العرش للذهبي
الذهبي، شمس الدين
المجلد الأول
المجلد الأول مقدمة ... كتاب العرش تأليف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (748هـ) دراسة وتحقيق: د. محمد بن خليفة التميمي الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران 102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء 1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب 70-71] .
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وبعد: فإن عقيدة أهل السنة والجماعة هي عقيدة الطائفة المنصورة الباقية، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" 1. وهي الفرقة الناجية التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 2.
فعلامتهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يكونون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتلك ميزة تميزت بها عقيدة أهل السنة والجماعة لا توجد
عند غيرهم، فعقيدتهم تتميز بأصولها التي تُستمدُ منها كل مسائل هذا العلم. فالقرآن الكريم الذي هو حبل الله المتين، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو الأصل الأول من أصول أهل السنة والجماعة. والأصل الثاني السنة النبوية الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أوجب الله على الناس اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر 7] ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب 21] . فأهل السنة والجماعة كان اعتصامهم بالكتاب والسنة "بخلاف أهل البدعة والفرقة، فإن عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والسنة، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه؛ فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى؛ والآيات والأحاديث التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، فليس مقصودهم أن يفهموا مراد الله ومراد رسوله، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها"1.
وأما أهل السنة والجماعة فأصولهم التي اعتمدوا عليها هي الكتاب والسنة ومرادهم اتباع شرع الله الذي شرعه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. قال الإمام الشافعي رحمه الله: "آمنت بما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله"1. ولذلك لم يستقلوا بفهومهم وإنما اعتمدوا في فهم تلك الأصول على ما فهمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين عاشوا فترة نزول الوحي، وعلموا مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه ميزة ثانية، فإذا كانت أصول أهل السنة واحدة وهي الكتاب والسنة فكذلك أئمة أهل السنة هم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فعلى علمهم وفهمهم يعولون وعن قولهم يصدرون. قال الإمام أحمد رحمه الله: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين. والسنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن، وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول والأهواء، إنما هي الاتباع وترك الهوى"2.
فأمور هذا الدين ترجع إلى سند متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان لأهل السنة سندهم المتصل، ولذلك يقال لأهل البدع هذه هي أصولنا وأسانيدنا ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيا ترى أصول أهل البدع إلى أي شيء ترجع؟! ومن هذا المنطلق كان الاعتناء بالمأثور عن سلف الأمة سمة بارزة من سمات أهل السنة والجماعة ولذلك زخرت مؤلفاتهم بالمأثور من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واقتدى طريقهم، وسلك سبيلهم. ويحق لكل صاحب سنة أن يفخر بما تركه علماء السنة من تراث عظيم حوى منهج أهل الحق وتضمن أقوال علماء وأئمة شرحوا طريق الهدى ونافحوا ودافعوا عن العقيدة الصحيحة لكي تبقى نقية صافية، كما تركها لنا النبي صلى الله عليه وسلم. ويصدق على أولئك الأئمة الأعلام وصف الإمام أحمد رحمه الله تعالى حيث قال: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم
على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين"1. فلله در أولئك الأئمة الذين حموا حياض هذا الدين ودافعوا عن صراط الله المستقيم، وتركوا لنا تراثاً عظيماً سطروا فيه بيراعهم منهج الحق القويم وأبطلوا فيه شبهات حزب الشيطان الرجيم. فحري بذلك التراث أن يخدم وأن يخرج من خزائن المكتبات وحيز المخطوطات. وهذا وإن من بين تراثنا السلفي الجدير بالعناية والاهتمام، كتاب ظل حبيس عالم المخطوطات ردحاً طويلاً من الزمن، ألا وهو كتاب "العرش" للإمام الذهبي، وهو كتاب نفيس في بابه، حشد فيه المؤلف العشرات من النصوص والآثار التي توضح عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة من كبريات مسائل توحيد الأسماء والصفات ألا وهي مسألة إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه.
وقد دفعني لخدمة هذا الكتاب وإخراجه ما تضمنه من مادة علمية مهمة في بابها، وإضافة إلى المنهج السلفي الذي سلكه هذا الإمام في تقرير الحق وإثباته. وقد حرصت على إخراج الكتاب على أفضل صورة وأبهى حلة، فنهجت المنهج العلمي في تحقيق نصه وضبطه، وتخريج أحاديثه وآثاره، والترجمة لأعلامه، وشرح غريبه، ووضع فهارس فنية لمحتوياته. ونظراً لأهمية الكتاب وموضوعه فقد خدمت الكتاب بدراسة موضوعية احتوت على الأمور التالية. القسم الأول: الدراسة الموضوعية الباب الأول: أقوال الناس في أسماء الله وصفاته. الفصل الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته. المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة. المبحث الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته. الفصل الثاني: أقوال المعطلة في أسماء الله وصفاته. المبحث الأول: التعريف بالمعطلة. تمهيد. المطلب الأول: الفلاسفة. المطلب الثاني: أهل الكلام.
المبحث الثاني: درجات تعطيلهم. المطلب الأول: درجات التعطيل في باب الأسماء والصفات عموماً. المطلب الثاني: درجات تعطيلهم في باب الأسماء الحسنى. المطلب الثالث: درجات تعطيلهم في باب صفات الله تعالى. الفصل الثالث: المشبهة. المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه. المبحث الثاني: التعريف بالمشبهة. الباب الثاني: الأقوال في صفتي العلو والاستواء. الفصل الأول: الأقوال في صفة العلو. المبحث الأول: قول أهل السنة والجماعة ومن وافقهم. المبحث الثاني: أقوال المخالفين. الفصل الثاني: الأقوال في صفة الاستواء. المبحث الأول: مذهب السلف في الاستواء. المبحث الثاني: أقوال المخالفين. الفريق الأول: نفاة الاستواء. الفريق الثاني: القول بالتفويض. الفريق الثالث: قول المشبهة.
الفصل الثالث: مسائل متعلقة بالعلو والاستواء. المبحث الأول: هل يخلو العرش منه حال نزوله. المبحث الثاني: مسائل الحد والمماسة. المطلب الأول: حكم الألفاظ المجملة. المطلب الثاني: مسألة الحد. المطلب الثالث: مسألة المماسة. الباب الثالث: العرش وما يتعلق به من مسائل. الفصل الأول: تعريف العرش. المبحث الأول: المعنى اللغوي لكلمة العرش. المبحث الثاني: المذاهب في تعريف العرش. الفصل الثاني: الأدلة على إثبات العرش من الكتاب والسنة. المبحث الأول: الأدلة القرآنية على إثبات العرش. المبحث الثاني: الأدلة من السنة على إثبات العرش. الفصل الثالث: صفة العرش وخصائصه. المبحث الأول: خلق العرش وهيئته. المبحث الثاني: مكان العرش. المبحث الثالث: خصائص العرش. الفصل الرابع: الكلام على حملة العرش وعلى الكرسي.
المبحث الأول: الكلام على حملة العرش. المبحث الثاني: الكلام على الكرسي. القسم الثاني: التعريف بالمؤلف والكتاب. الفصل الأول: التعريف بالمؤلف. أولاً: اسمه وكنيته. ثانياً: أصله. ثالثاً: نسبته. رابعاً: مولده. خامساً: أسرته. سادساً: نشأته في طلب العلم. سابعاً: رحلاته. ثامناً: شيوخه. تاسعاً: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه. عاشراً: عقيدته. الحادي عشر: مؤلفاته. الثاني عشر: تلاميذه. الثالث عشر: وفاته. الفصل الثاني: التعريف بالكتاب.
أولاً: اسم الكتاب. ثانياً: توثيق نسبة الكتاب للمؤلف. ثالثاً: الفرق بين كتاب العرش وكتاب العلو. رابعاً: موارد كتاب العرش. خامساً: منهج المصنف في الكتاب. سادساً: أهمية الموضوع والكتاب. سابعا: دراسة النسخة الخطية. ثامناً: عملي في الكتاب. وبعد: فهذا جهد المقل، أضعه بين يدي القارئ الكريم، وقد بذلت فيه قصارى جهدي، وغاية وسعي، فما كان فيه من صواب وحق فالحمد لله على توفيقه، وذلك من فضله ومنّه، وما كان فيه من خطل، أو زلل، أو خلل، فأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة. وأستسمح القارئ الكريم عذراً إذا ما وجد في عملي هذا تقصيراً، فهذا جهد البشر، فأرجو من كل من اطلع على خطأ أو قصور أن يبادرني النصيحة مشكوراً مأجوراً. والله أسأل أن ينفع بهذا العمل ويبارك فيه، وأن يجعله عملاً صالحاً ولوجهه خالصاً وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
القسم الأول: الدراسة الموضعية
القسم الأول: الدراسة الموضعية الباب الأول: أقوال الناس في أسماء الله وصفاته الفصل الأول: معتقد أهل السنة والجماعة المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة ... المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة المقصود بأهل السنة والجماعة: الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، ومن سلك سبيلهم، وسار على نهجهم، من أئمة الهدى، ومن اقتدى بهم من سائر الأمة أجمعين. فيخرج بهذا المعنى كل طوائف المبتدعة وأهل الأهواء. فالسنة هنا في مقابل البدعة، والجماعة هنا في مقابل الفُرقة. فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران 106] قال: "تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة والفُرقة"1. والجدير بالذكر هنا أن نعرف أن العلماء يستعملون هذه العبارة لمعنيين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلفظ أهل السنة يراد به: 1ـ من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة2.
2ـ وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: "إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يُرَى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة"1. ومقصودنا بعبارة أهل السنة هو المعنى الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، ذلك أن لأهل السنة أصولهم التي اتفقوا عليها ونصوا عليها في كتب الاعتقاد المعروفة. ولأهل السنة عدة مسميات منها: أهل الحديث، الفرقة الناجية، الجماعة، وغير ذلك. ويمكن حصر قواعد منهج أهل السنة في النقاط التالية: أولاً: ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها. ثانياً: التقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث. وذلك يتم بـ: أ- الاجتهاد في تمييز صحيحيه من سقيمه.
ب- الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه1. ثالثاً: العمل بذلك والاستقامة عليه اعتقاداً، وتفكيراً، وسلوكاً، وقولاً، والبعد عن كل ما يخالفه ويناقضه. رابعاً: الدعوة إلى ذلك باللسان والبنان. فمن التزم هذه القواعد في الاعتقاد، والعمل، فهو على نهج أهل السنة بإذن الله.
المبحث الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته
المبحث الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته معتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته، يقوم على أساس الإيمان بكل ما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة إثباتاً ونفياً، فهم بذلك: 1ـ يسمون الله بما سمى به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يزيدون على ذلك ولا ينقصون منه. 2ـ ويثبتون لله عز وجل الصفات ويصفونه بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف1، ولا تعطيل2، ومن غير تكييف3، ولا تمثيل4.
3ـ وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد أن الله موصوف بكمال ضد ذلك الأمر المنفي. فأهل السنة سلكوا في هذا الباب منهج القرآن والسنة الصحيحة، فكل اسم أو صفة لله سبحانه وتعالى وردت في الكتاب والسنة الصحيحة فهي من قبيل الإثبات فيجب بذلك إثباتها. وأما النفي فهو أن ينفى عن الله عز وجل كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص مع وجوب اعتقاد ثبوت كمال ضد ذلك المنفي. قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات ونفي ممثالة المخلوقات قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 فهذا رد على الممثلة {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 2 رد على المعطلة.
وقولهم في الصفات مبني على أصلين: أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزهٌ عن صفات النقص مطلقاً كالسِّنَةِ، والنوم، والعجز، والجهل، وغير ذلك. والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها، على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات"1. ويمكن إجمال معتقد أهل السنة في أسماء الله في النقاط التالية: 1ـ الإيمان بثبوت الأسماء الحسنى الواردة في القرآن والسنة، من غير زيادة ولا نقصان. 2ـ الإيمان بأن الله هو الذي يسمي نفسه، ولا يسميه أحد من خلقه، فالله عز وجل هو الذي تكلم بهذه الأسماء، وأسماؤه منه، وليست محدثة مخلوقة كما يزعم الجهمية، والمعتزلة، والكلابية، والأشاعرة، والماتريدية. 3ـ الإيمان بأن هذه الأسماء دالة على معانٍ في غاية الكمال، فهي أعلام وأوصاف، وليست كالأعلام الجامدة التي لم توضع باعتبار معانيها، كما يزعم المعتزلة.
4ـ احترام معاني تلك الأسماء، وحفظ ما لها من حرمة في هذا الجانب، وعدم التعرض لتلك المعاني بالتحريف والتعطيل كما هو شأن أهل الكلام. 5ـ الإيمان بما تقتضيه تلك الأسماء من الآثار وما ترتب عليها من الأحكام1. ويمكن إجمال معتقد أهل السنة في "صفات الله" في النقاط التالية: 1ـ إثبات تلك الصفات لله عز وجل حقيقةً على الوجه اللائق به، وأن لا تعامل بالنفي والإنكار. 2ـ أن لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة، ولا يغير اسمها ويعيرها اسماً آخر. كما تسمي الجهمية المعطلة سمعه، وبصره، وقدرته، وحياته، وكلامه أعراضاً. ويسمون وجهه ويديه وقدمه -سبحانه- جوارح وأبعاضاً، ويسمون حكمته وغاية فعله المطلوبة: عللاً وأعراضاً. ويسمون أفعاله القائمة به: حوادث.
ويسمون علوه على خلقه واستواءه على عرشه: تحيزاً. ويتواصون بهذا المكر الكُبَّار إلى نفي ما دل عليه الوحي والعقل والفطرة، وآثار الصنعة من صفاته. فيسعون بهذه الأسماء التي سموها هم وأباؤهم على نفي صفاته وحقائق أسمائه. 3ـ عدم تشبيهها بما للمخلوق. فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. 4ـ اليأس من إدراك كنهها وكيفيتها. فالعقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها. فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف بلا كيف أي بلا كيف يعقله البشر فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟. ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعروفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك"1. 5ـ الإيمان بما تقتضيه تلك الصفات من الآثار وما يترتب عليها من الأحكام. وقد بسطت معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته في الدراسة الأولى من سلسلة "دراسات في مباحث توحيد الأسماء والصفات"، فمن أراد الاستزادة والتوسع فليرجع إلى تلك الدراسة.
الفصل الثاني: أقوال المعطلة في أسماء الله وصفاته
الفصل الثاني: أقوال المعطلة في أسماء الله وصفاته المبحث الأول: التعريف بالمعطلة. ... المبحث الأول: الفلاسفة "الفلاسفة، اسم جنس لمن يُحِبُ الحكمة ويُؤثِرُها. وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه. وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المَشَّاؤُون خاصة وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها. وهي التي يعرفها، بل لا يعرفُ سواها، المتأخرون من المتكلمين"1. أما الفلاسفة فإن إيمانهم بالله تبارك وتعالى لا يكاد يتعدى الإيمان بوجوده المطلق، -أي بوجوده في الذهن والخيال دون الحقيقة-، وأما ما عدا ذلك فلا يكادون يتفقون على شيء، فالمباحث العقدية عندهم من أسخف وأفسد ما قالوا به. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعة، وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلاً عن أن تكون قضايا صادقة"2.
ويتجلى فساد معتقد الفلاسفة في الله أكثر عندما نعرض لك بعض أقوالهم في ذات الله وصفاته. فالفلاسفة يطلقون على الله مسمى (واجب الوجود) ، وتوحيد واجب الوجود عندهم يكفي مجرد تصوره للعلم الضروري بفساده. فالتوحيد عندهم يقتضي تجريده من كل صفات الكمال اللازمة له، فهو ليس له حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام، ولا غير ذلك من الصفات، ويقولون بدلاً من ذلك: (إنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعالم ومعلوم وعلم) ، وجعلوا كل ذلك أموراً عدمية. ودفعهم إلى ذلك زعمهم أن تعدد الصفات موجب للتركيب في حق الله، وفساد هذا القول جلي واضح. فالله وصف نفسه بالصفات، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم وثبت ذلك في الكتاب والسنة نقلاً. كما أن العقل يشهد بفساد قولهم، فإن تعدد الصفات لم تقل لغة ولا شرع ولا عقل سليم إنه يوجب تركيب الموصوف إلا عند الفلاسفة1. ومن شنيع كلامهم كذلك زعمهم أن الله لا يعلم الجزئيات، فهو عندهم لا يعرف عين موسى، ولا عيسى، ولا محمداً عليهم الصلاة
والسلام، فضلاً عن الوقائع التي قصها القرآن وغيرها من أمور المخلوقات. وفساد هذا القول واضح جلي في النقل والعقل. أما النقل فالله يقول: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام 59] . وكذا العقل أيضاً شاهد بفساد هذا المعتقد، فكيف يجهل الله أموراً سيرها بأمره وأجراها بقدره وأخبر عنها في كتابه1. ومن شنيع قولهم ما قالوه في قدرة الله من أنه فاعل بالطبع لا بالاختيار لأن الفاعل بالطبع يتحد فعله، والفاعل بالاختيار يتنوع فعله، وما دروا أنهم بهذا جعلوا الإنسان الفاعل بالاختيار أكمل من الله الفاعل بالطبع على حد زعمهم. وهذا القول مردود بقول الله {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَار} [القصص 68] . ومردود بالعقل لأن الله هو أكمل الفاعلين فكيف يُشبَّه فعله بفعل الجماد. والفلاسفة يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نَعْتَ، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السموات والأرض بعد عدمها، ولا له قدرة على فعل، ولا يعلم شيئاً.
ولا شك أن الذي كان عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون من هذا، فعباد الأصنام كانوا يثبتون رباً خالقاً عالماً قادراً حياً، وإن كانوا يشركون معه في العبادة. ففساد أقوال الفلاسفة في الله لا يضاهيه فساد، وسنعرض لأقوالهم في أسماء الله وصفاته فيما بعد إن شاء الله تعالى. فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل. "وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة، ولا يؤمنون بهم. وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبيُّ بزعمهم في نفسه من أشكال نُورانِية، هي العقول عندهم، وهي مجرَّدات ليست داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق السموات ولا تحتها، ولا هي أشخاص تتحرك، ولا تصعد، ولا تنزل، ولا تدبِّر شيئاً، ولا تتكلم، ولا تكتب أعمال العبد، ولا لها إحساس ولا حركة البتة، ولا تنتقل من مكان إلى مكان، ولا تُصَفُّ عند ربها، ولا تصلي، ولا لها تصرف في أمر العالم البتة، فلا تقبض نفس العبد، ولا تكتب رزقه وأجله وعمله، ولا عن اليمين وعن الشمال قعيد، كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة. وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام، فقال: الملائكة هي القوى الخَيِّرة الفاضلة التي في العبد، والشياطين هي القوى الشريرة الرَّديئة، هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل.
وأما الكتب فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك، فإنه ما قال شيئاً، ولا يقول، ولا يجوز عليه الكلام. ومن تقرب إليهم ممن ينتسب للمسلمين يقول: الكتب المنزلة فَيْضٌ فاضَ من العقل الفَعَّال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعاني، وتشكلت في نفسه بحيث توهم أصواتاً تخاطبه، وربما قَوِيَ الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه، وربما قوي ذلك حتى يُخَيِّلها لبعض الحاضرين، فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج. وأما الرسل والأنبياء فللنبوة عندهم ثلاث خصائص، من استكملها فهو نبيُّ: أحدها: قوة الحدس، بحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة. الثانية: قوة التخيل والتخييل، بحيث يتخيل في نفسه أشكالاً نورانية تخاطبه، ويسمع الخطاب منها، ويخيلها إلى غيره. الثالثة: قوة التأثير بالتصرف في هيولى العالم. وهذا يكون عنده بتجرد النفس عن العلائق، واتصالها بالمفارقات، من العقول والنفوس المجردة. وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب. ولهذا طلبَ النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين، وابن هود، وأضرابهم. والنبوة عند هؤلاء صنعةٌ من الصنائع، بل من أشرف الصنائع، كالسياسة، بل هي
سياسة العامة، وكثير منهم لا يرضى بها، ويقول: الفلسفة نبوة الخاصة. والنبوة: فلسفة العامة. وأما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يقرون بانفطار السموات، وانتثار الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد عدمه. فلا مبدأ عندهم، ولا معاد، ولا صانع، ولا نبوة، ولا كتب نزلت من السماء، تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزلت بالوحي من الله تعالى. فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير من دين هؤلاء. وحَسبُكَ جهلاً بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب، واستكمل بغيره. وحسبك خذلاناً، وضلالاً وعمى: السير خلف هؤلاء، وإحسان الظن بهم، وأنهم أولو العقول"1. والذي ينبغي معرفته أن الفلاسفة لا يؤمنون بوجود الله حقيقة، ولا يؤمنون بوحي ولا نبوة ولا رسالة، وينكرون كل غيب، فالمبادىء الفلسفية جميعها تقوم على أصلين هما: الأصل الأول: أن الأصل في العلوم هو عقل الإنسان، فهو عندهم مصدر العلم.
الأصل الثاني: أن العلوم محصورة في الأمور المحسوسة المشاهدة فقط. فتحت الأصل الأول أبطلوا الوحي، وتحت الأصل الثاني أبطلوا الأمور الغيبية بما فيها الإيمان بالله واليوم الآخر. وقد تسلط الفلاسفة على المسائل الاعتقادية وزعموا أنها مجرد أوهام وخيالات لا حقيقة لها ولا وجود لها في الخارج، فلا الله موجود حقيقة، ولا نبوة ولا نبي على التحقيق، ولا ملائكة، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا نشور.
المطلب الثاني: أهل الكلام وأما أهل الكلام فقد شاركوا الفلاسفة في بعض أصولهم، وأخذوا عنهم القواعد المنطقية والمناهج الكلامية، وتأثروا بها إلى درجة كبيرة. وسلكوا في تقرير مسائل الاعتقاد المسلك العقلاني على حد زعمهم، وهم وإن كانوا يخالفون الفلاسفة في قولهم إن هذه الحقائق مجرد وهم وخيال، إلا أنهم شاركوهم في تشويه كثير من الحقائق الغيبية، فلا تجد في كتب أهل الكلام على اختلاف طوائفهم تقريراً لمسائل الاعتقاد كما جاءت بها النصوص الصحيحة، فبدل أن تسمع أو تقرأ "قال الله" أو "قال رسوله صلى الله عليه وسلم" أو "قال الصحابة"، فإنك لا تجد في كتبهم إلا "قال الفضلاء"، "قال العقلاء"، "قال الحكماء"، ويعنون بهم فلاسفة اليونان من الوثنيين، فكيف جاز لهم ترك كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والأخذ بكلام من لا يعرف الله ولا يؤمن برسوله؟! والمطَّلِع على كتب أهل الكلام يدرك عِظَم الضرر الذي جَنَتْهُ على الأمة المسلمة، إذ تسببت تلك الكتب في حجب الناس عن المعرفة الصحيحة لله ورسوله ولدينه، وجُعِلَ بدل ذلك مقالات التعطيل والتجهيل والتخييل. وأهل الكلام ليسوا صنفاً واحداً بل هم عدة أصناف، وهم:
1ـ الجهمية، 2ـ المعتزلة، 3ـ الكلابية، 4ـ الأشاعرة، 5ـ الماتريدية. وهذه الأصناف الخمسة كل له قوله ورأيه بحسب الشبه العقلية التي استند إليها. أولاً: فأما الجهمية فهم أتباع جهم بن صفوان الذي أخذ عن الجعد ابن درهم مقالة التعطيل عندما التقى به بالكوفة1، وقد نشر الجهم مقالة التعطيل وامتاز عن شيخه الجعد بمزية المغالاة في النفي وكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه نظراً لما كان عليه من سلاطة اللسان وكثرة الجدال والمراء. من أشهر معتقداتهم: 1ـ إنكارهم لجميع الأسماء والصفات كما سيأتي تفصيله. 2ـ أنهم في باب الإيمان مرجئة، يقولون: إن الإيمان يكفي فيه مجرد المعرفة القلبية، وهذا شر أقوال المرجئة. 3ـ أنهم في باب القدر جبرية، ينكرون قدرة العبد واختياره في فعله. 4ـ ينكرون رؤية الخلق لله يوم القيامة. 5ـ يقولون أن القرآن مخلوق. 6ـ يقولون بفناء الجنة والنار.
إلى غير ذلك من المعتقدات الباطلة التي قال بها الجهمية. ثانياً: المعتزلة، وهم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وهم فرق كثيرة يجمعها ما يسمونه بأصولهم الخمسة وهي: 1ـ التوحيد، 2ـ العدل، 3ـ الوعد والوعيد، 4ـ المنزلة بين المنزلتين، 5ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والاعتزال في حقيقته يحمل خليطاً من الآراء الباطلة التي كانت موجودة في ذلك العصر، فقد جمع المعتزلة بين أفكار الجهمية، والقدرية، والخوارج، والرافضة. فقد شاركوا الجهمية في بعض أصولهم، فوافقوهم في إنكار الصفات، فزعموا أن ذات الله لا تقوم بها صفة ولا فعل، كما سيأتي تفصيله. وقالوا بإنكار رؤية الله يوم القيامة وقالوا إن القرآن مخلوق إلى غير ذلك. كما شاركوا القدرية في إنكارهم لقدرة الله في أفعال العباد، وأخذوا عنهم القول بأن العباد يخلقون أفعالهم. كما شاركوا الخوارج في مسألة الإيمان، وقالوا بقولهم إن الإيمان قول، واعتقاد، وعمل، لا يزيد ولا ينقص، وأنه إذا ذهب بعضه زال كلّه. وبناءً على ذلك شاركوهم في مسألة مرتكب الكبيرة، فالمعتزلة وإن قالوا بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، لكنهم
وافقوا الخوارج في قولهم بأن مرتكب الكبيرة في الآخرة خالد مخلد في النار. وأخذوا كذلك عن الخوارج رأيهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما أنهم شاركوا الروافض في الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان من كلام واصل بن عطاء في أهل صفين قوله: "إن كليهما فاسق لابعين" وقوله عن علي ومعاوية رضي الله عنهما: "لو أن كليهما جاء عندي يشهد على حزمة بقل ما قبلت شهادتهما"، وأواخر المعتزلة كانوا أقرب إلى التشيع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقدماء الشيعة كانوا مخالفين للمعتزلة بذلك (يعني مسائل الصفات والقدر) ، فأما متأخروهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك، فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم، والمعتزلة شيوخ هؤلاء إلى ما يوجد في كلام ابن النعمان المفيد وصاحبيه أبي جعفر الطوسي، والملقب بالمرتضى ونحوهم هو من كلام المعتزلة، وصار حينئذ في المعتزلة من يميل إلى نوع من التشيع إما تسوية علي بالخليفتين، وإما تفضيله عليهما، وإما الطعن في عثمان، وإن كانت المعتزلة لم تختلف في إمامة أبي بكر وعمر. وقدماء المعتزلة كعمرو بن عبيد وذويه كانوا منحرفين عن علي حتى كانوا يقولون: لو شهد هو وواحد من مقاتليه شهادة لم نقبلها، لأنه قد
فسق أحدهما لا بعينه. فهذا الذي عليه متأخرو الشيعة والمعتزلة خلاف ما عليه أئمة الطائفتين وقدماؤهم"1. كما أخذوا عن الشيعة الرافضة أكثر آرائهم الخاصة بالإمامة. وعلى هذا فأفكار المعتزلة إنما هي خليط من آراء الفرق المخالفة في عصرهم. وأفكار المعتزلة يحملها اليوم كل من: الرافضة الإمامية، والزيدية، والإباضية، وكذلك من يسمون بالعقلانيين. ثالثاً: متكلمة الصفاتية (الكلابية -الأشاعرة -الماتريدية) . 1ـ أما الكلابية: وهم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان2 (ت 243هـ) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين: فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها. والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.
فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري وغيرهما. وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله"1. فهذا النهج الذي أحدثه ابن كلاب هو ما صار يعرف فيما بعد بمنهج متكلمة الصفاتية لأن ابن كلاب كان في طريقته يميل إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكن كان في طريقته نوع من البدعة، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله، ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته. وقد كانت له جهود في الرد على الجهمية2 ولكنه ناظرهم بطريق قياسية سلم لهم فيها أصولاً هم واضعوها من امتناع تكلمه تعالى بالحروف، وامتناع قيام الصفات الاختيارية بذاته مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك.3 فأصبح بعد ذلك قدوة وإماماً لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات وناقضوا نفاتها، لكن
شاركوهم في بعض أصولهم الفاسدة التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول".1 فابن كلاب أحدث مذهباً جديداً، فيه ما يوافق السلف وفيه ما يوافق المعتزلة والجهمية. وبذلك يكون قد أسس مدرسة ثالثة وهي مدرسة «الصفاتية» التي اشتهرت بمذهب الإثبات، لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية2. وقد سار على هذا النهج القلانسي، والأشعري، والمحاسبي، وغيرهم، وهؤلاء هم سلف الأشعري والأشاعرة القدماء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقه هو وأئمة أصحابه، كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، وأبي سليمان الدمشقي، وأبي حاتم البستي"3 فابن كلاب هو إمام الأشعرية الأول، وكان أكثر مخالفة للجهمية، وأقرب إلى السلف من الأشعري4.
ولكن هذا النهج الكلابي ابتعد شيئاً فشيئاً عن منهج السلف، وأصبح يقرب أكثر فأكثر إلى نهج المعتزلة وذلك على يد وارثيه من الأشاعرة. فابن كلاب كما أسلفنا كان أقرب إلى السلف من أبي الحسن الأشعري، وأبو الحسن الأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي أبو بكر وأمثاله أقرب إلى السلف من أبي المعالي الجويني وأتباعه1. ولهذا يوجد في كلام الرازي والغزالي ونحوهما من الفلسفة مالا يوجد في كلام أبي المعالي الجويني وذويه، ويوجد في كلام الرازي والغزالي والجويني من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه، ويوجد في كلام أبي الحسن الأشعري من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقته. ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة. وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل إلى هذا المآل والسعيد من لزم
السنة1. وقد تلاشت الكلابية كفرقة، لكن أفكارها حملت بواسطة الأشاعرة، فقد احتفظ الأشعري وقدماء أصحابه بأفكار الكلابية ونشروها، وبذلك اندرست المدرسة الكلابية الأقدم تاريخاً والأسبق ظهوراً في الأشعرية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والكلابية هم مشايخ الأشعرية، فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب، وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمناً وطريقة. وقد جمع أبو بكر بن فورك (ت406هـ) كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول"2. فالكلابية أسبق في الظهور من الأشاعرة والماتريدية، فقد نشأت الكلابية في منتصف القرن الثالث، وهي أول الفرق الكلامية بعد الجهمية والمعتزلة، فقد توفي ابن كلاب سنة (243هـ) . وفي أول القرن الرابع الهجري نشأت بقية فرق أهل الكلام وهم الأشاعرة المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة (324هـ) والماتريدية: أتباع أبي منصور الماتريدي المتوفى سنة (333هـ) وهي الفرق القائمة حتى زماننا هذا.
2ـ الأشعرية: يعتبر أبو الحسن الأشعري امتداداً للمذهب الكلابي فأبو الحسن الأشعري الذي عاش في الفترة ما بين (260هـ -324هـ) كان معتزلياً إلى سن الأربعين، حيث عاش في بيت أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في البصرة، ثم رجع عن مذهب المعتزلة وسلك طريقة ابن كلاب وتأثر بها مدة طويلة، ولعل السبب في ذلك أنه وجد في كتب ابن كلاب وكلامه بغيته من الرد على المعتزلة وإظهار فضائحهم وهتك أستارهم، وكان ابن كلاب قد صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم. ولكن فات الأشعري أن ابن كلاب وإن رد على المعتزلة وكشف باطلهم وأثبت لله تعالى الصفات اللازمة، فقد وافقهم في إنكار الصفات الاختيارية التي تتعلق بمشيئته تعالى وقدرته، فنفى كما نفت المعتزلة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته. كما نفى أيضاً الصفات الاختيارية مثل الرضى، والغضب، والبغض، والسخط وغيرها. وقد مضى الأشعري في هذا الطور نشيطاً يؤلف ويناظر ويلقى الدروس في الرد على المعتزلة سالكاً هذه الطريقة. ثم التقى بزكريا بن يحي الساجي فأخذ عنه ما أخذ من أصول أهل
السنة والحديث1، وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها2 ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى وذلك بآخر أمره. ولكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة، كما فعل في مسألة الرؤية والكلام، والصفات الخبرية وغير ذلك3. وقال عنه السجزي: "رجع في الفروع وثبت في الأصول"4 أي أصول المعتزلة التي بنوا عليها نفي الصفات، مثل دليل الأعراض وغيره5. وقال ابن تيمية: "أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلاَّب البصري، وأبو الحسن الأشعري كانا يخالفان المعتزلة ويوافقان أهل السنة في جمل أصول السنة. ولكن لتقصيرهما في علم السنة وتسليمهما للمعتزلة أصولاً فاسدة، صار في مواضع من قوليهما مواضع فيها من قول المعتزلة ما خالفا به السنة، وإن كانا لم يوافقا المعتزلة مطلقاً"6.
وقال أيضاً: "والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الأجسام، وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها، وأمثال ذلك"1. وقد مرت الأشعرية بأطوار ومراحل كان أولها زيادة المادة الكلامية، ثم الجنوح الكبير للمادة الاعتزالية، ثم خلط هذه العقيدة بالمادة الفلسفية. فالأشعرية المتأخرة مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه2. فقدماء الأشاعرة يثبتون الصفات الخبرية بالجملة، كأبي الحسن الأشعري وأبي عبد الله بن مجاهد، وأبي الحسن الباهلي والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي إسحاق الاسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي وغير هؤلاء3. لكن المتأخرين من أتباع أبي الحسن الأشعري كأبي المعالي الجويني وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية، وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما.
ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى الله تعالى. وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه. فهؤلاء يقولون: تأويلها بما يقتضي نفيها تأويل باطل، فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة1. وهذا الاضطراب في العقيدة الأشعرية بين المتقدمين والمتأخرين سببه ما أسلفنا من ميل الأشاعرة بأشعريتهم إلى الإعتزال أكثر فأكثر بل إنهم خلطوا معها الفلسفة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالأشعرية وافق بعضهم المعتزلة في الصفات الخبرية، وجمهورهم وافقهم في الصفات الحديثية، وأما الصفات القرآنية فلهم قولان: فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها، وبعضهم يقر ببعضها؛ وفيهم تجهم من جهة أخرى. فإن الأشعري شرب كلام الجبائي شيخ المعتزلة، ونسبته في الكلام إليه متفق عليها عند أصحابه وغيرهم. وابن الباقلاني أكثر إثباتاً بعد الأشعري، وبعد ابن الباقلاني ابن فورك، فإنه أثبت بعض ما في القرآن.
وأما الجويني ومن سلك طريقته فمالوا إلى مذهب المعتزلة فإن أبا المعالي كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، قليل المعرفة بالآثار، فأثر فيه مجموع الأمرين1. فما إن جاء أبوبكر الباقلاني (ت403هـ) ، فتصدى للإمامة في تلك الطريقة وهذبها ووضع لها المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية من حيث وجوب الإيمان بها2 وأسهم إلى حد كبير في تنظير المذهب الأشعري الكلامي وتنظيمه مما أدى إلى تشابه منهجي بين المذهب الأشعري والمذهب المعتزلي فقد كان الأشعري يجعل النص هو الأساس والعقل عنده تابع، أما الباقلاني فالعقيدة كلها بجميع مسائلها تدخل في نطاق العقل3 ويعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري4. ثم جاء بعده إمام الحرمين الجويني (ت478هـ) فاستخدم الأقيسة المنطقية في تأييد هذه العقيدة، وخالف الباقلاني في كثير من القواعد التي وضعها. وإن كان الجويني قد استفاد أكثر مادته الكلامية من كلام الباقلاني، لكنه مزج أشعريته بشيء من الاعتزال استمده من كلام أبي
هاشم الجبائي المعتزلي على مختارات له، وبذلك خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة. وأما كلام أبي الحسن الأشعري فلم يكن يستمد منه، وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس1 وعلى طريقة الجويني اعتمد المتأخرون من الأشاعرة، كالغزالي (ت505هـ) وابن الخطيب الرازي (ت606هـ) وخلطوا مع المادة الاعتزالية التي أدخلها الجويني مادة فلسفية، وبذلك ازدادت الأشعرية بعداً وانحرافاً. فالغزالي مادته الكلامية من كلام شيخه الجويني في "الإرشاد" و"الشامل" ونحوهما مضموماً إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني. ومادته الفلسفية من كلام ابن سينا، ولهذا يقال أبو حامد أمرضه "الشفا"، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك. وأما الرازي فمادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي، وله مادة اعتزالية قوية من كلام أبي الحسين البصري (ت436هـ) ، وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني ونحوهما2.
والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام وجبرية في باب القدر، وأما الصفات فليسوا جهمية محضة بل فيهم نوع من التجهم، ولا يرون الخروج على الأئمة بالسيف موافقة لأهل الحديث وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى أهل السنة والحديث1. وهناك عدة عوامل أدت إلى انتشار الأشعرية واشتهارها لعل من أبرزها ما يلي: أولاً: نشأةُ المذهب في "بغداد" التي كانت حاضرة الخلافة العباسية ومحط أنظار طلاب العلم الذين كانوا يفدون إليها من شتى الأقطار، فهذا العامل أدى بدوره إلى تبني البعض للمذهب الأشعري والسعي لنشره في الأقطار الأخرى2 بسبب تواجد كثير من أعيان المذهب الأشعري في بغداد في ذلك الحين. ثانياً: التقارب الذي كان موجوداً بين الأشعرية والحنبلية وما نفقت الأشعرية وراجت إلا بتوالفها مع الحنبلية. ولولا ذلك لكان مصيرها مصير المعتزلة الذين كان للحنابلة دور كبير في مقاومتهم والرد عليهم. وقد كان بين الأشعرية والحنبلية شيء من التوالف والمسالمة وكانوا قديما متقاربين. فإن أبا الحسن الأشعري ما كان ينتسب إلا إلى مذهب أهل
الحديث، وإمامهم عنده أحمد بن حنبل، وكان عداده في متكلمي أهل الحديث. والأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون به من القياس العقلي فرع عليهم. وإنما وقعت الفرقة بسبب فتنة القشيري1 وكان تلميذاً لابن فورك الذي كان من أشعرية خراسان الذين انحرفوا إلى التعطيل، فلما صنف القاضي أبو يعلى الحنبلي كتابه «إبطال التأويلات» رد فيه على ابن فورك شيخ القشيري وكان الخليفة وغيره مائلين إليه. فلما صار للقشيرية دولة بسبب السلاجقة جرت تلك الفتنة2. ثالثاً: انتساب بعض الأمراء والوزراء للمذهب الأشعري وتبنيهم له ومن أبرزهم: أـ الوزير نظام الملك الذي تولى الوزارة لسلاطين السلاجقة فتولى الوزارة لألب أرسلان وملكشاه مدة ثلاثين سنة وذلك من سنة (455هـ إلى 485هـ) . وفي عهده أنشئت المدارس النظامية نسبة إليه وذلك في عدة مدن منها البصرة، وأصفهان، وبلخ، وهراة، ومرو، والموصل، وأهمها وأكبرها
المدرسة النظامية في نيسابور وبغداد. وكان نظام الملك معظماً للصوفية والأشعرية، إذ كان هؤلاء الذين يلقون الدروس في هذه المدارس، فكان لذلك دوره الكبير في نشر أصول العقيدة الأشعرية1. ب- المهدي بن تومرت (524هـ) صاحب دولة الموحدين واسمه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت، الذي تلقب بالمهدي، وكان قد ظهر في المغرب في أوائل المائة الخامسة، وكان قد دخل إلى بلاد العراق، وتعلم طرفاً من العلم، وكان فيه طرف من الزهد والعبادة، ولما رجع إلى المغرب صعد إلى جبال المغرب ونشر دعوته بين أناس من البربر وغيرهم من الجهال الذي لا يعرفون من دين الإسلام إلا ما شاء الله فعلمهم بعض شرائع الإسلام واستجاز أن يظهر لهم أنواعاً من المخاريق ليدعوهم بها إلى الدين، وادعى أنه المهدي الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعظم اعتقاد أتباعه فيه، واستحلوا بسبب ما علمهم من المعتقد الأشعري والفلسفي دماء ألوف مؤلفة من أهل المغرب المالكية الذين كانوا على معتقد أهل السنة واتهموهم زوراً وبهتاناً أنهم مشبهة مجسمة ولم يكونوا من أهل هذه المقالة2.
فكان ابن تومرت هو السبب في إدخال العقيدة الأشعرية في بلاد المغرب التي كانت قبل ذلك سنية سلفية فحسبنا الله ونعم الوكيل. جـ- صلاح الدين الأيوبي، وكان صلاح الدين الأيوبي أشعرياً، فقد حفظ في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري أحد أعلام الأشعرية وصار يحفظها صغار أولاده، ولذلك نشأ هو وأولاده على المعتقد الأشعري، فحمل صلاح الدين الكافة على عقيدة أبي الحسن الأشعري، وتمادى الحال على ذلك في جميع أيام ملوك بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك1. وقد كان لذلك دوره الكبير في نشر الأشعرية في سائر أنحاء العالم الإسلامي، فمصر التي كانت مقر الدولة الأيوبية كانت هي حاضرة العلم في تلك العصور وقد كان للأزهر دور كبير في نشر العقيدة الأشعرية التي ادخلها صلاح الدين في مصر بعد أن قضى على الدولة العبيدية الإسماعلية، ومنذ زمن صلاح الدين والأزهر يقرر عقيدة الأشاعرة إلى يومنا هذا. والأشاعرة يخالفون أهل السنة في الكثير من مسائل الاعتقاد. ومنها على سبيل المثال: 1ـ أن مصدر التلقي عندهم في قضايا الإلهيات (أي التوحيد)
والنبوات هو العقل وحده، فهم يقسمون أبواب العقيدة إلى ثلاثة أبواب: إلهيات، نبوات، سمعيات، ويقصدون بالسمعيات ما يتعلق بمسائل اليوم الآخر من البعث والحشر والجنة والنار وغير ذلك. وسموها سمعيات لأن مصدرها عندهم النصوص الشرعية وأما ما عداها أي الإلهيات والنبوات فمصدرهم فيها العقل. 2ـ زعمهم أن الإيمان هو مجرد التصديق، فأخرجوا العمل من مسمى الإيمان. 3ـ بناءً على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا توحيد الألوهية من تقسيمهم للتوحيد، فالتوحيد عندهم هو أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا نظير له. وهذا التعريف خلا من الإشارة إلى توحيد الألوهية، فلذلك فإن أي مجتمع أشعري تجد فيه توحيد الإلهية مختلاً، وسوق الشرك والبدعة رائجة لأن الناس لم يعلّموا أن الله واحد في عبادته لا شريك له. 4ـ وبناءً كذلك على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا الاتباع من تعريفهم للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فحصروا الإيمان بالنبي في الأمور التصديقية فقط، ومن أجل ذلك انتشرت البدع في المجتمعات الأشعرية. 5ـ خالفوا أهل السنة في أسماء الله وصفاته وهذا سيأتي بيانه. 6ـ خالفوا أهل السنة في باب القدر، فقولهم موافق لقول الجبرية.
7ـ خالفوا أهل السنة في مسألة رؤية الله من جهة كونهم يقولون يرى لا في مكان. 8ـ خالفوا أهل السنة في مسألة الكلام، فهم لا يثبتون صفة الكلام على حقيقتها بل يقولون بالكلام النفسي. إلى غير ذلك من أنواع المخالفات. 3ـ الماتريدية: تعد الماتريدية شقيقة الأشعرية، وذلك لما بينهما من الائتلاف والاتفاق حتى لكأنهما فرقة واحدة، ويصعب التفريق بينهما. ولذلك يصرح كل من الأشاعرة والماتريدية بأن كلاً من أبى الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي هما إماما أهل السنة على حد تعبيرهم1. ولعل هذا التوافق مع كونه يرجع إلى سبب رئيسي وهو توافق أفكار الفرقتين وقلة المسائل الخلافية بينهما وخاصة مع الأشعرية المتأخرة، إلا أن هناك أسباب مهمة يرجع إليها ويجب اعتبارها وأخذها في الحسبان ولعل أهمها التزامن في نشأة الفرقتين مع كون كل فرقة استقلت بأماكن نفوذ لم تنازعها فيها الفرقة الأخرى. فالماتريدية انتشرت بين الأحناف الذين كانوا متواجدين في شرق العالم الإسلامي وشماله فقل أن تجد حنفياً على عقيدة الأشاعرة إلا ما ذكر من أن أبا جعفر السمناني -وهو حنفي-
كان أشعرياً. بينما نجد الأشعرية قد انتشرت بين الشافعية والمالكية وهم اليوم يتواجدون في وسط وغرب وجنوب وجنوب شرق العالم الإسلامي، فجل الشافعية والمالكية على الأشعرية. ولست اعني بذلك عوامهم وإنما الطبقة المثقفة منهم. والماتريدية تنسب إلى أبي منصور محمد بن محمد بن محمود بن محمد الماتريدي المتوفى سنة (333هـ) 1 كان معدوداً في فقهاء الحنفية، وكان صاحب جدل وكلام ولم يكن له دراية بالسنن والآثار2، وقد نهج منهجاً كلامياً في تقرير العقيدة يشابه إلى حد كبير منهج متأخري الأشاعرة، وعداده في أهل الكلام من الصفاتية من أمثال ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأمثالهما. وقد تابع الماتريدي ابن كلاب في مسائل متعددة من مسائل الصفات وما يتعلق بها3. ومن المعلوم أن الأحناف وأهل المشرق عموماً كانوا من أسبق الناس تأثراً بعلم الكلام، فقد كانت بداية الجهم من تلك الجهات، وفي هذا
يقول الإمام أحمد في معرض كلامه عن الجهم: "وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ... "1. فبشر بن غياث المريسي (228هـ) والقاضي أحمد بن أبي دؤاد (240هـ) وغيرهما كانوا من الأحناف، فلا غرابة أن يكون الماتريدي الحنفي من أولئك الذين ناصروا علم الكلام وسعوا في تأسيسه وتقعيده، إلى أن أصبح علماً من أعلامه وصاحب إحدى مدارس الكلام التي صارت فيما بعد تعرف باسمه. فالماتريدي لا يبعد كثيراً عن أبي الحسن الأشعري (في طوره الثاني) فهو خصم لَدُود للمعتزلة، إلا أنه كان متأثراً بالمنهج الكلامي على طريقة ابن كلاب من الاعتماد على المناهج الكلامية في تقرير المسائل الاعتقادية شأنه في ذلك شأن أبي الحسن الأشعري، فكلاهما يعتبر امتداداً لمدرسة ابن كلاب التي عرفت كمدرسة ثالثة بعد أن كان الخلاف دائراً بين أهل السنة والجماعة من جهة، والجهمية والمعتزلة من جهة أخرى، فجاء ابن كلاب وأحدث منهجاً ثالثاً حاول فيه التلفيق بين النصوص الشرعية والمناهج الكلامية كما سبق الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن الكلابية. فالمذهب الكلابي كان له وجوده في العراق والري وخراسان وكان له انتشار في بلاد ما وراء النهر التي كانت تغص بمختلف الطوائف
والفرق1. ولم تتعرض الماتريدية للتطور الذي حصل على العقيدة الأشعرية والذي سبق بيانه في الحديث عن الأشعرية فالماتريدية بقيت على ما كانت عليه.
المبحث الثاني: درجات تعطيلهم
المبحث الثاني: درجات تعطيلهم ... المبحث الثاني: درجات التعطيل في باب الأسماء والصفات عموماً من سبر أقوال أهل التعطيل يجدها من حيث العموم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: نفي جميع الأسماء والصفات. وهذا قول الجهمية أتباع جهم بن صفوان1، والفلاسفة، سواء كانوا أصحاب فلسفة محضة كالفارابي2، أو فلسفة باطنية إسماعيلية قرمطية كابن سينا3، أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض. قال شيخ الإسلام ابن تيميه: " والتحقيق أن التجهم المحض وهو نفي الأسماء والصفات، كما يُحكي عن جهم والغالية من الملاحدة ونحوهم من نفي أسماء الله الحسنى، كفر بين مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول "4
القسم الثاني: نفي الصفات دون الأسماء. وهذا قول المعتزلة، ووافقهم عليه ابن حزم الظاهري1، والزيدية، والرافضة الإمامية، والإباضية. فالمعتزلة يجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه. يقول ابن المرتضى المعتزلي: " فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم مُحدثاً قديماً قادراً عالماً حياًّ لا لمعان....."2. القسم الثالث: إثبات الأسماء وبعض الصفات ونفي البعض الآخر. وهذا قول الكلابية والأشاعرة والماتريدية. فالكلابية وقدماء الأشاعرة: يثبتون الأسماء والصفات ما عدا الصفات الاختيارية3 (أي التي تتعلق بمشيئته واختياره) فهم إما يؤولونها أو يثبتونها على اعتبار أنها أزلية وذلك خوفاً منهم على حد زعمهم من حلول الحوادث بذات الله4 أو يجعلونها من صفات الفعل المنفصلة عن الله
التي لا تقوم به1. وأما الأشاعرة المتأخرون ومعهم الماتريدية، فهم يثبتون الأسماء وسبعاً من الصفات هي (الحياة، العلم، القدرة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام) ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي (التكوين) 2 وينفون باقي الصفات ويؤولون النصوص الواردة فيها ويحرفون معانيها.
المطلب الثاني: درجات تعطيلهم في باب الأسماء الحسنى. القول الأول: من يقول إن الله لا يسمى بشيء. وهذا قول الجهمية أتباع جهم بن صفوان، والغالية من الملاحدة كالقرامطة الباطنية والفلاسفة. وهؤلاء المعطلة لهم في تعطيلهم لأسماء الله أربعة مسالك هي: المسلك الأول: الاقتصار على نفي الإثبات فقالوا: لا يسمى بإثبات. المسلك الثاني: أنه لا يسمى بإثبات ولا نفي. المسلك الثالث: السكوت عن الأمرين الإثبات والنفي. المسلك الرابع: تصويب جميع الأقوال بالرغم من تناقضها. فهذا الصنف من المعطلة اتفقوا على إنكار الأسماء جميعها، ولكن تنوعت مسالكهم في الإنكار.
ب- ولأنه إذا سمي بهذه الأسماء فهي مما يسمى به غيره. والله منزه عن مشابهة الغير1. فهؤلاء المعطلة المحضة -نفاة الأسماء- يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبهاً. فيقولون: إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين وكذلك إذا قلنا هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير، وإذا قلنا رؤوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرؤوف الرحيم، بل قالوا إذا قلنا موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات لاشتراكهما في مسمى الوجود2. وهذا المسلك ينسب لجهم بن صفوان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " جهم كان ينكر أسماء الله تعالى فلا يسميه شيئاً لا حيا ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز "3 وهو قول الباطنية من الفلاسفة والقرامطة فهم يقولون لا نسميه حيًّا ولا عالماً ولا قادراً ولا متكلماً إلا مجازاً بمعنى السلب والإضافة: أي هو ليس بجاهل ولا عاجز4 وهذا
كذلك قول ابن سينا وأمثاله1. 2ـ وأما أصحاب المسلك الثاني: فقد زادوا في الغلو فقالوا: لا يسمى بإثبات ولا نفي، ولا يقال موجود ولا لا موجود ولا حي ولا لاحي. لأن في الإثبات تشبيهاً بالموجودات، وفي النفي تشبيهاً له بالمعدومات. وكل ذلك تشبيه. وهذا المسلك ينسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية والمتفلسفة2. 3ـ وأما أصحاب المسلك الثالث فيقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم. ومن الناس من يحكى هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه3. وأصحاب هذا المسلك هم المتجاهلة اللاأدرية.
وأصحاب المسلك الثاني هم المتجاهلة الواقفة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي. وأصحاب المسلك الأول هم المكذبة النفاة. والملاحظ أن كل فريق من هؤلاء يهدم ما بناه من قبله فلما اقتصر أصحاب المسلك الأول على النفي وامتنعوا عن الإثبات بحجة أن في الإثبات تشبيهاً له بالموجودات جاء أصحاب المسلك الثاني فزادوا في الغلو وزعموا أن في النفي كذلك تشبيهاً له بالجمادات فمنعوا النفي أيضا ثم جاء أصحاب المسلك الثالث فاتهموا أصحاب المسلك الثاني بأنهم شبهوه بالممتنعات لأن قولهم يقوم على نفي النقيضين وهذا ممتنع. 4ـ وهناك مسلك رابع: وهو مسلك أصحاب وحدة الوجود الذين يعطون أسماءه سبحانه لكل شيء في الوجود، إذ كان وجود الأشياء عندهم هو عين وجوده ما ثمت فرق إلا بالإطلاق والتقييد1. وهذا منتهى قول طوائف المعطلة2 وغاية ما عندهم في الإثبات قولهم هو: (وجود مطلق) أي وجود خيالي في الذهن، أو وجود مقيد بالأمور السلبية 3.
القول الثاني: أن الله يسمى باسمين فقط هما: "الخالق" و "القادر". وهذا القول منسوب للجهم بن صفوان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان الجهم وأمثاله يقولون: إن الله ليس بشيء، وروى عنه أنه قال: لا يسمى باسم يسمى به الخلق، فلم يسمه إلا "بالخالق" و"القادر" لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له"1. وقال رحمه الله: "ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمي الله بشيء، ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمى بها الخلق: كالحي، والعالم، والسميع، والبصير، بل يسميه قادراً خالقاً، لأن العبد عنده ليس بقادر، إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية "2. القول الثالث: إثبات الأسماء مجردة عن الصفات. وهذا قول المعتزلة ووافقهم عليه ابن حزم الظاهري. وتبع المعتزلة على ذلك الزيدية، والرافضة الإمامية، وبعض الخوارج. فالمعتزلة يجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه. يقول ابن المرتضى المعتزلي: "فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم
مُحدثاً قديماً، قادراً، عالماً، حياًّ لا لمعان"1. وابن حزم وافق المعتزلة في ذلك فهو يرى أن الأسماء الحسنى كالحي، والعليم، والقدير، بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على حياة ولا علم، ولا قدرة، وقال: "لا فرق بين الحي وبين العليم في المعنى أصلاً"2. والمعتزلة لهم في نفيهم لتضمن الأسماء للصفات مسلكان: المسلك الأول: من جعل الأسماء كالأعلام المحضة المترادفة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قائم به. فهم بذلك ينظرون إلى هذه الأسماء على أنها أعلام محضة لا تدل على صفة. و (المحضة) الخاصة الخالية من الدلالة على شيء آخر، فهم يقولون: إن العليم والخبير والسميع ونحو ذلك أعلام لله ليست دالة على أوصاف، وهي بالنسبة إلى دلالتها على ذات واحدة هي مترادفة، وذلك مثل تسميتك ذاتاً واحدة (بزيد وعمرو ومحمد وعلي) فهذه الأسماء مترادفة وهي أعلام خالصة لا تدل على صفة لهذه الذات المسماة بها3.
والمسلك الثاني: من يقول منهم إن كل عَلَم منها مستقل، فالله يسمى عليماً وقديراً، وليست هذه الأسماء مترادفة، ولكن ليس معنى ذلك أن هناك حياة أو قدرة1 ولذلك يقولون عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر. القول الرابع: إثبات الأسماء الحسنى مع إثبات معاني البعض وتحريف معاني البعض الآخر. وهذا قول الكلابية والأشاعرة والماتريدية. فهؤلاء وإن كانوا يوافقون أهل السنة والجماعة في إثبات ألفاظ الأسماء الحسنى لكنهم يخالفونهم في إثبات بعض معاني تلك الأسماء. فمن المعلوم أن كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة. وللكلابية والأشاعرة والماتريدية قول في الصفات يخالف قول أهل السنة والجماعة. فالكلابية وقدماء الأشاعرة ينفون صفات الأفعال الاختيارية وبالتالي لا يثبتون الصفات التي تضمنتها الأسماء إذا كانت من هذا القبيل كالخالق والرزاق ونحوها، على تفصيل سيأتي ذكره عند الحديث عن موقفهم من الصفات. وأما المتأخرون من الأشاعرة ومعهم الماتريدية، فإنهم لا يثبتون من الصفات سوى سبع صفات هي (العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام) ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي (التكوين) . فالاسم
عندهم إن دل على ما أثبتوه من الصفات، أثبتوا ما دل عليه من المعنى، وإن كان دالاً على خلاف ما أثبتوه صرفوه عن حقيقته وحرفوا معناه. ومعلوم أنه لم يرد في باب الأسماء من تلك الصفات التي ذكروها إلا خمسة فقط وهي (العليم) و (القدير) و (الحي) و (السميع) و (البصير) فهذه الخمسة يثبتون معانيها، وإن كان هناك من يرجع صفتي (السمع) و (البصر) إلى (العلم) ، ولكن جمهورهم على خلاف ذلك1. وأما بقية الأسماء التي لا تتفق مع ما أثبتوه من الصفات، فإنهم لا يثبتون ما دلت عليه من المعاني، بل يحرفونها كتحريفهم لمعنى (الرحمة) في اسمه (الرحمن) إلى إرادة الثواب أو إرادة (الإنعام) ، و (الود) في (الودود) بـ (إرادة إيصال الخير) 2.
المطلب الثالث: درجات تعطيلهم في باب صفات الله تعالى. القول الأول: نفاة جميع الصفات وهذا قول الغلاة من المعطلة، ومنهم الجهمية أتباع جهم والفلاسفة سواء كانوا أهل فلسفة محضة كالفارابي أو فلسفة باطنية رافضية إسماعيلية كابن سينا وإخوان الصفا أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين. وهذا القول بنفي الصفات هو قول المعتزلة ومن تبعهم كالزيدية والرافضة الإمامية والخوارج الإباضية وكذلك هو قول النجارية والضرارية. فهؤلاء جميعاً لا يثبتون الصفات لله تعالى، وقد تنوعت أساليب تعطيلهم وطرق إنكارهم لها، ويمكن تصنيفهم إلى صنفين: 1ـ غلاة المعطلة 2ـ المعتزلة ومن وافقهم. 1ـ فغلاة المعطلة: يمنعون الإثبات بأي حال من الأحوال ولهم في النفي درجات: الدرجة الأولى: درجة المكذبة النفاة. وهي التي عليها الجهمية وطائفة من الفلاسفة1 وهو كذلك قول
ابن سينا وأمثاله1. فهم يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون له إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان2 فهؤلاء وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات3. الدرجة الثانية: المتجاهلة الواقفة. الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي، وهذه الدرجة تنسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية المتفلسفة4. فهؤلاء هم غلاة الغلاة5 لأنهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه
بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، فلا يقال حي عالم ولا ليس بحي عالم، ولا يقال هو عليم قدير ولا يقال ليس بقدير عليم، ولا يقال هو متكلم مريد، ولا يقال ليس بمتكلم مريد، قالوا لأن في الإثبات تشبيهاً بما تثبت له هذه الصفات، وفي النفي تشبيه له بما ينفي عنه هذه الصفات "2. الدرجة الثالثة: المتجاهلة اللاأدرية. الذين يقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول: ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم.
ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه1. الدرجة الرابعة: أهل وحدة الوجود الذين لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق. فعلى سبيل المثال هم يقولون بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام وفي ذلك يقول ابن عربي: ألا كل قول في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه يعم به أسماع كل مكون ... فمنه إليه بدؤه وختامه2 فيزعمون أنه هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات 24] و {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص 28] وبين القول الذي يسمعه موسى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه 14] . بل يقولون: إنه الناطق في كل شيء، فلا يتكلم إلا هو، ولا يسمع إلا هو، حتى قول
مسيلمة الكذاب، والدجال، وفرعون، يصرحون بأن أقوالهم هي قوله"1. وهذا قول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين وابن الفارض، والعفيف التلمساني. وأصل مذهبهم: أن كل واحد من وجود الحق، وثبوت الخلق يساوى الآخر ويفتقر إليه، وفي هذا يقول ابن عربي: فيعبدني وأعبده ... ويحمدني وأحمده2 ويقول: إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات، وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب، وإنهما شيء واحد إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت.3 فهو الموصوف عندهم بجميع صفات النقص والذم والكفر والفواحش والكذب والجهل، كما هو الموصوف عندهم بصفات المجد والكمال فهو العالم والجاهل، والبصير والأعمى، والمؤمن والكافر، والناكح والمنكوح، والصحيح والمريض، والداعي والمجيب، والمتكلم والمستمع، وهو عندهم هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم، وقد يقولون لا هو العالم ولا غيره، وقد يقولون: هو العالم أيضا وهو غيره، وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها في المعنى بين النقيضين مع سلب
النقيضين1. وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس له اسم ولا صفة ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له. ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون يرى هو في الأشياء وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين: عين ما ترى ذات لا ترى ... وذات لا ترى عين ما ترى وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود2. وفي هذا يقول ابن عربي: فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً ... وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً
وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً ... وكنت إماماً في المعارف سيداً فمن قال بالإشفاع كان مشركاً ... ومن قال بالإفراد كان موحداً فإياك والتشبيه إن كنت ثانياً ... وإياك والتنزيه إن كنت مفرداً فما أنت هو بل أنت هو وتراه ... في عين الأمور مسرحا ومقيداً1 خلاصة أقوال غلاة المعطلة: كلام غلاة المعطلة المتقدم ذكره يدور على أحد أصلين: 1ـ الأصل الأول: النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه، بأن جعلوا الحق لا وجود له، ولا حقيقة له في الخارج أصلاً وإنما هو أمر مطلق في الأذهان. وهذا الذي عليه المكذبة النفاة، والمتجاهلة الواقفة، والمتجاهلة اللاأدرية. 2ـ الأصل الثاني: أن يجعلوا الحق عين وجود المخلوقات، فلا يكون للمخلوقات خالق غيرها أصلاً، ولا يكون رب كل شيء ولا مليكه. وهذا الذي عليه حال أهل وحدة الوجود الاتحادية في أحد حاليهم فهذا حقيقة قول القوم وإن كان بعضهم لا يشعر بذلك.
ولذلك كان الغلاة من القرامطة والباطنية والفلاسفة والاتحادية نسخة للجهمية الذين تكلم فيهم السلف والأئمة، مع كون أولئك كانوا أقرب إلى الإسلام. فقد كان كلام الجهمية يدور أيضاً على هذين الأصلين فهم يظهرون للناس والعامة أن الله بذاته موجود في كل مكان، أو يعتقدون ذلك. وعند التحقيق يصفونه بالسلب الذي يستوجب عدمه كقولهم: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث، ولا متصل به ولا منفصل عنه، وأشباه هذه السلوب. فكلام أول الجهمية وآخرهم يدور على هذين الأصلين: 1ـ إما النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه. 2ـ وإما الإثبات الذي يقتضي أنه هو المخلوقات. أو جزء منها أو صفة لها. وكثير منهم يجمع بين هذا النفي وهذا الإثبات المتناقضين، وإذا حوقق في ذلك قال: ذاك السلب مقتضى نظري. وهذا الإثبات مقتضى شهودي وذوقي. ومعلوم أن العقل والذوق إذا تناقضا لزم بطلانهما أو بطلان أحدهما1
وهذا حال الجهمية دائماً يترددون بين هذا النفي العام المطلق، وهذا الإثبات العام المطلق، وهم في كليهما حائرون ضالون لا يعرفون الرب الذي أمروا بعبادته1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والجهمية نفاة الصفات تارة يقولون بما يستلزم الحلول والاتحاد، أو يصرحون بذلك. وتارة بما يستلزم الجحود والتعطيل، فنفاتهم لا يعبدون شيئاً، ومثبتتهم يعبدون كل شيء"2. ولا ريب أن هؤلاء المعطلة بصنيعهم هذا قد أعرضوا عن أسمائه وصفاته وآياته وصاروا جهالاً به، كافرين به، غافلين عن ذكره، موتى القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته، وهذا هو غاية القرامطة الباطنية والمعطلة الدهرية أنهم يبقون في ظلمة الجهل وضلال الكفر، لا يعرفون الله ولا يذكرونه3. 2ـ المعتزلة ومن وافقهم: المعتزلة ومعهم النجارية، والضرارية، والرافضة، الإمامية، والزيدية، والإباضية وغيرهم. وهؤلاء مشتركون مع الجهمية
والفلاسفة في نفي الصفات1 وإن كان بين الفلاسفة والمعتزلة نوع فرق2 فالمعتزلة تجمع على غاية واحدة وهي نفي إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها. ولكنهم سلكوا طريقين في موقفهم من الصفات. الطريق الأول: الذي عليه أغلبيتهم وهو نفيها صراحة فقالوا: إن الله عالم بذاته لا بعلم وهكذا في باقي الصفات. والطريق الثاني: الذي عليه بعضهم وهو إثباتها اسماً ونفيها فعلاً فقالوا: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته وهكذا بقية الصفات، فكان مجتمعاً مع الرأي الأول في الغاية وهي نفي الصفات. والمقصود بنفي الصفات عندهم: هو نفي إثباتها حقيقة في الذات ومتميزة عنها، وذلك أنهم يجعلونها عين الذات فالله عالم بذاته بدون علم أو عالم بعلم وعلمه ذاته3. وهناك آراء أخرى للمعتزلة لكنها تجتمع في الغاية مع الرأيين الأولين، وهو التخلص من إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها4.
وهذه الآراء للمعتزلة حملها عنهم الزيدية، والرافضة الإمامية1 والإباضية. وابن تومرت2، وابن حزم3. فالمعتزلة يرون امتناع قيام الصفات به، لاعتقادهم أن الصفات أعراض، وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه فقالوا حينئذ إن القرآن مخلوق، وإنه ليس لله مشيئة قائمة به، ولا حب ولا بغض ونحو ذلك. وردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف من غير قيام معنى به4. النجارية: وهم أتباع حسين بن محمد بن عبد الله النجار المتوفى سنة (220هجرية) تقريباً. وكان يزعم أن الله سبحانه لم يزل جواداً بنفي البخل عنه، وأنه لم يزل متكلماً بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام، وأن كلام الله سبحانه محدث مخلوق، وكان يقول بقول المعتزلة في التوحيد، إلا
في باب الإرادة والجود، وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء1. الضرارية: وهم أتباع ضرار بن عمرو الغطفاني المتوفى سنة (190هجرية) تقريباً، وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر أنه ليس بجاهل ولا عاجز، وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه2. فكل من النجارية والضرارية يحملون النصوص الثبوتية على المعاني السلبية، كما قال البغدادي عنهم: "من غير إثبات معنى أو فائدة سوى نفي الوصف بنقيض تلك الأوصاف عنه"3. وكان الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية هم خصوم أهل السنة زمن فتنة القول بخلق القرآن4. القول الثاني: نفي الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة. وهو قول الكلابية: أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب،
وقول الحارث المحاسبي1 وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري في طوره الثاني، وقدماء الأشاعرة كأبي الحسن الطبري، والباقلاني، وابن فورك، وأبي جعفر السمناني ومن تأثر بهم من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني، والتميميين وغيرهم2. وهؤلاء يسمّون الصفاتية لأنهم يثبتون صفات الله تعالى خلافاً للمعتزلة، لكنهم لم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته3.
وأصلهم الذي أصلوه في هذا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته1 لا فعل ولا غير فعل2. والفرق بينهم وبين المعتزلة: أن المعتزلة تقول: (لا تحله الأعراض والحوادث) فالمعتزلة لا يريدون [بالأعراض] الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات. ولا يريدون [بالحوادث] المخلوقات، ولا الأحداث المحيلة للمحل ونحو ذلك -مما يريده الناس بلفظ الحوادث- بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان، ولا مجيء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه. ولكن ابن كلاب ومن وافقه خالفوا المعتزلة في قولهم: "لا تقوم به الأعراض" وقالوا: "تقوم به الصفات ولكن لا تسمى أعراضاً". ووافقوا المعتزلة على ما أرادوا بقولهم: لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته3.
ففرقوا بين الأعراض -أي الصفات- والحوادث -أي الأمور المتعلقة بالمشيئة1 2.
فالكلابية ومن تبعهم ينفون صفات أفعاله1، ويقولون: "لو قامت به لكان محلاً للحوادث. والحادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به2. ولتوضيح قولهم نقول: إن المضافات إلى الله سبحانه في الكتاب والسنة لا تخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} [البقرة 255] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات 58] ، فهذا القسم يثبته الكلابية ولا يخالفون فيه أهل السنة، وينكره المعتزلة. والقسم الثاني: إضافة المخلوق. كقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس 13] ، وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج 26] ، وهذا القسم لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق.
والقسم الثالث: -وهو محل الكلام هنا- ما فيه معنى الصفة والفعل. كقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء 164] ، وقوله تعالى: {إنّ الله يَحكمُ ما يُريد} [المائدة 1] ، وقوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغضبٍ على غَضَب} [البقرة 90] . فهذا القسم الثالث لا يثبته الكلابية ومن وافقهم على زعم أن الحوادث لا تحل بذاته. فهو على هذا يلحق عندهم بأحد القسمين قبله فيكون: 1ـ إما قديماً قائماً به. 2ـ وإما مخلوقاً منفصلاً عنه. ويمتنع عندهم أن يقوم به نعت أو حال أو فعل ليس بقديم ويسمون هذه المسألة: (مسألة حلول الحوادث بذاته) 1 وذلك مثل صفات الكلام، والرضا، والغضب، والفرح، والمجيء، والنزول والإتيان، وغيرها. وبالتالي هم يؤولون النصوص الواردة في ذلك على أحد الوجوه التالية: 1ـ إرجاعها إلى الصفات الذاتية واعتبارها منها، فيجعلون جميع تلك الصفات قديمة أزلية، ويقولون: نزوله، ومجيئه وإتيانه، وفرحه،
وغضبه، ورضاه، ونحو ذلك: قديم أزلي1 وهذه الصفات جميعها صفات ذاتية لله، وإنها قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته واختياره2. 2ـ وإما أن يجعلوها من باب "النسب" و"الإضافة" المحضة بمعنى أن الله خلق العرش بصفة تحت فصار مستوياً عليه، وأنه يكشف الحجب التي بينه وبين خلقه فيصير جائياً إليهم ونحو ذلك. وأن التكليم إسماع المخاطب فقط3. فهذه الأمور من صفات الفعل منفصلة عن الله بائنة وهي مضافة إليه، لا أنها صفات قائمة به. ولهذا يقول كثير منهم: "إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات، وينكرون على من يقول آيات الصفات وأحاديث الصفات"4. 3ـ أو يجعلوها "أفعالاً محضة" في المخلوقات من غير إضافة ولا نسبة5. مثل قولهم في الاستواء إنه فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث
في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم بالله فعل اختياري1. وكقولهم في النزول إنه يخلق أعراضاً في بعض المخلوقات يسميها نزولاً2. ونفاة الصفات الاختيارية يثبتون الصفات التي يسمونها عقلية وهي الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. واختلفوا في صفة البقاء. ويثبتون في الجملة الصفات الخبرية كالوجه، واليدين، والعين ولكن إثباتهم لها مقتصر على بعض الصفات القرآنية، على أن إثبات بعضهم لها من باب التفويض. وأما الصفات الخبرية الواردة في السنة كاليمين، والقبضة، والقدم، والأصابع فأغلب هؤلاء يتأولها3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه: كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي إسحاق الاسفرائيني، وأبي
بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي، وغير هؤلاء. فما من هؤلاء إلا من يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله تعالى. وعماد المذهب عندهم: إثبات كل صفة في القرآن. وأما الصفات التي في الحديث فمنهم من يثبتها ومنهم من لا يثبتها"1. القول الثالث: من يقول بإثبات سبع صفات فقط أو ثمان ونفي ما عداها. وهذا قول المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية الذين لم يثبتوا من الصفات إلا ما أثبته العقل فقط، وأما ما لا مجال للعقل فيه عندهم فتعرضوا له بالتأويل والتعطيل. ولا يستدل هؤلاء بالسمع في إثبات الصفات، بل عارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات. وهذا القول لمتأخري الأشاعرة إنما تلقوه عن المعتزلة، لما مالوا إلى نوع التجهم، بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه، الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل، بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع، ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، وأثبت بالعقل
الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع، بل ما جعله معاضداً له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل. وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة أصحابه في هذا وهذا، فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات، وعارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات1. فالصفات الثبوتية عند متأخري الأشاعرة هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام2 وزاد الباقلاني وإمام الحرمين الجويني صفة ثامنة هي الإدراك3. والصفات الثبوتية عند الماتريدية4 هي ثمان: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين5 وهم قد خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها، لأنها هي التي دل العقل عليها عندهم، وأما غيرها من الصفات فإنه لا دليل عليها من العقل عندهم،
فلذا قالوا بنفيها1. وهؤلاء لا يجعلون السمع طريقاً إلى إثبات الصفات ولهم فيما لم يثبتوه طريقان: 1ـ منهم من نفاه. 2ـ ومنهم من توقف فيه فلم يحكم فيه بإثبات ولا نفي، ويقولون بأن العقل دلّ على ما أثبتناه ولم يدل على ما توقفنا فيه2. والصفات السبع التي يثبتها هؤلاء يسمونها صفات المعاني. وضابطها في اصطلاحهم هي: ما دل على معنى وجودي قائم بالذات، ولم يقر هؤلاء إلا بسبعة منها هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. ونفوا ما عداها من صفات المعاني كالرأفة والرحمة والحلم3. وقد زاد بعضهم في عده للصفات فأوصلها إلى عشرين صفة وقسمها إلى أربعة أقسام: 1ـ صفات المعاني 2ـ الصفات المعنوية 3ـ الصفات السلبية 4ـ الصفة النفسية.
فصفات المعاني تقدم ضابطها وعدها. وهي القدر الذي عند هؤلاء من الإثبات، أما الأقسام الثلاثة الباقية فليس فيها إثبات على الحقيقة. القسم الثاني: الصفات المعنوية وهي الأحكام الثابتة للموصوف بها معللة بعلل قائمة بالموصوف وهي كونه "حياً، عليماً، قديراً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلماً" وهذا العد لا وجه له لأنه في الحقيقة تكرار لصفات المعاني المتقدم ذكرها. ثم إن من عدها من هؤلاء عدوها بناءً على ما يسمونه الحالة المعنوية التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية لا معدومة ولا موجودة1. والتحقيق أن هذا خرافة وخيال، وأن العقل الصحيح لا يجعل بين الشيء ونقيضه واسطة البتة، فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعاً، وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعاً، ولا واسطة البتة كما هو معروف عند العقلاء2. 3ـ الصفات السلبية: وضابطها عندهم: ما دل على سلب ما لا يليق بالله عن الله من غير أن يدل على معنى وجودي قائم بالذات.
والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمساً لا سادس لها1 وهي عندهم: القدم، البقاء، والمخالفة للحوادث، والوحدانية، والغنى المطلق الذي يسمونه القيام بالنفس الذي يعنون به الاستغناء عن المخصص والمحل2. وعلى ضابطهم الذي ذكروه فإن هذه الخمس لا تتضمن معنى وجودياً. وإنما تتضمن أمراً سلبياً فعلى سبيل المثال: القدم: المقصود بها نفي الحدوث. والبقاء: المقصود بها نفي الفناء. والوحدانية: المقصود بها نفي النظير المساوي له. والقيام بالنفس: عدم افتقاره للمحل وعدم افتقاره للمخصص: أي الموجد. 4ـ الصفة النفسية: وضابطها هي: كل صفة إثبات لنفس لازمة ما بقيت النفس غير معللة بعلل قائمة بالموصوف. وهي عندهم صفة واحدة هي: الوجود. وهي عندهم لا تدل على
شيء زائد على الذات. يقول شارح جوهرة التوحيد: "واعلم أن الوجود صفة نفسية وإنما نسبت للنفس أي الذات، لأنها لا تعقل إلا بها فلا تعقل نفس إلا بوجودها، والمراد بالصفة النفسية: صفة ثبوتية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها. فقولنا: (صفة) كالجنس. وقولنا: (ثبوتية) يخرج السلبية كالقدم والبقاء. وقولنا: (يدل الوصف بها على نفس الذات) معناه أنها لا تدل على شيء زائد على الذات. وقولنا: (دون معنى زائد عليها) تفسير مراد لقولنا (على نفس الذات) ويخرج بذلك المعاني لأنها لا تدل على معنى زائد على الذات، وكذلك «المعنوية» فإنها تستلزم المعاني فهي تدل على معنى زائد على الذات لاستلزامها المعاني"1. وبهذا يعلم أنه ليس عند هؤلاء من الإثبات إلا الصفات السبع التي يسمونها صفات المعاني وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام وما عداها من الصفات الثبوتية لا يثبتونها ولهم في نصوصها أحد طريقين إما التأويل أو التفويض وفي هذا يقول قائلهم:
وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوضه ورم تنزيها1 فنصوص الصفات التي وردت في إثبات ما عدا الصفات السبع التي يثبتونها، يسمونها نصوصاً موهمة للتشبيه، فهم يصرفونها عن ظاهرها، ولكنهم تارة يعينون المراد كقولهم استوى: استولى، واليد: بمعنى النعمة والقدرة؛ وتارة يفوضون فلا يحددون المعنى المراد ويكلون علم ذلك إلى الله عز وجل. ولكنهم يتفقون على نفي الصفة لأن ناظمهم يقول: (ورم تنزيهاً) وشارح الجوهرة يقول: (أو فوض) أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوض المراد من النص الموهم إليه تعالى2. فهم بذلك متفقون على نفي تلك الصفات، ويخيرون في تحديد المعنى المراد أو السكوت عن ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات -أي الصفات الخبرية- موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان: أحدهما: تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد. والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في "الرسالة النظامية" وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين
على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب. ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات. ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي"1
الفصل الثالث: أقوال المشبهة في أسماء الله وصفاته
الفصل الثالث: أقوال المشبهة في أسماء الله وصفاته المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه ... المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه المثيل لغة: الند والنظير. والمماثلة: هي مساواة الشيء لغيره من كل وجه. والمشابهة: هي مساواة الشيء لغيره من أغلب الوجوه. والتمثيل: هو الاعتقاد في صفات الخالق أنها مثل صفات المخلوق. وهو كقول الممثل: له يد كيدي، وسمع كسمعي، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. والتمثيل والتشبيه هنا بمعنى واحد وإن كان هناك فرق بينهما في أصل اللغة1. والمقصود بالتشبيه هنا: هو التمثيل في نفس الذوات أو بالصفات القائمة بالذوات. وهذا التشبيه منتف عن الله، وإنما خالف فيه المشبهة الممثلة الذين وصفهم الأئمة وذموهم. كما قال الإمام أحمد: "المشبه الذي يقول بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، ومن قال هذا فقد شبه الله
بخلقه"1. فكل قول يتضمن إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فهذا هو التشبيه الممتنع على الله تعالى2. الفرق بين التمثيل والتكييف: قيل أن التكييف هو: جعل الشيء على حقيقة معينة من غير أن يقيدها بمماثل3. كقول الهشامية: "طوله طول سبعة أشبار بشبر نفسه"، وقولهم: "طوله كعرضه"4. فالتكييف على هذا التعريف ليس فيه تقييد بمماثل. وأما التمثيل: فهو اعتقاد أنها تماثل صفات المخلوقين. ولعل الصواب أن التكييف أعم من التمثيل، فكل تمثيل تكييف لأن من مثل صفات الخالق بصفات المخلوقين فقد كيف تلك الصفة أي جعل لها حقيقة معينة مشاهدة. وليس كل تكييف تمثيلاً؛ لأن من التكييف ما ليس فيه تمثيل بصفات المخلوقين كقولهم: "طوله كعرضه".
معنى قول أهل السنة (من غير تمثيل ولا تكييف) مقصود أهل السنة بنفي المماثلة: أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته وهذا ما دل عليه القرآن، قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} فهذا رد على المشبهة. فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوقين فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق فهو نظير النصارى في كفرهم"1. ومعنى قول أهل السنة (من غير تكييف) أي من غير كيف يعقله البشر، وليس المراد من قولهم (من غير تكييف) أنهم ينفون الكيف مطلقاً، فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه2. فمن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفاته عز وجل لأنه تعالى أخبرنا عن الصفات ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تعمقنا في أمر الكيفية قفواً لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به. وقد أخذ العلماء من قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف
مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" قاعدة ساروا عليها في هذا الباب. مقصود المخالفين بنفي التشبيه: التشبيه في اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل، والمتشابهان هما المتماثلان، وهما ما سد أحدهما مسد صاحبه وقام مقامه وناب منابه1. ومقصود المتكلمين بنفي التشبيه: أن يراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال له قدرة، ولا علم، ولا حياة، لأن العبد موصوف بهذه الصفات، ولازم هذا القول أنه لا يقال له حي، عليم، قدير، لأن العبد يسمى بهذه الأسماء وكذلك كلامه وسمعه وبصره وإرادته وغير ذلك2. وأصل الخطأ والغلط توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به. فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشاركه فيه غيره،
فكيف بوجود الخالق. وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى فزادوا فيه على الحق فضلوا. وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وإن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه1. أقسام التمثيل: قال ابن القيم: "حقيقة الشرك هو: 1ـ التشبه بالخالق. 2ـ التشبيه للمخلوق به. هذا هو التشبيه في الحقيقة"2. وإذا كان التشبيه هو حقيقة الشرك كما ذكر ابن القيم، فإنه يمكن توضيح صوره بناءً على أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة وذلك على النحو التالي: أولاً: التمثيل في جانب الربوبية وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: التشبيه للمخلوق به، ومثاله:
1ـ شرك القدرية القائلين بأن العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته. 2ـ شرك غلاة عباد القبور الذين يعتقدون في أصحاب القبور أنهم يتصرفون وينفعون ويضرون من دون الله. ولا شك أن من خصائص الرب التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، -فضلاً عن غيره- شبيهاً لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات1. القسم الثاني: التشبه بالخالق، ومن أمثلته: 1ـ من تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم2. ففي الصحيح عنه رضي الله عنه قال: "يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته".
ثانياً: التمثيل في جانب الألوهية وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: التشبيه للمخلوق به، ومن أمثلة ذلك: السجود لغير الله، والذبح لغير الله، والتوبة لغير الله، والحلف بغير الله. فمن خصائص الإلهية، العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: 1ـ غاية الحب 2ـ مع غاية الذل هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه في خالص حقه. فإذا عرف هذا، فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به. ومنها التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به. ومنها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً له، فمن حلف بغيره فقد
شبهه به1. القسم الثاني: التشبه به، ومثاله: من دعا الناس إلى تعليق القلب به خوفاً، ورجاءً، وتوكلاً، والتجاءً، واستعانةً2، كما يفعله بعض مشايخ طرق الصوفية مع مريديهم. أقسام التمثيل في باب الأسماء والصفات: ينقسم التمثيل في باب الأسماء والصفات إلى قسمين: القسم الأول: تمثيل المخلوق بالخالق وهذا ما زعمه النصارى في شأن عيسى عليه السلام إذ أعطوه خصائص الخالق عز وجل وجعلوه إلهاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها، ويشبهون المخلوق بالخالق، حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، وقالوا المسيح ابن الله"3. ومن هذا القسم كذلك السبيئة4 من غلاة الروافض: الذين شبهوا
علياً رضي الله عنه بالله، وجعلوه إلهاً، وقالوا: أنت الله حتى حرقهم، فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له. فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا: أنت هو. قال: من أنا؟ قالوا: أنت الله الذي لا إله إلا هو. فقال: ويحكم هذا كفر، فارجعوا عنه، وإلا ضربت أعناقكم، فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك، فأخرهم ثلاثة أيام -لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام- فلما لم يرجعوا، أمر بأخاديد من نار فخدت عند باب كندة، وقذفهم في تلك النار، وروي عنه أنه قال: لما رأيت الأمر أمراً منكراً ... أججت ناري ودعوت قنبراً"1 القسم الثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق وهذا ما زعمه اليهود قاتلهم الله إذ وصفوا الخالق ببعض صفات المخلوقين، كما ذكر الله ذلك عنهم في كتابه العزيز حيث قال: {لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران:181] ، وقال تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} [المائدة:64] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فاليهود تصف الرب بصفات النقص التي يتصف بها المخلوق، كما قالوا: إنه بخيل، وإنه فقير، وإنه لما خلق
المبحث الثاني: التعريف بالمشبهة توحيد الأسماء والصفات له ضدان هما: 1ـ التعطيل 2ـ التمثيل ولذلك ذم السلف والأئمة، المعطلة النفاة للصفات، وذموا المشبهة أيضاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن السلف والأئمة كثر كلامهم في ذم الجهمية النفاة للصفات، وذموا المشبهة أيضاً، وذلك في كلامهم أقل بكثير من ذم الجهمية، لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه". وتقوم عقيدة أهل التمثيل على دعواهم أن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة، فشبهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، فقالوا له يد كيدي، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. لكن المشبهة لا يمثلون الخالق بالمخلوق من كلّ وجه وإنما قالوا بإثبات التماثل من وجه والاختلاف من وجه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وقدم كقدمي، وبصر كبصري، مقالة معروفة، وقد ذكرها الأئمة كيزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم،
وأنكروها وذموها، ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله. ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الأجسام، بل ببعضها، ولابد مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه، لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات كانوا مبطلين على كل حال"1. وأكثر من عرف بمقالة التشبيه قدماء الرافضة: فأول من تكلم في التشبيه هم طوائف من الشيعة2 وإن التشبيه والتجسيم المخالف للعقل والنقل لا يُعرف في أحد من طوائف الأمة أكثر منهم في طوائف الشيعة. وهذه كتب المقالات كلها تخبر عن أئمة الشيعة المتقدمين من المقالات المخالفة للعقل والنقل في التشبيه والتجسيم بما لا يعرف نظيره عن أحد من سائر الطوائف. وقدماء الإمامية ومتأخروهم متناقضون في هذا الباب، فقدماؤهم غلو في التشبيه والتجسيم، ومتأخروهم غلو في النفي والتعطيل"3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذه المقالات التي نقلت في التشبيه والتجسيم لم نر الناس نقلوها عن طائفة من المسلمين أعظم مما نقلوها عن
قدماء الرافضة. ثم الرافضة حُرِموا الصواب في هذا الباب كما حُرِموه في غيره، فقدماؤهم يقولون بالتجسيم الذي هو قول غلاة المجسمة، ومتأخروهم يقولون بتعطيل الصفات موافقة لغلاة المعطلة من المعتزلة ونحوهم، فأقوال أئمتهم دائرة بين التعطيل والتمثيل، لم تعرف لهم مقالة متوسطة بين هذا وهذا"1. وأما قدماؤهم فهم: 1ـ البيانية: من غالية الشيعة وهم أتباع بيان بن سمعان التيمي الذي كان يقول: إن الله على صورة الإنسان وإنه يهلك كله إلا وجهه، وادعى بيان أنه يدعو الزُهَرَة فتجيبه، وأنه يفعل ذلك بالاسم الأعظم، فقتله خالد ابن عبد الله القسري2. 2ـ المغيرية: وهم أصحاب المغيرة بن سعيد، ويزعمون أنه كان يقول إنه نبي وإنه اسم الله الأكبر وإن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج، وله من الأعضاء والخلق مثل ما للرجل، وله جوف وقلب تنبع منه الحكمة، وإن حروف (أبي جاد) على عدد أعضائه، قالوا: والألف موضع قدمه لاعوجاجها، وذكر الهاء فقال: لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمراً
عظيما، يعرِّض لهم بالعورة وبأنه قد رآه، لعنه الله وأخزاه1. 3ـ الهشامية: ويسمون بالهشامية نسبة إلى هشام بن الحكم الرافضي، وأحياناً تنسب إلى هشام بن سالم الجواليقي، وكلاهما من الإمامية المشبهة، والجدير بالذكر أن الرافضة الإمامية كان ينتشر فيهم التشبيه وهذا في أوائلهم2. 4ـ الجواربية: أتباع داود الجواربي الذي وصف معبوده بأن له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية3. وقال: "أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك"4. تعالى الله عما يقوله علواً كبيراً. وقال الأشعري في المقالات: "وقال داود الجواربي: إن الله جسم، وأن له جُثةٌ وأنه على صورة الإنسان له لحم ودم وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين، وهو مع هذا لا
يشبه غيره ولا يشبهه غيره"1. وحكي عن داود الجواربي أنه كان يقول: إنه أجوف من فِيهِ إلى صدره، مُصْمَتٌ ما سوى ذلك2. قال أبو الحسن الأشعري في كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين": "اختلف الروافض وأصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق: فالفرقة الأولى: (الهشامية) ، أصحاب هشام بن الحكم الرافضي. يزعمون أن معبودهم جسم، وله نهاية وحَدٌّ، طويل، عريض، عميق، طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، لا يُوفي بعضه على بعض، وزعموا أنه نور ساطع، له قدر من الأقدار، في مكان دون مكان، كالسبيكة الصافية، يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها، ذو لون وطعم، ورائحة، ومجسَّة، لونه هو طعمه، وطعمه هو رائحته" وذكر كلاماً طويلاً. وذكر عن هشام أنه قال في ربه في عام واحد خمسة أقاويل، زعم مرة أنه كالبلورة، وزعم مرة أنه كالسبيكة، وزعم مرة أنه غير صورة، وزعم مرة أنه بشبر نفسه سبعة أشبار ثم رجع عن ذلك وقال: هو جسم لا كالأجسام.
الفرقة الثانية: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام، وإنما يذهبون في قولهم: إنه جسم، إلى أنه موجود، ولا يثبتون الباري ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف. الفرقة الثالثة: من الرافضة، يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، ويمنعون أن يكون جسماً. الفرقة الرابعة: من الرافضة (الهشامية) أصحاب هشام بن سالم الجواليقي، يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً ودماً. ويقولون: هو نور ساطع يتلألأ بياضاً، وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان، له يد، ورجل، وأنف، وأذن، وعين، وفم، وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عنده. وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وَفْرَة1 سوداء وأن ذلك نور أسود. الفرقة الخامسة: يزعمون أن لرب العالمين ضياءً خالصاً، ونوراً بحتاً، وهو كالمصباح الذي من حيث جئته يلقاك بأمر واحد، وليس بذي صورة ولا أعضاء، ولا اختلاف في الأجزاء. وأنكروا أن يكون على صورة
الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان. الفرقة السادسة: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس. وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج، وهؤلاء قوم من متأخريهم، فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه. قال شيخ الإسلام: "وأما متأخريهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم"1. وقال أيضاً: "وكتب الشيعة مملوءة بالاعتماد في ذلك -يعنى مسائل الصفات والقدر- على طرق المعتزلة وهذا كان في أواخر المائة الثالثة، وكثر في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي والطوسي. وأما قدماء الشيعة فالغالب عليهم ضد هذا القول، كما هو قول الهشامية وأمثالهما. فالرافضة الإمامية وكذلك الزيدية على عقيدة المعتزلة في مسائل الصفات إلى يومنا هذا.
غلاة المتصوفة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قال الأشعري: وفي الأمة قوم ينتحلون النسك، يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام، وإذا رأوا شيئاً يستحسنونه قالوا: لا ندري، لعل، ربما، هو. ومنهم من يقول: إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال، فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن. ومنهم من يجوِّز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا، ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض: لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح. وكان من الصوفية رجل يُعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه، ويغتم ويحزن إذا عَصَوْهُ. وفي النسَّاك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم -من الزنا وغيره- مباحات لهم. وفيهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يروا الله، ويأكلوا من ثمار الجنة، ويعانقوا الحور العين في الدنيا، ويحاربوا الشياطين. ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين. وقلت: هذه المقالات التي حكاها الأشعري -وذكروا أعظم منها- موجودة في الناس قبل هذا الزمان. وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله
في الصور الجميلة، ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله، ومن هؤلاء من يسجد للأمرد. ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام، لكنه يتعبد بمظاهر الجمال، لما في ذلك من اللذة له، فيتخذ إلهه هواه، وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف. ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقاً ولا يعيِّن الصورة الجميلة، بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة. ومنهم من يقول: إن المواضع المخضرَّة خطا عليها، وإنما اخضرت من وطئه عليها، وفي ذلك حكايات متعددة يطول وصفها. وأما القول بالإباحة وحل المحرمات -أو بعضها- للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول، فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة، ولهذا يُضرب بهم المثل فيقال: فلان يستحل دمي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع، وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام، وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء، موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر. ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة، وهي -وأشنع منها- موجودة في الشيعة. وكثير من النسَّاك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم، وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار
ما يغيب به عن حسه الظاهر، حتى يظن أن ذلك شيء يراه بعينه الظاهرة، وإنما هو موجود في قلبه. ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية ويخاطبها أيضاً بذلك، ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه، وإنما هو موجود في نفسه، كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله. فهذه الأمور تقع كثيراً في زماننا وقبله، ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج. وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان، ويرى نوراً أو عرشاً أو نوراً على العرش، ويقول: أنا ربك. ومنهم من يقول: أنا نبيك، وهذا قد وقع لغير واحد. ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك، ويكون المخاطب له جنياًّ، كما قد وقع لغير واحد. لكن بسط الكلام على ما يُرى ويُسمع وما هو في النفس والخارج، وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه، وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع. وكثير من الجهَّال أهل الحال وغيرهم يقولون: إنهم يرون الله عياناً في الدنيا، وأنه يخطو خطوات"1. فأدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله، حتى قالوا: إنه
يُرى في الدنيا بالأبصار، ويصافح، ويعانق، وينزل إلى الأرض، وينزل عشية عرفة راكباً على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان. وقال بعضهم: إنه يندم ويبكى ويحزن، وعن بعضهم أنه لحم ودم، ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين. والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين، وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص، والله تعالى منزَّه عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال، وليس له مثل في شيء من صفات الكمال، فهو منزه عن النقص مطلقاً، ومنزه في الكمال أن يكون له مثل، كما قال تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص 1-4] ، فبين أنه أحدٌ صمدٌ، واسمه الأحد يتضمن نفي المثل، واسمه الصمد يتضمن جميع صفات الكمال، كما قد بيَّنا ذلك في الكتاب المصنَّف في تفسير قل هو الله أحد"1.
من نُسب إلى التشبيه: الكرامية: الفرق بين التشبيه والتجسيم: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام، والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر. فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وبصر كبصري، وقدم كقدمي. وقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} [الشورى 11] ، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص 4] ، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِّيَا} [مريم 65] ، وقال تعالى {فَلاَ تَجْعَلُوا لله أَنْدَاداً} [البقرة 22] . وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض، وأما الكلام في الجسم والجوهر، ونفيهما أو إثباتهما، فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك نفياً ولا إثباتاً. والنزاع بين المتنازعين في ذلك: بعضه لفظي، وبعضه معنوي، أخطأ هؤلاء من وجه وأخطأ هؤلاء من وجه. فإن كان النزاع مع من يقول: هو جسم أو جوهر، إذا قال: لا كالأجسام ولا كالجواهر، وإنما هو في اللفظ.
فمن قال: هو كالأجسام والجواهر، يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى. فإن كان فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى، كان قوله مردوداً. وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فكل قول تضمن هذا فهو باطل. وإن فسر قوله: جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر، مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين، كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه. فلابد أن يلحظ في هذا إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا، وذلك مثل أن يقول: أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر، كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات، وبين كل حي عليم سميع بصير، وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات، وإلا فلو قال الرجل: هو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين، وعليم لا كالعلماء، وسميع لا كالسمعاء، وبصير لا كالبصراء، ونحو ذلك، وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين، فقد أصاب. وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك، مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه، وهو من صفات كماله، فقد أخطأ.
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته، يقع من جهة المعنى فسر شيئين: أحدهما: أنهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين. فمن قال بتماثلها، قال: كل من قال: إنه جسم لزمه التمثيل. ومن قال إنها لا تتماثل، قال: إنه لا يلزمه التمثيل. ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة، بحسب ما ظنوه لازماً لهم، كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة، حتى سموا جميع المثبة للصفات مشبهة، ومجسمة، وحشوية، وغثاء، وغثراء، ونحو ذلك، بحسب ما ظنوه لازماً لهم. لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم، لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له، سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة، بل إن كانت لازمة مع فسادها، دل على فساد قوله. التعريف بالكرامية: الكرامية1 هم أتباع محمد بن كرام بن عراق بن حزبة السجستاني المتوفى سنة (255هـ) .
وهم في باب الصفات يثبتونها ولكنهم خالفوا أهل السنة في مسألتين: المسألة الأولى: أنهم يبالغون في الإثبات ويخوضون في شأن الكيفية، ودخل عليهم ذلك من جهة إطلاقهم لألفاظ مبتدعة كلفظ (الجسم) ، و (المماسة) . ومن بدع الكرامية أنهم يقولون في المعبود إنه جسم لا كالأجسام1. ومن بدعهم قولهم: إن الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكنا2.
ويقولون: إن الله جسم قديم أزلي، وإنه لم يزل ساكناً ثم تحرك لما خلق العالم، ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة، فهي تقبل الاجتماع والافتراق، ولا تخلوا من اجتماع وافتراق، وهي أعراض حادثة لا تخلو منها، ومالا يخلو من الحوادث فهو حادث. وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق، ولكنه لم يزل ساكناً. والسكون عندهم أمر عدمي، وهو عدم الحركة عمَّا من شأنه أن يتحرك، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة. وهؤلاء يقولون: إن الباري لم يزل خالياً من الحوادث حتى قامت به، بخلاف الأجسام المركَّبة من الجواهر المفردة، فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق1. ويقولون: إن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم، ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك2. ويقول ابن كرام: إن الله مماس للعرش من الصفحة العليا3. ويقول كذلك: له حد من الجانب الذي ينتهي إلى العرش ولا
نهاية له1. وقد غالى أتباع ابن كرام في شأن الكيفية فزعم بعضهم أنه تعالى على بعض أجزاء العرش2. وادعى بعضهم أن العرش امتلأ به بحيث لا يزيد على عرشه من جهة المماسة، ولا يفضل منه شيء على العرش3 المسألة الثانية: إن الكرامية يثبتون الصفات بما فيها أن الله تعالى تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك عندهم حادث بعد أن لم يكن، أنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا: لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث، ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها، فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها. فعندهم أن الله يتكلم بأصوات تتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه تقوم به الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته، لكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأن الله في الأزل لم يكن متكلماً إلا بمعنى القدرة على الكلام، وأنه يصير
موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك1. ومعلوم أن عقيدة السلف تقوم على إثبات جميع الصفات الذاتية منها والفعلية، وأثبتوا أن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة2. مقاتل بن سليمان:3 نُسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر أنه من المشبهة وذكروا أنه هو الذي قال فيه الإمام أبو حنيفة: "أتانا من المشرق رأيان خبيثان؛ جهم معطل، ومقاتل مشبه"4.
وقال ابن حبان:"كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي وافق كتبهم، وكان يشبه الرب بالمخلوقات وكان يكذب في الحديث"1. وقال أبو الحسن الأشعري في "المقالات": "وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان: إن الله جسم وإنه جثة على صورة الانسان لحمٌ ودمٌ وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه"2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله، والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة، وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان، فلعلهم زادوا في النقل عنه، أو نقلوا عنه، أو نقلوا عن غير ثقة، وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد. وقد قال الشافعي: من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل، ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث -بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة- لكن لا ريب في علمه في التفسير وغيره واطلاعه، كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء وأنكروها عليه، فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه، وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه، وهي كذب عليه قطعاً، مثل مسألة الخنزير البري ونحوها،
وما يبعد أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب"1. وجاء في "وفيات الأعيان" في ترجمة مقاتل بن سليمان: "حكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة، على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام"2.
المبحث الثاني: التعريف بالتشبيه
المبحث الثاني: التعريف بالتشبيه الباب الثاني: الأقوال في صفتي العلو والإستواء الفصل الأول: الأقوال في صفة العلو المبحث الأول: قول أهل السنة والجماعة ومن وافقهم ... المبحث الأول: قول أهل السنة والجماعة ومن وافقهم يؤمن أهل السنة بعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه، وأنه بائن من خلقه وهم بائنون منه. وقد وافقهم على قولهم في إثبات العلو عامة الصفاتية، كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه، وأبي العباس القلانسي1، وأبي الحسن الأشعري والمتقدمين من أصحابه. وهو قول الكرامية ومتقدمي الشيعة الإمامية2. وقد استدل أهل السنة والجماعة على إثبات صفة العلو بالقرآن، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة. وقد أورد الذهبي رحمه الله في كتاب "العرش" الكثير من الأدلة من القرآن، والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأئمتها، فلا حاجة إلى تكرار ذلك.
فقد وفى هذا الجانب حقه. وسأشير هنا إلى دليل العقل، والفطرة. أما الأدلة العقلية فهي كثيرة وسأورد ههنا ثلاثة منها: الدليل الأول: قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله تعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فسيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء هل خلقه في نفسه؟ أم خارجاً عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال: واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين وإبليس في نفسه. وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضاً كفر حين زعم أنه في كل مكان وحش قذر رديء. وإن قال: خلقهم خارجاً عن نفسه ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع"1 الدليل الثاني: قول ابن القيم: "إن كل من أقر بوجود رب للعالم مدبرله، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم.
فمن أقر بالرب، فإما أن يقر بأن له ذاتاً وماهية مخصوصة أو لا؟ فإن لم يقر بذلك، لم يقر بالرب، فإن رباً لا ذات له ولا ماهية له هو والعدم سواء، وإن أقر بأن له ذاتاً مخصوصة وماهية، فإما أن يقر بتعينها أو يقول إنها غير معينة؟ فإن قيل إنها غير معينة كانت خيالاً في الذهن لا في الخارج، فإنه لا يوجد في الخارج إلا معيناً، لا سيما وتلك الذات أولى من تعيين كل معين فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، وأن يوجد لها نظير، فتعيين ذاته سبحانه واجب. وإذا أقر بأنها معينة لا كلية، والعالم مشهود معين لا كلي، لزم قطعاً مباينة أحد المتعينين للآخر، فإنه إذا لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه. فإن قيل: هو يتعين بكونه لا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه. قيل: هذا -والله أعلم- حقيقة قولكم، وهو عين المحال، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينها لماهيته وذاته المخصوصة، وأنتم إنما جعلتم تعيينه أمراً عدمياً محضاً ونفياً صرفاً وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه، وهذا التعيين لا يقتضي وجوده مما به يصح على العدم المحض. وأيضاً فالعدم المحض لا يعين المتعين، فإنه لاشيء وإنما يعينه ذاته المخصوصة وصفاته، فلزم قطعاً من إثبات ذاته تعيين تلك الذات، ومن تعيينها مباينتها للمخلوقات، ومن المباينة العلو عليها لما تقدم من
تقريره"1. الدليل الثالث: أنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص، فلما تقابل الموت والحياة، وصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل، وصف بالعلم دون الجهل، ولما تقابل القدرة والعجز، وصف بالقدرة دون العجز، ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له، وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عالياً على العالم أو مسامتا له، وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة، فضلاً عن السفول. والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مبايناً للعالم كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، ولا محاذياً له ولا سافلا عنه. ولما كان العلو صفة كمال، وكان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، ولا يكون قط غير عالٍ عليه2. وبهذه النماذج التي أوردناها عن الأدلة العقلية يتضح لنا مدى دلالة
المعقول الصريح على إثبات علو الله ومباينته لخلقه وكذلك مدى مخالفة أقوال المعطلة والحلولية لصريح المعقول وصحيح المنقول. أما دليل الفطرة: فمن المعلوم أن الفطرة السليمة قد جبلت على الاعتراف بعلو الله سبحانه وتعالى، ويظهر هذا الأمر عندما يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى أن يقصد جهة العلو ولو بالقلب حين الدعاء، وهذا الأمر لا يستطيع الإنسان دفعه عن نفسه فضلاً عن أن يرد على قائله وينكر هذا الأمر عليه. ومن أجل ذلك لم يجد الجويني -إمام الحرمين- جواباً حين سأله الهمداني محتجاً عليه بها، فقد ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الاستاذ أبا المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: "كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان". فقال الشيخ أبو جعفر: "يا أستاذ دعنا من ذكر العرش -يعني لأن ذلك إنما جاء في السمع- أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف تدفع هذه الضرورة على قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني
الهمداني"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم، أمر مستقر في فطر العباد، معلوم لهم بالضرورة، كما اتفق عليه جميع الأمم، إقراراً بذلك، وتصديقاً من غير أن يتواطؤا على ذلك ويتشاعروا، وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم. وكذلك هم عندما يضطرون إلى قصد الله وإرادته، مثل قصده عند الدعاء والمسألة، يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو، فكما أنهم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلو إليه، لا يجدون في قلوبهم توجهاً إلى جهة أخرى، ولا استواء الجهات كلها عندها وخلو القلب عن قصد جهة من الجهات بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات. فهذا يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو وتوجههم عند دعائه إلى العلو، كما يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك" 2.
المبحث الثاني: أقوال المخالفين
المبحث الثاني: أقوال المخالفين القول الأول: قول المعطلة من الفلاسفة1، والجهمية2، والمعتزلة3، ومتأخري الأشاعرة4، والقرامطة الباطنية5. وهؤلاء جميعاً ينفون علو الله وارتفاعه فوق خلقه، وكل ذلك تحت دعوى التوحيد والتنزيه ونفي التشبيه، فهم يزعمون أن إثبات العلو لله تعالى فيه إثبات للجهة، والمحايثة، والحد، والحركة، والانتقال، وهذه الأمور على زعمهم تستلزم الجسمية، والأجسام حادثة، والله منزه عن الحوادث فمن أجل ذلك نفوا العلو، وأولوا النصوص الثابتة فيه بأن المراد
بها علو القهر والغلبة. وقد انقسم الجهمية المعطلة النافون لعلو الله إلى فريقين في هذه المسألة: الفريق الأول: وهم الذين يقولون أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا هو مباين له ولا محايث له. وهذا القول هو ما يذهب إليه النظار والمتكلمون من هؤلاء المعطلة1، وهم بقولهم هذا قد نفوا الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود منهما، وذلك خشية منهم أن يشبهوا، فهم قالوا بهذه المقالة هرباً منهم -على حد زعمهم- من إثبات الجهة والمكان والحيز، لأن فيها كما يدعون تجسيماً وهو تشبيه، فقالوا: يلزمنا في الوجود ما يلزم مثبتي الصفات فنحن نسد الباب بالكلية. وقد استند أصحاب هذا القول في قولهم هذا على حجج زعموا أنها عقلية أسسوها وابتدعوها وجعلوها مقدمة كل نص، وليس لهؤلاء أي دليل من القرآن أو السنة على صحة قولهم هذا. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص،
كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وغيرهم إلا الجهمية، فإنهم ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه في النفي" 1. وسنأتي بعد ذكر القول الثاني إلى ذكر بعض تلك الحجج التي زعمها هؤلاء. القول الثاني: وهم الذين يقولون بأن الله بذاته في كل مكان. وهذا القول هو ما يذهب إليه النجارية2، وكثير من الجهمية وبخاصة عبادهم وصوفيتهم وعوامهم وأهل المعرفة والتحقيق منهم3. ويحتج هؤلاء ببعض الحجج العقلية المزعومة بالإضافة إلى بعض الآيات القرآنية الدالة على المعية والقرب.
وقد يجمع كثير من هؤلاء المعطلة بين القولين، فهو في حالة نظره وبحثه يقول بسلب الوصفين المتقابلين كليهما، فيقول لا هو داخل العالم ولا خارجه. وفي حالة تعبده وتألهه يقول بأنه في كل مكان ولا يخلو منه شيء1. شبهة المعطلة العقلية: إن جل ما اعتمد عليه هؤلاء المعطلة من أدلة على نفي صفة العلو وغيرها من الصفات إنما هو عبارة عن حجج عقلية مزعومة ومبتدعة بناها هؤلاء المعطلة على أصول فلسفية كانوا قد تأثروا بها، وليس لهؤلاء المعطلة في نفيهم هذا أساس من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جعل هؤلاء المعطلة لتلك الحجج حكم الأمر المحكم الذي يجب اتباعه واعتقاد موجبه والتسليم به، وقد بلغ من تقديسهم لها أنهم جعلوها مقدمة على الكتاب والسنة فإذا ورد النص من الكتاب أو السنة عرضوه على تلك الأسس العقلية، فإن وافقها احتجوا به اعتضادا لا اعتمادا، وإن خالفها فهم يحرفون الكلم عن مواضعه فيؤولون نصوص القرآن ويطعنون في نصوص السنة، وكل ذلك تحت دعوى التنزيه والتوحيد ونفي التشبيه.
وقد أفرط هؤلاء المعطلة في هذا الجانب -أي جانب نفي التشبيه- فجعلوا من قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى 11] جنة يتترسون بها لنفي علو الله سبحانه فوق عرشه وتكليمه لرسله وإثبات صفات كماله، وغير ذلك مما أخبر الله به عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه قد آل ببعض هؤلاء المعطلة إلى نفي ذاته خشية التشبيه فقالوا: هو وجود محض لا ماهية له، ونفى آخرون وجوده بالكلية خشية التشبيه -على حد زعمهم- حيث قالوا: يلزمنا في الوجود ما يلزم مثبتي الصفات والكلام والعلو فنحن نسد الباب بالكلية1. وسوف نتعرض في هذا البحث لبعض أسس تلك الشبه العقلية المزعومة التي جعلها هؤلاء المعطلة مستندا لهم في نفي صفة العلو وغيرها من الصفات، ونبين ما فيها من مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مع بيان ما في تلك الأسس من تناقض وبخاصة من الناحية العقلية. ونظراً لتعدد مذاهب المعطلة واختلاف بعضها عن بعض في القول والرأي، فسوف نعرض شبهة كل فرقة من الفرق السابقة الذكر على حدة فنبدأ أولاً بـ:
1ـ شبهة الفلاسفة1: الفلاسفة ينفون صفة العلو وباقي صفات الباري عز وجل -كما سبق أن ذكرنا- تحت دعوى التوحيد والتنزيه عن مشابهة المخلوقين، فابن سينا يقول: "إن واجب الوجود بذاته واحد بسيط لا تكثر فيه بوجه من الوجوه، فهو ليس بجسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، ولا له قسمة في الكلم ولا في المبادىء المقومة له، ولا في قول الشارح ولا غير ذلك مما ينافي وحدة واجب الوجود وبساطته المطلقة"2. والمتأمل لهذه العبارات التي أوردها ابن سينا يعرف أنها إنما هي مجرد اصطلاحات اصطلحها هو وأمثاله من الفلاسفة الذين تأثروا بفلسفة اليونان، فجعلوا من تلك العبارات المبتدعة ما أسموه بالتوحيد، وادعوا أن ما تضمنته هو التنزيه، مع أنها في الحقيقة متضمنة لنفي جميع الصفات بما فيها العلو والاستواء. فقوله: (إن واجب الوجود بذاته واحد بسيط لا تكثر فيه بوجه من الوجوه) يعني به أنه ليس لله تعالى صفة ولا قدر، لأن ذلك على رأيه يستلزم التجسيم والتجزئة والتركيب فيلزم نفيه، لأنه يلزم من ذلك
الحدوث والافتقار وذلك ينافي واجب الوجود. فابن سينا وأمثاله من الفلاسفة يعتمدون في نفي الصفات على حجة التركيب والتي هي: (أنه لو كان له صفة لكان مركباً، والمركب يفتقر إلى جزئيه، وجزءاه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه) وهم بهذا الكلام تجدهم قد نفوا صفات الباري جميعها. ولو توقفنا عند العبارة السابقة وهي قوله: (أن واجب الوجود بذاته واحد بسيط ... ) من أجل بيان ما فيها من مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحتى مخالفتها للعقل الذي يقدمه هؤلاء على كل شيء. لوجدنا هذه العبارة هي تفسير للواحد بما لا أصل له في الكتاب أو السنة، بل هو تفسير باطل شرعاً وعقلاً ولغة. أما في اللغة: فإن أهل اللغة مطبقون على أن هذا القول ليس هو معنى الواحد في اللغة، إذ القرآن ونحوه من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار في لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيراً من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسماً، إذ المخلوقات إما أجسام وإما أعراض عند من يجعلها غيرها أو زائدة عليها. وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحداً، امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء، ولا يوجد في اللغة اسم الواحد إلاّّ على ذي صفة ومقدار لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ} [النساء 1] ، ومعلوم أن النفس الواحدة المراد بها هنا آدم عليه السلام، وحواء خلقت من ضلع آدم، فمن جسده خلقت لا من روحه حتى لا يقول القائل: الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها، وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم، وجسد آدم جسم من الأجسام التي سماها الله نفساً واحدة علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة. وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله تعالى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر 11] ، فإن الوحيد مبالغة في الواحد فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد من باب أولى، ومع هذا فهو جسم من الأجسام. وأما في العقل: فإن الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر لا يعقل، ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقدر في الذهن، فليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز من شيء عن شيء بحيث يمكن أن يرى ولا يدرك ولا يحاط به وإن سماه المسمى جسماً. وأما في الشرع: فنقول: إن مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم، تعرف مسميات تلك الأسماء حتى
يعطوها حقها، ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم (الواحد) في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدعها هؤلاء1. وأما حجة التركيب التي اعتمد عليها هؤلاء الفلاسفة في نفي الصفات وهي قولهم: (إنه لو كان صفة لكان مركبا والمركب يفتقر إلى جزئيه وجزءاه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه) فهي تتكون من ألفاظ مجملة بمعنى أن كل لفظة منها تحتمل عدة معان فلا بد من توضيح المراد من كل لفظ أولاً حتى يتكلم فيه. فلفظ (المركب) مثلاً: قد يراد به ما ركبه غيره، أو ما كان مفترقاً فاجتمع، أو ما يقبل التفريق، والله منزه عن هذه المعاني باتفاق. وأما الذات الموصوفة بصفاتها اللازمة لها فإذا سميتم هذا تركيباً كان ذلك اصطلاحاً لكم، وليس هو المفهوم من لفظ المركب ولن تستطيعوا أيها الفلاسفة إقامة الدليل على نفيه. وأما قولهم: (لكان مركباً) فإن أرادوا لكان غيره ركبه، أو لكان مجتمعاً بعد افتراقه، أو لكان قابلاً للتفريق. فاللازم باطل فإن الكلام إنما هو في الصفات اللازمة للموصوف الذي يمتنع وجوده بدونها. وإن أراد بالمركب الموصوف أو ما يشبه ذلك فلِم قالوا أن ذلك
يمتنع؟! وأما قولهم (والمركب مفتقر إلى غيره) فالجواب عنه: أما المركب بالتفسير الأول فهو مفتقر إلى ما يباينه وهذا ممتنع على الله تعالى. وأما الموصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته الذي سميتموه أنتم مركباً فليس في اتصافه هذا ما يوجب كونه مفتقراً إلى مباين له. وإن قالوا: هي غيره وهو لا يوجد إلا بها وهذا افتقار إليها، قيل لهم: إن أرادوا بقولهم هي غيره أنها مباينة له فذلك باطل. وإن أرادوا أنها ليست إياه، قيل لهم: إذا لم تكن الصفة هي الموصوف فأي محذور في هذا. وإذا قالوا: هو مفتقر إليها، قيل: أتريدون بالافتقار أنه مفتقر إلى فاعل يفعله أو محل يقبله؟ أم تريدون أنه مستلزم لها فلا يكون موجوداً إلا وهو متصف بها؟ أما الثاني فأي محذور فيه؟ وأما الأول فباطل إذ الصفة اللازمة للموصوف لا يكون فاعلاً لها1. أما قولهم: (أنه لو كان صفة لكان مركباً والمركب مفتقر إلى جزئيه) ، فهذا القول لا يتم إلا عند من يثبت الجوهر الفرد، أما نفاته فعندهم أن الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركباً من الجواهر المنفردة.
وهذه المسألة خلافية قد توقف فيها أذكى المتأخرين من الأشعرية وإمامهم أبو المعالي الجوني1 وكذلك أذكى متأخري المعتزلة أبو الحسين البصري2 وكذلك الرازي3 فهي مقدمة ممنوعة لا تصلح دليلا لوجود النزاع فيها حتى بين الفلاسفة أنفسهم4. 2ـ شبهة المعتزلة: وأما شبهة المعتزلة التي اعتمدوا عليها في نفي صفات الباري عز وجل بما فيها صفة العلو فهي ما تسمى بطريقة الأعراض، ذلك أنهم يزعمون أن الصفات إنما هي أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام حادثة، والله منزه عن الحوادث، ومن أجل ذلك كان قول
المعتزلة في الله: إنه قديم واحد ليس معه في القدم غيره، فلو قامت به الصفات لكان معه غيره1 ولكان جسماً إذ إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وتعدداً في ذاته ويقتضي أنه جسم وذلك خلاف التوحيد. فهم يزعمون أن توحيد الله وتنزيهه متوقف على أنه ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به التي هي الصفات والأفعال، ونفي ذلك عندهم موقوف على ما يدل عليه حدوث الأجسام، والذي دلهم على حدوث الأجسام أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث. ويزعمون أيضاً أن الأجسام لا تخلو من الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين فهي حادثة، فإذا لم تخل الأجسام منها لزم حدوثها. ويزعمون أيضاً أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، والمركب مفتقر إلى جزئيه وجزءاه غيره، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثاً مخلوقاً، فالأجسام متماثلة فكل ما صح على بعضها صح على جميعها،
وقد صح على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب أن يصح على جميعها1. والمعتزلة يقولون أننا بهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم ونفي كون الصانع جسماً وإمكان المعاد. الرد عليهم: مما تقدم نعلم أن المعتزلة إنما بنوا دليلهم في نفي الصفات على أن القديم لا يكون محلا للصفات والحركات فلا يكون جسماً ولا محيزاً لأن الصفات أعراض وهم يستدلون على حدوث الجسم بحدوث الأعراض والحركات، وأن الجسم لا يخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. فهم بهذا القول نفوا صفات الباري وجعلوا نفيها يتوقف عليه ثبوت الصانع وحدوث العالم، فإذا جاء في القرآن والسنة ما يدل على إثبات الصفات لم يمكن القول بموجبه. والمتدبر لحجج المعتزلة يرى فيها الأمور التالية: أولاً: أنهم يستدلون لأقوالهم بعبارات مبتدعة وفيها الكثير من الاشتباه والإجمال، وذلك كلفظ العرش والجسم والحيز والمركب وغير ذلك، فهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ليخدعوا به جهال الناس بما
يشبهون عليهم، وهذه الألفاظ المجملة تتضمن معاني باطلة ومعاني أخرى صحيحة فهم بهذا ينفون كلا المعنيين الحق والباطل. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ما في هذه الألفاظ من معانٍ، وما تدل عليه من عبارات1، وكيف استعملها هؤلاء المعطلة في نفي صفات الباري عز وجل حيث ادعوا أن هذه الأمور من مستلزمات الجسمية، والله منزه من ذلك، وقد بين شيخ الإسلام أن استعمال هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً لم يرد عن السلف ولا جاء به أثر صحيح ولم يستعملها الأقدمون بالمعنى الاصطلاحي الذي اتفق عليه هؤلاء، بل جميعهم معترفون بأن العلو صفة كمال كما أن السفل صفة نقص، وما ثبت لله من العلو فهو العلو المناسب لكمال ذاته المنزهة عن اعتبارات المحدثين ومماثلتهم. ومعلوم أن القول بأن العلو يستلزم هذه المعاني المبهمة إنما هو مأخوذ من قياس الغائب على الشاهد، ومحاولة تطبيق الاعتبارات الإنسانية على الصفات الإلهية، وهذا قياس خاطئ إذ ليس معنى كونه في السماء أن السماء تحويه وتحيط به وتحصره، أو هي محل وظرف له، بل هو سبحانه محيط بكل شيء وسع كرسيه السموات والأرض، وهو فوق كل شيء
وعالٍ على كل شيء1. ثانيا: أن ما استدل به المعتزلة لا أصل له من الكتاب أو السنة بل هو مأخوذ من كلام الفلاسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعاً ليس بعالم ولا قادر ولا حي2. كما أن مذهب المعتزلة في الذات قريب من مذهب اليونان القائلين بأن ذات الله واحدة لا كثرة فيها بوجه من الوجوه3. ثالثاً: أن أصل هذه القاعدة التي اعتمد عليها المعتزلة في نفي الصفات إنما هي مأخوذة من قولهم في دليل حدوث العالم4 الذي أثبتوا فيه حدوث العالم بحدوث الأجسام. وهذا الدليل قد بين الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر: أنه دليل محرم في شرائع الأنبياء، ولم يستدل به أحد من الرسل ولا أتباعهم5، فهي بهذا طريق يحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل وما يلزم عليها من لوازم باطلة لأنها مستلزمة لنفي الصانع
بالكلية، وهي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله ونفي المبدأ والمعاد، فهذه الطريق لا تتم إلا بنفي سمع الرب وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه فضلاً عن نفي علوه على خلقه ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها، فلو صحت هذه الطريقة لنفت الصانع وأفعاله وصفاته وكلامه وخلقه للعالم وتدبيره له. وما يثبته أصحاب هذه الطريقة من ذلك لا حقيقة له بل هو لفظ لا معنى له، وأن الله بذاته في كل مكان، وقال إخوانهم إنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم، وقالوا بخلق القرآن إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة1. 3ـ شبه متأخري الأشاعرة: وهم أيضاً ينفون صفة العلو لأنها من الصفات الخبرية2، ومعلوم أن مذهب متأخري الأشاعرة في الصفات أنهم يثبتون سبع صفات فقط وهي ما يسمونها بصفات المعاني وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام، وهم يثبتون لهذه الصفات أربعة أحكام هي: 1ـ أن هذه الصفات ليست هي الذات بل زائدة عليها فصانع العالم عندهم عالم بعلم وحي بحياة وقادر وهكذا.
2ـ أن هذه الصفات كلها قائمة بذات الله تعالى ولا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته لأن الدليل دل على أنه متصف بها ولا معنى لاتصافه بها إلا قيامها بذاته، حتى لو قلنا: إنه عالم كان هو بعينه مفهوم قولنا قام بذاته علم، فلا تكون الصفة لشيء إلا إذا قامت به لا بغيره. 3ـ أن هذه الصفات كلها قديمة لأنها إن كانت حادثة كان القديم محلاً للحوادث وهذا محال، أو متصف بصفة لا تقوم به وذلك أظهر استحالة. 4ـ أن الأسماء المشتقة لله تعالى من هذه الصفات السبع صادقة عليه أزلاً وأبداً فهو في القدم كان حياً قادراً عليماً سميعاً بصيراً متكلماً1. فهم على قولهم هذا لا يثبتون سوى هذه الصفات السبع فقط لأنها قديمة. أما باقي الصفات التي يسمونها الصفات الخبرية فهم ينفونها جميعها، بدعوى تنزيه ذات الله عن الحوادث. ومتأخرو الأشاعرة هؤلاء وإن كانوا يخالفون المعتزلة في جعلهم الصفة غير الذات كما في الحكم الأول فيثبتون الصفات القديمة من هذا الباب، إلا أنهم قد وافقوا المعتزلة في دليلهم المسمى بدليل نفي الحوادث فنفوا باقي الصفات الأخرى، ذلك لأن قولهم في الحكم الثالث من الأحكام الأربعة التي أوردناها إنها لو كانت حادثة لكان القديم محلا
للحوادث، هو بعينه ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات1. ويقول متأخرو الأشاعرة في دليلهم العقلي على نفي العلو إن إثبات العلو يقتضي إثبات الجهة وإثبات الجهة يقتضي كونه جسماً، وكونه جسماً يقتضي كونه مركباً، والمركب مفتقر إلى جزئيه، والمفتقر إلى جزئيه لا يكون إلا حادثا والله سبحانه منزه عن الحوادث2. فعلى قولهم هذا يكونون هم والمعتزلة على دليل واحد، وقد سبق أن ذكرنا الرد على المعتزلة فيكون الرد على هؤلاء من جنس الرد على أولئك، ويضاف إلى ذلك أن القول في الصفات التي نفاها هؤلاء هو كالقول في الصفات التي أثبتوها، فإن كان هذا تجسيماً وقولا باطلاً فهذا كذلك. وإن قالوا: إن إثباتها على الوجه الذي يليق بالرب. قيل لهم: وكذلك هذا. فإن قالوا: نحن نثبت تلك الصفات وننفي التجسيم. قيل لهم: وهذا كذلك، فليس لكم أن تفرقوا بين المتماثلين3.
4ـ شبه النفاة السمعية في نفي صفة العلو: لقد سبق وأن ذكرنا أن المعطلة قد انقسموا في هذه المسألة إلى فريقين: فأما الفريق الأول: وهم القائلون بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته وهؤلاء كما سبق أن ذكرنا ليس لهم دليل واحد من الكتاب أو السنة. وأما الفريق الثاني: وهم القائلون بأن الله بذاته في كل مكان فقد احتجوا لقولهم هذا بنصوص "المعية" و"القرب" الواردة في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة 7] ، وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُم} [النساء 108] ، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد 4] ، وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة 40] ، وقوله
تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16] ، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف 84] ، وقوله تعالى: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام3] . وقد زعم حلولية الجهمية أن المراد بهذه النصوص معية الذات وقرب الذات، فلذلك قالوا: إن الله بذاته في كل مكان. الرد عليهم: قد أبطل علماء السلف زعم هؤلاء الجهمية واستدلالهم بهذه الآيات ويبينوا أن كل نص يحتجون به هو في الحقيقة حجة عليهم، فنصوص المعية التي استدلوا بها لا تدل بأي حال من الأحوال على ما زعمه هؤلاء، وذلك لأن كلمة (مع) في لغة العرب لا تقتضي أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر، وهي إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. ولفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع واقتضت في كل موضع أموراً لم تقتضها في الموضع الآخر، وذلك بحسب اختلاف دلالتها في كل موضع وهي قد وردت في القرآن بمعنيين هما:
المعنى الأول: المعية العامة والمراد بها أن الله معنا بعلمه، فهو مطلع على خلقه شهيد عليهم، ومهيمن وعالم بهم، وهذه المعية هي المرادة بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فالله سبحانه وتعالى قد افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم ولذلك أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم تفسير القرآن على أن تفسير الآية هو أنه معهم بعلمه، وقد نقل هذا الإجماع ابن عبد البر1، وأبو عمرو الطلمنكي، وابن تيمية2، وابن القيم3. وعلى هذا فلا حجة للمخالفين في ظاهر هذه الآية. وكذلك أيضاً ما جاء في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا
وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . فظاهر الآية دال على أن المراد بهذه المعية هو علم الله تبارك وتعالى واطلاعه على خلقه، فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية بأنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، فجمع تعالى في هذه الآية بين العلو والمعية، فليس بين الاثنين تناقض البتة، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: "والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه". المعنى الثاني: المعية الخاصة وهي معية الاطلاع والنصرة والتأييد، وسميت خاصة لأنها تخص أنبياء الله وأولياءه مثل قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} ، وقوله تعالى {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل 128] . فهذه المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد. ولفظ المعية على كلا الاستعمالين ليس مقتضاه أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، ولو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان لتناقض الخبر العام والخبر الخاص، ولكن المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك1.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، فقد أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "إن هذه الآية لا تخلوا من أن يراد بها قربه سبحانه أو قرب ملائكته كما قد اختلف الناس في ذلك. فإن أريد بها قرب الملائكة: فدليل ذلك من الآية قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ففسر ذلك القرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان، فيكون الله سبحانه قد أخبر بعلمه هو سبحانه بما في نفس الإنسان، {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} وأخبر بقرب الملائكة الكرام الكاتبين منه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف 80] . أما إذا كان المراد بالقرب في الآية قربه سبحانه، فإن ظاهر السياق في الآية دل على أن المراد بقربه هنا قربه بعلمه، وذلك لورود لفظ العلم
في سياق الآية {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} " 1. وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} ، فمعنى الآية: أي هو إله من في السموات وإله من في الأرض. قال ابن عبد البر: "فوجب حمل هذه الآية على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير" 2. وقال الآجري: "وقوله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} فمعناه: أنه جل ذكره إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو الإله يعبد في السموات، وهو الإله يعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء"3. وروى الآجري بسنده في تفسيره هذه الآية عن قتادة قوله: "هو إله يعبد في السماء، وإله يعبد في الأرض" 4.
وأما استدلالهم بقوله تعالى {هُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} فقد فسرها أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره أنه المعبود في السموات والأرض1. وقال الآجري: "وعند أهل العلم من أهل الحق {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرّكُمْ وَجَهْرَكُم وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون} هو كما قال الحق {يَعْلَمُ سِرّكُمْ} فما جاءت به السنن أن الله عز وجل على عرشه، وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون"2.
القول الثاني: وهو قول من يقول: إن الله بذاته فوق العرش وهو بذاته في كل مكان. هذا قول جماعة من أهل الكلام والتصوف كأبي معاذ التومنى1، وزهير الأثري2، وأصحابهما3، وهو موجود في كلام السالمية4 كأبي
طالب المكي1 وأتباعه كأبي الحكم برجان2 وأمثاله ما يشير إلى نحو هذا. كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا3 فهم يقولون بأن الله في كل مكان، وأنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف، وأنه موجود الذات بكل مكان، وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول ولا المماسة، ويزعمون أنه يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: {وَجَاَءَ رَبُّكَ} [الفجر 22] ، وقولهم هذا يشبه قول بعض مثبتة الجسم الذين يقولون إنه لا نهاية له4.
والفرق بين هذا القول وقول الجهمية: بأن الله في كل مكان هو أن هؤلاء يثبتون العلو ونوعا من الحلول، أما الجهمية فلا يثبتون العلو على مقصود هؤلاء من الاستواء على العرش والمباينة. ويزعم أصحاب هذا القول أنهم بقولهم هذا قد اتبعوا النصوص كلها سواء كانت نصوص علو أو معية أو قرب. الرد عليهم: إنهم بقولهم هذا جمعوا بين كلام أهل السنة وكلام الجهمية، ولذلك كان قولهم ظاهر الخطأ وغاية في التناقض. أما بيان خطئه فيكمن في أن كل من قال بأن الله بذاته في كل مكان فهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها مع مخالفته لما فطر الله عليه عباده، ولصريح المعقول وللأدلة الكثيرة، فالقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تنص على علو الله بذاته فوق خلقه واستوائه على عرشه وبينونته من خلقه، كما أن السنة قد تحدثت عن هذا المعنى في كثير من الأحاديث، كقصة المعراج وصعود الملائكة ونزولها من عند الله وعروج الروح إليه واستوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، فكل هذه الأدلة تبين بطلان هذا القول ومخالفته. وأما استدلال هؤلاء بنصوص المعية والقرب، فقد بينا خطأ هذا الاستدلال وبطلانه عند الرد على الأدلة السمعية لمذهب الجهمية، وقد بينا أنه ليس للمخالفين أي متمسك في جعلها لمعية الذات أو قرب الذات.
أما بيان تناقض هذا القول: فهو واضح من أقوالهم، فهم يجمعون بين أقوال متناقضة، فهم تارة يقولون إنه بذاته فوق العرش، وتارة يقولون إنه فوق العرش ونصيب العرش فيه كنصيب قلب العارف -كما يذكر ذلك أبو طالب المكي وغيره-، ومعلوم أن قلب العارف نصيبه منه المعرفة والإيمان وما يتبع ذلك. فإن قالوا: إن العرش كذلك، فقد نقضوا قولهم بأنه بنفسه فوق العرش. وإن قالوا بحلول ذاته في قلوب العارفين، كان ذلك قولا بالحلول الخاص، وهذا ما وقع فيه طائفة من الصوفية ومنهم صاحب منازل السائرين1.
الفصل الثاني: الأقوال في صفة الاستواء
الفصل الثاني: الأقوال في صفة الاستواء المبحث الأول: مذهب السلف في الاستواء ... المبحث الأول: مذهب السلف في الاستواء والمقصود بالسلف هم الصحابة والتابعون ومن سار على نهجهم. ولقد كان قولهم في الاستواء كقولهم في سائر صفات الله فهم وسط بين طائفتين هم المعطلة والمشبهة. فهم لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، ولا ذاته بذوات خلقه كما يفعل المشبهة. وكذلك لا ينفون عن الله ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعطلون أسماءه وصفاته، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسمائه وآياته كما فعل المعطلة. بل كان مذهبهم في سائر الصفات -بما في ذلك الاستواء- أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً. وطريقتهم في الإثبات أنهم يثبتون ما أثبته الله من الصفات من غير تكييف لها، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تعطيل. وطريقتهم في النفي أنهم ينفون عن الله ما نفاه عن نفسه مع إثبات كمال ضد ذلك المنفي.
فطريقة السلف هي إثبات أسماء الله وصفاته مع نفي مماثلة المخلوقين، إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى 11] ، ففي قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} رد للإلحاد والتعطيل1. ولقد كانت هذه طريقة السلف في جميع الصفات دون تفريق بين صفة وصفة، وفي ذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة"2 وبناءاً على هذه القاعدة كان مذهب السلف في صفة الاستواء أنهم يثبتون استواء الله على عرشه استواءاً يليق بجلاله وعظمته، ويناسب كبريائه، وهو بائن من خلقه وخلقه بائنون منه. فالاستواء صفة ثابتة في القرآن والسنة وقد أجمع سلف الأمة على إثباتها. وذكر صفة الاستواء جاء في سبعة مواضع من القرآن الكريم،
وسيأتي ذكرها كما أن السنة مليئة بالأحاديث الثابتة الصحيحة الدالة على علو الله واستوائه على عرشه. والسلف يقولون إن معنى هذا الاستواء الوارد في الكتاب والسنة معلوم في اللغة العربية، كما قال ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". فقولهم: (الاستواء معلوم) : أي أن معنى الاستواء معلوم في اللغة، وهو ههنا بمعنى العلو والارتفاع. قال ابن القيم رحمه الله: "إن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله بلغتهم وأنزل به كلامه نوعان: مطلق، ومقيد. فالمطلق: ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص 14] ، وهذا معناه: كمل وتم، ويقال: استوى النبات، واستوى الطعام. وأما المقيد فثلاثة أضرب: أحدها: مقيد "بإلى" كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ، واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى المعدى بإلى في موضعين من كتابه، الأول في سورة البقرة في قوله {هُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [البقرة 29] ، والثاني في سورة فصلت {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} [فصلت 11] ، وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف. الثاني: المقيد "بعلى" كقوله تعالى {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف 13] ، وقوله {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود 44] ، وقوله {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح 29] ، وهذا أيضاً معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة. الثالث: المقرون "بواو مع" التي تعدى الفعل إلى المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة، بمعنى ساواها وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم"1. ومما يؤكد أيضاً أن السلف يعلمون معنى الاستواء قول ابن عبد البر: "والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه". قال أبو عبيدة في قوله {اسْتَوَى} قال: علا، قال: وتقول العرب:
استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد، والاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} ، وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ، وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون 28] . وقال الشاعر: فأوردتهم ماء بضبضاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى؛ لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل -وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة- قال: "حدثني الخليل -وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال؟ فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} فصعدنا إليه" 1. وقال ابن القيم: "إن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع
كما نص عليه جميع أهل اللغة والتفسير المقبول" 1. ولما كان هذا هو معنى الاستواء في لغة العرب فقد تكلم السلف والمفسرون بهذا المعنى عند تفسير هذه الآية، فقد روي عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش} قال: علا على العرش2. وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن أبي العالية في تفسير الآية السابقة الذكر قال: ارتفع3. وقد روي عن الحسن البصري والربيع بن أنس مثله4. وقد روى اللالكائي بسنده عن بشر بن عمر قال: "سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: على العرش استوى: ارتفع" 5. وفي هذا التفسير لمعنى الاستواء من قبل السلف رد على من زعم أن مذهب السلف هو التقيد باللفظ مع تفويض المعنى المراد، وأنهم كانوا لا
يفسرون الاستواء ولا يتكلمون فيه، فمن خلال ما تقدم من الأقوال التي نقلت عن السلف يتضح كذب هؤلاء وزيف ادعائهم. ومما ينبغي معرفته أن السلف مع إثباتهم لمعنى الاستواء واعتقادهم بأن الله مستو على عرشه ومرتفع عليه، إلا أنهم يكلون علم كيفية ذلك الاستواء إلى الله عز وجل لأن أمره هو مما استأثر الله بعلمه. وفي ذلك يقول القرطبي: "ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته كما قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم -يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة") 1. وقال ابن القيم: "إن العقل قد يئس من تعرف كنه صفات الله وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله. وهذا معنى قول السلف (بلا كيف) ، أي: بلا كيف يعقله البشر، فإنه من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك. كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف كيفيتها مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا من معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم" 2.
المبحث الثاني: أقوال المخافين
المبحث الثاني: أقوال المخافين ... المبحث الثاني: أقوال المخالفين الفريق الأول: نفاة الاستواء سبق أن ذكرنا أن المعطلة من الفلاسفة، والجهمية، والأشاعرة، والماتريدية، على الرغم من أن لكل واحد منهم منهجاً مستقلاً في مسألة الصفات يتفقون جميعاً على إنكار الصفات الاختيارية بما فيها صفة الاستواء، ويذهبون إلى تأويل الآيات القرآنية الواردة في إثباتها إلى ما أدت إليه عقولهم من المعاني الفاسدة التي يزعمون أن في ذلك تنزيهاً لله عن مشابهة المخلوقين. وإن سبب ذلك التأويل الباطل هو اعتقاد هؤلاء المعطلة أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها النصوص، وذلك بسبب الشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الفلاسفة، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر -وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى- بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسميها هؤلاء المعطلة طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع من التكلف، وهي التي يسمونها طريقة الخلف. وبهذا يتبين لنا أن هذا الباطل الذي ذهب إليه هؤلاء المعطلة إنما هو مركب من فساد العقل والكفر بالسمع، وذلك لأنهم إنما اعتمدوا في نفي
تلك الصفات على شبه عقلية ظنوها بينات وهي في الحقيقة شبهات. وبناء على المسلك الثاني الذي سلكه هؤلاء المعطلة من تأويل تلك النصوص، فقد تعددت أقوالهم واختلفت في المعنى الذي يجب أن يؤول إليه لفظ الاستواء الوارد في الآيات إلى عدة أقوال منها: القول الأول: من هؤلاء المعطلة من يؤول معنى الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} على الاستيلاء والقهر والغلبة. وهذا القول يذهب إليه كثير من الجهمية1، والمعتزلة2، والحرورية3، وكثير من متأخري الأشاعرة4، كسيف الدين الآمدي5، والغزالي6، والبغدادي7، وغيرهم.
وقد استدل هؤلاء المعطلة على صحة زعمهم هذا بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء أمر مشهور في لغة العرب من ذلك: قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق وقال الآخر: هما استويا بفضلهما جميعاً ... على عرش الملوك بغير زور وقال الآخر: فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر كاسر وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله تعالى- أن بعضهم قد احتج بما رواه عبد الله بن داود الواسطي عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: "استولى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان"1.
ومن هؤلاء المعطلة من يبقي كلمة العرش الواردة في الآية على معناها الحقيقي الثابت، ويقول إنما خصص العرش بالذكر من بين جميع المخلوقات لكونه أعظم المخلوقات وأرفعها وأوسطها فخصص بالذكر تنبيهاً على ما دونه. ومنهم من يؤول العرش الوارد في الآية بمعنى الملك1، ويزعم أن معنى الآية استولى واستعلى على الملك، ويقول أصحاب هذا القول إن الله قد عبر بالعرش كناية على الملك، لأنه يخاطب الناس على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم، واستقر في قلوبهم، ذلك أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، فجعل العرش كناية عن نفس الملك. ويستدل هؤلاء بأن هذا الأمر مشهور في اللغة، وكذلك بقوله تعالى في سورة يونس {ثُم اسْتَوَى عَلَى العَرْش يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ، فقالوا: إن قوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله: {َاسْتَوَى عَلَى العَرْش} 2.
الرد عليهم: لقد أجمع السلف على أن هذا التأويل الذي ذهب إليه هؤلاء الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، ومتأخرو الأشاعرة، هو تأويل باطل ترده نصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة، وهو قول لا أصل له في لغة العرب، بل هو تفسير لكلام الله بالرأي المجرد، لم يذهب إليه صاحب ولا تابع، ولا قاله إمام من أئمة المسلمين، ولا أحد من أهل التفسير الذين يحكون قول السلف. ولبيان فساد هذا القول على وجه التفصيل نقول: أولاً: أنه من المعلوم أن لفظ الاستواء قد ورد في القرآن الكريم في سبعة مواضع، وهذه المواضع جميعها قد اطرد فيها لفظ الاستواء دون الاستيلاء، وكذلك الأمر بالنسبة لما ورد في السنة، فلو كان معناه استولى -كما يزعم هؤلاء- لكان استعماله في أكثر موارده كذلك، فإذا جاء في موضع أو موضعين بلفظ استوى حمل على معنى استولى لأنه المألوف المعهود. أما أن يُؤتى إلى لفظ قد اطرد استعماله في جميع موارده على معنى واحد فيدعى صرفه في الجميع إلى معنى لم يعهد استعماله فيه، فهذا أمر في غاية الفساد ولم يقصده ويفعله من قصد البيان، هذا لو لم يكن في السياق ما يأبى حمله على غير معناه الذي اطرد استعماله فيه، فكيف وفي السياق
ما يأبى ذلك1. ثانياً: ومما يرد هذا التأويل الباطل أن كلمة استوى قد جاءت بعد "ثم" التي حقها الترتيب والمهلة، فلو كان المعنى القدرة على العرش والاستيلاء عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السموات والأرض، فإن العرش كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام كما ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء" 2. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} . وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض" 3. فالآيات والحديثان يدلان دلالة واضحة على أن العرش كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا
مستولٍ على العرش إلى أن خلق السموات والأرض1. ثالثاً: أن الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك عام في المخلوقات كالربوبية، والعرش وإن كان أعظم المخلوقات ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره كما في قوله تعالى {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، فلو كان استوى بمعنى استولى كما هو عام في المخلوقات كلها لجاز مع إضافته للعرش أن يقال: استوى على السماء وعلى الهواء وعلى البحار والأرض، وعليها ودونها ونحوها إذ هو مستو على العرش. فلما اتفق المسلمون على أن يقال: استوى على العرش، ولا يقال استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال: استولى على العرش والأشياء، علم أن معنى استوى خاص بالعرش وليس عاما كعموم الأشياء2. رابعاً: أنه إذا فسر الاستواء بالغلبة والقهر عاد معنى الآيات كلها إلى أن الله تعالى أعلم عباده بأنه خلق السموات والأرض ثم غلب على العرش بعد ذلك وقهره وحكم عليه! أفلا يستحي من الله من في قلبه أدنى وقار لله ولكلامه أن ينسب ذلك إليه وأنه أراد بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى} : أي اعلموا يا عبادي أني بعد فراغي من خلق السموات والأرض غلبت عرشي وقهرته واستوليت عليه1. خامساً: إن ما يستند إليه هؤلاء المعطلة في زعمهم هذا من قولهم أن تفسير استوى باستولى أمر مشهور في اللغة، هو قول باطل مردود لأنه لم يثبت عند أحد من أهل اللغة أن لفظة استوى يصح استعمالها بمعنى استولى بل إن هذا القول منكر عند اللغويين. فهذا ابن الأعرابي أحد علماء اللغة أتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؟ فقال: "هو كما أخبر عز وجل"، فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه، إنما معناه استولى، قال: "اسكت ما أنت وهذا، لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاداً فإذا غلب أحدهما قيل استولى، أما سمعت النابغة: إلا لمثلك أو من أنت سابقة ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد 2 "وقد سئل الخليل بن أحمد: هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: (هذا ما لا تعرفه العرب ولا هو جائز في لغتها) .
والخليل إمام في اللغة على ما عرف من حاله، فحينئذ حمله على ما لا نعرف في اللغة هو قول باطل"1. وكذلك فإنه قد روي عن جماعة من أهل اللغة قالوا: لا يجوز استوى بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزاً ثم ظهر، والله سبحانه لا يعجزه شيء والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى استولى. وقد روي عن أبي العباس ثعلب أنه قال: "استوى: أقبل عليه وإن لم يكن معوجاً، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [البقرة 29] ، و {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش} : علا، واستوى الوجه: اتصل، واستوى القمر: امتلأ، واستوى زيد وعمرو: تشابها واستوى فعلاهما وإن لم تتشابه شخوصهما، هذا الذي نعرفه من كلام العرب"2. فبما تقدم من أقوال علماء اللغة يتضح لنا فساد زعم هؤلاء المعطلة وكذب ادعائهم بأن هذا القول مشهور في اللغة. وأما ما استدل به هؤلاء من أبيات، كقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق وقول آخر:
هما استويا بفضلهما جميعاً ... على عرش الملوك بغير زور فهذان البيتان لم يثبت نقل صحيح على أنهما شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروهما. قال ابن فارس: "هذان البيتان لا يعرف قائلهما" 1. فهما على هذا بيتان مصنوعان، ومعلوم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده وقد طعن فيه أئمة اللغة. قال أبو عمر بن عبد البر: "وأما ادعائهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه أحد ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطبتها، مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه. قال
أبو عبيدة في قوله تعالى {اسْتَوَى} قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى: أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد"1. وأما ما استدل به المعطلة من قول ابن عباس رضي الله عنهما فقد بين ابن عبد البر أنه مكذوب على ابن عباس ورواته مجهولون وضعفاء كما تقدم ذكره. القول الثاني: أن معنى استوى: أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} [فصلت 11] ، أي عمد إلى خلق السماء. وهذا هو قول بعض الجهمية2، وإليه ذهب الفراء3، والأشعري، وابن الضرير، واختاره الثعلبي4.
الرد عليهم: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الوجه من أضعف الوجوه، فإنه قد أخبر أن العرش على الماء قبل خلق السموات والأرض. وكذلك ثبت في صحيح البخاري عن عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ... " فإذا كان العرش مخلوقاً قبل خلق السموات والأرض، فكيف يكون استواؤه عمده إلى خلقه له؟! هذا لو كان يعرف في اللغة أن استوى على كذا، بمعنى أنه عمد إلى فعله، فكيف إذا كان لا يعرف قط في اللغة لا حقيقة ولا مجازاً ولا في نظم ولا في نثر. ومن قال استوى بمعنى عمد ذكره في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} لأنه عدى بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا وقصدت إلى كذا، ولا يقال عمدت على كذا ولا قصدت عليه، مع أن ما ذكر في تلك الآية لا يعرف في اللغة أيضاً ولا هو قول أحد من مفسري السلف بل المفسرون من السلف بخلاف ذلك"1.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن قولهم هذا يتضمن أن يكون خلقه بعد خلق السموات والأرض، وهذا بخلاف إجماع الأمة، وخلاف ما دل عليه القرآن والسنة، وإن ادعى بعض الجهمية المتأخرين أنه خلق بعد خلق السموات والأرض وادعى الإجماع على ذلك، وليس العجيب من جهله، بل من إقدامه على حكاية الإجماع على ما لم يقله مسلم" 1. القول الثالث: أن استوى بمعنى علا في هذه الآية، ولكن ليس المراد علو المسافة والمكان، وإنما المراد علو المكانة والقهر، وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من الأشاعرة منهم أبو بكر بن فورك2، وهم بهذا القول جعلوا الاستواء صفة ذات وليست صفة فعل. الرد عليهم: أن الآيات والأحاديث قد أثبتت استواء الله على العرش حقيقة، ولو كان معنى الاستواء ههنا المراد به علو المكانة فإن الله لم يزل متعالياً على الأشياء قبل خلق العرش، فلما أضاف الاستواء على العرش فيجب على
ذلك أن يكون لهذا التخصيص فائدة1. القول الرابع: وهو قول من يثبت الاستواء على أنه صفة للعرش وليس صفة لله تعالى. وأصحاب هذا القول يقولون: إن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم به -أي بالله- فعل اختياري. وهذا القول هو ما يقول به ابن كلاب، والأشعري2، وأئمة أصحابه المتقدمين كالباقلاني وغيره، وهو أيضاً قول القلانسي، ومن وافق هؤلاء من أتباع الأئمة وغيرهم من أصحاب الإمام أحمد كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن عقيل في كثير من أقواله3. والسبب الذي جعل هؤلاء القوم يمنعون جعل الاستواء صفة لله تعالى هو قولهم بنفي قيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه وتعالى ولذلك
يجعلون أفعاله اللازمة لذاته –كالنزول والاستواء- كأفعاله المتعدية -كالخلق والإحسان-، وقولهم في نفي الأفعال الاختيارية راجع إلى قولهم في صفات الله. وهم يقولون: "إن الله هو الموصوف بالصفات، لكن ليست الصفات أعراضاً، إذ هي قديمة أزلية" 1. وحجتهم في منع قيام الحوادث بذات الله تعالى أنهم يقولون: "إن كل ما صح قيامه بالباري تعالى فإما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال استحال أن يكون حادثاً، وإلا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية من صفة الكمال، والخالي من الكمال الذي هو ممكن الاتصاف به ناقص، والنقص على الله محال بإجماع الأمة. وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف الباري بها لأن إجماع الأمة على أن صفات الباري بأسرها صفات كمال، فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وهو أمر غير جائز" 2. الرد عليهم: لقد اعتمد أصحاب هذا القول في منعهم كون الاستواء صفة لله تعالى على حجة منع قيام الحوادث بذاته تعالى، وهي حجة واهية وقد رد
عليها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "إن المقدمة التي اعتمد عليها هؤلاء وهي قولهم: إن الخالي من الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص. فيقال لهم: معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل، كما لا يمكن وجودها في الأزل، وعلى هذا فالخلو عنه في الأزل لا يكون خلواً عما يمكن الاتصاف به في الأزل. ثم إنه لم يثبت امتناع ما ذكر من النقص بدليل عقلي ولا بنص من كتاب ولا سنة، بل بما ادعوه من إجماع، وإذاً فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع فكيف يحتج بالإجماع في مسألة النزاع. وقولهم بإجماع الأمة على أن صفاته صفات كمال، فإن قصد بذلك صفاته اللازمة لم يكن في هذا حجة لهم، وإن قصد بذلك ما يحدث بمشيئته وقدرته لم يكن هذا إجماعاً فإن أهل الكلام يقولون أن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفاً. ثم إن هذا الإجماع الذي ادعوه حجة عليهم فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين: أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاماً وفعلاً، والآخر لا يمكنه ذلك، بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور ولا مراد أو يكون بائناً عنه، لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني. وكذلك إذا عرضنا على العقول موجودين من المخلوقين أو مطلقاً أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه والآخر لا يمكنه ذلك
لكانت العقول تقصي بأن الأول أكمل، فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والقدرة صفات كمال، به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به والتي يفعل بها المفعولات المباينة له صفات كمال"1. وكذلك مما يرد به على هذا القول ما قاله ابن القيم: "إنه لو كان الاستواء عائداً على العرش لكانت القراءة برفع العرش، ولم تكن بخفضة، فلما كانت بخفض العرش دل على أن الاستواء عائد إلى الله تعالى"2. الفريق الثاني: القول بالتفويض ويذهب أصحاب هذا القول إلى إثبات لفظ الاستواء فقط مع التوقف في المعنى المراد، فهم يقولون: إن الاستواء ثابت في القرآن حيث إنه قد ورد في سبع آيات، وكذلك قد وردت به الأخبار الصحيحة وقبوله من جهة التوقف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية غير جائز وهو استواء لا نعلمه3.
وقد ذهب إلى هذا القول البيهقي في كتابه الاعتقاد1 وهو أحد قولي الرازي2. وهؤلاء في الحقيقة ينفون صفة الاستواء ولكن يتوقفون في المعنى الذي على زعمهم يجب تأويل اللفظ إليه. وقد زعم كثير من الأشاعرة أن القول بالتفويض هو قول السلف3. ويستدلون على نسبة هذا القول إلى السلف بعبارات نقلت عن السلف ظنوا أنها ترمي إلى القول بالتفويض كقول الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقول أن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته جل وعلا". وقول ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب". والقول بالتفويض هو مقصود هؤلاء القوم في قولهم: (إن طريقة
السلف أسلم) ، حيث إنهم ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيََّ} [البقرة 78] . الرد عليهم: معلوم أن نسبة هذا القول إلى السلف إنما هي محض كذب وافتراء، ومن نسب هذا القول إلى السلف فإنما هو جاهل بطريقة السلف الذين لم يقولوا بهذا القول، ولم يرد عن واحد منهم أنه فوض معنى الاستواء، بل أن الوارد عنهم جميعاً أنهم يفسرون الاستواء بالمعنى المراد وهو العلو والارتفاع على العرش ويؤمنون بأن الله مستو على العرش حقيقة. قال شيخ الإسلام: "وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعاً مثل أن الله فوق العرش فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما قصدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك" 1. وقال في موضع آخر: "وقد فسر الإمام أحمد النصوص التي نسميها متشابهات فبين معانيها آية آية، وحديثاً حديثاً ولم يتوقف فيها هو والأئمة قبله مما يدل على أن التوقف عن بيان معاني آيات الصفات وصرف
الألفاظ عن ظواهرها لم يكن مذهباً لأهل السنة وهم أعرف بمذهب السلف، وإنما مذهب السلف إجراء معاني آيات الصفات على ظاهرها بإثبات الصفات له حقيقة، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها" 1. ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "تنازع الناس في كثير من الأحكام ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها، أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية" 2. وأما بالنسبة إلى ما استدل به أصحاب هذا القول على أن القول بالتفويض هو مذهب السلف وذكرهم لقول الإمام مالك: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) ، فليس المراد ههنا تفويض معنى الاستواء ولا نفي حقيقة الصفة، ولو كان المراد الإيمان بمجرد اللفظ من غير فهم على ما يليق بالله لما قال: (الكيف مجهول) ، لأنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى3. والاستواء على هذا المعنى لا يكون معلوما بل هو مجهول بمنزلة
حروف المعجم، لكن الأمر على عكس ذلك، فنفى علم الكيفية؛ لأنه أثبت الصفة وأراد بقوله الاستواء معلوم معناه في اللغة التي نزل بها القرآن فعلى هذا يكون معلوماً في القرآن. ومعلوم أن ادعاء هؤلاء أن مذهب السلف إنما هو القول بالتفويض سببه اعتقاد هؤلاء أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر -كان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى- فبقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع من التكلف. وهذا التردد هو الذي وقع فيه من قال بالتفويض من هؤلاء كالبيهقي والرازي، فهم لم يلتزموا بهذا القول مطلقاً بل غالباً ما يخالفونه كما فعل الرازي في تأسيسه حيث جنح إلى التأويل وترك القول بالتفويض. الفريق الثالث: قول المشبهة والمقصود بهم الهشامية1 من الروافض، والكرامية2، وغيرهم.
وهؤلاء يثبتون استواء الله وارتفاعه فوق عرشه، إلا أنهم تعمقوا في الكلام على كيفية ذلك الاستواء. فالهشامية مثلاً يقولون: إن الله تعالى مماس لعرشه لا يفضل منه شيء في العرش ولا يفضل عن العرش شيء منه1. وأما الكرامية فقد تعددت أقوالهم في كيفية استوائه: فمنهم من يقول: إنه على بعض أجزاء العرش. ومنهم من يقول: إن العرش مكان له وإن العرش امتلأ به. ومنهم من يقول: إنه لو خلق بازاء العرش عروشاً موازية لعرشه لصارت العروش كلها مكاناً له لأنه أكبر منها كلها. ومنهم من يقول: إن بينه وبين العرش من البعد والمسافة ما لو قدر مشغولا بالجواهر لاتصلت به2. وقول هؤلاء المشبهة إنما هو نتيجة لازمة لأقوالهم في صفات الله وكلامهم في ذاته. فالهشامية يقولون: "إن الله جسم ذو أبعاض له قدر من الأقدار، ولكن لا يشبه شيئاً من المخلوقات، ولا يشبهه شيء". ونقل عنهم أنهم قالوا إنه سبعة أشبار بشبر نفسه، وإن له مكاناً
مخصوصاً ووجهة مخصوصة وإنه يتحرك وحركته فعله، وليست من مكان إلى مكان وهو متناه بالذات غير متناه بالقدرة، وإنه مماس لعرشه ولا يفضل منه شيء من العرش ولا يفضل عن العرش شيء منه"1. وأما الكرامية فيقول ابن كرام: "إن معبوده مستقر على العرش استقراراً وإنه بجهة فوقَ ذاتاً وإنه أُحدي الذات أُحدي الجوهر وإنه مماس للعرش من الصفحة العليا". ولهم في معنى العظم خلاف فقال بعضهم: "إنه مع وحدته على جميع أجزاء العرش والعرش تحته وهو فوقه كله على الوجه الذي هو فوق جزء منه". وقال بعضهم: "أنه يلاقى مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد، وهو يلاقى جميع أجزاء العرش وهو العلي العظيم". وقالت المهاجرية منهم: إنه لا يزيد على عرشه في جهة المماسة ولا يفضل منه شيء على العرش، وهذا يقتضي أن يكون عرضه كعرض العرش. وصار المتأخرون منهم إلى أنه تعالى بجهة فوق وأنه محاذ للعرش"2.
الرد عليهم: هذا القول للمشبهة يتضمن حقاً وباطلاً. فالحق فيه هو: اعترافهم بعلو الله واستوائه على عرشه وأنه بائن من خلقه والخلق بائنون عنه. وأما الباطل فهو: كلامهم في ذات الله والتعرض لكيفية استوائه، وهو كلام باطل وفاسد ليس لهم به دليل من القرآن أو السنة، بل هو قول على الله بغير علم فالله سبحانه وتعالى لم يطلعنا على كيفية ذاته فأنّى لنا أن نعلم كيفية صفاته، وأمر الكيفية هو مما استأثر الله بعلمه قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} [البقرة 255] . ومما يدلنا على فساد هذا القول وعدم وجود دليل لأصحابه على ما يقولون هو اختلاف آرائهم وأقوالهم عند الحديث عن ذات الله وكيفية استواءه. فمن خلال عرض أقوالهم يتضح اختلافهم وتناقضهم، وما ذاك إلا لأنّهم يفترون على الله الكذب قال تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً} [النساء 82] . والسؤال الذي ينبغي أن يوجه إلى هؤلاء المشبهة في هذا المقام هو: أين الدليل من الكتاب أو السنة على ما تزعمون؟ والجواب معروف وهو أنه لا دليل لهم على ذلك لا من القرآن ولا من السنة.
ومما ينبغي معرفته أن الكلام على كيفية ذات الله أو كيفية استوائه أو غيرها من الصفات هو أمر غير جائز عند السلف ويحرم الخوض فيه بل يبدعون السائل عن ذلك، ولذلك بدع الإمام مالك السائل الذي سأله عن كيفية استواء الباري عز وجل، حيث قال له: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، وما أراك إلا رجل سوء، وأمر بإخراجه) ، وما قاله الإمام مالك هو الذي جاءت به النصوص وهو الذي سار عليه السلف جميعاً.
الفصل الثالث: مسائل متعلقة بالعلو والإستواء
الفصل الثالث: مسائل متعلقة بالعلو والإستواء المبحث الأول: خلو العرش حال النزول ... المبحث الأول: هل يخلو العرش منه حال نزوله لأهل السنة في المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: ينزل ويخلو منه العرش1. وهو قول طائفة من أهل الحديث2. القول الثاني: ينزل ولا يخلو منه العرش3. وهو قول جمهور أهل الحديث4. ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وحماد بن زيد، وعثمان ابن سعيد الدارمي وغيرهم5. القول الثالث: نثبت نزولاً، ولا نعقل معناه هل هو بزوال أو بغير
زوال. وهذا قول ابن بطة والحافظ عبد الغني المقدسي وغيرهما1. أما القول الأول: وهو أنه ينزل ويخلو منه العرش، فمن قال به: أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق بن منده2 3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد صنف أبو القاسم عبد الرحمن ابن أبي عبد الله بن محمد بن منده، مصنفاً في الإنكار على من قال لا يخلو منه العرش وسماه " الرد على من زعم أن الله في كل مكان، وعلى من زعم أن الله ليس له مكان، وعلى من تأول النزول على غير
النزول"1. وقد لخص شيخ الإسلام جملة ما احتج به أبو القاسم ابن منده وبين أنه احتج بأحاديث النزول، وببعض أقوال السلف العامة كقولهم: (يفعل ما يشاء) وذكر بعض اعتراضاته على بعض النقول الواردة عن الأئمة2. وأوضح شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لم ينقل على أحد من الأئمة المعروفين بالسنة بإسناد صحيح ولا ضعيف أن العرش يخلو منه3. وذكر أن كلام أبو القاسم بن منده من جنس كلام طائفة تظن أنه لا يمكن إلا أحد القولين: 1 قول من يقول: إنه ينزل نزولاً يخلو منه العرش. 2 وقول من يقول: ما ثم نزول أصلاً، كقول من يقول: ليس له فعل يقوم بذاته واختياره. وهاتان الطائفتان ليس عندهما نزول إلا النزول الذي يوصف به أجساد العباد الذي يقتضي تفريغ مكان وشغل آخر. ثم منهم من ينفي النزول عنه، وينزهه عن مثل ذلك. ومنهم من أثبت له نزولاً من هذا الجنس، يقتضي تفريغ مكان
وشغل آخر1. والقول بخلو العرش حال نزوله مرتبط2 بمسألة: هل يقال في النزول والإتيان والمجيء إنه بحركة وانتقال؟. وقد اختلف أصحاب الإمام أحمد وغيرهم من المنتسبين إلى السنة والحديث في المسألة على ثلاثة أقوال ذكرها القاضي أبو يعلى في كتاب "اختلاف الروايتين والوجهين"3، وهذه الأقوال هي: 1 أنه نزول انتقال وهو قول أبي عبد الله بن حامد. 2 أنه نزول بغير انتقال وهو قول أبي الحسن التميمي وأهل بيته، وأن معناه: قدرته4. 3 الإمساك عن القول في المسألة، وهو قول أبي عبد الله بن
بطة1 وغيره. ثم هؤلاء فيهم من يقف عن إثبات اللفظ مع الموافقة على المعنى وهو قول كثير منهم، ومنهم من يمسك عن إثبات المعنى وعن اللفظ2. والذي يخصنا من الأقوال الثلاثة قول ابن حامد الذي ذهب إلى أنه نزول انتقال وقال لأن هذا حقيقة النزول عند العرب، وهو نظير قوله في الاستواء بمعنى قعد. قال القاضي أبو يعلى: "فذهب شيخنا أبو عبد الله -يعني ابن حامد- أنه نزول انتقال، وقال: لأن هذا حقيقة النزول عند العرب، وهذا نظير قوله في الاستواء، يعني قعد، وهذا على ظاهر حديث عبادة بن الصامت3، ولأن أكثر ما في هذا أنه من صفات الحدث في حقنا، وهذا لا يوجب كونه في حقه محدثاً، كما الاستواء على العرش، هو موصوف به مع اختلافنا في صفته، وإن كان هذا الاستواء لم يكن موصوفاً به في
القدم، وكذلك نقول تكلم بحرف وصوت، وإن كان هذا يوجب الحدث في صفاتنا، ولا يوجبه في حقه، كذلك النزول"1. وقال ابن القيم رحمه الله: "أما قول ابن حامد أنه نزول انتقال فهو موافق لقول من يقول يخلو منه العرش، والذي حمله على هذا إثبات النزول حقيقة، وأن حقيقته لا تثبت إلا بالانتقال، ورأى أنه ليس في العقل ولا في النقل ما يحيل الانتقال عليه، فإنه كالمجيء والإتيان والذهاب والهبوط، وهذه أنواع الفعل اللازم القائم به، كما أن الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والقبض، والبسط أنواع للفعل المتعدي، وهو سبحانه موصوف بالنوعين، وقد يجمعهما كقوله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف 54] . والانتقال جنس لأنواع المجيء، والإتيان، والنزول، والهبوط، والصعود، والدنو، والتدلي ونحوها؛ وإثبات النوع مع نفي جنسه جمع بين النقيضين. قالوا: وليس في القول بلازم النزول والمجيء والإتيان والاستواء والصعود محذور البتة ولا يستلزم ذلك نقصاً، ولا سلب كمال، بل هو الكمال نفسه، وهذه الأفعال كمال ومدح، فهي حق دل عليه النقل
ولازم الحق حق"1. القول الثاني: أنه ينزل ولا يخلو منه العرش. وهذا القول ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قول جمهور أهل الحديث2. وقال: "ونقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد، وعن إسحاق بن راهويه، وحماد بن زيد، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم"3. قال القاضي أبو يعلى: "وقد قال أحمد في رسالته إلى مسدد: إن الله عز وجل ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا ولا يخلو من العرش. فقد صرح أحمد بالقول إن العرش لا يخلو منه"4. وسأل بشر بن السري حماد بن زيد، فقال: "يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد، ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه
كيف يشاء"1. وقال إسحاق بن راهويه: "دخلت على عبد الله بن طاهر، فقال: ما هذه الأحاديث التي تروونها؟ قلت: أي شيء أصلح الله الأمير؟ قال: تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا. قلت: نعم، رواه الثقات الذين يروون الأحكام. قال: أينزل ويدع عرشه؟ قال: فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو العرش منه؟ قال: نعم. قلت: ولم تتكلم في هذا؟ "2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن قول إسحاق وقول حماد بن زيد: "وهذه والتي قبلها حكايتان صحيحتان رواتهما ثقات، فحماد بن زيد يقول: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف يشاء، فأثبت قربه مع كونه فوق عرشه. وعبد الله بن طاهر وهو من خيار من ولي الأمر بخراسان كان يعرف أن الله فوق العرش، وأشكل عليه أنه ينزل، لتوهمه أن ذلك يقتضي أن يخلو منه العرش، فأقره الإمام إسحاق على أنه فوق العرش، وقال له: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو منه العرش؟ فقال له الأمير: نعم. فقال له إسحاق: لم تتكلم في هذا؟ يقول: فإذا كان قادراً على ذلك لم يلزم من نزوله خلو العرش منه، فلا يجوز أن يعترض على النزول بأنه يلزم منه خلو العرش، وكان هذا أهون من اعتراض من يقول: ليس فوق العرش شيء، فينكر هذا وهذا"1. القول الثالث: من يقول نثبت نزولاً ولا نعقل معناه، هل هو بزوال أو بغير زوال.
وهذا القول قال به ابن بطة1، وعبد الغني المقدسي2، وغيرهما. قال ابن بطة: "فنقول كما قال: "ينزل ربنا عزوجل" ولا نقول: إنه يزول، بل ينزل كيف يشاء، لا نصف نزوله ولا نحده، ولا نقول: إن نزوله زواله". وروى بسنده عن حنبل بن إسحاق قال: "قلت لأبي عبد الله: ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا؟ قال: نعم. قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ قال: فقال لي: اسكت عن هذا، وغضب غضباً شديداً، وقال: مالك ولهذا؟ أمض الحديث كما روي بلا كيف" 3. وقال القاضي أبو يعلى: "وحكى شيخنا -يعني ابن حامد- عن طائفة أخرى من أصحابنا أنهم قالوا: نثبت نزولاً لا يعقل معناه هل هو زوال أو بغير زوال، كما جاء الخبر، ومثل هذا ليس يمتنع في صفاته، كما يثبت له ذاتاً ينفي عنها ماهيتها، وهذه الطريقة هي المذهب، وقد
نص أحمد عليها في مواضع" 1. وذكر الأثر الذي ذكره ابن بطة عن حنبل. قال ابن القيم رحمه الله: "وأما الذين أمسكوا عن الأمرين وقالوا: لا نقول يتحرك وينتقل، ولا ننفي ذلك عنه، فهم أسعد بالصواب والاتباع، فإنهم نطقوا بما نطق به النص، وسكتوا عما سكت عنه، وتظهر صحة هذه الطريقة ظهوراً تاماً فيما إذا كانت الألفاظ التي سكت عنها النص مجملة، محتملة المعنيين صحيح وفاسد، كلفظ (الحركة) ، و (الانتقال) ، و (الحوادث) ، و (العلة) ، و (التغير) ، و (التركيب) ، ونحو ذلك من الألفاظ التي تحتها حق وباطل. فهذه لا تقبل مطلقاً، ولا ترد مطلقاً، فإن الله سبحانه لم يثبت لنفسه هذه المسميات، ولم ينفيها عنه، فمن أثبتها مطلقاً فقد أخطأ، ومن نفاها مطلقاً فقد أخطأ، فإن معانيها منقسمة إلى ما يمتنع إثباته لله، وما يجب إثباته له. فإن الانتقال يراد به: 1 انتقال الجسم والعرض من مكان هو محتاج إليه إلى مكان آخر يحتاج إليه. وهو يمتنع إثباته للرب تبارك وتعالى، وكذلك الحركة إذا أريد بها هذا المعنى امتنع إثباتها لله تعالى.
2 ويراد بالحركة والانتقال حركة الفاعل من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً، وانتقاله أيضاً من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً. فهذا المعنى حق في نفسه لا يعقل كون الفاعل فاعلاً إلا به فنفيه عن الفاعل نفي لحقيقة الفعل وتعطيل له. 3 وقد يراد بالحركة والانتقال ما هو أعم من ذلك، وهو فعل يقوم بذات الفاعل يتعلق بالمكان الذي قصد له وأراد إيقاع الفعل بنفسه فيه. وقد دل القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة، وينزل لفصل القضاء بين عباده، ويأتي في ظلل من الغمام والملائكة، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، وينزل إلى أهل الجنة. وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه الأمكنة فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقين، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به، فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له. وحركة الحي من لوازم ذاته، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالحركة والشعور، فكل حي متحرك بالإرادة وله شعور فنفي الحركة عنه كنفي الشعور، وذلك يستلزم نفي الحياة" 1
المبحث الثاني: مسائل الحد والمماسة
المبحث الثاني: مسائل الحد والمماسة المطلب الأول: حكم الألفاظ المجملة قبل الحديث عن المسائل المتعلقة بالحد والمماسة والمباينة وغيرها من الألفاظ المجملة، يحسن توضيح بعض القواعد المتعلقة بذلك وهي على النحو التالي: أولاً: يجب أن يعلم أن توحيد الأسماء والصفات يشتمل على ثلاثة أبواب: الباب الأول: باب الأسماء. الباب الثاني: باب الصفات. الباب الثالث: باب الإخبار1. ثانياً: إن باب الأسماء هو أخص تلك الأبواب، فما صح اسما، صح صفة وصح خبراً وليس العكس. وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، وأخص من باب الإخبار، فما صح صفة فليس شرطاً أن يصح اسماً، فقد يصح وقد لا يصح، مع أن
الأسماء جميعها مشتقة من صفاته، وكل صفة يصح الإخبار بها وليس العكس. وباب الإخبار أوسع من باب الصفات وباب الأسماء، فالله يخبر عنه بالاسم والصفة، وبما ليس باسم ولا صفة كألفاظ (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه) و (المعلوم) ، فإنه يخبر بهذه الألفاظ عنه ولا تدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولكن يشترط في اللفظ أن لا يكون معناه سيئاً1. ثالثاً: إن باب الأسماء والصفات توقيفيان. فالأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيهما عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه. وأما ما لم يرد إثباته ونفيه فلا يصح استعماله في باب الأسماء والصفات إطلاقاً2. قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم"1. رابعاً: أما باب الإخبار فالسلف لهم فيه قولان: القول الأول: أن باب الإخبار توقيفي، فإن الله لا يخبر عنه إلا بما ورد به النص، وهذا يشمل الأسماء والصفات، وما ليس باسم ولا صفة مما ورد به النص ك (الشيء) و (الصنع) ونحوها. وأما ما لم يرد به النص فإنهم يمنعون استعماله2. القول الثاني: إن باب الإخبار لا يشترط فيه التوقيف، فما يدخل في الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته. ك (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه) ، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالإخبار عنه قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيء، أي باسم لا ينافي الحسن، ولا يجب أن يكون حسناً. ولا يجوز أن يخبر عن الله باسم سيء3 فيخبر عن الله بما لم يرد إثباته ونفيه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حقاً يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب
رده1. وبناءً على ما تقدم يمكن تقسيم الألفاظ المجملة -أي التي يرد استعمالها في النصوص- على النحو التالي: 1 ألفاظ ورد استعمالها ابتداءً في بعض كلام السلف. ومن أمثلة ذلك لفظ (الذات) ولفظ (بائن) . وهذه الألفاظ تحمل معان صحيحة دلت عليها النصوص. وهذا النوع من الألفاظ يجيز جمهور أهل السنة استعمالها. وهناك من يمنع ذلك بحجة أن باب الإخبار توقيفي كسائر الأبواب. والصواب أنه ما دام المعنى المقصود من ذلك اللفظ يوافق ما دلت عليه النصوص، واستعمل اللفظ لتأكيد ذلك فلا مانع. كقول أهل السنة: "إن الله استوى على العرش بذاته". فلفظة (بذاته) مراد بها أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له. وكقولهم: "إن الله عالٍ على خلقه بائن منهم". فلفظة (بائن) يراد بها إثبات العلو حقيقة، والرد على زعم من قال إن الله في كل مكان بذاته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمقصود -هنا- أن الأئمة الكبار
كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما تُوقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت به الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة"1. وقال أيضاً: "فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل. ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه. ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة، وقالوا إنما قابل البدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل"2. فيستفاد من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن الألفاظ على أربعة أقسام: القسم الأول: الألفاظ المأثورة، وهي التي وردت بها النصوص. القسم الثاني: الألفاظ المعروفة، وهي التي بُيِّنَت معانيها. القسم الثالث: الألفاظ المبتدعة، التي تدل على معنى باطل.
القسم الرابع: الألفاظ المبتدعة، التي تحتمل الحق والباطل. فلفظ (الذات) و (بائن) هي من القسم الثاني. وهذه الألفاظ كما أسلفنا إنما تستعمل في باب الإخبار ولا تستعمل في باب الأسماء والصفات. ولذلك لما اعترض الخطابي على استعمالها بقوله: "وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال له تعالى حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له: إنما أُحْوِجْنَا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز رَدُّها. فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود، كما نقول يد لا كالأيدي؟! "1 فرد شيخ الإسلام ابن تيمية على قول الخطابي من وجوه منها: "أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا: إن له صفة هي الحد، كما توهمه هذا الراد عليهم. وهذا لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل؛ فإن هذا الكلام لا حقيقة له؛ إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شيء من الموصوفات -كما وصف باليد والعلم- صفة معينة يقال لها الحد، وإنما الحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره"2. فأهل السنة لم يثبتوا بهذه الألفاظ صفة زائدة على ما في الكتاب
والسنة، بل بينوا بها ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته من خلقه وثبوت حقيقته"1. 2 ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف تارة لإثباتها وتارة لنفيها. ومن أمثلة ذلك: لفظ (الحد) ولفظ (المماسة) وسيأتي بيان حكمها بالتفصيل. 3 ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف وفي كلام خصومهم. ومن أمثلة ذلك: لفظة (الجهة) . 4 ألفاظ ورد استعمالها في كلام الخصوم ولم يرد استعمالها في كلام السلف. ومن أمثلة ذلك: لفظ (الجسم) و (الحيز) و (واجب الوجود) و (الجوهر) و (العرض) . وأما النوع الثالث والرابع فالجواب عن ذلك أن نقول الأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان: النوع الأول: نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع.
فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحاً استحق صاحبه المدح، وإن كان ذماً استحق الذم، وإن أثبت شيئاً وجب إثباته، وإن نفى شيئاً وجب نفيه، لأن كلام الله حق، وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق. وهذا كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص 1-4] ، وقوله تعالى: {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر 22-23] ، ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته. وكذلك قوله تعالى: {ليَْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى 11] ، وقوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام 103] ، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة22-23] ، وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا كله حق. النوع الثاني: الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع. فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض بها النصوص هي من هذا
الضرب، كلفظ (الجسم) و (الحيز) و (الجهة) و (الجوهر) و (العرض") 1. فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أموراً مما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، فيدخلون فيها نفي علمه وقدرته وكلامه، ويقولون إن القرآن مخلوق، ولم يتكلم الله به، وينفون رؤيته لأن رؤيته على اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم، ثم يقولون: والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته. وكذلك يقولون إن المتكلم لا يكون إلا جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلماً. ويقولون: لو كان فوق العرش لكان جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز، فلا يكون متكلماً فوق العرش وأمثال ذلك"2. الموقف من هذا النوع: "إذا كانت هذه الألفاظ مجملة -كما ذُكر- فالمخاطب لهم إما: 1 أن يفصل لهم ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قُبلت. وإن فسروها بخلاف ذلك رُدَّت. 2 وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً.
ولكن يلاحظ أن الإنسان إذا امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى الجهل والانقطاع. وأن الإنسان إذا تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها. ولعل الراجح في المسألة أن الأمر يختلف باختلاف المصلحة. 1 فإن كان الخصم في مقام دعوة الناس إلى قوله وإلزام الناس بها أمكن أن يقال له: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق. وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم على ولاة الأمور، وأدخلوه في بدعتهم، كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة. وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون
يدعي أحدهم أن العقل أدَّاه إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة. وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلى المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم. فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام 102] ، وقوله: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} [الأنبياء 2] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تجيء البقرة وآل عمران"، وأمثال ذلك من الأحاديث. أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم. ولما قالوا: ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله؟ عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله؟ ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث -وكان من أحذقهم بالكلام- ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً. فأجابه الإمام أحمد: بأن هذا اللفظ لا يُدرى مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله. وأخبره أني أقول: هو أحد، صمد، لم يلد ولم يلد، ولم يكن له كفواً أحد، فبين أني لا أقول هو جسم ولا ليس بجسم، لأن كلا الأمرين
بدعة محدثة في الإسلام، فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب على الناس إجابة من دعا إلى موجبها، فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه وإجابة من دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا إجابة من دعاهم إلى قول مبتدع، ومقصود المتكلم بها مجمل لا يُعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار، فلا هي معروفة في الشرع، ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها. فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعياً. 2 وأما إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لا يمكن أن يرد إلى الشريعة. مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات أو ممن يدَّعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل على باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك. أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء. فهؤلاء لابد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدّعونها إما:
ج- وإما أن يكون فيهما. فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقاً ومعشوقاً ونحو ذلك. فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً. وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ. كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب. وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة. فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منها تلبيس وإيهام، فلابد من الاستفسار والاستفصال. أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات. وقد ظن طائفة من الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام إنما لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ (الجوهر) و (الجسم) و (العرض) ، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحب الإحياء وغيره.
وليس الأمر كذلك: بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث الألفاظ، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً. ثم من الناس من يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك. وأيضاً: فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله. فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة"1.
المطلب الثاني: مسألة الحد1 "الحد في اللغة: الحاجز بين الشيئين، الذي يُمَيِّزُ بينهما، لئلا يختلط أحدهما بالآخر، أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر، وهو مأخوذ من حد الشيء عن غيره يَحُدُّهُ حَدًّا إذا ميزه"2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الحد ما يتميز به الشيء عن غيره من
صفته وقدره"1. سبق أن أسلفنا أن إطلاق السلف للحد ليس من باب الصفات وإنما هو من باب الإخبار ولهم فيه استعمالان: الاستعمال الأول: في حال الإثبات. ومن الآثار الواردة في ذلك ما رواه الخلال بسنده عن محمد بن إبراهيم القيسي، قال: "قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك -وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ - قال: في السماء السابعة على عرشه بحد. فقال أحمد: هكذا هو عندنا"2. وعن حرب بن إسماعيل قال: "قلت لإسحاق -يعني ابن راهويه-: هو على العرش بحد؟ قال: نعم بحد". وذكر عن ابن المبارك قال: "هو على عرشه بائن من خلقه بحد"3.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن كثيراً من أئمة السنة والحديث1 أو أكثرهم يقولون إنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه بحد"2. الاستعمال الثاني: في حال النفي. قال حنبل: "قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله {وَهُوَ مَعَكُم} ، و {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} ؟. قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة"3.
وفي رسالة الإصطخري قال الإمام أحمد: "والله عز وجل على عرشه ليس له حد، والله أعلم بحده"1. "توضيح المسألة" أما الاستعمال الأول: فهو استعماله في حال الإثبات. فقد استعمل في مسألة إثبات علو الله على خلقه وتميزه وانفصاله عنهم وعدم اختلاطه بهم أو حلوله فيهم، فلما زعم الجهمية أن الخالق في كل مكان وأنه غير مباين لخلقه ولا متميز عنهم، قال بعض أئمة السلف: إن الله سبحانه عالٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وذكروا الحد، لأن الجهمية زعموا أنه ليس له حد وما لا حد له لايباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولما كان الجهمية يقولون ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها،
ويجحدون قَدْرَهُ؛ حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي، عالم، قدير: قد عرفنا حقيقته وماهيته، ويقولون إنه لا يباين غيره. بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم؛ فيقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا كذا ولا كذا. أو يجعلوه حالاً في المخلوقات أو وجوده وجود المخلوقات. فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه، وذكر الحد. لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد، وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد"1. وبناءً على ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية فقد أثبت السلف الحد لما في إثبات هذا اللفظ من رد على الجهمية فيما زعموا، ولما في معنى (الحد) من إثبات مباينة الله لخلقه، وعلوه عليهم، واستوائه على عرشه. وإن كان السلف يقولون إنه حد لا يعلمه إلا الله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن نقل الآثار الواردة عن السلف في إثبات الحد: "فهذا وأمثاله مما نقل عن الأئمة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره، كما قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد، فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر، ولكن نفوا علم الخلق
به، وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون وغير واحد من السلف، والأئمة ينفون علم الخلق بقدره وكيفيته"1. الاستعمال الثاني: استعماله في حال النفي وذلك في مسألة نفي الإحاطة بالله علماً وإدراكاً، فلا منازعة بين أهل السنة بأن الله تعالى غير مدرك الإحاطة والخلق عاجزون عن الإحاطة به، فهم لا يستطيعون أن يحدوا الخالق جل وعلا، أو يُقَدِّرُوه، أو يبلغوا صفته، فمن نفى الحد على هذا المعنى فهو مصيب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المحفوظ عن السلف والأئمة إثبات حد لله في نفسه، وقد بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه، ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كما يظنه بعض الناس، فإنهم نفوا أن يَحُد أحدٌ الله"2. وقال أيضاً: "وقوله بلا حد ولا صفة" نَفَى به إحاطة علم الخلق به، وأن يحدوه أو يصفوه على ما هو عليه، إلا بما أخبر عن نفسه، ليبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته، كما قال الشافعي في خطبة "الرسالة": "الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه"3
ولهذا قال أحمد: "لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية" فنفى أن يدرك له حد أو غاية"1. وهذا المحفوظ عن السلف والأئمة من إثبات حد لله في نفسه قد بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه؛ ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كما يظنه بعض الناس، فإنهم نفوا أن يحد أحد الله كما ذكره حنبل عنه في كتاب السنة والمحنة. وقد رواه الخلال في "كتاب السنة" أخبرني عبد الله بن حنبل حدثني حنبل بن إسحاق، قال: قال عمي: "نحن نؤمن بالله عز وجل على عرشه كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد، فصفات الله عز وجل منه وله، وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، وهو يدرك الأبصار، وهو عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، ولا يدركه وصف واصف، وهو كما وصف نفسه، وليس من الله شيء محدود، ولا يبلغ علمه وقدرته أحد، غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وكان الله قبل أن يكون شيء، والله الأول، وهو الآخر، ولا يبلغ أحد حد صفاته، فالتسليم لأمر الله والرضا بقضائه، نسأل الله التوفيق والسداد، إنه على كل شيء قدير.
وذلك أن لفظ (الحد) عند كل من تكلم به يراد به شيئان: يراد به حقيقة الشيء في نفسه ويراد به الوجود العيني أو الوجود الذهني فأخبر أبو عبد الله أنه على العرش بلا حد يحده أحد أو صفة يبلغها واصف، وأتبع ذلك بقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} بحد ولا غاية، وهذا التفسير الصحيح للإدارك: أي لا تحيط الأبصار بحده ولا غايته؛ ثم قال: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} وهو عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، ليتبين أنه عالم بنفسه وبكل شيء. وقال الخلال: "وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى "أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا" و"أن الله يضع قدمه" وما أشبه هذه الأحاديث، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق بها ولا كيف، ولا معنى، ولا نرد منها شيئاً، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه ولا حد ولا غاية، ليس كمثله شيء. قال: وقال حنبل في موضع آخر قال: ليس كمثله شيء في ذاته، كما وصف به نفسه، فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة، ليس يشبهه شيء، فيعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما
وصف نفسه، قال تعالى {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} . قال: وقال حنبل في موضع آخر: قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، وصفاته منه وله، ولا يتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا يتعدى ذلك، ولا تبلغه صفة الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله يُرى في الآخرة، والتحديد في هذا بدعة، والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه، سميع بصير، لم يزل متكلماً، عالماً غفوراً، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد، وهو على العرش بلا حد، كما قال {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْش} كيف شاء، المشيئة إليه عز وجل، والاستطاعة له {لَيْسَ كَمِثلِهِ شَيء} وهو خالق كل شيء، وهو كما وصف نفسه، سميع بصير بلا حد ولا تقدير، قول إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه، لا تعدى القرآن والحديث والخبر، يضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن، ولا يصفه الواصفون،
ولا يحده أحد، تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة"1. قال ابن القيم: "أراد أحمد بنفي الصفة نفي الكيفية والتشبيه، وبنفي الحد حدّاً يدركه العباد ويحدونه"2.
المطلب الثالث: مسألة المماسة1 لهذا اللفظ في كلام الأئمة موقفان: 1 استعملوه على سبيل النفي في مسائل العلو. 2 منعوه على سبيل الإثبات في مسائل الاستواء.
أما الأول: فقد ورد في كلام الأئمة استعمال كلمة (مماسة) في باب النفي، ومن ذلك قول الإمام أحمد رحمه الله: "إن الله عز وجل على عرشه فوق السماء السابعة، يعلم ما تحت الأرض السفلى، وإنه غير مماس لشيء من خلقه، وهو تبارك وتعالى بائن من خلقه، وخلقه بائنون منه"1. وهذا الكلام ذكره الإمام أحمد في معرض تقرير علو الله على خلقه، وأنه بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، وأنه ليس بذاته في كل مكان كما هو زعم الجهمية، فمن المتقرر في عقيدة السلف الصالح إثبات علو الله تعالى على خلقه وأنه بائن منهم وليس بمماس لهم ولا محايث. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الذين نقلوا إجماع السلف أو إجماع أهل السنة أو إجماع الصحابة والتابعين على أن الله فوق العرش بائن من خلقه لا يحصيهم إلا الله، وما زال علماء السلف يثبتون المباينة ويردون قول الجهمية بنفيها"2. ومن المعلوم أن طوائف المعطلة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من متأخري الأشاعرة والماتريدية ينكرون المباينة بالجهة. فبعضهم ينفي المباينة والمحايثة، فيقولون: لا داخل العالم، ولا
خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا مباين له، ولا محايث له. وهؤلاء هم نظارهم. وبعضهم يثبت المحايثة فيقولون: إنه بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من علمائهم وعبادهم. والاتحادية من المعطلة قالوا: إنه نفس وجود الأمكنة1. ورداً على مزاعم هؤلاء الباطلة أطلق من أطلق من علماء السلف لفظ المباينة وعدم المماسة تقريراً منهم لإثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه ومباينته من خلقه. وقد افترق الناس في هذا المقام أربع فرق: القسم الأول: الجهمية النفاة، الذين يقولون: ليس داخل العالم، ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، ولا يقولون بعلوه ولا بفوقبته. القسم الثاني: يقولون: إنه بذاته في كل مكان، كما يقوله النجارية، وكثير من الجهمية، عبادهم، وصوفيتهم، وعوامهم. القسم الثالث: من يقول هو فوق العرش وهو في كل مكان، ويقول أنا أقر بهذه النصوص، وهذه لا أصرف واحداً منها عن ظاهره. وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في مقالاته وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية.
القسم الرابع: وهم سلف الأمة وأئمتها، أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا أن الله فوق سمواته وأنه على عرشه بائن من خلقه وهم منه بائنون، وهو أيضاً مع العباد عموماً بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضاً قريب مجيب"1. ومن تقرير فهم السلف استعمل من استعمل من العلماء لفظ (المماسة) ليثبتوا أن الله بائن من الخلق وهم منه بائنون. الموقف الثاني: منعهم لاستعمال لفظ (المماسة) في مسألة الاستواء على العرش، وذلك رداً على الكرامية الذين خاضوا في شأن الكيفية وتعمقوا فيها. وفي هذا يقول السجزي: "واعتقاد أهل الحق أن الله سبحانه فوق العرش بذاته من غير مماسة، وأن الكرامية ومن تابعهم على قول المماسة ضُلال"2. وقال قوام السنة الأصبهاني: "قال أهل السنة: خلق الله السموات والأرض، وكان عرشه على الماء مخلوقاً قبل خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض وليس معناه المماسة، بل
هو مستو على العرش بلا كيف كما أخبر عن نفسه"1. وقال الإمام أبو القاسم عبد الله بن خلف المقري: "إن الله تعالى في السماء على العرش فوق سبع سموات من غير مماسة ولا تكييف"2. وقال الإمام سعد بن علي الزنجاني: "ليس معنى استواء الله على عرشه بأنه مستول عليه، ولا معناه بأنه مماس للعرش، فإن ذلك ممتنع في وصفه جل وعلا، ولكنه تعالى مستو على عرشه بلا كيف كما أخبر بذلك عن نفسه"3. فهذه النصوص تدل دلالة واضحة أن السبب في منع استعمال هذا اللفظ لما فيه من التعمق في شأن الكيفية، ومن عادة السلف أنهم عند تقريرهم لصفة الاستواء ولسائر الصفات لا يتعمقون في شأن الكيفية ويكلون علم ذلك لله عز وجل، وسأورد لك بعض النقول التي توضح مدى التزام السلف بالتقييد بهذا الضابط في تقريرهم لصفة الاستواء فمن ذلك: 1 ما جاء في عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وفيها "أن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه بلا
كيف"1. 2 قول الطلمنكي "وأن الله تعالى فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء"2. وبناءً على ما تقدم من أقوال الأئمة يتضح حرص السلف على عدم الخوض في شأن الكيفية، وبذلك منعوا استعمال لفظ (المماسة) في هذه المسألة لهذا السبب.
الباب الثالث: العرش وما يتعلق به
الباب الثالث: العرش وما يتعلق به الفصل الأول: تعريف العرش المبحث الأول: المعنى اللغوي لكلمة العرش ... المبحث الأول: المعنى اللغوي لكلمة العرش قال ابن فارس: ""ع ر ش" العين، والراء، والشين أصل صحيح واحد، يدل على ارتفاع في شيء مبني، ثم يستعار في غير ذلك"1. والعرش في كلام العرب يطلق على عدة معاني: 1- سرير الملك: قال الخليل: "العرش: السرير للملك"2. وقال الأزهري: "والعرش في كلام العرب: سرير الملك، يدلك على ذلك سرير ملكة سبأ، سماه الله جل وعز عرشاً فقال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل 23] "3. 2- سقف البيت: قال الخليل والجوهري: "عرش البيت: سقفه"4.
وقال الزبيدي: "والعرش من البيت سقفه ومنه الحديث "أو كالقنديل المعلق بالعرش" يعني: السقف، وفي حديث آخر: "كنت أسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عرشي" أي: سقف بيتي. وبه فسر قوله تعالى: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة 259] ، أي: صارت على سقوفها كما قال عز من قائل: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [الحجر:74] . أراد أن حيطانها قائمة وقد تهدمت سقوفها فصارت في قرارها وانقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المتهدمة قبلها، ومعنى الخاوية والمنقعرة واحد وهي المنقلعة من أصولها"1. 3- ركن الشيء: قال الزبيدي: "والعرش ركن الشيء، قاله الزجاج والكسائي، وبه فسر قوله تعالى: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ، أي وخرت على أركانها"2. 4- الملك: قال الأزهري: "قال: والعرش الملك، يقال: ثل عرشه، أي زال ملكه وعزه.
قال زهير: تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها ... وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل"1 قال الزبيدي: "قال ابن الأعرابي: العرش الملك، بضم الميم، وهو كناية ... "2. 5- قوام أمر الرجل: قال ابن فارس: "استعيرت كلمة عرش هنا، فقيل لأمر الرجل وقوامه: عرش، وإذا زال عنه ذلك، قيل: ثل عرشه. قال زهير: تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها ... وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل"3 قال الزبيدي: "قولهم: ثل عرشه أي: عدم ما هو عليه من قوام أمره، وقيل: وهي أمره، وقيل: ذهب عزه، ومنه حديث عمر رضي الله عنه أنه رُئي في المنام، فقيل له: ما فعل بك ربك؟ قال: لولا أن تداركني لثل عرشي"4.
6- عرش السماك: قال ابن فارس: "ويقال: إن عرش السماك، أربعة كواكب، أسفل من العواء على صورة النعش، ويقال: هي عجز الأسد، قال ابن أحمر: باتت عليه ليلة عرشية ... شربت وبات إلى نقا متهدم"1 7- عرش البئر: قال الأزهري: "وقال أبو عبيد: قال أبو زيد: بئر معروشة، وهي التي تطوى قدر قامة من أسفلها بالحجارة ثم يطوى سائرها بالخشب وحده، فذالك الخشب هو العرش، يقال منه: عرشت البئر، أعرشها، فإذا كانت كلها بالحجارة فهي مطوية وليست بمعروشة. وقال غيره: المثاب: مقام الساقي فوق العروش، ومنه قول الشاعر: وما لم ثابات العروش بقية ... إذا استل من تحت العروش الدعائم وقال ابن الأعرابي: العرش بناء فوق البئر يقوم عليه الساقي، وأنشد -أكل يوم عرشها مقيل"2. 8- عرش القدم: قال الخليل: "العرش في القدم، ما بين الحمار والأصابع من ظهر
القدم، والحمار: المرتفع من ظهر القدم، وجمعه: عرشه وأعراش"1. وقال ابن الأعرابي: "ظهر القدم: العرش، وباطنه: الأخمص"2. قلت: ومن المعلوم أن معرفة كل معنى من تلك المعاني إنما يتحدد بحسب ما أضيف إلى الكلمة، والمعنى المقصود في عرش الرحمن من تلك المعاني السابقة، هو سرير الملك، ذلك لأن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة قد جاءت معينة لهذا المعنى وحده دون غيره من المعاني، وهذا ما سيأتي بيانه. أما زعم الجهمية بأن معنى العرش في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه 5] ، يحتمل عدة معاني، فلا يُعرف أي هذه المعاني هو المراد؟ فقد أجاب عنه ابن القيم بقوله: "هذا تلبيس منك على الجهال، وكذب ظاهر، فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلا معنى واحد، وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معانٍ، فاللام للعهد وقد صار بها العرش معيناً، وهو عرش الرب تعالى الذي هو سرير ملكه، التي اتفقت عليه الرسل، وأقرت به الأمم، إلا من نابذ الرسل ... "3.
المبحث الثاني: المذاهب في تعريف العرش
المبحث الثاني: المذاهب في تعريف العرش أولاً: مذهب السلف: قال الطبري عند قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر 75] "يعني بالعرش: السرير". ثم ذكر بسنده عن السدي في تفسير هذه الآية قوله: "محدقين حول العرش قال: العرش: السرير"1. وقال الطبري في موضع آخر {ذُو العَرْشِ} [غافر 15] يقول: "ذو السرير المحيط بما دونه"2. وقال البيهقي: "وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير وأنه جسم مجسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه والطواف به كما خلق في الأرض بيتاً وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وفي الآيات والأحاديث والآثار دلالة واضحة على ما ذهبوا
إليه"1. وقال أيضاً: "العرش هو السرير المشهور فيما بين العقلاء"2. وقال ابن كثير: "هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات"3. وقال الذهبي -بعد أن ذكر سرر أهل الجنة-: "فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته، وقوائمه وماهيته وحملته، والكروبيين الحافين من حوله، وحسنه ورونقه وقيمته، فقد ورد أنه من ياقوتة حمراء"4. قلت: وهذا الذي ذكره الطبري والبيهقي وابن كثير والذهبي في تعريف العرش، هو الذي جاءت به الآيات والأحاديث والآثار، وهو ما ذهب إليه سلف الأمة وأئمتها في عرش الله، فهم يعتقدون أن عرش الرحمن هو: ? سرير: قال ابن قتيبة: "وطلبوا للعرش معنى غير السرير، والعلماء في اللغة لا
يعرفون للعرش معنى إلا السرير، وما عرش من السقوف وأشباهها، قال أمية بن أبي الصلت: مجدوا الله وهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق الن ... اس وسوى فوق السماء سريرا شرجعاً لا يناله بصر العي ... ن ترى دونه الملائك صورا"1 وقال ابن كثير: "العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل 23] . وليس هو فلكاً ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم ... "2. ? وأنه ذو قوائم: قال شارح الطحاوية: "قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي
بصعقة الطور"1 2. ? وأنه مخلوق: قال الحافظ ابن حجر: "قوله {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة 129] ، إشارة إلى أن العرش مربوب، وكل مربوب مخلوق. وفي إثبات القوائم للعرش دلالة على أنه جسم مركب له أبعاض وأجزاء، والجسم المؤلف محدث مخلوق"3. ? وأن الله سبحانه قد أمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه: قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر 7] ، وقال تعالى: {َيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة 17] . وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه
مسيرة سبعمائة عام"1. ? وهو أعلى المخلوقات، وأعظمها، وسقفها، وهو كالقبة على العالم وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة: قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين في كتابه "أصول السنة": "ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق ... "2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما العرش فإنه مقبب، لما روي في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول جهدت الأنفس، وجاع العيال -وذكر الحديث إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: "إن الله على عرشه وإن عرشه على سمواته وأرضه كهكذا"3 وقال بأصابعه مثل القبة ... وفي علوه" قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلاها وفوقه عرش الرحمن، ومنه
تفجر أنهار الجنة"1. فقد تبين بهذه الأحاديث أنه أعلى المخلوقات، وسقفها، وأنه مقبب ... "2. وفي حديث أبي ذر المشهور قال: قلت يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: "آية الكرسي، ثم قال: يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة" 3.
وهذا القول للسلف في عرش الله هو ما جاءت به الآيات والأحاديث الصحيحة، وقد كان سلف الأمة وأئمتها دائماً يصرحون بذلك في كتبهم عند الحديث عن هذه المسألة. وقد وافقهم في هذا القول في عرش الله الكلابية، والكرامية، ومتقدموا الأشاعرة، وبعض الجهمية، والمعتزلة1. ثانياً: أقوال المخالفين: القول الأول: ما زعمه طائفة من الجهمية، والمعتزلة، والماتريدية2، وعامة متأخري الأشاعرة3، من أن معنى العرش في قوله تعالى {لرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} هو الملك. قال الدارمي في كتابه "الرد على الجهمية": "باب الإيمان بالعرش وهو أحد ما أنكرته المعطلة. فادعت هذه العصابة أنهم يؤمنون بالعرش
ويقرون به. فقلت لبعضهم: ما إيمانكم به إلا كإيمان {لّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة 41] ، وكالذين {َإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة 14] ، أتقرون أن لله عرشاً معلوماً، موصوفاً فوق السماء السابعة، تحمله الملائكة، والله فوقه كما وصف نفسه، بائن من خلقه؟ فأبى أن يقر به كذلك، وتردد في الجواب وخلط ولم يصرح. قال أبو سعيد: فقال لي زعيم منهم كبير: لا، ولكن لما خلق الله الخلق يعني السموات والأرض وما فيهن سمى ذلك كله عرشاً له، واستوى على جميع ذلك كله"1. وقال ابن تيمية -في سياق كلامه على حملة العرش-: "ثم إن قوله تعالى: {لَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر 7] ، وقوله: {َيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة 17] ، يوجب أن لله عرشاً يحمل، يوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك، كما تقوله طائفة من
الجهمية"1. وقال الزمخشري: "إنه لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يرادف الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضاً في شهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤداه، وإن كان أشرح، وأبسط، وأدل، على صورة الأمر"2. وقال البغدادي: "والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره، وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثُلَ عرش فلان، إذا ذهب ملكه، قال متمم بن نويرة في هذا المعنى: عروشٌ تفانوا بعد عز وأمة ... هووا بعد ما نالوا السلامة والبقا وأراد بالعروش، ملوكاً انقرضوا. وقال سعيد بن زائدة الخزاعي في النعمان بن المنذر: قد نال عرشاً لم ينله حائل ... جن ولا إنس ولا ديار وأراد بالعرش، الملك والسلطان. وقال النابغة:
بعد ابن جفنة وابن هاتك عرشه ... والحارثين يؤمنون فلاحا وأراد بهاتك عرش ابن جفنة سالب ملكه، فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه"1. الرد عليهم: ما ذهب إليه هؤلاء المخالفون من تفسير معنى العرش الوارد في الآيات بمعنى الملك، إنما هو تأويل باطلٌ، وصرف للفظ عن معناه إلى معنى آخر لا يحتمله. والمتأمل لهذا القول يرى ما فيه من التلبيس والمخالفة. فقد سبق أن ذكرنا في المبحث اللغوي لكلمة (عرش) ، أن لهذه الكلمة عدة معاني في اللغة العربية، ومن المعلوم أن معرفة المعنى المراد من تلك المعاني لهذه الكلمة أو غيرها، إنما يتحدد بحسب سياق الكلمة وبحسب ما أضيفت إليه. وليس في سياق الآيات ما يثبت صحة ما ذهبوا إليه، كما أن ما استدل به هؤلاء المخالفون من الأبيات الشعرية ليس إلا دليلا على أن الملك هو من المعاني اللغوية لكلمة (عرش) ، وهذا أمر لا خلاف فيه. وهذا الاستدلال يماثل ما لو استدللنا على أن من معاني كلمة
العرش: السقف، بقوله تعالى: {َهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة 259] ، فليس في هذه الأبيات أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد على أن الملك هو المعنى المراد في الآيات الواردة في العرش. بل إن المتأمل للآيات والأحاديث الواردة في هذه المسألة يرى أنها تدل دلالة واضحة وصريحة على أن المراد بالعرش هو ذلك المخلوق العظيم الذي خلقه الله تعالى فوق العالم كله، ثم استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض، وكذلك ترد على هؤلاء المخالفين زعمهم الباطل الذي هو في الحقيقة تحريف لكلام الله. فيا ترى ماذا يصنع ذلك المخالف الذي يزعم أن العرش إنما هو كناية عن الملك والسلطان بقوله تعالى: {َكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} [هود7] ، هل يزعم أن الملك كان على الماء؟ وكذلك ماذا يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة 17] ، أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" 1. أيقول آخذ بقائمة من قوائم الملك؟
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "اهتز عرش الرحمن"1، أيقول: اهتز ملكه وسلطانه؟ القول الثاني: زعم طائفة من الفلاسفة أن العرش فلك مستدير من جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة، وهو محدود الجهات، وربما سموه الفلك الأطلس، أو الفلك التاسع، أو الأثير، أو الفلك الأعلى2. وفي ذلك يقول ابن سينا في رسالته " إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم": "ومن السهل عليك أن تفهم كيف أن العرش بنص القرآن يحمله ثمانية، فهذه الثمانية هي: الثمانية أفلاك التي تحت هذا الفلك المحيط"3.
الرد عليهم: إن المتأمل لكلام هؤلاء الفلاسفة كابن سينا وأمثاله يرى مدى انحرافهم، حتى إنهم وصلوا إلى درجة اعتقادهم أنه لا موجود إلا ما علموه. ولهذا كان هؤلاء الذين عرفوا ما عرفته الفلاسفة إذا سمعوا إخبار الأنبياء بالملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار، صاروا حائرين ومتأولين لكلام الأنبياء على ما عرفوه وعلى ما تعلموه، وإن كان هذا التأويل لا دليل لهم عليه سوى ظنهم الفاسد بأنه لا موجود إلا ما عرفوه، فقالوا العرش هو: الفلك التاسع، والكرسي هو: الفلك الثامن. فنفوا ما ليس لهم به علم1 فانطبق عليهم قوله تعالى {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس 39] . وقد ثبت أنه ليس لهؤلاء دليل يتمسكون به لا من الشرع ولا من العقل، وأن الذي دفعهم إلى هذا القول هو أنهم نظروا في علم الهيئة وعلوم الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع وهو الأطلس محيط بها ومستدير كاستدارتها وهو الذي يحركها الحركة الشوقية، وأن لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء صلوات
الله وسلامه عليهم ذكر عرش الله، وذكر السموات السبع، فقالوا بطريق الظن أن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء التاسع شيء، إما مطلقاً وإما أنه ليس وراءه مخلوق1. وهم معترفون بأنه لم يقم لديهم دليل عقلي على صحة قولهم هذا، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن أئمة الفلاسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، ولكن دلتهم الحركات المختلفة والكسوفات ونحو ذلك على ما ذكروه، وما لم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون ثبوته ولا انتفاءه. مثال ذلك: أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا بأن السفلي يكسف العلوي من غير عكس، فاستدلوا بذلك على أنه من فلك فوقه، كما استدلوا بالحركات المختلفة على أن الأفلاك مختلفة حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك، كفلك التدوير وغيره، فأما ما كان موجوداً فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته، فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقهم. وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة، كان الجزم بأن ما أخبرت به الرسل من أن العرش
هو الفلك التاسع رجماً بالغيب وقولاً بلا علم"1. ومع عدم وجود الدليل العقلي عند هؤلاء على صحة زعمهم فكذلك الأدلة الشرعية ترد زعمهم هذا وتبطله. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض رده على هؤلاء الفلاسفة المتكلمين في رسالته العرشية أن الآيات والأحاديث قد دلت على أن العرش مباين لغيره من المخلوقات وأن الله قد اختصه وميزه بأمور كثيرة منها: أن له حملة يحملونه اليوم ويوم القيامة، وأن الله قد أخبر بوجوده قبل خلق السموات والأرض وقبل وجود الأفلاك وأن الله سبحانه تمدح نفسه بأنه ذو العرش، ووصف العرش بأنه مجيد، وعظيم، وكريم، فكل هذه الميزات والخصائص تبطل قول المنازع لأنه يقول بأن نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، ذلك لأنه لو كان العرش من جنس الأفلاك لكان إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر2. كما أن مما يدل على فساد قولهم ما ثبت في الشرع من أن للعرش قوائم وأنه يهتز، ومعلوم أن الأفلاك مستديرة وليس لها قوائم، كما أنها متحركة دائماً بحركة متشابهة لا تتغير، كما ثبت أيضاً أن العرش أثقل
الأوزان، وهم يقولون إن الفلك لا ثقيل ولا خفيف1. فعلم مما تقدم انتفاء الدليل العقلي عند هؤلاء كما علم مخالفتهم للأدلة الشرعية وإبطالها لأقوالهم، ويضاف إلى هذا مخالفتهم للغة العرب، فالعرب لا تفهم من كلمة العرش هذا المعنى ولا هو مستعمل في لغتها، والقرآن إنما نزل بما يفهمون. وبعد هذا كله لا تبقى أدنى شبهة في فساد هذا القول وبطلانه والله أعلم.
الفصل الثاني: الأدلة على إثبات العرش من الكتاب والسنة
الفصل الثاني: الأدلة على إثبات العرش من الكتاب والسنة المبحث الأول: الأدلة القرآنية على إثبات العرش ... المبحث الأول: الأدلة القرآنية على إثبات العرش لقد جاء ذكر عرش الرحمن في القرآن الكريم في واحد وعشرين موضعاً: 1- قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف 54] 2- وقال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة 129] . 3- وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [يونس 3] .
4- وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود 7] . 5- وقال تعالى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد 2] . 6- وقال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء 42] . 7- وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه 5] . 8- وقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ} [الأنبياء 22] . 9- وقال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون 86] . 10- وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون 116] .
11- وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان 59] . 12- وقال تعالى: {اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل 26] 13- وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة 4] . 14- وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر 75] . 15- وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر 7] . 16- وقال تعالى {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر 16] .
17- وقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف 82] . 18- وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد 4] . 19- وقال تعالى {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة 17] . 20- وقال تعالى {ذو قُوة ٍعِنْدَ ذِي العرشِ مَكِين} [التكوير 20] . 21- وقال تعالى {ذُو العرشِ المجِيد} [البروج 15] .
المبحث الثاني: الأدلة من السنة على إثبات العرش
المبحث الثاني: الأدلة من السنة على إثبات العرش أورد الذهبي -رحمه الله- في كتابه "العرش" جملة طيبة من الأحاديث والآثار الواردة في العرش وصفته، وفي هذا المبحث لن نذكر تلك الأحاديث والآثار التي أوردها لأنها ستأتي، وإنما سنورد ههنا بعض الأحاديث الصحيحة في العرش وصفته التي لم يذكرها الذهبي في كتابه، وهذه الأحاديث كثيراً ما يوردها السلف في كتبهم ويستدلون بها لما فيها من الصحة والقوة، ولما فيها من الصفات الدالة على عرش الخالق سبحانه وتعالى.
قوائم العرش، فلا أدري أكان صعق أم حوسب بصعقته الأولى" 1. والشاهد لنا من هذا الحديث قوله: "فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش"، حيث إن للعرش قوائم، ولم يرد في الشرع تحديد عدد لها، وهذا الحديث هو من أقوى الأدلة على أن العرش ليس المراد به الملك أو الفلك التاسع. ". 2- وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء"2. وفي الحديث دلالة واضحة على أن العرش كان مخلوقاً على الماء قبل خلق السموات. 3- وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الكرب: "لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب
العرش الكريم" 1. 4- وعن ابن عباس عن جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ "، قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته"2. قال ابن تيمية: "فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان"3. 5- وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام"4.
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها، قالوا: يا رسول الله أفلا ننبىء الناس بذلك؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة"1. 7- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله"2. 8- وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: "أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئتي فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} "1. 9- وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي"2. 10- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المتحابون في الله يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله"3.
الفصل الثالث: صفة العرش وخصائصه
الفصل الثالث: صفة العرش وخصائصه المبحث الأول: خلق العرش وهيئته ... المبحث الأول خلق العرش وهيئته إن أول صفة نذكرها لعرش البارئ سبحانه وتعالى كونه مخلوقاً من مخلوقات الله تعالى، ذلك لأن كل ما على الوجود هو مخلوق خلقه الله تعالى وأوجده، قال الله تعالى {ذَلكُمُ الله رَبُّكم لا إِلهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيء} [الأنعام 102] ، فكل شيء في هذا الكون مخلوق والعرش من ضمن هذا الكون فهو مخلوق أيضاً. وسلف الأمة وأئمتها يقولون: إن القرآن والسنة قد دلا على أن العرش مخلوق من مخلوقات الله تعالى خلقه وأوجده، قال تعالى {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة 129] ، فالعرش موصوف بأنه مربوب وكل مربوب مخلوق، فالعرش مخلوق من مخلوقات الله. وقد دلت الآيات والأحاديث على أن خلق العرش متقدم على خلق السموات والأرض، قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} [هود 7] ، فالآية تدل على أن العرش كان موجوداً على الماء قبل خلق السموات والأرض ويؤيد تفسير الآية بهذا المعنى حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض"1. وأما مسألة خلق العرش فقد جاء ذكرها في حديث أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: "كان في عما ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء"2. هذه الأدلة التي استدل بها السلف على إثبات خلق العرش، فيها أبلغ الرد على من زعم من الفلاسفة أن العرش هو الخالق الصانع، أو أنه لم يزل مع الله تعالى. ولقد خالف السلف في قولهم هذا بعض أهل الكلام الذين زعموا أن السموات والأرض كانتا مخلوقتين قبل العرش، وهم بزعمهم هذا الذي لا دليل لهم عليه إنما يحاولون به إخراج الاستواء عن حقيقته في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف 54] ، ليكون معنى الاستواء في الآية على زعمهم بمعنى القدرة على العرش والاستيلاء عليه، ذلك لأنهم لو سلموا أن العرش
مخلوق قبل السموات والأرض لقيل لهم إنكم تزعمون أن (استوى) بمعنى استولى، فلماذا تأخر الاستيلاء إلى ما بعد خلق السموات مع أنه كان موجوداً قبل ذلك، فهم فراراً من هذا الأمر ادعوا أن العرش مخلوق بعد السموات والأرض. وقد رد ابن القيم رحمه الله على زعمهم هذا بقوله: "إن هذا لم يقله أحد من أهل العلم أصلاً، وهو مناقض لما دل عليه القرآن والسنة وإجماع المسلمين أظهر مناقضة، فإنه تعالى أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وعرشه حينئذ على الماء، وهذه واو الحال، أي خلقها في هذه الحال، فدل على سبق العرش والماء للسموات والأراضين وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء"1 2. وكذلك فيما ذكرناه من أدلة على سبق خلق العرش للسموات والأرض فيه رد على زعم هؤلاء ومدى مخالفة قولهم للكتاب والسنة. وبعد أن علمنا أسبقية خلق العرش على خلق السموات والأرض وإجماع سلف الأمة على ذلك، نود أن نتطرق في هذا البحث أيضاً إلى ترتيب خلق العرش مع غيره من المخلوقات من حيث الأولوية في الخلق.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على عدة أقوال: القول الأول: إن القلم أول المخلوقات، وأنه أسبق في الخلق من العرش، وهذا القول هو اختيار ابن جرير الطبري1 وابن الجوزي2 وهو ما يفهم في الظاهر من قول من صنف في الأوائل كابن أبي عروبة الحراني، وأبو القاسم الطبراني3. والدليل على هذا القول حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب ماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ... " الحديث4. قال ابن جرير عند تخريج هذا القول: "وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رويناه عنه أولى قول في ذلك بالصواب لأنه كان أعلم قائل في ذلك قولاً بحقيقته وصحته من غير استثناء منه شيئاً من الأشياء أنه تقدم خلق الله إياه
خلق القلم، بل عم بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أول شيء خلقه الله القلم "، كل شيء وأن القلم مخلوق قبله من غير استثنائه من ذلك عرشاً ولا ماء ولا شيئاً غير ذلك"1. القول الثاني: إن الماء أول المخلوقات، وإنه مخلوق قبل العرش. وهذا القول ذكره ابن جرير ونقله عنه ابن كثير2، وذكره أيضاً ابن حجر3، واستدل له بما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي رزين العقيلي مرفوعاً "إن الماء خلق قبل العرش". وقال ابن حجر: "وروى السدي في تفسيره بأسانيد متعددة "أن الله لم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء" ". القول الثالث: أن أول شيء خلقه الله عز وجل من خلقه النور والظلمة. وهذا القول ذكره ابن جرير وعزاه إلى ابن إسحاق4.
القول الرابع: أن العرش هو أول المخلوقات. وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية1، وابن القيم2، وابن كثير3، وشارح العقيدة الطحاوية4، ونسبه ابن كثير وابن حجر -نقلاً عن أبي العلاء الهمداني- إلى الجمهور، ومال إليه ابن حجر أيضاً5. واستدلوا على قولهم هذا بما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً قال: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء"6. ففي هذا الحديث تصريح بأن التقدير وقع بعد خلق العرش وحديث عبادة صريح بأن التقدير وقع عند أول خلق القلم، فدل ذلك على أن العرش سابق على القلم.
ومما يؤيد هذا القول أيضاً حديث عمران بن حصين: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض" 1. فالحديث يدل على أن العرش كان موجوداً قبل كتابة المقادير. وهذا هو الراجح من الأقوال. وأما القول الثاني (أن الماء أول المخلوقات) واستدلال ابن حجر بحديث أبي رزين (أن الماء خلق قبل العرش) فغير صحيح، لأنه لم يرد في حديث أبي رزين هذا اللفظ، وإنما ورد فيه (ثم خلق عرشه على الماء) وليس في هذا ما يدل على أولية الماء. وأما ما رواه السدي فهو أيضاً لا يصلح للاحتجاج لكونه أثراً ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك وأما القول الثالث: وهو قول ابن إسحاق فهو أيضاً غير صحيح، ولعله أخذه من الإسرائيليات كما أخذ غيره من الأمور، وقد قال ابن جرير في هذا القول: "وأما ابن إسحاق فإنه لم يسند قوله الذي قاله في ذلك إلى أحد، وذلك من الأمور التي لا يدرك علمها إلا بخبر من الله عز وجل أو من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
أما القول الأول فقد أجاب الجمهور على استدلالهم بحديث عبادة ابن الصامت بقولهم لا يخلو قوله "أول ما خلق الله القلم ... الخ" من أن يكون جملة أو جملتين، فإن كان جملة -وهو الصحيح- كان معناه أنه عند أول خلقه قال له (اكتب) كما في اللفظ، (أول ما خلق الله القلم قال له اكتب) بنصب (أول) و (القلم) فعلى هذا تكون الأولية راجعة إلى الكتابة لا إلى الخلق. وإن كانت جملتين وهو مروي برفع (أول) و (القلم) فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق بهذا الحديثان، إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم1. أما هيئة العرش: فقد دلت الأحاديث على أنه مقبب الشكل وأنه على هذا العالم المكون من السموات والأرض وما فيهما كهيئة القبة وهذا ما يدل عليه حديث الأعرابي الذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عرشه على سمواته وأراضيه هكذا" وأشار بأصابعه مثل القبة. ويؤيد وصف هيئة العرش بهذه الصفة ما جاء في الحديث الآخر "إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلاها وفوقه عرش
الرحمن". فالحديث يبين أن الفردوس أوسط الجنة وأعلاها كما جاء في الحديث الآخر: "مائة درجة ومابين كل درجة ودرجة كما بين السموات والأرض". فكون العرش سقفاً للفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها يدل على أنه مقبب لأن هذه الصفة لا تكون إلا في المستدير. والعرش له قوائم كما جاء في الحديث الصحيح "لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" الحديث. وفي إثبات كون العرش مقبباً وأن له قوائم تحمله، رد على من زعم من الفلاسفة أن العرش فلك من الأفلاك أو أنه الفلك التاسع، وقد تقدم الرد على زعم هؤلاء. وكذلك فيه رد على من زعم أن العرش بمعنى الملك لأنه لا يعقل أن يكون ماسكاً بقائمة من قوائم الملك. وقد ذكر ابن كثير والذهبي أن العرش من ياقوتة حمراء1 وقد استدلوا لهذا القول بما رواه إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت سعداً الطائي يقول: "العرش ياقوتة حمراء" 2.
المبحث الثاني: مكان العرش
المبحث الثاني: مكان العرش إن الآيات والأحاديث التي جاء فيها ذكر عرش الرحمن تبارك وتعالى لتدل دلالة واضحة على أن لعرش الرحمن مكاناً قبل وجود السموات والأرض وبعد خلقهما، فأما مكانه قبل خلق السموات والأرض فالآيات والأحاديث تبين لنا أن مكانه على الماء، فالله سبحانه يقول في كتابه الكريم {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} . [هود:7] قال الطبري في تفسير هذه الآية: "وقوله {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} يقول وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض وما فيهن، وعن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} قبل أن يخلق شيئاً"1. وأما الأدلة من السنة على ذلك فكثيرة منها حديث عمران بن حصين الذي جاء فيه: "كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على
الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض". وكذلك ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء". وكذلك حديث أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: "كان في عما ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء". فكل من الآية والأحاديث تدل دلالة قاطعة على أن مكان العرش منذ خلقه على الماء، وليس مراد بالماء هنا ماء البحر لأن ماء البحر إنما وجد بعد خلق السموات والأرض، وإنما الماء المذكور هنا ماء آخر تحت العرش على ما شاء الله تعالى 1. وقد سئل حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} على أي شيء كان الماء؟ قال: "كان على متن الريح"2.
وعن سليمان التيمي أنه قال: "ولو سئلت أين الله؟ لقلت: في السماء، فإن قال: فأين كان عرشه قبل السماء؟ لقلت: على الماء، فإن قال: فأين كان عرشه قبل الماء؟ لقلت: لا أعلم، قال أبو عبد الله: وذلك لقوله تعالى {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} [البقرة 255] "1. هذا مكان العرش قبل خلق هذا الكون الذي هو عبارة عن السموات والأرض، أما مكانه بعد خلق السموات والأرض فالحديث عنه من جانبين: الجانب الأول: مكانه بالنسبة إلى الله تعالى مع غيره من المخلوقات. والجانب الثاني: مكانه بالنسبة إلى السموات والأرض بعد خلقهما. أما مكان العرش بالنسبة إلى الله تعالى مع غيره من المخلوقات فهو أقربها إليه سبحانه، وذلك لأن الله سبحانه قد أخبر أنه مستو على عرشه في أكثر في موضع في القرآن الكريم، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ففي إثبات الاستواء على العرش دليل على قربه إليه لأنه سبحانه
مستو على أعلى مخلوقاته وأقربها إليه، وهذه ميزة امتاز بها العرش على ما سواه. ومما يؤيد كون العرش أقرب المخلوقات إلى الله ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال"1. فالحديث يدل على أن حملة العرش هم أول من يتلقى أمر الله، ثم يبلغونه للذين يلونهم من أهل السموات، فكونهم أقرب الخلق إلى الله دليل على أن العرش أقرب منهم إليه سبحانه لأنهم إنما يحملونه.
أما مكان العرش بالنسبة للسموات والأرض بعد خلقهما، وهل مازال على الماء؟ فالجواب ما يلي: إن العرش ما يزال على الماء المذكور في الآية والأحاديث بدليل ما جاء في أحاديث الأوعال، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك كله ثمانية أملاك أوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهم العرش". فالحديث يُشير كما أسلفنا إلى وجود ذلك الماء الذي تحت العرش، وإلى أنه ما زال موجوداً إلى ما بعد خلق السموات والأرض. أما مكان العرش بالنسبة إلى السموات والأرض فهو أعلى منها وفوقها، وهو كالقبة عليها كما جاء في الحديث: "إن عرشه على سمواته وأراضيه هكذا" وأشار بأصابعه مثل القبة. وكذلك ما جاء في حديث العباس بن عبد المطلب الذي يسمى بحديث الأوعال، فكلا الحديثين يدلان على أن العرش فوق السموات والأرض وأعلى منهما وهو كالسقف عليهما، بل هو سقف للجنة كما في حديث: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه
الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن"1. فمكان العرش فوق السموات والأرض وفوق الجنة وهو أعلى المخلوقات وأرفعها، وجميع المخلوقات دونه في العلو والارتفاع. والله أعلم.
المبحث الثالث: خصائص العرش
المبحث الثالث: خصائص العرش خص الخالق سبحانه وتعالى عرشه الكريم بخصائص عديدة ميزته على كثير من المخلوقات الأخرى، وذلك لما للعرش من المكانة الرفيعة عند البارئ عز وجل، وقد ذكر عرش الرحمن في واحد وعشرين موضعاً من القرآن الكريم، ومجيء ذكر العرش بهذا العدد يدل على ما له من مكانة ومنزلة عالية عند الخالق سبحانه وتعالى. فالله سبحانه وتعالى قد مدح نفسه في أكثر من موضع من كتابه الكريم بأنه صاحب العرش العظيم والكريم والمجيد، قال تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ، وقال تعالى {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} . فالله سبحانه يصف لنا في هذه الآيات وغيرها العرش بأنه عظيم، وكريم، ومجيد، فهو عظيم لكونه أكبر المخلوقات وأعظمها وأعلاها، وذلك لما خص الله به هذا العرش من الاستواء عليه، ومجيد وكريم لما له من منزلة تميز بها عما سواه من المخلوقات، فهو إنما اتصف بهذه الصفات لجلالته وعظيم قدره. كما أن في قوله تعالى {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو
الْعَرْشِ} إخبار منه تعالى عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع خلقه، ومما يدل أيضاً على عظمة هذا العرش اقترانه باسم (الرحمن) كثيراً في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وقوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} . ففي هذا الاقتران بين اسم الرحمن والعرش حكمة وهي إخباره عز وجل بأنه قد استوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات، ذلك لأن العرش محيط بالمخلوقات وقد وسعها، والرحمة بالخلق واسعة لهم1، كما قال تعالى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف 156] . وسنذكر في هذا المبحث بعض الخصائص التي اختص بها العرش وكرم بها، والتي جعلته يوصف بهذا الوصف في القرآن الكريم ويجعل له تلك المنزلة الرفيعة. أولاً: الاستواء عليه: يعتبر استواء الله سبحانه وتعالى على العرش أعظم الخصائص التي اختص بها العرش، بل إن ما سواها من الخصائص الأخرى التي تميز بها العرش إنما جعلت له لأجل استواء الله عز وجل عليه، وذلك أن الله تعالى
لما اختصه بهذا الأمر جعل له من الخصائص والصفات كارتفاعه وعظم خلقه وكبره وثقل وزنه؛ لكي يتناسب مع ما ميز وشرف به من الاستواء عليه. ومسألة الاستواء على العرش ثابتة في الكتاب والسنة، فقد جاء ذكر الاستواء في القرآن الكريم في سبعة مواضع، ومجيء ذكر الاستواء في القرآن بهذا العدد إنما هو ليؤكد عظم هذا الأمر وأهميته، وأما السنة فهي مليئة بالأحاديث والآثار التي تثبت الاستواء وتؤكده. وإن مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم رضوان الله عليهم أجمعين أنهم يقولون: إن الله استوى على عرشه بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، فهو سبحانه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، واستواؤه حقيقة لا مجاز كما يزعم الجهمية وأتباعهم الذين ينكرون العرش وأن يكون الله فوقه، وأما كيفية ذلك الاستواء فهي مجهولة لدينا والسؤال عن كيفية ذلك الاستواء بدعة، لأن الله سبحانه لم يطلعنا على كيفية ذاته فكيف يكون لنا أن نعرف كيفية استوائه، وهو سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} . ثانياً: العرش أعلى المخلوقات أرفعها وسقفها. إن مما اختص به الخالق سبحانه وتعالى العرش مع استوائه عليه كونه
أعلى المخلوقات وأرفعها وأقربها إلى الله تعالى، فقد ثبت أن العرش أعلى من السموات والأرض والجنة وأنه كالسقف عليها، والأدلة على هذا الأمر كثيرة وقد سبق أن أوردنا جزءاً منها خلال حديثنا عن مكان العرش. والقول بأن العرش أعلى المخلوقات هو قول السلف الذي قالوا به وذهبوا إليه: قال محمد بن عبد الله بن أبي زمنين في كتابه " أصول السنة ": "ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء"1. وكون العرش أعلى المخلوقات يدل على أنه أقرب إلى الله تعالى وهذه ميزة أخرى تضاف إلى الخصائص التي انفرد بها العرش، ويدل على هذا الأمر ما جاء في حديث الأوعال: "ثم فوق ظهورهم العرش بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء والله تعالى فوق ذلك"2. وكذلك ما جاء عن ابن مسعود: "بين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي إلى الماء خمسمائة عام، والعرش على الماء،
والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه"1. ثالثاً: العرش أكبر المخلوقات وأعظمها وأثقلها. إن عرش الرحمن تبارك وتعالى يعتبر أكبر مخلوقات الله وأوسعها وأعظمها على الإطلاق، فقد خص الله عز وجل العرش بهذه الميزة العظيمة وشرفه بها مع غيرها من الميزات لكي يتناسب مع ذلك الشرف العظيم ألا وهو استواء البارئ عز وجل عليه. وعظم العرش وسعة خلقه قد دل عليهما القرآن والسنة، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، فالله سبحانه وصف العرش في هذه الآية وغيرها بكونه عظيماً في خلقه وسعته، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أي هو مالك كل شيء وخالقه لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما تحت العرش مقهورين بقدرة الله تعالى"2.
ومما يشهد لعظم العرش وسعة خلقه الأحاديث والآثار التي تتحدث عن كبر حجمه وسعته، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن عرشه على سمواته وأرضه هكذا" وأشار بأصابعه مثل القبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشبه العرش أنه كالقبة على هذا العالم المكون من السموات والأرض وما فيهما وكالسقف عليهما. وفي هذا بيان واضح على عظم العرش وكبر مساحته. وفي حديث أخر يبين لنا مدى عظم العرش وكبر مساحته، فليس العرش أكبر من السموات والأرض فقط، بل هو من الكبر وسعة الحجم بحيث لا تعدل السموات والأرض على سعة حجمهما بجانبه شيئاً يذكر، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة". وفي رواية "ما السموات السبع والأراضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة". فالحديث كما أسلفنا دليل واضح على سعة العرش وعظم خلقه، وأما مقدار ذلك الحجم وتلك السعة فلا يعلمها إلا الله تعالى. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "الكرسي موضع القدمين
والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى"1. والعرش يمتاز مع كبر حجمه وسعته، بكونه أثقل المخلوقات وزنته أثقل الأوزان، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجويرية: "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته". قال ابن تيمية: "فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان"2.
رابعاً: العرش ليس داخلا فيما يقبض ويطوى. لقد خص الله سبحانه وتعالى العرش بخصائص منها ما انفرد بها العرش عن غيره من المخلوقات، ومنها ما اشترك بها العرش مع بعض المخلوقات الأخرى، ولقد سبق الحديث عن بعض الخصائص التي انفرد بها العرش، وأود هاهنا أن أبين بعض ما اشترك به العرش مع غيره من المخلوقات من الخصائص. فقد سبق أن علمنا أن العرش مخلوق قبل السموات والأرض فهو بهذا ليس داخلا فيما خلق في الأيام الستة، ومعلوم أن الله سبحانه قد أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه يقبض يوم القيامة السموات والأرض ويطويها ويبدلها، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر 67] ، وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَ دَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم 48] ، وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء 104] ، وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق 1-2] ، وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} [الانفطار 1] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض"1. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطوي الله السموات والأرض ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون"2. فالآيات والأحاديث السابقة تدل على أن السموات والأرض وما فيهما تقبض وتطوى وتبدل. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى كالجنة والنار والعرش3. فعلى هذا يكون العرش ليس داخلا فيما يقبض ويطوى ويبدل، والأدلة على بقاء العرش كثيرة في الكتاب والسنة، فالله سبحانه وتعالى يقول مخبرا عن بقاء عرشه يوم القيامة: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا
دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة 14-17] . وكذلك ما جاء في سورة الزمر من إخباره تعالى بقبضه للأرض وطيه للسموات بيمينه وذكر نفخ الصور وصعق من في السموات والأرض إلا ما شاء الله، ثم ذكر النفخة الثانية التي يقومون بها، وأن الأرض تشرق بنور ربها وأن الكتاب يوضع، ويجاء بالنبيين والشهداء، وأنه توفى كل نفس ما عملت، وذكر سوق الكفار إلى النار، وسوق المؤمنين إلى الجنة إلى أن قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر 74-75] . فالآيات فيها إخبار عن الموقف يوم القيامة وفيها شاهد على أن العرش باق حتى بعد انتهاء الحساب. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما العرش فلم يكن داخلا فيما خلقه في الأيام الستة ولا يشقه ويفطره، بل الأحاديث المشهورة دلت على
ما دل عليه القرآن من بقاء العرش، فقد ثبت في الصحيح أن جنة عدن سقفها عرش الرحمن قال صلى الله عليه وسلم: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وفوقه عرش الرحمن" "1.
الفصل الرابع: الكلام على حملة العرش والكرسي
الفصل الرابع: الكلام على حملة العرش والكرسي المبحث الأول: الكلام على حملة العرش ... المبحث الأول: الكلام على حملة العرش إن كون عرش الرحمن له حملة يحملونه هو أمر ثابت في الكتاب والسنة، فقد جاء ذكر حملة العرش في موضعين من القرآن الكريم قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} ، وقال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} . فالآيتان تدلان على أن لعرش الله حملة يحملونه اليوم ويوم القيامة، قال شيخ الإسلام: "إن قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} ، وقوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، يوجب أن لله عرشا يحمل، ويوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك كما تقوله طائفة من الجهيمة، فإن الملك هو مجموع الخلق فهنا دلت الآية على أن لله ملائكة من جملة خلقه يحملون عرشه، وآخرون يكونون حوله، وعلى أنه يوم القيامة يحمله
ثمانية"1. وأما السنة فهي مليئة بالأحاديث والآثار الدالة على أن لعرش الرحمن حملة من الملائكة يحملونه، فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام"2. وكذلك ما جاء في حديث الأوعال: "ثم فوق ذلك ثمانية أملاك أوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهم العرش". والقول بأن حملة العرش هم من الملائكة هو قول السلف الذين يثبتون العرش على أنه جسم عظيم خلقه الله فوق العالم وأن الله استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض، وهذا ما جاء به القرآن والسنة وأجمع عليه السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم. وأما الذين أنكروا استواء الله على عرشه وقالوا: إن استوى بمعنى استولى، وأن المراد بالعرش الملك، فإنهم أنكروا أيضا كون حملة العرش هم من الملائكة، فقالوا: إن قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ،
{َيَحْمِلُ} بالجذب، {عَرْشَ رَبِّك} ملك ربك للأرض والسموات، {فَوْقَهُم} أي فوق الملائكة الذين هم على أرجائها يوم القيامة، {ثَمَانِيَةٌ} أي السموات السبع والأرض1، وقيل المراد بالثمانية: السموات والكرسي2. فقد أولوا هذه الآية كما أولوا آيات الاستواء والآيات التي جاء فيها ذكر عرش الرحمن تبارك وتعالى. أما الصنف الآخر الذين زعموا أن العرش المذكور في الآيات المراد به الفلك التاسع، وهم الفلاسفة، فهم يقولون: إن المراد بالحملة الثمانية في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، الثمانية أفلاك التي تحت الفلك المحيط أو ما يسمونه الفلك التاسع3. وقد تقدم الرد على كلا الفريقين أثناء الكلام على الأقوال في العرش. فمما تقدم تقرر أن لعرش الله حملة من الملائكة يحملونه بقدرة الله، وقد أخبرنا الله تعالى أنهم يوم القيامة ثمانية، ولكن اختلف في هؤلاء
الثمانية هل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف أم صفوف وهل هم اليوم ثمانية أم أقل على عدة أقوال: القول الأول: إن المراد بالثمانية: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله، وهذا القول مروي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} قال: "ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله" 1. وهو أيضاً مروي عن سعيد بن جبير2، والشعبي وعكرمة
والضحاك وابن جرير1. القول الثاني: إن المراد بالثمانية: أنهم ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة، وهذا القول مروي عن ابن عباس2، وقال به مقاتل3، والكلبي4. القول الثالث: إن حملة العرش هم اليوم ويوم القيامة ثمانية من الملائكة. ويستدل لهذا القول بحديث العباس بن عبد المطلب الذي جاء فيه: "ثم فوق ذلك ثمانية أملاك أوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهم العرش". الحديث يدل على أن حملة العرش هم اليوم ثمانية. وروي عن العباس بن عبد المطلب في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، قال: "ثمانية أملاك في صورة أوعال بين أظلافهم وركبهم مسيرة ثلاث وستين أو خمس وستين سنة"1. وكذلك ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخرة عينه مسيرة مائة عام"2. وعن الربيع بن أنس في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، قال: "ثمانية من الملائكة"3.
وعن شهر بن حوشب قال: "حملة العرش ثمانية، أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك"1.
القول الرابع: إن حملة العرش اليوم أربعة من الملائكة ويوم القيامة ثمانية. وهذا القول رجحه ابن كثير1، وابن الجوزي2 وقال هو قول الجمهور3. ويستدل لهذا القول بعدة أدلة منها ما رواه الطبري بسنده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمله اليوم أربعة
ويوم القيامة ثمانية"1. وروى الطبري أيضاً بسنده عن ابن إسحاق قال: بلغنا أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: "هم اليوم أربعة" يعني حملة العرش "وإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية"2. واستدلوا أيضاً بما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق أمية بن أبي الصلت في شيء من شعره فقال: رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق"3. واستدلوا أيضاً بما جاء في حديث الصور المشهور فقد جاء فيه: "ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة، أقدامهم على تخوم الأرض السفلى، والسموات إلى حجزهم، والعرش على
مناكبهم"1. ولعل هذا القول هو الأقرب إلى الصواب، ولكن ليس هناك نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة. والله أعلم.
المبحث الثاني: الكلام على الكرسي
المبحث الثاني: الكلام على الكرسي لما كان موضوع البحث في الكلام على العرش وما يتعلق به، كان لزاماً عليَّ أن أتحدث عن الكرسي، وذلك لما بين الاثنين من علاقة، فالكرسي بالنسبة إلى العرش كالمرقاة إليه. وقد جاء ذكر الكرسي في موضع واحد في القرآن الكريم وهو قوله تعالى: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة 255] . وهذه الآية هي أفضل الآي، وقد سميت بآية الكرسي، وقد تضمنت العديد من المعاني، قال ابن القيم في شرحها: "ففي آية الكرسي ذكر الحياة التي هي أصل جميع الصفات، وذكر معها قيوميته المقتضية لدوامه وبقائه وانتفاء الآفات جميعها عنه، ومنها النوم والسنة والعجز وغيرها، ثم ذكر كمال ملكه، ثم عقبه بذكر وحدانيته في ملكه وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ثم ذكر سعة علمه وإحاطته، ثم عقبه بأنه لا سبيل للخلق
إلى علم شيء من الأشياء إلا بعد مشيئته لهم أن يعلموه، ثم ذكر سعة كرسيه منبهاً على سعته سبحانه وعظمته وعلوه، وذلك توطئة بين يدي علوه وعظمته، ثم أخبر عن كمال اقتداره وحفظه للعالم العلوي والسفلي من غير اكتراث ولا مشقة ولا تعب"1. وأما الأحاديث والآثار الواردة في الكرسي فهي كثيرة جداً. وقد تعددت الأقوال واختلفت في الكرسي كما تعددت واختلفت من قبل في العرش. والأقوال في الكرسي هي: القول الأول: أن المراد بالكرسي: العلم. وهذا القول هو قول الجهمية2، فقد أولوا الكرسي بمعنى العلم كما أولوا العرش بمعنى الملك، وكل ذلك فراراً منهم عن إثبات علو الله واستوائه على عرشه. وقد استدلوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، قال: "كرسيه علمه"3.
وهذا القول قد رجحه الطبري بقوله: "وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد ابن جبير عنه أنه قال: هو علمه"1. القول الثاني: أن المراد بالكرسي هو العرش نفسه. وهذا القول مروي عن الحسن البصري، فقد روى ابن جرير بسنده عن جويبر عن الضحاك قال: كان الحسن يقول: "الكرسي هو العرش"، وقد مال ابن جرير إلى هذا القول2، واعتمد في ذلك على حديث عبد الله بن خليفة قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أدع الله أن
يدخلني الجنة، فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: "إن كرسيه وسع السموات والأرض وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع، ثم قال بأصابعه فجمعها: وإن له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله"1. القول الثالث: أن المراد بالكرسي قدرته التي يمسك بها السموات والأرض2. ويقول هؤلاء: إن العرب تسمي أصل كل شيء الكرسي، كقولك: اجعل لهذا الحائط كرسياً، أي اجعل له ما يعمده ويمسكه3. القول الرابع: أن الكرسي هو الفلك الثامن، أو ما يسمونه فلك البروج، أو فلك الكواكب الثوابت4. وقد قال بهذا القول بعض المتكلمين في علم الهيئة من الفلاسفة المنسوبين للمسلمين كابن سينا وغيره وهؤلاء هم الذين قالوا أن العرش هو الفلك التاسع.
القول الخامس: إن الكرسي جسم عظيم مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وهو موضع القدمين للبارئ عز وجل1. وهذا القول هو مذهب السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واقتدى بسنتهم، وهذا هو ما دل عليه القرآن والسنة والإجماع ولغة العرب التي نزل القرآن بها. فالأحاديث والآثار الثابتة على هذا وبينته بياناً واضحاً لا يدعو إلى الشك أو الارتياب، ومن تلك الأحاديث والآثار: حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: دخلت المسجد الحرام فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فجلست إليه، فقلت يا رسول الله: أيما أنزل عليك أفضل؟ قال: "آية الكرسي، وما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة"2. وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم109) بعد أن سرد الطرق لهذا الحديث: "وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح، والحديث خرج مخرج التفسير لقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ} وهو صريح في كون الكرسي أعظم المخلوقات بعد العرش، وأنه قائم بنفسه وليس شيئاً معنوياً وفيه رد على من تأوله بمعنى الملك وسعة السلطان". وأيضاً ما جاء عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، قال: "الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره أحد"1. وهذا ثابت عن ابن عباس في تفسير معنى الكرسي الوارد في الآية، وهذا القول في الكرسي نقل عن كثير من الصحابة والتابعين منهم ابن مسعود2، وأبو موسى الأشعري3، ومجاهد4، وغيرهم.
ولذلك فقد ذكر كثير من العلماء أن هذا القول في الكرسي قد حصل عليه إجماع السلف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الكرسي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف"1. وقال شارح العقيدة الطحاوية: "وإنما هو -الكرسي- كما قال غير واحد من السلف بين يدي العرش كالمرقاة إليه"2. وقال محمد بن عبد الله بن زمنين: "ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش وأنه موضع القدمين"3. وقال القرطبي: "والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه"4.
كما أن أهل اللغة لا يعرفون معنى الكرسي غير هذا المعنى، قال الزجاج: "والذي نعرفه من الكرسي في اللغة: الشيء الذي يعتمد ويجلس عليه، فهذا يدل على أن الكرسي عظيم دونه السموات والأرض"1. وقال ثعلب: "الكرسي ما تعرفه العرب من كراسي الملوك"2. ومن هذا كله يتبين لنا مدى صحة هذا القول وموافقته للكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومطابقته لما جاء في لغة العرب، وأما الأقوال الأخرى فهي أقوال باطلة ومخالفة لما عليه جمهور أهل السنة من سلف الأمة وخلفها. وأما ما استدل به أهل القول الأول من قول ابن عباس، فهو غير صحيح كما بيناه في تخريجه، والصحيح عن ابن عباس هو قوله: "الكرسي موضع القدمين...."، وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها. وأما القول الثاني: إن الكرسي هو العرش نفسه، فلم يثبت عن الحسن البصري، لأن في إسناده جوبيراً وهو متفق على ضعفه، وقال فيه الحافظ ابن حجر: "ضعيف جداً". وقال ابن كثير: "رواه ابن جرير من طريق جوبير، وهو ضعيف، وهذا لا يصح عن الحسن بل الصحيح عنه وعن غيره من الصحابة
والتابعين أنه غيره"1. وقال البيهقي عند الكلام على هذا القول: "هذا ليس بمرضي، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه"2. ومساندة ابن جرير الطبري لهذا القول غير صحيحة، لأن حديث عبد الله بن خليفة ضعيف كما تقدم. أما القول الثالث: فهو قول مخالف لما دلت عليه الأحاديث والآثار، ومخالف لما عليه الجمهور من أهل السنة والجماعة ومخالف للغة العربية، وهو تأويل باطل ترده الأحاديث، وهو أيضاً تكذيب بالكرسي، وتكذيب للأحاديث الصحيحة التي دلت على وجود الكرسي. وأما القول الرابع: فيكفي في إثبات بطلانه أن جماعة من أنفسهم ردوا عليهم هذا القول كما ذكره ابن كثير وبالإضافة إلى ذلك فإن أصحاب هذا القول ليس لديهم أي دليل على قولهم هذا كما سبق وأن بيناه في قولهم في العرش.
القسم الثاني: التعريف بالمؤلف والكتاب
القسم الثاني: التعريف بالمؤلف والكتاب الفصل الأول: التعريف بالمؤلف ... الفصل الأول: التعريف بالمؤلف أولاً: اسمه وكنيته1 هو الشيخ الإمام الحافظ الكبير، مؤرخ الإسلام، شيخ المحدثين،
محدث العصر، وخاتمة الحفاظ، شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أحمد ابن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي التركماني الفارقي ثم الدمشقي، الشافعي، المقرئ. ثانياً: أصله يرجع الذهبي إلى أصول تركمانية، فقد قال الذهبي عن جد أبيه قايماز: "قايماز ابن الشيخ عبد الله التركماني الفارقي، جد أبي ... "1 وكذا قال في جده عثمان2. فهو من أسرة تركمانية الأصل، سكنت مدينة مَيَّافارقين من أشهر مدن ديار بكر3. ويرجع في ولائه4 إلى بني تميم، فقد ذكر بشار عواد في ترجمته للذهبي أن الذهبي كتب بخطه على طرة المجلد التاسع عشر من "تاريخ
رابعاً: مولده: ولد في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة1. وذكر ابن حجر أن مولده في الثالث من الشهر المذكور2. وكان مولده في مدينة دمشق3. خامساً: أسرته عاش الذهبي في أجواء أسرة متدينة متعلمة ميسورة الحال، الأمر الذي ساعده على التحصيل العلمي منذ نعومة أظفاره. فمن جهة والده، كان والده شهاب الدين أحمد بن عثمان قد طلب العلم، وسمع الصحيح من المقداد القيسي سنة (666هـ) ، وقد ترجم له الذهبي في معجم شيوخه4، وقد توفي والده سنة (697هـ) .
وكذلك استفاد الذهبي من عمته ست الأهل بنت عثمان بن قايماز، وهي أمه من الرضاعة، وكان قد أجاز لها ابن أبي اليسر، وجمال الدين بن مالك، وزهير بن عمر الزرعي، وجماعة. وسمعت من عمر بن القواس وغيره. فروى الذهبي عنها، وكانت وفاتها سنة (729هـ) 1. ولكن لم تكن أسرة والده عريقة في العلم مشهورة به، فجد الذهبي عثمان ابن قايماز يقول عنه الذهبي: "رجل أُمِّيٌّ" وكان نجاراً، وقد توفي سنة (683هـ) ، وقد ترجم له الذهبي في معجم الشيوخ2. وكذلك جد أبيه قايماز بن عبد الله، فلم يذكر الذهبي أن له اشتغالاً بالعلم، وذكر أنه توفي عن مائة وتسع سنين، وقد عُمِّرَ وأضر بآخره، وكانت وفاته سنة إحدى وستين وستمائة3. وأما من جهة والدته: فإنها ابنة علم الدين، أبو بكر سنجر بن عبد الله الموصلي، قال عنه الذهبي: "كان خيراً، عاقلاً، مديراً للمناشير بديوان الجيش، مات سنة (680هـ") 4.
وقد أفاد الذهبي من خاله علي بن سنجر بن عبد الله الموصلي، وقال في ترجمته: "الحاج المبارك، أبو إسماعيل -خالي-، مولده في سنة ثمان وخمسين وستمائة، وسمع بإفادة مؤدبه ابن الخباز من أبي بكر الأنماطي، وبهاء الدين أيوب الحنفي، وست العرب الكندية. وسمع معي ببعلبك من التاج عبد الخالق وجماعة، وكان ذا مروءَةٍ وكد على عياله، وخوف من الله. توفي في الثالث والعشرين من رمضان سنة ست وثلاثين وسبعمائة"1. وفي محيط أسرته استفاد الذهبي من زوج خالته فاطمة، واسمه أحمد ابن عبد الغني بن عبد الكافي الأنصاري الذهبي، المعروف بابن الحرستاني، وقد سمع الحديث ورواه، وكان حافظاً للقرآن الكريم، كثير التلاوة له. توفي بمصر سنة (700هـ) 2. سادساً: نشأته في طلب العلم: كانت أهم العوامل التي أثرت في التكوين العلمي للإمام الذهبي في بداية طلبه للعلم، أسرته وبلده. أما أسرته، فهو كما أسلفنا من أسرة متدينة متعلمة، ميسورة الحال،
الأمر الذي ساعد -بعد توفيق الله تعالى- على دفع الذهبي إلى كتاتيب تعليم القرآن في صغره، والتفرغ بعد ذلك لطلب العلم وتحصيله من ريعان شبابه، بدلاً من الانشغال في تحصيل قوته وطلب رزقه. ولم يكن يكدر صفو هذه النعمة إلا امتناع والده عن السماح له بالرحلة في طلب العلم إلا في رحلات قصيرة لا تتجاوز أربعة أشهر، وذلك لخوفه عليه وشدة تعلقه به. وقد عبر الذهبي عن تحسره لعدم الالتقاء ببعض الشيوخ لهذا المانع ومن ذلك قوله: "وكنت أتحسر على الرحلة إليه، وما أتجسر خوفاً من الوالد، فإنه كان يمنعني"1 وقال في موضع آخر: "ولم يكن الوالد يمكنني من السفر"2. وأما العامل الثاني، فهو بلده دمشق التي كانت تجمع في ذلك العصر شموس العلم من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ المزي وغيرهما، فقد حظي الذهبي برفقة هؤلاء والإفادة منهم، وأضف إلى ذلك اشتهار دمشق في ذلك الحين بكبريات دور الحديث، كدار الحديث الظاهرية، ودار الحديث السكرية، ودار الحديث الأشرفية، وغيرها. فقد كانت دمشق في ذلك العصر مركز إشعاع علمي وخاصة في علوم الحديث،
وخير شاهد على ذلك ما نراه بين أيدينا من مؤلفات وموسوعات علمية كتبت في تلك الحقبة الزمنية التي عاشها الذهبي. وقد بدأ الذهبي بدايته العلمية بحفظ كتاب الله تعالى، وتعلم مبادىء القراءة والكتابة، وذلك على يد أحد المؤدبين، واسمه علاء الدين علي بن محمد الحلبي، المعروف بالبصبص، حيث أقام الذهبي في مَكْتَبِه أربعة أعوام1. ثم انتقل الذهبي بعدها إلى الشيخ مسعود بن عبد الله الأغزازي، فلقنه جميع القرآن، ثم قرأ عليه نحو من أربعين ختمة2. تلك هي بواكير دراسته، والتي تبعها بعد ذلك جلوسه في مجالس الشيوخ، وذلك ببلوغ سن الثامنة عشرة3، حيث تعتبر هذه السن عند الذهبي بداية مرحلة العناية بطلب العلم، وقد ركز في تلك المرحلة على علمين شريفين عظيمين هما: علم القراءات وعلم الحديث، فلازم كبار علماء القراءات في عصره، حتى أصبح متقناً لهذا الفن وأصوله ومسائله، مما حذا بالشيخ محمد
ابن عبد العزيز الدمياطي -وهو من المقرئين المجودين- أن يتنازل له عن حلقته بالجامع الأموي، عقب مرض الشيخ، الذي توفي على إثره سنة (693هـ) 1. وإن كان الذهبي لم يستمر في ذلك المنصب إلا قرابة السنة بسبب انشغاله بالرحلة إلى طلب العلم2. قال عنه السيوطي: "وتلا بالسبع وأذعن له الناس"3. وأما علم الحديث، فقد كان له النصيب الأوفر عند الذهبي، حيث اعتنى به العناية الفائقة حتى أصبح هذا العلم هو شغله الشاغل طيلة حياته، فقد سمع الذهبي مئات الكتب والأجزاء الحديثية، ولعل نظرة في معجم شيوخه (المعجم الكبير) تبرهن لك على سعة اطلاعه وغزارة تحصيله في هذا الجانب، فضلاً عن نتاجه الذي يشهد بتبوئه المنزلة العالية والمقام الرفيع بين مصاف أكابر هذا الفن. قال عنه السيوطي: "وطلبَ الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع الكثير، ورحل، وعني بهذا الشأن، وتعب فيه وخدمه إلى أن رسخت فيه قدمه"4.
ومع عناية الذهبي بعلمي القراءات والحديث في تلك المرحلة، إلا أنه لم يهمل علوم العربية والأدب والتاريخ، فقد عني بدراسة النحو، فسمع" الحاجبية " على شيخه موفق الدين أبي عبد الله محمد بن أبي العلاء- النصيبي المتوفى سنة (695هـ) 1. كما دَرَسَ على شيخ العربية، وإمام أهل الأدب في مصر آنذاك، الشيخ محمد بن إبراهيم بن النحاس الحلبي المتوفى سنة (698هـ) 2. "إضافة إلى سماعه لعدد كبير من مجاميع الشعر واللغة والأدب"3، وقد تعاطى الشعر، ونظم اليسير منه. "واهتم بالكتب التاريخية، فسمع عدداً كبيراً منها على شيوخه، في المغازي، والسيرة، والتاريخ العام، ومعجمات الشيوخ والمشيخات، وكتب التراجم الأخرى"4. وفي العموم فقد اعتنى الذهبي في فترة تحصيله بشتى العلوم الدينية مع ما تحتاجه تلك العلوم من علوم الآلة ونحوها من العلوم المساعدة مع أنه لم ينقطع عن التحصيل والسماع طوال حياته، يشهد لذلك معجمات شيوخه ومؤلفاته الموسوعية التي تؤكد دراسته لعدد ضخم من المؤلفات في
العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، واللغة، والأدب، وغيرها. وقد انعكس هذا التحصيل الواسع على مؤلفاته التي تشهد له بسعة الإطلاع وغزارة الإنتاج مع القوة والتمكن في مختلف العلوم. سابعاً: رحلاته: مع ما أسلفنا من أن والد الذهبي كان يمنعه من السفر والرحلة في طلب العلم وهو في مقتبل شبابه، إلا أن ذلك المنع لم يكن بالكلية، فقد سمح له والده ببعض الرحلات القصيرة، تمكن من خلالها الالتقاء ببعض العلماء خارج محيط بلده دمشق، ومن بين تلك الرحلات التي قام بها أثناء حياة والده، رحلته إلى بعض المدن الشامية، ومنها: بعلبك، وحلب، وحمص، وحماة، وطرابلس، والكرك، والمعرة، وبصرى، ونابلس، والرملة، والقدس، وتبوك1. لكن أبرز رحلاته في هذه الفترة كانت إلى مصر، التي زارها في الفترة من رجب إلى ذي القعدة من عام (695هـ) مروراً بفلسطين، وكان قد وعد والده أن لا يقيم في هذه الرحلة أكثر من أربعة أشهر2، وبسبب ذلك لم تطل فترة رحلته، ولكنه استفاد كثيراً حيث سمع من
شيوخها وكبار علمائها. وفي سنة (698هـ) أي بُعيد وفاة والده، رحل الذهبي للحج وسمع بمكة، وعرفة، ومنى، والمدينة من مجموعة من الشيوخ1. كما كانت له بعض الرحلات في تلك الفترة انحصرت في محيط البلاد الشامية. قال عنه ابن الصفدي: "وارتحل وسمع بدمشق، وبلعبك، وحمص، وحماة، وحلب، وطرابلس، ونابلس، والرملة، وبِلبِس، والقاهرة، والأسكندرية، والحجاز، والقدس، وغير ذلك"2. ثامناً: شيوخه: ذكر الصفدي أن عدد شيوخ الذهبي وصل إلى ألف وثلاثمائة شيخ3. وقد حرص الذهبي على تدوين أسماء شيوخه الذين استفاد منهم عن طريق السماع أو الإجازة، فكتب معجم الشيوخ الكبير، والأوسط،
والصغير (اللطيف) 1. وقد طبع معجم الشيوخ الكبير بتحقيق الدكتور محمد الحبيب الهيلة. وقال الذهبي في مقدمته: "أما بعد فهذا معجم العبد المسكين محمد ابن أحمد بن عثمان" إلى أن قال: "يشتمل على ذكر من لقيته أو كتب إلي بالإجازة في الصغر، وعلى كثير من المجيزين لي في الكبر ولم استوعبهم، وربما أجاز لي الرجل ولم أشعر به، بخلاف ما سمعته منه فإني أعرفه"2. ولسنا بصدد ذكر الجم الغفير من شيوخ الذهبي، ولكن نشير إلى أن الذهبي حظي برفقة ثلاثة من مشاهير عصره الذين طبّقت سمعتهم الآفاق وهم: 1ـ شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (661هـ-728هـ) . 2ـ العلامة الحافظ جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي (654هـ-
742هـ) . 3ـ العلامة الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي (665هـ-739هـ) . وكان للذهبي مع هؤلاء الأعلام صحبة وملازمة، وكان الذهبي أصغر الجميع سناً، وكان أبو الحجاج المزي أكبرهم، وكان بعضهم يقرأ على بعض، فهم شيوخ وأقران في الوقت ذاته، يجمعهم التمسك بعقيدة السلف الصالح والرغبة في تعلمها ونشرها والدفاع عنها، وحبهم لعلم الحديث والاشتغال به وحرصهم على اتِّباع آثار السلف الصالح. وقد تركت تلك الصحبة آثارها القوية على شخصية الذهبي وتكوينه العلمي، ويظهر ذلك جلياً في كتاباته. وقد ساعد على تكوين الذهبي لتلك العلاقة والصلة الوثيقة بهؤلاء الأعلام - مع أن فارق السن كان بينه وبين المزي تسع عشرة سنة، وبينه وبين ابن تيمية اثنتا عشرة سنة - ما حباه الله به من الذكاء وقوة الحافظة، الأمر الذي ساعده على ملازمة هؤلاء الأعلام ومجاراتهم مع ما تميزوا به من علم واسع، وذكاء مفرط. وقد أثنى الذهبي الثناء العطر على هؤلاء الأعلام وامتدحهم في كتاباته، واعترف لهم بالفضل والجميل1.
تاسعاً: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه تصدر الذهبي مرتبة الإمامة في عدد من العلوم، فهو إمام في علم القراءات، وإمام في علوم الحديث، وإمام في علم التاريخ. أما في علم القراءات: فقد قال عنه ابن ناصر الدين المتوفي سنة (842هـ) : "كان إماماً في القراءات"1. وقال ابن الجزري: "الأستاذ، الثقة الكبير"2. وقد اعتنى الذهبي بهذا الفن في مرحلة مبكرة من حياته. ومن مؤلفاته في ذالك، كتاب "التلويحات في علم القراءات"، وكتاب "معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار" إلا أنه مع إتقانه لهذا الفن لكنه لم يتفرغ له كما ذكر ذلك ابن الجزري3، ولعل ذلك بسبب انشغاله بعلوم الحديث. أما في علوم الحديث: فقد تفانى الذهبي في خدمة علوم الحديث، وأكثر من التصنيف فيها، ولقيت مؤلفاته القبول عند الناس، فهذا ابن حجر يقول: "ورغب الناس
في تواليفه، ورحلوا إليه بسببها، وتداولوها قراءة ونسخاً وسماعاً"1 ولا غرابة في ذلك فالإمام الذهبي بلغ منزلة عالية ودرجة رفيعة بسبب ما حباه الله من صفات وخصائص علمية تميز بها. واسمع إلى وصف بعض تلاميذه له -وهو صلاح الدين الصفدي- حيث قال: "محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ، أبو عبد الله الذهبي، حافظ لا يجارَى، ولافظ لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس، مع ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصح إلى الذهب نسبته وانتماؤه، جمع الكثير، ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف ووفر بالاختصار مؤونة التطويل في التأليف". إلى أن قال: "ولم أجد عنده جمود المحدثين، ولا كوذنة - (أي بلادة) - النقلة، بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس، ومذاهب أئمة السلف، وأرباب المقالات. وأعجبني ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثاً يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد، أو طعن في رواةٍ، وهذا لم أر غيره يعاني هذه الفائدة فيما يورده"2. وإمامة الذهبي في هذا الشأن لا يختلف فيها اثنان، ولذلك قال
السيوطي: "إن المحدثين الآن عيال في الرجال وغيرها من فنون الحديث على أربعة: المزي، والذهبي، والعراقي، وابن حجر"1. وقال عنه التاج السبكي: "شيخنا وأستاذنا، محدث العصر، اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ -وبينهم عموم وخصوص- المزي، والبرزالي، والذهبي، والشيخ الوالد، لا خامس لهم في عصرنا، فأما أستاذنا أبو عبد الله فبصر لا نظير له وكنز، هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود حفظاً، وذهب العصر معنى ولفظاً، وشيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال في كل سبيل، كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها، ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها، وكان محط رحال المعنت، ومنتهى رغبات من تعنت، تعمل المطي إلى جواره، وتضرب البزل المهارى أكبادها فلا تبرح أو تبيد نحو داره، وهو الذي خَرَّجَنا في هذه الصناعة وأدخلنا في عداد الجماعة". إلى أن قال "وسمع منه الجم الكثير، ومازال يخدم هذا الفن حتى رسخت فيه قدمه، وتعب الليل والنهار وما تعب لسانه وقلمه، وضربت باسمه الأمثال، وسار اسمه مسير لقبه الشمس إلا أنه لا يتقلص إذا نزل المطر، ولا يدبر إذا أقبلت الليال، وأقام بدمشق يُرحل إليه من سائر البلاد وتناديه السؤالات من كل ناد"2.
وقال عنه البدر النابلسي: "كان علامة زمانه في الرجال وأحوالهم، حديد الفهم، ثاقب الذهن، وشهرته تغني عن الإطناب فيه"1. وقال ابن حجر: "ومهر في فن الحديث، وجمع فيه المجاميع المفيدة والكثيرة"2. ومن أشهر كتبه في هذا المجال "ميزان الاعتدال في نقد الرجال". وأما علم التاريخ والتراجم: فالذهبي صاحب الموسوعات الكبار في هذا المجال، والتي أهمها "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام"، و"سير أعلام النبلاء"، و"العبر"، و"دول الإسلام"، و"تذكرة الحفاظ"، وغيرها كثير، وقد أظهر الذهبي في تلك المؤلفات براعة في العرض، ودقة في التحليل والنقد، مع غزارة في المعلومات، تشهد له بالذكاء والعبقرية وقوة الحافظة، لدرجة أن ابن حجر -مع فضله وجلالة قدره- شرب ماء زمزم سائلاً الله أن يصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ والفطنة3.
وقد عول الكتاب والعلماء على مؤلفاته، وأصبحت عمدة لهم فيما كتبوا وألفوا من بعده. وقد عد الذهبي والمزي أكبر المؤرخين في القرن الثامن1. عاشراً: عقيدته عُرف الذهبي رحمه الله بمواقفه التي تدعو إلى التمسك بعقيدة السلف الصالح علماً واعتقاداً وعملاً ودعوة وتعليماً، ويظهر ذلك جلياً لمن اطلع على مصنفاته سواء ما يتعلق منها بمسائل الاعتقاد مثل كتاب "العلو"، وكتاب "العرش"، وكتاب "الأربعين في صفات رب العالمين"، ورسالة "التمسك بالسنن والتحذير من البدع وغيرها"، أو كتبه الأخرى في علوم الحديث وغيرها. فقد سطر الذهبي بيراعه معتقد السلف وأثبته في تلك الكتب، ونافح ودافع عن عقيدة أهل السنة وأثنى على أهلها بما يستحقونه من الأوصاف، كما أبرز جهودهم العلمية والعملية في نشر السنة ونصرتها، وفي الوقت ذاته سلط قلمه على أهل البدع والأهواء، فما يمر على صاحب بدعة إلا ويشير إلى بدعته، ويبين وجه انحرافه، وقول أهل السنة فيه وفي بدعته، وإن كان في بعض الأحيان يوجد في كلامه بعض التساهل مع بعض
المبتدعة لكنه قليل ومحدود. والحقيقة التي يجب الإشارة إليها والإشادة بها في هذا المقام، أن الذهبي قام رحمه الله على ثغرة عظيمة، هي علم الرجال والتراجم، فاعتنى بها واهتم بأمرها اهتماماً كبيراً، حتى أصبحت محور تفكيره وأساس كثير من كتبه، فقام بخدمة هذا الجانب خير قيام، وذلك وفق منهج أهل السنة والجماعة، على غرار ما فعل شيخه وصاحبه شيخ الإسلام ابن تيمية في خدمة مسائل الاعتقاد والرد على أصحاب المقالات، فكل من الإمامين قام على ثغرة، وقام بأكبر خدمة. فقد شوه أصحاب البدع وأرباب المقالات حقائق التاريخ وسير العلماء بما دسوا فيها من الأكاذيب والأباطيل، كما فعلوا في مسائل الاعتقاد الأمر ذاته. فتصدى الذهبي رحمه الله تعالى للجانب التاريخي فوضع الأمور في نصابها وأوضح بجلاء سير أعلام السنة على وجهها الصحيح وحلاها بأجمل الحلل وكساها أبهى العبارات. وقام في الوقت ذاته بفضح أهل البدع والأهواء وكشف باطلهم، الأمر الذي أثار حفيظة أهل البدع والأهواء ونقمتهم على كتب الإمام الذهبي لما لها من ثقل ووزن في فنها، فهي تعد غصة في حلوق أهل الكلام والمتصوفة والرافضة ومن على شاكلتهم، لكونها كشفت عورات زعمائهم وأظهرت بطلان عقائدهم.
وكان الذهبي معروفاً في حياته بمواقفه الصلبة من العقائد المنحرفة وأهلها، كما اشتهر عنه صلته الوثيقة وموافقته لشيخ الإسلام ابن تيمية في نصرة السنة ومحاربة البدعة، الأمر الذي جعل الأشاعرة من الشافعية بدمشق يمانعون في توليه لمشيخة أكبر دار للحديث بدمشق حينذاك، وهي دار الحديث الأشرفية، التي شغرت مشيختها بعد وفاة رفيقه المزي سنة (742هـ) ، رغم ترشيح قاضي القضاة علي بن عبد الكافي السبكي أن يعين الذهبي لها، وكان السبب في رفضهم كون الذهبي ليس بأشعري1. ومعلوم أن الصراع كان على أشده في ذلك الحين بدمشق بين أنصار المنهج السلفي وخصومهم من أهل الكلام والمتصوفة. والكتاب الذي بين أيدينا يعطي صورة واضحة للمنهج الذي سار عليه الذهبي، فقد تبع طريقة أهل الحديث في تقرير المسائل والاستدلال عليها، فذكر معتقد أهل السنة في مسألة العلو واستدل لقولهم بنصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن سلك سبيلهم وسار على نهجهم، ناصراً بذلك قولهم وراداً على من خالفهم، كما سيأتي تفصيله. فرحم الله الذهبي وجزاه عن السنة وأهلها خير الجزاء. ولكن مع ذلك كله فاللذهبي بعض المواقف المخالفة في
المسائل المتعلقة بالقبور وتعظيمها لا يُقر عليها ولا يُوافق1. الحادى عشر: مؤلفاته أشتهر الذهبي بكثرة التصنيف2 حتى قال عنه ابن حجر: "كان أكثر أهل عصره تصنيفاً"3. وقد اجتهد الدكتور بشار عواد في جمع أسماء مؤلفات الذهبي في كتابه "الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام"، وقد بلغ مجموع ما سمى من مؤلفاته (215) مؤلفاً. ونظراً لكثرتها فإني أحيل القارئ إلى الكتاب المذكور إذا أراد الاستزادة في هذا الجانب. وسأكتفي بذكر أسماء مؤلفاته في علم العقيدة فقط وهي على النحو التالي: 1ـ العلو للعلي الغفار. وقد طبع عدة طبعات، وقام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني باختصاره. 2ـ كتاب العرش.
وهو الكتاب الذي بين أيدينا 3ـ كتاب الأربعين في صفات رب العالمين. ويتكون من أكثر من جزء، وتوجد له نسخة في الظاهرية تحتوي على الجزء الأول فقط، وقد قام الدكتور عبد القادر بن محمد عطا صوفي بتحقيق هذا الجزء، ونشرته مكتبة العلوم والحكم. 4ـ المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال -مطبوع-. وهو مختصر لكتاب "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية". 5ـ كتاب الكبائر. وقد طبع عدة طبعات. 6ـ رسالة في الإمامة العظمى. جاء في أولها "هذا كلام لخصته من كلام ابن حزم وغيره في الإمامة العظمى ... ". ذكرها الدكتور رمضان ششن في كتابه نوادر المخطوطات العربية في مكتبات تركيا (2/22) ، وأشار إلى وجود نسخة لها في (رئيس الكتاب، رقم 1185/2، كتبت في القرن الثاني عشر، من 126/ب إلى 133/ب) .
وله نسخة مصورة في قسم المخطوطات بعمادة شئون المكتبات بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية برقم (9573/4) . 7ـ كتاب أحاديث الصفات. ذكره ابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . وابن تغرى بردى في المنهل الصافي (ق70) . وسبط ابن حجر في رونق الألفاظ (ق181) . 8ـ جزء في الشفاعة. ذكره ابن تغرى بردى في المنهل الصافي (ق7) . وابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . وسبط ابن حجر في رونق الألفاظ (ق181) . 9ـ صفة النار. ذكره ابن تغرى بردى في المنهل الصافي (ق71) . وابن العماد في شذرات الذهب (6/156) وأشار إلى أنه جزءان. وسبط ابن حجر في رونق الألفاظ (ق181) . 10ـ مسألة الغيبة. ذكره ابن تغرى بردى في المنهل الصافي (ق71) . وابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . وسبط ابن حجر في رونق الألفاظ (ق180) . 11ـ كتاب رؤية الباري.
ذكره ابن تغرى بردى في المنهل الصافي (ق70) . وذكره ابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . 12ـ كتاب الموت وما بعده. ذكره الصفدي في نكت الهميان (ص243) ، وفي الوافي (2/164) وذكره ابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . وابن شاكر الكتبي في عيون التواريخ (ق87) . وابن تغرى بردى في المنهل الصافي (ق70) . وسبط ابن حجر في رونق الألفاظ (2/180) . والبغدادي في هدية العارفين (2/154) . 13ـ طرق حديث النزول. ذكره الذهبي في كتاب العرش1، وفي كتاب العلو (ص73) ، وفي الأربعين (ص70) . وذكره ابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . 14ـ طرق أحاديث الصوت. ذكره الذهبي في كتاب العرش2. 15ـ مسألة دوام النار.
ذكره الذهبي في السير (18/126) . وذكره ابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . وابن تغرى بردى في المنهل الصافي (ق71) . وسبط ابن حجر في رونق الألفاظ (ق180) . 16ـ كتاب التمسك بالسنن. ذكره ابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . وقام بتحقيقه الدكتور محمد باكريم محمد باعبد الله، ونشر في مجلة الجامعة الإسلامية العدد (103) . 17ـ مختصر كتاب الزهد للبيهقي. ذكره ابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . وذكر بشار عواد أن له نسخة في مكتبة عارف حكمت بالمدينة النبوية. 18ـ مختصر كتاب القدر للبيهقي. ذكره الصفدي في نكت الهميان (ص243) . وذكره ابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . 19ـ مختصر كتاب البعث والنشور للبيهقي. ذكر ابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . 20ـ كتاب الروع والإوجال في بقاء الدجال. ذكره الصفدي في الوافي (2/164) ، وفي نكت الهميان (ص243)
والسبكي في الطبقات (9/105) . والزركشي في عقود الجمان (ق79) . وذكره ابن العماد في شذرات الذهب (6/156) . وابن تغرى بردى في المنهل الصافي (ق70) . وسبط ابن حجر في رونق الألفاظ (ق180) . وحاجي خليفة في كشف الظنون (1/933) . والبغدادي في هداية العارفين (2/154) . 21ـ مختصر الرد على ابن طاهر لابن المجد. وهو في بيان مسألة السماع، رد فيه على من جوزه. ذكره بشار عواد في كتابه الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام (ص240) . 22ـ كتاب تشبيه الخسيس بأهل الخميس. وهو في بيان بدعة التشبه بالنصارى في أعيادهم. والكتاب مطبوع بتحقيق علي حسن عبد الحميد، نشرته دار عمار بالأردن سنة (1408هـ) . الثاني عشر: تلاميذه تتلمذ على يد الذهبي المئات من التلاميذ، وقد قال عنه تلميذه
الحسيني: "وحمل عنه الكتاب والسنة خلائق"1. وقال السبكي: "وسمع منه الجم الكثير"2. ومن ينظر في كتب القرن الثامن يجدها زاخرة بمئات من التلاميذ الذين استفادوا من الذهبي ولعل من أشهر من استفاد وسمع منه من نظرائه: 1ـ الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير، المتوفى سنة (774هـ) صاحب كتاب "تفسير القرآن العظيم"، وكتاب "البداية والنهاية"3. 2ـ الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن الحسن بن محمد السلامي البغدادي، الشهير بابن رجب الحنبلي، المتوفى سنة (795هـ) 4. ومن أشهر تلاميذه: 3ـ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، المتوفى سنة (764هـ) صاحب كتاب "الوافي بالوفيات". 4ـ شمس الدين أبو المحاسن، محمد بن علي بن الحسن الحسيني، الدمشقي، الشافعي، المتوفى سنة (765هـ) ، صاحب "ذيل تذكرة
الحفاظ". 5ـ تاج الدين أبو نصر، عبد الوهاب بن علي السبكي، المتوفى سنة (771هـ) صاحب "طبقات الشافعية الكبرى". الثالث عشر: وفاته توفي الذهبي رحمه الله تعالى قبل منتصف ليلة الاثنين، ثالث ذي القعدة، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وكان قد بلغ من العمر حينذاك خمسة وسبعين عاماً وسبعة أشهر. وكانت وفاته بدمشق، ودفن رحمه الله بمقبرة الباب الصغير، وحضر الصلاة عليه جملة من العلماء، وكان رحمه الله قد كف بصره قبل موته بسبع سنين. قال تلميذه الحسيني: "أضر في سنة إحدى وأربعين، ومات في ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بدمشق، ودفن في مقبرة الباب الصغير رحمه الله تعالى"1.
الفصل الثاني: التعريف بالكتاب
الفصل الثاني: التعريف بالكتاب ... الفصل الأول: التعريف بالكتاب أولاً: اسم الكتاب جاء على طرة النسخة المخطوطة (أ) عبارة (كتاب العرش للذهبي) . كما جاء في آخرها (تم كتاب العرش للذهبي) . وجميع من ذكر الكتاب ممن ترجم للذهبي أطلق عليه هذه التسمية. ولم أقف على خلاف ذلك إلا ما ذكره ابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية -بعد ما نقل نصاً من الكتاب- حيث قال: "حكاه عنه محمد بن أحمد بن عثمان في رسالته في الفوقية"1. ولعل هذا تصرف من ابن القيم حيث أطلق عليه اسم مضمونه بدلاً عن اسمه الصحيح. وأيضاً ما جاء في الجزء الموجود من مختصر هذا الكتاب والذي توجد قطعة منه في المكتبة الظاهرية بدمشق ضمن مجموعة برقم (47- مجاميع) ، ولها نسخة مصورة بقسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم (1506- مكبر) فقد سماه مختصره "مختصر الذهبية" ولم يتبين لي سبب هذه التسمية.
ثانياً: توثيق نسبة الكتاب للمؤلف إثبات نسبة الكتاب للمؤلف مسألة واضحة تؤكدها الحقائق التالية: أ- ما جاء في أول وآخر النسخة الخطية (أ) التي اعتمدت عليها من التصريح بنسبة الكتاب للمؤلف. ب- تصريح عدد من المؤرخين الذين ذكروا مؤلفات الذهبي، باسم الكتاب، ونسبوه للذهبي، ومنهم: 1ـ ابن تغرى بردى في "المنهل الصافي" (ق70) . 2ـ سبط ابن حجر في "رونق الألفاظ" (ق180) . 3ـ ابن العماد في "شذرات الذهب" (6/156) . 4ـ حاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/1438) . 5ـ البغدادي في "هدية العارفين" (2/154) . 6ـ بروكلمان في "تاريخ التراث العربي" (الملحق 1/47، بالألمانية) . 7ـ بشار عواد في كتابه "الذهبي ومنهجه في كتابه التاريخ" (ص148) . فجميع هذه المصادر ذكرت الكتاب وأكدت نسبته للذهبي.
جـ- تصريح من نقل أو استفاد من الكتاب بنسبته إلى الذهبي. ومن أولئك: * ابن القيم الذي اعتمد في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" على كتاب العرش فيما نقله من نصوص عن الذهبي ولم يعتمد على كتاب العلو. وقد نبهت على ذلك في بعض المواطن داخل النص المحقق، وانظر على سبيل المثال ما علقته في الفقرة (226) . * وكذلك السفاريني في كتابه "لوائح الأنوار السنية" فقد استفاد من الكتاب ونقل منه فقال: "قال الإمام الحافظ الذهبي في كتاب العرش ... "، انظر (1/356) . * وذكره أيضا في كتابه "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية" (1/196) فقال: "وكتاب العرش للحافظ شمس الدين الذهبي صاحب الأنفاس العلية". د- رواية المصنف لبعض الأحاديث والآثار بأسانيدها المتصلة عن شيوخه الذين اشتهر بالرواية عنهم إلى أصلها الذي أخذت منه. فتلك الأسانيد تدل على صحة نسبة الكتاب له.
هـ- ذكر المصنف لبعض المصنفات التي ألفها في ثنايا الكتاب ومنها: 1ـ "طرق أحاديث النزول"، انظر الفقرة رقم (72) . 2ـ "طرق أحاديث الصوت"، انظر الفقرة رقم (81) . وتطابق بعض التعليقات في كتاب "العرش" مع ما ورد في كتاب الذهبي "العلو" و"الأربعين في صفات رب العالمين". وهذا التطابق يؤكد نسبة الكتاب إليه.
ثالثاً: الفرق بين كتاب العرش وكتاب العلو يتساءل الكثير من الباحثين عند سماعه باسم الكتابين عن الفرق بينهما. (فهذا بروكلمان في كتابه: "تاريخ التراث العربي" (الملحق 1/ 47) ، تسائل عند ذكره لكتاب العرش، هل هو كتاب العلو أم أنه غيره؟) 1. وكذلك فإن بشار عواد في كتابه "الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام" (ص148) يقول إنه لم يستطع التفريق بين الكتابين لأنه لم يستطع الوقوف على كتاب العرش. وعذر بروكلمان وبشار عواد واضح لكونهما لم يطلعا على نسخة لكتاب العرش. ومع عدم ظهور طبعة لكتاب (العرش) لم يزل الالتباس قائماً بسبب عدم تمكن البعض من الاطلاع على نسخة لكتاب العرش، أو لعدم معرفتهم بوجود كتاب للذهبي يحمل عنوان "كتاب العرش". وممن وقع في اللبس في هذه المسألة فضيلة الشيخ الألباني حيث جزم في مقدمة كتابه "مختصر العلو للعلي الغفار" بأن "كتاب العلو" هو "كتاب
العرش" الذي ذكره ابن العماد في "الشذرات" والسفاريني في "لوامع الأنوار"1. وهذا القول للشيخ الألباني -حفظه الله- شاع بين طلبة العلم وأشاع مقولة أن الكتابين كتاب واحد. وهذا خلاف الصواب. فمن خلال معايشتي لتحقيق كتاب "العرش" والمقارنة بينه وبين كتاب "العلو"، أود أن أوضح وأجلي ما وقع من لبس وخطأ في هذه المسألة وأبين الحقائق التالية: أولاً: من الناحية التاريخية: فرق سبط ابن حجر في كتابه "رونق الألفاظ" (ق180) بين الكتابين فذكر "كتاب العرش" باسم مستقل و"كتاب العلو" باسم مستقل، وقد أشار بشار عواد إلى هذه المعلومة في كتابه "الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام"2. وكذلك فعل إسماعيل باشا البغدادي في كتابه "هدية العارفين" (6/154) عند ذكره لمؤلفات الذهبي فقد فرق بين الكتابين فقال "كتاب العرش وصفته" وقال كتاب "العلو للعلي الأعلى الغفار في إيضاح الأخبار".
ثانياً: إنه بعد ظهور نسخة لكتاب "العرش" وصدورها بإذن الله مطبوعة، لم يبق مجال للتشكيك في الفرق بين الكتابين فمن يطلع على هذا الكتاب ويقارن بينه وبين كتاب العلو يجد صدق ما نقول. ثالثاً: مع أن الكتابين ليسا كتاباً واحداً إلا أن هناك أوجه تشابه كبيرة بين محتوى الكتابين، وذلك يرجع للأسباب التالية: 1ـ كون مؤلف الكتابين واحد. 2ـ أن كلا الكتابين يبحثان في موضوع واحد ألا وهو مسألة إثبات علو الله واستوائه على عرشه وتقرير ذلك وفق عقيدة السلف الصالح. 3ـ سار المؤلف في منهجه وطريقة عرضه للموضوع على نسق واحد في كلا الكتابين، حيث بدء بذكر النصوص القرآنية ثم الأحاديث النبوية ثم أقوال الصحابة ثم أقوال التابعين ثم أتباع التابعين ثم من بعدهم من الطبقات. رابعاً: مع وجود أوجه للتشابه بين الكتابين إلا أن هناك فوارق واضحة بين الكتابين منها: 1ـ مقدمة الكتابين ليست واحدة، فكل من الكتابين له مقدمة تختلف عن مقدمة الكتاب الآخر. 2ـ اختلفت طريقة عرض الفصل الأول من "كتاب العرش" والمتعلق بالأدلة من الكتاب عن طريقة كتاب "العلو".
3ـ مع الاشتراك في كثير من الأحاديث في الفصل المتعلق بالأدلة من السنة إلا أن كل كتاب انفرد ببعض الأحاديث مع اختلاف في تعليقات الذهبي على أحاديث الكتابين مما يترتب عليه أن كل كتاب احتوى على فوائد لا توجد في الكتاب الآخر. 4ـ ما حصل في فصل الأدلة من السنة ينسحب على بقية فصول ومحتويات الكتاب، فكل كتاب ينفرد ببعض الآثار والفوائد التي لا توجد في الكتاب الآخر. وأضرب لك على سبيل المثال لا الحصر مثالاً لفائدة انفرد بها كتاب "العرش" ولا توجد في كتاب "العلو". قوله في أبي الحسن الأشعري: "وكان معتزلياً ثم تاب، ووافق أصحاب الحديث في أشياء يخالفون فيها المعتزلة، ثم وافق أصحاب الحديث في أكثر ما يقولونه، وهو ما دوناه عنه من أنه نقل إجماعهم على ذلك، وأنه موافق لهم في جميع ذلك، فله ثلاثة أحوال: حال كان معتزلياً، وحال كان سنياً في البعض دون البعض، وحال كان في غالب الأصول سنياً، وهو الذي علمناه من حاله، فرحمه الله وغفر له ولسائر المسلمين"1.
والفوائد التي انفرد بها الكتاب من جنس هذه كثيرة، يدرك قيمتها من احتاج إليها. خامساً: قول المصنف في مقدمة كتاب العلو: "فإني كنت في سنة ثمان وتسعين وستمائة جمعت أحاديث وآثاراً في مسألة العلو، وفاتني الكلام على بعضها، ولم أستوعب ما ورد في ذلك، فذيلت على ذلك مؤلفاً أوله (سبحان الله العظيم وبحمده على حلمه بعد علمه) ، والآن فأرتب المجموع وأوضحه هنا ... ". ليس فيه إشارة واضحة إلى أن كتاب العرش هو المسودة الأولى لكتاب العلو، فالمؤلف لم ينص على اسم الكتاب ولم يذكر مقدمته. ومن المؤكد أنه ليس هو المسودة الثانية التي أشار المؤلف إلى مقدمتها وهي غير مقدمة العرش التي أولها (الحمد لله الذي ارتفع على عرشه في السماء) ، وفي اعتقادي لو كان الكتاب مسودة لما اعتمد عليه ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وكذلك السفاريني في "لوائح الأنوار" ولما شاع ذكره في كتب التراجم. والله أعلم. وخلاصة النتيجة التي توصلت إليها واقتنعت بها: أنه من الحيف والخطأ اعتبار الكتابين كتاباً واحداً، أو ادعاء أن أحد الكتابين يغني عن الآخر، فكل من الكتابين انفرد بفوائد وفوارق لا توجد في الآخر. ولذلك من الخطأ أن يحجب كتاب العرش عن الوصول لأيدي القراء ففي ذلك حرمان لهم من الفوائد والفرائد التي احتواها الكتاب
في فنون شتى. والذهبي يتميز بتعليقاته المفيدة والتي هي في اعتقادي تكثر في كتاب العرش عنها في كتاب العلو. وهذه التعليقات مهمة ومفيدة وقد تميزت بها مؤلفات الذهبي، فهذا تلميذه الصفدي يقول عنه: "وأعجبني ما يعانيه في تصانفيه من أنه لا يتعدى حديثاً يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن، أو إظلام إسناد، أو طعن في رواة، وهذا لم أر غيره يعاني هذه الفائدة فيما يورده"1.
رابعاً: موارد كتاب العرش عرف عن الذهبي سعة اطلاعه ومعرفته للكثير من كتب أهل العلم المتقدمين، ويظهر ذلك جلياً في الكتاب الذي بين أيدينا، فقد رجع فيه الذهبي إلى جملة كبيرة من كتب المتقدمين، البعض منها نعده اليوم في عداد المفقودات. ولذلك من المفيد حصر هذه المصادر التي اعتمد عليها ليستفيد منها من أراد الرجوع إليها والتوثيق منها. وهذه المصادر هي: الإبانة عن أصول الديانة -لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري- (ت324هـ) . الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية -لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن بطة العكبري- (ت387هـ) . الإبانة -لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني- (ت403هـ) . الإبانة في الرد على الزائغين في مسألة القرآن -لأبي نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم السجزي- (ت444هـ) . إبطال التأويلات لأخبار الصفات -لأبي يعلى محمد بن الحسين ابن محمد بن الفراء- (ت458هـ) . إثبات صفة العلو -لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي- (ت620) .
آداب المريدين والتعرف لأحوال العباد -لعمرو بن عثمان المكي- (ت297هـ) . الاستيعاب في معرفة الأصحاب -لأبي عمر يوسف بن عبد الله ابن محمد بن عبد البر- (ت463هـ) . الأسماء والصفات -لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي- (ت458هـ) . إصلاح المنطق -لأبي يوسف يعقوب بن السكيت. الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة -لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي- (ت458هـ) . تأويل مختلف الحديث- لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت276هـ) . تاريخ بغداد -لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي- (ت463هـ) . التاريخ الكبير -لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري- (ت254هـ) . التبصير في معالم الدين -لمحمد بن جرير الطبري- (ت 310هـ) .
تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري -لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر- (ت571هـ) . التفسير -لأبي بكر محمد بن الحسن النقاش- (ت351هـ) . تفسير القرآن -لسليم بن أيوب الرازي- (ت447هـ) . التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد -لأبي عمر يوسف ابن عبد الله بن محمد بن عبد البر- (ت463هـ) . التوحيد -لمحمد بن إسحاق بن يحي بن منده- (ت 395هـ) . التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل -لمحمد بن إسحق ابن خزيمة- (ت311هـ) . تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل -لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني- (ت403هـ) . جامع البيان عن تأويل آي القرآن -لمحمد بن جرير الطبري- (ت310هـ) . جمل المقالات -لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري- (324هـ) .
جواب أبي بكر الخطيب البغدادي عن سؤال أهل دمشق في الصفات. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء -لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني- (ت430هـ) . الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن -لأبي الحسن عبد العزيز بن يحي الكناني- (ت240هـ) . ذم اللواط -للهيثم بن خلف الدوري-. الرؤية -لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني- (ت 385هـ) . الرد على الجهمية -لإبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه النحوي. الرد على الجهمية -لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي- (ت327) . الرد على بشر المريسي -لعثمان بن سعيد الدارمي- (ت280هـ) . الرد على الجهمية -لعثمان بن سعيد الدارمي- (ت280هـ) . رسالة يحي بن عمار السجستاني (ت442هـ) .
الرسالة -لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني- (ت 386هـ) . الرسالة النظامية -لعبد الملك بن عبد الله أبو المعالي الجويني- (ت478هـ) . السنة -لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل- (ت290هـ) . السنة -لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال- (ت 311هـ) . السنة -لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني- (ت 360هـ) . السنة -لأبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم- (ت 287هـ) . السنن -لأبي داود سليمان بن الأشعث- (ت275هـ) . السنن -لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي- (ت297هـ) (الجامع الصحيح) . السنن -لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي- (ت 303هـ) .
السنن -لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه- (ت275هـ) . شرح السنة -لإسماعيل بن يحي المزني- (ت264هـ) . الشريعة -لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري- (ت360هـ) . الشكر -لأبي بكر عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا- (ت281هـ) . شكاية أهل السنة -لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري- (ت465هـ) . الصحيح -لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري- (ت 254هـ) . الصحيح -لأبي الحجاج مسلم بن الحجاج القشيري- (ت261هـ) . الصحيح (الأحاديث المختارة) -الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي- (ت643هـ) . صريح السنة -لمحمد بن جرير الطبري- (ت310هـ) . الصفات -لمحمد بن إسحاق بن يحي بن منده- (ت 395هـ) .
الصفات -لأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي- (ت481هـ) . الصفات -لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني- (ت 385هـ) . صفة الصفوة -لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي- (ت597هـ) . طبقات الفقهاء - لأبي إسحاق الشيرازي- (ت) . العرش وما ورد فيه -لأبي جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة- (ت297هـ) . العظمة -لأبي الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني- (ت369هـ) . عقيدة أئمة الحديث -لأبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي- (ت371هـ) . عقيدة أصحاب الحديث - للأبي الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي- (ت532هـ) . عقيدة السلف وأصحاب الحديث -لأبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني- (ت449هـ) .
عقيدة الشافعي -لأبي الحسن الهكاري- (ت 486هـ) . عقيدة الشافعي -لأبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي- (ت600هـ) . عقيدة الطحاوي -لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي- (ت321هـ) . العمد في الرؤية -لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري- (ت324هـ) . الغنية -لأبي محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي- (ت 471هـ) . الغنية عن الكلام -لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي- (ت388هـ) . الغيلانيات -لأبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي- (ت354هـ) . فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم -لأبي بكر أحمد بن محمد المروزي- (ت 275هـ) . الفقه الأكبر -لأبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي-.
المبهج في القراءات السبع -لأبي محمد عبد الله بن علي بن أحمد الخياط- (ت 541هـ) . المسند -لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل- (ت 241هـ) . المسند -لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي- (ت 204هـ) . المسند -لأبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي- (ت307هـ) . مسند أبي هريرة -للبرتي- (ت 280هـ) . المستدرك على الصحيحين -لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم- (ت405هـ) . المرض والكفارات -لأبي بكر بن أبي الدنيا- (ت281هـ) . معالم التنزيل -لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي- (ت516هـ) . المعجم الكبير -لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني- (ت360هـ) . المعرفة -للعسال- (ت 349هـ) .
المغازي -للأموي- (ت 194هـ) . مشكل الآيات -لعلي بن محمد بن مهدي الطبري-. معرفة علوم الحديث -لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم- (ت405هـ) . مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين -لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري- (ت324هـ) . المقالات والخلاف بين الأشعري وأبي محمد عبد الله بن سعيد ابن كلاب -لأبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك- (ت410هـ) . وله كتاب "مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري" – مطبوع -، فلعله هو. مناقب الإمام أحمد -لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي- (ت327هـ) . مناقب الإمام أحمد -لأبي بكر أحمد بن محمد المروزي- (ت 275هـ) . الموطأ -لأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي- (ت 179هـ) .
خامساً: منهج المصنف في الكتاب 1ـ استهل المصنف كتابه هذا بمقدمة قصيرة ضمنها الحمد لله تعالى والثناء عليه، والشهادة له بالتوحيد، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. ثم عقد بعد ذلك فصلاً ذكر فيه أن الأدلة التي يستدل بها على إثبات علو الله وارتفاعه فوق عرشه هي نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والأئمة المهديين. ثم شرع في ذكر الآيات القرآنية الواردة في إثبات صفة العلو، وبدأ بذكر آيات الاستواء ونصوص العلماء في تفسيرها، ثم سرد عدداً من الآيات في المسألة. وبعد ذلك شرع في ذكر الأحاديث في الباب بعد أن قال: "وأما الأحاديث المتواترة المتوافرة عن رسول الله، فأكثر من أن تستوعب فمنها: ... ". ومنهج المصنف في إيراده للأحاديث أنه يعزوها للكتب التي أخرجتها، وقد يروي بعضها بأسانيده، وغالباً ما يعلق على الحديث ويبين درجته من الصحة والضعف، أو يشير إلى بعض طرقه إذا لزم الأمر، وقد يتكلم على بعض رجال الإسناد وغير ذلك من المسائل
والتعليقات المفيدة. وهذه الأحاديث تبدأ من الفقرة (13 -إلى- 100) . وبعد ذلك أورد المصنف جملة من الآثار المحفوظة عن الصحابة من أقوالهم بأن الله سبحانه في السماء على العرش، وبين أن تلك الأقوال لها حكم الأحاديث المرفوعة؛ لأنهم رضي الله عنهم لم يقولوا شيئاً من ذلك إلا وقد أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا مساغ لهم في الاجتهاد في ذلك، ولا أن يقولوه بآرائهم، وإنما تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسرد جملة طيبة من تلك الآثار تبدأ من الفقرة (101 -إلى- 120) ، متبعاً الأسلوب ذاته من حيث العزو والحكم عليها. ثم أعقب المصنف ذلك بأقوال التابعين وذكر جملة صالحة من أقوالهم بدايتها من الفقرة (121 -إلى- 149) وسلك فيها نفس المسلك من عزوها والحكم عليها. ثم عقد فصلاً استهله ببيان وقت ظهور مقالة التعطيل وأنها ظهرت في آواخر عصر التابعين وأن أول من تكلم فيها هو الجعد بن درهم، وأشار إلى قصة قتله، وذكر أن تلميذه الجهم بن صفوان أخذ عنه هذه المقالة وقام بنشرها والاحتجاج لها بالشبه العقلية، وذكر موقف أئمة ذلك العصر من مقالته وإنكارهم لها. ثم ذكر أقوال أتباع التابعين في المسألة.
وهكذا استمر المؤلف يذكر أقوال العلماء طبقة بعد طبقة مع عزو أقوالهم والحكم على أسانيد آثارهم مع إعقاب ذلك بالكلام على منزلتهم العلمية وذكر طرف من سيرة بعضهم وتواريخ وفاتهم ونحو ذلك، مع ما يتخلل ذلك من فوائد وتعليقات. 2ـ سلك المصنف منهج وطريقة العرض في توضيح المسائل العقدية، وذلك بالاكتفاء ببيان الحق في المسألة والاستدلال لها بنصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح وأئمة هذا الدين. دون التعمق في عرض أقوال المخالفين وذكر شبههم، وإيراد اعتراضاتهم. ومن نظمه رحمه الله في هذا المنهج قوله: العلم قال الله قال رسوله ... إن صح والإجماع فاجهد فيه وحذار من نصب الخلاف جهالة ... بين الرسول وبين رأي فقيه1 ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن لعلماء السنة طريقتان في تأليفهم لكتب الاعتقاد هي:
1ـ طريقة العرض: وهي الطريقة التي سار عليها المصنف في كتابه هذا. وهي تتميز كما أسلفنا بالتوسع في ذكر الحق المستمد من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان. دون التعمق في عرض الأقوال المخالفة وذكر اعتراضاتهم وشبههم. ومن الكتب المماثلة في ذلك: أ- كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (241هـ) ب- كتاب التوحيد لابن خزيمة (311هـ) جـ- كتاب التوحيد لابن منده (395هـ) 2ـ طريقة الرد: وهذه الطريقة تجمع بين بيان الحق وذكر دليله وذكر أقوال المخالفين والتوسع في إيراد شبههم والرد عليها وبيان فسادها ووجه بطلانها. ومن الكتب المؤلفة على هذه الطريقة: أ- الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد بن حنبل. ب- الرد على الجهمية والرد على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي (280هـ) جـ- تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (276هـ)
3ـ اعتمد المؤلف على قاعدة عريضة من المؤلفات التي سبقت عصره. وقد تقدم الإشارة إلى تلك الكتب عند الحديث عن مصادر الكتاب. وهذا التوسع في المصادر أعطى الكتاب قوة وغزارة في المعلومات، تجعل من الكتاب مرجعاً أساسياً لمن أراد البحث في مسألة العلو ودراستها. والمصنف يشير غالباً إلى أسماء الكتب التي استفاد منها. 4ـ استشهد المصنف بأقوال بعض متقدمي الأشاعرة لكونهم وافقوا الحق في هذه المسألة وأثبتوا العلو لله على خلقه. وهذا لا يعني أنهم موافقون لأهل السنة في كل المسائل. وهذه الطريقة سار عليها من قبله ابن تيمية في الفتوى الحموية الكبرى، وسار عليها كذلك ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية. فلا ينبغي أن يفهم من ذلك أنهم من أهل السنة المحضة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد يراد به (أي لفظ أهل السنة) أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: إن القرآن غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة"1.
سادساً: أهمية الموضوع والكتاب. يبحث الكتاب في مسألة عظيمة وخطيرة من مسائل الصفات، دار فيها جدل كبير وعميق، واختلفت حولها الآراء، وتشعبت فيها المذاهب، وزلت فيها أقدام كثير من الناس قديماً وحديثاً، واستمر الخلاف والتنازع فيها من بداية القرن الثاني حتى وقتنا الحاضر. وقد نتج عن هذا الخلاف نشوء فرق مستقلة بذاتها من جراء ما ذهب إليه البعض من أقوال في المسألة. فمسألة علو الله من أهم مسائل الصفات وأكبرها لتعلقها الوثيق بمسألة الإيمان بوجود الله تعالى، فمن أقر بعلو الله أقر بوجوده حقيقة. ومن أنكر علو الله، فهو بين أحد أحوال ثلاثة: الحال الأول: إنكار وجوده حقيقة والقول بأن وجوده مجرد خيال في الذهن. الحال الثاني: القول باتحاده بالخلق وأن عين وجود الخالق هو عين وجود المخلوق، كما هو قول الاتحادية. الحال الثالث: القول بالحلول أي أنه حال في كل شيء وأنه بذاته في كل مكان. وهذه الأقوال باطلة حاصلها إنكار وجود الله حقيقة وأنه والعدم سواء.
ولأهمية هذه المسألة في عقيدة المسلم، كان لزاماً أن يقوم علماء السلف والأئمة بالكتابة والتأليف في هذا الموضوع الهام، ليبينوا للمسلمين منهج القرآن والسنة في هذه المسألة، وليوضحوا لهم الأدلة الصحيحة الصريحة في ذلك. ويتأكد هذا الأمر وتشتد الحاجة إليه مع اتساع رقعة الخلاف، وتشعب الأقوال، وتعدد الشبه، وازدياد أعوان المخالفين وأنصارهم في هذا الأمر، فكان لزاماً الرد على كل أولئك المخالفين وتفنيد مزاعمهم، وإبطال شبههم وافتراءاتهم حفاظاً على عقيدة المسلمين من الانحراف، إذ أي خلل في مسألة العلو قد يقلب كثيراً من الأمور الاعتقادية، ويميل بها عن جانب الصواب ولاشك أن المخرج من دوامة الضياع ومزالق الضلال، يكون بتوضيح عقيدة أهل السنة والجماعة المستندة إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان. وقد جلى الذهبي في كتاب العرش جوانب هذا الموضوع وجمع في سبيل ذلك العشرات من الأدلة والأقوال المأثورة، التي هي قرة عين كل موحد، وغصة في حلق كل معطل. وكتاب الذهبي يعد أوسع ما صنف في هذا المجال هو كتابه الآخر "العلو" إلا أنه ليس بالكتاب الأول في بابه فقد سبقه الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة (297هـ) فألف كتاب "العرش وما روي فيه"، وكذلك ابن قدامة (620هـ) فله كتاب "إثبات صفة العلو".
وعلى العموم فإن كتاب العرش للذهبي يعد مرجعاً من المراجع المهمة التي تبين موقف السلف في قضية العلو والاستواء وما يتعلق بذلك من المسائل. كما يمكن اعتباره مرجعاً في علم الحديث لاحتوائه على العشرات من الأحاديث والآثار وبيان حكمها ودرجتها. فجزى الله الإمام الذهبي خير الجزاء على ما قدم وأجزل له المثوبة وجعل هذا العمل في ميزان حسناته. سابعا: دراسة النسخة الخطية من المعلوم أن تعدد النسخ للمخطوطة المراد تحقيقها يسّهل على الباحث مشكلة تقويم النص وتلافي ما قد يقع فيه من السهو أو الشطب أو الطمس أو غير ذلك من المشكلات الأخرى المتعلقة بالنص. وأما إذا لم تتوفر سوى نسخة واحدة للكتاب فسيكون من الصعوبة بمكان تلافي تلك المشكلات ومعالجاتها. وعند عزمي على تحقيق كتاب العرش وقفت على نسخة مصورة له أصلها محفوظ بمكتبة دار العلوم ندوة العلماء -بلكنهو- الهند، برقم (1221 حديث) . وله صورة فيلمية محفوظة في قسم المخطوطات في عمادة شؤون المكتبات بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية تحت رقم (564) . وخلال بحثي عن نسخة أخرى للكتاب، وقفت على كلام لبشار
عواد في كتابه "الذهبي ومنهجه في كتابه التاريخ" (ص148) قال فيه: "وذكر بروكلمان أن من كتاب "العرش" نسخة في رامبور، وأخرى في آصف باشا". فرجعت إلى فهرس المخطوطات العربية في مكتبة رضا برامبور قسم الصلاة وأصول الدين (ص316-317) فتبين لي أن المقدمة المذكورة لأول الكتاب في الفهرس ونصها (الحمد لله العلي العظيم رب العرش العظيم) هي مقدمة كتاب "العلو" وليست مقدمة كتاب "العرش" والتي نصها (الحمد لله الذي ارتفع على عرشه في السماء) ، فعلى هذا فالكتاب الموجود في مكتبة رضا برامبور هو كتاب "العلو" وليس كتاب "العرش". وأما نسخة مكتبة آصف باشا التي أشار إليها بروكلمان وذُكِرَت كذلك في فهرس مكتبة رامبور فقد حصلت على مصورة لها بواسطة الأخ عبد الله بن صالح البراك المحاضر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، والذي تكرم مشكوراً بتزويدي بصورة منها وعند اطلاعي عليها تبين لي أنها نسخة أخرى لكتاب العرش. وقد حرصت على الحصول على مزيد من النسخ فرجعت إلى ما ذكره بشار عواد حيث أشار إلى أن في دار الكتب الظاهرية بدمشق قسم من "رسالة في أن الله على العرش"، وقال: "ولدى مطالعتها تبين أنها غير كتاب "العلو" فلعلها هي كتاب "العرش"".
وهذا القسم من الرسالة المذكورة موجود ضمن مجموع برقم (47 -مجاميع) ، وله صورة مكبرة محفوظة في قسم المخطوطات بعمادة شؤون المكتبات بالجامعة الإسلامية برقم (1506) (ق94-102) (ق112-113) . وعند الاطلاع عليه وجدت أنه قد كتب في أوله (مختصر في الذهبية) وفي آخره (آخر الذهبية) ، وعند مقارنتي لها بكتاب "العرش" وجدت أن هذا الجزء هو عبارة عن مختصر لكتاب "العرش" يبدأ من ذكر ظهور مقالة التعطيل وذكر أقوال أتباع التابعين إلى آخر الكتاب، قام المختصر بحذف بعض الأسانيد والتعليقات واكتفى بذكر الآثار وعزوها مع التصرف أحياناً في عبارات المصنف وحذف بعض الآثار أو اختصارها الاختصار الشديد. ولذلك لم أنتفع بهذا المختصر ولم أستفد منه في المقابلة لكونه على الحال التي ذكرت. فلم يكن أمامي إلا الاعتماد على النسختين اللتين عثرت عليهما والتي سبق الإشارة إليهما، وإليك وصفهما: 1ـ نسخة مكتبة دار العلوم: عدد لوحاتها: 94 لوحة.
عدد الأسطر: يبلغ عدد الأسطر ما بين خمسة عشر إلى ستة عشر سطراً في الوجه الواحد. عدد الكلمات: متوسط عدد الكلمات في كل سطر، سبع كلمات. اسم الناسخ: محمد بن محمد بن سالم بن علي، وساعده عبيد بن محمد بن سالم بن علي. تاريخ النسخ: لم يذكر تاريخ النسخ. نوع الخط ووصفه: كتبت هذه النسخة بخط نسخي عادي، منقوط، ولم تسلم من الأخطاء، وهي كثيرة نسبياً، إضافة إلى كون بعض الكلمات غير مقروءة، مع وجود سقط لبعض العبارات، إضافة إلى التصحيف في بعض الكلمات. وقد أمكن التغلب على أكثرها بالرجوع إلى النسخة الأخرى وإلى المصادر الأصلية التي وردت تلك النقول فيها. 2ـ نسخة آصف باشا: عدد لوحاتها: 47 لوحة. عدد الأسطر: 22 سطر. عدد الكلمات في السطر: 20 كلمة. اسم الناسخ: لم أستطع قراءة الاسم لعدم وضوح الخط ولعله (وحيد الزمان) .
تاريخ النسخ: يوم الاثنين 10/ ذو القعدة/ 1293هـ. نوع الخط: كتبت هذه النسخة بخط فارسي جيد ومنقوط ولم تسلم من الأخطاء كالنسخة السابقة ويظهر لي -والله أعلم- أن كلتا النسختين نقلت من أصل واحد فهما يشتركان في كثير من الأخطاء والسقط. 3- نسخة مكتبة برنستون: وفي أثناء عملي في الكتاب وقفت على نسخة ثالثة له، وهي نسخة (مكتبة برنستون) بالولايات المتحدة الأمريكية، وإليك وصفها: عدد لوحاتها: 70 لوحة. عدد الأسطر: يبلغ عدد الأسطر سبعة عشر سطراً في الوجه الواحد. عدد الكلمات: متوسط عدد الكلمات في كل سطر، تسع كلمات. اسم الناسخ: أبو عبد الله محمد بن محمد بن سليمان المجد الصالحي الدمشقي. تاريخ النسخ: يوم الاثنين مستهل شهر ربيع الأول سنة 822هـ. نوع الخط ووصفه: كُتبت هذه النسخة بخط نسخ عادي، منقوط، وهي واضحة وقليلة الأخطاء بالمقارنة مع النسختين المذكورتين. وهذه النسخة في ضمن مجموع يضم: قاعدة في الصبر لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولمعة الاعتقاد لابن قدامة، وكتابنا المذكور، وقد جاء
اسمه في طرة الغلاف بعبارة (وفيه كتاب العرش للذهبي في العلو) ، وجاء في (ق19) عبارة (كتاب العرش للذهبي) قبل البدء في مقدمة الكتاب. وبذلك يكون العمل في الكتاب قد تم على ثلاث نسخ خطية، كما هو موضح في نماذج النسخ الخطية، وحواشي التحقيق.
ثامناً: عملي في الكتاب 1ـ اعتمدت نسخة (مكتبة برنستون) وجعلتها أصلاً ورمزت لها بحرف (أ) ، وقابلتها على نسخة (مكتبة دار العلوم) ورمزت لها بحرف (ب) ، ونسخة (آصف باشا) التي رمزت لها بحرف (ج) . والذي دعاني لاعتماد نسخة (مكتبة برنستون) هو كونها أقدم النسخ وأقلها تصحيفاً. 2ـ اجتهدت في قراءة نص المخطوط، ومقابلته، ونسخته حسب قواعد الإملاء الحديثة وأثبت الفوارق بين النسختين. 3ـ قومت النص المخطوط، وأصلحت ما فيه من سقط أو خطأ أو تصحيف، وجعلت التصويب بين معكوفتين [] ، فأثبت الصواب في المتن، وأنبه على الخطأ الواقع في الحاشية، ثم أذكر مصادر التصويب التي صوبت منها، أو أنبه على أن السياق يقتضي ذلك التصويب. 4ـ حاولت قدر الطاقة إخراج النص على أقرب صورة تركها المصنف. فقد قابلت بين النسختين ورجعت إلى أصول النصوص المذكورة في الكتاب وقابلتها بأصولها التي أخذت منها، فالمصنف غالباً ما يذكر مصدر المعلومة التي أوردها، ففي حال وجود المصدر أرجع إليه وأقابله بالمخطوط.
وكذلك مما سهل عليَّ كثيراً أمر المقابلة تشابه كثير من النصوص بكتاب "العلو"، وبخاصة في أسانيد المؤلف وكلامه الخاص به. 5ـ أدخلت بعض العناوين داخل النص المحقق وجعلتها ما بين معكوفتين [] . 6ـ أشرت إلى بداية كل صحفة من المخطوط بوضع خط مائل في النص (/) والإشارة أمامه في الحاشية إلى رقم اللوحة والوجه على الشكل الآتي (ق4/ب) ، فالرقم يشير إلى رقم اللوحة، والحرف يشير إلى أحد وجهي اللوحة. 7ـ وضعت أرقاما تسلسلية جانبية للأحاديث والآثار والنقولات. 8ـ عزوت الآيات القرآنية الواردة في النص فأشرت في الحاشية إلى مواضعها من القرآن الكريم، ذاكراً رقم الآية واسم السورة. 9ـ خرجت الأحاديث النبوية الواردة في هذا الكتاب من دواوين السنة المختلفة، فأعزو الحديث إلى من أخرجه، مراعياً في العزو ترتيبها حسب التسلسل الزمني لوفيات مؤلفيها، وغالباً ما أذكر كلام أهل العلم في الحكم على الحديث. 10ـ خرجت الآثار الواردة في هذا الكتاب، واجتهدت في عزوها إلى الكتب التي تروي بالسند.
11ـ وثقت النقولات التي أوردها المصنف من الكتب التي عزاها إليها، وفي حال كونها مفقودة اجتهدت في تتبعها وعزوها من الكتب التي ذكرتها. 12ـ ترجمت للأعلام الوارد ذكرهم في متن الكتاب، واعتنيت ببيان وفاياتهم، مع مراعاة الإيجاز في تراجمهم، وتوثيق ذلك من مصدر أو مصدرين من المصادر المعتمدة في بيان تراجمهم. وفي حالة تكرر اسم العلم مرة أخرى بعد ترجمته، أحيل إلى الموطن الأول بعبارة (تقدمت ترجمته في الصفحة ()) . 13ـ شرحت بعض الكلمات الغريبة وعرفت ببعض الأماكن التي تحتاج إلى توضيح. 14ـ علقت على بعض المسائل التي يذكرها المؤلف ورأيت الحاجة ماسة إلى التعليق عليها. 15ـ ذيلت الكتاب بوضع الفهارس التالية: 1ـ فهرس للآيات القرآنية. 2ـ فهرس للأحاديث المرفوعة. 3ـ فهرس للآثار الموقوفة. 4ـ فهرس للأعلام. 5ـ فهرس للألفاظ الغريبة. 6ـ فهرس للأبيات الشعرية.
7ـ فهرس للمؤلفات الواردة في الكتاب. 8ـ فهرس للطوائف والقبائل والجماعات. 9ـ فهرس للمواضع والأماكن والبلدان. 10ـ فهرس للمصادر والمراجع. 11ـ فهرس لموضوعات الكتاب
المجلد الثاني
المجلد الثاني المقدمة ... قسم التحقيق [المقدمة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي ارتفع على عرشه في السماء، وجَلَّى باليقين1 قلوب صفوته الأتقياء، وبلى2 خلقه بالسعادة والشقاء. وأشهد أن لا إله إلا الله، حده لا شريك له، شهادة مؤمن بالحشر واللقاء. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الشهيد على الأمة الشهداء، المبعوث بالبينات والهدى وترك المراء، صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم صلاة دائمة إلى يوم الدين، وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل الدليل على أن الله تعالى فوق العرش، فوق المخلوقات، مباين3 لها، ليس بداخل في شيء منها، على4 أن علمه في كل مكان. الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة5، والتابعين، والأئمة المهديين.
الأدلة من القرآن
[الأدلة من القرآن] أما الكتاب: فقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1. وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2 في ستة مواضع3. 1- قال البخاري4 في صحيحه: قال مجاهد5: "استوى: علا على العرش"6.
2- وقال إسحاق بن راهويه1: [2 سمعت بشر3 بن عمر] قال4: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: " {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي ارتفع"5. 3- وقال محمد بن جرير الطبري6 في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
الرَّحْمَن} 1:"أي علا وارتفع"2. 4- وقال أبو عبيدة3: "أي صعد". ذكره البغوي4 في تفسيره5. (ق 2/ب) 5- وقال الفراء6: {ثُمَّ اسْتَوَى} أي صعد7، قاله ابن عباس8
وهو كقولك: الرجل كان قاعداً ثم استوى قائما". رواه عنه البيهقي1 في الصفات له2. 6- وروى الدارقطني3، عن إسحاق الكاذي4 قال: سمعت أبا العباس ثعلبا5 يقول في {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : "علا، واستوى الوجه:
اتصل، واستوى القمر: امتلأ، واستوى زيد وعمرو: تشابها، واستوى إلى السماء: أقبل. هذا الذي نعرف من كلام العرب"1.
7- وقال داود بن علي1: كنا عند ابن الأعرابي2 فأتاه رجل فقال: "ما معنى قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} "؟. قال: "هو على عرشه كما أخبر. فقال: با أبا عبد الله إنما معناه استولى. فقال: "اسكت لا يقال
استولى على الشيء [حتى] 1 يكون له مضاد فإذا غلب أحدهما قيل: استولى"2. 8- وقال محمد بن أحمد بن [النضر] 3 سمعت ابن4 الأعرابي5
صاحب اللغة يقول: أرادني ابن أبي [دؤاد] 12 أن أطلب له في بعض لغات العرب ومعانيها {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بمعنى استولى. فقلت: "والله ما يكون هذا ولا أصبته"3.
9- وقال أبو العالية الرياحي1: " {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} 2 أي ارتفع". نقله البخاري عنه في صحيحه3. 10- ورواه محمد بن جرير الطبري4 في تفسيره عن الربيع بن أنس5 عنه6.
11- وقال البغوي فيه: قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف1: ارتفع إلى السماء2. 12- وقال الخليل بن أحمد3 في {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} : "ارتفع إلى السماء4". رواه (ق21/أ) أبو عمر5 بن عبد البر6 في شرح الموطأ له7.
وقال تعالى: {إِلِيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ} 1. {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2. {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} 3. {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِنْ فَوْقِهِم} 4. {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ} 5. {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأّرضَ} 6الآية7. {ذِي الْمَعَارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 8. وَقَالَ فِرْعَوْنُ {اهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ
السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} 1. يعني: أظن موسى كاذباًَ أن إلهه2 في السماء، ولو لم يكن موسى عليه السلام يدعوه إلى إله في السماء لما قال هذا؛ إذ لو كان موسى قال له: إن الإله3 الذي أدعوك إليه، ليس في السماء، لكان هذا القول من فروعون عبثاً، ولكان بناؤه القصر جنوناً4.5
الأدلة من السنة
[الأدلة من السنة] وأما الأحاديث المتواترة المتوافرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثر من أن تستوعب، فمنها: 13- حديث معاوية بن الحكم السلمي1 قال: "كانت لي غنم بين أُحُد2 والجَوَّانِيَّةِ3، فيها جارية لي، فأطلعتها ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة فصككتها، (ق21/ب) فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعظم ذلك عليّ4، فقلت: "يا رسول الله أفلا أعتقها؟ "، قال: "ادعها"، فدعوتها، فقال لها: "أين الله؟ " قالت: "في السماء". قال: " من أنا؟ "، قالت: "رسول الله". قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". ذا حديث صحيح؛ رواه مسلم5،6
وأبو داود1،2 والنسائي3،4 ومالك5 في الموطأ6. 4- وفي السنن عن محمد بن الشريد7 أن أمه أوصته أن يعتق
عنها رقبة مؤمنة، فقال: "يا رسول الله، إن أمي أوصت بكذا1، وهذه جارية سوداء نوبيّة أتجزئُ عني، قال: "إيتني بها" فقال لها: "أين الله؟ " قالت: "في السماء"، قال: "من أنا؟ " قالت: "أنت2 رسول الله"، قال: "أعتقها فإنها مؤمنة"3. وهذه الجارية، غير جارية معاوية بن الحكم4. 15- وعن أبي رزين العقيلي5 قال: "قلت يا رسول الله: أين كان
ربنا قبل أن يخلق السماء والأرض؟ " قال: "كان في عما1 ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه". وفي لفظ آخر "ثم كان على العرش فارتفع على عرشه". وهذا حديث حسن (ق22/ب) رواه [الترمذي] 23 وغيره4.
16- وعن أبي هريرة1، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء، أعجمية فقال: "يا رسول الله إن عليّ عِتْقَ رقبة مؤمنة فقال لها: "أين الله؟ "، فأشارت بالسبابة إلى السماء، فقال لها: "من أنا؟ " فأشارت
بإصبعها إليه، وإلى السماء، أي أنت رسول الله، فقال: "أعتقها"1. هذا حديث حسن، رواه القاضي أبو أحمد العسال2 في كتاب المعرفة له، عن محمد بن عمرو3، عن أبي سلمة4، عن أبي هريرة.
ورواه أحمد1، والبرتي2، في مسنديهما3، من حديث المسعودي4. 17- وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون5 فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، والفجر، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم الله ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي؟، فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون".
متفق على صحته1. 18- وعن عبد الله بن عمرو2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ارحموا من في (ق22/ب) الأرض يرحمكم من في السماء". رواه الترمذي وصححه3.
19- وعن جبير بن مطعم1، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي في حديث الاستسقاء: "ويحك أتدري2 ما الله؟ إن شأنه أعظم من أن يستشفع به3 على أحد، إنه لفوق عرشه على سمواته". رواه أبو داود، وغيره، في الرد على الجهمية4، بإسناد حسن عنده من حديث محمد بن إسحاق بن يسار56.
20- وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [أتاه] 1 رجل، فقال: على أمه رقبة، وقد ماتت، وأتاه بجارية أعجمية فقال لها: "من أنا؟ " قالت: رسول الله، قال: "فأين الله؟ " فأشارت إلى السماء، فقال: "أعتقها فإنها
مؤمنة"12. أخرجه العسال بإسناد صحيح، عن أبي سعد3 البقال4، عن عكرمة5، عن ابن عباس. 1- وقال يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب6: جاء حاطب7 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له، فقال: "يا رسول الله إن [عليّ] 8 رقبة فهل
تجزيء هذه عني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله، قال: "أين ربك؟ " فأشارت إلى السماء. قال: (ق23/ب) "أعتقها فإنها مؤمنة"12. تفرد به أسامة بن زيد3 عن يحيى بن عبد الرحمن. أخرجه أبو أحمد الحافظ4 بإسناد صحيح عنه. 22- وقال سمحج5 الجني6: "قلت يا رسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: "على حوت من نور".
هذا الحديث1 في "الغيلانيات"2، وسنذكره فيما بعد. هذه سبعة أحاديث تدل على جواز السؤال [بأين] 3 الله4،
وجواز الإخبار بأنه في السماء سبحانه وتعالى. 23- وعن جابر1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفات:
"ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: "اللهم اشهد". رواه مسلم1. 24- وعن العباس2 بن عبد المطلب3 قال: كنا بالبطحاء4 فمرت سحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض؟ " قالوا: لا، قال: "إما واحدة، وإما [اثنتان] 5 أو ثلاث وسبعون سنة " ثم عد سبع سموات، ثم قال: "فوق السابعة بحر بين أسفله، وأعلاه كما بين السماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال6 بين أظلافهم، وركبهم كما بين سماء، إلى سماء ثم7 على ظهورهم العرش، ثم الله فوق ذلك، وهو يعلم ما أنتم عليه".
رواه أبو داود بإسناد حسن وفوق الحسن1.
25- وروى الترمذي نحوه من حديث (ق23/ب) أبي هريرة وفيه "بعد ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام"1. ولا منافاة بينهما؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير [العادة] 2 مثلاً، ونيف وسبعون سنة، على سير البريد، لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يوماً، باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد3.
26- وعن زينب بنت جحش1 أنها كانت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "زوجنيك الرحمن من فوق عرشه"2. وفي لفظ للبخاري كانت تقول: "إن الله أنكحني من فوق سبع سموات"3. 27- وعن أبي سعيد الخدري4 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا
تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً". متفق عليه1. 28- وعن أبي هريرة2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها، حتى يرضى عنها". رواه مسلم3. 29- وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصاح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كنتِ في الجسد الطيب، أبشري برَوْحٍ ورَيْحَان وربٍ (ق24/أ) غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك، حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح، فيقال: من؟ فيقال: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فلا يزال يقال لها ذلك، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله تعالى" وذكر الحديث.
هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، رواه أحمد في مسنده1 والحاكم2 في مستدركه3. 30- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان ملك الموت
يأتي الناس عياناً، فأتى موسى عليه السلام، فلطمه [موسى] 1 فذهب بعينه، فعرج إلى ربه، فقال: بعثتني إلى موسى، فلطمني فذهب بعيني، ولولا كرامته عليك، لشققت عليه، قال: ارجع إلى عبدي، فقل له: فليضع يده على ثور فله بكل شعرة وارت كفه سنة يعيشها، فأتاه فبلغه ما أمره به ربه فقال: ما بعد ذلك، قال: الموت. قال: الآن، [فأتاه بشيء من الجنة] 2 فشمه شمة قبض فيها روحه، ورد الله على ملك الموت بصره". هذا حديث صحيح3. 31- وروي عن عبد الله بن بكر4 السهمي5، حدثنا يزيد بن
عوانة1، عن محمد بن ذكوان2، عن عمرو بن دينار3 عن ابن عمر4 قال: "كنا جلوساً ذات يوم بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت امرأة من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان5: "ما مثل محمد في بني هاشم (ق24/ب) إلا كمثل الريحانة في وسط الزبل"، فسمعت، فأبلغته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فصعد على6 منبره وقال: "ما بال أقوال تبلغني عن أقوام، إن الله خلق
سموات سبع1 فاختار العليا، فسكنها، وأسكن سماواته من شاء من خلقه، ثم اختار خلقه، فاختار بني آدم فاختار العرب، فاختار مضر، فاختار قريشاً، فاختار بني هاشم، فاختارني، فلم أزل خياراً من خيار، فمن أحب قريشاً فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم"2.
تفرد به محمد بن ذكوان، وهو ضعيف، ورواه عنه حماد بن واقد1، وغيره، أخرجه أبو أحمد العسال2 في "المعرفة" له. 32- وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه3 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد ـ يعني ابن معاذ ـ4: "لقد حكمت فيهم ـ يعني بني قريظة ـ5 بحكم الملك من فوق سبع سموات". هذا حديث صحيح6.
33- وقد رواه الأموي1 في المغازي عن ابن إسحاق2 عن معبد ابن كعب بن مالك3 " أن سعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع4 أرقعة5"6.
وحديث [سعد] 1 بن أبي وقاص أصح. 34- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أهل الجنة في نعيمهم (ق25/أ) إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب2 قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: "السلام عليكم [يا أهل الجنة وقال] 3، وذلك قوله تعالى {سَلاَمٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} 4". رواه ابن ماجه5 في سننه في باب ما6 أنكرت الجهمية7 عن ابن
أبي الشوارب1 عن أبي2 عاصم العبَّادي3، عن4 الفضل الرقاشي5،
عن ابن المنكدر1، عن جابر. 35- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ـ فإنه يقبلها بيمينه، ويربيها لصاحبه حتى تكون مثل الجبال". متفق على صحته2. 36- وعن أبي موسى الأشعري3 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النار والنور لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره".
متفق عليه1. 37- وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قال عبد مخلصاً: لا إله إلا الله، إلا صعدت لا يردها حجاب، فإذا وصلت إلى الله (ق25/ب) نظر إلى قائلها، وحق على الله لا ينظر إلى مُوَحِّد إلا رحمه". رواه ابن قدامة2، في صفة العلو3، من حديث يزيد بن
كيسان1، عن أبي حازم2 عن أبي هريرة. 38- وعن أنس3 رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة: "هو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش". رواه الشافعي4 في مسنده5.
39- عن أبي كعب1 مولى علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه [عن
مولاه؟ 1 عن ابن عباس2] 3 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير، إلا خرقت السموات حتى تفضي إلى الله عز وجل"4. أخرجه أبو أحمد العسال5 عن ابن صاعد6، عن بكر بن أخت
الواقدي1، عن إسماعيل بن قيس2، عن أبي كعب. 40- وبإسناد صح عن زائدة بن أبي الرقاد3 وهو رواه [عن] 4 زياد النميري5 عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: "فأدخل على ربي عزل وجل، وهو على عرشه". وذكر الحديث6. 41- أخرجه البخاري في الصحيح من حديث قتادة7 عن أنس
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي". متفق عليه1. 42- وأخرجه العسال من حديث ثابت البناني2 بإسناد صحيح وفيه: "فآتي باب الجنة فيفتح لي، فآتي ربي ـ تبارك وتعالى ـ وهو على كرسيه (ق26/أ) أو سريره، فأخر له ساجدا". الحديث3. 43- وعن ابن عباس حدثني رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم بينما4 هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: "ما كنتم تقولون إذ رمي مثله؟ " قالوا: كنا نقول: ولد الليلة عظيم، أو5 مات عظيم. فقال: "إنها لم ترم لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبحت حملة العرش، حتى يسبحوا أهل السماء الذين
يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا، فيقول الذين يلون حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيستخبر أهل السموات بعضهم بعضاً، حتى يبلغ الخبر أهل الدنيا، فيخطف الجن السمع فيلقونه1 إلى أوليائهم، فما جاءوا به على وجهه، فهو الحق، ولكنهم2 يفرقون ويزيدون". رواه مسلم3. 44- وعن أبي هريرة أن رسول الله4 صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل فقال: إني أحب عبدي فأحبوه، فينوه بها جبريل في حملة العرش فيسمع أهل السماء لفظ حملة5
العرش1، فيحبه أهل السماء السابعة، ثم سماءٍ سماءٍ2، حتى ينزل إلى السماء الدنيا، ثم يهبط إلى الأرض، فيحبه أهل الأرض"3 (ق26/ب) . وهذا صحيح كالذي قبله. 45- وعن أنس، وغيره، في حديث الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل، فذكر الحديث، وقال فيه: "فانطلق بي جبريل حتى أتى بي السماء الدنيا فاستفتح، فقيل من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟
قال: محمد. قيل: مرحباً به1، ونعم المجيء جاء، ففتح فإذا فيها آدم ثم صعد حتى أتى السماء الثانية" إلى أن قال: "ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فإذا إبراهيم، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى"2. 46- ولفظ البخاري: "ثم دنا فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى" كما في القرآن. قال3: "ففرض عليّ الصلاة خمسين، فرجعت، فمررت على موسى، فقال: إن أمتك4 لا تطيق ذلك، ورجعت5 إلى ربي، فوضع عني عشراً"6.
47- وفي لفظ آخر للبخاري "فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار نعم إن شئت، فَعَلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه"1 وذكر الحديث بطوله. متفق على صحته2. 48- وثبت عن ابن عباس في قوله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 3. قال: "دنا4 ربه فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى". أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء، والصفات5.
وأكثر الصحابة على أنه صلى الله عليه وسلم رأى (ق27/أ) ربه1.
49- قال ابن عباس: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم"1.
قلت: لأنه رآه في عالم البقاء، حين1 خرج من عالم الفناء، وارتقى فوق السموات السبع. هذا الحديث أيضاً دال على أنه سبحانه وتعالى فوق السموات، وفوق جميع المخلوقات، لولا ذلك لكان معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى فوق السماء السابعة إلى سدرة المنتهى، ودنو الجبار منه، وتدليه سبحانه وتعالى بلا كيف، حتى كان من النبي صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى، وأنه رآه تلك الليلة، وأن جبريل علا به، حتى أتى به إلى الله تعالى، وهذه المقتضيات كلها التي أفادتنا أنه فوق السماء، باطلة لا تفيد شيئاً، على زعم من قال: إنه في كل مكان بذاته، الذين يلزم من دعواهم أنه في الكنف2، والبطون،
والأرحام، وغير ذلك مما طبع الله بني آدم على خلافه، بل إنما فطرهم على أنه فوق العرش، فوق السماء السابعة، وأرسل رسله بتقرير ذلك، ولم يرسلهم بأنه ليس على العرش، ولا بأنه داخل العالم، ولا خارجه، وسنوضح هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى، ونجيب عن المعارضات والشبه التي توردها الجهمية، لأنا الآن في معرض نقل النصوص. 50- (ق27/ب) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما ألقي إبراهيم في النار، قال: اللهم إنك واحد في السماء، وأنا واحد في الأرض أعبدك"1.
هذا حديث حسن، من حديث أبي جعفر الرازي1، عن عاصم2، عن أبي صالح3 عن أبي هريرة. 51- وعن أبي الحجاج الثمالي4 قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضع الميت في قبره، يقول له القبر: ابن آدم ما غرك بي إذ تمر بي، أما علمت أني بيت الوحدة، والوحشة؟ فإن كان مصلحاً أجاب عنه مجيب القبر، أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيقول القبر: إذاً أعود عليه خضراًَ، ويعود جسده نوراً، ويصعد [بروحه] 5 إلى رب
العالمين"1.
رواه "بقية"1، عن أبي بكر بن أبي مريم2، عن الهيثم بن مالك3، عن عبد الرحمن بن عائذ4، عن أبي الحجاج. وهو حديث شامي تفرد به "بقية" فيما أعلم، ويصلح للإعتبار، والإستشهاد. 52- وعن أبي الدرداء5 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشتكى منكم فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اغفر لنا حوبنا6 وخطايانا،
أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ". رواه أبو داود وغيره1. 53- وأخبرنا بإسناد / صحيح ثابت، عن حبيب بن أبي ثابت2،
أن حسان بن ثابت1 أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم: شهدت بإذن الله أن محمداً ... رسول الذي فوق السموات من عَلُ وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم ... يقوم بذات الله فيهم ويعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا" 2.
54- وقد أنشد شعر أمية بن أبي الصلت1 عند2 النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "آمن شعره وكفر قلبه ". وهو: مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق الخلق ... وسوى فوق السماء سريرا شرجعا ما يناله بصر العين ... ترى دونه الملائك صورا3
قوله: "شرجعاً": أي طويلاً. و"صوراً": جمع أصور، وهو المائل العنق. 55- وعن عمران بن حصين1 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي2: "كم تعبد اليوم إلهاً؟ "، قال: " ستة في الأرض، وواحد في السماء " قال: "فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك"، قل: "الذي في السماء"3 قال: "أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين ينفعانك". فلما أسلم قال: "يا رسول الله، علمني الكلمتين اللتين4 وعدتني" قال: "قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي" رواه الترمذي وحسنه5 من حديث
الحسن عن عمران بن حصين 56- ورواه خالد بن طليق1، عن أبيه2، أتم من هذا فيما أخبرنا عبد الخالق بن عبد السلام3
ببعلبك1، أنا عبد [الله] 2 بن أحمد الفقيه3 سنة إحدى عشر وستمائة، أنا محمد بن عبد الباقي4، أنا أبو الفضل (ق28/ب) بن خيرون5، أخبرنا ابن شاذان6، أنا أبو سهل القطان7، أخبرنا عبد الكريم
الديرعاقولي1، ثنا رجاء بن محمد البصري2، ثنا عمران بن خالد بن طليق3، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده4 قال: "اختلفت قريش إلى حصين، والد عمران فقالوا: إن هذا الرجل يذكر آلهتنا، فنحب أن تكلمه، وتعظه، فمشوا معه إلى قريب من باب النبي صلى الله عليه وسلم، فجلسوا، ودخل حصين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوسعوا للشيخ" فقال: "ما هذا الذي يبلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم؟ وقد كان أبوك جفنة5 وخبزاً6" فقال: "إن أبي وأباك في النار يا حصين، كم تعبد إلهاً [في] 7
اليوم؟ " قال: " [ستة] 1 في الأرض، وإله في السماء" قال: "فإذا أصابك الضيق بمن تدعو؟ " قال: "الذي في السماء" وذكر باقي الحديث وإسلامه. أخرجه إمام الأئمة ابن خزيمة في التوحيد2 له بهذا الإسناد، وطليق هو ابن محمد بن عمران بن حصين. 57- وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "فآتي باب الجنة، فأقرع الباب، فيقال: من أنت؟ فأقول: محمد، فإذا ربي على كرسيه، فيتجلى لي فأخر ساجداًَ"3.
وهذا حديث صحيح. 58- وعن ابن مسعود1 قال: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فتبسم، (ق29/أ) ثم قال: "عجباً للمؤمن، وجزعه من السقم، ولو كان يعلم ما له في2 السقم أحب أن يكون سقيماً حتى يلقى ربه، وعجبت من ملكين، نزلا يلتمسان عبداً في مصلاه، كان3 يصلي فيه فلم يجداه، فعرجا إلى الله فقالا4: يا رب، عبدك فلان، كنا نكتب له من العمل فوجدناه قد حبسته في حبالك، فقال اكتبوا لعبدي عمله الذي كان يعمل5، في يومه وليلته، ولا تنقصوا منه شيئاً، فعلي أجر ما حبسته، وله أجر ما كان
يعمل1"2. أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا3، في كتاب "المرض والكفارات" عن محمد بن يوسف4، عن ابن وهب5، عن محمد بن أبي حميد6، عن عون
ابن عبد الله1، عن أبيه2، عن ابن مسعود. ومحمد بن أبي حميد ضعيف. 59- وعن سلمان الفارسي3 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه يدعوه أن يردهما صفراً ليس فيهما شيء". وهذا حديث صحيح، رواه جماعة من الصحابة، علي بن أبي طالب4 وعبد الله بن عمر5، وسلمان الفارسي وأنس بن مالك6،
وغيرهم1.
60- وعن أبي هريرة قال: أخبرنا1 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أهل الجنة إذا دخلوها [نزلوا فيها] 2 بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة، [فيزورون] 3 الله، فيبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة (ق29/ب) من رياض الجنة، فيوضع4 لهم منابر من ذهب، ويجلس أدناهم، وما فيهم دني على كثبان المسك ما يرون بأن أصحاب الكراسي بأفضل5 منهم مجلساً". فذكره إلى أن قال فيه: "فننصرف إلى منازلنا، فتتلقانا أزواجنا ويقلن: مرحباًَ وأهلاً لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا، فنقول6: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، ويحق لنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا". رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما7.
61- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سيارة يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكر جلسوا معهم، فإذا تفرقوا صعدوا إلى ربهم"1. رواه [سهيل] 2 ابن أبي صالح3 عن أبيه4 عن أبي هريرة. 62- وعن قتادة بن النعمان5 قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه".
رواه الخلال1 في السنة2 بإسناد صحيح على شرط الصحيحين. 63- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، لا يصعد إليَّ من الرياء شيء"3. محفوظ من حديث قيس بن الربيع، عن أبي حَصين4، عن أبي
صالح1، عن أبي هريرة. (ق30/أ) 64- وعنه قال سمعت2 النبي صلى الله عليه وسلم يقول3: "رب يمين لا تصعد إلى الله في هذه البقعة، فرأيت فيها النجاسة"4. واه الثوري5، عن عاصم بن عبيد الله بن حفص6، عن عبيد بن
أبي عبيد1، عن أبي هريرة وهو غريب. 65- وخرج عبد أسود لبعض أهل خيبر في غنم له حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "من هذا؟ قالوا: رسول الله، قال: الذي في السماء؟ قالوا: نعم. فقال: أنت رسول الله؟ قال: "نعم" قال: الذي في السماء؟ قال: "نعم" فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة، فتشهد فقاتل حتى استشهد". أخرجه الأموي2 في "المغازي" عن محمد بن إسحاق3.
66- وعن عدي بن عميرة الكندي1 قال: "كان بأرضنا حبر من اليهود يقال له [ابن الشهلاء] 2، فالتقيت أنا وهو، فقال: إني أجد في كتاب الله أن أصحاب الفردوس قوم يعبدون ربهم على وجوههم، لا والله، ما أعلم هذه الصفة إلا فينا معشر اليهود، وأجد نبيها3 يخرج من اليمن، لا نراه يخرج إلا منا4، قال عدي: فوالله ما لبثت حتى بلغنا أن رجلا من بني هاشم قد تنبأ فذكرت حديث [ابن الشهلاء] 5 فخرجت إليه صلى الله عليه وسلم فإذا هو ومن معه يسجدون على وجوههم ويزعمون أن إلههم في السماء" /. رواه الأموي في المغازي6 من حديث محمد بن إسحاق، حدثني
يزيد بن سنان1، عن سعيد بن الأجيرد2، عن العرس بن قيس الكندي3، عن عدي بن عميرة. 67- وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله4 صلى الله عليه وسلم حدثني عن ربه عز وجل قال: "وعزتي وجلالي، وارتفاعي فوق عرشي، ما من أهل قرية ولا بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهت من معصيتي، فتحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي، إلى ما يحبون من رحمتي". أخرجه ابن أبي شيبة5 في كتاب "العرش"6، عن الحسن بن
علي1، حدثنا الهيثم2 بن الأشعث السلمي3، حدثنا أبو حنيفة [اليمامي] 4،
عن عمر بن عبد الملك1 قال: "خطبنا علي." فذكره. ورواه أبو أحمد العسال في كتاب "المعرفة" له، عن أحمد بن حسن [الطائي] 2، عن الحلواني3 به4. 68- وروى مالك بن دينار5 عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبرني جبرائيل عن الله عز وجل أنه يقول: وعزتي وجلالي واستوائي على عرشي وارتفاع مكاني إني لأستحيي من عبدي وأمتي يشيبان في
الإسلام أن أعذبهما". رواه الحافظ أبو نعيم1 في كتبه2، عن أبي بكر ابن السندي3، (ق31/أ) حدثنا جعفر بن محمد بن الصياح4، حدثنا يحي بن خذام5، حدثنا محمد
ابن عبد الله بن زياد الأنصاري1، عن مالك بن دينار. 69- وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جمع الله الخلائق حاسبهم، فميز بين أهل الجنة والنار، وهو في جنته على عرشه"2. هذا حديث محفوظ عن نوح بن قيس3، عن يزيد الرقاشي4، رواه يزيد بن هارون5 وغيره عنه. 70- وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مررت ليلة أسري بي
برائحة طيبة، فقلت لجبريل ما هذه [الرائحة الطيبة] 1؟. فقال: ماشطة بنت فرعون، كانت تمشطها فوقع المشط من يدها، فقالت: باسم الله، فقالت ابنة فرعون: أبي، قالت: ربي ورب أبيك، قالت: أقول له إذاً، قالت: قولي له، فقال لها: أولك رب غيري، قالت: ربي وربك الله الذي في السماء. فأحمي لها [بنقرة] 2 من نحاس، فألقى ولدها واحدًا واحدًا، فكان آخرهم صبي، فقال: يا أماه اصبري فإنك على الحق"3.
هذا حديث حسن من حديث عطاء بن [السائب] 1، عن سعيد بن جبير2. رواه أبو يعلى الموصلي3 في مسنده4، عن هدبة5، عن حماد بن سلمة6 عنه.
71- وعن عبادة بن الصامت1 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فينزل الله كل ليلة إلى سماء2 الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: ألا عبد من عبادي يدعوني، (ق31/ب) فأستجيب له، ألا ظالم لنفسه يدعوني فأفكه3، فيكون كذلك إلى مطلع الصبح ويعلو على كرسيه"4.
72- وفي صحيح مسلم "لا أسأل عن عبادي غيري"1، تفرد به موسى ابن عقبة2، عن إسحاق بن يحي3، عن عبادة. والحجة فيه قوله "يعلو على كرسيه".
وأما قوله "ينزل الله إلى سماء الدنيا1" فقد رواه نيِّف وعشرون من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أفردت لذلك جزءاً2.
وأما قوله "ينزل الله إلى سماء الدنيا1" فقد رواه نيِّف وعشرون من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أفردت لذلك جزءاً2.
73- وروى شعبة1، عن الحكم2، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليشرف على حاجة من حاجات الدنيا، فيذكره الله فوق سبع سموات، فيقول: ملائكتي، إن عبدي قد أشرف على حاجة من حوائج3 الدنيا، فإن فتحتها له فتحت بابا من أبواب النار، ولكن أزوها عنه، فيصبح العبد عاضاً على أنامله يقول من دهاني؟، ما هي إلا رحمة رحمه الله بها"4.
تفرد به علي بن [معبد] 1 أحد شيوخ النسائي، عن صالح بن بيان2 وليس بعمدة عن شعبة. 74- وروى شهر بن حوشب3، عن يزيد4 قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يهبط الرب تبارك وتعالى من السماء السابعة (ق32/أ) إلى المقام الذي هو قائمه، ثم يخرج عنق من النار فيظل الخلائق كلهم، فيقول أمرت بكل جبار عنيد، ومن زعم أنه عزيز كريم، ومن دعى مع الله إلها آخر"1. أخرجه أبو أحمد العسال من حديث أبان2 وهو ضعيف عن شهر. 75- وعن ابن المنكدر3، عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الملك يرفع العمل للعبد يرى أن في يديه4 منه سرورًا، حتى ينتهي إلى الميقات الذي وصف الله فيضع العمل فيه، فيناديه الجبار من فوقه: ارم بما معك في سجين فيقول ما رفعت إليك إلا حقًا5، فيقول: صدقت ارم بما معك في سجين".
أخرجه أبو أحمد العسال، [من حديث أبي العسال] 1، من حديث أبي الخطاب النجم بن إبراهيم2، عن ابن المنكدر3. 76- وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينظرون [إلى] 4 فصل القضاء، فينزل الله من العرش إلى الكرسي في ظلل من الغمام". هذا حديث حسن تفرد به أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود5،
فرواه مسروق1، (ق32/ب) عن ابن مسعود2. 77- وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه، إن رحمتي سبقت غضبي" متفق عليه3. أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الرد على الجهمية. 78- ورواه أبو4 أحمد العسال من حديث النعمان بن
بشير1 موقوفا عليه قال: "إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض فهو معه على العرش فأنزل منه آيتين فختم بهما سورة البقرة، وإن الشيطان لا يدخل بيتاً قرءتا فيه"2. 79- وأخرج البخاري في باب قوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} عن ابن عباس قال: بلغ أبا ذر3 مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأخيه: "اعلم لي علم هذا
الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء". هكذا أخرجه في كتاب الرد على الجهمية من صحيحه1. 80- وعن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث في القصاص بمصر فقلت لراويه: بلغني عنك في القصاص، قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يبعثكم يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً، [ثم يجمعكم] 2، ثم ينادي وهو قائم على عرشه بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، أنا الملك أنا الديان (ق33/أ) "3.
هذا حديث محفوظ عن جابر بن عبد الله، رواه عنه عبد الله بن محمد بن عقيل1، ومحمد بن المنكدر2، وأبو الجارود العبدي3، وله
طرق يصدق بعضها بعضاً. 81- وأخرج البخاري تعليقًا منه قوله: "ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان" في كتاب الرد على الجهمية من صحيحه1 في إذا تكلم الله بالوحي، وقد جمع ألفاظ أحاديث
الصوت، وقد ورد في ذلك بضعة عشر حديثاً مرفوعة1 من سوى أقوال الصحابة والتابعين، وقد تتبعتها وجمعتها في جزء أصحها ما أورده البخاري بعد هذا الحديث فقال: 82- حدثني عمر بن حفص2، ثنا أبي3، ثنا الأعمش4 حدثناأبو صالح5، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار"6.
83- وما رواه أحمد بن حنبل لما سأله ابنه عبد الله1 عن قوم يقولون: إن الله لم يتكلم بصوت، فقال: "بلى تكلم بصوت". [حدثنا المحاربي2، عن الأعمش] 3، عن أبي الضحى4، عن مسروق5، عن عبد الله6 قال: "إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السموات". وقال أحمد: "هذه (ق33/ب) الجهمية تنكره، وهؤلاء كفار يريدون أن
يموهوا على الناس". رواه عبد الله بن أحمد في كتاب "السنة"1 الذي أجازه لي غير واحد منهم ابن أبي الخير2، عن أبي زرعة الكفتواني 3، أنبأنا أبو عبد الله
الخلال1، أنبأنا أبو المظفر بن شبيب2، أنبأنا أبو عمر السلمي3، أنبأنا أحمد بن محمد اللنباني4 عنه. وهذا الحديث على شرط الصحيحين. رجعنا إلى ما وضع الكتاب له. 84- فعن جابر بن سليم5 قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن
رجلا ممن كان قبلكم لبس بردين [فتبختر] 1، فنظر الله إليه من فوق عرشه فمقته، فأمر الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها ".2 رواه سهل بن بكار شيخ البخاري3، عن عبد السلام بن
عجلان1، عن عبيدة [الهجيمي] 2 قال: قال أبو جُرَيْ جابر بن سليم فذكره3. 85- وعن تميم الداري4 قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معانقة الرجل للرجل إذا لقيه؟ فقال: "إن أول من عانق إبراهيم، وذلك أنه خرج يرتاد لماشيته في جبل من جبال بيت المقدس، فسمع صوتا يقدس الله، فذهل عما كان يطلب، وقصد الصوت فإذا هو برجل أهلب5 طوله [ثمانية عشر] 6 ذراعاً يقدس الله؛ فقال له إبراهيم: يا شيخ من ربك؟
قال: الذي (ق34/أ) في السماء" وذكر الحديث1. تفرد به عثمان بن عطاء الخراساني2، عن أبيه3، عن أبي سفيان الألهاني4، عن تميم. 86- وعن أبي وائل5، عن ابن مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله ما المقام المحمود؟ قال: "يوم ينزل الله على عرشه".
رواه ابن حيان1 في كتاب "العظمة" له2. 87- وعن عوانة بن الحكم3 قال: "لما استخلف عمر بن عبد العزيز4 وفد إليه الشعراء، فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، فبينا هم
كذلك مر بهم عدي بن أرطأة1، فدخل على عمر فقال: الشعراء ببابك يا أمير المؤمنين وسهامهم مسمومة، فقال: ويحك مالي وللشعراء. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح فأعطاه، امتدحه العباس بن مرداس السلمي2 فأعطاه حلة3. قال: أو تروي من شعره4 شيئاً. قال: نعم. فأنشده [عدي] 5 بن أرطأة قوله في النبي صلى الله عليه وسلم: رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتابا جاء بالحق معلما شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلمًا 6 تعالى علوًا فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
رواه الهيثم بن عدي1 عن عوانة بن الحكم2. 88- وعن سهل بن سعد3 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دون الله سبعون ألف حجاب من نور وظلمة، ما [تسمع] 4 من نفس (ق34/ب) شيئًا من حس5 تلك الحجب إلا زهقت6 نفسه". تفرد به موسى بن عبيدة7، عن أبي حازم8، عن سهل.
رواه البيهقي في كتاب "الصفات"1.
89- وعن عمران بن حصين1 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: قد بشرتنا فاقض لنا2 هذا الأمر كيف كان؟ فقال: كان الله على العرش وكان قبل كل شيء، وكتب في اللوح كل شيء يكون"3. هذا حديث صحيح أخرجه البخاري بغير هذا اللفظ4.
90- أخبرنا أحمد بن عبد الحميد المقدسي1، أنبأنا أبو محمد بن قدامة2 سنة سبع عشرة وستمائة، أخبرتنا شهدة3، أنبأنا أبو عبد الله النعالي4، أنبأنا أبو الحسين5 بن بشران6، أنبأنا ابن البختري7، حدثنا
الدقيقي1، حدثنا أبو علي الحنفي2، حدثنا فرقد بن الحجاج3، سمعت عقبة بن أبي الحسناء4 قال: سمعت أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا جمع الأولين والأخرين يوم القيامة جاء الرب إلى المؤمنين فوقف عليهم على كور". فقالوا لعقبة5: ما الكور؟ قال: المكان المرتفع، فيقول: "هل تعرفون ربكم؟ قالوا: إن عرفنا نفسه عرفناه، فيتجلى لهم ضاحكاً في وجوههم، فيخرون له سجداً".
أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" له عن عمرو بن علي1، عن الحنفي وفيه "فتوقف (ق35/أ) على كوم"2. 91- وعن عبد الله بن رواحة3 أنه مشى ليلة إلى أمة له [فنالها] 4، فرأته امرأته فلامته، فجحدها، فقالت: له إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن5 فإن الجنب لا يقرأ القرآن فقال: (شعر) شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا فقالت امرأته: صدق الله وكذبت عيني، وكانت لا تحفظ القرآن، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم [بذلك] 6 فضحك وقال: "غفر لك كذبك بتمجيدك
ربك". روي من وجوه صحاح مرسلة عن عبد الله بن رواحة، أخرجه أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الاستيعاب" له1. 92- قرأت على عبد الحافظ بن بدران2 بنابلس، أنبأنا موسى بن
عبد القادر الجيلي1، أنبأنا سعيد بن أحمد البنا2، أنبأنا أبوالقاسم علي بن أحمد البسرى3، أنبأنا المخلِّص4، حدثنا البغوي5، حدثنا عبد الجبار بن
عاصم1، حدثنا مبشِّر بن إسماعيل الحلبي2، حدثنا تمام بن نجيح3، عن الحسن4، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا5، (ق35/ب) يرى في أول الصحيفة خيراً، وفي آخرها خيراً، إلا قال الله لملائكته أشهدكم أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة"6. 93- وعن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء"7.
هذا حديث حسن الإسناد رواه جرير بن عبد الله1، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود رضي الله عنهم، وحديث عبد الله بن عمرو2 أصح الثلاثة وقد تقدم3. 94- أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن بن عمرو4، أنبأنا الحسين بن هبة الله البلدي5، أنبأنا علي بن عساكر6، أنبأنا
[الحسن] 1 بن أبي الحديد سنة ثمانين وأربعمائة2، أنبأنا المسدد بن علي الأملوكي3، أنبأنا إسماعيل بن القاسم الحلبي4 بحمص، حدثنا يعقوب بن إسحاق5 بعسقلان، حدثنا جعفر بن هارون الفراء6، حدثنا محمد بن
كثير1، عن الأوزاعي2، عن يحي3، عن أبي سلمة4، عن أبي هريرة قال: "لما خطب عليُّ فاطمة5 رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل عليها فقال:" أي بنيَّة إن ابن عمك قد خطبك فما تقولين"؟ فبكت ثم قالت: يا أباه6 كأنك إنما ادخرتني لفقير قريش، فقال: "والذي بعثني بالحق ما تكلمت في هذا حتى أذن الله فيه (ق36/أ) من السماء" فقالت: رضيت بما رضي الله لي منه7") 8.
95- قرأت على عمر بن عبد المنعم1، عن أبي [اليمن] 2 الكندي3، أنبأنا أبو الفتح البيضاوي4، أنبأنا ابن النقور5، أنبأنا أبو القاسم بن الجراح6، حدثنا البغوي7، حدثنا أبو كامل
الجحدري1، حدثنا جعفر بن سليمان2، عن ثابت3، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمطرت السماء حسر عن منكبيه حتى يصيبه المطر ويقول: "إنه حديث عهد بربه". هذا حديث صحيح4. 96- وعن عثمان بن عمير5، [عن] 6 أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الجمعة نزل الله عز وجل من عليين على كرسيه، ثم
حف الكرسي بمنابر من نور، ثم جاء النبيون حتى يجلسوا عليها، ثم حفها بكراسي من ذهب، ثم جاء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا عليها، ثم يجيء أهل الجنة حتى يجلسوا على الكثيب، فيتجلى لهم ربهم عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه وهو يقول: أنا الذي صدقتكم وعدي فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لهم عند ذلك ما لا عين رأت، ولا (ق37/أ) أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إلى مقدار منصرف الناس يوم الجمعة، ثم يصعد على كرسيه، فيصعد معه الصديقون والشهداء". وذكر الحديث. هذا حديث محفوظ له شواهد في السنن1، أخرجه عبد الله بن أحمد ابن حنبل في كتاب "الرد على الجهمية" له2، عن عبد الأعلى بن
حماد1، حدثنا عمر بن يونس2، عن جهضم بن عبد الله القيسي3، حدثنا أبو طيبة4، عن عثمان بن عمير. 97- ورواه ليث بن أبي سليم5، عن عثمان بن عمير وفيه "ثم يرتفع تبارك وتعالى على كرسيه ويرتفع معه النبيون". أخرجه الحافظ أبو أحمد العسال، عن موسى بن إسحاق6، عن
عثمان بن أبي شيبة1، عن جرير2، عن ليث به3 98- وروى العباس بن عبد العظيم العنبري4، عن أبي أحمد الزبيري5، عن إسرائيل6، عن أبي
إسحاق1، عن عبد الله بن خليفة2، عن عمر3 قال: "أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: ادعُ الله أن يدخلني الجنة. فعظم الرب، فقال: "إن كرسيه (ق37/ب) فوق السموات، وإنه يقعد عليه فما يفضل منه إلا أربع أصابع"4.
هذا حديث محفوظ من1 حديث2 أبي إسحاق السبيعي إمام الكوفيين في وقته، سمع من غير واحد من الصحابة، وأخرجا حديثه في الصحيحين، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة. تفرد بهذا الحديث عن عبد الله بن خليفة من قدماء التابعين، لا نعلم حاله بجرح ولا تعديل، لكن هذا الحديث حدث به أبو إسحاق السبيعي مقرًا له كغيره من أحاديث الصفات، وحدث به كذلك سفيان الثوري وحدث به أبو أحمد الزبيري، ويحي بن أبي بكير3،
ووكيع1، عن إسرائيل. 99- وأخرجه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب "السنة والرد على الجهمية" له، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن مهدي2، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي3، عن عبد الله ابن خليفة4، عن عمر رضي الله عنه، ولفظه "إذا جلس الرب على الكرسي، سمع له أطيط5 كأطيط الرحل6 الجديد"7.
ورواه أيضا عن أبيه، حدثنا وكيع (ق38/أ) بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر "إذا جلس الرب على الكرسي" فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع، وقال: أدركنا الأعمش1 وسفيان يحدثون [بهذه الأحاديث] 2 ولا ينكرونها3. قلت: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي4 في صحيحه، وهو من شرط ابن حبان5 فلا أدري أخرجه أم لا؟، فإن عنده أن العدل الحافظ إذا حدث عن رجل لم يعرف بجرح، فإن ذلك إسناد صحيح. فإذا كان هؤلاء6 الأئمة: أبو إسحاق السبيعي، والثوري،
والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم الذين هم سُرُج الهدى ومصابيح الدجى قد تلقوا هذا الحديث بالقبول وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم؟، بل نؤمن به ونكل علمه إلى الله عز وجل. قال الإمام أحمد: "لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته لشناعة شنِّعت وإن نَبَت عن الأسماع"1. فانظر إلى وكيع بن الجراح الذي خلف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبه (ق38/ب) به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل، وغضب لما رآه قد تلون لهذا الحديث.
أقوال الصحابة
[أقوال الصحابة] ذكر ما حفظ عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم بأن الله في السماء على العرش، وذلك في حكم الأحاديث المرفوعة، لأنهم رضي الله عنهم لم يقولوا شيئًا من ذلك إلا وقد أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا مساغ لهم في الاجتهاد في ذلك، ولا أن يقولوه بآرائهم، وإنما تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنه: [أبو بكر الصديق1 رضي الله عنه] 101- قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يعبد محمدًا فإنه قد مات، ومن كان يعبد الذي في السماء فإنه حي لا يموت". أخرجه هكذا الدارمي2 بإسناد صحيح3، والبخاري في
تاريخه من حديث نافع1، عن ابن عمر. [عمر بن الخطاب رضي الله عنه] 102- وعن عبد الرحمن بن غُنْم2 قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "ويل لديان من في الأرض، من ديان من في السماء يوم يلقونه، إلا من أمر بالعدل، وقضى بالحق، ولم يقض على هوى، ولا على قرابة، ولا على رغب، ولا رهب، وجعل كتاب الله مرآة بين عينيه"3.
قال ابن غنم: "فحدثت (ق39/أ) بهذا الحديث عثمان1، ومعاوية2، ويزيد3، وعبد الملك4".
أخرجه أبو نعيم الحافظ1، عن ابن فارس2، عن سمويه3، عن أبي مسهر4، عن سعيد بن عبد العزيز5، عن إسماعيل بن عبيد الله6، [عن] 7 ابن غنم.
103- وعن عمر أيضًا أنه مر بعجوز1 فاستوقفته فوقف يحدثها فقال له رجل: "يا أمير المؤمنين حبست الناس على هذه العجوز" فقال: "ويلك أتدري ما هي؟، هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة2 التي أنزل الله فيها {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ اَلتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} 3 ". أخرجه عثمان الدارمي في "الرد على المريسي"4.
[عثمان بن عفان رضي الله عنه] 104- وعن عبد الرحمن بن عوف1 رضي الله أنه لما أخذ البيعة لعثمان رضي الله عنه وبايعه الناس، رفع رأسه إلى سقف المسجد وقال: "اللهم اشهد". رويناه في جزء فيه مقتل عمر رضي الله عنه2. [عبد الله بن مسعود رضي الله عنه] 105- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما بين السماء القصوى والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء كذلك، والعرش فوق الماء والله فوق العرش، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم".
رواه اللالكائي1 2، والبيهقي3، بإسناد صحيح عنه4.
ورواه أيضا (ق39/ب) أبو بكر بن المنذر1، وعبد الله بن أحمد بن حنبل2، وأبو القاسم الطبراني3، وأبو عمر بن عبد البر4، وأبو عمر الطلمنكي5، وغيرهم، وأبو أحمد العسال6. 106- وعن ابن مسعود أنه قال: "من قال: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، تلقاهن ملك فعرج بهن إلى الله تعالى، فلا يمر بملأ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الرحمن".أخرجه العسال، وإسناده كلهم ثقات7.
107- وعنه أنه قال: "إن العبد ليهمُّ بالأمر من التجارة والإمارة، حتى إذا تيسر له، نظر الله إليه من فوق سبع سموات، فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنه إن يسرته له أدخله النار". رواه أبو القاسم اللالكائي الشافعي، وغيره بإسناد صحيح عن خيثمة1 عنه2. 108- وعنه قال3: "إن الله يبرز لأهل جنته في كل جمعة في كثيب من كافور أبيض، فيحدث لهم من الكرامة ما لم يروا مثله، ويكونوا في الدنو منه كمسارعتهم إلى الجمع".
أخرجه ابن بطة1 بإسناد صحيح، عن عمرو بن قيس2، عن ابن مسعود3.
[عبد الله بن عمرو1 رضي الله عنهما] 109- وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: "إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة، جاءها ملك فاختلجها، ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل، فيقول: اخلق يا أحسن الخالقين، فيقضي الله فيها ما يشاء، فيقطع رزقه وخلقه، فيهبط الملك بهما جميعا". رواه أبو بكر النجاد2 من حديث ابن لهيعة3 وحديثه فوق (ق40/أ)
الضعيف ودون الحسن، ولهذا الحديث1 شواهد في الصحيح2. [أبو هريرة رضي الله عنه] 110- عن أبي هريرة قال: "يحشر الناس حفاة، عراة، مشاة، قياما، أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء، وقد ألجمهم العرق من شدة الكرب، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي3".
أخرجه أبو أحمد العسال من حديث المنهال بن عمرو1، عن عبد الله بن الحارث2، عن أبي هريرة. [عبد الله بن عباس رضي الله عنهما] 111- وعن عبد الله بن عباس قال: "فكروا3 في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين السموات إلى كرسيه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك سبحانه وتعالى". رواه البيهقي في "الصفات" وأبو الشيخ الأصبهاني4 في كتاب "العظمة" وغيرهما بإسناد حسن عنه5.
112- وعنه أنه جاءه رجل فقال: "إني أجد شيئا يختلف، أسمع الله يقول {أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} 1 إلى قوله {بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} 2 فذكر الله تعالى خلق السماء قبل الأرض ثم قال في آية أخرى {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} 3 إلى قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} 4 فذكر هنا خلق
الأرض قبل السماء. فقال ابن عباس: أما قوله {أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} فإنه خلق الأرض قبل السماء ثم (0ق40/ب) استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ثم نزل إلى الأرض فدحاها". أخرجه البخاري في صحيحه1. 113- وعن عبد الله بن أبي سلمة2 "أن ابن عمر بعث إلى ابن عباس يسأله: هل رأى محمد ربه؟ فبعث إليه أن نعم، فأرسل إليه ابن عمر: كيف رآه؟ فقال: رآه على كرسي من ذهب تحمله أربعة من الملائكة3".
أخرجه أبو عبد الله بن بطة1 في كتاب "الإبانة"، من حديث محمد ابن إسحاق2، وهو [على] 3 شرط أبي داود والنسائي وغيرهما. 114- وصح عن جويبر4، عن الضحاك5، عن ابن عباس قال: "قالت امرأة العزيز ليوسف: إني كثيرة الدر والياقوت، فأعطيك ذلك
حتى تنفق في مرضاة سيدك الذي في السماء"1. 115- وعنه أنه قيل له إن ناساً يقولون بالقدر فقال: "يكذبون بالكتاب، لئن [أخذت] 2 شعر أحدهم لأنصُوَنَّه3، إن الله كان على عرشه، وكتب ما هو كائن، وإنما يجري الناس على أمر قد [قضي] 4 [و] 5 فرغ6 منه"7.
رواه سفيان الثوري وغيره، عن أبي هاشم1، عن مجاهد2 عنه. 116- وروى عكرمة3 في قوله {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} 4 عن ابن عباس قال: "لم يستطع (ق41/أ) أن يقول من فوقهم، علم أن الله من فوقهم"5. رواه إبراهيم بن الحكم بن أبان6 وهو ضعيف، عن أبيه7،
عن عكرمة. [أم سلمة1 رضي الله عنها] 117- وعن محمد بن أشرس الكوفي2، حدثنا أبو المغيرة النضر بن
إسماعيل الحنفي1، حدثنا قرة2، عن الحسن3، عن [أمه] 4، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان واجب5، والجحود به كفر". رواه ابن منده6 واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح عن محمد بن
أشرس أبي كنانة الكوفي وهو رواه1. [أنس بن مالك رضي الله عنه] 118- وعن أنس بن مالك قال: "قال أبو بكر لعمر بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق بنا إلى أم أيمن1 [نزورها] 2 كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقلنا ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، فقالت: صدقتما ولكن أبكي أن الوحي انقطع عنا من [السماء] 3، فهيجتهما4 على البكاء". رواه مسلم5. 119- وعن أبي مالك6، وأبي صالح7، عن ابن عباس، وعن مرة8
[عن ابن مسعود و] 1 عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} : "إن الله كان على عرشه على الماء، ولم يخلق شيئاً قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخاناً فارتفع [فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء] 2، ثم أيبس الماء فجعله أرضاً، ثم فتقها فجعلها سبع أراضين" إلى أن قال "فلما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش"3.
أخرجه محمد بن جرير الطبري (ق41/ب) في تفسيره، عن موسى بن هارون1، حدثنا عمرو بن حماد2، حدثنا أسباط3، عن السدي4. فبين فيه أن خلق العرش قبل سائر الخلق، وأن استواءه عز وجل عليه كان بعد ذلك، ومن ذلك: قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 5. 120- وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولا شيء معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض6".
أخرجه البخاري1. فخلق العرش قبل خلق السموات والأرض، [ثم خلق السموات والأرض] 2 بنص الكتاب والسنة، هذا لاشك فيه. وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فلو كان الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء أو القهر، ونحو ذلك، على ما حرفته الجهمية والمعتزلة، لكان الله تعالى غير مستول على العرش ولا قاهر له قبل خلق السموات والأرض، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فتدبر ذلك، وحاسب نفسك، واتق الله فيما تقوله، ودع الهوى واتبع الإنصاف وقول الحق، جعلنا الله3 ممن استمع القول فاتبع أحسنه.
أقوال التابعين
[أقوال التابعين] ومما حفظ عن التابعين رضي الله عنهم في أن الله على عرشه: [كعب الأحبار] 121- ما رواه يونس1 عن الزهري2 عن ابن المسيب3 عن كعب الأحبار4 قال: "قال الله في التوراة: أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق خلقي، وأنا على عرشي، أدبر أمر عبادي، (ق42/أ) ولا يخفى عليَّ شيء في السماء، ولا في الأرض"5.
رواه أبو الشيخ الأصبهاني، وابن بطة العكبري، وغيرهما، بإسناد صحيح من حديث أبي صفوان الأموي1 أحد رجال مسلم، واسمه عبد الله بن سعد بن عبد الملك بن مروان، عن يونس بن زيد، فذكره. [الحسن البصري 110هـ) ] 122- عن الحسن البصري2 قال سمع يونس عليه السلام تسبيح
الحصا والحيتان، فجعل يسبح، وكان يقول في دعائه: سيدي1 في السماء مسكنك، وفي الأرض قدرتك" وذكر الحديث. رواه ابن قدامة في "صفة العلو"2 بإسناد صحيح. 123- وعنه قال: ليس شيء عند ربك أقرب إليه من إسرافيل، وبينه وبينه سبع حجب، كل حجاب خمسمائة عام، وهو دون هؤلاء الحجب، ورجلاه في تخوم الثرى، ورأسه من تحت العرش"3. رويناه بإسناد صحيح عن أبي بكر الهذلي4 عن الحسن.
[كعب الأحبار] 124- وعن كعب الأحبار أنه [أتاه] 1 رجل وهو في نفر فقال كعب: دعوا الرجل، فإنه إن كان جاهلا تعلم، وإن كان عالمًا ازداد علماً، ثم قال كعب: أخبرك أن الله خلق سبع سموات، ومن الأرض مثلهن، ثم جعل ما بين كل سماءين2 كما بين السماء والأرض، وجعل كثفها مثل ذلك، ثم رفع العرش فاستوى عليه". رواه أبو الشيخ في كتاب "العظمة" بإسناد صحيح3.
[مسروق بن الأجدع الهمداني 62هـ) ] 125- وثبت عن مسروق1 (ق42/ب) أنه كان إذا حدث عن عائشة2 رضي الله عنها قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سموات"3. 126- وقد قال لها ابن عباس رضي الله عنهم، وقد دخل عليها يعودها. في حديث طويل: وكان من أمر مسطح4 ما كان فأنزل الله
براءتك من فوق سبع سموات"1. [سالم بن أبي الجعد الأشجعي 97هـ تقريباً) ] 127- وعن سالم بن أبي الجعد2 {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَاَدِ} 3 قال: ومن وراء4 الصراط ثلاثة جسور، جسر عليه الأمانة، وجسر عليه
الرحم، وجسر عليه الرب عز وجل"1. رواه أبو أحمد العسال بإسناد صحيح من رواية الأعمش2، عن سالم بن أبي3 الجعد. وصح عن إبراهيم بن الحكم4، عن أبيه5، وكلاهما ضعيف.
[عكرمة بن عبد الله مولى ابن عباس 106هـ) ] 128- وعن عكرمة1 قال: بينما رجل في الجنة، فقال في نفسه: لو أن الله يأذن لي لزرعت، فلا يعلم إلا والملائكة على أبوابه، فيقولون: سلام عليك، يقول لك ربك تمنيت في نفسك شيئًا فقد عَلِمْتُه، وقد بعث معنا البذر2؛ فيقول: ابذروا، فيخرج أمثال الجبال، فيقول له الرب من فوق عرشه: كل ابن آدم فإن ابن آدم لا يشبع"3. [مجاهد بن جبر المكي 104هـ) ] 129- وعن مجاهد 4 في قوله تعالى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 5 قال: يجلسه معه على العرش"6.
رواه إسحاق بن راهويه1، [وابن نمير] 2، عن ابن فضيل3، عن ليث4 عنه.
وسيأتي [قول الأئمة] 1 فيه في آخر هذا الجزء إن شاء الله تعالى2. وعنه3 في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِم خَلْفٌ} 4. قال: هم في هذه الأمة يتراكبون كما تراكب5 الحمر والأنعام في الطرق، (ق43/أ) ولا يستحيون الناس في الأرض، ولا يخافون الله في السماء"6. أخرجه الهيثم بن خلف الدوري7 في أول كتاب "ذم اللواط". [سعيد بن جبير 95هـ) ] 131- وعن سعيد بن جبير8 قال: قحط الناس في زمن ملك من
ملوك بني إسرائيل سنين، فقال الملك: ليرسلن علينا السماء أو لنؤذينه. فقال جلساؤه: وكيف تقدر وهو في السماء؟ فقال: أقتل أولياءه، فأرسل الله عليهم السماء"1. [قتادة بن دعامة السدوسي 113هـ تقريبًا) ] 132- وصح عن قتادة2 قال: قالت بنو إسرائيل يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض، فكيف لنا أن نعرف رضاك وغضبك؟ قال: إذا رضيت عليكم استعملت عليكم3 خياركم، وإذا غضبت عليكم استعملت عليكم شراركم". أخرجه عثمان4 بن سعيد الدارمي من كتاب "النقض على
المريسي" له1. [ثابت بن أسلم البناني 123هـ تقريبًا) ] 133- وصح عن ثابت البناني2 قال: كان داود عليه السلام يطيل الصلاة، ثم يركع، ثم يرفع رأسه إلى السماء، ثم يقول: إليك رفعت رأسي [يا عامر السماء] 3، نظر العبيد إلى أربابها يا ساكن السماء". رواه اللالكائي بإسناد صحيح عن ثابت4.
[مالك بن دينار البصري 127هـ) ] 134- وعن مالك بن دينار1 أنه كان يقول: جُدُّوا، ويقرأ ويقول: [اسمعوا] 2 إلى قول الصادق من فوق عرشه". رواه أبو نعيم في "الحلية" بإسناد صحيح عنه3.
135- وعنه أيضاً قال: قرأت في بعض الكتب أن الله يقول يا ابن آدم خيري ينزل عليك، وشرك (ق43/ب) يصعد إليَّ، وأتحبب إليك بالنعم، وتتبغض إلي بالمعاصي، ولا يزال ملك كريم قد عرج منك إليَّ1 بعمل قبيح". رواه ابن أبي الدنيا2 في تصانيفه3، عن أبي علي المدائني4، حدثنا
إبراهيم بن الحسن1، عن أبي جعفر2 شيخ من قريش، عن مالك. [الضحاك بن مزاحم الهلالي بعد المائة) ] 136- وعن الضحاك3، من رواية مقاتل بن حيان4 عنه، في قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية5. قال: هو على عرشه وعلمه معهم". 137- رواه أبو عمر بن عبد البر6 وأبو عبد الله بن بطة بأسانيد جيدة7. وأخرجه أبو أحمد العسال ولفظه قال: هو فوق العرش وعلمه
معهم أينما كانوا"1. [سليمان بن طرخان التيمي 143هـ) ] 138- ورُوِّينا بإسناد صحيح عن صدقة2 عن سليمان التيمي3 قال
سمعته يقول: لو سئلت أين الله؟ لقلت في السماء"1. 139- وعن شريح بن عبيد2 أنه كان يقول: ارتفع إليك ثغاء3 التسبيح، وصعد إليك وقار التقديس، سبحانك ذا4 الجبروت، بيدك الملك، والملكوت، والمفاتيح، والمقادير"5.
رواه أبو الشيخ بإسناد صحيح، من رواية صفوان بن عمرو1، عن شريح بن عبيد. [عبيد بن عمير الليثي 68هـ) ] 140- وعن عبيد بن عمير2 قال: ينزل الرب عز وجل شطر الليل إلى السماء الدنيا فيقول: من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى إذا كان الفجر صعد الرب عز وجل". رواه حجاج3، عن ابن جريج4، عن عطاء5، عن عبيد بن
عمير. أخرجه عبد الله بن أحمد (ق44/أ) في كتاب "الرد على الجهمية"1. [وهب بن منبه اليماني 113هـ تقريبًا) ] 141- وعن وهب بن منبه2 قال: وجدت في التوراة، كان الله ولم يكن شيء قبله، ولا يقال كيف كان، وأين كان، وحيث كان، لمن كيَّف الكيف، وأيَّن الأين، وحيَّث الحيث، فأول شيء خلق من الأشياء، أنه قال له كن [فيكون] 3. الكرسي، ثم استوى على العرش على مقدار ما أراد، ثم قال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 والكيف مجهول، والجواب فيه بدعة، والسؤال فيه تكلف"5. وذكر الحديث بطوله.
أخرجه أبو الشيخ فقال حدثنا عبد الله بن [سلم] 1، عن أحمد بن محمد بن غالب2، حدثنا محمد بن إبراهيم بن العلاء3، حدثنا إسماعيل
ابن عبد الكريم الصنعاني1، حدثني عبد الصمد بن معقل2، عن وهب. وهو خبر غريب عجيب، وفيه دليل إن صح أنه لا يجوز أن يُقال: أين كان الله قبل أن يخلق العرش والعما المذكور في حديث أبي رزين3 حيث قال: يا4 رسول الله صلى الله عليه وسلم أين كان ربنا؟ قال: "كان في عما ثم خلق العرش فارتفع عليه"5. فقبل خلق العماء لا يقال أين كان الله توفيقا بين هذا الأثر وبين حديث أبي رزين. وأما أن يقال:6 أين الله؟ فقد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، وأجيب أنه في السماء عز وجل في عدة أحاديث7.
[جرير بن عطية الخطفَى 110هـ) ] 142- وعن جرير بن الخَطَفى1 أنه لما قصد عبد الملك2 ليمدحه قال: ما (ق44/ب) جاء بك يا جرير؟ فقال في أبيات أُخر: [أتاكبِيَ الله الذي فوق عرشه ونور إسلام عليك دليل] 3 هذه رواية صحيحة عن حميد4 [و] 5 عن جرير، وهي6 في نسخة قديمة في كتاب "إصلاح المنطق"7.
[أبو عيسى يحي بن رافع الثقفي] 143- وقال أبو الشيخ في كتاب "العظمة"، حدثنا الوليد ابن أبان1، حدثنا أبو حاتم2، حدثنا نعيم بن حماد3،
[حدثنا] 1 ابن المبارك2، حدثنا سفيان3، عن إسماعيل بن أبي خالد4، عن أبي عيسى5، رحمه الله6 قال: [إن] 7 ملكاً لما استوى الرب على كرسيه سجد، فلم يرفع رأسه ولا يرفعه8 حتى تقوم الساعة، فيقول يوم القيامة: لم أعبدك حق عبادتك".
وهذا إسناد كلهم أئمة1. 144- وأخرجه أبو2 أحمد العسال، ولفظه لما علا الكرسيَ الربُ عز وجل". وأبو عيسى هو يحيى بن رافع من قدماء التابعين، سمع من3 عثمان ابن عفان4 رضي الله عنه. [مجاهد بن جبر المكي] 145- وعن مجاهد5 في قوله تعالى {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّا} 6 قال: بين
السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب، فما زال يقرب موسى عليه السلام حتى كان بينه وبينه حجاب1 [واحد] 2، فلما رأى مكانه وسمع3 صريف [القلم] 4 قال: رب أرني أنظر إليك". أخرجه البيهقي من رواية شبل5 عن ابن6 أبي نجيح7 8.
[ربيعة بن أبي عبد الرحمن 136هـ) ] 146- وثبت عن سفيان بن عيينة1 قال: لما سئل ربيعة بن أبي2 عبد الرحمن3 كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق"4.
[عباس القمى] 147- (ق45/أ) وعن عباس القُمِّي1 قال: بلغني أن داود عليه السلام كان يقول في دعائه: سبحانك اللهم أنت ربي، تعاليت فوق عرشك، وجعلت خشيتك على من في السموات2 والأرض". رواه ابن أبي شيبة في كتاب "العرش" له بإسناد صحيح3.
[عمر بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي 123هـ) ] 148- وقرأ بن محيصن1 {وَفِي السَّمَاءِ [رَازِقُكُمْ] 2وَمَا تُوعَدُون} 34. قلت: محمد بن عبد الرحمن بن محيصن في طبقة ابن كثير5 بالمدينة،
قرأ على مجاهد1، وسعيد بن جبر2، وله رواية حسنة نقلها سبط الخياط3 في "المبهج"4، والهذلي5 قبله في "الكامل". قال ابن مجاهد6: كان عالمًا بالأثر والعربية قال ابن شبل7: قرأت على ابن محيصن وابن كثير فقالا لي: رب
احكم، فقلت [له] 1: إن أهل العربية لا يعرفون ذلك، فقالا: مالنا وللعربية، هكذا سمعنا أئمتنا2) . [أيوب بن أبي تميمة السختياني 131هـ) ] 149- أنبأنا أحمد بن أبي الخير3، عن محمد بن أبي4 زيد5، أنا محمود6 ابن الصيرفي7، [أخبرنا ابن فاذشاة8، أخبرنا أبو القاسم
الطبراني1،حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي2] 3، أنبأنا سليمان بن حرب4، سمعت حماد بن زيد5، سمعت أيوب السختياني6، وذكر المعتزلة وقال: إنما مدار القوم على أن يقولوا ليس في السماء شيء". أخرجه الطبراني في كتاب "السنة"7 له8.
[فصل] وهذه جملة من أقوال التابعين، وهو أول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله تعالى فوق العرش، هو الجعد بن درهم1 وكذلك أنكر جميع الصفات لله تعالى، من السمع، والبصر، والكلام، واليد، والوجه، وغير ذلك فقتله خالد بن عبد الله القسري2، وقصته مشهورة3.
وأخذ هذه المقالة عنه الجهم1 بن صفوان2 إمام الجهمية ومنتسبهم، فأظهرها، واحتج لها بالشبهات العقلية وأوَّل (ق45/ب) قول الله تعالى
أنه استوى على العرش بمعنى استولى، وكان ذلك في آخر عصر التابعين، فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي1، وأبي حنيفة2، ومالك3، والليث بن سعد4، والثوري5، وحماد بن زيد6، وحماد بن سلمة7، وابن المبارك8، ومن بعدهم من أئمة الهدى. [عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (157هـ) ] 150- فقال الأوزاعي9 إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة
عند ظهور هذه المقالة، ما أخبرناه1 عبد الواسع الأبهري2 وغيره كتابة عن أبي الفتح المندائي3، أنا عبيد الله بن محمد بن الإمام أبي بكر البيهقي4، أخبرنا جدي5، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ6، أخبرني محمد ابن علي الجوهري7 ببغداد، ثنا إبراهيم بن الهيثم8، ثنا محمد بن كثير
المصيصي1، سمعت الأوزاعي يقول: "كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته". أخرجه البيهقي في "الصفات"2، ورواته أئمة ثقات. [الإمام أبو حنيفة (150هـ) ] 151- وبه قال البيهقي أنا أبو بكر بن الحارث3، أخبرنا ابن
حيان1، أنا أحمد بن جعفر بن نصر2، ثنا يحيى بن يعلى3، سمعت نعيم ابن حماد4 يقول: سمعت نوح بن أبي مريم5 يقول: "كنا عند أبي حنيفة رحمه الله أول ما ظهر، إذ جاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهما6، فدخلت الكوفة، فأظنني أقل ما رأيت عليها عشرة آلاف من الناس، تدعو إلى رأيها، فقيل لها: إن ههنا رجلا7 قد نظر في المعقول يقال له أبو حنيفة، فأتته وقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل / وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم
خرج إلينا وقد وضع كتابا أن الله في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى {وَهُوَ مَعَكُم} 1 قال: هو كما تكتب إلى الرجل2 إني معك وأنت غائب عنه"3. قال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله فيما نفى عن الرب من الكون في الأرض، وأصاب فيما ذكر من تأويل الآية، وتبع مطلق السمع بأن الله تعالى في السماء4. 152- وروى أبو مطيع الحكم5 بن عبد الله البلخي6 في الفقه الأكبر فقال: " [سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء
أو في الأرض] 1 فقال: [من لم يقر أن الله على العرش] 2 قد كفر لأن الله تعالى يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 وعرشه فوق سبع سموات، فقلت: إنه يقول {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، ولكن لايدري العرش في السماء أم في الأرض. فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر"4. 153- وسمعت القاضي أبا محمد المعري5 ببعلبك، يقول: سمعت
الإمام أبا محمد بن قدامة المقدسي1 سنة إحدى عشر وستمائة، يقول: بلغني عن أبي حنيفة أنه قال: "من أنكر أن الله في السماء فقد كفر"2. [عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (157هـ) ] 154- وروى أبو إسحاق الثعلبي3 قال: سئل الأوزاعي4 عن قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} 5؟ فقال: "هو على العرش كما وصف
نفسه"1. [الإمام مالك بن أنس (179هـ) ] 155- وروى عبد الله بن نافع2 قال: قال مالك بن أنس: "الله في السماء وعلمه في كل مكان". هذا حديث ثابت عن مالك رحمه الله، أخرجه عبد الله بنأحمد بن حنبل في كتاب "الرد على الجهمية"3 عن أبيه، عن سريج بن
النعمان1، عن عبد الله بن نافع تلميذ مالك وخصيصه. 156- (ق46/ب) وقال ابن وهب2: "كنا عند مالك، فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 كيف استوى؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء4، ثم رفع رأسه وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
كما وصف نفسه، ولا يقال كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت [رجل سوء] 1 صاحب بدعة، أخرجوه". رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب2.
157- ورواه عن يحيى بن يحيى1 أيضا، ولفظه فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"2.
وقد تقدم نحوه عن أم سلمة1، ووهب بن منبه2، وربيعة الرأي3. فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير، ونفوا الكيفية عنه، وأخبروا أنها مجهولة. [سفيان الثوري (161هـ) ] 158- وعن معدان4 قال: "سألت سفيان الثوري 5 عن قوله {وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَمَا كُنْتُم} 6 قال: علمه"7.
ومعدان هذا قال فيه ابن المبارك: "هو أحد الأبدال"1.
وهذا الأثر ثابت عن معدان رواه غير واحد عنه. [مقاتل بن حيان (قبل 150هـ) ] 159- وعن مقاتل بن حيان1 في قوله تعالى {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 2 قال:"هو على عرشه وعلمه معهم"3.
وهذا ثابت عن مقاتل، (ق47/أ) رواه عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن نافع ابن ميمون1، عن بكير بن معروف2، عنه3. [حماد بن زيد الأزدي (179هـ) ] 160- وقال ابن أبي حاتم 4، حدثنا أبي5، حدثنا سليمان بن
حرب 1، سمعت حماد بن زيد 2 يقول: "إنما يريدون يدورون على أن يقولوا ليس في السماء إله"3. [عبد الله بن المبارك (181هـ) ] 161- وثبت عن علي بن الحسن بن شقيق4، شيخ البخاري، قال:
"قلت لعبد الله بن المبارك1 كيف نعرف ربنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه". وفي لفظ "على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية إنه ها هنا في الأرض"2 فقيل لأحمد بن حنبل، فقال: "هكذا هو
عندنا"1. هذا صحيح ثابت عن ابن المبارك، وأحمد رضي الله عنهما. وقوله "في السماء" رواية أخرى توضح لك أن مقصوده بقوله "في السماء" أي: على السماء، كالرواية الأخرى الصحيحة التي كتب بها إلى يحيى بن منصور الفقيه2.
162- أخبرنا الحافظ عبد القادر الرُّهاوي1، أنبأنا محمد بن أبي نصر بأصبهان2، أنبأنا الحسين بن عبد الملك الخلال3، أنبأنا عبد الله بن شعيب4، أنبأنا أبو عمر السلمي5 أنبأنا أبو الحسين اللنباني6، حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب "الرد على الجهمية"، حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي7، حدثنا علي بن الحسين بن شقيق، سألت ابن المبارك: " (ق47/ب) كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا؟. قال: على السماء السابعة، على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية إنه ها هنا في الأرض"8.
163- وروى عبد الله بن أحمد أيضًا في الرد على الجهمية بإسناده، عن عبد الله بن المبارك أن رجلاً قال له: "يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله من كثرة ما أدعو على الجهمية قال: لا تخف، فإنهم1 يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء"2. [جرير بن عبد الحميد الضبي (188هـ) ] 164- وقال جرير3 بن عبد الحميد: "كلام الجهمية أوله عسل
وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله"1. أخرجه عبد الرحمن بن أبي حاتم، في كتاب "الرد على الجهمية"، عن أبي هارون محمد بن خالد2،عن يحيى بن المغيرة3، سمعت جريراً يقول، فذكره. [مقاتل بن حيان (150هـ) ] 165- وروى 4 بكير بن معروف5، عن مقاتل بن
حيان1 قال: "بلغنا -والله أعلم- في قوله {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ} 2 هو الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والظاهر فوق كل شيء، والباطن أقرب من كل شيء، وإنما يعني بالقرب بعلمه3 وقدرته وهو فوق عرشه، وهو بكل شيء عليم". رواه البيهقي بإسناده (ق48/أ) عنه4. [محمد بن إسحاق (150هـ) ] 166- وقال محمد بن إسحاق5: "بعث الله ملكًا من الملائكة -يعني إلى بختنصر6 - فقال: هل تعلم يا عدو الله كم بين السماء
إلى1 الأرض؟ قال: لا، فقال له: إن بين الأرض إلى السماء الدنيا مسيرة خمسمائة سنة2، وغلظها مثل ذلك" وذكر الحديث إلى أن ذكر حملة العرش فقال: "وفوقهم يبدو العرش، عليه ملك الملوك تبارك وتعالى؛ أي عدو الله فأنت تطلع إلى ذلك؟ ثم بعث الله عليه البعوضة فقتلته". أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب "العظمة"، فقال: حدثنا إسحاق بن أحمد3، حدثنا ابن حميد4، حدثنا [سلمة] بن الفضل5،
حدثني [محمد بن] 1 إسحاق فذكره2. وهذا إسناد جيد. [حماد بن سلمة (167هـ) ] 167- وقال عبد العزيز بن المغيرة3، حدثنا حماد بن سلمة4 بحديث "ينزل الله إلى السماء الدنيا"5 فقال: "من رأيتموه ينكر هذا فاتهموه".
رواه أبو أحمد العسال في كتاب "المعرفة"1. [أبو يوسف صاحب أبي حنيفة (182هـ) ] 168- وقصة أبي يوسف2 صاحب أبي حنيفة، مشهورة في استتابته لبشر المريسي، لما أنكر أن يكون الله فوق العرش. رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره في كتبهم3.
169- وصح وثبت عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: "من طلبالدين1 بالكلام تزندق2، ومن طلب المال بالكمياء3 أفلس، ومن تتبع غريب الحديث كذب"4.
[محمد بن الحسن الشيباني (189هـ) ] 170- روى عبد الله بن أبي حنيفة الدبوسي1، قال سمعت2 محمد ابن الحسن3 يقول: "اتفق الفقهاء كلهم، من المشرق إلى المغرب (ق48/ب) ، على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير4، ولا وصف، ولا تشبيه، فمن فسر
شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا، ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة، لأنه1 وصفه بصفة لا شيء"2. 171- وقال محمد بن الحسن في الأحاديث التي جاءت "أن الله يهبط إلي السماء الدنيا"، ونحو هذا: "إن3 هذه الأحاديث قد روتها الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها"4.
روى هذا الإجماع عن محمد بن الحسن، أبو القاسم اللالكائي، وأبو محمد بن قدامة في كتابيهما. [الوليد بن مسلم القرشي (194هـ) ] 172- وقال الوليد بن مسلم1: "سألت الأوزاعي2، ومالك بن أنس3، وسفيان الثوري4، والليث بن سعد5، عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة؟ فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف"6.
رواه أبو أحمد العسال، عن محمد بن أيوب1، عن الهيثم بن
خارجة1، حدثنا الوليد بن مسلم. [وكيع بن الجراح الرؤاسي (197هـ) ] 173- وقال أحمد بن حنبل، حدثنا وكيع2، عن إسرائيل3 بحديث: "إذا جلس الرب على الكرسي"، فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيع وقال: "أدركنا الأعمش4، وسفيان5، يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها". أخرجه عبد الله في كتاب "الرد على الجهمية" عن أبيه6. [عبد الرحمن بن مهدي العنبري (198هـ) ] وعن عبد الرحمن بن مهدي7 قال: (ق49/أ) "إن الجهمية أرادوا أن
ينفوا أن يكون الله كلم موسى، وأن يكون على العرش، نرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم"1. رواه غير واحد بإسناد صحيح عن عبد الرحمن قال: "الذي قال فيه ابن المديني2: لو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت أني ما رأيت أعلم منه"3.
[خالد بن سليمان البلخي (؟؟) ] 175- قال ابن أبي حاتم، حدثنا زكريا بن داود1 بن بكر2 3، سمعت أبا قدامة السرخسي4، سمعت أبا معاذ البلخي5 رحمه الله -يعني خالد بن سليمان- بفرغانة يقول: "كان جهم6 على معبر ترمذ، وكان فصيح اللسان، [و] 7 لم يكن له علم ولا مجالسة أهل العلم، فكلم السُمَنية8، فقالوا له: صف لنا ربك الذي تعبده. فدخل البيت لا يخرج،
ثم خرج إليهم بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو منه شيء1". قال أبو معاذ: "كذب عدو الله، إن2 الله في السماء على العرش كما وصف نفسه"3. وهذا ثابت عن أبي معاذ أحد الأئمة رحمه الله. [شجاع بن أبي نصر البلخي (؟؟) ] 176- وقال ابن أبي حاتم، حدثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي4، ثنا يحيى5 بن أيوب6، حدثنا أبو نعيم
البلخي1 -وكان قد أدرك جهما- قال: "كان لجهم صاحب يكرمه ويقدمه2 على غيره، فإذا هو قد صَيَّح به، وبدر به، ووقع فيه، قال أبو نعيم: فقلت له: لقد كان يكرمك. فقال إنه قد جاء منه ما لا يحتمل، بينا هو يقرأ طه، والمصحف في حجره، فلما أتى على هذه الآية: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: لو3 وجدت السبيل إلى أن أحكها من المصاحف. فاحتملت هذه، ثم إنه بينا هو (ق49/ب) يقرأ آية إذ قال: ما أظرف محمداً حين قالها. ثم إنه بينا هو يقرأ طسم -[سورة] 4 القصص- والمصحف في حجره إذ مر بذكر موسى عليه السلام، فدفع المصحف بيده ورجله، وقال: أي شيء هذا ذكره هنا، فلم يتم ذكره". هكذا5 أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الرد على الجهمية"، عن [الصاغاني] 6، عن يحيى بن أيوب، واسم
أبي نعيم شجاع بن أبي نصر1. [أبو يوسف صاحب أبي حنيفة (182هـ) ] 177- وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن [الحسين] 2 بن مهران3، حدثنا بشار4 بن موسى الخفاف5، قال جاء بشر بن الوليد6 إلى أبي
يوسف1 فقال له: "تنهاني عن الكلام وبشر المريسي2، وعلي الأحول3، وفلان يتكلمون، فقال: وما يقولون؟ قال: يقولون [إن] 4 الله في كل مكان. فبعث أبو يوسف فقال: علي بهم، فانتهوا إليهم، وقد قام بشر، فجيء بعلي الأحول والشيخ -يعني الآخر-، فنظر أبو يوسف إلى الشيخ وقال: لو أن فيك موضع أدب لأوجعتك، فأمر به إلى الحبس، وضرب عليا الأحول وطوف به"5. [سلام بن أبي مطيع الخزاعي (164هـ) ] 178- وقال ابن أبي حاتم6، حدثنا أبو زرعة7، حدثنا هدبة بن
خالد1، سمعت سلام بن أبي مطيع2 يقول: "ويلهم ما ينكرون من هذا الأمر؟ والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن أثبت منه يقول الله تعالى {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِير} 3 {وَيُحَذِّرُكُم الله نَفْسَهُ} 4 {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 5 {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 6 / {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 7 {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 8 فما زال في ذا من العصر إلي المغرب"9.
[يزيد بن هارون الواسطي (206هـ) ] 179- وقال شاذ بن يحيى1 سمعت يزيد بن هارون2 يقول: "من زعم أن الرحمن على العرش على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي" رواها عبد الله في كتاب "السنة" له، عن عباس العنبري3، عن شاذ ابن يحيى4.
ويزيد بن هارون شيخ أهل واسط، وأجلهم علماً وزهداً على رأس المائتين، وله مناقب كثيرة رحمه الله. وهذا الذي قاله هو الحق، لأنه لو كان معناه على خلاف ما يقر1 في القلوب السليمة2 [من] 3 الأهواء، والفطرة الصحيحة من الأدواء، لوجب على الصحابة والتابعين أن يبينوا أن استواء الله على عرشه على خلاف ما فطر الله عليه خلقه، وجبلهم على اعتقاده؛ اللهم إلا أن يكون في بعض الأغبياء من يفهم من أن الله في السماء أو على العرش [أنه محيز
وأنهما حيز له] 1، وأن العرش محيط به2، فكيَّف ذلك في ذهنه وبفهمه، كما بَدَر في الشاهد3 من أي جسم كان، على أي جسم4، فهذا حال جاهل، و [ما] 5 أظن أن أحدا اعتقد ذلك من العامة ولا قاله، وحاشا يزيد بن هارون أن يكون مراده هذا، وإنما مراده ما تقدم، وقد قال مثل قوله عبد الله بن [مسلمة] القعنبي6، شيخ البخاري ومسلم، وغيره، وسيأتي إن شاء الله فيما بعد7. [سعيد بن عامر الضبعي (208هـ) ] 180- وعن سعيد بن عامر الضبعي8 -إمام أهل البصرة على رأس
المائتين- أنه ذكر عنده الجهمية، قال: "هم شَرٌّ قولاً من اليهود والنصارى، اجتمع أهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء". (ق50/ب) رواه ابن أبي حاتم في كتابه1. [عباد بن العوام الكلابي (185هـ) ] 181- وقال عباد بن العوام2 -أحد الأئمة بواسط-: "كلَّمت بِشْراً المريسي وأصحابه، فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء، أرى -والله أعلم- أن لا يناكحوا، ولا يورثوا"3.
وقد تقدم نحوه عن جرير1، وحماد بن زيد2. [عبد الملك بن قُريب الأصمعي (215هـ) ] 182- وعن الأصمعي3 قال: "قدمت امرأة جهم، وقال رجل عندها الله على عرشه، فقالت: محدود على محدود. قال الأصمعي: هي كافرة بهذه المقالة"4.
[علي بن عاصم الواسطي (201هـ) ] 183- وقال يحيى بن علي بن عاصم1: "كنت عند أبي2، فاستأذن عليه المريسي، فقلت له: يأبه مثل هذا يدخل عليك! فقال3: وماله؟؛ قلت: إنه يقول: إن القرآن مخلوق، ويزعم أن الله معه في الأرض، وكلاما ذكرته، فما رأيته اشتد عليه مثل ما اشتد عليه في القرآن أنه مخلوق، وأنه معه في الأرض"4. أخرجها واللتين قبلها ابن أبي حاتم في كتابه في "الرد على الجهمية". وعلي بن عاصم أحد الأئمة في طبقة يزيد بن هارون، ووكيع5 توفي سنة إحدى و [مائتين] 6، وله أربع وتسعون سنة.
وقال: "أعطاني أبي مائة ألف درهم، فرجعت من رحلتي وقد كتبت مائة ألف حديث"1. [وهب بن جرير الأزدي (206هـ) ] 184- أخبرنا بلال المغيثي2 بمصر، أنبأنا عبد الوهاب بن رواج3، أنبأنا أبو طاهر السِّلفي4، أنبأنا مكي بن منصور5، أنبأنا
أبو بكر الحيري1، حدثنا حاجب الطوسي2، حدثنا محمد بن حماد3، سمعت وهب بن4 جرير5 يقول: "إياكم ورأي جهم6، فإنهم يجادلون أنه ليس في السماء شيء، وما هو إلا من وحي إبليس، وما هو إلا الكفر"7.
[محمد بن مصعب العابد (228هـ) ] 185- وقال أبو الحسن بن العطار1، (ق51/أ) سمعت محمد بن مصعب العابد2، يقول: "من زعم أنك لا تتكلم ولا تُرى في الآخرة، فهو كافر بوجهك، [ولا يعرفك] 3، أشهد أنك فوق العرش". رواه الدارقطني في "الصفات"، وعبد الله بن أحمد في "السنة"، بإسناد صحيح4.
[يحيى بن زياد الفراء (207هـ) ] 186- وقال محمد بن الجهم1، حدثنا يحيى بن زياد الفراء2 قال: "وقد قال عبد الله بن عباس: {ثُمّ اسْتَوَى} صعد، وهو كقولك للرجل كان قاعدا فاستوى قائماً، وكان قائمًا فاستوى قاعدًا، وكل في كلام العرب جائز". أخرجه البيهقي في "الصفات"3، فقال: أنبأنا الحاكم4،حدثنا الأصم5، حدثنا محمد بن الجهم، فذكره. [نوح بن أبي مريم المروزي (173هـ) ] 187- وقال أحمد بن سعيد الدارمي6 -أحد شيوخ مسلم-، سمعت
أبي1، يقول: سمعت أبا عصمة نوح بن أبي مريم2، وسأله رجل عن الله عز وجل في السماء هو؟، فحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل الأمة "أين الله؟ قالت: في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة"3. قال: "سماها رسول صلى الله عليه وسلم مؤمنة أن عرفت أن الله في السماء". رواه عبد الله بن أحمد في كتاب "السنة" عن أحمد بن سعيد4. [محمد بن مصعب العابد (228هـ) ] 188- وقال المروزي5، [سمعت أبا عبد الله الخفاف6] 7، سمعت
ابن مصعب1 وقرأ {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 2 فقال: "نعم يقعده معه على العرش". قال أحمد بن حنبل -وذكر ابن مصعب-، فقال: "قد كتبت عنه وأي رجل"3. هكذا (ق51/ب) أخرجه أبو بكر المروزي صاحب الإمام أحمد، وهو من أجل من أخذ الفقه عنه، ألف هذا الكتاب في حدود السبعين ومائتين، لما أنكر بعض الجهمية أن الله يقعد محمداً صلى الله عليه وسلم على العرش، واستفتى من كان في عصره في ذلك. وهذا حديث ثابت عن مجاهد4، رواه عنه ليث بن أبي5 سليم6،
وعطاء بن السائب1، وجابر بن يزيد2، وأبو يحيى القتات3، وغيرهم4. ورواه عن ليث5، محمد بن فضيل6، وعبد الله بن إدريس الأودي7، واشتهر عن محمد بن فضيل، عن ليث، فرواه أبو بكر بن أبي
شيبة1، وأخوه عثمان2، وحدثا به على رؤوس الناس ببغداد3. وحدث به عنه أيضا4 إسحاق بن راهوية5، ومحمد بن عبد الله بن نمير6، وخلاد بن أسلم7، وإسماعيل بن حفص
الأيلي1، وسفيان بن وكيع2، ومحمد بن حسان3، والحسن بن الزبرقان أبو الخزرج4، والحارث بن شريح5، وعلي بن حرب6،
وعلي بن المنذر الطريقي1، والعباس بن يزيد البحراني2، ولفظهم3 "يجلسه معه على العرش". ولفظ الباقين، أخبرني ابني أبي شيبة4، وعبد الرحمن بن صالح5، وهارون بن معروف6، وإبراهيم بن موسى الرازي7،
وواصل (ق52/أ) بن عبد الأعلى1، ويحيى بن عبد المجيد الحماني2، وعبيد بن يعيش3، وجعفر بن محمد بن الحداد4، "يجلسه على العرش". والزيادة صحيحة مقبولة. ورفعه بعضهم من حديث ابن عمر وإسناده واه لا يثبت5، وأما
عن مجاهد فلا شك في ثبوته. وممن أفتى المروزي1 بأن الخبر يسلم كما جاء ولا يعارض: أبو داود صاحب السنن2، وعبد الله بن الإمام أحمد3، وإبراهيم الحربي4، ويحيى بن أبي طالب5، وأبو جعفر
إلى القدرة، فلو كان كما قالوا، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، فالأرض [شيء] 1، فالله قادر عليها وعلى الحشوش، وكذا لو كان مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء، لجاز أن2 يقال: مستو على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش والأخلية، فبطل أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء"3. وذكر أدلة من الكتاب، والسنة، والعقل، وغير ذلك. 5- ونقل الإمام أبو بكر بن فورك4 المقالة التي تقدمت عن أصحاب الحديث، عن الإمام أبي الحسن الأشعري، في كتاب "المقالات والخلاف بين الأشعري وأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب"5 تأليفه.
[عباد] 1 بن أبي روق، سمعت أبي2 يحدث عن الضحاك3، عن ابن عباس في قوله {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} . قال: "يقعده على العرش"4. 190- حتى إن عبد الله بن الإمام أحمد قال عقيب حديث مجاهد: "وأنا منكر على من رد هذا الحديث، وهو عندي رجل سوء، متهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت هذا الحديث من جماعة، وما رأيت أحداً من المحدثين ينكره، وكان عندنا وقت ما سمعناه من المشايخ أنه إنما ينكره
الجهمية"1. 191- وحدثنا هارون بن معروف2، حدثنا ابن فضيل3، عن ليث4، عن مجاهد5 في قوله {عَسَى (ق52/ب) أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} قال: "يقعده على العرش". فحدث به أبي رحمه الله فقال: كان ابن فضيل يحدث به فلم يُقدَّر لي أن أسمعه منه6. 192- وقال المروزي7: وحدثني إبراهيم بن عرفة8، سمعت أبا عمير9 يقول: سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن حديث مجاهد "يقعد
محمدًا صلى الله عليه وسلم على العرش" فقال: قد تلقته1 العلماء بالقبول2. 193- قال المروزي: وقال أبو داود -يعني صاحب السنن- فيما احتج به، حدثنا [محمد] 3 بن أبي صفوان الثقفي4، حدثنا يحيى بن كثير5، [قال ثنا سلم بن جعفر6، ثنا سعيد
الجريري1] 2، حدثنا سيف [السدوسي] 3، عن عبد الله بن سلام4 رضي الله عنه قال: "إذا كان يوم القيامة5 جيء بنبيكم صلى الله عليه وسلم حتى يجلس بين يدي الله على كرسيه، فقلت يا أبا مسعود: إذا كان على كرسيه أليس هو معه؟، قال: ويلك6 هذا أقر حديث في الدنيا لعينيّ.
أبو مسعود1 هو2 سعيد [بن] 3 إياس الجريري راوي4 الحديث من التابعين، سمع أبا الطفيل5، وروى عنه
شعبة1، والثوري2. 194- قال أبو داود: وما ظننت أن أحدًا يذكر بالسنة يتكلم3 في هذا الحديث، إلا أنا علمنا أن الجهمية تنكره4. 195- وقد رواه محمد بن جرير الطبري5 في تفسيره لهذه الآية عن مجاهد وغيره، وقال: "ليس في فرق المسلمين من ينكر هذا، لا6 من يقر7 أن الله فوق العرش ولا من ينكره"8.
وكذلك1 أخرجه أبو بكر النقاش2 في تفسيره لها. وكذلك رد3 الخلال4 وأبو العباس بن سريج5 الفقيهان (ق53/أ) المتعاصران على من أنكره. 196- حتى قال أبو بكر النجاد6 الفقيه -صاحب أبي داود-: "لو
أن حالفًا حلف بالطلاق ثلاثًا أن الله يقعد محمدًا معه على العرش، واستفتاني، لقلت له: صدقت وبررت". وذكره عند1 القاضي أبي يعلى الفراء2. 197- وروى أبو بكر الخلال في "السنة" له، أخبرني الحسن3 بن صالح العطار4، عن محمد بن علي السراج5، قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله إني أريد أن أقول شيئا، فأقبل علي وقال: قل؛ فقلت: إن الترمذي يقول: إن الله لا يقعدك معه على العرش، ونحن نقول إن الله يقعدك معه على العرش فكيف نقول6، فأقبل عليَّ شبيه المغضب7 وهو يشير بيده اليمنى عاقدًا بها أربعين، وهو يقول: بلى والله
بلى والله بلى والله1 يقعدني معه على العرش. فانتبهت"2. الترمذي ليس هو أبو عيسى صاحب "الجامع" أحد الكتب الستة، وإنما هو رجل في عصره من الجهمية ليس بمشهور اسمه. 198- وقال محمد بن [عمران] 3 الفارسي4، عقيب حديث مجاهد: "بلغني أن مسلوبا من الجهال أنكر ذلك، فنظرت في إنكاره، فإن كان قصد مجاهداً رحمه الله، فابن عباس رضي الله عنهما قصد، وإن كان لابن5 عباس قصد فعلى [قول] 6 رسول الله صلى الله عليه وسلم رد"7. 199- وروى شعبة، عن [عبيد الله بن عمران] 8 قال: "سمعت
مجاهدا يقول: صحبت ابن عمر1 لأخدمه فكان هو يخدمني"2. وسنذكر من أفتى المروزي3 بأن الخبر يمر كما جاء، وأنه متلقى بالقبول (ق53/ب) ، في موضع طبقاتهم إن شاء الله تعالى. [الإمام الشافعي (204هـ) ] 200- وروى الحافظ عبد الغني المقدسي4، وشيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري5 رحمه الله، وغيرهما، في جمعهم عقيدة الشافعي6
بأسانيدهم إلى أبي ثور1، وأبي شعيب، كلاهما عن الإمام2 أبي عبد الله الشافعي رحمه الله3 قال: "القول في السنة التي أنا عليها، رأيت4 أهل الحديث عليها، الذين رأيتهم، مثل سفيان5، ومالك، وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -وذكر أشياء- ثم قال: "وأن6 الله على عرشه في سمائه7، يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى سماء8 الدنيا كيف شاء" وذكر سائر الاعتقاد9.
201- وروى الحسن بن هشام البلدي1 قال: "هذه وصية محمد بن إدريس الشافعي، أوصى أنه2 يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له" -وذكر الوصية- إلى أن قال فيها "والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة عيانًا، ينظر [إليه] 3 المؤمنون، ويسمعون كلامه، وأنه تعالى فوق العرش"4 وذكر سائر الوصية.
رواها الهكاري، والحافظ عبد الغني في العقيدة له. 202- قال أبو عبد الله الحاكم1، سمعت الأصم2 يقول: سمعت الربيع3 يقول: "سمعت الشافعي، وقد روى حديثا صحيحا، [فقال له رجل: أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟. فقال: إذا رويت حديثا] 4 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب"5.
203- وعن [ابن] 1 أبي حاتم سمعت يونس2، قال: (ق54/أ) سمعت الشافعي يقول: "لله أسماء وصفات لا يسع أحدا قامت عليه الحجة ردها، فإن خالف بعد ثبوت الحجة عليه3 فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالروية والفكر، ونثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه، كما نفى عن نفسه، قال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} "4. رواه شيخ الإسلام في [عقيدة] 5 الشافعي، وغيره، بإسناد كلهم ثقات.
والكلام في مثل هذا كثير من الشافعي، فقد جمع شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري، والحافظ أبو محمد عبد الغني، وأبو الحسن بن شكر1 وغير واحد أقوال الشافعي في أصول الاعتقاد، وذلك موجود بأيدي الناس. [عاصم بن علي الواسطي (221هـ) ] 204- وعن عاصم بن علي2 -شيخ البخاري- قال: "ناظرت جهمياً، فتبين من كلامه [أنه] 3 لا يؤمن أن في السماء ربّاً"4. عاصم بن علي، إمام، حافظ، ثقة، حدث عن شعبة5، وابن أبي ذئب6،
والليث1، ونحوهم، توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين. وروى الخطيب2 في ترجمته قال: " [وجه] 3 المعتصم4من يحزر5 مجلسه، في رحبة النخل، في جامع الرصافة، وكان عاصم يجلس على سطح الرحبة، ويجلس الناس في الرحبة وما يليها، فعظم الجمع مرة جدًا، حتى قال أربع عشرة مرة حدثنا الليث بن سعد، والناس لا يسمعون لكثرتهم، وكان هارون المستملي6 يركب نخلة يستملي عليها،
فحزروا المجلس، فكان عشرين ومائة ألف"1. وقال يحيى بن معين2 فيه3: (ق54/ب) عاصم بن علي، سيدالمسلمين4. [عبد العزيز بن يحيى الكناني (240هـ) ] 205- وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني5 -صاحب الحيدة6،
والمناظرة في خلق القرآن مع بشر المريسي1، بين يدي المأمون بن هارون الرشيد2، وينبغي أن يكون ذلك [-يعني المناظرة-] 3 في سنة ثمان عشرة ومائتين، فإن فيها أحدث المأمون امتحان الناس في القرآن، وفي أواخرها توفي المريسي- قال في كتاب "الرد على الجهمية" له: "باب [قول] 4 الجهمي في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} زعمت الجهمية أنما معنى استوى: استولى، من قول العرب: استوى فلان على مصر، يريد استولى عليها. والبيان لذلك يقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس [الله] 5 بمستول6 عليه؟، فإذا قال: لا، قيل له: فمن زعم ذلك فمن قوله، فمن زعم ذلك فهو كافر، فيقال له: يلزمك أن تقول إن العرش قد
أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك لأنه أخبر سبحانه وتعالى أنه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض ثم استوى عليه بعد خلقهن، فيلزمك أن تقول المدة التي كان العرش قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه1". ثم ذكر كلاماً طويلاً في تقرير ذلك والاحتجاج له بالكتاب والسنة2. قلت: وكذلك يلزم من قال إنه بمعنى ملك وقهر، أن يكون الله غير مالك ولا قاهر للعرش قبل خلق السموات والأرض3.
[عبد العزيز بن الزبير الحميدي (219هـ) ] 206- أخبرنا إسماعيل بن الفراء1، حدثنا محمد بن أحمد بن محمد2بن قدامة3 سنة سبعة عشر وستمائة، أنبأنا سعد الله بن نصر الدجاجي4، أنبأنا [أبو] 5 منصور الخياط6، حدثنا أبو طاهر عبد الغفار
ابن محمد1، / أنبأنا أبو علي بن الصواف2، أنبأنا بشر بن موسى3، أنبأنا الحميدي4، قال: "أصول السنة -فذكر أشياء- ثم قال: "وما نطق به القرآن والحديث مثل {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} 5، ومثل {السَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 6، وما أشبه هذا من القرآن والحديث لا نزيد
فيه، ولا نفسره، ونقف عند ما وقف عليه القرآن والسنة، ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي"2. هذا حديث ثابت عن الحميدي أبي بكر3 عبد الله بن الزبير، إمام أهل مكة في الفقه والحديث توفي4 على رأس العشرين ومائتين رحمه الله5، أخذ عن سفيان بن عيينة، والشافعي وغيرهما، وصدَّر البخاري صحيحه بروايته عنه. [أبو عبيد القاسم بن سلاّم (224هـ) ] 207- أخبرنا القاضي أبو محمد بن علوان6 ببعلبك، أنبأنا
عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي1، أنبأنا عبد المغيث بن زهير الحافظ2، أنبأنا أحمد بن عبيد الله بن كادش3، أنبأنا محمد بن علي الحربي4،أنبأنا الحافظ أبو الحسن الدارقطني5، حدثنا محمد بن مخلد6، حدثنا العباس الدوري7، سمعت أبا عبيد القاسم بن سلاّم8 -وذكر الباب
الذي1 يروي فيه الرؤية، والكرسي موضع القدمين، وضحك ربنا، وأين كان ربنا- فقال: "هذه أحاديث صحاح، حملها أهل الحديث، والفقهاء، بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق، لا شك فيها؛ ولكن إذا قيل كيف وضع قدمه؟ وكيف يضحك؟ قلنا لا نفسر هذا ولا سمعنا أحداً يفسره". هكذا أخرجه الدارقطني في "الصفات" له2. وأبو عبيد من أخيار3 هذه الأمة، توفي سنة أربع وعشرين ومائتين، وولد والشافعي سنة خمسين ومائة، وإسناده (ق55/ب) صحيح عنه. ومن جلالته في العلم قال فيه إسحاق بن راهويه: "الله يحب الإنصاف، أبو عبيد أعلم مني، ومن الشافعي، ومن أحمد بن حنبل".
[نعيم بن حماد الخزاعي (228هـ) ] 208- قال ابن بطة1، حدثنا ابن مخلد2، حدثنا الرمادي3، سمعت نعيم بن حماد4 في قوله {وَهُوَ مَعَكُم} 5: "أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه6، ألا ترى قوله {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 7 الآية، أراد: أنه لا يخفى عليه خافية"8. نعيم بن حماد نزيل مصر، أحد شيوخ البخاري، من كبار أئمة
الحديث، توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين. 209- وهو القائل ما1 أخبرنا ابن الفراء2، أنبأنا ابن قدامة3، انبأنا ابن البطي4، أنبأنا ابن خيرون5، أنبأنا ابن شاذان6، أنبأنا ابن زياد7، حدثنا محمد بن إسماعيل8، سمعت نعيم بن حماد9، يقول: "من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله10 تشبيها"11.
وكلا القولين صحيح عنه. [عبد الله بن أبي جعفر الرازي (مات بعد المائتين) ] 210- وقال صالح بن [الضريس] 1: جعل عبد الله بن أبي جعفر الرازي2 يضرب قرابة له بالنعل على رأسه، يرمى برأي جهم3 ويقول: "لا حتى تقول {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ [اسْتَوَى] 4} بائن من خلقه"5.
رواه ابن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهمية"، عن محمد بن يحيى1 عن صالح. [هشام بن عبد الله الرازي (بعد المائتين) ] 211- وقال حدثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي2، سمعت أبي3 يقول: سمعت هشام بن عبد الله الرازي4، يقول: حُبس رجل5 في التجهم، فتاب، فجيء به إلى هشام ليمتحنه- فقال له: "أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟. قال: لا أدري ما بائن من خلقه. فقال: رُدَّه فإنه لم يتب6 بعد"7.
هشام بن [عبد الله] 1 من أئمة الفقه على مذهب أبي حنيفة، (ق56/أ) أخذ عن محمد بن الحسن2 وغيره وهو معروف عند الفقهاء، ذكره أبو إسحاق في طبقات الفقهاء. توفى محمد بن الحسن3 في منزله. [يزيد بن هارون الواسطي (206هـ) ] 212- وعن يزيد بن هارون4، وسأله رجل من أهل بغداد فقال: "سمعت المريسي5 يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل. فقال يزيد: إن كنت صادقاً إنه كافر بالله العظيم". أخرجها ابن أبي حاتم في كتابه.
[عبد الله بن مسلمة القعنبي (221هـ) ] 213- وقال بيان بن أحمد1، كنا عند القعنبي2 فسمع رجلاً من الجهمية يقول: الرحمن على العرش استولى، فقال القعنبي3: "من لا يؤمن أن الرحمن على العرش استوى، كما تقرر في قلوب العامة، فهو جهمي"4. أخرجها عبد العزيز القحيطي5 في تصانيفه.
[أبو معمر إسماعيل القطيعي (236هـ) ] 214- وقال أبو معمر القطيعي1: "آخر كلام الجهمية أنه ليس في السماء إله"2. ذكره ابن أبي حاتم في كتابه. [الإمام يحيى بن معين (233هـ) ] 215- وقال يحيى بن معين3: "إذا قال لك الجهمي: كيف ينزل؟ فقل: كيف صعد؟ ". أخرجه ابن بطة في "الإبانة"4 عن
النجاد1، عن جعفر بن أبي عثمان الطيالسي2 عن يحيى بن معين رحمه الله. [بشر بن الحارث الحافي (227هـ) ] 216- وقال بشر بن الحارث الحافي3 في عقيدته -وذكر أشياء- فيها: "والإيمان بأن الله على عرشه استوى4 كما شاء، وأنه عالم بكل
مكان، وأن الله يقول، ويخلق، فقوله كن ليس بمخلوق"1. رواها ابن بطة في "الإبانة" وغيره. [حرب بن إسماعيل الكرماني (280هـ) ] 217- و [قال] 2 حرب بن إسماعيل3: "قلت لإسحاق بن راهويه4 في قول الله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 5: كيفتقول6 فيه؟ قال: حيث ما / كنت7 فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه" ثم ذكر عن ابن المبارك8: "هو على عرشه بائن من خلقه" ثم قال: وأعلى شيء من ذلك وأثبته قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى} "1. رواه الخلال في "السنة" له عن حرب2. [الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (241هـ) ] 218- وقال أبو طالب3 سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال: إن الله معنا، وتلا: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 4. قال: "قد تجهم هذا، يأخذون بآخر الآية، ويدعون أولها [هلا] 5 قرأت عليه: {أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} 1 فالعلم معهم، وقال في [سورة] 2 (ق) : {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 3 فعلمه معهم". رواه ابن بطة في "الإبانة"4. 219- وقال المروزي5: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل، إن رجلاً قال: أقول كما قال الله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 6، أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره. فقال أبو عبد الله: "هذا كلام الجهمية". قلت: فكيف نقول؟ قال: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم} علمه في كل مكان وعلمه معهم" ثم قال: "أول الآية يدل على أنه علمه".
رواه ابن بطة عن عمر بن محمد1 حدثنا محمد بن داود2 عن المروزي3. 220- قال حنبل4: "قلت لأبي عبد الله5: ما معنى قوله {وَهُوَ مَعَكُم} ، و {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ (ق57/أ) هُوَ رَابِعُهُمْ} ؟. قال: علمه محيط بـ"الكل"، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة". أخرجه اللالكائي في "السنة"6.
221- وقال يوسف بن موسى القطان1: "وقيل لأبي عبد الله2: الله3 فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه وقدرته بكل مكان؟ قال: نعم". رواه الخلال، عن يوسف4.
222- وقال سلمة بن شبيب1: "كنت عند أحمد بن حنبل، فدخل رجل عليه أثر السفر، فقال: من فيكم أحمد بن حنبل؟ فأشاروا إليه، فقال: إني ضربت2 البر والبحر3 من أربعمائة فرسخ4، أتاني الخضر عليه السلام فقال: إيت أحمد بن حنبل، فقل له5: إن ساكن السماء راض عنك لما بذلت نفسك في هذا الأمر"6.
رواه ابن أبي حاتم في مناقب أحمد عن محمد بن مسلم1 عن سلمة. [ذو النون المصري (245هـ) ] 223- وقال عمر بن بحر الأسدي2: "سمعت ذا النون المصري3
يقول: أشرقت لنوره السموات، وأنار لوجهه الظلمات، وحُجِبَ جلالُه عن العيون، وناجاه على عرشه ألسنة الصدور". أخرجها أبو الشيخ في كتاب "العظمة"1. [أحمد بن حنبل] 224- وقال الإمام2 أحمد بن حنبل رحمه الله في كتاب الرد على الجهمية مما جمعه3 ورواه عبد الله ابنه عنه: "باب بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله على العرش"، قلت لهم: أنكرتم أن يكون الله على العرش، وقد قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4؟
فقالوا: هو تحت الأرض السابعة، كما هو على العرش، وفي1 السموات وفي2 الأرض. فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها (ق57/ب) منعظمة الرب شيء، أجسامكم وأجوافكم والحشوش3 والأماكنالقذرة ليس فيها من عظمته شيء، وقد أخبرنا عز وجل أنه فيالسماء فقال تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَفَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} 4، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] 5} 6، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَوَرَافِعُكَ إِلَيّ} 7، {بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ} 8, {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِنْ فَوْقِهِم} 9 فقد
أخبر1 سبحانه أنه في السماء"2. أخرجه كله أبو بكر الخلال في "السنة"، وخرج أكثره مفرقا في غير موضع القاضي أبو يعلى الفراء في كتاب "إبطال التأويل" له. [إسحاق بن راهويه (256هـ) ] 225- وقال أحمد بن سلمة3: "سمعت إسحاق بن راهويه يقول: جمعني وهذا المبتدع -يعني إبراهيم بن أبي صالح-4 مجلس الأمير عبد الله ابن طاهر5، فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها. قال6 ابن أبي
صالح: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء. فقال: آمنت برب يفعل ما يشاء"1. رواه البيهقي عن الحاكم سمعت محمد بن صالح بن هاني2 سمعت أحمد بن سلمة فذكره. [عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق (251هـ) ] 226- وقال عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق3 لما روى حديث
ابن عباس "ما بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف1 نور، وهو فوق ذلك"2 قال: "من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة"3. عبد الوهاب هذا، ثقة، حافظ، روى عنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، مات سنة خمسين ومائتين. وقيل للإمام أحمد من (ق58/أ) نسأل بعدك؟. فقال4: "سلوا عبد الوهاب". وأثنى عليه في غير موضع.
[المزني (264هـ) ] 227- حدثنا أبو الحسين اليونيني1 الحافظ، عن جعفر الهمداني2، أنبأنا السلفي3، أنبأنا عبد الملك بن الحسن4 الأنصاري5 بمكة، أنبأنا الحسين بن علي الفقيه النسوي6، أنبأنا إسماعيل بن رجاء العسقلاني7 بها، أنبأنا أبو الحسين محمد بن أحمد
الملطي1، وأبو أحمد محمد بن محمد القيسراني2، قالا: أنبأنا أحمد بن بكر3 اليازوري4 الفقيه، [حدثنا الحسن بن علي اليازوري] 5، حدثني
على بن عبد الله الحلواني1 قال: كنت بطرابلس المغرب، فذكرت أنا وأصحاب لنا السنة، إلى أن ذكرنا المزني2 رحمه الله، فقال بعض أصحابنا: بلغني أنه يتكلم في القرآن ويقف عنده، وذكر [آخر] 3 أنه يقوله4، إلى أن اجتمع منا قوم آخر فكتبنا إليه كتاباً نريد أن نستعلم منه، فكتب إلينا شرح السنة، فكتب إلينا: "عصمنا الله وإياكم بالتقوى، ووفقنا وإياكم لموافقة الهدى، أما بعد: فإنك سألتني أن أوضح لك من السنة أمراً تصبر نفسك على التمسك به، وتدرأ عنك به شبه الأقاويل، وزيغ محدثات الضالين، فقد شرحت لك منها ما جاء موضحا5 لم آل نفسي وإياك [فيه] 6 نصحا، بدأت فيه بحمد ذي الرشد والتسديد. الحمد لله أحق ما بدىء، وأولى من شكر، و [عليه] 7 أثني، الواحد
الصمد، ليس له صاحبة ولا ولد، جل عن المثل فلا شبيه له ولا عديل، السميع البصير العليم الخبير المنيع الرفيع، عالٍ على عرشه1، (58/ب) فهو دان بعلمه من خلقه" -إلى أن قال-: "والقرآن كلام الله ومن الله، ليس بمخلوق فيبيد، وقدرة الله، ونعته2 وصفاته [كاملات] 3 غير مخلوقات، دائمات أزليات ليست محدثات فتبيد، ولا كان ربنا ناقصاً فيزيد، جلت صفاته عن شبه المخلوقين، عالٍ على العرش4، بائن من خلقه". وذكر باقي الاعتقاد5. [أبو زرعة الرازي (264هـ) ] 228- أجاز لنا أحمد بن سلامة6، عن أبي القاسم بن بَوْش7، أنبأنا
أبو طالب اليوسفي1، أنبأنا [أبو] 2 إسحاق البرمكي3، أنبأنا علي بن عبد العزيز4، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم5 قال: "سألت أبا حاتم6 وأبا زرعة7 الرازيين رحمهما الله عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين،
وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازاً، وعراقاً، ومصراً، وشاماً، ويمناً، وكان من مذهبهم أن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً"1. أبو حاتم هو محمد بن إدريس2 الحنظلي، إمام أهل الري3 في الحفظ والإتقان، وممن طاف العراق والشام والحجاز وخراسان في طلب العلم، وشهرتهما عند أهل العلم تغني عن التعريف بحالهما.
وروى عن أبي حاتم من الأئمة، أبو داود، والنسائي، وابن ماجة. وروى عن أبي زرعة، مسلم، والترمذي، والنسائي. [الإمام أبو عبد الله البخاري (256هـ) ] 229- (ق59/أ) وقال أبو1 عبد الله البخاري2، في كتاب الرد على الجهمية، الذي في آخر الصحيح في باب قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} 3: "قال أبو العالية4: استوى إلى السماء: ارتفع، وقال مجاهد5: علا على العرش، وقالت زينب6 زوج النبي صلى الله عليه وسلم: زوجني الله من فوق سبع سموات"7. وَبَوَّبَ على أكثر ما ينكر الجهمية وتناوله، من العلو، والكلام، واليدين، والعين، ونحو ذلك محتجاً بآيات الصفات وأحاديثها، فمن
تبويبه: باب قوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلكَلِمُ اَلطَّيِّب} 1. وباب قوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2. وباب قوله {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 3. وباب كلام الرب مع الأنبياء وغيرهم4. ونحو ذلك مما إذا تدبره اللبيب، علم بتبويبه رحمه الله وذكره لمثل تلك [الآيات] 5 والأحاديث أن الجهمية تنكر ذلك وتحرفه. [عثمان بن سعيد الدارمي (280هـ) ] 230- قال عثمان بن سعيد الدارمي6 أحد الأئمة، وحفاظ أهل
المشرق، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وسمع سعيد بن أبي مريم1، ونعيم بن حماد2، وموسى بن إسماعيل3، وفروة بن أبي المغراء4، وعبد الله بن رجاء5، ومسلم بن إبراهيم6، وغيرهم من الأئمة. الذي قال فيه البخاري: "ما رأيت مثل عثمان بن سعيد، ولا (ق59/ب) رأى
عثمان مثل نفسه"1؛ أخذ الأدب عن ابن الأعرابي2، والفقه عنالبويطي3،والحديث عن يحيى بن معين4، وعلي بن المديني5، فتقدم في هذه العلوم، وقد أثنى عليه غير واحد من أهل العلم، وألف كتاب "النقض على بشر المريسي" مجلداً مما فيه: 1- "قد اتفقت الكلمة من المسلمين، أن الله بكماله فوق عرشه، فوق سمواته"6. 2- وقال أيضاً في موضع آخر من الكتاب: " [و] 7 قال أهل السنة: إن الله بكماله فوق عرشه، يعلم ويسمع من فوق العرش، لا يخفى
عليه خافية من خلقه، ولا يحجبهم عنه شيء"1. [أبو عيسى الترمذي (279هـ) ] 231- وقال [الترمذي] 2 لما روى حديث أبي هريرة "إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه فيربيها"3: "هذا حديث صحيح روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث، وما يشبهه من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا: قد4 ثبتت الروايات في هذا، ونؤمن به، ولا نتوهم، ولا يقال كيف هذا. وروي عن مالك، وابن عيينة، وابن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف. وهكذا قول أهل العلم، من أهل السنة والجماعة.
وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه، (60/أ) وفسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وإنما معنى اليد ها هنا النعمة، وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد، أو1 مثل يد، وسمع كسمع". هكذا قال رحمه الله في باب أفضل2 الصدقة من جامعه3. وروى أيضا حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمين الله ملأى سحاء4، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات، فإنه لم ينقص ما في يمينه، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع"5. قال هذا في تفسير {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} 6 الآية، "وهذا الحديث قالت الأئمة: نؤمن به كما جاء من غير تفسير، قاله غير واحد، منهم سفيان الثوري، ومالك، وابن عيينة، وابن المبارك، أنه تروى
هذه الأشياء ونؤمن بها ولا يقال كيف". ذكر هذا في تفسير سورة المائدة1. [حرب بن إسماعيل الكرماني (280هـ) ] 232- وقال حرب بن إسماعيل الكرماني2 -من أصحاب أحمد- من3 طبقة المروزي4 والأثرم5: "الجهمية أعداء الله، وهم الذين يزعمون أن القرآن مخلوق6، وأنه لايعرف لله مكان، وليس على عرش ولا كرسي، وهم كفار فاحذروهم". رواه عنه ابن أبي حاتم في كتابه7.
[محمد بن عثمان بن أبي شيبة (297هـ) ] 233- وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة1، في كتاب "العرش"2 له: "ذكروا أن الجهمية يقولون: ليس بين الله وبين (60/ب) خلقه حجاب، وأنكروا العرش، وأن يكون الله فوقه، وقالوا إنه في كل مكان". وذكر أشياء إلى أن قال: "فسرت العلماء {هُوَ مَعَكُم} يعني بعلمه". " [توافرت] 3 الأخبار أن الله خلق العرش فاستوى عليه بذاته، فهو فوق العرش بذاته، متخلصا من خلقه بائنا منهم"4. محمد بن عثمان هذا، حافظ أهل الكوفة، توفي على رأس الثمانين ومائتين5، سمع عامة شيوخ الأئمة، وهذا كتاب مروي عنه بإسناد صحيح.
[ابن ماجة (273هـ) ] 234- وقال أبو عبد الله بن ماجة1 الحافظ المشهور، في سننه، في أول كتاب السنة، فذكر أشياء منها: قال رحمه الله: "باب فيما أنكرت الجهمية"2. فروى في ذلك3 حديث أبي رزين "أين كان ربنا يا رسول الله؟ "4. وحديث جابر "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم"5. وحديث "يطوي السموات بيمينه"6. وحديث "الأوعال وعلى ظهورهن العرش ثم الله فوق ذلك"7.
وحديث "إن الله يضحك إلى ثلاثة"1. وحديث "ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن"2. وحديث "أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم ينقص ما في يده"3 ونحو ذلك من الصفات. [عبد الله بن أحمد بن حنبل (290هـ) ] 235- 1ـ وقد تقدم4 (ق61/أ) قول أبي عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد5 في حديث مجاهد "أن الله يقعد محمداً معه على العرش" وأنه قال: "أنا منكر على من رد هذا الحديث، وما رأيت أحدا من المحدثين ينكره، وكان عندنا وقت ما سمعناه من المشايخ أنه إنما ينكره الجهمية". وقد تقدم غير حديث وأثر، معزو إلى كتاب عبد الله بن أحمد رحمهما الله في الرد على الجهمية أخرجه أبو بكر المروزي صاحب الإمام
أحمد، ومن أجلِّ ما رووا عنه في كتاب فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم تأليفه1. 2ـ ونقل في هذا الكتاب نحواً من هذا القول عن الإمام أبي داود السجستاني2 مؤلف السنن، استفتاه المروزي، فأفتاه أن الخبر يسلم كما جاء ولا يعارض3. 3ـ وكذا أفتاه عباس الدوري4 الحافظ أحد الشيوخ الأئمة5 روى عنه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجة. 4ـ وكذا أفتاه إبراهيم الحربي6، أحد الفقهاء والأئمة ببغداد في هذا العصر، ذكره أبو إسحاق الشيرازي7، في طبقات أصحاب الإمام
أحمد بن حنبل، وقال فيه: إمام في1 الحديث وله مصنفات كثيرة، مات سنة خمس2 وثمانين ومائتين3. 5ـ وممن أفتاه من الأئمة بنحو ذلك يحيى بن أبي طالب4، وهو محدث، حافظ، سمع يزيد بن هارون5 وطبقته. 6ـ ومحمد بن إسماعيل السلمي6 الحافظ، أحد (ق61/ب) أئمة الحديث، والمكثرين منه، روى عنه الترمذي، والنسائي، توفي سنة ثمانين7. 7ـ وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الدقيقي الواسطي8، ثقة
روى عنه أبو داود، وابن ماجة. 8ـ وأبو عبد الله محمد بن بشر بن شريك بن عبد الله القاضي1، وأبو قلابة عبد الملك بن محمد2 الرقاشي، وأبو بكر بن حماد المقري3، وعلي بن داود القنطري4، ومحمد بن عمران الفارسي الزاهد5،
وإسماعيل بن إبراهيم الهاشمي1، ومحمد بن يونس البصري2، وأحمد ابن أصرم المزني3، وحمدان بن علي4، وأبو بكر بن صدقة5، وعلي بن [سهل] 6، والحسن بن الفضل7، وهارون بن العباس
الهاشمي1، وأبو عبد الله بن عبد النور2، وإبراهيم الأصبهاني3. 9ـ وكذلك أفتى من الأئمة قبل هذه الطبقة إسحاق بن راهويه4، وأبو عبيد القاسم بن سلاَّم5، ومحمد بن مصعب العابد6، وبشر الحافي7، وهارون بن معروف8، وجماعة غيرهم من أئمة الحديث والفقه
يطول ذكرهم، اختصرت نصوص قولهم، لكنهم يقولون ما معناه أن هذا الخبر يسلم كما جاء ولا يعارض -يعني خبر مجاهد. [عبد الله بن مسلم بن قتيبة (276هـ) ] 236- 1ـ وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة1 في كتاب "مختلف الحديث"2 له: "نحن نقول في قوله {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 3 إنه معهم يعلم ما هم عليه، كما تقول للرجل وجّهته إلى بلد شاسع، احذر التقصير فإني معك، تريد أنه لا يخفى عليَّ [تقصيرك] 4. (62/أ)
وكيف يسوغ لأحد أن يقول: إنه سبحانه بكل مكان على الحلول فيه مع قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ومع قوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 2؟ و3 كيف يصعد إليه شيء هو معه؟ وكيف تعرج الملائكة إليه وهي معه؟ ولولا4 أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم، وما ركبت عليه خِلَقُهم5 من معرفة الخالق لعلموا أن الله هو العلي وهو الأعلى، وأن الأيدي ترتفع بالدعاء إليه، والأمم كلها أعجميها6 وعربيها، تقول: إن الله في السماء. ما تركت على فطرها7"8. 2ـ وفي الإنجيل أن المسيح قال للحواريين: "إن أنتم غفرتم للناس فإن أباكم الذي في السماء يغفر لكم ظلمكم، انظروا إلى طير السماء
فإنهن لا يزرعن ولا يحصدن، وأبوكم الذي في السماء هو يرزقهن". ومثل1 هذا في الشواهد كثير2. [عمرو بن عثمان المكي (297هـ) ] 237- وقال الإمام العارف أبو عبد الله عمرو3 بن عثمان4 [في كتاب] 5 "آداب المريدين والتعرف لأحوال العبَّاد" في باب ما يجيء به الشيطان للتائبين إذا هم امتنعوا عليه واعتصموا بالله، فإنه يوسوس لهم في أمر [الخالق] 6 ليفسد عليهم أحوال7 التوحيد، وذكر كلاما طويلا إلى أن قال: "وهذا من أعظم ما يوسوس به في التوحيد بالتشكيل8، أو في
صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل، وأن يدخل عليهم مقاييس عظمة الرب بقدر عقولهم فيهلكوا (ق62/ب) إن قبلوا، أو [يضعضع] 1 أركانهم إن لم يلجؤوا بذلك إلى العلم، وتحقيق المعرفة لله عز وجل من حيث أخبر عن نفسه ووصف به نفسه، وما وصف2 رسوله". إلى أن قال: "فهو تعالى القائل {أَنَا الله} لا الشجرة؛ الجائي قبل أن يكون جائياً لا أمره، المستوي3 على عرشه بعظمة جلاله دون كل مكان، الذي كلم موسى تكليماً، وأراه من آياته عظيما، فسمع موسى كلام4 الله الوارث لخلقه، السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسامهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته وقدرته، خلق آدم بيده". وذكر أشياء أخر5.
عمرو المكي1 هذا من2 نظراء الجنيد3، ومن كبار الصوفية وأعيانهم، توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين ببغداد، وشهرته عند مشايخ الطرق تغني عن التعريف بحاله رضي الله عنه. [ابن أبي عاصم النبيل (287هـ) ] 238- وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل4-أحد الأئمة والحفاظ و5 المصنفين بأصبهان، على رأس التسعين ومائتين-:
" [وجميع ما في] 1 كتابنا "كتاب السنة الكبير"2 الذي فيه الأبواب من الأخبار التي ذكرنا أنها توجب العلم، فنحن نؤمن بها لصحتها، وعدالة ناقليها، ويجب التسليم لها على ظاهرها، وترك تكلف الكلام في كيفيتها". فذكر في ذلك النزول إلى سماء3 الدنيا4، والاستواء على العرش5، وغير ذلك. أخرجه6 (ق63/أ) ابن بطة في "الإبانة"، فقال: حدثتنا عاتكة بنت أحمدابن [عمرو] 7 بن [أبي] 8 عاصم9، قالت: حدثنا أبي رحمه الله.
[أحمد بن عمر بن سريج (306هـ) ] 239- وقال أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني1 الإمام المشهور: سألت أيدك الله بيان ما صح لدي من مذهب السلف، وصالح الخلف، في الصفات، فاستخرت الله، وأجبت بجواب بعض الفقهاء. وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج2. وقد سأل ابن سريج عن صفات الله فقال: "حرام3 على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الألباب أن تصف، إلا ما وصف به نفسه في كتابه، أو على4 لسان رسوله؛ وصح عند جميع أهل
الديانة والسنة إلى زماننا أن جميع الآي والأخبار الصادقة عن1 رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على المسلم الإيمان بكل واحد منه كما ورد، وأن السؤال2 عن معانيها بدعة، والجواب كفر وزندقة، مثل قوله تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} 3 وقوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 5 ونظائرها مما نطق بها القرآن كالفوقية، والنفس، واليدين، والسمع، والبصر، وصعود الكلام الطيب إليه، والضحك، والتعجب، والنزول كل (ق/63 ب) ليلة" إلى أن قال: "اعتقادنا فيه وفي الآي6 المتشابهة في القرآن، أن نقبلها ولا نردها، ولا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نترجم عن صفاته بلغة7 غير العربية، ونسلم الخبر لظاهره والآية لظاهر تنزيلها".
وذكر أشياء اختصرتها1. توفي ابن سريج سنة ست وثلاثمائة ببغداد. ذكره أبو إسحاق2 في طبقات الفقهاء فقال: كان من عظماء الشافعيين وأئمة المسلمين، وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى على المزني3. وسمعت أبا الحسن الشيرجي4 يقول: إن فهرست5 كتب أبي العباس تشتمل على أربعمائة مصنف، وكان أبو حامد الإسفرائيني6، يقول: نحن نجري مع أبي العباس في ظواهر الفقه دون الدقائق7.
أخذ عن أبي القاسم الأنماطي1، وعنه انتشر فقه الشافعي في أكثر الآفاق. رحمه الله. [زكريا بن يحيى الساجي (307هـ) ] 240- وقال ابن بطة حدثنا أبو الحسن أحمد بن زكريا بن يحيى الساجي2، قال: قال أبي3: "القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث، أن الله تعالى على عرشه، في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء" وذكر سائر الاعتقاد4. توفي زكريا (ق64/أ) بن يحيى الساجي شيخ أبي الحسن الأشعري5 في الفقه
والحديث، وإمام أهل البصرة في وقته سنة سبع وثلاثمائة. ذكره أبو إسحاق1 فقال: أخذ عن الربيع2 والمزني3، وله كتاب "اختلاف الفقهاء"، وكتاب "علل الحديث". [محمد بن إسحاق بن خزيمة (311هـ) ] 241- وقال الحاكم4 سمعت محمد بن صالح بن هانيء5 يقول: سمعت إمام الأئمة أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول6: "من لم يقر أن الله على عرشه، استوى فوق سبع7 سمواته، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على8 مزبلة لئلا يتأذى برائحته أهل القبلة وأهل الذمة"9.
توفي [ابن] 1 خزيمة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. ذكره أبو إسحاق فقال: حكى عنه أبو بكر النقاش2، أنه قال: "ما قلدت أحداً منذ بلغت ست عشرة سنة". أخذ الفقه عن المزني، وقال فيه المزني: "هو أعلم بالحديث مني"3. قلت: ولا أعلم في وقته مثله في معرفته بالفقه والحديث4، وربما في وقته أفقه منه من غير علم بالحديث، أو بالعكس، أما من جمع بينهما في
زمانه مثله فلا أعلم، فرضي الله عنه وعن جميع أئمة المسلمين. [محمد بن جرير الطبري (310هـ) ] 242- 1ـ أخبرنا1 أحمد بن هبة الله بن عساكر2، أنبأنا زين الأمناء الحسن بن محمد3، أنبأنا أبو القاسم الحسين بن الحسن الأسدي4 سنة ثمان وأربعين (ق64/ب) وخمسمائة، أنبأنا ابن [أبي] العلاء5، أنبأنا ابن
أبي نصر1، أنبأنا أبو سعيد الدينوري2 مستملي محمد بن جرير قال: قريء على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري3 وأنا أسمع بعقيدته منها "وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن يجاوز4 غير ذلك فقد خاب وخسر"5. محمد بن جرير، هو أحد الأئمة الكبار في وقته، في التفسير، والحديث والفقه، والتاريخ، وأحد المجتهدين، توفي بغداد سنة عشر وثلاثمائة، وله التفسير والتاريخ6، والمصنفات الكثيرة.
ذكره أبو إسحاق فقال: كان على [مذهبه] 1 القاضي أبي الفرج المعافى بن زكريا النهرواني2، ويعرف بابن [الطرار] 3، قال: وكان أبو الفرج هذا فقيهاً أديباً شاعراً عالماً بكل علم4. وذكره الخطيب -أعني الطبري- فقال5: كان أحد العلماء يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان عارفاً بالقرآن، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين في الأحكام، والحلال والحرام6.
سمعت علي بن عبد الله [اللغوي] 1، يحكي أن محمداً بن جرير مكث أربعين سنة (ق65/أ) ، يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة2. وقال أبو حامد الأسفراييني3 الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين، حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيراً، أو كلاماً هذا معناه4. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: "ما على أديم الأرض أعلم من محمد ابن جرير". قلت: فمن أراد الإنصاف فليطالع تفسيره في آيات الصفات والعلو، في مواردها. فمن ذلك: قوله {ُثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} 5، نقل فيه عن الربيع بن أنس6 أنه
"بمعنى: ارتفع"1. وقال في تفسير قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2 في كل مواضعه3 "أي علا وارتفع"4. وقال في قوله {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 5 قال: "يجلسه معه على العرش". رواه عن مجاهد من غير وجه6. ثم قال: "ليس في فرق الإسلام من ينكر هذا، لا7 من يقر أن الله فوق العرش، ولا من8 ينكره من الجهمية وغيرهم9"10.
2ـ وقال في كتاب "التبصرة1 في معالم الدين" له: "القول فيما أدرك علمه من الصفات [خبراً] 2، وذلك نحو إخباره تعالى أنه سميع بصير، وأن له يدين بقوله {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3، وأن له وجهاً بقوله {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 4، (65/ب) وأن له قدماً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى يضع الرب فيها قدمه"5، وأنه يضحك بقوله: "لقي الله وهو يضحك إليه"6،
وأنه1 يهبط إلى سماء2 الدنيا لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن له أصبعاً بقول رسوله: "ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن"3. فإن هذه المعاني التي وُصِفَتْ ونظائرَهَا، كما4 وصف الله به نفسه، مما [لا تدرك] 5 حقيقة علمه بالفكر والرَّوِيَّةِ، لا نكفر6 بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهائها إليه"7.
أخرج هذا الكلام عنه القاضي أبو يعلى الفراء في "إبطال التأويل" له1. [أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي (292هـ) ] 243- وقال أبو محمد بن ماسي2، حدثني أبو مسلم الكجي3، قال: خرجت يوماً، فإذا بحمَّام4 قد فتح سَحَراً، فقلت للحمامي: أدخل أحد الحمام؟ فقال: لا، فدخلت، فساعة فَتَحْتُ الباب5 قال قائل: أبو مسلم، أسلم تسلم، ثم أنشأ6 يقول:
لك الحمد إما على نعمة ... وإما على نقمة تدفع تشاء فتفعل ما شئته ... وتسمع من حيث لا يسمع قال: فبادرت فخرجت وأنا جزع، فقلت للحمامي: أليس زعمت أنه ليس بالحمام أحد؟. فقال لي: هل سمعت شيئا؟، فأخبرته بما (ق66/أ) كان، فقال لي: ذلك جني يترايا لنا في كل حين ينشدنا الشعر. قال: فقلت هل عندك من شعره؟ قال: نعم، أنشد يقول: أيها المذنب المفرِّط مهلاً ... كم تمادى وتكسب الذنب جهلاً كم وكم تسخط الجليل بفعل1 ... سمج وهو يحسن الصنع فضلاً كيف تهدا جفون من ليس يدري ... أرضي عنه من على العرش أم لا؟ رواه الخطيب في "التاريخ"، عن عبد الله [بن علي] 2 بن محمد القرشي3 عن ابن ماسي4.
[أبو جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي (321هـ) ] 244- قال أبو جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي1 رحمه الله في العقيدة التي له: "ذكر بيان السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة2، وأبي يوسف3، ومحمد بن الحسن4، رضي الله عنهم5 نقول في توحيد الله معتقدين، أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، مازال بصفاته قديماً قبل خلقه، وأن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم وحياً، وصدقت المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله بالحقيقة ليس بمخلوق ومن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية، وكل ما في ذلك من الصحيح عن رسول الله (66/ب) صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا
ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصحيح الإيمان، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه". إلى أن قال: "والعرش والكرسي حق كما بين في كتابه، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه". وذكر سائر الاعتقاد1. وذكر الطحاوي، أبو إسحاق2 في طبقات الفقهاء فقال: "إليه انتهت رئاسة أصحاب أبي حنيفة بمصر، أخذ العلم عن أبي جعفر بن أبي عمران3، وعن أبي خازم4 وغيرهما5 وكان شافعياً يقرأ على
المزني1، فقال له يوما والله لا جاء منك شيء، فغضب وانتقل إلى [ابن] 2 أبي عمران فلما صنف مختصره قال: " [رحم] 3 الله المزني لو كان حياً لكفر عن يمينه". وصنف اختلاف العلماء. مات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، و [له] 4ثمانون سنة5. [أبو بكر بن أبي داود السجستاني (316هـ) ] 245- وقال الحافظ ابن الحافظ6 أبو بكر بن أبي داود سليمان (ق67/أ) بن الأشعث السجستاني رحمه الله7 شعراً:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيا لعلك تفلح ودن بكتاب الله والسنن التيي ... أتت عن رسول الله تنجو تربح وقل غير مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا ولا تك في القرآن بالوقف قائلاً ... كما قال1 أتباع لجهم وأسمجوا ولا تقل القرآن خلق [قراءة] 2 ... فإن كلام الله باللفظ يوضح وقد أنكر الجهمي أيضا يمينه ... وكلتا يديه بالفواضل تنفح وقل ينزل الجبار في كل ليلة ... بلا كيف جل الواحد المتمدح إلى طبق الدنيا يمن بفضله ... فتفرج أبواب السماء وتفتح روى ذلك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهموقبحوا3 في أبيات أخر اختصرتها. قال ابن أبي داود: "هذا قولي، وقول أبي، وقول شيوخنا، وقول من لقيناهم من أهل العلم، وقول العلماء ممن لم نرهم كما بلغنا عنهم، فمن قال غير ذلك فقد كذب". روى هذا الاعتقاد والإجماع عنه غير واحد، منهم ابن بطة في
"الإبانة"، والآجري1، وصنف كذلك شرحاً2. وأبو بكر هذا من كبار أئمة المحدثين، وهو مثل والده في الحفظ ومعرفة (ق67/ب) الحديث، وله كتاب "المصاحف"، وكتاب "شريعة المقاري"، أتى فيه بآثار وغرائب تدل على اتساع روايته وفضيلته رحمه الله، توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة. [إبراهيم بن محمد بن عرفة (323هـ) ] 1- وقال الإمام أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة
246- النحوي نفطويه1، في كتاب "الرد على الجهمية" تأليفه: حدثنا داود بن علي2 قال: "كنا عند ابن الأعرابي3 فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: هو على عرشه استوى، كما أخبر. فقال: هو ليس كذلك، إنما معناه استولى. قال ابن الأعرابي: اسكت ما يدريك ما هذا، العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه4 مضاد، فأيهما غلب قيل استولى عليه، والله لا مضاد له، هو على عرشه كما أخبر"5. 2-[وذكر محمد بن أحمد بن النضر6، عن ابن أبي
دؤاد1] أنه طلب من ابن الأعرابي أن يطلب له في بعض لغات العرب ومعانيها، أن الاستواء في حق الله بمعنى الاستيلاء، فذكر ابن الأعرابي أن ذلك لا يجده2. 3- وسمعت داود بن علي يقول: كان المريسي3 يقول: سبحان ربي الأسفل، وهذا جهل من قائله، ورد لنص كتاب الله إذ يقول: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} 4. أبو عبد الله هذا من أئمة العربية واللغة المعروفين، وهو معاصر لابن أبي دؤاد5 وذويه.
[يحيى بن محمد بن صاعد (318هـ) ] 246- وقال أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد1 الحافظ: "هذه الفضيلة في القعود على العرش (ق68/أ) لا ندفعها، ولا نماري فيها، ولا نتكلم في حديث فيه فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم بشيء". روى هذا الكلام عنه الآجري في كتاب "الشريعة" في باب ما خص الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من المقام المحمود، بعد حديث مجاهد هذا الذي تقدم2. وابن صاعد هذا من كبار حفاظ الحديث المشهورين، توفي سنة ثماني عشرة وثلاثمائة رحمه الله. [أبو الحسن الأشعري (324هـ) ]
كتابه الذي صنفه، في "اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين"1، بعد أن ذكر فيه فرق الروافض، والخوارج، والجهمية، وغيرهم -إلى أن قال-: "ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث، وجملة قولهم: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ " لا يردون من ذلك شيئاً ". إلى أن قال: "وأن الله على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2، وأن له يدين بلا كيف، كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3، وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علماً كما قال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 4، {وَمَا (ق68/ ب) تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} 5، وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وقالوا إنه لا يكون في
246- الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال ربنا: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} 1". إلى أن قال: "ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق، ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن الله ينزل إلى سماء2 الدنيا فيقول: "هل من مستغفر "3، كما جاء الحديث، ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 4، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء5، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 6". وذكر أشياء كثيرة من أصول السنة -إلى أن قال-: "فهذه7 جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وأنه لا يجوز الاستواء بمعنى الاستيلاء. وبكل ما ذكرنا8 من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما
توفيقنا إلا بالله"1. 2- وذكر رحمه الله في هذا الكتاب في باب هل الباري عز وجل في مكان دون مكان أم لا في مكان؟ أم في كل مكان؟ 2 قال: اختلفوا في ذلك على3 سبع عشرة مقالة4: منها قال5 أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم6، ولا يشبه الأشياء، وأنه على العرش، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 7 ولا نتقدم بين يدي الله (ق69/أ) بالقول، بل نقول استوى بلا كيف، وأن الله له يدين كما قال {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 8 وأنه ينزل إلى سماء9 الدنيا كما جاء في الحديث10.
وقال المعتزلة: استوى على العرش بمعنى: استولى. وقالت المعتزلة: اليد بمعنى: النعمة، وقوله {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 1 أي بعلمنا2. 3- وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب "جمل المقالات"، رأيته بخط [أبي] 3 علي بن شاذان4، وقد كتبه5 في سنة نيف وسبعين وثلاثمائة، نحو هذا الكلام ومعناه في مقالة أصحاب الحديث تركته خوف الإطالة. 4- وقال رحمه الله في كتاب "الإبانة في أصول الديانة"، في باب الاستواء، إن قائلاً قال: ما تقولون في الاستواء؟ قيل نقول: إن الله مستو على العرش، كما قال {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 6 وقال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 7، وقال {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} 8، وقال حكاية عن
فرعون {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} 1، كذَّب موسى في قوله إن الله في السموات. وقال عز وجل {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} 2 فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء، يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أنه ذكر السموات فقال {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} 3، ولم (ق69/ب) يرد أنه يملأهن جميعاً. ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم -إذا دعوا- نحو السماء، لأن الله مستو على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش، لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، وقد قال قائلون4 من المعتزلة، والجهمية، والحرورية، إن معنى استوى: استولى وملك وقهر، وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون على العرش كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء
إلى القدرة، فلو كان كما قالوا، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء1، فالله قادر عليها وعلى الحشوش، وكذا لو كان مسشتويا على العرش بمعنى الإستيلاء، لجاز أن2 يقال: مستو على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: "إن الله مستو على الحشوش والأخلية، فبطل أن يكون الإستواء على العرش الإستيلاء"3. وذكر أدلة من الكتاب، والسنة، والعقل، وغير ذلك. 5- ونقل الإمام أبو بكر بن فورك4 المقالة التي تقدمت عن أصحاب الحديث، عن الإمام أبي الحسن الأشعري، في كتاب "المقالات والخلاف بين الأشعري وأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب"5 تأليفه
فقال: "الفصل الأول؛ في ذكر ما حكى شيخنا أبو الحسن رحمه الله، في كتاب "المقالات" في جمل مذاهب أصحاب الحديث، وما أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك".ثم سرد ابن فورك المقالة بعينها. (ق70/أ) ثم قال في آخرها: "فهذا تحقيق لك من ألفاظه، أنه معتقد لهذه الأصول، التي هي قواعد أصحاب الحديث وأساس توحيدهم"1. 6- وقال الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي2: قرأت في كتاب أبي الحسن الأشعري، [الموسوم] 3 "بالإبانة": " [أدلة] 4 على إثبات الاستواء، قال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام إذا هم رغبوا إلى الله يقولون: يا ساكن العرش، ومن حلفهم: لا والذي احتجب بسبع سموات"5. قال الطرقي: و6 هذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق سبع
سموات ثم اختار العليا فسكنها" 1. 7- وقال أبو القاسم القشيري2 رحمه الله في شكاية3 أهل السنة: "وما نقموا من أبي الحسن الأشعري إلا أنه قال بإثبات القدر لله، وإثبات صفات الجلال، من قدرته، وعلمه، وحياته، وسمعه، وبصره، ووجهه، ويده، وأن القرآن كلامه غير مخلوق"4. رواه عنه الفراوي5. 8- وروى عنه قال: سمعت أبا علي الدقاق6، يقول: سمعت زاهر
ابن أحمد الفقيه1، يقول: مات الأشعري ورأسه في حجري وكان يقول شيئاً في حال نزعه "لعن الله المعتزلة [موهوا ومخرقوا] 2"3. 9- وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر4 في تبيين كذب المفتري5 -تأليفه-: "فإذا كان أبو الحسن (ق70/ب) كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه أكثر ما يذهب إليه أكابر أكثر6 العباد، ولا يقدح في مذهبه غير أهل الجهل والعناد، فلابد أن يحكى عنه معتقده على وجهه بالأمانة، ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة، فاسمع ما ذكره في كتاب الإبانة فإنه قال: "الحمد لله الواحد، العزيز، الماجد، المتفرد بالتوحيد، المتمجد بالتمجيد، الذي لا يبلغه7 صفات العبيد، وليس له مثل، ولا نديد، -وذكر أشياء-
إلى أن قال بعد أن رد في الخطبة على المعتزلة والقدرية والجهمية والرافضة1: "فإن2 قال قائل: قد3 أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة4، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون5. قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها ندين، التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة، والتابعين، وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل -نضَّر الله وجهه- قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس (ق71/أ) الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير [مفخَّم] 6، وعلى جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا: إنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئاً، وأن الله
إله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة [حق] 1، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2، وأن لله وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ] 3} 4، وأن له يدين كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 5 وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 6، وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 7، وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاً8، وأن لله علماً كما قال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 9".
إلى أن قال: "وندين بأن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون1". إلى أن قال: "وندين بأنه يقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه2، وأنه يضع السموات على أصبع، والأراضين على أصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"3. إلى أن قال: (ق71/ب) "ونصدق بجميع4 الرواية التي يثتبها5 أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب يقول "هل من سائل، هل من مستغفر" 6 خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل،
ونُعَّول1 فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين2، وما كان في معناه، ونقول إن الله يجيء يوم القيامة3، كما قال: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ً} 4، وأنه يقرب من عباده كيف يشاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 5 وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} 6. ونرى مفارقة كل داعية لبدعة، ومجانبة أهل الأهواء7، وسنحتج8 لما ذكرناه من قولنا، وما بقي منه، [مما لم نذكره] 9 باباً باباً، وشيئاً شيئاً"10. قال ابن عساكر: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه
وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه1. 10- وقال الحافظ ابن عساكر: قال أبو الحسن في كتابه الذي سماه "العمد في الرؤية": "ألفنا كتاباً كبيراً في الصفات، تكلمنا فيه على أصناف المعتزلة والجهمية وفيه فنون كثيرة من الصفات في إثبات الوجه لله، واليدين، وفي استوائه على العرش"2. ) ق72/أ) ولد الأشعري سنة ستين ومائتين3، ومات سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، بالبصرة رحمه الله، وكان معتزلياً ثم تاب، ووافق أصحاب الحديث في أشياء يخالفون فيها المعتزلة، ثم وافق أصحاب الحديث في أكثر ما يقولونه، وهو ما [ذكرناه] 4، عنه من أنه نقل إجماعهم على ذلك، وأنه موافق لهم في جميع ذلك. فله ثلاثة أحوال: حال كان معتزلياً، وحال كان سنياً في بعض5 دون البعض، وكان في غالب الأصول سنياً، وهو الذي علمناه من حاله، فرحمه الله وغفر له ولسائر المسلمين.
[ابن غانم المقدسي] 246- قال القاضي أبو أحمد العسال (شعر) من1 كلام ابن غانم المقدسي رحمه الله: قل لمن يفهم عني ما أقولل ... أقصر القول فذا شرح يطول ثَمَّ سر غامض من دونه ... ضربت والله أعناق الفحول أنت لا تعرف إياك ولا ... تَدَّرِي من أنت ولا كيف الوصول لا ولا تدري صفات رُكِّبت ... فيك حارت في خفاياها العقول أين منك الروح في جوهرها ... هل تراها فترى كيف تجول؟ هذه الأنفاس هل تحصرها ... لا ولا تدْري متى عنك تزول أين منك العقل والفهم إذا ... غلب النوم فقل لي يا جهول (ق72/ب) أنت أكل الخبز ما تعرفه ... كيف يجري منك أو كيف تبول فإذا كانت طواياك التي ... بين جنبيك كذا فيها ضلول كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النزول كيف تحكي أم ترى كيف ترى2 ... ولعمري ليس ذا إلا فضول
هو لا أين ولا كيف له ... وهو رب الكيف والأين يحول هو فوق الفوق لا فوق له ... وهو في كل النواحي لا يزول1 جل ذاتاً وصفاتٍ وسما ... فتعالى قدره عما أقول2 [أبو بكر بن أبي داود (316 هـ) ] 250- أخبرنا الشيخ أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن رزقويه3، في4 يوم الاثنين، سلخ صفر،
سنة سبع وأربعمائة، قرئ عليه في مسجده ببغداد وأنا أسمع، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد العسكري الصفار1، قال: أنشدنا أبو بكر عبد الله بن أبي2 داود سليمان بن الأشعث السجستاني3 لنفسه رحمه الله في السنة: "شعر". 1. تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيا لعلك تفلح 2. ودن بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح 3. وقل: غير مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا 4. ولا تك في القرآن بالوقف قائلاً ... كما قال أتباع جهم4 وأسمجوا (ق73/أ) 5. ولا تقل القرآن خلق قراءة ... فإن كلام الله باللفظ يوضح 5 6. فقل يتجلى الله للخلق6 جهرةً ... كما البدر لا يخفى وربك أوضح 7. وليس بمولود وليس بوالد ... وليس له مثل تعالى المسبح 8. وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ... بمصداق ما قلنا حديث مصرح
9. رواه جرير عن مقال محمد ... فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح 10. وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه ... وكلتا يديه بالفواضل تنفح 11. وقل: ينزل الجبار في كل ليلة ... بلا كيف جل الواحد المتمدح 12. إلى طبق الدنيا يمن بفضله ... فتفرج أبواب السماء وتفتح 13. يقول ألا مستغفر يلق غافراً ... ومستمنح خيراً ورزقاً فيمنح 14. روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا 15. وقل إن خير الناس بعد محمد ... وزيراه قدماً ثم عثمان الأرجح 16. ورابعهم خير البرية بعدهم ... عليّ حليف الخير بالخير منجح 17. وإنهم للرهط لا ريب فيهم ... على نجب الفردوس في الخلد يسرح1 18. سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ... وعامر فهر والزبير الممدح 19. وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولا تك طعاناً تعيب وتجرح 20. فقد نطق الوحي المبين بفضلهم ... وفي الفتح آي للصحابة تمدَحُ (ق73/ب) 21. وبالقدر المقدور أيقن فإنه ... دعامة عقد الدين والدين أفيح 22. ولا تنكرن2جهلا نكيراً ومنكراً ... ولا الحوض والميزان إنك تنصح
23. وقل يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجساداً من الفحم1تطرح 24. على النهر في الفردوس تحيا بمائه ... كحبة حمل السيل إذ جاء يطفح 25. وأن رسول الله للخلق شافع ... وقل في عذاب القبر قول موضح 2 26. ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي وذو العرش يصفح 27. ولا تعتقد رأي الخوارج إنه ... مقال لمن يهواه يردي ويفضح 28. ولا تك مرجياً لعوباً بدينه ... ألا إنما المرجي بالدين يمزح3 29. وقل إنما الإيمان قول ونية ... وفعل على قول الرسول مصرح 30. وينقص طوراً بالمعاصي وتارة ... بطاعته ينمو وفي الوزن يرجح 31. ودع عنك أراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح 32. ولا تك من قوم تَلَهَّوْا بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح 33. إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه ... فأنت على خير تبيت وتصبح 4 قال الإمام أبو بكر بن [أبي] 5 داود رحمه الله: "هذا قولي وقول
أبي وقول أحمد بن حنبل، وقول من أدركنا من أهل العلم، وقول من لم ندرك ممن بلغنا عنه، فمن قال غير هذا فقد كذب. آخرها والحمد لله (ق74/أ) أولا وآخراً، وباطناً وظاهراً1، وصلى الله على سيدنا محمد النبي المصطفى، وأصحابه الأزكياء الأتقياء، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل"2 3. [أبو أحمد العسال (349هـ) ] 251- وقال القاضي أبو أحمد العسال الحافظ الأصبهاني4، في كتاب "المعرفة" -تأليفه- في الصفات، في تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 فنقل ما فيه من أقوال الأئمة مثل قول ربيعة6، ومالك7، والضحاك8، وأبي عيسى يحيى بن
رافع1، وعبد الله بن المبارك2، وكعب الأحبار3. وحديث ابن مسعود الذي فيه "ما بين الكرسي إلى الماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم". وإسناده صحيح4، وقد5 تقدم جميع ذلك عنهم على طبقاتهم. وهذا الكتاب "كتاب المعرفة" من أجل كتاب صنف في صفات الرب عز وجل، إذا نظر فيه البصير بهذا الشأن6، علم منزلة مصنفه، وجلالته رحمه الله، وقد توفي7 سنة نيف وأربعين وثلاثمائة، وطاف البلاد، وسمع الكثير من مثل أبي مسلم الكجي8، ومحمد بن أيوب الرازي9، وابن أبي عاصم10.
[أبو بكر الآجري (360هـ) ] 252- وقال الإمام أبو بكر الآجري1 الحافظ، في كتاب الشريعة2 له: "باب في التحذير من مذهب الحلولية" الذي يذهب إليه أهل (ق74/ب) العلم، أن الله عز وجل على عرشه، فوق سمواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط [علمه] 3 بجميع ما خلق في4 السموات العلى، وبجميع ما في سبع أراضين، يرفع إليه أعمال العباد. فإن قال قائل: إيش يكون معنى قوله {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية التي [احتجوا] 5 بها؟. قيل له: علمه، والله عز وجل على عرشه، وعلمه محيط بهم، كذا فسره أهل العلم، والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم، وهو على عرشه، فهذا قول المسلمين6.
حدثنا ابن مخلد1، [حدثنا أبو داود] 2، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا [سُرَيْج] 3 بن النعمان4، حدثنا عبد الله بن نافع5 قال: قال مالك6: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان. ثم ذكر بأسانيده قطعة من أحاديث العلو7. توفي سنة نيف وخمسين وثلاثمائة، وبقي8 مجاورا بمكة مدة [سنين] 9، وكان كبير الشأن، فقيهاً، مفتياً، عالماً باختلاف العلماء، خبيراً بالأحاديث وطرقها، مكثراً من الرواية، سمع أبا مسلم10
الكجي1، وابن [زنجويه] 2 القطان3، وأبا شعيب4 الحراني5، وجعفر الفريابي6 فأكثر عنه. وله التصانيف الحسنة منها: "كتاب الشريعة"، و"كتاب الغرباء"، و"كتاب النصيحة"، و"كتاب [أخلاق] 7 العلماء"، وكتاب "زكاة الفطر"، وكتاب "الرسالة إلى أهل بغداد (ق75/أ) في الربا"، وكتاب "تحريم إتيان النساء في أعجازهن"، وكتاب "المعزي والمعزى"، وكتاب "النصيحة في الفقه" وكتاب "الفتن"، وكتاب "الطب"، وكتاب "عقوبات الذنوب"،
وكتاب "الشبهات"1، وكتاب "إثبات رؤية الله عز وجل"، وكتاب "غض الطرف"، وكتاب "دخول الحمام"، وكتاب "تأديب الزوجات". وانتشرت تصانيفه في بلاد المغرب، ومصر، والشام، والعراق، وخراسان، وأصبهان، لأنه كان يسمع منه كل من حج من سائر الأقطار من أهل العلم. [الإمام أبو بكر الإسماعيلي (371هـ) ] 253- وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي2: اعتقاد أهل السنة3 الذي أخبرناه إسماعيل بن4 الفراء5، أنبأنا أبو6 محمد بن قدامة7، أنبأنا أبو
العباس مسعود بن عبد الواحد الهاشمي1، أنبأنا صاعد بن [سيار] 2 الحافظ، أنبأنا علي بن محمد الجرجاني3، أنبأنا حمزة بن يوسف السهمي4، أنبأنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي رحمه الله قال: "اعلموا رحمنا الله وإياكم5، أن مذاهب أهل السنة6 ومذاهب أهل الحديث والجماعة، الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وقبول ما نطق به كتاب الله، وما صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا معدل عما وردا7 به8،
ويعتقدون1 أن الله مدعو بأسمائه الحسنى (ق75/ب) ، وموصوف بصفاته التي وصف بها نفسه، ووصفه2 بها نبيه، خلق آدم بيده، ويداه مبسوطتان بلا اعتقاد كيف، استوى على العرش بلا كيف، فإنه انتهى إلى أنه استوى على3 العرش ولم يذكر كيف كان استواؤه"4. وسرد الاعتقاد الذي قال إنه مذهب أهل السنة جميعه. وأبو بكر الإسماعيلي من كبار الأئمة الأعلام، ذكره أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الشافعية فقال: "مات سنة نيف وسبعين وثلاثمائة، وجمع بين الفقه والحديث ورئاسة الدين والدنيا، وصنف الصحيح وأخذ عنه فقهاء جرجان".
حدثنا بذلك عمر بن القوّاس1 عن أبي اليمن الكندي2، أنبأنا أبو الحسن بن عبد السلام3، أنبأنا أبو إسحاق فذكره4، وقال حمزة بن يوسف السهمي في تاريخ5 جرجان: توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وله أربع وتسعون6. وسمعت الدارقطني يقول: كنت قد عزمت7 غير مرة أن أرحل إلى أبي بكر الإسماعيلي، فلم أرزق8.
وذكره1 الحافظ ابن عساكر في طبقات أصحاب الأشعري، في كتاب "تبين كذب المفتري فيما نسبه إلى الأشعري"2. [الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني (369هـ) ] 254- وقال الحافظ أبو محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني3 -[شيخ الحافظ أبي نعيم]-4 في كتاب "العظمة" له5: "ذكر عرش الرب تبارك وتعالى وكرسيه وعظم (ق76/أ) خلقهما، وعلو الرب فوق عرشه6". ثم أسند قطعة من الأحاديث في الدليل على ذلك7، وقد تقدمت. توفي أبو الشيخ في حدود سنة ثمان أو تسع وستين وثلاثمائة،
وكان محدثاً حافظاً، مسنداً مكثراً، فقيهاً عالماً بالأبواب، من طبقة الطبراني1، والعسال2، سمع أبا بكر بن أبي3 عاصم4، ومحمد بن يحيى المروزي5، والوليد بن أبان6، وأبا عمر القتات7 -صاحب أبي نعيم- وطبقتهم، وألف كتباً مفيدة منها كتاب "السنة"، ومنها كتاب "العظمة"، ومنها كتاب "التوبيخ"، ومنها كتاب "درر الأثر". [الحافظ أبو القاسم الطبراني (360هـ) ] 255- وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد بن أيوب8
نزيل أصبهان، في كتاب "السنة" له1: "باب ما جاء في استواء الله تعالى على عرشه، [وأنه] 2 بائن من خلقه". ثم روى حديث [أبي] 3 رزين "قلت: يا رسول الله أين كا ربنا؟ " 4. وحديث عبد الله بن خليفة عن عمر5. وحديث الأوعال وأن العرش على ظهورهن والله فوقه6. وغير ذلك، إلى أن قال: حدثنا محمد بن يحيى بن المنذر7، حدثنا عمران بن ميسرة8، حدثنا عبد الله بن إدريس9، عن ليث10، عن
مجاهد1، في قوله {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 2، قال: "يجلسه معه على العرش"3. وقد تقدم الكلام على هذا الحديث وأنه ثابت عن مجاهد (ق76/ب) أحد أعيان التابعين. وأبو القاسم الطبراني هو الإمام المشهور ألف المعجم الصغير عن ألف شيخ له، والمعجم الأوسط4 تتبع [فيه] 5 الغرائب6، وأتى فيه بأحاديث وبما لم يسبقه إليه الحفاظ7، والمعجم الكبير وهو نحو ستين ألف حديث، وألف كتباً كثيرة في السنن والآداب نحو مائتي مصنف، وعاش
مائة سنة، وكان موته سنة ستين وثلاثمائة، حتى سمع منه المحدثون1، ثم أولادهم، ثم أولاد أولادهم، وسمع منه بعض شيوخه، فمنهم أبو خليفة الفضل بن الحباب2، الذي مات سنة خمس وثلاثمائة بالبصرة، وأبو بكر ابن [ريذة] 3، ومات سنة أربعين وأربعمائة وهو آخر من روى عنه رحمه الله. [أبو الحسن علي بن مهدي الطبري]
مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 1، وقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 2، وقوله {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 3. وزعم [البلخي] 4 أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه، مأخوذ من كلام العرب "ثم استوى بشر على العراق"5، أي: استولى عليها، وقال: إن العرش يكون الملك. فيقال له: ما أنكرت أن يكون عرش الله جسماً خلقه، وأمر ملائكته بحمله، قال {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} وأمية يقول:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق النا ... س وسوى فوق السماء سريرا1 ومما يدل على أن الاستواء ها هنا ليس بالاستيلاء، أنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، إذ هو مستول على العرش، وعلى سائر خلقه، وليس للعرش مزية على ما وصفته، فبان بذلك فساد قوله. ثم يقال له أيضاً: إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي من قول العرب: استوى فلان على كذا، أي استولى إذا تمكن منه بعد أن لم يكن متمكناً لم2 يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء. ثم قال: حدثنا أبو عبد الله نفطويه3، حدثنا أبو سليمان4، قال: كنا عند ابن الأعرابي5 فأتاه رجل، فقال: ما معنى قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 6 (ق77/ب) . فذكر القصة التي تقدمت7.
ثم قال: فإن قيل فما تقولون في قوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} 1؟ [قيل] 2: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} 3 بمعنى على الأرض، وقال: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 4، وكذلك قوله {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} . فإن قيل: فما تقولون في قوله {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ} 5؟ قيل له: إن بعض القراء يجعل الوقف {فِي السَّمَاوَاتِ} ، ثم يبتدئ {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ} ، وكيف ما كان، فلو6 أن قائلاً قال: فلان بالشام والعراق ملك، لدل7 على أن
[ملكه] 1 بالشام والعراق [لا أن] 2 ذاته فيهما. فإن قيل: فما تقول في قوله تعالى {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 3 الآية؟ قيل له: كون الشيء مع الشيء على وجوه، منها بالنصرة، ومنها بالصحبة، ومنها بالمماسة، ومنها بالعلم، فمعنى هذا عندنا أنه تعالى مع كل الخلق بالعلم. قال البلخي4: فإن قيل لنا: ما معنى رفع أيدينا إلى السماء؟ وقوله: {وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 5؟ قلنا: تأويل ذلك أن أرزاق العباد لما كانت تأتي من السماء، جاز أن نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء، وجاز أن يقال أعمالنا ترفع إلى الله،
لما (ق78/أ) كانت حفظة الأعمال إنما مساكنهم في السماء. قيل له: إن كانت العلة في رفع أيدينا1 إلى السماء أن الأرزاق فيها، وأن الحفظة مساكنهم فيها2، جاز أن نخفض أيدينا في الدعاء نحو الأرض، من أجل أن الله يحدث فيها النبات، والأقوات، والمعايش، وأنها قرارهم، ومنها خلقوا، ولأن الملائكة معهم في الأرض. فلم تكن العلة في رفع أيدينا إلى السماء ما وصفه، وإنما أمرنا الله تعالى أن نرفع أيدينا قاصدين إليه رفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه"3. أبو الحسن الطبري4 إمام جليل، صحب الأشعري، وأخذ عنه5 علم الكلام، وصنف تصانيف جليلة عديدة، تدل علىعلم واسع، ذكره ابن عساكر في طبقات أبي الحسن في "تبيين كذب المفتري"، وأثنى عليه، ولا أعلم أي وقت توفي6.
[أبو بكر بن إبراهيم بن شاذان (383هـ) ] 257- وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان1، حدثني من أثق به وسمع ذلك معي ولدي أبو علي2، قال: كنا نغسل ميتاً وهو على سريره، فكشفنا عنه الثوب، فسمعناه يقول: [هو على عرشه وحده، هو على عرشه وحده] 3. فتفرقنا من عظم ما سمعنا، ثم رجعنا فغسلناه رحمه الله (ق78/ب) . أخرج هذه الحكاية الشيخ موفق الدين المقدسي في كتاب "صفة4 العلو" له5. توفي أبو بكر بن شاذان بعد الثمانين، سمع البغوي6 وذويه، توفي ابنه سنة ست وعشرين وأربعمائة، وكان من المتكلمين ممن هو على طريقة الأشعري، وكان مكثراً من الحديث.
[الإمام أبو الحسن الدارقطني (385هـ) ] 258- أنبأنا أحمد بن سلامة1، عن أبي القاسم بن بوش2، أنبأنا أبو العز بن كادش3، أنشدنا أبو طالب العشاري4، أنشدنا الإمام أبو الحسن الدارقطني5 رحمه الله. حديث الشفاعة في أحمد ... إلى أحمد المصطفي نسنده فأما الحديث بإقعاده ... على العرش أيضاً فلا نجحده أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده ولا تنكروا أنه قاعد ... ولا تجحدوا أنه يقعده6
[الإمام أبو عبد الله بن بطة العكبري (387هـ) ] 259- وقال الإمام الزاهد أبو عبد الله بن بطة العكبري، في "كتاب الإبانة" تأليفه: "باب الإيمان بأن الله على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه محيط بخلقه". أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين، أن الله على عرشه، فوق سمواته، بائن من خلقه1. فأما قوله {وَهُوَ مَعَكُم} 2، فهو كما قالت العلماء: علمه. وأما قوله {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 3 معناه: أنه هو الله في السموات، وهو الله في الأرض4، وتصديقه في كتاب الله {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} 5. واحتج الجهمي بقوله {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 6،
فقال: إن الله معنا وفينا، وقد فسر العلماء أن ذلك علمه، ثم قال في آخرها {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فلو كان إنما عَلِمَ ذلك بالمشاهدة، لم يكن له فضل على الخلائق، وبطل فضل علمه بعلم الغيب1. ثم ذكر رحمه الله قول من قال: إنه علمه، فذكر ما تقدم عن نعيم بن حماد2، (ق79 /ب) والضحاك بن مزاحم3، وسفيان الثوري4، وأحمد بن حنبل5، وإسحاق بن راهويه6، بأسانيده إليهم. ابن بطة من كبار الأئمة و7 الزهاد والحفاظ، ألف كتاب الإبانة المذكور -أربع مجلدات-8، أتى فيه بمذاهب أهل السنة، التي يخالفون
فيها المبتدعة من الجهمية، والحرورية، والقدرية، والرافضة، والمرجئة، والمعتزلة، دل على علم واسع، وكثرة من الحديث والآثار، توفي بعد الثمانين وثلاثمائة، سمع البغوي1 وذويه. [الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده (395هـ) ] 260- وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده الحافظ2، في "كتاب الصفات" له3 بعد أن قال: روى أبو نعيم4،
[عن] 1 حماد، عن جرير بن عبد الحميد2، عن ليث3، عن بشر4، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله أن ينزل عن عرشه نزل بذاته"5.
قال رحمه الله: "فهو عز وجل موصوف غير مجهول، وهو موجود غير مدرك، ومرئي غير محاط به لقربه كأنك تراه، غير ملاصق، وبعيد غير منقطع، يسمع، ويرى، وهو بالمنظر الأعلى، وعلى العرش استوى، فالقلوب تعرفه، والعقول لا تكيفه، وهو بكل شيء محيط". قلت: والحديث المذكور 1، عن بشر، عن أنس لا يثبت2. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني (ق80/أ) جبريل بمثل المرآة، فقلت ما هذه؟ قال: الجمعة، وهو يوم المزيد، إن ربك اتخذ في الجنة وادياً أفيح من3 مسك أبيض4، فإذا كان يوم الجمعة نزل عن كرسيه".
وذكر الحديث بطوله، وقد تقدم1. قلت: هذا حديث محفوظ عن أنس رضي الله عنه من غير وجه. أخرجه الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "الرد على الجهمية"2، عن عبد الأعلى [النرسي] 3، عن عمر بن يونس4، وأبو بكر النجاد 5 في أماليه، عن الحسن بن مكرم6، عن عمر بن يونس ووقع7 لنا بعلو، عن جهضم [بن] 8 عبد الله9، حدثني أبو
طيبة1، عن عثمان بن عمير2، عن أنس3. وأخرجه الحافظ أبو أحمد العسال، عن محمد بن العباس بن أبي أيوب4، عن محمد بن المثنى5، عن عمر بن يونس وهو ابن القاسم الحنفي به. وعن موسى بن إسحاق الأنصاري6، عن عثمان بن أبي شيبة7،
حدثنا جرير، عن ليث، عن عثمان بن أبي حميد -وهو ابن عمير- عن أنس. ورواه عن العباس بن علي النسائي1، حدثنا الحسين بن نصر2، حدثنا سلام بن [سليمان] 3 المدائني4، حدثنا شعبة5، وورقاء6، وإسرائيل7، وجرير8، عن ليث9، عن عثمان بن عمير، عن
أنس1. ورواه أيضاً عن محمد بن العباس (ق80/ب) بن أيوب، عن ابن المثنى2، حدثنا يعمر بن بشر3، أخبرني الفضل بن موسى السيناني4، حدثنا محمد ابن أبي مريم5، عن عثمان بن أبي [حميد] 6، عن أنس. وهذه الطرق كلها في كتاب "المعرفة في صفات الله تعالى"، له. وأخرجه الحافظ أبو الحسن الدارقطني في كتاب "الرؤية" له، من
رواية شجاع بن الوليد1، عن زياد بن خيثمة2، عن عثمان بن أبي سليم3، عن أنس4. ومن رواية حمزة بن واصل5، عن قتادة6، عن أنس7.
ومن رواية عنبسة الرازي1، عن عثمان بن عمير، عن أنس2. وأخرجه الحافظ بن مندة المذكور، من رواية البخاري، حدثنا ليث ابن3 أبي سليم، عن عثمان بن عمير4 عن أنس5. ومن رواية أبي يوسف6 -صاحب أبي حنيفة-، [عن صالح] 7 بن حيان، عن [عبد الله] 8 بن بريدة، عن أنس9.
ومن رواية الوليد بن مسلم1 عن ابن ثوبان2، عن سالم بن عبد الله3، عن أنس4. ومن رواية الصعق بن حزن5، حدثنا علي بن الحكم6، عن
عبد الملك بن عمير1 عن أنس2. ورواه الدارقطني من رواية محمد بن شعيب بن [شابور] 3، حدثنا
عمر بن عبد الله مولى غفرة1، عن أنس2. وهذا الحديث يحسنه الترمذي، وغيره، لكثرة طرقه3. وأما ابن منده، فهو حافظ زمانه، طاف البلاد، وسمع بأصبهان، والشام، (ق81/أ) والعراق، ومصر، والثغور، والحجاز، وجمع ما لم يجمع غيره، وشيوخه نحو ألف وسبعمائة شيخ، كتب عن4 خيثمة5 الأطرابلسي6
ألف جزء، وعن الأصم1 ألف جزء، وعن ابن الأعربي ألف جزء، وعن إسماعيل الصفار أو ابن البختري -أشك- ألف جزء2 وعن الهيثم بن [كليب] 3 بشاش4 ألف جزء، ومات بأصبهان سنة خمس وتسعين5 وثلاثمائة، وألف كتاب "معرفة الصحابة وكتاب6 التوحيد"7، وكتاب "الكنى"8، وكتاب "الصفات"، وأشياء كثيرة، رحمه الله ورضي عنه.
[أبو بكر الباقلاني (403هـ) ] 261- وقال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني1 الذي ليس في متكلمي2 الأشاعرة أفضل منه، لا قبله ولا بعده في كتاب "الإبانة"3 -تأليفه-: "فإن قيل فما الدليل على أن لله وجهاً ويداً؟ قيل له: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 4، وقوله {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 5، فأثبت لنفسه وجهاً ويداً. فإن قيل: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة، إذا كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً6 إلا جارحة؟
قلنا: لا يجب هذا، كما لا يجب [إذا لم نعقل] 1 حياً، عالماً، قادراً إلا جسماً، أن نقضي نحن وأنتم على الله سبحانه وتعالى؛ وكما لا يجب في كل شيء كان قائماً بذاته، أن يكون جوهراً، لأنا وإياكم لم نجده قائماً بنفسه في شاهدنا إلا كذلك. وكذلك الجواب لهم إن قالوا فيجب2 أن (ق81/ب) يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضاً، واعتلوا بالوجود. فإن قيل: هل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبر في كتابه فقال:3 {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 5، وقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} 6، ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان، وفمه، والحشوش، ولوجب أن يزيد بزيادة7
الأماكن، إذا خلق منها ما لم يكن، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا، وشمالنا1، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. ثم قال بعد ذلك: وصفات ذاته لم تزل ولا يزال موصوفاً بها، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والوجه، واليدان، والعينان، والغضب، والرضا2. وقال رحمه الله في كتاب "التمهيد"3 مثل هذا القول وأكثر. وشهرته تغني عن التعريف به، وهو بصري سكن بغداد، وسمع بها من القطيعي4، وابن ماسي5، وكان أعرف الناس بالكلام، وله التصانيف الكثيرة في الرد على المخالفين، من الرافضة، والمعتزلة،
والجهمية، وغيرهم. قاله1 الخطيب.2 توفي سنة (ق82/أ) ثلاث وأربعمائة، كما أن أبا3 العباس بن سريج4 عُدَّ على رأس الثلاثمائة، والشافعي على رأس المائتين، وعمر بن عبد العزيز على رأس المائة رحمة الله عليهم5. [هذا تكرار] [أبو بكر بن فورك (410هـ) ] وقال الإمام أبو بكر بن فورك6، المتكلم، فيما حكاه7 عنه البيهقي في "الصفات" له، أنه قال: "استوى بمعنى علا، وقال في قوله {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} 8 أي: فوق السماء9. ثم احتج البيهقي كذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ حين حكم في بني قريظة "لقد حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من10 فوق سبع سموات" 11، [وقول] 12 ابن عباس الذي تقدم "أن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك" 13.
وأما الأستاذ ابن فورك فإنه أفضل المتكلمين بعد القاضي أبي بكر، ألف في أصول الدين، والفقه، ومعاني القرآن قريباً من مائة مصنف. [ابن أبي زيد القيرواني (386هـ) ] 264- 1- وقال الإمام أبو محمد بن أبي زيد المالكي المغربي1 في رسالته2 في مذهب مالك3، أولها: "وأنه فوق عرشه المجيد بذاته4، وأنه في كل مكان بعلمه"5.
وقد تقدم هذا القول، عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، إمام أهل الكوفة في وقته1 ومحدثها2. 2- وممن قال إن الله على عرشه بذاته، يحيى بن عمار3، شيخ أبي4 إسماعيل الأنصاري5 شيخ الإسلام، قال ذلك في رسالته6. 3- وكذلك الإمام أبو (ق82/ب) نصر السجزي7 الحافظ، في كتاب "الإبانة"8 له، فإنه قال: "وأئمتنا الثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن
سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، وفضيل بن عياض1، وأحمد، وإسحاق، متفقون 2 على أن الله فوق عرشه بذاته، وأن علمه بكل مكان"3. 4- وكذلك قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري، فإنه قال: "في أخبار شتى إن الله في السماء السابعة، على العرش بنفسه"4. 5- وكذلك قال [صاحبه] 5 الكرجي6 في عقيدة أصحاب
الحديث، فإنه قال فيها: عقائدهم أن الإله بذاته ... على عرشه مَعْ علمه بالغوائب1 وموجود بها الآن نسخ من بعضها نسخة بخط الشيخ2 تقي الدين ابن الصلاح3، على أولها مكتوب: هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث، بخطه4 رحمه الله. 6- وكذلك قال الحافظ أحمد الطرقي5، وشيخ الإسلام المتفق على هدايته وتواتر كرامته الشيخ عبد القادر الجيلي6، وعبد العزيز
ا [بن] 1 محمد القحيطي2، وغيرهم. كما سيأتي إن شاء الله. وأما ابن أبي زيد، فإنه من كبار الأئمة [بالمغرب] 3، وشهرته تغني عن ذكر فضله، وكان يلقب مالكاً الصغير4، واجتمع [فيه] 5 العقل والدين والورع والعلم، وكان نهاية في علم الأصول. ذكره ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" فيما نسبه إلى الأشعري، ولم يذكر له وفاة، ثم وجدته قد توفي سنة ست وثمانين وثلاثمائة بالقيروان. [الإمام أبو القاسم هبة الله اللالكائي (418هـ) ] 264- وقال (ق83/أ) الإمام أبو القاسم هبة الله بن الحسن6 اللالكائي الشافعي، في كتاب "شرح أصول السنة"7 له: "سياق ما روي في قوله:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، و [أن] 2 الله على عرشه في السماء، قال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 3، وقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} 4، وقال {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 5، قال: فدلت هذه الآيات أنه في السماء وعلمه محيط بكل مكان، وروي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأم سلمة، ومن التابعين ربيعة، وسليمان التيمي، ومقاتل [بن] حيان6، وبه قال مالك، والثوري، وأحمد بن حنبل7. قلت: توفي اللالكائي8 سنة ثمان عشرة وأربعمائة، وكان إماماً، حافظاً، ذكره النواوي9، في طبقات الفقهاء الشافعية، وألف كتاباً في
"السنن"1، وكتاباً في "معرفة أسماء من في الصحيحين"2، وكتاب "كرمات الأولياء"3، وغير ذلك. أثنى عليه الخطيب في تاريخه4 والذهلي5 وغيرهما. [أبو نعيم الأصبهاني (430هـ) ] 265- وقال الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني6، في مصنف7 "حلية الأولياء"، في الاعتقاد الذي جمعه: "طريقنا طريق السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومما اعتقدوه: أن الله لم يزل كاملاً بجميع صفاته القديمة، لا يزول ولا يحول8، لم9 يزل عالماً بعلم، بصيراً ببصر، سميعاً بسمع، متكلماً بكلام، ثم أحدث الأشياء (ق83/ب) من غير شيء، وأن
القرآن كلامه، وكذلك سائر كتبه المنزلة، كلامه غير مخلوق، وأن القرآن في جميع الجهات مقروءاً، ومتلواً، ومحفوظاً، ومسموعاً، ومكتوباً، وملفوظاً، كلام الله حقيقة، لا حكاية، ولا ترجمة، وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق، وأن الواقفة، واللفظية1، من الجهمية، وأن من2 قصد القرآن بوجه3 من الوجوه [يريد به] 4 خلق كلام الله، فهو عندهم من الجهمية5، وأن الجهمي عندهم كافر". وذكر أشياء إلى أن قال: "إن الأحاديث التي ثبتت6 عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش، واستواء الله عليه، يثبتونها، من غير تكييف، ولا تمثيل، وأن الله تعالى7 بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج [بهم] 8، وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه"9.
وذكر سائر اعتقاد السلف1 وإجماعهم على ذلك. وأبو نعيم هذا سبط2 محمد بن يوسف البنا3 الزاهد، شيخ أصبهان بلا مدافعة4، جمع الله له بين العلو في الرواية والحفظ5 والدراية، فكان يشد إليه الرحال ويهاجرُ إلى بابه6 الأئمة والحفاظ. ذكره ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" في أصحاب أبي الحسن الأشعري، فقال: كتب إلي عبد الغافر بن إسماعيل7
يذكر1، قال أحمد بن عبد الله بن أحمد بن [إسحاق] 2 بن3 موسى بن مهران، الإمام أبو نعيم الحافظ، واحد4 عصره، (ق84/أ) في فضله، وجمعه، ومعرفته، صنف التصانيف المشهورة5. كحلية الأولياء، وغير ذلك من الكتب الكثيرة في أنواع علوم الحديث والحقائق وشاع ذكره في الآفاق، واستفاد الناس من تصانيفه، توفي في صفر سنة ثلاثين وأربعمائة وله أربع وتسعون سنة إلا شهرا. وسمعت من يحكي عن ألفاظ أبي بكر الخطيب قال: لم ألق من شيوخي أحفظ من أبي نعيم وأبي حازم العبدوي، كتب إلي عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي، سمعت أبا صالح المؤذن6 يقول: كتبت عن عشرة من
شيوخي عشرة آلاف جزء، سوى ما اشتريته، فذكر منهم أبا بكر [الإسماعيلي] 1، وأبا أحمد الحاكم2، قال عبد الغفار: وانتخب عليه أبو عبد الله الحاكم3، وحدث عنه، وتوفي في ثاني شوال4 سنة سبع عشرة فجأة رحمه الله. [الإمام أبو زكريا يحيى بن عمار السجستاني (442هـ) ] 266- وقال الإمام الأوحد أبو زكريا يحيى بن عمار السجستاني5، في رسالته: "لا نقول كما قال الجهمية، إنه مداخل للأمكنة، وممازج لكل شيء ولا نعلم أين هو، بل هو بذاته على العرش، وعلمه محيط بكل شيء، و [علمه] 6، وسمعه، وبصره، وقدرته، مدركة لكل شيء، وهو معنى قوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، وهو بذاته على
شيخ الصوفية في عصر يحيى بن عمار، وأبي نعيم، وقبيل ذلك: "أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وأجمع ما كان عليه1 أهل الحديث، وأهل المعرفة والتصوف، من المتقدمين والمتأخرين". فذكر أشياء في الوصية، إلى2 أن قال فيها: "وإن الله استوى على3 عرشه، بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف مجهول، وأنه مستو على عرشه، بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، بلا حلول، ولا ممازجة، ولا ملاصقة، وأنه سبحانه سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويتعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا4 كيف شاء بلا كيف5 ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو ضال مبتدع"6.
[أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (449هـ) ] 268- وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل (ق85/أ) بن عبد الرحمن الصابوني النيسابوري 1، في كتاب "الرسالة في السنة" له: "ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون، أن الله فوق سبع سمواته، على عرشه2 كما نطق به كتابه3 وعلماء الأمة، وأعيان الأئمة من السلف، لم يختلفوا أن الله عز وجل على عرشه، فوق سمواته. وإمامنا4 أبو عبد الله محمد5 بن إدريس الشافعي احتج في كتابه المبسوط6، في مسألة إعتاق7 الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن الرقبة الكافرة
لا يصح التكفير بها بخبر معاوية بن الحكم، فإنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة، فسأل رسول1 صلى الله عليه وسلم عن إعتاقه إياها2، فامتحنها ليعرف3 أنها مؤمنة أم لا، فقال لها أين ربك؟، فأشارت إلى السماء، فقال اعتقها فإنها مؤمنة، فحكم بإيمانها لما أقرت4 بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية5. وأبو عثمان الصابوني هذا من كبار الأئمة، كان فقيهاً، محدثاً حافظاً، صوفياً، واعظاً، شيخ نيسابور في وقته6، توفي سنة بضع وأربعين وأربعمائة رحمه الله، وله تصانيف حسنة. [أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي (447هـ) ] 269- وقال7 الإمام الفقيه أبو الفتح8 سليم بن أيوب الرازي9،
صاحب الشيخ أبي حامد الإسفراييني1، في تفسير القرآن له2 في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3: "قال أبو عبيدة4: علا، وقال غيره استقر". وقال في قوله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 5: "عن6 قتادة7 قال: اليوم السابع8". وقال في (ق85/ب) قوله {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} 9: "أي ربكم الذي في
السماء إن عصيتموه أن يخسف بكم الأرض". وذكر1 مثل هذا القول في باقي الآيات الدالة على أن الله فوق العرش2. وأبو الفتح سليم3 هذا إمام كبير عالم بالتفسير، والحديث، والفقه، وغير ذلك، شيخ أبي الفتح نصر4 المقدسي5، توفي في حدود الأربعين وأربعمائة. [أبو نصر عبيد الله بن سعيد السجزي (444هـ) ] 270- وقال الإمام أبو نصر [عبيد الله بن سعيد] 6 السجزي7، في كتابه "الإبانة" الذي ألفه في السنة: "أئمتنا كسفيان الثوري، ومالك، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، متفقون على أن الله سبحانه وتعالى بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يُرَى8 يوم
القيامة بالأبصار، وأنه ينزل إلى سماء1 الدنيا، وأنه2 يغضب ويرضى، ويتكلم بما شاء3"4. وأبو النصر هذا إمام5، حافظ، فقيه جليل، أقام6 بمكة مدة، روى عن شيخ الإسلام وغيره، توفي في حدود الأربعين وأربعمائة رحمه الله. [الحافظ البيهقي (458هـ) ] 271- وقال الإمام أبو بكر بن الحسين البيهقي7 -صاحب السنن الكبير، وغيره- في كتاب "الاعتقاد"8: "في باب القول في الاستواء"
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2 {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 3، {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِنْ فَوْقِهِم} 4، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 5، {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} 6، وأراد من فوق السماء، كما قال {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ (ق86/أ) فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 7 بمعنى على جذوع النخل، وقال: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} 8 بمعنى على الأرض9 وكل ما علا فهو سماء، والعرش على السموات، فمعنى الآية أأمنتم من على العرش، كما صرح [به] 10 في سائر الآيات.
وفيما كتبنا1 من الآيات دلالة على إبطال [قول] 2 من زعم من الجهمية أن الله بذاته في كل مكان. وقوله3 {وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَمَا كُنْتُم} إنما أراد [به] 4 بعلمه لا بذاته"5. شهرة البيهقي تغني عن التعريف به، توفي في6 سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وله أربع وثمانون سنة رحمه الله. [الإمام أبو عمر بن عبد البر (463هـ) ] 272- 1- وقال الإمام، حافظ المغرب، أبو عمر بن عبد البر7، صاحب "الإستيعاب"، و"التمهيد"، والمصنفات النفيسة، لما شرح "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ... " الذي8 في الموطأ قال: "هذا الحديث لم
يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو [من] 1 حجتهم على المعتزلة2، وهذا أشهر عند العامة وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم [يؤنبهم] 3 عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم"4. وقال أيضاً: "أجمع5 علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} هو على العرش، وعلمه بكل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله"6 (ق86/ب) . 2- وقال أيضاً: "أهل السنة [مجمعون] 7 على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لم
يكيفوا شيئاً من ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل منها شيء على الحقيقة، [ويزعمون] 1 أن من أقر بها مشبه، وهم2 عند من أقر بها نافون للمعبود"3. أبو عمر هذا إمام أهل المغرب، من أعيان الحفاظ والأئمة القائمين بمذهب مالك رحمه الله، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. [أبو بكر الخطيب (463هـ) ] 273- وفيها توفي حافظ المشرق أبو بكر الخطيب4، وهو القائل ما أخبرناه إسماعيل بن عبد الرحمن5، أنبأنا عبد الله بن أحمد المقدسي6 سنة سبع عشرة وستمائة، عن المبارك بن علي الصيرفي7، أنبأنا أبو الحسن
محمد بن مرزوق الزعفراني1، أنبأنا أبو بكر الخطيب قال: " [أما] 2 الكلام في الصفات، فأما ما روي منها في السنن الصحاح، فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيف والتشبيه عنها3، والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ونحتذي في ذلك حذوه ومثاله، وإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات4 تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته فإنما هو إثبات وجود (ق87/أ) لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول إن معنى اليد: القدرة، ولا نقول: إن معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح وأدوات الفعل، ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب
نفي التشبيه عنها، لقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1، وقوله {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2"3. [أبو سليمان الخطابي (388هـ) ] 274- وقال مثل هذا القول4 قبله5 الإمام أبو سليمان الخطابي6 في "الغنية عن الكلام" له، وهو: "فأما7 ما سألت
عنه من1 الكلام في الصفات، وما جاء2 منها في الكتاب وروي في السنن الصحاح". وقال: "مذاهب3 السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها"4. [الإمام أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي (535هـ) ] 275- وقال مثل هذا القول بعدهما، الإمام أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي5، صاحب "الترغيب والترهيب"، وقد سئل عن صفات الرب تعالى فقال: "مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد6،
وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه، أن صفات الله التي وصف بها نفسه، أو وصفه1 بها رسوله، من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه، إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيه، ولا تشبيه ولا تأويل، قال (ق87/ب) سفيان بن عيينة: "كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره"2 أي على ظاهره، لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل"3. [القاضي أبو يعلى الفراء (458هـ) ] 276- 1- وقال القاضي أبو يعلى الفراء4 في كتاب "إبطال التأويل" له: "لا يجوز [رد] 5 هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها،
والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات لله لا تُشبَّه بسائر صفات الموصوفين بها من الخلق1. ويدل على إبطال التأويل، لأن 2 الصحابة و3 من بعدهم من التابعين حملوها على [ظاهرها] 4، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغاً لكانوا إليه أسبق لما فيه من إزالة التشبيه"5 يعني على زعم من قال إن ظاهرها التشبيه6. 2- وقال بعد أن ذكر حديث الجارية: "اعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصلين: أحدهما: في جواز السؤال عنه سبحانه بأين هو؟، وجواز الإخبار عنه بأنه في السماء"7. وذكر أشياء، إلى أن قال: "وقد أطلق أحمد بذلك فيما أخرجه في "الرد على الجهمية" فقال8: فقد أخبرنا
بأنه1 في السماء فقال {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} 2، وقال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 3، وقال {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 4 فقد أخبر الله عز وجل أنه في السماء وهو على عرشه"5. وذكر كلاماً طويلاً ليس هذا موضعه. وأما (ق88/أ) القاضي هذا فهو أجل الحنابلة في وقته، وأعلم بمذهب أحمد، وباختلاف العلماء، صنف كتباً كثيرة في المذهب، والخلاف، والأصول، رحمه الله، توفي قبل الستين وأربعمائة. [أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني (471هـ) ] 277- وقد تقدمت فتيا الإمام أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني6،
وأنه أجاب بنص قول الإمام أبي العباس بن سريج1. أبو القاسم هذا إمام كبير، حافظ، فقيه، صوفي، ذكره ابن الجوزي2 في "صفة الصفوة" فقال: "سعد بن علي، طاف الآفاق، ورأى المشايخ، وسكن مكة فصار شيخ الحرم، وكان إذا خرج إلى الحرم يترك الناس الطواف ويقبلون يده أكثر من تقبيل الحجر، وكانت له كرامات، وتوفي سنة سبعين وأربعمائة"3. لكن في النفس شيء من عزو الفتيا التي ذكرها إلى ابن سريج، فإني لا أرى عليها لوائح صحة الإسناد والله أعلم، على4 أنني أجزم أن ابن سريج لم يكن يخالف تيك5 الأصول. [أبو المعالي الجويني (478هـ) ] 278- وقال الإمام أبو المعالي الجويني6 في كتاب "رسالة النظامية":
"اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في [آي] 1 الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب عز وجل2. والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به (ق88/ب) عقيدةً، اتباع سلف الأمة، والدليل القاطع السمعي في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشرع، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه3 المتبع"4.
انتهت معرفة مذهب الشافعي إلى أبي المعالي هذا، وصنف كتباً كثيرة وكان بحراً في دقائق الفقه وفروعه، ومعرفة أصوله، توفي سنة تسع وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى. [الإمام أبو إسماعيل الأنصاري (481هـ) ] 279- و [قال] 1 الإمام العارف شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله ابن محمد الأنصاري2 في كتاب "الصفات" له: "باب إثبات استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة، بائناً من خلقه، من الكتاب والسنة". فذكر رحمه الله دلالات ذلك من الكتاب والسنة، إلى أن قال: "في أخبار شتى أن الله عز وجل في السماء السابعة على العرش بنفسه، وهو ينظر كيف تعملون، علمه، وقدرته، واستماعه، ونظره، ورحمته، في كل مكان"3. أبو إسماعيل الأنصاري هذا معروف عند مشايخ الطريق، مصنف4
"منازل السائرين (ق89/أ) إلى الله"، كان عالماً بالحديث صحيحه وسقيمه، وآثار السلف، وبلغات العرب واختلافها، وتفسير الكتاب ومعانيه، وأقوال المفسرين، وبأحوال القلوب، وكان له كرامات معروفة، وقد جمع عبد القادر الرهاوي كتاباً سماه "المادح والممدوح" لعل معظم الكتاب1 في ترجمته، فمن طالع ذلك عرف منزلته وجلالته في الأمة، افتتح القرآن يفسره إلى قوله {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} 2 فافتتح تجريد المجالس في الحقيقة والمحبة وأنفق على هذه الآية مدة طويلة من عمره، وكذا في قوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} 3 بقي يفسر فيها ثلاثمائة وستين مجلساً، وقد كان في وقته، مثل الجنيد4 في وقته، وبشر الحافي5 في وقته، توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وله خمس وثمانون سنة. [الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (510هـ) ] 280- 1- وقال الإمام محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود
البغوي1 في تفسيره "معالم التنزيل"، عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2: "قال الكلبي3، ومقاتل4: استقر. وقال أبو عبيدة5: صعد. وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء، وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء (ق89/ب) على العرش صفة لله، بلا كيف، يجب الإيمان به"6. 2-وقال رحمه الله تعالى في قوله تعالى {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي َدُخَانٌ} 7 قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: ارتفع إلى السماء8. 3- وقال في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} 9:"الأولى10 في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل
علمها إلى الله تعالى ويعتقد أن الله منزه عن سمات الحدث، على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة"1. 4- وقال في قوله {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 2: "يعني وهو إله في السموات والأرض، قال الزجاج3: فيه تقديم وتأخير تقديره، وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات والأرض4"5. 5- وقال في قوله {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 6: " [في العلم] 7"8. أبو محمد البغوي هذا من كبار الأئمة والفقهاء الشافعية، مصنف "شرح السنة"، وكتاب "التفسير" وغير ذلك، شهرته تغني عن التعريف
به، توفي رحمه الله سنة خمس عشرة وخمسمائة. [أبو إسحاق الثعلبي (427هـ) ] 281- وقال أبو إسحاق الثعلبي1 في تفسيره2 لهذا الموضع نحواً من هذا القول. [الإمام أبو الحسن الكرجي (532هـ) ] 282- وقال الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك [الكرجي] 3 صاحب (90/أ) شيخ الإسلام4 في عقيدته المعروفة التي أولها: محاسن جسمي بدلت بالمعايب ... وشيب [فَوْدي] 5شيب وصل إلى أن قال: وأفضل زاد في المعاد عقيدة ... على منهج في الصدق [عقيدة أصحاب الحديث فقد ... بأرباب دين الله أسنى المراتب] 6
عقائدهم أن الإ له بذاته ... على عرشه مع علمه بالغوائب وأن استواء الرب يعقل كونه ... ويجهل فيه الكيف جهل من مائتي بيت. وكان أبو الحسن هذا إماماً، زاهداً1، شافعي المذهب، معاصراً للشيخ أبي محمد البغوي2 وذويه، وهذه القصيدة مشهورة عند الخاصة والعامة في بلاد المشرق. [الإمام عبد القادر الجيلي (561هـ) ] 283- وقال الإمام شيخ الإسلام صفوة العارفين، أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي3 الحنبلي4، في كتاب "الغنية" له، الموجود بأيدي الناس: "أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن [يعرف ويتيقن] 5 أن الله واحد أحد". إلى أن قال: "وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه
بالأشياء، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 1، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ (ق90/ب) مِّمَّا تَعُدُّونَ} 2، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال إنه في السماء على العرش كما قال {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3، وينبغي إطلاق صفة الاستواء4 من غير تأويل، وأنه استواء5 الذات على العرش، وكونه سبحانه وتعالى على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف"6. وذكر كلاماً طويلاً اختصرته. رحمة الله عليه.
سمعت شيخنا أبا الحسن اليونيني1 يقول سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام2 بمصر يقول: ما نعرف أحداً كراماته متواترة إلا الشيخ3 عبد القادر، وقد صنف العلماء كتباً في كراماته وفضائله ومكاشفاته المدهشة، مات سنة4 إحدى وستين وخمسمائة رضي الله عنه.
256- وقول الإمام أبو الحسن علي بن مهدي الطبري المتكلم1 -صاحب أبي الحسن الأشعري- في كتاب "مشكل الآيات" تأليفه في2 باب قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3: "اعلم أن الله سبحانه في السماء، فوق كل شيء، مستو على عرشه، بمعنى أنه عالٍ عليه، ومعنى الاستواء: الاعتلاء، كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير4 على قمة رأسي، بمعنى علا في الجو، فوجد فوق رأسي، فالقديم5 جل جلاله عالٍ على عرشه. قوله {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} 6، وقوله {يَا عِيسَى إِني (ق77/أ)
شهرة الدارقطني تغني عن التعريف، ألف كتاب السنن فانتفع به الموافق والمخالف، كان من نظراء البخاري وذويه في الإتقان، وإن تأخر في الزمان، توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وله ثمانون سنة. سمع البغوي1، وابن صاعد2 (ق79/أ) ، وابن أبي داود3، والخلائق بعدهم، وطاف البلاد، وحَصَّل ما لم يُحَصِّل غيره، وله جزء في الصفات4، وكتاب "الرؤية"5، وكتاب "الأفراد"6، وكتاب في "القراءات"7، مبوباً ولم يبوب أحد قبله الأبواب في القراءات8، وله كتب كثيرة لا يحضرني الآن ذكرها.