يوم «أو» نَحْسٍِ «ومعناه كما تَقدَّم، أي: دامَ عليهم حتى أهلكهمِ أو مِنْ المرارة.

20

و «تَنْزِعُ» في موضع نصبٍ إمَّا نعتاً ل «ريحاً» ، وإمَّا حالاً منها لتخصُّصِها بالصفةِ ويجوزُ أن تكون مستأنفةً. وقال «الناس» لتَضُمَّ

ذَكَرهم وأُنثاهم، فأوقع الظاهر موقعَ المضمرِ لذلك، وإلاَّ فالأصلُ: تَنْزِعُهم. قوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ} حالٌ من الناسِ مقدرةً. و «مُنْقَعِر» صفةً ل «نَخْلٍ» باعتبار الجنس، ولو أَنَّثَ لاعتبر معنى الجماعة، كقوله {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الخاقة: 7] وقد تقدَّم تحقيق اللغتين فيه، وإنما ذَكَّر هنا وأَنَّثَ في الحاقةِ مراعاةً للفواصل في الموضعَيْن. وقرأ أبو نهيك «أَعْجُزُ» على وزن أَفْعُل نحو: ضَبُع وأضْبُع، وقيل: الكاف في موضع نصبٍ بفعل مقدرٍ تقديرُه: فتركهم كأنهم أعجازٌ، قاله مكي، ولو جُعِلَ مفعولاً ثانياً على التضمين، أي: يُصَيِّرهم بالنَّزْع كأنهم، لكان أقربَ. والأَعْجاز: جمعُ عَجُزٍ وهو مُؤَخَّرُ الشيءِ ومنه «العَجْزُ» لأنه يُؤَدِّي إلى تأخُّرِ الأمورِ. والمُنْقَعِرُ: المُنْقَلعُ مِنْ أصله، قَعَرْتُ النخلةَ: قَلَعْتُها مِنْ أصلها فانقَعَرَتْ. وقَعَرْتُ البئر: وصَلْتُ إلى قعرها. وقَعَرْتُ الإِناء: شَربْتُ ما فيه حتى وَصَلْتُ إلى قَعْرِه، وأَقْعَرْتُ البئر:، أي: جعلتُ لها قَعْراً، وقَعَرْتُها: وَصَلْتُ إلى قَعْرها.

24

قوله: {أَبَشَراً} : منصوبٌ على الاشتغالِ، وهو الراجحُ، لتقدُّم أداةٍ هي بالفعل أَوْلَى، «ومِنَّا» نعتٌ له. و «واحداً» فيه وجهان، أظهرهما: أنه نعتٌ ل «بَشَراً» إلاَّ أنه يُشْكِلُ عليه تقديمُ الصفةِ

المؤولة على الصريحة. ويُجاب: بأنَّ «مِنَّا» حينئذ ليس وَصْفاً بل حالٌ من «واحداً» قُدِّمَ عليه. والثاني: أنه نصبٌ على الحالِ من هاء «نَتَّبِعُه» وهو تخلُّصٌ من الإِعرابِ المتقدِّم. إلاَّ أنَّ المُرجِّحَ لكونه صفةً قراءتهما مرفوعَيْنِ: أبَشرٌ مِنا واحد نَتَّبِعُهُ على ما سيأتي فهذا يُرَجِّحُ كونَ/ «واحداً» نعتاً ل «بشراً» لا حالاً. وقرأ أبو السَّمَّال فيما نقل الهذلِيُّ والدانيُّ برفعِهما على الابتداء، و «واحدٌ» صفتُه «ونَتَّبعهُ» خبرُه. وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً، فيما نَقَل ابن خالويه وأبو الفضل وابن عطية برفع «بَشَرٌ» ونصب «واحداً» وفيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ «أبَشَرٌ» مبتدأًً، وخبرُه مضمر، تقديره: أَبَشَرٌ منا، يُبْعَثُ إلينا أو يُرْسَلُ. وأمَّا انتصابُ «واحداً» ففيه وجهان، أحدهما: أنَّه حالٌ من هاء بالابتداءِ أيضاً، والخبر «نَتَّبِعُه» و «واحداً» حالٌ على الوجهَيْن المذكورَين آنفاً. الثالث: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمر مبني للمفعول تقديره: أيُنَبَّأُ بَشَرٌ و «مِنَّا» نعتٌ و «واحداً» حالٌ أيضاً على الوجهَيْن المذكورَيْن آنفاً. وإليه ذهبَ ابنُ عطية.

قوله: {وَسُعُرٍ} يجوزُ أن يكون مفرداً، أي: جنون. يقال: ناقةٌ مَسْعُورة، أي: كالمجنونة في سَيْرها. قال الشاعر: 4163 - كأنَّ بها سُعْراً إذا العِيْسُ هَزَّها ... ذَمِيْلٌ وإرْخاءٌ من السير متعبُ وأَنْ يكونَ جمعَ سَعير، وهو النار، والاحتمالان منقولان.

25

قوله: {مِن بَيْنِنَا} : حالٌ من هاء «عليه» ، أي: أَلْقى عليه منفرداً مِنْ بيننا. قوله: {أَشِرٌ} الأَشِرُ: البَطِرُ. يقال: أَشِر يأْشَر أَشَراً فهو أشِرٌ كفَرِح، وآشِر كضارب، وأشْران كسَكران، وأُشارى كسُكارى. وقرأ أبو قُلابةِ وجعلهما أَفْعَلَ تفضيلٍ تقول: زيدٌ خيرٌ مِنْ عمروٍ وشرٌّ مِنْ بكر. ولا نقول: أَخْبرُ ولا أَشَرُّ إلاَّ في نُدورٍ كهذه القراءة وكقول رُؤْبة: 4164 - بِلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ ... وَثَبَتَتْ فيهما في التعجب نحو: ما أَخْيره وما أشَرَّه. ولا تُحْذَفُ إلاَّ

في نُدورٍ عكسَ أفعل التفضيل. قالوا: «ما خيرَ اللبنِ للصحيح وما شَرَّه للمبطون» وهذا مِنْ محاسِن الصناعة. وقرأ أبو قيس الأوْدِيُّ، ومجاهد الحرفَ الثاني «الأُشُرُ» ثلاث ضماتٍ. وتخريجها: على أنَّ فيه لغةَ «أَشُر» بضم الشين كحَذُر وحذِر، ثم ضُمَّت الهمزة على أصلِ تيْكَ اللغةِ كحَذُر.

27

قوله: {فِتْنَةً} : مفعولٌ له أو مصدرٌ من معنى الأول، أو في موضع الحال.

28

وقرأ العامة «قِسْمَةٌ» بكسر القاف. ورُوي عن أبي عمروٍ فتُحها وهو قياس المَرَّةِ. والضمير في «بَيْنَهم» لقوم صالحٍ والناقة، فغلَّب العاقلَ.

29

قوله: {فَنَادَوْاْ} : قبله محذوفٌ، أي: فتمادَوْا على ذلك ثم مَلُّوْهُ فعزمُوا على عَقْرِها فنادَوْا صاحبَهم/ وتَعاطَى: مطاوعُ عاطَى، كأنهم كانوا يتدافَعُونْ ذلك حتى تَوَلاَّه أَشْقاها.

31

قوله: {كَهَشِيمِ المحتظر} : العامَّةُ على كسر الظاء اسمَ فَاعلٍ وهو الذي يَتَّخِذُ حَظيرةً مِنْ حَطَب وغيرِه. وقرأ أبو السَّمَّال وأبو حيوة وأبو رجاء وعمرو بن عبيد بفتحها. فقيل: هو مصدرٌ، أي: كَهَشِيم الاحتظار وقيل: هو مكانٍ. وقيل هم اسمُ مفعولٍ وهو الهَشيمُ نفسهُ، ويكون من بابِ إضافةِ الموصوفِ لصفتِه كمسجدِ الجامع. والحَظْرُ: المَنْعُ، وقد تقدَّم تحريرُه في سبحان.

34

قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه مُتصلٌ ويكون المعنى: أنه أرسل الحاصِبَ على الجميع إلاَّ أهلَه فإنه لم يرسِلْ عليهم. والثاني: أنه منقطعٌ، ولا أدري ما وجهُه؟ فإنَّ الانقطاعَ

وعدمَه عبارةٌ عن عدم دخولِ المستثنى في المستثنى منه، وهذا داخلٌ ليس إلا. وقال أبو البقاء: «هو استثناءٌ منقطعٌ. وقيل: متصلٌ، لأنَّ الجميع أُرْسِلَ عليهم الحاصبُ فهَلَكوا إلاَّ آل لوطٍ. وعلى الوجهِ الأولِ يكون الحاصِبُ لم يُرْسَلْ على آلِ لوطٍ» انتهى. وهو كلامٌ مُشْكِلٌ. وقوله: {نَّجَّيْنَاهُم} تفسيرٌ وجوابٌ لقائلٍ يقولُ: فما كان مِنْ شأنِ آلِ لوطٍ؟ كقولِه «أبى» بعد قولِه {إِلاَّ إِبْلِيسَ} [البقرة: 34] وقد تقدَّم في البقرة. «وبسَحَرٍ» الباءُ حاليةٌ أو ظرفيةٌ. وانصرف «سَحَر» لأنه نكرةٌ، ولو قُصِدَ به وقتٌ بعينِه لمُنعَ للتعريفِ والعَدْلِ عن أل، هذا هو المشهورُ وزعم صدرُ الأفاضل أنه مبنيُّ على الفتح كأمسِ مبنياً على الكسر.

35

قوله: {نِّعْمَةً} : إمَّا مفعولٌ به، وإمَّا مصدرٌ بفعلٍ مِنْ لفظِها، أو مِنْ معنى «نَجَّيْناهم» لأنَّ تَنْجِيَتَهم إنعامٌ، فالتأويلُ: إمَّا في العامل، وإمَّا في المصدر «ومِنْ عندِنا» : إمَّا متعلقٌ بنعمة، وإمَّا بمحذوفٍ صفةً لها. والكاف في «كذلك» نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: مثلَ ذلك الجزاء نَجْزِي. وقرأ العامَّةُ «فَطَمَسْنا» مخففاً. وابن مقسم مُشَدَّداً على التكثيرِ لأجلِ المتعلَّق أو لشِدَّة الفعلِ في نفسِه.

38

قوله: {بُكْرَةً} : انصرفَ لأنه نكرةٌ، ولو قُصِد به

وقتٌ بعينه امتنع للتعريف والتأنيثِ. وهذا كما تقدَّم في «غُدْوة» ومَنَعَها زيد بن علي الصرفَ، ذَهَب بها إلى وقتٍ بعينه.

42

قوله: {أَخْذَ عَزِيزٍ} : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه.

44

و: {أَمْ يَقُولُونَ} : العامَّةُ على الغَيْبة التفاتاً. وأبو حيوة وأبو البرهسم وموسى الأسواري بالخطاب جَرْياً على ما تقدَّم مِنْ قوله «أكُفَّاركم» إلى آخره.

45

والعامَّةُ على «سَيُهْزَمُ» مبنياً للمفعول. «والجَمْعُ» مرفوعٌ به. وقُرِىء «ستَهْزِمُ» بفتح التاء خطاباً للرسول عليه السلام، «الجمعَ» مفعولٌ به، وأبو حيوة في روايةٍ ويعقوب «سَنَهْزِمُ» بنونِ المعظِّمِ نفسَه، و «الجمعَ» منصوبٌ أيضاً، ورُوِيَ عن أبي حيوة أيضاً وابن أبي عبلة «سَيَهْزِمُ» بياء الغَيْبة مبنياً للفاعل، «الجمعَ» منصوبٌ، أي: سَيَهْزِمُ اللهُ الجمعَ. «ويُوَلُّوْن» العامَّة على الغَيْبة. وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ «وتُوَلُّون» بتاء الخطاب، وهي واضحةٌ. والدُّبُرُ هنا: اسمُ جنسٍ. وحَسُنَ هنا لوقوعِه فاصلةً بخلافِ {لَيُوَلُّنَّ الأدبار} [الحشر: 12] . وقال الزمشخري: «أي: الأدبار، كما قال:

4166 - كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقُرىء» الإِدْبار «. قال الشيخ:» وليس مثل/ «بعضِ بَطْنكم» لأن الإِفراد هنا له مُحَسِّنٌ ولا مُحَسِّنٌ لإِفرادِ «بَطْنكم» .

48

قوله: {ذُوقُواْ} : على إرادةِ القولِ، وقرأ أبو عمروٍ وفي روايةِ محبوبٍ عنه «مَسَّقَر» وخَطَّأه ابن مجاهد. وهو معذورٌ لأنَّ السينَ الأخيرةَ مِنْ «مَسَّ» مُدْغَم فيها فلا تُدْغَمُ في غيرها لأنها متى أُدْغِم فيها لَزِم تحريكُها، ومتى أُدْغمت هي لَزِم سكونُها فتنافس الجَمْعُ بينهما. قال الشيخ: «والظَّنُّ بأبي عمروٍ أنه لم يُدْغِمْ حتى حَذَفَ أحد الحرفينِ، لاجتماع الأمثال ثم أَدْغم» قلت: كلامُ ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه إنه أدغم، أمَّا إذا حَذَفَ وأَدْغَمَ فلا إشكالَ. «وسَقَر» عَلَمٌ لجهنم أعاذَنا اللَّهُ منها مشتقةٌ مِنْ سَقَرَتْه الشمسُ والنارُ، أي: لَوَّحَتْه ويُقال: صَقَرَتْه بالصاد، وهي مبدلَةٌ من السين لأجل القاف. قال ذو الرمة:

4167 - إذا ذابتِ الشمسُ اتَّقى صَقَراتِها ... بأَفْنانِ مَرْبوع الصَّريمةِ مُعْبِلِ «وسَقَر» متحتمُ المنعِ؛ لأن حركةَ الوسطِ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلةَ الحرفِ الرابع كعَقْرب وزينب.

49

قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ} : العامَّةُ على نصب «كل» على الاشتغال وأبو السَّمَّال بالرفع. وقد رَجَّحَ الناسُ، بل بعضُهم أوجبَ النصبَ قال: لأن الرفعَ يُوْهِمُ ما لا يجوزُ على قواعد أهل السُّنَّة. وذلك أنه إذا رُفع «كل شيء» كان مبتدأً «وخَلَقْناه» صفةٌ ل «كل» أو لشيء. و «بقَدَر» خبرهُ. وحينئذٍ يكون له مفهومٌ لا يَخْفَى على متأمِّله، فيلزَمُ أن يكون الشيءُ الذي ليس مخلوقاً لله تعالى لا بَقَدَر، كذا قَدَّره بعضُهم. وقال أبو البقاء: «وإنما كان النصبُ أَوْلى لدلالتِه على عموم الخَلْقِ، والرفعُ لا يدلُّ على عمومِه، بل يُفيد أنَّ كل شيءٍ مخلوقٌ فهو بقدر» . وقال مكي بن أبي طالب: «كان الاختيارُ على أصول البَصْريين رفع» كل «كما أن الاختيارَ عندهم في قولك» زيدٌ ضربْتُه «الرفعُ، والاختيارُ عند الكوفيين النصبُ فيه بخلاف قولِنا» زيد أكرمتُه «لأنه قد تقدَّم في الآية شيءٌ عَمِل فيما بعده وهو» إنَّ «والاختيارُ عندهم النصبُ فيه. وقد أجمع القرّاءُ على النصبِ ف» كل «على الاختيار فيه عند الكوفيين لِيَدُلُّ ذلك على عموم الأشياء المخلوقاتِ أنها لله تعالى بخلافِ ما قاله أهلُ الزَيْغِ مِنْ أنَّ ثمَّ مخلوقاتٍ لغير الله تعالى، وإنما دلَّ النصبُ في» كلَّ «على

العموم؛ لأن التقديرَ: إنَّا خَلَقْنا كلَّ شيء خَلَقْناه بَقَدَر، فَخَلَقْناه تأكيدٌ وتفسيرٌ ل» خَلَقْنا «المضمر الناصبِ ل» كلَّ «. وإذا حَذَفْتَه وأَظْهَرْت الأولَ صار التقديرُ: إنَّا خَلَقْناه كلَّ شيءٍ بَقدَر، فهذا لفظٌ عامٌ يَعُمُّ جميع المخلوقاتِ. ولا يجوز أَنْ يكون» خَلَقْناه «صفةً ل» شيءٍ «لأنَّ الصفةَ والصلةَ لا يعملان فيما قبل الموصوفِ ولا الموصولِ، ولا يكونان تفسيراً لِما يعملُ فيما قبلهما، فإذا لم يَبْقَ» خَلَقْناه «صفةً لم يَبْقَ إلاَّ أنه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر النصب، وذلك يَدُلُّ على العموم. وأيضاً فإن النصبَ هو الاختيارُ لأنَّ» إنَّا «عندهم يَطلبُ الفعلَ فهو أَوْلى به، فالنصبُ عندهم في» كل «هو الاختيارُ، فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج عن الشُبَهِ كان النصبُ أَوْلى من الرفع» . وقال ابن عطية: / «وقومٌ من أهلِ السُّنَّة بالرفع» . وقال أبو الفتح: «هو الوجهُ في العربية، وقراءتُنا بالنصب مع الجماعة» . وقال الزمخشري: «كلَّ شيء» منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره الظاهرُ. وقُرِىء «كلُّ شيءٍ» بالرفع. والقَدْر والقَدَر: التقديرُ، وقُرِىء بهما، أي: خَلَقْنا كلَّ شيء مُقَدَّراً مُحْكَماً مُرَتَّباً على حَسَبِ ما اقْتَضَتْه الحكمةُ أو مُقَدَّراً مكتوباً في اللوح، معلوماً قبل كونِه قد عَلِمْنا حاله وزمانَه «انتهى. وهو هنا لم يَتَعَصَّبْ للمعتزلةِ لضعفِ وجهِ الرفع. وقال قومٌ: إذا كان الفعل يُتَوَهَّمُ فيه الوصفُ وأنَّ ما بعدَه يَصْلُحُ

للخبر، وكان المعنى على أن يكون الفعلُ هو الخبرَ اختير النصبُ في الاسمِ الأولِ حتى يتضحَ أنَّ الفعل ليس بوصفٍ، ومنه هذا الموضعُ؛ لأنَّ قراءة الرفع تُخَيِّل أنَّ الفعلَ وصفٌ، وأن الخبرَ «بقدَر» . وقد تنازع أهلُ السنة والقَدَرِيَّة الاستدلال بهذه الآية: فأهلُ السُّنَّة يقولون: كلُّ شيء مخلوقٌ لله تعالى بقَدَرٍ، ودليلُهم قراءة النصبِ لأنه لا يُفَسَّر في هذا التركيب إلاَّ ما يَصِحُّ أن يكون خبراً لو رُفِع الأولُ على الابتداء. وقال القَدَرية: القَراءةُ برفع «كل» و «خَلَقْناه» في موضع الصفة ل «كل» ، أي: إنَّ أمْرَنا أو شأنَنا: كلُّ شيء خَلَقْناه فهو بَقَدر أو بمقدار، وعلى حَدِّ ما في هيئتهِ وزمنِه. وقال بعضُ العلماء: في القَدَر هنا وجوهٌ، أحدها: أنه المقدارُ في ذاتِه وفي صفاته. والثاني: التقديرُ كقولِهِ {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} [المرسلات: 23] . وقال الشاعر: 4168 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقَد قَدَّر الرحمنُ ما هو قادِرُ أي: ما هو مُقَدَّر. والثالث: القَدَرُ الذي يُقال مع القضاء كقولِكَ: كان بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه فقوله «بقَدَرٍ» على قراءة النصب متعلِّقٌ بالفعل الناصب وفي قراءةِ الرفع في محلِّ رفع، لأنه خبرٌ ل «كل» و «كل» وخبرُها في محل رفع خبراً ل إنَّ.

52

وسيأتي قريباً آيةٌ عكسَ هذه أعني في اختيار الرفع وهي

قولُه {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} فإنَّه لم يختلف في رفعِه قالوا لأنَّ نصبَه يُؤدَّي إلى فسادِ المعنى لأنَّ الواقعَ خلافُه، وذلك أنَّك لو نَصَبْتَه لكان التقديرُ: فعلوا كلَّ شيءٍ في الزبُر، وهو خلافُ الواقع؛ إذ في الزُّبُر أشياءُ كثيرةٌ جداً لم يفعلوها. وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتؤَدِّي أنَّ كلَّ شيءٍ فعلوه هم، ثابتٌ في الزُبُر وهو المقصود فلذلك اتُّفِقَ على رفعِه، وهذان الموضعان مِنْ نُكَتِ المسائلِ العربيةِ التي اتَّفق مجيئُها في سورةٍ واحدةٍ في مكانَيْن متقاربين ومما يَدُلُّ على جلالةِ علمِ الإِعراب وإفهامهِ المعانيَ الغامضةَ. والجاهلون لأهل العلم أعداءٌ.

53

وقرأ العامَّةُ «مُسْتَطَرٌ» بتخفيف التاءِ من السَّطر وهو الكَتْبُ، أي: مُكْتَتب. وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وتُرْوَى عن عاصم بتشديدها. وفيه وجهان. أحدهما: أنه مشتقٌ مِنْ طَرَّ الشاربُ والنبات، أي: ظهر ونَبَتَ، بمعنى: أنَّ كلَّ شيءٍ قلَّ أو كثُر ظاهرٌ في اللوح غيرُ خفي، فوزنُه مُسْتَفْعَل كمُسْتَخْرج. والثاني: أنَّه من الاستطار، كالقراءة العامة وإنما شُدِّدَت الراءُ من أجل الوقفِ كقولهم: «هذا جَعْفَرّْ وفَرَجّْ» ثم أُجري الوصلُ مُجرى الوقف فوزنه مُفْتَعَلَ كقراءة الجمهور.

54

قوله: {نَهَرٍ} : العامةُ بالإِفرادِ وهو اسمُ جنسٍ بدليل مقارنتِه للجمع، والهاء مفتوحةٌ كما هو الفصيح، وسَكَّنها مجاهد

والأعرج وأبو السَّمَّال والفياض وهي لُغَيَّةٌ. وقد تقدَّم الكلامُ عليها أولَ البقرة. وقيل ليس المرادُ هنا نهرَ الماءِ، وإنما المرادُ به سَعَةُ الأرزاقِ لأنَّ المادةَ تَدُلُّ على ذلك كقول قيس بن الخطيم: / 4169 - مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها ... يَرى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءَها أي: وسَّعْتُ. وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز والأعمش وزهير الفرقبي «ونُهُر» بضم النونِ والهاءِ، وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ جمعَ نَهَر بالتحريك وهو الأَوْلى نحو: أُسُد في أَسَد. والثاني: أن يكون جمعَ الساكنِ نحو: سُقُف في سَقْف ورُهُن في رَهْن، والجمع مناسِبٌ للجمع قبلَه في «جنات» وقراءةُ العامة بإفرادِه أَبْلَغُ وقد تقدَّم كلامُ ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة {وملائكته وَكُتُبِهِ} [البقرة: 285] بالإِفرادِ، وأنه أكثرُ مِنْ «الكتب» . وتقدَّم أيضاً تقديرُ الزمخشري لذلك، فعليك. . . قوله تعالى {فِي مَقْعَدِ} يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وهو الظاهرُ وأَنْ يكون حالاً من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبراً. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ

يكونَ بدلاً مِنْ قولِه «في جنات» وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ، لأن المقعدَ بعضُها، وأَنْ يكون اشتمالاً أنها مشتمِلَةٌ، والأولُ أظهرُ، والعامَّةُ على إفراد «مَقْعَد» مُراداً به الجنس كما تقدَّم في «نَهَر» . وقرأ عثمان البتِّي «مقاعِدِ» وهو مناسبٌ للجمع قبلَه. ومَقْعَدُ صِدْقِ من بابِ رجلُ صدقٍ: في أنه يجوزُ أنْ يكون من إضافةِ الموصوف لصفتِه. والصدقُ يجوزُ أَنْ يُرادَ بهِ ضدُّ الكذبِ، أي: صُدِّقوا في الإِخبار به، وأَنْ يرادَ به الجَوْدَةُ والخيريَّةُ. و «مليك» مثلُ مبالغةٍ وهو مناسِبٌ هنا، ولا يُتَوهَّمُ أنَّ أصلَه مَلِك لأنه هو الوارِدُ في غيرِ موضعٍ، وأنَّ الكسرةَ أُشْبِعَتْ فتولَّد منها ياءٌ؛ لأنَّ الإِشباعَ لم يَرِدْ إلاَّ ضرورةً أو قليلاً، وإنْ كان قد وقع في قراءةِ هشام «أَفْئِيدَةً» في آخر إبراهيم، وهناك يطالعَ ما ذكَرْتُه فيه.

الرحمن

قوله: {الرحمن} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: اللَّهُ الرحمنُ. الثاني: أنه مبتدأٌ، وخبرُه مضمرٌ، أي: الرحمنُ ربُّنا. وهذان الوجهان عند مَنْ يرى أنَّ «الرحمن» آيةٌ مع هذا المضمرِ معه، فإنهم عَدُّوا «الرحمن» آيةً ولا يُتَصَوَّرُ ذلك إلاَّ بانضمامِ خبرٍ أو مُخْبَرٍ عنه إليه، إذ الآيةُ لا بُدَّ أَنْ تكونَ مفيدةً، وسيأتي ذلك في قولِه «مُدْهامَّتان» . الثالث أنه ليس بآيةٍ، وأنه مع ما بعده كلامٌ واحدٌ، وهو مبتدأٌ خبرُه «عَلَّم القرآنَ» .

2

قوله: {عَلَّمَ القرآن} : فيه وجهان، أظهرُهما: أنها عَلَّم المتعديةُ إلى اثنين أي: عَرَّف، من التعليم، فعلى هذا المفعولُ الأولُ محذوف فقيل: تقديره: عَلَّم جبريلَ القرآنَ. وقيل: علَّم محمداً. وقيل: عَلَّم الإِنسانَ. وهذا أَوْلَى لعُمومِه، ولأنَّ قولَه «خَلَق الإِنسانَ» دالٌّ عليه. والثاني: أنها من العلامةِ. فالمعنى: جَعَله علامةً وآيةً يُعْتنى بها. وهذه الجملُ التي جيْءَ بها من غيرِ عاطفٍ لأنها سِيْقَتْ لتعديدِ نعمةٍ كقولك: فلانٌ أَحْسَنَ إلى فلانٍ: أكرمه، أشاد ذِكْرَه، رَفَعَ مِنْ قَدْرِه،

فلشِدَّةِ الوصلِ تَرَكَ العاطفَ. والظاهر أنها أخبارٌ. وقال أبو البقاء: و «خَلَق الإِنسان» مستأنفٌ وكذلك «عَلَّمه» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الإِنسان مقدرةً و «قد» معها مرادةٌ «. انتهى. وهذا ليس بظاهرٍ بل الظاهرُ ما قدَّمتهُ ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. فإن قيل: لِمَ قَدَّم تعليمَ القرآنِ للإِنسان على خَلْقِه وهو متأخرٌ عنه في الوجودِ؟ قيل: لأنَّ التعليمَ هو السببُ في إيجادِه وخَلْقِه.

5

قوله: {بِحُسْبَانٍ} : فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن «الشمس» مبتدأ و «بحُسْبان» خبرُها على حَذْفِ مضافٍ تقديره: جَرْيُ الشمس والقمر بحُسْبانٍ، أي: كائن أو مستقر أو استقرَّ بحُسْبان. الثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ يتعلَّق به هذا الجارُّ تقديره: يَجْريان بحسبان، وعلى هذين القولَيْن فيجوز في الحُسْبان وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ مفردٌ بمعنى الحُسْبان، فيكونُ كالشُّكران والكُفْران. والثاني: أنه جمعُ حِساب كشِهاب وشُهْبان. / والثالث: أنَّ الحُسْبَانَ خبرُه، والباءُ ظرفيةٌ بمعنى في، أي: كائنان في حُسْبان، وحُسْبان، وحُسْبان على هذا اسمٌ مفرد، اسمٌ للفَلَكِ المستدير، شَبَّهه بحُسْبان الرَّحى الذي باستدارته تستدير الرحى، قاله مجاهد.

7

قوله: {والسمآء رَفَعَهَا} : العامَّةُ على النصب على الاشتغال مراعاً لعَجُزِ الجملةِ التي يُسَمِّيها النحاةُ ذاتَ وجهين. وفيها

دليلٌ لسيبويه حيث يُجَوِّزُ النصبَ، وإنْ لم يكنْ في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ عائدٌ على المبتدأ الذي تضمَّنَتْه الجملةُ ذاتُ الوجهين. والأخفشُ يقول: لا بُدَّ من ضميرٍ، مثالُه: «هند قامَتْ وعمراً أكرمْتُه لأجلها» قال: «لأنك راعَيْتَ الخبرَ، وعَطَفْتَ عليه، والمعطوفُ على الخبرِ خبرٌ فيُشْترط فيه ما يُشْترط فيه، ولم يَشْتَرِطِ الجمهورُ ذلك وهذا دليلُهم، قال الفراء:» كلهم نَصَبُوا مع عدم الرابط إلاَّ مَنْ شذَّ منهم. وقد تقدَّمَ هذا محرراً في سورة يس عند قولِه تعالى: {والقمر قَدَّرْنَاهُ} [يس: 39] فهناك اختلف السبعةُ في نَصْبِه ورفعِه ولله الحمدُ. قوله: {وَوَضَعَ الميزان} العامَّةُ على «وَضَع» فعلاً ماضياً. و «الميزانَ» نُصِبَ على المفعولِ به. وقرأ إبراهيم. «ووَضْعَ الميزانِ» بسكون الضاد وخفض «الميزانِ» . وتخريجُها: على أنه معطوفٌ على مفعولِ «رَفَعَها» ، أي: وَرَفَعَ وَضْعَ الميزان، أي: جَعَلَ له مكانةً ورِفْعَةً لأَخْذِ الحقوق به، وهو مِنْ بديعِ اللفظِ، حيث يصير التقديرُ: ورَفَعَ وَضْعَ الميزان. وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف أَخَلَّ بالعاطف في الجمل الأُوَل وجِيْءَ به بعدُ؟ قلت: بَكَّتَ بالجملِ الأُوَلِ واردةً على سَنَنِ التعديد الذين أنكروا الرحمنَ وآلاءَه كما يُبَكَّتُ مُنْكِرُ أيادي المُنْعَمِ [عليه] من

الناسِ بتعدُّدها عليه في المثالِ الذي قَدَّمْتُه، ثم رَدَّ الكلامَ إلى منهاجِه بعد التبكيت في وَصْلِ ما يجب وَصْلُه للتناسُبِ والتقارُب بالعاطفِ. فإنْ قلت: أيُّ تناسُبٍ بين هاتَيْنِ الجملتَيْن حتى وَسَّط بينهما العاطفَ؟ قلت: إن الشمسَ والقمرَ سماويان، والنجمَ والشجرَ أَرْضيان فبينهما تناسُبٌ من حيث التقابلُ، وأن السماءَ والأرضَ لا تزالان قرينتَيْن، وأنَّ جَرْيَ الشمسِ والقمرِ بحُسْبان مِنْ جنسِ الانقيادِ لأمرِ اللهِ، فهو مناسِبٌ لسُجودِ النجمِ والشجرِ» .

8

قوله: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ} : في «أنْ» هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها الناصبةُ، و «لا» بعدها نافيةٌ، و «تَطْغَوْا» منصوبٌ ب «أنْ» ، وأنَّ قبلَها لامَ العلةِ مقدرةً، تتعلَّقُ بقولِه: «ووَضَع الميزانَ» التقدير: لئلا تَطْغَوا، وهذا بَيِّنٌ. وأجاز الزمخشريُّ وابنُ عطية أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ، وعلى هذا تكونُ «لا» ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها. إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّه: بأنَّ شَرْطَها تقدُّمُ جملةٍ متضمنةٍ لمعنى القول، وليسَتْ موجودةً. قلت: وإلى كونِها مفسِّرةً ذهبَ مكي وأبو البقاء: إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ كأنَّه تَنَبَّه للاعتراضِ فقال: «وأَنْ بمعنى أَيْ، والقولُ مقدَّرٌ» ، فجعل الشيءَ المفسَّرَ ب «أَنْ» مقدَّراً لا ملفوظاً بها، إلاَّ أنه قد يُقال: قولُه/ «والقولُ مقدَّرٌ» ليس

بجيدٍ، لأنها لا تُفَسِّرُ القولَ الصريحَ، فكيف يُقَدِّر ما لا يَصِحُّ تفسيرُه؟ فإِصْلاحُه أَنْ يقولَ: وما هو بمعنى القول مقدرٌ.

9

قوله: {وَلاَ تُخْسِرُواْ} : العامَّةُ على ضَمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مِنْ أَخْسَرَ، أي: نَقَصَ كقولِه: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} وقرأ زيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاءِ وكسرِ السين فيكون فَعَلَ وأَفْعَلَ بمعنىً. يقال: خَسِر الميزانَ وأخسَره، بمعنىً واحدٍ نحو: جَبَر وأَجْبَر. ونقل أبو الفتح وأبو الفضل عن بلال فتحَ التاءِ والسينِ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه على حَذْفِ حرفِ الجر تقديره: ولا تَخْسَروا في الميزان. ذكره الزمخشري وأبو البقاء: إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: «لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ» خَسِرَ «جاء متعدياً. قال تعالى: َ {خسروا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام: 12] . و {خَسِرَ الدنيا والآخرة} [الحج: 11] . قلت: وهذا ليس مِنْ ذاك. ألا ترى أنّ {خَسِروا أنفسَهم} {وخَسِر الدنيا والآخرةَ} معناه: أنَّ الخُسْران واقعٌ بهما، وأنَّهما معدومان. وهذا المعنى ليس مُراداً في الآيةِ قطعاً، وإنما المرادُ: لا تُخْسِروا الموزونَ في الميزان. وقُرِىء» تَخْسُروا «

بفتح التاء وضمِّ السينِ. قال الزمخشري:» وقُرِىء ولا تَخْسروا بفتح التاء وضم السين وكسرِها وفتحِها. يقال: خَسِر الميزانَ يَخْسِره ويَخْسُره. وأمَّا الفتحُ: فعلى أنَّ الأصلَ «في الميزان» فحذف الجارَّ ووصلَ الفعلَ إليه «وكَرَّر لفظ الميزان، ولم يُضْمِرْه في الجملتَيْن بعده تقويةً لشَأْنِه وهذا كقولِه: 4170 - لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا

10

قوله: {والأرض وَضَعَهَا} : كقولِه: {والسمآء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] . وقرأ أبو السَّمَّال بالرفع مبتدأً. و «للأَنام» علةٌ للوَضْع. والأَنام. قيل: الحيوان. وقيل: بنوا آدمَ خاصةً. وقيل: هم الإِنسُ والجنُّ، ووزنُه فَعال كقَذال، فيُجْمع في القلة على آنِمَة بزنة: امرأةٌ آثِمة وفي الكثرة: على أُنُم، كقَذال وأَقْذِلَة وقُذُل.

11

قوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ} : يجوزُ أَنْ تكون هذه الجملةُ حالاً من الأرض، إلاَّ أنَّها حالٌ مقدَّرَةٌ. ويجوزُ وهو الأحْسَنُ أَنْ يكونَ الجارُّ والمجرورُ هو الحالَ، و «فاكهةٌ» رَفْعٌ بالفاعليَّةِ، ونُكِّرَتْ؛ لأنَّ الانتفاعَ بها دونَ الانتفاعِ بما ذُكِرَ بعدها، وهو من باب الترقِّي مِنْ الأَدْنى إلى الأعلَى، والأَكْمام: جمعُ كِمّ بالكسر وهو وعاءُ الثمرة.

12

قوله: {والحب ذُو العصف والريحان} : قرأ ابنُ عامر بنصب الثلاثة. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: النصبُ على الاختصاص، أي: وأخُصُّ الحبَّ، قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ؛ لأنه لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى الفاكهة والنخل حتى يَخُصَّه مِنْ بَيْنِها، وإنما أراد إضمارَ فعلٍ وهو أَخَصُّ، فليس هو الاختصاصَ الصناعيَّ. الثاني: أنَّه معطوفٌ على الأرض. قال مكي: «لأنَّ قولَه» والأرضَ وَضَعَها «، أي: خلقها، فعطف» الحَبَّ «على ذلك» . الثالث: أنَّه منصوبٌ ب «خَلَق» مضمراً، أي: وخلق الحَبَّ. قال مكي: «أو وخَلَقَ الحَبَّ» وقرأ به موافقةً لرَسْم مصاحِف بلده، فإنَّ مصاحفَ الشامِ «ذا» بالألف. وجَوَّزوا في «الرَّيْحان» أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وذا الريحان فحُذِفَ/ المضافُ، وأٌقيم المضافُ إليه مُقامَه ك {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] . وقرأ الأخَوان برفع الأَوَّلين وجَرِّ «الرَّيْحان» عطفاً على «العَصْفِ» ، وهي تؤيِّدُ قولَ مَنْ حذفَ المضافَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ. والباقون برفع الثلاثةِ عطفاً على فاكهة، أي: وفيها أيضاً هذه الأشياءُ. ذكر أولاًّ ما يتلذَّذُون به من الفواكه، وثانياً الشيءَ الجامعَ بين التلذُّذِ والتغذِّي وهو ثَمَرُ النَخْلِ، وثالثاً ما يَتَغَذَّى به فقط، وهو أعظمُها، لأنه قُوْتُ غالبِ

الناسِ. ويجوز في الرَّيْحان على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه، أي: وفيها الرَّيْحانُ أيضاً، وأَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ في الأصلِ، أي: وذو الرَّيحْان ففُعِلَ به ما تقدَّم. والعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ. وقيل: التِّبْنُ. وأصلُه كما قال الراغب: مِن «العَصْفِ والعَصِيْفة وهو ما يُعْصَفُ، أي: يُقْطَعُ من الزَرْع» وقيل: هو حُطامُ النباتِ. والريحُ العاصف: التي تكسِرُ ما تمرُّ عليه وقد مَرَّ ذلك. والرَّيْحان في الأصل: مصدرٌ ثم أُطْلِقَ على الرزق كقولهم: «سُبْحانَ الله ورَيْحَانَه» ، أي: استِرْزاقُه وقيل: الرَّيْحان هنا هو المَشْمومُ. وفي الرَّيْحان قولان، أحدُهما: أنه على فَعْلان كاللَّيَّان مِنْ ذواتِ الواوِ. والأصلُ: رَوْحان. قال أبو علي: «فأُبْدِلَتْ الواوُ ياءً، كما أَبْدَلوا الياءَ واواً في» أَشاوى «. والثاني: أن يكون أصلُه رَيْوِحان، على وزن فَيْعِلان، فأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً، وأُدْغِمَتْ فيها الياءُ، ثم خُفِّفَ بحَذْفِ عينِ الكلمةِ كما قالوا: كَيْنُوْنة وبَيْنُونة. والأصلُ تشديدُ الياءِ فخفِّفَتْ كما خُفِّف هَين ومَيْت. قال مكي:» ولَزِم تَخْفِيْفُه لطولِه بلَحاق الزيادتَيْنِ «. ثم رَدَّ قولَ الفارسيِّ بأنه لا مُوْجبَ لقَلْبِها ياءً ثم قال:» وقال بعضُ الناسِ «فذكَر ما قَدَّمْتُه عن أبي علي إلى آخره.

13

قوله: {فَبِأَيِّ} : متعلقٌ ب «تُكذِّبان» والعامَّةُ على إضافة «أيّ» إلى الآلاء. وقُرِىء في جميع السورة بتنوينِ «أيّ» وتخريجُها: على أنه قَطَع أيَّاً عن الإِضافةِ إلى شيء مقدر، ثم أَبْدَل منه «آلاء ربِّكما» بدلَ معرفةٍ مِنْ نكرةٍ. وتقدَّم الكلامُ في «الآلاء» وما مفردُها في الأعراف ولله الحمد. والخطابُ في «رَبِّكما» قيل: للثَّقَلَيْن من الإِنس والجنِّ، لأنَّ الأنامَ يتضمَّنُهما على القول المشهور. وقيل: للذكر والأنثى. وقيل: هو مثنَّى مُرادٌ به الواحدُ، كقولِه تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] وقولِ الخبيث الثقفي: «يا حَرَسيُّ اضْربا عُنُقَه» وقد تقدَّم ما فيه. و «كالفَخَّار» نعتٌ لصَلْصال وتقدَّم تفسيرُه.

15

والجانُّ قيل: هو اسم جنس كالإِنسان. وقيل: هو أبو الجنِّ إبليسُ. وقيل: هو أبوهم وليس بإبليسَ. قوله: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} «مِنْ» الأولى لابتداء الغاية. وفي الثانيةِ وجهان، أحدهما: أنها للبيانِ. والثاني: أنها للتبعيض. والمارِجُ قيل: ما اختْلَطَ مِنْ أحمرَ وأَصفَر وأخضرَ، وهذا مُشاهَدٌ في النار، تُرى الألوانُ الثلاثةُ مختلِطاً بعضُها ببعض. وقيل: الخالِصُ. وقيل: الأحمرُ. وقيل: الحُمْرَةُ في طرفِ النار. وقيل: المختلطُ بسواد. وقيل: الخالصُ. وقيل: اللهبُ المضطربُ. و «مِنْ نار» نعتٌ ل «مارج» . وقوله: فبأيِّ «إلى آخره.

توكيدٌ وتكريرٌ، كما تقدَّم في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن} [القمر: 21] وكقولِه فيما سيأتي: {َوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] . وذهبَ جماعةٌ منهم ابنُ قتيبة إلى أنَّ التكريرَ لاختلافِ النِّعَم، فلذلك كَرَّر التوقيفَ مع واحدةٍ واحدةٍ.

17

قوله: {رَبُّ المشرقين} : العامَّةُ على رَفْعِه. وفيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ، خبرُه «مَرَج البحرَيْن» وما بينهما/ اعتراضٌ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هوَ رَبُّ أي: ذلك الذي فَعَلَ هذه الأشياء. والثالث: أنه بدلٌ من الضمير في «خَلَق» . وابن أبي عبلة «ربِّ» بالجر بدلاً أو بياناً ل «ربِّكما» . قال مكي: «ويجوزُ في الكلام الخفضُ على البدلِ مِنْ» ربِّكما «كأنَّه لم يَطَّلعْ على أنها قراءةٌ منقولةٌ والمَشْرقان، قيل: مَشرِقُ الشتاءِ والصيفِ ومَغْرباهما. وقيل: مَشْرقا الشمس والقمر ومَغْربهما. وقيل: مَشرقا الشمس فقط ومَغْرباها. قال الشيخ:» وعن عباس: للشمس مَشْرِقٌ في الصيفِ مُصْعِدٌ، ومَشْرِقٌ في الشتاءِ مُنْحَدرٌ، تنتقل فيهما مُصْعِدةً ومُنحَدرة «. وقال الشيخ:» فالمشرقان والمغربان للشمس «قلت: وهذا هو القولُ الذي يقول: مَشْرِقُ الصيفِ ومَشْرِقُ الشتاء فإنه إنَّما يعني بهما شُروق الشمسِ والقمرِ فيهما، أو شروق الشمسِ وحدَها فيهما، فهو داخلٌ في أحدِ القولَيْن المذكورَيْن ضرورةً.

19

قوله: {يَلْتَقِيَانِ} : حالٌ من «البحرَيْنِ» وهي قريبةٌ من الحال المقدرةِ. ويجوز بتجوُّزِ أَنْ تكونَ مقارنَةً. و «بينهما بَرْزَخٌ» يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً، وأَنْ تكونَ حالاً، وأَنْ يكونَ الظرفُ وحدَه هو الحالَ. والبَرْزَخ: فاعلٌ به وهو أحسنُ لقُرْبه من المفرد. وفي صاحبِ الحال وجهان، أحدُهما: هو «البحرَيْن» ، والثاني: هو فاعلُ «يَلْتقيان» ولا «يَبْغِيان» حالٌ أخرى كالتي قبلَها أي: مَرَجَهما غيرَ باغيَيْن، أو يلتقيان غيرَ باغيين، أو بينهما بَرْزَخٌ في حالِ عَدَمِ بَغْيهما. وهذه الحالُ في قوة التعليل؛ إذ المعنى: لئلا يَبْغِيا. وقد تَمَحَّل بعضُهم وقال: أصلُ ذلك لئلا يَبْغِيا، ثم حَذَفَ حرفَ العلة، وهو مُطَّرِدٌ مع «أَنْ» و «أَنَّ» ، ثم حُذِفَتْ «أَنْ» أيضاً وهو حَذْفٌ مُطَّرِد كقولِه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] فلمَّا حُذِفَتْ «أَنْ» ارتفع الفعلُ، وهذا غيرُ ممنوعٍ، إلاَّ أنه يتكرَّرُ فيه الحَذْفُ، وله أَنْ يقولَ: قد جاء الحَذْفُ أكثرَ مِنْ ذلك فيما هو أَخْفَى من هذا، كما تقدَّم في {قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9] ، وكما سيأتي في قولِه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة: 82] .

22

قوله: {يَخْرُجُ} : قرأ نافع وأبو عمرو «يُخْرَج» مبنياً للمفعول. والباقون مبنياً للفاعل على المجاز. قالوا: وثَمَّ مضافٌ

محذوفٌ أي: مِنْ أحدِهما؛ لأنَّ ذلك لم يُؤْخَذْ من البحرِ العَذْبِ، حتى عابُوا قولَه: 4171 - فجاءَ بها ما شِئتَ مِنْ لَطَمِيَّةٍ ... على وَجْهِها ماءُ الفُراتِ يموجُ قال مكي: «كما قال تعالى: {على رَجُلٍ مِّنَ القريتين} [الزخرف: 31] أي: مِنْ إحدى القريَتيْن، وحَذْفُ المضافِ كثيرٌ شائعٌ» وقيل: هو كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وإنما الناسِي فتاه، ويُعْزَى هذا لأبي عبيدة. وقيل: يَخْرُجُ من أحدِهما اللؤلؤ، ومن الآخر المَرْجانُ. وقيل: بل يَخْرجان منهما جميعاً، ثم ذكروا تآويلَ منها: أنهما يَخْرُجان من المِلْح في الموضعِ الذي يقع فيه العَذْبُ، وهذا مشاهَدٌ عند الغوَّاصين، وهو قولُ الجمهورِ فناسَبَ ذلك إسنادَه إليهما. ومنها قولُ ابنِ عباس: تكون هذه الأشياءُ في البحرِ بنزول المطر، والصَّدَفُ تفتح أفواهَها للمطر وقد شاهده الناسُ. ومنها: أنَّ العَذْبَ في المِلْح كاللِّقاح كما يُقال: الولدُ يخرُجُ من الذَّكر والأنثى. ومنها أنه قيل «منهما» من حيث هما نوعٌ واحدٌ، فخروجُ هذه الأشياءِ إنما هي مِنْهما، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 16] وإنما هو في واحدةٍ منهن.

وقد الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ قال» منهما «وإنما يَخْرجان من المِلْح؟ قلت: لَمَّا التَقَيا وصارا كالشيء الواحدِ جاز أَنْ يُقال: يَخْرجان منهما، كما يقال: يَخْرجان من البحر ولا يَخْرجان من جميع البحر، وإنما يخرجان مِنْ بعضِه. وتقول: خَرَجْتُ من البلد، وإنما خَرَجْتُ مِنْ مَحَلَّةٍ مِنْ محالِّه، مِنْ دارٍ واحدة من دُوْره. وقيل: لا يخرجان إلاَّ مِنْ ملتقى المِلْح والعَذْب» انتهى. وقال بعضُهم: كلامُ الله أَوْلى بالاعتبارِ من كلامِ بعض الناس فمن الجائز أنه يَسُوقُها من البحرِ العَذْب إلى المِلْحِ، واتفق أنهم لم يُخْرجوها إلاَّ من المِلْح، وإذا كان في البرِّ أشياءُ تَخْفَى على التجار المتردِّدين القاطعِين للمَفاوُز، فكيف بما في قَعْر البحرِ؟ والجوابُ عن هذا: أنَّ اللَّهَ تعالى لا يُخاطِبُ الناسَ ولا يَمْتَنُّ عليهم إلاَّ بما يَأْلَفُون ويشاهِدُون. واللؤلؤ قيل: / كبارُ الجوهر. والمَرْجانُ صغاره، وقيل بالعكس، وأنشدوا قولَ الأعشى: 4172 - مِنْ كلِّ مَرْجانةٍ في البحرِ أَحْرَزها ... تَيَّارُها ووقاها طِيْنَها الصَّدَفُ أراد اللؤلؤةَ الكبيرةَ. وقيل: المَرْجان حجرٌ أحمرُ. وقيل: حجرٌ شديد البياض، والمَرْجانُ أعجميُّ. قال ابن دريرد: «لم أسمَعْ فيه فعلاً متصرفاً. واللؤلؤ بناءٌ غريبٌ، لم يَرِدْ على هذه الصيغة إلاَّ خمسةُ ألفاظٍ:

اللُّؤلُؤ، والجُؤْجُؤ وهو الصَّدْر، والدُّؤْدُؤُ، واليُؤْيُؤُ لطائر، والبُؤْبؤ بالموحَّدتين، وهو الأصلُ. واللؤلؤُ بضمتين والهمز هو المشهورُ، وإبدال الهمزةِ واواً شائعٌ فصيحٌ وقد تقدَّم ذلك. وقرأ طلحة» اللُّؤْلِىءُ «بكسر اللام الثالثة، وهي لغةٌ محفوظةٌ. ونَقَل عنه أبو الفضلِ» اللُّؤْلِيْ «بقَلْبِ الهمزة الأخيرة ياءً ساكنة كأنه لَمَّا كسَر ما قبل الهمزة قلبها ياءً استثقالاً. وقرأ أبو عمرو في رواية» يُخْرِجُ «أي الله تعالى. ورُوِي عنه أيضاً وعن ابن مقسم» نُخْرِجُ «بنون العظمة. واللؤلؤُ والمَرْجان في هاتين القراءتَيْن منصوبان.

24

قوله: {الجوار} : العامَّة على كسرِ الراء لأنه منقوصٌ على مَفاعِل، والياءُ محذوفةٌ لفظاً لالتقاءِ الساكنين. وقرأ عبد الله والحسن وتُروَى عن أبي عمروٍ «الجَوارُ» برفع الراء تناسياً للمحذوف ومنه: 4173 - لها ثنايا أربعٌ حِسانُ ... وأربعٌ فثَغْرُها ثَمانُ

وهذا كما قالوا: «هذا شاكٌ» وقد تقدَّم تقريرُ هذا في الأعراف عند قولِه: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] . قوله: {المنشئات} قرأ حمزةُ وأبو بكر بخلافٍ عنه بكسرِ الشينِ بمعنى: أنها تُنْشِىءُ الموجَ بجَرْيِها، أو تُنْشِىء السيرَ إقبالاً وإدباراً، أو التي رَفَعَتْ شُرُعَها أي: قِلاعَها. والشِّراع: القِلْع. وعن مجاهد: كلما رَفَعتْ قِلْعَها فهي من المُنْشَآت، وإلاَّ فليسَتْ منها. ونسبةُ الرَّفْع إليها مجازٌ كما يقال: أنْشَأتِ السحابةُ المطرَ. والباقون بالفتح وهو اسمُ مفعول أي: أنشأها اللَّهُ أو الناسُ، أو رفعوا شُرُعَها. وقرأ ابن أبي عبلة «المُنَشَّآت» بتشديد الشين مبالغةً. والحسنُ «المُنْشات» بالإِفراد، وإبدالِ الهمزة ألفاً وتاءٍ مجذوبة خَطَّاً فأْفَردَ الصفةَ ثقةً بإفهام الموصوف الجمعيةَ، كقولِه {أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] وأمَّا إبدالُه الهمزةَ ألفاً، وإن كان قياسُها بينَ بينَ فمبالَغَةٌ في التخفيف، كقوله: 4174 - إنَّ السِّباعَ لَتَهْدَا في مَرابِضِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي: لتهدَأ. وأمَّا كَتْبُها بالتاءِ المجذوبة فإتباعاً للفظها في الوصلِ. و «في البحر» متعلقٌ بالمُنْشِئات أو المنشَآت. ورسمُه بالياء بعد الشين في مصاحفِ العراقِ يُقَوِّي قراءةَ الكسرِ ورَسْمُه بدونِها يُقَوِّي قراءةَ الفتح، وحَذَفُوا الألفَ كا تُحْذَفُ في سائر جمع المؤنث السالم. و «كالأَعْلام» حالٌ: إمَّا من الضميرِ المستكنِّ في «المُنْشَآت» ، وإمَّا مِنْ «الجوار» وكلاهما بمعنىً واحد. والأَعلام: الجبالُ جمعُ عَلَم. قال: 4175 - رُبَّما أَوْفَيْتُ في عَلَم ... تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ

26

وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} : غَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ على غيره، وجميعُهم مُرادٌ. والضميرُ في «عليها» للأرضِ. قال بعضُهم. «وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ كقولِه: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] . وقد رُدَّ على هذا القائلِ وقالوا: بل تَقَدَّم ذِكْرُها في قولِه: {والأرض وَضَعَهَا} [الرحمن: 10] .

27

قوله: {ذُو الجلال} : العامَّةُ على «ذو» بالواو صفةً للوجه. وأبَيٌّ وعبدُ الله «ذي» بالياءِ صفةً ل «ربِّك» وسيأتي خلافٌ بين السبعةِ في آخر السورة إنْ شاءَ الله تعالى.

29

قوله: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات} : فيه وجهان: أحدهما: هو مستأنفٌ. والثاني: أنه حالٌ مِنْ «وَجْه» والعاملُ فيه «يَبْقَى أي: يَبْقَى مَسْؤولاً مِنْ أهلِ السماواتِ والأرضِ.

قوله: {كُلَّ يَوْمٍ} منصوبٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنه الخبرُ وهو قولُه» في شَأْنٍ «والشَّأْنُ: الأَمْرُ.

31

قوله: {سَنَفْرُغُ} : قرأ سَيَفْرُغُ بالياءِ الأخَوان أي: سَيَفْرُغُ اللَّهُ تعالى. والباقون من السبعة بنون العظمة، والراءُ مضمومةٌ في القراءتَيْن، وهي اللغةُ الفُصْحى لغة الحجازِ. وقرأها مفتوحة الراء مع النونِ الأعرجُ، وتحتمل وجهَيْن، أحدهما: أَنْ تكونْ مِنْ فَزَغَ بفتحِ الراء في الماضي، وفُتِحت في المضارع لأَجْلِ حرفِ الحَلْقِ. والثاني: أنه سُمِعَ فيه فَرِغَ بكسرِ العينِ، فيكون هذا مضارعه/ وهذه لغةُ تميمٍ. وعيسى بن عمر وأبو السَّمَّال «سَنِفْرَغُ» بكسر حرفِ المضارعةِ وفتحِ الراءِ. وتوجيهُها واضحٌ مِمَّا تقدَّم في الفاتحة قال أبو حاتم: «وهي لُغَةُ سُفْلى مُضَرَ. والأعمش وأبو حيوةَ وإبراهيمُ» سَنِفْرَغُ «بضم الياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ. وعيسى أيضاً بفتح نونِ العظمةِ وكسرِ الراء. والأعرجُ أيضاً بفتح الياء والراء. ورُوي عن أبي عمروٍ. وقد تقدَّم قراءةُ» أيها «في النور. والفَراغُ هنا استعارةٌ. وقيل: هو القَصْدُ. وأُنْشِد لجرير: 4176 - ألانَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ ... فهذا حينَ كُنْتُ لهمُ عَذاباً

وأنشد الزجاج: 4177 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَرَغْتُ إلى العبدِ المقيَّدِ في الحِجْلِ ويَدُلُّ عليه قراءةُ أُبَيّ» سَنَفْرُغُ إليكم «أي: سَنَقْصِدُ إليكم. والثَّقَلان: الجن والإِنس لأنهما ثَقَلا الأرضِ. وقيل: لثِقَلِهم بالذنوب. وقيل: الثَّقَلُ: الإِنسُ لشَرَفَهم. وسُمِّيَ الجنُّ بذلك مجازاً للمجاورة. والثَّقَل. العظيم الشريف. وفي الحديث:» إني تاركٌ فيكم ثَقَلَيْن كتابَ الله وعِتْرتي «

33

قوله: {فانفذوا} : أمرُ تعجيزٍ: والنُّفوذُ: الخروج بسرعة وقد تقدَّم في أولِ البقرة: أنَّ ما فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ يَدُلُّ على الخروج كنَفَق ونَفَرَ. و «إلاَّ بسُلْطان» حالٌ أو متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه. وقرأ زيد بن علي «إنْ اسْتَطَعْتما» خطاباً للثَّقَلَيْن، وحَقُّه أَنْ يمشيَ على سَنَنٍ واحدٍ فيَقْرأَ «أنْ تَنْفَذا، لا تنفُذان» والعامَّةُ جعلوه كقولِه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] إذ تحت كلِّ واحدٍ أفرادٌ كثيرةٌ وقد رُوْعي لفظُ التثنية في قوله بعدُ: «يُرْسَلُ عليكما» فلا تبعدُ قراءةُ زيدٍ.

35

قوله: {شُوَاظٌ} : قرأ ابن كثير بكسر الشين. والباقون بضمِّها، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ. والشُواظُ: قيل: اللَّهَبُ معه دُخانٌ. وقيل: بل هو اللهبُ الخالِصُ. وقيل: اللَّهَبُ الأحمرُ. وقيل: هو الدخانُ الخارجُ مِن اللهَب. وقال رؤبة: 4178 - ونارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّواظا ... وقال حسان: 4179 - هَجَوتُكَ فاخْتَضَعْتَ لها بذُلٍّ ... بقافِيَة تَأَجَّجُ كالشُّواظِ و «يُرْسَلُ» مبنيٌّ للمفعولِ؛ وهو قراءةُ العامَّةِ. وزيد بن علي «نُرْسِلُ» بالنونِ، «شواظاً ونُحاساً» بالنصب. و «مِنْ نار» صفةٌ لشواظ أو متعلِّقٌ ب «يُرْسَلُ» .

قوله: «ونُحاس» قرأ ابنُ كثير وأبو عمروٍ بجرِّه عطفاً على «نارٍ» ، والباقون برفعِه عطفاً على «شُواظ» . والنحاس قيل: هو الصُّفْرُ المعروفُ، يذيبه اللَّهُ تعالى ويُعَذِّبهم به. وقيل: الدخان الذي لا لَهَبَ معه. قال الخليل: وهو معروفٌ في كلامِ العرب، وأنشد للأعشى: 4180 - يُضيْءُ كضَوْءِ سراجِ السَّلِيْ ... طِ لم يَجْعَلِ اللَّهُ فيه نُحاسا وتُضَمُّ نونُه وتُكْسَرُ، وبالكسرِ قرأ مجاهد وطلحة والكلبي. وقرأ ابن جندب «ونَحْسٌ» كقولِه: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} [القمر: 19] وابن أبي بكرة وابن أبي إسحاق «ونَحُسُّ» بضم الحاء والسين مشددةً من قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} [آل عمران: 152] أي: ونقتلُ بالعذاب. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً «ونَحَُِسٍ» بضمِّ الحاء وفتحِها وكسرِها، وجرِّ السين. والحسن والقاضي.

«ونُحُسٍ» بضمتين وجرِّ السين. وتقدَّمَتْ قراءةُ زيدٍ «ونُحاساً» بالنصبِ لِعَطْفِه على «شواظاً» في قراءته.

37

قوله: {فَإِذَا انشقت} : جوابُه مقدرٌ أي: رأيت هَوْلاً عظيماً، أو كان ما كان. قوله: {وَرْدَةً} أي: مثلَ وَرْدَةٍ فقيل: هي الزهرة المعروفة التي تُشَمُّ، شَبَّهها بها في الحُمْرة، وأنشد: 4181 - فلو كُنْتُ وَرْداً لَوْنُه لعَشِقْنَني ... ولكنَّ ربي شانَني بسَواديا وقيل: هي من لَوْنِ الفَرَسِ الوَرْد، وإنما أُنِّثَ لكونِ السماءِ مؤنثةً. وقال الفراء: «أراد لونَ الفرسِ الوَرْدِ، يكون في الربيع إلى الصفرة، وفي الشتاء إلى الحُمْرة، وفي اشتدادِ البَرْدِ إلى الغُبْرة، فشبَّه تلوُّنَ السماءِ بتلَوُّنِ الوَرْدَةِ من الخيل» . وقرأ عبيد بن عمير «وَرْدَةٌ» بالرفع. قال الزمخشري: «بمعنى: فَحَصَلَتْ سماءٌ وردةٌ، وهو من الكلام الذي يُسَمَّى التجريدَ، كقوله: 4182 - فَلَئِنْ بَقِيْتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوةٍ ... تَحْوِي الغنائمَ أو يموتَُ كريمُ

قوله: {كالدهان} يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ نعتاً لوردة. وأَنْ يكونَ حالاً من اسم» كانت «. وفي» الدِّهان «قولان، أحدُهما: أنه جمعُ دُهْن نحو: قُرْط وقِراط، ورُمْح ورِماح، وهو في معنى قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل} [المعارج: 8] . وهو دُرْدِيُّ الزَّيْتِ. والثاني: أنه اسمٌ مفردٌ، فقال الزمخشري:» اسمُ ما يُدْهَنُ به كالجِزام والإِدام وأنشد: 4183 - كأنَّهما مَزادَتا مُتَعَجِّلٍ ... فَرِيَّانِ لَمَّا تُدْهَنا بدِهان / وقال غيرُه: هو الأديمُ الأحمرُ، وأنشد للأعشى: 4184 - وأَجْرَدَ مِنْ كِرامِ الخَيْلِ طِرْفٍ ... كأنَّ على شَواكِله دِهانا أي: أديماً أحمرَ، وهذا يَحْتمل أنْ يكونَ جمعاً. ويؤيِّده ما أنشده منذرُ بنُ سعيد:

4185 - يَبِعْنَ الدِّهانَ الحُمْرَ كلَّ عَشِيَّةٍ ... بموسِمِ بَدْرٍ أو بسُوْقِ عُكاظِ فقوله «الحُمْرَ» يؤيِّدُ كونَه جمعاً، وقد يُقال: هو كقولِهم: «أهلك الناسَ الدينارُ الحُمْرُ والدرهمُ البِيْضُ» ، إلاَّ أنَّه خِلافُ الأصلِ. وقيل: شُبِّهَتْ بالدِّهانِ، وهو الزَيْتُ لذَوْبِها ودَوَرانِها، وقيل: لبَريقِها.

39

قوله: {فَيَوْمَئِذٍ} : التنوينُ عِوَضٌ من الجملةِ، أي: فيومَ إذ انشَقَّت السَّماءُ. والفاء في «فيومئذٍ» جوابُ الشرط. وقيل: هو محذوفٌ، أي: فإذا انشَقَّتِ السماءُ رَأَيْتَ أَمْراً مَهُولاً، ونحو ذلك. والهاءُ في «ذَنْبه» [تعودُ على أحد المذكورِيْن] . وضميرُ الآخرِ مقدرٌ، أي: ولا يُسْأَل عن ذنبِه جانٌّ أيضاً. وناصبُ الظرفِ «لا يُسأَلُ» و «لا» غيرُ مانعةٍ. وقد تقدَّم خلافُ الناسِ فيها في الفاتحة. وتقَدَّمَتْ قراءة «جأَنّ» بالهمز فيها أيضاً.

41

وقرأ حماد بن أبي سليمان «بسِيْمائِهم» بالمدِّ. وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آخر البقرة. قوله: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي} «يُؤْخَذُ» متعدٍّ، ومع ذلك تَعَدَّى بالباء؛

لأنه ضُمِّنَ معنى يُسْحَبُ، قاله الشيخ. وسحب إنما يُعَدَّى ب «على» قال تعالى: {يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] فكان يَنْبغي أَنْ يقولَ: ضُمِّنَ معنى يُدَعُّوْن، أي: يُدْفَعون. وقال مكي: «إنما يُقال: أَخَذْتُ الناصِيةَ وأخَذْتُ بالناصية. ولو قلت: أَخَذْتُ الدابَّةَ بالناصيةِ لم يَجُزْ. وحُكي عن العرب: أَخَذْتُ الخِطامَ، وأَخَذْتُ بالخِطام بمعنى. وقد قيل: إنَّ تقديرَه: فيُؤْخَذُ كلُّ واحدٍ بالنَّواصي، وليس بصوابٍ، لأنه لا يَتَعَدَّى إلى مفعولَيْنِ أحدُهما بالباء، لِما ذكَرْنا. وقد يجوز أَنْ يتعدَّى إلى مفعولَيْنِ أحدُهما بحرفِ جرّ غيرِ الباء نحو: أَخَذْتُ ثوباً من زيد. فهذا المعنى غيرُ الأولِ، فلا يَحْسُن مع الباء مفعولٌ آخرُ، إلاَّ أَنْ تجعلَها بمعنى: مِنْ أَجْل، فيجوزُ أن تقولَ: أَخَذْتُ زيداً بعمروٍ، أي: مِنْ أجلِه وبذنبِه» انتهى. وفيما قاله نَظَرٌ، لأنك تقولُ: أَخَذْتُ الثوبَ بدرهمٍ، فقد تعدَّى بغير «مِنْ» أيضاً بغير المعنى الذي ذكره. وأل في النواصي والأقدام ليسَتْ عِوَضاً مِنْ ضمير عند البَصْريين فالتقدير: بالنواصي منهم، وهي عند الكوفيين عِوَضٌ. والنَّاصِيَةُ: مُقَدَّمُ الرأسِ. وقد تقدَّم هذا مستوفى في هود. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «ما لكم لا تَنْصُون مَيِّتكم» ، أي: لا تَمُدُّون ناصِيته. والنَّصِيُّ

مَرْعى طيب. وقولهم: «فلانٌ ناصيةُ القوم» يُحتمل أن يكونَ من هذا، يَعْنون أنه طيب مُنْتَفَعٌ به، أو مثلَ قولِهم: هو رأسُ القوم.

43

قوله: {هذه جَهَنَّمُ} : أي: يُقال لهم و «آن» بمعنى: حار متناهٍ في الحرارة، وهو منقوصٌ كقاضٍ يُقال: أنى يَأْني فهو آن كقَضى يَقْضي فهو قاضٍ. وقد تَقَدَّمَ في الأحزاب. والعامَّةُ يَطوفون مِنْ طاف. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن «يُطافُون» مبنياً للمفعول، مِنْ أطافهم غيرُهم. والأعمش وطلحة وابن مقسم «يُطَوِّفُون» بضمِّ الياء وفتح الطاءِ وكسرِ الواوِ مشددةً، أي: يُطَوِّفُون أنفسَهم. وقرأت فرقةٌ «يَطَّوَّون» بتشديد الطاء والواو. والأصلُ: يتطَوَّفون.

46

قوله: {مَقَامَ رَبِّهِ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً، وأَنْ يكونَ مكاناً. فإِنْ كان مصدراً، فيُحْتمل أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه، أي: قيامَ ربِّه عليه وحِفْظَه لأعمالِه مِنْ قولِه: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] ويُرْوَى هذا المعنى عن مجاهد، وأن يكونَ مضافاً لمفعولِه. والمعنى: القيام بحقوق الله فلا يُضَيِّعُها. وإنْ كان مكاناً فالإِضافةُ بأَدْنى مُلابسة لَمَّا كان الناسُ يقومون بين يَدَيِ اللهِ تعالى للحاسب في عَرَصات القيامة. قيل: فيه مَقامُ الله. والظاهرُ أن الجنَّتَيْن لخائفٍ واحدٍ. وقيل:

جنةٌ لخائفِ الناسِ، وأُخرى لخائفِ الجنِّ، فيكون من بابِ التوزيعِ. وقيل «مَقام» هنا مُقْحَمٌ والتقدير: ولِمَنْ خاف ربَّه وأنشد: 4186 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونَفَيْتُ عنه ... مَقامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللعينِ أي: نَفَيْتُ الذئبَ، وليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الاسمِ ليسَتْ بالسهلة.

48

قوله: {ذَوَاتَآ} : صفةٌ ل جَنَّتان، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هما ذواتا. وفي تثنية «ذات» لغتان: الردُّ إلى الأصلِ، فإنَّ أصلَها «ذَوْيَة» فالعينُ واوٌ، واللامُ ياءٌ، لأنَّها مؤنثةُ ذو. والثانية: التثنيةُ على اللفظِ فيُقال: ذاتا. والأَفْنان: فيه وجهان، أحدُهما: أنه جمعُ فَنَن كطَلَل وهو الغُصْنُ. قال النابغة الذبياني: 4187 - بكاءَ حمامةٍ تَدْعو هَدِيلاً ... مُفَجَّعةٍ على فَنَنٍ تُغَنِّي وقال آخر: 4188 - رُبَّ وَرْقاءَ هَتُوفٍ بالضُّحى ... ذاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ

وقال آخر: 4189 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... على كلِّ أفنانِ العِضاهِ تَرُوْقُ والثاني: أنه جمعُ فَنّ كدَنّ، وإليه أشار ابنُ عباس. والمعنى: ذواتا أنواعٍ وأشكالٍ. وأنشدوا: 4190 - ومِنْ كلِّ أفنانِ اللَّذاذَةِ والصِّبا ... لَهَوْتُ به والعيشُ أخضرُ ناضِرُ إلاَّ أنَّ الكثيرَ في «فَنّ» أَنْ يُجْمع على «فُنون» .

54

قوله: {مُتَّكِئِينَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «مَنَ» في قولِه: «ولِمَنْ خافَ» ، وإنَّما جُمعَ حَمْلاً على معنى «مَنْ» بعد الإِفراد حَمْلاً على لفظها. وقيل: حالٌ عامِلُها محذوفٌ أي: يَتَنَعَّمون مُتَّكئين. وقيل: منصوبٌ على الاختصاصِ. والعامَّةُ على «فُرُش» بضمَّتين. وأبو حيوة بضمةٍ وسكونٍ وهي تخفيفٌ منها. / قوله: {بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً. والظاهر أنَّها صفةٌ ل «فُرُش» . و «مِنْ إستبرق» قد تَقَدَّم الكلام في الاستبرق وما قيل فيه في سورة الكهف. وقال أبو البقاء هنا: «أصلُ

الكلمةِ فِعْلٌ على اسْتَفْعَلَ فلمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ همزتُه. وقيل: هو أعجميُّ. وقرِىء بحَذْفِ الهمزةِ وكسر النونِ، وهو سَهْوٌ؛ لأنَّ ذلك لا يكون في الأسماءِ بل في المصادرِ والأفعال» . انتهى. أمَّا قولُه «وهو سهوٌ لأن ذلك لا يكون» إلى آخرِه، يَعْني أنَّ حَذْفِ الهمزةِ في الدَّرْجِ لا يكونُ إلاَّ في الأفْعال والمصادرِ، وأمَّا الأسماءُ فلا تُحْذَفُ هَمَزاتُها لأنَّها هَمَزات قَطْعٍ. وهذا الكلامُ أحقُّ بأن يكونَ سَهْواً؛ لأنَّا أولاً لا نُسَلِّمُ أنَّ هذه القراءةَ مِنْ حَذْفِ همزةِ القطعِ إجراءً لها مُجْرى همزةِ الوَصْلِ. وإنَّما ذلك مِنْ بابِ نَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلَها، وحركةُ الهمزةِ كانَتْ كسرةً فحركةُ النونِ حركةُ نَقْلٍ لا حركةُ التقاءِ ساكنين. ثم قولُه: «إلاَّ في الأفعال والمصادرِ» ليس هذا الحصرُ بصحيح اتفاقاً لوجودِ ذلك في أسماءٍ عشرةٍ ليسَتْ بمصادرَ، ذكرْتُها في أولِ هذا الموضوع. قوله: {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} مبتدأٌ وخبرٌ. ودانٍ أصلهُ دانِوٌ مثلَ غازٍ، فأُعِلَّ كإِعلالِه. وقرأ عيسى بن عمر «وجَنِيَ» بكسر النون. وتوجيهُها: أن يكونَ أمال الفتحة لأجل الألف، ثم حذف الألف لالتقاءِ السَّاكنين، وأبقى إمالة النون فَظُنَّتْ كسرةً. وقُرِىء «وجِنَى» بكسر الجيم، وهي لغة. والجَنى: ما يُقْطَفُ من الثمار. وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَض والنَقَص.

56

قوله: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ} : اختُلِفَ في هذا الضمير، فقيل: يعود على الجنات، فيقال: كيف تَقَدَّمَ تثنيةٌ ثم أُتِي بضمير جَمْع؟ فالجوابُ: أنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان على قولٍ، وله شواهدُ قد تقدَّم أكثرُها. وإمَّا أن يقالَ: عائدٌ على الجنات المدلولِ عليها بالجنتْين، وإمَّا أَنْ يقالَ: إنَّ كل فردٍ فردٍ له جنتان فصَحَّ أنها جناتٌ كثيرة، وإمَّا أنَّ الجنةَ تشتمل على مجالسَ وقصورٍ ومنازلَ فأطلقَ على كلِّ واحدٍ منها جنة. وقيل: يعودُ على الفُرُش. وهذا قولٌ حَسَنٌ قليلُ الكُلْفَةِ. وقال الزمشخري: «فيهِنَّ: في هذه الآلاءِ المعدودة من الجنَّتَيْن والعينَيْن والفاكهةِ والفُرُشِ والجَنَى» . قال الشيخ: «وفيه بُعْدٌ» وكان قد اسْتَحْسَنَ الوجهَ الذي قبله. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاستعمالَ أَنْ يُقال: على الفِراش كذا، ولا يقال: في الفِراش كذا إلاَّ بتكلُّف؛ فلذلك جَمَعَ الزمخشريُّ مع الفُرُش غيرَها حتى صَحَّ له أَنْ يقولَ: «فيهن» بحرف الظرفيَّة، ولأن الحقيقةَ أنَّ الفُرُشَ يكون الإِنسانُ عليها؛ لأنه مُستَعْلٍ عليها. وأمَّا كونُه فيها فلا يقال إلاَّ بمجازٍ. وقال الفراء: «كلُّ موضع في الجنةِ جنةٌ، فلذلك صَحَّ أَنْ يُقالَ: فيهِنَّ، والقاصِراتُ: الحابساتُ الطرفِ، أي: أعينُهُنَّ عن غيرِ أَزْواجهن. ومعناه: قَصَرْنَ ألحاظَهُنَّ على أزواجِهنَّ. قال امرؤ القيس:

4191 - مِن القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا وقاصراتُ الطرفِ: مِنْ إضافةِ اسم الفاعلِ لمنصوبِه تخفيفاً إذ يقال: قَصَرَ طَرْفَه على كذا. وحُذِف متعلَّقُ القَصْرِ للعلمِ به، أي: على أزواجِهِنَّ، كما تقدَّم تقريرُه. وقيل: المعنى: قاصراتٌ طَرْفَ غيرِهن عليهنَّ، أي: إذا رآهن أحدٌ لم يتجاوَزْ طرفُه إلى غيرِهنَّ. قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} هذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ نعتاً لقاصِرات؛ لأن إضافتَها لفظيةٌ، كقولِه {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] و [وقوله] : 4192 - يا رُبَّ غابطِنا لو كان يَطْلُبُكمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِ النكرةِ بالإِضافة. واخْتُلِفَ في هذا الحرفِ والذي بعدَه عن الكسائيِّ: فنُقِل عنه أنَّه كان يُخَيِّرُ في ضَمِّ أيِّهما شاءَ القارىءَ. ونَقَل عنه الدُّوريُّ ضمَّ الأولِ فقط ونَقَل عنه أبو الحارث ضمَّ الثاني فقط، وهما لغتان. يُقال: طَمَثَها يَطْمِثُها ويَطْمُثُها إذا جامَعَها. وأصلُ الطَّمْثِ: الجماعُ المؤدِّي إلى خروجِ دمِ البِكْرِ، ثم أُطْلِقَ على كلِّ جِماع: طَمْثٌ، وإنْ لم يَكُنْ معه دمٌ. وقيل: الطَمْثُ دَمُ الحَيْضِ أو دمُ الجِماع. وقيل: الطَمْثُ المَسُّ الخاص. وقرأ الجحدري» يَطْمَثْهُنَّ «بفتح

الميم في الحرفَيْن، وهو شاذٌّ إذ ليسَتُ عينُه ولا لامُه حرفَ حَلْقٍ. والضميرُ في» قبلَهُمْ «عائدٌ على الأزواجِ الدالِّ عليهم قولُه» قاصراتُ الطَّرْفِ «أو الدالِّ عليه» مُتَّكئين «.

58

قوله: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت} : هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكون نعتاً لقاصِرات، وأن تكونَ حالاً منها. ولم يَذْكُرْ مكيٌّ غيرَه. والمَرْجان تقدَّم ما هو؟ والياقوتُ: جوهرٌ نفيسٌ. يُقال: إن النارَ لم تُؤَثِّرْ فيه، ولذلك قال الحريري: 4193 - وطالما أُصْلِيَ اليقاوتُ جَمْرَ غَضَا ... ثم انْطفا الجمرُ والياقوتُ ياقوتُ أي: باقٍ على حالِه لم يتأثَّرْ بها. ووجهُ التشبيهِ كما قال الحَسَنُ. في صفاءِ الياقوتِ/ وبياضِ المَرْجان. وهذا على القول بأنه أبيضُ وقد تقدَّم، وقيل: الوجهُ في. . . ونفاسَتِهما ولذلك سَمَّوْا بمَرْجانة ودُرَّة وشبهِ ذلك.

60

وقرأ ابن أبي إسحاق «إلاَّ الحِسانُ» ، أي: إلاَّ الحُوْرُ الحِسان.

62

قوله: {وَمِن دُونِهِمَا} : أي: مِنْ دونِ تَيْنَكَ

الجَنَّتَيْن المتقدِّمتين: جَنَّتان في المنزلةِ وحُسْنِ المنظرِ. وهذا على الظاهر مِنْ أنَّ الأُوْلَيَيْنِ أفضلُ من الأُخْرَيَيْنِ. وقيل بالعكس، ورَجَّحه الزمخشري.

66

والنَّضْخُ: فوق النَّضْحِ بالحاءِ، لأنَّ النَّضْحَ بالحاءِ: الرَّشُّ والرَّشْحُ، والنَّضْخُ بالخاء: فَوَرانُ الماء. والادْهِيْمامُ: السَّوادُ وشدةُ الخضرةِ، جُعِلا مُدْهامَّتيْن لشدَّة رِيِّهما، وهذا مُشاهَدٌ بالنظر، ولذلك قالوا: «سوادُ العراق» لكثرةِ شَجَره وزروعِه.

68

قوله: {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} : استدلَّ بعضُهم بها على أنهما ليسا من الفاكهة لاقتضاءِ العطفِ المغايرة. فلو حَلَفَ: «لا يأكلُ فاكهةً» لم يَحْنَثْ بأَكْلهما. وبعضُهم يقول: هو من باب ذِكْر الخاص بعد العام تفصيلاً له كقولِه: {وملائكته} [البقرة: 97] ثم قال: «وجبريلَ وميكَال» وهو تَجَّوُّزٌ؛ لأنَّ فاكهة ليس عامَّاً؛ لأنه نكرةٌ في سياقِ الإِثْبات، وإنما هو مُطْلَقٌ، ولكنْ لَمَّا كان صادقاً على النخل والرمَّان قيل فيه ذلك.

70

قوله: {خَيْرَاتٌ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه جمعُ «خَيْرَة» . بزِنةِ فَعْلَة بسكونِ العين. يقال: امرأةٌ خَيْرَةٌ وأخرى شَرَّةٌ. والثاني: أنه جمعُ خَيْرة المخففة مِنْ خَيِّرة. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ ابن مقسم واليزيدي وبكر بن حبيب «خَيِّرات» تشديد الياء. وقرأ أبو عمروٍ «خَيَرات» بفتح الياء جمع «خَيْرَة» وهي شاذَّةٌ، لأن العين

معتلةٌ؛ إلاَّ أن بني هُذَيلٍ تُعامِله معاملةَ الصحيح فيقولون، جَوَزات وبَيَضات وأُنْشِد: 4194 - أخو بَيَضاتٍ رائِحٌ مُتَأَوِّبُ ... رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوْحُ

72

ومَقْصورات، أي: مَحْبوسات، ومنه «القَصْر» لأنه يَحْبِسُ مَنْ فيه، ومنه قولُ النحاة «المقصور» لأنه حُبِس عن المدِّ أو حُبس عن الإِعراب، أو حُبِس الإِعرابُ فيه، والنساء تُمْدَحُ بملازَمَتِهِنَّ البيوتَ كما قال [أبو] قيس بن الأسلت: 4195 - وتَكْسَلُ عن جيرانِها فيَزُرْنَها ... وتَعْتَلُّ عن إتْيانِهِنَّ فتُعْذَرُ ويقال: امرأةٌ مَقْصورة وقَصيرة وقَصورة، بمعنىً واحد. قال كثير عزة: 4196 - وأنتِ التي حَبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ ... إليَّ ولم تَعْلَمْ بذاك القَصائرُ عَنَيْتُ قصيراتِ الحِجالِ ولم أُرِدْ ... قِصارَ الخُطا شَرُّ النساءِ البَحاتِرُ والخِيام: جمعُ خَيْمة وهي تكونُ مِنْ نَمَّام وسائرِ الحَشيش، فإنْ

كانَتْ مِنْ شَعْرٍ فلا يُقال لها: خَيْمةٌ بل بَيْتٌ. وقال جرير: 4197 - متى كان الخيامُ بذي طُلوحٍ ... سُقِيْتِ الغَيْثَ أيتها الخيامُ

76

قوله: {رَفْرَفٍ} : الرَّفْرَفُ جمع رَفْرَفَة فهو اسمُ جنسٍ. وقيل: بل هو اسمُ جمعٍ، نقلهما معاً مكيٌّ، وهي ما تَدَلَّى من الأسِرَّة مِنْ عالي الثياب. وقال الجوهريُّ: «ثيابٌ خُضْرٌ يُتَّخَذُ منها المجالِسُ، الواحدةُ رَفْرَفة» واشتقاقُه مِنْ رَفَّ الطائرُ: أي: ارتفع في الهواء. ورَفْرَفَ بجناحَيْه: إذا نَشَرهما للطيران ورَفْرَفُ السَّحابِ هُبوبُه، ويَدُلُّ على كونه جمعاً وصفُه بالجمع. وقال الراغب: «رفيفُ الشجر: انتشارُ أغصانِه. ورَفَّ الطائرُ: نَشَرَ جناحَه يَرِفُّ بالكسرِ. ورَفَّ فَرْخَه يَرُفُّه بالضم تَفَقَّده، ثم اسْتُعير للتفَقُّدِ. ومنه» ماله حافٌّ ولا رافٌّ «، أي: مالَه مَنْ يَحُفُّه ويتفقَّدُه. والرَّفْرَفُ: المنتشِرُ من الأوراقِ. وقولُه {على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} : ضَرْبٌ من الثياب مُشَبَّه بالرياض. وقيل: الرَّفْرَفُ طرفُ الفُسْطاطِ والخِباءِ الواقعِ على الأرض دونَ الأَطنْابِ والأوتادِ. وذكر الحسن أنه المَخادُّ» انتهى. وقال ابن جُبير: «رياضُ الجنَّة، مِنْ رَفَّ البيتُ إذا تَنَعَّمَ وحَسُن. وعن ابن عُيَيْنة هي الزَّرابِيُّ. ونُعِت هنا بخُضْر لأنَّ اسمَ الجنسِ يُنْعَتُ بالجمعِ كقولِه: {والنخل بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] وبالمفرِد. وحَسَّنَ جَمْعَه هنا

جَمْعُ حِسان. وقرأ العامَّةُ» رَفْرَفٍ «وقرأ عثمان بن عفان ونصر ابن عاصم وعاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم» رَفارِفَ خُضْرٍ «بالجمع وسكونِ الضاد. وعنهم أيضاً» خُضُرٍ «بضم الضاد وهو إتباعٌ للخاء. وقيل: هي لغةٌ في جمع أَفْعَلَ الصفةِ. وأُنْشد لطرفة: 4198 - أيها الفتيانُ في مَجْلِسِنا ... جَرِّدُوا منها وِراداً وشُقُرْ وقال آخر: 4199 - وما انْتَمَيْتُ إلى خُوْرٍ ولا كُسُف ... ولا لئامٍ غداةَ الرَّوْع أَوْزاعِ وقرؤوا» عباقِرِيَّ «بكسر القاف وفتحِها وتشديدِ الياءِ متوحةً/ على مَنْعِ الصرفِ. وهي مُشْكِلَةٌ؛ إذ لا مانعَ من تنوينِ ياءَيْ النسَبِ، وكأنَّ هذا القارىءَ تَوَهَّمَ كَوْنَها في مَفاعِل فمنعَها من الصرفِ. وقد رَوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجماعةٍ» وعباقِرِيٍّ «منوناً ابنُ خالويه ورُوِي عن عاصمٍ» رَفارِفٍ «بالصرف. وقد يُقال في مَنْ مَنَعَ» عباقِرِيَّ «إنَّه لما جاوزَ» رفارِفَ «الممتنعَ امتنع مُشاكلةً. وفي مَنْ صَرَفَ رفارِفَ:

إنَّه لما جاوَزَ عباقِريَّاً المنصرفَ صَرَفَه للتناسُب ك {سَلاسلاً وأَغْلالاً} [الإِنسان: 4] كما سيأتي. وقرأ أبو محمد المروزي وكان نَحْوياً» خَضَّارٍ «كضَرَّاب بالتشديد. وأَفْعَلُ وفَعَّالٌ لا يُعْرَفُ. والجمهورُ» وعَبْقِرِيٍّ «منسوب إلى عَبْقَر، تَزْعُم العربُ أنه بلدُ الجن فكلُّ ما عَظَّموه وتعجَّبوا منه قالوا: هذا عَبْقريٌّ. وفي الحديث:» فلم أرَ عَبْقَريَّاً يَفْري فَرِيَّه «والمرادُ به هنا قيل: البُسُط التي فيها صُوَرٌ وتماثيلُ. وقيل: هي الزَّرابِيُّ. وقيل: الطَّنافِسُ. وقيل: الدِّيباج. وعَبْقريّ جمع عَبْقَريَّة، يعني فيكونُ اسمَ جنسٍ، كما تقدَّم في رَفْرفَ. وقيل: هو واحدٌ دالٌّ على الجمع، ولذلك وُصِف بحسان.

78

قوله: {ذِي الجلال} : قرأ ابن عامر «ذو الجَلال» بالواو، وجَعَله تابعاً للاسم، وهكذا هي مرسومةٌ في مصحف الشاميين. والباقون بالياء صفةً للرَّبِّ، فإنه هو الموصوفُ بذلك، وأَجْمَعوا على الواوِ في الأول إلاَّ مَنْ ذكَرْتُه فيما تقدَّم.

الواقعة

قوله: {إِذَا وَقَعَتِ} : فيها أوجهٌ أحدها: أنها ظرفٌ محْضٌ ليس فيه معنى الشرط والعامل فيها «ليس» . والثاني: أنَّ العاملَ فيها اذْكُر مقدراً. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بم انتصبت» إذا «؟ قلت: بليس، كقولك:» يومَ الجمعة ليس لي شُغْلٌ «ثم قال:» أو بإضمارِ اذكُرْ «. قال الشيخ:» ولا يقول هذا نَحْوِيٌّ، ولا مَنْ شدا شيئاً مِنْ صناعةِ النحوِ «. قال:» لأن «لَيْسَ» مثل «ما» النافية، فلا حَدَثَ فيها، فكيف يعملُ في الظرف مِنْ غير حَدَثٍ؟ وتَسْمِيتُها فِعْلاً مجازٌ. فإنَّ حَدَّ الفعل غير مُنْطَبِقٍ عليها «، وكَثَّرَ الشيخُ عليه من هذا المعنى. ثم قال:» وأما المثال الذي نَظَّر به فالظرف ليس معمولاً ل «ليس» بل للخبر، وتقَدَّمَ معمولُ خبرِها عليها، وهي مسألةُ خلاف «انتهى. قلت: الظروفُ تعملُ فيها روائحُ الأفعالِ. ومعنى كلامِ الزمخشريِّ: أنَّ النفي المفهومَ مِنْ» ليس «هو العاملُ في» إذا «كأنه قيل: ينفي كَذِبُ وقوعِها إذا

وَقَعَتْ. ويدلُّ على ما قُلْتُه قولُ أبي البقاء:» والثاني ظرفٌ لِما دَلَّ عليه {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} ، أي: إذا وقعت لم تكذبْ «فإنْ قيل فَلْيَجُزْ ذلك في» ما «النافية أيضاً، فالجواب: أنَّ الفعلَ أقربُ إلى الدلالةِ على الحَدَثِ من الحرفِ. الثالث: أنَّها شرطيةٌ. وجوابُها مقدرٌ، أي: إذا وقعَتْ كان كيتَ وكيتَ، وهو العاملُ فيها. والرابع: أنها شرطيةٌ، والعاملُ فيها الفعلُ الذي بعدَها ويليها، وهو اختيارُ الشيخ، وتبَع في ذلك مكيَّاً. قال مكي:» والعاملُ فيها «وَقَعَتْ» لأنها قد يُجازى بها، فعَمِل فيها الفعلُ الذي بعدها كما يَعْمل في «ما» و «مَنْ» اللتَيْن للشرط في قولك: ما تفعَلُ أفعَلْ، ومَنْ تُكرِمْ أُكْرِمْ «، ثم ذكر كلاماً كثيراً. الخامس: أنها مبتدأٌ، و» إذا رُجَّتْ «خبرُها، وهذا على قولِنا: إنها تَتَصرَّفُ، وقد مَضَى القولُ فيه مُحرَّراً، إلاَّ أن هذا الوجهَ إنما جَوَّزه الشيخُ، جمالُ الدين ابن مالك وابن جني وأبو الفضل الرازي على قراءةِ مَنْ نصب» خافضةً رافعةً «على الحالِ. وحكاه بعضُهم عن الأخفش، ولا أدري اختصاص ذلك يوجه النصب. السادس: أنه ظرفٌ ل» خافضة «أو» رافعة «، قاله أبو البقاء، أي:

إذا وَقَعَتْ خَفَضَتْ ورفعَتْ. السابع: أَنْ يكونَ ظرفاً ل» رُجَّتْ «» وإذا «الثانيةُ على هذا إمَّا بدلٌ من الأولى أو تكريرٌ لها. الثامن: أنَّ العاملَ فيه ما دلَّ عليه قوله: {فأصحابُ المَيْمَنَةِ} ، أي: إذا وَقَعَتْ باتَتْ أحوالُ الناسِ فيها. التاسع: أنَّ جوابَ الشرطِ قولُه: {فأصحابُ المَيْمنةِ} إلى آخره. و «لِوَقْعَتِها» خبرٌ مقدمٌ و «كاذبة» اسم مؤخرٌ. و «كاذبة» يجوزُ أَنْ يكونَ اسم فاعل وهو الظاهرُ، وهو صفةٌ لمحذوف، فقَدَّره الزمخشريُّ: «نفسٌ كاذبةٌ، أي: إنه ذلك اليومَ لا يَكْذِبُ على الله أحدٌ، ولا يُكَذِّبُ بيوم القيامةِ أحد» ثم قال: «واللامُ مثلُها في قولِه {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] إذ ليس لها نفسُ تُكَذِّبها وتقول: لم تكوني كما لها نفوسٌ كثيرةٌ يُكّذِّبْنَها اليومَ يَقُلْنَ لها: لم تكوني، أو هو مِنْ قولهم: كَذَّبَتْ فلاناً نفسُه في الخطر العظيم إذا شَجَّعَتْهُ على مباشرته وقالَتْ له: إنَّك تُطيقه وما فوقه فَتَعَرَّضْ له، ولا تبال به على معنى أنها وقعةٌ لا تُطاقُ شدةً وفظاعةً، وأنْ لا نفس حينئذٍ تُحدِّث صاحبَها بما تُحَدِّثه به عند عظائمِ الأمورِ، وتزيِّن له احتمالها وإطاقتها؛ لأنهم يومئذٍ أضعفُ مِنْ ذلكَ وأَذلُّ. ألا ترى إلى قولِه تعالى {كالفراش المبثوث} [القارعة: 4] والفَراشُ مَثَلٌ في الضعف» . وقَدَّره ابن عطية: «حالٌ كاذبةٌ» قال: «وَيْحتمل الكلامُ على هذا معنيين، أحدهما: كاذبة، أي: مكذوبة فيما أَخْبر به عنها فسَمَّاها كاذبةً لهذا، كما تقول: هذه قصةٌ كاذبةٌ، أي: مكذوبٌ فيها. والثاني:

أي: / لا يَمْضي وقوعُها كقولك: فلانٌ إذا حَلَّ لم يكذِبْ. والثاني: أن كاذبة مصدرٌ بمعنى التكذيب نحو: خائنة الأعين. قال الزمخشري:» مِنْ قولِك حَمَلَ فلانٌ على قرْنِه فما كَذَبَ، أي: فما جَبُنَ ولا تَثَبَّط. وحقيقتهُ فما كَذَّب نفسَه فيما حَدَّثَتْه به من إطاقتِه له وإقدامهِ عليه وأنشد لزهير: 4200 - لَيْثٌ بعَثَّرَ يَصْطادُ الرجالُ إذا ... ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه صَدَقا أي: إذا وَقَعَتْ لم يكن لها رَجْعَةٌ ولا ارْتدادٌ «، انتهى. وهو كلامٌ حسنٌ جداً. ثم لك في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ: إمَّا لأنَّها ابتدائيةٌ ولا سيما على رَأْيِ الزمخشري، حيث جَعَلَ الظرفَ مُتَعَلِّقاً بها وإمَّا لأنَّها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابِه المحذوف. والثاني: أنَّ مَحَلَّها النصبُ على الحال، قاله ابن عطية، ولم يُبَيِّن صاحب الحال ماذا؟ وهو واضحٌ إذا لم يكُنْ هنا إلاَّ الواقعةُ، وقد صَرَّحَ أبو الفضل بذلك. وقرأ العامَّةُ برفعِ» خافضةٌ رافعةٌ «على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: هي خافضةٌ قوماً إلى النار ورافعةٌ آخرين إلى الجنةِ، فالمفعولُ محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، أو يكونُ المعنى: أنَّها ذاتُ خَفْضٍ ورَفْعٍ كقوله: {يُحْيِي

وَيُمِيتُ} [آل عمران: 156] {وكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 187] وقرأ زيد بن علي وعيسى والحسن وأبو حيوة وابن مقسم واليزيدي بنصِبها على الحالِ، ويُروى عن الكسائيِّ أنه قال:» لولا أنَّ اليزيديَّ سَبَقني إليه لقَرَأْتُ به «انتهى. ولا أظنُّ مثلَ هذا يَصِحُّ عن مثل هذا. واخْتُلف في ذي الحال، فقال أبو البقاء: «من الضمير في» كاذبة «أو في» وَقَعَتْ «، وإصلاحُه أن يقولَ: أو فاعل» وقعَتْ «إذ لا ضميرَ في» وقعَتْ «. وقال ابن عطية وأبو الفضل مِنْ» الواقعة «، ثم قَرَّرا مجيءَ الحالِ متعددةً من ذي حالٍ واحدةٍ كما تجيءُ الأخبارُ متعددةً. وقد بَيَّنْتُ لك هذا فيما تقدَّم فاستغْنَيْت عن كلامِهما. قال أبو الفضل:» وإذا جُعِلَتْ هذه كلُّها أحوالاً كان العامل في «إذا وَقَعَتْ» محذوفاً يَدُلُّ عليه الفحوى، أي: إذا وقعتْ يُحاسَبون.

4

قوله: {إِذَا رُجَّتِ} : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «إذا» الأولى، أو تأكيداً لها أو خبراً لها على أنها مبتدأةٌ كما تقدَّم تحريرُ هذا جميعِه، وأَنْ يكونَ شرطاً، والعامل فيها: إمَّا مقدَّرٌ وإمَّا فِعْلُها الذي يليها كما تقدَّم في نظيرتِها. وقال الزمشخري: «ويجوز أَنْ تنتصِب بخافضة رافعة، أي: تَخْفِضُ وترفعُ وقتَ رَجِّ الأرض وبَسِّ الجبالِ، لأنه عند ذلك

ينخفضُ ما هو مرتفعٌ ويرتفعُ ما هو منخفضٌ» . قال الشيخ: «ولا يجوزُ أَنْ تنتصِبَ بهما معاً بل بأحدِهما، لأنه لا يجتمعُ مؤثِّران على أثرٍ واحد» . قلت: معنى كلامِه أنَّ كلاً منهما متسلِّطٌ عليه من جهة المعنى، وتكونُ المسألة من التنازع، وحيئنذٍ تكون العبارةُ صحيحةً إذ يَصْدُقُ أنَّ كلاً منهما عاملٌ فيه، وإن كان على التعاقُب. والرَّجُّ: التحريكُ الشديدُ بمعنى زُلزلت. وبُسَّت الجبالُ: سُيِّرت مِنْ قولهم: بَسَّ الغنمَ، أي: ساقَها أو بمعنى فُتِّتَتْ كقوله: {يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] يدلُّ عليَه {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} . وقرأ زيد بن علي «رَجَّتْ» و «بَسِّتْ» مبنيين للفاعل على أنِّ رجَّ وبَسَّ يكونان لازمَيْن ومُتَعَدِّيَيْن، أي: اُزِيحت وذهَبَتْ. وقرأ النخعي «مْنْبَتَّاً» بنقطتين مِنْ فوق، أي: متقطعاً من البَتِّ. ومعنى الآية يَنْبو عنه.

8

قوله: {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة} : «أصحاب» الأولى مبتدأٌ، و «ما» استفهامٌ فيه تعظيمٌ مبتدأٌ ثانٍ، و «أصحاب» الثاني خبرُه والجملةُ خبرُ الأولِ، وتكرارُ المبتدأ هنا بلفظِه مُغْنٍ عن الضمير ومثلُه {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1-2] {القارعة مَا القارعة} [القارعة: 1-2] ولا يكون ذلك إلاَّ في مواضعِ التعظيم. وهنا سؤالٌ: وهو أنَّ «ما» نكرةٌ وما بعده معرفةٌ، فكان ينبغي أَنْ يقال «ما» خبر مقدمٌ، «وأصحاب» الثاني

وشبهُه مبتدأٌ؛ لأن المعرفة أحقٌّ بالابتداء من النكرةِ. وهذا السؤال واردٌ على سيبويه من مثل هذا، وفي قولك: «كم مالُك» و «مَرَرْتُ برجل خيرٌ منه أبوه» ، فإنه يُعْرِبُ ما الاستفهامية و «كم» و «أَفْعَل» مبتدأ، وما بعدها خبرُها. والجوابُ: أنه كَثُرَ وقوعُ النكرةِ خبراً عن هذه الأشياء كثرةً متزايدةً، فاطَّردَ البابُ ليجريَ على سَننٍ واحدٍ. هكذا أجابوا، وهذا لا ينهضُ مانعاً مِنْ جوازِ أَنْ تكونَ «ما» و «كم» وأفعلُ خبراً مقدماً. ولو قيل به لم يكنْ خطأ بل أقربُ إلى الصوابِ. والمَيْمَنَةُ: مَفْعَلَةُ من لفظِ اليُمْن وكذلك المَشْأَمَة من اليدِ الشُّؤمى وهي الشِمالُ لتشاؤمِ العربِ بها، أو من الشُّؤْم.

10

قوله: {والسابقون السابقون} : فيه أوجهٌ: أحدُها: أنهما مبتدأٌ وخبرٌ. وفي ذلك تأويلان، أحدهما: أنه بمعنى السابقون، هم الذي اشْتُهِرَتْ حالُهم بذلك كقولِهم: أنت أنت، والناسُ الناسُ، وقولِه: 4201 - أنا أبو النجمِ وشِعْري شِعْري ... وهذا يُقال في تعظيمِ الأمرِ وتفخيمهِ، وهو مذهبُ سُيبويه. التأويل الثاني: أنَّ مُتَعلَّقَ السَّبْقَتْينِ مختلفٌ، إذ التقدير: والسابقونَ

إلى الإِيمانِ السابقونَ إلى الجنة، / أو السابقونَ إلى طاعةِ اللَّهِ السابقون إلى رحمتِه، أو السابقون إلى الخيرِ السابقون إلى الجنة. الوجه الثاني: أَنْ يكونَ «السابقون» الثاني تأكيداً للأول تأكيداً لفظيَّاً، و «أولئك المقرَّبون» جملةٌ ابتدائيةٌ في موضوع خبرِ الأولِ، والرابطُ اسمُ الإِشارةِ، كقولِه تعالى: {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26] في قراءة مَنْ قرأ برفع «لباسُ» في أحد الأُوجه. الثالث: أَنْ يكونَ «السابقون» نعتاً للأول، والخبرُ الجملةُ المذكورةُ. وهذا ينبغي أَنْ لا يُعَرَّجَ عليه، كيف يُوْصَفُ الشيءُ بلفِظه وأيُّ فائدةٍ في ذلك؟ والأقربُ عندي إنْ وَرَدَتْ هذه العبارةُ مِمَّن يُعتبر أَنْ يكون سَمَّى التأكيدَ صفةً، وقد فعل سيبويه قريباً من هذا. الرابع: أَنْ يكونَ الوقفُ على قولِه «والسابقون» ويكونَ قولُه «السابقون، أولئك المقرَّبون» ابتداءً وخبراً، وهذا يقتضي أن يُعْطَفَ «والسابقون» على ما قبلَه، لكنْ لا يليق عَطْفُه على ما قبلَه ويليه، وإنما يليقُ عطفُه على «أصحابُ المَيْمنة» كأنه قيل: وأصحابُ الميمنة ما أصحابُ الميمنة، والسابقون، أي: ما السابقون تعظيماً لهم، فيكون شركاءَ لأصحابِ الميمنة في التعظيم، ويكون قولُه على هذا «وأصحابُ المَشْأمَةِ، ما أصحابُ المشأمة» اعتراضاً بين المتعاطفَيْن. وفي هذا الوجهِ تكلُّفٌ كثير جداً.

12

قوله: {ثُلَّةٌ} : خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم. ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ خبرُه مضمرٌ، أي: منهم ثُلَّةٌ، أي: من السابقين يعني: أن التقسيمَ وقع في السابقين، وأَنْ يكونَ مبتدأً خبرُه {فِي جَنَّاتِ النعيم} أو قولُه «على سُرُر» فهذه أربعةُ أوجهٍ. والثُّلَّة: الجماعةُ من الناس. وقَيَّدها الزمخشريُّ بالكثيرة وأنشد: 4202 - وجاءَتْ إليهم ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّةٌ ... بجيشٍ كتَيَّارٍ مِنْ البحرِ مُزْبِدِ ولم يُقَيِّدْها غيرُه، بل صَرَّح بأنها الجماعة قلَّت أو كَثُرَتْ. وقال الراغب: «الثُّلَّةُ قطعةٌ مجتمعةٌ من الصوف، ولذلك قيل للغنم: ثَلَّة. قلت: يعني بفتح الثاء، ومنه قولُه: 4203 - أَمْرَعَتِ الأرضُ لَوَ أنَّ مالا ... لَوْ أن نُوْقاً لك أو جِمالا أو ثَلَّةً مِنْ غنم إمَّا لا ...

انتهى. ثم قال الراغب:» ولاعتبار الاجتماع قيل: «ثُلَّة من الأوَّلين، وثُلَّة من الآخِرين» ، أي: جماعة وثَلَّلْتُ كذا: تناوَلْتُ ثُلَّةً منه. وثَلَّ عرشَه: أسقطَ ثُلَّة منه. والثَّلَلُ: قِصَرُ الأسنانِ لسُقوط ثُلَّةٍ منها. وأثَلَّ فَمُه سَقَطَتْ أسنانُه. وتَثَلَّلَتِ الرَّكِيَّةُ: تَهَدَّمَتْ «انتهى. فقد أطلق أنها الجماعة من غيرِ قَيْدٍ بقِلَّة ولا كثرةٍ، والكثرةُ التي فهمها الزمخشريُّ قد تكونُ من السِّياق. و» مِنْ الأوَّلِين «صفةٌ لثُلَّة، وكذلك» مِنْ الآخِرين «صفةٌ لقليل.

15

وقرأ زيد بن علي وأبو السَّمَّال «سُرَر» بفتح الراء الأولى وقد تقدَّم أنها لغةٌ لبعضِ كلبٍ وتميم. والمَوْضونة: المَنْسوجة وأصلُه مِنْ: وضَّنْتُ الشيءَ، أي: رَكَّبْتُ بعضَه على بعض. ومنه قيل للدِّرْعِ: مَوْضونة لتراكُبِ حِلَقِهِا. قال الأعشى: 4204 - ومِن نَسْجِ داودَ مَوْضَوْنَةً ... تسيرُ مع الحيِّ عِيْراً فَعِيْرا ومنه أيضاً «وَضِين الناقة، وهو حِزامُها لتراكُبِ طاقاته قال الراجز: 4205 - إليك تَعْدُو قِلقاً وضِيْنُها ... مُعْتَرضاً في بَطْنِها جنينُها مُخالفاً دينَ النَّصارى دينُها ...

وقال الراغب:» الوَضْنُ: نَسْيجُ الدِّرعِ. ويُسْتعار لكل نَسْجٍ مُحْكَم «، فجعله أصلاً في نَسْج الدَّرْع. قال الشاعر: 4206 - تقولُ وقد دَرَأْتُ لها وَضِيْني ... أهذا دينُه أبداً ودِيني أي: حِزامي.

16

قوله: {مُّتَّكِئِينَ، مُتَقَابِلِينَ} : حالان من الضمير في «على سُرُر» ويجوز أَنْ تكونَ حالاً متداخلةً، فيكون «متقابلين» حالاً من ضمير «متَّكئين» .

17

قوله: {يَطُوفُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً، وأنْ يكون استئنافاً.

18

و «بأكْواب» متعلقٌ ب «يَطُوف» . والأباريق: / جمع إبْريق، وهو مِنْ آنيةِ الخَمْر قال: 4207 - أَفْنى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ القواقيزِ أَفْواهَ الأباريقِ وقال عدي بن زيد: 4208 - وتداعَوا إلى الصَّبوحِ فجاءتْ ... قَيْنةٌ في يمينِها إبْريقُ وقال آخر:

4209 - كأن إبْريقَهم ظبيٌ على شَرَفٍ ... مُفَدَّمٍ بسَبا الكَتَّانِ مَلْثُوْمُ ووزنُه إفْعيل لاشتقاقِه مِنْ البَريق والإِبريقُ ما له خُرطومٌ. قال بعضهم: وأُذُنٌ. وتقدَّم تفسيرُ الأكواب.

19

قوله: {لاَّ يُصَدَّعُونَ} : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفة أخبر عنهم بذلك، وأن تكونَ حالاً من الضمير في «عليهم» ومعنى لا يُصَدَّعون عنها أي: بسببها. قال الزمخشري: «وحقيقتُه: لا يَصْدُرُ صُداعُهم عنها» والصُّداع: هو الداءُ المعروفُ الذي يَلْحَقُ الإِنسانَ في رأسِه، والخمر تؤثِّر فيه. قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر: 4210 - تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذِيك صالبُها ... ولا يخالِطُها في الرأس تدويمُ ولما قرأت هذا الديوان على الشيخ أثير الدين أبي حيان رحمه الله قال لي: هذه صفةُ خمر الجنة. وقال لي: لَمَّا قرأتُه على الشيخ أبي جعفر ابن الزبير قال لي: هذه صفةُ خمر الجنة. وقيل: لا يُصَدَّعون: لا يُفَرَّقون كما يتفرَّق الشَّربُ عن الشَّراب للعوارض

الدنيوية. ومِنْ مجيء تَصَدَّعَ بمعنى تَفَرَّق قولُه: «فتصدَّع السحابُ عن المدينة» ، أي: تفرَّق. ويُرَجِّحه قراءةُ مجاهد «لا يَصَّدَّعون» بفتح الياءِ وتشديد الصادِ. والأصلُ: يَتَصَدَّعون، أي: يتفرَّقون كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] . وحكى الزمخشري قراءةً وهي «لا يُصَدِّعون» بضم الياء وتخفيفِ الصادِ وكسرِ الدال مشددةً. قال: أي لا يُصَدِّعُ بعضُهم بعضاً، أي: لا يُفَرِّقُونهم. وتقدَّم الخلافُ بين السبعة في «يُنزِفُونَ» وتفسيرُ ذلك. وقرأ ابن أبي إسحاق بفتح الياء وكسر الزاي مِنْ نَزَفَ البِئْرُ، أي: اسْتُقِيَ ما فيها. والمعنى: لا تَنْفَدُ خمرُهم. قال الشيخ: «وابن أبي إسحاق أيضاً، وعبد الله والجحدريُّ والأعمش وطلحة وعيسى، بضمِّ الياء وكسر الزاي أي: لا يَفْنى لهم شراب» . قلت: وهذا عجيبٌ منه فإنَّه قد تقدَّم في الصافات أن الكوفيين يَقْرَؤون في الواقعة بكسر الزاي، وقد نقل هو هذه القراءة في قصيدته.

20

قوله: {وَفَاكِهَةٍ} : العامَّةُ على جَرِّ «فاكهة ولحم» نَسَقاً على «أكواب» أي: يطوفون عليهم بهذه الأشياء: المأكول والمشروبِ والمتفكَّهِ به، وهذا كمالُ العِيشةِ الراضيةِ. وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن برفعهما، على الابتداء، والخبرُ مقدَّرٌ أي: ولهم كذا.

22

قوله: {وَحُورٌ} قرأ الأخَوان بجرِّ «حور عين» . والباقون برفعِهما. والنخعيُّ: «وحِيرٍ عين» بقلب الواو ياءً وجرِّهما، وأُبَيٌّ وعبد الله «حُوْراً عيناً» بنصبهما. فأمَّا الجرُّ فمن أوجه، أحدها: أنه عطفٌ على {جَنَّاتِ النعيم} [الواقعة: 12] كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة ولحمٍ وحورٍ، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وهذا فيه بُعْدٌ وتفكيكُ كلامٍ مرتبطٍ بعضُه ببعض، وهو فُهْمُ أعجمي» . قلت: والذي ذهب إليه معنى حسنٌ جداً، وهو على حَذْفِ مضافٍ أي: وفي مقاربة حور، وهذا هو الذي عناه الزمخشري. وقد صرَّح غيرُه بتقدير هذا المضاف. الثاني: أنه معطوفٌ على «بأكواب» وذلك بتجوُّزٍ في قوله: «يطُوفُ» إذ معناه: يُنَعَّموْن فيها باكواب وبكذا وبُحور، قاله الزمخشري. الثالث: أنه معطوفٌ عليه حقيقةً، وأن الوِلْدانَ يَطُوفون عليهم بالحور أيضاً، فإن فيه لذةً لهم، طافُوا عليهم بالمأكولِ والمشروبِ والمُتَفَكَّهِ بعد المنكوحِ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب. ولا التفات إلى قولِ

أبي البقاء: «عطفاً على أكواب في اللفظ دون المعنى؛ لأنَّ الحوَر لا يُطاف بها» . وأمَّا الرفعُ فمِنْ أوجهٍ أيضاً، عطفاً على «ولْدانٌ» ، أي: إنَّ الحورَ يَطُفْنَ عليهم بذلك، كما الوَلائدُ في الدنيا. وقال أبو البقاء: «أي: يَطُفْنَ عليهم للتنعُّمِ لا للخدمة» قلت: / وهو للخدمةِ أبْلَغُ؛ لأنهم إذا خدمهم مثلُ أولئك، فما الظنُّ بالمَوْطوءات؟ الثاني: أَنْ يُعطفَ على الضمير المستكنِّ في «مُتَّكِئين» وسَوَّغ ذلك الفصلُ بما بينهما. الثالث: أَنْ يُعْطفَ على مبتدأ وخبر حُذِفا معاً تقديرُه: لهم هذا كلُّه وحورٌ عين، قاله الشيخ، وفيه نظر؛ لأنَّه إنما عُطِف على المبتدأ وحدَهُ، وذلك الخبرُ له ولِما عُطِف هو عليه. الرابع: أَنْ يكونَ مبتدأً، خبرُه مضمرٌ تقديرُه: ولهم، أو فيها، أو ثَمَّ حورٌ. وقال الزمخشري «على وفيها حُوْرٌ كبيت الكتاب: 4211 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ الخامس: أن يكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، أي: نساؤهم حورٌ، قاله

أبو البقاء. وأمَّا النصبُ ففيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل، أي: يَعْطَوْن، أو يَرِثُون حُوْراً، والثاني: أن يكونَ محمولاً على معنى: يَطوف عليهم؛ لأن معناه يُعْطَوْن كذا وكذا فعطف عليه هذا. وقال مكي:» ويجوز النصبُ على أَنْ يُحْمَلَ أيضاً على المعنى؛ لأنَّ معنى يَطوفُ وِلْدانٌ بكذا وكذا يُعْطَوْن كذا وكذا، ثم عطف حوراً على معناه «فكأنه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً. وأمَّا قراءةُ» وحِيْرٍ «فلمجاورتها» عين «ولأنَّ الياءَ أخفُّ من الواو، ونظيرهُ في التغيير للمجاورة:» أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث «بضم دال» حَدُث «لأجل» قَدُم «وإذا أُفْرِد منه فَتَحْتَ دالَه فقط، وقوله عليه السلام: «وربِّ السماوات ومَنْ أَظْلَلْنَ ورَبِّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْنَ» وقوله عليه السلام: «أيتكنَّ صاحبةُ الجمل الأَرْبَب تَنْبَحُها كلابُ الحَوْءَب» فَكَّ «الأَرْبَبَ» لأجل «الحَوْءَب» . وقرأ قتادة «وحورُ عينٍ» بالرفع والإِضافة ل «عين» وابن مقسم بالنصب والإِضافةِ وقد تقدَّم توجيهُ الرفع والنصب. وأمَّا الإِضافةُ فمِنْ

إضافة الموصوف لصفته مؤولاً. وقرأ عكرمةُ «وحَوْراءَ عَيْناءَ» بإفرادِهما على إرادةِ الجنس. وهذه القراءةُ تحتمل وجهَيْن: أحدهما: أَنْ تكونَ نصباً كقراءة أُبَيّ وعبد الله، وأن تكونَ جرَّاً، كقراءة الأخوَيْن؛ لأن هذين الاسمَيْن لا ينصرفان فهما محتملان للوجَهْين. وتقدَّم الكلام في اشتقاق العِين.

23

و {كَأَمْثَالِ} صفةٌ أو حالٌ. و «جزاءً» مفعول من أجله، أو مصدر، أي: يُجْزَوْن جزاءً.

26

قوله: {إِلاَّ قِيلاً} : فيه قولان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ وهذا واضحٌ؛ لأنه لم يندَرِجْ تحت اللَّغْو والتأثيم. والثاني: أنه متصلٌ وفيه بُعْدٌ، وكأن هذا رأى أن الأصلَ لا يَسْمعون فيها كلاماً فاندرَج عنده فيه. وقال مكي: «وقيل: منصوبٌ بيَسْمعون» وكأنه أرادَ هذا القول. قوله: {سَلاَماً سَلاَماً} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ مِنْ «قيلاً» أي: لا يسمعُون فيها إلاَّ سلاماً سلاماً. الثاني: أنه نعتٌ لقِيلا. الثالث: أنه منصوبٌ بنفس «قيلاً» أي: إلاَّ أَنْ يقولوا: سلاماً سلاماً، هو قولُ الزجَّاج. الرابع: أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، ذلك الفعلُ مَحْكِيٌّ ب «قيلاً» تقديره: إلاَّ قيلاً اسْلَموا سَلاماً. وقُرىء «سَلامٌ» بالرفع قال الزمخشري: «على الحكاية» . قال

مكي: «ويجوزُ في الكلام الرفعُ على معنى: سلامٌ عليكم، ابتداءٌ وخبرٌ» وكأنه لم يَعْرِفْها قراءةً.

28

قوله: {مَّخْضُودٍ} : المخضودُ: الذي قُطِع شَوْكُه، مِنْ خَضَدْتُه أي: قَطَعْتُه. وقيل المُوْقَرُ من الحَمْل حتى لا يَتَبَيَّن ساقُه وتَنْثَنِيَ أغصانُه مِنْ خَضَدْت الغصنَ أي ثنيْتُه. قال أمية بن أبي الصلت: 4212 - إن الحَدائقَ في الجِنانِ ظليلةٌ ... فيها الكواعِبُ سِدْرُها مَخْضُوْدُ والطَّلْحُ: جمع الطلحةُ وهي العظيمةُ من العِضاه. وقيل: هي أم غَيْلان. قال مجاهد: ولكنَّ ثمرَها أَحْلى من العسل. وقيل: هو المَوْزُ. ومعنى مَنْضود أي: متراكبٌ. وفي التفسير: لا يُرى له ساقٌ مِنْ كثرةِ ثمرِه. وقرأ علي رضي الله عنه وعبد الله وجعفر بن محمد «وطَلْع» بالعين، ولمَّا قرأها علي رضي الله عنه قال: وما شَأْنُ الطَّلْح؟ واستدلَّ بقولِه: {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10] فقيل له: أنُحَوِّلُها؟ فقال: آيُ القرآنِ لا تُهاجُ اليومَ ولا تُحَوَّلُ. ويُرْوى عن ابن عباس مثلُه. ومَسْكوب: أي مَصْبُوبٌ بكثرةٍ. وقُرِىءَ برفع «فاكهة» أي: وهناك، أولهم، أو فيها، أو ثَمَّ فاكهة.

33

قوله: {لاَّ مَقْطُوعَةٍ} : فيه وجهان، أظهرهُما: أنه

نعتٌ لفاكهة «ولا» للنفي، كقولك: «مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصير» ولذلك لزم تكرارُها. والثاني: هو معطوفٌ على فاكهة، / و «لا» عاطفةٌ قاله أبو البقاء. وحينئذٍ لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ موصوفٍ أي: لا فاكهةٍ مقطوعةٍ؛ لئلا تُعْطَفَ الصفةُ على موصوفِها.

34

قوله: {وَفُرُشٍ} : العامَّةُ على ضمِّ الراء جمع فِراش. وأبو حيوة بسكونها وهي مخففةٌ من المشهورة. والفُرُشُ قيل: هي القماشُ المعهودُ. ومرفوعة على الأَسِرَّة. وقيل: هي كنايةٌ عن النساءِ، كما كُنِي عنهنَّ باللِّباس، قاله أبو عبيدة وغيرُه. قالوا: ولذلك أعاد الضميرَ عليهنَّ في قوله: «إنَّا أنشأناهنَّ» . وأجاب غيرُهم: بأنه عائدٌ على النساءِ الدالِّ عليهنَّ الفُرُشُ. وقيل: يعودُ على «حُور» المتقدمة. وعن الأخفش: هُنَّ ضميرٌ لمَنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، يعني يدلُّ عليه السِّياقُ.

37

قوله: {عُرُباً} : جمع عَروب كصَبور وصُبُر. والعَرُوْب: المتحبِّبة إلى بَعْلِها. وقيل: الحسناءُ. وقيل: المُحْسِنة لكلامها. وقرأ حمزة وأبو بكر بسكونِ الراء، وهذا كرسُل ورُسْل،

وفُرُش وفُرْش، وقال ابن عباس: «هي العواتِقُ» . وأنشد للبيد: 4213 - وفي الخُدورِ عَروبٌ غيرُ فاحِشةٍ ... رَيَّا الرَّوادِفِ يَعْشى دونَها البصَرُ قوله: {أَتْرَاباً} جمع تِرْب وهو المساوي لك في سِنِّك؛ لأنَّه يَمَسُّ جِلْدَهما الترابُ في وقتٍ واحد، وهو آكد في الائتلافِ، وهو من الأسماءِ التي لا تتعرَّفُ بالإِضافةِ لأنه في معنى الصفةِ، إذ معناه: مُساويك، ومثلُه «خِدْنُك» لأنَّه في معنى صاحبك.

38

قوله: {لأِّصْحَابِ اليمين} : في هذه اللامِ وجهان؛ أحدهما: أنها متعلِّقةٌ ب «أَنْشَأْنَاهُنَّ» أي: لأجل. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «أَتْراباً» كقولك: هذا تِرْبٌ لهذا أي: مُساوٍ له.

43

واليَحْموم وزنه فَيْعول. قال أبو البقاء: «مِنْ الحِمَم أو الحَميم» واليَحْموم قيل: هو الدُّخان الأسود البهيم. وقيل: وادٍ في جهنم. وقيل: اسمٌ من أسمائها، والأولُ أظهرُ.

44

قوله: {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} : صفتان للظلِّ كقولِه: «من يَحْموم» . وفيه أنه قد قَدَّم غيرَ الصريحة على الصريحة، فالأَوْلَى أن يُجْعَلَ صفةً ليَحْموم، وإن كان السياقُ يُرْشِدُ إلى الأول. وقرأ ابنُ أبي عبلة «لا باردٌ ولا كريمٌ» برفعهما أي: هو لا باردٌ كقوله: 4214 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

فأَبِيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرومُ

46

قوله: {الحنث} : هو في أصلِ كلامهم العِدْلُ الثقيل، وسُمِّي به الذنبُ والإِثم لثقلِهما، قاله الخطابي: وفلانٌ حَنَثَ في يمينه أي: لم يَفِ بها؛ لأنه يَأْثَمُ غالباً، ويُعَبَّرُ بالحِنْث عن البلوغِ ومنه «لم يَبْلُغوا الحنث» وإنما قيل ذلك لأنَّ الإِنسانَ عند بلوغِه إياه يُؤَاخذ بالحِنْث أي بالذنب. وتَحَنَّثَ فلانٌ أي: جانَبَ الحِنْثَ. وفي الحديث: «كان يَتَحَنَّثُ بغار حراء» أي يتعبَّد لمجانبته الإِثمَ نحو: تَحَرَّجَ ف تَفَعَّلَ في هذه كلِّها للسَلْب.

47

قوله: {أَإِذَا مِتْنَا} : قد تقدَّم تقرير هذا كلِّه في الصافات. وتقدَّم الكلامُ على الاستفهامَيْن في سورة الرعد فأغنى ذلك عن إعادةِ كلِّ ذلك ولله الحمد.

52

قوله: {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} : فيه أوجه، أحدها: أَنْ تكونَ «مِنْ» الأولى لابتداء الغاية، والثانية للبيان أي: مُبْتَدِئون الأكلَ من شجرٍ هو زَقُّوم. الثاني: أَنْ تكونَ «مِنْ» الثانيةُ صفةً لشجر، فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: مستقرٍ. والثالث: أَنْ تكونَ «مِنْ» الأولى مزيدةً أي:

لآكلون شجراً، و «مِنْ» الثانيةُ على ما تقدَّم فيها من الوجهَيْن. الرابع: عكسُ هذا، وهو أَنْ تكونَ الثانيةُ مزيدةً أي: لآكلون زَقُّوماً، و «مِنْ» الأُولى للابتداء، أو في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «زَقُّوم» أي: كائناً مِنْ شجرٍ، ولو تأخَّر لكان صفةً. الخامس: أنَّ «مِنْ شجر» صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ أي: لآكلون شيئاً مِنْ شجرٍ، «ومِنْ زَقُّوم» على هذا نعتٌ لشجر، أو لشيء المحذوفِ. السادس: أنَّ الأولى للتبعيض، والثانيةَ بدلٌ منها، والضميرُ في «منها» عائدٌ على الشجر. وفي «عليه» للشجر أيضاً، وقد تقدَّم أنه يجوزُ تذكيرُ اسم الجنس وتأنيثُه، وأنهما لغتان. وقيل: في «عليه» عائدةٌ على الزقوم. وقال أبو البقاء: «للمأكول» . وقال ابن عطية: «للمأكول أو الأكل» . انتهى وفي قوله: «الأكل» بُعْدٌ. وقال الزمخشري: «وأنَّثَ ضميرَ الشجر على المعنى، وذكَّره على اللفظ في» منها «و» عليه «. ومَنْ قرأ {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} فقد جعل الضميرين للشجرةِ، وإنما ذكَّر الثاني على تأويلِ الزَّقُّوم لأنه تفسيرُها» .

55

قوله: {شُرْبَ الهيم} : قرأ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ

بضم الشين، وباقي السبعة بفتحِها، ومجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرِها فقيل: الثلاثُ لغاتٌ في مصدر شَرِب، والمقيسُ منها إنما هو المفتوحُ. وقيل: المصدرُ هو المفتوحُ والمضموم والمكسورُ اسمان لِمَا يُشْرَبُ كالرِّعْي والطِّحْن. / وقال الكسائي: يُقالُ شرِبْتُ شُرباً وشَرْباً. ويروى قولُ جعفر: «أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وبِعال» بفتح الشين. والشَّرْب في غيرِ هذا اسمٌ للجماعة الشاربين قال: 4215 - كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند مُفْتَأَدِ والمعنى: مثلَ شُرْبِ الهِيم. والهِيْمُ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه جَمْعُ أَهْيمَ أو هَيْماء، وهو الجَمَلَُ والناقةُ التي أصابها الهُيامُ وهو داءٌ مُعْطِشٌ تشرب الإِبلُ منه إلى أن تموتَ أو تَسْقُمُ سُقْماً شديداً، والأصلُ: هُيْم بضمِّ الهاءِ كأَحْمر وحُمْراء وحُمْر، فقُلِبت الضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ، وذلك نحو: بِيْض في أبيض. وأُنْشد لذي الرمة: 4216 - فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ ... صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها الثاني: أنه جمع هائِم وهائِمة من الهُيام أيضاً، إلاَّ أنَّ جَمْعَ فاعِل

وفاعِلة على فُعْل قليلٌ نادرٌ نحو: بازِل وبُزْل وعائِذ وعُوْذ ومنه: العُوْذُ المَطافيل. وقيل: هو من الهُيام وهو الذَّهابُ؛ لأنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك هامَ على وَجْهه. الثالث: أنه جمع هَيام بفتح الهاء وهو الرَّمْلُ غيرُ المتماسكِ الذي لا يُرْوَى من الماء أصلاً، فيكونُ مثلَ سَحاب وسُحُب بضمتين، ثم خُفِّف بإسكان عينه ثم كُسِرَتْ فاؤه لتصِحَّ الياء، كما فُعِلَ بالذي قبله. الرابع: أنَّه جمعُ «هُيام» بضم الهاء وهو الرَّمْل غيرُ المتماسكِ أيضاً لغةً في «الهَيام» بالفتح، حكاها ثعلب، إلاَّ أن المشهورَ الفتحُ ثم جُمع على فُعْل نحو: قُراد وقُرْد، ثم خُفِّفَ وكُسِرَتْ فاؤُه لتصِحَّ الياء والمعنى: أنَّه يُصيبهم من الجوع ما يُلجِئُهم إلى أَكْلِ الزَّقُّوم، ومن العطشِ ما يَضْطرُّهم إلى شُرْب الحميم مثلَ شُرْبِ الهِيْم. وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف صَحَّ عَطْفُ الشاربين على الشاربين، وهما لذواتٍ واحدةٍ، وصفتان متفقتان، فكان عطفاً للشيء على نفسِه؟ قلت: لَيْستا بمتفقتَيْن من حيث إنَّ كونَهم شاربين على ما هو عليه مِنْ تناهي الحرارة وقَطْع الأمعاء أمرٌ عجيبٌ، وشُرْبُهم له على ذلك كما تَشْرَب الهِيم أمرٌ عجيب أيضاً، فكانتا صفتَيْن مختلفتَيْن» انتهى يعنى قولَه: «فشاربون عليه من الحميم، فشاربون» وهو سؤالٌ حسنٌ، وجوابُه مثلُه. وأجاب بعضُهم عنه بجواب آخر: وهو أنَّ قولَه: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} تفسيرٌ للشُرْب قبلَه، ألا ترى أنَّ ما قبلَه يَصْلُح أن يكونَ مثلَ شُرْبِ الهيمِ ومثلَ شُرْبِ غيرِها ففَسَّره بأنه مثلُ شُرْبِ هؤلاء البهائم أو الرِّمالِ.

وفي ذلك فائدتان، إحداهما: التنبيهُ على كثرةِ شُرْبهم منه والثاني: عَدمُ جَدْوَى الشُّرْب، وأن المشروبَ لا يَنْجَعُ فيهم كما لا يَنْجَعُ في الهِيْم على التفسيرَين. وقال الشيخ: «والفاءُ تقتضي التعقيبَ في الشُّرْبَيْنِ، وأنهم أولاً لمَّا عَطِشوا شَرِبوا من الحميم، ظَنّاً منهم أنه يُسَكِّنُ عَطَشَهُم، فازداد العطشُ بحرارةِ الحميمِ، فشربوا بعده شُرْباً لا يقع بعدَه رِيٌّ أبداً. وهو مِثْلُ شُرْبِ الهيم فهما شُربان مِنَ الحَميم لا شُرْبٌ واحدٌ، اختلفَتْ صفتاه فَعَطف. والمشروبُ مِنْه في {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} محذوفٌ لفَهْمِ المعنى تقديرُه: فشاربون منه» انتهى. والظاهرُ أنه شُرْبٌ واحدٌ بل الذي نعتقدُ هذا فقط، وكيف يُناسِبُ أَنْ تكونَ زيادتُهم العطشَ بشُرْبِه مقتضيةً لشُرْبِهم منه ثانياً؟

56

وقرأ العامَّةُ «نُزُلُهم» بضمتين. ورُوي عن أبي عمروٍ من طُرُق، وعن نافعٍ وابنِ محيصنٍ بضمةٍ وسكونٍ، وهو تخفيفٌ. وقد تقدَّم أن النُّزُلَ ما يُعَدُّ للضيفِ. وقيل: هو أولُ ما يأكلُه فسُمِّي به هذا تهكُّماً بمَنْ أُعِدَّ له، وهو في المعنى كقولِ أبي السعر الضَّبِّي: 4217 - وكُنَّا إذا الجبَّارُ أَنْزَلَ جَيْشَه ... جَعَلْنَا القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا

57

قوله: {فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} : تحضيضٌ. ومتعلَّقُ التصديقِ محذوفٌ تقديرُه: فلولا تُصَدِّقُون بخَلْقِنا.

58

وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ} : هي بمعنى أَخْبِرْني. ومفعولُها الأولُ «ما تُمْنُوْن» ، والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ، وقد تقدَّم تقريرُ هذا.

59

و {أَأَنتُمْ} : يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه فاعل/ فعلٍ مقدرٍ أي: أتخلقونه، فلَمَّا حُذِفَ الفعل لدلالةِ ما بعدَه عليه انفصل الضميرُ، وهذا من بابِ الاشتغال. والثاني: أنَّ «أنتم» مبتدأٌ، والجملةُ بعده خبرُه. والأولُ أرجحُ لأجلِ أداةِ الاستفهام. وقوله: {أَم} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنها منقطعةٌ؛ لأن بعدها جملةً، وهي إنما تَعْطِفُ المفرداتِ. والثاني: أنها متصلةٌ. وأجابوا عن وقوعِ الجملةِ بعدها: بأنَّ مجيءَ الخبرِ بعد «نحن» أُتي به على سبيلِ التوكيدِ إذ لو قال: «أم نحنُ» لاكتُفِيَ به دونَ الخبرِ. ونظيرُ ذلك جوابُ مَنْ قال: [مَنْ] في الدار؟ زيدٌ في الدار، أو زيدٌ فيها، ولو اقْتُصِر على «زيد» لكان كافياً. قلت: ويؤيِّد كونَها متصلة أنَّ الكلامَ يَقْتَضي تأويلَه: أيُّ الأمرَيْن واقعٌ؟ وإذا صَلَحَ ذلك كانت متصلةً إذ الجملةُ بتأويلِ المفردِ. ومفعولُ «الخالقون» محذوفٌ لفَهْم المعنى أي: الخالِقوه. وقرأ العامَّةُ «تُمْنُوْن» بضمِّ التاء مِنْ أَمْنَى يُمْني. وابن عباس

وأبو السَّمَّال بفتحِها مِنْ مَنَى يَمْنِي. وقال الزمخشري: يقال: «أمْنَى النُّطْفَةَ ومَناها. قال اللَّهُ تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} [النجم: 46] انتهى. فظاهرُ هذا أنه استشهادٌ للثلاثي، وليس فيه دليلٌ له؛ إذ يُقال من الرباعي أيضاً» تُمْنَى «كقول:» أنت تُكْرَم «وهو مِنْ أَكْرَم.

60

وقرأ ابن كثير «قَدَرْنا» بتخفيفِ الدال. والباقون بالتشديد هنا، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ في التقدير الذي هو القضاءُ.

61

قوله: {على أَن نُّبَدِّلَ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «مَسْبوقين» وهو الظاهرُ، ولم يَسْبِقْنا أحدٌ على تبديلِنا أمثالَكم أي: يُعْجِزْنا يُقال: سبقَه على كذا أي: أَعْجَزه عنه وغَلَبه عليه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بقوله: «قَدَّرنا» أي: قَدَّرْنا بينكم على أَنْ نُبَدِّلَ أي: نُمَوِّت طائفةً ونَخْلُقَها طائفةً أخرى، قال معناه الطبري. فعلى هذا يكون قولُه: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} معترضاً، وهو اعتراضٌ حسنٌ. ويجوز في «أمثالَكم» وجهان، أحدهما: أنه جمعُ «مِثْل» بكسر الميم وسكون الثاء، أي: نحن قادرون على أن نُعدِمَكم ونَخْلُقَ قوماً

آخرين أمثالَكم، ويؤيِّده: «إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم أيها الناسُ ويَأْتِ بآخرين» والثاني: أنه جمع «مَثَل» بفتحتين، وهو الصفةُ أي: نُغَيِّرُ صفاتِكم التي أنتم عليها خَلْقاً وخُلُقاً، ونُنْشِئُكم في صفاتٍ غيرِها.

62

وتقدَّم قراءتا «النشأة» في العنكبوت.

63

قوله: {أَفَرَأَيْتُم} : وما بعده قد تَقَدَّم نظيرُه. وأُتي هنا بجواب «لو» مقروناً باللام وهو الأكثرُ؛ لأنه مُثْبَتٌ وحُذف في قولِه: «جَعَلْناه أُجاجاً» لأنَّ المِنَّةَ بالمأكولِ أعظمُ منها بالمشروب. وقرأ طلحة «تَذْكُرُون» بسكون الذال وضمِّ الكاف.

65

قوله: {فَظَلْتُمْ} : هذه قراءةُ العامَّةِ أعني فتحَ الظاء مع لامِ واحدة. وقد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفى في طه. وأبو حيوة وأبو بكرٍ في روايةٍ بكسرِ الظاء. وعبد الله والجحدريُّ «فظَلِلْتُمْ» على الأصل بلامَيْن، أُولاهما مكسورةٌ. ورُوي عن الجحدري فتحُها، وهي لغةٌ أيضاً. والعامةُ «تَفَكَّهون» بالهاء، ومعناه: تَنْدَمون، وحقيقتُه: تُلْقُون الفُكاهةَ عن أَنْفسِكم، ولا تُلْقَى الفُكاهةُ إلاَّ من الخِزْيِ فهو من بابِ:

تَحَرَّج وتَأَثَّم وتَحَوَّب. وقيل: تَفَكَّهون: تَعْجَبون. وقيل: تَلاومون، وقيل: تَتَفَجَّعون، وهذا تفسيرٌ باللازم. وقرأ أبو حرام العكلي «تَفَكَّنون» بالنون مثل تَتَنَدَّمون. قال ابن خالويه: «تَفَكَّهَ تَعَجَّب، وتَفَكَّن تندَّمَ» . وفي الحديث: «مَثَلُ العالِمِ مَثَلُ الحَمَّة يَأْتيها البُعَداء ويترُكها القُرَباء. فبيناهُمْ إذ غار ماؤها فانتفع بها قومٌ وبقي قومٌ يَتَفَكَّنون» أي: يَتَنَدَّمون.

66

قوله: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} : قرأ أبو بكر «أإنا» بالاستفهام وهو على أصلِه في تحقيقِ الهمزتَيْن وعَدَمِ إدْخال ألفٍ بينهما والباقون بالخبر. وقبلَ هذه الجملةِ قولٌ مقدرٌ على كلتا القراءتين. وذلك في محلِّ نصبٍ على الحالِ تقديرُه: فَظَلْتُم تَفَكَّهون قائلين أو تقولون: إنا لمُغْرَمون أي: لَمُلْزَمون غَرامةَ ما أَنْفَقْنا أو مُهْلَكون لهلاكِ رِزْقِنا، من الغَرام وهو الهلاكُ. قاله الزمخشري. ومن الغَرام بمعنى الهَلاك قولُه: 4218 - إن يُعَذِّبْ يَكُنْ غَراماً وإنْ يُعْ ... طِ جَزيلاً فإنَّه لا يُبالي

69

قوله: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} : / قد تقدَّم عدمُ دخولِ اللامِ في جواب «لو» هذه. وقال الزمشخري: «فإن قلتَ: لِمَ أُُدخِلَتِ اللامُ في جواب» لو «في قوله: {لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة: 65] ونُزِعَتْ منه ههنا؟ قلت: إنَّ» لو «لمَّا كانَتْ داخلةً على جملتَيْن، مُعَلَّقةٍ ثانيتُهما بالأولى تعليقَ الجزاءِ بالشرط، ولم تكن مُخَلِّصةً للشرط ك» إنْ «ولا عاملةً مثلَها، وإنما سَرَى فيها معنى الشرطِ اتفاقاً، من حيث إفادتُها في مضومونَيْ جملَتَيْها أنَّ الثاني امتنع لامتناع الأولِ، افتقرَتْ في جوابِها إلى ما يَنْصَبُّ عَلَماً على هذا التعليقِ، فزِيْدَتْ هذه اللامُ لتكونَ عَلَماً على ذلك، فإذا حُذِفَتْ بعدما صارَتْ عَلَماً مشهوراً مكانُه فلأِنَّ الشيءَ إذا عُلِمَ وشُهِر مَوْقِعُه وصار مَأْلوفاً ومَأْنوساً به لم يُبالَ بإسقاطِه عن اللفظِ، استغناءً بمعرفةِ السامع. ألا ترى إلى ما يُحْكى عن رؤبةَ أنه كان يقول:» خير «لمَنْ يقولُ له: كيف أصبحْتَ؟ فَحَذَفَ الجارَّ لِعِلْمِ كلِّ أحدٍ بمكانِه وتَساوي حالَيْ إثباتِه وحَذْفِه لشُهْرةِ أَمْرِه. وناهِيك بقولَ أوس: 4219 - حتى إذا الكَلاَّبُ قال لها ... كاليومِ مَطْلوباً ولا طَلَبا فحذفَ» لم أَرَ «حَذْفُها اختصارٌ لفظي، وهي ثابتةٌ في المعنى فاستوى الموضعان بلا فرقٍ بينهما. على أن تَقَدُّمَ ذِكْرِها والمسافةُ قصيرةٌ مُغْنٍ عن ذِكْرِها ثانيةً. ويجوزُ أَنْ يُقال: إنَّ هذه اللامَ مفيدةٌ معنى التوكيدِ لا مَحالةَ، فأُدْخِلَتْ في آيةِ المطعوم دونَ آيةِ المَشْروبِ، للدلالةِ على أنَّ

أَمْرَ المطعومِ مُقَدَّمٌ على أَمْرِ المشروبِ، وأنَّ الوعيدَ بفَقْدِهِ أشدُّ وأصعبُ من قِبَلِ أنَّ المشروبَ إنما يُحتاجُ إليه تَبَعاً للمطعوم، ألا ترى أنك إنما تَسْقي ضيفَك بعدما تُطْعِمُهُ، ولو عَكَسْتَ قَعَدْتَ تحت قولِ أبي العلاءِ: 4220 - إذا سُقِيَتْ ضُيوفُ الناس مَحْضاً ... سَقَوْا أضيافَهم شَبِماً زُلالا وسُقِي بعضُ العربِ فقال: أنا لا أَشْرَبُ إلاَّ على ثميلة، ولهذا قُدِّمَتْ آيةُ المطعومِ على آيةِ المشروب» انتهى. قال الشيخ: «وقد طوَّل الزمخشريُّ» فلم يَذْكُرْ هذا الكلامَ الحسنَ، ثم ذَكَر بعض كلامِه، وواخَذَه في قولِه: «إنَّ الثاني امتنع لامتناعِ الأول» وجعلها عبارةَ بعض ضعفاءِ المُعْرِبين، ثم ذكر عبارةَ سيبويه، وهي: حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه، وذكر أنَّ قولَ مَنْ قال: «امتناع لامتناع» فاسدٌ بقولك: لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً، يعني أنه لا يَلْزَمُ مِن امتناع الإِنسانية امتناعُ الحيوانية. ومِثْلُ هذه الإِيراداتِ سهلةٌ وإذا تَبِعَ الرجلُ الناسَ في عبارتهم لا عليه. على أنها عبارةُ المتقدِّمين من النحاة، نَصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ. وقوله: {مِنَ المزن} : السحاب وهو اسم جنس واحدُه مُزْنة. قال الشاعر:

4221 - فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها وقال الآخر: 4222 - ونحن كماءِ المُزْنِ ما في نِصابِنا ... كَهامٌ ولا فينا يُعَدُّ بخيلُ

71

قوله: {تُورُونَ} : مِنْ أَوْرَيْتُ الزَّنْدَ أي: قَدَحْتَه فاستخرجتَ نارَه، ووَرِي الزَّنْدُ يَرِي أي: خَرَجَتْ نارُه. وأصلُ تُوْرُوْن تُوْرِيُون.

73

قوله: {لِّلْمُقْوِينَ} : يُقال: أَقْوَى الرجلُ: إذا حلَّ في الأرض القِواءِ، وهي القَفْرُ، كأصْحَرَ: دَخَلَ في الصحراء. وأَقْوَتِ الدار: خَلَتْ، مِنْ ذلك لأنها تصير قَفْراً. قال النابغة: 4223 - يا دارَميَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وطال عليها سالفُ الأبَدِ

75

قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} : قرأه العامَّةُ «فلا» ، لامَ ألفٍ، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها حرفُ نفي، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه: فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين. وضُعِّفَ هذا: بأنَّ

فيه حَذْفَ اسمِ «لا» وخبرِها. قال الشيخ: «ولا يجوز» ولا ينبغي؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف. الثاني: أنها زائدةٌ للتوكيدِ، مِثْلُها في قولِه تعالى: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] والتقدير: فأُقْسِمُ، وليَعْلَمَ، وكقولِه: 4224 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها الثالث: أنَّها لامُ الابتداءِ. والأصلُ: فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ، كقولِه: 4225 - أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ ... قاله الشيخُ، واستشهدَ بقراءةِ هشام «أَفْئِيْدَة» . قلت. وهذا ضعيفٌ جداً، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ «فَلأُقْسِمُ» بلامٍ واحدةٍ. قلت: وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما: أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ،

وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ، والفعلُ خبرُه، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه: فلأَنا أٌقْسِمُ نحو: لَزيدٌ منطلقٌ، قاله الزمخشري وابن جني. والثاني: أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي. ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} [التوبة: 107] فنفسُ «ليَحْلِفُنَّ» قسمٌ جوابُه «إنْ أرَدْنَا» وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، كذلك هذا، وهو قولُ الكوفيين: يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ. البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية. ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال: «لأمرَيْن، أحدهما: أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ. والثاني: أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال» وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين، ومعنى قولِه: «وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال» يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ. وإمَّا قولُه: «أَنْ يُقْرن بها النونُ» هذا مذهبُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو: واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه: 4226 - لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ ... لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه:

4227 - وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ} [النساء: 65] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير {لأُقْسِمُ بيوم القيامة} [القيامة: 1] . وقرأ العامَّة «بمواقِع» جمعاً، والأخَوان «بموقع» مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ، ومواقعُها: مَساقِطُها ومَغارِبُها. وقيل: سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ. وقيل: النجومُ للقرآن، ويؤيِّدُه «وإنَّه لَقَسَمٌ» ، و {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} والمُقْسَمُ عليه قولُه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان، أحدُهما: الاعتراضُ بقوله: «وإنه لَقَسَمٌ» بين القسمِ والمُقْسَم عليه، والثاني: الاعتراضُ بقولِه: «لو تعلمون» بين الصفةِ والموصوفِ. وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه: «وإنَّه لَقَسَمٌ» اعتراضاً فقال: «وإنه لَقَسَمٌ» تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن،

بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به، وإنما الاعتراضُ قولُه: «لو تعلمون» قلت: وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه.

79

قوله: {لاَّ يَمَسُّهُ} : في «لا» هذه وجهان، أحدهما: أنها نافيةٌ فالضمةُ في «لا يَمَسُّه» ضمةُ إعرابٍ، وعلى هذا القولِ ففي الجملةِ وجهان، أحدهما: أنَّ محلَّها الجرُّ صفةً ل «كتاب» والمرادُ ب «كتاب» : إمَّا اللوحُ المحفوظُ، والمُطهَّرون حينئذٍ الملائكةُ أو المرادُ به المصاحف، والمرادُ بالمُطهَّرين المكلَّفون كلُّهم. والثاني: أن محلَّها الرفعُ صفةً لقرآنِ، والمرادُ بالمطهَّرينِ الملائكةُ فقط أي: لا يَطَّلع عليه أو لا يَمَسُّ لَوْحَه. لا بُدَّ من أحد هَذَيْن التجوُّزَيْن؛ لأن نسبةَ المسِّ إلى المعاني حقيقةً متعذَّرٌ. ويؤيِّد كونَ هذه نفياً قراءةُ عبد الله «ما يَمَسُّه» ب «ما» النافيةِ. والثاني من الوجهين الأوَّلَيْن: أنها ناهيةٌ، والفعلُ بعدها مجزومٌ؛ لأنه لو فُكَّ عن الإِدغامِ لظهر ذلك فيه كقولِه: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] ولكنه أَدْغم، ولَمَّا أُدْغِمَ حُرِّك آخرُه بالضمِّ لأجلِ هاء ضميرِ المذكرِ الغائبِ، ولم يَحْفَظْ سيبويه في نحوِ هذا إلاَّ الضمَّ. وفي الحديث: «إنَّا

لم نَرُدُّه عليك إلاَّ أننا حُرُمٌ» وإن كان القياسُ يَقْتضي جوازَ فَتْحِه تخفيفاً، وبهذا الذي ذكرْتُه يظهر فسادُ رَدِّ/ مَنْ رَدَّ: بأنَّ هذا لو كان نَهْياً لكان يُقال: «لا يَمَسَّه» بالفتح؛ لأنه خَفي عليه جوازُ ضَمِّ ما قبل الهاءِ في هذا النحوِ، لا سيما على رأيِ سيبويه فإنه لا يُجيز غيرَه. وقد ضَعَّفَ ابنُ عطية كونَه نهياً: بأنه إذا كان خبراً فهو في موضعِ الصفةِ، وقولُه بعد ذلك «تنْزيلٌ» صفةٌ فإذا جعلناه نَهْياً كان أجنبياً معترضاً بين الصفاتِ وذلك لا يَحْسُن في رَصْفِ الكلامِ فتدبَّرْه. وفي حرف ابن مسعود «ما يمسُّه» انتهى. وليس فيما ذكرَه ضَعْفٌ لهذا القول؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ «تنزيل» صفةٌ، بل هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو تنزيلٌ فلا يَلْزَم ما ذَكرَه من الاعتراضِ. ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنه صفةٌ ف «لا يَمَسُّه» صفةٌ أيضاً، فيُعْترض علينا: بأنه طلبٌ. فيُجاب: بأنه على إضمارِ القولِ أي: مقولٌ فيه: لا يمسُّه، كما قالوا ذلك في قوله: «فتنةً لا تصيبَنَّ» على أنَّ «لا تصيبنَّ» نَهْيٌ وهو كقولِه: 4228 - جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيْتَ الذئبَ قطّ ... وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنفال، وهذه المسألةُ يتعلَّقُ بها خلافُ

العلماء في مَسِّ المُحْدِث المصحفَ، وهو مبنيٌّ على هذا، وسيأتي تحقيقُه بأشبعَ مِنْ هذا في كتاب «أحكام القرآن» إن شاء الله تعالى إتمامَه. وقرأ العامَّةُ «المُطَهَّرون» بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحةً اسمَ مفعول، وعن سلمان الفارسي كذلك، إلاَّ أنه بكسرِ الهاء اسمَ فاعلٍ أي: المُطَهِّرون أنفسَهم، فحذف مفعولَه. ونافع وأبو عمروٍ في رواية عنهما وعيسى بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة اسم مَفعول من أطهر. وزيد والحسن وعبد الله بن عون وسلمان أيضاً «المُطَّهِّرُوْن» بتشديدِ الطاءِ والهاءِ المكسورةِ، وأصلُه المتطهِّرون فأُدْغِم. وقد قُرىءَ بهذا الأصلِ أيضاً.

80

وقرِىء «تنزيلاً» بالنصب على أنه حال من النكرة. وجاز ذلك لتخصُّصِها بالصفةِ، أو أَنْ يكونَ مصدراً لعاملٍ مقدر أي: نُزِّل تنزيلاً، وغَلَب التنزيلُ على القرآن. و «من رَبِّ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به على الأول لا الثاني؛ لأن المؤكَّد لا يعملُ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له، وأمَّا على قراءةِ «تنزيل» بالرفعِ فيجوز الوجهان.

81

قوله: {أفبهذا} : متعلِّقٌ بالخبر، وجازَ تقديمُه على المبتدأ؛ لأنَّ عامله يجوزُ فيه ذلك. والأصل: أفأنتم مُدْهِنون بهذا الحديث وهو القرآنُ. ومعنى «مُدْهِنون» : مُتهاوِنون كمن يُدْهِنُ في الأمر أي: يُلَيِّنُ جانبَه ولا يتصلَّب فيه تهاوُناً به يقال: أَدْهَن فلانٌ أي: لايَنَ وهاوَدَ فيما لا يُحْمَلُ عند المُدْهَنِ. قال الشاعر: 4229 - الحَزْمُ والقُوَّةُ خيرٌ من الْ ... إدْهانِ والفَهَّةِ والهاعِ وقال الراغب: «والإِدهانُ في الأصل مثلُ التدهين لكن جُعِل عبارةً عن المُداراة والمُلاينة وتَرْكِ الجدِّ، كما جُعِل التقريدُ وهو نَزْعُ القُراد، عبارةً عن ذلك» .

82

قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه على التهكُّم بهم؛ لأنهم وَضَعوا الشيءَ غيرَ موضعِه كقولك: «شَتَمني حيث أَحْسَنْتُ إليه» أي: عَكَسَ قضيةَ الإِحسانِ ومنه: 4230 - كأن شُكْرَ القَوْمِ عند المِنَنِ ... كيُّ الصَحيحاتِ وفَقْءُ الأعينِ أي: شُكْرَ رِزْقِكم تكذيبَكم، الثاني: أنَّ ثَمَّ مضافَيْنِ محذوفَيْنِ،

أي: بَدَل شُكْرِ رِزْقكم ليَصِحَّ المعنى قاله جمال الدين بن مالك، وقد تقدَّم لك في قولِه: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9] أكثرُ من هذا. الثالث: أنَّ الرِّزْقَ هو الشُّكْرُ في لغةِ أزدِ شنوءة: ما رَزَقَ فلانٌ فلاناً أي: ما شكره، فعلى هذا لا حَذْفَ البتةَ، ويُؤَيِّدُهُ قراءةُ علي بنِ أبي طالب وتلميذِه عبد الله بن عباس رضي الله عنهم «وتَجْعَلون شُكْرَكم» مكان «رِزْقَكم» . وقرأ العامَّةُ «تُكَذِّبون» من التكذيب. وعلي رضي الله عنه وعاصمٌ في رواية المفضل عنه «تَكْذِبون» مخففاً من الكَذِب.

83

قوله: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} : ترتيبُ الآيةِ/ الكريمة: فلولا تَرْجِعُونها أي النفسَ إذا بلغت الحلقومَ إن كنتم غيرَ مَدِيْنين. و «فلولا» الثانيةُ مكررةٌ للتوكيدِ. قاله الزمخشريُّ. قلت: فيكونُ التقدير: فلولا فلولا تَرْجِعونها، من باب التوكيد اللفظي، وتكون «إذا بَلَغَت» ظرفاً ل «تَرْجِعونها» مقدَّماً عليه؛ إذ لا مانعَ مِنْه، أي: فلولا تَرْجِعون النفسَ في وقتِ بُلوغها الحلقومَ. وقوله: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} جملةٌ حالية مِنْ فاعل بَلَغَتْ، والتنوينُ في «حينئذٍ» عِوَضٌ من الجملة المضافِ إليها «إذا» ، أي: إذا بلغَتْ الحلقومَ خلافاً للأخفش حيث زعمَ أن التنوينَ للصَّرْفِ والكسرَ للإِعرابِ، وقد مضى تحقيقُه.

84

وقرأ العامَّةُ بفتحِ نونِ «حينئذٍ» لأنَّه منصوبٌ على الظرفِ ناصبُه «تَنْظُرون» وعيسى بكسرها، وهي مُشْكِلَةٌ لا تَبْعُدُ عن الغَلَطِ عيله، وخُرِّجَتْ على الإِتباع لحركة الهمزة، ولا غَرْوَ في ذلك فليسَتْ بأبعدَ من قراءةِ «الحمد للَّهِ» [الفاتحة: 1] بكسر الدال لتلازُمِ المتضايفَيْنِ ولكثرةِ دَوْرِهما على الخصوص.

85

قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: تَنْظُرون في هذه الحالِ التي تَخْفَى عليكم، وأن تكونَ مستأنفةً، فتكونَ اعتراضاً، والاستدراكُ ظاهرٌ. والبَصَرُ: يجوز أَنْ يكونَ من البصيرة، وأَنْ يكونَ من البَصَرِ أي: لا تَنْظُرون أعوانَ مَلَكِ الموتِ.

86

و {إِن كُنتُمْ} : شرطٌ جوابُه محذوفٌ عند البَصْريين لدلالةِ «فلولا» عليه أو مقدَّمٌ عند مَنْ يرى ذلك، كما تقدَّمَ تقريرُه. والحُلْقُوْمُ: مَجْرى الطعامِ. و «مَدِيْنين» أي: مَسُوسين، أو محاسَبين، أو مجازِين. وقد تقدَّم ذلك أولَ الفاتحة ولله الحمدُ. وهذا ما تلخص في الآية الكريمة محرَّراً. وقال أبو البقاء: «وتَرْجِعونها جوابُ» لولا «الأولى، وأغنى ذلك عن جوابِ الثانية وقيل عكسُ ذلك. وقيل: لولا الثانيةُ تكريرٌ» انتهى. وتسميةُ مثلِ هذا جواباً ليس بصحيح البتَة؛ لأنَّ هذه تحضيضيةٌ لا جوابَ لها، إنما الجوابُ للامتناعيةِ لوجودٍ نحو: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} [النساء: 83] .

وقال ابن عطية: «وقولُه:» تَرْجِعونها «سَدَّ مَسَدَّ الأجوبةِ والبياناتِ التي تَقْتَضيها التَّحْضيضاتُ، و» إذا «مِنْ قولِه:» فلولا إذا «و» إنْ «المكررة، وحَمَلَ بعضُ القولِ بعضاً إيجازاً» واقتضاباً «انتهى. فجعل» إذا «شرطيةً. وقولُه:» الأجوبة «يعني ل» إذا «ول» إنْ «ول» إنْ «في قولِه: {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} ، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . والبياناتُ يعني الأفعالَ التي حَضَّض عليها، وهي عبارةٌ قَلِقَةٌ، ولذلك فَسَّرْتُها. قال الشيخ:» وإذا ليسَتْ شرطاً؛ بل ظرفاً يعمل فيها «تَرْجعونها» المحذوفُ بعد «لولا» لدلالةِ «تَرْجِعونها» في التحضيض الثاني عليه، فجاء التحضيضُ الأولُ مقيَّداً بوقتِ بلوغِ الحُلْقومِ. وجاء التحضيضُ الثاني مُعَلَّقاً على انتفاء مَرْبُوْبيَّتهم وهم لا يَقْدرون على رَجْعِها إذ مَرْبُوبِيَّتُهم موجودةٌ، فهم مقْهورون لا قُدْرَةَ لهم «انتهى. فجعل» تَرْجِعونها «المذكورَ ل» لولا «الثانية، وهو دالٌّ على محذوفٍ بعد الأولى، وهو أحد الأقوالِ التي نَقَلها أبو البقاء فيما تقدم.

87

قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : شرطٌ آخرُ، وليس هذا من اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ نحو: «إنْ ركبتِ إنْ لَبِسْتِ فأنتِ طالق» حتى يجيءَ فيه ما قَدَّمْتُه في هذه المسألةِ؛ لأنَّ المرادَ هنا: إنْ وُجِد الشرطان كيف كانا فهلا رَجَعْتُمْ بنفِس الميتِ. قوله: {فَأَمَّآ إِن كَانَ} قد تقدَّم الكلامُ في «إمَّا» في أولِ هذا

الموضوعِ مستوفىً ولله الحمدُ. وهنا أمرٌ زائدٌ وهو وقوعُ شرطٍ آخرَ بعدها. واختلف النحاةُ في الجوابِ المذكورِ بعدها: هل هو ل «أمَّا» أو ل «إنْ» ، وجوابُ الأخرى محذوفٌ لدلالةِ المنطوقِ عليه، أو الجوابُ لهما معاً؟ ثلاثةُ أقوالٍ، الأولُ لسيبويه والثاني للفارسيِّ في أحدِ قولَيْه، وله قولٌ آخرُ كسيبويهِ، والثالث للأخفش، وهذا كما تقدَّم في الجوابِ بعد الشرطَيْن المتواردَيْن. وقال مكي: «ومعنى» أمَّا «عند أبي إسحاقَ الخروجُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ، أي: دَعْ ما كُنَّا فيه وخُذْ في غيره» . قلت: وعلى هذا فيكونُ الجوابُ ل «إنْ» فقط لأنَّ «أمَّا» ليسَتْ شرطاً. ورجَّح بعضُهم أنَّ الجوابَ ل «أمَّا» ؛ لأنَّ «إنْ» كَثُرَ حَذْفُ جوابِها/ منفردةً، فادِّعاءُ ذلك مع شرطٍ آخرَ أَوْلَى. والضميرُ في «كان» و «كان» للمتوفَّى لدلالةِ قولِه: «فلولا تَرْجِعُونَها» .

89

والرَّوْحُ: الاستراحةُ، وقد تقدَّم ذلك في يوسف. وقرأ ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة في جماعةٍ كثيرة بضمِّ الراءِ، وتُرْوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. قال الحسن: الرَّوْحُ: الرحمةُ؛ لأنها كالحياة للمرحومِ. وعنه أيضاً: رُوْحُه تَخْرُج في رَيْحان. وقد تقدَّم

الكلامُ على {رَيْحَانٌ} والخلافُ فيه وكيفيةُ تصريفِه في السورةِ قبلها. و [قوله] : {فَرَوْحٌ} مبتدأٌ، خبرُه مقدَّر قبلَه أي: فله رَوْحٌ. ويجوزُ أَنْ يُقَدَّر بعدَه لاعتمادِه على فاءِ الجزاءِ.

91

قوله: {فَسَلاَمٌ لَّكَ} : مبتدأٌ وخبرٌ. و «مِنْ أصحاب» . قال الزمخشري: «فسلامٌ لك يا صاحبَ اليمين من إخوانك إصحابِ اليمينِ، أي: يُسَلِّمون عليك» . وقال ابن جرير: «معناه فسلامٌ لكَ أنت مِنْ أصحابِ» . وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ كقولِ الزمخشريِّ، ويكونَ «أنت» تأكيداً للكافِ في «لك» ، ويَحْتمل أَنْ يكونَ أراد أنَّ «أنت» مبتدأٌ و «من أصحابِ» خبرُه، ويؤيِّدُ هذا ما حكاه قومٌ مِنْ أنَّ المعنى: فيُقال لهم: سلامٌ لك إنَّك من أصحاب اليمين. وأولُ هذه الأقوالِ هو الواضحُ البيِّن؛ ولذلك لم يُعرِّجْ أبو القاسمِ على غيرِه.

94

قوله: {وَتَصْلِيَةُ} : عطفٌ على «فُنُزُل» أي: فله نُزُلٌ وتَصْلِيَةٌ. وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ اللُّؤْلؤي عنه وأحمد بن موسى والمنقري بجرِّ التاءِ عَطْفاً على «مِنْ حميمٍ» .

95

قوله: {حَقُّ اليقين} : فيه وجهان، أحدهما: هو من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه. والثاني: أنه من باب إضافةِ المترادَفَيْن على سبيل المبالغةِ. وسهَّلَ ذلك تخالُفُ لفظِهما. وإذا كانوا فعلوا ذلك في

اللفظِ الواحدِ فقالوا: صوابُ الصوابِ، ونفس النفس، مبالغةً فَلأَنْ يَفْعلوه عند اختلافِ اللفظِ أَوْلَى.

96

قوله: {باسم رَبِّكَ} : يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للحال أي: فسَبِّحْ مُلْتَبِساً باسمِ ربك على سبيلِ التبرُّكِ كقوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] ، وأَنْ تكونَ للتعديةِ، على أنَّ «سَبَّح» يتعدَّى بنفسه تارةً كقولِه: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ} [الأعلى: 1] وبحرفِ الجرِّ تارةً كهذه الآيةِ، وادعاءُ زيادتها خلافُ الأصلِ. و «العظيم» يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للاسم، وأَنْ يكونَ لربك؛ لأنَّ كلاً منهما مجرورٌ. وقد وُصِفَ كلٌّ منهما في قوله: «تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذُو الجلال» [الرحمن: 78] و {ذي الجلال} . ولتغايُرِ المتضايفَيْن في الإِعراب ظهر الفرقُ في الوصف.

الحديد

قوله: {للَّهِ} : يجوزُ في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ كهي في «نَصَحْتُ لزيدٍ» و «شكرْتُ له» إذ يقال: سَبَّحْت الله تعالى. قال تعالى: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] . والثاني: أَنْ تكونَ للتعليلِ، أي: أَحْدَثَ التسبيحَ لأجلِ الله تعالى.

2

قوله: {لَهُ مُلْكُ} : جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ. قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لا مَحَلَّ لها كالتي قبلها. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو له مُلك. والثالث: أنها حالٌ من الضمير في «له» فالعامل فيها الاستقرارُ، ولم يُذْكَرْ مفعولا الإِحياءِ والإِماتةِ؛ إذ الغَرَضُ ذِكْرُ الفعلَيْنِ فقط.

3

قوله: {هُوَ الأول والآخر} : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما معنى الواوِ؟ قلت: الواوُ الأولى معناها الدلالةُ على أنه الجامعُ بين الصفَتَيْن الأوَّليَّةِ والآخِريَّةِ، والثالثةُ على أنه الجامعُ بين

الظهورِ والخَفاءِ، وأمَّا الوُسْطى فعلى أنه الجامعُ بين مجموع الصفَتَيْن الأُوْلَيَيْن ومجموعِ الصفَتَيْن الأُخْرَيين» .

5

قوله: {تُرْجَعُ الأمور} : قد تقدَّم في البقرة أن الأخَوَين وابنَ عامر يقرؤون بفتح التاء وكسر الجيم مبنياً للفاعل، والباقون مبنياً للمفعول في جميع القرآن. وقال الشيخ هنا: «وقرأ الجمهور» تُرْجَعُ «مبنياً للمفعول. والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج مبنياً للفاعل» وهذا عجيبٌ منه، وقد وقع له مِثْلُ ذلك كما نَبَّهْتُ عليه. / وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} قد تقدَّم مثلُه في سورة سبأ.

8

قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ} : مبتدأ وخبرٌ، وحالٌ، أي: أيُّ شيءٍ استقر لكم غيرَ مؤمنين؟ وقوله: {والرسول يَدْعُوكُمْ} جملةٌ حاليةٌ من «يُؤمِنون» . قال الزمخشري: «فهما حالان متداخلان و» لِتُؤْمنوا «متعلِّقٌ ب» يَدْعو «أي: يدعوكم للإِيمان كقولك: دَعَوْتُه لكذا. ويجوزُ أَنْ تكونَ اللامُ للعلةِ، أي: يدعوكم إلى الجنةِ وغفرانِ اللهِ لأجلِ الإِيمانِ. وفيه بُعْدٌ. قوله: {وَقَدْ أَخَذَ} حالٌ أيضاً. وقرأ العامَّةُ» أَخَذَ «مبنياً للفاعلِ،

وهو اللهُ تعالى لتقدُّم ذِكْرِه. وأبو عمرو» أُخِذ «مبنياً للمفعول، حُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به. و» ميثاقَكم «منصوبٌ في قراءة العامةِ، مرفوعٌ في قراءة أبي عمروٍ. و» إنْ كنتم «جوابُه محذوفٌ تقديرُه: فما يَمْنَعُكم من الإِيمانِ. وقيل: تقديرُه: إنْ كنتم مؤمنين لموجِبٍ ما، فهذا هو الموجِبُ. وقدَّره ابنُ عطية:» إنْ كنتم مؤمنين فأنتم في رتبةٍ شريفةٍ. وقد تقدَّمَتْ قراءتا «يُنَزَّل» تخفيفاً وتشديداً في البقرة. وزيد بن علي «أَنْزَل» ماضياً.

10

قوله: {أَلاَّ تُنفِقُواْ} كقوله {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} [البقرة: 246] فالأصلُ: في أن لا تُنْفِقُوا، فلمَّا حُذِف حرفُ الجرِّ جَرى الخلافُ المشهورُ. وأبو الحسن يرى زيادتَها كما تقدَّم تقريرُه في البقرة. قوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل الاستقرار ومفعولِه، أي: وأيُّ شيءٍ يمنعُكم من الإِنفاقِ في سبيلِ اللهِ والحالُ أنَّ ميراثَ السماواتِ والأرضِ له، فهذه حالٌ منافيةٌ لبُخْلِكم. قوله: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَق} في فاعل «يَسْتوي» وجهان،

أظهرُهما: أنه مِنْ أَنْفَق، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حذفِ معطوفٍ يتمُّ به الكلامُ، فقدَّره الزمخشري: «لا يَسْتوي منكم مَنْ أنفقَ قبلَ فتحِ مكةَ وقوةِ الإِسلام ومَنْ أنفق مِنْ بعدِ الفتح، فَحَذَفَ لوضوحِ الدلالة» وقَدَّره أبو البقاء «ومَنْ لم يُنْفِق» قال: «ودلَّ على المحذوفِ قولُه: {مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح} والأول أحسنُ لأنَّ السِّيَاقَ إنما جيء بالآية ليُفرِّق بين المُنْفِقين في زمانَيْنِ. والثاني: أنَّ فاعلَه ضميرٌ يعود على الإِنفاقِ، أي: لا يَسْتوي جنسُ الإِنفاقِ إذ منه ما وَقَعَ قبل الفتح، ومنه ما وَقَعَ بعدَه، فهذان النوعان متفاوتان. وعلى هذا فتكون» مَنْ «مبتدأ و» أولئك «مبتدأٌ ثانٍ و» أَعظَمُ «خبرُه، والجملةُ خبرُ» مَنْ «وهذا ينبغي أن لا يجوزَ البتةَ، وكأنَّ هذا المُعْرِبَ غَفَل عن قولِه:» منكم «ولو أعربَ هذا القائلُ» منكم «خبراً مقدماً، و» مَنْ «مبتدأ مؤخراً. والتقدير: مِنْكم مَنْ أنفق من قبلِ الفتحِ، ومنكم مَنْ لم يُنْفِقْ قبلَه ولم يقاتِلْ، وحُذِف هذا لدلالةِ الكلامِ عليه لكان سديداً، ولكنه سها عن لفظةِ» منكم «. قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} قراءةُ العامَّةِ بالنصبِ على أنه مفعولُ مقدمٌ، وهي مرسومةٌ في مصاحفِهم» وكلاً «بألفٍ، وابنُ عامر برفعِه، وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه ارتفعَ على الابتداءِ، والجملة بعدَه خبرٌ، والعائدُ محذوفٌ، أي: وعده اللهُ. ومثلُه:

4231 - قد أصبحَتْ أمُّ الخِيار تَدَّعِي ... عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنَعِ برفع» كلُّه «، أي: لم أَصْنَعْه. والبصريُّون لا يُجيزون هذا إلاَّ في شعرٍ كقولِه: 4232 - وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ... بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطلِ وقد نقل ابن مالك الإِجماعَ من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إنْ كان المبتدأ» كلاً «أو ما أشبهَها في الافتقار والعمومِ، وهذا لم أَرَه لغيره. وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ ذلك في سورة المائدةِ عند قولِه: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] ولم يُرْوَ قولُه:» كلُّه لم أصنَع «إلاَّ بالرفعِ مع إمكانِ أَنْ ينصبَه فيقول:» كلَّه لم أصنعِ «مفعولاً مقدَّماً. قال أهل البيان: لأنه قصد عمومَ السلبِ لا سَلْبَ العمومِ، فإن الأولَ أبلغُ، وجعلوا من ذلك قولَه عليه السلام: «كل ذلك لم يكنْ» ولو قال: «لم يكن كلُّ ذلك» لكان سَلْباً للعُموم، والمقصودُ عمومُ السَّلْب. والثاني: أن يكونَ «كل» خبَر مبتدأ محذوفٍ، و {وَعَدَ الله الحسنى} صفةٌ لما قبله، والعائدُ محذوف، أي: وأولئك كلٌّ وعدَه اللهُ الحسنى. فإن قيل: الحذفُ موجودٌ أيضاً وقد عُدْتم لِما فرَرْتُمْ منه. فالجوابُ: أنَّ

حَذْفَ العائدِ من الصفة كثيرٌ بخلاف حَذْفِه من الخبرِ. ومِنْ حَذْفِه من الصفة قولُه: 4233 - وما أَدْري أغَيَّرهم تَناءٍ ... وطولُ العَهْدِ أم مالٌ أصابوا أي أصابوه، ومثله كثيرٌ. وهي في مصاحفِ الشامِ مرسومةٌ «وكلٌّ» بدون ألف، فقد وافق كلٌّ مصحفَه. و «الحُسْنى» مفعولٌ ثانٍ، والأولُ محذوفٌ على قراءةِ الرفعِ، وأمَّا النصبُ فالأولُ مقدَّمٌ/ على عامِله.

11

قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ} : قد تقدَّم بحمدِ الله هذا وما بعده مستوفىً، واختلافُ القرَّاءِ فيه في سورةِ البقرة. وقال ابن عطية هنا: «الرفعُ على العطفِ أو القطعِ والاستئنافِ» . وقرأ عاصم «فيضاعِفَه» بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام. وفي ذلك قَلَقٌ، قال أبو علي: «لأنَّ السؤالَ لم يقَعْ عن القَرْضِ، وإنما وقع عن فاعلِ القَرْضِ، وإنما تَنْصِبُ الفاءُ فعلاً مردوداً على فعلِ مُسْتَفْهَمٍ عنه، لكن هذه الفِرْقَةَ حَمَلَتْ ذلك على المعنى، كأنَّ قولَه {مَّن ذَا الذي يُقْرِض} بمنزلةِ قولِه أيقرِضُ اللَّهَ أحدٌ» انتهى. وهذا الذي قالَه أبو علي ممنوعٌ، ألا ترى أنه يُنْصَبُ بعد الفاءِ في جواب الاستفهام بالأسماءِ، وإن لم يتقدَّم فعلٌ

نحو: «أين بيتُك فأزورَك» ومثلُ ذلك: «مَنْ يَدْعوني فأستجيبَ له» و «متى تسير فأرافِقك» و «كيف تكونُ فأصْحَبَكَ» فالاستفهام إنما وقع عن ذاتِ الداعي وعن ظرفِ الزمان وعن الحال، لا عن الفعل. وقد حكى ابنُ كيسانُ عن العرب: أين ذَهَبَ زيدٌ فَنَتْبَعَه، ومَنْ أبوك فنُكْرِمَه.

12

قوله: {يَوْمَ تَرَى} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه معمولٌ للاستقرار العاملِ في «لهم أجرٌ» ، أي: استقرَّ لهم أجرٌ في ذلك اليوم. الثاني: أنه مضمرٌ، أي: اذكرْ فيكون مفعولاً به. الثالث: أنه يُؤْجَرون يومَ ترى فهو ظرفٌ على أصلِه. الرابع: أنَّ العاملَ فيه «يَسْعى» ، أي: يَسْعى نورُ المؤمنين والمؤمناتِ يومَ تراهم، هذا أصلُه. الخامس: أنَّ العاملَ فيه «فيضاعفَه» قالهما أبو البقاء. قوله: {يسعى} حالٌ، لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّة، وهذا إذا لم يَجْعَلْه عامِلاً في «يوم» و «بين أيديهم» ظرفٌ للسَّعْي، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «نورُهم» . قوله: {وَبِأَيْمَانِهِم} ، أي: وفي جهةِ أيمانهم. وهذه قراءةُ العامَّةِ أعني بفتح الهمزةِ جمع يَمين. وقيل: الباءُ بمعنى «عن» ، أي: عن جميعِ جهاتِهم، وإنما خَصَّ الأَيمانَ لأنها أشرفُ الجهاتِ. وقرأ أبو حيوة وسهلُ بن شعيب بكسرِها. وهذا المصدرُ معطوفٌ على الظرفِ قبلَه.

والباءُ سببيةٌ، أي: يسعى كائناً وكائناً بسبب إيمانهم. وقال أبو البقاء تقديرُه: وبإيمانِهم استحقُّوه، أو بإيمانهم يُقال لهم: بُشْراكم. قوله: {بُشْرَاكُمُ} مبتدأٌ، و «اليومَ» ظرفٌ. و «جناتٌ» خبرهُ على حذفِ مضافٍ، أي: دخولُ جناتٍ. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مقدر، وهو العاملُ في الظرفِ كما تقدَّم. وقال مكي: «وأجاز الفراءُ نصبَ» جنات «على الحال ويكون» اليومَ «خبرَ» بُشْراكم «قال: وكونُ» جنات «حالاً لا معنى له؛ إذ ليس فيها معنى فِعْل. وأجاز أَنْ يكونَ» بُشْراكم «في موضع نصبٍ على: يُبَشِّرونهم بالبُشرى، وتُنْصَبُ» جنات «بالبُشْرى. وكلُّه بعيدٌ لأنه لا يُفْصَلُ بين الصلةِ والموصولِ باليوم» انتهى. وعجيبٌ من الفراء كيف يَصْدُرُ عنه ما لا يُتَعَقَّل، ولا يجوزُ صناعةً، كيف تكون «جنات» حالاً وماذا صاحبُ الحال؟ .

13

وقوله: {يَوْمَ يَقُولُ} : بدلٌ مِنْ «يومَ ترى» أو معمولٌ ل «اذْكُر» . وقال ابن عطية: «ويظهرُ لي أنَّ العاملَ فيه {ذلك هُوَ الفوز العظيم} ويجيء معنى الفوز أفخم، كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمةِ يومَ يَعْتري المنافقين كذا وكذا؛ لأنَّ ظهورَ المرءِ يومَ خمولِ عَدُوِّه ومُضادِّه أبدعُ وأفخمُ» . قال الشيخ: «وظاهرُ كلامِه وتقديرِه أنَّ» يومَ «معمولٌ للفوز. وهو لا يجوزُ، لأنه مصدرٌ قد وُصِفَ

قبلَ أَخْذِ متعلَّقاته فلا يجوزُ إعمالُه، فلو أُعْمِل وصفُه لجاز، أي: الذي عَظُمَ قَدْرُه يومَ» . قلت: وهذا الذي قاله ابنُ عطية صَرَّح به مكي فقال: «ويومَ ظرفٌ العاملُ فيه ذلك الفوزُ، أو هو بدلٌ من» اليوم «الأول» . قوله: {خَالِدِينَ} [الحديد: 12] نصبٌ على الحالِ العاملُ فيها المضافُ المحذوف إذ التقديرُ: بُشْراكم دخولُكم جناتٍ خالدين فيها، فحذف الفاعلَ وهو ضميرُ المخاطبِ، وأُضيف المصدرُ لمفعولِه فصار: دخولُ جنات، ثم حُذِف المضافُ وقام المضافُ إليه مَقَامَه في الإِعراب، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ «بُشْراكم» هو العاملَ فيها؛ لأنه مصدرٌ قد أُخْبر عنه قبل ذِكْرِ متعلَّقاتِه، فيلزَمُ الفصلُ بأجنبي. وظاهرُ كلامِ مكي أنه عاملٌ في الحالِ فإنَّه قال: «خالدين نصبٌ على الحالِ من الكاف والميم» والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحِبها فَلَزِمَ أَنْ يكونَ «بُشْراكم» هو العاملَ، وفيه ما تقدَّمَ من الفصلِ بينَ المصدرِ ومعمولِه. قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} اللامُ للتبليغ. و «انْظُرونا» قراءةُ العامَّةِ «انظرونا» أَمْراً من النظر. وحمزة «أَنْظِرونا» بقطع الهمزة وكَسْر الظاء من الإِنْظار بمعنى الانتظار، أي: انتظرونا لِنَلْحَقَ بكم فنستضيْءَ بنورِكم. والقراءةُ الأولى يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى هذه إذ يقال: نَظَره بمعنى انتظره، وذلك أنه يُسْرَعُ بالخُلَّصِ إلى الجنَّة على نُجُبٍ، فيقول المنافقون:

انتظرونا لأنَّا مُشاة لا نَسْتطيع لُحوقَكم. ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ النظر وهو الإِبصارُ لأنَّهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوهِهم فيضيءُ لهم المكانُ، وهذا أليقُ بقولِه {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} قال معناه الزمخشري. إلاَّ أنَّ الشيخ قال: إنَّ النظرَ بمعنى الإِبْصار لا يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر، إنما يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر، إنما يتعدَّى ب «إلى» /. قوله: {وَرَآءَكُمْ} فيه وجان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ ب ارْجِعوا على معنى: ارْجِعوا إلى الموقفِ، إلى حيث أُعطِينا هذا النورَ فالتمِسوه هناك ممَّنْ نقتبس، أو ارْجِعوا إلى الدنيا فالتمِسوا نوراً بتحصيلِ سببِه وهو الإِيمانُ، أو فارْجِعوا خائبين وتَنَحَّوْا عنا فالتمسُوا نوراً آخرَ، فلا سبيلَ لكم إلى هذا النورِ. والثاني: أنَّ «وراءكم» اسمٌ للفعلِ فيه ضميرُ فاعلٍ، أي: ارْجِعوا ارْجعوا، قاله أبو البقاء، ومنع أَنْ يكونَ ظَرْفاً ل ارْجِعوا قال: لقلةِ فائدتِه لأنَّ الرجوعَ لا يكونُ إلاَّ إلى وراء. وهذا فاسدٌ؛ لأنَّ الفائدةَ جليلةٌ كما تقدَّم شَرْحُها. قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} العامَّةُ على بنائِه للمفعول. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ يجوزُ أَنْ يكونَ «بسورٍ» وهو الظاهرُ، وأَنْ يكونَ الظرفَ. وقال مكي: «الباءُ مزيدةٌ، أي: ضُرِب سورٌ» ثم قال: «والباءُ متعلِّقةٌ

بالمصدر، أي: ضرباً بسُور» وهذا متناقضٌ، إلاَّ أَنْ يكونَ قد غُلِط عليه من النُّسَّاخ، والأصل «أو الباءُ متعلقةٌ بالمصدر» ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الظرفُ. وعلى الجملةِ هو ضعيفٌ. والسُّور: البناءُ المحيطُ. وتقدَّمَ اشتقاقُه أولَ البقرةِ. قوله: {لَّهُ بَابٌ} مبتدأ وخبرٌ في موضع جرٍّ صفةً ل سُوْر. قوله: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ في موضعِ جرٍّ صفةً ثانيةً ل «سُوْر» ، ويجوز أن تكونَ في موضع رفعٍ صفةً ل «بابٌ» ، وهو أَوْلَى لقُرْبِه. والضميرُ إنما يعود على الأَقْرب إلاَّ بقرينةٍ. وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير «فَضَرَبَ» مبنياً للفاعل وهو اللهُ أو المَلَكَ.

14

قوله: {يُنَادُونَهُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «بَيْنهم» قاله أبو البقاء، وهو ضعيفٌ لمجيءِ الحالِ من المضافِ إليه في غيرِ المواضعِ المستثناةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً، وهو الظاهرُ. قوله: {أَلَمْ نَكُن} يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيراً للنداءِ، وأَنْ يكونَ منصوباً بقولٍ مقدرٍ. قوله: {الغرور} قراءةُ العامَّة بفتح الغَيْن، وهو صفةٌ على فَعول،

والمرادُ به الشيطانُ. وقرأ سماك بن حرب «الغُرور» بالضم، وهو مصدرٌ، وتقدَّم نظيرُه.

15

قوله: {فاليوم} : منصوبٌ ب «يُؤْخَذُ» . ولا يُبالَى ب «لا» النافيةِ، وهو قولُ الجمهورِ. وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعَ أخرَ الفاتحةِ أنَّ فيها ثلاثةَ أقوالٍ. وقرأ ابن عامر «تُؤْخَذُ» بالتأنيثِ للفظِ الفِدْية. والباقون بالياء مِنْ تحت؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ وللفَصْلِ. قوله: {هِيَ مَوْلاَكُمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً، أي: ولايتكم، أي: ذاتُ وِلايتكم. وأَنْ يكونَ مكاناً، أي: مكانَ ولايتكم، وأَنْ يكونَ بمعنى أَوْلَى بكم، كقولك: هو مَوْلاه. وبئس المصيرُ، أي: هي.

16

قوله: {أَن تَخْشَعَ} : فاعلُ «يَأْنِ» ، أي: ألم يَقْرُبْ خشوعُ قلوبِهم. واللامُ قال أبو البقاء: «للتبيين» فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ، أي: أَعْني الذينَ، ولا حاجةَ إليه. والعامة «أَلَمْ» . والحسن وأبو السَّمَّال «ألَمَّا» وقد عَرَفْتَ الفرقَ بين الحرفين ممَّا تقدَّم. والعامَّةُ أيضاً «يَأْنِ» مضارعَ أنَى، أي: حان وقَرُبَ مثل: رمى يَرْمي. والحسن «يَئِنْ» مضارع آن بمعنى حانَ أيضاً مثل: باع يبيع.

قوله: {وَمَا نَزَلَ} قرأ نافع وحفص «نَزَل» مخففاً مبنياً للفاعلِ. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنه مشدَّدٌ. والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمروٍ في روايةٍ «نُزِّلَ» مشدَّداً مبنياً للمفعولِ. وعبد الله «أَنْزَل» مبنياً للفاعلِ هو الله تعالى. و «ما» في «ما نَزَلَ» مخففاً يتعيَّنُ أَنْ تكونَ اسميةً. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً؛ لئلا يَخْلو الفعلُ من الفاعل، وما عداها يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي. فإن قلتَ: وقراءةُ الجحدريِّ ومَنْ معه ينبغي أَنْ تكونَ فيها اسميةً، لئلا يخلوَ الفعلُ مِنْ مرفوعٍ. فالجواب: أنَّ الجارَّ وهو قولُه «من الحق» يقوم مَقامَ الفاعل. والعامَّةُ على الغيبة في «ولا يَكونوا» جَرْياً على ما تقدَّم. وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بالتاء مِنْ فوقُ على سبيل الالتفات. ثم هذا يُحْتمل أَنْ يكونَ منصوباً عطفاً على «تَخْشَعَ» كما في قراءةِ الغَيْبة وأَنْ يكونَ نهياً، فتكونَ «لا» ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها. ويجوزُ أَنْ يكونَ نهياً في قراءة الغَيْبة أيضاً، ويكونُ ذلك انتقالاً إلى نهيِ أولئك المؤمنين عن كونِهم مُشْبِهين لمَنْ تَقَدَّمهم نحو: لا يَقُمْ زيدٌ. قوله: {الأمد} العامَّةُ على تخفيف الدال بمعنى العامَّة كقولك: أَمَدُ فلانٍ، أي: غايتُه. وابن كثير في روايةٍ بتشديدِها وهو الزمنُ الطويلُ.

18

قوله: {المصدقين والمصدقات} : خَفَّفَ الصاد

منها ابنُ كثير وأبو بكر، وثَقَّلها باقي السبعة. فقراءةُ ابنِ كثيرٍ من التصديق، أي: صَدَّقوا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاء به كقولِه تعالى: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ، وقراءةُ الباقين من الصدقة وهو مناسِبٌ لقولِه «وأَقْرَضوا» والأصل: المُتَصَدِّقين والمتُصدِّقات فَأَدْغَمَ، وبها قرأ أُبَيٌ. وقد يُرَجَّحُ الأولُ. بأنَّ الإِقراضَ مُغْنٍ عن ذِكْرِ الصدقة. قوله {وَأَقْرَضُواْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على اسم الفاعلِ في «المُصَّدِّقين» لأنَّه لمَّا وقع صلةً لأل حَلَّ مَحَلَّ الفعلِ، فكَأنَّه قيل: إن الذين صَدَّقوا وأَقْرضوا، وعليه جمهورُ المُعربين. وإليه ذهب الفارِسيُّ والزمخشري وأبو البقاء. وهو فاسدٌ لأنه يَلْزَمُ الفصلُ بين أَبْعاضِ الصلة بأجنبي. ألا ترى أنَّ «المُصَّدِّقات» عطفٌ على «المصَّدِّقين» قبل تمام الصلةِ، ولا يجوز أن يكونَ عطفاً على المُصَّدِّقاتِ لتغايُرِ الضمائرِ تذكيراً وتأنيثاً. الثاني: أنه معترضٌ بين اسم «إنَّّ» وخبرها وهو «يُضاعَفُ» . قال أبو البقاء: «وإنما قيل ذلك لئلاَّ يُعْطفَ الماضي على اسم الفاعل» ولا أَدْري ما هذا المانعُ؟ لأنَّ اسمَ الفاعلِ متى وقع صلةً لأل صَلَحَ للأزمنةِ الثلاثة، ولو مَنَع بما ذكَرْتُه من الفصلِ بالأجنبي لأصابَ، ولكن خَفي عليه كما خَفي على مَنْ هو أكبرُ منه: الفارسيُّ والزمخشريُّ.

الثالث: أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ لدلالةِ الأول عليه كأنه قيل: والذين أَقْرضوا كقولِه: 4234 - أَمَنْ يَهْجُو رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَواءُ أي: ومَنْ ينصُرُه واختاره الشيخ: وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه في أوائلِ هذا التصنيفِ. قوله {يُضَاعَفُ لَهُمْ} القائم مقامَ الفاعلِ فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهرُ أنَّه الجارُّ بعده. والثاني: أنَّه ضميرُ التصديقِ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: ثوابُ التصديق.

19

قوله: {والذين آمَنُوا} : [مبتدأ] و «أولئك» مبتدأ ثان و «هم» يجوز أَنْ يكونَ مبتدأ ثالثاً و «الصِّدِّيقون» خبرُه، وهو مع خبرِه خبرُ الثاني، والثاني وخبرُهُ خبرُ الأول. ويجوزُ أَنْ يكون «هم» فصلاً فأولئك وخبرُه خبرُ الأول. قوله {والشهدآء} يجوز فيه وجهان: أنه معطوفٌ على ما قبلَه، ويكون الوقفُ على الشهداء تاماً. أخبر عن الذين آمنوا أنهم صِدِّيقون شهداءُ. فإنْ قيل: الشهداءُ مخصوصون بأوصافٍ أُخَرَ زائدةٍ على ذلك كالسبعَةِ المذكورين. أجيب: بأنَّ تَخْصِيصَهم بالذِّكْر لشَرَفِهم على غيرِهم لا للحَصْر.

والثاني: أنه مبتدأٌ، وفي خبرِه وجهان، أحدهما: أنه الظرفُ بعده. والثاني: أنه قولُه «لهم أَجْرهُم» إمَّا الجملةُ، وإمَّا الجارُّ وحدَه، والمرفوع فاعلٌ به. والوقفُ لا يَخْفَى على ما ذكَرْتُه من الإِعراب. والصِّدِّيقُ: مثالُ مبالغةٍ، ولا يجيءُ إلاَّ من ثلاثيٍ غالباً. قال بعضُهم: وقد جاء «مِسِّيك» مِنْ أمَسْك. وهو غَلَطٌ لأنه يقال: مَسَك ثلاثياً فمِسِّيك منه.

20

قوله: {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} : العامَّةُ على تنوين «تَفاخُرٌ» موصوفٌ بالظرفِ أو عاملٌ فيه، والسُّلميُّ أضافه إليه. قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} يجوزُ أنَّ يكونَ في موضعِ نصبٍ حالاً من الضمير في «لَعِبٌ» لأنه بمعنى الوصفِ، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف، أي: ذلك كمثَل. وجَوَّزَ ابن عطية أَنْ يكونَ في موضعِ رفع صفةً لِما تقدَّم. ولم يُبَيِّنْه مكي فقال: «نعت ل تَفاخُر» . وفيه نظرٌ لتخصيصه له مِنْ بين ما تقدَّم. وجَوَّزَ أَنْ يكون خبراً بعد خبر للحياة الدنيا. وقُرِىء «مُصْفارَّاً» مِنْ اصفارَّ وهي أبلغُ مِنْ اصْفَرَّ. قوله: {وَفِي الآخرة} خبرٌ مقدمٌ وما بعده مبتدأ. أخبر أنَّ في الآخرةِ عذاباً شديداً، ومغفرةً منه ورضواناً، وهذا معنىً حسنٌ، وهو أنه قابل

العذابَ بشيئين: بالمغفرة والرضوان فهو من باب «لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَين» .

21

قوله: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ} : مبتدأٌ وخبرٌ. والجملةُ صفةٌ لجنة وكذلك «أُعِدَّتْ» . ويجوزُ أَنْ يكونَ «أَعِدَّتْ» مستأنفةٌ.

22

قوله: {مِن مُّصِيبَةٍ} : فاعلُ «أصاب» . و «مِنْ» مزيدةٌ لوجودِ/ الشرطين. وذَكَّر فعلَها لأنَّ التأنيث مجازيُّ. قوله {فِي الأرض} يجوزُ أَنْ يتعلَّق ب أصاب، وأَنْ يتَعلَّقَ بنفسِ «مصيبةٍ» ، وأَنْ يتَعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمصيبة وعلى هذا فيَصْلُح أَنْ يُحْكَمَ على موضِعه بالجرِّ نظراً إلى لفظِ موصوفِه وبالرفعِ نظراً إلى مَحَلِّه، إذ هو فاعلٌ. والمُصيبة غَلَبَتْ في الشر. وقيل: المرادُ بها جميعُ الحوادثِ مِنْ خيرٍ وشرٍ، وعلى الأول يُقال: لِمَ ذُكِرَتْ دون الخير؟ وأجيب: بأنه إنَّما خَصَّصها بالذِّكْرِ لأنها أهمُّ على البشر. قوله {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} حال مِنْ «مصيبة» ، وجاز ذلك وإنْ كانت نكرةً لتخصُّصِها: إمَّا بالعملِ أو بالصفةِ، أي: إلاَّ مكتوبةً. قوله {مِّن قَبْلِ} نعتٌ ل كتاب، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به قاله أبو البقاء؛ لأنه هنا اسمٌ للمكتوبِ، وليس بمصدرٍ. والضمير في «نَبْرَأَها» الظاهرُ عَوْدُه على المصيبة. وقيل: على الأنفس. وقيل: على الأرض أو على جميع ذلك، قاله المهدويُّ، وهو حسنٌ.

23

قوله: {لِّكَيْلاَ} : هذه اللامُ متعلقةٌ بقولِه «ما أصابَ» ، أي: أَخبْرَناكم بذلك لكيلاَ يَحْصُلَ لكم الحزنُ المُقْنِط أو الفرحُ المُطْغي، فأمَّا دون ذلك فالإِنسانُ غيرُ مؤاخذٍ به. و «كي» هنا ناصبةٌ بنفسِها فهي مصدريةٌ فقط لدخولِ لام الجرِّ عليها، وقرأ أبو عمرو «بما أتاكم» مقصوراً من الإِتْيان، أي: بما جاءكم. وباقي السبعة «آتاكم» ممدوداً من الإِيتاء أي: بما أعطاكم اللَّهُ إياه. وقرأ عبد الله «أُوْتيتم» .

24

قوله: {الذين يَبْخَلُونَ} : قد تقدَّم مثلُ هذا في سورة النساء، وتكلمتُ عليه بما يَكْفي، فلا معنى لإِعادته. قوله {فَإِنَّ الله هُوَ الغني} قرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغنيُّ» بإسقاطِ «هو» وهو ساقطٌ في مصاحف المدينةِ والشام. والباقون بإثباتِه وهو ثابتٌ في مصاحفِهم، فقد وافق كلٌّ مصحَفه. قال أبو علي: «مَنْ أثبت» هو «يَحْسُنْ أَنْ يكونَ فصلاً، ولا يَحْسُنُ أن يكونَ ابتداءً؛ لأنَّ الابتداءَ لا يَسُوغ حَذْفُه» يعني أنه تُرَجَّحُ فصليَّتُه بحذفه في القراءةِ الأخرى، إذ لو كان مبتدأً لضَعُف حَذْفُه، لا سيما إذا صَلَحَ ما بعده أَنْ يكونَ خبراً لِما قبله، ألا تراك لو قلت: «إنَّ زيداً هو القائمُ» لم يَحْسُنْ

حَذْفُ «هو» لصلاحيةِ «القائمُ» خبراً ل «إنَّ» : وهذا كما قالوا في الصلة: إنه يُحْذَفُ العائدُ المرفوعُ بالابتداء بشروطٍ منها: أن لا يكونَ ما بعدَه صالحاً للصلة نحو: «جاء الذي هو في الدار» أو «هو قائم أبوه» لعدمِ الدلالةِ. إلاَّ أنَّ للمنازعِ أن ينازعَ أبا عليٍ ويقول: لا ألتزم تركيب إحدى القراءتين على الأخرى، وكم مِنْ قراءتَيْنِ تغاير معناهما كقراءتَيْ: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] و «وضَعَتْ» ، إلاَّ أنَّ توافُقَ القراءتَيْن في معنىً واحدٍ أَوْلى، هذا ما لا نزاعَ فيه.

25

قوله: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} : جملةٌ حاليةٌ من «الحديد» . قوله: {مَّعَهُمُ} حالٌ مقدرة، أي: صائراً معهم، وإنَّما احتَجْنا إلى ذلك لأنَّ الرسلَ لم يُنْزَلوا، ومقتضى الكلامِ أن يَصْحبوا الكتابَ في النزولِ. وأمَّا الزمخشريُّ فإنه فَسَّرَ الرسلَ بالملائكةِ الذين يَجيئون بالوحيِ إلى الأنبياءِ فالمعيَّةُ متحققةٌ. قوله: {وَلِيَعْلَمَ} عطفٌ على قولِه «ليقومَ الناسُ» ، أي: لقد أَرْسَلْنَا رُسُلَنا وفَعَلْنا كيتَ وكيتَ ليقومَ الناسُ وليعلَمَ اللَّهُ. وقال الشيخ: «علةٌ لإِنزالِ الكتابِ والميزانِ والحديدِ» ، والأول أظهرُ لأنَّ نصرةَ اللَّهِ ورسلِه مناسبة للإِرسال. قوله {وَرُسُلَهُ} عطفٌ على مفعولِ «يَنْصُرُه» ، أي: وينصُرُ رسُلَه. قال

أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على» مَنْ «لئلا يُفْصَلَ به بين الجارِّ وهو» بالغَيْب «وبينَ ما يتعلَّق به وهو» يَنْصُرُ «. قلت: وجَعْلُه العلةَ ما ذكرَه مِنْ الفصلِ بين الجارِّ وما يتعلَّق به مَنْ يُوْهِمُ أَنَّ معناه صحيحٌ لولا هذا المانعُ، وليسَ كذلك إذ يصيرُ التقديرُ: وليعلمَ اللَّهُ مَنْ ينصرُه بالغيبِ. ولِيَعْلَمَ رَسُلَه. وهذا معنىً لا يَصِحُّ البتة فلا حاجةَ إلى ذِكْرِ ذلك. و» بالغيب «حالٌ وقد تقدم مثلُه أولَ البقرة.

26

قوله: {فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ} : الضميرُ يجوزُ عَوْدُه على الذُّرِّيَّة، وهو أَوْلَى لتقدُّم ذِكْرِه لفظاً. وقيل: يعودُ على المُرْسَل إليهم لدلالة «أَرْسَلْنا» والمرسلين عليهم.

27

قوله: {الإنجيل} : قد تقدَّم أنَّ الحسنَ قرأه بفتح الهمزة في أول آل عمران. قال الزمخشري: «أَمْرُه أهونُ/ مِنْ أَمْرِ البِرْطيل والسِّكِّين فيمن رَواهما بفتح الفاء لأنَّ الكلمةَ أعجمية لا يلزَمُ فيها حِفْظُ أبنية العرب» . وقال أبو الفتح: «هو مثالٌ لا نظيرَ له» . قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} في انتصابِها وجهان، أحدهما: أنها

معطوفةٌ على «رأْفَةً ورحمةً» . و «جَعَلَ» إمَّا بمعنى خَلق أو بمعنى صيَّر، و «ابْتدعوها» على هذا صفةٌ ل «رَهْبانية» وإنما خُصَّتْ بذِكر الابتداعِ لأنَّ الرأَفةَ والرحمةَ في القلب أمرُ غريزةٍ لا تَكَسُّبَ للإِنسانِ فيها بخلافِ الرهبانية فإنها أفعالُ البدن، وللإِنسانِ فيها تكسُّبٌ. إلاَّ أنَّ أبا البقاء منعَ هذا الوجهَ بأنَّ ما جعله اللَّهُ لا يَبْتدعونه. وجوابُه ما تَقَدَّم: مِنْ أنَّه لَمَّا كانت مكتسبةً صَحَّ ذلك فيها. وقال أيضاً: «وقيل: هو معطوفٌ عليها، وابتدعوها نعتٌ له. والمعنى: فَرَضَ عليهم لزومَ رهبانيةٍ ابتدعوها، ولهذا قال: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله} . والوجه الثاني: أنه منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ وتكون المسألةُ من الاشتغالِ. وإليه نحا الفارسيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء وجماعةٌ إلاَّ أنَّ هذا يقولون إنه إعرابُ المعتزلة؛ وذلك أنَّهم يقولون: ما كانَ مِنْ فِعْلِ الإِنسانِ فهو مخلوقٌ له، فالرحمةُ والرأفة لَمَّا كانتْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى نَسَبَ خَلْقَهما إليه. والرَّهْبانِيَّة لَمَّا لم تكنْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى بل مِنْ فعل العبدِ يَسْتَقِلُّ بفعلِها نَسَب ابتداعَها إليه، وللردِّ عليهم موضعٌ آخرُ هو أليقُ به من هذا الموضعِ، وسأبِّينُه إنْ شاء الله في» الأحكام «. ورَدَّ الشيخُ عليهم هذا الإِعرابَ من حيث الصناعةُ وذلك أنَّه مِنْ حَقِّ اسمِ المُشْتَغَلِ عنه أن يَصْلُح للرفع بالابتداءِ و» رهبانيةً «نكرةٌ لا مُسَوِّغ للابتداء بها، فلا يصلُحُ نصبُها على الاشتغال. وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ

أولاً اشتراطَ ذلك، ويَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ قرأ» سورةً أنزَلْناها «بالنصب على الاشتغالِ كما قَدَّمْتُ تحقيقه في موضعه. ولئِنْ سَلَّمْنا ذلك فثَمَّ مُسَوِّغٌ وهو العطفُ. ومِنْ ذلك قولُه: 4235 - عندي اصْطِبارٌ وشكْوى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا وقوله: 4236 - تَعَشَّى ونجمٌ قد أضاء فَمُذْ بدا ... مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضوْءُه كلَّ شارقِ ذكر ذلك الشيخُ جمال الدين بن مالك. وقرأ الحسن» رَآفة «بزنة فَعالة. والرَّهْبانيةُ منسوبةٌ إلى الرَهْبان فهو فَعْلان مِنْ رَهِب كقولِهم:» الخَشْيان «مِنْ خَشِي. وقد تقدَّم معنى هذه المادةِ في المائدة مستوفى وقُرِىء بضمِّ الراء. قال الزمخشري:» كأنَّها نِسْبةُ إلى الرُّهْبان وهو جمعُ راهبٍ كراكبِ ورُكْبان «. قال الشيخ: «والأَوْلَى أََنْ يكونَ منسوباً

إلى رَهْبان يعني بالفتح وغُيِّر؛ لأنَّ النسبَ بابُ تغيير، ولو كان منسوباً لرُهبان الجمع لرُدَّ إلى مفردِه، إلاَّ إنْ كان قد صار كالعَلَم فإنه يُنْسَبُ إليه كالأَنْصار» . قوله: {مَا كَتَبْنَاهَا} صفةٌ ل «رَهْبانيةً» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ استئناف إخبارٍ بذلك. قوله: {إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله} فيه أوجه، أحدها: أنه استثناء متصلٌ ممَّا هو مفعولٌ من أجلِه. والمعنى: ما كَتَبْناها عليهم لشيءٍ من الأشياءِ إلاَّ لابتغاءِ مَرْضاتِ اللَّهِ، ويكون «كتب» بمعنى قضى، فصار: كَتَبْناها عليهم ابتغاءَ مرضاةِ اللَّهِ، وهذا قولُ مجاهد. والثاني: أنه منقطعٌ. قال الزمخشري: ولم يذكُرْ غيرَه، أي: ولكنهم ابْتَدعوها. وإلى هذا ذهبَ قتادةُ وجماعةٌ، قالوا: معناه لم يَفْرِضْها عليهم ولكنهم ابتدعوها. الثالث: أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في «كَتَبْنَاها» قاله مكيُّ وهو مُشْكِلٌ: كيف يكونُ بدلاً، وليس هو الأولَ ولا بعضَه ولا مشتملاً عليه؟ وقد يُقال: إنه بدلُ اشتمالٍ، لأن الرهبانيةَ الخالصةَ المَرْعِيَّةَ حَقَّ الرِّعاية قد يكون فيها ابتغاءَ رضوانِ اللَّهِ، ويصير نظيرَ قولِك «الجاريةُ ما أحببتها إلاَّ أدبَها» فإلاَّ أدبَها بدلٌ من الضمير في «أَحْبَبْتُها» بدلُ اشتمالٍ، وهذا نهايةُ التمحُّلِ لصحةِ هذا القولِ واللَّهُ أعلمُ. والضميرُ المرفوعُ في «رَعَوْها» عائدٌ على مَنْ تَقَدَّمَ. والمعنى: أنهم لم يَدُوموا كلُّهم على رعايتها، وإنْ كان وُجِدَ هذا في بعضِهم. وقيل:

يعودُ على الملوكِ الذين حاربوهم. وقيل: على أحلافِهِم. و «حَقَّ» نصبٌ على المصدر.

29

قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} : هذه اللامُ متعلقةٌ بمعنى الجملة الطلبية المتضمنةِ لمعنى الشرطِ، إذ التقدير: إنْ تتقوا اللَّهَ وآمنتم برسلِه يُؤْتِكم كذا وكذا، لئلا يعلمَ. وفي «لا» هذه وجهان، أحدهما: / وهو المشهورُ عند النحاةِ والمفسِّرين والمُعْرِبين أنها مزيدةٌ كهي في {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] ، و {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [يس: 31] على خِلافٍ في هاتين الآيتين. والتقدير: أَعْلَمَكم اللَّهُ بذلك، ليعلمَ أهلُ الكتابِ عدمَ قدرتِهم على شيءٍ مِنْ فضلِ اللَّهِ وثبوتَ أنَّ الفَضْل بيدِ الله، وهذا واضح بَيَّنٌ، وليس فيه إلاَّ زيادةُ ما ثبتَتْ زيادتُه شائِعاً ذائعاً. والثاني: أنها غيرُ مزيدةٍ. والمعنى لئلا يعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَ المؤمنين، نقل ذلك أبو البقاء وهذا لفظُهُ، وكان قد قال قبلَ ذلك: «لا» زائدة والمعنى: ليعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَهم «وهذا غيرُ مستقيم؛ لأنَّ المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ مِنْ فضل اللَّهِ وكيف يعملُ هذا القائلُ بقولِه {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} ؛ فإنه معطوفٌ على مفعولِ العِلْمِ المنفيِّ فيصيرُ التقدير: ولئلا يعلمَ أهلُ الكتاب أنَّ الفضلَ بيد الله؟ هذا لا يستقيمُ نَفْيُ العِلْمِ به البتة، فلا جرم كان قولاً مُطَّرحاً ذكَرْتُه تنبيهاً على فسادِه. وقراءةُ العامَّةِ» لئلا «بكسر لام كي وبعدها همزةٌ مفتوحةٌ مخففةٌ.

وورش يُبْدِلها ياءً مَحْضَة وهو تخفيفٌ قياسيٌّ نحو: مِيَة وفِيَة، في: مئة وفئة. ويدلُّ على زيادتِها قراءةُ عبد الله وابن عباس وعكرمةَ والجحدري وعبد الله بن سلمة» لِيَعْلَم «بإسقاطِها، وقراءةُ حطان ابن عبد الله» لأَنْ يعلمَ «بإظهار» أَنْ «. والجحدري أيضاً والحسن» لِيَنَّعَلَمَ «وأصلُها كالتي قبلها لأَنْ يعلم، فأبدل الهمزةَ ياءً لانفتاحِها بعد كسرة، وقد تقدم أنه قياسٌ كقراءة ورش» لِيَلاَّ «ثم أَدْغَمَ النون في الياء. قال الشيخ:» بغير غُنَّة كقراءة خلف {أَن يَضْرِبَ} [البقرة: 26] بغيرِ غُنَّة «انتهى. فصار اللفظ لِيَنَّعْلَمَ. وقوله:» بغير غنَّة «ليس عَدَمُ الغنَّةِ شرطاً في صحة هذه المسألةِ، بل جاء على سبيل الاتفاقِ ولو أَدْغَمَ بُغنَّةٍ لجاز ذلك فسقوطُها في هذه القراءاتِ يؤيِّد زيادتها في المشهورةِ. وقرأ الحسن أيضاً فيما رَوَى عنه أبو بكر ابن مجاهد» لَيْلاً يَعْلَمَ «بلام مفتوحةٍ وياءٍ ساكنةٍ كاسم المرأة ورفعِ الفعلِ بعدها. وتخريجُها: على أنَّ أصلَها: لأَنْ لا، على أنها لامُ الجرِّ ولكنْ فُتِحَتْ على لغةٍ معروفة، وأنشدوا: 4237 - أُريدُ لأَنْسَى ذِكْرَها. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بفتح اللام، وحُذِفَت الهمزةُ اعتباطاً، وأُدْغمت النونُ في اللام فاجتمع ثلاثة أمثالٍ فثَقُلَ النطقُ به فأبدلَ الوسطَ ياءً تخفيفاً، فصار اللفظُ» لَيْلا «كما ترى ورُفِع الفعل؛ لأنَّ» أَنْ «هي المخففةُ لا الناصبةُ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الشأنِ، وفُصِل بينها وبين الفعلِ الذي هو خبرُها بحرفِ النفي. وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب «لِيْلا» بلام مكسورة وياءٍ ساكنةٍ ورفع الفعل، وهي كالتي قبلها في التخريج. غايةُ ما في الباب أنه جاء بلامٍ مكسورةٍ كما في اللغة الشهيرة. ورُوي عن ابن عباس «لكي يعلَمَ» ، و «كي يعلم» وعن عبد الله «لكيلا» وهذه كلُّها مخالِفةٌ للسوادِ الأعظمِ ولسوادِ المصحف. وقرأ العامَّةُ {أَنْ لا يَقْدِرُون} بثوبت النون على أنَّ «أَنْ» هي المخففة وعبد الله بحَذْفِها على أَنَّ «أَنْ» هي الناصبة وهذا شاذٌّ جداً؛ لأنَّ العِلْمَ لا تقع بعده الناصبةُ. وقوله: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} الظاهرُ أنه مستأنف. وقيل: هو خبرٌ ثانٍ عن الفضل. وقيل: هو الخبرُ وحدَه، والجارُّ قبله حالٌ وهي حالٌ لازِمةٌ؛ لأنَّ كونَه بيدِ الله تعالى لا ينتقِلُ البتة.

المجادلة

قوله: {قَدْ سَمِعَ} : «قد» هنا للتوقُّع. قال الزمخشري: «لأنه عليه السلام والمجادِلَةَ كانا يتوقعان أن يَسمعَ الله مجادلتَها وشكواها، ويُنَزِّلَ في ذلك ما يُفَرِّجُ عنها. وإظهارُ الدالِ عند السينِ قراءةُ الجماعة إلاَّ أبا عمروٍ والأخوين. ويُنْقَلُ عن الكسائي أنه قال:» مَنْ بَيَّنَ الدالَ عند السين فلسانُه أعجميٌّ وليس بعربي «وهذا غيرُ مُعَرَّجٍ عليه. و» في زَوْجِها «أي في شأنِه من ظِهارِه إياها. قوله: {وتشتكي إِلَى الله} يجوزُ فيه وجهان، أظهرُهما: أنها عطفٌ على» تُجادِلُك «فهي صلةٌ أيضاً. والثاني: أنَّها في موضع نصبٍ على الحالِ أي: تجادِلُك شاكيةً حالَها إلى اللَّهِ، وكذا الجملةُ مِنْ قولِه: {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} والحاليةُ فيما أَبْعَدُ. /

2

قوله: {الذين يُظَاهِرُونَ} : قد تقدَّم الخلافُ في «يُظاهِرون» في سورةِ الأحزاب وكذا في «اللائي» فأَغْنَى عن إعادتِه

هنا وأُبي هنا «يَتَظاهَرُون» وعنه أيضاً «يَتَظَهَّرُوْن» . وفي «الذين» وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ، وخبرُه قولُه: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} . والثاني: أنَّه منصوبٌ ب «بصير» على مذهبِ سيبويهِ في جوازِ إعمالِ فَعيل، قاله مكي، يعني أنَّ سيبويه يُعْمل فعيلاً من أمثلةِ المبالغةِ، وهو مذهبٌ مَطْعونٌ فيه على سيبويِهِ؛ لأنه استدلَّ على إعمالِه بقولِ الشاعر: 4238 - حتى شآها كَليلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ ... باتَتْ طِراباً وبات الليلَ لم يَنَمِ ورُدَّ عليه: بأنَّ «مَوْهِناً» ظرفُ زمانٍ، والظروفُ تعملُ فيها روائحُ الأفعالِ. وللكلامِ في المسألةِ موضعٌ هو أليقُ به مِنْ هنا ولكنَّ المعنى يَأْبى ما قاله مكيٌّ. وقرأ العامَّةُ «أمَّهاتِهم» بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى كقولِه: {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] وعاصم في روايةٍ بالرفعِ على اللغةِ

التميميةِ، وإنْ كانَتْ هي القياسَ لعدمِ اختصاصِ الحرفِ. وقرأ عبدُ الله «بأمَّهاتهم» بزيادة الباءِ، وهي تحتمل اللغتين. وقال الزمخشري: «وزيادةُ الباء في لغة مَنْ ينصِبُ» . قلت: هذا هو مذهبُ أبي علي، يرى أنَّ الباءَ لا تُزاد إلاَّ إذا كانَتْ «ما» عاملةً فلا تُزاد في التميمية ولا في الحجازيةِ إذا مَنَعَ مِنْ عملها مانعٌ نحو: «ما إنْ زيدٌ بقائمٍ» . وهذا مردودٌ بقولِ الفرزدق وهو تميمي: 4239 - لَعَمْرُك ما مَعْنٌ بتارِكِ حقِّه ... ولا مُنْسِىءٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ وبقول الآخر: 4240 - لَعَمْرُك ما إنْ أبو مالكٍ ... بواهٍ ولا بضعيفٍ قِواهْ فزادها مع «ما» الواقع بعدها «إنْ» . قوله: {مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} نعتان لمصدر محذوف أي: قولاً منكراً، وزوراً أي: كذباً وبُهْتاناً قاله مكي وفيه نظرٌ؛ إذ يصيرُ

التقدير: ليقولون قولاً منكراً من القول، فيصير قولُه «من القول» لا فائدةً فيه. والأَوْلَى أَنْ يُقال: نعتان لمعفولٍ محذوفٍ لفهم المعنى أي: ليقولونَ شيئاً مُنْكراً من القولِ لتفيدَ الصفة غيرَ ما أفاده الموصوفُ.

3

قوله: {والذين يُظَاهِرُونَ} : مبتدأٌ. وقولُه: «فتحريرُ رقبةٍ» مبتدأٌ، وخبرُه مقدرٌ أي: فعليهم. أو فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: فيلزَمُهم تحريرُ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: فالواجبُ عليهم تحريرُ. وعلى التقادير الثلاثةِ فالجملةُ خبرُ المبتدأ، ودخلَتِ الفاءُ لِما تضَمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرط. قوله: {لِمَا قَالُواْ} في هذه اللامِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها متعلقةٌ ب «يعودون» . وفيه معانٍ، أحدُها: والذين مِنْ عادتِهم أنهم كانوا يقولون هذا القولَ في الجاهليةِ، ثم يعودُون لمثلِه في الإِسلام. الثاني: ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارِكَ للأمرِ عائدٌ إليه ومنه: «عادَ غيثٌ على ما أفسَد» أي: تداركه بالإِصلاح والمعنى: أنَّ تدارُكَ هذا القولِ وتلافيَه، بأَنْ يكفِّر حتى ترجعَ حالُهما كما كانت قبل الظِّهار. الثالث: أَنْ يُرادَ بما قالوا ما حَرَّموه على أنفسِهم بلفظِ الظِّهار، تنزيلاً للقولِ منزلةَ المقولِ فيه نحو ما ذُكِر في قولِه تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] والمعنى: ثم يريدون العَوْدَ للتَّماسِّ، قال ذلك الزمخشريُّ. قلت: وهذا الثالثُ هو معنى ما رُوِي عن مالك والحسن والزهري: ثم يعودون للوَطْء أي: يعودون لِما قالوا إنهم لا يعودون إليه، فإذا ظاهَرَ ثم وَطِىء لَزِمَتْه الكفارةُ

عند هؤلاء. الرابع: «لما قالوا» أي: يقولونه ثانياً فلو قال: «أنتِ عليَّ كظهر أمِّي» مرةًَ واحدةً كفَّارةٌ؛ لأنه لم يَعُدْ لِما قال. وهذا منقولٌ عن بُكَيْرِ بنِ عبد الله الأشجِّ وأبي حنيفةَ وأبي العالية والفراء في آخرين، وهو مذهبُ الفقهاءِ الظاهريين. الخامس: أن المعنى: أَنْ يَعْزِمَ على إمساكِها فلا يُطَلِّقَها بعد الظِّهار، حتى يمضيَ زمنٌ يمكنُ أَنْ يطلِّقَها فيه، فهذا هو العوْدَ لِما قال، وهو مذهبُ الشافعيِّ ومالك وأبي حنيفةَ أيضاً. وقال: / العَوْدُ هنا ليس تكريرَ القولِ، بل بمعنى العَزْمِ على الوَطْءِ. وقال مكي: «اللامُ متعلقةٌ ب» يعودون «أي: يعودون لوَطْءِ المقولِ فيه الظهارُ، وهُنَّ الأزواجُ، ف» ما «والفعلُ مصدرٌ أي: لمقولِهم، والمصدرُ في موضعِ المفعولِ به نحو:» هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأمير «أي: مَضْرُوبُه، فيصير معنى» لقولهم «للمقولِ فيه الظِّهارُ أي:» لوَطْئِه «. قلت: وهذا معنى قولِ الزمخشريِّ في الوجه الثالث الذي تَقَدَّم تقريرُه عن الحسنِ والزهري ومالك، إلاَّ أنَّ مكيَّاً قَيَّد ذلك بكونِ» ما «مصدريةً حتى يقعَ المصدرُ الموؤلُ موضعَ اسمِ مفعول. وفيه نظرٌ؛ إذ يجوز ذلك، وإنْ كانت» ما «غيرَ مصدرية، لكونِها بمعنى الذي أو نكرةً موصوفةً، بل جَعْلُها غيرَ مصدريةٍ أَوْلَى؛ لأن المصدرَ المؤولَ فرعُ المصدرِ الصريحِ، إذ الصريحُ أصلٌ للمؤول به

ووَضْعُ المصدرِ موضعَ اسم المفعولِ خلافُ الأصلِ، فيلزمُ الخروجُ عن الأصل بشيئين: بالمصدرِ المؤولِ. ثم وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول، والمحفوظُ من لسانِهم إنما هو وَضْعُ المصدرِ الصريح موضعَ المفعولِ لا المصدرِ المؤولِ فاعرِفْه. لا يُقال: إنَّ جَعْلَها غيرَ مصدريةٍ يُحْوِجُ إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ ليصِحَّ المعنى به أي: يعودون لوَطْءِ التي ظاهَرَ منها، أو امرأةٍ ظاهَرَ منها، أو يعودون لإِمساكِها، والأصلُ عدمُ الحذفِ؛ لأن هذا مشتركُ الإِلزام لنا ولكم، فإنكم تقولون أيضاً: لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مضافٍ أي: يعودون لوَطْءِ أو لإِمساكِ المقولِ فيه الظِّهارُ. ويدل على جوازِ كَوْنِ «ما» في هذا الوجهِ غيرَ مصدريةٍ ما أشار إليه أبو البقاء، فإنه قال: «يتعلَّقُ ب» يعودون «بمعنى: يعودون للمقول فيه. هذا إنْ جَعَلْتَ» ما «مصدريةً، ويجوز أَنْ تجعلَها بمعنى الذي ونكرةً موصوفةً» . الثاني: أنَّ اللامَ تتعلَّقُ ب «تحرير» . وفي الكلامَ تقديمٌ وتأخيرٌ. والتقدير: والذين يُظاهرون مِنْ نِسائِهم فعليهم تحريرُ رقبةٍ؛ لِما نَطقوا به من الظِّهار ثم يعودُون للوَطْءِ بعد ذلك. وهذا ما نقله مكيٌّ وغيرُه عن أبي الحسن الأخفش. قال الشيخ: «وليس بشيءٍ لأنه يُفْسِدُ نَظْمَ الآية» . وفيه نظرٌ. لا نُسَلِّم فسادَ النظمِ مع دلالةِ المعنى على التقديمِ والتأخير، ولكنْ نُسَلِّم أنَّ ادعاءَ التقديمِ والتأخيرِ لا حاجةَ إليه؛ لأنه خلافُ الأصل.

الثالث: أن اللامَ بمعنى «إلى» . الرابع: أنها بمعنى «في» نَقَلهما أبو البقاء، وهما ضعيفان جداً، ومع ذلك فهي متعلِّقَةٌ ب «يَعُودون» . الخامس: أنها متعلِّقةٌ ب «يقولون» . قال مكي: «وقال قتادةُ: ثم يعودون لِما قالوا من التحريمِ فيُحِلُّونه، فاللامُ على هذا تتعلَّقُ ب» يقولون «. قلتُ: ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي، وكيف فَهم تعلُّقَها ب» يقولون «على تفسيرِ قتادةَ، بل تفسيرُ قتادةَ نصٌّ في تعلُّقِها ب» يَعودون «، وليس لتعلُّقِها ب» يقولون «وجهٌ.

4

قوله: {فَصِيَامُ} و «فإِطعامُ» كقولِه: {فَتَحْرِيرُ} في ثلاثة الأوجهِ المتقدمةِ. و «مِنْ قبلِ» متعلِّقٌ بالفعل أو الاستقرارِ المتقدِّمِ أي: فيلزَمُه تحريرُ أو صيام، أو فعليه كذا مِنْ قبلِ تَماسِّهما. والضميرُ في «يتماسَّا» للمُظاهِرِ والمُظاهَرِ منها لدلالةِ ما تقدَّم عليهما.

6

قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ ب «عذابٌ مُهينٌ» . الثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ. فقدَّره أبو البقاء «يُهانون أو يُعَذَّبون» ، أو استقرَّ لهم ذلك يومَ يَبْعَثهم «وقَدَّره الزمخشري ب اذْكُرْ قال:» تعظيماً لليوم «. الثالث: أنه منصوبٌ

ب» لهم «، قاله الزمخشري. أي: بالاستقرار الذي تَضَمَّنه لوقوعِه خبراً. الرابع: أنه منصوبٌ ب» أَحْصاه «قاله أبو البقاء. وفيه قَلَقٌ؛ لأنَّ الضميرَ في» أحْصاه «يعود على ما عَمِلوا.

7

قوله: {مَا يَكُونُ مِن نجوى} : «يكونُ» تامةٌ و «من نَجْوى» فاعلُها. و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. ونجوى في الأصل مصدرٌ فيجوزُ أَنْ يكونَ باقياً على أصلِه، ويكون مضافاً لفاعِله، أي: ما يوجَدُ مِنْ تناجي ثلاثةٍ. ويجوز أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ ذوي نَجْوى. ويجوزُ أَنْ يكونَ أطلق على الأشخاصِ المتناجينِ مبالغةً، فعلى هذَيْن الوجهَيْن ينخفضُ «ثلاثة» على أحدِ وجْهَين: إمَّا البدلِ مِنْ ذوي المحذوفة، وإمَّا الوصفِ لها على التقدير الثاني، وإمَّا البدلِ أو الصفةِ ل «نَجْوَى» على التقدير الثالث. وقرأ ابن أبي عبلة «ثلاثةً» و «خمسةً» نصباً على الحال. وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه محذوفٌ مع رافعِه، تقديرُه: يتناجَوْن ثلاثةً، وحُذف لدلالةِ «نجوى» عليه. والثاني: أنه الضمير المستكِنُّ/ في «نجوى» إذا جَعَلْناها بمعنى المتناجِين، قاله الزمخشريُّ. قال مكي: «ويجوز في الكلام رَفْعُ» ثلاثة «على البدل مِنْ موضع» نَجْوى «، لأنَّ موضعَها رفعٌ و» مِنْ «زائدةٌ، ولو نصَبْتَ» ثلاثة «على الحال من الضمير

المرفوع إذا جَعَلْتَ» نجوى «بمعنى المتناجين جازَ في الكلام» . قلت: أمَّا الرفعُ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ، وهو جائزٌ في غير القرآن كما قال. وأمَّا النصبُّ فقد عَرَفْتَ مَنْ قرأ به فكأنَّه لم يَطَّلعْ عليه. قوله: {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} «إلاَّ هو خامسُهم» {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} كلُّ هذه الجملِ بعد «إلاَّ» في موضعِ نصبٍ على الحالِ أي: ما يوجَدُ شَيْءٌ من هذه الأشياءِ إلاَّ في حالٍ مِنْ هذه الأحوالِ، فالاستثناءُ مفرَّغٌ من الأحوال العامة. وقرأ أبو جعفر: «ما تكونُ» بتاءِ التأنيث لتأنيث النجوى. قال أبو الفضل: إلاَّ أنَّ الأكثرَ في هذا البابِ التذكيرُ على ما في العامة؛ لأنه مُسْنَدٌ إلى «مِنْ نجوى» ، وهو اسمُ جنسٍ مذكرٌ. قوله: {وَلاَ أَكْثَرَ} العامَّةُ على الجرِّ عطفاً على لفظ «نجوى» . وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوبُ «ولا أكثرُ» بالرفع. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على موضع «نَجْوى» لأنه مرفوعٌ، و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. فإن كان مصدراً كان على حَذْفِ مضافٍ كما تقدَّم أي: مِنْ ذوي نجوى، وإن كان بمعنى المتناجِين فلا حاجةَ إلى ذلك. والثاني: أن يكونَ «أَدْنى» مبتدأ، و {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} خبرُه، فيكون «ولا أكثرُ» عطفاً على المبتدأ، وحينئذ يكون «ولا أَدْنَى» من باب عطفِ الجملِ لا المفرداتِ.

وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً ومجاهد والخليل «ولا أكبرُ» بالباء الموحدة والرفعِ على ما تقدَّم. وزيد بن علي «يُنْبِهِمْ» مِنْ أَنْبأ؛ إلاَّ أنه حذف الهمزةَ وكسرَ الهاءَ، وقُرِىء كذلك، إلاَّ أنَّه بإثباتِ الهمزةِ وضمِّ الهاءِ. والعامَّةُ بالتشديد مِنْ نَبَّأ.

8

قوله: {وَيَتَنَاجَوْنَ} : قرأ حمزة «يَنْتَجُوْنَ» من الانتجاء من النجوى. والباقون «يتناجَوْن» من التناجي مِن النجوى أيضاً. قال أبو علي: «والافتعال والتفاعُلُ يجريان مَجْرىً واحداً، ومِنْ ثَمَّ صَحَّحوا: ازدَوَجُوا واعْتَوَرَوا لَمَّا كانا في معنى: تزاوَجُوا وتعاوَنوا. وجاء {حتى إِذَا اداركوا} و {ادركوا} [الأعراف: 38] قلت: ويؤيِّد قراءةَ العامة الإِجماعُ على» تناجَيْتُمْ «و» فلا تَتَناجوا «، و» وتناجَوْا «، فهذه مِن التفاعُل لا غيرُ، إلا ما روي عن عبد الله أنه قرأ» إذا انْتَجَيْتُم فلا تَنْتَجُوا «ونقل الشيخُ عن الكوفيين والأعمش» فلا تَنْتَجُوا «كقراءةِ عبدِ الله. وأصل تَنْتَجُون: تَنْتَجِيُوْن» . ويتَناجَوْن يتناجَيُون فاسْتُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت، فالتقى ساكنان فحذفت الياءُ لالتقائِهما. أو نقول: تحرَّك حرفُ العلةِ وانفتح ما قبله فَقُلِبَ ألفاً، فالتقى ساكنان فحذِف أوَّلهما وبقيت الفتحةُ دالةً على الألف.

[وقرأ] أبو حيوة «بالعِدْوان» بكسرِ العين.

10

وقد تقدَّم قراءتا «ليحزنَ» بالضم والفتح في آل عمران. وقُرِىء بفتح الياءِ والزاي على أنه مسندٌ إلى الموصولِ بعده فيكونُ فاعلاً. وقوله: {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ اسمُ «ليس» ضميراً عائداً على الشيطان، وأَنْ يكونَ عائداً على الحزنِ المفهومِ مِنْ «ليحزنَ» قاله الزمخشري. والأولُ أَوْلَى للتصريحِ بما يعود عليه. [وقرأ] الضحاك «ومعصيات» جمعاً. قوله: {لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا} [المجادلة: 8] هذه الجملةُ التحضيضيةُ في موضع نصبٍ بالقول.

11

وقرأ نافع وابن عامر وحفص وأبو بكرٍ بخلافٍ عنه بضم شين «انشُزوا» في الحرفَيْن، والباقون بكسرِها، وهما لغتان بمعنىً واحد. يُقال: نَشَزَ أي ارتفع يَنْشِز ويَنْشُزُ كعَرَش يَعْرِش ويَعْرُش،

وعَكَفَ يَعْكِف ويَعْكُف. وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة في البقرة. قوله: {فِي المجالس} قرأ عاصم «المجالس» جمعاً اعتباراً بأنَّ لكلِّ واحدٍ منهم مجلساً. والباقون بالإِفراد، إذ المرادُ مجلسُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أحسنُ مِنْ كونِه واحداً أريد به الجمعُ. وقُرىء «في المجلَس» بفتح اللام وهو المصدرُ أي: تَفَسَّحوا في جلوسِكم ولا تتضايَقوا. وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وعيسى وقتادة «تَفاسَحُوا» والفُسْحَةُ: السَّعَةُ. وفَسَح له أي: وسَّعَ له. قوله: {والذين أُوتُواْ} يجوز أَنْ يكونَ معطوفاً على «الذين آمنوا» فهو مِنْ عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ لأن الذين أُوْتوا العلمَ بعضُ المؤمنين منهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ «والذين أُوْتُوا» مِنْ عطفِ الصفاتِ أي: تكونُ الصفاتُ لذاتٍ واحدةٍ، كأنه قيل: يرفعُ الله المؤمنين العلماءَ. و «دَرَجاتٍ» مفعولٌ ثانٍ، وقد تقدَّم الكلامُ على نحوِ ذلك في الأنعام. وقال ابنُ عباس: تمَّ الكلامُ عند قولِه «منكم» وينتصِبُ «الذين أُوْتُوا» بفعلٍ مضمرٍ أي: ويَخُصُّ الذين أوتوا اللمَ بدرجات/، أو ويرْفعُهم درجاتٍ.

13

قوله: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} في «إذْ» هذه ثلاثة أقوالٍ، أحدها: أنها على بابِها من المُضِيِّ. والمعنى: أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامةِ الصلاةِ، قاله أبو البقاء. الثاني: أنَّها بمعنى «إذا»

كقولِه: {إِذِ الأغلال} [غافر: 71] وقد تقدَّم الكلامُ فيه. الثالث: أنها بمعنى «إنْ» الشرطيةِ وهو قريبٌ مِمَّا قبلَه، إلاَّ أنَّ الفرقَ بين «إنْ» و «إذا» معروفٌ. ورُوي عن أبي عمرو «خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ» بالياءِ مِنْ تحتُ. والمشهورُ عنه بتاءِ الخطاب كالجماعة.

14

قوله: {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} : يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها مستأنفةٌ لا موضعَ لها من الإِعراب. أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّصِ. ولا من الكافرين الخلَّصِ، بل كقولِه: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} [النساء: 143] . فالضميرُ في «ما هم» عائدٌ على الذين تَوَلَّوا، وهم المنافقون. وفي «منهم» عائدٌ على اليهود أي: الكافرين الخُلَّص. والثاني: أنها حالٌ مِنْ فاعل «تَوَلَّوا» والمعنى: على ما تقدَّم أيضاً. والثالث: أنها صفةٌ ثانيةً ل «قوماً» ، فعلى هذا يكون الضميرُ في «ما هم» عائداً على «قوماً» ، وهم اليهودُ. والضميرُ في «منهم» عائدٌ على الذين تَوَلَّوا يعني: اليهودُ ليسوا منكم أيها المؤمنون، ولا من المنافقين، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون، قاله ابن عطية. إلاَّ أنَّ فيه تنافُرَ الضمائرِ؛ فإن الضميرَ في «ويَحْلِفون» عائدٌ على الذين تَوَلَّوْا، فعلى الوجهين الأوَّلَيْن تتحد الضمائرُ لعَوْدِها على الذين تَوَلَّوا، وعلى الثالث تختلفُ كما عَرَفْتَ تحقيقَه. قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ أي: يعلمون أنه كذِبٌ فيَمينُهم يمينٌ غموسٌ لا عُذْرَ لهم فيها.

16

قوله: {أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} : مفعولان ل «اتَّخذوا» . وقرأ العامَّةُ «أَيْمانَهم» بفتحِ الهمزةِ جمع يمين. والحسن بكسرِها مصدراً. وقوله: {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ} قد تقدَّمَ في آل عمران.

19

قوله: {استحوذ} : جاءَ به على الأصلِ، وهو فصيحٌ استعمالاً، وإنْ شَذَّ قياساً. وقد أَخْرجه عمرُ رضيَ اللَّهُ عنه على القياس فقرأ «استحاذ» كاستقام، وتقدَّمَتْ هذه المادةُ في سورةِ النساءِ عند قولِه: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ} [النساء: 141] .

21

قوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ} : يجوز أَنْ يكونَ «كَتَبَ» جرى مَجْرَى القَسَم فأُجيبَ بما يُجاب به. وقال أبو البقاء: «وقيل: هي جوابُ» كَتَبَ «لأنَّه بمعنى قال» . وهذا ليس بشيءٍ لأنَّ «قال» لا يَقْتضِي جواباً فصوابُه ما قَدَّمْتُه. ويجوزُ أَنْ يَكون «لأَغْلِبَنَّ» جوابَ قسمٍ مقدرٍ، وليس بظاهر.

22

قوله: {يُوَآدُّونَ} : هو المفعولُ الثاني ل «تَجِدُ» ويجُوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لواحدٍ بمعنى صادَفَ ولقي، فيكون «يوادُّون» . حالاً أو صفةً ل «قوماً» . والواوُ في «ولو كانوا» حاليةٌ وتقدم تحريرُه غيرَ

مرة. وقدَّم أولاً الآباءَ لأنهم تجبُ طاعتُهم على أبناءِهم، ثم ثّنَّى بالأبناءِ لأنهم أَعْلَقُ بالقلوب وهم حَبَّاتُها: 4241 - فإنما أَوْلادُنا بَيْنَا ... أكبادُنا تَمْشِي على الأرضِ الأبياتُ المشهورة في الحماسةِ، ثَلَّثَ بالإِخوان لأنهم هم الناصرُون بمنزلة العَضُدِ من الذِّراع. قال: 4242 - أخاك أخاك إنَّ مِنْ لا أخا له ... كساعٍ إلى الهَيْجا بغيرِ سلاحِ وإنَّ ابنَ عمِّ المَرْءِ فاعْلَمْ جناحُه ... وهل ينهَضُ البازي بغير جَناح؟ ثم رَبَّع بالعشيرةِ، لأنَّ بها يسْتغاثُ، وعليها يُعْتمد. قال: 4243 - لا يَسْألون أخاهم حين يَنْدُبُهُم ... في النائباتِ على ما قال بُرْهانا وقرأ أبو رجاء «عشيراتِهم» بالجمع، كما قرأها أبو بكر في التوبة كذلك. وقرأ العامَّةُ «كَتَبَ» مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى، «

الإِيمانَ» نصباً وأبو حيوةَ وعاصمٌ في رواية المفضل «كُتِبَ» مبنياً للمفعول، «الإِيمانُ» رفعٌ به. والضميرُ في «منه» للَّهِ تعالى. وقيل: يعودُ على الإِيمان؛ لأنه رُوحٌ يَحْيا به المؤمنون في الدارَيْنِ.

الحشر

قوله: {مِنْ أَهْلِ الكتاب} : «مِنْ» يجوزُ أَنْ تكونَ للبيانِ، فتتعلَّق بمحذوفٍ، أي: أعني من أهل الكتاب. والثاني: أنها حالٌ من «الذين كفروا» . قوله: {مِن دِيَارِهِمْ} متعلق ب «أَخْرَجَ» ومعناها ابتداءُ الغايةِ. وصَحَّتْ إضافةُ الديارِ إليهم لأنهم أَنْشَؤُوها. قوله: {لأَوَّلِ الحشر} هذه/ اللامُ تتعلقُ ب «أَخْرَجَ» وهي لامُ التوقيتِ كقولِه: {لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] ، أي: عند أول الحشر. قال الزمخشري: «وهي اللامُ في قولِه تعالى: {ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] وقولِك» جئتُ لوقْتِ كذا «. قلت: سيأتي الكلامُ على هذه اللامِ في الفجرِ، إنْ شاءَ الله تعالى. قوله: {مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم} فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ» حصونُهم «مبتدأً، و» مانِعَتُهم «خبرٌ مقدمٌ. والجملةُ خبر» أنهم «لا يُقال: لم لا يُقال:» مانِعَتُهم «مبتدأٌ؛ لأنه معرفةٌ و» حصونُهم «خبرُه. ولا حاجةَ

لتقديمٍ ولا تأخيرٍ؛ لأنَّ القصدَ الإِخبارُ عن الحصون، ولأنَّ الإِضافةَ غيرُ مَحْضَةٍ، فهي نكرةٌ. والثاني: أَنْ يكونَ» مانِعَتُهم «خبرَ» أنهم «وحصونُهم» فاعلٌ به. نحو: إنَّ زيداً قائمٌ أبوه، وإنَّ عَمْراً قائمةٌ جاريتُه. وجعله الشيخ أَوْلى؛ لأنَّ في نحو: قائمٌ زيد على أَنْ يكونَ خبراً مقدماً ومبتدأً مؤخراً خلافاً والكوفيون يمنعونَه فمحلُّ الوِفاق أَوْلى. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: أيُّ فَرْقٍ بين قولِك» وظنُّوا أنَّ حصونَهم تمنعُهم، أو مانِعَتُهم، وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت: [في] تقديمِ الخبرِ على المبتدأ دليلٌ على فَرْطِ وُثوقِهم بحَصانتِها ومَنْعِها إياهم، وفي تصييرِ ضميرِهم اسماً ل «أنَّ» وإسناد الجملةِ إليه دليلٌ على اعتقادِهم في أنفسِهم أنَّهم في عِزَّةٍ ومَنَعَة لا يُبالى معها بأحد يَتَعرَّضُ لَهم، وليس ذلك في قولك «حُصُونهم تَمْنعهم» انتهى. وهذا الذي ذكره إنما يَتأتَّى على الإِعرابِ الأولِ، وقد تقدَّم أنه مَرْجوحٌ، وتَسَلَّطَ الظنُّ هنا على «أنَّ» المشددةِ، والقاعدةُ أنه لا يعملُ فيها ولا في المخففةِ منها إلاَّ فعلُ عِلْمٍ ويقينٍ، إجراءً له مُجْرى اليقين لشدَّتِه وقوتِه وأنَّه بمنزلةِ العلم. قوله: {يُخْرِبُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً للإِخبار به، وأن يكونَ حالاً مِنْ ضميرِ «قلوبِهم» وليس بذاك. وقرأ أبو عمرو «يُخَرِّبون»

بالتشديد وباقيهم بالتخفيفِ وهما بمعنى واحدٍ؛ لأن خرَّب عَدَّاه أبو عمروٍ بالتضعيف، وهم بالهمزة. وعن أبي عمروٍ أنه فَرَّق بمعنىً آخرَ فقال: «خرَّب بالتشديد: هَدَم وأَفْسد، وأَخْرَبَ بالهمزة: تَرَكَ الموضعَ خراباً وذهَب عنه. واختار الهذليُّ قراءةَ أبي عمروٍ لأجل التكثير. ويجوزُ أَنْ يكونَ» يُخْرِبون «تفسيراً للرعب فلا مَحَلَّ له أيضاً.

3

قوله: {الجلاء} : العامَّةُ على مَدَّة وهو الإِخراجُ، أَجْلَيْتُ القومَ إجلاءً، وجلا هو جلاءً. وقال الماوردي: «الجَلاءُ أخصُّ من الخروجِ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ لجماعةٍ، والإِخراجُ يكون للجماعةِ والواحد» وقال غيرُه: الفرقُ بينهما أنَّ الجلاءَ ما كان مع الأهلِ والولدِ بخلاف الإِخراجِ فإنه لا يَسْتلزِمُ ذلك. وقرأ الحسن وعلي ابنا صالح «الجَلا» بألفٍ فقط. وطلحة مهموزاً من غيرِ ألفٍ كالنبأ. وقرأ طلحة «ومَنْ يُشاقِقْ» بالفكِّ كالمتفق عليه في الأنفال.

5

قوله: {مَا قَطَعْتُمْ} : «ما» شرطيةٌ في موضع نصب ب «قَطَعْتم» و «مِنْ لينةٍ» بيانٌ له. و «فبإِذنِ اللهِ» جزاء الشرطِ. ولا بُدَّ مِنْ

حذفٍ، أي: فقَطْعُها بإذنِ الله، فيكون «بإذنِ الله» الخبرَ لذلك المبتدأ. واللينةُ فيها خلافٌ كثير، قيل: هي النخلةُ مطلقاً، وأُنْشِد: 4244 - كأن قُتودي فوقها عُشُّ طائرٍ ... على لِيْنَةٍ سَوْقاءَ تَهْفوا جُنوبها وقال آخر: 4245 - طِراقُ الخوافِي واقعٌ فوقَ لِينة ... نَدَى لَيْلهِ في ريشه يَتَرَقْرَقُ وقيل: هي النخلة ما لم تكن عجوةً. وقيل: ما لم تكن عَجْوةً ولا بَرْنِيَّة. وقيل: هي النخلةُ الكريمة. وقيل: ما تَمْرُها لُوْنٌ، وهو نوعٌ من التمر، قال سفيان: هو شديدُ الصُّفْرة يَشِفُّ عن نواةٍ. وقيل: هي العَجْوة. وقيل: هي الفُسْلان وأنشد: 4246 - غَرَسوا لينةً بمَجرى مَعِيْنِ ... ثم حُفَّ النخيلُ بالآجامِ

وقال آخر: 4247 - قد جَفاني الأَحْبابُ حين تَغَنَّوا ... بفراقِ الأحبابِ مِنْ فوقِ ليْنَهْ وقيل: هي أغصان الشجر للينِها. وفي عين «لِينة» قولان، أحدهما: أنها واوٌ لأنه من اللون، وإنما قُلِبَتْ ياءً لسكونِها وانكسارِ ما قبلَها كدِيْمة وقيمة. الثاني: أنها ياءٌ لأنها من اللِّين. وجَمْعُ اللِّينة لِيْن لأنه من بابِ اسم الجنس كتَمْرة وتَمْر. وقد كُسِّر على «لِيان» وهو شاذٌّ؛ لأنَّ تكسيرَ ما يُفَرَّقُ بتاءِ التأنيث شاذٌّ كرُطَبَة ورُطَب وأَرْطاب. وأُنْشد: 4248 - وسالفةٌ كسَحُوْقِ اللِّيا ... ن أَضْرَمَ فيه الغَوِيُّ السُّعُرْ / والضميرُ في «تَرَكْتموها» عائدٌ على معنى «ما» وقرأ عبدُ الله والأعمش وزيدُ بن علي «قُوَّماً» على وزنِ ضُرَّب؛ جمعَ «قائم» مراعاةً لمعنى «ما» فإنه جمعٌ. وقُرِىءَ «قائماً» مفرداً مذكراً. وقُرِىء «أُصُلِها» بغير واو. وفيه وجهان، أحدهما: أنه جمعُ «أَصْلٍ» ، نحو: رَهْن ورُهُن. والثاني: أن يكونَ حَذَفَ الواوَ استثقالاً لها.

قوله: {وَلِيُخْزِيَ} اللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ، أي: ولِيُخْزِيَ أَذِنَ في قَطْعِها، أو ليُسِرَّ المؤمنين ويُعِزَّهم ولِيُخْزِيَ.

6

قوله: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ} : الفاءُ جوابُ الشرطِ، أو زائدةٌ، على أنها موصولةٌ مضمَّنَةٌ معنى الشرط. و «ما» نافيةٌ. والإِيجافُ: حَمْلُ البعيرِ على السيرِ السريع يقال: وَجَفَ البعير يَجِفُ وَجْفاً ووَجِيْفاً ووَجَفاناً. وأَوْجفْتُه أنا إيجافاً. قال العَجَّاج: 4249 - ناجٍ طواه الأَيْنُ مِمَّا وَجَفا ... وقال نُصَيب: 4250 - ألا رُبَّ رَكْبٍ قد قَطَعْتُ وجيفَهم ... إليك ولولا أنت لم تُوجِفِ الرَّكْبُ قوله: {مِنْ خَيْلٍ} «مِنْ» زائدةٌ، أي: خَيْلاً. والرِّكاب: الإِبلُ.

7

قوله: {مَّآ أَفَآءَ الله} : قال الزمخشري: «لم يُدْخِلِ العاطفَ على هذه الجلمةِ لأنها بيانٌ للأولى، فهي منها غيرُ أجنبيةٍ» .

قوله: {يَكُونَ دُولَةً} قرأ هشام «تكون» بالتاء والياء «دُوْلةٌ» بالرفع فقط، والباقون بالياء مِنْ تحتُ ونصب دُوْلَةً. فأمَّا الرفعُ فعلى أنَّ «كان» التامَّةُ. وأمَّا التذكيرُ والتأنيثُ فواضحان لأنه تأنيثٌ مجازيٌّ. وأمَّا النصبُ فعلى أنها الناقصةُ. واسمُها ضميرٌ عائدٌ على الفَيْءِ، والتذكيرُ واجبٌ لتذكيرِ المرفوع. و «دُولة» خبرها. وقيل: عائد على «ما» اعتباراً بلفظِها. وقرأ العامَّةُ «دُوْلة» بضم الدال. وعلي بن أبي طالب والسُّلميُّ بفتحِها. فقيل: هما بمعنىً وهما ما يَدُول للإِنسان، أي: يدور من الجِدِّ والعَناء والغَلَبة. وقال الحُذَّاقُ من البصريين والكسائيُّ: الدَّوْلة بالفتح: من المُلك بضم الميم، وبالضم من المِلْكِ بكسرِها، أو بالضمِّ في المال، وبالفتح في النُّصْرة وهذا يَرُدُّه القراءة المرويَّةُ عن علي والسلمي؛ فإنَّ النصرةَ غيرُ مرادةٌ هنا قطعاً. و «كيلا» علةٌ لقولِه: «فللَّهِ وللرسول» ، أي: استقرارُه لكذا لهذه العلَّةِ.

8

قوله: {لِلْفُقَرَآءِ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ «لذي القُرْبى» قاله أبو البقاء والزمخشري. قال أبو البقاء: «قيل هو بدلٌ مِنْ» لذي القُربى «وما بعده» وقال الزمخشري: «بدلٌ مِنْ قوله» ولذي القُربى «وما عُطِف عليه. والذي مَنَعَ الإِبدالَ مِنْ» لله وللرسول «

والمعطوفِ عليهما وإنْ كان المعنى لرسول الله أن اللهَ عزَّ وجلَّ أخرجَ رسوله من الفقراءِ في قولِه: {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} وأنه تعالى يترفَّعُ برسوله عن تسميته بالفقير، وأنَّ الإِبدالَ على ظاهرِ اللفظ من خلافِ الواجب في تعظيمِ اللهِ عزَّ وجلَّ» يعني لو قيل: بأنَّه بَدَلٌ مِنْ «لله» وما بعدَه لَزِمَ فيه ما ذُكِرَ: مِنْ أنَّ البدلَ على ظاهرِ اللفظِ يكونُ من الجلالةِ فيُقال: «للفقراء» بدلٌ مِنْ «لله» ومِنْ «رسولِه» وهو قبيحٌ لفظاٌ، وإن كان المعنى على خلافِ هذا الظاهرِ، كما قال: إن معناه لرسولِ الله، وإنما ذُكر اللهُ عزَّ وجلَّ تفخيماً، وإلاَّ فاللهُ تعالى غنيٌّ عن الفَيْءِ وغيره، وإنما جعله بدلاً مِنْ «لذي القُرْبى» لأنه حنفيٌّ، والحنفية يشترطون الفقرَ في إعطاءِ ذوي القُربى مِنَ الفَيْءِ. الثاني: أنه بيانٌ لقولِه {والمساكين وابن السبيل} وكُرِّرتُ لامُ الجر لَمَّا كانت الأُولى مجرورةً باللام؛ ليُبَيِّنَ أنَّ البدلَ إنما هو منها، قاله ابنُ عطية، وهي عبارةٌ قَلِقَةٌ جداً. الثالث: أن «للفقراء» خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، أي: ولكنَّ الفَيْءَ للفقراء. وقيل: تقديرُه: ولكن يكونُ «للفقراء» . وقيل: تقديرُه: اعجَبوا للفقراء. قوله: {يَبْتَغُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً. في صاحبِها قولان، أحدهما: للفقراء. والثاني: واو «أُخْرِجوا» قالهما مكي.

9

قوله: {والذين تَبَوَّءُوا} : يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على الفقراء، فيكونُ مجروراً، ويكونُ من عَطْفِ

المفرداتِ، ويكون «يُحبُّون» حالاً. والثاني: أَنْ يكونَ مبتدأ، خبرُه «يُحِبُّون» ، ويكون حينئذٍ مِنْ عطفِ الجُمل. قوله: {والإيمان} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه ضُمِّنَ «تَبَوَّؤوا» معنى لزِموا، فيَصِحُّ عَطْفُ الإِيمان عليه؛ إذ الإيمانُ لا يُتَبَوَّأ. والثاني: أنه منصوبٌ بمقدرٍ، أي: واعتقدوا، أو وأَلِفوا، أو وأحَبُّوا. الثالث: أن يُتَجَوَّز في الإِيمان فيُجْعَلَ لاختلاطِه بهم وثباتِهم عليه كالمكانِ المُحيطِ بهم، فكأنَّهم نَزَلوه، وعلى هذا فيكونُ جَمَعَ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ، وفيه خلافٌ مشهورٌ. الرابع: أَنْ يكونَ الأصلُ: / دارَ الهجرة ودارَ الإِيمان، فأقامَ لامَ التعريفِ في الدار مُقام المضافِ إليه، وحَذَفَ المضافَ مِنْ دار الإِيمان، ووَضَعَ المضافَ إليه مَقامه. الخامسُ. أَنْ يكونَ سَمَّى المدينة لأنَّها دارُ الهجرة ومكانُ ظهورِ الإِيمان بالإِيمان، قال هذين الوجهَيْنِ الزمخشريُّ، وليس فيه إلاَّ قيامُ أل مَقامَ المضافِ إليه، وهو مَحَلُّ نَظَر، وإنما يُعْرَفُ الخلافُ: هل تقوم أل مَقامَ الضميرِ المضاف إليه؟ الكوفيون يُجيزونه كقولِه تعالى: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 39] ، أي: مَأْواه، والبصريون يمنعونه ويقولون: الضميرُ محذوفٌ، أي: المَأْوى له وقد تقدَّمَ تحريرُ هذا. أمَّا كونُها عِوَضاً من المضاف إليه فلا نَعْرِفُ فيه خلافاً. السادس: أنَّه مصنوبٌ على المفعولِ معه، أي: مع الإِيمان معاً، قاله ابن عطية، وقال: «وبهذا الاقترانِ يَصِحُّ معنى قولِه» مِنْ قبلهم «

فتأمَّلْه» قلت: وقد شَرَطوا في المفعول معه أنَّه يجوز عَطْفُه على ما قبلَه حتى جَعَلوا قولَه {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} مِنْ بابِ إضمار الفعل لأنَّه لا يُقال: أجمعتُ شركائي إنما يقال جَمَعْتُ، وقد تقدَّم القولُ في ذلك ولله الحمد مشبعاً. قوله: {حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الحاجةَ هنا على بابِها من الاحتياج، إلاَّ أنها واقعةٌ مَوْقعَ المحتاجِ إليه، والمعنَى: ولا يجدون طَلَبَ محتاجٍ إليه ممَّا أُوْتي المهاجرون من الفيء وغيِره، والمُحتاج إليه يُسَمَّى حاجةً تقول: خُذْ منه حاجتَك، وأعطاه مِنْ مالِه حاجتَه، قاله الزمشخري. فعلى هذا يكون الضميرُ الأول للجائين مِنْ بعدِ المهاجرين، وفي «أُوْتوا» للمهاجرين. والثاني: أنَّ الحاجةَ هنا مِنْ الحَسَدِ، قاله بعضُهم، والضميران على ما تقدَّم قبل. وقال أبو البقاء: مَسَّ حاجةٍ، أي: إنه حُذِف المضافُ للعلم به، وعلى هذا فالضميران للذين تبوَّؤوا الدارَ والإِيمان. قوله: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ} واوُ الحال وقد تقدَّم الكلامُ عليها.

والخَصاصَةُ: الحاجةُ، وأصلُها مِنْ خَصاصِ البيت، وهي فُروجهُ، وحالُ الفقير يتخَلَّلُها النَّقْصُ، فاسْتُعير لها ذلك. قوله: {وَمَن يُوقَ} العامَّةُ على سكون الواو وتخفيفِ القافِ مِنْ الوِقاية. وابنُ أبي عبلة وأبو حيوة بفتحِ الواو وشدِّ القافِ. والعامَّةُ بضمِّ الشينِ مِنْ «شُحَّ» وابنُ أبي عبلة وابنُ عمر بكسرها.

10

قوله: {والذين جَآءُوا} : يحتمل الوجهَيْن المتقدمَيْن في «الذين» قبلَه، فإن كان معطوفاً على المهاجرين ف «يقولون» حالٌ ك «يُحِبُّون» أو مستأنف، وإنْ كان مبتدأً ف «يقولون» خبرُه.

11

قوله: {لإِخْوَانِهِمُ} : اللامُ هنا للتبليغ فقط بخلافِ قولِه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} فإنَّها تحتملُ ذلك وتحتمل العلةَ، وقوله: {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ} ، أي: في قتالِكم، أو في خِذْلانكم. وقوله: {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} أُجيب القسمُ المقدرُ لأنَّ قبل «إنْ» لاماً موطِّئة حُذِفَتْ للعِلْم بمكانِها، فإنَّ الأكثرَ الإِتيانُ بها. ومثلُه قولُه: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73] وقد تقدَّم.

12

قوله: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ} : إلى آخره أُجيب القسمُ لسَبْقِه، ولذلك رُفِعَتِ الأفعالُ ولم تُجْزَمْ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لدلالةِ جوابِ القسمِ عليه، ولذلك كان فِعلُ الشرطِ ماضياً. وقال

أبو البقاء: «قولُه:» لا يَنْصُرُوْنَهم «لَمَّا كان الشرطُ ماضياً تُرِكَ جَزْمُ الجوابِ» انتهى. وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ «لا يَنْصُرونهم» ليس جواباً للشرطِ، بل هو جوابٌ للقسم، وجواب الشرطِ محذوفٌ كما تقدَّمَ تقريرُه، وكأنه توهَّم أنه من بابِ قوله: 4251 - وإن أتاه خليلٌ يومَ مَسْأَلَةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ وقد سبق أبا البقاء ابنُ عيطة إلى ما يُوْهِم شيئاً من ذلك، ولكنه صرَّح بأنه جوابُ القسم، وقال: «جاءت الأفعالُ غير مجزومةٍ في» لا يَخْرجون «ولا» يَنْصُرون «لأنها راجعةٌ على حكم القسم لا على حكمِ الشرط. وفي هذا نظرٌ» وقوله: «وفي هذا نظر» مُوْهِمٌ أنه جاء على خلافِ ما يقتضيه القياسُ، وليس كذلك، بل جاء على ما يَقْتضيه القياسُ. وفي هذه الضمائرِ قولان، أحدهما: أنها كلَّها للمنافقين. والثاني: أنها مختلفةٌ، بعضُها لهؤلاء وبعضُها لهؤلاء.

13

قوله: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً} : «رهبةً» مصدرٌ مِنْ رُهِبَ المبنيِّ للمفعولِ، فالرهبةُ واقعةٌ من المنافقين لا مِنْ المخاطبين، كأنه قيل: لأنتم أشدُّ مرهوبيَّةً في صدورِهم من اللهِ فالمخاطبون مَهوبون، وهو كقولِ كعبِ بن زهير رضي الله عنه في مَدْح رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم:

4252 - فَلَهْوَ أَخْوَفُ عندي إذا أُكَلِّمُهُ ... وقيل: إنك محبوسٌ ومقتولُ مِنْ ضَيْغَمٍ بثَراءِ الأرضِ مُخْدَرُه ... ببَطْنِ عَثَّر غِيْلٌ دونَه غِيْلُ و «رُهْبةً» تمييز.

14

قوله: {جَمِيعاً} : حالٌ و {إِلاَّ فِي قُرًى} متعلقٌ ب «يُقاتِلونكم» . وقوله: {جُدُرٍ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو «جدار» بالإِفرادِ. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه أرادَ به السُّوْرَ، والسُّوْرُ الواحد يَعُمُّ الجميعَ من المقاتِلةِ ويَسْتُرهم. والثاني: أنه واحدٌ في معنى الجمع لدلالة السِّياقِ عليه. والثالث: أنَّ كلَّ فِرْقة منهم وراءَ جدار، لا أنَّهم كلَّهم وراءَ جدار. والباقون قَرَؤُوا جُدُر بضمتين/ اعتباراً بأنَّ كلَّ فِرْقةٍ وراءَ جدار، فجُمِعَ لذلك. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن وثاب والأعمش، ويُرْوى عن ابن كثير وعاصمٍ بضمةٍ وسكونٍ، وهي تخفيفُ الأُولى. وقرأ ابن كثير أيضاً في وراية هارونَ عنه، وهي قراءةُ كثيرٍ من المكيين «جَدْرٍ» بفتحة وسكون فقيل: هي لغةٌ في الجِدار. وقال ابن عطية: «معناه أصلُ بنيانٍ كالسُّور ونحوه» قال: «ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ جَدْر النخيل، أي: أو مِنْ

وراءِ نخيلهم. وقُرِىء» جَدَر «بفتحتين حكاها الزمخشريُّ، وهي لغةٌ في الجِدار أيضاً. قوله: {بَيْنَهُمْ} متعلِّقٌ بشديد و» جميعاً «مفعولٌ ثانٍ، أي: مجتمعين و» قلوبُهم شَتَّى «جملةٌ حاليةٌ أو مستأنفةٌ للإِخبار بذلك. والعامَّةُ على» شتى «بلا تنوينٍ لأنَّها ألفُ تأنيثٍ. ومِنْ كلامهم:» شتى تَؤُوب الحَلَبةُ «، أي: متفرِّقين. وقال آخر: 4253 - إلى اللهِ أَشْكو فِتْنَةً شَقَّت العِصا ... هي اليومَ شَتَّى وهْي أَمْسِ جميعُ وقرأ مبشر بن عبيد» شتىً «منونة، كأنه جعلها ألفَ الإِلحاق.

15

قوله: {كَمَثَلِ الذين} : خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: مثلُهم مثلُ هؤلاء. و «قريباً» فيه وجهان، أحدهما: أنَّه منصوبٌ بالتشبيه المتقدم، أي: يُشَبِّهونهم في زمنٍ قريب سيقع لا يتأخر، ثم بَيَّنَ ذلك بقوله: {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} . والثاني: أنه منصوبٌ ب «ذاقوا» ، أي: ذاقوه في زمنٍ قريب سيقع ولم يتأخَّرْ. وانتصابُه في وجهَيْه على ظرف الزمان. وقوله: {كَمَثَلِ الشيطان} [الحشر: 16] كالبيان لقولِه: {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} .

17

قوله: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ} : العامَّةُ على نصب «

عاقَبَتَهُما» بجَعْلِه خبراً، والاسمُ «أنَّ» وما في حَيَّزها؛ لأنَّ الاسمَ أَعْرَفُ مِنْ «عاقبتَهُما» . وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آل عمران والأنعام. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن أرقم برفعِها على جَعْلِها اسماً، و «أنَّ» وما في حَيِّزها خبراً كقراءةِ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] . قوله: {خَالِدَينَ} العامَّةُ على نَصْبِه حالاً من الضمير المستكنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً. وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة برفعِه خبراً، والظرفُ مُلْغَى فيتعلَّق بالخبر، وعلى هذا فيكون تأكيداً لفظياً للحرفِ وأُعيد معه ضميرُ ما دَلَّ عليه كقولِه: {فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] وهذا على مذهب سيبويه فإنه يُجيز إلغاءَ الظرفِ وإنْ أُكِّدَ، والكوفيون يَمْنَعونَه وهذا حُجَّةٌ عليهم. وقد يُجيبون: بأنَّا لا نُسَلِّمُ أَنَّ الظرفَ في هذه القراءةِ مُلْغَى، بل نجعلُه خبراً ل «أنَّ» وخالدان خبرٌ ثانٍ، وهو مُحْتمِلٌ لِما قالوه إلاَّ أنَّ الظاهرَ خلافُه.

18

قوله: {وَلْتَنظُرْ} : العامَّةُ على سكونِ لامِ الأمرِ. وأبو حيوة ويحيى بنُ الحارث بكسرِها على الأصل. والحسنُ بكسرها

ونصبِ الفعل، جَعَلَها لامَ كي، ويكونُ المُعَلَّلُ مقدراً، أي: ولْتنظر نفسٌ حَذَّركم وأَعْلمكم. وتنكيرُ النفسِ والغدِ. قال الزمخشري: «أمَّا تَنْكيرُ النفسِ فلاستقلالِ الأنفسِ النواظرِ فيما قَدَّمْنَ للآخرةِ، كأنه قيل: لتنظرْ نفسٌ واحدةٌ. وأمَّا تنكيرُ الغد فلتعظيمِه وإبهامِ أَمْرِه كأنه قيل: لِغدٍ لا يُعْرَفُ كُنْهُهُ لعِظَمِه» . وقوله: {واتقوا الله} تأكيدٌ: وقيل: كُرِّر لتغايُرِ متعلَّق التَّقْوَيَيْنِ فمتعلَّقُ الأولى أداءُ الفرائضِ لاقترانِه بالعمل، والثانيةِ تَرْكُ المعاصي لاقترانِه بالتهديد والوعيدِ، قال معناه الزمخشري.

19

قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ} : العامَّةُ على الخطابِ. وأبو حيوة بالغَيْبة على الالتفاتِ.

20

قوله: {أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون} : كالتفسير لنفي تساوِيْهما. و «هم» يجوزُ أَنْ يكونَ فَصْلاً، وأَنْ يكونَ مبتدأ، فعلى الأول الإِخبارُ بمفردٍ، وعلى الثاني بجملةٍ.

21

قوله: {خَاشِعاً} : حالٌ؛ لأن الرؤيةَ بَصَرية. وقرأ طلحة «مُصَّدِّعاً» بإدغام التاء في الصاد. وأبو ذر وأبو السَّمَّال «القَدُّوس» بفتح القاف. وقرأ العامَّةُ «

المُؤْمِنُ» بكسر الميم اسمَ فاعل مِنْ آمَن بمعنى أَمَّن. وأبو جعفر محمد بن الحسين وقيل ابن القعقاع: بفتحها. فقال الزمخشري: «بمعنى المُؤْمَنِ به على حَذْفِ حرف الجر، كما تقول في قومَ موسى مِنْ قولِه {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] المختارون» . وقال أبو حاتم: «لا يجوزُ ذلك، أي: هذه القراءة؛ لأنه لو كان كذلك لكان» المؤمَنُ به «وكان جارَّاً، لكن المؤمَنَ المطلقَ بلا حرفِ جر/ يكون مَنْ كان خائفاً فأُمِّنَ» فقد رَدَّ ما قاله الزمخشريُّ.

23

قوله: {الجبار} : اسْتَدَلَّ به مَنْ يقول: إن أمثلةَ المبالغةِ تأتي من المزيدِ على الثلاثةِ، فإنه مِنْ أَجْبَرَه على كذا، أي: قهره. قال الفراء: «ولم أسمع فعَّالاً مِنْ أَفْعلَ إلاَّ في جَبَّار وَدَّراك مِنْ أدرك» انتهى. واسْتُدْرك عليه: أَسْأَر فهو سَأر. وقيل: هو من الجَبْر وهو الإِصلاحُ. وقيل: مِنْ قولِهم نَخْلَةٌ جَبَّارة، إذ لم تَنَلْها الجُناةُ. قال امرؤ القيس: 4254 - سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُه ... وعالَيْنَ قِنْواناً مِن البُسْر أَحْمرا

24

قوله: {المصور} : العامَّةُ على كسرِ الواوِ ورفعِ الراءِ: إمَّا صفةً، وإمَّا خبراً. وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن وابن السَّمَيْفَع وحاطب بن أبي بَلْتعة بفتح الواو ونصب الراء. وتخريجُها: على أن يكونَ منصوباً بالباري والمُصَوَّر هو الإِنسانُ: إمَّا آدمُ، وإمَّا هو وبنوه. وعلى هذه القراءةِ يَحْرُم الوقفُ على «المصوَّر» بل يجب الوصلُ ليظهرَ النصبُ في الراء، وإلاَّ فقد يُتَوَهَّمُ منه في الوقفِ ما لا يجوزُ. ورُوي عن أمير المؤمنين أيضاً فَتْحُ الواوِ وجَرُّ الراءِ. وهي كالأُولى في المعنى، إلاَّ أنه أضاف اسمَ الفاعل لمعمولِه تخفيفاً نحو: الضاربُ الرجلِ. والوقف على المصوَّر في هذه القراءةِ أيضاً حرامٌ. وقد نَبَّه عليه بعضُهم. وقال مكي: «ويجوز نصبُه في الكلام، ولا بُدَّ مِنْ فتح الواوِ، فتنصبُه بالباري، أي: هو اللهُ الخالقُ المصوَّر، يعني آدمَ عليه السلام وبنيه» انتهى. قلت: قد قُرِىء بذلك كما تقدَّم، وكأنه لم يَطَّلِعْ عليه. وقال أيضاً: «ولا يجوز نصبُه مع كسرِ الواوِ، ويُرْوى عن علي رضي الله عنه» يعني أنه إذا كُسِرَت الواوُ كان من صفاتِ اللهِ تعالى، وحينئذٍ لا يَسْتقيم نصبُه عنده؛ لأنَّ نَصْبَه باسمِ الفاعلِ قبلَه. وقوله: «ويُروى» ، أي: كسرُ الواوِ ونصبُ الراء. وإذا صَحَّ هذا عن أمير

المؤمنين فيتخرَّج على أنه من القطع. كأنه قيل: أَمْدَحُ المصوِّر كقولِهم: «الحمدُ لله أهلَ الحمد» بنصب أهلَ، وقراءةِ مَنْ قرأ {للَّهِ رَبَّ العالمين} [الفاتحة: 1] بنصب «ربَّ» قال مكي: «والمصوِّر: مُفَعِّل مِنْ صَوَّر يُصَوِّرُ، ولا يحسُنُ أَنْ يكونَ مِنْ صار يَصير؛ لأنه يلزمُ منه أَنْ يقال: المُصَيِّر بالياء» ومثلُ هذا من الواضحات ولا يقبله المعنى أيضاً.

الممتحنة

قوله: {عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} : هذان مفعولا الاتخاذ. والعدوُّ لَمَّا كان بزنةِ المصادِر وقعَ على الواحدِ فما فوقَه، وأضاف العدوَّ لنفسه تعالى تغليظاً في جُرْمِهم. قوله: {تُلْقُونَ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه تفسيرٌ لموالاتِهم إياهم. الثاني: أنه استئنافُ إخبارٍ بذلك فلا يكون للجلمة على هذين الوجهَين محلٌّ من الإِعراب. الثالث: أنها حالٌ مِنْ فاعل «تَتَّخِذوا» أي: لا تتخذوا مُلْقِين المودةَ. الرابع: أنها صفة ل «أولياءَ» . قال الزمخشري: «فإن قلتَ: إذا جَعَلْتَه صفةً لأولياء، وقد جَرَى على غير مَنْ هوله، فأين الضميرُ البارزُ، وهو قولُك: تُلْقُون إليهم أنتم بالمودة؟ قلت: ذاك إنما اشترطوه في الأسماءِ دونَ الأفعالِ لو قيل: أولياءَ مُلْقِين إليهم بالمودَّة على الوصف لَما كان بُدٌّ مِن الضميرِ البارزِ» قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً، وفيها كلامٌ لمكي وغيرِه. إلاَّ أن الشيخَ اعترضَ على كونِها صفةً أو حالاً بأنهم نُهُوا عن اتخاذِهم أولياءً مطلقاً في قولِه: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} [المائدة: 51] والتقييدُ بالحالِ والوصفِ يُوهم

جوازَ اتِّخاذهم أولياءَ إذا انتفى الحالُ أو الوصفُ. ولا يَلْزَمُ ما قال لأنه معلومٌ من القواعدِ الشرعيةِ فلا مفهومَ لهما البتةَ. وقال الفراء: «تُلْقون من صلةِ أولياء» وهذا على أصولِهم مِنْ أنَّ النكرةَ تُوْصَلُ كغيرها من الموصولات. قوله: {بالمودة} في الباء ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن الباءَ مزيدةٌ في المفعولِ به كقولِه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] . والثاني: أنها غيرُ مزيدةٍ والمفعولُ محذوفٌ، ويكون معنى الباءِ السببَ. كأنه قيل: تُلْقُوْن إليهم أسرارَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأخبارَه بسبب المودةِ التي بينكم. / والثالث: أنها متعلقةٌ بالمصدرِ الدالِّ عليه «تُلْقُون» أي: إلقاؤُهم بالمودَّةِ، نقله الحوفيُّ عن البصريين، وجَعَلَ القولَ بزيادةِ الباءِ قولَ الكوفيين. إلاَّ أن هذا الذي نَقَله عن البصريين لا يُوافقُ أصولَهم؛ إذ يَلْزَمُ منه حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معموله، وهو لا يجوزُ عندَهم. وأيضاً فإنَّ فيه حَذْفَ الجملةِ برأسِها، فإنَّ «إلقاءَهم» مبتدأ و «بالمودة» متعلقٌ به، والخبرُ أيضاً محذوفٌ. وهذا إجحافٌ. قوله: {وَقَدْ كَفَرُواْ} فيه أوجهٌ: الاستئناف، والحالُ مِنْ فاعِل «تتَّخذوا» والحالُ مِنْ فاعلِ «تُلْقُون» أي: لا تتولَّوْهم ولا توادُّوهم وهذه حالُهم. والعامَّةُ «بما» بالباء، والجحدري وعاصمٌ في روايةٍ «لِما» باللام

أي: لأجلِ ما جاءكم، فعلى هذا الشيءِ المكفورِ غيرُ مذكور، تقديره: كفروا باللَّهِ ورسولِه. قوله: {يُخْرِجُونَ الرسول} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ تفسيراً لكُفْرِهم، فلا مَحَلَّ له على هذَيْن، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل «كفروا» . قوله: {وَإِيَّاكُمْ} عطفٌ على الرسول. وقُدِّم عليهم تَشريفاً له. وقد استَدَلَّ به مَن يُجَوِّزُ انفصالَ الضميرِ مع القدرةِ على اتصالِه، إذ كان يجوز أَنْ يُقال: يُخْرجونكم والرسولَ، فيجوز: «يُخْرجون إياكم والرَّسولَ» في غيرِ القرآنِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حالةَ تقديمِ الرسولِ دلالةٌ على شَرَفِه. لا نُسَلِّمُ أنه يُقَدَرُ على اتِّصاله. وقد تقدَّم لك الكلامُ على هذه الآيةِ عند قولِه تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} في سورةِ النساء فعليك باعتباره. قوله: {أَن تُؤْمِنُواْ} مفعولٌ له. وناصبُه: «يُخْرِجون» أي: يُخْرجونكم لإِيمانِكم أو كراهةَ إيمانِكم. قوله: {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} جوابُه محذوفٌ عند الجمهور لتقدُّمِ «لا تتَّخذوا» ، ومقدم وهو «لا تتخذوا» عند الكوفيين ومَنْ تابعهم. وقد تقدَّم تحريرُه. وقال الزمخشري: و {إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلِّقٌ ب «لا تَتَّخذوا» . يعين: لا تتولَّوْا أعدائي إنْ كنتم أوليائي. وقولُ النحويين في مثلِه: هو شرطٌ، جوابُه محذوفٌ لدلالةِ ما قبله عليه «انتهى. يريد أنَّه

متعلِّقٌ به من حيث المعنى. وأمَّا من حيث الإِعراب فكما قال جمهورُ النَّحْويين. قوله:» جِهَاداً وابتغآء «يجوزُ أَنْ يُنْصَبا على المفعول له أي: خَرَجْتُمْ لأجلِ هذَيْن، أو على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: تُجاهِدون، وتبتَغُون، أو على أنهما في موضع الحال. قوله: {تُسِرُّونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيرَه، وأن يكونَ حالاً ثانية مِنْ ما انتصب عنه» تُلْقُون «حالاً، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ» تُلْقُون «، قاله ابن عطية. ويُشْبه أَنْ يكونَ بدلَ اشتمالٍ لأنَّ إلقاءَ المودةِ يكون سرّاً وجَهْراً، فَأَبْدَل منه هذا للبيانِ بأيِّ نوعٍ وقع الإِلقاء، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: أنتم تُسِرُّون، قاله ابن عطية، ولا يَخْرجُ عن معنى الاستئناف. وقال أبو البقاء:» هو توكيدٌ ل «تُلْقُون» بتكريرِ معناه «وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الإِلقاءَ أعمُّ مِنْ أَنْ يكونَ سِرَّاً أو جَهْراً. وقوله: {بالمودة} الكلامُ في الباء هنا كالكلامِ عليها بعد» تُلْقُون «. قوله: {وَأَنَاْ أَعْلَمُ} هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل» تُسِرُّون «أي: وأيُّ طائلٍ لكم في إسْراركم وقد عَلِمتم أن الإِسرارَ والإِعلان سيَّانِ في علمي؟ و» أعلمُ «يجوز أن يكونَ أفعلَ تفضيل وهو الظاهرُ، وأَنْ يكون فعلاً

مضارعاً. قال ابن عطية:» وعُدِّي بالباء لأنك تقول: علمتُ بكذا «. قوله: {وَمَن يَفْعَلْهُ} في الضمير وجهان، أظهرهما: أنه يعود على الإِسرار؛ لأنه أقربُ مذكورٍ. والثاني: أنه يعودُ على الاتخاذ، قاله ابنُ عطية. قوله: {سَوَآءَ السبيل} يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الظَّرْفِ إنْ قلنا:» ضَلَّ «قاصرٌ، وأَنْ يكونَ مفعولاً به إنْ قلنا: هو متعدٍّ.

2

قوله: {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} : في «وَدُّوا» وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على جواب الشرطِ وهو قوله: «يكونوا» و «يَبْسُطوا» قاله الزمخشري. ثم رتَّب عليه سؤالاً وجواباً فقال: «فإنْ قلتَ: كيف أورَدَ جوابَ الشرط مضارعاً مثلَه ثم قال:» وَدُّوا «بلفظ الماضي؟ قلت: الماضي وإنْ كان يجري في باب الشرط مَجْرى المضارع في علم الإِعراب، فإن فيه نكتةً، كأنه قيل: وودُّوا قبل كلِّ شيءٍ كُفْرَكم وارتدادَكم، يعني: أنهم يريدون أن يُلْحِقوا بكم مَضارَّ الدنيا والآخرةِ جميعاً» . والثاني: أنه معطوفٌ على جملةِ الشرط والجزاء، ويكون تعالى قد أخبر بخبَرَيْن: بما تَضَمَّنَتْه الجملةُ الشرطيةُ، وبودادتهم كُفْرَ المؤمنين. وجعل الشيخُ هذا راجحاً، وأسقط به سؤالَ الزمخشريِّ وجوابَه فقال: «وكان الزمخشريُّ فَهِمَ مِنْ قولِه:» وَوَدُّوا «أنه معطوفٌ على جوابِ الشرطِ. والذي يظهرُ أنه ليس معطوفاً عليه لأنَّ/ ودادتَهم كفرَهم ليسَتْ

مترتبةً على الظفر بهم والتسليطِ عليهم، بل هم وادُّون كفرَهم على كلِّ حالٍ، سواءً ظَفِروا بهم أم لم يظفروا بهم» . انتهى. قلت: والظاهرُ أنه عطفٌ على الجواب. وقوله: هم وادُّون ذلك مُطلقاً مُسَلَّمٌ، ولكن ودادتَهم له عند الظفرِ والتسليطِ أقربُ وأطمعُ لهم فيه. وقوله: {لَوْ تَكْفُرُونَ} يجوزُ أَنْ تكونَ لما سيقعُ لوقوع [غيرِه] ، وأَنْ تكونَ المصدريةَ عند مَنْ يرى ذلك، وقد تقدَّم تحريرهما في البقرة.

3

قوله: {يَوْمَ القيامة} : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يتعلَّقَ بما قبلَه أي: لن ينفعَكم يومَ القيامة فَيُوقَفُ عليه ويُبْتدأ «يَفْصِلُ بينكم» . والثاني: أَنْ يتعلَّقُ بما بعده أي: يَفْصِلُ بينكم يومَ القيامة، فيوقف على «أولادكم» ويُبتدأ «يوم القيامة» . والقُرَّاء في «يَفْصِلُ» بينكم على أربعِ مراتبَ، الأولى: لابن عامر بضم الياءِ وفتح الفاءِ والصادُ مثقَّلةٌ. الثانية: كذلك إلاَّ أنَّه بكسرِ الصاد للأخوَيْن. الثالثة: بفتح الياء وسكونِ الفاءِ وكسرِ الصاد مخففةً لعاصم. الرابعة: بضمِّ الياء وسكونِ الفاءِ وفتح الصادِ مخففةً للباقين، وهم نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمروٍ هذا في السَبعة. وقرأ ابنُ أبي عبلةٍ وأبو حيوةَ بضم الياء وسكون الفاء وكسرِ الصادِ مخففةً، مِنْ أَفْصَلَ. وأبو حيوة أيضاً «نُفْصِلُ» بضمِّ النونِ مِنْ أَفْصَلَ. والنخعيُّ وطلحة «نُفَصِّلُ» بضم النون

وفتح الفاء وكسر الصاد مشددةً. وقرأ أيضاً وزيد بن علي «نَفْصِلُ» بفتح النون وسكون الفاء وكسرِ الصاد مخففةً. فهذه أربعٌ فصارت ثمانِ قراءاتٍ. فمَنْ بناه للمفعولِ فالقائمُ مقام الفاعلِ: إمَّا ضميرُ المصدرِ أي: يُفْصَل الفصلُ أو الظرف، وبُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] في أحدِ الأوجه، أو الظرفُ وهو باقٍ على نصبِه كقولك: «جُلس عندَك» .

4

قوله: {في إِبْرَاهِيمَ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلقٌ ب «أُسوة» تقول: «لي أُسْوَة في فلان» . وقد منع أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ بها. قال: «لأنها قد وُصِفَتْ» وهذا لا يُبالى به لأنه يُغتفر في الظرفِ ما لا يُغتَفر في غيره. الثاني: أنه متعلق بحسنة تعلُّقَ الظرفِ بالعامل. الثالث: أنَّه نعتٌ ثانٍ لأُسْوَة. الرابع: أنه حالٌ من الضمير المستترِ في «حسنةٌ» . الخامس: أن يكونَ خبرَ كان، و «لكم» تبيينٌ. وقد تقدَّم لك قراءتا «أسْوة» في الأحزاب، والكلامُ على مادتِها. قوله: {إِذْ قَالُواْ} فيه وجهان،: أحدهما: أنَّه خبرُ كان. والثاني: أنه متعلقٌ بخبرها، قالهما أبو البقاء. ومَنْ جَوَّزَ في «كان» أَنْ تعملَ في الظرف عَلَّقه بها. قوله: {بُرَآءُ} هذه قراءةُ العامَّةِ بضمِّ الباءِ وفتح الراءِ وألفٍ بين

همزتَيْن، جمعَ بريء، نحو: كُرَماء في جمع كريم. وَعيسى الهمذاني بكسرِ الباء وهمزةٍ واحدةٍ بعد ألف نحو: كرام في جمع كريم. وعيسى أيضاً، وأبو جعفر، بضم الباءِ وهمزةٍ بعد ألف. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه جمعُ بَرِيْء أيضاً، والأصلُ كسرُ الباءِ، وإنما أبدل من الكسرةِ ضمةً، ك رُخال ورُباب قاله الزمخشري. الثاني: أنه جمعٌ أيضاً ل بَرِيء، وأصلُه برَآء كالقراءةِ المشهورة، إلاَّ أنه حَذَفَ الهمزة الأولى تخفيفاً، قاله أبو البقاء. الثالث: أنه اسمُ جمعٍ ل بريء نحو: تُؤَام وظُؤَار اسْمَيْ جمعٍ لتَوْءَم وظِئْر. وقرأ عيسى أيضاً: «بَراء» بفتح الباء. وهمزة بعد ألف كالتي في الزخرف، وصَحَّ ذلك لأنه مصدرٌ والمصدرُ يقع على الجمع كوقوعِه على الواحد. قال الزمخشري: «والبَراء والبراءةُ كالظَّماء والظَّماءة» . وقال مكي: «وأجاز أبو عمروٍ وعيسى ابن عمر» بِراء «بكسر الباء جعله ككريم وكِرام. وأجاز الفراء» بَراء «بفتح

الباء» ثم قال: «وبَراء في الأصلِ مصدرٌ» كأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً منقولةً. قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه استثناءٌ متصلٌ مِنْ قولِه: «في إبراهيم» ولكنْ لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ ليصِحَّ الكلامُ، تقديرُه: في مقالات إبراهيم/ إلاَّ قولَه كيت وكيت. الثاني: أنه مستثنى مِنْ «أسوةٌ حسنةٌ» وجاز ذلك لأن القولَ أيضاً من جملة الأُسْوة؛ لأن الأسوةَ الاقتداءُ بالشخص في أقوالِه وأفعالِه، فكأنه قيل لكم: فيه أُسْوة في جميع أحوالِه من قَوْلٍ وفِعْلٍ إلاَّ قولَه كذا. وهذا عندي واضحٌ غيرُ مُحْوِجٍ إلى تقديرِ مضافٍ وغيرُ مُخْرِجِ الاستثناءِ من الاتصالِ الذي هو أصلُه إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكُر الزمخشريُّ غيرَه قال: «فإنْ قلتَ مِمَّ استثنى قَولَه: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ} ؟ قلت مِنْ قولِه:» أُسْوَةٌ حسنةٌ «لأنه أرادَ بالأُسوةِ الحسنةِ قولهم الذي حَقَّ عليهم أَنْ يَأْتَسُوا به ويتخذوه سنةً يَسْتَنُّون بها. فإنْ قلت: فإنْ كانَ قولُه: «لأستغفرَنَّ لك» مستثنى من القولِ الذي هو أُسْوَةٌ حسنةٌ فما بالُ قولِه: {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ} ، وهو غيرُ حقيقٍ بالاستثناء. ألا ترى إلى قولِه: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً} [الفتح: 11] قلت: أرادَ استثناءَ جملةِ قولِه لأبيه، والقصدُ إلى موعدِ الاستغفارِ له وما بعده مبنيٌّ عليه وتابعٌ له. كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلاَّ الاستغفارُ «. الثالث: قال ابن عطية:» ويحتمل أن يكون الاستثناءُ من التبرُّؤِ والقطيعة التي ذُكِرت أي: لم تُبْقِ صلةً إلاَّ كذا «. الرابع: أنه استثناءٌ

منقطع أي: لكنْ قولُ إبراهيم. وهذا بناءً مِنْ قائليه على أنَّ القولَ لم يَنْدَرِجْ تحت قولِه:» أُسْوة «وهو ممنوعٌ.

5

قوله: {رَبَّنَا} : يجوز أنْ يكونَ مِنْ مقولِ إبراهيمَ والذين معه فهو من جملةِ الأُسْوَةِ الحسنةِ، وفَصَلَ بينهما بالاستثناءِ ويجوز أَنْ يكونَ منقطعاً ممَّا قبله على إضمارِ قولٍ، وهو تعليمٌ من الله تعالى لعبادِه كأنَّه قال لهم: قولوا ربَّنا عليك تَوَكَّلْنا. والأولُ أظهرُ.

6

قوله: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو} : بدلٌ من الضمير في «لكم» بدلُ بعضٍ مِنْ كل. وقد تقدَّم مثلُه في الأحزاب. والضميرُ في «فيهم» عائدٌ على إبراهيم ومَنْ معه وكُرِّرَتْ الأُسْوةُ تأكيداً.

8

قوله: {أَن تَبَرُّوهُمْ} ، {أَن تَوَلَّوْهُمْ} : بدلان من «الذين» قبلَهما بدلُ اشتمالٍ. والمعنى: لا يَنهاكم اللَّهُ تعالى عن مَبَرَّةِ هؤلاء، إنما يَنْهاكم عن تَوَلِّي هؤلاء.

10

قوله: {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} : قيل: هو تأكيد للأول لتلازُمِهِا. وقيل: أراد استمرارَ الحكم بينهم فيما يَسْتقبِلُ، كما هو في الحال ما داموا مشركين وهُنَّ مؤمناتٌ. وقوله: «المؤمنات» تسميةٌ للشيء بما يقارِبُه ويُشارِفُه أو في الظاهر. وقُرِىء «مُهاجراتٌ» بالرفع وخُرِّجَتْ على البدلِ. الجملةُ مِنْ قولِه: {الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} فائدتُها: بيان أنَّه لا سبيلَ لكم إلى ما تطمئنُّ به النفس ويُثلج الصدرَ من الإِحاطة

بحقيقةِ إيمانهنَّ، فإنَّ ذلك ممَّا استأثر اللهُ به. قاله الزمخشري: وسُمِّي الظنُّ الغالِبُ في قولِه: «عَلِمْتُموهُنَّ» عِلْماً لما بينهما من القُرْب، كما يقع الظنُّ موقعَه. وتقدَّم ذلك في البقرة. وقوله: {أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي: في أَنْ. وقوله: «إذا آتيْتُمُوهُنَّ» يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً مَحْضاً، وأَنْ يكونَ شرطاً، جوابُه مقدَّرٌ أي: فلا جُناحَ عليكم. قوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ} قرأ أبو عمرو في آخرين بضم التاء وفتح الميم وشدِّ السين، وباقي السبعة بتخفيفها مِنْ مَسَّك وأَمْسَك بمعنىً واحد. ويقال: أَمْسَكْتُ الحَبْل إمساكاً ومَسَّكْتُه تَمْسكياً. وفي التشديد مبالغةٌ، والمخفَّفُ صالحٌ لها أيضاً. وقرأ الحسن وابنُ أبي ليلى وأبو عمروٍ وابنُ عامرٍ في روايةٍ عنهما «تَمَسَّكُوا» بالفتح في الجميعِ وتشديدِ السينِ. والأصلُ: تَتَمسَّكوا بتاءين، فحُذِفَتْ إحداهما. وعن الحسن أيضاً «تَمْسِكوا» مضارع مَسَكَ ثلاثياً. والعِصَمُ: جمع عِصْمة، والكوافر: جمع كافرة كضَوارب في ضاربة. ويُحكى عن الكَرْخِيِّ الفقيهِ المعتزليِّ أنه قال: الكوافِرُ يشملُ الرجالَ والنساءَ. قال الفارسي: / «فقلت له: النَّحْويون لا يَرَوْن هذا إلاَّ في النساءِ جمعَ» كافرة «فقال: أليس يُقال: طائفة كافرة، وفِرْقَةٌ كافرة. قال أبو علي: فبُهِتُّ وقلتُ: هذا

تأييدٌ إلهيٌّ» قلت: وإنما أُعْجِبَ بقولِه لكونِه معتزليّاً مثلَه. والحقُّ أنه لا يجوز «كافِرة» وصفاً للرجال، إلاَّ أن يكونَ الموصوفُ مذكوراً نحو: هذه طائفة كافرة، أو في قوةِ المذكور. أمَّا أنه يقال: «كافرة» باعتبارِ الطائفة غير المذكورة، ولا في قوةِ المذكورة بل لمجردِ الاحتمالِ، ويُجمع جَمْعَ فاعِلة، فهذا لا يجوزُ. وقولُ الفارسي: «لا يَرَوْنَ هذا إلاَّ في النساء» صحيحٌ ولكنه الغالِبُ. وقد يُجْمَعُ فاعِل وصفُ المذكرِ العاقلِ على فواعِل وهو محفوظٌ نحو: فوارِس ونواكِس. قوله: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مستأنفٌ لا محلَّ له. والثاني: أنه حالٌ مِنْ «حُكْمُ» . والراجعُ: إمَّا مستترٌ أي: يحكم هو أي: الحكم على المبالغةِ، وإمَّا محذوفٌ أي: يحكمُه. وهو الظاهرُ.

11

قوله: {شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} : يجوز أَنْ يتعلَّقَ «مِنْ أزواجِكم» ب «فاتَكم» أي: مِنْ جهةِ أزواجِكم، ويُراد بالشيء المَهْرُ الذي غُرِّمَه الزوجُ؛ لأنَّ التفسيرَ وَرَدَ: أنَّ الرجلَ المسلمَ إذا فَرَّتْ زوجتُه إلى الكفار أَمَرَ اللَّهُ تعالى المؤمنين أَنْ يُعْطُوْه ما غُرِّمَه، وفَعَله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع جمعٍ مِن الصحابة، مذكورون في التفسير، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوف على أنَّه صفةٌ لشيء، ثم يجوز في «شيء» أَنْ يُرادَ به ما تقدَّم من المُهورِ، ولكن على هذا لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ مُهورِ أزواجِكم ليتطابقَ الموصوفُ وصفتُه، ويجوزُ أَنْ يُرادَ بشيء النساءُ أي: شيءٌ من النساء أي: نوعٌ وصنفٌ منهنَّ، وهو ظاهرٌ، وصَفَه بقولِه: «مِن أزواجِكم» .

وقد صرَّح الزمخشري بذلك فإنه قال: «وإنْ سبقكم وانفَلَت منكم شيءٌ مِنْ أزواجكم، أحدٌ منهن إلى الكفار وفي قراءة ابنِ مسعود» أحد «فهذا تصريحٌ بأنَّ المرادَ بشيء النساءُ الفارَّاتُ. ثم قال:» فإنْ قلتَ: هل لإِيقاع «شيء» في هذا الموقعِ فائدةٌ؟ قلت: نعم الفائدةُ فيه: أن لا يُغادِرَ شيئاً من هذا الجنسِ، وإنْ قَلَّ وحَقُر، غيرَ مُعَوَّضٍ منه، تَغْليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه «ولولا نَصُّهُ على أنَّ المرادَ ب» شيء «» أحد «كما تقدَّم لكَان قولُه:» أن لا يغادِرَ شيئاً من هذا الجنس وإن قَلَّ وحَقُر «ظاهراً في أنَّ المرادَ ب» شيء «المَهْرُ؛ لأنه يُوْصَفُ بالقلة والحَقارة وصفاً شائعاً. وقوله:» تغليظاً وتشديداً «فيه نظرٌ؛ لأنَّ المسلمين ليس [لهم] تَسَبُّبٌ في فِرار النساءِ إلى الكفار، حتى يُغَلَّظَ عليهم الحكمُ بذلك. وعَدَّى» فات «ب» إلى «لأنه ضُمِّن معنى الفِرار والذَّهابِ والسَّبْقِ ونحوِ ذلك. قوله: {فَعَاقَبْتُمْ} عطفٌ على» فاتَكم «. وقرأ العامَّةُ» عاقَبْتُم «وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه من العقوبة. قال الزجاج:» فعاقبْتُم: فَأَصَبْتُموهم في القتالِ بعقوبةٍ حتى غَنِمْتُم «. الثاني: أنه من العُقْبة وهي النَّوْبَةُ، شبَّه ما حَكَم به على المسلمين والكافرين مِنْ أداءِ هؤلاء مهورَ نساءِ أولئك تارةً، وأولئك مهورَ نساءِ هؤلاء أخرى، بأَمْرٍ يتعاقبون فيه كما يُتعاقَبُ في

الرُّكوب وغيرِه، ومعناه: فجاءَتْ عُقْبَتُكم مِنْ أداء المَهْر» انتهى. وقرأ مجاهدٌ والأعرجُ والزهريُّ وأبو حيوةَ وعكرمةُ وحميدٌ بشَدِّ القاف، دون ألفٍ، ففَسَّرها الزمخشريُّ على أصلِه بعَقَّبه إذا قفَاه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاقِبَيْن يَقْفي صاحبه وكذلك «عَقَبْتُم» بالتخفيف يقال: «عَقَبه يَعْقُبُه» انتهى. قلت: والذي قرأه بالتخفيف وفتحِ القافِ النخعيُّ وابن وثاب والزهري والأعرج أيضاً، وبالتخفيف وكسر القافِ مَسْروقٌ والزهريُّ والنخعي أيضاً. وقرأ مجاهد «أَعْقَبْتُمْ» . قال الزمخشريُّ معناه: «دَخَلْتُم في العُقْبة» . وأمَّا الزجَّاجُ ففَسَّر القراءاتِ الباقيةَ: فكانت العُقْبى لكم أي: كانت الغلبةُ لكم حتى غَنِمْتُم. والظاهرُ أنه كما قال الزمخشريُّ من المعاقبة بمعنى المناوَبة. يقال: عاقَبَ الرجلُ صاحبَه في كذا أي: جاء فِعْلُ كلِّ واحد منهما بعَقِبِ فِعْلِ الآخرِ ويُقال: أَعْقَبَ أيضاً، وأُنشِد:

4255 - وحارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولم يكُنْ ... لعُقْبَةِ قِدْرِ المُسْتعيرينَ مُعقِبُ

12

قوله: {يُبَايِعْنَكَ} : حالٌ. وشيئاً مصدرٌ أي: شيئاً من الإِشراك. وقرأ علي والسُّلمي والحسن «يُقَتِّلْن» بالتشديد و «يَفْتَرِيْنَه» صفةٌ لبُهتان، أو حالٌ مِنْ فاعل «يَأْتين» .

13

وقوله: {غَضِبَ الله} : صفةٌ ل «قَوْماً وكذلك» قد يَئِسُوا «. قوله: {مِنَ الآخرة} » مِنْ «لابتداء الغاية أي: إنهم لا يُوقنون بالآخرةِ البتةَ. و {مِنْ أَصْحَابِ القبور} فيه وجهان، أحدُهما: أنها لابتداء الغايةِ أيضاً، كالأولى، والمعنى أنهم لا يُوقنون ببَعْثِ الموتى البتَةَ، فيَأْسُهم من الآخرةِ كيأسِهم مِنْ مَوْتاهم لاعتقادِهم عَدَم بَعْثِهم. والثاني: أنَّها لبيانِ الجنس، يعني/ أنَّ الكفارَ هم أصحابُ القبورِ. والمعنى: أن هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يَئِس الكفارُ، الذين هم أصحابُ القبور، مِنْ خيرِ الآخرة، فيكون متعلَّقُ» يَئِس «الثاني محذوفاً. وقرأ ابنُ أبي الزناد» الكافرُ «بالإِفراد. والله أعلمُ.

الصف

قوله: {كَبُرَ مَقْتاً} : فيه أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ مِنْ باب نِعْم وبِئْسَ، فيكون في «كَبُرَ» ضميرٌ مبهمٌ مفسَّرٌ بالنكرة بعدَه. «وأَنْ تقولوا» هو المخصوصُ بالذمِّ فيجيء فيه الخلافُ المشهورُ: هل رَفْعُه بالابتداء، وخبرُه الجملة مقدمةً عليه، أو خبرُه محذوفٌ، أو هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، كما تقدَّم تحريرُه. هذه قاعدةٌ مُطَّردةٌ: كلُّ فعلٍ يجوز التعجبُ منه يجوزُ أَنْ يُبْنَى على فَعُلَ بضم العين ويَجْري مَجْرى نِعْم وبئس في جميعِ الأحكام. والثاني: أنه من أمثلةِ التعجبِ. وقد عدَّه ابنُ عصفور في التعجبِ المبوبِ له في النحو فقال: «صيغة ما أفْعَلَه وأَفْعِلْ به ولَفَعُل نحو: لَرَمُوَ الرجل» . وإليه نحا الزمخشري فقال: «هذا مِنْ أفصحِ كلامٍ وأبلغِه في معناه. قَصَدَ في» كَبُرَ «التعجَب من غير لفظه كقوله: 4256 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . .

غلَتْ نابٌ كُلَيْبٌ بَواؤُها ثم قال:» وأَسْند إلى «أَنْ تقولوا» ونَصَبَ «مَقْتاً» على تفسيره دلالةً على أنَّ قولَهم ما لا يفعلون مَقْتٌ خالِصٌ لا شَوْبَ فيه «. الثالث: أنَّ كَبُرَ ليس للتعجبِ ولا للذَّمِّ، بل هو مُسْنَدٌ إلى» أَنْ تقولوا «و» مَقْتاً «تمييزٌ محولٌ من الفاعلية، والأصل: كَبُرَ مَقْتُ أَنْ يقولوا أي: مَقْتُ قَوْلِكم. ويجوز أن يكونَ الفاعلُ مضمراً عائداً على المصدرِ المفهومِ مِنْ قولِه:» لِم تقولونَ «أي: كَبُر هو أي: القولُ مَقْتاً، و» أَنْ تقولوا «على هذا: إما بدلٌ من ذلك الضميرِ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو أن تقولوا. وقرأ زيد بن علي» يُقاتَلون «بفتح التاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وقُرِىء» يُقَتَّلون «بالتشديد.

4

قوله: {صَفّاً} : نصبٌ على الحال أي: صافِّين، أو مَصْفُوفين. قوله: {كَأَنَّهُم} يجوزَ أَنْ يكونَ حالاً ثانيةً مِنْ فاعل «يُقاتِلون» ، وأنْ يكونَ حالاً من الضمير في «صَفّاً» ، فتكونَ حالاً متداخلةً، قاله الزمخشريُّ، وأن يكونَ نعتاً لصَفَّاً، قاله الحوفيُّ: وعاد الضميرُ على «صَفّاً» جمعاً لأنه جمعٌ في المعنى كقولِه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] والمَرْصُوصُ قيل: المتلائمُ الأجزاءِ المُسْتَويها. وقيل: المعقود

بالرَّصاص. وقيل: هو من التضامِّ، مِنْ تراصِّ الأسنان. وقال الراعي: 4257 - ما لَقِيَ البيضُ من الحُرْقوصِ ... يَفْتَحُ بابَ المُغْلَقِ المَرْصوصِ الحُرْقوص: دُوَيِبَّةٌ تُولَعُ بالنساءِ الأَبْكار.

5

قوله: و {وَقَد تَّعْلَمُونَ} : جملةٌ حالية.

6

قوله: {مُّصَدِّقاً} : حالٌ وكذلك «مُبَشِّراً» والعاملُ «رسول» لأنَّه بمعنى المُرْسَل. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ بِمَ انتصَبَ مُصَدِّقاً مُبَشِّراً، أبما في الرسول مِنْ معنى الإِرسال أم بإليكم؟ قلت: بمعنى الإِرسال؛ لأنَّ» إليكم «صلةٌ للرسول، فلا يجوزُ أن تعملَ شيئاً، لأنَّ حروفَ الجرِّ لا تعملُ بأنفسِها، ولكنْ بما فيها مِنْ معنى الفعل، فإذا وقعَتْ صِلاتٍ لم تتضمَّنْ معنى فعلٍ فمِنْ أين تعملُ» انتهى. يعني بقوله: «صلات» أنها متعلقةٌ برسول صلةً له، أي: متصلٌ معناها به، لا الصلةُ الصناعيةُ. و «يأتي مِنْ بعدي» و «اسمُه أحمدُ» جملتان في موضعِ جرٍّ نعتاً لرسول أو «اسمُه أحمدُ» في موضعِ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعل «يَأْتي» أو تكونُ الأولى نعتاً، والثانيةُ حالاً. وكونُهما حالَيْن ضعْيفٌ لإِتيانِهما من النكرة، وإنْ كان سيبويه يُجَوِّزه. و «أحمدُ» يَحْتمل النقلَ من الفعل المضارع، أو من أفعلِ التفضيل، والظاهرُ الثاني، وعلى كلا الوجهَين فمنعُه من الصَرفِ للعلميةِ والوزنِ الغالبِ، إلاَّ أنه على الأول يمتنعُ معرفةً

وينصرف نكرةً، وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً، لأنه تَخْلُفُ العلميةَ الصفةُ. وإذا نُكِّر بعد كونِه عَلَماً جَرى فيه خلافُ سيبويه والأخفشِ، وهي مسألةٌ مشهورة بين النحاة. وأنشد حسان رضي الله عنه يمدح النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وصَرَفَه: 4258 - صلَّى الإِلهُ ومَنْ يَحُفُّ بعرشِه ... والطيبونَ على المباركِ أحمدِ «أحمد» بدل أو بيان للمبارك. قوله: {هذا سِحْرٌ} قد تقدَّم خلافُ القراء فيها في المائدة. وقال الشيخ هنا: «وقرأ الجمهور» سِحْرٌ «وعبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب» ساحر «، وترك ذِكْرَ الأخوَيْن.

7

قوله: {وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام} : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ «افترى» ، وهذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ طلحة «يَدَّعي» بفتح الياء والدال مشددة مبنياً للفاعل، وفيها تأويلان، أحدهما قاله الزمخشري وهو أن يكونَ يَفْتَعِل بمعنى يَفْعَلُ نحو: لَمَسَه والتمَسه. والضميران أعني «هو» والمستتر في «يَدَّعي» لله تعالى، وحينئذٍ تكون القراءتان/ بمعنى واحدٍ، كأنَّه قيل: واللَّهُ يدعو إلى الإِسلام. وفي

القراءة الأولى يكون الضميران عائدَيْن على «مَنْ» . والثاني: أنه مِنْ ادَّعى كذا دَعْوَى، ولكنه لَمَّا ضُمِّن «يَدَّعي» معنى يَنْتَمي وينتسبُ عُدِّي ب «إلى» وإلاَّ فهو متعدٍّ بنفسه، وعلى هذا الوجهِ فالضميران ل «مَنْ» أيضاً، كما هي في القراءةِ المشهورة. وعن طلحة أيضاً «يُدَّعى» مشددَ الدال مبنياً للمفعولِ. وخَرَّجَها الزمخشريُّ على ما تقدَّم مِنْ: ادَّعاه ودَعاه بمعنىً نحو: لَمَسه والتمسه. والضميران عائدان على «مَنْ» عكسَ ما تقدَّم عنده في تخريج القراءة الأولى فإنَّ الضميرَيْن لله تعالى، كما تقدَّم تحريرُه.

8

قوله: {لِيُطْفِئُواْ} : في هذه اللامِ أوجهٌ، أحدُها: أنها مزيدةٌ في مفعولِ الإِرادةِ. قال الزمخشريُّ: «أصلُه: يُريدون أَنْ يُطْفِئوا، كما جاء في سورة التوبة. وكأنَّ هذه اللامَ زِيْدَتْ مع فعل الإِرادة توكيداً له لِما فيها من معنى الإِرادة في قولِك:» جِئتُ لأكرمَك «كما زِيْدَت اللامُ في» لا أبالك «تأكيداً لمعنى الإِضافةِ في» لا أباك «. وقال ابن عطية:» واللامُ في «لِيُطْفِئوا» لامٌ مؤكِّدة دخلَتْ على المفعول لأنَّ التقديرَ: يُريدون أَنْ يُطْفئوا. وأكثر ما تَلْزَمُ هذه اللامُ المفعولَ إذا تقدَّمَ. تقول: «لزيدٍ ضَرَبْتُ، ولِرؤيتِك قصَدْتُ» انتهى. وهذا ليس مذهبَ سيبويه وجمهورِ الناس. ثم قولُ أبي محمد: «وأكثرُ ما تَلْزَمُ» إلى آخره

ليس بظاهرٍ لأنه لا قولَ بلزومِها البتةَ، بل هي جائزةُ الزيادةِ، وليس الأكثرُ أيضاً زيادتَها جوازاً، بل الأكثرُ عَدَمُها. الثاني: أنَّها لامُ العلة والمفعولُ محذوفٌ أي: يُريدون إبطالَ القرآنِ أو دَفْعَ الإِسلام أو هلاكَ الرسولِ عليه السلام لِيُطْفِئوا. الثالث: أنها بمعنى «أَنْ» الناصبةِ، وأنها ناصبةٌ للفعل بنفسِها. قال الفراء: «العربُ تجعلُ لامَ كي في موضع» أَنْ «في أرادَ وأمر» وإليه ذهب الكسائيٌّ أيضاً. وقد تقدَّم لك نحوٌ مِنْ هذا في قوله: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [الآية: 26] . قوله: {مُتِمُّ نُورِهِ} قرأ الأخَوان وحفص وابن كثير بإضافة «مُتِمُّ» ل «نورِه» والباقون بتنوينه ونصبِ «نورَه» فالإِضافةُ تخفيفٌ، والتنوينُ هو الأصلُ. والشيخُ ينازعُ في كونِه الأصلَ وقد تقدَّم. وقوله: «واللَّهُ متمُّ» جملةٌ حالية مِنْ فاعلِ «يريدون» أو «يُطفئوا» وقوله: «ولو كَرِه» حالٌ من هذه الحالِ فهما متداخلان. وجوابُ «لو» محذوفٌ أي: أتَمَّه وأظهرَه، وكذلك {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} .

10

قوله: {تُنجِيكُم} : الجملةُ صفةٌ ل «تجارة» . وقرأ ابن عامر «تُنْجِّيكم» بالتشديد. والباقون بالتخفيف. مِنْ أَنْجى، وهما بمعنىً واحدٍ؛ لأن التضعيفَ والهمزةَ مُعَدِّيان.

11

قوله: {تُؤْمِنُونَ} : لا محلَّ له لأنه تفسير لتجارة. ويجوز أَنْ يكونَ محلُّها الرفعَ خبراً لمبتدأ مضمرٍ أي: تلك التجارةُ تؤُمنون، والخبرُ نفسُ المبتدأ فلا حاجةَ إلى رابطٍ، وأَنْ تكونَ منصوبةَ المحلِّ بإضمارِ فعلٍ أي: أعني تؤْمنون. وجاز ذلك على تقديرِ «أَنْ» وفيه تَعَسُّفٌ. والعامَّةٌ على «تُؤْمنون» خبراً لفظاً ثابتَ النون. وعبد الله «آمِنوا» و «جاهِدوا» أمرَيْن. وزيد بن علي «تؤمنوا» و «تجاهِدوا» بحذف نونِ الرفع. فأمَّا قراءةُ العامَّة فالخبرُ بمعنى الأمرِ يَدُلُّ عليه القراءتان الشاذَّتان؛ فإن قراءةَ زيدِ بنِ علي على حَذْفِ لام الأمر أي: لِتؤمنوا ولتجاهِدوا كقوله: 4259 - محمدُ تَفْدِ نَفْسَك كلُّ نفسٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ} [إبراهيم: 31] في وجهٍ أي: لِتَفْدِ، وليقيموا، ولذلك جُزِمَ الفعلُ في جوابِه في قولِه: «يَغْفِرْ» وكذلك قولُهم: «اتقى اللَّهَ امرؤ فَعَلَ خيراً يُثَبْ عليه» تقديرُه: ليتقِ اللهَ. وقال الأخفش: «إنَّ» تؤمنون «عطفُ بيان لتجارة» وهذا لا يُتَخَيَّلُ إلاَّ بتأويل أن يكونَ الأصلُ: أنْ تؤمنوا فلمَّا حَذَفَ «أن» ارتفع الفعلُ كقوله:

4260 - ألا أيُّهذا الزَّاجِريْ أَحْضُرُ الوغَى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الأصل: أن أَحْضُرَ. وكأنه قيل: هل أدلُّكم على تجارة مُنْجية: إيمانٍ وجهاد. وهو معنى حسنٌ لولا ما فيه من التأويل. وعلى هذا فيجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ تجارة. وقال الفراء: هو مجزومٌ على جوابِ الاستفهام وهو قولُه: «هل أدلُّكم» واختلف الناسُ في تصحيح هذا القولِ: فبعضُهم/ غلَّطه. قال الزجاج: ليسُوا إذا دَلَّهم على ما ينفعهم يَغْفِرُ لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا «يعني أنه ليس مرتَّباً على مجرد الاستفهام ولا على مجرَّدِ الدلالة. وقال المهدوي:» إنما يَصِحُّ حَمْلاً على المعنى: وهو أَنْ يكونَ «يؤمنون» ويُجاهدون عطفَ بيان على قولِه: «هل أدلُّكم» كأنَّ التجارةَ لم يُدْرَ ما هي؟ فبُيِّنَتْ بالإِيمان والجهاد، فهي هما في المعنى فكأنه قيل: هل تُؤْمنون وتجاهدون؟ قال: فإنْ لم تقدِّر هذا التقديرَ لم يَصِحَّ؛ لأنه يَصيرُ: إنْ دُلِلْتُمْ يَغْفِرْ لكم. والغُفْرانُ إنما يجبُ بالقَبولِ والإِيمانِ لا بالدَّلالةِ. وقال الزمخشري قريباً منه أيضاً. وقال أيضاً: «إنَّ» تُؤْمنون «استئنافٌ، كأنهم قالوا: كيف نعملُ؟ فقال: تؤْمنون» . وقال ابن عطية: «تُؤْمنون فعلٌ مرفوعٌ، تقديرُه: ذلك

أنَّه تُؤْمنون» ، فجعله خبراً ل «أَنَّ» ، وهي وما في حَيِّزها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ. وهذا محمولٌ على تفسيرِ المعنى لا تفسيرِ الإِعرابِ، فإنَّه لا حاجةَ إليه.

12

قوله: {يَغْفِرْ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مجزومٌ على جوابِ الخبرِ بمعنى الأمر، كما تقدَّم تقريرُه. والثاني: أنه مجزومٌ على جواب الاستفهامِ، كما قاله الفراءُ، وتقدَّم تأويلُه. الثالث: أنه مجزومٌ بشرطٍ مقدَّرٍ أي: إنْ تُؤْمنوا يَغْفِرْ لكم.

13

قوله: {وأخرى} : فيها خمسةُ أوجهٍ، أحدُها، أنَّها في موضِع رفعٍ على الابتداءِ، وخبرُها مقدَّر أي: ولكم أو ثَمَّ، أو عنده خَصْلَةٌ أخرى، أو مَثُوْبةٌ أخرى. و «تُحبُّونها» نعتٌ لها. الثاني: أن الخبرَ جملةٌ حُذِفَ مبتدَؤُها تقديرُه: هي نصرٌ، والجملةُ خبرُ «أُخْرى» ، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ كثيرٌ؛ لأنه تقديرٌ لا حاجةَ إليه. والثالث: أنها منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ للدلالةِ عليه بالسِّياق، أي ويُعْطِكُمْ، أو يَمْنَحْكم مَثوبةً أخرى. و «تُحبونها» نعتٌ لها أيضاً. والرابع: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره «تُحبُّونها» فيكونُ من الاشتغالِ، وحينئذٍ لا يكون «تُحِبُّونها» نعتاً؛ لأنه مفسِّرٌ للعاملِ قبله. الخامس: أنها مجرورةٌ عطفاً على «تجارة» . وضُعِّفَ هذا: بأنها ليسَتْ مِمَّا دَلَّ عليه، إنما هي ثوابٌ مِنْ عندِ الله. وهذا الوجهُ منقولٌ عن الأخفش.

قوله: {نَصْرٌ مِّن الله} خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: «تلك النعمةُ أو الخَلَّةُ الأُخْرى نَصْرٌ. و» من الله «نعتٌ له، أو متعلِّقٌ به، أي: ابتداؤه منه. ورَفْعُ» نصرٌ وفَتْحٌ «قراءةُ العامَّةِ، ونَصَبَ ابنُ أبي عبلةَ الثلاثةَ. وفيه أوجهٌ، ذكرها الزمخشريُّ، أحدُها: أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ. الثاني: أن ينتصِبْنَ على المصدريَّة أي: يُنْصَرون نَصْراً، ويُفتح لهم فتحاً قريباً. الثالث: أن ينتَصِبْنَ على البدلِ مِنْ» أُخْرى «و» أُخْرى «منصوبٌ بمقدَّرٍ كما تقدَّم أي: يَغْفِرْ لكم، ويُدْخِلْكم جناتٍ، ويؤْتِكم أُخْرى، ثم أبدل منها» نَصْراً وفَتْحاً قريباً «.

14

قوله: {أَنصَارَ الله} : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أنصاراً» منوناً، «لله» جارَّاً ومجروراً. والباقون «أنصارَ» غيرَ منونٍ بل مضافاً للجلالة الكريمة، والرسمُ يحتمل القراءتَيْن معاً. واللامُ يُحتمل أَنْ تكونَ مزيدةً في المفعولِ للتقوية لكونِ العاملِ فَرْعاً، إذ الأصلُ: أنصاراً اللَّهَ، وأَنْ تكون غيرَ مزيدةٍ، ويكونَ الجارُّ والمجرورُ نعتاً ل «أَنْصاراً» والأولُ أظهرُ. وأمَّا قراءةُ الإِضافةِ ففرعُ الأصلِ المذكورِ. ويؤيِّدُ قراءةَ الإِضافةِ الإِجماعُ عليها في قوله: {نَحْنُ أَنصَارُ الله} . ولم يُتَصَوَّرْ جَرَيانُ الخلافِ هنا لأنه مرسومٌ بالألفِ. قوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ الكافَ في موضع

نصبٍ على إضمارِ القولِ أي: قُلْنا لهم ذلك، كما قال عيسى. الثاني: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه: كونوا كَوْناً، قاله مكي وفيه نظرٌ؛ إذ لا يُؤْمَرُون بأن يكونوا كَوْناً. الثالث: أنه كلامٌ محمولٌ على معناه دون لفظِه، وإليه نحا الزمخشريُّ، فإنه قال: «فإنْ قلتَ ما وجهُ صحةِ التشبيهِ، وظاهرُه تشبيهُ كونِهم أنصاراً بقولِ عيسى صلوات الله عليه مَنْ أنصاري؟ قلت: التشبيهُ محمولٌ على المعنى، وعليه يَصِحُّ، والمرادُ: كونوا أنصارَ الله كما كان الحواريُّون/ أنصارَ عيسى. حين قال لهم: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} . وتقدَّم في آل عمران تَعَدِّي» أَنْصَاري «ب» إلى «، واختلافُ الناسِ في ذلك. وقال الزمخشري هنا:» فإنْ قلتَ: ما معنى قولِه: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} قلت: يجبُ أَنْ يكونَ معناه مطابقاً لجوابِ الحواريين: نحن أنصارُ الله. والذي يطابِقُه أَنْ يكونَ المعنى: مَنْ جُنْدِيٌّ متوجِّهاً إلى نصرةِ الله؟ وإضافةُ «أَنْصاري» خلافُ إضافةِ «أنصار الله» ؛ فإنَّ معنى «نحن أنصارُ الله» : نحن الذين يَنْصُرون الله، ومعنى «مَنْ أنصاري» : مَنْ الأنصارُ الذين يختصُّون بي، ويكونون معي في نُصْرَةِ اللَّهِ. ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معناه مَنْ يَنْصُرني مع الله؛ لأنه لا يطابِقُ الجوابَ. والدليل عليه قراءةُ مَنْ قرأ «أنصارَ الله» انتهى. قلت: يعني أنَّ بعضَهم يَدَّعي أنَّ «إلى» بمعنى

مع أي: مَنْ أنصاري مع الله؟ وقولُه: «قراءةُ مَنْ قرأ أنصارَ الله» أي: لو كانت بمعنى «مع» لَما صَحَّ سُقوطُها في هذه القراءةِ. وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ كلَّ قراءةٍ لها معنىً يَخُصُّها، إلاَّ أن الأَوْلَى توافُقُ القراءتَيْن. قوله: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ} مِنْ إيقاع الظاهرِ موقعَ المضمرِ فيهما، تَنْبيهاً على عداوةِ الكافرِ للمؤمن؛ إذ الأصلُ: فأيَّدْناهم عليهم، أي: أيَّدْنا المؤمنين على الكافرين من الطائفتَيْن المذكورتَيْن.

الجمعة

قوله: {الملك} : هذه قراءةُ العامَّة أعني جرَّ «الملِكِ» وما بعده نعتاً له والبدلُ ضعيفٌ لاشتقاقِها. وقرأ أبو وائل ومسلمة ابن محارب ورؤبةُ بالرفعِ على إضمار مبتدأ مُقْتَضٍ للمدح. قال الزمخشريُّ: «ولو قُرِىء بالنصب على قولهم» الحمدُ الله أهلَ الحَمْد «لكان وجهاً» . وقرأ زيد بن علي «القَدُّوس» بفتح القاف. وتقدَّم الكلامُ عليه وعلى الأمِّيِّ والأمِّيِّين جَمْعِه. و «يَتْلُوا» وما بعده صفاتٌ لرسول.

3

قوله: {وَآخَرِينَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مجرورٌ عطفاً على الأمِّيِّيْنَ، أي: وبَعَثَ في آخرين من الأمِّيِّيْنَ. و {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} صفةٌ ل «آخرين» قبلُ. والثاني: أنه منصوبٌ عَطْفاً على الضمير المنصوبِ في «يَعَلِّمُهم» ، أي: ويُعَلِّمُ آخرين لم يَلْحقوا بهم وسيَلْحقون، وكلُّ مَنْ يَعْلَم شريعةَ محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى آخرِ

الزمان فرسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلِّمه بالقوة؛ لأنه أصلُ ذلك الخيرِ العظيمِ والفَضْل الجَسيمِ.

5

قوله: {حُمِّلُواْ التوراة} : هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ زيد بن علي ويحيى بن يعمر «حَمَلوا» مخففاً مبنياً للفاعل. قوله {كَمَثَلِ الحمار} هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ عبدُ الله «حِمارٍ» منكَّراً. وهو في قوة قراءةِ الباقين؛ لأنَّ المراد بالحمارِ الجنسُ. ولهذا وُصِفَ بالجملةِ بعده كما سيأتي. وقرأ المأمون ابن هارون الرشيد «يُحَمَّلُ» مشدَّداً مبنياً للمفعول. والجملة مِنْ «يَحْمِلُ» أو «يُحْمَّلُ» فيها وجهان، أحدُهما: وهو المشهورُ أنَّها في موضع الحال من «الحمار» والثاني: أنَّها في موضع الصفةِ للحمار لجريانِه مَجْرى النكرة؛ إذ المُرادِ به الجنسُ. قال الزمخشري: «أو الجرِّ على الوصفِ؛ لأنَّ الحمارَ كاللئيمِ في قوله: 4261 - ولَقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم تحريرُ هذا، وأنَّ منه عند بعضِهم {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ} [يس: 37] وأنَّ» نَسْلَخُ «نعتٌ ل الليل. والجمهورُ يَجْعَلونه حالاً للتعريف

اللفظي. وأمَّا على قراءةِ عبد الله فالجملةُ وصفٌ فقط، ولا يمتنعُ أَنْ تكونَ حالاً عند سيبويه. والأَسْفار: جمعُ سِفْرٍ، وهو الكتابُ المجتمعُ الأوراقِ. قوله {بِئْسَ مَثَلُ القوم} فيه أوجهٌ، أحدها: وهو الظاهرُ المشهور أنَّ» مَثَلُ القوم «فاعلُ» بِئْس «. والمخصوصُ بالذَّمِّ الموصولُ بعده فَيُشْكِلُ؛ لأنه/ لا بُدَّ مِنْ تصادُقِ فاعلِ نِعْم وبِئْسَ والمخصوصِ، وهنا المَثَلُ ليس القومَ المكذِّبين. والجواب: أنَّه على حَذْفِ مضافٍ، أي: بِئْسَ مَثَلُ القومِ مَثَلُ الذين كَذَّبوا. الثاني: أنَّ» الذين «صفةٌ للقوم فيكونُ مجرورَ المحلِّ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ لِفَهْمِ المعنى تقديره: بِئْس مَثَلُ القومِ المكذِّبين مَثَلُ هؤلاء، وهو قريبٌ من الأولِ. الثالث: أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، وأنَّ مَثَلَ القومِ هو المخصوصُ بالذِّم، تقديرُه: بِئْسَ المَثَلُ مَثَلُ القوم، ويكونُ الموصولُ نعتاً للقوم أيضاً، وإليه يَنْحو كلامُ ابنِ عطيةً، فإنه قال:» والتقديرُ: بِئْسَ المَثَلُ مَثَلُ القومِ. وهذا فاسدٌ؛ لأنَّه لا يُحْذَفُ الفاعلُ عند البَصْريين، إلاَّ في مواضعَ ثلاثةٍ، ليس هذا منها، اللهم إلاَّ أَنْ يقولَ بقولِ الكوفيين. الرابع: أَنْ يكونَ التمييزُ محذوفاً، والفاعل المُفَسَّرُ به مستترٌ تقديرُه: بئس مَثَلاً مَثَلُ القوم، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشريِّ فإنه قال: «بئْسَ مَثَلاً مَثَلُ القوم» فيكونُ الفاعلُ

مستتراً، مُفَسَّرٌ ب «مَثَلاً» ، و «مَثَلُ القومِ» هو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ له، وحُذِفَ التمييزُ، وهذا لا يُجيزه سيبويهِ وأصحابُه البتةَ، نَصُّوا على امتناعِ حَذْفِ التمييزِ، وكيف يُحْذَفُ وهو مُبَيِّنٌ؟

6

قوله: {أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ} : سادٌّ مَسَد المفعولَيْنِ، أو المفعولِ، على الخلافِ. و «لله» متعلِّقٌ ب «أَوْلياء» أو بمحذوف نعتاً ل أولياء و {مِن دُونِ الناس} كذلك. وقوله {فَتَمَنَّوُاْ الموت} جوابُ الشرطِ. والعامَّةُ بضمِّ الواوِ، وهو الأصلُ في واو الضميرِ. وابن السَّمَيْفع وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها، وهو أصلُ التقاءِ الساكنين. وابن السَّميفع أيضاً بفتحها، وهذا طَلَبٌ للتخفيف، وتقدَّم نحوُه في قولِه {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] وحكى الكسائيُّ إبدالَ الواوِ همزةً.

7

قوله: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ} : وقال في البقرة «ولن يتمنَّوْه» قال الزمشخري: «لا فرقَ بين» لا «و» لن «في أنَّ كلَّ واحدٍ منهما نفيٌ للمستقبل، إلاَّ أنَّ في» لن «تأكيداً وتشديداً ليس في» لا «، فأتى مرةً بلفظ التأكيد» ولن يتمنَّوْه «، ومرةً بغير لفظِه» ولا يتمنَّوْنه «. قال

الشيخ:» وهذا رجوعٌ منه عن مذهبِه: وهو أنَّ «لن» تَقْتَضي النفي على التأبيد إلى مذهبِ الجماعة وهو أنَّها لا تَقْتَضْيه «قلت: وليس فيه رجوعٌ، غايةُ ما فيه أنه سكَتَ عنه، وتشريكُه بين» لا «و» لن «في نفي المستقبل لا يَنْفي اختصاصَ» لن «بمعنى آخرَ. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا بأشبعَ منه هنا في البقرة.

8

قوله: {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} : في الفاءِ وجهان أحدُهما: أنها داخلةٌ لِما تَضَمَّنه الاسمُ مِنْ معنى الشرطِ، وحُكْمُ الموصوفِ بالموصول حكمُ الموصولِ في ذلك. والثاني: أنَّها مزيدةٌ مَحْضَةٌ لا للتضمين المذكور. وأفسدَ هؤلاء القولَ الأول بوجهَيْن، أحدُهما أنَّ ذلك إنَّما يجوز إذا كان المبتدأُ أو اسمُ «إنَّ» موصولاً، واسمُ «إنَّ» هنا ليس بموصولٍ، بل موصوفٌ بالموصول. والثاني: أنَّ الفِرارَ مِنْ الموتِ لا يُنْجَي منه، فلم يُشْبِهِ الشرطَ، يعنى أنه متحققٌ فلم يُشْبه الشرطَ الذي هو مِنْ شأنِه الاحتمالُ. وأُجيب عن الأول: بأنَّ الموصوفَ مع صفتِه كالشيءِ الواحدِ، ولأن «الذي» لا يكونَ إلاَّ صفةً. فإذا لم يُذْكَرِ الموصوفُ دخلَتِ الفاءُ، والموصوفُ مرادٌ، فكذلك إذا صَرَّح بها. وعن الثاني: بأنَّ خَلْقاً كثيراً يَظُنُّونَ أنَّ الفِرارَ مِنْ أسبابِ الموتِ يُنَجِّيهم إلى وقتٍ آخر. وجوزَّ مكي

أَنْ يكونَ الخبرُ قولَه {الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} ، وتكون الفاءُ جوابَ الجملة. قال: «كما تقول: زيدٌ منطلقٌ فقُمْ إليه» وفيه نظر؛ لأنه لا تَرَتُّبَ بين قولِه: {إِنَّ المَوْتَ الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} وبين قولِه: {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} فليس نظيراً لِما مَثَّله. وقرأ زيد بن علي «إنه» دونَ فاء وفيها أوجه، أحدُها: أنَّه مستأنفٌ، وحينئذٍ يكونُ الخبرُ نفسَ الموصولِ كأنه قيلَ: إنَّ الموتَ هو الشيءُ الذي تَفِرُّونَ منه، قاله الزمخشري. الثاني: أنَّ الخبرَ الجملةُ: «إنَّه مُلاقيكم» . وحينئذٍ يكونُ الموصولُ نعتاً للموت. الثالث: أَنْ يكونَ «إنَّه» تأكيداً؛ لأنَّ الموتَ لَمَّا طال الكلامُ أُكِّدَ الحرفُ توكيداً لفظيَّاً، وقد عَرَفْتَ أنه لا يُؤَكَّدُ كذلك إلاَّ بإعادةِ ما دَخَلَ عليه. أو بإعادةِ ضميرِه، فأُكِّد بإعادةِ ضمير ما دَخَلَتْ عليه «إنَّ» وحينئذٍ يكون الموصولُ نعتاً للموتِ، و «مُلاقِيكم» خبرُه كأنه قيل: إنَّ الموتَ إنَّه مُلاقيكم.

9

قوله: {مِن يَوْمِ الجمعة} : «مِنْ» هذه بيانٌ ل «إذا» وتفسيرٌ لها قاله الزمخشريُّ. وقال أبو البقاء: إنَّها بمعنى «في» ، أي: في يوم. وقرأ العامَّةُ «الجمعة» بضمَّتَيْن. وقرأ ابن الزبير وزيد ابن علي وأبو حيوة وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ الميم. فقيل: هي لغةٌ في الأولى وسُكِّنَتْ تخفيفاً، وهي لغةُ تميم. وقيل: / هو مصدرٌ بمعنى

الاجتماع. وقيل: لَمَّا كان بمعنى الفعل صار كرجل هُزْأَة، أي: يُهْزَأ به، فلمَّا كان في الجمعة معنى التجمُّع أُسْكِن؛ لأنه مفعولٌ به في المعنى، أو يُشْبهه فصارَ كهُزْأَة الذي يُهْزأ به. قاله مكي، وكذا قال أبو البقاء: «هو بمعنى المُجْتَمَع فيه مثلَ: رجل ضُحْكَة، أي: يُضْحك منه» وقال مكي: «يجوزُ إسكان الميم استخفافاً. وقيل: هي لغةٌ» . قلت: قد تقدَّم أنها قراءةٌ، وأنها لغةُ تميم. وقال الشيخ: «ولغةٌ بفتحِها لم يُقْرَأ بها» قلت: قد نقلها قراءةً أبو البقاء فقال: «ويقرأ بفتح الميم بمعنى الفاعِل، أي: يومَ المكان الجامع. مثلَ: رجلٌ ضُحْكَة، أي: كثيرُ الضَّحِك» وقال مكي قريباً منه، فإنه قال: «وفيه لغةٌ ثالثةٌ بفتح الميم على نسبةِ الفعل إليها، كأنَّها تَجْمع الناسَ كما يُقال: رجلٌ لُحَنَة، إذا كان يُلَحِّن الناس، وقُرَأَة، إذا كان يُقْرِىءُ الناس» ، ونقلها قراءةً أيضاً الزمخشري، إلاَّ أنه جعلَ الجُمْعةَ بالسكون هو الأصلَ، وبالمضموم مخفَّفاً منه فقال: «يوم الجُمعة: يوم الفوجِ المجموعِ كقولهم: ضُحْكَة للمضحوك منه. ويومُ الجُمعة بفتح الميم: يومُ الوقتِ الجامعِ كقولهم: ضُحَكة ولُعَبة، ويومُ الجُمُعة تثقيلٌ للجُمْعَة كما قيل: عُسُرة في عُسْرة

وقُرِىء بهن جميعاً» وتقديرُه: يوم الوقتِ الجامعِ أحسنُ من تقدير أبي البقاءِ: يوم المكانِ الجامعِ؛ لأنَّ نسبةَ الجمعِ إلى الظرفَيْن مجازٌ فالأَوْلى إبقاؤُه زماناً على حالِه.

11

قوله: {انفضوا إِلَيْهَا} : أعاد الضمير على التجارة دونَ اللهو؛ لأنها الأهمُّ في السبب. قال ابن عطية: «وقال: إليها ولم يقل: إليهما تَهَمُّماً بالأهمِّ، إذ كانَتْ هي سببَ اللهوِ ولم يكن اللهوُ. سبَبَها. وتأمَّلْ أنْ قُدِّمِتْ التجارةُ على اللهو في الرؤية؛ لأنها أهمُّ وأُخِّرت مع التفضيل، لتقعَ النفسُ أولاً على الأَبْيَن» انتهى. وفي قولِه «لم يَقُلْ إليهما» ثم أَجابَ بما ذكَرَ نَظَرٌ لا يَخْفَى؛ لأنَّ العطفَ ب «أو» لا يُثنَّى معه الضميرُ ولا الخبرُ ولا الحالُ ولا الوصف؛ لأنها لأحدِ الشيئَيْن، ولذلك تأوَّل الناسُ «إنْ يكُنْ غنياً أو فقيراً فاللَّهُ أَوْلى بهما» كما قَدَّمتهُ في موضعِه، وإنما الجوابُ عنه: أنه وَحَدَّ الضميرَ لأنَّ العطفَ ب «أو» وإنما جيْءَ بضميرِ التجارة دونَ ضمير اللهوِ وإن كان جائزاً لِما ذكَره ابنُ عطيةَ مِنْ الجوابِ، وهو الاختمام كما قاله غيرُ واحدٍ. وقد قال الزمخشريُّ قريباً ممَّا قاله ابنُ عطية فإنه قال: «كيف قال: إليها، وقد ذكرَ شيئَيْن؟ قلت: تقديرُه: إذ رأوا تجارةً انفَضُّوا إليها أو لَهْواً انفَضُّوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكورِ عليه، وكذلك قراءةُ مَنْ قرأ» انفَضُّوا إليه «انتهى. قوله: قلتُ تقديرُه إلى آخره، يُشْعِرُ، بأنَّه كان حقُّ الكلام أَنْ

يُثَنَّى الضمير، ولكنه حُذِف. وفيه ما قَدَّمتُه لك: مِنْ أنَّ المانعَ مِن ذَلك أمرٌ صناعيٌ وهو العطفُ ب» أو «. وقرأ ابن أبي عبلةَ» إليه «أعاد الضميرَ إلى اللهو وقد نَصَّ على جوازِ ذلك الأخفش سَماعاً من العرب نحو:» إذا جاءك زيد أو هند فأَكْرِمه «وإن شئْتَ» فأكرِمْها «. وقرأ بعضهُم» إليهما «بالتثنية. وتخريجُها كتخريجِ {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً} [النساء: 135] وقد تقدَّم تحريرُه. قوله: {وَتَرَكُوكَ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل» انفَضُّوا «و» قد «مقدرةٌ عند بعضِهم وقولِه {مَا عِندَ الله خَيْرٌ} » ما «موصولَةٌ مبتدأ، و» خيرٌ «خبرُها.

المنافقون

قوله: {إِذَا جَآءَكَ} : شرطٌ. قيل: جوابُه قالوا. وقيل: محذوفٌ. و «قالوا» حالٌ، أي: جاؤوك قائلين كيتَ وكيتَ، فلا تقبَلْ منهم. وقيل: الجوابُ {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} وهو بعيدٌ، و «قالوا» أيضاً حالٌ. قوله: {قَالُواْ نَشْهَدُ} جرى مَجْرى القسمِ كفعل العِلْم واليقين، ولذلك تُلُقِّيَتْ بما يُتَلَقَّى به القسمُ في قوله: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} وفي قوله: 4262 - ولقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتي ... إنَّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُها وقد تقدَّم خلافُ الناسِ في الصدق والكذبِ واستدلالُهم بهذه الآيةِ، والجوابُ عنها، أولَ البقرة. قوله: {والله يَعْلَمُ} جملةٌ معترضةٌ بين قوله: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ} وبين قولِه: {والله يَشْهَدُ} لفائدةٍ، قال الزمخشري: «لو قال: قالوا نشهد

إنَّك لرسول الله، واللَّهُ يَشْهد إنَّهم لكاذبون، لكان يُوْهِم أنَّ قولَهم هذا كذبٌ، فوَسَّط بينهما قولَه: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ليُميط هذا الإِبْهام» .

2

قوله: {اتخذوا} : قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للشرط، ويجوز أَنْ يكون مستأنفاً، جيْءَ به لبيانِ كذبِهم وحَلْفِهم عليه، أي: إنَّ الحاملَ لهم على الإِيمان/ اتِّقاؤهم بها عن أنفسِهم. والعامَّةُ على فتح الهمزة جمعَ «يمين» والحسن بكسرِها مصدراً. وتقدَّم مثله في المجادلة. والجُنَّةُ: التُّرْسُ ونحوُه، وكلُّ ما يَقيك سوءاً. ومن كلامِ الفصحاء: «جُبَّةُ البُرْدِ جُنَّةُ البَرْدِ» وقال أعشى همدان: 4263 - إذا أنتَ لم تجعلْ لِعرْضِكَ جُنَّةً ... من المالِ سار الذَّمُّ كلَّ مَسِيرِ قوله: {سَآءَ مَا كَانُواْ} يجوز أن تكونَ الجاريةَ مَجْرَى بئْسَ، وأَنْ تكونَ على بابها، والأولُ أظهرُ، وقد تقدَّم حكمُ كلٍ منهما ولله الحمد، وقوله: «فطُبِعَ» هذه قراءةُ العامَّة أعني بناءَه للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ بعدَه. وزيد بن علي «وطَبَعَ» مبنياً للفاعل. وفي الفاعلِ وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى، ويَدُلُّ عليه قراءةُ الأعمشِ، وقراءتُه هو في روايةٍ عند «فَطَبَعَ اللَّهُ» مُصَرَّحاً بالجلالةِ. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على المصدرِ المفهومِ مِمَّا قبلَه، أي: فطَبَعَ هو، أي: تَلْعابُهم بالدين.

4

قوله: {تَسْمَعْ} : العامَّةُ بالخطاب، و «لِقولهم» متعلِّقٌ به وضُمِّنَ «تَسْمَعْ» معنى تُصْغي وتميلُ، فلِذلك عُدِّيَ باللام. وقيل: بل هي مزيدةٌ، أي: تسمعُ قولَهم. وليس بشيءٍ؛ لنَصاعةِ معنى الأول. وقرأ عطيةُ العَوْفيُّ وعكرمةُ بالياء مِنْ تحت مبنياً للمفعول، والقائم مَقامَ الفاعلِ الجارُّ لأجلِ التضمينِ المتقدِّمِ. ومَنْ اعتقد زيادةَ اللامِ أولاً لم يَجُزْ أَنْ يعتقدَها هنا، أي: تَسمعْ قَوْلَهم؛ لأنَّ اللامَ لا تُزادُ في الفاعلِ ولا فيما أشبهه. قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها مستأنفةٌ. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم كأنَّهم، قالهما الزمخشري. والثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُ الحالِ الضميرُ في «قولِهم» قاله أبو البقاء. وقرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ وقنبلٌ «خُشْب» بضمٍ وسكونٍ، وباقي السبعةِ بضمتين. وقرأ السعيدان: ابنُ جبير وابنُ المسيَّب بفتحتين، ونسبها الزمخشريُّ لابن عباس ولم يذكُرْ غيرَه. فأمَّا القراءةُ بضمتَيْن فقيل: يجوزُ أَنْ تكونَ جمع خشَبَة نحو: ثَمَرَة وثُمُر، قاله الزمشخريُّ، وفيه نظرٌ؛ لأن هذه الصيغةَ محفوظةٌ في فَعَلَة لا تَنْقاس نحو: ثَمَرَة وثُمُر. ونقل الفاسيُّ عن الزبيدي

أنه جمعُ خَشْباء، وأَحْسَبُه غَلِطَ عليه لأنه قد يكون قال «خُشْب» بالسكون جمع خَشْباء نحو: حَمْراء وحُمْر؛ لأنَّ فَعْلاء الصفةَ لا تُجْمع على فُعُل بضمتين بل بضمةٍ وسكونٍ. وقوله «الزبيدي» تصحيفٌ: إمَّا منه وإمَّا من الناسخِ، إنما هو اليزيديُّ تلميذُ أبي عمرو بن العلاء، نقل ذلك الزمخشري. وقال أبو البقاء: «وخُشْب بالضمِّ والإِسكان جمعُ خَشَب مثل: أَسَد وأُسْد» انتهى. فهذا يُوهم أنه يقال: أُسُد بضمتين وليس كذلك. وأمَّا القراءةُ بضمةٍ وسكونٍ فقيل: هي تخفيفُ الأُولى. وقيل: هي جمعُ خَشْباء وهي الخَشَبةُ التي نُخِر جَوْفُها، أي: فُرِّغَ، شُبِّهوا بها لفراغِ بَواطنِهم مِمَّا يُنْتَفَعُ به. وقيل: هي جمعُ خَشَبة نحو بَدَنَة وبُدْن، قاله الزمخشري. وأمَّا القراءةُ بفتحتَيْن فهو اسمُ جنسٍ، وأُنِّثَتْ صفتُه كقولِه: {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وهو أحدُ الجائزَين. وقوله: {مُّسَنَّدَةٌ} تنبيهٌ على أنها لا يُنْتَفَعُ بها، كما يُنتفع بالخَشَبِ في سَقْفٍ وغيرِه، أو شبهوا بالأصنامِ؛ لأنهم كانوا يُسْنِدونها إلى الحِيطان. قوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} فيه وجهان، أظهرهما: أنَّ «

عليهم» هو المفعولُ الثاني للحُسْبان، أي: واقعةً وكائنةً عليهم، ويكون قولُه: «هم العدوُّ» جملةً مستأنفةً، أخبر تعالى بذلك. والثاني: أَنْ يكونَ «عليهم» متعلقاً بصيحة، و «هم العدوُّ» الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني للحُسبان. قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» هم العدوُّ «هو المفعولَ الثاني: كما لو طَرَحْتَ الضميرَ. فإنْ قلتَ: فحقُّه أن يُقالَ: هي العدو قلت: منظورٌ فيه إلى الخبر، كما ذُكِر في قوله: {هذا رَبِّي} [الأنعام: 77] ، وأَنْ يُقَدَّرَ مضافٌ محذوفٌ على «يَحْسَبُون كلَّ أهلِ صحيةٍ» انتهى. وفي الثاني بُعْدٌ بعيدٌ. قوله: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} «أنَّى» بمعنى كيف. وقال ابن عطية: ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ «أنَّى» ظرفاً ل «قاتَلَهم» كأنَّه قال: قاتلهم اللهُ كيف انصَرفوا، أو صُرِفوا؟ فلا يكونُ في القولِ استفهامٌ على هذا «انتهى. وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ» أنَّى «إنما هي بمعنى كيف، أو بمعنى أين الشرطيةِ أو الاستفهاميةِ، وعلى التقادير الثلاثةِ فلا تَتَمَحَّضُ للظرفِ فلا يعملُ فيها ما قبلَها البتةَ، كما لا تعمل في أسماءِ الشرطِ والاستفهامِ.

5

قوله: {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} : هذه المسألةُ عَدَّها النحاةُ من الإِعمالِ، وذلك أنَّ «تعالَوا» يطلبُ «رسولُ الله» مجروراً ب إلى، أي: تعالَوا إلى رسولِ الله، و «يَسْتغفر» يَطْلبه فاعلاً، فأعمل الثاني، ولذلك رفعَه، وحَذَف من الأول؛ إذ التقدير: تعالَوْا إليه، ولو أَعْمل الأولَ لقيل: إلى رسولِ الله/ يَسْتغفر، فيُضمر في «يَسْتغفر»

فاعلٌ ويمكن أَنْ يقال: ليَستْ هذه من الإِعمال في شيء لأنَّ قولَه: «تعالَوْا» أمرٌ بالإِقبال من حيث هو، لا بالنَّظر إلى مُقْبَلٍ عليه. قوله: {لَوَّوْا} هذا جوابُ «إذا» . وقرأ نافع «لَوَوْا» مخففاً، والباقون مشدَّداً على التكثير و «يَصُدُّون» حال لأنَّ الرؤيةَ بَصَريَّةٌ، وكذا قولُه «وهم مُستكبرون» حالٌ أيضاً: إمَّا من صاحب الحالِ الأولى، وإمَّا مِنْ فاعل «يَصُدُّون» فتكونُ متداخلةً. وأتى ب «يَصُدُّون» مضارعاً دلالةً على التجدُّدِ والاستمرار. وقرِىء «يَصِدُّون» بالكسر وقد تقدَّمنا في الزخرف.

6

قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ} : قراءةُ العامَّةُ بهمزةٍ مفتوحةٍ مِنْ غير مَدّ، وهي همزةُ التسويةِ التي أصلُها الاستفهامُ. وقرأ يزيد ابن القعقاع «آسْتَغْفَرْت» . بهمزةٍ ثم ألفٍ، فاختلف الناس في تأويلِها، فقال الزمخشري: «إشْباعاً لهمزة الاستفهام للإِظهارِ والبيان، لا قَلْباً لهمزة الوصل كما في» آلسحرُ «و» آللهُ «يعني أنه أشبع فتحةَ همزةِ التسويةِ فتولَّد منها ألفٌ، وقَصْدُه بذلِك إظهارُ الهمزةِ وبيانُها، لا أنه قَلَبَ الوصَل

ألفاً كما قَلَبها في قولِه:» آلسحرُ «» آللهُ أَذِنَ لكم «لأنَّ هذه الهمزةَ للوَصْلَ، فهي تَسْقُط في الدَّرْج. وأيضاً فهي مكسورةٌ فلا يَلْتبسُ معها الاستفهامُ بالخبر: بخلاف» آلسحر «و» آلله «. وقال آخرون: هي عِوَضٌ من همزةِ الوصلِ. كما في» آلذَّاكَرَيْن «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ هذه مكسورةٌ فكيف تُبْدَلُ ألفاً؟ وأيضاً فإنما قَلَبْناها هناك ألفاً ولم نحذِفْها، وإن كان حَذْفُها مُسْتحقاً، لئلا يلتبسَ الاستفهامُ بالخبر، وهنا لا لَبْسَ. وقال ابن عطية:» قرأ أبو جعفر يعني يزيد بن القعقاع «آستغفرْتَ» بمَدَّة على الهمزةِ. وهي ألفُ التسوية. وقرأ أيضاً بوَصْلِ الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كلِّه ضَعْفٌ؛ لأنه في الأولى أثبت هَمزةَ الوصلِ، وقد أغنتْ عنها همزةُ الاستفهام، وفي الثانية حَذَفَ همزةَ الاستفهام، وهو يُريدها، وهذا ممَّا لا يُسْتعملُ إلاَّ في الشعر «. قلت: أمَّا قراءتُه» استغفرْتَ «بوَصْلِ الهمزة فرُوِيَتْ أيضاً عن أبي عمروٍ، إلاَّ أنه هو يضُمُّ ميم» عليهم «عند وَصْلِه الهمزةَ؛ لأن أصلَها الضمُّ، وأبو عمرو يكسِرُها على أصلِ التقاء الساكنين. وأمَّا قولُه:» وهذا ممَّا لا يُسْتعمل إلاَّ في شعرٍ «فإنْ أراد بهذا مَدَّ هذه الهمزةِ في هذا المكانِ فصحيحٌ، بل لا نجده أيضاً، وإن أرادَ حَذْفَ همزةَ الاستفهام فليس بصحيحٍ لأنَّه يجوزُ حَذْفُها إجماعاً قبل» أم «نثراً ونَظْماً، وأمَّا دونَ» أم «ففيه خلافٌ، والأخفشُ يُجَوِّزُهُ ويجعلُ منه {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} [الشعراء: 22] وقولَه:

4264 - طَرِبْتُ وما شَوْقاً إلى البيضِ أَطْرَبُ ... ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَبُ وقول الآخر: 4265 - أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شصائِصاً نَبْلا وأمَّأ قبل» أم «فكثير كقولِه: 4266 - لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإنْ كنتُ داريا ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْر أم بثمانٍ وقد مَرَّتْ هذه المسألةُ مستوفاةً ولله الحمدُ

7

قوله: {يَنفَضُّواْ} : قرأ العامَّةُ من الانْفِضاض وهو التفرُّقُ. وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي «يُنْفِضُوا» مِنْ أَنْفَضَ القومُ: فَنِيَ زادُهم. ويقال: نَفَضَ الرجلُ وعاءَه من الزاد، فأَنْفَضَ، فيتعدَّى دونَ الهمزةِ ولا يتعدَّى معها، فهو من بابِ: كَبَبْتُه فأَكَبَّ. قال الزمخشري: «وحقيقتُه: حانَ لهم أَنْ يَنْفُضُوا مَزاوِدَهُم» .

8

قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الأعز} : قراءةُ العامَّةُ بضمِّ الياءِ وكسرِ الراءِ، مسْنداً إلى «الأعزُّ» ، و «الأذلَّ» مفعولٌ به، والأعزُّ بعض

المنافقين على زعمه. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والمسيبيُّ «لَنُخْرِجَنَّ» بنون العظمة وبنصبِ «الأعَزَّ» على المفعول به ونصبِ الأذلّ على الحالِ، وبه استشهد مَنْ جَوَّز تعريفَها. والجمهورُ جَعلوا أل مزيدةً على حَدِّ: 4267 - فَأَرْسَلَها العِراكَ. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وادخلوا الأَوَّلَ فالأَوَّلَ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً على المفعول به، وناصبُه حالٌ محذوفةٌ، أي: مُشْبِهاً الأذلَّ. وقد خَرَّجَه الزمخشريُّ على حَذْفِ مضافٍ، أي: خروجَ الأذلِّ، أو إخراجَ الأذَلِّ، يعني بحسَبِ القراءتَيْن: مِنْ خَرَجَ وأَخْرَجَ. فعلى هذا ينتصبُ على المصدرِ لا على الحالِ. ونَقَلَ الدانيُّ عن الحسن أيضاً/ «لنَخْرُجَنَّ» بفتح نونِ العظمة وضمِّ الراء ونصبِ «الأعزَّ» على الاختصاصِ كقولهم: «نحن العربَ أَقْرى الناس للضيفِ» ، و «الأذلَّ» نصبٌ على الحالِ أيضاً، قاله الشيخ، وفيه نظرٌ كيف يُخْبرون عن أنفسِهم: بأنهم يَخْرُجون في حالِ الذُّلِّ مع قولهم الأعزّ، أي: أخصُّ الأعزَّ، ويَعْنُون بالأعزِّ أنفسَهم؟ وقد حكى هذه القراءةَ أيضاً أبو حاتمٍ، وحكى الكسائي والفراء أنَّ قوماً قرؤوا «ليَخْرُجَنَّ» بفتح الياء وضم الراء ورفع «الأعزُّ» فاعلاً ونصب الأول

حالاً وهي واضحةٌ. وقُرِىء ليُخْرَجَنَّ بالياء مبنياً للمفعول «الأعزُّ» قائماً مَقام الفاعل، «الأذلَّ» حالٌ أيضاً.

10

قوله: {وَأَكُن} : قرأ أبو عمروٍ «وأكونَ» بنصب الفعل عطفاً على «فأصَّدَّقَ» و «فأصَّدَّقَ» منصوبٌ على جوابِ التمني في قوله: «لولا أَخَّرتني» والباقون «وأكُنْ» مجزوماً، وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين. واختلفت عبارات الناس في ذلك، فقال الزمخشري: «عطفاً على محلِّ» فأصَّدَّقَ «كأنه قيل: إنْ أخَّرْتَني أصَّدَّقْ وأكنْ» . وقال ابنُ عطية: «عطفاً على الموضع؛ لأنَّ التقديرَ: إنْ أخَّرتني أصَّدَّقْ وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي: فأمَّا ما حكاه سيبويه عن الخليلِ فهو غيرُ هذا وهو أنه جزمٌ على توهُّمِ الشرطِ الذي يَدُلُّ عليه التمني، ولا موضعَ هنا لأن الشرطَ ليسَ بظاهرٍ، وإنما يُعْطَفُ على الموضع حيث يَظْهَرُ الشرطُ كقولِه: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] فمَنْ جَزَمَ عَطَفه على موضع {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} لأنه لو وقع موقعَه فِعْلٌ لانجزم» انتهى. وهذا الذي نَقَله عن سيبويهِ هو المشهورُ عند النَّحويين. ونَظَّر سيبويه ذلك بقول زهير:

4268 - بَداليَ أني لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا فخفضَ «ولا سابقٍ» عطفاً على «مُدْرِكَ» الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه؛ لأنه قد كَثُرَ جَرُّ خبرِها بالباء المزيدة، وهو عكسُ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنه في الآية جُزِمَ على توهُّمِ سقوط الفاء، وهنا خُفِضَ على تَوَهُّمِ وجودِ الباءِ، ولكنَّ الجامعَ توهُّمُ ما يَقْتضي جوازَ ذلك، ولكني لا أُحِبُّ هذا اللفظَ مستعملاً في القرآن، فلا يُقال: جُزم على التوهُّم، لقُبْحه لفظاً. وقال أبو عبيد: «رأيتهُ في مصحف عثمان» وأكُنْ «بغير واوٍ. وقد فَرَّق الشيخ بين العطفِ على الموضعِ والعطفِ على التوهُّمِ بشيءٍ فقال:» الفرقُ بينهما: أنَّ العاملَ في العطف على الموضع موجودٌ، وأثرُه مفقودٌ، والعاملُ في العطفِ على التوهُّمِ مفقودٌ، وأثرُه موجودٌ «انتهى. قلت: مثالُ الأول:» هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً «فهذا من العطفِ على الموضع، فالعاملُ وهو» ضارب «موجودٌ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ. ومثالُ الثاني ما نحن فيه؛ فإنَّ العاملَ للجزمِ مفقودٌ، وأثُره موجودٌ. وأَصْرَحُ منه بيتُ زهير فإنَّ الباءَ مفقودةٌ وأثُرها موجودٌ، ولكن أثرَها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه، وكذلك في الآية الكريمة. ومن ذلك بيتُ امرىء القيس: 4269 - فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بينِ مُنْضِجٍ ... صَفيفِ شِواءٍ قَديرٍ مُعَجَّلِ

فإنهم جعلوه مِن العطفِ على التوهُّم؛ وذلك: أنه توهَّم أنه أضاف» منضج «إلى» صَفيف «، وهو لو أضافَه إليه لَجَرَّه فعطفَ» قدير «على» صفيف «بالجرِّ تَوَهماً لجرِّه بالإِضافة. / وقرأ عبيد بن عمير» وأكونُ «برفع الفعل على الاستئناف، أي: وأنا أكونُ، وهذا عِدَةٌ منه بالصَّلاح.

11

وقرأ أبو بكر «بما يعملون» بالغَيْبة، والباقون بالخطاب، وهما واضحتان. وقرأ أُبَي وعبد الله وابن جبير «فأَتَصَدَّقَ» وهي أصلُ قراءةِ العامةِ ولكنْ أُدْغِمَتْ التاءُ في الصاد.

التغابن

قوله: {لَهُ الملك} : مبتدأٌ وخبرٌ. وقدَّمَ الخبر ليفِيد اختصاصَ المُلْكِ والحمدِ بالله، إذ المُلْكُ والحمدُ لله حقيقةٌ.

3

قوله: {صُوَرَكُمْ} : قرأه العامَّةُ بضم الصادِ، وهو القياسُ في فُعْلَة. وقرأ زيدُ بن علي والأعمش وأبو زيد بكسرِها، وليس بقياسٍ، وهو عكسُ «لُحَى» بالضمِّ، والقياسُ لِحى بالكسر.

4

قوله: {مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} : العامَّةُ على الخطابِ في الحرفَيْن. ورُوِي عن أبي عمروٍ وعاصمٍ بياء الغَيْبةِ، فتحتملُ الالتفاتَ وتحتملُ الإِخبارَ عن الغائبين.

6

قوله: {بِأَنَّهُ} : الهاءُ للشأنِ والحديثِ، و {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم} خبرُها و «استغنى» بمعنى المجرَّد. وقال الزمخشري: «ظَهَر غِناه فالسين ليسَتْ للطلبِ» .

قوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} يجوزُ أَنْ يرتفعَ على الفاعلية، ويكونَ من الاشتغال، وهو الأرجحُ لأنَّ الأداةَ تطلبُ الفعلَ، وأن يكونَ مبتدأً وخبراً. وجُمع الضميرُ في «يَهْدوننا» إذ البشرُ اسمُ جنسٍ.

7

قوله: {أَن لَّن يُبْعَثُواْ} : «أنْ» مخففةٌ، لا ناصبةٌ لئلا يَدْخُلَ ناصبٌ على مثلِه، و «أنْ» وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدّ المفعولَيْنِ للزعمِ أو المفعول. و «بلى» إيجابٌ للنفي، و «لَتُبْعَثُنَّ» . جوابُ قسم مقدرٍ.

9

قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} : منصوبٌ بقولِه: «لَتُنَبَّؤُنَّ» عند النحاس وب «خَبيرٌ» عند الحوفي، وب «اذكُر» مضمراً عند الزمخشري، فيكون مفعولاً به، وبما دَلَّ عليه الكلامُ، أي: تتفاوتون يومَ يجمعُكم، قاله أبو البقاء. والعامَّةُ بفتح الياءِ وضمِّ العين. ورُوِي سكونُها وإشمامُها عن أبي عمروٍ. وهذا منقولٌ عنه في الراء نحو {يَنصُرُكُمْ} [الملك: 20] وبابِه كما تقدَّم في البقرة. وقرأ يعقوب وسلام وزيد بن علي والشعبي «نجمعكم» بنونِ العظمة.

والتَّغابُنُ: تفاعُلٌ من الغَبْن في البيعِ والشراءِ على الاستعارة وهو أَخْذُ الشيءِ بدون قيمتِه. وقيل: الغَبْنُ: الإِخفَاءُ ومنه: غَبْنُ البيعِ لاستخفائِه. والتفاعُل هنا من واحدٍ لا من اثنين ويقال: غَبَنْتُ الثوبَ وخَبَنْتُه، أي: أخَذْتُ ما طالَ منه مقدارِك فهو نقصٌ وإخفاءٌ. وفي التفسير: هو أن يكتسبَ الرجلُ مالاً مِنْ غيرِ وجهه، فَيَرِثَه غيرُه فيعملَ فيه بطاعةِ اللهِ، فيَدْخلَ الأولُ النارَ والثاني الجنةَ بذلك المالِ، فذلك هو الغَبْنُ البيِّنُ.

11

قوله: {يَهْدِ قَلْبَهُ} : بالياءِ مجزوماً جواباً للشرط قراءة العامَّة. وابن جبير وابن هرمز وطلحة والأزرق بالنون والضحاك وأبو جعفر وأبو عبد الرحمن «يُهْدَ» مبنياً للمفعولِ «قلبُه» قائم مقامَ الفاعلِ. ومالك بن دينار وعمرو بن دينار «يَهْدَأْ» بهمزة ساكنة، «قلبُه» فاعلٌ به بمعنى يطمئنُّ ويَسْكُن. وعمرو بن فائد «يَهْدا» بألفٍ مبدلة من الهمزة كالتي قبلَها، ولم يَحْذِفْها نظراً إلى الأصل وهي أفصح اللغتين. وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً يَهْدَ بحذفِ هذه الألفِ إجراءً لها مُجرى الألفِ الأصليةِ كقولِ زهير: 4270 - جَريءٌ متى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بِظُلْمِه ... سريعاً وإنْ لا يُبْدَ بالظلمِ يُظْلَمِ وقد تقدَّم إعرابُ ما قبلَ هذه الآيةِ وما بعدها.

16

قوله: {خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} : فيه أوجهٌ، أحدها: وهو قولُ سيبويه أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ، أي: وَأْتُوا خيراً كقولِه: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} [النساء: 171] . الثاني: تقديرُه: يكنِ الإِنفاقُ خيراً، فهو خبرُ كان المضمرة، وهو قولُ أبي عبيد. الثالث: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، وهو قولُ الكسائيِّ والفراء، أي: إنفاقاً خيراً. الرابع: أنه حالٌ وهو قولُ الكوفيين. الخامس: أنه مفعولٌ بقولِه: «أَنْفِقوا» ، أي: أَنْفقوا مالاً خيراً. وقد تقدَّم الخلافُ في قراءةِ {يُضَاعِفَهُ} [الحديد: 11] و {يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9] .

الطلاق

قوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه خطابٌ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ الجمع تعظيماً كقوله: 4271 - فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سواكمُ ... وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا / الثاني: أنه خطابٌ له ولأمَّته والتقدير: يا أيها النبيُّ وأمَّتَه إذا طلَّقْتُمْ فحذف المعطوفَ لدلالةِ ما بعده عليه، كقوله: 4272 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا حَذْفَتْه رِجْلُها. . . . . . . . . . . . . . . . أي، ويَدُها، وتقدَّم هذا في سورة النحل عند {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] . الثالث: أنه خطابٌ لأمَّتِه فقط بعد ندائِه عليه السلام، وهو مِنْ تلوينِ الخطابِ خاطبَ أمتَه بعد أَنْ خاطبه. الرابع: أنَّه على إضمارِ قول، أي: يا أيها النبيُّ قُلْ لأمتك: إذا طلَّقتْم. الخامس: قال الزمخشري: «

خصَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنداء وعَمَّ بالخطابِ؛ لأنَّ النبيَّ إمامُ أمَّتِه وقُدْوَتُهم، كما يُقال لرئيس القومِ وكبيرِهم: يا فلانُ افعلوا كيتَ وكيتَ اعتباراً بتقدُّمِه وإظهاراً لترؤُّسه» في كلامٍ حسنٍ، وهذا هو معنى القولِ الثالثِ الذي قَدَّمْتُه. وقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} ، أي: إذا أَرَدْتُمْ كقولِه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 6] {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} [النحل: 98] وتقدَّم تحقيقُ ذلك. قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} قال الزمخشري: «مُسْتَقْبِلاتٍ لِعِدَّتهن، كقولِك:» أتيتُه لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ من المحرَّم «، أي: مُسْتقبلاً لها، وفي قراءةِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» في قُبُل عِدَّتِهِنَّ «انتهى. وناقشه الشيخ في تقديره الحالَ التي تَعلَّق بها الجارُّ كوناً خاصاً. وقال:» الجارُّ إذا وقع حالاً إنما يتعلَّق بكونٍ مطلقٍ «وفي مناقَشَتِه نظرٌ لأنَّ الزمخشري لم يَجْعَل الجارَّ حالاً بل جَعَلَه متعلِّقَاً بمحذوف دَلَّ عليه معنى الكلامِ. وقال أبو البقاء:» لِعِدَّتِهِنَّ، أي: عند أول ما يُعْتَدُّ لهنَّ به، وهُنَّ في قُبُل الطُّهْر «وهذا منه تفسيرُ معنى لا تفسيرُ إعرابٍ. وقال الشيخ:» هو على

حَذْفِ مضاف، أي: لاستقبالٍ عِدَّتِهِن، واللامُ للتوقيت نحو: لَقِيْتُه لِلَيْلَةٍ بَقِيْتَ مِنْ شهرِ كذا «انتهى. فعلى هذا تتعلَّقُ اللامُ ب» طَلِّقُوهن «. قولِه: {لَعَلَّ الله} هذه الجملةُ مستأنفةٌ لا تعلُّقَ بما لها بما قبلَها؛ لأنَّ النحاةَ لم يَعُدُّوها في المُعلِّقات. وقد جَعَلَها الشيخ. مِمَّا يَنْبغي أَنْ يُعَدَّ فيهنَّ، وقَرَّر ذلك في قوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} [الأنبياء: 111] فهناك يُطْلَبُ تحريرُه.

2

وقرأ العامَّةُ: {أَجَلَهُنَّ} : لأنَّ الأجلَ من حيث هو واحدٌ وإنْ اختلفَتْ أنواعُهُ بالنسبةِ إلى المعتدَّات. والضحاك وابن سيرين «آجالَهُنَّ» جمعَ تكسير، اعتباراً بأنَّ أَجَلَ هذه غيرُ أجلِ تَيْكَ.

3

قوله: {بَالِغُ أَمْرِهِ} : قرأ حفص «بالغُ» مِنْ غير تنوين، «أمرِه» مضافٌ إليه على التخفيفِ. والباقون بالتنوينِ والنصبِ وهو الأصلُ خلافاً للشيخ. وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند وأبو عمروٍ في روايةٍ «بالغٌ أمرُه» بتنوين «بالغٌ» ورفْع «أَمْرُه» وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ «بالغٌ» خبراً مقدماً، و «أمْرُه» مبتدأٌ مؤخرٌ. والجملة خبرُ «إنَّ» والثاني: أَنْ يكونَ «بالغٌ» خبرَ «إنَّ» و «أَمْرُه» فاعلٌ به. وقرأ المفضَّلُ «بالغاً» بالنصب، «أَمْرُه» بالرفع. وفيه وجهان، أظهرهما: وهو تخريج

الزمخشري أَنْ يكونَ «بالغاً» نصباً على الحال، و {قَدْ جَعَلَ الله} هو خبرُ «إنَّ» تقديرُه: إن اللَّهَ قد جعل لكلِّ شيءٍ قَدْراً بالغاً أمْرُه. والثاني: أَنْ يكونَ على لغةِ مَنْ ينْصِبُ الاسمَ والخبرَ بها، كقولِه: 4273 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . إنَّ حُرَّاسَنا أُسْدا ويكون «قد جَعَل» مستأنفاً كما في القراءةِ الشهيرةِ. ومَنْ رفع «أَمْرُه» فمفعولُ «بالغ» محذوفٌ تقديره: ما شاء. وجناح بن حبيش «قَدَرا» بفتح الدال.

4

قوله: {واللائي يَئِسْنَ} : قد تقدَّم الخلافُ فيه، وأبو عمروٍ يقرأ هنا «واللايْ يَئِسْنَ» بالإِظهار، وقاعدتُه في مثلِه الإِدغامُ، إلاَّ أنَّ الياء لَمَّا كانَتْ عنده عارضةً لكونِها بدلاً مِنْ همزةٍ، فكأنه لم يجتمعْ مِثلان. وأيضاً فإنَّ سكونَها عارضٌ، فكأنَّ ياء «اللاي» محرَّكةٌ، والحرف ما دام متحركاً لا يُدْغَمُ في غيرِه/ وقرأ «يَئِسْنَ» فعلاً ماضياً، وقُرِىء «يَيْئَسْنَ» مضارعاً. و «مِنْ المحيض مِنْ نسائكم» «مِنْ» الأولى لابتداءِ الغاية، وهي متعلِّقةٌ بالفعل قبلَها، والثانيةُ للبيان، متعلِّقةً بمحذوف و «اللائي» مبتدأ، و «فعِدَّتُهُنَّ» مبتدأ ثانٍ، «وثلاثةُ أشهر» خبرُه،

والجملةُ خبرُ الأولِ، والشرطُ معترضٌ، وجوابُه محذوف. ويجوزُ أَنْ يكونَ «إنِ ارْتَبْتُم» جوابُه {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} ، والجملةُ الشرطيةُ خبرُ المبتدأِ، ومتعلَّقُ الارتيابِ محذوفٌ فقيل: تقديرُه: إنِ ارْتَبْتُمْ في أنها يَئِسَتْ أم لا لإِمكانِ ظهورِ حَمْلٍ. وإن كان انقطع دَمُها. وقيل: إنِ ارتَبْتُمْ في دَمِ البالغاتِ مَبْلَغَ اليأسِ: أهو دَمُ حيضٍ أم استحاضةٍ؟ وإذا كان هذا عِدَّةَ المرتابِ فيها فغيرُ المرتابِ فيها أَوْلَى، وأغربُ ما قيل: إنَّ «إنْ ارتَبْتُمْ» بمعنى تَيَقَّنْتُم فهو من الأضداد. قوله: {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} مبتدأٌ، خبرُه محذوفٌ. فقدَّروه جملةً كالأول، أي: فعدَّتُهنَّ ثلاثةُ أشهرٍ أيضاً، والأَوْلَى أن يقدَّرَ مفرداً، أي: فكذلك، أو مِثْلهنَّ ولو قيل: بأنَّه معطوفٌ على «اللائي يَئِسْنَ» عَطْفَ المفرداتِ، وأخبر عن الجميع بقولِه «فعِدَّتُهنَّ» لكان وجهاً حسناً. وأكثرُ ما فيه توسُّطُ الخبرِ بين المبتدأ وما عُطِف عليه، وهذا ظاهرُ قولِ الشيخ: {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} معطوفٌ على قولِه «واللائي يَئِسْن» فإعرابُه مبتدأ كإعراب «واللائي» . قوله: {وَأُوْلاَتُ الأحمال} متبدأ و «أَجَلُهُنَّ» مبتدأ ثانٍ و «أن يَضَعْن» خبره والجملة خبر الأول، أي: وَضْع حَمْلهن. ويجوز أَنْ يكونَ «أَجلُهنَّ» بدلَ اشتمال مِنْ أُولات و «أنْ يضعن» خبرَ المبتدأ. والعامَّةُ على إفرادِ «حَمْلهنَّ» والضحاك «آجالُهُنَّ» جمع تكسير.

5

قوله: {وَيُعْظِمْ} : هذه قراءةُ العامَّةِ مضارعَ أَعْظَمَ،

وابن مقسم «يُعَظِّمْ» بالتشديد مضارعَ عَظَّم مشدداً. والأعمش «نُعْظِم» مضارعَ أَعْظم، وهو التفاتٌ مِنْ غَيْبةٍ إلى تكلُّمٍ.

6

قوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ «منْ» للتبعيض. قال الزمخشري: «مُبَعَّضُها محذوفٌ معناه: أَسْكنوهنَّ مكاناً مِنْ حيث سَكَنْتُمْ، أي: بعضَ مكانِ سُكْناكم، كقولهِ تعالى: {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] ، أي: بعضَ أبصارِهم. قال قتادة:» إن لم يكنْ إلاَّ بيتٌ واحدٌ أسْكنها في بعضِ جوانبه «. والثاني: أنها لابتداء الغاية قاله الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء:» والمعنى: تَسَبَّبُوا إلى إسكانِهِنَّ من الوجه الذي تُسْكِنون أنفسَكم. ودلَّ عليه قولُه مِنْ وُجْدِكم، والوُجْدُ: الغِنى «. قوله: {مِّن وُجْدِكُمْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ مِنْ قولِه» مِنْ حيثُ «بتكريرِ العاملِ، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل: أسْكنوهن مِنْ سَعَتكم. والثاني: أنه عطف بيان لقوله {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ، وإليه ذهب الزمشخري، فإنه قال بعد أن أعربَ» مِنْ حيث «تبعيضيةً كما تقدَّم:» فإن قلتَ: وقولُه «مِنْ وُجْدِكم» ؟ قلت: هو عطفُ بيانٍ لقولِه: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ومُفَسِّرٌ له كأنه قيل: أَسْكِنوهنَّ مكاناً مِنْ مَساكنكم مِمَّا تُطيقونه.

والوُجْدُ الوُسْع والطاقَةُ «. وناقشه الشيخ: بأنَّه لم يُعْهَدْ في عطفِ البيان إعادةُ العاملِ، إنما عُهد هذا في البدلِ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً. والعامَّة» وُجْدِكم «بضمِّ الواو، والحسن والأعرج وأبو حيوةَ بفتحِها، والفياضُ بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب بكسرِها، وهي لغاتٌ بمعنىً. والوَجْدُ بفتح الواو: الحُزْنُ أيضاً، والحُبُّ، والغَضَب. قوله: {وَأْتَمِرُواْ} افْتَعِلوا مِنْ الأَمْر يقال: ايتَمَرَ القومُ وتآمروا، أي: أمَر بعضُهم بعضاً. وقال الكسائيُّ: ائتمروا: تَشاوروا وتلا قولَه تعالى: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص: 20] وأنشد قولَ امرِىءِ القيس: 4274 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ويَعْدُوْ على المَرْءِ ما يَأَتْمِرْ / قوله: {فَسَتُرْضِعُ} قيل: هو خبرٌ في معنى الأَمْر. والضمير في» له «للأبِ كقولِه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} ، والمفعولُ محذوفٌ للعِلْمِ به، أي: فسترضعُ الولدَ لوالدِه امرأةٌ أخرى. والظاهرُ أنه خبرٌ على بابِه.

7

قوله: {لِيُنفِقْ} هذه قراءةُ العامَّةِ، أعني كَسْرَ اللامِ وجزمَ المضارعِ بِها. وحكى أبو معاذ القارىء «لِيُنْفِقَ» بنصب الفعل على أنها لامُ كي نَصَبَ الفعلَ بعدَها بإضمار «أَنْ» ويتعلَّقُ الحرفُ حينئذٍ

بمحذوفٍ، أي: شَرَعْنا ذلك لِيُنْفِقَ. وقرأ العامَّة «قُدِر» مخففاً. وابن أبي عبلة «قَدَّر» مشدداً.

8

قوله: {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} : ضُمِّن معنى أَعْرَضَ، كأنه قيل: أَعْرَضَتْ بسببِ عُتُوِّها. وقولِه «فحاسَبْناها» إلى آخره كلُّه في الآخرة، وأتى به على لفظِ المُضِيِّ لتحقُّقِه. وقيل: العذاب في الدنيا فيكونُ على حقيقتِه و «أعدَّ الله» تكريرٌ للوعيدِ وتوكيداً. وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ يكونَ «عَتَتْ» وما عُطِفَ عليه صفةً ل «قريةٍ» ويكونُ الخبرُ ل «كأيِّنْ» الجملةَ مِنْ قولِه «أعدَّ اللَّهُ» فعلى الأول يكونُ الخبرُ «عَتَتْ» وما عُطِفَ عليه.

10

قوله: {الذين آمَنُواْ} : منصوبٌ بإضمار أَعْني بياناً للمنادي، أو يكون عطفَ بيان للمنادِي أو نعتاً له، ويَضْعُفُ كونُه بدلاً لعدمِ حُلولِه المبدلِ منه.

11

قوله: {رَّسُولاً} : فيه أوجهٌ، أحدُها وإليه ذهب الزجَّاج والفارسي أنه منصوبٌ بالمصدرِ المنونِ قبلَه؛ لأنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفعلٍ، كأنه قيل: أن ذَكرَ رسولاً، والمصدرُ المنوَّنُ عاملٌ كقولِه تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14] وقولِه:

4275 - بضَرْبٍ بالسيوفِ رؤوسَ قَوْمٍ ... أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيلِ الثاني: أنَّه جُعِل نفسُ الذِّكْرِ مبالغةً فأُبْدِل منه. الثالث: أنَّه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الأول تقديرُه: أنزل ذا ذكرٍ رسولاً. الرابع: كذلك، إلاَّ أنَّ «رسولاً» نعت لذلك المحذوف. الخامس: أنه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الثاني، أي: ذِكْراً ذِكْرَ رسول. السادس: أَنْ يكونَ «رسولاً» نعتاً ل ذِكْراً على حَذْفِ مضاف، أي: ذِكْراً ذا رسولٍ، ف «ذا رسول» نعتٌ لذِكْر. السابع: أَنْ يكونَ «رسولاً» بمعنى رسالة، فيكونَ «رسولاً» بدلاً صريحاً مِنْ غير تأويل، أو بياناً عند مَنْ يرى جَرَيانه في النكراتِ كالفارسيِّ، إلاَّ أنَّ هذا يُبْعِدُه قولُه: «يَتْلُو عليكم» ، لأنَّ الرسالةَ لا تَتْلوا إلاَّ بمجازٍ، الثامن، أَنْ يكونَ «رسولاً» منصوباً بفعلٍ مقدر، أي: أرسل رسولاً لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه. التاسع: أَنْ يكونَ منصوباً على الإِغراء، أي: اتبِعوا والزَمُوا رسولاً هذه صفتُه. واختلف الناس في «رسولاً» هل هو النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو القرآنُ نفسُه، أو جبريلُ؟ قال الزمخشري: «هو جبريلُ عليه السلام» أُبْدِل مِنْ «ذِكْراً» لأنه وُصِف بتلاوةِ آياتِ اللَّهِ، فكأنَّ إنزالَه في معنى إنزالِ الذِّكْرِ فصَحَّ إبدالُه منه «. قال الشيخ:» ولا يَصِحُّ لتبايُنِ المدلولَيْنِ بالحقيقة، ولكونِه لا يكونَ بدلَ بعضٍ ولا بدلَ اشتمال «انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشريُّ سبقه إليه الكلبيُّ. وأمَّا اعتراضُه عليه فغيرُ لازمٍ لأنه

إذا بُوْلِغَ فيه حتى جُعِل نفسَ الذِّكْر كما تقدَّم بيانُه. وقُرىء» رسولٌ «على إضمار مبتدأ، أي: هو رسول. قوله: {لِّيُخْرِجَ} متعلِّقٌ إمَّا ب» أَنْزَل «، وإمَّا ب» يَتْلو «وفاعِلُ يُخْرِج: إمَّا ضميرُ الباري تعالى المنَزِّل، أو ضميرُ الرسولِ، أو الذِّكرِ، و» مَنْ يُؤْمِنْ «هذا أحدُ المواضعِ التي رُوْعي فيها اللفظُ أولاً، ثم المعنى ثانياً، ثم اللفظُ آخِراً، وقد تقدَّم ذلك في المائِدة. وقد تأوَّلَ بعضُهم هذه الآية [وقال: ليس قولُه» خالدين «فيه ضميرٌ عائدٌ على» مَنْ «إنما يعود على مفعولِ» يُدْخِلْه «، و» خالدين «حالٌ منه، والعاملُ فيها» يُدْخِلْه «لا فِعْلُ الشرطِ] . هذه عبارةُ الشيخِ، وفيها نظرٌ؛ لأنَّ» خالدين «حالٌ مِنْ مفعول» يُدْخِلْه «عند القائلين بالقول الأول، وكأنَّ إصلاحَ العبارة أَنْ يقالَ: حالٌ مِنْ مفعولِ» يُدْخِلْه «الثاني، وهو» جناتٍ «والخلودُ في الحقيقةِ لأصحابِها، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال: خالدين هم فيها، لجريان الوصفِ على غير مَنْ هو له. قوله: {قَدْ أَحْسَنَ الله} حالٌ ثانيةٌ، أو حال مِنْ الضمير في» خالدين «فتكونُ متداخلةً. /

12

قوله: {مِثْلَهُنَّ} : العامَّةُ بالنصب، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على «سَبْعَ سماواتٍ» قاله الزمخشري. واعترض

الشيخُ بلزومِ الفَصْلِ بين حرفِ العطفِ، وهو على حرفٍ واحدٍ، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرورِ، وهو مختصٌّ بالضرورةِ عند أبي عليّ. قلت: وهذا نظيرُ قولِه: {آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] عند ابنِ مالك، وقد تقدَّم تحريرُ هذا الخلافِ في البقرة والنساء وهود عند قولِه: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس} [النساء: 58] ، {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] . والثاني: أنه منصوبٌ بمقدَّر بعد الواوِ، أي: وخَلَق مثلَهُنَّ من الأرضِ. واختلف الناس في المِثْلِيَّة، فقيل: مِثْلُها في العدد. وقيل: في بعض الأوصاف فإنَّ المِثْلِيَّةَ تَصْدُقُ بذلك، والأول هو المشهورُ. وقرأ عاصم في رواية «مثلُهُنَّ» بالرفع على الابتداء والجارُّ قبلَه خبرُه. قوله {يَتَنَزَّلُ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ نعتاً لِما قبله، وقاله أبو البقاء. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ وعيسى «يُنَزِّل» بالتشديد،

أي: الله، «الأمر» مفعولٌ به، والضميرُ في «بينهنَّ» عائد على السماوات والأرضين عند الجمهور، أو على السماوات والأرض عند مَنْ يقولُ: إنها أرضٌ واحد. قوله: {لتعلموا} متعلقٌ ب «خَلَقَ» أو ب «يَتنزَّل» والعامَّةُ «لتعلَموا» خطاباً، وبعضُهم بياء الغَيْبة.

التحريم

قوله: {تَبْتَغِي} : يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل «تُحَرِّم» أي: لِمَ تُحَرِّمُ مُبْتَغياً به مَرْضاتَ أزواجِك. ويجوز أَنْ يكون تفسيراً ل تُحَرِّمُ، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً، فهو جوابٌ للسؤال. و «مَرْضاة» اسمُ مصدرٍ، وهو الرِّضا، وأصلُه مَرْضَوَة، وقد تَقَدَّم ذلك والمصدرُ هنا مضافٌ: إمَّا للمفعولِ أو للفاعل أي: أن تُرْضِيَ أنت أزواجَك، أو أَنْ يَرْضَيْنَ.

2

قوله: {تَحِلَّةَ} : مصدر تَحَلَّل مضعَّفاً وهو نحو، تَكْرِمَة، وهذان ليسا مقيسَيْن؛ فإنَّ قياسَ مصدرِ فَعَّل: التفعيل، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ، فأما المعتلُّ اللام نحو: زَكَّى، والمهموزُها نحو: نَبَّأ فمصدرُهما تَفْعِلة نحو: تَزْكية وتَنْبِئة، على أنه قد جاء التفعيلُ كاملاً في المعتلِّ نحو قولِه: 4276 - باتَتْ تُنَزِّي دَلْوَها تَنْزِيَّا ...

وأصلُها تَحْلِلَه كتكْرِمة فأُدغِمَتْ، وانتصابُها على المفعول به.

3

قوله: {وَإِذَ أَسَرَّ} : العاملُ فيه اذكُرْ، فهو مفعولٌ به لا ظرفٌ. قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أصلُ نَبَّأ وأنبأ وأخبر وخبَّر وحَدَّث أَنْ يتعدَّى لاثنين إلى الأول بنفسِها، والثاني بحرف الجر، وقد يُحْذَفُ الجارُّ تخفيفاً، وقد يُحْذَفُ الأول للدلالة عليه. وقد جاءت الاستعمالاتُ الثلاثةُ في هذه الآياتِ، فقولُه: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} تعدَّ لاثنين حُذِفَ أوَّلُهما، والثاني مجرورٌ بالباء، أي: نَبَّأت به غيرَها، وقوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} ذكرهما، وقولُه: {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} ذَكَرهما وحَذَفَ الجارَّ. قوله: {عَرَّفَ بَعْضَهُ} قرأ الكسائي بتخفيف الراء، والباقون بتثقيلِها. فالتثقيلُ يكون المفعولُ الأول معه محذوفاً أي: عَرَّفها بعضَه أي: وقَّفها عليه على سبيل الغَيْبِ، وأعرضَ عن بعضٍ تكرُّماً منه وحِلْماً. وأمَّا التخفيفُ فمعناه: جازَى على بعضِه، وأعرضَ عن بعضٍ. وفي التفسير: أنَّه أسَرَّ إلى حفصةَ شيئاً فحدَّثَتْ به غيرَها فطلَّقَها، مجازاةً على بعضِه، ولم يُؤَاخِذْها بالباقي، وهو من قبيل قولِه: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} [البقرة: 197] أي: يُجازيكم عليه، وقولِه: {أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] وإنما اضْطُررنا إلى هذا التأويلِ لأنَّ اللَّهَ تعالى أَطْلَعَهُ على

جميعِ ما أنبأَتْ به غيرَها لقولِه تعالى: {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} وقرأ عكرمة «عَرَّاف» بألفٍ بعد الراء، وخُرِّجَتْ على الإِشباعِ كقولِه: 4277 -. . . . . . . . . . . . . من العَقْرابِ ... الشائلاتِ عُقَدَ الأذْنَابِ وقيل: هي لغةٌ يمانيةٌ، يقولون: «عَرَافَ زيدٌ عمراً» أي: عَرَفه. وإذا ضُمِّنت هذه الأفعالُ الخمسةُ معنى أَعْلَم تعدَّتْ لثلاثةٍ. وقال الفارسي: «تَعدَّتْ بالهمزةِ أو التضعيف، وهو غَلَطٌ؛ إذ يقتضي ذلك أنها قبل التضعيفِ والهمزةِ كانَتْ متعدِّيةً لاثنين، فاكتسَبَتْ بالهمزةِ أو التضعيفِ ثالثاً، والأمرُ ليس كذلك اتفاقاً.

4

قوله: {إِن تَتُوبَآ} : شرطٌ وفي جوابِه وجهان، أحدهما: هو قولُه «فقد صَغَتْ» والمعنى: إن تتوبا فقد وُجِدَ منكم ما يُوْجِبُ التوبةَ، وهو مَيْلُ قلوبِكما عن الواجبِ في مخالفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حُبِّ ما يُحِبُّه وكراهةِ/ ما يكرهه. وصَغَتْ: مالَتْ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنِ مسعودٍ «فقد راغَتْ» . والثاني: أن الجوابَ محذوفٌ تقديرُه: فذلك واجبٌ عليكما، أو فتابَ اللَّهُ عليكما، قاله أبو البقاء. وقال: «ودَلَّ على المحذوفِ فقد صَغَتْ؛ لأن إصغاءَ القلبِ إلى ذلك ذنبٌ» . وهذا الذي قاله لا حاجةَ إليه، وكأَنَّه زَعَمَ أنَّ مَيْلَ القلبِ ذنبٌ فكيف يَحْسُنُ أَنْ يكونَ جواباً؟ وغَفَلَ عن المعنى الذي ذكرْتُه في

صحةِ كَوْنِه جواباً. و «قلوبُكما» مِنْ أفصحِ الكلامِ حيث أوقه الجمعَ موقعَ المثنى، استثقالاً لمجيءِ تثنيتَيْن لو قيل: قلباكما. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آيةِ السَّرِقةِ في المائدة، وشروطُ المسألةِ وما اختلف الناس فيه. ومِنْ مجيءِ التثنيةِ قولُه: 4278 - فتخالَسا نَفْسَيْهما بنوافِذٍ ... كنوافِذِ العُبْطِ التي لا تُرْقَعُ والأحسنُ في هذا البابِ الجمعُ، ثم الإِفرادُ، ثم التثنيةُ، وقال ابن عصفور: «لا يجوز الإِفراد إلاَّ في ضرورة كقوله: 4279 - حمامةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمي ... سَقاكِ مِنْ الغُرِّ الغوادِي مَطيرُها وتبعه الشيخُ، وغلَّط ابنَ مالك في كونِه جَعَلَه أحسن من التثنيةِ. وليس بغلطٍ للعلة التي ذكرها، وهي كراهةُ توالي تثنيتَيْن مع أَمْنِ اللَّبْس.

وقوله: {إِن تَتُوبَآ} فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ، والمرادُ أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخَيْن عائشةُ وحفصةُ رضي الله عنهما وعن أبوَيْهما. قوله: {وَإِن تَظَاهَرَا} أصلُه تتظاهرا فأَدْغَمَ، وهذه قراءة العامَّةِ، وعكرمةُ» تتظاهرا «على الأصل، والحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في روايةٍ عنهما بتشديد الظاء والهاء دون ألف وأبو عمروٍ في روايةٍ» تظاهرا «بتخفيف الطاء والهاء، حَذَفَ إحدى التاءَيْن وكلُّها بمعنىً المعاونة مِن الظهر لأنه أقوى أعضاءِ الإِنسانِ وأجلُّها. قوله: {هُوَ مَوْلاَهُ} يجوزُ أَنْ يكونَ» هو «فصلاً، و» مَوْلاه «الخبرَ، وأن يكونَ مبتدأً، و» مَوْلاه «خبرُه، والجملةُ خبرُ» إنَّ «. قوله: {وَجِبْرِيلُ} يجوزُ أَنْ يكون عطفاً على اسمِ الله تعالى ورُفِعَ نظراً إلى محلِّ اسمِها، وذلكَ بعد استكمالِها خبرَها، وقد عَرَفْتَ مذاهبَ الناسِ فيه، ويكونَ» جبريلُ «وما بعده داخلَيْن في الولايةِ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ويكونَ جبريلُ ظهيراً له بدخولِه في عمومِ الملائكةِ، ويكونَ» الملائكة «مبتدأً و» ظهيرٌ «خبرَه، أُفْرِدَ لأنه بزنةِ فَعيل. ويجوزُ أَنْ يكونَ الكلامُ تمَّ عند قولِه:» مَوْلاه «ويكونُ» جبريل «مبتدأ، وما بعده عَطْفٌ عليه. و «ظهيرٌ» خبرُ الجميع، فتختصُّ الولايةُ بالله، ويكون «جبريل» قد ذُكر في المعاونةِ مرَّتين: مرةً بالتنصيصِ عليه، ومرةً بدخولِه في عموم الملائكةِ، وهذا عكس ما في البقرة مِنْ قوله: {

مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} فإنه ذكر الخاصَّ بعد العامِّ تشريفاً له، وهنا ذُكِر العامُّ بعد الخاصِّ، لم يَذْكُرِ الناسُ إلاَّ القسمَ الأول. وقوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} الظاهرُ أنه مفردٌ، ولذلك كُتب بالحاء دونَ واوِ الجمع. وجَوَّزوا أن يكونَ جمعاً بالواو والنون، حُذِفَتْ النونُ للإِضافة، وكُتِبَ دون واوٍ اعتباراً بلفظه لأنَّ الواوَ ساقطةٌ لالتقاء الساكنين نحو: {وَيَمْحُ الله الباطل} بالشورى: 24] و {يَدْعُ الداع} {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] إلى غيرِ ذلك، ومثل هذا ما جاء في الحديثِ: «أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصَّتُه» قالوا: يجوز أن يكونَ مفرداً، وأن يكونَ جمعاً كقولِه: {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين لفظاً، فإذا كُتِب هذا فالأحسنُ أَنْ يُكتبَ بالواوِ لهذا الغرضِ، وليس ثَمَّ ضرورةٌ لحَذْفِها كما مَرَّ في مرسوم الخط. وجَوَّزَ أبو البقاء في «جبريلُ» أن يكونَ معطوفاً على الضمير في «مَوْلاه» يعني المستتَر، وحينئذ يكون الفصلُ بالضميرِ المجرورِ كافياً في تجويزِ العطفِ عليه. وجوَّز أيضاً أَنْ يكونَ مبتدأ و «صالحُ» عطفٌ عليه. والخبرُ محذوفٌ أي: مَواليه.

5

قوله: {إِن طَلَّقَكُنَّ} : شرطٌ معترضٌ بين اسم عَسَى

وخبرِها، وجوابُه محذوفٌ أو متقدمٌ/ أي: إنْ طَلَّقَكُنْ فعسَى. وأدغم أبو عمروٍ القافَ في الكاف على رأيِ بعضِهم قال: «وهو أَوْلَى مِنْ» يَرْزُقكم «ونحوِه لِثِقَلِ التأنيث» . «مُسْلماتٍ» إلى آخره: إمَّا نعتٌ أو حالٌ أو منصوبٌ على الاختصاص، وتقدَّمَتْ قراءتا {يُبْدِلَهُ} تخفيفاً وتشديداً في الكهف. وقرأ عمرو بن فائد «سَيِّحاتٍ» ، وإنما وُسِّطَتِ الواوُ بين «ثَيِّبات وأَبْكاراً» لتنافي الوصفَيْن دون سائر الصفات. وثَيِّبات ونحوه لا ينقاسُ لأنه اسمُ جنسٍ مؤنثٍ فلا يُقال: نساء خَوْدات، ولا رأيت عِيْنات. والثَّيِّبُ: وزنُها فَيْعل مِن ثاب يثوب أي: رَجَعَ كأنها ثابَتْ بعد زوالِ عُذْرَتِها، وأصلها ثَيْوِب كسَيِّد ومَيِّت، أصلُهما سَيْوِد ومَيْوِت فأُعِلَّ الإِعلالَ المشهورَ.

6

قوله: {قوا أَنفُسَكُمْ} : أمرٌ من الوِقايةِ فوزنُه «عُوا» لأن الفاءَ حُذِفَتْ لوقوعِها في المضارع بين ياءٍ وكسرةٍ، وهذا محمولٌ عليه، واللامُ حُذِفَتْ حَمْلاً له على المجزوم، بيانه أنَّ أصلَه اِوْقِيُوا كاضْرِبوا فحُذِفَتِ الواوُ التي هي فاءٌ لِما تقدَّمَ، واستثْقِلَتِ الضمةُ على الياء

فحُذِفَتْ، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ الياءُ وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ. وهذا تعليلُ البَصْريين. ونقل مكيٌّ عن الكوفيين: أنَّ الحذفَ عندهم فرقاً بين المتعدي والقاصر فحُذِفت الواوُ التي هي فاءٌ في يَقي ويَعِدُ لتعدِّيهما، ولم تُحْذَفْ من يَوْجَل لقُصوره. قال: «ويَرِدُ عليهم نحو: يَرِمُ فإنه قاصرٌ ومع ذلك فقد حذفوا فاءَه» . قلت: وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ يَوْجَل لم تَقَعْ فيه الواوُ بين ياءٍ وكسرةٍ لا ظاهرةٍ ولا مضمرةٍ. فقلت: «ولا مضمرة» تحرُّزاً مِنْ يَضَعُ ويَسَعُ ويَهَبُ. و «ناراً» مفعولٌ ثانٍ. و {وَقُودُهَا الناس} صفةٌ ل «ناراً» وكذلك «عليها ملائكةٌ» . ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه عليها و «ملائكةٌ» فاعلٌ به. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفة الأولى وكذلك {لاَّ يَعْصُونَ الله} . وقرأ بعضُهم «وأَهْلوكم» وخُرِّجَتْ على العطفِ على الضمير المرفوع ب «قُوا» وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالمفعولِ. قال الزمخشري بعد ذِكْرِهِ القراءةَ وتخريجَها: «فإنْ قلتَ: أليس التقديرُ: قُوا أنفسَكم، ولْيَقِ أَهْلوكم أنفسكم؟ قلت: لا. ولكن المعطوفَ في التقديرِ مقارنٌ للواو، و» أنفسَكم «واقعٌ بعده كأنَّه قيل: قُوا أنتم وأهلوكم أنفسَكم لمَّا جَمَعْتَ

مع المخاطبِ الغائبَ غَلَّبْته [عليه] فجعَلْتَ ضميرَهما معاً على لفظِ المخاطبِ» . وتقدَّم الخلافُ في واو «وقود» ضماً وفتحاً في البقرة. قوله: {مَآ أَمَرَهُمْ} يجوز أَنْ تكونَ «ما» بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي ما أَمَرَهموه، والأصلُ: به. لا يُقال: كيف حَذَفَ العائدَ المجرورَ ولم يَجُرَّ الموصولَ بمثله؟ لأنه يَطَّردُ حَذْفُ هذا الحرفِ فلم يُحْذَفْ إلاَّ منصوباً، وأن تكونَ مصدريةً، ويكونَ مَحَلُّها بدلاً من اسمِ الله بدلَ اشتمالٍ، كأنه قيل: لا يَعْصُون أَمْرَه. وقوله: {وَيَفْعَلُونَ} قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: أليسَتْ الجملتان في معنى واحدٍ؟ قلت: لا؛ لأن الأولى معناها: أنهم يتقبَّلون أوامرَه ويلتزمونها، والثانيةَ معناها: أنهم يُؤَدُّون ما يؤمرون به، لا يتثاقلون عنه ولا يَتَوانَوْن فيه» .

8

قوله: {نَّصُوحاً} : قرأ الجمهور بفتحِ النونِ، وهي صيغةُ مبالغةٍ، أسند النصحَ إليها مجازاً، وهي مِنْ نَصَح الثوبَ أي: خاطه، وكأنَّ التائبَ يُرَقِّع ما خرقه بالمعصية. وقيل: مِنْ قولِهم: «عسلٌ ناصِح» أي خالص. وأبو بكر بضم النون وهو مصدرٌ ل نَصَحَ يقال: نَصَحَ نُصْحاً ونُصوحاً نحو: كَفَرَ كُفْراً وكُفوراً، وشَكَر شُكراً وشُكوراً. وفي انتصابِه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ له أي: لأجلِ النصحِ الحاصلِ

نفعُه عليكم. والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلٍ محذوفٍ أي: ينصحُهم نُصْحاً. الثالث: أنه صفةٌ لها: إمَّا على المبالغةِ على أنها نفسُ المصدرِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي ذاتَ نَصوحٍ. وقرأ زيد بن علي «تَوْباً» دونَ تاءٍ. قوله: {وَيُدْخِلَكُمْ} قراءةُ العامةِ بالنصبِ عطفاً على «يُكَفِّر» وابنُ أبي عبلة بسكون الراء، فاحتمل أَنْ يكونَ من إجراء المنفصل مُجْرَى المتصل، فسَكَنَتِ الكسرةُ؛ لأنه يُتَخيل من مجموع «يُكَفِّرَ عنكم» مثل: نِطَع وقِمَع فيقال فيهما: نِطْع وقِمْع. ويُحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على محلِّ «عسى أَنْ يُكَفِّر» كأنه قيل: تُوبوا يُوْجبْ تكفيرَ سيئاتِكم ويُدْخِلْكم، قاله الزمخشري، يعني أنَّ «عسى» في محلِّ جزم جواباً للأمر؛ لأنه لو وقع موقعَها مضارع لا نجزم كما مَثَّل به الزمخشري، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ «عسى» جوابٌ، ولا تقع جواباً لأنها للإِنشاء. قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى} منصوبٌ ب «يُدْخلكم» أو بإضمار اذكُرْ. قوله: {والذين آمَنُواْ} يجوز فيه وجهان أحدُهما: / أن يكونَ

مَنْسوقاً على النبيِّ [أي] : ولا يُخْزي الذين آمنوا. فعلى هذا يكون «نُورُهم يسعى» مستأنفاً أو حالاً. والثاني: أن يكونَ مبتدأ، وخبره «نورُهم يَسْعى» و «يقولون» خبرٌ ثانٍ أو حال. وتقدَّم إعرابُ مثلِ هذه الجملِ في الحديد فعليك باعتبارِه. وتقدَّمَ إعرابُ ما بعدَها في براءة. وقرأ أبو حَيْوَةَ وسهل الفهمي «وبإيمانهم» بكسر الهمزة، وتقدَّم ذلك في الحديد.

10

قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} : إلى آخره قد تَقَدَّم الكلامُ على «ضَرَبَ» مع المثل. وهل هي بمعنى صَيَّر أم لا؟ وكيف ينتصِبُ ما بعدها؟ في سورةِ النحلِ فأغنى ذلك عن إعادتِه هنا. قوله: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ} جملةٌ مستأنفة كأنها مفسِّرةٌ لضَرْبِ المَثَلِ، ولم يأتِ بضميرِها، فيُقال: تحتَهما أي: تحتَ نوحٍ ولوطٍ، لِما قُصِدَ مِنْ تَشْريفِهما بهذه الأوصافِ الشريفةِ: 4280 - لا تَدْعُني إلاَّ ب «يا عبدَها» ... فإنَّه أشرفُ أسمائي

وليصِفَها بأجلِّ الصفاتِ وهو الصَّلاحُ. قوله: {فَلَمْ يُغْنِيا} العامَّةُ بالياء مِنْ تحتُ أي: لم يُغْن نوحٌ ولوطٌ عن امرأتيهما شيئاً مِنْ الإِغناءِ مِنْ عذابِ الله. وقرأ مبشر بن عبيد «تُغْنِيا» بالتاءِ مِنْ فوقُ أي: فلم تُغْنِ المرأتان عن أنفسِهما. وفيها إشكالٌ: إذ يلزمُ من ذلك تعدِّي فعل المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ المواضعِ المستثناةِ وجوابُه: أنَّ «عَنْ» هنا اسم كهي في قوله: 4281 - دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حَجَراتِهِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم لك هذا والاعتراضُ عليه بقوله: {وهزى إِلَيْكِ} [مريم: 25] {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] وما أُجيب به ثَمَّة.

11

قوله: {إِذْ قَالَتْ} : منصوبٌ ب «ضَرَبَ» وإنْ تأخر ظهورُ الضَّرْبِ، ويجوز أَنْ ينتصِبَ بالمَثَل. قوله: {عِندَكَ} يجوز تعلُّقُه ب ابنِ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «بيتاً» ، كان نعتَه، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً. و «في الجنة» : إمَّا متعلِّقٌ ب «ابْنِ» وإمَّا بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل بيتاً.

12

قوله: {وَمَرْيَمَ} : عطفٌ على «امرأةَ فرعونَ» ضَرَب الله تعالى المَثَل للكافرين بامرأتَيْن وللمؤمنين بامرأتَيْن. وقال أبو البقاء: «ومريم أي: واذكر مريمَ. وقيل: ومَثَل مريمَ» انتهى. وهذا لا حاجةَ إليه مع ظهور المعنى الذي ذكرْتُه. وقرأ العامَّةُ «ابنةَ» بنصب التاء. وأيوب السُّخْتياني بسكون الهاء وَصْلاً، أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. والعامَّةُ أيضاً «فَنَفَخْنا فيه» أي: في الفَرْج. وعبد الله «فيها» أي: في الجُملة. وتقدَّم في الأنبياء مثله. والعامَّةُ أيضاً «وصَدَّقَتْ» بتشديد الدال. ويعقوبُ وقتادةُ وأبو مجلز وعاصمٌ في روايةٍ بتخفيفِها أي: صَدَقَتْ فيما أخبرَتْ به من أمرِ عيسى عليه السلام. والعامَّة على «بكلمات» جمعاً. والحسن ومجاهد والجحدري «بكلمة» بالإِفراد. فقيل: المرادُ بها عيسى لأنه كلمة الله. وتقدَّم الخلافُ في كتابة «وكتبه» في أواخر البقرة. وقرأ أبو رجاء «وكُتْبِه» بسكون التاء وهو تخفيفٌ حسنٌ، ورُوي عنه «وكَتْبِه» بفتح الكاف. قال أبو الفضل: مصدرٌ وُضِع مَوْضِعَ الاسمِ يعني: ومكتوبِه.

قوله: {مِنَ القانتين} يجوزُ في «مِن» وجهان، أحدهما: أنها لابتداء الغاية. والثاني: أنها للتبعيضِ، وقد ذكرهما الزمخشريُّ فقال: «ومِنْ للتبعيض. ويجوزُ أَنْ تكونَ لابتداء الغاية، على أنَّها وُلِدَتْ من القانتين؛ لأنها من أعقابِ هارونَ أخي موسى عليهما السلام» . قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِم قيل:» من القانتين «على التذكير؟ قلت: لأنَّ القُنوتَ صفةٌ تَشْمل منْ قَنَتَتْ من القبيلَيْن، فغلَّب ذكورَه على إناثِه.

الملك

قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} : متعلِّقٌ ب «خَلَقَ» وقوله: «أيُّكم أحسنُ» قد تقدَّم مثلُه في أول هود. وقال الزمخشري هنا: «فإنْ قلتَ: مِن أين تعلَّقَ قولُه: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} بفعلِ البَلْوى؟ قلت: من حيث إنَّه تضمَّن معنى العلمِ، فكأنه قيل: ليُعْلمَكم أيُّكم أحسنُ عملاً. وإذا قلتَ: عَلِمْتُه: أزيدٌ أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملةُ واقعةً موقعَ الثاني مِنْ مفعولَيْه، كما تقول: عَلِمْتُه هو أحسن عملاً. فإنْ قلتَ: أتُسَمِّي هذا تعليقاً؟ قلت: لا، إنما/ التعليقُ، أَنْ يقعَ بعده ما يَسُدُّ مَسَدَّ المفعولَيْن جميعاً، كقولك: عَلِمْتُ أيُّهما عمروٌ، وعلِمْتُ أزيدٌ منطلق؟ . ألا ترى أنه لا فَصْلَ بعد سَبْقِ أحدِ المفعولَيْن بين أَنْ يقَع ما بعده مُصَدَّراً بحرف الاستفهامِ وغيرَ مصدَّرٍ به. ولو كان تعليقاً لافترقَتِ الحالتان كما افترقتا في قولِك: عَلِمْتُ أزيد منطلِقٌ، وعلمْتُ زيداً منطلقاً» . قلت: وهذا الذي مَنَعَ تسميتَه تعليقاً سَمَّاه به غيرُه، ويجعلون تلك الجملةَ في محلِّ ذلك الاسمِ الذي يتعدَّى إليه ذلك الفعلُ، فيقولون في «عَرَفْت أيُّهم منطلقٌ» : إنَّ الجملةَ الاستفهاميةَ في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ

مفعولِ «عَرَفْتُ» وفي «نَظَرْتُ أيُّهم منطلقٌ» : إن الجملةَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ «نظر» يتعدَّى به.

3

قوله: {الذي خَلَقَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً للعزيز الغفور نعتاً أو بياناً أو بدلاً، وأَنْ يكونَ منقطِعاً عنه خبرَ مبتدأ، أو مفعولَ فعلٍ مقدرٍ. قوله: {طِبَاقاً} صفةٌ ل «سبعَ» وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه جمعُ طَبَق نحو: جَبَل وجِبال. والثاني: أنه جمعُ طَبَقة نحو: رَقَبة ورِقاب. والثالث: أنه مصدرُ طابَقَ يقال: طابقَ مُطابقة وطِباقاً. ثم: إمَّا أَنْ يجعلَ نفسَ المصدرِ مبالغةً، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذاتَ طباق، وإمَّا أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: طُوْبِقَتْ طباقاً مِنْ قولِهم: طابَقَ النعلَ أي: جعله طبقةً فوق أخرى. قوله: {مِن تَفَاوُتٍ} هو مفعولُ «تَرَى» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. وقرأ الأخَوان «تَفَوُّتٍ» بتشديدِ الواوِ دون ألفٍ. والباقون بتخفيفها بعد ألفٍ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ كالتعهُّد والتعاهد، والتظهُّر والتظاهُر. وحكى أبو زيد «تفاوَتَ الشيءُ تفاوُتاً بضم الواو وفتْحِها وكسرِها، والقياسُ الضمّ كالتقابُل، والفتحُ والكسرُ شاذان. والتفاوُت: عدمُ التناسُبِ؛ لأنَّ بعض الأجزاءِ يَفُوت الآخَرَ. وهذه الجملةُ المنفيةُ صفةٌ مُشايعةٌ لقولِه:» طباقاً «وأصلُها: ما ترى فيهنَّ، فوضَع مكانَ الضميرِ قوله: {خَلْقِ الرحمن} تعظيماً لخلقِهنَّ وتنبيهاً على سببِ سلامَتهن، وهو أنه خَلْقُ الرحمن، قاله

الزمخشريُّ، وظاهر هذا: أنه صفةٌ ل» طباقاً «، وقام الظاهرُ فيها مَقامَ المضمرِ، وهذا إنما نعرِفُه في خبرِ المبتدأ، وفي الصلةِ، على خلافٍ فيهما وتفصيلٍ. وقال الشيخ:» الظاهرُ أنه مستأنَفٌ «وليس بظاهرٍ لانفلاتِ الكلامِ بعضِه من بعض. و» خَلْق «مصدرٌ مضافٌ لفاعِله، والمفعولُ محذوفٌ أي: في خَلْقِ الرحمنِ السماواتِ، أو كلَّ مخلوقٍ، وهو أَوْلى ليعُمَّ، وإن كان السياقُ مُرْشِداً للأول. قوله: {فارجع} مُتَسَبِّبٌ عن قولِه:» ما تَرَى «و» كرَّتَيْن «نصبٌ على المصدرِ كمرَّتَيْن، وهو مثنى لا يُراد به حقيقتُه، بل التكثيرُ، بدليلِ قولِه: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: مُزْدجراً وهو كليلٌ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتَيْن ولا ثلاثٍ، وإنما المعنى كرَّات، وهذا كقولهم:» لَبَّيْك وسَعْديك وحنانَيْك ودَواليك وهذاذَيْك لا يُريدون بهذه التثنيةِ شَفْعَ الواحدِ، إنما يريدون التكثيرَ أي: إجابةً لك بعد أخرى، وإلاَّ تناقَضَ الغرضُ، والتثنيةُ تفيدُ التكثيرَ لقرينةٍ كما يُفيده أصلُها، وهو العطفُ لقرينةٍ كقولِه:

4282 - لو عُدَّ قبرٌ كنتَ أكرَمَهم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: قبول كثيرة ليتِمَّ المَدْحُ. وقال ابن عطية: «كَرَّتَيْن معناه مَرَّتَيِن، ونصبُها على المصدرِ» . وقيل: الأُوْلى ليُرى حُسْنُها واستواؤُها، والثانية لتُبْصَرَ كواكبُها في سَيْرها وانتهائِها، وهذا تظاهُرٌ يُفْهِمُ التثنية فقط. قوله: {هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ مُعَلِّقَةً لفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه «فارْجِعِ البصر» أي: فارْجِعِ البصرَ فانظر: هل ترى، وأَنْ يكونَ «فارجعِ البصر» مضمَّناً معنى انظر؛ لأنه بمعناه، فيكونُ هو المعلَّق. وأدغَم أبو عمرو لامَ «هل» في التاء هنا، وفي الحاقة وأَظْهرها الباقون، وهو المشهورُ في اللغة. والفُطور: الصُّدوع والشُّقوق قال: 4283 - شَقَقْتُ القلب ثم ذَرَرْتُ فيه ... هواكِ فَلِيْطَ فالتأَمَ الفُطورُ

4

قوله: {يَنْقَلِبْ} : العامَّةُ بجزمِه على جوابِ الأمر، والكسائي/ في روايةٍ برفعِه، وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ حالاً مقدرة. والثاني: أنه على حذفِ الفاءِ أي: فينقلِبْ. وخاسِئاً. حال

وقوله: «وهو حسيرٌ» حال: إمَّا مِنْ صاحبِ الأولى، وإمَّا من الضمير المستتر في الحالِ قبلَها، فتكونُ متداخلةٌ. وقد تقدَّم مادتا «خاسئاً» و «حسيراً» في المؤمنين والأنبياء.

5

قوله: {الدنيا} : [يعني] منكم؛ لأنَّها فُعْلَى تأنيثُ أَفْعَلِ التفضيلِ. و «جَعَلْناها» يجوزُ في الضميرِ وجهان، أحدُهما: أنه عائدٌ على «مَصابيحَ» وهو الظاهر. قيل: وكيفيةُ الرَّجْم: أَنْ يُؤْخَذَ نارٌ من ضوءِ الكوكبِ، يُرْمى به الشيطانُ والكوكبُ في مكانِه لا يُرْجَمُ به. والثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ على السماء والمعنى: منها، لأنَّ السماءَ ذاتَها ليست للرُّجوم، قاله الشيخ. وفيه نظرٌ لعدمِ ظهورِ عَوْدِ الضميرِ على السماءِ. والرُّجوم: جمعُ رَجْم وهو مصدرٌ في الأصل، أُطْلِقَ على المَرْجوم به كضَرْبِ الأميرِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ باقياً على مصدريتِه، ويُقَدَّرُ مُضافٌ أي: ذاتُ رُجوم. وجَمْعُ المصدرِ باعتبارِ أنواعِه، فعلى الأولِ يتعلَّقُ قولُه: «للشياطين» بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل رُجوماً، وعلى الثاني لا تعلُّقَ له لأنَّ اللامَ مزيدةٌ في المفعول به، وفيه دلالةٌ حينئذٍ على إعمالِ المصدرِ منوناً مجموعاً. ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً له أيضاً كالأولِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. وقيل: الرُّجومُ هنا: الظنونُ والشياطينُ شياطينُ الإِنْسِ، كما قال: 4283 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ

6

قوله: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ} : خبرٌ مقدَّمٌ في قراءةِ العامَّةِ، و «عذابُ جهنَم» مبتدَؤُه. وفي قراءةِ الحسن والضحاك والأعرج بنصبهِ متعلِّقٌ ب «أَعْتَدْنا» عطفاً على «لهم» ، و «عذابَ جهنمَ» عطفٌ على «عذابَ السعير» فعطَفَ منصوباً على منصوب، ومجروراً على مجرورٍ، وأعاد الخافضَ؛ لأنَّ المعطوفَ عليه ضميرٌ. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: وبئسَ المصيرُ مَصيرُهم، أو عذابُ جهنم، أو عذابُ السعير.

7

قوله: {لَهَا} : متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «شهيقاً» لأنه في الأصلِ صفتُه. ويجوزُ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: سمعوا لأهلها. و «وهي تفور» جملةٌ حاليةٌ.

8

قوله: {تَمَيَّزُ} : هذه قراءةُ العامَّةِ بتاءٍ واحدةٍ مخففةٍ. والأصلُ: تتميَّزُ بتاءَيْن وبها قرأ طلحةُ والبزيُّ عن ابنِ كثير بتشديدها، أدغم إحدى التاءَيْن في الأخرى، وهي قراءةٌ حسنةٌ لعدمِ التقاء ساكنين، بخلافِ قراءتِه {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] و {نَاراً تلظى} [الليل: 14] وبابِه. وأبو عمرو يُدْغِمُ الدالَ في التاءِ على أصلِه في المتقارَبيْنِ. وقرأ الضحاك «تمايَزُ» والأصل:

تتمايَزُ بتاءَيْن فَحَذَفَ إحداهما. وزيد بن علي «تَمِيْزُ» مِنْ ماز، وهذا كلُّهُ استعارةٌ مِنْ قولِهم: تميَّز فلان من الغيظِ أي: انفصلَ بعضُه من بعض من الغيظ ف «مِنْ» سببيَّةٌ أي: بسببِ الغَيْظِ. ومثلُه [قولُ الراجزِ] في وصف كَلْبٍ اشتدَّ عَدْوُه: 4285 - يكادُ أَنْ يخرجَ مِنْ إهابِهْ ... قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ} قد تقدَّم الكلامُ على «كلما» وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ ضميرِ جهنَّم.

9

قوله: {بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ} : فيه دليلٌ على جوازِ الجمعِ بين حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملةِ المجابِ بها، إذ لو قالوا: بلى لَفُهِمَ المعنى، ولكنهم أظهروه تَحَسُّراً وزيادةً في تَغَمُّمِهم على تفريطهِم في قبولِ قولِ النذيرِ ولِيَعْطِفوا عليه قولهم: «فكذَّبْنا» إلى آخره. وقوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ظاهرُه أنه مِنْ مقولِ الكفارِ للنذير. وجوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرسلِ للكفرةِ، وحكاه الكفرةُ للخَزَنَةِ أي: قالوا لنا هذا فلم نَقْبَلْه.

11

وقوله: {بِذَنبِهِمْ} : وحدَه لأنه مصدرٌ في الأصلِ، ولم يَقْصِدِ التنويعَ بخلافِ «بذنوبهم» في مواضعَ. قوله: {فَسُحْقاً} فيه وجهان أحدُهما: أنَّه منصوبٌ على المفعولِ به أي: ألزَمَهم اللَّهُ سُحْقاً. والثاني: أنَّه منصوبٌ على المصدرِ تقديرُه: سَحَقَهم اللَّهُ سُحْقاً، فناب المصدرُ عن عامِله في الدُّعاءِ نحو: جَدْعاً له وعَقْراً، فلا يجوزُ إظهارُ عامِلِه. / واختلف النحاة: هل هو مصدرٌ لفعلٍ ثلاثيّ أم لفعلٍ رباعي فجاء على حَذْفِ الزوائدِ؟ فذهب الفارسيُّ والزجَّاجُ إلى أنه مصدرُ أسْحَقَه اللَّهُ أي: أبعَدَه. قال الفارسي: «فكان القياسُ إسْحاقاً، فجاء المصدرُ على الحَذْفِ كقوله: 4286 - فإن أَهْلِكْ فذلك كان قَدْري ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي تقديري. والظاهرُ أنه لا يُحتاج لذلك؛ لأنه سُمع: سَحَقه اللَّهُ ثلاثياً. وفيه قولُ الشاعر: 4287 - يجولُ بأطرافِ البلادِ مُغَرِّباً ... وتَسْحَقُه ريحُ الصَّبا كلَّ مَسْحَقِ والذي يظهرُ أنَّ الزجَّاج والفارسيَّ إنما قالا ذلك فيَمْن يقولُ مِن العربِ أَسْحقه الله سُحْقاً.

وقرأ العامَّةُ بضمةٍ وسكونٍ، والكسائيُّ في آخرَين بضمتين، وهما لغتان. والأحسنُ أَنْ يكونَ المثقَّلُ أصلاً للخفيفِ. و [قوله] » لأصحاب «بيانٌ ك {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] وسَقْياً لك. وقال مكي:» والرفعُ يجوز في الكلامِ على الابتداء «أي: لو قيل:» فَسُحْقٌ «جاز لا على أنه تلاوةٌ بل من حيث الصناعةُ، إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ قد قال ما يُضَعِّفُه، فإنه قال:» فسُحْقاً نصباً على جهةِ الدعاءِ عليهم، وجازَ ذلك فيه وهو مِنْ قِبل اللَّهِ تعالى من حيثُ هذا القولُ، فيهم مستقرٌ أَوَّلاً، ووجودُه لم يَقَعْ، ولا يَقَعُ إلاَّ في الآخِرة، فكأنه لذلك في حَيِّز المتوقَّع الذي يُدَّعَى فيه كما تقول: «سُحْقاً لزيدٍ، وبُعْداً له» والنصبُ في هذا كلِّه بإضمار فعلٍ، وأما ما وَقَعَ وثَبَتَ فالوجهُ فيه الرفعُ، كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 24] وغيرُ هذا مِن الأمثلة «انتهى. فضعَّفَ الرفعَ كما ترى لأنه لم يَقَعْ بل هو متوقَّعٌ في الآخرةِ.

12

قوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} : الأحسنُ أَنْ يكونَ الخبر «لهم» و «مغفرةٌ» فاعلٌ به؛ لأن الخبرَ المفرد أصلٌ، والجارُّ من قبيل المفرداتِ أو أقربُ إليها.

14

قوله: {مَنْ خَلَقَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه فاعلُ «يَعْلَمُ» والمفعول محذوفٌ تقديرُه: ألا يعلم الخالقُ خَلْقَه، وهذا هو الذي عليه جمهورُ الناسِ وبه بدأ الزمخشريُّ. والثاني: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعود على الباري سبحانه وتعالى، و «مَنْ» مفعولٌ به أي: ألا يعلمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَه. قال الشيخ: «والظاهر أن» مَنْ «مفعولٌ، والمعنى: أينتفي علمُه بمَنْ خَلَقَه، وهو الذي لَطَفَ عِلْمُه ودَقَّ» ثم قال: «وأجاز بعضُ النَّحْويين أَنْ يكون» مَنْ «فاعلاً والمفعولُ محذوفٌ، كأنه قال: ألا يعلَم الخالقُ سِرَّكم وجهرَكم، وهو استفهامٌ، معناه الإِنكار» . قلت: وهذا الوجهُ الذي جَعَلَه هو الظاهر يَعْزِيه الناسُ لأهلِ الزَّيْعِ والبِدَعِ الدافِعين لعمومِ الخَلْق لله تعالى. وقد أَطْنَبَ مكي في ذلك، وأنكر على القائلِ به ونسبه إلى ما ذكرتُ فقال: «وقد قال بعضُ أهلِ الزَّيْغِ: إن» مَنْ «في موضع نصبٍ اسمٌ للمُسِرِّين والجاهرين لَيُخْرَجَ الكلامُ عن عمومِه ويُدْفَعَ عمومُ الخَلْقِ عن الله تعالى، ولو كان كما زعم لقال: ألا يعلمُ ما خلق لأنه إنما تقدَّم ذِكْرُ ما تُكِنُّ الصدورُ فهو في موضعِ» ما «ولو أَتَتْ» ما «في موضعِ» مَنْ «لكان فيه أيضاً بيانُ العموم: أنَّ اللَّهَ خالقُ كلِّ شيءٍ مِنْ أقوال الخلقِ أَسَرُّوها أو أظهرُها خيراً كانَتْ أو شرّاً، ويُقَوِّي ذلك {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} ، ولم يقلْ: عليمٌ بالمُسِرِّين والمجاهرين وتكون» ما «في موضع

نصب، وإنما يُخْرِجُ الآيةَ مِنْ هذا العموم إذا جَعَلْتَ» مَنْ «في موضعِ نصبٍ اسماً للأُناسِ المخاطبين قَبْلَ هذه الآيةِ، وقوله:» بذات الصدورِ «يمنعُ مِنْ ذلك» انتهى. ولا أَدْري كيف يَلْزَمُ ما قاله مكيٌّ بالإِعرابِ الذي ذكره والمعنى الذي أبداه؟ وقد قال بهذا القولِ أعني الإِعرابَ الثاني جماعةٌ من المحققين ولم يُبالوا بما ذكرَه لعَدَمِ إفهامِ الآية إياه. وقال الزمخشري بعد كلامٍ ذكرَه: «ثم أنكر ألاَّ يُحيط علماً بالمُضْمَر والمُسَرِّ والمُجْهَرِ مَنْ خلق الأشياء، وحالُه أنه/ اللطيفُ الخبيرُ المتوصِّلُ عِلْمُه إلى ما ظَهَر وما بَطَن. ويجوز أَنْ يكون» مَنْ خَلَقَ «منصوباً بمعنى: ألا يعلَمُ مَخْلوقَه، وهذه حالُه» ثم قال: «فإنْ قلتَ: قَدَّرْتَ في» ألا يَعْلَمُ «مفعولاً على معنى: ألا يعلمُ ذلك المذكورَ مِمَّا أُضْمِر في القلب وأُظْهِر باللسان مَنْ خلق؟ فهلا جَعَلْتَه مثلَ قولِهم:» هو يُعْطي ويمنع «، وهلا كان المعنى: ألا يكونُ عالماً مَنْ هو خالقٌ لأن الخالقَ لا يَصِحُّ إلاَّ مع العِلْم؟ قلت: أبَتْ ذلك الحالُ التي هي قولُه: {وَهُوَ اللطيف الخبير} لأنَّك لو قلتَ: ألا يكون عالماً مَنْ هو خالقٌ وهو اللطيفُ الخبيرُ لم يكن معنى صحيحاً؛ لأنَّ» ألا يَعْلَمُ «معتمِدٌ على الحالِ والشيءُ لا يُوَقَّتُ بنفسِهِ، فلا يقال:» ألا يعلَمُ وهو عالمٌ، ولكن ألا يعلم كذا، وهو عالمٌ بكلِّ شيءٍ «.

15

قوله: {ذَلُولاً} : مفعولٌ ثانٍ، أو حالٌ. وذَلول فَعُول للمبالغةِ مِنْ ذَلَّ يَذِلُّ فهو ذالٌّ كقوله: دابَّةٌ ذَلولٌ بَيِّنَةُ الذَّلِّ بالكسرِ،

ورجلٌ ذَلُولٌ بَيِّنُ الذُّلِّ بالضم. وقال ابن عطية: «ذلول فَعُول بمعنى مَفْعول أي: مَذْلولة، فهي ك رَكوب وحَلوب» . قال الشيخ: «وليس بمعنى مَفْعول لأنَّ فِعْلَه قاصِرٌ، وإنما يُعَدَّى بالهمزةِ كقوله تعالى: {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} [آل عمران: 26] أو بالتضعيفِ كقولِه: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} [يس: 72] ، وقولُه:» أي مَذْلولة «يظهر أنَّه خطأٌ» . انتهى يعني: حيث استعمل اسمَ المفعولِ تامَّاً مِنْ فِعْلٍ قاصرٍ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ. قوله: {مَنَاكِبِهَا} استعارةٌ حسنة جداً. وقال الزمخشري: «مَثَلٌ لِفَرْطِ التذليل ومجاوَزَتِهِ الغايةَ؛ لأن المَنْكِبَيْن وملتقاهما من الغارِبِ أرقُّ شيءٍ مِن البعير وأَنْبأه عن أَنْ يطأَه الراكبُ بقدمِه ويَعْتمد عليه، فإذا جعلها في الذُّلِّ بحيث يُمشَى في مناكبها لم يَتْرُكْ» .

16

قوله: {أَأَمِنتُمْ} : قد تقدَّم اختلافُ القراءِ في الهمزَتَيْن المفتوحتين نحو {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] تحقيقاً وتخفيفاً وإدخالِ ألفٍ بينهما وعَدَمِه في البقرة، وأن قُنْبلاً يَقرأ هنا بإبدالِ الهمزة الأولى واواً

في الوصل. فيقول: {وَإِلَيْهِ النشور} و {أَمِنْتُمْ} وهو على صلِه مِنْ تسهيلِ الثانيةِ بينَ بينَ وعَدَمِ ألفٍ بينهما، وأمَّا إذا ابتدأ فيُحقِّق الأولى ويُسَهِّلُ الثانيةَ بينَ بينَ على ما تقدَّم، ولم يُبْدل الأولى واواً لزوالِ مُوجِبه وهو انضمامُ ما قبلها وهي مفتوحةٌ نحو: مُوَجَّل ويُواخِذُكم، وهذا قد مضى في سورة الأعراف عند قولِه: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ} [الأعراف: 123] وإنما أَعَدْتُه بياناً وتذكيراً. قوله: {مَّن فِي السمآء} ، مفعولُ «أَمِنْتُم» ، وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ أي: أمِنْتُمْ خالقَ مَنْ في السماوات. وقيل: «في» بمعنى على أي: على السماء، وإنما احتاج القائلُ بهذَيْن إلى ذلك لأنه اعتقد أن «مَنْ» واقعةٌ على الباري تعالى وهو الظاهرُ، وثَبَتَ بالدليل القطعيِّ أنه ليس بمتحيِّزٍ لئلا يلزَمَ التجسيمُ. ولا حاجةَ إلى ذلك فإن «مَنْ» هنا المرادُ بها الملائكةُ سكانُ السماء، وهم الذين يَتَوَلَّوْن الرحمة والنِّقْمة. وقيل: خُوطبوا بذلك على اعتقادِهم، فإنَّ القومَ كانوا مُجَسِّمة مشبِّهَةً، والذي تقدَّم أحسنُ. وقوله: {أَن يَخْسِفَ} و «أَنْ يرسلَ» فيه وجهان، أحدُهما: أنهما بدلان مِنْ «مَنْ في السماء» بَدلُ اشتمال، أي: أَمِنْتُمْ خَسْفَه وإرسالَه، كذا قاله أبو البقاء. والثاني: أَنْ يكونَ على حَذْفِ «مِنْ» أي: أَمِنْتُم مِنَ

الخَسْفِ والإِرسالِ، والأولُ أظهرُ. وقد تقدَّم أنَّ «نذير» «ونكير» مصدران بمعنى الإِنكار والإِنذار. وأثبت ورش يا «نَذيري» وَقْفاً وحذَفَها وَصْلاً، وحَذَفَها الباقون في الحالَيْن.

19

قوله: {صَافَّاتٍ} : يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِن «الطير» وأَنْ يكونَ حالاً مِن ضمير «فوقَهم» إذا جَعَلْناه حالاً فتكونُ متداخِلةً. و «فوقَهم» ظرفٌ لصافَّات على الأولى أو ل «يَرَوْا» . قوله: {وَيَقْبِضْنَ} عَطَفَ الفعلَ على الاسمِ لأنَّه بمعناه أي: وقابضاتٍ، فالفعلُ هنا مؤولٌ بالاسمِ عكسَ قولِه: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] فإن الاسمَ هناك مؤولٌ بالفعلِ. وقد تقدَّم الاعتراضُ على ذلك. وقولُ أبي البقاء: «معطوفٌ على اسم الفاعل، حَمْلاً على المعنى أي: يَصْفِفْنَ ويَقْبِضْنَ أي: صافَّاتٍ وقابِضاتٍ» لا حاجةَ إلى تقديره: يَصْفِفْنَ ويَقْبَضْنَ؛ لأن الموضعَ للاسمِ فلا نُؤَوِّلُه بالفعل. وقال الشيخ: «وعَطَفَ الفعلَ على الاسم/ لمَّا كان في معناه، ومثلُه قولُه تعالى: {فالمغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ} [العاديات: 3-4] عطفَ الفعلَ على الاسم لمَّا كان المعنى: فاللاتي أغَرْنَ فأَثَرْنَ، ومثلُ هذا العطفِ فصيحٌ وكذا عكسُه، إلاَّ عند السهيليِّ فإنه قبيحٌ نحو قوله:

4288 - بات يُغَشِّيها بعَضْبٍ باترٍ ... يَقْصِدُ في أسْوُقِها وجائِرُ أي: قاصدٌ في أَسْوُقِها وجائر» انتهى، هو مثلُه في عطفِ الفعلِ على اسمٍ، إلاَّ أنَّ الاسمَ فيه مؤولٌ بالفعلِ عكسَ هذه الآيةِ. ومفعولُ «يَقْبِضْنَ» محذوفٌ أي: ويَقْبِضْنِ أجنحتَهُنَّ، قاله أبو البقاء ولم يُقَدِّرْ ل «صافَّاتٍ» مفعولاً كأنه زَعَمَ أنَّ الاصطفافَ في أنفسِها أي: مصطفَّةً. والظاهرُ أنَّ المعنى: صافَّاتٍ أجنحتَها وقابضَتَها، فالصَّفُّ والقَبْضُ منها لأجنحتِها. وكذلك قال الزمخشريُّ: «صافَّاتٍ باسِطاتٍ أجنحتَهن» ثم قال: «فإنْ قلتَ لِمَ قال: ويقبضْنَ ولم يَقُلْ: وقابضاتٍ؟ قلت: لأنَّ الطيرانَ هو صَفُّ الأجنحةِ؛ لأنَّ الطيرانَ في الهواءِ كالسِّباحةِ في الماءِ، والأصلُ في السباحةِ مَدُّ الأطرافِ وبَسْطُها، وأمَّا القَبْضُ فطارِىءٌ على البَسْطِ للاستظهارِ به على التحرُّكِ، فجيء بما هو طارِىءٌ غيرُ أصلٍ بلفظِ الفعلِ على معنى أنَّهن صافاتٌ، ويكونُ منهنَّ القَبْضُ تارةً بعد تارةً، كما يكون من السَّابح» . قوله: {مَا يُمْسِكُهُنَّ} يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً من الضمير في «يَقْبِضْنَ» قاله أبو البقاء، والأولُ هو الظاهرُ. وقرأ الزهري بتشديدِ السينِ.

20

قوله: {أَمَّن} : العامَّةُ بتشديد الميمِ على إدغامِ ميم «أم» في ميم «مَنْ» ، و «أم» بمعنى بل؛ لأنَّ بعدها اسمَ استفهامٍ، وهو مبتدأٌ، خبرُه اسمُ الإِشارة. وقرأ طلحة بتخفيفِ الأولِ وتثقيل الثاني قال أبو الفضل: «معناه أهذا الذي هو جندٌ لكم أم الذي يَرْزُقكم» . و «يَنْصُرُكم» صفةٌ لجند.

21

قوله: {إِنْ أَمْسَكَ} : شرطٌ جوابُه محذوفٌ للدلالةِ عليه أي: فَمَنْ يَرْزُقكم غيرُه؟ وقدَّر الزمخشريُّ شرطاً بعد قولِه: «أمَّن هذا الذي هو جندٌ لكم، تقديرُه: إنْ أَرْسَلَ عليكم عذابَه. ولا حاجةَ له صناعةً.

22

قوله: {مُكِبّاً} : حالِ مِنْ فاعلِ «يَمْشي» . و «أَكَبَّ» مطاوعُ كَبَّه يقال: كَبَبتُه فَأَكَبَّ. قال الزمخشري: «هو من الغرائبِ والشواذ ونحوُه: قَشَعَتِ الريحُ السَّحابَ فأَقْشَع، ولا شيءَ من بناءِ أَفْعلَ مطاوعاً، ولا يُتْقِنُ نحو هذا إلاَّ حَمَلَةُ كتابِ سيبويهِ، وإنما أكَبَّ، مِنْ بابِ أَنْفَضَ وأَلام، ومعناه: دَخَلَ في الكَبِّ وصار ذا كبٍّ، وكذلك أقْشَعَ السحابُ: دَخَلَ في القَشْعِ، ومطاوعُ كَبَّ وقَشَع انكبَّ وانْقَشَعَ» . قال الشيخ «:» ومُكِبّاً «حالٌ مِنْ» أكبَّ «وهو لا يتعدَّى، وكَبَّ متعدٍ قال تعالى: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90] والهمزةُ للدخولِ في الشيءِ أو للصيرورةِ ومطاوعُ كَبَّ: انْكَبَّ. تقول: كَبَبْتُه فانكَبَّ. قال الزمخشري:» ولا شيءَ مِنْ بناءِ أَفْعَل «إلى قوله: كتاب سيبويه» انتهى، وهذا الرجلُ كثيرُ التبجُّح بكتاب سيبويهِ، وكم مِنْ نَصٍّ في كتابِ سيبويه عَمي بَصَرُه وبصيرتُه عنه، حتى إن الإِمامَ أبا الحجاج يوسفَ بن معزوزٍ صَنَّف كتاباً، يذكر فيه ما غَلِطَ الزمخشريُّ فيه وما جَهِله من كتاب سيبويه «. انتهى ما قاله الشيخُ. وانظر إلى هذا الرجلِ: كيف أخَذَ كلامَه الذي أَسْلَفْتُه عنه، طَرَّزَ به عبارتَه حرفاً بحرف، ثم أخذ يُنْحي عليه بإساءةِ الأدب، جزاءَ ما لَقَّنه تِلك الكلماتِ الرائعةَ وجعله يقول: إن مطاوِعَ كَبَّ انْكَبَّ لا أكَبَّ وإن الهمزةَ في أكَبَّ للصيرورةِ، أو للدخولِ في الشيء،

وبالله لو بَقِي دهرَه غيرَ مُلَقَّنٍ إياها لما قالها أبداً، ثم أخذ يذكُر عن إنسانٍ مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنَّه غَلَّطه في نصوصِ كتابِ سيبويه، اللَّهُ أعلمُ بصحتِها. [قال الشاعر:] 4289 - وكم مِنْ عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفَتُهُ من الفَهْمِ السَّقيمِ وعلى تقديرِ التسليمِ فالفاضلُ مَنْ عدَّتْ سَقَطاتُه.

وقوله: {أَمَّن يَمْشِي} هو المعادِلُ ل {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً} . وقال أبو البقاء: و» أَهْدَى «خبرُ» مَنْ يمشي «، وخبرُ» مَنْ «الثانيةِ محذوفٌ» يعني: أنَّ الأصلَ: أمَّنْ يمشي سويَّاً أَهْدى، ولا حاجة إلى ذلك، لأنَّ قولَه: «أزيدٌ قائمٌ أم عمروٌ» لا يُحتاج فيه من حيث الصناعةُ إلى حَذْفِ الخبرِ، بل تقولُ: هو معطوفٌ على «زيد» عَطْفَ المفرداتِ، ووحَّد الخبرَ لأنَّ «أم» لأحدِ الشيئين.

23

قوله: {قَلِيلاً} : نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ كما هو رَأْيُ سيبويه و «ما» مزيدةٌ أي: تَشْكرون قليلاً. والجملةُ من «تَشْكرون» : إمَّا مستأنفةٌ، وهو الظاهرُ، وإمَّا حالٌ مقدرةٌ لأنهم حالَ الجَعْلِ غيرُ شاكرين. والمرادُ بالقِلَّة/ العَدَمُ أو حقيقتُها.

27

قوله: {رَأَوْهُ} : أي: الموعودَ أو العذابَ زُلْفَةً أي: قريباً، فهو حالٌ ولا بُدَّ مِن حَذْفِ مضافٍ أي: ذا زُلْفَةٍ، أو جُعِل نفسَ الزُّلْفَةِ مبالغةً. وقيل: «زُلْفَةً» تقديرُه: مكاناً ذا زُلْفَةٍ فينتصِبُ انتصابَ المصدرِ. قوله: {سِيئَتْ} الأصلُ: ساء أي: أحزنَ وجوهَهم العذابُ ورؤيتُه. ثم بُنِي للمفعول. و «ساء» هنا ليسَتْ المرادِفَةَ ل «بِئْسَ» كما عَرَفْتَه فميا تقدَّم غيرَ مرةٍ. وأَشَمَّ كسرةَ السينِ الضمَّ نافعٌ وابنُ عامرٍ والكسائيُّ،

كما فعلوا ذلك في {سياء بِهِمْ} [هود: 77] في هود، وقد تقدَّم، والباقون بإخلاصِ الكسرِ، وقد تقدَّم في أولِ البقرةِ تحقيقُ هذا وتصريفُه، وأنَّ فيه لغاتٍ، عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 11] . قوله: {تَدَّعُونَ} العامَّةُ على تشديدِ الدالِ مفتوحةً. فقيل: من الدَّعْوى أي: تَدَّعُون أنه لا جنةَ ولا نارَ، قاله الحسن. وقيل: من الدعاءِ أي: تَطْلبونه وتستعجلونه. وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك ويعقوبُ وأبو زيدٍ وابنُ أبي عبلةَ ونافعٌ في روايةِ الأصمعيِّ بسكونِ الدالِ، وهي مؤيِّدَةٌ للقولِ: إنَّها من الدعاء في قراءةِ العامَّة.

29

قوله: {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} : تقدَّم: لِمَ أُخِّر متعلَّقُ الإِيمانِ، وقُدِّمَ مُتَعَلَّقُ التوكلِ؟ وأنَّ التقديمَ يُفيدُ الاختصاصَ. وقرأ الكسائيُّ «فسيَعْلمون» بياءِ الغَيْبة نظراً إلى قَولِه: «الكافرين» . والباقون بالخطاب: إمَّا على الوعيدِ، وإمَّا على الالتفاتِ من الغَيْبة المرادةِ في قراءةِ الكسائيِّ.

30

قوله: {غَوْراً} : خبرُ «أصبح» وجَوَّز أبو البقاء أَنْ

يكونَ حالاً على تمامِ «أصبح» ، ولكنه استبعَده، وحكى أنه قُرىء «غُؤْوْراً» بضم الغينِ وهمزةٍ مضمومةٍ، ثم واوٍ ساكنةٍ على فُعُول، وجَعَلَ الهمزةَ منقبلةَ عن واوٍ مضمومةٍ.

القلم

قوله: {ن} : كقوله: {ص والقرآن} [ص: 1] وجوابُ القسمِ الجملةُ المنفيةُ بعدَها. وزعم قومٌ أنه اسمٌ لحُوتٍ وأنه واحد النِّينان. وقومٌ أنه اسمُ الدَّواةِ، وقومٌ أنه اسمٌ لوحٍ مكتوبٍ فيه. قال الزمخشري: «وأمَّا قولُهم هو الدَّواةُ فما أدري: أهو وَضْعٌ لغويٌّ أم شرعيٌّ، ولا يَخْلو إذا كان اسماً للدَّواةِ مِنْ أنْ يكونَ جنساً أو عَلَماً، فإن كان جنساً فأين الإِعرابُ والتنوينُ؟ وإن كان عَلَماً فأين الإِعراب؟ وأيهما كان فلا بُدَّ له مِنْ مَوْقِع في تأليفِ الكلامِ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَه مُقْسَماً به وَجَبَ إنْ كان جنساً أَنْ تَجُرَّه وتُنَوِّنَه، ويكونُ القَسَم بدَواة مُنكَّرةٍ مجهولةٍ، كأنه قيل: ودَواةٍ والقلم، وإنْ كان عَلَمَاً أَنْ تَصْرِفَه وتَجرَّه، أو لا تصرِفه وتفتحَه للعلميِّةِ والتأنيثِ، وكذلك التفسيرُ بالحوتِ: إمَّا أَنْ يُرادَ به نونٌ من النينانِ، أو يُجْعَلَ عَلَماً للبَهَموتِ الذي يَزْعُمون، والتفسيرُ باللَّوْح مِنْ نورٍ أو ذَهَبٍ والنهر في الجنةِ نحوُ ذلكَ» . وهذا الذي أَوْرَده أبو القاسم مِنْ محاسِنِ علمِ الإِعرابِ، وقَلَّ مَنْ يُتْقِنُه.

وقرأ العامَّةُ: «ن» ساكنَ النونِ كنظائرِه. وأدغم ابنُ عامر والكسائيُّ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ بلا خلافٍ، وورش بخلافٍ عنه النونَ في الواو، وأظهرها الباقون، ونُقِلُ عَمَّنْ أدغمَ الغُنَّةُ وعَدَمُها. وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السَّمَّال وابنُ أبي إسحاق بكسرِ النونِ وسعيد بن جبير وعيسى بخلافٍ عنه بفتحِها، فالأُولى على التقاءِ الساكنين. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً على القَسَم، حَذَفَ حرفَ الجرِّ وبقي علمُه كقولِهم: «اللَّهِ لأفعلَنَّ» لوجهَيْن، أحدُهما: أنَّه مختصُّ بالجلالةِ المعظَّمة، نادرٌ فيما عداها. والثاني: أنه كان ينبغي أَنْ يُنَوِّنَ. ولا يَحْسُنُ أَنْ يُقال: هو ممنوعُ الصَّرْفِ اعتباراً بتأنيث السورة، لأنه كان ينبغي أَنْ لا يَظْهَرَ فيه الجرُّ بالكسرة البتةَ. وأمَّا الفتحُ فيحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ بناءً، وأُوْثِر على الأصلِ للخفَّةِ كأينَ وكيفَ. الثاني: أَنْ يكونَ مجروراً بحرف القسمِ المقدَّرِ/ على لغةٍ ضعيفة. وقد تقدَّم ذلك في قراءةِ «فالحقِّ والحقِّ» [ص: 84] . بجرِّ «الحقِّ» ، ومُنِعَتِ الصَّرْفَ، اعتبارٌ بالسورة، والثالث: أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ محذوفٍ، أي: اقرؤوا نونَ، ثم ابتدأ قَسَماً بقولِه «والقلمِ» ، أو يكونَ منصوباً بعد حَذْفِ حرفِ القسم كقولِه: 4290 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثِّريدُ ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم، وهذا أحسنُ لعَطْفِ «والقلمِ» على مَحَلِّه. قوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ} «ما» موصولةٌ اسميةٌ أو حرفية، أي: والذي يَسْطُرونه مِنَ الكُتُب، وهم: الكُتَّابُ أو الحَفَظُة من الملائكة وسَطْرِهم. والضميرُ عائدٌ على مَنْ يُسَطِّرُ لدلالةِ السياقِ عليه. ولذِكْرِ الآلةِ المُكْتَتَبِ بها. وقال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالقلمِ أصحابُه، فيكون الضميرُ في» يَسْطُرون «لهم» يعني فيصيرُ كقولِه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور: 40] تقديرُه: أو كذي ظُلُماتٍ، فالضميرُ في «يَغْشاه» يعود على «ذي» المحذوف.

2

قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} : قد تقدَّم نظيرُ هذا في الطور في قولِه {فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ} [الطور: 29] وتقدَّم تحقيقُه. إلاَّ أن الزمخشريَّ قال هنا: «فإنْ قلتَ: بِمَ تتعلَّقُ الباءُ في» بنعمة ربك «وما محلُّه؟ قلت: تتعلَّق بمجنون منفياً، كما تتعلَّقُ بعاقل مثبتاً كقولك:» أنت بنعمةِ اللِّهِ عاقلٌ «، مستوياً في ذلك الإِثباتُ والنفيُ استواءَهما في قولِك:» ضَرَبَ زيدٌ عَمْراً «و» ما ضَرَبَ زيدٌ عمراً «تُعْمِلُ الفعلَ منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً. ومحلُّه النصبُ على الحالِ، كأنه قال: ما أنت مجنونٌ مُنْعِماً عليكَ بذلك، ولم تَمْنَع الباءُ أَنْ يعملَ» مجنون «فيما قبلَه لأنها زائدةٌ لتأكيدِ النفي» .

قال الشيخ: «وما ذهب إليه الزمخشريُّ مِنْ أنَّ الباءَ تتعلَّقُ بمجنون، وأنه في موضعِ الحالِ يحتاج إلى تأمُّلِ، وذلك أنَّه إذا تَسَلَّطُ النفي على محكوم به، وذلك له معمولٌ، ففي ذلك طريقان، أحدهما: أنَّ النفيَ تَسَلَّطَ على ذلك المعمولِ فقط، والآخر: أَنْ يُسَلَّط النفيُ على المحكوم به، فينتفيَ مَعمولُه لانتفائه. بيان ذلك: تقولُ:» ما زيدٌ قائمٌ مُسْرعاً «فالمتبادَرُ إلى الذهن أنَّه مُنْتَفٍ إسراعُه دونَ قيامِه فيكونُ قد قامَ غيرَ مُسْرِع. والوجهُ الآخَرُ: أنَّه انتفَى قيامُه فانتفى إسراعُه، أي: لا قيامَ فلا إسراعَ. وهذا الذي قَرَّرْناه لا يتأتَّى معه قولُ الزمخشريِّ بوجهٍ، بل يؤديِّ إلى ما لا يجوزُ النطقُ به في حَقِّ المعصوم» انتهى. واختار الشيخ أنْ يكونَ «بنعمة» قَسَماً مُعْتَرِضاً به بين المحكوم عليه والحُكم على سبيلِ التأكيدِ والتشديدِ والمبالغةِ في انتفاءِ الوصفِ الذمَّيم. وقال ابن عطية: «بنعمةِ ربِّك» اعتراضٌ كما تقول للإِنسان: «أنت بحمد اللَّهِ فاضلٌ» قال: «ولم يُبَيِّنْ ما تتعلَّقُ به الباءُ في» بنعمة «. قلت: والذي تتعلَّق به الباءُ في هذا النحو معنى مضمونِ الجملةِ نفياً وإثباتاً، كأنه قيل: انتفى عنك ذلك بحمد اللَّهِ، والباءُ سببيةٌ، وثَبَتَ لك الفَضْلُ بحمدِ اللَّهِ تعالى، وأمَّا المثالُ الذي ذكرَه فالباءُ تتعلَّق فيه بلفظ» فاضل «. وقد نحا صاحب» المنتخب «إلى هذا فقال:» المعنى: انتفى عنك الجنونُ بنعمةِ ربك. وقيل: معناه: ما أنت بمجنونٍ، والنعمة لربِّك،

كقولِهم: «سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك» ، أي: والحمدُ لله. ومنه قولُ لبيدٍ: 4291 - وأُفْرِدْتُ في الدنيا بفَقْدِ عشيرتي ... وفارقني جارٌ بأَرْبَدَ نافِعُ أي: وهو أَرْبَدُ «. وهذا ليس بتفسير إعرابٍ بل تفسيرُ معنى.

6

قوله: {بِأَيِّكُمُ المفتون} : فيه أربع أوجه، أحدُها: أنَّ الباءَ مزيدةٌ في المبتدأ، والتقديرُ: أيُّكم المَفْتون فزِيدَتْ كزيادِتها، في نحو: بحَسْبك زيدٌ، وإلى هذا ذهب قتادةُ وأبو عبيدة معمرُ بن المثنى، إلاَّ أنَّه ضعيفٌ مِنْ حيث إنَّ الباءَ لا تُزاد في المبتدأ إلاَّ في «حَسْبُك» فقط. الثاني: أنَّ الباءَ بمعنى «في» ، فهي ظرفيةٌ، كقولك: «زيدٌ بالبصرة» ، أي: فيها، والمعنى: في أيِّ فرقةٍ وطائفةٍ منكم المفتونُ. وإليه ذهب مجاهدٌ والفراء، وتؤيِّدُه قراءةُ ابن أبي عبلةَ «في أيِّكم» . الثالث: أنَّه على حَذْفِ مضافٍ، أي: بأيكم فَتْنُ المَفْتونِ فَحُذِفَ المضافُ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وإليه ذهب الأخفش، وتكونُ الباءُ سببيَّةً، والرابع أنَّ «المفتون» مصدرٌ جاء على مَفْعول كالمَعْقول والمسيور والتقدير: بأيكم الفُتون. فعلى القول الأولِ يكونُ الكلامُ تامَّاً

عند قولِه «ويُبْصِرون» ويُبْتَدأُ قولُه «بأيِّكم المفْتون» وعلى الأوجهِ بعدَه/ تكونُ الباءُ متعلِّقَةً بما قبلَها، ولا يُوْقَفُ على «يُبْصِرون» وعلى الأوجُهِ الأُوَلِ الثلاثةِ يكونُ «المفتون» اسمَ مفعولٍ على أصلِه، وعلى الوجهِ الرابعِ يكونُ مصدراً. وينبغي أَنْ يُقالَ: إنَّ الكلامَ إنما يَتِمُّ على قولِه «المفتون» سواءً قيل بأنَّ الباءَ مزيدةٌ أم لا؛ لأنَّ قولَه «فَسَتُبْصِرُ ويُبْصرون» مُعَلَّقٌ بالاستفهامِ بعدَه؛ لأنه فِعْلٌ بمعنى الرؤية، والرؤيةُ البصريةُ تُعَلَّقُ على الصحيح بدليلِ قولِهم: «أما ترى أيُّ بَرْقٍ ههنا» ، فكذلك الإِبصارُ لأنه هو الرؤيةُ بالعينِ. فعلى القولِ بزيادةِ الباءِ تكونُ الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نَصْبٍ لأنها واقعةٌ موقعَ مفعولِ الإِبصار.

9

قوله: {فَيُدْهِنُونَ} : المشهورُ في قراءةِ الناس ومصاحفِهم «فيُدْهِنون» بثبوتِ نونِ الرفع. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على «تُدْهِنُ» فيكونُ داخلاً في حَيِّزِ «لو» . والثاني: انه خبرٌ مبتدأ مضمرٍ، أي: فهم يُدْهِنون. وقال الزمخشري: «فإنْ قَلَتَ: لِم رُفِعَ» فَيُدْهِنون «ولم يُنْصَبْ بإضمارِ» أَنْ «وهو جوابُ التمني؟ قلت: قد عُدِل به إلى طريقٍ آخر: وهو أنْ جُعِل خبرَ مبتدأ محذوف، أي: فهم يُدْهِنون كقوله: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً} على معنى: وَدُّوا لو تُدْهِنُ فهم يُدْهنون حينئذٍ، أو وَدُّوا إدهانَك فهم الآن يُدْهِنون لطَمَعِهم في إدْهانِك: قال سيبويه:» وزعم هارونُ أنها في بعضِ المصاحفِ: «وَدُّوا لو تُدْهِنُ فيُدِهنوا» انتهى.

وفي نصبه على ما وُجد في بعضِ المصاحفِ وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على التوهُّمِ، كأنه تَوَهَّم أَنْ نَطَقَ ب «أَنْ» فَنَصَبَ الفعلَ على هذا التوهُّم، وهذا إنما يجيءُ على القولِ بمصدرية «لو» وفيه خلافٌ مرَّ محققاً في البقرة. والثاني: أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهومِ مِنْ «وَدَّ» والظاهرُ أنَّ «لو» هنا حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه، وأن جوابَها محذوفٌ، ومفعولُ الوَدادةِ أيضاً محذوفٌ تقديرُه: وَدُّوا إدهانَك، فحُذِفَ «إدْهانَك» لدلالةِ «لو» وما بعدها عليه. وتقديرُ الجوابِ لسُرُّوا بذلك.

10

قوله: {مَّهِينٍ هَمَّازٍ} : تقدَّم تفسيرُ مهين في الزخرف. والهمَّازُ: مثالُ مبالغةٍ مِنْ الهَمْزِ وهو في اللغةِ الضَرْبُ طعناً باليدِ والعَصا ونحوِها، واسْتُعير للعَيَّاب الذي يَعيب على الناسِ كأنه يَضْرِبُهم. والنَّميم قيل: مصدرٌ كالنميمة. وقيل: هو جَمْعُها، أي: اسمُ جنسٍ كتمرة وتَمر. وهو نَقْلُ الكلامِ الذي يسوء سامعَه ويُحَرِّشُ بين الناس. وقال الزمخشري: «والنميمُ والنَّميمة السِّعايةُ وأنشدني بعضُ العرب: 4292 - تَشَبَّبي تَشَبُّبَ النَّميمهْ ... تَمشْي بها زَهْراً إلى تميمهْ

والمَشَّاء: مثالُ مبالغةٍ مِنْ المَشْيِ، أي: يُكْثِرُ السِّعايةَ بين الناس. والعُتُلُّ: الذي يَعْتِلُ الناسَ، أي: يَحْملهم ويَجُرُّهم إلى ما يَكْرهون مِنْ حبسٍ وضَرْبٍ. ومنه {خُذُوهُ فاعتلوه} [الدخان: 47] . وقيل: العُتُلُّ: الشديد الخُصومة. وقال أبو عبيدة:» هو الفاحِشُ اللئيم، وأنشد: 4293 - بعُتُلٍّ مِنْ الرِّجالِ زَنِيمٍ ... غيرِ ذي نَجْدةٍ وغيرِ كريمِ وقيل «: الغليظُ الجافي. ويقال: عَتَلْتُه وعَتَنْتُه باللام والنونِ، نَقَله يعقوب. والزنيم: الدَّعِيُّ يُنْسَبُ إلى قومٍ ليس منهم. قال حسان: 4294 - زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادةً ... كما زِيْدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكارِعُ وقال أيضاً: 4295 - وأنتَ زَنيمٌ نِيْطَ في آل هاشمٍ ... كما نِيْطَ خلفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْدُ

وأصلُه مِنْ الزَّنَمَةِ: وهي ما بقي مِنْ جلْدِ الماعز مُعَلَّقاً في حِلَقِها يُتْرَكُ عند القَطْع فاستعير للدَّعِيِّ لأنه كالمُعَلَّقِ بما ليس منه. وقرأ الحسنُ» عُتُلٌّ «بالرفع على: هو عُتُلٌّ. وحقُّه أَنْ يُقْرَأَ ما بعدَه بالرفع أيضاً، لأنهم قالوا في القَطْع: إنه يبدأ بالإِتباع ثم بالقطع مِنْ غير عكسٍ. وقوله» بعد ذلك «، أي: بعدما وَصَفْناه به. قال ابن عطية:» فهذا الترتيبُ إنما هو في قولِ الواصفِ لا في حصولِ تلك الصفاتِ في المصوفِ، وإلاَّ فكونُ عُتُلاً هو قبل/ كونِه صاحبَ خير يمنعُه «. وقال الزمخشري:» بعد ذلك، بعد ما عُدَّ له مِنْ المثالبِ والنقائصِ «، ثم قال:» جَعَلَ جفاءَه ودَعْوَتَه أشدَّ مُعايَبةً؛ لأنه إذا غَلُظَ وجفا طَبْعُه قسَا قلبُه واجْتَرَأَ على كلِّ معصيةٍ «.

14

قوله: {أَن كَانَ} : العامَّةُ على فتح همزةِ «أنْ» ثم اختلفوا بعدُ: فقرأ ابنُ عامرٍ وحمزةُ وأبو بكر بالاستفهام، وباقي السبعةِ بالخبر. والقارئون بالاستفهامِ على أصولِهم: مِنْ تحقيقٍ وتسهيلٍ وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتَينْ وعدمِه. ولا بُدَّ مِنْ بيانِه لك تَسهيلاً للأمر عليك فأقول وبالله التوفيق: قرأ حمزةُ وأبو بكرٍ بتحقيق الهمزتَيْن وعدم إدْخالِ ألفٍ بينهما، وهذا وهو أصلُهما. وقرأ ابنُ ذكوانَ بتسهيلِ الثانيةِ وعدمِ إدخال ألفٍ، وهشامٌ بالتسهيلِ

المذكور، إلاَّ أنَّه أدخل ألفاً بينهما فقد خالَفَ كلٌّ منهما أصلَه: أمَّا ابنُ ذكوان فإنه يُحَقِّقُ الهمزتَيْنِ فقد سَهَّل الثانية هنا. وأمَّا هشامٌ: فإنَّ أصلَه أن يُجْري في الثانية مِنْ هذا النحوِ وجهَيْنِ: التحقيقَ كرفيقِه، والتسهيلَ. وقد التَزَمَ التسهيلَ هنا. وأمَّا إدخالُ الألفِ فإنه فيه على أصلِه كما تقدَّم أول البقرة. وقرأ نافع في رواية الزبيدي عنه: «إنْ كان» بكسر الهمزة على الشرط. فأمَّا قراءةُ «أَنْ كان» بالفتحِ على الخبرِ ففيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها «أنْ» المصدريةُ في موضع المفعولِ له مجرورةٌ بلامٍ مقدرة. واللامُ متعلِّقةٌ بفعلِ النهي، أي: ولا تُطِعْ مَنْ هذه صفاتُه؛ لأنْ كان مُتَموِّلاً وصاحبَ بنين. الثاني: أنها متعلقةٌ ب «عُتُلّ» ، وإن كان قد وُصِفَ، قاله الفارسي، وهذا لا يجوزُ عند البصريين، وكأن الفارسيَّ اغتفَره في الجارِّ. الثالث: أنْ يتعلَّق ب «زنيم» ولا سيما عند مَنْ يُفَسِّره بقبيح الأفعالِ. الرابع: أَنْ يتعلِّقَ بمحذوف يَدُلُّ عليه ما بعدَه مِنْ الجملةِ الشرطيةِ، تقديره: لكونِه متموِّلاً مُسْتَظْهِراً بالبنين كَذَّب بآياتِنا، قاله الزمخشري، قال: «ولا يَعْمَلُ فيه» قال «الذي هو جوابُ» إذا «لأنَّ ما بعد الشرطِ لا يعملُ فيما قبلَه، ولكن ما دَلَّتْ عليه الجملةُ مِنْ معنى التكذيب» . وقال مكي وتبعه أبو البقاء: «لا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ» تُتْلى «لأنَّ

ما بعد» إذا «لا يعملُ فيما قبلها؛ لأنه» إذا تُضاف إلى الجمل، ولا يعملُ المضافُ إليه فيما قبل المضاف «انتهى. وهذا يُوهمُ أنَّ المانعَ من ذلك ما ذكره فقط، والمانعُ أمرٌ معنويٌّ، حتى لو فُقِدَ هذا المانعُ الذي ذكره لامتنعَ مِنْ جهةِ المعنى: وهو أنه لا يَصْلُحُ أَنْ يُعَلِّلَ تلاوةَ آياتِ اللَّهِ عليه بكونِه ذا مالٍ وبنين. وأمَّا قراءةُ» أَأَنْ كان «على الاستفهام، ففيها وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بمقدَّر يَدُلُّ عليه ما قبلَه، أي: أَتُطيعه لأَنْ كان أو أتكونُ طواعيةً لأَنْ كان. والثاني: أنْ يتعلَّقَ بمقدَّرٍ عليه ما بعده أي: لأَنْ كان كذا كَذَّبَ وجَحَدَ. وأمَّا قراءةُ إنْ بالكسر فعلى الشرطِ، وجوابُه مقدرٌ. تقديرُه: إن كان كذا يَكْفُرْ ويَجْحَدْ. دَلَّ عليه ما بعده. وقال الزمخشري: «والشرطُ للمخاطبِ، أي: لا تُطِعْ كلَّ حَلاَّفٍ شارطاً يسارَه، لأنه إذا أطاع الكافرَ لِغِناهُ فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحوُ صرفِ الشرطِ للمخاطب صَرْفُ الترجِّي إليه في قولِه: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44] . وجَعَله الشيخُ مِنْ دخولِ شرطٍ على شرطٍ، يعني إنْ وإذا؛ إلاَّ أنه قال:» ليسا من الشروط المترتبةِ الوقوع، وجعله نظيرَ قولِ ابنِ دريدٍ: 4296 - فإنْ عَثَرْتُ بعدَها إنْ وَأَلَتْ ... نفسيَ مِنْ هاتا فقولا لا لَعا

قال: «لأنَّ الحامِلَ على تدبُّرِ آياتِ اللهِ كونُه ذا مالٍ وبنين، وهو مشغولُ القلبِ بذلك غافلٌ عن النظرِ قد استولَتْ عليه الدنيا وأَبْطَرَتْه. وقرأ الحسن بالاستفهام وهو استفهامُ تَقْريعٍ وتوبيخٍ على قولِه:» القرآنُ أساطيرُ الأوَّلين لَمَّا تُلِيَتْ عليه آياتُ الله.

16

قوله: {سَنَسِمُهُ} : أي: نجعل له سِمَةً، أي: علامة يُعْرَفُ بها. قال جرير: 4297 - لَمَّا وَضَعْتُ على الفرزدقِ مِيْسَمي ... وعلى البَعيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الأخطلِ / والخُرْطُومُ: الأَنْفُ، وهو هنا عبارةٌ عن الوجهِ كلِّه من [باب] التعبيرِ عن الكلِّ بالجزءِ؛ لأنه أظهرُ ما فيه وأَعلاه. والخُرْطومِ أيضاً: الخمرُ وكأنه استعارةٌ لها؛ لأنَّ الشنتمَريَّ قال: «هي الخمرُ أول ما تَخْرُجُ من الدِّنِّ» ، فجُعِلَتْ كالأَنفِ؛ لأنه أولُ ما يَبْدُو مِنْ الوجهِ، فليسَتْ الخرطومُ الخمرَ مطلقاً. ومِنْ مجيءِ الخُرْطومِ بمعنى الخمرِ قولُ علقمةَ ابنِ عبدة: 4298 - قد أَشْهَدُ الشَّرْبَ، فيهم مُزْهِرٌ زَئِمٌ ... والقومُ تصرَعُهمْ صَهْباءُ خُرْطومُ

وأنشد النضر بن شميل: 4299 - تَظَلُّ يومَك في لهو وفي لَعِبٍ ... وأنتَ بالليل شَرَّابُ الخَراطيمِ قال النَّضِرُ: «والخُرطومُ في الآية: هي الخَمْرُ، والمرادُ: سَنَحُدُّه على شُربِها. وقد استبعدَ الناسُ هذا التفسيرَ.

17

قوله: {مُصْبِحِينَ} : هذا حالٌ مِنْ فاعلِ «لَيَصْرِمُنَّها» وهو مِنْ «أصبح» التامَّةِ، أي: داخلين في الصَّباح. كقولِ تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137] وقولِهم: «إذا سَمِعْتَ بسُرَى القَيْنِ فاعلَمْ أنه مُصْبِحٌ» . والكاف في «كما» في موضع نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: بَلَوْناهم ابتلاءً كما بَلَوْنا. و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذين. و «إذ» منصوبةٌ ب «بَلَوْنا» و «لَيَصْرِمنُّها» جوابٌ للقسم، وجاء على خلافِ مَنْطوقِهم، ولو جاء عليه لقيل: لَنَصْرِمُنَّها بنونِ التكلم.

18

قوله: {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} : هذه مستأنفةٌ. ويَضْعُفُ كونُها حالاً من حيث إنَّ المضارعَ المنفيَّ ب «لا» كالمثبتِ في عَدَم دخولِ الواوِ عليه، وإضمارُ مبتدأ قبلَه، كقولِهم: «قمتُ وأَصُكُّ عينَه» مُسْتغنى عنه. ومعنى «لا يَسْتَثْنُون» لا يَثنون عزمَهم على الحِرْمانِ، وقيل: لا يقولون: إن شاءَ الله. وسُمِّي استثناءً، وهو شرطٌ؛ لأنَّ معنى «لأَخْرُجَنَّ إنْ شاءَ الله» «ولا أخرجُ إلاَ أَنْ يشاءَ اللهُ» واحدٌ، قاله الزمخشري.

19

قوله: {طَآئِفٌ} : أي هَلاكٌ، أو بلاءٌ، طائفٌ. والطائفُ غَلَبَ في الشرِّ. قال الفراء: «هو الأمرُ الذي يأتي ليلاً. ورُدَّ عليه بقولِه: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان} [الأعراف: 201] ، وذلك لا يختصُّ بلَيْلٍ ولا نهارٍ. وقرأ النخعي» طَيْفٌ «. وقد تقدَّم في الأعراف الكلامُ على هذينِ الوصفَيْن. و» منْ رَبِّك «يجوزُ أن يتعلَّقَ ب» طاف «، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل طائف. والصِّرامُ: جُذاذُ النخلِ. وأصلُ المادةِ الدلالةُ على القَطْعِ، ومنه الصُرْمُ والصَّرْمُ بالضم والفتح، وهو القَطيعةُ. قال امرؤُ القيس: 4300 - أفاطمُ مَهْلاً بعضَ هذا التدلُّلِ ... وإن كُنْتِ قد أَزْمَعْتِ صَرْمي فأَجْملي ومنه الصَّريمةُ، وهي قطعةٌ مَنْصَرمةٌ عن الرمل. قال: 4301 - وبالصَّرِيْمَةِ منهم مَنْزِلٌ خَلِقٌ ... عافٍ تَغَيَّرِ إلاَّ النؤيُ والوَتِدُ والصَّارم: القاطِعُ الماضي، وناقة مُصَرَّمَةٌ، أي: انقطع لبنُها. وانْصَرَمَ الشهرُ والسَّنَةُ، أي: قَرُبَ انفصالُهما. وأَصْرَمَ: ساءَتْ حالُه، كأنه انقطعَ سَعْدُه. وقوله» كالصريم «قيل: هي الأشجارُ المُنْصَرِمُ حَمْلُها.

وقيل: كالليلِ لأنه يُقال له الصَّريمُ لسَوادِه. والصَّريمُ أيضاً: النهارُ. وقيل: الصبحُ، فهو من الأضدادِ. وقال شَمِر: الصَّريم الليلُ، والصَّريم النهار؛ لانصرامِ هذا عن ذاك وذاك عن هذا. وقيل: هو الرَّمادُ بلغة خُزَيْمَةَ، قاله ابنُ عباس. وقيل: الصَّريمُ رَمْلَةٌ معروفةً باليمن لا تُنْبِتُ شيئاً. وفي التفسير: أنَّ جَنَّتَهم صارت كذلك. ويُرْوَى أنها اقْتُلِعَتْ ووُضِعتْ حيث الطائفُ اليوم؛ ولذلك سُمِّي به» الطائفُ «الذي هو بالحجازِ اليومَ.

22

قوله: {أَنِ اغدوا} : يجوزُ أَنْ تكونَ المصدريَّةَ، أي: تنادَوْا بهذا الكلامِ، وأَنْ تكونَ المفسِّرة؛ لأنَّه تقدَّمها ما هو بمعنى القولِ. قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: هلا قيل: اغْدُوا إلى حَرْثِكم وما معنى» على «؟ قلت: لَمَّا كان الغُدُوُّ إليهِ ليَصْرِمُوه ويَقْطعوه كان غُدُوَّا عليه، كما تقول: غدا عليهم العدوُّ. ويجوزُ أن يُضَمَّنَ الغُدُوُّ معنى الإِقبالِ كقولِهم:» يُغْدَى عليهم بالجَفْنَة ويُراحُ «انتهى. فجعل» غدا «متعدياً في الأصل ب» إلى «فاحتاج إلى تأويل تعدِّيه ب» على «. وفيه نظرٌ لورود تَعَدِّيه ب» على «في غير موضع كقولِه: 4302 - وقد أَغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ ... نَشاوى واجِدين لِما نشاءُ /

وإذا كانوا قد عَدَّوْا مرادِفَه ب» على «فَلْيُعَدُّوه بها، ومرادِفُهُ» بَكَرَ «تقول: بَكَرْتُ عليه، وغَدَوْتُ عليه بمعنىً واحدٍ. قال: 4303 - بَكَرْتُ عليه غُدْوَةً فَرَأَيْتُه ... قُعُوداً لديهِ بالصَّريمِ عَواذِلُهْ و {إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} جوابُه محذوفٌ، أي: فاغدُوْا. وصارمين: قاطعين جاذِّين. وقيل: ماضِين في العَزْمِ، مِنْ قولِك: سيفٌ صارِمٌ.

23

قوله: {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ «انطلَقُوا» .

24

قوله: {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا} : يجوزُ أَنْ تكونَ المصدريَّة، أي: يتخافَتُون بهذا الكلامِ، أي: يقولُه بعضُهم لبعضٍ، وأَنْ تكونَ المفسِّرَةَ. وقرأ عبد الله وابنُ أبي عبلةَ «لا يَدْخُلُها» بإسقاطِ «أَنْ» إمَّا على إضمارِ القولِ، كما هو مذهبُ البَصْريين، وإمَّا على إجراءِ «يتخافتون» مُجراه كما هو قولُ الكوفيين.

25

قوله: {على حَرْدٍ قَادِرِينَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ «قادرين» حالاً من فاعل «غَدَوْا» . و «على حَرْدٍ» متعلِّقٌ به، وأَن يكونَ «على حَرْدٍ» هو الحالَ، و «قادرين» : إمَّا حالٌ ثانيةٌ، وإمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ الأولى.

والحَرْدُ فيه أقوال كثيرة، قيل: الغضبُ والحَنَقُ. وأُنْشد للأشهب ابن رُمَيْلة: 4304 - أُسُوْدُ شَرىً لاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ ... تَساقَوْا على حَرْدٍ دماءَ الأساوِدِ قيل: ومثلُه قولُ الآخرِ: 4305 - إذا جِيادُ الخيل جاءتَ تَرْدي ... مملوءَةً مِنْ غَضَبٍ وحَرْد عَطَفَ لَمَّا تغايرَ اللفظان كقولِه: 4306 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْفى قولَها كَذِباً ومَيْنا وقيل: المَنْعُ. مِنْ حارَدَتِ الإِبلُ: قَلَّ لَبَنُها، والسَّنَةُ: قَلَّ مَطَرُها، قاله أبو عبيد والقُتبيُّ. ويقال: حَرِدَ بالكسر يَحْرَدُ حَرْداً، وقد تُفْتح فيقال: حَرَداً، فهو حَرْدانُ وحارِدٌ. يقال: أسدٌ حارِدٌ، ولُيوث حَوارِدُ. وقيل: الحَرْدُ والحَرَدُ الانفرادُ. يُقال: حَرَدَ بالفتح، يَحْرُد بالضم، حُروداً وحَرْداً وحَرَداً: انعزل، ومنه كوكبٌ حارِدٌ، أي: منفردٌ. قال الأصمعي: «هي لغةُ هُذَيْل» . وقيل: الحَرْدُ القَصْدُ. يقال: حَرَد يَحْرِدُ حَرْدَك، أي: قَصَدَ قَصْدَك، ومنه: 4307 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

يَحْرِدُ حَرْدَ الجنَّةِ المُغِلَّهْ وقد فُسِّرت الآيةُ الكريمةُ بجميعِ ما ذَكَرَتْ. وقيل: الحَرْدُ اسمُ جنَّتِهم بعينِها، قاله السُّدي. وقيل: اسم قَرْيتِهم، قاله الأزهري. وفيهما بُعْدٌ بعيدٌ. و «قادرين» : إمَّا مِنْ القُدْرَةِ، وهو الظاهرُ، وإمَّا مِن التقدير وهو التضييقُ، أي: مُضَيِّقين على المساكينِ. وفي التفسيرِ قصةٌ توضِّحُ ما ذكرْتُ «.

33

قوله: {كَذَلِكَ العذاب} : مبتدأٌ، وخبرُه مقدم، أي: مثلُ ذلك العذابِ عذابُ الدنيا، وأمَّا عذابُ الآخرةِ فأكبرُ منها.

34

قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بالاستقرار، وأن يكون حالاً مِنْ «جَنَّات» .

38

قوله: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ} : العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها معمولةٌ ل «تَدْرُسون» ، أي: تدرسون في الكتابِ أنَّ لكم ما تختارونه، فلمَّا دخلت اللامُ كُسِرت الهمزةُ. والثاني: أَنْ تكونَ على الحكايةِ للمدروسِ كما هو، كقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين} [الصافات: 78 - 79] قالهما الزمخشري، وفي الفرقِ بين الوجهين عُسْرٌ قال: «وتَخَيَّر الشيءَ واختاره: أَخَذَ خيرَه كتنخَّله

وانتخَلَه أَخَذَ منخولَه» . والثالث: أنها على الاستئنافِ على معنى: إنْ كان لكم كتابٌ فلكم فيه مُتَخَيَّرٌ. وقرأ طلحةُ والضحاك «أنَّ لكم» بفتح الهمزةِ، وهو منصوبٌ ب «تَدْرُسُون» ، إلاَّ أنَّ فيه زيادةَ لامِ التأكيدِ، وهي نظيرُ قراءة {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ} [الفرقان: 20] بالفتح. وقرأ الأعرج «أإنَّ لكم» في الموضعين بالاستفهام.

39

قوله: {بَالِغَةٌ} : العامَّةُ على رفعِها نعتاً ل «أَيْمانٌ» و «إلى يوم» متعلِّق بما تَعَلَّقَ به «لكم» . من الاستقرار، أي: ثابتةٌ لكم إلى يومِ، أو ببالغة، أي: تَبْلُغُ إلى ذلك اليومِ وتنتهي إليه. وقرأ زيد بن علي والحسن بنصبِها فقيل: على الحال من «أيمان» لأنها تخصَّصَتْ بالعملِ أو بالوصفِ. وقيل: من الضمير في «علينا» إنْ جَعَلْناه صفةً ل «أَيْمان» . وقوله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جوابُ القسمِ في قوله: «أَيْمان» لأنها بمعنى أقسام. و «أيُّهم» معلِّقٌ لِسَلْهُمْ و «بذلك» متعلق ب «زعيمٌ» ، أي: ضمينٌ وكفيل. وقد تقدَّم أنَّ «سألَ» يُعَلَّقُ لكونِه سبباً في العِلم. وأصلُه أن يتعدَّى ب عن أو بالباء، كقولِه: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] [وقولِه:]

4308 - فإنْ تَسْألوني بالنساء. . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فالجملةُ في موضعِ نصبٍ بعد إسقاطِ الخافضِ، كما عَرَفْت تقريرَه غيرَ مرةٍ. وقرأ عبد الله: «أم لهم شِركٌ، فليَأْتوا بشِرْكِهم» . بلفظِ المصدرِ.

42

قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ} : منصوبٌ بقولِه «فَلْيَأْتُوا» أو بإضمار اذْكُرْ، فيكونُ مفعولاً به أو بمحذوفٍ، وهو ظرفٌ، أي: يومَ يُكْشَف يكونُ كَيْتَ وكَيْتَ، أو بخاشعة، قاله أبو البقاء. وفيه بَعْدٌ و «عن ساقٍ» قائمٌ مَقامَ الفاعلِ، وابنُ مسعود وابن أبي عبلة «يَكْشِفُ» بالياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للفاعلِ وهو اللهُ. وقرأ ابنُ عباس وعبد الله أيضاً «نكشِفُ» بكسر النون. وعن ابن عباس «تَكْشِفُ» بالتاء من فوق مبنياً للفاعل، أي: الشدَّةُ والساعةُ. وعنه كذلك أيضاً مبنياً للمفعول وهي/ مُشْكِلَةٌ؛ لأنَّ التأنيثَ لا معنى له هنا، إلاَّ أَنْ يُقالَ: إن المفعولَ مستترٌ، أي: تُكْشَفُ هي، أي: الشِّدَّةُ. قوله: {عَن سَاقٍ} ، أي: تَكْشِفُ عن ساقِها؛ ولذلك قال الزمخشري: «وتكشِفُ بالتاء مبنياً للفاعلِ والمفعولِ جميعاً. والفعلُ

للساعةِ، أو للحال، أي: تَشْتَدُّ الحالُ أو الساعةُ» . وقُرِىء «يُكْشِفُ» بضمِّ الياء أو التاء وكسرِ الشين، مِنْ «أَكْشَفَ» إذا دَخَلَ في الكَشْفِ. وأَكْشَفَ الرجلُ: إذا انقلَبَتْ شَفَتُهُ العليا لانكشافِ ما تحتَها. وكَشْفُ الساقِ كنايةٌ عن الشِّدَّةِ، لا يَمْتري في ذلك مَنْ ذاق طعم الكلامِ، وسَمعَ قولَ العربِ في نَظْمها ونثرها. قال الراجزُ: 4309 - عَجِبْتُ مِنْ نفسي ومن إشفاقِها ... ومِنْ طِرادي الطيرَ عن أَرْزاقِها في سَنَةٍ قد كَشَفَتْ عن ساقِها ... حمراءَ تَبْرِي اللحمَ عَنْ عُراقها وقال حاتم الطائي: 4310 - أخو الحربِ إنْ عَضَّتْ به الحربُ عَضَّها ... وإن شَمَّرَتْ عن ساقِها الحربُ شَمَّرا وقال آخر: 4311 - كَشَفَتْ لهم عن ساقِها ... وبدا من الشَّرِّ الصُّراحُ

وقال آخر: 4312 - قد شَمَّرَتْ عن ساقِها فَشُدُّوا ... وجَدَّت الحربُ بكم فَجُدُّوا وقال آخر: 4313 - صبراً أُمامُ إنَّه شرٌّ باقِ ... وقامَتِ الحربُ بنا على ساقِ قال الزمخشري: «الكَشْفُ عن الساق والإِبداء عن الخِدام مَثَلٌ في شدةِ الأمرِ وصُعوبةِ الخَطْبِ. وأصلُه في الرَّوْعِ والهزيمةِ وتشميرِ المُخَدَّرات عن سُوْقِهِنَّ في الحرب، وإبداءِ خِدامِهِنَّ عند ذلك. وقال ابن قيس الرقياتِ: 4314 - تُذْهِلُ الشيخَ عن بنيه وتُبْدي ... عن خِدام العَقِليةُ العَذْراءُ انتهى وما أحسنُ ما أَبْدَى أبو القاسمِ وجهَ علاقةِ هذا المجازِ فللَّه دَرُّه. وما أَوْرَدَه أهلُ التفسير فإنَّه مؤولٌ وكذلك حديثُ ابنِ مسعود

ونحوه. قال الزمخشري:» ومَنْ أَحَسَّ بمضارِّ فَقْدِ هذا العِلْمِ عَلِمَ مقدارَ عِظَمِ منافعِه «انتهى. ويعني عِلْمَ البيان.

43

قوله: {خَاشِعَةً} : حالٌ مِنْ مرفوع «يُدْعَوْن» و «أبصارُهم» فاعلٌ به ونَسَب الخشوعَ للأبصارِ، وإنْ كانت الأعضاءُ كلُّها كذلك لظهورِ أَثَرِه فيها. وقوله: {وَهُمْ سَالِمُونَ} حالٌ مِنْ مرفوع «يُدْعَوْن» الثانيةِ.

44

قوله: {وَمَن يُكَذِّبُ} : منصوب: إمَّا نَسَقاً على الياء، وإمَّا على المفعولِ معه وهو مرجوحٌ لإِمكانِ النَّسَقِ مِنْ غيرِ ضعفٍ. وما بعدها تقدَّم إعرابُ مِثْلِه.

48

قوله: {إِذْ نادى} «إذا» منصوبٌ بمضافٍ محذوفٍ، أي: ولا تكُنْ حالُك كحالِه، أو قصتُك كقصتِه، في وقتِ ندائِه. ويَدُلُّ على المحذوفِ أنَّ الذواتِ لا يَنْصَبُّ عليها النهيُ، إنما ينصَبُّ على أحوالِها وصفاتِها. قوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} جملةٌ حاليةٌ من الضمير في «نادى» والمَكْظومُ: المُمْتَلِىءُ حُزْناً وغَيْظاً. قال ذو الرمة: 4315 - وأنتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حُزْناً ... عاني الفؤادِ قريحُ القلبِ مكظومُ وتقدَّمت مادتُه في آل عمران.

49

قوله: {تَدَارَكَهُ} : قرأ أُبي وعبدُ الله وابنُ عباس «تدارَكَتْه» بتاء التأنيث لأجلِ اللفظِ به، والحسنُ وابنُ هرمز والأعمش «تَدَّارَكُه» بتشديدِ الدالِ وخُرِّجَتْ على أنَّ الأصلَ «تَتَدارَكُه» بتَاءَيْن مضارعاً فأدغم، وهو شاذٌّ؛ لأنَّ الساكنَ الأولَ غيرُ حرفِ لينٍ وهي كقراءةِ البزي {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] {نَاراً تلظى} [الليل: 14] وهذا على حكايةِ الحالِ؛ لأنَّ القصةَ ماضيةٌ فإيقاعُ المضارعِ هنا للحكاية.

51

قوله: {لَيُزْلِقُونَكَ} : قرأها نافعٌ بفتح الياءِ، والباقون بضمِّها. فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فمِنْ أَزْلَقَه، أي: أَزَلَّ رِجْلَه، فالتعديةُ بالهمزةِ مِنْ زَلَق يَزْلِقُ. وأمَّا قراءةُ نافع فالتعديةُ بالحركةِ يقال: زَلِقَ بالكسر وزَلَقْتُه بالفتح. ونظيرُه: شَتِرَتْ عَيْنُه بالكسرِ، وشَتَرها اللَّهُ بالفتح، وقد تقدَّم لذلك أخواتٌ. وقيل: زَلَقه وأَزْلَقه بمعنى واحدٍ. ومعنى الآية في الاصابةِ بالعينِ. وفي التفسير قصةٌ. والباءُ: إمَّا للتعديةِ كالداخلةِ على الآلةِ، أي: جعلوا أبصارهم كالآلةِ المُزْلِقَةِ لك، كعَمِلْتُ بالقَدوم، وإمَّا للسببيةِ، أي: بسبب عيونِهم. /

قوله: {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر} مَنْ جَعَلْها ظرفيةً جَعَلها منصوبةً ب «يُزْلِقُونك» ، ومَنْ جعلها حرفاً جَعَلَ جوابَها محذوفاً للدلالةِ، أي: لَمَّا سَمِعوا الذِّكْرَ كادوا يُزْلِقونك، ومَنْ جَوَّزَ تقديمَ الجوابِ قال: هو هنا متقدِّمٌ.

الحاقة

قوله: {الحاقة} : مبتدأٌ و «ما» مبتدأٌ ثانٍ، و «الحاقَّةُ» خبرُه، والجملةُ خبرُ الأوِل، وقد تَقَدَّم تحريرُ هذا في الواقعة. وهناك سؤالٌ حسنٌ وجوابٌ مثلُه فعليك باعتبارِه. والحاقَّةُ فيها وجهان، أحدهما: أنَّه وصفٌ اسمُ فاعلٍ بمعنى: أنها تُبْدِي حقائق الأشياءِ. وقيل: لأنَّ الأمرَ يَحِقُّ فيها فهي من باب: ليلٌ نائمٌ ونهارٌ صائمٌ. وقيل: مِنْ حَقَّ الشيءُ: ثَبَتَ فهي ثابتةٌ كائنةٌ. وقيل: لأنها تَحُقُّ كلَّ مُحاقٍّ في دينِ اللَّهِ، أي: تَغْلِبُه. مِنْ حاقَقْتُه فحقَقْتُه أحُقُّه، أي: غَلَبْتُه. والثاني: أنها مصدرٌ كالعاقبةِ والعافيةِ.

2

قوله: {مَا الحاقة} : في موضعِ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ أَدْرَى بالهمزةِ، ويتعدَّى لاثنينِ، الأَولُ بنفسه. والثاني: بالباءِ، قال تعالى: {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16] فلَمَّا وَقَعَتْ جملةُ الاستفهامِ مُعَلِّقَةً لها كانَتْ في موضوع المفعولِ الثاني، ودونَ الهمزة تَتَعْدَّى لواحدٍ بالباء نحو: دَرَيْتُ بكذا، ويكونَ بمعنى عَلِمَ فيتعدَّى لاثنين.

5

قوله: {فَأُهْلِكُواْ} : هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ زيدُ ابن علي «فَهَلَكوا» مبنياً للفاعلِ مِنْ هَلَكَ ثلاثياً. قوله: {بالطاغية} ، أي: بالصيحةِ المتجاوزةِ للحدِّ. وقيل: بالفَعْلةِ الطاغيةِ. وقيل: بالرجلِ الطاغيةِ، وهو عاقِرُ الناقةِ، والهاء للمبالغةِ، فالطاغيةُ على هذه الأوجه صفةٌ. وقيل: الطاغيةُ مصدرٌ ويُوَضِّحُه {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} [الشمس: 11] والباءُ للسببيةِ على الأقوالِ كلِّها، إلاَّ القولَ الأولَ فإنها للاستعانةِ ك «عَمِلْتُ بالقَدُوم» .

7

قوله: {حُسُوماً} : فيه أوجهٌ، أحدها: أَنْ ينتصِبَ نعتاً لِما قبلها. والثاني: أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بفعلٍ مِنْ لفظِها، أي: تَحْسِمْهم حُسوماً. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على الحالِ، أي: ذاتَ حُسوم. الرابع: أَنْ يكونَ مفعولاً له، ويَتَّضِحُ ذلك بقول الزمخشري: «الحُسوم: لا يَخْلو مِنْ أَنْ يكونَ جمعَ حاسِم كشاهِد وشُهود، أو مصدراً كالشُّكور والكُفور. فإنْ كانَتْ جمعاً فمعنى قولِه» حُسوماً «: نَحِسات حَسَمَتْ كلَّ خيرٍ، واستأصَلَتْ كلَّ بركةٍ، أو متتابعةً هبوبَ الريح، ما خَفَتَتْ ساعةً، تمثيلاً لتتابُعِها بتتابُعِ فِعْلِ الحاسمِ في إعادة الكيِّ على الدَّاء كَرَّةً بعد أخرى حتى يَنْحَسِمَ. وإن كان مصدراً: فإمَّا أَنْ ينتصِبَ بفعلِه مضمراً، أي: تَحْسِم حُسوماً، بمعنى: تَسْتأصِلُ استئصالاً، أو يكونُ صفةً كقولِ: ذاتَ حُسومٍ، أو يكونُ مفعولاً له، أي: سَخَّرها عليهم للاستئصالِ. وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي:

4316 - ففرَّق بين بَيْنِهُمُ زمانٌ ... تتابَعَ فيه أعوامٌ حُسومُ انتهى. قال المبرد: الحُسوم: الفَصْلُ حَسَمْتُ الشيء من الشيء فَصَلْتُه منه ومنه الحُسام. وقال الشاعر: 4317 - فأرسَلْتَ ريحاً دَبُوراً عقيماً ... فدارَتْ عليهمْ فكانَتْ حُسُوماً وقال الليث:» هي الشُّؤْمُ: يقال: هذه ليالي الحُسومِ، أي: تَحْسِم الخيرَ عن أهلِها. وعندي أنَّ هذين القولَيْن يَرْجِعان إلى القول الأول؛ لأنَّ الفصلَ قَطْعٌ، وكذلك الشُّؤْمُ لأنَّه يقطعُ الخيرَ. والجملةُ مِنْ قولِه «سَخَّرها» يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل «ريح» ، وأَنْ تَكونَ حالاً منها لتخصُّصها بالصفةِ، أو من الضميرِ في «عاتية» ، وأَنْ تكون مستأنفةً. قوله: {فِيهَا صرعى} صَرْعَى حالٌ، جمعُ صَريع نحو: قتيل وقَتْلى، وجريح وجَرْحى، والضمير في «فيها» للأيام والليالي، أو للبيوت، أو للرِيح، أظهرُها الأولُ لقُرْبِه، ولأنَّه مذكورٌ. وقوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} حالٌ من القوم، أو مستأنفةٌ. وقرأ أبو نهيك «أَعْجُزُ» على أَفْعُل نحو: ضَبُع وأَضْبُع. وقُرِىء «نخيل» حكاه الأخفشُ، وقد تقدَّم أنَّ اسم الجنس يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ، واختير هنا تأنيثهُ

للفواصلِ، كما اخْتِير تذكيرُه لها في سورةِ القمر كما تقدَّم التنبيهُ عليه.

8

قوله: {فَهَلْ ترى} : أدغم اللامَ في التاءِ أبو عمروٍ وحَده، وتقدم في الملك. و «مِنْ باقية» مفعولُه و «مِنْ» مزيدةٌ، والتاءُ في «باقية» قيل: للمبالغةِ، أي: مِنْ باقٍ، والأحسنُ أَنْ تكونَ صفةً لفرقةٍ أو طائفة ونحو ذلك.

9

قوله: {وَمَن قَبْلَهُ} : قرأ بكسر القاف وفتح الباء أبو عمروٍ والكسائي، أي: ومَنْ هو في جهتِه، ويؤيِّدُه قراءةُ أبي موسى و «مَنْ تِلْقَاءَه» وقرأه أُبَيٌّ «ومَنْ تبعه» ، والباقون بالفتحِ والسكونِ على أنَّه ظرفٌ، أي: ومَنْ تقدَّمه. قوله: {بِالْخَاطِئَةِ} إمَّا أَنْ يكونَ صفةً/، أي: بالفَعْلَةِ أو الفَعَلات الخاطئة، وإمَّا أن يكون مصدراً كالخَطَأ فيكون كالعافية والكاذبة.

11

قوله: {فِي الجارية} : غَلَبَ استعمالُ «الجارية» في السفينة كقولِه:

4318 - تِسْعُونَ جاريةً في بطنِ جاريةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . هو من الألغاز، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار} [الشورى: 32] .

12

قوله: {وَتَعِيَهَآ} : العامَّة على كسرِ العينِ وتخفيفِ الياءِ، وهو مضارعٌ وَعى منصوبٌ عطفاً على «لِنَجْعَلَها» . وابن مصرف وأبو عمروٍ في رواية هارونَ عنه وقنبلَ بإسكانها تشبيهاً له ب «رَحْم» و «شَهْد» ، وإنْ لم يكُنْ منه، ولكنْ صارَ في اللفظِ بمنزلة فَعِل الحلقيِّ العينِ. ورُوِيَ عن حمزةَ إخفاءُ الكسرةِ. ورُوِي عن عاصمٍ وحمزةَ أيضاً تشديدُ الياءِ. وهو غَلَطٌ عليها، وإنما سَمِعهما الراوي يُبَيِّنان حركةَ الياءِ فظنَّها شَدَّةً. وقيل: أَجْرَيا الوصلَ مُجْرى الوقفِ فَضَعَّفا الحرفَ وهذا لا ينبغي أَنْ يُلْتَفَتَ إليه. ورُوِيَ عن حمزةَ أيضاً وموسى بن عبد الله العبسيِّ «وتَعِيْها» بسكونِ الياءِ، وفيها وجهان: الاستئنافُ والعطفُ على المنصوبِ، وإنما سَكَّنا الياءَ استثقالاً للحركةِ على حرفِ العلةِ كقراءةِ {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وقد مَرَّ.

13

قوله: {وَاحِدَةٌ} : تأكيدٌ ونَفْخَةٌ مصدرٌ قام مقامَ الفاعلِ. وقال ابن عطية: «لَمَّا نُعِتَ صَحَّ رَفْعُهُ» انتهى. ولو لم يُنْعَت لصَحَّ رفعُه لأنه مصدرٌ مختصٌ لدلالتِه على الوَحْدة، والممنوعُ عند البصريين إنما هو إقامةُ المبهمِ نحو: ضُرِب ضَرْبٌ. والعامَّةُ على الرفعِ فيهما، وقرأ أبو السَّمَّال بنصبِهما كأنه أقام الجارَّ مُقامَ الفاعلِ، فترك المصدرَ على أصله، ولم يؤنِّثِ الفعلَ وهو «نُفخَ» لأنَّ التأنيثَ مجازيٌ، وحَسَّنه الفَصْلُ.

14

[قوله:] {وَحُمِلَتِ الأرض} : قرأه العامَّةُ بتخفيف الميمِ، أي: وحَمَلَتْها الريحُ أو الملائكةُ أو القُدرة ثم بُني. وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ والأعمش وابن أبي عبلة وابن مقسم بتشدِيدِها، فجازَ أَنْ يكونَ التشديدُ للتكثير، فلم يُكْسِبِ الفعلَ مفعولاً آخرَ، وجازَ أَنْ يكونَ للتعدية، فيُكْسِبَه مفعولاً آخرَ، فيُحْتمل أَنْ يكونَ الثاني محذوفاً، والأولُ هو القائمُ مقامَ الفاعلِ تقديرُه: وحُمِّلَتِ الأرضُ والجبالُ ريحاً تُفَتِّتُها؛ لقوله {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] . وقيل: التقدير حُمِّلَتا ملائكةً. ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ الأولُ هو المحذوفَ، والثاني هو القائمُ مقامَ الفاعلِ. قوله: {فَدُكَّتَا} : أي: الأرضُ والجبالُ؛ لأنَّ المرادَ الشيئان المتقدِّمان كقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] .

15

قوله: {فَيَوْمَئِذٍ} : منصوبٌ ب «وَقَعَتْ» . و «وقعتِ الواقعةُ» لا بُدَّ فيه مِنْ تأويلٍ: وهو أَنْ تكونَ «الواقعةُ» صارَتْ عَلَمَاً بالغَلَبة على القيامة أو الواقعةِ العظيمة، وإلاَّ ف «قام القائم» لا يجوزُ؛ إذ لا فائدةَ فيه، وتقدَّم هذا في قوله {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] . والتنوين في «يومئذٍ» للعوضِ مِنْ الجملةِ، تقديره: يوم إذ نُفِخَ في الصُّور.

17

قوله: {على أَرْجَآئِهَآ} : خبرُ المبتدأ. والضميرُ للسماء. وقيل: للأرض. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين قولِه» والمَلَكُ «وبين أنْ يقال: والملائكة؟ قلت: المَلَكُ أعَمُّ مِنْ الملائكةِ؛ ألا ترى أنَّ قولَك» ما مِنْ مَلَكٍ إلاَّ وهو شاهِدٌ «أعمُّ من قولِك:» ما مِنْ ملائكة «انتهى. قال الشيخ:» ولا يَظْهر أنَّ المَلَكَ أعَمُّ مِنْ الملائكةِ؛ لأنَّ المفردَ المحلَّى بالألف واللام [الجنسية] قُصاره أَنْ يكونَ مُراداً به الجمعُ المُحلَّى [بهما] ولذلك صَحَّ الاستثناءُ منه، فقصاراه أن يكونَ كالجمعِ المُحَلَّى بهما، وأمَّا دَعْواه أنه أعَمُّ منه بقوله: «ألا ترى إلى آخره» فليس دليلاً على دَعْواه؛ لأنَّ «مِنْ مَلَكٍ» نكرةٌ مفردةٌ في سياقِ النفيِ قد دَخَلَتْ عليها «مِنْ» المُخَلِّصةُ للاستغفارق. فَشَمَلَتْ كلَّ مَلَكٍ، فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفردِ فيه، فانتفى كلُّ فردٍ بخلافِ «مِنْ ملائكة» فإنَّ «مِنْ» دَخَلَتْ على جمع مُنكَّرٍ، فَعَمَّ في كلِّ جمعٍ جمعٍ من الملائكة، ولا يلزَمُ مِنْ ذلك انتفاءُ كلِّ فردٍ مَنْ الملائكة. لو قلت: «

ما في الدارِ مِنْ رجال» جاز أَنْ يكونَ فيها واحدٌ؛ لأنَّ النفيَ إنما انسحب على جمعٍ، ولا يَلْزَمُ مِنْ انتفاءِ الجمعِ أَنْ ينتفيَ المفرد، والمَلَكُ في الآية ليس في سياقِ نفيٍ دَخَلَتْ عليه «مِنْ» وإنما جيء به مفرداً لأنه أَخفُّ، ولأنَّ قولَه «على أَرْجائِها» يَدُلُّ على الجَمْعِ؛ لأنَّ الواحدَ بما هو واحدٌ لا يمكنُ أَنْ يكونَ «على أرجائها» في وقتٍ واحدٍ، بل في أوقاتٍ. والمرادُ واللَّهُ أعلَمُ أنَّ الملائكةَ على أرجائها، لا أنه مَلَكٌ/ واحدٌ ينتقِلُ على أرجائها في أوقات «. قلت: الزمخشريُّ مَنْزَعُه في هذا ما قدَّمْتُه عنه في أواخرِ سورةِ البقرة عند قوله {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فليُراجَعْ ثمة. وأمَّا قولُ الشيخ:» ما [في الدار] مِنْ رجال، إنَّ النفي مَنسَحِبٌ على رُتَبِ الجمعِ «ففيه خلافٌ للناسِ ونَظَرٌ. والتحقيقُ ما ذكره. والضمير في» فوقهم «يجوزُ أَنْ يعودَ على المَلَك؛ لأنه بمعنى الجمع كما تقدَّم، وأَنْ يعودَ على الحامِلينَ الثمانيةِ. وقيل: يعود على جمع العالَمِ، أي: إن الملائكةَ تحملُ عَرْشَ اللَّهِ تعالى فوق العالَمِ كلِّه. قوله: {ثمانيةٌ} أَبْهم اللهُ تعالى هذا العددَ، فلم يَذْكُرْ له تمييزاً فقيل: تقديرُه ثمانية أشخاصٍ. وقيل: ثمانيةُ صُنوفٍ.

18

قوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} : «تُعْرَضُون» هو جوابُ «إذا» مِنْ قولِه «فإذا نُفِخَ» ، قاله الشيخ. وفيه نظرٌ، بل جوابُها ما تقدَّم مِنْ قولِه «وقَعَتِ الواقعة» و «تُعْرَضُون» على هذا مستأنفٌ.

قوله: {لاَ تخفى} قرأ الأخَوان بالياءِ مِنْ تحتُ؛ لأن التأنيثَ مجازيٌّ، وللفصل أيضاً، وهما على أصلِهما في إمالةِ الألفِ. والباقون «لا تَخْفى» بالتاءِ مِنْ فوقُ للتأنيثِ اللفظيِّ، والفتحُ وهو الأصلُ. قوله: {وَاهِيَةٌ} ، أي: ضعيفة. يقال: وَهَى الشيءُ يَهِي وَهْياً، أي: ضَعُف ووهَى السِّقاءُ: انخرق. قال: 4319 - خَلِّ سبيلَ مَنْ وَهَى سِقاؤُهُ ... ومَنْ هُرِيْقَ بالفَلاةِ ماؤُه وقوله: {أَرْجَآئِهَآ} ، أي: جوانُبها ونواحيها. واحِدُها: رَجا بالقصر، يُكتب الألف عكسَ رمى، لقولهم رَجَوان قال: 4320 - فلا يُرْمَى بِيَ الرَّجَوانِ أني ... أقَلُّ القومِ، مَنْ يُغْني مكاني وقال الآخر: 4321 - كأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً مُقَيدَّاً ... ولا رجلاً يُرْمى به الرَّجَوانِ

19

قوله: {هَآؤُمُ} : أي: خُذُوا. وفيها لغاتٌ، وذلك أنَّها تكونُ فِعْلاً صريحاً، وتكونُ اسمَ فعلٍ، ومعناها في الحالَيْنِ خُذْ. فإن كانَتْ اسمَ فعلٍ وهي المذكورةُ في الآيةِ الكريمةِ ففيها لغتان: المدُّ والقَصْرُ تقول: ها درهماً يا زيدُ، وهاءَ درهماً. ويكونان كذلك في الأحوالِ كلِّها مِنْ إفرادٍ وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ، وتتصلُ بهما كافُ الخطابِ اتصالَها باسمِ الإِشارةِ، فَتُطابِقُ مخاطبَك بحسب الواقع، مطابَقَتَها وهي ضميرُهُ، نحو: هاكَ هاءكَ، هاكِ هاءَكِ إلى آخرِه، وتَخْلُفُ كافَ الخطابِ همزةُ «هاء» مُصَرَّفةً تَصَرُّفَ كافِ الخطابِ، فتقول: هاءَ يا زيدُ، وهاءِ يا هندُ، هاؤُما، هاؤُم، هاؤُنَّ، وهي لغةُ القرآن. وإذا كانت فِعْلاً صريحاً لاتصالِ الضمائر البارزةِ المرفوعةِ بها كان فيها ثلاثُ لغاتٍ، إحداها: أَنْ تكونَ مثلَ: عاطى يُعاطي. فيُقال: هاءِ يا زيدُ، هائِي يا هندُ، هائِيا يا زيدان، أو يا هندان، هاؤُوا يا زيدون، هائِيْنَ يا هنداتُ. الثانية: أَنْ تكونَ مثلَ «هَبْ» فتقول: هَأْ، هَئِي، هَآ، هَؤُوا، هَأْنَ. مثلَ: هَبْ، هَبِي، هَبا، هَبُوا، هَبْنَ. الثالثة: أَنْ يكونَ مثلَ: خَفْ أمراً مِنَ الخوفِ فيقال: هَأْ، هائي، هاءا، هاؤوا، هَأْنَ، مثلَ: خَفْ، خافِي، خافا، خافُوا، خَفْنَ. واختُلِفَ في مَدْلولِها: فالمشهورُ أنَّها بمعنى خُذوا. وقيل: معناها تعالوا، فيتعدَّى ب «إلى» . وقيل: هي كلمةٌ وُضِعَتْ لإِجابةِ الداعي عند الفرحِ والنشاطِ. وفي الحديث: «أنه ناداه أعرابيٌّ بصوتٍ عالٍ، فجاوبَه

النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: هاؤُم بصَوْلةِ صَوْتِه» ومِنْ كوْنِها بمعنى «خُذْ» الحديث في الرِّبا: «إلاَّ هاءَ وهاء» أي: يقول كلُّ واحدٍ من المتبايعَيْن. خذ. وقيل معناها اقصِدوا. وزعم هؤلاء أنها مركبةٌ مِنْ ها التنبيه وأمُوا من الأَمِّ، وهو القَصْدُ فصَيَّره التخفيفُ والاستعمالُ إلى هاؤم. وقيل الميم ضميرُ جماعةِ الذكورِ. وزَعَم القُتَبيُّ أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الكافِ، فإنْ عَنَى أنَّها تَحُلُّ مَحَلَّها فصحيحٌ. وإنْ عَنَى البدَل الصناعيَّ فليس بصحيح. وقوله: {هَآؤُمُ} يطلبُ مفعولاً يتعدَّى إليه بنفسِه، إنْ كان بمعنى خُذْ أو اقْصِدْ، وب «إلى» إنْ كان بمعنى تعالَوا. و «اقْرؤُوا» يَطْلُبُه أيضاً فقد تنازَعا في «كتابِيَهْ» وأعملَ الثاني للحَذْفِ من الأولِ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورة الكهفِ وفي غيرِها. والهاءُ في «كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ وسُلْطانِيَهْ ومالِيَهْ» للسَّكْت، وكان حقُّها أَنْ تُحْذَفَ وَصْلاً، وتَثْبُتَ وَقْفاً، وإنما أُجْرِيَ الوَصْلُ مُجْرَى الوقفِ، أو وُصِلَ بنيَّة الوقفِ في «كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ» اتفاقاً فأَثْبَتَ الهاء، وكذلك في «مالِيه وسُلْطانِيَهْ» ، و «ما هِيَهْ» في {القارعة} [القارعة: 10] عند القُرَّاءِ كلِّهم إلاَّ حمزةَ رحمه الله فإنه حَذَفَ الهاءَ مِنْ هذه الكَلِمِ الثلاثِ وَصْلاً وأَثْبَتَها وقفاً؛ لأنَّها في الوقفِ يُحْتاج إليها لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه، وفي الوصلِ يُسْتَغْنَى عنها. فإنْ قيل: فلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك في «كِتَابِيَهْ/ وحسابِيَهْ» فالجوابُ: أنه جَمْعٌ بني اللغتين،

هذا في القراءاتِ السبعِ. وقرأ ابنُ محيصن بحَذْفِها في الكَلِم كلِّها وَصْلاً ووَقْفاً، إلاَّ في «القارعة» ، فإنه لم يَتَحَقَّقْ عنه فيها نَقْلٌ. وقرأ الأعمشُ وابنُ أبي إسحاق بحَذْفِها فيهنَّ وَصْلاً، وإثباتِها وَقْفاً. وابن محيصن يُسَكِّنُ الياءَ في الكَلِمِ المذكورةِ وَصْلاً. والحقُّ أنها قراءةٌ صحيحةٌ أعني ثبوتَ هاءِ السكتِ وَصْلاً، لثبوتِها في خَطِّ المصحفِ الكريمِ، فلا يُلْتَفَتُ إلى قولِ الزهراوي: «إنَّ إثباتَها في الوصلِ لَحْنٌ، لا أعلَمُ أحداً يُجيزه» . وقد تقدَّم الكلامُ على هاءِ السكتِ في البقرة. والأنعام بأشبعَ مِنْ هذا فعليك باعتبارِه.

21

قوله: {رَّاضِيَةٍ} : فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه على المجازِ، جُعِلَتِ العِيشةُ راضيةً لمحَلِّها وحُصولِها في مُسْتحقِّيها، أو أنها لا حالَ أكملُ مِنْ حالِها. الثاني: أنَّه على النَّسَبِ أي: ذاتِ رِضا نحو: لابِن وتامِر. الثالث: أنها ممَّا جاء فيه فاعِل بمعنى مَفْعول نحو: {مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] أي: مَدْفوق، كما جاء مَفْعول بمعنى فاعِل كقولِه: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإِسراء: 45] أي: ساتِراً، وقد تقدَّم ذلك.

23

والقُطوف: جمعُ قِطْفٍ، وهو فِعْل بمعنى مَفْعول كالرِّعْي والذِّبْح وهو ما يَجْتَنيه الجاني مِن الثمار.

24

قوله: {كُلُواْ} : أي: يُقال لهم: كُلوا: و «هَنيئاً»

قد تقدَّم في أولِ النساء. وجَوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصِبَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: أَكْلاً هَنيئاً، وشُرْباً هنيئاً، وأَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍ أي: هَنِئْتُمْ بذلك هَنيئاً. و «بما أَسْلَفْتُم» الباءُ سببيةٌ، و «ما» مصدريةٌ أو اسميةٌ.

28

قوله: {مَآ أغنى} : يجوز أَنْ يكونَ نفياً، وأَنْ يكونَ استفهامَ توبيخٍ لنفسِه.

30

وقوله: {خُذُوهُ} كقولِه: {كُلُواْ} [الحاقة: 24] في إضمار القولِ. وقوله: {ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} تقديمُ المفعولِ يُفيد الاختصاصَ عند بعضهم؛ ولذلك قال الزمخشري: «ثم لا تَصْلُوه إلاَّ الجحيمَ» . قال الشيخ: «وليس ما قاله مَذْهَباً لسيبويه ولا لحُذَّاقِ النحاة» . قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مُتْقَنَةً، وأنَّ كلامَ النحاةِ لا يأبى ما قاله.

32

قوله: {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ} : في محلِّ جر صفةً ل «سِلْسِلَةٍ» و «في سِلْسِلَة» متعلِّقٌ ب «اسْلُكوه» والفاءُ لا تَمْنع من ذلك. والذِّراعُ مؤنثٌ، ولذلك يُجْمَعُ على أفْعُل وسَقَطَتْ التاءُ مِنْ عددِه قال: 432 - 2-

أَرْمي عليها وهي فَرْعٌ أَجْمَعُ ... وهي ثلاثُ أَذْرُعٍ وإصبعُ وزعم بعضُم أنَّ في قولِه: «في سِلْسلة» «فاسلكوه» قلباً، قال: لأنه نُقِلَ في التفسير أنَّ السِّلسلةَ تَدْخُل مِنْ فيه، وتخرجُ مِنْ دُبُرِه، فهي المَسْلُوْكة فيه، لا هو مَسْلوكٌ فيها. والظاهرُ أنه لا يُحتاج إلى ذلك لأنه رُوي أنَّها لطولِها تُجْعَلُ في عنقِه وتَلتَوي عليه، حتى تُحيطَ به مِنْ جميعِ جهاتِه، فهو المَسْلوكُ فيها لإِحاطتِها به. وقال الزمخشري: «والمعنى في تقديم السِّلسلةِ على السَّلْك مثلُه في تقديمِ الجحيمِ على التَّصْليةِ أي: لا تَسْلُكوه إلاَّ في هذه السلسلةِ و» ثُمَّ «للدلالةِ على التفاوُتِ لِما بين الغَلِّ والتَّصْليةِ بالجَحيم، وما قبلَها، وبينَ السَّلْكِ في السِّلسلة لا على تراخي المُدَّة» . ونازعه الشيخُ في إفادةِ التقديم الاختصاصَ كعادتِه، وجوابُه ما تقدَّم، ونازَعه أيضاً في أنَّ «ثُمَّ» للدلالة على تراخي الرتبة. وقال: «يمكنُ التراخي الزماني: بأَنْ يَصْلَى بعد أن يُسْلَكَ، ويُسْلَكَ بعد أَنْ يُؤْخَذَ ويُغَلَّ بمهلةٍ بين هذه الأشياءِ» . انتهى. وفيه نظرٌ: من حيث إن التوعُّدَ بتوالي العذابِ آكَدُ وأقطعُ مِنْ التوعُّدِ بتَفْريقه.

34

وقله: {وَلاَ يَحُضُّ} : الحضُّ: البَعْثُ على الفعلِ والحِرْصُ على وقوعِه، ومنه حروفُ التحضيض المُبَوَّبُ لها في النحوِ؛ لأنه يُطْلَبُ بها وقوعُ الفعلِ وإيجادُه.

35

قوله: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ} : في خبرِ «

ليس» وجهان، أحدهما: «له» ، والثاني: «ههنا» ، وأيُّهما كان خبراً تعلَّق به الآخَرُ، أو كان حالاً مِنْ «حميمٌ» . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ «اليومَ» خبراً البتة لأنه زمانٌ، والمُخْبَرُ عنه جثةٌ. ومنع المهدويُّ أَنْ يكونَ «ههنا» خبراً، ولم يَذْكُرِ المانعَ. وقد ذكره القرطبي فقال: «لأنه يَصيرُ المعنى: ليس ههنا طعامٌ إلاَّ مِنْ غسْلين/ ولا يَصِحُّ ذلك لأنَّ ثَمَّ طعاماً غيرَه» . انتهى. وفي هذا نظرِ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أولاً أنَّ ثَمَّ طعاماً غيرَه. فإنْ أَْرَدَ قولَه: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] فهذا طعامٌ آخرُ غيرُ الغِسْلين. فالجوابُ: أنَّ بعضَهم ذهب إلى أن الغِسْلينَ هو الضَّريعُ بعينِه فسمَّاه في آيةٍ غِسْليناً، وفي أخرى ضَريعاً. ولَئِنْ سَلَّمْنا أنهما طعامان فالحَصْرُ باعتبارِ الآكلين. يعني أنَّ هذا الآكلَ انحصَر طعامُه في الغِسْلِيْنِ، فلا يُنافي أَنْ يكونَ في النار طعامٌ آخر. وإذا قُلْنا: إنَّ «له» الخبر، وإن «اليوم» و «ههنا» متعلِّقان بما تعلَّقَ هو به فلا إشكال. وكذاك إذا جَعَلْنا «ههنا» هو الخبرَ، وعَلَّقْنا به الجارَّ والظرفَ ولا يَضُرُّ كونُ العاملِ معنوياً للاتساع في الظروفِ وحروف الجرِّ.

36

قوله: {إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} : صفةٌ ل «طعامٌ» دَخَلَ الحصرُ على الصفةِ، كقولك: «ليس عندي رجلٌ إلاَّ من بني تميمٍ» والمرادُ بالحميم الصديقُ، فعلى هذا الصفةُ مختصَّةٌ بالطعامِ أي: ليس له صديق ينفعُه ولا طعامٌ إلاَّ مِنْ كذا. وقيل: التقديرُ: ليس له حميمٌ إلاَّ مِنْ غِسْلين ولا طعامٌ، قاله أبو البقاء، فجعل «مِنْ غِسْلين» صفةً للحميم،

كأنَّه أرادَ به الشيءَ الذي يُحَمُّ به البدنُ مِن صديدِ النارِ. ثم قال: «وقيل: من الطعامِ والشرابِ؛ لأنَّ الجميعَ يُطْعَمُ بدليله قولِه: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} [البقرة: 249] فعلى هذا يكونُ {إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} صفةً ل» حميم «ول» طعام «، والمرادُ بالحَميم ما يُشْرَبُ. والظاهرُ أنَّ خبرَ» ليس «هو قوله:» مِنْ غِسْلين «إذا أُرِيد بالحميم ما يُشْرَبُ أي: ليس له شرابٌ ولا طعامٌ إلاَّ غِسْليناً. أمَّا إذا أُريد بالحميمِ الصديقُ فلا يتأتَّى ذلك. وعلى هذا الذي ذكَرْتُه فيُسْألُ عمَّا يُعَلَّقُ به الجارُّ والظرفان؟ والجوابُ: أنها تتعلَّقُ بما تعلَّقَ به الخبرُ، أو يُجْعَلُ» له «أو» ههنا «حالاً مِنْ» حميم «، ويتعلَّقُ» اليوم «بما تَعَلَّق به الحالُ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ» اليومَ «حالاً مِنْ» حميم «، و» له «و» ههنا «متعلِّقان بما تعلَّق به الحالُ؛ لأنه ظرفُ زمانٍ، وصاحبُ الحالِ جثةٌ. وهذا الموضِعُ موضِعٌ حَسَنٌ مفيدٌ فتأمّلْه. والغِسْلِين: فِعْلِيْن مِن الغُسالةِ، فنونُه وياؤُه زائدتان. قال أهلُ اللغة: هو ما يَجْري من الجِراح إذا غُسِلَتْ. وفي التفسير: هو صَديدُ أهلِ النار. وقيل: شجرٌ يأكلونه.

37

قوله: {لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون} : صفةٌ ل «غِسْلين» . والعامَّةُ يَهْمِزُون «الخاطِئُون» وهو اسمُ فاعلٍ مِنْ خَطِىءَ يَخْطأ، إذا فَعَلَ غيرَ الصوابِ متعمِّداً، والمُخْطِىءُ مَنْ يفعلُه غيرَ متعمِّدٍ. وقرأ الزُّهريُّ والعَتكِيُّ وطلحة والحسن «الخاطِيُون» بياءٍ مضمومةٍ

بدلَ الهمزة. وقد تقدَّم مثلُه في «مُسْتَهْزِيُون» أولَ هذا الموضوع. وقرأ نافعٌ في روايةٍ، وشيخُه وشَيْبَةُ بطاءٍ مضمومةٍ دونَ همزِ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه كقراءةِ الجماعةِ، إلاَّ أنه خُفِّفَ بالحَذْفِ. والثاني: أنه اسمُ فاعلٍ مِن خطا يخطو إذا اتَّبع خطواتِ غيرِه. فيكونُ مِنْ قولِه: {لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} [النور: 21] قاله الزمخشري، وقد مَرَّ في أول هذا الموضوع أنَّ نافعاً يَقْرأ «الصابِييْنَ» بدونِ همزٍ، وتقدَّم ما نَقَلَ الناسُ فيها، وعن ابن عباس: ما الخاطُون كلُّنا نَخْطُو. ورَوى عنه أبو الأسودِ الدؤليُّ: «ما الخاطُون، إنما هو الخاطئُون وما الصابُون، إنما هو الصابِئُون» .

38

وقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} : قد تقدَّم مثلُه في آخرِ الواقعة، وأَشْبَعْتُ القولَ ثَمَّةَ إلاَّ أنَّه قيل ههنا: إنَّ «لا» نافيةٌ لفعلِ القسم، وكأنَّه قيل: لا أَحْتاجُ أَنْ أُقْسِمَ على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مُسْتَغْنٍ عن القسمِ، ولو قيل به في الواقعة لكان حَسَناً.

40

قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ} : هو جواب القسمِ.

41

قوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ} : معطوفٌ على الجوابِ فهو جواب. أَقْسَمَ على شيئين، أحدُهما مُثْبَتٌ، والآخرُ منفيٌّ وهو من البلاغةِ الرائعة.

قوله: {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} انتصبَ «قليلاً» في الموضعَيْنِ نعتاً لمصدرٍ أو زمانٍ محذوفٍ أي: إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً. والناصب تُؤْمِنون وتَذَكَّرون، و «ما» مزيدةٌ/ للتوكيدِ. وقال ابنُ عطيةَ: «ونُصِبَ» قليلاً «بفعلٍ مضمرٍ، يَدُلُّ عليه» تُؤْمِنون «. وما يُحتمل أَنْ تكونَ نافيةً فيَنْتَفِيَ إيمانُهم البتةَ، ويُحتمل أَنْ تكونَ مصدريةً، ويتصفَ بالقلَّةِ، فهو الإِيمانُ اللغويُّ؛ لأنَّهم قد صَدَّقوا بأشياءَ يسيرةٍ، لا تُغْني عنهم شيئاً؛ إذ كانوا يُصَدِّقون بأنَّ الخيرَ والصِّلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو حقٌّ وصوابٌ» . قال الشيخ: «أمَّا قولُه:» قليلاً «نُصِبَ بفعلٍ إلى آخره فلا يَصِحُّ؛ لأن ذلك الفعلَ الدالَّ عليه» تُؤْمنون «: إمَّا أن تكونَ» ما «نافيةً [أو مصدريةً] كما ذَهَب إليه. فإنْ كانَتْ نافيةً فذلك الفعلُ المضمرُ الدالُّ عليه» تُؤْمِنون «المنفيُّ ب» ما «يكونُ منفيّاً، فيكون التقدير: ما تُؤْمِنون قليلاً ما تؤمنون، والفعلُ المنفيُّ ب» ما «لا يجوزُ حَذْفُه ولا حَذْفُ» ما «، لا يجوز:» زيداً ما أَضْرِبُه «على تقدير: ما أضربُ زيداً ما أَضْرِبُه. وإنْ كانَتْ مصدريةً كانَتْ: إمَّا في موضع رفعٍ ب» قليلاً «على الفاعلية، أي: قليلاً إيمانُكم، ويبقى» قليلاً «لا يتقدَّمه مَا يَعْتمد عليه حتى يعملَ، ولا ناصبَ له، وإمَّا في موضعِ رفعٍ على الابتداءِ فيكونُ مبتدأً لا خبرَ له، لأنَّ ما قبلَه منصوبٌ» . قلت: لا يريدُ ابنُ عطيةَ بدلالةِ «تُؤْمنون» على الفعلِ المحذوفِ الدلالةَ المذكورةَ في بابِ الاشتغالِ، حتى يكونَ العاملُ الظاهر مفسِّراً

للعاملِ المضمرِ، بل يريدُ مجرَّدَ الدلالةِ اللفظيةِ، فليس ما أوردَه الشيخُ عليه مِنْ تمثيلِه بقولِه: «زيداً ما أَضْرِبُه» أي: ما أضربُ زيداً ما أضربه بواردٍ. وأمَّا الردُّ الثاني فظاهرٌ. وقد تقدَّم لابنِ عطيةَ هذا القولُ في أول سورةِ الأعراف وتكلَّمْتُ معه ثَمَّة. وقال الزمشخريُّ: «والقلَّةُ في معنى العَدَمِ أي: لا تُؤْمنون ولا تَذَكَّرون البتة» . قال الشيخ: «ولا يُرادُ ب» قليلاً «هنا النفيُ المَحْض، كما زعم، وذلك لا يكونُ إلاَّ في» أقَلَّ «نحو:» أقَلُّ رجلٍ يقولُ ذلك إلاَّ زيدٌ «وفي» قَلَّ «نحو:» قَلَّ رجلٌ يقولُ ذلك إلاَّ زيدٌ «وقد يُستعمل في قليل وقليلة، أمَّا إذا كانا مرفوعَيْنِ، نحوُ ما جَوَّزوا في قولِه: 4323 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها أمَّا إذا كان منصوباً نحو: «قليلاً ضَرَبْتُ» أو «قليلاً ما ضَرَبْتُ» على أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً فإنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنَّه في «قليلاً ضربْتُ» منصوبٌ ب «ضربْتُ» . ولم تَستعمل العربُ «قليلاً» إذا انتصَبَ بالفعلِ نفياً، بل مقابلاً لكثير، وأمَّا في «قليلاً ما ضربْتُ» على أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً فتحتاج إلى رفع «قليل» لأنَّ «ما» المصدريةَ في موضعِ رفع على الابتداء «انتهى ما رَدَّ به، وهو مجردُ دَعْوى.

وقرأ ابن كثير وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان بالغَيْبة في» يؤمنون «و» يَذَّكَّرون «حَمْلاً على قولِه:» الخاطِئون «، والباقون بالخطاب حَمْلاً على» بما تُبْصِرون وما لا تُبْصرون «. وأُبَيٌّ» تتذكَّرون «بتاءين.

43

قوله: {تَنزِيلٌ} : هذه قراءةُ العامَّة، أعني الرفعَ على إضمارِ مبتدأ، أي: هو تنزيلٌ، وتقدَّم مثلُه. وأبو السَّمَّال «تَنْزيلاً» بالنصبِ على إضمارِ فعل أي: نَزَّل تنزيلاً.

44

قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ} : هذه قراءةُ العامَّةِ. تَفَعَّل من القولِ مبنيّاً للفاعلِ. وقال الزمخشري: «التقوُّلُ افعتالُ القولِ؛ لأن فيه تكلُّفاً من المُفْتَعِل» . وقرأ بعضُهم «تُقُوِّل» مبنياً للمفعول. فإن كان هذا القارىءُ رفع «بعضُ الأقاويل» فذاك، وإلاَّ فالقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ، وهذا عند مَنْ يرى قيامَ غيرِ المفعول به مع وجودِه. وقرأ ذكوان وابنه محمد «يقولُ» مضارعُ «قال» . والأقاويلُ: جمعُ أقوالٍ، وأقوالٌ جمع قَوْل، فهو نظير «أباييت» جمعُ أَبْيات جمعُ بَيْت. وقال الزمخشري: «

وسَمَّى الأقوالَ المتقوَّلةَ أقاويلَ تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك: أعاجيب، وأضاحيك، كأنها جمع أُفْعُولة من القَوْل» .

45

قوله: {باليمين} : يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ على أصلِها غيرَ مزيدةٍ والمعنى: لأَخَذْناه بقوةٍ مِنَّا، فالباءُ حاليةٌ، والحالُ من الفاعلِ، وتكون في حكم الزائدةِ. واليمينُ هنا مَجازٌ عن القوةِ والغَلَبة، وأَنْ تكونَ مزيدةً، والمعنى: لأَخَذْنا منه يمينَه، والمرادُ باليمين الجارِحَةُ، كما يُفْعَلُ بالمقتول صَبْراً يُؤْخَذُ بيميِنه، ويُضرب بالسيفِ في جيده مواجهةً، وهو أشَدُّ عليه. والوتينُ نِياطُ القلبِ، إذا انقطعَ ماتَ صاحبُه. وقال الكلبي: «هو عِرْقٌ بين العِلْباء والحُلْقوم، وهما عِلْباوان، بينهما العِرْقُ، والعِلْباءُ: / عَصَبُ العُنُق» . وقيل: عِرْقٌ غليظٌ تصادِفُه شَفْرة الناحِرِ. قال الشمّاخ: 4324 - إذا بَلَّغْتِني وحَملْتِ رَحْلِي ... عَرابةَ فاشْرَقي بدمِ الوتينِ

47

قوله: {حَاجِزِينَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه نعتٌ ل «أحد» على اللفظِ، وإنما جُمع على المعنى؛ لأنَّ «أحداً» يَعُمُّ في سياقِ النفي كسائرِ النكراتِ الواقعة في سياقِ النفي، قاله الزمخشريُّ والحوفيُّ، وعلى هذا فيكون «منكم» خبراً للمبتدأ، والمبتدأ «مِنْ أحدٍ»

زِيْدَتْ فيه «مِنْ» لوجود شرطَيْها. وضَعَّفه الشيخُ: بأنَّ النفيَ يتسَلَّطُ على كَيْنونتِه منكم، والمعنى إنما هو على نفي الحَجْزِ عَمَّا يُراد به. والثاني: أَنْ يكونَ خبراً ل «ما» الحجازية و «مِنْ أحد» اسمُها، وإنما جُمعَ الخبرُ لِما تقدَّم، و «منكم» على هذا حالٌ؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ ل «أحد» أو يتعلَّقُ ب «حاجِزين» . ولا يَضُرُّ ذلك؛ لكونِ معمولِ الخبرِ جارّاً، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع. لا يجوز: «ما طعامَك زيدٌ آكلاً» أو يتعلَّقُ بمحذوفٍ على سبيل البيان. و «عنه» متعلِّقٌ ب «حاجزين» على القولَيْن، والضميرُ للمتقوِّلِ أو للقَتْلِ المدلولِ عليه بقولِه: «لأَخَذْنا» ، «لَقَطَعْنا» .

48

قوله: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ} : أي: القرآن، وكذلك «إنه لحَسْرة» . وقيل: إنَّ التكذيبَ به، لدلالةِ «مكذِّبين» على المصدرِ دلالةَ السَّفيه عليه في قولِه: 4325 - إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه ... وحالفَ والسَّفيهُ إلى خِلافِ أي إلى السَّفَهِ.

المعارج

قوله: {سَأَلَ} : قرأ نافع وابنُ عامر بألفٍ مَحْضَةٍ. والباقون بهمزةٍ مُحَقَّقةٍ، وهي الأصلُ، وهي اللغةُ الفاشيةُ. ثم لك في «سأل» وجهان أحدُهما: أنْ يكونَ قد ضُمِّنَ معنى دعا؛ فلذلك تعدَّى بالباء، كما تقول: دعوت بكذا. والمعنى: دعا داعٍ بعذابٍ. والثاني: أَنْ يكونَ على أصلِه. والباءُ بمعنى عن، كقوله: 4326 - فإن تَسْألوني بالنساء. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . «فأسْأل بن خبيرا» ، وقد تقدَّم تحقيقُه. والأولُ أَوْلَى؛ لأن التجوُّزَ في الفعل أَوْلَى منه في الحرف لقوتِه. وأمَّا القراءةُ بالألفِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها بمعنى قراءةِ الهمزة، وإنما خُفِّفَتْ بقَلْبِها ألفاً، وليس بقياسِ تخفيفِ مثِلها، بل قياسُ تخفيفِها جَعْلُها بينَ بينَ. والباءُ على هذا الوجهِ كما في الوجهِ الذي

تقدَّم. الثاني: أنها مِنْ سال يَسال مثلُ خاف يَخاف. وعينُ الكلمةِ واوٌ. قال الزمخشري: «وهي لغةُ قريش يقولون: سِلْتَ تَسالُ، وهما يتسايلان» . قال الشيخ: «وينبغي أَنْ يُتَثَبَّتَ في قوله:» إنها لغةُ قريشٍ، لأنَّ ما جاء في القرآنِ من باب السؤالِ هو مهموزٌ، أو أصلُه الهمزُ، كقراءةِ مَنْ قرأ «وسَلُوا اللهُ مِنْ فضلِه» [النساء: 32] إذ لا جائزٌ أَنْ يكونَ مِنْ «سال» التي عينُها واوٌ، إذ كان يكون ذلك «وسَالوا اللهَ» مثلَ «خافوا» ، فيَبْعُدُ أن يجيءَ ذلك كلُّه على لغةِ غيرِ قريشٍ، وهم الذين نَزَل القرآنُ بلغتِهم إلاَّ يسيراً، فيه لغةُ غيرِهم. ثم في كلامِ الزمخشريِّ «وهما يتسايَلان» بالياء، وهو وهمٌ من النسَّاخ، إنما الصوابُ: يتساوَلان بالواو، لأنه صَرَّحَ أولاً أنه من السُوال يعني بالواو الصريحةِ، وقد حكى أبو زيدٍ عن العربِ: «هما يتساولان» . الثالث: أنَّها مِنْ السَّيَلان. والمعنى: سالَ وادٍ في جهنم بعذابٍ، فالعينُ ياءٌ، ويؤيِّدُه قراءةُ ابن عباس «سالَ سَيْلٌ» . قال الزمخشريُّ: «والسَّيْلُ مصدرٌ في معنى السائلِ كالغَوْر بمعنى الغائر. والمعنى: اندفع عليهم وادي عذابٍ» انتهى. والظاهرُ الوجهُ الأولُ لثبوتِ ذلك لغةً مشهورةً قال: 4327 - سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً ... ضَلَّتْ هُذَيلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ

وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله «سال سالٌ» مثلَ «مال» وتخريجُها: أنَّ الأصلَ «سائلٌ» فحُذِفَتْ عينُ الكلمةِ وهي الهمزةُ، واللامُ محلُّ الإِعرابِ وهذا كما قيل: «هذا شاكٌ» في شائِكِ السِّلاح وقد تقدَّم الكلامُ على مادةِ السؤالِ في أول البقرة، / فعليك باعتبارِه. والباءُ تتعلَّق ب «سال» من السَّيَلان تعلُّقَها ب «سال الماءُ بزيدٍ» . وجَعَلَ بعضُهم الباءَ متعلقةً بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال، كأنه قيل: ما سؤالُهم؟ فقيل: سؤالُهم بعذابٍ، كذا حكاهُ الشيخ عن الإِمام فخر الدين، ولم يَعْتَرِضْه. وهذا عَجَبٌ؛ فإنَّ قولَه أولاً «إنه متعلِّقٌ بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال» يُنافي تقديرَه بقولِه: «سؤالُهم بعذاب» ؛ لأنَّ الباءَ في هذا التركيبِ المقدَّرِ تتعلَّق بمحذوفٍ لأنها خبرُ المبتدأ، لا بالسؤال. وقال الزمخشري: «وعن قتادةَ: سأل سائلٌ عن عذابِ الله بمَنْ يَنْزِلُ وعلى مَنْ يقعُ؟ فَنَزَلَتْ، و» سأَل «على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتمَّ» .

2

قوله: {لِلْكَافِرِينَ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ ب «سأل» مضمَّناً معنى «دَعا» كما تقدَّم، أي: دعا لهم بعذابٍ واقع. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ ب «واقعٍ» واللامُ للعلةِ، أي: نازلٌ لأجلِهم. الثالث: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ثانيةً ل «عذابٍ» ، أي: كائنٍ للكافرين. الرابع: أَنْ

يكونَ جواباً للسائلِ، فيكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو للكافرين. الخامس: أَنْ تكونَ اللامُ بمعنى على، أي: واقعٍ على الكافرين، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ «على الكافرين» ، وعلى هذا فهي متعلِّقةٌ ب «واقعٍ» لا على الوجهِ الذي تقدَّم قبلَه. وقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: بم يتصِلُ قولُه» للكافرين «؟ قلت: هو على القولِ الأولِ متصلٌ بعذاب صفةً له، أي: بعذابٍ واقعٍ كائنٍ للكافرين، أو بالفعل، أي: دعا للكافرين بعذابٍ واقعٍ، أو بواقع، أي: بعذابٍ نازلٍ لأَجْلِهم. وعلى الثاني: هو كلامٌ مبتدأٌ، جواباً للسائل، أي: هو للكافرين» انتهى. قال الشيخ: «وقال الزمشخريُّ:» أو بالفعلِ، أي: دعا للكافرين، ثم قال: وعلى الثاني وهو ثاني ما ذَكَرَ في توجيهِه للكافرين قال: هو كلامٌ مبتدأٌ جواباً للسائلِ، أي: هو للكافرين. وكان قد قَرَّر أنَّ «سَأَلَ» ضُمِّن معنى «دعا» فعُدِّيَ تعديتَه، كأنه قال: دعا داعٍ بعذابٍ، مِنْ قولِك: دعا بكذا إذا استدعاه وطَلَبه، ومنه قولُه تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ} [الدخان: 55] انتهى. فعلى ما قَرَّره أنه متعلِّقٌ ب «دعا» يعني ب «سأل» ،

فكيف يكونُ كلاماً مبتدأ جواباً للسائلِ، أي: هو للكافرين؟ هذا لا يَصِحُّ «. هذا كلامُ الشيخِ برُمَّتِه، وقد غَلِط على أبي القاسم في فَهْمِه عنه قولَه:» وعلى الثاني إلى آخره «فمِنْ ثَمَّ جاء التَّخْبيطُ الذي ذكرَه. والزمخشريُّ إنما عنى بالثاني قولَه:» وعن قتادةَ سأل سائلٌ عن عذابِ الله على مَنْ يَنْزِلُ وبمَنْ يقع، فنزلَتْ، وسأَلَ على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتم «فهذا هو الوجهُ الثاني المقابِلُ للوجهِ الأولِ: وهو أنَّ» سأَلَ «مضمَّنٌ معنى» دعا «، ولا أدري كيف تَخَبَّط على الشيخِ حتى وقع فيما وَقَعَ، ونَسَبَ الزمخشريَّ إلى الغَلَطِ، وأنه أخذ قولَ قتادةَ والحسنِ وأفسَده؟ والترتيبُ الذي رتَّبه الزمخشريُّ في تعلُّقِ اللامِ مِنْ أحسنِ ما يكونُ صناعةً ومعنى. قوله: {لَيْسَ لهُ دافِعٌ} يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً آخر ل» عذابٍ «، وأَنْ يكونَ مستأنفاً، والأولُ أظهرُ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ» عذاب «لتخصُّصه: إمَّا بالعملِ، وإمَّا بالصفة، وأَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في» للكافرين «إنْ جَعَلْناه نعتاً ل» عذابٍ «.

3

قوله: {مِّنَ الله} : يجوزُ أَنْ يتعلَّق ب «دافعٌ» بمعنى: ليس له دافعٌ مِنْ جهته إذا جاء وقتُه، وأَنْ يتعلَّقَ ب «واقع» وبه بَدَأَ الزمخشريُّ، أي: واقعٌ من عندِه. وقال أبو البقاء: «ولم يَمْنَعِ النفيُ من ذلك؛ لأنَّ» ليس «فعلٌ» ، كأنه استشعرَ أنَّ ما قبلَ النفيِ لاَ يعملُ فيما بعدَه، فأجاب: بأنَّ النفيَ لَمَّا كان فِعْلاً ساغ ذلك.

وقال الشيخ: «والأجودُ أَنْ يكونَ» من الله «متعلقاً ب» واقعٍ «، و» ليس له دافعٌ «جملةُ اعتراضٍ بين العاملِ ومعمولِه» انتهى. وهذا إنما يأتي على القولِ بأنَّ الجملةَ مستأنفةٌ، لا صفةٌ ل «عذاب» وهو غيرُ الظاهرِ، كما تقدَّم لأَخْذِ الكلامِ بعضِه بحُجْزَةِ بعضٍ. قوله: {ذِي} صفقةٌ ل «الله» . والعامَّةُ «تَعْرُج» بالتاء «منْ فوقُ. والكسائيُّ بالياءِ مِنْ تحتُ وهما كقراءتَيْ» فناداه الملائكةُ «، التاءِ، واسْتَضْعَفَها بعضهُم: من حيث إنَّ مَخْرَج الجيمَ بعيدٌ/ مِنْ مَخْرَجِ التاءِ. وأُجيب عن ذلك: بأنَّها قريبةٌ من الشينِ؛ لأنَّ النَّفَس الذي في الشينِ يُقَرِّبُها مِنْ مَخْرَجِ التاءِ، الجيمُ تُدْغَمُ في الشين لِما بينهما من التقاربِ في المَخْرَجِ والصفةِ، كما تقدَّم في {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29] فَحُمِل الإِدغامُ في التاءِ على الإِدغامِ في الشينِ؛ لِما بينَ الشينِ والتاءِ من التقاربِ. وأُجيب أيضاً: بأنَّ الإِدغامَ يكونُ لمجرَّدِ الصفاتِ، وإنْ لم يتقارَبَا في المَخْرَجِ، والجيمُ تُشارِكُ التاءَ في الاستفالِ والانفتاحِ والشِّدَّةِ. وتقدَّم الكلامُ على المعارجِ في الزخرف.

4

قوله: {والروح} : مِنْ بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ، إنْ أُريد بالروح جبريلُ عليه السلام، أَو مَلَكٌ آخرُ مِنْ جِنسِهم، وأُخِّر هنا، وقُّدِّم في قولِه: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38] لأنَّ المَقَامَ هنا يَقْتَضي تَقَدُّمَ الجمع على الواحدِ من حيث إنه مَقامُ تَخْويفٍ وتهويلٍ. و «وكان مِقْدارُه» صفةٌ ل «يومَ» ، والجملةُ مِنْ «تَعْرُجُ» مستأنفةٌ. قوله: {فِي يَوْمٍ} فيه وجهان، أظهرُهما: تَعلُّقُه ب «تُعْرُجُ» . والثاني: أنه يتعلَّقُ ب «دافعٌ» وعلى هذا فالجملةُ مِنْ قولِه «تَعْرُجُ الملائكةُ» معترضةٌ، والضميرُ في «إليه» الظاهرُ عَوْدُه على الله تعالى. قيل: يعودُ على المكانِ لدلالةِ الحالِ والسياقِ عليه. والضميرُ في «يَرَوْنه» و «نَراه» لليومِ إنْ أُريد به يومُ القيامة. وقيل: للعذاب.

8

قوله: {يَوْمَ تَكُونُ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنَّه متعلِّقٌ ب «قريباً» ، وهذا إذا كان الضميرُ في «نراه» للعذاب ظاهرٌ. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه «واقع» ، أي: يقعُ يومَ يكونُ. الثالث: [أن يتعلَّقَ] بمحذوفٍ مقدَّرٍ بعده، أي: يومَ يكونُ كان كيتَ وكيتَ. الرابع: أنه بدلٌ من الضميرِ في «نَراه» إذا كان عائداً على يومِ القيامة. الخامس: أنه بدلٌ مِنْ «في يومٍ» فيمَنْ عَلَّق ب «واقع» . قاله الزمخشريُّ. وإنما قال فيمَنْ عَلَّقَهُ ب «واقع» لأنه إذا عُلِّق ب «تَعْرُج» كما تقدَّم في أحدِ الوجَهْين استحال أَنْ يُبْدَلَ عنه هذا؛ لأنَّ عُروجَ الملائكةِ ليس هو في هذا اليومِ الذي تكونُ السماءُ فيه كالمُهْلِ والجِبالُ

كالعِهْنِ، ويَشْتَغِلُ كلُّ حميمٍ عن حميمِه. قال الشيخ: «ولا يجوزُ هذا» يعني إبداله مِنْ «في يوم» . قال: «لأنَّ في يوم» وإنْ كان في موضعِ نصبٍ لا يُبْدَلُ منه منصوبٌ؛ لأنَّ مثلَ هذا ليس بزائدٍ ولا محكومٍ له بحكمِ الزائدِ ك «رُبَّ» ، وإنما يجوزُ مراعاةُ الموضعِ في حرفِ الجرِّ الزائدِ كقولِه: 4328 - أبَني لُبَيْنَى لَسْتُما بِيَدٍ ... إلاَّ يَداً ليسَتْ لها عَضُدُ وكذلك لا يجوزُ «مَرَرْتُ بزيدٍ الخياطَ» على موضع «بزيدٍ» ولا «مَرَرْتُ بزيدٍ وعمراً» ولا «غَضِبْتُ على زيد وجعفراً» ولا «مَرَرْتُ بعمروٍ أخاك» على مراعاةِ الموضع «. قلت: قد تقدَّم أنَّ قراءةَ {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 4] من هذا البابِ فيمَنْ نصبَ الأرجل فيكُنْ هذا مثلَه، وقد تقدَّم فلا نُعيده. ثم قال الشيخ:» فإنْ قلتَ: الحركةُ في «يومَ تكون» حركةُ بناءٍ لا حركةُ إعرابٍ فهو مجرورٌ مثلُ «في يومٍ» قلت: لا يجوزُ بِناؤُه على

مذهبِ البَصْريين؛ لأنه أُضيفَ إلى مُعْرَبٍ، لكنه يجوزُ على مذهب الكوفيين، فيتمشَّى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبِهم إنْ كان استَحْضَره وقَصَده «. انتهى. قولُه:» إنْ كان اسْتَحْضره «فيه تحامُلٌ على الرجلِ. وأيُّ كبيرِ أَمرٍ في هذا حتى لا يَسْتَحْضِرَ مثلَ هذا؟ والتبجُّحُ بمثلِ هذا لا يليق ببعضِ الطلبةِ، فإنها من الخلافِيَّاتِ المشهورة شُهْرَةَ: قِفا نَبْكِ. . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وتقدَّم الكلامُ على المُهْل في الدخان. وأمَّا العِهْنُ فقيل: الصوفُ مطلقاً. وقيل: بقَيْدِ كونِه أحمر. وقيل: بِقَيْدِ كونِه مَصْبوغاً. وقيل: بقَيْدِ كونِه مَصْبوغاً ألواناً، وهذا أَلْيَقُ بالتشبيه؛ لأنَّ الجبالَ متلوِّنةٌ، كما قال تعالى: {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} [فاطر: 27] .

9

قوله: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ} : قرأ العامَّةُ «يَسْأَلُ» مبنياً للفاعل. والمفعولُ الثاني محذوفٌ فقيل: تقديرُه لا يَسْألُه نَصْرَهُ ولا شفاعتَه لعِلْمِه أنَّ ذلك مفقودٌ. وقيل: لا يَسْأله شيئاً مِنْ حَمْل أَوْزارِه. وقيل: «حميماً» منصوبٌ على إسقاطِ الخافض، أي: عن حميمٍ لشُغْلِهِ عنه. وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وشيبةٌ وابنُ كثير في روايةٍ «يُسْأل»

مبنياً للمفعول. فقيل: «حميماً» مفعولٌ ثانٍ، لا على إسقاطِ حرفٍ، والمعنى: لا يُسألُ إحضارَه. وقيل: بل هو على إسقاطِ «عن» ، أي: عن حميم.

11

قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} : عُدِّي بالتضعيفِ إلى ثانٍ وقام الأولُ مَقامَ الفاعلِ. وفي محلِّ هذه الجملةِ وجهان، / أحدُهما: أنَّها في موضعِ الصفةِ لحَميم. والثاني: أنها مستأنفةٌ. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما موقعُ» يُبَصَّرُونْهم «؟ قلت: هو كلامٌ مستأنفٌ، كأنَّه لَمَّا قال: لا يَسْأل حَميمٌ حَميماً قيل: لعلَّه لا يُبَصَّرُه. فقيل: يُبَصَّرُونهم» . ثم قال: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» يُبَصَّرُونهم «صفةً، أي: حميماً مُبَصَّرين مُعَرِّفين إياهم» انتهى. وإنما جُمِع الضميران في «يُبَصَّرُونهم» وهما للحميمَيْن حَمْلاً على معنى العموم لأنهما نكرتان في سياقِ نَفْي. وقرأ قتادةُ «يُبْصِرُونهم» مبنياً للفاعل مِنْ أَبْصَرَ، أي: يُبْصِرُ المؤمنُ الكافرَ في النار. وتقدَّمَتْ القراءةُ في «يومئذٍ» فتحاً وجَرَّاً في هود. والعامَّةُ على إضافة «عذاب» ل «يَوْمِئذ» ، وأبو حيوةَ بتنوينِ العذاب، ونَصْبِ «يَوْمئذٍ» على الظرف. وقال الشيخ هنا: «الجمهورُ بكسرِها، أي: ميم يومِئذ، والأعرج وأبو حيوة بفتحِها» انتهى. وقد تقدَّم أنَّ الفتح قراءةُ نافعٍ والكسائيِّ.

13

قوله: {وَفَصِيلَتِهِ} : قال ثعلب: «الفَصيلةُ: الآباء الأَدْنَوْن» . وقال أبو عبيدة: «الفَخِذُ» . وقيل: عشيرتُه الأقربون. وقد تقدَّم ذِكْر ذلك عند قولِه: {شُعُوباً وَقَبَآئِلَ} [الحجرات: 13] . و «تُؤْويه» لم يُبْدِلْه السوسيُّ عن أبي عمروٍ قالوا: لأنَّه يُؤَدِّي إلى لفظٍ هو أثقلُ منه، والإِبدالُ للتخفيفِ. وقرأ الزُّهريُّ «تُؤْوِيْهُ» و «تُنْجِيْهُ» بضمِّ هاءِ الكنايةِ، وهو الأصلُ و «ثم يُنْجِيه» عطفٌ على «يَفْتدي» فهو داخِلٌ في حَيِّز «لو» وتقدَّمَ الكلامُ فيها: هل هي مصدريةٌ أم شرطيةٌ في الماضي؟ ومفعولُ «يَوَدُّ» محذوفٌ، أي: يَوَدُّ النجاةَ. وقيل: إنها هنا بمعنى «إنْ» ، وليس بشيءٍ. وفاعلُ «يُنْجِيه» : إمَّا ضميرُ الافتداءِ الدالُّ عليه «يَفْتدي» ، أو ضميرُ مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم، وهو قولُه {وَمَن فِي الأرض} . و «مَنْ [في الأرض] » مجرورٌ عطفاً على «بنيه» وما بعدَه، أي: يَوَدُّ الافتداءَ ب {مَن في الأرض} أيضاً. و «جميعاً» إمَّا حالٌ، وإمَّا تأكيدٌ، ووُحِّد باعتبارِ اللفظِ. و «كَلاَّ» رَدْعٌ وزَجْرٌ عن اعتقادِ ذلك.

15

قوله: {إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً} : في الضميرِ ثلاثةُ أوجُهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ النار، وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالةِ لفظِ «عذاب» عليها. والثاني: أنه ضميرُ القصةِ. الثالث: أنه ضميرٌ مبهمٌ يُتَرْجِمُ عنه

الخبرُ، قاله الزمخشري. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} . فعلى الأولِ يجوزُ في {لظى نَزَّاعَةً} أوجهٌ: أَنْ يكونَ «لَظى» خبرَ «إنَّ» ، أي: إنَّ النارَ لَظى، و «نَزَّاعةٌ» خبرٌ ثانٍ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي نَزَّاعةٌ، أو يكونُ «لَظَى» بدلاً من الضميرِ المنصوبِ، و «نَزَّاعةٌ» خبرُ إنَّ، وعلى الثاني يكونُ «لَظى نَزَّاعةٌ» جملةً من مبتدأ وخبرٍ، في محلِّ الرفعِ خبراً ل «إنَّ» مفسِّرةً لضمير القصة، وكذا على الوجهِ الثالثِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «نَزَّاعةٌ» صفةً ل «لَظى» إذا لم تجعَلْها عَلَماً؛ بل بمعنى اللَّهَبِ، وإنما أُنِّث النعتُ فقيل: «نَزَّاعةٌ» لأنَّ اللهَبَ بمعنى النار، قاله الزمخشريُّ وفيه نظرٌ لأنَّ «لظى» ممنوعةٌ من الصَّرْفِ اتفاقاً. قال الشيخ بعد حكايته الثالثَ عن الزمخشري: «ولا أدري ما هذا المضمرُ الذي تَرْجَمَ عنه الخبرُ؟ وليس هذا من المواضعِ التي يُفَسِّرُ فيها المفردُ الضميرَ، ولولا أنه ذَكَرَ بعد هذا» أو ضمير القصة «لَحَمَلْتُ كلامَه عليه» . قلت: متى جعله ضميراً مُبْهماً لَزِمَ أنَنْ يكونَ مفسَّراً بمفرد، وهو إمَّا «لظى» ، على أَنْ يكونَ «نزاعةٌ» خبرَ مبتدأ مضمرٍ، وإمَّا «نزاعةٌ» على أَنْ يكونَ «لظى» بدلاً من الضميرِ، وهذا أقربُ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ «لظى نَزَّاعةٌ» مبتدأ وخبراً، والجملةُ خبرٌ ل «إنَّ» على أَنْ يكونَ الضميرُ مبهماً لئلا يَتَّحِدَ القولان، أعني هذا القولَ وقولَ إنها ضميرُ القصة، ولم يُعْهَدُ ضميرٌ مُفَسَّرٌ بجملةٍ إلاَّ ضميرُ الشأنِ والقصةِ.

وقراءةُ الرفعِ في «نَزَّاعَةٌ» هي قراءةُ العامَّةِ. وقرأ حفص وأبو حيوة والزعفَرانيُّ واليزيديُّ وابنُ مقسم «نَزَّاعَةً» بالنصب. وفيها وجهان، أحدُهما: أَنْ ينتصبَ على الحالِ. وفي صاحبِها أوجهٌ، أحدُهما: أنه الضميرُ المُسْتَكِنُّ في «لَظَى» لأنَّها، وإنْ كانَتْ عَلَماً، فهي جارِيَةٌ مَجْرَى المشتقات كالحارثِ والعَبَّاس، وذلك لأنها بمعنى التَّلَظِّي «، وإذا عَمِلَ العَلَمُ الصريحُ والكُنْيَةُ في الظروف فلأَنْ يعملَ العَلَمُ الجاري مَجْرى المشتقاتِ في الأحوالِ أَوْلَى وأَحْرى. ومِنْ مجيء ذلك قولُه: 4330 - أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأَحْيانْ ... ضَمَّنه معنى» أنا المشهورُ في بعض الأحيان «. الثاني: أنه فاعلُ» تَدْعو «وقُدِّمَتْ حالُه عليه، أي: تدعو/ حالَ كونِها نَزَّاعةً. ويجوز أَنْ تكونَ هذه الحالُ مؤكِّدةً، لأنَّ «لظى» هذا شأنُها، وهو معروفٌ مِنْ أمرِها، وأَنْ تكونَ منتقِلَةً؛ لأنه أمرٌ توقيفيٌّ. الثالث: أنه محذوفٌ هو والعاملُ، تقديرُه: تتلَظَّى نَزَّاعَةً. ودَلَّ عليه «لَظَى» . الثاني من الوجهَيْن الأَوَّلَيْن: أنَّها منصوبةٌ على الاختصاصِ. وعَبَّر عنه الزمخشريُّ بالتَّهْويل، كما عَبَّر عن وجهِ رَفْعِها على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، والتقدير: أعني نَزَّاعةً، وأخصُّها. وقد مَنَعَ المبِّردُ نصبَ «نَزَّاعة» قال: «لأنَّ الحالَ إنما يكونُ فيما يجوزُ أَنْ يكونَ وأَنْ لا يكونَ، و» لَظى «

لا تكونُ إلاَّ نَزَّاعةً، قاله عند مكي، ورَدَّ عليه بقولِه تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً} [البقرة: 91] ، {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} [الأنعام: 126] قال:» فالحقُّ لا يكونُ إلاّ مصدِّقاً، وصراطُ ربِّكَ لا يكونُ إلاَّ مُسْتقيماً «. قلت: المبردُ بنى الأمرَ على الحالِ المبيِّنة، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد وَرَدَتِ الحالُ مؤكِّدةً، كما أورده مكيٌّ وإنْ كان خلافَ الأصلِ. واللَّظى في الأصلِ: اللَّهَبُ. ونُقل عَلَماً لجهنمَ، ولذلك مُنِعَ من الصَّرْفِ. والشَّوَى: الأطرافُ جمع شَواة كنَوى ونَواة. وقيل: الشَّوى: الأعضاءُ التي ليسَتْ بمَقْتَل، ومنه: رماه فأَشْواه، أي: لم يُصِبْ مَقْتَلَه. وقيل: الشَّوى: جمعُ شَواة، وهي جِلْدَةُ الرأسِ، وأُنْشد للأعشى: 433 - 1- قالت قُتَيْلَةُ مالَهُ ... قد جُلِّلَتْ شَيْباً شَواتُهْ وقيل: هو جِلْدُ الإِنسانِ. والشَّوى أيضاً: رُذالُ المالِ، والشيءُ اليسيرُ. و» تَدْعُو «يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لإِنَّ، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أو حالٌ من» لَظى «، أو مِنْ» نَزَّاعة «على القراءَتَيْن فيها؛ لأنها تتحمَّلُ ضميراً.

19

قوله: {هَلُوعاً} : حالٌ مقدرةٌ. والهَلَعُ مُفَسَّر بما

بعده، وهو قولُه: «إذا» و «إذا» قال ثعلب: «سألني محمد بنُ عبد الله ابن طاهر ما الهَلَعُ؟ فقلت: قد فسَّره اللهُ، ولا يكون أَبْيَنَ مِنْ تفسيرِه، وهو الذي إذا نالَه شرٌ أظهرَ شِدَّةَ الجَزَعِ، وإذا ناله خيرٌ بَخِلَ به ومَنَعَه الناس» انتهى. وأصلُه في اللغةِ على ما قال أبو عبيد أَشَدُّ الحِرْصِ وأسْوَأُ الجَزَع. وقيل: هو الفَزَعُ والاضطرابُ السريعُ عند مَسِّ المكروهِ، والمَنعُ السريعُ عند مَسِّ الخيرِ، مِنْ قولِهم: ناقةٌ هِلْواع، أي: سريعةُ السَّيْرِ.

20

قوله: {جَزُوعاً} : و «مَنوعاً» فيهما ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنهما منصوبان على الحال من الضمير في «هلُوعا» وهو العاملُ فيهما، والتقدير: هَلُوعاً حالَ كونِه جَزُوعاً وقتَ مَسِّ الشرِّ، ومنوعاً وقتَ مسِّ الخيرِ. والظرفان معمولان لهاتَيْنِ الحالَيْنِ. وعَبَّر أبو البقاء عن هذا الوجهِ بعبارةٍ مُوْهِمَةٍ. وهو يريدُ ما ذكَرْتُه فقال: «جَزوعاً حالٌ أخرى، والعاملُ فيها هَلُوعا» . فقولُه: «أخرى» يُوهم أنها حالٌ ثانية وليسَتْ متداخِلَةً، لولا قولُه: «والعاملُ فيها هَلُوعا» . الثاني: أَنْ يكونا خبَرَيْن ل كان أو صار مضمرةً، أي: إذا مَسَّه الشرُّ كان أو صار جزوعا، وإذا مَسَّه الخيرُ كان أو صار منوعاً قاله مكي. وعلى هذا فإذا شرطيةٌ، وعلى الأولِ ظرفٌ مَحْضٌ، العاملُ فيه ما بعدَه، كما تقدَّم. الثالث: أنهما نعتٌ ل «هَلُوعا» قاله مكي. إلاَّ أنَّه

قال: «وفيه بُعْدٌ؛ لأنك تَنْوي به التقديمَ قبل» إذا «انتهى. وهذا الاستبعادُ ليس بشيءٍ، فإنه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرفِ على عاملِه، وإنما المحذورُ تقديمُ معمولِ النعتِ على المنعوتِ.

22

قوله: {إِلاَّ المصلين} : استثناءٌ من «الإِنسان» إذ المرادُ به الجنسُ. ومثلُه: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 2-3] . وقرأ حفص: «بشهاداتِهم» جمعاً، اعتباراً بتعدُّدِ الأنواعِ. والباقون بالإِفرادِ، إذ المرادُ الجنسُ.

37

قوله: {عِزِينَ} : حالٌ من «للذين كفروا» وقيل: حالٌ من الضمير في «مُهْطِعين» ، فتكون حالاً متداخلةً. و «عن اليمين» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «عِزين» لأنه بمعنى متفرِّقين، قاله أبو البقاء، وأَنْ يتعلَّقُ بمُهْطِعين، أي: مُسْرِعِين عن هاتَيْن الجهتَين، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ، أي: كائنين عن اليمين، قاله أبو البقاء. وعِزِيْن جمعُ «عِزَة» والعِزَةُ: الجماعة، قال مكي: «وإنما جُمِع بالواوِ/ والنونِ لأنه مؤنثٌ لا يَعْقِلُ؛ لكونَ ذلك عِوَضاً مِمَّا حُذِفَ منه. قيل: إنَّ أصلَه

عِزْهَة، كما أنَّ أصلَ سَنَةَ سَنْهَة ثم حُذِفَتِ الهاءُ» انتهى. قوله: «لا يَعْقِلُ» سهوٌ لأنَّ الاعتبارَ بالمدلولِ، ومدلولُه بلا شك عقلاءُ. واختلفوا في لام «عِزَة» على ثلاثةِ أقوالٍ، أحدُها: أنَّها واوٌ مِنْ عَزَوْتُه أَعْزُوْه، أي: نَسَبْتُه؛ وذلك أنَّ المنسوبَ مضمومٌ إلى المنسوبِ إليه، كما أنَّ كلَّ جماعةٍ مضمومٌ بعضُها إلى بعضٍ. الثاني: أنَّها ياءٌ، إذ يُقال: عَزَيْتُه بالياء، أَعْزِيْهِ بمعنى: عَزَوْته، فعلى هذا في لامِها لغتان، الثالث: أنها هاءٌ، ويُجْمَعُ تكسيراً على عِزَىً نحو: كِسْرة وكِسَر، واسْتُغْنِي بهذا التكسيرِ عن جمعِها بالألفِ والتاءِ، فلم يقولوا: عِزات كما لم يقولوا في شَفَة وأَمَة: شِفات ولا إمات استغناءً بشِفاهٍ وإماءٍ، وقد كَثُرَ ورودُه مجموعاً بالواوِ والنون. قال الراعي: 4332 - أخليفةَ الرحمنِ إنَّ عَشيرتي ... أَمسَوْا سَوامُهُمُ عِزِيْنَ فُلُوْلا وقال الكميت: 4333 - ونحن وجَنْدَلٌ باغٍ تَرَكْنا ... كتائبَ جَنْدَلٍ شَتَّى عِزِيْنا

وقال عنترة: 4334 - وقِرنٍ قد تَرَكْتُ لِذي وَلِيٍّ ... عليه الطيرُ كالعُصَبِ العِزِيْن وقال آخر: 4335 - ترانا عنده والليلُ داجٍ ... على أبوابِه حِلَقاً عِزِيْنا وقال آخر: 4336 - فلما أَنْ أَتَيْنَ على أُضاخٍ ... تَرَكْنَ حَصاه أَشْتاتاً عِزينا والعِزَةُ لغةً: الجماعةُ في تَفْرِقَةً. هذا قولُ أبي عبيدة. وقال الأصمعيُّ: «العِزُون: الأصناف. يقال: في الدار عِزُون، أي: أصناف» وقال غيرُه: الجماعةُ اليسيرةُ كالثلاثةِ والأربعةِ. وقال الراغب: «وقيل: هو مِنْ قولِهم: عَزِيَ عَزاءً فهو عَزٍ إذا صَبَرَ، وتَعَزَّى: تَصَبَّر، فكأنها اسمٌ للجماعة التي يتأسَّى بعضُهم ببعض.

38

قوله: {أَن يُدْخَلَ} : العامَّةُ على بنائِه للمفعول. وزيدُ بن علي والحسن وابن يعمر وأبو رجاء وعاصمٌ في روايةٍ على بنائِه للفاعلِ.

40

قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} : قد تقدَّم غيرَ مرةٍ. وقرأ جماعة «فلأُقْسِمُ» دون ألفٍ. والعامَّةُ على جمعِ المَشارق والمغارب. والجحدريُّ وابنُ محيصن بإفرادِهِما. و «إنَّا لَقادِرون» جوابُ القسمِ. وقرأ العامَّةُ «يُلاقُوا» ، وأبو جعفر وابن محيصن «يَلْقَوْا» مضارع لَقِيَ.

43

قوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «يَوْمَهم» أو منصوباً بإضمار أَعني. ويجوزُ على رَأْيِ الكوفيين أن يكون خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ، وبُنِي على الفتحِ، وإنْ أُضيفَ إلى مُعْربٍ، أي: هو يومَ يَخْرُجون، كقولِه: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} وقد مَرَّ الكلامُ فيه مُشْبعاً. والعامَّةُ على بناءِ «يَخْرُجون» للفاعلِ، ورُوي عن عاصمٍ

بناؤُه للمفعولِ. قوله: {سِرَاعاً} حالٌ مِنْ فاعل «يَخْرُجون» جمعَ سريع كظِراف في ظَريف. و «كأنَّهم» حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ فتكونُ متداخلةً. قوله: {إلى نُصُبٍ} متعلِّقٌ بالخبرِ. والعامَّةُ على «نَصْبٍ» بالفتح والإِسكان، وابنُ عامر وحفصٌ بضمتين، وأبو عمران الجوني ومجاهد بفتحتَيْن، والحسنُ وقتادةُ بضمةٍ وسكون. فالأُولى هو اسمٌ مفردٌ بمعنى العَلَم المنصوبِ الذي يُسْرِع الشخصُ نحوَه. وقال أبو عمروٍ: «هو شَبَكَةُ الصائدِ يُسْرِع إليها عند وقوعِِ الصيدِ فيها مخافةَ انفلاتِه» . وأمَّا الثانيةُ فتحتمل ثلاثَة أوجهٍ. أحدها: / أنه اسمٌ مفردٌ بمعنى الصَّنَمِ المنصوبِ للعبادة، وأنشد للأعشى: 4337 - وذا النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَعْبُدَنَّه ... لعاقبةٍ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا الثاني: أنه جمعُ نِصاب ككُتُب في كِتاب. الثالث: أنه جمعُ نَصْبٍ نحو: رَهْن في رُهُن، وسَقْف في سُقُف، وهذا قولُ أبي الحسن. وجَمْعُ الجمعِ أَنْصاب. وأمَّا الثالثةُ فَفَعَل بمعنى مَفْعول، أي: مَنْصوب كالقَبَضِ والنَّقَضِ. والرابعةُ تخفيفٌ من الثانية

ويُوْفِضونَ، أي: يُسْرعون. وقيل: يَسْتَبْقون. وقيل: يَسْعَوْن. وقيل: يَنْطَلقون. وهي متقاربَةٌ. وأنشد: 4338 - فوارِسُ ذُبْيانَ تحت الحَدِيْ ... دِ كالجِنِّ تُوْفِضُ مِنْ عَبْقَرِ وقال آخر: 4339 - لأَنعتَنْ نَعامةً مِيفاضا ... خَرْجاءَ [تَعْدُو] تَطْلُبُ الإِضاضا أي مُسْرِعة.

44

قوله: {خَاشِعَةً} : حالٌ: إمَّا مِنْ فاعلِ «يُوْفِضون» ، وهو أقربُ أو مِنْ فاعل «يَخْرجُون» ، وفيه بُعْدٌ منه، وفيه تعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدة وفيه الخلافُ. و «أبْصارُهم» فاعلٌ. وقراءةُ العامَّةِ على تنوينِ «ذِلَّةٌ» والابتداءُ ب «ذلك اليومُ» ، وخبرُه «الذي كانوا» . وقرأ يعقوب والتمار بإضافة «ذِلَّةُ» إلى «ذلك» وجَرِّ «اليوم» لأنه صفةٌ ل «ذلك» . و «الذي» نعتٌ ل «اليوم» . و «تَرْهَقُهُم» : يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل «يُوْفِضون» ، أو «يَخْرُجون» ، ولم يَذْكُرْ مكيٌّ غيرَه.

نوح

قوله: {أَنْ أَنذِرْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ، وأَنْ تكونَ المصدريةَ أي: أَرْسَلْناه بالإِنذار. وقال الزمخشري: «والمعنى: أَرْسَلْناه بأَنْ قُلْنا له: أَنْذِرْ أي: أَرْسَلْناه بالأمرِ بالإِنذار» انتهى. وهذا الذي قَدَّره حسنٌ جداً، وهو جوابٌ عن سؤالٍ قدَّمْتُه في هذا الموضوع: وهو أنَّ قولَهم: «إنَّ» أَنْ «المصدريةَ يجوزُ أَنْ تتوصَّلَ بالأمرِ» مُشْكِلٌ؛ لأنه يَنْسَبِكُ منها وممَّا بعدَها مصدرٌ، وحينئذٍ فتفوتُ الدلالةُ على الأمرِ. ألا ترى أنك إذا قَدَّرْت [في] كَتَبْتُ إليه بأَنْ قُمْ: كَتَبْتُ إليه القيامَ، تفوتُ الدلالةُ على الأمرِ حالَ التصريحِ بالأمر، فينبغي أَنْ يُقَدَّرَ كما قاله الزمخشريُّ أي: كتبتُ إليه بأَنْ قلتُ له: قُمْ، أي: كتبتُ إليه بالأمرِ بالقيام.

3

قوله: {أَنِ اعبدوا} : إمَّا أَنْ تكونَ تفسيريةً ل «نذير» ، أو مصدريةً، والكلامُ فيها كما تقدَّم في أختها.

4

قوله: {مِّن ذُنُوبِكُمْ} : في «مِنْ» هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها تبعيضيةٌ. والثاني: أنها لابتداءِ الغايةِ. والثالث: أنها لبيانِ

الجنسِ وهو مردودٌ لعَدَمِ تَقَدُّمِ ما تبيِّنُه. الرابع: أنها مزيدةٌ. قال ابن عطية: «وهو مذهبٌ كوفيٌّ» قلت: ليس مذهبُهم ذلك؛ لأنهم يَشْتَرطون تنكيرَ مَجْرورِها ولا يَشْترطون غيرَه. والأخفشُ لا يَشْترط شيئاً، فزيادتُها هنا ماشٍ على قولِه، لا على قولِهم. قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ} قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف قال:» ويُؤَخِّرْكم «مع إخبارِه بامتناعِ تأخيرِه؟ قلت: قضى اللَّهُ أنَّ قوم نوحٍ إنْ آمنوا عَمَّرَهم ألفَ سنةٍ، وإن بَقُوا على كُفْرِهم أَهْلكهم على رأس تسعمِئة. فقيل لهم: إن آمنتم أُخِّرْتم إلى الأجلِ الأطولِ، ثم أخبرهم أنَّه إذا جاء ذلك الأجلُ الأمَدُّ لا يُؤَخَّرُ» انتهى. وقد تَعَلَّق بهذه الآيةِ مَنْ يقولُ بالأَجَلَيْنِ. وتقدَّم جوابُه. وقوله: {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابُها محذوفٌ أي: لبادَرْتُمْ إلى ما أَمَرَكم به.

7

قوله: {لِتَغْفِرَ} : يجوزُ أَنْ تكونَ للتعليل، والمدعُوُّ إليه محذوفٌ أي: دَعَوْتُهم للإِيمان بك لأجلِ مغفرتِك لهم، وأَنْ تكونَ لامُ التعديةِ ويكونُ قد عبَّر عن السببِ بالمُسَبَّبِ الذين هو جَعْلُهم. والأصلُ: دَعَوْتُهم للتَّوْبةِ التي هي سبَبٌ في الغُفْران. و «جعلوا» هو العاملُ في «كلما» وهو خبر «إنِّي» . قوله: {لَيْلاً وَنَهَاراً} ظرفان ل «دَعَوْت» والمرادُ الإِخبارُ باتصالِ

الدعاءِ، وأنه/ لا يَفْتُرُ عن ذلك. و «إلاَّ فِراراً» مفعولٌ ثانٍ وهو استثناءٌ مُفَرَّغٌ.

8

قوله: {جِهَاراً} : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من المعنى؛ لأنَّ الدعاءَ يكونُ جهاراً وغيرَه، فهو من باب: قَعَدَ القُرْفُصاءَ، وأَنْ يكونَ المرادُ ب «دَعَوْتُهم» : جاهَرْتُهم، وأَنْ يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي: دعاءً جِهاراً، وأَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحالِ أي: مُجاهِراً، أو ذا جِهارٍ، أو جُعِل نفسَ المصدرِ مبالغةً. قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: ذَكَرَ أنَّه دعاهم ليلاً ونهاراً، ثم دعاهم جِهاراً، ثم دعاهم في السِّرِّ والعَلَنِ فيجب أَنْ تكونَ ثلاثَ دَعَوات مختلفات حتى يَصِحَّ العطفُ» قلت: قد فَعَلَ عليه السلام كما يَفْعَلُ الذي يَأْمُرُ بالمعروفِ ويَنْهى عن المنكر في الابتداءِ بالأَهْوَنِ، والترقِّي في الأشَدِّ فالأشُدِّ، فافتتح في المناصحةِ بالسِّرِّ، فلمَّا لم يَقْبلوا ثَنَّى بالمجاهرة، فلمَّا لم يَقْبلوا ثَلَّثَ بالجَمْعِ بين الإسرار والإِعلان. ومعنى «ثم» الدلالةُ على تباعُدِ الأحوالِ، لأنَ الجِهارَ أغلظُ من الإِسرارِ، والجمعُ بين الأمرَيْن أغلظُ مِنْ إفرادِ أحدِهما «. قال الشيخ:» وتكرَّرَ كثيراً له أنَّ «ثُمَّ» للاستبعادِ ولا نَعْلَمُه لغيرِه «. قلت: هذا القول بعدما سَمِعْتَ من ألفاظِ الزمخشريِّ تحامُلٌ عليه.

11

قوله: {مِّدْرَاراً} : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من «السماء» ، ولم يؤنَّثْ لأنَّ مِفْعالاً لا يُؤَنَّثُ. تقول: امرأةٌ مئِنْاثٌ ومِذْكار، ولا يُؤَنَّثُ بالتاءِ إلاَّ نادراً، وحينئذٍ يَستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ فتقول:

رجلٌ مِجْذامَةٌ ومِطْرابَةٌ، وامرأة مِجْذامَةٌ ومِطْرابَةٌ، وأَنْ تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: إرسالاً مِدْراراً. وتقدَّم الكلامُ عليه في الأنعام.

13

قوله: {وَقَاراً} : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به على معانٍ، منها: ما لكم لا تَأْمُلُوْنَ له تَوْقيراً أي: تعظيماً. قال الزمخشري: «والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأمُلُون فيها تعظيمَ اللَّهِ إياكم في دارِ الثواب؟ و» لله «بيانٌ للموَقَّرِ، ولو تأخَّر لكان صلةً» انتهى. أي: لو تأخِّر «لله» عن «وَقارا» لكان متعلِّقاً به، فيكونُ التوقيرُ منهم للَّهِ تعالى، وهو عكسُ المعنى الذي قصده. ومنها: لا تخافون للَّهِ حِلْماً وتَرْكَ معاجلةٍ بالعقابِ فتؤمنوا. ومنها: لا تخافون لله عظمةً. وعلى الأولِ يكون الرجاءُ على بابه، وقد تقدَّم أنَّ استعمالَه بمعنى الخوفِ مجازٌ أو مشتركٌ. وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعل «تَرْجُون» أي: موقِّرين اللَّهَ تعالى، أي تُعَظِّمونه، ف «للَّهِ» متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «وَقارا» ، أو تكون اللامُ زائدةً في المفعول به، وحَسَّنه هنا أمران: كوْنُ العاملِ فَرْعاً، وكونُ المعمولِ مقدَّماً، و «لا تَرْجُون» حالٌ وتقدَّم نظيرُه في المائدة.

14

قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ} : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ «تَرْجُون» . والأَطْوارُ: الأحوالُ المختلفةُ. قال الشاعر: 4340 - فإنْ أفاقَ قد طارَتْ عَمَايَتُه ... والمَرْءُ يُخْلَقُ طَوْراً بعد أطوارِ وانتصابُه على الحالِ أي: مُتَنَقِّلين من حالٍ إلى حالٍ، أو مختلِفين مِنْ بينِ مُسِيْءٍ ومُحْسِنٍ، وصالحٍ وطالحٍ.

15

قوله: {طِبَاقاً} : تقدَّم الكلامُ عليه في سورة المُلك. وقال مكي: «وأجاز الفراء في غيرِ القرآنِ جَرَّ» طباق «على النعت ل» سماوات «، يعني أنه يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للعددِ تارةً وللمعدودِ أخرى.

16

قوله: {فِيهِنَّ} : أي: في السماواتِ، والقمرُ إنما هو في سماءٍ واحدةٍ منهنَّ. قيل: هو في السماءِ الدنيا، وإنَّما جازَ ذلك؛ لأن بين السماواتِ ملابَسةً فصَحَّ ذلك. وتقولُ: «زيدٌ في المدينةِ» وإنما هو في زاويةٍ من زواياها. وقوله: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} يُحتمل أَنْ يكونَ التقديرُ: وجعل الشمسَ فيهِنَّ، كما تقدَّم. والشمس قيل: في الرابعةِ. وقيل: في الخامسةِ. وقيل: في الشتاءِ في الرابعة، وفي الصيف في السابعةِ. واللَّهُ أعلمُ: أيُّ ذلك صحيحٌ.

17

قوله: {نَبَاتاً} : إمَّا أَنْ يكونَ مصدراً ل أَنْبَتَ على حَذْفِ الزوائِد، ويُسَمَّى اسمَ/ مصدرٍ، وإمَّا ب «نَبَتُّمْ» مقدَّراً: أي: فَنَبَتُّمْ نباتاً فيكونُ منصوباً بالمُطاوِعِ المقدَّرِ. قال الزمخشري: «أو نُصِبَ ب» أَنْبَتكم «لتضمُّنِه معنى نَبَتُّمْ» قال الشيخ: «ولا أَعْقِلُ معنى هذا الوجهِ الثاني» . قلت: هذا الوجهُ هو الذي قدَّمْتُه. وهو أنه منصوبٌ ب «أَنْبَتكم» على حَذْفِ الزوائد. ومعنى قولِه: «لتضمُّنِه معنى نَبَتُّمْ» أي: إنه مُشتملٌ عليه، غايةُ ما فيه أنه حُذِفت زوائدُه، والإِنباتُ هنا استعارةٌ بليغةٌ.

20

قوله: {سُبُلاً فِجَاجاً} وفي الأنبياء تقدَّم الفِجاجُ لِتَناسُبِ الفواصِلِ هنا. وقد تقدَّم نَحْوٌ مِنْ هذا.

21

قوله: {وَوَلَدُهُ} : قد تقدَّم خِلافُ القُراء في «وَلَدِه» وتقدَّم أنهما لغتان كبُخْل وبَخَلَ. قال أبو حاتم: يمكن أَنْ يكونَ المضمومُ جمعَ المفتوحِ كخَشَبٍ وخُشْبِ. وأنشد لحسَّانَ رضي الله عنه: 4341 - يا بِكرَ آمنةَ المباركَ وِلْدُها ... مِنْ وُلْدِ مُحْصَنَةٍ بسَعْدٍ الأَسْعُدِ

22

قوله: {وَمَكَرُواْ} : عطفٌ على صلةِ «مَنْ» وإنما جُمِعَ الضميرُ حَمْلاً على المعنى، بعد حَمْلِه على لفظِها في {لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ} ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً إخباراً عن الكفارِ. قوله: {كُبَّاراً} العامَّةُ على ضَمِّ الكافِ وتشديدِ الباء، وهو بناءُ مبالغةٍ أبلغُ مِنْ «كُبار» بالضمِّ والتخفيف، قال عيسى: هي لغةٌ يمانيةٌ، وأنشد: 4342 - والمرءُ يُلْحِقُه بفِتيان النَّدى ... خُلُقُ الكريمِ وليس بالوُضَّاء وقول الآخر: 4343 - بَيْضاءُ تصطادُ القلوبَ وتَسْتَبي ... بالحسنِ قلبَ المسلمِ القُرَّاء يقال: رجلٌ طُوَّالٌ وحُمَّالٌ وحُسَّانٌ. وقرأ عيسى وأبو السمال وابن محيصن بالضمِّ والتخفيف، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً دونَ الأولِ، وقرأ زيدُ بنُ علي وابن محيصن أيضاً بكسر الكاف وتخفيفِ الباء. قال أبو بكر: وهو جمعُ «كبير» ، كأنه جعل «مَكْراً» مكانَ «ذنوب»

أو «أفاعيل» يعني فلذلك وصفَه بالجمع.

23

قوله: {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً} : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْفِ الخاص على العام إنْ قيل: إنَّ هذه الأسماءَ لأصنامٍ، وأن لا يكونَ إنْ قيل: إنها أسماءُ رجالٍ صالحينَ على ما ذُكر في التفسير. وقرأ نافع «وُدّاً» بضم الواوِ، والباقون بفتحها، وأُنْشِدَ بالوَجْهَيْن قولُ الشاعر: 4344 - حَيَّاكَ وَدٌّ فإنَّا لا يَحِلُّ لنا ... لَهْوُ النساءِ وإنَّ الدين قد عزما وقول الآخر: 4345 - فحيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هُداكِ لفِتْيَةٍ ... وخُوْصٍ بأعلى ذي فُضالةَ مُنْجِدِ قوله: {وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ} قرأهما العامَّةُ بغير تنوين. فإن كانا عربيَّيْن فالمنعُ من الصَرْف للعلميَّةِ والوزن، وإن كانا أعجميَّيْن فللعلميَّةِ والعُجْمة. وقرأ الأعمش: «ولا يَغُوْثاً ويَعُوْقاً» مصورفَيْن. قال ابن عطية: «وذلك وهمٌ: لأنَّ التعريفَ لازمٌ ووزنَ الفعل» انتهى.

وليس بوهمٍ لأمرَيْن، أحدهما: أنه صَرَفَهما للتناسُبِ، إذ قبله اسمان منصرفان، وبعده اسمٌ منصرفٌ، كما صُرِفَ «سلاسل» . والثاني: أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ غيرَ المنصرِف مطلقاً. وهي لغةٌ حكاها الكسائيُّ. ونقل أبو الفضل الصَّرْفَ فيهما عن الأشهبِ العُقَيْليِّ ثم قال: «جَعَلهما فَعُولاً؛ فلذلك صرفهما، فأمَّا في العامَّة فإنهما صفتان من الغَوْث والعَوْق» . قلت: وهذا كلامٌ مُشْكِلٌ. أمَّا قولُه: «فَعُولاً» فليس بصحيحٍ، إذ مادةُ «يغث» و «يعق» مفقودةٌ. وأمَّا قولُه: «صفتان من الغَوْث والعَوْق» فليس في الصفاتِ ولا في الأسماءِ «يَفْعُل» والصحيحُ ما قَدَّمْتُه. وقال الزمخشري: «وهذه قراءةٌ مُشْكِلة؛ لأنهما إنْ كانا عربيَّيْنِ أو أعجميَّيْنِ ففيهما مَنْعُ الصَّرْفِ، ولعله قَصَدَ الازدواجَ فصرَفهما. لمصادفتِه أخواتِهما منصرفاتٍ: وَدَّاً وسُوعاً ونَسْراً» . قال الشيخ: «كأنه لم يَطَّلعْ على أنَّ صَرْفَ ما لا ينصرفُ لغةٌ» .

24

قوله: {وَقَدْ أَضَلُّواْ} : أي الرؤساءُ أو الأصنامُ، / وجَمَعَهم جَمْعَ العقلاءِ معاملةً لهم معاملةً العقلاء.

قوله: {وَلاَ تَزِدِ} عطفٌ على قولِه: {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح: 21] على حكايةِ كلامِ نوحٍ بعدَ «قال» وبعد الواوِ النائبةِ عنه، أي: قال: إنهم عَصَوْني، وقال: لا تَزِدْ، أي: قال هذَيْن القولَيْن، فهما في محلِّ النصب، قاله الزمخشريُّ. قال: «كقولك: قال زيدٌ: نوديَ للصلاة وصَلِّ في المسجدِ، تحكي قولَيْه معطوفاً أحدُهما على صاحبِه» . وقال الشيخ: «ولا تَزِدْ» معطوفٌ على «قد أَضَلُّوا» لأنها محكيَّةٌ ب «قال» مضمرةً، ولا يُشْترط التناسُبُ في الجملِ المتعاطفةِ، بل تَعْطِفُ خبراً على طلبٍ، وبالعكس، خلافاً لمَنْ اشترطه.

25

قوله: {مِّمَّا خطيائاتهم} : «ما» مزيدةٌ بين الجارِّ ومجرورِه توكيداً. ومَنْ لم يَرَ زيادتَها جَعَلها نكرةً، وجَعَلَ «خطيئاتِهم» بدلاً، وفيه تعسُّفٌ. وتقدَّم الخلافُ في قراءةِ «خَطِيْئاتِهم» في الأعراف. وقرأ أبو رجاء «خَطِيَّاتهم» جمعَ سلامةٍ، إلاَّ أنَّه أَدْغَمَ الياءَ في الياءِ المنقلبةِ عن الهمزةِ. والجحدريُّ وتُرْوى عن أُبَيّ «خطيئتِهم» بالإِفراد والهمز. وقرأ عبد الله «مِنْ خطيئاتِهم ما أُغْرِقوا» فجعلَ «ما» المزيدةَ بين الفعلِ وما يتعلَّق به. و «مِنْ» للسببيَّةِ تتعلَّقُ ب «أُغْرِقوا» . قال ابن عطية: «لابتداء الغاية» ، وليس بواضح. وقرأ العامَّةُ «أُغرِقوا» مِنْ

أَغْرق. وزيد بن علي «غُرِّقوا» بالتشديدِ، وكلاهما للنَّقْلِ. تقول: أغرَقْتُ زيداً في الماء، وغَرَّقْتُه فيه. قوله: {فَأُدْخِلُواْ} يجوز أَنْ يكونَ من التعبيرِ عن المستقبلِ بالماضي، لتحقُّقِ وقوعِه، نحو: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] وأَنْ يكونَ على بابِه، والمرادُ عَرْضُهم على النار في قبورِهم، كقولِه في آلِ فرعونَ: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] .

26

قوله: {دَيَّاراً} : قال الزمخشري: «دَيَّار من الأسماءِ المستعملةِ في النفيِ العامِّ. يقال:» ما بالدار دَيَّارٌ ودَيُّورٌ «، كقَيَّام وقَيُّوم. وهو فَيْعال من الدُّور أو مِنْ الدار. أصلُه دَيْوار ففُعِل به ما يُفْعَلُ بأصلِ سَيِّد ومَيَّت، ولو كان فَعَّالاً لكان دَوَّاراً» انتهى. يعني أنه كان ينبغي أَنْ تَصِحَّ واوُه ولا تُقْلَبَ ياءً. وهذا نظيرُ ما تقدَّم له من البحثِ في «متحيِّز» ، وأنَّ أصلَه مُتَحَيْوِز مُتَفَيْعِل، لا مُتَفَعِّل، إذ كان يلزمُ أَنْ يكونَ مُتَحَوِّزاً، لأنه من الحَوْز. ويقال أيضاً. فيه دَوَّار نحو: قَيَّام وقَوَّام. وقال مكي: «وأصلُه دَيْوار، ثم أَدْغَموا الواوَ في الياءِ مثلَ» مَيِّت «أصلُه مَيْوِت، ثم أَدْغموا الثاني في الأولِ. ويجوز أَنْ يكونَ أَبْدلوا من الواوِ ياءً، ثم أدغموا الياءَ الأولى في الثانية» . قلت: قولُه: «أدغموا الثاني في الأول» هذا لا يجوزُ؛ إذ القاعدةُ المستقرةُ في المتقارَبَيْنِ قَلْبُ

الأولِ للثاني، ولا يجوزُ العكسُ إلاَّ شذوذاً، أو لضرورةٍ صناعيةٍ. أمَّا الشذوذُ فكقراءةِ: «واذكر» [يوسف: 45] بالذالِ المعجمةِ و «فَهَلْ مِن مُّذَّكِرٍ» [القمر: 15] بالمعجمةِ أيضاً. وقد مَضَى تحقيقُه. وأمَّا الضرورةُ الصناعيةُ فنحو: «امدحْ هِلالاً» بقَلْبِ الهاءِ حاءً؛ لئلا يُدْغَمَ الأقوى في الأضعفِ، وهذا يَعْرِفُه مَنْ عانى التصريفَ.

28

قوله: {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} : العامَّةُ على فتحِ الدال على أنه تثنيةُ «والِد» يريد أبوَيْه. وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما ويحيى بن يعمر والنخعي «ولوَلَدَيَّ» تثنيةَ «وَلَد» يعني ابنَيْه ساماً وحاماً. وقرأ ابن جبير والجحدريُّ «ولوالِدِيْ» بكسر الدال يعني أباه، فيجوزُ أن يكونَ أرادَ أباه الأقربَ الذي وَلَدَه، وخصَّه بالذِّكْر لأنه أشرفُ من الأم، وأَنْ يريدَ جميعَ مَنْ وَلَدَه مِنْ لَدُنْ آدمَ عليه السلام إلى مَنْ وَلده. و «مؤمناً» حالٌ و «تَباراً» مفعولٌ ثانٍ، والاستثناءُ مفرغٌ. والتبار: الهَلاكُ، وأصلُه من التكسُّر والتفتُّتِ. وقد تقدَّم تحقيق ذلك وللَّهِ الحمدُ والمِنَّةُ. /

الجن

قوله: {أُوحِيَ} : هذه قراءةُ العامةِ أعني كونَها مِنْ أَوْحَى رباعياً. وقرأ العَتكِيُّ عن أبي عمروٍ وابنُ أبي عبلة وأبو إياس «وُحِيَ» ثلاثياً، وهما لغتان، يقال: وحى إليه كذا، وأَوْحاه إليه بمعنى واحدٍ. وأُنْشِد للعجاج: 4346 - وَحَى لها القرارَ فاسْتَقَرَّت ... وقرأ زيدُ بن علي والكسائيُّ في روايةٍ وابنُ أبي عبلةَ أيضاً «أُحِي» بهمزةٍ مضومة ولا واوَ بعدها. وخُرِّجَتْ على أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الواوِ المضمومةِ نحو: «أُعِدَ» في «وُعِدَ» فهذه فَرْعُ قراءةِ «وُحِيَ» ثلاثياً. قال الزمخشري: «وهو من القَلْبِ المطلقِ جوازُه في كلِّ واوٍ مضمومةٍ، وقد أطلقَه المازنيُّ في المكسورةِ أيضاً كإشاح وإسادة و» إعَآءِ

أَخِيهِ « [يوسف: 76] ، قال الشيخ:» وليس كما ذَكَرَ، بل في ذلك تفصيلٌ. وذلك أنَّ الواوَ المضمومةَ قد تكونُ أولاً وحَشْواً وآخِراً، ولكلٍ منها أحكام. وفي بعضِ ذلك خلافٌ وتفصيلٌ مذكورٌ في النحو «. قلت: قد تقدَّم القولُ في ذلك مُشْبَعَاً في أولِ هذا الموضوعِ ولله الحمدُ. ثم قال الشيخ: بعد أن حكى عنه ما قَدَّمْتُه عن المازني» وهذا تكثيرٌ وتبجُّحٌ. وكان يَذْكُرُ ذلك في سورة يوسف عند قوله {وِعَآءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76] . وعن المازنيِّ في ذلك قولان، أحدُهما: القياسُ كما ذكر، والثاني: قَصْرُ ذلك على السَّماع «. قلت: لم يَبْرَحِ العلماءُ يَذْكرون النظيرَ مع نظيرِه، ولَمَّا ذَكَرَ قَلْبَ الهمزةِ بأطِّرادٍ عند الجميعِ ذَكَرَ قَلْبَها بخلافٍ. قوله: {أَنَّهُ استمع} هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعل؛ لأنَّه هو المفعولُ الصريحُ، وعند الكوفيين والأخفش يجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَه الجارَّ والمجرورَ، فيكونَ هذا باقياً على نصبِه. والتقدير: أُوْحي إليَّ استماعَ نَفَرٍ. و» مِنْ الجنِّ «صفةٌ ل» نَفَرٌ «ووَصْفُ القرآنِ بعَجَب: إمَّا على المبالغةِ، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذا عَجَبٍ، وأمَّا بمعنى اسم الفاعلِ، أي: مُعْجِب: و» يَهْدِي «صفةٌ أخرى.

2

وقرأ العامَّةُ: {الرشد} : بضمة وسكونٍ

وابن عمر بضمِّهما، وعنه أيضاً فَتْحُهما، وتَقَدَّم هذا في الأعراف.

3

قوله: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا} : قرأ الأخَوان وابن عامر وحفص بفتح «أنَّ» وما عُطِف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمةً، والباقون بالكسرة. وقرأ ابنُ عامر وأبو بكرٍ «وإنه لَمَّا قام» بالكسرة، والباقون بالفتح، واتفقوا على الفتحِ في قوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} وتلخيص هذا: أن «أنَّ» المشددةَ في هذه السورةِ على ثلاثةِ أقسامٍ: قسمٍ ليس معه واوُ العطفِ، فهذا لا خلاف بين القُرَّاءِ في فتحِه أو كسرِه. على حسبِ ما جاءَتْ به التلاوةُ واقْتَضَتْه العربيةُ، كقولِه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع} لا خلافَ في فتحِه لوقوعِه موقعَ المصدرِ وكقوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً} [الجن: 1] لا خلافَ في كسرِه لأنه محكيٌّ بالقول. القسم الثاني أَن يقترنَ بالواوِ، وهو أربعَ عشرةَ كلمةً، إحداها: لا خلاف في فتحِها وهي: قولُه تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} [الجن: 18] وهذا هو القسم الثالث والثانية: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ} [الجن: 19] كَسَرَها ابنُ عامرٍ وأبو بكر، وفتحها الباقون. والاثنتا عشرةَ الباقيةُ: فَتَحها الأخوان وابن عامرٍ

وحفص، وكسرها الباقون، كما تقدَّم تحريرُ ذلك كلِّه. والاثنتا عشرةَ هي قولُه: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا} ، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ} [الجن: 4] {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 5] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} [الجن: 6] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} [الجن: 7] {وَأَنَّا لَمَسْنَا} [الجن: 8] {وَأَنَّا كُنَّا} [الجن: 9] {وَأَنَّا لاَ ندري} [الجن: 10] {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} [الجن: 11] {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 12] {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا} [الجن: 13] {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون} [الجن: 14] . وإذا عَرَفْتَ ضَبْطَها من حيث القراءاتُ فالتفِتْ إلى توجيهِ ذلك. وقد اختلف الناسُ/ في ذلك فقال أبو حاتم في الفتح: «هو معطوفٌ على مرفوعِ» أُوْحِيَ «فتكونُ كلُّها في موضعِ رفعٍ لِما لم يُسَمَّ فاعِلُه» . وهذا الذي قاله قد رَدَّه الناسُ عليه: مِنْ حيث إنَّ أَكثرَها لا يَصِحُّ دخولُه تحت معمولِ «أُوْحِي» ألا ترى أنه لو قيل: أوُحي إليِّ أنَّا لَمَسْنا السماءَ، وأنَّا كُنَّا، وأنَّا لا نَدْري، وأنَّا منَّا الصالحون، وأنَّا لمَّا سَمِعْنا، وأنَّا مِنَّا المسلمون لم يَسْتَقِمْ معناه. وقال مكي: «وعَطْفُ» أنَّ «على {

آمَنَّا بِهِ} [الجن: 2] أتَمُّ في المعنى مِنْ العطفِ على» أنَّه استمعَ «لأنك لو عَطَفْتَ {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 5] {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا} [الجن: 13] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس} [الجن: 6] {وَأَنَّا لَمَسْنَا} [الجن: 8] ، وشِبْهَ ذلك على {أَنَّهُ استمع} [الجن: 1] لم يَجُزْ؛ لأنه ليس مِمَّا أُوْحِي، إليه، إنما هو أمرٌ أو خبر، وأنه عن أنفسهم، والكسرُ في هذا أَبْينُ، وعليه جماعة مِنْ القُراءِ. الثاني: أنَّ الفتحَ في ذلك عَطْفٌ على مَحَلِّ» به «مِنْ» آمَنَّا به «. قال الزمخشري:» كأنه قال: صَدَّقْناه وصَدَّقْناه أنه تعالى جَدُّ رَبَّنا، وأنَّه كان يقولُ سفيهُنا، وكذلك البواقي «، إلاَّ أنَّ مكيَّاً ضَعَّفَ هذا الوجهَ فقال: والفتحُ في ذلك على الحَمْلِ على معنى» آمَنَّا به «وفيه بُعْدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يُخْبِروا أنهم آمنوا بأنَّهم لَمَّا سَمِعوا الهدى آمنوا به، ولم يُخْبِروا أنهم آمنوا أنه كان رجالٌ، إنما حكى اللَّهُ عنهم أنهم قالوا ذلك مُخْبِرين به عن أنفسِهم لأصحابِهم، فالكسرُ أَوْلى بذلك» وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ؛ فإنَّ المعنى على ذلك صحيحٌ.

وقد سَبَق الزمخشريَّ إلى هذا التخريجِ الفَرَّاءُ والزجَّاجُ. إلاَّ أنَّ الفَرَّاء استشعر إشكالاً وانفصل عنه، فإنه قال: «فُتِحَتْ» أنَّ «لوقوع الإِيمانِ عليها، وأنت تجدُ الإِيمانَ يَحْسُنُ في بعضِ ما فُتحَ دونَ بعضٍ، فلا يُمْنَعُ من إمضائِهنَّ على الفتح، فإنه يَحْسُنُ فيه ما يُوْجِبُ فَتْحَ» أنَّ «نحو: صَدَقْنا وشَهِدْنا، كما قالت العربُ: 4347 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا فنصَبَ» العيونَ «لإِتباعِها الحواجبَ، وهي لا تُزَجَّجُ. إنما تُكَحَّلُ، فأضمر لها الكُحْلَ» انتهى. فأشار إلى شيءٍ مِمَّا ذكرَه مكيٌّ وأجاب عنه. وقال الزجَّاج: «لكنَّ وجهَه أَنْ يكونَ محمولاً على معنى» آمنَّا به «؛ لأنَّ معنى» آمَنَّا به «صَدَّقْناه وعَلِمْناه، فيكون المعنى: صَدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ ربِّنا» . الثالث: أنه معطوفٌ على الهاء به «به» ، أي: آمنَّا به وبأنه تعالى جَدُّ ربِّنا، وبأنه كان يقولُ، إلى آخره، وهو مذهب الكوفيين. وهو وإن كان قوياً من حيث المعنى إلاَّ أنَّه ممنوعٌ مِنْ حيث الصناعةُ، لِما عَرَفْتَ مِنْ أنَّه لا يُعْطَفُ على الضميرِ المجرورِ إلاَّ بإعادةِ الجارِّ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذَيْن القولَيْن مستوفىً في سورةِ البقرة عند قولِه: {وَكُفْرٌ بِهِ

والمسجد الحرام} [البقرة: 217] على أنَّ مكِّيَّاً قد قَوَّى هذا لمَدْرَكٍ آخرَ وهو حَسَنٌ جداً، قال رحمه الله: «وهو يعني العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ في» أنَّ «أجوَدُ منه في غيرها، لكثرةِ حَذْفِ حرفِ الجرِّ مع» أنَّ «. ووجهُ الكسرِ العطفُ على قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا} [الجن: 1] فيكون الجميعُ معمولاً للقولِ، أي: فقالوا: إنَّا سَمِعْنا، وقالوا: إنَّه تعالى جَدُّ ربِّنا إلى آخرِه. وقال بعضُهم: الجملتان مِنْ قولِه تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} [الجن: 6] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} [الجن: 7] معترضتان بين قولِ الجنِّ، وهما مِنْ كلامِ الباري تعالى، والظاهرُ أنَّهما مِنْ كلامِهم، قاله بعضُهم لبعضٍ. ووجهُ الكسرِ والفتحِ في قولِه: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} [الجن: 19] ما تقدَّم. ووَجْهُ إجماعِهم على فتح {وَأَنَّ المساجد} [الجن: 18] وجهان، أحدُهما: أنَّه معطوفٌ على {أَنَّهُ استمع} [الجن: 1] فيكونُ مُوْحى أيضاً. والثاني: أنه على حَذْفِ حرفِ الجرِّ، وذلك الحرفُ متعلِّقٌ بفعل النهي، أي: فلا تَدْعوا مع اللَّهِ أحداً؛ لأنَّ المساجدَ للَّهِ، ذكرهما أبو البقاء.

قال الزمخشري:» أنه استمع «بالفتح؛ لأنَّه فاعلُ» أُوْحي « و {إِنَّا سَمِعْنَا} [الجن: 1] بالكسرِ؛ لأنَّه مبتدأٌ مَحْكِيٌّ بعد القولِ، ثم تحملُ عليهما البواقي، فما كان مِنَ الوحي فُتِحَ، وما كان مِنْ قَوْل الجِنِّ كُسِرَ، وكلُّهُنَّ مِنْ قولِهم إلاَّ/ الثِّنْتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ وهما: {وَأَنَّ المساجد} [الجن: 18] {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} [الجن: 19] . ومَنْ فتح كلَّهن فعَطْفاً على مَحَلِّ الجارِّ والمجرور في {آمَنَّا بِهِ} [الجن: 2] ، أي: صَدَّقْناه، وصَدَّقْنا أنه «. وقرأ العامَّةُ: {جَدُّ رَبِّنَا} بالفتح مضافاً ل» رَبِّنا «، والمرادُ به هنا العظمةُ. وقيل: قُدْرتُه وأمرُه. وقيل: ذِكْرُه. والجَدُّ أيضاً: الحَظُّ، ومنه قولُه عليه السلام:» ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ «والجَدُّ أيضاً: أبو الأبِ، والجِدُّ بالكسرِ ضِدُّ التَّواني في الأمر. وقرأ عكرمةُ بضمِّ باءِ» رَبُّنا «وتنوينِ» جَدٌّ «على أَنْ يكون» ربُّنا «بدلاً مِنْ» جَدٌّ «، والجَدُّ: العظيم. كأنه قيل: وأنَّه تعالى عظيمٌ ربُّنا، فأبدل المعرفة من النكرةِ، وعنه أيضاً» جَدَّاً «منصوباً منوَّناً،» رَبُّنا «مرفوعٌ. ووجْهُ ذلك أَنْ ينتصِبَ» جَدَّاً «على التمييز، و» ورَبُّنا «فاعلٌ ب» تعالى «وهو

المنقولُ مِنْ الفاعليةِ، إذ التقديرُ: تعالى جَدُّ رَبِّنا، ثم صار تعالى ربُّنا جَدَّاً، أي: عَظَمةً نحو: تَصَبَّبَ زيدٌ عَرَقاً، أي: عَرَقُ زيدٍ. وعنه أيضاً وعن قتادةَ كذلك، إلاَّ أنَّه بكسرِ الجيم، وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، و» رَبُّنا «فاعلٌ ب» تعالى «والتقدير: تعالى ربُّنا تعالِياً جدَّاً، أي: حقاً لا باطلاً. والثاني: أنَّه مصنوبٌ على الحالِ، أي: تعالى ربُّنا حقيقةً ومتمكِّناً قاله ابنُ عطية. وقرأ حميد بن قيس» جُدُّ ربِّنا «بضم الجيم مضافاً ل» ربِّنا «وهو بمعنى العظيم، حكاه سيبويه، وهو في الأصل من إضافةِ الصفةِ لموصوفِها؛ إذ الأصلُ: ربُّنا العظيمُ نحو:» جَرْدُ قَطِيفة «الأصل قطيفة جَرْدٌ، وهو مُؤَول عند البَصْريين وقرأ ابن السَّمَيْفَع» جَدَى رَبِّنا «بألفٍ بعد الدال مضافاً ل» ربِّنا «. والجَدى والجَدْوى: النَّفْعُ والعَطاء، أي: تعالى عَطاءُ ربِّنا ونَفْعُه. والهاءُ في» أنَّه استمعَ «» وأنَّه تعالى «وما بعد ذلك ضميرُ الأمرِ والشأنِ، وما بعده خبرُ» أنَّ «وقوله {مَا اتخذ صَاحِبَةً} مستأنَفٌ فيه تقريرٌ لتعالِي جَدِّه.

4

قوله: {سَفِيهُنَا} : يجوزُ أَنْ يكونَ اسمَ كان، «ويقول» الخبرُ، ولو كان مثلُ هذه الجملةِ غيرَ واقعةٍ خبراً ل «كان» لامتنع تقديمُ حينئذٍ نحو: سفيهُنا يقول، لو قلت: «يقولُ سفيهُنا»

على التقديمِ والتأخيرِ لم يَجُزْ. والفرقُ: أنه في غيرِ بابِ «كان» يُلْبَسُ بالفعلِ والفاعلِ، وفي باب «كان» يُؤْمَنُ ذلك. والثاني: أنَّ «سَفيهُنا» فاعلُ «يقولُ» والجملةُ خبرُ «كان» واسمُها ضميرُ الأمرِ مستترٌ فيها. وقد تقدَّم هذا في قولِه: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} وقوله «شَطَطاً» تقدَّم مثلُه في الكهف.

5

قوله: {ظَنَنَّآ أَن لَّن} : مخففةٌ، واسمُها مضمرٌ، والجملةُ المنفيةُ خبرُها، والفاصلُ هنا حَرْفُ النفيِ. و «كَذِباً» مفعولٌ به، أو نعتُ مصدرٍ محذوفٍ. وقرأ الحسنُ والجحدريُّ وأبو عبد الرحمن ويعقوبُ «تَقَوَّلَ» بفتح القافِ والواوِ المشدَّدةِ، وهو مضارع «تَقوَّلَ» ، أي: كَذَّب. والأصلُ تتَقَوَّل، فحذف إحدى التاءَيْن نحو: {تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] وانتصب «كَذِباً» في هذه القراءةِ على المصدرِ؛ لأنَّ التقوُّلَ كَذِبٌ نحو قولِهم: قعدْتُ جُلوساً.

6

قوله: {مِّنَ الإنس} : صفةٌ لرجال، وكذلك قولُه «من الجنِّ» .

7

قوله: {أَن لَّن يَبْعَثَ} : كقولِه: {أَن لَّن تَقُولَ} [الجن: 5] وأَنْ

وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْ الظَّنِّ، والمسألةُ من بابِ الإِعمال لأنَّ «ظنُّوا» يَطْلُبُ مفعولَيْن، و «ظَنَنْتُم» كذلك، وهو إعمال الثاني للحذفِ مِنْ الأولِ، والضمير في «أنهم ظَنُّوا» للإِنسِ، وفي «ظَنَنْتُم» للجنِّ، ويجوزُ العكسُ. وبكلٍ قد قيل.

8

قوله: {فَوَجَدْنَاهَا} : فيها وجهان، أظهرُهما: أنَّها متعدِّيَةٌ لواحدٍ؛ لأنَّ معناها أصَبْنا، وصادَفْنا، وعلى هذا فالجملةُ مِنْ قولِه «مُلِئَتْ» في موضعِ نصبٍ على الحال. والثاني: أنَّها متعدِّيةٌ لاثنينِ، فتكونُ الجملةُ في موضعِ المفعولِ الثاني. «وحَرَساً» منصوبٌ على التمييزِ نحو: «امتلأ الإِناءُ ماءً» . والحَرَسُ اسمُ جمع ل حارِس نحو: خَدَم لخادِم، وغَيَب/ لغائِب، ويُجْمَعُ تكسيراً على أحْراس، كقولِ امرىء القيس: 4348 - تجاوَزْتُ أَحْراساً وأهوالَ مَعْشَرٍ ... عليَّ حِراصٍ لو يُشِرُّون مَقْتلي والحارس: الحافظُ الرقيبُ، والمصدرُ الحِراسةُ. و «شديداً» صفةٌ ل حَرَس على اللفظِ، كقوله: 4349 - أخشى رُجَيْلاً ورُكَيْباً عادِياً ...

ولو جاءَ على المعنى لقيل: شِداداً بالجمع. وقوله: {وَشُهُباً} جمعُ شِهاب ك كِتاب وكُتُب. وهل المرادُ النجومُ أو الحَرَسُ أنفسُهم؟ وإنما عَطَفَ بعضَ الصفاتِ على بعضٍ عند تغايُرِ اللفظِ كقولِه: 4350 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . أتى مِنْ دُونِها النَّأْيُ والبُعْدُ وقرأ الأعرج «مُلِيَتْ» بياءٍ صريحةٍ دونَ همزةٍ. ومقاعِد جمعُ مَقْعَد اسمَ مكان.

9

قوله: {الآن} : هو ظرفٌ حاليٌّ. واستعير هنا للاستقبال كقوله: 4351 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ولكنْ ... سأسْعى الآن إذ بلغَتْ أناها فاقترنَ بحرفِ التنفيس، وقد تقدَّم هذا في البقرة عند قوله {فالآن بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] ورَصَداً: إمَّا مفعولٌ له، وإمَّا صفة لشِهاباً، أي: ذا رَصَد. وجعل الزمخشريُّ الرَّصَد اسمَ جمعٍ كَحَرَس، فقال: «والرَّصدُ: اسمُ جَمْعٍ للراصِد ك حَرَس على معنى: ذوي شِهابٍ راصِدين بالرَّجْم، وهم الملائكةُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للشِّهاب، بمعنى الراصِد، أو كقولِه: 4352 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومِعَىً جِياعاً

10

قوله: {أَشَرٌّ أُرِيدَ} : يجوزُ فيه وجهان، أحسنُهما، الرفعُ بفعلٍ مضمرٍ على الاشتغالِ، وإنما كان أحسنَ لتقدُّمِ طالبِ الفعلِ، وهو أداةُ الاستفهامِ. والثاني: الرفعُ على الابتداءِ. ولقائلٍ أَنْ يقولَ: يتعيَّنُ هنا الرفعُ بإضمارِ فعلٍ لمَدْركٍ آخر: وهو أنَّه قد عُطِفَ ب «أم» فِعْلٌ، فإذا أَضْمَرْنا الفعلَ رافِعاً كُنَّا قد عَطَفْنا جملةً فعليةً على مِثْلِها بخلافِ رفعِه بالابتداءِ، فإنَّه حينئذٍ يُخْرِجُ «أم» عن كونِها عاطفةً إلى كونِها منقطعةً، إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ: وهو أنَّ الأصلَ: أشرٌّ أُريد بهم أم خيرٌ، فوَضَعَ قولَه {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ} موضعَ «خيرٌ» وقولَه «أشرٌ» سادٌّ مَسَدَّ مفعولَيْ «ندري» بمعنى أنه مُعَلِّقٌ له، وراعى معنى «مَنْ» في قولِه {بِهِمْ رَبُّهُمْ} فجَمَعَ.

11

قوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ «دونَ» بمعنى «غير» ، أي: ومِنَّا غيرُ الصالحين، وهو مبتدأٌ، وإنما فُتِحَ لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍِ، كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] فيمَنْ نَصَبَ على أحدِ الأقوالِ، وإلى هذا نحا الأخفشُ. والثاني: أنَّ «دونَ» على بابِها من الظرفية، وأنها صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: ومنا فريقٌ أو فوجٌ دونَ ذلك وحَذْفُ الموصوفِ مع «مِنْ» التبعيضيَّةِ يَكْثرُ كقولِهم: منا ظَعَنَ ومنَّا أقام، أي: مِنَّا فريقٌ. والمعنى: ومِنَّا صالحون دونَ أولئك في الصَّلاح.

قوله: {كُنَّا طَرَآئِقَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ التقديرَ: كنَّا ذوي طرائقَ، أي: ذوي مذاهبَ مختلفةٍ. الثاني: أنَّ التقدير: كُنَّا في اختلاف أحوالِنا مثلَ الطرائقِ المختلفةِ. الثالث: أنَّ التقدير: كُنَّا في طرائقَ مختلفةٍ كقولِه: 4353 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما عَسَل الطريقَ الثَّعْلَبُ الرابع: أنَّ التقديرَ: كانَتْ طرائقُنا قِدَداً، على حَذْفِ المضاف الذي هو الطرائقُ، وإقامةِ الضميرِ المضافِ إليه مُقامَه، قاله الزمخشري، فقد جَعَلَ في ثلاثة أوجهٍ مضافاً محذوفاً؛ لأنَّه قَدَّرَ في الأول: ذوي، وفي الثاني: مِثْلَ، وفي الثالث: طرائقنا. ورَدَّ عليه الشيخ قولَه: كُنَّا في طرائق كقولِه: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ بأنَّ هذا لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو نُدورٍ، فلا يُخْرَّج القرآن عليه، يعني تَعَدِّيَ الفعلِ بنفسِه إلى ظرفِ المكانِ المختصِّ. والقِدَدُ: جمعُ قِدَّة، والمرادُ بها الطريقة، وأصلُها السيرةُ يقال: قِدَّةُ فلانٍ حسنةٌ أي: سِيرتُه وهو مِنْ قَدَّ السَّيْرَ أي: قَطَعَه على استواءٍ/ فاسْتُعير للسِّيرةِ المعتدلةِ قال:

4354 - القابِضُ الباسِطُ الهادِيْ بطاعتِه ... في فِتْنة الناسِ إذا أهواؤُهم قِدَدُ وقال آخر: 4355 - جَمَعْتَ بالرأيِ مِنهم كلَّ رافضةٍ ... إذ هم طرائقُ في أهوائِهم قِدَدُ

12

قوله: {فِي الأرض} : حالٌ، وكذلك «هَرَباً» مصدرٌ في موضع الحال تقديرُه: لن نُعْجِزه كائنين في الأرض أينما كُنَّا فيها، ولن نُعْجزه هاربين منها إلى السماءِ.

13

قوله: {فَلاَ يَخَافُ} : أي: فهو لا يخافُ، أي فهو غيرُ خائف؛ ولأنَّ الكلامَ في تقديرِ مبتدأٍ وخبرٍ، دَخَلَتِ الفاءُ، ولولا ذلك لقيلَ: لا يَخَفْ، قاله الزمخشري، ثم قال: «فإنْ قلتَ: أيُّ فائدةٍ في رفعِ الفعلِ وتقديرِ مبتدأ قبلَه، حتى يقعَ خبراً له، ووجوبِ إدخالِ الفاءِ، وكان كلُّ لك مستغنىً عنه بأَنْ يُقالَ لا يَخَفْ؟ قلت: الفائدةُ أنه إذا فَعَلَ ذلك فكأنَّه قيل: فهو لا يَخافُ، فكان دالاًّ على تحقيقِ أنَّ المؤمِنَ ناجٍ لا مَحالةَ، وأنه هو المختصُّ بذلك دونَ غيره» . قلت: سببُ ذلك أنَّ الجملةَ تكونُ اسميةً حينئذٍ، والاسميةُ أدلُّ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلِيَّةِ. وقرأ ابن وثاب والأعمش «فلا يَخَفْ» بالجزمِ، وفيها وجهان، أحدُهما: ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَه أنَّ «لا» ناهيةٌ، والفاءُ حينئذٍ

واجبةٌ. والثاني: أنها نافيةٌ، والفاءُ حينئذٍ زائدةٍ، وهذا ضعيفٌ. وقوله: {بَخْساً} فيه حَذْفُ مضافٍ أي: جزاءُ بَخْسٍ، كذا قدَّره الزمخشريُّ، وهو مُسْتَغْنَى عنه. وقرأ ابن وثاب «بَخَساً» بفتح الخاء.

14

قوله: {القاسطون} : قد تقدَّم في أول النساء: أنَّ قَسَط الثلاثيَّ بمعنى جار، وأَقْسَط الرباعيَّ بمعنى عَدَل، وأنَّ الحَجَّاجَ قال لسعيد بن جبير: ما تقولُ فِيّ قال: إنك قاسِطٌ عادِلٌ. فقال الحاضرون: ما أحسنَ ما قال!! فقال: يا جهلةُ جَعَلني جائراً كافراً، وتلا {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] . قوله: {تَحَرَّوْاْ رَشَداً} أي: قَصَدوا ذلك، وطَلَبوه باجتهادٍ، ومنه: التحرِّي في الشيءِ. قال الراغب: «حَرَى الشيءَ يَحْريه أي: قَصَدَ حَراه أي جانبَه، وتَحَرَّاه كذلك، وحَرَى الشيءُ يَحْرِي: نَقَصَ، كأنه لَزِمَ الحَرَى ولم يَمْتَدَّ قال: 4356 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

والمَرْءُ بعد تَمامِه يَحْرِي ويقال: رَماه الله بأفعى حارِيةٍ أي: [ناقصةٍ] شديدةٍ» انتهى، وكأنَّ أصلَه مِنْ قولِهم: هو حَرٍ بكذا أي: حَقيقٌ به قَمِنٌ. و «رَشَداً» مفعولٌ به. والعامَّةُ «رَشَداً» بفتحتين. والأعرج بضمةٍ وسكونٍ.

16

قوله: {وَأَلَّوِ استقاموا} : «أنْ» هي المخففةُ. وقد تقدَّم أنه يُكتفى ب «لو» فاصلةً بين «أَنْ» الخفيفةِ وخبرِها، إذا كان جملةً فعلية في سورة سبأ. وقال أبو البقاء هنا: و «لو» عوضٌ كالسين وسوف. وقيل: «لو» بمعنى «إنْ» و «أنْ» بمعنى اللامِ، وليسَتْ بلازمةٍ كقوله: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} [الشعراء: 16] وقال في موضعٍ آخرَ: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ} [المائدة: 73] ذكره ابن فَضَّال في «البرهان» . قلت: هذا شاذٌّ لا يُلتفت إليه البتَةَ؛ لأنه خلافُ النَّحْوِيين. وقرأ العامَّةُ بكسر واو «لو» على الأًصلِ. وابن وثاب والأعمشُ بضمِّها تشبيهاً بواوِ الضمير، وقد تقدم تحقيقُه في البقرة.

وقوله: {غَدَقاً} الغَدَقُ بفتح الدال وكسرِها: لغتان في الماءِ الغزيرِ، ومنه الغَيْداقُ: الماءُ الكثيرُ، وللرجلِ الكثيرِ العَدْوِ، والكثيرِ النطقِ. ويقال: غَدِقَتْ عينُه تَغْدَقُ أي: هَطَلَ دَمْعُها غَدَقاً. وقرأ العامَّةُ «غَدقاً» بفتحتَيْن. وعاصم فيما رَوَى عنه الأعشى بفتحِ الغينِ وكَسْرِ الدالِ، وتقدَّم أنهما لغتان.

17

قوله: {يَسْلُكْهُ} : الكوفيون بياءِ الغَيْبة، وهي واضحةٌ، لإِعادةِ الضميرِ على الربِّ تعالى. وباقي السبعةِ بنونِ العظمة على الالتفات، هذا كما تقدَّم في قولِه: {سُبْحَانَ الذي أسرى} [الإِسراء: 1] ثم قال: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} . وقرأ ابن جندب «نُسْلِكْه» بنونٍ مضمومة مِنْ أَسْلَكه. وبعضُهم بالياء مِنْ تحتُ مضمومةً، وهما لغتان. يُقال: سَلَكه وأسلكه. وأُنْشِدَ: 3457 - حتى إذا أَسْلكوهم في قُتائِدَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وسَلَكَ وأَسْلك يجوزُ فيهما أَنْ يكونا ضُمِّنا معنى/ الإِدخالِ فكذلك يتعدَّيان لاثنين. ويجُوز أَنْ يقالَ: يتعدَّيان إلى أحدِ المفعولَيْن بإسقاطِ الخافضِ، كقولِه: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ، فالمعنى: يُدْخِلْه عذاباً،

أو يَسْلُكْه في عذاب، هذا إذا قلنا: إنَّ «صَعَداً» مصدرٌ. قال الزمخشري: «يقال: صَعِدَ صَعَداً وصُعوداً، فوصف به العذاب؛ لأنه يَتَصَعَّدُ المُعَذَّب أي يَعْلُوه ويَغْلِبُه، فلا يُطيقه. ومنه قولُ عمرَ رضي الله عنه:» ما تَصَعَّدني شيءٌ ما تَصَعَّدَتْني خطبةُ النكاحِ «يريد: ما شقَّ عليَّ ولا غَلَبَني» . وأمَّا إذاجَعَلْناه اسماً لصَخْرةٍ في جهنمَ، كما قاله ابنُ عباسٍ وغيرُه، فيجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ «صَعَداً» مفعولاً به أي: يَسْلُكْه في هذا الموضع، ويكون «عذاباً» مفعولاً مِنْ أَجْلِه. والثاني: أَنْ يكونَ «عذاباً» مفعولاً ثانياً، كما تَقَدَّم، و «صَعَداً» بدلاً مِنْ عذاب، ولكنْ على حَذْفِ مضافٍ أي: عذابَ صَعَدٍ. و «صَعَداً» بفتحتَيْن هو قراءةُ العامَّة. وقرأ ابن عباس والحسنُ بضمِّ الصاد وفتح العين، وهو صفةٌ تقتضي المبالغة ك حُطَمٍ ولُبَدٍ، وقُرِىءَ بضمَّتين وهو وصفٌ أيضاً ك جُنُب وشُلُل.

18

قوله: {وَأَنَّ المساجد} : قد تقدَّم أنَّ السبعةَ أجمعَتْ على الفتح، وأنَّ فيه وجهَيْنِ: حَذْفَ الجارِّ ويتعلَّقُ بقولِه: «فلا تَدْعُوا» وهو رأَيُ الخليلِ، وجَعَله كقولِه: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] فإنَّه

متعلِّقٌ بقولِه: {فَلْيَعْبُدُواْ} [قريش: 2] وكقولِه: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ} [المؤمنون: 52] أي: ولأنَّ. والثاني: أنَّه عطفٌ على «أنَّه استمع» فيكون مُوْحَى. وقرأ ابن هرمز. وطلحة «وإنَّ المساجدَ» بالكسرِ، وهو مُحْتَمِلٌ للاستئنافِ وللتعليلِ، فيكونُ في المعنى كتقديرِ الخليلِ. والمساجد قيل: هي جَمْعُ «مَسْجِد» بالكسر وهو مَوْضِعُ السجُّودِ، وتَقَدَّم أنَّ قياسَه الفتحُ. وقيل: هو جمع مَسْجَد بالفتح مُراداً به الآرابُ الورادةُ في الحديث: «الجبهةُ والأنفُ والركبتانِ واليدانِ والقَدَمان. وقيل: بل جمعُ مَسْجَد، وهو مصدرٌ بمعنى السُّجود، ويكون الجمعُ لاختلافِ الأنواعِ.

19

قوله: {يَدْعُوهُ} : في موضع الحالِ أي: داعياً، أي: مُوَحِّداً له. قوله: {لِبَداً} قرأ هشام بضمِّ اللامِ، والباقون بكسرِها. فالأولى. جمعُ لُبْدَة بضمِّ اللامِ نحو: غُرْفة وغُرَف. وقيل: بل هو اسمٌ مفردٌ صفةٌ من الصفاتِ نحو: «حُطَم» ، وعليه قولُه تعالى: {مَالاً لُّبَداً} [البلد: 6] . وأمَّا

الثانيةُ: فجمعُ «لِبْدَة» بالكسر نحو: قِرْبَة وقِرَب. واللِّبْدَة واللُّبْدة. الشيءُ المتلبِّدُ أي: المتراكبُ بعضُه على بعضٍ، ومنه لِبْدَة الأسد كقولِه: 4358 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... له لِبْدَةٌ أظفارُه لم تُقَلَّم ومنه «اللِّبْدُ» لتَلَبُّدِ بعضِه فوق بعض، ولُبَدٌ: اسمُ نَسْرِ لُقمانَ ابنِ عادٍ، عاش مِئَتي سنةٍ حتى قالوا: «طال الأمَدُ على لُبَدٍ» والمعنى: كادَتِ الجِنُّ يكونون عليه جماعاتٍ متراكمةً مُزْدَحمِيْن عليه كاللَّبِدِ. وقرأ الحسنُ والجحدريُّ «لُبُداً» بضمتين، ورواها جماعةٌ عن أبي عمروٍ، وهي تحتملُ وجهَيْنِ، أحدُهما: أَنْ يكونَ جمعَ لَبْد نحو: «رُهُن» جمعَ «رَهْن» . والثاني: أنَّه جمعُ «لَبُود» نحو: صَبورُ وصُبُر، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً. وقرأ ابن مُحَيْصن بضمةٍ وسكونٍ، فيجوزُ أَنْ تكونَ هذه مخففةً من القراءةِ التي قبلها، ويجوزُ أن تكونَ وَصْفاً برأسِه. وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً «لُبَّداً» بضم اللام وتشديد الباء، وهو جمعُ «لابِد» كساجِد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع. وقرأ أبو رجاء بكسرِ/ اللامِ وتشديدِ الباءِ وهي غريبةٌ جداً.

20

قوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو} : قرأ عاصمٌ وحمزةُ «

قُلْ» بلفظِ الأمرِ التفاتاً أي: قُلْ يا محمدُ. والباقون «قال» إخباراً عن عبدِ الله وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. قال الجحدري: وهي في المصحفِ كذلك، وقد تقدَّمَ لذلك نظائرُ في {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} [الإِسراء: 93] آخرَ الإِسراء، وكذا في أولِ الأنبياءِ [الآية: 4] ، وآخر «المؤمنون» .

21

قوله: {ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} : قرأ الأعرجُ «رُشُداً» بضمَتْينِ. وجعل الضَّرَّ عبارةً عن الغَيِّ؛ لأنَّ الضَرَّ سببٌ عن الغَيِّ وثمرتُه، فأقام المسبَّبَ مُقامَ سببِه. والأصلُ: لا أَمْلِكُ غَيَّاً ولا رَشَداً، فذكر الأهمَّ. وقيل: بل في الكلامِ حَذْفان، والأصل: لا أَمْلِكُ لكم ضَرَّاً ولا نَفْعاً ولا غَيَّاً ولا رَشَداً، فحذفَ مِنْ كلِّ واحدٍ ما يَدُلُّ مقابِلُه عليه.

22

قوله: {مُلْتَحَداً} : مفعولُ «أَجِدُ» لأنَّها بمعنى: أُصيبُ وأَلْقَى. والمُلْتَحَدُ هنا: المَسْلَكُ والمَذْهَبُ قال: 4359 - يا لَهْفَ نفسي ولَهْفي غيرُ مُجْديَةٍ ... عَنِّي وما مِنْ قضاءِ الله مُلْتَحَدُ أي: مَهْرَبٌ ومَذْهَبٌ.

23

قوله: {إِلاَّ بَلاَغاً} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه استثناءٌ

منقطعٌ. أي: لكنْ إنْ بَلَّغْتُ عن اللَّهِ رَحِمني؛ لأنَّ البلاغَ من الله لا يكونُ داخلاً تحت قولِه: {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} ، لأنه لا يكونُ مِنْ دونِ اللَّهِ، بل يكونُ من اللَّهِ وبإعانتِه وتوفيقِه. الثاني: أنه متصلٌ. وتأويلُه: أنَّ الإِجارةَ مستعارةٌ للبلاغِ، إذ هو سببُها، وسببُ رحمتِه تعالى، والمعنى: لن أجِدَ سبباً أميلُ إليه وأعتصمُ به، إلاَّ أَنْ أُبَلِّغَ وأُطيعَ، فيُجيرَني. وإذا كان متصلاً جاز نصبُه من وجهين، أحدهما: وهو الأرجح أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «مُلْتحداً» ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ. والثاني: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ، وإلى البدليةِ ذهب أبو إسحاق. الثالث: أنه مستثنى مِنْ قولِه: {لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً} قال قتادة: أي لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ بلاغاً إليكم. وقرَّره الزمخشريُّ فقال: «أي: لا أَمْلِكُ إلاَّ بلاغاً من اللَّهِ، و {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي} جملةٌ معترضةٌ اعترضَ بها لتأكيدِ نَفْيِ الاستطاعة» . قال الشيخ: «وفيه بُعْدٌ لطولِ الفَصْلِ بينهما» . قلت: وأين الطولُ وقد وقع الفَصْلُ بأكثرَ مِنْ هذا؟ وعلى هذا فالاستثناءُ منقطعٌ. الرابع: أنَّ الكلامَ ليس استثناءً بل شرطاً. والأصل: إنْ لا فأدغم ف «إنْ» شرطيةٌ، وفعلُها محذوفٌ لدلالةِ مصدرِه والكلامِ الأولِ عليه، و «لا» نافيةٌ والتقدير: إن لا أُبَلِّغْ بلاغاً من اللَّهِ فلن يُجيرَني منه أحدٌ. وجَعَلوا هذا كقولِ الشاعر:

4360 - فطَلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحُسامُ أي: وإنْ لا تُطَلِّقْها يَعْلُ، حَذَفَ الشرطَ وأبقى الجوابَ. وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ من وجهَيْن، أحدهما: أنَّ حَذْفَ الشرطِ دونَ أداتِه قليلٌ جداً. والثاني: أنَّه حُذِفَ الجزآن معاً أعني الشرطَ والجزاءَ، فيكونُ كقولِه: 4361 - قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ ... كان فقيراً مُعْدَماً قالت: وإِنْ أي: قالَتْ: وإنْ كان فقيراً فقد رَضِيْتُه. وقد يُقال: إنَّ الجوابَ إمَّا مذكورٌ عند من يرى جوازَ تقديمِه، وإمَّا في قوةِ المنطوق به لدلالةِ ما قبلَه عليه. قوله: {مِّنَ الله} فيه وجهان، أحدهما: أنَّ «مِنْ» بمعنى عَنْ؛ لأنَّ بَلِّغ يتعدَّى بها، ومنه قولُه عليه السلام: «ألا بَلِّغوا عني» والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «بلاغ» . قال الزمخشري: «مِن» ليسَتْ صلةً للتبليغ، إنما هي بمنزلةِ «مِنْ» في قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله} [التوبة: 1] بمعنى: بلاغاً كائناً من الله «. قوله: {وَرِسَالاَتِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنها منصوبةٌ نَسَقاً على»

بلاغاً «كأنه قيل: لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ التبليغَ والرسالاتِ، ولم يَقُلِ الزمخشريُّ غيرَه. والثاني: أنها مجرورةٌ نَسَقاً على الجلالةِ أي: إلاَّ بلاغاً/ عن اللَّهِ وعن رسالاتِه، كذا قَدَّره الشيخُ. وجَعَلَه هو الظاهرَ. وتجوَّز في جَعْلِه «مِنْ» بمعنى عن، والتجوُّزُ في الحروفِ رأيٌ كوفيٌّ، ومع ذلك فغيرُ منقاسٍ عندَهم. قوله: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ} العامَّة على كسرِها، جَعَلوها جملةً مستقلة بعد فاءِ الجزاءِ. وقرأ طلحةُ بفَتْحِها، على أنَّها مع ما في حَيِّزِها في تأويلِ مصدرٍ واقعٍ خبراً لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه: فجزاؤهُ أنَّ له نارَ جهنمَ، أو فحُكْمُه: أنَّ له نارَ جهنَم. قال ابن خالويه: «سَمِعْتُ ابنَ مجاهدٍ يقول: لم يَقْرَأْ به أحدٌ، وهو لحنٌ؛ لأنه بعد فاءِ الشرط» . قال: «وسمعتُ ابنَ الأنباريِّ يقول: هو صوابٌ ومعناه، فجزاؤُه أنَّ له نارَ جهنم» . قلت: ابنُ مجاهدٍ وإنْ كان إماماً في القراءاتِ، إلاَّ أنَّه خَفِيَ عليه وجهُها، وهو عجيبٌ جداً. كيف غَفَلَ عن قراءتَيْ {فَأنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في الأنعام [الآية: 54] ، لا جرم أنَّ ابنَ الأنباريِّ اسْتَصْوَبَ القراءةَ لِطُولِ باعِه في العربية. قوله: {خَالِدِينَ} حالٌ من الهاء في «له» ، والعاملُ الاستقرارُ الذي تَعَلَّقَ به هذا الجارُّ، وحَمَلَ على معنى «مَنْ» فلذلك جَمَعَ.

24

قوله: {حتى إِذَا} : قال الزمخشري: «فإنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّق» حتى «وجُعِلَ ما بعدَه غاية له؟ قلت: بقولِه: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 19] على أنهم يتظاهرون عليه بالعَداوةِ، ويَسْتَضْعِفون أنصارَه، ويَسْتَقِلُّون عَددَه، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون مِنْ يوم بدرٍ، وإظهارِ اللَّهِ عليهم، أو مِنْ يومِ القيامةِ فسَيَعْلمونَ حينئذٍ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً. قال:» ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ دَلَّتْ عليه الحالُ: مِن استضعافِ الكفارِ واستقلالِهم فعددِه، كأنه [قال:] لا يزالون على ما هم عليه، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون قال المشركون: متى هذا الموعدُ؟ إنكاراً له: فقال: قُلْ إنه كائنٌ لا ريبَ فيه. قال الشيخ: «قولُه: بِمَ تَعَلَّق؟ إن عَنَى تعلُّقَ حرفِ الجرِّ فليس بصحيح لأنَّها حرفُ ابتداءٍ فما بعدها ليس في موضعِ جرٍ خلافاً للزجَّاجِ وابنِ دُرُسْتَوَيْه فإنهما زعما أنها إذا كانَتْ حرفَ ابتداءٍ فالجملةُ الابتدائيةُ بعدها في موضع جرِّ. وإنْ عَنَى بالتعلُّقِ اتصالَ ما بعدَها بما قبلَها وكونَ ما بعدَها غايَةً لِما قبلَها فهو صحيحٌ. وأمَّا تقديرُه أنها تتعلَّقُ بقولِه: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} فهو بعيدٌ جداً لطولِ الفَصْلِ بينهما بالجملِ الكثيرةِ. وقدَّر بعضُهم ذلك المحذوفَ المُغَيَّا، فقال: تقديرُه: دَعْهم حتى إذا. وقال التبريزي:» جازَ أَنْ تكونَ غايةً لمحذوفٍ «ولم يُبَيِّن ما هو؟ وقال الشيخ:» والذي يَظْهَرُ أنها غايةٌ لِما تَضَمَّنْتْه الجملةُ التي قبلَها مِنْ الحُكْم بكينونةِ النارِ لهم. كأنَّه قيل: إنَّ العاصِيَ يُحْكَمُ له بكَيْنونةِ النارِ، والحُكْمُ بذلك هو وعيدٌ، حتى إذا رَأَوْا ما حَكَم بكينونتِه لهم فسَيَعْلمون «.

قوله: {مَنْ أَضْعَفُ} يجوزُ في» مَنْ «أن تكونَ استفهاميةً فترتفعَ بالابتداء، و» أضعفُ «خبرُه. والجملةُ في موضعِ نصبٍ سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن لأنها مُعَلِّقَةٌ للعلمِ قبلَها، وأَنْ تكونَ موصولةً، و» أَضْعَفْ «خبرُ مبتدأ مضمرٍ. أي: هو أَضْعَفُ. والجملةُ صلةٌ وعائدٌ. وحَسَّن الحَذْفَ طولُ الصلةِ بالتمييزِ. والموصولُ مفعولٌ للعِلْم بمعنى العِرْفان.

25

قوله: {أَقَرِيبٌ} : خبرٌ مقدَّمٌ و «ما تُوعَدون» [مبتدأ] . ويجوز أن يكون «قريبٌ» مبتدأً لاعتماده على الاستفهام. و «ما تُوعَدون» فاعلٌ به أي: أقربُ الذي تُوْعَدون، نحو: أقائمٌ أبواك. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً، فالعائدُ محذوفٌ، وأَنْ تكونَ مصدريةً فلا عائدَ/ و «أم» : الظاهرُ أنها متصلةٌ. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ ما معنى {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً} والأمدُ يكونُ قريباً وبعيداً؟ ألا ترى إلى قولِه {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً} [آل عمران: 30] قلت: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَستَقْرِبُ المَوْعِدَ فكأنه قال:» ما أَدْري أهو حالٌ متوقَّعٌ في كلِّ ساعةٍ أم مُؤَجَّلٌ ضُرِبَتْ له غايةٌ «.

26

قوله: {عَالِمُ الغيب} : العامَّةُ على رفعِهِ: إمَّا بدلاً مِنْ «ربي» ، وإمَّا بياناً له، وإمَّا خبراً لمبتدأ مضمرٍ أي: هو عالِمُ. وقُرِىء بالنصبِ على المدحِ. وقرأ السُّدِّي «عَلِمَ الغيبَ» فعلاً ماضياً ناصباً للغيب.

قوله: {فَلاَ يُظْهِرُ} العامَّةُ على كونِه مِنْ أظْهر. و «أحَداً» مفعولٌ به. وقرأ الحسن «يَظْهَرُ» بفتحِ الياءِ والهاءِ، مِنْ ظَهَر ثلاثياً. «أحَدٌ» فاعلٌ به.

27

قوله: {إِلاَّ مَنِ ارتضى} : يجوزُ أَنْ يكونَ منقطعاً أي: لكن مَنْ ارتضاه فإنه يُظْهِرُه على ما يشاءُ مِنْ غَيْبِه بالوَحْيِ. وقولُه: «مِنْ رسولٍ» بيانٌ للمُرْتَضِيْنَ. وقوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} بيانٌ لذلك. وقيل: هو متصلٌ. و «رَصَداً» قد تقدَّم الكلامُ عليه. ويجوزُ أَنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً أو موصولةً متضمِّنَةً معنى الشرط. وقوله: «فإنَّه» خبرُ المبتدأ على القولَيْنِ. وهو من الاستثناءِ المنقطعِ أيضاً، أي: لكن. والمعنى: لكنْ مَنْ ارتضاه من الرُّسُلِ فإنه يَجْعَلُ له ملائكةً رَصَداً يَحْفظونه.

28

قوله: {لِّيَعْلَمَ} : متعلقٌ ب «يَسْلُكُ» . والعامَّةُ على بنائه للفاعلِ. وفيه خلافٌ أي: لِيَعْلَمَ محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل: لِيَعْلَمَ أي: ليَظْهَرَ عِلْمُه للناس. وقيل: ليَعْلَمَ إبليسُ. وقيل: ليَعْلَمَ المشركون. وقيل: لِيَعْلَمَ الملائكةُ، وهما ضعيفان لإِفرادِ الضميرِ. والضميرُ في «أَبْلَغُوا» عائدٌ على «مَنْ» مِنْ قولِه: «مَنْ ارتَضَى» راعى لفظَها أولاً، فأفردَ في قولِه: {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} ، ومعناها ثانياً فَجَمَعَ في قولِه: «أَبْلَغُوا» إلى آخرِه.

وقرأ ابنُ عباس وزيدُ علي «لِيُعْلَمَ» مبنياً للمفعول. وقرأ ابن أبي عبلةَ والزُّهْري «لِيُعْلِمَ» بضمِّ الياءِ وكسرِ اللامِ أي: لِيُعْلِمَ اللَّهُ ورسولُه بذلك. وقرأ أبو حيوة «رسالة» بالإِفرادِ، والمرادُ الجمعُ. وابن أبي عبلة «وأُحِيْط وأُحْصِيَ» مبنيين للمفعول، «كلُّ» رفعٌ بأُحْصِي. قوله: {عَدَداً} يجوزُ أَنْ يكونَ تمييزاً منقولاً من المفعولِ به. والأصل: أحصى عددَ كلِّ شيءٍ كقولِه تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] أي: عيونَ الأرض، على خلافٍ سَبَقَ في ذلك. ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على المصدرِ من المعنى؛ لأنَّ «أحصَى» بمعنى عَدَّ، فكأنه قيل: وعَدَّ كلَّ الفعل، والفعلُ إلى المصدر. ومَنَعَ مكي كونَه مصدراً للإِظهار فقال: «عَدَداً» نَصْبٌ على البيانِ، ولو كان مصدراً لأدغم «قلت: يعني: أنَّ قياسَه أَنْ يكونَ على فَعْل بسكونِ العين، لكنه غيرُ لازمٍ فجاء مصدرُه بفتح العين. ولمَّا كان» لِيَعْلَمَ «مضمَّناً معنى: قد عَلِمَ ذلك، جازَ عَطْفُ» وأحاط «على ذلك المقدَّرِ.

المزمل

قوله: {المزمل} : أصلُه المتزَمِّلُ، فأُدْغِمَت التاءُ في الزاي يقال: تَزَمَّل يتزَمَّلُ تَزَمُّلاً. فإذا أُريد الإِدغامُ اجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ، وبهذا الأصلِ قرأ أُبيُّ بن كعب. وقرأ عكرمةُ «المُزَمِّل» بتخفيفِ الزايِ وتشديدِ الميمِ، اسمَ فاعلٍ، على هذا فيكونُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ أصلَه المُزْتَمِلُ على مُفْتَعِل فأُبْدِلَتِ التاءُ ميماً وأُدْغِمَتْ، قاله أبو البقاء، وهو ضعيفٌ. والثاني: أنَّه اسمُ فاعلٍ مِنْ زَمَّل مشدداً، وعلى هذا فيكون المفعولُ محذوفاً، أي: المُزَمِّل جِسْمَه. وقُرِىء كذلك، إلاَّ أنَّه بفتحِ الميمِ اسمَ مفعولٍ منه، أي: المُلَفَّف. والتَّزَمُّلُ: التَّلَفُّفُ. يقال: تَزَمَّلَ زيدٌ بكساءٍ، أي: التفَّ به قال ذو الرَّمة: 4362 - وكائِنْ تَخَطَّتْ ناقتي مِنْ مَفازةٍ ... ومِنْ نائمٍ عن ليلِها مُتَزَمِّلِ

وقال امرؤ القيس: 4363 - كأنَّ ثبيراً في أفانينِ وَدْقِه ... كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ وهو كقراءةِ بعضِهم المتقدِّمة. وفي التفسير: أنه نُودي بذلك لالتفافِه في كِساء.

2

قوله: {قُمِ الليل} : العامَّةُ على كسر الميمِ لالتقاءِ السَّاكنَيْن. وأبو السَّمَّال بضمها إتباعاً لحركةِ القاف. وقُرِىءَ بفَتحِها طَلَباً للخِفَّةِ. قال أبو الفتح: «الغَرَضُ الهَرَبُ من التقاءِ الساكنَيْن، فبأيِّ حركةٍ حُرِّك الأولُ حَصَلَ الغَرَضُ» . قلت: إلاَّ أنَّ الأصلَ الكسرُ لدليلٍ ذكره النحويون. و «الليلَ» ظرفٌ للقيامِ، وإن استغرقه الحَدَثُ الواقعُ فيه. هذا قولُ البصريين، وإمَّا الكوفيُّون فيجعلون هذا النوعَ مفعولاً به. /

3

قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ} : للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها. وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى. اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» بدلُ بعضٍ من كلٍ. و «إلاَّ قليلاً» استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ. والضميرُ في «مِنْه» و «عليه» عائدٌ على النصفِ.

والمعنى: التخييرُ بين أمرَيْنِ: بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن، وهما: النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه، قاله الزمخشريُّ: وقد ناقَشَه الشيخ: بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ: قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل. قال: «وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه» . قلت: الوجهُ فيه إشكالٌ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ، بل لمعنىً آخرَ [سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله] . وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال: «والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال:» وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال: «أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه» ، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ. فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ: قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ «. قلت: الجوابُ عنه: أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ: فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ: هو الثلثُ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ. ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال:» والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ، فالنقصانُ منه [لا يُعْقَل «] فأعاد الضميرَ على القليل، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ.

ولقائلٍ أن يقولَ: قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ: وذلك أنَّ قولَه:» قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً «بمعنى: انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ، وأنت إذا قلت: قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ، وقُمْ نصفَ الليل، أو انقُصْ من النصفِ، وجدتَهما بمعنىً. وفيه دقةٌ فتأمَّلْه، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ، فقد عَرَفْتَ ما فيه. ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال:» نصفَه «بدلٌ من» الليل «و» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من النصفِ. والضميرُ في» منه «و» عليه «عائدٌ للنصف. المعنى: قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ، أو زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن، فكأنَّه قال: قُمْ ثلثَيْ الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه» . قلت: والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً. الثاني: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً» ، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية. قال الزمخشريُّ: «وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ» نصفَه «بدلاً مِنْ» قليلاً «، وكان تخييراً بين ثلاثٍ: بين قيامِ النصفِ بتمامِه، وبين قيامِ الناقصِ منه، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وإنما

وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ» . قلت: وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من «الليل» كما تقدَّمَ. إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال: «وإذا كان» نصفَه «بدلاً مِنْ» إلاَّ قليلاً «فالضميرُ في» نصفَه «: إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه، وهو» الليلَ «، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ: إلاَّ قليلاً نصفَ القليل، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً البتةَ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من» الليل «، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس: قُمِ الليلَ نصفَه. وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال:» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من البدلِ، وهو» نصفَه «، وأنَّ التقديرَ: قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه، أي: من النصفِ. وأيضاً: ففي دَعْوى أنَّ» نصفَه «بدلٌ مِنْ» إلاَّ قليلاً «والضميرُ في» نِصفَه «عائدٌ على» الليل «، إطلاقُ القليلِ على النصفِ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ: إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً» . قلت: نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما، ولا يَلْزَمُ محذورٌ. أمَّا ما ذكره: مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ،

والليل، فليس بمجهولٍ. وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ. قال تعالى: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] . وقال تعالى: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 249] وكان حقُّه أَنْ يقولَ: لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ. وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت: أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ. وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ. وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ. ووجهُ الدلالةِ على الأولِ: أنَّه جَعَلَ «قليلاً» مستثنى من «الليل» ، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل: قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه. ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني: أنَّه عَطَفَ «أو زِدْ عليه» على «انقُصْ منه» فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ الضميرَ في «مِنْه» ، وفي «عليه» عائدٌ على النصفِ. وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ، وهو نظيرُ أَنْ تقول: «له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً» فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه. الثالث: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في «منه» و «عليه» عائدٌ على الأقلِّ من النصف. وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: «وإنْ شِئْتَ قلت: لَمَّا كان معنى {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ} إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من» الليل «: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل، رَجَعَ الضميرُ في» منه «و» عليه «إلى الأقلِّ من النصفِ، فكأنه

قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ» . الرابع: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً» كما تقدَّمَ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال: «ويجوز إذا أَبْدَلْتَ» نصفَه «مِنْ» قليلاً «وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ» قليلاً «الثاني بمعنى نصفِ النصفِ، بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفَه، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع، كأنه قيل: أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه. ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع» انتهى. وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله. ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال: «وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ» . قلت: وما ضَرَّ الشيخَ لو قال: وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!! . الخامس: أَنْ يكونَ «إلاَّ قليلاً» استثناءً مِنْ القيامِ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال: «إلاَّ قليلاً» أي: إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه: وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ، قاله ابنُ عطية، احتمالاً مِنْ عندِه. وفي عبارته: «التي تُخِلُّ بقيامِها» فأَبْدَلْتُها: «التي تَتْرُكُ قيامَها» . وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ، وتأويلٌ بعيدٌ. السادس: قال الأخفش: «إنَّ الأصل: قُم الليلَ إلاَّ قليلاً

أو نصفَه، قال:» كقولك: أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً «. أي: أو درهمَيْن أو ثلاثةً «. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم:» أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً «. وقول الآخر: 4364 - كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا ... يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم أي: لحماً وسمكاً وتمراً، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ. وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء. السابع: قال التبريزيُّ:» الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به، فكأنه قال: قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً، أي: ما دونَ نصفِه، أو زِدْ عليه، أي: على الثلثَيْنِ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن «وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ. الثامن: أنَّ» نصفَه «منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/، أي: قُمْ نصفَه، حكاه مكيٌّ عن غيرِه، فإنَّه قال:» نصفَه بدلٌ من «الليل» وقيل: انتصبَ على إضمارِ: قُمْ نصفَه «. قلت: وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ.

5

قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي} : هذه الجملةُ مستأنفةٌ. وقال

الزمخشري: «وهذه الآيةُ اعتراضٌ» . ثم قال: «وأراد بهذا الاعتراضِ أنَّ ما كُلِّفَهُ مِنْ قيامِ الليلِ مِنْ جُملةِ التكاليفِ الثقيلةِ الصعبةِ التي وَرَدَ بها القرآنُ؛ لأنَّ الليلَ وقتُ السُّباتِ والراحةِ والهدوءِ، فلا بُدَّ لِمَنْ أحياه مِنْ مُضادَّةٍ لطَبْعِه ومجاهدةٍ لنَفْسِه» . انتهى. يعني بالاعتراضِ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ؛ وذلك أنَّ قولَه: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ} مطابِقٌ لقولِه: {قُمِ الليل} فكأنه شابَهَ الاعتراضَ من حيث دُخولُه بين هذَيْن المتناسِبَيْنِ.

6

قوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل} : في الناشئةِ أوجهٌ، أحدها: أنها صفةٌ لمحذوفٍ، أي: النفسَ الناشئةَ بالليلِ التي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِها، للعبادة، أي: تَنْهَضُ وترتفعُ. مِنْ نَشَأَتِ السحابةُ: إذا ارتفعَتْ. ونَشَأ مِنْ مكانِه ونَشَز: إذا نَهَضَ قال: 4365 - نَشَأْنا إلى خُوْصٍ بَرَى نَيَّها السُّرى ... وأَشْرَف منها مُشْرِفاتِ القَماحِدِ والثاني: أنَّها مصدرٌ بمعنى قيامِ الليل، على أنها مصدرٌ مِنْ نَشَأَ، إذا قام ونَهَضَ، فتكونُ كالعافية، قالهما الزمخشري. الثالث: أنها بلغةِ الحبشةِ، نَشَأَ الرجلُ: أي قامَ من الليل. قال الشيخ: «فعلى هذا هي جمعُ ناشِىء، أي: قائِم» ، أي: قائِم «. قلت: يعني أنها صفةٌ.

لشيءٍ يُفْهِمُ الجَمْعُ، أي: طائفةً أو فِرْقةً ناشئِةً، وإلاَّ ففاعلٌ لا يُجْمَعُ على فاعِلة. الرابع: أنَّ» ناشئة الليل «ساعاتُه؛ لأنها تَنْشَأ شيئاً بعد شيء. وقَيَّدها ابنُ عباس والحسنُ بما كان بعد العِشاء، وما كان قبلَها فليسَ بناشئةٍ. وخَصَّصَتْها عائشةُ رضي الله عنها بمعنىً آخرَ: وهو أَنْ يكونَ بعد النومِ، فلو لم يتقدَّمْها نومٌ لم تكُنْ ناشئةً. قوله: {وَطْأً} قرأ أبو عمروٍ وابنُ عامر بكسرِ الواو وفتح الطاءِ بعدَها ألفٌ. والباقون بفتح الواو وسكون الطاء. وقرأ قتادةُ وشبلٌ عن أهل مكة» وِطْئاً «. وظاهرُ كلامِ أبي البقاءِ يُؤْذِنُ أنه قُرِىء بفتحِ الواو مع المدِّ فإنه قال:» وِطاء بكسرِ الواو بمعنى: مُواطَأَة، وبفتحها اسمٌ للمصدر، و «وَطْئاً» على فَعْل، وهو مصدرٌ وَطِىءَ «فالوِطاءُ مصدرُ واطَأَ كقِتال مصدرِ قاتَل. والمعنى: أنها أشدُّ مواطَأةً، أي: يُواطِىءُ قلبُها لسانَها، إنْ أَرَدْتَ النفسَ، أو يُواطىء فيها قَلْبُ القائمِ لسانَه، إنْ أَرَدْتَ القيامَ أو العبادةَ أو الساعاتِ، أو أشدُّ موافقةً لِما يُراد من الخُشوعِ والإِخلاصِ، والوَطْءُ بالفتح أو الكسرِ على معنى: أشدُّ ثَباتَ قَدَمٍ وأَبْعدُ مِن الزّلَلِ، أو أثقلُ وأغلظُ مِنْ صلاةِ النهارِ على المصلِّي، من قولِه

عليه السلام:» اللهم اشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ «وعلى كلِّ تقدير فانتصابُه على التمييز. قوله: {وَأَقْوَمُ} حكى الزمخشري:» أنَّ أَنَساً قرأ «وأَصْوَبُ قِيلاً» فقيل له: يا أبا حمزةَ إنما هي: وأقومُ!! «فقال:» إِنَّ أَقْوَمَ وأَصْوَبَ وأَهْيَأ واحدٌ «وأنَّ أبا سرار الغَنَوِيَّ قرأ» فحاسُوا خلالَ الديارِ «بالحاءِ المهمةِ فقيل له: هي بالجيم. فقال: حاسُوا وجاسُوا واحدٌ» . قلت: له غَرَضٌ في هاتَيْن الحكايَتَيْن، وهو جوازُ قراءةِ القرآنِ بالمعنى، وليس في هذا دليلٌ؛ لأنه تفسيرُ معنىً. وأيضاً فما بَيْنَ أيدينا قرآنٌ متواترٌ، وهذه الحكايةُ آحادٌ. وقد تقدَّم أنَّ أبا الدرداءِ كان يُقرِىءُ رجالاً {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} [الدخان: 44] فجعل الرجلُ يقول: اليتيم. فلمَّا تَبَرَّم به قال: طعامُ الفاجرِ يا هذا. فاستَدَلَّ به على ذلك مَنْ يَرَى جوازَه. وليس فيه دليلٌ؛ لأنَّ مقصودَ/ أبي الدرداءِ بيانُ المعنى، فجاء بلفظٍ مبينٍ.

7

قوله: {سَبْحَاً} : العامَّةُ على الحاء المهملة وهو مصدرُ سَبَحَ، وهو استعارةٌ، استعارَ للتصرُّفِ في الحوائجِ السِّباحةَ في الماءِ، وهي البُعْدُ فيه. وقرأ يحيى بن يعمر وعكرمة وابنُ أبي عبلة سَبْخاً «بالخاء المعجمةِ. واختلفوا في تفسيرِها، فقال الزمخشري:»

استعارةً مِنْ سَبْخِ الصُّوفِ: وهو نَفْشُه ونَشْرُ أجزائِه لانتشارِ الهَمِّ وتفرُّقِ القلبِ بالشواغل. وقيل: التَّسبيخُ: التخفيفُ، حكى الأصمعيُّ: سَبَخَ الله عَنَك الحُمَّى، أي: خَفَّفَها عنك. قال الشاعر: 4366 - فَسَبِّخْ عليكَ الهَمَّ واعلمْ بأنَّه ... إذا قَدَّرَ الرحمنُ شيئاً فكائِنُ أي: خَفِّفَ. ومنه «لا تُسَبِّخي بدُعائِك» ، أي: لا تُخَفِّفي. وقيل: التَّسْبيخ: المَدُّ. يقال: سَبِّخي قُطْنَكِ، أي: مُدِّيه، والسَّبيخة: قطعة من القطن. والجمعُ سبائخُ. قال الأخطل يصف صائِداً وكلاباً: 4367 - فأَرْسَلوهُنَّ يُذْرِيْنَ الترابَ كما ... يُذْرِيْ سبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوتارِ وقال أبو الفضل الرازي: «وقرأ ابن يعمرَ وعكرمة» سَبْخاً «بالخاء معجمةَ وقالا: معناه نَوْماً، أي: يَنامُ بالنهار ليَسْتعينَ به على قيام الليل. وقد تحتمِلُ هذه القراءةُ غيرَ هذا المعنى، لكنهما فَسَّراها فلا تَجاوُزَ عنه» . قلت: في هذا نظرٌ؛ لأنهما غايةُ ما في البابِ أنَّهما نقلا هذه القراءةَ، وظَهَرَ لهما تفسيرُها بما ذكرا، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلك أنَّه لا يجوزُ غيرُ ما ذَكَرا مِنْ تفسيرِ اللفظة.

8

قوله: {تَبْتِيلاً} : مصدرٌ على غير الصدرِ وهو واقعٌ

موقعَ التَّبَتُّل؛ لأنَّ مصدرَ تَفَعَّل نحو: تَصَرَّفَ تَصَرُّفاً، وتكرَّمَّ تكرُّماً. وأمَّا التفعيلُ فمصدرُ فَعَّل نحو: صَرَّف تَصْرِيفاً. ومثلُه قولُ الشاعر: 4367 - وقد تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الحِضْبِ ... فأوقعَ الانفعالَ مَوْقِعَ التَّفَعُّل. قال الزمخشري: «لأنَّ معنى تَبَتَّل:» بَتَّلَ نفسَه، فجيْءَ به على معناه مراعاةً لحَقِّ الفواصِل «. والتبتُّل: الانقطاعُ. ومنه» امرأة بتولٌ «، أي: انقطَعَتْ عن النِّكاحِ، وبَتَلْتُ الحَبْلَ: قَطَعْتُه. قال الليث: البَتْلُ: تمييزُ الشيءِ من الشيءِ. وقالوا:» طَلْقَةٌ بَتْلَةٌ «، و» هِبَةٌ بَتْلَةٌ «يعنونَ انقطاعها عن صاحبِها، فالتبتيلُ تَرْكُ النِّكاحِ، والزهدُ فيه. والمرادُ به في الآيةِ الكريمة الانقطاعُ إلى عبادةِ اللهِ تعالى دونَ تَرْكِ النكاحِ، وفي الحديث:» أنَّه نَهَى عن التبتُّل «، أي: الانقطاع عن النِّكاح، ومنه سُمِّي الراهبُ» مُتَبتِّلاً «لانقطاعِه عن النكاحِ. قال امرؤ القيس: 4368 - تُضِيْءُ الظلامَ بالعَشِيِّ كأنَّها ... منارةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ

9

قوله: {رَّبُّ المشرق} : قرأ الأخَوان وأبو بكر

وابن عامر بجرِّ «ربِّ المشرق» على النعت ل «ربِّك» أو البدلِ منه أو البيانِ له. وقال الزمخشري: «وعن ابن عباس على القَسَم بإضمارِ حرفِ القسمِ كقولك:» اللَّهِ لأفعلَنَّ «، وجوابُه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} كما تقول:» واللَّهِ لا أحدَ في الدار إلاَّ زيدٌ «قال الشيخ:» لعلَّ هذا التخريجَ لا يَصِحُّ عن ابن عباس؛ لأنَّ فيه إضمارَ الجارِّ، ولا يُجيزه البصريون إلاَّ مع لفظِ الجلالةِ المعظمةِ خاصةً، ولأن الجملةَ المنفيَّة في جوابِ القسم إذا كانَتْ اسميةً فإنما تُنْفَى ب «ما» وحدَها، ولا تُنْفَى ب «لا» إلاَّ الجملةُ المصدرةُ بمضارعٍ كثيراً، أو بماضٍ في معناه قليلاً، نحو قولِه: 4369 - رِدُوا فواللَّهِ لا ذُذْناكُمُ أبداً ... ما دام في مائنا وِرْدٌ لوُرَّادِ والزمخشريُّ أورد ذلك على سبيلِ التجويزِ والتسليمِ، والذي ذكره النحويُّون هو نفيُها ب «ما» كقوله: 4370 - لَعَمْرُك ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ ... ولا نَأْنَأٍ يومَ الحِفاظِ ولا حَصِرْ قلت: قد أطلق الشيخ جمالُ الدين بن مالك أنَّ الجملةَ المنفيَّةَ سواءً كانَتْ اسميةً أم فعلية تُتَلَقَّى ب «ما» أو «لا» أو «إنْ» بمعنى «ما» ، وهذا هو الظاهر.

وباقي السبعةِ برفعِه على الابتداءِ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أو على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: وهو رَبُّ. وهذا أحسنُ لارتباطِ الكلامِ بعضِه ببعضٍ. / وقرأ زيدُ بن عليٍّ «رَبَّ» بالنصبِ على المدحِ. وقرأ العامَّةُ «المَشْرِقِ والمغربِ» موحَّدتَيْن. وعبدُ الله وابن عباس «المشارِقِ والمغارِبِ» ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ «ربَّ» في قراءةِ زيد مِنْ وجَهْينِ آخرَيْنِ، أحدُهما: أنَّه بدلٌ مِنْ «اسمَ ربِّك» أو بيانٌ له، أو نعتٌ له، قاله أبو البقاء، وهذا يَجِيءُ على أن الاسمَ هو المُسمَّى. والثاني: أنه منصوبٌ على الاشتغالِ بفعلٍ مقدَّرٍِ، أي: فاتَّخِذْ ربَّ المشرِقِ فاتَّخِذْه، وما بينهما اعتراضٌ.

11

قوله: {والمكذبين} يجوزُ نصبُه على المعيَّةِ، وهو الظاهرُ، ويجوزُ على النَّسَقِ، وهو أوفقُ للصِّناعةِ. قول: {أُوْلِي النعمة} نعتٌ للمكَذِّبين. والنَّعْمَةُ بالفتح: التنعمُ، وبالكسرِ: الإِنعام، وبالضمِّ: المَسَرَّةُ. يقال: نُعْمُ ونُعْمَةُ عَيْنٍ. قوله: {قَلِيلاً} نعتٌ لمصدرٍ، أي: تَمْهيلاً، أو لظرفِ زمانٍ محذوفٍ، أي: زماناً قليلاً.

12

قوله: {أَنكَالاً} : جمعُ نِكْلٍ. وفيه قولان، أشهرُهما: أنه القَيْدُ. وقيل: الغُلُّ، والأولُ أَعْرَفُ. وقالت الخنساء:

4371 - دَعاكَ فَقَطَّعْتُ أنكالَهُ ... وقد كُنَّ مِنْ قبلُ لا تُقْطَعُ

13

قوله: {ذَا غُصَّةٍ} : الغُصَّةُ: الشَّجَى، وهو ما يَنْشَبُ في الحَلْقِ فلا يَنْساغُ. ويُقال: غَصَصْتَ بالكسرِ، فأنتَ غاصٌّ وغَصَّانُ قال: 4372 - لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كنتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري

14

قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ ب «ذَرْني» ، وفيه بُعْدٌ. والثاني: أنه منصوبٌ بالاستقرارِ المتعلِّقِ به «لَدَيْنا» . والثالث: أنه صفةٌ ل «عذاباً» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: عذاباً واقعاً يومَ تَرْجُفُ. والرابع: أنه منصوبٌ ب «أليم» . والعامَّةُ «تَرْجُفُ» بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ مبنياً للفاعلِ، وزيدُ بن علي يقرؤُه مبنياً للمفعولِ مِنْ أَرْجَفَها. قوله: {مَّهِيلاً} أصلُه مَهْيُول كمَضْروب، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياءِ فنُقِلَتْ إلى الساكن قبلَها، وهو الهاءُ، فالتقى ساكنان. فاختلف النحاةُ في العمل في ذلك: فسيبويه وأتباعُه حذفوا الواوَ، وكانَتْ أَوْلى بالحَذْفِ؛

لأنها زائدةٌ، وإنْ كانَتْ القاعدةُ أنَّ ما يُحْذَفُ لالتقاءِ الساكنَيْن الأولُ، ثم كَسَرُوا الهاءَ لتَصِحَّ الياءُ، ووزنُه حينئذٍ مَفِعْل. والكسائيُّ والفراء والأخفش حذفوا الياءَ؛ لأنَّ القاعدةَ في التقاءِ الساكنَيْنِ إذا احْتِيج إلى حَذْفِ أحدِهما حُذِفَ الأولُ وكان ينبغي على قولِهم أَنْ يُقال: فيه: مَهُوْل، إلاَّ أنَّهَم كَسَروا الهاءَ لأجلِ الياءِ التي كانَتْ، فقُلِبت الواوُ ياءً، ووزنُه حينئذٍ مَفُوْلاً على الأصلِ، ومَفِيلاً بعد القلب. قال مكي: «وقد أجازوا كلُّهم أَنْ يأتيَ على أصلِه في الكلامِ فتقول: مَهْيُوْل ومَبْيُوْع، وما أشبه ذلك مِنْ ذواتِ الياءِ. فإنْ كان مِنْ ذواتِ الواوِ لم يَجُزْ أَنْ يأتيَ على أصلِه عند البصريين، وأجازه الكوفيون نحو: مَقْوُوْل ومَصْوُوْغ، وأجازوا كلُّهم مَهُوْل ومَبُوْع على لغةِ مَنْ قال: بُوع المتاعُ، وقوُل القولُ، ويكونُ الاختلافُ في المحذوفِ منه على ما تقدَّم» . قلت: التتميمُ في مَبْيُوع ومَهْيُوْل وبابِه لغةُ تميم، والحَذْفُ لغةُ سائرِ العربِ. ويُقال: هِلْتُ الترابَ أَهيلُه هَيْلاً فهو مَهِيل. وفيه لغةٌ: أَهْلتُه رباعياً إهالةً فهو مُهال نحو: أبَعْتُه إباعَةً فهو مُباعٌ. والكثيبُ: ما اجتمع من الرَّمْل/ والجمعُ في القلَّة: أَكْثِبَة، وفي الكثرة: كُثْبان وكُثُب، كرَغِيف وأرْغِفَة ورُغْفان ورُغُفُ. قال ذو الرمة: 4373 - فقلت لها: لا إنَّ أهليَ جيرةٌ ... لأكثبةِ الدَّهْنا جميعاً وماليا والمَهيلُ: ما انهالَ تحت القَدَمَ، أي: انصَبَّ، مِنْ هِلْتُ الترابَ،

أي: طَرَحْتُه، قال الزمخشري: «مِنْ كَثَبْتُ الشيءَ إذا جَمَعْتَه، ومنه الكُثْبةُ من اللبن. قالت الضائنة: أُجَزُّ جُفالاً وأُحْلَبُ كُثَباً عِجالاً» .

16

قوله: {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} : إنما عَرَّفه لتقدُّمِ ذِكْرِه، وهذه أل العهديةُ، والعربُ إذا قَدَّمَتْ اسماً ثم حَكَتْ عنه ثانياً أَتَوْا به مُعَرَّفاً بأل، أو أَتَوْا بضميرِه لئلا يُلْبَسَ بغيرِه نحو: «رأيتُ رجلاً فأكرَمْت الرجلَ» أو فأَكْرَمْتُه، ولو قُلْتَ: «فأكرَمْتُ رجلاً» لَتَوَهَّمَ أنه غيرُ الأولِ، وسيأتي تحقيقُ هذا عند قولِه تعالى: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 6] وقولِه عليه السلام: «لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن» .

17

قوله: {يَوْماً} : منصوبٌ إمَّا ب «تَتَّقُون» على سبيلِ المفعولِ به تجوَّزاً. وقال الزمخشري: «يوماً» مفعولٌ به، أي: فكيف تَقُوْنَ أنفسَكم يومَ القيامةِ وهَوْلَه إنْ بَقِيْتُمْ على الكفرِ؟ «. وناقشه الشيخُ فقال:» وتَتَّقون مضارعُ اتَّقى، واتَّقى ليس بمعنى وَقَى حتى يُفَسِّرَه به، واتقَّى يتعدَّى إلى واحدٍ، ووَقَى يتعدَّى إلى اثنين. قال تعالى: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم} [الدخان: 56] . ولذلك قَدَّره الزمخشريُّ ب تَقُون أنفسَكم، لكنه ليس «تَتَّقون» بمعنى يَقُوْن، فلا يُعَدَّى تَعْديَتَه «انتهى.

ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ، أي: فكيف لكم بالتقوى يومَ القيامة، إنْ كَفَرْتُمْ في الدنيا؟ قاله الزمخشريُّ. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب» كَفَرْتُمْ «إذا جُعِل» كَفَرْتُمْ «بمعنى جَحَدْتُم، أي فكيف تَتَّقون اللَّهَ وتَخْشَوْنه إنْ جَحَدْتُمْ يومَ القيامةِ؟ ولا يجوزُ أن ينتصِبَ ظرفاً، لأنهم لا يكفرون ذلك اليومَ؛ بل يُؤْمِنون لا محالةَ. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الجارِّ، أي: إن كفرتُمْ بيومِ القيامةِ. والعامَّةُ على تنوين» يوماً «وجَعْلِ الجملةِ بعده نعتاً له. والعائدُ محذوفٌ، أي: يَجْعل الوِلْدانَ فيه. قاله أبو البقاء ولم يتعرَّضْ للفاعلِ في» يَجْعَلُ «، وهو على هذا ضميرُ الباري تعالى، أي: يوماً يجعلُ اللَّهُ فيه. وأحسنُ مِنْ هذا أَنْ يُجْعَلَ العائدُ مضمراً في» يَجْعَلُ «هو فاعلَه، وتكون نسبةُ الجَعْلِ إلى اليومِ من بابِ المبالغةِ، أي: نفسُ اليوم يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيْبا. وقرأ زيدُ بنُ عليّ» يومَ يَجْعَلُ «بإضافةِ الظرفِ للجملة. والفاعلُ على هذا هو ضميرُ الباري تعالى. والجَعْلُ هنا بمعنى التصيير ف» شِيْباً «مفعولٌ ثانٍ، وهو جمعُ أَشْيَب. وأصلُ الشينِ الضمُّ فكُسِرَتْ لتصِحَّ الياءُ نحو: أحمر وحُمْر. قال الشاعر: 4374 - مِنَّا الذي هُوَ ما إنْ طُرَّ شارِبُه ... والعانِسُون ومنا المُرْدُ والشِّيْبُ

وقال آخر: 4375 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لَعِبْنَ بنا شِيْباً وشَيَّبْنَنا مُرْدا

18

قوله: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} : صفةٌ أخرى، أي: مُتَشَقِّقة بسبب هَوْلِه: وإنما لم تُؤَنَّثِ الصفةُ لأحدِ وجوهٍ منها: تأويلُها بمعنى السَّقْفِ. ومنها: أنها على النَّسَبِ أي: ذات انفطارٍ نحو: مُرْضِعٍ وحائضٍ. ومنها: أنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ: أنشد الفراء: 4376 - ولو رَفَعَ السَّماء إليه قوماً ... لَحِقْنا بالسَّماءِ وبالسَّحابِ ومنها: أنَّها اسمُ جنسٍ يُفْرَّقُ بينه وبين واحدِه بالتاءِ فيقال: سَماءة وقد تقدَّم أنَّ في اسم/ الجنسِ والتذكيرَ والتأنيثَ؛ ولهذا قال الفارسي: «هو كقولِه: {جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] {الشجر الأخضر} [يس: 80] و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] يعني فجاء على أحد الجائزَيْن. والباءُ فيه سببيَّةٌ كما تقدَّم. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ للاستعانةِ، فإنه قال:» والباءُ في «به» مِثْلُها في قولِك: «فَطَرْتُ العُوْدَ بالقَدُومِ فانْفَطر به» . قوله: {وَعْدُهُ} يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى، وإنْ لم يَجْرِ له

ذِكْرٌ للعِلْمِ به، فيكونُ المصدرُ مضافاً لفاعلِه. ويجوزُ أَنْ يكونَ لليومِ، فيكونَ مضافاً لمفعولِه. والفاعلُ وهو اللَّهُ تعالى مُقَدَّرٌ.

20

قوله: {مِن ثُلُثَيِ الليل} : العامَّةُ على ضَمِّ اللامِ، وهو الأصلُ كالرُّبُعِ والسُّدُسِ، وقرأ هشام بإسكانِها تخفيفاً. قوله: {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} قرأ الكوفيون وابن كثير بنصبِهما، والباقون بجرِّهما. وفي الجرِّ إشكالٌ كما سيأتي. فالنصبُ نَسَقٌ على «أَدْنى» لأنه بمعنى: وَقْتٌ أَدْنى، أي: أقربُ. اسْتُعير الدنُوُّ لقُرْبِ المسافةِ في الزمانِ وهذا مطابقٌ لِما في أولِ السورةِ من التقسيمِ: وذلك أنَّه إذا قام أَدْنَى مِنْ ثُلُثي الليلِ صَدَقَ عليه أنه قام الليلَ إلاَّ قليلاً؛ لأنَّ الزمانَ الذي لم يَقُمْ فيه يكون الثلث وشيئاً من الثلثَيْن، فيَصْدُقُ عليه قولُه: «إلاَّ قليلاً» . وأمَّا قولُه «ونِصْفَه» فهو مطابقٌ لقولِه أولاً «نِصْفَه» وأمَّا قولُه: «وثُلُثَه» فإنَّ قولَه: {أَوِ انقص مِنْهُ} قد ينتهي النَّقْصُ في القليل إلى أن يكونَ الوقتُ ثلثي الليلِ. وأمَّا قولُه: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} فإنَّه إذا زاد على النصفِ قليلاً كان الوقتُ أقلَّ مِنَ الثلثَيْن. فيكونُ قد طابق أدْنى مِنْ ثلثي الليل، ويكون قولُه تعالى: {نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً} شَرْحاً لمُبْهَمِ ما دَلَّ عليه قولُه: {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً} . وعلى قراءةِ النصبِ فَسَّر الحسنُ «تُحْصُوه» بمعنى تُطيقوه. وأمَّا قراءةُ الجرِّ فمعناها: أنه قيامٌ مُخْتَلِفٌ: مرةً أدنى من الثلثين،

ومرةً أَدْنى من النصفِ، ومرةً أَدْنى من الثلثِ؛ وذلك لتعذُّرِ معرفةِ البشرِ بمقدارِ الزمانِ مع عُذْر النومِ. وقد أوضح هذا كلَّه الزمخشريُّ فقال: «وقُرِىء نصفَه وثلثَه بالنصبِ على أنك تقومُ أقلَّ من الثلثين، وتقومُ النصفَ والثلثَ وهذا مطابِقٌ لِما مَرَّ في أولِ السورةِ من التخيير: بين قيامِ النصفِ بتامِه، وين قيام الناقصِ منه، وهو الثلثُ، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وهو الأَدْنَى من الثلثَيْن. وقُرِىء بالجرِّ، أي: تقومُ أقلَّ من الثلثَيْن وأقلَّ من النصفِ والثلثِ، وهو مطابقٌ للتخييرِ بين النَّصْفِ وهو أَدْنى من الثلثين والثلثِ وهو أَدْنى من النصفِ والرُّبُع وهو أَدْنى من الثلثين والثلثِ وهو أَدْنى من النصفِ والرُّبُع وهو أدنى من الثلث وهو الوجهُ الأخيرُ» انتهى. يعني بالوجهِ الأخير ما قَدَّمه أولَ السورة من التأويلات. وقال أبو عبد الله الفاسي: «وفي قراءةِ النصب إشكالٌ، إلاَّ أَنْ يُقَدَّر: نصفَه تارةً، وثلثَه تارةً، وأقلَّ من النصفِ والثلثِ تارةً، فيَصِحَّ المعنى» . قوله: {وَطَآئِفَةٌ} رُفع بالعطفِ على الضميرِ في «يقومُ» ، وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالظرفِ وما عُطِفَ عليه. قوله: {والله يُقَدِّرُ الليل} . قال الزمخشري: «وتقديمُ اسمِه عزَّ وجلَّ مبتدأً مبنيَّاً عليه» يُقَدِّرُ «هو الدالُّ على معنى الاختصاصِ بالتقديرِ» . ونازعه الشيخُ في ذلك فقال: «لو قيل:» زيدٌ يحفظُ

القرآن «لم يَدُلَّ ذلك على اختصاصِه» . وجَعَلَ الاختصاصَ في الآيةِ مفهوماً من السِّياقِ لا ممَّا ذكره. قوله: {أَنْ لَنْ} و «أَنْ سيكونُ» كلاهما مخففةٌ من الثقيلة، والفاصلُ النفيُ وحرفُ التنفيسِ. قوله: {وَآخَرُونَ} / عطفٌ على «مَرْضَى» ، أي: عَلِم أَنْ سيوجَدُ منكم قومٌ مَرْضى وقومٌ آخرون مسافرون. ف «يَضْرِبون» نعتٌ ل «آخرون» وكذلك «يَبْتَغون» . ويجوزُ أَنْ يكونَ «يَبْتَغون» حالاً مِنْ فاعل «يَضْرِبون» ، و «آخرون» عطفٌ على «آخرون» و «يقاتِلون» صفتُه. قوله: {هُوَ خَيْراً} العامَّةُ على نصب الخير، مفعولاً ثانياً. وهو: إمَّا تأكيدٌ للمفعولِ الأولِ أو فَصْلٌ. وجَوَّزَ أبو البقاء أن يكونَ بدلاً، وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه كان يَلْزَمُ أن يطابقَ ما قبلَه في الإِعرابِ فيقال: إياه. وقرأ أبو السَّمَّال وابن السَّمَيْفَع «خيرٌ» على أن يكونَ «هو» مبتدأً، و «خيرٌ» خبرُه. والجملةُ مفعولٌ ثانٍ ل «تَجِدوه» . قال أبو زيد: «هي لغةُ تميم، يرفعون ما بعد الفصل» وأنشد سيبويه: 4377 - تَحِنُّ إلى ليلى وأنتَ تركتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أَقْدَرُ والقوافي مرفوعةٌ. ويُرْوَى «أقْدَارا» بالنصب. قال الزمخشري:

و «هو فصْلٌ» وجاز وإنْ لم يَقَعْ بينَ معرفتَيْن لأنَّ «أَفْعَلَ مِنْ» أشْبَهَ في امتناعِه من حرفِ التعريف المعرفةَ «. قلت: هذا هو المشهورُ. وبعضُهم يُجَوِّزه في غيرِ أفعلَ من النكراتِ.

المدثر

قوله: {المدثر} : العامَّةُ على تشديدِ الدالِ وكسرِ الثاءِ، اسمَ فاعلٍ من تَدَثَّر. وأصلُه المُتَدَثِّر، فأُدْغِم كالمُزَّمِّل. وفي حرفِ أُبَيّ «المُتَدثِّرُ» على الأصل المُشارِ إليه. وقرأ عكرمةُ بتخفيفِ الدالِ اسمَ فاعلٍ، مِنْ دَثَّر بالتشديد، ويكون المفعولُ محذوفاً أي: المُدَثِّر نفسَه كما تقدَّمَ في «المُزَمِّل» . وعنه أيضاً فَتْحُ الثاءِ لأنه اسمُ مفعولٍ. قال الزمخشري: «مِنْ دَثَّره. يُقال: دُثِّرْتُ هذا الأمرَ، وعُصِبَ بك كما قال في المُزَمَّل» انتهى. ومعنى «تَدَثَّر» لَبِسَ الدَّثارَ، وهو الثوبُ الذي فوق الشِّعار، والشِّعارُ ما يلي الجسَدَ. وفي الحديث: «الأَنْصارُ شِعارٌ والناسُ دِثارٌ» وسيفٌ داثِرٌ: بعيد العَهْدِ بالصِّقال. ومنه: قيل للمنزلِ الدارسِ: «داثِر» لِذَهابِ أعلامِه. وفلانٌ دَثْرُ المالِ أي: حَسَنُ القيام به.

2

قوله: {قُمْ} : إمَّا أَنْ يكونَ من القيامِ المعهودِ، وإمَّا مِنْ قام بمعنى: الأَخْذِ في القيام، كقولِه:

4378 - فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسَيْفِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقول الآخر: 4379 - على ما قام يَشْتِمُني لَئيمٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في أحدِ القولَيْنِ. والقولُ الآخرَ: أن «قام» مزيدةٌ وفي جَعْلِها بمعنى الأخذ في القيامِ نظرٌ؛ لأنه حينئذٍ يَصيرُ مِنْ أخوات «عَسَى» فلا بُدَّ له مِنْ خبرٍ يكونُ فعلاً مضارعاً مجرَّداً مِنْ «أَنْ» . قوله: {فَأَنذِرْ} مفعولُه محذوفٌ. أي: أنذِرْ قومَك عذابَ اللَّهِ. والأحسنُ أَنْ لا يُقَدَّرَ له مفعولٌ أي: أَوْقعْ الإِنذارَ.

3

قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} : قَدَّم المفعولَ وكذا ما بعده إيذاناً بالاختصاص عندَ مَنْ يرى ذلك، أو للاهتمام به، قال الزمخشري: «واختُصَّ» ربَّك «بالتكبير» ثم قال: ودَخَلَتِ الفاءُ لمعنى الشرطِ. كأنه قيل: وما كان فلا تَدَعْ تكبيرَه «. قلت: قد تقدَّم الكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ عند قولِه: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] أولَ البقرة. قال الشيخ:» وهو قريبٌ مِمَّا قَدَّره النحاةُ في قولِك: «زيداً فاضْرِب» قالوا: تقديرُه: تنبَّهْ فاضرِبْ زيداً. والفاءُ هي جوابُ الأمرِ. وهذا الأمرُ: إمَّا مُضَمَّنٌ معنى الشرط، وإمَّا الشرطُ محذوفٌ على الخلافِ الذي فيه عند النحاة «.

5

وقرأ حفص «والرُّجْزَ» بضمِّ الراء، والباقون بكسرِها، فقيل: لغتان بمعنىً. وعن أبي عبيدةَ: «الضمُّ أفشَى اللغتَيْن، وأكثرُهما» . وقال مجاهد: «هو بالضمِّ اسمُ صَنَمٍ، ويُعزَى للحسنِ البصري أيضاً، وبالكسر اسمٌ للعذابِ. وعلى تقديرِ كونِه العذابَ فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي: اهُجرْ أسبابَ العذابِ المؤدِّيةِ إليه، أو لإِقامةِ المُسَبَّبِ مُقامَ سببِه، وهو مجازٌ شائع.

6

قوله: {وَلاَ تَمْنُن} : العامَّةُ على فَكِّ الإِدغام. والحسن وأبو السَّمَّال بالإِدغام. قد تَقَدَّم أنَّ المجزومَ/ والموقوفَ من هذا النوع يجوزُ فيهما الوجهانِ، وقد تقدَّم تحقيقُه في المائدة عند {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ} [المائدة: 54] . والمشهور أنه من المَنِّ، وهو الاعتدادُ على المُعْطي بما أعطاه. وقيل: «لا تَضْعُفْ» مِنْ قولِهم: حبلٌ مَنينٌ أي: ضعيفٌ. قوله: {تَسْتَكْثِرُ} العامَّةُ على رفعِه، وفيه وجهان، أحدهما: أنه في موضع الحالِ أي: لا تَمْنُنْ مُسْتَكْثِراً ما أعطَيْتَ. وقيل: معناه: لِتَأْخُذْ أكثرَ مِمَّا أَعْطَيْتَ. والثاني: أنَّه على حَذْفِ «أَنْ» يعني أنَّ الأصلَ: ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ، فلمَّأ حُذِفَتْ «أَنْ» ارتفع الفعلُ كقولِه: 4380 - ألا أيُّهذا الزَّاجري أَحْضُرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في إحدى الروايَتَيْن، قاله الزمخشري، ولم يُبَيِّنْ: ما محلُّ «أَنْ» وما في حَيِّزها. وفيه وجهان، أظهرهما وهو الذي يُريده هو أنَّها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلافِ فيها بعد حَذْفِ حرف الجر، وهو هنا لامُ العلة تقديرُه: ولا تَمْنُنْ لأَنْ تَسْتكْثِرَ. والثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ فقط مفعولاً بها أي: لا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتكْثِرَ. من الخير، قاله مكي، وقد تَقَدَّم لك أنَّ «تَمْنُنْ» بمعنى تَضْعُف، وهو قولُ مجاهدٍ، إلاَّ أنَّ الشيخَ قال بعد كلامِ الزمخشريِّ: «وهذا لا يجوزُ أن يُحملَ القرآنُ عليه؛ لأنَّ ذلك لا يجوزُ إلاَّ في الشعرِ، ولنا مَنْدوحة عنه مع صحةِ معنى الحالِ» قلت: قد سبقه مكيٌّ وغيرُه إلى هذا. وأيضاً فقولُه: «في الشعر» ممنوعٌ؛ هؤلاء الكوفيون يُجيزون ذلك وأيضاً فقد قرأ الحسن والأعمش «تَسْتَكْثِرَ» نصباً، وهو على إضمار «أَنْ» كقولهم: «مُرْهُ يَحْفِرَها» وأَبلَغُ مِنْ ذلك التصريحُ بأنْ في قراءةِ عبد الله: «ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ» . وقرأ الحسنُ أيضاً وبانُ أبي عبلة «تستكثِرْ» جزماً، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أَنْ يكونَ بدلاً من الفعلِ قبله، كقولِه تعالى: {يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ} [الفرقان: 68 - 69] ف «يُضاعَفْ» بدلٌ مِنْ «يَلْقَ» وكقولِه:

4381 - مَتى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجا ويكونُ من المَنِّ الذي في قولِه: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} [البقرة: 264] الثاني: أن يُشَبَّه (ثِرْوَ) ب «عَضُد» فيُسَكَّنَ تخفيفاً، قاله الزمخشري، يعني أنه تَأْخُذُ من مجموعِ «تَسْتكثر» ومن الكلمةِ بعده وهو الواوُ ما يكون فيه شبيهاً ب «عَضُد» . ألا ترى أنه قال: «أنْ يُشَبَّه ثِرْوَ» فأخذ بعضَ «تَسْتكثر» وهو الثاءُ والراءُ وحرفَ العطفِ مِنْ قولِه: {ولربِّك فاصبِرْ} . وهذا كما قالوا في قولِ امرِىء القيس: 4382 - فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إثماً من الله ولا واغلِ بتسكين «أَشْرَبْ» : إنهم أخذوا من الكلمتين (رَبْغ) ك عَضُد، ثَم سُكِّن. وقد تقدَّم في سورةِ يوسف في قراءة قنبل {مَن يَتَّقِي} [يوسف: 90] بثبوت الياءِ أنَّ «مَنْ» موصولةٌ، فاعْتُرِض بجزم «يَصْبِرْ» فأجيب: بأنه شبه (بِرُف) أخذوا الباءَ والراءَ مِنْ «يَصْبر» ، والفاءَ مِنْ «فإنَّ» وهذا نظيرُ تيْكَ سواءً. الوجه الثالث أَنْ يُعْتَبَرَ حالُ الوقفِ ويُجْرَى الوصلُ مُجْراه، قاله الزمخشريُّ أيضاً، يعني أنه مرفوعٌ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، أو أُجْري

الوصلُ مُجْرى الوقف. قال الشيخ: «وهذان لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ عليهما مع وجودِ أرجحَ منهما، وهو البدل» . قلت: الحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، كيف يُعْدَلُ إلى هذَيْن الوجهَيْن مع ظهورِ البدلِ معنىً وصحةً وصناعةً؟

7

قوله: {وَلِرَبِّكَ فاصبر} : التقديمُ على ما تَقَدَّم، وحَسَّنه كونُه رأسَ فاصلةٍ مُؤاخياً لِما تقدَّمه. و «لربِّك» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ لامَ العلةِ أي: لوجهِ ربِّك فاصبِرْ على أذى الكفارِ وعلى عبادةِ ربِّك، وعن كلِّ ما لا يَليقُ، فتُرِك المصبورُ عليه والمصبورُ عنه للعلم بهما. والأحسنُ أَنْ لا يُقَدَّرَ شيءٌ خاصٌّ بل شيءٌ عامٌّ. والثاني: أن يُضَمَّنَ «اصْبِرْ» معنى: اذْعَنْ لربِّك وسَلِّمْ له أمرَك صابراً، كقوله: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} [القلم: 48] .

8

قوله: {فَإِذَا نُقِرَ} : قال الزمخشريُّ: «والفاءُ/ في قولِه:» فإذا نُقِرَ «للتسبيب، كأنه قيل: اصبِرْ على أَذاهم، فبينَ أيديهم يومٌ عَسيرٌ يَلْقَوْن فيه [عاقبةَ] أذاهم، وتَلْقَى فيه عاقبةَ صبرِك عليه. والفاء في» فذلك «للجزاء» . قلت: يعني أنَّ الفاءَ في «فذلك» جزاءٌ للشرطِ في قولِه: «فإذا نُقِرَ» . وفي العامل في «إذا» أوجهٌ، أحدُها: أنَّها متعلِّقةٌ ب «أَنْذِرْ» أي: أَنْذِرْهم إذا نُقِر في النَّاقور، قاله الحوفيُّ. وفيه نظرٌ: من حيث إنَّ الفاءَ تمنعُ مِنْ ذلك، ولو أرادَ تفسيرَ المعنى لكان سهلاً، لكنه في مَعْرِضِ تفسيرِ الإِعراب لا تفسيرِ المعنى.

الثاني: أن ينتصِبَ بما دَلَّ عليه قولُه: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} . قال الزمخشري: «فإنْ قلت: بم انتصَبَ» إذا «، وكيف صَحَّ أَنْ يقع» يومئذٍ «ظرفاً ل» يومٌ عَسير «؟ قلت: انتصَبَ» إذا «بما دَلَّ عليه الجزاءُ؛ لأنَّ المعنى: فإذا نُقِر في النَّاقور عَسُرَ الأمرُ على الكافرين. والذي أجاز وقوعَ يومئذٍ ظرفاً ل» يومٌ عسيرٌ «أنَّ المعنى: فذلك يومَ النَّقْرِ وقوعُ يوم عسيرٍ؛ لأنَّ يومَ القيامةِ يقعُ ويأتي حين يُنْقَرُ في الناقور» انتهى. ولا يجوزُ أَنْ يعملَ فيه نفسُ «عَسير» ؛ لأنَّ الصفةَ لا تعملُ فيما قبلَ موصوفِها عند البصريين؛ ولذلك رُدَّ على الزمخشريِّ قولُه: إنَّ في أنفسِهم «متعلِّق ب» بلغياً «في قولِه تعالى في سورةِ النساءِ [الآية: 63] {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} والكوفيون يُجَوِّزون ذلك وتقدَّم تحريرُه. الثالث: أَنْ ينتصِبَ بما دَلَّ عليه» فذلك «لأنه إشارةٌ إلى النَّقْر، قاله أبو البقاء. ثم قال:» ويومَئذٍ بدلٌ مِنْ «إذا» و «ذلك مبتدأٌ» والخبرُ «يومٌ عسيرٌ» أي: نُقِر يوم. الرابع: أَنْ يكونَ «إذا» مبتدأً، و «فذلك» خبرُه. والفاءُ مزيدةٌ فيه، وهو رأيُ الأخفشِ. وأمَّا «يومَئِذٍ» ففيه أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «إذا» وقد تقدَّم ذلك في الوجهِ الثالث. والثاني: أَنْ يكونَ ظرفاً ل «يومٌ عسيرٌ» كما تقدَّم

في الوجهِ الثاني. الثالث: أَنْ يكونَ ظرفاً ل «ذلك» لأنَّه مُشارٌ به إلى النَّقْر. الرابع: أنَّه بدلٌ مِنْ «فذلك» ، ولكنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ. الخامس: أَنْ يكونَ مبتدأً «ويومٌ عسيرٌ» خبرَه، والجملةُ خبرَ «فذلك» .

10

قوله: {عَلَى الكافرين} : فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق ب «عسير» . الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل عسير. الثالث: أنه في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في «عسير» . الرابع: أن يتعلَّقَ ب «يَسير» أي: غيرُ يسيرٍ على الكافرين، قاله أبو البقاء، إلاَّ أنَّ فيه تقديمَ معمولِ المضافِ إليه على المضافِ، وهو ممنوعٌ، وقد جَوَّز ذلك بعضُهم إذا كان المضاف «غيرَ» بمعنى النفي كقولِه: 4383 - إنَّ امرَأً خَصَّني عمْداً مَوَدَّتَه ... على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ وتقدَّم تحريرُ هذا آخرَ الفاتحةِ مُشْبَعاً، فعليكَ باعتبارِه ثَمَّة. الخامس: أن يتعلَّق بما دَلَّ عليه «غيرُ يسير» أي: لا يَسْهُلُ على الكافرين. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ فما فائدةُ قولِه:» غيرُ يسير «و» عَسير «مُغْنٍ عنه؟ قلت: لَمَّا قال» على الكافرين «فقَصَرَ العُسْرَ عليهم قال:» غيرُ يَسير «لِيُؤْذَنَ بأنه لا يكونُ عليهم كما يكون على المؤمنين يَسيراً هَيِّناً ليجمعَ بين وعيدِ الكافرين وزيادةِ غَيْظهم وتبشير المؤمنين

وتَسْلِيتهم. ويجوز أن يُراد: عسيرٌ لا يُرْجَى أن يَرْجِعَ يسيراً، كما يُرْجى تيسيرُ العسيرِ من أمورِ الدنيا» . وقوله: {نُقِرَ فِي الناقور} أي صُوِّتَ يقال: نَقَرْتُ الرجلَ إذا صَوَّتَّ له بلسانِك وذلك بأَنْ تُلْصِقَ لسانَك بنُقْرَة حَنكِكَ. ونَقَرْتُ الرجلَ: إذا خَصَصْتَه بالدعوة، كأنك نَقَرْتَ له بلسانِك مُشيراً إليه، وتلك الدعوةُ يقال لها النَّقَرى، وهي ضدُّ الدعوةِ الجَفَلَى. قال الشاعر: 4384 - نحن في المَشْتاةِ نَدْعُو الجَفَلَى ... لا تَرَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ / وقال امرؤ القيس: 4385 - أنا ابنُ ماوِيَّةَ إذْ جَدَّ النُّقُرْ ... يريد: «النَّقْرُ» أي: الصوتُ. وقال أيضاً: 4386 - أُخَفِّضُه بالنَّقْرِ لَمَّا عَلَوْتُه ... ويَرْفَعُ طَرْفاً غيرَ جافٍ غَضِيضٍ والنَّاقُور: فاعُوْل منه كالجاسوسِ مِنَ التَجَسُّسِ، وهو الشيءُ

المُصوَّتُ فيه: وفي التفسير: إنَّه الصُّورُ الذي يَنْفَخُ فيه المَلَكُ. والنَّقْرُ أيضاً: قَرْعُ الشيءِ الصُّلْبِ. والمِنْقارُ: الحَديدةُ التي يُنْقَرُ بها. ونَقَرْتُ عنه: بَحَثْتُ عن أخبارِه، استعارةً من ذلك. ونَقَرْتُه: أَعبْتُه، ومنه قولُ امرأةٍ لزَوْجِها: «مُرَّ بي على بني نَظَرٍ، ولا تَمرَّ بي على بناتِ نَقَرٍ» أرادت ببنين نَظَرٍ الرجالُ؛ لأنهم ينظرون إليها، وببنات نَقَرٍ النساءَ لأنهنَّ يُعِبْنها ويَنْقُرْنَ عن أحوالِها.

11

قوله: {وَمَنْ خَلَقْتُ} : كقولِه: {والمكذبين} [المزمِّل: 11] في الوجهَيْنِ المتقدمَيْنِ في السورةِ قبلها. قولِه: {وَحِيداً} فيه أوجه، أحدها: أنه حالٌ من الياء في «ذَرْني» أي: ذَرْنِي وَحْدي معه فأنا أَكْفِيْكَ في الانتقام منه. الثاني: أنه حالٌ مِنَ التاء في «خَلَقْتُ» أي: خَلَقْتُه وَحْدي لم يُشْرِكْني في خَلْقِه أحدٌ، فأنا أَمْلِكُه. الثالث: أنَّه حالٌ مِنْ «مَنْ» . الرابع: أنه حالٌ من عائدِ المحذوفِ أي: خَلَقْتُه وحيداً. الخامس: أن ينتصِبَ على الذمِّ. و «وحيد» كان لَقَباً للوليدِ بن المُغِيرة. ومعنى «وحيداً» : ذليلاً قليلاً. وقيل: كان يَزْعُمُ أنه وحيدٌ في فَضْلِه ومالِه. وليس في ذلك ما يَقْتَضي صِدْقَ مقالتِه؛ لأنَّ هذا لَقَبٌ له شُهِر به، وقد يُلَقَّبُ الإِنسانُ بما لا يَتَّصِفُ به، وإذا كان لَقَباً تَعَيَّنَ نصبُه على الذمِّ.

16

قوله: {إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً} : استئنافٌ، جوابٌ لسائلِ سأل: لِمَ لا يزدادُ مالاً؟ وما بالُه رُدِعَ عن طَمعِه في ذلك؟ فأُجيب بقولِه: {إِنَّهُ كان لآيَتِنَا عَنِيداً} .

18

قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ} : يجوزُ أنْ يكونَ استئنافَ تعليلٍ لقولِه «سَأُرْهِقُه» . ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ {إِنَّهُ كان لآيَتِنَا عَنِيداً} .

22

قوله: {ثُمَّ عَبَسَ} : يُقال: عَبَسَ يَعْبِسُ عَبْساً وعُبُوساً أي: قَطَّبَ وجهَه. والعَبَسُ: ما يَبِسَ في أذنابِ الإِبلِ من البعر والبَوْل. قال أبو النجم: 4387 - كأن في أَذْنابِهِنَّ الشُّوَّلِ ... مِنْ عَبَسِ الصَّيْفِ قُرونَ الأُيَّلِ قوله {وَبَسَر} يُقال: بَسَرَ يَبْسُر بَسْراً وبُسُوراً: إذا قَبَضَ ما بين عَيْنَيْه كراهةً للشَيْءِ، واسْوَدَّ وجهُه مِنْه. يقال: وَجْهٌ باسِرٌ أي: مُنْقَبِضٌ أسودُ. قال: 4388 - صَبَحْنا تميماً غَداةَ الجِفارِ ... بشَهْباءَ مَلْمومَةٍ باسِرَةْ وأهل اليمن يقولون: بَسَرَ المَرْكَبُ وأَبْسَر: إذا وَقَفَ. وأَبْسَرْنا أي: صِرْنا إلى البُسُور. وقال الراغب: «البَسْرُ: البَسْرُ: الاستعجالُ بالشيء قبل أَوانِه نحو: بَسَرَ الرجلُ الحاجةَ: طَلَبها في غيرِ أوانِها، وبَسَرَ الفَحْلُ الناقةَ: ضَرَبها قبل الضَّبَعَةِ. وماء بَسْرٌ: مُتناوَلٌ مِنْ غَدِيرِه قبلَ سُكونه، ومنه قيل للذين لم يُدْرَك من التَّمر: بُسْر. وقولُه تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} أي:

أظهرَ العُبوس قبل أَوانِه، وفي غيرِ وقتِه. فإنْ قيلَ: فقولُه عَزَّ وجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24] ليس يَفْعلون ذلك قبلَ الوقتِ. وقد قلت: إنَّ ذلك يُقال فيما كان قبلَ وَقْتِه. قلتُ: إنَّ ذلك إشارةٌ إلى حالِهم قبلَ الانتهاءِ بهم إلى النارِ فخُصَّ لفظُ البُسْرِ تنبيهاً أنَّ ذلك مع ما ينالهم مِنْ بُعْدٍ يَجْري مَجْرى التكلُّفِ، ومَجْرى ما يُفْعَلُ قبلَ وَقْتِه. ويَدُلُّ على ذلك قولُه: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] انتهى كلامُ الراغب. وقد عُطِفَ في هذه الجملِ بحروفٍ مختلفةٍ ولكلٍ منها مناسَبَةٌ. أمَّا ما عُطِفَ ب» ثُمَّ «فلأنَّ بين الأفعالِ مهلةً، وثانياً لأنَّ بين النَّظَر والعُبوس وبين العُبوسِ والإِدْبار تراخياً. قال الزمخشري/: و» ثُمَّ نظر «عَطْفٌ على» فَكَّر وقَدَّر «والدعاءُ اعتراضٌ بينهما» . قلت: يعني بالدعاءِ قولَه: «فقُتِلَ» . ثم قال: «فإنْ قُلْتَ ما معنى» ثم «الداخلةِ على تكريرِ الدعاء؟ قلت: الدلالة على أنَّ الكرَّة الثانية أَبْلَغُ من الأولى، ونحوُه قولُه: 4389 - ألا يا اسْلمي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّت اسْلمي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فإنْ قلت: فما معنى المتوسِّطةِ بين الأفعالِ التي بعدها؟ قلت: للدلالة على أنه تأنَّى في التأمُّل، وتمهَّل، وكان بين الأفعالِ المتناسِقةِ تراخٍ وبُعْدٌ. فإن قلت: فلِمَ قال:» فقال «بالفاءِ بعد عطفِ ما قبلَه ب ثم؟

قلت: لأنَّ الكلمةَ لَمَّا خَطَرَتْ ببالِه بعد التطلُّب لِم يتمالَكْ أَنْ نَطقَ بها مِنْ غيرِ تَثَبُّتٍ. فإنْ قلتَ: فلِمَ لَمْ يَتَوَ‍سَّطْ حرفُ العطفِ بين الجملتَيْن؟ قلت: لأنَّ الأخرى جَرَ‍تْ مِن الأولى مَجْرى التوكيدِ من المؤكَّد.

26

قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} : هذا بدلٌ مِنْ قولِه: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قاله الزمخشري. فإنْ كان المرادُ بالصَّعودِ المشقةَ فالبدلُ واضحٌ، وإنْ كان المرادُ صخرةً في جهنَم، كما جاء في بعضِ التفاسير، فيَعْسُرُ البدلُ، ويكون فيه شَبَهٌ مِنْ بَدَلِ الاشتمالِ؛ لأنَّ جهنمَ مُشْتَمِلةٌ على تلك الصخرةِ.

28

قوله: {لاَ تُبْقِي} : فيه وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، والعامل فيها معنى التعظيمِ، قاله أبو البقاء، يعني أنَّ الاستفهامَ في قولِه ما سَقَرُ؟ للتعظيم فالمعنى: استعظموا سَقَرَ في هذه الحال. ومفعول «تُبْقي» و «تَذَرُ» محذوفٌ، أي: لا تُبقي ما أُلْقي فيها، ولا تَذَرُهُ، بل تُهْلِكُه. وقيل: تقديرُه لا تُبْقي على مَنْ أُلْقي فيها، ولا تَذَرُ غايةَ العذابِ إلاَّ وَصَلَتْه إليه. والثاني: أنها مستأنفةٌ.

29

قوله: {لَوَّاحَةٌ} : قرأ العامَّةُ بالرفع خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هي لَوَّاحَةٌ. وهذه مُقَوِّيةٌ للاستئنافِ في «لا تُبْقي» . وقرأ الحسن وابنُ أبي عبلة وزيدُ بن علي وعطيةُ العَوْفي بنَصْبِها على الحال،

وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها حالٌ مِنْ «سقرُ» والعاملُ معنى التعظيمِ كما تقدَّم. والثاني: أنها حالٌ مِنْ «لا تُبْقي» . والثالث: مِنْ «لا تذرُ» . وجَعَلَ الزمخشري نَصْبَها على الاختصاصِ للتهويل، وجعلها الشيخ حالاً مؤكدة قال: «لأنَّ النارَ التي لا تُبْقي ولا تَذَرُ لا تكونُ إلاَّ مُغَيِّرةً للإِبشارِ» «ولَوَّاحَةٌ» بناءُ مبالغةٍ، وفيها معنيان، أحدهما: مِنْ لاح يَلُوح، أي: ظهر، أي: إنها تظهر للبَشَرِ وهم الناسُ، وإليه ذهب الحسن وابن كَيْسان. والثاني: - وإليه ذهبَ جمهورُ الناس أنها مِنْ لوَّحه، أي: غَيَّره وسَوَّده. قال الشاعر: 4390 - وتعجَبُ هندٌ أَنْ رَأَتْنِيَ شاحباً ... تقول: لَشَيءٌ لوَّحَتْه السَّمائِمُ ويقال: لاحَه يَلُوْحه: إذا غَيَّر حِلْيَتَيْه، وأُنْشِد: 4391 - تقول: ما لاحك يا مسافِرُ ... يا بنةَ عمِّي لاحَني الهواجِرُ وقيل: اللَّوحُ شِدَّةُ العَطَشِ. يقال: لاحَه العطشَ ولَوَّحَه، أي: غَيَّره، وأُنْشدِ:

4392 - سَقَتْني على لَوْحٍ مِنْ الماءِ شَرْبَةً ... سَقاها به اللَّهُ الرِّهامَ الغَواديا واللُّوْحُ بالضمِّ: الهواءُ بين السماءِ والأرضِ، والبَشَرُ: إمَّا جَمْعُ بَشَرَة، أي: مُغَيِّرة للجُلود، [وإمَّا المُرادُ به الإِنْسُ] واللامُ في «للبَشَرِ» مُقَوِّيَةٌ كهي في {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، وقراءةُ النصبِ في «لَوَّاحَةً» مقوِّيَةٌ لكونِ «لا تُبْقي» في محلِّ الحالِ.

30

قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} : هذه الجملةُ فيها وجهان أعني: الحاليةَ والاستئنافَ وفي هذه الكلمةِ قراءاتٌ شاذةٌ، وتوجيهاتٌ تُشاكِلُها. وقرأ أبو جعفر وطلحةُ «تسعَة عْشَر» بسكون العين مِنْ «عَشر» تخفيفاً لتوالي خمسِ حركاتٍ مِنْ جنسٍ واحدٍ/ وهذه كقراءةِ {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف: 4] ، وقد تقدَّمَتْ. وقرأ أنسٌ وابنُ عباس «تسعةُ» بضمِّ التاء، «عَشَرَ» بالفتح، وهذه حركةُ بناءٍ، ولا يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ كونُها إعراباً؛ إذا لو كانَتْ للإِعرابِ لَجُعِلَتْ في الاسمِ الأخيرِ لِتَنَزُّلِ الكلمتَيْن منزلةَ الكلمةِ الواحدةِ، وإنما عُدِل إلى الضمة كراهةَ توالي خمسِ حركاتٍ. وعن المهدويِّ. «مَنْ قرأ» تسعةُ عَشَر «فكأنه من التداخُلِ كأنه أراد العطفَ فتركَ التركيبَ ورَفَعَ هاءَ

التأنيث، ثم راجَعَ البناءَ وأسكنَ» انتهى. فَجَعَلَ الحركةَ للإِعرابِ. ويعني بقولِه «أسكنَ» ، أي: أسكنَ راءَ «عشر» فإنه هذ القراءة كذلك. وعن أنس أيضاً «تسعةُ أَعْشُرَ» بضم «تسعةُ» وأَعْشُرَ بهمزةٍ مفتوحةٍ ثم عينٍ ساكنةٍ ثم شين مضمومة. وفيها وجهان، قال أبو الفضل: «يجوزُ أَنْ يكونَ جَمعَ العَشَرةَ على أَعْشُر ثم أجراه مُجْرى تسعة عشر» . وقال الزمخشري: «جمع عَشير، مثل يَمين وأَيْمُن. وعن أنسٍ أيضاً» تسعَةُ وَعْشُرَ «بضم التاءِ وسكونِ العينِ وضمِّ الشين وواوٍ مفتوحةٍ بدلَ الهمزةِ. وتخريجُها كتخريجِ ما قبلَها، إلاَّ أنَّه قَلَبَ الهمزةَ واواً مبالغةً في التخفيفِ، والضمةُ كما تقدَّم للبناءِ لا للإِعرابِ. ونقل المهدويُّ أنه قُرِىءَ» تسعةُ وَعَشَرْ «قال:» فجاء به على الأصلِ قبلَ التركِيبِ وعَطَفَ «عشراً على تسعة» وحَذَفَ التنوينَ لكثرةِ الاستعمالِ، وسَكَّنَ الراءَ مِنْ عشر على نيةِ الوقفِ. وقرأ سليمان بن قتة بضمِّ التاءِ، وهمزةٍ مفتوحةٍ، وسكونِ العين، وضم الشين وجرِّ الراءِ مِنْ أَعْشُرٍ، والضمةُ على هذا ضمةُ إعرابٍ، لأنه أضاف الاسمَ لِما بعده، فأعربَهما إعرابَ المتضايفَيْنِ، وهي لغةٌ لبعضِ العربِ يَفُك‍ُّون تركيبَ الأعدادِ ويُعْرِبُونهما كالمتضايفَيْنِ كقول الراجز: 4393 - كُلِّفَ مِنْ عَنائِه وشِقْوَتِهْ ... بنتَ ثماني عَشْرَةٍ مِنْ حَجَّتِهْ

قال أبو الفضل: «ويُخْبَرُ على هذه القراةِ وهي قراءةُ مَنْ قرأ» أَعْشُر «مبنياً أو معرباً من حيث هو جمعٌ أنَّ الملائكةَ الذين هم على سَقَرَ تسعون مَلَكاً.

31

قوله: {إِلاَّ فِتْنَةً} : مفعولٌ ثانٍ على حذفِ مضافٍ، أي: إلاَّ سببَ فتنةٍ، و «للذين» صفةٌ ل «فِتْنة» وليسَتْ «فتنةً» مفعولاً له. قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الذين} متعلِّقٌ ب «جَعَلْنا» لا ب «فتنة» . وقيل: بفعلٍ مضمرٍ، أي: فَعَلْنا ذلك ليسْتَيْقِنَ. وللزمخشري هنا كلامٌ متعلِّقٌ بالإِعرابِ ليجُرَّه إلى غرضِه مِنْ الاعتزال. قوله: {كَذَلِكَ} نعتٌ لمصدرٍ أو حالٍ منه على ما عُرِفَ غيرَ مرةٍ. و «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِنْ الإِضلالِ والهدى، أي: مثلَ ذلك الإِضلالِ والهدى يُضِلُّ ويَهْدي. و «مثلاً» تمييزاً أو حالٌ. وتسميةُ هذا مثلاً على سبيل الاستعارةِ لغرابتِه. قوله: {جُنُودَ رَبِّكَ} مفعولٌ واجبُ التقديمِ لحَصْرِ فاعلِه، ولعَوْدِ الضميرِ على ما اتَّصل بالمفعول. قوله: {وَمَا هِيَ} يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على «سقر» ، أي: وما سَقَرُ إلاَّ تذكرةٌ. وأَنْ يعودَ على الآياتِ المذكورةِ فيها، أو النارِ لتقدُّمِها أو الجنودِ، أو نارِ الدنيا، وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ أو العُدَّة. و «للبشر» مفعولٌ ب «ذِكْرى» واللامُ فيه مزيدةٌ.

33

قوله: {إِذْ أَدْبَرَ} : قرأ نافعٌ وحمزةُ

وحفصٌ «إذ» ظرفاً لِما مضى مِنْ الزمانِ، «أَدْبَرَ» بزنةِ أَكْرَمَ. والباقون «إذا» ظرفاً لِما يُسْتقبل، «دَبَرَ» بزنةِ ضَرَبَ، والرسمُ محتملٌ لكلتَيْهما، فالصورةُ الخطيَّةُ لا تختلفُ. واختار أبو عبيد قراءةَ «إذا» قال: لأنَّ بعدَه «إذا أَسْفَرَ» قال: «وكذلك هي في حرفِ عبدِ الله» قلت: يعني أنَّه مكتوبٌ بألفَيْنِ بعد الذالِ أحدُهما ألفُ «إذا» والأخرى همزةُ «أَدْبَرَ» . واختار ابنُ عباس أيضاً «إذا» ويُحْكى أنَّه لَمَّا سَمِعَ «أَدْبَرَ» قال: «إنما يُدْبِر ظهرُ البعير» . واختلفوا: هل دَبَر وأَدْبَر، بمعنى أم لا؟ فقيل: هما بمعنىً واحدٍ/ يقال: دَبَر الليلُ والنهارُ وأَدْبَرَ، وقَبَلَ وأَقْبل. ومنه قولُهم «أمسٌ الدابرُ» فهذا مِنْ دَبَرَ، وأمسٌ المُدْبر قال: 4394 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . ذهبوا كأمس الدابِر وأمَّا أَدْبَرَ الراكبُ وأَقْبل فرباعيٌّ لا غيرُ. هذا قولُ الفراء والزجاج. وقال يونس: «دَبَرَ انقضى، وأَدْبَرَ تَوَلَّى ففرَّق بينهما. وقال الزمخشري:» ودَبَرَ بمعنى أَدْبَرَ كقَبَل بمعنى أَقْبَلَ. قيل: ومنه صاروا كأمسٍ الدابرِ، وقيل: هو من دَبَرَ الليلُ النهارَ إذا خَلَفَه «.

وقرأ العامَّةُ» أسْفَرَ «بالألف، وعيسى بنُ الفضل وابن السَّمَيْفَع» سَفَرَ «ثلاثياً» . والمعنى: طَرَحَ الظلمةَ عن وجهِه، على وجهِ الاستعارةِ.

35

قوله: {إِنَّهَا} : أي: إنَّ النارَ. وقيل: إنَّ قيامَ الساعةِ كذا حكاه الشيخ، وفيه شيئان: عَوْدُه على غير مذكورٍ، وكونُ المضافِ اكتسَبَ تأنيثاً. وقيل: إن النِّذارة. وقيل: هيَ ضميرُ القصةِ. وقرأ العامَّةُ «لإِحْدى» بهمزةٍ مفتوحةٍ، وأصلُها واوٌ، من الوَحْدَة. وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ محيصن، وتُرْوى عن ابنِ كثيرٍ «لَحْدَى» بحذفِ الهمزةِ، وهذا من الشُّذوذِ بحيثُ لا يُقاسُ عليه. وتوجيهُه: أَنْ يكونَ أَبْدلها ألفاً، ثم حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنَيْن، وقياسُ تخفيفِ مثلِ هذه بينها وبين الألفِ. ومعنى «إحْدَى الكُبَرِ» ، أي: إحْدَى الدَّواهي قال: 4395 - يا بنَ المُعَلَّى نَزَلَتْ إحدى الكُبَرْ ... داهيةُ الدهرِ وصَمَّاءُ الغِيَرْ ومثلُه: هو أَحَدُ الرجالِ و [هي] إحدى النساءِ لِمَنْ يَسْتعظمونه. والكُبَرُ: جمعُ كُبْرى كالفُضَل جمع فُضْلى. وقال ابن عطية: «جمع كبيرة» وأظنُّه وهماً عليه. وفي هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنها جوابُ القسمِ في قوله: «والقمرِ» . والثاني: أنها تعليلٌ ل «كَلاَّ» والقسمٌ معترضٌ

للتوكيدِ، قاله الزمخشري. قلت: وحينئذٍ فيحتاجُ إلى تقديرِ جوابٍ، وفيه تكَلُّفٌ وخروجٌ عن الظاهر.

36

قوله: {نَذِيراً} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه تمييزٌ عن «إحدى» ، كمَّا ضُمِّنَتْ معنى التعظيم، كأنه قيل: أعظم الكُبَر إنذاراً، ف «نذير» بمعنى الإِنذارِ كالنَّكير بمعنى الإِنكار، ومثلُه «هي إحدى النساءِ عَفافاً» . الثاني: أنه مصدرٌ بمعنى الإِنذار أيضاً، ولكنه نُصِب بفعلِ مقدَّرٍ، قاله الفراء. الثالث: أنه فعيلٌ بمعنى مُفْعِل، وهو حالٌ من الضميرِ في «إنَّها» قاله الزجاج. الرابع: أنه حالٌ من الضمير في «إحدى» لتأوُّلها بمعنى العظيم. الخامس: أنَّه حالٌ من فاعلِ «قم» أولَ السورةِ. السادس: أنَّه مصدرٌ منصوبٌ ب أَنْذِرْ أولَ السورةِ. السابع: هو حالٌ مِنْ «الكُبَر» . الثامن: حالٌ من ضميرِ الكُبَر. التاسع: هو حالٌ مِنْ «لإِحدى» ، قاله ابن عطية. العاشر: أنَّه منصوبٌ بإضمار أَعْني. الحادي عشر: أنَّه منصوبٌ ب ادْعُ مُقَدَّراً؛ إذ المُراد به اللَّهُ تعالى. الثاني عشر: أنَّه منصوبٌ ب «نادِ أو ب بَلِّغ؛ إذ المرادُ به الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثالثَ عشرَ: أنه منصوبٌ بما دَلَّتْ عليه الجملةُ، تقديره: عَظُمْتَ نذيراً. الرابعَ عشرَ: هو حالٌ من الضميرِ في» الكُبَرِ «. الخامسَ عشرَ: أنها حالٌ مِنْ» هو «في قولِه وما يعلَمُ جنودَ ربِّك إلاَّ هو. السادسَ عشرَ: أنها مفعولٌ مِنْ أجلِه،

الناصبُ لها ما في» الكُبَر «، مِنْ معنى الفعل. قال أبو البقاء:» أو إنَّها لإِحدى الكُبر لإِنذارِ البشر «فظاهرُ هذا أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه. وفيه بُعْدٌ وإذا جُعِلَتْ حالاً مِنْ مؤنثٍ فإنَّما لم تُؤَنَّثْ لأنَّها بمعنى ذاتِ إنذارٍ على معنى النَّسَب. قال معناه أبو جعفر. والنصبُ قراءةُ العامَّةِ، وابن أبي عبلة وأُبَيُّ بنُ كعبٍ بالرفع. فإنْ كان المرادُ النارَ جاز لك وجهان: أَنْ يكونَ خبراً بعد خبر، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي نذيرٌ، والتذكيرُ لِما تقدَّم مِنْ معنى النَّسَبِ، وإنْ كان المرادُ الباريَ تعالى أو رسولَه عليه السلام كان على خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هو نذيرٌ.» وللبشر «إمَّا صفةٌ. وإمَّأ مفعولٌ لنذير، واللامُ مزيدةٌ لتقويةِ العامل.

37

قوله: {لِمَن شَآءَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من «للبشر» بإعادة العامل كقولِه: {لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] و {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ} [الأعراف: 75] . وأَنْ يتقدَّمَ مفعولُ «شاء» ، أي: نذيرٌ لمَنْ شاءَ التقدُّمَ أو التأخُّرَ، وفيه ذُكِرَ مفعولُ «شاء» وقد تقدَّم أنَّه لا يُذْكَرُ إلاَّ إذا كان فيه غَرابَةٌ. والثاني: وإليه نحا الزمخشري وبه بدأ أَنْ يكونَ «لمَنْ شاءَ» خبراً مقدَّماً، و «أَنْ يتقدَّم» مبتدأ مؤخراً قال: «كقولِك: لِمَنْ توضَّأَ أَنْ يُصَلِّي، ومعناه مطلقٌ لمَنْ شاء التقدُّمَ أو التأخُّرَ أَنْ يتقدَّم

أو يتأخَّرَ» انتهى. فقوله «التقدُّمَ والتأخُّرَ» هو مفعولُ «شاء» المقدَّرِ، وقولُه «أَنْ يتقدَّمَ» هو المبتدأ. قال الشيخ: «وهو معنىً لا يتبادَرٌ الذِّهْنُ إليه وفيه حَذْفٌ» .

38

قوله: {رَهِينَةٌ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّ «رهينة» بمعنى «رَهْن» كالشتيمة بمعنى الشَّتْم. قال الزمخشري: «ليسَتْ بتأنيثِ» رهين «في قوله» كلُّ امرىء «/ لتَأنيثِ النفسِ؛ لأنَّه لو قُصِدَتِ الصفةُ لقيل:» رِهين «؛ لأنَّ فَعيلاً بمعنى مَفْعول يَسْتوي فيه المذكرُ والمؤنثُ، وإنما هي اسمٌ بمعنى الرَّهْن كالشَّتيمة بمعنى الشَّتْم، كأنه قيل: كلُّ نفسٍ بما كَسَبَتْ رَهْنٌ، ومنه بيتُ الحماسة: 4396 - أبعدَ الذي بالنّعْفِ نَعْفِ كُوَيْكِبٍ ... رَهينةٍ رَمْسٍ ذي تُرابٍ وجَنْدلِ كأنه قال: رَهْنِ رَمْسٍ. الثاني: أنَّ الهاءَ للمبالغةِ. والثالث: أنَّ التأنيثَ لأجلِ اللفظ. واختار الشيخُ أنَّها بمعنى مَفْعول وأنها كالنَّطيحة. قال:» ويَدُلُّ على ذلك: أنَّه لَمَّا كان خبراً عن المذكر كان بغيرِ هاءٍ، قال تعالى: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور: 21] فأنت ترى حيث كان خبراً عن

المذكر أتى بغيرِ تاءٍ، وحيث كان خبراً عن المؤنثٍ أتى بالتاء. فأمَّا الذي في البيت فأُنِّث على معنى النفس «

39

قوله: {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} : فيه وجهان، أحدُهما: أنها استثناءٌ متصلٌ؛ إذ المرادُ بهم المسلمون الخالِصون الصالحون. والثاني: أنه منقطعٌ؛ إذ المرادُ بهم الأطفالُ أو الملائكةُ.

40

قوله: {فِي جَنَّاتٍ} : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم في جناتٍ، وأن يكونَ حالاً مِنْ «أصحابَ اليمين» ، وأَنْ يكونَ حالاً من فاعل «يَتَساءلون» ذكرهما أبو البقاء. ويجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل «يتساءلون» وهو أظهرُ من الحالية مِنْ فاعِله. و «يتساءلون» يجوزُ أَنْ يكونَ على بابِه، أي: يَسْألون غيرَهم، نحو: دَعَوْتُه وتَداعيْتُه.

43

قوله: {لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} : هذا هو الدالُّ على فاعلِ سَلَكَنا كذا الواقعِ جواباً لقولِ المؤمنين لهم: ما سلككم؟ التقدير: سَلَكَنا عدمُ صَلاتِنا وكذا وكذا. وقال أبو البقاء: «هذه الجملةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الفاعلِ وهو جوابُ ما سَلَككم» ومرادُه ما قَدَّمْتُه. وإنْ كانَ في عبارتِه عُسْرٌ. وأدغم أبو عمروٍ «سَلَككم» وهو نظيرُ {مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] وقد تقدَّم

ذلك في البقرة. وقوله «ما سَلَكَكُم» يجوزُ أَنْ يكونَ على إضمار القولِ، وذلك القولُ في موضع الحال، أي: يتساءَلون عنهم، قائلين لهم: ما سلككم؟ وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف طابَقَ قولُه» ما سلككُمْ «وهو سؤالُ المجرمين قولَه» يتساءَلون عن المجرمين «وهو سؤالٌ عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين ما سلككم؟ قلت: قولُه» ما سلككم «ليس ببيانٍ للتساؤلِ عنهم، وإنما هي حكايةُ قولِ المسؤولين عنهم؛ لأن المسؤولين يُلْقُون إلى السَّائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون: قلنا لهم ما سلككم؟

48

قوله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ} : كقولِه: 4397 - على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في أحدِ وجهَيْه، أي: لا شفاعةَ لهم، فلا انتفاعَ بها، وليس المرادُ أنَّ ثَمَّ شفاعةً غيرَ نافعةٍ كقولِه: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] .

49

قوله: {مُعْرِضِينَ} : حالٌ من الضمير في الجارِّ الواقع خبراً عن «ما» الاستفهاميةِ، وقد تقدَّم أنَّ مِثْلَ هذه الحالِ تُسَمَّى حالاً لازِمَةً وقد تقدَّم فيها بحثٌ حسنٌ. «وعن التذكرة» متعلِّقٌ به.

50

قوله: {كَأَنَّهُمْ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً

من الضمير في الجارِّ، وتكون بدلاً مِنْ «مُعْرِضِيْنَ» قاله أبو البقاء، يعني أنَّها كالمشتملة عيلها، وأنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في «مُعْرِضِين» ، فتكونَ حالاً متداخلةً. وقرأ العامَّةُ «حُمُرٌ» بضمِّ الميم، والأعمش بإسكانِها. وقرأ نافعٌ وابنُ عامر بفتح الفاء مِنْ «مُسْتَنْفَرة» على أنه اسمُ مفعولٍ، أي: نَفَّرها القُنَّاص. والباقون بالكسرِ بمعنى: نافِرة: يُقال: استنفر ونَفَر بمعنى نحو: عَجِب واستعجب، وسخِر واسْتَسْخر. قال الشاعر: 4398 - أَمْسِكْ حِمارَكَ إنَّه مُسْتَنْفِرُ ... في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ وقال الزمخشري: «كأنها تطلُبُ النِّفار مِنْ نفوسِها في جَمْعِها له وحَمْلِها عليه» انتهى. فأبقى السينَ على بابِها من الطَّلَبِ، وهو معنى حسن. ورجَّحَ بعضُهم الكسرَ لقولِه «فَرَّتْ» للتناسُبِ. وحكى محمدُ ابنُ سَلاَّم قال: «سألتُ أبا سَوَّار الغَنَويَّ وكان عربياً فصيحاً، فقلت:

كأنهم/ حُمُرٌ ماذا؟ فقال: مُسْتَنْفَرَة طَرَدَها قَسْورة. فقلت: إنما هو {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} فقال: أفرَّتْ؟ قلت: نعم. قال:» فمُسْتَنْفِرة إذن «انتهى. يعني أنها مع قولِه» طَرَدها «تُناسِبُ الفتحَ لأنَّها اسمُ مفعولٍ فلما أُخْبر بأنَّ التلاوةَ {فَرَّتْ مِن قسْورة} رَجَعَ إلى الكسرِ للتناسُبِ، إلاَّ أنَ بمثلِ هذه الحكاية لا تُرَدُّ القراءةُ المتواترةُ. والقَسْوَرَةُ: قيل: الصائِدُ. وقيل: ظلمةُ الليل. وقيل: الأسد، ومنه قولُ الشاعر: 4399 - مُضَمَّرٌ تَحْذَرُه الأبطالُ ... كأنه القَسْوَرَةُ الرِّئْبالُ أي: الأسد، إلاَّ إنَّ ابن عباس أنكرَه، وقال: لا أعرفُ القَسْوَرَةَ: الأسدَ في لغة العرب، وإنما القَسْوَرَةُ: عَصَبُ الرجال، وأنشد: 4400 - يا بنتُ، كثوني خَيْرَةً لخَيِّرَهْ ... أخوالُها الجِنُّ وأهلُ القَسْوَرَهْ وقيل: هم الرُّماةُ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة: 4401 - إذا ما هَتَفْنا هَتْفَةً في نَدِيِّنا ... أتانا الرجالُ العانِدون القساوِرُ

والجملةُ مِنْ قولِه» فَرَّتْ «يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل» حُمُر «مثلَ» مُسْتَنْفرة «، وأنْ تكونَ حالاً، قاله أبو البقاء.

52

قوله: {مُّنَشَّرَةً} : العامَّةُ على التشديد مِنْ «نَشَّره» بالتضعيف. وابن جبير «مُنْشَرَة» بالتخفيف. ونَشَر وأَنْشَرَ مثل: نَزَل وأَنْزَل. والعامَّةُ أيضاً على ضَمِّ الحاءِ مِنْ «صُحُف» ، وابن جبير على تكسينها، قال الشيخ: «والمحفوظ في الصحيفة والثوب نَشَرَ مخففاً ثلاثياً» قلت: وهذا مردودٌ بالقرآن المتواتر. وقال أبو البقاء في قراءةِ ابن جُبير: «مِنْ أَنْشَرْتُ: إمَّا بمعنى أَمَرَ بنَشْرِها مثلَ:» أَلْحَمْتُك عِرْضَ فلانٍ «، أو بمعنى مَنْشورة مثل: أَحْمَدْتُ الرجلَ أو بمعنى: أَنْشَر اللَّهُ الميِّتَ، أي: أحياه، فكأنه أحيا ما فيها بذكْرِه.

56

قوله: {وَمَا يَذْكُرُونَ} : قرأ نافعٌ بالخطاب، وهو التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب، والباقون بالغَيْبة حَملاً على ما تقدَّم مِنْ قولِه {كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ} [المدثر: 52] ولم يُؤْثِروا الالتفاتَ، والهاءُ في «إنَّه» للقرآن أو للوعيد. قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ} بمعنى: إلاَّ وقتَ مشيئتِه لا على أنَّ «أنْ» تنوبُ عن الزمانِ بل على حَذْفِ مضاف.

القيامة

قوله: {لاَ أُقْسِمُ} : العامَّةُ على «لا» النافيةِ. واختلفوا حينئذٍ فيها على أوجهٍ، أحدُها: أنها نافيةٌ لكلامٍ متقدِّمٍ، كأنَّ الكفارَ ذَكروا شيئاً. فقيل لهم: لا، ثم ابتدأ اللَّهُ تعالى قَسَماً. الثاني: أنها مزيدةٌ. قال الزمخشري: «وقالوا إنها مزيدةٌ، مِثْلُها في: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] وفي قولِه: 4402 - في بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ ... واعترضوا عليه: بأنها إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أولِه. وأجابوا: بأنَّ القرآنَ في حُكْمِ سورةٍ واحدةٍ متصلٍ بعضُه ببعضٍ. والاعتراضُ صحيحٌ؛ لأنها لم تقَعْ مزيدةً إلاَّ في وسط الكلامِ، لكن الجوابَ غيرُ سديدٍ. ألا ترى إلى امرىء القيسِ كيف زادَها في مستهلِّ قصيدتِه؟ قلت: يعني قولَه:

4403 - لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ ... يِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما سيأتي، وهذا الوجهُ والاعتراضُ عليه والجوابُ نقله مكي وغيرُه. الوجه الثالث: قال الزمخشري:» إدخالُ «» لا «النافيةِ على فعلِ القسمِ مستفيضٌ في كلامِهم وأشعارِهم. قال امرؤ القيس: لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ ... يِ لا يَدَّعِي القومُ أنِّي أفِرّْ وقال غُوَيَّةُ بن سُلْميٍّ: 4404 - ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتمالِ ... لِتَحْزُنَني فلابِك ما أُبالي وفائدتُها توكيدُ القسم» ثم قال بعد أَنْ حكى وجهَ الزيادةِ والاعتراضَ والجوابَ كما تقدَّمَ «والوَجهُ أَنْ يُقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يُقْسِمُ بالشيءِ إلاَّ إعظاماً له يَدُلَّكَ عليه قولُه تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76] فكأنه بإدخالِ حرفِ النفي يقول: إنَّ إعظامي له بإقسامي به كلا إعظامٍ، يعني أنه يَسْتَأْهِلُ فوق ذلك. وقيل:» إنَّ «لا» نفيٌ لكلامٍ وَرَدَ قبل ذلك «. انتهى.

فقولُه:» والوجهُ أَنْ يُقال «إلى قولِه:» يعني أنه يستأهِلُ فوق ذلك «تقريرٌ لقولِه:» إدخالُ «لا» النافيةِ على فعلِ/ القسمِ مستفيضٌ «إلى آخره. وحاصلُ كلامِه يَرْجِعُ إلا أَنَّها نافيةٌ، وأنَّ النفيَ مُتَسَلِّطٌ على فعل القسمِ بالمعنى الذي شَرَحَه، وليس فيه مَنْعٌ لفظاً ولا معنىً ثم قال: فإن قلتَ: قولُه تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] والأبياتُ التي أَنْشَدْتُها المُقْسَمُ عليه فيها منفيٌّ، فهلا زَعَمْتَ أنَّ» لا «التي قبلَ القسمِ زِيْدَتْ موطئةً للنفيِ بعدَه ومؤكِّدةً له، وقَدَّرْتَ المقسم عليه المحذوفَ ههنا منفيَّاً، كقولِك: لا أُقْسم بيومِ القيامةِ لا تُتركون سُدى؟ قلت: لو قَصَروا الأمرَ على النفيِ دونَ الإِثباتِ لكان لهذا القول مَساغٌ، ولكنه لم يُقْصَرْ. ألا ترى كيف لُقِيَ {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] بقولِه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} وكذلك قولُه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وهذا من محاسنِ كلامِه فتأمَّلْه. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا النحوِ في سورة النساءِ، وفي آخر الواقعة، ولكنْ هنا مزيدُ هذه الفوائدِ. وقرأ قنبل والبزي بخلافٍ عنه «لأُقْسِمُ بيوم» بلامٍ بعدَها همزةٌ دونَ ألفٍ. وفيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، تقديرُه: واللَّهِ لأُقْسِمُ، والفعلُ للحالِ؛ فلذلك لم تَأْتِ نونُ التوكيدِ، وهذا مذهبُ

الكوفيين. وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أَنْ يقعَ فعلُ الحالِ جواباً للقسم، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك جُعل الفعل خبراً لمبتدأ مضمرٍ، فيعودُ الجوابُ جملةً اسميةً قُدِّرَ أحدُ جزأَيْها، وهذا عند بعضِهم من ذلك، التقديرُ واللَّهِ لأنا أُقْسِمُ. الثاني: أنه فعلٌ مستقبلٌ، وإنما لم يُؤْتَ بنونِ التوكيدِ؛ لأنَّ أفعالَ اللَّهِ حقٌّ وصدقٌ فهي غنية عن التأكيدِ بخلاف أفعالِ غيره. على أنَّ سيبويهِ حكى حَذْفَ النونِ إلاَّ أنَّه قليلٌ، والكوفيون يُجيزون ذلك مِنْ غير قلةٍ إذ مِنْ مذهبهم جوازُ تعاقُبِ اللامِ والنونِ فمِنْ حَذْفِ اللامِ قولُ الشاعر: 4405 - وقتيلِ مَرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنَّه ... فَرْغٌ وإنَّ أخاكم لم يُثْأَرِ أي: لأَثْأَرَنَّ. ومِنْ حَذْفِ النونِ وهو نظيرُ الآية قولُه: 4406 - لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسعٌ الثالث: أنها لامُ الابتداءِ، وليسَتْ بلامِ القسمِ. قال أبو البقاء: «نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} [النحل: 124] والمعروفُ أنَّ لامَ الابتداءِ لا تَدْخُل على المضارع إلاَّ في خبر» إنَّ «نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} وهذه الآيةُ نظيرُ الآيةِ التي في يونس [الآية: 16] {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} فإنهما قرآها. بقصر الألف،

والكلامُ فيها قد تقدَّم. ولم يُخْتَلَفْ في قولِه:» ولا أُقْسِم «أنه بألفٍ بعد» لا «؛ لأنه لم يُرْسَمْ إلاَّ كذا، بخلاف الأولِ فإنه رُسِمَ بدون ألفٍ بعد» لا «، وكذلك في قولِه: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} لم يُختلَفْ فيه أنَّه بألفٍ بعد» لا «. وجوابُ القسمِ محذوفٌ تقديرُه: لتُبْعَثُنَّ، دلَّ عليه قولُه:» أيحسَبُ الإِنسانُ «. وقيل: الجوابُ أَيَحْسَبُ. وقيل: هو» بلى قادِرين «ويُرْوَى عن الحسن البصري. وقيل: المعنى على نَفْيِ القسم، والمعنى: إني لا أُقْسِم على شيء، ولكن أسألُك: أيحسَبُ الإِنسانُ. وهذه الأقوالُ شاذَّةٌ مُنْكَرةٌ لا تَصِحُّ عن قائليها لخروجِها عن لسانِ العرب، وإنما ذكرْتُها للتنبيهِ على ضَعْفها كعادتي.

3

قوله: {أَلَّن} : هذه هي المخففةُ، وحكمُها معروفٌ ممَّا تقدَّم في المائدةِ وغيرِها. و «لن» وما في حَيِّزها في موضع الخبرِ، والفاصلُ هنا حرفُ النفيِ، وهي وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْ «حَسِبَ» أو مفعولِه على الخلافِ. والعامَّةُ على «نجمعُ» بنونِ العظمة/ و «عظامَه» نصبٌ مفعولاً به. وقتادة «تُجْمع» بتاءٍ مِنْ فوقُ مضمومةٍ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، «عظامُه» رفعٌ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ.

4

قوله: {بلى} إيجابٌ لِما بعد النفيِ المنسَحِب عليه الاستفهامُ. والعامَّة على نصبِ «قادِرين» . وفيه قولان، أشهرُهما: أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعلِ الفعلِ المقدَّرِ المدلولِ عليه بحرفِ الجواب، أي: بلى نجمعُها قادرِين، والثاني: أنه منصوبٌ على خبرِ «

كان» مضمرةً أي: بلى كُنَّا قادرين في الابتداءِ، وهذا ليس بواضح. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السَّمَيْفَع «قادرون» رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر أي: بلى نحن قادرون.

5

قوله: {بَلْ يُرِيدُ} : فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ «بلى» لمجردِ الإضرابِ الانتقالي مِنْ غيرِ عطفٍ، أَضْرَبَ عن الكلامِ الأولِ وأخذ في آخرَ. والثاني: أنها عاطفةٌ. قال الزمخشريُّ: «بل يريد» عطفٌ على «أَيَحْسَبُ» فيجوز أَنْ يكونَ مثلَه استفهاماً، وأن يكونَ إيجاباً على أَنْ يَضْرِبَ عن مُسْتَفْهَمٍ عنه إلى آخرَ، أو يَضْرِبَ عن مستفهمٍ عنه إلى مُوْجَبٍ «. قال الشيخ بعد ما حَكَى عن الزمخشري:» وهذه التقاديرُ الثلاثةُ متكلفةٌ لا تظهر «. قلت: وليس هنا إلا تقديران. ومفعولُ» يريد «محذوفٌ يَدُلُّ عليه التعليلُ في قوله:» ليَفْجُرَ أمامَه «والتقدير: يريد شَهَواتِه ومعاصِيَه ليمضيَ فيها أبداً دائماً و» أمامَه «منصوبٌ على الظرفِ، وأصلُه مكانٌ فاسْتُعير هذا للزمان. والضميرُ في» أمامَه «الظاهر عَوْدُه على الإِنسان. وقال ابن عباس:» يعودُ على يوم القيامة بمعنى: أنه يريد شهواتِه ليَفْجُرَ في تكذيبِه بالبعث بين يَدَيْ يومِ القيامة «.

6

قوله: {يَسْأَلُ} : هذه جملةٌ مستأنفةٌ. وقال أبو البقاء: «تفسيرٌ لِيَفْجُرَ» فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ مستأنفاً مُفَسِّراً، وأَنْ يكونَ

بدلاً من الجلمةِ قبلَها؛ لأنَّ التفسيرَ يكون بالاستئنافِ وبالبدلِ، إلاَّ أنَّ الثاني منع منه رَفْعُ الفعلِ، ولو كان بدلاً لنُصِبَ. وقد يُقال: إنه أبدلَ الجملةَ من الجملةِ لا خصوصيةَ الفعلِ من الفعلِ وحدَه. وفيه بحثٌ وتقدَّم نظيرُ هذا في الذاريات وغيرها.

7

قوله: {بَرِقَ} : قرأ نافِع «بَرَقَ» بفتحِ الراء، والباقون بالكسرِ فقيل: لغتان في التحيُّرِ والدَّهْشة. وقيل: بَرِقَ بالكسر تَحَيَّر فَزِعاً. قال الزمخشري: «وأصلُه مِنْ بَرِقَ الرجلُ: إذا نَظَر إلى البَرْقِ فَدُهِشَ بَصَرُه» . قال غيرُه: كما يقال: أَسِدَ وبَقِرَ، إذا رأى أُسْداً وبَقَراً كثيرةً فتحيَّر من ذلك. قال ذو الرمَّة: 4407 - ولو أنَّ لُقْمانَ الحكيمَ تَعَر‍َّضَتْ ... لعينَيْهِ مَيٌّ سافِراً كاد يَبْرِقُ وقال الأعشى: 4408 - وكنتُ أَرَى في وجهِ مَيَّةَ لَمْحَةً ... فأَبْرَقُ مغشِيَّاً عليَّ مكانيا وأنشد الفراء:

4409 - فنَفْسَك فانْعَ ولا تَنْعَني ... وداوِ الكُلومَ ولا تَبْرَقِ وبَرَق بالفتح مِن البريق أي: لَمَعَ من شدةِ شخوصه. وقرأ أبو السَّمَّال «بَلَقَ» باللام. قال أهلُ اللغة إلاَّ الفراء. معناه فَتَحَ. يقال: بَلَقْتُ البابَ وأَبْلَقْتُه أي: فتحتُه وفَرجْتُه. وقال الفراء: «بمعنى أَغْلَقْتُه» . قال ثعلب: «أخطأ الفراءُ في ذلك» ثم يجوز أَنْ يكونَ «بَلَقَ» غيرَ مادةِ بَرَقَ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مادةً واحدةً، أُبْدِل فيها حرفٌ مِنْ آخرَ، وقد جاء إبدالُ اللامِ من الراءِ في أحرف، قالوا: نَثَرَ كِنانته ونَثَلَها. وقالوا: وَجِلَ ووَجِرَ، فيمكن أن يكونَ هذا منه، ويؤيِّدُه أَنَّ بَرَقَ قد أتى بمعنى: شَقَّ عيْنيْه وفَتَحَها، قاله أبو عبيدة. وأنشد: 4410 - لَمَّا أتاني مِنْ عُمَيْرٍ راغباً ... أَعْطَيْتُه عِيساً صِهاباً فبرَقْ أي: ففتح عينيْه، فهذا مناسِبٌ ل «بَلَقَ» في المعنى «.

8

قوله: {وَخَسَفَ} : العامةُ على بنائِه للفاعلِ. وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب «خُسِفَ» مبنياً للمفعول؛ وهذا لأن خَسَفَ يُستعمل لازماً ومتعدياً يقال: خَسَفَ القمرُ وخَسَفه الله، وقد اشْتُهر أن الخُسوفَ للقمرِ والكُسوفَ للشمسِ. وقال بعضهم: بل

يكونان فيهما، يُقال: خَسَفَتِ الشمسُ وكَسَفَتْ، وخَسَفَ القمرُ وكَسَفَ. وتأيَّد بعضُهم بالحديث: «إنَّ الشمسَ والقمرَ/ آيتان مِنْ آياتِ اللَّهِ لا يُخْسَفان لموتِ أحدٍ» فاستعملَ الخُسُوْفَ فيهما. وعندي فيه نَظَرٌ؛ لاحتمالِ التغليبِ وهل هما بمعنىً واحدٍ أم لا؟ فقال أبو عبيدٍ وجماعةٌ: هما بمعنىً واحدٍ. وقال ابن أبي أويس: «الخُسوفُ ذهابُ كلِّ ضَوْئِهما، والكُسوفُ ذهابُ بَعْضِه» .

9

قوله: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} : لم تَلْحَقْ علامةُ تأنيثٍ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وقيل: لتغليبِ التذكيرِ. وفيه نظرٌ؛ لو قلت: «قام هندٌ وزيدٌ» لم يَجُزْ عند الجمهورِ من العربِ. وقال الكسائيُّ: «حُمِل على معنى: جُمِعَ» النَّيِّران «. و» يقولُ الإِنسانُ «جوابٌ» إذا «مِنْ قولِه: {فَإِذَا بَرِقَ البصر} . و» أينَ المفرُّ «منصوبُ المحلِّ بالقولِ: والمَفَرُّ: مصدرٌ بمعنى الفِرار. وهذه هي القراءةُ المشهورة. وقرأ الحَسَنان ابنا علي رضي الله عنهم وابنُ عباس والحسن ابن زيد في آخرين بفتح الميمِ وكسرِ الفاءِ، وهو اسمُ مكانِ الفرارِ أي: أين

مكانُ الفِرار؟ وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ مصدراً. قال:» كالمَرْجِعِ. وقرأ الحسنُ عكسَ هذا أي: بكسرِ الميمِ وفَتْحِ الفاءِ، وهو الرجلُ الكثيرُ الفِرارِ، وهذا كقولِ امرىءِ القَيْسِ يَصِف جَوادَه: 4411 - مِكَّرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً ... كجُلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السيلُ مِنْ عَلِ وأكثرُ استعمالِ هذا الوزنِ في الآلاتِ.

11

قوله: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} : تقدَّم الكلامُ في «كلا» وخبر «لا» محذوفٌ أي لا وَزَرَ له. وهل هذه الجملةُ مَحْكِيَّةٌ بقولِ الإِنسان فتكونُ منصوبةٌ المحلِّ، أو هي مستأنفةٌ إخباراً من الله تعالى بذلك؟ والوَزَرُ: المَلْجأ مِنْ حِصْنٍ أو جَبَلٍ أو سلاحٍ. قال: 4412 - لَعَمرُكَ ما للفتى مِنْ وَزَرْ ... من الموتِ يُدْرِكُه والكِبَرْ

12

قوله: {المستقر} : مبتدأٌ، خبرُه الجارُّ قبلَه. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً بمعنى الاستقرارِ، وأَنْ يكونَ مكانَ الاستقرارِ. «ويومَئذٍ» منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، ولا ينْتَصِبُ بمُسْتقر؛ لأنَّه إنْ كان مصدراً فلتقدُّمِه عليه، وإنْ كان مكاناً فلا عَمَلَ له البتةَ.

14

قوله: {بَصِيرَةٌ} : يجوزُ فيها أوجهٌ، أحدُها: أنَّها

خبرٌ عن «الإِنسانُ» و «على نفسِه» متعلِّقٌ ب «بَصيرةٌ» والمعنى: بل الإِنسانُ بَصيرةٌ على نفسِه، وعلى هذا فلأيِّ شيءٍ أُنِّث الخبرُ؟ وقد اختلف النَّحْويون في ذلك، فقال بعضهم: الهاءُ فيه للمبالغةِ. وقال الأخفش: «هو كقولِك: فلانٌ عِبْرَةٌ وحُجَّةٌ» . وقيل: المرادُ بالإِنسان الجوارِحُ، فكأنَّه قال: بل جوارِحُه بصيرة أي: شاهدةٌ. والثاني: أنها مبتدأٌ، و «على نفسِه» خبرُها. والجملةُ خبرٌ عن «الإِنسانُ» ، وعلى هذا ففيها تأويلاتٌ أحدُها: أنْ يكونَ «بصيرةٌ» صفةً لمحذوفٍ أي: عينٌ بصيرةٌ، قاله الفراء. وأنشد: 4413 - كأن على ذي العقْل عَيْناً بَصيرةً ... بمَقْعَدِه أو مَنْظَرٍ هو ناظرُهْ يُحاذِرُ حتى يَحْسَبَ الناسَ كلَّهمْ ... من الخوف لا تَخْفَى عليهمْ سرائِرُهْ الثاني: أنَّ المعنى: جوارح بَصيرة. الثالث: أنَّ المعنى: ملائكةٌ بصيرة، والتاءُ على هذا للتأنيثِ. وقال الزمخشري: «بَصيرة: حُجَّةٌ بَيِّنة، وُصِفَتْ بالبِصارة على المجازِ كما وُصِفَتْ الآياتُ بالإِبصار في قولِه: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل: 13] . قلت: هذا إذا لم تَجْعَلِ الحُجَّة عبارةً عن الإِنسانِ، أو تَجْعَلْ دخولَ التاء للمبالغةِ. أمَّا إذا كانَتْ للمبالغةِ

فنسبةُ الإِبصارِ إليها حقيقةٌ. الثالث من الأوجه السابقة: أَنْ يكونَ الخبرُ الجارَّ والمجرورَ، و» بصيرةٌ «فاعلٌ به، وهو أرجحُ مِمَّا قبلَه لأنَّ الأصلَ في الإِخبارِ الإِفرادُ.

15

قوله: {وَلَوْ ألقى} : هذه الجملةُ حاليةٌ. وقد تقدَّم نظيرُها غيرَ مرةٍ. والمعاذير/: جمع مَعْذِرة على غيرِ قياس، كمَلاقيح ومَذاكير جمع لَقْحَة وذَكَر. وللنَّحويين في مثلِ هذا قولان، أحدهما: أنه جمعٌ لملفوظٍ به، وهو لَقْحَة وذَكَر. والثاني: أنه جمعٌ لغيرِ ملفوظٍ به بل لمقدرٍ أي: مَلْقَحَة ومِذْكار. وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: أليسَ قياسُ المَعْذِرَة أَنْ يُجْمَعَ معاذِرَ لا معاذير؟ قلت: المعاذيرُ ليسَتْ بجمع مَعْذِرة، بل اسمُ جمعٍ لها، ونحوُه: المَناكير في المُنْكر» . قال الشيخ: «وليسَ هذا البناءُ من أبنيةِ أسماءِ الجُموع، وإنما هو مِنْ أبنيةِ جموعِ التكسيرِ» انتهى، وهو صحيحٌ. وقيل: مَعاذير: جمعُ مِعْذار، وهو السِّتْرُ، فالمعنى: ولو أرخى سُتورَه. والمعاذِيْرُ: السُّتور بلغةِ اليمن، قاله الضحاك والسُّدِّي وأُنشد على ذلك: 4414 - ولكنَّها ضَنَّتْ بمَنْزلِ ساعةٍ ... علينا وأَطَّتَ فوقَها بالمعَاذِرِ وقد حَذَفَ الياءَ من «المعاذير» ضرورةً. وقال الزمخشري: «فإنْ

صَحَّ يعني أنَّ المعاذير السُّتور فلأنَّه يَمْنَعُ رؤيةَ المُحْتَجِبِ كما تَمْنَعُ المعذرةُ عقوبةَ المُذْنِبِ» . قلت: هذا القولُ منه يُحتمل أَنْ يكونَ بياناً للمعنى الجامع بين كَوْنِ السُّتورَ، أو الاعتذاراتِ، وأَنْ يكونَ بياناً للعلاقةِ المُسَوِّغةِ في التجوُّز.

17

قوله: {وَقُرْآنَهُ} : أي: قراءَتَه، فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ. وأمَّا الفاعلُ فمحذوف. والأصلُ: وقراءَتَك إياه، والقرآن: مصدرٌ بمعنى القراءة. قال حَسَّان رضي الله عنه: 4415 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يُقَطِّعُ الليلَ تَسْبيحاً وقُرآناً وقال ابن عطية: «قال أبو العالية:» إنَّ علينا جَمْعَه وقُرَانَه. فإذا قَرَتَه فاتَّبِعْ قُرانَه «بفتح القافِ والراء والتاءِ، مِنْ غيرِ همزٍ ولا ألفٍ» . قلت: ولم يَذْكُرْ توجيهاً. فأمَّا توجيهُ قولِه: «جَمْعَه وقُرانَه» ، وقوله: «فاتَّبِعْ قُرانَه» فواضحٌ مِمَّا تقدَّمَ في قراءةِ ابن كثير في البقرة، وأنه هل هو نَقْلٌ، أو مِنْ مادةِ قَرَن، وتحقيقُ القولَيْن مذكورٌ ثَمَّةَ فعليك بالالتفاتِ إليه. وأمَّا قولُه: «بفتحِ القافِ والراءِ والتاء» فيعني في قولِه: «فإذا قَرَتَه» يُشير إلى أنه قُرىء شاذاً هكذا، وتوجيهُها: أنَّ

الأصلَ: «قَرَأْتَه» فعلاً ماضياً مُسْنداً لضمير المخاطبِ أي: فإذا أَرَدْتَ قراءتَه، ثم أبدلَ الهمزةَ ألفاً لسكونِها بعد فتحةٍ، ثم حَذَفَ الألفَ تخفيفاً كقولِهم: «ولو تَرَ ما الصبيانَ» أي: ولو تَرَى الصبيانَ و «ما» مزيدة، فصار اللفظُ «قَرَتَه» كما ترى.

20

قوله: {بَلْ تُحِبُّونَ} : قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ و «يُحِبُّون» و «يَذَرون» بياءِ الغَيْبة حملاً على لفظِ الإِنسانِ المذكور. أولاً؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ، والباقون بالخطابِ فيهما: إمَّا خِطاباً لكفارِ قريش، وإمَّا التفاتاً عن الإخبار عن الجنسِ المتقدِّم والإِقبالِ عليه بالخطاب.

22

قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} : فيه أوجهٌ أحدُها: أَنْ يكون «وجوهٌ» مبتدأً، و «ناضِرةٌ» نعتٌ له، و «يومَئذٍ» منصوبٌ ب «ناضِرة» و «ناظرةٌ» خبرُه، و «إلى ربِّها» متعلِّقٌ بالخبرِ، والمعنى: أنَّ الوجوهَ الحسنة يومَ القيامة ناظرةٌ إلى اللَّهِ تعالى، وهذا معنىً صحيحٌ وتخريجٌ سَهْلٌ. والنَّاضرَةُ: من النُّضْرَةِ وهي: التنعُّمُ، ومنه غُصْنٌ ناضِر. الثاني: أَنْ يكونَ «وجوهٌ» مبتدأً أيضاً، و «ناضِرَةٌ» خبرُه، و «يومَئذٍ» منصوبٌ بالخبرِ كما تقدَّم. وسَوَّغَ الابتداءَ هنا بالنكرةِ كَوْنُ الموضعِ موضعَ تفصيلٍ كقولِه: 4416 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فثوبٌ لَبِسْتُ وثوبٌ أَجُرّْ

ويكون «ناظرةٌ» نعتاً لوجوه، أو خبراً ثانياً، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ. و «إلى ربِّها» متعلقٌ ب «ناظرة» كما تقدَّم. وقال ابنُ عطية: «وابتدأ بالنكرة/ لأنها تخصَّصَتْ بقوله» يومئذٍ «. وقال أبو البقاء:» وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لحصول الفائدةِ «. قلت: أمَّا قولُ ابنِ عطيِّةَ ففيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَه:» تخصَّصَتْ بقولِه: «يومئذٍ» هذا التخصيصُ: إمَّا لكونِها عاملةً فيه، وهو مُحالٌ؛ لأنها جامدةٌ، وإمَّا لأنَّها موصوفةٌ به وهو مُحال أيضاً؛ لأنَّ الجُثَثَ لا تُوْصَفُ بالزمان كما لا يُخْبَرُ به عنها. وأمَّا قولُ أبي البقاءِ فإنْ أرادَ بحصولِ الفائدةِ ما قدَّمْتُه من التفصيل فصحيحٌ، وإنْ عَنَى ما عناه ابنُ عطيةَ فليس بصحيحٍ لِما عَرَفْتَه. الثالث: أَنْ يكونَ «وجوهٌ» مبتدأً، و «يومئذٍ» خبرَه، قاله أبو البقاء. وهذا غَلَطٌ مَحْضٌ من حيث المعنى، ومِنْ حيثُ الصناعةُ. أمَّا المعنى فلا فائدةَ في الإِخبارِ عنها بذلك. وأمَّا الصناعةُ فلأنَّه لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ، وإنْ وَرَدَ ما ظاهرهُ ذلك تُؤُوِّل نحو: «الليلةَ الهلالُ» الرابع: أَنْ يكونَ «وجوهٌ» مبتدأً و «ناضرةٌ» خبرَه، و {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} جملةً في موضعِ خبرٍ ثانٍ، قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يَنْعَقِدُ منهما كلامٌ، إذ الظاهرُ تعلُّقُ «إلى» ب «ناظرة» ، اللهمَّ إلاَّ أَنْ يعنيَ أنَّ «ناظرةٌ» خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هي ناظرةٌ إلى ربِّها، وهذه الجملةُ خبرٌ ثانٍ. وفيه تَعَسُّفٌ.

الخامس: أَنْ يكونَ الخبرُ لوجوه مقدراً، أي: وجوهٌ يومئذٍ ثَمَّ، و «ناضرةٌ» صفةٌ، وكذلك «ناظرةٌ» ، قاله أبو البقاء. وهو بعيدٌ لعدمِ الحاجةِ إلى ذلك. ولا أدري ما الذي حَمَلهم على هذا مع ظهورِ الوجهِ الأولِ وخُلُوصِه من هذه التعسُّفاتِ؟ وكونُ «إلى» حرفَ جرّ، و «ربِّها» مجروراً بها هو المتبادَرُ للذِّهْنِ. وقد خَرَّجه بعضُ المعتزلةِ: على أَنْ تكونَ «إلى» اسماً مفرداً بمعنى النِّعْمَةِ مضافاً إلى الرَّبِّ، ويُجمع على «آلاء» نحو: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] وقد تقدَّم أنَّ فيه لغاتٍ أربعاً، و «ربِّها» خفضٌ بالإِضافةِ، و «إلى» مفعولٌ مقدمٌ ناصبُه «ناظرةٌ» بمعنى مُنْتَظرة. والتقدير: وجوهٌ ناضِرَةٌ منتظرةٌ نعمةَ ربِّها. وهذا فِرارٌ من إثباتِ النظر للَّهِ تعالى على مُعْتَقَدِهم. والزمخشريُّ تمحَّل لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهةِ الصناعةِ النحويةِ فقال بعد أن جَعَلَ التقديمِ في «إلى ربها» مُؤْذِناً بالاختصاص «والذي يَصِحُّ معه أَنْ يكونَ مِنْ قولِ الناس:» أنا إلى فلانٍ ناظرٌ ما يَصْنَعُ بي «يريد معنى التوقعِ والرجاءِ. ومنه قولُ القائل: 4417 - وإذا نَظَرْتُ إليك مِنْ ملكٍ ... والبحرُ دونَك زِدْتَني نِعَما وسمعتُ سَرَوِيَّةً مُسْتجديَةً بمكة وقت الظهرِ حين يُغْلِقُ الناسُ

أبوابَهم ويَأْوُوْن إلى مقايِلهم تقول:» عُيَيْنتي ناظِرَةٌ إلى اللَّهِ وإليكم «والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمةَ والكرامةَ إلاَّ مِنْ ربِّهم» قلت: وهذا كالحَوْمِ على قولِ مَنْ يقولُ: إنَّ «ناظرة» بمعنى مُنْتظرة. إلاَّ أنَّ مكيَّاً قد رَدَّ هذا القولَ فقال: «ودخولُ» إلى «مع النظر يَدُلُّ على أنه نَظَرُ العَيْنِ، وليس من الانتظار، ولو كان من الانتظارِ لم تَدْخُلْ معه» إلى «؛ ألا ترى أنَّك لا تقول: انتظرتُ إلى زيدٍ، وتقول: نظرْتُ إلى زيد، ف» إلى «تَصْحَبُ نظرَ العينِ لا تصحَبُ نَظَرَ الانتظار، فَمَنْ قال: إن» ناظرة «بمعنى مُنتظرة فقد أخطأ في المعنى وفي الإِعراب، ووَضَعَ الكلامَ في غيرِ موضعِه» . والنُّضْرَةُ: طَراوةُ البَشَرةِ وجمالُها، وذلك مِنْ أثرِ النُّعمةِ يُقال: نَضِر وَجْهُه فهو/ ناضِرٌ. وقال بعضهم: مُسَلَّمٌ أنه مِنْ نَظِرِ العينِ، إلاَّ أنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ، أي: ثوابَ ربِّها، ونحوُه. قال مكي: «لو جاز هذا لجازَ: نَظَرْتُ إلى زيد، أي: إلى عطاءِ زيدٍ. وفي هذا نَقْضٌ لكلامِ العربِ وتَخْليطٌ في المعاني» . ونَضَره الله ونَضَّره مخففاً ومثقلاً، أي: حَسَّنه ونَعَّمه، وفي الحديث: «نضرَ اللَّهُ امرَأً سَمِع مقالتي فوَعَاها، فأدَّاها كما سَمِعَها» يُرْوَى بالوجهَيْنِ. وقيل للذهب: «نُضار» من ذلك. ويُقال له: النَّضْرُ أيضاً، وأخضرُ ناضِرُ، ك أسودُ حالكٌ، وقَدَحٌ نُضارٌ ونُضارٍ، يُرْوَى بالإِتباع والإِضافة. والعامَّة على «ناضِرَة» بألفٍ. وقرأ زيدُ بن علي «نَضِرَة» بدونِها، كفَرِحَ فهو فَرِحٌ.

25

قوله: {فَاقِرَةٌ} : هي الداهيةُ العظيمةُ، سُمِّيَتْ بذلك لأنها تكسِرُ فَقارَ الظَّهْرِ. قال النابغة: 4418 - أَبَى لِيَ قَبْرٌ لا يزالُ مُقابِليْ ... وضَرْبَةُ فَأْسٍ فوقَ رَأْسيَ فاقِرَهْ أي: داهِيَةٌ مُؤَثِّرَةٌ، ومنه سُمِّي الفقيرُ لانكسارِ فَقارِه من القُلِّ، وقد تقدَّم في البقرة.

26

قوله: {التراقي} : مفعولُ «بَلَغَتْ» ، والفاعلُ مضمرٌ [يعود] على النفسِ، وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ، كقولِ حاتم: 4419 - أماوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عن الفتى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ أي: حَشْرَجَتِ النفسُ. وقيل في البيت: إنَّ الدالَّ على النفس ذِكْرُ جُمْلَةِ ما اشتملَ عليها، وهو الغِنى، فكذلك هنا ذِكْرُ الإِنسانِ دالٌّ على النفسِ. والتَّراقِي: جمع تَرْقُوَة، أصلُها تَراقِوُ، قُلِبَتْ واوُها ياءً لانكسار ما قبلها. والتَّرْقُوَة إحدى عِظامِ الصدرِ، كذا قال الشيخ، والمعروفُ غيرُ ذلك. قال الزمخشري: «ولكلِّ إنسانٍ تَرْقُوَتان» فعلى هذا تكونُ

مِنْ باب: غليظِ الحواجب وعريضِ المناكب. والتراقِي: موضِعُ الحَشْرَجَةِ. قال: 4420 - ورُبَّ عظيمةٍ دافَعتُ عنها ... وقد بلغَتْ نفوسُهُمُ التراقِيْ وقال الراغب: «التَّرْقُوَةُ عَظْمٌ وُصِلَ ما بين ثُغْرَةِ النحرِ والعاتِق» انتهى. وقال الزمخشري: «العِظامُ المكتنِفةُ لثُغْرَةِ النَّحْرِ عن يمينٍ وشِمالٍ» ووزنها فَعْلُوة، فالتاءُ أصلٌ والواوُ زائدةٌ، يَدُلُّ عليه إدخالُ أهل اللغةِ إياها في مادة «تَرَق» . وقال أبو البقاء: «والتراقي: جمع تَرْقُوَة» وهي فَعْلُوة، وليست تَفْعُلَة، إذ ليس في الكلام «رقو» ، وقُرِىء «التراقي» بسكونِ الياء، وهي كقراءةِ زيدٍ «تُطْعِمون أهالِيْكم» [المائدة: 89] وقد تقدَّم توجيهُها.

27

قوله: {مَنْ رَاقٍ} : مبتدأٌ وخبرٌ. وهذ الجملةُ هي القائمةُ مَقامَ الفاعلِ، وأصولُ البَصْريين تَقْتَضي أَنْ لا تكونَ؛ لأنَّ الفاعلَ عندهم لا يكونُ جملةً؛ بل القائمُ مَقامَه ضميرُ المصدرِ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا أولَ البقرة، وهذا الاستفهامُ يجوزُ أن يكونَ على بابِه، وأَنْ يكونَ

استبعاداً وإنكاراً. وراقٍ اسمُ فاعلٍ: إمَّا من رَقَى يَرْقَى من الرُقية وهو كلامٌ مُعَدٌّ للاستشفاء، يُرْقَى به المريضُ لِيُشْفَى. وفي الحديث: «وما أدراكَ أنها رُقْيَةٌ» ؟ يعني الفاتحةَ وهو مِنْ أسمائِها، وإمَّا مِنْ رَقِيَ يَرْقَى، من الرُّقِيِّ وهو الصعودُ، أي: إنَّ الملائكةَ لِكراهتِها في رُوْحِه تقول: مَنْ يَصْعَد بهذه الروح؟ يقال: رَقَى بالفتحِ من الرُّقْيَةِ، وبالكسرِ من الرُّقِيِّ. ووقف حفَص على نون «مَنْ» سكتَةً لطيفةً، وتقدَّم هذا في أولِ الكهف وتحقيقُه. وذكرَ سيبويه إنَّ النونَ تُدْغَمُ في الراءِ وجوباً بغُنَّةٍ وبغيرِها نحو: مَنْ راشِدٌ. والعاملُ في «إذا بلغَت» معنى قولِه: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} أي: إذا بلغَتِ الحُلْقومَ رُفِعَتْ إلى الله «ويكونُ قولُه:» وقيل: مَنْ راقٍ «معطوفاً على» بَلَغَت «. والمِساقُ: مَفْعَل من السَّوْقِ وهو اسمُ مصدرٍ.

31

قوله: {فَلاَ صَدَّقَ} : «لا» هنا دَخَلَتْ على الماضي، وهو مُسْتفيضٌ في كلامِهم بمعنى: لم يُصَدِّق ولم يُصَلِّ. قال:

4421 - إنْ تَغْفِر اللهمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألَمَّا وقال آخر: 4422 - وأيُّ خَميسٍ لا أَفَأْنا نِهابَه ... وأسيافُنا مِنْ كَبْشِه تَقْطُر الدِّما واستدلَّ بعضُهم أيضاً على ذلك بقولِ امرِىء القيس: 4423 - كأنَّ دِثاراً حَلَّقَتْ بلَبُوْنِه ... عُقابُ تَنُوْفَى لا عُقابُ القواعِلِ / فقوله: «لا عُقابُ» عطفٌ على «عُقابُ تَنُوفَى» وهو مرفوعٌ بحلَّقَتْ، وفي البيتَيْنِ الأَوَّلَيْنِ غُنْيَةٌ عن هذا. وقال مكي: «لا» الثانيةُ نفيٌ، وليسَتْ بعاطفةٍ، ومعناه: فلم يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ «. قلت: كيف يُتَوَهَّمُ العطفُ حتى يَنْفِيَه؟ وجعل الزمخشريُّ {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} عطفاً على الجملة مِنْ قولِه: {يَسْأَلُ

أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} قال:» وهو معطوفٌ على قوله: «يَسْأل أيَّان» ، أي: لا يُؤْمِنُ بالبعثِ فلا صَدَّقَ بالرسول والقرآن «، واستبعده الشيخ.

32

قوله: {ولكن كَذَّبَ} : الاستدراكُ هنا واضحٌ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ التصدُّقِ والصلاةِ التكذيبُ والتولِّي؛ لأنَّ كثيراً من المسلمين كذلك، فاسْتَدْرَكَ ذلك: بأنَّ سببَه التكذيبُ والتولِّي، ولهذا يَضْعُفُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُ التصديقِ على نَفْيِ تصديقِ الرسولِ؛ لئلا يَلْزَمَ التكرارُ، فتقعَ «لكنْ» بين متوافقَيْن، وهو لا يجوزُ.

33

قوله: {يتمطى} : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل «ذَهَبَ» ، وقد يجوز أَنْ يكونَ بمعنى: شرع في التمطي كقوله: 4424 - فقامَ يَذُوْدُ الناسُ عنها. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وتمطَّى فيه قولان، أحدُهما: أنَّه مِنْ المَطا، والمطا: الظهرُ، ومعناه: يَتَبَخْتَرُ، أي: يَمُدُّ مَطاه ويَلْويه تَبَخْتُراً في مِشْيته. والثاني: أنَّ أصلَه: يَتَمَطَّطُ، مِنْ تَمَطَّط، أي: تَمَدَّد، ومعناه: أنَّه يتمدَّدُ في مِشْيَتِه

تَبَخْتُراً، ومِنْ لازِمِ التبختُرِ ذلك، فهو يَقْرُبُ مِنْ معنى الأول ويفارِقُه في مادتِه؛ إذ مادةُ المَطا: م ط و، ومادةُ الثاني: م ط ط، وإنما أُبْدِلَتِ الطاءُ الثالةُ ياءً كراهةَ احتمالِ الأمثالِ نحو: تَظَنَّيْت وقَصَّيْتُ أظفاري، وقولِه: 4425 - تَقَضِّيَ البازِيْ إذا البازِيْ كَسرْ ... والمُطَيْطاء: التَّبَخْتُرُ ومَدُّ اليَديْن في المَشْيِ، والمَطيطة: الماء الخاثِرُ أسفلَ الحوضِ؛ لأنه يتمطَّطُ، أي: يمتَدُّ فيه.

34

وتقدَّم الكلامُ على قوله: {أولى لَكَ فأولى} في آخر سورة القتال مُشبعاً، وإنما كُرِّرَ هنا مبالغةً في التهديد والوعيد. وقالت الخنساء: 4426 - هَمَمْتُ بنفسِيَ كلَّ الهمومِ ... فأَوْلَى لنفسِيَ أَوْلَى لها وقال أبو البقاء هنا: «وزنُ أَوْلَى فيه قولان، أحدُهما: فَعْلَى، والألفُ فيه للإِلحاقِ لا للتأنيثِ، والثاني: هو أَفْعَلُ، وهو على القولَيْن هنا [عَلَم] ولذلك لم يُنَوَّنْ، ويَدُلُّ عليه ما حكى أبو زيدٍ في»

النوادر «:» هي أَوْلاةُ «بالتاءِ غيرَ مَصْروفٍ، فعلى هذا يكونُ» أَوْلى «مبتدأً، و» لك «الخبرُ. والثاني: أَنْ يكونَ اسماً للفعل مبنياً ومعناه: وَلِيَكَ شَرٌّ بعد شَرّ، و» لك «تبيينٌ» .

36

قوله: {سُدًى} : حالٌ مِنْ فاعلِ «يُتْرَكُ» ومعناه: مُهْمَلاً يقال: إبلٌ سُدَى، أي: مُهْملة. قال الشاعر: 4427 - وأُقْسِمُ بالله جَهْدَ اليمينِ ... ما خَلَقَ اللَّهُ شيئاً سُدَى أي: مُهْملاً. وأَسْدَيْتُ حاجتي، أي: ضيَّعْتُها. ومعنى «أَسْدَى إليه معروفاً» ، أي: جعله بمنزلةِ الضَّائع عند المُسْدى إليه لا يذكره ولا يَمُنُّ به عليه.

37

قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً} : العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ في «يك» رجوعاً للإِنسان. والحسن بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ إليه توبيخاً له. قوله: {يمنى} قرأ حفص «يُمْنى» بالياء مِنْ تحتُ، وفيه وجهان:

أحدُهما: أنَّ الضميرَ عائدٌ على المنيِّ، أي: يُصَبُّ، فتكونُ الجملةُ في محلِّ جر. والثاني: أنه يعودُ للنُّطفةِ؛ لأنَّ تأنيثَها مجازيُّ، ولأنَّها في معنى الماءِ، قاله أبو البقاء، وهذا إنما يتمشَّى على قولِ ابنِ كيسان. وأمَّا النحاةُ فيجعلونه ضرورةً كقوله: 4428 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أبْقَلَ إبْقالَها وقرأ الباقون «تُمْنَى» بالتاءِ مِنْ فوقُ على أنَّ الضميرَ للنُّطفة. فعلى هذه القراءةِ وعلى الوجهِ المذكورِ قبلَها تكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنها صفةٌ لمنصوبٍ. /

39

قوله: {الذكر والأنثى} : يجوزُ أَنْ يكونا بَدَلَيْنِ مِنْ «الزَّوْجَيْن» ، وأَنْ يكونا منصوبَيْن بإضمارِ «أعني» على القطع، والأصلُ عَدَمُه. وقرأ العامَّةُ «الزوجَيْن» وزيدٌ بن علي «الزوجان» على لغة مَنْ يُجْري المثنى إجراءَ المقصورِ، وقد تقدَّم تحقيقُه في طه، ومَنْ تُنْسَبُ إليه هذه اللغةُ، والاستشهادُ على ذلك.

40

وقرأ العامَّةُ أيضاً «بقادرٍ» اسمَ فاعلٍ مجروراً بباءٍ زائدةٍ في خبرِ «ليس» . وزيدُ بن علي «يَقْدِرُ» فعلاً مضارعاً. والعامَّةُ على

نصب «يُحْيِيَ» ب «أَنْ» لأنَّ الفتحةَ خفيفةٌ على حرفِ العلةِ. وقرأ طلحةُ بن سليمان والفياض بن غزوان بسكونها: فإمَّا أَنْ يكونَ خَفَّفَ حرفَ العلةِ بحَذْفِ حركةِ الإِعرابِ، وإمَّا أَنْ يكونَ أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. وجمهورُ الناسِ على وجوبِ فَكِّ الإِدغامِ. قال أبو البقاء: «لئلا يُجْمَعَ بين ساكنَيْن لفظاً أو تقديراً» . قلت: يعني أنَّ الحاءَ ساكنةٌ، فلو أَدْغَمْنا لسَكَنَّا الياءَ الأولى أيضاً للإِدغام فيَلْتقي ساكنان لفظاً، وهو مُتَعَذَّرُ النطقِ، فهذان ساكنان لفظاً. وأمَّا قولُه: «تقديراً» فإنَّ بعضَ الناسِ جوَّز الإِدغامَ في ذلك، وقراءتُه «أَنْ يُحِيَّ» وذلك أنه لَمَّا أراد الإِدغامَ نَقَلَ حركةَ الياءِ الأولى إلى الحاء، وأدغمها، فالتقى ساكنان: الحاءُ لأنها ساكنةٌ في التقدير قبل النقلِ إليها والياءُ؛ لأنَّ حركتَها نُقِلَتْ مِنْ عليها إلى الحاءِ، واستشهد الفراءُ لهذه القراءةِ: بقوله: 4429 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَمْشِي لسُدَّةِ بيتها فَتُعِيُّ

وأمَّا أهلُ البصرةِ فلا يُدْغِمونه البتةَ، قالوا: لأنَّ حركةَ الياءِ عارضةٌ؛ إذ هي للإِعرابِ. وقال مكي: «وقد أجمعوا على عَدَمِ الإِدغامِ في حالِ الرفع. فأمَّا في حالِ النصبِ فقد أجازه الفراءُ لأجلِ تحرُّك الياء الثانيةِ، وهو لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّ الحركةَ عارضةٌ» قلت: ادعاؤُه الإِجماعَ مردودٌ بالبيتِ الذي قَدَّمْتُ إنشاده عن الفراءِ، وهو قوله: «فَتُعِيُّ» فهذا مرفوعٌ وقد أُدْغِمَ. ولا يَبْعُدُ ذلك؛ لأنَّه لَمَّا أُدْغِم ظهرَتْ تلك الحركةُ لسكونِ ما قبل الياءِ بالإِدغام.

الإنسان

قوله: {هَلْ أتى} : في «هل» هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ، أي: هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه: أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا، فإنه يكونُ الجوابُ: أتى عليه ذلك، وهو بالحالِ المذكورةِ، كذا قاله الشيخ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً. وقال مكي في تقرير كونها على بابِها من الاستفهام. «والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه. فيقال له: مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه؟ وهو معنى قولِه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62] ، أي: فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً بعد أن لم يكُنْ قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه وعَدَمِه» انتهى. فقد جَعَلها لاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ

وما أشبهه. والثاني: أنها بمعنى «قد» قال الزمخشري: «هل بمعنى» قد «في الاستفهام خاصة. والأصل: أهل بدليلِ قولِه: 4430 - سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا ... أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ فالمعنى: أقد أتى، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً، أي: أتى على الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً، أي: كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور» انتهى. فقولُه: «على التقريرِ» يعني المفهومَ من الاستفهامِ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ «هل» . وقوله: «والتقريب» يعني المفهومَ مِنْ «قد» التي وقع مَوْقِعَها «هل» . ومعنى قولِه «في الاستفهام خاصةً» أنَّ «هل» لا تكونُ بمعنى «قد» إلاَّ ومعها استفهامٌ/ لفظاً كالبيتِ المتقدِّم، أو تقديراً كالآية الكريمةِ. فلو قلتَ: «هل جاء زيدٌ» تعني: قد جاء، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى «قد» من غيرِ هذا القيدِ. وبعضُهم لا يُجيزه البتةَ، ويَتَأّوَّل البيتَ: على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ: 4331 - فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فالباءُ بمعنى «عن» ، وهي مؤكِّدةٌ لها، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه: 4432 - فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي ... ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى. ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى «قد» ، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر: وهو أَنْ يقولَ: في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ «هل» على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى «قد» لأنَّ «قد» مختصَّةٌ بالأفعالِ. وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ «قد» لا تباشِرُ الأسماءَ. قوله: {لَمْ يَكُن} في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من «الإِنسان» ، أي: هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ. والثاني: أنها في موضعِ رفع نعتاً ل «حينٌ» بعد نعتٍ. وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه: حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً.

2

قوله: {أَمْشَاجٍ} : نعتٌ ل «نُطْفة» ووَقَعَ الجمعُ صفةً لمفردٍ؛ لأنَّه في معنى الجمع، كقولِه تعالى: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ} أو جُعِل كلُّ جزءٍ من النُّطفةِ نُطفةً، فاعتبر ذلك فوُصِفَ بالجمع، وقال الزمخشري: «أََمْشاج كبْرْمَةٍ أَعْشار، وبُرْدٍ أَكْياشٌ وهي ألفاظٌ

مفردةٌ غيرُ جموعٍ؛ ولذلك تقع صفاتٍ للأفرادِ» ويقال: نُطْفَةٌ مَشَجٌ، قال الشماخ: 4433 - طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ ... على مَشَجٍ سُلالتُه مَهِينُ ولا يَصِح «أَمْشاج» أَنْ يكونَ تكسيراً له، بل هما مِثْلان في الإِفرادِ لوصف المفرد بهما «. فقد مَنَعَ أَنْ يكونَ أَمْشاجاً جمعَ» مِشْجٍ «بالكسر. قال الشيخ:» وقوله مخالفٌ لنصِّ سيبويهِ والنَّحْويين على أَنْ أَفعالاً لا يكون مفرداً. قال سيبويه: «وليس في الكلامِ» أَفْعال «إلاَّ أَنْ يُكَسَّرَ عليه اسماً للجميع، وما وَرَدَ مِنْ وصفِ المفردِ بأَفْعال تَأَوَّلوه» انتهى. قلت: هو لم يَجْعل أَفْعالاً مفرداً، إنما قال: يُوْصف به المفردُ، يعني بالتأويلِ الذي ذَكَرْتُه مِنْ أنَّهم جَعَلُوا كلَّ قِطعةٍ من البُرْمَة بُرْمَةً، وكلَّ قطعةٍ من البُرْد بُرْداً، فوصفوهما بالجمع. وقال الشيخ: «الأمْشاج»

الأخلاط، واحدُها مَشَج بفتحتين، أو مِشْج كعِدْل وأَعْدال أو مَشِيج كشريف وأَشْراف، قاله ابنُ الأعرابي. وقال رؤبة: 4434 - يَطْرَحْن كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجٍ ... لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أَمْشاجِ وقال الهذلي: 4435 - كأن الرِّيْشَ والفُوْقَيْنِ منها ... خِلافَ النَّصْلِ سِيْطَ به مَشِيْجُ وقال الشماخ: 4436 - طَوَتْ أحشاءَ مُرْتِجَةٍ. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. ويقال: «مَشَج يَمْشُجُ مَشْجاً إذا خَلَط، ومَشيج كخليط ومَمْشوج كمخلوط» انتهى. فجوَّزَ أَنْ يكونَ جَمْعاً ل مِشْج كعِدْل، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشريَّ: مَنَعَ ذلك. وقال الزمخشريُّ: «ومَشَجَه ومَزَجَه بمعنىً، والمعنى: مِنْ نُطْفة امتزَجَ فيها الماءان.

قوله: {نَّبْتَلِيهِ} يجوزُ في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها حالٌ مِنْ فاعل» خَلَقْنا «، أي: خَلَقْنا حالَ كونِنا مُبْتَلِين له. والثاني: أنَّها حالٌ من» الإنسان «، وصَحَّ ذلك لأنَّ في الجملة ضميرَيْن كلٌّ منهما يعودُ على ذي الحال. ثم هذه الحالُ يجوزُ أَنْ تكونَ مقارِنَةً إنْ كان المعنى ب» نَبْتَليه «: نُصَرِّفُه في بطنِ أمِّه نُطْفَةً ثم عَلَقَةً. وهو قولُ ابن عباس، وأَنْ تكونَ مقدرةً إنْ كان المعنى ب» نَبْتَليه «: نَخْتَبره بالتكليفِ؛ لأنَّه وقتَ خَلْقِهِ غيرُ مكلَّفٍ. وقال الزمخشري:» ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ: ناقلين له مِنْ حالٍ إلى حالٍ، فُسُمِّي ذلك ابتلاءً على طريق الاستعارةِ «. قلت: هذا هو معنى قولِ ابنِ عباس المتقدَّمِ. وقال بعضُهم:» في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والأصلُ: إنَّا جَعَلْناه سميعاً بصيراً نَبْتَليه، أي: جَعَلْنا/ له ذلك للابْتلاءِ «وهذا لا حاجةَ إليه.

3

قوله: {إِمَّا شَاكِراً} : «شاكراً» نصبٌ على الحال، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ «هَدَيْناه» ، أي: هَدَيْناه مُبَيَّناً له كلتا حالتيه. قال أبو البقاء: «وقيل: هي حالٌ مقدرةٌ» . قلت: لأنه حَمَلَ الهدايةَ على أولِ البيانِ له، و [هو] في ذلك الوقتِ غيرُ مُتَّصِفٍ بإحدى الصفتَيْنِ. والثاني: أنه حالٌ من «السبيل» على المجاز. قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يكونا حالَيْن من» السبيل «، أي: عَرَّفْناه السبيلَ إمَّا سبيلاً شاكِراً، وإمَّا سبيلاً كَفُوراً كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10] فوصفَ السبيلَ بالشُّكْرِ والكُفْر مجازاً.

والعامَّةُ على كسر همزة» إمَّا «وهي المرادِفَةُ ل» أو «وتقدَّم خلافُ النَّحْويين فيها. ونقل مكيٌّ عن الكوفيين أنها هنا» إنْ «الشرطيةُ زِيْدَتْ بعدها» ما «ثم قال:» وهذا لا يُجيزه البَصْريُّون؛ لأن «إن» الشرطيةَ لا تَدْخُلُ على الأسماءِ، إلاَّ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ} [التوبة: 6] . ولا يَصِحُّ إضمارُ الفعلِ هنا؛ لأنه كان يلزَمُ رَفْعُ «شاكراً» وأيضاً فإنَّه لا دليلَ على الفعلِ «انتهى. قلت: لا نُسَلِّمُ أنه يَلْزَمُ رَفْعُ» شاكراً «مع إضمار الفعلِ، ويُمْكِنُ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ يَنْصِبُ» شاكراً «تقديرُه:» إن خَلَقْناهُ شاكراً فشكورٌ، وإنْ خَلَقْناه كافراً فكفُوْرٌ. وقرأ أبو السَّمَّال وأبو العجاج بفتحها. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّها العاطفةُ، وإنما لغةُ بعضِهم فَتْحُ همزتها، وأنشدوا على ذلك: 4437 - يَلْفَحُها أمَّا شمالٌ عَرِيَّةٌ ... وأمَّا صَباً جِنْحَ العَشِيِّ هَبوبُ

بفتحِ الهمزةِ. ويجوزُ مع فتحِ الهمزةِ إبدالُ ميمِها الأولى ياءً. قال: 4438 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَيْما إلى جَنَّةٍ أَيْما إلى النارِ وحَذَفَ الواوَ بينهما. والثاني: أنها أمَّا التفصيليةُ، وجوابُها مقدرٌ. قال الزمخشري: «وهي قراءةٌ حسنةٌ والمعنى: أمَّا شاكِراً فَبِتَوْفِيْقِنا، وأمَّا كفُوراً فبِسُوءِ اختيارِه» انتهى. ولم يذكُرْ غيرَه.

4

قوله: {سَلاَسِلَ} : قرأ نافعٌ والكسائيُّ وهشام وأبو بكر بالتنوين، والباقون بغيرِ تنوينٍ، ووقَفَ هؤلاءِ وحمزةُ وقنبلٌ عليه بالألفِ بلا خلافٍ. وابنُ ذكوانَ والبزيُّ وحفصٌ بالألفِ وبدونِها، فعَنْ ثلاثتِهم الخلافُ، والباقون وقَفوا بدون ألفٍ بلا خلافٍ. فقد تَحَصَّل لك من هذا أن القُرَّاءَ على [أربع] مراتبَ: منهم مَنْ يُنَوِّنُ وصْلاً، ويقفُ بالألفِ وَقْفاً بلا خلافٍ وهم نافعٌ والكسائيُّ وهشامٌ وأبو بكر، ومنهم مِنْ لا يُنَوِّنُ ولا يأتي بالألفِ وقفاً بلا خلافٍ، وهما حمزةُ وقنبلٌ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقف بالألفِ بلا خلافٍ، وهو أبو عمروٍ وحدَه، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقفُ بالألف تارةٍ وبدونِها أخرى، وهم ابنُ ذكوانَ وحفصٌ والبزيُّ، فهذا نهايةُ الضبطِ في ذلك.

فأمَّا التنوينُ في «سلاسل» فذكَرُوا له أوجهاً منها: أنه قَصَد بذلك التناسُبَ؛ لأنَّ ما قبلَه وما بعده منونٌ منصوبٌ. ومنها: أن الكسائيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ الكوفةِ حَكَوا عن بعض العربِ أنهم يَصْرِفُون جميعَ ما لا ينصَرِفُ، إلاَّ أفعلَ منك. قال الأخفش: «سَمِعْنا من العربِ مَنْ يَصْرِفُ كلَّ ما لا يَنْصَرِف؛ لأنَّ الأصل في الأسماء الصرفُ، وتُرِك الصرفُ لعارضٍ فيها، وأنَّ الجمعَ قد جُمِع وإنْ كان قليلاً. قالوا: صواحِب وصواحبات. وفي الحديث:» إنكن لصَواحِبات يوسف «وقال الشعر: 4439 - قد جَرَتِ الطيرُ أيامِنينا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فجمع» أيامِن «جَمْعَ تصحيحِ المذكر. وأنشدوا:

4440 - وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ ... خُضُعَ الرِّقابِ نواكِسي الأبصارِ بكسرِ السينِ مِنْ نواكِس، وبعدَها ياءٌ تَظهرُ خطاً لا لفظاً لذهابِها لالتقاءِ الساكنين، والأصلُ:» نواكِسِين «فحُذِفَتِ النونُ للإِضافةِ، والياءُ لالتقاءِ الساكَنيْن. وهذا على رواية كسرِ السينِ، والأشهرُ فيها نصبُ السينِ فلمَّا جُمِع شابَهَ المفرداتِ فانصَرَفَ. ومنها أنه مرسومٌ في إمامِ الحجازِ والكوفةِ بالألفِ، رواه أبو عبيدٍ، ورواه قالون عن نافعٍ. وروى بعضُهم ذلك عن مصاحفِ البصرةِ أيضاً، وقال الزمخِشريُّ:» وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ هذه النونُ بدلاً من حرفِ الإِطلاقِ ويَجْري الوصل مَجْرى الوقفِ. والثاني: أَنْ يكونَ صاحبُ هذه القراءةِ مِمَّنْ ضَرِيَ بروايةِ الشِّعْر، ومَرَنَ لسانُه على صَرْفِ ما لا ينصرف «. قلت: وفي هذه العبارةِ فَظاظةٌ وغِلْظة، لا سيما على مَشْيَخَةِ الإِسلام وأئمةِ العلماءِ الأعلامِ. ووَقَفَ هؤلاء بالألفِ ظاهراً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْه/ فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموع. وقولهم: قد جُمِع، نحو: صَواحبات وأيامِنين لا يَقْدَحُ؛ لأنَّ المَحْذورَ جمعُ التكسيرِ، وهذا جمعُ تصحيحٍ، وعَدَمُ وقوفِهم بالألفِ واضحٌ أيضاً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْ ووقفَ بالألفِ فإتْباعاً

للرَّسمِ الكريمِ كما تقدَّمَ، وأيضاً فإنَّ الرَّوْمَ في المفتوحِ لا يُجَوِّزُه القُرَّاءُ، والقارىءُ قد يُبَيِّنُ الحركةَ في وَقْفِه فأَتَوْا بالألفِ لَتَتَبيَّنَ بها الفتحةُ. ورُوِيَ عن بعضٍ أنه يقول:» رَأَيْتُ عُمَرا «بالألف يعني عُمَرَ بن الخطاب. والسَّلاسِلُ: جمع سِلْسلة، وقد تقدَّم الكلامُ فيها.

6

قوله: {عَيْناً} في نَصْبِها أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ «كافوراً» لأنَّ ماءَها في بياضِ الكافور، وفي رائحتِه وبَرْدِه. والثاني: أنَّها بدلٌ مِنْ محل «مِنْ كأسٍ» ، قاله مكي، ولم يُقَدِّرْ حَذْفَ مضافٍ. وقَدَّر الزمخشريُّ على هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ. قال: «كأنه قيل: يَشْرَبون خَمْراً خَمْرَ عَيْنٍ» وأمَّا أبو البقاءِ فجعل المضافَ مقدراًعلى وجهِ البدلِ مِنْ «كافوراً» فقال: «والثاني: بدلٌ مِنْ» كافوراً «، أي: ماءَ عَيْنٍ أو خَمْرَ عَيْن» وهو معنىً حَسَنٌ. الثالث: أنَّها مفعولٌ ب «يَشْرَبون» ، أي: يَشْرَبون عَيْناً مِنْ كأس. الرابع: أنَّ يَنْتصِبَ على الاختصاص. الخامس: بإضمارِ «يَشْربون» يُفَسِّرُه ما بعده، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهر أنه صفةٌ لعَيْن، فلا يَصِحُّ أَنْ يُفَسِّر. السادس: بإضمار «يُعْطَوْن» . السابع: على الحالِ من الضمير في «مِزاجُها» ، قاله مكي. والمِزاج: ما يُمْزَجُ به، أي: يُخْلَطُ. يقال: مَزَجَه يَمْزُجه مَزْجاً، أي: خَلَطَهُ يَخلِطُه خَلْطاً. قال حسان:

4441 - كأنَّ سَبِيْئَةً مِنْ بيتِ رَأْسٍ ... يكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ فالمِزاج كالقِوامِ، اسمٌ لما يقام به الشيءُ. والكافورُ: طِيْبٌ معروفٌ، وكأنَّ اشتقاقه من الكَفْرِ وهو السَّتْرُ؛ لأنه يُغَطِّي الأشياءَ برائحتِه. والكافور أيضاً: كِمام الشجرِ التي تُغَطِّي ثمرتَها. ومفعولُ «يَشْربون» : إمَّا محذوفٌ، أي: يعني: يَشْرَبون ماءً أو خمراً من كأسٍ، وإمَّا مذكورٌ وهو «عَيْناً» كما تقدَّم، وإمَّا «مِنْ كأسٍ» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه، وهذا يَتَمشَّى عند الكوفيين والأخفش. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ وُصِل فِعْلُ الشُّرْب بحرفِ الابتداءِ أولاً وبحرف الإِلصاقِ آخراً؟ قلت: لأنَّ الكأسَ مبدأ شُرْبهِ وأولُ غايتِه، وأمَّا العَيْنُ فبها يَمْزُجون شرابَهم، فكأنَّ المعنى: يشْرَبُ عبادُ اللَّهِ بها الخمرَ كما تقول: شَرِبْتُ الماءَ بالعَسل» . قوله: {يَشْرَبُ بِهَا} في الباءِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها مزيدةٌ، أي: يَشْرَبُها، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنُ أبي عبلةَ «يَشْرَبُها» مُعَدَّى إلى الضمير بنفسِه. الثاني: أنها بمعنى «مِنْ» . الثالث: أنها حاليةٌ، أي: مَمْزوجةٌ بها. الرابع: أنها متعلقَةٌ ب «يَشْرَبُ» . والضميرُ يعودُعلى الكأس، أي: يَشْرَبون العَيْنَ بتلك الكأسِ، والباءُ للإِلصاق، كما تقدَّم في قولِ الزمخشري. الخامس: أنه على تَضْمين «يَشْرَبُون» معنى: يَلْتَذُّون بها شاربين. السادس: على تَضْمينِه معنى «يَرْوَى» ، أي يَرْوَى بها عبادُ اللَّهِ. وكهذه الآية في

بعضِ الأوجهِ قولُ الهُذَلي: 4442 - شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم تَرَفَّعَتْ ... متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ فهذه تحتملُ الزيادةَ، وتحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى «مِنْ» . والجملةُ مِنْ قولِه «يَشْرَبُ بها» في محلِّ نصبٍ صفةٍ ل «عَيْناً» إنْ جَعَلْنا الضميرَ في «بها» عائداً على «عَيْناً» ولم نجعَلْه مُفَسِّراً لناصبٍ، كما قاله أبو البقاء. وقرأ عبد الله «قافوراً» بالقاف بدلَ الكافِ، وهذا مِنْ التعاقُبِ بين الحرفَيْنِ كقولهم: «عربيٌّ قُحٌّ وكُحّ. و» يُفَجِّرونها «في موضع الحال.

7

قوله: {يُوفُونَ} : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له البتةَ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لكان مضمرةً، قال الفراء: «التقديرُ: كانوا يُوْفُوْن بالنَّذْر في الدنيا، وكانوا يخَافون» انتهى. وهذا ما لا حاجةَ إليه. الثالث: أنه جوابٌ لمَنْ قال: ما لم يُرْزَقون ذلك؟ . قال الزمخشري: «يُوْفُوْن» جوابُ مَنْ عَسَى يقول: ما لم يُرْزَقون ذلك «؟ قال الشيخ:» واستعمل «عَسَى» صلةً لمَنْ وهو لا يجوزُ، وأتى بالمضارع بعد «عَسَى» غيرَ مقرونٍ ب «أَنْ» / وهو قليلٌ أو في الشعر «. قوله: {كَانَ شَرُّهُ} في موضع نصبٍ صفةً ل» يَومْ «. والمُسْتَطِير: المنتشر يُقال: استطار يَسْتطير اسْتِطارَةً فهو مُسْتَطير، وهو استفعل من الطَّيران قال الشاعر:

4443 - فباتَتْ وقد أسْأَرَتْ في الفؤا ... دِصَدْعاً عل نَأْيِها مُسْتطيرا وقال الفراء:» المُسْتطير: المُسْتطيل «. قلت كأنه يريدُ أنه مِثْلُه في المعنى، لا أنه أَبْدَل من اللامِ راءً. والفجرُ فجران: مستطيلٌ كذَنَبِ السِّرحان وهو الكاذِبُ، ومُسْتطيرٌ وهو الصادِقٌ لانتشارِه في الأُفُق.

8

قوله: {حُبِّهِ} : حالٌ: إمَّأ من الطعامِ، أي: كائنين حلى حُبَّهم الطعامَ، وإمَّا من الفاعلِ. والضمير في «حُبِّه» لله تعالى، أي: على حُبِّ اللهِ. وعلى التقديرَيْن فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعول.

10

قوله: {قَمْطَرِيراً} : القَمْطَرير: الشديدُ. وأصلُه كما قال الزجاج: «مُشتقٌّ من اقْمَطَرَّت الناقةُ: إذا رفعَتْ ذَنَبها، وجمعَتْ قُطْرَيْها، وزَمَّتْ بأَنْفِها. قال الزمخشري:» فاشتقَّه من القَطْر، وجعل الميمَ مزيدةً. قال أسد بن ناعصة: 4444 - واصْطَلَيْتُ الحروبُ في كلِّ يومٍ ... باسِلِ الشَّرِّ قَمْطَرِيرِ الصَّباحِ قال الشيخ: «واختلف النحاةُ في هذا الوزن، والأكثرُ لا يُثْبِتُ

افْمَعَلَّ في أوزان الأفعالِ» ويقال: اقْمَطَرَّ يَقْمَطِرُّ فهو مُقْمَطِرٌّ، قال الشاعر: 4445 - تَلْزُبُ العقربُ تَزْبَئِرُّ ... تكسو استَها لحماً وتَقْمَطِرُّ ويومٌ قَمْطرير وقُماطر بمعنى: شديد. قال الشاعر: 4446 - فَفِرُّوا إذا ما الحربُ ثارَ غبارُها ... ولَجَّ بها اليومُ الشديدُ القُماطِرُ وقال الزجَّاج: «القَمْطَرِيرْ» الذي يَعْبَسُ حتى يجتمعَ ما بين عينَيْه «انتهى. فعلى هذا استعمالُه في اليومِ مجازاً. وفي بعض كلامِ الزمخشري أنه جَعَلَه من القَمْط، فعلى هذا تكون الراءان فيه مزيدتَيْن.

12

قوله: {بِمَا صَبَرُواْ} : «ما» مصدريةٌ. و «جنةٌ» مفعولٌ ثانٍ أي: جَزاهم جنةً بصَبْرهم. وقدَّر مكي مضافاً فقال: «تقديرُه: دخولَ جنة ولِبْسَ حرير» .

13

قوله: {مُّتَّكِئِينَ} : حال مِنْ مفعول «جَزاهم» .

وقرأ علي رضي الله عنه «وجازاهم» وجوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ «مُتَّكئين» صفةً ل «جَنَّةً» . وهذا لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّه كان يلزَم بروزُ الضميرِ فيقال: مُتَّكئين هم فيها، لجريانِ الصفةِ على غير مَنْ هي له. وقد مَنَعَ مكي أن يكونَ «مُتَّكئين» صفةً ل «جنةً» لِما ذكرْتُه مِنْ عَدَمِ بُروزِ الضمير. وممَّنْ ذَهَبَ إلى كونِ «مُتَّكئين» صفةً ل «جَنَّةً» الزمخشريُّ فإنه قال: «ويجوزُ أَنْ تكونَ» مُتَّكئين «. و» لا يَرَوْن «و» دانيةً «كلُّها صفاتٍ ل» جنةٌ «وهو مردودٌ بما ذكرْتُه. ولا يجوزُ أَنْ يكونُ» مُتَّكئين «حالاً مِنْ فاعل» صَبَروا «؛ لأنَّ الصَّبْرَ كان في الدنيا واتِّكاءَهم إنما هو في الآخرة، قال معناه مكي. ولقائلٍ أَنْ يقول: إن لم يكنِ المانعُ إلاَّ هذا فاجْعَلْها حالاً مقدرةً؛ لأن مآلهم بسبب صَبْرهم إلى هذه الحالِ. وله نظائرُ. وقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} إمَّا على إضمارِ القولِ أي: قائلين ذلك. وقرأ أبو جعفر» فَوَقَّاهم «بتشديد القافِ على المبالغةِ. قوله: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا} فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّها حالٌ ثانيةٌ مِنْ مَفْعولِ» جزاهم «. الثاني: أنها حالٌ من الضميرِ المرفوعِ المستكنِّ في» مُتَّكئين «،

فتكونُ حالاً متداخلةً. الثالث: أَنْ تكونَ صفةً ل جنة كمتَّكئين عند مَنْ يرى ذلك وقد تقدَّم أنه قولُ الزمخشريِّ. والزَّمْهَرير: أشدُّ البردِ. هذا هو المعروفُ. وقال ثعلب: هو القمرُ بلغة طيِّىء وأنشد: 4447 - في ليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ ... قَطَعْتُها والزَّمْهريرُ ما زَهَرْ والمعنى: أنَّ الجنةَ لا تحتاجُ إلى شمسٍ ولا إلى قمرٍ ووزنُه فَعْلَلِيل.

14

قوله: {وَدَانِيَةً} : العامة على نصبِها وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها عطفُ على محلِّ «لا يَرَوْن» . الثاني: أنها معطوفة على «مُتَّكئين» ، فيكونُ فيها ما فيها. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ودانيةً عليهم ظلالُها علامَ عُطِف؟ قلت: على الجملةِ التي قبلها، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ، وهذه حالٌ مثلُها عنهم، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في» عليهم «إلاَّ أنَّها اسمٌ مفردٌ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ، تقديره: غيرَ رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية. ودخلت الواوُ للدَّلالة على أن الأمرَيْن مجتمعان لهم. كأنَّه قيل: وجَزاهم/ جنةً جامِعِيْنَ فيها: بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم. الثالث: أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي: وجنةً دانِيَةً، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها صفةٌ ل» جنةٌ «الملفوظِ بها، قاله الزجَّاج.

وقرأ أبو حيوةَ» ودانِيَةٌ «بالرفع. وفيها وجهان، أظهرهما: أَنْ يكونَ» ظلالُها «مبتدأ و» دانيةٌ «خبرٌ مقدمٌ. والجملةُ في موضعِ الحال. قال الزمخشري:» والمعنى: لا يَرَوْنَ فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً، والحالُ أنَّ ظلالَها دانِيَةٌ عليهم «. والثاني: أَنْ ترتفعَ» دانيةٌ «بالابتداء، و» ظلالُها «فاعلٌ به، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ الفاعلِ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو:» قائمٌ الزيدون «، فإنَّ» دانية «لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّا ذكره النَّحْويُّون، ومع ذلك فقد رُفِعَتْ» ظلالُها «وهذا لا حُجَّة له فيه؛ لجوازِ أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدَّماً كما تقدَّم. وقال أبو البقاء:» وحُكِيَ بالجَرِّ أي: في جنَّةٍ دانية. وهو ضعيفٌ؛ لأنه عُطِفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ «. قلت: يعني أنَّه قُرِىء شاذاً» ودانِيَةٍ «بالجَرِّ على أنها صفةٌ لمحذوفٍ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قولِه:» لا يَرَوْنَ فيها «أي: ولا في جنةٍ دانيةٍ. وهو رَأْيُ الكوفيين: حيث يُجَوِّزون العطفَ على الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ؛ ولذلك ضَعَّفَه، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة. وأمَّا رَفْعُ» ظلالُها «فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و» عليهم «خبرٌ مقدمٌ، ولا يرتفع ب» دانية «؛ لأنَّ» دنا «يتعدَّى ب» إلى «لا ب» على «. والثاني: أنها مرفوعةٌ ب» دانية «على أَنْ تُضَمَّن معنى» مُشْرِفَة «لأنَّ» دنا «و» أَشْرَفَ «

يتقاربان، قال معناه أبو البقاء، وهذان الوجهان جاريان في قراءةِ مَنْ نصبَ» دانيةً «أيضاً. وقرأ الأعمش» ودانِياً «بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين مرفوعِه ب» عليهم «، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ. وقرأ أُبَيٌّ «ودانٍ عليهم» بالتذكير مرفوعاً، وهي شاهدةٌ لمذهبِ الأخفشِ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ. وإنْ لم يَعْتَمِد. ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدَّماً لعدمِ المطابقةِ. وقال مكي: «وقُرِىء» دانِياً «ثم قال:» ويجوزُ «ودانيةٌ» بالرفعِ، ويجوزُ «دانٍ» بالرفعِ والتذكيرِ «ولم يُصَرِّح بأنهما قُرِئا، وقد تقدَّم أنهما مقروءٌ بهما فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على ذلك. قوله: {وَذُلِّلَتْ} يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال عطفاً على» دانِيَةً «فيمَنْ نَصَبَها أي: ومُذَلَّلةً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في» عليهم «سواءً نَصَبْتَ» دانِيَةً «أو رَفَعْتَها، أم جَرَرْتَها. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً. وأمَّا على قراءةِ رفعِ» ودانيةٌ «فتكونُ جملةً فعليةً عُطِفَتْ على اسميَّةٍ. ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما تقدَّمَ.

15

قوله: {بِآنِيَةٍ} : هذا هو القائمُ مقامَ الفاعلِ، لأنَّه هو المفعولُ به في المعنى. ويجوزُ أَنْ يكون «عليهم» . وآنِيَة: جمعُ «إناء» والأصلُ: أَأْنِيَة بهمزتَيْنِ الأُولى مزيدةٌ للجمع، والثانيةُ فاءُ الكلمة فقُلِبَتِ الثانية ألفاً وُجوباً، وهذا نظيرُ: كِساءٍ وأَكْسِيَة وغِطاءٍ وأَغْطِيَة، ونظيرُه في الصحيح اللامِ: حِمار وأَحْمِرة. و «مِنْ فضةٍ» نعتٌ ل «آنية» .

16

قوله: {قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ} : اختلف القُراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في {سَلاَسِلَ} . واعلَمْ أنَّ القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ، إحداها: تنوينُهما معاً، والوقفُ عليهما: بالألفِ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر. الثانيةُ: مقابِلَةُ هذه، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ، لحمزةَ وحدَه. الثالثة: عَدَمُ تنوينِهما، والوقفُ عليهما بالألف، لهشامٍ وحدَه. الرابعة: تنوينُ الأولِ دونَ الثاني، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها، لابنِ كثيرٍ وحدَه. الخامسةُ: عَدَم تنوينِهما معاً، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها: لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ. فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع، ذاك على مَفاعلِ، وذا على مَفاعيل. والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد. وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جداً. وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني، فإنَّه/ ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ. ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الأولِ. والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ. وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما، ووقف على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني

بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ. وفَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ. وحَصَل مِمَّا تقدَّم في «سلاسل» وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ. وتقدَّم الكلامُ على «قوارير» في سورةِ النمل ولله الحمدُ. وقال الزمخشري: «وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ» يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم، كقولِه: 4448 - يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ ... وفي انتصابِ «قوارير» وجهان، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان. والثاني: أنها حالٌ، و «كان» تامةٌ أي: كُوِّنَتْ فكانَتْ. قال أبو البقاء: «وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ. وقرأ الأعمش» قواريرُ «بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي: هي قوارير. و» مِنْ فضة «صفةٌ ل» قوارير «.

قوله: {قَدَّرُوهَا} صفةٌ ل» قواريرَ «. والواو في» قَدَّروها «فيه وجهان، أحدهما: أنَّه للمُطافِ عليهم. ومعنى تقديرهم إياها: أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم، فجاءَتْ كما قَدَّروا. والثاني: أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم، مِنْ قولِه تعالى: «ويُطافُ» والمعنى: أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً. وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ «قُدِّرُوْها» مبنياً للمفعول. وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال: «كأنَّ اللفظ: قُدِّروا عليها. وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال: قُدِّرَتْ عليهم، فهي مثلُ قولِه: {لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} [القصص: 76] ومثلُ قولِ العرب:» إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء «. وقال الزمخشري:» ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ. تقول: قَدَرْتُ [الشيءَ] وقَدَرَنيه فلان،

إذا جعلك قادراً له ومعناه: جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا «. وقال أبو حاتم:» قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم «ففَسَّر بعضُهم قولَ أبي حاتمٍ هذا قال:» فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ: وهو أنه كان: «قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها» ثم حُذِفَ «على» فصار: «قَدْرُ رِيِّهم» على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، ثم حُذِف «قَدْرُ» فصار «رِيُّهم» ما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل «. قلت: وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه. وقال الشيخ:» والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة: «قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً» فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه، فصار التقديرُ: قُدِّروا مِنْها، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ «مِنْ» ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار: «قُدِّرُوْها» فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل «. قلت: وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم.

17

قوله: {زَنجَبِيلاً} : الزَّنجبيل: نَبْتٌ معروفٌ، وسُمِّيَتْ الكأسُ بذلك لوجودِ طَعْم الزَّنْجبيل فيها. والعربُ تَستَلِذُّه. وأنشد الزمخشريُّ للأعشى:

4449 - كأنَّ القُرُنْفُلَ والزَّنْجَبِيْ ... لَ باتا بفِيْها وأَرْياً مَشُورا / وأنشد للمسيَّب بن عَلَس: 4450 - وكأن طَعْمَ الزَّنْجبيلِ به ... إذا ذُقْتَه وسُلافةَ الخمرِ و «عَيْناً» فيها من الوجوه ما تقدَّمَ.

18

قوله: {سَلْسَبِيلاً} : السَّلْسَبيل: ما سَهُل انحدارُه في الحَلْف. قال الزجاج: «هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ السَّلاسَة» . وقال الزمخشري: «يقال: شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ وسَلْسبيل، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ خماسيَّةً، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ» . قال الشيخ: «فإنْ كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ؛ لأنَّ الباءَ ليسَتْ من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ، وإنْ عَنَى أنها حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال فَيَصِحُّ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه، وكان مختلفاً في المادة» . وقال ابن الأعرابي: «لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في القرآنِ» . وقال مكي: «هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ، فلذلك صُرِفَ» .

ووزن سَلْسَبيل: فَعْلَلِيْل مثلَ «دَرْدَبيس» . وقيل: فَعْفَليل؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ. وقرأ طلحةُ «سَلْسَبيلَ» دونَ تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث؛ لأنها اسمٌ لعَيْنٍ بعينها، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءةِ العامَّةِ؟ فيُجاب: بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على جهة الإطلاقِ المجرَّدِ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين {سَلاَسِلَ} [الإِنسان: 4] {قَوَارِيرَاْ} [الإِنسان: 15] وقد تقدَّمَ. وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن: مِنْ فعلِ أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ. والتقدير: سَلْ أنت سَبيلا إليها. قال الزمخشري: «وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ معناه: سَلْ سبيلاً إليها» . قال: «وهذا غيرُ مستقيمٍ على ظاهِره، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملةَ قولِ القائلِ» سَلْ سبيلاً «جَعِلَتْ عَلَماً للعين، كما قيل: تأبَّط شَرَّاً وذَرَّى حبَّا. وسُمِّيت بذلك لأنه لا يَشْرَبُ منها إلاَّ مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالِح، وهو مع استقامتِه في العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام أَبْدَعُ. وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين: 4451 - سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْ ... سِ براحٍ كأنَّها سَلْسَبيلُ

قال الشيخ بعد تعجُّبِه مِنْ هذا القول:» وأَعْجَبُ مِنْ ذلك توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه «. قلت: ولو تأمَّل ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه، ولم يتعجَّبْ منه؛ لأنَّ الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القولِ غاية التشنيع. وقال أبو البقاء:» والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ «. وفي قوله:» كلمة واحدة «تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور.

20

قوله: {ثَمَّ} هذا ظرفُ مكانٍ وهو مختصٌّ بالبُعْدِ. وفي انتصابِه هنا وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ. ومعفولُ الرؤيةِ غيرُ مذكورٍ؛ لأنَّ القصد: وإذا صَدَرَتْ منك رؤيةٌ في ذلك المكانِ رَأَيْتَ كيتَ وكيتَ، ف «رَأَيْتَ» الثاني جوابٌ ل «إذا» . وقال الفراء: «ثَمَّ» مفعولٌ به ل «رَأَيْتَ» . وقال الفراء أيضاً: «وإذا رَأَيْتَ تقديره:» ما ثَمَّ «، ف» ما «مفعولٌ فحُذِفَتْ» ما «وقامت» ثَمَّ «مَقام» ما «. قال الزمخشري تابعا لأبي إسحاق:» ومَنْ قال: معناه «ما ثَمَّ» فقد أخطأ؛ لأنَّ «ثَمَّ» صلةٌ ل «ما» ، ولا يجوزُ إسقاطُ الموصولِ وتَرْكُ الصلةِ «وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الكوفيين يُجَوِّزُون مثلَ هذا، واستدلُّوا عليه بأبياتٍ وآياتٍ، تقدَّم الكلامُ عليها مُسْتوفى في أوائل هذا الموضوع. وقال ابن عطية:» وثَمَّ ظرفٌ. والعاملُ فيه «رَأَيْتَ» أو معناه،

والتقديرُ: رأيتَ ما ثَمَّ، فحُذِفَتْ ما «. قال الشيخ:» وهو فاسِدٌ؛ لأنَّه مِنْ حيثُ جَعَلَه معمولاً ل «رَأَيْتَ» لا يكونُ صلةً ل «ما» ؛ لأنَّ العاملَ فيه إذ ذاك محذوفٌ أي: ما استقرَّ ثَمَّ «. قلت: ويمكنُ أَنْ يُجاب عنه: بأنَّ قولَه:» أو معناه «هو القولُ بأنَّه صلةٌ لموصول، فيكونان وجهَيْن لا وجهاً واحداً، حتى يَلْزَمَهَ الفسادُ، ولولا ذلك لكان قولُه:» أو معناه «لا معنى له. ويعني بمعناه أي: معنى الفعلِ مِنْ حيث الجملةُ، وهو الاستقرارُ المقدَّرُ. والعامَّةُ على فتحِ الثاءِ مِنْ» ثَمَّ «كما تقدَّم. وقرأ حميد الأعرج بضمِّها على أنَّها العاطَفَةُ، وتكونُ قد عَطَفَتْ» رأَيْتَ «الثاني على الأول، ويكون فعلُ الجوابِ محذوفاً، ويكونُ فعلُ الجوابِ المحذوفِ هو الناصبَ لقولِه:» نعيماً «، والتقدير: وإذا صَدَرَ منك رؤيةٌ، ثم صَدَرَتْ رؤيةٌ/ أخرى رَأَيْتَ نعيماً ومُلْكاً. فَرَأَيْتَ هذا هو الجوابُ.

21

قوله: {عَالِيَهُمْ} : قرأ نافعٌ وحمزةٌ بسكونِ الياءِ وكسرِ الهاء، والباقون بفتح الياءِ وضَمِّ الهاء. لَمَّا سَكَنَتِ الياءُ كُسِرَتْ الهاءُ، ولَمَّا تَحَرَّكَتْ ضُمَّت على ما تَقَرَّرَ في هاءِ الكنايةِ أولَ هذا الموضوعِ. فإمَّا قراءةُ نافعٍ وحمزةَ ففيها أوجهٌ، أظهرُها: أَنْ تكونَ خبراً مقدَّماً. و «ثيابُ» مبتدأٌ مؤخرٌ، والثاني: أنَّ «عالِيْهم» مبتدأ و «ثيابُ» مرفوعٌ على جهةِ الفاعلية، وإنْ لم يعتمد الوصفُ، وهذا قولُ الأخفشِ.

والثالث: أنَّ «عالِيْهم» منصوبٌ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، قاله أبو البقاء. وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجهٌ، وهي وارِدَة هنا؛ إلاَّ أنَّ تقديرَ الفتحةِ من المنقوصِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو شذوذٍ، وهذه القراءةُ متواترةٌ فلا ينبغي أَنْ يُقالَ به فيها. وأمَّا قراءةُ مَنْ نَصَبَ ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه ظرفٌ خبراً مقدماً، و «ثيابُ» مبتدأٌ مؤخرٌ كأنه قيل: فوقَهم ثيابُ. قال أبو البقاء: «لأنَّ عالِيَهم بمعنى فَوْقَهم. وقال ابن عطية:» ويجوز في النصبِ أَنْ تكونَ على الظرف لأنَّه بمعنى فوقهم «. قال الشيخ:» وعالٍ وعالية اسمُ فاعلٍ، فيحتاج في [إثبات] كونِهما ظرفَيْن إلى أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ كلامِ العرب: عالِيَك أو عاليتُك ثوبُ «. قلت: قد وَرَدَتْ ألفاظٌ مِنْ صيغةِ أسماءِ الفاعِلِيْن ظروفاً نحو: خارجَ الدار وداخلَها وباطنَها وظاهرَها. تقول: جلَسْتُ خارج الدارِ، وكذلك البواقي فكذلك هذا. الثاني: أنَّه حالٌ من الضمير في {عَلَيْهِمْ} [الإِنسان: 19] . الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ {حَسِبْتَهُمْ} [الإِنسان: 19] . الرابع: أنه حالٌ مِنْ مضافٍ مقدرٍ، أي: رَأَيْتَ أهلَ نعيم ومُلكٍ كبير عالَيهم. ف» عاليَهم «حالٌ مِنْ» أهل «المقدرِ. ذكرَ هذه الأجهَ الثلاثةَ الزمخشريُّ فإنه قال:» وعاليَهم بالنصبِ على أنَّه حالٌ من

الضميرِ في «يَطوف عليهم» أو في «حَسِبْتَهم» ، أي: يطوفُ عليهم وِلْدانٌ عالياً للمَطوفِ عليهم ثيابٌ، أو حَسِبْتَهم لؤلؤاً عاليَهم ثيابٌ. ويجوزُ أَنْ يراد: [رأيت] أهلَ نعيم «. قال الشيخ:» أمَّأ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في «حَسِبْتَهم» فإنه لا يعني إلاَّ ضمير المفعول، وهو لا يعودُ إلاَّ على «وِلدانٌ» ولذلك قدَّر «عاليَهم» بقوله: «عالياً لهم» ، أي: للوِلْدان. وهذا لا يَصْلُحُ؛ لأنَّ الضمائر الآتية بعد ذلك تَدُلُّ على أنها للمَطوفِ عليهم مِنْ قوله: «وحُلُّوا» و «سَقاهم» و {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} وفَكُّ الضمائر وَجَعْلُ هذا لذا، وهذا لذا، مع عدمِ الاحتياجِ والاضطرارِ إلى ذلك، لا يجوزُ. وأمَّا جَعْلُه حالاً مِنْ محذوفٍ وتقديرُه: أهلَ نعيم فلا حاجةَ إلى ادِّعاء الحَذْفِ مع صحةِ الكلامِ وبراعتِه دونَ تقديرِ ذلك المحذوفِ «. قلت: جَعْلُ أحَدِ الضمائر لشيءٍ والآخرِ لشيءٍ آخرَ لا يمنعُ صحةَ ذلك مع ما يميِّزُ عَوْدَ كلِّ واحدٍ إلى ما يليقُ به، وكذلك تقديرُ المحذوفِ غيرُ ممنوعٍ أيضاً، وإنْ كان الأحسنُ أَنْ تتفقَ الضمائرُ، وأن لا يُقَدَّرَ محذوفٌ، والزمخشريُّ إنما ذَكَرَ ذلك على سبيل التجويزِ، لا على أنَّه أَوْلى أو مساوٍ، فَيُرَدُّ عليه بما ذكره. الخامس: أنه حالٌ مِنْ مفعول «لَقَّاهم» . السادس: أنه حال مِنْ مفعول «جَزاهُمْ» ذكرهما مكي. وعلى هذه الأوجهِ التي انتصبَ فيها على الحالِ يرتفعُ به «ثيابُ» على الفاعلية، ولا تَضُرُّ إضافتُه إلى معرفةٍ في

وقوعِه حالاً؛ لأنَّ الإِضافةَ لفظيةٌ، كقولِه تعالى: {عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] [وقولِه:] 4452 - يا رُبَّ غابِطِنا. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولم يؤنَّثْ «عالياً» لأنَّ مرفوعَه غير حقيقيِّ التأنيثِ. السابع: أَنْ ينتصِبَ «عاليَهم» على الظرفيةِ، ويرتفع «ثيابُ» به على جهة الفاعلية. وهذا ماشٍ على قولِ الأخفش والكوفيين حيث يُعملون الظرفَ وعديلَه وإنْ لم يَعْتمد، كما تقدَّم ذلك في الوصفِ. وإذا رُفعَ «عاليَهم» بالابتداء و «ثيابُ» على أنه فاعلٌ به كان مفرداً على بابِه لوقوعِه موقعَ الفعلِ، وإذا جُعل خبراً مقدَّماً كان مفرداً مُراداً به الجمعُ، فيكونُ كقولِه تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم} [الأنعام: 45] ، أي: أدبار، قاله مكي. وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي «عاليتُهم» مؤنثاً بالتاء مرفوعاً. والأعمش وأبان عن عاصم كذلك، إلاَّ أنه منصوبٌ، وقد عَرَفْتَ الرفعَ والنصبَ ممَّا تقدَّم، فلا حاجةَ لإِعادتهما. وقرأَتْ عائشة رضي الله عنها «عَلِيَتْهم» فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة، و «ثيابُ» فاعلٌ به، وهي مقوِّيَةٌ للأوجه المذكورة في رفع «ثياب» بالصفةِ في قراءة الباقين كما تقدَّم تفصيلُه.

وقرأ ابنُ سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة وخلائق «عليهم» ، جارَّاً ومجروراً، وإعرابُه كإعرابِ «عاليَهم» ظرفاً في جوازِ كونِه خبراً مقدَّماً، أو حالاً ممَّا تقدَّم، وارتفاعُ «ثيابُ» به على التفصيلِ المذكورِ آنفاً. وقرأ العامَّةُ/ «ثيابُ سُنْدُسٍ» بإضافةِ الثيابِ لِما بعدها. وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلةَ «ثيابٌ» منونةً «سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ» برفعِ الجميعِ، ف «سندسٌ» نعتٌ ل «ثيابٌ» لأنَّ السُّنْدسَ نوعٌ، و «خُضْرٌ» نعتٌ ل «سندس» ؛ إذ السندسُ يكونُ أخضرَ وغيرَ أخضرَ، كما أنَّ الثيابَ يكونُ سُنْدُساً وغيرَه. و «إستبرقٌ» نَسَقٌ على ما قبلَه، أي: وثياب استبرق. واعلَمْ أنَّ القرَّاءَ السبعةَ في «خُضْر وإستبرق» على أربع مراتبَ، الأولى: رَفْعُهما، لنافعٍ وحفصٍ فقط. الثانية: خَفْضُهما، للأخوَيْن فقط. الثالثة: رَفْعُ الأولِ وخفضُ الثاني لأبي عمروٍ وابنِ عامرٍ فقط. الرابعةُ عكسُ الثالثةِ، لابنِ كثيرٍ وأبي بكرٍ فقط. فأمَّا القراءةُ الأولى: فإنَّ رَفْعَ «خُضْرٌ» على النعتِ ل ثياب، ورَفْعَ «إستبرقٌ» نَسَقاً على الثياب، ولكن على حَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرقٍ. ومثلُه: «على زيدٍ ثوبُ خَزٍّ وكتَّانٌ» أي: وثوبُ كُتَّانٍ. وأمَّا القراءةُ الثانية فيكونُ جَرُّ «خُضْرٍ» على النعتِ لسُنْدسٍ. ثم اسْتُشْكِل على هذا وَصْفُ المفردِ بالجمعِ فقال

مكي: «هو اسمٌ للجمع. وقيل: هو جمعُ سُنْدُسَة» كتَمْر وتَمْرة، واسمُ الجنسِ وَصْفُه بالجمع سائغٌ فصيحٌ. قال تعالى: {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} [الرعد: 12] . وإذا كانوا قد وَصَفوا المفردَ المُحَلَّى لكونِه مُراداً به الجنسُ بالجمعِ في قولِهم: «أَهْلَكَ الناسَ الدِّينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ» ، وفي التنزيل: {أَوِ الطفل الذين} [النور: 31] فَلأَنْ يُوْجَدَ ذلك في أسماءِ الجموعِ أو أسماءِ الأجناسِ الفارقِ بينها وبين واحدِها تاءُ التأنيثِ بطريقِ الأَوْلى. وجَرُّ «إستبرق» نَسَقاً على «سندسٍ» لأنَّ المعنى: ثيابٌ مِنْ سُندسٍ وثيابٌ مِنْ إستبرق. وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فرَفْعُ «خُضْرٌ» نعتاً ل «ثيابٌ» وجَرُّ «إستبرقٍ» نَسَقاً على «سُنْدُسٍ» ، أي: ثيابٌ خضرٌ مِنْ سُندسٍ ومِنْ إستبرقٍ، فعلى هذا يكون الإِستبرقُ أيضاً أخضرَ. وأمَّا القراءةُ الرابعة فجَرُّ «خُضْرٍ» على أنه نعتٌ لسُنْدس، ورَفْعُ «إستبرقٌ» على النَّسَقِ على «ثياب» بحَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرق. وتقدَّم الكلامُ على مادةِ السُّنْدُس والإِستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف. وقرأ ابنُ مُحيصنٍ «وإستبرقَ» بفتحِ القافِ. ثم اضطرب النَّقْلُ عنه في الهمزة: فبعضُهم يَنْقُل عنه أنه قَطَعها، وبعضهم ينقُلُ عنه أنه وَصَلَها.

فقال الزمخشري: «وقُرِىءَ» وإسْتبرقَ «نصباً في موضعِ الجرِّ على مَنْعِ الصرفِ؛ لأنَّه أعجميٌّ وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه نكرةٌ يَدْخُلُهُ حرفُ التعريف. تقول:» الإِستبرق «إلاَّ أَنْ يَزْعُمَ ابن مُحيصن أنه يُجْعَلُ عَلَماً لهذا الضَّرْبِ من الثيابِ. وقُرِىءَ» واستبرقَ «بوصْل الهمزةِ والفتح، على أنَّه مُسَمَّى باسْتَفْعل من البَريق، ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنَّه مُعَرَّب مشهورٌ تعريبُه، وأنَّ أصلَه اسْتَبْرَه. وقال الشيخ:» ودلَّ قولُه «إلاَّ أَنْ يزعمَ ابنُ محيصن» وقولُه بعدُ: «وقُرىء» واسْتبرق «بوَصْلِ الألفِ والفتح أنَّ قراءةَ ابنِ محيصن هي بقَطْعِ الهمزةِ مع فتحِ القافِ. والمنقولُ عنه في كتبِ القراءاتِ أنَّه قرأ بوَصْل الألفِ وفتح القافِ» . قلت: قد سَبَقَ الزمخشريُّ إلى هذا مكيٌّ فقال: «وقد قرأ ابنُ محيصن بغيرِ صَرْفٍ، وهو وهمٌ إنْ جعلَه اسماً لأنه نكرةٌ منصرفةٌ. وقيل: بل جَعَله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ فهو جائزٌ في اللفظِ، بعيدٌ في المعنى. وقيل: إنَّه في الأصلِ فعلٌ ماضٍ على اسْتَفْعل مِنْ بَرِقَ، فهو عربيٌّ من البريق، لمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ ألفُه؛ لأنه ليس مِنْ أصلِ الأسماءِ أَنْ يدخلَها ألفُ الوصلِ، وإنما دَخَلَتْ في أسماءٍ معتلةٍ مُغَيَّرَةٍ عن أصلِها معدودةٍ لا يُقاسُ عليها «انتهى. فدلَّ قولُه:» قُطِعَتْ ألفُه «/ إلى آخرِه أنه قرأ بقطعِ الهمزةِ وفتحِ القافِ. ودلَّ قولُه أولاً:» وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ «أنه قرأ بوَصْلِ الألفِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحْكَمَ عليه بالفعليةِ غيرَ منقولٍ إلى الأسماءِ، وبتَرْكِ ألفِه ألفَ قطع البتةَ، فهذا جَهْلٌ باللغةِ، فيكونُ قد رُوِي عنه قراءتان: قَطْعُ الألفِ ووَصْلُها. فظهر أنَّ الزمخشريَّ لم ينفَرِدْ بالنقل عن ابنِ محصين بقَطْع الهمزة.

وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن:» لا يجوز. والصوابُ أنه اسمُ جنسٍ لا ينبغي أَنْ يَحْمِلَ ضميراً، ويؤيِّد ذلك دخولُ المعرفةِ عليه. والثوابُ قَطْعُ الألفِ وإجراؤُه على قراءةِ الجماعةِ «. قال الشيخ:» ونقولُ: إنَّ ابن محيصن قارىءٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفةِ العربيةِ، وقد أَخَذَ عن أكابرِ العلماءِ فيُتَطَلَّبُ لقراءته وَجْهٌ، وذلك أنه يَجْعَلُ استفعل من البريق تقول: بَرِقَ واسْتَبْرَق كعَجِبَ واستعجب، ولمَّا كان قولُه: «خُضْر» يدل على الخُضْرة، وهي لَوْنُ ذلك السُّنْدُسِ، وكانت الخُضْرَةُ مِمَّا يكونُ فيها لشدتها دُهْمة وغَبَش أخبرَ أنَّ في ذلك بَريقاً وحُسْناً يُزيل غُبْشَتَه فاستبرق فعلٌ ماضٍ، والضميرُ فيه عائدٌ على السندسِ، أو على الأخضرِ الدالِّ عليه «خُضْر» . وهذا التخريجُ أَوْلَى مِنْ تَلْحين مَنْ يعرِفُ العربية وتوهيمِ ضابطٍ ثقةٍ «. قلت: هذا هو الذي ذكره مكيٌّ كما حَكَيْتُه عنه، وهذه القراءةُ قد تقدَّمَتْ في سورة الكهف، وإنما أَعَدْتُ ذلك لزيادةِ هذه الفائدةِ. قوله: {وحلوا} عطفٌ على» ويَطوف «، عَطَفَ ماضياً لفظاً، مستقبلاً معنىً، وأَبْرَزه بلفظِ الماضي لتحقُّقه. وقال الزمخشري بعد سؤالٍ وجوابٍ مِنْ حيث المعنى:» وما أحسنَ بالمِعْصَمِ أَنْ يكونَ فيه سِواران: سِوارٌ مِنْ ذهبٍ وسِوارٌ مِنْ فضةٍ «، فناقَشَه الشيخ في قولِه» بالمِعْصم «فقال:» قولُه بالمِعْصم: إمَّا أَنْ يكونَ مفعولَ «أَحْسن» ، و «أَنْ يكونَ»

بدلاً منه، وأمَّا «أنْ يكونَ» مفعولَ أَحْسن وقد فُصِلَ بينهما بالجارِّ والمجرور: فإنْ كان الأولَ فلا يجوزُ؛ لأنَّه لم تُعْهَدْ زيادةُ الباءِ في مفعولِ أَفْعَلِ التعجبِ. لا تقول: ما أحسنَ بزيدٍ تريدُ: «ما أحسن زيداً» . وإن كان الثاني ففي مثلِ هذا الفصل خلافٌ، والمنقولُ عن بعضهِم لا يجوزُ، والمُوَلَّدُ مِنَّا ينبغي إذا تكلَّم أن يَتَحَرَّزَ في كلامِه ممَّا فيه خلافٌ «. قلت: وأيُّ غَرَضٍ له في تتبُّعٍ كلامِ هذا الرجل، حتى في هذا الشيءِ اليسيرِ؟ على أنَّ الصحيحَ جوازُه، وهو المسموعُ من العربِ نثراً. قال عمروُ ابن معديكرب:» للَّهِ دَرُّ بني فلانٍ ما أشَدَّ في الهيجاءِ لقاءَها، وأَثْبَتَ في المَكْرُمات بقاءَها، وأحسنَ في اللَّزَبات عطاءَها «والتشاغلُ بغير هذا أَوْلى.

23

قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} : يجوزُ أَنْ يكونَ «نحن» توكيداً لاسم «إنَّ» ، وأَنْ يكونَ فَصْلاً و «نَزَّلْنا» على هَذَيْن الوجهَيْن هو خبرُ «إنَّ» ، ويجوزُ أَنْ يكونَ «نحن» مبتدأً و «نَزَّلْنا» خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّ» . وقال مكي: «نحنُ» في موضع نصبٍ على الصفةِ لاسم «إنَّ» ، لأنَّ المضمرَ يُوصَفُ بالمضمر؛ إذ هو بمعنى التأكيدِ لا بمعنى التَّحْلية، ولا يُوْصَفُ بالمُظْهَرِ؛ لأنه بمعنى التَّحْلية، والمضمرُ مُسْتَغْنٍ عن التَّحْلية؛ لأنَّه لم يُضْمَرْ إلاَّ بعد أن عُرِفَ تَحْلِيَتُه وعينُه فهو محتاجٌ إلى التأكيدِ لتأكُّدِ

الخبرِ عنه «. قلت: وهذه عبارةٌ غريبةٌ جداً؛ كيف يُجْعَلُ المضمرُ موصوفاً بمثلِه؟ ولا نعلمُ خلافاً في عدمِ جوازِ وصفِ المضمرِ إلاَّ ما نُقِل عن الكسائيِّ أنه جوَّزَ وَصْفَ ضميرِ الغائبِ بالمُظْهَرِ. تقول:» مَرَرْتُ به العاقل «على أَنْ يكونَ» العاقِل «نعتاً. أمَّا وَصْفُ ضميرِ غير الغائبِ بضميرٍ آخرَ فلا خلافَ في عَدَمِ جوازِه، ثم كلامُه يَؤُول إلى التأكيدِ فلا حاجةَ إلى العُدول عنه.

24

قوله: {أَوْ كَفُوراً} : في «أو» هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها على بابها، وهو قولُ سيبويهِ. قال أبو البقاء: «وتُفيد في النهي [المنعَ] عن الجميع؛ لأنَّك إذا قلت في الإِباحة:» جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سِيرين «كان التقديرُ: جالِسْ أحدَهما. فإذا نهى فقال:» لا تُكَلِّمْ زيداً أو عَمْراً «فالتقدير: لا تُكَلِّمْ أحدَها، فأيُّهما/ كلَّمَهُ كان أحدَهما، فيكونُ ممنوعاً منه، فكذلك في الآية، ويَؤُول المعنى: إلى تقديرِ: ولا تُطِعْ منهما آثِماً ولا كفوراً» . وقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: معنى» أو «: ولا تُطِعْ أحدَهما، فهلا جيْءَ بالواو ليكونَ نَهْياً عن طاعتِهما جميعاً. قلت: لو قيل:» لا تُطِعْهما «لجازَ أَنْ يُطيعَ أحدَهما. وإذا قيل: لا تُطعْ أحدَهما عُلِم أنَّ الناهيَ عن طاعةِ أحدِهما، عن طاعتِهما جميعاً أَنْهَى، كما إذا نُهِيَ أَنْ يقولَ لأبَويْه:» أفّ «عُلِم أنه مَنْهِيٌّ عن ضَربْهما على طريق الأَوْلَى» . الثاني: أنَّها بمعنى «لا» ، أي: لا تُطِعْ مَنْ أَثِم

ولا مَنْ كَفَر. قال مكي: «وهو قولُ الفراء، وهو بمعنى الإِباحة التي ذكَرْنا» . الثالث: أنها بمعنى الواو، وقد تقدَّم أنَّ ذلك قولُ الكوفيين وتقدَّمَتْ أدلَّتُهم. والكَفور، وإنْ كان يَسْتَلْزِمُ الإِثمَ، إلاَّ أنه عُطِفَ لأحدِ شيئَيْن: إمَّا أَنْ يكونا شخصَين بعينهِما. وفي التفسير: الآثمُ عُتبةُ، والكَفورُ الوليدُ، وإمَّا لِما قاله الزمخشري قال: «فإنْ قلتَ: كانوا كلُّهم كفرةً فما معنى القِسْمَةِ في قولِه آثماً أو كفوراً؟ قلت: معناه لا تُطعْ منهم راكباً لِما هو إثمٌ داعياً لك إليه، أو فاعلاً لِما هو كفرٌ داعياً لك إليه؛ لأنهم إمَّا أَنْ يَدْعُوْه إلى مساعَدَتِهم على فعلٍ هو إثمٌ أو كفرٌ، أو غيرُ إثمٍ ولا كفرٍ، فنُهي أَنْ يساعدَهم على الاثنين دونَ الثالث» .

26

قوله: {وَسَبِّحْهُ} : فيه دليلٌ على عَدَمِ ما قال بعضُ أهلِ علمِ المعاني والبيان: إنَّ الجمعَ بين الحاءِ والهاءِ مثلاً يُخْرِجُ الكلمةَ عن فصاحتِها وجَعَلُوا من ذلك قولَ الشاعر: 4453 - كريمٌ متى أَمْدَحْه أَمْدَحْه والوَرَى ... معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُه وَحْدي البيت لأبي تمام. ويُمكن أَنْ يُفَرَّقَ بين ما أنشدوه وبين الآيةِ الكريمة بأن التكرارَ في البيتِ هو المُخْرِجُ له عن الفصاحة بخلافِ الآيةِ الكريمةِ فإنه لا تَكْرارَ فيها.

27

قوله: {يَوْماً} : مفعولٌ ب «يَذَرُون» لا ظرفٌ، ووَصْفُه بالثِّقَلِ على المجازِ؛ لأنه مِنْ صفات الأعيانِ لا المعاني. ووراء هنا بمعنى قُدَّام. قال مكي: «سُمِّي وراء لتوارِيْه عنك» فظاهرُ هذا أنه حقيقةٌ، والصحيحُ أنه اسْتُعير ل قُدَّام. وقيل: بل هو على بابِه، أي: وراءَ ظهورِهم لا يَعْبَؤُون به. وفيه تجوُّزٌ.

28

قوله: {وَإِذَا شِئْنَا} : قال الزمخشري: «وحَقُّه أَنْ يجيءَ ب» إنْ «لا ب» إذا «كقولِه: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [النساء: 133] يعني أنَّ» إذا «للمحقَّقِ، و» إنْ «للمحتملِ، وهو تعالى لم يَشَأْ ذلك. وجوابُه أنَّ» إذا «قد تقع موقعَ» إنْ «كالعكسِ.

30

قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه حالٌ، أي: إلاَّ في حالِ مشيئِة اللَّهِ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا مقدَّرٌ بالمعرفة. إلاَّ أَنْ يريدَ تفسير المعنى. والثاني: أنه ظرفٌ. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما محلُّ {أَن يَشَآءَ الله} ؟ قلت: النصبُ على الظرف، وأصلُه إلاَّ وقتَ مشيئةِ اللَّهِ، وكذلك قرأ ابنُ مسعود» إِلاَّ مَا يشَآءُ الله «لأنَّ» ما «مع الفعلِ ك» أَنْ «. ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يقومُ مَقامَ الظرفِ إلاَّ المصدرُ الصريحُ. لو قلت:» أجيئُك أَنْ يَصيحَ الديكُ «أو» ما يصيحُ «لم يَجُزْ» . قلت: وقد تقدَّم الكلامُ معه في ذلك غيرَ مرةٍ.

وقرأ نافعٌ والكوفيون «تَشاؤُون» خطاباً لسائر الخَلْقِ أو على الالتفاتِ من الغَيْبة في قولِه: «نحن خَلَقْناهم» . والباقون بالغَيبة جَرْياً على قولِه: «خَلَقْناهم» وما بعدَه.

31

قوله: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ} : منصوبٌ على الاشتغال بفعلٍ يُفَسِّرُه «أعدَّ لهم» من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ، تقديرُه: وعَذَّبَ الظالمين، ونحوُه: «زيداً مَرَرْتُ به» ، أي: جاوَزْتُ ولابَسْتُ. وكان النصبُ هنا مُختاراً لِعَطْف جملةِ الاشتغالِ على جملةٍ فعليةٍ قبلَها، وهي قولُه: «يُدْخِلُ» . وقرأ الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة «والظَّالمون» رَفْعاً على الابتداءِ، وما بعده الخبرُ، وهو مرجوحٌ لعدم المناسبةِ. وقرأ ابنُ مسعودٍ «وللظالمين» بلام الجرِّ. وفيه وجهان، المشهورُ: أَنْ يكونَ «للظَّالمين» متعلِّقاً ب «أَعَدَّ» بعده/ ويكونَ «لهم» تأكيداً. الثاني: وهو ضعيفٌ جداً أَنْ يكونَ مِنْ بابِ الاشغال، على أَنْ تُقَدِّر فعلاً مثلَ الظاهرِ، ويُجَرَّ الاسمُ بحرفِ جرٍّ. فنقول: «بزيدٍ مررتُ به» ، أي: مررتُ بزيدٍ مررتُ به. والمعروفُ في لغة العربِ مذهبُ الجمهورِ، وهو إضمارُ فِعْلٍ ناصبٍ موافقٍ للفعل الظاهرِ في المعنى. فإنْ وَرَدَ نحوُ «بزيدٍ مَرَرْتُ به» عُدَّ من التوكيدِ، لا من الاشتغالِ.

المرسلات

قوله: {عُرْفاً} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ مِنْ أجلِه، أي: لأجلِ العُرْفِ وهو ضِدُّ النُّكْرِ. والمرادُ بالمُرْسَلاتِ: إمَّا الملائكةُ، وإمَّا الأنبياءُ، وإمَّا الرِّياحُ أي: والملائكةُ المُرْسَلاتُ، أو والأنبياء المُرْسَلات، أو والرياحُ المُرْسَلات. والعُرْفُ: المعروفُ والإِحسانُ. قال الشاعر: 4454 - مَنْ يَفْعَلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جَوازِيَهُ ... لا يَذْهَبُ العُرْفُ بينَ اللَّهِ والناسِ وقد يُقال: كيف جَمَعَ صفةَ المذكرِ العاقلِ بالألفِ والتاءِ، وحقُّه أَنْ يُجْمَعَ بالواوِ والنونِ؟ تقول: الأنبياءُ المُرْسَلونَ، ولا تقولُ: المُرْسَلات. والجوابُ: أنَّ المُرْسَلات جَمْعُ مُرْسَلة، ومُرْسَلة صفةٌ لجماعةٍ من الأنبياء، فالمُرْسَلات جمعُ «مُرْسَلة» الواقعةِ صفةً لجماعة، لا جمعُ «مُرْسَل» المفردِ. الثاني: أَنْ ينتصِبَ على الحالِ بمعنى: متتابعة، مِنْ قولِهم: جاؤوا كعُرْفِ الفَرَس، وهم على فلانٍ كعُرْف الضَّبُع، إذا تألَّبوا عليه. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الخافضِ أي: المُرْسَلاتِ بالعُرْفِ.

وفيه ضَعْفٌ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على العُرْف في الأعراف. والعامَّةُ على تسكينِ رائِه، وعيسى بضمِّها، وهو على تثقيلِ المخففِ نحو: «بَكُر» في بَكْر. ويُحتمل أَنْ يكونَ هو الأصلَ، والمشهورةُ مخففةٌ منه، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونا وزنَيْنِ مستقلَّيْن.

2

قوله: {عَصْفاً} : مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ، والمرادُ بالعاصفات: الرياحُ أو الملائكةُ، شُبِّهَتْ بسُرْعة جَرْيِها في أمرِ الله تعالى بالرياحِ، وكذلك «نَشْراً» و «فَرْقاً» انتصبا على المصدرِ أيضاً.

5

قوله: {ذِكْراً} : مفعولٌ به، ناصبُه «المُلْقِيات» . وقرأ العامَّةُ «فالمُلْقِياتِ» بسكون اللامِ وتخفيفِ القافِ اسمَ فاعلٍ. وابن عباس بفتحِ اللامِ وتشديدِ القافِ، من التَّلْقِية، وهي إيصالُ الكلامِ إلى المخاطبِ. ورَوَى عنه المهدويُّ أيضاً فتحَ القافِ اسمَ مفعولٍ أي: مُلْقَيَةٌ مِنْ قِبَل اللَّهِ تعالى.

6

قوله: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} : فيهما أوجهٌ، أحدُها: أنَّهما بدلانِ مِنْ «ذِكْراً» . الثاني: أنهما منصوبان به على المفعوليةِ، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ جائزٌ. ومنه {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14 - 15] . الثالث: أنَّهما مفعولان مِنْ أجلِهما، والعاملُ فيه: إمَّا «المُلْقِيات» ، وإمَّا «ذِكْراً» ؛ لأنَّ كُلاًّ منهما يَصْلُحُ أَنْ يكونَ مَعْلولاً بأحدِهما، وحينئذٍ يجوزُ

في «عُذْراً» و «نُذْراً» وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونا مصدرَيْنِ بسكونِ العينِ كالشُّكر والكُفْر. والثاني: أَنْ يكونا جمعَ عَذِير ونَذِير، المرادِ بهما المصدرُ بمعنى: الإِعذارِ والإِنذارِ، كالنَّكير بمعنى الإِنكار. الرابع: أنَّهما منصوبان على الحالِ من «المُلْقِيات» ، أو من الضمير فيها، وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونا مصدرَيْنِ واقعَيْنِ مَوْقِعَ الحالِ بالتأويلِ المعروفِ في أمثاله، وأَنْ يكونا جمعَ عذيرٍ ونذيرٍ مُراداً بهما المصدرُ، أو مراداً بهما اسمُ الفاعلِ بمعنى: المُعْذِر والمُنْذِر، أي: مُعْذِرين أو مُنْذِرين. وقرأ العامَّةُ بسكونِ الذالِ مِنْ «عُذْراً» و «نُذْراً» . وقرأ زيدُ ابن ثابت وابن خارجة وطلحةُ بضمِّها والحَرَميَّان وابنُ عامر وأبو بكر بسكونِها في «عُذْراً» وضمِّها في «نُذُراً» . والسكونُ والضمُّ كما تقدَّمَ في أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ كلُّ منهما أصلاً للآخرِ، وأَنْ يكونا أصلَيْنِ، ويجوز في كلٍ من المثقَّلِ والمخفَّفِ أن يكونَ مصدراً، وأَنْ يكونَ جمعاً سَكَنَتْ عينُه تخفيفاً. وقرأ إبراهيم التيمي «عُذْراً ونُذْراً» بواو العطفِ موضعَ «أو» ، وهي تدلُّ على أنَّ «أو» بمعنى الواو.

7

قوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} : هذا جوابُ القسمِ في قولِه والمُرْسَلاتِ «، وما بعده معطوفٌ عليه، وليس قَسَماً مستقلاً، لِما تقدَّم في أولِ هذا الموضوع، ولوقوعِ الفاءِ عاطفةً؛ لأنها لا تكونُ للقَسَم، و» ما «موصولةٌ بمعنى الذي هي اسمُ» إنَّ «و» تُوْعَدون «صلَتُها،

والعائدُ محذوفٌ أي: إنَّ الذي تُوْعَدُونه. و» لَواقعٌ «خبرُها. وكان مِنْ حَقِّ» إنَّ «أَنْ تُكْتَبَ منفصلةً من» ما «الموصولةِ، ولكنهم كتبوها متصلةً بها.

8

قوله: {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} : «النجومُ» مرتفعةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده عند البصريين غيرَ الأخفشِ، وبالابتداء عند الكوفيين والأخفشِ. وفي جواب «إذا» قولان: أحدُهما محذوفٌ تقديرُه: / فإذا طُمِسَت النجومُ وَقَعَ ما تُوْعَدون، لدلالةِ قولِه: «إنَّ ما تُوْعَدُوْن لَواقعٌ» ، أو بَانَ الأمرُ. والثاني: أنَّه {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} على إضمارِ القولِ، أي: يُقال: لأيِّ يومٍ، فالفعلُ في الحقيقةِ هو الجوابُ. وقيل: الجوابُ: «ويلٌ يومئذٍ» نقله مكي، وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه لو كان جواباً لَزِمَتْه الفاءُ لكونِه جملةً اسميةً.

11

قوله: {أُقِّتَتْ} : قرأ أبو عمروٍ «وُقِّتَتْ» بالواوِ، والباقون «أُقِّتَتْ» بهمزةٍ بدلَ الواوِ. قالوا: وهي الأصلُ؛ لأنَّه من الوَقْتِ، والهمزةُ بدلٌ منها؛ لأنَّها مضمومةٌ ضمةً لازِمَةً. وقد تقدَّم ذِكْرُ ذلك في أولِ هذا الموضوع.

12

قوله: {لأَيِّ يَوْمٍ} : متعلِّقٌ ب «أُجِّلَتْ» وهذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ. أي: يُقال. وهذا القولُ المضمرُ يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً ل «إذا» ، كما تقدَّم، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ مرفوعِ «أُقِّتَتْ» أي: مَقُولاً فيها: لأيِّ يومٍ أُجِّلَتْ.

13

قوله: {لِيَوْمِ الفصل} : بدلٌ مِنْ «لأيِّ يومٍ» بإعادةِ العاملِ. وقيل: بل تتعلَّق بفعلٍ مقدَّرٍ أي: أُجِّلَتْ ليومِ الفَصْل. وقيل: اللامُ بمعنى «إلى» ذكرهما مكيٌّ.

15

قوله: {وَيْلٌ} : مبتدأٌ، سَوَّغ الابتداءَ به كونُه دعاءً. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف وقعَتِ النكرةُ مبتدأً في قولِه:» ويَلٌ «؟ قلت: هو في أَصْلِهِ مصدرٌ منصوبٌ سادٌّ مَسَدَّ فِعْلِه، ولكنه عُدِل به إلى الرفعِ للدلالةِ على ثباتِ معنى الهلاكِ ودوامِه للمدعُوِّ عليهم. ونحوُه {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] ويجوز: وَيْلاً له بالنصبِ، ولكن لم يُقْرَأْ به» . قلت: هذا الذي ذكره ليس من المُسَوِّغاتِ التي عَدَّها النَّحْويون، وإنما المُسَوِّغُ ما ذكرْتُه لك مِنْ كونه دعاءً. وفائدةُ العدولِ إلى الرفع ما ذكره. و «يومئذٍ» ظرفٌ للوَيْل. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ صفةً ل «وَيْلٌ» و «للمُكَذِّبين» خبرُه.

16

قوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ} : العامَّةُ على ضَمِّ حرفِ المضارعةِ مِنْ «أَهْلَكَ» رباعياً. وقتادة بفتحِه. قال الزمخشري: «مَنْ هَلَكه بمعنى: أَهْلكه. قال العجَّاج: 4455 - ومَهْمَهٍ هالكِ مَنْ تعرَّجا ... قلت: ف» مَنْ «معمولٌ ل» هالك «، وهو مِنْ هَلَكَ. إلاَّ أنَّ بعضَ الناسِ جَعَلَ هذا دليلاً على إعمالِ الصفةِ المشبهةِ في الموصولِ، وجَعَلَها مِن اللازمِ؛ لأنَّ شرطَ الصفةِ المشبهةِ أَنْ تكونَ مِنْ فِعْلٍ لازم، فعلى هذا لا دليلَ فيه.

17

قوله: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ} : العامَّةُ على رَفْعِ العينِ استئنافاً أي: ثم نحن نُتْبِعُهم، كذا قَدَّره أبو البقاء. وقال: «وليس بمعطوفٍ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجِبُ أَنْ يكونَ المعنى: أَهْلَكْنا الأوَّلِيْن، ثم أَتْبَعْناهم الآخِرين في الهلاكِ. وليس كذلكَ؛ لأنَّ هلاكَ الآخرين لم يَقَعْ بعدُ» . قلت: ولا حاجةَ في وجهِ الاستئنافِ إلى تقديرِ مبتدأ قبلَ الفعل، بل يُجْعَلُ الفعلُ معطوفاً على مجموع الجملةِ من قولِه: «ألم نُهْلِك» ويَدُّلُّ على هذا الاستئنافِ قراءةُ عبدِ الله «ثم سَنُتْبِعُهم» بسينِ التنفيسِ.

وقرأ الأعرجُ والعباسُ عن أبي عمروٍ بتكسيِنها. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه تسكينٌ للمرفوعِ فهو مستأنف كالمرفوعِ لفظاً. والثاني: أنَّه معطوفٌ على مجزومٍ. والمَعْنِيُّ بالآخِرين حينئذٍ قومُ شُعَيْبٍ ولوطٍ وموسى، وبالأوَّلِيْنَ قومُ نوحٍ وعادٍ وثمودَ.

18

قوله: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ} : أي: مثلَ ذلك الفعلِ الشَّنيعِ نَفْعَلُ بكلَّ مَنْ أَجْرَمَ.

23

قوله: {فَقَدَرْنَا} : قرأ نافعٌ والكسائيُّ بالتشديد من التقدير، وهو موافِقٌ لقولِه: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19] والباقون بالتخفيف من القُدْرة. ويَدُلُّ عليه قولُه: «فنِعْمَ القادِرون» . ويجوز أَنْ يكونَ المعنى على القراءة الأولى: فنِعْمَ القادِرون على تقديرِه، وإن جُعِلت «القادِرون» بمعنى «المُقَدِّرُون» كان جَمْعاً بين اللفظَيْنِ، ومعناهما واحدٌ، ومنه قولُه تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] وقولُ الأعشى: 4456 - وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادِث إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا

25

قوله: {كِفَاتاً} : الكِفاتُ: اسمٌ للوِعاءِ الذي يُكْفَتُ فيه أي: يُجْمَعُ، قاله أبو عبيدة. يقال: كَفَتَه يَكْفِتُه أي: جَمَعَه وضَمَّه. وفي الحديث «اكْفِتُوا صِبْيانَكم» وقال الصمصامة بن الطِّرِمَّاح: 4457 - وأنتَ اليوم فوقَ الأرضِ حَيّاً ... وأنتَ غداً تَضُمُّك في كِفاتِ وقيل: الكِفاتُ اسمٌ لِمَا يَكْفِتُ كالضِّمام والجِماع. يقال: هذا البابُ جِماعُ الأبوابِ. وفي انتصابِه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «نَجْعَلْ» لأنَّها للتصيير. والثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ من «الأرضَ» ، والمفعولُ الثاني «أحياءً وأمواتاً» بمعنى: ألم نُصَيِّرْها/ أحياءً بالنَّبات وأمواتاً بغير نباتٍ أي: بعضُها كذا، وبعضُها كذا. وقيل: كِفاتٌ جمعُ كافِتٍ كصِيامٍ وقِيامٍ في جمعِ صائمٍ وقائمٍ. وقيل: بل هو مصدرٌ كالكتابِ والحسابِ.

26

قوله: {أَحْيَآءً} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه منصوبٌ ب كِفات، قاله مكي، والزمخشريُّ وبدأ به، بعد أن جَعلَ «كِفاتاً» اسمَ ما يَكْفِتُ كقولِهم: الضِّمام والجِماع، هذا يمنعُ أَنْ يكونَ «كِفاتاً» ناصباً ل «أحياءً» لأنه ليس من الأسماءِ العاملةِ، وكذلك إذا جَعَلْناه بمعنى

الوِعاء، على قول أبي عبيدةَ، فإنه لا يعملُ أيضاً، وقد نصَّ النحاةُ على أنَّ أسماءَ الأمكنةِ والأزمنةِ والآلات، وإنْ كانَتْ مشتقةً جاريةً على الأفعالِ لا تعملُ، نحو: مَرْمى ومِنْجل، وفي اسم المصدرِ خلافٌ مشهورٌ، ولكنْ إنما يتمشَّى نصبُهما بكِفات على قولِ أبي البقاء، فإنَّه لم يُجَوِّزْ إلاَّ أَنْ يكونَ جمعاً لاسمِ فاعلٍ، أو مصدراً، وكلاهما من الأسماءِ العاملة. الوجه الثاني: أَنْ ينتصِبَ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُّ عليه «كِفات» أي: يَكْفِتُهم أحياءً على ظهرِها، وأمواتاً في بَطْنِها، وبه ثنَّى الزمخشري. الثالث: أن يَنْتَصِبا على الحالِ من «الأرضَ» على حَذْفِ مضافٍ أي: ذاتَ أحياءٍ وأموات. الرابع: أَنْ يَنْتَصِبا على الحالِ مِنْ محذوفٍ أي: تَكْفِتُكم أحياءً وأمواتاً؛ لأنَّه قد عُلِمَ أنَّها كِفاتٌ للإِنسِ، قاله الزمخشريُّ، وإليه نحا مكيٌّ؛ إلاَّ أنَّه قَدَّره غائباً أي: تَجْمعهم الأرضُ في هاتَيْن الحالتَيْن. الخامس: أَنْ ينتصِبا مفعولاً ثانياً ل «نَجْعل» وكِفاتاً حالٌ كما تقدَّم تقريرُه: وتنكيرُ «أحياءً وأمواتاً» : إمَّا للتَّفْخيمِ أي: تَجْمَعُ أحياءً لا يُقَدَّرُوْن وأمواتاً لا يُحْصَوْن، وإمَّا للتبعيضِ؛ لأنَّ أَحياءَ الإِنس وأمواتَهم ليسوا بجميع الأحياءِ ولا الأمواتِ، وكذلك التنكيرُ في «ماءً فُراتاً» يحتمل المعنَيْيْنِ أيضاً: أمَّا التفخيم فواضِحٌ لعِظَمِ المِنَّةِ به عليهم، وأمَّا التبعيضُ

فكقولِه تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] فهذا مُفْهِمٌ للتبعيضِ، والقرآنُ يُفَسِّرُ بعضُه بعضاً. والشَّامخاتُ: جمعُ «شامِخ» ، وهو المرتفعُ جداً ومنه: «شَمَخَ بأَنْفِه» إذا تكبَّر، جُعِل كِنايةً عن ذلك كثَنْي العِطْفِ وصَعْر الخَدِّ، وإنْ لم يَحْصُلْ شيءٌ من ذلك.

29

قوله: {انطلقوا} : أي: يُقال لهم ذلك. وقرأ العامَّةُ «انطَلِقوا» الثاني كالأول بصيغةِ الأمرِ على التأكيد. ورُوَيْسٌ عن يعقوب «انطلَقوا» بفتح اللام فعلاً ماضياً على الخبرِ أي: لَمَّا أُمِرُوا امْتَثَلوا ذلك. وهذا موضعُ الفاءِ فكان يَنْبعي أَنْ يكونَ التركيبُ: فانطَلَقوا نحو قولِك: قلت اذهب فذهب، وعَدَمُ الفاءِ هنا ليس بالواضحِ.

31

قوله: {لاَّ ظَلِيلٍ} : صفةٌ ل «ظلٍّ» و «لا» تتوسَّطُ بين الصفةِ والموصوفِ لإِفادةِ النفي، وجيْءَ بالصفةِ الأولى اسماً، وبالثانية فعلاً، دلالةً على نَفْيِ ثبوتِ هذه الصفةِ واستقرارِها للظلِّ، ونَفْيِ التجدُّدِ والحدوثِ للإِغْناءِ عن اللهب.

32

قوله: {إِنَّهَا} : أي: إنَّ جهنَّم؛ لأنَّ السياقَ كلَّه لأجلها. وقرأ العامَّةُ: «بَشرَرٍ» بفتح الشينِ وعَدَمِ الألفِ بين الراءَيْن. وورش يُرَقِّقُ الراءَ الأولى لكسرِ التي بعدها. وقرأ ابن عباس وابن مقسم

بكسرِ الشين وألفٍ بين الراءَيْنِ. وعيسى كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الشين. فقراءةُ ابنِ عباس يجوزُ أَنْ تكونَ جمعاً لشَرَرَة، وفَعَلة تُجْمَعُ على فِعال نحو: رَقَبة ورِقاب ورَحَبة ورِحاب، وأَنْ تكونَ جمعاً لشَرِّ، لا يُراد به أَفْعَلُ التفضيلِ. يقال: رجلٌ شَرٌّ ورجالٌ شِرارٌ، ورجلٌ خيرٌ ورجالٌ خِيار، ويؤنثان فيقال: امرأة شَرَّةٌ، وامرأةٌ خَيْرةٌ. فإن أُريد بهما التفضيلُ امتنعَ ذلك فيهما، واختصَّا بأحكامٍ مذكورةٍ في كتبِ النحْويين أي: تَرمي بشِرارٍ من العذابِ أو بشِرار من الخَلْق. وأمَّا قراءةُ عيسى/ فهي جمعُ شَرارَةٍ بالألفِ وهي لغةُ تميمٍ. والشَّرَرَةُ والشَّرارَة: ما تطايَرَ من النارِ متفرِّقاً. قوله: {كالقصر} العامَّةُ على فتح القافِ وسكونِ الصادِ، وهو القَصْرُ المعروف، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه. وابن عباس وتلميذاه ابن جُبَيْر وابنُ جَبْر، والحسن، بفتحِ القافِ والصادِ، وهي جمعُ قَصَرة بالفتح والقَصَرَةُ: أَعْناقُ الإِبلِ والنخلِ، وأصولُ الشجرِ. وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً بكسرِ القافِ وفتحِ الصاد جمع «قَصَرة» يعني بفتح القافِ. قال الزمخشريُّ: «كحاجةٍ وحِوَج» وقال الشيخ: «كحَلَقة من الحديدِ

وحِلَق» . وقُرىء «كالقَصِرِ» بفتح القاف وكسرِ الصادِ، ولم أَرَ لها توجيهاً. ويظهرُ أنَّ ذلك مِنْ بابِ الإِتباعِ، والأصلُ: كالقَصْرِ بسكونِ الصادِ، ثم أتبعَ الصادَ حركةَ الراءِ فكسَرها، وإذا كانوا قد فَعَلُوا ذلك في المشغولِ بحركة نحو: كَتِف وكَبِد، فلأَنْ يَفْعلوه في الخالي منها أَوْلَى. ويجوزُ أَنْ يكون ذلك للنقل بمعنى: أنه وَقَفَ على الكلمةِ فَنَقَل كسرةَ الراءِ إلى الساكنِ قبلَها. ثم أَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوقفِ، وهو بابٌ شائِعٌ عند القُرَّاءِ والنحاة. وقرأ عبدُ الله بضمِّهما. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه جمعُ قَصْرٍ كرَهْن وَرُهُن، قاله الزمخشريُّ. والثاني: أنَّه مقصورٌ من قُصور كقولِه: 4458 - فيها عيايِيْلُ أُسودٍ ونُمُرْ ... يريد: ونُمور. فقصَر وكقوله: «النُّجُم» يريد النجوم. وتخريجُ الزمخشريِّ أَوْلَى؛ لأنَّ محلَّ الثاني: إمَّا الضرورةُ، وإمَّا النُّدُور.

33

قوله: {جِمَالَةٌ} : قرأ الأخَوان وحَفْصٌ «جِمالَةٌ» . والباقون «جِمالات» . فالجِمالَةُ فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها جمعٌ صريحٌ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ. يُقال: جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو: ذَكَر وذِكار وذِكارة، وحَجَر وحِجارة. والثاني: أنه اسمُ جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة،

قاله أبو البقاء، والأولُ قولُ النُّحاةِ. وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل «جِمالة» هذه، وأَنْ يكونَ جمعاً ل جِمال، فيكون جمعَ الجمعِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل جَمَل المفردِ كقولهم: «رجِالات قريش» كذا قالوه. وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةَ غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ، إلاَّ إذا لم تُكَسَّرْ. فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ. قالوا: ولذلك لُحِّن المتنبيُّ في قولِه: 4459 - إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ ... ففي الناسِ بُوْقاتٌ لها وطُبولُ فجمع «بُوقاً» على «بُوقات» مع قولِهم: «أَبْواق» ، فكذلك جِمالات مع قولهم: جَمَل وجِمال. على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ ذلك، ويَجْعَلُ نحو «: حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً، وإنْ لم يُكَسَّرْ. وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء، بخلافٍ عنهم، كذلك، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ. وقيل: قُلوس الجسورِ، الواحدةِ» جُمْلة «لاشتمالِها على طاقاتِ الحِبال. وفيها وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ» جُمالات «جمعَ جُمال، وجُمال جَمْعَ جُمْلة، كذا قال الشيخ، ويَحْتاجُ في إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ. والثاني: أنَّ» جُمالات «جمعُ جُمالة قاله الزمخشري،

وهو ظاهرٌ. وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ» جُمالة «بضمِّ الجيم، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً. قوله: {صُفْرٌ} صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة؛ لأنَّه: إمَّا جمعٌ أو اسمُ جمعٍ. والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء. والحسنُ بضمِّها، وكأنَّه إتْباعٌ. وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في غايةِ الفصاحةِ. قال الزمخشريُّ:» وقيل: صُفْرٌ سُوْدٌ تَضْرِبُ إلى الصُّفرة. وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجيِّ: 4460 - دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ ... بمثل الجِمال الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى وقال أبو العلاء المعري: 4461 - حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى ... تَرْمي بكل شَرارةٍ كطِرافٍ فشبَّهها/ بالطِّراف، وهو بيت الأُدَم في العِظَمِ والحُمْرَةِ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ القرآن. ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ في صَدْرِ بيتِه بقولِه: «حمراءُ» توطئةً لها ومناداةً عليها، وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها. ولقد عَمِيَ جمع الله له عَمى الدَّارَيْن عن قولِه عزَّ وجلَّ: «كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ» فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر. وعلى أنَّ في

التشبيهِ بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين: مِنْ جهةِ العِظَمِ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ، وفي التشبيه بالجِمالات وهي القُلُوسُ تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ: الطُّولِ والعِظَمِ والصُّفْرةِ «انتهى. وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ:» شُبِّهَتْ بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيانِ التشبيهِ، ألا ترى أنَّهم يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان «قلت: الأَفْدانُ: القصورُ، وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة: 4462 - فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها ... فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ

35

قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} : العامَّةُ على رفعٍ «يومُ» خبراً ل «هذا» . وزيد بنُ عليّ والأعرجُ والأعمشُ وأبو حيوةً وعاصمٌ في بعضِ طرقِه بالفتح. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الفتحةِ فتحةُ بناءٍ وهو خبرٌ ل «هذا» كما تقدَّم. والثاني: أنَّه منصوبٌ على الظرفِ واقعاً خبراً ل «هذا» على أَنْ يُشارَ به لِما تقدَّم من الوعيدِ كأنه قيل: هذا العذابُ المذكورُ كائنٌ يومَ لا يَنْطِقون. وقد تقدَّم آخِرَ المائدة ما يُشْبه هذا في قوله: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} إلاَّ أنَّ النصبَ هناك متواترٌ.

36

قوله: {وَلاَ يُؤْذَنُ} : العامَّةُ على عَدَمِ تَسْمِيَةِ الفاعِل. وحكى الأهوازِيُّ عن زيدِ بن علي «ولا يَأْذَنُ» سَمَّى الفاعلِ، وهو اللَّهُ تعالى. «فيعتذرون» في رفعِه وجهان، أحدُهما: أنه مستأنفٌ

أي: فهم يَعْتَذِرون. قال أبو البقاء: «ويكون المعنى: أنَّهم لا يَنْطِقُون نُطْقاً ينفَعُهم، أو يَنْطقون في بعضِ المواقفِ ولا يَنْطِقُون في بعضها» . والثاني: أنه معطوفٌ على «يُؤْذن» فيكون مَنْفِيّاً. ولو نُصِبَ لكان مُتَسَبَّباً عنه «. وقال ابن عطية:» ولم يُنْصَبْ في جوابِ النفيِ لتشابُهِ رؤوسِ الآي، والوجهان جائزان «. انتهى فقد جَعَلَ امتناعَ النصبِ مجردَ المناسبةِ اللفظيةِ، وظاهرُ هذا مع قولِه:» والوجهان جائزان «أنهما بمعنىً واحدٍ، وليس كذلك، بل المرفوعُ له معنىً غيرُ معنى المنصوبِ. وإلى مثلِ هذا ذهبَ الأعلمُ فيُرفع الفعلُ، ويكونُ معناه النصبَ، ورَدَ عليه ابنُ عصفور.

41

قوله: {فِي ظِلاَلٍ} : هذه قراءةُ العامَّةِ، جمعُ ظِلّ. والأعمش «ظُلَلٍ» جمعُ ظُلَّة. وتقدَّم في يس مثلُه، إلاَّ أنهما متواتران.

43

قوله: {كُلُواْ} : معمولاً لقولٍ، ذلك القولُ منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في الظرفِ أي: كائِنْين في ظلال، مَقُولاً لهم ذلك، وكذلك {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً} فإنْ كان ذلك مقولاً لهم في الدنيا فواضحٌ، وإن كان مَقولاً في الآخرة فيكون تذكيراً بحالِهم أي: هم أحِقَّاءُ بأَنْ يُقال لهم في دنياهم كذا. ومثله:

4463 - إخْوَتي لا تَبْعَدُوا أبداً ... وبَلَى واللَّهِ قد بَعِدُوا أي: هم أهلٌ أَنْ يَدَّعَى لهم بذلك.

50

قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} : متعلقٌ بقولِه: «يُؤمنون» أي: إنْ لم يُؤمنوا بهذا القرآنِ فبأيِّ شيءٍ يُؤْمنون؟ والعامَّةُ على الغَيْبة. وقرأ ابن عامر في روايةٍ ويعقوبُ بالخطاب على الالتفات أو على الانتقال.

النبأ

قوله: {عَمَّ} : قد تقدَّم أن البزيَّ يُدخل هاءَ السكتِ عوضاً من ألف «ما» الاستفهاميةِ في الوقف. ونُقِلَ عن ابن كثير أنه يَقرأ «عَمَّه» بالهاء وَصْلاً، أجرى الوصل مُجرى الوقف. وقرأ عبد الله وأُبَيّ وعكرمة «عَمَّا» بإثبات الألفِ. وقد تقدَّم أنه يجوزُ ضرورةً أو في قليلٍ من الكلام. ومنه: 4464 - على ما قامَ يَشْتِمُني لَئيمٌ ... كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ / وتقدم أنَّ الزمخشريَّ جَعَلَ منه {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} في يس [الآية: 27] . و «عَمَّ» فيه قولان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّه متعلِّقٌ ب «يتساءلون» هذا الظاهرِ. قال أبو إسحاق: «الكلامُ تامٌّ في قوله:» عَمَّ يتساءلون «،

ثم كان مقتضى القول أن يُجيبَ مُجيبٌ، فيقولَ: يتساءلون عن النبأ العظيم، فاقتضى إيجازُ القرآنِ وبلاغتُه أَنْ يبادِرَ المحتَجُّ بالجوابِ التذي تقتضيه الحالُ والمحاورةُ اقتضاباً للحُجَّة، وإسراعاً إلى مَوْضِعِ قَطْعِهم» . والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ ويتعلَّقُ {عَنِ النبإ العظيم} بهذا الفعلِ الظاهرِ. قال الزمخشري: «وعن ابن كثيرٍ أنه قرأ» عَمَّهْ «بهاءِ السَّكْتِ. ولا يَخْلو: إمَّا أَنْ يجريَ الوصلُ مَجْرى الوقفِ، وإمَّا أَنْ يقفَ ويَبْتَدِىءَ {يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} على أَنْ يُضْمَرَ» يتساءلون «؛ لأنَّ ما بعده يُفَسِّرُه كشيءٍ يُبْهَمُ ثم يُفَسَّرُ» .

2

قوله: {عَنِ النبإ} : يجوزُ فيه ما جازَ في قولِه {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} [المرسلات: 13] في البدليةِ والتعلُّقِ بفعلٍ مقدَّرٍ. ويَزيد عليه هنا أنَّه يتعلَّقُ بالفعل الظاهرِ، ويتعلَّقُ ما قبلَه بمضمرٍ، كما تقدَّم عن الزمخشريِّ. وقال ابن عطية: «قال أكثرُ النحاة: قوله: {عَنِ النبإ العظيم} متعلِّقٌ ب» يتساءلون «الظاهرِ، كأنَّه قال: لِمَ يتساءلون عن النبأ» ؟ وقوله: «عَمَّ» هو استفهامُ تفخيمٍ وتعظيمٍ.

3

قوله: {الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} : «مُخْتلفون» خبرُ «هم» والجارُّ متعلِّقٌ به. والموصولُ يحتملُ الحركاتِ الثلاثَ إتْباعاً وقَطْعاً رفعاً ونصباً.

4

قوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} : التكرارُ للتوكيد. وقد زَعَمَ الشيخُ جمالُ الدين ابنُ مالك أنَّه مِنْ بابِ التوكيدِ اللفظيِّ. ولا يَضُرُّ توسُّطُ حرفِ العطفِ. والنَّحْوِيُّون يَأَبَوْن هذا. ولا يُسَمُّونه إلاَّ عَطْفاً. وإنْ أفادَ التأكيدَ. والعامَّةُ على الغَيْبة في الفعلَيْن. والحسنُ وابنُ دينار وابن عامر بخلافٍ عنه بتاءِ الخطاب فيهما. والضحاك: الأولُ كالحسن، والثاني كالعامَّةِ. والغَيْبَةُ والخطابُ واضحان.

6

قوله: {مِهَاداً} : مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى الخَلْق، فيكونَ «مِهادا» حالاً مقدرة، و «أوتاداً» كذلك ولا بُدَّ مِنْ تأويلِها بمشتق أيضاً، أي: مُثَبَّتاتٍ. وأمَّا «سُباتاً» فالظاهر كونُه مفعولاً ثانياً. و «لباساً» فيه استعارةٌ حسنةٌ وعليه قولُه: 4465 - وكم لِظَلامِ الليلِ عندك مِنْ يدٍ ... تُخَبِّرُ أنَّ المانَوِيَّةَ تَكْذِبُ وقرأ العامَّةُ «مِهاداً» ، ومجاهد وعيسى وبعضُ الكوفيين «مَهْداً»

وقد تقدَّم هاتان القراءتان في سورة طه، وأنَّ الكوفيين قَرؤوا «مَهْداً» في طه والزخرف فقط. وتقدَّم الفرقُ بينهما ثَمَّةَ.

13

قوله: {وَهَّاجاً} : الوَهَّاجُ: المُضِيءُ المُتلألىءُ، مِنْ قولِهم: وَهَجَ الجَوْهَرُ، أي: تلألأ. ويُقال: وَهِجَ يَوْهَجُ كوَجِلَ يَوْجَلُ، ووَهَجَ يَهِجُ كوَعَدَ يَعِدُ.

14

قوله: {مِنَ المعصرات} : يجوزُ في «مِنْ» أَنْ تكونَ على بابِها من ابتداءِ الغاية، وأَنْ تكونَ للسببية. ويَدُلُّ قراءةُ عبدِ الله بنِ يزيد وعكرمة وقتادة «بالمُعْصِرات» بالباءِ بدلَ «مِنْ» وهذا على خلافٍ في «المُعْصِرات» ما المرادُ بها؟ فقيل: السحاب. يقال: أَعْصَرَتْ السَّحائِبُ، أي: شارَفَتْ أَنْ تُعْصِرَها الرياحُ فتُمْطِرَ كقولك: «أجَزَّ الزرعُ» إذا حان له أن يُجَزَّ. ومنه «أَعْصَرَتِ الجارِيَةُ» إذا حان لها أَنْ تحيضَ. قاله الزمخشريُّ. وأنشد ابنُ قتيبة لأبي النجم: 4466 - تَمْشي الهُوَيْنَى ساقِطاً خِمارُها ... قد أَعْصَرَتْ أو قَدْ دَنَا إعْصارُها

قلت: ولولا تأويلُ «أَعْصَرَتْ» بذلك لكان ينبغي أَنْ تكونَ المُعْصَرات بفتح الصادِ اسمَ مفعول؛ لأنَّ الرياحَ تُعْصِرُها. وقال الزمخشري: «وقرأ عكرمةُ» بالمُعْصِرات «. وفيه وجهان: أَنْ يُراد الرياحُ التي حانَ لها أَنْ تُعْصِرَ السحابَ، وأَنْ يُرادَ السحائبُ؛ لأنَّه إذا كان الإِنزالُ منها فهو بها/ كما تقول: أَعْطى مِنْ يدِه درهماً، وأَعْطى بيدِه. وعن مجاهد: المُعْصِرات: الرياحُ ذواتُ الأعاصيرِ. وعن الحسن وقتادة: هي السماواتُ. وتأويلُه: أنَّ الماءَ يَنْزِلَ من السماءِ إلى السحاب فكأنَّ السماواتِ يَعْصِرْنَ، أي: يَحْمِلْنَ على العَصْر ويُمَكِّنَّ منه. فإنْ قلتَ: فما وَجْهُ مَنْ قرأ» من المُعْصِرات «وفسَّرها بالرياح ذواتِ الأعاصيرِ، والمطرُ لا يَنْزِلُ من الرياح؟ قلت: الرياحُ هي التي تُنْشِىءُ السحابَ وتَدِرُّ أخلافَه، فيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَبْدأً للإِنزال. وقد جاء: إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الرياحَ فتحملُ الماءَ من السماء، فإنْ صَحَّ ذلك فالإِنْزالُ منها ظاهرٌ. فإنْ قلت: ذكر ابن كَيْسانَ: أنه جَعَلَ المُعْصِرات بمعنى المُغِيثات، والعاصِرُ هو المُغيث لا المُعْصِر. يقال: عَصَرَهُ فاعْتَصَرَ. قلت: وَجْهُه أَنْ يُرادَ: اللاتي أَعْصَرْن، أي: حان لها أَنْ تُعْصِرَ، أي: تُغيث» . قلت: يعني أنَّ «عَصَرَ» بمعنى الإِغاثةِ ثلاثيٌّ، فكيف قيل هنا: مُعْصِرات بهذا المعنى، وهو من الرُّباعي؟ فأجاب عنه بما تقدَّم، يعني أنَّ الهمزةَ بمعنى الدُّخولِ في الشيء. قوله: {ثَجَّاجاً} الثَّجُّ: الانصِبابُ بكثرةٍ وشِدَّةٍ. وفي الحديث: «

أحَبُّ العملِ إلى اللَّهِ العَجُّ والثَّجُّ» فالعَجُّ: رَفْعُ الصوتِ بالتلبيةِ، والثَّجُّ: إراقةُ دماءِ الهَدْيِ. يقال: ثَجَّ الماءُ بنفسِه، أي: انصَبَّ وثَجَجْتُه أنا، أي: صَبَبْتُه ثَجّاً وثُجوجاً، فيكونُ لازماً ومتعدياً. وقال الشاعر: 4467 - إذا رَجَفَتْ فيها رَحَىً مُرْجَحِنَّةٌ ... تَبَعَّجَّ ثَجَّاجاً غَزيرَ الحوافِلِ وقرأ الأعرج «ثجَّاحاً» بالحاءِ المهملةِ أخيراً. وقال الزمخشري: «ومَثاجِحُ الماءِ مَصابُّه، والماءُ يَنْثَجِحُ في الوادي» .

16

قوله: {أَلْفَافاً} : فيه أوجهٌ: أحدُها: أنَّه لا واحدَ له. قال الزمخشري: «ألفافاً» : ملتفَّةٌ لا واحدَ له كالأوْزَاعِ والأَخْيافِ «. والثاني: أنه جمعُ» لِفّ «بكسرِ اللام، فيكونُ نحو: سِرّ وأَسْرار. وأنشد أبو علي الطوسي: 4468 - جَنَّةٌ لِفٌّ وعَيْشٌ مُغْدِقُ ... ونَدامى كلُّهم بِيْضٌ زُهُرْ وهذا قولُ أكثرِ أهلِ اللغة. الثالث: أنه جمعُ لفيف، قاله الكسائي.

ومثلُه: شريف وأَشْراف، وشهيد وأشهاد. وقال الشاعر: 4469 - أحابِيْشُ أَلفْافٌ تبايَنَ فَرْعُهُمْ ... وجِذْمُهُمُ عن نسبةِ المتعرّفِ الرابع: أنه جمعُ الجمعِ؛ وذلك أنَّ الأصلَ» ألَفُّ «في المذكر، و» لَفَّاءُ «في المؤنث كَأْحمر وحمراء، ثم جُمِعا على لُفّ كحُمْر، ثم جُمع لُفّ على أَلْفاف، إذا صار لُفٌّ بزنة قُفْلٍ فجُمع جَمْعَه، قاله ابن قتيبة. إلا أن الزمخشري، قال:» وما أظنُّه واجداً له نظيراً مِن نحو: خُضْر وأَخْضار، وحُمْر وأَحْمار «. قلت كأنّه يَسْتَبْعِدُ هذا القولَ من حيث إن نَظَائِرَه لا تُجْمَعُ على أَفْعال؛ إذ لا يُقال: خُضْر وأخْضار، ولا حُمْر وأَحْمار، وإن كانا جمعَيْنِ لأَخْضَر وخَضْراء، وأَحْمر وحَمْراء، وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ جمعَ الجمعِ لا يَنْقاسُ، ويكفي أَنْ يكونَ له نظيرٌ في المفردات كما رأيتَ مِنْ أنَّ لُفّاً صارَ يضارِعُ قُفْلاً؛ ولهذا امتنعوا مِنْ تكسيرِ مَفاعل ومَفاعيل لعدمِ نظيرٍ في المفرداتِ يُحْمَلان عليه. الخامس: قال الزمخشري:» ولو قيل: هو جمعُ مُلْتَفَّة بتقدير حَذْفِ الزوائد لكان قولاً وجيهاً «. قلت: وفيه تكلُّفُ لا حاجةَ إليه، وأيضاً فغالبُ عباراتِ النحاة

في حَذْف الزوائِد إنما هو في التصغير. تقول: تصغيرُ الترخيم بحذفِ الزوائد، وفي المصادر يقولون: هذا المصدرُ على حَذْفِ الزوائِد.

18

قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «يومَ الفَصْل» أو عطفَ بيانٍ له، أو منصوباً بإضمار «أعني» و «أفْواجاً» حالٌ مِنْ فاعل «تأْتون» . وتقدَّمَ «فُرَاتاً» [الفرقان: 53] . و «فُتِحَتْ» بالتخفيف والتشديد في الزُّمَر.

22

قوله: {لِّلطَّاغِينَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لِمْرصاداً، وأنْ يكونَ حالاً مِنْ «مآباً» كان صفتَه فلَّما تقدَّم نُصِب على الحال. وعلى هذَيْن الوجهَيْنِ فيتعلَّق بمحذوفٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً بنفسِ «مِرْصاداً» أو بنفسِ «مآباً» لأنه بمعنى مَرْجِع. وقرأ ابن يَعمر وأبو عمرو المنقري «أنَّ جهنمَ» بفتح «أنَّ» . قال الزمخشري: «على تعليل قيامِ السَّاعةِ بأنَّ جهنمَ كانت مِرْصاداً للطاغين، كأنه قيل: كان ذلك لإِقامةِ الجزاءِ» . قلت: يعني أنَّه علةٌ لقولِه «يومَ يُنْفَخُ» إلى آخره. وقرأ أبو عياض «في الصُّوَر» بفتحِ الواو. وتقدَّمَ مثلُه.

23

قوله: {لاَّبِثِينَ} : منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في «للطَّاغِين» وهي حالٌ مقدرةٌ. وقرأ حمزةُ «لَبِثِيْنَ» دونَ ألفٍ، والباقون «لابِثين» بها. وضَعَّفَ مكيٌّ قراءةَ حمزةَ، قال: «ومَنْ قرأ» لبِثين «، شَبَّهه بما هو خِلْقَةٌ في الإِنسان نحو: حَذِر وفَرِق، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللُّبْثَ ليس مِمَّا يكونُ خِلْقَةً في الإِنسان، وبابُ فَعِل إنما هو لِما يكونُ خِلْقَةً في الإِنسانِ، وليس اللُّبْثُ بخِلْقةٍ» . ورَجَّح الزمخشريُّ قراءةَ حمزةَ فقال: «قُرِىءَ: لابِثين ولَبِثين. والَّلبِثُ أَقْوى» ؛ لأنَّ اللابِثَ يُقال لِمَنْ وجِدَ منه الُّلبْثُ، ولا يُقال: لِبثٌ إلاَّ لمَنْ شأنُه الُّلبْثُ كالذي يَجْثُمُ بالمكانِ، لا يكاد يَنْفَكُّ منه «. قلت: وما قاله الزمخشريُّ أَصْوَبُ. وأمَّا قولُ مكيّ: الُّلبْثُ ليس خِلْقَةً فمُسَلَّمٌ؛ لكنه بُوْلِغَ في ذلك فجُعِلَ بمنزلةِ الأشياءِ الخِلْقيَّة. قوله: {أَحْقَاباً} منصوبٌ على الظرفِ، وناصبهُ» لا بثين «، هذا هو المشهورُ. وقيل: هو منصوبٌ بقولِه» لا يَذُوقون «وهذا عند مَنْ يرى تقديمَ معمولِ ما بعد» لا «عليها، وهو أحدُ الأوجه، وقد تقدَّم هذا مستوفىً في أواخر الفاتحة. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ ينتصِبَ على الحالِ، قال:» وفيه وجهٌ آخر: وهو أَنْ يكونَ مِنْ حَقِبَ عامُنا: إذا قَلَّ

مطرُه وخيرُه، وحَقِبَ فلانٌ: إذا أَخْطَأَهُ الرِّزْقُ فهو حَقِبٌ، وجمعهُ أَحْقاب، فينتصِبُ حالاً عنهم بمعنى: لابثين فيها حَقِبين جَحِدين «. وقد تقدَّم الكلامُ على» الحُقُب «، وما قيل فيه في سورة الكهف.

24

قوله: {لاَّ يَذُوقُونَ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه متسأنفٌ أخبر عنهم بذلك. الثاني: أنه حالٌ من الضمير في «لابثين» أي: لابِثين غيرَ ذائقين، فهي حالٌ متداخلةٌ. الثالث: أنه صفةٌ لأَحْقاب. قال مكي: «واحتمل الضميرَ لأنه فِعْلٌ، فلم يجبْ إظهارُه، وإن كان قد جَرَى صفةً على غير مَنْ هُوَ له، وإنما جاز أَنْ يكونَ نعتاً ل» أحقاب «لأجْل الضميرِ العائدِ على الأَحْقاب في» فيها «ولو كان في موضع» يَذُوْقون «اسمُ فاعلٍ لكان لا بُدَّ مِنْ إظهارِ الضميرِ إذا جَعَلْتَه وصفاً لأَحْقاب» . الرابع: أنه تفسيرٌ لقولِه «أحقاباً» إذا جَعَلْتَه منصوباً على الحالِ بالتأويلِ الذي تقدَّم ذِكْرُه عن الزمخشريِّ فإنه قال: «وقولُه: لا يَذوقون فيها بَرْداً ولا شَراباً تفسيرٌ له. الخامس: أنه حالٌ أخرى مِنْ» للطَّاغين «ك» لابِثين «.

25

قوله: {إِلاَّ حَمِيماً} : يجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً من قولِه «شَراباً» وهذا واضِحٌ. والثاني: أنَّه منقطعٌ. قال الزمخشري: «يعني لا يذُوقون فيها بَرْداً ولا رَوْحاً يُنَفِس عنهم حَرَّ النارِ، ولا شَراباً يُسَكِّن مِنْ عَطَشِهم، ولكنْ يَذُوقون فيها حميماً وغَسَّاقاً» .

قلت: ومكيٌّ لَمَّا جَعَله منقطعاً جعل البَرْدَ عبارةً عن النومِ، قال: «فإن جَعَلْتَه النومَ كان» حميماً «استثاءً ليس من الأول» . وإنما الذي حَمَلَ الزمخشريُّ على الانقطاع مع صِدْقِ اسم الشرابِ على الحميمِ والغَسَّاقِ وَصْفُه له بقولِه «ولا شَراباً يُسَكِّنُ مِنْ عَطَشِهم» فبهذا القَيْدِ صار الحميمُ ليس من جنسِ هذا الشراب. وإطلاقُ البَرْدِ على النوم لغةُ هُذَيْلٍ. وأنشد: 4470 - فإن شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّساءَ سواكمُ ... وإنْ شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْداً وفي كلامِ بعضِ الأعراب «مَنَعَ البَرْدُ البَرْدَ» قيل: وسُمِّي بذلك لأنه يقطعُ سَوْرةَ العطشِ. والذَّوْقُ على هذين القولين أعني كونَه رَوْحاً يُنَفِّسُ عنهم الحَرَّ، وكونَه النومَ مجازٌ. وأمَّا على قولِ مَنْ جعله اسماً للشرابِ الباردِ المُسْتَلَذُّ، ويُعْزَى لابنِ عباس، وأنشد قولَ حَسَّانَ رضي الله عنه: 4471 - يَسْقُونَ مْن وَرَدَ البَرِيصَ عليهمُ ... بَرْداً يُصَفِّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ وقول الآخر: 4472 - أَمانِيُّ مِنْ سُعْدَى حِسانٌ كأنَّما ... سَقَتكَ بها سُعْدى على ظَمَأ بَرْدا

فالذَّوْقُ حقيقةٌ، إلاَّ أنه يصير فيه تَكْرارٌ بقولِه بعد ذلك: «ولا شراباً» . الثالث: أنه بدلٌ مِنْ قولِه «ولا شراباً» ، وهو الأحسنُ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ. وتقدَّم خلافُ القُراء في {وَغَسَّاقاً} تخفيفاً وتثقيلاً، والكلامُ عليه وعلى حميم.

26

قوله: {جَزَآءً} : منصوبٌ على المصدر/ وعاملُه: إمَّا قولُه «لا يذوقون» إلى آخرِه: لأنَّه في قوةِ: جُوزوا بذلك، وإمَّا محذوفٌ. ووِفاقاً نعتٌ له على المبالغةِ، أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذا موافقة. وقرأ أبو حيوة وابنُ أبي عبلة بتشديد الفاء مِنْ وفَّقه لكذا.

28

قوله: {كِذَّاباً} : قرأ العامَّةُ كِذَّاباً بتشديدِ الذَّالِ. وكان مِنْ حَقِّ مصدرِ فَعَّل أَنْ يأتيَ على التفعيل نحو: صَرَّف تَصْريفاً. قال الزمخشري: «وفِعَّال في باب فَعَّلَ كلِّه فاشٍ في كلامِ فصحاءَ مِنْ العرب، لا يقولون غيرَه. وسَمِعَني بعضُهم أُفَسِّرُ آية، فقال:» لقد فَسَّرْتَها فِسَّاراً ما سُمِعَ بمثِله «. قال غيرُه: وهي لغةُ بعضِ العرب يمانيةٌ، وأنشد:

4473 - لقد طالَ ما ثَبَّطْتَني عن صَحابتي ... وعن حاجةٍ قِضَّاؤُها مِنْ شِفائِيا يريد: تَقَضِّيْها. والأصلُ على التَّفْعيل، وإنَّما هو مثلُ: زَكَّى تَزْكِية. وسُمع بعضُهم يَسْتَفْتي في حَجِّه، فقال:» آلحَلْقُ أحَبُّ إليك أم القِصَّار «يريد التقصيرَ» . وقرأ علي رضي الله عنه والأعمش وأبو رجاء وعيسى البصرة بالتخفيف، وهو مصدرٌ: إمَّا لهذا الفعل الظاهرِ على حَذْفِ الزوائِد، وإمَّا لفعلٍ مقدَّرٍ ك {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . قال الزمخشري: وهو مثلُ قولِه: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} يعني: وكَذَّبوا بآياتِنا فكَذَبوا كِذاباً، أو تَنْصِبُه ب «كَذَّبوا» ؛ لأنَّه يتضمَّنُ معنى كَذَبوا؛ لنَّ كلَّ مُكَذِّبٍ بالحقِّ كاذبٌ، وإنْ جَعَلْتَه بمعنى المكاذَبَةِ فمعناه: وكذَّبوا بآياتِنا فكاذَبوا مُكاذَبَةً، أو كَذَّبوا بها مُكاذِبين؛ لأنَّهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبَينهم مكاذَبَةٌ، أو لأنهم يتكلَّمون بما هو إفراطٌ في الكذبِ، فِعْلَ مَنْ يغالِبُ في أمرٍ فيَبْلُغُ فيه أقصى جُهْدِه «. وقال أبو الفضل:» وذلك لغةٌ لليمينِ، وذلك بأَنْ يَجعلوا مصدرَ «كَذَب» مخففاً «كِذاباً» . بالتخفيف، مثل: كَتَبَ كِتاباً، فصار المصدرُ هنا مِنْ معنى الفِعْلٍ دونَ لفظِه مثلَ: أَعْطَيْته عَطاءً. قلت: أمَّا كَذَبَ كِذاباً بالتخفيف فيهما

فمشهورٌ، ومنه قولُ الأعشى: 4474 - فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها ... والمَرْءُ يَنْفَعُه كِذابُه وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون «كُذَّاباً» بضمِّ الكاف وشدِّ الذال، وفيها وجهان، أحدُها: أنه جمع كاذِب نحر: ضُرَّاب في ضارب. وانتصابُه على هذا على الحالِ المؤكِّدة، أي: وكَذَّبوا في حالِ كونِهم كاذبين. والثاني: أنَّ الكُذَّاب بمعنى الواحدِ البليع في الكذب. يقال: رجلٌ كُذَّاب كقولِك: «حُسَّان» فيُجْعَلُ وصفاً لمصدر كَذَّبوا، أي: تَكْذيباً كُذَّاباً مُفْرِطاً كَذِبُه، قالهما الزمخشري.

29

قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} : العامَّةُ على النصبِ على الاشتغال، وهذا الراجحُ لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ. وقرأ أبو السَّمَّال برفعِه على الابتداء وما بعدَه الخبرُ. وهذه الجملةُ مُعْتَرَضٌ بها بين السبب والمُسَبَّب؛ لأنَّ الأَصل: وكَذَّبوا بآياتنا كِذَّاباً فذوقوا. فقوله «فذوقوا» مُتَسَبِّبٌ عن تكذيبهم. قوله: {كِتَاباً} فيه أوجهٌ: أحدُها: أنه مصدرٌ مِنْ معنى «أَحْصَيْنا» ، أي: إحصاءً. فالتجوُّزُ في نفسِ المصدرِ. الثاني: أنَّه مصدرٌ ل «أَحْصَيْنا» لأنَّه في معنى «كَتَبْنا» فالتجوُّزُ في نفسِ الفعلِ. قال الزمخشري: «

لالتقاءِ الإِحصاء والكَتْبِ في معنى الضَّبْطِ والتحصيل» . الثالث: أَنْ يكونَ منصوباً على الحالِ بمعنى: مكتوباً في اللوح.

32

قوله: {حَدَآئِقَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «مَفازاً» بدلَ اشتمال، أو بدلَ كل مِنْ كل مبالغةً: في أَنْ جُعِلَتْ نفسُ هذه الأشياء مفازاً. ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار «أَعْني» . وقيل: «مَفازاً» بمعنى الفوز فيقدَّرُ مضافٌ، أي: فوزَ حدائق.

33

قوله: {وَكَوَاعِبَ} : الكواعب: جمع كاعِب، وهي مَنْ كَعَبَ ثَدْيُها، أي: استدارَ. قال: 4475 - وكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كَنْتُ أتَّقي ... ثلاثُ شُخوصٍ كاعِبانِ ومُعْصِرُ وقال قيس بن عاصم المِنْقَري: 4476 - وكم مِنْ حَصانٍ قد حَوَيْنا كَريمةٍ ... ومِنْ كاعبٍ لم تَدْرِما البؤسُ مُعْصِرِ والأَتراب تقدَّم ذكرُهن:

34

قوله: {دِهَاقاً} : صفةٌ ل كأس. والدِّهاقُ: المَلأَى المُتْرَعَةُ. قيل: هو مأخوذٌ مِنْ دَهَقَه، أي: ضَغَطَهُ وشَدَّه بيدِه، كأنه ملأ اليدَ فانضغطَ. قال الشاعر: 4477 - لأَنْتِ إلى الفؤادِ أحَبُّ قُرْباً ... من الصَّادي إلى الكأسِ الدهاق / وقيل: الدِّهاقُ: المتتابِعة. وأُنْشِد: 4478 - أتانا عامِرٌ يَبْغي قِراناً ... فأتْرَعْنا له كأساً دِهاقا

35

قوله: {وَلاَ كِذَّاباً} : الكسائيُّ بالتخفيف. والباقون بالتثقيلِ، وإنما وافق الكسائيُّ الجماعةَ في الأولِ للتصريحِ بفعلِه المشدَّدِ المقتضي لعدمِ التخفيفِ في «كِذّاباً» وهذا ما تقدَّم في قولِه {فَتُفَجِّرَ الأنهار} [الإِسراء: 91] حيث لم يُخْتَلَفْ فيه، للتصريح معه بفعلهِ، بخلافِ الأول. وقال مكيٌّ «مَنْ شَدَّد جَعَلَه مصدرَ» كَذَّبَ «زِيْدَتْ فيه الألفُ كما زِيْدَتْ في» إكراماً «، وقولُهم» تَكْذيباً «جعلوا التاءَ عوضاً مِنْ تشديدِ العينِ، والياءَ

بدلاً من الألف، غيَّروا أوَّلَه كما غيَّروا آخره. وأصلُ مصدر الرباعيِّ أَنْ يأتيَ على عَدَدِ حروفِ الماضي بزيادة ألفٍ، مع تغييرِ الحركات. وقد قالوا» تَكَلُّماً «فأتى المصدرُ على عددِ حروفِ الماضي بغير زيادةِ ألفٍ؛ لكثرة حروفِه، وضُمَّت اللامُ، ولم تُكْسَرْ لأنَّه ليسَ اسمٌ على تَفَعِّل، ولم تُفْتَحْ لئلا يَشْتَبِهَ بالماضي» وقراءةُ الكسائيِّ «كِذاباً» بالتخفيفِ، جعله مصدرَ: كَذَّبِ كِذاباً. وقيل: هو مصدرُ «كَذَب» كقولِك: كَتَبَ كِتاباً.

36

قوله: {جَزَآءً} : مصدرٌ مؤكِّدٌ منصوبٌ بمعنى: إنَّ للمتقين مَفازاً، كأنه قيل: جازى المتقين بمَفازٍ. قوله: «عَطاءً» بدلٌ مِنْ «جَزاءً» وهو اسمُ مصدرٍ. قال: 4479 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وبعدَ عَطائِك المِئةَ الرِّتاعا وجعله الزمخشريُّ منصوباً ب «جزاءً» نَصْبَ المفعولِ به. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّه جَعَلَ «جزاءً» مصدراً مؤكداً لمضمونِ الجملةِ التي هي «إنَّ للمتقين [مفازاً] » . قال: «والمصدرُ المؤكِّد لا يعملُ؛ لأنه لا ينحلُّ لحرفٍ مصدريِ والفعلِ، ولا نعلَمُ في ذلك خلافاً» . قوله: {حِسَاباً} صفةٌ ل «عطاءً» والمعنى: كافياً، فهو مصدرٌ أقيم مُقامَ الوصفِ، أو بُوْلغ فيه، أو على حَذْفِ مضافٍ مِنْ قولِهم: أَحْسَبَنِي

الشيءُ، أي: كفاني. وقرأ أبو البرهسم وشُرَيْح بن يزيد الحمصي بتشديد السينِ مع بقاءِ الحاءِ على كسرِها. وتخريجُها أنه مصدرٌ مثلُ كِذَّاب، أقيم مُقامَ الوصفِ، أي: عطاءً مُحْسِباً، أي: كافياً. وابن قطيب كذلك إلاَّ أنَّه فتح الحاءَ، قال أبو الفتح: «بنى فَعَّالاً مِنْ أَفْعَلَ كدَرَّاك مِنْ أَدْرَك» يعني أنه صفةٌ مبالغةٍ، مِنْ أَحْسَبَ بمعنى كافي كذا. وابنُ عباس «حَسَنَا» بالنون من الحُسن. وسِراج «حَسْباً» بفتحِ الحاء وسكونِ السينِ والباءِ الموحَّدة، أي: عطاءً كافياً، مِنْ قولِك: حَسْبُك كذا، أي: كافيك.

37

قوله: {رَّبِّ السماوات} : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمروٍ برفع «ربُّ السماواتِ» و «الرحمنُ» . وابن عامر وعاصم بخفضِها، والأخَوان بخفض الأولِ ورَفْعِ الثاني. فأمَّا رَفْعُهما فيجوزُ مِنْ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ «ربُّ» خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو ربُّ. و «الرحمنُ» كذلك، أو مبتدأٌ خبرُه «لا يَمْلِكون» . الثاني: أَنْ يُجْعَلَ «ربُّ»

مبتدأً، و «الرحمنُ» خبرُه، و «لا يَمْلِكون» خبرٌ ثانٍ، أو مستأنفٌ. الثالث: أَنْ يكونَ «ربُّ» مبتدأً أيضاً و «الرحمنُ» نعتُه، و «لا يَمْلِكون» خبرُ «رَبُّ» . الرابع: أنْ يكونَ «رَبُّ» مبتدأ، و «الرحمنُ» مبتدأٌ ثانٍ، و «لا يَمْلِكون» خبرُه، والجملةُ خبرُ الأولِ. وحَصَلَ الرَّبْطُ بتكريرِ المبتدأ بمعناه، وهو رأيُ الأخفش. ويجوزُ أَنْ يكونَ «لا يَمْلكون» حالاً، وتكونُ لازمةً. وأمَّا جَرُّهما فعلى البدل، أو البيانِ، أو النعتِ، كلاهما للأول، إلاَّ أنَّ تكريرَ البدلِ فيه نظرٌ، وقد نَبَّهْتُ على ذلك في أواخر هذا الموضوع، آخرِ الفاتحةِ، أو يُجْعَلُ «ربِّ السماواتِ» تابعاً للأولِ، و «الرحمن» تابعاً للثاني على ما تقدَّم. وأمَّا جَرُّ الأولِ فعلى التبعيَّةِ للأولِ، ورفعُ الثاني فعلى الابتداءِ، والخبرُ الجملةُ الفعليةُ، أو على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، و «لا يَمْلِكون» على ما تقدَّم من الاستئنافِ، أو الخبرِ الثاني، أو الحالِ اللازمةِ.

38

قوله: {يَوْمَ يَقُومُ} : منصوبٌ: إمَّا ب «لا يتكلَّمون» بعدَه، وإمَّا ب «لا يَمْلِكون» و «صَفَّا» حالٌ، أي: مُصْطَفِّيْنَ، و «لا يتكلَّمون» : إمَّا حالٌ وإمَّا مستأنفٌ. قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ} يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ واو «يتكلمون» ، وهو الأَرْجَحُ لكونِه غيرَ موجَبٍ، وأَنْ يكونَ منصوباً على أصلِ الاستثناء.

40

قوله: {يَوْمَ يَنظُرُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ/ بدلاً مِنْ «يَومَ» قبلَه، وأنْ يكونَ منصوباً ب «عذاباً» ، أي: العذابُ واقعٌ في ذلك

اليوم. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ نعتاً ل «قريباً» ، ولو جعله نعتاً ل «عذاباً» لكان أَوْلى، والعامَّةُ بفتح ميم «المَرْءُ» ، وهي العاليةُ. وابنُ أبي إسحاق بضَمِّها وهي لغةٌ: يُتْبِعون الفاءَ اللامَ. وخَطَّأَ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ، وليس بصوابٍ لثبوتِها لغةً. قوله: {مَا قَدَّمَتْ} يجوزُ أَنْ تكونَ استفهاميةً مُعلِّقَةً ل «يَنْظُرُ» على أنَّه من النظر، فتكونُ الجملةُ في موضعِ نصبٍ على إسقاط الخافضِ، وأَنْ تكونَ موصولةً مفعولاً بها، والنظرُ بمعنى الانتظار، أي: ينتظرُ الذي قَدَّمَتْه يداه. والعامَّةُ لا يُدْغِمون تاءَ «كنتُ» في «تُراباً» قالوا: لأنَّ الفاعلَ لا يُحْذَفُ، والإِدغامُ يُشْبه الحذفَ. وفي قولِه «ويقولُ الكافرُ» وَضْعُ ظاهرٍ موضعَ مضمرٍ شهادةً عليه بذلك.

النازعات

قوله: {غَرْقاً} : يجوزُ فيه أَنْ يكونَ مصدراً على حَذْفِ الزوائد بمعنى: إغْراقاً، وانتصابُه بما قبلَه لملاقاتِه له في المعنى، وإمَّا على الحالِ، أي: ذواتَ إغْراقٍ. يُقال: أَغْرَقَ في الشيءِ يُغْرِقُ فيه إذا أَوْغَلَ وبَلَغَ أقصى غايتِه. ومنه: أغرقَ النازعُ في القَوْسِ، أي: بلغَ غايةَ المَدِّ.

2

ونَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً كلُّها مصادرُ. والنَّشْطُ: الرَّبْطُ، والإِنْشاطُ: الحَلُّ. يقال: نَشَطَ البعيرَ: رَبَطه، وأَنْشَطَه: حَلَّه، ومنه: «كأنما أنشط مِنْ عقال» . فالهمزةُ للسَّلْبِ. ونَشِطَ: ذَهَبَ بسُرْعَةٍ. ومنه قيل لبقر الوَحْش: نَواشِط. قال هِمْيان بن قُحافة: 4480 - أرى همومي تَنْشِطُ المَناشِطا ... الشَّامَ بي طَوْراً وطَوْراً واسِطا

وَنَشَطْتُ الحَبْلَ أَنْشِطُه أُنْشُوْطَة: عَقَدْتُه، وأَنْشَطْتُه مَدَدْتُه، ونَشَطَ كأَنْشَط. قال الزمخشري: «تُنْشِطُ الأرواحَ، أي: تُخْرِجُها، مِنْ نَشَطَ الدَّلْوَ مِنْ البئرِ إذا أَخْرجَها» . و «أَمْراً» مفعولٌ بالمُدَبِّراتِ. وقيل: حال: تُدَبِّرُهُ مَأْموراتٍ، وهو بعيدٌ. والمرادُ بهؤلاء: إمَّا طوائِفُ الملائكةِ، وإمَّا طوائِفُ خَيْلِ الغُزاةِ، وإمَّا النجومُ، وإمَّا المنايا، وإمَّا بَقَرُ الوَحْشِ، وما جَرَى مَجْراها لسُرْعَتِها، وإمَّا أرواحُ المؤمنين.

6

قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ} : منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، هو جوابُ القسم تقديره: لَتْبُعَثُنَّ، لدلالةِ ما بعدَه عليه، قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف جَعَلْتَ» يومَ تَرْجُفُ «ظرفاً للمُضْمرِ الذي هو لَتُبْعَثُنَّ، ولا يُبْعَثُون عند النَّفْخَةِ الأولى؟ قلت: المعنى: لتُبْعَثُنَّ في الوقتِ الواسعِ الذي تقع فيه النَّفْختان، وهم يُبْعَثُون في بعض ذلك الوقتِ الواسعِ، وهو وقتُ النَّفْخَةِ الأخرى، ودلَّ على ذلك أنَّ قولَه:» تَتْبَعُها الرَّادِفَةُ «جُعِل حالاً عن» الراجفة «. وقيل: العاملُ مقدَّرٌ غيرُ جوابٍ، أي: اذكُرْ يومَ تَرْجُفُ. وفي الجوابِ على هذا أوجهٌ، أحدُها: أنَّه قولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النازعات: 26] . واستقبحه أبو بكر بن الأنباريِّ لطولِ الفَصْل. الثاني: أنه قولُه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} [النازعات: 15] لأنَّ» هل «بمعنى» قد «. وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّه كما

قدَّمْتُ لك في {هَلْ أتى} [الإنسان: 1] أنها لا تكونُ بمعنى» قد «، إلاَّ في الاستفهام، على ما قال الزمخشري. الثالث: أنَّ الجواب {تَتْبَعُهَا} [النازعات: 7] وإنما حُذِفَتِ اللامُ، والأصلُ: لَيَوْمَ تَرْجُفُ الراجفةُ تَتْبَعُها، فحُذِفَتِ اللامُ، ولم تَدْخُلْ نونُ التوكيدِ على» تَتْبَعُها «للفَصْلِ بين اللامِ المقدَّرَةِ وبين الفعلِ المُقْسَمِ عليه بالظرفِ. ومثلُه {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] . وقيل: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: يومَ تَرْجُفُ الراجِفَةُ تَتْبَعُها الرادِفَةُ والنازعاتِ. وقال أبو حاتم:» هو على التقديم والتأخيرِ كأنه قال: فإذا هُمْ بالسَّاهِرَةِ والنَّازعاتِ «. قال ابن الأنباري:» هذا خطأٌ؛ لأنَّ الفاءَ لا يُفْتَتَحُ بها الكلامُ «. وقيل:» يومَ «منصوبٌ بما دَلَّ عليه» واجِفَةٌ «، أي: يومَ تَرْجُفُ وَجِفَت. وقيل: بما دَلَّ عليه خاشع، أي: يومَ تَرْجُفُ خَشَعَتْ.

7

قوله: {تَتْبَعُهَا الرادفة} : يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الراجفة، وأَنْ تكونَ مستأنفةً.

8

قوله: {قُلُوبٌ} : مبتدأٌ، و «يومئذٍ» منصوبٌ ب «واجفةٌ» ، وواجفة صفةُ القلوبِ، وهو المُسَوِّغُ للابتداءِ بالنكرةِ و «أَبْصارُها» مبتدأٌ ثانٍ، و «خاشِعة» خبرُه، وهو وخبرُ الأولِ. وفي الكلامِ حَذْفُ مُضافٍ تقديرُه: أبصارُ أصحابِ القلوب. وقال ابنُ عطية: «وجاز ذلك، أي: الابتداءُ بقلوب لأنَّها تخصَّصَتْ بقولِه:» يومئذٍ «. ورَدَّ

عليه الشيخُ: بأنَّ ظرفَ الزمانِ لا يُخَصِّصُ الجثثَ، يعني لا تُوصف به الجثثُ. والواجفةُ: الخائفةُ. يقال: وَجَفَ يَجِفُ وَجيفاً، وأصلُه اضطرابُ القَلْبِ وقَلَقُه. قال قيسُ بن الخطيم: 4481 - إنَّ بني جَحْجَبَى وأُسْرَتَهُمْ ... أكبادُنا مِنْ ورائِهم تَجِفُ /وعن ابن عباس: واجِفَةٌ: خائفةٌ، بلغة هَمْدان. ويُقال: وَجَبَ وَجيباً، بالباءِ الموحدةِ بدلَ الفاءِ.

10

قوله: {فِي الحافرة} : الحافِرَة: الطريقةُ التي يَرْجِعُ الإِنسانُ فيها من حيث جاء. يقال: رَجَعَ في حافرتِه، وعلى حافرته. ثم يُعَبَّرُ بها عن الرجوعِ بالأحوال مِنْ آخرِ الأمرِ إلى أوَّلِه. قال: 4482 - أحافِرَةً على صَلَعٍ وشَيْبٍ ... معاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وعارِ وأصلُه: أنَّ الإِنسان إذا رَجَعَ في طريقِه أثَّرَتْ قدماه فيها حَفْراً. وقال الراغب: «وقولُه في الحافرة مَثَلٌ لمَنْ يُرَدُّ مِنْ حيث جاء، أي:

أنَحْيا بعد أن نموتَ؟ وقيل: الحافرةُ: الأرضُ التي [جُعِلَتْ] قبورُهم فيها ومعناه: أإنَّا لَمَرْدُودون ونحن في الحافِرة؟ أي: في القبور. وقولُه:» في الحافرة «على هذا في موضعِ الحال. وقيل: رَجَع فلانٌ على حافِرَتِه، ورَجَع الشيخُ إلى حافرته، أي: هَرِمَ، كقولِه: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} [النحل: 70] . وقولُهم:» النَّقْدُ عند الحافِرة «لِما يُباع نَقْداً. وأصلُه في الفرس إذا بِيْع، فيُقال: لا يَزُول حافِرُه أو يُنْقَدَ ثمنُه. والحَفْرُ: تَأَكُّلُ الأسنانِ. وقد حَفَر فُوه، وقد أَحْفَر المُهْرُ للإِثْناءِ والإِرْباع، أي: دنا لأن يكونَ ثَنِيَّاً أو رُباعياً» انتهى. والحافِرَةُ قيل: فاعِلَة بمعنى مَفْعُولة. وقيل: على النَّسَب، أي: ذات حَفْرٍ، والمراد: الأرضُ. والمعنى: إنَّا لمَرْدُودون في قبورنا أحياءً. وقيل: الحافرة: جَمْعُ حافِر بمعنى القَدَم، أي: نمشي أحياءً على أقدامِنا، وَنَطَأُ بها الأرضَ. وقيل: هي أولُ الأمرِ. وتقولُ التجَّار: «النَّقْدُ في الحافِرة» ، أي: أوَّلُ السَّوْمِ. وقال الشاعر: 4483 - آلَيْتُ لا أَنْساكُمُ فاعْلَموا ... حتى تُرَدَّ الناسُ في الحافِرَهْ وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «في الحَفِرَة» بدون ألف. فقيل: هما بمعنى. وقيل: هي الأرض التي تَغَيَّرَتْ وأنْتَنَتْ بموتاها وأجسادِهم،

مِنْ قولِهم: حَفِرت أسنانُه، أي: تَأَكَّلَتْ وتَغَيَّرَتْ. وقد تقدَّم خلافُ القراءِ في هذَيْن الاستفهامَيْنِ في سورةِ الرعد. وقوله: «في الحافِرَة» يجوزُ تعلُّقُه بمَرْدُوْدون، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ كما تقدَّم.

11

قوله: {نَّخِرَةً} : قرأ الأخَوان وأبو بكر «ناخِرَة» بألفٍ، والباقون «نَخِرَة» بدونِها وهما كحاذِر وحَذِر، فاعِل لمَنْ صَدرَ منه الفِعْلُ، وفَعِل لِمَنْ كان فيه غَريزةً، أو كالغَريزة. وقيل: ناخِرة ونَخِرة بمعنى بالية. وقيل: ناخِرَة، أي: صارَتِ الريحُ تَنْخِرُ فيها، أي: تُصَوِّتُ، ونَخِرَة، أي: تَنْخِرُ فيها دائماً. وقيل: ناخِرَة: بالِية، ونَخِرَة: متآكلة. وعن أبي عمروٍ: الناخِرة: التي لم تَنْخَرْ بعدُ، والنَّخِرَةُ: البالية. وقيل: الناخِرَةُ: المُصَوِّتَةُ فيها الريحُ، والنَّخِرةُ: الباليةُ التي تَعَفَّنَتْ. قال الزمخشري: «يُقال: نَخِر العظمُ، فهو نَخِرٌ وناخِرٌ، كقولِك: طَمِعَ فهو طَمعٌ وطامعٌ، وفَعِل أَبْلَغُ مِنْ فاعِل، وقد قُرِىء بها، وهو البالي الأجوفُ الذي تَمُرُّ فيه الرِّيحُ فيُسْمَعُ له نَخِير» . قلت: ومنه قولُه: 4484 - وأَخْلَيْتُها مِنْ مُخِّها فكأنَّها ... قواريرُ في أجوافِها الريحُ تَنْخِرُ وقال الراجزُ لفَرَسه:

4485 - أَقْدِمْ نَجاحُ إنها الأَساوِرَهْ ... ولا يَهْوْلَنَّكَ رَحْلٌ نادِرَهْ فإنما قَصْرُك تُرْبُ السَّاهِرَهْ ... ثم تعودُ بعدها في الحافِرَهْ مِنْ بعدِ ما كنتَ عِظاماً ناخِرَهْ ... ونُخْرَةُ الرِّيْح بضمِّ النون: شِدَّةُ هبوبِها، والنُّخْرَةُ أيضاً: مُقَدَّمُ أَنْفِ الفَرَسِ والحمارِ والخِنْزير. يقال: هَشَم نُخْرَتَه، أي: مُقَدَّمَ أَنْفِه. و «إذا» منصوبٌ بمضمرٍ، أي: إذا كُنَّا كذا نُرَدُّ ونُبْعَثُ.

12

قوله: {تِلْكَ} : مبتدأٌ مُشارٌ بها إلى الرَّجْفة والرَّدَّة في الحافِرة. و «كَرَّةٌ» . خبرُها. و «خاسِرَةٌ» صفةٌ، أي: ذاتُ خُسْرانٍ، أو أُسْنِدَ إليها الخَسارُ، والمرادُ: أصحابُها، مجازاً. والمعنى: إنْ كان رجوعُنا إلى القيامةِ حَقَّاً فتلك الرَّجْعَةُ رَجْعَةٌ خاسِرَةٌ، وهذا أفادَتْه «إذَنْ» فإنها حرفُ جوابٍ وجزاءٍ عند الجمهور. وقيل: قد لا تكونُ جواباً. وعن الحسنِ: إنَّ «خاسرة» بمعنى كاذِبة.

13

قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ} : «هي» ضميرُ الكَرَّة، أي: لا تَحْسَبوا تلك الكرَّةَ صعبةً على اللَّهِ تعالى. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بِمَ تَعَلَّقَ قولُه:» فإنما هي «؟ قلت: بمحذوفٍ معناه: لا تَسْتَصْعِبوها، فإنما هي زَجْرَةٌ» . قلت: يعني بالتعلُّقِ من حيث المعنى، وهو العطفُ.

14

قوله: {فَإِذَا هُم} : المفاجأةُ والتَّسَبُّبُ هنا واضحان والسَّاهرة قيل: وجهُ الأرضِ، والفَلاةُ، وُصِفَتْ بما يقع فيها، وهو السَّهَرُ

لأجلِ الخوفِ. وقيل: لأنَّ السَّرابَ يَجْري فيها، مِنْ قولِهم: عَيْنٌ ساهرَةٌ. قال الزمخشري: «والسَّاهرةُ: الأرضُ البيضاءُ المستويةُ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ السَّرابَ يجري فيها، مِنْ قولهم/ عينٌ ساهِرَةٌ جارِيةُ الماء، وفي ضَدِّها نائمةٌ. قال الأشعت بن قيس: 4486 - وساهِرَةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً ... لأَقْطارِها قد جُبْتُها مُتَلَثِّما أو لأنَّ ساكنَها لا ينامُ، خَوْفَ الهَلَكَة» انتهى. وقال أمية: 4487 - وفيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ ... وما فاهوا لهمْ فيها مُقيمُ يريد: لحمُ حيوانِ أرضٍ ساهرةٍ. وقال أبو كبير الهذلي: 4488 - يَرْتَدْنَ ساهِرَةً كأنَّ جَميمَها ... وعَمِيْمَها أسْدافُ ليلٍ مُظْلِمٍ قال الراغب: «هي وَجْهُ الأرضِ. وقيل: أرضُ القيامةِ. وحقيقَتُها

التي يَكْثُرُ الوَطْءُ بها، كأنَّها سَهِرَتْ مِنْ ذلك، إشارةً إلى نحوِ قولِ الشاعر: 4489 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَحَرَّكَ يَقْظانُ الترابِ ونائِمُهْ والأَسْهَران: عِرْقان في الأنفِ» انتهى. والسَّاهُوْر: غلافُ القَمَرِ الذي يَدْخُل فيه عند كُسوفِه. قال: 4490 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أو شُقَّةٌ أُخْرِجَتْ مِنْ بَطْنِ ساهُوْرِ أي: هذه المرأةُ بمنزلةِ قطعةِ القمر. وقال أميَّةُ: 4491 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قَمَرٌ وساهُوْرٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ

16

قوله: {إِذْ نَادَاهُ} : «إذ» منصوبٌ ب «حديثُ» لا ب «أتاك» لاختلافِ وقتَيْهما. وتقدَّم الكلامُ في {طُوًى} [الآية: 12] في طه.

17

قوله: {اذهب} : يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيراً للنداءِ. ويجوزُ أن يكونَ على إضمارِ القولِ. وقيل: هو على حَذْفِ «أَنْ» ، أي: أَنْ اذهَبْ. ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله: «أَنْ اذْهَبْ» . و «أَنْ» هذه الظاهرةُ أو المقدرةُ يُحتمل أَنْ تكونَ تفسيريةً، وأَنْ تكونَ مصدريةً، أي: ناداه بكذا.

18

قوله: {هَل لَّكَ} : خبرُ مبتدأ مضمرٍ. و «إلى أَنْ» متعلقٌ بذلك المبتدأ، وهو حَذْفٌ شائعٌ. والتقدير: هل لك سبيلٌ إلى التزكية ومثله: «هل لك في الخير» يريدون: هل لك رغبةٌ في الخير. وقال الشاعر: 4492 - فهل لكمُ فيها إليَّ فإنَّني ... بَصيرٌ بما أَعْيا النِّطاسِيَّ حِذْيَما وقال أبو البقاء: «لَمَّا كان المعنى: أَدْعوك جاء ب» إلى «. وهذا لا يُفيدُ شيئاً في الإِعراب. وقرأ نافعٌ وابنُ كثير بتشديدِ الزاي مِنْ»

تَزَّكَّى «والصادِ مِنْ» تَصَّدَّى «في السورةِ تحتها. والأصلُ: تتزَكَّى وتتصَدَّى، فالحَرَمِيَّان أدغما، والباقون حَذَفُوا نحو: {تَنَزَّلُ} [القدر: 4] . وتقدَّم الخلافُ في أيَّتِهما المحذوفةِ.

23

قوله: {فَحَشَرَ فنادى} : لم يُذْكَر مفعولاهما؛ إذ المرادُ فَعَلَ ذلك، أو يكونُ التقدير: فَحَشَرَ قومَه فناداهم. وقوله «فقال» تفسيرٌ للنداء.

25

قوله: {نَكَالَ الآخرة} : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ل «أَخَذَ» ، والتجوُّزُ: إمَّا في الفعل، أي: نَكَّل بالأَخْذِ نَكالَ الآخرةِ، وإمَّا في المصدر، أي: أَخَذَه أَخْذَ نَكالٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له، أي: لأجل نَكالِه. ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً لتعريفِهِ، وتأويلُه كتأويلِ جَهْدَك وطاقَتَك غيرُ مَقيس. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ، أي: نَكَّل الله به نَكالَ الآخرةِ، قاله الزمخشري، وجعله ك {وَعْدَ الله} [النساء: 122] و {صِبْغَةَ الله} [البقرة: 138] . والنَّكالُ: بمنزلةِ التَّنْكيل، كالسَّلام بمعنى التَّسْليم. والآخرةُ والأولى: «إمَّا الداران، وإمَّا الكلمتان، فالآخرةُ قولُه: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] ، والأولى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] فحُذِفَ الموصوفُ للعِلْم به.

27

قوله: {أَمِ السمآء} : عطفٌ على «أنتم» وقوله: «بناها» بيانٌ لكيفيةِ خَلْقِه إياها. فالوقفُ على «السماء» ، والابتداءُ بما بعدَها. ونظيرُه ما مرَّ في الزخرف [الآية: 58] {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}

28

قوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا} : جملةٌ مفسِّرةٌ لكيفيةِ البناءِ. والسَّمْكُ: الارتفاعُ. ومعناه في الآيةِ كما قال الزمخشريُّ: «جَعَلَ مقدارَ ذهابِها في سَمْتِ العُلُوِّ مديداً رفعياً» . وسَمَكْتُ الشيءَ: رَفَعْتُه في الهواءِ. وسَمَك هو، أي: ارتفعَ سُمُوكاً فهو قاصِرٌ ومتعدٍّ. وسَنامٌ سامِكٌ تامِكٌ، أي: عالٍ مرتفعٌ. وسِماكُ البيت ما سَمَكْتُه به. والسِّماك: نجمٌ معروفٌ، وهما اثنان: رامحٌ وأَعْزَلُ. قال الشاعر: 4493 - إنَّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائِمُه أعَزُّ وأَطْوَلُ

29

قوله: {وَأَغْطَشَ} : أي: أظلم بلغةِ أنْمار وأَشْعر. يقال: غَطِش الليلُ وغَطَّشْتُه أنا، وأَغْطَشْتُه قال: 4494 - عَقَرْتُ لهُمْ ناقتي مَوْهِناً ... فلَيْلُهُمُ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ

وليلٌ أغطشٌ وليلةٌ غَطْشاءُ. قال الراغب: «وأصلُه من الأَغْطشِ، وهو الذي في عَيْنه عَمَشٌ. ومنه فَلاةٌ غَطْشى لا يُهْتدى فيها. والتغاطُشُ: التَّعامي» انتهى. ويقال: أَغْطشَ الليلُ، قاصراً كأظلم، فأَفْعَلَ فيه متعدٍّ/ ولازمٌ. وقوله: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} فيه حَذْفٌ، أي: ضُحى شمسِها، أو أضافَ الليلَ والضُّحى لها للملابسةِ التي بينها وبينهما.

30

قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} : «بعد» على بابِها من التأخيرِ. ولا مُعارَضَةَ بينها وبين آيةِ فُصِّلت؛ لأنَّه خلق الأرضَ غيرَ مَدْحُوَّةٍ، ثم خَلَق السماءَ، ثم دحا الأرضَ. وقولُ أبي عبيدة: «إنها بمعنى قَبْل» مُنْكَرٌ عند العلماءِ. ويقال: دحا يَدْحُوا دَحْواً ودَحَى يَدْحي دَحْياً، أي: بَسَط، فهو من ذواتِ الواوِ والياءِ، فيُكتبُ بالألف والياء، ومنه قيل لِعُشِّ النَّعامة: أُدْحُوٌّ، وأُدْحِيٌّ، لانبساطِه في الأرض. وقال أمية: 4495 - وبَثَّ الخَلْقَ فيها إذ دَحاها ... فهم قُطَّانُها حتى التَّنادِي وقيل: دحى بمعنى سَوَّى. قال زيد بن نُفَيْل:

4496 - وأَسْلَمْتُ وَجْهِيْ لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... له الأرضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثقالاً دَحاها فلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّها ... بأَيْدٍ وأَرْسى عليها الجِبالا والعامَّةُ على نصبِ «الأرض» و «الجبال» على إضمارِ فعلٍ مفسَّرٍ بما بعده، وهو المختارُ لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ. ورَفَعَهما الحسنُ وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السَّمَّال وعمرُو بن عبيد، على الابتداء، وعيسى برفع «الأرض» فقط.

31

قوله: {أَخْرَجَ} : فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ تفسيراً. والثاني: أَنْ يكونَ حالاً. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: فهلاَّ أَدْخَلَ حرفَ العطفِ على» أَخْرَجَ «. قلت: فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ» دحاها «بمعنى بَسَطها ومهَّدها للسُّكنى، ثم فَسَّر التمهيدَ بما لا بُدَّ منه في تأتِّي سُكْناها مِنْ تسويةِ أمرِ المَأْكَلِ والمَشْرَبِ وإمكانِ القَرارِ عليها. والثاني: أَنْ يكونَ» أَخْرَجَ «حالاً بإضمار» قد «كقولِه: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] . قلت: إضمار» قد «هو قولُ الجمهورِ، وخالفَ الكوفيون والأخفش.

33

قوله: {مَتَاعاً} : العامَّةُ على النصبِ مفعولاً له، أو مصدراً لعاملٍ مقدَّرٍ، أي: مَتَّعكم. والمَرْعَى في الأصل: مكانٌ

أو زمانٌ أو مصدرٌ، وهو هنا مصدرٌ بمعنى المفعولِ، وهو في حق الآدميين استعارةٌ.

34

قوله: {فَإِذَا جَآءَتِ} : في جوابِها أوجهٌ، أحدُها: قولُه: «فأمَّا مَنْ طغى» نحو: «إذا جاءك بنو تميم فأمَّا العاصي فَأَهِنْه، وأمَّا الطائعُ فأكْرِمْهُ» . وقيل: محذوفٌ، فقدَّره الزمخشري: فإنَّ الأمرَ كذلك، أي: فإنَّ الجحيمَ مَأْواه. وقدَّره غيرُ انقسم الراؤون قسمين. وقيل: عاينوا أو علموا. وقال أبو البقاء: «العاملُ فيها جوابُها، وهو معنى قولِه:» يومَ يتَذَكَّرَ الإِنسانُ «. والطامَّة: الدَّاهِية تَطِمُّ على غيرِها من الدَّواهي لِعَظَمِها. والطَّمُّ: الدَّفْنُ. ومنه: طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ. وفي المثل:» جرى الوادي فَطمَّ على القُرى «والمرادُ بها في القرآن النخفةُ الثانيةُ لأنَّ بها يَحْصُل ذلك.

35

قوله: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ} : بدلٌ مِنْ «إذا» أو منصوبٌ بإضمار فعلٍ، أي: أعني يومَ، أو يومَ يتذكَّرُ يجري كيتَ وكيتَ.

36

قوله: {وَبُرِّزَتِ} : العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ مشدداً، و «لِمَنْ يرى» بياء الغيبة. وزيد بن عليّ وعائشةُ وعكرمةُ مبنياً للفاعلِ مخففاً، و «ترى» بتاءٍ مِنْ فوقُ فجوَّزوا في تاء «ترى» أَنْ تكونَ

للتأنيثِ، وفي «ترى» ضمير الجحيم كقولِه: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] ، وأَنْ تكونَ للخطابِ، أي: ترى أنت يا محمدُ. وقرأ عبد الله «لِمَنْ رأى» فعلاً ماضياً.

39

قوله: {هِيَ المأوى} : إمَّا: هي المَأْوى له، أو هي مَأْواه، وقامَتْ أل مَقامَ الضميرِ، وهو رأيُ الكوفيين. وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذا الخلافِ والردُّ على قائلِه بقوله: 4497 - رَحِيْبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفيقةٌ ... بجَسَّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ إذا لو كانَتْ أل عِوَضاً من الضميرِ لَما جُمِع بينهما في هذا البيتِ. ولا بُدَّ مِنْ أحدِ هذَيْن التأويلَيْن في الآيةِ الكريمةِ لأجلِ العائدِ من الجملةِ الواقعةِ خبراً إلى المبتدأ. والذي حَسَّن عدمَ ذِكْرِ العائدِ كَوْنُ الكلمةِ وقعَتْ رأسَ فاصلةٍ. وقال الزمخشري: «والمعنى: فإنَّ الجحيمَ مَأْواه، كما تقولُ للرجل: /» غُضَّ الطرفَ «وليس الألفُ واللامُ بدلاً من الإِضافةِ، ولكنْ لَمَّا عُلِمَ أنَّ الطاغيَ هو صاحبُ المَأْوى، وأنَّه لا يَغُضُّ الرجلُ طَرْفَ غيره، تُرِكَتِ الإِضافةُ، ودخولُ الألفِ واللامِ في» المَأْوَى «والطَّرْفِ للتعريفِ لأنَّهما معروفان» .

قال الشيخ: «وهو كلامٌ لا يَتَحَصَّلُ منه الرابِطُ العائدُ على المبتدأ، إذ قد نَفَى مذهبَ الكوفيين، ولم يُقَدِّر ضميراً كما قَدَّره البصريُّون، فرامَ حصولَ الرابطِ بلا رابطٍ» . قلت: قوله: «ولكنْ لَمَّا عُلِمَ» إلى آخره هو عينُ قولِ البصريين، ولا أَدْري كيف خَفِيَ عليه هذا؟

43

قوله: {فِيمَ أَنتَ} : «فيم» خبرٌ مقدمٌ، و «أنت» مبتدأٌ مؤخرٌ و «مِنْ ذِكْراها» متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ، والمعنى: أنت في أيِّ شيءٍ مِنْ ذِكْراها، أي: ما أنت مِنْ ذكراها لهم وتبيينِ وقتِها في شيءٍ. وقال الزمخشريُّ عن عائشةَ رضي الله عنها: «لم يَزَلْ عليه السلامُ يَذْكُرِ الساعةَ، ويُسْألُ عنها حتى نَزَلَتْ» . قال: فعلى هذا هو تَعَجُّبٌ مِنْ كثرةِ ذِكْرِه لها، كأنَّه قيل: في أيِّ شُغْلٍ واهتمامٍ أنا مِنْ ذِكراها والسؤال عنها «. وقيل: الوقفُ على قولِه:» فيمَ «وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: فيم هذا السؤالُ، ثم يُبْتدأ بقولِه: {أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} ، أي: إرسالُك وأنت خاتمُ الأنبياءِ، وآخرُ الرسلِ، والمبعوثُ في نَسْمِ الساعةِ، ذِكْرٌ مِنْ ذِكْراها وعلامةُ مِنْ علاماتِها، فكَفاهم بذلك دليلاً على دُنُوِّها ومشارَفَتِها والاستعدادِ لها، ولا معنى لسؤالِهم عنها، قاله الزمخشري، وهو كلامٌ حسنٌ لولا أنه يُخالِفُ الظاهرَ ومُفَكِّكٌ لنَظْمِ الكلامِ.

45

قوله: {مُنذِرُ مَن} : العامَّةُ على إضافةِ الصفةِ لِمعمولِها تخفيفاً. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وطلحة وابن محيصن بالتنوين. قال الزمخشريُّ: «وهو الأصلُ، والإِضافةُ تخفيفٌ، وكلاهما يَصْلُحُ للحالِ والاستقبالِ. فإذا أُريد الماضي فليس إلاَّ الإِضافةُ كقولِك: هو مُنْذِرُ زيدٍ أمسِ» . قال الشيخ: «قوله:» هو الأصلُ «يعنى التنوينَ هو قولٌ قاله غيرُه، ثم اختار الشيخُ أنَّ الأصلَ الإِضافةُ. قال:» لأنَّ العملَ إنما هو بالشَّبه، والإِضافةُ أصلٌ في الأسماءِ. ثم قال: «وقوله فليس إلاَّ الإِضافةُ فيه تفصيلٌ وخِلافٌ مذكورٌ في النحو» . قلت: لا يُلْزِمُه أَنْ يَذْكُرَ محلَّ الوفاقِ، بل هذان اللذن ذكرهما مذهبُ جماهيرِ الناسِ.

46

قوله: {أَوْ ضُحَاهَا} : أي: ضُحى العَشِيَّةِ، أضاف الظرفَ إلى ضميرِ الظرفِ الآخر تجوُّزاً واتِّساعاً، وذَكَرهما لأنهما طرفا النهارِ، وحَسَّن هذه الإِضافةَ وقوعُ الكلمةِ فاصلةً.

عبس

قوله: {أَن جَآءَهُ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجلِه، وناصبُه: إمَّا «تَوَلَّى» وهو قولُ البَصْريين، وإمَّا «عَبَسَ» وهو قولُ الكوفيين. والمختارُ مذهبُ البَصْريين لعَدَمِ الإِضمارِ في الثاني، وقد عَرَفْتَ تحقيقَ هذا فيما تقدَّم مِنْ مسائلِ التنازع. والتقدير: لأَنْ جاءَه الأعمى فَعَلَ هذَيْنِ الفِعلَيْنِ. والخلافُ في موضع «أَنْ» بعد حَذْفِ الجارِّ مشهورٌ. وقيل: «أَنْ» بمعنى «إذ» نقله مكي. وقرأ زيدُ بنُ عليّ «عَبَّس» بالتشديد. والعامَّةُ على «أنْ» بهمزةٍ واحدةٍ. وزيد بن علي وعيسى وأبو عمران الجوني بهمزتَيْن. وقال الزمخشري: «وقُرِىء آأنْ بهمزتين وبألفٍ بينهما، وُقِفَ على» عَبَس وتولَّى «ثم ابْتُدِىء على معنى: ألأَنْ جاءَه الأعمى فَعَل ذلك» .

3

قوله: {لَعَلَّهُ يزكى} : الظاهرُ أجراءُ الترجِّي مُجرى الاستفهام لِما بينهما من معنى الطلبِ في التعليق؛ لأنَّ المعنى منصَبٌّ على تَسَلُّطِ الدِّراية على الترجِّي؛ إذ التقدير: لا يَدْري ما هو مترجَّى منه التزكيةُ أو التذكُّرُ. وقيل: الوقفُ على «يَدْري» والابتداءُ بما بعده على معنى: وما يُطْلِعُك على أمرهِ وعاقبةِ حالِه، ثم ابتدأ فقال: {لَعَلَّهُ يزكى} .

4

قوله: {فَتَنفَعَهُ} : قرأ عاصم بنصبه، والباقون برفعه. فأمَّا نصبُه فعلى جوابِ الترجِّي كقوله: {فَأَطَّلِعَ} في سورة المؤمن [الآية: 37] وهو مذهبٌ كوفيٌّ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك. وقال ابن عطية: «في جواب التمني؛ لأنَّ قولَه» أو يَذَّكَّرُ «في حكم قولِه» لعلَّه يزَّكَّى «. قال الشيخ:» وهذا ليس تمنياً إنما هو تَرَجٍّ «. قلت: إنما يريد التمنيَ المفهومَ من الكلام، ويدلُّ له ما قال أبو البقاء:» وبالنصب على جواب التمنِّي في المعنى «وإلاَّ فالفرقُ بين التمني والترجِّي لا يَجْهَلُه أبو محمد. وقال مكي:» مَنْ نصبه جَعَلَه جوابَ «لعلَّ» بالفاء لأنه غيرُ موجَبٍ فأشبه التمنيَ والاستفهامَ، وهو غيرُ معروفٍ عند البصريين «.

وقرأ عاصمٌ في ورايةٍ والأعرجُ» أو يَذْكُرُ «بسكونِ الذالِ وتخفيفِ الكافِ مضومةً مضارعَ ذَكَرَ.

6

قوله: {تصدى} تقدَّمَتْ/ فيه قراءتا التثقيلِ والتخفيفِ، ومعناه تتعرَّضُ. يُقال: تَصَدَّى، أي: تَعَرَّضَ وأصلُه تَصَدَّدَ من الصَّدَدِ، وهو ما استقبلك وصار قُبالتَك، فأبدلَ أحدَ الأمثالِ حرفَ علةٍ نحو: تَظَنَّيْتُ وَقَصَّيْتُ أَظْفاري و: 4498 - تَقَضِّيَ البازِيْ. . . . . . . . . ... قال الشاعر: 4499 - تَصَدَّى لِوَضَّاحٍ كأنَّ جَبينَه ... سِراجُ الدُّجى تُجْبَى إليه الأساوِرُ وقيل: هو من الصَّدى، وهو الصوتُ المسموعُ في الأماكنِ الخاليةِ والأجرامِ الصُّلبةِ. وقيل: من الصَّدى وهو العطش، والمعنى على التعرض، ويُتَمَحَّلُ لذلك إذا قلنا: أًصلُه من الصوت أو العطش. وقرأ أبو جعفر «تُصَدَّى» بضمِّ التاءِ وتخفيفِ الصادِ، أي:

تَصَدِّيك يُحَرِّضُك على إسلامِه. يقال: تَصَدِّي الرجلِ وتَصْدِيَتُه. وقال الزمخشري: «وقُرِىء» تُصَدَّى «بضم التاء، أي: تُعَرَّضُ، ومعناه: يَدْعوك داعٍ إلى التَّصَدِّي له من الحِرْصِ والتهالُكِ على إسلامِه» .

7

قوله: {أَلاَّ يزكى} : مبتدأٌ خبرُه عليك، أي: ليس عليك عَدَمُ تَزْكيتِه.

8

قوله: {يسعى} : حالٌ مِنْ فاعل «جاءكَ» وقوله «وهو يَخْشى» جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ «يَسْعى» ، فهو حالٌ مِنْ حالٍ. وجَعْلُها حالاً ثانية معطوفةً على الأولى ليس بالقويِّ.

10

قوله: {تلهى} : أًصلُه تَتَلَهَّى مِنْ لَهِيَ يَلْهى بكذا، أي: اشتغل، وليس هو من اللهوِ في شيءٍ. وقال الشيخ: «ويمكنُ أن يكونَ منه؛ لأنَّ ما يُبْنى على فَعِل من ذواتِ الواو تَنْقَلِبُ واوه ياءً لانكسارِ ما قبلَها نحو: شَقِي يَشْقى. فإن كان مصدرُه جاء بالياءِ فيكونُ مِنْ مادةٍ غيرِ مادةِ اللهو» . قلت: الناسُ إنما لم يَجْعلوه من اللهو لأَجْلِ أنه مُسْنَدٌ إلى ضمير النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يَليق بمَنْصِبه الكريم أَنْ يَنْسُبَ اللَّهُ تعالى إليه التفعُّلَ من اللهو بخِلاف الاشتغال، فإنه يجوزُ أَنْ يَصْدُرَ منه في بعض الأحيان، ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ غيرُ هذا، وإنما سَقَط الشيخ.

وقرأ ابن كثير في روايةِ البزِّي عنه «عَنْهو تَّلهَّى» بواوٍ هي صلةٌ لهاءِ الكناية وتشديدِ التاءِ، والأصل تَتَلَهَّى فأدغم، وجاز الجَمْعُ بين ساكنَيْن لوجود حرفِ علةٍ وإدغامٍ، وليس لهذه الآيةِ نظيرٌ: وهو أنه إذا لقي صلةَ هاءِ الكناية ساكنٌ آخرُ ثَبَتَتِ الصلةُ بل يجبُ الحَذْفُ. وقرأ أبو جعفر «تُلَهَّى» بضم التاء مبنياً للمفعولِ، أي: يُلْهِيْكَ شأنُ الصَّناديد. وقرأ طلحة «تَتَلَهَّى» بتاءَيْن وهي الأصلُ، وعنه بتاءٍ واحدةٍ وسكونِ اللام.

11

قوله: {إِنَّهَا} : الضمير للسورةِ أو للآيات.

12

قوله: {ذَكَرَهُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى؛ لأنه مُنَزِّلُ التذكِرَة، وأن تكونَ للتذكرة، وذكَّر ضميرَها لأنها بمعنى الذِّكْر والوَعْظ.

13

قوله: {فَي صُحُفٍ} : صفةٌ ل «تَذْكِرة» فقوله {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} جملةٌ معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفِها. ونحوُها: {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} ويجوز أَنْ يكون «في صُحُف» خبراً ثانياً ل «إنَّها» ، والجملةُ معترضةٌ بين الخبرَيْن.

15

قوله: {سَفَرَةٍ} : جمعُ سافِر وهو الكاتبُ، ومثلُه كاتِب وكَتَبة. وسَفَرْتُ بين القومِ أَسْفِر سَِفارة: أَصْلَحْتُ بينهم. قال:

4500 - فما أَدَعُ السَّفارة بين قومي ... وما أَسْعلى بغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ وأَسْفَرَتِ المرأةُ: كَشَفَتْ نِقابها.

17

قوله: {مَآ أَكْفَرَهُ} : إمَّا تعجبٌ، وإمَّا استفهامُ تعجبٍ.

20

قوله: {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ للإِنسانِ. والسبيل ظرفٌ، أي: يَسَّر للإِنسان الطريقَ، أي: طريق الخيرِ والشرِّ كقولِه: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10] . وقال أبو البقاء: «ويجوز أن ينتصِبَ بأنه مفعولٌ ثانٍ ل يَسَّره، والهاء للإِنسان، أي: يَسَّره السبيلَ، أي: هداه له» . قلت: فلا بُدَّ مْن تضمينِه معنى أَعْطى حتى يَنْصِبَ اثنين، أو يُحْذفُ حرفُ الجرِّ، أي: يَسَّره للسبيل، ولذلك قَدَّره بقولِه: هداه له. ويجوزُ أَنْ يكون «السبيل» منصوباً على الاشتغال بفعلٍ مقدرٍ، والضميرُ له، تقديره: ثم يَسَّر السبيلَ يَسَّره، أي: سَهَّله للناسِ كقوله: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] ، وتقدَّم مثلُه في قولِه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} [الإِنسان: 3] .

21

قوله: {فَأَقْبَرَهُ} : أي: جَعَلَ له قَبْراً. يُقال:

قَبَرَه إذا دَفَنَه وأَقْبَره، أي: جَعَلَه بحيث يُقْبَرُ، وجَعَلَ له قبراً، والقابِرُ: الدافنُ بيده. قال الأعشى: 4501 - لو أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاشَ ولم يُنْقَلْ إلى قابِرِ

22

قوله: {شَآءَ} : مفعولُه محذوفٌ، أي: شاءَ إنْشارَه. وأَنْشَرَه: جوابُ «إذا» . وقرأ شعيبُ بن أبي حمزة نَشَره ثلاثياً، ونقلها أبو الفضلِ أيضاً وقال: «هما لغتان بمعنى الإِحياء» .

23

قوله: {مَآ أَمَرَهُ} : «ما» موصولةٌ. قال أبو البقاء: «بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: ما أمره به» . قلت: وفيه نظرٌ من حيث إنَّه قَدَّر العائدَ مجروراً بحرفٍ لم يَجُرَّ الموصولَ: ولا أمره به. فإنْ قلت: «أمرَ» يتعدَّى إليه بحَذْفِ الحرفِ فأُقَدِّرُه غيرَ مجرورٍ. قلت: إذا قَدَّرْتَه غيرَ مجرورٍ: فإمَّا أَنْ تقدِّرَه متصلاً أو منفصلاً، وكلاهما مُشْكِلٌ؛ لِما قَدَّمْتُ في أولِ البقرة عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] .

25

قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً} : قرأ الكوفيون «أنَّا» بفتح الهمزة غيرَ ممالةِ الألف. والباقون بالكسر. والحسنُ بن عليّ بالفتحِ والإِمالةِ. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها بدلٌ مِنْ «طعامِه» فتكونُ في محلِّ جر. استشكل بعضُهم هذا الوجهَ، وَرَدَّه: «بأنه ليس الأولَ فيُبْدَلَ منه؛ لأنَّ الطعامَ ليس صَبَّ الماءِ. ورُدَّ على هذا بوجهَيْن، أحدهما: أنَّه بدلُ كلٍّ مِنْ كلّ بتأويلٍ: وهو أنَّ المعنى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسانُ إلى إنعامِنا في طعامِه فصَحَّ البدلُ، وهذا ليسَ بواضح. والثاني: أنَّه مِنْ بدلِ الاشتمالِ بمعنى: أنَّ صَبَّ الماءِ سببٌ في إخراجِ الطعامِ فهو مشتملٌ عليه بهذا التقدير. وقد نحا مكي إلى هذا فقال: لأنَّ هذه الأشياءَ مشتملةٌ على الطعامِ، ومنها يتكوَّنُ؛ لأنَّ معنى» إلى طعامه «: إلى حدوثِ طعامهِ كيف يتأتَّى؟ فالاشتمالُ على هذا إنما هو من الثاني على الأولِ؛ لأنَّ الاعتبارَ إنما هو في الأشياءِ التي يتكوَّن منها الطعامُ لا في الطعامِ نفسِه» . والوجه الثاني: أنَّها على تقديرِ لامِ العلةِ، أي: فلينظُرْ لأِنَّا، ثم حُذِفَ الخافضُ فجرى الخلافُ المشهورُ في محلِّها. والوجهُ الثالث: أنَّها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: هو أنَّا صَبَبْنا، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم؛ لأنَّ الضميرَ إنْ عاد على الطعام فالطعامُ ليس هو نفسَ الصَّبِّ، وإنْ عاد على غيرِه فهو غيرُ معلومٍ، وجوابُه ما تقدَّمَ.

وأمّا القراءةُ الثانية فعلى الاستئنافِ تعديداً لِنِعَمِه عليه. وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فهي «أنَّى» التي بمعنى «كيف» وفيها معنى التعجبِ، فهي على هذه القراءةِ كلمةٌ واحدةٌ، وعلى غيرِها كلمتان.

28

قوله: {وَقَضْباً} : القَضْبُ هنا قيل: الرُّطَبُ لأنه يُقْضَبُ من النخلِ، أي: يُقْطَعُ. ورجَّحه بعضُهم بذِكْرِه بعد قوله: «وعِنَباً» وكثيراً ما يَقْترنان. وقيل: القَتُّ، كذا يُسَمِّيه أهلُ مكة. وقيل: كلُّ ما يُقْضَبُ من البُقولِ لبني آدم. وقيل: هو الرَّطْبَةُ. والمقاضِبُ: الأرضُ التي تُنْبِتُها. قال الراغب: «والقَضيب كالقَضْب، لكنَّ القضيبَ من فروع الشجرِ، والقَضْبَ في البَقْلِ. والقَضْبُ أي: بالفتح قَطْعُ القَضْبِ والقَضيبِ، وعنه عليه السلام:» أنه كان إذا رأى في ثوبٍ تَصْليباً قَضَبَه «وسيفٌ قاضِبٌ وقَضيبٌ، أي: قاطعٌ، فقضيب هنا بمعنى فاعِل، وفي الأولِ بمعنى مَفْعول، وناقة قَضِيب لِما يُؤْخَذُ من بين الإِبلِ ولم تُرَضْ، وكلُّ ما لم يُهَذَّبْ فهو مقتضَبٌ، ومنه» اقتضابُ الحديثِ «

لِما لم يُتَرَوَّ ويُهَذَّبْ. وقال الخليل:» القضيب: أغصانُ الشجرِ ليُتَّخَذَ منها قِسِيٌّ/ أو سِهامٌ.

30

قوله: {غُلْباً} : جمعُ أَغْلَب وغَلْباء كحُمْر في أَحْمر وحَمْراء. يقال: حديقةٌ غَلْباءُ، أي: غليظةُ الشجرِ ملتفَّتُه، واغْلَوْلَبَ العُشْبُ، أي: غَلُظَ. وأصلُه في وصفِ الرِّقاب. يقال: رجلٌ أغلبُ، وامرأةٌ غَلْباءُ، أي: غليظا الرَّقَبةِ. قال عمرو بن معدي كرب: 4502 - يَسْعَى بها غُلْبُ الرِّقابِ كأنَّهُمْ ... بُزْلٌ كُسِيْنَ من الكُحَيْلِ جِلالا والغَلَبَةُ: القَهْرُ، أن تَنالَ وتُصيبَ غَلَبَةَ رقبتِه، هذا أصله.

31

قوله: {وَأَبّاً} : الأبُّ للبهائم بمنزلةِ الفاكهةِ للناس. وقيل: هو مُطْلَقُ المَرْعى. قال بعضُهم يمدح النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: 4503 - له دَعْوَةٌ مَيْمونَةٌ ريحُها الصَّبا ... بها يُنْبِتُ اللَّهُ الحَصيدةَ والأَبَّا

وقيل: الأبُّ يابِسُ الفاكهةِ، وسُمِّي المَرْعى أبَّاً لأنه يُؤَمُّ ويُنْتَجَعُ، والأَبُّ والأَمَّ بمعنىً. قال: 4504 - جِذْمُنا قَيْسٌ ونَجْدٌ دارُنا ... ولنا الأَبُّ بِها والمَكْرَعُ وأبَّ لكذا، أي: تَهَيَّأ، يَؤُبُّ أبَّاً وأَبابة وأَباباً. وأبَّ إلى وطنِهِ، إذا نَزَعَ إليه نُزوعاً، تَهَيَّأَ لِقَصْدِه، وكذا أبَّ لِسَيْفِه، أي: تهيَّأ لِسَلِّه. وقولُهم: «إبَّانَ ذلك» هو فِعْلان منه، وهو الزمانُ المُهَيَّأُ لفِعْلِه ومجيئِه.

33

قوله: {الصآخة} : الصَّيحَةُ التي تَصُخُّ الآذانَ، أي: تَصُمُّها لشِدَّةِ وَقْعَتِها. وقيل: هي مأخوذةٌ مِنْ صَخَّه بالحجَرِ، أي: صَكَّه به. وقال الزمخشري: «صَخَّ لحديثِه مثلَ أصاخ فوُصِفَتِ النَّفْخَةُ بالصاخَّة مجازاً؛ لأنَّ الناسَ يَصِخُّون لها» . وقال ابن العربي: «الصَّاخَّة: التي تُوْرِثُ الصَّمَمَ، وإنها لَمُسْمِعَةٌ، وهذا مِنْ بديع الفصاحة كقوله: 4505 - أصَمَّهُمْ سِرُّهُمْ أيَّامَ فُرْقَتِهمْ ... فهل سَمِعْتُمْ بسِرٍ يُوْرِث الصَّمَما

وقال: 4506 - أَصَمَّ بك النَّاعي وإنْ كانَ أَسْمَعا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وجوابُ» إذا «محذوفٌ، يَدُلُّ عليه قولُه {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، أي: التقديرُ: فإذا جاءَتِ الصَّاخةُ اشتغلَ كلُّ أحدٍ بنفسِه.

34

قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ} : بدلٌ مِنْ «إذا» ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ «يُغْنِيْه» عاملاً في «إذا» ولا في «يومَ» لأنه صفةٌ لشَأْن، ولا يتقدَّمُ معمولُ الصفةِ على موصوفِها. والعامَّةُ على «يُغْنيه» من الإِغناء، وابن محيصن والزُّهريُّ وابن أبي عبلة وحميد وابن السَّمَيْفَع «يَعْنِيه» بفتح الياء وبالعينِ المهملةِ، مِنْ قولِهم: عَناني الأمرُ، أي: قَصَدني.

40

قوله: {غَبَرَةٌ} : الغَبَرَةُ: الغُبارُ، والقَتَرَةُ: سَوادٌ كالدُّخان. وقال أبو عبيدة: «القَتَرُ في كلامِ العربِ: الغبارُ جمعُ القَتَرة» . قال الفرزدق: 4507 - مُتَوَّجٌ برِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُه ... مَوْجٌ ترى فوقَه الراياتِ والقَتَرا

قلت: وفي عطفِه على الغَبَرة ما يَرُدُّ هذا، إلاَّ أَنْ يقولَ: لَمَّا اختلفَ اللفظانِ حَسُن العطفُ كقولِه: 4508 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كَذِباً ومَيْنا وقوله: 4509 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . النَّأْيُ والبُعْدُ وهو خلافُ الأصلِ. والعامَّةُ على فتحِ التاءِ مِنْ «قَتَرة» ، وأَسْكنها ابنُ أبي عبلة.

التكوير

قوله: {إِذَا الشمس} : في ارتفاع «الشمسِ» وجهان، أصحُّهما: أنها مرفوعةٌ بفعلٍ مقدرٍ مبنيٍّ للمفعول، حُذِف وفَسَّره ما بعده على الاشتغالِ. والرفعُ على هذا الوجهِ أعني إضمارَ الفعل واجبٌ عند البصريين؛ لأنهم لا يُجيزون أَنْ يَلِيَها غيرُه، ويتأوَّلون ما أَوْهَمَ خلافَ ذلك، والثاني: أنها مرفوعةٌ بالابتداء، وهو قول الكوفيين والأخفش لظواهرَ قد جاءَتْ في الشعر، وانتصر له ابنُ مالك وهناك أظهَرْتُ معه البحثَ. وقال الزمخشري: «ارتفاعُ الشمسُ على الابتداءِ أو الفاعليةِ. قلت: بل على الفاعليةِ» ثم ذكرَ نحوَ ما تقدم. ويعني بالفاعليةِ ارتفاعَها بفعلٍ في الجملةِ، وقد مرَّ أنه يُسَمَّى مفعولُ ما لم يُسَمَّ

فاعلُه فاعلاً. وتقدَّم تفسير التكوير في أوّلِ «تنزيلُ» . وارتفاعُ «النجوم» وما بعدَها كما تقدَّم في «الشمس» .

2

والاْنكِدار: الانتثارُ، أي: انصَبَّتْ كما يَنْصَبُّ العُقابُ إذا كُسِرَتْ. قال العَجَّاجُ يصفُ صَقْراً: 4510 - أَبْصَرَ خِرْبانَ الفَلاةِ فانكَدَرْ ... تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازيْ كَسَرْ

4

والعِشار: جمع عُشَراء، وهي الناقةُ التي مَرَّ لِحَمْلِها عشرةُ أشهرٍ، ثم هو اسمُها إلى أَنْ تَضَعَ في تمام السنةِ، وكذلك «نِفاس» في جَمْع نُفَساء. وقيل: العِشارُ: السَّحابُ. وعُطِّلت، أي: لا تُمْطر. وقيل: الأرضُ التي تَعَطَّل زَرْعُها. والتَّعْطيل: الإِهمالُ. ومنه قيل للمرأة: «عاطِلٌ» إذا لم يكُنْ عليها حُلِيّ. وتقدَّم/ في «بئرٍ مُعَطَّلةٍ» . وقال امرؤ القيس: 4511 - وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحشٍ ... إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ

وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ «عُطِلت» بتخفيفِ الطاءِ. قال الرازي: «هو غَلَطٌ، إنما هو» عَطَلَتْ «بفتحتَيْنَ بمعنى تَعَطَّلَتْ؛ لأنَّ التشديدَ فيه للتعدي. يُقال: عَطَّلْتُ الشيءَ وأَعْطَلْتُه فَعَطَلَ» . والوحوش: ما لم يَتَأنَّسْ من حيوانِ البَرِّ. والوَحْشُ أيضاً: المكانُ الذي لا أُنْسَ فيه، ومنه لَقِيْتُه بوَحْشِ إصْمِت، أي: ببلدٍ قَفْر. والوحشُ: الذي يَبيت جوفُه خالياً من الطعام، وجمعُه أَوْحاش، ويُسَمَّى المنسوبُ إلى المكانِ الوَحْشِ: وَحْشِيّ، وعَبَّر بالوَحْشِيِّ عن الجانبِ الذي يُضادُّ الإِنسيَّ، والإِنسيُّ ما يُقْبَلُ من الإِنسان، وعلى هذا وحشيُّ الفَرَس وإنْسِيُّه. وقرأ الحسن وابن ميمون بتشديد الشينِ مِنْ حُشِّرَتْ.

6

قوله: {سُجِّرَتْ} : قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ «سُجِرَتْ» بتخفيف الجيم، والباقون بتثقيلِها على المبالغةِ والتكثيرِ. وتقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ.

7

قوله: {زُوِّجَتْ} : العامَّةُ على تشديد الواوِ مِنْ التزويجِ، ورُوي عن عاصمٍ «زُوْوِجَتْ» على فُوْعِلَتْ. قال الشيخ: «والمُفَاعَلَةُ تكون بين اثنين» انتهى. قلت: وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ: لأنه ينبغي أَنْ يُلفَظَ بواوٍ ساكنةٍ أخرى مكسورةٍ. وقد تقدَّم لك أنَّه اجتمع مِثْلان، وسَكنَ أوَّلُهما وَجَبَ الإِدغام حتى في كلمتين، ففي كلمةٍ واحدةٍ بطريقِ الأَوْلى.

8

قوله: {الموءودة} : هي البنتُ تْدْفَنُ حيةً مِنْ الوَأْدِ، وهو الثِّقَلُ؛ لأنَّها تُثْقَلُ بالترابِ والجَنْدَل. يقال: وَأَدَه يَئِدُهُ كوَعَدَه يَعِدُه. وقال الزمخشري: «وَأَدَ يَئِدُ، مقلوبٌ مِنْ آد يَؤُوْد إذا أَثْقَلَ. قال اللَّهُ تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] لأنه إثْقالٌ بالتراب» . قال الشيخ: «ولا يُدَّعى ذلك؛ لأنَّ كلاً منهما كاملُ التصرُّفِ في الماضي والأمرِ والمضارعِ والمصدرِ واسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ، وليس فيه شيءٌ مِنْ مُسَوِّغات ادِّعاءِ القَلْبِ. والذي يُعْلَمُ به الأصالةُ مِنْ القَلْب: أَنْ يكونَ أحدُ النَّظْمَيْن فيه حُكْمٌ يَشْهَدُ له بالأصالةِ، والآخرُ ليس كذلك أو كونُه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً، وكونُه أكثرَ تصرفاً والآخر ليس كذلك، أو أكثرَ استعمالاً من الآخرِ، وهذا على ما قُرِّرَ وأُحْكِمَ في علمِ التصريفِ. فالأول: كيَئِس وأيِسَ. والثاني: كَطَأْمَنْ واطمأنَّ. والثالث:

كشوايع وشواعِي. والرابع: كلَعَمْري ورَعَمْلي» . وقرأ العامَّةُ: «المَوْءُوْدَة» بهمزةٍ بينَ واوَيْن ساكنتَيْن كالمَوْعودة. وقرأ البزيُّ في روايةٍ بهمزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ. وفيها وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ كقراءةِ الجماعة ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ قبلها، وحُذِفَتِ الهمزةُ، فصار اللفظُ المَوُوْدَة: واوٌ مضومةٌ ثم أخرى ساكنةٌ، فقُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً نحو: «أُجوه» في وُجوه، فصار اللفظُ كما ترى، ووزنُها الآن المَفُوْلة؛ لأنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ. والثاني: أَنْ تكونَ الكلمةُ اسمَ مفعولٍ مِنْ آدَه يَؤُوده مثلَ: قاده يَقُوده. والأصلُ: مأْوُودة، مثلَ مَقْوُوْدة، ثم حَذَفَ إحدى الواوين على الخلافِ المشهورِ في الحَذْفِ مِنْ نحوِ: مَقُوْل ومَصُوْن فوزنُها الآن: إمَّا مَفُعْلَة إنْ قلنا: إنَّ المحذوفَ الواوَ الزائدةُ، وإمَّا مَفُوْلة إنْ قُلْنا: إنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ، وهذا يُظْهِرُ فَضْلَ عِلْمِ التصريفِ. وقُرِىءَ «المَوُوْدة» بضمِّ الواو الأولى على أنه نَقَل حركةَ الهمزةِ بعد حَذْفِها ولمَ يَقْلِبَ الواوَ همزةً. وقرأ الأعمش «المَوْدَة» بزنةِ المَوْزَة. وتوجيهُه: أنه حَذَفَ الهمزةَ اعتباطاً، فالتقى ساكنان، فحَذَفَ ثانيهما،

ووزنُها المَفْلَة؛ لأنَّ الهمزةَ عينُ الكلمةِ، وقد حُذِفَتْ. وقال مكي: «بل هو تخفيفٌ قياسِيٌّ؛ وذلك أنَّه لمَّا نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ لم يَهْمِزْها، فاستثقلَ الضمَّةَ عليها، فسَكَّنها، فالتقى ساكنان فحَذَفَ الثاني، وهذا كلُّه خروجٌ عن الظاهرِ، وإنما يظهر في ذلك ما نَقَله القُرَّاء في وقفِ حمزةَ: أنه يقفُ عليها كالمَوْزَة. قالوا: لأجل الخطِّ لأنها رُسِمَتْ كذلك، والرسمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. والعامَّةُ على» سُئِلت «مبنياً للمفعولِ مضمومَ السين. والحسنُ بكسرِها مِنْ سال يَسال كما تقدَّم. وقرأ أبو جعفر» قُتِّلَتْ «بتشديد التاءِ على التكثيرِ؛ لأنَّ المرادَ اسمُ الجنسِ، فناسبَه التكثيرُ. وقرأ عليٌّ وابن معسود وابن عباس» سَأَلَتْ «مبنياً للفاعل،» قُتِلْتُ «بضمِّ التاءِ الأخيرة التي للمتكلم حكايةً لكلامِها. وعن أُبَيّ وابن مسعود أيضاً وابن يعمرَ» سَأَلَتْ «مبنياً للفاعل،» قُتِلَتْ «بتاءِ التأنيث الساكنةِ كقراءةِ العامة.

10

قوله: {نُشِرَتْ} : قرأ الأخَوان وابن كثير

وأبو عمرو بالتثقيل. والباقون بالتخفيف. ونافعٌ وحفصٌ وابنُ ذكوانَ/ «سُعِّرَتْ» بالتثقيل، والباقون بالتخفيف.

14

قوله: {عَلِمَتْ} : هذا جوابُ «إذا» أولَ السورةِ وما عُطِفَ عليها. قوله: {كُشِطَتْ} [التكوير: 11] ، أي: قُشِرَتْ، مِنْ قولهم: كَشَطَ جِلْدَ الشاةِ، أي: سَلَخَها. وقرأ عبد الله «قُشِطَتْ» بالقاف، وقد تقدَّم أنهما يَتعقبان كثيراً، وأنه قُرِىء «قافوراً» و «كافوراً» في {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} .

15

قوله: {بالخنس} : جمعُ خانِس، والخُنُوس: الانقباضُ. يقال: خَنَسَ من القوم وانْخَنَسَ. وفي الحديث: «فانْخَنَسْتُ» ، أي: اسْتَخْفَيْتُ. والخَنَسُ: تأخُّرُ الأَنْفِ عن الشَّفَة مع ارتفاع الأَرْنَبةِ قليلاً. ويقال: رجلٌ أَخْنَسُ وامرأةُ خَنْساءُ. ومنه الخَنساءُ الشاعرة. والخُنَّسُ في القرآن قيل: كواكبُ سبعةٌ: القمران وزُحَلُ والزهرةُ والمُشْتري والمَرِّيخ وعُطارِد. والكُنَّسُ: الدَّاخلة في الكِناس وهو

بيتُ الوحشِ. والجواري: جمعُ جارية. وقيل: هي بَقَرُ الوحشِ؛ لأنَّ هذه صفتُها وقيل: الظِّباء، قالوا: لأنَّ الخَنَسَ يكون فيها.

17

قوله: {عَسْعَسَ} : يقال: عَسْعَسَ وسَعْسَعَ أقبل. قال العَجَّاج: 4512 - حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا ... وانْجابَ عنها ليلُها وعَسْعَسا أي: أَدْبَر. وقيل: هو لهما على طريق الاشتراك. وقيل: أَدْبَرَ بلغةِ قريشٍ خاصةً. وقيل: أقبل ظلامُه، ويُرَجِّحُه مقابلتُه بقولِه {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} وهذا هو قريبٌ من إدْباره.

20

قوله: {عِندَ ذِي العرش} : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل «رسولٍ» ، وأن يكونَ حالاً مِنْ «مَكين» ، وأصلُه الوصفُ، فلمَّا قُدِّمُ نُصِبَ حالاً.

21

قوله: {ثَمَّ أَمِينٍ} : العامَّةُ على فَتْحِ الثاءِ؛ لأنَّه ظرفُ مكانٍ للبعيدِ. والعاملُ فيه «مُطاعٍ» . وأبو البرهسم وأبو جعفر

وأبو حيوة بضمِّها جعلوها عاطفةً، والتراخي هنا في الرتبةِ؛ لأنَّ الثانية أعظمُ من الأولى.

24

قوله: {بِضَنِينٍ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء بمعنى مُتَّهم، مِنْ ظنَّ بمعنى اتَّهم فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه بضعيفِ القوةِ عن التبليغ مِنْ قولِهم: «بئرٌ ظَنُوْنٌ» ، أي: قليلةُ الماءِ. وفي مصحفِ عبد الله كذلك، والباقون بالضاد بمعنى: ببخيلٍ بما يأتيه من قِبَلِ ربِّه، إلاَّ أنَّ الطبريَّ نَقَلَ أنَّ الضادَ خطوطُ المصاحفِ كلِّها، وليس كذلك لِما مرَّ، وكان رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها، وهذا دليلٌ على التمييز بين الحرفين، خِلافاً لمَنْ يقول: إنه لو وقع أحدُهما مَوْقِعَ الآخرِ لجاز، لِعُسْرِ معرفتِه. وقد شَنَّعَ الزمخشري على مَنْ يقول ذلك، وذكر بعضَ المخارج وبعضَ الصفاتِ، بما لا يَليق التطويلُ فيه. و «على الغيب» متعلقٌ ب «ظَنِين» أو «بضَنِين» .

26

قوله: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} : «أين» منصوبٌ ب «تَذْهبون» لأنه ظرفٌ مُبْهَمٌ. وقال أبو البقاء: «أي: إلى أين، فحذف حرفَ الجر كقولك: ذهبتُ الشامَ. ويجوزُ أَنْ يُحْمَلَ على المعنى كأنه قال: أين تؤمنون» . يعني أنه على الحذفِ، أو على التضمين. وإليه نحا

مكي أيضاً، ولا حاجة إلى ذلك البتة؛ لأنه ظرفُ مكانٍ مبهمٌ لا مُخْتَصٌّ.

28

قوله: {لِمَن شَآءَ} : بدلٌ مِنْ «العالمين» بإعادةِ العاملِ، وعلى هذا فقولُه «أن يَسْتقيمَ» مفعولُ «شاء» ، أي: لمَنْ شاء الاستقامة، ويجوزُ أَنْ يكونَ «لمَنْ شاء» خبراً مقدماً، ومفعول «شاء» محذوفٌ، و «أَنْ يَسْتَقيم» مبتدأ. وقد مَرَّ له نظيرٌ.

29

قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين} : أي: إلاَّ وقتَ مشيئةِ الله، وقال مكي: «وأنْ في موضع خفضٍ بإضمارِ الباءِ، أو في موضعِ نصبٍ بحذفِ الخافضِ» يعني أنَّ الأصلَ: إلاَّ بأَنْ، وحينئذٍ تكونُ للمصاحبة.

الانفطار

قوله: {فُجِّرَتْ} : العامَّةُ على بنائِه للمفعول مثقَّلاً. وقرأ مجاهد مبنياً للفاعل مخففاً، من الفُجور، نظراً إلى قولِه: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20] ، فلمَّا زال البَرْزَخُ بَغَيا. وقرأ مجاهد أيضاً والربيع ابن خُثَيْم والزعفرانيُّ والثوري مبنياً للمفعول مخففاً.

4

قوله: {بُعْثِرَتْ} : أي: قُلِبَتْ. يقال: بَعْثَره وبَحْثَرَه بالعين والحاء. قال الزمخشري: «وهما مركبان من البَعْث والبَحْث مضموماً إليهما راءٌ» يعني: أنهما ممَّا اتَّفق معناهما؛ لأنَّ الراءَ مزيدةٌ

فيهما إذ ليَسْت مِنْ حروفِ الزيادةِ، وهذا ك «دَمِث ودِمَثْرٍ، وسَبِطَ وسِبَطْر. و» عَلِمَتْ «جوابُ» إذا «.

6

قوله: {مَا غَرَّكَ} : العامَّةُ على «غَرَّك» ثلاثياً و «ما» استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء. وقرأ ابن جبير والأعمش «ما أَغَرَّك» فاحتمل أَنْ تكونَ استفهاميةً، وأن تكونَ تعجبيةً. ومعنى أغرَّه: أدخله في الغِرَّة أو جعله غارَّاً.

7

قوله: {الذي خَلَقَكَ} : يحتمل الإِتباعَ على البدلِ والبيان والنعتِ، والقطعَ إلى الرفع أو النصبِ. قوله: {فَعَدَلَكَ} قرأ الكوفيون «عَدَلَك، مخففاً. والباقون/ مثقلاً. فالتثقيل بمعنى: جَعَلكَ متناسِبَ الأطرافِ، فلم يجعَلْ إحدى يَدَيْكَ أو رِجْلَيْكَ أطولَ، ولا إحدى عينَيْك أَوْسَعَ، فهو من التَّعْديلِ. وقراءةُ التخفيفِ تحتمل هذا، أي: عَدَلَ بعضَ أعضائِك ببعضٍ. وتحتمل أَنْ تكونَ من العُدولِ، أي: صَرَفَك إلى ما شاء من الهيئاتِ والأشكالِ والأشباهِ.

8

قوله: {في أَىِّ صُورَةٍ} : يجوز فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقُ ب «رَكَّبَكَ» و «ما» مزيدةٌ على هذا، و «شاءَ» صفةٌ ل «صورةٍ» ،

ولم يَعْطِفْ «رَكَّبَكَ» على ما قبله بالفاءِ، كما عَطَفَ ما قبلَه بها؛ لأنه بيانٌ لقولِه: «فَعَدَلَكَ» . والتقدير: فَعَدَلَكَ: ركَّبك في أيِّ صورةٍ من الصورِ العجيبةِ الحسنةِ التي شاءها. والمعنى: وَضَعَكَ في صورةٍ اقتضَتْها مَشيئتُه: مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وطُولٍ وقِصَرٍ وذُكورةٍ وأُنوثةٍ. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ، أي: رَكَّبك حاصلاً في بعض الصور. الثالث: أنه يتعلَّقُ بعَدَلَكَ، نقله الشيخ عن بعض المتأوِّلين، ولم يَعْتَرِضْ عليه، وهو مُعْتَرَضٌ: بأنَّ في «أيّ» معنى الاستفهام، فلها صدرُ الكلام فكيف يعمل فيها ما تقدَّمَها؟ وكأنَّ الزمخشري استشعر هذا فقال: «ويكونُ في» أيّ «معنى التعجبِ، أي: فَعَدَلَكَ في أيِّ صورةٍ عجيبةٍ» . وهذا لا يَحْسُنُ أَنْ يكونَ مُجَوِّزاً لِتَقَدُّمِ العاملِ على اسمِ الاستفهامِ، وإنْ دَخَلَه معنى التعجب. ألا ترى أنَّ كيف وأنَّى وإنْ دَخَلهما معنى التعجبِ لا يتقدَّم عاملُهما عليهما. وقد اختلف النحويون في اسم الاستفهام إذا قُصِدَ به الاستثباتُ: هل يجوزُ تقديمُ عاملِه أم لا؟ والصحيح أنه لا يجوزُ، وكذلك لا يجوز أن يتقدَّمَ عاملُ «كم» الخبريةِ عليها لشَبَهِها في اللفظ بالاستفهاميةِ فهذا أَوْلَى، وعلى تعلُّقِها ب «عَدَلَكَ» تكون «ما» منصوبةً ب «شاء» ، أي: رَكَّبَكَ ما شاءَ من التركيبِ، أي: تركيباً حَسَناً، قاله الزمخشري، فظاهرُه أنها منصوبةٌ على المصدر.

وقال أبو البقاء: «ويجوز أَنْ تكونَ» ما «زائدةً، وأَنْ تكونَ شرطيةً، وعلى الأمرَيْن: الجملةُ نعتٌ ل» صورة «، والعائدُ محذوفٌ، أي: رَكَّبك عليها. و» في «تتعلَّقُ ب» رَكَّبك «. وقيل: لا موضعَ للجملةِ؛ لأن» في «تتعلَّقُ بأحد الفعلَيْن، والجميعُ كلامٌ واحدٌ، وإنما تقدُّمُ الاستفهامِ على» ما «هو حَقُّه. قوله:» بأحد الفعلَيْنِ «يعني: شاءَ ورَكَّبك. وتَحَصَّل في» ما «ثلاثةُ أوجهٍ: الزيادةُ، وكونُها شرطيَّةً، وحيئنذٍ جوابُها محذوفٌ، والنصبُ على المصدريةِ، أي: واقعةٌ موقعَ مصدرٍ.

9

والعامَّةُ: «يُكَذِّبُون» خطاباً. والحسن وأبو جعفر وشَيْبَةُ بياء الغَيْبة.

10

قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ} : يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً مِنْ فاعل تُكَذِّبون، أي: تُكَذِّبُون والحالةُ هذه، ويجوز أَنْ تكونَ مستأنفةً، أخبرهم بذلك لينزَجِروا.

12

قوله: {يَعْلَمُونَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً، وأَنْ يكونَ حالاً من ضمير «كاتبين» ، وأَنْ يكونَ نعتاً ل «جحيم» ، وأَنْ يكونَ مستأنفاً.

15

قوله: {يَصْلَوْنَهَا} : يجوزُ فيه أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبراً، وأَنْ يكونَ مستأنفاً. وقرأ العامَّةُ «

يَصْلَوْنَها» مخففاً مبنياً للفاعل. وابن مقسم مشدَّداً مبيناً للمفعولِ، وتقدَّم مثلُه.

19

قوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} : قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع «يوم» على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو يومُ. وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ بدلاً مِمَّا قبلَه، يعني قولَه: «يومَ الدين» . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ «يومٌ» مرفوعاً منوناً على قَطْعِه عن الإِضافة، وجَعَلَ الجملةَ نعتاً له، والعائدُ محذوفٌ، أي: لا يَمْلِكُ فيه. وقرأ الباقون «يومَ» بالفتح. وقيل: هي فتحةُ إعرابٍ، ونصبُه بإضمار أعني أو يَتجاوزون، أو بإضمار اذكُرْ، فيكونُ مفعولاً به، وعلى رأي الكوفيين يكون خبراً لمبتدأ مضمر، وإنما بُني لإِضافتِه للفعل، وإن كان معرباً، كقولِه {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] وقد تقدَّم.

المطففين

قوله: {وَيْلٌ} : مبتدأٌ، وسَوَّغَ الابتداءَ به كونُه دعاءً. ولو نُصِبَ لجاز. وقال مكي: «والمختارُ في» وَيْل «وشبهِه إذا كان غيرَ مضافٍ الرفعُ. ويجوزُ النصبُ، فإنْ كانَ مضافاً أو مُعَرَّفاً كان الاختيارُ/ فيه النصبَ نحو: {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ} [طه: 61] . و» للمُطَفِّفين «خبرُه. والمُطَفِّفُ: المُنَقِّصُ. وحقيقتُه: الأَخْذُ في كيلٍ، أو وَزْنٍ، شيئاً طفيفاً، أي: نَزْراً حقيراً، ومنه قولُهم:» دونَ الطَّفيف «، أي: الشيء التافِه لقلَّتِه.

2

قوله: {عَلَى الناس} : فيه أوجهٌ: أحدُها: أنَّه متعلِّقٌ ب «اكْتالوا» و «على» و «مِنْ» تَعْتَقِبان هنا. قال الفراء: «يقال: اكْتَلْتُ على الناس: استَوْفَيْتُ منهم، واكْتَلْتُ منهم: أَخَذْتُ ما عليهم» وقيل: «

على» بمعنى «مِنْ» . يقال: اكْتَلْتُ عليه ومنه، بمعنىً، والأولُ أوضحُ. وقيل: «على» تتعلَّقُ ب «يَسْتَوْفُون» . قال الزمخشري: «لَمَّا كان اكْتِيالُهم اكتيالاً يَضُرُّهُمْ ويُتَحامَلُ فيه عليهم أبدلَ» على «مكانَ» مِنْ «للدلالة على ذلك. ويجوزُ أن تتعلَّقَ ب» يَسْتَوْفون «، وقدَّم المفعولَ على الفعل لإِفادةِ الخصوصيةِ، أي: يَسْتَوْفون على الناس خاصةً، فأمَّا أنفسُهم فَيَسْتَوْفون لها» انتهى. وهو حسنٌ.

3

قوله: {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} : رُسِمتا في المصحفِ بغير ألفٍ بعد الواوِ في الفعلَيْن، فمِنْ ثَمَّ اختلفَ الناسُ في «هم» على وجهين، أحدهما: هو ضميرُ نصبٍ، فيكونُ مفعولاً به، ويعودُ على الناس، أي: وإذا كالُوا الناسَ، أو وَزَنوا الناسَ. وعلى هذا فالأصلُ في هذَيْن الفعلَيْن التعدِّي لاثنين، لأحدِهما بنفسِه بلا خِلافٍ، وللآخرِ بحرفِ الجرِّ، ويجوزُ حَذْفُه. وهل كلٌّ منهما أصلٌ بنفسِه، أو أحدُهما أصلٌ للآخر؟ خلافٌ مشهورٌ. والتقدير: وإذا كالوا لهم طعاماً أو وَزَنُوه لهم، فحُذِف الحرفُ والمفعولُ المُسَرَّح. وأنشد الزمخشريُّ: 4513 - ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَساقِلاً ... ولقد نَهْيْتُك عَن بناتِ الأَوْبَرِ

أي: جَنَيْتُ لك. والثاني: أنه ضميرُ رفعٍ مؤكِّدٍ للواو. والضميرُ عائدٌ على المطففينِ، ويكونُ على هذا قد حَذَفَ المَكيلَ والمَكيلَ له والموزونَ والموزونَ لهُ. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ رَدَّ هذا، فقال: «ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ ضميراً مرفوعاً للمطفِّفين؛ لأنَّ الكلامَ يَخْرُجُ به إلى نَظْم فاسدٍ، وذلك أنَّ المعنى: إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفُوا، وإذا أعطَوْهم أَخْسَروا. فإنْ جَعَلْتَ الضميرَ للمطفِّفين انقلبَ إلى قولِك: إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفَوْا، وإذا تَوَلَّوا الكيلَ أو الوزنَ هم على الخصوص أَخْسَروا، وهو كلامٌ مُتَنَافِرٌ؛ لأنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعل لا في المباشر» . قال الشيخ: «ولا تنافُرَ فيه بوجهٍ، ولا فرقَ بين أَنْ يؤكَّد الضميرُ أو لا يُؤَكَّد، والحديثُ واقعٌ في الفعل. غايةُ ما في هذا أنَّ متعلقَ الاستيفاء وهو على الناس مذكورٌ، وهو في {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} محذوفٌ للعلم به؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يُخْسِرون ذلك لأنفسهم» . قلت: الزمخشريُّ يريدُ أَنْ يُحافظَ على أنَّ المعنى مرتبطٌ بشيئَيْن: إذا أخذوا مِنْ غيرِهم، وإذا أَعْطَوْا غيرَهم، وهذا إنما يَتِمُّ على تقديرِ أَنْ يكونَ الضميرُ منصوباً عائداً على الناس، لا على كونِه ضميرَ رفعٍ عائداً على المطفِّفين، ولا شكَّ أن هذا المعنى الذي ذكَره الزمخشريُّ وأرادَه أَتَمُّ وأَحسنُ مِنْ المعنى الثاني. ورجَّح الأوّلَ سقوطُ الألفِ بعد الواوِ، ولأنه دالٌّ على اتصالِ الضميرِ، إلاَّ أنَّ الزمخشري استدركه فقال: «والتعلُّقُ

في إبطالِه بخطِّ المصحفِ وأنَّ الألفَ التي تُكتب بعد واوِ الجمع غيرُ ثابتةٍ فيه، ركيكٌ لأنَّ خَطَّ المصحفِ لم يُراعِ في كثيرٍ منه حَدَّ المصطلحِ عليه في علمِ الخطِّ، على أني رأيْتُ في الكتب المخطوطةِ بأيدي الأئمة المُتْقِنين هذه الألفَ مرفوضةً لكونِها غيرَ ثابتةٍ في اللفظِ والمعنى جميعاً؛ لأنَّ الواوَ وحدَها مُعْطِيَةٌ معنى الجَمْع، وإنما كُتِبت هذه الألفُ تَفْرِقَةً بين واوِ الجمعِ وغيرِها في نحو قولِك:» هم [لم] يَدْعُوا «، و» هو يَدْعُو «، فمَنْ لم يُثْبِتْها قال: المعنى كافٍ في التفرقةِ بينهما، وعن عيسى بنِ عمرَ وحمزةَ أنَّها يرتكبان ذلك، أي: يجعلان الضميرَيْن للمطففين، ويقفان عند الواوَيْن وُقَيْفَةً يُبَيِّنان بها ما أرادا» . ولم يَذْكُر فعلَ الوزنِ أولاً؛ بل اقتصر على الكيلِ، فقال: «إذا اكْتالوا» ولم يَقُلْ: أو اتَّزَنوا، كما قال ثانياً: أو وَزَنُوهم. قال الزمخشري: «كأنَّ المطفِّفين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويُوْزَنُ إلاَّ بالمكاييلِ دون الموازينِ لتمكُّنهم بالاكتيالِ من الاستيفاءِ والسَّرِقَةِ؛ لأنَّهم يُدَعْدِعُون ويَحْتالون في المَلْء، وإذا أَعْطَوْا/ كالُوا ووزَنوا لتمكُّنِهم من البَخْسِ في النوعَيْن جميعاً» . قولُه: «يُخْسِرون» جوابُ «إذا» وهو مُعَدَّىً بالهمزة. يقال: خَسِرَ الرجلُ، وأَخْسَرْتُه أنا، فمفعولُه محذوفٌ، أي: يُخْسِرون الناسَ مَتاعَهم.

4

قوله: {أَلا يَظُنُّ} : الظاهرُ أنَّها «ألا» التحضيضيةُ، حَضَّهم على ذلك، ويكونُ الظنُّ بمعنى اليقين. وقيل: هل لا النافيةُ دخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ.

6

قوله: {يَوْمَ يَقُومُ} : يجوزُ نصبُه ب «مَبْعُوثون» ، قاله الزمخشري: أو ب يُبْعَثون «مقدَّراً، أو على البدلِ مِنْ محلِّ» يوم «، أو بإضمارِ» أَعْني «، أو هو مرفوعُ المحلِّ خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أو مجرورٌ بدلاً من» ليومٍ عظيمٍ «، وإنما بُني في هذَيْن الوجهَيْن على الفتحِ لإِضافتِه للفعل، وإن كان مضارعاً، كما هو رأي الكوفيين، ويَدُلُّ على صحة هذَيْن الوجهين قراءةُ زيدِ بنِ علي» يومُ يقومُ «بالرفعِ، وما حكاه أبو معاذٍ القارىءُ» يوم «بالجرِّ على ما تقدَّم.

7

قوله: {لَفِي سِجِّينٍ} : اختلفوا في نون «سِجِّين» . فقيل: هي أصليةٌ. اشتقاقهُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ، وهو بناءُ مبالغةٍ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكْر. وقيل: بل هي بدلٌ من اللامِ، والأصلُ: سِجِّيْل، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ. واختلفوا فيه أيضاً: هل هو اسمُ موضعٍ، أو اسمُ كتابٍ مخصوصٍ؟ وهل هو صفةٌ أو عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم. وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ، وإذا كان اسمَ مكانٍ، فقوله «كتابٌ مَرْقُوْمٌ» : إمَّا بدلٌ منه، أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل: التقدير: هو مَحَلُّ كتابٍ، ثم حُذِفَ المضافُ. وقيل: التقديرُ: وما أدراك ما كتابُ سِجِّين؟ فالحذفُ، إمَّا مِنْ الأولِ، وإمَّا مِنْ الثاني: وأمَّا إذا قُلْنا: إنه اسمٌ ل «كتاب» فلا إشكال.

وقال ابن عطية: «مَنْ قال: إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ، على أنه خبرُ» إنّ «والظرفُ الذي هو» لفي سِجِّين «مُلْغَى، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، التقدير: هو كتابٌ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو؟» انتهى، وهذا لا يَصِحُّ البتة؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى. لا يقال: اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو «كتابٌ» عاملاً أو صفتُه عاملةٌ وهو «مرقوم» لامتنعَ ذلك. أمَّا مَنْعُ عملِ «كتابٌ» فلأنَّه موصوف، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل. وأمَّا امتناعُ عملِ «مرقومٌ» فلأنَّه صفةٌ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها. وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه، وهذا ليس معمولاً للخبرِ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ، وليس بملغى. وأمَّا قولُه ثانياً «ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو» فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه ب «كتابٌ» . وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً ب» كتاب مرقوم «فكأنه قيل: إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه؟ قلت:» سِجِّين «كتابٌ جامعٌ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ والفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ، أو مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى: أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ،

ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم» انتهى.

9

والرَّقْمُ: الخَطُّ. وقيل: الخَتْمُ بلغة حِمْيَرٍ، والصحيحُ الأولُ. قال: / 4514 - سأَرْقُمُ في الماءِ القَراح إليكُمُ ... على بُعْدِكُمْ إنْ كان للماءِ راقِمُ وتقدَّمت هذه المادةُ في الكهف.

11

قوله: {الذين يُكَذِّبُونَ} : يجوزُ فيه الإِتباعُ نعتاً وبدلاً وبياناً، والقطعُ رفعاً ونصباً.

13

قوله: {إِذَا} : العامَّةُ على الخبر. والحسن «أإذا» على الاستفهامِ الإِنكاريِّ. والعامَّةُ «تُتْلى» بتَاءين مِنْ فوقُ، وأبو حيوة وابن مقسم بالياء مِنْ تحتُ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ.

14

قوله: {بَلْ رَانَ} : قد تقدَّم وَقْفُ حفص على «بل» في الكهف. والرَّيْنُ والرانُ الغِشاوة على القلبِ، كالصَّدأ على الشيءِ

الصقيلِ من سيفٍ ومِرْآة ونحوِهما. قال الشاعر: 4515 - وكم رانَ مِنْ ذنبٍ على قلبِ فاجِرٍ ... فتابَ مِن الذنبِ الذي ران وانْجَلَى وأصلُ الرَّيْنِ: الغلبةُ، ومنه: رانَتِ الخمرُ على عقلِ شاربِها. وران الغَشْيُ على عقل المريض. قال: 4516 -. . . . . . . . . . . . رانَتْ به الخَمْ ... رُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال الزمخشري: «يقال: ران عليه الذنبُ وغان، رَيْناً وغَيْناً. والغَيْنُ الغَيْم. ويقال: ران فيه النومُ: رَسَخَ فيه، ورانَتْ به الخمرُ: ذهَبَتْ به» . وحكى أبو زيد: «رِيْنَ بالرَّجل رَيْناً: فجاء مصدرُه مفتوحَ العين وساكنَها. و» ما كانوا «هو الفاعلُ. و» ما «يُحتمل أَنْ تكونَ مصدريةً، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ. وأُمِيْلَتْ ألفُ» ران «وفُخِّمَتْ،

فأمالها الأخَوان وأبو بكر وفَخَّمها الباقون، وأُدغِم لامُ» بل «في الراء وأُظْهِرَتْ.

15

قوله: {عَن رَّبِّهِمْ} : متعلِّقٌ بالخبرِ، وكذلك «يومئذٍ» . والتنوينُ عوضٌ من جملةٍ تقديرُها، يومَ إذ يقومُ الناسُ؛ لأنه لم يناسِبْ إلاَّ تقديرُها.

17

قوله: {يُقَالُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مقامَ الفاعلِ ما دلَّتْ عليه جملةُ قولِه {هذا الذي كُنتُمْ} . ويجوزُ أَنْ يكونَ الجملةَ نفسَها، ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرَ، وقد تقدَّم تحريرُه أولَ البقرة.

18

قوله: {لَفِي عِلِّيِّينَ} : هو خبر «إنَّ» . وقال ابنُ عطية هنا كما قال هناك، ويُرَدُّ عليه بما تقدَّم. وعِلِّيُّون جمع عِلِّيّ، أو هو اسمُ مكانٍ في أعلى الجنة، وجَرَى مَجْرَى جمع العقلاء فرُفع بالواوِ ونُصِبَ وجُرَّ بالياء مع فوات شرطِ العقل. وقال أبو البقاء: «واحدُهم عِلِّيّ وهو الملك. وقيل: هي صيغةُ الجمع مثلَ عشرين» ثم ذكر نحواً مِمَّا ذَكرَهُ في «سِجِّين» مِنْ الحَذْفِ المتقدِّم. وقال الزمخشري: «

عِلِّيُّون: عَلَمٌ لديوانِ الخبر الذي دُوِّن فيه كلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثقلَيْنِ، منقولٌ مِنْ جَمْع» عِلِّيّ «فِعِّيل من العُلُو ك» سِجِّين «مِنْ السَّجْن» ، سُميِّ بذلك: إمَّا لأنه سببُ الارتفاعِ، وإمَّا لأنه مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ «. قلت: وتلك الأقوالُ الماضيةُ في» سِجِّين «كلُّها عائدةٌ هنا.

21

قوله: {يَشْهَدُهُ} : جملةٌ يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ثانيةً، وأَنْ تكونَ مستأنفةً.

24

قوله: {تَعْرِفُ} : العامُّةُ على إسنادِ الفعلِ إلى المخاطب، أي: تَعْرِفُ أنت يا محمدُ، أو كلُّ مَنْ صَحَّ منه المعرفةُ. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وشيبةُ وطلحةُ ويعقوبُ والزعفراني «تُعْرَفُ» مبنياً للمفعول، «نَضْرَةُ» رَفْعٌ على قيامِها مقَامَ الفاعلِ. وعلي بن زيد كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ أسفلَ لأنَّ التأنيثَ مجازي. [وقوله: {يَنظُرُونَ} حالٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر أو مستأنف] [و «على الأرائك» متعلق ب «يَنْظرون» أو حال من ضميره، أو حال مِنْ ضمير المستكنّ في الخبر] .

25

قوله: {مِن رَّحِيقٍ} : الرحيق: الشرابُ الذي لا غِشَّ فيه، وقيل: أجودُ الخمر. وقال حسان: 4517 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بَرَدى يُصَفِّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ

26

قوله: {خِتَامُهُ} : قرأ الكسائيُّ «خاتَمهُ» بفتح التاءِ بعد الألف. والباقون بتقديمِها على الأف، فوجهُ قراءةِ الكسائيِّ أنَّه جعله اسماً لِما تُخْتَمُ به الكأسُ بدليلِ قولِه «مَخْتوم» ، ثم بَيَّنَ الخاتَمَ ما هو؟ ورُوِيَ عن الكسائيِّ أيضاً كَسْرُ التاءِ، فيكونُ كقولِه تعالى: {وَخَاتَمَ النبيين} [الأحزاب: 40] والمعنى خاتَمٌ رائحتُهُ مِسْكٌ، ووجهُ قراءةِ الجماعةِ أنَّ الخِتامَ هو الطينُ الذي يُخْتَمُ به الشيءُ، فجُعِل بَدَلَه المِسْكُ. قال الشاعر: 4518 - كأنَّ مُشَعْشَعاً مِنْ خَمْرِ بُصْرى ... . . . . . . البُخْتُ مَسْدودَ الخِتامِ وقيل: خَلْطُه ومِزاجُه. وقيل: خاتِمتُه، أي: مَقْطَعُ شُرْبِه يَجِدُ فيه الإِنسانُ ريحَ المِسْكِ. والتنافُسُ: المغالبة في الشيء النفيسِ. يقال: نَفِسْتُ به نَفاسَةً، أي: بَخِلْتُ به، وأصلُه مِنْ النَّفْس لعِزَّتها.

27

قوله: {مِن تَسْنِيمٍ} : التَّسْنيم اسمٌ لعَيْنٍ في الجنة. قال الزمخشري: «تَسْنْيم عَلَمٌ لَعْينٍ بعينها، سُمِّيت بالتَّسْنيم الذي هو مصدرُ سَنَمَه: إذا رفعه» . قلت: وفيه نظرٌ؛ لأنه كان مِنْ حَقِّه أن يُمْنَعَ الصرفَ للعَلَمِيَّة والتأنيث، وإنْ كان مجازياً. ولا يَقْدَحُ في ذلك كونُه مذكَّرَ الأصلِ؛ لأنَّ العِبْرَةَ بحالِ العَلَمَّيةِ. ألا ترى نَصَّهم على أنه لو سُمِّي بزيد امرأةٌ وَجَبَ المَنْعُ، وإن كان في «هِنْد» وجهان. اللهم إلاَّ أَنْ تقولَ: ذَهَبَ بها مَذْهَبَ الهِنْد ونحوِه، فيكونَ كواسِط ودابِق.

28

قوله: {عَيْناً} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه حالٌ، قاله الزجاج، يعني مِنْ «تَسْنيم» لأنَّه عَلَمٌ لشيءٍ بعينِه، إلاَّ أنه يُشْكِل بكونه جامداً. الثاني: أنه منصوبٌ على المدح، قاله الزمخشري. الثالث: أنها منصوبةٌ ب يُسْقَونْ مقدراً، قاله الأخفش. وقوله: «يَشْرب» بها، أي: مِنْها، أو الباءُ زائدةٌ، أو ضُمِّن «يَشْربُ» معنى يَرْوي. وتقدَّم هذا مُشْبعاً في سورة الإِنسان.

29

قوله: {َمِنَ الذين آمَنُواْ} : متعلِّقٌ ب «يَضْحكون» ، أي: مِنْ أجلِهم، وقُدِّمَ لأجل الفواصلِ. والتغامُز: الرَّمْزُ بالعينِ.

31

قوله: {فَكِهِينَ} : قرأ حفص «فَكِهين» دون ألف. والباقون بها. فقيل: هما بمعنى. وقيل: فكهين: أَشِرين، وفاكهين: مِنْ التفكُّهِ. وقيل: فكِهين: فَرِحين، وفاكهين ناعمين. وقيل: فاكهين أصحابُ فاكهةٍ ومِزاج.

32

قوله: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ المرفوعُ للكفار، والمنصوبُ للمؤمنين، ويجوزُ العكسُ، وكذلك الضميران في «أُرْسِلوا عليهم» .

34

قوله: {فاليوم} : منصوبٌ ب «يَضْحَكون» . ولا يَضُرُّ تقديمُه على المبتدأ؛ لأنَّه لو تقدَّم العاملُ هنا لجاز؛ إذا لا لَبْسَ، بخلاف «زيدٌ قام في الدار» لا يجوز: في الدار زيدٌ قام.

35

قوله: {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} : كما تقدَّم في نظيره.

36

قوله: {هَلْ ثُوِّبَ} : يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ الاستفهاميةُ معلِّقةً للنظرِ قبلها، فتكونَ في محلِّ نصبٍ بعد إسقاطِ الخافض. ويجوز أَنْ تكونَ على إضمارِ القول، أي: يقولون: هل ثُوِّبَ. وثُوِّبَ، أي: جُوْزِيَ. يُقال: ثَوَّبه وأثابه. قال الشاعر:

4519 - سَأَجْزِيك أو يَجْزيك عني مُثَوِّبٌ ... وحَسْبُك أَنْ يُثْنَى عليك وتُحْمَدَا وأدغم أبو عمروٍ والكسائيُّ وحمزةُ لامَ «هل» في الثاء. وقوله «ما كانوا» فيه حَذْفٌ، أي: ثوابَ ما كانوا. و «ما» موصولٌ اسميٌّ أو حرفيٌّ.

الانشقاق

قوله: {إِذَا السمآء} : كقولِه: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] في إضمارِ الفعلِ وعَدَمِه. وفي «إذا» هذه احتمالان، أحدهما: أَنْ تكونَ شرطيةً. والثاني: أَنْ تكونَ غير شرطيةٍ. فعلى الأول في جوابها خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه «أَذِنَتْ» ، والواوُ مزيدةٌ. الثاني: أنه «فَمُلاقِيه» ، أي: فأنت مُلاقِيْه. وإليه ذهب الأخفش. الثالث: أنَّه {ياأيها الإنسان} على حَذْفِ الفاء. الرابع: أنه {ياأيها الإنسان} أيضاً، ولكن على إضمارِ القولِ، أي: يقال: يا أيها الإِنسانُ. الخامس: أنه مقدرٌ تقديرُه: بُعِثْتُمِ. وقيل: تقديرُه: لاقى كلُّ إنسانٍ كَدْحَه. وقيل: هو ما صَرَّح به في سورتَيْ التكوير والانفطار، وهو قولُه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14] ، [الانفطار: 5] قاله الزمخشري، وهو حسنٌ. وعلى الاحتمال الثاني فيها وجهان، أحدُهما: أنها منصوبةٌ مفعولاً

بها، بإضمار اذكرْ. والثاني: أنها مبتدأٌ، وخبرُها «إذا» الثانية، والواوُ مزيدةٌ، تقديرُه: وقتُ انشقاقِ السماءِ وقتُ مَدِّ الأرض، أي: يقع الأمران في وقتٍ واحد، قاله الأخفشُ أيضاً. والعاملُ فيها إذا كانت ظرفاً عند الجمهور جوابُها: إمَّا الملفوظُ به، وإمَّا المقدَّرُ. وقال مكي: «وقيل: العاملُ» انْشَقَّتْ «. وقال ابن عطية:» قال بعضُ النحاة: العامل «انْشَقَّتْ» ، وأبى ذلك كثيرٌ من أئمتهم؛ لأنَّ «إذا» مضافةٌ إلى «انشَقَّتْ» ، ومَنْ يُجِزْ ذلك تَضْعُفْ عنده الإِضافةُ ويَقْوى معنى الجزاء. وقرأ العامَّةُ «انشَقَّتْ» بتاءِ التأنيث ساكنةً، وكذلك ما بعده. وقرأ أبو عمرو في روايةِ عُبَيْد بن عقيل بإشمام الكسر في الوقف خاصة، وفي الوصل بالسكونِ المَحْض. قال أبو الفضل: «وهذا من التغييرات التي تلحق الرويَّ في القوافي. وفي هذا الإِشمام بيانُ أنَّ هذه التاءَ من علامةِ تأنيثِ الفعل للإِناث، وليسَتْ مِمَّا على ما في الأسماءِ، فصار ذلك فارقاً بين الاسمِ والفعل فيمَنْ وقَفَ على ما في الأسماء بالتاءِ، وذلك لغة طيِّىء، وقد حُمِل في المصاحف بعضُ التاءات على ذلك» .

وقال ابن عطية: «وقرأ أبو عمرو» انشَقَّتْ «يقف على التاء كأنه يُشِمُّها شيئاً من الجرِّ، وكذلك في أخواتها. قال أبو حاتم:» سمعتُ أعرابياً فصيحاً في بلادِ قيسٍ يكسِرُ هذه التاءات «. وقال ابن خالَويه:» انشَقَّت «بكسر التاء عُبَيْد عن أبي عمرو. قلت: كأنه يريدُ إشمامَ الكسرِ، وأنه في الوقفِ دونَ الوصل لأنه مُطْلَقٌ، وغيرُه مقيَّدٌ، والمقيَّدُ يَقْضي على المطلق. وقال الشيخ:» وذلك أنَّ الفواصلَ تجري مَجْرى القوافي، فكما أن هذه التاءَ تُكسر في القوافي تُكْسَرُ في الفواصل. ومثالُ كسرِها في القوافي قولُ كثيِّر عَزَّةَ: 4520 - وما أنا بالدَّاعي لِعَزَّةَ بالرَّدى ... ولا شامِتٍ إنْ نَعْلُ عَزَّةَ زلَّتِ وكذلك باقي القصيدة، / وإجراءُ الفواصلِ في الوقف مُجْرى القوافي مَهْيَعٌ معروفٌ، كقولِه تعالى: {الظنونا} [الآية: 10] {الرسولا} [الآية: 66] في الأحزاب، وحَمْلُ الوصلِ على الوقفِ موجودٌ أيضاً.

2

قوله: {وَأَذِنَتْ} : عَطْفٌ على «انْشَقَّتْ» ، وقد تقدَّم أنه جوابٌ على زيادةِ الواوِ، ومعنى «أَذِنَتْ» ، أي: استمعَتْ أَمْرَه. يُقال:

أَذِنْتُ لك، أي: استمَعْتُ كلامَك. وفي الحديث: «ما أَذِن اللَّهُ لشيءٍ إذْنَه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن» وقال الشاعر: 4521 - صُمٌّ إذا سَمِعوا خيراً ذُكِرْتُ به ... وإن ذُكِرْتُ بسُوْءٍ عندهم أَذِنوا وقال آخر: 4522 - إنْ يَأْذَنُوا رِيْبةً طاروا بها فَرَحاً ... وما هُمُ أَذِنُوا مِنْ صالحٍ دَفَنوا وقال الجحَّافُ بنُ حكيم: 4523 - أَذِنْتُ لكمْ لَمَّا سَمِعْتُ هريرَكُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والاستعارةُ المذكورةُ في قولِه تعالى: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] أو الحقيقةُ عائدٌ ههنا.

قوله: {وَحُقَّتْ} الفاعلُ في الأصلِ هو اللَّهُ تعالى، أي: حَقَّ اللَّهُ عليها ذلك، أي: بسَمْعِه وطاعتِه. يُقال: هو حقيقٌ بكذا وتَحَقَّق به، والمعنى: وحُقَّ لها أَنْ تفعلَ.

3

قوله: {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} : كالأولِ، وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ «إذا» الأولى على زيادةِ الواوِ.

6

قوله: {كَادِحٌ} : الكَدْحُ: قال الزمخشري: «جَهْدُ النفس [في العمل] والكَدُّ فيه، حتى يُؤَثِّر فيها، ومنه كَدَح جِلِدَه إذا خَدَشَه. ومعنى» كادِحٌ «، أي: جاهِدٌ إلى لقاءِ ربِّك وهو الموتُ» . انتهى. وقال ابن مقبل: 4524 - وما الدَّهْرُ إلاَّ تارتان فمِنْهما ... أموتُ وأخرى أَبْتغي العيشَ أَكْدَحُ وقال آخر: 4525 - ومَضَتْ بَشاشَةُ كلِّ عيشٍ صالحٍ ... وبَقِيْتُ أكْدَحُ للحياةِ وأَنْصَبُ وقال الراغب: «وقد يُستعمل الكَدْحُ استعمالَ الكَدْمِ بالأسنان. قال الخليل: الكَدْحُ دونَ الكَدْم» .

قوله: {فَمُلاَقِيهِ} يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على كادح. والتسبيبُ فيه ظاهرٌ. ويجوز أَنْ يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: فأنت مُلاقيه. وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للشرط. وقال ابنُ عطية: «فالفاءُ على هذا عاطفةٌ جملةَ الكلامِ على التي قبلها. والتقدير: فأنت مُلاقيه» يعني بقوله: «على هذا» ، أي: على عَوْدِ الضميرِ على كَدْحِك. قال الشيخ: «ولا يَتَعَيَّنُ ما قاله، بل يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْف المفردات» . والضمير: إم‍َّا للربِّ، وإمَّا للكَدْح، أي: مُلاقٍ جزاءَ كَدْحِك.

9

قوله: {مَسْرُوراً} : حالٌ مِنْ فاعل «يَنْقَلِبُ» . وقرأ زيد بن علي «ويُقْلَبُ» مبنياً للمفعول مِنْ قَلَبه ثلاثياً.

12

قوله: {ويصلى} : قرأ أبو عمرو وحمزةُ وعاصمٌ بفتح الياء وسكونِ الصادِ وتخفيفِ اللام، والباقون بالضم والفتح والتثقيل. وقد تقدَّم تخريجُ القراءتَيْن في النساء عند قولِه: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] وأبو الأشهب ونافع وعاصم وأبو عمرو في روايةٍ عنهم «يُصْلى» بضمِّ الياء وسكونِ الصاد مِنْ «أَصْلى» .

14

قوله: {أَن لَّن} : هذه «أَنْ» المخففةُ كالتي في أول القيامة، وهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْن أو أحدِهما على الخلاف. و «يَحُوْرُ» معناه يَرْجِعُ. يقال: حار يَحُورُ حَوْراً. قال لبيد: 4526 - وما المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْءُه ... يَحُوْرُ رَماداً بعد إذ هو ساطعٌ ويُسْتعمل بمعنى صار فيَرْفع الاسمَ ويَنْصِبُ الخبرَ عند بعضِهم، وبهذا البيتِ يَسْتَدِلُّ قائِلُه. ومَنْ منع نَصَبَ «رماداً» على الحال. وقال الراغب: «الحَوْرُ التردُّد: إمَّا بالذاتِ وإمَّا بالفكرة. وقولُه تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} ، أي: لن يُبْعَثَ. وحار الماءُ في الغَديرِ، تَرَدَّد فيه. وحار في أمْرِه وتَحَيَّر، ومنه» المِحْوَرُ «للعُوْدِ الذي تجري عليه البَكَرة لتردُّدِه. وقيل:» نعوذُ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْر «، أي: مِنْ التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه، ومحاورةُ الكلام: مراجعتُه» .

15

قوله: {بلى} : جوابٌ للنفي في «لن» ، و «إنَّ» جوابُ قسمٍ مقدرٍ.

16

قوله: {بالشفق} : قال الراغب: «الشَّفَقُ: اختلاطُ ضوءِ النهارِ بسوادِ الليل عند غُروبِ الشمس. والإِشفاقُ: عنايةٌ

مختلِطَةٌ بخوفٍ؛ لأنَّ المُشْفِقَ يحبُّ المُشْفَقَ عليه، ويَخاف ما يلحقُه، فإذا عُدِّيَ ب» مِنْ «فمعنى الخوفِ فيه أظهرُ، وإذا عُدِّي ب» على «فمعنى العنايةِ فيه أظهرُ» . وقال الزمخشري: «الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ التي تُرى في الغرب بعد سقوطِ الشمسِ، وبسقوطِه يخرُجُ وقتُ المغربِ ويَدْخُلُ وقتُ العَتَمَةِ عند عامَّةِ العلماء، إلاَّ ما يُرْوى عن أبي حنيفةَ في إحدى الروايتَيْن أنه البياضُ وروى أسدُ بن عمرو أنه رَجَعَ عنه. سُمِّي شَفَقاً لر‍ِقَّته، ومنه الشَّفَقَةُ على الإِنسان: رِقَّةُ القلبِ عليه» . انتهى. والشَّفَقُ شفقان: الشَّفَقُ الأحمر، والآخر الأبيضُ، والشَّفَق والشَّفَقَةُ اسمان للإِشفاقِ. قال الشاعر: 4527 - تَهْوَى حياتي وأَهْوَى مَوْتَها شَفَقا ... والموتُ أكرَمُ نَزَّالٍ على الحُرَمِ

17

قوله: {وَمَا وَسَقَ} : يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً، أو نكرةً. ووسَقَ، أي: جَمَعَ. ومنه «الوَسَقُ» لجماعة الآصُعِ وهو ستون صاعاً. والوِسْق بالكسر الاسمُ، وبالفتح المصدرُ وطعامٌ مَوْسوق، أي: مجموعٌ. يقال: وَسَقَه فاتَّسق واسْتَوْسَقَ. ونظيرُ

وقوعِ افتعل واستفعل مطاوعَيْن اتِّسَعَ واستَوْسَع. وقيل: وَسَق، أي: عَمِلَ فيه. قال الشاعر: 4528 - فيَوْماً ترانا صالِحِيْنَ وتارةً ... تقومُ بنا كالواسِق المُتَلَبِّبِ وإبل مُسْتَوسِقَة. قال الراجز: / 4529 - إنَّ لنا قَلائِصاً حَقائِقا ... مُسْتَوْسِقاتٍ لو تَجِدْنَ سائَقا قوله: {إِذَا اتسق} ، أي: امتلأ. قال الفراء: «وهو امتلاؤُه واستواؤُه لياليَ البدر» وهو افتعلَ من الوَسْقِ وهو الضمُّ والجَمْعُ كما تقدَّم. وأَمْرُ فلانٍ مُتِّسِقٌ، أي: مُجَتَمعُ على ما يَسْتُرُ.

19

قوله: {لَتَرْكَبُنَّ} : هذا جوابُ القسم. وقرأ الأخَوان وابن كثير بفتحِ التاءِ على خطابِ الواحد، والباقون بضمِّها على خطاب الجمع. وتقدَّم تصريفُ مثلِه. فالقراءةُ الأولى رُوْعي فيها: إمَّا خطابُ الإِنسانِ المتقدِّمِ الذِّكْرِ في قوله: {ياأيها الإنسان} [الانشقاق: 6] ، وإمَّا خطابُ

غيرِه. وقيل: هو خطابٌ للرسول، أي: لتركبَنَّ مع الكفارِ وجهادِهم. وقيل: التاءُ للتأنيثِ والفعلُ مسندٌ لضميرِ السماء، أي: لتركبَنَّ السماءَ حالاً بعد حال: تكون كالمُهْلِ وكالدِّهان، وتَنْفَطر وتَنشَقُّ. وهذا قولُ ابنِ مسعود. والقراءة الثانيةِ رُوْعِي فيها معنى الإِنسان إذ المرادُ به الجنسُ. وقرأ عمر «لَيَرْكَبُنَّ» بياء الغَيْبة وضَمِّ الباء على الإِخبار عن الكفار. وقرأ عمر أيضاً وابن عباس بالغَيبة وفتحِ الباء، أي: لَيركبَنَّ الإِنسانُ. وقيل: ليركبَنَّ القمرُ أحوالاً مِنْ سَرار واستهلال وإبدار. وقرأ عبد الله وابن عباس «لَتِرْكَبنَّ» بكسر حَرْفِ المضارعة وقد تقدَّم تحقيقُه في الفاتحة. وقرأ بعضُهم بفتح حرف المضارعة وكسرِ الباء على إسناد الفعل للنفس، أي: لَتَرْكَبِنَّ أنت يا نفسُ. قوله: {طَبَقاً} مفعولٌ به، أو حالٌ كما سيأتي بيانُه. والطَّبَقُ: قال الزمخشري: «ما طابَقَ غيرَه. يُقال: ما هذا بطَبَقٍ لذا، أي: لا يطابقُه. ومنه قيل للغِطاء: الطَّبَقُ. وأطباق الثرى: ما تَطابَقَ منه، ثم قيل للحال المطابقةِ لغيرِها: طَبَقٌ. ومنه قولُه تعالى: {طَبَقاً عَن طَبقٍ} ، أي: حالاً بعد حال، كلُّ واحدةٍ مطابقةٌ لأختها في الشدَّةِ والهَوْلِ. ويجوز أنْ يكونَ جمعَ» طبقة «وهي المرتبةُ، مِنْ قولهم: هم على طبقاتٍ، ومنه» طبَقات الظهر «لفِقارِه، الواحدةُ طبَقَة، على معنى: لَتَرْكَبُّنَّ أحوالاً بعد أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدَّة، بعضُها أرفعُ من بعض، وهي الموتُ

وما بعده من مواطنِ القيامة» انتهى. وقيل: المعنى: لتركبُنَّ هذه الأحوال أمةً بعد أمةٍ. ومنه قولُ العباس فيه عليه السلام: 4530 - وأنتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْ ... أرضُ وضاءَتْ بنورِك الطُّرُقُ تُنْقَلُ مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ ... إذا مضى عالَمٌ بدا طَبَقُ يريد: بدا عالَمٌ آخرُ: فعلى هذا التفسير يكون «طبقاً» حالاً لا مفعولاً به. كأنه قيل: متتابعِين أُمَّةً بعد أُمَّة. وأمَّا قولُ الأقرعِ: 4531 - إنِّي امرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَه ... وساقَني طبَقاً منه إلى طَبَقِ فيحتملُ الأمرين، أي: ساقَني مِنْ حالةٍ إلى أخرى، أو ساقني من أمةٍ وناس إلى أمةٍ وناسٍ آخرين، ويكون نصبُ «طَبَقاً» على المعنيَيْن على التشبيه بالظرف، أو الحال، أي: منتقلاً. والطَّبَقُ أيضاً: ما طابقَ الشيءَ، أي: ساواه، ومنه دَلالةُ المطابقةِ. وقال امرؤ القيس: 4532 - دِيْمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ ... طَبَقُ الأرضِ تَحَرَّى وتَدُرّ

قوله: {عَن طَبقٍ} في «عن» وجهان، أحدُهما: أنها على بابها، والثاني: أنها بمعنى «بَعْدَ» . وفي محلِّها وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فال «تَرْكَبُنَّ» . والثاني: أنَّها صفةٌ ل «طَبقا» . قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما محلُّ» عن طبَق «؟ قلت: النصبُ على أنُّه صفةٌ ل» طبقا «، أي: طبقاً مجاوزاً لطبق، أو حالٌ من الضمير في» لتركبُنَّ «، أي: لتركبُنَّ طبقاً مجاوزِيْن لطبَق أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حَسَبِ القراءة» . وقال أبو البقاء: «وعن بمعنى بَعْدَ. والصحيح أنها على بابِها، وهي صفةٌ، أي: طبقاً حاصلاً عن طَبق، أي: حالاً عن حال. وقيل: جيلاً عن جيل» انتهى. يعني الخلافَ المتقدِّمَ في الطبق ما المرادُ به؟ هل هو الحالُ أو الجيلُ أو الأمةُ؟ كما تقدَّم نَقْلُه، وحينئذٍ فلا يُعْرَبُ «طَبَقاً» مفعولاً به بل حالاً، كما تقدَّم، لكنه لم يَذْكُرْ في «طبقاً» غيرَ المفعولِ به. وفيه نظرٌ لِما تقدَّم مِن استحالتِه معنى، إذ يصير التقديرُ: لتركَبُنَّ أمةً بعد أمَّةٍ، فتكون الأمةُ مركوبةً لهم، وإن كان يَصِحُّ على تأويلٍ بعيدٍ جداً وهو حَذْفُ مضافٍ، أي: لَتركبُنَّ سَنَنَ أو طريقةَ طبقٍ بعد طبقٍ.

20

قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ} : حالٌ، وقد تقدَّم مثلُه.

21

قوله: {وَإِذَا قُرِىءَ} : شرطٌ، و «لا يَسْجُدون» . جوابُه. وهذه الجملةُ الشرطيةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أيضاً نَسَقاً على ما قبلها، أي: فمالهم إذا قُرىء عليهم القرآن لا يَسْجُدون؟ .

22

قوله: {يُكَذِّبُونَ} : العامَّةُ على ضمِّ الياءِ وفتحِ الكافِ وتشديدِ الدال. والضحَّاك وابنُ أبي عبلة بالفتحِ والإِسكانِ والتخفيفِ/. وتقدَّمت هاتان القراءتان أولَ البقرة.

23

قوله: {يُوعُونَ} : هذه هي العامَّةُ مِنْ أَوْعى يُوْعي. وأبو رجاء «يَعُوْن» مِنْ وعى يَعِي.

25

قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ متصلاً، وأن يكون منقطعاً. هذا إذا كانت الجملةُ مِنْ قولِه: «لهم أَجْرٌ» مستأنفةً أو حاليةً. أمَّا إذا كان الموصولُ مبتدأً، والجملةُ خبرَه، فالاستثناء وليس مِنْ قبيلِ استثناءِ المفرداتِ، ويكونُ من قسمِ المنقطعِ، أي: لكِن الذين آمنوا لهم كيتَ وكيتَ. وتقدَّم معنى «المَمْنون» في حمِ السجدة.

البروج

قوله: {قُتِلَ} : هذا جوابُ القسمِ على المختارِ، وإنما حُذِفَتِ اللامُ، والأصلُ: لَقُتِلَ، كقولِ الشاعر: 4533 - حَلَفْتُ لها باللَّهِ حَلْفَةَ فاجرٍ ... لَناموا فما إنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ وإنما حَسُن حَذْفُها للطُّولِ، كما سيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في قولِه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] . وقيل: تقديرُه: لقد قُتِلَ، فحَذَفَ اللامَ وقد، وعلى هذا فقولُه: «قُتِلَ» خبرٌ لا دُعاءٌ. وقيل بل هي دعاءٌ فلا يكونُ جواباً. وفي الجواب حينئذٍ أوجهٌ، أحدُها: أنَّه قولُه: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ} . الثاني: قولُه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ} قاله المبرد. الثالث: أنه مقدرٌ. فقال الزمخشري: ولم يَذْكُرْ غيرَه «هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود} ، كأنه قيل: أُقْسِمُ بهذه الأشياءِ إنَّ كفَّار قريشٍ مَلْعونون كما لُعِنَ

أصحابُ الأُخدودِ» ثم قال: «وقُتِل دعاءٌ عليهم، كقوله: {قُتِلَ الإنسان} [عبس: 17] ، وقيل: التقدير: لَتُبْعَثُنَّ. وقرأ الحسن وابن مقسم» قُتِّلَ «بتشديدِ التاءِ مبالغةً أو تكثيراً. وقوله:» الموعودِ «، أي: الموعود به. قال مكي:» الموعود نعتٌ لليوم. وثَم ضميرٌ محذوفٌ يتمُّ الموعودُ به. ولولا ذلك لَما صَحَّتِ الصفةُ؛ إذ لا ضميرَ يعودُ على الموصوفِ مِنْ صفتِه «انتهى. وكأنَّه يعني أن اليومَ موعودٌ به غيرُه من الناس، فلا بُدَّ مِنْ ضمير يَرْجِعُ إليه، لأنه موعودٌ به لا موعودٌ. وهذا لا يُحتاج إليه؛ إذ يجوزُ أَنْ يكون قد تَجَوَّزَ بأنَّ اليومَ وَعَدَ بكذا فيصِحُّ ذلك، ويكونُ فيه ضميرٌ عائدٌ عليه، كأنَّه قيل: واليومِ الذي وَعَدَ أَنْ يُقْضَى فيه بين الخلائِقِ. والأُخْدودُ: الشِّقُّ في الأرضِ. قال الزمخشري:» والأخْدودُ: الخَدُّ في الأرضِ، وهو الشِّقُّ. ونحوُهما بناءً ومعنىً: الخَقُّ والأُخْقُوق، ومنه: «فساخَتْ قوائمُه في أخاقيقِ جِرْذان» . انتهى. فالخَدُّ في الأصلِ مصدرٌ، وقد يقعُ على المفعولِ وهو الشِّقُّ نفسُه، وأمَّا الأخدودُ فاسمٌ له فقط. وقال الراغب: «الخَدُّ والأُخْدُوْدُ شِقٌّ في أرضٍ، مستطيلٌ غائِصٌ.

وجمع الأخدود: أخاديدُ. وأصلُ ذلك مِن خَدَّيْ الإِنسان، وهما ما اكتنفا الأَنْفَ عن اليمينِ والشمالِ، والخَدُّ يُستعار للأرضِ ولغيرها كاستعارةِ الوجهِ، وتخدُّدُ اللحمِ زَوالُه عن وجهِ الجسم» ثم يُعَبَّرُ بالمُتَخَدِّدِ عن المهزول، والخِدادُ مِيْسَمٌ في الخَدِّ. وقال غيره: سُمِّيَ الخَدُّ خَدَّاً لأنَّ الدموعَ تَخُدُّ فيه أخاديدَ، أي: مجاريَ.

5

قوله: {النار} : العامَّةُ على جَرِّها، وفيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ من «الأخدود» بدلُ اشتمالٍ؛ لأنَّ الأخدودَ مشتملٌ عليها، وحينئذٍ فلا بُدَّ فيه من الضميرِ، فقال البصريون: هو مقدَّرٌ، تقديرُه: النارِ فيه. وقال الكوفيون: أل قائمةٌ مَقامَ الضميرِ، تقديرُه: نارِه ثم حُذِفَ الضميرُ، وعُوِّضَ عنه أل. وتقدَّم البحثُ معهم في ذلك. الثاني: أنه بدلُ كلٍّ مِنْ كل، ولا بدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: أُخدودِ النار. الثالث: أنَّ التقديرَ: ذي النار؛ لأنَّ الأخدودَ هو الشِّقُّ في الأرض، حكاه أبو البقاء، وهذا يُفْهِمُ أنَّ النارَ خفضٌ بالإِضافةِ لتلك الصفةِ المحذوفة، فلمَّا حُذِف المضافُ قام المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب، واتَّفَقَ أنَّ المحذوفَ كان مجروراً، وقولُه: «لأنَّ الأُخْدودَ هو الشِّقُّ» تعليلٌ لصحةِ كونِه صاحبَ نارٍ، وهذا ضعيفٌ جداً، الرابع: أنَّ «النار» خفصٌ على الجوارِ، نقله مكيٌّ عن الكوفيين، وهذا

يقتضي أنَّ «النار» كانت مستحقةً لغيرِ الجرِّ فعدَلَ عنه إلى الجرِّ للجوارِ. والذي يقتضي الحالَ أنَّه عَدَلَ عن الرفع، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد قُرِىء في الشاذِّ «النارُ» رفعاً، والرَفعُ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: قِتْلَتُهم النارُ. وقيل: بل هي مرفوعةً على الفاعليةِ تقديرُه: قَتَلَتْهم النارُ، أي: أَحْرَقَتْهم، والمرادُ حينئذٍ بأصحابِ الأخدودِ المؤمنون. وقرأ العامَّةُ «الوَقود» بفتح الواو، والحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى بضمِّها، وتقدَّمت القراءتان وقولُ الناسِ فيهما في أولِ البقرة.

6

قوله: {إِذْ هُمْ} : العامل في «إذ» إمَّا «قُتِلَ أصحابُ» ، أي: قُتِلوا في هذا الوقتِ. وقيل: «اذكُر» مقدَّراً، فيكونُ مفعولاً به. ومعنى قُعودِهم عليها: / أي: على ما يَقْرُبُ منها كحافَّتها، ومنه قولُ الأعشى: 4534 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وباتَ على النارِ النَّدى والمُحَلَّقُ والضميرُ في «هم» يجوزُ أَنْ يكونَ للمؤمنين، وأنْ يكونَ للكافرين.

8

قوله: {وَمَا نَقَمُواْ} : العامَّةُ على فتح القافِ، وزيد بن علي وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة بكسرِها. وقد تقدَّم معنى ذلك في المائدة. وقوله: {إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ} كقولِه في المعنى: 4535 - ولا عَيْبَ فيها غيرَ شُكْلَةِ عَيْنِها ... كذاك عِتاقُ الطيرِ شُكْلٌ عُيونُها وكقولِ قيس الرقيات: 4536 - ما نَقِموا من بني أُمَيَّةَ إلاَّ ... أنَّهم يَحْلُمُون إنْ غَضِبوا يعني: أنهم جعلوا أحسنَ الأشياء قبيحاً. وتقدَّم الكلامُ على محلِّ «أَنْ» أيضاً في سورة المائدة. وقوله: {أَن يُؤْمِنُواْ} أتى بالفعلِ المستقبلِ تنبيهاً على أنَّ التعذيبَ إنما كان لأَجْلِ إيمانِهم في المستقبلِ، ولو كفروا في المستقبلِ لم يُعَذَّبُوا على ما مضى من الإِيمان.

10

قوله: {فَلَهُمْ عَذَابُ} : هو خبرُ «إنَّ الذين» ودخلت الفاءُ لِما تضمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرطِ، ولا يَضُرُّ نَسْخُه ب «إنَّ»

خلافاً للأخفش. وارتفاع «عذابُ» يجوزُ على الفاعليَّةِ بالجارِّ قبله لوقوعِه خبراً، وهو الأحسنُ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداء.

14

قوله: {الودود} : مبالغةٌ في الوُدِّ. قال ابن عباس: «هو المتودِّدُ لعبادِه بالمغفرة» ، وعن المبرد: «هو الذي لا وَلَدَ له» ، وأنشد: 4573 - وأَرْكَبُ في الرَّوْع خَيْفانَةً ... ذَلولَ الجِماحِ لِقاحاً وَدُوْدا أي: لا ولدَ لها تَحِنُّ إليه. وقيل: هو فَعُول بمعنى مَفْعول كالرَّكوب والحَلُوْب، أي: يَوَدُّه عبادُه الصالحون.

15

قوله: {المجيد} : قرأ الأخَوان بالجرِّ فقيل: نعتاً للعرش. وقيل: نعتاً ل «ربِّك» في قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] . قال مكي: «وقيل: لا يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً للعرش؛ لأنه مِنْ صفاتِ اللَّهِ تعالى» . والباقون بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبرٍ. وقيل: هو نعتٌ ل «ذو» . واستدلَّ بعضُهم على تعدُّدِ الخبرِ بهذه الآيةِ. ومَنْ مَنَعَ قال: لأنهما في

معنى خبرٍ واحدٍ، أي: جامعٌ بين هذه الأوصافِ الشريفةِ، أو كلٌّ منها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ.

18

قوله: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من «الجنود» ، وحينئذٍ فكان ينبغي أَنْ يأتيَ البدلُ مطابقاً للمبدلِ منه في الجمعية فقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ، أي: جنودِ فرعون. وقيل: المرادُ فرعونُ وقومُه، واسْتَغْنى بذِكْرِه عن ذِكْرِهم؛ لأنهم أتباعُه. ويجوزُ أن يكونَ منصوباً بإضمار أعني؛ لأنَّه لَمَّا لم يُطابق ما قبلَه وجب قَطْعُه.

21

قوله: {قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} : العامَّةُ على تبعيَّةِ «مَجيد» ل «قرآن» . وقرأ ابن السميفع بإضافةِ «قرآن» ل «مَجيد» فقيل: على حَذْفِ مضافٍ، أي: قرآنُ ربٍّ مَجيدٍ كقوله: 4538 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولكنَّ الغِنى رَبٌّ غفورُ أي: غنى رَبٍّ غفورٍ. وقيل: بل هو من إضافةِ الموصوف لصفتِه فتتحدُ القراءتان، ولكنْ البصريون لا يُجيزون هذه لئلا يلزَمَ إضافةُ الشيءِ إلى نفسِه، ويتأوّلُون ما وَرَدَ.

22

قوله: {مَّحْفُوظٍ} : قرأ نافع بالرفع نعتاً ل «قرآن» ، والباقون بالجرِّ نعتاً ل «لوحٍ» . والعامَّةُ على فتح اللام، وقرأ ابن السَّمَيْفع وابن يعمر بضمِّها. قال الزمخشري: «يعني اللوحَ فوق السماء السابعة الذي فيه اللوحُ محفوظٌ مِنْ وصولِ الشياطين إليه» . وقال أبو الفضل: «اللُّوح: الهواء» وتفسيرُ الزمخشري أمسُّ بالمعنى، وهو الذي أراده ابن خالويه «.

الطارق

قوله: {والطارق} : الطارقُ في الأصل اسمُ فاعل مِنْ طَرَقَ يَطْرُقُ طُروقاً، أي: جاء ليلاً قال: 4539 - فمِثْلَكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعاً ... فألهَيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ وأصلُه من الضَّرْبِ. والطارقُ بالحصى الضارِبُ به. قال: 4540 - لعَمْرُكَ ما تَدْري الضواربُ بالحصى ... ولا زاجراتُ الطيرِ ما اللَّهُ صانعُ ثم اتُّسِع فقيل لكلٍ جاء ليلاً: طارِقٌ.

4

قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا} : قد تقدَّم في سورةِ هود التخفيفُ والتشديدُ في «لَمَّاً» . فمَنْ خَفَّفها هنا كانت «إنْ»

هنا مخففةً من الثقيلة، و «كلُّ» مبتدأٌ، واللامُ فارقةٌ، و «عليها» خبرٌ مقدَّمٌ و «حافظٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملةُ خبرُ «كل» و «ما» مزيدةٌ بعد اللامِ الفارقةِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «عليها» هو الخبرَ وحدَه، و «حافِظٌ» فاعلٌ به، وهو أحسنُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «كلُّ» متبدأً، و «حافظٌ» خبرَه، و «عليها» متعلقٌ به و «ما» مزيدة أيضاً، هذا كلُّه تفريعٌ على قولِ البصريِين. وقال الكوفيون: «إنْ هنا نافيةٌ، واللامُ بمعنى» إلاَّ «إيجاباً بعد النفي، و» ما «مزيدةٌ. وتقدَّم الكلامُ في هذا مُسْتوفى. وأمَّا قراءةُ التشديدِ فإنْ نافيةٌ، و» لَمَّا «بمعنى» إلاَّ «، وتقدَّمَتْ شواهدُ ذلك مستوفاةً في هود. وحكى هارونُ أنه قُرِىءَ هنا» إنَّ «بالتشديدِ،» كلَّ «بالنصب على أنَّه اسمُها، واللامُ هي الداخلةُ في الخبرِ، و» ما «مزيدةٌ و» حافظٌ «خبرُها، وعلى كلِّ تقديرِ فإنْ وما في حَيِّزِها جوابُ القسمِ سواءً جَعَلها مخففةً أو نافيةً. وقيل: الجواب {إِنَّهُ على رَجْعِهِ} ، وما بينهما اعتراضٌ. وفيه بُعْدٌ.

6

قوله: {دَافِقٍ} : قيل: فاعِل بمعنى مَفْعول كعكسِه في قولهم: «سيلٌ مُفْعَم» ، وقولِه تعالى: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإِسراء: 45] على وجهٍ. وقيل: دافق على النسبِ، أي: ذي دَفْقٍ أو انْدِفاق. وقال ابن عطية: «يَصِحُّ أَنْ يَكونَ الماءُ دافقاً؛ لأنَّ بعضَه يَدْفُقُ بعضاً، أي: يدفعه فمنه

دافِق، ومنه مَدْفوق» انتهى. والدَّفْقُ: الصَّبُّ/ ففِعْلُه متعدٍّ. وقرأ زيدُ ابنُ علي «مَدْفُوقٍ» وكأنه فَسَّر المعنى.

7

قوله: {والترآئب} : جمع تَريبة. وهي مَوْضِعُ القِلادةِ من عظامِ الصدرِ؛ لأنَّ الولدَ مخلوقٌ مِنْ مائهما، فماءُ الرجل في صُلْبه، والمرأةُ في ترائبِها، وهو معنى قولِه: {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} بالإِنسان: 2] . وقال الشاعر: 4540 - مُهَفْهَفَةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ ... تَرائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَلِ وقال: 4541 - والزَّعْفَرانُ على ترائبِها ... شَرِقَتْ به اللَّبَّاتُ والنَّحْرُ وقال أبو عبيدة: «جمع التَّريبة تريب» . قال: 4542 - ومِنْ ذَهَبٍ يَذُوْبُ على تَرِيْبٍ ... كلَوْنِ العاجِ ليس بذي غُضونِ

وقيل: الترائبُ: التَّراقي. وقيل: أضلاعُ الرجلِ التي أسفلَ الصُّلْب. وقيل: ما بين المَنْكِبَيْن والصَّدْرِ. وعن ابن عباس: هي أطرافُ المَرْءِ يداه وِرجْلاه وعيناه. وقيل: عُصارةُ القلبِ. قال ابن عطية: «وفي هذه الأقوالِ تَحَكُّمٌّ في اللغة» . وقرأ العامَّةُ «يَخْرُج» مبنياً للفاعل. وابنُ أبي عبلة وابن مقسم مبنياً للمفعول. وقرأ أيضاً وأهلُ مكة «الصُّلُب» بضم الصاد واللام، واليمانيُّ بفتحهما، وعليه قولُ العَجَّاج: 4543 - في صَلَبٍ مِثْلِ العِنانِ المُؤْدَمِ ... وتَقَدَّمَتْ لغاتُه في سورة النساء. وأَغْرَبُها «صالِب» كقوله: 4544 -. . . . . . . . . . . . . مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

8

قوله: {إِنَّهُ} : الضميرُ للخالقِ المدلولِ عليه بقوله: «خُلِقَ» لأنه معلومٌ أَنْ لا خالقَ سواه. قوله: {على رَجْعِهِ} في الهاء وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الإِنسانِ،

أي: على بَعْثِه بعد موتِه. والثاني: أنه ضميرُ الماءِ، أي: يُرْجِعُ المنيَّ في الإِحليلِ أو الصُّلْبِ.

9

قوله: {يَوْمَ تبلى} : فيه أوجهٌ. وقد رتَّبها أبو البقاء على الخلافِ في الضمير فقال على القولِ بكونِ الضميرِ للإِنسان: «فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه معمولٌ ل» قادر «. إلاَّ أنَّ ابنَ عطية قال بعد أن حكى أوجهاً عن النحاةِ قال:» وكل هذه الفِرَقِ فَرَّتْ من أَنْ يكونَ العاملُ «لَقادِرٌ» لئلا يظهرَ من ذلك تخصيصُ القدرةِ بذلك اليومِ وحدَه «ثم قال:» وإذا تُؤُمِّل المعنى وما يَقْتَضِيه فصيحُ كلامِ العربِ جازَ أَنْ يكونَ العاملُ «لَقادر» لأنَّه إذا قَدَرَ على ذلك في هذا الوقتِ كان في غيره أقدرَ بطريق الأَوْلى. الثاني: أن العاملَ مضمرٌ على التبيين، أي: يَرْجِعه يومَ تُبْلى. الثالث: تقديره: اذكُرْ، فيكونُ مفعولاً به. وعلى عَوْدِه على الماء يكونُ العاملُ فيه اذكُرْ «انتهى ملخصاً. وجَوَّزَ بعضُهم أَنْ يكون العاملُ فيه» ناصرٍ «. وهو فاسدٌ لأنَّ ما بعد» ما «النافيةِ وما بعد الفاءِ لا يعملُ فيما قبلَهما. وقيل: العامل فيه» رَجْعِه «. وهو فاسدٌ لأنه قد فصل بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ، وبعضُهم يَغْتَفِرُه في الظرف.

11

قوله: {ذَاتِ الرجع} : قيل: هو مصدرٌ بمعنى: رجوعِ الشمس والقمر إليها. وقيل: المطر كقولِه يصفُ سيفاً:

4545 - أبيضُ كالرَّجْعِ رَسوبٌ إذا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما سُمِّي أَوْباً كقولِه: 4546 - رَبَّاءُ شَمَّاءُ لا يَأْوي لِقُلَّتِها ... إلاَّ السَّحابُ وإلاَّ الأَوْبُ والسَّبَلُ

13

قوله: {إِنَّهُ} : جوابُ القسمِ في قوله: «والسَّماءِ» . والهَزْلُ: ضدُّ الجَدِّ والتشميرِ في الأمر. قال الكُميت: 4547 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يُجَدُّ بنافي كلِّ يومٍ ونَهْزِلُ والضمير في «إنَّه» للقرآن. وقيل: للكلامِ المتقدَّمِ الدالِّ على البعث والنشور.

17

قوله: {أَمْهِلْهُمْ} : هذه قراةُ العامَّة، لَمَّا كرَّر الأمرَ

توكيداً خالَفَ بين اللفظَيْن. وعن ابن عباس «مَهِّلْهُمْ» كالأولِ. والإِمهالُ والتمهيلُ الانتظارُ. يقال: أَمْهَلْتُك كذا، أي: انتظرتُك لِتَفْعَلَه. والمَهْلُ: الرِّفْقُ والتُّؤَدَةُ. قوله: {رُوَيْداً} مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى العامل، وهو تصغيرُ إرْواد على الترخيم. وقيل: بل هو تصغيرُ «رُوْدِ» ، وأنَشد: 4548 - تكادُ لا تَثْلِمُ البَطْحاءُ وَطْأتَه ... كأنَّه ثَمِلٌ يَمْشي على رُوْدِ واعلَمْ أنَّ رُوَيْداً يُستعمل مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه، فيُضاف تارةً كقوله: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] ولا يُضافُ أخرى نحو: رويداً زيداً [ويُستعمل اسمَ فعلٍ فلا يُنَوَّن، بل يبنى على الفتح نحو: رُوَيْداً زيداً] ويقع حالاً نحو: ساروا رُوَيْدا، أي: متمهِّلين، ونعتاً لمصدر محذوف نحو: «ساروا رُوَيْداً» ، أي: سَيْراً رويداً. وهذه الأحكامُ لها موضوعٌ هو أَلْيَقُ بها.

الأعلى

قوله: {الأعلى} : يجوزُ جَرُّه صفةً ل «ربِّك» ، ونصبُه صفةً لاسم. إلاَّ أنَّ هذا يمنعُ أَنْ يكونَ «الذي» صفةً ل «ربِّك» ، بل يتعيَّنُ جَعْلُه نعتاً ل «اسم» ، أو مقطوعاً، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بصفةِ غيرِه؛ إذ يصيرُ التركيبُ مثلَ قولِك: «جاءني غلامُ هندٍ العاقلُ الحسنةِ» فيُفْصَلُ بالعاقل بين «هند» وبين صفتِها. وتقدَّم الكلامُ في إضافةِ الاسمِ إلى المُسَمَّى.

3

قوله: {قَدَّرَ} : قرأ الكسائيُّ بتخفيفِ الدالِ، والباقون بالتشديد. وقد تقدَّمَتْ القراءتان في المرسلات.

5

قوله: {غُثَآءً} : إمَّا مفعولٌ ثانٍ، وإمَّا حالٌ. والغُثاء بتشديد الثاء وتخفيفِها وهو الفصيحُ / ما يُقَدِّمُه السَّيْلُ على جوانبِ الوادي من النباتِ ونحوِه. قال امرؤ القيس: 4549 - كأنَّ ذُرا رأسِ المُجَيْمِرِ غُدوةً ... من السَّيْلِ والغُثَّاء فَلْكَةُ مِغْزَلِ ورواه الفراءُ «والأَغْثاء» على الجمعِ. وفيه غرابةٌ من حيث جَمَعَ فُعالاً على أفْعال. قوله: {أحوى} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه نعتٌ ل «غُثاء» . والثاني: أنه حالٌ من «المَرْعَى» . قال أبو البقاء: «قَدَّم بعضَ الصلةِ» . قلت: يعني أنَّ الأصلَ أخرجَ المرعى أَحْوى فجعله غثاءً، ولا يُسَمَّى هذا تقديماً لبعضِ الصلةِ. والأحْوى: أَفْعَلُ مِنْ الحُوَّة وهي سَوادٌ يَضْرِبُ إلى الخُضْرة. قال ذو الرَّمة: 4550 - لَمْياءُ في شَفَتَيْها حَوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللِّثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ وقد تقدَّم لك أنَّ بعضَ النحاةِ اسْتَدَلَّ على وجودِ بدلِ الغَلَطِ بهذا البيت. وقيل: خُضرةٌ عليها سوادٌ. والأَحْوى: الظَّبْيُ؛ لأنَّ في ظهره

خُطَّتَيْن. قال: 4551 - وفي الحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ المَرْدَ شادِنٌ ... مُظاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدِ ويقال: رجلٌ أَحْوَى وامرأةٌ حَوَّاء. وجَمْعُهما حُوٌّ، نحو: أحمر وحمراءُ وحُمْر.

6

{فَلاَ تنسى} : قيل: هو نَفْيٌ، أخبر تعالى أنَّ نبيَّه عليه السلام لا يَنْسَى. وقيل: نهيٌّ، والألفُ إشباعٌ، وقد تَقَدَّم نحوٌ مِنْ هذا في يوسف وطه. ومنع مكي أَنْ يكونَ نهياً لأنه لا يُنْهَى عمَّا ليس باختيارِه. وهذا غيرُ لازمٍ؛ إذ المعنى: النهيُ عن تعاطي أسبابِ النسيانِ، وهو شائعٌ.

7

قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه مفرغٌ، أي: إلاَّ ما شاءَ الله أن يُنْسِيَكَهُ فإنك تَنْساه. والمرادُ رَفْعُ تلاوتِه. وفي الحديث: «أنه كان يُصبح فينسَى الآياتِ لقولِه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106] . وقيل: إنَّ المعنى بذلك القِلَّةُ والنُّدْرَةُ، كما رُوِيَ» أنه عليه السلام أسقطَ آيةً في صلاتِه، فحسِب أُبَيٌّ أنها نُسِخَتْ، فسأله فقال: «

نَسِيْتُها» «وقال الزمخشري:» الغَرَضُ نَفْيُ النِّسْيان رَأْساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سَهِيْمي فيما أَمْلِكُ إلاَّ ما شاء اللَّهُ، ولم يَقْصِدْ استثناءَ شيءٍ، وهو مِنْ استعمالِ القلَّة في معنى النفي «انتهى. وهذا القولُ سبقَه إليه الفراء ومكي. وقال الفراء وجماعة معه:» هذا الاستثناءُ صلةٌ في الكلام على سنةِ الله تعالى في الاستثناء. وليس [ثم] شيءٌ أُبيح استثناؤُه «. قال الشيخ:» هذا لا يَنْبغي أَنْ يكونَ في كلامِ اللَّهِ تعالى ولا في كلامٍ فصيحٍ، وكذلك القولُ بأنَّ «لا» للنهي، والألفَ فاصلةٌ «انتهى. وهذا الذي قاله الشيخُ لم يَقْصِدْه القائلُ بكونِه صلةً، أي: زائداً مَحْضاً بل المعنى الذي ذكره، وهو المبالغةُ في نَفْي النسيانِ أو النهي عنه. وقال مكي:» وقيل: معنى ذلك، إلاَّ ما شاء الله، وليس يشاءُ اللَّهُ أَنْ يَنْسَى منه شيئاً، فهو بمنزلةِ قولِه في هود في الموضعَيْنِ: خالِدِيْنَ فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ إلاَّ ما شاء ربُّك «وليس جَلَّ ذِكْرُه تَرَكَ شيئاً من الخلودِ لتقدُّمِ مَشيئتِه بخُلودِهم» . وقيل: هو استثناءٌ مِنْ قولِه {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى} . نقله مكي. وهذا يَنْبغي أَنْ لا يجوزَ البتة.

قوله: {وَمَا يخفى} «ما» اسميةٌ. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً لئلا يَلْزَمَ خُلُوُّ الفعلِ مِنْ فاعل. ولولا ذلك لكان المصدريةُ أحسنَ لِيُعْطَفَ مصدرٌ مؤولٌ على مثلِه صريح.

8

قوله: {وَنُيَسِّرُكَ} : عَطْفٌ على «سَنُقْرِئُك» فهو داخلٌ في حَيِّزِ التنفيسِ، وما بينهما مِنْ الجملةِ اعتراض.

9

قوله: {إِن نَّفَعَتِ} : «إنْ» شرطيةٌ. وفيه استبعادٌ لتذكُّرِهم. ومنه: 4552 - لقد أَسْمَعْتَ لو نادَيْتَ حَيَّاً ... ولكنْ لا حياةَ لمَنْ تُنادي وقيل: «إنْ» بمعنى إذْ كقولِه: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ} [آل عمران: 139] . وقيل: هي بمعنى «قد» ذكَرَه ابنُ خالويه، وهو بعيدٌ جداً. وقيل: بعده شيءٌ محذوفٌ تقديرُه: إنْ نَفَعَتِ الذكرى وإن لم تنفَعْ، قاله الفراء. والنحاس والجرجاني والزهراوي.

11

قوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا} : أي: الذكرى.

13

قوله: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ} : «ثم» للتراخي بين الرُّتَبِ في الشدة.

16

قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ} : قرأ أبو عمرو بالغيبة، والباقون بالخطاب، وهما واضحتان.

17

قوله: {وأبقى} : أي: مِنْ الدنيا.

18

قوله: {لَفِي الصحف} : قرأ أبو عمرو في روايةِ الأعمش وهارون بسكون الحاء في الحرفين، وهو واضحٌ أيضاً.

19

قوله: {إِبْرَاهِيمَ} : قرأ العامَّة بألفٍ بعد الراء وياءٍ بعد الهاء، وأبو رجاء بحَذْفهما، والهاءُ مفتوحةٌ أو مكسورةٌ فعنه قراءتان. وأبو موسى وابن الزبير بألفَيْن وكذا في كلِّ القرآنِ، ومالك ابن دينار بألفٍ بعد الراء فقط، والهاءُ مفتوحةٌ، وعبد الرحمن بن أبي بكر «وإبْرَاهيم» بحذف الألفِ وكسرِ الهاءِ. وقال ابنُ خالويه: «وقد جاء» إبْراهُم «يعني بألفٍ وضمِّ الهاءِ. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا الاسمِ الكريمِ ولغاتِه مستوفى في البقرة.

الغاشية

قوله: {هَلْ أَتَاكَ} : هو استفهامٌ على بابِه، ويُسَمِّيه أهلُ البيانِ «التشويق» . وقيل: / بمعنى قد، وقد تقدَّم شَرْحُ هذا في {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإِنسان: 1] .

2

قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} : قد تقدَّم نظيرُه في القيامة وفي النازعات. والتنوينُ في «يومئذٍ» عوضٌ مِنْ جملةٍ مدلولٍ عليها باسمِ الفاعلِ من الغاشية تقديره: يومَ إذ غَشِيَتْ الناسَ؛ إذ لا تتقدَّمُ جملةٌ مُصَرَّحٌ بها. و «خاشعة» وما بعدَه صفةٌ، و «تَصْلى» هو الخبرُ. وقرأ أبو عمروٍ وأبو بكر بضمِّ التاء مِنْ «تَصْلَى» على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. والباقون بالفتح على تسميةِ الفاعل. والضمير على كلتا القراءتين للوجوه. وقرأ أبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ وفتح الصادِ وتشديدِ اللام. وقد تقدَّم معنى

ذلك كله في الانشاق والنساءَ. وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ وابنُ محيصن «عاملةً ناصبةً» بالنصب: إمَّا على الحالِ، وإمَّا على الذمِّ.

5

قوله: {آنِيَةٍ} : صفةٌ ل «عَيْنٍ» أي: حارَّة، أي: التي حَرُّها مُتناهٍ في الحرِّ كقولِه: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] . وأمالها هشامٌ؛ لأنَّ الألفَ غيرُ منقلبةٍ عن غيرِها، بل هي أصلٌ بنفسِها، وهذا بخلافِ «آنِيَة» في سورة الإِنسان، فإنَّ الألفَ هناك بدلٌ مِنْ همزة، إذ هو جمعُ إناء، فوزنُها هنا فاعلِة، وهناك أَفْعِلَة، فاتَّحد اللفظُ واختلفَ التصريفُ، وهذا مِنْ محاسنِ علمِ التصريف.

6

قوله: {ضَرِيعٍ} : هو شجرٌ في النار. وقيل: حجارةٌ. وقيل: هو الزَّقُّوم. وقال أبو حنيفة: «هو الشِّبْرِقُ، وهو مَرْعى سَوْءٍ، لا تَعْقِدُ عليه السائمةُ شَحْماً ولا لَحْماً. قال الهذليُّ:

4553 - وحُبِسْنَ في هَزْمِ الضَّريعِ فكلُّها ... حَدْباءُ دامِيَةُ الضُّلوعِ حَرُوْدُ وقال أبو ذؤيب: 4554 - رَعَى الشِّبْرِقٌ الريَّانَ حتى إذا ذَوَى ... وعادَ ضَريعاً نازَعَتْه النَّحائِصُ وقيل: هو يَبيس العَرْفَجِ إذا تَحَطَّم. وقال الخليل:» نبتٌ أخضرُ مُنْتِنُ الريح يَرْمي به البحرُ. وقيل: نبتٌ يُشبه العَوْسَج. والضَّراعةُ: الذِّلَّةُ والاستكانةُ مِنْ ذلك.

7

قوله: {لاَّ يُسْمِنُ} : قال الزمخشري: «مرفوعُ المحلِّ أو مجرورهُ على وصفِ طعامٍ أو ضَريع» . قال الشيخ: «إمَّا وَصْفُه ل ضريعٍ، فيصِحُّ؛ لأنه مثبتٌ نفى عنه السِّمَنَ والإِغناءَ من الجوع. وأمَّا رفعُه على وصفِه لطعام فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الطعامَ منفيٌّ و» يُسْمِنُ «منفيٌّ فلا يَصِحُّ تركيبُه؛ لأنه يَصيرُ التقدير: ليس لهم طعامٌ لا يُسْمِنُ ولا يُغني مِنْ جمعٍ إلاَّ مِنْ ضريع، فيصير المعنى: أنَّ لهم طعاماً يُسْمِنُ ويُغْني من جوعٍ إلاَّ مِنْ غيرِ الضَّريع، كما تقول:» ليس لزيدٍ مالٌ لا يُنتفع به إلاَّ مِنْ مال عمروٍ «فمعناه: أنَّ له مالاً يُنتفع به مِنْ غيرِ مالِ عمروٍ» . قلت: وهذا لا يَرِدُ لأنه على تقدير تَسْليم القول بالمفهوم مَنَعَ منه مانعٌ وهو السياقُ، وليس كلُّ مفهوم معمولاً به. وأمَّا المثالُ الذي نظَّر به فصحيحٌ، لكنه

لا يمنع منه مانعٌ كالسِّياق في الآيةِ الكريمة. ثم قال الشيخ: «ولو قيل: الجملةُ في موضعِ رفع صفةً للمحذوفِ المقدَّرِ في» إلاَّ مِنْ ضريعٍ «كان صحيحاً؛ لأنه في موضعِ رفعٍ، على أنَّه بدلٌ من اسم ليس، أي: ليس لهم طعامٌ إلاَّ كائنٌ مِن ضَريعٍ، أو إلاَّ طعامٌ مِنْ ضريعٍ غيرِ مُسَمِّنٍ ولا مُغْنٍ مِنْ جوعٍ، وهذا تركيبٌ صحيحٌ ومعنى واضحٌ» . وقال الزمخشري أيضاً: «أو أُريد أَنْ لا طعامَ لهم أصلاً؛ لأنَّ الضَّريعَ ليس بطعامٍ للبهائمِ فضلاً عن الإِنس؛ لأنَّ الطعامَ ما أَشْبَع أو أَسْمَنَ، وهو عنهما بمَعْزِلٍ كما تقول:» ليس لفلانٍ ظلٌّ إلاَّ الشمسُ «تريد نَفْيَ الظلِّ على التوكيد» . قال الشيخ: «فعلى هذا يكونُ استثناءً منقطعاً، إذ لم يندَرِجْ الكائنُ مِن الضَّريع تحت لفظِ» طعام «إذ ليس بطعامٍ، والظاهرُ الاتصالُ فيه وفي قولِه {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] قلت: وعلى قولِ الزمخشري المتقدمِ لا يَلْزَمُ أَنْ يكونَ منقطعاً؛ إذ المرادُ نفيُ الشيءِ بدليلِه، أي: إن كان لهم طعامٌ فليس إلاَّ هذا الذي لا يَعُدُّه أحدٌ طعاماً ومثلُه» ليس له ظلٌّ إلاَّ الشمسُ «وقد مضى تحقيقُ هذا عند قولِه: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] وقوله: 4555 - ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومثله كثيرٌ.

11

قوله: {لاَّ تَسْمَعُ} : قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ بالياء/ من تحتُ مضمومةً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، «لاغِيةٌ» رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعلِ. وقرأ نافع كذلك، إلاَّ أنَّه بالتاء مِنْ فوقُ، والتذكيرُ والتأنيثُ واضحان؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وقرأ الباقون بفتح التاءِ مِنْ فوقُ ونصبِ «لاغيةً» ، فيجوزُ أَنْ تكونَ التاءُ للخطابِ، أي: لا تَسْمع أنت، وأنْ تكونَ للتأنيثِ، أي: لا تسمعُ الوجوهُ. وقرأ المفضل والجحدريُّ «لا يَسْمَعُ» بياء الغَيْبة مفتوحةً، «لاغيةً» نصباً، أي: لا يَسْمَعُ فيها أحدٌ. ولاغِيَة يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل كلمةٍ على معنى النسبِ، أي: ذات لغوٍ أو على إسنادِ اللَّغْوِ إليها مجازاً، وأَنْ تكونَ صفةً لجماعة، أي: جماعة لاغية، وأَنْ تكونَ مصدراً كالعافِية والعاقِبة كقولِه: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} [الواقعة: 25] .

15

قوله: {وَنَمَارِقُ} : جمع نُمْرُقة، وهي الوِسادةُ. قالت: 4556 - نحن بَناتِ طارِقْ ... نَمْشي على النَّمَارِقْ وقال زهير:

4557 - كُهولاً وشُبَّاناً حِسانٌ وجوهُهُمْ ... لهم سُرُرٌ مَصْفوفةٌ ونَمارِقْ والنُّمْرُقَة بضمِّ النونِ والراءِ وكسرِهما، لغتان أشهرُهما الأولى.

16

قوله: {وَزَرَابِيُّ} : جمع زَرِيْبة بفتح الزاي وكسرِها لغتان مشهورتان وهي البُسُطُ العِراضُ. وقيل: ما له منها خَمْلَة. ومَبْثوثة: مفرَّقة.

17

قوله: {الإبل} : اسمُ جمعٍ واحدُه: بعير وناقة وجمل. وهو مؤنثٌ، ولذلك تَدْخُلُ عليه تاءُ التأنيثِ حالَ تصغيرِه، فيقال: أُبَيْلَة ويُجْمع آبال، واشتقوا مِنْ لفظِه. فقالوا: «تأبَّلَ زيدٌ» ، أي: كَثُرَتْ إبلُه، وتَعَجَّبوا مِنْ هذا فقالوا: «ما آبَلَه» ، أي: ما أكثرَ إبِلَه. وتقدَّم في الأنعام. قوله: {كَيْفَ} منصوبٌ ب «خُلِقَتْ» على حَدِّ نَصْبِها في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] والجملةُ بدلٌ من «الإِبل» بدلُ اشتمالِ، فتكونُ في محلِّ جرّ، وهي في الحقيقة مُعَلِّقةٌ للنظر، وقد دخلَتْ «إلى» على «كيف» في قولهم «انظُرْ إلى كيف يصنعُ» ، وقد تُبْدَلُ الجملةُ المشتملةُ على استفهامٍ من اسمٍ ليس فيه استفهامٌ كقولِهم: عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو؟ على خلافٍ في هذا مقررٍ في علمِ النحو. وقرأ العامَّةُ: خُلِقَتْ ورفِعَتْ ونُصِبَتْ وسُطِحَتْ مبنياً للمفعولِ،

والتاءُ ساكنةٌ للتأنيث. وقرأ أمير المؤمنين وابن أبي عبلة وأبو حيوة «خَلَقْتُ» وما بعدَه بتاءِ المتكلم مبنياً للفاعل. والعامَّةُ على «سُطِحَتْ» مخففاً، والحسن بتشديدها.

22

قوله: {بِمُصَيْطِرٍ} : العامَّةُ على الصاد، وقنبل في بعضِ طُرُقِه، وهشام بالسين وخلف بإشمامِ الصادِ زاياً بلا خلافٍ، وعن خلاَّد وجهان. وقرأ هارونُ «بمُسَيْطَرٍ» بفتح الطاء اسمَ مفعولٍ؛ لأنَّ «سَيْطَرَ» عندهم متعدّ، يَدُلُّ على ذلك فعلُ مطاوعِه وهو تَسَيْطر، ولم يَجِىءْ اسمُ فاعلٍ على مُفَيْعِل إلاَّ: مُسَيْطِر ومُبَيْقِر ومُهَيْمِن ومُبَيْطِر مِنْ سَيْطَرَ وبَيْقَرَ وهَيْمَنَ وبَيْطَرَ. وقد جاء مُجَيْمِر اسمَ واد، ومُدَيْبِر. قيل: ويمكنُ أَنْ يكونَ أصلُهما «مُجْمِر» و «مُدْبِر» فصُغِّرا. قلت: وقد تقدَّم لك أنَّ بعضَهم جَوَّز «مُهَيْمِناً» مُصَغَّراً، وتَقَدَّم أنه خطأٌ عظيمٌ، وذلك في سورة المائدةِ وغيرها.

23

قوله: {إِلاَّ مَن تولى} : العامَّةُ على «إلاَّ» حرفَ استثناء، وفيه قولان، أحدهما: أنه منقطعٌ لأنه مستثنى مِنْ ضمير «عليهم» . والثاني: أنه متصلٌ لأنه مستثنى مِنْ مفعول «فَذَكِّرْ» ، أي: فَذَكِّرْ

عبادي إلاَّ مَنْ تولَّى. وقيل: «مَنْ» في محلِّ خفض بدلاً من ضمير «عليهم» ، قاله مكي. ولا يتأتَّى هذا عند الحجازيين، إلاَّ أَنْ يَكونَ متصلاً، فإنْ كان منقطعاً جاز عند تميمٍ؛ لأنهم يُجْرُوْنه مُجْرى المتصل، والمتصلُ يُختار فيه الإِتباعُ لأنه غيرُ موجَبٍ. هذا كلُّه إذا لم يُجْعَل «مَنْ تولَّى» شرطاً وما بعده جزاؤُه، فإنْ جَعَلْتَه كذلك كان منقطعاً، وقد تقدَّم تحقيقُه، وعلى القولِ بكونِه مستثنى مِنْ مفعول «فَذَكِّرْ» المقدرِ تكون جملةُ النفي اعتراضاً. وقرأ زيد بن علي وزيد بن أسلم وقتادة «ألا» حرفَ استفتاحٍ، وبعده جملةٌ شرطية أو موصولٌ مضمَّنٌ معناه.

25

قول: {إِيَابَهُمْ} : العامَّةُ على تخفيفِ الياءِ، مصدرِ آبَ يَؤُوبُ إياباً [والأصلُ: أوَب يَأوُبُ إواباً] ، أي: رَجَعَ ك قام يقوم قياماً. وقرأ شيبة وأبو جعفر بتشديدها. وقد اضطربَتْ فيها أقوالُ التصريفيين، فقيل: هو مصدرٌ ل أَيَّبَ على وزن فَيْعَل كبَيْطَرَ، يُقالُ منه: أيَّبَ يُؤَيِّبُ إيَّاباً، والأصلُ/ أيْوَبَ يِؤَيْوِبُ إيْواباً كبَيْطَرَ يُبَيْطرُ، فاجتَمَعَتْ الياءُ والواوُ في جميع ذلك، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ، فقُلِبَتْ الواوُ

ياءً، وأُدغِمت الياءُ المزيدةُ فيها، فإيَّاب على هذا فِيْعال. وقيل: بل هو مصدرٌ ل أَوّبَ بزنةِ فَوْعَل كحَوْقَلَ، والأصل: إِوْوَاب بواوَيْن، الأولى زائدةٌ، والثانيةُ عينُ الكلمةِ، فسَكَنَتِ الأولى بعد كسرةٍ، فقُلِبت ياءً، فصار إيْواباً، فاجتمعَتْ ياءٌ وواوٌ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فقُلِبَتْ الواوُ ياءً، وأُدْغِمَتْ في الياءِ بعدها، فوزنُه فِيعال كحِيْقال، والأصلُ: حِوْقال. وقيل: بل هو مصدرٌ ل أَوَّبَ على وزن فَعْوَل كجَهْور، والأصلُ: إِوْوَاب على وزن فِعْوال، ك «جِهْوار» الأولى عينُ الكلمةِ، والثانيةُ زائدةٌ، وفُعِل به ما فُعِل بما قبلَه مِنْ القلبِ والإِدغام للعللِ المتقدمةِ، وهي مفهومةٌ مِمَّا مَرَّ، فإن قيل: الإِدغامُ مانعٌ مِنْ قَلْبِ الواوِ ياءً. قيل إنما يمنعُ إذا كانت الواوُ والياءُ عيناً وقد عَرَفْتَ أنَّ الياءَ في فَيْعَل والواوَ في فَوْعَل وفَعْوَل زائدتان. وقيل: بل هو مصدرٌ ل أَوَّب بزنةِ فَعَّلَ نحو: كِذَّاباً والأصلُ إوَّاب، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ياءً لانكسارِ ما قبلَها فقيلَ: إيْواباً. قال الزمخشري: «كدِيْوان في دِوَّان، ثم فُعِلَ به ما فُعِلَ بسَيِّد» يعني أنَّ أصلَه سَيْوِد، فقُلِبت وأُدْغِمت، وإلى هذا نحا أو بالفضل أيضاً. إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ما قالاه: بأنهم نَصُّوا: على أنَّ الواوَ الموضوعةَ على الإِدغامِ لا تَقْلِبُ الأولى ياءً، وإن انكسَرَ ما قبلها قال: «

وَمَّثلوا بنفس» إوَّاب «مصدرَ أوَّب مشدداً، وباخْرِوَّاط مصدرَ اخْرَوَّط. قال:» وأمَّا تشبيهُ الزمخشريِّ بديوان فليس بجيدٍ؛ لأنَّهم لم يَنْطِقوا بها في الوَضْعِ مُدْغمةً، ولم يقولوا: دِوَّان، ولولا الجَمْعُ على «دَواوين» لم يُعْلَمْ أنَّ أصلَ هذه الياءِ واوٌ، وقد نَصُّوا على شذوذِ «دِيْوان» فلا يُقاسُ عليه غيرُه «. قلت: أمَّا كونُهم لم يَنْطِقوا بدِوَّان فلا يَلْزَمُ منه رَدُّ ما قاله الزمخشريُّ، ونَصَّ النحاةُ على أنَّ أصلَ» دِيْوان «دِوَّان، و» قيراط «: قِرَّاط، بدليلِ الجَمْعِ على دَواوين وقَرارِيط، وكونُه شاذاً لا يَقْدَحُ؛ لأنه لم يَذْكُرْه مَقيساً عليه بل مَنَظِّراً به. وقد ذهب مكي إلى نحوٍ مِنْ هذا فقال:» وأصل الياءِ واوٌ، ولكنْ انقلبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها، وكان يَلْزَمُ مَنْ شَدَّد أَنْ يقولَ: إوَّابَهم لأنَّه مِنْ الواو، أو يقول: إيوابهم، فيُبْدِلُ مِنْ أول المشدد ياءً كما قالوا: «دِيْوان» والأصلُ: دِوَّان «انتهى. وقيل: هو مصدرٌ لأَأْوَبَ بزنة أَكْرَم مِنْ الأَوْب، والأصلُ: إأْواب كإكْرام، فأُبْدِلَتِ الهمزةُ الثانية ل إأْواب ياءً لسكونِها بعد همزةٍ مكسورةٍ فصار اللفظُ إيواباً فاجتمعت الياءُ والواوُ على ما تقدَّم، فقُلِبَ وأُدْغِمَ، ووزنُه إفْعال، وهذا واضحٌ. وقال ابن عطية في هذا الوجه: «سُهِّلَتِ الهمزةُ وكان الواجبُ في

الإِدغامِ بردِّها إوَّاباً، لكن اسْتُحْسِنَتْ فيه الياءُ على غير قياس» انتهى. وهذا ليس بجيدٍ لِما عَرَفْتَ أنَّه لَمَّا قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً فالقياسُ أن يُفْعَلَ ما تقدَّم مِنْ قَلْبِ الواوِ إلى الياءِ مِنْ دونِ عكسٍ، وإنما ذَكَرْتُ هذه الأوجهَ مشروحةً لصعوبتها مع عَدَمِ مَنْ يُمْعِنُ النظرَ مِنْ المُعْرِبين في مثل هذه المواضعِ القَلِقَةِ القليلةِ الاستعمال. وقَدَّم الخبرَ في قولِه «إلينا» و «علينا» مبالغةً في التشديد والوعيدِ.

الفجر

قوله: {والفجر} : جوابُ هذا القَسَم قيل: مذكورٌ وهو قولُه {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] قاله ابن الأنباري. وقيل: محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه، أي: لَنُجازِيَنَّ أحدٍ بما عَمل بدليلِ تعديدِه ما فعلَ بالقرونِ الخاليةِ. وقدَّر الزمخشري: «ليُعَذِّبَنَّ» قال: «يَدُلُّ عليه {أَلَمْ تَرَ} [الآية: 6] إلى قولِه: / {فَصَبَّ} [الفجر: 13] . وقدَّره الشيخ بما دَلَّتْ عليه خاتمةُ السورةِ قبلَه، لإِيابُهم إلينا وحِسابُهم علينا. وقال مقاتل: «هل هنا في موضع» إنَّ «تقديرُه: إنَّ في ذلك قَسَماً لذي حِجْرٍ، ف» هل «على هذا في موضع جواب القسم» انتهى. وهذا قولٌ باطلٌ؛ لأنه لا يَصْلُح أَنْ يكونَ مُقْسَماً عليه، على تقديرِ

تسليمِ أنَّ التركيبَ هكذا، وإنما ذكَرْتُه للتنبيهِ على سقوطِه. وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: وصلاةِ الفجر أو وربِّ الفجر. والعامَّةُ على عَدَمِ التنوينِ في «الفجر» و «الوَتْر» و «يَسْرِ» . وأبو الدينار الأعرابي بتنوين الثلاثةِ. قال ابن خالَوَيْه: «هذا ما رُوي عن بعضِ العرب أنه يقفُ على أواخرِ القوافي بالتنوينِ، وإنْ كان فِعلاً، وإنْ كان فيه الألفُ واللامُ. قال الشاعر: 4558 - أَقِلِّي اللَّوْمَ عاذِلَ والعتابَنْ ... وقُولي إنْ أَصَبْتُ لقد أصابَنْ يعني بهذا تنوينَ الترنُّم، وهو أنَّ العربيَّ إذا أراد تَرْكَ الترنمِ وهو مَدُّ الصوتِ نَوَّن الكلمةَ، وإنما يكونُ في الرويِّ المطلقِ. وقد عاب بعضُهم قولَ النَّحْويين» تنوين الترنم «وقال: بل ينبغي أَنْ يُسَمُّوه بتنوين تَرْكِ الترنُّم، ولهذا التنوينِ قسيمٌ آخرُ يُسَمَّى» التنوينَ الغالي «، وهو ما يَلْحَقُ الرويَّ المقيَّدَ كقولِه: 4559 -. . . . . . . . . . . . خاوي المخترقْنْ

على أن بعض العروضيين أنكر وجودَه. ولهذين التنوينَيْن أحكامٌ مخالفةٌ لحكمِ التنوينِ حَقَّقْتُها في» شرح التسهيل «ولله الحمد. والحاصلُ أنَّ هذا القارىءَ أجْرى الفواصلَ مُجْرى القوافي فَفَعَلَ فيها ما يَفْعل فيها. وله نظائرُ مَرَّ منها: {الرسولا} [الأحزاب: 66] {السبيلا} [الأحزاب: 67] {الظنونا} [الأحزاب: 10] في الأحزاب. و {المتعال} في الرعد [الآية: 9] » و «يَسْر» هنا، كما سأبيِّنُه إن شاء الله تعالى. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: فما بالُها مُنَكَّرَة مِنْ بين ما أَقْسَمَ به؟ قلت: لأنها ليالٍ مخصوصةٌ مِنْ بينِ جنس الليالي العِشْرِ بعضٌ منها، أو مخصوصةٌ بفضيلةٍ ليسَتْ في غيرها. فإنْ قلتَ: هلاَّ عُرِّفَتْ بلامِ العهدِ لأنها ليالٍ معلومةٌ. قلت: لو قيل ذلك لم تستقلَّ بمعنى الفضيلةِ التي في التنكير، ولأنَّ الأحسنَ أَنْ تكون اللاماتُ متجانِسَةً ليكون الكلامُ أبعدَ من الإِلغازِ والتَّعْمِية» . قلت: يعني بتجانسِ اللاماتِ أن تكون كلُّها إمَّا للجنسِ، وإمَّا للعهدِ، والفَرَضُ أنَّ الظاهرَ أن اللاماتِ في الفجر وما معه للجنسِ، فلو جيءَ بالليالي معرفةً بلامِ العهدِ لَفاتَ التجانسُ.

2

والعامَّةُ على «ليالٍ» بالتنوين، «عَشْرٍ» صفةٍ لها. وقرأ

ابنُ عباس «وليالِ عَشْرٍ» بالإِضافةِ. فبعضهم يكتبُ «ليالِ» في هذه القراءةِ دونَ ياءٍ، وبعضُهم قال: «وليالي» بالياء، وهو القياسُ. قيل: والمرادُ: وليالي أيام عشرٍ، وكان مِنْ حَقِّه على هذا أن يُقال: عشرةٍ؛ لأنَّ المعدودَ مذكرٌ. ويُجاب عنه: بأنَّه إذا حُذِف المعدودُ جاز الوجهان، ومنه «وأتبعه بسِتٍّ من شوال» وسَمَعَ الكسائي: «صُمْنا من الشهر خمساً» .

3

قوله: {والوتر} : قرأ الأخَوان بكسرِ الواو، والباقون بفتحها وهما لغتان كالحِبْر والحَبْر، والفتحُ لغةُ قريشٍ ومَنْ والاها، والكسرُ لغةُ تميم. وهاتان اللغتان في «الوتر» مقابلَ الشَّفْع. فأمَّا في الوِتْر بمعنى التِّرَة، أي: الذَّحْلُ فبالكسرِ وحدَه، قاله الزمخشري. ونقل الأصمعيُّ فيه اللغتين أيضاً. وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ يونسَ عنه بفتح الواو وكسر التاء، فيحتمل أَنْ يكونَ لغةً ثالثة، وأن يكونَ نَقَل كسرةَ الراءِ إلى التاء إجراءً للوصل مُجْرى الوقفِ/. قوله: {إِذَا يَسْرِ} : منصوبٌ بمحذوفٍ هو فعلُ القسم، أي: أُقْسِم به وقتَ سُراه. وحَذَفَ ياءَ «يَسْري» وَقْفاً، وأثبتها

وصلاً، نافعٌ وأبو عمروٍ، وأثبتها في الحالَيْنِ ابنُ كثير، وحَذَفَها في الحالين الباقون لسقوطِها في خَطِّ المصحفِ الكريم، وإثباتُها هو الأصلُ لأنها لامُ فعلٍ مضارعٍ مرفوعٍ، وحَذْفُها لموافقةِ المصحفِ وموافقةِ رؤوسِ الآي، وجَرْياً بالفواصلِ مَجْرى القوافي. ومَنْ فَرَّقَ بين حالَتَيْ الوقفِ والوصلِ فلأنَّ الوقفَ محلُّ استراحةٍ. ونَسَبُ السُّرى إلى الليل مجازٌ؛ إذ المرادُ: يُسْرَى فيه، قاله الأخفش. وقال غيره: المرادُ يَنْقُصُ كقوله: {إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33] ، {إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] .

5

قوله: {لِّذِى حِجْرٍ} : الحِجْرُ: العقل. وتقدَّم الكلامُ عليه.

6

قوله: {بِعَادٍ إِرَمَ} : قرأ العامَّةُ «بعادٍ» مصروفاً «إرَمَ» بكسرِ الهمزة وفتح الراءِ والميم، ف «عاد» اسمٌ لرجلٍ في الأصل، ثم أُطْلِقَ على القبيلة أو الحيِّ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه. وأمَّا «إرَمُ» فقيل: هو اسمُ قبيلةٍ. وقيل: اسمُ مدينةٍ: واخْتُلف في التفسير في تعيينِها. فإن كانَتْ اسمَ قبيلةٍ كانت بدلاً أو عطفَ بيانٍ، أو منصوبةً بإضمارِ «أعني» ، وإن كانَتْ اسمَ مدينةٍ فيقلَقُ الإِعراب من عاد،

وتخريجُه على حَذْفِ مضافٍ، كأنه قيل: بعادٍ أهلِ إرمَ، قاله الزمخشري، وهو حَسَنٌ ويَبْعُدُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «عاد» بدلَ اشتمال إذا لا ضميرَ، وتقديرُه قَلِقٌ. وقد يقال: إنه لَمَّا كان المَعْنِيُّ بعادٍ مدينتَهم؛ لأنَّ إرمَ قائمةٌ مَقامَ ذلك صَحَّ البدلُ. وإرمُ اسمُ جَدِّ عادٍ، / وهو عادُ بنُ عَوَضِ بنِ إرمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ. قال زهير: 4560 - وآخَرِين تَرَى الماذيَّ عِدَّتَهْمْ ... مِنْ نَسْجِ داوُدَ أو ما أَوْرَثَتْ إرَمُ وقال قيس الرقيات: 4561 - مَجْداً تليداً بناه أوَّلُوه له ... أَدْرَكَ عاداً وساماً قبلَه إرَما وقرأ الحسن «بعادَ» غيرَ مصروفٍ. قال الشيخ: «مُضافاً إلى إرم. فجاز أَنْ يكون» إرَمُ «أباً أو جَدَّاً أو مدينةً» . قلت: يتعيَّنُ أَنْ يكونَ في قراءةِ الحسن غيرَ مضافٍ، بل يكون كما كان منوناً، ويكونُ «إرمَ»

بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمارِ أَعْني [ولو كان مضافاً لوجَبَ صَرْفُه] . وإنَّما مُنع «عاد» اعتباراً بمعنى القبيلة أو جاء على أحدِ الجائزَيْنِ في «هند» وبابِه. وقرأ الضحاك في روايةٍ «بعادَ إرم» ممنوعَ الصرفِ وفَتْحِ الهمزةِ مِنْ «أرَمَ» . وعنه أيضاً «أرْمَ» بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الراءِ، وهو تخفيفُ «أَرِمَ» بكسرِ الراء، وهي لغةٌ في اسمَ المدينة، وهي قراءةُ ابنِ الزُّبَيْرِ. وعنه في «عاد» مع هذه القراءة الصَّرْفُ وتَرْكُه. وعنه أيضاً وعن ابن عباس «أَرَمَّ» بفتح الهمزةِ والراءِ، والميمُ مشددةٌ جعلاه فعلاً ماضياً. يقال: «أَرَمَّ العَظْمُ» ، أي: بَلِيَ. ورَمَّ أيضاً وأرَمَّه غيرُه، فأَفْعَلَ يكون لازماً ومتعدياً في هذا. و «ذات» على هذه القراءةِ مجرورةٌ صفةً ل «عاد» ، ويكونُ قد راعى لفظَها تارةً في قولِه: «أرَمَّ» ، فلم يُلْحِقْ علامةَ تأنيثٍ، ويكونُ «أرَمَّ» معترضاً بين الصفةِ والموصوفِ، أي: أَرَمَّتْ هي بمعنى: رَمَّتْ وَبِلِيَتْ، وهو داءٌ عليهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ «أرَمَّ» ضميرَ الباري تعالى، والمفعولُ محذوفٌ، أي: أرَمَّها اللَّهُ. والجملةُ الدعائيةُ معترضةٌ أيضاً. ومعناها أخرى في «ذات» فأنَّثَ. ورُوي عن ابن عباس «ذاتَ» بالنصب على أنها مفعولٌ ب «أرَمَّ» . وفاعلُ «أرَمَّ» ضميرٌ يعودُ على الله تعالى، أي: أرَمَّها اللَّهُ تعالى ويكون «أرمَّ» بدلاً مِنْ «فَعَلَ ربُّكَ» أو تبييناً له. وقرأ ابن الزبير «بعادِ أَرِمَ» بإضافةِ «عاد» إلى «أرِم» مفتوحَ الهمزةِ مكسورَ الراء، وقد تقدَّم أنه اسمُ المدينة. وقُرىء «أرِمِ ذاتِ» بإضافة «

أرم» إلى «ذات» . ورُوي عن مجاهدٍ «أرَمَ» بفتحتين مصدرَ أَرِمَ يَأْرَمُ، أي: هَلَكَ، فعلى هذا يكونُ منصوباً ب «فعَلَ ربُّك» نَصْبَ المصدرِ التشبيهيِّ، والتقدير: كيف أهلك ربُّك إهلاكَ ذاتِ العِمادِ؟ وهذا أغربُ الأقوالِ. و «ذاتِ العِمادِ» إنْ كان صفةً لقبيلةٍ فمعناه: أنهم أصحابُ خيامٍ لها أَعْمِدةٌ يَظْعَنون بها، أو هو كنايةٌ عن طولِ أبدانهم كقولِه: 4562 - رَفيعُ العِمادِ طويلُ النِّجا ... دِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قاله ابن عباس، وإنْ كان صفةً للمدينة فمعناه: أنها ذاتُ عُمُدٍ من الحجارة.

8

قوله: {التي لَمْ يُخْلَقْ} : يجوز أَنْ يكونَ تابعاً، وأَنْ يكونَ مَقْطوعاً رفعاً أو نصباً. والعامَّةُ على «يُخْلَقْ» مبنياً للمفعولِ، «مِثْلُها» مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وعن ابن الزبير «يَخْلُقْ» مبنياً للفاعل «مثلَها» منصوبٌ به. وعنه أيضاً «نَخْلُقْ» بنونِ العظمةِ.

9

قوله: {وَثَمُودَ} : قرأ العامَّةُ بمَنْع الصرف، وابنُ وثَّاب بصَرْفِه. وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبعاً. و «الذين»

يجوز فيه ما تقدَّم في {التي لَمْ يُخْلَقْ} . وجابَ الشيءَ يجوبُه قَطَعَه وخَرَقه جَوْباً. وجُبْتُ البلادَ: قطعتُها سَيْراً. قال الشاعر: 4563 - ولاَ رأَيْتُ قَلوصاً قبلَها حَمَلَتْ ... سِتِّين وَسْقاً ولا جابَتْ بها بلداً قوله: {بالواد} متعلقٌ: إمَّا ب «جابوا» ، أي: فيه، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الصخر» ، أو من الفاعِلين. وأثبت ياءَ «الوادي» في الحالَيْن ابنُ كثير وورشٌ، بخلافٍ عن قنبل فرُوي عنه إثباتُها في الحالَيْن، ورُوي عنه إثباتُها في الوصلِ خاصةً، وحذفها الباقون في الحالَيْن، موافقةً لخطِّ المصحفِ ومراعاةً للفواصل كما تقدَّم في {إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] .

11

قوله: {الذين طَغَوْاْ} : يجوزُ فيه ما جاز في «الذين» قبله من الإِتباعِ والقطع على الذمِّ. قوله: {سَوْطَ} هو الآلةُ المعروفةُ. قيل: وسُمِّيَ سَوْطاً لأنه يُساط به اللحمُ عند الضَّرْبِ، أي: يَخْتلط. قال كعب بن زهير: 4564 - وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها ... فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتبديلُ

وقال آخر: 4565 - أحارِثُ إنَّا لو تُساطُ دماؤُنا ... تَزَايَلْنَ حتى لا يَمَسَّ دَمٌ دَما وقيل: هو في الأصلِ مصدرُ ساطه يَسُوْطه سَوْطاً، ثم سُمِّيَتْ به الآلةُ. وقال أبو زيد: «أموالُهم بينهم سَوِيطة» ، أي: مختلطةٌ. واستعمالُ الصَّبِّ في السَّوْط استعارةٌ بليغة، وهي شائعةٌ في كلامِهم/.

14

قوله: {لبالمرصاد} : المِرْصاد كالمَرْصَد، وهو المكانُ يترتَّبُ [فيه] الرَّصَدَ جمعَ راصِد كحَرَس، فالمِرْصاد مِفْعال مِنْ رَصَده كمِيْقات مِنْ وَقَتَه، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ ابنُ عطية في «المِرْصاد» أَنْ يكونَ اسمَ فاعلٍ قال: «كأنه قيل: لَبالراصد، فعبَّر ببناء المبالغة» . ورَدَّ عليه الشيخ: بأنَّه لو كان كذلك لم تَدْخُلْ عليه الباءُ إذ ليس هو في موضعِ دخولِها لا زائدةً ولا غيرَ زائدةٍ. قلت: قد وَرَدَتْ زيادتُها في خبرِ «إِنَّ» كهذه الآيةِ، في قولِ امرىء القيس: 4566 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ

إلاَّ أنَّ هذا ضرورةٌ لا يُقاسُ عليه الكلامُ فَضْلاً عن أفصحِه.

15

قوله: {فَأَمَّا الإنسان} : مبتدأٌ، وفي خبرِه وجهان، أحدهما: وهو الصحيحُ أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه «فيقولُ» كقولِه: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ} [البقرة: 26] كما تقدَّم بيانُه، والظرفُ حينئذٍ منصوبٌ بالخبر؛ لأنه في نيةِ التأخيرِ، ولا تمنعُ الفاءُ من ذلك، قاله الزمخشريُّ وغيرُه. والثاني: أنَّ «إذا» شرطيةٌ وجوابُها «فيقول» ، وقولُه «فأَكْرَمَه» معطوفٌ على «ابتلاه» ، والجملةُ الشرطيةُ خبرُ «الإِنسان» ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ «إمَّا» تَلْزَمُ الفاءَ في الجملةِ الواقعةِ خبراً عَمَّا بعدها، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ مضمر، كقولِه تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت} [آل عمران: 106] كما تقدَّم بيانُه، إلاَّ في ضرورةٍ. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ بمَ اتَّصَلَ قولُه» فأمَّا الإِنسانُ «؟ قلت: بقولِه: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} فكأنَّه قيل: إنَّ اللَّهَ لا يريدُ من الإِنسانِ إلاَّ الطاعةَ، فأمَّا الإِنسانُ فلا يريد ذلك ولا يَهُمُّه إلاَّ العاجلةَ» . انتهى. يعني بالتعلُّقِ مِنْ حيثُ المعنى، وكيف عُطِفَتْ هذه الجملةُ التفصيليةُ على ما قبلَها مترتبةً عليه؟ وقوله: «لا يريد إلاَّ الطاعةَ» على مذهبِه، ومذهبُنا أنَّ اللَّهَ يريد الطاعةَ وغيرَها، ولولا ذلك لم يقعْ. فسُبحان مَنْ لا يُدْخِلُ في مُلْكِه ما لا يُريد. وإصلاحُ العبارةِ أَنْ يقولَ: إنَّ اللَّهَ يريدُ من العبدِ

أو الإِنسانِ من غيرِ حَصْرٍ. ثم قال: «فإنْ قُلْتَ: فكيف توازَنَ قولُه: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} وقولُه: {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه} ، وحقُّ التوازنِ أَنْ يتقابلَ الواقعان بعد» أمَّا «و» أمَّا «. تقول:» أمَّا الإِنسانُ فكفورٌ، وأمَّا المَلَكٌ فشَكورٌ «،» أمَّأ إذا أَحْسَنْتَ إلى زيدٍ فهو مُحْسِنٌ إليك، وأمَّا إذا أَسَأْتَ إليه فهو مُسِيْءٌ إليك «؟ قلت: هما متوازنان من حيث إنَّ التقديرَ: وأمَّا هو إذا ما ابتلاه ربُّه وذلك أنَّ قولَه: {فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ} خبرُ المبتدأ الذي هو الإِنسانُ. ودخولُ الفاءِ لِما في» أمَّا «مِنْ معنى الشرطِ، والظرفُ المتوسِّطُ بين المبتدأ والخبرِ في نيةِ التأخيرِ، كأنه قال: فأمَّا الإِنسانُ فقائِلٌ ربي أكرمَنِ وقتَ الابتلاءِ فَوَجَبَ أَنْ يكونَ» فيقولُ «الثاني خبرَ المبتدأ واجبٌ تقديرُه» .

16

قوله: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ} : قرأ ابنُ عامرٍ بتشديدِ الدال، والباقون بتخفيفِها، وهما لغتان بمعنىً واحد، ومعناهما التضييقُ. ومن التخفيفِ قولُه: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26] {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] . قوله: {أَكْرَمَنِ} «أهانَنِ» قرأ نافعٌ بإثباتِ ياءَيْهما وَصْلاً وحَذْفِهما وقفاً، مِنْ غيرِ خلافٍ عنه، والبزيُّ عن ابن كثير يُثْبِتُهما في الحالَيْن،

وأبو عمرو اختُلِفَ عنه في الوصلِ فرُوي عنه الإِثباتُ والحَذْفُ، والباقون يَحذفونهما في الحالَيْن، وعلى الحَذْفِ قولُ الشاعر: 4567 - ومِن كاشِحٍ طاهرٍ عُمْرُه ... إذا ما انْتسَبْتُ له أَنْكَرَنْ يريد: أنكرني. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: هَلاَّ قال: فأهانَه وقَدَرَ عليه رِزْقَه، كما قال: فأكرَمَه ونَعَّمه. قلت: لأنَّ البَسْطَ إكرامٌ من الله تعالى لعبدِه بإنعامِه عليه مُتَفَضِّلاً مِن غيرِ سابقةٍ. وأمَّا التقديرُ فليس بإهانةٍ له؛ لأنَّ الإِخلالَ بالتفضُّل لا يكونُ إهانة، كما إذا أهدى لك زيدٌ هديةً تقول: أكرمني، فإذا لم يَهْدِ لك شيئاً لا يكو مُهيناً لك» .

17

قوله: {تُكْرِمُونَ} : قرأ أبو عمرو هذا والثلاثةَ بعدَه بياء الغَيْبة حَمْلاً على معنى الإِنسانِ المتقدِّمِ/ إذ المرادُ به الجنسُ، والجنسُ في معنى الجَمْعِ، والباقون بالتاء في الجميع خطاباً للإِنسانِ المرادِ به الجنسُ على طريقِ الالتفاتِ. وقرأ الكوفيون «تَحاضُّون»

والأصلُ: تتحاضُّون، فحذف إحدى التاءَيْن، أي: لا يَحُضُّ بعضُكم بعضاً. ورُوي عن الكسائي «تُحاضُّون» بضم التاءِ، وهي قراءةُ زيدِ ابن علي وعلقمةَ، أي: تُحاضُّون أنفسَكم. والباقون «تَحُضُّون» مِنْ حَضَّه على كذا، أي: أغْرَاه به. ومفعولُه محذوفٌ، أي: لا تَحُضُّون أنفسَكم ولا غيرَها. ويجوز أَنْ لا يُقَدَّرَ، أي: لا تُوْقِعون الحَضَّ.

18

قوله: {على طَعَامِ} : متعلِّقٌ بتحاضُّون. و «طعام» يجوزُ أَنْ يكونَ على أصلِه مِنْ كونِه اسماً للمطعومِ. ويكون على حَذْفِ مضافٍ، أي: على بَذْلِ، أو على إعطاءِ طعامٍ، وأَنْ يكونَ اسمَ مصدرٍ بمعنى الإِطعام، كالعطاء بمعنى الإِعطاء، فلا حَذْفَ حينئذٍ. والتاءُ في «التراث» بدلٌ من الواو، لأنه من الوِراثة. ومثلُه: تَوْلَج وتَوْراة وتُخَمَة، وقد تقدَّم ذلك. و «لَمَّاً» بمعنى مجموع. يقال: لَممْتُ الشيءَ لَمَّاً، أي: جَمَعْتُه جَمْعاً. قال الحطيئة: 4568 - إذا كان لَمَّاً يَتْبَعُ الذَّمَّ ربَّه ... فلا قَدَّس الرحمنُ تلك الطَّواحِنا ولَمَمْتُ شَعَثَه من ذلك. قال النابغة: 4569 - ولَسْتَ بمُسْتَبْقٍ أخالً لا تَلُمُّه ... على شَعَثٍ، أيُّ الرِّجالِ المهذَّبُ

والجَمُّ: الكثير. ومنه «جُمَّةُ الماء» . قال زهير: 4570 - فلمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومنه: الجُمَّة للشَّعْر، وقولُهم «جاؤوا الجَمَّاءَ الغَفير» . من ذلك.

21

قوله: {دَكّاً دَكّاً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ مؤكِّد، و «دكاً» الثاني تأكيدٌ للأول تأكيداً لفظياً، كذا قاله ابنُ عُصفور، وليس المعنى على ذلك. والثاني: أنه نصبٌ على الحالِ والمعنى: مكرَّراً عليه الدَّكُّ ك عَلَّمْتُه الحِساب باباً باباً، وهذا ظاهرُ قولِ الزمخشريِّ، وكذلك «صَفَّاً صَفَّاً» حالٌ أيضاً، أي: مُصْطَفِّين أو ذوي صفوفٍ كثيرة.

23

قوله: {يَوْمَئِذٍ} : منصوبٌ ب «جيْء» والقائمُ مَقامَ الفاعلِ «بجهنَّمَ» . وجَوَّزَ مكي أَنْ يكونَ «يومَئِذٍ» قائماً مَقامَ الفاعلِ. وإمَّا «يومَئذ» الثاني فقيل: بدلٌ من «إذا دُكَّت» ، والعامل فيهما «يتذكَّر»

قاله الزمخشري، وهذا هو مذهبُ سيبويهِ، وهو أنَّ العاملَ في المبدلِ منه عاملٌ في البدلِ، ومذهبُ غيرِه أنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ. وقيل: إنَّ العاملَ في «إذا دُكَّتْ» «يقولُ» ، والعاملُ في «يومئذ» «يتذكَّر» قاله أبو البقاء. قوله: {وأنى لَهُ الذكرى} «أنَّى» خبرٌ مقدمٌ، و «الذكرى» مبتدأٌ مؤخرٌ، و «له» متعلقٌ بما تَعَلَّق به الظرفُ.

25

قوله: {لاَّ يُعَذِّبُ} : قرأ الكسائي «لا يُعَذَّبُ» و «لا يُوْثَقُ» مبنيين للمفعولِ. والباقون قرؤُوهما مبنيَّيْن للفاعل. فأمَّا قراءةُ الكسائي فأُسْنِد الفعلُ فيها إلى «أحد» وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به وهو اللَّهُ تعالى أو الزَّبانيةُ المُتَوَلُّون العذابَ بأمرِ اللَّهِ تعالى. وأمَّا عذابه ووَثاقه فيجوزُ أَنْ يكونَ المصدران مضافَيْن للفاعلِ والضميرِ للَّهِ تعالى، ومضافَيْنِ للمفعول، والضميرُ للإِنسانِ، ويكون «عذاب» واقعاً موقع تَعْذيب. والمعنى: لا يُعَذَّبُ أحدٌ تعذيباً مثلَ تعذيبِ اللَّهِ تعالى هذا الكافرَ، ولا يُوْثَقُ أحدٌ توثيقاً مثلَ إيثاقِ اللَّهِ إياه بالسَّلاسِلِ والأغلالِ، أو لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثلَ تعذيبِ الكافرِ، ولا يُوْثَقُ مثلَ إيثاقِه، لكفرِه وعنادِه، فالوَثاق بمعنى الإيثاق كالعَطاء بمعنى الإِعطاء. إلاَّ أنَّ في إعمالِ اسمِ المصدرِ عملَ مُسَمَّاه خلافاً مضطرباً فنُقل عن البصريين المنعُ، وعن

الكوفيين الجوازُ، ونُقل العكسُ عن الفريقَيْن. ومن الإِعمال قولُه: 4571 - أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني ... وبعد عَطائِكَ المِئَةَ الرَّتاعا ومَنْ مَنَعَ نَصَبَ «المِئَة» بفعلٍ مضمر. وأَصْرَحُ من هذا قولُ الآخر: 4572 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا وقيل: المعنى ولا يَحْمِلُ عذابَ الإِنسانِ أحدٌ كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] قاله الزمخشري. وأمَّا قراءةُ الباقين فإنه أَسْنَدَ الفعلَ لفاعلِه. / والضميرُ في «عذابَه» و «وَثاقَه» يُحتمل عَوْدُه على الباري تعالى، بمعنى: أنَّه لا يُعَذِّبُ في الدنيا مثلَ عذابِ اللَّهِ تعالى يومئذٍ أحدٌ، أي: إنَّ عذابَ مَنْ يُعَذِّبُ في الدنيا ليس كعذابِ الله تعالى يومَ القيامةِ، كذا قاله أبو عبد الله، وفيه نظرٌ: من حيث إنه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ «يومئذٍ» معمولاً للمصدرِ التشبيهيِّ، وهو ممتنعٌ لتقدُّمِه عليه، إلاَّ أن يُقالَ: يُتَوَسَّعُ فيه. وقيل: المعنى لا يَكِلُ عذابه ولا وَثاقَه لأحدٍ؛ لأنَّ الأمرَ لله وحدَه

في ذلك. وقيل: المعنى أنَّه في الشدة والفظاعةِ في حَيِّزٍ لم يُعَذِّبْ أحدٌ قط في الدنيا مثلَه. ورُدَّ هذا: بأنَّ «لا» إذا دَخَلَتْ على المضارعِ صَيَّرَتْه مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً لم يطابقْ هذا المعنى، ولا يُطْلَقُ على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيدٍ، وبأنَّ «يومَئذٍ» المرادُ به يومَ القيامة لا دارُ الدنيا. وقيل: المعنى أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدٌ في الدنيا مثلَ عذابِ اللهِ الكافرَ فيها، إلاَّ أن هذا مردودٌ بما رُدَّ به ما قَبلَه. ويُحتمل عَوْدُه على الإِنسان بمعنى: لا يُعَذِّبُ أحدٌ من زبانيةِ العذابِ مثلَ ما يُعَذِّبون هذا الكافرَ، أو يكونُ المعنى: لا يَحْمِلُ أحدٌ عذابَ الإِنسانِ كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] . وهذه الأوجهُ صَعْبَةُ المَرامِ على طالِبها من غيرِ هذا الموضوعِ لتفرُّقها في غيرِه وعُسْرِ استخراجِها منه. وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشَيْبة بخلافٍ عنهما «وِثاقَه» بكسر الواو.

27

قوله: {ياأيتها} : هذه قراءةُ العامَّةِ «يا أيتُها» بتاءِ التأنيث. وقرأ زيدُ بن علي «يا أيُّها» كنداءِ المذكرِ، ولم يُجَوِّز ذلك أحدٌ، إلاَّ صاحبَ «البديع» ، وهذه شاهدةٌ له. وله وجه: وهو أنها كما

لم تطابِقْ صفتَها تثنيةً وجَمْعاً جاز أن لا تطابِقَها تأنيثاً. تقول: يا أيُّها الرجلان يا أيُّها الرجال. و «راضيةً» و «مَرْضيَّةً» حالان، أي جامعةً بين الوصفَيْن؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ أحدِهما الآخرُ.

29

قوله: {فِي عِبَادِي} يجوزُ أَنْ يكونَ: في جسد عبادي ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى: في زُمْرة عبادي. وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعةٌ «في عبدي» والمرادُ الجنسُ، وتَعَدَّى الفعلُ الأولُ ب «في» لأنَّ الظرفَ ليس بحقيقي نحو: «دخلت في غِمار الناس» ، وتعدَّى الثاني بنفسِه لأنَّ الظرفيةَ متحققةٌ، كذا قيل، وهذا إنما يتأتَّى على أحدِ الوجهَيْنِ، وهو أنَّ المرادَ بالنفس بعضُ المؤمنين، وأنه أَمْرٌ بالدخولِ في زُمْرة عبادِه، وأمَّا إذا كان المرادُ بالنفسِ الروحَ، وأنها مأمورةٌ بدخولِها في الأجساد فالظرفيةُ فيه متحقِّقةٌ أيضاً.

البلد

قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الجملةَ اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن: إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ، يعني ومن المكابَدَةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمَتِك يُسْتَحَلُّ بهذا البلدِ كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإِنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائِد. واعْتُرِض بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية، فقال: وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ، ف «حِلٌّ» بمعنى حَلال، قال معنى ذلك الزمخشري. ثم قال: «فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه» وأنت حِلٌّ «في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ومثلُه واسعٌ في كلامِ العبادِ تقول لمن تَعِدُهُ الإِكرامَ والحِباء: أنت مُكَرَّمٌ مَحْبُوٌّ، وهو في كلامِ اللَّهِ تعالى أوسعُ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَةَ عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ،

وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية. الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن. أنَّ الجملةَ حاليةٌ، أي: لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك، أي: لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه. وقيل: المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه، أي: مُسْتَحَلٌّ أَذاك. وتقدَّم الكلام في مثلِ» لا «هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ.

3

قوله: {وَمَا وَلَدَ} : قيل: «ما» بمعنى «مَنْ» وقيل: مصدريةٌ. أَقْسَم بالشخص وفِعْلِه. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: هَلاَّ قيل: ومَنْ وَلَدَ. قلت: فيه ما في قولِه {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] ، أي: بايِّ شيءٍ وَضَعَتْ، أي: موضوعاً عجيبَ الشأن» وقيل: «ما» نافيةٌ فتحتاج إلى إضمارِ موصولٍ، به يَصِحُّ الكلامُ تقديره: والذي ما وَلَدَ؛ إذ المرادُ بالوالد مَنْ يُوْلدُ له، وبالذي لم يَلِدْ العاقرُ، قال: معناه ابنُ عباس وتلميذُه ابنُ جُبير وعكرمة.

4

قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا} : هذا هو المُقْسَمُ عليه والكَبَدُ: المَشقةُ. قال الزمخشري: «وأصلُه مِنْ كَبِدَ الرجلُ كَبَداً فهو أكبدُ، إذا

وَجِعَتْ كَبِدْه وانتفخَتْ، فاتُّسِعَ فيه حتى اسْتُعْمِلَ في كلِّ نَصَبٍ ومشقةٍ، ومنه اشْتُقَّت المكابَدَةُ، كما قيل: كَبَته، بمعنى أهلكه، وأصلُه كَبَدَه، أي: أصاب كَبِدَه. قال لبيد: 4573 - يا عَيْنُ هَلاَّ بَكَيْتِ أَرْبَدَ إذ ... قُمْنا وقام الخُصومُ في كَبَدِ أي: في شِدَّةِ الأمرِ وصعوبةِ الخَطْبِ وقال ذو الإِصبَع: 4574 - ليَ ابنُ عَمّ لَوَانَّ الناسَ في كَبَدٍ ... لظلَّ مُحْتَجِراً بالنَّبْلِ يَرْمِيْني

6

قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ} : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأنْ تكونَ حالاً. وقرأ العامَّةُ «لُبَداً» بضمِّ اللامِ وفتحِ الباءِ. وشَدَّد أبو جعفر الباءَ، وعنه أيضاً سكونُها. ومجاهد وابن أبي الزناد بضمتين، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه اللفظةِ والاختلافُ فيها في الجنِّ.

9

قوله: {وَشَفَتَيْنِ} : الشَّفْةُ محذوفةُ اللامِ، والأصلُ شَفَهة، بدليل تصغيرِها على شُفَيْهَة، وجَمْعِها على شِفاه، ونظيرُه سَنَة

في إحدى اللغتين. وشافَهْتُه، أي: كلَّمْتُه من غير واسطةٍ، ولا يُجمع بالألفِ والتاءِ، استغناءً بتكسيرِها عن تَصْحيحِها.

10

قوله: {النجدين} : إمَّا ظرفٌ، وإمَّا على حَذْفِ الجارِّ إنْ أُريد بهما الثَّدْيان، والنَّجْدُ في الأصل: «العُنُقُ لارتفاعِه. وقيل: الطريقُ العالي، كقولِ امرئِ القيس: 4575 - فريقانِ منهمْ قاطعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ ... وآخرُ منهمْ جازعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ ومنه» نَجْدٌ «لارتفاعِها عن تِهامةَ.

11

قوله: {فَلاَ اقتحم} قال الفراء والزجَّاج: «ذَكَر» لا «مرةً واحدةً، والعربُ لا تكادُ تُفْرِدُ» لا «مع الفعل الماضي حتى تُعِيْدَ، كقولِه تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} [القيامة: 31] ، وإنما أفردَها لدلالةِ آخرِ الكلامِ على معناه فيجوزُ أَنْ يكونَ قولُه: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} [البلد: 17] قائماً مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبةَ ولا آمَنَ» وقال:

الزمخشري: «هي متكررةٌ في المعنى؛ لأنَّ معنى» فلا اقتحمَ العقبةَ «فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعمَ مِسْكيناً، ألا ترى أنه فَسَّر اقتحامَ العقبةِ بذلك» قال الشيخ: «ولا يَتِمُّ له هذا إلاَّ على قراءةِ» فَكَّ «فعلاً ماضياً» .

13

وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ «فَكَّ» فعلاً ماضياً، «ورقبةً» نصباً «أو أَطْعم» فعلاً ماضياً أيضاً. والباقون «فَكُّ» برفع الكاف اسماً، «رقبةٍ» خَفْصٌ بالإِضافة، «أو إطعامٌ» اسمٌ مرفوعٌ أيضاً. فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه «اقتحمَ» فهو بيانٌ له، كأنَّه قيل: فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ، والثانيةُ يرتفع فيها «فَكُّ» على إضمار مبتدأ، أي: هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ، على معنى الإِباحة. وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه «فلا اقتحمَ» تقديرُه: وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير: اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر. ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو «فَكُّ» مُفَسِّراً للعين، وهو العقبةُ. وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء «فَكَّ أو أطعمَ» فعلَيْن كما تقدَّم، إلاَّ أنهما نصبا «ذا» بالألف. وقرأ الحسن «إطعامٌ» و «ذا» بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ «أَطْعم» أو «إطعامٌ» و «يتيماً» حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له. وهو في قراءةِ العامَّةِ «ذي» بالياء نعتاً ل «يوم» على سبيل

المجاز، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم: «ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ» والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ. والمَسْغَبَةُ: الجوعُ مع التعبِ، وربما قيل في العطش مع التعب، قال الراغب. يُقال منه: سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب. يقال تَرِب، أي: افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب. فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو: أَثْرى، أي: صار مالُه كالتراب وكالثرى والمَقْرَبَةُ أيضاً: مَفْعَلَة من القَرابة. وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال: «والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر» .

17

قوله: {ثُمَّ كَانَ} : لتراخي الإِيمان وتباعُدِه في الرتبةِ والفضيلةِ عن العِتْقِ والصدقةِ، لا في الوقتِ، لأنَّ الإِيمانَ هو السَّابقُ ولا يَثْبُتُ عَمَلٌ إلاَّ به، قاله الزمخشري. وقيل: المعنى على: ثم كان في عاقبةِ أَمْرِه من الذين وافَوْا الموتَ على الإِيمان لأنَّ الموافاةَ عليه شرطٌ في الانتفاعِ بالطاعاتِ. وقيل: التراخي في الذِّكْرِ وتقدَّم تفسيرُه.

20

قوله: {مُّؤْصَدَةُ} : قرأ أبو عمروٍ وحمزة وحفص بالهمز، والباقون بالواو، وكذا في «الهُمْزة» فالقراءةُ الأولى من آصَدْتُ البابَ، أي: أَغْلَقْته أُوْصِدُه فهو مُؤْصَدٌ. قيل: ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ أَوْصَدْتُ، ولكنه هَمَزَ الواوَ الساكنةَ لضمةِ ما قبلَها كما هَمَزَ {بالسوق والأعناق} [ص: 33] كما تقدَّم. والقراءةُ الثانيةُ ايضاً تحتمل المادتَيْن، ويكون قد خُفِّفَتِ الهمزةُ لسكونها بعد ضمة. وقد نَقَل الفراء عن السوسيِّ الذي قاعدتُه إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ أنه لا يُبْدِلُ هذه بعد ضمةٍ، وعَلَّلوا ذلك بالالتباسِ. واتفق أنه قد قَرَأ «مُوْصَدة» بالواوِ مَنْ قاعدتُه تحقيقُ الهمزةِ، والظاهر أنَّ القراءتَين من مادتين: الأولى مِنْ آصَدَ يُؤْصِد كأَكْرَم يُكْرِم، والثانية مِنْ أَوْصَدَ يُوصِدُ، مثل أَوْصَلَ يُوْصِلُ. قال الشاعر: 4576 - تَحِنُّ إلى أجْبِالِ مكةَ ناقتي ... ومِنْ دونِها أبوابُ صنعاءَ مُوْصَدَهْ أي: مُغْلَقة وقال آخر: 4577 - قوماً يُعالِجُ قُمَّلاً أبناؤُهمْ ... وسلاسِلاً حِلَقاً وباباً مُؤْصَدا

وكان أبو بكرٍ راوي عاصمٍ يكره الهمزةَ في هذا الحرفِ، وقال رحمه الله: «لنا إمامٌ يَهْمز» مؤصدة «فأشتهي أن أَسُدَّ أذُني إذا سمعتُه» قلت: وكأنه لم يَحْفَظْ عن شيخِه إلاَّ تَرْكَ الهمزِ مع حِفْظ حفصٍ إياه عنه، وهو أَضْبَطُ لحرِفه من أبي بكر على ما نقله القُراء، وإن كان أبو بكرٍ أكبرَ وأتقنَ وأوثقَ عند أهل الحديث. وقوله: {عَلَيْهِمْ نَارٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً، وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً، وأن يكونَ الخبرُ وحده «عليهم» و «نار» فاعلٌ به، وهو الأحسنُ.

الشمس

قوله: {وَضُحَاهَا} : قد تقدَّم في «طه» الكلامُ على هذه المادةِ وقال المبرد: «إن الضُّحى والضَّحْوةَ مشتقان من الضَّحِّ وهو النورُ، فأُبْدلت الألفُ والواوُ من الحاءِ» هذا يكادُ يكونُ اختلاقاً على مثلِ أبي العباس لجلالتِه.

2

قوله: {جَلاَّهَا} : الفاعلُ ضميرُ النهارِ، وقيل: عائدٌ على الله تعالى. والضميرُ المنصوبُ: إمَّا للشمسِ، وإمَّا للظُّلمةِ، وإمَّا للدنيا، وإمَّا للأرضِ. قوله: {إِذَا تَلاَهَا} وما بعدَه فيه إشكالٌ؛ لأنه إنْ جُعِل شرطاً اقتضى جواباً، ولا جوابَ لفظاً، وتقديرُه غيرُ صالحٍ، وإنْ جُعِلَ ظرفاً مَحْضاً استدعى عاملاً، وليس هنا عاملٌ إلاَّ فعلُ القسم، وإعمالُه مُشْكِلٌ؛ لأنَّ فعلَ القسمِ حالٌ لأنه إنشاءٌ، و «إذا» ظرفٌ مستقبلٌ، والحال لا يعملُ

في المستقبلِ. وسيأتي جوابُ هذا وتحقيقُه عند ذِكْري سَبْرَه وتقسيمَه قريباً إن شاء الله تعالى. ويَخُصُّ «إذا» الثانيةَ وما بعدها إشكالٌ آخرُ ذكره الزمخشري فيه غموضٌ فتنبَّهْ له قال: «فإن قلتَ: الأمرُ في نصبِ» إذا «مُعْضِلٌ؛ لأنك لا تخلو: إمَّا أَنْ تجعلَ الواواتِ عاطفةً فتنصِبَ بها وتَجُرَّ فتقعَ في العطفِ على عاملَيْن، وفي نحو قولك:» مررتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ «وإمَّا أَنْ تجعلَهُنَّ للقسم فتقعَ فيما اتَّفق الخليلُ وسيبويه على استكراهِه. قلت: الجوابُ فيه أن واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ أطِّراحاً كلياً، فكان لها شأنٌ خلافَ شأنِ الباء حيث أُبْرِزَ معَها الفعلُ وأُضْمِرَ، فكانت الواوُ قائمةً مَقامَ الفعلِ، والباءُ سادَّةٌ مَسَدَّهما معاً، والواواتُ العواطفُ نوائبُ عن هذه الواوِ فحققن أَنْ يَكُنَّ عواملَ عملَ الفعلِ والجارِّ جميعاً كما تقول:» ضربَ زيدٌ عمراً وبكرٌ خالداً «فترفعُ بالواوِ وتنصِبُ، لقيامِها مَقامَ» ضرب «الذي هو عامِلُهما» انتهى. قال الشيخ: «إمَّا قولُه:» في واوات العطف: فَتَنْصِبَ بها وتجرَّ «فليس هذا بالمختار، أعني أَنْ يكونَ حرفُ العطفِ عاملاً لقيامِه مَقامَ العاملِ، بل المختارُ أنَّ العملَ إنما هو للعاملِ في المعطوفِ عليه، ثم إنا لا نُشاحُّه في ذلك. وقوله:» فتقع / في العطفِ على عاملَيْن «ليس

ما في الآيةِ من العطفِ على عاملَيْن، وإنما هو مِنْ بابِ عطفِ اسمَيْن: مجرورٍ ومنصوبٍ على اسمَيْن: مجرورٍ ومنصوبٍ، فحرفُ العطفِ لم يَنُبْ مَنابَ عامِلَيْنِ، وذلك نحوُ قولِك:» امرُرْ بزيدٍ قائماً وعمروٍ جالساً «وأنشدَ سيبويهِ في كتابه: 4578 - وليس بمعروفٍ لنا أَنْ نَرُدَّها ... صِحاحاً ولا مُسْتَنْكرٍ أن تُعَقَّرا فهذا مِنْ عَطْفِ مجرورٍ ومرفوعٍ، على مجرورٍ ومرفوعٍ، والعطفُ على عاملَيْن فيه أربعةُ مذاهبَ، ونُسِب الجوازُ إلى سيبويهِ. وقوله: وفي قولِك:» مررْتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ «هذا المثالُ مُخالِفٌ لما في الآيةِ، بل وِزانُ ما في الآية:» مررْتُ بزيدٍ أمسٍ وعمروٍ اليومَ «ونحن نُجيز هذا وأمَّا قولُه» على استكراه «فليس كما ذَكَر، بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المَنْعِ قال الخليلُ في قولِه عزَّو جلّ: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 13] . الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلةِ الأولى، ولكنهما الواوانِ اللتان تَضُمَّان الأسماءَ إلى الأسماء في قولِك: «مررتُ بزيدٍ وعمرو» والأولى بمنزلةِ التاء والباء. وأمَّا قولُه: إنَّ واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ اطِّراحاً كلياً «فليس هذا الحكمُ

مُجْمَعاً عليه؛ بل أجازَ ابنُ كَيْسانَ التصريحَ بفعلِ القسمِ مع الواوِ، فتقول: أُقْسِم - أو أَحْلِفُ - واللَّهِ لَزيدٌ قائمٌ، وأمَّا قَولُه:» والواوات العواطفُ نوائبُ عن هذه «إلى أخره فمبنيُّ على أَنْ حرفَ العطفِ عاملٌ لنيابتِهِ منابَ العاملِ وليس هذا بالمختار» قال: «والذي نقوله: إنَّ المُعْضِلَ هو تقديرُ العاملِ في» إذا «بعد الأقسام، كقوله: {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] {والليل إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33] {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} [المدثر: 34] {والقمر إِذَا تَلاَهَا} {والليل إِذَا يغشى} [الليل: 1] وما أَشْبهها، فإذا ظرفٌ مستقبلٌ، لا جائزٌ أَنْ يكونَ العاملُ فيه فعلَ القسمِ المحذوفِ لأنه فعل إنشائيُّ فهو في الحال ينافي أَنْ يَعْمَلَ في المستقبلِ لاختلافِ زمانِ العاملِ وزمانِ المعمولِ. ولا جائز أَنْ يكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أُقيم المُقْسَمُ به مُقامه، أي: وطلوعِ النجمِ ومجيءِ الليلِ، لأنه معمولٌ لذلك الفعلِ، فالطلوعُ حالٌ ولا يعملُ في المستقبل ضرورةَ أنَّ زمان العاملِ زمانُ المعمول. ولا جائزٌ أَنْ يعملَ فيه نفسُ المُقْسَمِ به؛ لأَنه ليس من قبيلِ ما يَعْمل، لا سيما إنْ كان جُرْماً. ولا جائزٌ أنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ فيكونُ قد عملَ فيه، ويكون ذلك العاملُ في موضعِ الحال وتقديرُه: والنجمِ كائناً إذا هوى، والليلِ كائناً إذا يَغْشى؛ لأنه يَلْزَمُ» كائناً «أنْ لا يكونَ منصوباً بعاملٍ، ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معمولاً لشيء مِمَّا فَرَضْناه أن يكونَ عاملاً. وأيضاً فقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً وظروفُ

الزمانِ لا تكون أحوالاً عن الجثثِ، كما لا تكونُ أخباراً» انتهى ما رَدَّ به الشيخُ وما استشكلَه مِنْ أمرِ العاملِ في «إذا» وأنا بحمدِ اللَّهِ أتتبَّعُ قولَه وأبيِّنُ ما فيه. فقوله: «إن المختارَ أن حرفَ العطفِ لا يعملُ لقيامِه مَقامَ العاملِ فلا يَلْزَمُ أبا القاسم، لأنه يختارُ القولَ الآخَرَ. وقوله:» ليس ما في هذه الآية مِنْ العطفِ على عاملَيْن «ممنوعٌ بل فيه العطفُ على عاملَيْن ولكنْ فيه غموضٌ، وبيانُ أنه مِنْ العطفِ على عاملَيْن: أنَّ قولَه: {والنهار إِذَا جَلاَّهَا} هنا معمولان أحدُهما مجرورٌ وهو» النهار «والآخرُ منصوبٌ وهو الظرفُ، عطفاً على معمولَيْ عاملَيْن، والعاملان هما: فعلُ القسمِ الناصبُ ل» إذا «الأولى، وواوُ القسمِ الجارَّةُ، فقد تحقَّق معك عاملانِ لهما معمولان، فإذا عَطَفْتَ مجروراً على مجرور، وظرفاً على ظرف، معمولَيْن لعاملَين لَزم ما قاله أبو القاسم. وكيف يُجْهَلُ هذا ما التأمَّلِ والتحقيق؟ وأمَّا قولُه:» وأنشد سيبويهِ إلى آخره «فهو اعترافٌ منه بأنَّه من العطفِ على عاملَيْن، غايةُ ما في الباب أنه استندَ إلى جاهِ سيبويهِ. وأمَّا قولُه «أجازَ ابنُ كَيْسان / فلا يَلْزَمُه مذهبُه. وأمَّا قولُه:» فالمثالُ كالآيةِ، بل وزانها إلى آخره «فصحيحٌ لما فيه مِنْ تقديمِ الظرفِ الثاني على المجرورِ المعطوفِ، والآيةُ الظرفُ فيها متأخرٌ، وإنما مرادُ الزمخشريِّ وجودُ معمولَيْ عاملَيْنِ، وهو موجودٌ في المثالِ المذكورِ، إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً آخر: وهو أنَّه كالتكريرِ للمسألةِ. وأمَّا قولُه» بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المنعِ إلى آخره «فليس فيه رَدٌّ عليه بالنسبةِ إلى ما قصدَه، بل فيه تقويةٌ لِما قالَه. غايةُ ما في البابِ أنه عَبَّر بالاستكراهِ عن المنعِ، أو لم يَفْهَمِ المَنْعَ. وقوله:» ولا جائزٌ أَنْ يكونَ

ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ «إلى آخره، فأقول: بل يجوزُ تقديرُه: وهو العاملُ، ولا يَلْزَمُ ما قال مِنْ اختلاف الزمانَيْن؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُقْسِمَ الآن بطلوع النجمِ في المستقبل، فالقَسَمُ في الحالِ والطُّلوعُ في المستقبلِ، ويجوزُ أَنْ يُقْسِمَ بالشيء الذي سيوجَدُ. وقوله:» ولا جائزٌ أَنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ، فيكون قد عَمِل فيه «إلى آخره ليس بممنوع بل يجوزُ ذلك، وتكون حالاً مقدرةً. قوله:» يَلْزَم أَنْ لا يكونَ له عاملٌ «ليس كذلك بل له عاملٌ وهو فعلُ القسم، ولا يَضُرُّ كونُه إنشائياً؛ لأنَّ الحالَ مقدرةٌ كما تقدَّم. قوله:» وقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً «جوابُه: يُقَدَّرُ حينئذٍ حَدَثٌ يكون الظرفُ الزمانيُّ حالاً عنه، وهذه المسألةُ سُئِلَ عنها الشيخُ أبو عمروٍ ابنُ الحاجبِ ونَقَّحَ فيها السؤالَ وأجابَ بنحوِ ما ذكَرْتُه واللَّهُ أعلمُ، ولا يخلُو الكلامُ فيها مِنْ نزاعٍ وبحثٍ طويلٍ معه.

4

قوله: {يَغْشَاهَا} المفعولُ للشمسِ. وقيل: للأرض، وجيء ب «يَغْشاها» مضارعاً دونَ ما قبلَه وما بعدَه مراعاةً للفواصلِ؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيبُ «إذا غَشِيَها» فتفوتُ المناسبةُ اللفظيةُ بين الفواصلِ والمقاطع.

5

قوله: {وَمَا بَنَاهَا} : وما بعدَه، فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، وبه استشهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المرادَ به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ، واختاره ابن جرير. والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: وبناءِ

السماء، وإليه ذهبَ الزجَّاج والمبرد، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ، واعْتُرِضَ على هذا القولِ: بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ بنفسِ المصادر: بناءِ السماء وطَحْوِ الأرضِ وتَسْويةِ النفس، وليس المقصودُ إلاَّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياءِ وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى. وأُجِيب عنه بوجهَيْن، أحدُهما: يكونُ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وربِّ - أو باني - بناءِ السماء ونحوه. والثاني: أنه لا غَرْوَ في الإِقسام بهذه الأشياء كما أَقْسم تعالى بالصبح ونحوه. وقال الزمخشري: «جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقولِه» فأَلْهمها «وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ النظم. والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً، وإنما أُوْثِرَتْ على» مَنْ «لإِرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماءِ والقادرِ العظيم الذي بناها، ونفس والحكيمِ الباهرِ الحكمةِ الذي سَوَّاها. وفي كلامهم:» سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا «انتهى. يعني أنَّ الفاعلَ في» فألهمها «عائدٌ على اللَّهِ تعالى فليكُنْ في» بناها «كذلك، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ» ما «فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً. وقال الشيخ:» أمَّا قولُه: «وليس بالوجهِ لقولِه» فَأَلْهمها «يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في» فَأَلْهمها «على الله تعالى، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو» ما «المرادُ به الذي. قال:» ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلامِ، ففي «بناها» ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى، أي: وبناها هو، أي: الله تعالى، كما إذا رأيتَ زيداً قد

ضرب عَمْراً فتقول: «عجبتُ مِمَّا ضَرَبَ عمراً» تقديره: مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ كثيرٌ وقوله: «وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم» ليس كذلك، ولا يُؤدِّي جَعْلُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ، وقوله: «وإنما أُوْثِرَتْ» إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف «الذي» فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفيةِ موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به «ما» دون «مَنْ» وقوله:: وفي كلامِهم «إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ» سبحان «عَلَم و» ما «مصدريةٌ ظرفيةٌ» انتهى. أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه يعود على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أولى لأنَّه الأصلُ. وأمَّا قولُه: فلا تنفرد به «ما» دونَ «مَنْ» فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل، وعلى صفتِه، ولذلك مَثَّل النَّحْويون ذلك بقوله: {فانكحوا مَا طَابَ} [النساء: 3] ، وقالوا: تقديره: فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به «ما» دون مَنْ. والتنكيرُ في «نفس» : إمَّا لتعظيمِها، أي، نفس عظيمة، وهي نفسُ آدمَ، وإمَّا للتكثيرِ كقولِه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5] .

8

قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه جوابُ القسم، والأصل: لقد، وإنما حُذِفَتْ لطولِ الكلامِ. والثاني: أنه ليس

بجوابٍ وإنما جيْءَ به تابعاً لقولِه {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} على سبيل الاستطرادِ، وليس مِنْ جوابِ القسم في شيءٍ، فالجوابُ محذوفٌ تقديرُه: ليُدَمْدِمَنَّ اللَّهُ عليهم، أي: على أهلِ مكةَ لتكذيبِهم رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما دَمْدَم على ثمودَ لتكذيبِهم صالحاً صلَّى الله عليه وسلم، قال معناه الزمخشري، وقدَّره غيرُه: لتُبْعَثُنَّ. وقوله: {طَحَاهَا} [الشمس: 3] ، أي: دَحاها، وقد تقدَّم معناه. وفيه لغتان، يقال: طحا يَطْحوا وطحى يَطْحي. ويجيءُ طحا بمعنى ذهب، قال علقمة: 4579 - طحابك قَلْبٌ في الحِسانِ طَروبُ ... بُعَيْدَ الشبابِ عَصْرَ حان مَشيبُ ويقال: طحا بمعنى ارتفعَ. وفي أقسامِهم: «ولا والقمرِ الطَّاحي» ، أي: المرتفعُ. وفاعلُ «زكَّاها» و «دَسَّاها» الظاهرُ أنه ضميرُ «مَنْ» وقيل: ضميرُ الباري تعالى، أي: مَنْ زكاهَّا اللَّهُ، ومَنْ دَسَّاها اللَّهُ، أي: مَنْ زَكَّى اللَّهُ نفسَه. وأنحى الزمخشريُّ على صاحبِ هذا القولِ لمنافرتِة مذهبَه، والحقُّ أنَّه خلافُ الظاهرِ، لا لما قال الزمخشريُّ، بل لمنافرةِ نظمِه للاحتياجِ إلى عَوْدِ الضميرِ على النفسِ مقيدةً بإضافتِها إلى ضمير «مَنْ»

10

قوله: {دَسَّاهَا} : أصلُه دسَّسَهَا فَكَثُرَتْ الأمثالُ فأُبْدِل مِنْ ثالِثها حرفَ علةٍ كما قالوا: قَصَّيْتُ [أَظْفاري] و [قولِه] : 4580 - تَقَضِّيَ البازِي. . . . . . . . . . . . . . ... والتَّدْسِيَةُ: الإِخفاءُ بمعنى أخفاها بالفجورِ، وقد نَطَق بالأصل مَنْ قال: 4581 - وأنت الذي دَسَّسْتَ عمراً فأصبحَتْ ... حَلائلُه منه أراملَ ضُيَّعاً ومن قال: 4582 - ودَسَّسْت عَمْراً في التراب فأصبحَتْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت.

11

قوله: {بِطَغْوَاهَآ} : في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها للاستعانةِ مجازاً، كقولِه: «كتبتُ بالقلمِ» وبه بدأ الزمخشري ويعني فَعَلَتِ التكذيبَ بطُغْيانها، كقولك: «ظلمَني بجُرْأتِه

على الله تعالى» الثاني: أنها للتعدية، أي: كَذَبَتْ بما أُوْعِدَتْ به مِنْ عذابها ذي الطُّغيان، كقولِه تعالى {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] . والثالث: أنها للسببية، أي: بسبب طُغْيانِها. وقرأ العامَّةُ «طَغْواها» بفتح الطاءِ وهو مصدرٌ بمعنى الطُّغيان، وإنما قُلِبَتْ الياءُ واواً فَرْقاً بين الاسمِ والصفةِ، يعني، أنهم يُقِرُّون ياءَ فَعْلى بالفتح صفةً نحو: خَزْيا وصَدْيا، ويَقْلبونها في الاسم نحو: تَقْوى وشَرْوى، وكان الإِقرارُ في الوصفِ لأنه أثقلُ مِنْ الاسمِ، والياءُ أخفُّ من الواوِ، فلذلك جُعِلت في الأثقل. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بضم الطاء، وهو أيضاً مصدرٌ كالرُّجْعى والحُسْنى، إلاَّ أنَّ هذا شاذ إذ كان مِنْ حَقِّه بقاءُ الياءِ على حالِها كالسُّقْيا وبابها، هذا كلُّه عند مَنْ يقول: طَغَيْتُ طُغْياناً بالياءِ، فأمَّا مَنْ يقول: طَغَوْت بالواو فالواوُ أصلٌ عنده، قاله ابو البقاء، وقد تقدَّم الكلامُ على اللغتين في البقرة والله الحمدُ.

12

قوله: {إِذِ انبعث} : «إذِ» يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ ظرفاً ل «كذَّبَتْ» والثاني: أَنْ يكونَ ظرفاً للطَّغْوى.

و «أشْقاها» فاعلُ «انبعَث» وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يُراد به شخصٌ واحد بعينه. وفي التفسيرِ أنه رجل يُسَمَّى قُدار بن سالف. والثاني: أن يُراد به جماعةٌ، قال الزمخشري: «ويجوز أن يكونوا جماعةً [والتوحيد] / لتَسْوِيَتِك في أفعلِ التفضيل إذا اضفْتَه، بين الواحدِ والجمع والمذكرِ والمؤنثِ، وكان يجوزُ أَنْ يقول: أشْقَوْها» انتهى. وكان ينْبغي أَنْ يُقَيِّد فيقول: إذا أضَفْتَه إلى معرفةٍ؛ لأن المضافَ إلى النكرةِ حُكْمُه الإِفرادُ والتذكيرُ مطلقاً كالمقترنِ ب «مِنْ» .

13

قوله: {فَقَالَ لَهُمْ} : إنْ كان المرادُ ب «أَشْقاها» جماعةً فعَوْدُ الضميرِ مِنْ «لهم» عليهم واضحٌ، وإنْ كان المرادُ به عَلَماً بعينِه فالضميرُ مِنْ «لهم» يعودُ على ثمود. قوله: {نَاقَةَ الله} منصوبٌ على التحذير، أي: احْذَروا ناقةَ اللَّهِ فلا تَقْرَبُوها، وإضمارُ الناصبِ هنا واجبٌ لمكانِ العطف، فإنَّ إضمارَ الناصبِ يجبُ في ثلاثةِ مواضعَ، أحدُها: أن يكونَ المحذَّرُ نحو: «إياك» وبابه. الثاني: أن يُوجدَ فيه عطفٌ. الثالث: أَنْ يوجَدَ فيه تَكْرارٌ نحو: «الأسدَ الأسدَ» وقرأ زيد بن علي «ناقةُ الله» رفعاً على خبرِ ابتداء مضمرٍ، أي: هذه ناقةُ اللَّهِ فلا تتعرَّضوا لها.

14

قوله: {فَدَمْدَمَ} : الدَّمْدَمَةُ. قيل: الإِطباقُ يُقال: دَمْدَمْتُ عليه القبرَ، أي: أَطْبَقْتُه عليه. وقيل: الإِلزاقُ بالأرض. وقيل:

الإِهلاكُ باستئصالٍ. وقيل: الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّة ومنه: دَمْدَمَ في كلامه. ودَمْدَمْتُ الثوبَ: طَلَيْتُه بالصَّبْغ. والباءُ في «بذَنْبهم» للسببية. قوله: {فَسَوَّاهَا} الضميرُ المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعتبار القبيلةِ كما أعادَه في قولِه «بَطَغْواها» ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبةِ، أي: سَوَّاها بينهم، فلم يَفْلَتْ منهم أحدٌ. وقرأ ابن الزبير «فَدَهْدَمَ» بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم، وهي بمعنى القراءةِ المشهورةِ.

15

قوله: {وَلاَ يَخَافُ} : قرأ نافعٌ وابنُ عامر «فلا» بالفاء، والباقون بالواو، ورُسِمَتْ في مصاحفِ المدينة والشام بالفاء وفي غيرِها بالواوِ، فقد قرأ كلُّ بما يوافقُ رَسْمَ مُصْحَفِه. ورُوِيَ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأُ «ولم يَخَفْ» وهي مُؤَيَّدَةٌ لقراءةِ الواوِ، ذكره الزمخشري، فالفاءُ تقتضي التعقيبَ، وهو ظاهرٌ. والواوُ يجوزُ أَنْ تكونَ للحالِ، وأنْ تكونَ لاستئنافِ الأخبارِ، وضميرُ الفاعل في «يَخاف» يحتملُ عَوْدُه على الرَّبِّ، وهو الأظهرُ، لكونِه أقربَ مذكورٍ. والثاني: أنه يعودُ على رسولِ الله، أي: ولا يخاف عقبى هذه العقوبةِ لإِنذاره إياهم. والثالث: أنه يعودُ على «أشقاها» أي: انبعَثَ لعَقْرها، والحالُ أنه غيرُ خائفٍ عاقبةَ هذه الفَعْلَةِ الشنعاءِ. وعقبى الشيء خاتمتُه.

الليل

قوله: {وَمَا خَلَقَ} : يجوزُ في «ما» أَنْ تكونَ بمعنى «مَنْ» وهو رأيُ جماعةٍ تقدَّم ذِكْرُهمْ في السورةِ قبلَها. وقيل: هي مصدريةٌ. وقال الزمخشري: «والقادرُ: العظيمُ القدرةِ الذي قَدَرَ على خَلْقِ الذكَرِ والأنثى من ماءٍ واحدٍ» قلت: قد تقدَّم تقريرُ قولِه هذا وما اعْتُرِضَ به عليه، وما أُجيب عنه، في السورةِ قبلها. وقرأ أبو الدرداء «والذَّكرِ والأنثى» وقرأ عبد الله «والذي خَلَق» ، والكسائيُّ ونَقَلها ثعلبٌ عن بعض السَّلَف «وما خَلَقَ الذَّكَرِ» بجرِّ «الذكَرِ» قال الزمخشري: «على أنه بدلٌ من محلِّ» ما خَلَقَ «بمعنى» وما خَلَقَه «أي: ومخلوقِ اللَّهِ الذكَرِ، وجاز إضمارُ» الله «لأنه معلومٌ بانفرادِه بالخَلْق» . وقال الشيخ: «وقد يُخَرَّجُ على تَوَهُّم المصدرِ، أي: وخَلْقِ الذَّكرِ،

كقوله: 4583 - تَطُوفُ العُفاةُ بأبوابِه ... كما طاف بالبَيْعَةِ الراهبِ بجرِّ» الراهب «على توهُّمِ النطقِ بالمصدر، أي: كطَوافِ الراهبِ» انتهى. والذي يَظْهَرُ في تخريجِ البيت أنَّ اصلَه «الراهبيّ» بياءِ النسَبِ، نسبةً إلى الصفةِ، ثم خُفِّف، وهو قليلٌ كقولِهم: أَحْمري ودَوَّاري، وهذا التخريجُ بعينِه في قولِ امرئ القيس: 4584 -. . . . . . . . . . . . . . . . ... فَقِلْ في مَقيلٍ نَحْسُه مُتَغَيِّبِ استشهد به الكوفيون على تقديمِ الفاعلِ. وقرأ العامَّةُ {تجلى} فعلاً ماضياً، وفاعلُه ضميرٌ عائدٌ على النهار. وعبد الله بن عبيد بن عمير «تتجلى» بتاءَيْن، أي: الشمس. وقُرئ «تُجْلي» بضمِّ التاءِ وسكونِ

الجيم، أي: الشمسُ ايضاً، ولا بُدَّ من عائدٍ على النهارِ محذوفٍ، أي: تتجلى أو تُجْلِي فيه.

4

قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ} : هذا جوابُ القسمِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ محذوفاً، كما قيلَ في نظائرِه المتقدمةِ.

5

قوله: {أعطى} : حَذَفَ مفعولَيْ «أعطى» ومفعولَ «اتقى» ومفعولَ «صَدَّقَ» المجرور ب «على» ؛ لأنَّ الغرضَ ذِكْرُ هذه الأحداثِ دونَ متعلَّقاتها، وكذلك مُتَعَلَّقا البخل والاستغناءِ. وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} إمَّا من بابِ المقابلةِ لقولِه: {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} ، وإمَّا لأنَّ نيسِّره بمعنى نُهَيِّئُه، والتهيئةُ تكونُ في اليُسْر والعُسْر.

11

قوله: {وَمَا يُغْنِي} : يجوز أَنْ تكونَ «ما» نفياً، وأَنْ تكونَ استفهاماً إنكارياً. قوله: {تردى} إمَّا من الهلاكِ، أو مِنْ تردى بأكفانِه، وهو كنايةٌ عن الموت كقولِه: 4585 - وخُطَّا بأَطْرافِ الأسِنَّةِ مَضْجَعي ... ورُدَّا على عَيْنَيَّ فَضْلَ رِدائيا وقول الآخر:

4586 - نَصيبُك مِمَّا تَجْمَعُ الدهرَ كلَّه ... رِداءان تلوى فيهما وحَنُوطُ

14

قوله: {نَاراً تلظى} : قد تقدَّم في البقرة أن البزيَّ يُشَدِّد مثلَ التاء، والتشديدُ فيها عَسِرٌ لالتقاءِ الساكنين فيها على غير حَدِّهما، وهو نظيرُ قولِه: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] وقد تقدَّم. وقال أبو البقاء: يُقرأ بكسر التنوين وتشديد التاءِ، وقد ذُكِرَ وَجْهُه عند {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] انتهى. وهذه قراءةٌ غريبةٌ، ولكنها موافقةٌ للقياس من حيث إنه لم يلتقِ فيها ساكنان. وقوله: «وقد ذُكِر وجهُه الذي قاله في البقرة لا يُفيد هنا شيئاً البتة، فإنه قال هناك:» ويُقْرأُ بتشديدِ التاءِ، وقبلَه ألفٌ، وهو جْمعٌ بين ساكنَيْن، وإنما سَوَّغَ ذلك المدُّ الذي في الألفِ «. وقرأ ابن الزُّبير وسفيان وزيد بن علي وطلحة» تتلظى «بتاءَيْن وهو الأصلُ.

15

قوله: {إِلاَّ الأشقى} : قيل: الأشقى والأَتْقى بمعنى الشقيّ والتقيّ ولا تفضيلَ فيهما؛ لأنَّ النارَ ليسَتْ مختصةً بالأكثرِ

شقاءً، وتجنُّبها ليس مختصاً بالأكثرِ تَقْوى. وقيل: بل هما على بابِهما، وإليه ذهب الزمخشريُّ قال: «فإنْ قلتَ: كيف قال:» لا يَصْلاها إلاَّ الأشقى « {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} وقد عُلِمَ أنَّ كلَّ شقيّ يَصْلاها، وكلَّ تقيّ يُجَنَّبُها، لا يَخْتَصُّ بالصَّلْي أشقى الأشقياءِ، ولا بالنجاةِ أتقى الأتقياءِ، وإنْ زَعَمْتَ أنه نكَّر النار فأراد ناراً بعينِها مخصوصةً بالأشقى، فما تصنع بقولِه {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} ؟ فقد عُلِمَ أنَّ أَفْسَقَ المسلمين يُجَنَّبُ تلك النارَ المخصوصةَ لا الأتقى منهم خاصة. قلت: الآية واردةٌ في لموازنةِ بين حالتَيْ عظيمٍ من المشركين وعظيمٍ من المؤمنين، فأُريد أَنْ يُبالَغَ في صفتَيْهما المتناقضتَيْن فقيل: الأشقَى، وجُعِل مختصَّاً بالصَّلْي، كأن النارَ لم تُخْلَقْ إلاَّ له. وقيل: الأتقى. وجُعل مختصَّاً بالنجاةِ، كأنَّ الجنةَ لم تُخْلَقْ إلاَّ له. وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف وأبو بكر الصديق رضي الله عنه» انتهى. فآل جوابُه إلى أنَّ المرادَ بهما شخصان معيَّنان.

18

قوله: {يتزكى} : قرأ العامَّةُ {يتزكى} مضارعَ تَزَكَّى، والحسن بن علي بن الحسن بن علي أمير المؤمنين يزكى بإدغامِ التاءِ في الزاي. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها في موضعِ الحالِ من فاعلِ «يُؤْتي» أي: يُؤتيه مُتَزَكِّياً به. والثاني: أنها لا موضعَ لها من الإِعراب، على أنها بدلٌ مِنْ صلة «الذي» ذكرهما الزمخشري. وجعل الشيخُ متكلَّفاً.

19

قوله: {تجزى} : صفةٌ لنعمةٍ، أي: تُجْزِي الإِنسانَ، وإنما جيء به مضارعاً مبنياً للمفعولِ لأجلِ الفواصل؛ إذ الأصلُ يُجْزيها إياه أو يُجْزِيه إياها.

20

قوله: {إِلاَّ ابتغآء} : في نصبِه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ له. قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له على المعنى؛ لأنَّ المعنى: لا يُؤْتي مالَه إلاَّ ابتغاءَ وَجْهِ ربه لا لمكافأةِ نعمةٍ» وهذا أَخَذَه مِنْ قولِ الفَرَّاء فإنه قال: «ونُصِبَ على تأويل: ما أعْطَيْتُك ابتغاءَ جزائِك، بل ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ تعالى. والثاني: أنَّه منصوبٌ على الاستثناء المنقطع، إذ لم يندَرِجْ تحت جنسِ» مِنْ نعمة «وهذه قراءة العامَّةِ، أعني النصبَ والمدَّ. وقرأ يحيى برفعِه ممدوداً على البدل مِنْ محلِّ» مِنْ نعمة «لأنَّ محلَّها الرفعُ: إمَّا على الفاعليَّةِ، وإمَّا على الابتداءِ، و» مِنْ «مزيدةٌ في الوجهَيْن، والبدلُ لغة تميمٍ، لأنهم يُجْرُون المنقطعَ في غيرِ الإِيجاب مجرى المتصل. وأنشد الزمخشريُّ بالوجهَيْن: النصبِ والبدلِ قولَ بشرِ بنِ أبي خازم: 458 - 7- أَضْحَتْ خَلاءً قِفاراً أَنيسَ بها ... إلاَّ الجآذِرُ والظِّلْمانَُِ تَخْتَلِفُ

وقولَ القائلِ في الرفع: 458 - 8- وبَلْدَةٍ ليس بها أنيسُ ... إلاَّ اليَعافيرُ وإلاَّ العِيْسُ وقال مكي:» وأجاز الفراء الرفعَ في «ابتغاء» على البدل مِنْ موضع «نِعْمَةٍ» وهو بعيدٌ «قلت: كأنَّه لم يَطِّلِعْ عليها، قراءةً، واستبعادُه هو البعيدُ، فإنَّها لغةٌ فاشيةٌ. وقرأ ابنُ ابي عبلة» ابْتِغا «بالقصر.

21

قوله: {وَلَسَوْفَ يرضى} : هذا جوابُ قَسَمٍ مضمرٍ. والعامَّةُ على «يرضى» مبنياً للفاعلِ. وقُرِئ ببنائِه للمفعول مِنْ أَرْضاه الله، وهو قريبٌ مِنْ قولِه في آخرِ سورةِ طه {لَعَلَّكَ ترضى} و {ترضى} [طه: 130] .

الضحى

قوله: {سجى} : قيل: معناه سَكَن، ومنه: سجا البحر يَسْجُو سَجْواً، أي: سَكَنَتْ أمواجُه، وطَرْفٌ ساجٍ، أي: فاتر، ومنه اسْتُعِير تَسْجِيَةُ الميتِ، أي: تَغْطِيَتُه بالثوبِ، قاله الراغب وقال الأعشى: 4589 - وما ذَنْبُنا إنْ جاش بَحْرُ ابنِ عَمِّكُمْ ... وبَحْرُكَ ساجٍ لا يُوارِي الدَّعامِصا وقيل: سجا، أي: أَدْبَرَ وقيل بعكسِه. وقال الفراء: «أظلم» . وقال ابن الأعرابي: «اشتدَّ ظلامُه» وقال الشاعر:

4590 - يا حَبَّذا القَمْراءُ والليلُ السَّاجْ ... وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّسَّاجْ وهو من ذواتِ الواوِ، وإنما أُميل لموافقةِ رؤوسِ الآيِ، كالضُّحى فإنه من ذواتِ الواوِ ايضاً.

3

قوله: {مَا وَدَّعَكَ} : هذا هو الجوابُ. والعامَّةُ على تشديد الدالِ من التَوْديع. [وقرأ] عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتخفيفِها مِنْ قولِهم: وَدَعَه، أي: تركه والمشهورُ في اللغةِ الاستغناءُ عن وَدَعَ ووَذَرَ واسمِ فاعِلهما واسمِ مفعولِهما ومصدرِهما ب «تَرَكَ» وما تصرَّفَ منه، وقد جاء وَدَعَ ووَذَرَ. قال الشاعر: 4591 - سَلْ أميري ما الذي غَيَّرَهْ ... عن وِصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ وقال الشاعر: 4592 - وثُمَّ وَدَعْنا آلَ عمروٍ وعامرٍ ... فرائِسَ أَطْرافِ المُثَقَّفةِ السُّمْرِ قيل: والتوديعُ مبالغةٌ في الوَدْع؛ لأن مَنْ وَدَّعك مفارقاً فقد بالغ في تَرْكِك. قوله: {وَمَا قلى} أي: ما أَبْغَضَك، قلاه يَقْليه بكسر العين في

المضارع، وطيِّىء تقول: قلاه يقلاه بالفتح قال الشاعر: 4593 - أيا مَنْ لَسْتُ أَنْساه ... ولا واللَّهِ أَقْلاه لكَ اللَّهُ على ذاكَ ... لكَ اللَّهُ [لكَ اللَّهُ] وحُذِفَ مفعولُ «قَلَى» مراعاةً للفواصلِ مع العِلْم به وكذا بعدَ «فآوى» وما بعدَه.

4

قوله: {وَلَلآخِرَةُ} : الظاهرُ في هذه اللامِ أنَّها جوابُ القسم، وكذلك في «ولَسَوْفَ» أَقْسم تعالى على أربعةِ أشياءَ: اثنان منفيَّان وهما توديعُه وقِلاه، واثنان مُثْبَتان مؤكَّدان، وهما كونُ الآخرةِ خيراً له من الدنيا، وأنه سوف يُعْطيه ما يُرضيه. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما هذه اللامُ الداخلةُ على» سَوْف «؟ قلت: هي لامُ الابتداءِ المؤكِّدةُ لمضمون الجملة، والمبتدأُ محذوفٌ تقديرُه: ولأنت سَوْفَ يُعْطيك، كما ذَكَرْنا في {لاَ أُقْسِمُ} [القيامة: 1] أن المعنى: لأَنا أُقْسِمُ. وذلك أنها لا تَخْلو: مِنْ أَنْ تكونَ لامَ قسمٍ أو ابتداء. فلامُ القسم لا تدخلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد، فبقي أن تكونَ لامَ ابتداءِ، ولامُ الابتداء لا تدخل إلاَّ على الجملة من المبتدأ والخبرِ فلا بُدَّ من تقدير [مبتدأ] وخبره، وأصله:

ولأنت سوف يعطيك» ونقل الشيخ عنه أنه قال: «وخُلِع من اللامِ دلالتُها على الحال» انتهى. وهذا الذي رَدَّده الزمخشري يُختار منه أنها لامُ القسم. قوله: «لا تَدْخُلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد» هذا استثنى النحاة منه صورتَيْنِ، إحداهما: أَنْ لا يُفْصَلَ بينها وبين الفعل حرفُ تنفيسٍ كهذه الآيةِ، كقولِك: واللَّهِ لَسَأُعْطيك. والثانية: أن لا يُفْصَلَ بينهما بمعمولِ الفعل كقولِه تعالى: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] . ويَدُلُّ لِما قُلْتُه ما قال الفارسيُّ: «ليسَتْ هذه اللامُ هي التي في قولك:» إنَّ زيداً لَقائمٌ، بل هي التي في قولِك: «لأَقومَنَّ» ونابَتْ «سوفَ» عن إحدى نونَيْ التوكيدِ، فكأنه قال: ولَيُعْطِيَنَّك. وقوله: «خُلِع منها دلالتُها على الحال» يعني أنَّ لامَ الابتداءِ الداخلةَ على المضارع تُخَلِّصُه للحال، وهنا لا يُمْكِنُ ذلك لأجلِ حَرْفِ التنفيسِ، فلذلك خُلِعَتِ الحاليةُ منها. وقال الشيخ: «واللامُ في» ولَلآخرةُ «لامُ ابتداء وَكَّدَتْ مضمونَ الجملةِ» ثم حكى بعضَ ما ذكَرْتُه عن الزمخشري وأبي علي ثم قال: «ويجوز عندي أَنْ تكونَ اللامُ في» وللآخرةُ خيرٌ «وفي» ولَسَوْفَ يُعْطيك «

اللامَ التي يُتَلَقَّى بها القسمُ، عَطَفَها على جوابِ القسم، وهو قولُه: {مَا وَدَّعَكَ} فيكون قد أقسم على هذه الثلاثة» انتهى. فظاهرُه أنَّ اللامَ في «ولَلآخرةُ» لامُ ابتداء غيرُ مُتَلَقَّى بها القسمُ، بدليلِ قولِه ثانياً: «ويجوز عندي» ولا يظهرُ انقطاعُ هذه الجملةِ عن جواب القسم البتةَ، وكذلك في {ولَسَوْفَ} وتقديرُ الزمخشري مبتدأً بعدها لا يُنافي كونَها جواباً للقسم، وإنما مَنَعَ أن تكونَ جواباً داخلةً على المضارع لفظاً وتقديراً.

6

قوله: {فآوى} : العامَّة على «آوى» بألفٍ بعد الهمزة رباعياً، مِنْ آواه يُؤْوِيْهِ. وأبو الأشهب «فأوى» ثلاثياً. قال الزمخشري: «وهو على معنيين: إمَّا مِنْ» أواه «بمعنى آواه. سُمع بعضُ الرعاة يقول:» أين آوي هذه «، وإمَّا مِنْ أوى له إذا رحمه» انتهى. وعلى الثاني قولُه: 459 - 4- أراني - ولا كفرانَ لله - أيَّةُ ... لنفسي لقد طالَبْتُ غيرَ مُنيلِ أي: رحمةً لنفسي. ووجهُ الدلالةِ مِنْ قولِه: «يقول: أين آوي هذه» ؟ أنه لو كان من الرباعي لقال: «أُؤْوي» بضم الهمزةِ الأولى وسكونِ الثانيةِ؛ لأنه مضارعُ «آوى» مثل أَكْرَمَ، وهذه الهمزةُ المضمومةُ هي حرفُ المضارعةِ، والثانيةُ هي فاءُ الكلمةِ، وأمَّا همزةُ أَفْعَل فمحذوفةٌ على القاعدةِ، ولم تُبْدَلْ هذه الهمزةُ كما أُبْدِلَتْ في «أُوْمِنُ أنا» لئلا تثقلَ

بالإِدغام، ولذلك نصَّ القراءُ على أنَّ «تُؤْويه» من قوله «وفَصيلتِه التي تُؤْويه» لا يجوزُ إبْدالُها للثِّقَلِ.

8

قوله: {عَآئِلاً} : أي: فقيراً. وهذه قراءةُ العامَّةِ. يقال: عال زيدٌ أي: افتقر. قال جرير: 4595 - اللهُ نَزَّل في الكتابِ فريضةً ... لابنِ السبيل وللفقيرِ العائلِ وأعال: كَثُرَ عيالُه قال: 4596 - ومايَدْري الفقيرُ متى غِناه ... وما يَدْري الغَنِيُّ متى يُعيلُ وقرأ اليماني «عَيِّلاً» بكسر الياء المشددة كسَيِّد.

9

قوله: {فَأَمَّا اليتيم} : منصوبٌ ب تَقْهَرْ. وبه استدل الشيخ ابن مالك - رحمه الله - على أنه لا يَلْزَمُ من تقديمِ المعمولِ تقديمُ العامل. ألا ترى أن «اليتيمَ» منصوبٌ بالمجزوم، وقد تقدَّم على الجازمِ، ولو قَدَّمْتَ «تَقْهَرْ» على «لا» لامتنع؛ لأنَّ المجزومَ لا يتقدَّمُ على جازِمِه، كالمجرورِ لا يتقدَّمُ على جارِّه، وتقدَّم ذلك في سورة هود عند

قولِه تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] . وقراءةُ العامَّةِ «تَقْهَرْ» بالقاف من الغلبةِ. وابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي بالكاف. يقال: كَهَرَ في وجهه، أي: عَبَسَ. وفلان ذو كُهْرُوْرة، أي عابسُ الوجه. ومنه الحديث «فبأبي وأمي هو ما كَهَرني» قاله الزمخشري. وقال الشيخ: «وهي لغةٌ بمعنى قراءةِ الجمهور» انتهى. والكَهْرُ في الأصل: ارتفاعُ النهارِ مع شدَّةِ الحَرِّ

11

قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} : متعلقٌ ب حَدِّثْ، والفاء غيرُ مانعةٍ من ذلك. وقد تقدَّم هذا.

الشرح

قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ} : الاستفهامُ إذا دخل على النفي قَرَّره، فصار المعنى: قد شَرَحْنا، ولذلك عَطَفَ عليه الماضي. ومثلُه {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ} [الشعراء: 18] . والعامَّةُ على جزمِ الحاء ب «لم» وقرأ أبو جعفر بفتحها. وقال الزمخشري: «وقالوا: لعلَّة بَيَّنَ الحاءَ وأشبعها في مَخْرَجِها، فظنَّ السامعُ أنه فتحها» وقال ابن عطية: «إنَّ الأصلَ: ألم نَشْرَحَنْ» بالنونِ الخفيفةِ، ثم أَبْدَلَها ألفاً، ثم حَذَفَها تخفيفاً، كما أنشد ابو زيد: 4597 - مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ من الموتِ أفِرّْ ... أيومَ لم يُقْدَرَ أم يومَ قُدِرْ

بفتح راء «لم يُقْدَرَ» وكقولِه: 4598 - اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها ... ضَرْبَكَ بالسيفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ بفتح باء «اضربَ» انتهى. وهذا مبنيٌ على جوازِ توكيدِ المجزومِ ب لم، وهو قليلٌ جداً، كقولِه: 4599 - يَحْسَبُه الجاهلُ ما لم يَعْلما ... شيخاً على كُرْسِيِّه مُعَمَّما فتتركبُ هذه القراءةُ مِنْ ثلاثةِ أصولٍ كلُّها ضعيفةٌ؛ لأنَّ توكيدَ المجزومِ ب «لم» ضعيفٌ، وإبدالُها أَلِفاً إنما هو الوقفِ، وإجراءُ الوصلِ مجرى / الوقفِ خِلافُ الأصلِ، وحَذْفُ الألفِ ضعيفٌ، لأنه خلافُ الأصلِ. وخَرَّجه الشيخُ على لغةٍ حكاها اللحيانيُّ في «نوادره» عن بعضِ العربِ وهو الجزمُ ب «لن» ، والنصبُ ب «لم» عكسَ المعروفِ عند الناس، وجعله أَحْسَنَ ممَّا تقدَّم. وأنشد قولَ عائشةَ بنتِ الأعجم تمدح المختار وهو القائمُ بطَلَبِ ثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما:

4600 - قد كادَ سَمْكُ الهدى يُنْهَدُّ قائمُهُ ... حتى أتيحَ له المختارُ فانْعَمدا في كلِّ ما هَمَّ أمضى رأيَه قُدُماً ... ولم يُشاوِرَ في إقدامِه أحدا بنَصْبِ راء «يُشاور» وجَعَله محتمِلاً للتخريجَيْنِ.

3

قوله: {أَنقَضَ ظَهْرَكَ} : أي: حَمَله على النقيضِ وهو صوتُ الانتقاضِ والانفكاكِ لثِقَلِه، مَثَلٌ لِما كان يُثْقِلُه صَلَّى الله عليه وسلَّم. قال أهل اللغة: أَنْقَضَ الحِمْلُ ظَهْرَ الناقةِ إذا سَمِعْتَ له صَريراً مِنْ شِدَّة الحِمْلِ. وسمِعْتُ نقيضَ الرَّحْلِ، أي: صريرَه. قال العباس ابن مرداس: 4601 - وأَنْقَضَ ظهري ما تَطَوَّيْتَ منهمُ ... وكنتُ عليهم مُشْفِقاً مُتَحَنِّناً وقال جميل: 4602 - وحتى تداعَتْ بالنَّقيضِ حِبالُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5

قوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} : العامَّةُ على سكونِ السين في الكلم الأربع، وابن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمِّها. وفيه خلافٌ. هل هو أصلٌ، أو مثقلٌ من المسكِّن؟ والألفُ واللامُ في «العُسر» الأولِ لتعريف الجنس، وفي الثاني للعهدِ؛ ولذلك رُوِيَ عن ابن عباس: «لن يُغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن» ورُوي أيضاً مرفوعاً أنه عليه السلام خرج يضحك يقول: «لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» والسببُ فيه: أنَّ العربَ إذا أَتَتْ باسمٍ ثم أعادَتْه مع الألفِ واللامِ ِكان هو الأولَ نحو: «جاء رجلٌ فأكرمْتُ الرجلَ» وكقولِه تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 1516] ولو أعادَتْه بغير ألفٍ ولامٍ كان غيرَ الأول. فقوله: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} لَمَّا أعاد العُسْرَ الثاني أعادَه بأل، ولَمَّا كان اليُسْرُ الثاني غيرَ الأولِ لم يُعِدْه ب أل. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ ما معنى قولِ ابن عباس؟ وذكرَ ما تقدَّم. قلت: هذه عَمَلٌ على الظاهرِ وبناءٌ على قوةِ الرجاءِ، وأنَّ موعدَ اللَّهِ لا يُحْمل إلاَّ على أوفى ما يحتملُه اللفظُ وأَبْلَغُه، والقولُ فيه أنه يحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ تكريراً للأولى، كما كرَّر قولَه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] لتقريرِ معناها في النفوسِ وتمكينِها في القلوب، وكما يُكَرَّر المفرد في قولك:» جاء زيدٌ زيدٌ «وأَنْ تكونَ الأولى عِدَةً بأنَّ

العُسْرَ مُرْدَفٌ بيُسْرٍ لا مَحالَةَ، والثانيةُ عِدَةً مستأنفةٌ بأنَّ العُسْرَ متبوعٌ بيسرٍ، فهما يُسْران على تقديرِ الاستئناف، وإنما كان العُسْرُ واحداً لأنه لا يخلو: إمَّا أَنْ يكونَ تعريفُه للعهدِ وهو العسرُ الذي كانوا فيه فهو هو؛ لأنَّ حكمَه حكمُ» زيد «في قولك:» إنَّ مع زيد مالاً، إنَّ مع زيد مالاً «وإمَّا أَنْ يكونَ للجنسِ الذي يَعْلَمُه كلُّ أحدٍ فهو هو أيضاً، وأمَّا اليُسْرُ فمنكَّرٌ مُتَناولٌ لبعض الجنسِ، وإذا كان الكلامُ الثاني مستأنفاً غيرَ مكررٍ فقد تناوَلَ بعضاً غيرَ البعضِ الأولِ بغيرِ إشكال» . وقال أبو البقاء: «العُسْرُ في الموضعَيْنِ واحدٌ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ توجبُ تكريرَ الأولِ، وأمَّا» يُسْراً «في الموضعَيْنِ فاثنانِ، لأنَّ النكرةَ إذا أُريد تكريرُها جيْءَ بضميرِها أو بالألفِ واللام، ومن هنا قيل:» لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن «وقال الزمخشري أيضاً:» فإنْ قلتَ: إنَّ «مع» للصحبة، فما معنى اصطحابِ اليُسْرِ والعُسْرِ؟ قلت: أراد أنَّ اللَّهَ تعالى يُصيبُهم بيُسرٍ بعد العُسْرِ الذي كانوا فيه بزمانٍ قريبٍ، فَقَرُبَ اليُسْرُ المترقَّبُ حتى جَعَله كأنَّه كالمقارِنِ للعُسْرِ، زيادةً في التسلية وتقويةً للقلوب «وقال أيضاً: فإنْ قلتَ ما معنى هذا التنكير؟ قلت: التفخيمُ كأنه قيل: إنَّ مع العُسْر يُسْراً عظيماً وأيَّ يُسْرٍ؟ وهو في مُصحفِ

ابن مسعودٍ مرةٌ واحدٌ. فإنْ قلتَ: فإذا ثَبَتَ في قراءتِه غيرَ مكررٍ فلِمَ قال:» والذي نفسي بيده لو كان العُسْرُ في جُحْرٍ لطَلَبه اليُسْرُ حتى يَدْخُلَ عليه، لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن «قلت:» كأنه قَصَدَ باليُسْرين ما في قوله «يُسْراً» مِنْ معنى التفخيم، فتأوَّله ب «يُسْرِ الدارَيْن» وذلك يُسْران في الحقيقة «.

7

قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ} : العامَّةُ على فتحِ الراءِ مِنْ «فَرَغْتَ» وهي الشهيرةُ، وقرأها أبو السَّمَّال مكسورةً، وهي لُغَيَّةُ قال الزمخشري: «ليسَتْ بالفصيحة» وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ فيكف تعلَّق قولُه» فإذا فَرَغْتَ فانصَبْ «بما قبلَه؟ قلتُ: لَمَّا عَدَّد نِعَمَه السَالفةَ ووعْدَه الآنفةَ بعثَة على الشكرِ والاجتهادِ في العبادة. عن ابن عباسٍ: فإذا فَرَغْتَ مِنْ صلاتِك فانصَبْ في الدعاء» . والعامَّةُ على فتحِ الصادِ وسكونِ الباء أمراً من النَّصَب وقُرئ بتشديدِ الباءِ متفوحةً أَمْراً من الأنْصباب، وكذا قُرِئ بكسر الصاد ساكنةَ الباء أمراً من النَّصْب بسكون الصاد، ولا أظن الأولى إلاَّ تصحيفاً ولا الثانيةَ إلاَّ تحريفاً فإنها تُرْوى عن الإِمامية. وتفسيرُها: فإذا فَرَغْتَ مِنْ النبوَّةِ فانْصِبِ الخليفة. قال ابن عطية: «وهي قراءةُ ضعيفةٌ شاذةٌ

لم تَثْبُتْ عن عالمٍ» قال الزمخشري: «ومن البدعِ ما رُوي عن بعضِ الرافضةِ أنه قرأ» فانصِبْ «أي: انْصِبْ عليَّاً للإِمامة، ولو صَحَّ هذا للرافِضِيِّ لصَحَّ للناصِبيِّ أن يَقْرأ هكذا، ويجعَلَه أمراً بالنَّصبْ الذي هو بُغْضُ عليّ رضي الله عنه وعداوتُه» .

8

قوله: {فارغب} : مِنْ الرَّغْبة وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة «فَرَغَّب» بتشديد العين. أمراً مِنْ رَغَّبَة بالتشديدِ، اي: فَرَغِّب الناسَ إلى طلبِ ماعنده.

التين

قوله: {وَطُورِ سِينِينَ} : الطُّور جَبَلٌ. وسينين: اسم مكانٍ فأُضيف الجبل للمكان الذي هو به. قال الزمخشري: «ونحو سِينون يَبْرُوْن في جواز الإِعرابِ بالواو والياء والإِقرارِ على الياءِ وتحريكِ النونِ بحركات الإِعراب» وقال أبو البقاء: «هو لغةٌ في سَيْناء» انتهى. وقرأ العامَّةُ بكسرِ السين. وابنُ أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاءٍ بفتحها، وهي لغةُ بكرٍ وتميم. وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله والحسن وطلحة «سِيْناءَ» بالكسر، والمد، وعمرُ أيضاً وزيدُ بن علي بفتحِها والمدِّ، وقد ذُكِرا في المؤمنين، وهذه لغاتٌ اختلفَتْ في هذا الاسمِ السُّرْيانيِّ على عادةِ العرب في تلاعُبها بالأسماء الأعجميةِ. وقال الأخفش: «سينين شجرٌ، الواحدةُ سِيْنِية» وهو غريبٌ جداً غيرُ معروفٍ عن أهلِ التفسير.

3

قوله: {الأمين} : هذا فَعيل للمبالغةِ، أي: أمِنَ مَنْ فيه، ومَنْ دخله مِنْ إنسِيّ وطيرٍ وحيوانٍ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ أَمُنَ الرجلُ بضمِ الميم أمانةً فهو أمينٌ، وأمانتُه. حِفْظُه مَنْ دَخَله كما يَحْفَظُ الأمينُ ما يُؤْتَمَنُ عليه. ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى مَفْعول، مِنْ أَمِنَة لأنه مأمونُ الغَوائل.

4

قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا} : هذا هو المُقْسَمُ عليه. قوله: {في أَحْسَنِ تَقْوِيم} صفةٌ لمحذوفٍ، أي: في تقويمٍ أحسنِ تقويم. وقال أبو البقاء: في أحسنِ تقويم في موضع الحالِ من «الإِنسان» وأراد بالتقويمِ القَوام لأنَّ التقويمَ فِعْلٌ وذاك وَصْفٌ للخالقِ لا للمخلوقِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: في أحسنِ قَوامِ التقويمِ، فحُذِف المضافُ. ويجوزُ أَنْ تكونَ «في» زائدةً، اي: «قَوَّمْناه أحسنَ تقويم» انتهى، ولا حاجةَ إلى هذه التكلُّفاتِ

5

قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} : يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أنه حالٌ من المفعول. والثاني: أنه صفةٌ لمكانٍ محذوفٍ، أي: مكاناً أسفلَ سافِلين وقرأ عبد الله «السَّافِلين» معرَّفاً.

6

قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} : فيه وجهان أحدُهما: أنه متصلٌ على أنَّ المعنى: رَدَدْناه أسفلَ مِنْ سِفْلٍ خلْقاً وتركيباً يعني: أقبحَ مِنْ خَلْقِه وأَشْوَهَه صورةً، وهم أهلُ النار فالاتصالُ على هذا واضحٌ، والثاني: أنه منقطعٌ على أنَّ المعنى: ثم رَدَدْناه بعد ذلك التقويم

والتحسينِ أسفَل مِنْ سِفْل في أحسنِ الصورةِ والشكلِ حيث نَكَّسْناه في خلْقِه فقوَّسَ ظهرُه وضَعُفَ بصرُه وسَمْعُه. والمعنى: ولكن الذين كانوا صالحين مِنْ الهرمى فلهم ثوابٌ دائمٌ، قاله الزمخشري ملخصاً.

7

قوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ} : «ما» استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء. والخبرُ الفعلُ بعدها، والمخاطَبُ الإِنسانُ على طريقةِ الالتفاتِ وقيل: المخاطَبُ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعلى الأولِ يكون المعنى: فما يجعلك كاذباً بسبب الدِّين وإنكارِه بعد هذا الدليل، يعني أنك تُكَذِّب إذا كَذَّبْتَ بالجزاءِ؛ لأنَّ كلَّ مكذِّب بالحق فهو كاذبٌ فأيُّ شيءٍ يَضْطَرُّكَ إلى أن تكون كاذباً بسبب الجزاءِ والباءُ مِثْلُها في قولِه تعالى: {على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] . وعلى الثاني يكون المعنى: فماذا الذي يُكَذِّبُكَ فيما تُخْبِرُ به مِنْ الجزاء والبعث وهو الدِّين بعد هذه العِبَرِ التي يُوْجِبُ النظرُ فيها صحةَ ما قلتَ؟ قاله الفراء والأخفش.

العلق

قوله: {اقرأ} : العامَّةُ على سكونِ الهمزةِ أمراً مِنْ القراءةِ. وقرأ عاصم في روايةِ الأعشى براءٍ مفتوحةٍ، وكأنه قَلَبَ الهمزةَ ألفاً كقولِهم: قرا يَقْرا نحو: سعَى يَسْعى، فلمَّا أَمَرَ منه حَذَفَ الألفَ على حَدِّ حَذْفِها مِنْ اسْعَ، وهذا كقولِ زهير: 4603 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يُظْلَمِ وقد تقدَّمَ تحريرُه. قوله: {باسم رَبِّكَ} : يجوزُ فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ تكونَ الباءُ للحال، أي: اقرأ مُفْتِتحاً باسمِ ربِّك، قل باسم الله، ثم اقرَأْ، قاله

الزمخشري. الثاني: انَّ الباءَ مزيدةٌ والتقدير: اقرأ اسمَ ربِّك، كقولِه: 4604 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُوْدُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ وقيل: الاسمُ صلةٌ، أي: اذكُرْ ربَّك، قالهما ابو عبيدة. الثالث: أنَّ الباءَ للاستعانةِ والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: اقرَأْ ما يوحى إليك مُسْتعيناً باسمِ ربِّك. الرابع: أنها بمعنى «على» ، أي: اقرأْ على اسمِ ربِّك كما في قولِه: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله} [هود: 41] قاله الأخفش، وقد تَقَدَّم أولَ هذا الموضوع: كيف قَدَّمَ هذا الفعلَ على الجارِّ وقُدِّرَ متأخراً في بسم الله الرحمن الرحيم وتخريجُ الناسِ له، فأغنى عن إعادَتِه. قوله: {الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان} يجوزُ أَنْ يكونَ «خَلَقَ» الثاني تفسيراً ل «خَلَقَ» الأول يعني انه أَبْهمه أولاً، ثم فَسَّره ثانياً بخَلْقِ الإِنسانِ تفخيماً لخَلْقِ الإِنسانِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حَذَفَ المفعولَ مِنْ الأولِ، تقديرُه: خَلَقَ كلَّ شيءٍ لأنَّه مُطْلَقٌ فيتناوَلُ كلَّ مخلوق.

2

وقوله: {خَلَقَ الإنسان} : تخصيصٌ له بالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ ما يتناوَلُه الخَلْقُ؛ لأنَّ التنزيلَ إليه. ويجوزُ اَنْ يكونَ تأكيداً لفظياً،

فيكونُ قد أكَّد الصلةَ وحدَها، كقولك: «الذي قام قام زيدٌ» والمرادُ بالإِنسانِ الجنسُ ولذلك قال: {مِنْ عَلَقٍ} جمعَ عَلَقة؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مخلوقٌ مِنْ عَلَقَةٍ كما في الآية الآخرى.

4

وقوله: {الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} : قريبٌ مِنْ قولِه: «خَلَق، خلَق الإِنسانَ» فلكَ أَنْ تُعيدَ فيه ما تقدَّم.

7

قوله: {أَن رَّآهُ} : «أنْ» مفعولٌ له، أي: لرؤيتِه نفسَه مُسْتَغْنياً. وتعدى الفعلُ هنا إلى ضميرَيْه المتصلَيْن؛ لأنَّ هذا مِنْ خواصِّ هذا البابِ. قال الزمخشري: «ومعنى الرؤيةِ العِلْمُ لو كانَتْ بمعنى الإِبصارِ لامتنعَ في فِعْلِها الجمعُ بين الضميرَيْن، و» استغنى «هو المفعول الثاني» . قلت: والمسألةُ فيها خلافٌ: ذهب جماعةٌ إلى أنَّ «رأى» البَصَرية تُعْطي حُكْمَ العِلْمَّية، وجَعَل مِنْ ذلك قولَ عائشةَ - رضي اللَّهُ عنها - «لقد رَأَيْتُنا مع رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لنا طعامٌ إلاَّ الأسْوَدان» وأنشد: 4605 - ولقد أَراني للرِّماح دَرِيْئَةً ... مِنْ عَنْ يمين تارةً وأمامي

وتقدَّم تحقيقُه. وقرأ قنبل بخلافٍ عنه «رَأَه» دونَ ألفٍ بعد الهمزة وهو مقصورٌ مِنْ «رآه» في قراءةِ العامَّةِ، ولا شكَّ أنَّ الحَذْفَ في مثلِه جاء قليلاً كقولِهم: «اصابَ الناسَ جَهْدٌ، ولو تَرَ أهلَ مكةَ» بحَذْفِ لامِ «ترى» وقولِ الآخرِ: 4606 - وَصَّانِيَ العَجَّاجُ فيما وَصَّني ... يريد: وصَّاني ولَمَّا روى ابن مجاهد هذه القراءةَ عن قنبل وقال: «قرأتُ بها عليه» نَسَبه فيها إلى الغلظ. ولا يَنْبغي ذلك لأنه إذا ثبتَتْ قراءةً ولها وجهٌ وإنْ كان غيرُه أشهرَ منه فلا يَنْبغي أَنْ يُقْدِمَ على تَغْليِطِه.

9

قوله: {أَرَأَيْتَ الذي} : قد تقدَّم لك الكلامُ على هذا الحرفِ مُسْتوفى، وللزمخشريِّ هنا كلامٌ رَأَيْتُ ذِكْرَه لخصوصيَّةٍ تَتَعلَّقُ به قال: «فإن قلتَ: ما متعلَّقُ» أَرَأَيْت «؟ قلت:» الذي يَنْهى «مع الجملةِ الشرطيةِ وهما في موضعِ المفعولَيْنِ. فإن قلت: فأين جوابُ الشرط؟ قلت: هو محذوفٌ تقديرُه: إنْ كان على الهدى أو أمرَ بالتقوى ألم يعلَمْ بأنَّ اللَّهَ يرى، وإنما حُذِفَ لدلالةِ ذِكْرِه في جوابِ الشرطِ الثاني. فإنْ قلتَ: كيف صََحَّ أَنْ يكونَ» ألم يعلَمْ «جواباً للشرِط؟ قلت: كما صَحَّ في قولِك: إنْ أَكْرَمْتُك أتكرِمُني، وإن أَحْسَنَ إليك زيدٌ هل تُحْسِنُ إليه؟ فإنْ قلتَ: فما أَرَأَيْتَ الثانيةُ وتوسُّطُها بين معفولَيْ» أَرَأَيْتَ «؟

قلت: هي زائدةٌ مكررةٌ للتوكيد» قلت: وإذ قد تَعَرَّض للكلامِ في هذه الآية فَلْنَجْرِ معه: أعلَمْ أَنَّ «ارَأَيْتَ» – كما عَلِمْتَ – لا يكونُ مفعولُها الثاني إلاَّ جملةً استفهاميةً كقولِه: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} [يونس: 50] إلى آخرِها. ومثلُه كثيرٌ، وهنا «أرَأَيْتَ» ثلاثَ مراتٍ، وقد صَرَّحَ بعد الثالثةِ منها بجملةٍ استفهاميةٍ فتكونُ في موضعِ المفعولِ الثاني لها، ومعفولُها الأولُ محذوفٌ، وهو ضميرٌ يعودُ على «الذي ينهى» الواقعِ مفعولاً أولَ ل «أَرَأَيْتَ» الأولى، ومفعولُ «أَرَأيْتَ» الأولى الذي هو الثاني محذوفٌ، وهو جملةٌ استفهاميةٌ، كالجملةِ الواقعةِ بعد «أَرَأَيْتَ» الثالثةِ وأمَّا «أرأَيْتَ» الثانية فلم يُذْكَرْ لها مفعولٌ لا أولُ ولا ثانٍ، حُذِف الأولُ لدلالة المفعولِ مِنْ «أَرَأَيْتَ» الأولى عليه، وحُذف الثاني لدلالة مفعولِ «أَرَأَيْتَ» الثالثةِ عليه، فقد حُذِف الثاني مِنْ الأولى، والأولُ من الثالثةِ، والاثنان مِنْ الثانيةِ. وليس طَلَبُ كلٍ مِنْ «أَرَأَيْتَ» للجملةِ الاسميةِ على سبيلِ التنازع لأنه يَسْتدعي إضماراً، والجملُ لا تُضْمَرُ، إنما تُضْمَرُ المفردات، وإنما ذلك مِنْ بابِ الحَذْفِ للدلالةِ. وأمَّا الكلامُ على الشرطِ مع «أَرَأَيْتَ» هذه فقد عَرَفْتَه ممَّا في الأنعام في نُطيل الكلامَ بإعادتِه. وتجويزُ الزمخشريِّ وقوعَ جوابِ الشرط استفهاماً بنفسِه لا يجوزُ، بل نَصُّوا على وجوبِ ذِكْرِ الفاءِ في مثله، وإن وَرَدَ شيءٌ فهو ضرورةٌ.

15

قوله: {لَنَسْفَعاً} : الوقفُ على هذه النونِ بالألفِ، تشبيهاً لها بالتنوين، وكذلك يُحْذَفُ بعد الضمة والكسرة وقفاً. وتكتب ههنا ألفاً إتباعاً للوقف. ورُوِي عن أبي عمروٍ «لَنَسْفَعَنَّ» بالنونِ الثقيلةِ. والسَّفْعُ: الأَخْذُ والقَبْضُ على الشيءِ بشدةٍ وجَذْبه. وقال عمرو بن معد يكرب: 4607 - قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رَأَيْتَهُمْ ... ما بين مُلْجمِ مُهْرِه أو سافعِ وقيل: هو الأَخْذُ بلغةِ قريشٍ. وقال الراغب: «السَّفْعُ: الأخْذُ بسُفْعِه الفَرَس، أي: بسَوادِ ناصيتِه، وباعتبار السوادِ قيل للأثافيّ:» سُفْعٌ «وبه سُفْعَةُ غَضَبٍ، اعتباراً بما يَعْلُو من اللون الدُّخاني وَجْهَ مَنْ اشتدَّ به الغضبُ، وقيل: للصَّقْر:» أسْفَعُ «لِما فيه مِنْ لَمْعِ السَّوادِ، وامرأةٌ سَفْعاءُ اللونِ» انتهى. وفي الحديث: «فقامَتِ امرأةٌ سَفْعاءُ الخَدَّيْن» .

16

قوله: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} : بدلٌ من الناصية بدلُ نكرةٍ من معرفةٍ. قال الزمخشري: «وجاز بَدَلُها عن المعرفةِ وهي نكرةٌ لأنَّها وُصِفَتْ فاسْتَقَلَّتْ بفائدةٍ» قلت: هذا مذهبُ الكوفيين لا يُجيزون إبدال نكرةٍ مِنْ غيرها إلاَّ بشرط وَصْفِها أو كونِها بلفظِ الأولِ، ومذهبُ البصريين لا يَشْتَرِطُ شيئاً، وأنشدوا:

4608 - فلا وأبيك خيرٍ منك إنِّي ... لَيُوْذِيْنيْ التَّحَمْحُمُ والصَّهيلُ وقرأ أبو حيوة وابنُ أبي عبلةَ وزيدُ بن علي بنصبِ «ناصيةً كاذبةً خاطئةً» على الشتم. وقرأ الكسائي في روايةٍ بالرفع على إضمارِ: هي ناصية: ونَسَبَ الكَذِبَ والخَطَأَ إليها مجازاً. والألفُ واللامُ في الناصية قيل: عِوَضٌ من الإِضافةِ، أي: بناصيتِه. وقيل: الضميرُ محذوفٌ، أي: الناصية منه.

17

قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} : إمَّا أَنْ يكون حَذْفِ مضاف، أي: أهلَ نادِيه أو على التجوُّز في نداءِ النادي لاشتمالِه على الناس كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] . والنادي والنَّدِيُّ: المَجْلِسُ المُتَّخَذُ للحديث. قال زهير: 4609 - وفيهم مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهُمْ ... وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القولُ والفِعْلُ وقالت أعرابية: «هو سَيِّدُ ناديه وثمالُ عافية» .

18

قوله: {الزبانية} : قال الزمخشري: «الزَّبانية في كلامِ العربِ: الشُّرَطُ، الواحد زِبْنِيَة كعِفْرِية، مِنْ الزَّبْن وهو الدفعُ. وقيل: زِبْنيّ وكأنه نُسِبَ إلى الزَّبْن، ثم غُيِّر للنَّسَبِ، كقولهم: إمْسيّ

وأصلُه زَبانيّ فقيل: زبانِيَة على التعويض» وقال عيسى بن عمر والأخفش: «واحدُهم زابِن: وقيل: لا واحدَ له مِنْ لفظِه كعَباديد وشماطيط» والحاصلُ أنَّ المادةَ تَدُلُّ على الدَّفْعِ قال: 4610 - مطاعيمُ في القُصْوى مطاعينُ في الوغَى ... زبانيَةٌ غُلْبٌ عِظامٌ حُلُومُها وقال آخر: 4611 - ومُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يرى مِنْ أناتِنا ... ولو زَبَنَتْه الحَرْبُ لم يَتَرَمْرَمِ وقال عتبة: «وقد زبَنَتْنا الحربُ وزبَنَّاها» ومنه الزُّبون لأنَّه يُدْفع مِنْ بائعٍ إلى آخر. وقرأ العامَّة «سَنَدْعُ» بنونِ العظمة ولم تُرْسَمْ بالواو، وقد تقدَّم نظيرُه نحو: «يَدْعُ الداعِ» . وقرأ ابنُ أبي عبلة «سيدعى الزبانيةُ» مبنياً للمعفولِ ورَفْعُ الزَّبانية لقيامِها مقامَ الفاعل.

القدر

قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} : أي: القرآن، أُضْمِرَ للِعْلمِ به. و «في ليلةِ القَدْر» يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً للإِنزالِ. وفي التفسير: أنه أَنْزَلَه إلى السماءِ الدنيا في هذه الليلةِ. ثم نَزَلَ مُنَجَّماً إلى الأرض في عشرينَ سنة. وقيل: المعنى: أَنْزَلَ في شأنها وفَضْلِها. فليسَتْ ظرفاً، وإنما هو كقولِ عُمَرَ: «خَشِيْتُ أَنْ يَنْزِلَ فيَّ قرأنٌ» وقولِ عائشة: «لأَنا أَحْقُر في نفسي أَنْ يَنْزِل فيَّ قرآنٌ» وسُمِّيَتْ ليلةَ القَدْرِ: إمَّا لتقديرِ الأمور فيها، وإمَّا لضِيقِها بالملائكةِ.

4

قوله: {والروح فِيهَا} : يجوزُ أَنْ يرتفعَ «الرُّوحُ» بالابتداءِ، والجارُّ بعدَه الخبرُ، وأن يرتفعَ بالفاعليةِ عطفاً على الملائكةِ، و «فيها» متعلِّقٌ ب «تَنَزَّلُ» قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِم} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «تَنَزَّلُ» وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من المرفوع ب «تَنَزَّلُ» أي ملتبساً بإذن ربِّهم. قوله: {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} يجوزُ في «مِنْ» وجهان، أحدهما: أنها

بمعنى اللام. ويتعلَّقُ ب «تَنَزَّلُ» ، أي: تَنَزَّلُ مِنْ أجلِ كلِّ أمرٍ قُضي إلى العامِ القابل: والثاني: أنَّها بمعنى الباء، أي: تتنزَّلُ بكلِّ أمرٍ، فهي للتعدية، قاله أبو حاتم. وقرأ العامَّةُ «أَمْرٍ» واحدُ الأمور. وابن عباس وعكرمة والكلبي «امْرِئٍ» مُذ‍كَّرُ امرأة، أي: مِنْ أجلِ كلِّ إنسانٍ. وقيل: مِنْ أجل كلِّ مَلَكٍ، وهو بعيدٌ. وقيل: «مِنْ كلِّ أَمْرٍ» ليس متعلقاً ب «تَنَزَّلُ» إنما هو متعلِّقٌ بما بعده، أي: هي سلامٌ مِنْ كلِّ أمرٍ مَخُوفٍ، وهذا لا يتمُّ على ظاهرِه لأنَّ «سَلامٌ» مصدرٌ لا يتقدَّم عليه معمولُه، وإنما المرادُ أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه هذا المصدرُ.

5

قوله تعالى: {سَلاَمٌ هِيَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ «هي» ضمير الملائكة، و «سلام» بمعنى التسليم، أي: الملائكة ذاتُ تَسْليمٍ على المؤمنين. وفي التفسير: أنهم يُسَلِّمون تلك الليلةَ على كلِّ مؤمنِ ومؤمنة بالتحية. والثاني: أنها ضميرُ ليلةِ القَدْرِ، وسلامٌ بمعنى سَلامة، أي: ليلةُ القَدْرِ ذاتُ سلامةٍ مَنْ شيءٍ مَخْوفٍ. ويجوزُ على كلٍ من التقديرَيْن أَنْ يرتفعَ «سلامٌ» على أنه خبرٌ مقدمٌ، و «هي» مبتدأٌ مؤخرٌ، وهذا هو المشهورُ، وأنْ يرتفع بالابتداء و «هي» فاعلٌ به عند الأخفشِ، لأنه لا يَشْتَرِطُ الاعتمادَ في عَمَلِ الوصفِ. وقد تقدَّم أَنْ بعضَهم يجعلُ الكلامُ تامَّاً على قولِه {بِإِذْنِ رَبِّهِم} ويُعَلِّقُ «مِنْ كلِّ أمرٍ» بما بعدَه، وتقدَّم تأويلُه. وقال أبو الفضل: «وقيل: معناه: هي سلامٌ مِنْ كلِّ أمرٍ

أو امرئٍ، أي: سالمةٌ أو مُسَلَّمةٌ منه. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ» سلامٌ «- هذه اللفظةُ الظاهرةُ التي هي المصدر - عاملاً فيما قبله لامتناع تقدُّمِ معمولِ المصدرِ على المصدرِ، كما أنَّ الصلةَ كذلك، لا يجوزُ تقديمُها على الموصول» انتهى. وقد تقدَّم أنَّ معنى ذلك عند هذا القائلِ أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ مَدْلولٍ عليه ب «سَلام» فهو تفسيرُ معنىً لا تفسيرُ إعرابٍ. وما يروى عن ابنِ عباس أنَّ الكلامَ تَمَّ على قولِه تعالى {سلامٌ} ويُبْتدأ ب «هي» على أنَّها خبرُ مبتدأ، والإِشارةُ ب «ذلك» إلى أنها ليلةُ السابعِ والعشرين، لأن لفظةَ «هي» سابعةٌ وعشرون مِنْ كَلِمِ هذه السورةِ، وكأنَّه قيل: ليلةُ القدر الموافقةُ في العددِ لفظةَ «هي» مِنْ كِلَمِ هذه السورةِ، فلا ينبغي أن يُعْتَقَدَ صحتُه لأنه إلغازٌ وتبتيرٌ لنَظْم فصيحِ الكلامِ. قوله: {هِيَ حتى مَطْلَعِ} متعلِّقٌ ب «تَنَزَّلُ» أو ب «سَلامٌ» وفيه إشكالٌ للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالمبتدأ، إلاَّ يُتَوَسَّعَ في الجارِّ. وفي التفسير: أنهم لا يَزالون يُحَيُّون الناس المؤمنين حتى يَطْلُعَ الفجرُ. وقرأ الكسائي «مَطْلِعِ» بكسر اللام، والباقون بفتحها، والفتح هو القِياسُ والكسرُ سماعٌ، وله أخوات يُحْفَظُ فيها الكسرُ ممَّا ضُمَّ مضارعُه أو فُتح نحو: المَشْرِق والمَجْزِر. وهل هما مصدران أو المفتوحُ مصدرٌ والمكسور مكانٌ؟ خِلافٌ. وعلى كلِّ تقديرٍ فالقياسُ في المَفْعِل مطلقاً مِمَّا ضُمَّتْ

عينُ مضارعِه أو فُتِحَتْ فَتْحُ العينِ، وإنما يقعُ الفرقُ في المكسور العينِ الصحيح نحو: يَضْرِب.

البينة

قوله: {مِنْ أَهْلِ الكتاب} : متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ مِنْ فاعل «كفروا» . قوله: {والمشركين} : العامَّةُ على قراءةِ «المشركين» بالياء عطفاً على «أهل» قَسَّمَ الكافرين إلى صِنْفَيْن: أهلِ كتابٍ ومشركين. وقرئ «والمشركون» بالواو نَسَقاً على «الذين كفروا» . قوله: {مُنفَكِّينَ} خبرُ يكون. ومُنْفَكِّينَ اسمُ فاعلٍ مِنْ انْفَكَّ. وهي هنا التامَّةُ، فلذلك لم يَحْتَجْ إلى خبرٍ. وزعم بعضُهم أنها هنا ناقصةٌ وأنَّ الخبرَ مقدرٌ تقديره: منفكِّين عارفين أَمْرَ محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الشيخ: «وحَذْفُ خبرِ كان [وأخواتِها] لا يجوزُ اقتصاراً ولا اختصاراً، وجعلوا قولَه: 461 - 2-. . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

يَبْغي جِوارَكِ حينَ ليسَ مُجِيرُ أي: في الدنيا ضرورةً» قلت: وَجْهُ مَنْ منع ذلك أنه قال: صار الخبرُ مطلوباً من جهتَيْن: مِنْ جهة كونِه مُخْبَراً به فهو أحدُ جُزْأي الإِسناد، ومِنْ حيث كونُه منصوباً بالفعلِ. وهذا مُنْتَقَضٌ بمعفولَيْ «ظنَّ» فإنَّ كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران، ومع ذلك يُحْذَ‍فان - أو أحدُهما - اختصاراً، وأمَّا الاقْتصارُ ففيه خِلافٌ وتفصيلٌ مر‍َّ تفصيلُه في غضونِ هذا التصنيفِ. قوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ} : متعلقةٌ ب «لم يكنْ» أو ب «مُنْفَكِّين» .

2

قوله: {رَسُولٌ} : العامَّةُ على رفعِه بدلاً من «البيِّنة» : إمَّا بدلَ اشتمالٍ، وإمَّا كلٍ مِنْ كل على سبيلِ المبالغة، جَعَلَ الرسولَ نفسَ البيِّنة، أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: بَيِّنَةُ رسولٍ. ويجوزُ رَفْعُه على خبرِ ابتداء مضمرٍ، أي: هي رسولٌ. وقرأ عبد الله وأُبَيّ «رسولاً» على الحالِ من البيِّنة. والكلامُ فيها على ما تقدَّم من المبالغة أو حذف المضافِ. قوله: {مِّنَ الله} يجوزُ تعلُّقُه بنفس «رسولٌ» أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «رسول» وجَوَّز أبو البقاء وجهاً ثالثاً وهو: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «صُحُفاً» والتقدير: يتلُو صُحُفاً مطهَّرة منزَّلةً مِنْ الله، يعني كانت في الأصل صفةً للنكرة فلَّما تقدَّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالاً.

قوله: {يَتْلُو} : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل «رسول» ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضمير في الجارِّ قبلَه إذا جَعَلْتَه صفةً ل «رسول» .

3

قوله: {فِيهَا كُتُبٌ} : يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً صفةً ل «صُحُفاً» ، أو حالاً مِنْ ضمير «مُطَهَّرَة» وأَنْ يكونَ الوصفُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فقط، و «كُتُبٌ» فاعلٌ به، وهو الأحسنُ.

5

قوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} : العامَّةُ على كَسْرِ اللامِ اسمَ فاعلٍ، وانتصب به «الدّينَ» والحسن بفتحِها على معنى: أنهم يُخْلِصون هم أنفسهم في نياتهم، وانتصب «الدينَ» على أحدِ وجهَيْن: إمَّا إسقاطِ الخافضِ، أي: في الدين، وإمَّا على المصدر من معنى: ليَعْبُدوا، كأنه قيل: ليَدينوا الدينَ، أو ليعبدوا العبادةَ، فالتجوُّز: إمَّا من الفعلِ، وإمَّا في المصدر، وانتصابُ «مُخْلِصِين» على الحال مِنْ فاعل «يعبدون» . قوله: {حُنَفَآءَ} حالٌ ثانيةٌ أو حال من الحالِ قبلَها، أي: من الضمير المستكنِّ فيها. وقوله: {وَمَآ أمروا} ، أي: وما أُمِروا بما أُمِروا به إلاَّ لكذا وقرأ عبد الله «وما أُمِروا إلاَّ أَنْ يَعْبُدوا» أي: بأَنْ يَعْبدوا. وتحريرُ مثلِها في قوله {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الآية: 71] في الأنعام. وقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} أي: الأمَّةُ أو المِلَّةُ القيمةُ، أي: المستقيمة. وقيل: الكتبُ القَيِّمة؛ لأنها قد تقدَّمَتْ في الذِّكْرِ، قال

تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 3] ، فلَّما أعادها أعادَها مع أل العهديةِ كقوله: {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 16] وهو حسنٌ، قاله محمد بن الأشعت الطالقاني وقرأ عبد الله: «وذلك الدِّين القيمةِ» ، والتأنيثُ حينئذٍ: إمَّا على تأويلِ الدٍّين بالمِلة كقوله: 4613 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سائِلْ بني أسدٍ ما هذه الصَوْتُ بتأويل الصيحة، وإمَّا على أنها تاءُ المبالغةِ كعَلاَّمة.

6

قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} : كما مَرَّ في أول السورة. وقولُه: «في نارِ» هذا هو الخبرُ، و «خالدين» حالٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر.

7

قوله: {البرية} : قرأ نافعٌ وابن ذَكْوان «البَريئة» بالهمزِ في الحرفَيْن، والباقون بياءٍ مشدَّدةٍ. واخْتُلِف في ذلك الهمز، فقيل: هو الأصلُ، مِنْ بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ ابتدأه واخترعَه فيه فعليةٌ بمعنى

مَفْعولةٌ، وإنما خُفِّفَتْ، والتُزِمَ تحفيفُها عند عامَّةِ العربِ. وقد ذَكَرْتُ أنَّ العربَ التزمَتْ غالباً تخفيفَ ألفاظٍ منها: النبيُّ والخابِيةَ والذُّرِّيَّة والبَرِيَّة. وقيل: بل البَرِيَّةُ دونَ همزةِ مشتقةٌ مِنْ البَرا، وهو الترابُ، فهي أصلٌ بنفسِها، فالقراءتان مختلفتا الأصلِ متفقتا المعنى. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ غَضَّ مِنْ هذا فقال: «وهذا الاشتقاقُ يَجْعَلُ الهمزةَ خطأً وهو اشتقاقٌ غيرُ مَرْضِيّ» انتهى. يعني أنَّه إذا قيل بأنَّها مشتقةٌ من البَرا وهو الترابُ فمَنْ أين يجيْءُ في القراءةِ الأخرى؟ وهذا غيرُ لازم لأنهما قراءتان مُسْتقلَّتان، لكلٍ منهما أصلٌ مستقلٌ، فقيل: مِنْ بَرَأَ، أي: خَلَق، وهذه مِنْ البَرا؛ لأنَّهم خُلِقوا مِنْه، والمعنى بالقراءتين شيءٌ واحدٌ، وهو جميعُ الخَلْقِ. ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ ضَعَّف الهمزَ من النحاةِ والقُرَّاءِ لثبوتِه متواتِراً. وقرأ العامَّةُ «خيرُ البَرِيَّة» مقابلاً لشَرّ. وعامر بن عبد الواحد «خِيارُ» وهو جمع خَيِّر نحو: جِياد وطِياب في جمع جَيِّد وطَيِّب، قاله الزمخشري.

8

قوله: {خَالِدِينَ} : حالٌ عاملُه محذوفٌ، أي: دَخَلوها أو أُعْطُوها. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «هم» في «جزاؤهم»

لئلا يلزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بأجنبي. على أنَّ بعضَهم أجازه منهم، واعتذروا: بأن المصدرَ هنا غيرُ مقدَّرٍ بحرفٍ مصدري. قال أبو البقاء: «وهو بعيد» وأمَّا «عند» فيجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «جزاؤهم» ، وأَنْ يكونَ ظرفاً له. و «أبداً» ظرفُ زمانٍ منصوبٌ بخالدين. قوله {رِّضِىَ الله عَنْهُمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ دعاءً مستأنفاً، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ حالاً بإضمار «قد» عند مَنْ يلتزمُ ذلك. قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ} : أي: ذلك المذكورُ مِنْ استقرارِ الجنةِ مع الخلودِ ورِضا الله عنه لِمَنْ خَشِيَ به.

الزلزلة

قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ} : «إذا» شرطٌ، وجوابُها «تُحَدِّثُ» وهو الناصبُ لها عند الجُمهورِ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ العاملُ فيها «يَصْدُرُ» وغيرُهم يجعلُ العاملَ فيها ما بعدَها ويَليها، وإنْ كان معمولاً لها بالإِضافةِ تقديراً، واختاره مكي، وجَعَلَ ذلك نظيرَ «مَنْ» و «ما» يعني أنَّهما يَعْملان فيما بعدَهما الجزمَ، وما بعدَهما يعملُ فيهما النصبَ، ولو مثَّل بأَيّ لكان أوضحَ. وقيل: العاملُ فيها مقدَّرٌ، أي: يُحْشَرون. وقيل: اذكُرْ، وحينئذٍ تَخْرُج عن الظرفية والشرط. قوله: {زِلْزَالَهَا} مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. والمعنى: زِلْزالَها الذي تَسْتَحقه ويَقْتضيه جِرْمُها وعِظَمُها. قال الزمخشري: «ونحُوه: أكرِمِ التقيَّ إكرامَه، وأَهِنِ الفاسِقَ إهانتَه، أو زِلْزالَها كلَّه» والعامَّةُ بكسر الزايِ.

والجحدريُّ وعيسى بفتحِها. فقيل: هما مصدران بمعنى. وقيل: المكسورُ مصدرٌ، والمفتوحُ اسمٌ. قال الزمخشري: «وليس في الأبنية فَعْلال بالفتح إلاَّ في المضاعَفِ» قلت: وقد جَعَلَ بعضُهم المفتوحَ بمعنى اسمِ الفاعل نحو: صَلْصَال بمعنى مُصَلْصِل، وقد تقدَّم ذلك. وقوله: «ليس في الأبنية فَعْلال» يعني غالباً، وإلاَّ فقد وَرَدَ: «ناقةٌ خَزْعال» .

3

قوله: {مَا لَهَا} : ابتداءٌ وخبرٌ، وهذا يَرُدُّ قول مَنْ قال: إنَّ الحالَ في نحو {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] لازِمَةٌ لئلا يصيرَ الكلامُ غير مفيدٍ، فإنه لا حالَ هنا.

4

قوله: {يَوْمَئِذٍ} : أي: يومَ إذ زُلْزِلَتْ. والعاملُ في «يومئذٍ» «تُحَدِّثُ» إنْ جَعَلَتْ «إذا» منصوبةٌ بما بعدها أو بمحذوفٍ، وإن جَعَلْتَ العاملَ فيها «تُحَدِّثُ» كان «يومئذٍ» بدلاً منها، فالعاملُ فيه العاملُ فيها، أو شيءٌ آخرُ لأنه على نيةِ تكرارِ العاملِ. خلافٌ مشهورٌ.

5

قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ} : متعلِّقٌ ب «تُحَدِّثُ» أي: تُحَدِّثُ. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ «أخبارَها» وقيل: الباءُ زائدةٌ، وأنَّ وما في حَيِّزها بدلٌ من «أخبارَها» وقيل: الباءُ سببيةٌ، أي: بسبب إيحاءِ اللَّهِ تعالى إليها. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: أين مفعولاً»

تُحَدِّثُ «؟ قلت: حُذِفَ أَوَّلُهما، والثاني:» أخبارَها «، وأصله: تُحَدِّث الخلقَ أخبارَها. إلاَّ أنَّ المقصودَ ذِكْرٌ تَحْديثِها الأخبارَ لا ذِكْرُ الخَلْقِ تعظيماً لليوم. فإنْ قلت: بمَ تَعَلَّقَتِ الباءُ في قولِه» بأنَّ ربَّك «؟ قلت: بتُحَدِّثُ؛ لأنَّ معناه: تُحَدِّثُ أخبارَها بسببِ إيحاءِ رَبِّك. ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى: تُحَدِّثُ ربَّك بتحديثِ أنَّ ربَّك أوحى لها أخبارَها، على أنَّ تَحْديثَها بأنَّ ربَّك أوحى لها تَحْديثٌ بأخبارِها، كما تقول: نَصَحْتَني كلَّ نصيحة بأَنْ نَصَحْتَني في الدين» قال الشيخ: «وهو كلامٌ فيه عَفْشٌ يُنَزَّه القرآنُ عنه» . قلت: وأيُّ عَفْشٍ فيه مع صِحَّته وفصاحتِه؟ ولكنْ لَمَّا طالَ تقديرُه مِنْ جهةِ إفادتِه هذا المعنى الحسنَ جَعَله عَفْشاً وحاشاه. ثم قال الزمخشريُّ: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» بأنَّ ربَّك «بدلاً مِنْ» أخبارَها «كأنه قيل: يومئذٍ تُحَدِّثُ بأخبارِها بأنَّ ربَّك أوحى لها؛ لأنَّك تقول: حَدَّثْتُه كذا، وحَدَّثْتُه بكذا» قال الشيخ: «وإذا كان الفعلُ يتعدَّى تارةً بحرفِ جرٍّ، وتارةً يتعدى بنفسِه، وحرفُ الجرِّ ليس بزائدٍ، فلا يجوزُ في تابِعه إلاَّ الموافقةُ في الإِعرابِ فلا يجوز:» استغفَرْتُ الذنبَ العظيمِ «بنصبِ» الذنبَ «وجَرِّ» العظيم «لجواز أنَّك تقولُ» من الذنب «، ولا» اخْتَرْتُ زيداً الرجالَ الكرامِ «بنصبِ الرجالَ» وخَفْضِ الكرامِ «، وكذلك لا يجوزُ اَنْ تقولَ:» استغفرتُ من الذنبِ العظيمَ «بنصبِ» العظيمَ «وكذلك في» اخْتَرْتُ «فلو كان حرفُ الجر زائداً جاز الإِتباعُ

على موضعِ الاسمِ بشروطهِ المحررةِ في علمِ النحوِ تقول:» ما رأيتُ مِنْ رجلٍ عاقلاً «لأنَّ» مِنْ «زائدةٌ،» ومِنْ رجل عاقلٍ «على اللفظِ، ولا يجوز نَصْبُ» رجل «وجَرُّ» عاقل «على جوازِ مراعاةِ دخولِ» مِنْ «، وإنْ وَرَدَ شيءٌ مِنْ ذلك فبابُه الشِّعْرُ» انتهى. ولا أَدْري كيف يُلْزِمُ الزمخشريَّ ما أَلْزَمَه به من جميعِ ِالمسائلِ التي ذكَرَها، فإنَّ الزمخشريِّ يقول: إنَّ هذا بدلٌ مِمَّا قبلَه، ثم ذَكَرَ مُسَوِّغَ دخولِ الباءِ في البدلِ: وهو أنَّ المُبْدَلَ منه يجوزُ دخولُ الباءِ عليه، فلو حَلَّ البدلُ مَحَلَّ المبدلِ منه ومعه الباءُ، لكان جائزاً؛ لأنَّ العاملَ يتعَدَّى به، وذَكَرَ مُسَوِّغاً لخُلُوِّ المبدلِ منه من الباءِ فقال: «لأنَّك تقول: حَدَّثْتُه كذا وحَدَّثْتُه بكذا» وأمَّا كَوْنُه يَمْتنعُ أَنْ تقولَ: «استغفَرتُ الذنبَ العظيمِ» بنَصْبِ «الذنبَ» وجرِّ «العظيمِ» إلى آخرِه، فليس في كلامِ الزمخشريِّ شيءٌ منه البتةَ. ونظيرُ ما قاله الزمخشريُّ في بابِ «استغفر» أَنْ تقولَ «استغفرْتُ اللَّهَ ذنباً مِنْ شَتْمي زيداً» فقولك: «مِنْ شَتْمي» بدلٌ مِنْ «الذنب» وهذا جائزٌ لا مَحالةَ. قوله: {أوحى لَهَا} في هذه اللامِ أوجهٌ، أحدُها: أنها بمعنى إلى، وإنما أُوْثِرَتْ على «إلى» لموافقةِ الفواصلِ. وقال العجَّاج في وَصْف الأرض: 4614 - أَوْحَى لها القرارَ فاستقرَّتِ ... وشَدَّها بالرَّاسياتِ الثُّبَّتِ الثاني: أنَّها على أصلِها، و «أوحى» يتعدَّى باللامِ تارةً وب «إلى» أخرى، ومنه البيتُ المتقدمُ، الثالث: أنَّ اللامَ على بابها من العلةِ،

والموحى إليه محذوفٌ، وهو الملائكةُ، تقديرُه: أوحى إلى الملائكةِ لأجلِ الأرضِ، أي: لأَجْلِ ما يَفْعَلون فيها.

6

قوله: {يَوْمَئِذٍ} : إمَّا بدلٌ مِنْ يومئذٍ «قبلَه، وإمَّا منصوبٌ ب» يَصْدُرُ «وإمَّا منصوبٌ ب» اذْكُرْ «مقدراً. قوله: {أَشْتَاتاً} حالٌ مِنْ» الناس «وهو جمع شَتَّ، أي: متفرِّقين في الأمنِ والخوفِ والبياضِ والسوادِ. قوله: {لِّيُرَوْاْ} متعلِّقٌ ب» يَصْدُرُ «وقيل: ب» أوحى «وما بينهما اعتراضٌ. والعامَّةُ على بنائِه للمفعولِ. وهو مِنْ رؤيةِ البصرِ فتعدَّى بالهمزِة إلى ثانٍ، وهو» أعمالَهم «وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحمادة بن سَلَمة - وتروى عن نافع، قال الزمخشري:» وهي قراءةُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «- مبنياً للفاعل والمعنى: جزاءَ أعمالِهم.

7

قوله: {خَيْراً} ، {شَرّاً} : في نصبِهما وجهان، أظهرهما: أنهما تمييز للمِثْقال فإنه مقدارٌ. والثاني: أنهما بدلان مِنْ «مثقالَ» قوله: {يَرَهُ} جوابُ الشرط في الموضعين. وقرأ هشام بسكونِ هاء «يَرَهْ» وَصْلاً في الحرفَيْن. وباقي السبعةِ بضمِّها موصولةً بواوٍ وَصْلاً،

وساكنةً وَقْفاً كسائرِ هاءِ الكنايةِ، هذا ما قرَأْتُ به. ونَقَل الشيخُ عن هشام وأبي بكر سكونَها، وعن أبي عمرو ضمُّها مُشْبعة، وباقي السبعةِ بإشباعِ الأولى وسكونِ الثانية. انتهى. وكان ذلك لأجلِ الوقفِ على آخرِ السورةِ غالباً. أمَّا لو وَصَلوا آخرَها بأولِ «العادِيات» كان الحكمُ الإِشباعَ هذا مقتضى أصولِهم كما قَدَّمْتُه وهو المنقولُ. وقرأ العامَّةُ «يَرَهُ» مبنياً للفاعلِ. وقرأ ابن عباس والحسين بن علي وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية «يُرَه» مبنياً للمفعول. وعكرمة «يَراه» بالألفِ: إمَّا على تقديرِ الجزمِ بحَذْفِ الحركةِ المقدرة، وإمَّا على تَوَهُّمِ أنَّ «مَنْ» موصولةٌ، وتحقيق هذا مذكورٌ في أواخِر يوسف. وحكى الزمخشري أن أعرابياً أَخَّر «خيراً يَرَهُ» فقيل له: قَدَّمْتُ وأَخَّرْتَ، فأنشد: 4615 - خذا بَطْنَ هرشى أوقَفاها فإنَّه ... كِلا جانِبَيْ هرشى لَهُنَّ طريقُ

انتهى. يريدُ أنَّ التقديمَ والتأخيرَ سواءٌ، وهذا لا يجوزُ البتةَ فإنه خطأٌ لا يُعْتَقَدُ به قراءةً. والذَّرَّة قيل: النملةُ الصغيرةُ. وأصغرُ ما تكونُ قضى عليها حَوْلٌ قال امرؤ القيس: 4616 - من القاصراتِ الطَرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا

العاديات

قوله: {والعاديات} : جمعُ «عادِيَة» وهي الجاريَةُ بسُرعةٍ، من العَدْوِ، وهو المَشْيُ بسُرْعةٍ. والياءُ عن واوٍ لكَسْرِ ما قبلها نحو: الغازِيات من الغَزْوِ. يُقال: عَدا يَعْدُوا عَدْواً، فهو عادٍ وهي عادِيَةٌ، وقد تقدَّمَ هذا في المؤمنين. قوله: {ضَبْحاً} فيه أوجهٌ. أحدُها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ؛ فإنَّ الضَّبْحَ نوعٌ من السيرِ والعَدْوِ كالضَّبْع. يقال: ضَبَحَ الفَرَسُ وضَبَعَ، إذا عدا بشدةٍ، أَخْذاً مِن الضَّبْع، وهو الذِّرَاع لأنه يَمُدُّه عند العَدْوِ، وكأنَّ الحاءَ بدلٌ من العين. وإلى هذا ذهب أبو عبيدةَ. والمبردُ. قالا الضَّبْحُ مِنْ إضباعِها في السَّيْرِ. وقال عنترةُ: 4617 - والخيلُ تعلَمُ حين تَضْ ... بَحُ في حِياضِ المَوْتِ ضَبْحاً

الثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، أي: ضابحاتٍ، أو ذوي ضَبْح. والضَّبْحُ: صوتٌ يُسْمَعُ مِنْ صدورِ الخيلِ عند العَدْوِ، ليس بصَهيلٍ. وعن ابن عباس: انه حكاه فقال: أحْ أحْ. ونُقل عنه: أنه لم يَضْبَحْ من الحيوان غيرُ الخيلِ والكَلْبِ والثعلبِ. وهذا يَنْبغي أَنْ لا يَصِحَّ عنه، فإنه رُوي أنه قال: سُئِلْتُ عنها ففَسَّرْتُها بالخيل. وكان عليٌّ رضي الله عنه تحت سِقايةِ زمزم فسأله، وذَكَر له ما قلتُ. فدعاني فلمَّا وقفْتُ على رأسِه قال: «تُفْتي الناسَ بغيرِ علمٍ، إنَّها لأولُ غزوةٍ في الإِسلام وهي بدرٌ، ولم يكنْ معنا إلاَّ فَرَسان: فرسٌ للمِقْداد، وفرسٌ للزُّبَيْر، والعادياتِ ضَبحْاً: الإِبلُ مِنْ عرفَةَ إلى المزدلفةِ، ومن المزدلفةِ إلى مِنى» إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال بعد ذلك: «فإنْ صَحَّتِ الروايةُ فقد اسْتُعير الضَّبْحُ للإِبِل، كما اسْتُعير المَشافِرُ والحافِرُ للإِنسان، والشَّفتان للمُهْر» ونَقَل غيرُه أن الضَّبْحَ يكونُ في الإِبلِ والأسْوَدِ من الحَيَّاتِ والبُومِ والصدى والأرنبِ والثعلبِ والقوسِ. وأنشد أبو حنيفةَ في صفةِ قَوْس. 4618 - حَنَّانَةٌ مِنْ نَشَمٍ أو تالبِ ... تَضْبَحُ في الكَفِّ ضُباحَ الثعلبِ وعندي أنَّ هذا مِن الاستعارةِ. ونَقَلَ أهلُ اللغةِ أنَّ أصلَ الضَّبْحِ في

الثعلبِ فاسْتُعير للخيلِ، وهو مِنْ ضَبَحَتْه النارُ: أي غَيَّرت لونَه ولم تُبالغْ فيه. والضَّبْحُ لونٌ يُغَيِّرُ إلى السواد قليلاً. الثالث: من الأوجه: أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، أي: تَضْبَحُ ضَبْحاً. وهذا الفعلُ حالٌ من «العاديات» . الرابع: أنَّه منصوبٌ بالعادِيات، وإنْ كان المرادُ به الصوتَ. قال الزمخشري: «كأنَّه قيل: والضَّابحاتِ لأنَّ الضَّبْحَ يكون مع العَدْوِ» . قال الشيخ: «وإذا كان الضَّبْحُ مع العَدْوِ فلا يكون معنى» والعادياتِ «: والضَّابحاتِ فلا ينبغي أن يُفَسَّرَ به» . قلت: لم يَقُلْ الزمشخريُّ أنه بمعناه، وإنما جعله منصوباً به؛ لأنه لازمٌ له لا يُفارِقُه فكأنَّه ملفوظٌ به. وقوله: «كأنه قيل» تفسيرٌ للتلازُمِ، لا أنه هو هو.

2

قوله: {قَدْحاً} : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ الإِيراء من القَدْح يقال: قَدَحَ فَأَوْرَى وقَدَح فأَصْلَدَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً فالمعنى: قادحاتٍ، أي: صاكَّاتٍ بحوافِرها ما يُوْرِي النارَ يُقال: «قَدَحْتُ الحجرَ بالحجرِ» أي: صَكَكْتُه به. وقال الزمخشري: «انتصَبَ بما انتصَبَ به ضَبْحاً» . وكان جَوَّزَ في نَصْبِه ثلاثةَ أوجهٍ: النصبَ بإضمارِ فعلٍ، والنصبَ باسمِ الفاعلِ قبلَه، لأنه مُلازِمُه، والنصبَ على الحال. وتُسَمَى تلك النارُ التي تَخْرُج من الحوافرِ نارَ الحُباحِب. قال:

4619 - تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ ... وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ

3

قوله: {فالمغيرات صُبْحاً} : صُبْحاً: ظرفٌ، أي: التي تُغير وقتَ الصبح يقال: أغارَ يُغير إغارةً باغَتَ عَدُوَّه لنَهْبٍ أو قَتْلٍ أو أَسْرٍ قال: 4620 - فلَيْتَ لي بهمُ قوماً إذا رَكِبوا ... شَنُّوا الإِغارةَ فُرْساناً ورُكْبانا و «غار» لُغَيَّةٌ، وأغار وغارَ أيضاً: نَزَل الغَوْرَ وهو المُنْهَبَطُ من الأرض. واختلف الناسُ في موصوفاتِ هذه الصفاتِ أعني العاديات وما بعدها فقيل: الخيلُ، أي والخيلِ العادياتِ، فالمُورياتِ، فالمُغيراتِ. ونظيرُ العطفِ هنا كالعطفِ في قولِه: 4621 - يا لَهْفَ زيَّابةَ لِلحارِث ال ... صابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ وتقدَّم تقريرُه أولَ البقرة. وقيل: التقديرُ: والإِبلِ العادياتِ مِنْ عرفةَ إلى مزدلفةَ، ومِنْ مزدلفةَ إلى مِنى، كما تقدَّم عن أمير المؤمنين. ويَدُلُّ له قولُ صفيَّةَ بنتِ عبد المطلب:

4622 - أمَا والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ ... بأَيْديها إذا سَطَع الغُبارُ وقيل: «فالموريات» أي: الجماعةُ التي تَمْكُرُ في الحرب. تقول العرب: لأُوْرِيَنَّ لك، لأَمْكُرَنَّ بك.

4

قوله: {فَأَثَرْنَ} : عَطَفَ الفعلَ على الاسمِ؛ لأنَّ الاسمَ في تأويل الفعلِ لوقوعِه صلةً ل أل. قال الزمخشري: «معطوفٌ على الفعلِ الذي وُضِعَ اسمُ الفاعلِ موضعَه» يعني في الأصل، إذ الأصلُ: واللاتي عَدَوْنَ فأَوْرَيْنَ فأغَرْنَ فَأَثَرْنَ. قوله: {بِهِ} : في الهاء أوجهٌ. أحدُهما: أنها ضميرُ الصُّبح، أي: فَأَثَرْنَ في وقتِ الصُّبح غُباراً. وهذا حَسَنٌّ؛ لأنه مذكورٌ بالصَّريح. الثاني: أنه عائدٌ على المكانِ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لأنَّ الإِثارةَ لا بُدَّ لها من مكان، فالسِّياقُ والفعلُ يَدُلاَّن عليه. وفي عبارةِ الزمخشريِّ: «وقيل: الضمير لمكان الغارة» هذا على تلك اللُّغَيَّةِ، وإلاَّ فالفصيحُ أَنْ يقولَ: الإِغارة الثالث: أنَّه ضميرُ العَدْوِ الذي دَلَّ عليه «والعادياتِ» . وقرأ العامَّةُ بتخفيفِ الثاءِ، مِنْ أثار كذا: إذا نَشَره وفَرَّقه مع ارتفاعٍ. وقرأ أبو حَيْوَةَ وابن أبي عبلة بتشديدها، وخَرَّجه الزمخشريُّ

على وجهَيْن: الأولُ بمعنى فأَظْهَرْنَ به غباراً؛ لأنَّ التأثيرَ فيه معنى الإِظهارِ. والثاني: أنه قَلَبَ «ثَوَّرْنَ» إلى «وَثَّرْنَ» وقَلَبَ الواوَ همزةً. انتهى. قلت: يعني أنَّ الأصلَ: ثَوَّرْنَ، مِنْ ثَوَّر يُثَوِّرُ بالتشديد عَدَّاه بالتضعيف كما يُعَدَّى بالهمزة في قولِك: أثاره، ثم قَلَبَ الكلمةَ: بأنْ جَعَلَ العينَ وهي الواوُ موضعَ الفاء، وهي الثاءُ، فصارت وَثَّرْنَ، ووزنُها حينئذٍ عَفَّلْنَ، ثم قَلَبَ الواوَ همزةً، فصار «أَثَرْنَ» وهذا بعيدٌ جداً. وعلى تقديرِ التسليمِ فَقَلْبُ الواوِ المفتوحةِ همزةً لا يَنْقاس إنما جاءت منه أُلَيْفاظٌ كأَحَدٍ وأَناةٍ. والنَّقْعُ: الغبار وأُنْشِد: 4623 - يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتطارِ النَّقْعِ داميةً ... كأنَّ آذانَها أطرافُ أَقْلامِ وقال ابن رَواحة: 4624 - عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَرَوْها ... تُثير النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَداءِ وقال أبو عبيد: «النَّقْعُ رَفْعُ الصوتِ» وأَنْشَد:

4625 - فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ ... يُحْلِبُوْها ذاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالنَّقْع الصياحُ، من قولِه عليه السلام:» ما لم يكن نَقْعٌ ولا لَقْلَقَةٌ «وقولُ لبيد: فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: هَيَّجْنَ في المَغارِ عليهم صَباحاً» انتهى. فعلى هذا تكون الباءُ بمعنى «في» ويعودُ الضمير على المكانِ الذي فيه الإِغارةُ كما تقدَّمَ.

5

قوله: {فَوَسَطْنَ} : العامَّةُ على تخفيفِ السينِ، أي: تَوَسَّطْنَ. وفي الهاءِ في «به» أوجهٌ، أحدُها: أنها للصبح، كما تقدَّم. والثاني: أنها للنَّقْعِ، أي: وَسَطْنَ بالنَّقْعِ الجَمْعَ، أي: جَعَلْنَ الغبارَ وَسْطَ الجمع، فالباءُ للتعدية، وعلى الأولِ هي ظرفيةٌ، الثالث: أنَّ الباءَ للحاليةِ، أي: فتوَسَّطْن مُلْتبساتٍ بالنقع، أي: بالغبار جمعاً من جموع الأعداء. وقيل: الباءُ مزيدةٌ، نقله أبو البقاء و «جَمْعاً» على هذه الأوجهِ مفعولٌ به. الرابع: أنَّ المرادَ ب جَمْع المزدلفةُ وهي تُسَمَّى جَمْعاً. والمرادُ أنَّ الإِبلَ تتوسَّطُ جَمْعاً الذي هو المزدلفةُ، كما مرَّ عن أميرِ

المؤمنين رضي الله عنه، فالمرادُ بالجَمْعِ مكانٌ لا جماعةُ الناسِ، كقولِ صفية: 4626 -. . . . . . . . . . . والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقولِ بشرِ بنِ أبي خازم: 4627 - فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمُ وأَفْلَتَ حاجبٌ ... تحت العَجابةِ في الغُبارِ الأَقْتَمِ و «جَمْعاً» على هذا منصوبٌ على الظرف، وعلى هذا فيكونُ الضميرُ في «به» : «إمَّا للوقتِ، أي: في وقت الصبح، وإمَّا للنَّقْع، وتكونُ الباءُ للحال، أي: مُلْتبساتٍ بالنَّقْع. إلاَّ أنه يُشْكِلُ نَصْبُ الظرفِ المختصِّ إذ كان حَقُّه أَنْ يتعدى إليه ب» في «وقال أبو البقاء:» إنَّ جَمْعاً حالٌ «وسبقه إليه مكي. وفيه بُعْدٌ؛ إذ المعنى: على أنَّ الخيلَ توسَّطَتْ جَمْعٌ الناسِ. وقرأ علي وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى بتشديد السين، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ أعني التثقيلَ والتخفيفَ. وقال الزمخشري:»

التشديدُ للتعديةِ والباءُ مزيدةٌ للتأكيدِ كقوله: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة: 25] وهي مبالَغَةٌ في «وَسَطْن» انتهى. وقولُه: «وهي مبالَغَةٌ» يناقِضُ قولَه أولاً «للتعدية» ؛ لأن التشديدَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً آخر تقول: «ذَبَحْتُ الغنم» مخففاً ثم تبالِغُ فتقول: «ذَبَّحْتها» مثقلاً، وهذا على رأيِه قد جَعَله متعدياً بنفسِه بدليلِ جَعْلِه الباءِ مزيدةً فلا يكون للمبالغة.

6

قوله: {إِنَّ الإنسان} : هذا هو المُقْسَم عليه و «لرَبَّه» متعلِّقٌ بالخبرِ، وقُدِّمَ للفواصلِ. والكَنُوْدُ: الجَحُوْد. وقيل: الكَفورُ النعمةِ وأُنْشِد: 4628 - كَنُوْدٌ لِنَعْماءِ الرجالِ ومَنْ يَكُنْ ... كَنُوْداً لِنَعْماءِ الرجالِ يُبَعَّدِ وعن ابن عباس: هو بلسانِ كِنْدَةَ وحَضْرَمَوْتَ العاصي، وبلسان ربيعةَ ومُضَرَ الكَفورُ، وبلسانِ كِنانةَ البخيل. وأنشد أبو زيد: 4629 - إنْ تَفْتْني فلم أَطِبْ عنك نَفْساً ... غيرَ أنِّي أمنى بدَيْنٍ كَنُودِ

8

قوله: {لِحُبِّ} : اللامُ متعلِّقَةٌ ب «شديدٌ» وفيه وجهان، أحدهما: أنها المعدِّيةُ. والمعنى: وإنَّه لقَويٌّ مُطيقٌ لِحُبِّ

الخير يقال: هو شديدٌ لهذا الأمرِ، أي: مُطيقٌ له والثاني: أنها للعلةِ، أي: وإنَّه لأجلِ حبِّ المالِ لَبخيلٌ. وقيل: اللامُ بمعنى «على» . ولا حاجةَ إليه، وقد يُعَبَّرُ بالشديدِ والمتشدِّدِ عن البخيل قال: 4630 -[أرى] الموتَ يَعْتامُ الكرامَ ويَصْطَفي ... عَقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّدِ وقال الفراء: «أصلُ نَظْمِ الآية أَنْ يقالَ: وإنه لشديدُ الحُبِّ للخير، فلما قَدَّم» الحُبّ «قال: لشديد، وحَذَفَ مِنْ آخرِه ذِكْرَ» الحُبِّ «؛ لأنه قد جرى ذِكْرُه، ولرؤوسِ الآي كقولِه: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] والعُصُوف للريح لا لليوم، كأنه قال: في يومٍ عاصفِ الريحِ» .

9

قوله: {إِذَا بُعْثِرَ} : في العاملِ فيها أوجهٌ أحدُها: «بُعْثِرَ» نقله مكي عن المبرد وتقدَّم تحريرُ هذا قريباً في السورةِ قبلَها. والثاني: أنه ما دَلَّ عليه خبرُ «إنَّ» أي: إذا بُعْثر جُوزوا. والثالث: أنه «يَعْلَمُ» ، وإليه ذهب الحوفيُّ وأبو البقاء. ورَدَّه مكيُّ قال: «لأنَّ الإِنسانَ لا يُرادُ منه العِلْمُ والاعتبارُ ذلك الوقتَ، وإنما يَعْتَبِرُ في الدنيا ويعلَمُ» وقال الشيخ: «وليس بمتَّضِحٍ لأنَّ المعنى: أفلا يعلَمُ الآن.

وكان قد قال قبل ذلك:» ومفعولُ يَعْلَمُ محذوفٌ وهو العاملُ في الظرفِ، أي: أفلا يعلم مآلَه إذا بُعْثِرَ «انتهى. فجَعَلَها متعديةً في ظاهرِ قولِه إلى واحدٍ، وعلى هذا فقد يُقال: إنها عاملةٌ في» إذا «على سبيلِ أنَّ» إذا «مفعولٌ به لا ظرفٌ إذ التقديرُ: أفلا يَعْرِفُ وقتَ بَعْثَرَةِ القبورِ. يعني أَنْ يُقِرَّ بالبعثِ ووقتِه، و» إذا «قد تصر‍َّفَتْ وخَرَجَتْ عن الظرفيةِ، ولذلك شواهدُ تقدَّم ذِكْرُها في غضونِ هذا التصنيفِ. الرابع: أنَّ العاملَ فيها محذوفٌ، وهو مفعولٌ» يَعْلَمُ «كما تقدَّم تقريرُه، أي: يعلمُ مآلَه إذا بُعْثِرَ. ولا يجوزُ أن يعملَ فيه» لَخبيرٌ «لأنَّ ما في حَيِّز» إنَّ «لا يتقدَّمُ عليها. وقرأ العامَّةُ» بُعْثِرَ «بالعين مبنياً للمفعولِ. والموصولُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ. وابن مسعودٍ بالحاء. وقرأ الأسود بن يزيد ومحمد بن معدان» بُحِثَ «من البحث. ونصر بن عاصم» بَعْثَرَ «مبنياً للفاعل وهواللَّهُ تعالى أو المَلَكُ. والعامَّةُ» حُصِّل «مبنياً للمفعولِ كالذي قبلَه. ويحيى بن يعمر ونصرُ بن عاصم وابن معدان» حَصَّلَ «مبنياً للفاعلِ. ورُوِي عن ابن يعمرَ ونصرٍ أيضاً» حَصَلَ «خفيفةَ الصادِ مبنياً للفاعل بمعنى: جَمَعَ ما في الصحفِ تَحَصُّلاً، والتحصيلُ: جَمْعُ الشيء، والحُصولُ اجتماعُه. وقيل: التحصيلُ التمييزُ. ومنه قيل للمُنْخُل: مُحَصِّل. وحَصَل الشيءُ مخفَّفاً: ظَهَر واستبانَ، وعليه القراءةُ الأخيرةُ.

11

قوله: {إِنَّ رَبَّهُم} : العامَّةُ على كَسْرِ الهمزةِ لوجودِ اللامِ في خبرِها. والظاهرُ أنَّها معلِّقَةٌ ل «يَعْلَمُ» فهي في محلِّ نصب، ولكن لا يَعْمَلُ في «إذا» خبرُها لِما تقدَّم؛ بل يُقَدَّرُ له عاملٌ مِنْ معناه كما تقدَّم. ويدلُّ على أنها مُعَلِّقَةٌ للعِلْمِ لا مستأنفةٌ قراءةُ أبي السَّمَّال وغيرِه «أنَّ ربَّهم بهم يؤمئذٍ خبيرٌ» بالفتح وإساقطِ اللامِ، فإنَّها في هذه القراءةِ سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْها. ويُحْكَى عن الخبيثِ الروحِ الحَجَّاج أنه لما فَتَح همزةَ «أنَّ» استدرك على نفسِه فتعمَّد سقوطَ اللامِ. وهذا إنْ صَحَّ كُفْرٌ. ولا يُقالُ: إنها قراءةٌ ثابتةٌ، كما نَقَلْتُها عن أبي السَّمَّال، فلا يكفرُ، لأنه لو قرأها كذلك ناقِلاً لها لم يُمْنَعْ منه، ولكنه أسقطَ اللامَ عَمْداً إصلاحاً للِسانِه. وأجمعَ الأمةُ على أنَّ مَنْ زاد حرفاً في القرآن أو نَقَصَه عَمْداً فهو كافِرٌ، وإنما قلتُ ذلك لأنِّي رأيتُ الشيخَ قال: «وقرأ أبو السَّمَّال والحجَّاج» ولا يُحْفَظُ عن الحجَّاجِ إلاَّ هذا الأثرُ السَّوْءُ، والناسُ يَنْقُلونه عنه كذلك، وهو أقلُّ مِنْ أَنْ يُنْقَلَ عنه. و «بهم» و «يومئذٍ» متعلِّقان بالخبرِ، واللامُ غيرُ مانعةٍ من ذلك، وقُدِّما لأَجْلِ الفاصلةِ.

القارعة

قوله: {القارعة مَا القارعة} كقولِه تعالى: {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 12] وكقولِه: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] وقد تقدَّما وقد عَرَفْتَ مِمَّا نقله مكي أنه يجوزُ رَفْعُ «القارعة» بفعلٍ مضمرٍ ناصبٍ ل «يومَ» وقيل: معنى الكلامِ على التحذير. قال الزجاج: «والعرب تُحَذِّر وتُغْري بالرفع كالنصبِ. وأنشد: 4631 - لَجَديرون بالوفاءِ إذا ق ... لَ أخو النجدةِ السِّلاحُ السِّلاحُ قلت: وقد تقدَّم ذلك في قوله: {نَاقَةَ الله} [الشمس: 13] فيمَنْ رفعَه. ويَدُلُّ

على ذلك قراءةُ عيسى {القارعةَ ما القارعةَ} بالنصب، وهو بإضمارِ فعلٍ، أي: احذروا القارعةَ و» ما «زائدةٌ. والقارعةُ الثانيةُ تأكيدٌ للأولى تأكيداً لفظياً.

4

قوله: {يَوْمَ يَكُونُ} : في ناصبِه أوجهٌ، أحدُها: مضمرٌ يَدُلُّ عليه «القارعةُ، أي: تَقْرَعُهم يومَ يكون. وقيل: تقديرُه: تأتي القارعةُ يومَ. الثاني: أنَّه» اذْكُرْ «مقدَّراً فهو مفعولٌ به لا ظرفٌ. الثالث: أنَّه» القارعة «قاله ابنُ عطية وأبو البقاء ومكي. قال الشيخ:» فإنْ كان يعني ابنُ عطيةَ عني اللفظَ الأولَ فلا يجوزُ للفَصْلِ بين العاملِ، وهو في صلةِ أل، والمعمولِ بأجنبيٍ وهو الخبرُ، وإن جَعَلَ القارعةَ عَلَماً للقيامة فلا يعملُ أيضاً، وإنْ عنى الثاني والثالثَ فلا يَلْتَئِمُ معنى الظرفيةِ معه «. الرابع: أنه فعلٌ مقدرٌ رافعٌ للقارعةِ الأولى، كأنه قيل: تأتي القارعةُ يومَ يكون، قال مكيٌّ. وعلى هذا فيكونُ ما بينهما اعتراضاً وهو بعيدٌ جداً منافرٌ لنَظْم الكلام. وقرأ زيد بن علي» يومُ «بالرفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: وقتُها يومُ يكونُ. قوله: {كالفراش} يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً للناقصةِ، وأَنْ يكونَ حالاً

مِنْ فاعلِ التامَّةِ، أي: يُوْجَدُون ويُحْشَرونَ شِبْهَ الفَراشَ، وهو طائرٌ معروفٌ وقيل: هو الهَمَجُ من البعوضِ والجَرادِ وغيرهما، وبه يُضْرَبُ المَثَلُ في الطَّيْشِ والهَوَجِ يقال:» أَطَيْشُ مِنْ فَراشة «وأُنْشد: 4632 - فَراشَةُ الحُلْمِ فِرْعَوْنُ العذابِ وإنْ ... يُطْلَبُ نَداه فكَلْبٌ دونَه كَلْبُ وقال آخر: 4633 - وقد كانَ أقوامٌ رَدَدْتُ قلوبَهُمْ ... عليهم وكانوا كالفَراشِ من الجهلِ والفَراشةُ: الماءُ القليل في الإِناءِ، وفَراشة القُفْلِ لشَبَهها بالفَراشة. وفي تشبيه الناسِ بالفَراشِ مبالغاتٌ شتى منها: الطيشُ الذي يلْحَقُهم، وانتشارُهم في الأرض، ورُكوبُ بعضِهم بعضاً، والكثرةُ والضَّعْفُ والذِّلَّةُ والمجيءُ مِنْ غيرِ ذَهابٍ. والقَصْدُ إلى الداعي من كل جهةٍ، والتطايرُ إلى النار. قال جرير: 4634 - إنَّ الفرزدقَ ما عَلِمْتَ وقومَه ... مثلُ الفَراشِ غَشِيْنَ نارَ المُصْطَلي

والعِهْنُ تقدَّم في سأل.

9

قوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} : أي: هالكةٌ، وهذا مَثَلٌ. يقولون لمَنْ هَلَكَ: «هَوَتْ أمُّه» لأنه إذا هَلَكَ سَقَطَتْ أمُّه ثُكْلاً وحُزْناً. وعليه قولُ الشاعر: 463 - 5- هَوَتْ أمُّه ما يَبْعَثُ الصبحُ غادياً ... وماذا يَرُدُّ الليلُ حين يَؤُوْبُ وقرأ طلحة «فإمُّه» بكسرِ الهمزة. نَقَل ابنُ خالَوَيْه عن ابنِ دريد أنها لغةٌ. والنحويون لا يُجيزون ذلك إلاَّ إذا تقدَّمها كسرةٌ أو ياءٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورةِ النساء، واختلافُ القُرَّاء فيه.

10

قوله: {مَا هِيَهْ} : مبتدأ وخبرٌ سادَّان مَسَدَّ المفعولَيْن ل «أَدْراك» وهو من التعليقِ و «هي» ضميرُ الهاويةِ، إنْ كانت الهاويةَُ كما قيل اسماً ل دَرَكَةٍ مِنْ دَرَكاتِ النار، وإلاَّ عادَتْ على الداهية المفهومةِ من الهاويةِ. وأسقط هاءَ السكتِ حمزةُ وَصْلاً. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الحاقة. و «نارٌ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي نارٌ.

التكاثر

قوله: {حتى زُرْتُمُ} : «حتى» : غايةٌ لقولِه «أَلْهاكم» وهو عطفٌ عليه.

4

قوله: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} : جعله الشيخُ جمالُ الدينُ بنُ مالك من التوكيدِ اللفظي مع توسُّط حرفِ العطفِ. وقال الزمخشري: «والتكريرُ تأكيدٌ للرَّدْعِ والردِّ عليهم، و» ثم «دالَّةٌ على أنَّ الإِنذارَ الثاني أبلغُ من الأولِ وأشدُّ، كما تقولُ للمنصوح: أقولُ لك ثم أقولُ لك لا تفعَلْ» انتهى. ونُقِل عن عليّ كرَّمَ اللَّهُ وجهَه: «كلاَّ سوف تعلمون في الدنيا، ثم كلاًّ سوف تعلمون في الآخرة» فعلى هذا يكونُ غيرَ مكرَّرٍ لحصولِ التغايُرِ بينهما لأجل تغايُرِ المتعلِّقَيْنِ. و «ثُمَّ» على بابها من المُهْلة. وحُذِفَ متعلَّقُ العِلْمِ في الأفعالِ الثلاثةِ لأنَّ الغَرَضَ الفِعْلُ لا متعلَّقُه. وقال الزمخشري: «والمعنى: لو تعلمون الخطأَ فيما أنتم

عليه إذا عانَيْتُمْ ما تَنْقَلبون إليه» فقَدَّر له مفعولاً واحداً كأنه جَعَله بمعنى عَرَفَ.

5

قوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} جوابُه محذوفٌ. أي: لَفَعَلْتُم ما لا يُوصف. وقيل: التقديرُ: لرَجَعْتُمْ عن كُفْرِكم. وعلم اليقين: مصدرٌ. قيل: وأصلُه: العلمَ اليقينَ، فأُضِيِف الموصوفُ إلى صفتِه. وقيلَ: لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ العِلْمَ يكونُ يقيناً وغيرَ يقينٍ، فأُضِيفَ إليه إضافةُ العامِّ للخاصِّ. وهذا يَدُلُّ على أنَّ اليقينَ أخصُّ. وقرأ ابن عباس «أأَلْهاكم» على استفهام التقريرِ والإِنكارِ. ونُقِل في هذا: المدُّ مع التسهيل، ونُقِلَ فيه تحقيقُ الهمزتَيْن من غيرِ مَدّ.

6

قوله: {لَتَرَوُنَّ} هذا جوابُ قَسَم مقدَّرٍ. وقرأ ابن عامر والكسائي «لتُرَوْنَّ» مبنياً للمفعول. وهو منقولٌ مِنْ «رأى» الثلاثي إلى «أرى» فاكتسَبَ مفعولاً آخر فقام الأولُ مقامَ الفاعلِ. وبقي الثاني منصوباً. والباقون مبنياً للفاعلِ جعلوه غيرَ منقولٍ، فتعدى لواحدٍ فقط، فإنَّ الرؤيةَ بَصَريَّةِ. وأمير المؤمنين، وعاصم وابن كثير في روايةٍ عنهما بالفتح في الأولى والضمِّ في الثانية، يعني «لَتُرَوُنَّها» ومجاهد وابن أبي عبلة والأشهب بضمها فيهما. والعامَّةُ على أن الواوَيْن لا يُهْمزان؛ لأنَّ

حركتَهما عارضةٌ، نَصَّ على عدمِ جوازِه مكيُّ وأبو البقاء، وعَلَّلا بعُروضِ الحركةِ. وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلافٍ عنهما بهمزِ الواوَيْن استثقالاً لضمةِ الواوِ. قال الزمشخري: «وهي مستكرهَةٌ» يعني لِعُروض الحركةِ عليها إلاَّ أنَّهم قد هَمَزوا ما هو أَوْلى بعَدَمِ الهمزِ من هذه الواوِ نحو: {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] ، هَمَزَ واوَ «اشتَروْا» بعضُهم، مع أنها حركةٌ عارضةٌ وتزولُ في الوَقْفِ، وحركةُ هذه الواوِ، وإنْ كانت عارضةً، إلاَّ أنها غيرُ زائلةٍ في الوقفِ فهي أولى بَهْمزِها.

7

قوله: {عَيْنَ اليقين} : مصدرٌ مؤكِّدٌ. كأنه قيل: رؤيةَ العين، نفياً لتوَهُّمِ المجازِ في الرؤيةِ الأولى. وقال أبو البقاء: «لأنَّ رأى وعايَنَ بمعنىً» .

العصر

قوله: {والعصر} : العامَّةُ على سكونِ الصادِ. وسلام «والعَصِرْ» والصَّبِرْ «بكسرِ الصادِ والباء. قال ابنُ عطية: ولا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ على نَقْلِ الحركةِ. ورُوِيَ عن أبي عمروٍ» بالصَّبِر «بكسرِ الباء إشماماً. وهذا أيضاً لا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ» انتهى. ونَقَل هذه القراءةَ جماعةٌ كالهُذَليِّ وأبي الفضل الرازيِّ وابنِ خالويه. قال الهُذَليُّ: «والعَصِرْ والصَّبِرْ، والفَجِرْ، والوَتِرْ، بكسرِ ما قبل الساكنِ في هذه كلِّها هارونُ وابنُ موسى عن أبي عمروٍ والباقون بالإِسكانِ كالجماعةِ» انتهى. فهذا إطْلاقٌ منه لهذه القراءةِ في حالتي

الوقفِ والوصلِ. وقال ابن خالويه: «والصَّبِرْ» بنَقْل الحركةِ عن أبي عمرو «فأطْلَقَ ايضاً. وقال أبو الفضل:» عيسى البصرة بالصَّبِرْ «بنَقْلِ حركةِ الراءِ إلى الباءِ يُحتاجَ إلى أَنْ يأتيَ ببعضِ الحركةِ في الوقفِ، ولا إلى أَنْ يُسَكَّنَ فيُجْمَعَ بين ساكنَيْن، وذلك لغةٌ شائعةٌ وليسَتْ بشاذةٍ، بل مُسْتفيضةٌ، وذلك دَلالةٌ على الإِعرابِ، وانفصالٌ من التقاءِ الساكنَيْن، وتأديةُ حقِّ الموقوفِ عليه من السكونِ» انتهى. فهذا يُؤْذِنُ بما ذَكَرَ ابنُ عطيةَ أنه كان ينبغي. وأنشدوا على ذلك: 4636 -. . . . . . واصْطِفاقاً بالرِّجِلْ ... يريد بالرِّجْلِ. وقال آخر: 4637 - أنا جريرٌ كُنْيتي أبو عَمِرْ ... أَضْرِبُ بالسَّيْفِ وسَعْدٌ في القَصِرْ والنقلُ جائزٌ في الضمة أيضاً كقوله: 4638 -. . . . . . . . . . . . . إذْ جَدَّ النُّقُرْ ...

والعَصْرُ: الليلةُ واليومُ قال: 4639 - ولن يَلْبَثَ العَصْرانِ يَوْمٌ وليلةٌ ... إذا طلبا أن يُدْرِكا ما تَيَمَّما

2

قوله: {إِنَّ الإنسان} : المرادُ به العمومُ بدليلِ الاستثناءِ منه، وهو مِنْ جملةِ أدلة العمومِ. وقرأ العامَّةُ «لَفي خُسْرٍ» بسكونِ السينِ. وزيد بن علي وابنُ هرمز وعاصم في روايةٍ بضمِّها، وهي كالعُسْرِ واليُسْرٍِ، وقد تقدَّما أولَ هذا التصنيفِ في البقرة.

الهمزة

قوله: {هُمَزَةٍ} : أي: كثيرُ الهَمْزِ، وكذلك «اللُّمَزَة» الكثيرُ اللَّمْزِ. وتقدَّم معنى الهَمْزِ في ن، واللَّمْزِ في براءة. والعامَّةُ على فتحِ ميمِها على أنَّ المرادَ الشخصُ الذي كَثُرَ منه ذلك الفعلُ. قال زياد الأعجم: 4640 - تُدْلِي بِوْدِّيْ إذا لا قَيْتَني كَذِباً ... وإنْ أُغَيَّبْ فأنتَ الهامِزُ اللُّمَزَةْ وقرأ الباقر بالسكون، وهو الذي يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ، أي: يأتي بما يَهْمِزُ به ويَلْمِزُ كالضُّحَكَة لِمَنْ يَكْثُرُ ضَحِكُه، والضُّحْكة لِمَنْ يأتي بما

يُضْحَكُ منه. وهو مُطَّرِدٌ، أعني أنَّ فُعَلَة بفتح العين لمَنْ يَكْثُرُ منه الفِعْلُ، وبسكونِها لمَنْ يكونُ الفعلُ بسببه.

2

قوله: {الذى جَمَعَ} : يجوزُ جرُّه بدلاً، ونصبُه ورفعُه على القطع. ولا يجوزُ جَرُّه نعتاً ولا بياناً لتغايُرِهما تعريفاً وتنكيراً. وقولُه: «جَمَعَ» قرأ الأخَوان وابن عامر بتشديدِ الميم على المبالغةِ والتكثيرِ، ولأنَّه يوافِقُ «عَدَّدَه» والباقون «جمَعَ» مخففاً وهي محتمِلَةٌ للتكثيرِ وعدمِه. قوله: «وعَدَّدَه» العامَّةُ على تثقيل الدالِ الأول، وهو أيضاً للمبالغةِ. وقرأ الحسن والكلبُّي بتخفيفِها. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ المعنى: جَمَعَ مالاً وعَدَدَ ذلك المالَ، أي: وجَمَعَ عَدَدَه، أي: أحصاه. والثاني: أنَّ المعنى: وجَمَعَ عَدَدَ نفسِه مِنْ عَشِيرَتِهِ وأقاربِه، و «عَدَدَه» على هَذَيْنِ التأويلَيْنِ اسمٌ معطوفٌ على «مالاً» أي: وجَمَعَ عَدَدَ المالِ أو عَدَدَ نفسِه. الثالث: أنَّ «عَدَدَه» فعلٌ ماضٍ بمعنى عَدَّه، إلاَّ أنَّه شَذَّ في إظهارِه كما شَذَّ في قولِه: 4641 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...

إني أَجُوْدُ لأَِقْوامٍ وإنْ ضَنِنُوا

3

قوله: {يَحْسَبُ} : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعل «جَمَعَ» و «أَخْلَدَه» يعني يُخْلِدُه، فأوقع الماضيَ موقعَ المضارعِ. وقيل: هو على أصلِه، أي: أطال عُمْرَه.

4

قوله: {لَيُنبَذَنَّ} : جوابُ قسمٍ مقدرٍ. وقرأ عليُّ رضي الله عنه والحسن بخلافٍ عنه وابنُ محيصن وأبو عمروٍ في روايةٍ «ليُنْبَذانِّ» بألفِ التثنيةِ، أي: ليُنْبَذانِّ، أي: هو ومالُه. وعن الحسن أيضاً: «لَيُنْبَذُنَّ» بضمِّ الذالِ، وهو مُسْنَدٌ لضميرِ جماعةٍ، أي: لنَطْرَحَنَّ الهُمَزَةَ وأنصارَه. والحُطَمَةُ: الكثيرُ الحَطْمِ. يقال: رجلٌ حُطَمَةٌ، أي: أَكُولٌ وحَطَمْتُه: كَسَرْتُه. والحُطام منه قال: 4642 - قد لَفَّها الليلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ ... وقال آخر: 4643 - إنَّا حَطَمْنا بالقضيبِ مُصْعَباً ... يومَ كسَرْنا أَنْفَه لِيَغْضَبا

قوله: «نارُ الله» ، أي: هي نارُ الله.

7

قوله: {التي تَطَّلِعُ} يجوزَ أَنْ تكونَ تابعةً ل «نارُ الله» ، وأَنْ تكونَ مقطوعةً. . .

9

قوله: {فِي عَمَدٍ} : قرأ الأخَوان وأبو بكر بضمتين جمعَ «عَمُود» نحو: «رَسُول ورُسُل» . وقيل: جمعُ عِماد نحو: كِتاب وكُتُب. ورُوي عن أبي عمروٍ الضمُّ والسكونُ، وهو تخفيفٌ لهذهِ القراءةِ. والباقون «عَمَد» بفتحتَيْن. فقيل: اسمُ جَمْعٍ لعَمود. وقيل: بل هو جمعٌ له، قال الفراء: كأَدِيْم وأَدَم «وقال ابو عبيدة:» هو جمعُ عِماد «و» في عَمَدٍ «يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضميرِ في» عليهم «، أي: مُوْثَقِين، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ مُضمرٍ، أي: هم في عَمَدٍ، وأَنْ يكونَ صفةٌ لمُؤْصَدَة، قال أبو البقاء» يعني: فتكون النارُ داخلَ العَمَدِ «.

الفيل

يُجْمع على فُيول وفِيَلَة في الكثرة، وأَفْيال في القلة. قوله: {أَلَمْ تَرَ} : هذه قراءةُ الجمهورِ، أعني فتحَ الراءِ، وحَذْفُ الألفِ للجزم. وقرأ «السُّلَمِيُّ» تَرْ «بسكونِ الراءِ كأنه لم يَعْتَدَّ بحَذْفِ الألفِ كقولِهم:» لم أُبَلْهُ «وقرأ أيضاً» تَرْءَ «بسكونِ الراءِ وهمزةٍ مفتوحةٍ وهو الأصلُ و» كيف «مُعَلِّقَةٌ للرؤيةِ، وهي منصوبةٌ بفعلٍ بعدها.

3

قوله: {أَبَابِيلَ} : نعتٌ لطير، لأنَّه اسمُ جمعٍ. وأبابيل قيل: لا واحدَ له كأساطير وعَباديد، وقيل: واحدُهُ إبَّوْل كعِجَّوْل. وقيل: إبَّال وقيل: إبِّيْل مثلَ سِكِّين. وحكى الرقاشي أنه سُمع إبَّالة

بالتشديد. وحكى الفراء إبالة مخففة. والأبابيل: الجماعات شيئاً بعد شيء. وقال الشاعر: 4644 - طريقٌ وَجبَّارٌ رِواءٌ أصولُهُ ... عليه أبابيلٌ من الطيرِ تَنْعَبُ وقد يُسْتعارُ لغيرِ الطَيْرِ كقولِه: 4645 - كادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصوات راحلتي ... إذ سالَتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيلِ

4

قوله: {تَرْمِيهِم} : صفةٌ لطير. والعامَّةُ «تَرْميهم» بالتأنيثِ. وأبو حنيفة وابن يعمر وعيسى وطلحةُ بالياءِ مِنْ أسفلُ، وهما واضحتان؛ لأنَّ اسمَ الجمعِ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ ومِنَ التأنيث قولُه: 4646 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كالطَّيْرِ تَنْجو مِنْ الشُّؤْبوب ذي البَرَدِ وقيل: الضميرُ ل «ربُّك» أي: يَرْميهم رَبُّك. و «مِنْ سِجِّيل» صفةٌ لحِجارة. «وكعَصْفٍ» هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ معنى التَّصييرِ. وفيه مبالغةٌ حسنة. لم يَكْفِه أَنْ جَعَله أهونَ شيءٍ في الزَّرْع، وهو ما لا يُجْدي طائلاً، حتى جَعَله رَجيعاً.

قريش

قوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} : في متعلَّقِ هذه اللامِ، أوجهٌ، أحدُها: أنه ما في السورةِ قبلَها مِنْ قولِه {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ} [قريش: 5] . قال الزمخشري: «وهذا بمنزلةِ التَّضْمينِ في الشِّعْرِ» وهو أَنْ يتعلَّقَ معنى البيتِ بالذي قبلَه تَعَلُّقاً لا يَصِحُ إلا‍َّ به، وهما في مصحفِ أُبَي سورةٌ واحدٍ بلا فَصْلٍ. وعن عُمَرَ أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب وفي الأولى بسورةِ «والتين» انتهى. وإلى هذا ذهبَ أبو الحسنِ الأخفشُ إلاَّ أنَّ الحوفيَّ قال: «ورَدَّ هذا القولَ جماعةٌ: بأنَّه لو كان كذا لكان» لإِيلافِ «بعضَ سورةِ» ألم تَرَ «وفي إجماعِ الجميعِ على الفَصْلِ بينهما ما يدلُّ على عَدَمِ ذلك» الثاني: أنَّه مضمرٌ تقديرُه: فَعَلْنا ذلك، أي: إهلاكَ أصحابِ الفيل لإِيلافِ قريش. وقيل: تقديرُه اعْجَبوا. الثالث: أنه قولُه «فَلْيَعْبُدوا» .

وإنما دَخَلَتْ الفاءُ لِما في الكلامِ مِنْ معنى الشرطِ، أي: فإنْ لم يَعْبُدوه لسائرِ نِعَمِه فَلْيَعْبدوه لإِيلافِهم فإنَّها أَظْهَرُ نعمِهِ عليهم، قاله الزمخشري وهو قولُ الخليلِ قبلَه. وقرأ ابن عامر «لإِلافِ» دونَ ياءٍ قبل اللامِ الثانيةِ، والباقون «لإِيلافِ» بياءٍ قبلَها، وأَجْمَعَ الكلُّ على إثبات الياءِ في الثاني، وهو «إيلافِهِمْ» ومِنْ غريبِ ما اتَّفَق في هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القرَّاءَ اختلفوا في سقوطِ الياءِ وثبوتِها في الأولِ، مع اتفاقِ المصاحفِ على إثباتِها خَطَّاً، واتفقوا على إثباتِ الياءِ في الثاني مع اتفاقِ المصاحفِ على سقوطِها فيه خَطَّاً، فهو أَدَلُّ دليلٍ على أنَّ القُرَّاءَ مُتَّبِعون الأثَر والروايةَ لا مجرَّدَ الخطِّ. فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ ففيها وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ ل أَلِف ثلاثياً يُقال: أَلِفْتُه إلافاً، نحو: كتبتُه كِتاباً، يُقال: أَلِفْتُه إلْفاً وإلافاً. وقد جَمَعَ الشاعرُ بينَهما في قولِه: 4647 - زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لهم إلْفٌ وليس لكُمْ إلافُ والثاني: أنَّه مصدرُ آلَفَ رباعياً نحو: قاتَلَ قِتالاً. وقال

الزمخشري: «أي: لمُؤالَفَةِ قريشٍ» . وأمَّا قراءةُ الباقين فمصدرُ آلَفَ رباعياً بزنةِ أَكْرَم يقال: آلَفْتُه أُوْلِفُه إيْلافاً. قال الشاعر: 4648 - مِنَ المُؤْلِفاتِ الرَّمْلِ أَدْماءُ حُرَّةٍ ... شعاعُ الضُّحى في مَتْنِها يَتَوضَّحُ وقرأ عاصمٌ في روايةٍ «إإْلافِهم» بمهزتين: الأولى مسكورةٌ والثانية ساكنةٌ، وهي شاذَّةٌ، لأنه يجب في مثلِه إبدالُ الثانية حرفاً مجانساً كإِيمان. ورُويَ عنه أيضاً بِهَمْزَتين مَكْسورَتَيِن بعدهما ياءٌ ساكنةٌ. وخُرِّجَتْ على أنه أَشْبَعَ كسرةً الهمزةِ الثانية فتولَّد منها ياءٌ، وهذه أَشَذُ مِنْ الأولى ونَقَلَ أبو البقاء أشَذَّ منها فقال: «بهمزةٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ، بعدها همزةٌ مسكورةٌ، وهو بعيدٌ. ووَجْهُها أنه أشبعَ الكسرةَ فنشَأَتْ الياءُ، وقَصَد بذلك الفصلَ بين الهمزتَيْن كالألفِ في {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] .

وقرأ أبو جعفر «لإِلْفِ قُرَيْشٍ» بزنة قِرْد. وقد تقدَم أنه مصدرٌ لأَلِفَ كقوله: 4649 -. . . . . . . . . . . . . . . . . ... لهم إلْفٌ وليس لكم إلافُ وعنه أيضاً وعن ابن كثير «إلْفِهم» وعنه أيضاً وعن ابن عامر «إلا فِهِمْ» مثل: كِتابهم. وعنه أيضاً «لِيْلافِ» بياءٍ ساكنةٍ بعد اللامِ؛ وذلك أنه لَمَّا أبدل الثانيةَ حَذَفَ الأولى على غير قياسٍ. وقرأ عكرمةُ «لِتَأْلَفْ قُرَيْش» فعلاً مضارعاً وعنه «لِيَأْلَفْ على الأمر، واللامُ مكسورةٌ، وعنه فَتْحُها مع الأمرِ وهي لُغَيَّةٌ. وقُرَيْش اسمٌ لقبيلةٍ. قيل: هم وَلَدُ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ، وكلُّ مَنْ وَلَدُه النَّضْرُ فهو قُرَشِيٌّ دونَ كِنانةَ، وهو الصحيحُ وقيل: هم وَلَدُ فِهْرِ بن مالك ابن النَّضْر بنِ كِنانةَ. فَمَنْ لم يَلِدْه فِهْرٌ فليس بقُرَشيٍّ، فوقع الوِفاقُ على أنَّ بني فِهْرٍ قرشيُّون. وعلى أنًَّ كنانةَ ليسوا بقرشيين. ووقع الخلافُ في النَّضْر ومالكٍ. واخْتُلِفَ في اشتقاقِه على أوجه، أحدها: أنه من التَّقَرُّشِ وهو التجمُّعُ سُمُّوا بذلك لاجتماعِهم بعد افتراقِهم. قال الشاعر: 4650 - أبونا قُصَيُّ كان يدعى مُجَمِّعاً ... به جَمَّعَ اللَّهُ القبائلَ مِنْ فِهْرِ

والثاني: أنه من القَرْشِ وهو الكَسْبُ. وكانت قريشٌ تُجَّاراً. يقال: قَرَشَ يَقْرِشُ أي: اكتسب. والثالث: أنه مِنْ التفتيش. يقال قَرَّشَ يُقَرِّشُ عني، أي: فَتَّش. وكانت قريشٌ يُفَتِّشون على ذوي الخُلاَّنِ ليَسُدُّوا خُلَّتَهم. قال الشاعر: 4651 - أيُّها الشامِتُ المُقَرِّشُ عنا ... عند عمروٍ فهَلْ له إبْقاءُ وقد سأل معاويةُ ابنَ عباس. فقال: سُمِّيَتْ بدابةٍ في البحرِ يقال لها: القِرْش، تأكلُ ولا تُؤكَل، وتَعْلو ولا تعلى وأنشد قولَ تُبَّعٍ: 4652 - وَقُرَيْشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْ ... رَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا تأكلُ الغَثَّ والسَّمينَ ولا تَتْ ... رُكُ فيها لذي جناحَيْنِ رِيشا هكذا في البلادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يأكلونَ البلادَ أكْلاً كَميشا ولهم آخِرَ الزمان نَبيٌّ ... يُكْثِرُ القَتْلَ فيهمُ والخُموشا

ثم قريشٌ: إمَّا أَنْ يكونَ مصغراً مِنْ مزيدٍ على الثلاثةِ، فيكونَ تصغيرُه تصغيرَ ترخيمٍ. فقيل: الأصلُ: مُقْرِش. وقيل: قارِش، وإمَّا أَنْ يكونَ مُصَغَّراً مِنْ ثلاثيٍّ نحوَ القَرْشِ. وأجمعوا على صَرْفِه هنا مُراداً به الحيُّ ولو أُريد به القبيلةُ لا متنعَتْ مِنْ الصرفِ كقولِ الشاعر: 465 - 3- غَلَبَ المَساميحَ الوليدُ سَماحةً ... وكفى قُرَيْشَ المُعْضِلاتِ وسادَها قال سيبويه في مَعَدّ وقُرَيْش وثَقِيْف وكِنانةَ:» هذه للأحياءِ «وإنْ جعلَتها اسماً للقبائلِ فهو جائزٌ حَسَنٌ» . قوله: {إِيلاَفِهِمْ} مُؤَكِّدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً؛ ولذلك اتّصَلَ بضميرِ ما أُضيف إليه الأولُ كما تقولَ: لِقيامِ زيدٍ لقيامِه أكرمْتُه «وأعربه أبو البقاء بدلاً والأول أولى. قوله: {رِحْلَةَ} معفولٌ به بالمصدرِ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِله، أي: لأَنْ أَلِفوا رحلةَ. والأصلُ: رحلَتْي الشتاءِ والصيفِ، ولكنه أُفْرِدَ لأَمْنِ اللَّبْسِ كقولِه:

4654 - كُلوا في بَعْضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قاله الزمخشري وفيه نظرٌ؛ لأنَّ سيبويهِ يجعلُ هذا ضرورةً كقولِه: 4655 - حَمامةً بَطْنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقيل:» رِحْلة «اسمُ جنسٍ. وكانت لهم أربعُ رِحَلٍ. وجعلَه بعضُهم غَلَطاً وليس كذلكَ. وقرأ العامَّةُ بكسرِ الراءِ وهي مصدرٌ. وأبو السَّمَّال بضمِّها وهي الجهةُ التي يُرْحَلُ إليها. والشتاءُ لامُه واوٌ لقولِهم: الشَّتْوَةُ وشتا يَشْتُو. وشَذُّوا في النسبِ إليه فقالوا فيه: شَتَوِيّ. والقياس: شِتائيّ أو شِتاويّ ككِسائيّ وكِساوِيّ.

4

قوله: {مِّن جُوعٍ} : و {مِّنْ خَوْفٍ} : للتعليلِ، أي: مِنْ أجلِ جوعٍ وخوفٍ، والتنكيرُ للتعظيمِ. أي: مِنْ جوعٍ عظيمٍ وخوفٍ عظيمٍ. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ مِنْ

مفعولِ أَطْعَمهم» وأخفى نونَ «مِنْ» في الخاء نافعٌ في روايةٍ، وكذلك في الغينِ، وهي لغةٌ حكاها سيبويه.

الماعون

قرأ الكسائي {أرَيْتَ} بسقوطِ الهمزةِ. وقد تقدَّم تحقيقُه في سورة الأنعام. وقال الزمخشري: «وليس بالاختيارِ؛ لأنَّ حَذْفَها مختصٌّ بالمضارعِ، ولم يَصِحَّ عن العرب» رَيْتَ «. والذي سَهَّلَ مِنْ أمرِها وقوعُ حرفِ الاستفهامِ في أولِ الكلامِ ونحوُه: 4656 - صاحِ هل رَيْتَ أو سَمِعْتَ براعٍ ... رَدَّ في الضَّرْعِ ما قرى في العِلابِ وفي» أَرَأَيْتَ «هذه وجهان، أحدهما: أنَّها بَصَرِيَّةُ فتتعدى لواحدٍ

وهو الموصولُ، كأنه [قال] : أبْصَرْتَ المكذِّبَ. والثاني: أنَّها بمعنى: أَخْبِرْني، فتتعدى لاثنينِ، فقدَّره الحوفيُّ:» أليس مُسْتَحِقَّاً للعذابِ «. والزمخشريُّ» مَنْ هو «. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبدِ الله» أَرَأَيْتَك «بكافِ الخطابِ والكافُ لا تَلْحْقُ البَصَريَّةَ.

2

قوله: {فَذَلِكَ} : فيه وجهان، أحدهما: أنَّ الفاءَ جوابُ ُشرطٍ مقدرٍ، أي: إن تأمَّلْتَه، أو إنْ طَلَبْتَ عِلْمَه فذلك. والثاني: أنَّها عاطفةٌ «فذلك» على «الذي يَكَذِّبُ» إمَّا عَطْفَ ذاتٍ على ذاتٍ، أو صفةٍ على صفةٍ. ويكونُ جوابُ أَرَأَيْتَ «محذوفاً لدلالةِ ما بعدَه عليه. كأنه قيل: أَخْبِرْني، وما تقولُ فيمَنْ يُكَذِّبُ بالجزاءِ وفيمَنْ يُؤْذِي اليتيمَ ولا يُطْعِمُ المسكينَ أنِعْمَ ما يصنعُ؟ فعلى الأولِ يكونُ اسمُ الإِشارةِ في محلِّ رَفْعٍ بالابتداءِ، والخبرُ الموصولُ بعده، وإمَّا على أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: فهو ذاك والموصولُ نعتُه. وعلى الثاني يكونُ منصوباً لِنَسَقِه على ما هو منصوبٌ. إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّ الثاني فقال:» فجعل ذلك «في موضعِ نصبٍ عطفاً على المفعولِ، وهو تركيبٌ غريبٌ كقولِك:» أَكرَمْتُ الذي يَزورُنا فذلك الذي يُحْسِنُ إلينا «فالمتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ» فذلك «مرفوعٌ بالابتداء. وعلى تقديرِ النصبِ يكونُ التقديرُ: أَكرمْتُ الذي يزورُنا فأكرَمْتُ ذلك الذي يُحْسِنُ إلينا. فاسمُ الإِشارةِ في هذا التقديرِ غيرُ متمكِّنٍ

تَمَكُّنَ ما هو فصيحٌ؛ إذ لا حاجةَ أَنْ يُشارَ إلى الذي يزورُنا؛ بل الفصيحُ: أَكرَمْتُ الذي يزورُنا، فالذي يُحْسِن إلينا، أو أكَرَمْتُ الذي يزورُنا فيُحْسِنُ إلينا. وأمَّا قولُه» إمَّا عَطْفُ ذاتٍ على ذاتٍ «فلا يَصِحُّ لأنَّ» فذلك «إشارةٌ إلى الذي يُكَذِّبُ فليسا بذاتَيْنِ؛ لأنَّ المشارَ إليه ب» ذلك «واحدٌ. وأمَّا قولُه:» ويكونُ جوابُ أرأيتَ محذوفاً «فهذا لا يُسَمَّى جواباً بل هو في موضع المفعولِ الثاني ل» أرَأيْتَ «وأمَّا تقديرُه» أنِعْمَ ما يصنعُ «؟ فهمزةُ الاستفهام لا نعلُم دخولَها على نِعْم ولا بئسَ؛ لأنهما إنشاءٌ، والاستفهامٌ لا يدخلُ إلاَّ على الخبر» انتهى. والجوابُ عن قولِه: «فاسمُ الإِشارةِ غيرُ ممتكِّنٍ» إلى آخره: أنَّ الفرقَ بينهما أنَّ في الآيةِ الكريمةِ استفهاماً وهو «أرأيْتَ» فحَسُنَ أَنْ يُفَسِّرَ ذلك المُسْتَفْهَمَ عنه، بخلافِ المثالِ الذي مَثَّل به، فمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التركيبُ المذكورُ وعن قولِه: «لأنَّ» فذلك «إشارةٌ إلى» الذي يُكَذِّب «بالمنعِ» بل مُشارٌ به إلى ما بعدَه كقولِك: «اضْرِبْ زيداً، فذلك القائمُ» إشارةٌ إلى القائمِ لا إلى زيد، وإنْ كان يجوزُ أَنْ يكونَ إشارةً إليه. وعن قولِه «فلا يسمى جواباً» أنَّ النحاةَ يقولون: جوابُ الاستفهام، وهذا قد تَقَدَّمه استفهامٌ فَحَسُنَ ذلك. وعن قولِه: «والاستفهامُ لا يَدْخُلُ إلاَّ على الخبر» ؛ بالمعارضةِ بقولِه تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] فإنَّ «عسى» إنشاءٌ، فما كان جواباً له فهو جوابٌ لنا. وقرأ العامَّةُ بضمِّ الدال وتشديد العينِ مِنْ دَعَّه، أي: دَفَعه وأمير المؤمنين والحسن وأبو رجاء «يَدَعُ» بفتحِ الدالِ وتخفيفِ العين،

أي: يَتْرُكُ ويُهْمِلُ وزيدُ بن علي «ولا يُحاضُّ» مِن المَحَاضَّةُ وتقدَّم في الفجر.

4

قوله: {لِّلْمُصَلِّينَ} خبرٌ لقولِه: «فوَيْلٌ» والفاءُ للتسَبُّبِ، أي: تَسَبَّبَ عن هذه الصِّفاتِ الذَّميمةِ الدعاءُ عليهم بالوَيْلِ لهم. قال الزمخشري بعد قولِه: «كأنَّه قيل: أخْبِرْني، وما تقول فيمَنْ يُكذِّبُ بالدين إلى قوله: أنِعْمَ ما يصنعُ» ثم قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} ، أي: إذا عُلِمَ أنَّه مُسِيْءٌ فوَيْلٌ للمُصَلِّيْنَ على معنى فوَيْلٌ لهم، إلاَّ أنَّه وَضَعَ صفتَهم موضعَ ضميرِهم، لأنهم كانوا مع التكذيب وما أُضيفَ إليه ساهين عن الصلاة مُرائين غيرَ مُزكِّيْنَ أموالَهم. فإنْ قلتَ: كيف جَعَلْتَ المُصَلِّين قائماً مَقامَ ضميرِ الذي يُكَذِّبُ وهو واحدٌ؟ قلت: لأنَّ معناه الجمعُ، لأنَّ المرادَ به الجنسُ «. قال الشيخ:» وأمَّا وَضْعُه المُصَلِّين موضعَ الضميرِ، وأنَّ المُصَلِّيْنَ جمعٌ؛ لأنَّ ضميرَ الذي يُكذِّبُ معناه الجمعُ فتكلُّفٌ واضحٌ. ولا يَنْبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآنُ إلاَّ على ما عليه الظاهرُ، وعادةُ هذا الرجلِ تكلُّفُ اشياءَ في فَهْمِ القرآنِ ليسَتْ بواضحةٍ «انتهى. قلت: وعادةُ شيخِنا - رحمه الله - التَّحامُل على الزمخشري حتى يَجْعلَ حسَنَه قبيحاً. وكيف يُرَدُّ ما قاله وفيه ارتباطُ الكلامِ بعضِه ببعضٍ، وجَعْلُه شيئاً واحداً، وما تضمَّنه من المبالغةِ في الوعيدِ في إبرازِ وَصْفِهم الشَّنيعِ؟ ولا يُشَكُّ أنَّ الظاهرَ من الكلامِ أن

السورةَ كلَّها في وصفِ قومٍ جَمَعوا بين هذه الأوصافِ كلِّها: من التكذيبِ بالدِّين ودَفْعِ اليتيمِ وعَدَمِ الحَضِّ على طعامِه، والسَّهْوِ في الصلاة، والمُراءاةِ ومَنْعِ الخيرِ.

5

قوله: {الذين هُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعَ المَحَلِّ، وأَنْ يكونَ منصوبَه، وأَنْ يكونَ مجرورَه تابعاً. نعتاً أو بدلاً أو بياناً، وكذلك الموصولُ الثاني، إلاَّ أنَّه يُحْتمل أَنْ يكونَ تابعاً للمُصَلِّيْنَ، وأَنْ يكونَ تابعاً للموصولِ الأولِ. وقوله: «يُراؤُون» أصلُه يُرائِيُوْنَ كيُقاتِلون. ومعنى المُراءاة، أنَّ المُرائيَ يُري الناسَ عملَه، وهم يُرُونَه الثناءَ عليه، فالمفاعَلَةُ فيها واضحةٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.

7

قوله: {الماعون} : أوجهٌ، أحدُها: أنه فاعُول من المَعْنِ وهو الشيءُ القليل. يُقال: «مالُه مَعْنَةٌ» أي: قليلٌ، قاله قطرب. الثاني: أنَّه اسمُ مفعولٍ مِنْ أعانه يُعينه. والأصلُ: مَعْوُوْن. وكان مِنْ حَقِّه على هذا أَنْ يقال: مَعُوْن كمَقُوْل ومَصُون اسمَيْ مفعول مِنْ قال وصان، ولكنه قُلِبَتِ الكلمةُ: بأنْ قُدِّمَتْ عينُها قبل فائِها فصار مَوْعُوْن، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ألفاً كقولِهم «تابَةٌ» و «صامَةٌ» في تَوْبة وصَوْمَة، فوزنُه الآن مَعْفُوْل. وفي هذا الوجه شذوذٌ من ثلاثةِ أوجهٍ، أوَّلُها: كَوْنُ

مَفْعول جاء من أَفْعَل وحقُّه أَنْ يكونَ على مُفْعَل كمُكْرَم فيقال: مُعان كمُقام. وإمَّا مَفْعول فاسمُ مفعولِ الثلاثي. الثاني: القَلْبُ وهو خلافُ الأصلِ: الثالث: قَلْبُ حرفِ العلةِ ألفاً، وإنْ لم يتحرَّكْ، وقياسُه على تابة وصامة بعيدٌ لشذوذِ المَقيسِ عليه. وقد يُجاب عن الثالث: بأنَّ الواوَ متحركةٌ في الأصل قبل القلبِ فإنه بزنةِ مَعْوُوْن. الثالث: من الأوجه الأُوَل: أنَّ أصله مَعُوْنَة والألفُ عوضٌ من الهاء، ووزنُه مَفُعْل كمَلُوْم ووزنُه بعد الزيادة: ما فُعْل. واختلفَتْ عباراتُ أهلِ التفسير فيه، وأحسنُها: أنَّه كلُّ ما يُستعان به ويُنتفع به كالفَأْس والدَّلْوِ والمِقْدحة وأُنْشِد قولُ الأعشى: 4657 - بأَجْوَدَ مِنْه بماعُوْنِه ... إذا ما سماؤُهمُ لم تَغِمّْ ولم يَذْكُرِ المفعولَ الأولَ للمَنْع: إمَّا للعِلْمِ به، أي: يَمْنعون الناسَ أو الطالبين، وإمَّا لأنَّ الغَرَضَ ذِكْرُ ما يمنعونه لا مَنْ يمنعون، تنبيهاً على خساسَتِهم وضَنِّهم بالأشياءِ التافهةِ المُسْتَقْبَحِ مَنْعُها عند كلِّ أحدٍ.

الكوثر

قوله: {أَعْطَيْنَاكَ} : قرأ الحسن وابنُ محيصن وطلحة والزعفراني «اَنْطَيْناك» قال الرازيُّ والتبريزيُ: «أبدلَ من العين نوناً، فإنْ عَنَيا البدلَ الصناعيَّ فليس بمُسَلَّمٍ؛ لأنَّ كلاً من المادتَيْنِ مستقلةٌ بنفسِها بدليلِ كمال تَصْريفِهما، وإنْ عَنَيا بالبدلِ أنَّ هذه وقعَتْ موقعَ هذه لغةً فقريبٌ، ولا شك أنها لغةٌ ثابتةٌ. قال التبريزي:» هي لغةُ العربِ العاربةِ مِنْ أُوْلي قُرَيْشٍ «وفي الحديث عنه صلَّى الله عليه وسلَّم:» اليدُ العليا المُنْطِيَةُ، واليدُ السفلى المُنْطاة «وقال الشاعر - هو الأعشى-:

4658 - جِيادُك خيرُ جيادِ الملُوك ... تُصان الجِلالَ وتُنْطِي الشَّعيرا والكَوْثر: فَوْعَل من الكَثْرَةِ، وصفُ مبالغةٍ في المُفْرِطِ الكثرةِ. قال الشاعر: 4659 - وأنت كثيرُ با بنَ مروانَ طَيِّبٌ ... وكان ابوكَ ابنَ العَقائلِ كَوْثَرا وسُئِلَتْ أعرابيَّةٌ عن ابنها: بمَ آبَ ابْنُكِ؟ فقالت:» آب بكَوْثَرٍ «أي: بخيرٍ كثيرٍ.

2

قوله: {وانحر} : أمرٌ من النَّحْر وهو الإِبِلِ بمنزلة الذَّبْحِ في البقر والغنم. وقيل: اجعَلْ يديك عند نَحْرِك أو تحت نَحْرِك في الصلاة والشانِئُ: المُبْغِضُ. يُقال: شَنَأه يَشْنَؤُه، أي: أَبْغَضَه. وقد تقدَّم في المائدة.

3

قوله: {هُوَ الأبتر} : يجوزُ أَنْ يكونَ «هو» مبتدأً، و «الأبترُ» خبرُه والجملةُ خبرُ «إنَّ» ، وأَنْ يكون فصلاً وقال أبو البقاء: «أو توكيدٌ» وهو غَلَطٌ منه لأنَّ المُظْهَرَ لا يُؤَكِّدُ بالمضمر. والأبترُ: الذي لا عَقِبَ له، وهو في الأصلِ الشيءُ المقطوع، مِنْ بَتَرَه،

أي: قطعه. وحمارٌ ابترُ: لا ذَنَبَ له. ورجلٌ أُباتِرٌ بضم الهمزة: قاطعُ رَحِمِه قال: 4660 - لَئيمٌ نَزَتْ في أَنْفِه خُنْزُوانَةٌ ... على قَطْعِ ذي القربى أَحَدُّ أُباتِرُ وبَتِر هو بالكسرِ: انقطعَ ذَنَبُه. وقرأ العامة «شانِئَك» بالألفِ اسمُ فاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ أو الماضي. وقرأ ابن عباس «شَنِئَك» بغيرِ ألفٍ. فقيل: يجوزُ أَنْ يكونَ بناءَ مبالغةٍ كفَعَّال ومِفْعال. وقد أثبته سيبويهِ، وأنشد: 4661 - حَذِرٌ أُموراً لا تَضِيرُ وآمِنُ ... ما ليسَ مُنْجِيَه من الأقْدارِ وقال زيد الخيل: 4662 - أتاني أنهم مَزِقون عِرْضي ... جِحاشٌ الكِرْمَلَيْنِ لها فَديدُ فإنْ كانَ بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ فإضافتُه لمفعولِه مِنْ نصبٍ.

وإن كان بمعنى المُضِيِّ فهي لا مِنْ نصبٍ. وقيل: يجوزُ أن يكونَ مقصوراً مِنْ فاعِل كقولِهم: «بَرُّ وبارٌّ، وبَرِدٌ وبارِدٌ. قوله: {فَصَلِّ} الفاء للتعقيب والتسبيبِ، أي: تَسَبَّبَ عن هذه المِنَّةِ العظيمة وعَقَبها أَمْرُك بالتخَلِّي لعبادةِ المُنْعِمِ عليكَ وقَصْدِك إليه بالنَّحْرِ، لا كما تفعلُ قُرَيْشٌ مِنْ صَلاتِها ونَحْرِها لأصنامِها. وقال أهل العلم: قد احتوَتْ هذه السورةُ، على كونِها أَقْصَرَ سورةٍ في القرآن، على معانٍ بليغةٍ وأساليبَ بديعةٍ وهي اثنان وعشرون. الأول: دلالةُ استهلالِ السورةِ على أنه إعطاءٌ كثيرٌ من كثير. الثاني: إسنادُ الفعل للمتكلم المعظِّم نفسَه. الثالث: إيرادُه بصيغةِ الماضي تحقيقاً لوقوعِه ك {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . الرابع: تأكيدُ الجملةِ ب إنَّ. الخامس: بناءُ الفعلِ على الاسمِ ليُفيدَ الإِسنادَ مرتين. السادس: الإِتيانُ بصيغةٍ تَدُلُّ على مبالغةِ الكثرةِ. السابع: حَذْفُ الموصوفِ بالكَوْثَر؛ لأنَّ في حَذْفِه مِنْ فَرْطِ الشِّياعِ والإِبهامِ ما ليس في إثباتِه. الثامن: تعريفُه بأل الجنسيةِ الدالَّةِ على الاستغراق. التاسع: فاءُ التَّعْقيب، فإنَّها كما تقدَّم دالَّةٌ على التَّسْبيب، فإنَّ الإِنعامَ سببٌ للشُّكر والعبادةِ. العاشر: التَّعْريضُ بمَنْ كانَتْ صلاتُه ونَحْرُه لغيرِ اللَّهِ تعالى. الحادي عشر: أنَّ الأمرَ بالصَّلاةِ إشارةٌ إلى الأعمالِ الدينية التي الصلاةُ قِوامُها وأفضلُها، والأمرُ بالنَّحْرِ إشارةٌ إلى الأعمالِ البدنيةِ التي النَّحْرُ أَسْناها. الثاني عشر: حَذْفُ متعلَّقِ» انحَرْ «إذ التقديرُ:

فَصَلِّ لربِّك وانْحَرْ له. الثالثَ عشرَ: مراعاةُ السَّجْعِ فإنَّه من صناعةِ البديعِ العاري عن التَّكلُّفِ. الرابعَ عشرَ قوله: {رَبِّك} في الإِتْيان بهذه الصفةِ دونَ سائرِ صفاتِه الحسنى دلالةُ على أنَّه هو المُصْلحُ له المُرَبِّي لنِعَمِه فلا تلتمِسْ كلَّ خيرٍ إلاَّ منه. الخامسَ عشرَ: الالتفاتُ من ضميرِ المتكلمِ إلى الغائب في قولِه:» لربِّك «السادسَ عشرَ: جَعْلُ الأمْرِ بتَرْكِ الاهتبالِ بشانِئيه للاستئناف، وجَعْلُه خاتمةً للإِعراضِ عن الشانىءِ، ولم يُسَمِّه ليشملَ كلَّ مَنْ اتَّصَفَ - والعياذُ بالله - بهذه الصفةِ القبيحة، وإن كان المرادُ به شخصاً مَعْنِيَّاً. السابعَ عشرَ: التنبيُه بذِكْرِ هذه الصفةِ القبيحةِ على أنه لم يَتَّصِفْ إلاَّ بمجرَّدِ قيامِ الصفةِ به، مِنْ غير أَنْ يُؤَثِّرَ في مَنْ يَشْنَؤُه شيئاً البتةَ؛ لأنَّ مَنْ يَشْنَأُ شخصاً قد يُؤَثِّر فيه شَنَآنُه شيئاً. الثامنَ عشرَ: تأكيدُ الجملةِ ب «إنَّ» المُؤْذِنَةِ بتأكيدِ الخبرِ، ولذلك يتلقى بها القسمُ، وتقديرُ القسمِ يَصْلُح هنا، التاسعَ عشرَ: الإِتيانُ بضميرِ الفَصْلِ المؤْذِنِ بالاختصاصِ والتأكيدِ إنْ جَعَلْنا «هو» فصلاً، وإنْ جَعَلْناه مبتدأً فكذلك يُفيد التأكيدَ إذ يصيرُ الإِسنادُ مَرَّتَيْن العشرون: تعريفُ الأبترِ ب أل المُؤْذِنَةِ بالخصوصيَّةِ بهذه الصفةِ، كأنه قيل: الكامِلُ في هذه الصفةِ الحادي والعشرون: الإِتيانُ بصيغة أَفْعَل الدالَّةِ على التناهي في هذه الصفةِ. الثاني والعشرون: إقبالُه على رسولِه عليه السلام بالخطاب مِنْ أول السورةِ إلى آخرها.

الكافرون

[قوله] : {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} : «ما» في هذه السورةِ يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى الذي. فإنْ كان المرادُ الأصنامَ - كما في الأولى والثالثة - فالأمرُ واضحٌ لأنهم غيرُ عقلاءَ. و «ما» أصلُها أَنْ تكونَ لغيرِ العقلاءِ. وإذا أُريد بها الباري تعالى، كما في الثانيةِ والرابعةِ، فاسْتَدَلَّ به مَنْ جوَّز وقوعَها على أولي العلمِ. ومَنْ مَنَعَ جَعَلَها مصدريةً. والتقديرُ: ولا أنتم عابدون عبادتي، أي: مثلَ عبادتي. وقال أبو مسلم: «ما» في الأَوَّلَيْن بمعنى الذي، والمقصودُ المعبودُ و «ما» في الأخيرَيْن مصدريةٌ، أي: لا أَعْبُدُ عبادتَكم المبنيَّةَ على الشكِّ وتَرْكِ النظرِ، ولا أنتم تعبدون مثلَ عبادتي المبنيةِ على اليقين. فتحصَّل مِنْ مجموعِ ذلك ثلاثةُ أقوالٍ: أنها كلَّها بمعنى الذي أو مصدريةٌ، أو الأُوْلَيان بمعنى الذي، والأَخيرتان مصدريَّتان ولِقائلٍ أَنْ يقولَ: لو قيل: بأنَّ الأولى والثالثةَ بمعنى الذي، والثانيةَ والرابعةَ مصدريةٌ، لكان

حسناً حتى لا يَلْزَمَ وقوعُ «ما» على أولي العلمِ، وهو مقتضى قولِ مَنْ يمنعُ وقوعَها على أولي العلمِ كما تقدَّم. واختلف الناسُ: هل التَّكرارُ في هذه السورةِ للتأكيد أم لا؟ وإذا لم يكنْ للتأكيدِ فبأيِّ طريقٍ حَصَلَتِ المغايرةُ حتى انتفى التأكيدُ؟ ولا بُدَّ مِنْ إيرادِ أقوالِهم في ذلك فقال جماعة: هو للتوكيدِ. فقولُه {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} تأكيدٌ لقولِه {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وقوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} ثانياً توكيدٌ لقولِه {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أولاً، ومثلُه قولُه {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] و {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] في سورتَيْهما، و {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 34] و {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 45] . وفي الحديث: «فلا آذَنُ ثم لا آذَنُ، إنما فاطمةُ بَضْعَةٌ مني» قال الشاعر: 4663 - هَلاَّ سَأَلْتَ جنودَ كِنْ ... دَةَ يومَ وَلَّوْا أين أَيْنا وقال آخر:

4664 - يا علقمَهْ يا عَلْقَمَهْ يا علقَمَهْ ... خيرَ تميمٍ كلِّها وأكرمَهْ وقال آخر: 4665 - يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ ... إنك إن يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ وقال آخر: 4666 - ألا يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي ثُمَّتَ اسْلَمي ... ثلاثُ تحيَّاتٍ وإن لم تَكَلَّمِ وقال آخر: 4667 - يا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لي كُلَيْباً ... يا لَبَكْرٍ أينَ أينَ الفِرارُ قالوا: والقرآنُ جاء على أساليبِ كلامِ العربِ. وفائدةُ التوكيد هنا قَطْعُ أَطْماعِ الكفارِ وتحقيقُ الإِخبارِ بموافاتِهم على الكفرِ، وأنّهم لا يُسْلِمون إبداً. وقال جماعةٌ: ليس للتوكيدِ فقال الأخفش: «لا أعبد الساعةَ ما تعبدون، ولا أنتم عابِدون السنةَ ما أعبدُ، ولا أنا عابدٌ في المستقبلِ

ما عَبَدْتُمْ، ولا أنتم عابدون في المستقبلِ ما أعبد، فزال التوكيدُ، إذ قد تقيَّدَتْ كلُّ جملةٍ بزمانٍ غيرِ الزمانِ الآخر» انتهى. وفيه نظرٌ كيف يُقَيِّدُ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيَ عبادتِه لِما يَعْبُدون بزمانٍ، هذا لا يَصِحُّ. وفي الأسبابِ: أنهم سَأَلوه أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُم سنةً ويَعْبُدون إلهَه سنةً، فنزَلَتْ فكيف يَسْتقيم هذا؟ وجعل أبو مسلمٍ التغايُرَ بما قَدَّمْتُه عنه: وهو كونُ «ما» في الأوَّلَيْن بمعنى الذي، وفي الآخِرَيْنِ مصدريةً. وفيه نظرٌ أيضاً: مِنْ حيث إنَّ التكرارَ إنما هو مِنْ حيث المعنى وهذا موجودٌ كيف قَدَّرَتْ «ما» وقال ابن عطية: «لَمَّا كان قولُه» لا أَعْبُدُ «محتمِلاً أَنْ يُرادَ به الآن ويبقى المستقبلُ منتظراً ما يكونُ فيه جاء البيانُ بقولِه {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: أبداً وما حَيِيْتُ، ثم جاء قولُه {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} الثاني حَتْماً عليهم أنهم لا يُؤمنون أبداً كالذي كَشَف الغيبَ، كما قيل لنوح عليه السلام: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فهذا معنى الترديدِ في هذه السورةِ وهو بارعُ الفصاحةِ، وليس بتَكْرارٍ فقط، بل فيه ما ذكْرَتُه» . وقال الزمخشريُّ: «لا أعبدُ أُريد به العبادةُ فيما يُسْتقبل؛ لأنَّ» لا «لا تدخُلُ إلاَّ على مضارع في معنى الاستقبال، كما أنَّ» ما «لا تدخُلُ إلاَّ على مضارعٍ في معنى الحال. والمعنى: لا أفعلُ في المستقبل

ما تَطْلبونه مني مِنْ عبادةِ آلهتِكم، ولا أنتم فاعلونَ فيه ما أَطْلُبُه منكم مِنْ عبادةِ إلهي، ولا أنا عابدٌ ما عبَدُتُمْ، أي: وما كنتُ قطُّ عابداً فيما سَلَفَ ما عبدتُمْ فيه، يعني ما عُهِدَ مني قَطُّ عبادةُ صنم في الجاهلية. فكيف ترجى مني في الإِسلامِ؟ ولا أنتم عبادون ما أعبدُ، أي: وما عبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه. فإنْ قلتَ: فهلاَّ قيل: ما عَبَدْتُ كما قيل ما عبدتُمْ. قلت: لأنهم كانوا يَعْبُدون الأصنامَ قبل المَبْعَثِ، وهو لم يَكُنْ يعبدُ اللَّهَ تعالى في ذلك الوقتِ. فإن قلت: فلِمَ جاء على» ما «دونَ مَنْ؟ قلت: لأنَّ المرادَ الصفةُ كأنه قيل: لا أعبدُ الباطلَ، ولا تعبدون الحقَّ. وقيل: إن» ما «مصدريةٌ، أي: لا أعبد عبادتَكم ولا تعبُدون عبادتي» انتهى. يعني بقولِه «لأن المرادَ الصفةُ» يعني أنه أريدُ ب «ما» الوصفُ، وقد قَدَّمْتُ تحقيقَ هذا قريباً في سورةِ والشمس وضحاها، واعتراضَ الشيخِ عليه، والجوابَ عنه، وأصلُه في سورة النساء عند قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] . وناقشه الشيخ هنا فقال: «أمَّا حَصْرُه في قولِه:» لأن «لا» لا تَدْخُل «إلى آخره. وفي قوله:» كما أن «ما» لا تَدْخُلُ «إلى آخرِه؛ فليس بصحيحٍ، بل ذلك غالِبٌ فيها لا مُتحتِّمٌ. وقد ذكر النحاةُ دخولَ «لا» على المضارع يُرادُ به الحالُ، ودخول «ما» على المضارع يُراد به الاستقبالُ. وذلك مذكورٌ في المبسوطات مِنْ كتب النحوِ، ولذلك لم يَذْكُرْ سيبويه ذلك بأداة الحصرِ إنما قال: «وتَكونُ» لا «نفياً لقولِه

يَفْعَلُ ولم يقع الفعلُ» وقال: «وأمَّا» ما «فهي نفيٌ لقولِه: هو يفعلُ إذا كان في حالِ الفعل» فذكر الغالبَ فيهما. وأمَّا قولُه، في قولِه: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: وما كنت قَطُّ عابداً فيما سلفَ ما عبدتُمْ فيه، فلا يَسْتقيم لأنَّ عباداً اسمُ فاعلٍ قد عَمِلَ في «ما عَبَدْتُمْ» فلا يُفَسَّر بالماضي إنما يُفَسَّر بالحالِ أو الاستقبالِ، وليس مذهبُه في اسمِ الفاعلِ مذهبَ الكسائي وهشام مِنْ جوازِ إعمالِه ماضياً. وأمَّا قولُه: «ولا أنتم عابدون ما أعبدُ» ، أي: وما عَبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه فعابِدون قد أعملَه في «ما أعبد» فلا يُفَسَّر بالماضي. وأمَّا قولُه «وهو لم يكن» إلى آخره فسوءُ أدبٍ على منصبِ النبوةِ، وغيرُ صحيح، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَزْلَ مُوَحِّداً لله تعالى، مُنَزِّهاً عن كلِّ ما لا يليق بجلالِه، مُجْتنباً لأصنامِهم، يقفُ على مشاعر أبيه إبراهيمَ عليه السلام ويَحُجُّ البيتَ، وهذه عبادةٌ، وأيُّ عبادةٍ أعظمُ مِنْ توحيدِ اللَّهِ تعالى ونَبْذِ أصنامِهم؟ ومعرفةُ اللَّهِ تعالى أعظمُ العباداتِ. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . قال المفسِّرون: إلاَّ ليَعْرِفونِ، فسمى المَعْرِفَةَ بالله تعالى عبادةً «انتهى ما ناقَشَه به ورَدُّه عليه. ويُجابُ عن الأولِ: أنه بنى أمرَه على الغالبِ فلذلك أتى بالحَصْرِ وأمَّا ما حكاه عن سيبويهِ فظاهرُه معه حتى يقومَ دليلٌ على غيرِه. وعن إعمالِه اسمَ الفاعل مُفَسِّراً له بالماضي بأنه على حكايةِ الحالِ كقوله

تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] وقوله: {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72] نحوهُ. وأمَّا قولُه:» كان مُوَحِّداً مُنَزِّهاً «فمُسَلَّمٌ. وقوله:» وهذه أعظمُ العباداتِ «مُسَلَّم أيضاً. ولكنَّ المرادَ في الآية عبادةٌ مخصوصةٌ، وهي الصلاةُ المخصوصةُ؛ لأنَّها يُقابِلُ بها ما كان المشركون يَفْعَلونه من سجودِهم لأصنامِهم وصلاتِهم لها، فقابَلَ هذا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصَلاتِه للهِ تباركَ تعالى. ولكنَّ نَفْيَ كلامِ الزمخشريِّ يُفْهِمُ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكُنْ مُتعبِّداً قبل المبعَثِ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ جداً ساقطُ الاعتبارِ؛ لأنَّ الأحاديث الصحيحة تَرُدُّه وهي: كان يتحنَّث، كان يتعبَّدُ، كان يصومُ، كان يطوفُ كان يَقفُ، ولم يقُلْ بخلافه إلاَّ شذوذٌ مِنْ الناسِ. وفي الجملةِ فالمسألةٌ خلافيةٌ. وإذا كان متعبِّداً فبأيِّ شَرْعٍ كان يتعبَّد؟ قيل: بشرعِ نوحٍ: وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى، ودلائلُ هذه في الأصولِ فلا نتعرَّضُ لها. ثم قال الشيخ: «والذي أَختارُ في هذه الجملِ أنه نفى عبادتَه في المستقبل؛ لأن الغالِبَ في» لا «أَنْ تنفي المستقبلَ، ثم عَطَفَ عليه {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} نَفْياً للمستقبلِ، على سبيل المقابلةِ. ثم قال: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} نَفْياً للحال؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ الحقيقةُ فيه دلالتُه على الحالِ، ثم عَطَفَ عليه {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} نَفْياً للحال على سبيل المقابلةِ، فانتظم المعنى أنَّه عليه السلام لا يَعْبُدُ ما يعبدون

حالاً ولا مستقبلاً. وهم كذلك إذ حَتَم الله تعالى موافاتَهم على الكفر. ولَمَّا قال:» لا أعبدُ ما تبعدون «فأطلق» ما «على الأصنامِ قابلَ الكلام ب» ما «في قولِه» ما أعبد «وإنْ كان المرادُ بها اللَّهَ تعالى؛ لأنَّ المقابلةَ يسوغُ فيها ما لا يَسُوغ في الانفرادِ. وهذا على مذهبِ مَنْ يقول: إنَّ» ما «لا تقع على آحادِ أولي العلمِ. أمَّا مَنْ يُجَوِّزُ ذلك - وهو مذهبُ سيبويهِ - فلا يَحْتاج إلى الاستعذارِ بالتقابلِ» .

6

قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أتى بهاتَيْنِ الجملتين الإِثباتِيَّتَيْن بعد جملٍ منفيةٍ؛ لأنه لَمَّا كان الأهمُّ انتفاءَه عليه السلام مِنْ دينهم بدأ بالنفي في الجملِ السابقةِ بالمنسوبِ إليه، فلمَّا تحقَّقَ النفيُ رَجَعَ إلى خطابِهم بقولِه {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} مهادنةً لهم، ثم نَسَخَ ذلك بالأمرِ بالقتال. وفتح الياءَ مِنْ «لي» نافعٌ وهشامٌ وحفصٌ والبزيُّ بخلافٍ عنه، وأسكنها الباقون، وحَذَفَ ياءَ الإِضافةِ مِنْ «ديني» وقفاً ووَصْلاً السبعةُ وجمهور القراء، وأثبتها في الحالَيْن سلامٌ ويعقوب، وأمرُها واضحٌ ممَّا تقدَّم.

النصر

قوله: {نَصْرُ الله} : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه، ومفعولُه محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، أي: نَصْرُ اللَّهِ إياك والمؤمنين. وكذلك مفعولَيْ «الفتح» ومُتَعَلَّقَهُ. والفتح، أي: فَتْحُ البلادِ عليك وعلى أمتِك. أو المقصود: إذ جاء هذان الفعلان، مِنْ غير نظرٍ إلى متعلَّقَيْهما كقوله: {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44] . وأل في الفتح عِوَضٌ مِنْ الإِضافة، أي: وفَتْحُه، عند الكوفيين، والعائدُ محذوفٌ عند البصريين، أي: والفتحُ مِنْه، للدلالةِ على ذلك. والعاملُ في «إذا» : إمَّا «جاء» وهو قولُ مكي، وإليه نحا الشيخ ونَضَرَه في مواضعَ وقد تقدَّم ذلك كما نَقَلْتُه عن مكيّ وعنه. والثاني: أنه «فَسَبِّحْ» وإليه نحا الزمخشريُّ والحوفيُّ. وقد رَدَّ الشيخُ عليهما: بأنَّ ما بعد فاءِ الجواب لا يعملُ فيما قبلَها. وفيه بحثٌ تقدَّم بعضُه في سورةِ «والضُّحى» .

2

قوله: {يَدْخُلُونَ} إمَّا حالٌ إنْ كان «رَأَيْتَ» بَصَريةً وفي عبارة الزمخشري: «إنْ كانَتْ بمعنى أبَصَرْتَ أو عَرَفْتَ» وناقشه الشيخُ: بأنَّ رَأَيْتَ لا يُعْرَفُ كونُها بمعنى عَرَفْتَ. قال: «فيَحْتاج في ذلك إلى استثباتٍ. وإمَّا مفعولٌ ثانٍ إن كانت بمعنى عَلِمْتَ المتعدية لاثنين. وهذه قراءةُ العامَّةِ أعني: يَدْخُلون مبنياً للفاعل. وابن كثير في روايةٍ» يُدْخَلون «مبنياً للمفعول و» في دين «ظرفٌ مجازيٌّ، وهو مجازٌ فصيحٌ بليغٌ هنا. قوله: {أَفْوَاجاً} حالٌ مِنْ فاعل» يَدْخُلون «قال مكي:» وقياسُه أفْوُج. إلاَّ أنَّ الضمةَ تُسْتثقلُ في الواوِ، فشَبَّهوا فَعْلاً يعني بالسكون بفَعَل يعني بالفتح، فجمعوه جَمْعَه «انتهى. أي: إنَّ فَعْلاً بالسكون قياسُه أَفْعُل كفَلْس وأَفْلُس، إلاَّ أنه اسْتُثْقِلت الضمةُ على الواو فجمعوه جَمْعَ فَعَل بالتحريكِ نحو: جَمَل وأَجْمال؛ لأنَّ فَعْلاً بالسُّكون على أَفْعال ليس بقياسٍ إذا كان فَعْلٌ صحيحاً نحو: فَرْخ وأفراخ، وزَنْد وأزناد، ووردَتْ منه ألفاظٌ كثيرةٌ، ومع ذلك فلم يَقيسوه، وقد قال الحوفيُّ شيئاً مِنْ هذا. قوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} حالٌ، أي: مُلْتبساً بحمده، وتقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة عند قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] .

المسد

قوله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} : أي: خَسِرَتْ، وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في قولِه: {إِلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] ، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه. وقوله: «تَبَّتْ» دعاءٌ، و «تَبَّ» إخبارٌ، أي: قد وقع ما دُعِيَ به عليه. كقول الشاعر: 4668 - جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه ... جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ

ويؤيِّده قراءةُ عبد الله «وقد تَبَّ» والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما. وقرأ العامة «لَهَبٍ» بفتح الهاء. وابنُ كثيرٍ بإسكانِها. فقيل: لغتان بمعنىً، نحو النَّهْر والنَّهَر، والشَّعْر والشَّعَر، والنَّفَر والنَّفْر، والضَّجَر والضَّجْر. وقال الزمخشري: «وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ كقوله:» شُمْس ابن مالك «بالضم، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر: 4669 - وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ ... لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ وجَوَّزَ الشيخُ في» شُمْس «أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ» شُمْس «الجمع مِنْ قولِه:» أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ «فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ. وكنى

بذلك: إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه، وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ، كقولِهم: أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه. وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم، أو لأنَّها أَنْقصُ منه، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم، أو لُقْبحْ اسمِه، فإنَّ اسمَهِ» عبد العزى «فعَدَلَ إلى الكُنْية، وقال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟ ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ: إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ «. انتهى. وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً. وقُرئ:» يدا أبو لَهَبٍ «بالواوِ في مكانِ الجرِّ. قال الزمخشري:» كما قيل: عليُّ بن أبو طالب، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ول فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أميرِ مكة ابنان، أحدُهما: عبدِ الله بالجرِّ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب «ولم يَختلف القُرَّاءُ في قولِه: {ذاتَ لَهَب} أنها بالفتح. والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ.

2

قوله: {مَآ أغنى} : يجوزُ في «ما» النفيُ والاستفهامُ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير: أيُّ شيء أغنى المالُ؟ وقُدِّم لكونِه له صَدْرُ الكلامِ.

قوله: {وَمَا كَسَبَ} يجوز في «ما» هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي، فالعائد محذوفٌ، وأَنْ تكونَ مصدريةً، أي: وكَسْبُه، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني: وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟ أي: لم يَكْسَبْ شيئاً، قاله الشيخُ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفيِ، فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً، ويكونَ المعنى على ما ذَكَرَ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد الله: «وما اكْتَسَبَ» .

3

قوله: {سيصلى} العامَّةُ على فتحِ الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللامِ، أي: يصلى هو بنفسِه. وأبو حيوةَ وابنُ مقسمٍ وعباسٌ في اختيارِه بالضمِّ والفتحِ والتشديدِ. والحسن وأبن أبي إسحاق بالضمِّ والسكون.

4

قوله: {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب} : قراءةُ العامَّةِ بالرفع على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ سِيْقَتْ للإِخبار بذلك. وقيل: «وامرأتُه» عطفٌ على الضميرِ في «سَيَصْلى» ، سَوَّغَه الفصلُ بالمفعولِ. و «حَمَّالةُ الحطبِ» على هذا فيه أوجهٌ: كونُها نعتاً ل «امرأتهُ» . وجاز ذلك لأن الإِضافةَ حقيقيةٌ؛ إذا المرادُ المضيُّ، أو كونُها بياناً أو كونُها بدلاً لأنها قريبٌ مِنْ الجوامدِ لِتَمَحُّضِ إضافتِها، أو كونُها خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي: هي حَمَّالةُ. وقرأ ابنُ عباس «ومُرَيَّتُهُ» و «مْرَيْئَتُهُ» على التصغير، إلاَّ أنَّه

أقَرَّ الهمزةَ تارةً وأبدلَها ياءً، وأدغم فيها أخرى. وقرأ العامةُ {حَمَّالَةُ} بالرفع. وعاصمٌ بالنصبِ فقيل: على الشَّتْم، وقد أتى بجميلٍ مَنْ سَبَّ أمَّ جميل. قاله الزمخشري، وكانت تُكْنَى بأمِّ جميل. وقيل: نصبٌ على الحالِ مِنْ «أمرأتُه» إذا جَعَلْناها مرفوعةً بالعطفِ على الضَّميرِ. ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً عند الجمهور من الضميرِ في الجارِّ بعدها إذا جَعَلْناه خبراً ل «امرأتُه» لتقدُّمها على العاملِ المعنويِّ. واستشكل بعضُهم الحاليةَ لِما تقدَّم من أنَّ المرادَ به المُضِيُّ، فيتعرَّفُ بالإِضافةِ، فكيف يكونُ حالاً عند الجمهور؟ ثم أجابَ بأنَّ المرادَ الاستقبالُ لأنَّه وَرَدَ في التفسير: أنها تحملُ يومَ القيامةِ حُزْمَةً مِنْ حَطَبِ النار، كما كانت تحملُ الحطبَ في الدنيا. وفي قوله: {حَمَّالَةَ الحطب} قولان. أحدُهما: هو حقيقةُ. والثاني: أنه مجازٌ عن المَشْيِِ بالنميمةِ ورَمْيِ الفِتَنِ بين الناس. قال الشاعر: 4670 - إنَّ بني الأَدْرَمِ حَمَّالو الحَطَبْ ... هُمُ الوشاةُ في الرِّضا وفي الغضبْ

وقال آخر: 4671 - مِنْ البِيْضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ ... ولم تَمْشِ بين الحَيِِّ بالحطبِ الرَّطْبِ جَعَلَه رَطْباً تنبيهاً على تَدْخينه، وهو قريبٌ مِنْ ترشيحِ المجازِ. وقرأ أبو قلابة {حاملةَ الحطبِ} على وزن فاعِلَة. وهي محتملةُ لقراةِ العامَّةِ. وعباس «حَمَّالة للحطَبِ» بالتنوين وجَرِّ المفعولِ بلامٍ زائدةٍ تقويةً للعاملِ، كقولِه تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وأبو عمروٍ في روايةٍ «وامرأتُه» باختلاسِ الهاءِ دونَ إشباعٍ.

5

قوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ} : يجوزُ أَنْ يكونَ «في جيدِها» خبراً ل «امرأتُه» و «حبلٌ» فاعلٌ به، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ «امرأتُه» على كونِها فاعلة. و «حبلٌ» مرفوعٌ به أيضاً، وأَنْ يكونَ خبراً مقدَّماً. و «حَبْلٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ. والجملةُ حاليةٌ أو خبر ثانٍ، والجِيْدُ:

العُنُق، ويُجْمع على أجيادُ. قال امرؤ القيس: 4672 - وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ ... إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعْطَّلِ و {مِّن مَّسَدٍ} صفةٌ ل «حَبْل» والمَسَدُ: لِيْفُ المُقْلِ: وقيل: اللِّيفُ مطلقاً. وقيل: هو لِحاءُ شَجَرٍ باليمن. قال النابغة: 4673 - مَقْذُوْفَةٌ بِدَخِيْسِ النَّحْضِ بَازِلُها ... له صريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ وقد يكونُ مِنْ جلود الإِبل وأَوْبارِها. وأنشد: 4647 - ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِ ... ويقال: رجلٌ مَمْسود الخَلْق، أي: شديدُه.

الإخلاص

قوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} : في «هو» وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ عائدٌ على ما يفْهَمُ من السياقِ، فإنه يُرْوى في الأسباب: أنَّهم قالوا لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم: صِفْ لنا ربَّك وانْسُبْه. وقيل: قالوا له: أمِنْ نُحاس هو أم مِنْ حديدٍ؟ فنَزَلَتْ. وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ «الله» مبتدأً، و «أَحَدٌ» خبرُه. والجملةُ خبرُ الأولُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «اللَّهُ» بدلاً، و «أحدٌ» الخبرَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «اللَّهُ» خبراً أوَّلَ، و «أحدٌ» خبراً ثانياً. ويجوزُ أَنْ يكونَ «أحدٌ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو أحدٌ. والثاني: أنَّه ضميرُ الشأنِ لأنه موضعُ تعظيمٍ، والجلمةُ بعدَه خبرُه مفسِّرِةٌ. وهمزةُ «أحد» بدلٌ من واوٍ، لأنَّه من الوَحْدة، وإبدالُ الهمزةِ من الواوِ المفتوحةِ. وقيل: منه «امرأةٌ أناة» من الونى وهو الفُتورُ. وتقدَّم الفرقُ بين «أحد» هذا و «أحد» المرادِ به العمومُ، فإنَّ همزةُ ذاك أصلٌ

بنفسِها. ونَقَل أبو البقاءِ أنَّ همزةَ «أحد» هذا غيرُ مقلوبةٍ، بل أصلٌ بنفسِها كالمرادِ به العمومُ، والمعروفُ الأولُ. وفَرَّق ثعلب بين «واحد» وبين «أحد» بأنَّ الواحدَ يدخُلُه العَدُّ والجمعُ والاثنان، و «أحَد» لا يَدْخُلُه ذلك. ويقال: اللَّهُ أحدٌ، ولا يقال: زيدٌ أحدٌ؛ لأنَّ للَّهِ تعالى هذه الخصوصيةَ، وزَيْدٌ له حالاتٌ شتى. ورَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّه يُقال: أحد وعشرونَ ونحوه فقد دخلَه العددُ «أنتهى. وقال مكي:» إنَّ أَحَدَاً أصلُه وَأَحَد، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً فاجتمع ألفان، لأنَّ الهمزةَ تُشْبه الألفَ، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً «. وقرأ عبد الله وأُبَيُّ {اللَّهُ أحدٌ} دونَ» قُلْ «وقرأ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم» أحدٌ «بغيرِ» قل هو «وقرأ الأعمش:» قل هو اللَّهُ الواحد «. وقرأ العامَّةُ بتنوين» أحدٌ «وهو الأصلُ. وزيد بن علي وأبان ابن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السَّمَّال وأبو عمروٍ في روايةٍ في عددٍ كثيرٍ بحذف التنوين لالتقاء الساكنين كقولِه:

4675 - عمرُو الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه ... ورجالُ مكةَ مُسْنِتُون عِجافُ وقال آخر: 4676 - فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا

2

قوله: {الصمد} : فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ والنَّقَضِ. وهو السَّيِّدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ، أي: يُقْصَدُ ولا يَقْدِرُ على قضائِها إلاَّ هو. وأنشد: 4677 - ألا بَكَّرَ النَّاعي بخَيْرِ بني أسدْ ... بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّد الصَّمَدْ وقال الآخر: 4678 - عَلَوْتُه بحُسامٍ ثم قُلْتُ له ... خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ وقيل: الصَّمَدُ: هو الذي لا جَوْفَ له، ومنه قوله:

4679 - شِهابُ حُروبٍ لا تَزال جيادُه ... عوابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيْمَ المُصَمَّدا وقال ابن كعب: تفسيرُه ما بعده مِنْ قولِه: «لم يَلِدْ ولم يُوْلَدُ» وهذا يُشْبِهُ ما قالوه في تفسير الهَلوع. والأحسنُ في هذه الجملة أَنْ تكون مستقلةً بفائدةِ هذا الخبرِ. ويجوز أنْ يكونَ «الصَّمَدُ» صفةً. والخبرُ في الجملةِ بعده، كذا قيل: وهو ضعيفٌ، من حيث السِّياقُ، فإنَّ السِّياقَ يَقْتضي الاستقلالَ بأخبارِ كلِّ جملةٍ.

4

قوله: {كُفُواً أَحَدٌ} : في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ «يكنْ» و «أحدٌ» اسمُها و «له» متعلِّقٌ بالخبر، اي: ولم يكُنْ أحدٌ كُفُواً له. وقد رَدَّ المبردُ على سيبويهِ بهذه الآيةِ، من حيث إنه يزعمُ أنه إذا تَقَدَّم الظرفُ كان هو الخبرَ، وهنا لم يَجْعَلْه خبراً مع تقدُّمِه. وقد رُدَّ على المبردِ بوجهَيْن، أحدُهما: أنَّ سيبويهِ لم يُحَتِّمْ ذلك بل جَوَّزه. والثاني: أنَّا لا نُسَلِّم أن الظرفَ هنا ليس بخبرٍ بل هو خبرٌ، ونصبُ «كُفُواً» على الحال على ما سيأتي بيانُه. وقال الزمخشري: «الكلامُ العربيُّ الفصيحُ أَنْ يؤخَّرَ الظرفُ الذي هو لَغْوٌ غيرُ مستقِرِّ ولا يُقَدَّمَ. وقد نَصَّ سيبويه في» كتابِه «على ذلك، فما بالُه مُقَدَّماً في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه؟ قلت: هذا الكلامُ إنما سِيْقَ لنَفْيِ المكافأةِ عن ذاتِ

الباري تعالى، وهذا المعنى مَصَبُّه ومَرْكَزُه هو هذا الظرفُ، فكان لذلك أهمَّ شيءٍ وأَعْناه وأحقَّه بالتقديمِ وأَحْراه» . والثاني: أَنْ يُنْصَبَ على الحال مِنْ «أحد» لأنَّه كان صفتَه فلمَّا تقدَّم عليه نُصِب حالاً، و «له» هو الخبر. قاله مكي وأبو البقاء وغيرُهما. ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكِنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً. قال الشيخ بعد أَنْ حكى كلامَ الزمخشري ومكي: «وهذه الجملةُ ليسَتْ من هذا البابِ وذلك أنَّ قولَه: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ليس الجارُّ والمجرورُ فيه تامَّاً، إنما ناقصٌ لا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً ل» كان «بل هو متعلِّقٌ ب» كُفُواً «وقُدِّمَ عليه. التقدير: ولم يكنْ أحدٌ مكافِئاً له، فهو في معنى المفعولِ متعلِّقٌ ب» كُفُواً «وتَقَدَّم على» كُفُواً «للاهتمامِ به، إذ فيه ضميرُ الباري تعالى، وتوسَّطَ الخبرُ وإنْ كان الأصلُ التأخيرَ؛ لأنَّ تأخيرَ الاسمِ هو فاصلةٌ فحَسُنَ ذلك. وعلى هذا الذي قَرَّرْناه يَبْطُل إعرابُ مكي وغيرِه أنَّ» له «الخبرُ، و» كُفُواً «حالٌ مِنْ» أحد «لأنه ظرفٌ ناقصٌ لا يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً. وبذلك يَبْطُل سؤالُ الزمخشريِّ وجوابُه. وسيبويه إنما تكلَّم في الظرفِ الذي يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً وأنْ لا يكون. قال سيبويه:» وتقول: ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك، وما كان [أحدٌ] مثلُك فيها، وليس أحدٌ

فيها خيرٌ منك، إذا جعلت «فيها» : مستقراً، ولم تجعَلْه على قولك: فيها زيدٌ قائمٌ أَجْرَيْتَ الصفةَ على الاسم. فإن جَعَلْتَه على «فيها زيدٌ قائمٌ» نَصَبْتَ فتقول: ما كان فيها أحدٌ خيراً منك، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها، إلاَّ أنَّكَ إذا أرَدْتَ الإِلْغاءَ فلكما أَخَّرْتَ المُلْغَى فهو أَحْسَنُ، وإذا أرَدْتَ أَنْ يكونَ مستقرَّاً فكلما قَدَّمْته كان أحسنَ، والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاءُ والاستقرارُ عربيٌُّ جيدٌ كثيرٌ قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} وقال الشاعر: 4680 - ما دامَ فيهِنَّ فَصِيْلٌ حَيَّاً ... انتهى كلامُ سيبويه. قال الشيخ: «فأنت ترى كلامَه وتمثيلَه بالظرف الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً. ومعنى قولِه» مستقرَّاً «أي: خبراً للمبتدأ أو لكان. فإن قلتَ: فقد مَثَّل بالآية. قلت: هذا أوقَع مكيَّاً والزمخشريَّ وغيرَهما فيما وقعوا فيه، وإنما أراد سيبويه أنَّ الظرفَ التامَّ وهو في قولِه: ما دامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّاً ... أُجْري فَضْلةً لا خبراً كما أنَّ» له «في الآية أُجْرِي فَضْلَةً فجعلَ الظرفَ القابلَ أن يكونَ خبراً كالظرفِ الناقصِ في كونِه لم يُستعمل خبراً. ولا يَشُكُّ مَنْ له ذِهْنٌ صحيحٌ أنه لا ينعقدُ كلامٌ مِنْ» له أحد «بل لو تأخَّرَ»

كُفُو «وارتفع على الصفةِ وقد جَعَل» له «خبراً لم ينعقِدْ منه كلامٌ. بل أنت ترى أنَّ النفيَ لم يتسلَّطْ إلاَّ على الخبرِ الذي هو» كُفُواً «والمعنى: لم يكنْ أحدٌ مكافِئَه» انتهى ما قاله الشيخ. وقوله: «ولا يَشُكُّ أحدٌ» إلى آخره تَهْوِيلٌ على الناظرِ. وإلاَّ فقولُه: «هذا الظرفُ ناقصٌ» ممنوعٌ؛ لأنَّ الظرفَ الناقصَ عبارةٌ عَمَّا لم يكُنْ في الإِخبارِ به فائدةٌ، كالمقطوعِ عن الإِضافة، ونحوِ «في دارٍ رجلٌ» وقد نَقَلَ عن سيبويه الأمثلَةَ المتقدمةَ نحو: «ما كان فيها أحدٌ خيراً منك» ، وما الفرق بين هذا وبين الآيةِ الكريمة؟ وكيف يقول هذا وقد قال سيبويهِ في آخرِ كلامهِ: «والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاء والاستقرارُ عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ» ؟ وقرأ العامَّةُ بضمِّ الكافِ والفاء. وسَهَّل الهمزةَ الأعرجُ وشيبةُ ونافعٌ في روايةٍ. وأسكنَ الفاءَ حمزةُ، وأبدل الهمزةَ واواً وقفاً خاصة. وأبدلها حفصٌ واواً مطلقاً. والباقون بالهمزِ مطلقاً. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا في أوائِل البقرةِ في قوله: {هُزُواً} [البقرة: 67] . وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس «كِفاءٌ» بالكسر والمدِّ، أي: لا مِثْلَ له. وأُنْشِدَ للنابغة:

4681 - لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ له ... . . . . . . . . . . . . . . . . . ونافعٌ في رواية «كِفا» بالكسر وفتح الفاء مِنْ غير مَدّ، كأنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ وحَذَفَها. والكُفْءُ: النظيرُ. وهذا كفْءٌ لك، أي: نظيرُكَ والاسم الكَفاءة بالفتح.

الفلق

قوله: {الفلق} : هو الصُّبْحُ. وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ، اي: مَفْلوق. وفي الحديث: «الرُّؤْيا مِثْلُ فَلَقِ الصُّبح» قال الشاعر: 4682 - يا ليلةً لم أَنَمْها بِتُّ مُرْتَقِباً ... أَرْعَى النجومَ إلى أنْ نَوَّرَ الفَلَقُ وقال ذو الرمة: 4683 - حتى إذا ما انجلى عن وَجْهِه فَلَقٌ ... هادِيْهِ في أُخْرَياتِ الليلِ مُنْتَصِبُ وقيل: هو جُبُّ في جهنَّمَ. وقيل: المطمئِنُّ من الأرض. وجمعُه فُلْقان. وقيل: كلُّ ما فُلِقَ كالحَبِّ والأرضِ عن النبات.

2

قوله: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} : متعلقٌ ب «أعوذُ» والعامَّةُ على إضافةِ «شَرِّ» إلى «ما» وقرأ عمرو بن فائد بتنوينه. وقال ابنُ عطية: «عمروُ بن عبيد وبعضُ المعتزلة الذين يَرَوْن أنَّ اللَّهَ لم يَخْلُقِ الشرَّ:» مِنْ شَرٍ «بالتنوين» ما خلقَ «على النفي، وهي قراءةٌ مردودةٌ مبنيَّةٌ على مذهبٍ باطلٍ» انتهى ولا يتعيَّن أَنْ تكونَ «ما» نافيةً، بل يجوزُ أن تكونَ موصولةً بدلاً مِنْ «شر» على حذفِ مضافٍ، أي: من شَرٍ شَرِّ ما خَلَقَ. عَمَّم أولاً [ثم خَصَّص ثانياً] وقال ابو البقاء: «وما على هذا بدلٌ مِنْ» شرّ «أو زائدةٌ. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةٌ؛ لأنَّ النافيةَ لا يتقدَّمُ عليها ما في حَيِّزِها. فلذلك لم يَجُزْ أَنْ يكونَ التقدير: ما خَلَقَ مِنْ شر، ثم هو فاسِدُ المعنى» قلت: وهو رَدٌّ حسنٌ صناعيٌّ. ولا يقال: إنَّ «مِنْ شرّ» متعلقٌ ب «أعوذُ» وحُذِفَ مفعولُ «خَلَق» لأنه خلافُ الأصلِ. وقد أَنْحى مكيُّ على هذا القائلِ، ورَدَّه بما تقدَّم أقبحَ رَدّ. [و «ما» مصدريةٌ، أو بمعنى الذي] .

3

قوله: {وَقَبَ} : وَقَبَ الليلُ: أظلم، والعذابُ: حَلَّ، والشمسُ: [غَرَبَتْ: وقيل: وَقَبَ، أي: دَخَلَ] قال الشاعر:

4684 - وَقَبَ العذابُ عليهمُ فكأنَّهمْ ... لَحِقَتْهُمُ نارُ الس‍َّمومِ فأُحْصِدوا والغاسِقُ قيل: الليلُ. وقيل: القمر. سُمِّي الليلُ غاسِقاً لبُرودته. وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في سورة ص. واسْتُعيذ من الليل لِما يبيتُ فيه من الآفاتِ. قال الشاعر: 4685 - يا طيفَ هندٍ لقد أَبْقَيْتَ لي أَرَقا ... إذ جِئْتَنا طارقاً والليلُ قد غَسَقا أي: أظلمَ واعْتَكَرَ. و «إذا» منصوب ب «أعوذُ» ، أي: أعوذُ باللَّهِ مِنْ هذا في وقتِ كذا.

4

قوله: {النفاثات} : جمع نَفَّاثَة مثالُ مبالغةٍ. من نَفَثَ، أي: نَفَخَ. واخْتُلِفَ فيه فقال أبو الفضل: شَبَّه النَّفْخَ من الفمِ في الرُّقْيَةِ ولا شيءَ معه. فإذا كان بِرِيْقٍ فهو التَّفْلُ وأنشد: 4686 - فإنْ يَبْرَأْ فلم أَنْفُِثْ عليهِ ... وإنْ يَفْقَدْ فَحَقَّ له الفُقُودُ وقال الزمخشري: «نَفْخٌ معه رِيْقٌ» وقرأ الحسن «النُّفَّاثات»

بضم النون، وهي اسم كالنُّفَّاخَة. ويعقوب وعبدُ الله بن القاسم «النافِثات» وهي محتملةٌ لقراءةِ العامة، والحسن ايضاً وأبو الرَّبيع «النَّفِثات» دونَ ألفٍ كحاذِر وحَذِر. ونَكِّر غاسِقاً وحاسداً لأنه قد يَتَخَلَّفُ الضَّرَرُ فيهما. فالتنكيرُ يفيد التبعيضَ. وعَرَّفَ «النفَّاثات» : إمَّا للعَهْدِ كما يروى في التفسير، وإمَّا للمبالغةِ في الشَّرِّ.

الناس

قوله: {مَلِكِ الناس إله الناس} : يجوزُ أَنْ يكونا وصفَيْنِ ل «ربِّ الناسِ» وأَنْ يكونا بَدَلَيْنِ، وأَ‍نْ يكونا عطفَ بيانٍ. قال الزمخشري: «فإنْ قلَتَ: مَلِكِ الناسِ، إلهِ الناس، ما هما مَنْ ربُّ الناسِ؟ قلت: عطفُ بيانٍ كقولك: سيرةُ أبي حفصٍ عمرَ الفاروقِ، بُيِّنَ بمَلِكِ الناس، ثم زِيْدَ بياناً؛ لأنه قد يُقال لغيره» رَبُّ الناسِ «كقوله: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] . وقد يُقال: مَلِكُ الناس، وأمَّا إلهُ الناس فخاصٌّ لا شِرْكَةَ فيه، فَجُعِل غايةَ البيان» واعترض الشيخُ بأنَّ البيانَ بالجوامدِ. ويُجابُ عنه: بأنَّ هذا جارٍ مجرى الجوامِدِ. وقد تقدَّم في «الرحمن الرحيم» أولَ الفاتحةِ تقريرُه. وقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ لِمَ قيل:» برَبِّ الناسِ «مضافاً إليهم

خاصةً؟ قلت: لأنَّ الاستعاذةَ وقعَتْ مِنْ شرِّ المُوَسُوِسِ في صدورِ الناسِ فكأنه قيل: أعوذُ مِنْ شَرِّ المُوَسْوِسِ إلى الناس بربِّهم الذي يملكُ أمْرَهم» ثم قال: «فإنْ قلتَ: فهلاَّ اكتُفِي بإظهارِ المضافِ إليه مرةً واحدة. قلت: لأنَّ عطفَ البيانِ فكان مَظِنَّةً للإِظهار» .

4

قوله: {الوسواس} : قال الزمخشري: «اسمٌ بمعنى الوَسْوَسَةِ كالزَّلْزال بمعنى الزَّلْزَلة، وأمَّا المصدرُ فوِسْواسٌ بالكسرِ، كالزِّلْزال، والمرادُ به الشيطانُ سُمِّي بالمصدرِ كأنه وَسْوَسَةٌ في نفسِه، لأنها صَنْعَتُه وشُغْلُه. أو أُريد ذو الوَسْواس» انتهى. وقد مَضَى الكلامُ معه في أنَّ المكسورَ مصدرٌ، والمفتوحَ اسمٌ في الزلزلة فليُراجَعْ. قوله {الخناس} ، أي: الرَّجَّاع، لأنه إذا ذُكِرَ اللَّهُ تعالى خَنَسَ وهو مثالُ مبالغةٍ من الخُنُوس. وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ في سورةِ التكوير.

5

قوله: {الذى يُوَسْوِسُ} : يجوز جَرُّه نعتاً وبدلاً وبياناً لجَريانه مَجْرى الجوامِد، ونصبُه ورفعُه على القطع.

6

قوله: {مِنَ الجنة} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من «شَرِّ» بإعادة العاملِ، أي: مِنْ شَرِّ الجِنة. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ ذي

الوَسواس؛ لأنَّ المُوَسْوِسَ من الجنِّ والإِنس. الثالث: أنَّه حالٌ من الضمير في «يُوَسْوِسُ» أي: يُوَسْوِس حالَ كونِه مِنْ هذين الجنسَيْنِ. الرابع: أنه بدلٌ من «الناس» وجَعَلَ «مِنْ» تَبْييناً. وأَطْلَقَ على الجِنِّ اسمَ الناس؛ لأنهم يتحرَّكون في مُراداتهم، قاله أبو البقاء. إلاَّ أنَّ الزمخشري أبطلَ فقال بعد أَنْ حكاه: «واسْتَدَلُّوا ب {نَفَرٌ} [الجن: 1] و {رِجَالٌ} [الجن: 6] ما أحقَّه؛ لأن الجنَّ سُمُّوا جِنَّاً لاجتنانِهم والناسَ ناساً لظهورِهم، من الإِيناس وهو الإِبصار، كما سُمُّوا بَشَراً. ولو كان يقع الناسُ على القبيلَيْنِ وصَحَّ وثَبَتَ لم يكن مناسِباً لفصاحةِ القرآن وبعده مِنَ التَصَنُّع، وأَجْوَدَ من أن يرادَ بالناس الناسي كقولِه: {يَوْمَ يَدْعُ الداع} القمر: 6] وكما قرئ {مِنْ حيث أفاضَ الناسي} ثم بُيِّنَ بالجِنة والناس؛ لأنَّ الثَّقَلَيْن هما النوعان الموصوفانِ بنِسْيان حَقِّ اللَّهِ تعالى» قلت: يعني أنه اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء، والمرادُ اسمُ الفاعلِ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في البقرة، وأَنْشَدْتُ عليه هناك شيئاً من الشواهد. الخامس: أنه بيانٌ للذي يوسوِسُ، على أن الشيطان ضربان: إنسِيُّ وجنيُّ، كما قال {شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112] . وعن أبي ذر: أنه قال

لرجل: هل اسْتَعَذْتَ من شياطينِ الإِنس؟ السادس: أنَّه يتعلَّق ب «يُوَسْوِس» و «مِنْ» لابتداءِ الغاية، أي: يُوَسْوِسُ في صدورِهم من جهة الجنِّ ومِنْ جهة الإِنس. السابع: أنَّ «والناس» عطفٌ على «الوَسْواس» أي: مِنْ شَرِّ الوَسْواس والناس. ولا يجوزُ عطفُه على الجِنَّةِ؛ لأنَّ الناسَ لا يُوَسْوِسُوْنَ في صدورِ الناس إنما يُوَسْوِس الجنُّ، فلمَّا استحالَ المعنى حُمِل على العطف على الوَسْواس، قاله مكي وفيه بُعْدٌ كبيرٌ لِلَّبْسِ الحاصلِ. وقد تقدَّم أنَّ الناسَ يُوَسْوِسون أيضاً بمعنىً يليقُ بهم. الثامن: أنَّ {مِنَ الجنة} حالٌ من «الناس» ، أي: كائنين من القبيلين، قاله أبو البقاء، ولم يُبَيِّنْ: أيُّ الناسِ المتقدمُ أنه صاحبُ الحالِ؟ وعلى كلِّ تقديرٍ فلا يَصِحُّ معنى الحاليةِ [في شيءٍ منها] ، لا الأولُ ولا ما بعدَه. ثم قال: «وقيل: هو معطوف على الجِنَّة» يريد «والناسِ» الأخيرَ معطوفٌ على «الجِنة» وهذا الكلامُ يَسْتدعي تقدُّمَ شيءٍ قبلَه: وهو أَنْ يكونَ «الناس» عطفاً على غير الجِنة كما قال به مكي ثم يقول: «وقيل هو معطوفٌ على» الجِنة «وفي الجملة فهو كلامٌ متسامَحٌ فيه [سامَحَنا الله] وإياه وجميعَ خلقِه بمنِّة وكَرَمِه وخَتَمَ لنا منه بخيرٍ، وخَتَم لنا رِضاه عنَّا وعن جميع المسلمين.

وهذا آخِرُ ما تَيَسَّر لي من إملاءِ هذا الموضوعِ وحَصْرِ ما في هذا المجموعِ متوسِّلاً إليه بكلامِه متشفِّعاً لديه برسولِه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في أن يجعلَه خالصاً لوجهِه مُوْجِباً للفوز لديه، فإنه حسبي ونِعْمَ الوكيلُ. ووافق الفراغُ منه تصنيفاً وكتابة في العُشْرِ الأوسط من شهر رجبٍ الفردِ من شهورِ سنةِ أربعٍ وثلاثين وسبعمئة أحسنَ الله تقضِّيَها بمَنِّه وكَرَمِه. قاله وكتبه افقرُ عبيدِه إليه أحمدُ بنُ يوسفَ بنِ محمدِ مسعودٍ الشافعيُّ الحلبيُّ حامداً لله ربِّ العالمين ومُصَلِّياً على رسولِه الأمين وآلهِ وصحبِه أجمعين وسلَّم.

§1/1