العدة في أصول الفقه
أبو يعلى ابن الفراء
المجلد الأول
المجلد الأول المقدمة الافتتاحية ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين. وبعد فقد كان لاختيار هذا الموضوع أسبابه ودواعيه، يمكن تلخيصها فيما يلي: 1- قيمة الكتاب العلمية، شكلا وموضوعًا، فهو غزير في مادته حسن في ترتيبه وتبويبه. 2- واعتماد المؤلف على مصادر أصيلة، في الأصول والفروع واللغة والنحو وغير ذلك، وبخاصة رسائل الإمام أحمد، وكتب أصحابه المتقدمين. 3- ومؤلف هذا الكتاب هو الإمام أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي، شيخ الحنابلة في عصره، وناشر مذهبهم أصولا وفروعًا في وقته، فقد كان له الفضل الأكبر في جمع شتات أصول الحنابلة وتقعيدها، كما كان له الفضل في تفصيل وبيان مسائل الفقه الحنبلي، وكل من جاء بعده فهم عيال عليه في ذلك.
4- ثم إن إخراج هذا الكتاب ونشره، سيغير من الصورة في أذهان طلاب العلم عن أصول الفقه عند الحنابلة، ومدى استقلالها من عدمه، إذ لا يوجد كتاب متداول يمثل رأي الحنابلة بجلاء ووضوح، إذا ما استثنينا كتاب:"روضة الناظر" لابن قدامة، و"شرح الكوكب المنير" لأبي البقاء الفتوحي، اللذين طبعا طباعة سيئة، مليئة بالأخطاء والتحريفات بالإضافة إلى أن المؤلفين من متأخري الحنابلة، الذين لا يضارعون أبا يعلى، لا في الأصول ولا في الفروع. 5- وبالإضافة إلى ما سبق أريد أن أشارك بإخراج كتاب من روائع تراثنا الإسلامي الضخم، لعلي بذلك أكون قد قمت ببعض الواجب؛ خدمة للعلم، وابتغاء للأجر والمثوبة من الله تعالى. ومن أول يوم سجلت فيه الموضوع شمرت عن ساعد الجد، وأول عمل قمت به هو جمع المصادر والمراجع المخطوطة، سواء كانت للمؤلف، أم كانت لغيره مما يتعلق بالبحث، ولو من بعيد. فبدأت بزيارة مكتبات القاهرة العامة، فزرت دار الكتب المصرية فوجدت فيها إضافة إلى "العدة في أصول الفقه" كتاب "التعليق الكبير في المسائل الخلافية" للقاضي أبي يعلى، ووجدت أيضًا كتاب "الفصول" أو "أصول الجصاص" وقد أفدت من هذا الكتاب الأخير في التحقيق؛ لأنه من أهم المراجع التي استعان بها القاضي أبو يعلى في كتابه "العدة". كما وجدت كتاب "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" للمرداوي الحنبلي، الذي عنى كثيرًا بتسجيل آراء واختيارات القاضي أبي يعلى. ثم زرت معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية، فوجدت به للمؤلف زيادة على ما ذكر كتاب "الروايتين والوجهين" كما وجدت كتاب "الجدل" لأبي الوفاء بن عقيل تلميذ المؤلف، وجزءًا
من كتاب "الفصول" له، علاوة على كتاب "الإشراف على مذاهب الأشراف" للوزير يحيى بن هُبَيرة الشيباني الحنبلي. وقد قمت بتصوير تلك المخطوطات على ميكرو فيلم، ثم كبرتها بعد ذلك، عدا كتاب"الفصول في أصول الفقه" للجصاص، فلم أصوره، بل رجعت إلى نفس المخطوطة عند الاحتياج إليها. وبعد ذلك شددت الرحال إلى المملكة العربية السعودية، فزرت مكتبات مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف والرياض، أفتش عن نسخة ثانية للعدة، وعن تراث المؤلف بصفة عامة، فلم أظفر بشيء من ذلك. ومن المعلوم أن المكتبة الظاهرية تحوي كثيرًا من تراث الحنابلة في التفسير والحديث والأصول والفقه وغيرها، لذلك فقد صورت منها على ميكروفيلم "62" مخطوطة مما ألفه علماء الحنابلة في شتى العلوم، سوى بعض كتب قليلة جدًّا لغيرهم، صورت ضمن المجاميع، ثم كبرت تلك المخطواطات فيما بعد، واخترت منها المخطوطات التي لها صلة بالبحث وهي: أولا: مؤلفات القاضي أبي يعلى: 1- الأمالي في الحديث. 2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- شرح مختصر الخرقي. 4- الفوائد الصحاح العوالي والأفراد والحكايات. 5- كتاب الإيمان. 6- مختصر المعتمد. ثانيًا: مؤلفات تلاميذه: 1- التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب الكلوذاني.
2- الواضح في أصول الفقه، لأبي الوفاء بن عَقيل البَغدادي. ثالثًا: مؤلفات لغير مَنْ ذكر: 1- الأشربة: للإمام أحمد. 2- مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله. 3- مسائل الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، رواية المروزي. 4- التمام لما صح في الروايتين: لابن أبي يعلى. 5- شرح الطوفي على مختصر الروضة. 6- مختصر أصول ابن اللحام. ومما يستغرب أنه لا يوجد -حسب علمي- في مكتبات بغداد العامة أي مؤلف مخطوط للقاضي أبي يعلى مع أنه بغدادي الولادة والمنشأ والوفاة، اللهم إلا كتاب "العمدة في أصول الفقه"، الذي لم يكتب عليه اسم مؤلفه، ولكن بعد تصويره والاطلاع عليه، ثبت أنه للقاضي أبي يعلى. وبعد الحصول على المخطوطات والفراغ من تصويرها، استكملت شراء بعض المراجع المطبوعة، لأتمكن من اختصار الزمن والجهد، وبعد ذلك شرعت في العمل مستعينًا بالله -تعالى- مواصلا البحث والاطلاع آناء الليل وأطراف النهار، باذلا الغالي والرخيص، ويكفي أنني أفنيت فيه خمس سنين من عمري، حتى خرج على هذا الشكل والمضمون. وبعد فهذا جهد المقل، فإن أكن قد وفقت فيه فذلك بفضل الله وكرمه، وإن كانت الأخرى -لا سمح الله- فعزائي أنني اجتهدت، ولكل مجتهد نصيب. ولا أنسى أن أتقدم بالشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي أتاحت لي الفرصة، وسهلت لي السبيل بابتعاثي على حسابها لمواصلة
دراستي، ضارعًا إلى الله -تعالى- أن يوفق القائمين عليها لخدمة الإسلام والمسلمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور: أحمد بن على بن أحمد سير المباركي القاهرة: الثلاثاء: 30/ رمضان سنة 1397هـ، الموافق 14/ سبتمبر سنة 1977م
التعريف بالمؤلف
التعريف بالمؤلف*: اسمه، ونسبه: هو العالم العلامة شيخ الحنابلة في عصره الإمام محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، القاضي، أبو يعلى، البغدادي، الحنبلي، المعروف في زمانه بابن الفراء، والفراء نسبة إلى خياطة الفراء وبيعها. واشتهر بعد ذلك بالقاضي أبي يعلى1. هكذا ذكر اسمه واسم أبيه في جميع مراجع ترجمته التي تمكنت من الاطلاع عليها، عدا السمعاني في كتابه: "الأنساب"2، وابن كثير في كتابه: "البداية والنهاية"3، فقد ذكرا أن اسم أبيه الحسن بالتكبير، وهذا خطأ، يدل على ذلك أمور:
الأول: أن العمدة في ترجمة القاضي أبي يعلى هما: الخطيب البغدادي وابن أبي يعلى، الأول في "تاريخه"، والثاني في "طبقاته" وقد ذكراه باسم "الحسين" مصغرًا، وهما ألصق به وأعرف الناس بشئونه، فالأول تلميذه، والثاني ابنه، وحسبك بالمنزلتين قربًا ومعرفة. الثاني: أن صاحب "اللباب" قد صحح ما أخطأ فيه السمعاني في "أنسابه" فقد ذكره باسم الحسين مصغرًا1. الثالث: أن ابن كثير عندما ترجم لوالد القاضي أبي يعلى في كتابه: "البداية والنهاية"2، ذكره باسم الحسين مصغرًا. الرابع: أن اسمه في الموجود من مؤلفاته: محمد بن الحسين بالتصغير. الخامس: أن هناك كثيرًا ممن ترجموا للقاضي، ذكروا أن اسم أبيه هو "الحسين" بالتصغير منهم ابن الجوزي في كتابه: "المنتظم"3، وفي كتابه: "مناقب الإمام أحمد"4، وابن الأثير في كتابه: "الكامل"5، والذهبي في كتابه: "العبر في خبر من غبر"6، وفي كتابه: "سير أعلام النبلاء"7، وفي كتابه: "دول الإسلام"8، والعليمي في
كتابه: "المنهج الأحمد"1، وابن العماد في كتابه: "شذرات الذهب"2، والنابلسي في كتابه: "مختصر طبقات الحنابلة"3، والصفدي في كتابه: "الوافي بالوفَيَات"4، وبروكلمان في كتابه: "تاريخ الأدب العربي"5 والزركلي في كتابه: "الأعلام"6، وابن تغري بردي في كتابه: "النجوم الزاهرة"7. وقد كانت أسرةُ أبي يعلى أسرةَ علم ومعرفة، فأبوه أبو عبد الله الحسين بن محمد الفقيه الحنفي، أحد العلماء الصالحين الموصوفين بالزهد والورع والتقى: أسند الحديث، ودرس الفقه على أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص، وكان من المكرمين عنده، حدث أن مرض أبو عبد الله مائة يوم، زاره الرازي فيها خمسين مرة، ولما بلَّ من مرضه، قال له الرازي معتذرًا: مرضت مائة يوم، فعدناك خمسين يومًا، وذاك قليل في حقك. روى عن جماعة، وعنه ابنه أبو خازم محمد بن الحسين، عرض عليه منصب القضاء، فامتنع منه. قال عنه الذهبي: "كان من أعيان الحنفية، ومن شهود الحضرة". مات في سنة: 390هـ، ولابنه أبي يعلى عشر سنين إلا أيامًا8.
وكان جده لأمه: عبيد الله بن عثمان بن يحيى أبا القاسم الدقاق، المعروف بابن "جليقا" بالجيم واللام والمثناة التحتية بعد قاف ممدودة، أو ابن "جنيقا" بإبدال اللام نونًا، نسبة إلى أحد أجداده. ولد جده المذكور سنة "318هـ"، وكان ثقة مأمونًا مكثرًا. روى عن المحاملي، وعنه العتيقي والأزهري وابن بنته أبو يعلى. قال عنه أبو الفوارس: "كان ثقة مأمونًا، حسن الخلق، ما رأينا مثله في معناه". وقال ابن الجوزي: "كان صحيح السماع، ثبت الرواية". مات في شهر رجب سنة "390هـ"1. وتقف المصادر التي اطلَعت عليها على ما ذكرت من أجداد القاضي أبي يعلى، غير ذاكرة أصله الذي ينتمي إليه، وإنما اكتفت بأنه بغدادي المولد والنشأة والوفاة.
مولده
مولده: ولد القاضي أبو يعلى في شهر محرم لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين خلون منه، سنة ثمانين وثلاثمائة هجرية. نقل ذلك الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"1، قال: "حدثني أبو القاسم الأزهري، قال: كان أبو الحسين بن المحاملي يقول: ... سألته -أي القاضي أبا يعلى- عن مولده، فقال: ولدت لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة ثمانين وثلاثمائة".
وهذه الرواية هي التي عوَّل عليها المؤرخون في ذكر مولده، ولم أجد أحدًا خالف في ذلك فيما اطلعت عليه من المراجع1.
نشأته وطلبه العلم وأهم أعماله
نشأته وطلبه العلم وأهم أعماله: ولد القاضي أبو يعلى في بغداد كعبة العلم وقبلة العلماء وحاضرة العالم الإسلامي في ذلك العصر، بل حاضرة العالم كله، فقد كانت النهضة العلمية آنذاك مكتملة الأسباب متوفرة الدواعي، ولم تكن تلك النهضة خاصة بعلم دون آخر، بل كانت شاملة للنواحي العملية المتعددة، فكان في كل علم أساتذته وطلابه، كما كان في كل علم مكتبته ورواده. في هذه البيئة العلمية نشأ أبو يعلى وترعرع. بالإضافة إلى ذلك فقد توفر لأبي يعلى بيت علمي، يتعاون مع البيئة العلمية العامة، فقد كان أبوه على جانب كبير من العلم والفقه، لذلك حرص على تعليم ابنه وتنشئته تنشئة علمية صالحة، وكان يتولى بنفسه تعليم فتاهُ. وكانت مدرسة الحديث آنذاك عامرة بشيوخها، فبدأ الطفل في التلقي والسماع، وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره، وكان أول سماعه من المحدث علي بن معروف1. لم يمهل والد الغلام، حتى يرى ثمرة غرسه، فتمتد يد المنون إليه،
فتخترمه، وذلك في سنة: 390هـ، ولغلامه من العمر عشر سنين إلا أيامًا1. ويشاء الله -تعالى- أن يعيش الغلام هذه الفترة يتيمًا، ولعل ذلك سر من أسرار نبوغه وتفوقه، إذ إن كثيرًا من العباقرة والأفذاذ ينشئون غالبًا يتامى؛ ليتمرنوا على شظف العيش وقسوة الحياة؛ ليخرجوا بعد هذه المعاناة، وهم أشد ما يكونون صلابة عود ومضاء عزيمة. ولكن أباه قبل أن يفارق الدنيا أوصى بتربية ابنه والقيام بشئونه إلى رجل يعرف بالحربي، كان يسكن بحي في بغداد يقال له: "دار القز"، فانتقل الصبي إلى مكان وصيه بعد أن كان يسكن "باب الطاق" -حي من أحياء بغداد أيضًا. وفي "دار القز" هذا، كان فيه رجل صالح، يعرف: بابن مفرحة المقرئ، كان يقرئ القرآن في مسجد بهذا الحي، ويلقن طلابه بعض العبارات من "مختصر الخرقي" فقصده الصبي، وتلقى عنه ما كان يستطيع ذلك المقرئ أداءه، ولكن التلميذ طلب من معلمه الزيادة فأجابه بأسلوب المتواضع العارف قدر نفسه: "هذا القدر الذي أحسنته، فإن أردت زيادة، فعليك بالشيخ أبي عبد الله بن حامد، فإنه شيخ هذه الطائفة"2. وينتهي هذا الطور من حياة هذا الغلام؛ لينتقل إلى الطور الثاني، وهو طور اتصاله بالشيخ أبي عبد الله الحسن بن حامد الحنبلي وتفقهه عليه. كان الشيخ ابن حامد -رحمه الله تعالى- إمام الحنابلة في عصره في
بغداد، وكان يدرس بها المذهب الحنبلي أصولا وفروعًا، فأَمَّه الغلام أبو يعلى، وصحبه، وتتلمذ عليه، حتى حاز رضا شيخه وإعجابه، وفاق زملاءه وأقرانه، ولذلك لما سئل عمن يقوم بالتدريس أثناء غيابه في الحج، أجاب بقوله: هذا الفتى، وأشار إلى القاضي أبي يعلى1. ولم يكن أبو يعلى مقتصرًا على تعلم الفقه وأصوله، بل سمع الحديث وأكثر من ذلك، فسمع من أبي القاسم بن حبابة وعلي بن عمر الحربي وأبي القاسم موسى السراج وأبي الحسين السكري وغيرهم2. كما تعلم علوم القرآن وقرأ بالقرءات العشر3. وقد رحل في طلب العلم إلى مكة المكرمة ودمشق الفيحاء، وحلب الشهباء، وهناك سمع الحديث من بعض محدثيها4. وفي سنة "403هـ" يلتحق الشيخ ابن حامد بالرفيق الأعلى، حيث وافته منيته، وهو راجع من الحج5. ويتلقى التلميذ نبأ الفاجعة بصبر وثبات، ويمضي قدمًا في إكمال رسالة شيخه، فيتربع على كرسي التدريس والإفتاء على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى. ومن هنا يبدأ الدور الثالث في حياة الرجل، طور النضوج، طور تحمل المسئولية بكل تبعاتها، فيعكف على التأليف والتصنيف في شتى
العلوم الإسلامية، وبخاصة والرجل قد جمع كثيرًا من الكتب، والمسائل التي نقلها الأصحاب عن الإمام أحمد، الأمر الذي جعله على دراية كاملة بأصول وفروع مذهب إمامه. وفي سنة: 414هـ نجده يسافر إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ثم يعود بعد ذلك إلى بغداد لمواصلة التدريس والتأليف والإفتاء1.
توليه التدريس
توليه التدريس: أشرنا فيما تقدم أن الشيخ ابن حامد -رحمه الله- كان هو القائم بتدريس الفقه وأصوله على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وكان القاضي أبو يعلى يتولى التدريس أثناء غياب شيخه ابن حامد بأمر منه. ولكن لما انتقل ابن حامد إلى جوار ربه، كان لزامًا على القاضي أبي يعلى أن يشغل الفراغ الذي تركه شيخه، فيجلس على كرسي التدريس يتصدى للإفتاء. وتمضي الليالي والأيام، وقافلة الخير تسير بأمر ربها، فليس هناك إلا بحث واطلاع وتدريس وإفادة، فيذيع صوت هذا الشاب، وتتناقل الأخبار عن فتى بغداد الحنبلي، فيدلف الناس إليه زرافات ووحدانًا، يسمعون منه، ويقرءون عليه، ويسألونه عما أشكل عليهم. ويحكي لنا ابنه أبو الحسين ما كان عليه الازدحام على حلقة والده في جامع المنصور ببغداد، فيقول: "وقد حضر الناس مجلسه، وهو يملي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد صلاة الجمعة بجامع المنصور على كرسي عبد الله ابن إمامنا أحمد -رضي الله عنه- وكان المبلغون عنه في حلقته والمستملون ثلاثة أحدهم: خالي أبو محمد جابر. والثاني: أبو
منصور الأنباري، والثالث: أبو علي البرداني. وأخبرني جماعة من الفقهاء ممن حضر الإملاء أنهم سجدوا في حلقة الإملاء على ظهور الناس؛ لكثرة الزحام في صلاة الجمعة في حلقة الإملاء"1. وكانت هذه المدرسة تعج بفطاحل العلماء الأجلاء، الذين حملوا الراية بعد شيخهم، ومِنْ ألمع هؤلاء أبو الوفاء ابن عقيل وأبو الخطاب الكلوذاني والخطيب البغدادي وغيرهم. وبذلك يعتبر القاضي أبو يعلى هو الذي نشر مذهب الإمام أحمد في هذه الفترة، وأحيا ما انْدَرَسَ من معالمه، فقد تخرج على يديه الجم الغفير من الحنابلة، كما ألَّف في المذهب -أصولا وفروعًا- الكتب الكثيرة، التي تعتبر أهم المصادر التي حفظت لنا المذهب الحنبلي بعد المسائل التي دونت عن أحمد ووصلت إلينا، ولذلك لا نجد أحدًا بلغ مبلغه فيمن أتى بعده، بل كلهم عيال عليه.
توليه القضاء
تولِّيه القضاء: لما برز القاضي أبو يعلى، وعرف الناس قدره ومكانته العلمية وزهده وورعه، قصده الشريف أبو علي بن أبي موسى؛ ليشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا فامتنع، وأبى ذلك إباءً شديدًا1. ثم كرر الطلب، فأجاب بعد إلحاح، وشهد عند قاضي القضاة ابن ماكولا، فقبل شهادته، وذلك في يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة 440هـ2، وكان ابن ماكولا يجله ويحترمه.
ولما توفي رئيس القضاة ابن ماكولا في شهر شوال سنة: "447هـ"1، وشغر بذلك منصب القضاء، خوطب القاضي أبو يعلى لِيَلِي القضاء بدار الخلافة والحريم، فامتنع من ذلك، ثم قَبِلَ بعد أن كرر عليه السؤال، واشترط لقبوله شروطًا منها: أنه لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان، وفي كل شهر يقصد "نهر الْمُعَلَّى" يومًا، و"باب الأزج" يومًا، ويستخلف من ينوب عنه في "الحريم"، فأجيب إلى ذلك2. وقد قلد القضاء في الدماء والفروج والأموال، وأضيف إليه بعد ذلك قضاء "حرَّان" و"حلوان" فاستناب فيهما. ولم يكن باستطاعة واحد أن يقوم بالقضاء في كل هذه الجهات، لذلك نجد أبا يعلى قد رد القضاء في عدة أبواب إلى من يثق به، فجعل قضاء "باب الأزج" إلى الجيلي، ولما تبين عدم صلاحيته عزله، وجعل النظر في عقود الأنكحة والمداينات بالباب المذكور إلى تلميذه أبي علي يعقوب، كما جعل النظر في العقار في "باب الأزج" أيضًا إلى أبي عبد الله بن البقال. واستناب بدار الخلافة و"نهر المعلى" أبا الحسن السيبي. وظل القاضي أبو يعلى في هذا المنصب الخطير إلى أن انتقل إلى جوار ربه تعالى3.
زهده وورعه وثناء الناس عليه
زهده وورعه وثناء الناس عليه: من الصفات المحمودة في العالم تحلِّيه بالتقوى والزهد والورع مع صبر وتجمل، ومعنى ذلك أن تعرض له الدنيا بمفاتنها وإغراءاتها فينصرف عنها
انصراف الزاهد فيها، المكتفي منها بما يسد الرمق، ويقيم الأود، وليس الزاهد الورع الذي لم يمكن من الدنيا، ولو مكن منها لأتى بالعجائب. وقد كان القاضي أبو يعلى من النوع الأول مع صلابة في الدين، وجرأة في الحق، يزينهما حلم وأناة، ولذلك لم يعرف عنه أنه قَبِلَ من حاكم صلة أو عطية، كما لم يعرف منه الوقوف على أبواب الحكام والسلاطين من أجل الدنيا، مع الفقر والحاجة، فقد كان -في بعض الأوقات- يقتات من الخبز اليابس، يبله في الماء ويأكله، حتى لحقه المرض من ذلك1. ولما عرض عليه منصب القضاء امتنع منه، وبعد إلحاح قبله بشروط: أن لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان2. فهذه الشروط الثلاثة تدل دلالة واضحة على ما للرجل من قدم صدق في عدم التهافت على مطامع الدنيا والافتتان بمظاهرها، ولو لم يكن كذلك لما فوت تلك الفرص الذهبية، التي تضفي على أقل الناس منصبًا هالة من العظمة والجلال، فكيف بعالم بغداد وقاضيها، ولكنه الطمع فيما عند الله تعالى، والزهد فيما عند الناس، ولقد صدق الجرجاني حيث قال: ولم أقض العلم، إن كان كُلَّمَا ... بَدَا طمع، صيرته لي سلمًا وما زلت منجازًا بعرضي جانبًا ... من الذل، اعتد الصيانة مغنمًا إذا قيل: هذا منهل، قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظَّمَا3
مرض الخليفة القائم بأمر الله، فلما عوفي، ذهب أبو يعلى لتهنئته، فلما خرج من عند الخليفة، أتبع بجائزة سنية، وسئل قبولها، فأبى إباءً شديدًا، وامتنع منها1. وبزهد القاضي أبي يعلى وورعه وفضله شهد العلماء، فهذا أبو نصر عبيد الله بن سعيد السجزي الحافظ، يكتب للقاضي كتابًا يقول فيه: كتابك سيدي لما أتاني ... سررت به، وجدد لي ابتهاجا وذكرك بالجميل لنا جميل ... يقلدنا ولم نخرج مزاجا جللت عن التصنع في وداد ... فلم نَرَ في توددك اعوجاجا وقد كثر المداجي والمرائي ... فلا تحفل بمن راءى وداجا حييت معمرًا وجزيت خيرا ... وعشت لدين ذي التقوى سراجا2 وقال فيه الخطيب البغدادي3: "كتبنا عنه، وكان ثقة"ونقل عن ابن الفراء المحاملي قوله: "ما تحاضرنا أحد من الحنابلة أعقل من أبي يعلى بن الفراء". وقال ابن الجوزي4: " ... وجمع الإمامة والفقه والصدق وحسن الخلق والتعبد والتقشف والخضوع وحسن السمت والصمت عما لا يعني، واتباع السلف". وقال الذهبي5: "وكان ذا عبادة وتهجد وملازمة للتصنيف مع الجلالة والمهابة، وكان متعففًا نزه النفس كبير القدر ثخين الورع". وقال أيضًا فيما نقله عنه ابن العماد6: "وجميع الطائفة معترفون بفضله، ومغترفون من بحره".
وفاته ورثاء الناس له
وفاته ورثاء الناس له: بعد حياة حافلة بالعمل والنشاط والانجازت العلمية العظيمة، يسلم القاضي أبو يعلى الروح، وترجع النفس إلى بارئها، في ليلة الاثنين تاسع عشر من شهر رمضان الكريم من عام ثمان وخمسين وأربعمائة هجرية، بمدينة بغداد، وصلى عليه ابنه أبو القاسم يوم الاثنين في جامع المنصور1، ودفن بمقبرة باب حرب2. وقد عطلت الأسواق، وتبع جنازته جماعة الفقهاء والقضاة والشهود، وخلق لا يحصون، على رأسهم القاضي أبو عبد الله الدامغاني، ونقيب الهاشميين، وأبو الفوارس، ومنصور بن يوسف، وأبو عبد الله بن جردة3. وكان قد أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر، وأن يكفن في ثلاثة أثواب، وأن لا يدفن معه في القبر غير ما غزله لنفسه من الأكفان، ولا يخرق عليه ثوب، ولا يقعد لعزاء4. ولا شك أن وفاته أحدثت ضجة عظيمة، وفراغًا كبيرًا لدى طلاب العلم والمعرفة، وبخاصة طلابه، وقد عبر تلميذه علي بن أخي نصر عمَّا يجيش في نفسه ونفوس زملائه من لوعة الحزن وألم الفراق، فاسمعه وهو يقول: أسف دائم وحزن مقيم ... لمصاب به الهدى مهدوم
مات نجل الفراء أم رجت الأر ... ض أم البدر كاسف والنجومُ؟ لهف نفسي على إمام حوى الفضـ ... ـل وهو بالمشكلات عليمُ خلق طاهر ووجه منير ... وطريق إلى الهدى مستقيم كان للدين عدة ولأهل الد ... ين في النائبات خل حميم من يكن للدرس بعدك أم من ... لجدال المخالفين يقوم؟ من لفهم الحديث والطرق يستو ... ضح منه صحيحه والسقيم من لفصل القضاء إن أشكل الحكـ ... ـم وضجت بالنازلات الخصوم درست بعده المدارس فالعلـ ... ـم طريد وحبله مصروم هكذا يذهب الزمن ويفنى العلـ ... ـم فيه ويجهل المعلوم إن قبرًا حواك يا أيها الطو ... د عجيب رحب الفناء عظيم إن يكن شخصه محته يد الدهـ ... ر فذكراه في الدهور مقيم فتُحيا بذكره كل وقت ... ومحياه في الترب رميم آمري بالسلو مهلا ففي القلـ ... ـب غرام مبرح ما يريم كلما رمت سلوة هيج الحز ... ن صنيع له وفعل كريم غير أن القضاء جار على الخلـ ... ـق قضاء من ربهم محتوم فعلى الشامتين خزي مقيم ... وعليه الصلاة والتسليم1 وقد رثاه أيضًا محمد بن المسبح بهذه الأبيات: مات السدى والندى والمجد المكرم ... والعالم اليقظ المستبصر العلم مات الإمام أبو يعلى الذي ندبت ... لفقده الكعبة الغراء والحرم يا أيها العالم الحبر الذي كسفت ... شمس الهدى بعده بل عادها الظلم لولاك ما كان للدنيا وساكنها ... معنىً ولا عرفت طرق الهدى الأمم ولا روى عن سول الله مأثرة ... ولا قضى بصحيح غير فِيكَ فم لم يبلغ الحنبلي الحبر مرتبة ... إلا على رأسها من جسمك القدم
أوضحت سبل الهدى من بعد ما درست ... عن الورى فقدتك العرب والعجم مادت بنا الأرض وارتجت بساكنها ... لما قبرت وكاد الدين ينهدم1
أولاده
أولاده: وقد خلف القاضي أبو يعلى ثلاثة أبناء: 1- أبو القاسم عبيد الله، العالم الورع العفيف الصَّيِّن. ولد في يوم السبت السابع من شهر شعبان سنة: 443هـ، قرأ القرآن الكريم بالروايات الكثيرة على شيوخ عصره، وكان كثير التلاوة للقرآن مع معرفة بعلومه. سمع الحديث من والده وجده لأمه جابر بن ياسين وأبي الحسين بن المهتدي وغيرهم. وتفقه على والده وعلى تلميذ والده الشريف أبي جعفر. رحل في طلب العلم إلى البصرة والكوفة وواصل وغيرها. كان يحضر مجالس النظر ويشارك فيها، كما كان ذا معرفة بالجرح والتعديل وأسماء الرجال والكنى وغير ذلك. ولما ظهرت البدع في بغداد سنة: 459هـ، هاجر إلى البلد الحرام، فتوفي في الطريق في أواخر شهر ذي القعدة من هذه السنة1. 2- محمد أبو الحسين القاضي الشهيد، فقيه أصولي. ولد ليلة النصف من شهر شعبان سنة: 451هـ.
قرأ على أبي بكر الخياط، وتفقه على الشريف أبي جعفر، وروى الحديث عن أبيه وعبد الصمد وأبي الحسن بن المهتدي وغيرهم. وسمع منه خلق كثير منهم: ابن ناصر ومعمر بن الفاخر ويحيى بن بوش وابن عساكر وغيرهم. له مؤلفات كثيرة منها: "المجموع في الفروع"، و" رءوس المسائل" و" المفردات في أصول الفقه" و"طبقات الحنابلة". مات ببغداد مقتولا على يد لصوص، أرادوا سرقة بيته، في يوم السبت الحادي عشر من شهر محرم سنة: 526هـ، ودفن عند أبيه بمقبرة باب حرب1. 3- محمد أبو خازم، بالخاء والزاي المعجمتين. فقيه، زاهد. ولد في شهر صفر سنة: 457هـ، تفقه على القاضي يعقوب، ولازمه وسمع الحديث من أبي جعفر بن المسلمة وجابر بن ياسين، ومن والده أبي يعلى إجازة. سمع منه جماعة منهم: ابنته نعمة، وأبو المعمر الأنصاري، ويحيى بن بوش. له مؤلفات مفيدة منها: " التبصرة في الخلاف" وكتاب "رءوس المسائل"، و" شرح مختصر الخرقي". توفي في بغداد في يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر صفر سنة: 527هـ2.
التعريف بالكتاب
التعريف بالكتاب مدخل ... التعريف بالكتاب*: هناك بعض المعلومات الضرورية عن الكتاب، لا بد من معرفتها لمن أراد أن يطلع على الكتاب، وسوف أتكلم عنها بإيجاز فيما يلي:
اسم الكتاب
اسم الكتاب: هذا الكتاب اسمه: "العدة في أصول الفقه" كما ذكر في آخر الكتاب، وكما ذكر في المصادر التي سنذكرها عند الكلام على نسبة الكتاب إلى المؤلف، غير أنني رأيت اسم الكتاب في الورقة الأولى هكذا: "العمدة في أصول الفقه" وهذه التسمية خطأ؛ لما ذكرنا قبل؛ ولأن الكتابة تختلف عن كتابة المخطوطة؛ ولأن هناك كتابًا آخر للمؤلف بهذا الاسم، وجدت منه نسخة بالعراق، مخرومة من الأول والأخير.
نسبة الكتاب إلى المؤلف
نسبة الكتاب إلى المؤلف: هناك إجماع بأن هذا الكتاب للقاضي أبي يعلى، فلم أجد أحدًا نسبه إلى غيره، واسمه مسطور على أول الكتاب وآخره.
وممن ذكره منسوبًا إلى المؤلف: ابن أبي يعلى في "طبقاته" "2/ 205" في ترجمة المؤلف. والطوفي في كتابه: "شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "16/ أ". والذهبي في كتابه: "سير أعلام النبلاء" القسم الثاني من المجلد الحادي عشر، الورقة "168". وآل تيمية في كتابهم: "المسودة" "ص: 58، 59، 177، 180، 186، 196، 241، 256، 258، 273". والمجد بن تيمية في كتابه: "المحرر" "2/ 261". والمرداوي في كتابه: "الإنصاف" "12/ 46". والبعلي في كتابه: "القواعد والفوائد الأصولية" "ص: 258". والعليمي في كتابه: "المنهج الأحمد" "2/ 112". وابن بدران الحنبلي في كتابه "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" "ص: 241". وبروكلمان في كتابه: "تاريخ الأدب العربي" "1/ 502" من النسخة الأصلية.
وصف مخطوطة الكتاب
وصف مخطوطة الكتاب: توجد لهذا الكتاب -حسب علمي- نسخة فريدة في العالم، وهذه النسخة صمن مخطوطات دار الكتب المصرية بالقاهرة، وتقع تحت رقم: "76" أصول فقه، وقد صورت على "ميكروفيلم" في معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية تحت رقم: "67" أصول فقه. والكتاب يقع في: "257" ورقة من القطع الكبير مقاس "21×30 سم"،
يقع في كل صفحة خمسة وعشرون سطرًا، وفي كل سطر ست عشرة كلمة تقريبًا. وقد كتب على الصفحة الأولى ما نصه: "العمدة في أصول الفقه، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، تأليف أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء" ويلاحظ أن الكتابة هذه بقلم غير القلم الذي نسخ به الكتاب. وفي منتصف الصفحة: "سيف المناظرين، حجة العلماء، أَوْحَدُ الفضلاء، القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء الحنبلي -رضي الله عنه. وبعده كتب اسم السلطان المؤيد أبو النصر شيخ، بخط كبير اتبع بعبارة: "وقف الملك المؤيد شيخ بمدرسة باب زويلة". أما الصفحة الأخيرة فقد جاء فيها: "تم كتاب العدة في أصول الفقه، ولله الحمد والمنة والفضل على تمامه، ووافق الفراغ من نسخه في يوم السبت سابع عشر شهر رمضان المعظم سنة تسع وعشرين وسبعمائة للهجرة النبوية". والناسخ مجهول، ولكن التصويبات التي عملها على الهامش، تدل على ما له من مستوىً علمي لا بأس به. وخط الكتاب نسخ جيد غير مشكول، وقد صرح الناسخ أنه نقل هذه النسخة من نسخة الشيخ الإمام العالم نجم الدين بن حمدان التي نسخها بخط يده. وهناك ملاحظات على كتابة النص وهوامشه، نوجز أهمها فيما يلي: 1- في كثير من الأحيان لا يعجم الناسخ الحروف، ولا يضع العلامة
الفارقة بين "الكاف" و"اللام" فيرسمها هكذا: "لـ". 2- وهناك كلمات، يرسمها بالياء، وهي بالهمزة مثل: "مسايل" و"قايل"، وقد رسمتها على المشهور من لغة العرب، واتبعت الرسم المعروف في الوقت الحاضر، من غير إشارة إلى ذلك في الهامش. 3- على أن هناك رسما، له دلالته النحوية، مثل حذف حرف العلة من آخر الفعل المضارع، إذا دخل عليه الجازم، ففي هذه الحالة أرسم الفعل بحذف حرف العلة، وأشير إلى ذلك في الهامش. ومثل ذلك الأسماء المنكرة المنقوصة في حالتي الرفع والجر، فإنه يرسمها بإثبات الياء في الحالتين، ففي هذه الحالة أرسمها بإثبات الياء في الحالتين، ففي هذه الحالة أرسمها بحذف الياء لإنابة التنوين عنها، كما هو الراجح عند جمهرة النحاة، وعليه الرسم الآن، وأشير إلى ذلك في الهامش. 4- في هوامش المخطوطة تصويبات، أثبتها الناسخ، إما من نفسه، وإما نقلا عن نجم الذين ابن حمدان، ففي هذه الحالة: أثبت التصويب في صلت الكتاب، وأشير في الهامش على الخطأ، كما أشير إلى التصويب من الناسخ، أو مما نقله عن ابن حمدان.
منهج المؤلف في هذا الكتاب
منهج المؤلف في هذا الكتاب: لكل مؤلف منهج، صرح به في كتابه، أو أدركه القارئ بطريق الاستقراء والتتبع، والسواد الأعظم من العلماء الأقدمين، لا يصرح بمنهجه ومن هؤلاء القاضي أبو يعلى، لذلك سوف نتلمس منهجه من خلال كتابه، موجزين ذلك فيما يلي: أولا: نهج المؤلف في كتابه نهج المقارنة بين الآراء الأصولية في
كتابه، ولم يقتصر على إيراد المذهب الحنبلي. ثانيا: حرص المؤلف كل الحرص على بيان المذهب الحنبلي، وبسطه في كل مسألة تعرض لها. ثالثا: الدقة في عزو الآراء إلى الإمام أحمد، هل ذلك بطريق النص أو بطريق الإشارة، أو بطريق الإيماء. رابعا: كان يحاول إشراك القارئ في كيفية استخراج نسبة القول إلى الإمام أحمد، حيث كان يورد اللفظ المنقول عنه، ثم يبين من أين أخذ رأي الإمام أحمد، وكيف أخذه. خامسا: كان المؤلف لا يأخذ الروايات عن الإمام أحمد عشوائية، بل كان يربط كل رواية بمن نقلها عنه من أصحابه فيقول مثلا: روى صالح، روى عبد الله ... ، حتى يعطي القارئ الثقة فيما ينقل. سادسا: لم يقتصر المؤلف على نقل روايات واحدة في المسألة، بل كان ينقل كثيرا من الروايات، وإن اختلفت، ثم يشرع بعد ذلك في ترجيح الروايات على بعض، مع بيان أن الأخذ بهذه هو الأليق بمذهب الإمام أحمد، وهكذا ... سابعا: كان من منهج المؤلف مناقشة الآراء، واختيار واحد منها مدعوما بالحجة والبرهان. ثامنا: عند عرضه لمسألة من المسائل، فإنه يرتب عرضها على الشكل الآتي، ماهية المسألة، الرأي المختار، الآراء الأخرى، أدلة الرأي المختار، ذكر الاعتراضات الواردة على أدلة الرأي المختار والرد عليها، وأدلة الآراء الأخرى والرد عليها. تاسعا: إذا كانت المسألة متشعبة، فصل القول فيها، وحرر محل
النزاع وبيَّنه، حتى يكون الكلام واضحًا في المسألة. عاشرًا: إن لم يكن في الخلاف ثمرة، بل كان خلافًا لفظيًّا، بيَّن ذلك المؤلف ووضحه. حادي عشر: كان استدلال المؤلف في المسائل التي تكلم عنها بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وآثار الصحابة، وما ورد عن العرب شعرًا ونثرًا، وما نقل عن أئمة اللغة من أقوال. ثاني عشر: عني المؤلف بإيراد -بالإضافة لأقوال الحنابلة- أقوال الشافعية، والحنفية، والأشعرية والمعتزلة في معظم المباحث التي تكلم فيها، على عكس ما فعل مع المالكية، والظاهرية، فقد كان ورودهما قليلا. ثالث عشر: يحرص المؤلف على عدم التكرار إلا في النادر، فإذا ما وجد أن الكلام يتماثل في موضعين، أحال الكلام في الأخير على الكلام في الأول، كما فعل في صيغة كل من الأمر، والنهي، والإخبار، وكما صنع في الفورية في النهي، والتكرار فيه، حيث أحال الكلام هنا إلى الكلام في الأمر. رابع عشر: قد بيَّن المؤلف منشأ الخلاف في مسألة أو أكثر. خامس عشر: ربما أعاد المؤلف الكلام في بعض المسائل إلى أصل من الأصول، ثم يأخذ يفصل القول بناءً على ذلك الأصل. سادس عشر: وأولا وأخيرًا كان من منهج القاضي في هذا الكتاب وغيره المناقشة الهادئة، بعيدة عن كل ما يخل بآداب البحث والمناظرة.
مصادر المؤلف في هذا الكتاب
مصادر المؤلف في هذا الكتاب مدخل ... مصادر المؤلف في هذا الكتاب: تنوعت مصادر المؤلف في هذا الكتاب، فمنها ما صرح به، ومنها ما لم يصرح به، ولكن استطعنا -بعون الله وتوفيقه- أن نضع أيدينا عليها بطريق البحث والتتبع، ويمكن تصنيف تلك المصادر إلى المجموعات الآتية:
مصادر في العقيدة
مصادر في العقيدة: من المعلوم أن هناك أبحاثًا في علم الأصول لها علاقة بالعقيدة، أو ما يسمى بعلم الكلام، ولا يسع الأصولي عند الكلام عليها إلا الرجوع إلى مصادرها، وهو ما صنع المؤلف، ونحن هنا نشير إلى أهمها: أولا: "كتاب الإيمان" للإمام أحمد، نقل المؤلف منه ما يدل على رأي الإمام أحمد في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسي المروي عنه الخبر، فأنكره، فهل يقبل ذلك الخبر أو يرد؟ وقد كان رأي الإمام أحمد هو قبول الحديث في مثل تلك الحال، انظر "ص: 963، 964". ثانيًا: "كتاب الرد على أهل الإلحاد" "لأبي بكر ابن الأنباري" رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في بحث المحكم والمتشابه، عند
تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} ص689 ثالثا: "كتاب القدر" لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال، كان من مصادر المؤلف في مسألة صيغة الأمر هل هي للوجوب أو لا عند الاستدلال بأمر الله تعالى لإبراهيم بذبح ولده ص216. مصادر في التفسير وعلومه: من المسلمات لدى الأصوليين وغيرهم أن كتاب الله تعالى هو المصدر الأول للتشريع، وقد تعرض العلماء لهذا الكتاب بالشرح والإيضاح، وهو ما نسميه "علم التفسير"، لذلك رجع المؤلف إلى بعض كتب التفسير وعلومه، أشهرها خمسة: أولا: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة الدينوري مطبوع، لم يصرح المؤلف به في كتابه، وقد أفاد منه في فصل في قيام بعض الحروف عن بعض، ص208، بل نقل كلام ابن قتيبة بالنص، ولم يزد عليه. ثانيا: "غريب القرآن" لابن قتيبة الدينوري، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة: نسخ الحكم قبل التمكين من الفعل، عند تفسير قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ص808. ثالثا: كتاب التفسير لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، المعروف بغلام الخلال، أفاد منه المؤلف في عدة مواضع، منها: أسماء الأشياء، هل حصلت عن توقيف أو عن مواضعة؟
ص192، عند الكلام على تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . إذا ورد الأمر متعربا عن القرائن اقتضى الوجوب ص230 عند الاستدلال بقوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} ، على أن الأمر يقتضي الوجوب، وبناء على ذلك فهل إبليس من الملائكة أو من الجن ... ؟ مسألة وقوع المجاز في القرآن ص697 عند الكلام على قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} هل فيه مجاز أو لا؟ مسألة: ليس في القرآن شيء بغير العربية ص707، فقد نقل المؤلف هذا الرأي عنه. مسألة: تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد ص713 عند الكلام في تقسيم التفسير إلى: ما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، وإلى ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن. مسألة تعليم التفسير ونقله وما في ذلك من الثواب ص 718، حيث نقل المؤلف حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن ... " من التفسير المذكور. في مسألة "بيان الكبائر من المعاصي" عند تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} ص946.
رابعًا: "كتاب التفسير" ليحيى بن سلام، أفاد المؤلف منه عند الكلام على أن تعليم التفسير ونقله فيه أجر وثواب "ص: 715"، حيث نقل المؤلف عنه حديث: "اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل". خامسًا: "معاني القرآن وإعرابه" "لأبي إسحاق الزَّجَّاج" طبع منه جزآن، رجع المؤلف إليه في موضعين: 1- عند الكلام في مسألة: إذا أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بفعل عبادة، ليس فيه تخصيص، فهل تشاركه أمته في ذلك، عند الاستدلال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [ص: 325] . 2- عند الكلام في مسالة: استثناء الأكثر، عند الاستدلال بقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [ص: 667] .
مصادر في الحديث وعلومه
مصادر في الحديث وعلومه: وإذا كان كتاب الله تعالى هو المصدر الأول للتشريع، فإن الحديث هو المصدر الثاني فمن البَدَهِيَّات أن يرجع الأصولي إليه في مصادره وقد حفل الكتاب بكثير من هذه المصادر، أهمها: أولا: جزء في الإجازة والمناولة والقراءة صنفه "محمد بن مخلد بن حفص العطار" أفاد المؤلف منه في موضعين: 1- عند كلامه على صيغ التَحَمُّل والأداء للحديث "ص: 979"، حيث نقل عنه رواية عن الإمام أحمد في جواز العرض على المحدث.
2- عند كلامه عن الترجيح بين المتعارضين اللذَين لم يمكن الجمع بينهما، وهو الترجيح الذي لا يعود إلى الإسناد، ولا إلى المتن، بل إلى شيء غيرهما، ضمن المرجع السادس "ص: 1054". ثانيًا: جزء فيه السنة "لحرب بن إسماعيل الحنظلي" نقل منه المؤلف رواية عن الإمام أحمد تسوِّي بين "أخبرنا" و"حدثنا" إذا كان سماعًا من الشيخ "ص: 977". ثالثًا: الرد على من انتحل غير مذهب أصحاب الحديث "لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر" غلام الخلال، رجع إليه المؤلف عندما تكلم على صيغ التحمُّل والأداء للحديث "ص:980، 985". رابعًا: سنن الدارقطني "لعلي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي المعروف بالدارقطني" -مطبوع- نقل المؤلف عنه حديثًا ذكره بسنده؛ ليدلل به على عدم جواز نسخ القرآن بالسنة، وأن ذلك لم يوجد"ص: 792". خامسًا: كتاب العلل "لأحمد بن محمد الطائي" المعروف بالأثرم، أفاد المؤلف من هذا الكتاب في مواضع: 1- في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسى المروي عنه الخبر، وأنكره، فهل يقبل الخبر في مثل هذه الحالة أو يرد؟ عندما نقل عن الإمام أحمد ما يدل على قبول ذلك الحديث "ص: 960". 2- في مسألة: إذا أراد الراوي تجزئة الحديث، بأن ينقل
بعضه، ويترك بعضه ص 1016 عندما نقل عن الإمام أحمد ما يدل على جواز ذلك. سادسا: كتاب العلل "لأحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر الخلال" أفاد منه المؤلف في موضعين: عند نقل المؤلف لكلام الإمام أحمد في ترجيح بعض المراسيل على بعض، "ص920" حيث نقل عنه المؤلف مما رواه عن أبي الحارث عن الإمام أحمد أنه قال: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا يُرى أصح من مرسلاته. في مسألة: إذا أراد الراوي تقطيع الحديث، بأن ينقل بعضه، ويترك بعضه، ص1018 فقد نقل المؤلف عنه قوله: أبو عبد الله لا يرى بأسا باختصار الحديث. مصادر في الفقه وأصوله: أما المصادر في الفقه وأصوله، فقد كان لها نصيب الأسد في الكتاب، وهي على قسمين، قسم لم يصرح المؤلف بالرجوع إليه، وقسم صرح بالرجوع إليه: أما القسم الأول: فقد تمكنت من الاطلاع على مصدرين، كان لهما أكبر الأثر في منهج المؤلف ومادته. أولا: الفصول أو أصول الجصاص "لأحمد بن علي الرازي، أبو بكر الجصاص" مخطوط، فقد نقل عنه بالنص في ص100، عند الكلام على البيان وأقسامه، كما أفاد منه في مواضع أخرى، أشرنا إليها في حينها.
ثانيا: المعتمد في أصول الفقه، "لأبي الحسين البصري"، مطبوع فقد أفاد منها المؤلف في نقل آراء المعتزلة، وأدلتهم، كما أفاد منه في بعض الجوانب المنهجية. أما القسم الثاني: فقد رجع المؤلف إلى مصادر أهمها: أولا: جزء فيه مسائل في أصول الفقه "لأبي الحسن الجزري" رجع إليه المؤلف في مسألة تخصيص العموم بالقياس ص563 عندما نقل من هذا الجزء كلام الإمام أحمد: "حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرده إلا مثله". ثانيا: جزء من شرح مختصر الخرقي "لأبي إسحاق ابن شاقلا"، في مسألة تخصيص العلوم بالقياس ص563 عندما نقل عن أبي إسحاق ما يدل على أن الحنابلة في تلك المسألة على قسمين، قسم يجوز، وقسم يمنع. ثالثا: كتاب أصول الفقه "لأبي الفضل التميمي"، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة هل في القرآن مجاز أو لا؟ ص697، حيث نقل المؤلف قوله: "والقرآن ليس فيه مجاز عند أصحابنا". رابعا: كتاب التقريب في أصول الفقه "لأبي بكر الباقلاني" أفاد منه المؤلف في مسألة: هل يصح استثناء الأكثر أو لا؟ ص666 حيث نقل المؤلف أنه نصر عدم صحة ذلك في كتابه المذكور. خامسا: كتاب التنبيه "لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال"، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة: إذا ورد العام، فهل يجب العمل به في الحال قبل البحث عن المخصص،
أو لا؟ "ص526"، حيث ذكر أن أبا بكر عبد العزيز رأى في كتابه التنبيه أنه يجب العمل بالعموم عند وروده، حتى يأتي المخصص. سادسًا: كتاب "الشافي" " ... " نقل المؤلف منه "ص749" رواية عن الإمام أحمد، تدل على أن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بواجب. سابعًا: "مسائل الحرزي" أفاد المؤلف من هذا الكتاب في عزو مسألة نسخ الأخف بالأثقل ... إلى الظاهرية "ص785". ثامنًا: "مسائل أبي سفيان الحنفي" رجع المؤلف إلى هذا المصدر في مسألة إذا ورد العموم هل يجب العمل به فور وروده قبل البحث عن دليل يخصصه أولًا؟ "ص528". تاسعًا: "مسائل في أصول الفقه" "لأبي الحسن التميمي"، كان هذا الكتاب من مصادر المؤلف في مسألة: هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدًا بشريعة من قبله أو لا؟ "ص756". عاشرًا: مسألة مفردة "لأبي الحسن التميمي" نقل المؤلف من هذه المسألة: أن الإمام أحمد يقول: إن أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تدل على الإيجاب، "ص737"، كما رجع المؤلف إلى هذه المسألة "ص474".
مصادر لغوية ونحوية
مصادر لغوية ونحوية: لما كانت اللغة هي أحد المناهل التي ينهل منها الأصولي كان لزامًا على المؤلف أن يرجع إلى مصادرها ويفيد منها، وقد فعل المؤلف ذلك حيث رجع إلى مصادر لغوية، أهمها: أولا: "الجامع في النحو" لابن قتيبة الدينوري، أفاد المؤلف من هذا الكتاب في موضعين:
1- عدم صحة استثناء الأكثر "ص667، 668". 2- عدم صحة الاستثناء من غير الجنس "ص676". ثانيًا: "جوابات مسائل" لابن قتيبة الدينوري -مطبوع- وقد رجع المؤلف إليه في موضعين: 1- تعريف الفقه لغة "ص68". 2- عدم صحة استثناء الأكثر "ص667". ثالثًا: كتاب "الاستثناء والشروط" لابن عرفة النحوي، أفاد المؤلف من هذا المصدر في مسألة: عدم صحة استثناء الأكثر "ص671، 672". رابعًا: كتاب "غريب المصنف" لأبي عبيد القاسم بن سلام، كان من مراجع المؤلف في مسألة مفهوم المخالفة، هل هو حجة أو لا؟ "ص464".
مصادر متنوعة
مصادر متنوعة: وهناك مصادر غير مختصة بعلم من العلوم. نورد أهمها فيما يلي: أولا: "أخبار أحمد" لأبي حفص ابن شاهين، رجع إليه المؤلف في نقل رواية عن الإمام أحمد، يقول فيها: "إن العقل في الرأس: "ص89". ثانيًا: "الرسالة" للإمام أحمد، نقل المؤلف من هذه الرسالة ما يدل على أن الإمام أحمد يقول: إن خبر الواحد لا يوجب العلم الضروري. "ص898". ثالثًا: "شرح السنة" لأبي محمد البربهاري، رجع المؤلف إليه في موضعين:
تقويم الكتاب
تقويم الكتاب: الحقيقة أنه يصعب على الباحث أن يُقَوِّم أعمال الآخرين، وبخاصة إذا كان صاحب العمل من الفحول في ذلك. وبعد تردد أَقْدَمْت على ذلك حرصًا على الإنصاف، وبيانًا لما توصلت إليه، وسوف أتكلم بإيجاز، بادئًا بالحديث عما للكتاب من محاسن ألخصها فيما يلي: أولا: إن الكتاب -في نظري- يعد أول كتاب وصل إلينا، جمع شتات أصول الحنابلة ونظمها في أبواب ومسائل وفصول. ثانيًا: والكتاب يعد أيضًا مصدرًا أصيلا في أصول الحنابلة، لما لِمُؤَلِّفه من الدراية الكافية بالمذهب الحنبلي، أصولا وفروعًا. ثالثًا: ويمتاز الكتاب بأن مصادره أصيلة، وبخاصة ما ينقله المؤلف عن الإمام أحمد من الروايات، وما ينقله عن أصحابه من الآراء. رابعًا: ولم يقتصر المؤلف على إيراد رواية واحدة عن الإمام أحمد، بل كان يسوق كثيرًا من الروايات، وبخاصة إذا كانت مختلفة. خامسًا: ولم يترك تلك الروايات على ما هي، بل أخد يرجح بعضها على بعض، ويبين أن الأخذ بهذه الرواية -مثلا- هو الأليق بمذهب أحمد، وهكذا ... ولعمر الحق إنها لمهمة صعبة قام بها المؤلف خير قيام.
سادسًا: ومما يُسجَّل للمؤلف هنا دقة فهمه لما نقل عن الإمام أحمد، واستخراجه للحكم من تلك الروايات، ودرجة الأخذ، هل كان بطريق النص، أو بطريق الإيماء أو الإشارة أو الاحتمال؟ وهذه المهمة لا تقل عن سابقتها. سابعًا: والكتاب أصول فقه مقارن، عُني مؤلفه بنقل المذاهب الأخرى في كل مسألة تعرض لها، مع إيراد أدلتهم، ومناقشتها والرد عليها إذا خالفت ما اختاره المؤلف. ثامنًا: كانت شخصية المؤلف ظاهرة من أول الكتاب إلى آخره، فقد كان يناقش الأدلة، ويرجج بين الروايات المنقولة عن الإمام أحمد، ويخرج باختيار له في كل مسألة، وهذه ميزة لا تستكثر على عالم فذٍّ كالقاضي أبي يعلى. تاسعًا: كان المؤلف موفقًا في الاستدلال على إثبات حكم أو نفيه بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وما روي عن الصحابة والتابعين من الآثار، حتى صار ذلك سمة بارزة في الكتاب، على أنه لم يَخْلُ من المماحكات العقلية، ولكنها كانت بقدر. عاشرًا: كان المؤلف يربط المسائل بالمدلول اللُّغوي للنص الذي يستدل به، سواء كان النص المستدل به من الكتاب، أو السنة أو الآثار عن بعض الصحابة، أو أبيات شعرية، أو قطع نثرية، أو أقوال أئمة اللغة، وهذه مَيزَة أخرى تستحق الثناء. حادي عشر: إذا كانت المسألة التي تعرض ذات شعب، حرر المؤلف محل النزاع وبيَّنَه، حتى يكون الكلام على جزئية معينة، لا لبس فيها، ولا غموض.
ثاني عشر: إذا كان الخلاف في المسألة لفظيًّا، لا ثمرة منه، بين ذلك. ثالث عشر: إذا تماثلت في مسألتين، فإنه لا يكرر الأدلة في المسألة الثانية، بل يحيل إليها، فمثلا لما جاء على باب: النهي، أحال الكلام في مسألة الفورية، ومسألة التكرار في النهي إلى الكلام في مسألة الفورية والتكرار في الأمر. رابع عشر: كان المؤلف موفقًا إلى حد كبير في ترتيب الأبواب. خامس عشر: أحسن المؤلف صنعًا؛ إذ جعل بابًا في أول الكتاب، عرف فيه كثيرًا من المصطلحات التي يحتاج الأصولي إلى معرفتها.
المآخذ التي أخذتها على المؤلف
المآخذ التي أخذتها على المؤلف: هناك بعض الملاحظات على المؤلف، يمكن إجمالها في الآتي: أولا: أفاد المؤلف من بعض الكتب، بل نقل منها بالنص، ولم يُشِرْ إليها، وكان الأولى أن يشير إليها، وأشهر هذه الكتب ثلاثة: 1- أفاد المؤلف من كتاب "الفصول في أصول الفقه" أو "أصول الجصاص" -مخطوط- تأليف أبي بكر أحمد بن علي الرازي المشهور بالجصاص، المتوفى سنة: 370هـ، في كتابه "العدة"، بل نقل عنه بالنص عند كلامه على البيان من "ص: 100- 130". 2- وأفاد المؤلف أيضًا من كتاب: تأويل مشكل القرآن -مطبوع- لابن قتيبة المتوفى سنة: 276هـ، وذلك عندما تكلم المؤلف عن نيابة بعض الحروف عن بعض "ص: 208"، بل نقل منه بالنص ولم يشر إليه. 3- كما أفاد من كتاب: المعتمد في أصول الفقه -مطبوع- لأبي الحسين البصري المعتزلي المتوفى سنة: 436هـ، وذلك في المنهج العام، وفي بعض الأدلة، وفي نقل آراء المعتزلة وأدلتهم. ثانيًا: استدل المؤلف بالأحاديث الموضوعة كحديث: "تبارك الذي قسم العقل بين عباده واستأثر، إن الرجلين تستوي أعمالهما وبرهما وصلاتهما وصومهما، ويفترقان في العقل، حتى يكون بينهما كالذرة في جنب أحد ... " "ص: 95".
وكحديث: "إني خلقت العقل أصنافًا شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي من ذلك حبة واحدة، وبعضهم الحبتين" "ص: 96". وكحديث: "خطابي للواحد خطاب للجماعة، وحكمي على الواحد حكم على الجماعة" "ص: 331". وكحديث: "كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضًا" "ص: 793، 794". ثالثًا: نقله عن بعض رواة اتهموا بالوضع والكذب، كأبي الحسن التميمي وأحمد بن محمد بن مخزوم، وقد أشرت إلى ذلك في موضعه "ص: 84، 94، 95، 96". رابعًا: استدلاله بالمرسل الضعيف كحديث: "ذهب حقك" "ص: 141- 1035". خامسًا: حصل من المؤلف تناقض في حكمه على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} حيث قال: إنها مبينة، وذلك عند كلامه عن البيان "ص: 106"، ولما جاء إلى الكلام عن المجمل "ص: 145" قال: إنها مجملة. كما ذكر آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} "ص: 513، 518"، وصرح في هذين الموضعين أنها عامة، وهذا ينافي كونها مجملة، كما ذكر آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} "ص: 518" وصرح بأنها عامة، وهذا ينافي كونها مجملة أيضًا. سادسًا: يتسم أسلوب المؤلف بالسهولة، وعدم التكلف، ولكن وجد مع هذا عبارات ركيكة، وتركيبات غير مترابطة، وقد أشرنا إلى ذلك في حينه. أما لغة الكتاب: ففصيحة بشكل عام، يعتورها في بعض الأحيان
هنات لغوية، لا تتمشى وفصيح اللغة العربية، وأضرب على ذلك بعض الأمثلة: 1- مجيء "أم" بعد "هل" في مثل قوله: أسماء الأشياء هل حصلت عن توقيف أم مواضعة؟ "ص: 190"، و"أم" لا تأتي بعد هل في مثل هذه الصورة على الراجح عند العلماء. 2- دخول "أل" على "بعض" كما في "ص: 141، 191" وذلك مجافٍ لفصيح اللغة العربية. 3- عدم ذكر الفاء في جواب "أما" كما في "ص: 165، 166"، وإن كان قد ورد بعض الشواهد العربية حذفت فيها الفاء في جواب "أما"، ولكن حكم على تلك الشواهد بالشذوذ. 4- عدم إظهار الحركة على الحرف الأخير، والالتجاء إلى التسكين لآخر الكلمة كما في "ص: 700" في قوله: "بأن هناك مضمر محذوف" وقد صَوَّبْنَاها هكذا: "بأن هناك مضمرًا محذوفًا" وكما في "ص: 938" في نقله للحديث: "كل الناس أكْفَاء إلا حائك أو حجام" وقد صوبناه هكذا: "كل الناس أكفاء إلا حائكًا أو حجامًا" ولعل ذلك من صنع الناسخ. 5- دخول "أل" على "غير" كما في "ص: 341"، وذلك لم يرد في لغة العرب، وإنما هو تعبير أحدثه الفلاسفة والمتكلمون. سابعًا: من المعلوم أن الكتاب أصول فقه مقارن، عني مؤلفه بنقل الآراء الأصولية، إلا أن هناك آراءً عزاها المؤلف، ولم يكن ذلك العزو محررًا، والحقيقة أنها كثيرة، لذلك سأقتصر على الإشارة إلى بعضها بذكر الصفحة، فيما يلي: صفحة: "151، 257، 278، 282، 352، 538، 539، 570، 575، 638". وقد حررت العزو في كل مسألة بإعادتها إلى مصادر أصحابها الأصيلة، ولم أَرَ حاجة في إعادة الكلام هنا.
ثامنًا: يقدم في بعض الأحيان التعريف في الاصطلاح على التعريف في اللغة، كما في تعريف الواجب "ص: 159، 160" وتعريف الفرض "ص: 160، 161" وتعريف المندوب "ص: 162" وهذا خلاف المألوف. تاسعًا: هذا فيما يتعلق بالمنهج العام، ولكن هناك تعقبات تتعلق بمادة الكتاب نفسه، نذكر أهمها فيما يلي: 1- استدلال المؤلف بكلام الإمام أحمد "ص: 147، 148" على أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} مجمل وهو استدلال خطأ، لأمور ثلاثة ذكرتها في الموضع المشار إليه. 2 - من معاني "اللام" التمليك، وقد مثل لها المصنف "ص: 204" بقوله: "دار لزيد" وهذا المثال إنما هو للتملك، أما مثال التمليك فهو: "وهبت المال لزيد". 3- مثل المؤلف "ص: 256" في مسألة ورود الأمر بعد الحظر، بقوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} وقد تعقبه الْمَجْدُ في: "المسودة" "ص: 17" بأن هذه الآية ليست مما نحن فيه، ولم يعلل، قلت: لأن الأمر بالانتشار لم يأت بعد حظره. والله أعلم. 4- ساق المؤلف "ص: 256" في مسألة ورود الأمر بعد الحظر، كلامًا للإمام أحمد؛ ليبين أن رأي الإمام في هذه المسألة هو الإباحة، وقد تعقبه المجد في "المسودة" "ص: 17" بأن كلام الإمام أحمد لا يدل على ذلك. 5- قال المؤلف "ص: 260": قيل لا نسلم أن وجوب قتل المشركين استفيد بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، بل استفدناه بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وغيرها من الآيات التي لم يتقدمها حظر". وقد تعقبه المجد في "المسودة" "ص: 19" بقوله: وهذا ضعيف،
بل الأمر بعد الحظر يرفع الحظر، ويكون كما كان قبل الحظر، والأمر في هذه الآية كذلك. 6- حكى المؤلف "ص: 266" الإجماع على أن النهي يقتضي التكرار، وحكاية الإجماع هذه غير صحيحة، وقد بينت ذلك في الموضع المشار إليه. 7- عقد المؤلف فصلا "ص: 331" في الدلالة على أن الحكم إذا توجه إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره، وفي أثناء ذلك ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خص واحدًا بحكم بيَّن وجه التخصيص، ثم مثَّل لذلك بأمثلة منها: تخصيص الزبير بلبس الحرير، وقد لاحظت عليه في هذا أربع ملاحظات: الأولى: أنه عبر بـ "تخصيص" وهو مشعر بأن ذلك الحكم خاص بالزبير -رضي الله عنه- لا يتعداه إلى غيره، وليس الأمر كذلك، بل هو ترخيص له ولكل من أصيب بمرضه. الثانية: أن الترخيص الوارد في الحديث لاثنين هما: الزبير، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- وليس للزبير وحده، كما ذهب إليه المؤلف. الثالثة: أن الواجب أن يذكر المؤلف علة الترخيص وهي الحكة، حتى يدخل في الحكم من توفرت فيه العلة. الرابعة: أن الحديث لا يدل على ما ذهب إليه المؤلف؛ لأنه ترخيص، وليس بتخصيص. 8- أورد المؤلف "ص: 339- 341" كلامًا للإمام أحمد؛ ليبين أنه يرى دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر الذي يأمر به أمته، بينا كلام الإمام أحمد لا يدل على ذلك، كما أفاده أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "36/ ب".
9- ساق المؤلف "ص: 411" كلامًا عن الإمام أحمد؛ ليدلل على أن الإمام أحمد يرى أن المكلف إذا زاد على ما يتناوله الاسم كالركوع مثلا أن ذلك واجب، وهو استدلال خطأ، كما قيل في "المسودة": إنه مأخذ غير صحيح، وقال ابن عقيل: إنه مأخذ فاسد، وقال أبو الخطاب: "إنه غلط"، وقد فصلت القول في ذلك في الموضع المشار إليه. 10- في "ص: 482" خلط المؤلف في كلامه بين مسألتين، الأولى: هل مفهوم الموافقة حجة؟ والثانية: الذين يقولون بمفهوم الموافقة اختلفوا في الدلالة هل هي لفظية أو قياسية؟ 11- استدل المؤلف "ص: 560" بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} على جواز تخصيص العموم بالقياس، وقد تُعُقِّب في ذلك بما بينته في موضعه. 12- نقل المؤلف "ص: 952" عن الإمام أحمد أنه لا يروي الحديث عن أصحاب الرأي، ثم بين المؤلف مراد الإمام أحمد بقوله: وهذا محمول على أهل الرأي من المتكلمين، كالقدرية ونحوهم، وليس الأمر كذلك، كما بين في الموضع المشار إليه. 13- حكم المؤلف في "ص: 954" بأن التدليس مكروه، ولا يمنع من قبول الخبر، وهذا الكلام ليس على إطلاقه، وقد بسطت الكلام على ذلك في موضعه. 14- لم يحرر المؤلف محل النزاع "ص: 959" في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسي المروي عنه الخبر فأنكره ... وقد حررته في موضعه. 15- وهم المؤلف "ص: 1033" حيث ذكر اسم الصحابي: قيس بن طلق، والصواب:طلق بن علي؛ لأنه هو الصحابي الراوي لحديث عدم النقض من مس الذكر، كما سبق أن ذكره المؤلف "ص: 832" موافقًا لما قلناه، وقد جرى التنبيه على ذلك في موضعه. وبالله التوفيق.
منهج التحقيق
منهج التحقيق: تعددت مناهج التحقيق بتعدد أغراض المحققين، لذلك رأيت من الأفضل أن أبين المنهج الذي اتخذته؛ ليكون القارئ على بينة من ذلك، وهذا المنهج يتلخص فيما يلي: أولا: إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه، ووصف المخطوطة، وبيان مكان وجودها. ثانيًا: المحاولة -قدر الإمكان- أن يخرج نص الكتاب على أقرب صورة وضعه عليها المؤلف، وذلك بالمحافظة على شكل النص وموضوعه، إلا في الأمور الآتية: 1- رسم الكتاب، فقد رسمته بالرسم في العصر الحاضر، غير مشير إلى ذلك في الهامش. 2- إعجام ما أهمله المؤلف من الكلمات، ولا أشير إلى ذلك إلا إذا اختلف المعنى بذلك الإعجام. 3- إصلاح الخطأ، وذلك عند التيقن من أن ما في النص خطأ فأثبت ما اعتقدته صحيحًا، بين قوسين معقوفين هكذا: [] ، أما إذا كان الخطأ مشكوكًا فيه، فأشير إلى ذلك في الهامش من غير مساس بالنص.
4- زيادة بعض الحروف، أو الكلمات، أو الجمل، إذا اقتضى المقام تلك الزيادة، وأضعها بين قوسين معقوفين هكذا: [] مع الإشارة إلى مصدر تلك الزيادة إن وجد، سواء كان ما صوبه الناسخ في الهامش بنفسه أو نقله عن ابن حمدان، أو وجدته في مراجع أخرى. ثالثًا: تمحيص الآراء وتحرير العزو للآراء التي يذكرها المؤلف، وذلك بإرجاعها إلى مصادرها الأصلية. رابعًا: مناقشة المؤلف في أدلته ووجه الاستدلال منها، مع مناقشته في ردوده على أدلة المخالفين، متى استلزم الأمر ذلك. خامسًا: بيان موضع الآيات من السور، مع الإشارة إلى تفسير الآية إن اقتضى المقام ذلك. وإذا ورد لفظ الآية مخالفًا لما في المصحف العثماني، فلا يخلو الأمر إما أن يكون ذلك قراءة أو لا، فإن كان قراءة أثبتها في النص، وأشير في الهامش إلى أنها قراءة، مع بيان من قرأ بها، ومن قرأ بما في المصحف العثماني مع ملاحظة أن الوارد في الكتاب قراءات سبعية متواترة -وإما أن يكون غير قراءة، بل خطأ فأثبت الصواب مع الإشارة إلى ما ورد من الخطأ في الهامش. سادسًا: تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب والكلام بالتفصيل على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبيان أقوال علماء الجرح والتعديل في رواة تلك الأحاديث، مع إبداء ملاحظاتي على ذلك. سابعًا: تخريج الآثار الواردة في الكتاب. ثامنًا: عزو الروايات التي ينقلها المؤلف عن الإمام أحمد إلى مصادرها إن وجدت
تاسعًا: عزو الأبيات الشعرية إلى قائلها، وإرجاعها إلى دواوين أصحابها إن وجدت أو إلى المراجع الأصيلة لشعر الشاعر. عاشرًا: عزو الأمثال مع بيان القائل للمثل والمناسبة التي قيل فيها. حادي عشر: شرح المفردات اللغوية الغريبة. ثاني عشر: شرح المصطلحات الأصولية الغريبة. ثالث عشر: ربط موضوعات الكتاب بعضها ببعض؛ حتى يتمكن القارئ من التصور الكامل للموضوع الذي يريد بحثه. رابع عشر: يعتبر هذا الكتاب من أهم كتب الحنابلة في أصول الفقه، إن لم يكن أهمها؛ لذلك حرصت على ربطه بكتب الحنابلة في الأصول وبخاصة تِلْمِيذَي المؤلف: أبي الوفاء بن عَقيل البَغدادي1، وأبي الخطاب الكلوذاني2، فقد اعتمدا على شيخهما كثيرًا، وناقشاه في بعض اختياراته، وقصدي من ذلك إتاحة الفرصة للقارئ ليناقش ويقارن، حتى يستطيع تحديد المذهب الحنبلي في القضية التي يبحثها. خامس عشر: التنبيه على التعبير الذي يرد غير متمش مع فصيح اللغة العربية، كما نبهت على الأخطاء النحْوية. سادس عشر: التعريف بالأعلام، وذلك بإيراد ترجمة قصيرة تتضمن اسم العَلَم، وولادته، ومذهبه، وبعض كتبه، ووفاته. سابع عشر: التعريف بالكتب الوارد ذكرها في الكتاب، مع بيان
المطبوع والمخطوط، ما أمكن ذلك. ثامن عشر: التعريف بالمدن والبلدان والمواضع الغريبة الوارد ذكرها. تاسع عشر: التعريف بالطوائف والفرق والمذاهب. عشرون: وضع الفهارس الفنية العامة، وتشتمل على ما يلي: 1- فهرس الآيات القرآنية. 2- فهرس الأحاديث. 3- فهرس الآثار. 4- فهرس القوافي وأنصاف الأبيات. 5- فهرس الأمثال. 6- فهرس الأعلام. 7- فهرس الطوائف، والفرق، والمذاهب. 8- فهرس القبائل والجماعات. 9- فهرس الأماكن والبلدان. 10- فهرس الكتب. 11- فهرس الموضوعات. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
افتتاحية الكتاب
افتتاحية الكتاب ... بسم الله الرحمن الرحيم [الحمد لله المتقرب إليه به، حمد الراضي من عباده بشكره، وإياه أسأله التوفيق بمنه، وأن يصلي على محمد خيرته من خلقه، وعلى أهله وأصحابه من بعده، وبه أستعين على ما قصدته من رحمته] 1. ............................2 [والفقه في اللغة: العلم، يقال: فلان يفقه الخير والشر، ويفقه كلام فلان أي: يفهمه ويعلمه] 3 [وسمي العالم عالمًا] [2/ أ] بما يتعاطاه من العلوم.
وذكر ابن قتيبة1 في جوابات مسائل سئل عنها فقال: "الفقه في اللغة: الفهم، يقال: فلان لا يفقه قولي. وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 2 أي لا تفهمونه، ثم يقال للعلم، الفقه؛ لأنه عن الفهم يكون، والعالم فقيه؛ لأنه يعلم بفهمه"3، فهذا موضوعه في اللغة4. وأما موضوعه عند الفقهاء والمتكلمين فهو: العلم بأحكام أفعال المكلفين
الشرعية دون العقلية1. نحو التحريم والتحليل والإيجاب والإباحة والندب وصحة العقد وفساده ووجوب غرم وضمان قيمة متلف وجناية. وإطلاق اسم الفقه لا يجري على العلم بالنجوم والطب والفلسفة، وإنما يجري على العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية2.
وأما أصول الفقه فهو: عبارة عما تبنى عليه مسائل الفقه، وتعلم أحكامها به؛ لأن أصل الشيء ما تعلق به وعرف منه، إما باستخراج أو تنبيه1. فسميت هذه الأصول بهذا الاسم؛ لأن بها يتوصل إلى العلم بغيرها، فتكون أصلا له، فلا يجوز أن يقال: إن [الكلام في] أصول الفقه هو: الكلام في أدلة الفقه؛ لأن من ذكر الدلالة على إثبات صيغة العموم لا يقال: إنه ذكر دليلًا في الفقه، وإنما أدلة الفقه: عبارة عن استعمال ألفاظ العموم وطرق الاجتهاد. والكلام في أصول الفقه ما يدل على إثبات مقتضى هذه الأشياء وموجبها وصحتها وفسادها، ولا يجوز أن تعلم هذه الأصول قبل النظر في الفروع؛ لأن من لم يعتد طرق الفروع والتصرف فيها، لا يمكنه الوقوف على ما يبتغي بهذه الأصول من الاستدلال والتصرف في وجوه القياس والمواضع التي يقصد بالكلام إليها، ولهذا يوجد أكثر من ينفرد بعلم الكلام دون الفروع مقصرًا في هذا الباب، وإن كان يعرف طرق هذه الأصول وأدلتها2.
وإذا كان القصد من [2/ ب] 1 وما هو متعلق بها [الذي] 2 يقول: إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ثلاثة أضرب: أصل، ومفهوم أصل واستصحاب حال. وقد قيل: إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ضربين أحدهما: ما طريقه الأقوال والآخر الاستخراج. فأما الأقوال: فهي مثل النص والعموم والظاهر ومفهوم الخطاب وفحواه والإجماع. وأما الاستخراج فهو القياس. والأول أصح؛ لأنه أعم، وذلك أنه يدخل فيه دليل الخطاب واستصحاب الحال، وتلك أصول عندنا. ولم أذكر قول الواحد من الصحابة إذا لمن يخالفه غيره؛ لأن الرواية عن الإمام أحمد3 -رحمه الله- مختلفة، ونحن نذكره مفردًا إن شاء الله تعالى.
فأما الأصل فثلاثة أضرب: الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فضربان: مجمل ومفصل، ويأتي شرحهما في باب الحدود1. وأما السنة فعلى ضربين: ضرب يؤخذ من النبي -صلى الله عليه وسلم- مشاهدة وسماعًا. فهذا يجب على كل أحد قبوله واعتقاده على ما جاء به من وجوب وندب وإباحة وحظر، ومن لم يقبله كفر؛ لأنه كذبه في خبره. وضرب يؤخذ خبرًا عنه، والكلام فيه في موضعين: أحدهما في إسناده، والآخر في متنه، فأما الإسناد فضربان: أحدهما متواتر والآخر آحاد. والمتن على ضربين: قول وفعل وإقرار على قول وفعل، ويأتي شرح ذلك في باب الأخبار2. وأما الإجماع: فيأتي الكلام في تفصيله في باب الإجماع3. وأما مفهوم الأصل فذلك على ثلاثة أضرب: مفهوم الخطاب ودليله ومعناه، ويأتي شرح ذلك في باب الحدود4. وأما استصحاب الحال فذلك على ضربين: أحدهما: استصحاب براءة الذمة من الواجب حتى يدل دليل شرعي
عليه، وهذا صحيح بإجماع أهل العلم، وذلك مثل أن يسأل حنبلي عن الوتر فيقول: ليس بواجب1؛ لأن الأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل الشرعي على وجوبه. والثاني: استصحاب حكم الإجماع، فهو أن تجمع الأمة على حكم ثم تتغير صفة المجمع عليه، ويختلف المجمعون فيه، هل يجب استصحاب حال الإجماع بعد الاختلاف حتى ينقل عنه الدليل أم لا؟ على خلاف بينهم، يأتي الكلام فيه2 إن شاء الله تعالى3.
باب ذكر حدود
باب ذكر حدود مدخل ... باب ذكر حدود 1: تحديد2 أصول الفقه من ألفاظها.
في تعريف الحد
فصل: [في تعريف الحد] : معنى الحد هو: الجامع لجنس ما فرقه التفصيل، المانع من دخول ما ليس من جملته فيه1. ولذلك سمي البواب حدادًا؛ لأنه يمنع من ليس من أهل الدار من الدخول إليها.
وسموا الحديد بهذا الاسم؛ لأنه يمنع من وصول السلاح إلى المتحصن به. وسميت حدود الدار والأرض؛ لأنها تمنع أن يدخل في البيع ما ليس [3/ أ] من البيع، وكذا يخرج منه ما ليس هو من المبيع، وسميت العقوبة حدًّا؛ لما فيها من المنع من مواقعة الفواحش. ومنه إحداد المرأة في عدتها؛ [لأنها تمتنع به] 1 من الطِّيب والزنية. والزيادة في الحد نقصان في المحدود؛ لأن الحد [متى جمع ذواتًا كانت] 2 متفرقة حال التفصيل، فمتى ضم إليه [قدر] 3 زائد على المذكور خرج بعض الذوات من جملة الكلام، فيكون الحد للبعض4، بعد أن كان للجميع. وقال أبو بكر الباقلاني5: الزيادة فيه على ضربين:
منها ما هو نقصان منه، ومنها ما هو ليس بنقصان. فأما التي هي نقصان نحو قولك: حد الواجب أنه في فعله ثواب، وفي تركه عقاب، فهذا يوجب خروج كل ما ليس بصيام عن كونه واجبًا، فعادت بالنقصان. وأما ليس بنقصان نحو قولك: حد الواجب: أنه فرض في فعله ثواب، وفي تركه عقاب، فكل فرض واجب. وأما النقصان من الحد فإنه أبدًا زيادة فيه، نحو قولك: حد الواجب ما كان في فعله ثواب، ولا يقرن به في تركه عقاب، فيدخل النفل في جملة الواجب؛ لأنه مما عليه ثواب.
في تعريف العلم
فصل: [في تعريف العلم] : وحدُّ العلم: معرفة المعلوم على ما هو به1.
وقيل: تبين المعلوم على ما هو به1. وقيل: إثبات المعلوم على ما هو به. وقيل: إدراك المعلوم على ما هو به2؛ لأن جميعه محيط بجميع جملة المحدود، فلا يدخل ما ليس منه، ولا يخرج ما هو منه. والحد الأول أصح3؛ لأن من حده: "بالتبين"4، يبطل بعلم الله تعالى؛ لأنه لا يوصف بأنه مبين؛ لأن ذلك يستعمل في العلم الذي يحصل عقيب الشك ولا يجوز ذلك عليه، ومع هذا فهو عالم. ومن يحده "بالإثبات" لا يصح؛ لأن الإثبات هو الإيجاد5، ولهذا يقال: أثبت السهم في القرطاس. ومن حده "بالإدراك"، لا يصح؛ لأنه يستعمل في أشياء مختلفة على طريق الحقيقة بالإدراكات الخمسة: الرؤية والسمع والشم والذوق والبلوغ، فثبت أنه يستعمل في غير العلم. ولو قيل: "معرفة المعلوم"، ولم يقل "على ما هو به" كفى، ويكون ذلك تأكيدًا؛ لأن العلم لا يصح أن يتعلق بالمعلوم ويكون معرفة إلا على ما هو به، ولو تعلق به على ما ليس به لكان جهلا، وخرج عن كونه
علمًا، فلهذا صح أن نقتصر على قوله: "معرفة المعلوم". وإنما عدلنا عن القول بأنه: معرفة الشيء، إلى القول بأنه معرفة المعلوم؛ لأن: القول معلوم، أعم من: القول شيء؛ لأن الشيء لا يكون إلا موجودًا، والمعلوم يكون معدومًا وموجودًا، وقد ثبت أن المعدوم ليس بشيء فإذا قيل: حده أنه: معرفة الشيء، خرج العلم بالمعدوم الذي ليس بشيء عن أن يكون علمًا وانتقض الحد؛ لأنه علم بما ليس بشيء، فوجبت الرغبة لما ذكرنا عن ذكر "الشيء" إلى ذكر "المعلوم". والدلالة على أن حده ما ذكرنا أن كل من عرف العلم فقد علم أنه معرفة، وأنه هو الذي لأجله كان العالم عالِمًا، وكل من عرف المعرفة التي صار العالم عالِمًا بها فقد عرف العلم علمًا، فكان حدًّا صحيحًا [3/ ب] كما أن حد المحدث لما كان هو الموجود عن عدم، كان كل من عرفه موجودًا عن عدم، فقد علم أنه محدث. وقالت المعتزلة1 [حَدُّ] 2 العلم: "اعتقاد الشيء على ما هو به فقط".
وقال بعضهم: اعتقاد الشيء على ما هو به على غير [وجه] 1 الظن والتقليد. وقال آخرون منهم: حَدُّه اعتقاد الشيء على ما هو به، إذا وقع عن ضرورة أو دليل. وقال آخرون منهم: اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إلى معتقده. وكل هذه الحدود باطلة؛ لأن من قال: اعتقاد الشيء على ما هو به فقط، يوجب أن يكون المخمن والظّان -إذا اعتقد الشيء على ما هو به- عالِمًا باعتقاد ذلك الشيء، وهذا باطل؛ للاتفاق على أن العالم2 لا يجوز كونه على غير ما علمه، والظان بكون الشيء يجد من نفسه تجويز كونه على خلاف من ظنه وتوهمه؛ ولأنه يبطل قوله وقول من قال: إذا وقع عن ضرورة أو دليل، وقول من قال: "مع سكون النفس" بعلم الله تعالى؛ لأنه عالم وليس بمعتقد، ولا علمه عن ضرورة ولا عن سكون النفس. وعلى أن النفس عندهم هي الجملة المحسوسة، وسكون الجملة هو سكون مكان، وذلك يقتضي أن الإنسان إذا كان ساكن الجملة كان عالِمًا، وإذا لم يكن متحركًا فلا يكون عالِمًا، وذلك باطل. وعلى أن السكون يستعمل في زوال الغم وحصول الأنس، وهذا يقتضي أن يكون الإنسان إذا زال غمه وأنس فهو عالم، وذلك باطل.
في أقسام العلم
فصل: [في أقسام العلم] : 1 والعلم على ضربين: قديم ومحدث. فأما القديم: فهو علم الله تعالى، وهو علم واحد يتعلق بجميع المعلومات على ما هي به، لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه التغيير والبطلان، ولا يوصف بأنه ضروري، ولا بأنه مكتسب، ولا استدلالي؛ لئلا يوهم كونه محتاجًا إلى العلم لما يعلمه لدفع ضرر عنه، أو أنه ملجأ ومكره على العلم بما هو عالم به، ومحال ذلك في صفته. وأما المحدث2 فعلى ضربين: ضروري، ومكتسب. فأما الضروري فحده: كل علم محدث لا يجوز ورود الشك عليه ويلزم نفس المخلوق3. أو ما لا يمكنه معه الخروج عنه، والانفصال منه، وإنما قلنا: ما لزم نفس المخلوق، ولم نقل: ما لزم نفس العالم؛ لكي يخرج علم القديم سبحانه عن كونه اضطرارًا؛ لأن عمله سبحانه بكل معلوم لازم لذاته على الوجه الذي يلزم ذواتنا علوم الضرورات، وليس لأحد أن يقول: إنه مضطر إلى العلم بمعلوماته.
وإنما سمي ضرورة؛ لأنه مما تمس الحاجة إليه، أو مما يقع الإكراه عليه والإلجاء إليه؛ ولهذا قال تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 1، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} 2. وقالوا في المكره على الطلاق والعتاق: إنه مضطر إليه ومحمول عليه ومكره عليه. وعلم الضرورة على ضربين3: أحدهما لا يتعلق بسبب سابق، والثاني يتعلق بسبب سابق. فأما ما لا يتعلق بسبب سابق، فمثل علم الإنسان بأحوال [4/ أ] نفسه، من قيامه وقعوده، وحركاته وسكناته، وما يعرض في نفسه من خير وشرور، وميل ونفور، ولذة وألم، وصحة وسقم، ومثل ذلك علمه باستحالة اجتماع الضدين، والجسم في مكانين، وأن الواحد أقل من الاثنين، فهذا كله علم مبتدأ في نفسه لا يتعلق بسبب. وأما ما يتعلق بسبب سابق فعلى ضربين: محسوس، وغير محسوس، فأما المحسوس: فهو العلم الواقع عن الحواس الخمس وهي: البصر
والسمع والذوق والشم واللمس، وذلك أن العلم يحصل عن الإدارك بهذه الحواس. وأما غير المحسوس فهو: العلم الواقع عن الخبر المتواتر، مثل العلم بالبلدان النائية والسير الماضية، فإذا سمع الخبر المتواتر حصل العلم بمخبره. وأما المكتسب: فحده كل علم يجوز ورود الشك عليه. وقد قيل: ما وقع عن نظر واستدلال. ومعنى الكسب: ما وجد بالموصوف به وله عليه قدرة محدثة. ومعنى النظر والاستدلال: ما يحصل العلم به عن ابتداء نظر وتفكر. وعلم الكسب على ضربين: عقلي وشرعي: فأما العقلي: فهو ما لا يفتقر إلى شرع، مثل العلم بحدوث العالم، وإثبات محدثه وصفاته، وصدق من ظهرت المعجزة على يده، وما أشبه ذلك مما لو نظر العاقل فيه وتدبره؛ لحصل له العلم من غير شرع. وأما الشرعي: فهو العلم الواقع عن الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والقياس على أحد هذه الأصول الثلاثة.
في تعريف الجهل والشك والظن
فصل: [في تعريف الجهل والشك والظن] : 1 وحَدُّ الجهل: تبين المعلوم على خلاف ما هو به، ضد العلم2.
والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر. والظن1: تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر. وغلبة الظن: قوة الظن، فإن الظن يتزايد، ويكون بعض الظن أقوى من بعض. والشك: ليس بطريق للحكم في الشرع، ولا يلزم على هذا الصيام يوم الشك؛ لأنه ليس الموجب لصيامه الشك، وإما الموجب قيام الدليل، ألا ترى أنه يوجد الشك ولا يجب الصيام، وهو ما إذا كانت السماء مصحية، لعدم قيام الدليل. والظن: طريق للحكم، إذا كان عن أمارة مقتضية للظن، ولهذا يجب العمل بخبر الواحد، إذا كان ثقة، ويجب العمل بشهادة الشاهدين وخبر المقومين، إذا كانا عَدْلَينِ، ويجب العمل بالقياس، وإن كانت علة الأصل مظنونة، ويجب استصحاب حكم الحال السابق في حال الشك، مثل الشك في الحدث بعد الطهارة، والطلاق بعد النكاح، والشك في العتاق بعد الملك؛ لأن الظاهر بقاؤه وعدم حدوث المشكوك فيه.
في تعريف العقل
فصل: [في تعريف العقل] : 2 والعقل ضرب من العلوم الضرورية، وهو مثل العلم باستحالة اجتماع الضدين، وكون الجسم في مكانين، ونقصان الواحد عن الاثنين، والعلم
بموجب العادات، فإذا أخبره مخبر بأن الفرات تجري دارهم راضية، لا يجوز صدقه. ومن أخبر بنبات شجرة بين يديه، وحمل [4/ ب] ثمرة وإدراكها من ساعته، لا ينتظر ذلك ليأكل منها، وإذا أخبر بأن الأرض تنشق ويخرج منها فارس بسلاح يقتله، لا يهرب فزعًا من ذلك، فإذا حصل له العلم بذلك، كان عاقلا ولزمه التكليف. وقال أبو الحسن التميمي عبد العزيز بن الحارث1 من أصحابنا في "كتاب العقل": العقل ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر، وإنما هو نور، فهو كالعلم"2. وقال أبو محمد البربهاري3: وليس العقل باكتساب، وإنما هو
فضل من الله1. ذكره في "شرح السنة" في جزء وقع إليّ وقال بعضهم: قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات. وقال أبو بكر بن فورك2: هو العلم الذي يتمنع به من فعل القبيح. وقال بعضهم: ما حسن معه التكليف. ومعنى ذلك كله متقارب، ولكن ما ذكرناه أولى3؛ لأنه مفسر، وهو قول الجمهور من المتكلمين. وقال أحمد فيما رواه أبو الحسن التميمي في "كتاب العقل" عن محمد بن أحمد بن مخزوم4 عن إبراهيم الحربي5 عن أحمد أنه قال: العقل
غريزة، والحكمة فطنة، والعلم سماع، والرغبة في الدنيا هوى، والزهد فيها عفاف"1. ومعنى قوله: غريزة، أنه خلق الله تعالى ابتداءً، وليس باكتساب للعبد. خلافًا لما حكي عن بعض الفلاسفة: أنه اكتساب. وقال قوم: هو عرض مخالف لسائر العلوم والأعراض. وقال قوم: هو مادة وطبيعة. وقال آخرون: هو جوهر بسيط. وهذا فاسد؛ لأن الدليل دلَّ على أن الجواهر كلها من جنس واحد، خلافًا للمُلْحِدَةِ في قولهم: هي مختلفة؛ لأن معنى المثلين: ما سد أحدهما
مسد صاحبه، وناب منابه، والجواهر على هذا؛ لأن كل واحد منهما متحرك وساكن وعالم، فلو كان العقل جوهرًا لكان من جنس العاقل، ولاستغنى العاقل بوجود نفسه في كونه عاقلًا عن وجود مثله، وما هو من جنسه، وقد ثبت أنه ليس بعاقل بنفسه، فمحال أن يكون عاقلا بجوهر من جنسه؛ ولأنه لو كان جوهرًا لصحَّ قيامه بذاته ووجوده، لا بعاقل ولصح أن يعقل ويكلف؛ لأن ذلك مما يجوز على الجواهر وفي امتناع ذلك دليل، على أنه ليس بجوهر، فثبت أنه عرض، ومحال أن يكون عرضا غير سائر العلوم؛ لأنه لو كان كذلك لصح وجود العقل مع عدم سائر العلوم، حتى يكون الكامل العقل غير عالم بنفسه ولا بالمدركات ولا بشيء من الضرورات؛ إذ لا دليل يوجب تضمن أحدهما للآخر. وذلك نهاية الإحالة. ومحال أن يكون اكتسابًا؛ لأنه يؤدي إلى أن الصبي وممن عدمت منه الحواس الخمس ليسوا بعقلاء؛ لأنهم لا نظر لهم ولا استدلال يكتسبون به العقل، وفي الإجماع على حصول العقل منهم دليل على فساد هذا. ولا يجوز أن يكون العقل هو الحياة؛ لأن العقل يبطل ويزول [5/ أ] ولا يخرج الحي عن كونه حيًّا، وقد يكون الحي حيًّا وإن لم يكن عالِمًا بشيء أصلا. ولا يجوز أن يكون هو جميع العلوم الضرورية1، ولا العلوم التي تقع عقيب الإدراكات الخمسة؛ لأن هذا يؤدي إلى أن الخرس والطرش2 والأكمه ليسوا بعقلاء؛ لأنهم لا يعلمون المشاهدات والمسموعات والمدركات
التي تعلم باضطرار ولا باستدلال1. ولا يجوز أيضًا أن يكون العلم بِحُسْنِ حَسَنٍ وقُبْحِ قبيح، ووجوب واجب وتحريم محرم من جملة العلوم التي هي عقل؛ لأن هذه الأحكام كلها معلومة من جهة السمع دون قضية العقل، فوجب أن يكون بعض العلوم الضرورية، وهو ما ذكرنا في أول الفصل وما كان في معناه من أن الموجود لا يخلو من أن يكون لوجوده أول، وأن الموجود لا يكون معدومًا موجودًا في حالة واحدة، وأن المتحرك عن المكان لا يجوز أن يكون ساكنًا فيه في حالة واحدة، وأن الذات الواحدة لا تكون حية ميتة، ونحو ذلك من الأوصاف المتضادة2.
فصل: [في محل العقل] : 1 ومحل العقل القلب، ذكره أبو الحسن التميمي في "كتاب العقل"، فقال: الذي نقول به: إن العقل في القلب يعلو نوره إلى الدماغ، فيفيض [منه2] إلى الحواس ما جرى في العقل. ومن الناس من قال: هو في الدماغ. وقد نص أحمد -رحمه الله- على مثل هذا القول فيما ذكره أبو حفص بن شاهين3 في الجزء الثاني من أخبار أحمد بإسناده عن فضل بن زياد4 وقد سأله رجل عن العقل أين منتهاه من البدن؟ وقال5 سمعت أحمد بن
حنبل يقول: العقل في الرأس، أما سمعت إلى قولهم: وافر الدماغ والعقل. واحتج هذا القائل: بأن الرأس إذا ضرب زال العقل؛ ولأن الناس يقولون: "فلان خفيف الرأس، وخفيف الدماغ"، ويريدون به العقل. وهذا غير صحيح؛ لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 1 وأراد به العقل، فدل على أن القلب محله؛ لأن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورًا له، أو كان بسبب منه. واحتج أبو الحسن التميمي بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 2 وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} 3. واحتج أيضًا بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث المدائني4، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والكبد رحمة، والقلب ملك، والقلب مسكن العقل"5.
وروي أن عمر بن الخطاب1 -رضي الله عنه- كان إذا دخل عليه ابن عباس2 قال: "جاءكم الفتى الكهول له لسان قئول وقلب عقول"3. فنسب العقل إلى القلب.
وروى عياض بن خليفة1 عن علي كرم الله وجهه2 أنه سمعه يوم صفين3 يقول: "إن العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في
الطِّحال، وأن النفس في الرئة"1. وعن أبي هريرة2 [5/ ب] وكعب3 أنهما قالا: العقل في القلب وأيضًا فإن العقل ضرب من العلوم الضرورية، ومحل العلم القلب. وما ذكروه من زوال العقل بضرب الرأس، فلا يدل على أنه محله،
كما أن عصر الخصية يزيل العقل والحياة، ولا يدل على أنها محلها. وقول الناس: إنه خفيف الرأس، وخفيف الدماغ، فهو أن يبس الدماغ يؤثر في العقل، وإن كان في غير محله، كما يؤثر في البصر، وإن كان في غير محله.
في ذكر الخلاف في تفاوت العقول
فصل: [في ذكر الخلاف في تفاوت العقول] : 1 وذكر أصحابنا أنه يصح أن يكون عقل أكمل من عقل وأرجح. فقال أبو محمد البربهاري في "شرح السنة": العقل مولود أعطي كل إنسان من العقل ما أراده الله تعالى، يتفاوتون في العقول مثل الذرة في السموات، ويطالب كل إنسان على قدر ما أعطاه الله تعالى من العقل. وذكره أبو الحسن التميمي في كتاب "العقل" خلافًا للمتكلمين من المعتزلة والأشعرية2 في قولهم: لا يصح أن يكون عقل أكمل من عقل وأرجح. والدلالة على صحة ذلك: ما روى أبو الحسن في كتاب "العقل" بإسناده عن طاوس3، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قضى بين
المهاجرين والأنصار: "تبارك الذي قسم العقل بين عباده واستأثر، إن الرجلين تستوي أعمالهما وبرهما وصلاتهما وصومهما، ويفترقان في العقل حتى يكون بينهما كالذرة في جنب أحد"1. وروى أبو الحسن بإسناده عن أنس2 قال: جاء ابن سلام3 إلى
النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر الخبر إلى أن [قال] : قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: إني خلقت العقل أصنافًا شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي من ذلك حبة واحدة، وبعضهم الحبتين، والثلاث، والأربع، وبعضهم من أعطي فرقًا1، وبعضهم أعطي وسقًا2، وبعضهم وسقين، وبعضهم أكثر من ذلك ما شاء الله من التضعيف"3. وروى4 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنا معشر الأنبياء أمرنا أن
نكلم1 الناس على قدر عقولهم"2. وروى يزيد عن أبي زياد3 عن ابن عباس قال: "العقل عشرة أجزاء، تسعة في الأنبياء وواحد في سائر الناس"4.
وهذه الأخبار كلها تدل على التفاضل في العقول1. ولأنه إجماع الناس؛ فإنه مستفيض فيهم القول بأن أحد العاقلين أكمل عقلا وأوفر وأرجح من الآخر. قال بعضهم:
يزين الفتى في الناس كثرة عقله ... وإن لم يكن في أهله بحسيب1 فإن قيل: إنما يقال ذلك على معنى أنه أكثر استعمالا لعقله وتيقظًا وتحذرًا. قلنا: إنما كان أكثر استعمالا؛ لوفور عقله على غيره، ولقلة عقل غيره، أنه لم يكثر استعماله لعقله. ويدل على ذلك ما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما وجد من ناقصات العقول والأديان أغلب للرجال 2 ذوي [6/ أ] الرأي 3 على أمورهم من النساء، قالوا: يا رسول الله، ما نقصان عقلها ودينها؟ قال: أما نقصان عقلها فجعل الله تعالى شهادة امرأتين برجل، وأما نقصان دينها فإنها تمكث الثلاث والأربع لا تصلي لله تعالى فيها سجدة 4 ". وهذا يدل على
نقصان عقل النساء عن عقول الرجال مع وصفهن بالعقل. واحتج من منع ذلك: بأن العقل من العلوم الضرورية، وتلك لا تختلف في حق عاقل. والجواب: أن تلك العلوم لم يختلف ما يدرك به من النظر والشم والذوق، فلهذا لم تختلف هي في أنفسها، وليس كذلك العقل؛ لأنه يختلف ما يدرك به وهو التمييز والفكر، فيقل في حق بعضهم ويكثر؛ فلهذا اختلف. واحتج بأنه لو كان أحدهما أكمل من الآخر لم يحصل لغير الكامل الغرض، وهو تأمل الأشياء ومعرفتها؛ لأجل النقصان الذي منه. والجواب: أنه إنما لا يحصل له الغرض الكامل؛ لأنا نجد أن من لم يكمل عقله لا تكمل أحواله، ولا يبلغ جميع أغراضه، ومن الكامل عقله بلغ أكثر أغراضه وأكمل أكثر أحواله.
في تعريف البيان
فصل: [في تعريف البيان] : 1 وحد البيان2: إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب مفصلا مما يلتبس به
ويشتبه من أجله. كما يقال: "بانَ الأمرُ إذا ظهرَ". وأصله في اللغة من القطع والفصل، يقال1: "بان منه إذا انقطع" قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما بان من البهيمة وهي حية، فهو مَيتةٌ" 2. "وبان: إذا فارق" قال جرير3:
بان الخليط ولو طوعت ما بانا ... وقطعوا من حبال الوصل أقرانا1 وبانت المرأة من زوجها بينونة، إذا فارقت زوجها وانقطع النكاح بينهما، فسمي إظهار المعنى وإيضاحه بيانًا؛ لانفصاله مما يلتبس به من المعاني فيشكل من أجله. وقد ذكر الشافعي2 البيان ووصفه3 فقال: "البيان اسم جامع
لمعانٍ1 مجتمعة الأصول متشعبة الفروع، فأقل ما في تلك المعاني المتشعبة أن تكون بيانًا2 لمن خوطب ممن نزل القرآن بلسانه3، وإن كان بعضها أشد تأكيد بيان من بعض". ثم جعله على خمسة أوجه4. واعترض عليه أبو بكر بن داود5، وقال: البيان أبين من التفسير الذي فسره. واعترض غيره عليه أيضًا وقال: لم يصف البيان؛ لأنه ذكر جملة مجهولة، فكان بمنزلة من قال: البيان اسم يشتمل على أشياء، ثم لم يبين تلك الأشياء ما هي. واعتذر أصحابه له، وقالوا: لم يقصد به حد البيان وتفسير معناه، وإنما قصد به: أن البيان اسم عام جامع لأنواع مختلفة من البيان، فهي
متفقة في أن اسم البيان يقع عليها، ومختلفة في مراتبها، فبعضها أجلى وأبين من بعض؛ لأن من البيان ما يدرك معناه من غير تدبر وتفكر فيه من صفة ما [6/ب] يحتاج إلى تفكر وتدبر، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا" 1 فأخبر أن بعض البيان أبلغ من بعض. ولأن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- خاطبنا بالنص والعموم والظاهر ودليل الخطاب وفحواه. وجميع ذلك بيان، وإن اختلفت مراتبها فيه.
وقال أبو بكر الصيرفي: البيان2: "إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى [حيّز] 3 التجلي". وهو اختيار أبي بكر4 من أصحابنا فيما وجدته بخطه في مجموع فيه مسائل. وفي هذه العبارة خلل؛ لأن هذا الوصف إنما يوجد في بعض أقسام البيان، وهو بيان المجمل الذي لا يستقل بنفسه. فأما الخطاب المبتدأ من الله تعالى ومن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن سائر
المخاطبين إذا كان ظاهر المعنى بَيِّن المراد، فهو بيان صحيح، وإن لم يشتمل عليه هذا الوصف، ألا ترى أن قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 2، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 3 قد حصل به البيان، وإن لم يكن قبل ظهور ذلك إشكال أخرجه إلى التجلي، بل قد علمنا: أن الغسل لم يكن واجبًا، فبين وجوبه بالآية. وقال قوم من المتكلمين: البيان، هو الدلالة؛ لأن البيان يقع بها، وهو ظاهر كلام أبي الحسن التميمي؛ فإنه قال في جزء وقع إليَّ من كلامه: باب في البيان، ثم قال: البيان عن4 الشيء يجري مجرى الدلالة5، وهذا أيضًا فيه خلل؛ لأن من الدلائل ما لا يقع به البيان، كالمجمل ونحوه. وقال قوم منهم: البيان هو العلم الذي يتبين [به] 6 المعلوم7.
وإليه ذهب أبو بكر الدقاق1. والذي ذكرناه أولى؛ لأن أصله في اللغة كذلك.
في وجوه البيان
فصل: [في وجوه البيان] : 1 وأما وجوه البيان. فهو في الشرع على وجوه: منها: الأحكام المبتدأة. ومنها: تخصيص العموم الذي يمكن استعماله على ظاهر ما ينتظمه الاسم، فيبين أن المراد البعض. ومنها: صرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز، وصرف الأمر إلى الندب والإباحة، وصرف الخبر إلى الأمر. ومنها: بيان الجملة التي لا تستغني عن البيان في إفادة الحكم. وهذا البيان ليس بتخصيص؛ لكنه تفسير مراد بالجملة، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 2. فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد: العشر ونصف
العشر1. ومنها: النسخ، وهو رفع الحكم بعد أن كان في توهمنا وتقديرنا بقاؤه.
فيما يحتاج إلى البيان
فصل: [فيما يحتاج إلى البيان] وأما ما يحتاج إلى البيان فكل لفظ لا يمكن استعمال حكمه، نحو قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1، وقوله: {وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} 2، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 3، ونحو قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
...........................................................................................
بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} 1. وأما ما يمكن استمعاله على ظاهره وحقيقته، فلا يحتاج إلى البيان، إلا أن يريد به المخاطب بعض ما انتظمه، أو كان مراده غير حقيقته، فيحتاج إلى بيان المراد به، نحو قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2، و {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 3 و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ، فهذه الألفاظ معانيها معقولة ظاهرة، فهي غير مفتقرة إلى البيان.
فيما يقع به البيان
[7/أ] فصل: [فيما يقع به البيان] : وأما ما يقع به البيان فهو الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والبيان يقع من الله تعالى بالقول وبالكتاب، فالقول نحو: سائر الفروض المعقول معانيها من ظاهر الخطاب. ويقع بالكتاب أيضًا؛ لأن القرآن كلام الله تعالى. وكتابه في اللوح
المحفوظ وفي غيره، فيقع منه البيان بهذين الوجهين، فيكون منه تخصيص العموم، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 1، خص منه المحرمات بالآية الأخرى وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 2، ونحو بيان الجملة كقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 3، ثم بينه بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 4. ويكون منه أيضًا: بيان مدة الفرض، وهو نسخ [نحو] قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} 5، ثم قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 6، ونحو قوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} 7، ثم نسخ منه ما عدا أربعة الأشهر والعشر، بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 8. وكان حد الزانيين الحبس والأذى بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} 9، إلى آخره، ثم قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 10، فنسخ به الحبس
والأذى المذكورين في الآية الأخرى من غير المحصن. ويكون البيان من الرسول بالقول. نحو سائر السنن المبتدأة، ونحو تخصيصه لعموم القرآن، عن بيع ما ليس عنده1، وبيع ما لم يقبض2.
وأحلَّت لنا ميتتان1.
ويكون البيان بالكتابة أيضًا: كنحو كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم1 في الصدقات والديات وسائر الأحكام2، وكتابه الذي كتبه لأبي بكر
الصديق1 في الصدقات2. وقال عبد الله بن عَكيم3: ورد علينا
كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بشهر: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" 1. وقال الضحاك بن سفيان الكلاب2: كتب إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أورث امرأة أشيم الضبي من دية زوجها3، فثبت أن الكتابة
يقع بها البيان كوقوعه بالقول. ويكون من النبي -صلى الله عليه وسلم- بيان المجمل في الكتاب بهذين الوجهين، نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1 وقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصَادِهِ} 1، وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} 2. ويكون منه البيان بالفعل، نحو فعله لأعداد الركعات في الصلوات المفروضات وأوصافها، وقع به البيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 3. ونحو فعله في المناسك بيان لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 4. وقد أكد ذلك بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 5 وقوله: "خذوا
عني مناسككم"1. وليس كل فعله في الصلاة أو الصدقة بيانًا للجملة التي في الكتاب؛ لأنه لو صلى لنفسه، لم يدل ذلك على أنه بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 2، ولو تصدق بصدقة لم يدل على أنها مرادة بقوله:
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1. وإنما وجه [7/ ب] البيان: ما يجمع الناس على أنه من المكتوبات؛ لأنه2 ما يفعله في نفسه [و] لم يثبت3 أنه فعله فرضًا، فلا يكون فيه دلالة على أنه فعلها بيانًا. ويكون منه أيضًا بيان مدة الفرض المنصوص عليه في الكتاب، كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث" 4 قد قيل: إنه نسخ به الوصية
للوالدين والأقربين1. وقوله في الرجم2 نسخ به الحبس والأذى عن
المحصن1. [و] في السنة: نحو قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها2".
"وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي، فكلوا وادخروا" 1.
ويكون عنه البيان بالإشارة أيضًا كقوله: "الشهر هكذا وهكذا [وهكذا] 1 وأشار بأصابعه العشر" 2 فأفاد أنه ثلاثون يومًا ثم قال: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وخنس الإبهام في الثالثة" 3 فأفاد أنه تسعة وعشرون يومًا.
وقال تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} 1، ثم قال: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 2 يعني: أشار إليهم، فقامت إشارته مقام القول في بلوغ المراد. وحكى الله تعالى عن مريم {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} 3 فبينت لهم مرادها بالإشارة. ويكون منه البيان أيضًا بالدلالة والتنبيه على الحكم من غير نص، نحو قوله لفاطمة بنت أبي حبيش4 في دم الاستحاضة: "إنها دم عرق، وليس بالحيضة" 5. فدلَّ على وجوب اعتبار خروج دم العرق في نقض الطهارة.
وقوله حين سئل عن سمن ماتت فيه فأرة فقال: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وإن كان مائعًا فأريقوه" 1، فدل بتفريقه بين المائع
والجامد: على أن سائر المائعات تنجس بمجاورة أجزاء النجاسة إياها. وغير ذلك من الوجوه المستنبطة. وقد يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- بيان الحكم بالإقرار على فعل شاهده من فاعل يفعله على وجه من الوجوه، فترك النكير عليه، فيكون ذلك بيانًا في جواز فعل ذلك الشيء على الوجه الذي أقره عليه، أو وجوبه إن كان شاهده يفعله على وجهه [و] لم ينكره، وذلك نحو علمنا أن عقود الشرك والمضاربات والقروض، وما جرى مجرى ذلك، قد كانت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبحضرته مع علمه بوقوع ذلك منهم واستفاضتها فيما بينهم، ولم ينكرها على فاعلها، فدل على إباحة ذلك من إقراره؛ لأنه لا يجوز على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرى منكرًا فلا ينكره؛ إذ كان ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله الحظ الأوفر في ذلك. وليس لأحد أن يقول: إن ترك النكير لا يدل على الإباحة، لأنه ترك النكير اكتفاء بما تقدم من النهي عنه من جهة النص أو الدلالة، كما أقر اليهود والنصارى على الكفر، ولم يدل ذلك على جوازه عنده، وذلك أن قتاله لهم حتى يعطوا الجزية أشد نكيرًا، فجعل أخذ الجزية عقوبة لهم على إقرارهم على الكفر.
ولأنه لا يجوز أن يقول أحد: إنه كان في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- جائز أن يرى رجلًا يزني أو يقتل النفس، فلا ينكر عليه اكتفاءً بنهي الله تعالى [8/ أ] عن ذلك؛ ولأن ترك ذلك يؤدي إلى إسقاط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 1. وقد يقع بيان المجمل بالإجماع، نحو إجماعهم على أن دية الخطأ على العاقلة، والذي في كتاب الله: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 2، ولم يذكر وجوبها على العاقلة3.
وكإجماعهم على أن للجدة مع الولد الذكر السدس إذا لم يكن أب، وأن للجدتين إذا اجتمعتا السدس، وهو ما وقع به بيان قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 1، كما بين تعالى بعضه بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2 الآية. وكما بينت السنة بعضه فأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- للجدة السدس3. وقد4 يكون بيان الإجماع لحكم مبتدأ، كما يكون بيان حكم الكتاب والسنة، نحو إجماع السلف على أن حد الخمر ثمانون على ما بيناه في
غير هذا الكتاب، وإجماعهم على تأجيل امرأة العنين. وقد يكون بيان خصوص العموم بالإجماع، نحو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 1، وأجمعت على أن العبد يجلد خمسين. والإجماع وإن لم يخل من أن يكون عن توقيف أو رأي، فإنه أصل برأسه يجب اعتباره فيما يقع البيان به. وقد يتعلق بهذا التفصيل: الكلام في جواز تأخير البيان، وذكر الاختلاف فيه، ويأتي الكلام في ذلك2. وذكر أبو بكر في مجموع فيه مسائل بخطه: البيان على خمسة أوجه: الأول: هو المؤكد، وهو أعلى ما يفهم به الخطاب وأشده وضوحًا. والثاني: القائم بنفسه، وإن كان التأكيد لم يقع به. الثالث: الخطاب الذي يحتاج أن يقرر بدليل معه. الرابع: هو ما انفرد النبي بإيجاب حكمه، أو يزيد بقوله دون أن يكون له أصل في الكتاب. الخامس: من علم الاستخراج من النصوص3.
في تعريف الدليل
فصل: [في تعريف الدليل] : 1 الدليل هو: المرشد إلى المطلوب2. وقيل: هو الموصل إلى المقصود. ولا فرق بين أن يكون قديمًا أو محدثًا؛ لأن القرآن كلام الله تعالى، وليس بمخلوق، وهو دليل على الأحكام، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دليل على الأحكام، وهو مخلوق محدث. ولا فرق بين أن يكون موجودًا أو معدومًا؛ لأن عدم الشرع يدل على براءة الذمة وانتفاء الوجوب، كما يدل وجود الشرع. ولا فرق بين أن يكون معلومًا وبين أن يكون مظنونًا. وحُكي عن بعض المتكلمين: أن الدليل اسم لما كان موجبًا للعلم، فأما ما كان موجبًا للظن فهو أمارة. وهذا غير صحيح2؛ لأن ذلك اسم لغوي، وأهل اللغة لا يفرقون بينهما.
وأيضًا: فإنه مرشد إلى المطلوب، فوجب أن يكون دليلا كالموجب للعلم. وأيضًا: فإن اعتقاد موجبهما والعمل بهما واجب، فلا فرق بينهما. ولا فرق بين ما دل بنفسه مثل دلالة [8/ ب] الفعل على الفاعل، والإحكام والإتقان على قصده إليه وعلمه به، وبين ما دل بالمواضعة مثل: الفعل والقول الدَّالَّين على ما وضعا له من المعاني. والرجل الدال على الطريق يسمى دليلا، وهو مجاز؛ لأن شخصه ليس بدليل، وإنما الدليل قوله أو فعله. والاستدلال: طلب الدليل. والمستدل هو: الطالب للدليل. فإذا طالب السائل المسئول بالدليل فهو مستدل؛ لأن السائل يطلبه من المسئول، والمسئول يطلبه من الأصول. والمستدل عليه هو: الحكم. والمستدل له يحتمل الحكم، ويحتمل الخصم المطالب بالدليل.
تعريف في الدلالة
فصل: [تعريف في الدلالة] : وأما الدلالة1: فهي مصدر قولهم: دلَّ يدلُّ دلالة، ويسمى
الدليل دلالة على طريق المجاز؛ لأنهم يسمون الفاعل باسم المصدر كقولهم: رجل صائم وصَوْم، وزائر وزَوْر، قال الله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} 1، وأراد به غائرًا2. وأما الدال فقد قيل: هو الدليل، إلا أن فيه ضربًا من المبالغة كقولهم: عالم وعليم، وقادر وقدير، وسامع وسميع. ومنهم من قال: هو الناصب للدليل، وهو الله تعالى الذي نصب أدلة العقل والشرع، وكل من نصب لغيره دليلا على شيء، فهو دال بما نصبه من الدليل. وأما الحجة والبراهين فذلك اسم للدليل، ولا فرق بين الدليل من الحجة والبرهان. وقيل: ذلك اسم لما دل على صحة الدعوى، ولهذا سمي بينة المدعي حجته وبرهانه، وليس كل دليل حجة.
وسمعت أخي أبا حازم1 -رحمه الله- يقول: سمعت أبا نصر أحمد بن علي بن عبدوس المعدل بالأهواز2 قال: سمعت سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني3 يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل4 يقول:
سمعت أبي يقول: قواعد الإسلام أربع: دال ودليل ومبين ومستدل. فالدال: الله تعالى، والدليل: القرآن، والمبين: الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1. والمستدل: أولو الألباب وأولو العلم الذين يجمع المسلمون على هدايتهم، ولا يقبل الاستدلال إلا ممن كانت هذه صفته2.
في تعريف الأمارة وأقسامها
فصل: [في تعريف الأمارة وأقسامها] : وأما الأمارة فهي: الدليل المظنون، كخبر الواحد والقياس، وليس بدليل مقطوع عليه. وهذه عبارة وضعها أهل النظر للفرق بين ما يفضي إلى العلم وبين ما يؤدي إلى غلبة الظن. والأمارات على ضربين: أحدهما: ما له أصل يرجع إليه في الشريعة مثل: القياس ووجوه الاستدلال التي نذكرها في الفقه. والثاني: ما لا أصل له في الشريعة وهذا على وجوه. منها: ما أمرنا فيه بالرجوع إلى العادة الجارية1 مثل تقويم
المستهلكات يعتبر به أمثاله مما تجري فيه المبتاعات، وكأروش الجنايات التي ليس فيها أَرَش مقدر، يرجع في تقويمه إلى أقرب الشجاج إليه، فصار ما يقرب إليه ويعتبر به كأصول الشريعة الموضوعة في الشرع، وهذا أظهر في الشجاج؛ لأن ما يعتبر به من الشجاج المقدورة أصول [9/ أ] في الشريعة، مثل أصول الحوادث. وكذلك الاجتهاد في القبلة والاستدلال مما أجرى الله تعالى به العادة كهب الرياح ومطالع النجوم. ومن ذلك الفرق بين القليل والكثير مما قامت عليه الدلالة، من ذلك: أن الجمعة لا تجب على من هو خارج المصر على بعد، وتجب على من هو قريب منه، فجعلنا الحد الفاصل سماع النداء. وكذلك الفاصل بين العمل القليل والكثير مما يفسد الصلاة من المشيء وغيره، وما يرفع هيئة الصلاة. وكذلك الحد الفاصل بين يسير النوم وكثيره ما يلقى معه عن الجهة التي هو عليها1.
تعريف النص
فصل: [تعريف النص] : فقيل فيه: ما رفع في بيانه إلى أقصى غايته و [منه] سميت منصة العروس؛ لأن العروس ترتفع عليها على سائر النساء، وتنكشف لهن بذلك. قال امرؤ القيس1: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل2 ومعناه: إذا كشفته. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفع من عرفات، كان يمشي عنقًا، فإذا وجد فجوة نصَّ3، يعني: رفع في السير.
وقيل: كل لفظ لا يحتمل إلا معنى واحدًا. وقيل: ما استوى ظاهره وباطنه. وقيل: ما عري لفظه عن الشركة، وخلص معناه من الشبهة. وقيل: ما تأويله يزيله. وهذا فاسد؛ لأن التأويل لا يستعمل إلا في الاحتمال. والصحيح أن يقال: النص ما كان صريحًا في حكم من الأحكام، وإن كان اللفظ محتملا في غيره. وليس من شرطه أن لا يحتمل إلا معنىً واحدًا؛ لأن هذا يعز وجوده، إلا أن يكون نحو قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} 1، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} 2، وإنما حده ما ذكرنا.
ومثل هذا في الشرع أكثر من أن يحصى، فلهذا نقول: إن قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} 1 إنه نص في قدر المدة، وإن كان محتملا في غيره, وقوله عليه السلام: "في أربع وعشرين من الإبل فما دون الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض" 2، وهذا نص في قدر النصب وأسنان الفرض. ونهيه عن المزابنة، إلا أنه رَخَّصَ في بيع العَرَايَا3، في أن العرية بيع وليست بهبة، كما قال أصحاب أبي حنيفة.
في تعريف العام والظاهر
في تعريف العام والظاهر مدخل ... فصل: [في تعريف العام والظاهر] : 1 والعموم: ما عم شيئين فصاعدًا 2. والظاهر: ما احتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر. والفرق بين العموم والظاهر: أن العموم ليس بعض ما تناوله اللفظ
بأظهر من بعض وتناوله للجميع تناول واحد، فيجب حمله على عمومه، إلا أن يخصه دليل أقوى منه. و [أما] الظاهر فإنه يحتمل معنيين، إلا أن أحدهما أظهر وأحق باللفظ من الآخر، فيجب حمله على أظهرهما، ولا يجوز صرفه عنه إلا بما هو أقوى منه. وكل عموم ظاهر، وليس كل ظاهر عمومًا؛ لأن العموم يحتمل البعض، إلا أن الكل أظهر. فالعموم مثل قوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1، [9/ ب] ومثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 2 فكانا عامين في جميع ما تناولاه. ومثل ذلك أكثر من أن يحصر. والظاهر: مثل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 3، فإنه يحتمل الندب، إلا أن ظاهره الوجوب؛ لأنه أمر وظاهر الأمر الوجوب، فسمي ظاهرًا لذلك4. وكذلك كل لفظ محتمل لمعنيين أحدهما أظهر من الآخر من طريق اللغة، أو من طريق الاستدلال. من ذلك ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال للمرتهن: "ذهب حقك" 5 فيحتمل أن يكون المراد به الدين، ويحتمل
حقه من الوثيقة، إلا أن الظاهر حقه من الوثيقة؛ لأنه لم يسأل عن مقدار قيمة الرهن، ومن يسقط الدين فإنما يسقطه بقدر قيمة الرهن، فدل على أن مراده به حقه من الوثيقة. وكذلك قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "هما علي يا رسول الله، وأنا لهما ضامن"1؛ فيحتمل أن يكون إخبارًا عن ضمان سابق، ويحتمل أن يكون ابتداء ضمان، ولكن الظاهر منه ابتداء ضمان؛ لأن حمله على الإخبار يؤدي إلى خطأ النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه ترك الصلاة على من كان قد خلف ضامنًا، والضامن بمنزلة الوفاء.
المجمل
المجمل: 1 وأما المجمل2 فهو ما لا ينبئ عن المراد بنفسه، ويحتاج إلى قرينة تفسره.
أولا يعرف معناه من لفظه، وهو أصح، وذلك مثل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1 فإنه مجمل في جنس الحق وفي قدره، ويحتاج إلى دليل يفسره ويبين معناه. فأما قوله تعالى: {أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} 2 فإن ذلك مجمل3؛ لأن الصلاة في اللغة: دعاء، فكا [ن] كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} 4. وفي الشريعة هي: التكبير والقيام والقراءة والركوع والسجود والتشهد والسلام، ولا يقع على شيء من ذلك اسم الصلاة. فإذا كان اللفظ لا يدل على المراد به ولا ينبئ عنه وجب أن يكون مجملا. وكذلك الزكاة في اللغة: النَّمَاء والزيادة، من قولهم: زكا الزرع إذا زاد ونما. والمراد في الشريعة بالزكاة غير ذلك، واللفظ لا يدل عليه ولا ينبئ عنه. وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- ذكره في كتاب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
{أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ} 1، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدال على إقامتها: إن الفجر ركعتان يجهر فيهما بالقراءة، والظهر أربع، والعصر أربع، لا يجهر فيهما، والمغرب ثلاث يجهر بالقراءة فيها. وقوله: {وَآَتُوا الْزَّكَاةَ} 2 هل فسر ذلك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أصحابه من بعده؟ ومن أصحاب الشافعي من قال: ليست بمجمل وإن الصلاة في اللغة: دعاء، فكل دعاء يجوز، إلا أن يخصه الدليل. وكذلك يجب إخراج الزيادة من الزكاة، إلا ما خصه الدليل. وأما قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى الْنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 3، فهو مجمل أيضًا، ولا يدل على أن الحج الشرعي كما ذكرنا في الصلاة والزكاة. وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- أيضًا في كتاب "طاعة الرسول" فقال: قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى الْنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاَ} [10/ أ] فقالوا: السبيلُ الزادُ والراحلة4، وحج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووقَّت المواقيت للإحرام. فيما تقول للمدعي للظاهر من أين تأخذ هذا؟!
ومن أصحاب الشافعي من قال: الحج هو التردد في القصد، فهو على عمومه إلا ما خصه الدليل. وأما قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 1، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمْهَاتُكُمْ} 2 فهذا أيضًا من المجمل3؛ لأن تحريم الأعيان لا يصح، وإنما يحرم أفعالنا في العين، وليس لأفعالنا ذكر في اللفظ، والمذكور فيه متروك بالإجماع، فوجب التوقف فيه، وطلب دليل يدل على المراد. وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- أيضًا في كتاب "طاعة الرسول" فقال: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 4، وقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} 5، فلما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير"6، دلت أحكام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن الآية ليست على
......................................................................
ظاهرها، وأنه هو المعبر عما في كتاب الله تعالى، ومن لزم ظاهر الآية لزمه أن يبيح لحم الكلاب والهرر والفيل والفأر والقرد وغير ذلك مما نهى عنه1. وقال تعالى في سورة النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمْهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2 كما يقول في البنت من الرضاعة، وبنت الأخ والعمة والخالة من الرضاعة، ولم يذكروا، أليس يرجع إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم؟! وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ} أليس الظاهر يدل على أن ما وراء ما حرم مباح؟ فكيف يقول في تزويج المرأة على عمتها أو خالتها؟ أليس يرجع في هذا إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم؟! 1. ومن أصحاب الشافعي من قال: المراد به أفعالنا في الأمهات والميتة، والعرب تحذف بعض الكلام إذا كان فيما أبقت دليل على ما ألقت. وأما قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} 2 فهذا أيضًا من المجمل3؛ لأن الله تعالى حكى عنهم -وهم أهل اللسان- أنهم قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ، وإذا كان
كذلك افتقر إلى قرينة تفسره، وتميز بينه وبين الربا. ومن أصحاب الشافعي من قال: البيع هو الإيجاب والقبول عندهم، فهو على عمومه إلا ما خصه الدليل. وأما قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1، فليس من المجمل2، وإنما هو من العموم، ويجوز الاحتجاج به. وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في كتاب "طاعة الرسول" فقال: قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم سارق، وإن قل، فقد وجب عليه القطع، أيستعمل
الظاهر، أو يستعمل ما سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم: القطع في ربع دينار1. وفي المجمل دل على [10/ ب] أنه ليس على ظاهرها وأنها على بعض السراق.
وحكي عن عيسى بن أبان1 أنها من المجمل2، وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة3؛ لأن المراد به سارق مخصوص لقدر مخصوص من حرز مخصوص واللفظ لا يدل عليه. وهذا غير صحيح؛ لأن السارق معلوم في اللغة، وهو من أخذ الشيء مستترًا مستخفيًا به، فيجب حمله على عمومه إلا ما خصه الدليل، كقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4.
تعريف المفسر
[تعريف المفسر] : فأما المفسر: فما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعرف معناه من لفظه ولا يفتقر إلى قرينة تفسره، وهذه صفة النص، وقد ذكرناه 1.
وحد ذلك: ما بقي حكمه، أو تأبد حكمه. وقد يعبر به عن المفسر، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 1، وأراد بالمحكمات المفسرة المستغنية في معرفة معانيها عما يفسرها. وحد ذلك ما ذكرته، وهو ما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعقل معناه من لفظه.
تعريف المتشابه
[تعريف المتشابه] : وأما المتشابه فهو: المشتبه المحتمل الذي يحتاج في معرفة معناه إلى تأمل وتفكر وتدبر وقرائن تُبَيِّنُه وتزيل إشكاله. ونعيد ذكره في موضع آخر ونحكي الخلاف فيه1.
تعريف مفهوم الخطاب
[تعريف مفهوم الخطاب] : 1 وأما مفهوم الخطاب فهو التنبيه بالمنطوق به على حكم المسكوت عنه، مثل حذف المضاف كقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 2، ومعناه:
أفعال الحج في أشهر1. وقوله: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} 2، فتقديره: في إحرام الحج3. وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} 4، ومعناه: فحلق ففدية5، وكقوله تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 6، فنبه بذلك على تحريم الضرب والشتم؛ لأنه إنما منع من التأفيف لما فيه من الأذى، وذلك في الضرب أعظم، وجب أن يكون بالمنع أولى، ويسمى هذا القسم: فحوى الخطاب. وقال بعض أهل اللغة: اشتق ذلك من تسميتهم الأبزار فحافحًا، ويقال: "فح قدرك يا هذا"، فسمي فحوى؛ لأنه يظهر معنى اللفظ كما تظهر الأبزار طعم الطبيخ ورائحته. ويسمى أيضًا لحن القول؛ لأن لحن القول ما فهم منه بضرب من الفطنة. يقال: لحنت فلانًا إذا كلمته بكلام يعلمه ولا يعلمه غيره. ورجلان تلاحنا، إذا فعلا مثل ذلك. ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} 7.وقال الشاعر:
منطقٌ صائبٌ وتلحَنُ أحيَا ... نًا وخيرُ الحديثِ ما كان لحنًا1 وقيل: لحن القول ما دل عليه، وحذف استغناء عنه بدليل الكلام عليه نحو قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} 2. فدل على أنه ضرب، فانفجرت. ونحو قوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 3، ولم يذكر أنهما ذهبا، اكتفاء بما حكاه من جواب فرعون لهما حتى4 قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 5. [11/ أ] وأشباه ذلك.
تعريف دليل الخطاب
[تعريف دليل الخطاب] : وأما دليله فهو دليل الخطاب، وذلك إذا علق بصفة فيدل على أن الحكم فيما عدا الصفة بخلافه.
وكذلك إذا علق بعدد، وهذا فصل فيه خلاف، وكلام كثير، يأتي الكلام عليه في موضع آخر1.
في تعريف التخصيص
في تعريف التخصيص مدخل ... فصل: [في تعريف التخصيص] : وأما التخصيص فهو تمييز بعض الجملة بحكم1. وقيل: إخراج بعض ما تناوله العموم2. وقيل: بيان المراد باللفظ العام. وهذا حد تخصيص العموم، وليس بحد تخصيص مطلق؛ لأنه لا فرق بين أن يكون داخلا في حكم عموم مخالف له وبين أن يكون داخلا فيه؛ لأنا نقول خص الأحرار بأحكام، وخص الرجال بأحكام وخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأحكام وخُصَّ ذو القربى بأحكام، وخص الوالد بالرجوع في الهبة، وخص المستطيع بإيجاب الحج، وخص العلماء بكذا، وخص بلد كذا بكذا، وخص السلطان فلانًا بإلاكرام والعطاء.
تعريف النسخ
[تعريف النسخ] : 1 وأما النسخ فحده: بيان انقضاء مدة العبادة التي ظاهرها الإطلاق.
وإن شئت قلت: بيان ما لم يرد باللفظ العام في الأزمان. وقد قيل: التخصيص تقليل، والنسخ تبديل. وهذا غير صحيح؛ لأن الردة تبديل، وتغيير العهد والوصية تبديل وليس بنسخ، قال الله سبحانه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} 1، وقال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} 2. وفيما ذكرنا من الحد احتراز من الحكم المعلق على زمان مخصوص، وأن انقضاءه ليس بنسخ له؛ لأن الحكم لم يكن مطلقًا، وذلك مثل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 3، وليس انقضاء الليل نسخًا للحكم المأذون فيه، ولا انقضاء النهار نسخًا للصوم المأمور به فيه. فإن قيل: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ 4 أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلاً} 1 ليس بمطلق، وقد قلتم إنه منسوخ بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2 قيل: هذه الغاية مشروطة في كل حكم مطلق؛ لأن غاية كل حكم إلى موت المكلف أو إلى النسخ.
تعريف الأمر
تعريف الأمر مدخل ... فصل: [تعريف الأمر] : 1 الأمر اقتضاء الفعل أو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه. وإنما قلنا: "بالقول"؛ لأن الرموز والإشارات ليست بأمر حقيقة، وإنما سمي أمرًا على طريق المجاز. وقولنا: "ممن هو دونه"؛ لأن قول العبد لربه: اغفر لي، وتجاوز عني، وكفر سيئاتي، فإنه2 ليس بأمر، وإنما هو سؤال [11/ ب] وطلب. وكذلك قول المملوك لمالكه: أطعمني، واكسني، سؤال وطلب، وليس بأمر؛ولهذا لايجوز أن يقال: إن المالك مأمور، وإنه مطيع بفعله. فإن قيل: قد يأمر بالكلام وتبليغ الرسالة، وهذا أمر، وليس بأمر بالفعل. قيل: الكلام فعل، وتسميته قولا وكلامًا ونطقًا، لا يمنع من أن يكون فعلا؛ لأن الكتابة والإشارة والأكل والشرب والقيام والقعود فعل، وإن اختص كل واحد منهما باسم، فإذا كان كذلك، كان الحد حاصرًا لجنس الأمر.
وحكي عن أبي بكر بن فورك أنه قال: الأمر ما يكون المأمور بامتثاله مطيعًا. والأول أصح؛ لأن عبارة الحد يجب أن تكون أظهر من عبارة المحدود؛ لتنفيذ بيانه وتفسيره، فأما إذا كانتا في الإجمال سواء، لم تصح عبارة الحد.
المندوب مأمور به
[المندوب مأمور به] : 1 وإذا ثبت هذا فإن مذهب أحمد -رحمه الله- أن المندوب إليه مأمور به. وقد نص على ذلك في رواية ابن إبراهيم2 فقال: "آمين" أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم-3. وعلى هذا لا يحتاج إلى الزيادة فيما ذكرنا من حد الأمر. ومنهم من قال: المندوب ليس بمأمور به. فعلى هذا يجب أن يقال في حد الأمر: اقتضاء الفعل، أو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على وجه لا يتضمن التخيير بين فعله وتركه وهذا فصل يأتي الكلام فيه4.
تعريف النهي
[تعريف النهي] : 1 والنهي: اقتضاء أو استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه. وقيل: المنع من طريق القول. وإنما قيل: من طريق القول؛ لأن من قيَّد عبده، أو أغلق عليه بابه، فقد منعه، وليس ذلك بنهي.
تعريف الواجب
تعريف الواجب مدخل ... فصل: [تعريف الواجب] : والواجب: ما في فعله ثواب، وفي تركه عقاب. ولا يحتاج إلى ذكر الثواب؛ لأن الندب فيه ثواب. وإنما يبين الواجب عن المستحب والمباح، بما في تركه عقاب. وقيل الواجب: ما لا يجوز تركه من غير عزم على فعله، وهذا حده الذي يميزه عما ليس بواجب؛ لأن المستحب يجوز تركه من غير عزم على فعله، وكذلك المباح. وأما ما كان واجبًا فإنه لا يجوز تركه إذا كان وقته مضيقًا، وإن كان وقته موسعًا لم يجز تركه إلا بشرط العزم على فعله في آخر الوقت. وقيل الواجب: ما لا يجوز تركه إلى غير بدل، فإن كل واجب لا يجوز تركه إلى غير بدل، وتأخيره عن أول الوقت إلى آخره فإنما يجوز بشرط العزم على فعله في الثاني، والعزم بدل من تقديمه في أول الوقت. وحكي عن أبي بكر بن فورك أنه قال: الواجب ما لا بدَّ من فعله. وقال كثير من الفقهاء: ما لا يجوز إخراجه عن وقته من غير عذر، أو ما يعصى بإخراجه عن وقته من غير عذر.
وفيه احتراز من ترك المسافر صوم رمضان، فإنه يتركه لعذر. فإن قيل: هذا ليس بخاص لجنس الواجب، وإنما هو تحديد للمؤقت منه. قيل: كل واجب مؤقت؛ لأنه لا يخلو: إما [12/ أ] أن يكون مؤقتًا بوقت معلوم الطرفين مثل الصلاة والصيام، أو يكون على الفور، مثل الزكاة والحج والعمرة، فيكون وقته زمان الإمكان. والوجوب في اللغة، عبارة عن السقوط، من قولهم: وجبت الشمس، ووجب القمر، ووجب الحائط إذا سقط. وقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 1 أي سقطت. فسمى ما لا بد من فعله واجبًا؛ لأن تكليفه سقط عليه سقوطًا لا ينفك منه إلا بفعله2.
تعريف الفرض
[تعريف الفرض] : 1 وأما الفرض: فهو عبارة عن أشياء: فهو في عبارة اللفظ: ما كان في أعلى منازل الوجوب، مثل ما ثبت بنص القرآن وخبر التواتر، والإجماع.
قال الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 1، وأراد أوجب الحج، وقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} 2، ومعناه: أوجبتم لهن فريضة. وهو عبارة عن النزول؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 3، وأراد: أنزل عليك القرآن. وهو عبارة عن الإحلال؛ قال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} 4، وأراد به: أحل الله له. وهو عبارة عن البيان؛ قال تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} 5 وأراد: بينَّاها. وهو عبارة عن التقدير؛ يقال: فرض الحاكم على فلان لزوجته كذا وكذا من النفقة. ويراد به قدّر. وهو في اللغة: عبارة عن التأثير، يقال: فرض القوس، إذا حز طرفيه، وفرضة النهر: الموضع الذي يجتمع فيه الماء.
معنى الحتم
[معنى الْحَتْمِ] : والحتم: عبارة عن الفرض؛ لأنه يعبر به عن الواجب الذي يراد تأكيده، فيقول القائل عند تأكيد المأمور [به] : حتمت عليك كذا. والمكتوب واللازم عبارة عن الفرض أيضًا.
هل هناك فرق بين الفرض والواجب
[هل هناك فرق بين الفرض والواجب؟] : وقد اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في الفرض والواجب هل حدُّهما في الشرع حدٌّ واحد، أم بينهما فرق؟ فيه روايتان: أحدهما: أن حدَّهما واحد. والثانية: أن الواجب ما ثبت وجوبه بخبر الواحد والقياس، وما اختلف في وجوبه، والفرض ما ثبت وجوبه من طريق مقطوع به، كالخبر المتواتر، أو نص القرآن، أو إجماع الأمة. وفي هذا خلاف بين الفقهاء، ويأتي ذكره إن شاء الله فيما بعد1.
تعريف الندب
تعريف الندب مدخل ... فصل: [تعريف النَّدب] : 1 الندب اقتضاء الفعل بالقول ممن هو دونه على وجه يتضمن التخيير بين الفعل والترك. وفي اللغة هو: الدعاء إلى الفعل، يقال: ندبه لكذا، إذا دعاه إليه.
فأما المندوب إليه فقد قيل: ما في فعله ثواب، وليس في تركه عقاب. وقيل: ما في فعله أجر، وليس في تركه وزر.
تعريف الطاعة والمعصية
[تعريف الطاعة والمعصية] : 1 وأما الطاعة: فهي2 موافقة الأمر. والمعصية: مخالفة الأمر. وقالت المعتزلة: الطاعة موافقة المراد، والمعصية مخالفة المراد. وهذا غلط؛ لأن الله تعالى إذا فعل ما يريده عبيده لا يكون مطيعًا لهم وإن كان فعله موافقًا لإرادتهم.
تعريف العبادة
[تعريف العبادة] : 1 وأما العبادة فكل ما كان طاعة لله تعالى، أو قربة إليه، أو امتثالا لأمره، ولا فرق بين [12/ ب] أن يكون فعلا أو تركًا. فأما الفعل فمثل الوضوء، والغسل من الجنابة، والصلاة، والزكاة، والحج، والعمرة، وقضاء الدين، وما أشبه ذلك. وأما الترك فمثل: ترك الزنا، وترك أكل المحرم وشربه، وترك القتل
المحرم، وترك الربا1. وإزالة النجاسة طريقها الترك، فلا تفتقر إلى نية2، وتكون بمنزلة رد المغصوب وإطلاق المحرم الصيد، وغسله الطيب عن بدنه أو ثوبه؛ لأن ذلك كله طريقه الترك، فإن العبادة في تجنبه، فإذا أصابه ولم يمكنه تركه إلا بالفعل كان طريقه الترك، ويخالف الوضوء؛ لأنه فعل مجرد ليس فيه ترك. وقال أصحاب أبي حنيفة: الوضوء ليس بعبادة؛ لأنه ليس من شرطها النية3. والدليل على أنها عبادة قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "الوضوء شطر الإيمان" 4.
والإيمان1 عبادة، فوجب أن يكون شطره عبادة؛ ولأنه طاعة أو قربة فوجب أن يكون عبادة قياسًا على ما شرط فيه النية. ولأن هذا يؤدي إلى أن يكون ترك الزنا والقتل وشرب الخمر عبادة؛ لأن ذلك يصح من غير النية، ويؤدي إلى أن تكون إقامة الحدود عبادة، والكفارة عبادة؛ لأنها تفتقر إلى القصد والنية، ولا تكون الطهارات عبادة، وهذا ظاهر الفساد. وأما سقوط النية في صحة الفعل المأمور به، لا2 يدل على أنه ليس بطاعة وقربة.
تعريف السنة
[تعريف السنة] : وأما السنة: فما رسم ليحتذى، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" 1، ولا فرق بين
أن يكون هذا المرسوم واجبًا أو غير واجب. يدل عليه ما روي عن عبد الله بن عباس: أنه صلى على جنازة جهر بقراءة فاتحة الكتاب، وقال: إنما فعلت ذلك لتعلموا أنها سنة1. وقراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة. وأما الغالب على ألسنة الفقهاء إطلاق2 السنة على ما ليس بواجب، وعلى هذا ينبغي أن يقال: ما رسم ليحتذى استحبابًا.
معنى المكتوبة
[معنى المكتوبة] : والمكتوبة هي الواجبة يدل عليه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 1، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْصِّيَامُ} 2، ومعناه: أوجب عليكم. وأصل هذه اللفظة من الكتابة في اللوح المحفوظ، ثم استعملت في الواجب.
تعريف الإباحة
تعريف الإباحة مدخل ... فصل [تعريف الإباحة] : 1 الإباحة: مجرد الإذن، يدل عليه أن من أذن لغيره بأن يأكل طعامه، أو يسكن داره، أو يركب دابته، فقد أباحه له، فدل على أن الإباحة هي الإذن. والمباح: كل فعل مأذون فيه لفاعله، لا ثواب له في فعله، ولا عقاب في تركه، وفيه احتراز من فعل المجانين والصبيان والبهائم؛ لأنه لا يصح إذنهم وإعلامهم به. ولا يدخل على ذلك أفعال الله تعالى؛ لأنه لا يجوز أن [13/ أ] يوصف بأنه مأذون له في فعله.
تعريف الحسن والقبيح
[تعريفُ الحَسَنِ والقَبِيحِ] : 1 وأما الحسن والقبيح فقد قيل في العبارة عنه: الحسن ما له فعله، والقبيح ما ليس له فعله.
وقال هذا القائل: المباح من جنس الواجب1. وقيل: الحسن ما مدح به فاعله، والقبيح ما ذم به فاعله. وقال هذا القائل: لا يوصف المباح بأنه حسن.
تعريف الجائز
[تعريفُ الْجَائزِ] : 1 والجائز: ما وافق الشريعة، فإذا قلنا: صلاة جائزة، وصوم جائز وبيع جائز، فإنما نريد أنه موافق للشريعة. وقد يقول الفقهاء: الوكالة عقد جائز، وكذلك عقد الشركة والمضاربة، يريدون أنه ليس بلازم. ويكون حدُّ ذلك: كل عقد للعاقد فسخه بكل حال، أو لا يئول إلى اللزوم، ولا يدخل على ذلك البيع المشروط فيه الخيار، أو إذا كان في المبيع عيب، فإنه يَئُول إلى اللزوم، وكذلك الرهن، فإنه من العقود اللازمة؛ لأنه يَئُول إلى اللزوم.
معنى الظلم والجور
[معنى الظُّلمِ والجَورِ] : 1 والظلم مجاوزة الحد. وقيل: وضع الشيء في غير موضعه. ولهذا قالوا: "من أشبه أباه فما ظلم"؛ أي: لم يضع نسبه في غير موضعه. وتقول العرب: بئر مظلومة، إذا حفرت في أرض ليس فيها محفر. والجور هو: العدول عن الحق، من قوله: جار السهم" إذا عدل عن قصده.
تعريف الخبر
فصل: [تعريف الخبر] : 1 الخبر: ما دخله الصدق والكذب، يدل عليه أن من قام وقعد وأكل ومشى وركب لما لم يكن خبراً لم يدخله الصدق والكذب، ولم يحسن أن يقال له فيه: صدقت أو كذبت. وكذلك القول إذا كان أمرًا أو نهيًا لم يدخله الصدق أو الكذب، فدل على أن حد الخبر ما ذكرته. والصدق: كل خبر مخبره على ما أخبر به. والكذب: كل خبر مخبره على خلاف ما أخبر به. والآحاد: ما لم تبلغ حد التواتر. والمرسل: ما انقطع إسناده، وهو أن يكون في رواته من يروي عمن لم يره. والمسند: ما اتصل إسناده.
تعريف الإجماع
فصل: [تعريف الإجماع] : 1 الإجماع: اتفاق علماء العصر على حكم النازلة. ويُعْرَفُ اتفاقُهُم: بقولِهِم، أو قول بعضهم وسكوت الباقين، حتى ينقرض العصر عليه. وقيل: هو مأخوذ من العزم على الشيء، يقال: أجمع فلان على كذا ومعناه: عزم عليه. ومنه قوله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا الْنَّجْوى} 2 معناه: عزموا عليه. ومنه قوله عليه السلام: "لا صيامَ لمن لم يجمع 3 الصِّيَامَ من اللَّيلِ" 4، ومعناه: يعزم عليه.
........................................................................
وقيل: معنى الإجماع والاجتماع مختلف؛ لأن الإجماع يضاف إلى الواحد فيقال: قد أجمعت على كذا، ولا يقال: اجتمعت إلا مع آخر. والاختلاف مخالفة من هو من أهل الاجتهاد، مثل وجود الاتفاق.
تعريف الحقيقة والمجاز وأقسامهما
تعريف الحقيقة والمجاز وأقسامهما مدخل ... فصل: [تعريف الحقيقة والمجاز وأقسامهما] : الحقيقة: تستعمل في شيئين: أحدهما: في العبارة عن صفة الشيء ومعناه، فيقال: حقيقة العلم كذا، وحقيقة العالم كذا، وحقيقة المحدث كذا. وهذا يرجع إلى حده وحصره، وليس لهذا النوع [13/ ب] من الحقيقة مجاز. والثاني: حقيقة الكلام وحَدُّه: كل لفظ بقي على موضوعه. ولهذه الحقيقة مجاز، وحَدُّه: كل لفظ تجوز به عن موضوعه، وصح نفيه عنه، مثل الجد، يصح نفي الأب عنه. وذلك بأربعة وجوه: أحدهما: بالزيادة فيه، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1،
الكاف زائدة فإنه قال: ليس مثله شيء، ووصفت الزيادة: إنها مجاز؛ لأنها وردت غير مفيدة1. والثاني: بالنقصان منه، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 2، معناه: أهلها فاقتصر على ذكر القرية اكتفاء بدلالته على ما لم يذكره. والثالث: بالتقديم والتأخير، كقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 3 تقديره: من بعد دين أو وصية. وقوله: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 4، وتقديره: الرحمن خلق الإنسان علمه القرآن والبيان؛ لأن تعلمه قبل خلقه لا يصح. والرابع: بالاستعارة، وهي تسمية الشيء باسم غيره، إذا كان مجاورًا له، أو كان فيه سبب، كقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} 5. والإرادة للآدمي دون الجمادات. وقوله: {لَهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ} 1، ومعناه: مكان الصلوات؛ لأن الهدم يختص المكان دون الفعل.
معنى المجاز
[معنى المجاز] : والمجاز مأخوذ من جاز1؛ لأنه سار به كلام العرب وخطابهم، والاستعارة أكثر الأنواع في الاستعمال، ثم يليه النقصان.
تعريف القياس
تعريف القياس مدخل ... فصل: [تعريف القياس] : 1 القياس: رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما. وقيل: حمل الفرع على الأصل بعلة الأصل. وقيل: موازنة الشيء بالشيء. وقيل: اعتبار الشيء بغيره. وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال في ميقات أهل المشرق: "ما حياله من المواقيت؟ فقالوا: قَرْن، فقال: قيسوا به"2.
والأول والثاني صحيحان. وأما الثالث والرابع ففيهما احتمال؛ لأنهما لا يعبران عن صفة القياس في أحكام الشريعة، والمقصود ها هنا العبارة عن القياس في الأحكام الشرعية، وهو على التفسير الذي ذكرناه. وإذا ثبت هذا فإن القياس يستعمل على أربعة أشياء: أصل، وفرع، وعلة، وحكم.
تعريف الأصل
[تعريف الأصل] : فأما الأصل فهو: ما ثبت حكمه بنفسه، ومعناه: أنه ثبت حكمه بلفظ تناوله باسمه. وقيل الأصل: ما ثبت به حكم غيره. وهذا صحيح على أصلنا، ولهذا نقول: إن العلة يجب أن تتعدى إلى فرع، ولا تقف1. مثل علتنا في تحريم التفاضل في الذهب والفضة بالوزن؛ لأنها تتعدى، ولا نقول: كونها قيم المتلفات؛ لأنها لا تتعدى.
تعريف الفرع
[تعريف الفرع] : وأما الفرع فحده: ما ثبت حكمه بغيره.
تعريف العلة
[تعريف العلة] : وأما العلة: فهي المعنى الجالب للحكم.
وقيل: المعنى الذي تعلق به الحكم. وقيل: الصفة المقتضية للحكم.
تعريف الحكم
[تعريفُ الحكمِ] : وأما الحكم: فما جلبته العلة، أو ما اقتضته [14/ ب] العلة، من تحريم وتحليل وصحة وفساد، ووجوب وانتفاء وجوب، وما أشبه ذلك. والعلة الواقفة: هي التي لا تتعدى إلى فرع. والعلة المتعدية: هي التي تتعدى إلى فرع أو أكثر. والمعلول: هو الحكم؛ لأن تأثير العلة فيه. وقيل: هو الذات التي حلتها العلة، مثل الخمر وسائر الأشربة، والبر والشعير وسائر المكيلات، والذهب والفضة؛ لأن الجسم التعليل، والمعلول هو الذي حلته العلة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن تأثير العلة في الجسم، وههنا في الحكم، فالمعلول ما أثرت فيه العلة.
تعريف المعتل والمعلل والمعتل به والمعتل له
[تعريف المعتل والمعلل والمعتل به والمعتل له] : والمعتل: هو المحتج بالعلة. والمعلل: هو المعتل؛ لأنه يقال: اعتل بكذا، أو علل بكذا، فدل على أنهما سواء. وقيل: المعتل هو الناصب للعلة، مثل المحرك هو الفاعل للحركة، والمسود هو الفاعل للسواد. والمعتل به: هو العلة. والمعتل له: هو الحكم.
تعريف الطرد والعكس
[تعريف الطرد والعكس] : والطرد: وجود الحكم بوجود العلة. والطرد شرط في صحة العلة. وهل هو دليل على الصحة؟ فيه اختلاف. ونحن نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه1. والعكس: عدم الحكم لعدم العلة. فإذا قلنا لا زكاة في الخيل؛ لأنه حيوان لا تجب الزكاة في ذكوره، فلم يجب في إناثه. أصله: البغال والحمير، وعكسه: الإبل والبقر والغنم. وسبيل العاكس أن يبدأ بموضع العلة، فيقول: فإن الزكاة لما وجبت في ذكورها، وجبت في إناثها.
تعريف النقض
[تعريف النقض] : وأما النقض: فهو وجود العلة مع عدم الحكم. وقد نقض أبو حنيفة2 علته في تحريم النساء فقال: أحد وصفي علة
تحريم التفاضل علة لتحريم النساء، ثم أجاز إسلام الدراهم والدنانير في الموزونات مع وجود أحد وصفي علة تحريم التفاضل، وهو الوزن.
العلة منطوق بها ومجتهد فيها
فصل: [العلة منطوق بها ومجتهد فيها] : والعلة التي يتعلق بها الحكم على ضربين: منطوق بها ومجتهد فيها. وقال بعض الخراسانية: مسطورة ومسبورة. فأما المنطوق بها فهي: التي دلَّ كلام صاحب الشريعة عليها. مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "أينقصُ الرطبُ إذا يبس؟ " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم في لحوم الأضاحي:
"إنما نهيتكم من أجل الدّافة" 1. ومن ذلك قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} 2، فدلّ على [أن] المنع لأجل الحيض. وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 3 قد دلّ على أن الطهارة لأجل الجنابة. وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4. وقوله عليه السلام: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" 5، ونهيه
عن بيع ما لم يقبض1، وربح ما لم يضمن2. و "الثيب أحق بنفسها" 3.
و "ليس للولي مع الثيب أمر" 1 وقوله صلى الله عليه وسلم [14/ ب] : "لا يقضي القاضي وهو غضبان" 2، وما أشبه ذلك مما دل كلام صاحب الشريعة على علة الحكم. فإذا ثبت هذا، فإنه ينظر فيه. فإن كان مطردًا علم أنه كمال العلة، وإن انتقض وجب ضم وصف آخر إليه، وعلم أن صاحب الشريعة لم ينص على كمال العلة، وإنما نص على بعضها ووكل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم، وهذا جائز؛ لأنه إذا جاز أن يكل الجميع إلى اجتهادهم، جاز أن
ينص على البعض ويكل الباقي إلى اجتهادهم. ومثال ذلك ما احتج به أصحاب أبي حنيفة وقالوا: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لبريرة1: "ملكت بضعك فاختاري"2، وهذا يقتضي أن الأمة إذا أعتقت تحت حر كان لها الخيار، فقلنا لهم: إن ثبت هذا اللفظ كان معناه: ملكت بضعك تحت العبد، فضممنا إليه وصفًا آخر. وأما العلة المجتهد فيها، فمثل سائر العلل المستنبطة، وطريق ثبوتها: التأثير، أو شهادة الأصول، ويأتي الكلام على ذلك في باب: العلم الدال على صحة العلة3.
تعريف السبب
فصل: [تعريف السبب] : والسبب: ما يتوصل به إلى الحكم ويكون طريقًا لثبوته، سواء كان دليلا أو علة أو شرطًا أو سؤالا مثيرًا للحكم. والدليل عليه: أن الله تعالى سمى الطريق سببًا، فقال عزَّ من قائل:
{فَأَتْبَعَ سَبَبًا} 1، أي: طريقًا. وسمي الطريق سببًا؛ لأنه يتوصل بسلوكه إلى المقصود. وسمي الباب سببًا؛ لأنه يدخل منه إلى المقصود. قال تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ الْسَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 2 وأسباب السموات: أبوابها، قال زهير3: ومن هاب أسباب السماء ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلم4 وسمي الحبل سببًا؛ لأنه يتوصل به إلى الماء وغيره، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} 5، يعني بحبل.
أقسام النظر
أقسام النظر مدخل ... فصل: [أقسام النظر] : والنظر ضربان: ضرب هو النظر بالعين فهذا حدُّه: الإدراك بالبصر.
والثاني: النظر بالقلب، وهذا حدُّه: الفكر في حال المنظور فيه. والمنظور فيه: هو الأدلة والأمارات الموصلة إلى المطلوب. والمنظور له: هو الحكم؛ لأنه ينظر لطلب الحكم. والناظر: هو الفاعل للفكر.
تعريف الجدل
[تعريف الجدل] : وأما الجدل: فهو تردد الكلام بين اثنين، إذا قصد كل واحد منهما إحكام قوله ليدفع به قول صاحبه. وهو مأخوذ من الإحكام، يقال: درع مجدولة، إذا كانت محكمة النسج، وحبل مجدول، إذا كان محكم الفتل. والأجدل، هو الصقر عندهم. والجدالة: وجه الأرض، إذا كان صلبًا. ولا يصح الجدل إلا بين اثنين. ويصح النظر من واحد [15/ أ] . والسؤال، هو الاستخبار. والجواب: هو الإخبار. فإذا سأل السائل المسئول فقال: ما تقول في كذا؟ فإنه مستخبر عن مذهبه فيما سأله عنه، وإذا أجابه فهو مخبر عنه. والجدل كله سؤال وجواب.
تعريف الرأي
[تعريف الرأي] : وأما الرأي: فاستخراج صواب العاقبة. فمن وضع الرأي في حقه، واستعمل النظر في وضعه، سدده إلى الحق المطلوب، كمن قصد الجامع يسلك طريقه ولم يعدل عنه أداه إليه وأورده عليه.
وإنما كان كذلك؛ لأن الحق عند أحمد -رحمه الله- في واحد، وما عداه باطل. وعلى الحق دليل يوصل إليه، فإذا وصل إلى الدليل أوصله إلى الحكم.
الكلام وأقسامه
الكلام وأقسامه مدخل ... فصل: [الكلام وأقسامه] : والكلام في اللغة: عبارة عن أصوات وحروف. وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذا في كلام الله تعالى، وأن الله تعالى تكلم بصوت، في رواية يعقوب بن بختان1 والمروذي2 وعبد الله3. وقال الأشعرية: الكلام معنىً قائم في النفس يعبر عنه بهذه الأصوات المقطعة. والكلام في هذا يأتي في باب الأوامر4.
وإذا ثبت هذا فالكلام على ثلاثة أوجه: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل. فالاسم: مأخوذ من السمة، وهي العلامة؛ وحقيقته: ما أفاد معنىً غير مقترن بزمان مخصوص، والأسماء على وجوه يأتي شرحها. والفعل -على ما يذكره النحويون- فإنه عبارة عما دلَّ على زمان محدود. والحرف: هو عبارة عن شيئين: أحدهما معنىً، والآخر عبارة. فالمعنى: هو الحرف الذي هو طرف الشيء ونهايته، ومنه: حرف الوادي. والثاني: ما يقصد به النحْويون، وهو ما أفاد معنىً في غيره. فهذا تقسيم كلام العرب. وقد ذكر بعضهم تقسيمه على المعاني، فحصره بستة عشر وجهًا، فقال: الأمر وما في معناه، وهو السؤال والطلب والدعاء، ومن ذلك النهي ويدخل فيه الإخبار والجحود والقسم والأمثال والتشبيه وما أشبه ذلك، ومنه الاستخبار، والنهي منه الإخبار والاستفهام1.
والأسماء على وجوه: منها: أعلام وألقاب وضعت في اللغة للتمييز بين المسمى وغيره، تقوم مقام الإشارة إلى الغير مثل: زيد وعمرو. ومنها: ما وضع لإفادة صورة وبنية مخصوصة، مثل: إنسان. ومنها: ما وضع لإفادة جنس مثل: علم وإرادة. ومنها: ما وضع لإفادة أمر تعلق بالمسمى مثل: والد وأخ، وفوق وتحت. والاسم المفيد لمعنىً يتعلق بالمسمى، قد يكون على وجه الاشتقاق، مثل قولنا: مقتول ومضروب. ومنه ما هو مشتق مثل قولنا: قاتل وضارب. وقد يتفق الاسمان في الصورة والدلالة، مثل قولنا: الوطء بالنكاح وبملك اليمين حلال. وقد يتفق الاسمان في الصورة ويختلفان في المعنى مثل: القرء، يراد به الحيض والطهر. وقد يختلفان في اللفظ والمعنى مثل قولنا: الخمر محرمة، والخل مباح. وقد يختلفان في الصورة ويتفقان [15/ ب] في المعنى، مثل زكاة وصدقة. والأسماء على ضربين: منه ما هو عام، ومنه ما هو خاص. فالعام على ضربين: منه ما هو عام ليس فوقه ما هو أعم منه. ومنه ما هو عام بالإضافة إلى ما هو أخص منه، وإن كان خاصًّا فبالإضافة إلى ما هو فوقه. فالعام الذي ليس فوقه أعم منه مثل معلوم ومذكور. والخاص الذي هو عام في نفسه مثل قولنا: عَرَض، هو عام في
جميع الأجناس، وهو خاص بالإضافة إلى قولنا: معلوم ومذكور. والخاص الذي هو في الحقيقة خاص، مثل أسماء الأعيان. وإذا كان الاسم عبارة عن شيئين متضادين جاز أن يكون حقيقة فيهما، مثل أسماء الأضداد. وكذلك إن عبَّر عن مسمين مختلفين، مثل قولنا للباري تعالى: عالم، وللمحدث: عالم. والأسماء المشتقة التي هي مقيدة على ضربين: منها ما هو مشتق من معاني متماثلة، مثل قولنا: أسود. ومنها: ما هو مشتق من معنى وصفة لا يجب تماثلها، مثل متلوّن. فالأسماء التي ليست بمشتقة منها: ما يتفق لفظه ومعناه، مثل: سواد وسواد. ومنها: ما يتفق لفظه ويختلف معناه، مثل جارية للعين المعروفة، وجارية للسفينة. والمقيد من الأسماء على ضربين: منه ما هو حقيقة في بابه، ومنه ما هو مجاز. فالحقيقة: هو اللفظ المستعمل في موضعه. والمجاز: هو اللفظ المعدول عن جهته. والاسم متى كان مشتركًا في أشياء، مفيدًا في جميعها فائدة واحدة، حمل على جميعها كاللون. فإن كان يفيد في أشياء مختلفة، فقد قيل: لا تحمل على جميعها وشبهه بعضهم به إذا قال: "أوصيت لموالي فلان"، وله مولى أعلى ومولى أسفل، لم يحمل عليهما لتنافي معناهما؛ لأن أحدهما منعِم، والآخرُ منعَمٌ عليه.
ولا يجوز حمل الاسم على معنيين مختلفين أحدهما حقيقة والآخر مجاز، إذ لا يحمل على الصريح والكناية. وهذا إجماع الصحابة حين لم يحملوا اسم القرء على الأمرين، ولو حمل اللفظ عليهما لم يتمنعوا منه من غير دلالة.
الأسماء الشرعية
[الأسماء الشرعية] : والاسم المستعمل في الشريعة على غير ما كان عليه في موضوع اللغة، مثل اسم المؤمن، هو في اللغة: عبارة عن كل مصدق. واختص في الشريعة من آمن بالله، حتى لا يجوز استعماله في غيره. وكذلك اسم الكافر عبارة: عن كل مغطَّى، وقد اختص ذلك الاسم في الشرع بمن كان كافرًا بالله تعالى. ومثل اسم الصلاة، فإنه في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: لأفعال حصل معها دعاء. وكذلك الزكاة في اللغة: عبارة عن النَّماء. وفي الشريعة: عبارة عن إخراج ماله. وكذلك الربا، في اللغة: عبارة عن الزيادة. وفي الشريعة عبارة عن أمور قد لا يحصل معها زيادة. وكذلك الصوم عبارة: عن الإمساك في اللغة. وفي الشريعة: إمساك بصفة، وهو عن الأكل والشرب والجماع مع النية. وكذلك الاعتكاف، في اللغة: عبارة عن اللّبث. وهو في الشرع: لبث في مكان مخصوص متى انضمت إليه النية. وكذلك الوضوء، هو [16/ أ] عبارة عن: الوضاءة في اللغة، وهو في الشريعة عبارة عن غسل أعضاء مع النية.
وكذلك الحج عبارة: عن القصد في اللغة، وهو في الشريعة: عبارة عن أفعال مخصوصة، فهو في الشريعة كما كان في اللغة، وضمت إليه شروط شرعية، ولا نقول: بأنها منقولة من اللغة إلى معاني أحكام الشريعة. وقالت المعتزلة: هي منقولة ومعدولة عن موجباتها في اللغة. وهذا قول فاسد؛ لأنه لو نقل الأسماء اللُّغوية إلى أحكام شرعية كان مخاطبًا لهم بغير لغتهم، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 1، وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2. ولأنه لو كان منقولا لحصل البيان من النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، كما حصل منه في غيره من الأشياء، ولما لم ينقل ذلك، دل على أنه لم ينقل.
في أسماء الأشياء هل حصلت عن توقيف أم مواضعة؟
فصل: في أسماء الأشياء هل حصلت عن توقيف أم مواضعة؟: فقيل في ذلك: يمكن أن يكون عرف ذلك بالتوقيف والوحي من الله تعالى. ويحتمل أن يكون عرف ذلك بمواضعة أهل اللغة ومواطأتهم على ذلك. ويمكن أن يكون بعضها مأخوذًا عن توقيف، وبعضها بالمواضعة. وبعضها مستعملا بقياس على ما تكلم به أهل اللغة. ويجوز أن يتفق لأهل اللغة أو لبعضهم: أن يتواطئوا على وضع اسم لشيء قد وقف اللهُ عليه بعضَ من أعلمه ذلك، فتكون المواضعة منهم موافقة للتوقيف.
ويجوز أن يسمُوا الأشياء بغير الأسماء التي وصفها الله تعالى لها، إذا لم يحصل منه حظر لذلك، فإن حظر ذلك لم يَجُزْ مخالفة الاسم، ومتى لم يحظر ذلك كان للشيء اسمان: أحدهما موقف عليه، والآخر متواضع عليه. وقال قوم: جميع أسماء الأشياء في كل لغة أخذ من جهة توقف الله تعالى لآدم، والتعليم له، إما بتولي خطابه، أو الوحي إليه على لسان من يتولى خطابه وإفهامه. وقال آخرون: جميع ذلك عرف من جهة مواطأة أهل اللغة. والذي نختاره: ما ذكرناه أولا، وهو كلام أبي بكر عبد العزيز من أصحابنا؛ لأنه فسر قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1، بما نذكره فيما بعد، ولم يحمل الآية على عمومها. فالدلالة على فساد قول من قال: إن جميعها توقيف هو: أنهم إذا كانوا أحياء ناطقين، وكان الكلام والنطق منهم صحيحًا، ويعرفون المعلومات، البعض منها ضرورة، والبعض منها نظرًا وبحثًا، ويعرفون لما يعلمونه أمثالا، وربما غاب عنهم الحاضر واحتاجوا إلى طلبه، وجب عند ذلك صحة نطقهم للحاجة لمعرفة ذلك، وجرى مجرى اجتماع الخلق على أكل الطعام عند الجوع، وشرب الماء واتقاء الحر والبرد. فإن قيل: كيف يعرف مراد النطق بالأصوات، وهو لم يسبق له التوقيف بمعرفة ذلك؟ قيل: يعرف ذلك ضرورة عند قوله: رجل وإنسان، إذا تكرر ذلك وأتبعه [16/ ب] بالإشارة إليه والإقبال عليه.
ويبين صحة هذا أنه لا يجوز أن تكون أحوال الناطقين الأصحاء العقلاء أَدْوَنَ من الخرس في تأتي المواضعة منهم على معاني رموزهم وإشاراتهم، وإن لم يتقدم لهم إشارات أُخَرُ وقفوا على معناها؛ ولأن الله تعالى إذا أراد توقيفهم للمواضعة على ذلك جمع عليها هممهم، ووفر دواعيهم، وسهل سبيل ذلك لهم. وأما قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} : فذكر أبو بكر في كتاب التفسير فقال: وأولى بالصواب: أسماء ذريته وأسماء الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق، قال: وذلك أن الله تعالى قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ} يعني بذلك: أعيان المسمين؛ إذ لا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، فأما إذا كنّت عن أسماء البهائم، وسائر الخلق، سوى من وصفها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت: "عرضهن"، أو "عرضها". وكذلك تفعل إذا كنّت عن أصناف من الخلق والبهائم والطير وسائر أصناف الأمم، وفيها أسماء بني آدم والملائكة، تكني عنها بما وصفنا من الهاء والنون والهاء والألف، لا كل بني آدم نحو قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 1، فكنى عنها بالهاء والميم؛ لأنها أصناف مختلفة، فيها الآدمي. وقيل في جواب ذلك: أن يدل على أنه علمها آدم ووقفه عليها، وذلك لا يمنع المواضعة عليها مع تعليم آدم إيَّاها، ومع بدل تعليمه لو ترك ذلك. وقيل: إنه لم يخبر تعالى أنه وقف جميع الخلق على الأسماء، وإنما أخبر أنه وقف آدم على ذلك، وليس فيه ما يمنع أن يكون قد اتفق لأهل كل اللغة تواضعهم بما في مثل ما وقفه الله عليه أو كثير منه.
وقيل: يحتمل أن يكون علّم آدم الأسماء كلها بلغة من اللغات مبتدأة له لم ينطق بها أحد، وأن تكون الملائكة المخلوقة قبله قد كانت تواضعت على أسماء لتلك الأشياء وتخاطب يتفاهمون به غير الأسماء المبتدأة لآدم، فتكون لها أسماء وقف الله آدم عليها، لا تعرفها الملائكة، وأسماء لها قد عرفتها الملائكة بطريق التواضع. وقيل: يحتمل أن يكون الله تعالى علّمه اسم كل شيء خلقه ذلك الوقت من الملائكة والسموات وما خلقه في الجنة، ولم يعلِّمه أسماء ما يحدثه ويخلقه من بعد، ويكون قوله: {كُلَّهَا} على طريق التأكيد، أو يكون قوله: {كُلَّهَا} في ذلك الوقت. وقيل: إنه لم يخبر كيف علمه بأن وقفه أو أنطقه أو أقدره على النطق وجميع دواعيه على مواضعة الملائكة على دلالة ما ينطبق به، فإذا أقدره على ذلك، وخلق فيه العلم به وجمع همه عليه كان له الأسماء، وإن لم يعلمه ذلك توقيفًا. وهكذا الجواب عن قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1، و {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، معناه سمى بعضه، ودلّ على بعضه. والذي يدل على أن الملائكة [17/ أ] كانوا مخاطبين ومتواضعين على تخاطب أسماء يعرفونها قبل خلق آدم؛ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} 3، الآية، وقوله لما خلقه وأحياه وعلمه: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} 4، فلو لم يكونوا عالمين بالخطاب وبأسماء الأشياء، كيف كانوا يفهمون، ويجيبون، ويقولون؟!
في حروف تتعلق بها أحكام الفقه، ويتنازع في موجباتها المتناظران
فصل 1: في حروف تتعلق بها أحكام الفقه، ويتنازع في موجباتها المتناظران: ["الواو"] : فمنها "الواو"، وله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون في العطف مثل قوله سبحانه: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} وهي توجب الجمع على قول أصحابنا، ولهذا قالوا فيمن قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، وقع عليها تطليقتان، كما لو قال: أنت طالق طلقتين، وهو قول أصحاب أبي حنيفة. واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من قال: إنها توجب الترتيب. والوجه في أنها لا توجب الترتيب: أنها تستعمل فيما لا يقع فيه الترتيب، وهو قولهم: اشترك فلان وفلان، ولا يجوز أن يقولوا: اشترك فلان ثم فلان. ولأن قائلا لو قال: رأيت زيدًا وعَمْرًا، لم يفهم منه أنه رأى زيدًا قبل عمرو3، ولو كان المفهوم منه الترتيب لوجب إذا رآهما معًا أو رأى عمرًا قبل زيد، أن يكون كاذبًا في خبره، ولوجب إذا قال: رأيت
زيدًا وعمرًا معًا، أن يكون مناقضًا في كلامه، كما لو قال: رأيت زيدًا ثم عمرًا، كان مناقضًا. وأيضًا روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلا يقول: ما شاء الله وشئت، فقال: "أمثلان أنتما؟! قل: ما شاء الله ثم شئت"1، فلو كان الواو توجب الترتيب لكان قوله: وشئت، وقوله: ثم شئت- سواء، وقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما، وأمره بأحدهما ونهاه عن الآخر، فعلم أن أحدهما يوجب الجمع والآخر الترتيب. واحتج من قال: إنها للترتيب، بما روي عن عدي بن حاتم2 أنه قال: خطب رجل عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله" 1، وهذا يدل على أن الواو ترتيب؛ لأن قوله: ومن يعصهما جمع من غير شك، ولا يجوز أن يكون المنهي عنه هو المأمور [به] . والجواب: أنه إنما أمره بذلك لئلا يجمع بين ذكر الله تعالى وذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كتابة واحدة؛ لأن ذلك منهي عنه، ولهذا قال تعالى: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} 2، ولم يقل يرضوهما3. واحتج بما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال لعبد بني الحسحاس4، لما أنشده [17/ ب] :
عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا1 لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، وهذا يدل على أن الواو للترتيب. والجواب: أنه لم يقل هذا لأجل الترتيب، وإنما قال ذلك؛ لأن البداية يجب أن تكون بالأهم فالأهم والأشرف، والإسلام أهم وأشرف وأولى. واحتج: بأن من أنفذ رسولين، وكتب بذكرهما كتابًا وقال: أنفذت إليك فلانًا وفلانًا، اعتقد كل عالم باللغة أن المبتدأ بذكره مقدم على الآخر في القدر والمحل. والجواب: أنا لا نسلم هذا، بل نقول: إن المفهوم من هذا الجمع بينهما في الرسالة. الحال الثانية من أحوال الواو: أن يكون في القسم، فيكون بدلا من الباء؛ لأن الأصل في القسم: أَحْلِفُ، أو أقسمُ بالله، ثم حذفوا فقالوا: بالله لقد كان كذا، ثم جعلوا "الواو" بدلا من "الباء"؛ لأن مخرجهما من الشفتين، فقالوا: والله. الحال الثالثة من أحوالها: أن تكون الواو في ابتداء الكلمة مثل قولهم:
ومهمهٍ مغبرَّةٍ أرجاؤه1 وهذه الواو بدل من "رب"، فكأنه قال: رب مهمه، ولا يجوز هذا إلا في الشعر، ولا يجوز في غيره. وقد تكون بمعنى "أو"، قال تعالى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} 2.
الفاء
[الفاء] : وأما "الفاء" فللتعقيب، قال سيبويه1: إذا قال: رأيت زيدًا فعَمْرًا، يجب أن تكون رؤيته لعمرو عقيب رؤيته لزيد، ولأن "الفاء" تدخل في الجزاء والشرط؛ لأن مثل الجزاء أن يكون عقيب الشرط، فلما كان "الفاء" للتعقيب اختص به دون الواو، فقيل: إذا فعل فلان كذا، فافعل كذا، ولا يجوز أن يقال بالواو؛ لأن الواو لا توجب التعقيب2.
ثم
[ثم] : 1 وأما "ثم" فهو للفصل مع الترتيب2، فإذا قال: رأيت فلانًا ثم فلانًا، اقتضى أن يكون الثاني متأخرًا عن الأول في الرؤية. ولهذا يحتج أصحابنا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} 3، أن ذلك يقتضي أن يكون العود: العزم على الوطء.
أو
[أو] : 1 وأما "أو" فله ثلاثة أحوال: إذا كان في الخبر والاستخبار فهو للشك، تقول: أعندك زيد أو عمرو؟ وتقول: عندي زيد أو عمرو، فيكون المخبر والمستخبر شاكين فيه.
وإذا كان في الأمر والطلب1 يكون للتخيير2 كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3. وإذا كان في النهي4 فقد قيل: يكون للجمع كقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} 5. وقيل: يكون للتخيير؛ لأن النهي أمر بالترك، وأينما تركه كان مطيعًا، وهو الصحيح6. وقد تكون للإباحة، تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين.
الباء
[الباء] : 1 وأما "الباء" فهي للإلصاق2 [18/ أ] فإذا قلت: مررت بزيد،
فإن الباء تلصق المرور بزيد. وإذا قلت: كتبت بالقلم، فإن الباء تلصق الكتابة بالقلم1. ولهذا منع أصحابنا الاحتجاج بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} 2 على جواز مسح بعض الرأس، وقالوا: الباء تفيد الإلصاق دون التبعيض؛ لأن الباء تستعمل فيها فيما لا يصلح فيه التبعيض وهو قولهم: استعنت بالله، وتزوجت بامرأة، ولا يجوز أن يقال: "استعنت ببعض الله"؛ لاستحالة ذلك عليه سبحانه، ولا: مررت ببعض امرأة. ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين" 3، ولا يجوز التبعيض في ذلك.
ومن أصحاب الشافعي من قال: إذا كان الفعل يتعدى من غير الباء، فلا يحتاج إليها للإلصاق، فوجب حمله على التبعيض1؛ لأن حمل كل حرف من القرآن على ما يفيد أولى، وقد استوفينا الكلام على هذا في غير هذا الموضع2.
من، وإلى
[من، وإلى] : وأما "من" فهي لابتداء الغاية، و"إلى" لانتهاء الغاية، تقول: سرت من الكوفة إلى البصرة، أي: ابتدأت بالسير من الكوفة وانتهيت إلى البصرة1. وقد تستعمل من للتبعيض كقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 2، وكقولك: اختر من هؤلاء الرجال، واقبض من هذه الدراهم، وكل من هذا الطعام، واشرب من هذا الماء. وإذا حلف لا يأكل من هذا الرغيف، ولا يشرب من هذا الماء، حنث بالبعض.
وتستعمل "إلى" بمعنى "مع" كقوله1: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2 معناه: مع المرافق. وهذا المعنى يحتاج إلى الدليل، ولهذا إذا قال: بعتك كذا على أنك بالخيار إلى الليل، أن الليل لا يدخل في الخيار، خلافًا لأبي حنيفة3، وإحدى الروايتين عن أحمد -رحمه الله- أنه يدخل فيه؛ لأن الظاهر من "إلى" لانتهاء الغاية4.
على
[على] : وأما "على" فإنه للإيجاب، فإذا قال رجل: لفلان عليَّ كذا، حكم
بوجوبه عليه1.
في
[في] : وأما "في" فهو للظرف1، فإذا قال: لفلان عليّ ثوب في منديل أو تمر في جراب، لم يدخل الظرف في الإقرار2.
اللام
[اللام] : و"اللام"1 تكون للتمليك كقولك: دار لزيد2. وتكون للتعليل كقوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ} 3. وتكون للعاقبة والصيرورة كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 4، ومعناه: صار في العاقبة عدوًّا وحزنًا.
وتكون للجهة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ} 1 الآية أحكم2 جهة للمصرف. والنكرة في النفي تقتضي جميع الجنس، وفي الإثبات بعض الجنس، فإذا قال: والله لا آكل طعامًا، كفَّ عن جميع الجنس قليله وكثيره، فأي قدر من الطعام أكل، حنث. وإذا قال: والله لآكلن طعامًا، لم يجب أن [18/ ب] يأكل جميع الجنس. وإذا أكل ما يقع عليه اسم الطعام برَّ في يمينه.
إنما
[إنما] : و"إنما" للحصر1. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" 2 يقتضي أن جميع ما للمرء هو الذي نواه، وأن ما لم ينوه ليس
له. وكذلك قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق" 1، يقتضي أن جنس الولاء للمعتق، ومن لم يعتق فليس له ولاء.
................................................................................
وقال بعض أهل خراسان: "إنما" لإثبات ما اتصل به ونفي ما عداه. ومنهم من قال: لتحقيق المتصل به، وتمحيق المنفصل عنه. ويرجع معنى الجميع إلى ما ذكرته من الحصر.
في قيام بعض حروف الصفات مقام بعض
فصل: في قيام بعض حروف الصفات مقام بعض: قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 1، أي: على جذوع النخل. وقال العبد2: هُمُ صلبوا العبدي3 في جذع نخلة4.
"الباء" مكان "عن" قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} 1، أي اسأل عنه. قال علقمة بن عبدة2: فإنْ تَسْأَلُوني بِالنِّساءِ فإِنَّني ... عليمٌ بأدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ3 "عن" مكان "الباء" قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 4، أي: بالهوى5، والعرب تقول: رميت بالوتر6.
"اللام" مكان "على" قال تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْل} 1 أي: لا تجهروا عليه بالقول. والعرب تقول: سقط فلان لِفِيهِ، أي: على فيه. قال الشاعر: فخرَّ صريعًا لليدين وللفَمِ2 "إلى" مكان "مع" قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم} 3 أي: مع أموالكم. ومثله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} 4. تقول العرب: "الذود إلى الذود إبل" أي: مع الذود. "اللام" مكان "إلى" قال تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 5 أي: إليها. "على" مكان "من" قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} 6، أي: من الناس. ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَحَق
عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} 1 أي: استحق منهم. "من" مكان "الباء" قال تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه} 2، أي: بأمر الله. وقال سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ} 3، أي: بكل أمر. "الباء" مكان "من" تقول العرب: شربت بماء كذا، أي: من ماء كذا. قال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه} 4. معناه: يشرب منها. قال عنترة 5: شَرِبَتْ بِمَاءِ الدُّحرضين فَأَصْبَحَت ... زوراءَ تنفر6 عن حياض الديلم7
والديلم: الأعداء. وقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} 1 أي من2 علم الله. "من" مكان "في" قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْض} 3، أي: في الأرض. "من" مكان "على" قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْم} 4، أي: على القوم. "عن" مكان "من" قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} 5، أي: من عباده. "من" مكان "عن" [19/ أ] تقول: من لفلان، أي: عنه. "على" مكان "عند" قال تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} 6 أي: عندي. "الباء" مكان "اللام" قال تعالى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} 7، أي: إلا للحق.
في بيان أبواب أصول الفقه
فصل: في بيان أبواب أصول الفقه: من ذلك الأمر والنهي؛ لأنه وضع للإيجاب والإلزام، وهو أبلغ منازل الخطاب؛ ولأن الأمر قد يقع خاصًّا، وأصل الكلام الخصوص، والعموم داخل عليه، كما أن أصله التخفيف، والتثقيل داخل عليه، وتقديم ما هو أصل الكلام أولى، ثم يليهما العموم، ثم الخصوص، ثم المجمل، ثم المفسر، ثم الناسخ والمنسوخ، ثم الأخبار، ثم بيان الأفعال، ثم الإجماع، ثم القياس والاجتهاد وما يتعلق بذلك من الاستخراج، ثم بيان صفة المفتي والمستفتي، ثم بيان الحظر والإباحة، فكان الواجب تقديم ما هو أهم فيما يقصد بذكر أصول الفقه، وتأخير ما يعود إلى العقول، مثل إثبات حجج العقول وإثبات أحكامها. والأولى في هذا الباب تقديم الكلام في المعاني؛ لأن أصول الفقه إذا كانت أصول الشرع، والأقوال في الشريعة هي أصول الفقه، والمعاني مفهومة بها، إما باستخراج منها أو تنبيه. والأولى تقديم الأصل مثل الأمور العقلية إذا وقع الكلام فيها، كان تقديم الكلام في أصولها أولى. ولا يجوز أن يقال: لما كان الكلام متى وقع في الدليل وجب تقديم المعاني، كذلك في مسألة الأوامر؛ لأن ما يستفاد بالدليل طريقه النظر والاستدلال، فالواجب أن يعلم أولا، ثم يعبر عنها. فكان الكلام في معنى الدليل الذي هو الأصل أولى من العبارة عنه. كذلك الأصل في المعاني الشرعية، لما كان الأقوال كان تقديمها أولى.
باب الأوامر
باب الأوامر 1: مسألة [صيغة الأمر] : للأمر صيغة مبينة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرًا، إذا تعرَّت عن القرائن. وهي قول القائل لمن دونه: افعل كذا وكذا. خلافًا للمعتزلة في قولهم: الأمر لا يكون أمرًا لصيغته، وإنما يكون أمرًا بإرادة الآمر له2. وخلافًا للأشعرية في قولهم: الأمر لا صيغة له3، وإنما هو معنىً قائم
في النفس لا يفارق الذات، وهذه الأصوات عبارة عنه. وخلافًا لبعض متأخري أصحاب الشافعي في قوله: الفعل يسمى أمرًا في الحقيقة. وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذه الفصول، فقال في رواية حنبل1: "أمر الله -عز وجل- العباد بالطاعة، وكتب عليهم [19/ ب] المعصية؛ لإثبات الحجة عليهم، وكتب الله على آدم أنه يصيب الخطيئة قبل أن يخلقه"، وهذا يدل من قوله على أن الأمر لا يعتبر فيه الإرادة للآمر؛ لأن كتبه المعصية ضد الأمر بالطاعة؛ لأن ما كتبه حتم لا بد من وجوده، فعلم أن ما أمر به من الطاعة لم يكن مريدًا له؛ لأنه كتب ضده. وقال -في رواية يعقوب بن بختان والمروذي وعبد الله: "تكلم ربنا -تبارك وتعالى- بصوت، وهذه الأحاديث كلها جاءت". وذكر حديث
عبد الله "إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء"1، وذكر الحديث. وهذا يدل من قوله على أن الأمر هو الأصوات المسموعة؛ لأنه بَيَّن أن كلام الله تعالى الذي هو الأمر والنهي كان بصوت مسموع. وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم2: "الأمر من النبي سوى الفعل؛ لأن النبي قد يفعل الشيء على جهة القصد، وقد يفعل الشيء هو له خاص، وأمره بالشيء للمسلمين". وهذا يدل من قوله -رضي الله عنه: أن الفعل ليس بأمر؛ لأنه فرق بين فعله وبين قوله الذي هو الأمر، وجعل الأمر مقتضيًا للوجوب، والفعل محتملا للخصوص. والدلالة على أنه يكون أمرًا لصيغته لا لإرادة الآمر: أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده، ولم يرد منه الذبح؛ لأنه لو أراد منه الذبح لم يجز أن يمنعه منه عند المخالف. وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز في آخر "كتاب القدر" قصة إبراهيم، وقال: قد يأمر بما لا يريد أن يكون، أو علم أنه لا يكون، ولا يكون مغلوبًا ولا مقهورًا مع علمه به أنه لا يكون، وإنما يكون مغلوبًا لو لم يعلم أنه لا يكون. فإن قيل: لم يأمره بالذبح، وإنما كان أمره بمقدمات الذبح من الإضجاع وغيره. قيل: هذا خلاف نص القرآن؛ لأن الله تعالى أخبر
عنه بقوله: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} 1، فدل على أنه كان مأمورًا بذبحه؛ ولأن الله تعالى قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم} 2، ولا يصح الفداء بالذبح إلا أن يكون مأمورًا بذبح الابن؛ ولأنه لو كان مأمورًا بمقدمات الذبح، لكان إبراهيم -صلى الله عليه- قد فعل ما أمر به، فلا يكون للفداء معنى؛ ولأنه ليس في المقدمات بلاء مبين، فلما عظَّم الله سبحانه البلوى به، فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِين} 3، وقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} ولا يحتاج في الإضجاع إلى الصبر، دلَّ على أن المأمور به كان الذبح. فإن قيل: نسلم أنه كان مأمورًا بالذبح، وقد فعله إبراهيم -صلى الله عليه- ولكنه كلما قطع منه جزءًا التحم واندمل، فلم يمت بالذبح. قيل: لو كان كذلك لم يصح الفداء بالذبح؛ لأنه إذا فعل المأمور به لم يكن له فداء؛ ولأن هذا لو كان صحيحًا لوجب أن يكون قد فعل، ويكون له ذكر في القرآن؛ لأنه من الإعجاز، مثل إحياء الموتى، ويكون ذكره أهم من ذكر سائر ما ذكر في [120/ أ] القرآن، فدل على أنه لا أصل له. وأيضًا قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 4 فمنها دليلان:
أحدهما: أنه تعالى أخبر أن "كن" بمجردها أمر. والثاني قوله: {إِذَا أَرَدْنَاه} وهذا يقتضي أنه قد يوجد أمر بإرادة وغير إرادة، ولولا ذلك ما كان؛ لقوله: {إِذَا أَرَدْنَاه} معنىً. وعند المعتزلة: ذكره الإرادة لا تأثير له؛ لأنه لا أمر يوجد إلا بإرادة الآمر. فإن قيل: المراد بهذه ما ينشأ خلقه، ويستأنف إحداثه وإيجاده، وليس المراد ما اختلفنا فيه. قيل: هذا عام في الجميع. وأيضًا: قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من حلف، فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك" 1، وهذا يدل على أنه إذا قال: لأقضين دينك غدًا -إن شاء الله- ولم يقضه، أنه لا يحنث في يمينه، وكان مأمورًا بقضاء دينه، فلو كان الله تعالى قد شاء ما أمره به، وجب أن يحنث في يمينه. وأيضًا: فإن استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه أمر، وكل أمر استدعاء، وما ليس باستدعاء من أنواع الكلام فليس بأمر، فدلَّ هذا على أن الأمر إنما كان أمرًا لكونه استدعاء، وهذا كما نقول في الخبر: إنما كان خبرًا؛ لأنه يدخله الصدق والكذب؛ لأنَّا وجدنا كل خبر يدخله الصدق أو الكذب. وكلما يدخله الصدق أو الكذب فهو خبر. وما لا
يدخله الصدق أو الكذب من أنواع الكلام فليس بخبر. كذلك في الأمر يجب إثباته لما ذكرته. واحتج المخالف: بأن لفظة: الأمر، ترد محتملة لوجوه كثيرة: فمنه ما أريد به الوجوب مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} 1. ومنه الإرشاد إلى الأحوط للعباد مثل قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم} 2. ومنه الإباحة: مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْض} 3، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 4. ومنه التقريع والتعجيز، مثل قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} 5. ومنه التهديد، مثل قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} 6. ومنه المسألة مثل قوله عز وجل: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} 7. ومنه الندب، مثل قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} 8، وقوله:
{وَافْعَلُوا الْخَيْر} 1 وقوله: {وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} 2. ومنه الحثُّ على الإكرام، مثل قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُم} 3. ومنه ما ورد على وجه الامتنان مثل قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} 4 الآية. وصورة الجميع واحدة من طريق اللفظ، وإنما تختلف بالإرادة؛ لأن الله تعالى أراد فعل الصلاة والزكاة، ولم يرد فعل الصيد، والانتشار في الأرض. والجواب: أن الحكم إنما اختلف في هذه المواضع لاختلاف الاستدعاء، فإن أحدهما استدعى الفعل، والآخر أباحه، وبعضه تحذير وتهديد، وليس باستدعاء، وبعضه قام الدليل على أنه ندب [20/ ب] . ومحصول هذا الجواب: أنه إنما عدل عن الصيغة لقرينة، ومسألة الخلاف في الصيغة إذا تجردت عن القرائن. وجواب آخر وهو: أن هذا يبطل بأسماء الحقائق، كالأسد والحمار، حقيقة في البهيمة، وإن كان قد يعدل بها إلى الرجل البليد، والشجاع بقرينة، كذلك ههنا. واحتج بأن الأمر لا يخلو من أن يكون أمرًا؛ لأن الآمر أراد إيجاد اللفظ وإحداثه؛ أو لأنه أراد أن يكون خطابًا لمن دونه، أو لأنه أراد فعل
المأمور به منه، ولا يجوز أن يكون القسمين الأولين؛ لأن ذلك موجود فيما ليس بأمر، فدل على صحة القسم الثالث. والجواب: أن ههنا قسمًا آخر وهو كونه استدعاء. ومحصول الجواب: أنه أمر لإيجاد اللفظ، والموضع الذي عدل عنه لقرينة. واحتج: بأن النهي إنما كان نهيًا لكراهة الفعل، فوجب أن يكون الأمر أمرًا لإرادة الفعل؛ لأن النهي ضد الأمر. والجواب: أن حدَّ النهي كراهية أن يكون الفعل المنهي عنه حسنًا، ولا نقول: إنه كان نهيًا لكراهية الفعل، فلم يكن بينهما فرق من هذا الوجه. وقد قيل: إن حدَّ النهي: المنع عما ينهى عنه من طريق القول، لا للكراهة التي ذكرها المخالف. واحتج: بأن أهل اللغة أجمعوا على أنه لا فرق بين قول القائل: افعل كذا، وبين أن يقول: أريد أن تفعل كذا، ولهذا نقول: إنه لا فرق بين أن يقول لعبده: اسقني ماءً، وبين أن يقول: أريد أن تسقيني ماءً، وإذا كان قوله: أريد أن تسقيني ماءً، إخبارًا عن إرادته، كذلك قوله: افعل، وجب أن يكون إخبارًا عن إرادته الفعل. والجواب: أن قوله: أريد أن تسقيني ماء، إخبارٌ عن إرادته، ولهذا يدخله الصدق أو الكذب، وليس كذلك قوله: افعل، فإنه ليس بخبر، وإنما هو استدعاء واقتضاء، ولهذا لا يحسن أن يقول فيه، صدقت أو كذبت. واحتج بأنه لا يخلو إما أن يجعلوا اللفظ أمرًا لصيغته، أو لعدم القرينة، وباطل أن يجعل أمرًا لصيغته؛ لأن الصيغة موجودة مع القرينة، التي هي التهديد والإباحة، وليس بأمر. وباطل أن يجعل أمرًا لعدم القرينة؛ لأن
عدم القرينة قرينة، فقد صح أن الأمر إنما يصح أمرًا لقرينة. والجواب: أنَّا نجعله أمرًا لعدم القرينة، وليس عدم القرينة قرينة، كما أن عدم الشيء ليس بشيء، ومثال هذا: أسماء الحقائق: كالحمار والسبع، يستعمل فيما وضعت له حقيقة بمجردها، وهو في البهائم، وقد يستعمل في غيرها بقرينة، وهو في الرجل البليد، والشجاع، ولا يقال: إنها إذا استعملت فيما وضعت له عند عدم القرينة، إنها مستعملة فيه بقرينة، كذلك ههنا.
الأمر هو الأصوات المسموعة
الأمر هو الأصوات المسموعة مدخل ... فصل: والدلالة على أن [21/ أ] الأمر هو الأصوات المسموعة: هو أن هذا كلام متعلق باللغة، فوجب أن يرجع فيه إلى أهلها، وقد وجدناهم حدُّوا الأمر بقول القائل: افعل، إذا حصل على صفة، فلم يجز العدول عما قالوه في لغتهم. ولا يجوز أن يقال: إن ما ذكرتموه في حدِّ الأمر لم ينقل عن العرب نقل تواتر؛ لأنه أمرٌ أَجْمَعَ عليه أهل العربية، وهم قوم يقع بخبرهم العلم؛ ولأن ما طريقه اللغة لو اعتبر فيه النقل المتواتر لم يمكن إثبات غريب القرآن ولا شواذ اللغة. قيل: علمنا أن السلف كانوا يستشهدون بالبيت من الشعر على ما يحكونه من اللغة دلالة على بطلان هذا القول. ولأن ما تعم به البلوى من أمر الشريعة لا يعتبر فيه النقل المتواتر، فكيف يصح اعتبار ذلك فيما طريقه اللغة؟! ولأن الإنسان يسمى آمرًا عند وجود القول منه، ومتى انتفى عنه القول
لم يسمِّ بهذا الاسم فدل ذلك على اعتبار الأقوال. واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِم} 1 وقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} 2، والعرب تقول: في نفسي كلام أقوله لك3. والجواب: أن هذا مجاز واتساع، والحقيقة ما ذكرنا.
الفعل لا يسمى أمرا
فصل: [الفعل لا يسمى أمرًا] : والدلالة على أن الفعل لا يسمى أمرًا: أن أهل اللغة قد ذكروا في حدِّه قول القائل: افعل إذا كان على صفة، وهو من الأعلى إلى الأدنى، فلم يجز نقله عمَّا حكموا عليه [في] الوضع، كما لا يجوز في سائر اللغات. ولأنه لو كان حقيقة لم يصح نفيه؛ ولأنه لا يشتق لفاعله أمر، فلو كان حقيقة فيه لصار مثل الأقوال. واحتج المخالف بأنهم يقولون: أمر فلان سديد، ويريدون به أفعاله وأقواله، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} 4، ومنه قوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 5، وقول الشاعر: فقلتُ لها أمْرِي إلى اللهِ كلُّه ... وإنِّي إليهِ في الإيَابِ لرَاغِبُ6
والجواب: أن هذا كله على طريق المجاز، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1، وكما قال الشاعر: وَقَالَتْ لَهُ العَينَانِ سَمْعًا وطَاعَةً2 والعين لا تقول. يبين صحة هذا، وأنه مجاز أنه يصح نفيه، فنقول: فلان لم يأمر اليوم بأمر مع وقوع الفعل منه، وأسماء الحقائق لا تتنافى. واحتج بأن الأمر مأخوذ من الأمارة، وهي العلامة التي يقتدى بها، والفعل قد يلزم الاقتداء به، فسمي لذلك أمرًا. والجواب: أن هذه الصفة تحصل في الكتاب والإشارة، وإن لم يطلق اسم الأمر عليهما، وليس يمتنع أن يوجد ذلك من العلامة، ويخص بها الأقوال تعريفًا لها وتنبيهًا عليها.
مسألة الأمر المطلق يقتضي الوجوب
مسألة: [الأمر المطلق يقتضي الوجوب] : إذا ورد لفظ الأمر متعريًا عن القرائن اقتضى وجوب المأمور به. وهذا ظاهر كلام أحمد [21/ ب]-رحمه الله- في مواضع: فقال في رواية1 أبي الحارث2: إذا ثبت الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجب العمل به.
وقال أيضًا -رحمه الله- في رواية1 مهنا2 -وقد ذكر له قول مالك3 في الكلب يلغ في الإناء لا بأس به- فقال: "ما أقبح هذا من قولة! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يغسل سؤر الكلب سبع مرات" 4.
وكذلك نقل1 صالح2 عنه فيمن صلَّى خلف الصف وحده: يعيد الصلاة، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا صلَّى خلف الصف أن يعيد الصلاة3. وهذا كثير في كلامه.
وقال -رضي الله عنه- في كتاب طاعة الرسول1: "قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} 2 والظاهر3 يدل على أنه إذا ابتاع شيئًا يشهد4. فلما تأول قوم من العلماء {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} 5،
استقر حكم الآية على ذلك"1. وقد علق القول في رواية2 الميموني3 وقد سأله عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ ما استطعتُم، وما نَهَيتُكُم عنه فانتَهُوا" 4، فقال: الأمر أسهل من النهي. وكذلك نقل5 علي بن سعيد6 فقال: ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو
عندي أسهل مما نهى عنه. فقد سهَّل في الأمر وغلَّظ في النهي. ولعله قصد بهذا أن الأمر أسهل من النهي على معنى أن جماعة قالوا: إطلاق الأمر يقتضي الندب، وإطلاق النهي يقتضي الحظر، وإطلاق الأمر لا يقتضي التَّكرار، والنهي يقتضي، وهذا قول جمهور الفقهاء. وقالت المعتزلة: هو محمول على الندب بإطلاق حتى يدل الدليل على الوجوب. وقالت الأشعرية: هو على الوقف على ما يبينه الدليل. وذهب قوم إلى أنه على الإباحة حتى يدل الدليل. فالدلالة على ما قلنا قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 1. فوجه الدلالة: أن الله تعالى لما أَمَرَ الملائكة بالسجود لآدم تبادروا إلى فعله، فعلم أنهم عقلوا من إطلاقه وجوب امتثال المأمور به، ثم لما امتنع إبليس من السجود وبَّخَهُ وعاقبه وأهبطه من الجنة، فلولا أن ذلك واجب عليه لما استحق العقوبة والتوبيخ بتركه. فإن قيل: يجوز أن يكون ذلك الأمر معه قرينة دلت على المراد به، فلهذا عاقبه بالمخالفة. قيل: لم يذكر في الآية إلا أمرًا مطلقًا، وعلَّق التوبيخ والعقوبة بتركه، فمن ادَّعى أن هناك قرينة احتاج إلى دليل، يبين صحة هذا أن قوله:
{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك} مثل قوله: ما يمنعك أن لا تسجد إذ قلت لك: اسجد، فإن الذم يتعلق بمجرد مخالفة القول، كذلك ههنا. فإذا قيل: إنما عاقبه؛ لأنه استكبر وكان من الكافرين، قيل: عاقبه على الأمرين جميعًا، على مخالفة الأمر، وعلى الاستكبار والكفر. فإن قيل: لا يجوز [22/ أ] أن يكون الأمر لإبليس بالسجود؛ لأن ذلك أمر للملائكة وإبليس ليس منهم، وإنما هو من الجن؛ لقوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه} 1. قيل: إبليس من الملائكة. وقد ذكر أبو بكر هذا فيما علَّقه عنه أبو إسحاق2. وهو قول ابن عباس فيما ذكره أبو بكر في كتاب التفسير فقال: قال ابن حنبل: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة التي منهم قبيله، وكان خازنًا على الجِنَان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} إنما سمي الجنان: إنه كان خازنًا عليها، كما يقال للرجل عَدَني، ومَكِّي، وكُوفِي، وبَصْرِي.
والذي يدل على أنه منهم استثناؤه من جملتهم، وحقيقة الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى. ولأنه وبَّخَه وعاقبه على ترك السجود، والأمر بالسجود كان للملائكة، فلولا أنه منهم لم يحصل مخالفة بتركه. ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ} 1، فنفي التخيير في الأمر وجعله ضالا مع التخيير، ومن قال: الأمر على الندب أو الإباحة خَيَّرَه. فإن قيل: إنما قال هذا فيما قضاه، وما قضاه واجب، وخلافنا فيما أمر به. قيل: ما قضاه لا صيغة له تدل على أنه واجب ولا ندب وهو دون مرتبة الأمر، ومع هذا فلم يجعل له الخيرة، فأولى أن لا يجعل له ذلك في الأمر، وعلى أن تعلقنا بقوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} فعاد الكلام إلى قوله: {أَمْرًا} . ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} 2، فتوعد على مخالفة الأمر بالفتنة والعذاب، فلولا أن إطلاقه يقتضي الوجوب لم يتوعد عليه. وحكي عن الحسن البصري3، أنه لم يكن من الملائكة، يعني إبليس.
وهو ظاهر كلام أبي إسحاق من أصحابنا؛ لأنه قال: سمعت الشيخ يقول: إبليس من الملائكة. فقلت: أجمعنا على أن الملائكة لا تتناكح، ولا تكون لها ذرية، وإبليس له ذرية قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} 1 فدلَّ على أنه من غيرهم. وهذا لا يدل على أنه لم يكن منهم حين الخطاب؛ لأنه لا يمتنع أن يكون منهم حين الخطاب؛ لأنه لا يمتنع أن تكون حاله تغيرت بعد المخالفة، كما تغيرت حال الملكين الذين نزلا بأرض بابل لما خالفا، فأكلا الطعام وشربا الشراب وحصلت فيهم شهوة النساء، وإن لم تكن هذه صفة الملائكة، كذلك إبليس. ويدل عليه قوله تعالى: {أَفَعَصَيتَ أَمْرِي} 2، فدلَّ على أن مخالفة الأمر معصية، ولم يقل: أعصيت ما دلَّ على وجوب الأمر؟ بل علَّق المعصية [22/ ب] بمخالفة الأمر، وليس له صيغة غير لفظة: افعل، ألا ترى أن هذه اللفظة هي التي ترك امتثالها إبليس، فَذُمَّ، وهو قوله للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} فعلم أن هذه صيغة الأمر. ويدلُّ عليه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 3، ومعلوم أن السواك مستحب، فدل على أنه لو أمر به لوجب.
ويدل عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لبريرة: "لو راجعتيه فإنه أبو ولدك، فقالت: بأمرك يا رسول الله؟ فقال: إنما أنا شافع" 1 فموضع الدليل:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه شافع، وشفاعته تدل على الندب ومن قال: الأمر على الندب، يقول: هو بمنزلة الشفاعة، فلو كان الأمر والشفاعة سواء ما تبرأ من الأمر. فإن قيل: فلا دلالة فيه؛ لأنه ما تضمن الأمر، وإنما سألها، وشفع إليها. قيل: احتجاجنا من قولها: بأمرك، فقال: "إنما أنا شافع"، فتبرأ عن الأمر إلى الشفاعة. وفي هذا دلالة على من قال بالوقف أيضًا؛ لأن قولها: "بأمرك" معناه: فأمتثله. ويدل عليه أيضًا ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم: أنه مر برجل يصلي فدعاه، فلم يُجِبْهُ، فلما فرغ من الصلاة قال: "ما منعك أن تجيبني؟ " قال: كنت في الصلاة، فقال عليه السلام1: "أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} 2 " وهذا ظاهر، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاتبه على مخالفة أمر الله تعالى المطلق، وهو قوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وإن كان في الإجابة إليه ترك فريضة عليه، هو فيها.
وأيضا فهو إجماع الصحابة، وذلك أنهم كانوا يرجعون إلى مجرد الأوامر في الفعل والامتناع من غير توقف. مثل احتجاج أبي بكر على عمر -رضي الله عنهما- بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1. ورجوع ابن عمر2 إلى حديث رافع3 في المساقاة 4. وغير ذلك من القصص المشهورة.
وما كانوا عليه عند ورود لفظ الأمر، والذي يعلم أنه كان متقررًا فيما بينهم أن إطلاق ذلك يقتضي الوجوب والامتثال. فإن قيل: يحتمل أن يكون رجوعها إلى غير ظاهر الأمر، وإنما رجعوا إلى قرينة اقترن بها دلَّت على الوجوب. قيل: الذي ظهر عنهم الاحتجاج بنفس الألفاظ، فلا يجوز حمله على القرائن، وليس هذا إلا مثل من سمع خبرًا فصدق المخبر، فالظاهر تعلق تصديقه به دون إخبار مخبر قبله. وجواب آخر وهو: أن هذا الاعتبار لو صح لبطل حكم اللغة، ألا ترى أن أسامي الأشخاص والأعيان تفيد مسمياتها بأنفسها، ولا طريق إلى إثبات هذا المعنى إلا بالطريق الذي ذكرناه، فلو أن قائلا قال: إن هذه الأسامي إنما يستدل بها على مسمياتها بدلالة غير الظاهر، وكذلك سائر ألفاظ [23/ أ] اللغة، مثل: أوجبت وفرضت وألزمت، وأسماء الأشخاص والأعيان، لم يمكن أن تنفصل عنه بغير ما ذكرنا في لفظ الأمر. وجواب آخر وهو: أن دلالة الحال ليس بعلة ملازمة للأمر حتى لا تخلو منها، وإنما تقارن بعض الأوامر، فلو كان اللفظ لا يفيده لحصل من جماعة الصحابة سؤال عن مقتضى الأمر في حال من الأحوال في مدة حياته عليه السلام، لامتناع أن لا يكون حصل له أمر في هذه المدة غير مقترن1 بدلالة. وجواب آخر وهو: أنه لو كان المفيد لوجوب الفعل دلالة الحال،
لكان نقلها أولى من لفظ الأمر، ولصار تركها تضييعًا لنقل الشريعة، وغير جائز حمل أمر الصحابة على هذا المعنى. فإن قيل: ما ذكرتموه ليس بلفظ عنهم يقع الاحتجاج به. قيل: استعمالهم لذلك دلالة على إثبات لغة العرب، لأنها الأصل في اللغة، يجري مجرى استعمالها للفظ الأمر كاستعمالها لسائر ألفاظ اللغة. فإن قيل: ما رويتموه عنهم لا يقع به العلم فلم يجز إثبات مثل هذا الحكم الذي هو أصل به. قيل: هذا القائل يجوز إثبات الأسامي الشرعية من جهة الآحاد، فكان إثبات قول يعرب وقحطان أولى بالإثبات. فإن قيل: فالصحابة قد كانت تعتقد الإباحة في بعض الأوامر، ولم يدل هذا على أنه ظاهر اللفظ. قيل: من أثبت غير الوجوب فإنما أثبته بدلالة. فإن قيل: فقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم: دعى المصلي وهو في صلاته، فلو كان قد اعتقد وجوب الأوامر بقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} لم يترك ذلك. قيل: لا يمتنع أن يكون قد اعتقد وجوب ذلك، وقدم عليه قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 1 على إقامتها والمضي فيها، دون تركها والاشتغال بغيرها. وجواب آخر وهو: أن الأمر في الآية متعلق بشرط، فجائز أن يكون السامع لم يعلم بوجوده، فلذلك أَخَّرَ الجواب.
فإن قيل يجوز أن يكون اعتقدوا وجوب أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1. قيل: قد كان تقدمت على هذه الآية أوامر كثيرة، لم يسأل عن مقتضاها، فلو كان اعتقاد الوجوب لأجل هذه الآية لكان السؤال يقع عما تقدم عليها. وأيضًا فإن القائل إذا قال لعبده: افعل كذا وكذا اليوم، فلم يفعل، حسن أن يلومه على ذلك ويعاقبه عليه، فلولا أنه كان قد لزمه واستحق عليه فعله، لما حَسُنَ عقوبته على تركه. فإن قيل: من لم يسلم. قيل: هذا رفع حكم المشاهدات، ورددناه في ذلك إلى العادات؛ لأن أحدًا لا يلوم سيدًا ضرب عبده [23/ ب] على مخالفة أمره. فإن قيل: هناك قرينة اقترنت بالأمر دلَّت على وجوبه. قيل: تصور المسألة فيمن أمر عبده بأمر من وراء حجاب. وهو لا يشاهده، ولا هناك ما ينبئ عنه لفظ الأمر، فلا يجوز أن يُدَّعَى تعلُّقُ الوجوب بعده. وأيضًا: فإن قول القائل: افعل، موضوع في اللغة للتَّفَعُّل واستدعاء الفعل، وليس يحصل ذلك إلا بحمله على الوجوب. فأما من حمله على الوقف فإنه لا يفيد شيئًا. وإذا حمل على الندب جُوِّز تركه، وهذا ترك مقتضى ما وضع له. فإن قيل: لا نسلم هذا.
قيل: المرجع في ذلك إلى مقتضى اللغة. وأيضًا: فإن النهي يدل على وجوب الترك، كذلك الأمر يجب أن يدل على وجوب الفعل. وهذا الدليل يختص من قال بالندب. وأما من قال بالوقف فإنه يقف في النهي كما يقف في الأمر. فإن قيل: لفظ النهي يقتضي قبح فعل المنهي عنه، فالقبيح واجب اجتنابه، والأمر يقتضي حسن ما أمر به، وحسنه لا يقتضي وجوب إتيانه، إذ ليس كل حسن يجب إتيانه. قيل: لا فرق بينهما، وذلك أن من النهي ما لا يقتضي قبح المنهي عنه، ولا يجب اجتنابه. مثل قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُم} 1، وقوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ} 2، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القران بين التمرتين3، وعن الزجر في الطرقات4، فهو كالمأمور به، منه ما لا يجب فعله، ولا فرق بينهما في مطلق اللفظ.
فإن قيل: هذا إثبات لغة بقياس. قيل: إنما استدللنا بما قلنا على موضوع الاسم، وهذا المعنى لا يتوصل به إلا بالاستدلال. وأيضًا: فإن لفظ التخيير يستعمل في الأمر المطلق كما يستعمل في المقيد فيقول: افعل إن شئت، وإن شئت فاترك، كما يقول: أوجبت عليك أو فرضت عليك إن شئت، فلو كان إطلاقه لا يفيد الوجوب واللزوم لم يؤثر فيه التخيير. يبين صحة هذا أن قول القائل: واجب، يحتمل وجوب الإرشاد، مثل قوله عليه السلام: "غسل يوم الجمعة واجب" 1، وقوله: "السواك
واجب"1. وإن شئت قلت: لو كان قوله: "افعل" يقتضي التخيير، بطل موضوع التخيير، فلما كان لفظة: التخيير، معقولة، وهو قوله: افعل إن شئت، لم يَجُزْ أن تحمل لفظة التجريد على ذلك. وأيضًا: فإن أهل اللغة قسموا الكلام أربعة أقسام: أمر ونهي، وخبر واستخبار. ومن قال بالوقف لا يفرق بين الأمر والنهي؛ لأن كل واحد منهما لا يدل على شيء، فلا يدل الأمر على إيجاد فعل، ولا النهي على ترك فعل. فإن قيل: ما ذكرتموه من اللغة لا تثبت من جهة الآحاد. قيل: علم الضرورة قد وقع باستعمال لفظ: افعل، في الأوامر من العرف، ولأنَّا قد بيَّنَّا أنه إذا جاز إثبات الأسامي [24/ أ] الشرعية من جهة الآحاد فإثبات كلام العرب أولى. وأيضًا: كل لفظ أفاد معنىً في اللغة عند انضمام التأكيد إليه، فإنه يفيد ذلك مع عدمه، مثل قولهم نفسه، فلما أفاد قوله صم: فقد أوجبت عليك وجب أن يفيد إطلاقه ما أفاد التأكيد. واحتج من قال بالوقف:
بأن هذه الصيغة ترد مشتركة بين الوجوب، نحو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، وبَيْنَ النَّدب، نحو قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} 2، وبين التهديد: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 3، فلم يكن حملها على الوجوب بأولى من حملها على الندب، فوجب التوقف فيها، كقوله: لون، لما لم يدل على شيء، وقف حتى يدل على المراد. والجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الصيغة التي يختلف فيها لا ترد قط عندنا إلا وهي على الوجوب، وإنما يعدل عنها إلى الندب والتهديد بدليل أو بقرينة. الثاني: أن هذا يبطل بأسماء الحقائق، وهو الأسد والحمار، فإنه حقيقة في البهيمة، ويراد به الرجل بقرينة، ومع هذا لم يمنع إطلاق4 الحقيقة في البهيمة. وكذلك: العَشَرَة، حقيقة في العَشَرَةِ، وتستعمل في الخَمْسَة بقرينة الاستثناء، وهو قوله: عشرة إلا خمسة. الثالث: يبطل بقوله: فرضت وأوجبت وألزمت، فإن هذا يَرِدُ، والمراد به الوجوب، ويَرِدُ والمراد به النَّدب كقوله: "غُسْل الجمعة واجب على كل محتلم" 5، ومع هذا فإن إطلاقه يُحْمَلُ على الوجوب، وكذلك: فرضت، تحتمل الوجوب، وتحتمل التقدير، وإطلاقها يُحْمَلُ على الوجوب. وكذلك ألفاظ الوعيد تحمل على الوجوب، وإن كانت تستعمل في
غيره نحو قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} 1، فتوعدهم على منع الماعون، وهو إعارة قماش البيت كالقر والدّلو ونحو ذلك، وكل هذا مندوب. وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من كان له إبل أو بقر فلم يؤدِّ حقها، بُطِحَ يَومَ القِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِها، كلما نفذت أخراها عادت أولاها" قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: "إعارة دَلْوها وإطْراقُ فَحْلِها ومِنْحَة لبنها يوم وردها" 2 فتوعد على هذا وهو مندوب، ومع هذا إطلاقه يقتضي الوجوب. واحتج: بأن استعمال هذا اللفظ في النَّدب أكثر منه في الوجوب، فلا يجوز أن يكون الأقل حقيقة والأكثر مجازًا. والجواب: أن هذا إن كان صحيحًا فيجب أن يقولوا: إنها حقيقة في
الندب وموضوعة له، وهم لا يقولون بذلك. وجواب آخر وهو: أنه قد يكون اللفظ موضوعًا لشيء حقيقة، ثم يستعمل في غيره مجازًا، ويغلب المجاز على الحقيقة "كالغائط": هو اسم للموضع الواسع من الأرض، ومجاز في: العَذِرَةِ، وهو [أكثر استعمالا] 1، وكذلك: الوَطْءُ، حقيقة في الدَّوْسِ بالرِّجل، ومجاز في [24/ ب] الجماع، وهو أكثر استعمالا. واحتج: بأن اللَّفظة الواحدة لا تقتضي شيئين مختلفين، وإذا حملتم الأمر على الوجوب اقتضى وجوب فعله، والعقوبة على تركه. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه باطل بقوله: أوجبت كذا، فإنه يثاب على فعله ويعاقب على تركه. وجواب آخر وهو: أن الكلمة ما دلَّت على أمرين؛ لأن موجبها يدل على أنه يثاب على فعلها، ومخالفة موجبها يدل على العقاب، فلم يكن الثواب والعقاب مستفادًا بمعنىً واحد. واحتج: بأنها لو كانت موضوعة للوجوب حقيقة لكان إذا استعملت في النَّدب أن يكون مجازًا، كالحمار، لما كان حقيقة في البهيمة لم يكن حقيقة في الرجل البليد، فلما قلتم: إنها حقيقة في الوجوب، حقيقة في النَّدب بطل أن يكون على الوجوب. والجواب: أنه إنما لم يكن مجازًا في النَّدب، وكان حقيقة فيه أيضًا؛ لأن المجاز هو: أن يُحْمَلَ اللفظ على غير مقتضاه، كالرجل البليد يسمَّى حمارًا، فأما إذا حُمِلَ على بعض مقتضاه فلا يكون، كحمل العموم على الخصوص
هو حقيقة في الجمع فيما دخله التخصيص وفيما لم يدخله. ووجدنا أن المندوب بعض موجبات الواجب؛ لأنه مندوب إلى فعله كالواجب فهو كبعض موجبات العموم. واحتج: بأنه لو كان يقتضي الوجوب لما اختلف باختلاف المخاطبين، ولما كانت هذه اللفظة توجد في العبد لسيده، ولا يكون أمرًا، كذلك وجودها من السيد لعبده. والجواب: أن ذلك لم يختلف باختلاف المخاطبين، وإنما اختلف الحكم لقرينة، وهو: أنهم سموا ذلك من السيد لعبده أمرًا، ولم يسموا ذلك من العبد لسيده أمرًا. واحتج: بأنها لو كانت موضوعة للوجوب، لما حسن فيها الاستفهام، فتقول: أمرتني به واجبًا [أو] ندبًا؟ والجواب: لا نسلم أنه يحسن الاستفهام إذا تعرى عن قرينة. وعلى أن هذا باطل بأوجبت وفرضت، فإنه يحسن أن يقول: أوجبته إلزامًا أو إجبارًا؟ وكذلك أسماء الحقائق، إذا قال: رأيت حمارًا أو سبعًا. وكأن المعنى فيه أنه يصح استعماله في غير الواجب بدليل أو قرينة، فأراد المخاطب أن يزيل بالاستفهام كل الاحتمال1. واحتج من قال: إطلاق الأمر يقتضي النَّدب: بأن الأمر يدل على حسن المأمور به، وعلى أنه مراد الآمر، وحسن الشيء لا يدل على وجوبه، كالمباحات فإنها حسنة وهي غير واجبة، وكذلك النوافل مرادة له، ولا يدل ذلك على الوجوب، فصار
الوجوب صفة زائدة على حسن الشيء، وعلى كونه مرادًا، فلا يجوز إثباته بنفس الأمر. والجواب: أن كونه حسنًا ومرادًا يدل على الوجوب، ما لم [25/ أ] يدل دليل التخيير، وفي التخيير والمباحات قد دلَّ الدليل، فلهذا لم يقتضِ الوجوب. وجواب آخر وهو: أنا لا نسلم أن الأمر يدل على حسن المأمور به. وإنما يدل على طلب الفعل واستدعائه من الوجه الذي بَيَّنَّا، وذلك يقتضي الوجوب1، وهذا هو الجواب المعوَّل عليه. واحتج: بأن حَمْلَهُ على النَّدب أولى؛ لأنه أقل ما يقتضيه الأمر. والجواب: أنه يبطل بلفظ العموم، فإنه لا يجب حمله على الخصوص وإن كان أقل ما يقتضيه. وجواب آخر وهو: أن حمله على الوجوب أولى من وجهين: أحدهما: أنه يتضمن الندب. الثاني: أنه أسلم من الغرر والخطر. واحتج بأن حمله على الوجوب يوجب العقوبة بنفس الأمر، ونفس الأمر لم يتضمن العقوبة. والجواب: أنه يبطل بالنهي، فإن النهي يتضمن الكفَّ عن الشيء، وقد أوجبتم العقوبة، وكذلك قوله: أوجبت وفرضت يتضمن الأمر والعقوبة جميعًا. وجواب آخر وهو: أنَّا لم نعاقبه بالأمر؛ لأن موجبه الإيجاب. وإنما عاقبناه بالتَّرك، والترك لم يتناوله الأمر.
واحتج: بأن من يقول: هو على الوجوب، يقول: هو نهي عن ضده، وليس في الأمر نهي عن ضده. والجواب: أنه إذا كان الأمر مضيقًا كان نهيًا عن ضده، ولكن من حيث المعنى لا من حيث النطق، وعلى أن هذا موجود في قوله: فرضت وأوجبت. واحتج: بأن هذه اللفظة تَرِدُ، والمراد بها الوجوب بقرينة، فإذا كانت على الوجوب مع القرينة، فإذا وردت عَرِيَّةً عن القرينة وجب أن لا يكون على الوجوب. والجواب: أنا لم نعلم بأنها على الوجوب بالقرينة، ولكن إذا كان معها قرينة تدل على الوجوب كانت تأكيدًا. على أنه باطل بالنهي، فإنه لو ورد مع قرينة الوعيد، كان على الوجوب، ومع هذا إذا تجرد عنها كان على الوجوب. وباطل بقوله: أوجبت وألزمت وفرضت، فإنها على الوجوب مع القرينة، وإذا تجردت كانت على الوجوب. واحتج: بأنه لو كان على الوجوب، كان حمله على النَّدب نسخًا له، وإذا أفضى إلى أن يكون حمله على الندب نسخًا، بَطَلَ أن يكون مطلقه على الوجوب. والجواب: أن النسخ هو الرفع، وحمله على الندب رفع لبعض ما تناوله اللفظ، وهو الإيجاب والاحتكام، دون الندب والاستحباب، والوجوب قد تضمن المندوب، فرفع الوجوب رفع لبعض ما تناوله، فلا يوجب نسخه. والعموم إذا دخله التخصيص لا يوجب ذلك نسخه؛ لأنه رفع بعض موجباته، كذلك ههنا.
مسألة إذا لم يرد به الإيجاب
مسألة إذا لم يرد به الإيجاب مدخل ... مسألة: 1 في الأمر إذا لم يَرِد به الإيجاب [25/ ب] ، وإنما أريد به الندب: فهو حقيقة في الندب، كما هو حقيقة في الإيجاب، نص عليه أحمد -رحمه الله- في رواية إبراهيم2، فقال: "آمين" أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم، "فإذا أمن القارئ فأمنوا" 3، فهو أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم.
وكذلك نقل الميموني عنه: "إذا زنت الأَمَةُ الرَّابِعَةَ، كان عليه أن يبيعها1، وإلا كان تاركًا للأمر"2. وكذلك نقل حنبل عنه: "يقاد المذبوح قودًا رفيقًا، وتوارى السكين ولا تظهر [إلا] عند الذبح، أمر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم3".
وقال أصحاب أبي حنيفة: الكرخي1 والرازي2: لا يكون أمرًا في الحقيقة وحقيقة الأمر ما أريد به الوجوب3. واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم [من] قال مثل قول أصحاب أبي حنيفة.
دليلنا
دليلنا: أن المندوب طاعة، فوجب أن يكون مأمورًا به كالواجب.
يبين صحة هذا: أن الواجب لم يكن مأمورًا به لجنسه ونفسه؛ لأن هذا المعنى موجود في غيره من المباحات، ولم يكن مأمورًا به لكونه مرادًا للمطاع؛ لأنه قد يريد المباح وما يقع من المحظورات، وليس ذلك مأمورًا به، ولم يكن مأمورًا به لحصول الثواب؛ لأن المندوب إليه من فعل النوافل مثاب عليه أيضًا. ولأنه لا يجوز أن يكون ذلك أمرًا لهذه العلة؛ لأنه قد ثبت أنه لو أمر بطاعاته من الواجبات ولم يضمن عليها ثوابًا- وَجَبَ أن يكون طاعة؛ لأن الثواب تفضل منه، وترغيب في طاعته، فلم يبق إلا أنه طاعة، لكونه مأمورًا به. فإن قيل: إنما كان طاعة لكونه مطلوبًا مرغبًا فيه، لا لكونه مأمورًا به، والطلب والسؤال والترغيب مخالف للأمر، وهذا كما تقول: إن قول العبد لربه: اغفر لي وتجاوز عني، سؤال وليس بأمر. قيل: لو كان طاعة لما ذكرته، لوجب أن يكون الله تعالى مطيعًا لعبده إذا فعل ما سأله ورغب إليه. فإن قيل: إنما لم يكن مطيعًا لعبده؛ لأن الطاعة تعتبر فيها الرتبة، كما تعتبر في الأمر، فإذا سأل من1 دونه، يقال: أطاعه، ولا يقال لمن فوقه، كما يقول في الأمر. قيل: فالرتبة ههنا موجودة، وهو استدعاء الفعل من الأعلى إلى الأدنى فيجب أن يكون أمرًا. وأيضًا: فإن الطاعة والمعصية مقرونتان2 بالأمر، قال تعالى:
{أَفَعَصَيتَ أَمْرِي} 1، وقال: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} 2 وقال الشاعر وهو الحباب بن المنذر3 ليزيد بن المهلب4. أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني ... فأصبحت مسلوبَ الإمارةِ نادما 5
وقال آخر1: ولو كنتُ ذا أمرٍ مُطاعٍ لما بدا ... تَوَانٍ2 من المأمور في حال أمرك3 ويقولون: فلان مطاع الأمر، ومعصيّ الأمر، وأمر فأطيع، وأمر فعصي، فلما ثبت أن المندوب [26/ أ] طاعة، علم أنه مأمور به. وأيضًا: فإن الطاعات لما انقسمت إلى واجب وندب، وكذلك النهي لما انقسم إلى حظر وتنزيه، كذلك4 الأمر. واحتج المخالف بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لولا أنْ أَشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهُم بالسِّواكِ عندَ كُلِّ صَلاةٍ" والسواك مستحب مندوب إليه، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يأمر به. وقال لبريرة: "لو راجعتيه فإنه أبو ولدك" فقالت: أبأمرك يا رسول الله؟ قال: "لا، إنما أنا شافع" وشفاعته تقتضي طاعته ندبًا واستحبابًا.
والجواب: أن قوله: "لولا أن أشُقَّ على أمتي" لأمرت أمر إيجاب. وكذلك قوله لبريرة لم آمر أمر إيجاب بدليل ما ذكرنا، يتبين صحة هذا، وأنه أراد به أمر إيجاب؛ أنه امتنع منه لأجل المشقة، والمشقة إنما تلحق فيما يلزم من فعله. وكذلك قول بريرة: أبأمرك، تعني الأمر الواجب حتى فعله، وإن كانت كارهة؛ لأنها كانت مبغضة له. واحتج بأن المسلمين أجمعوا على أن من ترك المستحب لا يجوز أن يقال له: خالف أمر الله تعالى وعصاه، كما لا يجوز أن يقال ذلك لمن فعل المباح. والجواب: أنه لا يقال خالف أمر الله وعصاه على الإطلاق، لئلا يلتبس بالواجب، فأما مع التقييد فإنه يقول: خالف أمر الله تعالى المندوب. يبين1 صحة هذا على أصلنا قول أحمد -رضي الله عنه- فيمن ترك الوتر: "هو رجل سوء". فذمَّه على ترك الوتر مع قوله: "إنه سنة وليس بواجب". واحتج بأن أهل اللغة يفرقون بين أن يقول القائل لمن دونه: افعل كذا، أو لتفعل كذا، وبين أن يقول: أسألك أن تفعل كذا، وأرغب إليك أن تفعل كذا، ويسمون أحدهما أمرًا والآخر سؤالا وطلبًا، فدلَّ على أن المندوب إليه غير مأمور به. والجواب: أن أهل اللغة يفرقون بينهما في باب الإيجاب، فيسمون أحدهما أمر إيجاب والآخر أمر ندب واستحباب، فأما أن يفرقوا 2 بينهما
في كونه أمرًا فلا. واحتج بأن أسماء الحقائق لا يجوز نفيها عن مسمياتها، وقد علمنا أن الندب يحسن أن ينتفي عنه اسم الأمر، فتقول: أنا غير مأمور أن أصلي الساعة ركعتين، وإن كان مندوبًا إليها، وأنا غير مأمور بصوم يوم الخميس، وإن كان مندوبًا إليه، ويحسن أن يقول: أسألك وأرغب إليك ولا آمرك به، وإذا ثبت هذا علمنا أن الندب ليس بمأمور به، ألا ترى أن الواجب لما كان حقيقة في الأمر لم يصح نفيه. والجواب: أنا لا نسلم أنه يصح نفيه على الإطلاق، وإنما تنفيه بقيد، وهو أن يقول: أنا غيرُ مأمور بصلاةِ ركعتين، وصيامِ يوم الخميس أمر إيجاب. واحتج: بأنه قد ثبت من أصلنا وأصلكم: أن الأمر يجب حمله على الوجوب، ولو كان الندب أمرًا لم يجز حمله على غير الوجوب، ووجب التوقف فيه كما قال الأشعري1 [26/ ب] . والجواب: أن إطلاقه يقتضي الوجوب، وإنما يُحْمَلُ على الندب بدلالة، وهذا لا يمتنع كونه أمرًا فيه. كما أن إطلاق العموم يقتضي الاستغراق، ويحمل على الخصوص بدلالة، ولا يمتنع كونه عمومًا في الأصل.
فإن قيل: فلو كان أمرًا لاقتضى الفور إلى فعل المندوب كالأمر الواجب، قيل: هكذا نقول: هو على الفور.
مسألة في ورود الأمر بعد الحظر
مسألة في ورود الأمر بعد الحظر مدخل ... مسألة 1: [في ورودِ الأمرِ بعدَ الحظرِ] : صيغة الأمر إذا وردت بعد الحظر اقتضت الإباحة وإطلاق محظور، ولا يكون أمرًا، نحو قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 2، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْض} 3، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُن} 4، {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} 5، "كنت نهيتكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي ألا فادَّخروها" ونحو ذلك. وقد نص أحمد -رضي الله عنه- في رواية صالح وعبد الله في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 6، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} 7، وقال8 "أكثر من سمعنا: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، كأنهم ذهبوا على أنه ليس بواجب، وليس هما على ظاهرهما"9.
وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أنه بمنزلة الأمر المبتدأ في أنه يقتضي الوجوب على قول من قال بالوجوب، والندب على قول من قال بالندب1.
دليلنا
دليلنا: أن عرف العادة في خطاب الناس ومحاوراتهم إذا أُمِرُوا بعد الحظر كان على الإباحة، كقوله لغلامه: لا تدخل بستان فلان، ولا تحضر دعوته، ولا تغسل ثيابك، ثم قال له بعد ذلك: ادخل، واحضر، واغسل، كان
رفعًا لما1 حظر عليه، ولم يكن أمرًا، كذلك ههنا. وكذلك قول الرجل لضيفه: ادخل، ومن أنكر هذا فقد رَدَّ المشاهدات والذي يبين هذا: أنه لا يحسن ضربه وتونيبه2 عند مخالفة ذلك في عرف الناس وعاداتهم. فإن امتنع من تسليم هذا، كشفنا به إذا نهاه عن فعل شيء فاستأذنه العبد في فعله، فقال له: افعل، إن هذا لا يقتضي الوجوب بلا خلاف. وقد قيل: إن السيد إنما يحظر على عبده ما تميل نفسه إليه، لا ما تنفر نفسه عنه؛ لأن الحكيم لا يوجب على عبده ما [لا تميل] نفسه إليه، فعلمنا أنه إباحة لا إيجاب. فإن قيل: العادة غير هذا، ألا ترى أن يقول لعبده: لا تقتل زيدًا، فيكون حظرًا، فإذا قال: اقتله، بعد هذا كان أمرًا على الوجوب. قيل: إن الأصل حظرُ قتلِ زيدٍ، فقوله: لا تقتل زيدًا، تأكيد للحظر المتقدم، لا لأنه مستفاد به حظر، وفي مسألتنا حظر وقع بالنهي، ثم رفع النهي، فيجب أن يعود إلى ما كان إليه قبله3. وأيضًا: فإن عرف الشرع قد ثبت أن الأمر إذا ورد بعد [27/ أ] الحظر اقتضى الإباحة نحو ما ذكرناه من قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ
فَاصْطَادُوا} 1 {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} 2 {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} 3 "كنت نهيتكم عن زيارة القبور"، "وعن ادِّخار لحوم الأضاحي ألا فادَّخروا" و"وزوروا" فيجب أن يحمل ذلك على مقتضى عرف الشرع، وهو الإباحة كما يحمل مطلق الأمر من الأسماء على عرف الشرع، في الصلاة والزكاة والصيام والحج4. فإن قيل: تلك المواضع حملناها على الإباحة بدليل، كما حملنا ما لم يرد بعد الحظر من أوامر القرآن على غير الواجب بدليل. قيل: ليس ههنا دليل دلَّ على إباحة ذلك سوى هذه الألفاظ، ولا يجوز أن يقال: الإجماع هو الدليل؛ لأن الإجماع حادث بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- والإباحة مستفادة بهذه الألفاظ في وقته. فإن قيل: عرف الشرع في هذا مختلف، ففيه ما يقتضي الوجوب، وهو قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 5، فأمر بقتل المشركين بعد الحظر، وكان على الوجوب، وكذلك قوله عز وجل: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه} 6.
فجعل ذلك غاية للحظر، وأمر به بعد الغاية، فكان واجبًا؛ لأن الحلق في وقت النسك واجب. قيل: لا نسلم أن وجوب قتل المشركين استفيد بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} بل استفدنا [هـ] بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر} 1، وغيرها من الآيات التي لم يتقدمها حظر2. وكذلك الحلاق استفدنا وجوبه من موضع آخر، من قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُم} 3، ومن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله: "خذوا عني مناسِكَكُم". إنه قد قيل: إن المراد بهذه الآية حلق المحصر. وذلك غير واجب عند [نا] . وأيضًا فإن قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} 4، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 5، بمنزلة تعليق الأمر بالغاية، كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 6، ونحو ذلك، وتعليق الأمر بالغاية يفيد زوال الحكم عند انقضائها، كذلك تعليق
حظر الاصطياد والانتشار في الأرض بفعل [غاية] 1 الإحرام والاشتغال بالصلاة يفيد زوال الحظر عند تقضي غاية الأمر. فإن قيل تعليق الأمر بالحظر أن يقول: امتنعوا من الفعل ما بقي الحظر، فإذا أزلته فافعلوه، هذا 2 صورة الغاية وتعليق الأمر بالحظر. قيل: تعليق الأمر بالحظر، يفيد ما ذكرته، وما ذكرناه أيضًا، كما كان قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 3، بمثابة قوله: فإذا جاء الليل أزلته. واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 4، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتُكُمْ بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتُم" ولم يفرِّق. والجواب: أنا لا نسلم أن هذا أمر، وإنما هو صيغة الأمر، فأما أن يكون أمرًا فلا [27/ ب] 5. واحتج: بأن صيغة الأمر قد وجدت متجردة، فوجب أن يحمل على الوجوب، كما لو لم يكن حظر سابق. والجواب: أنا لا نسلم أنها متجردة، بل نقول: تقدَّم الحظر قرينة
توجب صرفه عن الوجوب. فإن قيل: الحظر لا يفيد الإباحة بلفظه ولا بمعناه؛ لأن لفظه يقتضي المنع والتحريم، ومعناه لا يوجب ذلك؛ لأنه لا يمتنع أن يكون الشيء محرمًا، ثم يجعل واجبًا، فينسخ التحريم بالإيجاب. قيل: ليس نقول: إن لفظ الحظر أفاد الإباحة، وإنما حصلت الإباحة به وبما بعده من صيغة الأمر، كما إذا استأذنه عبده في فعل شيء، فقال له: افعل، حملناه على الإباحة بالأمرين جميعًا: الإذن والاستئذان. واحتج بأن النهي إذا ورد بعد الأمر اقتضى الحظر، كما لو وَرَدَ ابتداءً كذلك الأمر إذا ورد بعد الحظر، وجب حمله على الوجوب كما لو ورد ابتداءً. والجواب: أن لفظة النهي المطلقة إذا وردت بعد الأمر، يحتمل أن نقول فيها ما نقول في الأمر بعد الحظر، وأنها تقتضي التخيير دون التحريم، لا أنها تحتمل الندب والحظر، وتحتمل أن نفرق بينهما، ونقول في النهي بعد الأمر يقتضي الحظر، وفي الأمر بعد الحظر لا يقتضي؛ لأن النهي آكد، ولهذا قال مخالفونا: إن النهي يقتضي التكرار، والأمر المطلق لا يقتضي. ولأن الأمر أحد الطرق إلى الإباحة، فلهذا جاز أن يرد، ويراد به الإباحة، وليس النهي طريقًا إلى الإباحة، فلم يَجُزْ أن يُرَادَ به الإباحة1. واحتج: بأن الأمر إذا كان مقتضاه الإيجاب، فوروده بعد الحظر لا يؤثر في ذلك، ألا ترى أن وروده بعد الحظر، العقل لا يمنع وجوبه. يبين ذلك: أن فعل الصلاة والصوم من جهة العقل محظور، ثم ورد
الأمر بهما، لم يمنع من وجوبهما، كذلك الحظر من جهة السمع لا يمنع أن يكون الأمر الوارد بعده على الوجوب. والجواب: أنا لا نسلم أن العقل يحظر شيئًا وعلى أن من قال العقل يحظر، فنقول: إذا ورد الشرع بإباحة شيء، ثبت أن العقل لم يحظره؛ لأن الشرع لا يَرِدُ بإباحة ما كان قبيحًا في العقل، فورود الشرع بإباحة ذلك منع أن يكون قبيحًا محرمًا، وليس كذلك ههنا، فإن ورود الشرع بإباحة الصيد لم يمنع حصول تحريم سابق، فبان الفرق بينهما. واحتج بأن الأمر فيما عدا الواجب لا يكون أمرًا على الحقيقة، فلما ثبت أن هذا أمر وجب أن يكون على الوجوب. والجواب: أن الأمر فيما عدا الواجب يكون أمرًا على الحقيقة عندنا، وهو الندب، وقد بَيَّنَّا ذلك. واحتج بأن الأمر بالمباح لا يحسن؛ لكونه عبثًا؛ لأن المأمور لا يستحق عليه الثواب إذا فعله، فلا يجوز أن يكون هذا الأمر مقتضيًا للإباحة. والجواب: أن هذا ليس بأمر [28/ أ] عندنا، وإنما صيغته صيغة الأمر، ومن سمَّاه أمرًا فإنما يسميه على طريق المجاز. واحتج: بأن هذا لا يخرج على قولكم؛ لأن عندكم أن أصل الأشياء على الحظر، فيقتضي أن يكون سائر الأوامر مبيحة لا يثبت بشيء منها إيجاب؛ لأنها كلها ترد بعد حظر. والجواب: أن المواضع التي حملناها على الوجوب لدليل دلَّ عليها اقتضت الوجوب.
الأمر المعلق على شرط هل يقتضي التكرار
الأمر المعلق على شرط هل يقتضي التكرار مدخل ... فصل: [الأمر المعلق على شرط، هل يقتضي التكرار] ؟: والدلالة على أن الأمر المعلق بالشرط جارٍ مجرى الأمر المطلق هو: أن الوجوب مستفاد من اللفظ دون الشرط، وإنما يؤثر الشرط في منع تقديم المأمور به عليه، واعتبار وجوده في وقوع الفعل عن الواجب. وإذا كان الحكم مستفادًا من اللفظ، والمذكور عقيب الشرط كالمذكور ابتداءً من غير شرط، ثم ثبت أن المعلق بالشرط يقتضي التكرار، كذلك المطلق. وأيضًا: فإن ما لا يقتضي التَّكرار، يستوي فيه المطلق والمعلق بالشرط، بدليل الأوامر فيما بينَّا، ألا ترى أنه إذا وكَّلَ غيره بطلاق امرأته إن خرجت من الدار، لم يجزْ أن يطلقها إلا مرة واحدة، عند أول خروج يوجد منها، ولو أطلق التوكيل فكذلك. وكذلك لو أمر غلامه أن يشتري طعامًا إذا دخل السوق، فاشترى مرة واحدة، لم يجزْ له أن يشتري كلما دخل السوق، وكذلك لو أطلق. وكذلك الندب الموجب بالشرط، والمطلق لا يوجب التكرار، وهو إذا قال: إن شفى الله مريضي تصدقت بدرهم،
فشفي مريضه، لم يتكرر، ولو أطلق فقال: لله عليَّ صدقة درهم، لم يتكرر، وما اقتضى التكرار لا فرق فيه بين المطلق والمعلق بشرط وهو النهي والاعتقاد، فإنه لا فرق بين أن يقول: لا تكلم زيدًا عند دخولك الدار، وبين أن يقول: لا تكلم زيدًا، في أن جميع ذلك يقتضي التكرار، وكذلك لا فرق بين أن يقول: إذا زالت الشمس فصلِّ، وبين أن يقول: صلِّ في أن الاعتقاد على الدوام، فلما كان الأمر المعلق منه بالشرط يقتضي التكرار، كذلك المطلق. واحتج المخالف بأن قوله: صلِّ ركعتين عند الزوال، لما تكرر الزمان الذي تكرر فيه الأمر كان ما قرن يجب أن يتكرر، ويفارق هذا المطلق. والجواب: أن المطلق يقتضي تكرار الزمان حكمًا، كما يقتضي تكراره لفظًا. واحتج بأن الأوامر المعلقة بشرط أو صفة في كتاب الله تعالى تقتضي التَّكرار كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1، وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 2. والجواب: أن الأوامر المطلقة بهذه المثابة، وهو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3. واحتج بأن الشرط كالعلة، والحكم المعلق بالعلة يتكرر بتكرار العلة، كذلك المعلق بالشرط يتكرر بتكرر الشرط. والجواب: أن الشرط ليس كالعلة؛ لأن العلة توجب الحكم، والشرط [31/ أ] لا يوجبه، ومثل الشرط لا يكون شرطًا، ومثل العلة لا يكون علة،
يبين هذا: أن ما كان شرطًا لطلاق أو نذر لا يكون شرطًا لطلاق آخر ونذر آخر؛ ولأن الشرط لا يجب الحكم لوجوده، وإنما يجب عدمه لعدمه، والعلة يجب وجود1 الحكم لوجودها، ويجب عدمه لعدمها، ألا ترى أن الحياة شرط في العلم، فلا يجب لوجود الجسم حيًّا أن يكون عالِمًا. ويجب عدم العلم لعدم الحياة. والطهارة شرط في صحة الصلاة لوجود الطهارة، ويجب عدمها لعدم الطهارة، وإذا كان وجود الشرط لا يوجب المشروط، وقد وجب التكرار، كذلك عدمه؛ لأن الوجوب يتعلق بالأمر لا بالشرط.
لا يوجب الوقف
فصل: والدلالة على أنه لا يوجب الوقف أن قوله: افعل، تقديره: أوقع فعلا، فوجب أن يحمل على الإمكان على ما نقول نحن، أو على المرة الواحدة كما يقوله غيرنا، فمتى حملناه على الوقف أسقطنا فائدة الأمر. واحتج المخالف بأنه لما جاز أن يراد بهذه اللفظة التكرار، ويراد بها المرة الواحدة، لم يكن لِلَّفظ ظاهر1. والجواب: أن المرة الواحدة معلومة قطعًا، فكان يجب الإتيان بها عليه، ويقف فيما زاد عليه، وعلى أن احتماله لما ليس بظاهر منه لا يضر حال الإطلاق، ألا ترى أن اسم الدابة حقيقة لما يدب على وجه الأرض وإن كان حال إطلاق اللفظة لا يحمل عليه، كذلك ههنا، ويأتي الكلام في هذا الفصل مستوفى في المسألة التي بعدها.
إذا تكرر لفظ الأمر فهل يتقضي التكرار
إذا تكرر لفظ الأمر فهل يتقضي التكرار ... فصل: [إذا تكرر لفظ الأمر فهل يقتضي التَّكرار] : واختلف القائلون في أن الأمر لا يقتضي التكرار في لفظ الأمر إذا تكرر، هل يقتضي التكرار1؟ فقال أصحاب أبي حنيفة: إن ذكر في الثاني ما يوجب تعريف الأول، مثل أن يقول: صلُّوا ركعتين، ثم يقول: صلُّوا الصلاة، فلا يقتضي ذلك إلا ذلك الأول2، وإن كان الثاني منكرًا كان أمرًا آخر غير الأول3. وقد ذكر أبو حنيفة من أقر لرجل بعشرة، وكرر، أن عليه بكل إقرار مقتضاه. واختلف أصحاب الشافعي.
فمنهم من قال1: يكون أمرًا ثانيًا2. ومنهم من قال: هو توكيد الأول. ومنهم من قال: هو [على] الوقف3. فمن قال: إنه أمر ثانٍ4، فوجهه: أنه لما تكرر المأمور به، كان الظاهر أنه أمر آخر، ألا ترى أنه لو أراد الأول لذكر ما يقتضي رجوعه إليه، والحكم يتعلق بظاهر الأمر، وليس كذلك إذا عرف من الثاني؛ لأنه لا معهود غير الأول، فوجب أن يرد إليه، مثل أن يكون بين المتخاطبين عهد في رجل، فإذا قال أحدهما: كان الرجل كذا، عرف منه المعهود5. ومن قال: هو توكيد للأول، قال: الأمر الثاني يحتمل أن يراد به إيجاب مستأنف، ويحتمل أن يراد به تأكيد الأول، فلا يجوز تعليق الإيجاب بالشك، ومن قال بالوقف [31/ ب] استدل بهذا، وقال: يحتمل الإيجاب، ويحتمل التأكيد، فوجب الوقف فيه. ولا حاجة بنا إلى الكلام في هذا الفصل؛ لأن عندنا الأمر الأول اقتضى
التكرار، والثاني لم يُفِدْ غير ما أفاد الأول1، ولكن ذكرناه؛ لنعرف الاختلاف على مذهب غيرنا2.
مسألة الأمر المطلق يقتضي التكرار
مسألة الأمر المطلق يقتضي التكرار مدخل ... مسألة 1: [الأمر المطلق يقتضي التكرار] : الأمر المطلق يقتضي التكرار على الإمكان، سواء كان مقيدًا بوقت يتكرر مثل قوله: إذا زالت الشمس فصلِّ، أو كان غير مقيد، مثل قوله: صلِّ2. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية عبد الله3: "قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم} 4، فإن ظاهرها يدل على أنه إذا قام فعليه ما وصف، فلما كان يوم الفتح صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بوضوء واحد 5". فقد نصَّ -رضي الله عنه- على أن الظاهر دلَّ على أن كل قائم عليه
الوضوء حتى خصَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعله. خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في قولهم: لا يقتضي التَّكرار1. وخلافًا لبعض الشافعية في قولهم: إن كان معلقًا بشرط اقتضى التَّكرار، فأما المطلق فلا يقتضي التَّكرار2. وخلافًا للأشعرية في قولهم: هو على الوقف3.
دليلنا
دليلنا: أن الصحابة عقلت من ظاهر قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 أنه يقتضي التكرار، ألا ترى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جمع عام الفتح بطهارة واحدة بين صلوات، قال له عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: أعمدًا فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: "نعم"، فعقلت من إطلاق الآية التكرار، فلما خالف النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وجمع بطهارة واحدة سألته عن ذلك واستكشفت عن حاله. وأيضًا: فإن الأمر كالنهي في باب أن النهي أفاد وجوب ترك الشيء، والأمر أفاد وجوب فعله، ثم كان النهي أفاد وجوب الترك على الاتصال أبدًا، وجب أن يكون الأمر يفيد وجوب الإيجاب على الاتصال أبدًا. وامتنع أبو بكر الباقلاني من تسليم هذا، وقال: يقتضي الكفَّ عن مرة واحدة قدر ما إذا وقع منه من الكف. قيل: قد [ر] النهي كالأمر سواء، وهذا قول مخالف الإجماع؛ لأن الفقهاء أجمعوا على أن النهي يقتضي التكرار2، وفرقوا بين الأمر والنهي بفروق، ونحن نذكرها، وما خالف الإجماع لا يلتفت إليه.
فإن قيل: كلامنا في موجب اللغة، وهذا إثبات لموجب اللغة بالقياس، واللغة لا تقاس. قيل: يجوز إثبات اللغة بالقياس. وقد ذكر هذا في باب القياس، وأنه يجوز إثبات الأسماء قياسًا. فإن قيل: البر في القسم يقتضي1 التَّكرار، وهو قوله: والله لا دخلت هذه الدار. فأمسك عن [28/ ب] الدخول ساعة، ثم دخل، حنث. ومن الفعل يقتضي فعل مرة، فإنه إذا قال: والله لأدخلن هذه الدار. فدخلها مرة بَرَّ. قيل: البر والحنث من أحكام الشرع، والخلاف في موجب الأمر وموضعه في اللغة، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر. فإن قيل: الشرع ورد باعتبار موجب اللفظ في اللغة فيما يتعلق به من البر والحنث، فإذا جعلناه بارًّا في الشرع؛ فلأنه فعل ما أوجبه اللفظ من طريق اللغة، وإذا جعلناه حانثًا في الشرع، فلأنه خالف ما أوجبه لفظه في اللغة. قيل: لم يرد باعتبار موجب اللغة بدليل أن الله تعالى لو حرم أكل الرءوس، حمل ذلك على مقتضى اللغة، فيحرم عليه كل ما يسمى رأسًا، ولو قال: والله لا أكلت الرءوس، تناول رءوس الأنعام عندهم. فإن قيل الترك في الخبر يقتضي التكرار، وهو قولهم: "فلان ما صلى"، وفي الفعل يقتضي مرة، وهو قولهم: "فلان صلى" يقتضي صلاة واحدة.
قيل: الخبر في الفعل إنما اقتضى فعل مرة واحدة؛ لأنه إخبار عن إيقاع فعل في زمان قد شاهده فيه، وهذا لا صيغة له تقتضي العموم، نظيره أن ترد لفظة الأمر قضية في عين، فلا تقتضي الصيغة العموم. فإن قيل: لو قال: افعل مرة، لم يقتضِ التكرار. قيل: لا نسلم هذا، بل نقول: يقتضي الكفَّ مرة، فإذا فعل مرة سقط النهي؛ لأن المنهي عنه قد يكون قبيحًا في وقت، حسنًا في وقت آخر، كالأمر يكون حسنًا في وقت، قبيحًا في وقت آخر. يبين صحة هذا: أنه لو قال لعبده: لا تدخل الدار، ولا تكلم زيدًا إذا قام عمرو، اقتضى ذلك الكف عند وجود الشرط، كالامر المعلق بشرط يقتضي وجوده عند وجود الشرط، ولو أطلق النهي اقتضى الكفّ على الدوام كالأمر. فإن قيل: النهي يقتضي قبح المنهي عنه، فأي وقت فعله كان فاعلا للقبيح، وفعل القبيح يستوجب عليه الذَّم، والأمر يقتضي حسن المأمور به وإيجاده، فإذا وجد كان مؤتمرًا، وإن حصل تاركًا لما عداه. قيل: قولك: "إن النهي يقتضي قبح المنهي عنه" غير مسلم؛ لأن المنهي عنه قد يكون ندبًا وفضلا، وقد بَيَّنَّا ذلك فيما تقدم، وقد يكون محرمًا كالأمر يكون ندبًا، ويكون موجبًا. وقوله: "إن الأمر يقتضي حسن المأمور به، فلم يجب تكراره"، غلط؛ لأن الحسن لا يجب فعله متكررًا أو مرة واحدة من حدث كان حسنًا؛ لأن من الحسن ما يجب الدوام على فعله، كالصلاة، ومنه ما لا يجب كالحج. فإن قيل: حمل الأمر على الدوام فيه مشقة وتكليف لما لا يطاق، وانقطاع عن المصالح، وترك العبادات والنسل، وليس في حمل النهي على التَّكرار مشقة، وتكليف لما لا يطاق وانقطاع عن المصالح.
قيل: هذا غلط؛ لأننا نقول بمقتضى التكرار على الإمكان [29/ أ] والوسع، على وجه لا يفضي إلى الانقطاع عن الفروض والمصالح. وعندهم يجب فعل مرة واحدة، وإن كان في الطوق والوُسْعِ أكثر منها. ثم يبطل به إذا قال: صلِّ على الدوام، لزمه التكرار وإن أفضى إلى ما ذكرت. وأيضًا: فإن الأمر يتضمن ثلاثة أشياء: وجوب الفعل، ووجوب الاعتقاد لوجوبه، ووجوب العزم على فعله. وقد ثبت أن الاعتقاد والعزم يجب تكررهما كذلك الفعل. وحكى الجرجاني1 عن بعض شيوخه: أنه لا يلزم تكرار الاعتقاد وإنما عليه اعتقاد حكمه والبقاء على ذلك من غير أن يحدث ما ينافيه، وبناه على الفعل، وأنه لا يلزمه تكراره، وشبهه بالإيمان، وأن من اعتقده استحق المداومة عليه، وأن لا يحدث ما ينافيه، وإن لم يكرره. وهذا القائل إن لم يسلِّم الاعتقاد، فقد سلم وجوب دوام البقاء على الاعتقاد، وهذا لا خلاف فيه؛ لأنه لو أبيح له ترك اعتقاد وجوب ما كلف وجوبه، لكان قد أبيح له ترك العلم بصدق الله تعالى في أخباره، وإذا ثبت وجوب المدوامة على الاعتقاد وجب المداومة على الفعل؛ لتضمن الأمر لكل واحد منهما2.
فإن قيل: هذا يبطل بالأمر المقيد بفعل مرة واحدة؛ لأنه إذا قال: حجوا في العمر مرة واحدة، وجب العزم والاعتقاد على التكرار، ووجوب الفعل مرة. قيل: إنما كان الاعتقاد في الأمر المقيد بفعل مرة على التكرار؛ لأن الأمر بالاعتقاد فيه على الإطلاق، فاقتضى التكرار، لإطلاق الأمر فيه، وهو في الفعل مقيد بمرة فلم يقتضِ التَّكرار، فنظيره أن يقول: اعتقد وجوبه مرة، فلا يقتضي التكرار. فإن قيل: المأمور1 إذا كان عالِمًا بما أمر به ذاكرًا له، لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد والعزم، ولا يخلو من أن يعتقد وجوبه أو غير وجوبه، أو يعزم على فعله أو تركه، ولا يجوز اعتقاد غير الوجوب؛ لأن اللفظ يقتضي وجوب الفعل، فإن كان كذلك، وجب اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل ما دام الفعل واجبًا عليه، وليس كذلك الفعل، فإن تركه جائز إلى أن يفعله، فدلَّ على الفرق بينهما. قيل: قولك: "إنه لا يجوز اعتقاد غير الوجوب؛ لأن اللفظ يقتضي الوجوب" لا يصح؛ لأنه كان يجب أن يعتقده مرة، ثم يقطع الاعتقاد، ولا يكون قطع الاعتقاد في الثاني مانعًا من الأول؛ لأن الأول قد صح ومضى، فاعتقاد غيره لا يمنعه طريان النسخ في الثاني، [كما] لا يمنع صحة ما تقدم. وقولك: "إن ترك الفعل لا يمنع صحة ما تقدم"، فهذا لا يمنع التكرار كالنهي، فإن مخالفته في الثاني لا تمنع صحة ما يدوم من الترك، ومع هذا تكرر. وأيضًا فإن الواحد من أهل اللغة إذا قال لعبده: احفظ هذا الفرس،
[29/ ب] فحفظه ساعة ثم تلاه، استحسن ذمه وتوبيخه، وكذلك المودع فدلَّ على أن الأمر يقتضي التكرار. وأيضًا: فإنه لما لم يتعين بزمان، وجب حمله على العموم في الأزمان في وجوب الفعل، كما أن لفظ العموم يشمل1 جميع الأعيان؛ لأنه لم يخص ببعضها، كذلك الأزمان. واحتج المخالف: بأن الطاعة والمخالفة في الأمر والنهي بمنزلة البر والحنث في القسم؛ لأن كل واحد منهما يعتبر فيه موافقة موجب اللفظ ومخالفته، فإذا ثبت هذا وكان إذا قال: والله لأصلين، أو لأصومنَّ، أو لأحجنَّ، أو قال لغيره: والله لتصلين، أو لتصومن أو لتحجن، اقتضى فعلا واحدًا، فلا يقتضي التكرار، ويكون من فعله بَرَّ في يمنيه [و] وجب أن يكون مطيعًا لله تعالى به متمثلا لأمره. ويدل على أنهما سواء أن النهي الذي هو متعلق بالترك والقسم في الترك سواء في أن كل واحد منهما يقتضي التكرار، ويكون مخالفًا بفعل مرة واحدة، وكذلك الأمر المقيد بوقت أو بعدد أو بصفة بمنزلة القسم المقيد بذلك، فوجب أن يكون مطلق الأمر بمنزلة مطلق القسم. والجواب عنه ما تقدم وهو: أن البر والحنث من أحكام الشرع، والخلاف في موجب الأمر وموضوعه في اللغة، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر، والثاني أن التكرار ليس بمراد للحالف. وجواب آخر وهو: أن الترك في القسم إذا كان معلقًا بوقت، وهو أن يقول: والله لا دخلت الدار عند زوال الشمس، لم يقتضِ التكرار، حتى إنه إذا وجد الترك مرة عند الزوال سقطت اليمين، والترك في ألفاظ صاحب الشريعة إذا علق بوقت اقتضى التكرار2، فإذا قال: لا تزكوا
إذا زالت الشمس، لم يسقط حكمه بترك مرة. وجواب آخر: وهو أن اعتقاد الفعل في القسم لا يقتضي الدوام، واعتقاد أداء الفعل في الأمر يقتضي الدوام. وجواب آخر: وهو أن الترك في اليمين إذا حصلت المخالفة بفعله مرة سقط حكم القسم، على معنى أنه إذا فعل المحلوف على تركه ثانيًا، حنث ثانيًا، وليس كذلك في ألفاظ صاحب الشريعة؛ لأنها لم يحنث، ولا تسقط بالمخالفة مرة، فبان الفرق. واحتج: بأنه إذا قال: صلى فلان، اقتضى صلاة واحدة، ولا يقتضي التكرار، وإذا كان لفظ الخبر لا يقتضي التكرار، فكذلك لفظ الأمر؛ لأن الأمرَ أمرٌ بإيقاع فعل، [و] الخبر خبر عن وقوعه؛ ولأن قوله: صلِّ، بمنزلة: افعل صلاة، ولو قال: افعل صلاة، اقتضى صلاة واحدة، ولا يقتضي التكرار، فإذا قال: صلِّ، وجب أن يقتضي صلاة واحدة. والجواب عنه ما تقدم من أن الخبر في الفعل إخبار عن إيقاع الفعل في زمان قد شاهده، وهذا لا صيغة له، والأمر المطلق له صيغة؛ ولأنه لا يجب تكرر [30/ أ] الاعتقاد في الخبر. واحتج: بأن قوله لامرأته: طلقي نفسك، اقتضى طلاقًا واحدًا، وكذلك إذا قالت له: طلِّقني بألف، فطلقها تطليقة واحدة استحق الألف. وكذلك إذا قال لوكيله: طلق فلانة، اقتضى طلاقًا واحدًا، ولا يقتضي التكرار، إلا بقرينة تدل عليه. وكذلك لو قال لعبده: تزوج، لم يملك أن يتزوج إلا امرأة
واحدة، نص عليه1 في رواية بن بختان2، وكذلك في سائر الأوامر. والجواب: أن هذا ثبت بالشرع، والخلاف في موجب الأمر وموضوعه في اللغة. فإن قيل: أوجب الشرع إثبات موجب اللفظ من طريق اللغة، ألا ترى أنه إذا قال: طلق، وكرر الطلاق أو ما يثبت من العدد، كان له أن يكرره؟ قيل: قد بَيَّنَّا أنه غير معتبر بموجب اللفظ من طريق اللغة من الوجه الذي بينا؛ ولأن اعتقاد الفعل هناك لا يقتضي الدوام، وفي مسألتنا يقتضي الدوام، وهو من جملة الأوامر كما بَيَّنَّا. واحتج: بأن قول القائل: صمْ، وصلِّ، أمر بما يسمى صلاة وصومًا، فإذا فعل صومًا واحدًا، أو صلاة واحدة، فقد أتى بما يتضمنه الأمر. والجواب: أنه أمر بما يسمى صلاة على التكرار، كما كان قوله: لا تزن، نهي عما يسمَّى زنا على التَّكرار، وكما كان قوله: صلِّ، أمرًا باعتقاد ما يسمى صلاة على التكرار، كذلك في الفعل. واحتج: بأن كونه على التكرار يقتضي المناقضة، إذا كان الأمر
بشيئين مختلفين مثل الحج والجهاد؛ لأنه لا يمكنه أن يواصل كل واحد منهما أبدًا. والجواب: أنا نثبت التَّكرار على الإمكان، وإذا كان كذلك لم يفضِ إلى المناقضة. واحتج: بأنه لو اقتضى التكرار لم يحسن الاستفهام. والجواب: أنا لا نسلم ذلك، وإن سلمناه فإنما ذلك على طريق الاستثبات، كما يقال له: جاءك الملك، فيقول: جاءني الملك؟ على طريق الاستثبات. واحتج: بأنه لو اقتضى التكرار لم يحسن تأكيده بالأبد، فيقول: صلِّ أبدًا، وصُمْ أبدًا. والجواب: أنا نقلب هذا فنقول: ولو اقتضى مرة لم يحسن تأكيده بمرة واحدة، فنقول: صلِّ مرة واحدة، لم يحسن، وعلى أن هذا يجوز على طريق التأكيد، ولقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} 1، كذلك ههنا. واحتج بأنه2 لو قال لرجل: كُلْ، ثم قال: كُلْ، كان أمرًا بالأكل مرتين، فلو كان الأمر يقتضي الاتصال أبدًا، كان قوله: ثم كل، تأكيدًا لا عطفًا، فلما قال الكل منهم: إنه عطف أكله على أكله، ثبت أنه لا يقتضي الاتصال. والجواب: أنه لا يمتنع أن نقول: إن الثاني تأكيد، لا عطف، كما كان قوله: لا تَزْنِ، ثم قال: لا تَزْنِ، كان الثاني تأكيدًا.
واحتج بأنه لو قال [30/ أ] لعبده: ادخل الدار، فدخل ثم استخبره فقال: قد دخلت؟ صح أن يجيبه عنه بنعم، أو يقول: قد دَخَلْت، فلولا أنه امتثل كل ما أمره به لما صح أن يخبره عنه. والجواب: أنه لا يمتنع أن يصح خبره في ذلك، ولا يكون ممتثلا للأمر، كما لو قال: ادخل الدار مائة مرة، فدخلها مرة، صح أن يخبر بالدخول ولا يكون ممتثلا، وكذلك الاعتقاد يصح أن يخبر أنه معتقد، وإن كان ذلك على الدوام.
مسألة الأمر المطلق يتقضي الفور
مسألة الأمر المطلق يتقضي الفور مدخل ... مسألة 1: [الأمر المطلق يقتضي الفور] : الأمر المطلق: يقتضي فعل المأمور به على الفور عقيب الأمر. وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- لأنه يقول: الحج على الفور، وإنما يتصور الخلاف على قولنا إذا دلَّ الدليل على أنه أريد به مرة، فأما
إذا قلنا على التكرار، فلا يتصور التأخير والتقديم. وهو قول أصحاب أبي حنيفة1. وقال الأكثر من أصحاب الشافعي: هو على التراخي2. وهو قول المعتزلة3. وقالت الأشعرية: هو على الوقف. وكان أبو بكر الباقلاني ينصر أنه على التراخي4.
وقد أَومَأَ أحمد إلى هذا في رواية الأثرم1 وقد سئل عن قضاء رمضان يفرق؟ فقال: نعم، قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 2. فظاهر هذا أنه لم يحمل الأمر على الفور؛ لأنه لو حمله على الفور منع التفريق، والمذهب: ما حكينا أولا. واختلف المتكلمون في هذه المسألة: هل معرفة ذلك المعقول أم اللغة؟ فذهب بعضهم إلى أن طريق ذلك العقل؛ لأن هذا اختلاف في أحكام، فليس بمأخوذ عن أهل اللغة. وقال آخرون: معرفة ذلك اللغة؛ لأنهم يقولون: فعل ويفعل، فيدل أحدهما على زمان ماضٍ، والآخر على زمان مستقبل.
دليلنا
دليلنا: أنه لو كان على التراخي لم يَخْلُ المأمور به من أحد أمرين: إما أن يكون له تأخيره أبدًا، حتى لا يلحقه التفريط، ولا يستحق الوعيد إن مات قبل فعله. أو يكون مفرطًا مستحقًا للوعيد إذا تركه حتى مات. فإن قلنا: لا يكون مفرطًا بتركه في حياته، خرج عن حدِّ الواجب،
وصار في حدِّ النوافل1؛ لأن ما كان المأمور مخبرًا بين فعله وتركه، فهو نافلة أو مباح2. وإن قلنا: يلحقه الوعيد بالموت، أدى ذلك إلى أن يكون الله تعالى ألزمه إتيان عبادة في وقت لم ينصب له عليه دليلا يوصله إلى العلم به، ونهاه عن تأخيرها عنه، ولا يجوز أن يتعبده الله بعبادة في وقت مجهول، كما لا يحوز أن يتعبده بعبادة مجهولة، فإذا بطل هذان القسمان، صح ما ذهبنا إليه، وهو كونه على الفور. ولا يلزم عليه تكليف الوصية عند الموت للأقربين3، وإن كان وقت الموت مجهولا؛ لأن الموت عليه أمارة وعلامة، تتعلق الوصية بحضوره فلا4 يكون تعليقًا له بوقت مجهول لا دلالة عليه؛ ولأن الوصية يمكن
فعلها عند حضور الموت، وفعل العبادات لا يمكن في الغالب عند حضور الموت. فإن قيل: إن غلب على ظنه في وقت أنه إن أخر عنه فإنه يضيق عليه وقته لزمه1 تعجيله، وإن لم [32/ ب] يغلب على ظنه ومات فجأة، لم يعص، ويفارق هذا النوافل؛ لأنه يجب تعجيلها إذا غلب على ظنه فواتها. قيل: لا يلغب على الظن ضيق الوقت إلا في وقت لا يمكن فيه أداء العبادة بشرائطها، وهو عند المرض المتلف، وفي تلك الحال لا يمكنه أن يحج بنفسه ولا الصيام. وأيضًا فإن النهي أمر بالترك، والأمر [بالترك] أمر بالفعل، ثم كان النهي على الفور، كذلك الأمر بالفعل. فإن قيل: النهي يقتضي التكرار والدوام فاقتضى الفور، والأمر يقتضي فعلا واحدًا، فلم يقتضِ الفور. قيل: ليس إذا لم يقتضِ التكرار لم يقتضِ الفور، كالجزاء لا يقتضي التكرار ويقتضي الفور عند وجود شرطه، وعلى أنه لا فرق بينهما، وذلك أن مطلق الأمر يقتضي التكرار، ويقتضي فعل مرة بقرينة، ومثله قد حكينا في النهي. وأيضًا: فإن الأمر بالفعل يتضمن ثلاثة أشياء: الأمر بالفعل، والأمر بالاعتقاد، والأمر بالعزم عليه، ثم ثبت أن الأمر بالعزم، والأمر بالاعتقاد على الفور، كذلك الأمر بالفعل وجب أن يكون على الفور. فإن قيل: لو [قال له] : صلِّ بعد شهر، كان الاعقتاد والعزم على
الفور، وإن لم يجب الفعل في هذه الحال، فدل على الفرق بينهما. قيل: ليس إذا تأخر الفعل بالشرط، تأخر في حال الإطلاق، بدليل الجزاء، لو قال: إذا دخلت الدار فلك درهم، استحق الجزاء عند وجود شرطه وهو الدخول، ولو قال له: لك درهم بعد شهر، تأخر، كذلك الفعل، وعلى أن مثله يقول في الاعتقاد، وأنه يجوز تأخيره بالشرط. وقد ذكر ابن عبد الجبار1 في شرحه: أن الأمر يتعلق بأول الشروط على قول أصحاب الفور، ويتعلق بجميعها على قول أصحاب التراخي. فإن قيل: لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد والعزم مع ذكره الأمر، ولا يجوز أن يعتقد غير الواجب، ولا أن يعزم على تركه، فوجب اعتقاد وجوبه والعزم على فعله لما ذكرنا لا باللفظ. قيل: كما لا يجوز أن يعتقد غير الوجوب، كذلك لا يجوز2 له تأخير الفعل، وإذا لم يَجُزْ له [تأ] خيره وجب فعله، كما أنه لما لم يجز اعتقاد غير الوجوب، وجب اعتقاد الوجوب. وأيضًا: فإن الأمر المطلق في الشاهد يقتضي التعجيل، وهو الواحد منا إذا أمر عبده بفعل، فأخره، فإنه يحسن توبيخه، كذلك حكم الأمر في الغائب. فإن قيل: إنما يحسن توبيخه إذا اقترن بالأمر ما دلَّ على قصد الآمر، فأما إذا لم يقترن به، فلا يحسن توبيخه. قيل: من يظهر التوبيخ والذم لا يرجع إلى القرينة، وإنما يرجع إلى اللفظ فيقول: آمره بكذا فلم يفعل.
وأيضًا: فإن وقوع ما يفيد الإيجاب مطلقًا يفيد الفور، دليله: التمليكات بعقود البياعات والإجارات والأنكحة وجزاء الشرط، فإن الملك يحصل بذلك في الحال [32/ ب] وإنما يتأخر بدليل، وهو شرط الأجل. واحتج المخالف بقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 1. وروي أن عمر قال لأبي بكر وقد صُدَّ عام الحديبية: "أليس قد وعدنا الله تعالى بالدخول فكيف صددنا؟ فقال: إن الله تعالى وعد بذلك، ولم يقل في وقت دون وقت"2. قالوا: وهذا يدل على ما قلناه؛ لأنه خبر عين بوقوع فعل مطلق لا ذكر للوقت فيه، فلم يختص بوقت، فكذلك الأمر؛ لأنه أمر بإيقاع فعل مطلق من غير توقيت، فيجب أن لا يختص بوقت. والجواب: أن ذلك وعد بالدخول، وليس بأمر، وخلافنا في لفظة الأمر؛ ولأن ذلك تعلق بشرط وهو المشيئة، فمتى لم يوجد الدخول علمنا أن المشيئة لم توجد، وخلافنا في أمر مطلق. واحتج: أن قول القائل: افعل، استدعاء للفعل، وليس فيه ذكر الوقت، حتى أي وقت فعله يجب أن يكون ممتثلا للأمر، كما أنه لم يكن فيه ذكر الحال، فعلى أي حال فعله قائمًا أو قاعدًا، مستقبلا3 للقبلة أو
مستدبرها، متطهرًا أو محدثًا، كان مطيعًا، ولذلك لما لم يكن فيه ذكر المكان، ففي أي مكان فعله كان ممتثلا، كذلك الوقت. والجواب: أن الأمر استدعاء على صفة هي الفور، إلا أنه لم يكن منطوقًا فإنه مقدر1 فيه لا من طريق المعنى، كما اقتضى وجوب اعتقاد على صفة هي الفور، وكما اقتضى النهي الكفَّ على صفة هي الفور، وكذلك الجزاء والثمن في المبيع، وليس إذا لم يكن ذكر الحال والمكان مقدرًا معينًا يجب أن يكون في الزمان مقدرًا، كما قلنا في الاعتقاد والنهي والجزاء والأثمان في البياعات. واحتج: بأن الطاعة والمعصية في الأمر بمنزلة البر والحنث في القسم، ثم ثبت أنه إذا قال: والله لأفعلن كذا، أنه لا يختص بوقت، ولكنه في أي وقت فعله كان بارًّا في يمينه، كذلك يجب أن يكون مطيعًا في الأمر. والجواب: أن اليمين لا توجب على الحالف شيئًا لم يكن واجبًا عليه، وإنما هو مخبر بين الوفاء والكفارة، وبين الامتناع والكفارة، وليس كذلك ههنا؛ لأن هذا لفظ إيجاب، فنظيره النذر، وهو: أن ينذر صلاة ركعتين، أو صيام يوم ونحو ذلك، ولا يمتنع أن يقول: يجب على الفور، كما يقول في مسألتنا، على أن خلافنا في مقتضى الأمر في اللغة، والشرع قد غَيَّر النذر عن مقتضى اللغة، ولهذا لو نذر عتق عبد، لم يجزئه2 إلا مسلمًا، وإن كان مقتضاه في اللغة يعم الجميع، وكذلك لو نذر صلاة أو صيامًا، اقتضى خلاف موجبه في اللغة. واحتج: بأنه لو كان الأمر يفيد الفور لما حسن الاستفهام. والجواب: أنه إذا كان الآمر ممن لا يضع الشيء في [غير] موضعه، لم يحسن منه الاستفهام.
واحتج: بأنه لو خصه بوقت متأخر، وحب تأخيره [33/ أ] كما إذا خصه بوقت متقدم وجب تقديمه، فإذا لم يكن الوقت مذكورًا، فليس هو بالتعجيل أولى منه بالتأخير. والجواب: أنه ليس من حيث لو خصه بزمان متأخر وجب تأخيره، ما دل على أنه إذا أطلق لا يقتضي التعجيل ألا ترى أن الجزاء إذا شرط تأخره عن الشرط تأخر، وإذا أطلق لزم ذلك عقيب الشرط، وكذلك الأبدال في العقود إذا شرط فهيا التأجيل تأجل، ثم لا يدل ذلك على أنه إذا أطلق لم يكن البدل عقيب العقد، كذلك ههنا. واحتج: بأن الأمر بالفعل يتضمن إيقاعه في مكان وزمان، ثم ثبت أنه لا يختص بمكان بعينه، كذلك لا يختص بزمان بعينه، وعندكم يختص بزمان بعينه، وهو عقيب الأمر. والجواب: أن النهي لا يختص بمكان، ويختص بزمان، وهو عقيب النهي، وعلى أنه لا يمتنع أن يقال: يختص بالمكان الذي أمر بالفعل فيه؛ لأنه على الفور.
فصل: والدلالة على فساد قول من قال بالوقف
فصل: والدلالة على فساد قول من قال بالوقف: أنا نقول لهذا القائل: ما تقول في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1، هل يجب أن يتوقفوا ويطلبوا صفات البقرة من الرسول عليه السلام؟!. فإن قال: لا يجب، فقد سلم المسألة، فإنه لا فرق بين البقرة، وبين سائر الأفعال؛ لأن البقرة لا تخلو من صفة ولون، كما أن الفعل لا يخلو من
وقت، وإذا لم يجز التوقف لاحتمال صفات البقرة، لم يجب التوقف لاحتمال أوقات الفعل. فإن قال: يجب التوقف؛ لأنها تحتمل البكر وهي الصغيرة التي لم تلد والفارض وهي المسنة، تقول العرب: فرضت البقرة، إذا أسنت. والعوان: هي بين الصغيرة والكبيرة، والصفراء الفاقع لونها، والسوداء الحالك لونها، والملمعة والتي لا شية فيها، والذلول البينة الذل، والمسلَّمة من العمل، والتي [لا] تثير الأرض ولا يستقى عليها، فتسقي الحرث. قيل: هذا خلاف الشرع؛ لأن الله تعالى خَطَّأ بني إسرائيل في هذا التوقف بطلب هذا البيان، فقال: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} 1، وقال: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 2؛ ولأن موسى -عليه السلام- المنبَّأ عن الله تعالى لم يسأل عنها، ولو كان ذلك موضع السؤال لَسَأَلَهُ. فإن قيل: فقد سأله، فلو كان هذا خطأ لكان موسى لا يسأل ربه تعالى بعد سؤال بني إسرائيل. قيل: لم يسأل عنه، وإنما راجع ربه -عز وجل- بما عليه بنو إسرائيل من المخالفة، والوقف في غير موضعه. ويدل عليه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "شدد بنو إسرائيل على أنفسهم، فشدد الله عليهم، أما إنهم لو ذبحوا أي بقرة لأجزأت عنهم"3،
وهذا يدل على خطئهم، وأن صفات البقرة زيدت عليهم [33/ ب] بعد وقفهم، تغليظًا عليهم، وتشديدًا في التكليف. ويدل عليه على أن الأمر يقتضي الفعل، وليس فيه ذكر الوقت ولا دليل، فوجب أن يكون الوقت شرطًا لما فيه، وإنما لا يمكن الفعل في غير الوقت مع هذه العادة، ولو أمكن الفعل في غيره هذا الوقت كان فعله بهذا الأمر في غيره، ولم يجز أن يجعل شرطًا، فإذا كان كذلك وجب الفعل من غير اعتبار الوقت. ويدل عليه أنه لا يجوز الوقف لاعتبار المكان واعتبار الحال، والمعاني التي لا ذكر لها في لفظ الأمر. وكذلك إذا قال: امكثوا في المسجد يومًا، لزمهم المكث فيه، ولم يَجُزْ التوقف عنه، بأن يقولوا: أنمكث صائمين أو مفطرين. مصلين أو غير
مصلين، قائمين أو قاعدين، مستقبلين أو مستدبرين؟ وما أشبه ذلك. فإن قيل: يجب التوقف لهذا كله حتى يقع البيان للمأمور من جهة الرسول أو من جهة الدلائل المقررة في الأصول. قيل: هذا [مردود] بتخطئة الله -سبحانه- بني إسرائيل في مثله. وجواب آخر: وهو أن ذلك يؤدي إلى ترك طاعة الله تعالى في أمره وامتثاله؛ لأنه ليس معنى من المعاني إلا ويجوز أن يكون شرطًا، وفي طلب بيان ذلك ترك الفعل وامتثال الأمر. ويدل عليه: أن بني إسرائيل لو سألوا لكان ما تركوه أكثر ما سألوا بيانه وأنهم كان يمكنهم أن يقولوا: ما العوان التي بين البكر والفارض؟ وما الشية التي نفاها؟، وما لونها وقدرها وموضعها؟ وهل تكون سمينة أو هزيلة؟ من العراب أو من أي نتاج البقر؟ ومن يذبحها؟، وبأي آلة؟ وعلى أي جنب؟ وما أشبه ذلك مما لا يتناهى ذكره، ولا ينحصر وصفه، ولا يمكن ضبطه. واحتج المخالف: بأن اللفظ يحتمل الفور والتراخي بدليل أنه يصلح أن نفسره بكل واحد منهما، فنقول: افعلوا على الفور، أو نقول على التراخي، ونقول افعلوا في كذا، وإذا كان مجملا وجب الوقف فيه1، لاحتماله2، للخصوص والعموم، كذلك ههنا. والجواب: أنا لا نسلم أن إطلاق الأمر محتمل للتراخي، بل إطلاقه يقتضي الفور على العموم، على أن هذا مخالف له؛ لأن هذا اللفظ محتمل للعموم والخصوص، والأمر لا يحتمل الوقف ولا يقتضيه، فلا يجوز أن
يجعل شرط فيه إلا بدليل يدل عليه. وعلى أنا لو سلمنا أنه محتمل للفور والتراخي كان على أحدهما دليل1، وهو ما تقدم من لغة العرب، وغير ذلك.
الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته
الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته مدخل ... مسألة 1: [الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته] : إذا كان الأمر مؤقتًا بوقت ففات الوقت، لم يسقط الأمر بفواته، ويكون عليه فعله بعد الوقت، بذلك الأمر الأول، ويكون تقديره: افعله في الوقت الأول ولا تؤخره، فإن لم تفعل فافعله في الوقت الثاني، وهكذا تقديره في سائر عمره 2. وكذلك الأمر المطلق إذا لم يفعل المأمور به عقيب الأمر، لم يسقط وإن شئت عبرت عنها بعبارة أخرى [34/ أ] فقلت: القضاء لا يحتاج إلى دليل. وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية إسحاق بن هانئ في الرجل ينسى الصلاة في الحضر، فيذكرها في السفر: "يصلِّيها أربعًا، تلك وجبت عليه أربعًا". فأوجب القضاء بالأمر الأول، الذي به وجبت عليه في الحضر؛ لأنه قال: تلك وجبت عليه أربعًا، معناه حين المخاطبة بها. وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين في الأمر المؤقت: إنه يسقط بفوات
الوقت، ويجب القضاء بأمر ثانٍ1. واختلف أصحاب أبي حنيفة في الأمر المطلق إذا لم يفعله المأمور به عقيب الأمر، هل يسقط؟ فقال الرازي: لا يسقط ويفعله في الزمان الثاني، والثالث، وسائر عمره، بخلاف المؤقت2. وقال غيره من أصحابه: يسقط، كالأمر المقيد بوقت.
دليلنا
دليلنا: أنه لو سقط بفوات وقته؛ لسقط المأثم بفوات الوقت كما يسقط الوجوب. ولما لم يسقط المأثم كذلك الوجوب. ولأن الأصل ثبوته في ذمته، فمن زعم إبطاله بخروج الوقت؛ فعليه الدليل. ولأن النذر المؤقت لا يسقط بفوات وقته، كذلك ما وجب بالشرع.
ولأنه حق واجب؛ فلم يسقط بمضي الوقت. دليله الدَّين المؤجَّل وهو: إذا باع بثمن مؤجل إلى شهر، ثم انقضى الشهر؛ فإن الحق لا يسقط، كذلك ههنا. فإن قيل: الأجل المضروب لتأخير المطالبة به والدين1 في ذمته؛ فإذا وجب الأداء فلم يفعل، زال الوقت وصار كالعقد المطلق من غير أجل، فلزمه قضاء ما فات أداؤه في وقته، وليس كذلك إذا أمر الله تعالى بأمر في وقت محدد؛ لأن الوجوب ما لزمه إلا في الوقت الذي تناوله الأمر. قيل: وكذلك المطالبة بالدين ما لزم إلا عند انقضاء الشهر، ثم تأخيرها عن آخر الشهر لا يوجب إسقاطها، كذلك تأخير العبادة عن وقتها. فإن قيل: إنما لم يسقط الحق؛ لأن وقت المطالبة موسَّع. قيل: وقت الأداء في ذمة من عليه الحق مضيق؛ لأنه إذا لم يؤجل الأجل وجب الأداء على الفور، كما أن وجوب العبادة عليه على الفور إذا وقَّتها، ثم ثبت أن تأخر الأداء لا يسقط، كذلك العبادة. وأيضًا فإن الوقت شرط من شرائط العبادة؛ ففقدانه لا يوجب إسقاطها.
دليله
دليله: الطهارة والستارة والتوجه والقراءة وغير ذلك من الشرائط؛ ولأن الوقت ليس بمقصود، وإنما المقصود نفس العبادة بدليل أنه لا فائدة في إثبات وقت خالٍ1 عن عبادة، وقد ثبتت العبادة في ذمته من غير قت وهو أنه يؤمر بعبادة مطلقة؛ فلم يكن فواته موجبًا للإسقاط.
ولأن الأمر بالفعل يتضمن الأمر بالفعل والأمر بالاعتقاد، ثم ثبت أن خروج الوقت لا يوجب إسقاط [34/ ب] الاعتقاد، كذلك لا يوجب إسقاط الفعل. وقد ذكر في المسألة طرق أخر، وهو: أنه لو كان خروج الوقت علمًا على الإسقاط؛ لكان له أن يسقط الإيجاب عن نفسه بالتأخير إلى آخر الوقت. ألا ترى أنه لما جعل وجود الفعل علمًا على سقوط الوجوب، كان له أن يسقط الإيجاب عن نفسه بالفعل؛ فلما لم يَجُزْ له التأخير، علمنا أن خروجه غير مسقط. وقيل أيضًا: بأنه لو كان بعد خروج الوقت يجب القضاء بأمر مبتدأ ما سمي قضاء، كالذي يجب بالأمر الأول؛ لأنه مثله في أنه إيجاب فرض مبتدأ. فإن قيل لو كان هو الفرض لم يسمَّ قضاء. قيل: قد بينَّا أن اختلاف النية لا يوجب اختلاف الفرض، بدليل المقصورة والتمام، والجمعة والظهر. وقيل: لما لم يكن الوقت موجبًا؛ وإنما الوجوب واقف على الدليل، لم يكن خروج الوقت مسقطًا، بل يقف إسقاطه على الدليل. وقيل: إن أكثر ما في خروج الوقت: أن العبادة تصير في وقت غير معين، وهذا لا يمنع الوجوب، كما لو أوجب عبادة غير معينة بزمان. فإن قيل: إن عرف الشرع قد ثبت أن الأمر إذا ورد بفعل عبادة متعلقة بوقت؛ فإنه يجب فعلها قضاء، كالصلاة والصيام والحج وغير ذلك. والمخالف يجيب عن هذا: بأنني عرفت ذلك بدليل؛ لا بأصل الأمر،
مع أن الشرع مختلف في ذلك؛ فإن الجمعة لا تقضى، وكذلك رمي الجمار، وكذلك المحصر إذا تعذر عليه ذبح الهدي في الحرم، جاز ذبحه في الحل ولا قضاء. وقيل أيضًا: بأن فعلها بعد الوقت يطلق1 عليه اسم القضاء، وإذا ثبت هذا، ثبت أنه قضى بعد الوقت ما كان مأمورًا به في الوقت. وهذا لا يلزم أيضًا؛ لأنه لا يمتنع أن يقال: قضى بعد الوقت، وإن كان بأمر ثانٍ2 وفرض مبتدأ. واحتج المخالف بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها" 3، فأمر بفعلها بعد الوقت، فلو كان الأمر يفيد امتثاله بعد الوقت لم يأمر به ثانيًا. والجواب: أن الخبر حجة لنا؛ لأنه قال: "فليصلها"، وهذا كناية
عما أمر به بحكم أن الذي يفعله بعد الوقت هو المأمور به في الوقت. مع أنه قصد بهذا رفع الإشكال؛ لئلا يظن ظان أنها تسقط بفوات وقتها. واحتج: بأن صيغة الأمر تتناول زمانًا محصورًا؛ فإذا فات الوقت قبل فعله لم يبق زمان أمر يفعله فيه؛ فهو كما لو قيل له: صلِّ في المسجد الفلاني أربعًا، ففات فعله فيه، لم يجز فعله في غيره، وكذلك لو قال: أعط زيدًا ألفًا، فمات زيد، لم يدل على جواز إعطاء غيره. والجواب: أن [هناك] فرقًا بين تعلق الأمر بزمان، وبين فعله بمكان معين، ألا ترى أن حقوق الآدميين المتعلقة بزمان لا تسقط بفوات [35/ أ] الزمان، ولو تعلق بعين ففاتت العين سقطت، ألا ترى أن الرهن إذا تلف سقط حق المرتهن من الوثيقة، وكذلك العبد الجاني، إذا مات سقط الحق؛ فكذلك ههنا. واحتج بأن القضاء بدل، والبدل لا يجب إلا بدليل، والذي يدل عليه أنه محتاج إلى نية القضاء. والجواب: أنا لا نسلم أنه بدل، بل هو الواجب عليه بالأمر الأول واختلاف النيتين لا يدل على أنهما غيران، بدليل المقصورة والتامة، والظهر والجمعة، وعلى أن نية القضاء ليس بشرط في صحة الفعل؛ لأن أحمد -رضي الله عنه- قال في الأسير، إذا اشتبهت عليه الأشهر؛ فصام شهرًا يريد به رمضان فوافق ما بعده أَجْزَأَهُ، وإن لم يوجد منه نية القضاء؛ وإنما يستحب ذلك للخروج من الخلاف، وعلى أن نية القضاء لا تدل على البدل؛ لأنه قد يجب البدل من غير نية القضاء، كالطهارة إذا أخَّرها عن وقت وجوبها، والكفارة والحج والزكاة والنذر. ولأن القضاء تسمية شرعية، فتستعمل بحيث أطلقتها الشريعة.
واحتج بأن المفعول في الوقت الثاني غير المفعول في الوقت الأول؛ فيحتاج وجوب الفعل في الوقت الثاني إلى دلالة، كما احتاج في وجوبه في الوقت الأول إلى دليل. والجواب: أنه إنما يقال: المفعول في الوقت الثاني غير المفعول في الوقت الأول إذا وجد منه فعل في الوقت الأول، فيكون الثاني غيره؛ فأما إذا لم يوجد منه فعل، فلا تصح هذه العبادة 1، وقد بينَّا أن الثاني هو الفرض الأول. واحتج بأن المصالح تختلف باختلاف الأوقات، وقد علمنا كون الفعل مصلحة في الوقت الذي خص به، ولا نعلم كونه مصلحة في الزمان الثاني، فلا يجوز مع جواز كونه مفسدة. والجواب: أن هذا لا يصح أن لو كان الأمر متعلقًا بما فيه مصلحة، فنكون لا نعلم وجودها في الوقت الثاني. فأما على قولنا فالأمر غير موقوف على المصالح، وقد يتضمن المصلحة والمفسدة. فأما من فرَّق بين المقيد2 والمطلق فلا وجه له؛ لأن المطلق والمقيد سواء في تعلقهما3 بالوقت؛ لأن المطلق يختص أول أوقات الإمكان عنده وعند القائل؛ فإذا لم يسقط أحدهما بمضي وقته وجب أن لا يسقط الآخر. يبين ذلك: أن ما ثبت من جهة النطق بمنزلة ما ثبت بدليل، ألا ترى أن عقد البيع لما أوجب سلامة المبيع كان شرط المشتري لذلك وسكوته عنه
بمنزلة في أنه يعتبر صحة المبيع بجميع أجزائه. واحتج بأن تقيد المأمور به بالوقت يوجب له صفة زائدة على كونه مطلقًا؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يكن لتقييده بالوقت معنى؛ فإذا كان المطلق كالمقيد في أنه لا يجوز تأخيره عن وقت الوجوب، لم يجز أن [35/ ب] يختلفا إلا في باب سقوط المقيد منهما بفوات وقته، وبقاء حكم المطلق بعد الوقت الأول. والجواب: أن نقول بموجب هذا، وأنه قد أوجب له صلة زائدة وهو إنما أفاده تأخيره الوجوب عقيب الخطاب.
مسألة الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئا
مسألة الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئا مدخل ... مسألة: 1 الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئًا، وهو قول جماعة الفقهاء وأكثر المتكلمين والأشعرية وغيرهم2. وقالت طائفة من المعتزلة3: لا يقتضي ذلك، وأن كونه مجزئًا يعلم بدلالة غير الأمر.
دليلنا
دليلنا: إن الأمر بالعبادة اقتضى وجوب فعلها وإيجاده، فإذا فعل المأمور به فقد امتثل ما اقتضاه الأمر، فخرج عن عهدته، وعاد إلى ما كان عليه قبل
الأمر، فبرأت ذمته كما لو أمر السيد عبده بفعله شيء ففعله، لم يبق عليه شيء من ناحية أمرهن، ويبين صحة هذا أنه يصح أن يخبر عن نفسه بأن يقول: قد فعلت كذا وكذا، فلو كان قد بقي عليه شيء من حكم المأمور به، لما صح أن يخبر بذلك. ولأن جواز الفعل حكم تعلق بالمأمور به، كما أن استحقاق الثواب حكم تعلق به، فإذا كان فعل المأمور به على شرائط يدل على استحقاق الثواب، كذلك يجب أن يدل على جوازه. ولأنه لا طريق إلى معرفة جوازه إلى وقوعه على الوجه المأمور به، ألا ترى أنه يستحيل أن تكون الدلالة على جوازه وقوعه على غير الوجه المأمور به، فدل ذلك على ما قلناه. واحتج المخالف: بأن معنى قولنا: يجزئه، أنه لا تجب عليه الإعادة، وقد علمنا أنه غير ممتنع بأن يأمر الحكيم بفعل من الأفعال، ويقول: إذا فعلتموه فقد فعلتم الواجب واستحققتم الثواب، وعليكم الإعادة مع ذلك، ألا ترى أن الحَجَّة الفاسدة مأمور بالمضي فيها، ويستحق الثواب على فعلها، ومع ذلك فعليه الإعادة، وكذلك من ظن أنه على طهارة وهو في آخر الوقت، فأن الصلاة واجبة عليه، وهو مأمور بها1، ومع ذلك فعليه الإعادة إذا علم أنه كان على غير طهر. والجواب: أنه2 هناك لم يأت بالعبادة على الوجه المأمور به، بل أَخَلَّ بشرط، فلهذا لم يقع موقع المأمور به، وكلامنا فيما يأتي به على الوجه المأمور به من غير إخلال ببعض شرائطه3.
واحتج بأن اللفظ تضمن إيجاب الفعل فحسب، ولم يتضمن إجزاءه وسقوط الفرض، فاحتاج في ذلك إلى دليل. والجواب: أن اللفظ تضمن إيجاده، فإذا أوجده امتثل ما أمره به وبرأت ذمته من1 حكم الأمر، فعاد إلى ما كان عليه قبل توجه الأمر ولم يبق شيء يحتاج فيه إلى دليل.
الواجب المخير
مسألة 2: [الواجب المخير] : إذا ورد الأمر بأشياء على طريق التخيير، كالكفارات3 الثلاث ونحوها، فالواجب واحد [36/ ب] منها بغير عينه، فيتعين ذلك بفعله، فيصير كأنه الواجب عليه بنفس السبب. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية البغوي4: كل شيء في كتاب الله تعالى "أو" فهو تخيير وهو قول جماعة الفقهاء وأصحاب الأشعري. وذهب المعتزلة إلى أن الجميع واجب على طريق التخيير5.
وكان الكرخي مرة ينصر هذا، ومرة ينصر مثل ما حكيناه عن جماعة الفقهاء1. ومن الناس من قال: هذا خلاف في عبارة، لا في معنى؛ لأنهم وإن قالوا: الجميع واجب، فإنه إذا أتى بواحدة أجزأه. وإذا فعل الجميع في وقت واحد، فإن الواجب منها واحد، والثواب يستحق على واحد، وإذا ترك الجميع استحق العقوبة على واحد. وهذا القائل يقول: وإن كان كلامنا في عبارة فهو مفيد؛ لأنَّا نخطئهم في إطلاق اسم الواجب على الجميع. ومنهم من قال: خلاف في معنى؛ لأن من قال: الواجب منها واحد بغير عينه، فإنه يجعل من حلف أنه لم يجب عليه بالحنث جميع الأشياء الثلاثة بارًّا في يمينه. ومن أوجبها جعله حنثًا في يمينه. ولأن من قال: الواجب واحد من الجملة غير معين، فإنه يقول: المراد من المكلف واحد من الجملة، وفي معلوم الباري تعالى أنه لا يعدل عنه إلى غيره. ومن زعم أن الجميع واجب، فإنه يقول: إنه قد أراد كل واحد من الثلاثة كما أراد الآخر، وكره ترك كل واحد كما لو كره ترك الآخر، وهذا خلاف في المعنى.
دليلنا على أن الواجب واحد منها أشياء: منها: أن من قال لآخر: الْقِ زيدًا أو عمرًا، لم يفهم أحد وجوب لقائهما، ولو قال: تصدق من مالي بدرهم أو دينار، لم يعلم وجوب فعلهما، ولهذا المعنى استحق المأمور أن يذم بإخراج الأمرين من ماله، ولو كانا واجبين لم يستحق الفاعل ذمًّا بفعل الواجب؛ ولأن الأمر بالشيء بمنزلة الإخبار عنه. ثم ثبت أن القائل إذا قال: ضرب زيد عمرًا أو خالدًا، كان إخبارًا عن ضرب واحد، وكذلك الأمر إذا كان على هذا الوجه. وأيضًا لو فعل الجميع لم يكن الواجب إلا واحدًا من الجملة، فلو كان الجميع واجبًا قبل الإيقاع، لكان متى تعين بالفعل وقع على الصفة التي كان عليها قبل الإيقاع، ألا ترى الذي تعين فعله لا يجوز أن تخالف صفته حال الإيقاع لما تعلق به الأمر، مثل سائر الواجبات التي ثبتت من غير تخيير، ولما ثبت أن الواحد منها يقع واجبًا دلَّ على أن الواجب واحد منها. فإن قيل: إنما لم يقع جميعها واجبًا؛ لأنها كانت واجبة على التخيير. قيل: المفعول يقع عن1 الواجب كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه، ألا ترى أن من خير في تعيين الحرية في أحد عبديه وأداء الصلاة في أول الوقت، فإنه واجب مخير فيه، ولو فعله لوقع ذلك عن الواجب، كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه. فإن قيل: الثلاث كفارات قبل الإيقاع، [36/ ب] ومتى أوقعها كانت الكفارة واحدة كذلك حكم الوجوب.
قيل: قولنا: كفارة عبارة عن الواجب، وهذا الاسم لا يصح إطلاقه، وإنما يتجوز بالعبارات، فنقول: إنها كفارات، بمعنى أن كل واحد منها1 يقع به التكفير متى اختاره المكلف. ويجوز أن يسمى الجميع كفارات، ويراد به في حق المكلفين؛ لأن الواحد قد يختار العتق، وآخر الإطعام، فأما حق الواحد فلا يقال ذلك فيه إلا على طريق الاتساع. وأيضًا: فإنه لو ترك الثلاثة استحق العقاب على واحد، فدلَّ: أن الواجب واحد منها، يدل على صحة ذلك: أن فرض الكفاية على التخيير؛ لأن كل واحد منهم إذا فعله أجزأه، ومع ذلك إذا تركه الكل حرجوا وأثموا واستحقوا العقاب، كما إذا كان واجبًا على الجميع، وكذلك لو كان له على رجل ألف درهم، فضمنه عنه ضامن، وجب له الألف على كل واحد منهما على التخيير، وإذا تركا جميعًا قضاءه استحقا العقوبة، فلو كان جميع الثلاثة واجبًا، لوجب أن يستحق تاركها العقاب على جميعها، ولما أجمعنا على أنه يستحق العقاب على واحد منها2، وجب أن يكون الواحد منها3 واجبًا. فإن قيل: إذا فعل الجميع أو واحدًا استحال التخيير، فلو قلنا: إن الجميع واجب؛ لأدى إلى أن يكون واجبًا على طريق الجميع، وكذلك إذا ترك الجميع لو قلنا: يعاقب على ترك الجميع أدى إلى هذا المعنى، وهذا غير سائغ، وإنما يسوغ التخيير فيما لم يوجده، وهو قادر على إيجاده. قيل: قد أجبنا عن هذا فيما تقدم، وقلنا: المفعول في المتروك يقع عن الواجب، كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه، ألا ترى أن من خُيِّر في
تعيين الحرية في أحد عبديه وأداء الصلاة في أول الوقت، فإنه واجب مخيَّر فيه، ولو فعله أو تركه، كان حكمه حكم ما لم يكن مخيرًا؟ فإن قيل: لا يحوز اعتبار الوجوب باستحقاق العقاب؛ لأنه إذا أمكنه فعل كل واحد من الأنواع، فلم يخرج تعلق العقاب بأقلها، وهذا متعين قبل تركها، والواجب منها غير معين، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر. قيل: لا نعين العقاب في واحد منها1. ثم نقول: يستحق على واجب واحد بغير عينه عقابًا، هو بقدر أقلها عقابًا، فأما أن نعين الاستحقاق في أقلها عقابًا فلا. وأيضًا: فإن هذا القول يؤدي إلى أن من وجب عليه مُدٌّ من طعام وفي ملكه عشرة آلاف2 مد، وهو مخيَّر في إخراج كل واحد منها: أن يكون الواجب عليه عشرة آلاف3 مد، وأن من وجب عليه شراء رقبة للكفارة، وهو يقدر على شراء كل واحدة من رقاب البلد: أن يكون قد وجب عليه أن يشتري للكفارة جميع رقاب البلد. وإذا وجبت عليه خمسة دارهم في مائتي درهم وجب أن يكون قد وجب إخراج جميع [37/ أ] المائتين؛ لأنه مخير في إخراج كل خمسة منها، وهذا خلاف إجماع المسلمين، وكل قول أدى إلى ذلك فهو باطل مردود. واحتج المخالف: بأن الأمر يتناول كل واحد كتناوله للآخر، فقد تساويا من هذا الوجه، وتساويا في أن المصلحة في كل واحد كالمصلحة في الآخر، وفي
أن الآمر أراده، وأنه إذا كفر وقع موقعه، فإذا كان أحدهما واجبًا كان الآخر كذلك. والجواب عن قولهم: أن الأمر تناول كل واحد، وأن ذلك مراد للآمر، فلا نسلم هذا، بل الأمر تناول واحدًا لا بعينه، والآمر أراد واحدًا لا بعينه، وعلى أن الأمر والإيجاب لا يدلان على الإرادة عندنا. وقولهم: إن المصلحة في كل واحد كالمصلحة في الآخر، فهذا لا يدل على أن الوجوب يعمها1، ألا ترى أن الله تعالى قد تعهد بإخراج الصدقات إلى المساكين، وجعل الخيار في وضعها فيهم إلى أرباب الأموال، فيكون له أن يعطي من يشاء من المساكين كالمصلحة في دفعها إلى غيره منهم. وكذلك يجب عليه في مائتين خمسة دراهم شائعة، ولرب المال إخراج أي خمسة شاء منها، ولا يكون هذا دلالة على إيجاب إخراج كل خمسة منها مع تساويها في المصلحة. وقولهم: إنه إذا كفر بأحدهما وقع موقعه، كما لو كفر بالآخر، فهذا لا يدل على إيجابهما كما ذكرنا في الدفع إلى أحد الفقراء، الأداء يقع بالدفع إلى كل واحد، ولا يجب الدفع إلى الجميع. وكذلك إخراج خمسة من مائتين كل خمسة من ذلك مساوية للأخرى في الأداء. ولا يجب إخراج الجميع. واحتج بأنه لو كان الواجب واحدًا لنصب الله عليه دليلا، وميَّزه عما ليس بواجب، ولهذا يطلبه. والجواب: أنه إنما يجب هذا إذا كان الواجب معينًا قبل الفعل، فينصب عليه دليلا؛ ليتوصل المأمور إلى معرفته، فأما إذا لم يكن معينًا وإنما
يتعين بفعله فلا حاجة به إلى تبين؛ لأن ما يؤدي به فرضه هو الذي يختار فعله منها. وجواب آخر وهو: أن ما يستحق العقاب على تركه والثواب على فعله واحد، ولم يجب نصب الدليل عليه، فكل جواب لك عنه فهو جوابنا عن الواجب الواحد. وجواب آخر وهو: أن المستحق عتق عبد من عبيد الدنيا، وإطعام عشرة من فقراء دار الإسلام، وإن لم يدل الأمر على أعيانهم، وكذلك تعتبر الزكاة في خمس من ماله لم يدل عليه، وإن كان هذا القدر هو الواجب عليه. وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن يكون الواجب واحدًا من الجملة، وفي معلوم الله تعالى أن المكلف لا يعدل عنه إلى غيره، فيجوز أن يخيَّره في ذلك، ويكون القصد تعريضه للثواب في طلبه لما هو الأولى [37/ ب] والأفضل عنده، ويصير بمنزلة فرض الإمامة أنه يتعلق بواحد والخيار إلى الأمة في اختياره وتعيينه، وإن لم تقم دلالة على عينه، وكذلك العدل من الشهود. واحتج بأنه لا يجوز أن يقال: إن الواجب واحد من الجملة؛ لأنه لا يعرف ما هو الأصلح. والجواب: أن الباري -سبحانه- لو نصَّ فقال: أوجبت عليك أيها المكلف واحدًا من هذه الجملة، وقد علمت أنك لا تختار إلا ما هو المراد منك والواجب عليك، جاز. فإن قيل: فيجب أن يخبر الإنسان بين تصديق المنبأ ومن هو متنبئ، قيل: لو لزم هذا للزم المخالف، إذا قال في مقدار الزكاة: الخيار إلى المالك في أن يعينه في أي مال شاء، وكذلك إذا قال: الخيار إليه في تعيين.
الدفع إلى أي فقير شاء. وكذلك في اختيار الإمام وتمييزه ممن ليس بإمام. ومن الناس من أجاز ذلك إذا كان في معلوم الله تعالى: أن المكلف لا يختار إلا الإيمان بمن هو نبي، مثل الإمامة، ومن منع ذلك فرَّق بين الأمرين: بأن تصديق المتنبئ معصية وكذب، فغير جائز أن يخير بين أن يكذب أو يصدق، وبين أن يطيع أو يعصي، وأما في الأشياء المأمور بها على وجه التخيير فجميعها يجوز أن تجمع في الفعل، فجاز أن يقف على اختياره. واحتج: بأن التخيير يقع بين الأشياء المتساوية، ومتى لم تكن واجبة زال هذا المعنى. والجواب: أن الجملة متساوية في أن كل واحد منهما يجزئ عن الواجب متى اختاره المكلف. فإن قيل: المكلف قد يختار واحدًا من الجملة ثم يعدل عنه إلى غيره. قيل: متى اختار تعيين الواجب في واحد وقف حكمه على إيجاده، فإذا أوجد الثاني تبينَّا أن الذي أريد ذلك دون غيره، مثل أن يعطي زكاة ماله أي فقير، بعد أن أراد تعيينه إلى آخر، وكذلك إذا أرادت الأمَّةُ تقليدَ واحد الإمامةَ فرأت غيره أحق منه بعد ذلك. واحتج: بأنه لو كان الواجب واحدًا من الجملة، كان إذا فعل غيره لم يقع موقع الواجب. والجواب أنا نقول: الواجب غير معين، وهو ما يختاره المكلف، فتعينه بفعله، فيقول القائل: إذا عدل عن غيره أو فعل غيره محال، وإذا كان تعيين الوجوب موقوفًا على فعله وتعيينه بطل اعتبار العدول، ولو صح هذا الاعتبار لوجب إذا نذر الواحد عتق عبد من عبيده أن يكون الواجب عليه عتق جميع عبيده، ومن طلق واحدة من نسائه أن يكون
الواجب عليه طلاق جميعهن، وكذلك من وجب [عليه] زكاة خمسة دراهم، أن يكون الواجب عليه أن يتصدق بها على جميع فقراء الدنيا، وكذلك من وجبت عليه خمسة دراهم أن يلزمه أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن له العدول من بعض إلى بعض، [38/ أ] فسقط ما قالوه.
الواجب الموسع
الواجب الموسع مدخل ... مسألة: [الواجب الموسَّع] : 1 العبادة إذا تعلقت بوقت موسع كالصلاة، فإن وجوبها يتعلق بجميع الوقت وجوبًا موسعًا، وله تأخيرها إلى آخره. وقد نص أصحابنا على هذا في الصلاة، خلافًا لأصحاب أبي حنيفة: يتعلق الوجوب بآخر الوقت. واختلفوا فيما يفعله في أوله. فمنهم من قال: إنه تطوع يقع2 الواجب في آخره. ومنهم من قال: إن ذلك يقع مراعًا، فإن جاء آخر الوقت، وهو من أهل تلك العبادة، علمنا أنه فعله واجبًا، وإن كان بخلاف ذلك [علمنا] أنه فعله نفلا. وقال الكرخي: الوجوب يتضمن تأخر الوقت، أو بالدخول في العبادة قبل ذلك3.
وهذا الخلاف يفيد حكمين، وليس بخلاف في عبارة؛ لأنَّا لا نجيز له تأخير الفعل عن أول الوقت إلى آخره، إلا بشرط العزم1. والثاني: أن الفعل إذا كان مما يجب قضاؤه، فإذا دخل الوقت ثم زال التكليف بجنون أو بحيض حتى فات وقته، وجب قضاؤه على قولنا. وعندهم له التأخير بغير عزم، ولا قضاء عليه. وحكي عن بعض المتكلمين أنه غير متعين2، وإنما يتعين بالفعل كالكفارات. دليلنا: أن فعلها في أول الوقت بحكم الأمر، ألا ترى أن ما قبل الوقت وبعده لما لم يتناوله الأمر لم يجز له فعلها فيه بحق الأمر، وإذا كانت مفعولة بحق الأمر وجب أن يكون الفعل واجبًا؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب، ولا يلزم عليه فعل الزكاة قبل الحول أنه يجوز، ولا يقتضي الوجوب؛ لأن تحصيلها لم يحصل بحكم الأمر المقتضي للوجوب، وإنما كان بحكم الأمر المقتضي للرخصة، وهو حديث العباس3، لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعجيل الصدقة
قبل أن تحل، فرخص له في ذلك1، وليس كذلك ههنا، فإنها تفعل في أول الوقت بالأمر الذي يفعل [به] في آخره، وذلك مقتضى الوجوب. وليس لهم أن يقولوا: إن الأمر بتناول الوقت في باب الجواز، لما بينَّا، وهو أنه تناول بالأمر الذي تناول آخره، وهو قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 2، أو صلاة جبريل في أول الوقت وآخره 3. ولأن إطلاق الأمر يقتضي الوجوب، وإطلاقه يقتضي الفور عندنا
وعندهم، وهذا قد وجد في أول الوقت. وأيضًا: فإنها إذا فعلت في أول الوقت لم يَخْلُ: إما أن تكون مفعولة في وقت وجوبها الموسع، أو في وقت وجوبها المضيق، كما حكي عن بعض، أو وقعت نفلا، أو قبل الوجوب فيراعى حالها، ولا يجوز أن تكون فعلت في أول وقت الوجوب المضيق؛ لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يجوز فعلها بنية النفل، ويكون ذلك أولى بالجواز من نية الفرض؛ ولأنها لو كانت نفلا لم يسقط بها فرض كمن تصدق عن نافلة لا تسقط زكاته، وكذلك من صلى نافلة في أول الوقت لم يسقط بها الفرض في أول الوقت، [38/ ب] فلا يجوز أن تقع مراعاة؛ لأن عبادات الأبدان المقصودة لا يجوز تقديمها على حالة وجوبها من غير عذر، وإذا بطل هذا ثبت أنها فعلت في وقت وجوبها الموسَّع، ولا يلزم عليه الطهارة1؛ لأنها غير مقصودة، ولا يلزم عليه الصيام في الكفارة؛ لأنه غير مقصود، ألا ترى أنه لا يثبت حكمه إلا بعد عدم المال؟
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لو تعلق وجوبها بأول الوقت، لم يجز1 تركها لا إلى بدل؛ لأن هذه صفة الوجوب، وفي اتفاقهم على جواز تأخيرها في الوقت الأول لا إلى بدل دليل على أن الوجوب [لا] يتعلق بأول الوقت. والجواب: أنا لا نسلم أنه يجوز تركها لا إلى بدل، بل له أن يؤخرها بشرط أن يعزم على فعلها في الوقت الثاني، فيكون عزمه على ذلك بدلا عنها. فإن قيل: الأبدال لا يجوز إثباتها من غير دلالة تدل عليها، ألا ترى
أنه لا يجوز إثبات بدل من الماء غير التيمم، وكذلك سائر العبادات لا يجوز إثبات بدل عنها بغير دلالة. قيل: الدلالة على ذلك أنا لو قلنا: له التأخير من غير شرط العزم، سوَّينا بينها وبين النافلة والمباح؛ لأن له تأخيرها من غير شرط العزم، وقد أجمعنا على الفرق بين الواجب وبين النافلة والمباح، فلا يحصل الفرق إلا بما ذكرنا. فإن قيل: البدل: ما يفعل لتعذر المثل، وفعل الصلاة في أول الوقت ليس بمتعذر، فلا يكون له بدل. قيل: المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، وكذلك المسح على العمامة، ويجوز فعلها مع القدرة على المبدل. وجواب آخر عن أصل الدليل وهو: أنه منتقض بالمسافر، فإنه مخيَّر بين فعل صوم رمضان وبين تركه لا إلى بدل على ما قرر المخالف، ومع هذا فهو واجب، وكذلك قضاء رمضان يجوز تقديمه وتأخيره، وهو واجب في ذمته، ولأن ترك النافلة جائز، وما خيِّر بين فعله وتركه لا يكون واجبًا، وليس كذلك هذا الفعل، فإنه مخيَّر بين تقديمه وتأخيره، ولا يجوز تركه أصلا، فدل على الفرق بينهما. واحتج: بأنها لو كانت واجبة في أول الوقت لأثم بتأخيرها عنه كتأخير الصوم والزكاة والحج. والجواب: أنه إنما لم يأثم بتأخيرها عن أول وقتها؛ لأن وجوبها موسَّع، وتلك العبادات وجوبها مضيق، وعلى أن هذا لو كان صحيحًا لوجب أن يثبت الوجوب في الحالة التي يلحقه المأثم، وهو إذا بقي من الوقت قدر ما يصلي فيه الصلاة، وعندهم يأثم بالتأخير عن هذه الحالة، والوجوب متبقٍ1 كذلك ههنا.
وأما من شبَّه ذلك بالكفارة، فهو الدليل عليه؛ لأن الكفارة واجبة عليه من حين الحنث في يمينه، وبأي نوع من أنواع الكفارة كفر [39/ أ] كان وجوب الكفارة سابقًا لفعله، وكان مؤديًا لما سبق وجوبه، كذلك يجب أن يكون في أول وقت من أوقاته فعل، أن يكون فاعلا لما سبق وجوبه.
مسألة المريض ومن في حكمه يجب عليهم الصيام في وقته مع جواز التأخير
مسألة المريض ومن في حكمه يجب عليهم الصيام في وقته مع جواز التأخير مدخل ... مسألة: [المريض ومن في حكمه يجب عليهم الصيام في وقته مع جواز التأخير] : 1 المريض والمسافر والحائض يلزمهم الصيام، وإن جاز لهم تأخيره، وإذا فعلوا بعد زوال العذر كان قضاء عن الواجب الذي لزمهم. وقد قال أحمد -رضي الله عنه- في رواية الأثرم، وقد سئل عن المجنون يفيق يقضي ما فاته من الصوم؟ فقال: "المجنون غير المغمى عليه، قيل له: لأن المجنون رفع عنه القلم، قال: نعم." فأسقط القضاء عن المجنون، وجعل له فيه رفع القلم، فاقتضى أنه غير مرفوع عن المغمى عليه. وقال أيضًا -رحمه الله- في رواية حنبل في النصراني يسلم في النصف من رمضان، واليهودي، أو الصبي يدرك في آخر الشهر من رمضان؟ فقال: "يصوم ما بقي ولا يقضي ما مضى؛ لأنه لم يجب عليه شيء، إنما حدثت الأحكام عليه." فأسقط القضاء عنهم، وجعل العلة عدم الإيجاب، فاقتضى هذا أن من وجب عليه القضاء، قد كان واجبًا عليه. خلافًا لأصحاب أبي حنيفة في قوله: الصوم غير واجب عليهم في
الحال، وإنما يلزمهم عند زوال العذر 1. وخلافًا للأشعرية في قولهم: المسافر يلزمه الصيام، فإن فعله أجزأه وإن أخره عنه جَازَ. وأما المريض والحائض فلا يلزمهم قضاء الصيام، إنما يلزمهم2 بعد ذلك.
دليلنا
دليلنا: قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} 1 وتقدير الآية: فأفطر، فأوجب العدة بالفطر، وعندهم: ما وجبت بالفطر، وإنما وجبت بمعنىً آخر، وهذا دلالة على وجوب الصوم على المريض والمسافر. ولأن العبادة إذا كانت مأمورًا بها في وقت محصور، فإذا لم يجب فعلها فيه، لم يجب عليه أن لا يعود وقت مثلها، كالصلاة في حق الحائض، لما لم تجب في وقت، لم تجب حتى يعود وقت مثلها، فلما ثبت في الصوم أنه يجب قبل مجيء وقت مثله2، ثبت أنه وجب القضاء بالتأخير، فهو كما لو أفطر بغير عذر. وأيضًا: فإنما يأتي به المريض والمسافر والحائض من الصوم بعد زوال العذر، يسمى قضاء، فلولا أنه بدل عن واجب تقدم لما سُمِّيَ بذلك. [فإن قيل: إنما سمي بذلك] 3 مجازًا.
قيل: الأصل في كلامهم الحقيقة، فمدعي المجاز يحتاج إلى دليل. وقد روي عن عائشة1 -رضي الله عنها- أنها قالت: كنا نقضي ما فاتنا من رمضان في شعبان اشتغالا برسول [الله] 2. وفي خبر آخر: كنا نؤمر بقضاء رمضان"3، وظاهر التسمية الحقيقة.
ولأن ما فعل بعد زوال العذر يعتبر قدره بقدر الأصل، ويؤتى به على مثاله، فثبت أنه بدل عنه؛ ولأنه يؤمر بنية القضاء. واحتج المخالف: بأنه لو كان واجبًا لما جاز تركه، ولأَثِمَ بتأخيره. والجواب [39/ ب] أنه إنما جاز تأخيره؛ لأن وجوبه موسَّع، وعلى أنَّا قد أبطلنا هذا في المسألة التي قبلها. واحتج: بأن الحائض لا يتأتى منها فعل الصوم بحال، فلا يجوز أن تؤمر بما لا يتأتى منها. والجواب: أنه قد يؤمر في الشرع بفعل عبادة، وإن كان في الحال لا يصح منه فعلها، كالمحدث يؤمر بفعل الصلاة، ولا يصح منه الفعل.
مسألة الأمر للنبي أمر لأمته
مسألة الأمر للنبي أمر لأمته مدخل ... مسألة: [الأمر للنبي أمر لأمته] : 1 إذا أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بفعل عبادة بلفظ ليس فيه تخصيص، نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} 2، و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} 3، أو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلا قد عرف أنه واجب أو ندب أو مباح، فإن أمته يشاركونه في حكم ذلك الأمر والفعل، حتى يدل دليل على تخصيصه. وكذلك الحكم إذا توجه على واحد دخل غيره في حكمه، نحو:
رَجْمِ1 ماعز2، وقطع سارق3 رداء صفوان4 ونحو ذلك.
وكذلك إذا توجه الخطاب إلى الصحابة -رضي الله عنهم- دخل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض عليكم" 2،ونحو ذلك. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية أبي طالب3 في رجل قال: إن أكلت هذا الطعام فهو علي حرام، فإن أكله عليه كفارة يمين، حديث عائشة وحفصة4، لما قالتا للنبي -صلى الله عليه وسلم: نشم منك رائحة معافر5، قال: "لا،
بل شربت عسلا، ولن أعود إليه"، فأنزل الله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} 1، وإنما كان شرب عسلا2. وقال أيضًا فيمن حرم أَمَته: عليه كفارة. واحتج: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرم مارية القبطية3، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} 4. وهذا يدل من
كلام أحمد رحمه الله: أن النبي إذا أمر بفعل شيء شاركته أمَّته فيه؛ لأنه احتج في إيجاب الكفارة على من حرم طعامه: بأمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالكفارة، لما حرم العسل، ولم يجعل ذلك خاصًّا في حقه؛ لأن الخطاب تناوله. وقال أيضًا في رواية الأثرم: لا يتطوع قبل صلاة العيد ولا بعدها، وذكر الحديث يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصلِّ قبلها ولا بعدها1، فجعل فعله حجة على أمته.
وقال أيضًا في رواية محمد بن موسى1، وقد سئل عن قوم ينهون عن رفع اليدين في الصلاة، فقال: لا ينهاك إلا مبتدع، فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك2.
خلافًا للأشعرية وبعض الشافعية في قولهم: يختص ذلك بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولمن واجهه بالخطاب، ولا يدخل النبي فيما كان خطابًا للصحابة1. وذكر أبو الحسن التميمي من أصحابنا من جملة مسائل من الأصول: أن الأمر إذا توجه إلى واحد، لم يدخل غيره فيه بإطلاقه. فالدلالة على أن الصحابة تشارك النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أمر به وفي أفعاله قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} 2 فأخبر أنه زوَّجَه من كانت امرأة من قد تَبَنَّاه، لكي يقتدي الناس به في ذلك، فلا يمتنعوا من التزويج بنساء من تبنوه، فثبت
بهذا أنهم مشاركون له فيما فعله1. واحتج أبو إسحاق الزَّجاج2 في كتاب المعاني3 بقوله تعالى: {يا أيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} 4، فأول الخطاب مُواجَهٌ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان المراد به أمته بقوله: {طَلَّقْتُمْ} ، {فَطَلِّقُوهُنَّ} 5. وأيضًا: فإنما اختص به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشريعة ورد فيه بلفظ التخصيص، مثل قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ} 6، و {نَافِلَةً لَكَ} 7، فلو كان منفردًا بما يتوجه إليه من الشرع، لم يكن لتخصيصه فائدة8.
ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كان يسأل عن الأمر فيجيب عن حال نفسه، مثل سؤال الرجل عن القُبْلَةِ في حال الصوم، فقال: "أنا أفعل ذلك" 1. ومثل قوله لأم سلمة2 حين سألته عن الاغتسال من الجنابة: "أما أنا فأفيض الماء على رأسي"3، فلو كان مخصوصًا بحكم الشرع، لم يكن لهذا الفعل معنىً.
ولأن الصحابة قد كانت ترجع إلى أفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يُخْتلف فيه من أحكام الشرع، مثل ما روي عن اختلافهم في الغسل من التقاء
الختانين من غير إنزال1، ومثل وجوب الوضوء من المسيس2، فلو
كان مخصوصًا بحكم الشريعة لم يصح رجوعهم إلى فعله، فدل على مساواته بغيره في أحكام الشرع. فإن قيل: الصحابة صاروا إلى هذين الفعلين بدلالة خاصة مقتضية للأمرين. قيل: خاص الدلائل يختص بمعرفته بعض الناس، فلو كان الأمر على ما قالوه لذكروها، وسألوا عنها، ولو لم يكن عندها دلالة عامة تشترك الجماعة في العلم بها لسألوا عنها كسؤالهم عن نفس الدلالة. وأيضًا: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أمرني الله بشيء إلا وقد أمرتكم به، ولا نهاني عن شيء إلا وقد نهيتكم عنه"، فدلَّ على أن الأصل ما ذكرنا.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن لفظ الأمر وقع خاصًّا، فلم يكن هناك لفظ يتناول غيره، فلا يجوز إثباته.
والجواب: أن خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحكم خطاب لأمته؛ لأنه صاحب الشرع ومنه يوجد، ولأنه قد أوجب عليهم اتباعه بقوله: {وَاتَّبِعُوهُ} 1، وبقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 2. واحتج: بأنه لا يمتنع أن يكون مصلحة لعين دون عين، فلا يتعدى إلى غيرها إلا بدلالة. [40/ ب] والجواب: أنا لا نمنع أن يكون هذا مصلحة في العقل، وكلامنا فيما يقتضيه الشرع، وقد بينَّا أن الشرع يقتضي وجوب التَّأَسِّي في أفعاله. واحتج: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كان مخصوصًا بأشياء لا يشاركه غيره فيها3، كالموهوبة والعدد وغير ذلك، فلم يَجُزْ حمله على المشاركة إلا بدليل. والجواب: أن الفعل المطلق لا يقع إلا وهو دالٌّ على الاشتراك، وإنما يختص ببعض الأفعال بدليل، وكلامنا في الفعل المطلق. واحتج: بأن لفظ الواحد له صيغة تخالف لفظ الجمع، فإذا حملنا لفظ الواحد على الجمع، خلطنا باب الواحد بباب الجمع، وهذا لا يحوز. والجواب: أن خطاب الله تعالى لنبيِّه في حكم خطاب الجماعة؛ لأنه قد أوجب عليهم اتباعه بقوله: {وَاتَّبِعُوهُ} 4، وقوله: {فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1، وكذلك خطاب النبي للواحد من الجماعة بقوله صلى الله عليه وسلم: "خطابي للواحد خطاب2 للجماعة"3.
فصل الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره
فصل: الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره: والدلالة على أن الحكم إذا توجه إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره قوله تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 4 فظاهره يفيد أن ما كان من الحكم الخاص لشخص بعينه في القرآن، فجميع الناس منذَرون5 به، ولا يكون إلا مع تكليفهم لفظه وإيقاعه. وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} 6، والإرسال يتضمن ما أرسل من الأحكام، ومرسلا إليه، وأَكَّدَ ذلك بقوله تعالى: {نَذِيرًا} ، والإنذار يقع بالعبادات. وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خطابي للواحد خطاب للجماعة، وحكمي على الواحد حكم على الجماعة" 7.
فإن قيل هذا من أخبار الآحاد. قيل: يجوز الاحتجاج به في مثل ذلك؛ ولأن الأمور التي خص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها الواحد، قد بيَّن عن وجه التخصيص فيها، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بردة1: "الجذع من الماعز يجزئ عنك، ولا يجزئ عن أحد بعدك" 2، وقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي تزوج بما معه من
القرآن: "هذا لك، وليس لأحد بعدك" 1، وكذلك تخصيصه
للزبير1 بلبس الحرير2.
فبان أن الأصل اشتراك الجماعة في الحكم، حتى يثبت للتخصيص فائدة في موضعه الذي ورد فيه. ويدل عليه إجماع الصحابة في أحكام الحوادث، مثل رجوعهم في
أمر الزنى إلى قصة ماعز 1، وفي الجنين إلى قصة2 حمل بن مالك3، ورجوع ابن مسعود4 في المفوضة إلى
قصة1 بروع بنت واشق2. ورجوعهم في وضع الجزية على مجوس هجر3. ولم يَدَّعِ أحد تخصيص الواحد من الجماعة التي خرج عليها الخطاب، فدل على تساوي الجميع في ذلك.
وذهب [41/ أ] المخالف إلى الذي ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا من الأدلة، وقد أجبنا عنه. واحتج: بأنه لو كان له عبيد، فقال لواحد منهم: اسقني ماء، لم يدخل فيه1 بقية العبيد، كذلك أوامر صاحب الشريعة إذا توجهت إلى واحد، لا يدخل فيه غيره. والجواب: أن لفظ صاحب الشريعة أدخل في العموم من لفظ غيره، ألا ترى أنه لو قال الله تعالى لنبيِّه، أو قال النبي لبعض أمته: صُمْ؛ لأنك صليت، دخل في ذلك كل مصلٍّ، اعتبارًا بتعليله، وكذلك لو قال: حرمت السكر؛ لأنه حلو، حرم كل حلو، ولو قال السيد لبعض عبيده: اسقني ماء؛ لأنك صليت؛ لم يدخل غيره من عبيده المصلين في ذلك، وكذلك لو قال: والله لا أكلت السكر؛ لأنه حلو، لم يدخل في يمينه غيره من الحلاوات.
مسألة: دخول النبي في أمره لأمته
مسألة: دخول النبي في أمره لأمته مدخل ... مسألة: [دخول النبي في أمره لأمته] : 1 إذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بأمر، دخل هو في الأمر2. وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في مواضع: فقال في رواية الأثرم، وقد سأله عن حديث أم سلمة: "إذا دخل
العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره، ولا من أظفاره" 1، كيف هو؟ فذكر إسناده، فقيل له: فحديث عائشة خلاف هذا 2، فقال: لا، ذاك إذا بعث بالهدي وأقام، لم يجتنب شيئًا، وهذا إذا أراد
أن يضحي في مصره، ودخل العَشْر، لم يمس من شعره ولا من أظفاره، فقد عارض نهيه وهو قوله: "لا يمس من شعره، ولا من بشره" بفعله، وهو أنه ما كان يمتنع عن شيء مما كان عليه، فلو كان نهيه لغيره مما يختص به الغير، وفعله مما يختص به هو، لم يقابل النهي بالفعل؛ إذ كل واحد منهما لا يلزمه حكم الخطاب الآخر1. وكذلك قال -رحمه الله- في رواية الميموني وقد سأله رجل: أيتوضأ بالنبيذ؟ فقال: كل شيء غير الماء لا يتوضأ به. فقيل له: فحديث ابن مسعود؟ فقال: يرويه هذا الرجل الواحد ليس بمعروف2، يمنع من الوضوء بالنبيذ. واحتج في ذلك بالآية، فعورض بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو
...............................................................................
حديث ابن مسعود، فتكلم عليه، ولم ينكر على السائل هذه المعارضة، فلولا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان داخلا في عموم الآية لأنكر عليه ذلك، خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في قولهم: لا يدخل في الأمر1.
دليلنا
دليلنا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمر الصحابة بالفسخ، قالوا: أتأمرنا بالفسخ وأنت لا تفسخ، فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولحللت كما تحلون" 1، فلولا أنه داخل في الأمر، لم يستدعوا الفعل منه، ولم يقرهم على ذلك، ويعتذر إليهم بعذر منعه من دخوله فيه. [و] [41/ ب] رواه الأثرم في مسائله بإسناده عن ابن عمر قال: "لما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحل بعمرة، قلنا: فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا؟ قال: "إني أهديت ولبدت، فلا أحل حتى أنحر هديي" 2.
ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبلغ عن الله تعالى أمره، فيكون بمنزلة قول الله تعالى: افعلوا كذا، فيجب أن يدخل فيه. فإن قيل: لو قال الله تعالى: قل لأمتك: افعلوا كذا، لم يدخل هو في الخطاب، ولا فرق بينهما. قيل له: قد بينَّا في المسألة التي قبلها فساد هذا، وقلنا: إن تخصيص النبي بالخطاب يوجب دخول أمته، وتخصيص بعض الصحابة يوجب دخول الباقين فيه، كذلك أمره لغيره يوجب دخوله فيه؛ لأن الجميع شرع، فلا يختص به بعض المخاطبين. فإن قيل: الأمر مضاف إلى الأقوال، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1، وليس بمضاف إلى الله تعالى. قيل: إنما أضافه إليه لوجوده من جهته. فإن قيل: ما اجتهد فيه النبي هو غير مبلغ فيه عن الله تعالى أمره، فكان يجب أن لا يدخل فيه. قيل: إذا اجتهد فيه وأقر عليه، فهو مبلغ فيه عن الله تعالى؛ لأن إقراره عليه أمر به.
فإن قيل: فقد نقل الميموني عن أحمد -رحمه الله- في قوم يقولون: ما كان في القرآن أخذنا به1، ففي القرآن تحريم لحوم الحمر الأهلية؟!. وهذا من أحمد -رحمه الله- يمنع أن يكون جميع كلام النبي عن الله تعالى. قيل: هذا يمنع أن يكون جميع كلامه في القرآن، وغير ممتنع أن يكون لله تعالى أمر غير القرآن.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن النبي آمر، فلا يجوز أن يكون مأمورًا به؛ لأنه لا يجوز أن يكون مأمورًا به بما هو آمر به، كما لا يحوز أن يكون آمرًا بما هو مأمور به؛ ولأنه لا يجوز أن يكون مطلوبًا بما هو طالب به، ومسئولا بما هو سائل به، كذلك لا يجوز أن يكون مأمورًا بما هو آمر به. والجواب: أنا لا نسلم أنه أمره، وإنما هو من جهة الله تعالى وهو مخبر عنه. واحتج: بأنه لا يجوز أن يكون آمرًا نفسه بلفظ يخصه، كذلك لا يجوز أن يكون آمرًا نفسه بلفظ يعمه وغيره. والجواب: أنه ليس بآمر نفسه، وإنما الأمر من جهة الله تعالى له ولغيره، على أنه قد قيل: إن ذلك جائز أن يقول لنفسه: افعل، ويريد منها الفعل.
واحتج: بأن من شرط الأمر أن يكون الآمر أعلى من المأمور، وهذا الشرط مفقود ههنا؛ لأنه لا يكون أعلى رتبة من نفسه. والجواب: أن هذا يصح إذا كان هو الآمر، فأما والآمر هو الله تعالى فلا يلزم هذا. واحتج: [42/ أ] بأن الأمر يتضمن إعلام المأمور به وجوب الفعل، ولا يجوز أن يكون معلمًا نفسه بلفظه، فلم يَجُزْ أن يكون آمرًا نفسه. والجواب: أن الله تعالى هو المعلم له، وليس هو المعلم نفسه. واحتج: بأن المأمور عليه أن يمتثل الأمر، سواء كان عليه فيه ضرر أو له فيه نفع، والإنسان يتوقى ما يضره ويأتي ما ينفعه قبل الأمر، فثبت أن الآمر لا يدخل في الأمر. والجواب: أن هذا يصح لو كان هو الآمر لنفسه. واحتج: بأن الأمر في اللغة، لاقتضاء الفعل من غيره، ألا ترى إذا قال: افعل كذا، صلح أن يقول له المخاطب: قد فعلت، ويكون امتثالا فلا يصح أن يقول هو: قد فعلت. ولأنه لو قال لعبده: اسقني ماء، كان الأمر متوجهًا إلى غلامه، دون نفسه؛ لأنه لا يأمر نفسه أن يسقيه ماء. والجواب: أنا هكذا نقول، وأن الفعل مقتضاه من غيره، وهو الله سبحانه، ولا يشبه هذا، إذا قال لعبده: اسقني الماء؛ لأن الأمر من جهته صدر، فلا يدخل هو فيه. فإن قيل: فهل يدخل المخبر تحت الخبر؟ قيل: لا يدخل؛ لأنه لا فائدة أن يخبر نفسه؛ لأنه ليس يخفى عنه حال المخبر عنه، والأمر بخلافه.
فهرس موضوعات المقدمة
فهرس موضوعات المقدمة: الموضوع الصفحة الافتتاحية 7 التعريف بالمؤلف 15- 30 اسمه ونسبه 15 مولده 18 نشأته، وطلبه العلم، وأهم أعماله 19 تولِّيه التدريس 22 توليه القضاء 23 زهده، وورعه، وثناء الناس عليه 24 وفاته، ورثاء الناس له 27 أولاده 29 التعريف بالكتاب 31- 56 اسم الكتاب 31 نسبة الكتاب إلى المؤلف 31 وصف مخطوطة الكتاب 32 منهج المؤلف في هذا الكتاب 34 مصادر المؤلف في هذا الكتاب 37
الموضوع الصفحة مصادر في العقيدة 37 مصادر في التفسير وعلومه 38 مصادر في الحديث وعلومه 40 مصادر في الفقه وأصوله 42 مصادر لُغَوية ونحْوية 44 مصادر متنوعة 45 تقويم الكتاب 48 محاسن الكتاب 48 المآخذ على الكتاب 51 منهج التحقيق 57 صورة المخطوطة 61
فهرس موضوعات الكتاب الموضوع الصفحة افتتاحية الكتاب 67 تعريف الأصول في اللغة 67 تعريف الفقه في اللغة 68 تعريف الفقه في الاصطلاح 69 تعريف أصول الفقه في الاصطلاح 70 وجوب معرفة الفروع قبل الأصول 70 أدلة الشرع ثلاثة أضرب 71 تقسيم الأصل إلى ثلاثة أضرب 72 أقسام المفهوم 72 أقسام الاستصحاب 72 باب ذكر الحدود 74- 193 تعريف الحد 74 الزيادة في الحد 75 أقسام الزيادة في الحد عند الباقلاني 75 تعريف العلم عند المؤلف 76
الموضوع الصفحة ذكر التعريفات الأخرى ومناقشتها 77 تقسيم العلم إلى قديم ومحدث 80 يقسم العلم المحدث إلى ضروري ومكتسب 80 تعريف العلم الضروري وذكر قسميه 80 تعريف العلم المكتسب وذكر قسميه 82 تعريف الجهل 82 تعريف الشك 83 تعريف الظن 83 الظن طريق للحكم بخلاف الشك 83 تعريف العقل 83 الخلاف في محل العقل 89 أدلة من قال: إنه في الرأس 90 أدلة من قال: إنه في القلب 90 رد أدلة من قال: إنه في الرأس 93 تفاوت العقول في بني البشر 94 ذهب بعض المعتزلة وبعض الأشعرية إلى تساوي العقول 94 أدلة من قال بالتفاوت 94 دليل من قال بعدم التفاوت والرد عليه 100 تعريف البيان في الاصطلاح 100 تعريف البيان في اللغة 101 تعريف الإمام الشافعي للبيان 102 اعتراض ابن داود على تعريف الشافعي 103 تعريف الصيرفي للبيان والرد عليه 105 الخطاب المبتدأ الظاهر المعنى يطلق عليه البيان 105
الموضوع الصفحة تعريف البيان عند المتكلمين 106 وجوه البيان في الشرع 107 ما يحتاج إلى البيان 108 ما يقع به البيان 110 البيان من الله -تعالى- بالقول وبالكتاب 110 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقول 112 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالكتابة 114 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالفعل 118 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإشارة 124 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدلالة والتنبيه على الحكم من غير نص 125 البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإقرار 127 وقوع بيان المجمل بالإجماع 128 قسم أبو بكر غلام الخلال البيان إلى خمسة أقسام 130 تعريف الدليل 131 معنى الاستدلال 132 معنى المستدل عليه 132 معنى المستدل له 132 معنى الدلالةِ لغةً 132 معنى الدَّال 133 قول أحمد: قواعد الإسلام أربع 135 تعريف الأمارة 135 أقسام الأمارة 135 تعريف النص 137
الموضوع الصفحة تعريف العموم 140 تعريف الظاهر 140 الفرق بين العموم والظاهر 140 تعريف المجمل 142 آية: {وآتوا حقه يوم حصاده} مجملة 143 آية: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} مجملة 143 آية: {ولله على الناس حج البيت} مجملة 144 آية: {حرمت عليكم الميتة} مجملة 145 آية: {حرمت عليكم أمهاتكم} مجملة 145 آية: {وأحل الله البيع} مجملة 148 آية: {السارق والسارقة} ليست بمجملة 149 تعريف المفسر 151 تعريف المحكم 151 تعريف المتشابه 152 تعريف مفهوم الخطاب 152 تعريف دليل الخطاب 154 تعريف التخصيص 155 تعريف النسخ 155 تعريف الأمر 157 المندوب مأمور به حقيقة 158 تعريف النهي 159 تعريف الواجب 159 العبارات التي يطلق عليها "الفرض" 160 الحتم مرادف للفرض 162
الموضوع الصفحة هل هناك فرق بين الفرض والواجب 162 تعريف الندب 162 تعريف الطاعة والمعصية 163 تعريف العبادة 163 تعريف السنة 165 معنى المكتوبة 167 تعريف الإباحة 167 تعريف الحَسَن والقبيح 167 تعريف الجائز 168 معنى الظلم والجور 169 تعريف الخبر 169 تعريف الإجماع 170 تعريف الحقيقة 172 تعريف المجاز 172 للإطلاق المجازي أربعة وجوه 172 تعريف القياس 174 تعريف الأصل 175 تعريف الفرع 175 تعريف العلة 175 تعريف الحكم 176 تعريف العلة الواقفة 176 تعريف العلة المتعدية 176 ما هو المعلول، الحكم أم الذات التي حلتها العلة؟ 176 تعريف "المعتل" و"المعلل" و"المعتل به" و"المعتل له" 176
الموضوع الصفحة تعريف الطرد والعكس 177 تعريف النقض 177 انقسام العلة إلى منطوق به ومجتهد بها 178 تعريف السبب 182 أقسام النظر 183 تعريف الجدل 184 تعريف الرأي 184 تعريف الكلام 185 تقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف 186 ذكر بعض الوجوه التي تأتي عليها الأسماء 187 الأسماء نوعان: عام وخاص 187 الأسماء المقيدة المشتقة على قسمين 188 لا يحمل الاسم على الحقيقة والمجاز معًا 188 الأسماء التي استعملها الشرع غير منقولة خلافًا للمعتزلة 189 ثبوت الأسماء هل كان عن توقيف أو عن مواضعة؟ 190 الكلام في بعض حروف تتعلق بها الأحكام 194-212 حرف "الواو" وله ثلاث حالات: 194 الحالة الأولى: أن تكون عاطفة 194 الخلاف في كونها تقتضي الترتيب 194 الحالة الثانية: أن تكون للقسم 197 الحالة الثالثة: أن تكون بدل "رب" 197 قد تأتي الواو بمعنى "أو" 198 حرف "الفاء" 198 حرف "ثم" 199
الموضوع الصفحة حرف "أو" ولها ثلاث حالات: 199 الحالة الأولى: تكون للشك 199 الحالة الثانية: تكون للتخيير 200 الحالة الثالثة: تكون للجمع، على رأي 200 قد تكون للإباحة 200 حرف "الباء" 200 وهي للإلصاق خلافًا لبعض الشافعية فيما لو تعدى الفعل بغيرها 200 حرفا "من، وإلى" 202 حرف "على" 203 حرف "في" 204 حرف "اللام" 204 حرف "إنما" 205 قيام بعض الحروف عن بعض 208 قيام " في" عن "على " 208 قيام "الباء" مكان "عن" 209 قيام "عن" مكان "الباء" 209 قيام "اللام" مكان "على" 210 قيام "إلى" مكان "مع" 210 قيام "اللام" مكان "إلى" 210 قيام "على" مكان "من" 210 قيام "مِنْ" مكان "الباء" 211 قيام "الباء" مكان "مِن" 211 قيام "مِن" مكان "في" 212
الموضوع الصفحة قيام "مِنْ" مكان "على" 212 قيام "عن" مكان "من" 212 قيام "من" مكان "عن" 212 قيام "على" مكان "عند" 212 قيام "الباء" مكان "اللام" 212 بيان أبواب أصول الفقه 213 باب الأوامر 214-424 الكلام في صيغة الأمر 214 الدليل على أن الأمر يكون كذلك لصيغته لا لإرادة الآمر 216 أدلة من قال: "لا بد من الإرادة في الأمر"، ورد ذلك 219 الدليل على أن الأمر هو الأصوات المسموعة 222 الفعل لا يسمى أمرًا ودليل ذلك مع ذكر الخلاف 223 الأمر المتعري عن القرائن للوجوب عند الجمهور 224 إذا أريد بالأمر: الندب، فهو حقيقة فيه 248 الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة 256 الأمر المطلق يقتضي التكرار 264 الأمر المعلق بالشرط يقتضي التكرار 275 الأمر المتكرر هل يقتضي التكرار 278 الأمر المطلق يقتضي الفور 281 الأمر المؤقت، لا يسقط بفوات وقته 293 الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئًا 300
الموضوع الصفحة الواجب المخير 302 الواجب الموسَّع 310 مسألة: المريض والمسافر والحائض يلزمهم الصيام.. إلخ 315 الأمر المطلق للرسول -صلى الله عليه وسلم- يعم أمته وكذلك الأمر لواحد من الأمة يدخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حكمه 318 إذا أمر النبي أمته بأمر دخل هو في الأمر 339
المجلد الثاني
المجلد الثاني باب الأوامر الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره مسألة العبيد يدخلون في الخطاب المطلق مدخل ... باب الأوامر: الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره: مسألة 1 العبيد يدخلون في الخطاب المطلق: 2 وقد قال أحمد رحمه الله في رواية إسماعيل بن سعيد3: تجوز شهادة المملوك، إذا كان عدلًا؛ لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 4، وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 5. وقال أيضًا في رواية ابن منصور6: "على العبد إيلاء، وإيلاؤه أربعة أشهر". وإنما قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ} 1، ولم يذكر العبيد، ولا اليهود2. وقال في كتاب طاعة الرسول قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} 3، فالظاهر أنه على العبد والحر. وقال أيضًا رحمه الله في رواية الميموني، وقد سأله عن المملوكين أو المملوك وتحته حرة يلاعنها: كل زوجين [يتلاعنان] على ظاهر الآية. فظاهر كلام أحمد رحمه الله: أنه أدخلهم في عموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ 4 يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، وفي عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 5، وهو اختيار أبي بكر الباقلاني وأبي عبد الله الجرجاني6. وحكى أبو سفيان عن الرازي: أنه ما تعلق بحقوق الآدميين؛ لم يدخل فيه، قال: ولهذا لم يجز أصحابنا شهادة العبد. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: يدخل فيه، ومنهم من يمنع7.
دليلنا
دليلنا: أن العبد يصح تكليفه، والخطاب متناول له؛ فوجب دخوله فيه كالحر. ولأنه يدخل في الخطاب الخاص؛ فوجب أن يدخل في الخطاب العام؛ [42/ب] لأن دخوله في الخاص لتناوله إياه، وهذا المعنى موجود في العام. ولأن الرق حق يثبت للغير قبله؛ فلا يؤثر ذلك في خطابه، مثل من عليه دين أو قصاص.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن رقابهم ومنافعهم كلها مملوكة للمولى؛ فلا يجوز أن يتصرفوا في شيء إلا بإذنهم، وإذا لم يجز ذلك؛ لم يجز إدخالهم في الخطاب المطلق. والجواب: أن ذلك لا يمنع من دخوله في الخطاب الخاص، وكل جواب عنه؛ فهو جوابنا عن العام. ولأن فعل العبادة يصير مستثنى في حق مولاه، كما يكون مستثنى في حق الزوجة، وفي حق1 المستأجر. واحتج: بأن العبد لا يملك فعل ما هو من حقوق الآدميين؛ لأنه لا يملك شيئًا من العقود، ولا الإقرار بالأموال؛ فلم يدخل تحت الخطاب الذي يتضمن حقوقهم؛ لأنه لا يملك فعل ما خوطب عليه2، ويفارق هذا الخطاب الذي يتضمن حقوق الله تعالى كالصوم والصلاة ونحوهما3؛ لأن
العبد يملك فعل ذلك من نفسه، بدليل أن المولى لا يملكه عليه. والجواب: أنه إنما لم يملك حقوق الآدميين لدليل دل، وخلافنا في مطلق الأمر الخاص، ويلزم عليه أيضًا حقوق الله سبحانه؛ فإن منافعهم مملوكة لغيرهم، وتلزمهم.
مسألة دخول النساء في جمع الذكور
مسألة دخول النساء في جمع الذكور مدخل ... مسألة [دخول النساء في جمع الذكور] : 1 يدخل النساء في جمع الذكور، نحو المؤمنين والصابرين2. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروزي في قوله: "من بدل دينه
فاقتلوه" 1 على الرجال والنساء2. خلافًا لأصحاب
الشافعي1 والأشعرية2 في قولهم: لا يدخلون في ذلك.
دليلنا
دليلنا: اتفاق أهل اللغة على أن الذكور والإناث إذا اجتمعوا1 غلب الذكور على الإناث، كما أنه إذا أخرج من يعقل مع ما لا يعقل؛ غلب من يعقل على ما لا يعقل، يبين ذلك قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} 2، كان ذلك خطابًا لآدم وزوجته والشيطان، الذي أزلهما عنه3، فغلب الذكر على الأنثى، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ 4 دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} ؛ فغلب من5 يعقل على ما لا يعقل، وهي الحية. ويقال: رأيت فلانًا وفلانة قائمين، وقاعدين، فيغلب اسم التذكير
حال التثنية، وإذا صح هذا وكان خطاب الله تعالى في صورة "افعلوا" خطابًا لجميع الناس؛ لأن هذا خطاب لحاضر، وجب أن يكون متناولًا لسائر المكلفين من الرجال والنساء. فإن قيل: لو كان اللفظ متناولا للذكور والإناث معًا لما غلب أحدهما، بل كانا يتساويان فيه؛ فلما غلب التذكير ثبت أن اللفظ موضوع للذكور، فيجب حمله عند الإطلاق على موضوعه. قيل: ليس إذا غلب أحدهما كان الخطاب، [42/أ] لأحدهما دون الآخر، كما قلنا: إذا اجتمع من يعقل مع ما لا يعقل، وإذا اجتمع الأيام مع الليالي؛ فإنه يغلب أحدهما واللفظ شامل لهما، كذلك ههنا، وكما يقال: فلان وفلانة قائمان؛ فيغلب التذكير وإن تناولهما. وأيضًا: فإن الآمر إذا قال لمن بحضرته من الرجال والنساء: "قوموا واقعدوا"؛ كان ذلك خطابًا لهم جميعًا باتفاق أهل اللغة. ولو قال: "قوموا وقمن؛ كان ذلك لكنة وعيًّا، فعلم أن الخطاب يصلح لهما، ويشتمل عليهما. فإن قيل: لو كان أوامر الله تعالى بمنزلة أمر الآمر لمن بحضرته؛ لما حق وروده بلفظ الأمر للغائب؛ فلما وجدنا الله تعالى قد أمر الغائب بقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} 1، وقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} 2 علمنا أن أمره مخالف للآمر يأمر من بحضرته3. قيل: إن كان لفظ الأمر للغائب؛ فالمراد به الحاضر، كما تقول: "اللهم اغفر"، بمنزلة خطاب الحاضر، وتقول: "غفر الله لي"، بمنزلة
خطاب الغائب، وهما سواء، كذلك أوامره. ولأن ألفاظ الأوامر مثل قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، ونظائره، وألفاظ الوعد والوعيد، والمدح والذم، والثواب والعقاب، بلفظ المذكر وهي عامة؛ لعلمنا بمراد الله تعالى الفريقين، وليس لأحد أن يقول: عرفنا ذلك بدليل؛ لأنه لم يرد لفظ يختص بالنساء، ولو كان لظهر.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 2. وأن ذلك مختص بالذكور دون الإناث. والجواب: أن ذلك اختص الذكور بدلالة الإجماع، ولولا ذلك كان الخطاب للرجال والنساء جميعًا. واحتج: بأن للذكور علامة يتميزون بها من الإناث، كما أن للمؤمنين علامة يتميزون بها من الكافرين؛ فلما كان المؤمن لا يدخل تحت اسم الكافر، ولا الكافر تحت اسم المؤمن؛ كذلك لا يجوز أن تتناول لفظة: "افعلوا"، غير الذكور؛ لأن الواو في ذلك علامة للذكور، والنون في: "افعلن"، علامة للإناث. والجواب: أنا لا ننكر أن يكون لكل فريق علامة يميز بها حال الانفراد؛ وإنما الكلام في حال الاجتماع، هل يغلب خطابه بلفظ: "افعلوا"، فيكون خطابا للفريقين، كما يكون حال الاجتماع للمسلمين والكفار خطابا لهم جميعًا.
واحتج بما روي عن أم سلمة؛ أنها قالت: "إن النساء قلن: يا رسول [الله] ما نرى الله يذكر إلا الرجال؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 1"، وهذا يدل على أن النساء لا يدخلن في جمع الذكور.
والجواب: أنهن إنما شكون أن الله تعالى لم يخصهن [43/ب] بالذكر الذي وضع لهن في الأصل، وأردن1 أن يكون لهن في الكتاب2 [أ] لا ترى أنهن كن يصلين ويزكين قبل ذلك بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3 فدل ذلك على ما ذكرنا. فإن قيل: هذا لا يختص به النساء؛ فإن الرجال أيضًا ما أفردوا بلفظ يخصهم؛ فإن لفظ التذكير يدخل فيه التأنيث. قيل: إلا أن علامة التذكير وهي: الواو والنون، قد وردت، وهي دالة على الرجال، ولم ترد علامة التأنيث وهي الألف والتاء4. واحتج: بأن الآحاد من جميع الذكور لا يدخل فيه الإناث، نحو مؤمن وكافر، وقاتل، كذلك يجب أن لا يدخلن في جمعه؛ لأن الجمع إنما تناوله من يصح تناول آحاده له، ألا ترى أن المؤمن لما لم يصح دخوله في قولك: كافر؛ لم يصح دخوله في قوله: كوافر، وأنها5 لا تدخل في جمع المؤنث، مثل المسلمات والتائبات والصابرات والذاكرات؛ لأنه لا يدخلونه في المسلمة والتائبة والصابرة. والجواب: أنا إن سلمنا هذا، فليس إذا لم يدخل في آحاد جميع الذكور ما يمنع من دخوله في الجمع، كما قلنا في آحاد الأيام والليالي،
لا يتبعه الآخر، وفي الجمع يتبع أحدهما الآخر، وكذلك من1 يعقل وما لا يعقل، آحاده لا ينتظم الآخر، وجمعه ينتظم؛ كذلك هذا. وجواب آخر وهو: أن لفظ الجمع يحتمل المذكر والمؤنث في الخطاب، وإنما غلب المذكر؛ ولفظ الواحد لا يحتمل أن يجتمع فيه المذكر والمؤنث، فغلب فيه وضع اللفظة. جواب آخر وهو: أنا لو حملنا الواحد على المذكر والمؤنث، لم يمتز المذكر والمؤنث، وليس كذلك إذا حمل لفظ الجمع عليهما؛ لأنه يحصل الامتياز بينهما في حال أخرى وهو لفظ الواحد.
مسألة دخول الكفار في الأمر المطلق
مسألة دخول الكفار في الأمر المطلق مدخل ... مسألة [دخول الكفار في الأمر المطلق] : 1 الأمر المطلق يتناول الكافر كتناوله المسلم، نحو قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 2 و: {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 3 و: {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 4، ويكون مخاطبًا بالعبادات كالمسلمين في أصح الروايتين. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب في اليهودية والنصرانية تلاعن المسلم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 5، فهي من الأزواج،
وهي بمنزلة المسلمة المحصنة1. وظاهر كلامه: أنه جعلها داخلة في عموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} . وقد صرح بذلك في كتاب "طاعة الرسول"، فقال: قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} ؛ فالظاهر يقع على الأمة واليهودية والنصرانية وغير ذلك2. وإلى هذا ذهب المتكلمون من الأشعرية والمعتزلة3. وفيه [44/أ] رواية أخرى: "لا يتناولهم الأمر، ولا هم مخاطبون بالعبادات، وإنما هم مخاطبون بالإيمان والنواهي"4.
وقد قال أحمد رحمه الله في يهودي أسلم في نصف شهر رمضان: "يصوم ما بقي، ولا يقضي ما مضى؛ لأنه لم يجب عليه شيء من ذلك؛ وإنما وجب عليه الأحكام من الطهر والصلاة بعد ما أسلم"؛ فقد صرح رحمه الله: أنه لم يكن واجبًا عليه في حال كفره. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب الكرخي والرازي وجماعة من أصحابه إلى أنهم مخاطبون بالعبادات. وذهب الجرجاني: إلى أنهم غير مخاطبين بها؛ وإنما خوطبوا بالنواهي والإيمان1. واختلف أصحاب الشافعي أيضًا: فمنهم من قال: هم مخاطبون، وهو الأشبه عندهم2. ومنهم من منع. فالدلالة على أنهم مخاطبون: قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ 3 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 4، فتوعد المشركين على شركهم،
وعلى ترك إيتاء الزكاة؛ فدل [على] أنهم مخاطبون بالإيمان وإيتاء الزكاة؛ لأنه لا يتواعد على ترك ما لا يجب على الإنسان، ولا يخاطب به. فإن قيل: ليس المراد بالآية أننا لم نؤد الزكاة؛ لأنها ما كان1 يتأتى منهم فعلها؛ وإنما المراد أننا لم نكن معترفين بالزكاة ولا مقرين، وقد يعبر بالفعل عن الإقرار بالشيء وإلزام حكمه، كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2، يعني: حتى يضمنوا. قيل: حقيقة الكلام تقتضي أن الوعيد على ترك إيتاء الزكاة؛ فوجب حمله على الحقيقة. فإن قيل: ظاهر الكلام يقتضي أنه جعله صفة للمشركين؛ فكأنه قال: فويل للمشركين الذين هم على صفة لا يؤتون الزكاة. قيل: هما صفتان، وتقديره: فويل للقوم المشركين، وقوله: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} صفة ثانية لهم، ويكون ذلك مثل قوله: فويل للسارقين الذين لا يؤدون المسروق؛ فيكون الوعيد على الصفتين جميعًا. فإن قيل: لو كان كذلك؛ لوجب أن يكون الوعيد على اجتماع الصفتين، وقد أجمعنا على أن المشرك الذي لم يكن له مال متواعد على شركه. قيل: الوعيد على كل واحد من الصفة بانفرادها دون اجتماعها، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وهذا توعد على كل
واحد من المشاقة، واتباع غير سبيل المؤمنين. ويدل عليه أيضًا: قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ 1 مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} 2، وهذا يدل على [44/ب] أنهم دخلوا النار لتركهم إطعام المسكين وتركهم الصلاة. فإن قيل: المراد به أنا لم نكن من المعتقدين بالصلاة ولا مقرين بها. قيل: قد أجبنا عن هذا، وقلنا: حقيقة التوعد على ترك الفعل للصلاة والإطعام. فإن قيل: هذا حكاية عن قول أهل النار؛ فلا حجة فيه. قيل: إنما حكى ذلك عنهم ردعًا وزجرًا لغيرهم، ولو لم يكن فيه حجة؛ لم يصح الردع والزجر؛ ولأنه لو يكن صحيحًا؛ لوجب أن يعقبه بذم ونكير، كما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} 3. ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} 4، وهذا يدل على أن الكفار مأمورون بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وسائر العبادات.
وأيضًا: فإن الخطاب متناول لهم بإطلاقه؛ فوجب أن يكونوا داخلين، فيه كالمسلمين، ونريد بالخطاب المطلق نحو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 2، ولسنا نريد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} 3 و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} 4؛ لأن ذلك خاص في المؤمنين. وأيضًا5 فإن الكفار يدخلون في النواهي؛ لأن الذمي يحد بالزنى والسرقة؛ فوجب أن يدخلوا في الأوامر؛ لأن من دخل في أحد الخطابين؛ دخل في الآخر. فإن قيل: فلم لا يحد بشرب الخمر كما يحد المسلمون؟ قيل: لأنه قد أعطي الأمان على أن يقر على شربه، كما أعطي الأمان على أن يقر على اعتقاده الكفر. ثم لا يدل هذا على أنه غير مأمور بالإيمان ومنهي عن الكفر، كذلك لا يدل ترك إقامة حد الشرب على أنه غير منهي عنه. فإن قيل: إنما كلف النواهي؛ لأنه يصح منهم أن يمتنعوا عن فعل النواهي؛ فلذلك صح أن يخاطبوا بها، ولما لم يصح منهم فعل الأوامر؛ لم يصح أن يخاطبوا بها.
قيل: الترك يحصل منهم ولا يكون طاعة، ويحصل الفعل كذلك، فلا فرق بينهما. وأيضًا: لما كان مخاطبًا بشرط هذه العبادات، وهو الإيمان وجب أن يكون مخاطبًا بالمشروط، كما أن من خوطب بالطهارة كان مخاطبًا بالصلاة. فإن قيل: إنما خوطب بالإيمان؛ لأنه يتأتى منه، ولم يخاطب بالعبادات، لأنها [لا] تتأتى منه. قيل: هذا لا يمنع التكليف، كالمحدث هو مخاطب بالعبادة في حال حدثه وإن لم تصح1 منه.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما بعث معاذًا1 إلى اليمن قال له: "ادعهم [45/أ] إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن أجابوك فأعلمهم: أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" 2؛ فلو كان الخطاب يتوجه عليهم بهذا الإيمان لأمره أن يدعوهم إليه.
والجواب: أنه لم يأمره بأن يدعوهم إلى ذلك؛ لأنه لا يصح منهم فعله في حال كفرهم؛ فبدأ بما يصح فعله، وهو الإيمان. واحتج: بأنه كتب إلى كسرى وقيصر1، ودعاهما إلى التوحيد،
ولم يذكر في كتابه إليهما شيئًا من الشرائع؛ فلو كانا1 متعبدين بها لذكرها. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج بأن الكافر لا يصح منه فعل الصلاة والصيام في حال كفره؛ فإذا أسلم سقطت عنه؛ فلا يتأتى منه الفعل في الحال، ولا في المآل؛ فلو قلنا: إنه مخاطب بها؛ لكان تكليف الزمن فعل الصلاة قائمًا، والحائض فعل الصلاة في حال حيضها. والجواب: أنه وإن كان لا يتمكن من فعلها مع الكفر؛ فقد جعل له
السبيل إلى التوصل إليها؛ بأن يقدم الإيمان ثم يفعل العبادات، كالمحدث الذي لا طريق له إلى فعل الصلاة؛ إلا بأن يقدم الوضوء أو الغسل؛ وإنما الذي يمنع وجوب العبادة أن لا يتمكن من فعلها، ولا يكون له طريق إلى التوصل. فإن قيل: إنما كان المحدث مخاطبًا بفعل الصلاة، والحائض بفعل الصيام، وإن لم يصح الفعل منهما؛ لأن الحدث لا ينفي فعل الصلاة؛ فإنه إذا تطهر لم تسقط عنه الصلاة التي لزمته في حال الحدث، بل يفعلها بعد طهر، وكذلك الحائض. فأما الكافر فإنه لا يتأتى منه في حال كفره، وفي حال إسلامه يسقط عنه القضاء؛ فلا يتأتى منه الفعل بحال. قيل: إنما لم يجب القضاء؛ لأن الإسلام جعل مسقطًا لما سلف؛ لئلا يكون وجوب القضاء تنفيرًا عن الإسلام؛ لأن الكافر ربما أراد الإسلام وهو شيخ؛ فإذا علم أنه يلزمه قضاء ما ترك في عمره من صلاة أو صيام أو زكاة؛ نفره ذلك عن اختيار الإسلام واعتقاده. ويدل على أنه بهذا المعنى قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" 2، وهذا يدل على أن الإسلام هو المسقط ما سبقه من الواجب.
واحتج: بأن الكفر يمنع صحة العبادة، ويمنع قضاءها في الثاني؛ فصار كالجنون. والجواب: أن الجنون يمنع الخطاب بالنواهي وبالإيمان، والكفر لا يمنع ذلك.
مسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده
مسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده مدخل ... مسألة 1 [الأمر بالشيء نهي عن ضده] : الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى، سواء كان له ضد واحد، أو أضداد كثيرة، وسواء كان مطلقًا أو معلقًا بوقت مضيق؛ لأن من أصلنا: أن إطلاق الأمر يقتضي الفور2. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب: لا يتنحنح في صلاته فيما نابه3؛ فإن النبي [45/ب] صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نابكم في صلاتكم
شيء، فليسبح الرجال، ولتصفق النساء" 1، فجعل أمره بالتسبيح نهيًا عن ضده الذي هو التصفيق.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة1 وأصحاب الشافعي2. وقال الأشعرية3: هو نهي عن ضده من طريق اللفظ، وهذا بنوه على أصلهم: أن4 الأمر لا صيغة له. وقالت المعتزلة: الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده؛ لا من جهة اللفظ ولا من طريق المعنى، وبنوا هذا على أصل: أن5 النهي لا يكون نهيًا لصيغته، حتى تنضم إليه قرينة، وهي6: إرادة الناهي، وذلك غير معلوم عندهم. ويفيد الخلاف: توجه المأثم عليه بفعل صلاة بمجرد الأمر.
دليلنا
دليلنا: أن الأمر عندنا يقتضي الوجوب والفور، وقد دللنا على صحة ذلك.
وإذا كان كذلك؛ وجب أن يكون تركه محرمًا، وتركه: فعل ضده؛ فوجب أن يكون فعل ضده منهيًا عنه، فكان الأمر باللفظ متضمنًا لتحريم فعل ضده. فإن قيل: يجوز أن يكون تاركًا لفعل من غير أن يكون فاعلًا لضده؛ لأن السكون معنى يبقى، فلا يكون فاعلًا له في حال بقائه. قيل: السكون لا يبقى، وكل تارك للفعل؛ فإنما هو تارك بفعل ضده، فالتارك للحركة فاعل للسكون، والتارك للسكون فاعل للحركة. ولأن قولهم: أمر بالقيام، ولا يمكنه فعله إلا بترك القعود، فثبت أنه ممنوع من القعود. ولأن من أذن لغيره في دخول الدار، ثم قال له: اخرج، تضمن هذا القول منعه من المقام فيها، واللفظ إنما هو أمر بالخروج، وقد عقل منه المنع من المقام الذي هو ضده. ولأن السيد إذا قال لعبده: قم، فقعد؛ صلح أن يعاقبه على القعود، فلولا أن أمره تضمن رد ذلك لما صلح توبيخه. ولأن الأمر بالشيء لو لم يكن نهيًا عن ضده لصلح أن يبيح له ضده مع الأمر به، وفي اتفاق الجميع على امتناع ذلك دليل على ما قلناه. ولأن الأمر بالشيء لو لم يكن نهيًا عن ضده؛ لما كان الكافر منهيًا عن الكفر، وحيث كان مأمورًا بالإيمان، وفي اتفاق الجميع على أن كون الكافر منهيًا عن الكفر لكونه مأمورًا بالإيمان؛ دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن لفظ النهي قوله: "لا تفعل"، ولفظ الأمر قوله: "افعل"، فلا يجوز أن يجعل الأمر نهيًا.
والجواب: أنه نهى عن ضده من طريق المعنى دون اللفظ؛ فلا يلزمنا ذلك. وعلى أن اللفظ قد يدل على الشيء، وإن لم يكن عبارة عنه، مثل قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1، أن هذه الصيغة لا يعبر بها عن الضرب والقتل، وإن كانت دالة2 على نفيهما. واحتج: بأن النوافل مأمور بها، وضدها وهو الترك غير منهي [46/أ] عنه. والجواب أنا لا نسلم هذا؛ بل نقول: ضدها منهي عنه، لا يستحب تركه؛ فيكون الأمر الذي هو ندبه يتضمن النهي، وكل أمر يتضمن النهي على حسب الأمر، إن كان الأمر إيجابًا؛ كان النهي محرمًا، وإذا كان الأمر استحبابًا؛ كان النهي تنزيهًا، فسقط ما قاله. واحتج بأن النهي عن الشيء ليس بأمره بضده3، كذلك الأمر بالشيء؛ ليس بنهي عن ضده. والجواب: أن هذا على وجهين: إن كان له ضد واحد؛ كان النهي عنه أمر بضده، كالكفر منهي عنه ويتضمن الأمر بضده من جهة المعنى، وهو الإيمان، وكذلك النهي عن الحركة يتضمن الأمر بضدها، وهو السكون. وإن كانت له أضداد كثيرة؛ فهو مأمور بضد من أضداده، يترك به النهي عنه، ويكون مخيرًا فيها، مثل النهي عن القيام، له أضداد من النوم والقعود والمشي؛ فهو مأمور بواحد منها4؛ لأنه لا يكون ممتنعًا عن المنهي عنه بفعل ضد واحد من أضداده، ولا يكون ممتثلًا للمأمور به إلا بترك جميع أضداده، فلا فرق بينهما.
واحتج بأنه إذا لم يكن العلم بالشيء جهلًا بضده، والقدرة على الشيء عجزًا عن ضده، وإرادة الشيء1 كراهة لضده، كذلك الأمر بالشيء؛ وجب أن لا يكون نهيًا عن ضده. والجواب: عن العلم: فهو أنه لا يمتنع أن يكون عالمًا بالشيء وبضده، ويمتنع أن يكون الشيء واجبًا، ولا يكون ضده محرمًا، أو يكون مستحبًا، ولا يكون ترك ضده مستحبًا؛ فإذا كان كذلك؛ فبان الفرق2. وأما القدرة على الشيء؛ فإنها ليست بعجز عن ضده؛ لأن الاستطاعة عندنا مع الفعل، فيكون القادر على الشيء هو الفعل التارك لضده، والتارك للشيء لا يكون عاجزًا عنه، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإنه لا يجوز أن يكون مأمورًا بالفعل؛ إلا وهي منهي عن فعل ضده. وأما إرادة الشيء؛ فهي كراهية لضده عندنا. فإن قيل: أليس لو قال لزوجته: أنت طالق إن أمرتك بأمر فخالفتيني، ثم قال: لا تكلمي أباك؛ فكلمته؛ لم يحنث؛ لأنه إنما نهاها ولم يأمرها، فدل على أن الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده. قيل: الأيمان محمولة على العرف، والعرف في الأمر: صيغة الأمر وهو قوله: افعلي، فلهذا لم تحمل يمينه على صيغة النهي؛ لأنه ليس صيغة النهي صيغة الأمر، ولهذا قلنا: الأمر بالشيء؛ نهي عن ضده من طريق الحكم لا من طريق اللفظ. فأما من قال: الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق اللفظ فغير
صحيح؛ لأن العرب فرقت بين لفظ الأمر والنهي؛ فجعلت لفظ الأمر موضوعًا للإيقاع والحث على الفعل، ولفظ النهي لنفي الفعل؛ فلم يجز أن يجعل أحدهما الآخر، كما لا يجوز ذلك في الخبر والاستخبار. فإن قيل: ليس يمنع [46/ب] هذا، ألا ترى أن القائل إذا قال: ائت الشمس من المغرب، عقل منه: أنها تغرب من المشرق. قيل: إنما عقل هذا من معنى اللفظ، لا من موضوعه وصيغته، ونحن لا نمنع هذا في الأمر؛ وإنما نمنع أن يعقل النهي من نفس اللفظ.
مسألة المندوب مأمور به حقيقة
مسألة المندوب مأمور به حقيقة مدخل ... مسألة 1 [المندوب مأمور به حقيقة] : إذا صرف الأمر عن الوجوب؛ جاز أن يحتج به على الندب والجواز، ويكون حقيقة فيه، ولا يكون مجازًا، وهذا بناء على أصلنا: أن2 المندوب مأمور به حقيقة. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحتج به، ويكون مجازًا3. واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من قال مثل قولهم4.
دليلنا
دليلنا: أن حقيقة الواجب: ما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه، وحقيقة
الندب: ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه؛ فإذا حمل الأمر على الندب؛ فقد حمل على شيء فيه بعض أحكام الواجب، وليس فيه البعض الآخر؛ فكأنه أخرج منه بعض مقتضاه، وحمل على بعض، فكان ذلك حقيقة لا مجازًا، كما قلنا في لفظ العموم: "يقتضي استغراق الجنس"؛ فإذا خص، أخرج منه بعض المراد، وبقي البعض، فيكون ذلك حقيقة لا مجازًا، وكذلك ههنا. ولا يشبه هذا الاسم "الأسد" إذا استعمل في الرجل الشديد، واسم "الحمار" إذا استعمل في الرجل البليد، حيث كان مجازًا فيهما؛ لأنه يستعمل في شيء، لا يتضمنه ما هو موضوع له بحال؛ فكان اللفظ منقولًا عما وضع له إلى غيره؛ فلذلك كان مجازًا، وفي هذا الموضع استعمل في بعض مقتضاه، ولم يعدل عن جميعه، فكان ذلك حقيقة لا مجازًا، ولأنه لو قال: له علي عشرة إلا واحدًا؛ كان ذلك حقيقة في التسعة، كما لو لم يستثن منه، كذلك ههنا.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن اللفظ موضوع لإفادة الوجوب دون الجواز، وإنما الجواز تابع للوجوب، وأنه لا يجوز أن يكون واجبًا، ولا يجوز فعله؛ فإذا سقط الوجوب؛ وجب أن يسقط الجواز؛ لأنه تابع له. والجواب: أنا لا نسلم أن الجواز للوجوب، بدليل أنه قد ينفرد الجواز عن الوجوب، فيكون الشيء جائزًا، ولا يكون واجبًا؛ فلو كان تابعًا له لم ينفرد عنه، فهو بمثابة العموم إذا خص بعضه1، كان الباقي حقيقة؛ لأن الباقي ينفرد عن الخصوص، كذلك ههنا. واحتج: بأن الشيء الواحد لا يكون له حقيقتان. والجواب: أنه يبطل بالمستثنى منه؛ فإن الاسم حقيقة فيه.
مسألة في الفرق بين الفرض والواجب
مسألة في الفرق بين الفرض والواجب مدخل ... مسألة [في الفرق بين الفرض والواجب] : 1 فالفرض: ما ثبت وجوبه بطريق مقطوع به، مثل نص القرآن [47/أ] المتواتر، وإجماع الأمة2. والواجب: ما ثبت من طريق غير مقطوع به، كأخبار الآحاد والقياس، وما كان مختلفًا في وجوبه كوجوب المضمضة والاستنشاق وغسل اليدين عند القيام من نوم الليل، والتسبيح في الركوع والسجود وغير ذلك3. هذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله، ذكره في مواضع: فقال في رواية أبي داود4 وابن إبراهيم: "المضمضة والاستنشاق
لا تسمى فرضًا؛ ولا يسمى فرضًا إلا ما كان في كتاب الله تعالى1". فقد نفى اسم الفرض عن المضمضة والاستنشاق مع كونهما واجبين عنده. وقال أيضًا رحمه الله في رواية المروزي وقد سأله عن صدقة الفطر: أفرض هي؟ فقال: ما أجترئ أن أقول: إنها فرض. وكذلك نقل الميموني عنه وقد سأله هل يقول: بر الوالدين فرض؟ فقال: لا، ولكن أقول: واجب، ما لم يكن معصية. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة2.
ونقل عبد الله وأبو الحارث عن أحمد رحمه الله: كل ما في الصلاة فرض1. فظاهر هذا أن التسبيح في الركوع والسجود والتشهد الأول والتكبير غير تكبيرة الإحرام وقول سمع الله لمن حمده؛ يسمى فرضًا مع كونه مختلفًا في وجوبه؛ فعلى هذا لا فرق بين الواجب والفرض والحتم واللازم والمكتوبة، وحد الجميع واحد، وهو قول أصحاب الشافعي. ونقلت من خط أبي إسحاق2 في تعاليقه: قال أبو عبد الله: لا أقول فرضًا؛ إلا في كتاب الله. معنى قوله: إن الذي قاله الرسول سنة، بدلالة قوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء" 3، وقوله: "إنما أنسى لأسن" 4
قال: وقول أبي عبد الله، كما ما في الصلاة فرض؛ أراد بذلك: ما أخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم. والوجه للفرق بينهما1: أنا نجد كل مميز يسبق عقله إلى أن صلاة الظهر آكد من صلاة المنذورة، وإن كانتا واجبتين، وكذلك الإيمان بالله تعالى آكد وأبلغ من صدقة خمسة دراهم من مائتي درهم. وكذلك الزكاة آكد من النذر في الصدقة. فهذه أمور يجدها كل عاقل في نفسه، فوجب أن يفرق ما هو آكد باسم يفارق ما هو دونه، فيجعل اسم الفرض: عبارة عما كان في أعلى المنازل في الوجوب، والوجوب عما كان دونه، وإن كان اسمًا عامًا في نفسه. ولأن أهل اللغة فرقوا بين الفرض والوجوب، فقالوا: إن الوجوب مأخوذ في الأصل من السقوط، يقال: وجب الحائط، يعني: سقط. والفرض عبارة عن التأثير، ومنه فرضة القوس لموضع الحز، أو عين القدر من قولهم: "فرض القاضي النفقة"، بمعنى قدرها.
والتأثير آكد من السقوط؛ لأن الشيء قد يسقط ولا يؤثر، وكذلك ذكر التقدير في الشيء يدل على الحصر والتعيين1 [47/ب] فيصير كالنذر المضموم إلى الإيجاب. والوجوب لا يفيد هذا المعنى؛ فبان أن الفرض في اللغة آكد من معنى الواجب. وقد بينا أن الوجوب تتفاوت منازله، فوجب أن يخص اسم الفرض الذي وضع للمبالغة في التأثير: عبارة [عما] كان في أعلى المنازل، وما دونه خص باسم الواجب، فيصير الوجوب الذي هو سقوط التكليف على المأمور به في نفس المكلف؛ لما تضمن من الدعاء إلى إيقاعه والمبادرة إلى فعله، ما لا يؤثر فيه الواجب الذي فرض. ولأن العبارة2 مختلفة في عادة أهل الشرع أيضًا، ألا ترى أنهم يقولون: الواجب في الحكم كذا، ولا يقولون: فرض في الحكم، ويقال في حقوق الآدميين مثل الديون والشفعة: واجبات، ولا يقال: إنها فروض، ويقال: واجب عليك أن تفعل كذا، ولا يقولون: فرض عليك، ويقال: أوجبت على نفسي، ولا يقال: فرضت، ولا يقال في العادة لمن تلزم طاعته: فرضت عليك كذا، فبان أن معنى اللفظين مختلف في اللغة والشريعة.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 1 وأراد به أوجب الحج. وقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} 1. ومعناه: أوجبتم لهن فريضة. والجواب: أن الحج ثبت وجوبه من طريق مقطوع به؛ فلهذا أطلق عليه اسم الفرض. وقوله: {فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} معناه: قدرتم. واحتج: بأن الفرض؛ إنما سمي فرضًا؛ لما فيه من معنى الوجوب دون ما ذكرتموه من ثبوته من طريق يوجب العلم؛ لأن النوافل ثابتة من هذا الطريق، ولا يسمى فرضًا. والجواب: أنه إنما يسمى فرضًا لما فيه من معنى الوجوب من طريق مقطوع به؛ فأما النوافل فإن كان طريقها مقطوعًا به، فليس فيها معنى الوجوب؛ فقد وجد أحد الشرطين [وفقد الآخر] . واحتج: بأن تخصيص الواجب بما ثبت من طريق؛ لا يوجب العلم، وتخصيص الفرض بما ثبت من طريق؛ يوجب العلم دعوى مجردة، لا دليل عليها من لغة ولا شرع، ولا طريق مستنبط منهما2؛ فلم يصح. والجواب: أنا قد دللنا عليه من جهة الاستنباط، وهو أن أهل اللغة والشرع فرقوا بينهما في العبارة، وقالوا: الفرض عبارة عن التأثير، والوجوب عبارة عن السقوط، و [لما] وجدنا التأثير أبلغ من السقوط؛ جعلنا الفرض عبارة عما ثبت من طريق مقطوع علمه؛ ليكون له مزية. واحتج: بأن لفظ الوجوب آكد من لفظ الفرض؛ لأنه أقل احتمالًا من لفظ الفرض، فكان لفظ الوجوب؛ أحق بما [48/أ] ثبت من طريق
القطع، يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1، وأراد: ينزل عليك القرآن. وقال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} 2 وأراد به: أحل الله له. وقال: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} 3، وأراد: بيناها. ويقال: فرض الحاكم على فلان لزوجته كذا وكذا من النفقة، وأراد به: قدر، ويقال: فرض القوس إذا حز طرفيه. وأما الوجوب؛ فإنه عبارة عن السقوط، من قوله: وجبت الشمس ووجب القمر، ووجب الحائط، إذا سقط. وقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 4 أي: سقطت، فسمى ما لا بد من فعله واجبًا؛ لأن تكليفه سقط عليه سقوطًا لا ينفك منه؛ إلا بفعله، فكان احتمال لفظ الفرض أكثر من احتمال لفظ الواجب، وكان الثابت بطريق مقطوع به باسم الواجب؛ أحق منه باسم الفرض. والجواب: أن لفظ الفرض، وإن كان محتملًا لأشياء؛ فجميعها عبارة عن التأثير، والوجوب عبارة عن السقوط، والتأثر آكد من السقوط؛ لأنه قد يسقط؛ فلا يؤثر، فكان ما أثر آكد. فقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} يعني: أنزله، ونزوله تأثير عندنا.
وكذلك قوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} يعني: أحل له، والإحلال له: تأثير له. وكذلك قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} أراد: بيناها، والبيان: تأثير فيها. وكذلك فرض الحاكم يعني: قدّر، والتقدير له: تأثير في الحصر والتعيين. واحتج: بأنه لو كان الفرض عبارة عما كان في أعلى المنازل من الوجوب؛ لوجب أن يختص الاسم بمعرفة التوحيد وتصديق الرسول؛ لأنه أعلى منزلة من غيره. والجواب: أن الفرض لما كان عبارة عن العبادة التي تؤثر في نفس المكلف في المبادرة إليه والمسارعة إلى فعله، وهذا التأثر موجود في جميع ما علم قطعًا أنه مراد منا، مثل الصلوات ونحوها، فوجب أن يكون جميعها فرضًا، وإن كان بعضها آكد من بعض، كما أن التأثير الواقع في الشيء يتفاوت، وإن كان الاسم يتناول جميعها، ويفارق ذلك ما لا يقع منه التأثير. واحتج: بأن الواجب اسم لما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه، والفرض اسم لهذا أيضًا؛ فإذا كانا متساويين في هذا المعنى؛ لم يكن لأحدهما مزية لاختلاف اسمهما، كما أن الندب والنفل لما كان معناهما واحد -وهو ما يستحق بفعله ثواب؛ لم يكن لأحدهما مزية على الآخر. والجواب: أن الواجب وإن ساوى الفرض في الثواب والعقاب؛ فقد خالفه من وجه آخر، وهو: أن ثبوته من طريق مقطوع به، فمنع من المساواة في التسمية، كما أن الندب والمباح تساويا في إسقاط [48/ب] العقاب، واختلفا في التسمية لاختلافهما من وجه، وهو: أن الندب يثاب على فعله، والمباح لا ثواب عليه.
واحتج: بأن اختلاف أسباب الوجوب، وقوة بعضها على بعض، لا يوجب اختلاف الشيئين في أنفسهما؛ ألا ترى أن النفل قد ثبت بأخبار متواترة وثبت بأخبار الآحاد، والكل متساوٍ1، وكذلك الفرض قد ثبت بأخبار متواترة وأخبار الآحاد، والكل سواء. والجواب: أن قوة بعضها على بعض توجب اختلافهما في أنفسهما؛ لأن ما كان معلومًا أنه مراد الله تعالى قطعًا؛ فإنه مخالف لما كان تجوزًا، وكذلك ما يكفر جاحده مخالف ما لا يستحق هذه الصفة، ومتى اختلفت الأشياء في أنفسها وأحكامها؛ اختلفت الأسامي التي تستعمل فيها لاختلاف ما يستفاد بالعبارة منها. فإن قيل: فيجب أن تفرقوا في المنهيات، كما فرقتم في المأمورات، فتقولوا: لفظة الحرام عبارة عما ثبت من طريق مقطوع به، وما لم يثبت بذلك لا يطلق عليه ذلك، ويسمى مكروهًا. قيل: هكذا نقول، وقد قال أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور في المتعة: لا أقول حرام. وقال رحمه الله في رواية ابن منصور في الجمع بين الأختين المملوكتين: لا أقول حرام؛ ولكن ينهى عنه. قال أبو بكر: إنما توقف لوجود الخلاف. فقد منع من إطلاق اسم الحرام مع كونه حرامًا عنده؛ لأنه مختلف فيه.
مسألة الأمر بفعل الشيء لا يتناول الفعل المكروه
مسألة الأمر بفعل الشيء لا يتناول الفعل المكروه مدخل ... مسألة [الأمر بفعل الشيء لا يتناول الفعل المكروه] : أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله في رواية صالح: إذا وطئها وهي
حائض؛ لم يحل لها الرجوع بهذا الوطء إلى زوجها الأول؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1، وظاهره: أن الوطء في حال الحيض، لما كان منهيًا عنه؛ لم يدخل تحت الوطء المأمور به للإباحة. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب أبو بكر الرازي2 إلى أنه يتناول المكروه، واحتج في طواف المحدث بقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 3، وقال: جواز الفعل مراد، واللفظ يتناوله، فجاز إثباته، وإن كانت الصفة التي حصل الفعل عليها مكروهة. واختار أبو عبد الله الجرجاني مثل قولنا.
دليلنا
دليلنا: أن المأمور به ما اقتضاه الأمر وحث عليه: إما واجبًا وإما ندبًا، والمكروه منهي عن فعله وممنوع منه؛ فهو مضاد للمأمور به؛ فلا يجوز أن يكون اللفظ متضمنًا له، كما أن المحذور لما كان ضد الواجب؛ لم يجز أن يكون الأمر متناولًا له؛ ولأن المفعول على صفة لم يؤذن فيه بمثابة فعل آخر؛ فصار كمن أمر بالصيام، فأوقع ما يسمى صلاة.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الطواف مأمور به، والكراهة تعلقت بفعل آخر، وهو ترك الطهارة.
والجواب: أن ترك الطهارة، وإن كان منهيًا عنه؛ فإن هذا النهي يعود إلى الفعل الذي هو في الأصل طواف؛ لأنه منع من إيقاعه على هذا الوجه، ولو كان هذا صحيحًا؛ لوجب أن لا يكون السجود للشيطان منهيًا، وأن يكون النهي تعلق بإرادة فعله لغير الله تعالى، وكذلك قتل المؤمن لا يكون منهيًا عنه؛ وإنما يتعلق النهي بقصده إلى قتل نفس المؤمن دون الكافر، وهذا يوجب أن يكون جميع ما نهي عنه مأمورًا به، وهذا فاسد.
مسألة تعلق الأمر بالمعدوم
مسألة تعلق الأمر بالمعدوم مدخل ... مسألة [تعلق الأمر بالمعدوم] : 1 الأمر يتعلق بالمعدوم، وأوامر الشرع قد تناولت جميع المعدومين إلى قيام الساعة. ويفيد هذا الخلاف أنه لا يحتاج إلى أمر ثانٍ. وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية حنبل: "لم يزل الله يأمر بما شاء ويحكم". فقد نص على أنه أمر فيما لم يزل، ولا مأمور. وقال أيضًا -فما خرجه في محبسه-: "لم يزل متكلمًا إذا شاء"؛ فقد أثبت قدم كلامه، وكلامه أمر ونهي، وهو قول الأشعرية ومن تابعهم من أصحاب الشافعي. وذهب المعتزلة وجماعة من أصحاب أبي حنيفة فيما ذكره أبو عبد الله الجرجاني2 في أصوله: إلى أن الأمر لا يتعلق بالمعدوم، وأن أوامر الشرع
الواردة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بالموجودين في وقته؛ فأما من بعدهم فإنه دخل في ذلك بدليل1. ثم اختلف القائلون: بأن الأمر يتعلق بالمعدوم: فمذهبنا: أنه أمر إلزام وإيجاب على الحقيقة بشرط وجوده على صفة من يصح تكليفه، سواء كان في الحال موجودًا يتوجه الخطاب إليه، أو لم يكن، وهو اختيار أبي بكر الباقلاني. ومنهم من قال: إن هذا أمر إعلام، إذا كان كيف يكون، وليس بأمر إيجاب وإلزام. ومنهم من قال: يتعلق بالمعدوم، إذا كان هناك موجود مخاطب ببلاغة؛ فأما إن لم يكن من يتوجه الخطاب إليه فلا. والصحيح: ما ذكرنا؛ لأن إعلام المعدوم لا يصح؛ وإنما يعلم المواجه بالخطاب، ويصح الأمر لمن ليس بحاضر ليبلغ ذلك إليه، ولأن هذا القائل قد وافق أن الله سبحانه فيما لم يزل آمرًا ناهيًا، ولا مخاطب. والدلالة على توجه الأمر إلى المعدوم قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، وهذا يقتضي أمره بالتكوين قبل وجوده. وكذلك قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 3. ولأن الصحابة والتابعين كانوا يرجعون في إيجاب الحكم إلى الظواهر
المتضمنة للأمر من الله تعالى ومن نبيه [49/ب] عليه السلام على من يوجد في عصرهم لا يمتنع من ذلك أحد منهم؛ فدل على أن الأمر تناول من كان معدومًا حال الخطاب. فإن قيل: يحتمل أن يكون ورد معها دلالة توجب مشاركة الجميع في هذا الحكم، وإن لم ينقل إلينا. قيل: لو كان هناك دلالة أو قرينة لنقل؛ لأن ما لم يتم الدليل إلا به؛ لا يسوغ للراوي ترك نقله، وحيث لم ينقل ثبت أنه ما كان، يبين صحة هذا أنه معلوم، أن الجماعة لم تشترك في معرفة القرينة؛ فلو كان موضوع اللفظ لا يفيد؛ لم يقتصروا على نقل اللفظ والتعلق به دون القرينة. وأيضًا: فإنه يصح الأمر بالزكاة مع عدم المال بشرط وجوده، وكذلك الأمر بالفعل للعاجز مع عدم الآلة بشرط وجودها، كذلك المعدوم بشرط وجوده. فإن قيل: العاجز عاقل مخاطب عالم بالخطاب، والمعدوم بخلاف ذلك. قيل: لا فرق بينهما وذلك أن المعدوم مأمور بشرط القدرة على ذلك. وأيضًا: فإنه يصح وصية الإنسان إلى من يحدث من أولاده، والقيام بأمر الوقف، وإن كان معدومًا في الحال، ويكون أمرًا صحيحًا لمن يحدث، ويكون الحادث متصرفًا بالوصية السابقة في الحقيقة؛ فدل على أن الأمر يتوجه إليه. وأيضًا: قد دلت الدلالة على أن أمر الله تعالى ونهيه هو كلامه، وأنه قديم من صفات ذاته غير محدث، وأنه لم يزل آمرًا، ولا حاضر مأمور، فدل على ما ذكرنا. فإن قيل: هذا أصل فاسد؛ لأن المتكلم بالأمر ولا أحد يواجه
ويسمع كلامه هاذٍ1 سفيه، غير جائز. قيل: هذا لا يصح لوجوه: أحدها: أن هذا إن كان صحيحًا؛ فإنما يكون فيمن يفعل الكلام ويصح منه تركه؛ فأما من يجب كونه متكلمًا في أزليته؛ فلا يصح هذا في حقه. الثاني: أنه لو كان هذيانًا، إذا لم يكن سامع2 للخطاب، لوجب أن يقال إذًا: "هذى الطفل والمجنون والمبرسم"، وهناك من يسمع ذلك، أن لا يكون هذيانًا، لأجل أن هناك سامعًا حاضرًا3؛ فلما لم يجب هذا، لم يصح ما قالوه. الثالث: أنهم لا يجدون كلامًا لأحد منا؛ إلا وهناك سامع؛ لأنه لا أحد منا متكلم في سر ولا جهر؛ إلا والله تعالى سامع كلامه. وجواب آخر وهو: أن معنى الكلام لنفسه الإفهام والتعليم والإشعار بما يريد إفهامه بالكلام، ويكون هذا بمثابة من زعم أنه لو كان عالمًا قادر بنفسه غير معلم ولا مقدر لأحد، ولا ينتفع بكونه عالمًا قادرًا في قدمه؛ لوجب كونه سفيهًا عابثًا، وإذا لم يجز ذلك لم يجب ما قالوه. وعلى أن الإنسان منا قد يوصي إلى معدوم وقت الوصية، ويأمره فيها وينهاه في وصيته [50/أ] ولا يكون عبثًا، مع أن الذم قد يصح قبل وجود المذموم، بدليل أن الله تعالى ذم إبليس فيما لم يزل قبل خلقه.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الأمر يتعلق بمأمور، والمعدوم ليس بشيء يصح تعلق الأمر به. والجواب: أن الأمر تعلق بمأمور وجد في الثاني، كما تعلقت الوصية بمن يحدث في الثاني، وكما تعلق الأمر بالعاجز لقدرة تحدث في الثاني. واحتج: بأن الأمر إن كان إعلامًا يستحيل أن يوجد في المعدوم، وإن كان إلزامًا يستحيل أيضًا أن يلزم المعدوم الذي ليس بشيء. والجواب: أنه أمر إلزام لمن يحدث في الثاني، كما قلنا في الوصية في العاجز. واحتج: بأن الأمر لو تعلق بالمعدوم؛ لوجب أن يتعلق بالصبي والمجنون، لوجودهما، ويكون الأمر متعلقًا بالبلوغ والعقل، وفي اتفاق الجميع على امتناع ذلك دليل على امتناعه في المعدوم. والجواب: أن كل من أجاز تكليف المعدوم بشرط بقائه؛ فإنه يقول: بأن الصبي والمجنون مأموران بشرط البلوغ والعقل، ولا فرق بينهما؛ وإنما معنى قول الأمة: إنهما غير مكلفين، وإن القلم مرفوع عنهما: رفع المأثم عنهما، ورفع الإيجاب المضيق. ويمكن أن يكون قوله: رفع القلم عنهما بالخطاب والمواجهة؛ لأنه لا يصح مواجهتهما بذلك، لعدم علمهما بذلك، وقد ذكر أبو بكر بن الباقلاني هذا الجواب وحكاه عمن قال بخطاب المعدوم. واحتج: بأنه لو جاز أمره الذي هو الإيجاب والإلزام، لجاز ذمه ولعنه وتسميته بأسماء المدح والذم. والجواب: أنه إنما لم يوصف بذلك؛ لأنه ليس بإيجاب مضيق، وإنما يستحق الذم للتفريط، ويستحق المدح لوجود الفعل؛ فلم يتصفوا بذلك
لهذا المعنى، وجرى ذلك مجرى المأمور إذا كان عاجزًا بشرط القدرة؛ فإنه لا يوصف بذلك قبل القدرة، وإن كان مأمورًا. واحتج بأن من شرط الأمر وجود المأمور، كما أن من شرط القدرة وجود القادر، فاستحال وجود قدرة بغير قادر، كذا يجب أن يستحيل وجود أمر بغير مأمور. والجواب: أن نظيره أن من شرط الأمر آمر كما أن من شرط القدرة قادر. ولأنه إنما لم يصح قدرة بغير قادر، لأن من شرطها وجود القادر بها؛ لأنها إنما كانت قدرة لقيامها بقادر يأتي1 الفعل بها، وليس كذلك الأمر؛ لأن من شرطه وجود الآمر لكونه قائمًا به، إذ الأمر كلامه، وليس من شرطه وجود المأمور، كما ليس من شرط القدرة وجود المقدور؛ إلا أن يكون مما لا ينفى، ألا ترى أنه يجوز أن يوصي الرجل في وصيته بما يعلمه ولده بعده إذا وجد ومخلفيه، فيكون ما يعمله من يوجد منهم [50/ب] بعده بأمر عند وصيته. فإن قيل: كيف تصح هذه المسألة على أصولكم، وعندكم أن المعدوم ليس بشيء، وتدللون2 عليه بقوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} 3 وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} 4.
قيل: يصح على أصلنا من الوجه الذي بينا، وهو أنه أمر بشرط وجوده على صفة من يصلح تكليفه، وعلى أصل المخالف فهو لازم؛ لأن عندهم المعدوم شيء. فإن قيل: فكيف يصح هذا على أصلكم، وقد قلتم: إن شريعة من قبلنا؛ ليس بشرع لنا؛ فلو كان الخطاب غائيًا لدخل فيه كل مكلف يوجد في الثاني؟ قيل: الصحيح من الروايتين أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه، وعلى الرواية الثانية: ليس بشرع لنا، لقيام الدلالة على نسخه. وقد ذكر أبو عبد الله الجرجاني: أن هذا خلاف في عبارة؛ لأنه لا يدعى إلى فعل شيء، ويجب أن تكون فائدته ما ذكرناه من أنه لا يحتاج إلى تكرار الأمر.
مسألة أمر الله العبد بما يعلم أنه سيحال بينه وبينه جائز
مسألة أمر الله العبد بما يعلم أنه سيحال بينه وبينه جائز مدخل ... مسألة 1 [أمر الله العبد بما يعلم أنه سيحال بينه وبينه جائز] : يجوز الأمر من الله تعالى بما في معلومه أن المكلف لا يمكن منه، ويحال بينه وبينه بكونه مع شرط بلوغه حال التمكن. وهذا بناء2 على أصلنا في تكليف ما لا يطاق، وتكليف الكفار العبادات. وهو مذهب الأشعري ومن وافقه من أصحاب الشافعي، وهو اختيار
أبي بكر الرازي والجرجاني1. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا يجوز ذلك2.
دليلنا
دليلنا: أنه لو لم يكن أمرًا؛ لوجب أن لا يصح منه الدخول في العبادة بنية الفرض؛ لأنه لا يعلم هل يحال بينه وبين القدرة على فعلها؛ فلا يكون فرضًا، ولما أجمعنا على صحة العزم على نية الفرض مع هذا التجويز؛ علمنا أنه أمر صحيح. يبين صحة هذا: أنه لا يصح أن ينوي الفرض في ليلة الشك؛ لأنه لا يتحقق الفرض، ولما صح نية الفرض ههنا علم أنه أمر صحيح. ولأنه يصح الأمر من الله تعالى بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن، كذلك جاز أن يأمر بالفعل من يحول بينه وبينه؛ لتساويهما في تعذر الفعل من جهة المأمور في الموضعين. فإن قيل: المأمور هناك لم يؤت في ترك الفعل من قبل الله تعالى؛ وإنما أتى في ذلك من قبل نفسه؛ فلم يحصل الأمر عبثًا. قيل: إذا سبق علمه أنه لا يؤمن، فقد تحقق تعذر الفعل من جهة المأمور حين الأمر؛ لأن علمه لا ينقلب؛ لأن ضد العلم الجهل، وهو يتعالى عن ذلك، كذلك ههنا. ولأن في هذا فوائد، وهو امتحان المكلف واستصلاحه وتوطين النفس
على فعل العزم على الطاعة، ومسرة الآمر بأمره وإيثار الإقرار من المأمور بالتزام طاعته والإخبار بالعزم على امتثال أمره إلى غير ذلك. وأيضًا: فإنا وجدنا [51/أ] في الشاهد يحسن أمر المولى عبده بأن يسقيه الماء عند الحاجة إليه، وإن لم يكن على ثقة من تمكن العبد بما أمر به، وجوز أن يحال بينه وبينه ويخترم دونه، كذلك أوامر الله تعالى يجب أن تكون محمولة على ذلك. فإن قيل: الله تعالى عالم بالعواقب، فلا يحسن أمره بما يعلم استحالة وقوعه من المكلف؛ فإذا علم أن المكلف سيحال بينه وبين ما كلف؛ لم يحسن أمره به، كما لا يحسن أمره بما علم استحالة حدوثه منه، وليس كذلك الأمر في الشاهد؛ لأنه لا يعلم العواقب، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في أمر الله؛ وإنما اعتبر فيه الظن بتمكين المأمور ما أمر به، فإذا ظن ذلك حسن أمره. قيل: هذا يبطل بأمره بالإيمان من1 يعلم أنه لا يؤمن؛ فإنه يصح، وإن كان عالمًا بالعواقب أنه لا يؤمن، كذلك ههنا. ولأن الأمر حال وروده يحصل للمأمور اعتقاد الوجوب وسكون النفس إلى فعله في الثاني، ويصح تعلق الأمر بهذا المعنى، ألا ترى أن الإيمان بالله تعالى يحصل بمجرد الاعتقاد، وإن لم يقارنه شيء من أفعال الجوارح؟ ولأن هذا القول لو صح؛ لوجب أن يمنع من إطلاقه القول بأن الإنسان منهي عن الزنا في المستقبل، ومأمور بالإيمان؛ لأنه لا يعرف بقاؤه إلى ذلك الوقت.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الله تعالى إذا علم من حال المكلف أنه1 سيحال بينه وبين ما أمر به، ولا يمكن من فعله؛ فإن فعله يستحيل وقوعه منه، وما يستحيل وقوعه لم يحسن الأمر به؛ ألا ترى أنه لا يحسن الأمر بصعود السماء، والمشي على الماء، وقلب العصا حية، وما يجري هذا المجرى مما يستحيل وقوعه من المأمور به؟ والجواب: أنه يبطل الأمر بالإيمان إذا حكم أنه لا يؤمن، فإنه يصح، وإن كان يستحيل وقوعه، كذلك ههنا. وعلى أن الأمر بذلك لا يحصل فيه فائدة؛ لأن المقصود من الأمر تعريض المكلف لاستحقاق الثواب فيما يوقعه، فمتى علم عجز المكلف عن ذلك؛ لم يحصل له سكون النفس إلى فعل ما أمر به، فصار الأمر عبثًا، وهذا حصل من جهة سكون النفس واعتقاد وجوب الفعل، وتعذره بعد ذلك بسبب من جهة نية الآمر؛ فلهذا فرقنا بينهما. وفيه فوائد، منها: إظهار أمره بذلك، وإقرار المأمور به بوجوب طاعته إن بقي، ولاعتقاده أن في أمره بذلك استصلاحًا له في غير ذلك الفعل، وتوطنة النفس على الطاعة في جميع ما يأمره، وليعرضه بذلك لثواب العزم على طاعته.
مسألة يجوز الأمر من الله تعالى بما يعلم أن المأمور لا يفعله
مسألة يجوز الأمر من الله تعالى بما يعلم أن المأمور لا يفعله مدخل ... مسألة 1 [يجوز الأمر من الله تعالى بما يعلم أن المأمور لا يفعله] : وقال أحمد رحمه الله في رواية حنبل: علم الله تعالى أن آدم سيأكل
من الشجرة التي نهاه عنها قبل أن يخلقه. خلافًا [51/ب] للمعتزلة في قوله: لا يجوز1.
دليلنا
دليلنا: أنه أمر إبليس بالسجود لآدم مع علمه أنه لا يفعله، وكذلك أمر الكفار بالإيمان مع علمه أنهم لا يؤمنون. ولأن أمره مع علمه أن المأمور لا يفعله كأمره مع علمه أنه يحال بين المأمور وبين الفعل، وقد بينا فيما تقدم جوازه.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لا يصح أن يريد من المكلف ما يعلم أنه لا يفعله؛ لأنه عبث. والجواب: أن هذا ليس بعبث؛ لأن الله تعالى قد عرض المأمور بما أمره به إلى النفع إذا أداه، وإظهار1 أمره بذلك وإقرار المأمور به بوجوب طاعته. ولأن هذا يبطل بأمره لإبليس بالسجود مع علمه أنه لا يفعله.
مسألة يجوز أن يرد الأمر من الله تعالى متعلقا باختيار المأمور
مسألة يجوز أن يرد الأمر من الله تعالى متعلقا باختيار المأمور مدخل ... مسألة 1 [يجوز أن يرد الأمر من الله تعالى متعلقًا باختيار المأمور] : وهذا بناء على أصلنا: أن2 المندوب مأمور به مع كونه مخيرًا في فعله وتركه. خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز ذلك3.
دليلنا
دليلنا: أن الله أرخص لنا القصر في السفر، وأوجب الإتمام في الحضر، وعلق ذلك باختيارنا. وهكذا القول في اختيار واحد من الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين؛ فإذا كان كذلك؛ لم يمتنع أن يرد الأمر معقودًا بشرط اختيار المأمور.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لا طريق لنا إلى معرفة ما هو مصلحة لنا فنختاره؛ فلم نأمن أن تكون المصلحة في غير ما نختاره، فلا يجوز أن يكون ذلك موكولًا إلى اختيارنا، وفارق هذا ما يؤديه إليه اجتهادنا أنه مصلحة لنا، وإن كان متعلقًا باختيارنا؛ لأن الاجتهاد قد بين لنا طريقه، فجرى مجرى المنصوص عليه؛ فإذا أدانا اجتهادنا إليه وحكمنا به؛ علمنا أنه مصلحة لنا، وما لم يجعل لنا طريق إلى معرفته؛ فلا نعلم عند اختيارنا له أنه مصلحة لنا، بل جائز أن تكون المصلحة في غيره. والجواب: أنه ليس من شرط صحة الأمر أن يقع على وجه المصلحة لنا، فقد1 يجوز أن يأمر بما لنا فيه مصلحة وما لا مصلحة لنا فيه، ويأتي الكلام فيه على أنه يبطل بما ذكرنا من رخصة القصر والكفارة على طريق التخيير.
مسألة ورود الأمر والنهي بالتكليف دائما
مسألة ورود الأمر والنهي بالتكليف دائما مدخل ... مسألة 1 [ورود الأمر والنهي بالتكليف دائمًا] : يجوز أن يرد الأمر والنهي بالتكليف دائمًا إلى غير غاية، فيقول: "صلوا في كل يوم أبدًا ما بقيتم"، و "صوموا رمضان أبدًا ما حييتم"؛ فيقتضي ذلك الدوام مع بقاء التكليف، وهذا مع قولنا: إن الأمر يقتضي التأكيد. خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز أن يرد بذلك، ومتى ورد اللفظ بهذا لم يقتضِ الدوام، وإنما هو للحث على التمسك بالفعل.
دليلنا
دليلنا: أنه ليس بأمر بمحال. ولأنه تصرف في الملك؛ فجاز كتصرف [52/أ] أحدنا في ملكه. ولأن لفظة التأبيد1 موضوعة في اللغة لدوام الفعل دون انقطاعه، كما أنها2 موضوعة لما لا يعقل؛ فلم يجز إطلاق لفظ التأبيد على ما لا يجب دوامه؛ لأنه يصير وجود هذا اللفظ كعدمه. ولأنه لو قال: "صلوا أبدًا؛ فإنه مصلحة لكم ما بقيتم"؛ لكان ذلك مقتضيًا للتأبيد، كذلك إذا أطلق. ولأن من امتنع من هذا الإطلاق يقول: إن فيه قطع الثواب. ولأنا نعلم أنه لا بد لها من الانقطاع بالموت والجنون، وهذا لا يصح؛ لأن الثواب غير مستحق على الله تعالى على ما نبينه. ولأن الأمر ثابت مع بقاء الأمر؛ فلا يدخل فيه حال الجنون والموت؛ لأنه غير مكلف فيه، والأمر تناول المكلف.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الثواب واجب عليه على الأعمال دائمًا غير منقطع؛ فلو دام عليهم التكليف بطل ثواب عملهم، ولو أثابهم في خلال ذلك؛ لم يكن ثوابهم إلا منقطعًا. والجواب: أن أقل نعمة الله تعالى على خلقه يستحق بها عليهم أن يعبدوه؛ فلا يستحق عليه الثواب، ولو كان الثواب على العمل مستحقًا؛ لم يستحق الثناء والشكر والحمد والمدح، كما أن قاضي الدين وراد الغصب والوديعة، لما كان ذلك مستحقًا عليه؛ لم يستحق الشكر والثناء، وفي إجماعنا على أنه يجب علينا الشكر والثناء والحمد لله على نعمه علينا؛ دليل على أنه غير مستحق عليه. واحتج: بأن هذه العبادات لا بد لها من الانقطاع؛ لأنه إنما حسن الأمر بها لما فيها من الثواب للمكلف، ودوامها يقطع الثواب؛ فإذا كانت لا بد لها من الانقطاع بالموت؛ كان لفظ التأبيد فيها مستعملًا على وجه المجاز؛ فوجب أن يسقط اعتبار الحقيقة فيه، ويكون القصد المبالغة في الحث على التمسك بالعبادة. والجواب: أن قد بينا أن الثواب غير مستحق، على أن الأمر إنما يتعلق بمأمور مكلف، وهو إنما تكون هذه الصفة ما دام في دار التكليف؛ فإذا خرج من كونه مكلفًا بالموت؛ لم يبق عليه حكم الأمر؛ فإذا كان كذلك كانت حقيقة التأبيد ثابتة مع بقاء الأمر، فلا يكون سقوط الأمر دلالة على سقوط حقيقة التأبيد عند الاستعمال. على أن هذا يبطل به لو قال: افعلوا ذلك أبدًا؛ فإنه مصلحة لكم ما بقيتم؛ لكان ذلك مقتضيًا للتأبيد. وإن كان لا بد من الانقطاع بالموت،
كذلك لفظ التأبيد بهذه المثابة. واحتج: بأن الآمر منا في الشاهد قد يقرن إلى لفظ الأمر لفظ التأبيد؛ فلا يكون مراده به الدوام، كقول المولى لغلامه: "لازم هذا الغريم أبدًا" [52/ب] ، يريد به أن لا يفارقه حتى يستوفي الدين، كقول الأب لابنه: "لازم المعلم أبدًا1، ولا تفارقه حتى تتعلم منه القرآن ونحوه"؛ فوجب أن تكون أوامر الله محمولة على المتعارف في الشاهد. والجواب: أن دلالة الحال تقترن إلى الأمر، فيصير كأنه قال: لازم الغريم والمعلم ما لم تستوف الدين، وما لم تتعلم منه، وهكذا أوامر الله يكون ذلك تقديرها؛ كأنه قال: افعلوا ذلك ما دمتم مكلفين. واحتج بأن المأمور قد يتخلله الجنون والنوم والإغماء، ولفظة التأبيد تعم ذلك، ومعلوم أن الخطاب لا يتوجه إليه. والجواب: أنا قد بينا أن الأمر يتعلق بمأمور مكلف، فهذه الأحوال مستثناة لعدم التكليف، ويبطل به إذا قال: "افعلوا أبدًا؛ فإنه مصلحة"؛ فإنه يصح وإن كان هذا موجودًا.
مسألة من شروط الأمر أن يكون المأمور به معدوما في المستقبل
مسألة من شروط الأمر أن يكون المأمور به معدوما في المستقبل مدخل ... مسألة من شروط الأمر أن يكون المأمور به معدوما في المستقبل: 1 من شرط الأمر أن يكون المأمور به في مستقبل الوقت غير موجود، وحكي عن طائفة من المتكلمين أن الأمر بالموجود جائز.
دليلنا
دليلنا: أن استحالة وقوع ما هو موجود من الملكف كاستحالة الجمع بين
الضدين، وجعل الجسم في مكانين في وقت واحد؛ فإذا لم يجز ذلك؛ لم يحسن الأمر بالموجود. ولأن الموجود قد خرج بوجوده عن كونه مأمورًا به؛ لأنه لو لم يكن كذلك؛ لكان لا يخرج عن كونه واجبًا؛ لأن الوجوب من مقتضى الأمر، وهذا يوجب بقاء الفرائض على المكلفين بعد فعلهم لها على الوجه المأمور به, وفي بطلان ذلك دليل على امتناع جواز الأمر بالموجود. ولأنه لما لم يحسن أن يأمر الواحد منا في الشاهد من هو قائم بالقيام ومن هو قاعد بالقعود لكون المأمور [به] موجودًا؛ وجب أن يكون أمر الله تعالى محمولًا على ذلك؛ فلا يحسن أمره بما هو موجود؛ لأنه إنما يخاطب بما هو متعارف بين أهل اللسان.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لو لم يصح الأمر بالموجود؛ لم يصح ذم الكافر على كفره الذي هو فيه في الحال؛ لأنه لا يصح أمره بتركه لكون الأمر موجودًا، ولوجب أن لا يكون المؤمن مأمورًا بالإيمان؛ لأن ما قد وجد منه؛ لا يصح الأمر به على هذه الصفة. والجواب: أن الكافر إنما يستحق الذم على ما فعله1 من اعتقاد الكفر والبقاء عليه، فلا يكون في ذلك دلالة على كونه مأمورًا بما قد وجد منه.
مسألة يصح أن يتقدم الأمر على وقت الفعل
مسألة يصح أن يتقدم الأمر على وقت الفعل مدخل ... مسألة 1 يصح أن يتقدم الأمر على وقت الفعل: خلافًا للطائفة التي تقدم ذكرها في المسألة التي قبلها: أن الأمر [53/أ] لا يكون أمرًا إلا في حالة الفعل، وما يتقدمه لا يكون أمرًا؛ وإنما هو إعلام.
دليلنا
دليلنا: أن الواحد منا في الشاهد يحسن منه أن يأمر عبده بما يفعله في غد، وفيما بعد بأوقات، ويطلق عليه اسم الأمر، ويسمى قوله ذلك أمرًا [فـ] وجب أن تكون هذه الصفة جائزة في أمر الله تعالى وأمر رسوله. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ما يتقدم حال الفعل إعلامًا وتعريفًا، ولا يكون أمرًا إلا في حال الفعل، وتكون هذه سبيل أمر المولى عبده فيما يفعله في الثاني. قيل: قولك: إنه إعلام؛ لا يخلو من أن يكون المراد به حصول العلم للمأمور [أ] وأنه يحصل له به معلوم؛ فإن أردت به حصول العلم كان ذلك باطلًا؛ لأن العلم هو الاعتقاد للشيء على ما هو به، والأمر هو حروف منظومة؛ فكيف يجوز وقوع العلم بالأمر؟! فإن أردت به أن المأمور يحصل له بذلك معلوم بأن يعلم ما أمر به في الثاني؛ فلا يخلو ذلك: من أن يكون يعلم وجوب ما أنبأ عنه لفظ الأمر، أو حدوث أمر مستأنف في الثاني، وكلا الأمرين باطل؛ لأنه إن اعتقد وجوب ما أنبأ عنه القول؛ لم يأمن أن يكون الآمر لم يرد بذلك القول وجوب ما تضمنه؛ وإنما أراد به الندب أو نحوه؛ فإذا اعتقد هو غير ذلك؛ كان اعتقاده جهلًا، وكذلك إن اعتقد أن الأمر سيجدد له أمرًا في الثاني عند حال الفعل، لم يأمن أيضًا أن لا يوجد ذلك من الآمر بأن غيره دونه، فيكون اعتقاد المأمور جهلًا، وإذا بطلت هذه الوجوه كلها؛ لم يبق إلا أن يكون ذلك القول أمرًا.
مسألة جواز ورود الأمر بالعبادة قبل مجيء وقتها
مسألة جواز ورود الأمر بالعبادة قبل مجيء وقتها مدخل ... مسألة [جواز ورود الأمر بالعبادة قبل مجيء وقتها] : 1 إذا أمر الله [عبده] 2 بعبادة في وقت مستقبل؛ جاز أن يعلمه بذلك قبل مجيء الوقت. خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز أن يعلمه بذلك قبل الوقت3.
دليلنا
دليلنا: إن إعلامه بذلك لا يفضي إلى الأمر بالمحال، فيجب أن يجوز. ولأن الأمر إذا جاز تعليقه بوقت وزمان؛ جاز تعليقه بوقت معلوم كالطلاق والوكالة، لما جاز تعليقهما1 بزمان مستقبل صح بوقت معين. ولأن تعليقه بوقت معين آكد من الإطلاق، يدل على هذا: أنه لو أمر عبده بفعل شيء في وقت غير معين؛ لم يحسن تأديبه على تأخيره، ولو علقه بوقت معين فأخره عنه حسن تأديبه وتوبيخه.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لو أعلمه بذلك؛ لكان قد علم أنه سيبقى إلى وقت الفعل لا محالة، ولو جاز ذلك؛ لكان إغراءً له بالمعاصي؛ لأنه يتكل على التوبة منها، وفي بطلان هذا دليل على أنه لا يجوز أن يعلم المكلف ما أمر به. والجواب: أنه لا يعلم أنه سيبقى إلى وقت الفعل، للأصل الذي تقدم؛ وإنما يجوز أن يخبر به المكلف قبل الفعل. وعلى أن هذا لا يمنع من إعلامه بالوقت وإن أفضى إلى ما ذكرت، كما لم يمنع ذلك من صحة التوبة، وإن أفضى ذلك إلى ما ذكرت؛ لأن التوبة تجب ما قبلها من المعاصي؛ فإذا علم بذلك أخلد إلى المعاصي، ثم عقب ذلك بالتوبة، ثم لم يمنع هذا من صحة التوبة؛ كذلك لا يمنع من معرفة الوقت، وليس لهم أن يقولوا: إنه يجوز أن يموت قبل كمال الفعل؛ لأن الموت عليه أمارة في الغالب.
مسألة بعض الواجبات أوجب من بعض
مسألة [بعض الواجبات أوجب من بعض] : 1 يجوز أن يقال: إن بعض الواجبات أوجب من بعض. كالصلوات الخمس [أوجب] من المنذورات، والزكوات أوجب من النذور، وكذلك الإيمان أوجب من غيره من العبادات، وكذلك الكفر
أعظم من المعصية من سرقة حبة. وقد قال أحمد رحمه الله: "ركعتا الفجر آكد من الوتر". وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة1، وذكره أبو بكر بن الباقلاني أيضًا. ومن الناس من منع ذلك2. ولسنا نريد بهذا أنه يرجع إلى نفس الأمر وما يتعلق به، وأن الأمر بفعل الإيمان أشد تعلقًا به من تعلق الأمر بالصلاة الواجبة؛ لأن الأمر بفعل الشيء متى كان يعود إلى إيقاعه؛ فإن الإيقاع للإيمان كإيقاع غيره. ولا نريد به أيضًا: أن الإيمان أوجب من غيره؛ لأجل أن فعله يقف على أفعال متقدمة مثل النظر والاستدلال؛ لأن سائر الطاعات لا تصح إلا بتقدم غيرها عليها، وهو الإيمان، وكذلك الصلاة والزكاة لا يصحان إلا بالنية المتقدمة، كالإيمان. وإنما نريد بذلك: أن المستحق من الثواب بأحد الفعلين أعظم مما يستحق بغيره، أو أن أحد الواجبين طريقه القطع والآخر غلبة الظن3.
ولا يلزم على ما ذكرنا أن يجوز كذب أكذب من كذب، وصدق أصدق من صدق؛ لأنهما أمران يرجعان إلى الخبر، وهو وقوع الشيء على ما أخبر به المخبر أو على خلافه، وهذا لا يوجب اختلاف حال الخبرين في أنفسهما. ولأن الكذب ليس بكاذب، ولا الصدق صادق؛ فلم يجز أن يقال: أصدق وأكذب، ولأن أصدق1 اسم علم، فلا يستعمل فيه للمبالغة كقولنا: زيد وعمرو، وليس كذلك: صادق أصدق من صادق؛ لأنه يصح أن يقال: إن المراد به أن أحدهما أكثر صدقًا من الآخر، وأما حسن أحسن من حسن، فيجوز. وقد ذكر أصحابنا في الاقتصار على تطليقة واحدة، أنه أحسن من الثلاث2، وإن كانتا جميعا قد اشتركتا في السنة3. وهذا معنى قول الخرقي4: "وطلاق السنة أن يطلقها طاهرًا من
غير جماع طلقة؛ فإن طلقها ثلاثًا في طهر كان أيضًا للسنة وكان تاركًا للاختيار1". ويدل على ذلك أن الواجبين الجائزين قد يشتركان في الوجوب، أحدهما أحسن من الآخر، مثل من خفف صلاته، وأداها آخر بركوع وسجود أتم، وكذلك من أعطى زكاة ماله فقيرًا، وأعطى الآخر إلى من هو أحوج منه؛ كان ذلك أحسن. وأما الأولى: فهو على ضربين: منه ما هو آكد، والثاني ما هو دونه. فالآكد مثل ركعتي الفجر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوم على فعلها، وحث الناس بوجوه الحث على إيقاعها، ونبه على حكمها بقوله: "صلوهما فإن فيهما الرغائب"2 وقال: "هما خير من الدنيا وما فيها" 3. وكذلك الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على فعله، وحث الناس عليه بقوله: "أوتروا يا أهل القرآن" 4، وقوله: "إن الله زادكم صلاة
هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الوتر" 1، فلهذا قال أحمد رحمه
.............................................................................................
الله: "من ترك الوتر فهو رجل سوء1". ومنها ما دون ذلك؛ فيسمى نافلة السنن.
مسألة حكم الزيادة على الواجب
مسألة 1 [حكم الزيادة على الواجب] : إذا فعل الواجب على المداومة، وزاد على ما يتناوله الاسم كالركوع والسجود إذا داوم عليه المكلف؛ فهل يكون عليه جميعه واجبًا؟ يحتمل أن يقال: الواجب أدنى ما يتناوله الاسم، والزيادة نفل، وهذا اختيار أبي عبد الله الجرجاني، وأبي بكر الباقلاني2.
وذهب أبو الحسن الكرخي إلى أن جميعه واجب1، وقال في الركوع إذا داوم عليه المكلف كان جميعه واجبًا، وكذلك القراءة إذا طولها. وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله عنه؛ لأنه استحب للإمام أن ينتظر على المأموم في الركوع ما لا يشق على المأمومين؛ فلولا أن إطالة الإمام في الركوع يكون جميعه واجبًا؛ لم يصح إدراك الركعة معه؛ لأنه يفضي إلى أن يكون المفترض مقتديًا بالمتنفل2. وجه ما ذكرناه3: أن ما زاد على ما يتناوله الاسم مخير بين فعله
وتركه من غير أن يقيم مقامه غيره، وهذا يمنعه وجوبه، ألا ترى أن النوافل لما كانت بهذه الصفة؛ لم تكن واجبة؟ ووجه من قال جميعه واجب أن قوله تعالى: {ارْكَعُوا} 1 يقتضي ما يتناوله اسم الركوع، وإن جاز الاقتصار على الجزء، كما أن من أذن لآخر في أن يتصدق من ماله بما شاء على زيد، فتصدق عليه بألف؛ جاز، وإن2 كان فاعلًا لما أمر به، وإن كان له أن يقتصر على قدر درهم واحد. وكذلك قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 3، يعبر عن كل ما تيسر؛ وإن جاز الاقتصار على القليل، مثل من قال: "بع عبدي بما تيسر"؛ جاز بيعه بما كان، وإن جاز له أن ينقص منه. ولأن البناء كالابتداء؛ ولهذا لو حلف: لا يأكل ولا يلبس ولا يركب، فاستدام ذلك؛ حنث، كما لو ابتدأ، كذلك في مسألتنا. والجواب: أن قوله: "اركعوا" يفيد أدنى ما يتناوله الاسم، ألا ترى أنه متى فعل هذا القدر سقط الفرض عن ذمته؛ فلم يجز الزيادة عليه إلا بدلالة، ويفارق هذا قوله لآخر: تصدق على فلان من مالي؛ لأن العادة [54/ب] جارية أنه متى أراد تقدير العطية؛ فإنه يبينه للمأمور، فلما
ترك ذكره دل أنه جعل الخيار إليه في ذلك، فكان انضمام العادة إلى الأمر هو الموجب لما ذكره دون اللفظ. ولا يجوز أن يقال: البناء كالابتداء؛ لأن الابتداء إنما وقع واجبًا؛ لأنه ممنوع من تركه، ولما كان البناء مأذونًا في تركه من غير أن يقيمه مقام غيره لم يكن واجبًا.
مسألة اللفظ المتضمن للندب يدل على وجوب غيره
مسألة اللفظ المتضمن للندب يدل على وجوب غيره مدخل ... مسألة 1 [اللفظ الذي يتضمن الندب يدل على وجوب غيره] : نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "بالغ في الاستنشاق " 2: أنه يفيد وجوب الاستنشاق، وإن كانت صفة.
وكذلك قوله صلى الله عليه [وسلم] في السعي بين الصفا والمروة: "اسعوا" 1 يفيد وجوب المشي بين الصفا ...
.................................................................................
والمروة1، وأن نطقه يفيد مشيًا على صفة هي السرعة. وقد استدل أحمد رضي الله عنه على وجوب الاستنشاق بالحديث2 الذي ذكر فيه المبالغة، فقال رضي الله عنه في رواية الميموني وحنبل، واللفظ لحنبل: إذا نسي المضمضة قبل الاستنشاق يعيد الصلاة3؛ لقول
النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استنشقت فانتثر" 1. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يدل ذلك على الوجوب، حكاه الجرجاني.
دليلنا
دليلنا: أن الأمر يتناول شيئين أحدهما الاستنشاق، والثاني المبالغة؛ لأن المبالغة لا تحصل إلا بوجود الاستنشاق، وكذلك السعي لا يحصل إلا بوجود المشي؛ فسقوط أحدهما لا يوجب سقوط الآخر، كالعموم إذا خص. وذهب المخالف إلى أن نفس المنطوق به هو المبالغة، وهو السعي، وذلك غير واجب؛ فلم يجب مدلوله. والجواب: أنا قد بينا أن الأمر اقتضى أمرين.
مسألة المذكور متى جعل دلالة على نفس عبادة
مسألة 1 [المذكور متى جعل دلالة على نفس عبادة] : فإن ذلك دلالة على وجوبه فيها. وذلك مثل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفَجْرِ} 2، لما دل على صلاة الفجر؛ فهم وجوبه فيها. وكذلك قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ 3} فلما نبه بذكر الحلق على الإحرام؛ كان ذلك واجبًا فيه. وكذلك قوله4: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 5، لما دل على الصلاة؛ كانا واجبين فيها؛ لأن الشيء يجعل دلالة على الغير متى كان مقصودًا في نفسه مطلوبًا منه، وهذه الأمور مقصودة من هذه العبادات مرادة فيها. ولأن العادة جارية أن ذكر معظم الشيء يجعل دلالة على باقيه، ولا يجعل الجزء منه دلالة عليه؛ فكان ذكر الشيء على وجه الدلالة على غيره تنبيها على كونه بعضًا منه.
مسألة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
مسألة 1 [ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب] : إذا أمر الله تعالى [عبده] بفعل من الأفعال وأوجبه عيله، وكان المأمور لا يتوصل إلى فعله إلا بفعل غيره؛ وجب [55/أ] عليه كل فعل لا يتوصل إلى فعل الواجب إلا به2.
وذلك مثل أن يجب عليه أن يتطهر للصلاة، ولا يمكنه أن يتطهر إلا بشراء الرشاء واستقاء الماء؛ فيلزمه الشراء والاستقاء؛ لأنه يلزمه فعل الواجب عليه إذا كان له طريق إليه، فلا يجوز له تركه مع الإمكان، وهو في الحال متمكن على هذا الوجه؛ فلهذا لزمه. ولهذا قال1 أصحابنا: إذا وجد الماء بأكثر من ثمن مثله، بزيادة لا تجحف بماله؛ لزمه شراؤه2. فإن قيل: فيجب أن توجبا عليه اكتساب الاستطاعة لفعل الحج، واكتساب النصاب ليؤدي الزكاة. قيل: ذلك شرط في الوجوب دون الفعل، ولا يجب عليه أن يفعل ما يوجب به العبادة على نفسه، وليس كذلك ههنا، فإنه معنى لا يتوصل إلى أداء الواجب عليه إلا به؛ فلزمه فعله. ولهذا قال أصحابنا في المفلس: إذا كانت له حرفة؛ لزمه أن يكتسب،
ويقضي دينه1؛ لأنه يتوصل بذلك إلى أداء الواجب2.
مسألة هل تتوقف أوامر الله لعبادة على المصلحة
مسألة 1 [هل تتوقف أوامر الله لعباده على المصلحة] : الأمر لا يقف على المصلحة، وقد يجوز أن يأمر بما لا مصلحة للمأمور فيه؛ ولكن التكليف منه إنما يقع على وجه المصلحة. خلافًا للمعتزلة في قولهم: يقف على المصلحة2. والكلام في ذلك مبني على أصول: أحدها: أنه يجوز أن يأمر بما لا يريد، وما لا يريده لا مصلحة فيه. وقد دل على هذا الأصل: أمره لإبراهيم بذبح ولده، ولم يرد وجوده منه؛ لأنه نهاه عن فعله، وفداه بالكبش. الأصل الثاني: أنه لا يجب عليه فعل الأصلح في خلقه، وإذا لم يجب عليه ذلك؛ لم يقف أمره على المصلحة؛ لأنها غير واجبة عليه. وقد دل على هذا الأصل: أنه لو وجب عليه فعل الأصلح؛ لم يستحق
الثناء والمدح؛ لأنه فعل ما يجب عليه فعله. ولما أجمعنا على أنه يستحق ذلك؛ علم أنه لا يجب عليه ذلك، وإنما يفعله تفضلًا. والأصل الثالث: أن من قال: يقف الأمر على المصلحة؛ بناه على أصل، وهو: أنه يقبح في العقل أن يأمر بما لا مصلحة فيه. ونحن نبينه على هذا الأصل، وأن1 العقل لا يقبح ولا يحسن2، وإذا لم يدل ذلك لم يقف على المصلحة؛ إذ ليس هناك ما يمنع من ضد المصلحة. وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3 فأخبر أنهم آمنون من العذاب قبل بعثة الرسل إليهم، فعلم أن الله تعالى لم يوجب على العقلاء شيئًا من جهة العقل؛ بل أوجب ذلك عند مجيء الرسل. وقوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1؛ فلو كان العقل حجة عليهم، لما قال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} بل كان الواجب [55/ب] أن يقول: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد العقل؛ ولما لم يقل هذا؛ ثبت أن العقل لا تأثير له في ذلك. ويدل على هذه المسألة من غير بناء على أصل: أن الله تعالى أمر إبراهيم بالذبح ومنعه منه قبل وقوع الفعل؛ فلو كان أمره بالذبح مصلحة؛ لم ينهه عن فعله قبل فعله؛ فلما نهاه عنه؛ علمنا أنه لم يكن له مصلحة في ذلك الأمر. ويدل عليه أيضًا: اتفاق الجميع على أنه قد يأمر من قد سبق في علمه أنه لا يفعل ما أمر به، كأمره للكفار بالإيمان، وقد علم أنهم لا يؤمنون، ومعلوم أنه لا مصلحة لهم في هذا الأمر؛ لأن تركه لا يوجب عليهم مأثمًا؛ لأنه لا يوجد من جهتهم مخالفة، وبالأمر يحصل منهم مخالفة، فيستحقوا على ذلك العذاب، فكان ترك الأمر أنفع لهم منه. وجرى هذا مجرى من علم من حاله أنه متى دفع إليه سيفًا يقاتل به؛ قتل به نفسه؛ فإن المصلحة له أن لا يعطيه شيئًا، وكذلك من علم من حاله أنه متى سافر قطع عليه وقتل، ولم يصل إلى ربح، كان الأصلح له ترك ذلك. وهذه طريقة جيدة على هذه المسألة2.
وقد ذكر بعضهم طريقة في هذا فقال: قد أمر الله تعالى بالدعاء، ولا مصلحة في ذلك على قول المخالف؛ لأن الداعي إن كان عاصيًا؛ لم ينفعه دعاؤه؛ لأنه قد استحق الخلود في النار، وإن كان طائعًا؛ لم ينفعه دعاؤه؛ لأنه قد استحق الثواب الدائم بالطاعة. وهذه طريقة لينة؛ لأن الأمر بالدعاء يفيد على قولهم زيادة في الآخرة، كما أن تكليفه عبادة بعد عبادة يفيد زيادة في الآخرة. وبناء المخالف الكلام في هذه المسألة على الأصول التي ذكرناها. والكلام معه في تلك الأصول. سؤال: إن قيل: هل يجوز أن يقول: افعل ما أردته منك إن لم أكرهه؟ قيل: لا يجوز؛ لأنه قد قام الدليل على قدم إرادته، وكونه لم يزل مريدًا لما أراده، واستحالة كونه كارهًا له بعد إرادته؛ فلم يجز اشتراط ذلك، ذكر هذا السؤال أبو بكر، ومنع منه1.
باب النواهي
باب النواهي صيغة النهي مدخل ... باب النواهي مسألة 1 [صيغة النهي] : للنهي صيغة مبنية تدل بمجردها عليه، وهو قول القائل لمن دونه: "لا تفعل"؛ كالأمر سواء. نص عليه الإمام رضي الله عنه في رواية عبد الله فقال: "ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمنه أشياء حرام، مثل نهيه أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها2،
ونهى عن جلود السباع أن تفترش1؛ فهذا حرام. ومنه أشياء نهى عنها نهي أدب". خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يكون [56/أ] نهيًا لصيغته؛ وإنما يكون نهيًا بإرادة الناهي كراهية المنهي عنه. وخلافًا للأشعرية في قولهم: لا صيغة له؛ وإنما هو معنى قائم في النفس. والكلام في هذا كالكلام في الأمر سواء، وقد دللنا بما فيه كفاية. ويدل عليه أيضًا إجماع الصحابة؛ فإنهم كانوا يرجعون إلى ظواهر النواهي في ترك الشيء.
من ذلك قول ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر أربعين عامًا، لا نرى بذلك بأسًا، حتى أتانا رافع فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، فانتهينا بقول رافع"1. وغير ذلك من الظواهر. ولأن السيد إذا قال لعبده: لا تفعل كذا، ففعل؛ صلح أن يعاقبه عليه. وقد ورد لفظ: "لا تفعل" في القرآن على وجوه: منها: ما ورد على وجه الرغبة والسؤال، مثل قوله: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} 2. ومنها: ما ورد بلفظ التقرير مثل قوله: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} 3. وقد ورد على وجه التحذير، مثل قول القائل لعبده: الآن قد أمرتك، لا تفعل4. وورد على وجه الاستقلال، مثل أن يقول: لا تكلمني، فإنك لست بأهل للكلام5 ولا موضعًا له. ويرد لتسكين النفس مثل قوله: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} 6. ويرد على وجه الأمان من الخوف، مثل قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} 7.
وورد للعظة، مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 1، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} 2، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 3 {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} 4.
مسألة النهي المطلق يقتضي الفور والتكرار
مسألة 1 [النهي المطلق يقتضي الفور والتكرار] : والنهي يقتضي المبادرة إلى ترك المنهي عنه على الفور، كالأمر، وأنه يقتضي التكرار كالأمر سواء. وقال أبو بكر ابن الباقلاني: لا يقتضي التكرار، كالأمر، ولا يقتضي الفور. وما ذكرناه في الأوامر فهو دلالة في النهي، فلا وجه لإعادته. ولأن الواحد من أهل اللغة متى قال لعبده: لا تدخل هذه الدار، فترك المأمور دخولها ساعة، ثم دخلها استحق الذم عند سائر العقلاء؛ فدل على أنه يقتضي التكرار.
مسألة النهي عن أشياء بلفظ التخيير يقتضي المنع من أحدها
مسألة النهي عن أشياء بلفظ التخيير يقتضي المنع من أحدها مدخل ... مسألة 1 [النهي عن أشياء بلفظ التخيير يقتضي المنع من أحدها] : النهي إذا تعلق بأحد أشياء بلفظ التخيير، مثل: أن لا تكلم زيدًا أو
عمرًا؛ فإنه يقتضي المنع من كلام أحدهما على وجه التخيير، على ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه في رواية البغوي: كل ما في كتاب الله تعالى "أو" فهو على التخيير. خلافًا للمعتزلة في قولهم: إنه يقتضي المنع من كليهما1 جميعًا2، وهو اختيار الجرجاني. وقال أبو بكر ابن الباقلاني: يقتضي المنع من كلام أحدهما على وجه التخيير.
دليلنا
دليلنا: أن النهي كالأمر في باب الكف، ثم ثبت أنه لو قال: تصدق بدرهم أو دينار؛ لم يجب الجمع بينهما، كذلك النهي1.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} 1 [56/ب] معناه: ولا كفورًا2. والجواب: أنا حملناه على الجمع بدليل.
واحتج: بأنا وجدنا أهل اللغة يقولون: لا تطع زيدًا أو عمرًا، المعنى: اتق طاعتهما؛ كأنه قال: لا تطع زيدًا ولا عمرًا. والجواب: أنا لا نسلم بهذا. واحتج: بأن في المنع منهما احتياطًا، حتى لا يواقع المحظور، ولهذا قلنا فيمن اشتبهت عليه جاريته بجارية1 غيره: أنه لا يطأ واحدة منهما. والجواب: أنه يلزم عليه التخيير في الواجب؛ لأن فعل كل واحد منهما احتياطًا؛ لأنه بفعل أحدهما لا يأمن ترك واجب، ومع هذا لا يجب. واحتج: بأن ما وجب تركه مع غيره؛ وجب تركه بانفراده. والجواب: أنه يبطل بالجمع بين الأختين، يجب من ترك كل واحدة منهما مع وجود الأخرى عنده ولا يجب مع عدمها.
مسألة النهي عن شيء له ضد واحد أمر بضده
مسألة النهي عن شيء له ضد واحد أمر بضده مدخل ... مسألة 1 [النهي عن شيء له ضد واحد أمر بضده] : إذا ورد النهي عن فعل شيء له ضد واحد كان أمرًا بضده من جهة المعنى، نحو قوله: {لاَ تَكْفُرْ} 2 يكون أمرًا بضده، وهو الإيمان. وإذا كان للمنهي عنه أضداد، تضمن ذلك أمرًا بضد واحد من الأضداد، كقوله: لا تسجد.
دليلنا
دليلنا: أنه إذا نهى عن فعل شيء؛ تضمن ذلك وجوب الكف عنه، ولا يمكنه الكف عنه إلا بفعل واحد من الأضداد؛ فثبت أن النهي عنه تضمن واحدًا من أضداده لا محالة، ألا ترى أنه لا يتوصل إلى ترك الحركة إلا بفعل ضدها من السكون؛ فصار كأنه ترك الحركة بالسكون، فتضمن ذلك إيجاب فعله عليه. ويبين صحة هذا ما ذكرناه: أن الأمر بالشيء؛ أمر بما لا يتم إلا به، ولهذا جعل الأمر بالطهارة والأمر بالكفارة، لكن بطلب ما يتوصل به إليه.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن اللفظ يصح وروده مقترنًا بذكر إباحة جميع أضداده؛ فلو كان النهي يتناول ذلك؛ لم يجز نفيه بما يقترن به. والجواب: أنا لا نسلم هذا، وإنما يصح أن يرد بإباحة بعض أضداده، لا جميعها.
مسألة إطلاق النهي يقتضي الفساد
مسألة إطلاق النهي يقتضي الفساد مدخل ... مسألة 1 [إطلاق النهي يقتضي الفساد 2] : وقد قال أحمد رضي الله عنه في رواية3 أبي القاسم إسماعيل بن عبد الله بن ميمون العجلي4 في الشغار5: يفرق بينهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قد نهى عنه1، وقال: أرأيت لو تزوج امرأة أبيه؛ أليس قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2. وقال رضي الله عنه في رواية أبي طالب وقد سئل عن بيع الباقلا3 [57/أ] قبل أن تحمل وهو ورد، فقال: [نهى] النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها4، هذا بيع فاسد، وهو قول جماعة الفقهاء.
خلافًا للمعتزلة1 والأشعرية في قولهم: لا يقتضي فساد المنهي عنه بإطلاقه2.
دليلنا
دليلنا: ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد"، وفي بعض الألفاظ: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه؛ فهو رد". وروى: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد" 1.
فإن قيل: معنى الرد: أنه غير مقبول، والقبول من الله تعالى هو الإثابة عليه، ونحن نقول: إنه لا يثاب على فعله. قيل: الرد يحتمل ذلك، ويحتمل الإبطال والإفساد، كما يقول: رد فلان على فلان، إذا أبطل قوله وأفسده، فوجب حمله عليهما. وأيضًا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة إلا بطهور" 1،
و "لا نكاح إلا بولي" 1 و "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"، ومعلوم أنه لم يرد بذلك نفس الفعل؛ لأن الفعل لا يمكن رفعه، وإنما أراد نفي حكمه، فاقتضى ذلك أن الفعل إذا وجد على الصفة المنهي عنها؛ لم يكن له حكم، وكان وجوده كعدمه؛ فيكون الفرض باقيًا على حالته؛ فوجب الإتيان به. وأيضًا: فإن الصحابة رضي الله عنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها. فمن ذلك: احتجاج ابن عمر في فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} 2.
وكذلك احتجاجهم في إفساد عقود الربا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، وإلا سواء بسواء عينًا بعين يدًا بيد" 1. وما أشبه ذلك؛ [فلو] كان إطلاقه لا يفيد الفساد؛ لم يرجعوا إلى ظاهر الكلام. فإن قيل: إنما رجعوا إلى ذلك لدلالة مقترنة إلى هذه الألفاظ دلت في الحال على ذلك. قيل: لو كان الذي يفيد الفساد دلالة غير اللفظ لطالب بعضهم من بعض حال ورود المنازعة، ولكانت تنقل ذلك للعصر الثاني والثالث حتى لا يؤدي إلى تضييع الشرع.
وأيضًا: فإن النهي يخرجه عن أن يكون شرعًا، والصحة والجواز من أحكام الشرع، فما أخرجه من أن يكون موافقًا للشرع وجب أن يخرجه من أن يكون موافقًا لحكمه. ويعبر عن هذا بعبارة أخرى وهو: أن ما يفعل على وجه منهي عنه؛ لا يجوز أن يكون هو المفروض ولا المندوب والمباح؛ لأن المنهي عنه لا يكون مأمورًا به ولا مندوبًا؛ لاستحالة اجتماع الشيء وضده؛ فإذا لم يكن [57/ب] هو المأمور به لم يؤثر فعله في إسقاط حكم الأمر الآخر، فكان حكمه باقيًا عليه؛ فليزمه الإتيان به، وهذا معنى قولنا: النهي يقتضي الفساد، ولهذا قال أصحابنا: النهي إذا كان لمعنى في غير المنهي عنه؛ وجب فساد المنهي عنه أيضًا للمعنى الذي ذكرنا. وأيضًا فإن الأمر يدل على الصحة والجواز، فوجب أن يدل النهي على البطلان والفساد؛ لأن النهي ضد الأمر، فما أفاده الأمر في المأمور؛ يجب أن يفيد النهي ضده في المنهي، ولهذا لما أفاد الأمر وجوب الفعل، أفاد النهي وجوب الترك. وأيضًا: فإن النهي متعلق بصفة، وعدمها شرط في الفعل؛ فإذا فعله بطل لعدم الشرط. وبيان هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" 1.
ظاهر النهي لأجل إحرامه، ولأن الإحلال شرط في صحة العقد، وهذا على أصلنا في القول بدليل الخطاب؛ لأنه إذا قال: لا ينكح المحرم، يدل على أن المحل ينكح، ويكون الإحلال شرطًا في صحته. فإن قيل: هذا لا يدل على أن عدم الصفة شرط في صحة الفعل؛ وإنما يدل على أنه شرط في إباحة الفعل. قيل: الأمر والإباحة يدلان على الصحة؛ لأن صاحب الشريعة إذا قال: أمرتك بأن تفعل النكاح في حال الإحلال؛ فإذا عقده؛ دل على أنه صحيح مجزئ؛ لكونه محلًا، وكذلك إذا قال: أبحت لك أن تفعل النكاح في حال الإحلال، فإذا عقده؛ كان صحيحًا لإحلاله.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الدليل لا يجوز وجوده وليس معه مدلوله، وقد وجدنا في الشريعة نهيًا وتحريمًا يقارن الصحة والإجزاء؛ فدل على أنه لا يدل على الفساد،
وذلك مثل البيع في حال النداء، والطلاق في حال الحيض والوطء فيه، والذبح بالسكين المغصوبة، والصلاة في الدار المغصوبة، وفي السترة المغصوبة، والوضوء بالماء المغصوب، وإقامة الحد بالسوط المغصوب، وما أشبه ذلك؛ فإنه يقع موقع الجائز مع كونه محرمًا منهيًا عنه. والجواب: أن هذا لا يمنع وجوده، ولا يقتضي الفساد، كما لم يمنع وجوده ولا يقتضي التحريم، وقد ثبت أن إطلاق النهي يقتضي التحريم، وإن دل الدليل على أنه لا يوجب الفساد. فإن قيل: إن دل الدليل على أنه لا يوجب التحريم؛ خرج من أن يكون نهيًا. قيل: لا يوجب خروجه من أن يكون نهيًا، كما لا يجب أن يخرج الأمر بسقوط وجوبه -بدليل- من أن يكون أمرًا، وعلى أن هناك دليلًا1 دل على الفساد، ولم يدل الدليل على غيره. وأجاب [58/أ] بعضهم عن هذا بجواب آخر فقال: المفعول على هذا الوجه في المواضع التي ذكروها؛ لم يتضمنه الأمر الأول، إلا أن الله تعالى أسقط موجب الأمر عن2 المكلف بمثل هذا الفعل، كما يسقط عنه بالعجز. واحتج بأن الفساد صفة زائدة لا يقتضيها لفظ النهي؛ فلم يجز إثباتها به. والجواب: أن هذا باطل بالتحريم؛ فإنه صفة زائدة، لا يقتضيها النهي، وقد أثبتها باللفظ.
ثم لا نسلم أنه لا يقتضيها اللفظ؛ لأنا قد بينا أن النهي متعلق بصفة، وعدمها شرط في الفعل. واحتج: بأنه لو كان إطلاق النهي يقتضي الفساد؛ لوجب -إذا صرف عن إطلاقه- أن يصير مجازًا. والجواب: أنه إنما لم يصر1 مجازًا؛ لأنه قد حمل على بعض موجباته، وهو الكراهة؛ فلهذا لم يصر مجازًا، كالعموم إذا خص بعضه، وعلى أن هذا يبطل بالتحريم؛ فإنه إذا صرف عنه لا يصير مجازًا، وإن كان الإطلاق يقتضيه.
مسألة النهي إذا تعلق بمعنى في غير النهي عنه دل على الفساد أيضا
مسألة النهي إذا تعلق بمعنى في غير النهي عنه دل على الفساد أيضا مدخل ... مسألة 1 [النهي إذا تعلق بمعنى في غير المنهي عنه دل على الفساد أيضًا] : 2 مثل: النهي عن البيع عند النداء، والصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب، والصلاة بماء مغصوب، وهذا ظاهر كلام أصحابنا رحمهم الله في بطلان الصلاة في هذه المواضع، وكذلك اختلافهم في الذبح بسكين غصب. خلافًا لأكثر الفقهاء في قولهم: لا يدل ذلك على الفساد، وهو قول الأشعرية أيضًا.
دليلنا
دليلنا: ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد". ولأن النهي عن الفعل على هذه الصفة يخرجه عن أن يكون شرعيًا، والصحة والجواز من أحكام الشرع، وهذا الفعل منهي عنه؛ فوجب أن يكون ذلك شرعًا. ولأنه لا فرق بين أن يكون النهي لمعنى في المنهي عنه أو في غيره في توجه البطلان، بدليل أن شراء الصيد في حق المحرم، ونكاح المحرمة؛ باطل، وإن لم يكن النهي متوجهًا لمعنى في المنهي عنه، وإنما هو لمعنى آخر وهو الإحرام؛ كذلك لا يمتنع أن تفسد الصلاة في الدار المغصوبة لمعنى في غيرها، وهو تحريم الغصب، وكذلك بيع المحجور عليه منهي عنه لمعنى في العاقد لا في العقد، وهو فاسد. فإن قيل: ما يختص العاقد والمعقود عليه يتعلق بالعقد ويرجع إليه. قيل: فيجب أن يفسد بيع الحاضر للبادي؛ لأن النهي عن ذلك لمعنى في المتعاقدين.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن النهي لا يرجع إلى المنهي عنه، بدليل: أنه ممنوع من الجلوس في الدار [58/ب] في غير صلاة، وممنوع من لبس القميص وشرب الماء، وإذا لم يرجع النهي إليه؛ لم يؤثر فيها، كما لو صلى وعنده وديعة قد طولب
بها، فلم يسلمها مع سعة الوقت، أو طلق في الحيض، أو ذبح بسكين غصب، أو حد بسوط غصب، أو استام على سوم أخيه، أو توضأ بما يملكه في دار مغصوبة؛ فإن الوضوء صحيح، وإن كان ممنوعًا في هذه الحال. والجواب: أنه إذا فرق بين الأمة وولدها في البيع؛ لم يصح عند الشافعي، وإن لم يكن ذلك لمعنى في العقد، وإنما هو لمعنى في المبيع، وهو ما يلحقهما من الحزن بالفراق، ثم هذا لا يصح؛ وذلك أنه ممنوع من الكون في الغصب، وذلك يتنوع أنواعًا، بعضه صلاة، وبعضه قعود، وبعضه قيام، وقد استوفيت الكلام على هذا في كتاب الصلاة. وفي هذه المسألة طريقة أخرى، وهو: أن النهي راجع إلى شرط معتبر في العبادة؛ لأن الصلاة أفعال تفتقر إلى أكوان، وكذلك الحج، الوقوف فيه ركن يفتقر إلى كون في مكان؛ فإذا كان الكون الذي هو شرط: منهي عنه دل على الفساد، كما لو رجع النهي إلى نفسه، ألا ترى أنه لو صلى في ثوب نجس أو في وقت منهي عن الصلاة فيه، لم يصح؛ لأن النهي رجع إلى شرط معتبر، ولم يرجع إلى نفس الفعل الذي هو الاعتمادات، كذلك ههنا، وكذلك القعود لا فرق بين أن يرجع النهي إلى نفسه كأكل الربا، أو يرجع إلى شرط كالمبيع بشرط خيار مجهول، أو أجل مجهول في أنه باطل في الموضعين. فإن قيل: الصلاة اعتمادات بفعلها في نفسها1، والنهي انصرف إلى اعتمادات في الأرض كالمنهي عن المأمور؛ فلا يصح؛ لأن الصلاة اعتمادات بفعلها في نفسها في مكان، إذ لا بد لتلك الاعتمادات التي هي
الركوع والسجود والجلوس من مكان، وما لا يتم الفعل إلا به؛ يحصل مأمورًا به. فإن قيل: هو مأذون له في العرف من جهة صاحب الأرض. قيل: لو كان كذلك؛ لم يكن مأثومًا في تلك الحال، ولوجب أن يحكم له بالثواب، كما إذا صلى فيها بإذن سابق. فإن قيل: هو منهي عن الامتناع من رد الغصب؛ فهو فعل آخر غير الصلاة المأمور بها. قيل: يبطل بالصلاة في ثوب نجس؛ فإنه منهي عن الامتناع من ترك النجاسة؛ لأن النجاسة طريقها التروك؛ فهو فعل آخر غير الصلاة المأمور بها على قولهم، ومع هذا فالصلاة باطلة. فإن قيل: النهي عن القرب يدل على الفساد، ولا يدل على العقود1. قيل: لا يصح؛ هذا [59/أ] لأنه خلاف إجماع الصحابة، وذلك أنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها2. من ذلك احتجاج ابن عمر رضي الله عنه في فساد نكاح المشركات بقوله: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 3. وكذلك احتجاجهم في فساد عقوبة الربا بقوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا التمر بالتمر، ولا
الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح؛ إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد"؛ فلولا أن إطلاقه يفيد فساد العقود، لم يرجعوا إلى ظاهر الكلام. وكذلك أوجبوا فساد النكاح في العدة، وبيع ما ليس عنده، وإن لم يكن في هذه العقود قرب. فإن قيل: لم يوجبوا إفساد البيع في وقت النداء. قيل: روي عن ابن سلام1 في تفسيره بإسناده عن ابن عباس قال: "إذا أذن المؤذن يوم الجمعة حرم البيع". وتحريمه يدل على النهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. فإن قيل: البيع وقت النداء يؤدي إلى فوت الصلاة عن وقتها، وهذا لا يدل على الفساد. قيل: بل يدل عليه، ألا ترى أن الصائم منع من القبلة إذا كانت تحرك شهوته؛ لأنه يعود بفساد العبادة؛ فلو وجد تحريك الشهوة والإنزال لفسد الصوم، [فـ] كان يجب إذا وجد فوات الجمعة أن يفسد البيع. فإن قيل: إنما منع من خطبة الرجل على خطبة أخيه؛ لما فيه من وحشة الإخوان، وبيع الحاضر؛ لما فيه من إدخال الضرر على الناس؛ لما فيه من إغلاء الأسعار. قيل: هذا لا يمنع فساد البيع، بدليل المنع من التفريق بين الوالدة
وولدها في البيع؛ لما فيه من إدخال الضرر على كل واحد بحصول الوله، لقوله عليه السلام: "لا توله والدة على ولدها" 1. وكذلك لا يصح الجمع بين الأختين في عقد النكاح؛ لما يحصل بينهما من التباغض والتقاطع. فأما الطلاق المخالف للسنة؛ فإنما أوقعناه؛ وإن كان منهيًا عنه تغليظًا على فاعله2. وإيجابنا قضاء الصلاة في الأرض تغليظًا؛ فهما3 في المعنى سواء4. وأما الجلد بسوط غصب؛ فإنما أجزأ؛ لأنه لو لم يجزئ لأدى إلى الزيادة في الحد، ولا يجوز هذا، وليس كذلك في إعادة الصلاة؛ لأنه غير ممتنع، كما لو نسى صلاة من يوم لا يعلم عينها، فإنه يلزمه قضاء يوم كامل. وأما بيع الحاضر للبادي فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله:
البطلان؛ لما فيه من الضرر على أهل البلد1. واختلفت الرواية في البيع على بيع أخيه: فروي عنه ما يدل على البطلان؛ لما فيه من الضرر بأخيه2.
مسألة دليل الخطاب حجة
مسألة دليل الخطاب حجة مدخل ... مسألة 1 [دليل الخطاب حجة] : وهو: أن يعلق الحكم بصفة، نحو قوله: "في سائمة الغنم الزكاة 2 ". أو بعدد نحو قوله: "في أربعين شاة شاة" 3.
[59/ب] أو باسم نحو قوله: "في الغنم الزكاة". ويعبر عنه: بأن المسكوت عنه يخالف حكم المنصوص عليه بظاهره. وقد نص أحمد رضي الله عنه على هذا في مواضع: فقال في رواية صالح: "لا وصية لوارث" دليل أن الوصية لمن لا يرث. وقال رضي الله عنه في رواية إسحاق بن إبراهيم: لا يحل للمسلمة أن تكشف رأسها عند نساء أهل الذمة1؛ لأن الله تعالى يقول: {أوْ نِسَائِهِنَّ} 2.
وقال رحمه الله في رواية محمد بن العباس1 وقد سأله عن الرضاع فقال: عن الني صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان 2 " فأرى الثلاث تحرم3. وقال رحمه الله في رواية حنبل وقد سئل عن الأكل من منزل المجوسي فقال: ما كان من صيد أو ذبيحة فلا، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 1 وهؤلاء ليسوا أهل كتاب2. ونقل عنه أيضًا رحمه الله: ليس على المسلم نصح الذمي، قال النبي صلى عليه وسلم: "والنصح لكل مسلم" 3. ونقل عنه أيضًا رحمه الله: يقتل السبع والذئب والغراب ونحوها4 ولا كفارة عليه؛ لأن الله تعالى قال: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 5. فجعل الجزاء في الصيد، وهذا سبع فلا كفارة فيه.
وقال في كتاب طاعة الرسول: قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} 1، يرجع في حليلة الابن من الرضاعة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" 2.
وقال رضي الله عنه في رواية حنبل: قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} 1؟ فثبت أن الله سميع بصير. وقد احتج في هذه المواضع بدليل الخطاب. وبهذا قال مالك2 وداود3. وقال أصحاب أبي حنيفة: ليس بحجة4.
واختلفوا: إذا علق الحكم بشرط؛ فمنهم من قال: ما عداه1. ومنهم من قال: لا يدل، واختاره الجرجاني. وقال ابن داود والأشعر [ية] 2: دليل الخطاب ليس بحجة3. واختلف أصحاب الشافعي: فذهب ابن سريج4 والقفال5 إلى أنه ليس
بحجة1. وذهب الأكثر منهم إلى أنه إن علق بصفة؛ فهو حجة، وإن علق باسم؛ لم يكن حجة2. ومنهم من قال: هو حجة، وإن علق باسم مثل قولنا. قال ابن فورك: وهو الصحيح3. ورأيت في جزء وقع إلي تخريج أبي الحسن التميمي: أن دليل الخطاب؛ ليس بحجة. فالدلالة على صحة ما قلناه: أنه تعالى لما أنزل قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 4، قال صلى الله عليه وسلم: "والله لأزيدن على السبعين"، ذكره يحيى5 بن سلام6
في تفسيره عن قتادة1 قال: لما نزلت [60/أ] هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد خيرني ربي فوالله لأزيدنهم على السبعين". وفي لفظ آخر: "فلأستغفرن لهم"، فأنزل الله عز وجل في سورة المنافقين: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. 3.
وهذا فسوق المشرك؛ فعقل أن ما زاد على السبعين يخالف حكمه حكم السبعين. فإن قيل: روى عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو علمت إذا زدت على السبعين أن يغفر الله لهم لزدت" 1. وهذا يمنع التعلق بالدليل، ويوجب التوقف عن الحكم بالدليل. قيل: قوله: "لو علمت ... لزدت" تعلق بدليل الخطاب، لأنه ما استفاد الزيادة إلا من ناحية الدليل، وعدم العلم بالغفران لهم لا يمنع الاحتجاج؛ لأنا استدللنا به؛ فلا يقطع على العلم به، كما إذا استدللنا بالعموم وأخبار الآحاد. فإن قيل: الكافر لا يغفر له من جهة السمع؛ فغير جائز أن يخالفه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدل ذلك على بطلان الخبر. قيل: الحديث قد صح، وليس بمنكر استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم؛
لأن مغفرة الله تعالى لهم مما يجوز في العقل، ولا يحيلها، ويصح أن يجاب في ذلك: أفتغفر لهم؟، وهذا قبل التوقيف على أن عذابهم غير منقطع. فإن قيل: فأنتم تثبتون وجوب الغفران بعد السبعين، والخبر يمنع ذلك. قيل: لو خلينا وظاهر الخبر لقلنا بوجوبه، لكن لما قال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 1 نقلنا عن ظاهره. فإن قيل: عادة العرب في قول القائل: لا أفعل كذا وإن سألتني سبعين مرة، تأكيد للنفي، وهذا لا يخفى على السامع؛ فلم يجز أن يفهم عنه دليل الإثبات. قيل: قد فهم النبي منه دليل الإثبات بقوله: {لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} ؛ فلولا أن اللفظ يقتضي ذلك لم يسأله. وجواب آخر وهو: أنه لو كان المراد تكثير الاستغفار؛ لم يحسم الطمع في مغفرتهم، فلما لم يفعل ذلك دل على أنه أراد التقدير والتحذير دون التكثير. فإن قيل: فهذا الخبر لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حلف أنه يستغفر للكافر، ولو كان قد حلف على ذلك لكان لا بد من أن يفعله؛ لأن في تركه تركًا للوفاء بالعهد، وهو منزه عن ذلك، ولو فعله لكان يجاب دعاؤه، وهذا يؤدي إلى أن الله تعالى يغفر للكافر. قيل: إنما حلف على ذلك قبل النهي، ثم نهاه عن ذلك بقوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} ، وإذا كان كذلك فقد حصل
منه الوفاء بالعهد، ولم تحصل الإجابة للنهي فيما بعد. فإن قيل [60/ب] : ليس في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل من الآية ما زاد على السبعين مخالف لحكم السبعين من حيث تخصيص هذا القدر بالذكر؛ بل إنما قال: "والله لأزيدن على السبعين"؛ لأن الاستغفار للكفار كان مباحًا عنده في تلك الحال؛ لأن غفران الكافر جائز في طريق العقل؛ فلما حظر الله هذا القدر من الاستغفار؛ بقي ما زاد على السبعين على أصل الإباحة. قيل: لو كان كذلك ما كان لقوله: "والله لأزيدن على السبعين" معنى، وذلك مباح كله، قاله أو لم يقله، فعلم أن المراد به: أن ما وراء السبعين بخلاف السبعين. وعلى أنه أي حاجة كانت في الاستغفار للمشركين بعد موتهم، لا سيما والأصل1 الحظر في الأشياء. فإن قيل: فهذا من أخبار الآحاد، وهذه مسألة أصل؛ فلا يكون دليلها خبر واحد. قيل: مسألة الأصل تتضمن علمًا وعملًا؛ فيجب أن يثبت العمل فيه بالخبر، ويكون العلم دليله شيء آخر؛ لأن العلم مسألة، والعمل2 به مسألة أخرى. فإن قيل: فلو صح هذا الخبر؛ فلا حجة فيه؛ لأن من أصحابنا من يقول: إن المحصور بالعدد يدل على أن ما عداه بخلاف حكمه، وهذا مخصوص بالعدد.
قيل: تخصيصه بالعدد تنبيه على القول في نظيره وحكمه. وأيضًا: فإنه إجماع الصحابة؛ لأن يعلى بن أمية1 روى أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: ما بالنا نقصر وقد أمنّا، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 2؟ فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" 3، وهذا احتجاج بدليل الخطاب؛ لأن نطق الآية يفيد القصر بشرط الخوف، وسقوطه مع وجود الأمن من جهة الديل.
وكذلك احتج ابن عباس: في أن الأخوات لا يرثن مع البنات1 بقوله [تعالى] : {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 2، فلما ورث الأخت مع عدم الولد؛ ثبت أنها لا ترث مع وجوده، وأقرته الصحابة على هذا الاحتجاج، وعارضته بالسنة. وهذا احتجاج من دليل الخطاب؛ لأن نطق الآية أفاد ثبوت الإرث مع عدم الولد، فأما سقوطه مع وجود الولد؛ فإنما أفاده الدليل. وكذلك امتنع من الرد واحتج بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ، فلا يجوز أن تزاد على النصف، والمنع من الزيادة عليه عقله من دليل الخطاب. وكذلك من قال: لا يجب الغسل من التقاء الختانين، إذا لم يكن معه إنزال؛ بقول النبي صلى الله عليه وسلم [61/أ] : "الماء من الماء" 3، وهذا احتجاج بدليل الخطاب.
ومن أوجب الغسل قال: هو منسوخ1. فدل هذا على أن القول بدليل الخطاب إجماع منهم. فإن قيل على حديث يعلى بن أمية: أن الله تعالى أمر بالإتمام حال الأمن2 بقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 3، وخص القصر بحال الخوف، فكان عندهما: أن الإتمام واجب حال زوال الخوف بالآية الأخرى، لا بدليل اللفظ. قيل: عمر ويعلى رجعا إلى آية القصر دون الآية الأخرى؛ فلم يصح السؤال.
فإن قيل: من قال: لا يجب الغسل بالتقاء [الختانين] ، يحتمل أن يكون علموا ذلك بدلالة أخرى لا بدليل اللفظ. قيل: من ذهب إلى هذا؛ رجع إلى قول النبي: "الماء من الماء"؛ فلم يصح السؤال. فإن قيل: فقوله: "الماء من الماء" يقتضي الاستغراق؛ فلهذا دل على نفي ما عداه، وخلافنا في تخصيص المحكوم فيه ببعض صفاته. قيل: المعروف من مذهب المخالف: أنه لا فرق بين ما دخله الألف واللام، أو لم يدخله. وأيضًا: فإن أبا عبيد1 قد قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" 2 دليله: أن لَيَّ غير الواجد لا يحل عرضه ولا
عقوبته؛ فصرح بالقول بدليل الخطاب، وهو أوثق من نقل اللغة عن أهلها، فوجب المصير إلى ذلك. فإن قيل: أبو عبيد لم يحك ذلك بعينه عن العرب، ولا يجوز أن يجعل ظاهر كلامه أنه عن العرب؛ لكونه من أهل اللغة؛ لأنه ممن يتكلم في الأحكام ويختار المذاهب؛ فجاز أن يكون قاله من جهة الحكم، وطلب فائدة اللفظ. وقد عارض ذلك ما ذكره الأخفش1 في قول القائل: "ما جاءني غير زيد"، أن ذلك لا يدل على مجيء زيد. قيل: أن أبا عبيد ذكره هذا في كتب اللغة، ولم يذكره في كتب الأحكام، والظاهر: أنه لغة العرب. وقولهم: ما ذكره عن الأخفش لا يعارض قول أبي عبيد؛ لأن الأخفش لم يكن من أهل اللغة؛ وإنما كان له معرفة بالنحو، وأبو عبيد إمام في اللغة، وله غريب المصنف2 وغيره من الكتب في اللغة.
وأيضًا: فإن أهل اللغة لا يضمون الصفة إلى الاسم، ويقيدون الاسم بها إلا للتمييز والمخالفة بينه وبين ما عداه. يبين ذلك: أنهم لا يقولون: اشترِ عبدًا أسود، أو جارية بيضاء، أو خبزًا سميذًا1، أو لحمًا نيئًا أو مشويًا، ولا يقولون: ادفع هذا المال إلى بني فلان الفقراء منهم، أو الفقهاء منهم، وما أشبه ذلك، إلا لتخصيص الموصوف بهذا الوصف وتمييزه. والمخالفة2 بينه وبين من عداه. ومن كان عنده جميع الصفات واحدة؛ لم يقيد خطابه بذلك، بل يطلق3 الاسم إطلاقًا، ومن قيده مع [61/ب] تساويهما عنده كان مسقطًا في قوله، ملغزًا في خطابه؛ فوجب إذا قال صاحب الشريعة: "في سائمة الغنم والزكاة" أن تكون الزكاة مختصة بالسائمة، ولا تكون واجبة في المعلوفة، ولا يلزم على هذا الاسم المجرد إذا ضم الحكم إليه؛ لأنا نقول فيه ما نقوله في الصفة المضمومة إلى الاسم. وقد صرح بهذا أحمد رضي الله عنه في رواية الميموني وقد سئل عن
التيمم بالسهلاة1، فقال: كيف يتيمم بهذه الأشياء وليست بصعيد؛ ولكن يتيمم ويعيد جميع ذلك؛ لأن اسم الصعيد لا يتناوله، والآية تضمنت التيمم بما يسمى صعيدًا بقوله: "صعيدا" فدل على أن غيره لا يجوز التيمم به. وكذلك قال في رواية الميموني: لا يتوضأ بماء الورد، هذا ليس بماء، وإنما يخرج من الورد. وأيضًا: فإن اسم الغنم عام في المعلوفة والسائمة؛ فإذا ذكر الصفة معه فقال: في سائمة الغنم، فخص الاسم، فوجب أن يكون مقصورًا عليها، كالحكم المعلق على الغاية، والاستثناء إذا تعقب عددًا. وقد قال بعضهم: ينظر الحكم، بماذا اخترل2 عم الحكم؛ فوجب أن يتضمن نفيًا وإثباتًا؛ كالاسم المقرون بالاستثناء والمقيد بالغاية. وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم امتدح بالاختصار بقوله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارًا" 3. فإذا قلنا: إن قوله:
"في سائمة الغنم الزكاة"؛ لم يفد ذكر السوم غير ما أفاده الإطلاق؛ حملنا الكلام على الإطالة من غير فائدة، فكان حمله على فائدة أولى. فإن قيل: فائدة تخصيص المذكور بيان الحكم فيه، ليقف ما سواه على تعريض المجتهد لطلب الثواب. قيل: هذه الفائدة غير حاصلة من جهة اللفظ؛ بل هي سابقة له؛ لأن المجتهد معرض لطلب الثواب بالاجتهاد، فامتنع أن يكون ورود هذا الفظ أفاد ذلك، ولم يبق إلا أن تكون الفائدة ما ذكرنا.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لا يجوز أن يكون لله تعالى دليل على حكم من الأحكام، ويوجد ذلك الدليل عاريًا من مدلوله؛ فلما وجدنا الله تعالى قد خص أشياء بذكر بعض أوصافها، وعلق بها أحكامًا، ولم يكن تخصيصها بها موجبًا للحكم بما عداها بخلافها، وعلق بها أحكامًا، ولم يكن تخصيصها بها موجبًا للحكم بما عداها بخلافها، نحو قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} 1؛ فخص النهي عن ذلك بحال خشية الإملاق، ولم يختلف النهي في الحالين. وقوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} 2، فخص
النهي عن الظلم لهذه الأشهر، ثم كان الظلم منهيًا عنه في سائر الشهور. وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} 1، وهو عليه السلام منذر البشر. وقوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 2. علمنا: أن تخصيص الشيء ببعض [62/أ] أوصافه وإيجاب الحكم فيه؛ لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه. والجواب: أن دليل الخطاب سقط في هذه المواضع؛ لقيام الدلالة عليه. ثم لا يمنع ذلك لكونه موضوعًا في الأصل على ما اعتبرناه، كما أن قيام الدلالة على كون العموم غير مستغرق للجنس، لا يدل على أنه غير موضوع في الأصل للاستغراق، نحو قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 3، ومعلوم أنها لم تؤتَ مثل فرج الرجل. وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4، ومعلوم أنه لم يخلق نفسه سبحانه. وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 5، ومعلوم أنها لم تدمر السموات والأرض. فلئن جاز أن يعترض بمثل هذا علينا في دليل الخطاب؛ كان لأصحاب
الخصوص أن يعترضوا على الجميع في القول بالعموم بهذه المواضع. فإن قيل: العموم لا يجوز وجوده عاريًا عن إيجاب حكم، وههنا يوجد عاريًا عن إيجاب حكم. قيل: بالقياس يوجد عاريًا عن إيجاب حكم، وهو إن عارضه نص، ومع هذا لم يدل ذلك على أنه ليس بحجة. واحتج: بأن ما يقتضيه الخطاب بصريحه أو دليله طريقه اللغة دون غيرها، وثبوته من طريق اللغة لا يخلو من أن يكون بالعقل أو بالنقل، ولا يجوز أن يكون بالعقل؛ لأنه لا مدخل للعقل في إثبات اللغة، ولا يجوز أن يكون بالنقل لأنه لا يخلو: إما أن يكون متواترًا أو آحادًا، ولا يجوز أن يكون تواترًا؛ لأنه لو نقل ذلك من طريق التواتر لعلمنا؛ لأنه لا يجوز أن يختص المخالف بعلم النقل المتواتر، ولا يجوز أن يكون آحادًا؛ لأن هذه المسألة من مسائل الأصول, ولا يجوز إثباتها بخبر الواحد الذي لا يوجب العلم. والجواب: أنا أثبتناه بالنقل الذي قامت الحجة به، كما يستدل المخالف على إثبات العمل بخبر الواحد وبالإجماع بنقل ليس بمتواتر؛ لقيام الحجة عنده بصحته. وأثبتناه أيضًا بالعقل، وقول المخالف: إن العقل لا مدخل له في إثباته: ليس بصحيح؛ لأن له مدخل في الاستدلال بمخارج كلامهم على مقاصدهم وموضوعاتهم، وقد استدللنا بذلك على ما تقدم بيانه. واحتج: بأنه لو كان يدل على المخالفة؛ لم يجز أن يصرح بالتسوية بينهما؛ فلما جاز أن يقول: في سائمة الغنم وفي معلوفتها زكاة؛ دل على أن تخصيص السائمة بالذكر؛ لا يدل على المخالفة؛ لأنه لو دل على المخالفة؛ لكان ذلك متناقضًا.
والجواب: أن هذا باطل "بالغاية"؛ فإنها تدل على خلاف ما قبلها، وإن جاز الجمع بينهما نحو قوله: وأيديكم إلى المرافق واغسلوا ما ببعد المرافق. وكذلك صيغة العموم تدل على الاستغراق، وإن جاز أن يقترن بها [62/ب] دليل الاستثناء، فنقول: اقتلوا المشركين إلا زيدًا، ولا يكون هذا مناقضًا للفظ. وجواب آخر: وهو أنه لا يمتنع أن يختلف حكم الاتصال والانفصال؛ فيجوز الجمع بينهما باللفظ المتصل، ولا1 يجمع بينهما في المنقطع، ألا ترى أنه لو قال: "لا إله"، وسكت؛ حكم بكفره، ولو وصل ذلك بقوله: {إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} 2، ولم يكفر3، وكذلك لو قال لغير مدخول بها: أنت طالق، وسكت؛ طلقت، ولو قال: إن دخلت الدار؛ لم تطلق قبل وجود الصفة، كذلك ههنا. واحتج: بأن المسموع إيجاب الزكاة في السائمة، ولم يسمع في المعلوفة ذكر حكمي؛ فوجب التوقف، كما أن أصل الأحكام قبل أن يرد السمع على الوقف. والجواب: أن قبل النطق لم يسمع للمعلوفة حكم بنفي ولا إثبات، وبعد النطق قد علم حكم بعضها سمعًا وبعضها مفهومًا من السمع من الوجه الذي بينا. يبين صحة هذا: أن الشرع قد يفهم من حكم اللفظ، كما يفهم
بالنطق؛ ألا ترى أن الوجوب معقول من الأمر، وليس لفظ الوجوب مسموعًا، وكذلك حكم التعريض معقول، وإن لم ينطق به، كقول القائل: ما أنا بزانٍ، ولا أمي بزانية، في الخصومة، وكذلك قوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا} 1، وقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 2 معقول أن لا يضربهما. واحتج: بأنه لو كان تعليقه على صفة يدل على ضد حكمها؛ لم يوضع له عبارة تدل عليه، ولما جاز أن يقول: في السائمة الزكاة ولا زكاة في المعلوفة؛ علم أن ذلك مأخوذ مما وضع له. والجواب: أن نفي الزكاة في المعلوفة يحصل بالدليل، والنطق يؤكد، كما يقول: "اقتلوا المشركين أجمعين"، ولو لم يقل "أجمعين"؛ لوجب قتل الجميع؛ كذلك ههنا. واحتج: بأنه لو كان للخطاب دليل؛ لوجب أن يبطل حكم الخطاب ويبقى حكم الدليل، كما جاز3 أن يبطل حكم الدليل ويبقى حكم الخطاب، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل" 4، دليله أنها إذا أُذِنَت أن
يصح1، وعندكم: لا يصح؛ فيبطل حكم الدليل، ويبقى حكم الخطاب. وكذلك: قوله: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان"؛ دليله: أن الثالثة تحرم، وعندكم: لا تحرم، فسقط حكم الدليل، ويبقى حكم الخطاب، ولهذا نظائر. والجواب: أنه لا يمتنع أن نقول: يبطل حكم الخطاب، ويبطل حكم الدليل؛ لأن النطق ودليله يجريان مجرى نطقين، فيجوز أن يسقط أحدهما ويبقى حكم الآخر. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في [63/أ] رواية محمد بن العباس وقد سئل عن الرضاع فقال: "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان"؛ فأرى أن الثالثة تحرم"، فأسقط الخطاب في الرضعتين، وبقي حكم الدليل في الثالثة.
قال أبو بكر بن فورك: وهذا [هو] الصحيح. ويحتمل: أن الدليل يسقط، ويبقى حكم اللفظ؛ لأن الدليل فرع النطق ونتيجته؛ فلا يصح ثبوت الفرع مع إسقاط الأصل، وهذا هو الأشبه، ويفارق هذا النطقين؛ لأن كل واجب منهما ليس بأصل للآخر. واحتج: بأنه لو كان للخطاب دليل؛ لوجب أن يكون ضد النطق فقط، لا يكون ضدًا لغيره، مثل قوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، كان يجب أن يكون دليله: أن غير سائمة الغنم لا زكاة فيها؛ وقد قلتم: إن دليله في غير السائمة من الإبل والبقر [و] اللفظ لم يتناول ذلك. والجواب: أنه قد قيل: إنه يقتضي سقوط الزكاة عن معلوفة الغنم فحسب؛ لأن الدليل ما كان مضادًا للنطق، فيتعلق به ضد ما تعلق بالنطق، ونقطه أفاد ثبوت الزكاة في الغنم حسبُ؛ فيجب أن يكون دليله سقوط الزكاة عن معلوفة الغنم حسبُ. وقيل: إنه يقتضي سقوط الزكاة عن معلوفة الحيوان كله، وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث1؛ لأنه ذكر له حديث بهز بن حكيم2، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في كل
إبل سائمة" 1، هل يدخل في هذا أنه لا يكون إلا في السائمة، ولا يكون في العوامل زكاة؟ فقال: أجل، لا يكون في العوامل زكاة، ولا يكون إلا في السائمة؛ فعم سقوط الزكاة في غير السائمة من سائر الحيوان باللفظ المنصوص عليه في الإبل. قال ابن فورك: هو الظاهر2؛ وذلك لأن السوم يجري مجرى العلة في تعلق الحكم به؛ فوجب كذلك حيث وجد، وعدمه حيث عدم كالشرط المعلق عليه الحكم. ويلزم هذا القائل: أن يقول: ما عدا السائمة من الغنم لا زكاة فيه من الحيوان وغيره، حتى لو استدل به على أن الزيتون لا زكاة فيه كذلك؛ جاز لأنه ليس بغنم سائمة، وقد لا يلزمه ذلك؛ لأن النطق اقتضى إيجاب الزكاة فيما فيه السوم، فاقتضى إسقاطه فيما لا سوم فيه مما يدخله السوم. واحتج: بأنه لو كان دليل الخطاب حجة في الإثبات؛ لكان حجة في النفي. والجواب: أنه حجة في النفي، كما هو حجة في الإثبات، ولا
فرق بين قوله: "القطع في ربع دينار"، وبين قوله: "لا قطع إلا في ربع دينار". وقد قال أحمد رحمه الله: قوله: "لا وصية لوارث"؛ [63/ب] دليل على أنها تصح لغير وارث.
إذا تعلق الحكم باسم، دل على أن ما عداه بخلافه
فصل 1 إذا تعلق الحكم باسم؛ دل على أن ما عداه بخلافه: أن2 الصفة وضعت للتمييز بين الموصوف وغيره، كما أن الاسم وضع لتمييز المسمى من غيره؛ فإذا قال: ادفع هذا إلى زيد أو إلى عمرو، واشتر لي شاة أو جملًا، وما أشبه ذلك، لم يجز العدول عنه، وكانت التسمية للتميز والمخالفة بينه وبين ما عداه كالصفة سواء، ثم لو علق الحكم على صفة؛ دل [على] أن ما عداه بخلافه، كذلك إذا علقه بالاسم. فإن قيل: الاسم لا يجوز أن يكون علة للحكم، والصفة يجوز أن تكون علة. قيل: يجوز أن يكون الاسم علة كالصفة. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني: يتوضأ بماء الباقلا، وماء الحمص؛ لأنه ماء؛ وإنما أضفته إلى شيء لم يفسد، وإنما غير لونه، فقد جعل العلة في جواز الوضوء به وقوع اسم الماء عليه. فإن قيل: لو قال: أوجبت الزكاة في الغنم، وأوجبتها في البقر؛ لم
يتنافيا1 ذلك، ولو قال: في سائمة الغنم وفي المعلوفة زكاة؛ تنافيا، وسقط أن يكون الحكم متعلقًا بصفة السوم أو بصفة العلف، وصار الوجوب متعلقًا بصفة السوم أو بصفة العلف، وصار الوجوب متعلقًا2 باسم الغنم فحسب. ولأنهم يسمون كل واحد من الجماعة باسم مع تساويهم في الحكم؛ فيقولون: أعط زيدًا وعمرًا وخالدًا وبكرًا، واشتر لحمًا وتمرًا، ولا يضمون بصفة إلى اسم، والموصوف بالصفة وبضدها سواء عندهم في الحكم؛ فلا يقولون: ادفع إلى رجل فقير أو إلى رجل غني، والفقير والغني سواء عندهم3. قيل: لا فرق بينهما، وذلك أنهم يضمون صفة إلى اسم الموصوف، كما يضمون اسمًا إلى اسم، فيقولون: أعط الفقراء والأغنياء. وعلى أن هذا باطل بـ"الغاية"؛ فإن ما بعدها4 مخالف لما قبلها؛ وإن كان الجمع بين ما بعد الغاية وما قبلها، فيقول: اغسلوا أيديكم إلى المرافق، واغسلوا ما فوق المرافق، كذلك لا يمتنع في الحكم إذا علق باسم يجوز الجمع بينه وبين ضده، ومع هذا إطلاقه يدل على خلافه؛ فإن قيل: لو قال: زيد أكل؛ لم يدل على أن غيره لم يأكل، ألا ترى أنه لو أفاد ذلك لما حسن أن يخبر من بعد. أن عمرًا أكل؛ لأنه يكون متناقضًا5 في كلامه، وكذلك لو قال: جاء زيد الطويل، دل على أن ما عداه بخلافه؛ لأن هذه زيادة صفة. قيل: لا نسلم هذا، بل نقول: قوله: زيد أكل، يدل على أن
غيره لم يأكل، ثم هذا باطل بالصفة؛ فإنه لو قال: السائمة أكلت، وجاءت السائمة؛ لم يدل ذلك على أن المعلوفة لم تأكل ولم تجئ، ومع هذا تعليق الحكم بها يدل على خلافها. وما ذكروه من أنه يحسن أن يخبر [64/أ] بعد ذلك أن عمرًا قد أكل؛ فإنه يبطل بالصفة، فإنه يصح أن يخبر1 [أن في] السائمة زكاة، ويخبر بعد ذلك في المعلوفة. فإن قيل: استعمال دليل الخطاب في الاسم يسد باب القياس؛ لأنه إذا قال: لا تبيعوا البر بالبر؛ يجب أن لا يقاس الأرز عليه؛ لأن تخصيص البر بالذكر يوجب إباحة التفاضل في غيره؛ فلما كان مانعًا من القياس الثابت وجب اطراحه. قيل: هذا لا يصح لوجوه: أحدها: أن الكلام في هذه المسألة في أصل اللغة، وهو للخطاب دليل أم لا؟ والقياس حكم شرعي، فكان يجب أن يثبت له دليل في أصل اللغة وإن منع منه الشرع. وعلى أن هذا يبطل بالصفة؛ فإنه يمنع القياس فيما عداها، كذلك الاسم يمنع القياس فيما عداه، ولا فرق بينهما. وعلى أنه كان يجب استعماله ما لم يعترض2 على معنى اللفظ؛ فإذا اعترض3 عليه؛ سقط، كما استعملنا الدليل ما لم يعارض التنبيه، نحو قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4 دليله: أن غير التأفيف يجوز، لكن لما كان ذلك يسقط معنى اللفظ؛ سقط.
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لها دليل
فصل 1 أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لها دليل: وقد قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل: لا يصلى على القبر بعد شهر، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم على قبر أم سعد2 بعد شهر3؛ فجعل صلاته بعد شهر دليلًا على المنع فيما زاد عليه؛ لأن الفعل كالقول في أنه يقتضي الإيجاب، ويخصص به4 العموم.
قوله عليه السلام "إنما الولاء لمن أعتق"
قوله عليه السلام "إنما الولاء لمن أعتق" مدخل ... فصل 1 قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق": قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق"، يقتضي نطقه: إثبات
الولاء للمعتق، وانتفاء الولاء لغير المعتق مستفاد من ناحية الدليل1. وقال قوم: النطق أفاد الأمرين معًا2، وهو اختيار أبي عبد الله الجرجاني؛ لأنه ذكر هذا الخبر وقال: قد قيل: إن ذلك يدل على نفي غيره، قال: وهو قول محتمل؛ لأنه يستعمل على وجه التأكيد للمذكور وتحقيقه، مثل قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3. ولأنه يشبه الاستثناء من الجملة؛ لأن هذه إنما يستحق الإلهية إله واحد؛ وإنما الولاء يستحقه الذي يعتق، فأشبه4 النفي والإثبات في الأشياء5.
دليلنا
دليلنا: إن قوله: "إنما الولاء لمن أعتق"، إنما فيه الولاء للمعتق فحسب، وأما النفي؛ فليس في اللفظ ما يقتضيه؛ فلم يجز أن يدعي انتفاء الولاء من نفس اللفظ، وإنما هو مستفاد من الدليل، فلا يشبه هذا قوله: "لا صلاة إلا بطهور".
ولأن في اللفظ نفيًا وإثباتًا، فحكم بأن الأمرين معًا استفيدا من نفس اللفظ. وما ذكروه من أنها تستعمل على وجه التأكيد للمذكور [64/ب] وتحقيقه؛ فهو كما قال، إلا أن المذكور هو إثبات الولاء للمعتق؛ فأما نفيه عن غير المعتق؛ فغير مذكور. وقوله: يشبه الاستثناء من الجملة، دعوى.
مفهوم الخطاب والتنبيه واحد
فصل 1 [مفهوم الخطاب والتنبيه واحد] : وهو مثل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} 2؛ نبه على أنه إذا أمن3 بدينار أداه. وكذلك قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4؛ نبه على المنع من الضرب وهذا مستفاد من فحوى الخطاب ومفهومه، لا من نطقه. وقد احتج أحمد بمثل هذا في مسائله فقال رحمه الله في رواية أحمد بن سعيد5: لا شفعة لذمي، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتموهم
في طريق فألجئوهم إلى أضيقه" 1؛ فإذا كان ليس لهم في الطريق حق، فالشفعة أحرى أن لا يكون لهم فيها حق2. وقال أيضًا في رواية الفضل بن زياد وقد سئل عن رهن المصحف عند أهل الذمة قال: "لا، نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو3". وحكي عن قوم: أنه لا مفهوم للخطاب؛ وإنما دل الخطاب على المنع
من التأفيف حسبُ. سمعت أبا القاسم الجزري1 يحكي أنه قول داود. وحكي عن قوم: أن المنع من التأفيف وسائر أنواع الأذى مستفاد من اللفظ2. أما من قال: لا مفهوم للخطاب؛ فقول ظاهر الفساد؛ لأنه قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 3 واضْرِبْه؛ مراد بالأول نفي الأذية عنه، كان ذلك نقضًا لموضوع كلامه ومفهوم نطقه؛ فلا يجوز أن يقال: إن اللفظ ما تضمن المنع من الضرب. وأما من قال: إن اللفظ تضمن ذلك فهو ظاهر الفساد أيضًا؛ لأن قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4 اقتضى نطقه المنع من التأفيف، وليس في لفظه المنع من غيره؛ فلا يجوز أن يكون غير التأفيف ممنوعًا بالنطق، لكن لما منع من التأفيف من الأذى، فكان الضرب فيه أكثر من الأذى، كان المعنى الذي يمنع من التأفيف لأجله مجودًا في الضرب وزيادة، فكان ممنوعًا منه5.
.......................................................................................
باب العموم
باب العموم مدخل ... باب العموم 1: العموم 2 على أربعة أضرب 3: [الأول] : لفظ الجمع، مثل: المسلمين، والمشركين، والرجال، والجبال، والأبرار، والفجار4. الثاني: لفظ الجنس5، مثل الناس، والنساء، والإبل، والحيوان وليس ذلك من ألفاظ الجمع؛ لأنه ليس له من جنسه واحد.
الثالث: الألفاظ المبهمة، مثل "من" في العقلاء، و"ما" في غيرهم إذا كان في الاستفهام أو في [65/أ] الشرط والجزاء، و"أي" في الجمع، و"أين" في المكان، و"متى" للزمان. الرابع: الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام، مثل: الإنسان، والسارق، والزاني، والقاتل، والكافر، والبيع، والصيد، والدينار وما أشبهه1.
صيغة العموم
صيغة العموم مدخل ... [صيغة العموم] : وله صيغة موضوعة له في اللغة، إذا وردت متجردة عن القرائن دلت على استغراق الجنس، نص على هذا في رواية ابنه عبد الله رحمهما الله،
وقد سأله عن الآية إذا جاءت عامة، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1، وأخبره أن قومًا يقولون: لو لم يجئ فيها خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم توقفنا عندها؛ فلم نقطع حتى يبين الله لنا فيها، أو يخبر الرسول، فقال: قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 2 فكنا نقف عند الولد لا نورثه، حتى ينزل الله تعالى: أن لا يرث قاتل، ولا عبد، ولا مشرك. وقال في كتاب طاعة الرسول: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3، فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم "سارق" وإن قل؛ فقد وجب عليه القطع. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع في ثمر ولا كثر" 4 دل ذلك
..................................................................................................
[على] 1 أنها ليست على ظاهرها، وأنه على بعض السراق دون بعض. واحتجاجه في المسائل بالعموم كثير، ورأيت في مجموع لأبي بكر بخطه: قد أبان أبو عبد الله رحمه الله عموم الخطاب؛ فلا يخصه إلا بدليل، واستدل على ذلك بكلام كثير2، وقال بعد ذلك: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3 كقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4؛ فلو لم يجئ بيان من يقتل من المشركين،
ويقطع من السراق؛ لاقتضى الحكم على العموم، وحكى قول من قال بالوقف. وبهذا قال جماعة الفقهاء: أبو حنيفة ومالك والشافعي وداود1. وذهب أبو الحسن الأشعري وأصحابه: إلى أن العموم لا صيغة له، وأن الألفاظ التي تصلح للعموم والخصوص؛ يجب التوقف فيها إلى أن يدل الدليل على أحدهما، فيحمل عليه2. وحكي عن محمد بن شجاع الثلجي3 أنه قال: يحمل على الثلاثة، ويتوقف فيما زاد عليه، حتى يقوم الدليل على المراد به، وحكي ذلك عن جماعة من المعتزلة. ومن الناس من فرق بين الأوامر والأخبار؛ فقال: في الأوامر تحمل على العموم، ووقف في الأخبار.
دليلنا
دليلنا: قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 1، فروي أن عبد الله بن الزبعري2 قال: لما نزل ذلك لأخاصمن محمدًا، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: قد عبدت الملائكة وعبد المسيح أفيدخلون النار؟، فأنزل الله تعالى3: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 4 [65/ب] . فحمل لفظ "ما" على عمومه، وهو حجة في اللغة. وأكد ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليه، وبين الله تعالى مراده
فيه، فأنزل قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ، يدل على أن "ما" للعموم. ثم أسلم عبد الله، واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصيدة، يقول فيه1: أيام يأمرني بأغوى خطة ... سهم ويأمرني بها مخزوم فاليوم آمن بالنبي محمد ... قلبي، ومخطئ هذه محروم فاغفر فدى لك والدي كلاهما ... ذنبي؛ فإنك راحم مرحوم2 ويدل عليه قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} 3، فقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ؛ فحمل نوح لفظ "الأهل" على عمومه، فلم ينكر الله تعالى عليه ذلك، وإنما بين أن مراده خاص، وهو: المصلح منهم.
ويدل عليه قوله تعالى: في قصة إبراهيم: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} 1، علم من ذلك أنهم مهلكون لجميع أهلها، فقال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} ؛ فأخبرته الملائكة أنهم ينجونه وأهله، واستثنوه من جملة أهل القرية؛ فعلم أن إطلاق اللفظ اقتضى العموم. فإن قيل: اللفظ يصلح للعموم؛ فلذلك حكم عليه في الآيات التي ذكر فيها. قيل: لا يجوز حمله عليه بالصلاح له، بل يجب التوقف فيه، ومن فعل ذلك؛ فقد أخطأ عند المخالف، فلا يجوز حمله على الخطأ. وعلى أن نوحًا عليه السلام قد قطع به بقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ، والصلاح لا يوجب القطع. وأما قصة إبراهيم فلا يصلح هذا السؤال فيها أيضًا؛ لأنه لو كان للصلاح؛ لكان الكلام يخرج مخرج الاستفهام والمسألة، فيقول: ألوط فيهم؟ أتهلكونه فيمن يهلكون؟ فلما ذكر لفظ التخيير والتخويف، يعني لا تهلكوهم، فإن فيهم لوطًا؛ علم أنه كان قد عقل من ظاهر اللفظ: أنه مقتضٍ للعموم والشمول. وأيضًا: فإن المسألة إجماع الصحابة رضي الله عنهم. من ذلك: أن عمر احتج على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في منعه من قتال مانعي الزكاة لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إل الله؛ فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم"؛ فلم ينكر عليه ذلك؛ وإنما عدل إلى الاستثناء،
فقال: الزكاة من حقها، وقال النبي: "إلا بحقها". وكذلك مطالبة فاطمة1 أبا بكر رضي الله عنهما بالميراث2 من النبي صلى الله [66/أ] عليه وسلم، واحتجاجها بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 3؛ فأقرها على العموم، وقابلها بقوله: "ما نورث ما تركنا صدقة" 4.
وكذلك لما اختلف عثمان1، وعلي رضي الله عنهما [في الجمع بين الأختين بملك اليمين] فقال عثمان: يجوز، واحتج بعموم2 قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 3، وقال علي: لا يجوز، واحتج بعموم قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} 4.
واحتج أيضًا من كان يبيح شرب الخمر1 بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} 2، ولم ينكر سائر الصحابة ذلك؛ وإنما بينوا لقائل هذا أنه منسوخ. وروي عن عثمان3 أنه لما سمع قوله: وكل نعيم لا محالة زائل4
قال: كذبت، نعيم أهل الجنة لا يزول، وهذا يدل على أنه يجب حمل اللفظ على عمومه عندهم. فإن قيل: يحتمل أن يكون مع كل لفظ قرينة تدل على أن المراد بها الجنس، وهو دلالة الحال. قيل: لو كان لنقل؛ لأن ما لا يتم الدليل [إلا] به لا يسوغ للراوي ترك نقله، وحيث لم ينقل؛ ثبت أنه ما كان، يبين صحة هذا أنه معلوم أن الجماعة لم تشترك في معرفة القرينة؛ فلو كان موضوع اللفظ لا يفيد؛ ما قلنا لم يقتصروا على هذا اللفظ دون القرينة. فإن قيل: يحتمل أن يكون سكوت الصحابة عن الرد على من احتج بالعموم، لأجل علمها أن هذا الخطأ لا يبلغ بصاحبه المأثم. قيل: هذا لا يصح؛ لأن ألفاظ العموم جرت في احتجاج بعضها على بعض في الأحكام؛ فلو كان عند المحجوج عليه أن لا دلالة في اللفظ؛ لسأله عما أوجب القول بعمومه، كما سأله عن حجاج قوله؛ ألا ترى:
أن من ألزم غيره ما لا حجة فيه؛ لم يلزم، ولم تجر العادة بسكوته عنده، ولأنه لو كان هذا؛ لبطل تعلقنا بإجماع الصحابة في إثبات خبر الواحد والقياس، ولجاز أن يقال: إن سكوت الصحابة في ذلك؛ لأجل ما ذكره هذا القائل، دون تصويب الاجتهاد وقبل خبر الواحد. فإن قيل: ما ذكرتموه من أخبار الآحاد؛ فلا يجوز أن يثبت بها أصل يقطع به. قيل: أكثرها ثبت من جهة الاستفاضة فيما بينهم وانتشر؛ ولكن نقل إلينا نقل آحاد، وفي جملتها ما يقطع على صحته1، فهو مثل ما نقوله في الإخبار عن شجاعة عنترة وسخاء حاتم2، ثم نقل إلينا نقل آحاد، ويجب العمل به؛ لأنه تواتر في المعنى. وأيضًا: فإن أهل اللغة متى أرادوا توكيد العموم؛ أكدوه بلفظ مخصوص لا يؤكدون به الخصوص؛ فقالوا في العموم: رأيت القوم أجمعين، ورأيتهم كلهم، وقالوا في الخصوص: "رأيت زيدًا نفسه"؛ فلولا [66/ب] أن للعموم صيغة يتميز بها من الخصوص؛ لما اختلف حكمها في التوكيد. وقد عبر عن هذا بعبارة أخرى فقيل: لا يستعمل لفظ التأكيد مع اسم العموم إلا في الجنس كله، فيجب أن يكون الاسم موضوعًا للجنس،
وإلا خرج اللفظ المعرف بالاسم من أن يكون تأكيدًا؛ لأنه لا يكون تأكيدًا إلا أن يكون معناهما واحد. فإن قيل: قد يؤكد العموم والخصوص بالإشارة، وإن لم يكن لها صيغة يختص بها أحدهما دون الآخر. قيل: الإشارة لم توضع لتوكيد العموم؛ وإنما هي موضوعة للاستعانة بها1 لينظر بها المخالف إلى قصد المشير2. فإن قيل: فلو كان للعموم صيغة لاستغنى بها عن التوكيد؛ لأن التأكيد لا يفيد إلا ما أفادته الصيغة؛ فلما حسن توكيد العموم بما ذكرتموه؛ علمنا أن العموم لا صيغة له. قيل: هذا يبطل بالاسم الخاص؛ لأنه يحسن توكيده بأن يقول: رأيت زيدًا نفسه، ثم لا يدل ذلك على أن الخصوص لا صيغة له، وكذلك الأعداد يحسن توكيدها؛ كقولك: عشرة كاملة، ثم لا يدل ذلك على أن "العشرة" ليست موضوعة لعدد مخصوص يفيد ذلك عند إطلاقه من غير توكيد. وجواب آخر وهو: أن الشيء الواحد، لما جاز أن يدل عليه بدليلين وثلاثة وأربعة، ثم لا يفيد الدليل الثاني والثالث والرابع إلا ما أفاده الأول، كذلك لا يمتنع أن يؤكد العموم بتأكيد لا يفيد إلا ما أفاده العموم ومع ذلك يكون للعموم صيغة. وأيضًا: فإنا وجدنا أهل اللغة يقولون: هذا اللفظ عموم، وهذا اللفظ
خصوص، كما يقولون: هذا خبر وهذا استخبار، ويقولون: هذا الاسم واحد، وهذا اسم تثنية و [هذا اسم] جمع؛ فلما كان الاسم الواحد والاثنين والجمع والخبر والاستخبار صيغة تختص بها، كذلك العموم والخصوص1. وأيضًا: فإن قوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2 لا يخلو إما أن يحمل على العموم لظاهره، أو على الخصوص، أو يتوقف فيه، ولا يجوز حمله على الخصوص لوجهين: أحدهما: أن للخصوص لفظًا هو أخص به من هذا؛ فلو أراده لعبر عنه باللفظ المختص به. ولا يصح أن يستثنى منه أكثر من قدر الخصوص3. ولا يجوز حمله على الوقف؛ لأن اللفظ يتضمن اقتضاء فعل القتل، ومن حمله على الوقف؛ لا يعدوه فعلًا؛ بل يخرجه4 عن الإفادة، ويكون وجوده كعدمه، وهذا محال في صفة الحكيم أن يذكر ما لا فائدة فيه؛ فلم يبق إلا حمله على العموم به. وأيضًا: فإن حسن الاستثناء يدل على الصيغة؛ فإنه يقول: "اقتلوا المشركين إلا المعاهدين"، و "ومن وصلني وصلته؛ إلا بني فلان". وحسن
الاستثناء يدل على أن اللفظ عام في الجنس؛ لأن الاستثناء [67/أ] إخراج ما لولاه لوجب دخوله فيه. فإن قيل: جواز الاستثناء لصلاح اللفظ له؛ لا لأنه أوجبه. قيل: هذا لا يصح لوجوه: أحدها: أنه قد قيل: أن الاستثناء مشتق من قولهم: "ثنيت فلانًا عن رأيه، وثنيت إليه عنان فرسي إذا صرفه إليه". وقيل: إنه سمي استثناء؛ لأنه تثنية الخبر، وأيها كان؛ فإنه يقتضي أن يكون اللفظ عامًا فيه متناولًا له لو لم يكن الاستثناء1. وجواب آخر وهو: أن الاستثناء من أسماء العدد يقتضي إخراج بعض ما تناوله اللفظ، كذلك الاستثناء من ألفاظ الجمع، والألفاظ المبهمة مثل ذلك، ولا فرق بينهما. وجواب آخر وهو: أنه لو كان دخول الاستثناء فيه، لأنه يصلح؛ لصلح أن يستثنى من جنسه وغير جنسه؛ فنقول: جاء القوم إلا زيدًا وإلا حمارًا، كان "الناس" يعبر بهم عن الحمير مجازًا لأجل البلادة؛ فلما لم يصح هذا، ثبت أن الاستثناء دخل؛ لأن اللفظ أوجبه، لا أنه يصلح له. وجواب آخر وهو: لو كان لأنه يصلح له، لا أنه أوجبه؛ لَمَا افترق الحال بين أن يقع الاستثناء موصولًا أو مفصولًا؛ لأنه يخبر عما صلح [له] ؛ فلما ثبت أن الاستثناء لو وقع مفصولًا كان تخصيصًا، أو نسخًا عند من لا يقول بتخصيص العموم؛ بطل أن يكون دخوله فيه؛ لأنه يصلح له، وثبت أن دخوله فيه؛ لأنه يتناوله. وأيضًا: فإنه إذا قال: "اقتلوا رجلًا من المشركين"؛ كان الرجل
شائعًا في جنس المشركين، وأي رجل قتلوا منهم كانوا ممتثلين لأمره؛ فإذا قال: "اقتلوا المشركين"؛ وجب أن يقتلوا جميعهم؛ لأن القتل يجب أن يتعلق ههنا بمن يتعلق الرجل الذي أمر بقتله بهم. وحكي عن أبي بكر بن الباقلاني: أنه كان يسلم هذا. وإن امتنع ممتنع من تسليمه، قيل له: الدليل: أنه إذا قال: "لا تقتل رجلًا من المشركين"؛ وجب أن يكف عن واحد من جنس المشركين، وهذا لا خلاف فيه؛ ولهذا قال أهل اللغة: إن النكرة في النفي تقتضي الجنس، وإذا كان كذلك وجب أن يكون في الإثبات واحد1 من الجنس. يبين صحة هذا: أنه إذا قال: "والله لا أدخل دارًا"؛ اقتضى الجنس، فأي دار دخلها حنث في يمينه، وإذا قال: "لأدخلن دارًا"؛ اقتضى دخول دار من الجنس؛ فأي دار دخلها بر في يمينه، والبر والحنث في الإيمان بمنزلة الطاعة والمعصية. وأيضًا: فإن العموم معنى ظاهر تمس الحاجة إلى العبارة عنه والإخبار به في المخاطبة المتعلقة بالمصالح في الدين والدنيا، وقد رأيناهم وضعوا لكل ما تمس الحاجة إلى العبارة عنه من الأشخاص والأفعال اسمًا يخصه ويميزه2 عن غيره، وجب أن يكون العموم والخصوص بمثابته؛ لأن الداعي إليه كالداعي إلى [67/ب] سائر ما وضعوا له من العبارات3. فإن قيل: هذا يبطل بالطعوم والروائح؛ لأنها متغايرة متباينة، ولم يضعوا لكل طعم، ولا لكل رائحة اسمًا يخصه ويميزه عن غيره مع الحاجة إلى العبارة
عنه، وكذلك قالوا1 في المواجهة: "فعلت أنت"، و"فعلتما أنتما"، و"فعلتم أنتم"، وكذلك في الإخبار عن الغائب قالوا: "فعل فلان"، و"فعلها"، و"فعلوا"، وقالوا في الإخبار عن نفسه وعن غيره: "فعلتُ" و"فعلنا"، ولم يميزوا التثنية من الجمع، وجعلوا اللفظ مشتركًا فيهما. قيل: قد ميزوا بالإضافة، فقالوا: "طعم الخبز"، و"طعم الماء"، و"طعم الفاكهة"، و"حلاوة السكر"، و"حلاوة العسل"، و"حموضة الخل"، و"حموضة المصل"، و"رائحة الكافور"، و"رائحة المسك" كما قالوا: "لحم الغنم"، و"لحم البقر"، و"لحم الجمل"، و"لحم العصافير"؛ فميزوا بينها2 بالإضافة. وأما التثنية في الإخبار عن نفسه وعن غيره، فهو أنهم وضعوا له لفظًا يدل عليه؛ فقالوا: "فعلتُ أنا وأخي معي أو فلان"، و"إنا فعلنا"، و"فعلت أنا وجماعة معي أو فلان وفلان" و"وإنا فعلنا"؛ وإنما لم يضعوا التثنية من لفظ الواحد؛ لأنهم يثنون اللفظ بنظيره، ولا نظير له في الإخبار عن نفسه وعن غيره؛ لأنه لا يقول: أنا وأنا، كما [لا] يقول أنت وأنت، وهو وهو. فإن قيل: لفظ الجمع مع الرمز والإشارة ودلالة الحال يدل على قصد المتكلم ومن أحد من الخصوص؛ فاستغنوا بذلك عن اللفظ، كما تقول في قول القائل: "أي شيء يحسن زيد؟ " فإنه يحتمل التكثير والتقليل والاستفهام؛ وإنما يتوصل إلى قصد المتكلم بدلالة الحال. قيل: لم ننكر أن يكون في اللغة لفظ مشترك يدل دلالة الحال على قصد
المتكلم به؛ وإنما أنكرنا أن يكون ما تمس الحاجة إلى العبارة عنه في مصالح دينه ودنياه لم يضعوا له لفظه، وهذه المعاني التي يحتملها قوله: "أي شيء يحسن زيد؟ "، وقد وضعوا لها لفظًا تميز به عن غيره؛ فقالوا: "علمه قليل أو كثير، وأي شيء يحسن زيد"؟. وأيضًا: فإنه لفظة "من" إذا استعملت في الاستفهام كقوله: "من عندك؟ " و"من كلمت؟ "؛ صلح أن يجيب بذكر كل عاقل، فثبت أن اللفظ يتناول الجميع1. وكذلك إذا استعملت في المجازاة كقوله: "من دخل داري أكرمته"؛ صلح استثناؤهم؛ لأن الاستثناء: يخرج من اللفظ ما لولاه كان داخلًا فيه، ألا تراه لما لم يتناول غير العقلاء؛ لم يصح استنثاؤهم؟ فإن قيل: لا نسلم أن صيغة "من" لكل من يعقل؛ لأن ممن يعقل الجن والملائكة، ولا يدخلون فيه. قيل: الصيغة تناولت كل هؤلاء؛ وإنما خرج ذلك بدليل؛ لأنه إنما يسأله عمن يجوز أن يكون عنده، وعمن يجوز دخوله2. فإن قيل: إنما كان مجيبًا ومستثنيًا؛ لأنه [68/أ] أجاب من يصلح له اللفظ. قيل: هو يصلح له ويصلح لغيره عند المخالف؛ فكان ينبغي أن لا يكون مجيبًا حى يعلم مراد المستخبر بقوله: "من عندك؟ "، ولما أجمعوا على أنه يجيب بكل من ذكره من جنس العقلاء؛ بطل السؤال.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن صيغة العموم لا تخلو من أن تكون ثبتت بالعقل أو بالنقل؛ فلا يجوز أن يكون بالعقل؛ لأنه لا مدخل فيه، ولا يجوز أن يكون بالنقل؛ لأن النقل لا يخلو إما أن يكون تواترًا أو آحادًا، ولا يجوز أن يكون تواترًا؛ لأن التواتر لم يوجد؛ لأنه لو وجد لعلمناه، ولا يجوز أن يكون آحادًا؛ لأن نقل الآحاد لا يوجب العلم، ومسألة العموم طريقها العلم والقطع؛ فلم يجز إثباتها بما لا يوجب العلم1. والجواب عنه من وجوه: أحدها: أنا أثبتنا ذلك من طريق العقل والنقل، وقد ذكرنا الطريقين جميعًا. الثاني: أنا أثبتنا من طريق ثالث، وهو الاستدلال بمخارج كلامهم على مقاصدهم وإرادتهم مثل ما ذكرته من الاستدلال بالنكرة في الإثبات والنفي والاستفهام والاستثناء، وهذا قسم ثالث لم يذكره المخالف. جواب ثالث: أنا نقلبه عليهم فنقول: إثباتك إياه مشتركًا؛ لا يخلو ذلك من أن يكون [عقلًا] أو نقلًا، ونذكر القسمين. وهذا كما قال نفاة القياس: من [أن] إثبات القياس لا يخلو إما أن يكون عقلًا أو نقلًا، ولا يجوز أن يكون عقلًا؛ لأنه لا مدخل له فيه، ولا يجوز أن يكون نقلًا على ما ذكره المخالف؛ فقلنا لهم: تحريم القياس لا يخلو إما أن يكون بالعقل أو بالنقل، وإذا كان جوابنا هناك، فهو جوابنا ههنا.
واحتج بأن لفظ الجمع يستعمل مرة في البعض ومرة في الكل، واستعماله في البعض أكثر؛ لأنه يقال: "غلق الناس"، و"فتح الناس"، و"جمع التجار إلى دار السلطان"، ويراد به البعض دون الكل، ويقول الواحد: "غسلت ثيابي، وصرمت نخلي"، ويريد به البعض؛ فإذا كان كذلك؛ كان حقيقة في البعض والكل، وكان بمنزلة اللفظ المشترك، مثل: "العين"، و"اللون"، فإنه يحتمل: العين: "عين الذهب"، و"عين الماء"، و"عين الميزان"، و"عين الركبة"، و"عين القوم"، وهو خيارهم، والعين على القوم، وهو: "الجاسوس"، وكذلك "اللون" يحتمل "البياض"، و"الحمرة"، و"السواد"، و"الصفرة"، ولا يجوز حمل اللفظ على بعضها إلا بدليل، كذلك ههنا. والجواب: أن هذا يبطل بأسماء الأعيان واستعمالها1 في الحقيقة والمجاز، مثل تسميتهم الماء الكثير بحرًا، والرجل العالم والجواد بحرًا، وكذلك تسمتيهم "البهيمة حمارًا"، و"الرجل البليد" حمارًا، و"البهيمة أسدًا وليثًا"، و"الحية شجاعًا"، [68/ب] و"الرجل الذي به بأس وشدة شجاع". ويبطل أيضًا باستعمال لفظ الجمع في الواحد، مثل قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2، وقول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} 3، فأراد بالأول: "نعيم بن مسعود"4، ومع هذا فلم يدل ذلك على الاشتراك.
ويفارق هذا: "العين" و"اللون"؛ لأن ذلك يستعمل بنفسه في أشياء مختلفة في كل واحد منها مثل استعماله في الآخر، وليس كذلك
ههنا، فإنه يستعمل بنفسه عند الإطلاق للعموم والشمول، بدليل ما ذكرنا من الاستدلال بالنكرة في الإثبات والنفي والاستفهام والاستثناء. واحتج بأن الاستفهام يحسن فيه، ولو كان موضوعًا للجنس؛ لم يحسن الاستفهام، كما لا يحسن في الأسماء الموضوعة للعدد، مثل: "العشرة"، و"المائة"، و"الألف". والجواب: أن الاستفهام يجوز في قوله: "إنا فعلنا"، وقوله: "رأيت بحرًا"، و"رأيت حمارًا", وتقول: "قلت ذلك ألف مرة"، فيحسن أن يكون قلته على التكثير أو على الوفاء والتكميل، وتقول: "رأيت زيدًا" فيقول السامع: "رأيته نفسه"، ولم يدل ذلك على الاشتراك. وجواب آخر وهو: أنه إنما يحسن الاستفهام فيه؛ لأن اللفظ وإن كان موضوعًا للعموم بإطلاقه؛ فظاهره قد يصلح للخصوص، فيستفهمونه ليتيقن أنه إنما أراد الخصوص؛ ولأنه قد يدخل الاستفهام على طريق التأكيد، كما إذا قال القائل: "اقتل فلانًا"، صلح أن يراجعه، فيقول: "أأقتله"؟ تأكيدًا واحتياطًا؛ لأن اللفظ ما تضمنه. واحتج: بأن اللفظ قد ورد وأريد به العموم، وورد وأريد به الخصوص؛ فلم يكن حمله على أحدهما أولى من حمله على الآخر؛ فوجب التوقف. والجواب: أن اللفظ الدال على العموم هو التجرد عن القرائن، وهذا اللفظ لم يرد قط إلا وهو دال على العموم؛ وإنما يدل على الخصوص بقرينة. واحتج: بأنه لو كان موضوعًا للعموم حقيقة؛ لكان إذا حمل على
الخصوص أن يصير [مجازًا] 1. والجواب: أنه إذا حمل على الخصوص؛ فقد حمل على بعض ما تناوله اللفظ، فلا يكون مجازًا، كما إذا قال: "لفلان عشرة إلا خمسة"، إذا حمل اللفظ على الخمسة حمل على ما تناوله اللفظ، ويكون حقيقة لا مجازًا. واحتج: بأن اللفظ لو كان موضوعًا للعموم لما جاز أن يوجد؛ إلا وهو دال عليه، كما لا يجوز أن يوجد الفعل إلا وهو دال على فاعل. والجواب: أن اللفظ الدال على العموم هو المتجرد عن قرينة، ولا يوجد هذا اللفظ إلا وهو دال على العموم؛ وإنما يدل على الخصوص بقرينة تنضم [69/أ] إليه. واحتج بأن حمله على العموم يوجب التضاد؛ لأنه يحمل على العموم وعلى الخصوص، وهما ضدان. والجواب: أن اللفظ الذي يحمل على العموم لا يحمل على الخصوص، والذي يحمل على الخصوص لا يحمل على العموم؛ بل أحدهما مقترن والآخر متجرد. واحتج: بأنه لو كان اللفظ للعموم؛ لما جاز أن يطلق لفظين عامين متنافيين إلا على وجه النسخ، كالنصين المتنافيين؛ فلما جاز أن يقول: "اقتلوا المشركين"، ثم يقول: "لا تقتلوا أهل الذمة"؛ فلا يكون ذلك نسخًا، ثبت أن اللفظ ما دل على العموم بنفسه. والجواب: أن العمومين إذا وردا متنافيين؛ فهما في معنى النسخ؛ لأن النسخ يختص الأزمان، والتخصيص يختص الأعيان، فهما في المعنى
سواء، وإن اختلفا في الاسم، وعلى أن العمومين إذا وردا متنافيين؛ لم يوجد فيهما اللفظ الدال على استغراق الجنس؛ لأنه لم يتجرد لفظ أحدهما عن قرينة تدل على أن المراد به الخصوص. واحتج: بأنه لو كان اللفظ موضوعًا للاستغراق؛ لما جاز تخصيص الكتاب بأخبار الآحاد والقياس؛ فإنه لا يجوز إسقاط حكم بخبر واحد وقياس. والجواب: أن التخصيص ليس هو إسقاطًا لحكم اللفظ كله؛ وإنما يخرج بعضه ويبقى البعض، ويبين به أن هذا هو الذي كان مراعى باللفظ، فلا يكون إسقاطًا لحكم الكتاب؛ بل يكون بيانًا للمراد به.
فساد قول من حمل العموم على أدنى الجمع
فساد قول من حمل العموم على أدنى الجمع مدخل ... فصل: فساد قول من حمل العموم على أدنى الجمع ما تقدم ولأن الصحابة لم ينقل عن أحد منهم أنه اعتقد في عموم القرآن والسنة أدنى الجمع، والوقف في الباقي، بل حملوا اللفظ على عمومه؛ فدل على أنه ليس بموضوع الكلام، إذ لو كان كذلك لنقل ذلك عنهم. ولاحتج به بعضهم على بعض. ولأن للخصوص لفظًا هو أخص به من لفظ العموم، ولو كان المراد الخصوص1؛ لعبر عنه باللفظ المختص به. ولأنه يصح أن يستثنى منه أكثر من قدر الخصوص. ولأنه لو جاز أن يحمل على أقل الجمع لأنه اليقين؛ لجاز أن يحل على الواحد؛ لأنه هو اليقين؛ لأن لفظ الجمع قد يرد والمراد به الواحد
قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} 1، وقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} 2 قيل تقديره: ألقِ ألقِ على وجه التأكيد3. وقول عمر حين كتب إلى سعد4: إني قد وجهت إليك ألفي رجل؛ وإنما أنفذ إليه القعقاع5 ومعه ألف، فسمي الواحد ألفًا؛ لأنه يسد مسدها، ولما لم يجز حمله على الواحد؛ لأن الإطلاق لا يتناوله؛ كذلك أقل الجمع.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الثلاثة متيقن؛ فوجب [69/ب] حمله عليه1. والجواب: أن هذا يوجب حمله على الواحد؛ لأنه متيقن2 واللفظ قد يعبر به عنه. ويوجب أيضًا: أن يحمل لفظ العشرة على أقل من ذلك، أنها3 قد تستعمل في بعضها بدليل، وهو إذا اقترن به الاستثناء وأجمعنا على أنها تحمل على الجميع بظاهرها، وعلى أن الثلاثة4 وإن كان متيقنًا؛ فإن اللفظ حقيقة فيما زاد عليه؛ فلم يكن حمله على الثلاثة5 بأولى من حمله على الجميع. واحتج: بأن استعمال لفظ العموم في الخصوص هو الغالب؛ فحمل عليه. والجواب: أن هذا الغالب لا يختص بثلاثة. واحتج: بأن العموم مأخوذ من الخصوص، ومنه قولهم: "مطر عام". والجواب: أن العموم مأخوذ من قولهم: "عممت الشيء أعمه عمومًا، وعمهم العدل والرخص والغلاء".
فساد قول من فرق بين الأخبار والأوامر في صيغ العموم
فساد قول من فرق بين الأخبار والأوامر في صيغ العموم ... فصل: والدلالة على فساد قول من فرق بين الأخبار والأوامر أن الطريق إلى إثبات أحدهما هو الطريق إلى الآخر؛ فالممتنع من أحد الأمرين؛ يلزمه الامتناع من الآخر، ألا ترى أن استعمال اللغة في الأمرين على وجه واحد، ورجوع الصحابة إلى أوامر الله تعالى وأخباره إلى ظاهر الخطاب، كرجوعهم في الآخر، فدل على أنه لا فرق بينهما. ولأنه ثبت أن الله إذا أمر بلفظ عام؛ وجب حمله على العموم، كذلك إذا أخبر بلفظ عام؛ لأنه لا يجوز أن يخطابنا ويريد بخطابه غير ما وضع له في اللغة، ومتى لم يرد ذلك؛ دل عليه وبينه. واحتج من فرق بينهما: بأن الأوامر تكليف؛ فلو لم يعرف المراد به، لاقتضى تكليف ما لا يطاق، وليس كذلك الخبر عن الوعد والوعيد وغير ذلك؛ لأنه لا يقتضي وجوب شيء يحتاج أن يعلم به. والجواب: أن الخبر إنما يخاطب به لفائدة كالأمر، وإن كان فائدتهما تختلف؛ ألا ترى أنه يزجر بالوعيد ويرغب بالوعد، وذلك يقتضي العلم بمراده بها، فالحال فيهما واحدة. ولأن المقصود وإن اختلفت جهاته؛ فلا يوجب التفريق بين الأمرين، مثلًا اختلاف المقصود في الأوامر. فإن قيل: الخبر لا يدخله نسخ ولا تخصيص، والأمر يدخله الأمران. قيل: هذا يؤكد ما قلنا؛ لأن الأمر لما جاز أن يقع فيه النسخ والتخصيص1،
ومع هذا يحمل على العموم؛ فالخبر مع امتناع وقوع النسخ أولى أن لا نحمله1 على العموم. فإن قيل: يجوز وقوع الخبر عن مجهول، نحو قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} 2، وقوله: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} 3 ثم لا يبينه أبدًا، ولا يجوز أن يأمر بمجهول، ولا يبينه في الثاني. قيل: يجوز ذلك بأن يقول: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 4 [70/أ] ثم لا يبين ذلك، وتكون فائدة الأمر صحة تنزيله ووجوب اعتقاده.
يصح ادعاء العموم في المضمرات والمعاني
يصح ادعاء العموم في المضمرات والمعاني مدخل ... فصل: يصح ادعاء العموم في المضمرات والمعاني 1 فأما المضمرات نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2، و: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} 3، معلوم أنه لم يرد نفس العين؛ لأنها فعل الله تعالى؛ وإنما المراد أفعالنا فيها، فيعم تحريمها بالأكل والبيع4.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لجنب" 1 ليس المراد عين المسجد؛ وإنما المراد به أفعالنا، فهو عام في الدخول واللبث. وكذلك قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 2،
والنسيان لا يمكن رفعه؛ لأنه قد تقضى، والمراد به حكمه، فهو عام في المأثم والحكم به. وكذلك قوله: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين"؛ عام في الصحة والكمال. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية صالح في الرجل يحدث نفسه بما إن سكت عنه يخاف1 أن يكون قد أشرك2، فقال: يروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها 1 ما لم تعمل [أو] 2 تتكلم" 3 فاستعمل4 هذا في رفع المأثم، وقد استعمله في رفع الحكم في رواية. وذهب الأكثر من أصحاب أبي حنيفة والشافعي إلى أنه لا يعتبر العموم في ذلك.
دليلنا
دليلنا: أن قوله: "رفع" قد علم أنه ما أراد به نفس الفعل؛ لأن ذلك لا يمكن رفعه بعد وقوعه. وكذلك قوله: "لا نكاح؛ إلا بولي" لا يمكن رفعه بعد وقوعه؛ وإنما أريد ما تعلق بذلك الفعل والعقد؛ فصار اللفظ محمولًا على ذلك بنفسه، لا بدليل، ويحصل تقديره كأنه قال: "رفع عن أمتي ما تعلق بالخطأ والنسيان؛ فيعم المأثم والحكم، ولا نكاح إلا بولي، يعم الكمال والصحة. وكذلك: {لا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1، قد علمنا أنه لم يرد اللفظ2 بل أراد ذلك وما هو أعلى منه؛ فصار كأنه قال: لا تقربهما بسوء.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن قولنا: عموم، معناه: خطاب موضوع للجنس، ولفظ يعم الجنس، وهذا لا يوجد في المعاني والمضمرات؛ فإن المضمر والمعنى ليس بلفظ. والجواب: أنا قد بينا أن اللفظ مراد بهذا، من الوجه الذي بينا؛ فإن قيل: فيجب أن يقولوا: إن التخصيص يدخل على المضمرات والمعاني. قيل: هكذا نقول.
إذا أضيف التحريم إلى ما لا يصح تحريمه كان عاما في أفعال العين المحرمة
إذا أضيف التحريم إلى ما لا يصح تحريمه كان عاما في أفعال العين المحرمة مدخل ... فصل: 1 لفظ التحريم إذا تعلق بما لا يصح تحريمه؛ فإنه يكون عمومًا في الأفعال في العين المحرمة إلا ما خصه الدليل، نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 3. وحكي عن البصري المعروف بالجعل4: أن هذا اللفظ يكون مجازًا، ولا يدل على تحريم الأفعال.
دليلنا
دليلنا: أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [70/ب] قد علم أنه ما أريد به تحريم العين نفسها؛ لأن العين فعل1 الله تعالى، لا يتوجه التحريم إليها، وإنما أريد تحريم أفعالنا فيها، فصار اللفظ محمولًا على ذلك بنفسه، لا بدليل، وكل ما حمل اللفظ عليه بنفسه كان حقيقة لا مجازًا كقوله: "لا صلاة إلا بطهور" حقيقة هذا رفع الفعل؛ فلما استحال رفعه بعد وقوعه؛ كان معناه: حقيقة في رفع حكمه، كذلك ههنا. ولأن من أراد أن يحرم على عبده أو ولده شيئًا؛ فإنه يقول: حرمت عليك هذا، فيفهم منه تحريم تصرفه فيه بنفس اللفظ، فثبت أن اللفظ نفسه دل على ذلك، فكان حقيقة.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن اللفظ اقتضى تحريم العين نفسها؛ فإذا حمل على الفعل؛ يجب أن يصير مجازًا، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1. والجواب: أنه وإن لم يتناول ذلك نطقًا؛ فهو المراد من غير دليل، ويفارق هذا دليل القرية ونحوه؛ لأنا لم نعلم أن المراد به أهلها باللفظ، لكن بدليل؛ لأنه لا يستحيل جواب حيطانها في قدرة الله تعالى، واحتيج إلى دليل يعرف به أنه أراد أهلها.
مسألة في الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام
مسألة في الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام مدخل ... مسألة: في الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام 1 مثل: الإنسان، والسارق، والزاني، والقاتل، والكافر، والبيع، والصيد، والدينار، والدرهم، وما أشبه ذلك؛ فهو للجنس. وقد أشار إلى هذا الإمام أحمد رضي الله عنه في كتاب طاعة الرسول، فقال: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2. فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم السارق، وإن قل ذلك؛ فقد وجب عليه القطع، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع في ثَمَر ولا كَثَر"،
دل أنها ليست على ظاهرها، وأنها على بعض السراق دون بعض. فقد صرح بأن إطلاق اللفظ اقتضى العموم في كل سارق. وبهذا قال أبو عبد الله الجرجاني وحكاه عن أصحابه1. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال مثل قوله، ومنهم من قال: هي للعهد2.
دليلنا
دليلنا: أن لفظ الجمع إذا كان منكرًا، مثل: مسلمين، ومشركين، ورجال؛ كان لجمع منكر، ولم يكن للجنس، كما قال تعالى: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ} 1؛ فإذا عرف بالألف واللام كان للجنس، كذلك ههنا. ولأنه يصح الاستثناء منه بلفظ الجمع، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} 2، وهذا يدل على أنه للجنس، كألفاظ الجمع3.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن اللام للتعريف عندهم؛ فإذا قال: دخلت السوق، فرأيت رجلًا، ثم عدت إلى السوق فرأيت الرجل؛ كان تعريفًا لما تقدم ذكره، ولهذا قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} 1. ويدل عليه [71/أ] قول ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 2 لن يغلب عسر يسرين3. فجعل العسر الثاني هو الأول؛ لما كان معرفًا4 بالألف واللام، وليس الثاني
عين الأول، لما كان منكرًا؛ فوجب أن يكون تعريفًا لما اقتضاه الاسم، وهو واحد من الجنس، ولا يكون تعريفًا للجنس؛ لأن الاسم لا يصلح له، إذا لم يكن فيه الألف واللام؛ فلا يقتضيه، فكان تعريفًا لمقتضاه. والجواب: عن قولهم: إنه تعريف لما يقتضيه الاسم؛ فهو منتقض باسم الجمع؛ فإنه إذا كان معرفًا كان للجنس، وإذا كان منكرًا؛ كان لبعض الجنس. ولأن المنكر لا يصلح إلا للواحد، والمعرف يصلح للجنس، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 1، وقال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} 2، [وقال] : {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} 3، و [قولهم] : أهلك الناس الدرهم والدينار؛ فدل على الفرق بينهما. وأما قوله: "دخلت السوق فرأيت رجلًا، ثم عدت إلى السوق فرأيت الرجل"، فهو أنه ههنا رجع إلى المذكور قبله؛ لأن التعريف إذا تقدمته نكرة؛ كان الظاهر أنه راجع إليه، وتعريف له، وليس كذلك إذا لم يتقدمه نكرة؛ فإنه ليس في الكلام ما يوجب تخصيصه، فوجب حمله على تعريف الجنس4.
الجموع المنكرة تحمل على أقل الجمع
الجموع المنكرة تحمل على أقل الجمع مدخل ... فصل 1 الجموع المنكرة تحمل على أقل الجمع ألفاظ الجموع كالمشركين، والمسلمين، والقائلين، إذا لم يدخلها الألف واللام، فقيل: مشركون، ومسلمون، وقائلون، لم يحمل على العموم، ولم يكن للجنس، ويحمل على أقل الجمع، كما قال أصحاب الخصوص والعموم. وقد أشار أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية أبي طالب، إذا قال: ما أحله الله علي حرام -يعني به الطلاق- أجاب: إنه2 يكون ثلاثًا، وإذا قال: أعني به طلاقًا؛ فهذه واحدة، لأن طلاقًا غير الطلاق. فقد فرق بين دخول الألف واللام على الطلاق في أنه يقتضي الجنس، وبين حذفها في أنه لا يقتضي جنسه. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: مثل قولنا، ومنهم من حمله على العموم واستغراق الجنس. وحكي ذلك عن الجبائي3. وقد أشار إليه الإمام أحمد في رواية صالح وقد سأله رضي الله عنه:
عن لبس الحرير؛ فقال: لا، إنما هو للإناث، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحرير والذهب: "هذان حرامان على ذكور أمتي" 1. فقد حمل قوله: "ذكور أمتي" على العموم في الصغيرة والكبيرة وإن كان جمعًا ليس فيه الألف واللام.
وجه الأول
وجه الأول: أن أهل اللغة سموا هذه الألفاظ عند حذف الألف واللام منها نكرة،
فلو كانت متناولة لجميع الجنس؛ لما كانت نكرة، بل كانت معرفة؛ لأن جميع الجنس معرف، ألا ترى أنه إذا دخلها الألف واللام لم تكن نكرة بل تكون معرفة؛ لأنه يصح تأكيدها بلفظة "ما" الدلالة [71/ب] [على] الخصوص فتقول: أقتل مشركين ما، ورأيت رجالًا [ما] ، وهذه اللفظة لا يصح دخولها على لفظ العموم، فإنه لا يصح أن تقول: أقتل المشركين [ما] ، ولا رأيت الرجال ما.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لما صح دخول الاستثناء عليه، فخرج بعضه؛ ثبت أنه من ألفاظ العموم، كالجمع المعرف. والجواب: أن الاستثناء يخرج البعض من الكل، ويخرج البعض من البعض، فههنا يخرج البعض من البعض، الذي هو أقل الجمع.
مسألة إذا ورد لفظ العموم الدال بمجرده على استغراق الجنس
مسألة إذا ورد لفظ العموم الدال بمجرده على استغراق الجنس مدخل ... مسألة: 1 إذا ورد لفظ العموم الدال بمجرده على استغراق الجنس فهل يجب العمل بموجبه واعتقاد عمومه في الحال قبل البحث عن دليل يخصه أم لا؟
فيه روايتان
فيه روايتان: إحداهما يجب العمل بموجبه1 في الحال2، وهذا ظاهر كلام
أحمد رحمه الله في رواية عبد الله لما سأله عن الآية إذا كانت عامة مثل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1، وذكر له قومًا يقولون: لو لم يجئ فيها بيان عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ توقفنا2، فقال: قوله: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 3، كنا نقف عند ذكر الولد [لا نورثه] 4 حتى ينزل الله، أن لا يرث قاتل ولا عبد5. وظاهر هذا الحكم به في الحال من غير توقف. وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا، ذكر6 في أول كتاب التنبيه فقال: وإذا ورد الخطاب من الله تعالى أو من الرسول بحكم عام أو خاص، حكم بوروده على عمومه، حتى ترد الدلالة على تخصيصه أو تخصيص بعضه. وفيه رواية أخرى: لا يحمل على العموم في الحال، حتى يتطلب دليل التخصيص؛ فإن وجد؛ حمل اللفظ على الخصوص، وإن لم يوجد؛ حمل حينئذ على العموم7. وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية ابنه صالح وأبي الحارث وغيرهما، فقال في رواية صالح، إذا كان للآية ظاهر، ينظر ما عملت السنة؛ فهو دليل على ظاهرها، ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ
فِي أَوْلادِكُمْ} 1؛ فلو كانت على ظاهرها؛ لزم من قال بالظاهر أن يورث كل من وقع عليه اسم ولد، وإن كان قاتلًا [أ] ويهوديًا. وقال أيضًا فيما كتب به إلى [أبي] 2 عبد الرحيم الجوزجاني3: فأما من تأوله على ظاهر [هـ] 4 -يعني القرآن- بلا دلالة من رسول الله، ولا أحد من أصحابه، فهو تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة، ويكون حكمها حكمًا عامًا، ويكون ظاهرها في العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم المعبر عن كتاب الله تعالى وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر، وما أريد بذلك. وظاهر هذا: أنه لا يجب اعتقاده، ولا العمل به في الحال، حتى يبحث وينظر، هل هناك دليل تخصيص5؟ واختلف أصحاب الشافعي، فذهب الأكثر منهم إلى التوقف فيه حتى ينظر. وذهب بعضهم إلى [72/أ] العمل به في الحال. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فحكى أبو عبد الله الجرجاني في
كتابه: أن السامع متى سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق تعليم الحكم؛ فالواجب اعتقاد عمومه. وإن سمعه من غيره؛ لزمه التثبت وطلب ما يقتضي تخصيصه، فإن فقده حمل اللفظ على مقتضاه في العموم. وحكى أبو سفيان في مسائله: وجوب اعتقاد عمومه من غير توقف، على الإطلاق من غير تفصيل؛ فقال في أثناء الكلام في مسألة العموم: ما تقولون في عموم اللفظ إذا ورد ابتداء هل ترجعون عند سماعه إلى الأصول في طلب دلالة التخصيص، أو تحملوا به على الاستغراق؟ فقال: نحمله على عمومه، ولو كان خصوصًا؛ لم يخله الله من بيان عند وروده من غير توقف. فالدلالة على أنه يجب العمل من غير توقف: أن صيغة العموم إذا ورد متجردًا عن قرينة ظاهرة؛ كانت حقيقة في الجنس كله، ووجب المصير إليه قبل البحث كما قلنا في أسماء الحقائق من الأعداد وغيرها، متى وردت وجب المصير إلى موجبها، ولا يجب التوقف على ما يدل على مجازها، كذلك ههنا. فإن قيل: لا نسلم أنها متجردة عن القرينة؛ لأن التجرد ما ثبت، وهذا كما يقول: إذا شهد عند الحاكم شاهدان، لا يعرف حالهما، فإنه لا يحكم قبل السؤال عنهما، كذلك ههنا. قيل: الأصل عدم القرينة؛ فوجب الاعتماد على ذلك الأصل؛ لأن هذا هو الظاهر، وجرى هذا مجرى شاهدين شهدا بحق؛ فإن الحاكم يحكم بشهادتهما، وإن جاز أن يكون قد حصل هناك إبراء من ذلك الحق، أو قضاء للحق وهما لا يعلمان به؛ لأن الظاهر عدم ذلك. وأما عدالة الشهود: فإن الظاهر يقتضي عدالتهما؛ لأن الأصل العدالة؛ ولكن لم يقتصر في الشهادة على الظاهر، ألا ترى أن الظاهر صدق الشاهد الواحد، ولكن اعتبر فيه العدد، كذلك الظاهر العدالة، لكن
اعتبر زيادة معنى، وهو الحث، ويفارق هذا ألفاظ صاحب الشريعة؛ لأن الاعتبار فيها بالظاهرة، ألا ترى أنه يقبل خبر الواحد، ولا يبحث عن عدالته في الباطن. فإن قيل: لا نسلم لكم أسماء الحقائق، بل نقول: يقف على الطلب؛ فإذا لم يجد ما يدل على المجاز؛ صار إليه. قيل: إن لم نسلم الأصل فالاستدلال قائم بنفسه، وهو: أن اللفظ قد تجرد عن قرينة ظاهرة؛ لأن الأصل عدمها. فإن قيل: فإن سلمنا لكم ذلك، ما الفرق بينهما؟ إن في العدول عنها ترك الحقيقة، وليس في تخصيص العموم ترك الحقيقة. قيل: فيه ترك حقيقة اللفظ؛ لأنه موضوع للاستغراق، [72/ب] فلا فرق بينهما. وطريقة أخرى، وهي1: أن هذه الصيغة ترد في عموم الأزمان، كما ترد في عموم الأعيان، ثم ثبت أن ما ورد عامًا في الأزمان؛ لزم العمل بعمومه قبل البحث عن دليل الخصوص، كذلك ما ورد عامًا في الأعيان. فإن قيل: الفرق بينهما: أن ما يخص الزمان نسخ، والنسخ يرد بعد ورود الصيغة، ولا يصح أن يرد معها ولا قبلها؛ فلهذا ألزم العمل بموجبها، وليس كذلك تخصيص العموم؛ لأن ما يخصه يرد معه أو قبله، فلهذا لم يعتقد وجوبه قبل البحث. قيل: وقد يرد بعده؛ لأن تأخير البيان جائز؛ فإذا لم تكن هناك قرينة ظاهرة، فالأصل عدمها. وجواب آخر وهو: أن هذا يوجب أن يقول: إذا سمع العموم من
غير النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يلزمه بعمومه في الأزمان؛ لأنه يجوز أن يكون النسخ معه، ولكن الراوي لم يعرفه، ومع هذا فإنه يجب اعتقاده في العموم في الأزمان في الحالين؛ فبطل ما قاله. ولأن من قال بهذا يلحق بأصحاب الوقف؛ لأنه لا يحكم حتى ينظر دليل التخصيص، كما يفعل أصحاب الوقف. فإن قيل: [إن] احتاج العبد إلى استعماله؛ فله أن يحمله على الاستغراق، دون بيان زائد، وعندهم: لا يجوز. قيل: إذا حمله على الاستغراق، قبل أن ينظر دليل التخصيص، كان رجوعًا عن المسألة. والقائل الأول يجيب عن هذا: بأن أهل الوقف يقفون فيه بعد البحث، حتى يرد لفظ صريح، أنه أراد العموم. وقد ذكر بعض من نصر هذه الطريقة أشياء أخر، لا تلزم المخالف. منها: أن الأصول غير محصورة؛ فلا يمكن المجتهد أن ينظر في جميعها؛ وإنما ينظر في بعضها، ويجوز أن يكون قد بقي شيء لم يبلغه نظره، ويكون ذلك الباقي فيه ما يدل على التخصيص، فيفضي إلى الوقف في العموم أبدًا، ويدخل في وقف الأشعري، وهذا لا يلزم المخالف؛ لأن الحاكم إذا توقف عن الحكم بشهادة الشاهدين حتى يسأل عنهما، وجب أن يتوقف أبدًا، كذلك ههنا. ولأنه لا يمتنع أن يكون النظر الأول مستحقًا دون التكرار، ألا ترى أن الحاكم إذا نزلت به نازلة ليس فيها نص ولا إجماع، وجب أن يجتهد، وينظر فما غلب على ظنه حكم به، ولا يجب أن يكرر النظر، كذلك ههنا. ولا يفضي ذلك إلى مقالة الأشعرية؛ لأن هذا القائل يقول: إذا لم
يجد في الأصول ما يخصه، حمله على عمومه، والأشعرية لا تقول ذلك، وتتوقف حتى يدل الدليل على أحدهما دون الآخر. وذكر أيضًا: أن السامع للعموم لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد؛ فإما أن يعتقد عمومه أو خصوصه، ولا يجوز أن يعتقد الخصوص؛ فوجب اعتقاد العموم. وهذا لا يلزمه [73/أ] أيضًا؛ لأن هذا القائل يقول: يعتقد عمومه أن تجرد عما يخصه؛ فلا يقطع باعتقاد العموم، والمعتمد لنصرة هذا القول: ما ذكرناه. واحتج من قال بالوقف1: بأن الدلالة على العموم وجود الصيغة المتجردة عن دليل التخصيص، والتجرد لم يثبت لجواز أن يكون في الأصول لفظ أو معنى يوجب التخصيص، فوجب الوقف.
والجواب: أنا قد بينا أن الأصل عدم القرينة، وأن الظاهر تجرده، ولأن هذا يلزم عليه الأعداد وغيرها من أسماء الحقائق، ويلزم عليه الزمان؛ فإن هذا الاحتمال موجود فيه من الوجه الذي ذكرنا، ومع هذا يجب العمل بعمومه؛ فبطل هذا. واحتج: بأن من سمع قول الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1، لا يخلو إما أن يقول: يلزمه أن يعتقد عمومه، فأمره باعتقاد خلق القرآن وهذا اعتقاد باطل، وإن قال: انظر في الدلالة، فقد ترك قوله. والجواب: أن هذا الظاهر مع قرينة ظاهرة من جهة العقل؛ يمتنع اعتقاد عمومه في خلق القرآن وصفات الله تعالى؛ فلهذا لم يجز حمله على عمومه، وخلافنا في عموم خلا عن دلالة ظاهرة عقلًا أو شرعًا. وأما أصحاب أبي حنيفة2؛ فإنهم اعتمدوا في الفرق بين أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره؛ فإنه يجوز أن يكون في أدلة الشرع ما يمنع العموم، فلهذا يوقف حتى ينظر، وإذا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه بيان الحكم، [و] لو كان في الشرع ما يمنع حمل اللفظ على العموم لبينه حال خطابه3. والجواب: أنه يجوز تأخير البيان عندنا.
مسألة العموم إذا دخله التخصيص فهو حقيقة فيما بقي
مسألة العموم إذا دخله التخصيص فهو حقيقة فيما بقي مدخل ... مسألة 1 العموم إذا دخله التخصيص؛ فهو حقيقة فيما بقي ويستدل به فيما خلا المخصوص. وكلام أحمد رحمه الله يدل على هذا؛ لأنه احتج فيمن ابتاع عبدًا أو أمة واستعملت ثم ظهر على عيب، أنه يرده، ويمسك الغلة2؛ لقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان" 3،
وهو مخصوص بلبن المصراة1، فإنه إذا ردها رد قيمة
اللبن1، وإن كانت مضمونة عليه. فقال في رواية عبد الله: حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن خراج العبد بضمانه"2، أذهب إليه، في العبد له وجهه، وفي المصراة له وجهه، لهذا وجه، ولهذا وجه. واحتج أيضًا بحديث حكيم بن حزام3 "في بيع ما ليس عنده" وهو مخصوص بالسلم. قال رحمه الله في رواية الميموني: لو ضربت بعضها ببعض رددت أحدهما؛ حكيم ببيع شيئًا حاضرًا، والسلم يبيع بصفة. واحتج: أيضًا رحمه الله بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر
حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس1" وهو مخصوص عنده بالفوائت2، وبركعتي الطواف3 والصلاة على الجنازة4،
وإعادة الصلاة في الجماعة1. وقد صرح بذلك رضي الله عنه في رواية حنبل وصالح فقال: [73/ب] "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"، والنهي من النبي جملة، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها" وقال: "من أدرك من صلاة العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدركها" 2؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد
العصر، يستعمل كل خبر منها على وجهه، ولا يضرب أحدهما بالآخر؛ فلهذا وجه لا يبتدأ بصلاة بعد العصر متطوعًا بها، ولو أدرك صلاة فائتة، صلاها بعد العصر، لقوله: "من نام عن صلاة أو نسيها"، فقد صرح بالأخذ بالنهي، مع حصول التخصيص فيه. وبهذا قال أصحاب الشافعي1. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فحكى أبو عبد الله الجرجاني في كتابه عن عيسى بن أبان: أنه مجاز
ويمنع من التعلق بظاهره، ولم يفصل بين الدليل المتصل وغيره1. وحكي عن أبي الحسن الكرخي أنه كان يقول: يصير مجازًا إذا كان المخصص له منفصلًا، ولا يوجب ذلك إذا كان متصلًا. وحكي عن أبي بكر الرازي: أنه حقيقة فيما بقي، إذا كان الباقي جمعًا في الحقيقة2. وحكي عن المعتزلة والأشعرية: أنه يصير مجازًا، ولا يحتج به3؛ وإنما يصح هذا على قول الأشعرية، إذا علم أن العموم غير مراد؛ لأن عندهم: لا صيغة للعموم4.
............................................................................................................
فالدلالة على أنه حقيقة في الباقي: ما روي أن فاطمة رضي الله عنها احتجت بقول الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 1؛ فلم ينكر أحد احتجاجها بهذه الآية2، وإن كان قد خص منها: الولد الكافر، والرقيق، والقاتل؛ وإنما خصوا منها ميراث النبي صلى الله عليه وسلم بسنة خاصة3، فدل على أن تخصيص العموم لا يمنع من الاحتجاج به فيما لم يخص منه. وكذلك روي عن عثمان وعلي رضي الله عنهما: أنهما قالا في الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية4، وحرمتهما آية5، وكل واحدة من الآيتين دخلها التخصيص6.
وأيضًا فإن اللفظ فيما عدا الخصوص حقيقة؛ لأن اسم المشركين يقع حقيقة على من بقي بعد التخصيص؛ فوجب أن تكون دلالة اللفظ قائمة بعد التخصيص، كهي قبل التخصيص. وقيل: بأن دلالة اللفظ سقطت فيما عارضه، وهي فيما عداه باقية؛ لأنه لا معارض فيه؛ فجاز الاحتجاج به. ولا يلزم على هذا العلة إذا خصت، أنه لا يجوز الاحتجاج بها؛ لأنها إذا خصت؛ كانت منتقضة، ولم تكن علة، كذلك الحكم، وليس كذلك العموم؛ فإنه إذا خص منه شيء كانت دلالته باقية، فيما لم يخص منه لأنه إنما كان دليلًا في جميع ما تناوله الخبر؛ لكونه قولًا لصاحب الشريعة، لا معارض، وهذا موجود فيما لم يخص منه. [74/أ] وأيضًا: فإن دلالة التخصيص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة؛ فلما كان الاستثناء غير مانع من بقاء دلالة اللفظ فيما بقي، وصارت الجملة مع الاستثناء عبارة عن الباقي بالاتفاق، كذلك لفظ العموم، يصير مع دلالة التخصيص عبارة عما عدا الخصوص. فإن قيل: إنما كان كذلك في الاستثناء؛ لأن الاستثناء يصير مع الجملة عبارة عن الباقي؛ لأن التسعة لها اسمان: أحدهما تسعة، والآخر عشرة إلا واحدًا؛ فأيهما عبر عنهما؛ كان الاسم حقيقة فيها، كما أنه لا فرق بين أن يقول: اثنان، وبين أن يقول: واحد
وواحد، في أن العبارتين تفيدان معنى واحدًا، وكذلك: دلالة التخصيص إذا كانت مقارنة، ويفارق المنفصل؛ لأنه لا يجعل كالمتصل، كما لم يفعل ذلك في الاستثناء. قيل: وكذلك التخصيص المنفصل يصير مع الجملة عبارة عن الباقي، كالتخصيص المتصل، ولا فرق بينهما.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن اللفظ صار مستعملًا في غير ما وقع له؛ فاحتاج إلى دليل يدل على أن المراد به بمنزلة المجمل الذي لا يدل على المراد بلفظه، يحتاج إلى قرينة تفسره وتدل على المراد به. والجواب: أنا لا نسلم أنه يستعمل في غير ما وضع له؛ لأن هذا اللفظ موضوع للعموم بمجرده، وللخصوص بقرينة، وهذا غير ممتنع في اللغة، ألا ترى أنا أجمعنا: أنه موضوع بمجرده للعموم، وللخصوص بقرينة متصلة به، مثل الاستثناء، وكذلك يقول القائل: خرج زيد، فيكون إخبارًا عن خروجه، ويضم إليه "ما" فيكون إخبارًا عن ضده، وتضيف إليه ألفًا، فيكون استفهامًا، وذلك حقيقة، كذلك في مسألتنا. فإن قيل: هذا يؤدي إلى أن لا يكون في اللغة مجاز، ويقال: قولنا: "بحر"، موضوع للماء الكثير بمجرده، وللعالم أو الجواد بقرينة، وكذلك: "الأسد"، موضوع للبهيمة بمجرده، وللرجل الشديد بقرينة، و "الحمار" موضوع للبهيمة بمجرده، وللبليد بقرينة. قيل: إن لزمنا هذا في التخصيص؛ لزمك في الاستثناء، فإن المخالف يقول في الاسثتناء ما نقول نحن في التخصيص. وجواب آخر وهو: أن هذه المواضع أثبتناها مجازًا بالتوقيف من جهة أهل اللغة؛ فليس في تخصيص العموم أنه مجاز توقيف، ولا يشبه
هذا المجمل؛ لأن المجمل غير دال بلفظه على شيء، والعموم دال على ما تناوله؛ وإنما خرج بعضه بدليل أقوى منه، وبقي الباقي على موجب اللفظ. ولا يشبه هذا استعمال اللفظ في الرجل الشجاع سبعًا، والبليد حمارًا، أنه مجاز؛ لأنه عدل باللفظ عما وضع له في أصل اللغة، وههنا لم يعدل باللفظ فيما بقي عما وضع له؛ لأن اسم المشركين حقيقة [74/ب] فيما بقي.
مسألة يجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد
مسألة يجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد مدخل ... مسألة 1: يجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد 2 خلافًا لأبي بكر الرازي، فيما حكاه الجرجاني عنه وأبي بكر القفال
في قولهما: يجوز تخصيص لفظ الجمع، إذا كان الباقي جمعًا في الحقيقة، ولا يجوز النقصان منه إلا بما يجوز به النسخ1.
من عبيد أو دواب فهو لفلان إلا كذا وكذا، حتى يبقى واحد. ولأن القرينة المتصلة بمنزلة المنفصلة؛ لأن كلام صاحب الشريعة، وإن تفرق؛ فإنه يجب ضم بعضه إلى بعض، وبناء بعضها على بعض؛ فإذا كان كذلك وكان المتصل صحيحًا ما بقي من اللفظ شيء، كذلك التخصيص.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن لفظ الجمع موضوع للثلاثة فصاعدًا؛ فإخراج اللفظ عن الثلاثة إخراج عن موضوعه وترك الحقيقة، وهذا لا يجوز إلا بما يجوز به النسخ، ويكون بمنزلة إسقاط حكم جميع اللفظ. والجواب: أنه يجوز عندنا ترك حقيقة اللفظ وصرفه إلى المجاز والاتساع بما يجوز التخصيص به، ولا يكون بمنزلة النسخ؛ وإنما يكون بمنزلة التخصيص، ولهذا نقول في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 1، إن المراد به: موضع الصلاة2، ونحمله على المجاز بضرب من الاستدلال. وعلى أنه إذا وجب بناء بعض كلامه على بعض، وجب أن تكون
القرينة المنفصلة بمنزلة المتصلة، وتكون بمنزلة الاستثناء؛ فلا يكون ذلك تركًا لموضوع اللفظ وحقيقته. فإن قيل: أليس من مذهبكم: أنه لا يجوز رفع الأكثر بالاستنثاء وكذلك لا يجوز في التخصيص؟ قيل: هذا لا يصح على أصل المخالف؛ لأنه يجوز الاستثناء ما بقي من اللفظ شيء، وأما على أصلنا؛ فلا يعتبر أن يبقى لفظ الجمع؛ لأنه لو قال: له علي عشرة إلا ستة؛ فقد1 بقي لفظ الجمع وزيادة، ولا نجيزه؛ وإنما امتنع أن يرفع بالاستثناء الأكثر أن الاستثناء لغة، وأهل اللغة منعوا من استثناء الأكثر. وسنبين ذلك في مسائل الاستثناء إن شاء الله تعالى2؛ فأما في تخصيص العموم؛ فلم يُرَ عنهم منع ذلك. وجواب آخر وهو: أن التخصيص أوسع؛ لأنه يصح منفصلًا ومتصلًا، والاستثناء لا يكون إلا متصلًا؛ ولأن التخصيص من جنس ما يرفع الجملة، وهو النسخ؛ لأن التخصيص هو تخصيص الأعيان، والنسخ تخصيص الزمان، وليس من جنس الاستثناء ما يرفع [75/أ] الجملة.
مسألة يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل
مسألة يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل مدخل ... مسألة 1: يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل نحو قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2، ومعلوم أنه لم
يخلق نفسه، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 1، ولم يدخل تحته الصبيان والمجانين. وقد تكلم الإمام أحمد رحمه الله فيما خرجه في محبسه على قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 2 فقال: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، ليس فيها من عظم الرب شيء، أحشاؤكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والوشي والأماكن القذرة، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 3. فقد عارض الظاهر بالعقل والشرع، وهو قول أكثر أهل العلم، وقال قوم: لا يجوز ذلك4. دليلنا: أنه يفضي بنا العلم، كالكتاب والسنة المتواتر والإجماع؛ فلما جاز تخصيص العموم بالكتاب والسنة والإجماع، كذلك يجوز تخصيصه بدليل العقل.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه لو جاز تخصيص العموم بالعقل؛ لجاز نسخه بذلك، كما أن الكتاب والسنة والإجماع لما جاز التخصيص بها جاز النسخ بها. والجواب: أن القياس يخصص به، ولا ينسخ، وكذلك الإجماع، وعلى أن النسخ إنما لم يجز بالعقل؛ لأن النسخ بيان مدة الحكم، والعقل يجوز بقاء الحكم من غير زوال؛ فلا يجوز أن يكون له تأثير في إزالة ما يجوز بقاؤه، وليس كذلك التخصيص؛ لأنه بيان مراد المخاطب، وهذا المعنى يصح ثبوته بدليل العقل، ألا ترى أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} 1، وكان مخصوصًا في المكلفين، دون الأطفال والمجانين، وكان خصوصه معلومًا بدليل العقل. وجواب آخر وهو: أن دليل العقل له تأثير فيما هو في معنى النسخ، وإن لم يسم نسخا؛ لأن معنى النسخ هو المنع من أن يلزم في المستقبل، مثل ما كان لازمًا فيما مضى من الوقت، وهذا يثبت بدليل العقل، ألا ترى أن دليل العقل يمنع من لزوم الفرض عند العجز عنه، كما يمنع من ذلك دلالة السمع، إلا أن ذلك لا يطلق عليه اسم النسخ؛ لأن اسم النسخ يختص بما كان ثابتًا من جهة السمع دون العقل، ألا ترى أن فرض التوجه إلى بيت المقدس، لما كان ثابتًا من جهة السمع؛ كان زواله نسخًا؟ وأن إباحة شرب الخمر، لما لم تكن ثابتة من جهة السمع، لكن من جهة العقل؛ لم يسم زوالها نسخًا؛ فإذا كان كذلك، وكان سقوط التكليف بدلالة العقل غير ثابت من جهة السمع؛ لم يكن نسخًا، ولم تجر عليه هذه التسمية، وإن كانت تجري عليه لو كان [75/ب] متعلقًا بدلالة من جهة السمع.
واحتج بأن دلالة العقل مقدمة على العموم، والتخصيص إنما يكون بما يقارب العموم أو يتأخر عنه. والجواب: أنه يجوز أن يتقدم دليل الخطاب على العموم؛ لأن الدليل يجوز أن يتقدم عن مدلوله1؛ ألا ترى أن الدليل قد دل على أن الله يثيب المؤمنين بالجنة، ويعاقب الكفار بالنار؟ وإن كان مدلول هذا الدليل متأخرًا عن دليله، كذلك لا ينكر أن يسبق دلالة التخصيص لفظ العموم. واحتج بأن التخصيص بمنزلة الاستثناء، ثم لا يجوز أن يتقدم الاستثناء الجملة، كذلك دليل التخصيص. والجواب: أن تقدم الاستثناء لا يفيد شيئًا، ألا ترى أنه لو قال: "زيدًا"؛ لم يكن لهذا الكلام معنى؟ وأما التخصيص فإن انفراده قد يكون مفيدًا؛ ألا ترى أنه لو قال: خطابي إنما يتناول العقلاء دون الأطفال والمجانين؛ لكان هذا كلامًا مفيدًا، كذلك إذا تقدمت دلالة العقل على هذا المعنى، ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 2 كان ذلك مخصوصًا بالعقلاء، بدلالة العقل السابقة للخطاب، وهكذا كل عموم هذه صفته؛ فإن دليل العقل يكون مخصصًا، لمنع كونه متقدمًا عليه.
مسألة يجوز تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد
مسألة يجوز تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد مدخل ... مسألة 1: يجوز تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد سواء كان العموم قد
دخله التخصيص، أو لم يدخله. نص على هذا رحمه الله في رواية عبد الله في الآية إذا كانت عامة، ينظر ما جاءت به السنة؛ فتكون السنة هي دليلًا على ظاهر الآية، مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 1؛ فلو كانت الآية على ظاهرها؛ ورث كل من وقع عليه اسم ولد، وإن كان يهوديًا أو نصرانيًا أو عبدًا أو قاتلًا؛ فلما جاءت السنة أنه لا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلمًا، ولا يرث قاتل ولا عبد؛ كانت هي دليلًا على ما أراد الله تعالى من ذلك، ونحو هذا قال في رواية [أبي] عبد الرحيم الجوزجاني. وهو قول أصحاب الشافعي2. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان العموم قد دخله التخصيص بالاتفاق3؛ جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يكن دخله التخصيص؛ لم يجز تخصيصه بخبر الواحد4.
وذهب بعض المتكلمين إلى أنه لا يجوز التخصيص بخبر الواحد في الجملة1. فالدلالة على جوازه في الجملة: إجماع الصحابة، روي عنهم: أنهم خصوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} 2، بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها" ... الخبر. وقبلوا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل" 3 وخصوا به آية [76/أ] المواريث، ونظائر ذلك يطول [ذكره] ، وإذا انعقد إجماعهم على ذلك؛ لم يجز مخالفته. فإن قيل: فقد رد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث فاطمة بنت قيس4 لما روت: أن النبي صلى الله عليه وسلم "لم يجعل لها سكنى ولا نفقة"، وقال:
لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة1. قيل: عمر لم يمتنع من قبول هذا الخبر؛ لأنه يعارض الظاهر؛ لكن لم يتقبله؛ لأنه عارضه بغيره، فاعتقد خطأ فاطمة وسهوها في الرواية؛ يدل عليه: أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لعلها نسيت أو شبه لها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة" 2.
وأجاب عنه أحمد رحمه الله في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: كان ذلك منه على [وجه] احتياط، وقد كان يقبل من غير واحد قوله وحده. مع أن هذا الخبر مطرح الظاهر؛ لأن السكنى مخصوصة في حق الصغيرة؛ فإنه لا سكنى لها، وخبر الواحد يخص به الظاهر المخصوص عند أبي حنيفة، فعلم أن الخبر مطرح الظاهر. فإن قيل: فقد قبلوا خبر الواحد فيما يوجب النسخ بدلالة: أن أهل قباء قبلوا قول المخبر الواحد بتحويل القبلة؛ فكان يجب أن يتبعوهم فيه، كما اتبعوهم في التخصيص بخبر الواحد. قيل: هكذا نقول: ونتبعهم في النسخ، كما فعلنا في التخصيص. وقد نص أحمد رضي الله عنه على هذا في رواية الفضل بن زياد وأبي الحارث في خبر الواحد إذا كان إسناده صحيحًا: وجب العمل به، ثم قال: أليس قصة القبلة حين حولت، أتاهم الخبر، وهم في الصلاة فتحولوا نحو الكعبة1؟
وخبر الخمر أهراقوها1، ولم ينتظروا غيره؛ فقد أخذ بخبر الواحد. واحتج: بقصة أهل قباء، وأن الصحابة أخذت بهذا الخبر، وإن كان فيه نسخ. وأيضًا: فإن خبر الواحد يجب العمل به، كما يجب بخبر التواتر، ثم ثبت أنه يجوز التخصيص بخبر التواتر للعموم، الذي دخله التخصيص والذي لم يدخله، كذلك خبر الواحد. فإن قيل: خبر التواتر يوجب العلم كالعموم؛ فلهذا جاز التخصيص به، وليس كذلك خبر الواحد؛ فإنه لا يوجب العلم. قيل: هذا المعنى لا يوجب الفرق بينهما في باب التخصيص، كما لم يوجب الفرق بينهما في باب العمل، ولأن خبر التواتر وإن أوجب العلم؛ فليس له رتبة العموم؛ لأن الكتاب ينفرد بأنه معجز، وخبر التواتر ليس كذلك. ولأن خبر الواحد وإن لم يوجب العلم؛ فإنه لا يرفع ما هو مقطوع به؛ لأن المقطوع به هو صيغة العموم، والخبر لا يرفعها؛ وإنما يخص ما تناوله [76/ب] من الحكم، وذلك غير مقطوع [به] ، بل يثبت بالتخصيص
أنه لم يكن مرادًا بالعموم. وهذا معنى قول أحمد رضي الله عنه: "إنه دليل على ما أراد الله تعالى من ذلك". وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن لا يوجب العلم، ويزيل ما يوجب العلم، ألا ترى أن خبر الواحد مقبول فيما يقتضي العقل خلافه، مثل تحريم الربا وشرب الخمر، وما يجري لليقين، وخبر الواحد لا يوجب إلا غلبة الظن، وكذلك لو قال النبي: إن هذه الدار ملك لفلان، ثم قامت بعد ذلك بينة على أن زيدًا قد ملك الدار على فلان؛ فإنا نزيل ملكه الثابت من جهة اليقين، بالبينة التي لا توجب إلا غلبة الظن، كذلك ههنا. وأيضًا: فإن صيغة العموم معرضة للتخصيص ومحتملة له، وخبر الواحد غير محتمل؛ فجاز أن يقضي بغير المحتمل على المحتمل، كالمجمل وتفسيره؛ فإنه يقضي بتفسيره عليه، كذلك ههنا. وأيضًا: فإن خبر الواحد وإن لم يكن مقطوعًا به، فإنه يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وكذلك شهادة الشاهدين لا يقطع الحاكم بها، ولكن ثبتت بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع به جرى مجراه في العمل؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: إذا زالت الشمس فصليا ركعتين، وما أخبركم به فلان عني؛ فهو شرعي، فإن المقطوع به من قوله كالذي يخبر به عنه، وإن لم يكن مقطوعًا به، كذلك ههنا.
حجة المخالف1
حجة المخالف1 ... واحتج المخالف: بأن الكتاب مقطوع عليه، وخبر الواحد محتمل؛ فلا يخص المقطوع به بأمر محتمل. والجواب عنه: ما تقدم من أن هذا لم يمنع العمل، ومن أن خبر التواتر ليس له رتبة الظاهر، ومع هذا جاز تخصيصه به، ومن أن هذا لا يمتنع -كما قلنا- في الأشياء التي ينتجها العقل، تطرح بخبر الواحد،
وبقول الشاهد، ومن أن الصيغة مقطوع عليها، ولسنا نرفعها؛ وإنما نخص ما تناولته من الحكم، وما تناولته1 من الحكم لا يقطع به أنه مراد؛ وإنما يخص ما كان محتملًا. وجواب آخر، وهو: أن السنة -وإن لم يكن مقطوعًا بها- فإن حكمها ثبت بأمر مقطوع به. واحتج: بأن الكتاب أقوى من السنة، بدليل أنهما لو تعارضا؛ أسقطنا الخبر للكتاب2، وإذا كان أقوى منه لم يخص القوي بالضعيف. والجواب: أنا لا نسقط الكتاب بالسنة، بل نستعمل كل واحد منهما، ولا يمتنع أن يجمع بين القوي وما هو دونه، ألا ترى أن خبر التواتر دون الكتاب؛ لأنه وإن كان كل واحد منهما مقطوعًا به؛ فإن الكتاب ينفرد بأنه معجز، ومع هذا يخص بخبر التواتر. وعلى أن هذا يبطل بما ذكرنا. وفيما ذكرنا دلالة على أصحاب أبي حنيفة في فرقهم بين العموم المخصوص والذي لم يخص؛ وذلك [77/أ] أن العموم الذي لم يخص، صيغته معرضة للتخصيص ومحتملة له، وخبر الواحد غير محتمل؛ فجاز أن يقضي به عليه، كخبر التواتر، وكالمجمل والمفسر. ولأن خبر الواحد وإن لم يكن مقطوعًا به؛ فإنه قد يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع جرى مجراه في العمل، كخبر
التواتر، وكما لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا زالت الشمس؛ فصلوا ركعتين، وما أخبركم به عني فلان؛ فهو شرعي؛ فإن المقطوع به من قوله كالذي يخبر به عنه وإن لم يكن مقطوعًا. ولأن ما جاز أن يزاد في تخصيص اللفظ به؛ جاز أن يبتدأ تخصيصه، قياسًا على اللفظ الخاص. ولأنه لما جاز أن يزاد في تخصيصه به لخصوصه ومنافاته لبعض ما شمله اللفظ العام، وهذا المعنى موجود في ابتداء التخصيص.
حجة المخالف2
حجة المخالف2 ... واحتج المخالف: بأن العموم الذي لم يتفق على تخصيصه مقطوع فيما يتضمنه من المسميات؛ لأن صاحب الشريعة لو قال بخصوصه؛ لذكره مع لفظه، ولو ذكره لنقل، ويفارق هذا ما دخله التخصيص؛ لأنه غير مقطوع على ما تضمنه من المسميات؛ لأنه قد صار مجازًا فيما بقي، على قول جماعة من أهل العلم، وإذا كان مقطوعًا به؛ لم يجز أن يعترض عليه بما ليس بمقطوع به، كما لا يعترض عليه بالنسخ بخبر1 الواحد. والجواب: أنا لا نسلم أنه مقطوع [به] فيما يتضمنه من المسميات؛ لأنه محتمل للعموم وللخصوص، والخبر أخص منه؛ فهو مبين له. وقولهم: لو كان مخصوصًا لذكره مع لفظه غير صحيح؛ لأنه يجوز تأخير البيان عندنا. وأما نسخ الظاهر بخبر الواحد؛ فإنما لم يجز، لا لأجل أنه مقطوع عليه؛ ألا ترى أنه لا يجوز نسخه بخبر التواتر على أصلنا. وعلى أنه ليس إذا لم ينسخ به لم يخصص به، بدليل القياس مع خبر
الواحد يخصصه ولا ينسخه، وكذلك قول الصحابي. وعلى أن هذا يلزم عليه ما ذكرناه على الطائفة الأولى من تلك الوجوه كلها. وجواب آخر. وهو: التخصيص إزالة بعض الحكم، وجمع بين الدليلين، وليس كذلك النسخ؛ فإنه إزالة حكم جميع اللفظ وإسقاطه بخبر الواحد، وهذا لا يجوز. ولأن النسخ ابتداءه والزيادة فيه سواء، كذلك يجب أن تستوي الزيادة والابتداء.
مسألة يجوز تخصيص العموم بالقياس
مسألة يجوز تخصيص العموم بالقياس مدخل ... مسألة 1: يجوز تخصيص العموم بالقياس 2 أومأ إليه الإمام أحمد رضي الله عنه في مواضع: فقال في رواية بكر بن محمد3: إذا قذفها بعد الثلاث، وله منها ولد، يريد نفيه، يلاعن، فقيل: أليس الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 1، وهذه ليست بزوجة؟ فاحتج: بأن الرجل يطلق ثلاثًا، وهو مريض فترثه؛ لأنه فار من الميراث، وهذا فار من الولد2. فقد عارض الظاهر بضرب من القياس3. وكذلك قال -في رواية الأثرم في المرأة: تنفي بغير [77/ب] محرم؛ فقيل له: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" 4، فقال: هذا أمر قد لزمها، يسافر [بها] 5، فهم يقولون: لو وجب عليها حق، والقاضي على أيام رفعت إلى القاضي، ولو أصابت حدًا في البادية؛ جيء بها، حتى يقام عليها.
وكذلك نقل أبو داود في رجل قال لامرأته: أنت طالق، ونوى ثلاثًا؛ فهي واحدة، فقيل1: إسحاق2 يقول: هي ثلاث، ويأخذ بالحديث: "الأعمال بالنيات" 3، فقال: ليس هذا من ذلك، أرأيت إن نوى أن يطلق امرأته ولم يتلفظ، أيكون طلاقًا؟!
وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز فيما وجدته في بعض تعاليق أبي إسحاق بن شاقلا قال: ألزمني الشيخ -يعني أبا بكر- على أن الظاهر يخص بالقياس، أن الله تعالى قد نص على الإماء في قوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 1، والعبيد مقيسون عليهن2. قال أبو إسحاق: نظرت وإذا هذا ليس بحجة. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك، ولم يفرق بين عموم الكتاب والسنة وبين أخبار الآحاد أو التواتر، وربما ذهبوا إلى ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية الحسن بن ثواب3: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرده
إلا مثله1. وقع إلي جزء فيه مسائل في أصول الفقه، إملاء أبي الحسن الجزري2، وذكره فيه هذه المسألة، وحكى فيها خلافًا بين أصحابنا. واختار أبو الحسن: أنه لا يجوز تخصيصه بالقياس، وذكر فيها كلامًا كثيرًا. وذكر أبو إسحاق في جزء وقع إلي من شرح الخرقي فقال: أصحابنا على وجهين: فمنهم من يرى تخصيص العلة، ومنهم من لا يرى ذلك. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان عمومًا دخله التخصيص باتفاق؛ جاز تخصيصه بالقياس، وإن لم يكن دخله؛ فالحكم في القياس عندهم، كالحكم في الخبر الواحد3. واختلف أصحاب الشافعي: فذهب الأكثر منهم إلى جواز ذلك على
الإطلاق1، ومنهم من منع ذلك على الإطلاق2. فالدلالة على جوازه: ما تقدم من الكلام في المسألة التي قبلها، وهو: أن القياس وإن لم يكن معلومًا؛ فإنه يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع جرى مجراه في العمل، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: "إذا زالت الشمس، فصلوا ركعتين، وما أخبركم به عني فلان فهو شرعي؟ فإن "به" من قوله كالذي يخبر به عنه، وإن لم يكن مقطوعًا، كذلك ههنا. ولأن صيغة العموم معرضة للتخصيص محتملة له، والقياس غير محتمل؛ فجاز أن يقضي بغير المحتمل على المحتمل، كالمجمل وتفسير المجمل؛ فإنا نقضي بتفسيره عليه، كذلك ههنا. ولأن القياس حجة في نفسه إذا انفرد؛ فإذا اجتمع معه غيره وأمكن
استعمالهما كان أولى، كالمطلق والمقيد. [78/أ] وأيضًا: فإن الاسم الخاص إذا نافى بعض ما شمله الاسم العام، وجب تخصيصه به، كذلك إذا نافاه معناه؛ لأن العلة في الاسم أنه نافى بخصوصه بعض ما شمله الاسم العام. وبيان ذلك أن الله تعالى1 قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2، ولم يفرق بين الحر والرقيق، ثم قال عز من قائل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 3، مخصصًا به قوله: {الزَّانِيَةُ} ، وأخرجنا الإماء منه، وقضينا بالاسم الخاص على الاسم العام، ثم وجدنا أن المعنى الموجب لنقصان الحد في الإماء هو الرق؛ لأنها إذا اعتقت وجب الحد كاملًا، ولم يزل بالعتق غير الرق؛ فثبت أن نقصان الحد كان متعلقًا به، وهذه العلة موجودة في العبد، فنقصنا حده، وجعلناه خمسين، وخصصنا بهذا المعنى قوله تبارك وتعالى: {وَالزَّانِي} ، وأخرجنا العبيد منه؛ لأن معنى الاسم الخاص نافى بعض ما شمله الاسم العام، كمنافاة الاسم إياه. فإن قيل: إنما كان كذلك في الاسم الخاص مع الاسم العام؛ لأنهما نطقان، فتساويا في القوة، وانفرد الخاص بقوة الخصوص، وليس كذلك المعنى؛ فإنه ليس بنطق. قيل: المعنى مثل الاسم، في وجوب العمل به، والمصير إلى موجبه، وتخصيص الاسم العام من العمل بموجبه، فاستويا فيه.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج من يمنع ذلك: بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل: "فإن لم تجد في سنة رسول الله، قال: أجتهد رأيي ولا آلو" 1، فدل على أن القياس مع عدم السنة.
والجواب: أن ما عارضه القياس من العموم؛ فليس من السنة كما أن ما عارضه لفظ السنة من عموم القرآن؛ ليس من القرآن، ووجب القضاء بخاص السنة على عموم القرآن ههنا. واحتج: بأنه لا يجوز أن ينزع من الاسم معنى يخصه، كذلك لا يجوز أن يخص به اسم غيره. والجواب: أن الحكم إذا كان مطلقًا؛ فإن المطلوب هو على الحكم المطلق؛ فلا يجوز أن تكون مخصصة له مسقطة لإطلاقه؛ لأنها إذا كانت هكذا؛ لم تكن هي المأمور بطلبها، وليس كذلك اسم آخر؛ فإن المطلوب مخالف له؛ فجاز أن يكون مخصصًا له، ولأن الاسم لا يجوز أن يخص نفسه؛ كذلك معناه. ويجوز أن يخص اسمًا آخر، كذلك معناه يجوز أن يخص اسمًا آخر. واحتج: [78/ب] بأن العموم أعلى رتبة في الحجة من القياس، ألا ترى أن القياس قد يمنع في كثير من الأصول، والعموم لا يجوز وجوده عاريًا عن إيجاب حكم؛ فلم يجز ترك الأقوى بالأضعف. والجواب: أن هذا يبطل بخبر الواحد، يجوز أن يخص به العموم وإن كان القرآن أعلى رتبة. على أن امتناع القياس في مواضع فيها نص يعارض القياس، وأما في مواضع فيه عمومه يجوز تخصيصه؛ فلا.
واحتج: بأن النسخ كالتخصيص؛ لأن النسخ تخصيص الزمان، والتخصيص يخص الأعيان، ثم ثبت أنه لا يجوز نسخ العموم به، كذلك لا يجوز التخصيص. والجواب: أنه يبطل بخبر الواحد، لا ينسخ، ويخص، وكذلك الإجماع. على أنا قد بينا الفرق بين النسخ وبين التخصيص في التي قبلها. واحتج: بأن القياس فرع للكتاب؛ فلا يجوز أن يخص الفرع أصله ويسقطه. والجواب: أنا لا نخص الأصل بفرعه؛ وإنما نخص غير أصله؛ لأن القياس متى استنبط من أصله، يكون مماثلًا له في حكمه؛ فلا يخصص به، وإنما يخص أصلًا آخر يضاده، وينافيه. واحتج: بأنه إنما يصح القياس، إذا جرى على الأصول واطرد، وهذا العموم من جملتها، وهو ينافيه؛ فيجب أن لا يصح القياس معه، كما لا يجوز مع وجود الإجماع على ضده؛ لأنه لم يجر على الأصول، كذلك ههنا. والجواب: أنا لا نسلم أن ما خصصه القياس كان مرادًا بالعموم حتى يكون معارضًا له ومضادًا له؛ بل يتبين بالقياس، أنه لم يكن مرادًا ولا داخلًا تحته. واحتج: بأن العموم مقطوع عليه، والقياس مظنون. والجواب: أن المقطوع عليه هو الصيغة، وذلك لا يرفعها بالقياس؛ وإنما يخص بعض الحكم، وذلك غير مقطوع على أنه مراد، وعلى أنه إن لم يكن مقطوعًا عليه؛ فقد ثبت بدليل مقطوع عليه؛ فهو كالحكم بشهادة الشاهدين، غير مقطوع عليه، لكن ثبت بدليل مقطوع عليه.
واعتمد أصحاب أبي حنيفة في الفرق بين العموم المخصوص1 وغير المخصوص، بما حكيناه عنه في المسألة التي قبلها، وقد أجبنا عنه بما فيه كفاية.
مسألة يجوز تخصيص عام السنة بخاص القرآن
مسألة 1: يجوز تخصيص عام السنة بخاص القرآن أومأ إليه أحمد رحمه الله في نسخ السنة بالقرآن؛ فقال في رواية عبد الله، وذكر قصة أبي جندل2 فقال: ذلك صالح على أن يرد من جاءهم مسلمًا؛ فرد النبي صلى الله عليه وسلم الرجال، ومنع النساء، ونزل3 قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} 4 [79/أ] فظاهر هذا أنه أثبت نسخ القصة بالقرآن. وبهذا قال الجماعة من الفقهاء والمتكلمين.
وخرج الشيخ أبو عبد الله1 في ذلك وجهًا آخر: أنه لا يجوز. أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية حنبل وغيره؛ فقال: السنة مفسرة للقرآن، ومبينة له. وظاهر هذا: أن البيان بها يقع2. وقال أيضًا في رواية محمد بن أشرس3: "إذا كان الحديث صحيحًا معه ظاهر القرآن، وحديثان مجردان في ضد ذلك؛ فالحديثان أحب إلي إذا صحا". وظاهر هذا أيضًا: أنه لم يجعل ظاهر الآية يخص أحد الحديثين ولا يقابله. وبهذا قال أصحاب الشافعي4.
والدلالة على جواز التخصيص: قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} 1. ولأن الكتاب أقوى من السنة؛ فإنه مقطوع على جميعه، والسنة إنما يقطع على البعض منها. ولأن فيه إعجازًا، والسنة لا إعجاز فيها؛ فإذا جاز تخصيص القرآن بالضعيف؛ فإنه يجوز تخصيص الضعيف بالقوي [من باب] أولى، ألا ترى أن من جوز نسخ الكتاب بالسنة؛ كانت تجويزه لنسخ السنة بالكتاب أولى؟ واحتج من منع من ذلك: بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2.
والجواب: أن المراد بالبيان ههنا: الإظهار لا التخصيص؛ فإن الكلام يقتضي أن يبين جميع المنزل، وجميع المنزل لا يحتاج إلى تخصيص؛ وإنما يحتاج إلى الإظهار. وعلى أن نحمل الكلام على أن المراد به: لتبين للناس ما يحتاج إلى بيان وهو ما لم يبين بالكتاب؛ فأما ما بين بالكتاب فبيانه مأخوذ منه لا من السنة1. واحتج: بأنا لو خصصنا السنة بالآية؛ جعلنا السنة أصلًا، والقرآن تابعًا له ومفسرًا، وهذا فيه نقصان منزلته. والجواب: أنه لا يوجب جعلها أصلًا والقرآن تابعًا، كما لم يجب ذلك في تخصيص أخبار الآحاد بأخبار التواتر، وقد ثبت جواز ذلك. ولا يقول أحد: إن أخبار الآحاد أصل، وأخبار التواتر تابعة لها ومفسرة لها.
مسألة يجوز تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم
مسألة يجوز تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم مدخل ... مسألة 1: يجوز تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا وقع من النبي فعل يخالف عموم قول تعلق بسائر المكلفين؛ كان ذلك موجبًا لتخصيصه، إن أمكن حمله عليه. وكذلك الإقرار على فعل، مثل أن يفعل عنده فعل يخالف العموم؛ فأقر عليه؛ فإنه يختص به. وقد أشار أحمد رحمه الله إلى هذا في مواضع: فقال في رواية صالح: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 2، ولما ورث النبي صلى الله عليه وسلم [79/ب] ابنتي سعد بن الربيع3 الثلثين4؛ دل على أن الآية إنما قصدت الاثنتين فما فوق.
وقال أيضًا في رواية صالح: قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1؛ فلما قالت عائشة وميمونة2: كانت إحدانا إذا حاضت انفردت، ودخلت مع رسول صلى الله عليه وسلم في شعاره3؛ دل على أنه أراد الجماع.
وهو قول أصحاب الشافعي1 وأصحاب أبي حنيفة2 إلا الكرخي؛ فإن أبا عبد الله الجرجاني حكى عن بعض أصحابه، أنه حكي عنه أنه يحمل فعله عليه السلام على أنه مخصوص به، مثل نهيه عن استقبال القبلة
واستدبارها1، وما روي من فعله بخلاف ذلك2، لا يجعله تخصيصًا.
دليلنا
دليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في أحكام الشرع سواء؛ إلا ما دل الدليل على تخصيصه به، ألا تراه إذا فعل شيئًا ابتداء، لا على وجه البيان والتخصيص؛ كنا نحن وهو فيه على السواء، حتى يخصه دليل، كذلك هذا الفعل الوارد على وجه البيان والتخصيص، يجب أن يتساويا فيه أيضًا.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه يحتمل أن يكون مخصوصًا بهذا الفعل، ويحتمل أن يكون هو وغيره فيه سواء، ولا يجوز تخصيص العموم بالشك. والجواب: أن هذا يدل عليه الفعل الوارد من جهته ابتداء. وعلى أنه ليس ههنا شك، بل ههنا ظاهر يدل على مساواتنا له في أفعال.
يجوز تخصيص العام بالإجماع
يجوز تخصيص العام بالإجماع ... فصل: ويجوز التخصيص بالإجماع 1 لأن الإجماع حجة مقطوع بها؛ فإذا جاز التخصيص بخبر الواحد والقياس؛ كان بالإجماع أحق. ويفارق هذا النسخ بالإجماع أنه لا يجوز؛ لأن الإجماع إنما ينعقد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته انقطع النسخ؛ فلا يصح أن ينسخ به، وليس كذلك التخصيص؛ لأنه يقترن باللفظ دليل يخرج منه ما ليس مرادًا؛ فإذا انعقد الإجماع على تخصيصه؛ علم أنه خطاب عام أريد به الخاص، والنسخ بالإجماع على هذا يتصور؛ فإن المسلمين إذا أجمعوا على ترك خبر؛ تبينا بالإجماع: أنه منسوخ، لا أن2 الإجماع ينسخه.
يجوز تخصيص العام بدليل الخطاب
يجوز تخصيص العام بدليل الخطاب ... فصل: ويجوز تخصيص العموم بدليل الخطاب 1 سواء دل دليل هو مفهومه
وفحواه، وهو: التنبيه، نحو قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1؛ فدل [على] المنع من2 الضرب، فيقع به التخصيص. أو كان في ضد النطق؛ كقوله: "في سائمة الغنم الزكاة"؛ دل على أنه: لا زكاة في المعلوفة، فيخص به العموم3؛ لأن الدليل خارج مخرج النطق، ومعناه معنى النطق في باب الاحتجاج به، [وقد] ثبت جواز التخصيص بالنطق، كذلك بما هو جار مجراه4.
يجوز تخصيص العام بقول الصحابي إذا لم يظهر خلافه
يجوز تخصيص العام بقول الصحابي إذا لم يظهر خلافه مدخل ... فصل: [80/أ] يجوز تخصيص العموم بقول الصحابي إذا لم يظهر خلافه وكذلك تفسير الآية المحتملة1. وهذا على الرواية التي تجعل قوله حجة، مقدمًا على القياس. وقد نص على هذا في رواية صالح وأبي الحارث: في الآية إذا جاءت تحتمل أن تكون عامة، وتحتمل أن تكون خاصة، نظرت ما عملت عليه السنة؛ فإن لم يكن؛ فعن الصحابة، وإن كانوا على قولين، أخذ بأشبه القولين بكتاب الله تعالى.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة1. واختلف أصحاب الشافعي على القول القديم، الذي يجعلون قوله حجة؛ فمنهم من خص به، ومنهم من لم يخص2.
ودليلنا
ودليلنا: أن قول الصحابي أقوى من القياس، بدليل أنه يترك له القياس؛ فيجب أن يخص به الظاهر، كخبر الواحد. ولأنه مقدم على القياس، والقياس يخص؛ فبأن يخص خبر الواحد أولى وأحرى.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الصحابي يترك مذهبه وقول نفسه للعموم، ألا ترى أن ابن عمر قال: "كنا نخابر أربعين سنة، ولا نرى به بأسًا، حتى أتانا رافع بن خديج، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه؛ فتركناها"1 لقول رافع. والجواب: أنه يترك قوله للنص؛ فأما العموم فلا؛ لأنه فيما ذهب
إليه عن دليل، وذلك الدليل لا يخلو إما أن يكون عمومًا أو خصوصًا أو قياسًا؛ فإن كان خصوصًا أو قياسًا؛ فهما يقضيان على هذا العموم، وإن كان عمومًا؛ فقد عارض هذا لعموم؛ فلا يجب ترك قوله. على أن بكر بن محمد سأله: يلتحف الصماء من فوق القميص1؟ فقال: لا يعجبني، يروى عن ابن عباس: أنه كرهه، وإن كان عليه
قميص، وإن كان حديث النبي: أنه ثوب واحد1، ولكن ابن عباس كرهه، فقدم قول ابن عباس. واحتج: بأن الخبر حجته؛ فلا تخص حجته بفتياه، كسائر الفقهاء. والجواب: أن سائر2 الفقهاء قول آحادهم ليس بحجة، وقول الصحابي حجة. فإن قيل: فما تقولون في تخصيص العموم وتفسيره بقول التابعين؟ قيل: لا يخص بقوله، ولا يفسر به؛ لأن قوله ليس بحجة. وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله؛ فإنه رجع في تخصيص الآية إلى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي: يوجد العلم بما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم يكن، فعن أصحابه؛ فإن لم يكن، فعن التابعين. وإنما قال هذا؛ لأن غالب أقوالهم أنها لا تنفك عن أثر. وقد صرح بهذا في رواية أبي داود: إذا جاء الشيء عن الرجل [80/ب] من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم الرجل الأخذ به، ولكن لا يكاد يجيء عن التابعين [شيء] ؛ إلا يوجد فيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أيضًا: يتبع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وهو في التابعين مخير.
التفسير
التفسير مدخل ... فصل 1: التفسير وتفسير الراوي للفظ النبي صلى الله عليه وسلم يجب العمل به، إذا كان مفتقرًا إلى التفسير. وذلك مثل قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" 2.
فمن الناس من قال: بالتفرق بالقول1، ومنهم من قال: بالتفرق بالبدن2. وأجمعوا على أن المراد أحدهما؛ فصرنا إلى ما دل تفسير الراوي عليه، فإن عبد الله بن عمر كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلًا، ثم رجع3. وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك4.
فمن الناس من قال: هو عام في الغيم والصحو. ومنهم من قال: المراد به الشك في الصحو، وهو: إذا تطابق أهل البلد على ترك الترائي للهلال فيه ليلة الثلاثين، فشكوا هل طلع أم لا1؟ فصرنا
إلى ما دل [عليه] تفسير الراوي، قال ابن عمر1: "كان إذا كان في السماء غيم؛ أصبح صائمًا، وإن كانت مصحية؛ أصبح مفطرًا"2. وقد صار أحمد رحمه الله إلى تفسير ابن عمر رضي الله عنه في الموضعين جميعًا في رواية المروذي. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ... " 3 ففسره ابن عمر4 على أن المراد بقوله:
["هاء وهاء"] : القبض في المجلس. فروى مالك بن أوس بن الحدثان1 أنه قال: التمست صرفًا بمائة دينار، فدعاني2 طلحة بن عبيد الله3، فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى4 يأتي خادمي5 من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع؛ فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه6. وروي أنه قال لطلحة: لا تفارقه حتى تعطيه وَرِقه7، أو ترد عليه
ذهبه1. وبهذا قال أصحاب الشافعي. وذكر أبو سفيان عن الكرخي أنه كان يقول: يجب العمل بظاهر الآية والخبر، ولا يرجع إلى تفسير الصحابي. وإنما رجعنا إلى تفسيره في ذلك؛ لأن هذا اللفظ مما يفتقر إلى البيان، وهو أعرف به من غيره، لمشاهدته التنزيل؛ فوجب الرجوع إلى تفسيره، كما وجب الرجوع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للآية المحتملة. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية أبي طالب: في العبد يتسرى، فقيل له: فمن احتج [81/أ] بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} [ {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ] 2، فأي ملك للعبد؟ فقال: القرآن أنزل على [أصحاب] النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون فيما أنزل، وقالوا: يتسرى العبد. ويفارق هذا ما لا يفتقر إلى البيان؛ لأن اللفظ غير محتمل؛ فكان هو وغيره في تفسيره سواء.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الآية والخبر يجب العمل بظاهرهما؛ لكونهما1 حجة، وقول الصحابي ليس بحجة؛ فلم يرجع إلى تفسيره. والجواب: أن قوله حجة عندنا وعندهم إذا انفرد، وله2 حكم المنفرد عند احتمال اللفظ.
مخالفة الراوي للفظ النبي صلى الله عليه وسلم لا تؤثر في إحدى الروايتين عن أحمد
مخالفة الراوي للفظ النبي صلى الله عليه وسلم لا تؤثر في إحدى الروايتين عن أحمد مدخل ... فصل 1: فإن ترك الراوي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بخلافه وجب العمل بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثر فيه مخالفة الراوي له في أصح الروايتين. قال في رواية الأثرم في الحجام: نحن نعطي كما أعطى، يعني النبي صلى الله عليه وسلم2، ولكن صاحبه لا يأكله، يطعمه الرقيق، ويعلفه الناضح3
وقول ابن عباس: لو كان حرامًا؛ لم يعطه1. فهذا تأويل من ابن عباس. وظاهر هذا: أنه أخذ بظاهر الخبر، ولم يلتفت إلى تأويله. وهو قول أصحاب الشافعي. وفيه رواية أخرى: لا يجب العمل به، نص عليه رحمه الله في رواية حرب2؛ فقال: لا يصح الحديث عن عائشة؛ لأنها زوجت بنات أختها، والحديث عنها. وقال أيضًا رضي الله عنه في رواية المروذي: لا يصح الحديث؛ لأنها فعلت بخلافه.
وقال أيضًا رحمه الله في رواية الحسن بن محمد بن الحارث1 وقد سئل عن حديث الزهري2، فقال: الزهري يقول بخلاف هذا. وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي: أنه قال: هذا على وجهين: أحدهما: أن يكون الخبر محتملًا للتأويل؛ فلا يلتفت إلى عمل الصحابي، كما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا"، التفرق: يحتمل أن يكون بالقول، ويحتمل أن يكون بالفعل، ثم حمله ابن عمر على التفرق بالأبدان؛ فلا يعمل على تأويله. والثاني: أن يكون الخبر غير محتمل للتأويل؛ فعمله بخلافه؛ يكون دليلًا على أنه قد علم بنسخ الخبر، إن عقل من ظاهر حاله أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان غير ما دل عليه ظاهر الخبر من الندب دون الإيجاب. وكان يحكى ذلك عن الكرخي: أن الأخذ بما رواه أولى مما عمل به من غير تفصيل.
وجه الرواية الأولى: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة، وقول الصحابي وفعله على أحد القولين: ليس بحجة، وعلى الرواية الأخرى: هو حجة؛ إلا أن خبر الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم عليه، وإذا كان كذلك؛ وجب العمل بالخبر. وأيضًا: فإن [81/ب] أبا حنيفة: قال: ليس بيع الأمة المزوجة طلاقًا. واحتج هو وغيره من الفقهاء بما روى ابن عباس: أن عائشة اشترت بريرة، فأعتقتها، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان بيعها طلاقًا لما خيرها. وخالف ابن عباس هذا الخبر، وكان يقول: بيع الأمة طلاقًا، وإن لم يكن ذلك موجبًا لترك الخبر.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الصحابي لا يخالف الخبر ولا يعانده؛ فإذا رأينا قوله بخلافه؛ استدللنا على نسخ الخبر، وأنه إنما تركه وخالفه عن توقيف. والجواب: أنه يحتمل أن يكون بسنة، أو تركه بضرب من الاجتهاد في تقديم غيره عليه؛ فيجب أن ينظر فيه ولا يقلده. واحتج: بأن الصحابي أعرف إذًا؛ فإنه شاهد الوحي والتنزيل، وعرف البيان والتأويل، وكانوا أعرف بما يقوله. والجواب: أنه كذلك فيما يفتقر إلى البيان؛ فأما في مخالفة الخبر بقوله فلا؛ لأنه يحتمل أن يكون تركه للاحتمال الذي ذكرنا. وجواب آخر، وهو: أنه لو علم مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوجب عليه نقله، كما يجب عليه [نقل] نص النبي على المراد بخطابه؛ فلما لم يبطل ذلك؛ علمنا أنه لم يعلم مراد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان حاله في ذلك كحال غيره ممن لم يشاهد الخطاب.
العادة لا تخصص العموم
العادة لا تخصص العموم مدخل ... فصل 1: [العادة لا تخصص العموم] إذا ورد لفظ عام؛ لم يجز تخصيصه بعادة المكلفين، مثل أن يرد تحريم البيع مطلقًا، وعادتهم جارية بنوع منه2.
وكقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1، وقد جرت عادتهم بأكل نوع منه. لأن الحكم يتعلق باللفظ؛ فوجب القضاء به على جميع ما يصح أن يعبر به عنه، اعتبارًا بالعموم. ولأن الظاهر أن الكلام خرج لقطع العادة الجارية، ودفع الأمر الواقع؛ فلم يجز تركه في هذا الوضع بعينه. فإن قيل: أليس قد خصصتم الاسم بالعرف، مثل اسم الدابة ونحوها إذا أطلق؛ هلا فعلتم مثل هذا في الحكم؟ قيل: عرف الاستعمال هناك مقارن للفظ؛ فيصير ذلك هو اللغة الجارية، وهذا معدوم ههنا، مع أن اسم الدابة عام في غير المتعارف مجازًا. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية مهنا: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن أبي عبد الله قال: أدركت أبناء المهاجرين والأنصار، فكانوا2 يعمون، لا يجعلونها تحت3 الخيل: هو معروف، ولكن الناس على غير هذا، أهل الشارع خاصة لا يعمون
إلا نجب1 الخيل. وظاهر هذا أنه اطرح الحديث بعادة المكلفين. قيل: إنما عارض عرفًا بعرف، [82/أ] ولم يخصص خبرًا بعرف.
مسألة تخصيص الأخبار جائز
مسألة تخصيص الأخبار جائز مدخل ... مسألة: 1 [تخصيص الأخبار جائز] : التخصيص يدخل في نحو قوله: رأيت المشركين؛ كما يدخل في الأوامر. وقد تكلم أحمد رضي الله عنه على آيات في القرآن وردت بلفظ الخبر، وبين أنها مخصوصة؛ ذكره فيما خرجه في محبسه، فقال: قوله تعالى للريح التي أرسلها على عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 2، وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها، منازلهم ومساكنهم والجبال3 التي بحضرتهم -وقال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4 لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه. وقال لملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 5 وقد كان ملك سليمان شيئًا لم تؤته. خلافًا لبعضهم في قولهم: لا يدخل التخصيص في الخبر، كما لا يدخله النسخ.
دليلنا
دليلنا: أن التخصيص إنما دخل في لفظ الأمر؛ لأنه يحتمل أن يراد به جميع
ما وضع له اللفظ، ويحتمل أن يراد به بعضه، وهذا المعنى موجود في الخبر، كوجوده في الأمر؛ فإنه يصح أن يقول: رأيت المشركين، ويكون قد رأى بعضهم؛ فساوى الأمر الخبر في هذا، ويفارق النسخ؛ لأنه يرفع جميع الحكم ويزيله؛ فيؤدي إلى الكذب فيما أخبر به، والتخصيص لا يرفع جميع الحكم، بل يبقى بعضه؛ فلا يؤدي إلى التكذيب والإبطال. ويدل عليه وجود ذلك بدليل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ومعلوم أن ذاته لم تدخل فيه، وكذلك: {اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} ، ولم تدمر السموات والأرض، وما أشبه ذلك.
مسألة إذ ورد الخطاب من صاحب الشرع بناء على سؤال سائل
مسألة إذ ورد الخطاب من صاحب الشرع بناء على سؤال سائل مدخل ... مسألة: 1 [إذا ورد الخطاب من صاحب الشرع بناء على سؤال سائل] : نظرت؛ فإن لم يكن مستقلًا بنفسه، ومتى أفرد عن السؤال لا يكون مفهوم المراد، مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لأبي بردة بن نيار: "يجزيك ولا يجزي أحدًا بعدك" 2؛ فهذا خرج على قول أبي بردة: لا أجد إلا جذعة من المعز؛ فهو مقصور على السؤال ومضموم إليه، ويكون تقديره: إذا ذبحت جذعة من المعز يجزيك في الأضحية، ولا يجزي أحدًا بعدك. وإن كان مستقلًا بنفسه نظرت: فإن كان مطابقًا للسؤال فهو على ضربين:
ضرب هو سؤال عنه جملة، وجواب عنها. وضرب هو سؤال عن حكم عين، وجواب عن حكمها. فالسؤال عن الجملة مثل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرض في اليوم والليلة؛ فقال: "خمس صلوات، كتبهن الله على عباده" 1. وما روي أنه سئل عن صلاة التطوع بالليل والنهار، فقال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" 2.
...........................................................................................................................................
.................................................................................................................
وما روى أبو سعيد الخدري1: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم فقال [82/ب] : "الحية والعقرب والفويسقة 2 والغراب والحدأة والكلب العقور والسبع العادي" 3.
والسؤال عن حكم عين من الأعيان، مثل ما روي: "أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يضرب نحره، وينتف شعره ويقول: هكلت وأهلكت، فقال: "ماذا فعلت؟ فقال: وقعت على امرأتي في رمضان،
فقال: أعتق رقبة" 1 حين ذكر له السبب؛ فالظاهر أن الرقبة متعلقة بالوقوع الذي ذكره، تعلق الحكم بالعلة؛ لأن السبب هو الذي اقتضى الحكم وآثاره، كما إذا سمع رجلًا يقول شيئًا؛ فقال له: "استغفر الله"، يدل على أن القول الذي اقتضى الاستغفار، والسبب يكون جميعه، عليه لا يجوز أن يزاد فيه بغير دليل؛ لأن الظاهر الذي اقتضى الحكم هو الذي ذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بالحكم لأجله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم بسبب ذكر له، يجب أن يكون الحكم جميع موجبه؛ لأن تأخير
البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فلو كان للسبب حكم غيره؛ لم يترك بيانه، ولهذا قلنا فيما روي أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مقطعه1، وهو متضمخ بالخلوق، فقال: أحرمت وعلي هذا، فقال: "انزع الجبة، واغسل الصفرة" 2، ولم يأمره بالفدية؛ فدل على أن الفدية غير
واجبه، وتكون العين المنصوص على حكمها1 أصلًا، ويكون كل من وجد منه مثل ذلك السبب في حاله2؛ وإنما كان المنصوص عليه أصلًا؛ لأنه ثبات حكمه بلفظ تناوله خصوصًا، وكان غيره في حاله3؛ لأنه حكم فيه بعلة تعدت إليه منه، كما أن الأرز وسائر المكيلات، فروع للأربعة المنصوص عليها للمعنى الذي ذكرته. وأما إذا كان الجواب مخالفًا للسؤال نظرت: فإن كان أخص من السؤال، مثل: أن يسأل عن قتل النساء الكوافر؛ فيقول: "اقتلوا المرتدات؛ فيجب قتل المرتدات باللفظ، وغير المرتدات من الحربيات لا يجوز قتلهن من طريقين: أحدهما: من طريق دليل الخطاب، والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عدل عن الاسم العام إلى الاسم الخاص؛ دل على أنه قصد المخالفة بين المرتدات، وبين الحربيات. وهكذا كما قال أصحابنا في خبر حذيفة بن اليمان4 عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجدًا، وجعل ترابها طهورًا" 5،
فعلق على اسم الأرض كونها مسجدًا، وعلى نوع منها كونه طهورًا؛ فدل على أنه قصد المخالفة بين المسجد والطهور. خلافًا لأبي حنيفة أن كل أرض مسجد وطهور. وأما إن كان أعم من السؤال، مثل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل: إنا نركب أرماثًا1 لنا في البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، [83/أ] أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال: "البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" 2؛ فسئل عن حال الضرورة، وأجاب بأنه
.................................................................................................................
طهور، ولم يخص حال الضرورة دون حال الاختيار؛ فيجب عندنا أن يحمل الجواب على عمومه، ويكون الاعتبار بعموم اللفظ، دون خصوص السبب. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية علي بن سعيد وقد سئل عن الوضوء من ماء البحر؛ فقال: لا بأس به، وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، الحلال ميتته"؛ فقد احتج بالحديث على العموم، ولم يعتبر السبب الذي ور عليه. وهو قول أصحاب أبي حنيفة1، وأكثر أصحاب الشافعي2، وأصحاب الأشعري.
وقال أصحاب مالك1: يقتصر على السؤال، وحكى ذلك2 عن المزني3 وأبي بكر الدقاق4. إن الدلالة على الحكم هو لفظ صاحب الشريعة، دون سؤال السائل؛ فإذا كان لفظه عامًا؛ وجب حمله على عمومه، كما لو ورد ابتداء. ولأن الاعتبار بلفظه، دون السؤال، بدليل: أن السؤال إذا كان عامًا، والجواب خاصًا؛ وجب حمله على خصوصه اعتبارًا به، كذلك ههنا. ولأنا نعتبر صفة اللفظ في كونه أمرًا ونهيًا وإباحة؛ كذلك في كونه عمومًا وخصوصًا. ولأن المرأة إذا قالت لزوجها: طلق ضرائري؛ فقال: كل امرأة لي
طالق؛ طلقت السائلة مع ضرائرها؛ لأن لفظ الزوج عام؛ فوجب حمله على عمومه، دون خصوص السؤال، كذلك ههنا. ولأنه زائد على السؤال؛ فوجب أن يثبت حكمها وتكون شرعًا، كما إذا كانت الزيادة منفصلة، مثل قوله: "الحل ميتته". ولأن العام إنما يخص بما يعارضه وينفيه، والسبب الوارد عليه اللفظ مماثل له ومطابق له في حكمه؛ فلا يجوز تخصيصه. ولأن الخطاب قد ورد في مكان وزمان، ثم لا يقتصر به على المكان والزمان؛ كذلك لا يقتصر به على السبب. ولأن خروجه على شخص بعينه، لا يوجب تخصيصه به، مثل آية اللعان، نزلت في شأن هلال بن أمية1. وآية القذف نزلت في
شأن الإفك1، وآية الظهار في شأن خولة2، كذلك خروجه على مسبب.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن الجواب والسؤال بمنزلة الجملة الواحدة؛ فيصير كأنه قال: إذا ركبتم البحر، وكان معكم القليل من الماء، وإن توضأتم خفتم العطش؛ فتوضئوا بماء البحر؛ فإنه طهور، ولو كان هكذا؛ لكان مقصورًا على حال الضرورة؛ لأن خوف العطش، يصير شرطًا في الوضوء بماء البحر، ويدل على أنهما بمنزلة الجملة الواحدة: أن الجواب مقتضى السؤال. والجواب: أنا لا نسلم أنه بمنزلة الجملة، ونقول: هما ضمنان؛ لأن السؤال ليس بعلم على الحكم، والجواب [83/ب] علم على الحكم؛ فدل على أنهما جملتان مختلفتان. وقولهم: إن الجواب مقتضى السؤال؛ فهو وإن كان مقتضاه؛ فيجوز أن يكون زائدًا عليه، ويجيب عما يسأل وعما لم يسأل، ولهذا قال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته". ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} 1. واحتج: بأنه يجوز أن يكون الجواب مبهمًا محالًا به على بيان السؤال. والجواب: أنه يجوز أن يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم مبهمًا محالًا على بيان القرائن، وبيان القياس، ويكون لفظ القرآن محالًا على بيان السنة، وإذا كان كذلك؛ لم يدل هذا على أنهما جملة واحدة. واحتج بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "أعتق رقبة"، مقصور على
السبب الذي خرج الكلام عليه، ولا يجوز أن يتعدى ذلك حال وقوع الفعل. والجواب: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة"؛ لا يعم حال الوقوع، وغير حال الوقوع، وليس كذلك: "هو الطهور ماؤه"؛ فإنه عام في جميع الأحوال. وحمله على حال الضرورة، تخصيص له بأمر ما، يدل على ذلك: أنها لو قالت: طلقني، فقال: أنت طالق، كان الظاهر أنه طلقها لسؤالها، وأن قولها هو المقتضى لإيقاع الطلاق عليها. وإذا قالت له: طلق ضرائري، فقال: كل امرأة له طالق؛ حمل قوله على عمومه فيها وفي ضرائرها؛ فدل على ما قلناه. واحتج: بأن الخطاب لما ورد عقيب السبب، كان الظاهر أنه بيان لحكمه1؛ فإنه لو كان بيانًا لحكم غيره2 لذكره قبل حدوثه. والجواب: أنه لو ذكره قبل ورود السبب؛ لجاز إخراج هذا السبب منه وتخصيصه، وحين ذكره عند وجود السبب؛ أفاد أنه لا بد أن يكون السبب داخلًا في حكم الخطاب، وأنه لا يجوز تخصيصه؛ لكونه منصوصًا عليه، وعلى أن هذا يوجب إذا ورد في مكان مخصوص، وزمان مخصوص، وسائل مخصوص أن يقتصر على سؤال السائل، وعلى الزمان والمكان. وقد أشار أحمد رحمه الله إلى أنه إذا ورد على سبب؛ لم يجز خروج السبب من الخطاب في رواية أبي داود3 وقيل له: إن فلانًا قال: قراءة الفاتحة يعني خلف الإمام -مخصوص من قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} 1، فقال: من يقول هذا؟! أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة. فقد أنكر تخصيص الآية، وحملها على غير المصلي؛ لأنها واردة في المصلي؛ [فلم] يخرج [بها] عن سببها. واحتج بأن الجواب إذا كان بلا [أ] ونعم، كان مقصورًا على السؤال؛ كذلك إذا كان أعم منه. والجواب: [84/أ] أن الجواب هناك غير مستقل بنفسه؛ ألا تراه لا يصح تفرده عنه، وهذا بخلافه. واحتج: بأن السبب كالعلة في الحكم، والعلة لا تدل على أكثر من معلولها. والجواب: أنه إذا كان الخطاب أعم من السبب، كان السبب كالعلة في قدر حكمه، وما زاد عرف حكمه باللفظ. واحتج: بأن قصره على سببه وتخصيصه بتلك العين، قد يكون فيه مصلحة؛ فلا يجوز أن يتعدى ذلك. والجواب: أن قصره على الوقت والمكان، قد يكون فيه مصلحة، ومع هذا فلا يجب ذلك. واحتج: بأنه لما كانت الأيمان مقصورة على أسبابها، يجب أن تكون ألفاظ صاحب الشريعة كذلك. والجواب: أنا لا نقصرها على أسبابها، بل يعتبر في تفهم الحكم وزيادته على اللفظ؛ فأما في تخصيص اللفظ بالسبب؛ فلا؛ ولهذا نقول: إذا حلف لا يلبس من غزلها لمنّة؛ فانتفع بثمنه، أو بشيء من مالها حنث. وقد قال أحمد رحمه الله فيمن حلف لا يصيد في نهر؛ لأجل ظلم السلطان؛ فزال الظلم: فإن اصطاد؛ حنث، كذلك ههنا.
إذا كان أول الآية عاما وآخرها خاصا حمل كل واحد منهما على ما ورد
إذا كان أول الآية عاما وآخرها خاصا حمل كل واحد منهما على ما ورد مدخل ... فصل 1: إذا كان أول الآية عامًا وآخرها خاصًا: كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2 هو عام في البائن والرجعية، وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 2 خاص في الرجعية، فيحمل كل واحد منهما على ما ورد، ولا يخص أولها بآخرها. وهذا بناء على الأصل الذي تقدم، وأنه لا يقصر اللفظ على سببه ولا على السؤال؛ لأن التخصيص إنما يكون بما يخالفه ويعارضه، وهذا يوافقه؛ لأن قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} بعض ما اشتمل عليه قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} . ولأن اللفظ الأول يستقل بنفسه؛ ولأن اللفظ الثاني يحتمل أن يكون راجعًا إلى جميع ما تقدم، ويحتمل أن يكون راجعًا إلى بعضه، ولا يجوز تخصيصه بالشك. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 3 قال: أول الآية يدل على أن علمه معهم. وقال في سورة أخرى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 4. وقال رحمه الله في رواية أبي طالب: يأخذون بأول الآية ويدعون آخرها5.
وليس هذا من أحمد رضي الله عنه على أنه يجب تخصيص أولها بآخرها؛ وإنما قال ذلك بدليل دل على ذلك، وعضده بما في سياق الآية. ولو أن قائلًا قال: ظاهر الكلام التسوية بين أول الآية وآخرها، كان له وجه في الاعتبار؛ لأن المتكلم متى وضع كلامه على وجه؛ فظاهر أمره أنه يخرجه [84/ب] على ما وضعه عليه، وأنه لم يعدل عنه إلى غيره، ويجري ذلك مجرى الكناية، وسائر ما يعطف بعضه على بعض.
مسألة تعارض العام والخاص
مسألة تعارض العام والخاص مدخل ... مسألة 1: [تعارض العام والخاص] : إذا تعارضت آيتان أو خبران، وأحدهما عام والآخر خاص، والخاص منافٍ للعام؛ وجب تخصيص العام، سواء تقدم العام على الخاص أو تأخر، أو جهل التاريخ، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 2 وقال النبي: "لا قطع إلا في ربع دينار". وقوله: {لا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 3، وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 4، ونحو هذا. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في مواضع: فقال في رواية يعقوب بن بختان5 في الخبرين: يجيئان6 عن النبي
صلى الله عليه وسلم متضادين لكل خبر وجهه. وقال في رواية المروذي: لا تضرب الأخبار بعضها ببعض؛ لكل خبر وجهه، مثل: من اشترى شاة مصراة؛ فليرد معها صاعًا من تمر، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"، وذكر مع السلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده". وقال رضي الله عنه في رواية أبي طالب: حديث أم سلمة: "من أراد أن يضحي؛ فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره"، وحديث عائشة1 عام، وحديث أم سلمة مخصوص؛ فهو آكد؛ لأنه قد خص من العام: إذا أراد أن يضحي أمسك؛ وإذا بعث لم يمسك، هذا على وجهه، وهذا على وجهه. وقال في رواية عبد الله وقد سأله عن الثوب تصيبه الجنابة2 فقال: أذهب إلى الحديثين، حديث سليمان بن يسار3 عن عائشة: "أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يغسله"1، وحديث الأسود2 عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فركه"3؛ أذهب إليهما، ولا أرى أحدهما4.
ولهذا أمثال منه قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" ثم أجاز السلم، والسلم: بيع ما ليس في ملكه؛ وإنما هو على صفة. ومنه الشاة المصراة، إذا اشتراها الرجل فحلبها، إن شاء ردها وصاعًا من تمر، وقول النبي صلى الله عليه [وسلم] : "الخراج بالضمان"؛ فكان ينبغي أن يكون اللبن للمشتري؛ لأنه ضامن بمنزلة العبد، إذا استعمله فأصاب به عيبًا رده، فكان عليه ضمانه، تستعمل1 الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر؛ فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به. وقال في رواية خطاب بن بشر2 وقال له أبو عثمان الشافعي3 تذهب إلى الحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" 4 فقال:
قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" 1؛ فقد بين أنه ...
يستعملها1، وأنه يقضي بالخاص منهما على العام، ولم يجعل أحدهما ناسخًا للآخر. وقوله: إن الأخير أولى [85/أ] أن يؤخذ به؛ أراد إذا كان جميعًا خاصين، وقد تعارضا؛ فيكون الثاني ناسخًا للأول؛ فأما إذا كان أحدهما عامًا والآخر خاصًا، والخاص ينافي العام؛ فالحكم فيه على ما ذكرناه. وهو قول أصحاب الشافعي. وقال أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه الجرجاني: إن كان العام هو المتقدم؛ كان الخاص المتأخر ناسخًا لبعضه، وإن كان العام هو المتأخر كان ناسخًا لجميع الخاص. وإن لم يعلم التاريخ؛ فقد ذكره عيسى2 على أربعة أقسام: فقال: إن كان الناس قد عملوا بهما جميعًا؛ وجب استعمالها ويرتب العام على الخاص، مثل نهيه عن بيع ما ليس عنده، ورخص في السلم. وإن كانوا اتفقوا على استعمال أحدهما؛ فالعمل على ما اتفقوا عليه
والآخر منسوخ، وذلك مثل قوله: "فيما سقت السماء العشر" 1، وقوله: "ليس في الخضروات صدقة" 2، العام: قد تلقته الأمة
بالقبول، وخبر الخضروات مختلف في حكمه؛ فلم يجز أن يقضي به على العام. وإن كانوا اختلفوا في ذلك؛ فعمل بعض الناس بأحد الخبرين،
وعامة الفقهاء تخالفه وتنكر على الواحد؛ فالعمل1 على ما عليه العام، ويسقط الآخر. وإن كان الخبران مما يتعلق الحكم بهما، ويسوغ الاجتهاد في الحكم الذي تضمن كل واحد من الخبرين، ولم يظهر من الصحابة العمل بأحد الخبرين؛ فالواجب: المصير إلى الاجتهاد في تقدم أحدهما على الآخر، أو استعمال كل واحد فيما يقتضيه. ومعنى هذا عندهم: أنهما يسقطان، ويرجع إلى دليل غيرهما. وحكي عن أبي بكر ابن الباقلاني أنه قال: إذا جهل التاريخ؛ وجب التوقف فيهما.
دليلنا
دليلنا: أن الخاص يتناول ما تناوله بصريحه من غير احتمال، والعام يتناول بظاهره وعمومه، ويحتمل أن يكون المراد به ما عدا ما تناوله الخاص؛ فإذا كان كذلك، وجب القضاء بالخاص، كما يجب أن يقضي بالنص الذي لا يحتمل على اللفظ المحتمل. ولأنا نجمع بين الخاص والعام، والجمع بين الدليلين أولى من إسقاط أحدهما بالآخر أو وقفهما وإيقاع التعارض بينهما؛ لأن كل واحد يقتضي العمل به والمصير إلى موجبه، فما أدى إلى استعماله؛ كان أولى. ولأنه يجوز تخصيص العموم بالقياس وبدليل العقل، وإن كان متقدمًا عليه؛ فجاز تخصيصه بالخبر الخاص وإن كان متقدمًا عليه.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأنه إذا كان متقدمًا والخصوص متأخرًا؛ فإنما كان ناسخًا ببعضه؛ لأن بيان العموم لا يجوز تأخيره عن حال وروده؛ فإذا ورد متأخرًا عنه لم
يجز أن يقع موقع بيانه؛ فلم يبق إلا أن يكون ناسخًا. والجواب: أن تأخير البيان [85/ب] جائز عندنا، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. واحتج بأنه إذا كان الخصوص متقدمًا؛ أن العام المتأخر ينسخ الخاص: أن العموم يفيد الحكم في جميع ما يصح أن يعبر به عن المسميات بدلالة اتفاقهم إذا كان الخصوص متقدمًا عليه؛ وإذا كان كذلك؛ صار كل واحد بمنزلة ما ورد منفردًا؛ فيصير مقدار ما وقعت المعارضة فيه متنافيًا؛ فيقضي بالثاني على الأول، مثل اللفظين إذا وردا بلفظ الخصوص. والجواب: أن العموم وإن كان يفيد الحكم في جميع المسميات؛ فقد بينا أنه يفيد ذلك من طريق الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد ما عدا ما تناوله الخاص، والخاص يتناول ما يتناوله بصريحه من غير احتمال؛ فوجب القضاء عليه. واحتج: بأنه لو كان أراد استثناء الأقل من العموم الثاني؛ لذكره ونبه عليه، لعلمه باعتقاد أهل اللغة الصيغة؛ فلما لم يبين كان الظاهر ورود الثاني في معارضة الأول؛ فيكون ناسخًا له. والجواب: أنه لم يذكره مع اللفظ؛ لأنه يجوز تأخير بيانه؛ فإذا بينه بالثاني؛ وجب حمله عليه. واحتج بأن الحكم الذي يفيده العام من المسميات طريقه القطع؛ فجاز إثبات النسخ لما تقدم به كالخاص المنفرد. والجواب: أنا لا نسلم أنه يفيد جميع المسميات من طريق القطع؛ وإنما يفيد ذلك من طريق الظاهر، ويجوز أن يكون المراد ما عداه. واحتج بأن ما اتفق على استعماله قد صار مقطوعًا عليه؛ فوجب أن يسقط ما طريقه الاجتهاد كما يسقط خبر الواحد إذا عارضه نص التواتر.
والجواب عنه من وجوه: أحدها: أنه لم يخالف في الخضروات، وفيما دون خمسة أوسق، وأهل العلم على خلافه؛ حتى خالفه أصحابه، وإذا كان كذلك؛ وجب القول بالخاص؛ لأن عليه عامة أهل العلم. ثم لا نسلم أنه متفق على استعماله؛ لأن ما قابله الخاص غير مستعمل عندنا. ولأنا أجمعنا على أن قوله: "ليس فيما دون خمس 1 أواق من الورق 2 صدقة" 3 يقضي به على قوله:
"في الرقة 1 ربع العشر 2"؛ فوجب أن يقضي بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق 3 من التمر صدقة" 4 على قوله: "فيما سقت السماء العشر"، على أن أبا حنيفة ناقض فيه؛ لأنه يقضي بالنهي عن أكل الطافي على قوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان"، وهذا متفق على استعماله، والنهي عن أكل الطافي مختلف فيه.
مسألة إذا تعارض خبران كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه آخر
مسألة إذا تعارض خبران كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه آخر مدخل ... مسألة 1: إذا تعارض خبران [86/أ] كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه آخر: هما سواء، مثاله: قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها"، وقوله: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس"؛ الأول خاص في الفائتة، عام في الأوقات، والثاني خاص في الوقت، عام في الصلوات. وقد نص على هذا أحمد رحمه الله في رواية حنبل وصالح فقال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"، والنهي من النبي على الجملة، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها"؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد العصر، وإن كان على جملته ما صلى أحد بعد العصر صلاة فائتة؛ فيستعمل كل واحد منهما على وجهه. وهو قول أصحاب الشافعي. وقال أصحاب أبي حنيفة: يقدم الخبر الذي فيه ذكر الوقت؛ ذكره الجرجاني عن أصحابه؛ لأن الخلاف واقع في الوقت، وجواز فعل الصلاة، فقدم ما فيه ذكر الوقت لتناوله المقصود.
دليلنا
دليلنا: أن كل واحد منهما قد تناول ما وقع الاختلاف فيه؛ فإن الخلاف واقع في الوقت، وجواز فعل الصلاة فيه واقع في جواز فعل الصلاة في الوقت؛ فكل واحد منهما خاص فيما فيه اختلاف من وجه، وعام من وجه، وعام فيما فيه اختلاف من وجه؛ فتساويا.
مسألة تفصيل القول فيما لو تعارض نصان أحدهما عام والآخر خاص
مسألة تفصيل القول فيما لو تعارض نصان أحدهما عام والآخر خاص مدخل ... مسألة 1: إذا تعارض آيتان أو خبران أحدهما عام والآخر خاص: والخاص موافق للعام، أو أحدهما مطلق والآخر مقيد؛ فهل يقضي بالعام على الخاص، والمطلق على المقيد؟ فهو على أربعة أوجه:
الوجه الأول
الوجه الأول ... أحدهما: أن يكون الحكم والسبب واحدًا، مثل أن يقول: في كفارة القتل مؤمنة، ثم يذكر القتل في موضع آخر؛ فيقول: تحرير رقبة؛ فإنه يبني المطلق على المقيد، ويتعلق الحكم بالزائد، ويكون بمنزلة أن يرد خبران في حكم واحد وسبب واحد، وأحدهما زائد، فالأخذ بالزائد أولى، كما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، ولم يصل"1 ونقل الآخر: "أنه دخل البيت وصلى"2؛ فكان الأخذ بالزائد أولى.
فإن كان الحكم والسبب واحدًا؛ إلا أن أحدهما خاص والآخر عام، ولم يكن للخاص دليل؛ فإن الخاص داخل في العام، وهو بعض ما شمله العموم، ويكون ما تناوله الخاص ثابتًا بالخاص والعام، وما زاد على ذلك ثابتًا بالعام دون الخاص. مثاله: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أفطر في رمضان؛ فعليه ما على المظاهر" 1، وقضى في الذي وقع على امرأته بعتق رقبة أو صيام
شهرين؛ فغلب وجوب الكفارة في حق ذلك الواطئ بالخبرين جميعًا، وثبت وجوب الكفارة فيما عدا ذلك الواطئ بالخبر [86/ب] العام. وإن كان له دليل خطاب؛ فإنه يقضي بدليل خطابه على العام؛ فيخرج منه ما تناوله دليله، وذلك مثل قوله عليه السلام: "في أربعين شاة شاة"، مع قوله: "في سائمة الغنم زكاة" 1؛ لأن دليل الخطاب بمنزلة النطق في وجوب العمل به، والنطق الخاص يقضي به على النطق العام، وكذلك ههنا في قوله عليه السلام: "إذا كان الماء قلتين" 2،
لم ينجسه شيء1"، مع قوله: "الماء طهور، لا ينجسه إلا ما غير
..............................................................................................................
طعمه أو ريحه" 1؛ فإنه يحمل على القلتين؛ فيقضي بدليل خطابه عليه، فيخرج ما دون القلتين منه.
فإن قيل: فقد ناقضتم في ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع ما لم يقبض"، وروي أنه قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه"؛ فكان يجب أن يقضي بدليل خطابه على اللفظ العام، ويخرج منه ما عدا الطعام. قيل: تخصيص العام بدليل الخطاب واجب، إلا أن يمنع منه دليل أقوى من دليل الخطاب؛ فيسقط ويبقى دليل الخطاب، ويجب حمل العام على عمومه، وهذا دليل أقوى من دليل الخطاب، وهو التنبيه؛ فإن التنبيه آكد من الدليل؛ لأنه مجمع عليه، ودليل الخطاب مختلف فيه، فوجب ترك الدليل للتنبيه، ووجه التنبيه: أن الطعام إذا لم يجز بيعه قبل القبض مع حاجة الناس إليه؛ فلأن لا يجوز غيره أولى. موجود في حال تلف السلعة، والقياس يترك له دليل الخطاب؛ لأنه يجري مجرى التخصيص؛ لأنه إسقاط بعض حكم اللفظ؛ فإن اللفظ يوجب إثباتًا ونفيًا؛ فإسقاط أحدهما بالقياس بمنزلة التخصيص بالقياس.
ولأن القياس يقدم على دليل الخطاب؛ لأن ترك دليل الخطاب يجري مجرى تخصيص اللفظ العام، والقياس يدل على أن غير الطعام بمنزلته؛ لأنه إنما لم يجز بيع الطعام؛ لأنه لم يتعين بالعقد، وهذه العلة موجودة في غير الطعام. وفي معنى هذا قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة؛ فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار" 1؛ لم يقض2 بدليل خطابه على عموم قوله: "إذا اختلف المتبايعان؛ فالقول قول البائع" 3 ولم يختص ذلك بقيام السلعة؛ لأن التنبيه مقدم على دليل الخطاب؛ لأنه متفق عليه، ووجه التنبيه: أنه إذا أمر بالتحالف، وهناك سلعة قائمة، يمكن أن يستدل بها على صدق أحدهما؛ فإذا كانت تالفة، لا يمكن الاستدلال على صدق أحدهما أولى. ولأن القياس يوجب ترك دليل الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أمر بالتحالف؛ لأن كل واحد منهما مدعٍ ومدعًى عليه، وهذا المعنى
الوجه الثاني
الوجه الثاني: إذا كان الخبر مختلفًا، مثل صيام وإطعام، صيام وصلاة؛ فإنه لا ينبني المطلق على [87/أ] المقيد، سواء كان السبب واحدًا، كالكفارة فيها صيام شهرين متتابعين وإطعام مطلق، أو كان مختلفًا، مثل الصيام يقيده بالبالغ، والزكاة أطلقها؛ فإنه لا يبنى المطلق على المقيد. ولهذا قال أحمد رضي الله عنه في رواية ابن منصور: إذا أخذ في الصوم، فجامع بالليل؛ يستقبل، فإن أطعم بوطء شيء؛ ليس هذا من نحو هذا. قال أبو بكر من أصحابنا: لأنه لم يشترط في الإطعام المسيس كما شرط في الأولين؛ فما شَرَطَه على شرطه، وما أطلقه على إطلاقه. والوجه في ذلك أنه إنما يحمل المطلق على المقيد، إذا كان الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين؛ إلا أنه مطلق في أحدهما مقيد في الآخر، وهذا معدوم في الجنسين. ولأن المقيد مع المطلق بمثابة الخاص مع العام والمفسر مع المجمل، وهناك يجب أن يكون كل واحد من جنس الآخر، كذلك ههنا.
الوجه الثالث
والوجه الثالث: إذا كان الخبر واحدًا، والسبب مختلفًا؛ لكن [قيد] في موضعين بقيدين مختلفين، وأطلق في الثالث، كالصيام، قيد بالتتابع في الكفارة: فقال: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 1، وقيل: بالتفريق في التمتع،
فقال: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 1، وأطلق في كفارة الأيمان، فقال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 2، وفي رمضان، فقال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ} 3؛ ولهذا المطلق مثلان مقيدان مختلفان؛ فإنما يحمل المطلق على إطلاقه، ولا شيء على واحد منهما؛ لأنه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر. وإنما أوجب أصحابنا التتابع في صيام كفارة اليمين، بدليل، لا أنه4 يحمله على المقيد. وقد بين أحمد رحمه الله هذا في رواية صالح فقال: "وإن لم يكن فصيام5 ثلاثة أيام متتابعة" في قراءة ابن مسعود. فبين أنه صار إلى التتابع في ذلك لهذا الدليل، وهي قراءة ابن مسعود6.
الوجه الرابع
الوجه الرابع: إذا كان الجنس واحدًا والسبب مختلفًا، كالرقبة في كفارة القتل والظهار؛ فالرقبة جنس واحد، قيدت بالإيمان في كفارة القتل، وأطلقت في كفارة الظهار، وهما سببان مختلفان. وكما قيد الأيدي إلى المرافق في موضع، وهو الغسل، وأطلقها في موضع، وهو المسح في التيمم؛ فهذا على روايتين:
إحداهما يبنى المطلق على المقيد من طريق اللغة، وقد أومأ أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب فقال: أحب إلي أن يعتق في الظهار مثله. واحتج من قال بذلك: بقول1 الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، وقال في موضع آخر: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 3، ولم يذكر عدلا، ولا يجوز إلا عدل، كذلك يكونون4 مسلمين، وظاهر هذا أنه بني5 المطلق على المقيد من طريق اللغة، كما بني الإطلاق في العدالة على المقيد منها. وبهذه الرواية [87/ب] قال أصحاب مالك6. وفيه رواية أخرى: لا يبنى المطلق على المقيد، ويحمل المطلق على إطلاقه. أومأ إليه أحمد رضي الله عنه في رواية أبي الحارث فقال: التيمم ضربة للوجه والكفين، فقيل له: أليس التيمم بدلا من الوضوء، والوضوء إلى المرفقين؟ فقال: إنما قال الله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} 7، ولم يقل: إلى المرفقين، وقال في
الوضوء: {إِلَى الْمَرَافِقِ} 1، وقال: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2 فمن أين تقطع يد السارق؟ من الكف. وظاهر هذا: أنه لم يبن3 المطلق في التيمم على المقيد في الوضوء، وحمله على إطلاقه. وهو اختيار أبي إسحاق بن شاقلا، ذكره فيما وجدته بخطه معلقًا فقال: للمظاهر أن يطأ قبل الإطعام، وليس له ذلك في الصيام والعتق، وقال: فإن قيل: المطلق يحمل على المقيد. فقال: إذا كان المذكور واحدًا في حكم واحد، كالشاهدين؛ فأما مثل رقبة القتل، ورقبة الظهار؛ فلأنهما حكمان، كذلك الإطعام والصيام؛ لأنهما جنسان، بلى لو ذكر الإطعام في موضع فأبهمه وذكره في موضع آخر فقيده؛ حملنا المطلق على المقيد. وهو قول أصحاب أبي حنيفة. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: مثل قولنا، وأنه يبنى المطلق على المقيد من طريق اللغة. ومنهم من حمل المطلق على المقيد بالقياس عليه؛ لا من جهة اللغة وهو قول الأكثر منهم. وهو اختيار أبي بكر بن الباقلاني. وهكذا الاختلاف في العام والخاص، نحو قوله: "فيما سقت السماء
العشر" عام في القليل والكثير، وقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" خاص في المقدار؛ فهل يحمل العام على الخاص، على ما حكينا من الاختلاف في حمل المطلق على المقيد؟ وقد قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل وصالح: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"؛ فهو جملة1، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها"؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد العصر.
دليلنا
دليلنا: أن العرب تطلق الحكم في موضع، وتقيده في موضع، والمراد بالمطلق المقيد. يدل عليه قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} 1. وكذلك قوله تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} 2 وتقديره: والحافظات فروجهن3، والذاكرات الله كثيرًا. وكذلك قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 4 وتقديره: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد.
وكذلك قول الشاعر: [88/أ] نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف1 يعني: بما عندنا راضون2. وقال آخر: وما أدري إذا يممت أرضًا ... أريد الخير، أيهما يليني3؟
يعني: أريد الخير، وأتوقى الشر. فإن قيل: إنما حملنا المطلق ههنا على المقيد؛ لأن أحد الكلامين غير مستقل بنفسه ولا مفيد؛ لأن قوله تعالى: {وَالذَّاكِرَات} ابتداء لا خبر له وكذلك قوله: "عين اليمين"، وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَات} ، وليس كذلك في مسألة الخلاف؛ لأن المطلق مقيد1 مستقل بنفسه؛ لأن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِم} 2 يفيد إطلاقه: إخراج ما يتناوله اسم الرقبة. قيل: لا فصل بينهما؛ وذلك أن قوله: {وَالذَّاكِرَاتِ} مفيد أيضًا؛ فإنه يحمل على عمومه في ذكر الله وأنبيائه ورسله، وغير ذلك. وكذلك قوله: {عَنِ الْيَمِينِ} يحمل على عمومه في كونه قعيدًا3 أو غير قعيد؛ لأن قعيدًا صفة زائدة. وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} يحمل على عمومه في الابتداء بالنفس والنقصان منها. فإن قيل: إنما وجب حمل4 المطلق هناك على المقيد بالعطف؛ فإن العطف يجعل المعطوف بمنزلة المعطوف عليه، كما إذا قال: "خرج
زيد وعمرو"، يكون تقديره: "وخرج عمرو"؛ فأما ههنا؛ فلم يعطف أحدهما على الآخر. قيل: العطف إنما حمل على المعطوف لإطلاقه، لا لأجل حروف العطف. يبين صحة هذا: أنه لو قيد العطف بحكم آخر، فقال: والحافظات ألسنتهن؛ لم يجب حمله على المعطوف في حفظ الفرج؛ لأنه مقيد1 بغيره2. وكذلك لو قال: والذاكرات رسل الله؛ لم يجب حمله على ما قبله من ذكر الله، لأجل تقيده3؛ فلما حمل على ما قبله عند الإطلاق؛ علم أن الموجب لذلك: الإطلاق، لا حرف العطف. يبين صحة هذا: أنه قد يخالف العطف المعطوف4 عليه في الحكم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} 5، معلوم أن صلاة الملائكة غير صلاته. وقد قيل: إنه لا يجوز أن يكون حمل عليه لهذه العلة، ألا ترى أن العموم يحمل على الخصوص إذا كانا في حكم واحد، نحوه قوله: "فيما سقت السماء العشر" هو عام في القليل والكثير، وقوله: "إذا كان خمسة أوسق" خاص؛ فيحمل عليه، وإن لم يكن عطفًا عليه، كذلك ههنا يجب أن يكون الحمل عليه، لا من جهة العطف.
فإن قيل: لو كان هذا مقتضاه في اللغة؛ لوجب إذا انتفى هذا المعنى بلفظ يفارق المطلق، أن يكون مخرجًا له عن حقيقة كالعموم الذي يخرج عن موضوعه بدليل. قيل: [88/ب] العموم إذا دخله التخصيص؛ لا يصير مجازًا عندنا. ويبين صحة هذا: أن الصحابة جعلت القرآن بمنزلة الآية الواحدة، يدل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال للخوارج1 -لما احتجوا عليه بآية من القرآن: "من فاتحته إلى خاتمته"، ومعناه: يجب أن يلتزم جميع ما فيه. وأيضًا: فإن في بناء الخاص على العام جمعًا بين الخبرين وأخذًا بهما؛ فكان أولى من اطراح أحدهما، وفيما ذكرنا دلالة على من قال: لا يحمل المطلق على المقيد، وعلى من قال: يحمل عليه بالقياس. واحتج من قال: لا يحمل عليه:
بأنه المطلق المراد به معلوم بظاهره؛ فوجب أن يحمل عليه، ولا يعدل به عنه إلا بدليل، والخاص ليس بدليل؛ لأن التخصيص إنما يقع بما يخالف الظاهر ويعارضه؛ فأما بما يوافقه فلا، والمقيد يوافق المطلق؛ فوجب أن لا يخص به. والجواب: أن المقيد يخالف المطلق ويعارضه؛ لأن تقييده يدل على أن ما عداه بخلافه، وإذا كان كذلك فقد خصصناه بما عارضه. وجواب آخر، وهو: أن المطلق وإن كان معلومًا؛ فإنه معلوم من حيث الظاهر، والخاص معلوم من حيث القطع؛ فيجب أن يحمل عليه، كالخاص والعام إذا تعارضا في حكم واحد؛ فإنه يقضى بالخاص عليه؛ لأنه مقطوع عليه، وإن كنا نعلم أن العام معلوم ظاهره؛ فكان يجب أن يتعارضا فيسقطا، أعني: العام والخاص؛ لأن كل واحد منهما معلوم بظاهره، ولما قضي بالخاص على العام، كذلك ههنا. وقولهم: إن التخصيص إنما يقع بما يخالف الظاهر ويعارضه، وكذا نقول؛ إلا أن دليل الخطاب الخاص يعارض الظاهر عندنا ويخالفه، وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في دليل الخطاب. واحتج: بأن شروط الإيمان في كفارة الظهار زيادة في النص، وذلك نسخ؛ والنسخ لا يجوز بالقياس ولا بخبر الواحد، قالوا: والذي يدل على أنه نسخ: أن النسخ هو حظر ما أباحته الآية، وإباحة ما حظرته؛ فلما كان شرط الإيمان في رقبة الظهار يوجب حظر ما أباحته الآية من جوازها عن الكفارة؛ وجب أن تكون هذه الزيادة نسخًا. والجواب: أن هذين ليس بزيادة؛ وإنما هو تخصيص ونقصان؛ لأن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1 شائع في الجنس، مؤمنة وكافرة،
وسليمة ومعيبة. وقوله: لا تجزي إلا مؤمنة نقصان؛ فهو كما لو قال: أعط درهمًا من شئت من هؤلاء العشرة؛ فإذا قال: إلا زيدًا فلا تعطه؛ هذا نقصان وتخصيص، كذلك ههنا. وعلى أنها لو كانت زيادة في النص؛ [89/أ] لم تكن نسخًا؛ وإنما هي زيادة حكم؛ لأن النسخ هو الإسقاط. واحتج: بأن الخصوص إنما يرد على الأعيان المنطوق بها، دون المعاني التي لم ينطق بها، وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} هو المنطوق بها؛ فأما صفاتها مؤمنة وكافرة، وسليمة ومعيبة، فما تناولها. والجواب: أن التخصيص ما دخل إلا على الأعيان؛ لأن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} شائعة في الجنس أي رقبة كانت؛ فإذا قلنا: إلا مؤمنة؛ كان تخصيص الأعيان، فكأنه أخرج من هذا الشائع في جنسه عينًا موصوفة، فالتخصيص دل على الأعيان. ومثال هذا: لو قال: أعط درهمًا من شئت من هؤلاء العشرة إلا الفقيه منهم؛ فإنه قد أخرج منهم واحدا موصوفا، كذلك ههنا، وإذا قال: أعتق رقبة إلا كافرة؛ أخرج رقبة موصوفة. واحتج: بأن قياس المنصوصات بعضها على بعض لا يجوز؛ لأنها قد استغنت بدخولها تحت النص على القياس على غيرها، ولهذا لم يجز قياس التيمم على الوضوء في إيجاب مسح الرأس والقدمين، ولا قياس السارق على المحارب في قطع رجله، ولا قياس كفارة القتل على الظهار في إيجاب الإطعام؛ لأن كل واحد من ذلك منصوص عليه، كذلك ههنا. والجواب: أن هذا ليس بقياس المنصوص عليه على المنصوص؛ وإنما هو حمل المسكوت عنه على المنصوص عليه.
وإنما لم يحمل التيمم على الوضوء في إيجاب [مسح] الرأس والقدمين؛ لأنهما غير مذكروين في التيمم؛ وإنما يحمل المطلق على المقيد إذا كان الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين إلا أنه مطلق في أحدهما مقيد في الآخر كالرقبة هي مذكورة في الظهار والقتل؛ إلا أنها مقيدة في أحدهما، مطلقة في الآخر، وكذلك الإطعام غير مذكور في كفارة القتل. وكذلك قطع الرجل غير مذكور في قطع السارق؛ وإنما اعتبرنا وجود الحكم المختلف فيه في الموضعين؛ لأن المطلق والمقيد كالفرع والمقيد كالأصل. واحتج: بأنه ليس حمل المطلق على المقيد بأولى من حمل المقيد على المطلق. والجواب: أن في بناء المقيد على المطلق إسقاط ما تناوله النص، وبناء المطلق على المقيد تخصيص، والتخصيص جائز، والإسقاط غير جائز؛ فهو كما قلنا في العموم والخصوص: يخص العموم، ولا يسقط الخصوص. وهكذا الجواب عن أن الرقبة لو كانت مفسرة؛ لم يجز البناء، كذلك إذا كانت مطلقة؛ لأنها إذا كانت مقيدة، كان في البناء إسقاط النص، وهذا معدوم في بناء المطلق على المقيد. فإن قيل: أليس قد قلتم: إذا كان أول الآية عامًا وآخرها خاصًا، أو كان [89/ب] أولها مطلقًا وآخرها مفسرًا؛ لم تقضوا بآخرها على أولها، نحو [89/ب] قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1 ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 2، حملتم أولها
على عمومه في البوائن والرجعيات، ولم تخصوه بآخرها في الرجعيات. قيل: هذا ليس من قبيل1 المطلق والمقيد؛ لما بينا أن من شرطه أن يكون الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين، وهذا غير مذكور في آخر الآية، ولا هو أيضًا من قبيل الخاص والعام بآيتين؛ لأنه إذا قضينا بآخرها على أولها؛ منعنا2 صيغة العموم في أولها، وإذا كان آيتين؛ لم يمنع العموم من أحدهما. واحتج: بأن حمل العام على الخاص إهمال العام؛ لأنه يقتضي الاستغراق؛ فإذا خصصناه أهملناه. والجواب: أنه ليس بإهمال؛ وإنما هو جمع، ولا يمكن إلا على هذا الوجه. واحتج من قال: يحمل عليه بالقياس. بأن هذا تخصيص في الحقيقة؛ لأنه إذا قال: أعتق رقبة؛ فإن هذا لفظ شائع عام في الرقاب كلها؛ فإذا قلنا: إن الرقبة الكافرة لا تجزي؛ خصصنا بعض الرقاب، وأخرجناها عن كونها مجزئة؛ فيكون ذلك تخصيصًا للعموم، والتخصيص جائز بالقياس. والجواب: أنه تخصيص كما ذكرت؛ ولكن ليس يجب أن يكون التخصيص بالقياس، بل يجوز أن يكون التخصيص، وبلفظ خاص، كما كان تخصيص العموم بالخصوص إذا تعارضا في حكم واحد. واحتج: بأن قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3
لا يصلح لقوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1؛ فلم يجز أن يكون أحدهما قاضيًا على الآخر بلفظه: ولا مشاركًا له من جهة العطف؛ فوجب اعتبار المعنى. والجواب: أن قوله: {وَالذَّاكِرَاتِ} 2، لا يصلح، لقوله: {وَالذَّاكِرِينَ} ومع هذا فقد قضى بأحدهما على الآخر. وكذلك قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 3. وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} 4 لا يصلح، لقوله: {مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} ، وقد منعنا أن يكون الموجب لذلك حرف العطف، وبينا أن الموجب لذلك الإطلاق، بدليل أنه لو قيد العطف؛ لم يجز حمله على المعطوف عليه.
مسألة أقل الجمع المطلق ثلاثة
مسألة أقل الجمع المطلق ثلاثة مدخل ... مسألة 1: أقل الجمع المطلق ثلاثة: وعلى هذا الأصل قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل في رجل وصى أن يكفر عنه فقال: أقل ما يكفر ثلاثة أيمان. قال الخرقي فيمن قالت له زوجته: "اخلعني على ما في يدي من الدراهم"؛ ففعل، فلم يكن في يدها شيء: لزمها ثلاثة دراهم2.
وقال رحمه الله في رواية صالح: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 1؛ فيلزمه أن لا [90/أ] يحجب بالأخوين؛ لأنه قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} ، والإخوة ثلاثة. وبهذا قال مالك2 وأصحاب أبي حنيفة3 وأكثر أصحاب الشافعي4. وحكى عن أصحاب مالك5، وقوم من النحويين منهم علي بن عيسى6،
وأبو بكر ابن الباقلاني1، وبعض الشافعية: أقله اثنان2.
دليلنا
دليلنا: إجماع الصحابة، روي عن عبد الله بن عباس أنه قال لعثمان بن عفان رضي الله عنهما: أن الأخوين لا يردان الأم إلى السدس؛ إنما قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 1، وليس أخوان إخوة في لسان قومك؛ فقال عثمان: لا أستطيع2 أمرًا كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار3. وهذا يدل على أن أقل الجمع ثلاثة؛ لأن ابن عباس قاله، وأقره عثمان عليه؛ وإنما صرفه عنه بالإجماع الذي ذكره.
فإن قيل: فقد روي عن زيد بن ثابت: أقل الجمع اثنان1. قيل: إن صح هذا؛ فيحتمل أن يكون معناه، أن الاثنين في حكم الجمع في حجب الأم. وأيضًا: فإن أسماء الحقائق لا تنتفي عن مسمياتها؛ فلو كان اسم الجمع يقع على الاثنين حقيقة؛ لم يحسن أن يقول القائل: ما رأيت رجالًا؛ وإنما رأيت رجلين؛ فلما صح نفي ذلك؛ دل على أن الرجلين إذا سميا رجالًا كان مجازًا، وكان بمنزلة قوله: ما هذا أبي وإنا هو جدي، وما هذا بابني وإنما هو ابن ابني. وأيضًا: فإن أهل اللغة فرقوا بين التوحيد والتثنية والجمع، وجعلوا للإفراد بابًا وللتثنية بابًا وللجمع بابًا، ولا يخلو لهم كتاب من هذا الترتيب، وإذا كان كذلك؛ وجب أن يختص الجمع بما زاد على الاثنين، كما اختصت التثنية بما زاد على الواحد. وأيضًا: فإنهم إذا أرادوا بيان عدد الجمع ومقداره؛ بدءوا من الثلاثة، فقالوا: "ثلاثة رجال"، و"أربعة رجال" ولم يقولوا: "اثنان رجال"، وقالوا: "جماعة رجال"، ولم يقولون: "جماعة رجلين"؛ فدل هذا على ما ذكرنا.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بقوله تعالى لموسى وهارون: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ} 1 ولم يقل: معكما؛ فدل على أن معنى اللفظين واحد. والجواب: أن الله تعالى إنما أراد بذلك: موسى وهارون، ومن آمن معهما من قومهما. واحتج: بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 2؛ فعبر عن الإخوة بالأخوين. والجواب: أن المراد به: أيها المؤمنون أنتم إخوة، يعني كل واحد منكم أخ لصاحبه، فأصلحوا بين كل أخ قاتَلَ أخاه. ويحتمل أن يكون المراد بالأخوين: الطائفتين [و] الجماعتين [90/ب] والقبيلتين لأن اسم الأخوين يقع على ذلك. قال الشاعر: فالْحَقْ بحلفك في قضاعة إنما ... قيس عليك وخندف أخوان3ِ فسمى القبيلتين أخوين، فيصير تقدير الآية: أيها المؤمنون أنتم الإخوة، فأصلحوا بين كل طائفتين من المؤمنين اقتتلوا. وعلى أنه لا حجة في ذلك؛ لأنه عبر عن الإخوة بالأخوين. واحتج بقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 4؛ فجعلهما طائفتين، ثم أضاف الفعل إليهما بلفظ الجمع. والجواب: أن الطائفة اسم للجماعة، بدلالة قوله: {وَلْتَأْتِ
طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} 1، ولو كانت الطائفة واحدًا، لم يقل: {لَمْ يُصَلُّوا} ؛ فصار المراد به: وإن جماعة من المؤمنين اقتتلوا. واحتج بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 2؛ وإنما هما قلبان. والجواب: أن هذا ليس مما نحن فيه بشيء3؛ لأن كل شيء يكون بعضًا لشيء؛ فإن أهل اللسان يعبرون عنه في حال التثنية بلفظ الجمع؛ ليفصلوا به بين ذلك وبين الشيء الذي ليس بعضًا من المضاف إليه، يقولون للاثنين: هذه رءوسكما، وهذه وجوهكما؛ ألا ترى أن الشيء إذا لم يكن بعضًا من المضاف إليه؛ لم يصح ذلك فيه؛ ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: هذه أثوابكما4، وهذه دوركما، ويريد به ثوبيهما وداريهما، ولكن يقول: هذان ثوباكما وداراكما. وقيل فيه: إنه لما كان أكثر ما في البدن من الجوارح اثنين اثنين، أقيم القلب أيضًا مقام عضوين؛ فصار في التقدير: كما لهما5 أربعة قلوب؛ فلهذا صح أن يقول: {قَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} . واحتج بقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 6؛ فأضاف الفعل إليهما بلفظ الجمع.
والجواب: أن الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، يقال: رجل خصم، ورجال خصم، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون ذلك عبارة عن جمعين. فإن قيل: كان جبريل وميكائيل. قيل: يجوز أن يكون مع كل واحد منهما ملائكة، وهكذا الجواب عن قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 1؛ لأنه يجوز أن يكون المراد به الجماعة, وتكلم الواحد منهم، وهو القائل منهم: {هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 2، يبين ذلك قوله: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} 3، ولو كانا اثنين لقال: بغى أحدنا على الآخر. ولم يقل: بغى بعضنا على بعض؛ لأن ذلك إنما يقال: في الجماعتين والقبيلتين. واحتج بقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إلى قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} 4، فأضاف الفعل إليهما في أول الآية بلفظ التثنية، وفي آخرها [91/أ] بلفظ الجمع. والجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد به: حكم داود وسليمان وقومهما؛ لأنه تعالى قال: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . ويحتمل أن يكون المراد به: الحكم المشروع لأمة داود، كما يقال: هذا حكم المسلمين، يريد به: الحكم المشروع لهم. وقيل: المراد به: حكم الأنبياء، والكناية عن جماعتهم.
وقيل: إنه لا بد من محكوم له، فيكون داود وسليمان والمحكوم له، وهو صاحب الكرم؛ لأن الحكم يضاف إلى الحاكم بفعله، وإلى المحكوم له باستحقاقه؛ ولذلك يجوز له مطالبة الحاكم به، فلهذا قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} . فإن قيل: لم يجر ذكر المحكوم له؛ وإنما جرى ذكر الحاكمين. قيل: ذكر الحاكمين يتضمن ذكر المحكوم له، فكني عن الجميع. وقيل: إنه على سبيل التفخيم والتعظيم، كما قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، وهو واحد لا شريك له، وقال: {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونََ} 1 وأراد به عائشة رضي الله عنها2. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 3، يعني عائشة. واحتج بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 4 وكان الاثنان في حكم الثلاثة. والجواب: أن ظاهر الآية كان يقتضي أن لا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا ثلاثة إخوة؛ إلا أنا عدلنا بالآية عن ظاهرها لقيام الدلالة. واحتج بقوله تعالى في يوسف وأخيه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} 5.
والجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد به: يوسف وأخوه الذي وجدت السقاية في رحله، والأخ الذي يخالف وقال: {لَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} 1. ويحتمل أن يكون أطلق لفظ الجمع مجازًا، كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} 2، وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ} 3 قيل: إنه كان واحدًا. واحتج بقوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" 4.
الجواب: أنه قصد به بيان حكم الجمع في الصلاة، وأنه يحصل بالاثنين، وإن لم يكن في اللغة جميعًا، ولم يقصد به بيان الجمع؛ لمشاركة الصحابة له في معرفة الأسماء اللغوية. واحتج: بأن الجمع معناه: الضم؛ فإذا ضم واحد إلى واحد؛ وجد معنى الجمع. والجواب: أن الاشتقاق لا يدل على حقيقة الاسم؛ لأن اسم الدابة مشتق من دب يدب على الأرض، ولا يسمى الآدمي دابة، وسائر ما يدب على الأرض دابة حقيقة؛ لوجود المعنى الذي اشتق منه. وكذلك سميت الخابية1؛ لما يخبأ فيها، ولا يسمى الصندوق خابية، وإن كان يخبأ فيه. وجواب آخر، وهو: أن الضم قد يوجد في الأعداد المختلفة، والأجسام المتقاربة، ولم يكن ذلك [91/ب] موجبًا لكون جميع ما ضم في حكم الشيء الواحد. وهكذا الجواب عن قولهم: إن الواو حقيقتها الجمع.
واحتج: بأن الاثنين قد يخبران عن أنفسهما بلفظ الجمع، فيقولان: فعلنا كذا وكذا. والجواب: أنه باطل بالواحد يخبر عن نفسه بلفظ الجمع، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1، على أنه إنما يخبر بذلك الاثنان عن أنفسهما؛ لأن الإضافة إليهما كافية في التمييز، يعلم2 بهذا أن هذا اسم للاثنين؛ فأما حالة الإطلاق؛ فليس هناك ما يقع به التمييز لتعرفه بلفظ التثنية والجمع. ثم نعارض هذا بمثله، فنقول: قد فرقوا بين الاثنين والجماعة في المواجهة؛ فقالوا: أنت وأنتما وأنتم، وكذلك: هو3 وهما وهم، فسقط ما قالوه.
مسائل الإستثناء
مسائل الإستثناء مدخل ... مسائل الاستثناء: 1 الاستثناء: كلام ذو صيغ2 محصورة، تدل على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول3.
ولا يدخل على هذا التخصيص وأدلته المنفصلة، أنها ليست باستثناء وإن كان هذا المعنى موجودًا فيها؛ لأن تلك الأشياء ليست تختص بالقول، ألا ترى أن التخصيص يكون تارة بقول صاحب الشريعة، وتارة يكون بدليل العقول، وليس ذلك بقول؟ ولا يلزم عليه القول المتصل بلفظ العموم، نحو قولهم: "رأيت المؤمنين، وما رأيت زيدًا، ولم أر عمرًا وخالدًا"؛ لقولنا: "كلام ذو صيغ محصورة". وحروف الاستثناء محصورة، وليس الواو منها.
مسألة الاستثناء إنما يصح إذا اتصل بالكلام
مسألة الاستثناء إنما يصح إذا اتصل بالكلام مدخل ... مسألة 1: الاستثناء إنما يصح إذا اتصل بالكلام: فأما إذا انقطع فإنه لا يعمل. وقد ذكره الخرقي في كتاب الإقرار2 فقال: "ومن أقر بعشرة دراهم وسكت3 سكوتًا يمكنه4 الكلام فيه، ثم قال: زيوفًا، أو صغارًا، أو إلى شهر؛ كانت عشرة وافية جيادًا5 حالة". وقد اختلفت الرواية عنه في الاستثناء في اليمين6.
فقال في رواية أبي طالب: إذا حلف بالله، وسكت قليلًا، ثم قال: إن شاء الله؛ فله استنثاؤه؛ لأنه يكفر. وكذلك نقل المروزي عنه رضي الله عنه: إذا كان بالقرب ولم يختلط كلامه بغيره. وظاهر هذا جواز الفصل بزمان يسير ما دام في المجلس. وقد نقل أبو النصر1 وأبو طالب عن أحمد رحمه الله: ما يدل على أنه لا يصح إذا فصل. وهو اختيار الخرقي؛ لأنه قال: "إذا لم يكن بين اليمين والاستثناء فصل2". وهو الصحيح. وبه قال جماعة الفقهاء والمتكلمين. وحكي عن عبد الله بن عباس: جواز الاستثناء، وإن كان منطقعًا.
دليلنا
دليلنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر [92/أ] عن يمينه" 1، ولو
كان الاستثناء يرفعهما بعد مدة، كان الخلاص به أسهل من الحنث والكفارة؛ فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم خلاصه منها بالحنث والكفارة؛ ثبت أنه لا خلاص له بغير ذلك. ولأن الاستثناء جارٍ1 مجرى الشرط؛ لأنه إذا انفصل عما قبله لم يعد، ألا ترى أنه إذا قال: اضرب زيدًا أو أعطه درهمًا، ثم قال بعد يوم: إذا قام، أو أكل؛ لم يعد ذلك، ولم يكن شرطًا صحيحًا. كذلك قوله: له عشرة، أو قال: والله لا أكلت الخبز، ثم قال بعد شهر: يومي هذا، لم يقبل2 ذلك؛ فلم يكن صحيحًا. ويفارق هذا النسخ والتخصيص؛ لأن لفظ النسخ ولفظ التخصيص
مقيد بانفراده؛ فلهذا جاز أن يتأخر. ولأن تصحيحه يفضي إلى أن لا يستقر حكم الخطاب أبدًا، ولا يعتقد وجوب ما أمر به الرسول ويتعبد به؛ لجواز أن يعقبه باستثناء يرفعه، وهذا ظاهر الفساد. ويفارق هذا النسخ؛ لأن النسخ يرفع الحكم حال وجوده، بعد أن سبق اعتقاد الحكم وثبت قبل ورود النسخ، فلا يرفع الحكم حال وجوده؛ فلا يرفع حكم الخطاب بكل حال. والاستثناء إذا ورد؛ تبينا أنه لم يثبت للخطاب حكم فيرفعه بكل حال. ويفارق هذا التخصيص؛ لأنه يجوز تأخيره عن وقت الخطاب1 ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة؛ فلا يؤدي إلى إسقاط حكم اللفظ على التأبيد، والاستثناء على قول غيره يرد أبدًا، فيرفع حكم الخطاب.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لأغزون قريشًا"، ثم سكت ساعة ثم قال: "إن شاء الله" 1؛ فلولا صحة الاستثناء لم يذكره.
والجواب: أن قوله: "إن شاء الله"؛ لم يكن على وجه الاستثناء؛ وإنما كان على معنى أن الأفعال المستقبلة تقع بمشيئة الله تعالى؛ ولهذا قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1. واحتج: بأنه معنى يرفع اليمين؛ فجاز أن يقع منفصلًا كالكفارة. والجواب: عن الكفارة ما ذكرناه في النسخ، وهو أن تأخر الكفارة لا يرفع حكم اليمين بكل حال، والاستثناء يرفع حكمها، وإن قاسوا على النسخ وعلى التخصيص؛ فالكلام عليه ما ذكرنا. وفيما ذكرنا من الخبر والشرط دلالة على من أجاز ذلك في المجلس؛ لأن الشرط والجزاء متى تفرقا بقدر المجلس لم يصح، كذلك الاستثناء. فإن قيل: المجلس يجري مجرى حال العقد، بدليل قبض رأس مال السلم وثمن الصرف. قيل: اعتبار هذا بالشرط والجزء أشبه، لما ذكرنا.
يجوز تقديم المستثنى على المستثنى منه
يجوز تقديم المستثنى على المستثنى منه ... فصل: يجوز أن يقدم الاستثناء [92/ب] على المستثنى منه إذا كان متصلًا به، نحو قوله: ما جاءني إلا أخاك من أحد، وما مررت إلا إياك بأحد.
وقد قال حسان:1 الناسَ ألِّب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر2 فقدم قوله: إلا السيوف وأطراف القنا ... وجعله بمثابة قوله: ليس لنا وزر إلا السيوف وأطراف القنا. وقال الكميت:3 فما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب4 فنصبا جميعًا بالاستثناء مما هو في موضع النصب والخفض، وقد قال أهل العربية: إن الاستثناء إذا تقدم نصب أبدًا المستثنى منه، تقول: ما جاءني إلا إياك أحد، وما مررت إلا إياك أحد، واستشهدوا بهذين البيتين.
يجوز الاستثناء من الاستثناء
يجوز الاستثناء من الاستثناء مدخل ... فصل: يجوز الاستثناء من الاستثناء قال تعالى: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} 1.
مسألة لا يصح استثناء الأكثر
مسألة لا يصح استثناء الأكثر مدخل ... مسألة: لا يصح استثناء الأكثر ذكره الخرقي في كتاب الإقرار1. وحكى ذلك عن ابن درستويه النحوي2، ونصره ابن الباقلاني في كتاب التقريب من أصول الفقه. وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى جواز ذلك.
دليلنا
دليلنا: أن الاستثناء لغة، وأهل اللغة قد نفوا ذلك وأنكروه. قال أبو إسحاق الزجاج في كتاب المعاني لما تكلم على قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} 1: ولم يأت في كلام العرب إلا في القليل من الكثير2. وقال أبو الفتح ابن جني3 ولو قال قائل: هذه مائة إلا تسعين، ما كان متكلمًا بالعربية، وكان كلامه عيًا ولكنةً. وقال القتبي4 في جوابات المسائل5، وذكر أيضًا في كتاب
الجامع في النحو1 فقال: يجوز أن يقول: صمت الشهر كله [إلا يومًا، ولا يجوز أن يقول: صمت الشهر كله] 2 إلا تسعة وعشرين يومًا، ويقول: لقيت القوم جميعًا إلا واحدًا أو اثنين، ولا يجوز أن يقول: لقيت القوم جميعًا إلا أكثرهم، وأنشد: عداني أن أزورك أن بهمي ... عجاف3 كلها إلا قليلًا4 ولأنه لو جاز استنثاء الأكثر؛ جاز استثناء الكل، ألا ترى أن التخصيص لما جاز في أكثر العموم؛ جاز في جميعه، وهو النسخ؛ فلما لم يجز في الكل؛ لم يجز في الأكثر؛ لأن الأكثر قد أجري مجرى الكل. ولأنه استثناء الأكثر؛ فلم يصح، كالراهن إذا استثنى الأكثر في الإقرار. ولأنه استثنى الأكثر؛ فلم يصح، كما لو قال: أنت طالق، وطالق،
وطالق؛ إلا طالق طلقتين؛ فإنه لا يصح. فإن قيل: هناك لو استثنى [93/أ] الأقل، وهو طلقة؛ لم يصح، وكان المعنى فيه أن هناك جملًا1؛ فالاستثناء عدد، فرفع جملتين؛ فلم يصح. قيل: عندنا لو استثنى طلقة صح؛ فلا نسلم هذه المعارضة، وقولهم: إن هناك جملًا2؛ فهو يرفع جملتها؛ فلا يصح؛ لأنها في حكم الجملة الواحدة، فالواو تجعل الكلام بمنزلة جملة واحدة، بدليل أن الاسثتناء يرجع إلى الجميع، وكذلك الشرط.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 1، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينََ} 2، فاستثنى الغاوين من المخلصين، والمخلصين من الغاوين وأيهما كان الأكثر؛ فقد استثنى الأكثر وأبقى الأقل؛ على أن الغاوين أكثر من غير ذلك. والجواب عنه من وجهين: أحدهما أن هذا استثناء من جميع الجنس؛ فيجوز أن يقال فيه: إنه يجوز إخراج الأكثر من الأقل؛ فأما استثناء الأكثر من الأعداد المحصورة فلا، ويكون الفرق بينهما: أن اللغة وردت بجواز ذلك في الجنس، وهو ما ذكروه من الآية، ومنعت من ذلك في الأعداد، وهو ما حكيناه عنهم.
ولأن حمل جميع الجنس على العموم؛ إنما هو بطريق الظاهر، لا من جهة القطع على جميع الجنس، وليس كذلك في الأعداد؛ لأن جميعها منطوق به نصًا وصريحًا؛ فلهذا فرقنا بينهما. وجواب آخر عن الآية وهو: أنه يحمل هذا على الاستثناء المنقطع، وهو بمعنى: لكن من اتبعك من الغاوين، كقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 1 معناه: لكن رب العالمين، وكقوله: {إِلاَّ خَطَأً} 2 يعني: لكن خطأ. واحتج بقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} 3؛ فقد استثنى النصف. والجواب: أن أصحابنا اختلفوا في استثناء النصف. فالخرقي أجاز ذلك؛ لأنه قال: إذا استثنى منه الكثير، وهو أكثر من النصف4. فعلى هذا يقول بظاهر الآية. وأبو بكر منع استثناء النصف5؛ فعلى هذا: قوله تعالى: {نِصْفَهُ} كلام مبتدأ، وليس باستثناء. واحتج بقول الشاعر:
أدوا التي نقصت تسعين1 من مائة ... ثم ابعثوا حكمًا بالحق قوالًا2 والجواب: أن هذا ليس باستنثناء؛ لأنه لم يأت بحرف الاستثناء؛ وإنما ذكر نقصان الأكثر مما دخل تحت الاسم. واحتج: بأنه إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ؛ فصح في الأكثر كما يصح في الأقل، كالتخصيص. والجواب: أن التخصيص أوسع، ألا ترى أنه يصح بدليل منفصل، والاستثناء لا يصح إلا متصلًا، والتخصيص لا يختص بعبارة، والاستثناء [93/ب] يختص بحروف مختصة، والتخصيص يجوز بسائر الأدلة: الشرع والعقل، والاستثناء لا يقع إلا باللفظ. ولأن من جنس التخصيص ما يرفع الجملة، وهو النسخ؛ لأن التخصيص تخصيص الأعيان، والنسخ تخصيص الزمان، وليس من جنس الاستثناء ما يرفع الجملة. وقد ذكر هذا ابن عرفة النحوي3 في كتاب الاستثناء
والشروط1، وأنه لم يخرج مخرج الاستثناء؛ وإنما خرج مخرج الاقتضاء لبقية دية المقتول فيما أنشدوه من البيت، وأعلم أنه أعطى ثلاثين، ونفى سبعين، وأنشد أمام هذا البيت: إن الذين قتلتم أمس سيدهم ... لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما2 ثم قال: أدوا التي نقصت. واحتج: بأنه استثنى إبقاء بعض الجملة؛ فوجب أن يصح، كما إذا أبقى الأكثر. والجواب: أن الاستثناء للأقل يطابق اللغة، والأكثر يخالف اللغة، وقد بينا: أن الاستثناء لغة؛ فلهذا فرقنا بينهما. وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن يصح إذا بقي الأكثر دون الأقل، كما قال أصحاب أبي حنيفة: يصح ترك بعض الطواف واللعان إذا أتى بالأكثر، وكذلك قال الجميع: يصح إدراك بعض الركعة مع الإمام إذا فاته الأكثر.
مسألة لا يصح الاستثناء من غير الجنس
مسألة لا يصح الاستثناء من غير الجنس مدخل ... مسألة 1: لا يصح الاستثناء من غير الجنس وقد ذكر أصحابنا هذا في الإقرار، فقال الخرقي: ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه؛ كان الاستثناء باطلًا2. وذهب أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك إلى جواز ذلك. وهو اختيار أصحاب الشافعي: فذهب بعضهم إلى جوازه، ومنهم من قال: لا يصح، مثل قولنا.
دليلنا
دليلنا: أن الاستثناء هو إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ، وغير جنس المستثنى منه غير داخل فيه؛ فلا يصح الاستثناء منه. والدليل على أن الاستثناء ما ذكرته: أنه مشتق من قولهم: ثنيت فلانًا عن رأيه، وثنيت عنان دابتي، إذا رده ومنعه؛ فدل على أن الاستثناء يرد بعض ما يجب دخوله في اللفظ ويثنيه عنه، وقد قيل: إنه يسمى استثناء لشبه الخبر بعد الخبر، وعلى هذا يجب أن يكون المستثنى منه والاستثناء قد تناولاه جميعًا؛ فإذا كان كذلك؛ وجب أن يصح الاستثناء في بعض ما دخل في اللفظ. وأيضًا: فإنه إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ؛ فوجب أن لا
يصح من غيره؛ كالتخصيص. وأيضًا: فإن الاستثناء [94/أ] لا ينفرد1 بنفسه؛ فلا يجوز الابتداء به؛ وإنما يصح إذا كان متصلًا بالمستثنى منه؛ فدل على أنه متعلق به، واستنثاؤه لبعض ما شمله اللفظ وتناوله. وأيضًا: فإنه قبيح في الخطاب أن يقول: خرج القوم إلا الحمير، ورأيت الناس إلا الحمير والكلاب. وليس قبحه إلا لما ذكرته.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن هذا جائز في القرآن وفي أشعار العرب: قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلاَّ إِبْلِيسَ} 1، وليس إبليس من الملائكة، وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 2 وقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا، إِلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 3، وقوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 4. وقال تعالى: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} 5. وقال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} 6، والظن ليس بعلم، وقوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمْ} 1، ومعلوم أن من رحم معصوم، وليس بعاصم. وقال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس2 فاستثنى من الأنيس ما ليس من جنسه. وقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب3 فاستثنى الفلول من العيب. وتقول العرب: ما نفع إلا ما ضر، وما زاد إلا ما نقص، وما بالدار أحد إلا الحمار، وما جاءني زيد إلا عمرًا، ونظائر ذلك. والجواب عن قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
إلا إبليس} 1؛ فهو أن إبليس من الملائكة. قال أبو إسحاق2: سمعت الشيخ يعني أبا بكر3، وقد سئل عن إبليس أمن الملائكة؟ فقال: أمر الله بالسجود الملائكة؛ فلولا أن إبليس منهم ما كان مأمورًا. قال أبو إسحاق: فقلت له: أجمعنا على أن الملائكة لا تناكح، ولا يكون لها ذرية، وقد كان لإبليس ذرية؛ دل على أنه من غيرها. وأما غيره من الآيات: فإنما معناه: لكن، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} 4، وأراد: لكن إن قتل خطأ، تقول العرب: "ما لي ابن بنت" و"ما لي نخل إلا شجر"، والمراد به: لكن، ولا "تلق فلانًا إلا ما لقيت"، معناه: لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه. وقال ابن قتيبة في كتاب "الجامع في النحو": ومما يكون فيه "إلا" بمعنى "لكن" قوله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} 5 أي: لكن من رحم. وكذلك قوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} 6 معناه: لكن قليلًا. وكذلك قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا [94/ب]
إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} 1 يعني: لكن. وهذا قول سيبويه2. وأما قول الشاعر: إلا اليعافير وإلا العيس فإنه استثناء من الأنيس وهذا مما يستأنس به. فأما الفلول في السيوف في البيت الآخر؛ فهو عيب؛ وإنما سببه هو الذي يمدح به. وما حكوه عن العرب؛ فقد حكينا خلافه. واحتج: بأنه استثناء لا يرفع الجملة؛ فصح كما لو كان من جنسه، وكما لو استثنى عينًا من ورق. والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الجنس بغيره، كما لم يجز اعتبار التخصيص بغيره، ولأن الاستثناء من الجنس يوجد فيه معنى الاستثناء، وههنا لا يوجد معناه؛ لأن معناه إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ. وأما استثناء العين من الورق: ففيه خلاف بين أصحابنا؛ فأبو بكر يمنع منه3. والخرقي يجيزه4؛ لأنهما أجريا مجرى الجنس الواحد في أشياء، مثل كونها قيم الأشياء والأروض وغير ذلك.
مسألة الاستثناء إذا تعقب جملا عطف بعضها على بعض
مسألة الاستثناء إذا تعقب جملا عطف بعضها على بعض مدخل ... مسألة 1: الاستثناء إذا تعقب جملًا عطف بعضها على بعض وصلح أن يعود إلى كل واحد منها لو انفرد؛ فإنه يعود إلى جميع ما تقدم ذكره. وذلك مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} 2؛ فإنه يرجع الاستثناء إلى نفي الفسق وقبول الشهادة، ونظائر ذلك. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور وقيل له: قوله: "لا يُؤَم الرجل في أهله، ولا يُجلَس على تكرمته؛ إلا بإذنه" 3،
قال: "أرجو أن يكون الاستثناء على كله". وبهذا قال أصحاب الشافعي1. وقال أصحاب أبي حنيفة2 وجماعة من المعتزلة3: يعود إلى أقرب مذكور. وقال أصحاب الأشعري: هو على الوقف على ما يبينه الدليل4.
دليلنا
دليلنا: أن الشرط يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره؛ لأنه لو قال: نساؤه طوالق وعبيده أحرار، وماله صدقة إن شاء زيد، وإن دخلت الدار لم يقع شيء من ذلك قبل مشيئته، وكان الشرط راجعًا إلى الجميع، كذلك الاستثناء؛ لأن الاستثناء لا يستقل بنفسه؛ وإنما هو متعلق بما قبله من الكلام، ويجب أن يكون متصلًا به، وإذا انفصل؛ سقط حكمه، والشرط بمثابته في ذلك، فكانا سواء. فإن قيل: الشرط يؤثر في الجملة، والاستثناء يؤثر في بعضها. قيل: هذا لا يوجب الفرق بينهما في الجملة الواحدة، ولأن الاستثناء بمشيئة الله يرجع إلى الجميع عندهم؛ يجب أن يكون الاستثناء بغيره [95/أ] كذلك. ولأن الجملة المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة، لأنه لا فرق بين أن يقول: "رأيت رجلًا ورجلًا"، وبين أن يقول: "رأيت رجلين"، وإذا كان كذلك وجب أن يرجع إلى جميعها، ويكون بمنزلة جملة واحدة. وهذا صحيح على مذهب أحمد رحمه الله؛ لأنه قال1: "إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق وطالق؛ يقع عليها ثلاث، فتكون بمنزلة الجملة الواحدة". وعلى هذا الأصل إذا قال: أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة؛ تقع
عليها طلقتان، ويصح الاستثناء؛ لأنه يكون استثناء واحدة من ثلاث ولا يكون استثناؤه واحدة من واحدة. فإن قيل: الجملة الواحدة ليس بينهما وبين الاستثناء حائل؛ لهذا رفعها، وإذا فرقها فقد جعل بينهما وبينه حائل؛ فلهذا لم يرفعها، وإنما يرفع ما يتعقبه. قيل: وأول العطف يقتضي الاشتراك، ويجعل الثاني والأول كأنهما معا مذكوران بلفظ واحد؛ فلا يصح أن يكون بينهما حائل في الحكم، وإن كان بينهما حائل في الصورة. ولأن الاستثناء إذا تعقب جملًا، وصلح أن يعود إلى كل واحد منهما؛ فليس عوده إلى بعضها بأولى من البعض؛ فوجب رده إلى الجميع، كالعموم لما لم يكن حمله على بعض مسمياته أولى من بعض؛ حمل على الجميع.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن العموم قد ثبت في جملة من الجمل المتقدمة، وعود الاستثناء إلى الجميع مشكوك فيه؛ فلا يجوز أن يزيل العموم بالشك. والجواب: أنا لا نسلم ذلك؛ لأن العموم إنما ثبت بوقوع السكوت عن الكلام من غير استثناء، وإذا اتصل به الاستثناء؛ لم يثبت العموم، وعلى هذا يلزم عليه العموم؛ لأنه قد يخص بأمر مقطوع عليه، كالنص، وقد يخص بأمر غير مقطوع عليه، كالقياس، وإن كان العموم قد ثبت في جميع المسميات. واحتج: بأن الاستثناء لا يستقل بنفسه، ولا يفيد بانفراده؛ فوجب رده إلى ما تقدم ذكره؛ فإذا رد إلى ما يليه، فقد استقل وأفاد؛ فلا تجب الزيادة عليه.
والجواب: أنه يبطل بالشرط، ويلزم عليه لفظ العموم؛ فإنه إذا حمل على أقل الجمع أفاد، ومع ذلك لا يقضي عليه، بل يحمل على جميع الجنس، وكذلك الاستثناء إذا تعقب جملة تناولت أشياء؛ فإنه إذا علق ببعض تلك الأشياء أفاد، ومع ذلك فإنه يرد إلى جميعها. واحتج: بأن الاستثناء إذا تعقب الاستثناء بغير الواو رجع إلى ما يليه، ولا يرجع إليهما، كذلك ههنا. وبيانه: أن يقول: "له علي عشرة إلا أربعة إلا درهمين1"، إن الاستثناء الثاني يرجع إلى الاستثناء [95/ب] الأول، ولا يرجع إليه وإلى العدد الذي قبله، فيلزمه ثمانية دراهم". والجواب: أنه إنما رجع إلى ما يليه؛ لأنه لا يصح رجوعه إليهما2؛ فإن أحدهما نفي والآخر إثبات؛ فإذا رجع إليهما تناقض. واحتج: لو قال: "أنت طالق وطالق وطالق إلا طالق"؛ لم يصح الاستثناء، وهذا يدل على أنه رجع إلى ما يليه؛ فلا يرجع إلى الجميع، إذ لو رجع إلى الجميع؛ لصح الاستثناء؛ لأنه قد رفع الأقل، ولما لم يصح؛ دل على أنه رجع إلى ما يليه، فقد رفع جميعه؛ فلهذا لم يصح. والجواب: أنه يصح الاستثناء، هذا قياس المذهب؛ لأنه قد قال في غير المدخول بها: "أنت طالق وطالق وطالق، يقع ثلاثًا"، وجعل الواو للجمع؛ فحصلت في حكم الجملة الواحدة؛ فعلى قياس هذا يصح الاستثناء؛ لأنها جملة واحدة. وقد سلم أصحاب الشافعي هذا، وقالوا: لا يصح الاستثناء؛ لأنه يرفع الجملة؛ وإنما يرجع إلى الجميع، إذا لم يرفع جميع الجملة من الجمل المتقدمة.
وهذا غير صحيح؛ لأن الواو للعطف يجعل الجمل1 كالجملة الواحدة لعطف بعضها على بعض، وإذا جعلت كالجملة الواحدة؛ صح الاستثناء، وكان راجع إلى الجميع. فأما من قال بالوقف؛ فقوله ظاهر الفساد؛ لأن السلف اختلفوا في هذه المسألة على قولين: منهم من قال: إنه يعود إلى الكل، ومنهم من قال: إنه يعود إلى الأقرب، ولم يقل أحد: إنه موقوف؛ فالقول بالوقف إحداث قول ثالث، لا يجوز إثباته. وأيضًا: فإن الاستثناء يؤثر في الكلام كالشرط، ومعلوم أن الشرط يرجع إلى ما يليه، ولا يتوقف فيه، كذلك الاستثناء. واحتج المخالف: بأن الاستثناء يصح أن يعود إلى البعض، ويصح أن يعود إلى الجميع؛ فوجب التوقف فيه. والجواب: أن عوده إلى الجميع هو الظاهر؛ وإنما يعود إلى الأقرب بقرينة ودليل؛ فلا نسلم لهم تساوي الأمرين.
مسألة في المحكم والمتشابه
مسألة: في المحكم والمتشابه 1 ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن "المحكم": ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان. و"المتشابه": ما احتاج إلى بيان2. لأنه قال في كتاب "السنة": بيان ما ضلت فيه الزنادقة في القرآن.
ثم ذكر آيات تحتاج إلى بيان1. وقال في رواية ابن إبراهيم "المحكم": الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه: الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا. ومعناه: ما ذكرنا؛ لأن قوله: "المحكم": الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا، معناه: الذي يحتاج إلى بيان؛ فتارة يبين بكذا وتارة يبين بكذا؛ لحصول الاختلاف في تأويله، وذلك نحو قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2؛ لأن القرء من الأسماء المشتركة، تارة يعبر عن الحيض، وتارة عن الطهر. ونحو قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3. وهذا قول عامة الفقهاء. وقد اختلف في ذلك:
فقال قوم: "المحكم": هو الأمر والنهي، والحلال والحرام، والوعد والوعيد1. و"المتشابه": ما كان من ذكر القصص والأمثال. قالوا: لأن "المحكم" ما استفيد الحكم منه، و"المتشابه" ما لا يفيد حكمًا. ومنهم من قال: "المحكم" ما وصلت حروفه، و"المتشابه": ما فصلت حروفه، وتفصيلها: أن ينطق بكل حرف كالكلمة، كقوله: {الم} 2، {المص} 3، {الر} 4، و {كهيعص} 5، ونحو ذلك. والموصولة: ما لاينطق بكل حرف وحده، كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} 6، ونحو ذلك. وذلك أن "المحكم": ما عرف معناه، و"المتشابه": ما لا يعقل معناه، وهو أوائل السور، بالحروف المقطعة7. ومنهم من قال: "المحكم": الناسخ، و"المتشابه": المنسوخ8.
فإن المنسوخ ما لا يستفاد منه حكم؛ وإنما يستفاد من الناسخ. وذكر أبو الحسين البصري1 عن أصحابه: أن "المحكم" يستعمل على وجهين: أحدهما: أنها محكمة الصيغة والفصاحة. والآخر: أنه لا يحتمل تأويلين مشتبهين، وأما "المتشابه": [ف] يستعمل أيضًا على وجهين: أحدهما: أنه متشابه ومتساوٍ في الحكمة. والآخر: يحتمل تأويلين مختلفين مشتبهين احتمالًا شديدًا2. والدلالة على ما قلناه: قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ} 1، وأم الشيء: هو الأصل الذي لم يتقدمه غيره، فاقتضى ذلك، أن "المحكم": ما كان أصلًا بنفسه، مستغنيًا عن غيره، لا يحتاج إلى بيان ولا من لفظ قرينة ولا غيره. و"المتشابه": ما خالف ذلك، وافتقر إلى بيان ودليل يعرف به المراد. وإنما يكون هذا فيما ذكرناه من المحتمل، دون ما ذكروه من القصص والناسخ والمنسوخ. يبين صحة هذا: قوله تعالى في سياق الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} 2 فثبت أن المتشابه هو الذي يحتاج إلى تأويل وبيان. يبين صحة هذا: أن المتشابه والقصص يعقل معناها، وكذلك المنسوخ، فكيف يقال متشابه؟! ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} اختلفوا في هذه "الواو"، هل هي واو عطف أو ابتداء كلام؟ فمنهم من قال: الواو للابتداء، وليست للعطف؛ فهذا [96/ب]
القائل يقول: الله تعالى يعلم تأويل المتشابه وحده، وقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} معناه: يقولون آمنا به؛ فأما أن يعلموا ذلك فلا1. ومنهم من قال: الواو واو العطف، ويكون معناه: الله يعلم تأويله، وأهل العلم يعلمون ذلك أيضًا2. والوجه الأول أشبه بأصولنا. وقد بينا ذلك في أول كتاب "إبطال التأويل لأخبار الصفات"3. والوجه فيه" ما ذكره أبو بكر ابن الأنباري4 في كتاب "الرد على أهل الإلحاد" ما ذهب إليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أبي5 وابن مسعود وابن عباس.
ففي قراءة عبد الله1: "إن تأويله إلا عند الله والراسخون يقولون2". وفي قراءة أبي: "ويقول الراسخون في العلم"3. وعن ابن عباس أنه كان يقرأ: "ويقول الراسخون في العلم"4. وكان الفراء5 وأبو عبيدة6 يقولان: الراسخون مستأنفون، والله هو المنفرد؛ لأن الله تعالى
قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} . ومعناه: صدقنا به؛ لأن الإيمان هو التصديق، ولم يقل: "والراسخون في العلم يقولون علمنا به"، وإذا كان كذلك لم يقتضِ1 العطف المشاركة في العلم، وجرى هذا مجرى قول القائل: ما يعلم ما في هذا البيت إلا زيد، وعمرو يقول: آمنا به، ومعناه: أنه مصدق له، ولا يقتضي مشاركته في العلم بما في البيت، كذلك ههنا. ووجه من قال: إنها عاطفة احتج: بقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 2، وعلى قولكم، ليس فيه بيان المشكل. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين، والحرام 3 بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس" 4؛ فدل على أن القليل
من الناس يعلمها، وهم العلماء. ولأنه لو لم يكن ذلك مع العلم؛ لم يكن للراسخين على العامة فضيلة؛ لأن الجميع يقولون: آمنا به. ولأنه لو لم يكن معلومًا؛ أفضى ذلك إلى أن يتعبد بالشيء المجهول, لا يعلم ما هو. ومن نصر الأول أجاب عن قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1؛ فلا يقتضي جميع الأشياء، كما قال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 2 ولم تؤت مثل ذكر الذكر ومثل لحيته. وقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} 3، ولم تدمر السموات والأرض. وأما قوله: "لا يعلمها4 كثير من الناس"؛ فهو محمول على الأحكام الشرعية؛ لأن الحلال والحرام يرجع إلى ذلك.
وأما قوله: لو لم يعلموه؛ لم يكن للراسخين فضيلة؛ لأن لهم مزية بمعرفة غيره من الأحكام. وأما قوله: إنه يفضي إلى أن يتعبد بالشيء المجهول؛ فغير ممتنع مثل هذا، كما تعبدنا بالإيمان بملائكته وكتبه ورسله، وإن لم نعرف ملائكته ورسله وما في كتبه؛ كذلك ههنا.
فصل جواز ورود القرآن بآيات متشابهة
فصل جواز ورود القرآن بآيات متشابهة مدخل ... فصل 1: يجوز أن يرد القرآن بآيات متشابهة يدل ظاهرها على التشبيه، وقد ذكر أحمد رحمه الله آيات من المتشابه، وتكلم عليها [97/أ] وبين وجوهها في رواية عبد الله عن أبيه. فإن قيل: يجب أن لا يجوز هذا؛ لأن في جوازه ما يدل على أنه يشبه الأشياء. قيل: لا يدل على ذلك؛ لأنه قد نصب لنا أدلة تدلنا على أنه منزه عن التشبيه، وأنه أراد بكلامه التأويل. فإن قيل: فلو كان الغرض ما ذكرتم، لاقتصر على الدليل المحكم دون المتشابه. قيل: لا يجب ذلك، كما لم يجب أن يقتصر على رفع الشبه، التي ضل بها الضالون، كإيلام الأطفال وغيره.
فإن قيل: لا يجب هذا؛ لأن الوصول إلى الحق ممكن مع هذه الشبه؛ وإنما يؤتى المكلف من قبل نفسه، ولا يمتنع أن يكون في إيلام الأطفال مصالح لا نعلمها. ولأن وصولنا إلى الحق مع اعتراض الشبه وإمعان الفكر والنظر تخريجًا1 للأفهام، وزيادة في الثواب. قيل: مثله في الآيات المتشابهة. فإن قيل: فما الفائدة في إنزال بعض القرآن متشابها؟ قيل: يجوز أن يكون في ذلك فائدة يعلمها الله ولا نعلمها؛ على أنا نذكر في ذلك فوائد، منها: أنه لو كان كل القرآن محكمًا دالًا ظاهره على التوحيد؛ لاحتج أكثر الناس به في التوحيد، وأعرضوا [عن] الاستدلال بأدلة العقول، لما في طباع أكثره من استثقال الفكر والفحص؛ فكانوا يتوصلون إلى الشيء من غير طريقه؛ لأن صحة القرآن إنما تعرف بعد المعرفة بالتوحيد، وإذا كان بعض القرآن ظاهره يفيد التوحيد، وينفي2 التشبيه، وبعضه يوهم التشبيه؛ لم يكن المكلف بأن يصير إلى أحدهما أولى من أن يصير إلى الآخر فاضطر عند ذلك إلى إعمال عقله، ولو كان كله محكمًا لم يكن إلى ذلك مضطرًا. ومنها: أن في ذلك زيادة للأذهان، وتخريجًا للعقول مع زيادة الدرجات. ومنها: أن العرب كانت تمنع من استماع القرآن، من أن يستميل
السامع إلى الإسلام؛ فكان إنزاله محكمًا ومتشابهًا يوهم مستمعهم أنه متناقض، ويطعمه في الظفر بمثله من المتناقض عنده، فيدعوه إلى إعمال الإصغاء إليه؛ فإذا تأمله، وطال استماعه، علم أنه لا تناقض فيه، واستماله ودعاه إلى الإسلام بما فيه من الفصاحة وغيرها.
مسألة في القرآن مجاز
مسألة في القرآن مجاز مدخل ... مسألة: [في القرآن مجاز] : 1 نص عليه أحمد رحمه الله فيما خرجه في متشابه القرآن في قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} 2 هذا في مجاز اللغة، يقول الرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك خيرًا3. وهو قول الجماعة. خلافًا لمن منع ذلك من أصحابنا، وطائفة من أهل الظاهر.
دليلنا
دليلنا: أن الله تعالى تكلم بالقرآن على لغة العرب، ووجدناهم تكلموا [97/ب] بالمجاز والحقيقة؛ فوجب أن يجوز ذلك في كلام الله تعالى.
ولأن المجاز تارة يكون بزيادة حرف، لو حذف استقل الكلام بحذفه. وتارة يكون بنقصان حرف، ولا بد من إضمار فيه، وقد وجدا جميعًا في القرآن. أما الزيادة فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، ومعناه ليس مثله شيء. وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 2، وتقديره: تجري تحتها. وقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 3 وتقديره: بما كسبتم. وهذا نفس المجاز. والنقصان نحو قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} 4 معناه: حب العجل؛ فحذف الحب، وأقام ذكر العجل مقامه5. وكذلك قوله: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} 6 معناه: أهلها7. وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ} 8 معناه: صاحب قول الحق. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 9 وتقديره: أولياء
الله، وأولياء رسوله. وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1 وتقديره: أفعال الحج في أشهر معلومات؛ لأن الأشهر لا تكون حجًا2. ورأيت في كتاب أصول الفقه في كتب أبي الفضل التميمي قوله3: والقرآن ليس فيه مجاز عند أصحابنا، واستدل بأن المجاز لا حقيقة له، ثم قال: فأما قوله: "واسأل القرية ... والعير" فيجوز أن تكلم الجمادات الأنبياء، ثم قال: وسمعت قول الخرزي رحمه الله، وقد قيل: قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} ، أو حب العجل؟ فقال: قيل: العجل في نفسه، مثل القرية والعير سواء. وذكر أبو بكر في تفسيره: اختلاف الناس في قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} ، فقال: حدثنا معمر عن قتادة: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} قال: أشربوا حب العجل بكفرهم4. وعن أحمد حدثنا هاشم حدثنا أبو جعفر5 عن الربيع6: {وَأُشْرِبُوا
فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} قال: أشربوا العجل في قلوبهم1. وقال أسباط2 عن السدي3: [لما] 4 رجع موسى5 أخذ العجل الذي وجد قومه قد عبدوه، وهم عاكفون عليه، فذبحه، ثم حرقه، ثم ذراه في اليم؛ فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه منه، ثم قال لهم موسى:
اشربوا منه؛ فشربوا؛ فمن كان يحبه خرج على شاربه؛ فلذلك قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} 1. قال أبو بكر2: وأولى التأويلين [تأول] 3 من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل؛ لأن الماء لا يقال: أشرب فلان في قلبه؛ وإنما يقال ذلك في حب الشيء، كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} 4 وأنشد قول طرفة بن العبد5: ألا إنني6 سُقِّيتُ أسود كالحًا7
يعني: سقيت سمًا1 أسود، فاكتفي بذكر "أسود"، عن2 ذكر "السم" لمعرفة السامع؛ فقد صرح أبو بكر بأن هناك مضمرًا محذوفًا3. ويبين صحة هذا أن الموضع المذكور فيه "القرية"، والمراد أهلها، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} 4 [98/أ] ، ومعلوم أن المحاسبة والعذاب لم يقعا5 على الجدار. وقال {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} إلى قوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} 6. فإن قيل: هناك حذف في الكلام. قيل: إلا أن هذه الألفاظ لم يوضع لها في صميم اللغة؛ فإن لم تسمها مجازًا؛ فذلك منازعة في عبارة، مع تسليم المعنى الموجود في المجاز. وأيضًا: فإن أهل اللغة قد صنفوا في ذلك كتبًا؛ فمن منع ذلك؛ فهو كمن دفع أن يكون في اللسان مجاز.
حجة المخالف
حجة المخالف ... واحتج المخالف: بأن المجاز كذب؛ لأنه يتناول الشيء على خلاف الوضع.
والجواب: أن هذا خرق الإجماع؛ لأنهم استحسنوا التكلم بالمجاز مع استقباحهم الكذب، وعلى أن الكذب يتناول الشيء على غير سبيل المطابقة، والمجاز فيه تطابق الخبر من طريق العرف، وإن كان لا يطابق اللغة. واحتج: بأنه لو تكلم بالمجاز؛ لكان به حاجة إليه. والجواب: أن هذا يوجب أن لا يتكلم بالحقيقة؛ لأنه يقتضي الحاجة أيضًا؛ فإن قيل: إنما يتكلم بالحقيقة لحاجة عبيده، لا لحاجة نفسه، قيل: وكذلك المجاز. واحتج: بأن العدول عن الحقيقة إلى المجاز للضرورة؛ فلا يجوز وصف الله تعالى بالحاجة والضرورة إليه. والجواب: أنه يستعمل في غير ضرورة؛ بل ذلك يستحسن في لغتهم، كما تستحسن الحقيقة، كما أن الإطالة قد تستحسن في موضع من كتاب الله تعالى، ولم يدل ذلك على أنه إنما يحتاج إليها من لا يقدر على الإيجاز، كذلك ههنا.
فصل يصح الاحتجاج بالمجاز
فصل: يصح الاحتجاج بالمجاز 1 والدلالة عليه: أن المجاز يفيد معنى من طريق الوضع، كما أن الحقيقة تفيد معنى من طريق الوضع. ألا ترى أن قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} 2 يفيد المعنى، وإن كان مجازًا؛ لأن الغائط هو المكان
المطمئن في الأرض، استعمل في الخارج. وكذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1 ومعلوم أنه أراد أعين الوجوه ناظرة؛ لأن الوجوه لا تنظر؛ وإنما العين. وقد احتج بهذه الآية في وجوب النظر في يوم النظر يوم القيامة، في رواية المروذي، والفضل بن زياد، وأبي الحارث. وأيضًا: فإن المجاز قد يكون أسبق إلى القلب، كقول الرجل لصاحبه: "تعال"، أبلغ من قوله: يمنة ويسرة، وكذلك قوله: لزيد علي درهم، مجاز، وهو أسبق إلى النفس، من قوله: يلزمني لزيد درهم. وإذا كان يقع المجاز أكثر مما يقع بالحقيقة؛ صح الاحتجاج به.
مجاز من وجه آخر
مجاز من وجه آخر ... فصل: 1 [98/ب] قد قيل في المجاز2: لا يقاس عليه؛ لأنه غير موضوع لما تناوله3 في أصل اللغة؛ ألا ترى أنه لا يصح أن يقال: وأسأل الثوب والقلنسوة، ويريد صاحب الثوب وصاحب القلنسوة، قياسًا على قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 4 أو يقول: فبما كسبت أرجلكم، كما قال: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 5، ولا يقول: تحرير صدر، كما قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 6.
تناول اللفظ الواحد للحقيقة والمجاز فيكون حقيقة من وجه مجازا من وجه آخر
تناول اللفظ الواحد للحقيقة والمجاز فيكون حقيقة من وجه مجازا من وجه آخر ... فصل 1: يجوز أن يكون اللفظ الواحد متناولًا لموضع الحقيقة والمجاز؛ فيكون حقيقة من وجه، مجازًا من وجه آخر: نحو قوله: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2 حقيقة في الوطء؛ بدليل أنه يستعمل في موضع لا يجوز فيه العقد، نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ناكح البهيمة 3، والناكح يده" 4. وقولهم: "انحكنا الفرا فسنرى"5، ثم استعمل في الموضعين جميعًا
في العقد؛ فيحرم عليه أن يتزوج بمن تزوجها أبوه، وإن لم يوجد منه الوطء. وكذلك قوله: "أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ" 1، حقيقة في اللمس باليد؛ إلا أنه يطلق على الجماع مجازًا؛ فيحمل عليهما جميعًا، ويوجب الوضوء منهما جميعًا. والدلالة عليه: أنه لا تدافع بين الإرادتين2 اللتين تتناول اللفظ بوضع الحقيقة والمجاز؛ فجاز اجتماعهما؛ ليكون اللفظ متناولًا لهما جميعًا. يبين صحة هذا: أن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3 متناول للرقبة الحقيقية ولغيرها من الأعضاء على طريق المجاز. وكذلك قوله: اشتريت كذا وكذا رأسًا من الغنم؛ فيتناول الرأس الذي هو العضو المخصوص وسائر الأعضاء. ويبين صحة هذا: اشتهار قولهم: "عدل العمرين"، يريدون أبا بكر وعمر، وهو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وكذلك قولهم: ما لنا طعام إلا الأسودان: التمر والماء.
وقد نقل مهنا قال: سألت أبا عبد الله رحمه الله من العمران؟ قال: عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز1.
في وجوه المجاز
فصل: في وجوه المجاز: 1 منها: أن يستعمل اللفظ في غير ما هو موضوع له، نحو اسم "الحمار"، أطلقوه على البليد، واسم "الأسد" أطلقوه على الرجل الشجاع. ومنها: المستعمل في موضوعه وغير موضوعه، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 2 يتناول الرقبة وجيمع الذات. وقوله: "اشتريت كذا رأسًا من الغنم" يتناول الرأس وسائر الأعضاء. وكذلك إطلاق اسم الشيء على ضده؛ كإطلاقهم "السليم" على اللديغ، و"المفازة" على المهلكة.
ومنها: الحذف كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1 حذف الأهل2: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} 3 حذف: حب العجل4. ومنها: الصلة [ك] قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 5 يعني: بما كسبتم. ومنها: [99/أ] أن يطلق اسم المصدر على المفعول، كقولك: "هذا الدرهم ضرب فلان، والعالم خلق الله"، أي: مخلوقه ومضروبه. ومنها: إطلاق اسم الفاعل على المفعول، كقوله: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 6، أي مرضية. واسم المصدر على الفاعل، كقولك: "رجل عدل"، أي عادل. ومنها: أن يطلق اسم الفاعل على المصدر، كقولهم: "لحقتني اللائمة"، يعني: اللوم. ومنها: أن يطلق اسم المدلول على الدليل، يقال: "سمعت علم فلان"، أي: عبارته عن علمه الدال عليه. ومنها: أن يطلق اسم المسبب على السبب، كإطلاقهم اسم الرحمة على المطر. فهذه جملة وجوه المجاز.
الفهرس
مسألة ليس في القرآن شيء بغير العربية (1) . ذكر ذلك أبو بكر في أول كتاب التفسير. وهو قول عامة الفقهاء والمتكلمين. وروي عن ابن عباس وعكرمة (2) : أن في القرآن شيئا بغير العربية (3) نحو قوله تعالى (طه) (4) و (نَاشِئَةَ الليل) (5) وغير ذلك، فقالوا: هي بالحبشية والسريانية، وغير ذلك من اللغات.
دليلنا:
دليلنا: قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عَرَبيا لَعلكُم تَعْقِلُونَ) (1) ، وقال في آية أخرى: (قُرْآنا عَربَياً غَيْرَ ذي عِوَج) (2) ، وآيات كثيرة في هذا المعنى، فثبت أن جميع القرآن عربي لا شيء سواه. ولأن الله تعالى تحدى العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن وبمثل سورة منه، فلولا أن القرآن كله عربي (3) لما صح أن، يتحداهم بأن يأتوا بما ليس في لسانهم ولا يحسنونه، فثبت أنه كله عربي لا شيء سواه. واحتج المخالف: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى أهل اللغات كلها، فيجب أن يكون في كتابه من سائر اللغات. والجواب: أن هذا مطرح بالإجماع، فإنه ليس في القرآن من الزنجية، ولا من التركية، ولا من الخوارزمية، وهو كل مبعوث إلى هؤلاء. وعلى أنه لو اعتبر ما ذكروه لكان يجب أن يكون في القرآن من كل لغة قدر يقع به التبليغ، وإلا فإذا لم يكن فيه ما يقع به التبليغ لم يكن له معنى. ثم نقول (4) : النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد بُعِثَ إلى الكافة إلا أن المقصود العرب، الذين هم أهل الفصاحة واللسان، وغيرهم تبع لهم، فإذا بلغ العرب دخل الباقون على وجه التبع لهم، كا أن موسى لما أعجز السحرة كان الناس تبعاً لهم، وكذلك عيسى مع الطب.
واحتج: بأنا نجد في القرآن شيئا بغير العربية، نحو قوله: (كَمشْكَاة) (1) قيل: كلمة هندية. و (اسْتَبْرَق) (2) كلمة فارسية، وقولهَ: (القِسْطَاس) (3) قيل: كلمة رومية. وقوله: (وَفَاكِهَة وَأبا) (4) الأب: لا يعرف في العربية، [99/ب] فثبت: أنها بغير العربية. والجواب: أن هذه الأشياء عربية، يجهلها بعض العرب، ويعرفها البعض. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أعرف كلمات من القرآن بلسان قومي حتى عرفتها من غيرهم. من ذلك قوله (5) : (فَاطِرِ السموات) (6) سمعت امرأة تقول: أنا فطرته، يعني ابتدأته، فعلمت أنه أراد مبتدأ السموات ومنشأها (7) .
ومثل هذا في العجمية، قد يكون ألفاظ يعرفها بعض العجم، ولا يعرفها البعض، فلا يخرجها ذلك عن أن تكون من جملة العجمية. والذي يبين صحة هذا، وأن هذه عربية: أن الله تعالى أضاف ذلك اليهم، فاقتضى الظاهر أن الكل لغة لهم. فصل تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد غير جائز (1) . لقوله تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلىَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون) (2) . وقال تعالى: (لتُبين للناس مَا نُزلَ إلَيْهِم) (3) فأضاف البيان إليه. وروى أبو بكر بإسناده عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (4) ، وروي أيضا بإسناده
عن جندب (1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال برأيه فأصاب فقد أخطأ) (2) .
قال أبو بكر (1) : معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: أنه "أخطأ" في فعله بِقيله فيه برأيه، وإن وافق قيلُه عينَ الصواب عند الله؛ لأن قيلَه فيه برأيه ليس فعِل عالم (2) ، فإن الذي قال، نُهي عنه وحظر عليه (3) . وبإسناده عن عائشة قالت ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفسر شيئاً من القرآن إلا آيا بعدد، علمهن إياه جبريل عليه السلام (4) . وروي بإسناده عن ابن عباس قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار (5) . وبإسناده عن سعيد بن المسيب (6) أنه سُئل عن آية من القرآن فقال:
لا أقول في القرآن شيئاً (1) . قال أبو بكر في تفسيره: منه (2) ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك مثل (3) الخبر عن آجال حادثة وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك. قال الله تعالى: (يسْألُونَك عَنِ الساعة أيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنمَا عِلْمها عِنْدَ رَبَي لاَ يُجَليهَا لِوَقْتهَا إَلا هُوَ ثَقلتْ في السمَوَات وَالأرْض لاَ تأتِيكُمْ إلا بَغْتَة) (4) . ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وذلك [مثل] إقامة إعرابه ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم، وذلك كسامع منهم لو سمع تالياً يتلو: (وَإذا قيل لَهُم لاَ تُفْسِدُوا في الأرْض قَالُوا إنما نحْنَ مصْلِحُونَ أَلاَ إنهمْ
هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَ يَشْعُرُونَ) (1) ، لم يجهل أن [100/أ] ، معنى الإفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الإصلاح هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة، وإن جهل المعاني التي جعلها الله تعالى [إفساداً، والمعاني التي جعلها الله] (2) صلاحاً (3) . فصل (4) فأما تعليم التفسير، ونقله عمن قوله حجة، ففيه ثواب وأجر، كتعليم الأحكام من الحلال والحرام. وقد فسر أحمد رحمه الله آيات كثيرة، رواها المروذي عنه في سور متفرقة، سُئل عنها، وقال في قوله تعالى: (إنني مَعَكُمَا) (5) : هو جائز في اللغة، يقول الرجل: سأجري عليك رزقاً،، أي: أفعل بك خيراً (6) . وظاهر هذا أنه أجاز تفسير القرآن على مقتضى اللغة. والدلالة عليه: قوله تعالى: (كتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدّبّرُوا آيَاتِه وَلِيَتَذَكرَ أولُوا الألْبَابِ) (7) ، وهذا فيه حث على معرفة التنزيل.
واحتج على ذلك يحيى بن سلام في تفسيره بما رواه عن أبيه عن الخليل ابن مرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) (1) ، قال يحيى: ولولا أن علم التأويل من الحق ما دعا به النبي عليه السلام لابن عباس.
.................................
.................................
وروى أبو بكر بإسناده في تفسيره عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن، حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن (1) وبإسناده عن شقيق (2) قال: استعمل علي بن أبى طالب ابن عباس علي الحج، قال: فخطب الناس خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا، ثم قرأ عليهم سورة النور، فجعل يفسرها (3) . وبإسناده عن سعيد بن جبير (4) قال: من قرأ القرآن، ثم لم يفسره،
كان كالأعمى أو كالأعرابي (1) فصل في تفسير القرآن على مقتضى اللغة هل يجوز أم لا؟ (2) قد فسر أحمد رحمه الله قوله: (إنني معكما) (3) على مقتضى اللغة، قال: هو جائز في اللغة، يقول الرجل: سأجري عليك رزقاً (4) . وقال أيضاً رحمه الله: تفسير روح الله إنما معناها: أنها روح خلقها الله تعالى، كما يقال: عبد الله، وسماء الله، وأرض الله (5) . ونقل الفضل بن زياد عنه وقد سئل عن القرآن تمثل له الرجال بشيء من
الشعر، فقال: ما يعجبني. فظاهر هذا يقتضي المنع. ووجه الجواز: قوله تعالى: (إنا أنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِياً) (1) ، وقوله: (بلسَان عَرَبِي مُبينِ) (2) ، وهذا يفيد أنا إذا تحققنا معنى اللفظ من طريق اللغة، صح حمل القرآن عليه. ووجه من منع: قوله تعالى: (لِتُبَينَ للِناسِ مَا نُزلَ إلَيْهِم) (3) ، فاقتضى ذلك أن البيان من جهته يوجد. والجواب: أن هذا محمول على بيان الأحكام. واحتج بقوله: (الأعْرَابُ أشَد كُفْراً ونفَاقاً وَأجْدَرُ ألا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أنْزَلَ الله عَلى رَسُولِهِ) (4) . والجواب: أنا لا نحتج بقولهم في الحدود، وإنما نحتج بقولهم [100/ب] في الألفاظ. واحتج بأنا وجدنا منهم الكفر والكذب، نحو قولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وتسميتهم الأصنام آلهة فقال تعالى: (إنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُموها) (5) . والجواب: أنا نرجع اليهم في الألفاظ المفردة المرسلة، نحو السواد
والبياض والإنسان لا في الألفاظ المركبة، التي يقع فيها الصدق والكذب. وفي قولهم: ثالث ثلاثة، في أفراد هذه الألفاظ ليس فيها صدق ولا كذب. فصل وأما تفسير الصحابة فيجب الرجوع إليه (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في مواضع من كتاب طاعة الرسول رواه صالح عن أبيه فقال: قال الله تعالى: (يا أيها الَذينَ آمنُوا لاَ تقْتلوا الصيد وَأنْتُم حرُمٌ ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل) (2) فلما حكم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظبي بشاة (3) ، وفي النَعامة ببدنة (4) ، وفي الضبع بكبش (5) ، دل على أنه أراد
السنة (1) . وقال: (فَمَنْ تَمتع بالْعُمرَةِ إلَى الْحج فما اسْتيسر مِن الْهَدْيِ) (2) فلما استدل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذبحوا البقرة عن سبعة، دلّ على أن ذلك أيسر (3) .
وقال: (فَمَنْ لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) (1) ، فلما قال من قال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون آخر ذلك يوم عرفة، استقر حكم الآية على ذلك (2) . وقال: لما كان أكثر قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ان الكلالة من لا ولد له ولا والد (3) ، استقر حكم الآية على ذلك.
مسألة
والوجه فيه: أنهم شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، فعرفوا ذلك، ولهذا جعلنا قولهم حجة. فأما تفسير التابعين فلا يلزم. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي داود: إذا جاء الشيء عن الرجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي، لا يلزم الأخذ به (1) . وقال رحمه الله في كل موضع آخر: الاتباع أن يتبع ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، ثم هو بعد في التابعين مخير (2) . والوجه فيه: أن قول آحادهم ليس بحجة. ويفارق آحاد الصحبة، لأنه حجة. وقال في رواية المروذي: ينظر ما كان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن فعن أصحابه، فإن لم يكن فعن التابعين. ويمكن أن يحمل هذا على إجماعهم. مسألة لايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (3) . لأن وقت الحاجة وقت الأداء، فإذا لم يكن مبيناً تعذر الأداء، فلم يكن بد من البيان.
وأما تأخيره عن وقت الخطاب وقبل وقت الحاجة: فقد اختلف أصحابنا: فقال شيخنا أبو عبد الله (1) رحمه الله يجوز ذلك. وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية صالح وعبد الله في [101/أ] الآية ترد عامة، ينظر ما جاءت به السنة، فهو دليل علي ظاهرها، ولا فرق بين تأخير البيان عن المجمل أو عن العموم. وذلك مثل قوله تعالى: (اقْتُلوا الْمشركينَ) (2) ، (وَالسارِقُ وَالسارِقة فَاقْطَعُوا أَيْديهما) (3) ، (الزَّانية وَالزَّاني فاجْلدُوا) (4) ، (وَآتُوا حقه يوْمَ حَصًادِهِ) (5) . وبهذا قالت الأشعرية، إلا أنهم لا يثبتون للعموم صيغة، لكنهم يجوزون تأخير بيان المراد، كاللفظ الذي أراد خلاف ظاهره، وبيان المجمل إلى وقت الفعل. وقال أبو بكر عبد العزيز وأبو الحسن التميمى: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب. فقال أبو بكر في أول كتاب التنبيه: لا يجوز تأخير البيان عن وقت النطق. وقال في مجموع له بخطه: بيان الرد على من قال بتأخير البيان إلى وقت العمل، وذكر كلاماً كثيراً.
وقال في إثباته: اتفق الفريقان على أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة، ولم يحده إلا وقت التكليف. وقال أبو الحسن التميمي في بعض مسائله: لا يختلف المسطور عن أحمد رحمه الله: أنه لا يجوز تأخير البيان. وبهذا قالت المعتزلة (1) ، وأهل الظاهر: داود وشيعته (2) . وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز تأخير بيان المجمل، ولايجوز تأخير بيان العموم (3) . واختلف أصحاب الشافعي على مذاهب: فذهب الأكثر منهم إلى جواز ذلك على الإطلاق. وقال بعضهم: يجوز في المجمل، ولايجوز في العموم (4) . فالدلالة على جواز تأخيره في الجملة: قوله تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) (5) فأمره أن يتبع قرآنه ويسمعه (6) ، وأخبر أنه يبينه فيما بعد؛ لأن "ثم" تقتضي مهلةً وفصلاً. فإن قيل: معناه: إن علينا إظهاره وإعلانه، ألا ترى أنه اشترط ذلك في جميع القرآن؟
قيل: حقيقة البيان هو إظهار الشيء من الخفاء إلى حالة التجلي والإظهار، وهذا إنما يكون فيما يفتقر إلى البيان، فأما ما هو مبين فلا يوجد. وقولهم: إنه اشترط ذلك في جميع القرآن، فلا يمتنع أن يكون المراد به بعضه، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لتُبَينَ للنَّاسِ مَا نُزلَ إليهم) (1) ، والمراد بعضه (2) . وأيضاً قوله تعالى في قصة نوح: (إنَّ ابْنِي مِنْ أَهلِي وَإن وَعْدَكَ الحق) فقال: (إنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إنهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح) (3) فدل على أن الله تعالى قد كان أطلق الأهل، وأراد به المصلحين منهم، دون المفسدين، وأخر بيانه عن وقت الخطاب. وأيضاً: فإن الله تعالى أوجب الصلاة مجملة، فقال: (إن الصلاَةَ كانت علىَ الْمؤمنين كتاباً موقوتاً) (4) ، ثم بينها جبريل [101/ب] عليه السلام بفعله صلاة في أول الوقت وآخره، ثم بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله، فقال عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . وأيضاً: فإن تأخير بيان النسخ يجوز عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، كذلك يجوز تأخير بيان التخصيص؛ لأن النسخ تخصيص الأزمان، والتخصيص تخصيص الأعيان؛ لأن قوله: توجهوا إلى بيت المقدس في كل
صلاة، قام في جميع الأزمان، وقد أراد به بعض الأزمان، وأخر بيانه. وقوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) (1) عام في جميع أعيان المشركين، وأراد به بعضهم، وأخر بيانه عن وقت الحاجة فلم يكن بينهما فرق. فإن قيل: تأخير بيان النسخ لا يخل بصحة الأداء، وتأخير بيان التخصيص يخل بصحة الأداء. قيل: لا يخل بصحة الأداء، لأنا لا نجوز تأخير البيان عن وقت الفعل. وجواب [آخر] وهو: أن خطاب العاجز عن الفعل يصح إذا أقدره عليه في حال الفعل، وعدم القدرة يخل بصحة الأداء، ولا يمنع ذلك من صحة الخطاب. فإن قيل: لا يجوز أن تؤخر القدرة عن وقت الفعل، فلا يخل بصحة الأداء. قيل: وكذلك لا يجوز أن يؤخر البيان عن وقت الفعل، فلا فرق بينهما. فإن قيل: الخطاب العام في الأزمان مخالف للخطاب العام في الأعيان في موضوع اللغة، ألا ترى أن رجلاً لو قال لعبده أو وكيله: اعط فلاناً كل يوم رطلاً من خبز، فلما كان بعد مدة منعه من ذلك، كان الخطاب في الأول حسناً عند جميع العقلاء، وإن كان قد أخر بيان وقت المنع إلى وقت الحاجة، ولو قال له: اعطه كل يوم رطلاً من تمر، وهو يريد به رطلاً من لحم أو خبز، كان الخطاب في قبيحاً، فدل على الفرق بينهما.
قيل: قوله: "اعطه كل يوم رطلاً من تمر"، وهو يريد رطلا، ً من لحم أو خبز لا يفيد المأمور به، فكان عبثاً أو لغواً، وليس كذلك إذا قال: "اقتلوا المشركين"، فإن القتل المأمور به معقول معلوم، والخطاب مفيد، وإنما أخر بيان من يوقع القتل فيه، كما أخر في النسخ بيان الزمان الذي يوقعه فيه. فإن قيل: لا يجوز تأخير بيان النسخ، إلا أن يقترن به بيان النسخ، فيقول: صلوا إلى بيت المقدس، ما لم أنسخه عنكم، وهذا يمنع من عموم الخطاب في جميع الأزمان. وقيل: إن هذا سؤال كان يورده ابن الدقاق (1) . قيل: هذا خطأ؛ لأن هذا مقرون بكل خطاب، وإن لم ينطق به المخاطب، لأن الدليل قد دل على جواز النسخ، فصار ذاك مقدراً في خطاب صاحب الشرع ومقروناً به، وإن لم يذكره، فوجب [102/أ] أن يكونا سواء، فيجب أن يخبر هذا في بيان العموم، فيقول (2) : اقتلوا المشركين إلا من أبين لكم. ودليل آخر، وهو: أنه يجوز أن يخاطب العاجز عن الفعل، ويؤخر خلق القدرة له وإيجاد الآلة التي بها يتمكن من الفعل إلي وقت الفعل؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك قبل الفعل، كذلك البيان لا حاجة به إليه قبل الفعل، ولا فرق بينهما؛ لأن الفعل يفتقر إلى القدرة كما يفتقر إلى البيان. فإن قيل: تأخير القدرة عن الفعل لا يفضي إلى أن يعتقد المخاطب جهلاً؛ لأنه يعلم أنه أريد به حال القدرة، والبيان متى تأخر اعتقد المخاطب جهل ما أمر به.
قيل: لا يعتقد جهلاً؛ لأنه يعتقد قتل المشركين أجمع، ما لم يرد البيان. واحتج المخالف: بأن تأخير البيان يؤدي إلى اعتقاد الجهل والعزم على الباطل؛ لأن المخاطب يلزمه اعتقاد عمومه، وهذا اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به، وذلك جهل، ويلزمه أن يعزم على قتل من وصل إلى قتله من المشركين، وهذا عزم على باطل؛ لأن من بذل الجزية أو أمنه (1) مسلم لا يجوز قتله، وإذا أدّى إلى هذا، وجب أن لا يجوز تأخيره. والجواب: أنه لا يؤدي إلى هذا؛ لأنه يعتقد عمومه إذا تجرد عما يخصه ويصرفه عن ظاهره، كما نقول أجمع في النسخ، وكما نقول إذا أسمعه الله العام ولم يسمعه الخاص، وكان بيان الخصوص في الأصول سابقا للعموم، وكان يحتاج إلى الاجتهاد في طلبه، واستقراء الأصول بسببه، فإنه في حال اجتهاده يعتقد العموم إن تجرد عما يخصه عند المخالف، كذلك في مسألتنا يعتقد العموم والظاهر إن تجرد، والخصوص والباطن إن اقترنت به قرينة. واحتج: بأن العموم والخصوص يفيد كل واحد كل منهما غير ما يفيده الآخر، فلا يجوز أن يعبر بأحدهما عن صاحبه من غير بيان، كما لا يعبر بالصلاة عن الصيام، وإذا كان كذلك، بطل أن يعبر بالعموم عن الخصوص من غير إشعار. والجواب: أنه باطل بالعموم في الأزمان، فإنه يفيد غير ما يفيده الخصوص، ومع هذا فقد يعبر بأحدهما عن صاحبه كذلك. ولا يشبه هذا ما قالوه من الأمر بالصلاة، أنه لا يكون عبارة عن
الصيام، ألا ترى أنها لا تكون عبارة عنها بلفظ مقارن، فلو قال: "صلّ" ثم قال عقيبه: أردت بذلك الصيام لم يصح، ولو قال في العموم: "اقتلوا المشركين"، ثم قال متصلاً به: "إلا النساء"، صح. واحتج: بأنه لا سبيل للمخاطب إلى معرفة مراد المخاطب به، فوجب أن يكون قبيحاً، كما يقبح أن يخاطب العرب بلغة الزنج ولغة العجم، وكما يقبح أن يقول: "صلوا"، ويريد به: "صوموا"، ويقول: "صوموا" ويريد به: "صلوا". [102/ب] والجواب: أن ذلك الخطاب غير مفيد؛ وليس كذلك ها هنا؛ لأن هذا الخطاب مفيد؛ لأنه عرف لفظه، وعقل معناه، واعتقد فيه العموم إن بقي على حالته، والخصوص إن دل عليه الدليل. واحتج: بأن من خوطب بالعموم، فقد ألزم اعتقاده والإخبار به لغيره، فلو كان المراد به الخصوص، وقد أخبر عنه بالعموم لكان قد ألزم الإخبار بالكذب، وهذا لا يجوز تكليفه. والجواب: أن هذا يبطل بالنسخ، فإن هذا المعنى موجود فيه، ومع هذا فإنه يصح تأخيره. وعلى أنه يعتقده ويخبر عنه إن حكي معه، ولم ينقل عنه، كما قلنا في النسخ. واحتج: بأن من أطلق كلاماً له ظاهر، ثم قال بعد استقراره من غير إشعار بخلاف ذلك استقبح منه، وإن كان متعلقاً بحق آدمي لم يقبل منه، وإذا كان ذلك مستقبحا منه، لم يجز أن يرد كلام الله تعالى وكلام رسوله على ذلك. والجواب: أن هذا المعنى موجود في النسخ، وعلى أنه إنما يقبح ذلك في اللفظ الصريح، فأما المحتمل، فلا. واحتج: بأن البيان في العام كالاستثناء، فإذا لم يجز تأخير أحدهما، كذلك الآخر.
والجواب: أنه لم يجز إلحاق التخصيص بالاستثناء دون إلحاقه بالنسخ، وإلحاقه بالنسخ أولى، لأن لفظ الخصوص إذا انفرد استقل بنفسه، فإنه يقول بعد يوم: لاتقتل أهل الذمة فيفيد حكماً بنفسه كلفظ النسخ، فكان إلحاقه به أولى. ويفارق لفظ الاستثناء، فإنه لا يستقل بنفسه، ولا يفيد حكماً، فإنه لو قال: اقتلوا المشركين، ثم قال بعد يوم: إلا أهل الذمة لم يفد هذا بمجرده فائدة، لأنه لا ندري هذا الكلام إلى ماذا يرجع. واحتج: بأن الله تعالى أمر نبيه بالتبليغ على الفور، فإذا أخر البيان عن وقت الخطاب، لايكون قد بلغ على الفور. والجواب: أنا لا نسلم أنه أمر بالتبليغ على الفور، بل أمر به على التراخي، وعلى أن البيان مخالف لحكم التبليغ، وذلك لأن التبليغ يجوز أن يتأخر بدليل آخر يدل عليه، والبيان لا يجوز عندهم أن يتأخر بدليل يدل عليه، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر. واحتج: بأن تأخير البيان يفضي إلى أن يكون اللفظ الوارد في حكم ما لم يرد ويكون المخاطب به بعد وروده بمنزلته قبل وروده؛ لأنه لا ندري المراد به. والجواب: أنه باطل بالنسخ، فإن لفظ العموم المستغرق للأزمان يرد (1) مع تجويز النسخ، ولا يكون بمنزلة ما لم يرد، وعلى أنه إذا لم يرد، لم يعقل المكلف شيئاً، ولا يفيد إلزام حكم عبادة، وليس كذلك [103/أ] ، ها هنا، فإنه يفيد إلزام حكم عبادة واعتقاد العموم، إن عريَ اللفظ عن دليل التخصيص. واحتج: بأنه لو جاز تأخير البيان، وأن يكون بيانه من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخترم النبي قبل بيان المراد به، فيلزم الأمة العمل، كذلك
الخطاب، وليس المراد به هذا الظاهر، وتكون الأمة قد كلفوا غير المراد. والجواب: أنه لا يجوز في صفة الحكيم أن يخترم رسوله المبلغ المبين عنه معنى ما أراد، قبل (1) أن يبينه للناس، وإذا كان كذلك لم يفض (2) إلي ما قالوه. وعلى أنه باطل بالنسخ، لأنه يرد معرضاً، ثم قد يخترم النبي قبل بيان الناسخ، كذلك ها هنا. وعلى أن هذا غير ممتنع في بيان العموم؛ لأنه لإن اخترم قبل البيان تمسك الناس بذلك العموم، وأخذوا بموجبه، إذ ليس عليهم أن يعلموا مراد الله تعالى به من غير الظاهر منه. فصل وما ذكرنا من الدلائل، فهو دليل على أصحاب أبي حنيفة في فرقهم بين بيان العموم وبيان المجمل، ومما يخصهم أن بيان المجمل كبيان العموم؛ لأنه ينكشف به المراد باللفظ، ثم جاز ذلك في المجمل، وجب أن يجوز في العموم. فإن قيل: فرق بينهما، وذلك أن بيان العموم إذا أفاد إلزام اعتقاد أمر ليس بمراد، وهذا يقبح أن يرد به التكليف، والمجمل يفيد اعتقاد حكمه وبيان صفته حال الحاجه، فيحصل به توطين النفس لفعل المأمور به، وهذا حسن في التكليف. قيل: يبطل بالنسخ، فإنه يجوز تأخيره، وإن أفضى إلى ما قالوه.
مسألة
وعلى أنا قد بينا أنه يعتقد عموم ذلك، ما لم يخص، وينقل عنه، كما يعتقد ذلك في الزمان. مسألة (1) أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر فيها، فإن لم يكن على سبيل القربة، كالأكل والشرب واللباس والقيام والقعود ونحو هذا، فإنه يدل على أنه فعل مباح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل المحظور، وإن فعل لم يقر عليه. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله عن الاضطجاع، فقال: ما فعلته إلا مرة، وليس هو من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلم يجعل ذلك حجة؛ لأن الاضطجاع ليس بقربة. وإن كان على سبيل القربة والطاعة والعبادة، فعلى ثلاثة أضرب: ما كان بياناً، أو امتثالاً لأمر، أو ابتداءً من غير سبب. فإن كانت بيانا لم تدل على شيء غير البيان، ويكون حكمها مأخوذاً من المبين، فإن كان المبين واجباً، فقد بين الواجب، وإن كان ندباً، فقد بين الندب. والبيان على ضربين: [بيان] مجمل وتخصيص عموم. فبيان المجمل نحو قوله تعالى: (وَآتُوا حقَّهُ يَوْمَ حَصَاده) (2) ثم أخذ النبي يوم الحصاد العشر، فكان فعله صلى الله عليه بياناً لذلك [103/ب] المجمل، وفعله لا يدل على غير البيان.
وبيان التخصيص نحو قوله تعالى: (وَالسارِقُ وَالسارِقة فَاقْطَعُوا أيْديهمَا) (1) هذا عام في كل سارق سرق، قليلاً أو كثيراً، من حرز وغير حرز، فإذا حمل إليه سارق من غير حرز وأقل من ربع دينار فلم يقطعه كان (2) هذا بياناً وقع به التخصيص. وإنما يعلم أن هذا خرج على وجه البيان، إذا تقدم العام. وإن كانت امتثال أمر، لم تدل (3) أيضاً في أنفسها على شيء، غير أن ينظر إلى الأمر، فإن كان على الوجوب، علمنا أنه فعل واجباً بالأمر، وان كان ندباً، علمنا أنه فعل الندب بالأمر، فأما من فعْلِه، فلا. وأما إن كان ابتداءً من غير سبب مستند إليه ففيه روايتان: إحداهما: أنها على الوجوب، أومأ إليه رحمه الله: في مسائل، فقال في رواية حرب: يمسح رأسه كله، كذا جاء الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مسح الرأس كله" (4) . وقال أيضاً رحمه الله في رواية الأثرم: إذا رمي الجمار، فبدأ
بالثالثة ثم الثانية ثم الأولى، لم يصح، قد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمار (1) ، وبين فيها سنته (2) . وقال أيضاً في رواية الجماعة: المغمى عليه يقضي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغمي عليه، فقضى (3) . وقد احتج بأفعاله على الوجوب.
وبهذا قال أصحاب مالك (1) . وفيه رواية أخرى: أن ذلك لا يقتضي الوجوب، وإنما يقتضي الندب، نص عليه رحمه الله في رواية إسحاق بن ابراهيم فقال: الأمر من النبي سوى الفعل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل الشيء من جهة الفضل، وقد يفعل الشيء هو له خاص، وإذا أمر بالشيء فهو للمسلمين. وقال في رواية الأثرم: وقيل له: أليس ينبغي أن يستعمل بأن يقول كما يقول المؤذن؟ قال: ويجعل هذا واجباً، إنما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع المؤذن، قال كما يقول (2) ، فهو فضل، ليس على أنه واجب. وهو اختيار أبي الحسن التميمي فيما وجدته له مسألة مفردة، يقول فيها: انتهى إليّ من قول أبي عبد الله: أن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست على الإيجاب، إلا أن يدل دليل، فيكون ذلك الفعل الدليل الذي صار به على الإيجاب. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه أبو سفيان السرخسي عن
أصحابه (1) ، وأهل الظاهر أيضاً (2) . وذهبت المعتزلة (3) والأشعرية الى أن ذلك على الوقف، ولا يحمل على الوجوب، ولا على الندب إلا بدلالة. واختلف أصحاب الشافعي على مذاهب: منهم من قال: هي على الوجوب. ومنهم من قال: هي على الندب. ومنهم من قال: هي على الوقف (4) . فالدلالة [104/أ] على أنها على الوجوب: قوله تعالى: (قُلْ يا أيها الناس) إلى قوله: (وَاتَّبِعُوهَ لعلكم تَهْتدُونَ) (5) ، فأمر باتباعه، والأمر على الوجوب.
فإن قيل: الاتباع هو: أن يفعل ذلك على الوجه الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا لم يعلم الوجه الذي أوقع الفعل عليه، من وجوب أو ندب أو إباحة، لم نكن متبعين له. قيل: الاتباع يكون في الفعل، وإن اختلف قصد التابع والمتبوع، كالمتنفل يأتم بالمفترض، فيتبعه في صلاته، وإن اختلفا في القصد والاعتقاد وكذلك من خرج للجهاد، فتبعه آخر يريد تجارة، سمي متبعاً له في سفره وإن خالفه في قصده. فإن قيل: في الآية إضمار، وتقديره: واتبعوه في فعله، فيحتاج أن تثبت صفة الفعل على أي وجه وقع حتى يتبع فيه. قيل: نحن نستدل بالآية على وجوب اتباعه في فعله الواقع منه وفي صورته وصفته، فأما كيفية وقوعه فلا تعرض له. ويدل عليه قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول الله أسْوَةٌ حسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (1) . فإن قيل: هذا يدل على أن التأسي بالنبي مستحب. قيل: قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) تهديد (2) يدل على أن ذلك إيجاب وإلزام. فإن قيل: قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) ليس بتهديد، لأن الرجاء تأميل النفعة.
قيل: المراد به ها هنا لمن كان يخاف الله واليوم الآخر. قال أبو ذؤيب الهذلي (1) : إذَا لسعَتْهُ النّحْلُ لم يَرْجُ لَسْعَهَا ... وخَالَفَها في بَيْتِ نُوب عَوَامِلِ (2) يريد: لم يخف لسعها من اشتيار (3) العسل في بيوت النحل. والنوب:
النحل (1) ، والنوب (2) : القرب. ويدل عليه قوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتبعُوني يُحْببْكم اللهُ وَيغفِرْ لكُم ذُنُوبكَمُ) (3) ، وهذا يدل على أن التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعه واجب. ومن جهة السنة: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، فخلع نعله، فخلعوا نعالهم، فلما فرغ قال: "لم خلعتم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا، فقال: "أتاني جبريل فأخبرني أن فيهما قذراً" (4) .
فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استفهم منهم، فقالوا فعلنا كفعلك، فلم ينكر عليهم، ولم يقل لا يجوز لكم ذلك، بل أقرهم على اتباعه، وبين لهم السبب الذي فعل لأجله. فإن قيل: فلو كان اتباعه واجباً لم يستفهم منهم؛ لأنهم فعلوا الواجب. قيل: يحتمل أن يكون استفهم لينظر هل فعلوا ذلك لاتباعه أم لمعنى آخر؟ فلما أخبروه أنهم فعلوه لأجله، [104/ب] أقرهم عليه، وبين العلة التي خلعها لأجلها. فإن قيل: لم ينكر عليهم؛ لأنه قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) . قيل: لا نعلم أن هذا القول قاله قبل هذه القصة أو بعدها، فنقف حتى نعلم كيف كان، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يصلوا كما يصلي، وخلع النعل ليس بصلاة، وإنما هي أفعال أوقعها فيها من غيرها، بدليل: أن هذا لو كثر منه وتكرر بطلت صلاته. وأيضا: ما روت أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله سألوني عن القُبلة للصائم، فقال: "لِمَ لم تقولي لهم: إني أقبل وأنا صائم (1) ؟! ". فَعَرفها
شرعَه، وأنكر عليها ترك إخبارهم لفعله. فلولا أن فعله يقتدى به لما أمرها بذلك. ولا معنى لقولهم: إن هذه أخبار آحاد فلا يثبت: بها أصول؛ لأن أخبار الآحاد إذا تلقيت بالقبول، كانت مقطوعًا بها كالتواتر. وليس في الأمة أحد يكذّب حديث خلع النعلين في الصلاة (1) . وأيضاً: وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وذلك أنهم لما اختلفوا في وجوب الغسل بالتقاء الختانين، فقال قوم: يجب. وقال أُبي بن كعب: لا يجب ما لم ينزل، وقال (2) : الماء من الماء (3) ، فسألوا عائشة فقالت: إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا (4) [فـ] رجعوا إليها وأقروها على ما احتجت به في وجوبه، فثبت أنهم أجمعوا على ذلك. وروي أن عمر رضي الله عنه قَبّل الحجر، وقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت حبيبي رسول الله قَبّلك ما قَتلتك (5) .
وغير ذلك من رجوع الصحابة إلى أفعاله في المسح وغيره. وأيضا: فإن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كأقواله، بدليل: أنه يخص به العموم، ويبين به المجمل، فوجب أن يكون بمنزلته في حمله على الوجوب عند تجرده (1) . كما أن السنة لما ساوت الكتاب فيما ذكرنا ساوته في حملها على الوجوب عند التجريد. ولأن الفعل إذا كان منه على سبيل القربة، احتمل أن يكون ندباً واحتمل أن يكون واجباً واحتمل الندب، فحمله على الوجوب أولى لما فيه من الاحتياط؛ لأن الندب يدخل في الواجب، والواجب لا يدخل في الندب. فإن قيل: فقد يكون واجباً في حقه خاصاً له، فلا يلزم غيره. قيل: إطلاق أفعاله عندنا محمولة على أنها له ولأمته، وإنما بقع منها خاصاً بدلالة، وإلا فالأمر بيننا وبينه مشترك. واحتج من قال يستحب: بقوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنتُم تُحِبونَ اللهَ فَاتبعُوني يحبِبْكم اللهُ) (2) ، ومحبته تقتضي الاستحباب دون الإيجاب.
[105/أ] والجواب: أن قوله: (فَاتَّبِعُونِي) (1) أمر، والأمر يقتضي الإيجاب. فالآية حجة لنا من هذا الوجه. وقوله: (يُحْببْكُم اللهُ) لا يقتضي الاستحباب، لأن المحبة تكون لفعل الواجب والمستحب جميعاً. واحتج: بقوله تعالى: (لقدْ كَانَ لَكُم في رَسوُلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة) (2) ولم يقل عليكم، فدل على أن التأسي به مستحب. والجواب: أن في سياقها ما يدل على الوجوب، وهو قوله: (وَمَن يَتَول فَإن اللهَ هُوَ الْغَنِيَّ الْحَميدُ) (3) فتوعد على المخالفة. ولأنه قال تعالى: (وَلَهُم اللَّعْنَةُ، وَلَهمْ سُوءُ الدارِ) (4) معناه: عليهم اللعنة. واحتج: بأن وجوب أفعال - صلى الله عليه وسلم - لا تخلو من أن تثبت بالعقل أو بالسمع، والعقل لا يقتضي وجوبها؛ لأن المصالح تختلف باختلاف أحوال المكلفين، ولهذا خالفت الحائض الطاهر، والمقيم المسافر، فيجوز أن يكون فعله صلاحا له، ومتى فعلنا مثله كان فساداً لنا، فثبت بهذا أن العقل لا يقتضي وجوب مثل أفعاله علينا، والسمع لم يرد أيضاً بذلك ووجوبه. والجواب: أنها وجبت بالسمع، وقد بينا ذلك من الكتاب والسنة والإجماع. واحتج: بأنه متى وجب علينا أن نفعل مثل فعله كنا متبعين له فيه،
ومعلوم أن المتبوع أوكد حالاً من التبع، فإذا كان كذلك، وكان (1) ظاهر فعله لا ينبىء عن وجوبه عليه، فلأن لا يدل على وجوبه علينا أولى. والجواب: أن هذا يبطل على أصل المخالف، بالأمر، فإنهم جعلوه دالاً على الوجوب في حق غيره، ولا يدل على وجوبه عليه، لأن الآمر لا يدخل تحت الأمر، فلا يمتنع أن يكون الفعل من جهته كالأمر. وعلى أنا نقول: إن ظاهر أفعاله تدل على الوجوب في حقه، كما قلنا في أوامره: هي لازمة له وهو داخل تحتها كالمأمور سواء، ولا فرق بينهما. وهذا قياس المذهب. واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل الأفعال في أحوال لا يشاهد فيها، ولا يمكن حضوره والوقوف عليه، وما هذه صفته لا يجوز أن يكون واجباً علينا؛ لأن ما لا طريق لنا إلى معرفته لا نتعبد به، وإذا لم يكن الفعل الذي هذه حاله واجباً علينا، لم يجب أيضاً غيره من الأفعال، لأنه ليس بعض أفعاله بالوجوب أولى من بعض. والجواب: أن ما يفعله في الخَلوَات يمكنه أن يخبر بها من لم يشاهد، كما أنه يجوز أن يأمر بالفعل من ليس يحضره، ثم يقع لهم بذلك الخبر. واحتج: بأنه لا يخلو أن يكون [105/ب] المعتبر في هذا الباب بصورة أفعاله التي ظهرت دون الوجوه التي عليها وقعت، أو يكون المعتبر بصورتها مع الوجوه التي وقعت عليها، ولا جائز أن يكون المعتبر بصورتها فقط؛ لأنه لو وجب ذلك لجاز لنا إيقاع مثل الفعل الذي فعله على جهة الإيجاب مع وقوعه منه على جهة الندب أو الإباحة، وهذا باطل بالاتفاق. وإذا وجب
اعتبار صورة الفعل مع الوجه الذي وقع، فهذا يمنع أن يكون ظهور فعله دلالة على الوجوب. والجواب: أن المعتبر بصورة الفعل فقط، إذا كان واقعاً على وجه القربة. وقولهم: إنه قد يقع منه على وجه الندب والإباحة، غلط؛ لأن إطلاق أفعال القرب منه يقتضي الإيجاب، وإنما يحمل على الندب بدلالة. واحتج: بأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - يَعْتوِرها معنيان: أحدهما الفعل و [ثانيهما] الترك؛ لأن الترك أحد قسمي الفعل، فلما لم يكن تركه موجباً علينا ترك الفعل الذي تركه، كذلك فعله، لا يوجب علينا مثل فعله. والجواب: أن هذا يبطل بالأمر فإنه يَعْتَوِره معنيان: الأمر والترك، وترك الأمر لا يوجب ترك ما ترك الأمر به، وأمره يوجب امتثال ما أمر به. واحتج: بأن حمله على الندب أولى؛ لأنه متحقق، وما عداه مشكوك فيه. والجواب: أن حمله على الوجوب أولى، لما فيه من الاحتياط والخروج من الغرر. واحتج أبو الحسن في مسألته (1) : بأن فعله قد يكون مصلحة له، دون أمته. والجواب: أنه يبطل بأمره إذا خرج في رجل بعينه قد تكون مصلحة له ولا يختصه.
وذكر أيضاً: بأن الصغائر قد تقع من الأنبياء، قال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبهُ فَغَوَى) (1) . وأخبر عن موسى لما قتل الرجل (هَذَا مِن عَملِ الشَّيْطَانِ) (2) . وكذلك ما وجد من إخوة يوسف، ومن داود، وإذا ثبت وقوع الخطأ منهم، لم يجب علينا احتذاء أفعالهم. والجواب: أنا قد بينا أنه إنما يجب ما كان على سبيل القربه والطاعة. واحتج من قال: إنها على الوقف: بأنا لا نعلم على أي وجه فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل أن يكون فعله واجباً، ويحتمل أن يكون ندباً، ويحتمل [أن يكون] (3) إباحةً، ويحتمل أن يكون مخصوصاً دون أمته، وإذا لم يعلم على أي وجه أوقعه لم يصح الاقتداء به. والجواب: أن الفعل المتجرد عن القرائن لا يكون إلا واجبا عاما فيه وفي أمته، وإنما يكون ندباً أو خاصاً له عند انضمام قرينة الندب، كما قلنا في صيغة الأمر إذا وردت [106/أ] متجردة عن القرائن اقتضت الوجوب، وإنما يحمل على الندب بقرينة. وعلى أنه وإن كان محتملا للوجوب والندب، فحمله على الوجوب أولى، لما فيه من الاحتياط. وجواب آخر، وهو: أن الاتباع قد يكون في الفعل وإن اختلف
قصد التابع والمتبوع، فالمتنفل يأتم بالمفترض، فيتبعه في صلاته، وإن اختلفا في القصد والاعتقاد. وكذلك من خرج للجهاد، فتبعه آخر يريد تجارة، سمي متبعاً له في سفره، وإن خالفه في قصده. ومما يلحق بأول المسألة ما رأيت (1) في آخر كتاب النفقات من كتاب الشافي بخط عتيق: روى محمد بن هبيرة البغوي (2) عن أحمد بن حنبل رحمه الله قلت له: أليس أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً؟ قال: نعم، إلا أن منه أشد، قلت له: ففعله؟ قال: فعله ليس عليك بواجب، وذلك أنه كان يقوم حتى ترم قدماه (3) ، ويفعل أفعالا لا تجب عليك (4) . وبهذا قال أصحاب أبى حنيفة. فصل وإذا ثبت أن أفعاله على الوجوب، فإن وجوبها من جهة السمع، خلافاً لمن قال: تجب بالعقل.
دليلنا:
دليلنا: أن أصل النبوة لما لم يثبت عقلاً، وإنما يثبت بدليل، ففعله أولى. ولأن الأفعال الشرعية، تختلف بحسب اختلاف أحوال المكلفين، بدلالة أن الحائض مخالفة لحال الطاهر، وكذلك المقيم مخالف للمسافر، والغني والفقير، لم يمتنع أن تكون حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة لأحوالنا في الفعل، فيكون ما يفعله صلاحاً له، ومتى فعلنا مثله كان فساداً لنا، فوجب الرجوع في اتباع أفعاله إلى دلالة أخرى غير الفعل. واحتج المخالف: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل ذلك على وجه القربة كان من مصالحه، فيجب أن يكون من مصالحنا. والجواب: أن هذا يوجب كون الصلاة مصلحة في حق الحائض، لأنها مصلحة في حق الظاهر، وكذلك الصيام والقصر في حق المقيم، والزكاة في حق الفقير. واحتج بأن ما أوقعه صواب وحق، فوجب اتباعه. والجواب: أن هذا يبطل بما كان مخصوصاً به من الأشياء، ويبطل بالصلاة في حق الطاهر صواب وحق، وليس ذلك بصواب في حق الحائض. واحتج: بأن في ترك اتباعه إظهار خلاف عليه ومباينة له، وذلك يوجب التنفير عنه والتصغير لشأنه، فوجب حملها على الوجوب. والجواب: أن هذا باطل بما كان مخصوصاً به. ويبطل أيضاً بأفعاله المباحة من الأكل والشرب واللبس والمشي،
مسألة
فإن ترك اتباعه فيها يفضي إلى ما قالوه، ومع هذا لا يجب اتباعه وعلى [106/ب] أن هذا يوجب المشاقة في حق من لا يوجبها، وعندنا أنه يجب اتباعه فيها، وإنما تختلف في الطريقة التي بها يجب، فلا يصح ماقالوه. مسألة (1) يجوز أن يكون النبي الثاني متعبداً بما تعبد به الأول، والعقل لا يمنع من ذلك؛ لما فيه من المصلحة له، فلما لم يمنع أن يتفق حكم زيد وعمرو فيما هو مصلحة لهما من الشرعيات، ولم يمتنع أيضاً أن يختلف حكمهما في ذلك، وجب أن يجوز كون النبي الثاني متعبداً بما تعبد به الأول. فإن قيل: لو جاز أن يكون الثاني متعبداً بما كان الأول متعبدا به لكان لا فائدة في بعثه وإظهار الإعلام على يده: ولأنه لم يأت بشريعة مبتدأة، وإنما نقل إلى قومه شريعة من تقدمه. قيل: إنما يحسن إظهار الإعلام على يد النبي الثاني؛ لأنه لا بد من أن يأتي بما لا يعرف إلا من جهته، إما أن يكون ما يأتي به في شريعة مبتدأة، أو يكون ذلك مما كان الأول متعبداً به، إلا أنه قد درس وصار بحيث لا يعرف إلا من جهة النبي الثاني (2) . فإن قيل: فما أنكرتم أن لا يجوز أن يتعبد الثاني بخلاف ما كان الأول
متعبداً به؛ لأْنه حينئذ يصير راداً لما أتى به الأول ومخالفاً له فيه، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز أن يخبر الثاني بخلاف ما أخبر به الأول. قيل: لو كان الثاني متعبداً بما تعبد به الأول [فذلك] لا يوجب أن يكون راداً لما أتى به في الأول؛ لأنه يقول: ما يأتي به الأول حق وصواب، مثل ما أتيت به، وإن كان مخالفاً له، كما أن المستشارين إذا أشار أحدهما بخلاف ما يشير به صاحبه، لم يكن أحدهما راداً لرأي الآخر، بل يقول كل واحد منهما: إن ما يراه صاحبي صواب منه، وما رأيت أنا صواباً مني، وليس هذه حال الخبر، لأنه إنما يكون صدقاً وكذباً بحال (1) يرجع إليه؛ لأنه إن كان مخبره على ما أخبر به كان صدقاً (2) ، وإن كان بخلاف ما أخبر به كان كذباً. وأما الأفعال الشرعية، فإنها لا تكون حقاً وصواباً بحال يرجع إليها، وإنما يكون صوابا، لما فيه من المصلحة، فيكون الفعل الواحد مصلحة في حال، وتكون المصلحة في خلافه في حال أخرى، كالمرأة الطاهر (3) تكون المصلحة لها في الصلاة والصيام، وإذا حاضت كانت المصلحة لها في ترك ذلك. وكذلك المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، ولا يمتنع أن تكون المصلحة للنبي الثاني في أن يتعبد بخلاف ما تعبد به الأول. فإن قيل: كيف يصح هذا على أصلكم، وعندكم أن العقل لا يبيح ولا يحظر؟ قيل: من أصلنا: أن العقل لا مدخل له في إباحة شيء [107/أ] ولا
مسألة
حظره، وكلامنا هاهنا: هل العقل يحيل ذلك؟ ولسنا نمنع وجوب (1) أشياء لا يحيل وجودها العقل كرؤية الله تعالى، وأشياء يحيل العقل وجودها كاجتماع الضدين. مسألة (2) إذا ثبت جواز ذلك، فهل كان نبينا متعبداً بشريعة من قبله أم لا؟ فيه روايتان: إحداهما: أن كل ما لم يثبت نسخه من شرائع من كان قبل نبينا عليه السلام فقد صار شريعة لنبينا، ويلزمنا أحكامه من حيث إنه قد صار شريعة له، لا من حيث كان شريعة لمن قبله. وإنما يثبت كونه شرعاً لهم بمقطوع عليه، إما الكتاب أو الخبر (3) من جهة الصادق أو بنقل متواتر، فأما الرجوع إليهم وإلى كتبهم فلا. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا، فقال في رواية أبي طالب فيمن حلفت بنحر ولدها، [عليها] كبش (4) ، تذبحه وتتصدق بلحمه، قال الله تعالى: (وَفديناهُ بِذِبْح عَظِيم) (5) .
فقد أوجب أحمد رحمه الله كبشاً في ذلك، واحتج بالآية عليه، وهي شريعة إلي إبراهيم. وقال في رواية أبي الحارث والأثرم وحنبل والفضل بن [زياد و] (1) عبد الصمد (2) وقد سئل عن القرعة، فقال: في كتاب الله في موضعين: قال الله تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحضِينَ) (3) ، وقال: (إذْ يُلقُونَ أقلامهُم) (4) فقد احتج بالآيتين في إثبات القرعة، وهي في شريعة يونس ومريم. وقال أيضاً في رواية أبي طالب وصالح في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم فيهَا أَن النَّفْسَ بالنَّفْسِ) (5) فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يُقتل مؤمن بكافر) (6) ،َ قيل له: أليس قد قال الله تعالى: (النفس
بالنفس) ؟ قال: ليس هذا موضعه، علي بن أبي طالب يحكي ما في الصحيفة (لا يقتل مؤمن بكافر) ، وعن عثمان ومعاوية (1) : "لم يقتلوا مؤمناً بكافر" (2) .
وهذا أيضاً يدل على أن الآية على ظاهرها في المسلمين ومن قبلهم، ولكنه عارضها بحديث الصحيفة، ولو لم يكن كذلك لما عارضها، ولقال: ذلك خاص لمن قبلنا. وبهذه الرواية قال أبو الحسن التميمي في جملة مسائل خرجها في الأصول. وهو قول أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه أبو سفيان عن أبي بكر الرازي. وفيه رواية أخرى أنه لم يكن متعبداً بشيء من الشرائع، إلا ما دل الدليل على ثبوته في شرعه، فيكون: شرعاً له مبتدأ. أومأ إليه رحمه الله في رواية أبي طالب في موضع آخر، فقال: (النفْسُ بالنفْسِ) كتبت على اليهود، وقال: (1) (وَكتبنا عليهمِ فِيهَا) (2) َ [أي] (3) في التوراة، ولنا (كُتِبَ عَليْكُم الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الحُر بِالحر وَالعبْدُ بالعبد وَاْلأنْثَى بالأنْثَى) (4) . وبهذا قالت المعتزلة (5) والأشعرية.
واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: ما لم [107/ب] يثبت نسخه شرع لنا. ومنهم من قال: ليس بشرع لنا. واختلف القائلون بأنه كان متعبداً: فقال بعضهم: بشريعة إبراهيم. وقال قوم: بشريعة موسى إلا ما نسخ. وقال قوم: بشريعة عيسى؟ لأنها ناسخة لشريعة موسى. والأشبه: أنه كان متعبداً بكل ماصح من شرع من كان قبله من الأنبياء. فالدلالة على أنه شرع لنا: قوله تعالى: (أولئكَ الَّذيِنَ هَدىَ اللهُ فَبِهُداهُم اقْتَدِه) (1) ، فذكر الله تعالى أنبياءه (2) : إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وغيرهم، وأخبر أنه هداهم، وأمر باتباعهم فيما هداهم به، والأمر يقتضي الوجوب. فإن قيل: إنما أمر باتباعهم في التوحيد وما يدل العقل عليه لوجوه: أحدها: أنه أضاف ذلك إليهم، فاقتضى ما يقطع على كونه شرعاً لهم، وهو التوحيد، فأما غيره من الأحكام فغير مقطوع عليه، بل يحكم به من جهة غلبة الظن. ولأنه قال: (وَمِن آبائِهِم وَذُرياتِهِمْ) (3) ، وهدى الذرية هو التوحيد.
ولأن الله تعالى ذكر من لم يكن نبياً في جملة من أمره بالاقتداء به من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم. ولأن ملة إبراهيم قد كان فيها المنسوخ، ومعلوم أنه لا يتعبد بالمنسوخ. قيل: الهدي يتناول التوحيد وغيره، فالآية تقتضي وجوب الاتباع في جميعه. وعلى أن التوحيد لا يتبع فيه غيره عندهم، وإنما يوحد بما هو مأمور [به] ، والآية تقتضي اتباع غيره. وجواب آخر وهو: أن التوحيد عندنا وما يدل العقل على صحته يجب بالشرع، ولا يجب بالعقل عبادة موجبة، ولا يصح السؤال. وقولهم: إننا لا نقطع على أن غير التوحيد هدى لهم، فمتى لم نقطع على ذلك ونعلمه من جهة يقع العلم بها لم يجب اتباعه. وما ذكروه من الذرية، فقد يكون التوحيد هدى لهم، وقد يكون غيره هدى لهم، فيجب اتباع جميعه. وأما ذكر من لم يكن نبياً في جملة أمره بالاقتداء به، فغير مانع مما ذكارنا؛ لأن من لم يكن نبياً كانوا على شرائع الأنبياء صلوات الله عليهم متمسكين بها، بدلالة قوله تعالى: (وَاجتبينَاهُم وَهديناهُم إلى صِرَاط مُستْقيم) (1) وقد قال تعالى: (وَاتبعْ سَبِيلَ مَنْ أنَابَ إلي) (2) ، وقال: (ويتبع غير سبيل المُؤْمِنِينَ) (3) ، فلما
كان سبيل المؤمنين متبعا، لم يمتنع أن يؤمر النبي باتباع ما اتبعه غيره ممن تقدمه. وقولهم: إن في شريعة إبراهيم منسوخاً لا يضر؛ لأنا لما علمنا أنه لا يصح تكليف المنسوخ، علم أن الأمر لم يتناوله. فإن قيل: لما أمر باتباعهم في هداهم صار ذلك ثابتاً بدليل شرعي، ونحن لا نمنع ذلك، وإنما الخلاف في حالة الإطلاق. قيل: عندكم إذا دل على ذلك دليل شرعي [108/أ] صار حكماً مبتدأ، فإذا فعله الإنسان، لم يكن مقتدياً بهم ولا متبعاً لهم، والآية تقتضي اتباعهم والاقتداء بهم فيه. ويدل عليه قوله تعالى: (وَكتَبْنا عَليهم فِيها أَنَّ النفْس بِالنفْسِ) (1) الآية، ولم يأمر بالاتباع، فلو كان الاتباع واجباً بأمر مجدد في شريعته لكان يقترن به، فلما لم يقترن به أمره دل على أنه إذا ثبت أنه شرع لغيره وجب عليه وعلى أمته الاتباع. ويدل عليه قوله تعالى: (ثُم أوْحينا إليك أَنِ اتبعْ مِلةَ إبْرَاهيمَ حنِيفا) (2) ، فأمره باتباع ملة إبراهيم، وأمره على الوجوب. ويدل عليه قوله تعالى: (إنا أَنْزَلْنا التَوْرَاةَ فيهَا هُدى وَنورٌ يحكُمُ بها النبيونَ الَّذينَ أسْلَمُوا للذينَ هادُوا) (3) ، ولم يفرق بين نبينا وبين سائر الأنبياء، قال: (وَمنْ لم يحكم بِما أَنْزَلَ اللهُ فأولِئكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، (فأولئِكَ هُمُ الظالِمونَ)
(فأولئِكَ هُمُ الفاسقونَ) (1) ، والتوراة مما أنزله وتواعد من لم يحكم بها. يؤكد هذا ما روي أن الربيع (2) كسرت سن جارية فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (كتاب الله القصاص) (3) . والذي في كتاب الله ما حكاه عن التوراة، وأن السن بالسن، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى الأحكام عنها، وعمل بها. فإن قيل: قوله: (كتاب الله القصاص) إشارة إلى قوله: (فَمَنِ اعتَدى عَليْكُم فَاعتدوا عليْه) (4) ، ولم يرد قوله: (السن بالسن) . قيل: هذا عام، و (السن بالسن) خاص، فكان رد كلامه إلى ما هو نص أولى من العموم. وأيضاً: فإن الحكم إذا ثبت في الشرع لم يجز تركه، حتى يرد دليل بنسخه وإبطاله، وليس في نفس بعثة النبي ما يوجب نسخ الأحكام التي
قبله، فإن النسخ إنما يكون عند التنافي، والبعثة إنما تكون بالتوحيد، وليس فيه منافاة لتلك الأحكام، فوجب التمسك بتلك الأحكام والعمل بها حتى يرد ما ينافيها ويزيلها، كما وجب ذلك قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيضا: فإنه شرع مطلق، فوجب أن يدخل فيه كل مكلف إلا أن يثبت نسخه، أصله ما ثبت من الشرع المطلق، ولأن نبينا كان قد بعثه متعبداً، فدل على أنه كان مأموراً بشرع من قبله. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (لِكل جَعلنا منكم شرعة ومنْهَاجاً) (1) ، والشرعة والشريعة واحد، والمنهاج: الطريق الواضح. والجواب: أنه لا بد أن يكون بين الشريعتين اختلاف من وجه، وهو ما نسخ، وإن كان بينهما اتفاق من وجه، فحصلت الإضافة لهذا المعنى. واحتج: بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بعثت إلى الأحمر والأصفر، وكل من بعث إلى قومه) (2) فدل على أنهم لم يكونوا مبعوثين [108/ب] إلينا، فلا يكون شرعهم لازماً لنا. والجواب: أن قوله: "بعث" يعني: متبوعاً مقصوداً إلى قومه، وغير قومه تبع له.
واحتج بما روي عن عمر بن الخطاب: أنه خرج يوماً وبريده قطعة من التوراة، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ما هذا؟ جئت بها بيضاء نقية، لو أدركني موسى ما وسعه إلا اتباعي) (1) ، وأنكر حمل التوراة، وأخبر أن موسى لو أدركه لزمه أن يتبعه. والجواب أنه إنما أنكر عليه، لأن التوراة مبدلة مغيرة، وأكثرها
منسوخ، فلا يجوز التمسك بها والرجوع إليها، ونحن لا نرجع إلى ما ثبت بالتوراة، وإنما نرجع إلى ما ثبت بدليل مقطوع عليه من قرآن أو خبر متواتر أو سنة متواترة أو وحي نزل به. وقوله: (لو أدركني موسى لزمه أن يتبعني) ؛ لأنه يقتضي [أن يكون] واحداً من أمته، فيلزمه اتباعه. فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العلة في نهيه عن النظر في التوراة: أنه لو كان موسى حيا لم يسعه إلا أن يتبعه، فامتنع أن تكون العلة في النهي كونها مغيرة مبدلة. قيل (1) : واحتج: بأن شرع من قبلنا لو كان شرعاً لنا لم يتوقف عن الجواب في الحادثة حتى ينزل الوحي، فلما توقف ولم يعمل بشرع من قبله، ثبت (2) أنه ليس بشرع له. والجواب: أنه توقف؛ لأنه لم يكن عنده الحكم، ولا ثبت عنده الحكم في شرع غيره، فلهذا توقف، ألا ترى أن ما ثبت عنده صحته من أحكامهم، مثل استقبال بيت المقدس في الصلاة (3) ، وغير ذلك، لم يتوقف فيه، بل كان يسارع إلى اتباعه والاقتداء به. واحتج: بأنه لا يمتنع أن تكون المصلحة لأمة نبي في شيء، ومصلحة أمة أخرى في ضدها، فإذا لم يمتنع هذا امتنع (4) أن يكون: شرعهم شرعاً لنا.
والجواب: أنه لا يمتنع أن تكون مصلحة لهم، ويتصل بأمة بعدها، كما أن الصحابة تتعبد بما هو مصلحة لهم، ويكون شرعاً وديناً لمن بعدهم من التابعين. واحتج: بأنه لو وجب علينا اتباع شرعهم لوجب أن نتتبع أدلتهم ونعرفها، كما يجب ذلك في حكم الإسلام، ولوجب علينا حفظ شريعتهم ودراستها. والجواب: أنه لا يمتنع أن يقال: إنه ثبت عندنا صحة بعض الأدلة بالأوجه التي ذكرناها، فوجب (1) المصير إلى موجبه والعمل به، كما يجب المصير إلى نفس الحكم، ويجب حفظه ودراسته ما يلزمنا حكمه، وهو ما ثبت عندنا كونه شرعاً لهم، فأما ما لم يثبت، وإنما يخبرون هم به، فإنه لا يجب ذلك؛ لأن حكمه لا يلزمنا. واحتج: بأنه إنما يجب الرجوع إلى أحكام [109/أ] الشرع، إذا عرف جمل أحكامه وتفصيلها، لجواز أن يكون هناك ناسخ أو شيء يخص العام، وهذا غير ممكن في شرعهم. والجواب: أن ما أخبر الله تعالى به فالظاهر أن حكمه ثابت غير منسوخ ولا مخصوص، لأنه لو كان منسوخاً أو مخصوصاً، لكان مطرحاً، ولم يبين حكمه. واحتج: بأنه أضاف جميع الشرع إلى موسى وعيسى. والجواب: أن هذا لا ينفي أن يكون الشيء منه شرعاً لغيره، لأننا نقول: إن جميعه مضاف إليه، وإن كان قد يلزم حكمه لغير أهل ملته.
واحتج: بأنه لو كان شرع من قبلنا شرعاً لنا، لوجب أن يبعث نبين في وقت واحد بشريعة واحدة، فلما لم يجز هذا، ثبت أنه ليس شرع من قبلنا شرعاً لنا، لأنه يفضي إلى أن يكون شرع نبيين على وجه واحد. والجواب: أنه يجوز، وقد فعل، بعث إبراهيم وابن أخيه بشريعة واحدة، في وقت واحد، وبعث موسى وهارون بشريعة واحدة، في وقت واحد. على أنه لو كان الأمر على ما قالوه، فإنما يمتنع هذا لوجود نبيين في وقت واحد، فأما إذا انقرض واحد، وقام غيره بعده، فإن شريعته شريعة نبي واحد. واحتج: بأن جميع الشريعة مضافة إلى نبينا، فلو كان ما ليس فيها يجب العمل به بشريعة غيره، لم تضف إليه. والجواب: أن ما يتبعه من شرع غيره، فهو شريعته، ومضاف إليه؛ لأنه لم ينسخه عنا. فصل (1) فأما قبل البعث، فإن نبينا عليه السلام كان متعبداً بشريعة من قبله، سواء قلنا: ليس شرع من قبله له بعد البعث، أو قلنا: هو شرع له. وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية حنبل فقال: من زعم أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على دين قومه، فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ وبه قال أصحاب الشافعي (1) . وقال قوم: ذلك على الوقف (2) ، يجوز أن يكون متعبداً، ويجوز أن لا يكون. وحكى أبو سفيان السرخسي عن أصحابه (3) أنه بعد البعث شرع من قبله قد صار شرعاً له، لا من حيث كان شريعة له قبله، فأما قيل أن يبعث، فإنه لم يكن متعبداً بشيء من الشرائع. والدلالة على أنه كان متعبداً: ما تقدم من قوله تعالى: (ثُم أَوْحيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتبعْ مِلة إبْرَاهيمَ) (4) ، وغير ذلك من الآيات. ولأنه قبل البعث كان متبعاً لهم، بدليل أنه ركب الحيوان، وأمر بذبح الحيوان، وأكل لحمه، وحج واعتمر مراراً، فقيل: انه حج ثلاثاً، وكل هذا لا يوجد [109/ب] بالعقل، وإنما يفعل يشرعا، ثبت أن ما فعله شرع من قبله. فإن قيل: ركوب الحمار وذبح الحيوان بالعقل. قيل: الحج والعمرة لا يثبتان (5) بالعقل، وقد فعل ذلك، ثبت أنه
فعل ذلك بالشرع لا غير. وكذلك ذبح الحيوان ينافيه العقل، لما فيه من إيلام الحيوان. وكذلك الحصل عليه وركوبه (1) ، طريقه الشرع دون العقل. واحتج المخالف: بما تقدم لمن منع أن يكون شرع من تقدم شرعاً لنا، وقد أجبنا عنه. واحتج: بأنه لو كان كذلك لوجب ظهور عمله بتلك الشريعة واقتدائه بها، ولو ظهر لنقل، ولم يخفَ على أهله ومن أتى به. والجواب: أنه قد ظهر، ونقل مما ذكرناه عنه من صلاته وصيامه وحجه وعمرته وذبحه وركوبه. ن (2) .
باب النسخ
باب النسخ (1) حقيقة النسخ: هو الرفع والإزالة، ومنه يقال: نسخت الريحُ التراب والآثار، إذا أزالت ذلك. ونسخت الشمسُ الظل، إذا أزالته. وقد يعبر به عن نقل الخط مِنْ موضع إلى كل موضع، يقال: نسخ فلان هذا الخبر إذا نقل ما فيه. ومنه قوله تعالى: (إنَّا كنَا نستنسخ ما كنتم تعملون) (2) ، يعني نكتبه وننسخه، وهذا مجاز. ويفتقر النسخ إلى وجود خمس شرائط: أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ، فإن كان ملفوظاً به معه، فإنه يكون استثناء وتخصيصاً. وأن يكون الحكم المنسوخ قد ثبتت بالشرع، ثم رفع، فأما إن كان الناس فعلوا شيئاً بعادة لهم، أقروا عليها، ثم رفع ذلك، لم يكن نسخاً، وكان ابتداء شرع.
مسألة
وأن يكون الرافع المزيل دليلاً شرعياً، فأما إن زال حكم العبادة من غير دليل، كمن جنَ أو مات، فإن فرض العبادة يسقط عنه، ولا يكون نسخاً. وأن لا يكون للعبادة المنسوخة مدة معلومة، بل كانت مطلقة فقطع دوامها في الثاني. فأما إن كانت معلقة بمدة معلومة ففي نسخها كلام. وأن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله، ولا يكون أضعف منه. مسألة (1) يجوز نسخ الشرائع عقلاً وشرعاً. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية صالح وأبي الحارث: قوله تعالى: (ما نَنْسَخْ منْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأهَا) (2) أن ذلك لجواز النسخ، وأن الله
تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما أحب. وبهذا قالت الجماعة. وحكي عن أبي مسلم الأصفهاني (1) : أنه كان يمنع وقوع النسخ شرعاً ويجيزه عقلاً (2) .
واختلفت [110/أ] اليهود في جواز نسخ الشرائع على مذاهب: منهم من منع ذلك من طريق العقل. ومنهم من قال: لا يجوز من جهة السمع. ومهم من قال: يجوز من جهة السمع والعقل، ولكن لا يؤمن بما جاء به نبينا، ولا يقر بمعجزاته، ولا يقبل شريعته. والدلالة على جوازه شرعاً: أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجباً بلا خلاف، ثم نسخه الله بالتوجه إلى الكعبة، بقوله تعالى: (فَوَل وَجْهكَ شطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ) (1) الآية. وكذلك تقديم صدقة بين يدي نجوى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان واجباً بقوله تعالى: (إذَا نَاجيتم الرَّسُولَ فَقَدمُوا بيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَة) (2) ثم نسخ الله تعالى ذلك (3) .
وقال تعالى: (ما نَنسَخ من آيَةِ أَوْ نَنْسَأهَا (1) نَأتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (2) فأخبر أن فيه ناسخاً ومنسوخاً. وقال تعالى: (فبِظُلْم من الذينَ هَادُوا حَرمنا عَلَيْهمْ طَيِّبَات أحِلَّتْ لَهُمْ) (3) ، فأخبر أنه قد حرّم عليهم ما كان حلالاً لهم. وهذا هو النسخ. ونظائر ذلك كثير. والدلالة على جوازه عقلاً: أن الناس في التكليف على قولين: منهم من قال: لله تعالى أن يكلف عباده بما شاء أن يكلفهم، لمصلحة ولغير مصلحة، ولكن لا يختلف أن التكليف إنما وقع على وجه المصلحة، كما أن ما يفعل فينا إنما يفعله للمصلحة. ومنهم من قال: حسن التكليف لما فيه من مصالحهم. وأيهما كان فإن النسخ يجب أن يكون جائزاً، لأنه على القول الأول، النسخ بمنزلة ابتداء التكليف، وعلى القول الثاني لا يمتنع أن يختلف حال المكلف في المصلحة، فيختلف التكليف، ألا ترى أن الرجل قد يكون من مصلحته في وقت البر واللطف، وفي وقت آخر مصلحته التشديد والعنف. ويبين صحة هذا أن الطاهر تصوم وتصلي، والحائض تمنع منها. ولأن تأخير بيان المراد باللفظ العام من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز، كتأخير بيان التخصيص، وهو تأخير لبيان المراد باللفظ العام في
الأعيان، مثل قوله تعالى: (فَإذَا انْسَلَخَ الأشْهرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمشْركينَ) (1) وما أشبه ذلك. فإن قيل: تخصيص عموم القرآن يجوز بخبر الواحد وبالقياس، ولا يجوز نسخه بهما. قيل: يجوز ذلك في العقل، كما جاز ذلك في التخصيص، وإنما منعناه (2) شرعاً، وهو أن التخصيص لا يرفع الجملة، فجاز أن يقع بما هو دونه، والنسخ يرفع الجملة فلم يقع إلا بما هو أقوى من المنسوخ. ولأن عندهم أن اعتقاد نبوة موسى عليه السلام، قبل أن بعث وظهرت معجزاته لا يجوز، ولم يجز الإخبارُ عن الله تعالى في تلك الحال وكان محظوراً، فلما ظهرت المعجزة على يده، صار الإخبار بثبوته طاعة، فما أنكرتم أن يكون الشيء عبادة ثم يخرج من [110/ب] أن يكون عبادة. وأيضاً: لما حسن أن ينقلنا من حال إلى حال في الخلقة، فننقل من الصغر إلى الكبر. ومن الشباب إلى الهرم، ومن الصحة إلى السقم، ومن الحياة إلى الممات، حسن أن ينقلنا في التكليف، لأنه لا فرق بين ما يفعله بنا، وبين ما يأمرنا بفعله. ولأن الله تعالى أمر آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه، وحرم ذلك في شريعة من بعده من الأنبياء. وأباح العمل في السبت على ألسنة سائر الأنبياء، وحرمه على لسان موسى عليه السلام. وكذلك إبراهيم عليه السلام خَتَن نفسه بعد الكبر. وهم يزعمون أن من
شرع موسى المبادرة إلى الختان في اليوم الذي في يولد المولود. وكذلك يزعمون أن يعقوب جمع بين الأختين في وقت واحد، وذلك لا يجوز في شريعة موسى. وهذا يدل على بطلان ما قالته اليهود، لعنهم الله. واحتج من منع ذلك عقلاً: بأن النسخ يفضي إلى البَدَاء، فإنه قد يكون أمر بشيء وأراده ثم علم من حال المأمور به في الثاني ما لم يكن قد علمه منه في وقت الأمر به، فأوجب النهي عنه، إذ لو لم يكن ذلك لكان بيّن مدة الفعل في وقت الأمر، وفي حصول الإجماع على بطلان ذلك دليل على فساد قول ما أدى إليه. والجواب: أنا لا نقول: إنه لما أمر بها أراد بقاءها على الدوام، ثم بان له خلاف ذلك فنسخها، بل نقول: أمر بما أمر به، وهو عالم بما أمر وبما ينهي عنه بعده، ولم يظهر له شيء كان خفياً عنه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل نقول: إنه حين أمر بها أمر وهو يريد بقاءها والتعبد بها، إلى أنه معلوم عنده أن فيه مصلحة أو لا مصلحة فيه، وإن لم يطلع عليه، ولا يوجب ذلك أن يكون قد ظهر له منه في حال النهي مالم يكن عالماً به، ألا ترى أنه إذا نهى عن فعل من الأفعال ابتداء، فإنه لا يوجب ذلك أن يكون عالماً حال النهي ما لم يكن قد علمه قبل ذلك، ثم هذا يبطل بنقل الانسان من حال إلى حال. وقيل الجواب عن هذا: إنما يقتضي البَدَاء لو أمر بفعل عبادة في وقت، ثم ينهي عنها في ذلك الوقت على جهة واحدة، فأما إذا نهي عن مثل تلك العبادة التي أمر بها، فلا يفضي إلى البدَاء. وقد كشف بعض المتكلمين عن هذا الجواب، وقال: إن هذا
يجري مجرى ما لو علق الآية بمدة، نحو قوله: "صلوا عشرين سنة"، فإن ما بعد المدة يسقط الأمر على غير وجه البَدَاء، كذلك إذا أمر به مطلقاً إلى مدة معلومة عنده، وكذلك أفعال الله تعالى تجري هذا المجرى بدليل أنه يغني الواحد في وقت، ويفقره في وقت آخر، ويسود الشيء في وقت، ويبيضه في وقت، [111/أ] ويحرك الشيء في وقت، ويسكنه في وقت، ويحييه في وقت، ويميته في وقت. وكذلك آدم كان يزوج بناته من بنيه، وكان مباحاً، ثم حظره الله تعالى عندهم. وكذلك جميع ما شرعه موسى لم يكن لمن قبله من الأنبياء. وكذلك اختتان إبراهيم عليه السلام بعد الكبر. واحتج: بأنه يؤدي إلى التناقض من قبَل أنه أمر بعبادة، وكان عملها حسنا، فإذا نهي عنها بعد مدة يصير فعلها مفسدة، بعد أن كان مصلحة. والجواب: أنه لا يؤدي إلى ذلك، لأنا لا نجعل العبادة الواجبة مصلحة ومفسدة، أو حسنة وقبيحة، وإنما نجعل العبادة مصلحة في وقت، ومفسدة في وقت آخر. ثم إن هذا يبطل بانتقالنا من حال إلى حال. واحتج: بأن الأمر إذا ورد مطلقاً اقتضى فعل المأمور به أبداً، ووجب على المأمور أن يعتقد وجوبه عليه أبداً، ويكون ذلك الاعتقاد حسناً، فلو جاز ورود النهي عن مثل ذلك في المستقبل، لكان ذلك دلالة على البداء؛ لأنه قد نهي عما وقع الأمر به على الوجه الذي أمر به، ولصار الاعتقاد الذي كان محكوماً له بالحسن قبيحاً. والجواب: عن قوله: إن الأمر يقتضي فعل المأمور به أبداً، خطأ؛ لأن التكليف قد يسقط بمعانٍ (1) تطرأ على المكلف، مثل الموت والجنون
والعجز، وما يجري هذا المجرى، فكيف يصح أن يكون الأمر مقتضياً لوجوب المأمور به أبداً. وقوله: إن ذلك يكون بدَاءً، خطأ؛ لأن النهي ها هنا لا يقع عما وقع الأمر به، وإنما وقع النهي عن مثله في المستقبل، وهذا غير ممتنع؛ لأن الفعلين قد يكونا متماثلين من جنس واحد، مع كون أحدهما حسناً وفيه المصلحة، وكون الآخر قبيحاً ولا مصلحة فيه، ألا ترى أن اعتقاد المكلف نبوته، واعتقاده لها يكون مصلحة بعد بعثه الله تعالى إياه، ولا يكون مصلحة قبل أن يبعثه نبياً. وقولهم: إن عليه أن يعزم على الفعل ويعتقده أبداً، فليس كذلك، وإنما يعتقد وجوبه إلى ما لم يرفع عنه. واحتج: بأنه لو جاز ورود النسخ في الشرائع، لجاز مثله في اعتقاد التوحيد. والجواب: أن الفعل الشرعي يجوز أن يكون مصلحة في وقت، ولا يكون مصلحة في وقت آخر مع بقاء التكليف، ويكون مصلحة لزيد، ولا يكون مصلحة لعمرو. فاما فعل التوحيد، فلا يخرج عن أن تكون المصلحة فيه لجميع المكلفين وفي جميع الأوقات. يبين صحة هذا: أنه لايجوز أن يجمع بين الأمر بالفعل الشرعي وبين النهي عن مثله، بأن يقول: "صلوا هذه السنة، ولا تصلوا بعدها"، ولا يجوز أن يجمع بين إيجاب اعتقاد التوحيد وبين النهي [111/ب] عن مثله في المستقبل. واحتج: بأنه لو جاز ورود النهي عن الفعل بعد ورود الأمر بمثله مطلقاً، لكان ذلك مؤدياً إلى أن لا يكون ها هنا معنى يدلنا على تأبيد
العبادة، وفي ذلك إبطال قدرة الله تعالى على أن يدلنا على تأبيد العبادة إلى وقت زوالها بزوال التكليف. والجواب: أنه يجوز تأبيد العبادة بأن ينقطع الوحي، أو يضطر إلى قصد (1) الرسول فيه، كما اضطررنا إلى قصده في تأبيد شريعته، وأنه لا نبي بعده. واحتج من قال منهم بأنه لا يجوز النسخ شرعاً: بما روي عن موسى عليه السلام أنه قال: "شريعتي مؤبدة ما دامت السموات والأرض". والجواب: أن هذا كذب. وقيل: إن أول من قال هذا لليهود ابنُ الراوندي (2) بأصبهان (3) ، فإنه أخذ منهم دنانير، وعلمهم ذلك، وقال: قولوا لهم: إن شريعتنا مؤبدة، كما يقولون.
والدليل على ذلك: أن هذا لو كان صحيحاً لوجب أن يكون اليهود قالوا لعيسى ونبينا صلى الله عليهما وسلم مع تصديقهما لموسى عليه السلام ومخالفتهما لشريعته عليهم السلام، فلما لم ينقل أن أحداً قال لهما هذا، مع حرصهم على تكذيبهما والرد عليهما وتنفير الناس عنهما، دل على أنه لا أصل له. وجواب آخر وهو: أنه لو ثبت لكان معناه إلا أن يدعو صارف إلى تركها وهو من ظهرت المعجزة على يده، وثبتت نبوته، مثل ما ثبتت نبوة موسى، والخبر يجوز تخصيصه كما يجوز تخصيص الأمر والنهي. فصل (1) والنسخ في اللغة عبارة عن شيئين: أحدهما: الإزالة، فإذا كان في موضع آثار، فزالت، قالوا: "نسخت الآثار"، ويقال: "نسخت الشمس الفيء"، إذا أزالت الفيء. والثاني: عبارة عن نقل مثل الشيء عن موضعه إلى موضع آخر، ومنه قوله تعالى: (إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كنْتم تَعْمَلُون) (2) ، معناه ننسخ العمل، وهو باق على ما كان (3) . وهو في الشرع: عبارة عن إخراج ما لم يرد باللفظ العام في الزمان، مع تراخيه عنه.
وقولنا: مع تراخيه، احتراز من التخصيص، فإنه يكون متراخياً ومقارناً. ولا يبطل هذا بقوله: (ثُم أَتمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْل) (1) ، أن زمان العبادة ينقص، وليس بنسخ؛ لأَنا قلنا مع تراخيه، والحد مقارن. وقال قوم من المتكلمين: هو إخراج ما أريد باللفظ. وهذا غلط، لأنه يؤدي إلى البَداء على الله تعالى فإنه إذا أراد أن يكون التوجه إلى بيت المقدس واجباً بعد ستة عشر شهراً، ثم لم يرد ذلك، كان بداءً، وذك لا يجوز عليه لاستحالة جواز الجهل [112/أ] والنسيان عليه. فإن قيل: فقد أجزتم نسخ الشيء قبل فعله، وإن كان بداءً. قيل: ليس ذلك بداءً؛ لأنه يحمله على أن الأمر اقتضى مقدمات الفعل، ويكون تقديره ما لم أنسخه عنك؛ لأنه ليس من شرط الأمر إرادة المأمور به. الفرق بين النسخ والتخصيص والفرق بين النسخ والتخصيص من وجوه: أحدها: من شرط الناسخ أن يتأخر عن المنسوخ، فلا يسبقه، ولا يقارنه. وأما التخصيص: فالذي يقع به التخصيص يصح أن يسبق المخصوص ويقارنه ويتأخر عنه. والثاني: لا يصح النسخ إلا بمثل المنسوخ في القوة، وأقوى منه، والتخصيص يصح بمثل المخصوص وما دونه، وأضعف منه، لأن
التخصيص لا يرفع كل الخطاب، وإنما يخص بعضه، وترك الباقي على ما هو عليه، فكان أخف من النسخ، فصح التخصيص بأخبار الآحاد والأفعال والقياس، والنسخ أقوى؛ لأنه رفع الخطاب كله، فقوي في بابه، فلا يجوز رفعه إلا بمثله في القوة أو ما هو أقوى. الثالث: النسخ يرفع كل النطق، والتخصيص يبقي بعض اللفظ (1) . فصل (2) والنسخ على ثلاثة أضرب: نسخ الحكم دون الرَّسْم، ونسخ الرسم دون الحكم، ونسخ الرسم والحكم. أما نسخ الحكم دون الرسم فجائز، وذلك مثل الوصية للوالدين والأقربين (3) . ومثل عدة الوفاة، فإن ذلك منسوخ، ورسمه في القرآن. وذلك أن العدة كانت في بدء الأمر حولاً، فنسخت إلى أربعة أشهر وعشر، وهما جميعاً في القرآن، قال تعالى: (وَالّذِين يتَوَفّوْنَ مِنْكُم وَيَذَرُونَ أزْوَاجاً وَصِيّةً لأزْوَاجِهِم مَتَاعاً إلَى الْحَوْلِ
غيرَ إخْراج) (1) ، نسخ بقوله: (والّذِينَ يتوَفَّوْنَ منْكُم وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسهن أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً) (2) . وأما نسخ الرسْم دون الحكم فجائز أيضاً، وذلك مثل آية الرجم، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لولا أن يقال: عمر زاد في كتاب الله، لكتبت في حاشية المصحف: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم (3) . وكذلك نسخ التتابع في صوم كفارة اليمين في قراءة عبد الله، وبقي حكمها (4) .
دليلنا:
وقال قوم: لا يجوز نسخ الرسم مع بقاء حكمه. دليلنا: أن التلاوة لا تفتقر إلى الحكم الشرعي، ولا الحكم الشرعي يفتقر إلى التلاوة، بل يجوز أن ينفصل كل واحد كل منهما عن الآخر؛ لأن الحكم قد يثبت من غير تلاوة، مثل أفعال النبي، فصارت التلاوة مع حكمها بمنزلة عبادتين، فلما جاز نسخ إحدى العبادتين دون الأخرى، كذلك نسخ التلاوة [112/ب] دون الحكم، ونسخ الحكم دون التلاوة. فإن قيل: لما لم يجز وجود العلم في القلب من غير أن يكون صاحبه عالماً، ولا وجوده عالماً من غير وجود العلم في قلبه، كذلك لا يجوز وجود الحكم من غير تلاوة. قيل: قد بينا هذا، وقلنا: إن التلاوة والحكم ينفصل كل واحد منهما، وليس كذلك العلم، لأنه لا يجوز أن ينفصل كونه علماً يعلم من العلم الذي صار به عالماً. وأما نسخهما فمثل ما روي عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: (كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات فتوفي (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي مما يقرأ في القرآن) (2)
فكانت العشر (1) منسوخة الحكم والرسم. وقد ينسخ إلى بدل وغير بدل: فما نسخ إلى غير بدل: العدة حولاً إلى أربعة أشهر وعشر، وما زاد على أربعة أشهر لغير بدل. وما ينسخ إلى بدل فعلى أربعة أضرب: نسخ واجب إلى واجب، وواجب إلى مباح، وواجب إلي ندب، ومحظور إلى مباح. فأما واجب إلى واجب، فعلى ضربين: واجب مضيق إلى مثله، كنسخ القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة (2) . وواجب مخير إلى مضيق، كالصيام، كان المطيق القادر عليه في صدر (3) الإسلام مخيراً بين الصيام والفدية، فنسخ إلى مضيق وحتم (4) ،
قال الله تعالى: (وَعَلى الّذينَ يطيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَام مَسَاكِين) (1) ، ثم قال: (فَمنْ شَهِدَ مَنْكُمُ الشَّهْرَ فَليَصُمْهُ) (2) . وأمّا واجب إلى مباح، فالصدقة عند مناجاة الرسول، كانت واجبة بقوله تعالى: (إذَا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدموا بيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدقة) (3) ، فنسخ ذلك الوجوب إلى جواز تركها وجواز فعلها بقوله [تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدَمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَات فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكمْ فَأَقيموا الصَلاَةَ وَآتُوا الزكاةَ 000) ] (4) وأما واجب إلى ندب [فـ] كالمصابرة في صدر الإسلام، على كل واحد أن يصابر عشرة، فنسخ إلى اثنين، وندب إلى ما زاد بقوله تعالى:
مسألة
(إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عشْرونَ صَابِرُونَ يَغْلبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يكنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبوا أَلْفاً مِنَ الَّذينَ كًفَرُوا) (1) فنسخ الله هذا رحمة منه لعباده ورخصة بقوله: (الآنَ خَففَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أن فِيكُمْ ضَعْفاً فَإنْ يَكنْ منكمْ مائةٌ صابِرَةٌ يَغْلبوا مِائَتيْنِ وَإنْ يَكُنْ منْكُمْ أَلْفٌ يَغْلبُوا أَلْفَيْنِ بإذْن الله) (2) فنسخ إلى مصابرة كل واحد اثنين، وندب إلى مصابرة أكثر. وأما نسخ حظر إلى أمر (3) إباحة، كقوله: (عَلِمَ اللهُ أنّكُمْ كنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عليْكمْ وَعفَا عنكمْ فَالآْنَ بَاشَرُوهُن وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لكُمْ وَكُلُوا وَاشْربُوا حَتّى يَتَبَيّن لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيضُ مِنَ الْخَيْط الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (4) فكان الأكل والشرب والمباشرة [113/أ] محظورَة، ثم نسخت. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (كنتم قد نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا إلا خيراً) ، فأباحه بعد الحظر. مسألة (5) يجوز نسخ الشيء بمثله، وأخف منه وأثقل. وهو قول الجماعة. واختلف أهل الظاهر فيما حكاه الحرزي في مسائله:
دليلنا:
فذهب جماعة منهم إلي هذا. ومنع منه آخرون، وقالوا: لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل، وهو قول أبي [بكر بن] (1) داود. دليلنا: أن الله تعالى أوجب الصوم في أول الإسلام على التخيير. ثم نسخ ذلك وحتمه: والانحتام أغلظ من التخيير. وهكذا كان حد الزاني في أول الإسلام الحبس (2) بقوله تعالى: (وَالَلاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نسائِكُم فَاسْتَشْهِدُوا عَليْهِن أَرْبعة مِنْكمْ فَإنْ شَهِدُوا فأَمْسكوهُن فِي الْبُيوتِ حَتّى يَثوَفاهن الْمَوْتُ أَوْ يجْعلَ الله لهن سَبِيلاً) (3) ثم نسخ ذلك، وجعل حد البكر الجلد والتغريب، والثيب الجلد والرجم. وهذا نسخ شيء إلي ما هو أغلظ منه وأشد، فثبت جواز ذلك. ولأن حقيقة النسخ: الرفع والإزالة، وإثبات الحكم الثاني طريقه ابتداء شرع، لا أنه من مقتضى الحكم الأول وموجبه، ألا ترى أن الله تعالى لو رفع حكماً ولم يثبت مكانه شيئاً آخر كان ذلك نسخاً، فلم يمتنع أن يزيل حكماً ويثبت مكانه أغلظ منه وأشد؟
ولأنه لا يمتنع أن تكون المصلحة في الأغلظ، وفيما مضى من الأخف. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (ما ننْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نَنْسأها نَأت بِخيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (1) ومعلوم أنه لم يرد بقوله: خيراً منها فضيلة الناسخ على المنسوخ؛ لأن القرآن كله متساوي الفضيلة، فعلم أنه إنما أراد بالخير الأخف. والجواب: أن الشيء إنما يوصف بأنه خير من غيره؛ لأن النفع الذي فيه يكون موفياً على النفع الذي في غيره. ألا ترى أنك تقول: فعْلُ الفرض خير لك من فعل النافلة، تريد (2) أنه أنفع له (3) ، ومعلوم أن النفع في الفعل، إنما يكثر بكثرة المشقة فيه، أو بكثرة انتفاع غير الفاعل به، بدلالة أن القتال في سبيل الله أكثر نفعاً في باب الثواب من الصوم؛ لأن المشقة فيه أكثر من المشقة في الصوم، وإن دعوة نبينا إلى دين الله تعالى كانت أعظم ثواباً من دعوة غيره من الأنبياء عليهم السلام. لأنه قد انتفع بها أكثر مما انتفع بدعوة غيره، [113/ب] إذ كان من أجابه إليها أكثر ممن أجاب إلى دعوة غيره من النبيين، وإن كان فيهم من لحقه من المشقة أكثر مما لحق نبينا عليه السلام، فإذا كان فعل الأشق أنفع من فعل الأخف في باب الثواب وجب أن يكون أنفع منه، فيصح النسخ به. واحتج بأن النسخ في اللّغة هو الإزالة، وإسقاط العبادة، فمقتضاه التخفيف دون التثقيل.
مسألة
والجواب: أن الإزالة والإسقاط موجود ها هنا، لأنه رفع ما كان عليه من الحكم السابق. وقولهم: إن كل مقتضاه التخفيف ليس كذلك؛ لأن الحكم الثانى ابتداء شرع، لا أنه من كل مقتضى الحكم الأول وموجبه. واحتج بأن الله تعالى نسخ الشيء رحمه للمكلف وطلباً لنفعه، فيجب أن لا ينسخ إلا بما هو أخف منه؛ لأن ذلك أولى بالرحمة. والجواب: أن من رحمة الله تعالى له أن يكلفه أنفع الأشياء له، وأدعاها إلى عظيم ثوابه، وقد يكون ذلك فيما يشق عليه، كما يكون فيما هو أخف منه، بل قد يكون الأشق أنفع وأجزل لثوابه. وجواب آخر وهو: أن هذا يوجب أن لا يبتدىء أحداً بتكليف ما يشق عليه، لأن ذلك أخف وأسهل وأدعي إلى الرحمة، ويلزمه أن يكون الله تعالى إذا أسقط عبادة، أسقطها لا إلى بدل أصلاً؛ لأن ذلك أخف. مسألة (1) لا يجوز نسخ القرآن بالسنة شرعاً، ولم يوجد ذلك. نص عليه رحمه الله في روية الفضل بن زياد وأبي الحارث وقد سئل: هل تنسخ السنة القرآن، فقال: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، والسنة
دليلنا:
تفسر القرآن (1) . وبهذا قال الشافعي (2) . وقال أبو حنيفة: يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة (3) . وحكي ذلك عن مالك (4) والمتكلمين من المعتزلة (5) واختلف أهل الظاهر في ذلك (6) . دليلنا: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِن آية أو ننسها نأت بخير منها أَوْ مِثْلِها) (7) ، وقرىء: (نَنسَأهَا) (8) ، والمراد به من
التأخير، ومنه: بيع النسيئة، وهو البيع إلى أجل، فكأنه قال: أو نَنْسَأه فلا ننسخه إلى مدة، فأخبر الله تعالى أن كل ما ينسخ من القرآن، فإنما ينسخ بخير منه أو بمثله، والسنة ليست بخير من القرآن ولا بمثل له، فلا يجوز أن يقع نسخ القرآن بالسنة، لأن خبر الله تعالى لا يقع بخلاف مخبره، يبين صحة هذا قوله: (نَأت بِخيْرِ منْهَا) ، وهذا إنما يتناول القرآن [114/أ] الذي يأتي من عند الله دون السنة التي يأتي بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويبين صحة ذلك قوله: (إنَّ الله علىَ كل شَيْء قَديِرٌ) ، فاقتضى ذلك: أن ما يأتي به مما يختص بالقدرة عليه، وهو القرآن دون السنة التي يتعلق بها قدرة غيره. فإن قيل: الآية تقتضي أنه إذا نسخ آية يأتي (1) بخير منها أو مثلها، وليس فيه أن ما يأتي به يكون هو الناسخ، بل يجوز أن يكون الناسخ غيره. قيل: قوله تعالى: (نَأت بخَيْرِ منْهَا) يقتضي أن يكون ما يأتي بدلاً (2) عما نسخه، وإنما يكون بدلاً عنه إذا كان ناسخاً، فأما إذا كانت آية مبتدأة فلا يكون بدلاً عنها. يبين صحة هذا أن قوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةِ) شرط، وقوله: (نَأتِ بِخَيْرٍ منْهَا) جزاء، لأن "ما" يجازى بها، كما يجازى "بمن"، ولهذا جزم قوله: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا) ، وقال تعالى في سورة فاطر: (مَا يَفْتَح اللهُ للِنّاس مِن رَحْمَة فَلاَ مُمْسِك لَهَا وَمَا يُمسك فلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) (3) ،
وإذا كان كذلك وجب أن يكون الجزاء متعلقاً بالشرط، ولهذا نقول: إذا قال: "ما تصنع أصنع، وما أخذه أعطه مثله"، إن الثاني موجب بالأول ومفعول لأجله، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون ما يأتي به ناسخاً. فإن قيل: فلا خلاف أنه يجوز نسخه بغير قرآن، بأن ينسيه الله تعالى من حفظه ورفعه عن أوهامهم. قيل: ما ينسيه ويرفعه يجرى مجري القرآن، لأنه من جهة الله تعالى. فإن قيل: قوله تعالى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا) في النفع، وقد يكون ما ثبت بالسنة أنفع لنا في باب المصلحة مما ثبت بالآية المنسوخة. يبين صحة هذا أن التلاوة لا يكون بعضها خيراً من بعض، وإنما يكون ذلك في النفع، فيكون بعض الأحكام أسهل. قيل: الآية تقتضي أن تكون خيراً منها في النفع من القرآن، كما إذا قال القائل: "ما آخذ منك ثوباً إلا أعطك (1) خيراً منه أو مثله، وما آخذ منك درهماً إلا أدفع إليك مثله أو خيراً منه"، يقتضي ثوباً مثل ثوبه أو خيراً منه، ودرهماً مثل درهمه أو خيراً منه. وجواب آخر وهو: أن قوله: (نأتِ بخير منها أو مثلها) يقتضي [الخيرية أو المثلية] من كل وجه، والقرآن المنسوخ فيه معجز، فيجب أن يكون الناسخ معجزاً، والسنة ليس فيها معجز، والقرآن في امتثال حكمه ثواب، وفي تلاوته ثواب، وكل واحد منهما عبادة، والسنة: الثواب في جهة واحدة منها، وهو امتثال حكمها، فأما درسها وتلاوتها، فليس بعبادة ولا ثواب، وإذا كان كذلك، لم تكن السنة مثلاً للقرآن، والآية تقتضي أن النسخ بالمثل أو بخير منه.
فأما قولهم: إن التلاوة لا يكون بعضها خيراً من بعض، فلا يصح؛ لأنه قد يكون [114/ب] بعضها خيراً من بعض، على معنى أنها أكثر ثواباً، مثل سورة "طه" و"يس"، وما أشبه ذلك. وقد يكون في بعضها من الإعجاز في اللفظ والنظم أكثر مما في البعض وقد كانت العرب تعجب من بعض، ولا تعجب من بعض. وعلى أنا لو سلمنا أنه لا يجوز في التلاوة تفاضل، فإننا نحمل قوله: (نأت بخيرٍ منْها) على الحكم، وقوله: (أَوْ مِثْلِها) على التلاوة ولا شك أن المماثلة متأتية في التلاوة، ولا يتأتى أن يقال ذلك في السنة، فإنها ليست مثل القرآن. ويدل عليه ما روى الدارقطني (1) في سننه في جملة النوادر قال: حدثنا محمد بن مخلد (2) ، حدثنا محمد بن داود القنطري أبو جعفر الكبير (3) .
حدثنا جبرون بن واقد (1) ببيت المقدس، حدثنا سفيان بن عيينة (2) عن أبي الزبير (3) عن جابر بن عبد الله (4) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كلامي لا
بنسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً) (1) وهذا نص. فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد. قيل: قد سبق الجواب عن مثل هذا في غير موضع. ولا يصح حمله على أخبار الآحاد، لأن تعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسقطه، وهو قوله: (كلام الله ينسخ بعضه بعضاً) . وأيضا: فإنه لا يجوز نسخ الأخبار المتواترة بأخبار الآحاد، لضعف الآحاد وقوة التواتر، كذلك لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة، لأن السنة أضعف من الكتاب من وجهين: أحدهما: أن الكتاب فيه إعجاز، والسنة لا إعجاز فيها. والكتاب في قراءته ثواب، وليس في قراءة السنة ثواب، فلم يصح نسخ القوي بالضعيف، كما لم يجز نسخ الأخبار المتواترة بالآحاد والقياس. فإن قيل: هذه القوة في اللفظ، فأما الحكم فهما متساويان فيه. قيل: الخلاف في نسخ اللفظ ونسخ الحكم واحد، فإنه (2) عند المخالف يجوز أن ترد السنة بنسخ تلاوة القرآن، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا لا تقرأوا هذه الآية. فتصير تلاوتها منسوخة بالسنة.
وعلى أن الحكم إذا نسخ صار اللفظ منسوخاً، وإن كان يتلى، فإنه يقال: هذه آية منسوخة متى كان الحكم مرتفعاً. ولأنه متى نسخ الحكم تعطل اللفظ وخرج عن كونه مفيداً، فكما لا يجوز نسخ اللفظ بالأمر الضعيف، لا يجوز نسخ حكمه أيضاً، ألا ترى أنه لما لم يجز نسخ لفظ الكتاب بأخبار الآحاد، لم يجز نسخ حكمه. فإن قيل: لو كان الاعتبار بما ذكره، لوجب أن يجيزوا نسخ ما لا إعجاز فيه، وهي الآية الواحدة. قيل: في الآية الواحدة إعجاز، ولو لم يكن فيها إعجاز، فهي من جنس المعجز، وفيها إعجاز وثواب، وليست السنة من جنس المعجز، ولا في تلاوتها ثواب. فإن قيل: درس السنة وتعليم العلم [115/أ] عبادة، وفيه ثواب. قيل: يريد بذلك بعد تعلمها وحفظها، فإن تلاوتها لا ثواب فيها، وهذا لا خلاف فيه. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لِتُبَينَ للِنّاسِ مَا نُزلَ إلَيْهِم) (1) والنسخ ضرب من البيان، كالتفسير والتخصيص. والجواب: أنه قد قيل: إن التبيين ها هنا هو التبليغ عن الله تعالى. وقد قيل: النسخ ليس بيان للمنسوخ، وإنما هو إزالة وإسقاط حكمه. وعلى أن هذا محمول على التخصيص بدليل ما ذكرنا. واحتج بأنه دليل مقطوع عليه، فجاز النسخ به كالآية.
والجواب: أنه يبطل بالإجماع، فإنه بهذه الصفة، ولا يجوز النسخ به. وعلى أنه لا يمتنع أن يتفق دليلان في هذه الصفة، ويختلفا في النسخ، كما أن القياس وخبر الواحد يتفقان في أن طريق كل واحد منهما غلبة الظن، ويجوز النسخ بخبر الواحد، ولا يجوز بالقياس، وكذلك الإجماع والسنة يتفقان في العلم بكل واحد منهما، ولا يجوز النسخ بالإجماع، ويجوز بالسنة. فإن قيل: إذا أجمع أهل عصر على خلاف حكم القرآن، حكمنا بأنه منسوخ. قيل: الإجماع لا يكون ناسخاً؛ لأن الناسخ هو الوحي، والإجماع لا يصح إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والوحي قد انقطع بعده، ومتى وجدنا خبر الإجماع على خلافه، تركناه بالإجماع، ولا نقول: نسخ بالإجماع بل يستدل بالإجماع على نسخه؛ لأنه لو كان الخبر ثابتاً لما خرج عن الأمة؛ لأن الأمة ضبطوا الأخبار. فإن قيل: المجمعون لا يقولون: إنا ننسخه، وإذا لم يوجد ذلك منهم، لم يتصور النسخ من جهتهم. قيل: نقول في السنة كذلك، لأن النسخ لا يوجد من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله تعالى أخبر أن نسخ القرآن لا يكون من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجواب آخر وهو أن السنة المتواترة، وإن ساوت الكتاب فيما ذكروه، من القطع، فهي مخالفة له في الإعجاز، وفي حصول الثواب في قراءتها، فلم يصح وقوع نسخه بها، وإن ساوته في العلم والعمل، كما لا يجوز نسخه بالإجماع، وإن ساواه في العمل والعلم. واحتج: بأن النسخ كالتخصيص؛ لأن النسخ لا يقتضي تخصيص
الأعيان، والتخصيص لا يقتضي تخصيص الزمان، ثم ثبت أن تخصيص الكتاب يجوز بالسنة، كذلك النسخ. والجواب: أنه يبطل بخبر الواحد وبالقياس، فإن التخصيص بهما [جائز] ، ولا يجوز النسخ بهما، وعلى أن النسخ مفارق للتخصيص؛ لأن النسخ يزيل حكم اللفظ كله، والتخصيص يبقي بعضه، ولا يسقط [115/ب] جملته، فافترقا. واحتج: بأن النسخ إنما يقع في الحكم، والسنة في إثبات الحكم بمنزلة الكتاب، فصح نسخ حكمه بها. والجواب: أنا قد بيّنا أنه لا فرق عند المخالف بين نسخ الحكم وبين نسخ التلاوة. وعلى أنهما وإن تساويا في إثبات الحكم، فهما مختلفان فيما ثبت به الحكم، فحكم الكتاب ثبت بلفظ معجز، وحكم السنه ثبت بلفظ غير معجز، فلم يجز نسخ ما ثبت بأمر قوي بما ثبت بأمر ضعيف، وإن تساوى الحكمان، ألا ترى أنه لا يجوز نسخ حكم خبر الواحد بالقياس؛ لقوة الخبر الواحد وضعف القياس، وإن كان حكمهما متساوياً، بأن طريقهما معاً غلبة الظن. واحتج: أنه إنما جاز النسخ إلى غير بدل؛ لأننا نجوز أن يكون قد نسخ بما هو مثله أو أقوى منه، وليس يوجب ذلك جواز النسخ إلى بدل هو أضعف منه، ألا ترى أنه يجوز النسخ إلى غير بدل، ولا يجوز النسخ إلى بدل هو خبر واحد أو قياس. واحتج: بأن ذلك قد ورد في الشرع، وذلك أن الله تعالى أوجب الوصية للوالدين والأقربين، ونسخ ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وصية لوارث) ، وكذلك نسخ حد الزنا من الحبس والأذى بقوله عليه السلام:
(خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) (1) . ونسخ قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ (2) عند الْمَسْجِدِ الْحرَامِ) (3) بقوله لما قيل له: إن
ابن خطَل (1) متعلق بأستار الكعبة-: (اقتلوه) (2) . والجواب: أن الوصية منسوخة بآية المواريث، فلهذا قال عليه السلام: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) . وأما حد الزنى فمنسوخ بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كل وَاحِدٍ منهَما مائة جَلْدَة) (1) . وأما في الثيب المحصن، فإنه منسوخ بآية الرجم التي نسخ رَسمها. وقيل: إن آية الحبس لم تنسخ؛ لأن النسخ: أن يرد لفظ عام يتوهم دوامه، ثم يرد ما يرفع بعضه، والآية لم ترد بالحبس على التأبيد، وإنما وردت إلى غاية، وهو أن يجعل الله تعالى لهن سبيلاً، فأثبت الغاية، فوجب الحد بعد الغاية بالخبر. وقيل: إن آية الحبس (2) وآية الأذى في الأبكار، والمراد بالأولى النساء، والثانية الرجال، ونسختهما جميعاً آية الحد، فثبت ابتداء بالسنة (3) . وأما قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوهمْ عنْدَ الْمَسْجِدِ الْحرَام) (4) منسوخ (5) بقوله تعالى: (اقْتلوا الْمُشْركينَ حيْثُ وَجدْتُمُوهمْ) (6) .
مسألة
مسألة (1) فأما نسخ القرآن بالسنة من جهة العقل، فلا يمتنع جوازه. واختلف أصحاب الشافعي: [116/أ] فمنهم من أجاز ذلك عقلاً. ومنهم من منعه، وقال: لا يجوز عقلاً ولا شرعاً. فالوجه في جوازه عقلاً: أن النسخ تعريف بقضاء مدة العبادة وإعلام سقوط مثل ما كان واجباً بالمنسوخ، وارتفاعه فيما يستقبل من الزمان، والمعرفة بذلك تقع بالسنة كما تقع بالقرآن. والوجه لمن منع من ذلك: أنه يؤدي إلى الارتياب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يدل عليه قوله تعالى: (وَإذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ) (2) فلما كان نسَخَ القرآن بالسنة يزيد في ارتيابهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم - لم يجز نسخه: بل ينسخ بقرآن مثله؛ ليكون أقطع لشكوكهم، وأشد إبطالاً لدعاويهم. والجواب: أن المشركين كانوا ينسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الافتراء إذا بدلت آية بآية مكانها، وهكذا حكى الله عنهم، فلو كان فعلهم ذلك مانعاً من جواز نسخ القرآن بالسنة، لمنع أيضاً من جواز نسخ القرآن بالقرآن.
مسألة
مسألة (1) يجوز نسخ السنة بالقرآن أومأ إليه أحمد رحمه الله فقال عبد الله: سألت أبي عن رجل أخذ منه الكفار عهد الله وميثاقه أن يرجع إليهم، قال فيه: خلاف، قلت لأبي: حديث أبي جندل، قال: ذلك صالح على أن يردوا من جاءهم مسلماً (2) ، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال، ومنع النساء ونزل فيهم: (فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤمنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) (3) . وظاهر هذا أنه أثبت نسخ السنة (4) بقرآن. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة (5) . وللشافعي قولان: أحدهما مثل هذا، والثاني: لا يجوز نسخ السنة بالقرآن (6) .
دليلنا:
دليلنا: قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا علَيْكَ (1) الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكلِّ شَيْء) (2) والنسخ تبيان مدة الحكم، فوجب (3) أن يجوز بالكتاب. ولأن الكتاب أقوى من السنة، فإن السنة فيها ما يوجب العلم والعمل، وفيها ما يوجب العمل دون العلم، والكتاب كله يوجب العلم. ولأن في الكتاب إعجازاً، وليس في السنة إعجاز، فإذا جاز نسخ السنة بمثلها، فبأن يجوز نسخها بما هو أقوى منها أولى. ألا ترى أنه لما جاز نسخ خبر الواحد بخبر الواحد، كان جواز نسخه بالمتواتر أولى. ولأن القرآن ثابت بوحي من عند الله تعالى، كما أن السنة التي بوحي ثابتة من قبله، فإذا كان كذلك، وجاز نسخ السنة بسنة مثلها، وجب أن يجوز بالقرآن. وأيضاً: فإنه قد وجد نسخ السنة بالقرآن في مواضع: من ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم-[116/ب] صالح من شاء عام الحديبية، على أن يرد إليهم من جاءه كل منهم من المسلمين، وجاءه أبو بصير (4) وأبو
جندل، فردهما (1) ، ثم جاءت امرأة مهاجرة، فمنع الله تعالى من ردها، ونسخ ذلك بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) إلى قوله: (فَلاَ تَرْجعُوهُنَّ إلى الْكُفارِ) (2) ، وهذا نسخ سنة بقرآن (3) . وكذلك أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم الخندق الظهر والعصر والمغرب حتى بعد المغرب بهوي (4) من الليل، فصلاها (5) ، ثم نسخ تأخيرها بالقرآن، وهو قوله: (فَإنْ خِفْتمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) (6) ، وقوله: (فَإذَا كُنتَ فيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ) (7) .
ومن ذلك نسخ القبلة، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة صلى ستة عشر شهراً إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله ذلك بقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1) ، ومعلوم أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس لم يكن ثابتاً بقرآن، وقد نسخ بالقرآن. ومن ذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على عبد الله بن أُبي بن سلول (2) المنافق (3) ، ثم أنزل الله تعالى: (وَلاَ تُصَلِّ عَلىَ أحَدٍ منْهُم مَاتَ
أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (1) . ونظائر ذلك كثير. واحتج المخالف: بقوله: (وَأنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ (2) لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم) (3) فجعل السنة بياناً للقرآن. فلا يجوز أن يكون القرآن بياناً للسنة. والجواب: أن المراد به التبليغ، يبين صحة ذلك: أنه يجوز تخصيص السنة بالقرآن، وكذلك يجوز تفسير مجمل السنة به. واحتج: بأنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وجب أن لا يجوز نسخ السنة بالقرآن. والجواب: أن القرآن أعلى من السنة، فلم يجز نسخ الأعلى بالأدنى، وجاز نسخ الأدنى بالأعلى، ألا ترى أن ما ثبت بخبر الواحد يجوز نسخه بما ثبت بالتواتر، وما ثبت بالتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد. واحتج: بأن القرآن أصل والسنة فرع له؛ لأنها بكتاب الله قبلت، وإذا كانت فرعاً، فلو قلنا: القرآن يبين معناها، لجعلناها أصلاً، والقرآن فرعاً.
مسألة
والجواب: أن هذا باطل بالتخصيص، فإن القرآن يخص عموم السنة، ومع هذا فلا يقضي إلى ما قالوا. واحتج: بأنه لو جاز نسخ القرآن بالسنة؛ لأفضى (1) إلى الاختلاط وهو أن بيانه ببيان الله تعالى، وهذا لا سبيل إليه. والجواب: أنه لا يختلط؛ لأن بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخصيص الأعيان، والنسخ: رفع الخطاب في المستقبل، فلا يختلط أحدهما بصاحبه. واحتج: بأن الشيء إنما ينسخ [117/أ] بجنسه، ألا ترى أن القرآن ينسخ بالقرآن والسنة بالسنة، والقرآن لا ينسخ بالسنة. والجواب: أن الشيء ينسخ بجنسه، أو بما هو أقوى منه، والقرآن أقوى من السنة، فوجب أن ينسخ به. مسألة (2) يجوز نسخ الحكم قبل فعله وبعد دخول وقته. وهذا لا خلاف فيه. واختلفوا في نسخه قبل وقت فعله: فقال شيخنا أبو عبد الله (3) : يجوز أيضاً. وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنه قال في رواية صالح
وأبي الحارث في قوله: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا) (1) أن ذلك لجواز النسخ وأن الله تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما أحب. وظاهر هذا جواز النسخ في عموم الأحوال. وبهذا قال أكثر أصحاب الشافعي (2) ، وهو قول الأشعرية. وقال أبو الحسن التميمي من أصحابنا: لا يجوز (3) . وهو قول أصحاب أبي حنيفة (4) ، وأكثر المعتزلة (5) . وبعض الشافعية (6) . فالدلالة على جوازه: قوله تعالى في قصة إبراهيم: (يَا بُنَيّ إنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أذْبَحُكَ فَانْظُر مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَت افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (7) ، وَقوله: (إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) قال القتبي (8) في "غريب القرآن" (9) :
معناه: إني سأذبحك. فكأنه أمر بذبحه في المنام، وكانت رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحياً، يجب العمل به، ولهذا قال: (افعل ما تؤمر) ثم نسخه: (بذبح عظيم) ، وهذا نص يدل على جواز نسخ الحكم قبل وقته. فإن قيل: إبراهيم كان مأموراً بمقدمات الذبح، من الإضجاع وأخذ المُديَة ونحو ذلك. دون الذبح نفسه، وإنما سمي ذلك ذبحاً؛ لأن مقدمة الشيء قد تسمى باسم ذلك الشيء، ألا ترى أنهم يسمون النائحة باكية؛ لأنها تفعل مقدمات البكاء والأسباب التي يبكي عندها. وكذلك يسمى المريض المخوف عليه ميتاً؛ لحصول مقدمات الموت. قالوا: ويبين هذا قوله تعالى: (قَدْ صَدّقْتَ الرؤيَا) (1) ، ولو كان الواجب عليه الذبح بعينه، لم يكن قد صدق رؤياه وهو لم يذبحه، فعلم بذلك أنه كان مأموراً بمقدمات الذبح. قيل: هذا لا يصح لوجوه: أحدها: أنه قال: (إنِّي أَرَىَ فِي الْمَنَامِ) والذَّبح: اسم للشق والفتح، ولا يعبر به عن مقدماته، لا حقيقة ولا مجازاً. ومنه قول الشاعر: كأن بين فَكِّها والفَكِّ ... فَأرةُ مِسْك ذُبِحَت في سَكِّ (2) يعني به: الفتح والشق.
الثاني: قوله: (سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) ، وليس في مقدمة الذبح ما يحتاج إلى الصبر. الثالث: أنه قال: (إنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاَءُ الْمُبِينُ) (1) ، ولا يجوز أن يفخم هذه التفخيم، والمأمور به مقدمة الذبح. الرابع: قوله: (وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (2) ، ولا يكون [117/ب] الفداء مع الامتثال للأمر. وأما قوله: (قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيَا) فقد قيل معناه: التصديق بالقلب؛ لأن حقيقة التصديق بالقلب فكأنه قال: لما صدقت وآمنت واعتقدت وجوبه وعزمت على فعله جزيناك كما نجزي المحسنين، فنسخنا عنك فعل الذبح بذبح كبش. وقيل فيه جواب آخر: أن النسخ إذا ورد قبل وقت الفعل، تبيَّنا أن المراد به إيجاب مقدمات الفعل، وكل النسخ هكذا؛ لأن النسخ تخصيص الزمان، وبيان لما لم يرد باللفظ، كالتخصيص في الأعيان، ولا نقول: إن الله تعالى نسخ ما أمر به وأوجب علينا فعله؛ لأن ذلك يؤدي إلى البداء على الله تعالى. وقيل فيه جواب آخر وهو: أنه يحتمل أن يكون الأمر بالذبح أراد به ما لم أنسخه عنك، ومعناه: افعل في وقت كذا، ما لم أنسخه عنك، فإذا نسخه قبل وقته تبيَّنا أن الذبح لم يكن مأموراً به، وإنما أمره أن يعتقد وجوبه، ويعزم على فعله بهذا الشرط. والجواب الصحيح عندي هو الأول؛ لأن الثاني والثالث تسليم لما قاله
المخالف؛ لأن عنده: أن المأمور به أمارات الذبح. وعنده أيضاً: أنه يصح تعليق الأمر بشرط التمكن. فإن قيل: إنما تعبده الله تعالى بذبح لا تبطل الحياة عنده، فكان كلما، قطع جزءاً من موضع الذبح ألحمه الله تعالى وأعاده إلى حاله، فكان الفداء واقعاً من الذبح الذي تبطل الحياة عنده. قيل: القرآن يقتضي أن يكون الذى فعله تلَّه للجبين، ثم جاءه النداء والفداء، فلم يجز أن يقال: إنه ذبحه. ولأن لو كان ذبحه لذكره، وكان ذكره أولى من ذكر تلَّه للجبين. ولأنه ذلك معجزة عظيمة، وآية كبيرة، فلو كان كما قال، لوجب أن يكون قد ذكرها وتواتر النقل بها. ولأنه لو كان فعل الذبح لم يكن الذبح فداءً، وإنما يكون الذبح فداءً، إذا لم يكن فعل الذبح. فإن قيل: فقد روي أن الله تعالى ضرب على مذبحه صفيحة من نحاس، فكان إيراهيم كلما وضع المُدْية على الموضع انقلبت ولم يقع بها قطع (1) . قيل: هذا لا يصح على أصل المخالف لوجهين: أحدهما: أنه لا يصح تكليف ما لا يطاق. وهذا تكليف ما لا يطاق. والثاني: لا يكون الأمر أمراً إلا بإرادة الآمر، وإذا حال بينه وبين الفعل لم يُردْه. وأيضاً: فإن نسخ الفعل بعد التمكين من اعتقاد وجوبه يجوز، أصله الفعلُ الثاني والثالث.
يبين صحة هذا أن الأمر يوجب على المكلف أن يعتقد وجوب فعل تلك العبادة عند دخول وقتها والعزم على فعلها، ويصير بذلك مطيعاً، فإذا نسخت (1) عنه قبل دخول الوقت، فقد نسخت بعدما صار مطيعاً [118/أ] ومثاباً شيء تضمنه حكم الأمر، فجاز ذلك، كما لو أمر بفعل عبادات ففعل بعضها، جاز نسخ الثاني، ولا فصل بين الأمرين. والمعتمد على الآية. واحتج المخالف: بأن الأمر بالعبادة يقتضي الأمر بالحسن، والنهي يقتضي القبح، فلو كان الأمر بالفعل قد دل على حسنه كان النهي عنه قبل مجيء وقته نهياً عن حسن، والنهي عن الحسن قبيح، كما أن الأمر بالقبيح قبيح، وهذا لا يجوز في صفات الله تعالى. والجواب: أن الأمر يقتضي الحسن ما دام الأمر باقياً، فأما بعد زواله، فإنه يقتضي قبحه (2) ، والأمر على هذا الوجه ورد، وهو أن الفعل يكون حسناً مع بقائه، ما لم يرد النسخ به، فإذا ورد خرج الفعل عن كونه حسناً، وليس يمتنع أن يكون الشيء الواحد حسناً إذا فعل على وجه، وغير حسن إذا فعل على وجه آخر كالصلاة إذا فعلت لله تعالى كانت حسنة، [و] إذا فعلت للشيطان كانت قبيحة، وفعلها في الحالين على صورة واحدة. وقيل في جواب هذا: إن الأمر تعلق بمقدمات الفعل الذي تناوله ظاهر الأمر، كما نقول: إن الله تعالى لما نسخ التوجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ولم يرد فيما زاد عليها، وإن كان ظاهر الأمر التأبيد، ولا يقال: إنه أراد أن يكون التوجه واجباً عليهم أبداً، ثم نسخه؛ لأنه يكون بداءً على الله تعالى.
واحتج: بأن النهي عن الفعل المأمور به قبل مجيء وقته، يدل على البداء؛ لأن حال المأمور به لو كانت عنده على ما كانت عليه وقت الأمر لما كان (1) يجوز أن ينهي عنه على الوجه الذي أمر به؛ لأن ذلك يكون عبثاً، فمتى نهي عنه علمنا أن حال المأمور به يعرف عنده، إما بأن ظهر له ما لم يكن عالماً به في حال الأمر، أو خفي عنه ما كان عالماً به وقت الأمر. والجواب: أنه لا يقتضي البَدَاء؛ لأن البداء أن يظهر للإنسان ما لم يكن عالماً به، والله تعالى حين أمر بهذه العبادة كان عالماً بأن المصلحة في بقاء فرضها إلى وقت النسخ، فلا يكون قد ظهر له ما لم يكن يعلمه، حتى يكون بداء. وقيل فيه: لا يفضي إلى البداء؛ لأنه كان مأموراً بمقدمات الذبح، وقد وجدت منه، أو كان مأمورا بشرط. واحتج بأن النسخ بمنزلة التخصيص، فلما استحال أن يقول: "صلوا إذا زالت الشمس، لا تصلوا إذا زالت الشمس"، لم يصح أن يأمر بالصلاة ثم ينهي عنها قبل مجيء وقتها. والجواب: أنه إنما لم يصح ذلك؛ لأنه لا يفيد شيئاً، فيكون عبثاً ولعباً، وليس كذلك إذا كانا في زمانين مختلفين؛ لأنه يتمكن من فعل مقدماته: اعتقاد وجوب المأمور به، والعزم على فعله بشرط، فيكون ذلك طاعة ينال بها الثواب، وإذا كان [118/ب] مفيداً جاز ورود الشرع به.
مسألة
مسألة (1) الزيادة في النص ليس بنسخ. وهو قول أصحاب الشافعي (2) . وقال أصحاب أبي حنيفة: هو نسخ (3) . ويفيد هذا: جواز الزيادة في النص بالقياس، وبخبر الواحد (4) ، مثل: إيجاب النية في الوضوء بالخبر (5) والقياس، وإن كان ذلك زيادة على قوله تعالى: (اغْسلُوا وُجُوهكُمْ) (6) . وكذلك: إيجاب النفي في حد الزنا (7) ، وإن كان زيادة على قوله (فَاجْلِدُوا كُل وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدةٍ) (8) .
وكذلك: إيجاب شرط الإيمان في كفارة الظهار بالقياس علي كفارة القتل، وإن كان فيه زيادة على قوله: (فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ) (1) . وكذلك: الحكم بشاهد ويمين جائز بالخبر (2) ، وإن كان فيه زيادة على قوله تعالى: (فَإنْ لَمْ يَكُونَا رجُلَيْنِ فرَجُل وامْرَأتَانِ) (3) . ونحو هذا، كله يجوز عندنا، وعندهم لا يجوز. وقال أصحاب الأشعري: إن كانت الزيادة تُغير حكم المزيد عليه، مثل: أن يأمر بركعتين، ويجعلها أربعاً، كان نسخاً. وإن كانت لا تغير حكمه، مثل: أن يزيد عشر جلدات على المائة، لم يكن نسخاً.
دليلنا:
دليلنا: أن النسخ بيان مدة ما لم يرد مما وجب دخوله في إطلاق اللفظ، ويكون الرافع متأخراً عن وقت الفعل المأمور به، وهذان الشرطان مفقودان هاهنا؛ لأن القياس الذي يدل على الزيادة يقترن بالمزيد عليه، غير متأخر عنه، فلم يكن نسخاً. ولأن النسخ هو: رفع الحكم وإزالته، والزيادة لا توجب رفع المزيد عليه، ألا ترى أنه إذا كان في الكيس مائة درهم، فزدت فوقها درهماً، أن ذلك لا يوجب رفع شيء مما كان في الكيس، فلا يوجب ضم الزيادة إليه مع بقائه. وكذلك إذا فرض الله تعالى على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، ثم فرض صوم شهر رمضان، فلا يكون فرض الصوم نسخاً للصلوات، كذلك هاهنا. والذي يبين صحة هذا وأن النسخ هو الرفع والإزالة: قولهم: "نَسخت الشمسُ الظل، إذا أزالته"، و"نسخ الريحُ الأثرَ، إذا ذهب به وأزاله". فإن قيل: وقد لا يكون عبارة عن الإزالة ألا ترى أنك تقول: نسخت الكتاب، وإن لم يزل، ما كان فيه من الكتابة؟ قيل: هذا مجاز واتساع، والحقيقة ما ذكرنا. والذي يبين صحة هذا أن النسخ عندنا هو الإزالة، وعند مخالفينا هو تغيير الحكم، ونسخ الكتاب لا يوجد فيه شيء من ذلك، فعلم أنه مجاز. ويدل علي جواز الزيادة بالقياس وبخبر الواحد، فنقول [119/أ] كل جاز تخصيص الحكم به جاز الزيادة فيه، أصله القرآن والخبر المتواتر.
وأيضاً: فإن التخصيص نقصان مما وجب دخوله في اللفظ، وليس في الزيادة نقصان، فإذا جاز التخصيص، فلأن تجوز الزيادة أولى. واحتج المخالف: بأن النسخ هو: أن لا يلزم في المستقبل مثل ما كان لازماً فيما مضى وهذا المعنى موجود في الزيادة في النص؛ لأن إيجاب النية في الطهارة، وشرط الإيمان في كفارة الظهار يمنع أن يلزم في المستقبل مثل ما كان لازما فيما مضى، وكذلك إيجاب التغريب مع الجلد، فوجب أن يكون نسخاً. والجواب: أنا لا نسلم أن هذا هو النسخ، وإنما هو ما ذكرنا من الرفع والإزالة، أو بيان ما لم يُرَد مما وجب دخوله، وهذا معدوم ها هنا. وعلى أنه يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإن الصلاة كانت جميع الشرع، ثم صارت بعضه، فلم يلزم في المستقبل مثل ما كان لازماً فيما مضى، ومع هذا فلم يكن نسخاً، وهما سواء؛ لأنه كان لازماً فيما مضى عبادة واحدة، فزيد عليها أخرى، وكذلك كان لازما جلد مائة، فزيد عليه التغريب. واحتج: بأن الزيادة تغير حكماً ثابتاً في المزيد عليه، فوجب أن يكون نسخاً، كما إذا نسخ الحكم الثابت، مثل القبلة، والتقديم (1) ، وحد الزنا، والوصية. ووجه التغيير: أنه قبل الزيادة كان جميع الحكم، فصار بالزيادة بعض الحكم. والجواب: أنا لا نسلم أنها غيرته؛ لأن حكم المزيد ثابت، كما
كان، ولكن يحتاج إلى زيادة ليقع موقعه، فكأن المائة قد وقعت موقعها، ولكن تحتاج إلي زيادة. وقولهم: كان جميع الحكم، فصار بعضه، يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإن الصلاة كانت جميع الشرع، ثم صارت بعضه، ولا يكون ذلك نسخاً. ثم يبطل هذا بالنقصان فإنه إذا سقط من المائة خمسون، لم يكن نسخاً للباقي، وقد صارت كل الحد بعد أن كانت بعضه. واحتج: بأن النقصان نسخ، فوجب أن تكون الزيادة نسخ. والجواب: أن النقصان يسقط حكماً ثابتاً فأوجب دخوله في اللفظ في وقت مستقبل، وليس كذلك الزيادة؛ لأنها لا تسقط حكماً، وهذا كما نقول: إنه إذا نسخ صوماً أو صلاةً، كان نسخاً، وإن زاد صوماً بعد الصلاة، لم يكن نسخاً فدل على الفرق بين النقصان وبين الزيادة. واحتج: بأنه لا يصح أن يجمع بين الزيادة وبين حكم النص في خطاب واحد، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول الله تعالى: إذا غسلتم فى هذه الأعضاء أجزأتكم الصلاة وإن لم تنووا، ثم يقول مع ذلك: إن لم تنووا الطهارة لم تجزئكم صلاتكم، وكذلك [119/ب] لا يقول: قد أوجبت عليكم إذا حكمتم أن تحكموا بشهادة رجل واحد وامرأتين دون غيرهم، ثم يقول مع ذلك: واخترت لكم الحكم في الشاهد واليمين. وكذلك لا يصح أن يقول: إن جلد مائة جميع حد الزاني، ثم يقول مع ذلك: هو بعض حده، فإذا استحال جمعها (1) في خطاب واحد، وجب أن يكون ورود الزيادة بعد استقرار حكم النص موجباً لنسخه. والجواب: أن هذا يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإنه لا يصح أن يجمع بين الصوم وبين الصلاة في خطاب واحد، فلا
يصح ان يقول: إذا صليتم برأت ذمتكم من كل عبادة، وإن لم تصوموا، ثم يقول مع ذلك: إن لم تصوموا لم تبرأ ذمتكم، ومع هذا فإيجاب الصيام بعد الصلاة لا يكون نسخاً للصلاة، كذلك ها هنا. واحتج من قال بأنها إذا غيرت كانت نسخاً: بأن الركعتين قبل الزيادة عليهما (1) كانتا تجزئان عن الفريضة ويصحان بانفرادهما، فلما ضم إليهما (2) ركعتين آخرتين صارتا غير مجزئتين ولا يصحان (3) بانفرادهما، فكان ذلك نسخاً لهما. والجواب: أن الركعتين صحيحتان واقعتان عن الفرض، لكن ضم إليهما شيء آخر، فهو بمنزلة إشتراط ستر العورة فيها واستقبال القبلة ونحو ذلك من الشرائط. ثم هذا باطل بالزيادة على الحد، فإنه كان قبل الزيادة محرماً، وتحصل به الكفارة، وبعد الزيادة لا تجزىء، ولا يكون ذلك نسخاً عند هذا القائل، وكذلك مبيحة للنكاح، فإذا زيد فيها، لم تكن مبيحة للنكاح من غير الزيادة، ولا يكون نسخاً، كذلك ها هنا. واحتج: بأنكم قد جعلتم الزيادة على النص نسخاً لدليل الخطاب، فيجب (4) أن يكون نسخاً للمزيد عليه، وبيانه: إذا أمر الله تعالى بأن يجلد الزاني مائة واستقر ذلك، ثم زاد بعد ذلك عليها زيادة، كان ذلك نسخاً لدليل الخطاب، لأن قوله: اجلدوا مائة، دليله: لا يجلد أكثر منها.
وهذا كما قال الصحابة والتابعون: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الماء من الماء) منسوخ، وإنما المنسوخ حكم دليل الخطاب منه، دون حكم النطق؛ لأن حكم النطق ثابت لم يتغير. والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن المزيد عليه لم يتغير حكمه، فهو (1) بعد الزيادة، كهو (2) قبلها، وليس كذلك دليل الخطاب، فإنه قد زال، لأن تقديره: لا تزيدوا على المائة، وقد أوجب الزيادة عليها، فصار المنع من الزيادة منسوخاً. وربما قال قائل: إن ذلك ليس بنسخ، وإنما هو جار مجرى التخصيص للعموم، قال: لأن دليل الخطاب من القرآن والسنة المتواترة يجوز تركه بالقياس وبخبر الواحد. والصحيح: أنه نسخ؛ لأن [120/أ] العموم إذا استقر بتأخير بيان التخصيص كان ما يراد من التخصيص بعده نسخاً، كذلك دليل الخطاب إذا استقر كان ما يرد بعده مما يوجب تركه نسخاً. فصل (3) إذا نص على حكم في عين من الأعيان بمعنى، وقيس عليه كل موضع وجد فيه ذلك المعنى، ثم نسخ الله تعالى حكم تلك العين صار حكم الفروع منسوخاً.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يبقى الحكم في جميع الفروع (1) ، وذكروا ذلك في مسألتين: إحداهما وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنبيذ الذي كان مع عبد الله بن مسعود (2) . فقيل لهم: إنه كان نيئاً، ولا يجوز عندكم أن يتوضأ بالنبيذ النيء. فقالوا: إذا ثبت بالنص جواز الوضوء بالنيء، لأنه ثمرة طيبة وماء طهور، وجب جوازه بالمطبوخ، لأن هذا المعنى موجود فيه، وقد نسخ حكم النيء وبقي حكم المطبوخ. والمسألة الثانية: النية لصوم رمضان بالنهار، فرووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بعث إلى أهل العوالي (3) يوم عاشوراء (4) أن من لم يأكل
دليلنا:
فليصم (1) فأجاز صوم يوم عاشوراء بالنية من النهار، وكانت العلة فيه: أنه صوم مستحق في زمان بعينه، وهذا المعنى موجود في صوم رمضان وغيره، ثم نسخ صوم عاشوراء، وبقي حكمه في غيره. دليلنا: أن ما ثبت تابعاً لغيره وجب أن يزول بزوال الموجب والمقتضى إذا
زال، كالحكم المتعلق بالعلة إذا زالت العلة زال الحكم المتعلق بها. واحتج المخالف: بأنه لو نسخ ذلك لكان نسخاً بالقياس على موضع النص، وهذا لا يجوز بالإجماع. والجواب: أنه ليس بنسخ بالقياس، وإنما زال الموجب فزال ما تعلق به، كما زالت العلة فزال الحكم المتعلق بها، وإنما النسخ بالقياس: أن ينسخ حكم الفرع بعد استقراره بالقياس على أصل شرع بعد استقراره، وهذا لا يجوز بالإجماع، فأما إزالته بنسخ أصله، فليس ينسخ بالقياس. فصل (1) إذا كان الناسخ مع جبريل عليه السلام، ولم يَصِل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ليس بنسخ. وإن وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل يكون نسخاً؟ ظاهر قول أصحابنا: أنه ليس بنسخ إلا عند من بلغه ذلك وعلمه؛ لأنه أخذ بقصة (2) قباء، واحتج بها على إثبات خبر الواحد في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: مثل هذا، ومنهم من
دليلنا:
قال: يكون نسخاً، ولا يعتبر علمهم به (1) . دليلنا: أن أهل قباء صلوا ركعة إلى بيت المقدس، ثم استداروا في الصلاة، ولو كان النسخ ثبت [120/ب] في حقهم لأمروا بالقضاء، فلما لم يؤمروا بالقضاء، دل على أن النسخ لم يكن ثبت في حقهم. ولأن الخطاب لا يتوجه إلى من لا علم له به، كما لا يخاطب النائم والمجنون لعدم علمهما وتمييزهما. ولأنه لا خلاف أنه مأمور بالأمر الأول، ومتى تركه مع جهله بالناسخ كان عاصياً، فدل على أن الخطاب باق عليه. واحتج المخالف: بأنه لا يمتنع أن يسقط حكم الخطاب بما لم يعلمه، ألا ترى أنه إذا وكل في بيع سلعة، ثم عزل الوكيل، ولم يَعْلم بعزله انعزل، وإن باع السلعة بطل بيعه، كذلك ها هنا. والجواب: أن في تلك المسألة روايتين: إحداهما: لا ينعزل، ويحكم بصحة بيعه، وكذلك لو مات الموكل، فباع، يصح بيعه، فعلى هذا لا فرق بينهما (2) . وعلى هذا قال أصحابنا: إذا حلف على زوجته فقال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فأذن لها، وهي لا تعلم، وخرجت وقع الطلاق،
ولم يكن لذلك الإذن حكم. وفيه رواية أخرى: ينعزل الوكيل وإن لم يعلم (1) . فعلى هذا الفرق بينهما: أن أوامر الله تعالى ونواهيه مقرنة بالثواب والعقاب، فاعتبر فيها علم المأمور [به] والمنهي عنه فيها، وليس كذلك الإذن في التصرف والرجوع فيه، فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب. فصل (2) في الخبر هل يصح نسخه أم لا؟ ينظر فيه: فإن كان لا يصح أن يقع إلا على الوجه المخبر به، فلا يصح نسخه، كالخبر عن الله تعالى بأنه واحد ذو صفات، والخبر بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء أنهم كانوا أنبياء موجودين، والخبر بخروج الدجال في آخر الزمان ونحو هذا، فهذا لا يصح نسخه؛ لأن نسخه والرجوع عنه يفضي إلى الكذب، وهذا لا يجوز على الله تعالى، فلم يجز ذلك. وإن كان مما يصح أن يتغير، ويقع على غير الوجه المخبر عنه، فإنه يصح نسخه كالخبر عن زيد بأنه مؤمن أو كافر، أو عبد أو فاسق، فهذا يجوز نسخه، فإذا أخبر عن زيد بأنه مؤمن، جاز أن يقول بعد ذلك: هو كافر. وكذلك يجوز أن يقول: الصلاة على المكلف في المستقبل،
ثم يقول بعد مدة: ليس على المكلف فعل الصلاة؛ لأن نسخ ذلك لا يفضي إلى الكذب في الخبر؛ لأنه يجوز أن تتغير صفته من حال إلى حال، كما يجوز أن يتغير حكم المكلف عن العبادة من زمان إلى زمان. فصل (1) في الإجماع لا يصح نسخه؛ لأنه (2) حجة: انعقدت بعد انقطاع علم الوحي؛ لأنه ينعقد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد انقطع الوحي بعد وفاته. وإذا لم يصح نسخه لم ينسخ به أيضاً؛ لأن الناسخ هو الوحي، والوحي قد انقطع، فلا نسخ بغيره. فإن قيل: أليس اذا وجدتم خبر الواحد تركتموه بالإجماع؟ قيل: يترك بالإجماع، [121/أ] ولا ينسخه به، بل يستدل بالإجماع على نسخه؛ لأنه لو كان الخبر صحيحاً لم يخرج عن الأمة؛ لأن الأمة ضبطوا الأخبار، فإذا رأينا خبراً يخالف ما اجماعهم عليه، استدللنا بإجماعهم على نسخه. فإن قيل: أليس إذا كانت الصحابة على قولين، ساغ الأخذ، بكل واحد منهما، فإذا أجمع التابعون على أحد القولين بدل القول الآخر، فقد نسختم بالإجماع. قيل: لا يزول القول الآخر بإجماع التابعين، لأن التابعين لو أدركوا
كلهم عصر الصحابة، وكانوا مع أحد القولين لم يزل الأخذ، فبأن لا يزول بإجماعهم بعد انقراض الصحابة أولى. وإن قلنا: يزول أحد القولين، لم يكن نسخاً بالإجماع، لكنا نقول: إنما ساغ العمل بكل واحد منهما بشرط أن لا يكون مانع منه، فإذا وجد ما يمنع منه، لم يسغ العمل به، كما نقول: يجوز الاجتهاد والعمل به ما لم يعلم النص، فإذا علم زال الاجتهاد لوجود النص، لا أنه نسخ الاجتهاد، كذلك ها هنا. فصل (1) فأما القياس فلا ينسخ؛ لأنه يستنبط من أصل، فلا يصح نسخه مع بقاء الأصل المستنبط منه، والأصل باق، فكان القياس باقياً ببقائه. وإذا لم يصح نسخه لم ينسخ به أيضاً؛ لأنه إنما يصح ما لم يعارضه أصل، فإن عارضه أصل سقط في نفسه. فبطل أن ينسخ الأصل به مثل أن يقول: علة الربا في البر: مكيل جنس، فإن وجد خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواز التفاضل في الأرز، سقط القياس. ولأن القياس دليل محتمل، وليس بالقوى الذي يقع به النسخ. فصل (2) وأما دليل الخطاب وما في معناه من التنبيه، نحو قوله: (فلا تقل
دليلنا:
لهمَا أفّ) (1) ، فإنه ينسخ وينسخ به. وهو قول المتكلمين. خلافاً لأصحاب الشافعي، فيما حكاه الإسفراييني (2) : أنه لا ينسخ ولا ينسخ به (3) . دليلنا: أن المنع من الضرر ثبت نطقاً لا قياساً، فصح نسخه، والدليل على ثبوته نطقاً: أنهم قالوا: هذا مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه. ولأن ما ثبت باللفظ ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، ألا ترى أنه لو قال: اقتلوا أهل الذمة؛ لأنهم كفار، جاز قتل عبدة الأوثان بهذا اللفظ، وإن لم يتناولهم اللفظ من طريق الصيغة، لكن من طريق العلة والتنبيه، كذلك ها هنا. ولأن القياس: ما يختص بفهم أهل النقل والاستدلال، وما دل عليه فحوى الخطاب، فإنه يستوي فيه العالم والعامي.
فإن قيل: ما ثبت نطقاً؛ لأنا لا ننطق بالمنع من الضرب، ولا سمع منه صيغة الضرب، وإنما عرف ذلك من معنى النطق، ومعنى النطق هو نفس القياس. قيل: قد بينا أنه ثبت بالنطق من الوجه الذي بينا، وهو أنه يضاف [121/ب] إلى اللفظ. ولأن الصيغة غير معتبرة من الوجه الذي بينا. وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة في باب القياس، وذكرنا أن الحكم الثابت من طريق التنبيه، لا يسمى قياساً، وإنما هو مفهوم الخطاب وفحواه. فصل (1) مما يعلم به النسخ ويعلم بثلاثة أشياء: أحدها: النطق كقوله تعالى: (اْلآنَ خَففَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أن فِيكُمْ ضَعْفاً) (2) فنسخ عنهم أن يصابر كل واحد عشرة إلى أن يصابر اثنين نطقا. وهكذا قال تعالى: (عَلِمَ اللَهُ انتَكُم كُنْتمْ تَخْتَانُونَ أئفُسَكمْ فَتَابَ علَيْكمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَاْلآنَ بَاشِرُوهُن
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَينَ لَكمّ الخيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخيطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (1) ، فكان الأكل والشرب محرماً عليهم بغير القرآن، فنسخ عنهم (2) بالقرآن. وهكذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) و (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروا) فنسخ ذلك نطقاً. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية الحسن بن علي بن الحسن الإسكافي (3) ، وقد سئل هل في الحديث ناسخ ومنسوخ؟ فقال: نعم، مثل لحوم الأضاحي وما أشبهه. الثاني: أن يرد خبران متعارضان، ويعلم أن أحدهما يغير الآخر، مثل أن يقول: لا تزوروا القبور، ثم ثبت أنه قال بعد ذلك: زوروها، فيعلم بأن المتأخر عن الأول ناسخ للأول. وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كنت رخصت لكم في جلود الميته، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) (4) ؛ لأن النسخ باللفظ لا يعلم بأنه بعد الأول.
وهذا قد نزل متأخرأ في التلاوة متقدماً في التنزيل، كقوله: (لا يَحِلُّ لَكَ النَسَاءُ مِن بَعْدُ) (1) ، هذا منسوخ بقوله تعالى: (يَا أَيها النبي إنا أحْلَلْنَا لَكَ أَزْواجَكَ) (2) الآية، والناسخ متقدم في التلاوة ومتأخر في التنزيل. وهكذا كانت العدة حولاً، فنسخت بأربعة أشهر وعشر، وكان الناسخ متقدماً في التلاوة، والمنسوخ متأخراً، وهو قوله: (وَالّذِين يُتَوَفّونَ مِنْكم وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبصنَ بِأَنْفُسِهِن أَربَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (3) ، نسخ بها قوله تعالى: (وَصِية لأزْوَاجِهِم متَاعاً إلى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاج) (4) وهذا متأخر في التلاوة. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية عبد الله: تستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر، فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به. والثالث: أن يرى خبر الواحد يخالف الإجماع، فيستدل بالإجماع على نسخه، لا أن الإجماع نسخه. وإذاك ثبت أن العلم بالمتأخر يقع به النسخ، فالمتأخر يعلم بأحد أسباب ثلاثة: أحدها: النطق، كقوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) ، (كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا) ، هذا عرف المتأخر منه لفظاً.
الثاني: أن يخبر الصحابي أن هذه الآية نزلت بعد آية، فيصير إليه [122/أ] ، وينسخ بخبره. الثالث: أن ينقل الراوي خبراً، ثم ينقل غيره ضده، فيعلم أن الأول مات قبل إسلام الراوي الثاني، فإن نقل الثاني يعلم أنه متأخر عن الأول، وذلك في مس الذكر، روى طَلْق بن علي (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وضوء من مسه) (2) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه: (وجوب الوضوء
من مسه) (1) ، وكان خبر أبي هريرة متأخراً؛ لأن أبا هريرة أسلم
بعد وفاة طَلْق بن علي، وقبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربع سنين (1) .
فصل (1) والنسخ إنما يقع مع التعارض، هو: أن يعارض الناسخ المنسوخ، فأما إذا ورد شرعان لا يتعارضان، فلا ينسخ أحدهما الآخر. وقول من يقول: إن صوم رمضان نسخ صوم عاشوراء، لا يصح؛ لأن فرض رمضان لا ينافي صوم عاشوراء، وإنما وافق نسخ عاشوراء فرض رمضان، فقال الناس: نسخ به، وليس كذلك، بل ينسخ مع فرضه لا به. فصل (2) إذا قال الصحابي: هذه الآية منسوخة، فإنا لا نصير إلى قوله حتى يخبر بماذا نسخت. أومأ إليه في رواية صالح فقال: هذا ما خرجه أبي في الحبس فقال في أوله: بعث نبيه، وأنزل عليه كتابه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من باطنه وظاهره، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه. وهذا يدل على أنه مخصوص بذلك. ثم ذكر بعد ذلك بأوراق قوله تعالى: (وَالَذِينَ يُتَوَفوْنَ مِنْكُمْ
ويذَرُونَ أزوَاجاً وَصيَة لأِزْوَاجِهِم متاعاً إلى الْحوْل غَيْرَ إخْرَاج) (1) ، فمن دل على أنها منسوخة غيرهم. وإنما أراد بذلك الصحابة، وظاهر هذا أنه يصار إلي قوله. وذكر بعد ذلك بأوراق قوله تعالى: (وَعَلىَ الذِين يطُيقونَهُ فِدية) (2) قال ابن عباس: الفديةُ ولا قضاء عليه (3) . وقال علقمة (4) وعبيدة (5) : نسختها الآية التي بعدها (فَمنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَهْرَ فليصمْهُ) (6) . وظاهر هذا أنه صار إلى قول التابعين، ثم قال: لا يصير إلى قوله. وهو قول أصحاب أبي حنيفة والشافعي، لئلا تناول نسخَها بما لا
يجوز نسخُها به كأخبار التواتر. وقد بينا أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز، ولأن أكثر أحواله أن ينقل خبراً من جهته، فلا ينسخ به القرآن. فأما خبر الواحد إذا أخبر به صحابي، وزعم أنه منسوخ، فإن على قول من يجوز للراوي نقل معنى الأخبار، يجب أن يثبت به النسخ؛ لأن ظاهر كلامه أنه معنى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النسخ؛ لامتناع أن يحمل قوله على غير جهته. وأما على قول من يعتبر اللفظ، فلا ينسخ به؛ لجواز أن يكون ما سمعه ظن أنه ناسخ، ولو أظهره لم يكن ناسخاً عندنا. ويفارق هذا إذا روى الصحابي خبراً وفسره، قبلنا تفسيره، لأنا إنما نقبل تفسيره في الخبر المحتمل، على ما تقدم، بيانه، فجعلنا تفسيره، لمشاهدة التنزيل وحضور التأويل [122/ب] [و] ها هنا اللفظ المنسوخ غير محتمل. فصل (1) نسخ بعض العبادة لا يوجب نسخ الباقي وحكي عن بعض الشافعية أن المنقوص إذا لم يكن ثابتاً على الوجه الذي كان ثابتاً عليه في الابتداء، فإن نقصانه يوجب نسخ جميعه، كنسخ التوجه نسخ (2) لجميع الصلاة (3) .
دليلنا:
دليلنا: أن الله تعالى لما نسخ التوجه إلى بيت المقدس، لم يوجب ذلك نسخ أوصاف الصلاة، فوجب أن يكون على ما كان عليه، وجرى مجرى نسخ منها، كالطهارة والستارة. ولأن النسخ جارٍ مجرى التخصيص في باب كون كل واحد منهما رافعاً لبعض ما تناوله اللفظ، وكان تخصيص بعض ما تضمنه العموم لا يوجب سقوط جميعه، كذلك نسخ بعضه لا يوجب نسخ جميعه. فصل يجوز النسخ بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في التخصيص للعموم بأفعاله. خلافاً لأبي الحسن التميمي من أصحابنا قال: لا يجوز، بناه على أن أفعاله لا تدل على الوجوب. وذكر هذا في أوراق وقعت إلي فيها النسخ بأفعاله، والتخصيص بأفعاله، وأجاز التخصيص بأفعاله. والدلالة عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته في أحكام الشرع سواء، إلا ما دل عليه دليل التخصيص. ن
باب الأخبار
باب الأخبار (1) حقيقة الخبر: ما دخله الصدق أو الكذب، كقوله: رأيت زيداً، وضربت عمراً، يحتمل أن يكون صادقاً، ويحتمل أن يكون كاذباً. وقد يدخل في معنى الخبر ما ليس بخبر، كالإيماء والإشارة، مثل أن يقال ": أَمَر بك العسكر"؟، فيومىء برأسه، أو يشير بيده "لا"، أو"نعم"، فيحتمل الصدق أو الكذب، وليس بخبر؛ لأن حقيقة الخبر ما كان لفظاً أو نطقاً. وليس يعرف كون الخبر صدقاً أو كذباً من نفس الأخبار، وإنما يعلم بدليل غيره أنه صدق أو كذب، لا نفس الأخبار، فلهذا المعنى جاء الطلب والاستخبار والتمني خارجاً من هذا الحد لكونهما مما لا يصح فيهما الصدق أو الكذب. ولا يجوز أن يقال: حد الخبر: ما صح أن يدخله الصدق فقط؛ لأن
مسألة
الإخبار عن الحال خبر، وإن لم يجرِ فيه الصدق. ولا يحد بأنه: ما صح فيه الكذب فقط؛ لأن الخبر عن الواجب خبر، وان لم يدخله الكذب. ولا يجمع أيضاً بين الأمرين لامتناع جوازهما في أخبار الله تعالى وأخبار رسوله، وإن كان [123/أ] خبر صدق لا يجوز أن يكون إلا على صفة واحدة. ومن الناس من قال: هذا الحد على ما كانت تعرفة العرب من الأخبار، ولا يدخل في ذلك أخبار الله تعالى وأخبار رسوله صلى الله عليه [وسلم] . مسألة (1) للخبر صيغة تدل بمجردها على كونه خبراً كالأمر، ولا يفتقر إلى قرينة يكون بها خبراً، وهو قول القائل: قام زيد، وزيد قام، وضرب زيد، وزيد ضارب. وقالت المعتزلة: لا صيغة له، وإنما يدل اللفظ عليه بقرينة، وهو قصد المخبر إلى الإخبار، كقولهم في الأمر (2) . وقالت الأشعرية: الخبر نوع من الكلام، وهو معنى قائم في النفس يعبر عنه بعبارة تدل تلك العبارة على الخبر لا بنفسها، كما قالوا في الأمر والنهي، والكلام في هذه كالكلام في تلك المسألة (3) .
مسألة
دليلنا: ما ذكرنا، وهو أن ما احتمل الصدق والكذب خبر، وما لم يحتمل فليس بخبر، فدل على أن الخبر إنما كان خبراً لما وضع له من كونه محتملاً للأمرين، كما قلنا في الأمر، لما كان استدعاء الفعل ممن هو دونه، دل على أن الأمر إنما يكون أمراً لكونه استدعاء. مسألة (1) العلم يقع من جهة الأخبار المتواترة، مع اختلاف في صفة التواتر كما يقع من جهة المشاهدات. وهذا ظاهر على أصلنا؛ لأنه أثبت العلم بأخبار الصفات. وهو قول كافة أهل العلم. وحكي عن بعض الأوائل -وقيل هم السمنية (2) ، وقيل: هم البراهمة (3) - أنه لا يقع العلم بشيء من الأخبار، وإنما يقع العلم بالمحسوسات والمشاهدات.
دليلنا:
دليلنا: أنا نجد نفوسنا عالمة بالبلدان النائية "كمكة" و"البصرة" و"الصين" وغير ذلك من البلاد والسير الماضية كأيام بني أمية وبني العباس، كما نجدها عالمة بالمشاهدات والمحسوسات. ومنكر هذا كمنكر علم المشاهدات من السوفسطائية (1) ، ولا طريق له غير الخبر. فإن قيل: لو كان العلم بالخبر جارياً مجرى العلم بالمشاهدات، لم يحتج في ذلك إلى تكرار الخبر وتواتره، كما لا يحتاج إلى تكرار المشاهدات والمحسوسات، ولما احتيج في ذلك إلى التواتر، دل على أن العلم لا يقع به. قيل: إنما اختلفا من هذا الوجه؛ لأن العلم بالمشاهدات من كمال العقل، إذ لا يصح أن يكون كامل العقل يشاهد (2) الشيء ولا بعلمه، وليس كذلك العلم بالأخبار؛ لأن الله تعالى أجرى العادة في العلم به عند
التواتر [123/ب] فكان وقوع العلم به تابعاً للعادة. يبين صحة هذا أن الله تعالى قد أجرى العادة ممن يدرس الشيء ليحفظه إذا كرر الدرس، وكذلك أجرى العادة في السكر عند تكرار الشرب. واحتج المخالف: بأنه لو كان خبر التواتر يوجب العلم ويقطع العذر لوجب أن لا تنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنكم تعلمونه بنقل تواتر، فلما لم تثبتوا نبوته قطعاً بطل أن يكون التواتر موجباً للعلم. والجواب: أنه إنما لم تثبت نبوته قطعاً؛ لأنها لم تثبت ضرورة، وإنما عرفت بالاستدلال القوي، وهو الآيات والمعجزات على يده، ونقل إلينا ذلك نقلاً، فلذلك (1) لم تثبت ضرورة، لا لمعنى يعود إلى الأخبار. وجواب آخر أجود من هذا وهو: أن ردهم للخبر لا يدل على أن العلم لم يقع به، بدليل أنهم شاهدوا معجزاته وعاينوها وردوها، ومعلوم أن العلم يقع بالمشاهدات، ومع هذا فقد ردوها، وكذلك الخبر عنه. واحتج: بأن اليهود تخبر بأن موسى عليه السلام قال: شريعته مؤبدة، وهم عدد كثير وجم غفير، ولا يقع العلم بخبرهم، والنصارى تخبر بقتل المسيح عليه السلام وصلبه، ولا يقع العلم بخبرهم. والجواب: أن النصارى عدد يسير أخبروا بمشاهدة قتله، وكانوا قد شبه لهم. ويجب أن يكون أولهم وآخرهم ووسطهم سواء في النقل، والعدد الكثير إذا رووا عن عدد قليل، فإن العلم لا يقع بصحة المخبر عنه. وأما خبر اليهود فكذلك أيضأ؛ لأن "بُخْتنصّر" (2) قتلهم، فلم
يكن خبرهم عمن يثبت بنقله التواتر. [و] قد قيل: إن "ابن الرواندي" (1) لقنهم ذلك بأصبهان، ولا يعرف ذلك إلا من جهته. والدليل عليه: أنهم لم يقولوا هذا لعيسى ولا لمحمد عليهما السلام، فلو كان صحيحاً لوجب من طريق العادة أن يكون ذلك أولى ما يقولونه لهما، ويقصدون بذلك تكذيبهما. وجواب آخر وهو: أن اليهود لم تكن مجمعة على هذا الخبر، بدلالة أن جماعة منهم آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك النصارى. ولأن النصارى كانوا يختلفون -وإلى وقتنا هذا- في قتل المسيح، واليهود اختلفوا في آية الرجم. واحتج: بأنه إذا جاز عليهم الصدق مع كثرتهم، جاز عليهم الكذب أيضاً، وما الفرق بينهما؟ والجواب: أن الصدق له سبب يدعو إلى الإخبار به، وهو علم كل واحد منهم بما شاهده (2) وأدركه، وليس للكذب سبب، وإنما يكذب الكاذب لغرض يخصه [124/أ] ، وأغراض العدد الكثير لا تتفق، وخواطرهم لا تتسق إلا بجامع يجمعها وحامل يحملها على ذلك من رغبة أو رهبة، ولهذا
مسألة
إذا دخل غريب "بغداد"، واستدل على "جامع المنصور"، ولم يجز أن يقع من العدد الكثير أن يدلوه على "بِيعة"، ويجوز أن يتفق هذا من عدد يسير، ويجوز أن يتفق العدد الكثير على أن يدلوه على المسئول عنه، وَيصدقوا فيه، فدل على الفرق بينهما. واحتج: بأنه لا يخلو إما أن يقع العلم بخبر الأول أو الأخير، ولا يجوز وقوعه بالأول ولا بالأخير؛ لأنه آحاد، فدل على أنه لا يصح أن يقع العلم بالخبر بوجه. والجواب: أن العلم يقع بخبر جميعهم؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بحصول العلم عند اجتماعهم، ولهذا إذا شككنا فيه مشكك لم نشك، وفي خبر الواحد نشك فقط، فسقط ما قالوه. مسألة (1) والعلم الواقع بالأخبار المتواترة ليس من شرطه أن يجمع الناس كلهم على التصديق به وهذا ظاهر على أصلنا؛ لأن أحمد رحمه الله أثبت أخبار الصفات، وهي موجبة للعلم مع اختلاف الناس في قبولها. خلافاً لليهود في قولهم: من شرط وقوع العلم به أن لا يكون في الناس من يكذبه (2) .
دليلنا:
دليلنا: أنه لو كان من شرط (1) العلم به اجتماع الناس على تصديقه، لم يجز وقوع العلم بخبر على وجه من الوجوه، إذ يستحيل من الواحد أن يلْق جميع الناس ويسير إليهم أو يسيروا إليه (2) ، ولما أجمعنا على صحة العلم بخبر التواتر، دل على فساد قولهم. فإن قيل: لا يعتبر العلم بتصديق جميع الناس، وإنما يعتبر أن لا يعلم فيهم من يكذب المخبرين. قيل: إذا جاز أن يعلم صحة المخبر عنه مع تجويز أن يكون في الناس من يكذبه، لم يكن من شرط (3) وقوع العلم بصحته اجتماع الكافة على التصديق. فإن قيل: إذا لم أعلم أن فيهم مكذباً علمت أنه لا مكذب فيهم، إذ لو كان فيهم ذلك لكذب المخبرين، وكان تكذيبه حينئذ ينقل إلينا؛ لأن العادة جارية بأن مثل هذا لا يترك نقله. قيل: إذا كانت العادة جارية أن مثل هذا لا يترك نقله، فالعادة أيضاً جارية أن الجماعة الكثيرة التي لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب، إذا أخبرت بشيء وقع العلم بخبرهم، ولا فرق بين من منع ذلك وبين من منع ترك نقل تكذيب من يُكذب المخبرين. وأيضاً: فإنا نجد أنفسنا ساكنة إلى العلم ببعض البلدان [124/ب] التي أخبرنا بها، وإن كنا نعلم أن في الناس من لم يسمع بذلك ولم يخطر على باله،
مسألة
فضلاً عن أن يصدق به، فلو كان تصديق جميع الناس شرطاً في وقوع العلم بخبر المخبر، لم يصح وقوع العلم لنا بما ذكرنا وفي علمنا بوجود ذلك دليل على فساد ما ذهبوا إليه. واحتج المخالف: بأن المسلمين كلهم كالنفس الواحدة، ولا يجوز وقوع العلم بنقلهم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنها تكون شاهدة لنفسها. والجواب: أن هذا المعنى قائم في اليهود؛ لأنهم كالنفس الواحدة، فيلزمهم أن لا يثبتوا معجزات موسى عليه السلام بنقلهم لها. فإن قيل: إنما صح وقوع العلم بمعجزات موسى عليه السلام، لأن المسلمين والنصارى قد شهدوا بصحتها. وأما اليهود فلم يشهدوا بصحة معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلهذا لم يجز وقوع العلم بنقلها. قيل (1) : المسلمون والنصارى عند اليهود كفار، فكيف تصح شهادتهم؟! بل وجود شهادتهم عند اليهود كعدمها. مسألة (2) العلم الواقع بالأخبار المتواترة معلوم من جهة الضرورة لا من جهة الاكتساب والاستدلال وهو قول أكثر أهل العلم. وحكي عن البلخي وغيره من المعتزلة: أن العلم يقع به اكتساباً، ولا يقع اضطراراً.
دليلنا:
دليلنا: أنه لو لم يكن معلوماً ضرورة لأدى إلى الشك في النبوات، وهذا لا يجوز. ولا يلزم على هذا معرفة الله تعالى أنها استدلال. ولا يفضي ذلك إلى الشك؛ لأنه لا طريق إلى معرفة القديم من طريق الإحاطة والإدراك، وليس كذلك المحدثات، لان الإحاطة والإدراك يصدق (1) عليها. ويبين هذا أن ما جعل طريقاً إلى معرفة الضرورات يتطرق على المحدثات، وهو الحواس الخمس، ولا يتطرق ذلك على القديم. ولأن هذا النوع من العلم علم بمحدث لا يمكن دفعه عن النفس ولا الشك منه ولا الارتياب، فثبت أنه معلوم ضرورة كالمشاهدات، ولو كان مكتسباً لدخل فيه الشك إذا شكك فيه والريبة. وإنما شرطنا في الدليل: علم بمحدَث، لئلا يدخل عليه معرفة الله تعالى، لأنها معلومة على وجه لا يمكن الارتياب والشك فيه، وهي من جهة الكسب؛ لأن ذلك علم بقديم لا بمحدث. ودليل آخر وهو: أنه لو كان معلوماً من جهة الاستدلال [125/أ] والكسب لم يقع إلا لمن هو من أهل التأويل والنظر، فلما وقع ذلك لمن ليس من أهل التأويل والنظر كالصبيان وغيرهم، ثبت أنه معلوم من جهة الضرورة.
واحتج المخالف: بأنه لما حسنت المطالبة بالدلالة على أن خبر التواتر يوجب العلم. وحسنت إقامة الدلالة عليه علمنا أن العلم الواقع عنده اكتساب، وليس هو بضرورة. والجواب: أن هذا باطل بالعلم بالمشاهدات، فإن السوفسطائية تطالبنا بالدليل على صحة ذلك؛ لأن ذلك عندهم ظن وحسبان، ومع هذا فقد أجمعنا نحن ومخالفينا على حصول العلم الضروري في ذلك مع حسن الدليل عليه، كذلك فيما حصل من جهة الخبر المتواتر. واحتج: بأنه لا يقع العلم بخبرهم إلا على صفات تصحبهم يستدل بها على صدقهم، فدل على أنه من جهة الاستدلال، يدل على ذلك أن العلم بحدث الأجسام، لما وقع لأجل الصفات التي عليها الأجسام من اجتماع وافتراق وحركة وسكون كان العلم بها مكتسباً. والجواب: أن العلم بصدقهم لا يفتقر إلى اعتبار صفاتهم ولا يستدل بذلك على صدقهم، بل نعلم صدقهم، ولهذا يخالف حدوث الأجسام، فإن العلم لا يقع به إلا بعد النظر والاستدلال باختلاف صفات معانيها. واحتج: بأن العلم الواقع بأخبار الله وأخبار رسوله استدلالا غير ضرورة، كذلك خبر غيرهما. والجواب: أنا عرفنا الله بأنه واحد صادق بالاستدلال، وإذا ورد الخبر من عنده قطعنا على صدقه استدلالا، وكذلك أخبار رسوله عليه السلام، لأن ثبوت نبوته من حيث الاستدلال وجبت بظهور المعجزات.
مسألة
مسألة (1) خبر التواتر لا يولد العلم فينا، وإنما العلم الواقع عنده من فعل الله تعالى، يفعله عند الإخبار بالعادة التي أجراها بذلك، وهو قادر على أن يفعل فينا ذلك مع عدم الإخبار، وهو بمنزلة إجرائه تعالى العادة بخلق الولد عند الوطء، وإن كان قادراً على خلقه مع عدم الوطء، هذا بناءً على إبطال القول بالتولد. ومن الناس من يقول: إن العلم بذلك يولد فينا عند خبر المخبرين. دليلنا: أن هذا العلم لو كان متولداً من (2) الخبر، لوجب أن يكون المخبر الأخير هو الذي ولد خبره فينا العلم؛ لأن العلم حصل عند خبره، ولو كان كذلك لوجب أن يكون خبره يوقع لنا العلم به ابتداءً؛ لأنه هو الموجب للعلم، فوجب أن يكون موجباً [125/ب] لذلك في جميع الأحوال كما أن خبر الجماعة الذي يحصل بهم التواتر، لما أوجب العلم كان موجباً لذلك على كل حال، وفي علمنا بأن خبر الأخير لو وقع ابتداء لم يوجب العلم، علمنا أنه لا يولد العلم على وجه من الوجوه. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الخبر الأخير مولداً للعلم فينا على شرط تقدم الأخبار الأخر له، كما أن الاعتماد يولد اصطكاكاً في المحلين على شرط وجود الصلابة فيهما. والنظر مولد للعلم على شرط أن يكون الناظر عالماً بالدليل. وإذا كان كذلك لم يكن في امتناع وقوع العلم بالخبر الأخير لو انفرد ما يمنع أن يكون مولداً لعلم، إذا تقدمته أخبار أخر.
قيل: الشيء إنما جعل شرطاً في غيره، إذا كان متعلقاً به أو محدداً لصفة فيه، ألا ترى أن صلابة المحلين لما كانت شرطاً في كون الاعتماد مولداً للاصطكاك، كانت موجبه لتجدد صفة بمحل الاعتماد، وكذلك كون الناظر عالماً بالدليل، لما كان شرطاً في كون نظره مولداً للعلم، كان موجباً لتجدد صفة له، وإذا كان كذلك لم يكن لكل واحد من الأخبار تعلق بالآخر، ولم يتجدد صفة للخبر الأخير بتقدم الأخبار الأخر له، لم يجز أن يكون تقديم غيره من الأخبار شرطاً في توليده العلم. ولأن الخبر من صفات الحي كالعلم والإرادة والإدراك، ثم ثبت أن تلك الصفات لاتولد شيئاً؛ لأن العلم لا يولد المعلوم، والإرادة لا تولد المراد، والإدراك لا يولد المدرك، بل المعلوم والمراد والمدرك خلق الله تعالى، كذلك الخبر يجب أن لا يولد شيئاً. ولأن الأكل والشرب والعلاج وجبر الكسر يطلب به حصول غيره، وهو الشبع والري وزوال المرض، ومع ذلك فهو غير مولد، كذلك الخبر. واحتج المخالف: بأن العلم بخبر التواتر، لو كان تابعاً للعادة لأجل فعل الله تعالى، لوجب أن تختلف العادة في ذلك، فيقع العلم بخبر الجماعة التي يصح بهم التواتر، ولا يقع بخبر جماعة مثلها، كما أن خلق الولد عند الوطء لما كان من فعل الله تعالى لما أجرى به العادة، جاز أن تختلف فيه العادة، فيخلق الولد عند وطء واحد، ولا يخلق عند وطء آخر، وفي بطلان اختلاف العادات في وقوع العلم بالأخبار دليل على أن العلم فيها ليس من فعل الله تعالى، وإنما هو توليد. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون العلم بالشيء واقعا من فعل الله تعالى، وإن لم تختلف العادة فيه، ألا ترى أنا نعلم أن وجود هذه الأجسام
مسألة
التي نشاهدها ضرورة، لأن العلم [126/أ] بوجودها من كمال العقل، ويكون هذا العلم من فعل الله تعالى فينا، وإن لم تختلف العادة فيه، كذلك لا ننكر أن يكون وقوع العلم بمخبر الخبر المتواتر يجري على طريقة واحدة ويكون مع ذلك من فعل الله تعالى. واحتج: بأنه لما كان العلم يحصل بوجود الخبر علمنا أنه مولد له. والجواب: أن الشبع والري يحصلان (1) بالأكل والشرب، وليس هما مولدين لهما (2) . مسألة (3) لا يجوز على الجماعة العظيمة كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته. وزعمت الإمامية (4) أن ذلك قد يجوز على الجماعة لداع يدعو إليه، وعلى هذا بنوا كلامهم في ترك نقل النص [في علي رضي الله عنه] (5) .
والدليل على فساد هذا القول: أن كتمان ما يحتاج إلى نقله يجري في القبح مجرى الإخبار عنه بخلاف ما هو به، فلما لم يجز على الجماعة التي يصح بهم التواتر أن يخبروا عن (1) الشيء بخلاف ما هو مع علمهم بحاله، كذلك لايجوز أن يجتمعوا على كتمان ما يحتاج إلى معرفته. يبين صحة هذا أن رجلاً لو دخل بغداد يسأل كل من يلقاه عن جامع المنصور، لم يجز أن يكتموه كلهم ذلك، كما لا يجوز أن يخبروا عنه بالكذب، وكذلك لو حدث في الجامع يوم الجمعة وقت الخطبة حادثة عظيمة هائلة، لم يجز أن يترك جميع من حضرها نقلها، كما لا يجوز أن يخبر جميعهم عنها بالكذب مع علمهم بأنه كذب. فإن قيل: أليس قد تركت الصحابة نقل شرائع الأنبياء المتقدمين، وإن لم يجز أن يتواطؤوا (2) على الكذب، فما أنكرتم مثله ها هنا. قيل: إنما تركت نقل ما ذكرت لبعد عهده، ولفقد ما يدعو الى نقله، فأما ما قرب عهده، ووجد الداعي الى نقله، فغير جائز أن يجتمعوا على ترك نقله. يبين صحة هذا: أن شريعة موسى عليه السلام لما لم تكن متباعدة العهد، وكان هناك ما يدعو إلى نقلها -وهو بقاء تمسك قوم بها- نقلت. وكذلك شريعة عيسى عليه السلام، ولم تنقل شريعة غيرهما من الأنبياء مثل هود ويونس وأمثالم عليهم السلام؛ لما لم يبقَ من يتدين بها، وكانت منسوخة. فإن قيل: النصارى لم ينقلوا كلام المسيح في المهد، ونقلوا إحياءه
الموتى وإبراءه الأكمه والأبرص مع الحاجة إلى معرفة ذلك وإن كان عهده غير متباعد، فبان بهذا: أن قرب العهد وبعده لا تأثير له في باب النقل. قيل: إنما لم ينقلوا كلام المسيح في المهد؛ لأنه قد كان ذلك قبل ظهور أمره، وكان إحياؤه [126/ب] الموتى وإبراؤه (1) الأكمه والأبرص بعد ظهوره، فلهذا نقلوا ذلك. وقد يقوى نقل الشيء لأجل ظهوره، ويترك لأجل خفائه، ألا ترى أن اليهود قد نقلت ما كان ظاهراً من معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم -، مثل إتيانه بالقرآن وتحدي العرب به، ولم ينقلوا ما لم يكن في ظهور ذلك من معجزاته؟ وكذلك قد اختلف نقل سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب الظهور والخفاء، فلم يجرِ جميعها على طريقة واحدة، ألا ترى أن كثيراً من السنن تذهب على العالم، وإن لم يذهب عليهم ما ظهر منها واشتهر؟ فإن قيل: فما أنكرتم أن يكون الصحابة تركت نقل ما يحتاج إليه لداع دعاهم إلى ذلك من تقية أو خوف فتنة أو نحو ذلك. قيل: كل من يجوز عليه ترك نقل ما يحتاج إليه لما ذكرت، فإنه يجوز عليه الإخبار عن الشيء بالكذب لأجل هذه العلة بعينها، فلما لم يجز هذا على الصحابة رضي الله عنهم، كذلك لا يجوز عليهم ترك نقل ما يحتاج إلى نقله. فإن قيل: أليس قد تركوا نقل المسح إلا وقت وقوع الخلاف فيه، وتركوا نقل القِران والإفرَاد حتى اختلفوا فيه، وكذلك الرجم، ونظائر ذلك كثير؟.
مسألة
قيل: أما المسح، فإنهم لم يتركوا نقله، بل نقلوه نقلاً مستقصاً، إلا أن من لم ينقله، لم ينقله؛ لأنه جعل القرآن أولى منه، وهكذا القول في الرجم. فأما القِران والإفراد: فإنه قد كان علمهم المناسك (1) ، فلم يحتاجوا إلى نقله، وإنما اختلفوا في نقله؛ لأن من شاهده وقت التلبية يلبي بالعمرة مع الحج نقل القِران، ومن شاهده يلي بالحج من غير ذكر العمرة نقل الإفراد، على حسب ما بينا في المناسك من مسائل الخلاف (2) ، فقد صح بذلك فساد ما تعلقوا به في ذلك. مسألة (3) ولا يعتبر في التواتر عدد محصور، وإنما يعتبر ما يقع به العلم على حسب ما جرت به العادة أن النفس تسكن إليه، لا يتأتى منهم التواطؤ على
الكذب، إما لكثرتهم أو لدينهم وصلاحهم؛ لأنه لا دليل على عددهم من طريق العقل ولا من طريق الشرع، ولكنا نعلم أنه يجب أن يكونوا أكثر من أربعة؛ لأن خبر الأربعة لو جاز أن يكون موجباً للعلم لوجب أن يكون خبر كل أربعة كل موجباً ولو كان هكذا لوجب إذا شهد أربعة على رجل بالزنا، أن يعلم الحاكم صدقهم ضرورة، ويكون ما ورد به الشرع من السؤال عن عدالتهم باطلاً، وإذا كان ذلك صحيحاً دل على أن خبر الأربعة لا يوجب العلم بصدق مُخبرِهم. فإن قيل: لا يمتنع [127/أ] أن الله تعالى لم يفعل ذلك عند شهادة الشهود لضرر من المصلحة، وفعل ذلك عند الخبر الذي ليس بشهادة. قيل: لا فرق بين الخبر الواقع على وجه الشهادة، وبين الواقع على غيرها، بدليل: أن الجماعة التي يقع لنا العلم بخبرهم، لا فرق بين أن يشهدوا عند الحاكم بحق، وبين أن يكون خبرهم بغير شهادة في وقوع العلم بخبرهم، كذلك فيمن دونهم. وقد حكي عن قوم: أن العلم يقع بخبر اثنين. وعن آخرين: يقع بخبر أربعة. وعن آخرين: يقع بخمسة فصاعداً (1) . وعن آخرين: يقع باثني عشر؛ اعتباراً بعدد النقباء.
مسألة
وعن آخرين: يقع بسبعين؛ اعتباراً بعدد أصحاب موسى عليه السلام. وعن آخرين: يقع بثلاثمائة وكسر، اعتباراً بعدد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر. وهذا غير صحيح، لأن الاعتبار بمن يقع العلم بخبرهم، وليس يختص ذلك بعدد دون عدد؛ لأن العدد الكثير قد يتواطئوا على الكذب، ولا يقع العلم بخبرهم، بل يقع بخبر أقل منهم، إذا لم يتواطئوا على ذلك، فلم يجز أن يشترط في ذلك عدد محصور. والمواضع التي ذكروها إنما اتفق حصول ذلك العدد، لا أنه اشترط العلم بخبرهم. مسألة (1) يجوز ورود التعبد بأخبار الآحاد من طريق العقل ومن الناس من يمنع منه. دليلنا: أنه لا يمتنع أن تكون المصلحة لنا في العمل بما يخبرنا به الواحد، وإن جاز أن يكون غير صادق، ألا ترى أن من خَوّفنا سلوك طريق نربد سلوكه، فإن الواجب علينا: أن نقبل منه، وأن نتوقف فيما أردنا من سلوك ذلك الطريق، وإن جاز أن يكون كاذباً في خبره، وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يتعبدنا الله تعالى بقبول خبر الواحد في باب الديانات.
فإن قيل: فيلزمكم على هذا: أن تجيزوا ورود التعبد بالعمل لما يخبر به الواحد، وإن كان فاسقاً، كما يجب علينا قبول خبر الفاسق إذا خَوفنا من سلوك بعض الطرق. قيل: العقل لا يمنع من ذلك، وإنما نرجع في المنع منه إلى السمع. وأيضاً: فإن الله تعالى قد تعبد الحاكم بقبول قول الشهود للعمل به، وإن جاز أن يكونوا غير صادقين. وكذلك تعبد الله المستفتى بالعمل على قول المفتي، مع جواز كونه كاذباً فيما يفتي به، كذلك لا يمتنع أيضاً: أن يتعبد الله تعالى بالعمل بما يخبر به الواحد مع جواز كونه غير صادق. فإن قيل: فيلزمكم أن تجيزوا ورود التعبد بصدق النبي، وإن لم يكن معه ما يدل على صدقه من الإعلام بالمعجزة، وأن تجيزوا [127/ب] العمل بخبر الواحد في إثبات القرآن وأصول الدين. قيل: أما العمل بخبر النبي، فإنما لم يجب ما لم يكن معه ما يدل على صدقه؛ لأن العمل بخبر الواحد، إنما يجب علينا إذا ورد السمع بذلك، فما لم تقم الحجة بأصل الشريعة فإنا لا نعلم أنا قد تعبدنا بالعمل بخبر الواحد في الشرعيات، فإذا كان كذلك، كانت الحجة إنما تقوم بأصل الشريعة، إذا أقام الله تعالى الإعلام بالمعجزة على من تعبدنا على لسانه، ليدلنا بذلك على صدقه، ويؤمننا من غلطه فيما هو الحجة فيه، لم يجز لنا القبول منه، ما لم يعلم صدقه، وليست هذه حال خبر الواحد؛ لأن تجويزنا لكذبه لا يمنع من أن يلزمنا العمل به من جهة النبي، بأن يوجب علينا العمل بما يخبرنا الواحد. وأما خبر الواحد في إثبات القرآن، فإنه لا يمتنع أن يتعبد بقبول خبره فيه، فيدل على ما تضمنه من الحلال والحرام، ولا يقطع على أنه من القرآن، وإنما منع الشرع منه.
مسألة
مسألة (1) يجب العمل بخبر الواحد، إذا كان على الصفة التي يجوز معها قبول خبره. نص عليه رحمه الله في مواضع: فقال في رواية أبي الحارث: إذا كان الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيحاً ونقله الثقات، فهو سنة، ويجب العمل به على من عقله وبلغه، ولا يلتفت إلى غيره من رأي ولا قياس. وقال أيضاً رحمه الله في رواية أبي الحارث في موضع آخر: إذا جاء خبر الواحد، وكان إسناده صحيحاً وجب العمل به، ثم قال: أليس قصة القبلة حين حولت، أتاهم الخبر وهم يصلون، فتحولوا نحو الكعبة. وخبر الخمر أهراقوها، ولم ينتظروا غيره؟ وقال أيضاً رحمه الله في رواية الفضل بن زياد: خبر الواحد صحيح، إذا كان إسناده صحيحاً، وذكر قصة القبلة حين حولت، وقصة الخمر لما حرمت. وقال أيضاً رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث: إن قوماً دفعوا خبر الواحد: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل قول ذي اليدين (2) حتى سأل غيره (3) .
وليس هذا حجة، ذو اليدين جاء إلى يقين النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيله، فلم يقبل منه، وهذا جاءه خبر لم يكن عنده خلافه. فلم يقبله. وقال أيضاً رحمه الله في رواية الميموني: من الناس من يحتج في رد خبر الواحد: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنع بقول ذي اليدين، وليس هذا شبيه ذاك، ذو اليدين أخبر بخلاف يقينه (1) ، ونحن ليس عندنا علم نرده، وإنما هو علم يأتينا به. ونحو هذا قال في رواية أحمد بن الحسين (2) الترمذي (3) .
دليلنا:
وبهذا قال [128/أ] جمهور الفقهاء والمتكلمين. وقال قوم من أهل البدعة: لا يجوز العمل به، ولا يجوز ورود التعبد به. وقال القاشاني (1) وأبو بكر بن داود: لا يجوز العمل به من طريق الشرع، وكان يجوز ورود التعبد به. وقال الجبائي: لا يقبل في الشرعيات أقل من اثنين. دليلنا: قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَة منْهُمْ طَائفَة ليَتَفقهُوا فِي الدين وَليُنذرُوا قَومَهُمْ إذَاً رَجعوا إلَيْهَمْ لًعَلهُمْ يَحْذرُونَ) (2) .َ وقوله: (فَلَوْلاَ) معناه: فهلا نفروا. وقوله: (فِرْقَة) معناه جماعة، أقلها ثلاثة. وقيل: قد يقع هذا الاسم على واحد بدليل قوله تعالى: (وَإنْ طَائِفَتَان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اْقتَتَلُوا فَأصْلحُوا بَينَهُمَا ... ) (3) ، إلى قوله. (بَيْنَ أخَوَيكُم) ، وقوله. (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (4) ، قيل أقلها واحد.
وقال محمد بن كعب (1) في قوله: (إن نعْفُ عَنْ طَائفَة منكُمْ) (2) ، كان هذا رجلاً واحداً (3) . وقوله: (مِنْهُم) يعني من المسلمين. وقوله: (طَائِفَة) معناه: جماعة، أقلها واحد. وإذا ثبت هذا فمن الآية دليلان: أحدهما: قوله: (لِيُنْذرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِم) فلولا أن الإنذار قد يقع بالآحاد ما حثّ عليه ولا أمر به. والثاني: قوله: (لَعَلّهُمْ يَحْذرُونَ) فلولا أن خبر الواحد يوجب العمل لما وقع به الحذر. فإن قيل: الآية تقتضي وجوب الإنذار، وليس فيها وجوب الرجوع إلى قول المنذر، بل يجوز أن يرجع المنذر إلى أمر آخر، وليس من حيث وجب الإنذار وجب الرجوع إليه، فإنه يجب على الإمام أن يخبر غيره بمعرفة الله تعالى ووحدانيته، ولا يجب على المخبر الرجوع إلى قوله، بل يرجع إلى دليل آخر. ولهذا نظائر.
قيل: في الإية تحذير من المخالفة بقوله: (لعَلّهمْ يحْذرُونَ) والتحذير لا يكون إلا في الأمر الواجب. وعلى أن الظاهر يقتضي وجوب الرجوع إلى قول المنذر حيث أمر هو بالإنذار، وإلا بطل فائدة الأمر بذلك، وإنما لم يلزم الرجوع إلى ما ذكروه من الأخبار عن معرفة الله سبحانه وما أشبه ذلك، لقيام (1) دليل عليه، وهو: أنه يجب العلم بتلك الأشياء ومعرفتها قطعاً. فإن قيل: المراد بالآية: أنهم يرجعون إلى قومهم فيفتونهم ويؤخذ بقولهم في الفتيا. قيل: الآية عامة في الأمرين معاً. وعلى أن الإنذار في الظاهر إنما يعتبر به عن الإخبار عن الشيء دون الفتيا. فإن قيل: الحذر هو: أن ينظر ويعمل بما دل عليه الدليل. قيل: الطائفة إذا قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يفعل كذا أحرق [128/ب] بالنار، أو من فعل كذا أحرق بالنار، كان الحذر منه بالقبول والعمل بما أخبره، ومن لم يقبله ولم يعمل بذلك، لم يكن حاذراً ما أنذر به. ويدل عليه قوله تعالى: (إنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنبأِ فَتبينوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالةِ) (2) فدل على أن العدل إذا جاء بنبأ، لا نتبين ولا نتثبت فيه، من طريق دليل الخطاب، فلو كانا سواءً لم يكن لتخصيصه بالفاسق بالتثبت معنى. ويدل عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث لتبليغ شرعه وأحكامه إلى النواحي والقبائل والبلاد آحاداً، فبعث أبا بكر أميراً على الحاج، وبعث
عمر ساعياً على الصدقة، وبعث عليا قاضياً إلى اليمن، وبعث. معاذاً جابياً للصدقات إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد (1) إلى مكة والياً، وبعث مصعب بن عمير (2) إلى المدينة، وأمر منادياً بتحريم الخمر، وتحريم صيام أيام منى، وغير ذلك مما يكثر نقله، فلولا أن خبر الواحد يوجب العمل ما بعث إليهم ما لا يجب العمل عليهم بقوله. وكذلك أيضاً بعث الكتب، فكتب إلى كسرى كتاباً، وكتب إلى قيصر كتاباً، وبعث به مع واحد، فدل على ما قلناه. فإن قيل: هذه أخبار آحاد، فلا يحتج بها في إثبات خبر الواحد. قيل: وإن كانت آحاداً في اللفظ فهي متواترة في المعنى بمجموعها؛ لأن الأمة تلقتها بالقبول، وتطابقت على العمل بها. فإن قيل: فما ينكر أن يكون قد تقدم علمهم بالأحكام، كما قلتم: إنه يقدم علمهم بوجوب العمل بأخبار الآحاد.
قيل: الأحكام لم يوجد فيها الخبر المتواتر، ولو وجد ذلك لعلمناه، كما علمنا سائر ما تواتر به الخبر. وأما وجوب العمل بها: فقد كان يتواتر به الخبر، وعلم (1) المسلمون والكفار ذلك من فعله وقوله، كما علمناه. فإن قيل: أليس قد كان يبعث الدعا [ة] إلى الإيمان بالله وبالرسول وهذا لم يكن معلوماً من جهة الداعي. فما ينكر ذلك للأحكام. قيل: وجوب ذلك عندنا بالشرع دون العقل، ولا فرق بينهما، وعند المخالف: وجوبه من طريق العقل، فبعث من ينبههم على ما في عقولهم، وليس كذلك سائر الأحكام؛ فإنه لا طريق لهم إليها إلا من جهة خبر من بعثه إليهم. وأيضاً: فإن الصحابة أجمعت على العمل بخبر الواحد، لأنا نعلم أن بعضهم كان يقبل من بعض، ولا يطالبه بالتواتر والاستفاضة، وهذا معلوم من أحوالهم ضرورة. فروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عمل بخبر المغيرة (2) ومحمد
ابن مَسْلَمة (1) في ميراث الجدة (2) . وعمل عمر رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف (3) [129/أ] في أخذ الجزية من المجوس. وعمل بخبر حَمل في مالك بن النابغة في غرة عبد أو أمة في الجنين، وقال: كدنا أن نقضي فيه برأينا. وعمل بخبر الضحاك بن سفيان في توريث النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أشْيَم الضبابى من دية زوجها. وقال عبد الله بن عمر: كنا نخابر أربعين سنة، فلا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج، فتركناها لقول رافع.
وعمل عثمان رضي الله عنه بخبر فريعة بنت مالك (1) في سكنى المتوفى عنها [زوجها] (2) . وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما حدثني أحد بحديث إلا
استحلفته إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر (1) . ورجع ابن عباس عن قوله: إنما (2) الربا في النسيئة (3) ، بخبر أبي سعيد الخدري (4) .
وعملوا بخبر عائشة في التقاء الختانين. وعمل زيد بن ثابت برواية امرأة من الأنصار: أن الحائض تنفر بلا وداع (1) . ورجيع أهل قباء إلى خبر الواحد في تحويل القبلة. وكذلك رجع جماعة في إراقة الخمر إلى خبر الواحد. ومثل هذا كثير، يطول شرحه، فدل على إجماعهم. فإن قيل: طريق ذلك كله من طريق الآحاد، فلا يجوز إثبات خبر الواحد بمثله.
قيل: هذا متواتر من طريق المعنى، وقد بيناه. وعلى أنه مع كثرته، لا يجوز أن يكون جميعه باطلاً، كما لا يجوز أن يقال: جميع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون خطأ، وكما لا يجوز أن يقال: إن الجماعة الكثيرة من المسلمين لا يجوز أن يكون جميعهم كَذَبَة في خبرهم، مع اعتقادهم الإسلام. فإن قيل: يجوز أن يكون حكموا بهذه الأخبار مع سبب قارنها أوجب العلم بصدقها. قيل: لم يرد غير الأخبار ورجوعهم إليها، فدل على أنه كان سببها. ولأنه لا يجوز أن ينقل الخبر ويترك السبب الذي لأجله حكموا به. وعلى أن ابن عمر قال: فتركناها لقول رافع. وقال عمر: لو لم نسمع هذا؛ لقضينا برأينا. فدل على أن القضاء بالخبر حصل. فإن قيل: فقد روي عنهم: أنهم ردوا خبر الواحد ولم يقبلوه حتى انضاف إلى المخبر غيره. فروي عن أبي بكر في قصة الجدة: فيكم من سمع من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] شيئأ، فأخبره المغيرة بن شعبة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطعمها السدس) (1) فقال أبو بكر: من يشهد معك؟ فقال: محمد بن مسلمة: أنا، فلما كملا شاهدين عمل بقولهما.
وعن عمر أن أبا موسى (1) استأذن عليه ثلاثاً، فلم يؤذن له، فانصرف، فراسله عمر فقال: لم انصرفت؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثاً، فلم يؤذن له، فلينصرف) (2) ، فقال: من يشهد لك؟ فمضى أبو موسى [128/ب] إلى الأنصار، فقالوا: نبعث معك بأصغرنا أبي سعيد الخدري فمضى، فسمع عمر منهما.
وعن علي أنه كان ما يسمع الخبر حتى يستحلف عليه (1) . فثبت: أنهم ما قبلوا خبر الواحد بانفراده. قيل: يحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك احتياطاً، ولهذا روي عن عمر أنه لما فعل ذلك قال: خفت أن يجترأ على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فكأنه احتاط، فأما أن يكون فعله على الوجوب فلا. وكذلك ما كان عَلِيّ يفعله من اليمين، كان على طريق الاحتياط، ولهذا قبل قول أبي بكر بغير يمين. ولأن من لا يقبل خبر الواحد، لا يقبله مع اليمين أيضاً. وأيضاً: فقد ثبت الرجوع إلى قول المفتي وشهادة الشهود، وإن لم يكن ذلك أمراً مقطوعاً عليه، وإنما يحكم به من جهة غلبة الظن والاستدلال، كذلك الرجوع إلى قول المخبر، فإنه في معنى ذلك، بل الرجوع إلى المخبر أولى، فإن المفتي يخبر عن اجتهاد، والمخبر يخبر عن مشاهدة وسماع، فحاله أقوى من حال المفتي، فكان بالقبول أولى. ولأنه لو لم يقبل إلا المتواتر أفضى إلى بطلان العمارات وخراب الدنيا، لتشاغلهم بالنقل عنها، وإذا قلنا: يتشاغلون بالعمارات، حفظوا الدنيا، وضيعوا الشريعة، فلا بد من ترك أحدهما، فحفظنا المعاش بتشاغلهم بها، وحفظنا السنة بقبول خبر الواحد، فكان حفظهما معاً أولى من تعطيل أحدهما. وهذا كالشهادات لا بد للناس منها، فلو لم يقبل في الشهادات غير المتواتر أفضي إلى تشاغل الناس بحفظ ذلك وخراب الدنيا، وإذا قبلنا شهادة
الآحاد حفظنا الحقوق والدنيا معاً، فكان حفظهما أولى من تضييع أحدهما، كذلك الأخبار. فإن قيل: قولكم: لا بد من قبول خبر الواحد، غير مُسَلم، فإن منه ألف بدٍ، وذلك أن العمل في أحكامنا على ما ثبت قطعاً، وهو القرآن وخبر المتواتر، وما لم نجده فيهما بنيناه على الأصل في العقل. قيل: فعلكم هذا ترك للشريعة. وعلى أن في الأحكام ما لا يعرف بالعقل ولا بالعمل على ما كان في الأصل، كالدية على العاقلة، ونحو هذا، فبطل أن لا يعمل على خبر الواحد. ولأن خبر الواحد لو كان مما لا يوجب العمل، لوجب أن ينكر على من يحفظه ويكتبه ويدونه؛ لأنه لا فائدة فيه، كمن كتب ما لا يفهم، ويحفظ ما لا ينفع، فإن كل واحد ينكر عليه ويسفهه، فلما [لم] نجد أحداً من سلف هذه الأمة وغيرهم أنكر هذا، ثبت أنهم إنما أقروا عليه لهذه الفائدة التي ذكرنا. فإن قيل: فالناس ينقلون اللغة ويكتبونها، ولا يستفاد منها حكم. [130/أ] قيل: لا ينقل إلا لفائدة، وهو يتأدب بها ويعرف، وكذلك الخبر لا فائدة في نقله غير العمل بموجبه والمصير إلى حكمه. ويختص من اعتبر رواية اثنين بأنه خبر عن حكم شرعي، فوجب أن لا يعتبر في العدد قياساً على الفتيا، وما لا يشثرط في قبول قول المفتي لا يشترط في قبول [قول] النبي، أصله: الذكورية والحرية والنسب. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (1) ، وقوله
تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (1) . والجواب: أن وجوب العمل به معلوم؛ لأن الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد موجب للعلم قاطع للعذر، كما يقول المخالف في حكم الحاكم بالشاهدين، وغير ذلك مما ذكرته من (2) نظائره. وجواب آخر وهو: أن هذا ينقلب عليهم في إبطالهم القول بخبر الواحد، فإنهم حكموا بذلك، وهو غير معلوم عندهم. واحتج: بقوله تعالى: (إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي منَ الْحَقِّ شَيْئاً) (3) . والجواب: أن المراد به الظن الذي لا دليل على العمل به (4) ، مع أنه ينقلب عليهم في ترك القول بخبر الواحد. واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل خبر ذي اليدين حتى انضاف إليه غيره. والجواب: أن من لم يقبل خبر الواحد لم يقبل خبر الاثنين أيضاً، فلا حجة له في ذلك. على أنا نقول بظاهر الخبر، ولا يقبل في مثل ذلك أقل من اثنين؛ لأن قول المأمومين، الواحد منهم ليس بأقوى من ظنه، فلم ينصرف عن ظنه بقوله.
فأما إن سبّح به اثنان، كان قولهما أولى من ظنه، وليس كذلك أخبار الديانات؛ لأنه ليس عنده ما يخالف خبره، فلهذا وجب قبوله. واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر في الإشهاد على عقوده على (1) اثنين، فدل على أن الواحد غير مقبول. والجواب: أنه لم يشهد على عقوده النساء والعبيد، ولم يدل ذلك على امتناع قبول خبرهم. واحتج: بأنه لا يقبل قول من ادعى أنه نبي إلا بحجة توجب العلم. والجواب: أنه إنما لم يقبل قوله؛ لأنه لا دليل معه على وجوب قبول قوله والعمل به، وليس كذلك خبر الواحد في الأحكام، فإن عليه دليلاً يوجب قبول قوله والعمل به. واحتج: بأنه لا يقبل في أصول الديانات، كذلك في فروعها. والجواب: أن هذا يبطل بشهادة الشاهدين، وبقول المفتي يقبل في فروع الدين، وإن لم يقبل في أصوله. [130/ب] وعلى أنه يعمل بخبر الواحد في كل حكم لا دليل عليه يوجب العلم ويقطع العذر. وأما الحكم الذي عليه دليل موجب للعلم، فلا يعمل فيه بخبر الواحد لأنه إذا أمكن الوصول إليه من طريق العلم، لم يجز من طريق الظن، وليس كذلك في هذه الأحكام الشرعية، فإنه لا طريق إليها من جهة العلم، ففرض علينا الحكم بخبر العدل الذي ظاهره الصدق، كما يقول المخالف في الحكم بالشهاة والفتيا، ولأن ذلك يتضمن نقل ملة إلى أمة (2) ، فاحتاج إلى معرفة ذلك قطعاً.
واحتج: بأن طريق العمل به هو الشرع، وقد طلبنا الشرع، فلم نجد. والجواب: أنه يجوز عليك الخطأ في طلبه والعدول عن طريقه. واحتج: بأن الأصول قد تهذبت وتجهزت، فلا يترك اليقين بالشك. والجواب: أنه باطل بالشهادات، فإن الأصل: أن الحق في الذمة، وإذا شهد اثنان على أصل القضاء والإبراء، تركنا اليقين لغالب الظن. وباطل بالفتيا؛ فإن الإنسان على يقين من عقد النكاح، وفي شك من وقوع الفرقة، ومع هذا ترك اليقين بقول المفتي. واحتج: بأنه لما لم يجز تقليد العالِم للعالِم؛ لأنه لا يقطع بصحته، كذلك لا يجب الرجوع إلى خبر الواحد. والجواب: أنه إنما لم يقلده؛ لأن معه آلة يتوصل بها إلى الحكم، فلم يرجع إليه فيه، وليس كذلك الخبر؛ لأن المخبر ليس معه من آلة الحكم ما مع المخبر، فلهذا قبل قوله فيه [ولا يمنع] (1) هذا أن يقلد العامي العالِم، فإنه جائز؛ لأنه ليس معه آلة يقع له العلم بها. واحتج: بأن في إيجاب العمل به ما يفضي إلى ترك العمل به؛ لأن الأخبار في الشريعة كثيرة، لا تحصى، ولا يأتي عليها حصر، وفيها الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، فإذا أوجبنا عليه العمل بخبر الواحد، لزمه أن يستوفي كل ما ورد منها؛ لأنه قد يكون فيما لم يبلغه ناسخ ما بلغه. ولأن العمل به يفضي إلى التوقف في عمومات القرآن؛ لأنا نخص عموم القرآن به، ونرد (2) به الظاهر عن ظاهره، فإذا لزم هذا، لزم
البحث عن الأخبار؛ لئلا يكون هناك ما يخص به هذا العموم، والإحاطة به. والجواب: أن المفتي لا يصح منه الفتيا، حتى يكون من أهل الاجتهاد، بأن يعرف جمل الشريعة: الكتاب والسنة، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والمجمل والمفسر، كل هذا يعلمه، ويبني بعض الكلام على بعض، ولكن فيما انتهى إليه وعرفه، [131/أ] فأما فيما لم يتصل به، ولا يعرفه، فلا يلزمه التوقف فيما بلغه، لجواز أن يكون هناك مالم يبلغه، ألا ترى أن الحاكم إذا شهد عنده بالقتل اثنان، قضى بشهادتهما، وهو يجوز أن يكونا فاسقين، وأن يكون القول ساقطاً عن المشهود عليه، كذلك ها هنا. واحتج من قال: لا يقبل الخبر، حتى ينقله اثنان: بأنه لما لم تقبل الشهادة إلا من اثنين، كذلاث الخبر، يجب أن يكون مثله. والجواب: أن الشهادة قد تقبل من واحد في رؤية الهلال، وفي شهادة القابلة. وعلى أن هذا موجب أن لا يقبل الخبر فيما يوجب الحد إلا من أربعة، كما لا يقبل في الزنا أقل من أربعة. وعلى أن الشهادة مؤكدة بما لم يؤكد به الخبر، وهو أنها لا تسمع حتى يبحث عن حال الشهود، ويقبل الخبر ممن ظاهره العدالة، من غير بحث عنه. ويقبل خبر العنعنة، وهو قول الراوي عن فلان كذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهادة العنعنة لا تقبل حتى ينقل اللفظ، فيقول: أشهدني فلان على شهادته بكذا، واللفظ يعتبر في الشهادة دون الخبر.
مسألة
وتقبل فيه النساء، ولا تقبل في كثير من الشهادات، فكانت الشهادات أقوى، فاعتبر فيها العدد، ولم يعتبر في الخبر، وإنما كان كذلك؛ لأن حكم الخبر يستوي فيه المخبِر والمخبَر، والشهادة لا يستوي فيها الشاهد والمشهود له، فلهذا قبلنا الواحد في هلال رمضان؛ لأنه يستوي فيه الشاهد والمشهود له، فبان الفرق بينهما. مسألة (1) ما يعم فرضه يقبل فيه خبر الواحد كما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (2) .
وكما روي في رفع اليدين في الركوع (1) ، وما يضارع ذلك من الأخبار.
دليلنا:
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقبل فيه خبر الواحد (1) . دليلنا: أن الصحابة اختلفوا في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال وهذا مما يعم فرضه، فأرسلوا إلى عائشة يسألونها، فقالت: (إذ التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاغتسلنا) ، فصاروا إلى ما روت. وكذلك ميراث الجدة، مما يعم فرضه، أثبتوه بخبر الواحد؛ لأن الجدة جاءت أبا بكر، فقال: لا أجد لك في كتاب الله شيئاً. فروى له المغيرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعمها السدس) وتابعه محمد بن مسلمة، فعمل
به أبو بكر. وغير ذلك. ولأن خبر الواحد مما قد دل دليل قاطع على ثبوته والعمل به، [131/ب] يجري مجرى الآية المقطوع على وجوب الرجوع إليها. ولأن خبر الواحد أصل القياس، فإنه منه يستنبط ويتفرع، فإذا جاز إثبات هذه الأحكام بالقياس مع ضعفه، كان جواز ذلك بخبر الواحد أولى. ولأنه خبر عدل فيما يتعلق بالشرع، مما لا طريق فيه للعلم، ولا يعارضه مثله، فوجب العمل به قياساً على ما لا يعم فرضه. واحتج المخالف: بأن ما يعم فرضه سائر المكلفين، لا بدّ من توقيف من النبي [صلى الله عليه وسلم] للكافة على حكمه؛ لأنه غير جائز ترك تعريف ما لا يعرف إلا من جهته، ومتى وقف الكافة عليه، فإن نقله يكون عاماً مستفيضاً، فإذا رواه الآحاد علمنا أنه غير صحيح في الأصل أو منسوخ. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن ما يعم فرضه، ليس من شرطه توقيف من النبي [صلى الله عليه وسلم] لهم، بل يجوز أن يتعبد في ذلك بالظن، ورجوع العامة إلى اجتهاد أهل العلم [فيـ] لقى حكمه إلقاء خاصاً، فلا يظهره، ويكون من بلغه خبره يلزمه حكمه، ومن لم يبلغه خبره مأموراً بالاجتهاد، وطلب ذلك الحكم من جهة الخبر. وجواب آخر، وهو: أنا لو سلمنا ذلك، فإن النقل لا يجب أن يكون على حسب البيان؛ فإن الصحابة كانت دواعيهم مختلفة، وكان بعضهم لا يرى الرواية، وكان يؤثر الاشتغال بالجهاد على الرواية.
وقال السائب بن يزيد (1) : صحبت سعد بن أبي وقاص زماناً، فما سمعت منه حديثاً، إلا أني سمعته ذات يوم يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق، والخليطان: ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي) (2) .
ويبين صحة هذا: أنه بين الحجة، بياناً عاماً، ونقل من جهة الآحاد، واختلف الناقلون له فيه. وكذلك رجم ماعز، وأشياء كثيرة من هذا الجنس. واحتج: بأن عموم فرضه للكافة، يقتضي ظهور فعله فيهم، وما يظهر فعله في الكافة، لا يقبل فيه خبر الأفراد، ألا ترى أنه لا يقبل خبر الأفراد في حدوث فتنة عظيمة في الجامع يوم الجمعة وقت صعود الخطيب المنبر؟ لأن ما هذا حاله يشترك فيه الجماعات، ولهذا لم يقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر ذي اليدين، حين أخبره بالسهو في صلاته، حتى أخبره معه جماعة؛ لأنه أخبر بأمر ظهر للجماعة، فلم يقبل فيه خبره. والجواب: [132/أ] أنا قد، بينّا: أن عموم فرضه لا يقتضي ظهور فعله فيهم. وقولهم: إن ما يظهر فعله لا يقبل فيه الأفراد، كالفتنة في يوم الجمعة، لا يشبه (1) أخبار الديانات؛ لأن العادة في مثل ذلك: أنه إذا جرى مثل ذلك، سارع الناس الى روايته، والهمم والطباع مجبولة على ذلك فإذا انفرد به الواحد لم يقبل (2) ، وليس كذلك أخبار الديانات؛ لأنه ليس العادة أن يتطابق الكل على نقله، بل قد بينّا: أن أحوال الصحابة في ذلك مختلفة، فمنهم من كان لا يتشاغل بذلك. واحتج: بأنكم قلتم: إن قول الرافضة (3) -: إن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه منصوص على إمامته بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطل؛ لأنه لو كان كذلك، لوجب أن ينقل نقلاً مستفيضاً، كذلك ها هنا. والجواب: أنا أنكرناه؛ لأن عندهم أنه من فرض كل واحد أن يعلمه ومثله لا ينقل خاصاً، وليس كذلك ما يعم فرضه، فإنا كلفنا الحكم فيه بالظن، فافترقا. واحتج: بأن قبول خبر الواحد في مثل هذا الحكم يفضي إلى التوقف في أحكام الكتاب، لجواز أن يكون نسخت، ولم ينقل نسخها. والجواب: أن النسخ لا يجري هذا المجرى؛ لأنه رفع حكم وإسقاط، فإذا كان ذلك الحكم ثابتاً من جهة الاستفاضة، فلا يجوز أن ينقل إسقاطه (1) من جهة الآحاد، وهذا إثبات حكم مبتدأ، فيجوز ذلك بالأمر المقطوع عليه والمظنون. واحتج: بأنه، لما لم يجز إثبات القرآن بخبر الواحد، لأنه ما يعم فرضه، كذلك في هذا الحكم. والجواب: أن القرآن قد أخذ علينا معرفته قطعاً ويقيناً، فلا يجوز
مسألة
إثباته بخبر الواحد المظنون، وهذا الحكم طريقه غلبة الظن، فجاز إثباته بأمر مظنون، وقد أثبتنا قرآناً من جهة الحكم بخبر واحد، نحو قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وغير ذلك. مسألة (1) ما تعم البلوى به يقبل فيه خبر الواحد مثل ما روي من الوضوء في مس الذكر (2) ومس المرأة (3) ، وما يجري هذا المجرى. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقبل فيه خبر الواحد (4) . دليلنا: ما نقدم في المسألة التي قبلها. ولأن شروط البيوع والأنكحة وما يعرض في الصلاة والوضوء من الخارج من غير السبيلين، والمشي مع الجنازة، وبيع رباع مكة وإجارتها، ووجوب الوتر ونحوه، أثبته المخالف بخبر الواحد، وهو مما يعم به البلوى.
مسألة
[32/ب] وذهب المخالف إلى ما حكيناه عنه في المسألة التي قبلها، وقد أجبنا عنه. مسألة (1) يقبل خبر الواحد في إثبات الحدود. وقد أثبت أحمد رحمه الله اجتماع الجلد والرجم على الزاني المحصن بخبر عبادة (2) . وأثبت النفي والجلد على الزاني البكر بخبر العسيف (3) ، وغير ذلك.
دليلنا:
وهو قول أصحاب الشافعي (1) . واختلف أصحاب أبي حنيفة: فحكى أبو سفيان عن أبي يوسف (2) : أنه يقبل. وهو اختيار أبي بكر الرازي. وحكى عن الكرخي: أنه لا يقبل فيه، ولا فيما يسقط بالشبهة (3) . دليلنا: أنه خبر عدل فيما يتعلق بالشرع مما لا طريق فيه للعلم، ولا يعارضه مثله، فوجب العمل به، قياساً على غير الحدود.
مسألة
ولأن خبر الواحد يوجب غلبة الظن، كما أن شهادة الشاهدين توجب غلبة الظن، ثم ثبت أن الحد يجب بشهادتهم، فالخبر كذلك. يبين صحة هذا: أن الحكم بالشهادة ثابت من طريق موجب للعلم وهو الإجماع ونص القرآن وخبر الواحد، كذلك الحكم به ثابت من طريق موجب للعلم، وهو الإجماع والقرآن. واحتج المخالف: بأن الحدود موضوعة في الأصل على أن الشبهة تسقطها، وخبر الواحد لا يوجب العلم، وإنما يوجب غلبة الظن، فيصير ذلك بمنزلة حصول شبهة، فيمتنع من ثبوته. والجواب: أن هذا يوجب أن لا يحكم بالحد بشهادة الشهود؛ لأن العلم لا يحصل مع شهادتهم، وقد أجمعنا على ثبوته بقولهم، فبطل ما ذكروه. مسألة (1) خبر الواحد مقدم على القياس وهذا ظاهر على أصله، فإنه أخذ بحديث الأقرع (2) : (لا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة) (3) ، وترك القياس فيه.
دليلنا على أنه مقدم على القياس:
وكذلك إيجاب غسل اليدين عند القيام من النوم، وخالف بين نوم اللّيل ونوم النهار. وكذلك القرعة بين العبيد، قدم الخبر على القياس؛ لأن القياس يمنع جمع عتق في ستة إلى اثنين، وغير ذلك. وهو قول أصحاب الشافعي (1) . وقال أصحاب أبي حنيفة: إن خالف الأصول أو معنى الأصول لم يحتج به، ويقبل إذا خالف قياس الأصول (2) . وحكي عن مالك: أن القياس أولى من خبر الواحد. دليلنا على أنه مقدم على القياس: إجماع الصحابة، روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه
ترك القياس بخبر حمل بن مالك بن النابغة في غرة الجنين. وكان يفاضل بين ديات [133/أ] الأصابع، ويقسمها على قدر منافعها، فلما روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (في كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل) (1) رجع عنه إلى الخبر، وكان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينكر ذلك منكر، ولم يخالفه فيه مخالف، فدل على أنه إجماع عنهم. وأيضاً: لو كان القياس والقول الخاص مسموعين من النبي - صلى الله عليه وسلم -،
لوجب تقديم القول الخاص. مثاله: أن يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنت الأمة جلدت خمسين لرقها، وإذا زنى العبد جلد مائة، فيكون نصه على العبد أولى من القياس. وكذلك إذا كان كل واحد منهما مجتهداً فيه، وجب أن يكون الخاص أولى من القياس. وأيضا: فإن القياس يفتقر إلى الاجتهاد في موضعين: أحدهما: في ثبوت العلة في الأصل. والثاني: في الحكم في الفرع؛ لأن من الناس من قال: إذا ثبتت العلة في الأصل لا يجب الحكم بها في الفرع، إلا أن يحصل الأمر بالقياس، والاجتهاد في خبر الواحد في ثبوت صدق الراوي، فإذا ثبت صدقه من طريق يوجب الظن، وجب المصير إليه، ولم يبق موضع آخر يحتاج إلى اجتهاد فيه؛ ولأن طريق ثبوت صدقه في الظاهر أجل من طريق ثبوت العلة؛ لأنه يدل عليه عادته في الزمان الطويل في اتباع الطاعات وتحرز الصدق وتجنب الإثم، فدل هذه العادة على أنه مختار للصدق فيما حدث به، فيكون أولى من طريق العلة. وأيضاً: فإن الخبر أصل بنفسه، وليس بمقيس على غيره، كما أن الأصول المنصوص عليها والمتفق على حكمها، أصول بأنفسها، غير مقيسة على أغيارها، فإذا كان كذلك، كان (1) موجب الأصل المجمع عليه أقوى من موجب القياس، كذلك موجب خبر الواحد، يكون أقوى من موجب القياس. وليس لهم أن يقولوا: إن العلم وقع لنا بموجب تلك الأصول؛ لأنه لا معتبر بوقوع العلم فيما ذكر؛ لأن موجب العقل في باب الإبا حة ونحوها يدفعه القياس وخبر الواحد، وإن كان موجب
العقل ثابتاً من جهة توجب العلم. وأيضا: فإن الخبر مما يؤدي إلى العلم، إذا أكثر من يخبر به، والقياس لا يؤدي إلى العلم، وإن كثرت وجوه الشبه فيه، فكان ما يؤدي إلى العلم أقوى مما لا يؤدي إلى ذلك. واحتج المخالف: بأن القياس يتعلق [133/ب] بفعله، وهو استدلاله على صحة العلة في الأصل، وصدق الراوي في خبره مغيب عنه، غير متعلق بفعله وثقته، فما هو متعلق بفعله أكثر تنبيهاً مما هو متعلق بغيره، فوجب أن يكون أولى. والجواب: أن هذا يبطل بعلم الحاكم، فإنه أكثر تنبيهاً من قول الشهود. وعندنا وعند مالك: لا يحكم بعلمه، ويحكم بشهادة الشهود، على أنهما سواء؛ لأنه يستدل على صدق الراوي بما يعلمه من أفعاله الدالة على صدقه، كما أن القياس يستدل [به] على أن صاحب الشريعة حكم في الأصل لمعنى من المعاني، وقصده يكون ثبوت قصد صاحب الشريعة بالنظر في الأمارات الدالة عليه، كثبوت صدق الراوي، ولا فرق بينهما. واحتج: بأن خبر الواحد يجوز فيه مما يمنع العمل به أربعة أوجه، وهي: كونه منسوخاً، وكونه كذباً، وكون المخبر به فاسقاً، وكونه خطأً، والقياس لا يجوز فيه ما يمنع العمل به، إلا وجه واحد، وهو كونه خطأً. والجواب: أن ما يوجب فساد الشيء، لا يعتبر فيه بالقلة والكثرة، ألا ترى أن كون الراوي مغفلاً، لما كان مانعاً من قبول خبره، لم يختلف فيه وجود الفسق مع الغفلة وعدم الفسق معها، وإن كان أحد الوجهين أقوى في باب الفسق من الآخر، فإذا كان [كذلك] لم يجز أن يرجح القياس على
الخبر لوجود كثرة وجوه الخطأ في الخبر، وقلتها في القياس، وليس هذا بمنزلة ما اعتبرناه من كثرة وجوه الشبه في القياس، أنها توجب ترجيحه على ما قلتّ وجوه الشبه فيه لأن ما يوجب صحة الشيء وثباته، فإنه يقوى بكثرة وجوه الإثبات، ألا ترى أن كثرة الرواة يقوى بها الخبر، ويحصل له بها المزية على ما قلَّت رواته، لما كانا موجبين للثبات والصحة، وإن لم يرجع أحد الخبرين على الآخر في باب الفساد، لكثرة وجوه الفساد. وجواب آخر وهو: أنه لو كان على الاعتبار بما ذكره، لوجب أن يكون خبر الواحد أولى من القياس المستنبط من الخبر؛ لأنه قد اجتمع فيه خمسة أوجه من جواز ما يمنع العمل به، أربعة منها ما ذكره المخالف في الخبر، والوجه الخامس ما ذكره في القياس، فقد بَانَ بهذا: أن ما اعتبره يؤدي إلى كون الخبر أولى من القياس على القضية التي صار إليها. واحتج: بأن القياس لا يصح فيه معنى الحقيقة والمجاز والاحتمال، ويصح ذلك في الخبر. والجواب: أن هذا كله موجود في نص القرآن والسنة المقطوع [134/أ] بها. واحتج: بأنه يجوز أن يقع الإجماع على موجب القياس، ولا يمنع أن يجمعوا على العمل بخبر الواحد؛ لأن إجماعهم على العمل بموجب الخبر يخرجه عن كونه خبر واحد، ويجعله في حيز التواتر عندكم، لأنهم لا يجمعون إلا على ما قامت به الحجة في الأصل، وعلموا مخبره، وإن ضعف نقله. والجواب: أن الإجماع إنما يحصل على الحكم الثابت بالقياس، ولا يحصل الإجماع على القياس نفسه، فكيف يكون ذلك موجباً له، إن صح القياس على خبر الواحد؟
فصل وأما أصحاب أبي حنيفة فإن قالوا: يرد خبر الواحد إذا خالف الأصول التي هي نص الكتاب ونص السنة المتواترة والإجماع، فنحن نوافق على ذلك، إلا أنهم يقولون هذا في المصراة والتفليس والقرعة، وليس فيها شيء من ذلك. فإن قالوا: يرد إذا خالف قياس الأصول ومعناها. وقولهم بمنزلة قول أصحاب مالك. وقد بينا فساد ذلك. على أن هذا ليس بمذهب أبي حنيفة (1) ؛ لأنه قال: إذا أكل ناسياً لم يفطر، وكان القياس أن يفطر، ولكن ترك القياس بخبر أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الله أطعمك وسقاك) (2) . وأوجب الوضوء من نبيذ التمر بخبر عبد الله بن مسعود (3) ، وخالف
معنى الأصول. وكذلك انتقاض الوضوء بالقهقهة في الصلاة (1) .
وكذلك القسامة حكموا فيها بخلاف القياس بما ذكروه (1) من الأثر. وعلى أن الخبر الوارد في بعض الأصول، لا يكون إلا مخالفاً للأصول. ولأن خبر الواحد أصل كغيره من الأصول، فلئن جاز أن تترك الأصول، جاز أن تترك الأصول له، لمساواتها. فإن قالوا: ما خالف الأصول: أن يكون نفس ما ورد به الخبر موجوداً في الأصول، ومعناه فيه، ولا حكم له، مثل: ترك استعمال القرعة في الحرية في حر وعبد، في أن تنقل الحرية من أحدهما إلى الآخر، لمعنى أن الحرية لا يلحقها الفسخ. وما خالف قياس الأصول: أن يكون ما ورد به الأثر غير موجود مثله في الأصول، ومن جنسه، ولا حكم له، مثل: نبيذ التمر المطبوخ، الذي ورد الخبر فيه، أو القهقهة في الصلاة، على ما ورد فيه الأثر، غير موجب للوضوء. وإنما يقيس مخالفنا على نبيذ الزبيب، أو يقيس القهقهة على غيرها من المعاني، التي لا تؤثر في الطهارة خارج الصلاة، فيرد به الأمر، فيكون الخبر مقدما عليه.
والوجواب: أنه لا فرق بينهما، وذلك أن خبر القرعة، وخبر [134/ب] المصراة وخبر المفلس، خالف قياس الأصول على ما قالوه، كما خالف خبر النبيذ والقهقهة لقياس الأصول. فأما أن يكون أحدهما مخالفا للأصول فلا؛ لأن الأصول هي: الكتاب والسنة والاجماع، وليس واحد منهما يعارض أحد هذه الأخبار، فلا فرق بينهما. وقد نص أحمد رحمه الله على أن الحديث إذا عارض الأصول سقط. فقال في رواية يوسف بن موسى (1) في الخبر الواحد: "نستعمله إذا صح الخبر، ولم يخالفه غيره". فقد نص على استعماله بشرط أن لا يخالفه غيره، فدل على أنه إذا خالفه غيره لم يستعمل، وليس هاهنا ما يطرح له الخبر سوى الأصول الثلاثة، فأما القياس فهو مقدم عليه. وكذلك قال في رواية أبي الحارث: إذا جاء الحديث الصحيح الإسناد، يقال: هو سنة، إذا لم يكن له شيء يدفعه أو يخالفه. وكذلك قال في رواية عبد الله: يقال له: سنة، إذا لم يكن له مضاد يخالفه، ولم يكن شيء يدفعه.
مسألة
مسألة (1) خبر الواحد لا يوجب العلم الضروري وقد رأيت في كتاب معاني الحديث جمع أبي بكر الأثرم بخط أبي حفص العُكْبَري (2) رواية أبي حفص عمر بن بدر (3) قال: الأقراء الذي يذهب إليه أحمد بن حنبل رحمه الله: أنه إذا طعنت في الحيضة الثالثة، فقد برىء منها وبرئت منه. وقال: إذا جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح، فيه حكم أو فرض، عملت بالحكم والفرض، وأَدَنْتُ الله تعالى به، ولا أشهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك. فقد صرح القول بأنه لا يقطع به. ورأيت في كتاب "الرسالة" (4) لأحمد رحمه الله رواية أبي العباس
حمد بن جعفر بن يعقوب الفارسي (1) عنه بخط أحمد بن سعيد الشيحي (2) وسماعه فقال: "ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة (3) أتاها، إلا أن يكون ذلك في حديث، كما جاء على ما [روي] ، (4) ، نصدقه (5) ، ونعلم (6) أنه كما جاء ولا ننص الشهادة، ولا نشهد على أحد أنه في الجنة بصالح عمله ولا بخير أتاه، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء، على ما روي، ولاننص الشهادة". وقوله: "ولا ننص الشهادة"، معناه عندي: -والله أعلم- لا يقطع على ذلك. وقد نقل أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: ها هنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً، ولا يوجب علماً فعابه، وقال: ما أدري ما هذا؟!. وظاهر هذا أنه سوّى فيه العلم والعمل.
وقال في رواية حنبل في أحاديث الرؤية: نؤمن بها، ونعلم أنها حق. فقطع على العلم بها. وذهب إلى ظاهر هذا الكلام جماعة من [135/أ] ، أصحابنا، وقالوا: خبر الواحد إن كان شرعاً أوجب العلم. وهذا عندي: محمول على وجه صحيح من كلام أحمد رحمه الله، وأنه يوجب العلم من طريق الاستدلال، لا من جهة الضرورة. والاستدلال يوجب العلم من أربعة أوجه: أحدها: أن تتلقاه الأمة بالقبول، فدل ذلك على أنه حق؛ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ، ولأن قبول الأمة يدل على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته؛ لأن عادة خبر الواحد الذي لم تقم الحجة به، لا (1) تجتمع الأمة على قبوله، وإنما يقبله قوم ويرده قوم، كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت" (2) .
دليلنا:
والثاني: أن يخبر الواحد، ويدعي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه منه، فلا ينكره، فيدل على أنه حق، فيصدق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على الكذب. الثالث: أن يخبر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وهو واحد، فيقطع بصدقه؛ لأن الدليل قد دل على عصمته وصدق لهجته صلى الله عليه [وسلم] . الرابع: أن يخبر الواحد، ويدعي على عدد كثير أنهم سمعوه منه، فلا ينكر منهم أحد، فيدل على أنه صدق؛ لأنه لو كان كذباً، لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه؛ لأن الله تعالى خالف بين الطباع وبَايَن بين الهمم. والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب؛ لأنه واقع عن نظر واستدلال. وقال إبراهيم النظام (1) : خبر الواحد يجوز أن يوجب العلم الضروري إذا قارنه أمارة (2) . دليلنا: أن خبر الواحد لو كان موجباً للعلم؛ لأوجبه على أي صفة وجد، من المسلم والكافر، والعدل والفاسق، والحر والعبد، والصغير والكبير، كما أن خبر المتواتر لما أوجب العلم، لم يختلف باختلاف صفات المخبرين، بل استوى في ذلك الكفار والمسلمون، والصغار والكبار، والعدول والفساق، فلما ثبت أن خبر الكافر والفاسق والصغير غير موجب
للعلم، دل أن هذا من النوع الذي لا يوجب العلم. ولأنه لو كان موجباً للعلم لكان الأنبياء إذا أخبروا ببعثهم وقع العلم بما يخبرون به، واستغنوا عن إظهار المعجزات والأدلة على صدقهم، ولكان لا يحتاج في الشهادات إلى عدد، بل كان الشاهد الواحد إذا أخبر الحاكم بشيء، وقع للحاكم علم ذلك ومعرفته، ولكان المدعي على غيره عند الحاكم حقاً أن يصدقه؛ لأن العلم يقع بقوله، وفي كون الأمر بخلاف ذلك دليل (1) على أن خبر الواحد لا يوجب العلم. فإن قيل: إنما لم يوجب العلم ها هنا [135/ب] ؛ لأنه ليس من الشرعيات وإنما نقول: إنه يوجب العلم فيما كان شرعاً لنا. قيل: فالشهادة شرع، لأن على الشاهد أن يشهد بما عنده، قال الله تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُوا الشهَادَةَ) (2) ، وعلى المشهود عنده: العمل بذلك، ومع هذا شهادة الشاهدين لا توجب العلم. وأيضاً: لو كان خبر الواحد يوجب العلم، لوجب أن لا يشكك نفسه عنده، كما لا يشككها عند خبر التواتر، فلما ثبت أنه يشكك نفسه عنده، ويجوز عليه الصدق والكذب، ثبت أنه لا يوجب العلم. ولأنه لو كان يوجب العلم لوجب أن لا ينكر عليه قريش حين أخبرهم: أن الله تعالى قد أسرى به إلى بيت المقدس في ليلة واحدة، وأنه عرج به إلى السماء؛ لأن العلم قد وقع لهم بما أخبرهم به، فلما أنكروا عليه، وردوا قوله، حتى أتى أبو بكر فأخبروه بما يقول، فقال لهم: إن كان قد قال هذا، فقد صدق. ثبت: أن خبر الواحد لا يوجب العلم. والمعتزلة: تنكر حديث المعراج، وتقول: إنه منام، ولو كان على ما
قالوه، لما أنكروا عليه أنه رأى في المنام هذا، ولأن (1) كل أحد يرى في منامه أعظم من هذا، فلما أنكروا عليه، ثبت: أنه إنما قال لهم ذلك في اليقظة. وأيضاً: فإن الواحد يجوز أن يكذب لغرض له أو شهوة، أو يخطىء. فيخبر به، وهذا التجوز يمنع وقوع العلم بصدقه؛ لأنه لا يجتمع التجويز لكذبه [لغرض] ، أو شهوة، والقطع على صدقه. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ) (2) ، دل على أنه لا يقفو ما ليس بعلم، فلما ثبت أنه يقفو خبر الواحد، ثبت أنه متعلق بما هو علم. وهكذا قال: (إلا منْ شَهِدَ بالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (3) ومعلوم أن الله تعالى تعبدنا بنقل خبر الواحد، وتعبدنا بالعمل به إذا ورد، فلما لزم نقله، ولزم العمل به، ثبت: أنه أوجب العلم. والجواب عن الآية أن التعلق بها من دليل الخطاب، وهذا لا يوجب العلم، على أنا نحملها على العلم الظاهر، أو على مسائل الأصول بدليل ما ذكرنا. وأما قولهم: لما أوجب على السامع نقله، وعلى المنقول إليه العمل به، ثبت أنه يوجب العلم، فهو باطل بالشهادة، فإنها على هذا الوصف، ومع هذا فلا توجب العلم. واحتج: بأن الشريعة محفوظة بقوله تعالى: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (1) ، وهذا يمنع من دخول الكذب والسهو فيها. والجواب: أن هذا إشارة إلى القرآن، وذلك مقطوع على صحته. فأما غيره من الأخبار الشرعية فلا، يدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده [136/أ] من النار) (2) ، فلولا خوفه من دخول الكذب، لم يتوعد عليه. واحتج: بما روي عن علي أنه قال: "ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته، إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر" (3) . فقد قَطعَ على صدقه وهو واحد. والجواب: أن الخبر حجة على هذا القائل؛ لأن عنده أن أبا بكر
وسائر الصحابة سواء في قبول قولهم، وقد أخبر أنه كان يستحلفه، فلو كان العلم يقع به لقول الواحد، لم يستحلفه. وأما قوله: "وصدق أبو بكر"، فإنما فرق بينه وبين غيره؛ لأن جنبته أقوى؛ لأن صدقه منصوص عليه، فإنه سمي صديقاً. واحتج النظام: بأنه قد يخبر الرجل بموت أمه وأبيه أو بعض أهله فيقع العلم بصدقه. وقد تخبر القابلة بولادة امرأته، فيقع له العلم بصدقها. وقد يخبر الإنسان بموت زيد، وهناك أسباب تقتضي مثل ذلك، مثل رؤية المغتسل والجنازة على باب الدار، فيقع العام بذلك، كما يقع بخبر الجماعة الكثيرة (1) . والجواب: أنا لا نسلم ذلك؛ لأنه قد يخبر الواحد بذلك على سبيل اللّعب والمجون والمبايعة على عوض، وقد وجد ذلك بالبصرة وبخوارزم (2) مع بعض الحكام، وفعله رجل باليمن، لدفع أذية السلطان. وكذلك الولادة مثل ذلك؛ لأن المرأة قد تستعير الولد وتلتقطه وتدعيه، رغبةً في الزوج وفي ماله، يبين صحة هذا: أنه لو شككنا فيه مشكك، وقفنا في ذلك. واحتج: بأنه لو لم يقع العلم بخبر الواحد، لم يقع العلم به وإن انظم إليه غيره من الجماعة الكثيرة؛ لأن ما يجوز على الأول من الغلط والكذب
مسألة
والسهو، يجوز على الثاني والثالث والرابع، ولما حصل العلم بانضمام الجماعة، وجب أن يحصل العلم به. والجواب: أن الخبر إذا تكرر قويَ في قلوبنا وغلب في ظنوننا صدق المخبرين به، فحينئذ وقع العلم به، وهذا معدوم في الخبر الواحد. وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن لا يوجبه حال الانفراد، ويوجبه حال الاجتماع، كالشهادة، ولا يقبل شهادة كل واحد من الشاهدين حال الانفراد، ويقبل حال الاجتماع، وكذلك الشاهد واليمين. مسألة الخبر المرسل حجة ويجب العمل به (1) وصورته: أن يترك الراوي رجلاً في الوسط، مثل أن يروي التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يروى تابعي التابعي عن صحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا إذا ذَكَر المروى [عنه] ، ولكنه ذِكْر لا يعرف به، [136/ب] وهو أن يقول: أخبرني الثقة عن فلان، أو أخبرني رجل من بني فلان عن فلان، في إحدى الروايتين. نص عليه رحمه الله في رواية الأثرم قال: إذا قال الرجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمه، فالحديث صحيح. قيل له: فإن قال يرفع الحديث فهو عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: فأي شيء؟!. ونقل الميموني أيضاً: كان يعجب أبو عبد الله رضي الله عنه ممن يكتب
الإسناد ويَدع المنقطع، وقال: ربما كان المنقطع أقوى إسناداً، قد يكون الإسناد متصلاً، وهو ضعيف، فيكون المنقطع أقوى إسناداً منه، وهو يوقفه، وقد كتبه على أنه متصل. وقال في رواية الفضل بن زياد: مرسلات سعيد في المسيّب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم (1) لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح (2) ؛ فإنهما يأخذان عن كلٍ.
وقال في رواية عبد الله: آخذ بحديث ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة (1) وعمرو بن دينار (2) عن النبي [صلى الله عليه وسلم] في العبد الآبق إذا جيء به دينار (3) .
وبهذا قال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة (1) ، ومالك (2) والمعتزلة (3) . وفيه رواية أخرى: ليس بحجة إلا مرسل الصحابة. أومأ إليه في رواية إسحاق بن إبراهيم، وقد سئل عن حديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] مرسل برجال ثَبَت، أحبُّ، إليك، أو حديث عن الصحابة متصل برجال ثَبَت؟ فقال: عن الصحابة أعجب إليّ. وهذا يدل من قوله على أنه ليس بحجة، إذ لو كان حجة، لم يقدم عليه قول الصحابي؛ لأن من جعله حجة قدمه على قول الصحابي. وقال مهنا: سألت أحمد رحمه الله عن حديث ثوبان (4) : (أطيعوا قريشاً ما استقاموا لكم) (5) ، قال: ليس بصحيح، سالم بن أبي الجعد (6) لم يلقَ ثوبان.
فقد حكم ببطلان الحديث، لأجل أنه مرسل. وبهذا قال الشافعي. وجه الرواية الأولى: قوله تعالى: (وَليُنْذرُوا قَوْمَهمْ إذَا رَجَعُوا إليْهِمْ) (1) ، ولم يفرق بين من أنذر بمرسل أو بمسند. ولأن من عادة التابعين إرسال الأخبار، من ذلك ما روي عن الأعمش (2) أنه قال: قلت لإبراهيم: إذا حدثتني فأسند، فقال: إذا قلت لك: حدثني فلان عن عبد الله، فهو الذي حدثني، وإذا قلت لك: قال عبد الله، فقد حدثني جماعة عنه. وروي ذلك عن الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي (3) ، وإذا كان
معروفاً من عاداتهم، فلو كان عندهم أنها غير مقبولة، كانوا قد ضيعوا سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الفعل، وهذا لا يجوز. ولأن المرسِل للخبر مثبت لعدالة راويه من وجهين: أحدهها: أنه لا يجوز [137/أ] أن يحدثه، ويكتم اسمه، ثم يحدث به غيره، فيلزمه قبوله. والثاني: أنه لو أرسل عن غير ثقة، كان قد قطع على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، بقول من هو كذاب عنده، وهذا فعل ممنوع منه وإذا كان ذلك تعديلاً له، لم يعتبر جواز أن يجرحه غيره لو ظهر اسمه، يدلل عليه: أن من زكاه الحاكم، فله أن يقضي بشهادته، ولا يراعي جواز جرحه أن لو نادى في البلد باسمه، أو كاتب به إلى البلدان التي تقرب منه، فَبانَ أن تعديله، موجب قبول خبره، ولهذا جعل أحمد رحمه الله رواية العدل عن غيره تعديلاً للغير، فقال في كتاب العلل للأثر [م] : إذا روى عبد الرحمن (1) عن رجل، فروايته عنه حجة.
وقال أيضاً في رواية أبي زرعة الدمشقي (1) : مالك بن أنس إذا روي، يعني عن رجل لا يعرف، فهو حجة. فإن قيل: هذا لا يدل على عدالته، كما لم يدل شاهدي الفرع على [عدالة] شاهدي الأصل. قيل: الفرق بين الشهادة والخبر باقٍ (2) . فإن قيل: يحتمل أن يعرف جرحه غيره، فوجب تسميته؛ ليقف عليه. قيل: فيجب أن يلزم الحاكم تسمية الشاهدين الذين حكم بهما، لهذا المعنى، ولأن حاكماً لو حكم بشهادة شاهدين لم يسمهما، لم يجز لأحد أن يعترض على حكمه؛ لأجل تركه تسمية الشهود، وكان أمرهم محمولاً على الجواز والعدالة في الشهادة، فلأن يكون كذلك فيما طريقه الاخبار أولى؛ لأن الأمر فيها أوسع. ولأن مرسل الصحابي مقبول، وكل معنى منع من قبول مرسل التابعين
فهو مأخوذ في مرسل الصحابة، وقد ثبت أن الصحابي أو التابعي لو قال: أخبرني بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا، فهو بمنزلة المسند، وكذلك إذا قال التابعي: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يجب أن يكون مثله. وقد قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فالحديث صحيح؟ قال: نعم. فإن قيل: الصحابي معلوم عدالته، بأن الله تعالى عدله وزكاه وأخبر عن إيمانه، ورضي عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه. قيل: قد شهد النبي [صلى الله عليه وسلم] للتابعين، كما شهد للصحابة فقال: (خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (1) ، وليس من شرط قبول الخبر أن يكون ممن يقطع على عدالته، وإنما تعتبر عدالته في الظاهر، وهذا المعنى موجود في التابعين ومن بعدهم، فيجب أن يتساووا في النقل. وأيضاً: فإن الشافعي قد قال: إن كان الظاهر من حال المرسِل الثقة من التابعين، أن ما يرسله مسنداً عند غيره، قُبِل منه. وهذا لا معنى له [137/ب] لأن القبول منه: إن كان لأجل إسناد
غيره فالمرجع إلى المسند، وما سماه مرسلاً، فليس بمرسل في الحقيقة. وإن كان يقول: إن إسناد غيره يوجب قبول مرسَله، مع جواز أن يكون مرسلاً، فهو قول بعيد، إذا كان يمنع قبولَ المراسيل، ويلزمه أن لا يعتبر ظاهر أمره مع الجواز، كما لا يعتبر ظاهر تعديله مع جواز أن يكون غير عدل. وقال أيضاً: المرسَل مقبول، فيمن وجد أكثر مراسيله أصول في الأسانيد. وهذا أيضاً ليس بشيء؛ لأن وجود ذلك في أكثر مراسيله، لا يمنع أن يكون قد أرسل، فالواجب: أن يعتبر ذلك في كل خبر بعينه. وقال أيضاً: المراسيل تقبل، إذا عمل بها بعض الصحابة. وهذ ليس بشيء؛ لجواز أن يكون القائل قد سمعه بنفسه، أو يكون من مذهبه قبول المراسيل. وقال أيضاً: المرسل يعمل به إذا أفتى به عوام العلماء. وهذا أيضاً ليس بشيء؛ لأنه أراد جميع الأمة، وأن إجماعها على قبول المرسل، لا ركون مع اختلافهم في حكمه، وإنما الواجب: أن يكون بعضهم قبله؛ لصحة المراسيل عنده، والباقون، لأنه مسند عندهم، فيخرج أن يكون مرسلاً في الحقيقة. فإن أرادوا (1) به أكثر العلماء، فإن خلاف الواحد معتدّ به، فلم يجز أن يستدل به على صحة قبول الخبر. ولأنه قد قال في مراسيل ابن المسيب: إنها مقبولة، لأنه وجد مراسيله مسانيد، وهذا صحيح فيما قد وقف على أنه مسند، فأما ما لم يوقف على
حاله، فلا يجوز أن يحكم به؛ لأنه وجد إسناداً لغيره، وكان التجويز فيه موجوداً، ولا يجوز أن يقال: إنه خص مرسل ابن المسيب؛ لأنه لا يرسل إلا عن ثقة؛ لأن هذا الاعتقاد في حسن الظن بابن المسيب معتبر في غيره. فإن قيل: ما ذكرتموه، إنما أراد به الشافعي قوته في الترجيح، لا إثبات الحكم به. قيل: الترجيح لا يجوز بما لا يثبت به حكم، فإن كان يريد إثبات الحكم بالمرسل الذي قاربه قياس أو قول صحابي، فالحكم عنده للقياس لا للاستدلال. واحتج المخالف: بأن هذا خبر عمن شرطت عدالته في في قبوله، والعدالة مجهولة، فلم يجز قبوله والعلم به، قياساً على شاهدي [الفرع] إذا لم يسميا شاهدي الأصل. والجواب: أنا لا نسلم أن العدالة مجهولة؛ لما بينا: أن رواية العدل عنه تدل (1) على عدالته. ثم الفرق بين الخبر والشهادة من وجوه: أحدها: أن الشهادة على الشهادة تفتقر إلى الاسترعاء، وهو أن يقول شاهد (2) الأصل لشاهدي الفرع: اشهدا على شهادتي [138/أ] فلما افتقرت إلى الاسترعاء، افتقرت إلى تسمية الأصل، وليس كذلك الإخبار؛ لأنه لا يفتقر إلى استرعاء، بل إذا سمع منه حديثاً، جاز نقلة والعمل عليه، وإن لم يقل: اسمع مني.
ولأن المشهود على شهادته يكون كالمحكوم عليه، ألا ترى أن من الفقهاء من يوجب عليه الضمان، ولما لم يجب الحكم على من ليس بمعين، لم يجز قبول شهادة شهود الفرع، حتى يذكروا أسماء شهود الأصل، ولما كان هذا المعنى معدوماً في الخبر، وأنه لا تعلق للخبر الثاني بالأول، لم يجز أن يحمل الخبر على الشهادة. ولأن الشهادة أكدت باعتبار العدد والحرية والذكورية، وأن يكون ذاكراً لما شهد به، فجاز أن تعتبر تسمية شهود الأصل؛ لتأكيد الأمر فيها، والخبر بخلاف ذلك. ولأنه لو قال نفسان من التابعين: أشهدنا اثنان من الصحابة على شهادتهما، لم يجز حتى يعيناهما، وفي الخبر يجوز عند الجميع، فدل على الفرق بينهما. فإن قيل: أليس مع افتراقهما من هذه الوجوه قد تساويا في اعتبار العدالة في كل واحد منهما؟ قيل: فالعدالة موجودة مع الإرسال من الوجه الذي بينّا، وهو أن إرسال التابعي له، تزكيه له. وعلى أن تساويهما في العدالة لم يمنع افراقهما من الوجوه التي ذكرناها، فدل على أن الشهادة آكد. وإنما كان حكم الشهادة آكد من الخبر من الوجوه التي ذكرناها: أن الشهادة حكم على الغير، فالتهمة تلحق، والخبر يشترك فيه المخبِر والمُخْبَر، فالتهمه لا تلحق. واحتج: بأن الجهل بعين الراوي أكثر من الجهل بصفته؛ لأن من جهلت عينه، جهلت عينه وصفته، ثم ثبت: أنه لو كان معروف العين مجهول الصفة، مثل أن يقول: أخبرني فلان، ولا أعرف أثقة هو أم غير ثقة؟ لم يقبل خبره، فبأن لا يقبل خبره، إذا لم يذكره أصلاً أولى.
والجواب: أنا لا نسلم أن صفته مجهولة؛ لأن رواية العدل عن رجل تعديل له؛ لما بينا، وهو أنه لا يجوز في حقه أن يروى عن فاسق. وقد قيل: إنه إذا كان فلان معروفا بالإسلام، فإنه يقبل خبره؛ لأن ظاهر أمره العدالة وترك مواقعة المحظور، وجواز أن كون فَعَل ما يوجب جرحاً في شهادته غير معلوم، فلم يكن في معرفة عدالته أكثر من عدم العلم بجرحه. فإن قيل: تقبل شهادته، وإن لم يبحث عن عدالته للمعنى الذي ذكرت. قيل: تقبل شهادته في إحدى الروايتين، فعلى هذا لا فرق، ولا نقبلها في الأخرى احتياطاً للشهادة، كما احتطنا لها من الوجوه التي ذكرنا. واحتج: [138/ب] بأن الخبر ضربان: آحاد وتواتر، ثم ثبت أن الراوي لو روى حديثاً، وذكر أنه من أخبار التواتر، لم يقبل قوله: إنه متواتر، حتى يعرف أنه متواتر، كذلك إذا قال: أخبرني الثقة أن لا يقبل خبره، حتى تعلم ثقته؛ لجواز أن لا يكون ثقة عند المخبر. والجواب: أن الخبر المتواتر ما استوى طرفاه ووسطه في عدد يقع العلم بخبرهم، وتسكن النفس إليهم في العادة، وهذا لا يؤخذ بقول الواحد: هذا متواتر، وليس كذلك أخبار الآحاد، فإن طريقها يقبل العدل عن العدل، وهذا موجود ها هنا. فصل (1) إذا ثبت أن المرسل حجة، فلا فرق بين مرسل عصرنا ومن تقدم. هذا ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني؛ لأنه قال: ربّما كان
المنقطع أقوى إسناداً من المتصل، ولم يفرق (1) . وحكي عن عيسى بن أبان أنه قال: ومن أرسل من أهل عصرنا حديثاً، فإن كان من الأئمة الذين حمل عنهم أهل العلم، فإن مرسَله مقبول، كما يقبل مسنَده، ومن حمل الناس عنه المسنَد دون المرسَل، فإن مرسَله موقوف (2) . وقال أبو سفيان: مذهب أصحابنا: مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين مقبولة. وحكي عن الكرخي: أنه لم يفرق بين أهل سائر الأعصار (3) . وهو اختيار الجرجاني.
دليلنا:
دليلنا: أن المرسِل إذا كان ثقة، فظاهره أن الذي أرسل عنه عدل، وهذا المعنى موجود في أهل الأعصار. ولأن الناقل إذا ثبتت عدالته، فهو كالعدل من العصر الأول في قبول خبره، فيجب أن يكون فيما يرسله كذلك. ولأنه لا معنى لاعتبار حمل الناس عنه؛ لأن توقفهم في النقل عنه إن كان بمعنى يعود إلى عدالته، فإن مرسَله ومسنَده واحد، وإن كان بمعنى ركود إلى إرسال الخبر، فإن وقوف من لا يرى نقل المراسيل فيه، لا يوجب التوقف فيمن يرى ذلك، كالشافعي. واحتج المخالف: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على القرون الثلاثة، فحالتهم أوكد ممن بعدهم (1) ، فقد قال: (إن الكذب يفشو فيهم) (2) ، فوجب التوقف في مرسله، إلا أن ينضم إليه نقل أهل العصر له. والجواب: أن ثناءه على التابعين وتابعيهم، لم يوجب لهم القطع،
ولم ينفِ عنهم في تجويز الفسق، بخلاف الصحابة، ومع هذا فقد جاز قبولُ إرسالهم بَعد التهم في الظاهر، كذلك من بعدهم؛ لأن الخبر إنما يعتبر فيه العدالة في الظاهر. [139/أ] فصل فيه كلام الإمام أحمد رحمه الله في ترجيح المراسيل بعضها على بعض. نقلته من كتاب "العلل" للخلال من الجزء الحادي والسبعين منه، فقال في رواية أبي الحارث: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا يرى أصح من مرسلاته، فأما الحسن وعطاء، فليس بذلك، هو أضعف المرسلات (1) ، كأنهما كانا يأخذان من كلٍ. وقال في رواية الفضل بن زياد [أما] مرسلات عطاء، ففيها شيء (2) . وأما ابن سيرين فما أحسن كل مخرجه أيضاً. ومرسلات سعيد بن المسيب أصح. المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها. وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، كأنهما كانا يأخذان من كل. وقال في رواية مهنا وقد سأله عن مرسلات سعيد بن جبير أحب إليك أم مرسلات عطاء؟ قال: مرسلات سعيد بن جبير أقرب، وهي أحب إلىّ من مرسلات عطاء. وسأله عن مرسلات سعيد بن جبير أحب إليك أم مرسلات مجاهد (3) ؟
فقال: مرسلات سعيد. وسأله عن مرسلات مجاهد أحب إليك أم مرسلات عطاء؟ فقال: مرسلات مجاهد، لأن عطاء روى عمن هو دونه، ومجاهد لم يرو عمن هو دونه. وقال في رواية أبي الحارث: مرسلات عطاء فيها شيء. وقال في رواية مهنا وقد سأله عن مرسلات طاوس أحب إليك أو مرسلات أبي إسحاق (1) ؟ قال: مرسلات طاوس. وسأله عن مرسلات إسماعيل بن أبي خالد (2) أحب إليك أم مرسلات
عمرو بن دينار؟ فقال: إسماعيل بن أبي خالد لا يبالي (1) عمن حدث، عن أشعث بن سوار (2) وعن مجاهد، وعمرو، بن دينار لا يروي إلا عن ثقة، مرسلات عمرو أحب إليّ. وسأله أيما أحب إليك، إبراهيم عن علي، أو مجاهد عن علي؟ قال: إبراهيم عن علي؛ لأن هذا كان مقيماً، وكان مجاهد إنما تقع إليهم الأخبار إلى الكوفة. وقال في رواية أبي الحارث وقد سأله عن مرسلات النخعي، قال: ما أصلحها ليس بها بأس، أصلح من مرسلات الحسن. وسأله مهنا: لم كرهت مرسلات الأعمش؟ قال: كان الأعمش لا يبالي عمن حدث. قيل له: فإن له رجلاً ضعيفا (3) غير إسماعيل بن مسلم (4) ويزيد الرَّقاشي (5) ؟ قال: نعم، كان يحدث عن عتاب بن إبراهيم.
وسأله أيضاً عن مرسلات الأعمش، وسليمان النخعي (1) ، ويحيى ابن أبي كثير (2) ؟ قال: مرسلات يحيى بن أبي كثير أحب إليّ. وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله عن مراسيل يحيى بن أبي كثير؟ فقال: لا تعجبني؛ لأنه يروي عن رجال صغار ضعاف. وقال في رواية أبي طالب [139/ب] ، وقد سأله عن رجل ما قال الحسن: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، وجدناه من حديث أبي هريرة وعائشة ُوسَمُرة (3) ، قال. صدق.
وقال في رواية مُهَنَّا، وقد سأله: هل شيء يجيء عن الحسن؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو صحيح، ما نكاد نجدها إلا صحيحة. وقال في رواية أبي الحارث: مرسلات ابن سيرين صحاح حسنة المخرج. وقال في رواية مُهَنَّا. وقد سأله عن مرسلات سفيان (1) ، فقال: كان سفيان لا يبالي عمن روي. وسأله عن مرسلات مالك بن أنس، قال: هي أحب إليّ. فصل ولا يقبل الخبر حتى في تجتمع في ناقله شرائط خمس: أحدها: أن يكون عاقلاً، ليعرف ما ينقل، ويميّز خبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] وخبر غيره.
والثاني: أن يكون عدلاً في الظاهر؛ لقوله تعالى: (إنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بنبَإ فَتَبَينوا أن تُصيبوا قَوْماً بجهَالَة) (1) الآية، إذا لم يكن عدلاً، لا يؤمن أن يكذب فيما ينقل؛ لأن من ارتكب الفاحشة ارتكب أن يكذب فيما ينقله. وقَد قال أحمد رحمه الله في رواية أحمد بن الحسين (2) : لا يكتب الحديث عمن يسكر. وقال في رواية إبراهيم وسندي (3) ، واللفظ لسندي، في الرجل يعرف بالكذب في الشيء، يحدث به القوم، فليس نعرف منه الكذب في الرواية: كيف يؤمن هذا على الرواية، أن يكذب فيها، إذا عرف منه الكذب في شيء؟!. وإذا ثبت: أن العدالة شرط، فإن كل من أتي بكبيرة، فهو فاسق، حتى يتوب. وكل من أتي بصغيرة، ليس بفاسق، ومن تتابعت منه الصغائر، وكثرت، رد خبره وشهادته. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي الصقر (4) في الصلاة خلف آكل الربا: إن كان أكثر طعامه الربا، لم تصل خلفه. فاعتبر الكثرة في ذلك؛
لأنا لو لم نقبل إلا من محّض الطاعة، لم يقبل أحد؛ لأن أحداً لا يمحض الطاعات، حتى لا يشق بها المعصية. يدل عليه قوله تعالى: (وعَصَى آدَمُ رَبهُ فَغَوَى) (1) ، وأراد بالغي: وضع الشيء في غير موضعه. قال تعالى -في قصة داود-: (أنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفر رَبهُ وَخَر رَاكِعاً وَأَنَابَ) (2) ، فأخطأ، وتاب الله عليه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من أحد إلا عصى أو هَم بمعصيه إلا يحيى بن زكريا) (3) ، فثبت: أن الأنبياء لم يسلموا من الخطأ والمعاصي، ولو قبلنا كل عاص، لم نرد أحداً، وقد أمرنا برد الفاسق، وإنفاذ العدل، فلم يكن بد من تفصيل بينهما، فكان الفصل بينهما ما ذكرنا. فأما من ثبت كذبه، فإنه يرد خبره وشهادته، وإن لم يتكرر ذلك منه.
وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية علي بن سعيد (1) في الرجل يكذب كذبةً واحدةً: لا يكون في موضع العدالة، الكذب شديد. وكذلك نقل ابن منصور: أنه قال لأبي عبد الله [140/أ] : متى يترك حديثه؟ قال: إذا كان الغالب عليه الخطأ، قال له: الكذب من قليل وكثير؟ قال: نعم. ونقل أحمد بن أبي عبيدة (2) عنه في الرجل يكذب، فقال: إن كثر كذبه، لم تصل خلفه. وظاهر هذا: أنه لا يخرج من العدالة بكذبة واحدة. وهذا على ظاهره فيما سئل عنه من صحة إمامته [أما] في الخبر والشهادة فلا؛ لأن الحاجة في الخبر إلى صدق المخبِر ومن ظهر منه ذلك أولى بالردّ ممن جعلت (3) أمارة رده المعاصي، التى يسمى بها فاسقاً. ويدل عليه ما روى إبراهيم الحربي في كتاب النهي عن الكذب بإسناده عن موسى الجندي قال: رد النبي [صلى الله عليه وسلم] شهادة رجل في كذبة كذبها. وبإسناده عن يحيى بن سالم (4) قال: اطلع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، من وافد
قوم على كذبة فقال له: (لولا سخاء فيك، ومدحك الله عليه؛ لشردتك من وافد قوم) . ولقد نقلة له أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد الحلبي (1) قال: سألت أحمد بن حنبل رحمه الله عن محدث كَذَب في حديث واحد، ثم تاب ورجع، قال: توبته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يكتب عنه حديث أبداً (2) . وسألت قاضي القضاة أبا عبد الله الدامغاني (3) [عن ذلك] فقال: يقبل حديثه المردود وغيره، بخلاف الشهادة، إذا ردت، ثم تاب، لم يقبل
دليلنا:
في تلك الشهادة خاصة، قال: لأن هناك حكماً (1) من جهة الحاكم بردها، فلا يقبل؛ لأن فيه نقضاً للحاكم، ورد الخبر ممن روى له ليس بحكم؛ لأنه ليس بحاكم. وسألت أبا بكر الشامي (2) [عنه] فقال: لا يقبل خبره فيما ردّ، ويقبل في غيره اعتباراً بالشهادة. دليلنا: أن من أقدم على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استدل على زندقته؛ لأنه لا يقدم علي ذلك -مع ما فيه من الوعيد- إلا زنديق، وتوبة الزنديق غير مقبولة في ظاهر الحكم على الرواية المشهورة أحمد. ويفارق هذا الشهادة؛ لأن الكذب لا يدل على ذلك؛ لأنه يجوز أن يحمله علي ذلك الرغبة في الرشوة وقضاء الحق، فلهذا قبلت شهادته فيما لم يرد. وكذلك إذا رد خبره بغير الكذب في الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه [وسلم] ، أنه لا يدل على زندقته؛ لأنه يحتمل فعل تلك الأشياء المحظورة رغبة في إزالتها وحصول الأغراض.
وقد روى أبو إسحاق في تعاليقه عن أبي بكر النقاش (1) عن محمد بن سعيد (2) عن محمد بن سهل بن عسكر (3) سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: "إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا حديث غريب أو فائدة، فاعلم أنه خطأ، وإذا سمعتهم يقولون: هذا حديث لاشيء، فاعلم أنه صحيح". أما قوله: إذا قالوا: "غريب أو فائدة"، فاعلم أنه خطأ، فذلك لأنهم لا يستغربون إلا الحديث الشاذ، الذي بمشهور، ولا رواه أئمة أصحاب الحديث، وما هذا سبيله يجوز عليه [140/ب] الغلط والسهو. وقوله: "إذا سمعتهم يقولون: هذا حديث لا شيء، فاعلم أنه صحيح"، فذلك لأنهم يقولون هذا في الحديث المشهور، الذي تواتر طريقه، وعرف لفظه، فيقولون: لاشيء، يعني أنه ما أفادنا شيئاً؛ لاشتهاره
وتكرره ومعرفتنا له، وما هذا سبيله ينتفي عنه السهو والغلط، فيحكم بصحته. فصل ولا يقبل الجرح إلا مفسراً وليس قول أصحاب الحديث: "فلان ضعيف"، و"فلان ليس بشيء" مما يوجب جرحه ورد خبره (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد (2) رحمه الله في رواية المروذي؛ لأنه قال له عن يحيى بن معين (3) : سألته عن الصائم يحتجم، فقال: لا شيء عليه، ليس يثبت فيها خبر (4) ، فقال أبو عبد الله: هذا كلام مجازفة. فلم يقبل مجرد الجرح من يحيى.
وكذلك نقل مُهَنّا عنه قلت لأحمد: حديث خديجة (1) : كان أبو [ها] ، ما يرغب أن يزوجه (2) ، فقال أحمد رحمه الله: الحديث معروف سمعته من غير واحد، قلت: إن الناس ينكرون هذا، قال: ليس هو منكر. فلم يقبل مجرد إنكارهم.
ونقل عنه المروذي ما يدل على أنه يقبل، فقال: قريء على أبي عبد الله رحمه الله: حديث عائشة كانت تلبي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمه لك) (1) فقال أبو عبد الله: كان فيه: و"الملك لا شريك لك"، فتركته؛ لأن الناس خالفونا، وقوله: تركت روايته، لأجل ترك الناس، وإن لم يظهر العلة. وجه الأول: أن الناس اختلفوا فيما يفسق به، ولا بد من ذكر سببه؛ لينظر هل هو فسق أم لا، وعلى هذا لو شهد رجلان: أن هذا الماء نجس، لم تقبل شهادتهما، حتى يُبَيِّنا سبب النجاسة؛ لأن الناس اختلفوا فيما ينجس به الماء (2) . ووجه الثاني: أن المعاني التي في يختلف في تأثيرها في الخبر معروفة (3) ، فالواجب حمل أمر المزكي على الصحة، وأنه لا يحمل (4) للقاضي ما يعلم أنه لو فسره، لم يؤثر عنده. إذا تقرر هذا، فإن صرح عدلان بما يوجب الجرح، ثبت الجرح.
فإن صرح أحدهما بما يوجب الجرح، ثبت الجرح أيضاً، وهذا قياس قوله في التعديل: إنه يثبت بقول الواحد، على ما نذكره. والوجه فيه: أن العدد ليس بشرط في قبول الخبر، فلم يكن شرطاً في جرح الراوي، ويخالف الشهادة؛ لأن العدد شرط في قبول الشهادة والحكم بها، فلهذا لم يقبل جرح الواحد. فأما تعديل الواحد فيقبل، كما يقبل جرحه. قال في روارية الأثرم: إذا روى الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن رجل، فهو حجة، وهذا يدل على أن رواية العدل عن غيره تعديل له، ويدل أيضاً على: أن تعديل الواحد مقبول. وكذلك نقل أبو زُرعة قال سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: مالك (1) بن أنس إذا روي عن رجل لا يعرف [141/أ] فهو حجة. وقد نقل مُهنَّا عنه ما يدل على أن رواية العدل [لا] تكون تعديلاً، ويجب السؤال عنه، فقال سألت أحمد رحمه الله عن رباح بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب (2) ؟ فقال: مدني،
روى عنه عبد الرزاق (1) . قلت: كيف هو؟ قال: ضعيف. وظاهر هذا أنه لم يجعل رواية العدل تعديلاً. وهو قول أصحاب الشافعي. فالدلالة على أن تعديل الواحد مقبول: لأنه يقبل جرحه من الوجه الذي ذكرنا، فقبل تعديله. وقد نَقل إسماعيل بن سعيد قال: قلت لأحمد: تعديل الرجل الواحد، إذا كان مشهوراً: بالصلاح؟ قال: يقبل ذلك. ذكرها الخلال في كتاب "الشهادات". فظاهر هذا: [أن] تعديل الواحد للشاهد مقبول. والدلالة على أن روايته تعديل له:
دليلنا:
ما تقدم في مسألة خبر المرسل، وهو: أنه لا يجوز أن يحدث عن فاسق لمن لا يعرفه، ويكتم ذلك، فيلزمه قبوله. ولأنه لو روي عن غير ثقة كان قد قطع على رسول الله صلى الله عليه [وسلم] ، بقول من هو كذاب عنده، وهذا ممنوع منه. والوجه لمن قال: لا يكون تعديلاً: بأنه يجوز أن يروي عمن لا يعرف عدالته، وإذا لم يحرم ذلك، لم تكن روايته تعديلاً، اللهم إلا أن يروي عنه ويعدّله بقوله أو بعمل [لا] يحرم فيكون تعديلاً. فصل ولا يقبل خبر من لم تعرف عدالته وإن عوف إسلامه وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الفضل بن زياد، وقد سأله عن أبي حميد يروي عن مشايخ لا يعرفهم، وأهل البلد يثنون عليهم؟ فقال: إذا أثنوا عليهم، قبل ذلك منهم، هم أعرف بهم. وظاهر هذا: أنه لا يقبل خبره إذا لم تعرف عدالته؛ لأنه اعتبر تعديل أهل البلد لهم. وحكي عن أبي حنيفة: أنه يقبل خبر من لم تعرف عدالته، إذا عرف إسلامه. دليلنا: أن كل خبر لم يقبل من الفاسق، كان من شرطه معرفة عدالة المخبِر، كالشهادة، ولا يلزم عليه الخبر المرسل أنه مقبول، وإن لم تعرف عدالته؛ لأنه غير مجهول العدالة، لما بينا: أن رواية العدل عن غيره
تعديل له؛ لأنه لا يجوز أن يرويَ عن فاسق. والذي روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة الأعرابي في رؤية الهلال لما علم إسلامه بقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" (1) وذلك لأنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -، عرف من حال الشاهد أنه عدل ثقة، فلذلك حكم بشهادته. وليس من شرطه معرفة العدالة الباطنة؛ لأن اعتبارها يشق. ويفارق الشهادة؛ لأن اعتبارها لا يشق؛ لأن لها معتبراً، وهو الحاكم، والاعتبار إليه، وليس كل من سمع الحديث حاكماً.
فصل (1) [141/ب] وقد أطلق أحمد رحمه الله القول بالأخذ بالحديث الضعيف. فقال مهَنّا (2) : قال أحمد: الناس كلهم أكْفاء إلا الحائك والحجام والكساح (3) ، فقيل له: تأخذ بحديث (كل الناس أكْفاء إلا حائكاً (4) أو حجاما) (5) وأنت تضعفة؟ فقال: إنما نضعف إسناده، لكن العمل عليه.
وكذلك قال في رواية ابن مُشَيْش (1) وقد سأله: عمن تحل له الصدقة وإلى أي شيء يذهب في هذا؟ فقال: إلى حديث، حكيم بن جبير (2) ، فقلت: وحكيم بن جبير (3) ثَبَت عندك في الحديث (4) ؟ قال: ليس هو عندي ثَبَتاً في الحديث.
وكذلك قال مُهَنّا: سألت أحمد رحمه الله: عن حديث مَعْمَر عن الزهري عن سالم (1) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن غيلان (2) أسلم وعنده عشر نسوة (3) ، قال: ليس بصحيح، والعمل عليه، كان عبد الرزاق يقول: عن مَعْمر عن الزهري مرسلاً.
[و] معنى قول أحمد: "ضعيف": على طريقة أصحاب الحديث؛ لأنهم يضعفون بما لا يوجب تضعيفه عند الفقهاء، كالإرسال والتدليس والتفرد بزيادة في حديث لم يروها الجماعة، وهذا موجود في كتبهم: تفرد به فلان وحده، فقوله: "هو ضعيف"، على هذا الوجه وقوله: "والعمل عليه" معناه: على طريقة الفقهاء. وقد ذكر أحمد رحمه الله جماعة ممن يروي عنه مع ضعفه. فقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: قد يحتاج أن يحدث الرجل عن الضعفاء مثل عمرو ابن مرزوق (1) ، وعمرو بن حكام (2) ، ومحمد بن معاوية (3) وعلي بن
الجعد (1) ، وإسحاق بن أبي إسرائيل (2) ، ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم. وقال أيضاً في رواية ابن القاسم (3) في ابن لهيعة (4) : ما كان حديثه
بذلك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، أنا قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد. وقال في رواية المروزي: كنت لا أكتب حديثه -يعني جابر الجعفي (1) - ثم كتبته أعتبر به. فقال له مُهَنّا: لم تكتب عن أبي بكر بن أبي مريم (2) ، وهو
ضعيف؟ قال: أعرفه. والوجه في الرواية عن الضعفاء: أن فيه فائدة، وهو أن يكون الحديث قد روي من طريق صحيح. فيكون برواية الضعيف ترجيحاً، أو ينفرد الضعيف بالرواية، فيعلم ضعفة؛ لأنه لم يرد إلا من الطريق الضعيف فلا يقبل. فصل في بيان الكبائر من المعاصي فروى أبو بكر بإسناده في كتابه عن عبيد بن عمير (1) عن أبيه (2) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الكبائر تسع: الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة، وقذف المحصنة، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، والإلحاد بالبيت الحرام) (3) .
وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن (1) عن [142/أ] أبي هريرة قال [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الكبائر سبع: أولهن الإشراك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبروا، وفرار (2) من الزحف، وزنا بالمحصنات، وانقلاب إلى الأعراب بعد
الهجرة) (1) ، ويجب أن يكون من جملتها السرقة؛ لأن القطع أعظم من الجلد في الزنا، وكذلك شرب الخمر. وقد حَدّ أحمد رحمه الله الكبائر: بما يوجب حداً في الدنيا ووعيداً في الآخرة، فقال في رواية جعفر بن محمد (2) : سمعت سفيان بن عيينة يقول في قوله تعالى: (إلا اللمَمَ) (3) قال: ما بين حدود الدنيا والآخرة. قال أبو عبد الله: حدود الدنيا مثل السرِق والزنا، وعد أشياء، وحد الآخرة: مايحد في الآخرة، واللمم: الذي بينهما. قال أبو بكر في تفسيره لقوله تعالى: (إنْ تَجْتنبوا كبائر مَا تنهون) (4) ، قد روي أنها سبع.
وروى عبد الله بن أنيس الجهني (1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من الكبائر: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس) (2) ، قال: فما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه [وسلم] الشرك بالله. وعقوق الوالدين، وقتل النفس المحرم قتلها، وقول الزور، وقد يدخل في قتل النفس المحرمة: قتل الرجل ولده، من أجل أنه يطعم معه، والفرار من الزحف، والزنا بحليله الجار. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (هي سبع) ، يكون معنى قوله: (سبع) على التفصيل، ويكون معنى قوله في الخبر الذي روي عنه أنه قال: (وهي الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور) (3) على الإجمال، إذا كان قوله: (وقول الزور) يحمل (4) على معان شتى، وإن جمع ذلك قول الزور، فأما أبو بكرة (5) ومن جلد معه، فلا يرد خبرهم؛ لأنهم جاؤوا مجيء
الشهادة، وليس بصريح في القذف، وقد اختلفوا في وجوب الحد، ويسوغ فيه الاجتهاد، ولا ترد الشهادة بما يسوغ فيه الاجتهاد. ولأن نقصان العدد معنى من جهه غيره، فلا يكون سبباً في رد شهادته. عدنا إلى ذكر الشرائط التي يقبل معها الخبر، وقد ذكرنا منها شرطين أحدهما العقل والثاني العدالة. الثالث: أن لا يكون مبتدعاً يدعو إلى بدعة. لأنه إذا دعى إلى بدعة، لا يؤمن أن يضع لما يدعو إليه حديثاً يوافقه. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الأثرم، وقد ذكر له: أن فلاناً أمر (1) بالكَتْب عن سعد العَوْفي (2) ، فاستعظم ذلك، وقال: جهمي، ذاك امتحن فأجاب قبل أن يكون ترهيب. وقال في رواية أبي داود: احتملوا من المرجئة الحديث، ويكتب عن القدري، إذا لم يكن داعية. الرابع: [142/ب] أن يكون ضابطاً لما ينقله. لأنه متى لم يضبط، غيَّر اللفظ والمعنى.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي: لا ينبغي للرجل إذا لم يعرف الحديث أن يحدث به، ثم قد صار الحديث يحدث به من لا يعرفه. وقال في الكبير لا يعرف الحديث ولا يعقل: إذا كتب، فلا بأس أن يرويه. الخامس: أن يكون بالغاً: لأن من لم يبلغ لا رغبة له في الصدق، ولا حذر عليه في الكذب؛ لأنه لا عقاب عليه، فحاله دون حال الفاسق؛ لأن الفاسق قد يرجو ثواباً، ويتجنب ذنوباً يخشى العقاب عليها، ولا يقبل خبر الفاسق، فالصبي أولى. ولأنا لما نقبل إقراره على نفسه، لم نقبله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأما تحمله الخبر، إذا كان عاقلا مميزاً، ورواه بعد، بلوغه، فجائز لإجماع السلف على عملهم بخبر ابن عباس، وابن الزبير (1) ، والنعمان بن بشير (2) ، وغيرهم من أحداث الصحابة.
ولأنه، لما جاز أن يتحمل الشهادة قبل بلوغه، ويؤديها بعد بلوغه، مع ضيق الشهادة، فأولى أن يتحمل الخبر ويؤديه بعد بلوغه، مع سعة الخبر. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث، والمروذي وحنبل: يصح سماع الصغير إذا عَقَل وضبَطَ. وقد روى البخاري (1) في صحيحه عن محمد بن يوسف (2) عن أبي مِسْهَر (3)
عن محمد بن حرب (1) عن الزبيدي (2) عن الزهري عن محمود بن الربيع (3) قال: (عَقَلْت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مَجّةً مَجّهَا في فيَّ، وأنا ابن خمس سنين) (4) ، وهذا يدل على أن ابن خمس يعقل ويضبط، فيصح سماعه. فأما الذكورية: فلا تعتبر؛ لأن النساء نقلن الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا تعتبر الحرية؛ لأن الحديث موضوع على حسن الظن بالراوي، لأنه يروي ما يشترك فيه المخبِر والمخبَر.
ولا يعتبر فيه البصر، لأن الشهادة مع تأكدها، يصح تحملها وأداؤها من الضرير على أصلنا، فأولى أن يصح الخبر مع سعته. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية عبد الله في سماع الضرير البصير: إذا كان يحفظ من المحدث فلا بأس، وإذا لم يكن يحفظ فلا، وقال: الأمي بهذه المثابة إلا ما حفظ من الحديث. [حكم الرواية عن أصحاب الرأي] قال أحمد رحمه الله في رواية أصحاب الرأي: لا يروى عنهم الحديث (1) . وهذا محمول على أهل الرأي من المتكلمين، كالقدرية ونحوهم (2) . [حكم الرواية عن الجندي] وقال في رواية المروذي وقد سأله: يكتب عن الرجل، إذا كان جندياً؟ فقال: أما نحن فلا نكتب عنهم. وكذلك قال في رواية إبراهيم بن الحارث: إذا كان الرجل في الجند، لم أكتب عنه. وهذا محمول على طريق الورع؛ لأن الجندي لا يتجنب المحرمات في الغالب.
[حكم الرواية عمن أجاب في المحنة] وقال في رواية محمود بن غيلان (1) : [لا] أحب أن أحدث عمن أجاب، يعني في [143/أ] المحنة (2) . وقال في رواية حجاج الشاعر (3) : أما أنا فلا أكتب عمن أجاب في المحنه. وهذا على ظاهره؛ لأن من أجاب من غير إكراه كان مختاراً للبدعة. [حكم الرواية عمن يبيع العِينَة أو يأخذ الأجرة على الحديث] وقال في رواية سَنَدي الخَواتيمي: لا يعجبني أن يكتب الحديث عن معينٍ (4) . يعني يبيع هذه العينة.
وقد قال في رواية حُبَيش (1) وسلمة بن شبيب (2) : لا نكتب عن هؤلاء الذين يأخذون الدراهم على الحديث ويحدثون، ولا كرامة. وهذا على طريق الورع؛ لأن بيع العينة، وأخذ الأجرة على رواية الحديث، مما يسوغ فيه الاجتهاد، وما يسوغ فيه الاجتهاد لم يفسق فاعله. [التدليس] فأما التدليس (3) فإنه يكره (4) ، ولكن لا يمنع من قبول الخبر.
وصورته: أن ينقل عمن لم يسمع منه، يوهم أنه قد سمع منه، مثل أن يكون عاصر الزهري، ولم يسمع منه، لكنه سمع عن رجل عنه، فأتي بلفظ يوهم أنه سمعه من الزهري بلا واسطة، فيقول: روى الزهري أو قال الزهري: عروة (1) ، أو عن عروة، فكل من سمع هذا يذهب إلى أنه سمعه من الزهري بلا واسطة (2)
وكذلك إذا سمع الخبر من رجل معروف بعلامة مشهورة، فعدل عنها إلى غيرها من أسمائه، مثل أن يكون مشهوراً بكنية، فيروي عنه باسمه، أو كان مشهوراً باسمه، فيروي عنه بالكنية، حتى لا يعلم من الرجل (1) ؟.
فكل هذا مكروه، نص عليه في رواية حرب فقال: أكره التدليس، وأقل شيء فيه: أنه يتزين للناس (1) ، أو يتزيد (2) شك حرب. وكذلك نقل الميموني عنه: لا يعجبني التدليس، هو من الريبة. وكذلك نقل مهنا عنه: التدليس عيب. وإنما كان مكروهاً؛ لأنه يوهم أنه كان سمع منه، وما كان سمع، ولأنه يفعل ذلك كراهيه التواضع في الحديث أوله (3) ، ومن كره التواضع في الحديث فقد أساء، وهذا معنى قول أحمد رحمه الله: "يتزين". [حكم الحديث المدلس] وإذا ثبت أنه مكروه، فإنه لا يمنع من قبول الخبر، نَص عليه في رواية مُهَنّا وقيل له: كان شعبة (4) يقول: التدليس كذب، فقال أحمد رحمه الله: لا، قد دلس قوم نحن نروي عنهم.
وقال عبد الله: سمعت أبي وذكر يعني عمر بن علي بن مقدم (1) فأثنى عليه خيراً، وقال: كان يدلّس. وذهب قوم من أصحاب الحديث: إلى أنه لا يقبل خبره؛ لأنه يروي عمن لم يسمع، فهو كما لو قال: قال الزهري، وما سمع منه. وهذا غلط؛ لأنه ما كذب فيما نقل، بل كان ما قاله صدقاً في الباطن، إلا أنه أوهم [في خبره و] (2) من أوهم في خبره لم يرد خبره، كمن قيل له: حججت؟ فقال: لا مرة ولا مرتين، يوهم أنه حج أكثر، وحقيقته أنه ما حج أصلاً، فلا يكون كذباً. ويفارق هذا إذا حدث عمن لم يسمع منه، فقال: حدثني؛ لأنه كذب فيما قال، ومن كذب في الحديث سقط حديثه، فلهذا لم يسمع [143/ب] حديثه. وقال محمد بن مخلد: حدثنا حمدان بن علي الورّاق (3) قال: سمعت
أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: كان حجاج بن أرطاة (1) يقول لهم: لا تقولوا من حدثك؟ ولكن من أخبرك؟ قولوا: من ذكره يا أبا (2) أرطاة. فصل فإن روي العدل عن العدل خبراً، ثم نسي (3) المروي عنه الخبر، فأنكره، لم يجب اطراح الخبر، ووجب العمل به في إحدى الروايتين. وهو قول أصحاب الشافعي (4) .
وفيه رواية أخرى: يرد الخبر، ولا يجوز العمل به. وقد نَصّ أحمد رحمه الله على الروايتين في إنكار الزهري روايته حديث عائشة في الولي (1) ، فقال في رواية الأثرم، فيما ذكره في كتاب "العلل": قلت لأبي عبد الله: يضعف الحديث عندك بمثل هذا: إن حدث الرجل الثقة بالحديث عن الرجل، فيسأل عنه فينكره ولا يعرفة؟ فقال: لا، ما يضعف عندي بهذا، فقلت: مثل حديث الولي، ومثل حديث اليمين مع الشاهد، فقال: قد كان مَعْمَر يروي عن ابنه عن نفسه عن عبد الله بن عمر. وكذلك نقل الميموني عنه لما ذكر له حديث الزهري وما قاله، فقال: كان ابن عيينة يحدث بأشياء (2) ، ثم قال: ليس من حديثي ولا أعرفه، وقد (3) يحدث الرجل ثم ينسى. وكذلك نقل أبو طالب عنه أنه قال: يجوز أن يكون الزهري حدث به ثم نسيه، فقد نص على قبوله (4) . ونقل عنه خلاف هذا، فقال أبو الجود (5) : قلت لأبي عبد الله: أيما امرأة زُوجت بغير ولي؟ فقال: لا أحسبه صحيحاً؛ لأن إسماعيل قال:
[قال] (1) ابن جريج: لقيت الزهري وسألته [عنه] (2) ؟ فقال: لا أعرفه. وكذلك نقل حرب عنه: أنه سئل عن حديث الولي، فقال: لا يصح؛ لأن الزهري سئل عنه فأنكره. فالدلالة على وجوب العمل به: أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن (3) روي عن سهيل بن أبي صالح (4) عن أبيه (5) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه قضى باليمين مع الشاهد) (6) ، ثم
نسيه سهيل، فكان يقول: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويروي هكذا، ولا ينكره أحد من التابعين، ولا يخالفه مخالف منهم، فدل على جوازه. ولأن المروي عنه غير عالم ببطلان روايتة، والراوي عنده ثقة، فوجب تصديقه والعمل بخبره، كما يجب على سائر الناس، إذا لم ينس المروي عنه، فيكون المروي عنه في هذه الحالة بمنزلة سائر الناس. ولأن النسيان الطاريء عليه لم يقدح في عدالته حال روايته، ولا أثر فيها، فلم يوجب رد خبره، وإن خرج عن كونه ذاكراً له، كما لو طرأ عليه جنون أو مرض. واحتج المخالف: بأنه لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين، فقال شاهدا الأصل: لا نذكر ولا نحفظه، لم يجز للحاكم أن [144/أ] يحكم بشهادتهما. وكذلك الخبر. وكذلك الحاكم إذا ادعى رجل أنه قضي له بحق على فلان، ولم يذكر القاضي، فأحضر المدعي بينه على حكمه، لم يرجع إليها، كذلك ها هنا. والجواب: أنا لا نسلم هذا في القاضي، بل نقول: يرجع. وأما شهود الفرع، فإنما لم تسمع شهادتهم؛ لما ذكرنا من أن الشهادة أغلظ حكماً، وأضيق طريقاً من الخبر، وقد بينته فيما مضى. واحتج: بما روي أن عماراً (1) قال لعمر بن الخطاب في باب جواز
التيمم للجنب: أما تذكر أنا كنا في الإبل، فأجْنَبْت، فَتمَعّكْت بالتراب، ثم سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنما يكفيك أن تضرب بيديك) (1) فلم يقبل عمر من عمار، مع كونه عدلاً ثقة. والجواب: أن عمر قبل قول الهرمزان أنه أمنه، لما شهد له بذلك أنس وغيره (2) . نقل من كتاب "الإيمان" تصنيف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال عبد الله: سمع أبي يقول: سمعت حماداً (3) يقول: عمير بن
يزيد (1) ليس فيه عن أبيه، فقلت: إنك حدثتتي عن أبيه عن جده، فقال: أحسب أنه عن أبيه، وهذا يدل على أنه رجع إلى رواية أبيه عنه. وجملة ما ذكرناه مما رد به الخبر، فهو لأجل المخبِر، وهو أن ينقله ثقة عن ثقة، فإنه يرد بأحد خمسه أشياء: أحدها: أن يخالف موجبات العقول، كقوله: إن الله خلق نفسه. الثاني: أن يخالف نص كتاب الله أو سنة متواترة، فإنه يرد؛ لأنه دليل مقطوع به، فلا يعارضه ما هو غير مقطوع به. الثالث: أن يكون بخلاف الإجماع؛ لأن الإجماع دليل مقطوع [به] ؛ ولأنه إذا خالف الإجماع كان دليلاً على نسخه؛ لأنه لو كان ثابتاً لما خرج عن الأمة. الرابع: أن يروي ما يجب على الكافة علمه، مثل أن يروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى أبي بكر أو إلى عثمان أو إلى علي، فإذا انفرد الواحد بنقل مثل هذا كان مردوداً.
فإن قيل: أليس ما يعمّ به البلوى يفتقر إليه كل أحد، ومع هذا يثبت بخبر الواحد؟ قيل: كل أحد مفتقر إلى العمل به، لا إلى علمه، فلهذا ثبت بخبر الواحد، وليس كذلك ثبوت الخلافة والعهد إلى واحد؛ لأن على كل واحد أن يعرفه ويعلمه نطقاً، فلهذا لم يثبت بخبر الواحد. الخامس: أن ينفرد بما جرت العادة في نقلة بالتواتر، مثل أن ينفرد بنقل أن الخطيب سقط يوم الجمعة من المنبر، فالعادة جرت بأن الواحد لا ينفرد بنقله، فإذا انفرد هو به عَلِمْناه بخلاف العادة، فرددناه. وهذا في العلل التي رد لها خبر الواحد. فأما الأسباب الموهمة التي لا يرد لأجلها خبر الواحد: منها: أن تلحقه غفلة في وقت، فإن خبره لا يرد؛ لأن [144/ب] أحداً لا ينفك عن أن تلحقه غفلة (1) في وقت، بل إن روى خبراً في حال غفلته، لم يثبت خبره. وقد قال عبد الله: قلت لأبي: إن بشر بن عمر (2) زعم أنه سأل مالكاً عن صالح مولى التّوْأَمة (3) ، فقال: ليس بثقة. قال أبي: مالك أدرك
صالحاً وقد اختلط، وهو كبير، ما أعلم به بأساً، من سمع منه قديماً، قد روى عنه أكابر أهل المدينة، نقلت ذلك من كتاب أبي بشر محمد بن أحمد الدُّولابي (1) . ومنها: أن يضطرب بعض حديثه، فلا يرد خبره؛ لأن كل أحد لا يقدر علي ضبط ما سمعه كله، بل يكون ببعضه أضبط من بعض. ومنها: أن ينفرد (2) بنقل حديث واحد، لا يروي غيره، فلا يرد حديثه، لجواز، أن ينفرد به عن كل واحد، كأنه حدثت له حادثة، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه عنها. ومنها: أن لا تعرف له مجالسه مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يرد خبره؛ لأنه قد يجالسه، فلا، يعرف ذلك منه، وقد يأخذ الحديث عنه من غير مجالسة. ومنها: أن يروي حديثاً، وفعل رسول الله صلى الله عليه [وسلم] يخالفه، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لاَ يَنْكح المحرم ولا يُنْكح) (3) ثم يروي عنه ابن عباس: أنه
نكح ميمونة، وهو محرم (1) ؛ فلا يرد به خبره، لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قد يفعل ما هو خاص له دون أمته، فلا يستدل به على رد خبره. ومنها: أن يروي حديثاً يخالفه فيه أكثر الصحابة، فلا يرد لذلك، لجواز أن يخفي عليهم ما عرفه، فيكون الحق معه دونهم. ومنها: أن يكون معروفاً باللقب، وقد اختلف اسمه، كالحذا (2)
مسألة
ونحو ذلك، فلا يرد خبره؛ لأنه متفق عليه، وإنما وقع الاختلاف فيما لا يكون به كل مجهولاً. ومنها: أن ينسى بعض حديثه، فذُكِّر فعاد إليه، فلا يرد حديثه لذلك؛ لأن الإنسان قد ينسى الشيء، ثم إذا ذُكر تذكر، بلى إن روى حديثاً، لا أصل له، وقال: نقلته على بصيرة مني بذلك، فهو مردود الحديث لأنه قد أخبر عن نفسه بالكذب على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . فإن روى حديثاً، لا أصل له، وقال: سهوت فيه، أو أخطأت، قبل خبره؛ لأنه قد يجوز عليه السهو والغلط. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية حرب: في الرجل إذا سها في الإسناد، فأخطأ فيه، ولا يتعمد ذلك: أرجو أن لا يكون به بأس. مسألة (1) [رواية الحديث بالمعنى] والمستحب رواية الحديث بألفاظه، فإن نقله على المعنى، وأبدل اللفظ بغيره بما يقوم مقامه، من غير شبهة ولا لبس على سامعه، جاز، إذا كان عارفاً بالمعنى، كالحسن ونحوه، مثل أن يقول بدل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صبوا
دليلنا:
عليه ذنوباً من ماء) (1) : أريقوا عليه ذنوباً (2) من ماء. وقد نصّ أحمد رحمه الله على هذا في رواية حرب والميموني والفضل ابن زياد [145/أ] وأبي الحارث ومُهَنّا، كل عنه: تجوز الرواية على المعنى وقال: ما زال الحفاظ يحدثون بالمعنى. وحكي عن ابن سيرين وجماعة من السلف: أنه يجب نقل اللفظ على صورته، وحكاه أبو سفيان عن أبي بكر الرازي. دليلنا: ما حدثنا أبو محمد الخلال (3) بإسناده عن ابن مسعود قال: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك تحدثناً حديثاً، لا نقدر أن نسوقه، كما نسمعه، فقال: (إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث) (4) ، وهذا نص.
ورأيت بخط عتيق: أنبأنا مسند (1) عن مكحول (2) قال: دخلنا على واثلة بن الأسقع (3) فقلنا: حدثنا حديثاً ليس فيه تقديم وتأخير، فغضب، وقال: لا بأس إذا قدمت أو أخرت، إذا أصبت المعنى (4) . ولأن المقصود من السنة حكمها دون له لفظها، فإذا أتى بمعناها جاز الإخلال باللفظ، فلو سمع إقرار رجل بالفارسية جاز له أن ينقل إقراره إلى الحاكم بالعرب، وكذلك المترجم بالمعنى.
فإن قيل: إنما جاز ذلك؛ لأن الحاكم يمكنه أن يتثبت ذلك، ويتعرف ما نقله إليه الشاهد والمترجم [و] لا يمكن ذلك في خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قيل: فيجب أن يخبر الرواة على المعنى في خبرهم (1) للنبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ لأنه يتوصل إلى معرفة ذلك، وعندك لا يجوز. وأيضاً: لما كان نقل الحديث من غير النبي [صلى الله عليه وسلم] بلفظ آخر، كذلك في الرواية عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ألا ترى أنهما اتفقا في منع الروية على وجه لا يأمن المخبر أن يكون كاذباً فيه؟ فإن قيل: الكذب على النبي [صلى الله عليه وسلم] يعظم ما لا يعظم على غيره. قيل: إن اختلفا من هذا الوجه، فلم يختلفا في قبح الكذب عليهما، واختلافهما في عظم المأثم لا يوجب اختلافهما في الجواز، كما أن المعصية الصغيرة والكبيرة لا يختلفان في المنع، وإن اختلفا فيما يستحق عليهما من العقاب. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رحم الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، وأدّاها كما سمعها) (2) .
والجواب: أن المقصود به الاستحباب. واحتج: بأنه لما كان لفظ القرآن والأذان في التشهد شرطاً، كذلك لفظ الحديث. والجواب: أن القرآن لفظه مقصود لما فيه من الإعجاز، ولما يستحق في قراءته من الثواب، فكذلك لم يجز الإخلال به، وكذلك الأذان، القصدُ منه الإعلام. [و] إذا أخلّ بلفظه، لم يحصل المقصود وإن قاسوا عليه، إذا لم يكن الراوي ضابطاً، فالمعنى فيه أنه ربما غير الحكم. [145/ب] . فصل (1) نقلت من خط أبي حفص البرمكي (2) تعليقاً مما كان على مسائل صالح
سمعت عمر المغازلي (1) يقول: قال أحمد بن حنبل: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . وقال النبي [صلى الله عليه وسلم] واحد، فألزمه بعض أصحابنا حديث البَرَاء ابن عازب (2) : (ورسولك الذي أرسلت، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت) (3) قال: هذا لا يلزم؛ لأنه كان نبياً ثم أرسل، فقال: "ونبيك الذي أرسلت"، ولم يقل: "وبرسولك الذي أرسلت"، لأنه لا تكون رسالة بعد رسالة، وإنما أراد رسالة بعد نبوة، فقد [أجاز] (4) عمر بن
مسألة
بدر (1) : أن التابعي إذا سمع رجلاً، من أصحاب النبي صلى الله عليه [وسلم] يقول: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وروي عنه قال: قال النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أو سمعه يقول: قال النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، أن ذلك جائز؛ لأن القصد من الرواية أن يعلم أن هذا الخبر مرفوع عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وهذا المعنى يحصل بكل واحد من اللفظين، والرسول والنبي في هذا المعنى واحد. ويبين صحة جواز رواية الخبر على المعنى، وهذا موجود ها هنا، وقد أجاب (2) عمر بن بدر عن الحديث المروي عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، (آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت) وأنه لا يجعل مكان نبيك رسولك؛ لأن المعنى يختلف، وذلك أن الرسالة تطرأ على النبوة، ولا تطرأ رسالة على رسالة، فلهذا لم يجعل موضع النبي: الرسول. مسألة (3) إذا وجد سماعه في كتاب، ولم يذكر أنه سمعه، جاز روايته. أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله في مواضع: فقال في روارية مُهَنّا: إذا كان يحفظ الشيء، وفي الكتاب شيء فالكتاب أحب إليّ. فقد اعتبر ما في الكتاب، وإن كان حفظ غيره. وكذلك في رواية الحسين بن حسان في الرجل يكون له السماع مع الرجل، فلا بأس أن يأخذه بعد سنين، إذا عرف الخط. وكذلك نقل الحسين بن محمد بن الحارث عنه: إذا عرف خطه فلا
دليلنا:
يشهد عليه إلا ما يحفظه، إلا أن يكون منسوخاً عنده في حرزه، فكأنه إذا كان عنده مكتوباً في حرزه، شهد به وإن لم يحفظه، ثم قال: كتاب العلم أيسر (1) ، يعني يشهد عليه، قيل له (2) : إذا أعار (3) كتاب العلم، فقال: [لا] بدّ من أن يفعل ذلك، إذا أعاره من يثق به، قيل له: فإن لم يثق به: كل ذاك أرجو أن لا يحدث فيه، فإن الزيادة في الحديث ليس تكاد تخفي، وكأنه رأى ذلك أوسع من الشهادة. وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد (4) . وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يرويه، إذا لم يذكر سماعه. دليلنا: [146/أ] : أن الأخبار مبني أمرها على حسن الظن والمسامحة ومراعاة الظاهر من الحال، ألا ترى أنه لا يشترط فيها العدالة في الباطن ويقبل فيها قول العبيد والنساء وحديث العنعنة، والظاهر من حال السماع الموجود الصحة، فجاز العمل عليه.
وأيضاً: رجوع الصحابة إلى كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمل عليها من أدل الدليل على الرجوع إلى الخط والكتاب. واحتج المخالف: بأنه، لما لم يجز أن يؤديَ الشهادة معتمداً على خطه من غير ذكره، كذلك الحديث، والمعنى فيه: أن الشاهد يحتاج إلى ذكر المشهود به، كما أن المخبر يحتاج إلى ذكر المخبر به. والجواب: أن الشهادة مبنى أمرها على التأكيد والتغليظ، فكذلك إذا وجد خطه، ولم يذكر، لم يشهد به. على أن الحسين بن محمد بن الحارث نقل عنه: أنه أجاز الشهادة، إذا عرف الخط، ولم يخرج عن يده، ولكن المذهب المشهور عنه: أنه لا يجوز، لما بينّا. واحتج: بأن الإخبار بما لا نأمن المخبر. أن يكون كاذباً فيه، يجري مجرى الإخبار بالكذب في القبح، فإذا لم يذكر أنه سمعه يحدث به، لم نأمن أن يكون كاذباً، وجب أن لا يجوز أن يحدث به، كما لا يجوز له ذلك لو علم أنه كاذب فيه. والجواب: أن هذا يوجب أن لا يجوز خبر الضرير فيما سمع؛ لأنه لا يأمن أن يكون كاذباً فيه؛ لأن الصوت قد يشبه الصوت، فيخبر عن رجل لم يسمع منه، وأنه شبه له صوته، وكذلك السماع من وراء حجاب، وقد أجازوا رواية الضرير، كذلك ها هنا، وقد نص أحمد رحمه الله على جواز رواية الضرير، وحكيناه فيما تقدم. فإن قيل: هناك يمكنه أن يشترط ما يأمنان الكذب فيه، بأن يخبرا عن ظنهما، فلا يقطعان على ما يحدثان به عن فلان. قيل: فاشترط مثل هذا في مسألتنا.
فصل في كيفية رواية الحديث بعد سماعه إذا قرأ المحدث عليه، قال: سمعته، وحدثني، وأخبرني، وقرأ عليّ؛ لأنه قد أخبره وحدثه وسمع منه وقرأ عليه، ولا فرق بين أن يقول له بعد ذلك: إروه عني، أو لا يقول. وكذلك إن أملى عليه المحدث، فالحكم فيه على ما مضى، ويزيد أملى عليّ. وقد نصّ على هذا رحمه الله فيما رأيته في آخر جزء فيه السنة لحرب، فقال: حدثه عبد الله بن أحمد بن معدان قال: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، فقيل له: يا أبا عبد الله إن عبد الرزاق كان لا يقول: حدثنا، فقال [146/ب] أحمد: حدثنا وأخبرنا عندنا واحد، إن كان سماعاً من الشيخ. وإن قرأ هو على المحدث فلم يسمع، أو قرأ عليه فأقرَّ به، قال: قُرِئ على فلان أو قَرأتُ علي فلان، ولا يجوز أن يقول: سمعتُ فلاناً، ولا أملى عليّ. وهل يجوز أن يقول: حدثني وأخبرني أو لا؟ فيه روايتان: إحدهما: لا يجوز، نص عليه في رواية إسحاق بن إبراهيم قال: سألته، وأنا أقرأ عليه شيئاً من الأحاديث أقول: حدثني أحمد؟ فقال: إن قال، فما أرى به بأساً: ولكن يقول: قرأت عليه، أحب إليّ، أريد به الصدق. فقد نصّ على جوازه، واختار أن يحكي الحال كما جرت. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي.
وفيه رواية أخرى: لا يجوز أن يقول: أخبرني ولا حدثني، ولكن يقول قُرِئ عليه، أو قَرأتُ عليه، نصّ عليه رحمه الله في رواية حنبل: وقيل له: سأل عوف الحسن فقال له: أقرأ عليك فأقول: حدثنا الحسن؟ قال: نعم، قال حنبل: سألت أحمد عن ذلك، فقال: لا، ولكن يقول: قَرأتُ. وبهذا قال بعضهم. ولا فرق بين أن يقول: هو كما قرأته عليك؟ فيقر به، وبين أن يقول: أرويه عنك؟ فيقول: أروه عني وأنه على الخلاف الذي حكينا. وذكر أبو إسحاق (1) في تعاليقه في كتاب "العلل": سمعت أبا محمد عبد الخالق بن الحسن بن محمد بن نصر السقطي (2) يقول: سألت ابن منيع (3) فيما يقرأه على الناس، ويقرأ عليه، فقال لى: سألت أحمد ابن حنبل عما سألتني عنه، فقال لي: إذا قرأ عليك، فقل: حدثنا، وإذا قرئ عليه [فقل] : حدثنا، فلان قراءةً عليه. وظاهر هذا يقتضي جواز القول فيما قُرِئ عليه، لكن بشرط أن يقرر قراءةً عليه.
وذكر أبو عبد الله محمد بن مخلد بن حفص العطار في جزء صنفه في الإجازة والمناولة والقراءة فقال: حدثنا سليمان بن الأشعث أبو داود قال: سمعت أحمد -يعني ابن محمد حنبل- يقول: أرجو أن يكون العرض لا بأس به، يعني قراءة الحديث على المحدث، قيل لأحمد: فكيف يعجبك أن يقول؟ قال: يعجبني أن يقول كما يفعل: إن قَرأَ يقول: قرأتُ (1) . قال: وسمعت أبا داود وسليمان بن الأشعث يقول: قلت لأحمد يعني ابن حنبل: كأن "أخبرنا" أسهل من "حدثنا"؟ قال: نعم، "حدثنا" شديد (2) . فإذا قلت: أيجوز أن يقول: أنبأنا وحدثنا؟ فتوجيهه أن إقراره بما قرىء عليه جواب عن الاستفهام، والجواب في الاستفهام "بنعم"، يقوم مقام خبره به، ألا ترى أن الحاكم إذا سأل المدعى عليه عن دعوي المدعي: هل عليك الحق الذي ادعاه عليك؟ فقال المدعى عليه: نعم، جاز للقاضي أن [147/أ] يقول: أقرَّ فلان عندي بكذا، فيكون قوله: "نعم" مقام إقراره بالحق الذي ادعى عليه. وكذلك إن قرأ الشاهد الكتاب على المشهود عليه، ثم قال له: أشهد عليك بما في هذا الكتاب؟ فقال المشهود عليه: نعم، جاز للشاهد أن يقول: أشهدني فلان على نفسه بكذا، فإذا كان كذلك، وثبت أن يكون قول المقروء عليه الحديث: نعم، بمنزلة إخباره (3) بما قرىء عليه وحدث به.
ورأيت بخط أبي حفص البرمكي تعليقاً على ظهر جزء، فيه "الرد على من انتحل غير مذهب أصحاب الحديث"، قال عبد العزيز: فقال: قراءتك على العالم، وقراءة العالم عليك سواء. واحتج من قال لا يجوز ذلك: بأن قول حدثني وأخبرني، ينبغي أن يكون المقروء عليه قد فعل الحديث والإخبار، وإذا لم يوجد منه ذلك، لم يجز للقارئ أن يقول: حدثني وأخبرني. والجواب: أنا قد بينا أن قوله: "نعم" بمنزلة فعله الإخبار والحديث في الأصول. واحتج: بأن جوابه في الاستئذان لأن يحدث عنه بنعم، أمر له بالحديث عنه، والأمر لا يكون خبراً عن المأمور به. والجواب: أنه لا فرق عند هذا القائل بين أن يكون جوابه في الرواية عنه، وبين أن يكون جواباً في الاستفهام عن صحة ما قرىء عليه. وقد بينا أن الجواب في الاستفهام بنعم، يقوم مقام الخبر به، إذا ثبت في أحد الموضعين أنه خبر وليس بأمر، ثبت في الموضع الآخر، لأن أحداً ما فرق بينهما. فإن قرأ عليه وهو ساكت لم يقرّ به، فالظاهر أنه إقرار؛ لأن سكوته مع سماع القراءة رضى منه بما قرأه وأمضاه، فجاز أن يقول: أخبرني وحدثني، كما لو أقر به، والأحوط أن يقول له: هو كما قرأته عليك، أو قرئ عليك؟ فإذا قال: نعم، حَدّث به عنه. فإن قال المحدث: أخبرنا فلان فهل يجوز للمستمع أن يروي عنه فيقول: قال حدثنا فلان، فيجعل مكان أخبرنا حدثنا، ومكان حدثنا أخبرنا؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز؛ لأنه يحكي عنه خلاف اللفظ الذي سمعه منه. وقد نصّ على هذا في رواية حنبل فقال: إذا قال الشيخ: حدثنا قلت حدثنا، تتبع لفظ الشيخ، إنما هو خبر، ولا تقول لأخبرنا: حدثنا، ولا لحدثنا: أخبرنا، على لفظ الشيخ. وفيه رواية أخرى: يجوز؛ لأن المعنى فيهما واحد؛ لأن المحدث له هو مخبر له في التحقيق، وكذلك المخبر هو محدث في الحقيقة. وقد نصّ على هذا فيما حدثنا به أبو محمد الحسن بن محمد (1) قال: سمعت محمد بن رزق قال: سمعت جعفر بن هارون النحوي يقول: سمعت عبد الله بن أحمد الكسائي قال: سمعت أحمد بن [147/ب] عبد الجبار (2) يقول: سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: حدثنا وأخبرنا واحد. وهو اختيار أبي بكر الخلال؛ لأنه لما ذكر رواية حدثنا في المنع، قال: قد سهل أبو عبد الله في هذا المعنى على جواز رواية الحديث علي المعني. فإن قال له: قد أجزت لك أن تروي هذا الحديث عني، أو ما صح عندك من حديثي، جاز أن يقول: أجاز لي فلان، وأَخبرني فلان إجازة فيما صح عنده من سماعه، ولا يقول: حدثني ولا أخبرني مطلقاً؛ لأنه لم يخبره؛ وإنما أجازه إجازة. وكذلك إذا ناوله كتاباً فيه حديث، وقال له: قد أجزت لك أن
تؤدي عني ما فيه من الحديث، جاز أن يقول: ناولني فلان، أو أخبرني فلان مناولةً. وكذلك إذا كتب إليه بحديث جاز أن يقول: كتب إلي فلان، أو أخبرني فلان مكاتبةً. وقد نصّ أحمد رحمه الله على هذا فقال في رواية المروذي: إذا أعطيتك كتابي، وقلت لك: اروه عني، وهو من حديثى، فلا تبال سمعته أو لم تسمعه. وقال أبو بكر الخلال (1) : أخبرني أبو المثنى العنبري أن أبا داود حدثهم: أن أبا عبد الله قال: لم أسمع من أبي توبة (2) شيئاً (3) ، [وإنما] كتب إليّ بأحاديث.
قال أبو بكر الخلال: وكان محمد بن عوف الحمصي (1) يحدثنا كثيراً، فيكثر فيما نسمع منه من المسند خاصةً، فيقول: أخبرني أبو ثور (2) في كتابه إليّ. وقال عبد الله: رأيت عبد الرحمن المتطبب (3) جاء الى أبي، فقال: يا أبا عبد الله أخبرني هاذين الكتابين، فقال له: ضعهما، فأخذهما أبي، فعارض بهما حرفاً حرفاً، فلما جاء دفعهما اليه، وقال: قد أجزت لك هذه بهذا. وبهذا قال أصحاب الشافعي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف -فيما حكاه أبو سفيان عنهما-: لا
دليلنا على جواز الرواية في الإجازة والمناولة والمكاتبة على الوجه الذي ذكرنا:
تجوز الرواية بالإجازة والمناولة والمكاتبة، سواء قال حدثني به إجازةً أو مناولةً أو مكاتبةً، أو لم يقل ذلك. وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي أنه قال: إن قال الراوي لرجل: قد أجزت لك أن تروي عني جميع ما في هذا الكتاب، فاروه عني، فإن كانا عَلِمَا ما فيه جاز له أن يروي عنه، فيقول: حدثني فلان، وأخبرني فلان، كما أن رجلاً لو كتب صكّاً، والشهود يرونه، ثم قال لهم: اشهدوا علىّ بجميع ما في هذا الكتاب، جاز لهم إقامة الشهادة عليه بما فيه. وأما إذا لم يعلم الراوي ولا السامع ما فيه، فإن الذي يجب على مذهبنا: لا يجوز له أن يقول: أخبرني فلان، كما قالوا في الصك، إذا أشهدهم وهم لا يعلمون ما فيه لم تصح الشهادة، وكذلك إذا قال له: قد أجزت لك ما يصح عندك من صك فيه إقراري، فاشهد به علىّ، لم يصح. قال: وإن علم المكتوب إليه أن هذا كتاب فلان إليه، جاز له أن يقول: أخبرني [148/أ] فلان، يعني الكاتب، ولا يقول حدثنا. دليلنا على جواز الرواية في الإجازة والمناولة والمكاتبة على الوجه الذي ذكرنا: أنه ليس فيه أكثر من أنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث، وهذا لا يمنع الرواية عنه، كما لو قرئ عليه الحديث فأقر به، فإنه لم يوجد منه فعل الحديث، ومع هذا فإنه تصح الرواية عنه، كذلك ها هنا. فإن قيل: هناك وجد منه ما هو في حكم الحديث، وهو إقراره به. قيل: إقراره به ليس من فعل الحديث من جهته، وإنما هو إقراره بأنه سماعه، وهذا المعنى موجود ها هنا. ولأن أمر الأخبار مبنى، على حسن الظن والظاهر، ولهذا قبل فيها
العبيد والنساء وقول الواحد، والظاهر من حال الخط أنه صحيح لا يشتبه [فيه] ، فجازت الرواية به. واحتج المخالف: بأنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث، ولا ما هو في حكم الحديث؛ لأنه لم يحدث به، ولا قرئ عليه، فلم يجز أن يقول: حدثني ولا أخبرني. والجواب: أنه يبطل به، إذا قرئ عليه، فأقرَّ به. واحتج: بأن الشهادة على الشهادة لا تقبل في مثل هذا؛ لأنه لو كتب شاهدان إلى شاهدين: اشهدا على شهادتنا لم يجز، كذلك الأخبار. والجواب: أن الأخبار (1) أمرها مبني على حسن الظن. فإن كانت الإجازة مطلقة لجميع من أراد، جاز. وقد رأيت ذلك بخط أبي حفص البرمكي، أو بخط والده أحمد بن إبراهيم البرمكي (2) في حاشيه الورقة الأولى من جزء خرجه أبو بكر عبد العزيز ترجمه: "الرد على من انتحل [غير] (3) مذهب أصحاب الحديث"، فقال: سمعت هارون بن موسى (4) وأجازه الشيخ معي جميع
مسألة
ما خرج عنه لجميع من أراده، وذلك أن الراوية بالإجازة إنما تصح لما صح عنده من حديثه، وهذا المعنى موجود في المطلقة والمقيدة. فإن روى حديثاً عن غيره فقال: حدثني فلان عن فلان، حمل على أنه سمع ذلك منه من غير واسطة، ويكون خبراً متصلاً. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي الحارث وعبد الله: ما رواه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو [ثابت] (1) ، وما رواه الزهري عن سالم عن أبيه، وداود عن أشعث عن علقمة عن عبد الله، ثابت. وبهذا قال أصحاب الشافعي. ومن الناس من قال: حديث العنعنة غير صحيح؛ لأن قول عبد الرزاق عن مَعْمَر، يحتمل: أن يكون غير مَعْمَر، وهو عنه على ما روى، ولكن لا لأنه سمعه منه. وهذا غلط؛ لأن الظاهر من حال الراوي إذا قال: حدثني فلان عن فلان، أن كل واحد منهم سمع ذلك من [148/ب] الذي روى عنه من غير واسطة، فإنه لو كان واسطة لذكره وما أدرجه، فحمل الأمر على ذلك، ووجب العمل بالخبر. مسألة إذا روى صحابي عن صحابي خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لزمه العمل به،
فإن لقي المروي له النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك، لم يلزمه أن يسأله عن الخبر، بل يقتصر على السماع الأول. وقال بعض الناس: يلزمه أن يسأله عن ذلك. وهذا غلط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث العمال والسعاة والمعلمين والحكام إلى البلاد، وكان الناس يرجعون إلى قولهم ويتعلمون منهم، ويقدمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يسألونه عن شيء من ذلك، بل يقتصرون على ما عرفوه من جهة رسله، فثبت: أنه لا يجب الرجوع إليه ومساءلته. واحتج المخالف: بأن لهم طريقا إلى معرفة الحكم من جهة الرسول قطعاً، ومعرفته من جهة الصحابي غير مقطوع عليه، فلم يجز ترك القطع والاقتصار على غلبة الظن. والجواب: أنه ليس يمنع مثل هذا في أحكام الشرع، ألا ترى أن الإنسان يجوز له ترك التوضؤ بالماء من وسط النهر، ويتوضأ من ماء في إناء على طرف النهر. فصل فيمن يقع عليه اسم الصحابي ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن اسم الصحابي مطلق على من رأى النبي عليه السلام، وإن لم يختص به اختصاص المصحوب، ولا روى عنه الحديث؛ لأنه قال في رواية عبدوس بن مالك العطار (1) : أفضل الناس
دليلنا:
بعد أهل بدر القرن الذي بعث (1) فيهم، كل من صحبه سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه، فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، فقد أطلق اسم الصحبة على من رآه، وإن لم يختص به. وحكى أبو سفيان عن بعض شيوخه: أن اسم الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي صلى الله عليه [وسلم] واختص به اختصاص الصاحب بالمصحوب سواء روى الحديث أو لم يروه، وأخذ العلم أو لم يأخذه، فاعتبر تطاول الصحبة في العادة. وذكر أبو سفيان عن أبي سفيان عمرو بن بحر: أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - واختلاطه به، وأخذ العلم، وهذا القائل اعتبر طول الصحبة ونقل العلم. وحكى الإسفراييني: أن الصحبة في العرف: عبارة عمن صحب غيره، فطالت صحبته له ومجالسته معه. دليلنا: أن الصحبة في اللغة: من صحب غيره قليلاً أو كثيراً، ألا ترى أنه يقال: صحبت فلاناً، وصحبته ساعة؟ ولأن ذلك الاسم مشتق من الصحبه (2) ، وذلك يقع على القليل والكثير، [149/أ] كالضارب مشتق من الضرب، والمتكلم مشتق من الكلام، وذلك يقع على القليل والكثير، كذلك ها هنا.
ولأنه ليس يحتاج في إطلاق هذا الاسم إلى من قد روى الحديث عنه صلى الله عليه [وسلم] وأخفى العلم عنه؛ لأن جماعة من الصحابة قد امتنعوا من رواية الحديث، ولم يكن ذلك مانعاً من إجراء هذا الاسم عليهم. يبين صحة هذا: أن دواعيهم كانت مختلفة، وكان بعضهم لا يرى الرواية، وكانوا يؤثرون الاشتغال بالجهاد على الرواية. قال السائب بن يزيد: صحبت سعد بن أبي وقاص زماناً، فما سمعت منه حديثاً، إلا أني سمعته ذات يوم يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق، والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي) . وكذلك أخذ العلم منه لا يكون شرطاً في استحقاق هذه التسمية؛ لأن من اختص بغيره فإنه يطلق عليه أنه صاحب فلان، وان لم يأخذ منه العلم. واحتج المخالف: بأن عادة الأمة جارية بإطلاق هذا الاسم على من اختص بالنبي [صلى الله عليه وسلم] ، والمنع من إطلاقه على من لم يختص به، وإن كان قد رآه وسمع منه، كمن ورد عليه من الوفود والرسل (1) ومن يجري مجراهم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون هذا الاسم جارياً على من اختص به الاختصاص الذي ذكرناه. ويبين صحة هذا: أن العالم إذا كان له أصحاب يصحبونه ويلازمونه كانوا هم أصحابه، وإن كان في البلد من يلقاه ويستفتيه، فلا يكون من أصحابه، كذلك النبي صلى الله عليه [وسلم] أصحابه من صحبه دون من لقيه مرة. والجواب: أن من يرد عليه من الوفود والرسل إن كانوا مؤمنين به
دليلنا:
انطلق عليهم الاسم، وإن كانوا كفاراً لم ينطلق عليهم الاسم؛ لأنهم غير تابعين له. وأما من صحب غيره من العلماء على وجه التبع له في العلم ينطلق عليه الاسم وإن قل، ويقال: فلان صاحب فلان، وكذلك من صحب فلاناً يوماً على وجه الخدمة، يقال: هذا صاحب فلان، وأما من مشى معه في الطريق إذا استفتاه، فلا ينطلق عليه الاسم؛ لأنه لم يحصل تابعاً له في صحبته. ومن كان في وقت النبي صلى الله عليه [وسلم] كان تابعاً له، فأما من يجوز الإخبار عنه بأنه صحابي، فهو من يخبر عنه الصحابي. وحكى أبو سفيان عن بعض شيوخه: أنه لا يجوز الإخبار عنه بأنه صحابي إلا بعد أن يقع لنا العلم بذلك، إما اضطراراً أو اكتساباً. دليلنا: أنه لو أخبر عن نفسه بأنه صحابي، قبل منه باتفاق منا ومن هذا القائل، فإذا أخبر عن غيره، يجب أن يقبل منه. يبين صحة الجمع بينهما: أن [149/ب] فسقه لما كان مانعاً من قبول خبره بذلك عن نفسه، كان فسق غيره مانعاً من قبول خبره. ولأنه لما وجب العمل بخبر الواحد، كذلك جاز الحكم بخبر الواحد في إثبات الصحبة. وذهب المخالف إلى أنه لا يجوز لنا أن نخبر فلاناً من أن يكون الخبر عنه كذباً، كما لا يجوز لنا أن نخبر بالكذب، فإذا كان كذلك وكنا لا نأمن في الإخبار عن زيد بأنه صحابي، أن يكون حديثاً كذباً، وجب أن لا يجوز لنا الإخبار بذلك عنه. والجواب: أن هذا موجود في الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر الواحد، فإنا نجوز أن يكون كاذباً فيه، ومع هذا يجب العمل بخبره، كذلك ها هنا،
مسألة
ويلزم عليه أيضاً إخباره عن نفسه، فإن أخبرنا عن نفسه بأنه صحابي، جاز قبول خبره، كما يقبل خبر غيره. وحكي عن بعض الناس: أنه لا يقبل خبره، وإنما يعمل على خبر غيره. دليلنا: أنه لما قبل خبر غيره عنه بأنه صحابي، كذلك يجوز قبول خبره عن نفسه بذلك. يبين صحة هذا وتساويهما: أن العدالة معتبرة فيما يخبر غيره عنه، وفيما يخبر هو عن نفسه. فإن قيل: لا يمتنع أن يقبل قول غيره له، ولا يقبل قوله لنفسه، كما تقبل شهادة غيره له، ولا يقبل إقراره لنفسه؛ لأنه يجر إلى نفسه منفعة، وهذا موجود ها هنا. قيل: هذا لا يمنع خبره لنفسه، ألا ترى أن من روى خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل منه وإن كان نفعه يعود بالمخبر؟ كذلك قوله: أنا صحابي لا يمنع، وإن عاد نفعه إليه ويفارق هذا الشهادة والدعوى؛ لأن حصول النفع يمنع قبول ذلك. وأيضاً: فإن العقل لا يمنع من قبول خبره بذلك، والسمع لم يرد بالمنع، فجاز قبوله. مسألة (1) إذا قال الصحابي: من السنة كذا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من السنة أن لا يقتل حر بعبد (2) . اقتضى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك إذا قال التابعي: من السنة كذا، كان بمنزلة المرسل، فيكون حجة على الصحيح من الروايتين، كما قال سعيد بن المسيب: من السنة إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته أن يفرق بينهما (1) . وكذلك إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فإنه يرجع إلى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهيه. وكذلك إذا قال: رخص لنا في كذا. وقد نقل أبو النضر العجلي عن أحمد رحمه الله: في جراحات النساء مثل جراحات الرجال. حتى تبلغ الثلث، فإذا زاد فهو على النصف من جراحات الرجل، قال: هو قول [150/أ] زيد بن ثابت (2) ، وقول علي
كله على النصف (1) . قيل له: كيف لم تذهب إلى قول علي؟ قال: لأن هذا -يعني قول زيد- ليس بقياس، قال سعيد بن المسيب: هو السنة (2) . وهذا يقتضي أن قول التابعي: من السنة، أنها سنة النبي صلى الله عليه [وسلم] ؛ لأنه قدم قوم زيد على قول علي؛ لأنه وافق قول سعيد: إنما هي السنة، وبين أنه ليس بقياس. وقد رأيت بعض أصحابنا، ويغلب على ظني أنه أبو حفص البرمكي (3) ذكره في مسائل البرزاطي (4) ، لما روى الحديث عن ابن عمر أنه قال:
دليلنا:
مضت السنة أن ما أدركت الصفقة حياً (1) مجموعاً فهو من مال المبتاع (2) ، فقال بعد هذا: صار الحديث مرفوعاً بقوله: مضت السنة، ويدخل في المسند (3) . واختلف أصحاب أبي حنيفة في ذلك: فحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي: أنه لا يضيف ذلك، وحكى عن غيره من أصحابه: أنه يضاف إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] . واختلف أصحاب الشافعي أيضاً: فذهب الصيرفي (4) إلى أنه لا يضاف إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وذهب غيره: إلى أنه يضاف إليه. دليلنا: أن السنة المطلقة في أحكام الشرع ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أطلق وجب رجوع ذلك إليه؛ لأنه إذا أريد بها سنة غيره فإنها لا تطلق، بل تضاف إلى صاحبها. يبين صحة هذا: أن الناس يقولون: عليكم بالقرآن والسنة، فلا يعقلون من ذلك إلا اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولأن إطلاق الأمر في الشريعة يرجع إلى صاحب الشريعة، ولهذا كان أنس بن مالك يقول: أُمر بلال (1) أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة (2) ويحدث به هكذا، ولا يقول له أحد: من الآمر به؟ فدل على ما قلناه.
وكذلك عبد الله بن عمر قال: رخص للمتمتع في صيام أيام التشريق (1) ولا يقول أحد: من رخص للمتمتع في صيامها (2) ؟ وقد احتج بعضهم في ذلك: بأن الأمر إنما يحسن لكون المأمور به مصلحة، توجب أن يكون في إضافته إلى من يعلم المصالح أولى من إضافته إلى من لا يعلم، والرسول [صلى الله عليه وسلم] أعلم بذلك دون غيره. واحتج المخالف: بأن الأمر والنهي والسنة لا يختص بالنبي دون غيره، قال تعالى: (أطيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرسُولَ وَأُولي الأمْرِ مِنْكُم) (3) فأمر باتباع أمر الولاة، كما أمر باتباع أمره عز وجل وَأمر رسوله صلى الله عليه [وسلم] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من [150/ب] سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سُنةً سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ، فأثبت لغيره سنة كما أثبت ذلك لنفسه. وكذلك روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة (1) . فسمى رأيهم في أيام عمر سنة. والجواب عن قوله تعالى: (وأولي الأمر منكم) : يحتمل ما أخبروا به عن الله عز وجل ورسوله [- صلى الله عليه وسلم -] . وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) يحتمل ما رووه عن النبي صلى الله عليه [وسلم] ، فكأنه قال: عليكم ما سمعتموه مني، وبما حدثكم به خلفائي عني. وكذلك قوله: (من سن سنة حسنة) معناه: ما رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] . وقوله: (ومن سن سنة سيئة) فليس شيئاً مما نحن فيه؛ لأن خلافنا في السنة الشرعية، والسيئة ليست بشرعية، فلا يتناولها الإطلاق. وجواب آخر وهو: أن الخلاف في إطلاق السنة، وها هنا مقيدة منسوبة إلى الخلفاء إلى غير النبي [صلى الله عليه وسلم] . وأما قول علي: "وكل سنة"، فهو أنا نحمله على سنة النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ لأن الزيادة عندنا حد، وقد ثبت الحد بالسنة، وقال علي ابن أبي طالب لقنبر: ما إخال أن أحداً يعلمنا السنة، وأراد منه النبي صلى الله عليه [وسلم] .
مسألة
مسألة (1) إذا قال الصحابي أو التابعي: كانوا يفعلون كذا، حمل ذلك على الجماعة دون الواحد منهم. وهو قول أصحاب أبي حنيفة. وذلك نحو قول عائشة رضي الله عنها: كانوا لا يقطعون في الشيء، التافه (2) . وقول إبراهيم النخعي: كانوا يحذفون التكبير حذفاً. فيكون هذا عن جماعتهم؛ لأن الصحابي والتابعي إذا قال: كانوا يفعلون كذا، فإنما يقول ذلك على وجه الدلالة على صحة ما فعلوا، فإذا كان كذلك، وكانت الجماعة التي فعلها وقولها حجة، هي الأمة وجب أن يكون قول القائل منهم راجعاً إليهم. فإن قيل: يجوز أن يكون المراد به فعل بعض الصحابة؛ لأن فعل بعضهم يكون حجة. قيل: الواحد لا يقع عليه اسم الجماعة.
مسألة
فإن قيل: فيجب أن لا يسوغ خلاف ذلك؛ لأنه حينئذ يكون خلاف الإجماع، فلما ساغ، دل على أن ذلك لم يقتض الإجماع. قيل: إنما سوغنا الخلاف فيما هذا سبيله، لأنا نعلم أنهم أجمعوا عليه، وإنما استدللنا عليه بخبر الواحد، وخبر الواحد لا يوجب العلم بما تضمنه. مسألة إذا قال الصحابي: [151/أ] قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : كذا وكذا، حكم بأنه سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويصير كما لو قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، أو حدثني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . وحكي عن أبي بكر ابن الباقلاني قال: لا أحكم بأنه سمع ذلك منه، بل يجوز أن يكون بينهما واسطة. دليلنا: أنه لما قال [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أضاف القول إليه، وقطع على أنه قال، والظاهر من حال الإنسان أنه لا يقطع على الشيء ويطلقه إلا بعد أن يتحققه ويسمعه شفاهاً من قائله، فوجب حمل الأمر على ذلك، والحكم به. واحتج المخالف: بأنه قد يخبره بذلك العدد الكبير: فيقطع عليه، وإن لم يسمعه منه. والجواب: أنه لو كان كذلك لكان بيّن الواسطه، ولا يطلق إضافة القول إليه، فلما أطلق كان الظاهر سماعه منه.
مسألة
مسألة إذا قال الصحابي: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، بكذا، ونهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن كذا، أو قال: فرض رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كذا، أو أباح، أو حرم، فإن الحكم يثبت بذلك ويحكم به بالأمر والنهي. وقد احتج أحمد رحمه الله على فرض زكاة الفطر: بقول ابن عمر: فرض رسول الله (1) [صلى الله عليه وسلم] . وحكى عن القاضي أبي الحسن الجزري (2) أنه قال: مذهب داود: أن لا يثبت بذلك، ولا يحكم به.
دليلنا:
وحكى عن ابن بيان القصار خلاف هذا، وكان على مذهب داود وأنكر ذلك، وقال: يجوز الاحتجاج به. دليلنا: أن تصديق الراوي واجب فيما ينقله ويرويه، فإذا قال: زنى ماعز فرجمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسجد، وجب تصديقه، ويكون بمنزلة قوله - صلى الله عليه وسلم - زني ماعز فرجمته، وسهوت فسجدت، فإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ونهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بمنزلة قوله صلى الله عليه [وسلم] : أمرتكم ونهيتكم، وقد كان النبي صلى الله عليه [وسلم] يقول مثل ذلك، فروي عنه صلى الله عليه [وسلم] أنه قال: (آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع) (1) .
ويدل عليه أن الصحابة اقتصروا على هذا اللفظ، وعولوا عليه، واحتجوا به، ولا يجوز في حقهم أن يعولوا على ما لا تقوم به الحجة. من ذلك قولهم: أمر رسول الله صلى الله عليه [وسلم] برجم ماعز ورجم الغامدية، وأمر بالمضمضة والاستنشاق، وقول ابن عمر: كنا لا نرى بالمخابرة بأساً، حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، فترك القول بالمخابرة بما نقل عنه من قوله: نهى عن المخابرة، فلولا أن الحجة تقوم به لم يرجعوا إليه. ويدل [151/ب] عليه قول موسى لقومه: (إن اللهَ يأمركم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (1) وقد أظهر من إعناتهم واستفهامهم وكثرة سؤالهم ما قد اشتهر، ولم يقولوا لموسى: عرفنا ما يأمر الله لنقف على لفظه، فدل على أنه يستغنى بذلك عن ذكره ما بين أمره ولفظه. فإن قيل، ليس قولهم مما يجب الانقياد إليه. قيل: قد لزم ذلك، ألا ترى أنهم لما سألوا أي بقرة هي أجابهم وإن كان ذبح ما يقع عليه الاسم يجزئ، فلولا أنه يجب الانقياد (2) ، لم يحسن التوقيف فيه ولا الجواب عنه. ويدل عليه أنه قد ثبت من مذهب الصحابة: أن ما تنازعوا في مفهومه نقلوا لفظه، ولم يقتصروا على ما أمر النبي صلى الله عليه [وسلم] .
من ذلك: ابن عمر لما روى أن النبي صلى الله عليه [وسلم] قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا) ، ثم بين اعتقاده: أنه افتراق الأبدان. وكذلك عمر في قوله: [هاء وهاء] وكذلك قول أبي هريرة في الولوغ. ويدل عليه: أن المجمعين إذا أجمعوا على شيء من طريق الحجة، نقلوا إجماعهم في الفتيا، ولم ينقلوا الحجة؛ لأنهم قد علموا أن الإجماع تقوم به الحجة، فاستغنوا عن نقل ما به أجمعوا. ويدل عليه: أن الصحابة إذا قالت: أخبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثبت، ولم نطالبه بما قد علم الخبر، كذلك الأمر؛ لأنهم يعلمون ما به يعلم الخبر، والأمر في اللغة والشرع، وفي الخبر خلاف، كما في لفظ الأمر على قول الواقفة للاحتمال. ويدل عليه: أن الصحابة من أهل الفصاحة، وقد شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل، فإذا رووا عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه أمر ونهى وجب أن يحمل ذلك على حقيقته، ولا يكون....... (1) عرف بذلك منهم. واحتج المخالف: بأن الناس اختلفوا في الأمر، فمنهم من قال: هو الإيجاب، ومنهم من قال: الندب والإيجاب جميعاً أمر، ومنهم من قال: الإباحة أيضاً مأمور بها (2) ، وإذا كان كذلك، وجب نقل لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والجواب: أن قوله: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي إطلاقه أمراً مطلقاً،
مسألة
والأمر المطلق من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب، وإنما يصرف عنه إلى الندب بدليل. جواب آخر: هو أنه معرفتهم (1) بذلك أكثر من معرفتنا، فإذا سمعوا ما لا تنازع فيه نقلوه، وما كان فيه نزاع بينوه، بدليل ما قدمنا من قول ابن عمر في الافتراق. مسألة (2) إذا روى جماعة من الثقات حديثاً، وانفرد أحدهم بزيادة لا تخالف المزيد عليه. مثل أن يقولوا: إن النبي صلى الله عليه [وسلم] دخل البيت، وانفرد أحدهم بزيادة، فقال: [152/أ] دخل البيت وصلى، ثبتت تلك الزيادة بقوله، كالمنفرد بحديث مفرد عنهم. وهكذا لو أرسلوه كلهم، فرفعه واحد إلى النبي صلى الله عليه [وسلم] يثبت مسنداً بروايته. وهكذا لو وقفوه كلهم على صحابي، فرفعه واحد منهم إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ثبت هذا المرفوع، ولم يرد. وقد نصّ أحمد رحمه الله على الأخذ بالزائد في مواضع: فقال أحمد بن القاسم (3) : سألت أبا عبد الله رحمه الله عن
مسألة في فوات الحج
مسألة في فوات الحج، فقال: فيها روايتان: إحداهما: فيها (1) زيادة دم، قال أبو عبد الله: والزائد أولى أن يؤخذ به (2) ، قال: ومذهبنا في الأحاديث: إذا كانت الزيادة في أحدهما، أخذنا بالزيادة. ونقل الميموني عنه أنه قال: نقل أن النبي صلى الله عليه [وسلم] دخل الكعبة ولم يصل (3) ، ونقل [أنه] صلى (4) ، فهذا يشهد أنه صلى. وابن عمر يقول: لم يقْنُت في الفجر (5) ، وغيره يقول: قنتَ (6) ،
فهذه شهادة عليه أنه قنت. وحديث أنس: لم يأنِ لرسول الله صلى الله عليه [وسلم] أن يخضب (1) ، وقوم يقولون: قد خضب (2) ، فهذه شهادة على الخضاب، فالذي شهد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو أوكد. وبهذا قال جماعة الفقهاء والمتكلمين.
دليلنا:
وذهب جماعة من أصحاب الحديث إلى أن ما انفرد به الواحد منهم كان مردوداً، وهذا أبداً في كتبهم: تفرد به فلان وحده، يعنون الرد بذلك. وقد روي عن أحمد رحمه الله نحو هذا في رواية الأثرم وإبراهيم ابن الحارث والمروذي: إذا تبايعا فخير أحدهما صاحبه بعد البيع، فهل يجب؟ فقال: هكذا في حديث ابن عمر، قيل له: أتذهب إليه؟ قال: لا أنا أذهب إلى الأحاديث الباقية، الخيار لهما ما لم يتفرقا، ليس فيها شيء من هذا. فقد اطّرح رواية ابن عمر بزيادتها؛ لأن الجماعة ما نقلوها، وإنما تفرد بها ابن عمر. وقال في رواية أبي طالب: كان الحجاج بن أرطاة من الحفاظ، قيل له: فلم هو عند الناس ليس بذاك؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، ما يكاد له حديث إلا فيه زيادة. دليلنا: أن الجماعة إذا نقلت حديثاً، وانفرد واحد منهم بزيادة لا تخالف المزيد عليه، كان كالمنفرد بحديث سواه ولو انفرد بحديث سواه كان مقبولاً فوجب أن تقبل هذه الزيادة. فإن قيل: فقد رد أحمد رحمه الله مثل هذا، فإنه روى أن النبي صلى الله عليه [وسلم] قال: (من اعتق شرْكاً له في عبد، قوم عليه نصيب شريكه، ثم يعتق) (1) ، فانفرد سعيد بن
أبي عُروبة (1) فروى: (من أعتق شركاً له في عبد، استسعى العبد غير مشقوق عليه) ، فقال أحمد رضي الله عنه في رواية الميموني في حديث أبي هريرة في الاستسعاء (2) : يرويه ابن أبي عروبة، وأما شعبة
وهشام (1) الدّستوائي (2) فلم يذكروا، لا أذهب إلى الاستسعاء. [152/ب] فقد امتنع من الأخذ بها. قيل: هذا باب آخر، وهو أن الزيادة تخالف المزيد عليه، فيكون كأنه تفرد بضد ما نقلته الجماعة، فينتقل الكلام إلى جنس آخر، وهو أن تقدم ما كثرت رواته على ما قلت رواته، وكذلك فيما نقل عن النبي عليه السلام في زكاة الفطر، نصف صاع من بر (3) ، ورويَ صاع من
بر (1) فهذه الزيادة تخالف المزيد عليه، فيقدم أحدهما بكثرة الرواة، فأما في خبرنا فلا يخالف المزيد عليه، فلهذا قبلناه. فإن قيل: فهذا الواحد قد يسهو، إذ لو كان صحيحاً لسمعوا كما سمع، ونقلوا كما نقل، فلما لم ينقلوا ثبت أنه سهو. قيل: النبي صلى الله عليه [وسلم] قد يكرر الأصل مراراً فيضبط، ويذكر الزيادة مرة فيضبطها واحد، وقد تنسى الجماعة ويذكره هو وحده وقد تنصرف الجماعة قبل إكماله الحديث. ويثبت هو حتى يكمله فينفرد بالزيادة. وأيضاً: فان الخبر كالشهادة وكل شهادة خبر، وليس كل خبر شهادة، ثم ثبت أنه لو شهد ألف على إقراره بألف، وشهد شاهدان على إقراره بألفين، ثبتت الزيادة بقولهما، وإن كانا قد انفردا عن الجماعة، كذلك في الخبر مثله. فإن قيل: يجوز أن يقرّ مرتين. قيل: ويجوز أن يقوله النبي [صلى الله عليه وسلم] مرتين. ولأنه لا خلاف أن القرآن نقل نقلاً متواتراً، وانفرد الشواذ لما خالفوا فيه الجمهور، كقراءة ابن مسعود وأُبي، فنقل كل واحد، ولم ينكر [و] هـ، ولم يقولوا لما انفرد بالزيادة كان كل مردوداً، كذلك الخبر مثله.
ولأن الواحد إذا انفرد بالزيادة غلب على الظن صدقه، فإنه لا ينقل إلا ما سمعه وعرفه، والجماعة إذا لم ينقلوا جاز أن يحمل ذلك على سهو ونسيان، وذلك يجوز عليهم، ولا يجوز على الواحد الثقة نقل ما لم يسمعه، فوجب أن يقبل قوله فيما تفرد به. واحتج المخالف: بأنه إذا نقله الكل وانفرد واحد بالزيادة، كان ما تفرد به سهواً، لأنهم ما حفظوه حين قاله النبي [صلى الله عليه وسلم] مراراً سمعوه كلهم فلو كان ما تفرد به صحيحاً لقال الزيادة، كما قال المزيد عليه، ولو قال سمعوه كما سمع ونقلوه كما نقل. والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنه يجوز أن يكون نسواً وسهواً، وذكر هو، وسمعوا بعض الحديث، وسمع هو جميعه. ويحتمل أن يكون أحدهم أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآخر أبعد، فسمع لقربه ما خفي على الأبعد. ولأنه يبطل بالشهادة على الإقرار، إذا انفرد بعضهم بالزيادة. واحتج: بأن الأصل متحقق والزيادة مشكوك فيها؛ فلا تترك الحقيقة بالمشكوك فيه. والجواب: أنا لا [153/أ] نسلم أنها مشكوك فيها؛ لأن غالب الظن فيه الصدق فيما تفرد به للاحتمال الذي ذكرنا. ولأنه يبطل بالشهادة، ويبطل به إذا انفرد بخبر، عمل عليه [و] لا يقال: كيف نقل هذا؟ وحفاظ الصحابة وعلماؤهم ما نقوله. واحتج: بأنه إذا خالف الكل هنا انفرد، فقد خالف أهل الصنعة، فكان ما نقله كل مردوداً، كخبر الواحد إذا خالف الإجماع يرد، لأنه خالف أهل الصنعه.
والجواب: أنه ما خالفهم، لأنه واحد منهم، وإنما خالف بعض أهل الصنعة، وليس هذا كالإجماع، لأنه خالف الكل فلهذا ترك. ولأن خبر الواحد يسقط بالإجماع، لأنه في ضد ما أجمعوا عليه وهاهنا ما خالف ما نقلوا، بل نقل ما نقلوا، بل لو خالف ما نقلوا رجحنا بكثرة الرواة. واحتج: بأن الراوي قد يفسر الحديث فيتأوله، فيسمعه بعض الرواة مطلقاً فيرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كثير، روي عن ابن عباس وأبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً) (1) ، وقال أبو هريرة وابن عباس: "والهر" (2) .
وروي ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى، قال ابن عباس: ولا أحسب غير الطعام الا كالطعام (1) فأدرجه بعض الرواة، فرفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة) (2) ، قال الراوي: في كل خمس شاة، فأدرجه بعض الرواة فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا كان هذا جارياً معتاداً، وجب التوقف في الزيادة التي انفرد بها لئلا يكون في هذا المعنى. والجواب: أنه قد يدرج الراوي ما يفسره الصحابي، ولكن الظاهر إذا قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه كله مضاف إلى الرسول (1) [صلى الله عليه وسلم] ، مسموع منه، منقول كله عنه، حتى يُبين خلاف هذا، فلا يترك الظاهر من الحال بأمر متوهم مظنون. واحتج: بأن مقومين لو قوموا المتلف بدرهم، وقوم آخران بدرهمين لكان، الواجب هو الأقل ولم تجب الزيادة، كذلك ها هنا. والجواب: أن شهادتهما متعارضة في الزيادة؛ لأنهم قد اتففقوا على
مسألة
صفه المتلف واختلفوا في قدر القيمة بالسعر القائم في السوق فوجب (1) أن يكون اللذان أثبتا الزيادة واللذان نفيا الزيادة مخطئين. وقيل فيه: بأن من قوَّمه بدرهم يقول: عرفت صفة المتلف وسعر السوق في وقت الإتلاف، فكانت قيمته درهماً، ومن قوَّمه بدرهمين (2) يقول: عرفت تلك الصفة بعينها وسعر [153/ب] السوق، تعارضت شهادتهما في الزيادة، فلم تثبت، وليس كذلك رواية من لم يروا الزيادة؛ لأنه لا ينفيها على ما ذكرت. مسألة إذا سمع خبراً، فأراد أن ينقل بعضه ويترك بعضه، نظرتَ، فإن كان بعض متعلقاً ببعض، بحيث إذا ترك البعض أخلّ ببعض حكم المنقول، لم يجز ذلك. وإن كان لا يتعلق به، بل كان يشتمل علي حكمين، لا يتعلق أحدهما بالآخر، كان له نقل أحد الحكمين وترك الآخر؛ لأنه إذا كان بعضه متعلقاً ببعض كان ترك بكل بعضه تغييراً لخبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] وزوال المقصود، ولا يجوز ذلك، وإذا اشتمل على الحكمين منفردين حصل بمنزلة حديثين منفردين، ومن كان عنده خبران جاز أن يرويَ أحدهما دون الآخر. وقد نصّ أحمد رحمه الله على جواز ذلك، فقال أبو الحارث: كتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله عن تقطيع الأحاديث، إذا أراد الرجل منه كلمة والحديث طويل، فقال: إذا كان يحتاج من الحديث إلى حرف، يريد أن
يقتصر لطوله، فأرجو أن لا يكون عليه شيء، قال: ورأيت أبا عبد الله قد أخرج أحاديث، أخرج منها حاجته من الحديث وترك الباقي، يخرج من أول الحديث شيئاً، ومن آخره شيئاً، ويدع الباقي. وذكر الأثرم في كتاب "العلل" قال: ذكر أبو عبد الله حديث طَلْق ابن علي في المسكر الذي ذكر فيه: لا يشربه رجل ابتغاء لذة سكر، ربما يذكر (1) ذكت هذه الكلمة: ابتغاء لذة سكر (2) ، مخافة أن يتأولوها على غير تأويلها، ونقل هذا. ونقلت من مسائل إسحاق بن إبراهيم من باب الرأي والعلم، قال: سألتة عن الرجل يسمع الحديث، وهو إسناد واحد، فيقطعه ثلاثة أحاديث قال: قال: لا يلزمه كذب، وينبغي أن يحدث كما سمع فلا يغيره. قال أبو بكر الخلال: قد حكى اختصار الحديث عن أبي عبد الله جماعةٌ، وبين عنه أبو الحارث، وذكر عنه الفضل بن زياد وأبو أمية الطرسوسي (3) اختصاراً لا يكون شيء أبين ولا أحسن اختصاراً (4) من
حديث الإسراء وحديث النعمان بن بزرج (1) ، وهذان الحديثان كل (2) واحد منهما في أوراق. وحكى أبو بكر في الباب حكاية فقال: أخبرنى يزيد بن عبد الله الأصفهاني (3) قال: سمعت إسماعيل بن محمد الغزال (4) من حملة العلم قال: سمعت نعيم بن حماد (5) يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: أنت الذي تميز حديثي؟ فقلت: إن حديثك ربما دخل في أبواب، فسكت عني.
وذكر أبو بكر الخلال في باب غسل الحائض من كتاب "العلل" عن المروذي، وذكر لأحمد حديث ابن أبي شيبة (1) عن وكيع (2) ، كأنه اختصره، فقال: ويحك، يحل له أن يختصر؟ قال أبو بكر [154/أ] الخلال: أبو عبد الله لا يرى بأساً باختصار الحديث وابن أبي شيبة اختصر في غير موضع الاختصار. واختلف الناس في هذا، فمن قال: لا يجوز نقل الحديث على المعنى وعلى الراوي نقل لفظه بعينه قال ها هنا: لا يجوز أن ينقل بعضه (3) ويترك بعضه. واحتج بما تقدم من قوله: (رَحِمَ الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها) .
ومن قال: يجوز نقل الحديث على المعنى، قال ها هنا: يجوز على الصفة التي ذكرناها، والكلام في هذا الأصل قد تقدم. وقد أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال بإسناده عن نعيم بن حماد قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: أنت الذي تقطع حديثي؟ قال: قلت يا رسول الله: إنه يبلغنا الحديث عنك فيه ذكر الصلاة وذكر الصيام وذكر الزكاة، فيجعل ذا في ذا وذا في ذا؟ قال: نعم إذن. فصل (1) في ترجيحات الألفاظ إذا تعارض لفظان من الكتاب والسنة، فلم يمكن الجمع بينهما، أو أمكن الجمع بينهما من وجهين مختلفين، وتعارض الجمعان، وجب تقديم أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح التي أذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإنما وجب التقديم بالترجيح؛ لأنه يدل على قوته، ويجب تقديم الأقوى، وإذا ثبت هذا فالترجيح يقع تارةً بما يرجع إلى إسناد الخبر، وتارةً إلى متنه، وتارةً إلى غيرهما. فأما ما يرجع إلى الإسناد فمن وجوه: أحدها: أن يكون أحد الخبرين أكثر رواةً، فيجب تقديمه. وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الأثرم فيما روي عن علي رضي الله عنه في امرأة المفقود، هي امرأته حتى يعلم أحيّ أم ميت (2) ؟ فقال:
أبو عوانة (1) تفرد بهذا، لم يتابع عليه. وقال أيضاً في رواية الميموني، وقد ذكر له حديث بلال بن الحارث (2) في فسخ الحج لنا خاصة (3) ،: لو عرف بلال أن أحد عشر رجلاً من
دليلنا:
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يروون ما يروون (1) [من الفسخ] ، أين يقع بلال بن الحارث؟ (2) . وبهذا قال أصحاب [الشافعي] . واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب الجرجاني وأبو سفيان السرخسي إلى أنه يرجح بكثرة الرواة. وحكى أبو سفيان عن الكرخي: أنه لا يرجح بذلك. دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرجع إلى قول ذي اليدين حتى أخبره بذلك غيره، فرجع إلى قولهم، وكذلك أبو بكر الصديق لما روي له المغيرة: أن النبي صلى الله عليه [وسلم] . أطعم الجدة السدس، فطلب
أبو بكر الزيادة، فشهد له محمد بن مسلمة، فقضى به، فدل على أن للزيادة في العدد قوة في [154/ب] العمل بالخبر. ولأن الشيء بين الجماعة الكثيرة أحفظ منه بين الجماعة اليسيرة، ولهذا قال الله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) (1) فإذا كان كذلك كان خبر الجماعة أولى بالحفظ والضبط. ولأن خبر لأعلم الأتقن أولى بالتقديم عندهم؛ لأن مع الأعلم من الضبط ما ليس مع غيره، كذلك يجب تقديم خبر الجماعة لهذا المعنى. ولأن الخبر إذا كان أكثر رواة، فهو أقرب إلى الصواب وأبعد من الخطأ، وأشبه بالثواب، فوجب تقديمه والأخذ به. ولأن كثرة العدد لها تأثير (2) في إيجاب العلم؛ لأن المخبرين إذا بلغوا عدداً مخصوصاً وقع العلم بمخبرهم، وإذا كانت كثرة العدد طريقاً إلى العلم، وجب أن يكون الخبر الذي حصلت هذه المزية له أقوى من الخبر الذي لم يحصل فيه ذلك. ولأن كثرة وجوه الشبه لما كانت موجبة لقوة ما يثبت من طريق الشبه وجب أن يكون كثرة رواة الخبر موجباً لقوة ما ثبت بالخبر؛ لأن طريق الحكم بالقياس هو من جهة السنة، كما أن الحكم بالخبر هو من جهة الخبر. واحتج المخالف: بأن خبر الواحد وخبر الجماعة التي لا يقع بها العلم سواء؛ لأن طريق كل واحد منهما غلبة الظن.
والجواب: أن خبر الجماعة أقوى في الظن، فكان تقديم الأقوى أولى، ويبطل بكثرة وجوه الشبه في أحد القياسين. واحتج: بأن شهادة الشاهدين وشهادة الأربعة فأكثر سواء، ولا فرق بينهما، كذلك خبر الواحد وخبر الجماعة يجب أن يكونا سواء. والجواب: أن الشهادة مخالفة للخبر؛ لأن شهادة الأعلم والأتقن وشهادة غيرهما سواء، والخبر يرجح بعلم الراوي وإتقانه. ولأن العدد في الشهادة منصوص عليه، فكان ذلك وما زاد سواء، وليس كذلك الخبر، فإنه منصوص على العدد فيه، فكان الأكثر في العدد أولى؛ لأنه أقوى في الظن. واحتج: بأن كثرة عدد المجتهدين، لا يوجب قوة اجتهادهم، كذلك كثرة عدد الرواة. والجواب: أن العلم لا يقع باجتهاد المجتهدين أبداً دائماً، وإنما يقع العلم إذا أجمعوا على الحكم المجتهد فيه بإجماعهم دون اجتهادهم والعلم الواقع بخبر التواتر إنما يقع بخبر العدد المخصوص دون معنى سواه. الثاني: أن يكون أحد الروايين أتقن وأعلم، فتكون روايته أولى؛ لأنه أولى بالضبط والحفظ من غيره، ومثاله أن مالكاً وسفيان أعلم وأتقن من زائدة (1) وعبد العزيز بن أبي حازم (2) ، ومثل هذا كثير.
وقد قال عبد الله بن أحمد [155/أ] : حدثني صالح بن علي النوفلي (1) قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول (2) : المثبتون في الحديث أربعة شعبة وسفيان وزائدة وزهير (3) . وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: المشهور بالرواية أولى. الثالث: أن يكون أحد الراويين مباشراً لما رواه؛ لأن المباشر أعرف بالحال، ومثاله ما قلناه في رواية أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نكح ميمونة وهو
حلال) (1) أنه أولى من رواية ابن عباس: (أنه نكحها وهو حرام) (2) ؛ لأن أبا رافع كان السفير بينهما، والقابل لنكاحها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الرابع: أن يكون أحد الراويين صاحب القصة، كميمونة، قدمنا قولها: تزوجني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ونحن حلالان (3) ، على [قول] ابن عباس؛ لأنها المعقود عليها، فهي أعرف بوقت عقدها من غيرها لاهتمامها به ومراعاتها لوقته. ومنع الجرجاني: أن يكون هذا ترجيحاً، وقال: هذا الحكم لا يعود إلى صاحب القصة، وإنما يعود إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ،
وقد يكون الغير أقرب إليه، وأعرف بأحواله في نفسه من المرأة. والصحيح ما ذكرنا؛ لأن صاحب القصة أعرف بذلك من غيره. الخامس: أن يكون موضعه أقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم -. فيكون أسمع لقوله وأعرف به، وقد شبهوا ذلك بحديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج (1) ، قدمناه على رواية أنس: أنه قرن (2) ؛ لأنه روي عن ابن عمر قال: كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه [وسلم] فسالَ عليّ لعابها. السادس: أن يكون أحدهما من كبار الصحابة، والآخر من صغارهم فإن الكبار كانوا (3) أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله عليه السلام: (لِيليني منكم أولوا الأحلام والنّهَى) (4) .
السابع: أن يكون أحدهما سمع بغير حجاب: فيقدم على من سمع دون حجاب؛ لأنه أقرب إلى الضبط، ومثاله: أن حديث عروة بن الزبير والقاسم بن محمد (1) عن عائشة رضي الله عنهم: أن بريرة أعتقت وكان زوجها عبداً (2) ، فقدم على حديث الأسود عن عائشة: أن زوجها
كان حرّاً (1) ؛ لأنهما سمعا منها من غير حجاب؛ لأنها خالة عروة وعمة القاسم. فإن كان أحدهما سمع بغير كتاب، والآخر يرويه عن كتاب، فهما سواء.
وقد عارض أحمد رحمه الله أخبار الدباغ بحديث ابن عكيم (1) ، وهو عن كتاب؛ لأن ناقل الكتاب جارٍ (2) مجرى راوي اللفظ؛ لأنه إما أن يقول: قرأه علينا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، أو يقول: هذا كتابه: كما يقول: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، وما يتطرق على أحدهما يتطرق على الآخر مثله من التغيير. وقال الجرجاني: ما [155/ب] سمعه أولى مما روي عن كتاب؛ لأن التغيير يجوز على الكتاب، ولا يجوز ذلك فيما سمعه. قيل: لا يجوز مثل هذا عليه؛ لأن الرسول صحابي؛ ولأنه إن جاز التغيير على الكتاب، جاز التغيير فيما يحكيه لفظاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثامن: أن يكون أحدهما أمسّ سياقاً للحديث، وأشد تقصياً، فيكون أولى؛ لأنه يدل على حفظه وضبطه، ومثاله ما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج (3) ، وقد وصف خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة مرحلةً مرحلةً ودخوله مكة، ومناسكه على ترتيبه، وانصرافه إلى المدينة. التاسع: أن يكون أحد الراويين لم يضطرب لفظه، والآخر قد اضطرب لفظه، فيقدم خبر من لم يضطرب لفظه؛ لأنه يدل علي حفظه
وضبطه، وسوء حفظ صاحبه، ومثاله: ما روى عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع اليدين في ثلاثة مواضع (1) ، فيقدم على ما روى البَرَاء ابن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود (2) ، قال سفيان بن عيينة: كان يزيد بن أبي
زياد (1) يروي هذا الحديث، ولا يذكر: "ثم لا يعود"، ثم دخلت الكوفة، فرأيت يزيد بن أبي زياد يرويه، وقد زاد فيه: "ثم لا يعود"، وكان قد لقن فتلقن. العاشر: أن لا تختلف الرواية عن أحدهما، فتقدم روايته على رواية من اختلفت الرواية عنه؛ للمعنى الذي ذكرنا.
ومنهم من قال: تتعارض الروايتان عنه. ويسقطان، ويعمل برواية من لم تختلف الرواية عنه. الحادي عشر: أن يكون أحدهما مسنداً والآخر مرسلاً، فالمسند أولى. قال أبو بكر الأثرم: رأيت أبا عبد الله إذا كان الحديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] في إسناده شيء يأخذ به، إذا لم يجد خلافه أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب (1) ، ومثل حديث إبراهيم الهجري (2) ، وربما أخذ بالحديث المرسَل، إذا لم يجيء خلافه، وذلك لأن من الناس من قال: إن المرسَل لا يحتج به. ولأن المسنَد عدالة راويه معلومة من جهة الظاهر، لمعرفتنا به، والمرسَل عدالة الراوي مستدل عليها من جهة أنه لا يروي إلا عن عدل عنده، فكان المعلوم أولى من المستدل عليه. وقال الجرجاني: المرسل أولى من المسند؛ لأن المرسل شاهد على رسول
الله صلى الله عليه [وسلم] قاطع لإضافة الحكم إليه، فصار أولى منه. وهذا فاسد؛ لأنه غير قاطع فيما يرسله ويسنده، وإنما تجوز له الرواية عمن عرف عدالته في الظاهر، فلا فرق بين أن يظهره أو يكتمه، في أن الرواية عن كل واحد منهما [156/أ] جائزة، فأما من تأخر إسلامه، فإنه لا يوجب ذلك تأخير خبره عن خبر من تقدم إسلامه. وذهب بعض الشافعية إلى أن ذلك يوجب تأخير خبره، وسووا في ذلك خبر قيس بن طَلْق (1) مع خبر أبي هريرة في الوضوء من مس الذكر (2) . والدلالة عليه: أن كفر الكافر لا يمنع صحة سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جاز أن يكون الراوي قد سمع كما رواه في حالة كفره من النبي
[صلى الله عليه وسلم] ، ثم رواه بعد إسلامه، لم يكن في تأخير إسلامه دليل على تأخير خبره. وأمّا الترجيح الذي يعود إلى متنه فمن وجوه: أحدها: أن يكون أحدهما قد جمع النطق ودليله، كما قدمنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الشفعة فيما لم يقسم، وإذا وقعت الحدود فلا شفعة) (1) ؛ لأن جمعه بينهما أشد تيقظاً للبيان. والثاني: أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً؛ لأن القول أبلغ في البيان. الثالث: أن يكون أحدهما قولاً وفعلاً، والآخر قولاً، فيكون اجتماعهما أولى.
الرابع: أن يكون أحدهما لم يدخله التخصيص، والآخر دخله التخصيص، فيكون ما لم يدخله التخصيص أولى؛ لأنه أقوى؛ لأن دخول التخصيص يضعف اللفظ، ومن الناس من قال: يصير مجازاً. الخامس: أن يكون قد قضى بأحدهما على الآخر في موضعه، واختلفا في غيره، فيكون القضاء به أولى. السادس: أن يكون أحدهما مطلقاً، والآخر وارداً على سبب، فإنه يقضي على سببه، ويقدم المطلق عليه، لأن الوارد على سبب قد ظهرت فيه أمارة التخصيص، فيكون أولى بإلحاق التخصيص به. مثاله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من بدّل دينه فاقتلوه) (1) ، فإنه يقدم على نهيه عن قتل النساء؛ لأنه وارد في الحربية. السابع: أن يكون أحدهما قصد به بيان الحكم المختلف فيه: فيكون أولى، كما قدمنا قوله: (وَأَنْ تجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ) (2) على قوله: (أَوْ مَا مَلَكَت أَيْمَانُكُم) (3) في تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ لأن قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) قصد به الزوج دون بيان الحكم. الثامن: أن يكون أحد المعنيين أظهر في الاستعمال، كما قدمنا الحمرة في الشّفق. التاسع: أن يكون أحد التأويلين موافقاً لفظه من غير إضمار، كما قلنا في قوله عليه السلام للمرتهن: (ذهب حقك) (4) يعني من الوثيقة دون
الدين؛ لأن (1) حمله على الدين يحتاج إلى إضمار، فيقول: ذهب حقك: دينك إذا كان مثل قيمة الرهن. والعاشر: أن يكون أحد التأويلين لا يتضمن تخطئة النبي [صلى الله عليه وسلم] في الباطن، والآخر يتضمن تخطئة، كما يقول [156/ب] في ضمان علي بن أبي طالب عن الميت، وقوله: (هما علي يا رسول الله وأنا لهما ضامن) (2) ابتداء ضمان، وليس بإخبار عن ضمان سابق؛ لأنه لو كان إخباراً عن ضمان، لكان الميت قد خلف وفاءً، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بامتناعه عن الصلاة يكون مخطئاً في الباطن. والحادي عشر: أن يكون أحدهما إثباتاً والآخر نفياً، فيكون الإثبات أولى، كما قدمنا رواية بلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت، وصلى (3) ، على رواية أسامة (4) : أنه لم يصل (5) ؛ لأن من رآه يصلي، معه زيادة علم. وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على هذا في رواية الميموني فقال: الذي يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة ولم يصلّ، وهذا يقول: صلَّى، فهذا يشهد أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى. وابن عمر [يقول] :
لم يقنت النبي [صلى الله عليه وسلم] (1) ، وغيره يقول: قنت (2) ، فهذه شهادة عليه أنه قنت. وحديث أنس: لم يأنِ لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يخضب (3) وغيره (4) يقول قد خضب (5) ، فهذه شهادة على الخضاب، والذي يشهد على النبي [صلى الله عليه وسلم] ليس بمنزلة من لم يشهد. الثاني عشر: أن يكون أحدهما زائداً، كما قدمنا خبر التكبير سبعاً في صلاة العيد (6) على غيره أنه كبر..............................
.................................
أربعاً (1) ، وكما قدمنا في صدقة الفطر رواية......................
الصاع (1) على من روى نصف صاع (2) . والثالث عشر: أن يكون أحدهما متأخراً؛ لأن ابن عباس قال: كنا نأخذ من أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأحدث فالأحدث. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية عبد الله؛ تستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة، فإن الخبر قبل الخبر، فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به. والرابع عشر: أن يكون أحدهما فيه احتياط للفرض وتبرئة للذمة بيقين، أو يكون احتياطاً للفعل المقصود، مثل الاحتياط للحرب في صلاة الخوف.
والخامس عشر: أن يتقابل لفظ القرآن ولفظ السنة ويكون بناء كل واحد منهما على الآخر ممكناً، فظاهر كلام أحمد: تقديم السنة وترتيب القرآن عليها (1) ، وقال: السنة بيان القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (2) . وقال في رواية أبي الحارث: السنة تفسر القرآن وتبينه، والسنة تعرف الكتاب. وقال في رواية أبي داود: السنة تفسر القرآن. وفي رواية عبد الله: السنة تدل على معنى القرآن. ويحتمل أن يقدم القرآن وترتب السنة عليه؛ لأنه مقطوع بطريقه، ومثاله: أن يبيح أكل كلب الماء وخنزيره بقوله عليه السلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) (3) ويعارض هذا الخصم بقوله تعالى: (أوْ لَحْمَ خنزيرٍ) (4) ، وهذا ينبني على نسخ السنة بالقرآن، وقد ذكرنا جواز ذلك. السادس عشر: أن يكون أحدهما حاظراً، والآخر مبيحاً، [157/أ] فالحاظر أولى؛ لأن في الحظر احتياطاً؛ لأن ترك المباح لا إثم فيه، وفعل المحظور إثم، فكان تركه أولى من الفعل ها هنا. ولأنه إذا اجتمع ما يبيح وما يحظر، وجب تغليب الحظر، كما نقول
في المتولد من بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، وبين من يباح مناكحتهم ومن يحرم، والمذكي بمن تباح ذكاته ومن لا تباح. وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية إسماعيل بن سعيد في الأمر المختلف فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم ناسخه من منسوخه: نصير في ذلك إلى قول علي نأخذ بالذي هو أهنأ وأهدى وأبقى. واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب الكرخي والرازي إلى مثل قولنا. وذهب عيسى بن أبان: إلى أنه لا يرجح بمثل هذا، ويتعارضان ويسقطان ويصيران كأنهما لم يردا، ويرجع في حكم الحادثة إلى غير هذا الخبر. واختلف أصحاب الشافعي أيضاً على نحو ما ذكرنا من الاختلاف. ومن قال: لا يرجح بالحظر احتج: بأن تحريم المباح كإباحة المحظور، فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية. والجواب: أنه يبطل بالأصول التي ذكرناها، وهو المتولد من بين المباح والمحظور، فإن الحظر غلب الإباحة، وإن كان هذا المعنى الذي ذكره موجوداً (1) ؛ فلأن تحريم المباح كإباحة المحظور فيما تثبت إباحته، وها هنا ما ثبتت إباحته. ولأن للحظر مزية، ألا ترى أنه يحكم به، وإن كان لم تكمل شرائط الحظر، والمباح لا يحكم به، حتى تكتمل جميع شرائطه، وبيان هذا:
أن البيع يحرم بوجود شرط واحد ويفسده، وإباحته لا تحصل إلا بعد كمال شرائط الإباحة. واحتج: بأن الشيء الواحد يستحيل أن يكون محظوراً على الواحد في وقت مباحاً له في ذلك الوقت، كما يستحيل أن يكون الواحد بمكة وبغداد في يوم واحد، وقد ثبت أن أربعة لو شهدوا على رجل أنه رُئِيَ يوم النحر بمكة، وشهد أربعة آخرون أنه رئِيَ في ذلك اليوم ببغداد، أو شهد عليه شاهدان أنه قتل زيداً يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه قتل عمراً ذلك اليوم ببغداد، أن شهادة الجميع تسقط، كذلك إذا ورد خبر بحظر شيء، وورد آخر بإباحة ذلك الشيء في وقت واحد، وجب أن يسقط الخبران. والجواب: أن الشهادة كانت على حقيقة الفعل، فلهذا استحال وجود الفعل منه بمكة وببغداد في يوم واحد، وكذلك يستحيل قتله لزيد يوم النحر، و [قتله لعمرو في ذلك اليوم بـ] بغداد، تهادرت البينتان، وليس كذلك الخبران بإباحة الشيء وحظره؛ لأنهما يوجبان ذلك [157/ب] الشيء من طريق الحكم، ويجوز أن يكون الشيء مباحاً في الأصل، ثم يحظره النبي [صلى الله عليه وسلم] ويخفي علينا الباقي، ونظير هذا من الشهادة أن يتعارضا في الملك المطلق وأحدهما خارج، فإنما تقدم بينة الخارج. واحتج: بأنه لو أخبر بطهارة الماء واحد. وأخبر غيره بنجاسة ذلك الماء، ولم يكن لأحد المخبرين مزية على الآخر، ولا كان للمخبر رأي يعمل على الغالب منه، أنهما يسقطان، ويبقي الماء على أصل الطهارة وكذلك لو أن رجلين أخبر أحدهما بأن هذا اللحم ذبيحة مجوسي، وأن هذا الشراب خالطه خمر، وأخبر آخر أن ذلك حلال طاهر، ولم يكن للمخبر رأي يعمل على ما يغلب في رأيه: أن الخبرين يسقطان، ويبقى الطعام والشراب على أصل الإباحة، كذلك إذا عدم التاريخ بين خبري الحظر والإباحة، يجب أن
يسقطا، ويبقى الشيء على حكم الإباحة في الأصل. والجواب عنه: ما تقدم من الوجه الذي بينا. وهو أن الشيء يكون مباحاً في الأصل، ثم يحظره النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وغير جائز أن يكون الماء نجساً، ثم يصير طاهراً، أو الطعام نجساً فيصير طاهراً. السابع عشر: أن يتعارض خبران في الحد، فإنه لا يقدم المسقط للحد، ولهذا أخذ أحمد رحمه الله بحديث عبادة في اجتماع الجلد والرجم (1) ، ولم يقدم عليه حديث ماعز (2) وأنيْس (3) في إسقاط الجلد. ومن أصحاب الشافعي من قدم المسقط للحد؛ لقوله عيه السلام: (ادرؤوا الحدود بالشبهات وادرؤوا ما استطعتم) (4) .
وهذا غير صحيح؛ لأن الشبهة لا تؤثر في ثبوته شرعاً، ألا ترى أنه يثبت بخبر الواحد والقياس مع وجود الشبهة فرضاً؟ الثامن عشر: أن يكون في أحدهما إلحاق النقض بالصحاح، كخبر القهقهة (1) . التاسع عشر: أن يرجح بالقرائن. مثاله قوله تعالى: (أوْ لامستُم النسَاءَ) (2) حمله على لمس اليد أولى من الجماع؛ لأنه قرن ذلك بالمجيء من الغائط، وذلك يوجب الطهارة الصغرى. العشرون: أن يرجح باستعمال مثله في نظير لفظه، مثاله: أن يقضيَ بقوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) على قوله: (فيما سقت السماء العشر) ، كما قضى بقوله: (ليس فيما دون
خمس أواق من الورقة صدقة) على قوله: (في الرقة ربع العشر) . الحادي والعشرون: أن يكون أحدهما يجمع بينهما، والآخر يسقط أحدهما، فيكون الجمع بينهما أولى من إسقاط أحدهما بالآخر. وأما الترجيح الذي لا يعود إلى الإسناد والمتن وإنما هو إلى غيرهما فمن وجوه: أحدها: أن يكون أحدهما موافقاً لظاهر القرآن، أو موافقاً لسنة أخرى، فيقدم بذلك، ومثاله: حدث التغليس (1) يقدم على حديث الإسفار (2) ؛ لأنه يوافق قول الله تعالى:
(حَافظُوا على الصلَوَاتِ) (1) . وقوله تعالى: (سَارِعُوا إلَى مَغْفِرَة مِنْ ربِكُمْ) (2) ، ويوافقه أيضاً قول النبي صلى الله عليه [وسلم] : (أول الوقت رضوان الله) (3) ،
وقوله: (أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها) (1) ، ومثل قوله: (لا نكاح إلا بوليّ) ، فيرجح على قوله: (ليس للولي مع الثيب أمر) ، بحديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) . فإن كان مع أحدهما ظاهر القرآن، ومع الآخر ظاهر سنة أخرى، فأيهما أولى؟ فنقل محمد بن أشرس: أن أحمد رحمه الله سئل عن الحديث إذا كان صحيح الإسناد، ومعه ظاهر القرآن، ثم جاء حديثان صحيحان
خلافه، أيما أحب إليك؟ فقال: الحديثان أحب إليّ إذا صحا. وهذا مبني على أصل قد تقدم، وهو إذا تقابل لفظ القرآن ولفظ السنة، ويمكن بناء كل واحد منهما على الآخر، هل تقدم السنة أو القرآن؟ فقد حكينا خلافاً في المذهب، فكذلك ها هنا. الثاني: أن يروى معنى أحدها بألفاظ مختلفة من وجوه أخر، مثل ما قدمنا حديث لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله) ، وقوله: (أفضل [الأعمال] الصلاة في أول وقتها) ، وقوله: (إن أحدكم ليصلي الصلاة، وقد ترك من أول الوقت ما هو خير له من أهله وماله) (1) . ْالثالث: أن يكون أحدهما موافقاً للقياس، مثل قوله عليه السلام: (ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة) (2) ، فيقدم على حديث
فورك السعدي؛ لأن ما لا تجب الزكاة في ذكوره لا تجب في إناثه، قياساً على الحمير والبغال وسائر الحيوانات التي لا زكاة فيها. الرابع: أن يكون مع أحدهما حديث مرسل؛ لأن مجيئه من طريق مسند ومرسل أقوى له. الخامس: أن يكون أحدهما عمل به الأئمة الأربعة، كما قدمنا رواية من روي في تكبيرات العيدين سبعاً وخمساً (1) على رواية من روى أربعاً، كأربع الجنائز (2) ؛ لأنه عمل به أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في مواضع:
فقال في رواية صالح: رويَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (توضؤوا مما مست النار) (1) ، وروي أنه نهس (2) عظماً وصلى ولم يتوضأ (3) ، فنظر إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لم يتوضئوا مما مست النار، فقد تكافأت (4) الرواية فيه.
وكذلك نقل أبو الحارث عنه في الحديثين المختلفين، وهما جميعاً بإسناد صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ينظر إلى ما عمل به الأئمة الأربعة، فيعمل به. وكذلك نقل الفضل بن زياد في الحديثين بإسناد صحيح: ينظر إلى ما عمل أو ما قال الخلفاء بعده [158/ب] ، يعني: أبا بكر وعمر. فإن اقترن بأحدهما عمل أهل المدينة، لم يقدم به، خلافاً لأصحاب الشافعي في قولهم: يقدم به، وذكروا ذلك في حديث الترجيع (1) في الأذان (2) ، وأنه يقدم على غيره؛ لأنه عمل به أهل المدينة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك إن اقترن به عمل الكوفة، لم يقدم به، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني في أصوله: أنه يقدم بعمل أهل الكوفة إلى زمن أبي حنيفة، قبل ظهور البدع؛ لأن أمراء بني مروان غَلَبوا على المدينة والكوفة، وكان فيهم تغير شيء من الشريعة، وإنما لم نرجح بذلك؛ لأنه بلد من البلاد، فلم يرجح نقل أهله كسائر البلاد. السادس: أن يقترن، بأحدهما تفسير الراوي، كما قدمنا ما روى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أيما رجل أَعمر عمْرى له ولعقبه، فإنها للذي يعطاها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه اعطى عطاء ووقعت (1) فيه المواريث) (2) على رواية (من أَعمر عمرى فهي له، ولعقبه، يرثها من يرثه من عقبه) (3) ، كما روى معمر عن الزهري عن
أبي سلمة (1) عن جابر بن عبد الله أنه قال: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما اذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) (2) . وكذلك حملنا التفرق على التفرق بالبدن، لما روي عن ابن عمر أنه كان إذا اراد أن يوجب البيع مشى قليلاً ثم رجع، وقال أبو بردة: لا أراكما تفرقتما. وكذلك رجع أحمد رحمه الله الى تفسير ابن عمر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فاقدروا له، وأنه كان يتراءى الهلال، فإن كانت السماء ذات غيم أصبح صائماً، وإن كانت ذات صحو أصبح مفطراً، إذا لم ير الهلال) (3) . قال أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار في الجزء الذي فيه المناولة والإجازة حدثنا العباس بن محمد بن حاتم بن واقد الدوري (4) حدثنا روح
ابن عبادة (1) حدثنا داود بن قيس (2) عن محمد بن عمرو بن عطاء (3) قال كان موسى بن يسار (4) جالساً معنا، فقال له ابن عمر: يا موسى بن
يسار إذا فرغت من حديثك، فسلم، فإنك في صلاة. قال: وحدثنا العباس بن محمد الدوري أيضاً قال: حدثنا موسى بن داود (1) حدثنا ابن لهيعة عن حنين بن أبي حكيم (2) عن نافع (3) عن ابن عمر قال: من أراد حفظ الحديث فليردده ثلاثاً (4) .
المجلد الرابع
باب الإِجماع الإِجماع (1) في اللغة: ما اجتمع القوم عليه، سواء كانوا ممن تثبت الحجة بقولهم أو لا تثبت (2) . وهو في الشرع: عبارةٌ عمن تثبت الحجة بقوله (3) . وسمي إجماعاً؛ لاجتماع الأقوال المتفرقة [159/أ] والآراء المختلفة.
مسألة
وقيلِ: سُمِّي بذلك من القطع وإمضاء الرأي وتنفيذه، ومنه قوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا أمْرَكَم (1)) أي: اعزموا (2) . مسألة (3) الإِجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته (4) ، ولا يجوز أن تجتمع الأمَّةُ على الخطأ.
وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية عبد الله وأبي الحارث: "في الصحابة إذا اختلفوا لم يُخْرَج من أقاويلهم، أرأيت إن أجمعوا، له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث، قول أهل البدع، لا ينبغي (1) أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا" (2) . وقد علق القول في رواية عبد الله فقال: "من ادعى الإِجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المَرِّيسي (3) والأصم (4) ، ولكن [يقول] : لا نعلم، [لعل] الناس اختلفوا ولم يبلغه" (5) .
وكذلك نقل المروذي عنه: أنه قال: "كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا إذا سمعتهم يقولون: أجمعوا فاتهمهم، لو قال: إني لم أعلم لهم مخالفاً جاز" (1) . وكذلك نقل أبو طالب عنه: أنه قال: "هذا كذب، ما علمه (2) أن الناس مجمعون، ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافاً، فهو أحسن من قوله: إجماع الناس". وكذلك نقل أبو الحارث: "لا ينبغي لأحد أن يدعي الإِجماع، لعل الناس اختلفوا" (3) . وظاهر هذا الكلام أنه قد منع صحة الإِجماع، وليس ذلك على ظاهره، وإنما قال هذا على طريق الورع، نحو أن يكون هناك خلاف لم يبلغه. أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأنه قد أطلق القول بصحة الإِجماع في رواية عبد الله وأبي الحارث (4) . وادعى الإِجماع في رواية الحسن بن ثواب، فقال: "أذهب في التكبير من غداة يوم
عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شيء تذهب؟ قال: بالإِجماع (1)
عمر (1) وعلي (2) وعبد اللَّه بن
مسعود (1) ، وعبد الله بن عباس" (2) . وهذا قول جماعة الفقهاء والمتكلمين (3) .
دليلنا:
وحُكي عن إبراهيم النَّظَّام (1) : أن الإِجماع ليس بحجة، وأنه يجوز اجتماع الأمة على الخطأ (2) . وحُكِي عن الرافضة: أن الإِجماع ليس بحجة، وأن قول الإِمام وحده حجة (3) . دليلنا: قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبيَّن لَهُ الْهُدَى، وَيَتَّبع غَيْرَ سَبِيلِ المُؤمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَىَّ، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (4) . فوجه الدلاَلَة: أن الله تعالى توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، فدل على أن أتباع سبيلهم واجب. فإن قيل: هذا احتجاج من دليل الخطاب، ونحن لا نقول به. قيل: دليل الخطاب عندنا حجة، ونحن نبني فروعنا على أصولنا.
وعلى أن هذا ليس بدليل الخطاب (159/ب) ، وإنما هو احتجاج بتقسيم عقلي؛ لأنه ليس بين اتباع غير سبيلهم (1) وبين اتباع سبيلهم قسم ثالث، وإذا حرّم الله تعالى اتباع غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم. فإن قيل: (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) في الأقوال مجاز، وإنما السبيل هو: الطريق. قيل: الأصل في الاستعمال الحقيقة، وقد استعمل فيهما، فوجب أن يكون حقيقة فيهما (2) . وعلى أنه لو كان مجازاً، لكان إذا كثر الاستعمال فيه، جرى مجرى الحقيقة.
والاستعمال في القول مثل الاستعمال في الطريق إذا كثر، قال الله تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (1) ، وقال: (مَنْ هُوَ أهْدَى سَبِيلاً) (2) ، (وَأضَلُّ سَبِيلاً) (3) ، (وَلَنْ يَجْعَلَ اْللَّهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤمِنِينَ سَبِيلاً) (4) ، ويقال: سبيل المعروف، وسبيل الوقوف، وما أشبه هذا مما يكثر
تعداده. وهذا بمنزلة المذهب الذي هو حقيقة في الطريق وفي القول والاعتقاد (1) . فإن قيل: الذي تعلق بمشاقة الرسول وباتباع غير سبيل المؤمنين، فثبت أنه لا يتعلق بأحدهما على الانفراد. قيل: مشاقة الرسول محرمة بانفرادها، وإن لم يكن هناك مؤمن، فدلَّ على أن التوعد على كل منهما بانفرادِه، وهذا مثل قِوله تعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلهاً آخَرَ وَلاَ يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بالْحَق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (2) ، فجمع بين هذه الأفعال في الوعيد، وكان منصرفاً إلى كل واحد منهما (3) .
وجواب آخر، وهو: أن (1) اتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن محرماً بانفراده لم يحرم مع مشاقة الرسول كسائر المباحات، ألا ترى أنه لا يجوز الجمع بين القبيح والمباح في باب الوعيد، فلما جمع تعالى بين مشاقة الرسول وبين ترك اتباع سبيل المؤمنين في الوعيد علم أن كل واحد منهما يقتضي الوعيد. فإن قيل: فالمؤمنون لا يعرفون بأعيانهم؛ فلا يصح الاحتجاج به. قيل: إذا أجمع الكل دخل المؤمنون فيهم؛ لأن من أظهر الإِيمان وجب أن يحكم بإيمانه، ولا اعتبار بما غاب عنا من اعتقاده، فإذا كان كذلك سقط السؤال. فإن قيل: ذكر (المُؤْمِنِينَ) بالألف واللام، فاقتضى جنس المؤمنين إلى يوم القيامة. قيل: لا يجوز أن يريد به جميعهم، لأن التكليف في ذلك يكون يوم القيامة ولا تكليف في الآخرة، فعلم أن المراد به بعض المؤمنين، وإذا كان المراد به البعضَ، فقد أجمعوا على أنه لم يرد ما زاد على أهل العصر، فكان (2) المراد به أهل العصر. ولأن من [160/أ] لم يخلق لا يسمى مؤمناً، ومن خلق ومات فلا يسمى مؤمناً حقيقة، وإنما كان مؤمناً. جواب آخر، وهو: أن الآية أريد بها بعض المؤمنين؛ لأنه توعد من خالف سبيلهم، فاقتضى ذلك أن يكون هناك متوعد غير الذين يخالف سبيلهم. فإن قيل: الوعيد على ترك سبيل المؤمنين فيما صاروا به مؤمنين، وهو
التوحيد وفعل الإِيمان (1) . قيل: هذا تخصيص لعموم الآية بغير دليل. وعلى أنه لا اعتبار في ذلك بالاتباع، وإنما يجب العمل فيه بموجب الدليل،
فوجب حمله على غيره من أحكام الشرع. فإن قيل: اتباع سبيل المؤمنين: أن ينظر، ويجتهد، ويثبت الحكم من الطريق الذي أثبتوه، وإذا كان كذلك فتكون الآية حجة عليكم. قيل: النظر المؤدي إلى قولهم لا يمنع منه، وإنما يمنع من النظر المؤدي إلى خلاف قولهم؛ لأن من فعل ذلك يكون تاركاً لسبيلهم ومخالفاً لهم. وكذلك من دخل مصراً من أمصار المسلمين جاز له أن يجتهد، فإذا أدى اجتهاده إلى صحة محاريبهم (1) صلى إليها، ولا يجوز مخالفتها. فإن قيل: الوعيد إنما هو على اتباع غير سبيل المؤمنين، وأنتم تطلقون الوعيد لترك السبيل. قيل: إذا لحقه الوعيد باتباع غيرهم والعدول عنهم، ثبت أنه قد ترك واجباً، فلحقه الوعيد بالعدول عنه (2) . وطريقة أخرى: قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُم أمَّةً وسَطَاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ) (3) والوَسَطُ: العَدْلُ الخِيَار (4) .
وهذا كما قال في آية أخرى (1) (قَالَ أوْسَطهُمْ ألمْ أقل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ) (2) يعنى: أعدلهم وخيرهم (3)
وكما قال الشاعر: هم وَسَط يَرْضى الإِله (1) بِحُكْمِهم ... إذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللَّيَالِى بِمُعْظَمِ (2) ويقال: مِيَزان وَسَط، إذا لم يكن فيه ميل. وإذا أخبر الله تعالى أن الأمة عدل، لم يجز عليهم الضلالة؛ لأنه لا عدالة مع الضلالة، وجعلهم شهداء على الناس، كما جعل الرسول شهيداً عليهم، فلما كان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجة، كذلك قول الأمة. فإن قيل: إنما جعلتم شهداء عليهم في الآخرة. يبين صحة هذا: قوله (3) : (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ولا يمكن شهادتهم على الجميع إلا في الآخرة.
قيل: هذا خرج مخرَج المدح لهم في الدنيا، فلو كانوا شهداء في الآخرة لم يكن مدحاً لهم في الدنيا. وعلى أنه جعلهم شهداء على الناس كما جعل الرسول، فلما كان المراد شهادة النبي في الدنيا، كذلك في الأمة (1) . فإن قيل: [160/ب] كونهم شهداء لا يمنع وقوع الخطأ منهم، كما لا يمنع وقوع ذلك من الشاهِدَيْن. قيل: لأن الله تعالى لم ينص على شاهدين بأعيانهما حتى [يكون] ذلك مانعاً من وقوع الخطأ والكذب منهما، ولو نص على شاهدين لامتنع ذلك منهما كالأمة (2) . وطريقة أخرى، وهو: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لاَ تَجْتَمِعُ أمَتي عَلَى ضَلاَلة) .
وروي: (عَلَى خَطَأ) (1) .
.................................
وروي: (ما رآه المسلمونَ حسناً، فهو عندَ الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عندَ الله قبيحٌ) (1) .
وروي: (من فارق الجماعة (1) قِيدَ شِبْر، فقد خَلَع
رِبْقة (1) الإِسلام من عُنقِه) (2) .
(ومن فَارَقَ الجماعةَ ماتَ مِيتَةً جَاهلية) (1) .
وروي: (عليكم بالسَّواد (1) الأعظم) (2) . وروي: (ثلاث لا يغل (3) عليهن (4) قلب مؤمن (5) : إخلاص العمل لله والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين) (6) .
وروي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الشذوذ، وقال: (مَن شَذ (1) شَذَّ فِى النَّار) (2) . وهذا كله يدل على أن اتباع المجمعين فيما أجمعوا عليه واجب (3) . فإن قيل: هذه أخبار آحاد فلا يجوز الاحتجاج بها في مثل المسألة. قيل: هذه مسألة شرعية، طريقها مثل مسائل الفروع، ليس للمخالف فيها طريق تمكنه أن يقول: إنه موجب القطع. وجواب آخر، وهو: أنه تواتر في المعنى من وجهين:
أحدهما: أن الألفاظ الكثيرة إذا وردت من طرق مختلفة، ورواة شتَّى، لم يجز أن يكون جميعها كذباً، ولم يكن بد من أن يكون بعضها صحيحاً. ألا ترى أن الجمع الكثير إذا أخبروا بإسلامهم، وجب أن يكون فيهم صادق (1) قطعاً. ولهذا نقول: لا يجوز أن يقال: جميع ما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون كذباً موضوعاً. ولهذا أثبتنا كثيراً من معجزات رسول الله، وأثبتنا وجوب العمل بخبر الواحد بما روي عن الصحابة -رضى الله عنهم- من العمل به في قضايا مختلفة. والثاني: أن هذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، ولم ينقل عن أحد أنه رده، ولهذا نقول: إن قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (نحن معشر الأنبياء لا نُورَث، ما تركنا صدقة) (2) ، لما اتفقوا على العمل به، دل على أنه صحيح عندهم.
فإن قيل: نحمل قوله: (لا تجتمع أمتي على الخَطَأ) (1) يعنى: على كفر. قيل: هذا محمول على الأمرين جميعاً (2) . وعلى أن الخطأ إنما يعبر به عن المعاصى والآثام، دون الكفر. فإن قيل: قوله: (لا تجتمعُ على ضلالة) معناه: لا يجمعهم الله على الضلال. قيل: الخبر عام، لا يجمعهم الله ولا يجتمعون. فإن [161/أ] قيل: قوله: (لا تجتمع أمتي) ، وإن كان لفظه لفظ الخبر، فالمراد به: النهي، وتقديره: لا تجتمعوا على ضلال؛ لأنه لو كان خبراً لوقع بخلاف مخبره؛ لأنا نجد في الأمة اجتماعها على الضلال. قيل: قوله: (لا تجتمع على ضلالة) (3) خبر، وقوله: "يقع بخلاف مخبره" غلط؛ لأنا لم نجد اجتماع الأمة على ضلالة، وإنما يوجد بعضهم، والخبر اقتضى اجتماعهم. فإن قيل: فهذه الأخبار يعارضها ما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن (لا تقوم الساعة إلا على أشرار (4) الناس) (5) ، وكيف يكون اجتماع الناس حجة؟
قيل: أراد به الغالب، فهم الشرار، وهذا سائغ إطلاقه. وأيضاً: فإنه لا خلاف أن نصب الزكاة والمقادير الواجبة فيها ثابتة مقطوع بها، في خمس من [الإبل] شاة، وفي عشرين [ديناراً] نصف دينار، وفي خمس وعشرين من الإبل بنتُ مخاض (1) ، وفي ثلاثين من البقر تبيع" (2) ، وأربعين مسنة (3) ، و [في] ، أربعين (4) [شاةٌ] ، شاةٌ، وفي مائتين [من الدراهم] ، خمسةُ دراهم (5) . وكذلك أركان الصلاة مقطوع بها، ومعلوم: أنه ما ثبت فيها خبر تواتر، وإنما نقل فيها أخبار آحاد: ابن عمر وأنس وغيرهما، عدد معروف، فلما اتفقوا عليها، وقطعوا على ثبوتها، علمنا أن ثبوتها قطعاً من حيث الإِجماع، لا من حيث أخبار
الآحاد، بل من ناحية أن الأمة تلقتها بالقبول، فصارت الأخبار فيها كالمتواترة. واحتج بعضهم فيها بطريق عقلي، فقال: كان سائر الأمم إذا أتفقت على باطل، وأجمعت على تغيير وتبديل، بعث الله إليهم نبياً، فردهم إلى الحق والصواب، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء، ولا نبي بعده، فجعلت أمتُه معصومةٍ، لتكون عصمتُها عوضاً عن بعثة النبي. واحتج المخالف: بقوله: (وَنَزَّلنَا عَلَيْكَ (1) الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُل شَىْء (2)) ثبت أنا لا نفتقر معه إلى غيره. وقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ) (3) يبين أن لا حكم لغيره. وقال تعالى: (فَإِن تَنَازعْتُم فِى شَىْءٍ فَرُدوُّه إلى اللهِ وَالرسُولِ) (4) . وأشباه هذه الظواهر. والجواب: عن قوله: (تِبْيَاناً لِّكُل شَىْءٍ) فهكذا نقول، فقد بين الله تعالى عن الإِجماع بقوله: (وَمنْ يُشَاقِقِ الرسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيل الْمُؤْمِنينَ) (5) . وأما قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) وقوله: (فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) معناه: إلى كتاب الله، وكذا نقول، وفي الكتاب والسنة أن الإِجماع حجة.
واحتج: بما روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: (بم تحكم إذا عرض لك قضاء؟ فقال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب الله قال: بسنة رسول الله [161/ب] قال: فإن لم تجد في سنة رسولِ الله، قال: أجتهد رأيى، ولا آلو، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه) (1) فذكر الأدلة، ولم يذكر فيها الإجماع. والجواب: أنه لا حجة فيه؛ لأن الإجماع إنما يعتبر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز أن ينعقد الإجماع في حياته دونه، وقوله بانفراده عنه لا يفتقر إلى قول غيره، فلم يكن في عصره اعتبار بالإجماع. واحتج بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خُطبة الوَداع: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضربُ بعضُكم رقابَ بعض) (2) .
وروي عنه أنه قال: (لتركبنَّ سَنَن (1) من كان قبلكم، حَذْوَ القذة (2) بالقُذَّة) (3) . وهذا يدل على أن ذلك جائز على الأمة.
والجواب: أن هذا خطاب لبعض الأمة، وقوله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) خاص في حال الإِجماع، والخاص يجب أن يُقْضَى به على العام. واحتج: بأن كل واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ بانفراده، فإذا اجتمع مع غيره كان بمنزلة المنفرد؛ لأنه مجتهد برأيه المعرض للخطأ. والجواب أن عصمة الأمة في حال الاجتماع أثبتناه بالشرع دون العقل، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى: أنهم لا يختارون الخطأ في حالة الاجتماع، ولا يقع ذلك منهم، فإذا أخبر بذلك وجب المصير إليه والعمل به. وجواب آخر، وهو: أن هذا باطل بأخبار التواتر، فإنها توجب العلم عند كثرة المجتهدين، وإن كان كل واحد منهم لو انفرد لم يوجب خبره العلم، وهكذا
الجماعة تحمل الحجر العظيم، وإن كان الواحد لو انفرد به لم يطق حمله. وكذلك الطعام إذا كثر أشبع، والماء إذا كثر روى، وإن كان اليسير منهما لا يشبع ولا يروي. واحتج: بأن الآية لا تحصر، ولا يمكن سماع أقاويلهم، وما لا سبيل إلى معرفته، فلا يجوز أن يجعله صاحب الشريعة دليلاً على شريعته. والجواب: أن الإِجماع ينعقد عندنا باتفاق العلماء، وإذا اتفقوا جملة كانت العامة تابعة لهم. ويمكن معرفة اتفاق أهل العلم؛ لأن من اشتغل بالعلم حتى صار من أهل الاجتهاد فيه، لم يخف أمره على أهل بلده وجيرانه، ولم يخف حضوره وغيبته، ويمكن الإِمام أن يبعث إلى البلاد، ويتعرف أقاويل الممتنع. فإن قيل: يجوز أن يكون قد أسر في الغزو رجل من أهل العلم، وهو في مطمورة (1) المشركين. قيل: لا يخفى ذلك، وإذا جرى ذلك لم ينعقد الاجماع إلا بالوقوف على مذهبه. وأجاب بعضهم عن هذا: بأنا نسمع أقاويل الحاضرين [162/أ] ، والخبر عن الغائبين.
مسألة
مسألة إجماع أهل كل عصر حجة، ولا يجوز إجماعهم على الخطأ (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي، وقد وصف أخذ العلم فقال: "ينظر ما كان عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن، فعن أصحابه، فإن لم يكن فعن التابعين". وقد عَلَّق القول في رواية أبي داود فقال: "الاتباع: أن تتبع ما جاء عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وهو بعد في التابعين مخير" (2) . وهذا محمول من كلامه على آحاد التابعين، لا على جماعتهم. وقد بين هذا في رواية المروذي فقال: "إذا جاءك الشىء عن الرجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي، لا يلزم الأخذ به" (3) . وبهذا قال جماعة الفقهاء (4) والمتكلمين (5) .
وقال أهل الظاهر: داود وأصحابه: الإجماع: إجماع الصحابة دون غيرهم (1) . ويدل عليه أيضاً: قوله: (لا تجتمع متي على ضلالة) و (على الخطأ) . وقوله (ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح) . وقوله: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية، ومن فارق الجماعة قيدَ شبر خلع رِبْقة الإِسلام من عنقه) . ونحو ذلك من الأخبار التى تقدم ذكرها، وهو عام في الصحابة. [وفي غيرهم] . فإن قيل: الأمة عبارة عن الجماعة، وحقيقة ذلك الموجود حال (2) حصول هذا القول منه (3) دون عصر من يوجد. قيل: هو حقيقة في الكل. ولأن غير الصحابة أكثر عدداً من الصحابة، ومنهم من أهل [162/ب] الاجتهاد أكثر منهم، فإذا وجب الرجوع إلى قول الصحابة مع قلتهم، فالرجوع إلى قول الأكثر أولى. واحتج المخالف:
بقوله: (فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرسُولِ) (1) . والجواب: أن معناه: فردوه إلى أدلة الله ورسوله، والإجماع من أدلته، فقد رددناه إليه. واحتج بقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ) (2) وهذا خطاب مواجهة للصحابة، فلا يدخل فيهم غيرهم (3) . وكذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً) (4) . والجواب: أن هذا عام في الصحابة وغيرهم من الوجه الذي بينا. وأن ذلك جار مجرى قوله: (أقِيمُوا الصَّلاَةَ) (5) ، و (حُجُّوا) (6) و (جَاهِدُوا) ، (7)
وأنه على العموم. واحتج: بأنا قد علمنا من ناحية العقول: أنه لا فَصْل بين هذه الأمة وبين من تقدمها في جواز الخطأ وتعمد الباطل في الأخبار: بالكذب فيها (1) ، وإنما انفصلت الصحابة ممن تقدمها من الأمم لورود الخبر بذلك، وبقي غيرهم على موجب الدليل في المنع من قولهم. والجواب: أن قولك: لا فرق بين هذه الأمة وبين من تقدمها غلط؛ لأن من تقدمها إذا كذبت في الإِخبار عن نبيها وأخطأت فيما يتعلق بالدين، علم خطؤها وكذبها من جهة من يرد عليها من بعد نبيها من الأنبياء، وليس كذلك أمة نبينا؛ لأنها إذا ضَلّت وأخطأت لم يرد من بعد من يعرف من جهته ضلالتها، فحرس الله تعالى من أجل ذلك هذه الأمة من الضلالة والكذب والخطأ في الدين. وجواب آخر، وهو: أن كل دليل ورد بعصمة جميع الصحابة، فهو دليل على أعصمة، غيرهم، وعام فيهم وفي غيرهم. واحتج: بأن الصحابة لها مزية كل غيرهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى اتباعهم بقوله: (أصحَابِي كالنُّجُوم، بأيُّهم اقتديتم اهتَديْتُم) (2) .
ولأنهم مقطوع على عدالتهم، وشاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل. والجواب: أنهم وإن خُصُّوا بهذه المزية، فلم يكن قولهم حجة لهذه المعاني، وإنما كان لأجل أنهم من أهل الاجتهاد، وهذا موجود في غيرهم كوجوده فيهم.
مسألة
مسألة انقراض العصر معتبر في صحة الإجماع واستقراره (1) . فإذا أجمعت الصحابة على حكم من الأحكام، ثم رجع بعضهم أو جميعهم انحل الإجماع. وإن أدرك بعض التابعين عصرهم -وهو من أهل الاجتهاد- اعتد بخلافه، إذا قلنا: إنه يعتد بخلافه معهم. وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية عبد الله فقال: "الحجة على من زعم أنه إذا [163/أ] ، كان أمراً مجمعاً عليه، ثم افترقوا، ما نقف على ما أجمعوا عليه حتى يكون إجماعاً. إن أم الولد كان حكمها حكم الأمة بإجماع، ثم أعتقهن عمر، وخالفه علي بعد موته، ورأى (2) أن تُسْتَرَق (3) . فكان الإجماع في الأصل: أنها أَمة.
وحد الخمر: ضرب أبو بكر أربعين، ثم ضرب عمر ثمانين، وضرب علي في خلافة عثمان أربعين، فقال: ضرب أبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكل سنة (1) . والحجة عليه في الإجماع في الضرب أربعين، ثم عمر خالفه، فزاد أربعين، ثم ضرب على أربعين". وظاهر هذا: أنه اعتبر انقراض العصر؛ لأنه اعتد بخلاف على بعد عمر في أم الولد. وكذلك اعتد بخلاف عمر بعد أبي بكر في حد الخمر.
وذهب المتكلمون من المعتزلة (1) والأشعرية (2) وأصحاب أبي حنيفة (3) -فيما حكاه أبو سفيان- إلى أن انقراض العصر غير معتبر في صحة الإجماع. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال مثل قولنا (4) . ومنهم من قال مثل قولهم (5) . ومنهم من قال: إن كان الإجماع مطلقاً لم يعتبر انقراض العصر عليه، وإن كان بشرط، وهو: إن قالوا: هذا قولنا، ويجوز أن يكون الحق في غيره، فإذا وضح
صرنا إليه، لم يكن إجماعاً (1) . وفائدة الخلاف: من قال: لا يعتبر انقراض العصر عليه، يقول: لا يسوغ أن يرجع الكل عما أجمعوا عليه، وإن رجع واحد منهم ساغ رجوعه، لكنه محجوج بقول الباقين. وإذا حدث من التابعين من هو من أهل الاجتهاد فخالفهم لم يكن خلافه خلافاً. ومن قال: يعتبر انقراض أهل العصر، يقول: يجوز أن يرجع الكل عن ذلك القول إلى غيره، ويرجع الواحد منهم عن القول معهم، فيكون خلافه خلافاً ويسوغ للتابعين مخالفتهم، فيكون خلافهم (2) خلافاً. والدلالة على اعتبار انقراض العصر: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطَاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكَونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (3) . فوجه الدلالة: أنه جعلهم شهداء على غيرهم، ولم يجعلهم شهداء على أنفسهم. ومن قال لا يعتبر انقراض العصر لا يجوز رجوعهم عما أجمعوا عليه، فيكون قولهم حجة على أنفسهم. فإن قيل: ليس في الآية ما يمنع كونهم شهداء على أنفسهم، وإنما فيها إثبات كونهم شهداء على غيرهم. قيل: لما غاير بينهم وبين غيرهم، فجعلهم شهداء على غيرهم، وجعل الرسول شهيداً عليهم، ثبت أن حكمهم مخالف لحكم غيرهم.
فإن قيل: إذا كانوا شهداء على غيرهم، فيجب أن يكونوا شهداء على أنفسهم. قيل: من كان شهيداً وحجة على غيره، فليس بحجة على نفسه، كالشاهد هو شاهد على غيره [163/ب] ، ولا يكون شاهداً على نفسه، وإنما يكون مقراً، وقول النبى حجة على غيره، وليس حجة على نفسه. فإن قيل: إذا كانوا شهداء على غيرهم، فيجب أن يكونوا شهداء على أنفسهم؛ لأن الحجة لا تختص بقوم دون قوم ولا بعصر دون عصر. قيل: قد بينا اختصاص الحجة بجهة دون جهة. وعلى أن الموضع الذي نجعله حجة على غيره نجعله حجة في نفسه في الفتيا لغيره. فأما إذا رجع فليس بحجة على غيره ولا على نفسه. وأيضاً: ما احتج به أحمد من إجماع الصحابة، وذلك أنه روي عن علي أنه قال: (كان رأيي مع أمير المؤمنين عمر: أن لا تباع أمهات الأولاد، وأرى (1) الآن أن يبعن، فقال له عبيدة السَّلْمَاني (2) : رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) (3) . فعلىُّ أظهر الخلاف بعد الإجماع، فأقر عليه. فلو كان انقراض العصر غير معتبر ما سَاغَ له الخلاف.
فإن قيل: ما خالف الإجماع؛ لأنه كان قوله وقول عمر على ذلك وحدهما، فخالف عمر فقط. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: (والله ما هنَّ إلا بمنزلة بعيرِك وشاتِك) (1) . وكان عبد الله بن الزبير: يبيح بيع أمهات الأولاد (2) . فدل على أنهم لم يجمعوا. قيل: قول عبيدة له: (رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) ، يدل على (3) أن الجماعة كانت مع عمر، ومعه علىٌّ، أن لا يبعن (4) .
ويدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال قولاً: أعتبر انقراضه عليه؛ لأنه قد يرجع عنه، ويتركه، فإذا جاز هذا في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبأن يجوز في حق المجمعين أولى. فإن قيل: الرسول لا يرجع عما كان عليه؛ لأنه لا يتبين له الخطأ، وإنما يرجع بأن يقول: كنت على صواب، ولكن قد نسخ عني ذلك، وأمرت بغيره، فلهذا جاز أن يرجع عما كان عليه، وليس كذلك المجمعون؛ لأنهم لا يرجعون عما كانوا عليه؛ لأنه قد يبين لهم الخطأ فيما كانوا عليه. قيل: هذا تعليل بجواز الرجوع عما كان عليه بعد صحة الجمع بينهما فلا يضر الفرق (1) .
وأيضاً: فإن كل واحد من المجمعين إنما قال ما قاله عن دليل صحيح عنده من قياس أو اجتهاد واستدلال، وهو يُجوِّز على نفسه الخطأ فيما أفتى به، فإذا صح له الفساد لدليله، لزمه الرجوع عن قوله واعتقاد غيره، فإذا لزمه الرجوع عما كان عليه لفساد دليله عنده بطل الإِجماع. فإن قيل: لا يسوغ رجوعه؛ لأنه كان مصيباً في القول، مخطئاً في الدليل. قيل: إنّما كان على الصواب في قوله؛ لأجل دليله. ألا ترى أنه لو لم [164/أ] ، يكن من أهل الأدلة والاجتهاد لم يعتدّ بقوله، فإذا فسد عنده الدليل بطل قوله عن ذلك الدليل. وأيضاً: فإن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على تسويغ الخلاف وجواز القول بكل واحد من القولين، وانعقد الإجماع على ذلك، ثم إذا رجعت إحدى الطائفتين إلى قول الأخرى صارت المسألة إجماعاً، وزال ما أجمعوا عليه من تسويغ الخلاف، فلو كان الإِجماع قد انعقد بنفسه من غير اعتبار انقراض العصر، لما جاز رجوعهم عما أجمعوا عليه من تسويغ الخلاف. وهذه طريقة مفيدة. فإن قيل: إنما جاز الإجماع بعد الخلاف؛ لأن التابعين لو أجمعوا على أحد القولين صارت المسألة إجماعاً. قيل: لا يصير إجماعاً عندنا. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيل الْمُؤْمِنِينَ) (1) ولم يشترط انقراض العصر. وقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (لا تَجْتمعُ أمَّتِي عَلَى ضَلاَلَة) و (لا تجتمعُ عَلَى خطأ) . والجواب عن قوله: (وَيَتَّبِعْ غيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ) فهو: أنه إذا رجع واحد
منهم صار سبيل بعض المؤمنين. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجتمعُ أمَّتِي عَلَى خَطَأ) فلا نسلم أن الإجماع يستقر حكمه ويلزم إلا بعد انقراض العصر، فلا يتناوله الاسم. وليس الاعتبار بالإجماع اللّغوي، الذي طريقه الاجتماع، وإنما الاعتبار بالإجماع الشرعي، الذي هو: القطع والعزيمة. وهذا لا يكون إلا بعد انقراض العصر. وإذا لم يتناول الاسم، لم نسلم أنه متبع غير سبيل المؤمنين ولا مخالف الإجماع. واحتج: بأن التابعين احتجوا بإجماع الصحابة في عصر الصحابة: فروي [عن] الحسن البصري أنه احتج بإجماع الصحابة، وأنس بن مالك [حي] (1) ، فلو كان انقراض العصر شرطاً ما احتج بذلك قبل انقراضه. والجواب: أنا لا نعرف هذا عن التابعين، وما ذكروه عن الحسن، فيجب أن ينقل لفظه، حتى ينظر كيف وقع ذلك منه. وعلى أنه لو كان منقولاً لم يكن فيه حجة؛ لأن من الناس من قال: قول الصحابي وحده حجة. وهو الصحيح من الروايتين لنا، فإذا كان كذلك احتمل أن يكون الحسن احتج بقول الواحد منهم، لا بإجماعهم (2) . واحتج: بأن قول النبي حجة بوجوده، ولا يقف على انقراضه، كذلك قول المجمعين.
والجواب: أنا قد جعلناه حجة لنا، وقد بينا أنه يعتبر في ذلك انقراضه، لأنه قد يرجع عنه، ويتركه. على أن قوله لا يقف العمل به على انقراضه؛ لأنه بالنسخ لا يبين الخطأ فيما كان عليه، بل يرجع عما كان عليه مع كونه صواباً في ذلك الوقت، وليس كذلك رجوع المجمعين [164/ب] ؛ لأنه عن خطأ يبين لهم. واحتج: بأنه يؤدي إلى أنه لا يوجد إجماع؛ لأن اتفاقهم لو لم يكن إجماعاً حتى ينقرضوا، لوجب إذا حدث قوم معهم من أهل الاجتهاد: أن يعتبر اتفاقهم معهم وانقراضهم، ولو وجب هذا لم يحصل الإجماع أبداً؛ لأن كل عصر مندرج في عصر بعده، ويحدث فيه أهل الاجتهاد من أهل العصر الثاني قبل انقراض العصر الذي قبله، ويدخلون معهم في الاجتهاد، ويجب اعتبار رضاهم بقول من قلتم وموافقتهم لهم فيه، وهذا يمنع وجود الإجماع أبداً. والجواب: أن هذا مبني على أصل: أن (1) التابعى إذا أدرك عصر الصحابة هل يعتد بخلافه ووفاقه؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يعتّد، وإذا لم يعتدّ به لم يفض إلى ما قالوه من أنه: لا يحصل الإجماع. والرواية الثانية: يعتد به، فعلى هذا لا يفضي إلى ما قالوه أيضاً؛ لأن الصحابة إذا كانت على قول، فحدث تابعي، وصار من أهل الاجتهاد، فهو وهم من أهل الاجتهاد في ذلك العصر، فإذا انقرضت الصحابة، وبقي ذلك التابعي، فحدث تابعي، وصار من أهل الاجتهاد، لم يسغ له الخلاف؛ لأنه ما عاصر الصحابة، وإنما عاصر من عاصرهم، وإنما يسوغ الخلاف لمن عاصرهم، فأما من عاصر من عاصرهم فلا، وإذا كان كذلك لم يفض إلى ما قالوه.
مسألة
واحتج: بأنه لو جاز أن يجمعوا على حكم لم يرجعوا عنه كان إجماعاً على خطأ، والأمة لا تجتمع على خطأ. والجواب: أن الأمة لا تجتمع على خطأ، إذا انقرض عصرهم عليه، فأما قبل انقراضه، فإنهم يجمعون على الخطأ، ويتبين لهم الصواب فيصيرون إليه. فإن قيل: الذي يعتبر: انقراض العصر في انعقاد الإِجماع، وليس ذلك قولاً ولا فعلاً. قيل: هو وإن لم يكن قولاً ولا فعلاً، فإنه يستقر به حكم القول والفعل فجاز اعتباره. مسألة إذا اختلف الصحابة على قولين، ثم أجمع التابعون على أحد القولين لم يرتفع الخلاف، وجاز الرجوع إلى القول الآخر والأخذ به (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية يوسف بن موسى: "ما اختلف فيه علي وزيد ينظر أشبهه بالكتاب والسنة، يختار". وكذلك نقل المروذي عنه: "إذا اختلف [الصحابة] (2) ينظر إلى أقرب القولين (3) إلى الكتاب والسنة". وكذلك نقل أبو الحارث: " [ينظر] (4) إلى أقرب الأقوال (5) وأشبهها بالكتاب والسنة".
دليلنا:
وظاهر هذا: أنه رجع في ذلك إلى موافقة الدليل، ولم يرجع إلى إجماع التابعين على أحد القولين (1) . [165/أ] . وبهذا قال أبو الحسن الأشعري. وقال أصحاب أبي حنيفة (2) -فيما حكاه أبو سفيان- والمعتزلة (3) : يرتفع الخلاف و [لا] ، يجوز الرجوع إلى القول [الآخر] . وإنما قال هذا إذا كان إجماع التابعين على أحد القولين بعد انقراض أهل أحد القولين. واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال مثل قولنا (4) . ومنهم من قال مثل قولهم (5) . دليلنا: قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء فُرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (6) . وظاهر هذا: يقتضي أنه إذا تنازع [أهل] العصر الذي بعد التابعين المجمعين
على أحد القولين في شىء أن يردوه إلى الله ورسوله، وعلى قولهم يلزمهم رده إلى ما أجمع عليه التابعون. وإلى هذا المعنى أشار أحمد بقوله: "إذا اختلف الصحابة، رجع إلى الكتاب والسنة". يدل عليه أيضاً: ما روى أبو بكر محمد بن الحسين الآجري (1) في كتاب الشريعة (2) بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابى مثل النجوم، فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم) (3) . وظاهر هذا يقتضي: الرد إلى كل واحد من الصحابة بكل حال، مع الإجماع على قول بعضهم، ومع الاختلاف. فإن قيل: كيف يحتجون بهذا الحديث، وقد قال إسماعيل بن سعيد: "سألت أحمد - رضي الله عنه - عمن احتج بقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي بمنزلة النجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم) قال: لا يصح هذا الحديث". قيل: قد احتج به أحمد -رحمه الله- واعتمد عليه في فضائل الصحابة. فقال أبو بكر الخلاَّل في كتاب السنة: "أخبرني عبد الله بن حنبل بن
إسحاق بن حنبل قال: حدثني أبي، قال: سمعت أبا عبد الله يقول في الغلو في ذكر أصحاب محمد لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً) (1) وقال: (إنما هم بمنزلة النجوم بمن اقتديتم منهم اهتديتم) ". فقد احتج بهذا اللفظ، فدلّ على صحته عنده. وأيضاً: فإن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على تسويغ الخلاف في المسألة، والأخذ بكل واحد من القولين، فإذا أجمع التابعون على أحد القولين لم يجز رفع إجماع الصحابة بإجماعهم؛ لأن إجماع الصحابة أقوى من إجماعهم، كما لو أجمعت على قول واحد، ثم أجمع التابعون على خلافه، وهذه طريقة معتمدة. فإن قيل: إجماعهم على تسويغ الخلاف مشروط بعدم دليل قاطع، فإذا طرأ دليل قاطع على أحد القولين وجب اتباعه، وحرم الاجتهاد فيه. ولا يمتنع أن يقع الإجماع بشرط، ألا تَرَى أنه لا يمتنع أن يجمعوا على جواز الصلاة بالتيمم ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء بطلت صلاته [165/ب] ولا يكون ذلك مخالفاً لما أجمعوا عليه.
قيل: إن جاز أن يقال: إن إجماعهم على تسويغ الخلاف مشروط بعدم دليل قاطع، جاز أن يقال: إن إجماعهم على قول واحد إذا انعقد عن قياس أنه مشروط بعدم دليل قاطع، فإذا طرأ دليل قاطع وجب اتباعه. وجواب آخر، وهو: أن الإجماع لا يجوز أن يقع مشروطاً؛ لأن وجود الشرط فيه يفضي إلى أن تعرى الحادثة عن حكم الله تعالى. ولا يجوز أن يعرى العصر عن ذلك؛ لأن الله تعالى لم يُخْلِ وقتاً من حق، وكونه مشروطاً يفضي إلى هذا؛ لأن كل قائل من القولين يقول: الحق في قول، ما لم يجمع على خلافه، فلا يقطع على حق فيه. ويفارق هذا التيمم؛ لأن الشرط في الحكم المجمع عليه، لا في أصل الإجماع، فلا يفضي إلى ما ذكرنا. فإن قيل: هم وإن أجمعوا على تسويغ الخلاف والقول بكل واحد من القولين، فالتابعون أيضاً قد أجمعوا على القول بأحدهما دون الآخر. قيل: لا نسلم أن هذا إجماع؛ لأن من شرط صحة الإجماع: أن لا يرفع إجماعاً قبله. فإن قيل: فإذا كانت الصحابة على قولين، فكل واحد من أهل القولين يجوّز على نفسه الخطأ فيما ذهب إليه. قيل: هذا هو العلة التى بها جوزوا القول بكل واحد من القولين، وهو تحقيق إِجماعهم على تجويز القول بكل واحد من القولين. وطريقة أخرى، وهو: أن من قال قولاً ومات، فحكم قوله باقٍ، بدليل أن الصحابة إذا أجمعت على شىء، ثم انقرضوا، لم يصح أن يجمع التابعون على خلافه. وكذلك إذا كانت الصحابة على قولين، فإذا انقرض أهل أحد القولين
كلهم، وبقي أهل القول الآخر، لم يزل قول المنقرضين بانقراضهم. ويكون الخلاف باقياً، وإذا ثبت أن حكم قول الميت باقٍ ما زاد، فمن أسقط حكمه، كان كمن أسقط قولهم مع بقائهم، وهذا لا يجوز. ولأن أعلى مراتب التابعين أن يلحقوا بعصر الصحابة، ويكونوا من أهل الاجتهاد قبل انقراضهم. وأدنى مراتبهم أن ينقرض الصحابة قبل أَن يلحقوا بهم، فكان قولهم إذا خالفوهم دون قولهم إذا عاصروهم وخالفوهم، ثم ثبت أن التابعين لو لحقوا بالصحابة والصحابة على قولين، وأجمعوا على أحد القولين لم يسقط القول الآخر بما أجمعوا عليه، وقد أجمع معهم أهل القول الثاني، فبأن لا يسقط القول الآخر بعد انقراض الصحابة أولى. فإن قيل: إنما لم يسقط القول الثاني إذا أجمعوا مع أهل [القول] الآخر؛ لأنهم حينئد بعض أهل العصر، وليس كذلك إذا أجمعوا [166/أ] عليه بعد انقراض الصحابة؛ لأنهم حينئذ كل أهل الاجتهاد في العصر. قيل: في زمان الصحابة بعض أهل العصر، وبعد انقراض العصر بعض الأمة؛ لأن حكم القول الذي خالفوه ثابت، لا يزول ولا يرتفع بما بينَّا. ولأن من قال: إجماع التابعين يزيل الخلاف السابق ويصير قولهم إجماعاً، يفضى قوله إلى أن الإجماع ينعقد بموت واحد. وبيانه: إذا كانت الصحابة على قولين، فانقرضوا، وبقي واحد من الصحابة، وهو من أهل أحد القولين، ثم أجمع التابعون على قول من لم يبق منهم أحد، لم يكن إجماعاً؛ لبقاء واحد من أهل القول الذي خالفوه، وإذا هلك هذا الواحد صار ما أجمع عليه التابعون إجماعاً بانقراض هذا الواحد وهلاكه، وموت الإنسان ليس بقول ولا حجة، فكيف يكون الإجماع منعقداً بموت واحد.
واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ) (1) والتابعون هم المؤمنون. وقول النبي: (أمتي لا تجتمعُ على الخطأ) . والجواب: أن الآية مشتركة الدلالة؛ لأنها إن كانت حجةً على ما أجمع عليه التابعون، فهى حجة على ما أجمعت عليه الصحابة من تجويز القول بكل واحد منهما. وكذلك الجواب عن الخبر. واحتج: بأن هذا إجماع تعقب خلافاً، فوجب أن يزيل حكم الخلاف، كما لو اختلفوا الصحابة، ثم أجمعت على أحد القولين، وقد وجد مثل هذا؛ لأنهم اختلفوا في قتال ما نعي الزكاة، ثم اتفقوا عليه. وقول الأنصار: منا أمير ومنكم أمير (2) . وإجماعهم على ترك قسمة السواد بعد اختلافهم فيها (3) . والجواب: أنه إذا رجعت إحدى الطائفتين إلى قول الأخرى، فلم يبق هناك خلاف باق [و] صارت المسألة إجماعاً، وليس كذلك إجماع التابعين على أحد القولين؛ لأن الخلاف لم يرتفع، فلم تصر المسألة إجماعاً. واحتج: بأن إجماعهم يقطع الخلاف فيما بعد، فوجب أن يرتفع الخلاف
المتقدم. ألا ترى أن سنة النبي -عليه السلام- لما منعت الخلاف، قطعت الخلاف، بدليل أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لو غاب عن الصحابة، واختلفوا -وهو غائب- في الحكم على قولين، ثم قدم النبى - صلى الله عليه وسلم -فأخبروه (1) بما كانوا عليه، فأخبرهم بالحق في واحد منهما (2) ، زال الخلاف، كذلك إجماع التابعين. والجواب: أنه يبطل بالإجماع من إحدى الطائفتين بعد موت الطائفة الأخرى، فإنه يقطع الخلاف في المستقبل، ولا يرفع الخلاف [166/ب] المتقدم. وأما الفصل بين إجماع التابعين وسنة النبى فظاهر، وذلك أن الاجتهاد في زمن النبى - صلى الله عليه وسلم - مختلف فيه: فمنهم من أجازه، وقال: لا يستقر. ومنهم من قال: لا يسوغ، لأن النص مقدور عليه. وإذا كان كذلك لم يثبت ما اختلفوا فيه في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا جاءت سنة لم يرفع ما كان باقياً، وإنما ثبت الحق، وإجماع التابعين ها هنا يتضمن إسقاط إجماع الصحابة. واحتج: بأن إجماع التابعين حجة، وقول واحد من الطائفتين ليس بحجة. والجواب: إنما يكون حجة مقطوعاً عليها، إذا لم يتقدمه اختلاف الصحابة فأما مع تقدم ذلك، فإنه يخرج عن كونه حجة.
مسألة
مسألة إذا اختلفت الصحابة على قولين، لم يجز إحداث قول ثالث (1) . نصَّ عليه في رواية عبد الله وأبي الحارث: "يلزم من قال: يخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا، أن يخرج من أقاويلهم إذا أجمعوا". وقال أيضاً في رواية الأثرم: "إذا اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختر (3) من أقاويلهم، ولا يخرج عن قولهم إلى من بعدهم" وهو قول الجماعة. خلافاً لبعض الناس في قوله: "يجوز إحداث قول ثالث" (3) . دليلنا: أن إجماعهم على قولين إجماع على بطلان ما عداهما، كما أن الإجماع على واحد إجماع على بطلان ما عداه، ولا فرق بينهما. واحتج المخالف: بأن النظر، الاجتهاد سائغ فيها، فهى بمنزلة ما لم يتكلم فيها.
والجواب: أن الاجتهاد يجوز في طلب الحق من القولين دون ما عداهما، لأن بطلان ما عداهما ثابت بالإجماع، ولا يسوغ الاجتهاد في المجمع عليه، وهذا بمنزلة ما لو ثبت بطلان ما عداهما بالنص، فيسوغ الاجتهاد في القولين دون غيرهما. واحتج: بأن الصحابة إذا أثبتوا حكماً من طريقين، جاز إثباته من طريق ثالث، كذلك ها هنا. والجواب: أن الطريق مخالف للحكم، ألا ترى أنهم إذا أجمعوا على شىء من نص القرآن، جاز إثباته من طريق السنة والإجماع، وإذا أجمعوا على حكم واحد، من يجز إحداث قول ثانٍ؛ لأن في الخروج عن القولين مخالفة للإِجماع وليس في إثبات ما أجمعوا عليه من غير طريقهم مخالفة الإجماع؛ لأن إثبات الحكم من طريق لا يتضمن نفي غيره، والإجماع على حكم يتضمن نفي غيره ولهذا إذا أجمعوا على قول واحد، لم يجز إحداث قول ثانٍ. واحتج: [167/أ] بأن التابعين قد خالفوا في هذا، وأحدثوا قولاً ثالثاً فيما كانت الصحابة فيه على قولين، فأقروا التابعين على ذلك، ولم ينكروه (1) . من ذلك: أن الصحابة اختلفوا في امرأة وأبوين، وزوج وأبوين، على قولين: ابن عباس -وحده- يقول: للأم الثلث [من] ، أصل المال. والباقون قالوا: للأم ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج والزوجة (2) . ففرق ابن سيرين بينهما، وقال بقول ابن عباس في امرأة وأبوين، وبقول الباقين في زوج وأبوين، فلم ينكر عليه منكر.
وكذلك اختلفت الصحابة في قوله: "أنتِ على حَرَام"، على ستة مذاهب فأحدث مسروق (1) قولاً سابعاً (2) ، فقال: "لا يتعلق به حكم"، وقال: "ما أبالي أحَرِّمُها (3) ، أو قصعة (4) من ثريد" (5) ، فأقروه على هذا، ولم ينكروا عليه.
مسألة
والجواب: أنه ليس معنا أن التابعين عرفوا هذا، فأقروه. عليه، ورضوا به، فلا يثبت إجماعاً بالشك، وإذا لم يكن إجماعاً منهم، لم يؤثر إقرار بعضهم. على أن مسروقاً عاصر الصحابة، وكان من أهل الاجتهاد قبل انقراضهم، فكان كأحدهم، فالذي يخالف فيه يحتمل أن يكون قبل استقرار ما اختلفوا فيه، فلا يكون هذا إحداثَ قول آخر. مسألة (1) وإن قالت طائفة من الصحابة في مسألتين قولين متفقين مخالفين لقول الطائفة الأخرى، فهل يجوز لأحد أن يقول في إحدى المسألتين بقول طائفة وفي الأخرى بقول الطائفة الأخرى؟ ينظر فيه: فإن لم يصرحوا بالتسوية بين (2) المسألتين جاز (3) . وإن صرحوا بالتسوية بينهما لم يجز على قول أكثرهم. وعلى قول بعضهم يجوز (4) ؛ لأن التسوية بينهما في حكمين مختلفين، فلم يحصل في واحد منهما إجماع.
مسألة
مسألة إذا خالف الواحد أو الاثنان الجماعة لم يكن إجماعاً (1) . ويمنع (2) خلافُ الواحد المعتد به انعقادَ الاجماع في أصح الروايتين. أومأ إليه -رحمه الله- في رواية المروذي: "إذا اختلفت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة".
وهو قول الجماعة. وفيه رواية أخرى: لا يعتد بخلاف الواحد، ولا يمنع انعقاد الإجماع. أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم: في المريض يُطَلِّق، وذكر قول زيد (1) ، فقال: "زيد وحده، هذا عن أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، وابن عباس، وزيد، وابن عمر" (2) . وقال في رواية الميموني: "في فسخ الحج أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي يروون ما يروون، أين يقع بلال بن الحارث منهم" (3) . وظاهر هذا: أنه لم يعتد [167/ب] بخلاف زيد في مقابلة الجماعة ولا مخالفة بلال في مقابلة الجماعة (4) .
وحكي ذلك عن ابن جرير الطبري (1) صاحب التاريخ (2) . وحكاه أبو سفيان عن أبى بكر الرازي (3) . قال أبو عبد الله الجرجاني: إن سوغت الجماعة الاجتهاد في ذلك للواحد، خلافه معتداً به، مثل خلاف ابن عباس في العول (4) ، وإن أنكرت
الجماعة على الواحد لم يعتد بخلافه، مثل قول ابن عباس في المُتْعة (1)
والصَّرْف (1) .
والدلالة على أَنه يمنع انعقاد الإجماع: قوله تعالى: (فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ والرَّسُولِ) (1) والتنازع موجود، فوجب الرجوع إلى الكتاب والسنة. وقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (2) وقد وجد الاختلاف، فوجب الرجوع إلى كتاب الله تعالى. وأيضاً: فإن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - خالف الصحابة -رحمهم الله- في قتال مانعي الزكاة (3) . وخالف ابن مسعود وابن عباس في مسائل في الفرائض سائر الصحابة، فلم ينكروا عليهما، ولم يقولوا: إن الواحد محجوج بالإجماع، وإنه يلزمه اتباعهم. ولأن العقل يجوّز الخطأ على هذه الأمة، كما يجوّز الخطأ على سائر الأم، وإنما نفينا عنهم الخطأ بالشرع، وقد وجد الشرع بذلك في حال الاجتماع دون الاختلاف فإذا وجد الاختلاف بقي الحكم على مقتضى العقل.
واحتج المخالف: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه] قال: (عليكم بالسواد الأعظم) . وقوله عليه السلام: (عليكم بالجماعة) . والجواب: أن المراد به أهل الاجتهاد من أهل العصر، فهو السواد الأعظم وهو الجماعة. واحتج: بأن ابن عباس لما خالف الجماعة في بيع الدرهم بالدرهمين نقداً وإباحة المُتعة، أنكر عليه ابن الزبير المُتعة (1) ، وأنكر غيره عليه بيع الدرهم بالدرهمين (2) ، فلو كان خلافه للجماعة سائغاً، لما أنكروا عليه ما ذهب إليه. والجواب: أنهم ما أنكروا عليه ما ذهب إليه، من حيث إنهم على خلاف قوله باجتهادهم، وإنما أنكروا عليه، لأنه خالف الخبر المنقول عن النبى - صلى الله عليه وسلم - في بيع الدرهم بالدرهمين، وهو قوله عليه السلام: (الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما) (2) . وكذلك قوله في المتعة: (إن النبي حرمها إلى يوم القيامة) (3) . واحتج: بأن خبر الجماعة أولى من خبر الواحد والاثنين، كذلك قول الجماعة أولى من قول الواحد والاثنين. والجواب: أن خبر الجماعة لو كان موجباً [168/أ] للعلم كان ما خالفه
كذباً أو خطأ أو منسوخاً (1) ، فلا يجوز العمل به، وإن كان خبر الجماعة لا يوجب العلم، وإنما يغلب على الظن، فإنه أولى، لأن خبر الجماعة أقوى في الظن من خبر الواحد. يدل على ذلك: أن الشىء من الجماعة أحوط منه من الواحد (2) والاثنين، ولهذا قال الله تعالى: (أن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا اْلأخْرَى) (3) . فأما اجتهاد الأكثر فلا يوجب العلم وقوة الظن، فلا تأثير له في الاجتهاد؛ لأنه لا يجوز للعالم أن يقلد عالماً، وإن كان أقوى اجتهاداً منه في نفسه، وإنما يجب قبول اجتهاد غيره، والعمل به مع القطع بصحته، فبان الفرق بينهما. واحتج: بأنه لما جاز أن يكون في أهل العصر من لم يبلغه ما أجمعت عليه الجماعة، أو بلغه فلم يظهر الخلاف وأسرَّه، صح انعقاده مع ذلك، كذلك انعقاده مع خلاف الواحد. والجواب: أن الإجماع إنما يصح إذا انتشر ما أجمعت عليه الجماعة انتشاراً ظاهراً يقف عليه الكافة، فإذا ظهر انتشاره ولم يظهر خلاف من أحد، علمنا أن الكافة قد أطبقت عليه بنفي ما يمنع انعقاد الإجماع، وإذا خالف واحد واثنان فقد تيقنّا حصول ما يمنع أنعقاد الإجماع.
مسألة
مسألة يجوز انعقاد الإجماع من طريق الاجهاد (1) خلافاً لابن جرير (2) ونفاة القياس (3) . دليلنا: طريقان: أحدهما وجوده. والثاني: جواز وجوده. فأما وجوده فهو أن الناس أجمعوا على إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من طريق الاجتهاد. فمنهم من قال: (رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، وهي عماد الدين، ومن رضيه رسول الله لديننا وجب أن نرضاه لدنيانا) (4) .
ومنهم من احتج بقوله: (إن تولوا أبا بكر تجدوه قوياً في دين الله ضعيفاً في بدنه) (1) . ومنهم من رضيه، فعقد له.
كما أن المسلمين أمروا خالد بن الوليد (1) في مُؤْتة (2) باجتهادهم. فصوب ذلك منهم، وأقرهم عليه (3) . وهذا كله اجتهاد منهم. وكذلك اتفقوا على قتال مانعي الزكاة من طريق الاجتهاد والتراجع (4) فيه والتحاجج عليه، والقصة منه ظاهرة، ومناظرتهم مشهورة. ويدل عليه: أن الأمة اتفقت على أن الأمَة في التقويم بمنزلة العبد، إذا أعتق شخصاً. وأن السّنّور إذا ماتت في السمن بمنزلة الفأرة. وأن الشحم الذائب
بمنزلة السمن. وأن الغائط في الماء بمنزلة البول. وأن غير فاطمة بنت أبي حبيش من المستحاضات [168/ب] بمنزلة فاطمة. وأن غير الأعرابي في كفارة الفط بمنزلته. وليس طريقه إلا القياس، فدل على ما قلناه. والطريق الثاني في جواز وجوده، والدليل عليه: أن القياس وما يجري مجراه أمارة ظاهرة، فجاز اجتماع العدد الكثير على الحكم من جهتها، أصله: القرآن والسنة. فإن قيل: لفظ القرآن والسنة مسموع، والجماعة تشترك في سماعه، فيجوز أن يقفوا على حكمه، وليس كذلك الاجتهاد، فإنه رأي، ولا يجوز أن ينظر العدد الكثير فيتفق رأيهم. قيل: الاجتهاد يستند إلى أمارة ثابتة صحيحة، وهى تأثيرات الأصول وشهادتها الدالة على المعاني، وظهورها كظهور لفظ القرآن والسنة، [فإذا] جاز (1) أن يجمع العدد الكثير عن الشبهة، مثل اتفاق اليهود والنصارى والمجوس على تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنكار نبوته، وعلى قتل عيسى - صلى الله عليه وسلم - وصلبه، كان اتفاقهم على الحجة أولى. واحتج المخالف: (2) بأن القياس باطل، فلا يجوز انعقاد الإجماع عليه. والجواب: أن القياس عندنا صحيح ودليل من دلائل الشرع. ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. واحتج: بأن نفس القياس لما كان مختلفاً فيه، وكان في المجمعين من لا
يقول به، بطل أن يكون إجماعهم صادراً عن القياس؛ لأن ذلك يوجب كون الشىء مجمعاً عليه ومختلفاً فيه. والجواب: أن الإجماع عند داود إجماع الصحابة، ولا نسلم أنه كان منهم من لا يقول بالاجتهاد، ولا في التابعين. وما روي من ذم القياس عن بعضهم (1) ، فإنما أراد به مع وجود النص المخالف للقياس. وقد أجيب عنه بأن النافي للاجتهاد قد تناقض، فيثبت الحكم من طريق الاجتهاد، ويخفى عليه وجهه، كما ادعينا على داود أنه أثبت أحكاماً من طريق الاجتهاد مع مخالفته فيه. وجواب آخر، وهو: أنه باطل بخبر الواحد والعموم، فإنه لا يخلو عصر إلا وفيه من ينفى خبر (2) الواحد، ويمنع صحة العموم، ومع هذا فلا خلاف أن الإجماع ينعقد بكل واحد منهما. واحتج: بأن العدد الكثير لا يتفق اختيارهم لأمر واحد، واستحسانهم له؛ لأن الله تعالى باين بين الطباع، وخالف بين الدواعي والهمم، ولهذا لا يصح اتفاقهم على وضع كذب، وانتحال (3) شعر، واختيار كلام. والجواب: أن هذا خطأ؛ لما بيّنا من اتفاق رأيهم على ما ذكرنا.
وعلى أن اتفاقهم على وضع كذب [169/أ] وانتحال (1) شعر، واختيار لفظ، إنما لم يجز؛ لأنه لا أمارة عليه تدعو إليه، وليس كذلك الحكم الشرعي فإن عليه أمارة تدعو إليه، وتدل عليه، فجاز أن تجمع خواطر العدد الكثير على اعتقاد صحته، والحكم به. ويدل عليه أنه يجوز اتفاقهم على الصدق، وإن كان لا يجوز اتفاقهم على وضع الكذب؛ لأن الكذب لا داعي له يعمهم، وللصدق داع يعمهم، ويجمعهم، كذلك للحكم دليل يعمهم، ويجمعهم، فافترقا. واحتج: بأن من نفى القياس وخالفه لا يفسق، ومن خالف الإجماع فسق، فكيف ينعقد الإجماع الذي يفسق من خالفه عن قياس لا يفسق من خالفه. والجواب: أنه إنما يفسق إذا لم يتأيد (2) بالإجماع عليه، فأما إذا تأيد (3) بالإجماع عليه، قوي بالمصير إليه، ففسق جاحده، وهذا كما قلنا في خبر الواحد: من جحده لا يفسق، ومع هذا إذا انعقد الإجماع فسق مانعه. وهكذا من منع صيغة العموم لا يفسق، فإذا انعقد الإجماع به فسق مانعه ومخالفه، وكذلك القياس مثله. واحتج: بأن القياس فرع والإجماع أصل، فكيف ينعقد الأصل عن فرعه. والجواب: أنه ليس بفرع للإِجماع، وإنما هو فرع لأصله الذي استنبط منه وذلك الأصل آية أو حديث (4) فإذا صح انعقاده عن أصل القياس صح انعقاده عن فرع ذلك الأصل.
واحتج: بأن القياس أمر خفي، يفتقر إلى استخراج واستنباط، وليس كل من كان من أهل الاجتهاد يقدر عليه. والجواب: أنه كذاك، ولكن إذا كان خفياً كان الاهتمام به أشدَّ والعناية به أؤكد، فكان الإجماع عنه (1) أولى. ألا ترى أن معرفة صيغة العموم أمر خفي، وكذلك الجمع بين الخبرين، واستخراج الحكم من بينهما، من حيث بناء أحدهما محلى الآخر، وهو أخفى من القياس وأدق، ومع هذا ينعقد الإجماع عنه ويصح، فانعقاده بالقياس أولى. واحتج: بأن كل واحد منهم إذا قال في الحادثة قولاً عن قياس فهو يقول: يجوز لغيري أن يخالفني فيه. فإذا أجمعوا عليه، فقد أجمعوا على تجويز مخالفتهم، وإذا أجمعوا على تجويز مخالفهم بَعُدَ قول من قال: لا يسوغ خلافهم. والجواب: أن كل واحد منهم يعتقد جواز مخالفته، ما لم يستقر إجماعهم على ذلك، فإذا استقر إجماعهم عليه، لم تسغ المخالفة، ولن يمتنع أن يخالف كل واحد منهم إذا انفرد، وإذا اجتمعوا لم يجز. ألا ترى أن خبر الواحد تسوغ مخالفته، كذلك ها هنا، وإذا ثبت هذا وأنه [169/ب] ينعقد من طريق الاجتهاد، فإنه ينعقد عن القياس الجلي (2) ، وعن القياس الخفي (3) . أما الجلي (4) [فـ] نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لّهُمَا أف) (5) نصّ على التأفيف
ونبّه على الضرب. وكذلك قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (1) ، (وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (2) ، ونحو ذلك. وأما الخفي: فهو قياس غَلَبة (3) الشبه، وبيانه: أن تحدث حادثة، وليس هناك إلا أصلان، أصل حظر، وأصل إباحة، وأصل الحظر له خمسة أوصاف، وأصل الإباحة له خمسة أوصاف، والحادثة لا تجمع أوصاف أحدهما، بل فيها من الإباحة أربعة أوصاف، ومن أوصاف، الحظر ثلاثة، فإذا كان كذلك ألحقناه بالذي كثرت أوصافه فيه. وهذا يقع في الصفات والأحكام. أما الصفات فمعروفة، و [أما] الأحكام فكالعبد (4) ، أخذ شبهاً من الحر: بأنه مكلف مخاطب، وأخذ شبهاً من البهائم: بأنه (5) مملوك، يورث، ويباع، ويوهب، فلم يجتمع معنى أحد الأصلين، فألحقناه بكل واحد بما هو أشبهه، فأطرافه أشبه بأطراف الحر، فأوجبنا فيها مقدراً، والجناية على غير أطرافه بالبهائم أشبه، فألحقناه بها، فالقياس ينعقد عليه؛ لأنه كغيره من أنواع القياس في باب العمل به، فوجب أن يكون كغيره في انعقاد الإجماع عليه.
مسألة
مسألة الاعتبار في الإجماع بقول أهل العلم، ولا يعتبر بخلاف العامة لهم (1) . وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم، وقد ذكر له عن شريح (2) وابن سيرين - فقال: "هؤلاء لا يكونون حجة على من كان مثلهم من التابعين، فكيف على من قبلهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -". وحُكي عن قوم من المتكلمين: إذا خالفهم رجل من العامة، لم يكن إجماعاً (3) . دليلنا: أن العامي ليس من أهل الاجتهاد في أحكام الشريعة؛ لأنه لا يجوز أن يعمل باجتهادة، ولا يجوز لغيره أن يعمل به، فهو بمنزلة الصبيان والمجانين. فإن قيل: لا حكم لقول الصبيان والمجانين.
قيل: لا حكم لقولهم في أحكام الشريعة، كما لا حكم لقول الصبيان والمجانين ووجوده وعدمه سواء. فإن قيل: العامة مكلفون، والصبيان والمجانين غير مكلفين. قيل: العامة لم يكلفوا الاجتهاد في الأحكام، بل منعوا منه، فلا فرق بينهم في ذلك. ولأن العامة محجوجة بقول أهل العلم، فوجب أن لا يُعتبر رضاهم به، كما أن الأمة لما كانت محجوجة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتبر رضاهم به، وكذلك أهل [170/أ] العصر الثاني مع أهل العصر الأول. ولأنهم يلزمهم الرضا بما اتفق أهل العلم عليه، وما وجب الرضا به، لم يكن لعدم الرضا حكم، وكان وجوده وعدمه سواء. واحتج المخالف: بقول النبي -عليه السلام- (لا تَجْتمعُ أُمَّتي على ضلالة) : و (لا تَجْتمعُ على الخطأ) ، والعامة من الأمة، فوجب أن يعتبر إجماعهم مع أهل العلم. والجواب: أن المراد به أهل العلم والاجتهاد، ولا مدخل للعامة فيه، وإن كانوا من الأمة، كما لا يدخل الصبيان، وإن كانوا من الأمة. وقد قيل: إن هذا لا يوجد؛ لأن عامة المسلمين يتبعون الأئمة من أهل العلم، ولكل فريق منهم إمام، يتبعونه، ويعتقدون (1) قوله، فلا يجوز أن يخالف أحد منهم فيما اتفقوا الجميع (2) .
فإن قيل: أليس قد اعتبرتم إجماع العامة فيما يشاركون العلماء فيه؟! مثل الطهارة، والصلاة، وعدد ركعاتها، والزكاة، والصيام، والحج، وتحريم الربا، والسرقة، ونحو ذلك، هلا اعتبرتم إجماعهم فيما يختص به العلماء، مثل فروع الطهارة وفروع الصلاة، ونحو ذلك. قيل: لأن السبب الذي عرف به هذه الأشياء، هو (1) النقل المستفيض، وذلك يشترك (2) في معرفته (3) العامة والخاصة، فأما غير ذلك فطريقه الاجتهاد، فلا معرفة لهم به.
فصل فيمن كان منتسباً إلى العلم، كأصحاب الحديث والكلام في الأصول (1) ، إلا أنه لا علم له بأحكام الفقه وفروعه وطرق المقاييس والرياضة بوجوه اجتهاد الرأى، فإنه لا يعتد بخلافه أيضاً (2) . وقد قال أحمد -رحمه الله، في رواية أبي الحارث-: "لا يجوز الاختيار إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة، ممن إذا ورد عليه أمر، نظر الأمور وشبهها بالكتاب والسنة" (3) . وذهب قوم من المتكلمين إلى أنه لا يصح الإجماع إلا بأن يجتمع عليه جميع أهل العلم والمنتسبين إلى العلم (4) .
دليلنا:
دليلنا: أن من لا مدخل له في طرق الاجتهاد ورد الفروع إلى الأصول، فإنه يجري في أحكام الشرع مجرى العامي، فلما لم يعتد بالعامة فيما لا علم لهم به، لأنهم تبع للعلماء، منقادون لهم، وجب أن لا يعتبر أيضاً في الإجماع من ليس من أهل النظر والاجتهاد. ويبين صحة هذا: أن من لا مدخل له في تقويم الثوب وما يجري مجراه، فإنه لا يرجع إلى قوله فيه، ولا يعتد بقوله إذا احتيج إلى تقويم الثوب ونحوه، وكذلك من لا مدخل له في النظر بطرق الاجتهاد في أحكام الحوادث. ولأن القول يتبع العلم [170/ب] بالقول، والعمل يتبع العلم بالمعمول به، فلم يجز أن يعتد في الإجماع على الشيء بمن لا علم له به. ولأن المجتهد في الإجماع هو من كان معه آلة الإجماع التى يتوصل بها إلى معرفة الحكم، بأن يعرف القياس وأحكام المسائل وعلَلَها، حتى يقيس نظائرها عليها، ويرد الفروع إلى الأصول التى تشبهها، ومن لا يعرف أحكام الفروع لا يتمكن من هذا الذي ذكرنا، فلم يكن من أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بأشياء أخر، كمن عرف الحساب واللغة وغير ذلك من أنواع العلوم. فإن قيل: إذا عرف أصول الفقه أمكنه رد فروعه إليه. قيل: ليس الأمر على هذا، لأنه إنما يمكن رد الفروع إلى الأصول، إذا عرف معانيَها ونظائرها، حتى يقيسَ عليها. ويبين هذا: أنه لو كان هذا من أهل الاجتهاد لا يُحْتَمل قوله في الحادثة وتوقيفُه على الحكم، وما اقتصر على مجرد سكوته.
ومن يخالف في هذه المسألة يقول: إذا أجمع أهل الاجتهاد على شيء، ورضي المتكلمون بذلك في الجملة، ولم يعرفوا غير الحكم، ولا اجتهدوا، انعقد الإجماع. وهذا يدل على أنهم بمنزلة العامة، وأنهما خارجون من جملة أهل الاجتهاد. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (1) وهؤلاء من جملة المؤمنين. وقول النبى - صلى الله عليه وسلم -َ (لا تَجتمعُ أمتي على الخَطأ) ولم يخص. والجواب: أن المراد بذلك من هو من أهل الاجتهاد، ألا ترى أنه لم يرد به العامة. واحتج: بأن من عرف أصول الفرائض، ولم يعرف الغامض فيه [يعتبر قوله في ذلك] (2) . والجواب: بأن من عرف أصول الفرائض، يمكنه بناء فروعها عليها بالحساب والقياس، ومن عرف أصول الفقه لا يمكنه بناء أحكام فروعه عليه؛ لأن الفروع تختص بأدلة لا يشاركها الأصول فيها (3) .
فصل ولا يعتبر في صحة انعقاد الإجماع بأهل الضلال والفسق، وإنما الإجماع إجماع أهل الحق، الذين لم يثبت فسقهم وضلالهم (1) . وقد قال أحمد -رحمه الله-، في رواية بكر بن محمد عن أبيه: "لا يشهد عندي رجلٌ، ليس هو عندي بعدل، وكيف أجوز حكمه؟! يعنى: الجَهْمي" (2) . وبهذا قال الرازي (3) والجرجاني (4) .
دليلنا:
وذهب قوم من المتكلمين إلى أنه يعتد في الإجماع بمن يخالف الحق، كما يعتد بأهل الحق، سواء عظمت معصية المخالف للحق أو لم تعظم. وهو اختيار أبي سفيان الحنفي. وذكر الإسفراييني (1) : إن ارتكب بدعة كفر بها لم يعتد بقوله، وإن فسق بها، أو أتى كبيرة يعتد به (2) [171/أ] . دليلنا: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطَاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (3) فجعلهم شهداء على الناس وحجة عليهم فيما يشهدون به، لكونهم وسطاً. والوسط في اللغة: هو العدل (4) ، فلما لم يكن أهل الفسق والضلال بهذه الصفة، لم يجز أن يكونوا من الشهداء على الناس، فلا يعتد بهم في الإجماع. ويدل عليه أيضاً: قوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المْؤْمِنِينَ) (5) فلما لم يكن سبيل أهل الفسق والضلال سبيل المؤمنين، لم يجز أن يكون سبيلهم مأموراً باتباعه. ولأنه قد يجوز أن يعصي فيما يعتد به فيه من الإجماع، كما يعصي في غيره،
فلا يجوز الاعتداد به. فإن قيل: قد لا يختار المعصية فيما يدخل به في جملة المجمعين، وإن كان قد يختار ذلك في غير باب الإجماع، ألا ترى أن الدلالة قد دلت على امتناع وقوع الخطأ من الأنبياء عليهم السلام فيما هم حجة فيه، وإن كان يجوز وقوع الخطأ الصغير منهم في غير ما يؤدونه إلينا. قيل: فيجب أن يقبل خبر الكذاب؛ لأنه يجوز أن لا يختار الكذب فيما يرويه، وإن كان يختار ذلك في غير باب الأخبار، ولا يشبه هذا الأنبياء؛ لأنهم معصومون في الرسالة. وأيضاً: فإن كونهم في جملة المجمعين يقتضي مدحهم وتعظيمهم، وكونهم من أهل الفسق والضلال يقتضي ذمهم والاستخفاف [بهم] ، فلما لم يجز أن يكونوا استحقوا الذم والمديح في حالة واحدة، لم يجز أن يكونوا داخلين في جملة من يعتد بهم في الإجماع مع كونهم من أهل الفسق. ويدل عليه قوله تعالى: (وَاتَّبع سَبِيلَ مَنْ أنَابَ إِلَىَّ) (1) . وقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) (2) والفاسق يأمر بالمنكر، ويمنع المعروف. ولأن من لا تقبل شهادته في حق خاص لم يعتد به فيما يلزم الجماعة. ولأنه إخبار بأمر من أمور الدين، فلا يدخل فيه الفاسق، مثل (3) أخبار الآحاد. واحتج المخالف: بقوله عليه السلام: (أمتي لا تجتمعُ على الخطأ) فلما كان أهل الفسق والضلال من جملة الأمة وجب أن يعتد بهم في جملة الإجماع. والجواب: أن المراد بذلك العدول منهم، كما كان المراد به العلماء منهم.
مسألة
واحتج: بأنهم قادرون على الصواب كقدرتهم على الخطأ، فلم يمتنع أن يدل الدليل على أنهم لا يختارون إلا الصواب فيما يعتد به بهم في جملة المجمعين، وإن جاز أن يختاروا مثل ذلك في غير باب الإجماع، وقد دلّ الدليل على ذلك، وهو قوله عليه السلام: (أمتي لا تَجتمعُ على الخطأ) . والجواب: أن الفاسق قادر على الصدق في خبره، ومع هذا فلا يقبل خبره. واحتج: [171/ب] بأن أخبار التواتر تسمع من العدل والفاسق، كذلك الإجماع. والجواب: أن ذلك يقع من كل فرقة، والإجماع يختص بفرقة. مسألة أهل المدينة وغيرهم في الإجماع سواء، فإذا قالوا قولاً، ووافقهم غيرهم عليه صار إجماعاً، وإن خالفهم غيرهم من أهل الأمصار لم يكن إجماعاً. ولا يكون قولهم أولى من قول غيرهم (1) . وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية أيى داود: "لا يُعجبُنى رأي مالك ولا رأي أحد" (2) . وقال -في رواية مهنا-: "لا ينبغي لرجل أن يضع كتاباً على أهل المدينة في بعض أقاويلهم التي (3) يذهبون إليها، ويأخذون بها عن عمر والصحابة والتابعين".
دليلنا:
وظاهر هذا [عدم] جواز الوضع فيما انفردوا به. وحُكِي عن مالك أنه قال: "إذا أجمع أهل المدينة على شىء، صار إجماعاً مقطوعاً عليه، وإن خالفهم فيه (1) غيرهم" (2) . وقال قوم من أصحابه: إنه أراد إجماعهم (3) فيما طريقه النقل. وهذا فرار من المسألة. وقال آخرون: أراد بذلك اجتماعهم في زمن الصحابة والتابعين ومن يليهم (4) . دليلنا: قوله تعالى: (ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (5) وأهل المدينة ليس هم جميع المؤمنين. وكذلك قوله تعالى: (أمَّةً وَسَطَاً) (6) وذلك لا يختص بأهل المدينة؛ لأنهم بعضنا.
وقوله تعالى: (فَإن تَنَازَغتُمْ في شَىْءٍ فرُدوهُ إِلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (1) فمن قال: يرد إلى أهل المدينة، فقد ترك الظاهر. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنُّجُوم، بأيهم اقْتَدَيتُم اهْتَدَيتُم) ، ولم يفصل بين أن يكونوا بالمدينة أو بغيرها. وقوله: (أمتي لا تجتمعُ على خَطَأ) وظاهر الخبر يفيد كل الأمة إلى يوم القيامة، لكن علمنا أنه لم يرد ذلك، فثبت (2) أنه أراد الأمة من كل عصر، وليس أهل المدينة أمته في العصر. ولأنهم بعض الأمة، والخطأ جائز عليهم كما هو جائز على غير أهل المدينة. ولأن حكم الإجماع لا يخلو أن يعود إلى فضيلة البقاع أو فضيلة الرجال في العلم، فإن اعتبرتم فيه فضيلة البقاع، فأهل مكة أحق به، وإن عاد إلى العلم، فعلي بن أبي طالب وابن مسعود وثلاثمائة ونيف من الصحابة انتقلوا إلى العراق من أهل العلم والدين، وليس من أقام بالمدينة بأعلم منهم. ولأن ما قالوه يفضي إلى أن يكون قولهم حجة ما داموا في المدينة، فإذا خرجوا منها وغابوا إلى الشام والكوفة وغير ذلك من البلاد لا يكون حجة، وما أفضى إلى هذا سقط في نفسه؛ لأن الاعتبار بأقوال المجتهدين، لا بمكانهم. ولأن ما كان حجة لله تعالى لا يختلف باختلاف الأزمان بدليل الكتاب والسنة، وقد ثبت [172/أ] أن إجماع أهل المدينة في هذا الوقت ليس بحجة (3) ، فلم (4) يجز أن يكون حجة فيما مضى.
واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الإيمان لَيَأرِزُ (1) إلى المدينة كما تَأرِزُ الحية (2) [إلى جُحْرِها] ) (3) . والجواب: أن كلامه خرج على زمان الهجرة في رجوع الناس إلى المدينة هرباً من الكفار، ومعونة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا ينفي كون المؤمنين بغيرها، وجواز الخطأ على أهلها. وجواب آخر، وهو: أنه يفضي إلى أن جميع الإسلام إذا عاد إليها، وحصل فيها، لم يجز خلافه. واحتج: بقوله -عليه السلام-: (اللَّهم حبِّبْ إلينا المدينة، وباركْ لنا في صاعِها ومُدِّها) (4) .
والجواب: أن هذا لا ينفي وقوع الخطأ من أهلها كما لو دعا (1) مثل هذا الدعاء لغيرهم (2) لم ينف وقوع الخطأ منهم (3) ، وقد دعا لعلي ولغيره من الصحابة، ولم يدل على أن قول كل واحد منهم بانفراده حجة. واحتج: بما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الدجَّال لا يدخلها، وأن على كل باب منها ملكاً شاهراً سيفه) (4) . والجواب: أن هذا يفيد صيانتها من دخول الدجّال، ترغيباً في المقام بها، وهذا لا ينفى الخطأ من المقيمين بها.
واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفها بحفوف الملائكة بها. والجواب: أنه يحتمل أن يكون أراد صيانة المهاجرين والأنصار، وتسكيناً لروعهم من الكفار. واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن المدينة تنفى خَبَثَها كما تنفي النارُ خَبَثَ الحديد) (1) .
والجواب: أنه أراد بذلك في زمانه، بدلالة كثرة الخبث بها بعده، ومخبره لا يقع بخلاف ما أخبر به. ويحتمل: أن يكون أراد بالخبث الكفر والشرك عنها ظاهراً، فأما أهل الاجتهاد إذا خرجوا منها فلا. واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يصبرُ على لأَوَاءِ (1) المدينة وشدتها أحد إلا كنتُ له شهيداً يوم القيامة) (2) . والجواب: أنه ترغيب للمقام بها من غير أن يعتبر نفي الخطأ عنهم فيما طريقه الشريعة. واحتج: بما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يكيدُ أحدٌ أهلَ المدينة إلا انْمَاعَ كما يَنْماعُ الملحُ في المَاءِ) (3) .
والجواب: أنه مقيد بما يفعله الله تعالى بمن أراد سوءً بالمدينة، والخطأ فيما يتفقون عليه في أمر الدين ليس من هذا في شىء، ومن ذمهم أو ردَّ عليهم، فإنه لا يريد سوءً بالمدينة. ولا يجوز حملُه على الأهل من غير دلالة. ولأن الفسق عبارة [172/ب] عن الفعل المذموم، ومن أنكر عليهم في خطئهم فقد دعاهم إلى خير، وأراده منهم. وعلى أن المكايَدَة هى المباينة بغير حق، وخلافُنا في الخلاف فيما هو حق، ويسوغ فلا يتناول الخبر موضعَ الخلاف. وجواب آخر، وهو: أن الخبرَ حجةٌ لنا، فإنه يتناول أهل المدينة حيث كانوا فيها أو في غيرها، فيجب إذا كانوا بالكوفة وغيرها من البلاد لا يُخالفون. واحتج: بأن أهل المدينة شاهدوا الرسول وحضروا التنزيل وعرفوا التأويل. والجواب: أن الصحابة الذين هذه صفتهم قولهم حجة، وإنما الخلاف فيه: إذا كان بعضهم بالمدينة وبعضهم خارجاً عنها، هل يكون قول البعض الذين بالمدينة حجةً على غيرهم؟ وليس فيما ذكروه ما يدل على ذلك. فأمَّا من قال: إن إجماع أهل المدينة حجة فيما طريقه التواتر فقد أبعد، لأن خبر التواتر، لا يختص بطائفة، وقد يقع ذلك ببعض أهل المدينة. ولا يجوز أن يُحمل قول مالك على تجويز الخطأ في تواتر غير أهل المدينة، وترجيح تواتر أهل المدينة، لأنهم عرفوا أواخر فعل النبي -عليه السلام- لأن من نقل الأخبار إلى غير أهل المدينة هم الصحابة الذين عرفوا أواخر فعله
وأوائله (1) ، فلا يختص معرفة ذلك بالمقيمين بالمدينة. ولأن آحاد غير أهل المدينة قد يكونون (2) أحفظ بالخبر من آحادهم. وقد روى رافع بن خديج (3) : النهيَ عن المُزارعة لأهل المدينة، فرجعوا إلى خبره (4) .
ولا يجوز أن يحمل ذلك على عمل أهل المدينة إذا ظهر، مثل نقلهم للصاع، لأن هذا إن كان عن خبر مستفيض فلا يخفى، وإن كان عن اجتهاد فاجتهادهم لا يلزم غيرهم. ولا يجوز أن يحمل ذلك على تقديم اجتهاد أهل المدينة على اجتهاد غيرهم؛ لأن ذلك إن كان يجب لمشاهدتهم لأقاويل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزول آي القرآن فإن ذلك حصل من الصحابة الذين انتقلوا إلى البصرة والكوفة، فلا معنى للتفريق. ولو وجب ما ذكروه لصار قول أهل مكة أولى في المناسك، لمشاهدتهم (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلها عندهم، ولَوَجَبَ (2) على ما قالوه أن يكونوا (3) أكثر الأمة إجماعاً (4) ، لأنهم أعلم. وأن يرجح قول المهاجرين لكثرة مشاهدتهم بطول صحبتهم. وأن يرجح [قول] ، المهاجرين لهذا المعنى، وقول شيوخ الصحابة على الأحداث (5) .
مسألة
مسألة في التابعي إذا أدرك عصر الصحابة، وهو من أهل الاجتهاد لم يعتدَّ بخلافه
في أصح الروايتين (1) . أومأ إليها في [173/أ] مواضع. فقال في رواية أبي الحارث، وقد سأله: "إلى أي شىء ذهبت في ترك الصلاة بين التراويح (2) ؟ فقال: ضَربَ عليها عقبةُ بن عامر (3) ونهى عنها (4) عبادة بن الصامت، فقيل له: يروى عن سعيد والحسن: أنهما كانا يريان الصلاة بين التراويح (5) فقال: أقول لك: أصحاب رسول [الله] ، وتقول: التابعين! ".
باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم (9/10) ولفظه:
وسأله أيضاً عن عدد قتلوا رجلاً؟ "قال: يقادون (1) به، يروى عن عمر (2)
وعلي (1) ، فقيل له: يروى عن بعض التابعين (2) : أنه لا يقتل اثنان بواحد (3) ،
فقال: ما يُصنع بالتابعين؟ ". وكذلك نقل أبو عبد الله القَواريري (1) - كاتب أبي هاشم - قال: "سمعت أحمد يذاكر رجلاً، فقال له الرجل: قال عطاء، فقال: أقول لك: قال ابن عمر، تقول: قال عطاء، من عطاء، ومن أبوه؟ ". وظاهر هذا (2) : أنه لم يعتبر بقوله (3) . وبهذا قال طائفة من أصحاب الشافعى (4) .
وفيه رواية أخرى: يُعتدُّ بخلافه (1) . أومأ إليه (2) -رحمه الله- في رواية أبي الحسن بن هارون (3) ، قال: "لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، واحتج بقول سعيد" (4) . وكذلك نقل عبد الله عن أبيه: "لا ينظر إلى شعر مولاته، وقال: قد روي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن ينظر العبد إلى شعر مولاته، وتأول الآية (5) . وقال سعيد: لا تغرنكم هذه الآية التي في سورة النور: (أو مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُنَّ) (6) إنما عنى بها الإماء، لا ينبغي أن ينظر إلى شعرها" (7) . وكذلك نقل أبو طالب عنه: "لا ينظر إلى شعر مولاته، وذكر قول سعيد: لا تغرنكم هذه الآية، ولم نَسمع إلا حديث السدّي عن ابن مالك (8) عن
ابن عباس (1) ، فأما التابعون فقد نهى عنه غير واحد". فظاهر هذا: أنه اعتدَّ بقول سعيد خلافاً على ابن عباس. قال أبو بكر الخلال في كتاب "غض البصر" من "الجامع" (2) : "إنما صار أحمد -رحمه الله- إلى هذا، وترك قول ابن عباس؛ لأنه ضعيف. ومذهب أبي عبد الله: إذا صح عنده عن أحد من أصحاب رسول الله شىء (3) لم يجاوزه إلى من بعده من التابعين".
وليس الأمر على ما ذكر أبو بكر الخلال، لأن أحمد -رحمه الله- لم يترك حديث ابن عباس؛ لأنه لم يثبت عنده. يبين صحة هذا: ما رواه الأثرم قال: "قلت: السُّدِّي عن ابن مالك عن ابن عباس؟ فقال لي: نعم، قلت: أليس هو إسناداً؟! (1) ، فقال: ليس به بأس". وهذا يمنع ضعف الحديث عنده. وكذلك قوله في رواية أبي طالب: "لم أسمع إلا حديث السُّدِّى، والتابعون غير واحد، فيرجح قول التابعين لكثرتهم لا لضعفه". وبهذا قال المتكلمون (2) وأكثر الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعى. إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن كان من أهل الاجتهاد [173/ب] عند الحادثة كان خلافه خلافاً، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد عند الحادثة لكنه صار من أهله قبل انقراض العصر، فأظهر الخلاف، لم يكن خلافاً (3) ، على ما حكاه أبو سفيان.
وأصحاب الشافعى (1) يجعلونه خلافاً إذا صار من أهل الاجتهاد قبل انقراض عصر الصحابة. فالدلالة على أنه لا يعتد بقوله مع الصحابة: قوله -عليه السلام-: (اقتدوا باللَّذِينَ من بعدي: أبي بكر عمر) (2) .
وقوله: (عليكم بسنَّتى وسنة الخلفاء الراشدِين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) (1) فلما أمر بالاقتداء بهم، والاتباع لهم دلّ على وجوب اتباع التابعي لهم، لم يجز خلافه. فإن قيل: هذا لا يمنع خلافهم، كما لم يمنع خلاف غير الأئمة من الصحابة للأئمة. قيل: ظاهر الخبر يقتضى وجوب اتباعهم، وترك مخالفتهم من الصحابة وغيرهم، لكن قام الدليل هناك، وبقي ما عداه على ظاهره. وأيضاً: قد ثبت أن قول الصحابي إذا انفرد حجة مقدم على القياس في الصحيح من قول أصحابنا وقول أصحاب أبي حنيفة وبعض الشافعية. ومن كان قوله حجة على غير أهل عصره لم يجز لمن كان من أهل العصر مخالفته.
يدل عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان قوله حجة، لم يجز لأهل عصره مخالفته. فإن قيل: فالنبي حجة مقطوع عليه، والصحابي غير مقطوع عليه. قيل: خبر الواحد والقياس غير مقطوع عليهما، ويجب اتباعهما. فإن قيل: الذي قدمنا به قول الصحابي معرفته بأحوال التنزيل وطريق الأخبار ومشاهدتها، وهذا المعنى يتساويان فيه، فلا يلزم أحدهما متابعة الآخر. قيل: فكان يجب أن لا يكون قول الصحابي حجة على غيره من بعده من العلماء، وأن يكون قوله أيضاً (1) كقول الصحابة لمساواته في الطريق، ولما لم يقل هذا، لم يصح، لما ذكرته. فإن قيل: إنما يكون حجة، إذا لم يظهر من أحد من نظرائه خلافه، فإذا ظهر خرج عن أن يكون حجة، كما أن الإجماع ينعقد إذا لم يظهر ممن يعتدّ بقوله خلاف، فإذا ظهر لم ينعقد. قيل: لا نسلم أن التابعي نظير للصحابى في الاجتهاد، لوجوه: أحدها: أن قول الصحابي حجة على من بعده، والتابعي بخلاف ذلك. والثاني: أن الصحابي معه مزية ليست مع التابعي من مشاهدة التنزيل وحضور التأويل. والثالث: أنه منصوص عليه، لقوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي) وقوله: (أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) . وهذا المعنى معدوم في [174/أ] التابعين. ونجعل هذه طريقة في المسألة فنقول: للصحابي مزية على غيره من التابعين ومن بعدهم.
لأنه لا يخلو ما قاله أن يكون عن توقيف أو اجتهاد، فإن كان عن توقيف فهو أولى، وإن كان عن اجتهاد فاجتهاده أولى بمشاهدة التنزيل وحضور التأويل. ولأنه منصوص عليه بقوله: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) وإذا كانت له هذه المزية على غيره كان الاعتبار بقوله دون غيره، كما قلنا في القياس مع خبر الواحد، لما كان للخبر مزية كان مقدماً على القياس، وإن كان مساوياً له في أنه حجة، طريقها: غلبة الظن. وللمخالف على هذا الدليل اعتراضات، نذكرها في قول الصحابي إذا انفرد به: أنه حجة، إن شاء الله تعالى. واحتج المخالف: بأنه قد ثبت أن الصحابة سوَّغت للتابعين الاجتهاد معها، وكانوا يفتون مع الصحابة، مثل سعيد بن المسيب وشُرَيح القاضي، الحسن البصري ومسروق وأبي وائل (1) والشعبي وغيرهم. ألا ترى: أن عمر وعلياً -رضي الله عنهما- ولّيَا شريحاً القضاء، ولم ينقضا أحكامه بالفسخ مع إظهاره الخلاف عليهما في كثير من المسائل. وكتب عمر إليه: (إن لم تجد في السنة فاجتهد رأيك) (2) . ولم يأمره بالرجوع، ولا الحكم بقوله.
وخاصم علي - رضي الله عنه - إلى شريح، ورضي بحكمه حين حكم عليه بخلاف رأيه (1) .
وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: تذاكر أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدة المتوفى عنها زوجها: فقال ابن عباس: أبعد الأجلين. وقلت أنا: عدتها: أن تضع حملها. وقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي.
فسوغ ابن عباس لأبي سلمة أن يخالفه، وتبعه أبو هريرة (1) . وذكر إبراهيم (2) عن مسروق أنه قال: (كان ابن عباس إذا قدم عليه أصحاب عبد الله (3) صنع لهم طعاماً ودعاهم، قال: فصنع لنا مرَّة طعاماً، فجعل يسأل ويفتي، فكان يخالفنا، فما يمنعنا أن نردّ عليه إلا أنا على طعامه) (4) . وسئل ابن عمر عن فريضة، فقال: (سلوا سعيد بن جبير، فإنه أعلم بها منِّي) (5) .
وسئل أنس عن مسألة فقال: (سلوا مولانا الحسن) (1) . وإذا ثبت أنها قد سوغت لهم ذلك، لم يكن بينهم في هذا المعنى فرق. والجواب: أنه يحتمل أن يكونوا سوغوا الاجتهاد للتابعين فيما كانوا مختلفين فيه، ليجتهدوا في أخذ أقوالهم، فسوغوا ذلك، ولم يثبت عنهم أنهم سوغوا خلاف الواحد فيما قال. ولهذا قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، يعنى: أبا سلمة. يبين صحة هذا: أنه روي أن علياً - رضي الله عنه - نقض على شريح حكمه في ابني عم، أحدهما أخ لأم، لما جعل المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم (2) ، [174/ب] .
وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لأبي سلمة ابن عبد الرحمن: (مثلك مثل الفَرُّوج، يسمع الديك يصيح، فصاح بصياحه) . وذلك إنكار منها عليه في مناظرة عبد الله بن عباس والدخول معه في الاجتهاد (1) .
واحتج: بأن معه آلة الاجتهاد، فكان متعبداً به، ولم يجز له تقليد غيره. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون معه آلة الاجتهاد، ويكون متعبداً بغيره، كما كان متعبداً نحو الواحد إذا عارضه القياس. واحتج: بأنهم من أهل الاجتهاد في وقت حدوث النازلة، فوجب أن لا ينعقد الإجماع إلا بموافقتهم، أصله: الصحابة. والجواب: أن الصحابة قد تساووا في المزية والاجتهاد، وليس ذلك في التابعين، فإنهما وإن ساووا الصحابة في الاجتهاد، فللصحابة مزية عليهما من الوجه الذي بينا، فلهذا لم يعتد بخلافهم عليهم. واحتج بأن الاعتبار بالعلم دون الصحبة، يدل عليه: أن الصحابي إذا لم يكن عالماً وجب عليه تقليد أهل العلم من التابعين، فإذا كان كذلك، وقد شاركهم التابعي في العلم، وجب أن يكون بمنزلتهم. والجواب: أن الاعتبار بالعلم والصحبة لما فيهما من المزية، فإذا لم يكن الصحابي عالماً فقد عدم أحد الوصفين، فلهذا لم يعتد بقوله. وإذا كان من أهل الاجتهاد فقد وجد معنيان، والتابعي يوجد فيه أحدهما.
مسألة
مسألة [الإجماع السكوتي] إذا قال بعض الصحابة قولاً، وظهر للباقين، وسكتوا عن مخالفته والإنكار عليه حتى انقرض العصر، كان إجماعاً (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية الحسن بن ثواب، قال: "أذهبُ في التكبير غداةَ يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شىء تذهب؟ قال: بالإجماع: عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس" (2) . وظاهر هذا: أنه جعله (3) إجماعاً، لانتشاره عنهم، ولم يظهر خلافه (4) . وقد صرح به أبو حفص البرمكي، فيما رأيته بخطه على ظهر الجزء الرابع من شرح مسائل الكوسج، فقال: "قال أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - في رواية محمد بن عبيد الله بن المنادي (5) : "أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
على هذا المصحف (1) ". قال أبو حفص: فبان بهذا أن الصحابة إذا ظهر الشىء من بعضهما، ولم يظهر من الباقين خلافهم: أنه عنده إجماع. وبهذا قال الأثرم (2) من أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه أبو سفيان السرخسى والجرجاني (3) . وهو أيضاً قول الأكثر من أصحاب [175/أ] الشافعي (4) . ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: يكون حجة، إلا أنه لا يكون إجماعاً. حكاه الجرجاني (5) . ومن أصحاب الشافعي من قال: يكون حجة مقطوعاً بها، ولا يكون إجماعاً (6) ؛ لأن الشافعي قال: "لا ينسب إلى ساكت قول" (7) .
دليلنا:
وقال قوم من المتكلمين: لا يكون حجة (1) . وحكي عن قوم من المعتزلة (2) والأشعرية (3) . وحكي ذلك عن داود (4) . دليلنا: أن الصحابي إذا قال قولاً، وانتشر في الصحابة، فسكتوا عنه، فلا يخلو من خمسة أحوال: إما أن [لا] يكونوا قد اجتهدوا. أو اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شىء يجب عليهم اعتقاده. أو أدى إلى خلاف القول الذي ظهر، أو إلى وفاقه. أو كانوا في تَقِيَّة. ولا يجوز أن لا يكونوا قد اجتهدوا؛ لأن العادة إذا نزلت بهم نازلة أن
يرجعوا إلى الظن والاجتهاد. ولأن هذا يؤدي إلى خروج الحق عن أهل العصر، وهذا لا يجوز؛ لأنهم لا يجتمعون على خطأ، ولأنه يؤدي إلى خلو العصر من قائم لله بحجة. وهذا لا يجوز؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يخلو عصر من الأعصار من قائم لله بحُجَّة) (1) . وقوله -عليه السلام-: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يَضَرُّهم من نَاوأهُم) (2) .
ولا يجوز أن يكونوا قد اجتهدوا، فلم يؤد [اجتهادهم] إلى شىء يجب اعتقاده في مدة العصر؛ لأن العادة بخلافه، ولأن طرق الحق ظاهرة، ولأن ذلك يؤدي إلى خطأ الجميع في الاجتهاد، وعدولهم عن طريق الصواب وهذا لا يجوز. ولأنهم إذا كانوا بهذه الصفة، فليس لهم قول في الحادثة، بل هم بمنزلة العامة فيها، فلا يعتد بقولهم وبخلافهم. ولا يجوز أن يكونوا في تقية وفزع (1) : لأنه إذا كان الأمر على هذا، فانه لا يحكم بانعقاد الإجماع، وإنما يحكم بذلك إذا سكتوا عمن لا يخالفونه ولا يتقونه. ولا يجوز أن يكونوا قد اجتهدوا، فأدى [اجتهادهم] إلى خلافه، فلم يظهروه؛ لأن إظهار الحق واجب، والحق في واحد، فيكون ذلك إجماعاً على خطأ؛ لأن القائل عندهم مخطىء، والمقر على الخطأ مخطىء ولا يجوز أن يجتمعوا على خطأ.
ولا يجوز أن يقال: سكتوا مع اعتقادهم أن كل مجتهد مصيب؛ لأن المسألة مبنية على أن الحق في واحد، وعلى أن العادة جارية بأن من له مذهب، وسمع خلافه، أظهر مذهبه، ودعا إلى قوله، وناظر عليه، وإن كان يعتقد أن كل مجتهد مصيب، كما فعل أبو حنيفة ومالك وغيرهما من الأئمة، وإذا جاز ذلك ثبت أن سكوتهم كان لرضا منهم بقوله [175/ب] . واحتج المخالف: بأن سكوتهم يحتمل أن يكون لأنهم كانوا في مهلة النظر، ولم ينكشف لهم الصواب. ويحتمل أن يكونوا معتقدين أن كل مجتهد مصيب. وأن الإنكار والمخالفة لا يجب. ويحتمل أن يكون ذلك لهيبة قائله، كما قال عبد الله بن عباس: (أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب، وأيم الله لو قدَّم من قدمه الله، وأخر من أخره الله ما عالت الفرائض. فقال زفر بن أوس (1) : فما منعك (2) أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هبته) . وإذا احتمل السكوت ما ذكرناه، لم يجز حمله على الرضا والاتفاق. والجواب: أن مهلة [النظر] لا تمتد إلى آخر العصر؛ لأن طرق الحق واضحة، ومن نظر فيها من أهل الاجتهاد، فلا بدَّ من أن يصل إلى الحق.
دليلنا:
وقولهم: يحتمل أن يسكتوا لاعتقادهم أن كل مجتهد مصيب: لا يصح؛ لأنه لم يكن في الصحابة -رضوان الله عنهم- من يعتقد ذلك، ونحن نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى؛ لأنهم لو اعتقدوا ذلك لوجب أن يظهر منهم خلافه، كما نشاهد ذلك في زماننا، وسمعناه من حال من تقدمنا من الاختلاف والمناظرة. وقولهم: يحتمل أن يكون للهيبة: لا يصح؛ لأن الهيبة لا تمنع من إظهاره لغيره، كما أظهره عبد الله بن عباس. فصل (1) ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون القول فتياً أو حكماً. وقال بعض الشافعية، وهو ابن أبي هريرة (2) : إن كان حكماً، لم يكن إجماعاً، ولم يحتج به؛ لأنا نحضر مجالس الحكام، وهم يحكمون بخلاف ما نعتقده، فلا ننكر عليهم، فإذا كان فتيا، أفتى كل واحد منا بما يعتقده (3) . دليلنا: أن الحاكم يستحب له أن يستشير ويعرف ما عند أهل العلم فيما يريد أن يحكم به، فيكون الحكم المسكوت عنه أولى بالإجماع.
ولأن الصحابة لم يكن عادتهم كما ذكر ابن أبي هريرة، وكان من عنده حق أظهره ورد عليه. وقالت امرأة لعمر بن الخطاب - لما نهى عن المغالاة في المهور-: (أو يعطينا الله، وتمنعنا يا عمر؟) . وروي: (يا ابن الخطاب، قال الله تعالى: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهنَّ قِنْطَاراً، فَلاَ تَأخذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (1) فقال عمر: امرأة خاصمت (2) عمر فخصمته) (3) .
مسألة
مسألة إذا قال بعض الصحابة قولاً ولم يظهر في الباقين، ولم يعرف له مخالف، فإن كان القياس يدل عليه: وجب المصير إليه والعمل به (1) . وإن كان القياس يخالفه، فإن كان مع قول الصحابي قياس أضعف منه كان قول الصحابي مع أضعف القياسين أولى؛ لأنه لا يمتنع أن يكون كل واحد منهما حجة حال الانفراد، ثم يصير حجة [176/أ] بالاجتماع، كاليمين مع الشاهد؛ لأن اليمين حجة ضعيفة في جَنَبَة المدعي؛ لأن مقتضاها أن يكون في جَنَبَة المدعي عليه، ومع هذا: فقد قويت بانضمام الشاهد إليها. وكذلك كل واحد من الشاهدين ليس بحجة في نفسه، ويصير حجة مع غيره. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم: "ربما كان الحديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم- في إسناده شىء، فيؤخذ به إذا لم يجيء خلافه أثبت منه، مثل: حديث عمرو بن شعيب (2) ، وإبراهيم الهجري، وربما أخذ بالمرسل إذا لم يجيء خلافه".
وقال -في رواية أبي طالب-: "ليس في النَّبِق (1) حديث صحيح (2) ،
.................................
ما يعجبنى قطعه؛ لأنه على حال قد جاء فيه كراهة" (1) . وإن لم يكن مع قول الصحابي قياس: ففيه روايتان: -إحداهما: أنه حجة، مقدم على، القياس؛ ويجب تقليده. وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في مواضع من مسائله: فقال في رواية أبي طالب "في أموال المسلمين إذا أخذها الكفار، ثم ظهر عليه المسلمون، فأدركه صاحبه فهو أحق به، وإن أدركه وقد قُسِم فلا حق له (2) ، كذا قال عمر (3) ، ولو كان القياس كان له. ولكن كذا قال عمر".
وكذلك قال في رواية المروذي: "أكره شراء أرض الخراج. فقيل له: كيف أشتري في السواد ولا أبيع؟! فقال: الشراء خلاف البيع. فقيل له: كيف أشتري ممن لا يملك؟! فقال: القياس كما تقول، وليس هو قياساً، وإنما هو استحسان. واحتج: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رخَّصُوا في شراء المصاحف، وكَرِهُوا بيعَها" (1) . وكذلك نقل أبو الحارث عنه: "ترك الصلاة بين التراويح، واحتج: بما روي عن عبادة وأبي الدرداء. فقيل له: فعن سعيد والحسن: أنهما كانا يريان الصلاة بين التراويح (2) . فقال: أقول لك: أصحاب النبي، وتقول: التابعون". وكذلك نقل أبو طالب عنه في رجل يصوم شهرين من كفارة، فتسحر بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم، ثم علم: "يقضي يوماً مكانه، وإن أكل ناسياً بالنهار، فليس عليه شىء. فقيل: فإذا لم يعلم، فهو كالناسي؟.
فقال: كذا في القياس، ولكن عمر (1) أكل في آخر النهار يظن أنه ليل، قال: اقض يوماً مكانه" (2) . وكذلك نقل أبو طالب عنه: "لا يجوز هبة المرأة، حتى يأتي عليها في بيت زوجها سنة أو تلد، مثل قول عمر" (3) . وهذا كتب (4) في مسائله. وفي رواية أخرى: القياس مقدم عليه. أومأ إليه -رحمه الله- في مواضع من مسائله فقال -في رواية أبي داود-: "ليس أحد إلا آخذ برأيه وأترك ما خلا النبى" (5) . وكذلك نقل المروذي عنه: "ابن عمر يقول: على قاذف أم الولد الحد (6) .
وأنا لا أجترئ على ذلك، إنما هى أمة، أحكامها أحكام الإماء". وكذلك نقل الميموني: و [قد] قيل: إن قوماً يحتجون في النخل بفعل أبي بكر وقوله جربته. فقال: "هذا فعل ورأي من أبي بكر [176/ب] ، ليس هذا عن النبي". وهذا صريح من كلامه في أن أقواله ليست بحجة. وكذلك نقل مهنَّا عنه فيمن ركب دابة، فأصابت إنساناً: "فعلى الراكب الضمان. فقيل له: عليٌّ يقول: إذا قال: الطريقَ، فأسْمَعَ، فلا ضمان (1) . فقال: أرأيت إذا قال: الطريقَ، فكان الذي يقال له أصم؟ ". وكذلك نقل الميموني عنه و [قد] سأله: يمسح على القلنسوة؟ فقال ليس فيه عن النبي شىء، وهو قول أبي موسى (2) ، وأنا أتوقاه" (3) . وكذلك نقل ابن القاسم عنه: "يروى عن ابن عمر من غير وجه -يعني في حد البلوغ- وهو صحيح، ولكن لا أرى هذا يستوي في الغلمان، قد يكون منهم الطويل، وبعضهم أكثر من بعض، ولا ينضبط، والحد عندي في البلوغ الثلاثة".
واختلف أصحاب أبي حنيفة، فذهب البَرْدَعى (1) والرازي (2) والجرجاني: إلى أنه حجة، يترك له القياس. وحكى الرازي (3) عن الكرخى أنه قال: "أما أنا فلا يعجبني هذا المذهب"، وكان لا يرى قول الصحابي فيما يسوغ فيه الاجتهاد حجة. واختلف أصحاب (4) الشافعي، فقال في القديم: هو حجة. وقال في الجديد: ليس بحجة (5) . وبه قال عامة المتكلمين من المعتزلة والأشعرية (6) . فالدلالة على أنه حجة، يُترك له القياس: قوله عليه السلام: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم) ، فأخبر أن
الاقتداء بهم. وقوله عليه السلام: (اقتدوا باللَّذَين من بعدي، أبي بكر وعمر) . وقوله عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدِين من بعدي) (1) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. فإن قيل: هذا محمول على الاقتداء بهم فيما يروونه عن النبى - صلى الله عليه وسلم -. قيل: هذا عام في الرواية والفُتيا. وعلى أن هذا يُسقط فائدة التخصيص بالصحابة؛ لأن رواية التابعين ومن بعدهم يجب الاقتداء بها. فإن قيل: المراد به العامة دون أهل العلم. بدليل: أنه خَيَّر في الاقتداء بأيهم شاؤا. وهذا حكم العامة إذا اختلفت أقاويلهم، فأما العالم فإنه لا يخير في هذا الموضع. قيل: قوله: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) المراد حال الانفراد من كل واحد منهم بالقول، وليس المراد: (بأيهم اقتديتم) إذا اختلفوا في الحادثة، ويكون فائدة ذلك: أن الاقتداء لا يتخصص بقول بعضهم دون بعض، فزال (2) الإشكال، فإنه ربما ظن ظان أن الاقتداء يجب بقول الأئمة دون غيرهم، فلما قال: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) دل على أن كل واحد منهم إذا انفرد كان قوله حجة. وأيضاً: من جاز أن يقدم قوله على القياس الصحيح إذا كان معه قياس ضعيف جاز أن يقدم عليه وإن لم يكن معه [177/أ] ، قياس. أصله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
وأيضاً: فإن قول الصحابي لا يخلو إما أن يكون توقيفاً أو اجتهاداً، فإن كان توقيفاً وجب اتباعه. وإن كان اجتهاداً فاجتهاده أولى من اجتهاد غيره؛ لأنه شاهد الرسول وسمع كلامه، والسامع أعرف بالمقاصد ومعاني الكلام. ولأنه منصوص عليه بقوله: (عليكم بسنتي) . وإذا كان كذلك كان أولى من غيره كخبر الواحد مع القياس. فإن قيل: لا يجوز أن يكون توقيفاً؛ إذ لو كان توقيفاً لكان يظهر على ممر الأيام واختلاف الأحوال، ولكان لا يدعه من أن ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ويرويه عنه، ولكان يجب علينا اتباعه على أنه توقيف؛ لأنه إذا لم يخبر به عنه، ولم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب علينا فرضُه. وأما الاجتهاد فلا يوجب اتباعه؛ لأجل أن مشاهدةَ الرسول وسماعَه لا يوجب عصمته من الخطأ في الاجتهاد، وإنما يحصل حسنُ الظن وكونُه أقربَ إلى الصواب، وذلك لا يوجب اتباعه، كالعالم لا يجوز له اتباع من هو أعلم منه، وإن كان اجتهاد الأعلم أقربَ إلى الصواب. ولأن هذا يقتضي أن يكون قول الصحابي إذا طالت صحبته أولى من غيره، وكبارُ الصحابة أولى من صغارهم. ولأن هذا يصح إذا علم أنه قاس على ما سمعه واضطر إلى قصده، فإنه ليس كل سامع للكلام يجب أن يضطر إلى قصد المتكلم، وإنما هو على حسب قيام دلالة الحال. قيل: أما قولكم: إنه لو كان توقيفاً لظهر ونقل، فلا يصح لوجهين: أحدهما: أنه لا يلزم الصحابي الروايةُ، بل هو مخير في ذكرها وتركها، وإنما يتعين عليه الفتيا، فهو كالمفتي مخير بين أن يذكر الدليل أو يذكر الحكم.
والثاني: أنه يحتمل أن لا يرويه تورعاً؛ لأنه لم يقم على حفظ اللفظ فأفتى بمعناه. وقولهم: إنه لا يجب علينا اتباعه إذا لم يخبر به، لا يصح أيضاً؛ لأن الصحابي إذا قال قولاً مخالفاً للقياس، فالظاهر أنه لا يقوله إلا عن توقيف، فتكون فتياه أمارة على الخبر عن النبي فوجب العمل به، كما وجب العمل بخبر الواحد، وإن لم يقطع على صدقه؛ لأن الظاهر صدق الراوي. وقولهم: إن مشاهدة الرسول لا توجب عصمته لعمري (1) ، إلا أنه يوجب له مَزِيَّة من الوجه الذي ذكرنا، فوجب تقديمه، كما وجب تقديم خبر الواحد على القياس وإن لم يكن مقطوعاً به. وقولهم: إن العالم لا يجب عليه اتباع من هو أعلم منه، وكذلك صغار الصحابة لا يلزمهم اتباع أكابرهم، فلا يصح، لأن العالِمَيْن تساويا في طريق الاجتهاد. وكذلك الصحابة تساووا في مشاهدة التنزيل وحضور التأويل والنص عليهم، فمزيَّة أحدهما (2) [177/ب] على الآخر في الحكم المشترك لا توجب التقديم، كالبينتين إذا تعارضتا وأحدهما أعدل وأدين وأزهد، فإنه لا يرجح بها لمساواة الأخرى لها في العدالة، كذلك ها هنا. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (3) وقد وجد التنازع فوجب الرد إلى الكتاب والسنة.
والجواب: أن معناه إلى كتاب الله وسنة رسوله، وفي سنة رسول الله ما يقتضي الاقتداء بالصحابي من الوجه الذي بينَّا. واحتج بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أوْلِى الأبْصَارِ) (1) . والجواب: أن الرجوع إلى قول الصحابي -وفي المعلوم أن اجتهاده أولى من اجتهادنا- ضرب من الاعتبار والنظر. واحتج: بما جاء في القرآن من ذم التقليد واتباع الأهواء في الكفر والأمر المذموم. و [الجواب: أن] هذا محمول على غير مسألتنا. واحتج: بأنه لو كان حجة لم يكن لأهل عصره خلافُه. وقد روي أن أبا سلمة بن عبد الرحمن خالف ابن عباس في عدة المتوفى عنها، وأقره ابن عباس على ذلك (2) . وكذلك أصحاب عبد الله (3) قالوا: (ما كان يمنعنا أن نردَّ على ابن عباس إلا أنَّا على طعامه) ، فدل هذا على جواز مخالفته. والجواب عنه: ما تقدم في التابعي إذا أدرك عصر الصحابة هل يعتد بخلافه؟ (4) . وبينَّا أن عائشة أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن (5) . وأن علياً نقض حكم شريح في ابني عم (6) .
على أن هذا مذهب لأبي سلمة ولأصحاب عبد الله، والخلاف معهم كالخلاف معكم. واحتج: بأنه عَلَم (1) على الحكم، فوجب أن يكون مقدماً على قول الصحابي قياساً على عموم القرآن ونص خبر الواحد. والجواب: أنا نخص به عموم القرآن، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم (2) . وأما نص الخبر فإنما قدم عليه؛ لأن مَزِيَّة الصحابة حصلت بمشاهدة النبي، فلا يجوز أن تقدم عليه، وليس كذلك القياس؛ لأن طريقه الاجتهاد وغلبة الظن. وكذلك قول الصحابة ومعه مَزِيَّة من الوجه الذي بينَّا، فكان أولى. وعلى أنه ليس إذا لم يقدم على الخبر لم يكن حجة في نفسه، كالقياس لا يقدم على الخبر، وهو حجة. واحتج: بأن الصحابي يجوز عليه الخطأ في الاجتهاد، والإقرار عليه، فوجب أن لا يكون قوله حجة. أصله: قول كل واحد من أهل العلم. والجواب: أن تجويز الخطأ لا يمنع الاحتجاج به، كخبر الواحد والقياس. ولأنه لا مزية لقول بعضهم على بعض، وهذا بخلافه. واحتج: بأن الصحابي وكل عالم من العلماء يشتركان في آلة الاجتهاد، فلا يجوز لأحدهما تقليد الآخر. أصله: العالمان من [178/أ] ، غير الصحابة. والجواب: أنهما متساويان في الاجتهاد، وكذلك الصحابي مع غيره؛ لأن له مزية من الوجه الذي ذكرنا. واحتج: بأن الصحابي لم يدعُ الناس إلى تقليده فيما يقول: ألا ترى إلى ما روي عن عمر: أنه سئل عن مسألة، فأجاب فيها، فقال له رجل: أصبت
الحق، أو كلاما نحو هذا، فقال عمر: (والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ، ولكن لم آل (1) عن الحق) (2) . وقال زيد بن ثابت في قضية قضى بها في الجد: (ليس رأيي حقاً على المسلمين) (3) أو كلاماً نحو هذا. والجواب: أن هذا لا يمنع تقليده -كالعامى-، وإن لم يدعه الصحابي إلى قوله. وعلى أن عبد الرحمن بن عوف دعا عثمان إلى متابعة سنة الإمامين، فقال له -لما عرض البيعة عليه-: (على أن يحكم بكتاب الله وسنة رسول الله وسنة الخليفتين بعده) (4) ، فقبل ذلك بمحضر الصحابة من غير خلاف. والذي روي عن الصحابة من النهي عن التقليد: فهو محمول على النهي عن التقليد فيما كانوا يختلفون فيه، ولم يثبت عنهم أنهم منعوا تقليد الواحد منهم فيما قاله. واحتج: بأنه لا يجوز للانسان أن يتبع قول غيره إلا بصفة يختص بها لا يشاركه فيها أحد. مثل: النبي الذي اختص بالعصمة. وكذلك الأمة اختصت بالعصمة. والعالم مع العامي: اختص بآلة الاجتهاد ومعرفة الطريق.
فأما إذا لم يكن لأحدهما على الآخر مزية، لم يجز للآخر اتباعه. والجواب: أنا قد بينَّا مَزِيَّة الصحابي على غيره. فإن قيل: فيجب إذا استدل الصحابي بدلالة على حكم أن لا يستدل عليه بدلالة أخرى. قيل: إن اتفقوا على أن لا دليل لله تعالى غيره، لم يجز أن يستدل عليه بدلالة أخرى، وإن لم يتفقوا على ذلك جاز؛ لأنه يجوز أن يخفى عليه دليل؛ لأن عبادتهم القول بحكم الله تعالى، فأما أن يعلموا كلَّ دليل لله تعالى في ذلك أو يظهروه، فإن ذلك غير واجب، وكان تعلق علمهم بالحق ببعض الأدلة يسقط عنهم فرض الاستدلال بكل دليل. ومن الناس من قال: لا يجوز أن يستدل عليه بدلالة أخرى؛ لأنه (1) دليل الصحابة، فمن طلب دليلاً آخر عليه، فهو كمن طلب المقايسة في مسائل الإجماع وأخبار الآحاد مما هو مقطوع به من العقول، وهذا غير ممتنع على وجه من الترجيح من غير أن يقصد إلى بيان الحكم به بعد ثبوته، لما بينَّا. فإن قيل: فما تقولون إذا ثبت الحكم لعلة، فهل يجوز للصحابة تعليله بعلة أخرى؟ قيل: يجوز ذلك؛ لأنه يجوز تعليل الأصل بعلتين، كما يستدل على شىء بدليلين، وهذا في علتين إذا كان [178/ب] موجبهما واحداً، فأما إذا تنافت فلا يجوز ذلك. ومن الناس من منع ذلك؛ لأن تعليله بأخرى يبطل فائدة تعليق الحكم بالأولى (2) ، فلا يجوز، كما لا يجوز ذلك في العقليات، وأنه لا يكون حكم (3) العقل معللاً بعلتين.
إذ قال الصحابي قولاً مخالفاً للقياس (1) . كما روي عن عمر: (أنه قضى في عين الدابة بربع قيمتها) (2) . وروي عنه فيمن فقأ عين نفسه: (تحمله عاقلته له) (3) . وروي عن عثمان: (أنه قضى فيمن ضرب رجلاً فأحدث: بثلث الدية) (4) . وعن ابن عباس (فيمن نذر ذبح ولده: شاة) (5) .
وقول عائشة: (أبلغى زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله) (1) .
.................................
دليلنا:
فإنما يحمل ذلك على أنه قاله على جهة التوقيف (1) . وهو قول أصحاب أبي حنيفة (2) . وقال أصحاب الشافعي: لا يحمل على التوقيف، وإنما هو اجتهاده (3) . دليلنا: أن هذه الأشياء لما لم يكن لها وجه في القياس، وقد أثبتها الصحابي، وكان طريقها الاتفاق أو التوقيف علمنا أنه لم يثبت ذلك الأمر إلا من جهة التوقيف. فإن قيل: يحتمل أن يكون ذهب في إثباتها إلى قياس فاسد. قيل: يجب أن يحسن الظن فيه، ويحمل قوله على الصواب، لما قد ثبت له من المزية وهو مشاهدته للتنزيل، وحضور التأويل، ونص النبي عليه. فإن قيل: لو وجب أن يحمل ذلك على التوقيف، لوجب إذا خالفه صحابي آخر، وقال قولاً يطابق القياس أن لا يعتدَّ بخلافه. قيل: هكذا نقول؛ لأنه إذا طابق قوله القياس احتمل أن يكون توقيفاً، واحتمل أن يكون قياساً، وقول من خالف القياس ليس له وجه إلا التوقيف
فلا يعارض التوقيف بقول صحابي. فإن قيل: لو وجب أن يحمل قوله على التوقيف، لوجب إذا عارضه خبر متصل عن النبي مخالف له في الحكم أن يتعارضا، كما يتعارض الخبران المتصلان، فلا يقدم المتصل عليه. قيل: إنما قلنا: إن قول الصحابي توقيف من طريق غلبة الظن والظاهر، والمتصل أقوى في الظن في الاتصال، فجاز تقديمه عليه، كما قلنا في الخبرين إذا تعارضا وأحدهما أكثر رواة: إنه يقدم؛ لأنه يغلب على الظن صحته. وقد يخرج على هذا إذا قال بعض الصحابة بظاهر آية، وقال الآخر بخلاف ظاهرها، فقول التارك للظاهر أولى إذا لم يعين لنا أصلاً قاس عليه؛ لعلمنا أنه إنما تركه لتوقيف. ويحتمل أن يقدم قول من معه الظاهر؛ لأن جَنْبتَه أقوى [179/أ] .
مسألة
مسألة [إجماع الأئمة الأربعة] لا يعتدُّ بإجماع الأئمة الأربعة إذا خالفهم غيرهم من الصحابة (1) في إحدى الروايتين. وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي عنه قال: "إذا اختلفت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم إلا على اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة" (2) . وظاهر هذا أنه لم يقدم قول الأئمة على غيرهم من الصحابة (3) . وهو اختيار الجرجاني. وفيه رواية أخرى يعتد به (4) . وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأل أحمد - رضي الله عنه - عمن زعم أنه لا يجوز أن يخرج من قول الخلفاء إلى من بعدهم من الصحابة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين) .
قال: فناظرني في بعض ما قال الصحابة، ثم رأيته قد قَنِع بهذا القول، وقال: "ما أبعد هذا القول أن يكون كذلك" (1) . وهو اختيار أبي حازم (2) من أصحاب أبي حنيفة، و [لأجل هذا المذهب] (3) لم يعتد (4) بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي الأرحام (5) ، وحكم برد الأموال التي حصلت في بيت مال المعتضد، وجعل ذوي الأرحام أولى من بيت المال، فقبل ذلك منه المعتضد (6) ، وأمر بردها على ذوي الأرحام، وكتب
بذلك إلى الآفاق (1) . وجه الرواية الأوَّلة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم) ، فجعل الاقتداء بكل واحد منهم هدى، كما أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين من بعده. فإن قيل: يحمل هذا على ما إذا قال كل واحد منهم قولاً، ولم يخالفه غيره فيه. قيل: إذا لم يخالفه (2) غيره صار إجماعاً منهم، والخبر يقتضي الأخذ بقول الواحد منهم. فإن قيل: نحمله إذا اختلفوا، فإنه يجوز الاقتداء بكل واحد منهم. قيل: إذا كان هناك اختلاف، فالاقتداء يحصل بالدليل؛ لأنه يجتهد في أحد القولين من طريق الدليل. ولأن الإمامة لا تأثير لها في تقديم القول، كما لا تأثير لكون الواحد من الأمراء أو رسله. ولأن الأربعة يجوز الخطأ في قولهم، كما يجوز في حق كل أربعة.
واحتج بعضهم: بأن القياس العقلي ينفي الإجماع بدلالة أنه لا فرق بين هذه الأمة ومن تقدَّم من الأمم، وإنما ترك ذلك للسمع، وهو قوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (1) والآية ليست لجميع المؤمنين. وقال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (2) وهذا الاسم لا يختص الأئمة. واحتج المخالف: بما روي [179/ب] (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء من بعدي) فأمر بذلك، والأمر على الوجوب. والجواب: أنه يعارضه قوله: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) . ولأنَّا نحمل (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي) إذا لم يظهر خلافهم في الصحابة. ونحمل قوله (وسنة الخلفاء) أن يريد به الفتيا، وخصَّهم بالذكر؛ لأنهم أعلم من غيرهم في وقتهم وزمانهم.
فصل فأما قول أحد الأئمة فليس بحجة إذا خالفه غيره (1) رواية واحدة (2) . نص عليه -رحمه الله- في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأل أحمد -رحمه الله- عمن قال: "ليس لنا أن نخرج من قول أبي بكر إلى قول عمر، ولا من قول عمر إلى قول عثمان، ولا من قول عثمان إلى قول علي، فتعجبَ من ذلك، وقلتُ له: إننى أنكرتُ عليه، وقلتُ له: إن كان قولهم سنة فبأي قول أخذتَ أو اخترتَ من أقاويلهم فلك (3) ذلك، فأعجبه ذلك". وبهذا قالت الجماعة (4) . وحكي عن بعض الشافعية: أنه حجة، لا يجوز لنا مخالفته، وإن خالفه غيره من الصحابة (5) . وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم فقال: "يروى عن ابن عباس أنه كان يقول: (إذا انقطع الدم في الحيضة الثالثة فقد بانت منه) (6) .
وهو أصح في النظر. فقيل له: فلم لا تقول به؟! قال: قد قال عمر وعلي وابن مسعود، فأنا أتهيَّب أن أخالفهم، يعنى: باعتبار الغسل" (1) . ونقل ابن منصور ما هو أصرح من هذا، فقال ابن منصور: قلت: "قول ابن عباس فى أموال (2) أهل الذمة العفو؟ (3) . قال أحمد -رحمه الله-: عمر جعل عليهم ما قد بلغك (4) . كأنه لم ير ما قاله ابن عباس". قا أبو حفص البرمكي في شرح مسائل ابن منصور: "إنما لم ير ما قال
دليلنا:
ابن عباس؛ لأن أحد الخلفاء إذا رُوي عنه شىء، وروي عن غير الخلفاء ضده، فالذي يلزم اتباعه ما جاء عن أحد الخلفاء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجِذ) . قيل: إنها آخر الأضراس. وقيل: إنها الضرس الذي بعد النَّاب. دليلنا: أنه لو كان حجة لم يجز لمن بعده أن (1) يخالفه فيه، كما إذا أجمعوا على حكم لم يجز لمن بعدهم أن يخالفهم فيه. وقد روي من خلاف عمر لأبي بكر في التسوية في العطاء (2) .
وخلاف علي في بيع أمهات الأولاد. وغير ذاك مما اختلفوا فيه علمنا: أن قول واحد منهم بانفراده لا يكون حجة. واحتج المخالف: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [180/أ] : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ، فأمر باتباع سنة كل واحد منهم. والجواب عنه: ما تقدم (1) .
مسألة
مسألة إذا عقد أحد الأئمة الأربعة عقداً، لم يجز لمن بعده من الأئمة فسخه (1) ، نحو ما عقده عمر من صلح بني تَغْلِب (2) ومن خراج السَّواد (3) . والجزية، وما يجري هذا المجرى؛ لأنه صادف اجتهاداً سالفاً. وذلك أنه لما وضَع الخراج على الأرضين، والجزية على الرقاب، وضاعف الحقوق على بني تَغْلِب، لم يكن في ذلك إسقاط حق القبض لمن بعده من الأئمة، وإنما نقل حق القبض من موضع إلى موضع؛ لأنه ترك قسمة أرض السواد، فنقل ذلك الحق إلى الخراج، وحق الأئمة بعده، قائم في قبضه. وكذلك الجزية وما يؤخذ من بني تَغْلِب، فإن حق القبض فيه إلى الإمام،
فلهذا لم يكن لمن بعده فسخه. فإن قيل: أليس قد جاز للإِمام إبطال حق الغانمين من القسمة؟. قيل: الإمام إنما كان له إبطال حق الغانمين من القسمة؛ لأنه كان يجوز له إبطال حقوقهم من الغنائم بأن تُقتل الرقاب، فبطل حق الغانمين فيها (1) . فإن قيل: أليس قد جاز أن يزيد على جزية عمر وينقص منها، وهذا تغيير لفعله. قيل: اختلفت الرواية في ذلك. فروي عنه: أنه لا يجوز (2) . وروى عنه: الجواز (3) .
مسألة
وذلك أنه ليس فيه فسخ للعقد، وإنما هو موقع بعده على حسب الطاقة. لأن عمر - رضي الله عنه - عقده على هذا الوجه؛ لأنه قال لعثمان بن حنيف (1) لعلك حملت الأرض ما لا تطيق (2) . فاعتبر الطاقة، وهذا يختلف باختلاف الأوقات. مسألة إذا اختلفت الصحابة في المسألة على قولين، ولم ينكر بعضهم على بعض، لم يجز لمن هو من أهل الاجتهاد أن يأخذ بقول بعضهم من غير دلالة على صحة قول الصحابي (3) . نصَّ عليه -رحمه الله- في رواية المروذي فقال: "إذا اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر
دليلنا:
أقرب القول إلى الكتاب والسنة" (1) . وحكى أبو سفيان السرخسي عن بعض شيوخه: "أنه إذا أظهر هذا القول ولم ينكره منكر جاز الأخذ به" واختار ذلك. وحكى عن قوم من المتكلمين أن ذلك القول (2) إن كان حادثاً في الصحابة قبل وقوع الفرقة بينهم واختلاف الديار بهم جاز أن يؤخذ به من غير اجتهاد في صحته. وإن كان حادثاً بعد وقوع الفرقة بينهم لم يجز الأخذ إلا أن يدل دليل على صحته غير قول الصحابي (3) . [180/ب] . دليلنا: أن الصحابة مختلفون فلم يجز لمن هو من أهل الاجتهاد أن يأخذ بقول بعضهم من غير دلالة. أصل ذلك: إذا أنكر بعضُهم على بعض. فإن قيل: إذا أنكر بعضُهم على بعض فلم يحصل منهم الإجماع على كونه صواباً، وليس كذلك إذا تركوا الانكار؛ لأنه يدل على كونه صواباً؛ لأنه لو كان خطأ لم يجز لهم أن يتركوا إنكاره، وإذا ثبت أنه صواب كان المتمسك به مصيباً. قيل: ترك الإنكار لا يدل على كونه صواباً عند المخالف له؛ لأن ما يسوغ فيه الاجتهاد لا يجب إنكاره.
وقد نصَّ أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية بكر بن محمد فقال: "على الرجل أن يجتهد، ولا يقول لمخالفه: إنه مخطىء". وأيضاً: لما لم يجز لأحد المجتهدين أن يأخذ بقول الآخر حتى تدل دلالة على صحة قوله، كذلك مثله في الصحابة. فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه ليس في قول المجتهد الآخر حجة، ولا نعلم أنه صواب، وأما قول الصحابي فإنه حجة. قيل: إنما يكون حجة إذا انفرد ولم يعارضه غيره، فأما إذا خالفه غيره فليس بحجة. وأيضاً: فإن قول كل واحد منهما ضد الآخر، وليس أحدهما بأولى بالتقديم من صاحبه، وإذا كان كذلك وجب أن يتعارضا فيسقطا، وإذا سقطا وجب الرجوع إلى الاجتهاد في ذلك. واحتج المخالف: بما تقدم، وهو: أنه إذا لم يحصل منهم الإنكار دل على كونه صواباً؛ لأنه لو كان خطأ لم يترك الإنكار. والجواب عنه: ما تقدم. واحتج: بأن الصحابة قد رجع بعضهم إلى قول بعض مع كون الجميع من أهل الاجتهاد. كما روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قبل قول معاذ في ترك رجم المرأة الحامل (1) .
مسألة
وكما روي عن عثمان أنه استنَّ فيهم سنة أبي بكر وعمر، وقبِل البيعة على ذلك، ولم ينكر على من قبل قول غيره منهم، وإن كان من أهل الاجتهاد. والجواب: أنه يحتمل أن يكون من رجع منهم إلى قول غيره؛ لأنه ذكر الوجه الذي لأجله قال بما قال به، فاستدل بما ذكره على صحة قوله إذا علم صحة قوله من غير أن يذكر له الوجه الذي لأجله قال بما قال عند سؤاله. مسألة الشيء المجمع عليه إذا تغيرت حاله جاز تركه بدلالة غير الإجماع (1) . وهو قول أصحاب أبي حنيفة (2) . خلافاً لما حُكي عن بعض الشافعية: أن ما ثبت بالإجماع ألا يجوز تركه إلا بإجماع مثله.
دليلنا:
وهذا مثل المتيمم إذا دخل في الصلاة، ثم رأى الماء. وما يجري هذا المجرى من المسائل [181/أ] . دليلنا: أن غير الإجماع قد يكون حجة مثل الإجماع، ألا ترى أن الإجماع إنما (1) صار حجة بالخبر الوارد فيه، والخبر إنما صار حجة لقيام دلالة العقل على أن الخير به لا يكذِب، وإذا كان كذلك وجاز ترك المجمع عليه إذا تغيرت حاله وجب أن يجوز أيضاً تركه بغير إجماع. واحتج المخالف: بأنه لو جاز ترك المجمع عليه بغير الإجماع لأدى ذلك إلى قيام الدلالة على خلاف الإجماع، وهذا لا يجوز. والجواب: أنه إذا تغيرت صفته، فليس هو المجمع عليه، بل هو غيره، فلا يكون في تركه بغير الإجماع إزالة ما ثبت بالإجماع بدلالة أخرى. وجواب آخر، وهو: أنه لو لم يجز ترك ما ثبت بالإجماع إذا تغيرت صفته بدلالة غير الإجماع، لم يجز أيضاً تركه بالإجماع؛ لأن الإجماع على خلاف الإجماع لا يجوز، كما لا يجوز خلاف الإجماع، فلمَّا لم يمتنع تركه بالإجماع لم يمتنع أيضاً تركه بغير إجماع. واحتج: بأنه لمَّا لم يكن غير الإجماع من جنس ما ثبت به الحكم، لم يجز إزالة الحكم، كما لا يجوز إزالة ما ثبت بنص الكتاب بدلالة القياس. والجواب: أنه قد يجوز أن يثبت الشيء بدلالة، ثم ينتقل عنها بدلالة أخرى من غير جنسها، ألا ترى أنه يجوز ترك ما ثبت بالعقل بدلالة من جهة السمع وإن كانت من غير جنس دلالة العقل.
مسألة
مسألة يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد (1) . قال أبو سفيان: وهو مذهب شيوخنا (2) . وقال: قال بعض شيوخنا: لا يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد (3) . دليلنا: أن العمل بخبر الواحد ثابت، فوجب عموم العمل به ما لم يمنع منه دليل. ولأن الإجماع حجة، كما أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. حجة، وقول النبي يثبت بقول الواحد. وذهب المخالف: إلى أن الإجماع حجة توجب العلمَ، فلا يجوز إثباتُها لا يوجب العلم. والجواب: أناَّ نجيز وقوع الإجماع من طريق الاجتهاد والقياس، وإن كان القياس والاجتهاد لا يوجبان العلم. وكذلك يجور إثبات التأريخ الموجب للنسخ بخبر الواحد، وإن كان النسخ بخبر الواحد لا يجوز. وكذلك يجوز إثبات الإحصان بشهادة رجلين، وإن لم يجز إثبات الزنا الموجب للرجم به، كذلك ها هنا لا يمتنع أن يثبت الإجماع بخبر الواحد، وإن كان الإجماع موجباً للعلم.
مسألة
مسألة في الحادثة إذا حدثت [181/ب] بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحكم فيها بشىء، جاز لنا أن نحكم في نظيرها (1) . وذهب بعض المتكلمين: إلى أن ترك النبي للحكم في الحادثة يدل على وجوب ترك الحكم في نظيرها، وقال هذا كرجل شجَّ رجلاً شجة، فلا يحكم رسول الله فيها بحكم، فنعلم بتركه ذلك: أن لا حكم لهذه الشجة في الشريعة. دليلنا: أن بيان الحكم يقع من قبل الله تارة ومن قبل تبيين النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة أخرى، فلمَّا اتفقوا على أن عدم نص الله تعالى في الحادثة على حكم لا يوجب تركَ الحكم في نظيرها، كذلك تركُ رسول الله الحكم في الحادثة لا يوجب تركَ الحكم في نظيرها. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكلنا إلى النظر والاستدلال والبحث عن أدلة الأصول (2) .
ألا ترى إلى ما روي أن عمر - رضي الله عنه - لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكَلاَلة، فلم يجبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (يكفيك آية الصَّيف) (1) فوكله إلى البحث والنظر. وذهب المخالف: إلى أنه لو كان لهذه الحادثة حكم في الشريعة لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليترك بيانه مع عدم نص الله تعالى. والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أنه قد يترك البيان، ويكلنا إلى النظر والبحث، فلا يكون ذلك موجباً لترك الحكم في نظير الحادثة.
باب التقليد
باب التقليد التقليد (1) : قبول القول بغير دليل (2) . واشتقاقه من القِلادة (3) ؛ لأنها تكون في رقبة الإنسان، فاشتُقَّ التقليد منها؛ لأنه إذا قَبِل قولَه فيما سأله، فقد قلَّد رقبتَه ذلك (4) . وليس المصير إلى الإجماع تقليد المجمعين، ولكن نفس الإجماع حجة لله تعالى كالآية والخبر، فإذا صار إلى الحكم بدليل الإجماع، كان دليله على الحكم الإجماع. وكذلك يُقبل قولُ الرسول، ولا يقال: تقليد؛ لأن قوله وفتواه حجةٌّ ودليلٌّ على الحكم، والنبى لا يُقلَّد؛ لأن قوله حجة؛ لأنه إذا أفتى بفتيا لم يحتج أن يدل على الحكم بآية من كتاب الله ولا غيره، بل مجرد نطقه عنه. ويفارق فتيا الفقيه؛ لأن قوله ليس بحجة ولا دليل على الحكم؛ لأنه يفتقر إلى دليل تعلق الحكم به.
فدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُقلَّد أبداً. وقد قال أحمد - رضي الله عنه - في رواية أبي الحارث: "من قَلَّد الخبرَ رجوتُ أن يَسْلَم إن شاء الله" (1) . فقد أطلق أحمد - رضي الله عنه - اسم التقليد على من صار إلى الخبر، وإن كان حجة في نفسه. يمكن أن يحمل قوله: "قَلَّد" بمعنى صار إلى [182/أ] الخبر. [ما يسوغُ فيه التقليد وما لا يسوغ] وإذا ثبت حدُّ التقليد. فالكلام فيما يسوغ فيه التقليد وما لا يسوغ فيه (2) . جملته: أن العلوم ضربان: ما يسوغ فيه التقليد. وما لا يسوغ فيه التقليد. فما لا يسوغ فيه التقليد: معرفة الله تعالى، وأنه واحد، ومعرفة صحة الرسالة (3) .
وإنما قلنا: لا يقلد في هذا، بل على الكل معرفةُ ذلك بغير تقليد: لقوله (1) تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطاياهُم مِن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (2) . وهذا أعلى منازل التقليد: أن يضمنَ (3) المقلَّدُ للمقلِّد دركَ ما قلَّده فيه، وأن يتحمل عنه إثمه، فقد ذمة الله تعالى عليه وكذَّبه فيه: ثبت أن التقليد فيه لا يجوز. ولأن كل واحد يمكنه معرفة الله تعالى؛ لأنه يشترك فيها العامي والعالم، لا نبينه فيما بعد. ولأن التقليد لا يفضي إلى المعرفة، ولا يقع به العلم. فصل [معرفة الله لا تجب قبل السمع] ولا يجب عليه معرفةُ الله تعالى قبل السمع مع القدرة على معرفة الله تعالى بالدلائل (4) . وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية عبدوس (5) بن مالك العطار:
دليلنا:
"ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك (1) بالعقول، إنما هو الاتباع". خلافاً للمعتزلة في قولهم: عليه أن يعرف ذلك قبل أن يرد السمع، فإن لم يفعل، فهو كافر معاند (2) . وقالوا: المراهق إذا بلغ حداً يميز ويعقل وجب عليه أن يعرف الله تعالى، فإن لم يفعل، فهو كافر معاند. دليلنا: قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَى نَبْعَثَ رَسُولاً) (3) . وقال تعالى: (رُسُلاً مُّبَشِرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اْلرُّسُلِ) (4) فدل ذلك على أن الله تعالى لا يعرف قبلِ أن يبعث الرسل. وقال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَى يَبْعَث فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلهَا ظَالِمُون) (5) . وقال تعالى: (وَلَوْلاَ أن تُصِيْبَهُم مُّصيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيدِيهمْ فَيَقُولوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ رَسُولاً فَنَتَّبعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (6) وقال الله تعالى: (وَلَوْلاَ أَنَّا أهلَكْنَاهُم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلتَ إِليْنَا رَسُولاً فَنَتَبعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أن نَّذِلَّ وَنَخْزَى) (7) .
وهذا كله يدل على ما ذكرناه. وأيضاً: ما روى سليمان بن بريدة (1) عن أبيه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على سرية أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين، وقال: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم [إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتها أجابوك إليها، فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم] (2) إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا، [فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا] (3) فاستعن بالله عليهم وقاتلهم) (4) . فأمر بقتالهم بعد الدعاء والامتناع. وإذا ثبت وجوبها بالسمع فالطريق إليها أدلة يشترك فيها العالم والعامي، وهى أمور عقلية.
[بم تحصل المعرفة] وهي كسبية مختارة للعبد، وموهِبة من الله تعالى، ولا تقع ضرورة. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي: "معرفة الله تعالى في القلب تتفاضل فيه وتزيد" (1) . وهذا يدل على أنها كسبية؛ لأنها تزيد بزيادة الأدلة، ولو كانت ضرورة لم تزد، كما لم يزد (2) علم الضرورات. خلافاً لمن قال: المعرفة موهِبَة، تقع ضرورة، ولا يتوصل إليها بأدلة العقول (3) . وربما يذهب إلى هذا قوم من أصحابنا (4) . والمذهب على ما ذكرنا (5) .
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية حمدان بن علي: "المرجئة تقول: إذا عرف ربّه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه. وهذا كفر إبليس، قد عرف ربه، فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي") (1) . فقد نص على حصول (2) المعرفة لإبليس، ولو كانت موهِبة لم تحصل له (3) ، لأنه كافر معاند. والدلالة عليه: أن الله تعالى أجرى العادة بحصول المعرفة عند النظر والاستدلال، كما أجرى العادة بذلك بحصول الطَّعم عقيب الذوق، والسمع عقيب الاستماع، ولم يجز أن يقال: إن الطَّعم يحصل بغير ذوق، والسمع بغير استماع.
ولأن الله تعالى حث على النظر والاستدلال، فلولا أن العلم يقع به لم يكن فيه فائدة، فقال تعالى: (أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ، كَيْفَ خُلِقَتْ) (1) . وقال: (أولَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السمَوَاتِ وَاْلأَرْضِ) (2) . وقال: (فَلْيَنْظُرِ اْلإِنْسَان مِمَّ خُلِقَ) (3) . وقال: (يَا أيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنَ تُرَابٍ) (4) الآية. واحتج من قال بأنها موهبة: بما أخبر الله سبحانه عن عيسى وقوله في التمهيد: (إِنِّى عَبدُ اللهِ ءاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا) (5) ، ولم يك من أهل النظر: الاستدلال. وكذلك لما استخرج الذرية من ظهر آدم، (وأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (6) .. ولم يكونوا من أهل النظر والاستدلال. والجواب: أن كلام عيسى في التمهيد كان معجزة (7) له وبراءة لأمه. ويحتمل أن يكون كلفه في تلك الحال، كما أنطقه في المهد صبياً بلسان الحكمة. وأما الذرية فإن الله تعالى كلفهم حين أوجدهم؛ لأنه أخذ إقرارهم، وإنما يكون هذا حجةً على من كلف.
فأما الدلالة التي يتوصل بها فهو: أنه رَفع السماء بغير عمد، وأجرى فيها الكواكب والشمس والقمر دائبين، قائمة على الهواء بغير عمد، ولا يظهر فيها شَق ولا فُطور، قال تعالى: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور) (1) . وسَطَح الأرض، وهي تراب على وجه الماء، والبناء على الماء حال (2) [183/1] لا يقدر عليه أحد، فلما فعل هذا اضطربت على الماء فثبتها بالجبال الرواسي حجراً واحداً، ومعلوم أن أحداً من البشر لا يقدر عليه، ثبت أن لها خالقاً غير البشر. وكذلك جعل فيك دلالة عليه، فإنه خلق الإنسان من ماء مهين، وجعله نطفة في الرحم، ثم يُغَيَّر من حال إلى حال، حتى يظهر من بطن أمه وليداً لا يعقل، فلم يزل حتى كبر، وعقل، وفهم، وعلم، وأنتَ تعلم أنه لو انقطع منه شعرة لم يمكن أحد أن يضعها كما كانت أبداً، ثبت بهذا أن له صانعاً يخالف البشر. وإذا ثبت أن لها صانعاً، علمناه قطعاً أنه واحد لا شريك له بانتظام الأمر على محكم الصنعة من غير تغير ولا اختلاف، ولو كان إله غيره لجاز عليهما الاختلاف على ما نعهده في الملوك، فلما اتسعت الصنعة على وجه واحد من غير اختلاف، علم قطعاً أن الصانع واحد لا شريك له. [معرفة النبوة] وأما معرفة النبوة فظهور المعجزات عند التحدي والحاجة إليها على يديه، كانشقاق القمر، وكلام الضب، وحنين الجذع، والقرآن القاطع المعجز، وكاليد البيضاء، والعصا، وإحياء الموتى، وتنزيل المائدة من السماء، فإذا ظهر على [يد] نذير هذا عند التحدي علمنا أنه رسول الله قطعاً؛ لأن المعجزات لا تظهر على يد الكذابين.
[الفرق بين العجزة والكرامة] ويفارق هذا كرامات الأولياء، لأنها تقع اتفافاً، ولا يمكنه إظهارها والتحدي بها، فإذا وجد على يدي رجل، ثبت أنه نبي قطعاً، وكان قبول قوله فرضاً (1) . وفي معنى هذا مما لا يسوغ التقليد فيه: ما ثبت بخبر التواتر، كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان والزكاة والحج، كل هذا يعرف بأخبار التواتر، فيقع العلم بها بالسمع، والعالِم والعامي في طريق ثبوتها على وجه واحد، فلهذا لم يسغ التقليد فيه. [ما يسوغ فيه التقليد] وأما الذي يسوغ فيه التقليد، فهذه المسائل التي هي فروع الدين، كالنكاح، والبيوع، والطلاق، والعتق، والتدبير، والكتابة، وسجود السهو، فالناس فيه على ضربين: عالِم، وعامي. فالعامي له أن يقلد أهلِ العلم، ويعمل بفتواهم، لقوله تعالى: (فَاسْألوا أَهْل الْذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون) (2) . وقال تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (3) . وقال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُوْلِ وَإلِى أولِى الأَمرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ
يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (1) . ولأنه لا خلاف أن طلب الفقه من فرائض الكفايات، فلو كلف الكل لكان من فرائض الأعيان. ولأن كل أحد لا يتمكن أن يعرف ذلك؛ لأنه يتشاغل [183/ب] عن عمارة الدنيا بالزرع والمعاش والكسب به، فلما كان فيه قطع لعمارة الدنيا لم يكن واجباً على الكل. [للعاميِّ أن يقلد من شاء من المجتهدين] وإذا ثبت أن له التقليد، فليس عليه أن يجتهد في أعيان المقلَّدين، بل يقلد من شاء، لأنه لما لم يكن عليه الاجتهاد في طلب الحكم كذلك في المقلَّد. وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- فيما رواه الحسين (2) بن بشار المخرمي (3) قال: "سألت أحمد -رحمه الله- عن مسألة في الطلاق، فقال: إن فعل كذا حنث. فقلت له: فإن أفتاني إنسان: لا أحنث، فقال: تعرف حلقة المدنيين؟ قلت: فإن أفتوني أدخل (4) ؟ قال: نعم". فلم يكله الإمام أحمد - رضي الله عنه - إلى اجتهاده في المستفتى، وإنما
أفتاه بقوله، وأرشده إلى غيره. [إذا استفتى المقلد عالمين] وإن استفتى عالمين: فإن اتفقا على الجواب عمل بما قالاه، وإن اختلفا، فقال أحدهما: مباح، والآخر محظور. مثل إن استفتاه في صريح الطلاق إذا نواه ثلاثاً، فقال له حنبلي: طلقت واحدة. وقال (1) له شافعي: طلقت ثلاثاً، فإنه يقلد من شاء منهما، ولا يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ عليه. وهذا ظاهر ما رواه الحسين (2) بن بشار عن أحمد؛ لأنه استفتاه في مسألة الطلاق، فقال له أحمد - رضي الله عنه -: "إن فعل حنث، وقال: إن إفتاك مدني: لا تحنث، فافعل". فقد سوَّغ له الأخذ بقول المدني بالإباحة، ولم يلزمه الأخذ بالحظر. فإن قيل: هلاَّ قلتم: يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ، كما قلتم: إذا تقابل في الحادثة دليلان: أحدهما حاظر والآخر مبيح: إنه يقدم الحظر على الإباحة.
قيل: الفرق بينهما: أن ذلك من الأصول مبناه على التأكيد، ولهذا طريق ثبوته دليل مقطوع عليه. وهذا من الفروع مبناه على التخفيف، ولهذا يثبت بغلبة الظن. [يكفي في الفتوى مترجم واحد] فإن كان المقلد يعرف لسان المفتي سمع منه، وعمل بقوله عليه. وإن كان لا يعرف لسانه أجزأه مترجم واحد؛ لأنه نقل خبر إليه، وخبر الواحد يوجب العمل. ويفارق هذا الترجمة عن الشاهد؛ لأنها (1) إثبات شهادة، فلهذا افتقرت الترجمة إلى عدد. [على العامي أن يستفتي في كل حادثة تقع] وإن استفتى عامي عالماً في حكم وأفتاه، ثم حدث حكم آخر مثل ذلك، فعليه أن يكرر الاستفتاء، ولا يقتصر على الأول. وكذلك الحاكم إذا اجتهد في حادثة فقضى بها، ثم حدثت ثانياً، فإنه يحدث لها اجتهاداً. وكذلك إذا اجتهد فصلى إلى جهة، ثم حضرت صلاة أخرى أحدث لها اجتهاداً؛ لأن الاجتهاد الأول غير مقطوع [184/أ] عليه، وإنما هو غلبة ظن فهذا حكم العامي.
فصل [تقليد العالم لعالم مثله] وأما العالِم فلا يجوز أن يقلد عالماً مثله، سواء كان الزمان واسعاً أو ضيقاً (1) . وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد: "لا تقلد أمرك واحداً منهم، وعليك بالأثر" (2) . وذكر ابن بطة (3) في مسألة أفردها: أن الخلوة تكمل الصداق، بإسناده عن الفضل بن زياد قال: قال أحمد -رحمه الله-: "يا أبا العباس لا تقلد
دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا" (1) . فقد مَنَعَ من التقليد، وندب إلى الأخذ بالأثر. وإنما يكون هذا فيمن له معرفة بالأثر والاجتهاد. وبهذا قال الشافعي (2) وأبو يوسف (3) .
وقال أبو حنيفة (1) ومحمد (2) : يجوز للعالم تقليد العالم، حكاه أبو سفيان عنه في مسائله، ولم يفرق بين أن يكون الزمان واسعاً أو ضيقاً. وذهب ابن سريج إلى جواز ذلك مع ضيق الوقت (3) . والدلالة على أبي حنيفة: قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ) (4) ولم يقل إلى عالم مثلك. وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِنْ شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (5) وهذا يدل على أن لا يقلد غيره. وأيضاً: فإن معه آلة يتوصل بها إلى المطلوب، فوجب أن لا يجوز له التقليد فيه.
أصله: التقليد في التوحيد. وهذا نكتة المسألة. ولا يلزم عليه قول الصحابي؛ لأن الرجوع إليه ليس بتقليد؛ لأنه حجة كقول النبي. فإن قيل: الأمور العقلية طريقها العلم، وتقليد الغير أكثر أحواله أن يوجب غلبة الظن، فلم يجز له تقليده، وأمور الشرع طريقها الاجتهاد، وتقليده لمن هو أعلم منه وأقوى اجتهاداً ضرب من الاجتهاد، فوجب أن يكون ذلك دلالة. قيل: ليس هذا ضرباً من الاجتهاد ولا دلالة، وإنما هو اجتهاد من التقليد، وكلامنا في اجتهاده ليعلم ذلك بعلمه، ويقف على دليله. ولأنه لا يجوز للإِنسان أن يتبع قول غيره إلا بصفة تختص به، لا يشاركه فيها أحد، مثل الرسول اختص بالعصمة (1) وكذلك الأمة. وكذلك قول الصحابي اختص بمشاهدة التنزيل وحضور التأويل. والعالم مع العامي اختص بالاجتهاد. فأما إذا لم يكن لأحدهما مزية لم يكن له اختصاص بصفة فلم يجز للآخر اتباعه في قول. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِى اْلأمْرِ مِنْهُمْ) (2) . والجواب [184/ب] : أن المراد به العامة، يدل عليه قوله تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) عُلِم أنه أراد المقلد؛ لأنه إذا كان عالماً فهو من أهل الاستنباط.
واحتج: بما روي أن عبد الرحمن بن عوف لما تردد بين عثمان وعلي، قال لعثمان: (هل أنت متابعي (1) على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين؟. فقال: الَّلهم نعم، فبايعه) (2) . وإنما دعاه عبد الرحمن إلى اتباع أبي بكر وعمر لاعتقادهما (3) أن أبا بكر وعمر كانا أعلم من عثمان. وروي عن عمر أنه قال: (إني رأيت في الجد رأياً، فاتبعوني، فقال له عثمان: إن نتبع رأيك فرأيك رشيد، وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي كان) (4) . وروي (أن امرأة ذُكِرت عند عمر بالفاحشة، فوجه إليها، فأجهضت ذا بطنها من الفزع، فاستشار الصحابة، فقال عثمان وعبد الرحمن: إنك مؤدب، ولا شىء عليك، وعلىُّ ساكت، فقال له عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطئا، وإن لم يجتهدا فقد غشَّاك، عليك الدية، فقال عمر: عزمت عليك لتقسمنها على قومك) (5) .
فقلد علياً. والجواب عن قول عبد الرحمن لعثمان: هل أنت متابعي على سيرة الشيخين من وجوه: أحدهما: أنا نحمل ذلك على السيرة في حماية البيضة. والقيام بالمصالح، والتزيد في بلاد الإسلام والفتوح والنكاية في العدو، ولم يُرِد في أحكام الفقه. يدل على صحة هذا: أن أحكامهما (1) مختلفة في كثير من المسائل، فكيف يجوز اتباعهما؟. فإن قيل: لو كان المراد به السيرة لم يمتنع عليُّ من ذلك. قيل (2) . وجواب ثان، وهو: أنه يجوز أن يكون عثمان أجابه إلى ذلك؛ لأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي أبي بكر وعمر) فحمله على عمومه. وجواب ثالث، وهو: أن علي بن أبى طالب خالفهما في ذلك، فقال لعبد الرحمن لما قال له: (هل أنت متابعي على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة
الشيخين؟ فقال له علي: لا، إلاَّ على جهدي وطاقتي) . فخالفهما في ذلك. فإن قيل: ليس هذا بخلاف؛ لأنه يجوز أن يكون عنده أنه أعلم منهما، فلهذا لم يتبعهما؛ وكان عند عثمان أنهما أعلم منه، فأجاب إلى اتباعهما. قيل: الخلاف قد ظهر منهما، وما ذكره المخالف من هذا الاحتمال يحتاج إلى دليل. وأما قول عمر: (إني رأيت في الجد رأياً فاتبعوني) ، فلا حجة فيه؛ لأنه إنما يصح التعلق به إذا ثبت أن عمر دعاهم إلى اتباعه؛ لاعتقاده أنه أعلم منهم. وهذا المعنى ليس في الخبر [185/أ] وعلى أن معناه: اتبعوني بالدليل الذي قام عندي. وقول عثمان: (إن نتبع رأيك فرأيك رشيد) ، أي: [له] وجه في الأصول وتَعَلُّق بها (وإن نتبع رأي من قبلك، فنعم ذو (1) الرأي) ، لما دلَّ عليه من الدليل، فإذا احتمل هذا لم يجز حمله على التقليد. وأما قول عمر لعلي: (عزمت عليك لتقسمنها على قومك. إنما قاله؛ لأن اجتهاده أدى إلى صحة ما قاله، فكان ذلك قولاً بالدليل. واحتج: بأن العالم إذا رأى اجتهاد غيره أقوى من اجتهاد نفسه كان تقليده إياه ضرباً من الاجتهاد، فلما كان له أن يحكم في الحادثة بما يؤديه إليه اجتهاده، كذلك يجوز له أن يقلد غيره فيها (2) إذا كان اجتهاده أوثق عنده من اجتهاد نفسه. والجواب: أنه لو كان جواز تقليده مما ذكرته من أن اجتهاد غيره أقوى لوجب أن لا يجوز له أن يترك تقليده، ولا يعمل على اجتهاد نفسه، كما أنه
إذا رأى الحادثة بأحد الأصلين أشبه منها بالأصل الآخر لم يجز له أن يردها إلى الأصل الذي هو أشبه به، فلما أجزتم له أن يمضي اجتهاد نفسه علمنا أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين. وجواب آخر وهو: أن قولهم: إن رجوعه إلى قول غيره ضرب من الاجتهاد لا يصح؛ لأنه اجتهاد في التقليد، وكلامنا في اجتهاده ليعلم ذلك بعلمه ووقوفه على دليله. واحتج: بأن الأعلم لما كان يعرف مالا يعرفه الآخر كان له أن يصير إلى من هو فوقه، مثل العامي يسمع خبراً أو آية عامة، فإن عليه الرجوع إليه (1) ، يقلده (2) لجواز أن يكون عند العالم ما يقضي على الخبر الذي يسمعه. كذلك اجتهاد من هو أدون منه في الفقه لما جاز أن يكون عند العالم ما يقضي على اجتهاده لزمه المصير إلى قوله. والجواب: أنه لو كان كالعامي لوجب الرجوع إلى قوله، ولم يجز لى أن يعمل على ما عنده، ولما جاز له العمل على ما عنده لم يصح اعتباره به. ولأن العامي ليس معه آلة الاجتهاد، وهذا بخلافه.
دليله: إذا لم يضق وقته.
[لا يجوز التقليد للعالم وإن ضاق الوقت] والدلالة على منع التقليد مع ضيق الوقت أيضاً ما تقدم. ولأنه من أهل الاجتهاد، فلم يجز له تقليد غيره. دليله: إذا لم يضق وقته. ولأن اجتهاده شرط في صحة فرضه، فلا يسقط بخوف الفوت قياساً على سائر الشروط، مثل: الطهارة وستر العورة وغير ذلك. ولأن العامي فرضه السؤال والتقليد، والعالم فرضه في الاجتهاد، فلما لم يسقط عن العامي فرض السؤال لخوف الوقت لم يسقط عن العالِم فرض الاجتهاد [185/ب] . واحتج المخالف (1) : بأنه لا يمكنه أداء فرضه باجتهاده، فكان فرضه التقليد قياساً على العامي. والجواب: أن العامى عاجز عن الاجتهاد، والعالم متمكن منه، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر، ألا ترى أنه لا يجوز اعتبار من لا يجد الماء والسترة بمن يقدر عليهما (2) ، ولكنه يخاف فوات الوقت إن استعملهما (3) . واحتج: بأنه لما جاز للعالم تقليد الصحابي جاز له تقليد غير الصحابي. والجواب: أنه لما جاز له تقليد الصحابة لزمه ذلك، ولم يجز له مخالفتهم (4) ،فجرى ذلك مجرى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس كذلك ها هنا، فإن العالم لا
مسألة
يلزمه تقليد العالم، بل هو مخير عندهم في تقليده وفي تركه والعمل على ما عنده، فبَانَ الفرق. مسألة [حكم الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع] الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع اختلف الناس فيها (1) . فذكر شيخنا (2) -رحمه الله- أنها على الحظر إلا أن يرد الشرع بإباحتها. وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى معنى هذا في رواية صالح ويوسف موسى (3) : "لا يخمَّس السَّلَب، ما سمعنا أن النبي خمَّس السَّلَب" (4) .
وهذا يدل على أنه لم يبح تخميس السَّلَب؛ لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع فيه، فبقي على أصل الحظر (1) . وكذلك نقل الأثرم وابن بَدينا (2) في الحُلِيّ يوجد لقطة (3) ، قال: "إنما جاء الحديث في الدراهم والدنانير" (4) . فاستدام أحمد -رحمه الله- التحريم، ومنع [الملك] (5) على الأصل؛ لأنه
لم يرد شرع في غير الدراهم (1) . وبهذا قالت المعتزلة البغداديون (2) والإمامية (3) وابن أبى هريرة (4) من أصحاب الشافعي. وقال البصريون من المعتزلة الجبَّائي وابنه (5) : إنها على الإباحة. وبه قال أصحاب أو حنيفة (6) فيما حكاه السرخسي. وحكي عن جماعة من أصحاب الشافعي ابن سريج [وأبي حامد] (7) المروذي (8) . وهو قول أهل الظاهر (9) .
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية أبي طالب وقد سأله عن قطع النخل، قال: "لا بأس به، لم نسمع في قطع النخل شيئاً، قيل له: فالنَّبْق قال: ليس فيه حديث صحيح، وما يعجبنى قطعُه، قلت له: إذا لم يكن فيه حديث صحيح فلم لا يعجبك؟ قال: لأنه على [كل] (1) حال قد جاء فيه كراهة (2) ، والنخل لم يجيء فيه شىء". فقد استدام أحمد -رحمه الله- الإباحة في قطع النخل؛ لأنه لم يرد شرع يحظره (3) . وهو ظاهر كلام أبي الحسن التيمي (4) ؛ لأنه نصر جواز الانتفاع قبل وجود الإذن من الله تعالى.
وقال أصحاب الأشعري (1) : هي على الوقف لا يقال: إنها مباحة ولا محظورة، إلا أن [186/أ] يرد الشرع بذلك. وهو قول أبي الحسن الجزري (2) من أصحابنا، ذكره في جزء فيه مسائل، فقال: "الأشياء قبل مجيء الشرع موقوفة على دلائلها، فما ورد النص به عمل به، وما لم يرد به النص رد إلى ما فيه النص، ومن قال: إنها على الإباحة، فقد أخطأ" (3) . وبهذا قال جماعة من أصحاب الشافعي: الصيرفي وأبو علي الطبري (4) . والقائل بالوقف موافق لمن قال بالإباحة في التحقيق (5) ؛ لأن من قال بالوقف يقول: لا يثاب على الامتناع منه، ولا يأثم بفعله. وإنما هو خلاف في عبارة.
واعلم أنه لا يجوز إطلاق هذه العبارة؛ لأن من الأشياء مالا يجوز أن يقال: إنها على الحظر، كمعرفة الله تعالى، ومعرفة وحدانيته. ومنها مالا يجوز أن يقال: إنها على الإباحة، كالكفر بالله، والجحد له، والقول بنفي التوحيد. وإنما يتكلم في الأشياء التي يجوز في العقول حظرها وإباحتها، كتحريم الخنزير، وإباحة لحم الأنعام (1) . وتتصور هذه المسألة في شخص خلقه الله تعالى في بريَّة، لا يعرف شيئاً من الشرعيات، وهناك فواكه وأطعمة، فهل تكون تلك الأشياء في حقه على الحظر أم على الإباحة، حتى يرد الشرع بالدلالة؟ فالدلالة على الحظر (2) : أن جميع المخلوقات ملك لله تعالى، لأنه خلقَها وأنشأها وبَرأَهَا، ولا يجوز الانتفاع بملك العبد إلا بإذنه، يدل على ذلك أن أملاك الآدميين لا يجوز لأحد منهم أن ينتفع بملك غيره بغير إذنه. فإن قيل: قولكم: لا يجوز الانتفاع بملك الغير بغير إذنه، لا يخلو: إما أن يريدوا به أنه لا يجوز من طريق العقل [أ] والشرع. فإن أردتم من طريق العقل لم يسلم لكم هذا؛ لأن العقل عندنا مما لا يحل ولا يحرم. وإن أردتم به من طريق الشرع فصحيح، إلا أنه لم يرد شرع، ولهذا توقفنا حتى يرد الشرع بحظره أو إباحته.
ْوهذا دليل من قال بالوقف، والكلام يأتي عليه في أدلتهم. فإن قيل: فالآدمي إنما حُرم ملكُه بغير إذنه لما يلحق فيه من الضرر، ألا ترى أن مالا ضرر عليه فيه، مثل المشي في ضوئه والوقوف في ظله، وما أشبه ذلك أغير محرماً، والله تعالى لا يستضر بالانتفاع بملكه. فلم يحرم تناوله. وهذا دليل من قال بالإباحة والكلام يأتي عليه في أدلتهم، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: من الأملاك ما يتصرف فيها الغير بغير إذن مالكها، وهو مال الصبي والمجنون وأهل الحرب. وكذلك [186/ب] المضطر إلى مال الغير فإنه يأكل منه بغير إذن مالكه. قيل: هناك إذن من جهة العقل والشرع. ودليل آخر وهو: أن تناول ذلك واستباحته ترك للاحتياط وركوب الغرر؛ لأنه يمكن أن يكون على الإباحة فلا يأثم، ولا يحرج، ويمكن أن يكون على الحظر فيكون ملوماً في فعله مأثوماً في تناوله، فإذا أمكن هذا وهذا وجب بدليل العقل الامتناع منه لئلا يركب الحظر والغرر، كمن قيل له: هذا طريق مأمون، وهذا طريق مخوف، وجب بدليل العقل ترك المخوف، وإذا ركبه كان قبحاً في العقل، فكان الاحتياط الترك. فإن قيل: لا نسلم أن تناولها ترك الاحتياط، بل الاحتياط في الانتفاع بها؛ لأن في ذلك تلف النفس، ونحن ممنوعون من ذلك. وهذا دليل من قال بالإباحة. والكلام يأتي عليه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: اعتقاد الحظر فيما هو مباح لا يجوز، كما لا يجوز اعتقاد الإباحة فيما هو محظور، فلا يكون لأحدهما في هذا الوجه على الآخر مزية، وحصل للانتفاع بها مزية من جهة أن فيه إحياء النفس. قيل: قد أجبنا عن هذا السؤال في ترجيح الأخبار بما فيه كفاية (1) .
وبيَّنا أن هذا يبطل بالمتولد من بين ما يباح أكله وما لا يباح أكلُه، وما يباح نكاحُه وما لا يباح، فإنه يُغلَّب الحظر فيه، ولا يقال: إن تحريم ما يباح بمثابة إباحة ما هو حرام. فإن قيل: لا يصح حظر ما يتوهم وجوبه وحظره، وإنما يصح ذلك فيما عرف حكمه، وإن جاز الحظر لزم أن يقال: يجب على كل أحد أن يصلي طول دهره ويصوم طول أيامه قبل الشرع، لجوار أن يرد الشرع بوجوب ذلك. قيل: ولا يجوز إباحة ما يتوهم إباحته، وإنما يصح ذلك فيما عرف حكمه [فكان] استعمال الحظر أولى، لما بيَّنا. ويفارق هذا ما ذكروه من الصيام، والصلاة؛ لأنه لا يعقل معناها قبل ورود الشرع، واجتناب هذه الأشياء يعقل (1) معناه، وهو تركه. وقد اعتمد من نصر هذا القول على طريقة أخرى، فقال: العقل لا ينفك من شرع؛ لأنه لو انفرد عن شرع لم يجز الإقدام على المنافع ولا الإحجام عنها، لجواز كون كل واحد منهما مفسدة. وإذا كان انفكاك العقل من سمع يؤدي إلى هذا الفساد لم يجز أن ينفك من سمع، وإذا لم ينفك من سمع فالسمع قد حظر الانتفاع والتصرف في ملك الغير بغير إذنه، ومن قال بالإباحة أباح التصرف في ملك الغير بغير إذن. وهذه الطريقة إذا صحت [187/أ] حصل الاحتجاج بالشرع دون العقل. واحتج من قال بالإباحة: بأن الله لما خلق هذه الأشياء لم تَخْلُ من ثلاثة أحوال: إما أن يكون خلقَها لينتفع هو بها، أو لينتفع بها غيره، أو ليضر بها غيره.
ولا يجوز أن يكون خلقها لينتفع هو؛ لأنه تعالى غني أن تلحقه المنافع والمضار. ولا جائز أن يكون خلقها ليضر بها؛ لأن ذلك قبيح، إذ لم يكن في حال خلقه إياها من يستحق العقوبة، فلم يبق إلا أنه خلقها لينتفع عباده. والجواب: أن هذا ينقلب عليهم فيما خلقه الله تعالى وحرمه على عباده، مثل الخمر والخنزير. ونُقسِّم ذلك عليهم مثل تقسيمهم حرفاً بحرف. وعلى أنا نقول: يجوز أن يكون خلقها ليمتحن عباده بالكف عنها، ويثيبهم على ذلك، وليستدلوا بها على خالقها. وهذا وجه يخرجه من حد العبث والضرر بهم، فسقط ما قالوه. واحتج: بأنه لا يقبح في العقل (1) أن ينتفع بملك الغير على وجه لا يستضر الغير به، بدليل التنفس في الهواء والانتقال في الجهات، بدليل أن له أن يمشيَ في ظل (2) حائطه ويتكىء على حائطه، ويمشى معه في طريقه يأنس بكونه في صحبته، وينظر في مرآة المزين (3) إذا علقها على وجه لا يتنفس فيها، أو كان على حائطه قرآن مكتوب، كمن كتب على حائطه آية الكرسي كان لكل أحد أن يتلقَّن ذلك منه، كذلك في بقية الأشياء؛ لأن الله تعالى [منزه] عن أن يستضَّر بشىء. والجواب: أنه إن لم يكن على المالك ضرر فعلى المتصرف ضرر؛ لأنه يجوز أن يُحظَر عليه، فيجب أن يؤثر ذلك في المنع، كارتكاب المعاصى، لا ضرر على الله تعالى بفعلها، ومع هذا فإنه يمنع العبد منها لما عليه فيها من الضرر في الآخرة.
وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن لا يكون عليه ضرر من ذلك ويمنع منه، لعدم الإذن، بدليل: أن من يملك القناطر من المال لا ضرر عليه بأخذ درهم منها، ومع هذا لا يجوز إلا بإذنه. وأما التنفس في الهواء والانتقال في الجهات فينظر وقته، فإن كان لحاجة جاز؛ لأن الأول قد حصل فيه من جهة العقل، فنظيره أن يضطر إلى طعام الغير، فيباح له؛ لأن العقل لا يمتنع من هذا، كما لا يمنع الشرع من ذلك عند الحاجة، وإن لم يكن به حاجة منعناه. وأما الاستيضاء بنار غيره، والظل بحائطه، والنظر في المرآة، فهذه الأشياء ليست بملك لأحد، فلهذا جاز التصرف فيها. يبين صحة هذا: أنه يصح المنع منها بغير حاجة، وإنما يملك المنع فيها لحاجة وهو [187/ب] أن يكون محتاجاً إلى فناء حائطه. وقد قيل بأن التنفس في الهواء لا يؤدي إلى استهلاك الهواء، فلا يؤثر فيه وكذلك النظر في مرآته والاستيضاء بناره. وليس كذلك أكل الطعام وشرب الشراب، فإنهما يؤثران في الطعام والشراب، ويؤديان إلى استهلاكهما، وهما ملك للغير، فلا يجوز بغير إذنه. واحتج: بأن الأشياء كلها ملك لله تعالى، الحيوان وغيره، والأحسن إحياء الملك بالملك. ويقبح إهلاك الملك مع القدرة لما فيه من الفساد. والجواب: إنما يُبيح أن تتناول هذه الأشياء عند الحاجة وجود (1) التلف؛ لأن الإذن قد حصل فيه من جهة العقل، فنظيره أن يضطر إلى أكل طعام الغير، فإنه يباح لهذه العلة. وعلى أن هذا يوجب أن تقول إذا أكره على القتل: أن يجوز، لينجيَ نفسه،
ولا يُقتل به؛ لأن في ذلك إحياء الملك بالملك، وقد قلتَ: إنه لا يَقْتل، وإن قَتل قُتِل، كذلك هاهنا. واحتج من قال بالوقف: بأنه قد ثبت من الأصلين أن العقل لا يبيح ولا يحظر، وأن المباح: ما أعلمَ صاحبُ الشرع أنه لا ثواب في فعله، ولا عقاب في تركه. والمحظور: ما أعلم أن في فعله عقاباً، فإذا لم يرد الشرع بواحدٍ منهما، وجب أن لا يكون محظوراً ولا مباحاً، ويكون حكمه موقوفاً على ورود الشرع. والجواب: أنا إنما علمنا أن العقل لا يبيح ولا يحظر بالشرع، وكلامنا في هذه المسألة قبل ورود الشرع، ولا يمتنع أن نقول قبل ورود الشرع: إن العقل يبيحُ ويحظُرُ إلى أن ورد الشرع بمنع ذلك، إذ ليس قبل ورود الشرع ما يمنع من ذلك. وقد قيل: إنا علمنا ذلك من طريق شرعي، وهو: إلهام من الله تعالى لعباده بحظر ذلك أو إباحته (1) . كما ألهَمَ أبا بكر أن قال: الذي في بطن أم عبد جارية (2) . وكما ألْهَمَ عمر أشياء ورد الشرع بموافقتها. واحتج: بأن كونه على الحظر أو على الإباحة إنما يعرف على قولكم قبل ورود الشرع بالعقل، وما علم حكمه بدليل العقل لا يجوز أن يرد الشرع
بخلافه، مثل شكر المنعم، واستقباح الظلم، يجب في العقل شكر المنعم واستقباح الظلم، فلما ثبت أنه يجوز أن يرد الشرع بخلاف ما اقتضاه العقل بطل أن يكون ذلك بالعقل حاظراً أو مبيحاً. والجواب: أنه كذلك فيما يعرف ببدائه العقول وضرورات المعقول، كالتوحيد، وشكر المنعم، وقبح الظلم، فأما ما يعرف بثواني العقول استنباطاً واستدلالاً فلا يمنع أن [188/أ] يرد الشرع بخلافه؛ لأنا قلنا [هي] على الحظر، وجوزنا أن يكون على الإباحة أو على الوقف، ولكن كان هذا عندنا أظهر، فصرنا إليه، فإذا ورد الشرع كان أولى مما (1) عرفناه استدلالاً مع تجويز غيره. يبين صحة هذا: أن ذبح الحيوان يحظره العقل، وقد ورد الشرع بإباحته. والزنا يبيحه العقل كالنكاح، والشرع قد حظره. وعلى أن ورود الشرع بالإباحة إذن في التصرف، وحصول الإذن في الثاني لا يمنع حظراً متقدماً، بدليل طعام الغير هو محرم عليه، وإذا أذن فيه أبيح، ولم يمنع ذلك من حظر قبله، كذلك ها هنا. واحتج بأن كونه حراماً لا يخلو إما أن يكون لعينه، أو لمعنى. فبطل أن يكون لعينه؛ لأنه لو كان ذلك لعينه لما انقلب عنه إلى غيره. وبطل أن يكون لمعنى؛ لأن الشرع يرد بإباحته، فلا يجوز أن يحظره. مع بقاء معنى الإباحة. فإذا بطل الأمران ثبت أنه لا يصح أن يقال: مباح. والجواب: أنه محظور لمعنى لا لعينه، ولا يمتنع ورود الشرع بخلافه، فيزول ذلك المعنى، كما قلنا في فروع الدين واجتهاد الأنبياء، يجتهدون في الحكم، ثم (2)
يرد النص عن الله تعالى بخلافه. ويقولون في الحادثة قولاً، ثم ينسخ ذلك من بعد. فإذا صح مثل هذا في العبادات صح مثله في مسألتنا. وقد قال بعض من تكلم في هذه المسألة: إن الكلام فيها تكلف؛ لأن الأشياء قد عرف حكمها واستقرارها بالشرع. وقال آخرون: الوقت ما خلا من شرع قط؛ لأن الله تعالى لا يخلي الوقت من شرع يعمل عليه؛ لأنه أول ما خلق آدم قال له: (اسْكُنْ أنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا (1) رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) (2) فأمرهما ونهاهما عَقِيب ما خلقهما. وكذلك كل زمان، وإذا كان كذلك بطل أن يقال: ما حكمها قبل ورود الشرع؟ والشرع ما أخل بحكمها قط. فعلى هذا لا يتصور الخلاف إلا في تقدير أن الأشياء لو لم يرد بها شرع ما حكمها؟ فالحكم عندنا على الحظر. وعند قوم على الإباحة. وعند آخرين على الوقف. وهذه الطريقة ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- لأنه قال في رواية عبد الله فيما أخرجه في محبسه: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم" (3) .
فأخبر أن كل زمان فيه قوم من أهل العلم. وهذه طريقة أبي الحسن الجزري ذكرها أمام قوله: إن الأشياء على الوقف، فقال: "لم تخل الأم قط من حجة تلزمهم أمر أو نهي". واستدل عليه بقوله تعالى: (أَيَحَسَبُ الإِنسَانُ أن يُتْرَكَ سُدىً) (1) والسُّدى: الذي لا يُؤمَرُ ولا يُنْهى (2) . وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أمةٍ رَّسُولاً) (3) . وقال تعالى: (وَإن مِّنْ أُمَّةٍ [188/ب] إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ) (4) . وأن الله تعالى لما خلق آدم أمره ونهاه في الجنة، فقال: لا تقرب هذه الشجرة. وقال قوم: هذه المسألة لا تفيد في الفقه شيئاً، وإنما ذلك كلام يقتضيه العقل. وليس كذلك؛ لأن لها فائدة في الفقه، وهو أن من حرَّم شيئاً أو أباحَه فقول: طلبتُ دليل الشرع فلم أجد، فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة هل يصح ذلك أم لا؟ وهل يلزم خصمه احتجاجه بذلك أم لا؟ وهذا مما يحتاج إليه الفقيه وإلى معرفته والوقوف على حقيقته. وحُكي أن بعض أصحاب داود احتج على إباحة استعمال أواني الذهب
والفضة في غير الشراب (1) : بأن الأصل فيها الإباحة، وقد ورد الشرع بتحريم الشرب، فوجب أن يبقى ما عداه على التحليل. فقيل له: مذهب داود: أن هذه الأشياء في العقل موقوفة على ما يَرِد به الشرع (2) . فإذا كان كذلك لم يجز إثبات إباحتها بهذا الطريق. ولا تكون إباحتها لعدم دليل شرعي أولى من حظرها. ونظرتُ في هذه المسألة لبعض شيوخ الكرَّامية، وذكر فيها كلاماً لخصته على ما أذكره، واختار أن الأشياء على الإباحة قبل ورود الشرع وبعد وروده. واستدل (3) على أنها على الإباحة قبل الشرع بأشياء: منها: أن العبد محتاج إلى هذه المنافع، وله فيها نفع من غير ضرر يلحقه عاجلاً ولا آجلاً، فوجب أن يكون ذلك مباحاً له.
دليله: ما بعد الشرع.
دليله: ما بعد الشرع. فإن قيل: من أين لك أنه لا ضرر عليه، ولعله يَرِد الشرع بحظر ما كان قد استباحه. قيل: ما لم يرد الشرع بالحظر فلا ضرر عليه فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذَّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1) . دليل ثان: أَن الله تعالى قد أحْوَجَ العاقل إلى الانتفاع بما قد أظهره من المنافع وأحضرها إياه، ولم يمنع عنها مانع، فكانت مباحةً مأذوناً فيها. ألا ترى: أن من أحضر قوماً، مائدة عليها ألوان الطعام محتاجين إليها، ولم يضع هناك مانعاً من ذلك، فإن ذلك يجري مجرى الإذن في الإباحة، كذلك هاهنا. فإن قيل: فهذا المعنى موجود في الخمر والخنزير. قيل: قد كان قبل ورود الشرع على الإباحة، وبعد الشرع حرام؛ لورود الشرع بمنعه. دليل ثالث: أن الله تعالى خلق هذه الأشياء على وجه يمكننا الانتفاع بها، وهو سبحانه يتعالى عن الانتفاع بها، فوجب أن يكون الغرض أن ينتفع بها (2) العبد. فإن قيل: ما أنكرت على من قال: إنه أحضر هذه الأشياء للاعتبار [189/أ] بها، لا للانتفاع بها. قيل: بل أحضرها للانتفاع بها، كما قلنا فيمن أحضر طعامه لجماعة بهم حاجة إليه، فإنه إذن وإباحة. كذلك ها هنا. وجواب آخر وهو: أنَّا نقول: خلقها للأمرين جميعاً، للانتفاع، والاعتبار بها.
وجواب ثالث وهو: أنه لو كان الغرض هذا لوجب أن يقتصر على خلق الجواهر والأعراض التي تتضمنها الأكوان والاجتماع والافتراق، دون الطعام؛ لأن الاستدلال يتم بهذه الأشياء. جواب آخر وهو: أنه إن كان الغرض منها الاستدلال، فإنه لا يمكن الاستدلال بما في هذه الجواهر من الطعوم والمجسَّمات (1) الخشنة واللينة إلا بإدراكها، وإذا أدركها فقد انتفع بها (2) . جواب آخر وهو: أنه إذا كان الغرض منها الاستدلال فلا يتم ذلك إلا بقوام أبنيتهم، ولا تقوم أبنيتُهم إلا بهذه المنافع كانت مقصودة بخلق المنافع، ولو امتنعوا عن ذلك [لأدى] إلى هلاكهم، فيكون ذلك خارجاً عما أجرى الله عليه (3) العالَم (4) من الغرض، وهذا لا يجوز كما لا يجوز أن يحظر عليهم التنفس في الهواء والتقلب من جانب إلى جانب. والدلالة على أنها على الإباحة بعد الشرع: قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي اْلأرْضِ جَمِيعاً) (5) . وقوله: (قُل مَنْ حَرمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (6) . وقوله: (قُلْ لاَّ أجدُ فِي مَاَ أوحِىَ إلَيَّ مُحَرماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أنَ يَكُونَ مَيْتَةً أَو دَماً مَسْفُوحاً) (7) فثبت أن ما يحرُم بالوحى يحرُم.
احتج من قال: إنها على الحظر قبل الشرع: بأنها ملك للغير، ولا يجوز التصرف في ملكه بغير إذنه. والجواب: أنَّا نقول له: من أين تعلم أن التصرف في ملك الغير قبيح. وعلى أن نفس هذا القائل ملك لمالك هذه الأشياء، فله أن ينتفع بالمائع لبقاء النفس. كما أن من كان عنده طعام من جهة مالك، وعنده غلمان المالك، وفي منع الطعام عنهم هلاكهم، لم يكن له أن يمنع. واحتج: بأنه لا يأمن هذا القائل أن يكون فيما يقدم عليه سُمُّ يهلكه. والجواب: أنه قد استقر أيضاً أنه إن لم يقدم عليه يهلك. وعلى أَنَّا قد نجد البهائم تقدم على ذلك ولا تهلك. واحتج: بأنه يجوز أن تكون مخلوقة لمن يأتي بعدهم، كما أن الحور العين والملائكة لا ينتفعون بها في الجنة؛ لأن الله خلقها لبني آدم. والجواب: أنه لو كان كذلك لدل عليه، فلما لم يدل عليه لم يصح هذا. واحتج: بأنه لو كان العقل يبيحه لكان الشرع وارداً بخلاف العقل. والجواب: [189/ب] أن هذا عائد عليكم في التوقف. وهذا الخلاف مع من يجوز أن يخليَ الله عباده عن دلالات السمع. واحتج من قال: بأنها على الحظر بعد الشرع: بقوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأذَن بِهِ اللهُ) (1) فأنكر على من أثبت حكماً، أو استحل شيئاً بغير إذن الله تعالى. والجواب: أن هذا عائد عليكم، إذ (2) قلتم بالتحريم. على أنا حملناه على الإباحة بدليل ما ذكرنا.
فصل والدلالة على فساد قول من قال بالوقف من وجوه: أحدها: أنَّا لا نقول له: هل تعلم التوقف مباح أم لا؟ فإن قال: بلى، فقد استباح شيئاً بعقله دون الشرع. وإن قال: لا أعلم استباحته، ثم قَدِم عليه. قيل له: فهلاَّ كان هذا حالك مع سائر المنافع؟ ونقول له: هل تعلم وجوب التوقف عليك أم لا؟ فإن قال: لا أعلم، وجب أن لا يلزمك الإقدام عليه، أعنى: الاقدام على التوقف. وإن قال: بلى. قيل له: إذا جاز أن تعلم الوجوب بعقلك، فلم لا يجوز أن تعلم الحظر والإباحة؟ ونقول له: إذا جاز أن تعلم جواز ترك الإباحة والحظر بالعقل، فهلاَّ يجوز أن تعلم جواز الإقدام على المنافع أو جواز حظرها؟ وما الفرق بينهما؟ فإن قيل: الفرق بينهما: أنه لعله في الإقدام عليه مفسدة. قيل: فيجب أن تقول بحظره؛ لأنه لا مفسدة فيه. وعلى أنه يجوز أن يكون في التوقف (1) مفسدة أيضاً. ويقال له: ليس تخلو الأشياء من إباحة أو حظر، فلا معنى للتوقف (1) ، إذ ليس تخلو من أحد هذين القسمين. فإن قيل: هو وإن كان هذا حالها، فلا أدري أيهما حكم الله تعالى.
قيل: ولا ندرى أن حكم الله تعالى الوقف. واحتج بقوله تعالى: (فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (1) ، فأنكر على من أحل شيئاً أو حرمه بغير إذنه. والجواب: أنه إنما أنكر على من استبدَّ من ذات نفسه تحليل شىءٍ أو تحريمه وأما من أسنده إلى دليل، فلم يلحقه هذا الذم. ثم هذا يلزمكم في القول بالوقف؛ لأنه لم يَرِد أمره به. واحتج: بأن القول بالإباحة والحظر طريقُه العقل، والعقل لا مجال له في إباحة ولا حظر. والجواب: أن هذا يلزم عليه القول بالوقف؛ لأن العقل لا يوجب ذلك وقد أثبتَّه. وعلى أنا علمنا أن العقل لا مجال له في إباحة ولا حظر بالشرع. فصل وذكر أبو الحسن [190/أ] التيمي في جزء وقع إلىَّ بخطه فيما خرَّجه من أصول الفقه. فقال: الأفعال قبل مجيء السمع تنقسم قسمين: فمنها حسَن. ومنها قبيح. فما كان في العقل منها قبيحاً، فهو محظور، ولا يجوز الإقدام [عليه] كالكذب والظلم، وكفر نعمة المنعم، وما جرى مجرى ذلك؛ لأنه يكتسب بفعله الذم واللَّوم.
وأما الحسَن في العقل فينقسم إلى قسمين: منه ما يجب فعله. ومنه ما لا يجب فعله. أما الذي يجب فعله، فهو مثل: شكر نعمة المنعم، والعدل، والإنصاف، وما جرى مجرى ذلك مما في معناه من الحسن، فإنه واجب لا يجوز الانصراف عنه. ومن الحسَن ما لا يجب فعله، وإن كان حسَناً، مثل: التفضُّل، وبرِّ الوالدين، وقِرَى الضيف، وإطعام الطعام (1) . فصل [لا يحظر السمع ما أوجبه العقل ولا يبيح ما حظره] قال (2) : ولا يجوز أن يرد السمع بحظْر ما كان في العقل واجباً، نحو شكر المنعم، والعدل، والإنصاف، ونحوه. وكذلك لا يجوز أن يَرِد بإباحة ما كان في العقل محظوراً نحو الكذب، والظلم، وكفر نعمة المنعم، ونحوه، وإنما يَرِد بإباحة ما كان في العقل محظوراً على شرط المنفعة، نحو: إيلام بعض الحيوان -يعني بالذبح- لما فيه من المنفعة كما جاز لنا إدخال الآلام علينا بالفَصْد والحِجَامة، وشرب الأدوية الكريهة للمنفعة، وإن لم يجز ذلك لغير منفعة، وما أعطيناه من أموالنا بغير استحقاق للفقراء وغيرهم ممن يُطلبُ بدفعه إليهم الثوابُ من الله تعالى، أو الحمدُ من الناس والثناءُ الجميل؛ فإن هذا وما أشبهه من مجرى الآلام التي يطلب بها المنافع من الفَصْد، والحجامة، وشرب الأدوية.
وقد يَرِد الشرع بحظر ما لم يكن له في العقل منزلة في القبح، نحو الأكل والشرب، والتصرف الذي لا ضرر على فاعله في فعله في ظاهر أمره، فالواجب أن تجريَ أحكامُ الأفعال على منازلها في العقل. فإما أن يكون قبيحاً في العقل، فيمتنع منه. أو يكون واجباً في العقل، فيلزم أمرُهُ، ويجب فعلُه. أو أن يكون حسناً ليس بواجب، فيكون الإنسان مخيراً بين أن يفعله وبين أن لا يفعله، من [نحو] (1) اكتساب المنافع بالتجارات وما في معناها. فإذا ورد السمع فيما الإنسان فيه مخير كشَفَ السمعُ عن حالِه، وبيَّن أمرَه، فإما أن يدخله في جملة الحسَن الذي يجب فعلُه، أو في جملة القبيح الذي لا يجوز فعلُه (2) . وهذا من كلام أبي الحسن يقتضي أن العقل يُوجب ويُقَبِّح. وقد ذكرنا في الجزء الأول من المعتمد (3) خلاف هذَا، وحكينا [في] هذه المسألة خلاف المعتزلة. وبينَّا قول أحمد -رحمه الله- في رواية عبدوس بن مالك: "ليس [في] السُّنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، إنما هو [190/ب] الاتباع".
وقد استوفينا الكلام هناك ولكن نشير إليه فنقول: قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1) . ولأنه لو كان في العقل حسَن وقبيح وواجب ومحظور لم يخلُ ذلك من أن يكون معلوماً ببدائِه العقول وأوَّل فيها؛ لأنه لو كان كذلك لوجب اشتراك العقلاء أجمع في ذلك، ولمَا جاز أن يخالف في ذلك قوم من العقلاء الذين (2) بهم يثبت التواتر علم أنه ليس بمعلوم ضرورة. يبين صحة هذا: أن استحالة وجود الجسم الواحد في مكانين متباعدين في حالة واحدة كما كان معلوماً بضرورة العقل وأوَّل فيه، لم يجز مخالفة قوم يثبت بهم التواتر. وكذلك جميع ما يعلم بضرورة العقل وأوَّل فيه وفي العلم بخلاف أكثر العلماء في ذلك الذين ببعضهم يثبت التواتر دليل على أنه ليس بمعلوم ضرورة. فصل [الحظر للأفعال دون الأعيان] وقال أبو الحسن: والحظر والإباحة، والحلال والحرام، والحسَن والقبيح، والطاعة والمعصية، وما يجب وما لا يجب، كل ذلك راجع إلى أفعال الفاعلين دون المفعول به، فالأعيان والأجسام لا تكون محظورة ولا مباحة، ولا تكون
طاعة ولا معصية. وهذا كما قال أبو الحسن؛ لأن الأعيان فعْل الله تعالى وخلْق له، فلا يجوز أن ينصرف الوعيد إلى أفعاله، وإنما ينصرف ذلك إلى أفعالنا. قال أبو الحسن: وقد يطلق ذلك في المفعول توسعاً واستعارة، فيقال العصير حلال مباح ما لم يفسد، فإذا فسد وصار خمراً كان حراماً ومحظوراً. والمذكَّى (1) حلال ومباح، والميتة محظورة وهى حرام، والحرير حرام، وما في معنى ذلك. يريدون أن شرب العصير حلال ومباح ما لم يشتد، فإذا اشتدَّ وصار خمراً كان شربُه حراماً محظوراً، وأكل المذكَّى حلال ومباح، وأكل الميتة محظور وحرام، فيطلقون ذلك والمراد به: أفعالهم (3) .
مسألة
مسألة في استصحاب الحال (1) وهو على ضربين (2) : أحدهما: استصحاب براءة الذمة من الوجوب حتى يدل دليل شرعي عليه. وهذا صحيح بالإجماع من أهل العلم، والاحتجاج به سائغ. وقد ذكره أصحاب أبى حنيفة.
وسماه أبو يوسف: عدم الدليل دليل (1) . وذكره القاضي أبو الطيب الطبري (2) . ومثال ذلك أن يُسأل حنبلي عن الوتر (3) فيقول: ليس بواجب، فيطالب بدليله، فيقول: لأن طريق وجوبه الشرع، وقد طلبت الدليل الموجب من جهة الشرع [191/أ] فلم أجد، فوجب أن لا يكون واجباً، وأن تكون ذمتُه بريئةً منه كما كانت. وكذلك إذا احتج بذلك على نفي وجوب الأضحية، ونفي وجوب زكاة الخيل والحلي والخضروات، وما أشبه ذلك. وإلى هذا المعنى أومأ أحمد -رحمه الله- في رواية صالح ويوسف إن موسى: "لا يُخمّس السَّلَب، ما سمعنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس السَّلَب". فجعل عدم الدليل الشرعي مبقياً (4) على الأصل في منع التخميس ونفي
الاستحقاق. وكذلك نقل الأثرم وابن بَدِينا في الحُلي يوجد لُقَطَة: "إنما جاء الحديث في الدراهم والدنانير". فمنع من تملّك الحُلي، واستدام الأصل، وهو عدم الملك في اللقطة؛ لأنه لم يرد دليل، وإنما ورد في الدراهم والدنانير. وحكى أبو سفيان عن بعض الفقهاء أنه يأبى هذه الطريقة في الاستدلال. والدلالة على صحتها: أن الحكم الشرعي إنما يلزم المكلف إذا تعبده الله تعالى به، ولا يجوز أن يتعبده الله تعالى به من غير أن يدلَّه عليه، وإذا كان كذلك وجب أن يكون عدم الدلالة على أنه لم يتعبد به. يُبيِّن صحة هذا: أنه لما لم يجز أن يبعث الله تعالى رسولاً دون أن يظهر عليه الأعلام المعجزة، كان عدم ظهور ذلك على مدعي النبوة دلالة على انتفاء ثبوته. فإن قيل: ما ينكر أن يكون الدليل موجوداً وأنت مخطىء في الطلب، وتارك للدليل الموجب. قيل: لا يجب علينا أكثر من الطلب، وإذا لم نجد لزمنا تبقية الذمم على البراءة كما كانت. وهذا كما يستدل بعموم، فيقول الخصم (1) ما يُنْكَر أن يكون ذلك خاصاً، وقد خفي عليك دليل التخصيص. فيقول: طلبنا الدليل المخصص فلم نجد، فلزمنا حمله على عمومه، ومن ادعى دليل التخصيص يجب عليه إبرازه، كذلك ها هنا، ما لم نجد دليل الايجاب يجب أن تبقى الذمم على البراءة على حكم دليل العقل المقتضي لبراءة الذمم حتى يرد الشرع.
الضرب الثاني: في استصحاب حكم الإجماع. وهو: أن تجمع الأمة على حكيم، ثم تتغير صفة المجمَع عليه، ويختلف المجمِعون فيه، فهل يجب استصحاب حكم الإجماع بعد الاختلاف حتى ينقل عنه الدليل أم لا؟. فذهب الجماعة من أصحاب أبي حنيفة (1) وأصحاب الشافعي (2) إلى أن ذلك لا يجوز، ويجب طلب الدليل في موضع الخلاف. وهو الصحيح عندي. وذهب داود (3) وأصحابه والصيرفي (4) من أصحاب الشافعي إلى أنه يجب استصحابه كما يجب استصحاب براءة الذمم. وهو اختيار أبي إسحاق (5) [191/ب] من أصحابنا (6) ، ذكره في الجزء الأول من شرح الخِرَقي فقال "أجمعوا على طهارة الماء إذا لم يشرب منه مالا يؤكل لحمه، واختلفوا إذا شرب، فالإجماع حجة، والاختلاف رأي، والحجة أولى". فقد استصحب أبو إسحاق حكم الإجماع. ومثاله أن نقول: المتيمم إذا رأى الماء في صلاته لا تبطل؛ لأنا أجمعنا على
صحتها، فمن ادعى بطلانها فعليه الدليل. وأن ملْك المسلم ثابت بالإِجماع، وإذا ارتد اختلفوا في زواله، فمن ادعى زواله فعليه الدليل. وإذا اصطاد الحلال، ثم أحرم لم يَزُل ملكُه؛ لأنا قد أجمعنا على ثبوت ملكه قبل إحرامه، فمن ادعى زوالَه فعليه الدليل. وإذا وقعت النجاسة في الماء ولم تغيره أجمعنا على طهارته قبل وقوعها، فمدعي النجاسة يحتاج إلى دليل. وفي بيع أمهات الأولاد أجمعنا على جواز بيعها قبل الاستيلاد، فمدعي المنع بعد ذلك عليه الدليل. وما يجري هذا المجرى من المسائل. ودليلنا على ذلك: أن الإِجماع دلالة على الحكم كسائر الأدلة، فوجب اعتباره في الموضع الذي تناوله، والإجماع لم يتناول صحتها بعد (1) وجود الماء، وقد زال في الموضع المختلف فيه، فلم يجز التمسك به في مواضع الخلاف، وصار كالنص متى تناول موضعاً لم يجز حمله على غيره. وقد قال بعضهم (2) : إن داود أنكر القياس ثم صار إليه من غير علته، فكأنه أنكر القياس الصحيح، وقال بالقياس الفاسد؛ لأنه قياس بغير علة. فإن قيل: نحن لا نستدل بالقياس، وإنما نستدل بالإِجماع في موضع الخلاف. قيل: الاستدلال بالإِجماع لا يصح بعد زواله، وإنما يصح الاحتجاج به مع بقائه؛ لأن الدليل إذا زال، زال الحكم المتعلق به. وقد قرر هذا الدليل من وجه آخر، وهو: أنه إذا شرك بين الحالين في
وجوب الوضوء، لاشتراكهما فيما دل على وجوب الوضوء، فليس باستصحاب الحال، وإنما هو احتجاج بدليل دل على وجوب الوضوء وإن اشترك بينهما في الحكم لاشتراكهما في علته، فهو قياس، وليس باستصحاب الحال. واحتج المخالف: بأن قول المجمِعين حجة، كما أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة، فلما وجب استصحاب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن ينقل عنه الدليل، وجب استصحاب قول المجمعين إلا أن يَنْقُل عنه الدليل. والجواب: أن هذا دليل لنا؛ لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان خاصاً لم يجز أن يحتج به في غيره إلا بالقياس عليه، كذلك قول المجمِعين خاص؛ لأنهم إنما أجمعوا على صحة صلاة في [192/أ] حال عدم الماء، ولم يجمعوا على صحتها في حال وجوده، فكان قول النبي دليلاً على المخالف. واحتج: بأن استصحاب حكم العقل في براءة الذمم واجب حتى يقوم الدليل على الوجوب، كذلك ها هنا. والجواب: أن دلالة العقل في براءة الذمم قائمة في حال الخلاف، وليس كذلك الإِجماع فإنه زائد، فلم يجز الاحتجاج به. واحتج: بأنه قد ثبت أن من تيقن الطهارة وشكَّ في الحدث، أو تيقن الحدث وشكَّ في الطهارة، أو تيقن النكاح وشكَّ في الطلاق، أو تيقن الملك وشكُّ في العتاق، أو شكَّ في فعل الصلاة: "أن اليقين لا يزول بالشك" ويكون حكُم اليقين السابق مستداماً في حال الشك، كذلك ها هنا. والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن الإِجماع الذي هو دليل الحكم قد تيقن زواله، فوجب أن يزول حكمُه، والطهارة لا يتيقن زوالها، وإنما هو مشكوك فيه، فلم يجز أن يزول اليقين بالشك، وكذلك النكاح والملك، والصلاة، فَوِزَان مسألتنا أن يُتَيقَّن الطهارة ثم يُتَيقَّن الحدث، فلا يجوز استدامة
حكم الطهارة. وعلى أنه يعارضه: أن المدعى عليه يحتاج إلى اليمين، ولا يكفى في إسقاط دعوى المدعى بغير [بينة] براءةُ ذمة المدعى عليه، فبطل الاحتجاج به. واعلم أن هذه الطريقة لا تسلم من أن يقدر على قائلها. فإذا قال: قد صح دخوله في الصلاة بالتيمم بالاتفاق، فلا يزولُ عنه بغير دليل، فيقال له: قد تيقنا ثبوتَ الفرض (1) عليه، فلا يسقط عنه إلا بدليل. وكذلك إذا قال: قد اتفقنا على طهارة الماء اليسير قبل وقوع النجاسة فيه، فمن ادعى نجاسته فعليه الدليل، فيقال له: قد اتفقنا على وجوب فرض الصلاة، فمن اسقط عنه فعلها بهذه الطهارة، فعليه الدليل. وكذلك إذا قال في بيع أمهات الأولاد: أجمعنا على بيعها قبل الإيلاد، فمن منع فعليه الدليل. فيقال: أجمعنا على تحريم بيعها ما دامت حاملاً، فمن أجاز بيعها بعد وضع الحمل فعليه الدليل. فصل [القول بأقل ما قيل] فأما القول بأقل ما قيل فيه (2) . فيجوز الاحتجاج به، ويرجع معناه إلى استصحاب حكم العقل في براءة الذمة.
ومثاله: دية اليهودي والنصراني، فإنها ثلث الدية عند الشافعي (1) . وإحدى الروايتين لأحمد - رحمه الله. والأخرى نصف الدية (2) ، وهو قول مالك (3) . وقال أبو حنيفة: مثل دية المسلم (4) . فكان الثلث أقل ما قيل فيه، فيجب ذلك بالإِجماع، وما زاد على ذلك فلا يجب؛ لأن الأصل براءة الذمة منه، ووجوبه يحتاج [192/ ب] ، إلى دليل شرعي ولم نجد دليلاً يدل عليه، فوجب تبقية الدية على البراءة. ومثله: أن مسح الرأس يجب مقدار ما يقع عليه اسم المسح عند الشافعي (5) .
وعند أبي حنيفة: الربع (1) . وعندنا -في إحدى الروايتين (2) - وعند مالك: الجميع (3) . فيقال: ما زاد على الاسم يحتاج إلى دليل. ومثل ذلك في قدر الصاع وغيره. والطريق في الجميع ما بينته (4) . فصل [النافى للحكم هل عليه دليل؟] النافي للحكم عليه الدليل (5) . ذكره أبو الحسن التميمي في مسألة أفردها.
دليلنا:
ومن الناس من قال: لا دليل عليه في العقليات والشرعيات (1) . ومنهم من قال: إن كان الحكم عقلياً فعلى النافي دليل، وإن كان شرعياً فليس عليه دليل (2) . دليلنا: أن النافي للحكم معتقد لكون ما نفاه متيقناً، كما أن المثبت للحكم معتقد لكون ما أثبته ثابتاً. واتفقوا على أن من أثبت حكماً كان عليه الدليل. كذلك من نفاه. ولأن من نفى قِدَم الأجسام كان عليه الدليل، كما يكون عليه ذلك لو أثبت قدمها، وهذا متفق عليه، كذلك في غيره. ولأن من نفاه لا يخلو إما أن يكون نفاه بعلم مكتسب، أو علم ضروري، إذ نفيه بغير علم جهل، وإذا كان كذلك، وكانت العلوم الضرورية والمكتسبة لا تخلو من دليل عليها؛ لأنها إذا خلت من ذلك لم تكن علوماً، وجب أن لا يسقط الدليل عن نفى الحكم العقلي أو الشرعي.
واحتج المخالف: بأن من ادعى النبوة وجب عليه إقامة الدليل، ومن أنكرها ونفاها من الناس لم يجب عليه الدليل؛ لأن المدعي للنبوة مثبت (1) والمنكِر ناف. وهكذا ورد الشرع، فإنه جعل على المدعي البينة دون المدعي عليه؛ لأن المدعي مثبت، والمدعي عليه ناف. والجواب: أن النافي للنبوة ينظر فيه: فإن كان نافياً لعلمه بأن يقول: أنا لا أعلمُ صدقَه ولا كذِبَه، ويجوز أن يكون صادقاً، ويجوز أن يكون كاذباً، فهذا لا دليل عليه، لأنه شاك غير مدعٍ نفياً ولا إثباتاً. وإن كان يقطع بنفيه وتكذيبه في دعواه، وجب عليه إقامة الدليل. وطريق الدليل فيه: أن يقول: لا يبعث الله رسولاً إلا بمعجزة تدل على نبوته وحجة تكشف عن صدقه، فإذا لم تكن معجزة تدل على ما يدعيه دل على كذبه وبطلان دعواه. وأما المدعى عليه فإنه يقطع بالنفي وعليه الدليل، ولهذا يلزمه اليمين بالله تعالى، إلا أن المدعى عليه معه ظاهر يدل على صدقه من براءة الذمة إن كان المدعى عليه دَيْناً، ومن ثبوت يده وتصرفه إن كان المدعى عليه عيْناً، فجعل [193/أ] ، في جنبة المدعي أقوى السببين؛ لأنه لا ظاهر معه يدل على صدقه. ن (2) .
باب الكلام في القياس
باب الكلام في القياس مسألة [حجية القياس العقلي] القياس العقلي (1) حجة، يجب القول به، والعمل عليه (2) . ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع. ولا يجوز التقليد (3) . وقد احتج أحمد -رحمه الله- بدلائل العقول في مواضع، فيما خرَّجه
في الرد على الزنادقة والجهمية (1) ، رواية عبد الله عنه، فقال: "إذا قلنا لم يزل الله تعالى بصفاته كلها، إنما نَصِف إلهاً واحداً بجميع صفاته. وضربنا لهم في ذلك مثلاً فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جِذْع وكَرَب (2) ولِيف وسَعَف (3) وخُوص (4) وجُمَّار (5) ؟! سُميت نخلة بجميع (6) صفاتها، كذلك الله تعالى، وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد (7) . وقلنا للجهمية (8) : زعمتم أن الله تعالى في كل مكان، وهو نور، فلم لايضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه؟! إذ زعمتم أن الله تعالى في كل مكان، وما بال السراج إذا دخل البيت يضيء؟! ". وقال (9) "لو أن رجلاً كان في يده قَدَح من قوارير صافٍ، وفيه شىء
صافٍ، أن يصير (1) ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله له المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شىء من خلقه". وهذا صريح من أحمد -رحمه الله- في الاحتجاج بدلائل العقول. وإلى هذا ذهب جماعة الفقهاء والمتكلمين من أهل الإثبات (2) . وذهب المعتزلة إلى وجوب النظر والاستدلال بالعقل قبل ورود الشرع، وإذا ورد الشرع كذلك كان مؤكداً له (3) . وذهب قوم إلى أن حجج العقول باطلة، والنظر حرام، والواجب هو التقليد (4) .
فالدلالة على وجوب ذلك بعد السمع: هو أن إبطال ذلك إبطال للنبوات والشرائع، وذلك أنه لا طريق لنا إلى معرفة صدق النبي من كذب المتنبىء إلا النظر والاستدلال؛ لأن صورة الكذب كصورة الصدق، فمتى ظهرت علامات المعجزة على النبي علمنا بالنظر فيها أنها من قِبَل الله تعالى، لأن غيره لا يقدر على إظهاره، ومتى علمنا أنها من قبل الله تعالى علمنا بالنظر أيضاً أن من ظهرت عليه هذه الأعلام صادق غير كاذب؛ لأن الله تعالى لا يظهر الأعلام على الكذابين، ولولا النظر والاستدلال لم يكن لنا طريق إلى معرفة شىء من ذلك، فكان يؤدي إلى إبطال الشرائع، وإفساد النبوات وترك التخيير بين الصادق [193/ب] والكاذب، والنبي والمتنبىء. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون العلم بما ذكرتموه من قِبَل الله تعالى وقِبَل رسوله قد وقع ضرورة لا استدلالاً ونظراً. قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتَ لكان يشترك في ذلك العلم جميعُ العقلاء، لأن العلم الضروري لا يختص به بعض العقلاء دون بعض إذا أشتركوا في طرقه، وفي علمنا بوجود جماعات كثيرة لم يقع لهم العلم بالله تعالى وبنبوة رسوله، مثل الملاحدة وأضرابهم من الكفار، لأنه لو وقع لهم العلم به ضرورة لم يصح اجتماعهم على نفيه، كما لا يصح اجتماع الجماعات العظيمة على نفي وقوع العلم بالبلدان وبوجود المحسوسات من الأجسام، وفي بطلان ذلك دليل على فساد ذلك. ولأنه لو جاز وقوع العلم بالله تعالى في حال التكليف ضرورة لكان العلم
بنبوة الرسول -عليه السلام- أولى أن يقع ضرورة، ولو جاز ذلك لم يكن لإظهار الأعلام معنى، بل كان (1) يكون ذلك عبثاً. ويدل عليه أيضاً: أننا نجد كل عاقل إذا نابته نائبة من أمور دينه ودنياه، فإنه يفزع إلى عقله ليتحرز به من ضرر، أو ليتوصل به إلى نفع، ألا ترى أنه إذا رأي في الطريق أثر سبع امتنع من سلوكه. وإذا رأى أثراً لماء وبه عطش أسرع في طلبه، فلولا أن النظر والاستدلال طريق إلى العلوم العقلية لم يفزع العاقل إليها في جر المنافع ودفع المضار، كما لا يفزع في إدراك السماع إلى آلة الشم، وفي إدراك الشم إلى آلة البصر، وإذا كان كذلك ثبت أن النظر من طريق العقل واجب بعد السمع. ويدل على بطلان التقليد: أن الذى قلده المقلد لا يخلو من أن يكون ما قلده فيه قد علمه بالاستدلال والنظر، أو أخذه تقليداً من غيره، ولا جائز أن يكون قد علمه ضرورة كما دللنا عليه، فإن علمه استدلالاً ونظراً فقد بطل التقليد، وإن أخبره تقليداً كان الكلام ممن قلده إياه كالكلام فيه، فيؤدي إلى إثبات مالا نهاية له من المقلدين، وفي بطلان ذلك دليل على بطلان القول بالتقليد. ويدل عليه أيضاً: أن الذي قلده المقلد لا يخلو من أن يكون ممن يجوز عليه الضلال، أو لا يجوز ذك عليه، وبطل أن يكون ممن لا يجوز عليه ذلك؛ لأن هذا لا يجوز أن يحكم به إلا لمن يشهد له به النبي، فإذا كان ممن يجوز عليه الضلال لم يأمن المقلد له أن يكون مبطلاً في تقليده إياه، وإذا لم يأمن ذلك لم يجز تقليده.
فإن قيل: أليس قد جاز له تقليد النبي فيما يأمره به؟ ويجوز للعامي أن يقلد المفتي فيما يفتيه به. ولأن أول من قاس إبليس (1) ، فكان (194/أ) قياسه كفراً. قيل: ما يأخذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون على وجه التقليد؛ لأن الله تعالى قد دلنا على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أنه لا يأمرنا إلا بالحق، والتقليد المحظور هو ما يأخذه المقلد من غيره من غير أن يدل عليه عنده دلالة على صحته، أو يعلم في الجملة أن فرضه تقليد المفتي فيما يفتيه به، فلهذا افترق الأمران. وقوله: [أول] من قاس إبليس، وكان كافراً، فإنه يقابل بمن قال: أول من قاس الملائكة، وكان قياسُهم صواباً.
على أنك قد صرت إلى القياس حيث حملت قياس غير إبليس على قياس إبليسِ في باب الفساد. وعلى أن خطأ القائسين إذا كان مبطلاً للقياس في الأصل عندك، فهلاَّ كان خطأ بعض المقلدين دليلاً على بطلان التقليد؟!؛ لأن الله تعالى قد حكى تقليد الكفار إياهم بقوله تعالى: (قَالوا إنَّا وَجَدْنَا ءابَاءَنَا عَلَى أمَّةٍ وَإنَّا عَلَى ءاثارِهِم مُّهْتَدُونَ) (1) . فإن قيل: أليس قد منع أحمد - رضي الله عنه - من النظر والكلام. فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار: "لا يكون صاحب الكلام -وإن أصاب بكلامه السنة- من أهل السنة حتى يدع الجدال" (2) . قيل: إنما نهى عن الجدال الذي هو المراء، ألا ترى أن أبا بكر المروذي سأله عن الرجل يشتغل بالصوم والصلاة ويعتزل، ويسكت عن الكلام في أهل البدع، فقال: "إذا صام وصلى واعتزل إنما هو لنفسه، وإذا تكلم كان له ولغيره، يتكلم أفضل". وروى حنبل أنه قال لأحمد -رحمه الله-: "إن يعقوب بن شًيْبهَ (3)
مسألة
وزكريا ابن عمار (1) أخبرا عنك الوقف، فقال: قد كنَّا نأمر بالسكوت، فلمَّا دعينا إلى أمر ما كان بدّ لنا من أن ندفع ونبيِّن". وهذا صريح منه بالقول بالنظر. مسألة [جواز التعبد بالقياس عقلاً وشرعاً] القياس الشرعي يجوز التعبد به، وإثبات الأحكام الشرعية من جهة العقل والشرع (2) . نص على (3) هذا -رحمه الله- في رواية بكر بن محمد عن أبيه فقال: "لا يستغني أحد عن القياس، وعلى الحاكم والإِمام يَرِد عليه الأمر أن يجمع له (4) الناس، ويقيس، ويشبِّه، كما كتب عمر إلى شُرَيْح: أن قس الأمور" (5) .
وقد استعمل هذا في كثير من مسائله (1) . فقال في رواية ابن القاسم: "لا يجوز الحديد والرصاص متفاضلاً (2) ، قياساً على الذهب والفضة". وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الميموني: "يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجْمَل، والقياس" (3) . وهذا محمول على استعمال القياس في معارضة السنة، فإنه لا يجوز (4) .
وقد كشف عن هذا في رواية أبي الحارث [194/ب] فقال: "ما تصنع بالرأي والقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه". وبهذا قال أكثر الفقهاء والمتكلمين (1) . وذهب قوم من المعتزلة البغداديين (2) : إلى أنه لا يجوز التعبد به من جهة
العقل، ويجوز من جهة الشرع، مثل ابن يحيى الإسكافي (1) . وجعفر بن مبشر (2) ، وجعفر بن حرْب (3) ، وإبراهيم النظَّام (4) . وذهب قوم إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلاً ولا شرعاً، ذهب إليه داود (5) ،
والنهرياني (1) ، والمغربي (2) ، والقاشاني (3) . فالدلالة على جوازه عقلاً: أن العقل لا يمنع أن يقول صاحب الشرع: إذا علمتم أو غلب على ظنكم أن الحكم تابع لمعنى ومتعلق به، فقيسوا عليه كلما وجدتم فيه ذلك المعنى، كما قال: إذا زالت الشمس وعلمتم ذلك، أو غلب على ظنكم فصلُّوا، وإذا علمتم طلوع الفجر، أو غلب على ظنكم ذلك فصوموا، وإذا شهد شاهدان، وعلمتم عدالتهما، أو غلب على [ظنكم] ذلك، فاحكموا بما شهدا به، وإذا رأيتم البيت الحرام، وعلمتم ذلك، أو غلب على ظنكم فصلوا إليه، وما أشبه ذلك كثير، كذلك القياس؛ لأنه جعل دخول الوقت شرطاً لفعل العبادة،
كذلك جعل غلبة الظن شرطاً في تعلق الأحكام بها عند وجودها، ولا فرق بينهما. فإن قيل: لا يحصل العلم ولا الظن بالنظر في هذه الأصول، وليس فيها طريق لذلك. قيل: هذا غلط؛ لأن الفقهاء على كثرة عددهم واختلاف مذاهبهم من أصحاب أحمد -رحمه الله- وأبى حنيفة ومالك والشافعي وسائر [الفقهاء] يذكرون أنهم يظنون فيها، والعلم الضروري يحصل بخبر بعضهم، فإذا كان كذلك كان معلوماً من طريق الضرورة، وكان الجاحد لذلك مبطلاً، كما إذا أنكر الظن، وكما ينكر النفور، والسكون، والغم، والذوق. فإن قيل: قد يظنون، ولكن ظنهم فاسد؛ لأنه واقع عن طريق يقتضي الظن، وهو بمنزلة من ظن أن البناء الصحيح الجديد يقع عليه، أو رأى ثوراً فظنه سبعاً، وفزع منه. قيل: للظن طريق فيها، ولا نسلِّم ما قاله المخالف، فإن دل على دعواه بأن الظن لا يقع إلا عن عادة، فإن رأى الغيم كثيفاً منيعاً خشى مجيء المطر، وغلب على ظنه ذلك، لما سبق من العادة، فليس بيننا وبين الله تعالى في هذه الأحكام عادة، فلا يجوز أن يكون فيها طريق للظن. قيل: طريق الظن هو وجود الشىء في الاكثر من نظائره، ولهذا يغلب على الظن وقوع الحائط إذا انشق [195/أ] ، عرْضاً، ويغلب على الظن إذا عرَض غيم أسود مُسِف (1) أنه يكون منه مطر؛ لأن الغالب من مثله مجيء المطر، وإنما
يتخلف في النادر، فيتبع ظنّ العاقل الغالب دون النادر، وإذا كان كذلك، كان هذا الظن في الأحكام الشرعية كثيراً؛ لأن النظائر والشواهد فيها تتكرر وتكثر، فيغلب على ظن المجتهد فيها أن موضع الخلاف بمنزلتها، وطريق العلم بالنظر في هذه الأصول، هو الثابت الذى يدل على تعلق الحكم بمعنى واتباعه له، مثل العصير الحلو يكون حلالاً، وإذا حدثت فيه الشدة المطربة حرُم، ويعلم أنه لم يحدث غيرها، فإذا زالت الشدة المطربة حل، ونعلم أنه لم يزل غيرها، فلو قدرنا عود الشدة المطربة وحدها لقدرنا عود التحريم، فيدل هذا على أن التحريم تابع للشدة، وأن النبيذ يجب أن يكون حراماً لوجود الشدة المطربة فيه. ومثل هذا كثير. فإن قيل: يجوز أن يكون هذا تابعاً للاسم يزول بزوالها، ويعود بعودها. قيل: لا يتبع الاسم؛ لأنه لو طبخ العصير وحدثت الشدة المطربة فيه كان حراماً وإن كان لا يسمى خمراً؛ لأن الخمر عندهم هو العصير الذى قد اشتد وقذف زبده، وكذلك نقيع التمر والزبيب حرام؛ لوجود الشدة المطربة، ولا يسمى خمراً، فثبت بهذا أنه يتبع الشدة المطربة دون اسم الخمر. وطريقة أخرى وهو: أن الحكيم لا يجوز في صفته أن يكلف حكْماً ويوجب عبادة إلاّ ويجعل إلى معرفة ذلك سبيلاً بوجه، بدليل أنه كلف استقبال الكعبة، وجعل إلى التوجه إليها سبيلاً؛ من كان قريباً بالمعاينة، ومن كان بعيداً بالاستدلال حسب الاجتهاد بالأدلة المنصوبة على القبلة من النجوم والجبال والرياح والشمس والقمر، فكان فرض التوجه إليها بالاجتهاد. وهكذا نص على دية الحر بالمقدر، وعلى بعض الجراحات كالموضِحَة (1)
والمأمومة (1) والجائفة (2) ، وأطلق ما بقى، فكان المرجع فيها إلى الظن والاجتهاد. وكذلك قِيَم المتلفات، والمهور في الأنكحة، والنفقات، والمتعة كل ذلك غير منصوص عليه، وإنما يعتبر بغيره. فإذا صح أن ترد باقي هذه الأحكام إلى النظر والاجتهاد، كان غيرها (3) من الأحكام بمنزلتها (4) . واحتج المخالف: بأن الشرعيات إنما يحسن تكليفها لما فيها من المصالح، ولم يكن لنا طريق إلى معرفة المصالح، وكان القياس من فعلنا لم يجز أن يكون القياس طريقاً إلى معرفة الأحكام الشرعية. والجواب: أن ليس من شرط التكليف أن يكون [195/ب] مصلحة للمكلف. وهذا أصل لنا خلاف المعتزلة. ولو سلَّمنا هذا لم يصح؛ لأن ما يتوصل به إلى معرفة الأحكام الشرعية هو من قِبَل من يعلم المصالح والعواقب وهو الله تعالى؛ لأنه قد نصب لنا أدلة على صحة رد الفروع إلى الأصول، فلا يكون إثبات الحكم الشرعى إثباتاً له بفعله، ألا ترى أن الحكم المنصوص عليه يكون ثابتاً من فعل الله تعالى وإن
كان لا بدَّ لنا من تفكر فيه، وذلك فعلنا. واحتج: بأنه يلزمكم أن تخبروا على هذه الأخبار عما يحدث في مستقبل الأيام، وعن الأجنة التي في الأرحام بغير نص، ولما لم يجز ذلك، كذلك ها هنا. والجواب: أنَّا إنما جوزنا إثبات الحكم الشرعي؛ لأن الله تعالى قد نصب لنا أدلة على جواز القياس، ولم ينصب لنا أدلة على ما يحدث في المستقبل، فلهذا لم يجز الإخبارُ به. ونظيره: أن ينصب لنا أدلة على الخبر بما يحدث في المستقبل، فيجوز حينئذ لنا الإخبارُ به. واحتج: بأن النظر والاستدلال يختصان العقل، ودلالة العقل توجب الحكم للأشياء المختلفة بالأحكام المختلفة دون المتفقة، وتوجب الحكم للأشياء المتفقة بالأحكام المتفقة دون المختلفة، فإذا كان كذلك، وكان الشرع قد ورد بالحكم في الأشياء المتفقة بالأحكام المختلفة وفي الأشياء المختلفة بالأحكام المتفقة، بدلالة أنه أوجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة، وإن كان الحيض منافياً لهما، وفرق بين المني والمذي في الحكم وإن كانا شقيقين، علمنا أن النظر والاستدلال لا مدخل لهما في إثبات الأحكام الشرعية. والجواب: أن العقل يمنع من الجمع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفات النفسية كالسواد والببياض، وأن يفرِّق بين المِثْلَيْن فيما تقابلا فيه من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجرى مجرى ذلك، فأما ما عدا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجمع بين المختلفين في الحكم الواحد، ألا ترى أن السواد والبياض قد اجتمعا في منافاة الحمرة وما يجرى مجراها من الألوان، وأن القعود في الموضع الواحد قد يكون حسَناً إذا كان فيه نفع لا ضرر فيه، وقد يكون قبيحاً إذا كان فيه ضرر من غير نفع يوفر عليه، وإن كان القعود في ذلك الموضع متفقاً، وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحسْن بأن يكون
في كل واحد منهما نفع لا ضرر فيه، وإن كانا مختلفين. على أن هذا يؤكد [196/أ] صحة القياس، وذلك لأن المِثلَين في العقليات إنما وجب تساوي حكمهما؛ لأن كل واحد منهما قد ساوى الآخر فيما لأجله وجب له الحكم، إما لذاته كالسوادين، أو لعلة أوجبت ذلك كالأسودين، وهكذا القول في المختلفين. وعلى هذه الطريقة بعينها يجرى القياس؛ لأنا إنما نحكم للفرع (1) بحكم الأصل إذا شاركه علة الحكم؛ لأن الله تعالى إنما نص على حكم واحد في الشيئين إذا اشتركا فيما له وجب الحكم فيهما، فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه. واحتج: بأن الفرع الشرعي قد يكون مشبهاً لأصل يقتضي التحريم، ولأصل يقتضي التحليل، فلا يكون أحدهما بالرد إليه أولى من الآخر، ولا يصح الحكم فيه بحكم الأصلين لتضادهما، فيمتنع القياس، فلا يصح الرد إلى شىء من هذه الأصول؛ لأن أحداً لم يفصل بين الفرع المشبه لأصلين هذه حالهما وبين الفرع المشبه للأصل الواحد. والجواب: أن الفرع لا يرد إلى أحد الأصلين لكونهما شبهاً له، وإنما يرد لكونه أشبه منه بالآخر. وعلى مذهب من يجيز أن يعتدل الأمر عند المستدل في شبه الفرع بالأصلين لا يلزمه ذلك؛ لأنه إذا اعتدل شبهه بهما كان المستدل مخيراً في رده إلى أيهما شاء كالمكفر هو مخير في أن يختار أى الكفارات شاء. واحتج: بأنه لو جاز حمل الفرع على المنصوص عليه لوجود الشبه بينهما لوجب أن يجوز ذلك في سائر الأوقات، كما أن الفعل لما كان دلالة على كون الفاعل قادراً كان دلالة على ذلك في جميع الأوقات، وإذا كان كذلك وكان هذا الشبه بين المنصوص وبين ما لم ينص عليه موجوداً قبل النص ولم يجز القياس عليه علمنا أنه لا يصح رده إليه بحال.
والجواب: أن القياس إنما يصح إذا حصل هناك أصل منصوص عليه، كما أن الاستدلال على القدرة إنما يصح إذا وجد الفعل، فلما لم يصح أن يستدل على القدرة قبل وجود الفعل، كذا لا يصح القياس قبل وجود الأصل المنصوص عليه. واحتج: بأنه لو كان القياس صحيحاً لم يخل المنصوص عليه إذا نسخ وقد قيس عليه فروع أن يبقى الحكم في فروعه، أو ينسخ الحكم فيها بنسخ حكم الأصل. فإن قلتم: إن الحكم في فروعه يصير منسوخاً كان ذلك مبطلاً لمذهبكم في أن نسخ ما تناوله النص لا يوجب نسخ جميعه. وإن قلتم: إن الحكم في فروعه يكون باقياً كان فيه كبقية الحكم في الفروع مع نسخ حكم الأصل [196/ب] ، وهذا باطل. والجواب: أنه لا يمتنع عندنا أن يبقى الحكم في الفروع مع نسخ حكم الأصل، كما أن نسخ الحكم في الأصل لا يوجب ارتفاع ما حكم في الحوادث بموجب النص قبل ورود النسخ. واحتج: بأنه لو جاز إثبات حكم بالقياس لجاز إثبات الأصول به، وهذا باطل. والجواب: أنه إن أريد به إثبات الأصول بعد ثبوت أصل واحد، فهذا غير ممتنع عندنا، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نص على بعض الأشياء المنصوص على تحريم التفاضل فيها، وأمرنا بقياس غيره عليه كنا نقيس أغياره من الأشياء الستة ومن غيرها، فإن أراد به إثبات الأصول ابتداء من غير أن يكون هناك أصل ثابت فإن ذلك لا يتأتى؛ لأن القياس لا بدَّ له من أصل يُردُّ إليه، [و] إذا لم يكن هناك أصل لم يصح معنى القياس. واحتج: بأنه لو كان القياس صحيحاً لوجب أن تكون علته موجبة للحكم
قبل ورود الشرع كالعلة العقلية. والجواب: أن علة القياس هي أمارة للحكم، وإنما تصير أمارة إذا ورد الشرع بذلك، وتجرى العلة الشرعية في هذا الباب مجرى الأسماء على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فلهذا لم تكن أمارة للحكم قبل ورود الشرع. فصل والدلالة على جواز التعبد به من جهة الشرع: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبصَارِ) (1) . وحقيقة الاعتبار في اللغة (2) : حمل الشىء على غيره واعتبار حكمه به، إما في حكمه، أو قدره، أو صفته. ومنه يقال: اعتبر هذه الدراهم بهذه الصًّنْجَة. ويقال: أخذ السلطانُ الخراجَ العام على العام الماضي (3) . وإذا كان حقيقة الاعتبار ما ذكرنا، وهو محض القياس اقتضت الآية وجوب ذلك، والأمر به، والمصير إليه. فإن قيل: المراد بذلك النظر إلى ما فعلنا بهم. قيل: لو كان كذلك لم يخص أهل الأبصار بذلك، والاعتبار والنظر الذى ذكروه لا يختص أهل البصيرة، فإنه يُدرك بالحس والمشاهدة، فيشترك
فيه من له بصيرة ومن لا بصيرة له؛ ولأنه حذَّر المخالفة وتوعد عليها بقوله: (ذَلِكَ بَانهُمْ شَاقُّوا اللهَ) (1) ، فثبت أن المراد ما ذكرنا من الامتناع من الاقدام على مثل أفعالهم (2) . وأيضاً: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ بن جبل: (كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله، أو قال: فإن لم تجد في [197/أ] ، كتاب الله؟ قال: فسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله، أو قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: الحمد لله الذى وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله) (3) . فإن قيل: هذا الخبر لا يصح إسناده؛ لأنه يرويه الحارث بن عمرو (4) ، ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حِمْص من أصحاب معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، وأناس من أهل حِمْص مجاهيل، فلا يصح التعلق به. قيل: هو خبر صحيح رواه أبو داود في سننه (5) ، وأبو عُبيد (6) في أدب
القضاء وابن المنذر (1) . وقوله (2) : "أناس من أصحاب معاذ" يدل على شهرته وكثرة رواته، وقد عُرِف دينُه (3) ، والظاهر من أصحابه (4) الدين، والثقة، والزهد، والصلاح. وعلى أنه روى (5) وسُميَ رجل (6) منهم، وهو ثقة معروف، فروى عبادة ابن نُسَى (7) عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن
غَنْم ثقة مشهور (1) . فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد، فلا يصح أن يحتج به في هذه المسألة التي هي أصل. قيل: هذا أشهر وأثبت من قوله: (لا تجتمعُ أمَّتي على ضَلاَلة) وقد احتج به المخالف في الإجماع، فكان [هذا] (2) أولى (3) . وجواب آخر وهو: أنه إذا جاز أن تثبت الأحكام الشرعية بخبر الواحد،
مثل تحليل وتحريم، وإيجاب وإسقاط، وتصحيح وإبطال، وإقامة حق وحدَّ، بضرب وقطع وقتل، واستباحة الفروج، وما أشبه ذلك، كان يثبت القياس به أولى؛ لأن القياس طريق لهذه الأحكام، وهى المقصودة دون الطريق (1) . فإن قيل: الذى يثبت به المخالف الأحكام ظاهر القرآن وخبر الواحد والاجماع المروى من طريق الآحاد المحتمل للتأويل واستصحاب حكم العقل. قيل: الشرع الذى يغيره ورود الشرع، وهذا كله من أدلة مسائل الفروع، فلم يصح ما ادَّعوه. فإن قيل: معناه: اجتهد رأيي حتى آخذ حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة إذ كان في أحكام الله تعالى من الأمور مالا يتوصل إليه إلا بالاجتهاد. قيل: الرجوع إلى الكتاب والسنة لا يسمى اجتهاداً، وإنما القياس يسمى اجتهاداً. وعلى أن معاذاً رتَّب ما يقع به الحكم وما يقتضي الحكم، فيجب أن يكون كل واحد منهما غير صاحبه. ويدل عليه أيضاً: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [197/ب] قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر) (2) . وهذا يدل على جواز الحكم باجتهاده ورأيه.
فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد. قيل: قد أجبنا عن هذا (1) . فإن قيل: الاجتهاد في تأويل لفظ، وبناء لفظ على لفظ. قيل: هو عام في الجميع إلاّ ما خصه الدليل. وأيضاً ما روى أبو عُبيد في أدب القضاء بإسناده عن أم سلَمَة قالت: (كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد دَرَسَت، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليَّ، ولعل بعضكم يكون ألحنَ بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بحجته فاقتطع بها قطعة ظلماً فإنما يقطع بها قطعة من نار) (2) . وهذا نص، فإنه أخبر أنه يقضي برأيه واجتهاده.
ويدل عليه إجماع الصحابة من وجهين. أحدهما: من جهة النقل. والثاني: من جهة الاستدلال. أما النقل: فقد روى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: (أقول في الكَلالة برأيي) (1) . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري في كتابه
المشهور: (الفهم فيما أدْلِي (1) إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال والأشباه، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهِها بالحقِّ) (2) .
وهذا كتاب تلقته الأمة بالقبول، وفيه أمر صريح بالقياس. وقال عمر لعثمان -رضي الله عنهما-: (إذا رأيتُ في الجد رأياَ فاتبعوني، فقال عثمان: إن نتبع رأيك فرأيُك رشيد، وإن نتبع رأى من كان قبلك فنعم ذو الرأى كان) (1) .
وقال زاذان (1) : تذاكروا الخيار (2) عند علي - رضي الله عنه - فقال: (إن أمير المؤمنين عمر قد سألني عنه، فقلتُ: إن اختارت زوجَها فهي واحدة، وزوجها أحق بها، وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة، فقال: ليس كذلك، ولكن إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها، فتابعتُ (3) أمير المؤمنين، فلما خلص الأمر إليّ عرفت أني أسأل عن التزويج (4) عدت إلى ما كنتُ أرى، فقلنا: والله لأمر جامعتَ عليه أمير المؤمنين، وتركتَ رأيك أحب إلينا من أمر تفردتَ به، فضحك، وقال: أما إنه قد أرسل (5) [إلى] ، زيد بن ثابت، فخالفني وإياه، فقال: وما قال زيد؟، قال: إن اختارت زوجها فهي واحدة، وزوجها أحق بها، وإن اختارت نفسها فهي ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره) (6) .
وروى عن علي أنه قال: (استشارني عمرُ في أمهات الأولاد فأجمعت أنا وهو على عتقهم [198/أ] ثم رأيت بعد أن أرقهم. فقال له عبيدة (1) : رأى ذوى عدل أحب إلينا من رأي عدل وحده) (2) . وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قصة بَرْوَع بنت واشق (3) : (أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأَ فمني ومن الشيطان) (4) .
وقال عبد الله بن عباس -رضي الله [عنهما]- في ديات الأسنان لما قسَّمها عمر على اختلاف منافعها (1) : (اعتبروها بالأصابع؛ عقلها سواء وإن اختلفت منافعها) (2) . وقال عبد الله بن عباس: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً؟!) (3) .
وروى عن ابن عباس: (أنه كان إذا سئل عن شىء فكان في كتاب الله تعالى قال به، وإن لم يكن في كتاب الله، وحُدِّث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا حُدث به عن رسول الله وأخبر به عن أبي بكر وعمر قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا حُدِّث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أخبر به عن أبي بكر وعمر اجتهد وقال برأيه) (1) . وهذا يدل على صحة القول بالرأي والاجتهاد. فإن قيل: من حكيتم عنه القول بالقياس قد روي عنه بُطلانه. من ذلك ما روي عن أبي بكر أنه قال: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلُّني، إذا قلت في كتاب الله (2) برأيي؟!) . وعن عمر أنه قال: (إياكم وأصحابَ الرأي، فإنهم أعداء الدين، أعْيَتْهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا) (3) .
وروي عنه أنه قال: (إياكم والمكايَلَةَ، قيل: وما المكايَلَة؟، قال: المقايسة) (1) . وروي عن شريح قال: كتب إليَّ عمر بن الخطاب وهو يومئذ من قبله: (اقض بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله، فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع عليه أهل العلم، فإن لم تجد فلا عليك ألاّ تقضي) (2) . وعن على أنه قال: (لو كان الدين قياساً لكان باطن الخُف أحقَ بالمسح من ظاهره، ولكن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرها) (3) . وعن ابن مسعود أنه قال: (إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيراً مما حرم
الله تعالى، وحرمتم كثيراً مما حلله الله) (1) . وعن ابن عباس: (أن الله تعالى قال لنبيه: (احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أنزَلَ اللهُ) (2) ، ولم يقل بما رأيت) (3) . وعنه أنه قال: (لو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى: (وَأن احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أنزلَ اللهُ) (4) . وروي عنه أنه قال: (إياكم والمقاييس، فإنما عُبِدت الشمسُ والقمرُ بالمقاييس) (5) . وعن عبد الله بن عمر أنه قال: (السنة ما سَنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[198/ب] لا يجعل الرأيُ سنةً للمسلمين) (6) .
وقال الزبرقان (1) : (نهاني أبو وائل (2) أن أجالس أصحابَ الرأي) (3) . وقال مسروق: (لا أقيس شيئاً بشىء، أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها) (4) . قيل: أما قول أبي بكر: (أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله برأيي) ، فلا حجة فيه؛ لأنا نمنع القول في كتاب الله تعالى [بالرأي] . وقول عمر: (إياكم والرأي) فالمراد به: الرأي المخالف للحديث؛ لأنه قال: (أعيتهم الأحاديث أن يعوها) . وقال: (إياك وأصحاب الرأي. فإنهم أعداء السنن) والرأي المخالف لذلك فهو ضلال وإضلال. وكذلك قول علي: (لو كان الدين بالرأي) فالمراد به مع مخالفة السنة. والدليل على ذلك: ما روي عنهم من القول بالرأي والعمل به.
وعلى هذا كل ما روي عن الصحابة وعن أبي وائل ومسروق من ذم الرأي والقياس. والدليل على ذلك ما رويناه من إجماع الصحابة. والطريقة الثانية في الإجماع من جهة الاستدلال: فهو أن الصحابة اختلفت في الحوادث اختلافاً متبايناً. فاختلفوا في قوله: أنتِ عليَّ حرام. فقال بعضهم: يمين، تُكَفَّر. ومنهم من قال: فيها كفارة يمين، وليست بيمين. ومنهم من قال: طلاق رجعي. ومنهم من قال: طلاق ثلاث. ومنهم من قال: ظهار (1) . وهكذا اختلفوا في الجَدِّ: فمنهم من لم يقاسم بينه وبين الاخوة، وقالوا: الجد أب، [وهم] عشرة من الصحابة، منهم أبو بكر وابن عباس. ومنهم من قال: يقاسمهم إلى الثلث. ومنهم من قال: إلى السدس. ومنهم من قال: إلى نصف السدس (2) . فأقرَّ بعضهم بعضاً على ما ذهب، فإما أن يقولوا باجتهاد، أو بنص. فإن كان هناك نص لم يخل من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون خَفِي عليهم. أو علموه، وتركوه. أو علم به بعضهم دون بعض. فبطل أن يكون هناك نص خَفِي عليهم؛ لأنه يفضي أن يجمعوا على خطأ، وأن يخرج الأمر عن أيديهم. وبطل أن يقال: علموا به وتركوه؛ لأن هذا عناد. وبطل أن يقال: علم به بعضهم دون بعض؛ لأنه لو كان كذلك لأظهره الذى علمه، ورواه، وذكره. فلما لم يكن شىء من هذا ثبت أن القوم قالوا فيها باجتهادهم. ويؤيد هذا: أن القوم قاسوا الجَد على غيره، واعتبره عليُّ بالبحر، والأب بالنهر، والإخوة بالأنهار (1) . واعتبره زيد بالشجرة، والأب بالغصن، والإخوة بالأفنان (2) .
ثبت أن القوم أجمعوا على القياس، وعملوا به، وأقرَّ بعضهم بعضاً على ذلك. وحُكي عن داود أنه قيل له: إذا لم يكن الدليل عندك إلا نفس كتاب أو سنة، أو قياس لا يحتمل إلا معنى واحداً (1) . فلم اختلفت الصحابة؟! قال: خذل (2) القوم (3) . وهذا أعظم (4) ، فإنه لم يكفهم منع [199/أ] القياس حتى خطئوا الصحابة. وأيضاً: فإن الله تعالى كلف المجتهد معرفة أحكام الحوادث ليعمل بها لنفسه، أو ليفتي بها، أو يحكم بها بين الناس، فلابد أن ينصب هنا أدلة تعرف أحكام الحوادث بها. وذلك الدليل: إما أن يكون نصاً أو غيره؛ فبطل أن يكون نصاً؛ لأن الله تعالى ما نص على حكم كل حادثة، ولابد من معرفة حكمها، ثبت أن معرفة حكمها بالاجتهاد والاعتبار. فإن قيل: قد نص على حكم كل حادثة؛ إما نصاً أو دليل الخطاب. قيل: إذا اختلف المتبايعان، فقال كل واحد منهما: لا أدفع ما عليّ حتى أقبض مالي، فليس في تقديم واحد منهما دليل من جهة النص. وكذلك: إذا اختلفا والسلعة قائمة، تحالفا، وليس في تقديم أحدهما نص ولا دليل خطاب. وكذلك قوله لزوجته: أنتِ عليَّ حرام؛ منهم من قال: طلاق.
ومنهم من قال: ظهار. ومنهم من قال: يمين. وليس في هذا دليل. فإن قيل: إن لم يكن هناك نص صرنا إلى حكمها بدليل العقل. والناس في هذا على مذاهب؛ منهم من قال: الأشياء على الحظر. ومنهم من قال: على الإباحة. ومنهم من قال: على الوقف. فيبنى حكم الحادثة على هذا. قيل: في الحوادث ما يقف قياس العقل فيها، وهو ما ذكرنا من اختلاف المتبايعين في الإقباض، وغير ذلك. وكذلك قوله: أنتِ علي حرام، ليس للعقل في هذا مجال، في تقديم بعضهم على بعض. فإن قيل: يصير في ذلك إلى استصحاب الحال. قيل: ولا يمكن أيضاً استصحاب الحال فيما حكينا من المسائل؛ لأن الحال قد زالت. فإن قيل: فبالإجماع يقضي فيها. قيل: منها ما لم يجمعوا عليه، بل اختلفوا فيه. وعلى أنكم وإن صرتم إلى الإجماع، فالإجماع لا ينعقد على الحكم فيها إلا بدليل، وذلك الدليل ينقسم على ما قلناه في أول المسألة، فلابد لهم من نص أو اعتبار. وهذه الطريقة معتمدة في المسألة. وأيضاً: فإن الله تعالى ذكر أحكاماً ونص على معانيها، فقال: (مِنْ أجْلِ
ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بني إسْرَائِيلَ) (1) . وقال في الفيء: (كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَة بَيْنَ اْلأغْنِيَاءِ مِنْكُم) (2) يعني نصصت على حكمه لهذا. وكذلك قال: (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنهَا وَطَراً زَوجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى اْلمُؤْمِنِينَ حَرَج في أزْواجِ أدْعِيَاءِهِمْ إذَا قَضَواْ مِنْهُن وَطَراً) (3) . وكذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما فعلتُ ذلك من أجل الدَّافَّة) (4) . وقال: (إنّما جُعِل الاستئذانُ من أجلِ البَصَر) (5) . فإذا نص الله ورسوله على الأحكام وذكر معانيَها، ثبت أنه إنما نصَّ على
المعنى حتى إذا عرف الحِقَ به [199/ب] ، ما وجد فيه ذلك المعنى. فإن قيل: إنما نص على معنى الحكم ليعرف معناه. قيل: لا فائدة في معرفة معناه، وقد عرف معناه بالنظر. وطريقة أخرى وهو: أن القياس مفهوم كلام العرب ومعقولها، بدليل من له ابنان، ضرب كل واحد منهما زوجة نفسه، ثم إن أباهما ضرب أحدهما، فقيل له: لم ضربته؟. فقال: لأنه ضرب زوجته. وإذا قيل له: فالآخر أيضاً قد ضرب زوجته، فلم لم تضربه؟! فمتى لم يأت باعتذار في هذا سقط كلامه، وبان نقصه (1) . فثبت أن القياس مأخوذ من مفهوم كلامهم. وأيضاً: فإن الاجتهاد في طلب القبلة عند الخفاء واجب، وإنما يستدل عليها بالعلامات، كالشمس والقمر والنجوم والجبال والرياح، وهذا محض القياس؛ لأنه يقيس القبلة على هذا النجم وعلى طلوع الشمس وغروبها، ويهدى إليها بها. فإن قيل: إنما لزمه الاجتهاد في طلب القبلة؛ لأن الشرع ورد بالطلب. قيل: قد سلمتم أنه ورد بالعمل على القياس. فإن قيل: القبلة واحدة، وشخص واحد كلف طلبه، فليس كذلك حكم الأرز؛ لأنه كلف حكمه، وحكمه يختلف. قيل: لا فرق بينهما وذلك أن له في الأرز حكماً طلبناه من البُر، كما أن له في الكعبة حكماً طلبناه من هذه الأدلة، فالبُر في حكم الأرز، كهذه الأدلة
في طلب القبلة. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَالَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) (1) . وقوله تعالى: "وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ" (2) . والجواب: أن هذه حجة عليهم في نفيهم القياس بأمور محتملة غير مقطوع بها، ولا معلومة، فقد قالوا على الله ما لا يعلمون. على أن ذلك محمول على منع القول بما ليس بعلم، فلا يجرى مجراه من القياس والاجتهاد، بدلالة قوله: (فَاعْتَبِرُواْ يَا أولِى اْلأبصَارِ) (3) ، وحديث معاذ. وجواب آخر، وهو: أن الحكم بالقياس معلوم، ويكون ذلك بمنزلة الحكم بشهادة الشاهدين، إذا غلب على ظن الحاكم صدقُهما وعدالتُهما، والتوجه إلى القبلة إذا غلب على ظنه أنها في جهة، فإن وجوب الحكم بها وفعل الصلاة إليها معلوم، وإذا كان كذلك، فلم نَقْفُ ما ليس لنا به علم. واحتج بقوله تعالى: (إِنَّ الظنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَق شَيْئاً) (4) .
والجواب: أن المراد به الظن الذي هو تخمين وحَدْس، لم يقع عن طريق صحيح. فأما الظن (1) الواقع عن أمارة وطريق صحيح، فهو جار مجرى العلم في وجوب العمل به، كما يقول المخالف في الحكم بقول الشاهدين، وبقول المقومين، وقبول قول زوجته في حيضها وطهرها [200/أ] ، وقبول قول القَصاب في ذبيحته، والتوجه إلى القبلة باجتهاده. واحتج بقوله تعالي: (وَمَا اخْتَلَفتُمْ فِيهِ من شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ) (2) . وقال تعالى: (فَإن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء فردُّوهُ إلَى اللهِ وَالرسُولِ) (3) . والجواب: أنه لم يرد به إلى ذات الله وذات رسوله، وإنما المراد إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله، والرد إلى القياس رد إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإنه عليهما يحمل، ومنهما (4) تستنبط المعاني ويقاس عليها. واحتج بما روىٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ستفترقُ أمتي على بِضْع وسبعين فِرْقة، أعظمُها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيُحرِّمون الحلالَ ويُحللون الحرامَ) (5) .
والجواب: أن المراد بذلك الرأي المخالف للكتاب والسنة، ومن فعل ذلك فقد ضلَّ، ودخل تحت الوعيد (1) . واحتج بأنه لو كان العمل بالقياس واجبا لم يخلُ العمل بذلك من أن يكون ضرورةً أو استدلالاً، وليس يسوغ ادعاء العلم الضروري في وجوب ذلك؛ لأنا لا نجد نفوسنا مضطرة إلى العلم بذلك ولا تتعرى من الشكوك. وإن كان العلم بوجوده استدلالاً لم يخلُ إمَّا أن يكون الاستدلال عقلاً أو شرعاً. والعقل لا مدخل له في إيجاب ذلك؛ لأن العلم بأصول الأشياء التي يقاس عليها لا يقع من ناحية العقول، ولا يجوز أن يفرِّق الله تعالى بين الخمر وسائر الأشربة في الحكم، فيحرم الخمر ويبيح غيرها مع تساويها (2) في الإسكار، والعقل يسوى بينهما. ولو كان ثبوته شرعاً لظهر، وليس في وجوب ذلك خبر.
وتحرير هذه الدلالة: أن العلم بوجوبه، إذا لم يكن من ناحية المعقول، ولا شرع ورد بذلك لم يجز القضاء به. والجواب: أنا نَقْلِبُ هذا الدليل فنقول: لو كان القول بالقياس باطلاً، لم يخلُ العلم ببطلانه من أن يكون ضرورةً أو استدلالاً. ولا يمكن ادعاء الضرورة لما يعترينا في بطلانه من الشك، والعقول لا مجال لها في بطلانه. ولأن نفاة القياس يجوزون أن يتعبد الله تعالى بإلحاق سائر الأضربة المسكرة بالخمر من طريق القياس، فلو بطل الحكم بالقياس لم يبطل إلا شرعاً، والشرع هو الخبر عن الله تعالى وعن رسوله، ولا خبر بذلك، فلم يجز الحكم ببطلانه. وجواب آخر: وهو أنا أثبتنا ذلك بالشرع، وقد ظهر ذلك بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أوْلِى اْلأبصَارِ) (1) وبحديث معاذ، وإجماع الصحابة. فإن قيل: ما ذكرتموه من الشرع غير معلوم؛ لأنه خبر واحد، فلا يجوز إثبات مسائل الأصول بخبر الواحد. قيل [200/ب] : لم نذكر ما يوجب العلم ويقطع العذر، وإذا لم يكن فيه دليل حال ثبوته بخبر الواحد على أنا قد ذكرنا الآية، وهي مقطوع بها، والخبر الذى ذكرنا متلقى بالقبول، وإجماع الصحابة مقطوع به. واحتج: بأن، القياس حمل الفرع على الأصل بعلة وشَبَه (2) ، وأجمعوا أن ذلك لا يقف على شهوة المعلل واقتراحه، بل يكون تابعاً للدليل، وليس يخلو الدليل من أن يكون عقلاً أو شرعاً. والعقل لا يدل على ذلك؛ إذ ليس بعض صفات المعلل أولى بذلك من بعض.
وحكم الأصل أيضاً لم يعلم عقلاً. ولأنه لا وجه يدعي الخصم أنه علة إلا وهو يجوز أن يرد الخبر بأن العلة سواه، فبطل أن يكون للعقل مجال في ذلك. ولا يجوز أن يكون العلم بالعلة قياساً على النص لوجهين: أحدهما: أن ذلك القياس لابدَّ له من علة، ولا بدَّ في تعريف تلك العلة من قياس يأتي، والكلام في ذلك كالكلام في الذي قبله، وهذا يفضى إلى ما لا نهاية له، فلم يبق إلا النص. وإذا كانت العلل منصوصاً عليها، جاز حمل غير المنصوص عليه على ما تناوله النص عند كثير من أهل الظاهر. ولا يجوز أن يكون ما تذكرونه من وجود الحكم في الأصل المعلَّل عند وجود الصفة وعدمها عند عدمه، دلالة على كونها علة يجب القياس عليها لوجود الحكم في كثير من المواضع، موجود عند وجود شيء ومعدوم عند عدمه، مع اعترافنا بأنه ليس بعلة. ألا ترى أنا نجد العصير حلالاً قبل حدوث الشدة فيه لا يَكْفُر مستحله، فإذا حدثت الشدة صار حراماً يَكْفُر مستحله، ثم إذا ارتفعت الشدة عنه صار حلالاً، ولم يَكْفُر مستحله، ولم يجب من أجل ذلك أن تكون الشدة علة للتكفير؛ لأنَّا لا نكفر مستحل كل شديد. والجواب: أن القياس هو: حمل الفرع على الأصل بعلة وشَبَه، قد دل الدليل على صحتها، وذلك يحصل من خمسة أوجه: أحدها: لفظ صاحب الشريعة بنصه، أو تنبيهه (1) ، أو إجماع الأمة، أو تأثيرها، وهو يوجد الحكم بوجود المعنى، ويعدم بعدمه أو شهادة
الأصول، أو قيام الدليل على بطلان ما سواها، وقد شرحنا ذلك في الخبر الذى بعده. وإذا كان كذلك، لم يلزم ما قالوه؛ لأن قولهم: ليس بعض الصفات أولى من بعض غلط؛ وذلك أنه إذا تعارض فيه أمارتان، عرضناهما على الأصول، فأيهما كان أشد اطراداً وانعكاساً وتأثيراً، كان أولى. وقولهم: إنه يجوز أن يَرِد الخبر بأن الحكم سواه، فهذا لا يتصور بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما في حياته فإنه ما من [201/أ] حكم ثبت بالنص إلا ويجوز أن يَرِد نص بخلافه، ثم لم يمنع ذلك كونه دليلاً. وقولهم: إن مستَحِلَّ النبيذ والنقيع لا يَكْفُر، وإن كانت علة الكفر موجودة فيه وهي الشدة غلط؛ لأن العلة في كفر مستَحِلِ الخمر الإجماع على تحريمه، فليس العلة في كفره الشدة. وذلك الإجماع لا يوجد في غيره مما تحله الشدة، فلهذا لم نُكَفرْه. وقولهم: يحتاج في تعريف العلة إلى علة أخرى إلى ما لا نهاية له غلط، لأنَّا (1) . واحتج: بأن القياس لا يصح إلا بثبوت علة الأصل، وأنهم يدعون علة الأصل، ولا يمكنهم إقامة الدليل عليها، فلم يصح القياس بعلة مدعاة لا دليل عليها. والجواب: أنا لا نقيس إلا بعد ثبوت علة الأصل، وإنما نبين فيما بعد ثبوتها، والأمارة الدالة عليها، إن شاء الله تعالى. واحتج: بأن علة الأصل إذا ثبتت لا يجب أن يتعدى الحكم إلى كل موضع توجد فيه علة الأصل، ولهذا إذا قال رجل: اعتقت عبدي؛ لأنه أسود، لا
يوجب ذلك أن يعتق كل عبد له أسود. والجواب: أن العلة إذا ثبتت وجب الحكم بها في كل موضع وجدت؛ لأنها أمارة على الحكم، وإذا وجدت الأمارة والدلالة وجب الحكم بها. وأما قول الرجل: أعتقت عبدي؛ لأنه أسود، فإنه لا يعتق سائر عبيده السودان؛ لأن المناقضة جائزة عليه، وليس كذلك صاحب الشريعة، فإنه لا يجوز التناقض في قوله، فوجب طرد تعليله. واحتج: بأن القصد بالقياس طلب الحكم فيما لا نص فيه ولا توقيف، فليس عندنا حكم إلا وقد تناوله نص وتوقيف، فلم يكن للقياس معنى. والجواب: أنا نعلم أحكاماً كثيرة لا نص فيها، من ذلك: جواز قتل الزنبور في الحِّل والحرم، وليس فيه نص، وإنما قيس على العقرب. وإذا تعمد ترك الصلاة يجب قضاؤها، وليس في ذلك نص، وإنما قيس على من نسيَها أو نام عنها (1) .
وإذا ماتت فأرة في غير السَّمن (1) . وإذا ماتت سنور في السَّمن (2) وما أشبه ذلك كثير. ومن المسائل الغامضة فأكثر من أن تحصى. وجواب آخر: وهو: أنه ليس من شرط القياس أن يكون النص معدوماً، وإنما شرطه أن لا يكون مخالفاً للنص، فإذا لم يكن مخالفاً للنص صح القياس، مع وجود النص، ومع عدمه. واحتج: بأن حكم الفرع لا يخلو أن يوجد من الاسم والمعنى، أو من الاسم دون المعنى، أو من المعنى [201/ب] دون الاسم. فإن أخذ من الاسم والمعنى، فقد أخذ بالنص بلا قياس. وكذلك إن أخذ من الاسم، ثبت نصاً، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بالمعنى؛ لأن هذا كان موجوداً فيه ولا حكم، وهو قبل معرفة أحكام الشريعة، فلم يبق إلا أن يكون باطلاً. والجواب: أن الاعتبار بالاشتراك في المعنى، إلا أنه يجوز القياس عند الأمر به، وقبل ورود الشرع لم يكن هناك أمر بالقياس، فلذلك امتنع القول به. واحتج: بأن القياس: حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه، وما من شىء يشبه شيئاً من وجه إلا ويفارقه من وجه آخر، كموضع الافتراق. والجواب: أن القياس إنما يجب عند اجتماعهم في معنى الحكم واشتراكهما فيه. والافتراق الذي يذكرونه هو افتراق في غير معنى الحكم، لا يؤثر في جواز
الجمع، ولو أنهما افترقا في معنى الحكم لامتنع القياس. واحتج: بأن القياس حمل الشيء على غيره في بعض أحكامه بضرب من الشبه، وليس يخلو: إما أن يعلموا ذلك بالنص أو بالقياس. فإن قلتموه نصاً، صار حكم الفرع منصوصاً عليه. وإن قلتموه قياساً، فقد أثبتم قياساً بقياس. والجواب: أن هذا يلزمهم في نفي القول بالقياس؛ فإنه لا نص لهم دال عليه، ولا يجوز أن يقولوا ذلك قياساً. على أننا علمنا وجوب ذلك بالأصول التي دلت عليه من الكتاب والإِجماع، حسب ما بَينَّا. واحتج: بأنه لا يخلو: إما أن يكون المعنى المستنبط مماثلاً له، أو أنقص منه، أو أزيد. ولا يجوز أن يكون مثله؛ لأن ذلك يوجب تساويهما، ولا يكون في القياس فائدة. وباطل أن يكون أنقص؛ لأنه يفضي إلى تخصيص الأصل وإسقاط بعض حكمه. وباطل أن يكون أعم؛ لأن المدلول لا يكون أعم من الدليل. فإذا بطلت هذه الأقسام، بطل القياس. والجواب: أن الأقسام الثلاثة كلها جائزة في القياس، ولا يفضي إلى ما ذكروه، فإنه قد يكون المعنى مماثلاً للفظ، كقوله في الرضاع: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، وتكون فائدة القياس معرفة معنى النص، والفرق بينه وبين المنصوص الذي لا يعرف معناه. وقد يكون المعنى أخص من اللفظ، مثل قوله: (وَالسَّارِق وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ
أيدِيَهُمَا) (1) والمعنى فيه: أن يسرق نصاباً من حِرْز مثله، لا شبهة له فيه. ولا يكون هذا تخصيص اللفظ؛ لأنا لا نخصه بهذا القياس، فإنه مماثل في حكمه، وإنما نخصه بلفظ آخر. وقد يكون [202/أ] المعنى أعم من اللفظ، مثل المعنى المستنبط في مثل خبر عبادة بن الصامت في علة الربا (2) ، فإن الأصل البُر، وحكمه مقصور عليه لفظاً، وفزعه أعم من لفظه، فإن معناه مكيل، فاكتفى به كل مكيل لأنا عقلنا الحكم بمعناه، ومعناه أعم من لفظه. وقد يكون المدلول أعم من الدليل، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبِس؟ قالوا: نعم، فنهى عنه) . وهذه العلة موجودة في سائر ما ينقص من الرطب وغيره. واحتج: بأن تجويز القياس يفضي إلى أن يكون الشيء فرعاً لأصل، ويكون أصلاً لغيره، فإنه قد يقاس غيره عليه. والجواب: أن هذا غير ممتنع، وهو موجود في المشاهدة، فإن النخلة (3) قد تكون فرعاً لنخلة أخرى وأصلاً لغيرها، والمكيال قد يكون فرعاً لمكيال وأصلاً لمكيال. وهذا في العقليات، وفي الشرعيات يجوز أن يكون الشيء أصلاً لغيره في حكمه، وفرعا لغيره في حكم آخر، فأما في حكم واحد فلا يتصور.
واحتج: بأن العلل الشرعية لو كانت دالة (1) على الحكم وموجبة له لكانت تطرد وتنعكس، فلا توجد إلا والحكم موجود معها، ولا يوجد حكمها إلا عند وجودها، كالعلل العقلية. والجواب: أن هذه العلل ليست عللاً في الحقيقة، ولا موجبة الأحكام، وإنما هي أمارات وعلامات نصبها الله تعالى لهذه الأحكام أدلة عليها، فهي تجري مجرى الأساس، فتدل على الحكم في الموضع الذي نُصب دون غيره. وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن تكون بهذه الصفة، وإن لم تطَّرد وتنعكس، لأن العلل العقلية على ضربين: تطرد وتنعكس، كالحركة في التحرك، وعلة لا تنعكس، وإنما يوجد الحكم عند وجودها فحسب، كقول الرجل: اضرب [من] ، في الحبس، واضرب من هو خارج من الحبس، وإذا كان الرجل في الحبس ضرب لكونه في الحبس، وإذا كان خارجاً ضرب لكونه خارجاً. وكذلك الجواب عن قولهم: لو كانت علة في الحقيقة لما اختصت بزمان دون زمان، كالعلة العقلية، يتعلق الحكم بها قبل الشرع وبعده، وذلك أنا نقول: ليست بعلة في الحقيقة موجبة للأحكام، وإنما هي أمارة عليها (2) كالأسماء. ثم نقول: لا فرق بينهما، وذلك أن سبب تلك العلل العقل، والعقل لا يختص بزمان دون زمان، بل هو عام في جميع الزمان، فكان علته أيضاً عامة فيها. والعلة الشرعية سببها الشرع، والشرع يختص ببعض الأزمنة دون بعض. واحتج: [202/ب] بأنه لو كان دليلاً على بعض الأحكام لكان دليلاً في جميعها.
والجواب: أن القياس يحتاج إلى شرائط، وليس توجد تلك الشرائط في سائر الأحكام حتى يصح استعمال القياس فيها، على أن الأحكام قد تختلف في أدلتها، فيكون الشيء دليلاً في بعضها دون بعض، كخبر الواحد، يدل على ثبوت الأحكام في الفروع ولا يدل على إثبات الأصول (1) . واحتج: بأن أهل اللغة لايستعملون القياس في كلامهم، فإن القائل لو قال لوكيله: اشتر لي سَلَنْجَبِيناً فإنه يصلح للصفراء، لم يصلح أن يشتري له رمَّاناً، وإن كان يصلح للصفراء. والجواب: أن السلَنْجَبِين يختص بمعانٍ لا توجد في الرمان، فلذلك لم يجز أن يشتريه. وقد ورد عن أهل اللغة ما يوجب القول بالقياس، فإن رجلاً لو كان له ابنان، فضرب أحدهما، فقيل له: لم ضربته؟ قال: لأنه ضرب أمه. وكان الآخر قد ضرب أمه، فإن يصلح أن يَرِد عليه، فنقول: والآخر ضرب أمه أيضاً، فلم لم تضربه؟!. وكذا لو قال: لا تعط فلاناً إبرة لكي لا يعتدي بها، فلا يصلح أن يعطَه سكيناً؛ لأن معناهما واحد، فثبت أنهم يقولون بالقياس، ويعملون عليه. على أنا نقول بالقياس في المواضع التي دل الدليل الشرعي عليه وكلفنا إياه وفي تلك المواضع لم يدل الدليل الشرعي عليه، فلم يجب القول به.
فصل [أقسام القياس] وإذا ثبت الأصل في القياس، فالكلام في أقسامه (1) . وجملته: أن القياس على ضربين: واضح، وخفي. فالواضح: ما وُجد معنى الأصل في الفرع بكماله (2) ، كعلة الربا، نصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الربا في البُر، فحملنا الأرز عليه؛ لأن فيه معنى البُر (3) من الكيل والجنس. وقد استعمل أحمد -رحمه الله- هذا القياس في رواية ابن القاسم فقال: "لايجوز الحديد والرصاص متفاضلاً، قياساً على الذهب والفضة" (4) . والثاني: القياس الخفي: وهو قياس غلبة الشبه (5) ، وصورته: أن يتجاذب الحادثةَ أصلان، حاظر ومبيح، ولكل واحد من الأصلين أوصاف خمسة،
والحادثة لا تجمع أوصاف واحد منهما، غير أنها بأحد الأصلين أكثر شبهاً، مثل أن كانت بالإباحة أشبه بأربعة أوصاف، وبالحظر بثلاثة أوصاف، ففي هذا روايتان: إحداهما: ليس هذا بقياس أصلاً، والقياس ما وُجد في الفرع أوصاف الأصل بكمالها، فإذا وجد بعضها في الفرع، لم يكن قياساً. نص عليه أحمد - رضي الله عنه - في رواية أحمد بن الحسين بن حسان فقال: "القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، [203/أ] فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال، فأردتَ أن تقيس عليه، فهذا خطأ، قد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعض، فإذا كان مثله في كل أحواله فأقبلتَ به وأدبرتَ به، فليس في نفسي منه شيء" (1) . والرواية الثانية: أنه قياس صحيح، وتلحق الحادثة بأكثرهما، ولا يؤخَر (2) حكمها. وقد نبه أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية حرب في يهودي قذَف يهودية يتلاعنا؟ قال: "ليس لهذا وجه؛ لأنه ليس عدلاً، واللِّعان إنما هو شهادة، وليس بعدل فتجوز شهادته". كأنه لم ير بينهما اللِّعان (3) .
فقد قاس اللِّعان على الشهادة في امتناعه من الكافر، مع قلة شَبَهِه بالشهادة وكثرة (1) شَبَهِه بالأيمان. فدلَّ هذا من قوله على جوازه مع كثرة الشَّبه. وقد نقل ابن منصور عنه الفرق بينهما فقال: "لو كان معناه معنى الشهادة، فقذفها وهو فاسق، لم يلاعن. ولو كان معناه معنى اليمين (2) لكان يشهد هو، وتشهد هي". فإن قلنا: إنه ليس بقياس صحيح. وقد حُكي ذلك عن أصحاب أبي حنيفة (3) . فوجهه: أنه إذا كانت علة الأصل ذات أوصاف ثلاثة، وعلة (4) الفرع ذات وصفين، لم يوجد في الفرع معنى الأصل بكماله، فلا يكون علة. ولو كان الوصفان علة لكان الحكم يتعلق بها، فلما لم يكن علة ثبت أنه لا يجوز تعليق الحكم بها. وإذا قلنا: إنه قياس صحيح، وهو قول أصحاب الشافعي (5) ، فوجهه: ان الحادثة لا بدَّ لها من حكم، فإذا لم يدل على حكمها كتاب ولا سنة ولا
إجماع وجب الاجتهاد في طلب حكمها بالقياس على الأصول، فإذا لم يكن لها شبه إلا بهذين الأصلين، انقطع حكمها عن سواها، ولم يجز أن يعلق حكم الأصلين معاً بها؛ لأنها متناقضة. فلم يكن بُد من إلحاقها بأحدهما، فكان إلحاقها (1) بالأشبه أولى؛ لأنها به أشبه، فغلبنا حكم الأكثر؛ لأن الأصول على هذا، قال الله تعالى: (فَأما مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ في عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأما مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأمهُ هَاوِيَةٌ) (2) فغلَّب الأكثر. وكذلك قلنا في الماء المطلق، إذا خالطه مائع طاهر، كالورد، ونحوه: إن كان الغالب الماء، فالحكم له، وإن كان الغالب الورد، فالحكم له. وكذلك قلنا في الشهادات: إن كان الغالب الطاعات، فهو عدل مقبول الشهادة، وإن كان الأغلب المعاصي، فهو فاسق مردود الشهادة. وقد قال أحمد - رضي الله عنه - في رواية أحمد بن أبي عبدة في الرجل يكذب: "إن كثُر كذبُه لم يُصل خلفه" (3) . فأما قولهم: إذا لم يوجد في الفرع أوصاف الأصل بكماله، فليس هناك [علة] . والجواب: أنه كذلك، ولكن ألحقنا حكم الحادثة بهذا الأصل، من حيث إنه به أشبه. فأما أن نقول [203/ب] : الوصفان في (4) الفرع علة، فلا نقول هذا. فإن قيل: فيحكم في الحادثة بغير دليل؟ قيل: يحكم بغير قياس، ولكن بأنه أشبه بهذا الأصل من سائر الأصول. إذا تقرر هذا، وأن قياس غلبة الشَّبَه حجة، فهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون الشبه بالأوصاف. والثاني: بالأحكام (1) . فالأوصاف: أن يتجاذبها أصلان، حاظر ومبيح، فالحاظر أسود، والمبيح أبيض، والحادث سواد وبياض فنعتبره بهما، فبأيهما أشبه ألحقناه. وأما الشبه بالأحكام: كالعبد أخذ شبهاً من الأحرار، لأنه مخاطب مكلف، وأخذ شبهاً من الأموال؛ لأنه يُباع ويُورث، فننظر بأيهما أكثر شبهاً نلحقه به. فصل [قياس الأصول] فأما قياس الأصول: فأن تكون الحادثة لها أصل في الحظر، وأصول في الإباحة، فكان ردها إلى أصول كثيرة، أولى من ردها إلى أصل واحد (2) . مثال ذلك: إذا أبان زوجته بطلقة، فتزوجت من أصابها وطلقها، ثم تزوجها الأول، عادت معه على ما بقي معه من الطلاق (3) .
خلافاً (1) لأبى حنيفة في قوله: دخول الثاني يعدم ما بقي من الطلاق (2) ، وذهبوا إلى أنها رجعت إليه بعد زوج وإصابة، أشبه المطلقة ثلاثاً، فقاسه على أصل واحد، وقسناه على ثلاثة أصول، فقلنا: إصابة ليست بشرط في الاباحة، أشبه وطء السيد أمته، والوطء في النكاح الفاسد، ووطء زوج ثالث. [قياس الجنس] وأما قياس الجنس فهو أولى (3) ، مثل أن تكون الحادثة من الطهارة، فكان
ردها إلى الطهارة، أولى من ردها إلى الصلاة. أو تكون من الصلاة، ويمكن ردها إلى الزكاة وإلى الصلاة، فكان ردها إلى الصلاة أولى؛ لأنها من جنسها. فصل [تقديم العلة لقلة أوصافها] فإن تقابلت علتان (1) ، إحداهما ذات وصفين والأخرى ذات ثلاثة أوصاف، لم يخلُ إما أن تكونا (2) من أصل واحد، أو من أصلين. فإن كان أصلهما واحداً، كعلة الربا، الفرع الأرز، والأصل البُر، فعلتنا: مثل، مكيل، جنس (3) . وعلة مالك: مطعوم، مقتات، جنس (4) .
وعلة الشافعي في القديم: مطعوم، مكيل، جنس (1) . فالتي قلَّت أوصافها أولى من وجهين: أحدهما: أن التي قلت أوصافها أكثر فروعاً، والتي كثرت أوصافها أقل فروعاً، فكان ما كثُرت فروعها (2) أولى. ولأن التي قلَّت أوصافها يسهل الاجتهاد فيها ويقرُب، والتي كثرت أوصافها يصعب الاجتهاد فيها ويبعد. فكانت الأقل أوصافاً أولى. هذا إذا كانت العلتان من أصل واحد. فأما إن كانتا (3) من [204/أ] أصلين، أحدهما يدل على الحظر، والآخر يدل على الإِباحة. وكانت علة أحد الأصلين ذات أوصاف خمسة، وعلة الأصل الآخر ذات أوصاف أربعة، وكانت [في] كل واحد من الأصلين بكمالها موجودة في الفرع، كان رده إلى ما كثرت الأوصاف فيه أولى؛ لأنه به أشبه. فها هنا هما علتان، إلا أن التي هي بأحد الأصلين أكثر أوصافاً أولى. ويفارق هذا قياس غلبة الشَبّهَ؛ لأنه (4) ليس بقياس صحيح على إحدى الروايتين (5) ؛ لأن معنى الأصل غير موجود بكماله في الفرع، فلهذا لم يكن علة.
مسألة
وها هنا أوصاف الأصل بكماله موجودة في الفرع، فلهذا كان علة. فإذاً هذا القياس استوفى أوصاف أصله. وقياس غلبة الشَّبَه ما استوفى أوصاف أصله. مسألة [دلالة مفهوم الموافقة] فأما الحكم الثابت من طريق التنبيه فلا يسمى قياساً (1) ، وإنما هو مفهوم
الخطاب وفحواه، نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أفّ) (1) إن الضرب ونحوه من الإضرار بالوالدين ممنوع [منه] بمعنى اللفظ. وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أربع لا تجوز في الضحايا، العوراءُ البَين عَوَرُها، والعرجاءُ البَيِّنُ عَرَجُها ... ) (2) فلما نصَّ على العوراء، كانت العمياء مثلها في المعنى لمعنى اللفظ.
وكذلك لما نصَّ على العرجاء، كانت المقطوعة الأربع في معناها وزيادة من طريق اللفظ. وكذلك قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (1) ونص في الإِماء على النصف (2) ، كان العبد مثلها على النصف من طريق اللفظ لوجود المعنى (3) . وكذلك قوله عليه السلام، (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ، كان الجوع والعطش ونحوهما في معناه بمعنى اللفظ لوجود معناه، وهو [ما] يغير خُلُقَه وفهمَه. وكذلك قوله -في الفأرة تقع في السَّمن-: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فأريقوه) . فكانت العصفورة في معنى الفأرة، والشحم الجامد في معنى السمن الجامد،
والشحم الذائب كالسَّمن الذائب، وكذلك الزيت والشَّيْرَج (1) . وكذلك قوله تعالى: (مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ) (2) . وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كنتُ نهيتُكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدَّافة، ألا فادَّخروا ما بدا لكم) . كل هذا من معنى اللفظ. وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسان فقال: "إنَّما القياس أن يقيس الرجل على أصل، فأما أن يجيء إلى أصل فيهدمه فلا". فحدَّ (3) القياس بما كان على أصل مستنبط. وكذلك قال في رواية الميموني: "سألت الشافعي عن القياس فقال: عند الضرورة، وأعجبه ذلك" [204/ب] . ومعنى قوله: "عند الضرورة". إذا لم يجد دليلاً غيره من كتاب أو سنة، والاحتجاج بالتنبيه يجوز مع وجود دليل غيره. وقال في رواية الميموني: "بر الوالدين واجب، ما لم يكن معصية، قال تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أف) . فاحتج على وجوب برهما بقوله: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أف) (4) فدل على أنه مستفاد من جهة اللفظ.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة (1) . وقال أصحاب الشافعي: ذلك مستفاد من جهة القياس، لكنه قياس جلي لا يحتاج إلى فكر وتأمل (2) . وهو اختيار أبي الحسن الجزري من أصحابنا. ذكره في جزء فيه مسائل
دليلنا:
الأصول، في موضعين منه، فقال: مفهوم النص هو القياس (1) . دليلنا: أن القياس ما يختص بفهمه أهل النظر والاستدلال، فيفتقرون في إثبات الحكم به إلى ضرب من النظر والاستدلال والتأمل بحال الفرع والأصل. فأما ما دل عليه فحوى الخطاب الذي ذكرناه، فإنه يستوي فيه العالم والعامي العاقل (2) الذي لم يَدْرِ ما القياس، فكيف يجوز إجراءُ اسم القياس عليه؟!. وأيضاً: فإن أهل اللغة لا يختلفون أن من نهي عن التأفيف لوالديه، عقل منه تحريم الشتم والضرب، كما أن من أمر بتعظيم زيد، عقل منه ترك الاستخفاف به. وكما أن من وُصِف (3) بالعجز عن حمل شىء يسير، عقل منه عجزه عن حمله ما هو فوقه. ومن، حمل نفسه على دفع ذلك لم يكن في حد من يُناظَر. وإذا كان هذا من اللفظ لم يجز إطلاق اسم القياس عليه. ولأن ذلك يضاف إلى الخطاب، فيقولون: مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه يدل على ثبوته نطقاً. ولأن ما ثبت باللفظ ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، ألا ترى أنه لو قال: اقتلوا أهل الذمة لأنهم كوافر، جاز قتل عبدة الأوثان بهذا اللفظ، وإن لم يتناولهم اللفظ من طريق الصيغة، لكن من طريق العلة والشَّبه، فكذلك هاهنا.
واحتج المخالف: أن الحكم المستفاد بالنص ما كان ثابتاً بالاسم واللفظ، وقوله: (فَلاَ تَقل لَّهُمَا أف) إنما تناول لفظه المنع من التأفيف، فأما المنع من الضرب، فلم يتناوله اللفظ، ولا استفيد منه، وإنما استفيد من (1) الاسم بمعنى، وهو أنه لما منع من التأفيف لأجل الأذى، وكان الأذى موجوداً في الضرب وزيادة، منع منه، فثبت أنه مستفاد بالقياس لا باللفظ. ويوضحه قول (2) النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ، لا يفهم أنه لا يقضي بينهما في حال الجوع والعطش، فإذا لم يكن هذا مستفاداً من اللفظ ولا [205/أ] معقولاً منه ثبت أنه مستفاد من معناه ومقيس (3) عليه. والجواب: أنه وإن لم يكن الضرب منصوصاً عليه، فقد بينّا أن اللفظ قد دل عليه، وأنه يقع في فهم السامع، كذلك تحريم الضرب والشتم، فثبت أن اللفظ دل عليه من مفهومه وفحواه. وإذا كان كذلك، لم يصح تسميته قياساً؛ لأن القياس يقتضي معنى آخر، وهو أنه يختص بعلمه أهلُ النظر، ويحتاج إلى تأمل الأصل والفرع، وهذا لا يحتاج إليه هاهنا. ولأنَّا قد بينَّا أن ما ثبت باللفظ، ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، كقوله: اقتلوا أهل الذمة لكونهم كوافر، جاز قتل عبدة الأوثان وإن لم تتناولهم صيغة اللفظ.
مسألة
مسألة [التعليل بالاسم] يجوز أن تجعل الأسماء عللاً للأحكام (1) ، سواء في ذلك الأسماء المشتقة، كقولك: قائم، وقاعد، وشاتم، وضارب. وأسماء الألقاب كقولك: زيد، وعمرو، وحمار، وحائط، وماء، وتراب. وقد نصَّ عليها أحمد -رحمه الله- فقال في رواية الميموني: "يجوز التوضؤ بماء الباقلاء والحمص؛ لأنه ماء، إنما أضفته إلى شىء لم يفسده" (2) . فقاس الماء المضاف على المطلق، وهو اسم علم ولقب. وقال أيضاً في رواية الميموني في نصراني محصَن أسلم ثم زنا بعد إسلامه: "يرجم بذلك الإحصان، لأنه زانٍ، ارجمُه بإحصانه" (3) . فعلَّق الحكم بالزنا والإحصان، وهو اسم مشتق. وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني (4) .
دليلنا:
وأصحاب الشافعي فيما حكاه الإسفراييني (1) . وحُكي عن قوم أنه لا يصح أن يكون الاسم علة، لقباً كان أو مشتقاً (2) ، وإنما تصح العلة إذا كانت صفة، مثل قولنا: شدة مطربة، ومطعوم جنس، وولادة، وتعصيب، وقرابة، وما أشبه ذلك. أو تكون حكماً، مثل قولنا: [طهارة] (3) وكفارة، ونحو ذلك. ومنهم من قال: يصح أن يكون الاسم المشتق علة، ولا يصح أن يكون اللَّقب علة (4) . دليلنا: أن ما جاز أن يرد به الشرع نطقاً؛ جاز أن يكون مستنبطاً، كالصفة
والحكم، ولا خلاف أنه لا يمتنع أن يجعل صاحبُ الشريعة الاسم علةً على الحكم وأمارةً عليه، كما يجعل الصفة والحكم علة، فيقول: حرمتُ الخمر؛ لأنها مسماة خمراً. وإن شئت قلت: ما جاز أن يكون منصوصاً عليه، جاز أن يكون مجتهداً فيه، إذ ما جاز إظهاره جاز إضماره، أو ما جاز إبداؤه جاز إخفاؤه، أو ما جاز إطلاعه جاز إبداعه. وأيضاً: فإن ما دل على صحة العلة، فإنه يدل على أنه يصح أن يكون الاسم علة، وهو التأثير، وشهادة الأصول. وإذا دل على صحة ذلك، جاز أن يكون علة، كالصفة والحكم [205/ب] . ولأن علل الشرع علامات على الحكم، والأسامي علامات لتمييز الأعيان، بل الاسم قد يكون أدل على تعريفه من صفة من صفاته. فإذا جاز تعلق الحكم بالصفة، جاز ذلك بالاسم أولى. واحتج المخالف: بأن الأسامى لا تكون عللاً في العقليات، كذلك في الشرعيات. والجواب: أن علل العقل موجبة، والأسامي ... (1) أن لا يطلق (2) عليه أهل اللغة فخرج الاسم عن أن يكون علة (3) . واحتج بأن الاسم سبق الحكم؛ لأن هذه الأسماء كانت موجودة قبل الحكم. فلو قلنا: تكون علة للحكم، لسبقت العلةُ الحكمَ. والجواب: أنه باطل بالصفة، فإنها سابقة للحكم؛ لأن الأشياء كانت مأكولة مكيلة قبل ثبوت الربا، ومع هذا فهي علل، وإنما لا يصح أن تتأخر
العلة عن الحكم. فإذا قال: لأنه مختلف في (1) ، سبق الحكم العلة، فلا يصح. فأما أن تسبق العلةُ الحكمَ، فلا يمتنع، وإنما لم يوجد الحكم بوجودها قبل الحكم، لأنها علل مجعولة، فلما جاز الحكم، وجعلت علة، ثبتت علة له. واحتج: بأن العلة إنما تصح من أحد وجهين؛ إما بالسبر والاستنباط، كالمطعوم والمأكول، أو بأن ينبه صاحب الشرع عليها، كقوله: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبس) ؟ (وإنما فعلتُ ذلك لأجل الدَّافَة) . فأَما بالاسم فلا يصح؛ لأن حكم الاسم ثابت بالنص، ومعروف به. فقوله: إنما حرمت البُر متفاضلاً، ثابت بالنص. والجواب: أن الاسم الذي نقول إنه علة: ما ثبت بالسَّبْر والاستنباط والخبر، وأَثَّر، وشهدت له الأصول. فإن قولنا: "بول الآدمي نجس" اختبرناه، فوجدناه يؤثر، فألحقنا به بول كل حيوان لا يؤكل لحمه. ولو قلنا: "بول مالا يؤكل لحمه نجس"، لم يكن هذا علة؛ لأنه عرف حكمها بالنص. وإنما الخلاف في الاسم المختبَر، الذي عرض على الأصول، فلم ترده. ألا ترى أنه لو قال: "الخارج من السبيلين نجس"، كان باطلاً بالمني. فإذا قال: بول، لم يبطل بشىء، وهو خارج من مخرج الحدث. واحتج: بأن الاسم إذا كان مشتقاً، كان تحته معنى، فإن قوله: قاتل، معناه: أنه قَتَل، فإذا صح أن يعلق الحكم على معناه كذلك صح أن يعلق به. ويفارق هذا إذا كان الاسم علماً ولقباً؛ لأنه لا يشتمل على معنى، فلهذا
لم يكن علة. والجواب: أنه كذلك، لكن الحكم ما علق بالمعنى الذي تضمنه، وإنما علق بنفس الاسم. فإذا صح تعليقه بالاسم الذي يتضمن معنى، فتكون العلة الاسم دون معناه، كذلك جاز [206/أ] أن يكون اللقب علة للحكم، وإن لم يكن متضمناً للمعنى. فإذا تقرر هذا، فكل معنى من معاني الأصل، أو صفة، مثل قولنا: شدة مطربة، وطعم في جنس (1) ، وولادة، وتعصيب، وقرابة، وما أشبه ذلك. أو حكماً شرعياً، مثل قولنا: طهارة، وكفارة، ومن وجب في ماله زكاة الفطر، وجبت زكاة المال، أو من وجب العشر في ماله، وجب نصف العشر، ومن صح طلاقه، صح ظهاره، وما أشبه ذلك. ولا فرق بين أن يكون بلفظ الإثبات، مثل قولنا: طهارة من حدث، فوجب أن يكون في شرطها النية، وما افتقر بدلُه إلى النية، افتقر مبدلُه إلى النية، كالعتق في الكفارات، وفيه شدة مطربة، فكان حراماً كالخمر، ومن صح طلاقه صح ظهاره، وما أشبه ذلك. أو كان بلفظ النفي، مثل قولنا: ليس بماء، ولا يقع عليه اسم الماء المطلق، فلا يجوز أن يتوضأ به، كسائر الأنبذة، وليس بتراب، ولا يقع عليه اسم التراب، فلا يجوز التيمم به، قياساً على الدريرة (2) والخَزَف المدقوق، والسِّدْر،
والخَطْمِيّ (1) والأشنان المطحون (2) . وقد نصَّ أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية الميموني: "لا يتوضأ بماء الورد (3) ، هذا ليس بماء، وإنما يخرج من الورد". وقال في رواية الميموني: "السِّهْلاة والرماد ليس بصعيد، ويتيمم، ويصلي، ويعيد" (4) . فقد جعل النفي علة، وعلَّق الحكم عليه. وكذلك قال في رواية أبي الحارث: "ليس في العنبر واللؤلؤ والمسك شىء، فإنه ليس بركاز ولا معدن" (5) . وكذلك ما لا تجب الزكاة في ذكوره، لا تجب في إناثه، كالبغال والحمير.
مسألة
ويجوز أن يجعل نفي الحكم علة لثبوت حكم آخر، وثبوت حكم علة لنفي حكم آخر، فيوجد الإِثبات من النفي، والنفي من الإِثبات. ويجوز أن يكون الإِثبات في حالة علةَ النفي في حالة أخرى، كقولنا: معنى: يفطر الصائم إذا تعمده، فلا يفطره إذا كان مغلوباً عليه، ولم يتعلق به كفارة، كالقيء (1) . والأصل في ذلك، ما ذكرناه من أن ما جاز أن يرد الشرع به نطقاً، جاز أن يكون مستنبطاً. ولأن ما دل الدليل على أنه أمارة من طريق الباري وشهادة الأصول، وجب أن يحكم بصحته. ولأن ما كان عقلياً فجائز أن يجعله علة بلفظ النفي، كذلك الشرعي. مسألة [إثبات الأسماء بالقياس] يجوز إثبات الأسماء بالقياس (2) ، فنسمي النبيذ خمراً، قياساً على الخمر، ونسمي النبّاش سارقاً، قياساً على السارق، ونسمي اللوطي زانياً، قياساً على الزاني. أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم، وقد ذكر له حديث: (الخمر ما خامر العقل) (3) "أي شىء يعني به؟ قال: ما غيَّر العقل.
دليلنا:
قيل له [206/ب] : كل نبيذ غيَّر العقل فهو خمر؟ قال: نعم" (1) . وبهذا قال أصحاب الشافعي (2) . وقال أصحاب أبي حنيفة (3) ، وأكثر المتكلمين: (4) لا يثبت. دليلنا: قوله تعالى: (فَاعْتَبرُوا يَا أوْلِى اْلأَبْصَارِ) (5) والاعتبار رد الشىء إلى نظيره،
بضرب من الشبه. ومنه قيل: اعتبر الدراهم. معناه: اجعل الصَّنْجَة في كفة، والدراهم في كفة أخرى. وقولهم: اعتبر (1) السلطان الخراج على غيره، عام أول. وإذا كان هذا هو الاعتبار في إثبات الأحكام، كذلك في إثبات الأسماء. وأيضاً: فإن أهل اللغة قد استعملوا القياس في الأسماء عند وجود معنى المسمى في غيره، وأجروا على الشىء اسم الشىء، إذا وجد بعض معناه فيه، فسموا الرجل البليد حماراً، لوجود البَلَه فيه. ويقولون للرجل الشجاع: سَبُعاً: لوجود الشدة فيه. ونظائر ذلك. وعلى هذا ما روي عن عمر أنه قال: (الخمر ما خامر العقل) (2) . وعن ابن عباس أنه قال: ( [كل] (3) مُخَمَّر خمر، وكل خمر حرام) (4) . فإن قيل: هذه التسمية منهم مجاز. قيل: قد ثبت عنهم أنهم فعلوا ذلك، فلا يضر أن يكون أحد الاسمين مجازاً، والآخر حقيقة.
على أنهم إنما سموا الأبْلَه حماراً مجازاً، لوجود بعض معانيه، فلما لم توجد فيه كل معانيه كان مجازاً. وأما النبيذ، فتوجد فيه معاني الخمر كلها. وكذلك اللواط، توجد فيه معاني الزنا كلها. وكذلك النَّبَّاش (1) . فلهذا كان حقيقة. فإن قيل: فالعرب قد منعت أن يسمى النبيذ خمراً. ومنه قول [أبي] الأسود (2) : فإن لا يَكُنْهَا أو تَكُنْهُ فإنَه ... أخوها غَذتْه أمُّه بلِبَانِها (3) يعنى إن لم يكن النبيذ هو الخمر أو الخمر هو النبيذ، فإن النبيذ أخوها، فنفى أن يكون النبيذ خمراً، وأثبت أنه أخوها. قيل: هذا حجة لنا، لأن الشاعر توقف فيما ذكره، فلم يعلم هل النبيذ خمر أم لا؟ فلما أشكل عليه الأمر قال: فإن لم يكن النبيذ خمراً، فإنه أخوها.
فبطل أن يكون مانعاً من الاسم. ولأنهم سموا أعياناً شاهدوها إنساناً، وفرساً، وأسداً، وغير ذلك من الأعيان المسماة بأسمائها، وقالوا: قائم، وقاعد، وآكل، وشارب، وواهب، وضارب، وحاضر، وغائب، ثم انقرضت تلك الأعيان وانقرض الذين (1) . وضعوا الأسماء، وحدثت أمثالها من الأعيان، فاتفق الناس على تسميتها بأسمائها. ولا يجوز أن يكون ذلك إلا بالقياس عليها، لوجود معانيها فيها. فإن قيل: إنما وضعوا هذه [207/أ] الأسماء لها، ولما يولد منها من أمثالها. ونعلم ذلك ضرورة. قيل: هذا لم يسمع منهم، ولم ينقل عنهم أنهم نطقوا به، فلم يكن طريق تسمية الأعيان الحادثة (2) ، إلا من طريق القياس. ولا تصح دعوى العلم به ضرورة؛ لأنه لو كان كذلك، لشاركناهم في العلم به. ولما لم نعلم ذلك ضرورة، بطل ما قالوه. وأيضاً: فإن كل فاعل مرفوع، وكل مفعول منصوب. ولم يسمع ذلك من أهل اللغة. وإنما استدلوا باستقراء كلامهم ومخارجه على قصدهم، أنهم قصدوا بالنصب كونه مفعولاً، وبالرفع كونه فاعلاً، وقاسوا ذلك على كل فاعل مفعول، لم يسمع من العرب النطق به..0 وكذلك صغَّروا الاسم الذي بُني على ثلاثة أحرف، فقالوا (3) : فُعَيْل، مثل: جُمَيْل، وعُدَيْل، وما أشبه ذلك. وأجمعوا على أن كل اسم بُني على ثلاثة أحرف لم ينطقوا به، يكون تصغيره
هكذا، قياساً على المسموع منه. فدل على جواز القياس. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ اْلأسْمَاءَ كُلَّهَا) (1) . فلم يبق اسم يثبت بالقياس. والجواب: أنه ليس فيه أنه علمه جميع ذلك نصاً. بل يجوز أن يكون علم البعض نصاً، والبعض استنباطاً وقياساً. وعلى أن الآية اقتضت أنه علم آدم الأسماء كلها، وليس فيها أنه علمنا ذلك. ونحن إنما نثبت الأسماء قياساً فيما بيننا. ويجوز أن يكون آدم عرف ذلك نصاً، وعرفناه قياساً. واحتج: بأن ما من شىء إلا وله في اللغة اسم، فلا يجوز أن يثبت له اسم آخر من ناحية القياس، فيكون الاسمان مختلفين. كما لا يجوز أن يثبت للشىء حكم بتوقيف، وحكم آخر بالقياس. والجواب: أنه ليس يمتنع أن يكون للشىء الواحد اسمان مختلفان، أحدهما ثابت بالنص، والآخر ثابت بالقياس، فإنه لا منافاة في ذلك، ولا تضاد. ولا يشبه هذا الأحكام؛ لأن الشىء الواحد لا يجوز أن يكون له حكمان متضادان. فلم يجز أن يجعل له حكم آخر بالقياس، وله حكم آخر يخالفه، ثابت بالنص؛ لأن في ذلك نصاً. ْألا ترى أنه يجوز للشىء الواحد أسماء مختلفة، كلها ثابتة بالتوقيف، كالسيف، والخمر، وغير ذلك، ولا يجوز أن يكون للشىء الواحد أحكام مختلفة ثابتة من جهة التوقيف والنص. واحتج: بأنه لمَّا لم يجز إثبات الاسم الَّلقب قياساً، كذلك الاسم المشتق.
والجواب: أن الاسم اللقب ليس له معنى يوجد في غيره حتى يلحق به ويجري عليه اسمه، والاسم المشتق له معنى، ويوجد في غيره، فجاز إجراء اسمه عليه. واحتج: بأن القياس [207/ب] لا يثبت في اللغة إلا بأن يثبت أن أهل اللغة وضعوها على المعاني، وأذنوا في القياس فيها. ولم يثبت واحد منها عنهم، فلم يصح القياس. والجواب: إن لم يثبت ذلك فيه، لم يصح القياس. وإنما يصح فيما ثبت أنهم وضعوه على الشىء. وهذا كما نقول في الشرع: إن ما ثبت له موضوع على المعنى يوجب القياس عليه. فإن قيل: بأي طريق تثبت أنهم وضعوه على المعنى؟ قيل: يعلم ذلك باستقراء كلامهم والاستدلال على مقاصدهم بمخارج كلامهم، فإذا قيل رأينا الاسم أو الإعراب تابعاً لمعنى على استقرار واطراد، استدللنا على أنهم جعلوه تابعاً له ومتعلقاً به، كما يستدل على قصد صاحب الشريعة بمثل ذلك. وقد حُكي عن سيبويه أنه قال: استقرأنا كلامهم، فوجدناهم يرفعون كل فاعل، وينصبون كل مفعول. فدل ذلك على أنهم اعتبروا هذين المعنيين. وإذا وجدناهم يقولون: فاعِل من فَعَل، ومنفَعِل من أفعَل. ويُصيِّرون الاسم الثلاثي "تفعيل"، على استقرار، من غير مخالفة، دلنا ذلك على قصدهم. وكذلك إذا سموا عصير العنب إذا وجدت فيه الشدة خمراً. وإذا زالت لم يسموها خمراً، وإن عادت الشدة المطربة في سموها بتلك، دلنا على أنهم جعلوا الاسم تابعاً لهذا المعنى، وسمينا النبيذ خمراً لوجوده. وقولهم: "إنهم لم يأذنوا في القياس، على ما وضعوه على المعنى" فهو أن وضعهم على المعنى إذن في القياس، لأنه لا فرق عندنا بين أن يقولوا:
سميناه خمراً للشدة المطربة، وبين أن يقولوا: كل شديد مطرب خمر، وأحد اللفظين قائم مقام الآخر. ولأنه لو قال: سميناه خمراً لما فيه من الشدة الطربة، صارت الشدة المطربة علامة ودلالة على كونه خمراً. فكل موضع وجدت هذه الدلالة، يجب أن يتبعها الاسم. ولأن تسميتهم لجميع ما حدث من الأعيان بأسامي أمثالها، دلالة على أن القياس مأذون فيها. واحتج: بأنهم لم يضعوها على القياس؛ لأنهم سموا الفرس الأبيض: أشهب، ولا يسمون الحمار الأبيض: أشهب. وسموا الفرس الأسود: أدهم، ولا يسمون الحمار الأسود: أدهم، فقد شاركه في معناه. وكذلك الحموضة، إذا كانت في عصير العنب سموه خلاً، وإذا وجدت في اللبن وغيره لم يسموه خلاً. وقالوا للفرس: أبلَق، لاجتماع اللَّونين، والآدمي أبيض، وللغراب أبْقَع، وللجِلد مُلَمَّعاً. والجواب: أنهم اعتبروا الجنس مع الصفة في ذلك. فكانت العلة ذات وصفين، ولم يمكن القياس عليه؛ لعدم أحد الوصفين، وهو الجنس [208/أ] فتكون العلة واحدة. واحتج أبو سفيان (1) : بأن الأسماء اللغوية طريقها اصطلاح أهل اللغة عليها. ألا ترى أن إنساناً لو سمى الماء خبزاً، والخبز ماءً، والفرس حائطاً، والحائط فرساً، لم يصر ذلك اسماً لما سماه في اللغة، بل كان منسوباً إلى الهذيان،
مسألة
ومتجاهلاً عند أهل اللسان. فلم يكن للقياس حظ في إثبات الأسماء اللغوية. والجواب: أنه إنما لم يجز القياس هاهنا؛ لأنه يخالف نص اللغة، فلهذا لم يجز. كما لم يجز القياس إذا خالف نص الكتاب والسنة. وليس كذلك فيما اختلفنا فيه؛ لأن قياس اللغة يقتضيه فجاز، كما جاز في الشرع. واحتج الجرجاني: بأن الأخفش قال: الأسماء توجد توقيفاً، وهم ينقلون هذا عن أهل اللغة. والجواب: أن هذا يعارضه ما حكينا عن أهل اللغة من حمل الاسم على غيره إذا وجد فيه معناه اعتبر ذلك. مسألة [ضوابط رد الفرع إلى الأصل] لا يجوز رد الفرع إلى الأصل حتى تجمعهما علة معينة تقتضي إلحاقه به (1) . وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] (2) الحسين بن حسان: "إنما يقاس الشىء على الشىء، إذا كان مثله في كل أحواله. فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فلا" (3) .
وحُكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه لا تعتبر في ذلك علة معينة. ويجوز الاقتصار على ضرْب من الشبه (1) .
دليلنا:
دليلنا: قوله تعالى: (مِنْ أجلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسْرَائِيْلَ) (1) . وقال: (كَي لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اْلأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (2) . وقال في تحريم الخمر (وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ) (3) . فنصَّ على علة الحكم في ذلك. وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما منعتُكم من أجْلِ الدَّافَّة) . وقال: (إنَّما جُعِل الاستئذانُ مِن أجْلِ البصَر) . فنصَّ على العلة. وقال في بيع الرطب بالتمر: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذا) . وقال لابن مسعود حين أتاه بحجرين ورَوْثة، فأخذهما وألقى الرَّوْثة وقال: (إنَها رِجْس) (4) .
فإن قيل: فلسنا نمنع المنصوص عليها. قيل: إذا ثبت أن الله تعالى ورسوله نصَّا على العلة، وعلقا الحكم بها، ثبت أن استنباطها، وتعليق الحكم بها شرط.
وأيضاً: فإنه لو لم يفتقر الجمع بينهما إلى معنى معين يجمع بينهما، لما افتقر إلى تفكر، وتأمل، واجتهاد؛ لأن العامي والعالِم يشتركان في رد الفرع إلى الأصل. ولأنه لا خلاف أنه لايجمع بينهما بغير شَبَه. وإذا لم يكن بد من الشَّبه بينهما، فهو الذي نقوله، فزال الخلاف. واحتج المخالف: بأن الصحابة ما اعتبرت في إيجاب الفرع بالأصل علة معينة، وإنما اعتبرنا مجرد [208/ب] الشبه. فقال أبو بكر: (أقولُ في الكَلالَةِ برأيي) . ولم يذكر معنى. وقال عمر: (هذا ما أرَى الله عمر) (1) . وكتَب إلى أبي موسى الأشعري: (قِس الأمورَ بعضَها ببعض) . ولم ينص له على معنى.
والجواب: أنهم قد نصُّوا على علة معينة، وصرحوا بذلك. منه: قول عمر لأبي بكر: (رضيك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا) (1) . ولما استشار عمر الصحابة في حد الشارب، قال علي: (إنه إذا شرب سكِر، وإذا سكِر هذى، وإذا هذى افترى، وحده حد المفتري) (2) .
وقال عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب في التي أرسل إليها عمر، وقد ذكرت عنده بسوء، فأجهضت ذا بطِنها، (إنما أنت مؤدبٌ، ولا شىء عليْك) . وقال علي: (إن اجتهدوا (1) فقد أخطأوا، وإن عمدوا فقد غشوك، عليك الدية) .
مسألة
فعبد الرحمن قال: (إنَّما أنت مؤدِّبٌ) ، فرفع الضمان عنه لهذه العلة. والقصص في هذا كثيرة. فثبت أنهم أجمعوا على اعتبار العلة. مسألة [القياس على ما ثبت بالقياس] ما ثبت بالقياس، يجوز القياس عليه (1) ، مثل حمل الذُّرة على الأرز.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث: "لا بأس بدفع الثوب إلى من يعمله بالثلث والربع، كالمزارعة" (1) . وقال في رواية المروذي: "لا يجوز بيع أرض السواد، ويجوز شراؤها كالمصاحف" (2) .
دليلنا:
فقد قاس الفرع على أصل مختلف فيه. وهو قول الرازي (1) والجرجاني من أصحاب أبي حنيفة. وقول أصحاب الشافعي. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز القياس إلا أن يثبت حكم الأصل بدليل مقطوع عليه من كتاب أو سنة أو إجماع. وقال الكرخي: لا يجوز حمل الذُّرة على الأرز، ويكون حملهما جميعاً على البُر أولى، وليس أن يحمل أحدهما على الآخر بأولى من حمل الآخر عليه لتساويهما في أن حكمهما يعرف من جهة واحدة (2) . دليلنا: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي اْلأَبصَارِ) (3) . وهذا عام في جميع الأصول. ولأن عمر قال لأَبي بكر: (رضيك رسولُ الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا) ، فاعتبر المعنى.
ولأن الحكم ثبت ابتداء في الشرع بدليل مقطوع عليه، ودليل غير مقطوع [عليه] ، وطريقه غلبة الظن، وهو خبر الواحد، في أن استعمال القياس في الموضع المقطوع عليه، وفيما طريقه غلبة الظن. ولأن العلة تصير علة؛ لقيام الدلالة على صحتها، لا لوجودها في أصل متفق عليه، بدلالة أن ما دل على صحتها لا يفرق بين عين دون عين، وإذا اعتبرت العلة، فلا فرق بين حمل فرع على نظيره، وبين اعتبارهما جميعاً [209/أ] ؛ لأن ما ثبت بدليل، يجوز أن يجعل أصلاً، يرُد إليه غيرُه، وإن لم يكن ثابتاً بالاتفاق. وقول الكرخي: إنهما تساويا في أن حكمهما يعرف من جهة واحدة، فهو صحيح. وله أن يقيس كل واحد على صاحبه، كالأمرين إذا تساويا، فتساويهما لا يوجب سقوطهما، وإنما يخير المجتهد فيهما. فصل [عدم اشتراط الاتفاق على تعليل الأصل] ويجوز القياس على أصل بعلة، وإن لم يتفق على تعليله (1) ، مثل قياس النبيذ على الخمر لعلة وجود الشدة المطربة (2) . فإن أبا حنيفة يمنع من أن تكون الخمر معللة (3) ، ويقيس غير المأكول عليه
فِي الربا (1) . وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في المسألة التي قبلها. خلافاً لما حُكي عن بِشْر بن غِياث في قوله: "إذا لم يكن الأصل منصوصاً عليه، أو مجمعاً على تعليله، لم يجز قياس الفرع عليه" (2) .
دليلنا:
دليلنا: ما تقدم في التي قبلها من قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُو يَا أولِي اْلأبصَارِ) (1) ، وهذا عام في جميع الأصول. ولأن طريق إثبات العلل، دلالة الأصول عليها، وقد توجد دلالتها في تعليل أصل مجمع عليه، كما تدل على تعليله، مع الخلاف، فوجب اعتبار دلالة الأصول عليها. ولأنه لما أمكن استخراج المعنى فيه، ورد الفرع إليه، لم يعتبر بالاتفاق فيه، كخبر
الواحد، متى أمكن أن يستفاد منه حكم، حمل عليه، وإن لم يتفق على قبوله. واحتج المخالف: بأن الأصول، لما كان فيها ما هو معلل، وفيها ما ليس بمعلل، وجب أن يكون طريق (1) التفريق بينهما الإجماع الدال عليه، إذا لم يكن طريق إليه (2) غير ذلك. والجواب: أن الأصل هو تعليل الأصول. وإنما تَرْكُ تعليلها نادر، فصار الأصل هو العام الظاهر، دون غيره (3) . واحتج: بأنه لما لم يجز القياس على الصلوات الخمس؛ لكونها غير متفق على تعليلها وعدم ورود النص بذلك فيها، كذلك كل ما هذه حاله. والجواب: أن الصلوات إنما لم يجز القياس عليها، لحصول الإجماع على أن ذلك لا يجوز. وقد عدم هذا المعنى في غيرها، فلم يجز أن يكون بمثابتها. فصل [جواز القياس فيما لم ينص على حكمه] ويجوز القياس فيما لم ينص على حكمه، مثل قياسنا على تشبيهه بظهر الأم في أنه ظهار (4) .
دليلنا
خلافاً لبعض المتكلمين (1) أن القياس لا يجوز إلا فيما نص على حكمه في الجملة، وقال: لو لم ينص الله تعالى على ميراث الأخ في الجملة، لم أجوز إثبات مشاركته مع الجد بالمقايسة، ويكون حظ القياس في الإبانة عن تفصيله، والكشف عن موضعه (2) . دليلنا [209/ب] : أن القياس لما كان طريقاً إلى معرفة الأحكام بخبر الواحد، لم يعتبر أن يكون الحكم الذي ثبت في أحدهما منصوصاً عليه في الجملة، كما لا يعتبر في الآخر. ولأن الصحابة قد تكلمت في مسائل من جهة القياس، وإن لم يكن منصوصاً عليها في الجملة. واستدل عمر على إمامة أبي بكر بضرب من الاستدلال (3) ، وإن لم يكن
مسألة
ذلك منصوصاً عليه، كذلك هاهنا. وكذلك تكلموا في مسألة الحرام (1) ، والبَتَّة، والخَلِيَّة، والبَرِيّة (2) ، والتسوية والتفاضل في العطاء (3) . مسألة [كل مقيس كل الأصل النصوص على علته مراد بالنص] جميع ما يحكم به من جهة القياس على أصل منصوص عليه، فهو مراد بالنص الذي أوجب الحكم في الأصل (4) .
دليلنا:
خلافاً لبعض المتكلمين في قولهم: لا يصح أن يحكم في جميع ذلك أنه مراد بالنص (1) . دليلنا: أن ما يحكم به المجتهد من طريق الاجتهاد مراد منه، إذ لو لم يكن كذلك، لم يكن مطيعاً لله تعالى فيه. ولا خلاف أنه مطيع لله تعالى فيما يحكم به مما يؤديه اجتهاده إليه. فإذا كان كذلك، وكان الحكم في الأصل المنصوص عليه مراداً (2) بالنص، وجب أن يكون الحكم في الفرع مثله. فإن قيل: فهذه العلة بعينها موجودة فيما يحكم به من طريق القياس على أصل غير منصوص عليه؛ لأن المجتهد مطيع لله تعالى فيه، ومع ذلك فلا يحكم
بأن ما حكم به مراد بالنص، كذلك هاهنا. قيل: إنما وجب ذلك فيما ذكرت؛ لأنه لا نص (1) هنا يوجب الحكم في الأصل، وإنما أوجب الحكم فيه بالإجماع، أو ما يجري مجراه من الأدلة، مثل فحوى الخطاب كقوله عليه السلام في السَّمن الذي ماتت فيه الفأرة: (إن كان جامداً، فألقوها وما حولها، وإن كان معائعاً، فأهريقوه) ، وليست هذه سبيل الأصل المنصوص عليه، لأن الحكم إنما وجب فيه بالنص الوارد به. يبين صحة ذلك، أن الحكم المجمع عليه، إذا كان له ذكر في الكتاب أو في السنة، صار الإِجماع صادراً عن ذلك النص، وإن كان لو لم يكن له ذكر فيهما لم يكن الإجماع صادراً عن نص، كذلك القياس، إذا كان على أصل منصوص عليه، صار الحكم الذي حكم به من طريق القياس، مراداً بذلك النص. وإن لم يجب أن يكون مراداً بالنص، لو لم يكن الأصل منصوصاً عليه. واحتج المخالف: بأنه لما لم يجز أن يراد بالعبادة الواحدة، معنيين مختلفين في حالة واحدة، وكان الحكم المحكوم به من طريق القياس مخالفاً في المعنى لحكم الأصل [210/أ] المنصوص عليه، كقياس الجص على البُر، والزعفران والقطن على الذهب والفضة، لم يجز أن يحكم بأنه مراد بالنص الموجب لحكم الأصل. والجواب: أن المعنيين إذا كانا مختلفين، جعل النص كأن الله تعالى أمر به في وقتين، فأراد به أحد المعنيين في وقت، والمعنى الآخر في الوقت الآخر. كما قلنا في آية الصلاة: أنه أريد بها الفرض والنافلة، فقدرناها على هذا الوجه.
مسألة
مسألة [طريق الإلحاق بالعلة المنصوص عليها] إذا ورد النص بحكم شرعي معللاً، وجب الحكم في غير المنصوص عليه، إذا وجدت فيه العلة المذكورة في النص سواء ورد النص بذلك قبل ثبوت حكيم القياس أو بعد ثبوته، مثل قوله: حرم الخمر لحموضته، وأبحتُ السكَر لحلاوته (1) . وإلى هذا أومأ أحمد -رحمه الله- في رواية الميموني فقال: "إذا كانت الثمرة واحدة فلا يجوز رطب بيابس" واحتج بالرطب بالتمر لحديث النبي (2) . فجعل أحمد -رحمه الله- العلة عامة في جميع ما توجد فيه تلك العلة. وبهذا قال إبراهيم بن سيَّار (3)
[و] القاشاني (1) ، والنَّهْرِيُّون (2) .
قال أبو سفيان: وإلى هذا كان يشير شيخنا أبو بكر، يعني الرازي في احتجاجه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما هو دمُ عِرْق، وليست الحيضة، فتوضَّئي لكل صلاة) في إيجاب الوضوء من الرُّعاف ونحوه. ويجعله بمنزلة أمر النبي عليه السلام بالوضوء من كل دم عِرْق (1) . وكان يحكيه عن الكرخي (2) . ولم يفرق بين ورود النص بذلك قبل ثبوت حكم القياس، أو بعد ثبوته. وقال أبو سفيان: وذهب بعض شيوخنا (3) إلى أنه لا يجب أن يحكم فيما وُجِدت فيه تلك العلة بحكم المنصوص عليه، قبل ثبوت حكم القياس. واختار أبو سفيان ذلك (4) .
دليلنا:
هو قول جعفر بن حرب، وجعفر بن مُبَشِّر (1) . واختلف أصحاب الشافعي. فمنهم من قال مثل قولنا. ومنهم من قال: لا يجب الحكم بذلك فيما وجدت فيه تلك العلة. وهو اختيار الاسفراييني (2) . دليلنا: ان النص معلل، فوجب الحكم في غير المنصوص عليه إذا وجدت علته. أصله: إذا ورد النص بعد ثبوت حكم القياس. ولا يلزم عليه قوله تعالى: (إِنَ الصلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ... ) (3) . ولم يكن النص موجباً لحمل غيرها عليها مما ينهى (4) ؛ لأننا لو تُرِكْنا وظاهر هذه الآية لقلنا: أي موضع وُجِدت هذه العلة، تعلق الحكم بها، لكن منع منه [210/ب] الدليل في الموضع الذي لا يجب. فإن قيل: إنما وجب الحمل هناك لأجل أنه أمر بالقياس، فإذا نص على العلة، وجب القياس عليها، وهذا معدوم قبل ورود التعبد بالقياس.
قيل: لو كان الحمل هناك، كما ذكرت، لوجب أن يختص التعدي هناك بهذه العلة، ولجاز أن يتعدى الحكم إلى غير السُّكَّر بعلة هو غير الحلاوة؛ لأن الأمر بالقياس يعم هذه العلة وغيرها. ولما قالوا بأن التعدي يحصل بهذه العلة، دل على أن التعدي كان لأجلها، لا لأجل الأمر بالقياس. وأيضاً: فإن قوله: "حرَّمتُ السُّكر" قد أفاد الحكم [و] قوله بعد هذا: "لأنه حلو" إنما ذكره (1) لفائدة، وليس فائدته إلا القياس عليها. فلو قلنا: لا يقاس عليها بطلت فائدتها، وهذا لايجوز. فإن قيل: فائدتها بيان العلة التي ثبت الحكم لأجلها، ولو لم يذكر العلة لكان يكون الحكم ثابتاً بغير علة. قيل: لو كان التعليل لا يفيد إلا إفادة النص أو الإِجماع، كان وجوده كعدمه، لا يفيد فائدة، فوجب تعديته لتحصل الفائدة. فإن قيل: فائدته (2) عِلْمُنا بالوجه الذي لأجله صار الفعل مصلحة للمكلف، وإن لم يجب حمل غيره عليه إذا شاركه في العلة. قيل: فلا فائدة في معرفة ذلك إذا لم يتعد إلى غيره؛ لأنا قد استفدنا الحكم بالنص، وإنما يستفيد المكلف معرفة الوجه بالمصلحة ليعمل عليه، فإذا كان مقصوراً لم يفد؛ لأن ذلك مستفاد بالنص، وهذه طريقة أجود شىء في المسألة. وأيضاً: فإن العلة وضعت للحكم تنبيهاً على غيره من الأحكام، كالنهي عن الأدنى، تنبيهاً على المنع من الأعلى، نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أف) (3) ، كان فيه تنبيه على المنع من الضرب، ونحو ما يجب أن يكون ذكر العلة ها هنا تنبيهاً على نظيره قبل ورود التعبد بالقياس وبعده، كما قلنا ذلك
في لفظ التنبيه. فإن قيل: لا نسلم أن العلة وضعت للتنبيه على غيرها من الأحكام. قيل: لا خلاف أنها بعد ورود التعبد بالقياس [تكون] تنبيهاً على غيرها، فيجب أن تكون قبله تنبيهاً كالتنبيه باللفظ. فإن قيل: إنما كان النهي عن التأفيف موجباً لما ذكرت؛ لأن هذه اللفظة موضوعة في اللغة لذلك، فليست هذه حال التعليل؛ لأن تعليل الحكم غير موضوع في اللغة يحمل غيره عليه. قيل: بل هو موضوع يحمل غيره عليه بدليل بعد ورود التعبد بالقياس. واحتج [211/أ] المخالف: بأن هذه الشرعيات، إنما حَسُن التعبد بها، لما فيه من المصلحة الداعية، وقد بيَّن الله تعالى ونبَّه على ذلك بقوله: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) . فإذا كان كذلك، وكان ما يدعو إلى فعل الشىء قد لا يدعو إلى فعل أمثاله، بدلالة أن العاقل إذا أكل شيئاً لأنه حلو، لم يأكل جميع ما يشاركه في الحلاوة في تلك الساعة. فلا يمنع أيضاً أن يكون الحكم المنصوص عليه مصلحة للمكلف، ولا يكون ما شاركه في تلك العلة مصلحة له. والجواب: أن حُسْن التعبد لا يقف عندنا على ما فيه وقد بيَّنا ذلك فيما تقدم. وعلى أن العلة هاهنا موجودة ممن هو عالم بالمصالح، فوجب تقديمها لوجود المصلحة فيها. واحتج: بأن مجرد الوصف لا يدل على شىء. ألا ترى أن الحلاوة كانت موجودة في السكَّر قبل (1) أن ينص على تحريمه، ولم تكن دلالة على التحريم.
فلما نص على تحريمه، وذكر العلة، فقد ذكر علة خاصة تقتضي ثبوت الحكم في الأصل المذكور وتعلقه به. وقد تكون العلة خاصة فيه، وقد تكون علة فيه وفي غيره، فلم يكفِ مجرد ذكرها في وجوب رد غيرها إليها، بل احتيج في ذلك إلى دليل. والجواب: أن هذا باطل بجميع العلل الشرعية، فإن أوصافها كانت موجودة قبل التعبد بالقياس، ولا يتعلق بها حكم، وبعد التعبد بالقياس تعلق بها الحكم، كذلك هاهنا لما ورد النص بها وجب أن يتعلق الحكم بها وإن لم يتعلق بها قبل ذلك. وقولهم: إن العلة قد تكون خاصة، فوجب التوقف حتى يدل الدليل على التعدي، فلا نسلمه؛ لأنه ليس عندنا علة مقصورة غير متعدية. وهذا أصل، يأتي الكلام عليه إن شاء الله. واحتج: بأنه لا يجوز أن يقول: حرمتُ السكَّر لحلاوته، وأحللتُ غيره مما (1) توجد فيه الحلاوة، فلا يكون ذلك تناقضاً. فلو كان النص على العلة يوجب أن يكون كل ما يوجد فيه مشاركاً، لما جاز أن ينص على ثبوت الحكم في بعض ما يوجد فيه العلة، وعلى ضده في بعضها، بل يكون ذلك ضرباً من المناقضة. فلما جاز هذا، ثبت؛ لأن مجرد النص على العلة والحكم لا يوجب إلحاق الغير به إلا بدليل. والجواب، أنا لا نسلِّم هذا، وهذا على أصلنا ظاهر. و (2) أن تخصيص العلة لا يجوز، وفي هذا تخصيص لها.
مسألة
وفي الجملة يجوز أن تكون أحكام صاحب الشرع متناقضة (1) . فأما تعليله فلا يجوز أن يتناقض. واحتج: بأن الاعتبار باللفظ دون [211/ب] المعنى. بدليل أنه لو حلف فقال: "والله لا أكلتُ السُّكر لأنه حلو"، لم يحنث بأكل ما عداه. كذلك ألفاظ صاحب الشريعة. والجواب: أن الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن صاحب الشريعة لا تجوز عليه المناقضة، وغيره تجوز عليه المناقضة. والثاني: أن صاحب الشريعة قد أمر بالقياس، فإذا نص على العلة وجب القياس عليها، وغيره لم يأمر بذلك. فلو قال لنا قائل: "قيسوا كلامي بعضه على بعض"، ثم قال: "لا أكلتُ السُّكَر لأنه حلو"، شَرَكَه فيه كل حلو. مسألة [العلة القاصرة] العلة الشرعية إذا كانت مقصورة على موضع الوفاق لم تكن صحيحة وكان وجودها كعدمها (2) .
دليلنا:
وهو قول أصحاب أبي حنيفة (1) . وقال أصحاب الشافعي: هي علة صحيحة كعلة الذهب والفضة (2) . العلة في تحريم التفاضل فهما عندهم كونها قيَم المتلفات فلا تتعدى (3) . دليلنا: أن المتفق على حكمه إنما يجب لأعيانه التي تقاس عليه؛ لأن
الأصل قد استغنى بدخوله تحت الإِجماع عن التعليل. ألا ترى أن جميع الأحكام لو كانت مجْمعاً عليها، أو منصوصاً عليها لم يحتج مع ذلك إلى القياس. فإذا كان التعليل بما لا يتعدى الأصل لا يفيد إلا ما أفاده النص أو الإِجماع وجب أن يكون وجوده وعدمه سواء. وقد يُعبر عن هذا بعبارة أخرى، فيقال: الأصل معلوم من طريق القطع، فتعليله بما لا يتعدى لا يستفاد به معرفة الأصل؛ لامتناع أن يعلم بما طريقه غلبة الظن، الأمر الذي علم من جهة القطع، وصار كمن قاس القياس الشرعي في الأمور العقلية التي طريقها العلم، أو طلب أخبار آحاد، ليعلم بها ما علم من طريق القطع. وإذا بطل أن يعلم بها حكم الأصل، ولم يجز أن نعرف بها حكم فرع آخر، سقط اعتبارها. فإن قيل: هذا يبطل بالعلة العقلية والعلة النصوص (1) عليها، فإنها صحيحة وإن كانت مقصورة واستغنى الأصل عنها، فإن العلة العقلية يجوز أن تكون مقصورة، وهو قوله: "لا تسلك طريقاً تهلك فيه إلا أن يكون لك فيه نفع في الآخرة، كالأمر بالمعروف"، والعامة نحو قوله في الظلم: "لا يجوز لكونه قبيحاً" فهذه عامة في كل قبيح. وكذلك العلة المنصوص عليها، يجوز أن تكون مقصورة، وهو أن يقول الله تعالى أو رسوله: حرمت التفاضل في الدراهم والدنانير لأنها قِيَم [212/أ] الأشياء. قيل: لا يبطل ما ذكرنا. وذلك أن العلة العقلية يستفاد الموجب بها منها. وهذا المعنى يحصل بالمتعدية (2) وغيرها، فكان لطلب كل واحد من الأمرين
فائدة. فأما الشرعيات فهي علامات، ومعلوم أنها ليست بعلامة لمعرفة حكم الأصل، وإنما علامتها السمع الوارد. فإذا لم يعلم منها فائدة كانت كعدمها. أما العلة المنصوص عليها، فإنه يحمل الأمر فيها على أنها بيان لعلة المصلحة التي لأجلها أبيح أو حُظِر. وعِلَلُ المصالح لا تُعلم بالاستخراج، وإنما تُعلم بالتوقيف، وكلامنا في العلة التي تستخرج من عِلَل الأحكام، وليست بمتعدية. وجواب آخر، وهو: أن قول أصحاب الشريعة يوجب هذا المعنى، فيحصل (1) بالمتعدية (2) وغيرها، تجرى مجرى العلة العقلية، وهذا المعنى معدوم في تعليلنا. فإن قيل: فيها فائدة، وإن كانت مقصورة، و [هي] أن يُعلم معنى الحكم (3) ، وأنه ليس مما استأثر الله بعلمه. قيل: لا فائدة في معرفة معنى الحكم إذا لم يتعد إلى غيره، لأنه لا يفيد إلا ما أفاده النص. وقد بينَّا هذا في التي قبلها. فإن قيل: فيه فائدة أخرى، وهو أن نعلم علة المصلحة به. قيل: علة المصالح لا طريق إلى معرفتها، إلا من جهة التوقيف. ألا ترى أن موسى عليه السلام، أنكر ما حصل من صاحبه من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الحائط الذي أراد أن ينقضَّ، ولم يعرف وجه المصلحة في ذلك حتى وقف عليه، فلم يكن للتعليل حظ في معرفة علة المصلحة. وعلى أن الأصل إنما يعلل لطلب علة الحكم دون علة المصلحة؛ لأن علة
الحكم فيما يكون عليه الأصل من الأوصاف، وعلة المصلحة إنما هي في المعبَّدين دون الحكم، من حيث إن الله تعالى قد علم أنه لو لم يتعبد المكلف بما يتعبده به فَسَد، فكانت مصلحته في التعبد. فإن قيل: فيه فائدة أخرى، وهو أن يمنع رد غير المنصوص عليه إلى المنصوص عليه، ويعلم أن الحكم مقصور عليه لا يتعداه. ويفيد أن الحكم ثبت في المنصوص عليه لهذه العلة. فربما حدث ما يوجد فيه تلك العلة فيقاس عليه. قيل: الشرع ورد في تعليل الأصول ليقاس عليها، لا للمنع من القياس، فلم يصح أن يقال: إن الفائدة منع رد غير المنصوص علمِه إلى المنصوص عليه. فإن قيل: إنما يعلم أن العلة متعدية أو مقصورة بعد استنباطها، وثبوتها، وصحتها. وقبل [212/ب] ذلك لا يعلم. والخلاف في صحتها في الأصل. وهل يجوز استنباطها وجعلها (1) علة، فكيف يجوز أن يستدل على جواز استنباطها وجعلها علة، ما لم تثبت بعد استنباطها وثبوتها؟! قيل: يجوز أن يطلق على العلة الفساد قبل استنباطها، للعلم بفسادها من جهة الشرع، كما يطلق الصحة [عليها] قبل استنباطها، وكما يطلق عليها الفساد قبل استنباطها لعدم الوصف أو الأصل، كذلك هاهنا. فإن قيل: لا يمتنع أن تكون علة صحيحة، وإن كانت [دالة] على ما دل عليه النص. كما أن خبر الواحد يكون دالاً على ما دل عليه نص القرآن، ويكون صحيحاً. قيل: نص القرآن وخبر الواحد، كل واحد منهما يدل على نفس الحكم، وما اختلفنا فيه يدل على علته، وعلة الحكم من شأنها أن تكون متعدية مفيدة. بدليل علة الربا، النص ورد على ستة أشياء، فلما طلبنا علةَ الحكم وجب تعدِّيها،
فالمخالف يُعدِّيها إلى كل مطعوم. ونحن نُعديها إلى كل مكيل. كذلك هاهنا. ولهذا رجحوا علتهم بأنها أعَمُّ فروعاً. وجواب آخر، وهو: أن الآية مع الآية، والخبر مع الخبر، كل واحد منهما دليل مقطوع عليه، بدليل أنه لا يسقط أحد الأجناس. فجاز أن يكون كل واحد منهما دليلاً مع الآخر. والقياس مع الخبر بخلاف ذلك؛ لأنه غير مقطوع عليه؛ لأنه يسقط مع الخبر، فلم يكن حجة معه. يبين صحة هذا: أنه لو أقر، ثم أقر، ثبت الحق بهما جميعاً، إلا أنهما سواء في المدعي (1) ، والبينة لم تسمع؛ لأن الاقرار مقطوع به، والبينة غلبة الظن، كذلك هاهنا. واحتج المخالف: بأن هذه أمارة شرعية، فجاز أن تكون عامة وخاصة، كالنص، يكون عاماً كقوله: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، ويكون خاصاً كقوله: "اقتلوا المرتد". والجواب: أنه إنما كان حجة في العموم والخصوص؛ لأنه يفيد في الموضعين جميعاً إثبات الحكم في الموضوع المنصوص عليه. وليس كذلك في مسألتنا، فإنها تفيد في العموم، ولا تفيد في الخصوص من الوجه الذى بينَّا. واحتج: بأن كل معنى يجوز أن يكون منطوقاً به، جاز أن يكون مستنبطاً كالعلة المتعدية. وبيانه: أن صاحب الشرع لو نص على العلة المقصورة جاز، كذلك المستنبطة. والجواب عن العلة المنصوص عليها ما ذكرنا، وهو أنها أفادت علة المصلحة، وذلك لا يعلم بالاستخراج، وإنما يعلم بالتوقيف. وكلامنا في العلل التي تستخرج من الأحكام. [213/أ] .
واحتج: بأن العلة الشرعية أوسع من العقلية؛ لأن الشرعية يوجد الحكم بوجودها وليس من شرطها أن يعدم بعدمها. والعقلية تحتاج أن يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها. فلما ثبت أن العلة العقلية يجوز أن تكون متعدية، وتكون مقصورة، فالشرعية أولى. والجواب عنه تقدم، وهو أن العلة العقلية يستفاد الحكم الموجب بها منها. وهذا يحصل بالمتعدي منها وغيره. والشرعيات علامات، والمقصورة ليست بعلامة لمعرفة حكم الأصل. وإنما علامتها السمع، فإذا لم تُعلم بها فائدة كانت كعدمها. واحتج: بأن القُيَّاس (1) اختلفوا في الدليل على صحة العلة: فقال بعضهم: سلامتها على الأصول. وقال بعضهم: التأثير والمُلاءَمة. وكل دليل ذكرته طائفة، فهو موجود في العلة المقصورة. والجواب: أن أحد الأدلة على صحتها، كونها مفيدة، وذلك معدوم هاهنا (2) .
مسألة
مسألة [تخصيص العلة الشرعية] لا يجوز تخصيص العلة الشرعية (1) . وتخصيصُها نقضُها (2) . وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسان "القياس: أن يقاس على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله. فأما إذا أشبهه في حال، وخالفه في حال، فهذا خطأ" (3) .
وهذا الكلام يمنع تخصيصها عنده. وذكر أبو إسحاق (1) في جزء وقع إلي من شرح الخِرَقي فقال: أصحابنا على وجهين: منهم من يرى تخصيص العلة. ومنهم من لا يرى ذلك (2) . وقد ذكر أبو الحسن الجزري (3) في جزء فيه مسائل من الأصول قال: لا يجوز تخصيصها. وهو قول الشافعي (4) ، وجماعة من المتكلمين (5) .
دليلنا:
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز تخصيصها (1) . وحكي ذلك عن مالك (2) . وقال أحمد -رحمه الله- في القياس: يقتضي أن لا يجوز شَرْي أرض السواد؛ لأنه لا يجوز بيعها (3) ليس بموجب لتخصيص العلة، لأن تخصيص العلة ما مَنَع من جريانها في حكم خاص. وما ذكره أحمد -رحمه الله- إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول للخبر. دليلنا: أن هذه علة يجب وجود الحكم بوجودها. فوجب أن يكون تخصيصها
نقضاً لها، قياساً على العلة العقلية. مثل الحركة والسكون، والقدرة والعجز والسواد والبياض، وغير ذلك مما هو علة في العقل للحكم الذي موجبه المحل الذي توجد فيه، فإن تخصيصها [213/ب] يكون نقضاً لها. كذلك العلة الشرعية. فإن قيل: العلة العقلية موجبة لما توجبه بنفسها. ألا ترى أنه لا يجوز وجودها في وقت من الأوقات غير موجبة لما توجبه. والشرعية أمارة للحكم بدلالة وجودها قبل الشرع، من غير أن يتعلق بها حكم. قالوا: يبين صحة هذا: أنه يجوز أن ينص الله تعالى على أن العلة الشرعية هي علة للحكم في موضع دون موضع، ولا يجوز أن ينص على أن العلة العقلية [هي علة] لما توجبه في بعض المواضع دون بعض. قيل: الشرعية بعد جعلها علة، قد صارت بمنزلة العقلية في اقتضائها للحكم وإيجابها له، ووجوب وجوده بوجودها، وكونها موجبة في زمان دون زمان لا يدل على كونها علة في مكان دون مكان؛ لأنه يجوز أن لا تكون علة ثم تصير (1) علة، فلا يجوز أن تكون علة في مكان ولا تكون علة في مثله؛ لأن وجودها مع زوال الحكم يدل على أنه نقض للعلة، وأنها مقيدة بصفة زائدة تخص ذلك الموضع الذي هي علة فيه، فبان الفرق بين الزمانين والمكانين. وقد قيل في جواب هذا: إن العلة العقلية سبب كونها علة العقلُ، وذلك السبب يوجد على الاتصال في جميع الأوقات، فلا يخرج عن كونها علة مع وجود سببها. والعلة الشرعية سببها الشرع. وذلك السبب يختص ببعض الأوقات دون بعض فكانت علة في بعض الأزمنة دون بعض.
ونحن إنما اعتبرنا إحداهما بالأخرى، مع وجود سببها، وهما متساويان في هذه الحالة، وإن اختلفا في غيرها. واعترض المخالف على هذا وقال: العلل العقلية لم تصر عللاً بالعقل، وإنما هي علل بأنفسها. ألا ترى أنها قد كانت عللاً، وإن لم يكن هناك ذو عقل. وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يصح وجود العلة العقلية قبل وجود العقل، لأنها به صارت عامة. وإنما يصح وجودها مع عدم ذي عقل؛ لأن ذلك ليس بعلة لها، وإنما علتها (1) العقل، وهو موجود. فإن قيل: العلل الشرعية، لما لم تكن موجبة لهذه الأحكام قبل ورود الشرع لم يجز أن يرد الشرع بكونها موجبة. والعلل العقلية لما كانت موجبة لم يجز أن يرد الشرع بكونها غير موجبة. قيل: لما كانت هذه العلل قبل ورود الشرع غير أمارات للأحكام، ثم لم يمتنع أن يرد الشرع بكونها أمارات [214/أ] لم يمتنع أيضاً أن تكون غير موجبة قبل الشرع ثم يرد الشرع بكونها موجبة لما تعلق بها من الأحكام. وقد قيل: إن القول بتخصيص العلة يقتضي سد باب الاستدلال على صحة العلة. فإنه لا تثبت العلة إلا بأمارة تدل على صحتها فإن وجد الحكم لوجودها، دلت الأمارة على صحتها. وإن لم يوجد الحكم لوجودها لم تكن تلك الأمارة دلالة على صحتها، فتكون علة تارة، ولا تكون علة أخرى، وتكون بعض العلة، فيجب ضم وصف آخر إليها حتى لا تنتقض. فثبت أنها لم تكن علة مع عدم الوصف الزائد. وقد قيل في المسألة: إن تخصيص العلة يؤدي إلى تكافئ الأدلة؛ لأن من
قال: يحل شرب النبيذ، لأنه مائع يشتهى (1) شربه، فوجب أن يكون حلالاً، كالماء وسائر الأشربة، وقال: قام الدليل في الخمر فخصصها، لم ينفصل ممن قال: إنه مائع يشتهى (2) شربه فوجب أن يكون حراماً كالخمر. وقد قام الدليل على الماء وسائر الأشربة فخصصها. وهذه الطريقة أصح، إذا لم يكن المعلِّل دل على صحة علته. فأما إذا دل على صحة علته بالتأثير لم يصبح القلب؛ لأن التأثير لا يوجب العلة في الحكمين جميعاً، ولا يجوز أن يؤثر إلا في أحدهما. وقيل أيضاً: بأنه لو جاز تخصيص العلة لم يوجد في شىء من العلل مناقضة؛ لأن كل واحد من أوصاف علته مع ارتفاع حكمها يمكنه أن يخصصها. ولا يلزم النقض أبداً، إذ في اتفاقنا على أن من العلل الشرعية ما يتوجه عليها النقض دليلٌ على امتناع جواز تخصيص العلة. وهذا لا يلزم المخالف؛ لأنه يقول: جواز تخصيص العلة بشرائط وهى: أن يكون مدلولاً على صحتها في الأصل. ولا تكون مدعاة. وأن يكون الموضع الذي خص العلة فيه من المواضع التي دلت الدلالة على تخصيص هذه العلة منها. ومتى أخل المستدل بشىء من هذه الشرائط، ثم أوجد العلة بجميع أوصافها مع عدم الحكم، كان دليلاً على نقضها (3) . ولأنه لا يخلو إما أن يجب إجراء العلة في الفروع لنفسها أو بدليله. فإن
وجب إجراء الحكم بها لنفسها، لم يجز تخصيصها، لأن نفسها موجودة فيما امتنعت من الحكم بها فيه. وإن احتاج إلى دليل في تعليق الحكم بها في كل فرع استغنى عن العلة، وصار الدليل على الحكم في كل فرع دليلاً على الحكم في العلة. واحتج [214/ب] المخالف: بقوله تعالى: (إنَّ لَهُ أباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أحَدَنَا مَكَانَهُ) (1) . قالوا: وكيف يأخذ أحدهم مكانه، وأبوه أيضاً شيخ كبير، لولا جواز القول بتخصيص العلة. والجواب: أن مضمونه أن أباه يخاف عليه؛ لأنه مأخوذ في جناية، وهو إذا أخذ أخوه لم يكن خائفاً (2) . واحتج: بأن العلل الشرعية أمارة على الأحكام، وليست بموجبة لها. ألا ترى أنها كانت موجودة قبل الشرع غير موجبة. وإذا جاز أن تكون أمارة في حال دون حال، جاز أن تكون أمارة في موضع دون موضع. والجواب عنه تقدم، وهو أنه يجوز أن لا تكون علة، وتصير علة. ولا يجوز أن تكون علة في مكان ولا تكون في مثله؛ لأن وجودها مع زوال الحكم يدل على أنه نقض للعلة، وأنها مقيدة بصفة زائدة تختص ذلك الموضع الذي هي علة (3) فيه. فبان الفرق بين الزمانين والمكانين. واحتج: بأن هذه العلل، لما كانت أمارات الأحكام، وجب أن يجوز
تخصيصها، كما يجوز في أسماء العموم. لما كانت الأسماء أمارات لما علق بها من الأحكام جاز تخصيصها. يبين صحة هذا: أن العموم في الأسماء آكد حالاً وأعلا مرتبة من العلة؛ لأن رد العموم يوجب التكفير، ورد العلة المقتضية لا يوجب ذلك. فإذا جاز تخصيص العموم، فلأنْ يجوز تخصيص العلة التي هي دونه في الرتبة أولى. والجواب: أن تخصيصه لا يُسقط دلالتَه، ولا يُسقط شرطه؛ لأنه إنما كان دليلاً على الحكم لكونه قولاً لمن تجب طاعته، فإذا خص منه شىء كان ما يتناوله اللفظ مما عداه داخلاً في اللفظ. فوجب إثبات حكم اللفظ فيه، وليس كذلك في مسألتنا. فإنه إذا وجدناها مع عدم الحكم تبينا أنها ليست كمال العلة، وأن الحكم ليس بتابع لها وإنما هو تابع لها تبع زيادة صفة يجب إضافتها إليها. واحتج: بأن العلة المنصوص عليها، وهي علة صاحب الشرع يجوز تخصيصها كذلك المستنبطة. والجواب: أن العلة المنصوص عليها لا يجوز تخصيصها. وإذا وجدناها مع عدم الحكم، تبينا أنها بعض العلة، وأن الله تعالى نص على بعض العلة، ووكل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم. وإذا كان كذلك، لم يكن بين المنصوص عليها وبين المستنبطة فرق. وقد قيل: يجب أن تكون منتقضة، ولا يقدح ذلك فيها؛ لأن الدليل على صحتها كونها منصوصاً [215/أ] عليها، وذلك موجود. واحتج: بأنه يجوز أن يوجد الحكم بوجود العلة، ثم تزول هذه العلة والحكم باق بدليل آخر وعلة أخرى. فإذا صح أن يبقى الحكم ولا هذه العلة، صح أن توجد هذه العلة ولا حكم. والجواب: أنه إذا وجد الحكم ولا علة لم يمنع أن يجري، دليل صحة العلة
على معلولها. فلهذا صح أن يوجد الحكم، وليس كذلك هاهنا؛ لأنا إذا وجدنا العلة ولا حكم، منع أن يجري هاهنا؛ لأنا إذا وجدنا العلة ولا حكم، منع أن يجري دليل صحة العلة في معلولاتها. ولأنه إذا وجد الحكم ولا علة لم يفضِ إلى تكافؤ الأدلة، وإيجاب الحكم وضده بعلة واحدة في مسألتنا يفضي إلى ذلك، فبان الفرق بينهما. فإن قيل: أليس قد قال أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي، وقد قيل: "كيف تشتري ممن لا يملك (1) ؟ فقال: القياس كما تقول، ولكن هو استحسان". واحتج: بأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شَرْي المصاحف، وكَرِهوا بيعها (2) . وهذا يدل على تخصيص العلة. قيل: تخصيص العلة ما يمنع من جريانها في حكم خاص. وما ذكره أحمد -رحمه الله- إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول للخبر (3) . ولأنهم قد يعدلون في الاستحسان عن قياس، فامتنع أن يكون معناه تخصيصاً (4) بدليل.
فصل [الطرد شرط في صحة العلة] وهذا الكلام في الطرد وأنه شرط في صحة العلة (1) . فأما العكس فليس بشرط في صحة العلة. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم (2) ، وسندي: "رطل حديد برطلين، لا يجوز، قياساً على الذهب والفضة" (3) . فقد اعتبر الطرد وإن لم ينعكس؛ لأن علتها ما لا يوزن، ومع هذا قد يجري فيه الربا في المكيلات. وإنما كان كذلك؛ لأن العلة إذا صحت بما تقدم ذكره من لفظ صاحب
الشريعة، نصاً وظاهراً وتنبيهاً، ومن التأثير وشهادة الأصول، جاز أن تجتمع علتان في حكم، فتزول إحداهما، ويبقى الحكم ببقاء العلة الأخرى، كالمُحْرِمة إذا حاضت حرُم وطؤها لحيضها ولإحرامها، فإذا طهرت من حيضها واغتسلت (1) لم يحل وطؤها لبقاء إحرامها. وقد تَخْلُفُ العلةُ العلة فيبقى الحكم بالعلة التي خلفتها، كالنكاح يزول وتخلفه العدة، فتمنعها العدة من عقد النكاح كما منعها النكاح. وكذلك الرِّدة علة لإباحة الدم، والزنا مع [215/ب] الإحصان، فإذا اجتمعا تعلقت الإِباحة بهما، وإذا أسلم من الرِّدة لم تزُل الإِباحة للزنا. فإذا كان كذلك، دل على أن ليس من شرط العلة العكس، هذا إذا كان التعليل لغير الجنس. فأما إذا كان التعليل للجنس وجب أن تنعكس؛ لأن تعليل جنس الحكم يقتضي حصر الجنس، ويجري مجرى الحدود، فإذا لم ينعكس لم يكن حاصراً للجنس، ولم يكن علة له. ألا ترى أنه إذا قال: الرِّدة علة لجنس إباحة الدم لم يصح؛ لأن الزنا مع الإِحصان يبيحُه، وقتل النفس بغير النفس يبيحُه. فلا تكون الردة علة لجنس إباحة الدم، لأنها لا توجب نوعين من الإِباحة اللذين يوجبهما الزنا والقتل. ومتى كانت العلة للجنس أوجب جميع أنواع ذلك الجنس، فانعكست، ألا ترى إذا قلت: البلوغ والعقل علة لجنس التكليف انعكست.
مسألة
مسألة [القياس على المخصوص من جملة القياس] المخصوص من جملة القياس يقاس عليه، ويقاس على غيره (1) . أما القياس عليه، فإن أحمد -رحمه الله- قال في رواية ابن منصور: "إذا نذر أن يذبح نفسه، يُفدي نفسه بذبح كبش" (2) . فقاس من نَذَر ذبح نفسه على من نَذر ذبح ولده. وإن كان ذلك مخصوصاً من جملة القياس، وإنما ثبت بقول ابن عباس (3) .
وأما قياسه على غيره، فإن أحمد -رحمه الله- قال في رواية المروذى: "يجوز شَرْي أرض السواد، ولا يجوز بيعها. فقيل له: كيف اشتري ممن لا يملك؟! فقال: القياس: كما تقول، ولكن استحسان" (1) . واحتج بأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شَرْي المصاحف، وكَرِهوا بيعَها. وهذا يشبه ذلك (2) . فقد قاس مخصوصاً من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس. وبهذا قال أصحاب الشافعي (3) . وقال أصحاب أبي حنيفة: المخصوص من جملة القياس لا يقاس على غيره. ولا يقاس غيره عليه، إلا أن يكون معللاً أو مجْمعاً على جواز القياس عليه (4) .
أما المعلَّل كقوله عليه السلام في الهر (1) : (إنَّها من الطَوَّافين عليكم والطوَّافات) (2) . فقاسوا عليه كل ما وجدت فيه هذه العلة من ساكني البيوت، مثل الفأرة، والحية، ونحو ذلك.
وأما المجْمع على جواز القياس عليه، فمثل التحالف (1) في الإجارة عند الاختلاف على إثباته في التبايعات (2) ؛ لاتفاق الناس الذين أوجبوا التحالف (3) في البيع أن حكم الإجارة حكم البيع (4) . وما عدا ذلك لا يجوز القياس عليه، ولا قياسه على غيره. مثل إيجاب الوضوء من [216/أ] القهقهة في الصلاة، فلا تقاس عليه القهقهة في صلاة الجنازة، وفي سجود التلاوة؛ لأن الأثر ورد بإيجاب الوضوء من القهقهة في صلاة لها ركوع وسجود (5) .
ومثل إسقاط الكفارة في استدعاء القيء، فلا يقاس عليه الأكل (1) . ومثل جواز الوضوء بنبيذ التمر، فلا يقاس عليه غيره من الأنبذة للأثر الوارد (2) . ومثل جواز البناء على الصلاة، إذا سبقه الحدث فيها (3) ، لا يقاس عليه من احتلم في صلاته، وفكَّر فأمنى (4) ونحو ذلك.
دليلنا:
دليلنا: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبصَارِ) (1) . وهذا عام في كل موضع إلا ما خصه الدليل. وأيضًا: فإنا إذا قسنا على الخصوص قسنا الخصوص على غيره. وحملنا النبيذ على غيره من المائعات، والقهقهة على الكلام. فإن مخالفنا يعترف بصحة القياس، وأنه يجب حمل النبيذ على غيره من المائعات، والقهقهة على الكلام، ويَدَّعي أنه استحسن تركه لما هو أولى منه (2) . وهذا غير صحيح من وجهين: أحدهما: أنه يلزمه أن يبين الأوْلى، وإلا حكمُ القياس متوجه عليه، وهذا كما لو قال: إن القرآن يدل على كذا، ولكن تركته للسنَّة، فتكون حجة القرآن لازمة له ما لم يبين السنة التي هي أقوى من القرآن. ولا يكفى في ذلك مجرد دعواه. والثاني: أنه يدعي أن الاستحسان أقوى من القياس، فلهذا تركَه. والقياس إذا عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلاً، ولم يكن له حكم كما لو عارضه نص كتاب أو سنة أو إجماع. ولما حكم بصحة القياس هاهنا امتنع أن يكون عارضه أقوى منه ومانع من استعماله. وأيضاً: فإن المخصوص من جملة العموم يقاس عليه، فالمخصوص من جملة قياس الأصول أوْلى أن يقاس عليه؛ لأن حكم العموم أقوى من قياس الأصول
دليله: سائر الأصول.
له (1) ، ولهذا ترك القياس له (2) وأيضاً: فإن ما ورد به الأثر قد صار أصلاً بنفسه، فوجب القياس عليه، كسائر الأصول (3) . وليس رد هذا الأصل لمخالفة تلك الأصول بأوْلى من رد الأصول لمخالفة هذا الأصل، فوجب إعمال كل واحد منهما في مقتضاه وإجراؤه على حكمه. وأيضآ: فإن القياس يجري مجرى خبر الواحد، بدليل أن كل واحد منهما يثبت بغالب الظن، ثم ثبت أنه يصح أن يرد مخالفاً لقياس الأصول، كذلك القياس قبله. وأيضاً: لما جاز القياس على الخصوص من جملة القياس إذا [216/ب] كان معللاً بتعليل صاحب الشرع جاز وإن لم يكن معللاً. دليلُه: سائرُ الأصول. فإن قيل: إذا ورد معللاً، فإن كل ما وجدت فيه تلك العلة يصير كالمنصوص عليه، كأن النبيَّ امر بالقياس عليه، ويصير [القياس] عليه أوْلى من
قياس الأصول، وليست هذه حال المخصوص العاري عن علة؛ لأنه لا يوجد فيه ما يبطل قياس الأصول. قيل: لو كان الحكم عندك في المعلل لما ذكرت، لوجب أن تقيس النبيذ على الخمر في التحريم لوجود علة الخمر (1) بقوله تعالى (إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُوقِعَ بِيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ) (2) . وهذه العلة موجودة في النبيذ، ومع هذا فلم تقيسوا النبيذ على الخمر. وكذلك كان يجب قياس الخل على النبيذ في جواز الوضوء -كما حُكي عن الأصم (3) جواز الوضوء بسائر المائعات- لوجود العلة في النبيذ بقوله عليه السلام: (ثمرةٌ طيبة، وماء طهور) (4) ، وهذه العلة موجودة في الخل. وكذلك كان يجب أن تقيسوا الآكل والشارب في رمضان لمرض، على الناسي في إسقاط القضاء لوجود العلة فيه، وهو قوله: (اللهُ آطْعمكَ وسقَاكَ) (5) . وهذا التعليل موجود في المريض. وليس لهم أن يقولوا: هذا التعليل لاسقاط
المأثم، بل هو تعليل لإسقاط القضاء؛ لأنه روي في بعض الألفاظ (إنَّمَا هو رِزقٌ ساقَه اللهُ تَعَالى إليهِ، فلا قضاءَ عليه) رواه الدارقطنى (1) . فجعل هذه علة في إسقاط القضاء، ومع هذا فلمِ يقيسوا عليه غيره (2) . وكذلك أيضاً قاسوا المجامع ناسياً على الآكل ناسياً، وإن لم يكن الأصل معللاً، ولا مجْمعاً على قياسه عليه (3) ؛ لأن أصحابنا منعوا من ذلك، وقالوا في الآكل ناسياً: لا يفطر (4) ، وفي المجامع يفطر (5) ، فامتنع أن تكون العلة في
جواز القياس على المعلل ما ذكروه، وإنما العلة فيه ما ذكرنا. وأيضاً: لما جاز القياس على ما ورد بخلاف القياس العقلي، وهو الطواف والسعي ورمي الجمار والوضوء (1) ، فإن العقل يخالف هذه، ومع هذا يقاس عليها. فلأنْ يجوز القياس على ما ورد بخلاف القياس الشرعي أوْلى. فإن قيل: الشرع لا يرد بما يمنع العقل منه، وإنما يرد بما يُجَوِّزه العقل. فنظيره أن يرد الأثر بما لا تمنع منه الأصول، فيجوز القياس عليه. قيل: قد ثبت أن الشرع قد ورد بما يمنع العقل منه فلا يصح هذا (2) . فإن قيل: القياس الشرعي وخبر الواحد قد ثبت [217/أ] حكمهما في خلاف قياس العقل ولا يجوز ثبوت حكمهما (3) في خلاف قياس النص، فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يختلف حكم القياس العقلي والقياس الشرعي في باب جواز القياس على المخصوص من جملة أحدهما، وامتناع جواز ذلك في المخصوص من جملة الآخر.
قيل: لا نسلِّم هذا؛ لأنه قد ثبت الحكم بخبر الواحد في خلاف قياس النص، ولهذا حكمنا بخبر التَّصْرِية (1) والفَلَس (2) وغير ذلك مما يرده (3) أصحاب أبي حنيفة (4) . وكذلك قياس النص لا يقدم على غيره من قياس، الاصول التي ليست بمنصوص على أصولها.
واحتج المخالف بأن إثبات الشىء لا يصح مع وجود ما ينافيه، فلما كان القياس مانعاً مما ورد به الأثر لم يجز لنا استعمال القياس فيه؛ لأنه لو جاز ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصول التي يمنع قياسها منه، فكان يخرج حينئذ من كونه مخصوصاً من جملة القياس. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلَّم أن هاهنا ما ينافيه؛ لأن المنافاة تكون بدليل خاص، وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكره من التأويل. والثاني: أن المنافاة إنما تحصل بقياسه على غيره في إسقاط حكم النص، فأما قياس غيره فلا ينافيه، لأنه لا يسقط حكم النص، وعندهم لا يصح القياس عليه. واحتج: بأن قياس الأصول أوْلى من قياس ما ورد به الأثر، وذلك لأن قياس ما ورد به الأثر يختلف فيه، وقياس الأصول متفق عليه، والمتفق عليه أوْلى من المختلف فيه (1) . ولهذا كان ما ثبت بخبر التواتر أوْلى مما ثبت بخبر الواحد. وما شهد له أصلان أوْلى مما شهد له أصل واحد، فلما كان قياس الأصول يشهد له جميع الأصول، وكان قياس ما ورد به الأثر لا يشهد له إلا أصل واحد، وهو الأثر، كان قياس الأصول أوْلى بالاعتبار من قياس ما ورد به الأثر. والجواب: أن هذه المزيَّة موجودة في مقابلة خبر الواحد، ومع هذا فإنه مقدم على قياس الأصول. وكذلك القياس الشرعي مقدم على مقتضى القياس العقلي، وإن كان للعقل مزيَّة. ويفارق هذا خبر الواحد مع التواتر؛ لأن أحدهما مقطوع عليه.
مسألة
مسألة يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات والأبدال بالقياس (1) . ويجوز قياسها على المواضع التي أجمع على ثبوت ذلك فيها. وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الميْموني، فيمن سرق من الذهب أقل من ربع دينار: "أقطعُه. قيل: ولم؟ قال: لأنه لو سرق عروضاً قوَّمتُها بالدراهم، كذلك إذا سرق ذهباً أقل من ربع دينار قوَّمتُه بالدراهم" (2) . فقد أثبت القطع بالقياس. وكذلك نقل الميْموني عنه في النصراني إذا زنا وهو محصَن: "يرجم. قيل له: لم؟ قال: لأنه زانٍ بعد إحصانه" (3) . وكذلك نقل جعفر بن محمد النَّسائي أبو محمد عن أحمد -رحمه الله- في يهودي مرَّ بمؤذن وهو [يؤذن] (4) فقال: كذبتَ، قال: "يقتل،
دليلنا:
لأنه شتم" (1) . وهو قول أصحاب الشافعي (2) . وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يثبت ذلك بالقياس (3) . دليلنا: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبْصَارِ) (4) وهذا عام. وحديث معاذ، لما قال: (أجتهد رأيي) (5) ، صوَّبه النبي عليه السلام، ولم يفرق بين هذه الأحكام وبين غيرها، فوجب حمله على عمومه. ولأنه إجماع الصحابة، قال عمر: (إن الناس قد تتابعوا في شرب الخمر واستحقروا حدَّها، فما ترون فيه؟ فقال علي: إنه إذا شرب سكِر، وإذا سكِر هذى، وإذا هذى افترى، حَدُّه حد المفترين) . فأجمعت الصحابة على إلحاقه بالقاذف قياساً (6) .
وأيضاً: فإنه حكم لم يثبت بما يوجب العلم ويقطع العذر، فجاز إثباته بالقياس. أصله: سائر الأحكام. ولأن ما جاز إثباته بخبر الواحد جاز إثباته بالقياس. أصله: ما ذكرنا. يبين صحة هذا: أن القياس بمنزلة خبر الواحد، بدليل أن كل واحد منهما يثبت بالاستدلال. ثم الحدود تثبت بخبر الواحد، كذلك القياس. ولأن ما جاز أن يثبت به غير هذه الأحكام جاز أن يثبت به هذه الأحكام. أصله: الكتاب والسنة والإِجماع. ولأن القياس [على] ما أثر على الأصول، فإذا وجد هذا المعنى في مسألتنا يجب أن يحكم بصحته. واحتج المخالف: بأن موجب القياس هو حصول الشبهة من الفرع، ومن بعض الأصول (1) . وهذا العنى متى حصل في الوطء (2) سقط الحد. ألا ترى أن الوطء إذا حصل فيه الشبهة بالوطء المباح والشبهة (3) بالوطء الحرام، كوطء أحد الشريكين الجارية التي بينهما، صار ذلك موجباً لسقوط الحد فلما كان مقتضى القياس [218/أ] مؤثراً
في سقوط الحد، لم يجز أن يكون له مدخل في إثبات الحدود. والجواب: أن الشبهة التي أسقطت الحد هناك معدومة هاهنا؛ لأن هناك الشبهة في الفعل أو الفاعل أو المفعول فأسقطت الحد، وهذه الشبهة معدومة في مسألتنا، وأكثر ما فيه أنه دليل غير مقطوع عليه. وهذا يبطل بإثباته بخبر الواحد؛ لأن ما فيه من تجويز (1) الخطأ والسهو والعمد الكذب، لا يصير شبهة في درء الحد وإسقاط الكفارة. وكذلك يجوز إثباته بشهادة شاهدين، وما فيها من تجويز ذلك على الشاهدين، لا يكون شبهة في الإسقاط. ولأنه إذا وجب إلحاقه بأحد الأصلين، لقوته ورجحانه، سقط حكم الأصل الآخر، وكان وجوده كعدمه. واحتج: بأن الحد حق لله تعالى مقدر كالصلاة والزكاة ونحوها، فلما لم يجز إثبات أعداد الركعات والنصاب في الزكوات بالقياس، كذلك لا يجوز إثبات الحدود به (2) . والجواب: أنا لو وجدنا معنى القياس جارياً في ذلك الموضع أثبتناه. واحتج: بأن مقادير العقوبات على الأجرام لا تعلم إلا من طريق التوقيف، لأن العقوبات إنما تستحق على الأجرام بحسب ما يحصل بها من كفران النعمة. ومعلوم أن مقادير نعم الله تعالى على عباده لا يعلمها (3) إلا الله تعالى، وكان الحد عقوبة مستحقة على الفعل، ولم يكن لنا سبيل إلى معرفة مقدار العقوبة على ذلك الفعل إلا من جهة التوقيف، لمْ يجز له إثبات الحد بالقياس (4) .
والجواب: أن الحدود يثبت قدرها بالشرع لأجرام معلومة، فإذا وجدنا معنى ذلك الجرم موجوداً في غيره ألحقناه به، قياساً عليه؛ لأن المعنى قد ثبت بالدليل، وما دل عليه الدليل فهو بمنزلة التوقيف. وعلى أنهم قد أثبتوا الحد بالقياس، وكذلك الكفارات، فقالوا: تجب الكفارة على المفطر بالأكل والشرب قياساً على المجامع (1) . وقالوا: الحد يجب على الرِّدْء (2) في المحاربة (3) قياساً على المباشِر على قتال المشركين (4) .
مسألة
مسألة [قياس العكس] الاستدلال بالشىء من طريق العكس صحيح، كالاستدلال به على وجه الطرد (1) . وهو مثل استدلالنا على طهارة دم السمك بأنه يؤكل دمه، فدل ذلك على [218/ب] طهارته. ألا ترى أن سائر الحيوانات التي كانت دماؤها نجسة لم تؤكل بدمائها. ومثل استدلالنا على قراءة السورة غير مسنون في الأخريين، أنه لو كان من سنة القراءة فيها قراءة السورة لوجب أن يكون من سنته الجهر بها. ألا ترى أن الأوليين لما كان من سنتها قراءة السورة كان من سنتها الجهر. ومثل استدلالنا على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مسنون في التشهد الأول، أنه لو كان من سنته الصلاة لكان من سنته الدعاء. ألا ترى أن التشهد الأخير، لما كان من سنته الصلاة، كان من سنته الدعاء. وقال أصحاب الشافعي: الاستدلال بالعكس غير صحيح (2) . دليلنا: أن الأصل ليس بدليل على صحة العلة، وإنما (3) الدليل على صحتها الكتاب
والسنة وشهادة الأصول والتأثير، ودليل العكس قد أثر في الأصول فوجب أن يكون صحيحاً. ولأن عكسه يدل على صحته، يدل عليه العلة العقلية، لما اطردت وانعكست كان ذلك دليلاً على صحتها، كذلك هاهنا وجب أن يكون العكس دليلاً على صحته. ولأنه لا خلاف أنه لو عارض في الأصل بعلة ولم يعكسها، وإنما عكس بغيرها، لم يلزم الكلام على علة الأصل؛ لأنهما (1) قد اتفقا على صحتها، وإنما يلزم الكلام على علة الفرع، فدل هذا على أن العكس حجة. فصل [التقسيم] والاستدلال بالتقسيم صحيح، وهو أن يكون في المسألة قسمان أو أكثر فيدل المستدل على إبطال الجميع إلا واحداً منها ليحكم بصحته، ولا يطالب بالدلالة على صحته بأكثر مما ذكره (2) .
مثاله: أن نقول: لا يخلو إما أن يكون تحريم التفاضل في البُر متعلقاً بكونه مكيلاً، أو مأكولاً، أو مقتاتاً. فلا يجوز أن يكون مأكولاً ولا مقتاتاً لوجود التفاضل فيهما والعقد صحيح، وهو إذا باع مَكوكاً بمَكوك (1) ، وأحدهما أخف من الآخر، فإن التفاضل في القوت والطعم موجود والعقد صحيح، ولو تساويا في ذلك وتفاضلا في الكيل لم يصح العقد. فعلم أن التحريم متعلق بالكيل. ومثله ما قلنا في الإِيلاء، لا يخلو إما أن يكون صريحاً في الطلاق أو كناية، فلا يجوز أن يكون صريحاً؛ لأنه لو كان كذلك، لوقع الطلاق به منجزاً حالاً كما يقع بصريحه (2) . ولا يجوز أن يكون كناية؛ لأنه (219/أ) لو كان كذلك لافتقر إلى النية، كسائر الكنايات. فلما بطل القسمان، امتنع أن يكون طلاقاً. ومثله ما نقوله في اللعان: لا يخلو إما أن يكون يميناً أو شهادة، فلا يجوز أن يكون شهادة؛ لأنه يصح من فاسق ومن أعمى، وشهادتهما لا تصح (3) . لم يبق إلا أنه يمين؛ لأن أيمان هؤلاء تُسمع.
ومثله ما نقوله في تحريم الخمر: لا يخلو إما أن يكون الاسم أو الشدة المطربة. ولا يجوز أن يكون للاسم؛ لأن العصير المطبوخ يحرم عندهم إذا حصلت فيه [الشدة] ، وإن لم يقع عليه اسم الخمر. وكذلك نقيع التمر والزبيب محرمان عند مخالفنا، وإن (1) لم يتناولهما الاسم. فعلم أن التحريم يُعلَّق لوجود الشدة المطربة، وهذا موجود في النبيذ. ومثل هذا كثير. والدلالة على صحة هذا: أنه لابد في الحادثة من حكم، فإذا بطل الجميع إلا واحداً، وجب أن يكون ما بقى صحيحاً؛ لأنه لا يجوز أن يبطل الكل. وأما إذا دل الدليل على صحة كل واحد منها بطلت سائر الأقسام؛ لأن الحق واحد، وما عداه باطل، فإذا صح الواحد منها، وجب أن يحكم ببطلان الباقي. فصل [الاستدلال بالأوْلى] والاستدلال بالأوْلى صحيح (2) ، إذا بين أن حكم الأصل في الفرع يجب أن يكون آكد.
مثاله: ما نقول في أن التيمم إذا لم يجز مع وجود الماء لفوت صلاة الجمعة فلأنْ لا يجوز لفوت صلاة الجنازة مع الإِمام أولى؛ لأن صلاة الجنازة فرض على الكفاية. وكذلك ما نقول في جريان القصاص بين الرجل والمرأة، وبين العبدين في الأطراف، لمَّا جرى بينهم في النفس مع عظم حرمتها وضمانها بالكفارة، فأولى أن يجري في الطرف مع خفة حرمته. وكذلك نقول في قطع الأطراف بطرف، لمَّا قُتل الجماعة بالواحد مع عِظَم حرمة الأنفس، فأولى أن يفعل ذلك في الأطراف مع خفة حرمتها. وقد احتج أحمد -رحمه الله- بهذا في رواية بكر بن محمد عن أبيه "لا يقتل الحر بالعبد" (1) .
وأصحاب أبي حنيفة يقولون: يقتل (1) ، ولا يجعلون بين الحر والعبد قصاصاً في الجراح، والنفس أعظم من الجراح (2) ، فهذا يدخل عليهم. والدليل على صحة ذلك: أن أحد أقسام الدلالة على صحة العلة التأثير وشهادة الأصول. وهذا المعنى موجود في الأوْلى؛ لأنه قد أثر. ولأن الأوْلى فيه ضرب من التنبيه، والتنبيه حجة في الشرع. وقد دل على ذلك الكتاب في قوله: (فَلاَ تُقُل لَّهُمَا أف) (3) نبه على تحريم الضرب. وكذلك قوله: (وَمِنْهُم مَّنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِدِينَار لا يُؤَدهِ إِلَيْك) (4) تنبيه على الزيادة على ذلك.
فصل [الاستدلال بالقِرَان] الاستدلال بالقِرَان يجوز (1) وهو: أن يذكر الله تعالى أشياء في لفظ واحد ويعطف بعضها على بعض. نحو قوله تعالى: (أوجَاءَ أحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أو لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ) (2) ، فيكون اللمس هاهنا يوجب الوضوء؛ لأنه عطف على المجيء من الغائط. وقد استدل أحمد -رحمه الله- بالقرينة في باب التخصيص، فلولا أنها حجة له لم يخصص اللفظ بها، فقال في قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ) (3) : "المراد به العلم. قال: لأنه افتتح الخبر بالعلم فقال: (ألمْ تَرَ (4) أنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ، وختمه بالعلم فقال: (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيم) " (5) . وقال في رواية حرب في قوله تعالى: (وَأشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ) (6) فإذا أمِنه فلا بأس أن لا يشهد. انظر إلى آخر الآية (فَإِنْ أمنَ بَعْضُكُم بَعْضًا) (7) .
دليلنا:
واختلف أصحاب الشافعي: فذهب المُزَنى إلى جواز الاستدلال بذلك (1) . وذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز الاستدلال به (2) . دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يُفَرَّقُ بين مجتَمِع) (3) . وما روي عن أبي بكر في مانعي الزكاة: (لا أفرقُ بين ما جمعَ الله) (4) . وقول ابن عباس لما استدل على وجوب العمرة بكونها قرينة الحج [في] كتاب الله، وتلا قوله: (وأتمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (3) .
ولأن المعطوف في حكم المعطوف عليه، فيجب أن يُعطى الثاني حكم الأول. ولأن صيغة الأمر تناولتهما. واحتج المخالف: بأن جمع لفظ صاحب الشريعة بينهما في حكم من الأحكام لا يدل على اجتماعهما في غيره. ألا ترى أن العلة إذا جمعت الأصل والفرع في حكم، لا يجب أن يجمع بينهما في غيره. والجواب: أن العلة إذا جمعت بين الأصل والفرع قد أفادت حكماً شرعياً وهو إلحاق الفرع بالأصل في ذلك الحكم، يجب أن يقال مثل هذا في جميع لفظ صاحب الشريعة أن يفيد، وعندهم القرينة هاهنا ما أفادت (1) شيئاً بحال. واحتج: بأنه يجوز اقتران المتضادين في الأمر والنهي، كقوله: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُن مِنْ حَيْثُ) (2) وأمر بوطئهن ولم يكن واجباً، كما كان النهي واجباً.
وكذلك قوله: (كُلُوا مِنْ ثَمِرِهِ إِذَا أثمَرَ وءَاتوُا حَقَهُ يَوْمَ حَصَاده) (1) والأكل غير واجب [220/أ] . والجواب: أنا لم نقرن (2) هاهنا لدليل منع من ذلك. (*)
المجلد الخامس
باب العلة الدال على صحة العلة (1) والاعتراض عليها
والدلالة على صحتها (1) من وجوه خمسة: أحدها: لفظ صاحب [الشريعة] بنص (2) أو ظاهر أو تنبيه، فإنه يدل على صحة العلة كما يدل على صحة الحكم، فلا فرق بينهما. وذلك ضربان: أحدهما الكتاب. والآخر السنة. فأما الكتاب: فمثل قوله تعالى في تحريم الخمر: (إنَّمَا يُرِيدُ الشيطَانُ أن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ والْمِّيْسَرِ وَيَصُدكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصلاَةِ فَهَلْ أنْتُم مُّنْتَهُونَ) (3) وهذا عبارة عن الإسكار الذي يُحدث هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى. وقوله: (وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أتأخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإثْماً مبِيناً وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أفضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض وَأخذْنَ مِنْكُما ميثَاقاً غَلِيظاً) (4) . والإفضاء هاهنا الوطء. فدل على أنه يقرر المهر ويمنع من سقوط نصفه بالطلاق.
وقوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اْلأغْنِيَاءِ) (1) . وَالدولَة: ما يتداوله الناس. فقد جعل لهؤلاء المذكورين حقاً في الفيء كيلا يتداول المال الأغنياء دون الفقراء. وقوله تعالى: (وَإذَا بَلَغَ الأطفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأذِنُوا) (2) وهذا يدل على تعلق الاستئذان بالبلوغ. وقوله تعالى: (وَإذَا ضَرَبْتُمْ في اْلأَرْضِ فَلَيْس عَلَيْكُمْ جُنَاح أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ) (3) . وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أوْ رُكْبَاناً) (4) يدل على تعلق القصر بالضرب في الأرض، وصلاة الخوف بالخوف. كما إذا قال لعبده: إذا فعلتَ كذا فأنت حر، ولزوجته: إذا كان كذا فأنت طالق، فيدل على تعلق الحرية والطلاق بالمعنى الذي ذكره (5) . وكذلك قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطرُّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ) (6) يدل على تعلق إباحة الميتة بالضرورة. وقوله تعالى: (والْمحْصَنَاتُ مِنَ الذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (7) والمراد
به: الحرائر. وهذا يدل على اعتبار الحرية في الحلال وأن نكاح الأمة الكتابية لا يجوز؛ لأن ذكر الصفة في الحكم تعليل للحكم بها، ودليل على تعلقه بها. ومن ذلك قوله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النسَاءَ في الْمَحِيضِ) (1) . وقوله: [220/ب] وَالسَّارِقُ وَالسارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا) (2) . و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ منْهُمَآ مِائَةَ جَلْدَةٍ) (3) . لأن تخصيص صفة أو فعل في الحكم يدل على تعلقه بها. ولهذا قال أحمد -رحمه الله-: "إنه يدل على أن ما عداه بخلافه". وأما السنة: فمثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أيَنْقُصُ الرطبُ إذا يَبِس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذاً) . وقوله عليه السلام: (لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كُفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتلُ نفس بغير حق) (4) .
ونهيه عن بيع ما لم يُقبض، ورِبْح ما لم يُضمن (1) ، وعن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل (2) . وقوله: (إنما هو دم عِرْق) . وقوله: (إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوافات) . وقوله: (لا تُمسوه طيباً؛ فإنه ييعثُ يوم القيامة ملبياً) (3) .
و (إنَّما نهيتكم من أجل الدَّافَة) يعني الجماعة الذين وفدوا (1) . وقوله للمُحْرِمين (2) : (هل أشرتم؟ هل أعنتم؟) (3) . وقول الرواي: سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد. وزنا ماعز فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الأعرابي: (هلكتُ وأهلكتُ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اعتق رقبة) . وهذا يدل على تعلق (4) الحكم بالسبب المذكور. وقالت عائشة: عَتَقت بَرِيرة فخيّر [ها] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان زوجها عبداً (5) . وذلك يدل على تعلق التخيير برقِّ الزوج. ومثل ذلك في السنة أكثر.
وإذا ثبت التعليل بلفظ صاحب الشريعة، أو بلفظ الراوي عنه، فإنه ينظر فيه. فإن كان مطرداً لم يجز أن يزاد فيه، وإن انتقض أضيف إليه وصف آخر يؤثر في ذلك الحكم، وعلم بانتقاضه أنه نصَّ على بعض العلة، وجعل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم. وهنا كما روى بعض المخالفين (1) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبَرِيرة: (ملكْتِ بُضْعَك فاختاري) (2) . وهذا يدلُّ على أنها إذا اعتقت تحت الحر يكون لها الخيار. فأجبنا عنه: بأن هذا اللفظ غير محفوظ (3) . وقد استقصى الدارقطنى في [سننه] طرق هذا الحديث وألفاظه، ولم يذكر هذا اللفظ فيها (4) . ولو ثبت لكان تقديره، ملكتِ بُضْعَك تحت العبد فاختاري. وهذا متزن. وقد أضاف إليه بعضهم مصراعاً آخر فقال: مَلَكتِ بُضْعَكِ تَحْتَ الْعَبْدِ فَاخْتَاري ... وَبَدِّلِي الدَّارَ إنْ احبَبْتِ بِالدَّارِ (5)
الثاني: إجماع الأمة فهو حجة مقطوع بها. فما أجمعوا عليه من حكم أو علة وجب المصير إليه والعمل به. ومثاله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقضي القاضي وهو غضبان) أجمعوا على أن النبي عليه السلام نهى عن ذلك؛ لأن الغضب [221/أ] يشغل قلبه، ويغير طبعه، ويمنعه من التوفير على النظر والاجتهاد، فكان كل داخل على قلب الإِنسان من حزن وفرح، وجوع وعطش، ونوم ومرض بمنزلة الغضب. وقد يتفق الخصمان على علة، فيلزمهما حكماً في النظر لاعترافهما بصحة ما اتفقا عليه. وقد يتفق الخصمان على أحد وصفى العلة، ويختلفان في الآخر، فيجب المصير إلى مادل المعلل عليه. منها أن المعللين اتفقوا على اعتبار الجنس في تحريم التفاضل، واختلفوا في ضم الوصف الآخر إليه. وقال بعض أهل العلم: البيع لا ينقل الملك في زمان الخيار؛ لأنه إيجاب غير لازم، إذا لم ينضم إليه القبول (1) .
فيقول خصمه: المعنى في الأصل أن الإيجاب لم يصادفه القبول، وفي مسألتنا إيجاب صادفه القبول، فخالفه في الوصف الثاني، وقال: إيجاب غير لازم منتقض بمن اشترى عبداً على أنه صائغ فلم يكن صائغاً، فإن الإيجاب غير لازم، وقد انتقل الملك وكذلك إذا وجد به عيباً. وقد يختلفان في وصف، فيزيده أحدهما وينقصه الآخر. مثاله: إذا اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيباً لم يكن له رد أحدهما. وقال أبو حنيفة: يجوز (1) . وعلة من منع رد أحدهما: أن [فيه] تبعيض الصفقة على العاقد من غير رضاه (2) ، فوجب أن لا يجوز قياساً على ما قبل القبض (3) . فإن قال: المعنى في الأصل أنه تبعيض الصفقة على العاقد من غير رضاه في الإِتمام (4) ، وليس كذلك في الفرع، فإنه تبعيض الصفقة على العاقد من غير
رضاه في الفسخ، والتبعيض في الفسخ يجوز وفي الإِتمام لا يجوز. فإذا كان كذلك وجب على الزائد أن يقيم عليه الدليل؛ لأن العلة إذا استقلت بما اتفقا عليه فلا تجوز الزيادة، إنما بحسب الحاجة إليها يجب أن يبينها. الثالث: التأثير وهو أن يوجد الحكم بوجود معنى ويعدم لعدمه، فيدل ذلك على أن الحكم متعلق به وتابع له، وهذا هو العكس. وقد بينَّا فيما تقدم أنه ليس بشرط في صحة العلة، لكنه دليل على صحتها. وقد صرح أحمد - رحمه الله - بهذا في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسَّان: "إذا أقبل به وأدبر فكان مثله في كل أحواله، فهذا ليس في نفسي منه شىء". فقد صرح بأن وجود الحكم بوجوده وعدمه بعدمه دليل واضح على صحة القياس. وهذا مثل ما نقول: إن عصير العنب حلال، فإذا وجدت فيه الشدة المطرِبة حرُم، وإذا زالت الشدة حلَّ. فلو قدَّرنا عوْد الشدة لقدرنا عوْد التحريم. وهذا يدل [221/ب] على [أن] صحة التحريم تابع للشدة المطربة، ولأن النبيذ حرام لوجود هذه العلة فيه. وكذلك قوله: (فَإِذَا أحْصِنَّ فَإِنْ أتيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) (1) والعلة في نقصان أحدهما هو الرق، بدلالة أنه
يوجد بوجوده ويعدم بعدمه، فإن الرق ما دام موجوداً كان حدها خمسين. فإذا اعتقت وزال رقها كملت الحد. ولم يعدم بالعتق سوى الرق. فإذا ثبت أن نقصان الحد متعلق بالرق وجب أن يكون حد العبد على النصف قياساً على الأمة لوجود علة النقصان فيه. ومثل ما نقول في سفر المعصية، إذا كان معصية (1) : إنه معنى يتعلق به تخفيف الصلاة، فإذا كان معصية لم يتعلق به كالقتال (2) وتأثيره في الأصول أنه إذا كان طاعةً أو مباحاً جازت صلاة الخوف، وصلاة شدة الخوف مخرجة عن المعصية، فدل على أن الحكم تابع لذلك. ومثل ما قلنا: إن العلة في تحريم الربا التفاضل في الكيل دون الطعم، بدليل أن المكيلين متى تساويا من طريق الكيل جاز البيع فيهما وإن كانا مختلفين في الأكل. وحكى أبو سفيان السرخسي وأبو عبد الله الجرجاني عن أبي الحسن الكرخي أنه كان يمنع أن يكون وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها دلالة على صحتها (3) ، وخالفاه على ذلك.
والدليل على أن ذلك دلالة على صحتها: أنه دلالة على صحة العلل العقلية، وأن المعنى الموجب لكون المحل أسود (1) وجود السواد فيه وارتفاعه بارتفاعه. وإذا كان ذلك دلالة العقليات مع كون العلل فيها موجبة، فاولى أن يجري ذلك في الشرعيات مع كونها غير موجبة (2) . فإن قيل: تكفير المُستحِلِّ للخمر قد وُجد بوجود الشدة وعُدِم بعدمها، ولم يدل على أنها العلة في التكفير (3) . قيل: هذا لا يدل على بطلان هذا الأصل؛ لأن العلل الشرعية وما هو دلالة عليها، ليست بموجبة لما يتعلق بها من الأحكام. فغير ممتنع أن يدل على شىء ولا يدل على نظيره، كخبر الواحد يجوز إثبات الحكم به فيما لم يرد القرآن بخلافه، ولا يجوز قبوله (4) فيما يخالف القرآن، والنقل فيهما على وجه واحد (5) فإن قيل: لو جاز ذلك لوجب أن تصح علل القائسين في تحريم التفاضل في الأشياء المنصوص عليها؛ لأن كلاً منهم يمكنه أن يبين وجود الحكم بوجود علته، وعدمه بعدمها. ولا خلاف أن جميع عللهم غير صحيحة (6) .
قيل: الجواب عنه ما تقدم. وعلى أن [222/أ] ذلك دليل على صحتها ما لم يمنع مانع، كالعموم يدل على الحكم ما لم يمنع مانع، وقد منع هناك مانع. الرابع: شهادة الأصول فمثل قولنا: لا تجب الزكاة في إناث الخيل؛ لأنها لا تجب في ذكورها، كالبغال والحمير والفِيَلة وغير ذلك من الحيوانات، وعكسه الإِبل والبقر والغنم. وإذا كانت الأصول مرتبة على التسوية بين الذكور والإناث في وجوب الزكاة وسقوطها، ووجدنا الخيل لا زكاة في ذكورها إذا انفردت بالاجماع، لم تجب في إناثها. وكان ذلك طريقاً يقتضي غلبة الظن؛ لأن الظن يمنع وجود الحكم في الغالب. ولهذا نقول: إذا ثبت من عادة الواحد أنه إذا أعطى بناته شيئاً من أمواله أعطى بنيه مثله، وتكرر ذلك من فعله، ثم سمع أنه أعطى بناته شيئاً غلب على ظن من سمع ذلك ممن علِم عادته أنه أعطى بنيه. ومن ذلك: من صح طلاقه صح ظهاره. وما جاز بيعه جاز رهنه. ومن لزمه العُشْر لزمه ربع العُشْر. وما حرم فيه [التفاضل] حرم فيه التفرق قبل التقابض. ومثل ذلك كثير. الخامس: قيام الدلالة على بطلان ما سواها مثاله: اختلاف الفقهاء في علة فساد البيع حالة التفاضل، مع اتفاقهم أن الأصل يبطل بتعليله بإحدى العلل المذكورة. فمتى قامت الدلالة على بطلان جميعها إلا واحداً تعين الحق في الحرية في الآخر، كما لما لم يكن هناك من يستحق الحرية غيره.
فصل [الطرد لا يدل على صحة العلة] وأما الطرد فليس بدليل على صحتها، لكنه شرط في صحتها (1) . وقد تقدم الكلام في ذلك، أن الطرد شرط في صحتها، وأن تخصيصها نقض لها. وهذا ظاهر قول أحمد - رحمه الله - وأن الطرد ليس بدليل على صحتها؛ لأنه قال في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسَّان: "القياس: أن يقاس على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، وأقبل به وأدبر". وقال أيضاً - رضي الله عنه - في رواية الأثرم، مذكور في كتاب الصيام: "إنما يقاس الشىء على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا شبَّهته به فأشبهه في حال وخالفه في حال، فأردت أن تقيس عليه فقد أخطأت، قد يوافقه في بعض أحواله ويخالفه في بعض، فإذا خالفه في بعض أحواله فليس هو مثله". وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة: الجرجاني والسرخسي (2) ، وأكثر أصحاب الشافعي (3) والمتكلمين.
دليلنا:
وقال بعض الشافعية: الطرد دليل على صحتها (1) . دليلنا: أن الطرد لو كان دليلاً على العلة لجاز [222/ب] أن يقتصر على ذكر العلة في الفرع من غير ذكر الأصل وتكون العلة صحيحةً لوجود الطرد على أصله. مثل: أن يسأل عن تحريم النبيذ فيقول: إنه شراب فيه شدة مُطرِبة، فوجب أن يكون حراماً. والدليل على أن الشدة المطربة دليل على تحريمه: أن ذلك مطرد فيه، لا ينتقض على أصل. فلما أجمعوا على أنه ليس بدليل، وأنه دعوى لا دليل عليها، دل على أن الطرد ليس بدليل على صحة العلة. يدل على ذلك أن كل ما هو دليل على صحة العلة فلا فرق بين أن يذكر في الفرع أو في الأصل، مثل قول صاحب الشريعة ونطقه به. ولأنه إذا لم يكن ذلك دليلاً في الفرع وجب أن لا يكون دليلاً إذا رده إلى الأصل؛ لأن دعواه للطرد فيهما جميعاً واحدة، ولا فرق بينهما. ولأن جريانها في معلولاتها ليس فيه أكثر من أنها جامعة لفروعها، وهذه الفروع قوله ودعواه، فيكون جامعاً بين دعوتين، فلا يكون من ذلك دليلاً على صحة علته.
وقد قيل: الطرد زيادة في الدعوى؛ لأنه يقال له: ما الدليل على أن العلة ما ذكرته في الأصل؟ قال: لأني أطردها ولا أنقضها في موضع من المواضع. وهو يطالب بالدليل على صحة ما فعله في جميع المواضع، فلا يجوز أن تصح الدعوى بزيادة الدعوى. وأيضاً: فإن الطرد لو كان دليلاً على صحة العلة لم يجز وجوده مع الفساد. والعلة الفاسدة تطرد كما تطرد الصحيحة. مثل ذلك: أن يعلل فيما يخالف الإِجماع بعلة تطَّرد. ومثال ذلك في إزالة النجاسة بالمائعات: مائع لا يعقد على جنسه القناطر، أو لا تبنى عليه القناطر، أو الجسور (1) ، أو لا تكون فيه السباحة، أو لا يصطاد فيه السمك، فوجب أن لا تزال به النجاسة، كاللبن والدهن والمرق، ولا ينتقض بالماء، فإنه يعقد على جنسه الجسور وتبنى عليه القناطر. أو يقول: كلب، فوجب أن يكون نجساً كالميت. ويقول: مسَّ ذكرَه، كما لو مسَّ ذكره وبال. أو يقول في وطء الثيب: شَرَع في نافذ، فلا يمنع الرد بالعيب، كما لو مشى في الشارع وأخرج رأسه من الرَّوْزَنَة (2) . ولا ينتقض بالبكر، فإنه إذا وطأها لم يشرع في نافذ. ويقول فيه: أدخل المُدخل في المَدخل، فلا يمنع من الرد. أصله: إذا أدخل رأسه في القَلَنْسُوَة وأدخل رجله في الخف. وقال بعضهم في القهقهة: اصطكاك الأجرام العلوية، فلا تنقض الطهارة كالرعد.
ولا تنتقض بالضُّراط؛ لأنه احتكاك الأجرام السفلية [223/أ] . وهذا مع فساده متناقض فيه إذا منعته امرأته فصفعها (1) ، فإن ذلك اصطكاك الأجرام العلوية، وهو ناقض لطهارته (2) . وقال بعضهم في مس الذكر: إنه مس آلة الحرث، فلا ينتقض طهرُه، كما لو مس الفَدَّان (3) . وقال: إنه طويل مشقوق، فأشبه البوق والقلم والمنارة. وقال في السعي بين الصفا والمروة: إنه سعى بين جبلين، فوجب أن لا يكون ركناً في الحج كالسعي بين جبلى نيسابور (4) . ولا يشك عاقل أن هذا فاسد. ووجه فساده ظاهر؛ لأن المائعات لا تبنى عليها القناطر؛ لأنها لا تكون في طرق الناس. ولا تمنع الاستطراق والاجتياز، والماء الكثير يجعل (5) في الطريق ويمنع جواز الناس، فاحتاجوا إلى بناء القناطر عليه، فلم [يكن] لذلك تعلق بالتطهير، وكذلك لمس الفَدَّان سواء كان يصلح لآلة الحرث أو لم يصلح، وكان البوق على صفته، أو كان قصيراً، أو كان مصمتاً لا شق فيه، لا يثبت الوضوء بمسه، فلم يكن له تعلق بالحكم الذي علته عليه.
وفي ذلك تنبيه على فساد جميع ما يجانسه إذا كان ذلك فاسداً، وكان مع ذلك مطرداً، دلَّ على أن الطرد ليس بدليل على الصحة. واحتج المخالف: بأن عدم الطرد يفسد العلة، فوجب أن يكون وجوده دالاً على صحتها. ألا ترى أن عدم التأثير عند المخالف، لما كان دالاً على فسادها كان التأثير دالاً على صحتها. والجواب: أن الطرد شرط في صحة العلة، وليس بدليل على الصحة. وفَقْد شرط من شروط الحكم يبطله، ووجوده لا يدل على صحته. كالطهارة، فَقْدها يوجب بطلان الصلاة، ووجودها لا يدل على صحتها. واحتج: بأنها إذا اطَّردت فقد عدم ما يفسدها، فوجب أن لا تكون فاسدة. وإذا لم تكن فاسدة وجب أن تكون صحيحة؛ لأنه لا قسم بين الصحيح والفاسد، كما أنه إذا لم يكن قديماً وجب أن يكون محدثاً. والجواب: أنه قد وجد ما يفسده (1) ، وهو عدم الدليل على صحته. وعدم ما يصححه دليل على فساده. يدل على ذلك: أن من ادعى النبوة، وقال: الدليل على صحة قولي عدم ما يفسده. وإذا لم يكن ما يفسده وجب أن يكون صحيحاً. قلنا: قد وجد ما يفسده، وهو عدم ما يصححه. وكذلك من قال في كل حكم سُئل عن صحته: ليس هاهنا ما يفسده. وعدم ما يفسده دليل على أنه ليس بفاسد. وإذا لم يكن فاسداً وجب أن يكون صحيحاً. كان الجواب عنه: أن عدم ما يصححه دليل على فساده. [223/ب] .
فصل [ذكر الوصف للاحتراز من النقض] فإذا ثبت أن الطرد ليس بدليل على صحتها، (1) فإن علِّق الحكم بوصف، ولم يكن له تأثير في الأصل، لكن دخل للاحتزاز: فمن قال: الطرد لا يدل على صحتها، قال: لا يجوز تعليق الحكم به. ومن قال: يدل على صحتها، قال: يجوز ذلك (2) . والدليل على أنه لا يجوز: أن العلة إنما تستنبط من الأصل ويُعَلَّق (3) الحكم عليها، وإنما يعلم أن الوصف علة للحكم في الأصل، فلم يجز تعليق الحكم عليه، ورد الفرع إليه. واحتج المخالف: بأن الأوصاف تحتاج أن تكون مؤثرة ومحترزة، فلما جاز تعليق الحكم على المؤثر جاز تعليقه على المحترز [به] . والجواب: أن المؤثر فيه تأثير واحتراز، فلوجود الشرطين جُعل علة، والوصف المتحرز فُقِد فيه أحد الشرطين، فلم يصح لتعليق الحكم عليه.
فصل [في الاعتراض الفاسد على العلة] وذلك من وجوه: أحدها: أن يقول المخالف: لو كان الادخار علة في وجوب العُشْر لوجب أن يكون علة في الربا، فلما لم يكن علة في الربا لم يكن علة في وجوب العُشْر (1) . وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يجب إذا لم يكن علة في حكم أن لا يكون علة في حكم آخر مخالف له؛ لأن الأحكام المختلفة تختلف عللُها، فإنه قد يكون في أحدها مانع من ضمها ولا يكون في الآخر. ألا ترى أن نصه في الربا على المِلْح منع من أن يكون القوت علة في الربا، وليس هذا المانع في وجوب العُشْر. فإن قيل: فقد قلتم: إن ما لا يزيل الحدث لا يزيل الخبث. وإن مالا يصح الوضوء به لا يصح إزالة النجاسة [به] ، وهذه مناقضة لما قلتم (2) ، لأنهما حكمان مختلفان. قيل: المقصود بهما الطهارة التي تستباح بها الصلاة، فكان طريقاً واحداً. فالمانع الذي لا يصح به أحدهما لا يصح به الآخر، وليس كذلك العُشْر والربا، فإنهما حكمان مختلفان متباينان يقصد بكل واحد منهما غير ما يقصد به الآخر.
ولهذا قلنا للمخالف: إن ما ليس من جنس الأثمان لما لم يدل على جواز النَّسَأ فيه لم يدل على جواز التفرق قبل التقابض؛ لأن معناهما واحد، وإذا جاز أحدهما جاز الآخر، وإذا حرُم أحدهما حرُم الآخر. اعتراض ثانٍ: على قياس الوضوء على التيمم في وجوب [224/أ] النية بأن الوضوء شُرع قبل التيمم، فلا يجوز أن يكون المتأخر أصلاً للمتقدم (1) . وهذا فاسد (2) ؛ لأن ذلك إنما لا يجوز إذا لم يكن لوجوب النية في الوضوء طريق غير التيمم، فلا يجوز أن يكون وجوب النية في الوضوء سابقاً للتيمم الذي هو طريق ثبوتها. فأما إذا جاز أن تكون نية الوضوء ثابتة من غير جهة التيمم من آية أو سنة أو قياس على غير التيمم، ثم شرع التيمم وأوجبت النية فيه، وأودع فيه معنى يوجد في الوضوء صار طريقاً لثبوت النية ودليلاً عليها، وتأخره عنه لا يمنع صحته؛ لأن الدليل يجوز أن يَرِد بعد الدليل، وتتجدد الطريق بعد الطريق. ولهذا نقول: إن الحكم إذا ثبت بقرآن ثم ورد بعده قول النبي - صلى الله عليه وسلم - دالاً عليه، كان كل واحد منهما طريقاً لثبوته، وكان المستدل بالخيار، إن شاء استدل بالقرآن، وإن شاء استدل عليه بالسنة.
وكذلك معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظهرت في أوقات مختلفة من نزول القرآن عليه، وتسبيح الحصى في يديه (1) ، وحنين الجذع
إليه (1) ونَبْع الماء من بين أصابعه (2) وكلام الذراع (3) وغير ذلك. وكل واحد منها دليل على صدقه، وطريق ثبوت نبوته.
اعتراض ثالث: على القياس في العقد الموقوف (1) بأنه نكاح لا تتعلق به الأحكام المختصة به، أو لا ببعضه استباحة، فكان باطلاً، كما لو تزوجها في العدة، فإن موضوعه فاسد؛ لأن العقد متبوع والأحكام تابعة، ولا يجوز أن يستدل بعدم التابع على عدم المتبوع، وإنما يستدل بعدم المتبوع على عدم التابع. وهذا فاسد؛ لأن الشريعة قد تقررت، والأصول قد ترتبت على أن النكاح إذا كان صحيحاً تتبعه أحكامه، وإذا كان فاسداً لا تتبعه الأحكام. فإذا كان كذلك، ووجدنا عقد النكاح لا تتبعه أحكامه، وجب أن يكون (2) فاسداً. ولأنهم (3) ناقضوا في ذلك، وقالوا: لا يصح ظهار الذمي؛ لأنه لا يصح
منه التكفير بالصوم، والتكفير من أحكامه (1) . اعتراض رابع: أن نفرق بين الأصل والفرع مع وجود العلة الموجبة للمنع بينهما (2) . مثل: أن نقيس النبيذ على الخمر في التحريم لوجود الشدة المطربة. فيقول الخصم (3) : لا يجوز اعتبار النبيذ بالخمر؛ لأن الخمر؛ يكفر مستحلُّها ويفسق شاربُ قليلِها، ولا يكفر مستحل النبيذ ولا يفسق شارب قليلِه. وهذا فاسد؛ لأن افتراقهما [224/ب] في حكم لا يوجب افتراقهما في حكم آخر. واجتماعهما في علة الحكم يوجب اشتراكهما في الحكم. فكان الفرق في مقابلة الجمع بالعلة بمنزلة معارضة الدليل بما ليس بدليل. اعتراض خامس: أن يبدِّل لفظ العلة بغيره، ثم يفسده (4) . نحو قولنا في الصائم - إذا أكره على الفطر بالأكل والشرب -: إن ما لا يفسد الصوم سهوه لم يفسده إذا كان مغلوباً عليه. أصله: القيء. فنقول: ليس في كونه مغلوباً عليه أكثر من أنه معذور، والعذر لا يمنع
الإفطار، الدليل عليه: المريض والمسافر إذا أكلا. وهذا فاسد؛ لأن العذر غير (1) الغلبة، ومعناهما يختلف؛ لأن العذر [بالمرض] (2) لا يسلب الاختيار. والغلبة تسلب الاختيار، وإذا نقل لفظ العلة إلى لفظ آخر لا يفيد معنى لفظ العلة، ثم أفسده لم ينفعه إفساده إياه، ولم يكن إفساداً للعلية. ويدل على ذلك: أن الصائم إذا استقاء عامداً لمرض به كان معذوراً وأفطر بذلك. فإذا ذرعه القيء لم يفطر. فدل هذا على الفرق بين المغلوب وبين المعذور والمختار. اعتراض سادس: قول القائل: لا يجوز أن يوجد النفي من الإثبات، والإثبات من النفي (3) . مثاله: قول أصحاب أبي حنيفة (4) : عبد تجب في رقبته زكاة التجارة فلا تجب عليه (5) زكاة الفطر، كالعبد الكافر (6) .
فقال بعض من لا يُحصل: لا يجوز أن يؤخذ الحكم من ضده ونقيضه. وهذا فاسد. وقد ورد الشرع بمثل ذلك، قال النبي - عليه السلام -: (لا وصية لوارث) فجعل ثبوت الميراث علَماً على نفي الوصية. ونهى عن مهر البغي (1) فجعل كونها بَغِياً علة لنفي المهر. وقول النبي -عليه السلام-: (إنَّها ليست بنجَس، إنها من الطَّوافين عليكم) . ومثل ذلك كثير. ولأن علل الشرع أمارات بقصد صاحب الشرع وجعله إياها أمارات. فإذا كان كذلك جاز أن يجعل النفي علة للإثبات، والإثبات علة للنفي، كما يجوز أن يجعل الإثبات علة للإثبات، والنفي علة للنفي، ولا فرق بينهما.
فصل إذا علَّل المسؤول، فنقض الحكم عليه، ففسر لفظ علته بما يدفع النقض، نُظِر (1) : فإن كان التفسير مطابقاً للفظ العلة قبل منه، وإن كان مخالفاً للفظ علته لم يقبل منه. وأما التفسير المطابق فمثل أن يقول (2) في المتولِّد بين الغنم والظباء: لا زكاة فيها؛ لأنها متولدة من أصلين أحدهما لا زكاة فيه (3) . فوجب أن لا تجب فيه زكاة. أصله: [225/أ] إذا كان الأمهات من الظباء، وهذا على [قول] أبي حنيفة (4) . فأما على قولنا، فإن الزكاة تجب (5) . فيقول الخصم (6) : هذا ينتقض بالأولاد المتولدة من المعلوفة والسائمة. فقال: أردت به لا زكاة فيها بحال. والمعلوفة فيها الزكاة بحال، وهي إذا سمنت (7) .
وهذا التفسير يقبل؛ لأن ظاهر قوله: لا زكاة فيه، أنه لا زكاة فيها بحال. أما التفسير المخالف، فهو أن يقول: مكيل، فوجب أن يحرم فيه التفاضل. أصله: الأربعة المنصوص عليها. فيناقض بالجنسين (1) . فيقول: أردت به إذا كان جنساً واحداً، فلا يقبل منه؛ لأن لفظه عام في جنس واحد وجنسين، فيريد أن يجىء بلفظه زيادة، يضيفها إليه ليخرج موضع النقض من لفظ العلة، وهذا لا سبيل له إليه بعد انتقاض ما تناوله لفظ علته. وقال بعضهم: إذا جاز لصاحب الشريعة أن يطلق لفظاً عاماً ثم يخصه جاز ذلك لمعلل. وهذا فاسد؛ لأن من يقول: لا يجوز تأخير البيان لا يُجَوِّز ذلك إلا أن يكون البيان سابقاً، ليكون دليل التخصيص بمنزلة القرينة. ومن يجوِّز تأخير البيان، فإنّما يجوِّزه إلى وقت الحاجة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. والمعلل قد أخر بيانه عن وقت الحاجة وهذا [غير] جائز (2) . وجواب آخر: وهو أن لصاحب الشريعة النسخ، وله ذكر بعض العلة وترك الباقي. وهذا لا يجوز للمسؤول القاصد إلى تثبيت الحكم بعلته. فأما إذا نازعه الحكيم في وصف علته، وامتنع من تسليمه، ففسره بما يوافقه، ويسلم له، وكان اللفظ محتملاً لما فسره به، وتستقل العلة بذكره قُبِل منه. مثاله أن يقول: الحج لا يسقط بالموت؛ لأنه فعل تدخله النيابة، استقر عليه في حال الحياة، فلا يسقط بالموت، كالدين.
فيقول الخصم: الحج لا تدخله النيابة، ويكون الحج للحاج دون المحجوج عنه. فيقول المعلل: أردت بالنيابة أن للمحجوج عنه أن يأمره بفعله، ويجوز للفاعل أن يقصد بقلبه أنه يفعله له، أو يجب عليه ذلك. وهذا يسلمه الخصم، وهو ضرب من النيابة. فصل إذا كانت العلة للجواز فلا تنتقض بأعيان المسائل (1) . مثاله أن يقول: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون؛ لأن من وجب في ماله العُشْر، جاز أن يجب في ماله ربع العُشْر. فقال: هذا ينتقض بما دون المائتين، وببنات البُدْن والحمير والبغال وسائر الأموال التي لا تجب الزكاة فيها. أو قال [في الصبي والمجنون] : حر مسلم، فجاز [225/ب] أن تجب الزكاة في ماله قياساً على البالغ العاقل. فقال: ينتقض بالأموال التي ذكرناها. وهذا ليس ينتقض؛ لأن النقض وجود العلة مع عدم الحكم، وليس حكم هذه العلة وجوب ربع العُشْر أو وجوب الزكاة في كل ماله، وإنما حكمها وجوب ربع العُشْر أو وجوب الزكاة في مال غير معيَّن. فإذا وجبت الزكاة في مال من الأموال وأسقطها عن غيره كان حكم العلة موجوداً، ولم يكن النقض داخلاً على العلة.
فصل [التسوية بين الفرع والأصل تدفع النقض] إذا انتقضت علة المعلل، فقال: قصدت التسوية بين الأصل والفرع (1) ، جاز (2) . وهو قول أصحاب أبي حنيفة (3) . وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز ذلك (4) . ومثاله: أن نقول في المسح على العمامة: عضو يسقط في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. فيقول المخالف: هذا ينتقض به في الغسل من الجنابة (5) .
فنقول: قصدنا التسوية بين الرأس والقدمين، والرأس والقدمان يُنْقَضان في غسل الجنابة. وكذلك السلم، موجود عند المحل، فصح السلم فيه كما لو كان موجوداً حين العقد. ولا يلزم عليه الجواهر؛ لأنها لو كانت موجودة حين العقد لم يجز السَّلَم فيها. ومثاله ما قاله الحنفي: من صح قبوله البيع صح قبوله النكاح. أصله: الحلال. فقيل له: ينتقض بمن له أربع نسوة، فإنه يصح قبوله للبيع، ولا يصح قبوله للنكاح. فقال: قصدت التسوية بين المحرم والمحل، والمحرم والحلال يتفقان في ذلك. أو قال: مائع فجاز إزالة النجاسة به كالماء. فقال خصمه: ينتقض بالمائع النجس. فقال: قصدت التسوية بين المائع والماء، والنجس لا يجوز إزالة النجاسة به فيهما. والدلالة عليه: أن القصد بالعلة التسوية بين الأصل والفرع، فإذا استويا في الحكم وفي ضده، دل ذلك على قوة الشبه بينهما، وجرى ذلك مجرى قوله: بنو (1) بكر زرق كبني تميم، فبان (2) أن في بني بكر أشهل، وفي بني تميم أشهل، لم يمتنع ذلك من صحة الشبه، كذلك هاهنا. وأيضاً: فإن الكسر كالنقض، بدليل أن كل واحد منهما يمنع الاحتجاج بالعلة.
ثم ثبت أن التسوية في الكسر بين الأصل والفرع يمنع لزومه، كذلك النقض. ومثاله ما قاله المخالف فيمن وطىء ليلا في كفارة الظهار: إن وطأه لم يصادف صوماً فلم يفسد، كالوطء في كفارة القتل. فقيل له: لا يمتنع أن لا يصادف الصوم ويفسد، كما لو نوى صيام تطوع أو قضاء، فإن التتابع يفسد، وإن لم يفسد [266/أ] الصوم. فيقول المخالف في الأصل مثله، وهو كفارة القتل، وأن ذلك يفسد، كذلك في الظهار، فيكون ذلك جواباً سديداً، كذلك هاهنا. وأيضاً: فإنه ليس من شرط العلة جريانها في جميع المعلول. بدليل أنه لو كان الخلاف في فصلين، فنصب العلة على أحدهما كانت صحيحة، فإذا لزم على العلة نقضاً، فقال في الأصل مثله، فأكثر ما فيه أنها لم تجر في جميع المعلومات، وذلك جائز. واحتج المخالف: بأن النقض، وجود العلة مع عدم حكمها. وحكم هذه العلة صحة قبول النكاح دون التسوية. وقد وجدت العلة، وحكمها معدوم. والجواب: أن النقض وجود العلة مع عدم حكمها، مع اختلاف الأصل والفرع في ذلك. فأما مع اتفاقهما، فليس هذا حد النقض وصفته. واحتج: بأن هذا القائل يسقط الأصل؛ لأن حكم العلة إذا كان التسوية بين الأصل والفرع وجب أن يقيس الحلال على ما ليس بحلال لصحة قبوله للبيع، ويكون حكمهما مساوياً لحكم الحلال، وهذا لا تجده بحال. والجواب: أنه لا يسقط الأصل؛ لأن الأصل مجمع على حكمه، ولا حاجة بنا إلى قياسه على غيره. والفرع مختلف فيه، فَبِنا حاجة إلى قياسه
مسألة
على غيره. فبان أن الأصل لا يسقط، ووجود [علة] النص فيهما يدل على تأكيد شبهه به في الحكم وضده (1) . واحتج: بأن وجود التسوية إقرار بالنقض في الأصل والفرع. والجواب: أن هذا إقرار بالأصل والفرع لم يجريا في جميع المعلول. وقد بينَّا أن جريانهما في جميعه ليس بشرط. ثم هذا يلزم عليه التسوية بين الأصل والفرع في الكسر. واحتج: بأن ما أفسد إذا لم يمكن التسوية أفسد وإن أمكن التسوية، يدل عليه الممانعة وعدم التأثير. والجواب: أنه إذا لم يمكن التسوية، فالعلة لم تجر في شىء من المعلول، فإذا أمكن جرت في شىء مثله. ثم يلزم عليه الكسر، فإنه يفسد إذا لم يمكن التسوية، ولا يفسد إذا أمكن. مسألة لا يجوز للمسؤول أن ينقض السائل بأصل نفسه (2) .
وحُكي عن الجرجاني أنه كان يستعمله (1) . وسئل أبو بكر الباقلاني (2) عن ذلك فقال: له وجه في الاحتمال (3) . ومثاله، أن يقول: مهر المثل يتنصَّف بالطلاق قبل الدخول؛ لأنه مهر يستقر بالدخول؛ فوجب أن يتنصَّف بالطلاق قبله. أصله: المسمى في العقد. فيقول المسؤول من أصحاب أبي حنيفة: هذا ينتقض على أصلي بالمسمى بعد العقد، فإنه يستقر بالوطء، ولا يتنصَّف بالطلاق قبله، وإنما يسقط جميعه يسقط جميع مهر المثل (4) . [266/ب] . أو يقول: لا يجب للمتوفى عنها زوجها السكنى؛ لأنه لا نفقة لها، قياساً على الموطوءة بشبهة (5) . فيقول المسؤول من أصحاب الشافعي: هذا ينتقض على أصلي بالمطلقة البائن الحائل (6) ، فإنه لا نفقة لها، ويجب لها السكنى (7) .
دليلنا:
دليلنا: أن علل المعلل حجة عليه في المواضع التي ينقض عليه بها لوجود علة فيها. ولا يجوز أن يدفع الحجة بدعواه. ولا يجوز أن يقول: أنا أَدلُّ عليه بدليل أقوى من القياس؛ لأنه انتقال من موضع فرض الكلام فيه إلى غيره، وهذا لا يجوز له. ويكون ذلك انتقالاً منه، كما لا يجوز إذا فرض الكلام في الدليل من الخبر أن ينقله إلى القياس، أو من القياس إلى الخبر. وإذا لم يجز للسائل أن ينقل الكلام عن الموضع الذي فرضه المسؤول؛ لأنه تابع للمسؤول، فلأنْ لا يجوز للمسؤول أن ينقله عن الموضع الذي فرض الكلام فيه باختياره أولى. ويخالف هذا في الابتداء، فإن للمسؤول أن يبني على أصله؛ لأنه لم يتعين عليه الكلام في موضع بعينه. ألا ترى أن له الاختيار في الاحتجاج بما اختار من أنواع الأدلة، فإذا فرض الكلام في شىء منه وعيَّنه لم يجز أن ينتقل عنه، وإذا انتقل كان منقطعاً. فدل على الفرق بينهما. وأما نقضها على أصل المعلل فصحيح؛ لأنه يعلمه أنها منتقضة على أصله، لوجود علته مع عدم حكمها على أصله. وإذا بين له ذلك كانت العلة منتقضة باعتراف المعلل، فلزمه النقض. واحتج المخالف: بأن المسؤول له أن يبني على أصله في الابتداء، فيقول: إن سلَّمت موضع النقض فقد انتقضت العلة، وإن لم تسلِّم، دَللتُ على صحته (1) .
ولأنه إذا كان للمسؤول أن ينقض علة السائل على أصل السائل، وإن كان المسؤول لا يقول به، كذلك يجوز على أصل نفسه، وإن كان السائل لا يقول به. والجواب: ما ذكرنا (1) . فصل ولا يجوز لأحد أن يلزمه خصمه ما لا يقول به إلا النقض (2) . فأما غير النقض، من دليل الخطاب أو القياس أو المرسل أو غير ذلك، فلا يجوز له التزامه؛ لأنه يكون محتجاً بما لا يقول به، ومثبتاً للحكم بما ليس بدليل. ويخالف الناقض؛ لأنه غير محتج بالنقض، ولا مثبت للحكم به. وإنما يعلم المعلل أصله وينبهه على وجود علته فيه مع عدم حكمها، وهو معروف أن ذلك نقض لعلته وإبطال [227/أ] لها. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقول دليل خطابه يلزمك على أصلك؛ لأنك
تعتقد صحته، وأنه طريق لإِثبات الحكم؟ قيل: لايجوز ذلك؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يطالب خصمه بإثبات الحكم من طريق فاسد عند نفسه [فـ] كما لا يجوز أن يثبته من طريق فاسد لا يجوز أن يطالب خصمه بذلك. ولأن له أن يقول: أنت لا تقول بدليل الخطاب، وإنما تركته لما هو أقوى منه، فكان تركه في هذا الموضع مجمعاً عليه (1) . ومثال ذلك، أن يحتج على بطلان النكاح من غير ولي بما روت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أَيُّما امرأةٍ نَكَحَت نفسَها بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطل) . فيقول خصمه: يجب إذا نكحت بإذن وليها أن يجوز من طريق دليل الخطاب. والجواب عنه بما ذكرنا. فصل إذا لم يسلم النقض، فقال الناقض: أنا (2) أَدِلُّ على صحته، لم يجز ذلك (3) ؛ لأنه يريد أن ينقل الكلام عن موضع فيه إلى غيره، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز الانتقال من دليل إلى دليل، وإن لم يدل عليه، ولكنه إن أراد أن يكشف عن أصل المعلل يلغى (4) من ذلك ولم يجز للمعلل منعه منه.
مثاله: إذا قال أصحاب أبي حنيفة فيمن تيمَّم لشدة البرد وصلى: لا يعيد؛ لأنه مأمور بالصلاة، فوجب أن لا يؤمر بقضائها، قياساً على الصلاة بالوضوء (1) . أو المريض إذا تيمَّم، فنقض ذلك عليه بالمحبوس في المِصْر عن الماء، فإنه يتيمَّم، ويصلي، ويعيد. فقال: لا يعيد في إحدى الروايتين. فقال له: هذا مذهب زُفَر (2) وليس هذا بمذهب أبي حنيفة (3) . وذكره الطحاوي (4) في اختلاف الفقهاء (5) . فصل إذا نقض على خصمه، ثم رجع إلى مناكرتها لم يقبل منه (6) .
مثاله ما قاله بعضهم في فُرْقة اللعان: إنها فُرْقة تتعلق بسبب من جهة الزوج تختص النكاح، فوجب أن تكون طلاقاً. أصله: فُرْقة الطلاق. فقال له خصمه: إنه منتقض بمن زوج ابن أخيه وهو صغير، فإن له خياراً [عند] بلوغه، وليس بطلاق. فقال: قد قلت لا يختص النكاح؛ لأنه يثبت مثل ذلك في إجازة المولى عليه؛ لأن الصغير إذا أجَّره أبوه أو وليه ثم بلغ كان له فسخ الاجارة، فلا يختص بالنكاح. فقال له خصمه: وكذلك عندي لا يختص اللعان بالنكاح؛ لأنه يجوز أن يلاعن في نكاح فاسد ووطء شبهة، إذا كان لها ولد يريد نفيه. وهذا مناكرة بعد مناقضة. وإنما لا يقبل منه؛ لأن النقض تسليم للعلة واعتراف بوجودها، فإذا أنكرها بعد الاعتراف بها لم يقبل رجوعه عما اعترف به. فصل القول بموجب (1) العلة يبطل احتجاج العلل به (2) .
لأنه إذا قال بموجبها كانت العلة في موضع الإِجماع، ولا تكون متناولة لموضع الخلاف. ومثاله أن يقول في الاعتكاف: لُبْث في مكان مخصوص، فوجب أن لا يكون قُرْبة بمجرده، قياساً على الوقوف بعرفة. فيقول خصمه: عندنا لا يكون اللُّبْث بمجرده قُرْبة حتى تقترن به النية. فيكون الحكم الذي علله مجمعاً عليه. وكذلك إذا قال: لا تجتمع زكاة الفطر وزكاة التجارة؛ لأنهما زكاتان مختلفتان، فلا تجتمعان في مال واحد، كزكاة السَّوْم وزكاة التجارة. فيقول خصمه: أقول بموجبه؛ لأنهما لا تجتمعان في مال واحد؛ لأن زكاة الفطر تجب عن بَدَن العبد، وزكاة التجارة تجب في قيمته، وهما مختلفتان. وأما إذا كان حكم علته عاماً، فقال بموجبها في بعض معلولاتها، لم يصح. مثاله: أن يقول: [القيام] ركن من أركان الصلاة، فلا يكون لركوب السفينة تأثير في سقوطه، كالركوع والسجود. فيقول الخصم: أقول بموجب العلة؛ لأن عندنا لا تأثير له في سقوطه إذا
كانت السفينة واقفة، فإنه لا يجوز أن يترك القيام، وإنما يجوز إذا كانت سائرة. فيقال: إلا أن له تأثيراً في حال السير، والعلة عامة في حال الوقوف والسير جميعاً، فلم يكن قائلاً بموجبها. وكانت العلة حجة عليه في حال السير. وإذا ادعى أنه يقول بموجب العلة، ففسره بغير موجب العلة لم يصح، ووجب على المعلل بيانُه، فإذا بيَّنه سقط السؤال. وبيانه أن يقول في الحُليِّ: مال تتكرر الزكاة فيه، أو تجب الزكاة فيه بشرطي النصاب والحول. فوجب أن يكون له حالان: حال وجوب، وحال سقوط، أصله: الماشية. فيقول خصمه، إني أقول بموجب العلة؛ لأن لها حال سقوط، وهو إذا كان لصبي أو مجنون. فيقول المعلل: ليس ذلك حال المال، وإنما حال المالك. فليس ذلك قولاً بموجب العلة. وإن قال: أقول بموجب العلة فيما دون النصاب لم يصح أيضاً؛ لأن الحال يجب أن يكون في النصاب مع الحول، كما يكون للماشية، فلم يكن قولاً بموجب العلة (1) [228/أ] .
باب أقسام السؤال والجواب والمعارضات
باب أقسام السؤال والجواب والمعارضات السؤال (1) على أربعة أضرب (2) ، يقابل كل ضرب من
الجواب (1) من جهة المسؤول. أحدهما: السؤال عن المذهب، فيقول السائل: ما تقول في كذا؟ فيقابله جواب من جهة المسؤول، فيقول: هكذا. والثاني: السؤال عن الدليل بأن يقول: ما دليلك عليه؟ فيقول المسؤول: كذا. والثالث: السؤال عن وجه الدليل، فيبينه المسؤول. الرابع: السؤال (2) على سبيل الاعتراض والقدح فيه، فيجيب المسؤول عنه، ويبين بطلان اعتراضه وصحة ما ذكره من وجه دليله. فإذا ثبت هذا، فإذا سأل سائل عن حكم مطلق، نظر المسؤول فيما سأله
عنه، فإن كان مذهبه موافقاً لما سأل عنه من غير تفصيل فيه أطلق الجواب عنه. وإن كان عنده فيه تفصيل، كان بالخيار بين أن يفصِّله في جوابه وبين أن يقول للسائل: هذا مختلف عندي، فمنه كذا، ومنه كذا، فعن أيهما تسأل؟ فإذا ذكر أحدهما أجاب عنه، وإن أطلق الجواب كان مخطئاً (1) . مثاله: أن يُسأل حنبلي عن مس النساء هل ينقض الوضوء؟ وعنده إن كان لشهوة نقض، وإن كان لغير شهوة لم ينقض (2) . فيقول للسائل هذا التفصيل. وإن شاء قال: منه ما ينقض ومنه ما لا ينقض. [فعن أيهما تساءل] ؟ ومثل: أن يُسأل شافعي عن جلد الميتة هل يطهر بالدباغ؟ وعند المسؤول أن جلد الكلب والخنزير لا يطهر، وكذلك ما تولد منهما أو من أحدهما، ويطهر ما عدا ذلك (3) .
فيقول للسائل هذا التفصيل. وإن شاء قال: منه ما يطهر بالدباغ ومنه ما لا يطهر. فعن أيهما تسأل؟ فأمَّا إذا أطلق الجواب وقال: يطهر بالدباغ كان مخطئاً (1) . وإذا صح الجواب من جهة المسؤول قال السائل: ما الدليل عليه؟ وهو السؤال الثاني. فإذا ذكر المسؤول الدليل، فإذا كان السائل يعتقد أن ما ذكره ليس بدليل. مثل: أن يكون قد احتج بدليل الخطاب، والسائل حنفي لا يقول بدليل الخطاب، أو بالقياس، والسائل ظاهري لا يقول بالقياس فقال للمسؤول: هذا ليس بدليل. فإن المسؤول يقول له: هذا عندي دليل، وأنت بالخيار بين أن تُسَلِّمه وبين أن تنقل الكلام إليه [288/ب] فأَدِلُّ على صحته. فإن قال السائل: لا أسلِّم لك ما احتججت به، ولا أنقل الكلام إلى أصل كان معنتاً ومطالباً بما لا يجب عليه؛ لأن المسؤول لا يلزم أن يثبت مذهبه إلا بما هو دليل عنده، ومن نازعه في دليله، دل على صحته وقال بنصرته. فإذا فعل ذلك فقد قام بما يجب عليه فيه، وإن عدل إلى دليل غيره لم يكن منقطعاً؛ لأن ذلك لعجز السائل عن الاعتراض على ما احتج به وقصوره عن القدح فيه. هذا إذا كان الدليل الذي احتج به أصلاً جلياً مشهوراً. فأما إن كان دليلاً خفياً، فنازعه السائل فيه، وامتنع من تسليمه فهو بمنزلة الجلي المشهور.
وقال أبو علي الطبري (1) صاحب "الإِفصاح" (2) : يكون المسؤول منقطعاً، ولا يجوز أن يستدل بأصل خفي إلا بعد أن يستسلمه منه. فإن سلمه احتج به، وإن لم يسلمه دل عليه. فأما إذا احتج به، ثم نازعه السائل ولم يسلمه له لم يكن له تبيينه، ويكون ذلك انتقالاً من جهته وانقطاعاً منه، ويخالف الأصل المشهور؛ لأن شهرته تغنيه عن استسلامه وتبيينه (3) . مثاله: أن يُسأل حنبلي عن الحج هل يسقط بالموت؟ فيقول: لا يسقط؛ لأنه حق تدخله النيابة (4) ، استقر عليه حال الحياة، فلم يسقط بالموت كالدين (5) . فيقول السائل: لا أسلِّم أن النيابة تدخل الحج. فقال له المسؤول: إما أن تسلمه، وإما أن تنقلَ الكلام إلى النيابة فأدل على جوازها، فيكون المسؤول مصيباً إلا على قول صاحب "الإِفصاح" (6) ؛ لأنه لا
يلزمه أن يثبت مذهبه إلا بما هو دليل عنده، ومن نازعه فيما هو دليل عنده لا يلزمه أكثر من إقامة الدليل على صحته. وإذا فعل هذا فقد قام بما وجب عليه، فهو بمنزلة المحتج بدليل جلي مشهور نازعه السائل فيه. ولأن المسؤول لا يلزمه معرفة مذهب السائل؛ لأنه لا تضره مخالفته؛ ولا تنفعه موافقته، وإنما المعوَّل على الدليل يدل على صحة العلة وأوصافها. فإذا كان كذلك فخالفه السائل في أوصافها لا يدل على تفريطه إذا أمكنه إقامة الدليل على صحتها ووجوب اعتبارها، فلم يجز أن يكون سبباً لانقطاعه ومنسوباً إلى التقصير لأجله. وأما السائل إذا عارضه بما هو دليل عنده، وليس بدليل عند المسؤول، مثل: أن يعارض خبره المسند بخبر مرسل، أو خبرَ المعروف بخبر المجهول، وما أشبه ذلك. وقال المسؤول: إما أن تسلِّم ذلك لي فيكون معارضاً لما رويته، وإما أن تنقل [229/أ] الكلام إلى مسألة المرسل والمجهول. فهذا ليس للسائل أن يقوله ويخالف المسؤول فيه؛ لأن السائل تابع للمستدل فيما يورده المسؤول ويحتج به؛ لأنه لما سأله عن دليله الذي دله على صحة مذهبه والطريق الذي أداه إلى اعتقاده لزمه أن ينظر معه فيما يورده، فإن كان فاسداً بين فساده، وإن لم [يكن] فاسداً صار إليه وسلَّمه له. ولهذا المعنى جاز للمسؤول: أن يفرض المسألة حيث أجازه، وكان السائل تابعاً له. ولم يجز للسائل أن ينقله إلى جنبة أخرى ويفرضها فيه (1) .
السؤال الثالث: وهو السؤال عن وجه الدليل وكيفيته: فإنه ينظر فيه فإن كان الدليل -الذي استدل به المسؤول- غامضاً يحتاج إلى بيان وجب السؤال عنه. فإن تجاوزه إلى غيره كان مخطئاً؛ لأنه لا يجوز تسليمه (1) إلا بعد أن ينكشف وجه الدليل منه من جهة المسؤول على ما سأله عنه. وإن كان ظاهراً جلياً (2) لم يجز هذا السؤال، وكان السائل عنه متعنتاً أو جاهلاً. مثاله: أن يَسأل سائل عن جلد الميتة هل يطهر بالدباغ؟ فيقول: لا يطهر، لقوله:- (لا تَنْتَفِعُوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصَب) (3) (وبجلْدٍ ولا عَصَبٍ) (4) .
فيقول السائل: ما وجه الدليل فيه؟ فيكون مخطئاً لظهور ما سأله، عن بيانه ووضوحه. وإذا قصد بيانه لم يَزِده على لفظه (1) . السؤال الرابع: وهو السؤال على سبيل الاعتراض والقدح في الدليل. فإن ذلك يختلف على حسب اختلاف الدليل. [الاعتراضات على الاستدلال بالقرآن] فإن كان دليله من القرآن كان الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه (2) : أحدها: أن ينازعَه في كونه مُحْكماً، ويدعي أنه منسوخ. مثاله: أن يَحتجَّ الحنبلي (3) بقوله، تعالى: (فَإِمَّا مَنّاّ بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ
الْحَربُ أَوْزَارَهَا) (1) . فيدعى المخالف (2) أنه منسوخ بقوله تعالى: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (3) . فيقول المسؤول: إذا أمكن الجمع بينهما لم يجز حمله على النسخ (4) .
والثاني: أن ينازعه في مقتضى لفظه. مثل أن يَحتجَّ الحنبلي على وجوب الإِِيتاء (1) من مال الكتابة بقوله تعالى: (وَآتُوهُم (2) مِّن مِّالَ اللهِ الَّذي آتَاكُمْ) (3) . فيقول المخالف (4) : إنه إيتاء من الزكاة دون مال الكتابة (5) .
فيقول المسؤول: هو خطاب للسادات؛ لأنه قال: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ) فلا يصلح لإِيتاء الزكاة (1) . وقد يحتج على أن لولي المقتول أن يعفو على مالٍ بقوله تعالى: (فَمَنْ عُفيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَىْء فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (2) . فيقول [229/ب] المخالف (3) : العفو هاهنا هو البذل من القاتل، فكأنه أمر بأخذ المال إذا بذله القاتل. فيحتاج (4) أن يبين أن المراد به عفو الولي بأن يقول: حقيقة العفو هو: الترك دون البذل (5) .
الثالث: أن يعارضه بغيره. فيحتاج إلى أن يجيب عنه بأن يبين أنه لا يعارضه، أو يرجح دليلَه على ما عارضه به. مثاله: أن يحتج بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجَّ (1)) وهذا يقتضى أن يكون جميعُها مواقيتَ للناس [والحج] (2) . فيعارضه المخالف (3) بقوله تعالى: (الْحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَات) (4) والمراد به: إحرام الحج في أشهر معلومات. أو يحتج على تحريم الجمع بمِلْك اليمين بقوله تعالى: (وَأن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ) (5) . فيعارضه بقوله تعالى: (أوْ مَامَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) (6) . أو يعارضه بالسنة. ويكون جواب المسؤول ما ذكرته (7) .
[الاعتراضات على الاستدلال بالسنّة] وإن كان دليله من السنة فالاعتراض عليه من خمسة أوجه: أحدها: أن يطالبه بإسناده (1) . والثاني: القَدْح في إسناده. والثالث: الاعتراض على متنه. والرابع: أن يدعى نسخه. والخامس: أن يعارضه. فأما المطالبة بإسناده: فهي [صواب] (2) ؛ لأنه لا حجة فيه إذا لم يثبت إسناده. وقد جرت عادة المتأخرين من أهل العلم ترك المطالبة بالإِسناد، وهذا لا بأس به في الألفاظ المشهورة المتداولة بين الفقهاء. فأما الغريب الشاذ فإنه يجب المطالبة بإسناده. وذلك مثل ما احتج به أصحاب أبي حنيفة فقالوا: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا ربا بين المسلمين وبين أهل الحرب في دار الحرب) (3) .
وقال: (المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة) (1) .
وقال: (لا قصاص إلا بالسيف) (1) . وما أشبه ذلك.
.................................
[الاعتراض على الإِسناد] الاعتراض الثاني هو القَدْح في الإِسناد فمن ثلاثة أوجه: أحدها: رجوع الراوي عنه. والثاني: عدم عدالته. والثالث: كونه مجهولاً. فأما رجوع الراوي عنه فمثل حديث الحسن بن عُمَارة (1)
روى حديث نُبَيْشَة (1) (حُجَّ عن نُبَيْشَة، ثم حُج عن نفسِك) (2) . ثم رجع إلى الصواب، وهو حديث شُبْرُمَة: (حُجَّ عن نفسك، ثم حُج عن شُبْرُمَة) (3) .
والثاني: عدم عدالته مثل: بَركة بن محمد الحَلَبي (1) ، روى عن يوسف ابن أَسباط (2) عن سفيان الثوري عن خالد الحذَّاء عن ابن سيرين (3) عن أبي هريرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثاً فريضة،
مسنونتان في الوضوء) (1) .
قال أصحاب الحديث: بَرَكة الحَلَبي كذاب يضع الحديث (1) . الثالث: كونه مجهولاً: وهو مثل حديث ابن مسعود [230/أ] في الوضوء بالنبيذ، يرويه أبو زيد عن أبي فزارة، و"أبو زيد" مجهول و"أبو فزارة" ضعيف (2) . فإن سألنا المخالف عن هذا السؤال لزمنا أن نجيبَ عنه بما يتبين أنه معروف، وهو أن نبين أنه روى عنه رجلان عدلان، فيخرج بذلك عن حد الجهالة على شرط أصحاب الحديث (3) . ومثال ذلك: ما روى خالد بن أبي الصَّلْت (4) عن عِرَاك
ابن مالك (1) عن عائشة أنها قالت: (بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناساً يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم، فقال: أو قد فَعَلُوها؟ حولُوا مقْعَدي إلى القبلة) (2) .
فقال المخالف: "خالد بن أبي الصَّلْت" مجهول (1) . وحكى أبو بكر بن المنذر (2) في كتابه (3) هذا عن أبي ثور (4) .
وأجاب عنه فقال: هذا ليس بصحيح؛ لأن أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - قال: "مخرج هذا الحديث حسن" (1) . وفال غيره (2) : [خالد معروف] (3) روى [عنه (3) ] خالد الحذَّاء ومبارك بن فَضَالة (4) وواصل مولى أبي (5) عيينة (6) ، وهؤلاء ثقات، فوجب أن يكون خالد ابن أبي الصَّلْت معروفاً.
وكذلك حديث ابن أبي عَّياش (1) عن سعد (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيع الرطب بالتمر: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبِس؟) (3) . فقال المخالف: "زيد أبو عياش (4) " مجهول (5) . فيجيب عنه بأن الثقات رووا عنه (6) .
فأما الإِرسال فلا يعترض به على الحديث؛ لأنا قد بينا أن المذهب الصحيح جواز الاحتجاج به، فإذا اعترض به المخالف علينا لم نقبله. وكذلك لا يصح أن يُعترض عليه به. [الاعتراض على المتن] الاعتراض الثالث، وهو الاعتراض على متنه: فمن ثمانية أوجه: أحدها: أن ينازعه في مقتضى لفظه وموجبه، ويدَّعي أنه لا يتناول موضع الخلاف. مثاله: أن يَحتج حنبلي على أن العُشْر لا يجب في الخضروات (1) بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس في الخضروات زكاة) (2) . فقال المخالف: لا يسمى العُشْر زكاة عندنا، فلا يتناوله الخبر. فيجاب عنه: بأن هذا خطأ، لما روى عتََّاب بن أُسَيْد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يُخْرَصُ الكَرْمُ كما يُخرَصُ النَّخْل، ثم يؤدى زكاته زبيباً، كما يؤدى زكاة النخل تمراً) (3) .
.................................
وهذا يدل على أن العُشر ليس يسمى زكاة (1) . الثاني: أن يكون المتن جواباً عن سؤال والجواب مستقل بنفسه، فيدَّعي المخالف قَصْرَه على السؤال. ويمكن الجواب عن ذلك: بأن الاعتبار بجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - دون سؤال السائل وقد مضى بيانه في موضعه (2) . مثاله: أن يحتج حنبلي على وجوب الترتيب في الوضوء (3) بقوله -عليه السلام-: (ابدأوا بما بدأ الله به) (4)
.................................
فيقول المخالف: إنه خارج عن البداءة بالصفا (1) .
فيقول المسؤول: إنه عام في جميع ما بدأ الله به (1) . الثالث: أن يكون الجواب غير مستقل بنفسه، ويكون مقصوراً على السؤال، ويكون السؤال عن فعل خاص يحتمل موضع الخلاف وغيره، فيلزم السائلُ المسؤولَ التوقفَ فيه حتى يقوم الدليل على المراد به. مثاله: ما احتج به أصحابنا في وجوب الكفارة على الوطء ناسياً في رمضان (2) بحديث الأعرابى لما قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - وقعت على امرأتي. قال: (اعتق رقبة) (3) . فيقول المخالف: يحتمل أن يكون عمداً بدليل أنه قال: (هَلَكْتُ وأهلَكْتُ) . ويكون الجواب عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل وأطلق، فوجب أن يكون وجود الوطء موجباً للكفارة على أي وجه كان. وقوله: (هَلْكْتُ وأهلَكْتُ) لا يمنع النسيان؛ لأنه يحصل هالكاً، فوجب
القضاء والكفارة وإن لم يكن آثماً. الرابع: ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: (أُمِرَ بلال أن يشْفعَ الأذانَ ويوترَ الإِقامة) (1) . قال المخالف: ليس فيه ذكر الآمر من هو، ويحتمل أن يكون أمر به بعض أمراء بني أمية. وهذا غلط؛ لأنه لا يجوز أن يأمره بعض الأمراء بتغيير إقامة فعلها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زماناً طويلاً وبين يدي أبي بكر وعمر، فلو أمره بذلك أحد لم يقبله بلال، ولو قبله لم يرض به سائر الصحابة -رضي الله عنهم-.
وعلى أنه روى عبد الوهاب (1) الثقفي وإسماعيل بن عُلَيَّة (2) وابن لَهِيعة (3) أن أنس بن مالك قال: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يشفَع الأذان ويوترَ الإقامةَ) (4) ، وهذا نص.
الخامس: ما روي عن سمرة بن جندب أنه قال: (أما بعد: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمُرنا أن نخرجَ الصدقةَ من الذي نُعِدُّه للبيع (1)
وقال المخالف: هذا لا يدل على الوجوب؛ لأن الاستحباب يسمى أمراً. وقد اختلف الناس في ذلك، فيجوز أن يكون سماه أمراً على اعتقاده. ويجاب عنه: بأنه يجب حمله على الوجوب عندنا. وقد تقدم بيانه (1) . السادس: أن يدَّعى المخالفُ أن المتن متردد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره، فلا يجوز أن ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير دليل. مثاله: ما روي عن سَهْل بن سعْد الساعِدِي (2) أنه قال: (مضت السُّنَة: أن يُفرَّق بين المتلاعنين) (3) .
فقال المخالف: السنة قد تكون لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) . فيجاب عنه: بأن السنة إذا أطلقت اقتضت سنة [231/أ] النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم بيانه (1) . السابع: أن يدَّعي المخالفُ أن بعض لفظ الحديث من قول الراوي، أدرجه (2) في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا حجة فيه. مثاله: ما يحتج به على أن فُرْقة اللعان فسخ بما روى عبد الله بن عباس بقصة هلال بن أميَّة (3) إلى أن قال: (ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وقضى أن لا يُدْعى ولدُها لأب، ولا تُرْمى ولا يُرْمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد. وقضى أن لا بَيْت لها عليه، ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها زوجها (4)) .
وقال المخالف: هذا من قول عبد الله بن عباس أدرجه في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا نص في أن فُرْقة اللعان ليست بطلاق. ويجاب عنه: بأن ظاهره أنه من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه عطفه على ما قبله من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثامن: أن يكون المتن فعلاً جرى في حياة النبي. فيقول المخالف: يحتمل أن لا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه، فلا يكون حجة. مثاله: ما روى أبو سعيد قال: (كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر، صاعاً من شعير، صاعاً من دقيق) (1) .
فقال مخالفنا: يحتمل أن يكون فعلوا ذلك بغير علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهم الدقيق. فنجيب عنه: بأنه لا يجوز أن يخفى ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الصدقات كانت تحمل إليه. ولأن هذا إخبار عن دوام الفعل فيقتضي زماناً طويلاً. ومن جوز أن يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فقد ادعى خلاف ما جرت به العادة. ولأنه لا يجوز أن يسقطوا فرضاً وجب عليهم بآرائهم. الاعتراض الرابع وهو دعوى النسخ مثل ما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: (هل هو إلا بَضْعة منك، أو مُضْغة منك) (1) .
فيقول: إنه منسوخ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أفضى أحدم بيده إلى ذَكَره ليس بينه وبينه شىء فليتوضأ) (1) . لأنه رواه أبو هريرة وهو متأخر. قال أبو هريرة: (صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنوات) (2) . وقوله: (هل هو إلا بَضْعة منك) متقدم. فإن قيس بن طَلْق روى عن أبيه (3) أنه قال: (قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يؤسس مسجدَ المدينة (4) . فوجب أن يُنسخَ المتقدمُ بالمتأخر. وكذلك قوله: (يستأنف الفريضة) (5) . منسوخ بقوله: (فإذا زادت الإِبلُ
على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لَبُون، وفي كل خمسين حِقّة) (1) ؛ لأنه عمل به أبو بكر [231/ب] وعمر- رضي الله عنهما-. فدل على أنه غير منسوخ، فوجب نسخ الاستئناف لذلك. ومثل هذا كثير. الاعتراض الخامس وهو معارضته بغيره ويكون الجواب عنه بأن يُسقط معارضتَه، أو يرجح خبرَه على ما تقدم بيانُه.
[الاعتراض على الاستدلال بالإجماع] فإن كان دليله الإِجماع فالاعتراض عليه بثلاثة أوجه: (1) أحدها: بأن يطالبه ببيان ظهور القول لكل مجتهد من الصحابة. ومثاله: ما روي عن عمر أنه كتب إلى عمّاله في خمور أهل الذمة (ولُّوهم بيعَها، وخذوا منهم عُشْر أثمانِها) (2) . فيحتج به أصحاب أبي حنيفة على أن الخمر مال في حق أهل الذمة، يصح
بيعهم لها، وتملكهم لثمنها (1) . فإن كان الاحتجاج بإجماعهم على ذلك طولبوا بظهور هذا القول من عمر وإنتشاره حتى عرفه كل مجتهد منهم، وسكت عن مخالفته. وإذا لم يتمكنوا من ذلك بطل دعوى الإِجماع. الثاني: أن يبين ظهور خلاف بعضهم للقائل. وإذا اختلفوا وجب الرجوع إلى الدليل. وذلك مثل: دعوى المخالف إجماع الصحابة على منع صيام يوم الشك، فروي تحريمه عن علي وعائشة وابن عباس خلاف ذلك (2) وأن بعضهم قال: (لأن أصومَ يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان) (3) .
الثالث: أن يعترض على قول المجمعين أن يكونوا صرحوا بالحكم بمثل ما يعترض على لفظ السنة. [الاعتراض على الاستدلال بالقياس] وإذا كان دليله الذي احتج به هو القياس، فإن الاعتراض عليه من اثني عشر (1) وجهاً: أحدها: إنكار علة الأصل على مذهب نفسه، أو على مذهب المعلِّل. الثاني: إنكار علة الفرع. الثالث: إنكار العلة فيهما (2) . الرابع: إنكار حكم الأصل. الخامس: أن لا يتعدى حكم الأصل إلى الفرع.
السادس: أن يطالب بتصحيح العلة في الأصل. السابع: أن يقول بموجب العلة. الثامن: أن ينقض علته. التاسع: أن يطالب بتفسير علته. العاشر: أن يقول: إنه مخالف للقرآن أو السنة أو الإِجماع أو قول الصحابي على قول من يقدمه على القياس، وإذا كان يوجب زيادة في النص. الحادي عشر: أن يقلب علته. والثاني عشر: أن يعارضه بعلة أخرى من أصله أو بقياس مبتدأ على أصل غيره. فأما إنكار علة الأصل، فمثل: أن يقول أصحاب أبي حنيفة في وجوب إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر. أصله: زكاة التجارة (1) . والعلة في الأصل غير مسلَّمة؛ لأن زكاة التجارة لا يجب إخراجها عن العبد، وإنما يجب إخراجها عن قيمته [232/أ] . ألا ترى أن قيمته لو كانت في متاع التجارة لوجب عليه إخراج الزكاة عليها.
وإن قال: يجب إخراجها بسبب العبد. قيل: لا يجب بسبب العبد وإنما يجب بسبب قيمته. وأما عدم العلة في الأصل على مذهب المعلِّل فإنه يقل وجوده. وذلك مثل قول أصحاب أبي حنيفة في تحريم اللعان: فُرْقة يختص بالقول، فوجب أن لا يتأبَّدَ تحريمه. أصله: الطلاق (1) . وعلة الأصل معدومة عنده؛ لأن عند المخالف الطلاق لا يختص بالقول، فإنه يقع بالكتابة مع النية ممن هو ناطق متمكن من القول. وهذا الإِنكار على الأصلين جميعاً؛ لأن عندنا أن الطلاق لا يختص بالقول، ويقع بالكتابة من غير نية. وأما إنكار العلة في الفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة في القارن إذا قتل الصيد: إنه أدخل النقصَ على إحرامين بقتل الصيد، فلزمه جزاءان (2) . أصله: إذا قتل صيداً في إحرام الحج، ثم قتل صيداً في إحرام العمرة. فالعلة معدومة في الفرع؛ لأن القارن مُحرِم بإحرام واحد، ويكون ذلك بمنزلة من باع عبدين بثمن واحد، فيكون البيع واحداً وإن كان المبيع اثنين، وكذلك إذا عقَد إحراماً واحداً (3) ، وإن كان المعقود عليه اثنين. ________ (1) هذه المسألة فيها خلاف انظر: تحفة الفقهاء (2/222) وشرح فتح القدير (4/286) وحاشية ابن عابدين (3/483) . وراجع: الجدل ص (45) . (2) هو كذلك في شرح فتح القدير (3/104) وحاشية ابن عابدين (2/577) . (3) في الأصل: (إذا عقد الإحرام واحد) .
وأما إنكار العلة في الأصل والفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة: إذا لم يصم المتمتع في الحج سقط الصوم (1) ؛ لأنه بدل موجب، فوجب أن يسقط بفوات وقته. أصله: الجمعة. وعلة الأصل غير مسلَّمة؛ لأن الجمعة ليست ببدل عن الظهر، وإنما الظهر بدل عن الجمعة؛ لأن البدل ما وجب الانتقال إليه لتعذر غيره. وكذلك علة الفرع غير مسلمة؛ لأن صوم الثلاثة بدل غير مؤقت؛ لأنه مأمور في الحج دون الزمان، والمؤقت ما حصر فعله بوقت بعينه. ومثل قولهم في إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر: عبدٌ يجب إخراج زكاة التجارة عنه، فوجب إخراج زكاة الفطر عنه. أصله: العبدُ المسلم (2) . ووجوب زكاه التجارة عن العبد المسلم وعن العبد الكافر غير مسلَّم. وأما إنكار الحكم في الأصل، مثل: أن يقول أصحاب أبي حنيفة في جلد الكلب: بأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة، فيطهر جلدُه بالدباغ (3) . أصله: ما يؤكل لحمه.
الحكم غير مسلَّم في الأصل؛ لأن ما يؤكل لحمُه لا يطهر جلدُه بالدباغ عندنا (1) . وأما حكم الأصل إذا لم يتعدَّ إلى الفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة [232/ب] في ضم الذهب إلى الوَرق: إنهما قِيَم المتلفات، فوجب ضمُّ أحدهما إلى الآخر (2) قياساً على الصحاح والمكسَّرة، والضمُّ في الأصل بالأجزاء، والضمُّ عندهم بالقيمة (3) ، وهما ضمَّان مختلفان، ولا يجوز أن يثبت في الفرع غير حكم (4) الأصل؛ لأن علة الأصل تتعدى إلى الفرع، فيتعدى بها الحكم المتعلِّق بها، وهذا على أصلنا يصح؛ لأن الضم يحصل في الأصل والفرع بالأجزاء (5) .
وأما المطالبة بتصحيح العلة في الأصل فنقضها والقول بموجبها. وقد سبق الكلام عليه في باب العلم الدال على صحة العلة والاعتراض عليها. وأما المطالبة بتفسير لفظ العلة، فمثل: قول أصحاب الشافعي في صوف الميتة: متصل بذي روح ينمو بنمائه، فوجب أن ينجس بنجاستِه بموته (1) . قلنا لهم: قولك: "بموته" إما أن تريد به موت الأصل أو موت الشَّعَر. فإن أردت به موت الشعر، لم نسلِّمه؛ لأن الشعر لا حياة فيه فيموت. وإن أردت به موت الأصل لم يصح على أصلك؛ لأن عندك إنما ينجس بمفارقة الروح، كما ينجس العضو بمفارقة الروح له، لا بمفارقة الجملة. فكانت المطالبة به صحيحة، والإِجابة واجبة. وأما إذا كان مخالفاً لنص القرآن أو نص السنة أو الإِجماع فإنه غير صحيح؛ لأن ذلك كله أقوى من القياس وأولى به، فوجب تقديمها عليه، وإذا كان كذلك كان نقضاً للعلة. وأما إذا كان موجباً للزيادة في النص، فإنه لا يصح على مذهب أبي حنيفة؛ لأن الزيادة في النص نسخ، فلا يجوز النسخ بالقياس (2) .
ومثاله: أن بعضهم سُئِل عن سهم ذوي القربى فقال: سهم من الخمس، فوجب أن يُستحق بالحاجة والفقر قياساً على سائر السهام (1) . فقيل له: فهذا يوجب الزيادة في قوله: (وَلِذِى الْقُرْبَى) (2) . والزيادة في النص نسخ عندك، ولا يجوز نسخ القرآن بالقياس. وكذلك إذا كان قياسه مخالفاً لقول الصحابي. وأما قلب العلة على المعلِّل فيأتي بيانه، وكذلك بيان المعارضة من أصله ومن غير أصله، إن شاء الله تعالى. وهذا الذي ذكرنا جميع الاعتراضات الصحيحة. فأما الاعتراضات الفاسدة فقد تقدم ذكرها في باب الاعتراضات. [المعارضة] وأما المعارضة (3) فعلى أربعة أضرب: معارضة النطق بالنطق.
ومعارضة العلة بالعلة. ومعارضة النطق بالعلة. ومعارضة العلة بالنطق. فأما معارضة [233/أ] النطق بالنطق فقد سبق الكلام عليه في باب الخصوص والعموم ويقيده (1) ، وذلك لا يخلو من أمرين: إما أن يكونا سواء في العموم والخصوص، أو كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً. فإن كانا سواء نُظِر، فإن أمكن استعمالهما وجب ذلك. وإن استعمل المسؤول على وجه، واستعمل السائل على وجه آخر، وتعارضا في الظاهر، وجب على المسؤول أن يرجح استعماله، فإن عجز عنه كان منقطعاً. وذلك (2) مثل أن يحتج على المنع من الجمع بين الأختين بملك اليمين بقوله تعالى: (وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُختَيْنِ) (3) ويعارضه المخالف بقوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإِنَهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ) (4) .
فيقول المسؤول: معناه: أو ما ملكت أيمانهم في غير الجمع بين الأختين في غير ملك اليمين. فيحتاج المسؤول أن يرجح استعماله، ويقدمه على استعمال خصمه، بأن يقول: روي عن عثمان أنه قال: (حرمتهما آية، وأحلتهما آية) والتحريم أولى. ولأن قوله: (وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ اْلأُخْتَيْنِ) قصد به بيان التحريم، وليس كذلك قول: (أَو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) فإنه قصد به مدح قوم. فكان ما قصد به بيان التحريم وبيان الحكم أولى بالتقديم، فيجب حمله على ظاهره وترتيب الآية الأخرى عليه. وإن تعذر استعمالهما، فإن عرف التاريخ وجب تقديم المتأخر منهما لما روى ابن عباس أنه قال: (كنا نأخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأحدث فالأحدث) (1) .
ولأن المتأخر أقوى من المتقدم؛ لأن المتقدم يجوز أن يكون منسوخاً بالمتأخر، ولا يجوز أن يكون المتأخر منسوخاً بالمتقدم، فوجب تقديم المتأخر. وإن جهل التاريخ وجب تقديم أحدهما على الآخر بضرب من ضروب الترجيحات التي ذكرناها في باب ترجيحات الأخبار. وقد تقدم ذلك (1) . وأما إذا كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً فلا يخلو الخاص من أحد أمرين: إما أن يكون موافقاً للعام أو منافياً له. فإن كان منافياً له وجب تخصيص العام به، سواء تقدم العام على الخاص، أو تأخر عنه، أو جُهل التاريخ. وذلك مثل قوله: (وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَى يُؤْمِنَّ) (2) وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (3) وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا) (4) وقول النبي -عليه السلام-: (لا قطع إلا في ربع دينار) وقد حكينا الخلاف في ذلك فيما تقدم (5) . وإن كان الخاص موافقاً للعام فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكونا في حكمين، أو في حكم واحد.
فإن كانا في حكمين: مثل قوله في كفارة الظهار: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (1) مع قوله تعالى في كفارة القتل: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (2) . فإنه يحمل المطلق على المقيد من طرّيق اللغة وقد حكينا أيضاً الخلاف في ذلك (3) . وإن كانا في حكم واحد فلا يخلو الخاص من أحد أمرين: إما أن يكون له دليل خطاب، أو لا دليل له. فإن لم يكن له دليل خطاب كان الخاص داخلاً في العام، وكان ذكراً لبعض ما شمله العموم، فيكون ما تناوله الخاص ثابتاً بالخاص والعام، وما زاد على ذلك ثابتاً بالعام دون الخاص. مثاله: ما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: (من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر) . وقضى في الذي وقع على امرأته بتحرير رقبة (4) فثبتت الكفارة بالخبر. وإن كان له دليل خطاب، فإنه يقضى بدليل خطابه على العام، فيخرج ما تناوله منه دليله. وقد ذكرنا مثال ذلك، والوجه فيه ما تقدم في باب الخصوص والعموم بما فيه كفاية (5) . ومثاله: قوله: (في أربعين شاةً شاةٌ) مع قوله: (في سائمة الزكاة) فتخرج المعلوفة من قوله: (في أربعين شاةً شاةٌ) .
وأما معارضة النطق بالعلة ومعارضة العلة بالنطق: فإنه ينظر في النطق: فإن كان نصاً لا يحتمل إلا معنى واحداً، فإنه يجب ترك القياس له، سواء كان النطق من القرآن أو من السنة المتواترة أو من خبر الواحد. وقد حكينا خلاف أصحاب مالك وأن القياس مقدم على خبر الواحد (1) . وإن كان النطق عاماً أو ظاهراً: فقد حكينا اختلاف الروايتين، واختلاف الفقهاء، وأن منهم من قال: يجب ترك القياس. ومنهم من قال: يخص العام به، ويصرف الظاهر عن ظاهره. وذكرنا الوجه في ذلك (2) . وأما معارضة العلة بالعلة: فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن تكون من أصلين، أو من أصل واحد. فإن كانت من أصلين: مثل أن يقول أصحاب أبي حنيفة: طهارة بالماء، فوجب أن لا تفتقرَ إلى النية قياساً على إزالة النجاسة. ونعارضه، فنقول: طهارة من خبث، فلا يصح بغير نية. أصله: التيمم. ومثل ذلك كثير. والجواب عن ذلك: أن [نبطل] قياس المخالف بوجه من وجوه الإِفساد التي ذكرناها، أو يرجح قياسه بوجه من وجوه الترجيحات التي نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. وإن كانت من أصل واحد فلا يخلو: من أن تكون بعلة غير علته أو بعلته، وإن تعلق عليها غير حكمها.
فإن كانت بعلة أخرى فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون بعلة [234/أ] واقفة، أو علة متعدية. فإن كانت واقفة، مثل أن يقول: يصح ظهار (1) الذمي؛ لأنه زوج يصح طلاقه، فوجب أن يصح ظهاره كالمسلِم. فيقول الخصم: المعنى في الأصل أنه يصح تكفيره بالصوم فصح ظهاره، وليس كذلك الذمي، فإنه لا يصح تكفيره بالصوم فلا يصح ظهاره. فإن المبتدىء بالعلة ينظر فيه، فإن كان المعارض لا يقول بعلة واقفة لم تصح المعارضة؛ لأنه لا يجوز أن يحتج بما لا يقول به. والمعارض يقول: ليست العلة التي نصبها الله تعالى وعلَّق حكمَه عليها ما ذكره المبتدىء بالعلة، وإنما هي غيرها، فلا يجوز أن يذكر ما يقرُّ هو بفساده. وإن كان المعارض يقول بالعلة الواقفة: قد قيل إن المبتدىء بالعلة يقول: أنا أقول بالعلتين جميعاً؛ لأنهما لا يتعارضان، فإن موجب العكس في الأصل واجب في الفرع، يوجد أحدهما وهي المتعدية، ولا يوجد الأخرى وهي الواقفة، فيجب أن يحكم بالمتعدية إليه، ولا تعارضه الواقفة؛ لأنها غير موجودة فيه. وقيل: لا ينبغي أن يقول: أقول بالعلتين؛ لأنه إقرار بصحة علة الخصم والشهادة لها. ولا حاجة به إلى ذلك. ولكنه يقول: علتك لا تعارض علتي لما قدمته، وهو أن موجبهما أصل واحد، وفي الفرع توجد المتعدية، ولا توجد الواقفة، فلا يجوز أن يتعارضا في الأصل ولا في الفرع، فلا يكون الخصم بهذه العلة معارضاً. فإن قيل: العلة الواقفة تعارض المتعدية في الفرع؛ لأن زوال العلة يوجب
زوال الحكم، فيوجب أن يكون الذمي لا يصح ظهاره. قيل: زوال العلة يوجب زوال الحكم المتعلق بها ولا يوجب ضد حكمها. فإذا كان الحكم متعلقاً بعلتين فزالت إحداهما زال الحكم المتعلق بها، وبقي الحكم متعلقاً بالعلة الأخرى لا تعارضها العلة الزائلة، ولا يوجب ضد حكمها. ألا ترى أن الحائض والمُحْرِمة بالحج يحرمُ وطؤها لحيضها ولإحرامها، فإذا انقطع حيضُها بقي تحريم وطئها متعلقاً بالإحرام. وإن عارضه بعلة متعدية فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن تكون داخلة في علته أو غير داخلة فيها. فإن كانت داخلة في علته: مثل تعليل مالك تحريم التفاضل بالقوت (1) ، مع تعليل أحمد -رحمه الله- بالكيل. والجواب عنه كالجواب عن العلة الواقفة؛ لأن القوت داخل في الكيل. وإن كانت خارجة عن علته ومتعدية إلى فروع لا يقول بها، لأنها (2) تتعدى إلى فروع لا يجري فيها (3) الربا عند مالك (4) والشافعي (5) مثل الخُضَر وغيرها (6) . فإذا [234/ب] كان كذلك كان الجواب عنه إفساد علته أو يرجح (7) علته على علة خصمه، كما قلنا في العلة المعارضة من غير أصلها.
وأما معارضة العلة بتلك العلة بعينها (1) ، فإنها تسمى قلباً (2) وتسمى المشاركة في الدليل. ومثاله: أن يقول: صلاة فرض لا تقضى في السفر، فوجب أن ينفصل وقتُها عن وقت الصلاة التي بعدها قياساً على صلاة الصبي. فيقول له: وجب أن يكون لها وقتان أو وقت ممتد قياساً على صلاة الصبح. أو يقول المخالف: لُبْثٌ في مكان مخصوص، فلا يكون قُرْبة بنفسه قياساً على الوقوف بعرفة. فيقال له: وجب أن لا يكون من شرطه الصوم قياساً على الوقوف بعرفة. ومثل هذا كثير. فهو صحيح (3) . ومن أصحاب الشافعي من قال: لا يصح (4) .
والدلاله على صحته: أن هذه معارضة صحيحة؛ لأن المبتدىء بالعلة لا يمكنه أن يجمع بينهما ويعلقهما على علته. وإذا كان كذلك كانا متعارضين، وكان ذلك بمنزلة المعارضة من أصل آخر. فإنه لما تعذر الجمع بين حكم الأصلين في الفرع كانا متعارضين، كذلك هاهنا. وأيضاً: فإن المخالف استدل على المنع من نقض البناء في مسألة السَّاجَة (1) بقوله -عليه السلام-: (لا ضرر ولا إضرار في الإِسلام) (2) وفي نقض بنائه إضرار به؛ لأنه إفساد لآلته، وإبطال لنفقته، فوجب أن يمنع منه.
.................................
فقال أصحاب الشافعي وجب رد ساجَتِه وما غصبه من آلته؛ لأن في منع ذلك منه إضراراً (1) به. وإذا كان هذا صحيحاً كان القلب صحيحاً؛ لأنه يشاركه في دليله. واحتج المخالف: بأنها معارضة في غير الحكم الذي علله، فلا يلزمه الجواب عنه. ألا ترى أنه إذا استأنف قياساً في حكم آخر لم يصح لهذا المعنى، كذلك لا يصح القلب. والجواب: أنه يبطل بالمشاركة في دلالة الخبر على ما بيناه في مسألة السَّاجَة، فإنه معارضة في غير حكمه وقد صح. وعلى أن مثل هذا جائز للمعارض، وإن كان من أصل آخر؛ لأنه في معنى ضد حكمه؛ لأنه لا يمكنه الجمع بينهما كما (2) لا يمكنه الجمع بين
الحكم وضده. واحتج بأن أوصاف علة المعلِّل لا تصلح للحكم الذي نقلتها فيه، فلا تكون مؤثرة في وجوده، فلم يصح القلب. والجواب أن هذا في بعضه دون بعض. ألا ترى أنه إذا قال (1) : عضو من أعضاء الوضوء، فلا يجوز في إيصال الماء إليه ما يقع الاسم عليه (2) . فقلبه الخصم على أبي حنيفة [235/أ] وقال: وجب أن لا يقدَّر بالربع (3) ، كانت العلة في الحكمين سواء، ولم يكن فرق بين أن يجعل عضواً من أعضاء الوضوء علة لإِجزاء اليسير وبين أن يجعل علة لنفي التقدير. وفي القلب نوع أحسن، وهو الذي يسمى قلب التسوية (4) . مثاله: أن يقول المخالف (5) : إيقاع طلاق من مكلف مالك للطلاق، موجب أن يقع الطلاق. أصله: المختار. فيقلبه الخصم عليه فيقول: وجب أن يكون حكم الإِيقاع والإِقرار سواء قياساً على المختار.
وهو صحيح (1) . ومن أصحاب الشافعي من منع صحته (2) . والدلالة على صحته: أن الجمع بين الحكم المبتدىء بالعلة وبين حكم القالب لا يصح، فكان بمنزلة القلب الأول. فعلى هذا حكم الفرع موافق لحكم الأصل؛ لأن الحكم هو الاستواء، وهذا في الأصل والفرع واحد. وإنما يختلفان في كيفية الاستواء، والكيفية حكم غير الاستواء. ألا ترى أن النبي -عليه السلام- لو قال: حكم الإيقاع والإقرار سواء، كانت التسويةُ واجبة بالنص، وكيفية التسوية غير منصوص عليها، فإذا دل الدليلُ على أنهما يستويان في الأصل في الصحة وفي الفرع في البطلان كانت الكيفية مجتهداً فيها، والاستواء منصوصاً عليه. فعلى هذا يجوز قياس أصحاب أبي حنيفة: مالان من جنس الأثمان، فوجب ضم أحدهما إلى الآخر قياساً على ضم المكسرة والصحاح، وإن كان الضم في الأصل في الأجزاء وفي الفرع في القيمة على قولهم (3) . ومن قال: لا يصح هذا القلب لا يُجوِّز هذا القياس؛ لأنهما يختلفان، ويجب أن يكون الفرع موافقاً لحكم الأصل. واحتج في ذلك: بأن حكم الفرع في ذلك مخالف لحكم الأصل؛ لأن
الاستواء [في الأصل] في الصحة وفي الفرع في البطلان عند القالب. ويجب أن يكون حكم الفرع مثل حكم الأصل؛ لأن حكم الأصل يجب أن يتعدى إلى الفرع لتعدي علة الأصل عليه. والجواب عنه ما ذكرنا، وهو أن الجمع بين حكم المبتدىء بالعلة وبين حكم القالب لا يصح، فلم يجب اعتبارهما في القلب. نوع ثالث: وهو أن يجعل المعلول علة والعلة معلولاً (1) . والمراد بالمعلول هو الحكم، فكأنه يجعل حكم المبتدىء بالعلة علة وعلته حكماً. مثاله: أن يقول (2) : زوج يصح طلاقُه، فوجب أن يصح ظهارُه (3) قياساً على المسلِم. فيقول المخالف: ما ينكر على من قال: إنما صح طلاقُ المسلِم؛ لأنه صح ظهارُه. قيل له: هذا القلب بمنزلة المعارضة بعلة واقفة وأصل عليه. ويكون الجواب عنه ما ذكرنا من القول بهما. أو قوله: إنهما لا يتعارضان، فلا يصح القلب. وقد قيل: يصح هذا القلب؛ لأنه لا يجوز [235/ب] أن يثبت الحكم لما
هومثبت له. فإذا كان ثبوت الظهار لثبوت الطلاق في الأصل لم يجز أن يكون كل واحد منهما أمارة على الآخر من الأمارات الشرعية (1) . فيقول (2) صاحب الشريعة: إذا وجدتم صحة الطلاق فاحكموا بصحة الظهار، وإذا وجدتم صحة الظهار فاحكموا بصحة الطلاق، فيكون كل واحد منهما أمارة على الآخر. وقد وجد مثل ذلك؛ لأن صاحب الشريعة أمرنا إذا أعطينا الابن عطية أن نعطي الابنة، وإذا أعطينا الابنة عطية أن نعطيَ الابن أيضاً (3) ، فصارت (4) عطية كل واحد منهما أمارة على عطية الآخر.
فصل [في ترجيحات العلل] فأما ترجيحات العلل (1) فمن وجوه: أحدها: أن ترجح إحدى العلتين على الأخرى بأن تكون موافقة لكتاب الله تعالى. والثاني: بأن تكون موافقة للخبر عن رسول - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: بأن تكون موافقة لأثر عن الصحابة. والرابع: أن تكون إحداهما منصوصاً عليها والأخرى مستنبطة. والخامس: بأن تشهد لإحداهما الأصول. والسادس: بأن تكون إحداهما مطردة منعكسة، فيدل ذلك على تعليق الحكم بهذه العلة. والسابع: بأن تكون إحداهما مؤثرة في أصلها، فيوجد الحكم بوجودها ويرتفع بارتفاعها، والأخرى تؤثر في غير أصلها. الثامن: أن يكون الفرع موجوداً بإحدى العلتين في جنسه وشكله فتكون أولى. التاسع: بأن تكون إحداهما مردودة إلى ما يكثر شبهه به، مثل اللعان، يُرَد إلى اليمين، فإن شبهه بها أكثر من شبهه بالشهادة.
العاشر: بأن تكون إحداهما لا تخص الاسم المنهي عنه منه، والأخرى تخصه كتعليل أبي حنيفة تحريم التفاضل بالكيل، ويبيح تمرةً بتمرتين وبُرةً ببرتين (1) ، ونحن لا نخص الاسم، ويجرى الربا في القليل، والكثير (2) فيكون الذي لا يخصه أوْلى؛ لأن العموم يشهد لها. ويمكن أن لا يكون ذلك من الترجيح، وتكون العلة باطلة؛ لأن المطلوب علة الحكم الذي دلَّ عليه الاسم، فلا يجوز إسقاط شىء منه بالعلة. ويخالف تخصيص اسم آخر؛ لأنه إنما يخصه بخصوص الاسم الذي انتزعت العلة منه بذلك، فيكون القضاء بالعلة عليه نقضاً للاسم الخاص عليه. والحادي عشر: بأن يكون حكم إحداهما (3) سابقاً لها، وحكم الأخرى غير سابق لها، فالتي لا يسبقها حكمها أوْلى؛ لأن ذلك يدل على تأثيرها، كقولنا: بائن [236/أ] فلا نفقة لها كالمطلقة قبل الدخول (4) . وقال المخالف (5) : معتدة من طلاق، فوجب أن تكون لها النفقة كالرجعية؛ لأن النفقة سابقة للعلة في الأصل والفرع، وعلتنا غير سابقة؛ لأن العلة هي البينونة، ولم تسبق سقوط النفقة.
الثاني عشر: أن تكون إحداهما صفة ثابتة في الحال والأخرى توجد في الثاني، كقولنا [في رهن المشاع] (1) : عين يصح بيعها فصح رهنها كالمفرد (2) . وقولهم (3) : قارَنَ العقد معنى يوجب استحقاق [رفع] (4) يده في الثاني، فهو تجوّز (5) غير موجود (6) . الثالث عشر: أن تكون إحداهما صفة محسوسة، والأخرى حكماً شرعياً، فتكون الصفة المحسوسة [أوْلى] لقوة وجودها (7) . الرابع عشر: أن تكون إحداهما إثبات صفة، والأخرى نفيها، فيكون إثبات الصفة أوْلى. الخامس عشر: أن تكون إحداهما حكماً متفقاً عليه، والأخرى حكماً مختلفاً فيه، وإن كان الخصمان قد اتفقا عليه. السادس عشر: أن تكون إحداهما مردودة إلى أصل ثابت بكتاب أو سنة متواترة أو إجماع أو نص صريح، والأخرى بخلاف ذلك، فتكون أوْلى؛ لأن الفرع يقوى بقوة الأصل.
السابع عشر: أن تكون إحداهما مفسَّرة، والأخرى مجملة، فتكون المفسر [ة] أوْلى، كقولنا (1) : أفطر بغير مباشرة. وقول أصحاب أبي حنيفة (2) : أفطر بأعلى ما في جنسه أو بممنوع نوعه (3) . الثامن عشر: أن يكون في إحداهما احتياط للغرض فتكون أولى. التاسع عضر: أن تكون إحداهما ناقلة عن العادة والأخرى مبقية، كانت الناقلة عن العادة أوْلى؛ لأنها تفيد حكماً شرعياً. وقال بعضهم (4) : المبقية على حكم ما قبله [أولى] (5) ؛ لأن النفي أمر (6) [معتبر] عند اعتراض الشك بالبناء على ما قبله. وهذا لا يشبه ما ذكرنا؛ لأن البقاء هناك احتياط للعبادة، وأن لا يحكم
ببراءة ذمته بالشك. والاحتياط هاهنا في الانتقال؛ لأنه يفيد حكماً شرعياً. العشرون: أن تكون إحداهما تزيد في الحكم، مثل أن توجب إحداهما، وتندب الأخرى، أو تندب إحداهما، وتبيح الأخرى، فتكون: الزائد [ة] أوْلى. وكذلك إذا كانت إحداهما تزيد في القدر. الحادي والعشرون: أن تكون إحداهما حاظرة، فتكون أوْلى. وقد بينا ذلك في ترجيح الأخبار. الثاني والعشرون: أن تكون إحداهما تستوعب معلولها، كقولنا (1) : من جرى بينهما القصاص في النفس جرى بينهما القصاص في الأطراف كالحُرَّين الرجلين، وهذا يستوعب [236/ب] جميع المعلول. وقولهم (2) : التكافؤ معتبر في الأطراف، ولا يوجد ذلك بين الرجل والمرأة لعدم التساوي في البدل. وهذا لا يعم المعلول؛ لأن العبدين لا يجري بينهما عنده، وإن تساويا في البدل (3) . الثالث والعشرون: أن تكون إحداهما من باب الأوْلى فيجب تقديمها. الرابع والعشرون: أن تكون إحداهما متعدية إلى فرع مختلف فيه، والأخرى غير متعدية، فتكون المتعدية أوْلى، ولهذا تركنا علة الأثمان في الربا؛ لأنها لا تنعقد (4) .
دليلنا:
الخامس والعشرون: أن يكون أصل إحداهما ما يعارضها، وهو القلب. فأما كون إحداهما أعم من الأخرى فلا تكون أوْلى. وحكي عن بعض الشافعية أن الأعم أولى (1) . ولهذا قالوا: العلة الطعم؛ لأنها أعم من الكيل، فإنها تجري فيما لا يكال. دليلنا: أن أحد العمومين إذا اشتمل على مسميات أكثر من المسميات التي اشتمل عليها العموم الآخر، لم يكن أكثرهما عددا في المسميات أوْلى بالاستعمال من أقلهما (2) عدداً، كذلك هاهنا. يبين صحة هذا: أنه ليس في كون إحداهما (3) أكثر من كون فروعها أكثر، وهذا لا يوجب ترجيحها، كما لم يوجب ذلك في العمومين. على أنهم قد ناقضوا في ذلك، فإنهم لم يجعلوا العلة في تحريم التفاضل في الذهب: الوزن، مع كونها أعم من الأثمان. وهذه الترجيحات قد كانت تستعمل في المناظرات، وقد عدل عنها في هذا الزمان إلى معانٍ وتأثيرات، وهو أوْلى؛ لأنه طريق الفقه واستخراج الأمارات الظاهرة المغلبة على الظن المميزة بين الصحيح منها وبين الفاسد. فإذا ثبت ما ذكرنا، فإن من عجز عن ترجيح دليله على ما عارضه خصمه به، أو إفساده بما يفسده فإنه منقطع.
[معنى الانقطاع] والانقطاع في المناظرة (1) هو: العَجْز عن بلوغ الغرض المطلوب بالمناظرة (2) . وذلك مأخوذ من قولهم: انقطع في السفر: إذا عجِز عن السير وبلوغ الغاية المقصودة به (3) . [انقطاع المسؤول] وانقطاع المسؤول بسبعة أشياء: أحدها: العجز عن بيان المذهب. والثاني: العجز عن بيان الدليل. والثالث: العجز عن الانفصال عن المعارضة. والرابع: بجحده مذهبَه. والخامس: بجحده ما ثبت بإجماع أو نص. والسادس: بالانتقال. والسابع: بتخليط كلامه بما لا يُفهم.
مسألة
[انقطاع السائل] وانقطاع السائل بثمانية أشياء. [الأول] : بالعجز عن بيان السؤال. والثاني: بالعجز عن المطالبة [237/أ] بالدليل. والثالث: بالعجز عن المطالبة بتقرير الدليل. والرابع: بالعجز عن المعارضة. والخامس: بالعجز عن المنع من الترجيح. والسادس: بالانتقال عما شرَع فيه قبل إتمامه. والسابع: بجحد ما ثبت بنص أو إجماع. والثامن: بتخليط كلامه على وجه لا يُفهم (1) . مسألة لا يجوز أن يعتدل قياسان على أصل واحد مع كون أحدهما موجباً للحظر وكون الآخر موجباً للإِباحة (2) ، ولابد من وجود المزية في أحدهما. وقد
تظهر تلك المزية وقد تخفى. فإذا خفيت وجب أن يجتهد في طلب ترجيح أحدهما والوقْف إلى أن يتبين ذلك. وكذلك الأخبار، لا يجوز أن يرد خبران متعارضان من جميع الوجوه، ليس مع أحدهما ترجيح يُقدَّم به. وقد قال أبو بكر الخلاَّل في كتاب العلم: "لم أجد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً متضاداً إلا وله وجهان، أحدهما إسناد جيد، والآخر إسناد ضعيف". وإلى هذا ذهب الكرخي من أصحاب أبي حنيفة (1) وأبي سفيان. وحكاه الإسفراييني عن أصحابه أيضاً (2) . وذهب الرازي إلى جواز ذلك وقال: إذا اعتدل قياسان في نفس المجتهد، وأحدهما يوجب الحظر والآخر يوجب الإباحة، فإن المجتهد يكون مخيراً في أن يحكم بأيهما شاء (3) . وبه قال قوم من المتكلمين (4) . وإليه ذهب الجرجاني أيضاً (5) ، وحَكى قول الكرخي وقال: هذا خلاف ما قاله أبو حنيفة في سؤر الحمار: إن دليل الحظر والإِباحة
دليلنا:
تساويا، فتوقَفَ فيه (1) . دليلنا: اتفاقهم على أن الحكم في الحادثة يتبع كونها ببعض الأصول أشبه منها بغيره. وإذا كان كذلك لم يجز أن تكون الحادثة بكل واحد من الأصلين أشبه منها بالآخر. فلم (2) يجز أن يعتدل قياسان، ولابدَّ من وجود الرجحان في أحدهما. ولأن كل واحد من القياسين لو انفرد لم يوجب التخيير، كذلك إذا اجتمعا؛ لأن التخيير معنى زائد، فلا يجوز إثباته إلا بدلالة. وإذا سقط اعتبار التخيير لم يجز للمجتهد أن يقيس الفرع عليهما، ويلزمه أن يجتهد في طلب ترجيح أحدهما، والوقف إلى أن يتبين ذلك. كما لو لم يعرف في الابتداء أصلاً يقيس الفرع عليه لزمه التوقف. ولأن هذا يوجب تكافؤ الأدلة وتعارضها، وهذا خلاف موضوع الشريعة. واحتج المخالف: بأنه لا يستحيل في العقل تكافؤ (237/ب) جهات القياس بدلالة أنه قد يصح أن تتساوى جهات القبلة عند الخطأ.
وإذا كان ذلك جائزاً وجب أن يكون المجتهد بالخيار في حمل الفروع على أي الأصلين شاء كالمكفِّر عن يمينه، لما استوت الأشياء الثلاثة في جواز التكفير، فبأيها شاء كان له أن يكفِّر بما شاء منها. والجواب: أن [هناك] فرقاً بين القبلة وبين مسألتنا، وذلك أنه لا يجوز للمجتهد أن يعدل عن حمل الحادثة على الأصل الذي هي أشبه به منها بغيره على وجه من الوجوه، ويجوز ذلك في جهات القبلة عند المسايَفَة (1) والراحلة. وأما الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين، فإنما كان المكفر مخيراً فيها؛ لأن كلاً منها منصوص عليه على طريق التخيير، وليس بينها (2) تضاد. ألا ترى أنه يجوز ورود العبادة بوجوب التكفير بهما جميعاً، ولا يجوز ورود التعبد باعتبار الحظر والإباحة في الشىء الواحد على المكلف الواحد. واحتج: بأن القياس طريق إلى إثبات الحكم كالنص، فلما جاز ورود النص بحكمين مختلفين، كذلك القياس. والجواب: أنه لا يجوز أن يرد النص بحكمين متضادين في الشىء الواحد في الوقت الواحد على المكلف الواحد، كما قلنا في القياس فلا فرق بينهما.
باب الاجتهاد
باب الاجتهاد مسألة المصيب واحد من المجتهدين في أصول الديانات. (1) . وقد نصَّ أحمد -رحمه الله- في مواضع على تكفير جماعة من المتأولين، كالقائلين بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وخلْق الأفعال (2) . وهذا يمنع إصابتهم في اجتهادهم. وهو قول الجماعة (3) . وحُكي عن عبيد الله العنبري (4) : أن المجتهدين من أهل القبلة مصيبون مع
اختلافهم (1) . وهذا غلط؛ لأن إباحة الاجتهاد تجوز فيما جوَّزنا ورود الشرع، وغير جائز أن يرد الشرع بالأمرين المتضادين في صفات الباري سبحانه، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فإنه لا يجوز أن يكون يراد لا يراد، خالق لأفعال العباد غير خالق، والنبي صادق وليس بصادق. ولا يشبه هذا أحكام الفروع؛ لأن قد كان يرد بإباحة عين في حق واحد، وحظْرها في حق آخر، في حالٍ واحدة. كالحائض [238/أ] يحل لها الأكل في رمضان، ولا تجب عليها الصلاة. والطاهر لا يحل لها الأكل في رمضان، وتجب عليها الصلاة فجاز أن يكون كل مجتهدٍ مصيباً. [الحق في أحكام الفروع] فأما أحكام الفروع: فالحق فيها في واحدٍ عند الله تعالى (2) . وقد نصَب الله على ذلك دليلاً إما غامضاً أو جلياً، وكلف المجتهد طلبته وإصابته بذلك الدليل. فإذا اجتهد وأصابه كان مصيباً عند الله تعالى وفي الحكم، وله أجران: أحدهما على إصابته. والآخر على اجتهاده.
وإن أخطأ كان مخطئاً عند الله تعالى وفي الحكم، وله أجر على اجتهاده، والخطأ موضوع عنه. والحكم بالاصابة والخطأ من طريق غلبة الظن، لا من طريق القطع. نص على هذا -رحمه الله- في رواية بكر بن محمد عن أبيه، فقال: "إذا اختلفت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ رجل بأحد الحديثين، وأخذ آخر بحديث آخر ضده، فالحق عند الله في واحد، وعلى الرجل أن يجتهد، ولا يقول لمخالفه: إنه مخطىء" (1) . فقد نصَّ على أن الحق في واحدٍ عند الله. وقوله: "لا يقول لمخالفه إنه مخطىء". يريد به: لا يقطع على خطئه؛ لأن الله تعالى ما نصب دليلاً قاطعاً، وإنما نصب دليلاً خفياً، أو ما هو أمارة على الحكم. والذى يدل على أنه أراد بذلك ما قلنا: أنه قال بعد ذلك في رواية بكر: "وإذا اختلف أصحاب محمد (2) ، فأخذ رجل بقول بعضهم، وأخذ آخر عن
رجل منهم، فالحق في واحدٍ، وعلى الرجل أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ. وكذلك قال عمر: (والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأ) . فقد نصّ على أنه يجوز الخطأ على المجتهد. وكذلك قال في رواية أبي طالب فيمن يقول: لا شفعة إذا لم يكن طريقهما واحداً، "إذا قدموه إلى هؤلاء، وحلف ماله شفعة، إنما هذا اختيار، وقد اختلف الناس فيها" (1) . وقال في رواية بكر بن محمد -في حاكم حكَم في المفلس أنه أسوة الغرماء-: "رد حكمه" (2) . وإنما قال هذا؛ لأنه يعتقد أنه خالف النص في ذلك، لا أنه يقطع على إصابة المجتهد وخطئه. وقد علَّق القول في رواية أبي داود فيمن صلى خلف من لا يرى الوضوء من مسِّ الذكر، وقد علم أنه قد مس: "يصلى خلفه" (3) .
وكذلك نقل الأثرم عنه فيمن صلى خلف من احتجم ولم يتوضأ: "فإن كان ممن يتدين بهذا وأنه لا وضوء فيه لا يعيد، وإن كان يعلم أنه لا يجوز فيعمدُ يعيد" (1) . وكذلك نقل الأثرم وإبراهيم بن الحارث فيمن صلى خلف من عليه جلود الثعالب، فإن تأول: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) [238/ب] "يصلى خلفه". قيل له: أفتراه جائزاً؟ قال: "لا، ولكن إذا كان يتأول فلا بأس أن يصلى خلفه". قيل له: كيف وهو مخطىء في تأويله؟! فقال: "وإن كان مخطئاً في تأويله ليس هو كمن لم يتأول". ثم قال: "من يرى الوضوء من الدم فلا يصلِّ خلف سعيد بن المسيب ومالك، ومن سَهَّل في الدم [قال] بل يصلى (2) ". وكذلك نقل ابن مُشيْش عنه في جلود الثعالب. وهذا لا يخالف ما رواه بكر بن محمد عنه.
وإنما أجاز الصلاة خلف المتأولين؛ لأنه لم يقطع على خطئهم، ولا يقطع على أن الحق في جهته، وإنما يحكم بالخطأ والصواب من طريق غلبة الظن. وهذا فصل يجىء الكلام فيه في أثناء المسألة. ويحتمل أن يكون أجاز صلاتهم؛ لأن المأموم (1) معذور فيما جهل حالة الإمام فيه، ولهذا قلنا: إذا صلى بهم محدِثاً صحت صلاتهم (2) . ويحتمل وجهاً آخر وهو: أنه أجاز صلاتهم؛ لأن طريق هذه المسائل خفية، يعذر الجاهل فيها. ولهذا أجاز الصلاة خلف المبتدع إذا كان عامياً، ولم يجزها خلف العالِم (3) ؛ لأن طريق هذه المسائل خفية، فأجازه لذلك، لا لأن الحق مع كل واحدٍ. يبيِّن هذا ما قاله في رواية محمد بن أحمد بن واصل (4) ومهنّا "لا يصلى
خلف من يقول: (الماء من الماء) " (1) . وكذلك نقل جعفر بن محمد عنه في إمام صلى ولم يقرأ فاتحة الكتاب: "يعيدُ الصلاة" (2) . "وكذلك إذا لم يقرأ في الركعتين الأخيرتين" (3) . وكذلك قال في القبلة: "إذا اجتهد نفسان في طلبها، واختلف اجتهادهما لم يَتْبَع أحدُهما الآخر في الصلاة" (4) . وكذلك قال في رواية أبي داود فيمن كان يتديَّن بحديث عُقْبة بن عامر في المسح أكثر من ثلاثة أيام (5) ثم ترك؟ "يعيدُ ما كان صلى وقد مسح أكثر
من ثلاث؛ أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى (1) من قول عُقبَة بن عامر" (2) . وهذا كله يدل على أن الحق في أحدهما، والآخر مخطىء لا يُتْبَع في اجتهاده. وبهذا قال أكثر أصحاب الشافعي (3) . ومنهم من قال -وهو القاضي أبو الطيب الطبري- إنني أعلمُ بإصابتنا
للحق، وأقطعُ بخطأ من يخالفنا، وأمنعُه من الحكم باجتهاده غير أنني لا أنقضه (1) . وحُكي مثل مذهبنا عن بِشْر المَرِّيسي والأصمِّ وابن عُلَيَّة (2) . وقال أبو الحسن الكرخي -فيما حكاه أبو سفيان السرخسي عنه-: مذهب أصحابنا جميعاً: أن كل مجتهد مصيب لما كُلِّف من حكم الله تعالى، والحق في واحدٍ من أقاويل المجتهدين (3) .
قال: ومعنى ذلك أن الأشبه واحد عند الله تعالى إلا أن المجتهد لم يكلف [239/أ] إصابته. قال: وهكذا حُكي عن عيسى بن أبان أن كان يقول: لابد من مطلوب هو أشبه الأشياء بالحادثة، إلا أن المجتهد لم يُكلََّف إصابته، وإنما يبعد أن يحكم فيها بحكم الأصل الذي هو أشبه به في غالب ظن المجتهد. ونحو هذا حكى أبو عبد الله الجرجاني، وفسّر الأشبه بأنه شبَه الحادثة ببعض الأصول أقرب عند الله تعالى، وأنه لو أنْزِل ذلك الحكم لكان ينزله بأحد الوجهين. وذهبت المعتزلة: إلى أن كل مجتهد مصيب (1) . واختلفوا: هل هناك أشبه مطلوب أم لا؟. فمنهم من قال: هذا أشبه مطلوب، إلا أنه لم يُكلف إصابته، كما قال أصحاب أبي حنيفة. ومنهم من قال: ليس هناك أشبه، ولا عند الله في الحادثة حكم، وإن فَرْض كل واحد ما يغلب على ظنه، وأدى إليه اجتهاده (2) . حُكي ذلك عن أبي هاشم (3) . واختلفت الأشعرية فقال الأكثر منهم مثل قول [ابن فُورك و] (4) أبي إسحاق الإِسفراييني
وغيرهما: مثل قولنا (1) . وقال أبو بكر بن الباقلاني: لأبي الحسن الأشعري في ذلك قولان (2) . واختار (3) أن كل مجتهد مصيب، وأن فَرْض كل واحدٍ ما يغلب على ظنه، ويؤديه إليه اجتهاده. وليس هناك أشبه مطلوب (4) . والكلام في فصول أحدهما: الدلالة على أن الحق في واحدٍ من القولين. ودليله: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والاستدلال. [الدليل من الكتاب] : أما الكتاب فقوله تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذ يحكمانِ في الحرثِ) إلى قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًءَاتَيْنَا حُكْمَاً وعِلْمَاً) (5) . فموضع الاستدلال أن داود قضى باجتهاده، وسليمان قضى باجتهاده؛ لأن لو كان هناك نص ما اختلفا في الحكم.
فأخبر الله تعالى أنه فهَّم الحكم لسليمان. فثبت أنه كان أصاب في الحكم، وداود لم يصب. وعلى قولهم، هما جميعاً (1) ، مصيبان (2) . فإن قيل: قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) لا يدل على أنه لم يُفَهِّم داود؛ لأن تخصيص الشىء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه. ومن قوله تعالى: (وَلَقَدْءَاتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً) (3) ولم يدل على نفي العلم عن غيرهما من الأنبياء. وكذلك قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (4) لا يدل على أنه لم يرض عن غيرهم من المؤمنين الذين لم يبايعوه تحت الشجرة قيل له: تخصيص الشىء بالذكر يدل على نفي ما عداه. وهذا أصل قد سبق الكلام فيه (5) . فإن قيل: قد رُوِيَ أنهما كانا حكما في الحرث بالنص، ثم نسخ الله تعالى
الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل على لسان سليمان، فيحتمل أنه فهَّمه الناسخ، ولم يُفَهَّم ذلك داود (1) . قيل: قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) يقتضي: في تلك الحكومة. وعندهم أنه لم يخص سليمان بالفهم في تلك الحكومة. فإن قيل: فقد رُويَ أنهما كانا قد حكما من طريق الاجتهاد (2) ، إلا أن سليمان -على نبينا وعليه السلام- قد أصاب حقيقة الأشبَه المطلوب عند الله، وداود لم يصب ذلك، فلم يخرجا بذلك من كونهما مصيبين الحق. قيل: جماعة مَن خالفنا في هذه المسألة لا تقول: إن هناك أشبه، وإنما فرضه الاجتهاد وحْدَه. فلا يصح هذا التأويل منه. ومن قال: إن هناك أشبَه قال: بأنه لم يكلفه، وإذا لم يكلفه يجب أن لا يؤثر وجوده وعدمه في حق أحدهما. وعلى أنه لولا أنه يجب طلب الأشبَه لم يمدح سليمان بفهمه. وعلى أنه الآية وردت في القضية في الحكم، ولم ترد في طلب الأشبَه، فوجب أن يكون سليمان مخصوصاً بإصابة الحكم. وجواب آخر وهو أنه رُوي في الحديث: أن سليمان نقضَ حكمَه. ولو كان داود مصيباً لم ينقض سليمان حكمه (3) .
فإن قيل: فقد قال تعالى: (وَكُلاًءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) ، وهذا يدل على أنهما جميعاً كانا مصيبين. قيل: لم يرد أنهما أوتيا الحكم والعلم في هذه المسألة؛ لأنه لو كان كذلك لما خص بالفهم أحدهما، وإنما أراد أنهما أوتيا ذلك في الجملة. فإن قيل: يجوز أن يكون في المسألة نصٌ خفي، وقف عليه سليمان ولم يقف عليه داود. قيل: لو كان هناك نص لما جاز الحكم بالاجتهاد. على أن من مذهبهم: أنه إذا كان هناك نص خفي فحكم به حاكم باجتهاده، لم يكن مخطئاً في حكمه. فإن قيل: كيف يجوز الخطأ على الأنبياء؟!. قيل: يجوز عليهم، كما يجوز على غيرهم. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أنَسَّى لأسُنَّ) . وإنما الفرق بيننا وبينهم أنهم لا يقرون على الخطأ، ونحن نقرُّ عليه.
[الدليل من السنة] : وأيضاً: ما روى أبو هريرة وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وغير [هم] عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[240/أ] أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر) . وهذا يدل على أن المجتهدين بين الإِصابة والخطأ. فإن قيل: هذا خبر واحد. قيل: وإن كان خبر واحد فقد تلقته الأمة بالقبول، وأجمعوا على صحته وتأويله، فصار بمنزلة المتواتر، فوجب المصير إليه. فإن قيل: معناه: إذا أصاب الأشبَه المطلوب، فله أجران، وإن أخطأ الأشبَه كان له أجر واحد. قيل: عندك لم يكلف طلب الأشبَه ولا إصابته، وإنما فرضُه ما يغلب على ظنه. وإذا كان الأشبَه وغيره واحداً لم يختلفا في الثواب والأجر. فإن قيل: أراد بالإِصابة: إصابة النص أو الإِجماع، وبالخطأ: خطأ النص أو الإِجماع. قيل: هذا عام بما فيه نص أو إجماع وغيره، فوجب أن يحمل على عمومه. على أن استحقاق الأجر لا يختص بإصابة النص والإِجماع، بل ما فيه النص والإِجماع، ومالا نص فيه ولا إجماع في الأجر والثواب سواء. وعلى أنه لو وجب حمل الخبر على هذا لوجب تفسيق من خالفه وتأثيمه. ولمَّا حكم له النبي بأجر، لم يصح حملُه على ما قالوه. وقد قيل في جوابه: إن المجتهد إذا استقصى في طلب النص فلم يجد، فهو مصيب عندكم؛ لأنه لا يلزمه أن يحكم بما لم يبلغه. ولا يُسمى من لم يبلغه النص مخطئاً، كما لا يُسمى من لم تبلغه شريعة النبي أنه مخطىء.
فإن قيل: كيف يستحق الأجر وقد أخطأ في الحكم وفي الاجتهاد؟ قيل: هو مصيب فيما فعله من الاجتهاد مخطيء في تركه للزيادة على ما فعله، فهو مأجور على ما فعله، مغفور له ترك ما ترك من الاجتهاد. فإن قيل: فقد أغْرِيَ إذاً بالترك؛ لأنه قد علم أنه لا مضرة عليه في الفعل. قيل: ليس هذا بإغراء؛ ألا ترى أنه من بشره النبي بالجنة لا يحس ضرر النار فيما يفعله؛ لأنه علم أن إما أن يسقط عنه العقاب بالتوبة، وإما بالمغفرة، ومع ذلك ليس مغرى. وعلى أن المجتهد لا يكون مغرى؛ لأنه لا يعرف المرتبة التي إذا انتهى إليها من النظر غفر له تركه النظر فيما بعد. إنما ذلك شيء يعرفه الله تعالى وحده، فجرى ذلك مجرى صغائرنا التي لا يعرفها إلا الله وحده. وأيضاً: ما رُوِيَ أن -النبي عليه السلام- كان إذا بعث جيشاً قال لهم: (إذا حاصرتم [240/ب] أهل حصنِ أو مدينة فأرادوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تنزلوهم على حكم الله تعالى، فإنكم لا تدرون ما حكم الله فيهم) (1) . وهذا ينفي أن يكون حكم الله تعالى في الحادثة ما يُؤدي إليه اجتهاد المجتهد. فإن قيل: يجوز أن يكون قال لهم: لا تنزلوهم على حكم الله؛ لأنكم لا تأمنون ورود النسخ على الحكم الثابت. [قيل: هذا] لا يمنع وجوب العمل به قبل العلم بالنسخ.
ألا ترى أنه لا جائز أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم: لا تصلوا ولا تصوموا؛ لأنكم لا تأمنون أن يكون قد يصح ورودُ نسخ ذلك من الله تعالى. [الاستدلال بالإِجماع] وأيضاً: فإن المسألة إجماع الصحابة. فإنه قد ظهر منهم اختلاف في مسائل خطَّأ بعضُهم بعضاً فيها، وأنكر بعضهم على بعض. فلو كان كل مجتهدٍ في ذلك مصيباً لم يخطِّىء بعضهم بعضاً. بل كان يقول بعضُهم لبعض: أنا مصيب وأنت مصيب. فمن ذلك ما رُويَ عن عمر أنه أرسل إلى امرأة فأفْزَعَها ذلك، فأجْهَضَت. فاستشار الصحابة، فقالوا: (لاشىء عليك، إنما أنت مؤدِّب) . وكان عليٌّ: في القوم ساكتاً، فقال عمر: (عزمت عليك يا أبا الحسن لتخبرنِّي، فقال علي إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطؤوا، وإن كانوا قاربوك (1) فقد غشوك. أراك قد ضمنت الدية. فقِبلَ قوله) . فقد أطلق اسم الخطأ عليهم، وإن كانوا مجتهدين. وقال عمر في قضية قضى بها: (لا أدري أصبت أم أخطأت، ولكن لم آل عن الحق) . وقال ابن عباس: (من شاء باهَلْتُه، أن الفرائض لا تعول) .
وقال: (ألا يتقى الله زيد: يجعل ابن الابن بمنزلة الابن، ولا يجعل أبا الأب بمنزلة الأب) . وقال: (من شاء باهَلْتُه عند الحجر الأسود أن الجَد أب) (1) . وقال ابن مسعود: (من شاء باهَلْتُه أن سورة النساء القصرى (2) نزلت بعد قوله تعالى: (أربَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً) (3) . وقالت عائشة: (أبلغي زيد بن أرقم أن الله أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب) . فإن قيل: يحمل قول علي: (أخطؤوا) (4) حقيقة الأشبَه المطلوب.
وكذلك قول ابن عباس: (من شاء باهلته) ثقة من نفسه أنه أصاب الأشبه. قيل: قد أجبنا عن هذا وقلنا: إن عندك لم يكلف طلب الأشبَه ولا إصابته، وإنما فَرْضُه ما يغلب على ظنه، فحكمه وحكم غيره سواء. ولا يجوز حمل ذلك على أنه كان هناك نص؛ لأن القوم صرحوا بالرجوع إلى الرأي. فقال علي: (إن اجتهدوا فقد أخطؤوا) . وكذلك [241/أ] ابن عباس (ألا يتقى الله زيد يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أبا الأب أباً) . وهذا رجوع إلى الرأي. فإن قيل: لا يجوز أن يكون عدولُه عما ثوابه أكثر إلى شىء ثوابه أقل من الشيطان. وقد أضافت الصحابة الخطأ في ذلك إلى الشيطان. وأيضاً فإنهم إذا اختلفوا على قولين متضادين مثل تحريم وتحليل، وتصحيح وإفساد، وإيجاب واسقاط، فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يكونا صحيحين، أو فاسدين، أو أحدهما صحيحاً والآخر فاسداً. ولا يجوز أن يكونا فاسدين؛ لأنه يؤدي إلى إجماع الأمة على خطأ فاسد، وهذا لا يقوله أحد. ولا يجوز أن يكونا صحيحين؛ لأنه لا يجوز أن يكون الشىء الواحد حراماً حلالاً، واجباً غير واجب، وصحيحاً باطلاً. ولهذا قلنا في الفرُوج، وهو إذا تزوج حنبلي امرأة من وليها، بعد أن تزوجها حنفي بغير ولي، فالحنبلي يقول: الأول باطل ونكاحي صحيح، وهي حلال لي دونه.
والحنفي يقول: نكاحي صحيح، والثاني باطل. فلو كان كل مجتهد مصيباً كانت حلالاً لكل واحد منهما. وهذا لا يجوز بالإِجماع. فإذا بطل هذان القسمان، ثبت أن أحدهما صحيح والآخر فاسد. فإن قيل: إنما لم يصح استباحتها لشخصين؛ لأن الإِجماع دال على أنه لا يجوز الجمع بينهما. قيل: الإِجماع يحصل على أن أحدهما مباح والآخر حرام. فإن قيل: المجتهدان (1) إذا أفتى أحدهما بحظر الوطء، والآخر بإباحته، وتساوى فتواهما عند المستفتي، فإن المستفتي يكون مخيراً في الأخذ بأي القولين شاء. فإذا اختار الأخذ بأحدهما تعَيّن (2) عليه الحكم الذي اختاره من حظر أو إباحة، فلا يكون قد اجتمع الحظر والإِباحة في الوطء الواحد. كما يقول في المكفر عن يمين: هو مخيرَّ بين الأشياء الثلاثة، فإذا اختار أحدها (3) تعَيّن (4) عليه ما اختاره. قيل: لو كان هذا يجري مجرى الكفارة لجاز لأحد المجتهدين أن يقول له أنت مخيَّر بين الحظر والإِباحة، كما يقول له: أنت مخيَّر بين العتق والإِطعام. فإن قيل: الحكم بصحتها لا يؤدي إلى التضاد في حق شخص (5) ، إنما
يؤدي إلى ذلك في حق شخصِ واحدٍ في وقت واحدٍ، فأما على شخصين أو فريقين فلا يستحيل، كما ورد الشرع بإيجاب الصلاة على الطاهر، وأسقطها عن الحائض. ووجوب الإِتمام على المقيم، والرخصة في القصر (1) للمسافر. قيل: [241/ب] الأدلة إذا كانت عامة لم يجز أن يكون مدلولها خاصاً، والدلالة على كل واحدٍ منهما عامة في الجميع؛ فلا يجوز أن يكون حكمها خاصاً. وإذا كانت عامة ثبت التضاد ولم يجز أن يكون الجميع صحيحاً (2) . فإن قيل: الأمارة على الحكم خاصة وليست بعامة؛ لأن الأمارة على الحكم ظن المجتهد، وذلك يخصه، فكان الحكم خاصاً فيه. يدل على ذلك: أن الأمارات التي فيها متكافئة ليس بعضها أقوى من بعض فلا طريق أولى من طريق. قيل [طريق] الاحكام هو الكتاب والسنة، دون الظن، وذلك عام. يدل على صحة هذا قوله: (فَإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى الله وَالرَّسُولِ) (3) والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله دون الظن. فإن قيل: فالقياس طريق الأحكام، وهو ظن القياس. قيل: القياس يرجع إليهما؛ لأن القياس يقع على ما ثبت بالكتاب والسنة، ويتعدى الحكم من الأصل الثابت بالكتاب والسنة (4) . وجواب آخر وهو: أن المجتهد يرجع إلى أدلة من الكتاب والسنة والقياس. وقوله: "إن الأمارة هي الظن" مخالف لإجماع الأمة (5)
جواب آخر وهو أنه لو كان الظن (1) هو الأمارة لوجب إذا كانت أمارات المجتهدين متكافئة، فظن بعضهم أن بعضهما أولى من بعض أن يكون خطأ، كمن ظن أن الثور سبُع، والحدأة باز، والحمار بغل. وقد علمنا أن أهل العلم فريقان في هذه المسائل (2) فيعتقد فريق قوة أمارة التحليل. والآخر قوة أمارة التحريم فيجب أن يكون الكل على خطأ (3) ، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على خطأ (4) . وجواب [آخر] وهو أنه لو كانت الأمارة هي الظن، وأنه لا طريق له لوجب أن يشاركهم العامة في ذلك؛ لأن العامي يظن كما يظن العالم. ألا ترى أن العامة لما شاركت أهل العلم في العقليات في طريق الظن وجب عليهم أن يعلموا منه ما يعلم أهل العلم، ويجب عليهم التقليد (5) ، لم يصح ما قالوه. وجواب آخر وهو: أن الظن يتبع وجود الشىء في الأكثر الأغلب، كما نقول في الغيْم الأسود يغلب على الظن وجود المطر معه. وكذلك التنفق (6) في عُرْض الحائط يغلب على الظن وقوعه.
وكذلك إذا كان لرجل عادة في الجلوس بالغداة للتدريس، أو في يوم من الأسبوع لمجلس النظر، واستمرت عادته على ذلك [242/أ] في الأغلب الأكثر غلب على ظن كل من عرف ذلك منه في وقته. وكذلك إذا كانت عادة الإِنسان تَفْرقة صدقاته في شهر رمضان، وكثر ذلك من فعله واتصل، غلب على ظن كل من عرف ذلك أنه يفعل ذلك إذا أهلّ (1) شهر رمضان. وكذلك إذا كانت عادة الرجل أنه إذا أعطى ابنه أعطى ابنته، ثم ثبت بخبر الصادق أنه أعطى ابنه، غلب على ظن السامع أنه أعطى بنته. وإذا كان الظن يتبع وجود الشىء في الأغلب، تميز الحق من الباطل من طريق العلم وطريق الظن. وعلى قولهم: الأمارات متكافئة (2) . فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرت، وأن الأمارة في الاجتهاد في ترتيب الأدلة لوجب أن يعلم أو يظن مخالفك إذا نظر (3) [و] اجتهد فيما نظرت فيه. قيل: ويجب إذا نظر مخالفك في مسائل الكلام أن يعلم مثل ما تذكر علمته أو ظننتَه. فإن قيل: لم ينظر فيما نظرت فيه، ولا رتب الدليل على ما رتبته عليه. قيل: وكذلك مخالفنا لم يرتب الدليل على وجهه ولم يضعه في حقه.
وجواب آخر وهو: أنه قد ينظر في دليل وفيما نظرت فيه على ممر الأيام في مجالس النظر والتدريس والقراءة من كتابك، أو سمعه من لفظك فلم يصح قولك: "إنه لم ينظر فيما نظرت فيه". فإن قيل: تسبق إلى اعتقاده الشبهة فيمنعه ذلك، ويسوغ العلم بالدليل ومعرفة الطريق الصحيح. قيل: وكذلك مخالفنا في هذه المسائل، فلا فرق بينهما. وأيضاً: لو كان كل مجتهد مصيباً لكانت المناظرة بين أهل العلم خطأ وهوساً؛ لأن كل واحدٍ منهم عند صاحبه على حق، فلم يكن لمناظرتهم معنى، وكان بمنزلة مناظرة المتفقين فيما اتفقا فيه. فلما وجدنا أهل العلم في كل عصرٍ يتناظرون، ويحتج بعضهُم على بعض دلّ على أن ليس كل مجتهد مصيباً. فإن قيل: إنما يتناظرون حتى يغلب على ظن مخالفة ما (1) أدى إليه اجتهاده، فرجع إلى قوله. قيل: لا فائدة في رجوعه من حق. وكونه على ما هو فيه وانتقاله إلى ظن آخر سواء، بل في ذلك محمل الكلفة والعبث (2) والتنازع والتخاصم، وليس هذا من عمل العقلاء. فإن قيل: إنما حسُنت المناظرة في طلب الأشبَه. قيل: عندك لم يُكلف طلب، فلا فائدة في المناظرة فيما لم يُكلَّف طلبُه. وأيضاً: فإنه لا خلاف [242/ب] أن المجتهد في الحادثة كلف الاجتهاد
في حكمها ليُميز الجائز من غير الجائز والصحيح من الفاسد. فلو كان الصواب في الجهتين لم يحتج إلى ذلك، فعلمنا أن هناك جائزاً (1) وغير جائز وصحيحاً وفاسداً (2) . فإن قيل: إنما يجتهد ليطلب النص أو الإِجماع. قيل: إذا كان هناك نص أو إجماع سقط الاجتهاد. وأيضاً فإنه لا يخلو: إما أن يكون كُلِّف الاجتهاد لطلب الحكم، أو لأن فَرْضه الاجتهاد. ولا يجوز أن يقال: كُلِّف الاجتهاد. لأن فَرْضه الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد لا يراد لنفسه، وإنما يراد لغيره؛ لأن الانسان لا يكلف الاجتهاد ليصير مجتهداً. فثبت أن الاجتهاد لطلب الحكم. وإذا ثبت أن هناك حكماً مطلوباً (3) صح قولنا، وبطل قولهم: إن فرضه الاجتهاد فقط، وليس هناك حكم مطلوب. ولا يصح قول من قال بالأشبَه: إنه كلف الاجتهاد لإِصابة الأشبه لما بينَّا، وهو: أنه لم يكلف طلب الأشبه، ولا إصابته، فلا معنى للاجتهاد في طلبه. فإن قيل: إنه كُلِّف الاجتهاد ليغلب على ظنه أن الحكم بهذا أولى من غيره. قيل: من كُلف طلب شىء يحتاج أن يكون ما كلفه (4) موجوداً حال الطلب، فلا يكلف طلب شىء ربما حدث بعد الطلب، وربما لم يحدث.
ألا ترى أن من كُلف طلب عبد آبق أو جمل شارد فإنه يصح؛ لأن ما كُلفه موجود. وما يذهبون إليه من غلبة الظن أمر يحدث بعد الطلب، فلا يصح أن يكون الأمر بالاجتهاد لأجله. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (مَا قَطَعْتُم من لينةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة عَلَى أصولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ) (1) . فأخبر أن القطع والترك جميعاً من الله، وأحدهما ضد الآخر. والجواب: أن هذه الآية وردت على سبب، وهو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قطع نخل بني النضير وحرقها، قالت بنو النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك كنت تنهى عن الفساد وتعيبه، فما بالك تقطع نخلنا وتحرقها؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبرهم أن ما قطَع أو ترَك فبأمر الله تعالى (2) . وهذا يدل على أن الأمر في ذلك كان على التخيير في القطع والترك، فيجري مجرى التخيير في الكفارات، والحق في كل واحد منها. واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وهذا عام في حال الانفراد والاختلاف. والجواب: أنا نحملُه على أن كل [243/أ] واحد حجة حال الانفراد، ويكون القصد به أن قول الواحد حجة. واحتج: بأن الصحابة اختلفوا ولم ينكر بعضُهم على بعض، بل أقره عليه،
وسوَّغ للعامي أن يستفتيَه ويعملَ بقوله. من ذلك: اختلافهم في الجد، هل يقاسم؟ (1) . وفي المُشركة (2) ، وغير ذلك. وقال عكرمة: (بعثني ابن عباس إلى زيد بن ثابت ليسأله عن زوج وأبوين فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقى، وما بقى للأب. قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته بذلك، فقال ابن عباس: عُدْ إليه فقل له: للجد (3) في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي؟! فمن أعطى ثلث جميع المال أخطأ؟! قال: فأتيته، فقلت له. فقال لم يخطىء، ولكنه شىء رأيناه وشىء رآه) (4) .
وقيل لعمر بن الخطاب في المُشَرَّكَة (1) : لم تُشرك عام أول، وشَركْت العام؟ فقال: (ذاك على ما فرضناه، وهذه على ما فرضنا) (2) . ولأن بعضهم ولَّى بعضاً مع اختلافهم في الأحكام. فروي عن أبي بكر أنه ولى زيد بن ثابت القضاء، وكان يخالفه في الجد وغيره. وولى عمر أبَّي بن كعب وشريحاً القضاء، وكانا يخالفانه. وكذلك ولى علي شريحاً وابن عباس. والجواب عن قولهم: "إنه لم يخطىء بعضهم بعضاً" غلط؛ لما روينا عن علي في قصة المرأة التي أجْهَضَت ذا بطنِها: (إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأا) . وقول ابن عباس: ألا يتقي (3) الله زيد. وجواب آخر وهو: أنه لم يخطىء بعضهم بعضاً؛ لأن الخاطىء فيه معذور، له على قصد الصواب أجر، وقد ورد الشرع بذلك. جواب آخر وهو: أنه إنما لم ينكر بعضهم على بعض لوجهين: أحدهما: أن الشرع منع من ذلك، وهو أنه ليس على هذه الأحكام
أدلة مقطوع (1) عليها، وإنما طريقها غالب الظن. والثاني: أن الإِنكار في ذلك ربما أفضى إلى الفتنة والفساد والاختلاف. وقولهم: "إن بعضهم ولى بعضاً"، فلا يلزم: [أولاً] : لأنه يبطل بكل عصر بعد الصحابة، فإنهم فعلوا هذا، ومنهم من يذهب إلى أن الحق في واحد من القولين. الثاني: أنه وإن كان على خلاف مذهبه، فإنه لا يعلم أنه يبقى على اعتقاده إلى حين الحكم لجواز أن يغلب على ظنه حين الحكم في الحادثة على موافقة (2) . الثالث: أنه وإن كان مخالفاً له، فإنه لا يقطع على خطئه، بل يُجَوز على نفسه الخطأ والصواب لصاحبه، فلهذا استخلفه ورضي بحكمه. واحتج: بأنه لو كان الحق في واحد من القولين، وقد نصب الله تعالى عليه دليلاً، وجعل إليه (3) طريقاً، وكلف المجتهدين [243/ب] إصابته، لوجب أن يكون المصيب عالماً به قاطعاً (4) بخطأ من خالفه. ويكون المخالف آثماً فاسقاً، ويمنع من العمل بما أدى اجتهاده إليه، ووجب نقص حكمه إذا حكم به، وأن لا يسوغ للعامي أن يقلِّد من شاء من المجتهدين، ويكون بمنزلة من خالف الإِجماع والنص ودليل مسائل الأصول من الصفات
والقدر والإِمامة ونصب إمامين ونصب إمام من غير قريش، وما أشبه ذلك. ولما أجمعوا على أن المصيب غير عالم فلا قاطع بخطأ من خالفه، ولا إثم عليه فيه، ولا ينقض حكمه إذا حكم به، ويُخيَّر العامي في تقليد من شاء، دلَّ على أن كل مجتهد مصيب. والجواب: أنا إنما لم نعلم إصابته للحق، ونقطع بخطأ من خالفنا؛ لأن الدليل على الأحكام غير مقطوع عليه، وإنما هو بأن [يكون] مقطوعاً (1) عليه، كنص القرآن ونص السنة المتواترة والإِجماع. وبأن يكون غلبة الظن بخبر الواحد والقياس وشهادة الأصول فما (2) كان دليله مقطوعاً عليه: علمنا إصابته، وقطعنا بخطأ من خالفنا، ونقضنا حكمه، وحكمنا بإثمه، ولم نُخَير العامي في تقليده. وما كان غلبة ظن: لم نقطع بإصابة الحق وخطأ من خالفنا؛ لأن دليله غير مقطوع عليه. فإن قيل: فكان يجب أن ينصب عليه دليلاً مقطوعاً عليه ليتوصل به إلى الحق، كما نصب على مسائل الأصول. قيل: لا يجب هذا كما لم يجب في حكم الحاكم بشهادة شاهدين، فإنه يحكم به، وإن لم يقطع على صدقهما. وكالقِبلة، كُلف الاجتهاد في طلبها، وإن لم يكن دليلاً قاطعاً عليها. وقد قيل: إن الله تعالى دلنا على الحكم بدلالة قاطعة، وإن لم يدلنا على علة الحكم في الأصل؛ لأنه كلَّفنا العمل على أوْلى العلل وأقواها، وقد جعل لنا طريقاً نقطع معه.
فإن إحدى العلتين أوْلى أن يتعلق الحكم بها وأنها موجودة في الأصل والفرع، وأنه يلزمنا العمل بها في الفرع. والطريق إلى ذلك هو وجوه الترجيح، وهي محصورة، فإذا وجدها أو أكثرها أو أقواها تختص إحدى العلتين، قطعنا على أنها أولى بأن تكون علة الحكم في الأصل من غيرها. كما أنا إذا رأينا أمارات الغَيْم الرطب، في بعض الغيوم، نحو كونه في الشتاء، وكونه كثيفاً قطعنا على أنه أولى أن يكون مطراً. وأمَّا التأثيم والتفسيق: فلا يجوز عليه ما ذكرنا، وهو أنا لا نقطع على خطئه، ولأن الشرع ورد بالعفو عن ذلك [244/أ] ، كما ورد بالعفو عن الخاطىء والناسي والمكره. يدل عليه قول الله تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ) إلى قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) ولم يؤثم داود. وكذلك قال النبي -عليه السلام-: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) فلم يؤثمه، بل جعل له الأجر مع الخطأ. وأمّا منعه من العمل بما أدى اجتهاده إليه فلا يمنع منه؛ لأن فرضه أن يحكم باجتهاده وبما يصح عنده، فلا يصح منعه منه. ولكن نقول إذا تزوج بغير ولي: "إنه نكاح فاسد". وإذا اشترى النبيذ "إنه شراء فاسد". وإذا شرب النبيذ: "إنه شَرِب حراماً"، وما أشبه ذلك من طريق غلبة الظن والظاهر. وأما إذا حكم باجتهاده فإننا لا ننقض حكمه لما بينَّا، وهو: أن الدليل غير مقطوع عليه، فلا يجوز نقضُه.
وقد قيل: إن في نقض الحكم فساداً؛ لأنه يكون ذريعة إلى تسليط الحكام بعضُهم على بعض، فلا يشاء حام يكون في قلبه من حاكم شىء إلا وتعقب حكمه بنقض، فلا يستقر حكم، ولا يصح لأحد ملك، وفي ذلك فساد عظيم. وقد قيل: لا يمتنع أن يمنع من الحكم، وإذا حكم لم ينقض. كما منع من البيع عند النداء، والسَّوْم على سَوْم أخيه، والصلاة في الدار المغصوبة، ومع هذا فلا يبطل العقد (1) والصلاة (2) . والجواب الصحيح على أصولنا: ما ذكرناه أولاً، وأنه غير مقطوع عليه. وأما تسويغ العامي تقليد من يشاء من المجتهدين فلعمري انه كذلك. وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية الحسين بن بشار المخرمي وقد سأله عن مسألة من الطلاق فقال: "إن فعل حنث. فقال له: يا أبا عبد الله إن أفتاني إنسان، يعني: لا يحنث؟ فقال له: تعرف حلقة المدنيين بالرَّصافة؟ قال له: فإن أفتوفي يحل؟ قال نعم" (3) . وهذا يدل على أنه لا يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتيين؛ لأنه أرشده إلى حلقة المدنيين، ولم يأمره بالاجتهاد في ذلك.
ويدل أيضاً على أن العامي إذا سأل عالِميْن، فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة أنه يجوز له أن يأخذ بقول من أفتاه بالإباحة. وكذلك نقل ابن القاسم الحنبلي (1) أنه قال لأحمد -رحمه الله-: ربما اشتدَّ علينا الأمر من جهتك فمن نسأل؟ فقال: "سلوا عبد الوهاب" (2) . وكذلك نقل الحسن بن محمد بن الحارث عن أحمد -رحمه الله- أنه سئل عن مسألةٍ فقال: "سل إسحاق بن راهويه" (3) . [244/ب] . وكذلك نقل أحمد بن محمد البُرَاثي (4) عن أحمد أنه سئل عن مسألة فقال: "سل غيرنا، سل العلماء، سل أبا ثور".
وكأن المعنى في ذلك أنه لا سبيل له إلى معرفة الحق والوقوف على طريقه. وكل واحد من المجتهدين يفتيه بما أدى اجتهاده إليه، فيؤدي ذلك إلى حيرته، فجعل له أن يقلد أوثقهما في نفسه. ويخالف المجتهد؛ لأنه يمكن موافقته على طريق الحق ومناظرته فيه. واحتج: بأنه لو أداه اجتهاد [هُ] في وقت إلى جواز النكاح بلا وليِّ فقضى به، ثم أداه اجتهاده في وقت آخر إلى خلافه لزمه أن يقضي بذلك، فلو كان الثاني خطأ ما لزمه الحكم به. والجواب: أنه (1) حينما أداه اجتهاده إلى الحكم بجوازه كان يعتقد أن ضده خطأ، وإنما صار صواباً في وقت آخر، فما (2) اجتمع الجواز وضده في وقت واحد. واحتج: بأن اختلاف الفقهاء في مسائل الحوادث كاختلاف القُراء في الحروف، ثم ثبت أن كل من قرأ بحرف فهو مصيب، كذلك في الأحكام. والجواب: أن اختلاف القُرَّاء لا يفضي إلى مناقضة. ألا ترى أن كل من خالف في قراءة جاز له أن يقرأ بحرف غيره، فلهذا كان الكل صواباً، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه اختلاف في أحكام، ومن ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب أفضى إلى المناقضة. ألا ترى أنه لا يجوز أن يأخذ بالقولين معاً، فبانَ الفرق بينهما.
فصل [الدلالة على أن ذلك غير مقطوع به] والدلالة على أن ذلك غير مقطوع عليه (1) أنه لو كان مقطوعاً عليه لم يلزمه أن يجتهد دفعة ثانية في تلك الحادثة، ولا يجتهد في صلاة ثانية في الجهة. ولما أجمعنا على أنه يحدث اجتهاداً علمنا أنه غير مقطوع عليه. وليس لأحد أن يمتنع من هذا ويقول: إنه لا يلزمه أن يجتهد ثانياً؛ لأن هذا مخالف الإِجماع السابق، ولأنه لو كان مقطوعاً عليه لوجب أن ينقض بحكم الحاكم إذا خالفه، كما ينقض بمخالفة النص. وليس لهم أن يقولوا: إنما لم ينقض؛ لأنه يكون ذريعة إلى تسليط الحكام بعضهم على بعض؛ لأن هذا لا يمتنع، كما لم يمتنع عند مخالفة النص والإِجماع. فإن قيل: أحد الحكمين يتميز عن الآخر بالتأثير الموجب للعلة وبكثرة الأصول. قيل: فيجب أن يؤثر في نقض الحكم [245/أ] وإسقاط الاجتهاد دفعة ثانية، كما كان ذلك في المنصوص عليه. فإن قيل: قد وجدنا أن الحكم يتعلق بالعلة الشرعية كتعلقه بالعلة العقلية، فإنه ما دام عصيراً هو مباح، فإذا حدثت الشِّدة حُرم، فإذا زالت أبيح، فإذا عادت حُرم، فدل على أنها موجبة، كما أن الحركة لما كانت دلالة على كون المتحرك متحركاً [كانت موجبة] .
قيل: وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها لا يدل على أنها معلومة، كالنبيذ والاجتهاد في طلب القبلة، فإن ثبوت الحق يحصل لوجود [الشدة في] النبيذ ويعدم بعدمها، وليس شهادتهم مقطوعاً عليها، وكذلك الاجتهاد في القبلة غير مقطوع على إصابته. فصل [الدلالة على أن هناك حكماً مطلوباً] والدلالة على أن هناك حكماً مطلوباً (1) خلاف (2) من قال: ليس هناك شىء سوى ما يغلب على ظنه: ما تقدم من الدلائل على أن الحق في واحد من القولين، فلولا أن هناك حكماً مطلوباً (3) لم يكن الحق في أحدهما. وأيضاً: لما كان مأموراً بالاجتهاد وجب أن يكون هناك حكم مطلوب، كالاجتهاد في طلب النص، والاجتهاد في طلب القبلة، والاجتهاد في عدالة الشهود. فإن قيل: القبلة يجوز ترك التوجه إليها مع العلم بها في الخوف وفي السفر، ولا يجوز مثل ذلك في أحكام الحوادث، مثل الطلاق والعتق والنكاح. قيل: حال الخوف والسفر هو غير مأمور بالتوجه إلى القبلة، وإنما جاز تركها مع العلم للضرورة، ولا ضرورة بنا إلى ترك النص في غيرها من الأحكام.
فإن كان هناك ضرورة جاز، كاستباحة طعام الغير للضرورة. فإن قيل: القبلة عين متوصل إليها، وليس كذلك ما اختلفنا فيه؛ لأن المطلوب ليس بعين. قيل: في حال الغيبة لا يتوصل إليها، ويجري حكمها مجرى سائر الأحكام. وأيضاً: قد بينَّا أن المجتهد كُلِّف الاجتهاد، والاجتهاد لا يراد لنفسه، وإنما يراد لغيره. ولأن الاجتهاد في طلب ما ليس بشىء ليحققه: لا يصح. ألا ترى أنه لا يصح أن يقول المجتهدُ: في غالب ظن هو مصيب للظن، وإنما يقول [في] غالب ظن: إنه مصيب الحقيقة. فعلم أن هناك مطلوباً (1) غير الظن. يبين هذا: أن الظن لابد أن يتعلق بمظنون ثابت على الحقيقة. فصل [إذا ثبت أن هناك حكماً مطلوباً فإنه قد كلف إصابته] وإذا ثبت أن هناك حكماً مطلوباً (2) [245/ب] فإنه قد كلف إصابته (3) خلاف من قال: هناك أشبه مطلوب، لكن لم يكلف إصابته. والدلالة عليه: ما تقدم من الدلائل على أن الحق في واحدٍ، وأن أحد المجتهدين مخطىء.
وإذا ثبت خطؤه علمنا أن هناك معنى قد كُلف إصابته، فأخطأه. فإن كان ذلك المعنى الحكم على ما نقوله نحن فيجب طلبه. وإن كان الأشبَه (1) بالحادثة فيجب أيضاً طلبه. ولأن الأشبَه لا يُراد لنفسه، وإنما يُراد لغيره، وهو إثبات الحكم الحادث، فعلم أن هناك حكماً مطلوباً (2) . فإن قيل: لا يمتنع أن يكون هناك مطلوب ولم يكلف إصابته، كالقبلة والفَقْر ويوم عَرَفَة. قيل: هناك كُلِّف الإصابة، ولكن سقطت الإعادة لدلائل شرعية، ذكرناها في مواضعها، وهو: أن جهات القبلة تثبت بالاجتهاد. فإذا اجتهد ثم أخطأ، فلو أمرناه بالإعادة لنقضنا اجتهاد [هـ] أولاً باجتهاد [هـ] ، آخر، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. وكذلك الفقر ثبت بالاجتهاد والغنى أيضاً، فلو قلنا: يعيدُ نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد. وعَرَفَة لا نأمن أن يُخطِىء في القضاء كما أخطأ في الأداء. وغير ذلك مما يذكر [في] مواضعه. يبين صحة هذا: أن في الشرع مواضع إذا أخطأها أعاد. مثل: أن يصلي ثم يتبين أن الوقت لم يدخل. أو توضأ بماء يظنه طاهراً فبان نجساً. وغير ذلك.
مسألة
لأنه لم يدل الدليل على سقوط الإعادة، فثبت أن القبلة وعرفة والفقر كُلف إصابته، وإنما سقطت إصابته لدليل. مسألة قد كان يجوز لنبينا -عليه السلام- الاجتهاد فيما يتعلق بأمر الشرع عقلاً وشرعاً (1) . وقد ذكر أبو عبد الله بن بطة (2) هذا فيما كتب به إلى أبي إسحاق بن شاقْلاَ في جوابات مسائل، وقال: الدليل على أن سنته وأوامره قد كانت (3) بغير وحي وأنها كانت بآرائه واختياره: أنه قد عوتب على بعضها، ولو أمِر بها لما عوتب عليها. من ذلك: حكمه في أسارى بدر، وأخذ الفدية، فقيل له: (مَا كَانَ لِنَبِي أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأرضِ) (4) . ومنه: إذنه في غزوة تبوك للمخلفين بالعذر حتى تخلف من لا عذر له، حتى قيل له: (عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أذنْتَ لَهُمْ) (5) .
ومنه: قوله: (وَشَاورْهُمْ في الْأمرِ) (1) . فلو كان وحياً لم يشاورهم فيه (2) وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى صحة ما قاله [246/أ] أبو عبد الله بن بطة في رواية الميموني لما قيل له: "ها هنا قوم يقولون: ما كان في القرآن أخذنا به، [قال] (3) : ففي القرآن تحريم لحوم الأهلية؟! والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) (4) وما علمهم بما أوتي".
وذكر أبو حفص (1) في الجزء السابع من البيوع في باب التسْعير: حدثنا بإسناده عن أبي فضلة (2) قال: أصاب الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَنَة. فقالوا: يا رسول الله سَعِّر لنا. فقال: (لا يسألني الله عن سُنَة أحدثتها فيكم (3) لم يأمر الله تعالى بها) (4) . قال أبو حفص: هذا دليل على أن كلِ سُنَّة سَنَها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته فبأمر الله تعالى، بقوله: (لا يسألني الله عن سُنّة أحدثتها) . واعلم أنه لا يحدث سنة إلا بأمر الله (5) ، وبهذا نطق القرآن، فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (6) . والأول أصح، وبه قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني والسرخسي (7) .
دليلنا:
واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال بهذا (1) . ومنهم من منع من ذلك (2) . وهو قول المتكلمين من المعتزلة (3) ، والأشعرية (4) . دليلنا: قوله تعالى: (فَاعْتَبرُوا يَا أولِى الْأبْصَارِ) (5) . فأمر أهل البصائر بالاعتبار، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلى أهل البصائر رتبة وأرفعهم منزلة، فكان بالاعتبار أولى.
وقوله -عليه السلام-: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران) . وهو حاكم، فوجب أن يكون داخلاً فيه. وذكر أبو عبيد (1) في "كتاب أدب القضاء" بإسناده عن الشعبي قال: (كان - صلى الله عليه وسلم - تنزل به القضية، وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى، فيمضي ما كان قضى على حاله، ويستقبل ما نزل به القرآن) (2) . ولأن ما يستنبط من المعاني طريق لأمته في الحكم، فوجب أن يكون طريقاً له، أصله القرآن ظاهرُه وعمومُه. ولأن الاجتهاد طاعة لله تعالى وقربة ينال بها رضاه وثوابه، فوجب أن يكون للنبي -عليه السلام- فيه مدخل، قياساً على سائر الطاعات. ولأن المجتهد إنما سُوِّغ له الاجتهاد متى كان عالماً بالأصول وطرق القياس، فيجتهد فيما لا نص فيه ليعرف حكمه بالوجود (3) ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلى المنازل لمعرفة الأصول وطرق القياس، فهو أولى بالاستعمال. ولأن جواز الاجتهاد لا يخلو أن يتعلق بعدم النص حال وجود الحادثة، أو عدمه [246/ب] في الثاني. ولا يجوز اعتبار الثاني؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز الاجتهاد فيما يجوز أن يحصل عليه إجماع وأمر قاطع، فبقي أن يعتبر عدمه في الحال. وهذا الشرط يوجد مما يعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحوادث ولا نص أنزل عليه فيها من قبل.
وقد استدل أبو عبد الله بن بطة بدليلين (1) جيديْن: أحدهما: قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (2) ، فلو كان ذلك عن وحي لم يحتج إلى مشاورتهم. والثاني: أنه قد حكم باجتهاده في مواضع، بدليل أنه عوتب عليها. من ذلك: أخذ الفدية من أسارى بَدْر، [كما في] قوله: (مَا كَانَ لِنَبِيِّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ) (3) . وغير ذلك مما ذكرنا في رأس المسألة. وربما احتج من نصر جواز الاجتهاد بأشياء منها: أن السنة مضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحقيقة الإضافة تقتضي أنها من قِبَلِه. والجواب: أنه إنما أضيف إليه؛ لأنها بقوله وجبت، وهو السفير. ولهذا يضاف إليه جميعُ السنن، ومعلوم أن ليس جميعها باختياره. ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مكة: (ولا يُخْتَلَى خَلاَهَا) (4) قال العباس:
(إلا الإذْخِر) (1) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إلا الإذْخِر) ، ومعلوم أن الوحي لم يرد في تلك الحال. والجواب: أنه قد قيل: إن "الإذْخِر" ليس من الخلا، وإنما استثناه العباس تأكيداً (2) . أو لأنه لا يمتنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد استثناءه، فسبق العباس إلى سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو قلتُ نعم لوجبت) يعني الحج، فعلق وجوبها بقوله. الجواب: أنه لو قال: (نعم لوجبت) من حيث كان قوله دليلاً على وجوبه، وليس في الكلام ما يدل على أن قوله صادر عن اختياره أو من وحي. ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) . وقوله: (لولا أن أخشى أن يفرض السواك لاستكتُ) (3) فبين أن أمره بالسواك موقوف على اختياره. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون عنى أنه (لولا أن أشُق لأمرتهم) على طريق التنظيف. ولا يمتنع أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه لا ينبغي أن يأمرهم به لأجل المشقة.
ومنها قولهم: إن موسى -عليه السلام- أثبت الأحكام من جهته إلا تسع آيات أنزلها الله عليه. والجواب: [247/أ] أنا لا نعلم ذلك، ولو علمنا ذلك لم نعلم أن ما عدا تسع آيات لم يوح إليه. ومنها قوله -عليه السلام-: (عفوتُ لكم عن صدقة الخيل والرقيق) . والجواب: أنه إنما أضاف العفو إلى نفسه؛ لأنه هو الذي يتولى أخذها، وهو الذي لم يأخذها الآن، وإن كان ذلك بوحي. ومنها: أن الصحابة قد حكمت في الحوادث وأضافت ذلك إلى اجتهادها، ولو كان ذلك عن دلالة لما أضيف ذلك إليها، وقد قالوا في حكمهم: (إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمنى ومن الشيطان) (1) ، ولو كان عن دليل لم يقولوا ذلك. والجواب: أنه لو كان ذلك عن اختيار قد أبيح لهم العمل به لما شكوا في كونه صواباً، على أن من يقول الحق في واحد يقول: يجوز أن يخطئوا. واحتج المخالف: بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (2) . والجواب: أن الاجتهاد ليس من الهوى، وإنما هو من الوحي الذي أوحي إليه؛ لأن الله تعالى أمره به كما أمر أمته، وقوله: (إِن هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) ، وكذا نقول؛ لأن القول بالقياس عن وحي وتنزيل.
وأجاب أبو عبد الله بن بطة عن هذه الآية: بأن المراد به القرآن؛ لأن كفار قريش قالوا: قد ضل محمد عن دين قريش وغوى، وما يأتى به من هذا القرآن من تلقاء نفسه. وأقسم الله تعالى بنجوم القرآن ونزوله في أوقاته، فقال: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) من السماء (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) . وقد ذكر أحمد -رحمه الله- هذا فيما خرَّجه في الرد على الزنادقة في متشابه القرآن (1) . واحتج: بأن الاجتهاد يؤدي إلى غلبة الظن، وهو قادر على الحكم بالعلم من طريق الوحي، وإنما يجوز الحكم بغالب الظن إذا تعذر طريق العلم. والجواب: أن النص من الله تعالى مفقود في الحال. وعلى أنه يجوز أن يحكم بالنص، وأن يوقع نصاً ينسخه، وكذلك يجوز لغيره أن يحكم باجتهاده، وإن يئس من انعقاد الإِجماع الذي هو في معنى النص، على أنه معصوم في اجتهاده كالأمة، فلا نقول: إن طريقه غالب الظن. واحتج: بأن من ردَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كَفَرَ، فلو جاز أن يحكم بالاجتهاد لم يجز تكفيره؛ لأن الاجتهاد حكم من طريق الظن، وهذا لا يجوز لإجماع المسلمين على كفره، فدل على أنه لا يجوز أن [247/ب] يكون في حكمه ما هو اجتهاد. والجواب: أنه يكفر لكونه مكذباً للرسول في خبره. وقولهم: إن الاجتهاد يؤدي إلى غالب الظن، فلا يصح؛ لأن النبي معصوم في اجتهاده من الخطأ والزلَل، مقطوع بإصابة الحق ودرك الصواب. واحتج: بأن الاجتهاد ردُّ الفرع إلى الأصل بضرب من الشبهَ، ومتى فعل
مسألة
هذا وقاله صار نصاً، فإذا صار الاجتهاد نصاً ثبت أن لا يتصور فيه الاجتهاد. والجواب: أنه يصير نصاً بعد حصول الاجتهاد، وخلافنا في اجتهاده. مسألة يجوز أن يقول الله تعالى لنبيه: احكم بما ترى، أو بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بصواب (1) . وهذه مبنية على المسألة التي قبلها، وأنه كان يجوز أن يجتهد فيما يتعلق بالشرع. وهو اختيار الجرجاني (2) . وامتنع من ذلك جماعة من المعتزلة (3) . وهو اختيار أبي سفيان السرخسي (4) . دليلنا: أنه لا يخلو إما أن يتعين الخلاف فيما يحكم فيه باجتهاد واستدلال، أو يتعين فيما يقوله إذا خطرَ بباله من غير اجتهاد. فإن كان ذلك باجتهاد، فقد تقدم الكلامُ عليه ودليلُنا على جوازه. وإن كان فيما يخطر بباله من غير اجتهاد، فإنه غير ممتنع، إذا علم الله تعالى أنه يصيب ما هو عند الله تعالى؛ لأن التعبد قد ورد بمثله في العامي أنه مخيَّر
في تقليد من شاء من العلماء، ويكون ذلك حكم الله تعالى عليه من غير أنه يرجع إلى أصل يستدل به. وكذلك ورود التعبد في الاجتهاد لإحدى الكفارات الثلاث (1) . وكذلك خُيِّر في طعام عشرة مساكين غير معينين، وصرف خمسة دراهم من مائتين إلى فقير، وفقراء الدنيا تعني عينه (2) . ولأن الله تعالى قد قال: (إِلاَّ مَا حَرمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) (3) . فأضاف التحريم إليه، فدلّ ذلك على جواز ذلك. قال أبو بكر (4) في تفسير: (كُلُّ الطعَامِ كَانَ حِلاً لِبَنِى إسْرَائِيْلَ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَرلَ التَّوْرَاةُ) لكن إِسرائيل حرم على نفسه - من قبل أن تنزل التوراة بعضَ ذلك (5) . واحتج المخالف: بأن الشرعيات إنما يحسن تكليفها لما فيها من المصالح، ولا طريق لأحدٍ إلى معرفة المصالح سوى الله تعالى، فلم يجز أن يقول: احكم بما ترى فإنك لا تحكم إلا بصواب. والجواب: أنا قد بينَّا فيما تقدم أن الشرعيات لا يقف (6) تكليفها على المصلحة.
ويبين [248/أ] صحة هذا، و (1) أنه ليس من شرط جواز الحكم أن يكون الحاكم به عالماً بالمصلحة فيه. ألا ترى أن الحاكم في الحادثة من طريق الاجتهاد، لا يعلم أن ما حكم به صواب ومصلحة، بل يتبع حكمه في ذلك غالب الظن، ومع هذا قال: حكمه به كان جائزاً، ويحسن التعبد به، كذلك هاهنا. وكذلك في الكفارات وإطعام المساكين، كل ذلك مردود إلى اختيار المكلف. واحتج: بأن اتفاق الصدق في المستقبل لا يقع منا، كذلك اتفاق الصواب. والجواب: أنه غير ممتنع أن يقع في الأمرين، كما تتفق أمور كثيرة على طريق واحدة، كما تتفق في العلوم. واحتج: بأنه لو كان ذلك جائزاً لجاز أن يبعث الله تعالى رسولاً، ويجعل إليه أن يشرع الشريعة كلها. والجواب: أنه لا يمتنع ذلك فيما يمكن الوصول إليه من طريق الفكر والرأي إذا علم الله تعالى أن المصلحة فيه، كما يجوز أن يبيح له أكل ما شاء، إذا علم أنه لا يحتاج أكل الحرام. واحتج: بأنه لا يجوز أن يقع التعبد بما ذكر تموه؛ لأن المخبر لا يأمن الكذب فيما يخبر به. والجواب: أنه متى عرف أنه لا يقول إلا الصواب، زال هذا المعنى وأمن وقوع الخطأ.
مسألة
مسألة [الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -] يجوز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن كان غائباً عنه، أو كان حاضراً (1) معه. وحُكي عن قوم: أنه لا يجوز ذلك لمن كان بحضرته (2) . وحَكَى الجرجاني عن أصحابه: إن كان بإذنه جاز، وإن كان بغير إذنه لم يجز (3) . دليلنا على جوازه في الجملة: قوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى الأَبْصَارِ) (4) ، ولم يفصل بين أنه يكون حاضراً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غائباً، في حياته أو بعد وفاته، بإذنه وبغير إذنه. وقوله -عليه السلام-: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران) ولم يفرق. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل إلى عمرو بن العاص قضية، فقال: أجتهد يا رسول
الله وأنت حاضر؟! (فقال: نعم. إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأتَ فلك أجر) (1) .
ورُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل إلى أبي موسى وإلى رجل معه قضية، وقال: (إن أصبتما فلكما عشر حسنات، وإن أخطأتما فلكما خمس (1)) . ورُوي أن النبي عليه السلام - حكَّم سعداً (2) في بنى قريظة قال: فكنا نكشف عن [248/ب] مؤتزرهم فكل من أنبتَ قَتَلَه، ومن لم ينبت جعلناه في الذاري. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقد حكمتَ بحكم الله من فوق سبع سموات) (3) . فإن قيل: إنما جاز؛ لأنه كان بإذن النبي - عليه السلام.
قيل: المأذون فيه الحكم، فأما الاجتهاد فغير مأذون فيه؛ لأن الإذن في الحكم ليس بإذن في الاجتهاد. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أذن لعمْرو بالقضاء بين يديه أستأذنه في الاجتهاد بحضرته، فلم يفهم الاجتهاد من الإذن بالقضاء، تبت أن الإِذن بالقضاء ليس بإذن في الاجتهاد. ولأنه ليس في الاجتهاد بحضرته أكثر من الرجوع إلى غالب الظن مع القدرة على القطع واليقين، وهذا جائز بحضرته؛ لأنه لو كان حاضراً في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروى بعضُ الحاضرين عنه خبراً جاز له العمل به، وهو عمل بغالب ظن مع القدرة على القطع واليقين؛ لأنه كان يمكنه أن يرجع فيما أخبره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه منه قطعاً. فلما جاز هذا ولم يرجع فيه إليه، ثبت ما قلناه. ولأن ما جاز الحكم به في غَيْبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، جاز الحكم به في حضرته كالخبر. واحتج المخالف: بأنه لا يجوز الرجوع إلى غالب الظن مع القدرة على القطع واليقين، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضراً فهو قادر على معرفة الحكم من جهته قطعاً، فلا معنى للاجتهاد. والجواب: أنه باطل بما ذكرناه من قبول خبر الواحد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاضر. ولأنه إذا اجتهد والنبي حاضر، فإن (1) كان صواباً فذاك، وإن أخطأ لم يقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، كمن اجتهد ثم بان له أنه خالف النص.
مسألة
مسألة في صفة المفتي في الأحكام الذي يحرم عليه التقليد. منها (1) : أن يكون عارفاً بالقرآن، ناسخِه ومنسوخِه، ومجملِه ومحكمِه، وعامِّه وخاصِّه، ومطلقِه ومقيدِه. وهو المعرفة، بما قصد به بيان الأحكام الحلال والحرام. فأما ما قصد به أخبار الأولين وقصص النبيين والوعد والوعيد، فلا حاجة به إليه. وإنما قلنا هذا؛ لأنه قد يكون الأصل الذي يرد الفرع إليه من القرآن، فإذا لم يعرفه لم يمكنه الاجتهاد فيها. ويحتاج أن يعرف من السنة جملها التي [249/أ] تشتمل الأحكام عليها. ويعرف أيضاً المتقدم والمتأخر، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، والعام والخاص للمفتي الذي ذكرناه. ويحتاج أن يعرف إجماع أهل الأعصار عصراً بعد عصر؛ لأنه [قد] يكون الأصل ما أجمعوا عليه، فيرد الفرع إليه. ويحتاج أن يعرف من لغة العرب والإعراب ما يفهم عن الله تعالى وعن رسوله معنى خطابهما. وأن يكون عارفاً باستنباط معاني الأصول والطرق الموصلة إليها ليحكم في الفروع بحكم أصولها.
ويكون عارفاً بمراتب الأدلة، وما يجب تقديمه منها. وإذا كان بهذه الصفة وجب عليه أن يعمل في الأحكام باجتهاده، وحرام عليه تقليد غيره، إلا أن يكون حكماً يجب له أو لغيره، فيحتاج في فصله إلى حاكم يحكم بينهما باجتهاد. وإذا صار من أهل الاجتهاد بما ذكرنا، لم يجب قبول قوله فيما يفتي به إلا أن يكون ثقة مأموناً في دينه. فإذا كان بهذه الصفة وجب على العامة الرجوع إلى قوله وقبول فتياه. وقد نُقل عن أحمد -رحمه الله- ألفاظ في المفتي (1) ترجع إلى ما ذكرنا. فقال في رواية صالح: "ينبغي على الرجل إذا حملَ نفسَه على الفتيا أن يكون عالماً بوجوه القرآن، عالماً بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن" (2) . وكذلك نقل أبو الحارث عنه: "لا يجوز الاختيار إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة" (3) . وكذلك نقل حنبل عنه: "ينبغي لمن أفتاه أن يكون عالماً بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي" (4) . وكذلك نقل يوسف بن موسى: "واجب أن يتعلم كل ما يكلم الناس فيه (5) ". وقد ذكر أبو حفص بن شاهين في "الجزء الثامن من أخبار أحمد"، فقال:
حدثنا إسماعيل بن علي (1) حدثنا عبد الله سألت أبي عن الرجل يريد أن يسأل عن الشىء من أمر دينه مما يبتلى به، من الأيمان في الطلاق وغيره، وفي مِصْرِه من أصحاب الرأي، ومن أصحاب الحديث لا يحفظون، ولا يعرفون الحديث الضعيف، ولا الإِسناد القوي فمن يسأل؟ لأصحاب الرأي أو لهؤلاء؟ أعني أصحاب الحديث على ما كان من قدر معرفتهم، قال: "يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث خير من رأي أبي حنيفة" (2) . وظاهر هذا أنه أجاز تقليدهم، وإنه لم تكمل فيهم الشرائط التي ذكرنا. وذكر أبو حفص في "تعاليقه" فقال: حدثنا يحيى بن سهل، حدثنا بعض أصحابنا [249/ب] ، حدثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد الأطروش، قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن المنادي (3) يقول: سألت جدي كم كان يحفظ يحيى ابن معين؟ قال: "زهاء مائتي ألف. قلت فعثمان أخوه؟ (4) قال: مائة ألف"
وسألت عن أحمد بن حنبل فقال: "سمعت رجلاً يسأله إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيهاً؟ قال: لا. قال: فمائتي ألف؟ قال: لا. قال: فثلاثمائة ألف؟ (1) قال: لا. قال: فأربعمائة ألف؟ قال بيده هكذا، وحرَّك يده. فقلت: كم كان يحفظ أحمد بن حنبل؟ قال: أجاب عن ستمائة ألف" (2) . وظاهر هذا الكلام منه أنه لا يكون من أهل الاجتهاد إذا لم يحفظ من الحديث هذا القدر الكثير الذي ذكره. وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا. ويحتمل أن يكون أراد بذلك وصف أكمل الفقهاء، فأما ما لابد منه فالذي وصفنا. قال أبو حفص (3) : قال أبو إسحاق (4) : لما جلست في جامع المنصور للفتيا ذكرت هذه المسألة فقال لي رجل: "فأنت هو ذا تحفظ هذا المقدار حتى هو ذا تفتي الناس؟! فقلتُ له: عافاك الله، إن كنتُ أنا لا أحفظ هذا المقدار، فإني هو ذا أفتي الناس بقول من كان يحفظ هذا المقدار وأكثر منه" (5) . وليس هذا الكلام من أبي إسحاق مما يقتضي أنه كان يقلِّد أحمد فيما يفتي
به؛ لأنه قد نص في بعض "تعاليقه" على كتاب "العلل" الدلالة على منع الفتيا بغير علم: قوله تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَاَ لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (1) . وقوله: (فَلِمَ تُحَاجوَن فِيْمَا ليس لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (2) . وذكر ابن بطة في مكاتباته إلى البرمكي "لا يجوز له أن يفتي بما يسمع ممن (3) يفتى، إنما يجوز أن يقلد نفسه، فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا" (4) . وذكر أبو حفص في "تعاليقه" قال: "سمعت أبا علي الحسن (5) بن عبد الله النجاد (6) يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار (7) يقول: ما أعيب على رجل يحفظ لأحمد خمس مسائل، يستند إلى بعض سواري المسجد يفتي الناس بها" (8) .
وهذا منه مبالغة (1) . وذكر أبو عبد الله بن بطة في كتاب "الرد على من أفتى في الخلع" أنبأنا أبو حفص عمر بن محمد بن رجاء، حدثنا أبو نصر عصمة بن أبي عصمة (2) ، حدثنا العباس بن الحسين العيطوي حدثنا محمد بن الحجاج قال: كتب أحمد بن حنبل -رحمه الله- عني كلاماً، قال العباس وأملاه علينا قال: "لا ينبغى للرجل أن ينصب نفسه، يعني للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال. أما أولها: أن تكون له نية، فإنه إن لم تكن له نية [250/أ] لم يكن على كلامه نور، ولم يكن عليه نور. وأما الثانية: فيكون له حلم ووقار وسكينة. وأما الثالثة: فيكون قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفته. وأما الرابعة: فالكفاية، وإلا مَضَغَه الناس. والخامسة: فمعرفة الناس" (3) ورأيت في أخبار بِشْر بن الحارث رواية أبي عبد الله محمد بن مُخْلِد
العطار (1) قال: حدثني عيسى بن جعفر أبو موسى الوراق (2) قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل -رحمه الله- وذاكره دُحَيم (3) بالأصول عن النبي -عليه السلام- قال أحمد - رضي الله عنه -: "أما الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي فينبغي أن تكون ألفاً أو ألفاً ومائتين" (4) . وهذه الرواية تؤيد صحة التأويل لقول أحمد -رحمه الله- "لا يفتي [إلا] وقد حفظ مائة ألف ومائتي ألف"، على طريق الاحتياط؛ لأنه قد حَرَّر الأخيار التي يدور عليها العلم، يعني الحلال والحرام، بألف أو ألف ومائتين.
فصل وأما صفة المستفتي فهو العامي الذي ليس معه ما ذكرنا من آلة الاجتهاد (1) . وذكر أبو حفص في كتاب "أخبار أحمد" -رحمه الله- عن إسماعيل ابن علي عن عبد الله قال: "سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإِسناد القوي من الضعيف، فيجوز أن يعمل بما شاء، ويتخيَّر ما أحب منها، فيفتى به ويعمل به، قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم" (2) . وظاهر هذا أن فرضه التقليد والسؤال، إذا لم تكن له معرفة بالكتاب والسنة. وقال قوم من المعتزلة البغداديين: لا يجوز للعامي أن يقلد في دينه، ويجب عليه أن يقف على طريق الحكم. وإذا سأل العالِم، فإنما يسأله أن يعرِّفه طريق
الحكم، وإذا عرفه ووقَفَ عليه عَمِلَ به (1) . وهذا غير صحيح؛ لقوله تعالى: (فَاسْألوا أهلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بَالْبَيناتِ وَالزُّبُرِ) (2) . وقول النبي -عليه السلام-: (ألا تسألوا إذْ لم تعلموا، فإنما شفاء العِي السؤال) (3) .
ولأنه ليس من أهل الاجتهاد، فكان فرضُه التقليد كالأعمى في القبلة؛ فإنه لمَّا لم يكن معه آلة الاجتهاد في القبلة، كان عليه تقليد البصير فيها. والحاكم إذا لم يكن معه حكم القِيافة وقِيَم المتلفات، قلَّد فيها من هو من أهل العلم والبصر فيها. فأما قولهم [250/ب] إنه يقف على طريق الحكم. فالجواب: أنه لا سبيل إلى الوقوف على ذلك إلا بعد أن يتفقه سنين. ونرى من تفقه المدة الطويلة، ولا يتحقق طريق القياس، ولا يعلم ما يصححه وما يفسده، وما يوجب تقديمه على غيره. وفي تكليف ذلك العامة تكليف ما لا يطيقونه، ولا سبيل لهم إليه.
مسألة
مسألة [الاستحسان] قد أطلق أحمد -رحمه الله- القول بالاستحسان في مسائل (1) . فقال في رواية صالح في المضارِب، إذا خالف فاشترى غير ما أمره به صاحب المال: "فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب، وكنتُ أذهبُ إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت" (2) . وقال في رواية الميموني: "استحسنُ أن يتيمم لكل صلاة، ولكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى يُحْدِث، أو يَجِدَ الماء" (3) . وقال في رواية المروذي: "يجوز شَرْي أرض السواد، ولا يجوز بيعها، فقيل له: كيف يشترى ممن لا يملك؟! فقال: القياس كما تقول، ولكن هو.
استحسان. واحتج: بأن أصحاب النبي -عليه السلام- "رخَّصوا في شَرْي المصاحف، شَرْي المصاحف، وكرهوا بيعها" (1) . وهذا يشبه ذلك. وقال في رواية بكر بن محمد -فيمن غصب أرضاً فزرعها-: "الزرعُ لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا بشىء يوافق القياس، استحسنُ أن يدفع إليه نفقته" (2) . ونقل أبو طالب عن أحمد -رحمه الله- أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئاً خلاف القياس، قالوا: نستحسنُ هذا وندع القياس، فيَدَعون الذي (3) يزعمون أنه الحق بالاستحسان، وأنا أذهبُ إلى كل حديث جاء، ولا أقيس عليه" (4) . وظاهر هذا: إبطال القول بالاستحسان. وقد أطلقه أصحاب أبي حنيفة في مسائل (5) . واعترض عليهم أصحاب الشافعي، وحملوا ذلك على أنهم قالوا ذلك على طريق الشهوة والهوى، من غير حجة (6) .
ونحن نبين صحة هذه العبارة، ونوضح الغرض منها، ونقيم الحجة عليها. فالدليل (1) على صحة هذه العبارة: وجود استعمالها في الكتاب والسنة وإطلاق من تقدم من علماء السلف وفقهاء الأمصار. أما الكتاب: فقوله تعالى: (فَبَشر عِبَادِ الذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَبِعُونَ أحْسَنَهُ أوْلَئِكَ الذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأوْلَئِكَ هُمْ أوْلُوا الألبَابِ) (2) . والسنة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما رآه المسلمون حسناً، فهو [251/أ] عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً، كان عند الله سيئاً) . وروي مثله عن ابن مسعود (3) . وأما إطلاق ذلك من السلف وفقهاء الأمصار: فما روي عن إياس بن معاوية (4) أنه كان يقول: "قيسوا للقضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا" (5) .
وكتُبُ مالك بن أنس مشحونة بذكر الاستحسان في المسائل (1) . وقد قال الشافعي "استحسنُ أن تكون المتعةُ ثلاثين درهماً" (2) . فإذا كان كذلك وجب أن تكون هذه العبارة صحيحة. وأما الغرض في إطلاق هذه العبارة فهو: ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه (3) . وقيل: هو أولى القياسين. والحجة التي يرجع إليها في الاستحسان فهي الكتاب تارة، والسنة أخرى، والإجماع ثالثة. والاستدلال يرجح شَبَهَ بعض الأصول على بعض.
فمما قلنا بالاستحسان فيه لاتباع الكتاب: شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر إذا لم نجد مسلماً لقوله تعالى: (شَهَادَةُ بَيْنِكُم إذَا حَضَرَ أحَدَكُم الْمَوْتُ حِيْنَ الْوَصَيةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ فَأصَابَتْكُم مصيبَةً الْمَوْتِ) (1) الآية. ومما قلنا فيه بالاستحسان بالسنة: فيمن غصب أرضاً وزرعها، فالزرع لرب الأرض، وعلى صاحب الأَرْض النفقة لصاحب الزرع، لحديث رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من زرع في أرض قوم، فالزرع لرب الأرض، وله نفقته) (2)
وإن كان القياسُ أن يكون الزرعُ لزارعه. ومما قلنا فيه بذلك للإجماع: جواز سلم الدراهم والدنانير في الموزونات، وبأن القياس أن لا يجوز ذلك، لوجود الصفة المضمومة إلى الجنس، وهي الوزن، إلا أنهم استحسنوا فيه الإجماع. فإن قيل: فما الفرق بين المستحسن وبين المشتهى؟ وهلا أجزتم إطلاق المشتهى على ما سميتموه مستحسناً؟. قيل: الفرق بينهما: أن الشهوة لا تتعلق بالنظر والاستدلال. ألا ترى أنها لا تختص من كمل عقله وعرف الأصول وطرق الاجتهاد في أحكام الشريعة، دون من ليست هذه صفته. وأما الاستحسان: فإنه يختص النظر والاستدلال على حسب ما بينَّا. يُبَيِّن صحة الفرق بينهما: أنه قد يصح وصف الشىء بأنه مستحسن عند الله، ولا يصح وصفه بأنه مشتهى عنده، تعالى الله على أن يوصف بذلك.
مسألة
فإن قيل: لا يخلو القول بالاستحسان من أن يكون عن حجة أو عن غير حجة. فإن كان عن [251/ب] حجة، فلا فرق إذاً بينه وبين القياس. وإن كان عن غير حجة فهو مردود. قيل: قد بينا أنه قول بحجة، وأنه أولى القياسين، إلا أنهم سموه استحساناً، ليفصلوا بهذه التسمية بينه وبين ما لم يكن معدولاً إليه لكونه أولى مما عدل إليه عنه. فإن قيل: فإذا كان الاستحسان أقوى الدليلين، فيجب أن يكون مذهبكم كله استحساناً؛ لأن كل مسألة فيها خلاف بين الفقهاء، فإنه قد ذهبتم فيه إلى أقوى الدليلين عندكم. قيل: الاستحسان أقوى الدليلين فيما حكمنا فيه بصحة كل واحدٍ من الدليلين، ومسائل (1) الخلاف بين الفقهاء لا نحكم بصحة أدلة مخالفنا، بل نعتقد فسادها؛ فلهذا لم نطلق اسم الاستحسان على جميع ذلك. مسألة لا يجوز أن يقال في الحادثة الواحدة بقولين في وقت واحد (2) . وما نقوله من ذكر الروايتين، فهو محمول على أنه قاله (3) في وقتين، كالخبرين، على ما نبينه. وقد أطلق الشافعي القولين في المسألة الواحدة في وقت واحد في مواضع
من كتبه (1) . فالدلاله على منع هذا الإطلاق أشياء، منها: أن الصحابة تكلمت بالفقه، وكثرت، فلم تحك عن واحد منهم أن المسألة على قولين؛ فمن أحدث هذا فقد خالف الإجماع. فإن قيل: فالصحابة لم يفرعوا (2) ، كما فرَّع (3) غيرهم. قيل: قد فرَّعوا (5) . قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: (أرأيت لو رأيت رجلاً على فاحشة، أكنت تقيم عليه الحد؟ قال: لا، حتى يكون معي غيري) (5) . وهذا تفريع؛ لأنه سأله عما لم يوجد. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو) . وهذا تفريع. ولأن قوله: فيها قولان، لا يخلو: إما أن يحكي مذهب غيره، أو مذهب نفسه.، أو أن الدليل ما دلّ إلا على هذين القولين، وما عداهما باطل. فبطل أن يحكي مذهب غيره لوجوه:
أحدهما: أن قول غيره أكثر من قولين، فما استوفى الخلاف. ولأنه لو كان حاكياً مذاهب الغير لزمه أن يسمى كتابه كتاب الخلاف، وما سماه بذلك. ولأنه إذا كان حاكياً مذهب غيره فما أضاف مذهباً إلى نفسه، فلا قول له فيها، وما قصد هذا. ولأنه حكى قولين فيما لم يعرف فيه قول لغيره، فبطلت الحكاية. وبطل أن يحكيهما قول نفسه؛ لأن الشىء الواحد لا يكون في [252/أ] حالة واحدة حلالاً حراماً، ولا موجوداً معدوماً، ولا واجباً ندباً. وبطل أن يقال: ما دلَّ الدليل إلا على هذين؛ لأن الدليل الذي دل عليها لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتقاوم الدليلان عنده ويتقابلا، أو يُرجح أحدُهما. فبطل التقاوم؛ لأن أدلة الشرع لا تتقاوم؛ لأن في تقاومها [ما] يفيد إحلال حرام.
وبطل أن يُرجح أحدُهما؛ لأنه إذا رجح سقط الآخر، فلا يكون فيها قولان. فلم يبق إلا أن القول بالقولين باطل. ولأن القول بالقولين لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكونا صحيحين، أو باطلين، أو أحدهما صحيحاً والآخر باطلاً. فبطل أن يكونا صحيحين؛ لأنه لا يجوز أن يكون الشىء الواحد حلالاً حراماً. وبطل أن يكونا عنده باطلين؛ لأنهما لو كان كذلك ما حكاهما. وبطل أن يكون أحدُهما صحيحاً؛ لأنه لو كان الأمر على هذا لما حكى قولين. وإذا بطل الكل، بطل القول بالقولين. ولأنه إذا قال: فيها قولان، لا يخلو من أحد أمرين: أما أن يعلم أن أحدهما صحيح، أو يجهل ذلك. فإن كان يعلم أن الصحيح أحدهما، فلا يحل له أن يكتمه لقوله تعالى: (إن الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنزلْنَا مِنَ الْبيناتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيناهُ لِلناسِ في الْكِتَابِ أولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُم اللاعِنُونَ) (1) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) (2) .
وإن كان جاهلاً بذلك، فما كان يحل له أن يحكيه لقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) (1) . وقال تعالى: (وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (2) . فلم يبق إلا أن القول باطل. فإن قيل: ذكر القولين ليعلم أصحابه طرق الاجتهاد، واستخراج العلل، وبيان ما يصححها ويفسدها؛ لأنه يحتاج إلى أن يبين طريق الأحكام، فكانت فائدة ذكر القولين هذا، دون أن يكون القولان مذهباً له. قيل: لو كان كذلك لوجب أن يحكي جميع الخلاف في ذلك، فيحصل التحريض والتجريح، وقد حكى في مسألة قولين وفيها أقوال. فإن قيل: أراد التخيير بين القولين؛ لأنه لم يظهر له مزيَّة لأحدهما على الآخر. قيل: هذا يفضي إلى أن يتقاوم الدليلان ويتقابلا، وأدلة الشرع لا تتقاوم؛ لأن في تقاومها [ما] يفيد إحلال حرام، وهذا لا يجوز. فإن قيل: إذا ذَكَر القولين ولم يبين الحق منهما، فقد أفاد بذكرهما أن ما عداهما باطل عنده، وأن الحق أحدهما.
قيل: [252/ب] فإذا كان الحق أحدهما، فلا يجوز أن يطلق القول فيهما؛ لأن الإطلاق يمنع تعلق الحق في أحدهما، ولا يجوز أن يطلق لفظاً من غير معنى [فذلك] فاسد، وإن لم يرد به ما يقتضيه ظاهره، كما لا يجوز أن يعتقد صحة ذلك المعنى. ألا ترى أن من ليس في تقيَّة، لا يجوز له أن يظهر كلمة الكفر، وإن لم يرد بها ما يقتضيه ظاهرها، كما لا يجوز له أن يعتقد ما يبين ظاهرها عنه. وإذا كان كذلك، واتفقنا على فساد اعتقاد ما أطلقه من القولين المتضادين في المسألة الواحدة في الوقت الواحد، وجب أن يكون إطلاقه ذلك فاسداً، وإن لم يرد به ما يقتضيه ظاهره. فإن قيل: فالخبر عما هو متوقف فيه حسن مفيد. قيل: الخبر عما هو متوقف فيه حسن إذا كان اللفظ لا يُنبىء عن معنى فاسد، وقد بينَّا أن هذا يُنبىء إطلاقه عن معنى فاسد، فلم يصح. فإن قيل: أمور الناس محمولة على الصحة والسلامة، فوجب أن يحمل ما ذهب إليه الشافعي في ذلك على وجه يجوز حمله عليه دون ما لا يجوز. قيل: لو جاز هذا الاعتبار لوجب أن تحمل كل لفظة منكرة الظاهر على وجه يصح حملها عليه، ولا يكون المتكلم بها ممنوعاً من إطلاقها. فكان يجوز للقائل أن يقول "لا إله" ويسكت على ذلك، فيكون ذلك محمولاً على أنه إنما أراد به "لا إله إلا الله". وكذلك، إذا قال: (وَيْل لِلْمُصَلينَ) (1) وسكت عليه يجب أن يحمل على أنه إنما أراد به (المُصَلينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ) .
فإن قيل: أليس قد جعل عمر - رضي الله عنه - الأمر شورى في ستة (1) ، ولم ينص على واحد مما أنكرتم مثله هاهنا. قيل: عمر لم يقل إن الإمام فلان وفلان، كما قال الشافعي -رحمه الله- في المسألة قولان وأكثر من ذلك، فكيف يشتبهان؟!. فإن قيل: فقد دخل أحمد -رحمه الله- فيما أنكرتموه على الشافعي، فإنه رُوي عنه في مسِّ الذكر روايات (2) ، وفي غيرها الروايتان والثلاث (3) . قيل: الروايتان لم يقلهما أحمد في حال واحد، فيؤدي ذلك إلى أن يكون
الشىء الواحد حلالاً حراماً، وإنما قال ذلك في وقتين مختلفين، رجع عن الأول منهما. ولو علمنا المتأخر منهما صرنا إليه، وجعلناه رجوعاً عن الأول. فلما لم نعرف المتقدم من المتأخر، جعلنا الحكم فيها مختلفاً [253/أ] ؛ لأنه ليس تقديم أحدهما أولى من تأخيره؛ ولهذا قلنا -في مسائل عرفنا الثاني من قوله فيها-: إنه رجوع عن الأول. من ذلك قوله في رواية ابن إبراهيم: "إذا رأى الماء في الصلاة يمضي فيها، ثم تبينتُ، فإذا الأخبار: إذا رأى الماء يخرج من صلاته" (1) . ونقل أبو زرعة (2) عنه: "كنتُ أتهيبُ أن أقول: لا تبطل صلاة من لم يصلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تبينتُ، فإذا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة، فمن تركها أعاد الصلاة" (3) .
وقال قوران (1) رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة وقال: "يعطى كل واحد منهم نصف صاع" (2) ، وقال: لا يحكى عن أبي عبد الله. وقال إسحاق بن إبراهيم: رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة في الزكاة وقال: "يضم الذهب إلى الفضة وتزكى" (3) . و"كذلك الحنطة إلى الشعير" (4) . وهذا ظاهر كلام أبي بكر الخلال وصاحبه أبي بكر عبد العزيز، وأن ذلك رجوع عن الأول، وذكرا ذلك في مواضع من كتبهما. فمن ذلك: ما رواه مهنا عنه أنه كره العقيقة يوم سابعه، فقال: "ذلك قول قديم، والعمل على ما رواه حنبل عنه وغيره" (5) .
ونقل أبو الحارث: (إذا لم يجد إلا الثلج مسح به أعضاء الوضوء، ولا يعيد) . فقال: كان ذلك من أبي عبد الله في ذلك الوقت، والعمل على ما رواه المروذي (1) . فهذا كلام أبي بكر الخلال. وكذلك لصاحبه أبي بكر عبد العزيز في مواضع منها: ما رواه ابن منصور عن أحمد -رحمه الله- "يستحلف في حد القذف"، فقال: قول قديم، والعمل على ما رواه حرب وصالح: "لا يمين في شىء من الحدود" (2) .
ونقل المروذي عنه فيمن قال: "يا لوطي، يسأل عما أراد، فإن قال: إنك من قوم لوط حُد، فهو قول قديم، والعمل على ما رواه مهنا وغيره: أن عليه الحد" (1) . ومن أصحابنا من حمل ذلك على ظاهره، ولم يسقط أحدهما بالآخر؛ لأنه لا يعلم المتقدم منهما إلا بالتاريخ (2) . فإن قيل: فقد قال في موضع واحد في المسألة الواحدة قولين. نقل ذلك أبو الحارث عنه: "إذا أخرت المرأةُ الصلاة في آخر وقتها، فحاضت قبل خروج الوقت ففيها قولان: أحدهما (3) : لا قضاء عليها؛ لأن لها أن تؤخر إلى آخر الوقت.
والقول الآخر: أن الصلاة قد وجبت عليها بدخول وقتها فعليها القضاء، وهو أعجب القولين إليّ". وكذلك نقل الفضل بن زياد عنه في هذه المسألة. ونقل أبو داود عنه [253/ب] في البكر إذا استحيضت: عندنا فيه قولان: أن تقعد أدنى الحيض يوماً، ثم تغتسل وتصوم وتصلي. أو تقعد أكثر حيض النساء ستاً أو سبعاً. قلت لأحمد -رحمه الله-: فما تختار أنت؟ قال: "من قال يوماً، فهو احتياط" (1) .
وكذلك نقل المروذي عنه هذه المسألة. قيل: أحمد -رحمه الله- لم يطلق القولين حتى ينبئ عن اختياره، والصحيح منهما، فقال في مسألة أبي الحارث: "أعجب القولين إليّ القضاء". وكذلك في مسألة أبي داود: "من قال يوماً هو احتياط". فصل في معنى اللفظ المحتمل من كلام أحمد رحمه الله تعالى [جوابه بأخشى] إذا سئل عن حكم فقال: أخشى أن يكون كذا، أو أخشى أن لا يكون كذا، فهو مثل قوله: يجوز، ولا يجوز ذلك (1) . فدل في رواية صالح وقد سئل عن صلاة الجماعة فقال: "أخشى أن تكون فريضة" (2) .
وكذلك نقل مهنَّا عنه فيمن حلف لا يلبس من غزلها، فلبس ثوباً فيه من غزلها الثلث: "أخشى أن يكون قد حنث" (1) . وكذلك نقل الأثرم عنه في إعطاء القِيَم لكل مسكين في الزكاة: "أخشى أن لا يجزىء" (2) . وكذلك نقل ابن إبراهيم فيمن قال: حلفت، ولم يحلف: "أخشى أن يكون قد حنث" (3) .
وكل ذلك قد ورد عند النص الصريح بالحكم الذي ذكرنا (1) ؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الامتناع من فعل (2) الشىء خوف الضرر منه (3) ، ومنه قوله تعالى: (يَقُولُونَ نَخْشَى أنْ تُصيبَنَا دَائِرة) (4) معناه: نخاف. وكذلك قوله: (إنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (5) . [جوابه بأخاف] وكذلك إذا قال: أخاف أن لا يكون أو يكون، فإن يجري مجرى الصريح (6) .
وقد قال في رواية الميموني: "إذا أعطى القيمة، أخاف أن لا يجزىء" (1) . فنقل مُهنا: إذا قال لعبده: لا مُلكَ لي عليك،: "أخاف أن يكون قد عتق" (2) . وقد نقل صالح في ذلك الحكم الذي ذكرنا، والمعنى فيه ما ذكرنا، وهو: أنها تستعمل في الامتناع. ومنه قوله تعالى، (إني أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبي) (3) معناه: إنني أمتنع خوفاً من ربي. وقوله تعالى: (فَأخافُ أنْ يقْتُلُونِ) (4) . [جوابه بأن هذا يشنع عند الناس] وكذلك إذا قال: "هذا شنع عند الناس، فإن يقتضى المنع (5) .
قال في رواية الميموني في شهادة العبيد في الحدود: "كأنه شنع، وإنما ذلك عنده أتهيب الناس" (1) . وهذا ظاهر كلام أبي بكر عبد العزيز؛ لأنه لما ذكر هذه المسألة قال: "لا يختلف القول عنه أن شهادته في الحدود لا تجوز" (2) . وخرَّج شيخُنا أبو عبد الله (3) وجهاً آخر: أنه لا يقتضي المنع؛ لأنه امتنع من الصلاة قبل المغرب [154/أ] لأجل أن العامة تشنع ذلك، ولم يقتض ذلك التحريم؛ لأن هذه اللفظة محتملة؛ لأنها تُستعمل في الامتناع فيما يخرج عن العادة، وتُستعمل فيما كان قبيحاً عند الله (4) .
[جوابه بأحب ولا أحب] فإن قال: أحبُّ إليَّ كذا، ولا أحب كذا (1) ، فإطلاق هذا يقتضي الاستحباب دون الإيجاب (2) ؛ لأن هذا هو المعهود في عرف التخاطب. ومن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب) (3) . وقوله: (ليس حلال أحب إلى الله من العتاق) (4) .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) (1) . وقد نقل عنه ما يدل على ذلك، فقال في رواية أبي طالب: "يذبح إلى القبلة أحبُّ إلي" (2) . وكذلك نقل صالح: "يذهب إلى الجمعة ماشياً أحب اليَّ" (3) . وقال في موضع: "وأحبُّ إلي أن يعلن بالنكاح، ويضرب عليه بالدف" (4) . ونقل عنه في مواضع أخر هذه اللفظة، والمراد بها الإيجاب (5) . ونقل أبو طالب: "الأجَل في السَّلَم أحبُّ إلي" (6) ، لقول
النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) . ونقل حنبل عنه: "إذا قال: أكفُرُ بالله، أحب إليَّ أن يُكَفر" (2) . وكذلك نقل الحسن بن محمد بن الحارث: "فيمن له مائة وعليه مائة، أحبُّ إلي أن يُكَفر" (3) .
وكذلك نقل علي بن سعيد: "إذا جعل على نفسه صيام سنة، فأحبُّ إليَّ أن يفطر في الفطر والأضحى ويُكَفر ويقضى" (1) . [جوابه بالكراهة] وأما الكراهة (2) فقد روي عنه ألفاظ تقتضي التنزيه، وألفاظ اقتضت التحريم. أما التحريم: فنقل الأثرم عنه: تكره جلود الثعالب" (3) .
وكذلك نقل عنه: "إذا حلَفَ لا يلبس من غزلها، أكره أن يعطى أجرة القصَّار والخياط (1) ". ونقل المروذي: "أكره الصلاة في المقابر (2) ". ونقل ابن منصور: "أكره المتعة (3) ".
والمراد بذلك التحريم. ونقل ابن منصور: "كراهية الصلاة في ثياب أهل الذمة (1) ". ونقل المروذي: "كراهية قراءة حمزة (2) ".
ونقل ابن منصور: "أكره النفخ (1) في اللحم (2) ". ونقل المروذي: "أكره الخبز الكبار (3) ". وهذا يقتضي التنزيه. ويجب أن يقال في جوابه بأحب وأكره، إذا نقل عنه في مسألة صريح القول بالتحريم، أجاب فيها بأكره، حمل على التحريم، فيبنى مطلق كلامه على مقيده. وإذا لم يكن عنه صريح القول حمل على التنزيه؛ لأن هذه اللفظة تستعمل في التحريم وفي التنزيه. قال تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ (4)) ولم يرد تحريمه. وقوله تعالى: (وَكَرِهُوا أن يُجَاهِدُوا (5) ... ) معناه: امتنعوا.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحبُّ معاليَ الأخلاق ويكره [254/ب] سَفْسَافَهَا (1)) . وقال تعالى: (كُل ذَلِكَ كَانَ سَيئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (2)) معناه: محرماً. [جوابه بأعجب إليَّ] فإن قال: أعجبُ إليَّ (3) أن لا يكون أو يكون؛ فالمنصوص عنه أن ذلك
لا يقتضي الوجوب في التحريم والمنع، وإنما هو على طريق الاختيار. نقل الأثرم عنه أن سئل عن المكان يصيبه البول، فيبسط عليه باريَّة (1) وهو جاف يصلى عليه؟ أعجبُ إليَّ أن يتوقى. فقال له الهيثم (2) بن خارجة: هذا جاف وعليه بارية، أي شىء تكره من هذا؟ قال: "إنما قلت لك: أعجبُ إلي أن يتوقاه". وهذا صريح من كلامه أنه لا يقتضي التحريم. [ (3) ] ويجب أن يكون الحكم في قوله: "يعجبني" مثل قوله: "أكره وأحب". وأنه نقل عنه في مسألة صريح القول بالتحريم، ثم أجاب "بأعجبني" أن
يحمل على التحريم؛ لأن هذه اللفظة تستعمل في مستحسن غير واجب (1) . تم كتاب العدة في أصول الفقه ولله الحمد والمنة والفضل على تمامه ووافق الفراغ من نسخة في يوم السبت سابع عشر شهر رمضان المعظم سنة تسع وعشرين وسبعمائة للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام (2)
كلمة أخيرة
كلمة أخيرة وبعد: فلله الحمد والشكر على ما منَّ به علىَّ -ومننه كثيرة- بإنجاز كتاب العدة في أصول الفقه للعالم المحقق الفقيه الأصولي القاضي أبي يعلى الحنبلي البغدادي. والكتاب يعتبر أول كتاب في أصول فقه الحنابلة يصل إلينا، فهو بحق العمدة في بابه، وقد توخيت في تحقيقه الأصول المرعية في تحقيق المخطوطات. وعلم الله أننى لم أبخل عليه بوقت ولا بجهد. وإنني لأرجو أن يكون عملاً صالحاً، ولوجهه خالصاً، وأن يجزيني عليه أحسن الجزاء، فإنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.