الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة

الغَزْنَوي، سراج الدين

مقدمة

مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الحمد لله على آلائه، والشكر له على جزيل عطائه، وأفضل الصلاة والسلام على سيد أصفيائه، محمد أفضل الخليقة وخاتم أنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأوليائه. وبعد: فقد أشار إلى من طاعته قرض يلزمني أداؤه، وامتثاله فرض يجب عليّ قضاؤه. وهو الأمير الفاضل والكريم الباذل، مفخر الأمراء، كهف الفقراء، ذو الأخلاق المرضية، والأوصاف السنية، ولي الأيادي والنعم، صاحب السيف والقلم، المتعيّن بين أمثاله بمحبة العلم كالعلم، الأمير الكبير صرغتمش الملكي الناصري، نور الله بالعلوم النافعة بصيرته، وحسن سيرته وسريرته، وأدام عليه نعمته وبهجته، وحرس من الآفات مهجته، وأبقاه في خير وعافية لأهله ومحبيه، ويبلغه من خيري الدنيا والآخرة ما يؤمله ويرتجيه، أن أترجم بالعربية كتاب الطريقة البهائية، الذي صنفه الإمام فخر الدين للسلطان المرحوم بهاء الدين بالفارسية، وأزيد عليه دلائل وأجوبة من جانب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثواه. فبادرت إلى امتثال أمره بالجد والهناء فجاء بحمد الله كما يرتضيه العلماء، ويثني عليه الفضلاء، وسميته "بالغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة" والله المستعان وعليه التكلان.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة مسألة: يجوز إزالة النجاسة من البدن والثوب بكل مائع طاهر يمكن إزالتها به كالخل وماء الورد عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله، وقال: الشافعي رضي الله عنه: لا يجوز إلا بالماء، وهو قول محمد رحمه الله. [حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: الأول: ما روى مجاهد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما كان لإحدانا إلا ثوب تحيض فيه فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها فمصعته بظفرها، والمصع: الحك بالظفر لاستخراج الدم فإذا زالت النجاسة بالريق فبالخل وماء الورد أولى. أخرجه البخاري، وفي رواية الترمذي: "فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها ثم قصعته، والقصع: هو الدلك". الثاني: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 1. فإنه مطلق فمن قيد بالماء فقد زاد على النص من غير دليل. الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات" أمر بالغسل مطلقا فيجري على إطلاقه، والغسل غير مختص بالماء، قال: الشاعر: فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها الرابع: ما رواه أبو داود عن بكار بن يحيى قال: "حدثتني جدتي،

_ 1سورة المدثر: الآية 4.

قالت: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها امرأة من قريش عن الصلاة في ثوب الحائض، فقالت: قد كان يصيبنا الحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلبث إحدانا أيام حيضها ثم تطهر فتنظر الثوب الذي كانت تلتف فيه فإن أصابه دم غسلناه وصلينا فيه وإن لم يكن أصابه شيء تركناه ولم يمنعنا ذلك أن نصلي فيه. فقول أم سلمة غسلنا مطلق غير مقيد بالماء فيجرى على إطلاقه كما مر. الخامس: دلالة النص وهو أنه لما زالت النجاسة بالماء فبالخل وماء الورد أولى، لأن تأثير الخل في قلع النجاسة أكثر لأنه قال: ع للأثر وماء الورد مذهب للرائحة الكريهة. السادس: القياس وهو أن المائع قال: ع للنجاسة والطهورية بعلة القلع وإزالة النجاسة المجاورة إذ الثوب كان طاهرا قبل إصابة النجاسة وإزالة النجاسة كما تحصل بالماء تحصل بسائر المائعات المزيلة لها فإذا زالت النجاسة بقي الثوب طاهراً ولهذا لو قطع موضع النجاسة بالمقراض طهر الثوب. حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل ثيابه بالماء ولم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم غسلها بالخل ومتابعته واجبة، لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} 1. فلزم على الأمة غسل الثوب بالماء دون الخل. الجواب عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما غسل الثياب بالماء لكثرته وسهولة إصابته وقلة الخل وماء الورد فلا يدل على عدم جواز الغسل بغيره إن لم يمنع عن ذلك بل أمره بالغسل مطلقا كما مر، ونحن نتبعه حيث تجوز إزالة النجاسة بالماء مع الزيادة وإنما تلزم المخالفة لو منع عن الإزالة بغير الماء ولم ينقل ذلك.

_ 1 سورة الأنعام: الآية 153.

الثاني: ما أخرجه الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب يصيبه الدم من الحيض فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" قيد غسل الثوب بالماء فلا يجوز بغيره. الجواب عنه: أن ذكر الماء لا يدل على نفي ما عداه فإن مفهوم اللقب ليس بحجة بالاتفاق وقد جاز الاستنجاء بغير الأحجار اتفاقاً مع التقييد بالأحجار في قوله صلى الله عليه وسلم: "فليستنج بثلاثة أحجار" على أن ذكر الماء خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط والصفة، فإذا خرجت مخرج الغالب لا يقتضي النفي عما عداها كما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} 1. فاسم الجنس أوفى. الثالث: أن الثوب إذا تنجس يبقى نجساً إلى وجود استعمال المطهر والمطهرية حكم شرعي فلا يعرف إلا منه ولم يرد في الشرع الأمر إلا بمطهرية الماء قال: تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} 2. ولم يقل خلا طهوراً فظهر أنه لا يطهر الثوب إلا الماء. فالجواب عنه: كما مر من أن ذكر الشيء لا يدل على نفي ما عداه وأن ذكر الماء خرج مخرج الغالب. الرابع: أن في غسل النجاسة بالخل وماء الورد إضاعة المال وهو منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن إضاعة المال". الجواب عنه: إنما كان إضاعة لو استعمل بلا غرض وأي غرض أعظم من حصول الطهارة إذ لو لم نجوز إزالة النجاسة بالخل وماء الورد تلزم الصلاة مع النجاسة إذا لم يجد الماء ووجد الخل لأجل إضاعة خل قيمته فليس3 على أنا نفرض المسألة: في موضع يكون فيه أعز بحيث تكون قيمة

_ 1 سورة النساء: الآية 23. 2 سورة الفرقان: الآية 48. 3 فليس: بضم الفاء، تصغير الفلس.

قدح من الماء ألف قدح من الخل ففي هذه الصورة لو أوجبنا استعمال الماء كان إضاعة للمال على أن الإضاعة لا تقتضي عدم حصول الطهارة بعد زوال النجاسة كما في القطع بالمقراض. الخامس: أنه لو استعمل الخل في إزالة النجاسة يصير حراماً وتحريم الطعام الطاهر لا يجوز لقوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 1. الجواب عنه: أن هذا بعينه وارد في الماء فإنه جاز استعماله وإن كان فيه تحريم الماء الطاهر، على أنه جاز ذلك لغرض صحيح كما بينا، على أن النص ورد في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية على نفسه فالمراد من تحريم النبي صلى الله عليه وسلم غير ما ذكره. السادس: أن الطهارة عن النجاسة أقوى من الطهارة عن الحدث لأن الأول: ى حقيقية والثاني: حكمية وبالاتفاق لا يقيد الخل وماء الورد طهارة الحدث فلا يفيد أيضاً طهارة الخبث. الجواب عنه: بالفرق بينهما وهو أن النص جعل الماء مطهراً للحدث غير معقول المعنى لأنه لا نجاسة على الأعضاء عيناً لتزول به فيقتصر على ما ورد به الشرع وهو الماء بخلاف النجاسة الحقيقية فإن الإزالة ثمة معقولة وهي حاصلة بالمائعات أيضاً ولم يذكر الإمام لأبي حنيفة إلا القياس. ثم قال: دلائلنا من النصوص ودليلكم من القياس والنص أولى منه ففي هذا القول قلة الإنصاف وكثرة الاعتساف فإن الدلائل المذكورة لنا أيضاً من النصوص فإن لم يعلم بها فهو دليل على عدم إطلاعه على مدارك العلماء فكيف تجزم بأن دليلنا قياس فقط وإن علم بها ولم يذكرها ترويجا لدلائله الضعيفة فذلك أشنع فهو كما قيل: فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

_ 1 سورة التحريم: الآية 1.

مسألة: الوضوء: يجوز بدون النية عند الإمام أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز بدونهما. حجة الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: الأول: ما رواه مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله: "إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: "لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء عليك فتطهرين" فما زاد على الجواب النية وقد علمنا أنه عليه الصلاة والسلام أراد تعليمها صفة الغسل المجزي فلو كانت النية شرطاً لعلمها. الثاني: أن الله تعالى: أمر في آية الوضوء بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس ولم يزد عليها فلو كانت النية شرطاً لذكرها. الثالث: أنه لو شرطنا النية في الوضوء والغسل يلزم منه الزيادة على الكتاب بخبر الواحد وهو نسخ فلا يجوز. الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين علم الأعرابي أركان الوضوء لم يذكر فيها النية. الخامس: أن الماء خلق مطهراً طبعاً فلا يحتاج التطهير إلى النية كما لا يحتاج في حصول الري به إليها. حجة الإمام الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 1. فإذا لم يقصد رفع الحدث لا يرتفع عنه. الجواب عنه: أن رفع الحدث بالماء لا يتوقف على القصد لكونه مطهرا طبعاً. والمراد بالنص والله أعلم أن ليس للإنسان إلا ثواب ما سعى ونحن

_ 1 سورة النجم:39.

نقول بموجبه فإنه لا يحصل له ثواب الوضوء بدون النية، إذ الثواب لا يحصل إلا بالقربة ولا يقع قربة إلا بالنية عندنا أيضاً، ولكنه يقع مفتاحاً للصلاة بدونها. الثاني: أن الوضوء عبادة لأنه مأمور به وكل مأمور به عبادة محتاج إلى النية؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1. والإخلاص لا يتحقق إلا بالنية فالوضوء لا يصح إلا بالنية. الجواب عنه: لا نسلم أن كل عبادة تحتاج إلى النية فإن تطهير الثوب مأمور به وعبادة بقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 2. وستر العورة بقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 3. أي استروا عورتكم عند كل صلاة، واستقبال القبلة بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 4. وأداء الأمانة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 5. وغير ذلك ومع هذا لا يشترط لهذه الأشياء النية، على أن العبادة على نوعين: مقصودة لذاتها كالصلاة وهي لا تصح إلا بالنية، وغير مقصودة لذاتها بل هي وسيلة لغيرها كالوضوء وغيره من الشرائط فإنه لا يراعى وجودها قصداً فيتحقق بدون النية، وهذا لأن النص مطلق فيقتضي كون الإخلاص شرطاً في العبادة المطلقة الكاملة. الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للمرء من عمله إلا ما نوى" فالوضوء الذي لا يكون منويا لا يرفع الحدث. الجواب عنه: أن معنى الحديث "ليس للمرء من ثواب عمله إلا

_ 1 سورة البينة: الآية 5 2 سورة المدثر:4. 3 سورة الأعراف: الآية 31. 4سورة البقرة: الآية 144 5سورة النساء: الآية 58.

ما نوى". ونحن نقول بموجبه، فإن الثواب لا يحصل له بالوضوء إلا إذا نوى. الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء لمن لم يسم الله عليه" ومعلوم أن من لم ينو لم يذكر اسم الله عليه فلا يصح وضوءه. الجواب عنه: أن هذا الحديث لا دلالة له على اشتراط النية، وإنما يدل على اشترط التسمية والخصم لا يقول به، والنية غير التسمية. الخامس: إنا اتفقنا على أن الوضوء المنوي أفضل من غيره فالوضوء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ما يكون إلا منويا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ما هو الأفضل فيجب على الأمة الاتباع، لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} 1. فعلم أن النية واجبة في الوضوء. ثم قال: لا يجب على الأمة المتابعة في جميع الأفعال، وإلا يلزم أن يجوز للأمة التزوج بالتسع. قلنا: العام المخصوص حجة فيما بقي والمتابعة في ذلك كان واجباً لولا قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 2. الجواب عنه: المتابعة عبارة عن إتيان الفعل على الصفة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أتى بها على سبيل الندب فيجب علينا إتيانها على تلك الصفة إذ لو وجب علينا لكان مخالفة لا اتباعاً، فنحن متبعون له والخصم مخالفه في الصفة. مسألة: الترتيب في الوضوء ليس بشرط عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وعند الشافعي رحمه الله شرط. حجة الإمام أبي حنيفة رحمه الله من وجوه:

_ 1سورة الأنعام: الآية 153 2 سورة النساء: الآية 3.

الأول: قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} 1. الآية وجه التمسك أنه تعالى عطف بعض الأعضاء على البعض بحرف الواو، وهو لمطلق الجمع عند الجمهور دون الترتيب. الثاني: ما ذكره أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: تيمم فبدأ بذراعيه ثم بوجهه. فترك النبي صلى الله عليه وسلم الترتيب في التيمم، فلو كان شرطاً لما تركه. وإذا لم يكن شرطاً في التيمم لا يكون شرطاً في الوضوء لعدم القائل بالفصل. الثالث: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، نسي مسح الرأس في وضوئه فتذكره بعد فراغه فمسح ببلل كفه وهو دليل ظاهر على أن الترتيب ليس بشرط. الرابع: ما رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه أنه قال: "ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت" وكذلك روى عن ابن مسعود، وبه قال: سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والثوري رحمهم الله. الخامس: أن الركن تطهير الأعضاء وذلك حاصل بدون الترتيب ألا ترى أنه لو انغمس بنية الوضوء أجزأه ولم يوجد الترتيب. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} 2. الآية والفاء للتعقيب ويقتضي بداية الوجه عقيب القيام إلى الصلاة فيثبت الترتيب في الجميع لعدم القائل بالفصل. الجواب عنه: أن المذكور في الآية كلمتان الفاء والواو وهو لمطلق الجمع كما مر فكان العمل بهما أولى من ترك العمل بأحدهما فيكون مقتضى الآية إعقاب غسل جملة الأعضاء من غير اشتراط الترتيب. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور

_ 1 سور المائدة: الآية 6. 2سورة المائدة: الآية 6.

مواضعه، فيغسل وجهه، ثم يغسل ذراعيه، ثم يمسح برأسه، ثم يغسل رجليه، وكلمة ثم للترتيب. الجواب عنه: أن الحديث ليس بصحيح، ولو صح لحملت كلمة ثم على الواو كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} 1. توفيقاً بين هذا الحديث وبين ما روينا على أنه لو عمل بهذا الحديث يلزم الزيادة على الكتاب بخبر الواحد، فإنه يقتضي مطلق الجمع والزيادة نسخ فلا يجوز بخبر الواحد. الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "ابدؤوا بما بدأ الله تعالى" والله تعالى: بدأ بالوجه فيكون الترتيب شرطاً. الجواب عنه: أن الحديث وقع جواباً عن سؤال الصحابة حين اشتبه عليهم أمر البداية بالصفا والمروة، فقالوا: بماذا نبدأ يا رسول الله فلا تكون كلمة ما للعموم إذ لو كانت للعموم يلزم أن يكون الترتيب واجباً بين الصلاة والزكاة لأن الله تعالى بدأ بالصلاة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2. على أنه لا يمكن حمله على الترتيب لئلا يلزم الزيادة على الكتاب بخبر الواحد. مسألة: الخارج النجس من غير السبيلين كالدم، والقيح، والقيء، ملء الفم ينقض الوضوء عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وهو مذهب العشرة المبشرين بالجنة، وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وصدور التابعين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وغيرهم من جمهور العلماء. وعند الشافعي رحمه الله، لا ينقض.

_ 1 سورة يونس: الآية 46. 2 سورة البقرة: الآية 43.

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: الأول: ما رواه الدارقطني وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس فلينصرف وليتوضأ ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم". الثاني: ما رواه الدارقطني عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في القطرة والقطرتين وضوء إلا أن يكون سائلاً". الثالث: عن سلمان رضي الله عنه قال: قال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحدث لما حدث بك وضوءاً". الرابع: ما أخرجه الدارقطني، عن تميم الداري رضي الله عنه: "الوضوء من كل دم سائل". الخامس: عن زيد بن علي عن أبيه عن جده، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القلس حدث". رواه الخلال. السادس: عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاء فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال: "صدق أنا صببت له وضوءاً". رواه أحمد وقال: الترمذي: حديث حسين المعلم أصح شيء في الباب. السابع: ما رواه البيهقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "يعاد الوضوء من سبع من نوم غالب، وقيء ذارع، وتقطار بول، ودم سائل، ودسعة تملأ الفم، والقهقهة في الصلاة والإغماء". الثامن: عن علي رضي الله عنه حين عد الأحداث أو دسعة تملأ الفم وعن ابن عباس رضي الله عنهما "إذا كان القيء يملأ الفم أوجب الوضوء". قال: الخطابي: أكثر الفقهاء على انتقاض الوضوء بسيلان الدم، وهو أقوى في الاتباع وروى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا رعف انصرف وتوضأ، ثم رجع فبنى ولم يتكلم ولأن المؤثر في انتقاض الطهارة

خروج النجاسة من السبيلين وإليه الإشارة في قوله عليه الصلاة والسلام:: "فإنهما دم عرق انفجر" وقد وجد ذلك المعنى في الخارج النجس من غير السبيلين فوجد الانتقاض. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: ما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم: "احتجم وصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل حجامته". الجواب عنه: أن ما ذكرناه من الأحاديث قول وهذا فعل والقول مقدم على الفعل، أو نقول ما ذكرناه مثبت وهذا ناف والمثبت أولى من النافي، ولئن سلم التعارض فالترجيح فيما ذكرنا لأنه أحوط في باب العبادة، إذ المراد بالاحتجام قص الأظفار وحلق الشعر دفعاً للتعارض وهو لا ينقض الوضوء. الثاني: ما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم: قاء ولم يتوضأ. وروى عنه أنه قاء ولم يتوضأ، فغسل فمه فقيل له: ألا تتوضأ وضوء الصلاة فقال: "هكذا الوضوء من القيء". الجواب عنه: أن هذا الحديث غريب فلا يعارض ما ذكرناه، أو يحمل على ما دون ملء الفم توفيقاً بين الأحاديث وهو الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كثرة القيء إنما تنشأ من كثرة الأكل والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشبع مدة عمره، أو يحتمل أنه كان ذلك في غير وقت الصلاة؛ فلا يحتاج إلى الوضوء فاكتفى بذلك. الثالث: ما رواه أبو داود أن أنصاريا رمى في فيه في غزوة ذات الرقاع، فنزعه حتى رمى ثلاثة أسهم وهو في الصلاة فلم يقطعها فلما فرغ من صلاته نبه صاحبه المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله هلا نبهتني أول ما رميت؟ فقال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها. والجواب عنه: من وجوه:

الأول: أن الدماء التي خرجت من ثلاثة أسهم أصابت ثوبه وبدنه بلا شك ولا تجوز الصلاة معها بالاتفاق ولا يمكن إنكار ذلك فإنه قد رآه المهاجري بالليل حتى هاله ما رأى من الدماء فلما لم يدل مضيه في الصلاة على جواز الصلاة مع النجاسة كذلك لم يدل على أن الدم لا ينقض الوضوء. الثاني: أنه فعل واحد من الصحابة فلعله كان مذهباً له، أو كان غير عالم بحكمه ولم ينقل أنه عرف النبي صلى الله عليه وسلم حاله وقدره ولم ينكر عليه، أو يجعل له ذهول في ذلك الوقت غير كون الدم ناقضاً، ولئن سلم ففعل الصحابي ليس بحجة عند الشافعي فكيف يحتج به. الثالث: أن البخاري رواه تعليقا وهو ليس بحجة. الرابع: أنه لا معارضة بين ما ذكرنا من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وبين فعل الصحابي، ولو سلم التعارض فالترجيح معنا، لأن مذهبنا مروي عن أكثر الصحابة وهو أحفظ، وأحاديثنا أصح وأكثر والترجيح بالكثرة ثابت عندهم وعند بعض أصحابنا، لأن ما ذكرناه مثبت وما ذكره ناف والمثبت أولى. الحجة الرابعة له: أنه لو كان القيء الكثير مبطلاً للوضوء لكان القليل أيضاً مبطلاً له كالبول والغائط فلما سلم أبو حنيفة أن القليل غير ناقض لزم أن الكثير أيضاً غير ناقض. الجواب عنه: أن هذا قياس في مقابلة النص الذي ذكرنا فلا يقبل، أو نقول الفرق ثابت بين القليل والكثير، وهو أن الناقض هو الخارج النجس والفم له حكم الظاهر من وجه وحكم الباطن من وجه بدليل أن المضمضة لا تفسد صومه وكذا لو بلع بصاقه لا يفسد صومه أيضاً عملاً بالشبيهين فالقيء الكثير أعطى له حكم الخارج، فإنه يمكن ضبطه نظراً إلى الوجهين. ثم قال: دلائلنا نصوص ودليلكم قياس والنص أولى. فالجواب عنه: أن ما ذكرناه نصوص صحيحة وما ذكره ضعيف كما مر تحقيقه.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة مسألة: الصلاة في أول الوقت أفضل عند الشافعي رحمه الله، وعند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم يستحب الإسفار بالفجر، والإبراد بالظهر في الصيف وتقديمهما في الشتاء، وتأخير العصر ما لم يتغير قرص الشمس، وتعجيل المغرب، وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه في الإسفار بالفجر من وجوه: الأول: ما رواه أبو داود والترمذي عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: سمعت رسرل الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" وفي لفظ أبي داود: "أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم" قال: الترمذي هذا حديث حسن صحيح. الثاني: ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة قبل ميقاتها إلا صلاة الفجر صبيحة الجمعة فإنه صلاها يومئذ بغلس. ولفظ البخاري: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء وصلى الفجر قبل ميقاتها" يعني بمزدلفة. فدل أن المعهود إسفاره بها والتغليس كان بعذر الخروج إلى سفر. أو كان ذلك حين تحضر النساء المساجد ثم انتسخ ذلك حين أمرن بالقرار في البيوت. الثالث: ما رواه الطحاوي عن القضبي عن عيسى بن يونس عن إبراهيم قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر. وهذا لا يكون إلا بعد ثبوت نسخ التغليس عندهم. الرابع: مارواه الطحاوي عن شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صلى بنا أبو بكر صلاة الصبح فقرأ سورة آل عمران فقالوا: كادت الشمس تطلع فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين ولم ينكر عليه أحد.

الخامس: ما رواه الطحاوي عن السائب بن يزيد قال: صليت خلف عمر بن الخطاب الصبح فقرأ فيها البقرة فلما انصرفوا استشرقوا الشمس فقالوا ما طلعت فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين فكان يدخل فيها بغلس ويخرج منها بتنوير وكذلك كتب إلى عامله وهو اختيار الطحاوي. السادس: أن مكث المصلي في موضع صلاته حتى تطلع الشمس مندوب قال: صلى الله عليه وسلم "من صلى الفجر ومكث في مكان الصلاة حتى تطلع فكأنما أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل" وبالاسفار يمكن إحراز هذه الفضيلة وبالتغليس قل ما يتمكن منها. وأما الحجة على الأبراد بالظهر في الصيف فمن وجوه: الأول: ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم". الثاني: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم". قال: الترمذي هذا حديث حسن صحيح. الثالث: ما رواه الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر ومعه بلال فأراد أن يقيم، فقال: "أبرد" ثم أراد أن يقيم، فقال: "أبرد" ثم أراد أن يقيم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبرد" حتى رأينا فيء التلول. ثم أقام فصلى فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شدة الحر من فيح جهنم فأبردوا عن الصلاة". قال: حديث حسن صحيح. الرابع: قال: النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين وجهه إلى اليمن: "إذا كان الصيف فأبرد فإنهم يقيلون فأمهلهم حتى يدركوا وإذا كان الشتاء فصل الظهر حين تزول الشمس فان الليالي طوال". الخامس: أن فيتن التعجيل في الصيف تقليل الجماعات وإضرارا بالناس فإن الحر يؤذيهم.

وأما الحجة على تأخير العصر في الصيف والشتاء فمن وجوه: الأول: مارواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون" وأتيناهم وهم يصلون"وفيه دليل على أنه يستحب فعلهما في آخر الوقت حين تعرج الملائكة الثاني: ما رواه أبو داود عن علي بن شيبان قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية. الثالث: ما رواه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تعجيلا للظهر وأنتم أشد تعجيلا للعصر. الرابع: ما رواه الطحاوي عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال: كنا مع أبي هريرة رضي الله عنه في جنازة فلم يصل العصر وسكت حتى راجعناه مرارا فلم يصل العصر حتى رأينا الشمس على رأس أطول جبل في المدينة. الخامس: أن في تأخير العصر تكثير النوافل لأن أداء النافلة بعدها مكروه ولهذا كان التعجيل في المغرب أفضل لأن النافلة قبله مكروهة. السادس: أن المكث بعد العصر إلى غروب الشمس مندوب إليه قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى العصر ومكث في المسجد إلى غروب الشمس فكأنما أعتق ثمانية من ولد إسماعيل عليه السلام" وإذا أخر العصر يتمكن من إحراز هذه الفضيلة فيكون أفضل وقيل سميت العصر لأنها تعصر أي تؤخر. وأما الحجة على تعجيل المغرب فالمستحب تعجيلها مطلقا لقوله عليه الصلاة والسلام:: "لا تزال أمتي بخير ما لم تؤخر المغرب إلى أن تشتبك النجوم".

وأما الحجة على تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل فمن وجوه: الأول: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل" حديث حسن صحيح. الثاني: ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أخر العشاء إلى ثلث الليل ثم خرج فوجد أصحابه في المسجد ينتظرونه فقال: "أما إنه لا ينتظر هذه الصلاة إلى هذا الوقت أحد غيركم ولولا سقم السقيم وضعف الضعيف لأخرت العشاء إلي هذا الوقت". الثالث: ما رواه البخاري قال: سئل أنس رضي الله عنه هل اصطنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما؟ قال: نعم أخر الصلاة ليلة إلى شطر الليل فلما صلى أقبل بوجهه فقال: "إن الناس قد رقدوا وإنكم لن تزالوا في الصلاة ما انتظرتم الصلاة". الرابع: عن عائشة رضي الله عنها قالت أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فذهب عامة الليل ونام أهل المسجد ثم خرج فصلى فقال: "إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي". الخامس: كتب عمر رضي الله عنه إلي أبي موسي الأشعري أن صل العشاء حتي يذهب ثلث الليل. السادس: أن في التأخير قطع السمر المنهي بعد العشاء فانه عليه الصلاة والسلام كان لا يحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: أن العبادة في أول الوقت رضوان وهو أكبر الدرجات فيلزم أن تكون الصلوات أول الوقت أفضل. أما بيان أن العبادة في أول الوقت رضوان الله فإنه تعالى قال: حكاية عن موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ

رَبِّ لِتَرْضَى} 1 فعلم أن تعجيل العبادة سبب الرضوان وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "أول الوقت رضوان الله" فهذه الآية وهذا الحديث بهما علم أن تعجيل العبادة سبب الرضوان وأما بيان أن الرضوان أكبر الدرجات فلأنه تعالى قال: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} 2 فصح أن تعجيل الصلاة أعلى الدرجات. الجواب عنه: أن التعجيل إنما يكون سببا في العبادات التي ندب تعجيلها كالمغرب والظهر في الشتاء أما في العبادات التي ندب تأخيرها فالرضوان إنما هو باتباع النبي صلى الله عليه وسلم فانه سبب لمحبة الله تعالى قال: الله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 3 وقد أخرالنبي صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات وأمر بتأخير بعضها كما مر من قوله صلى الله عليه وسلم: "أسفروا بالفجر وأبردوا بالظهر" وحذر الله تعالى عن مخالفة أمره حيث قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 4 على أن التعجيل ليس بأولى في جميع العبادات بالإجماع فإن تأخير المغرب إلى مزدلفة واجب وتأخير الوتر مستحب فلما دل الدليل على استحباب تأخير بعض العبادات فقد خرج دليلكم عن الدلالة لأن الدليل قد دل على تأخير بعض الصلوات كما ذكرناه فيجب إعمال دليلكم في غير ما دل دليلنا عليه عملا بالدليلين على أن الآية فيها إنكار التعجيل في نفسه حيث قال: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ} 5وحديث أول الوقت رضوان ضعيف الحجة. الثاني: أن الله تعالى أمر بتعجيل العبادة ورغب فيها بأربع آيات الأولى بقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} 6 والثانية: بقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} 7 الثالثة: مدح

_ 1 سورة طه: الآية 84. 2 سورة التوبة: الآية 72. 3 سورة آل عمران الآية 31. 4 سورة النور: الآية 63. 5 سورة طه: الآية 83. 6 سورة آل عمران: الآية 133. 7 سورة الحديد: الآية 21.

الأنبياء به وقال: تعالى {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} 1 والرابعة بقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} 2 وهذه النصوص قاطعة دالة على أن تعجيل العبادة في غاية الفضيلة. الجواب عنه: أن ما ذكرنا من الأدلة صريحة على استحباب التأخير في بعض العبادات وهذه الآيات ليست بصريحة على استحباب تعجيلها فيحمل على استحباب ما اتفق العلماء على تعجيله عملا بالدليل على أن قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ, وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} نكرة في الإثبات فلا تقتضي العموم: وباقي الآيات وإن كانت عامة لكنها خصت عنها المواضع التي ندب التأخير فيها بالإجماع فليخص بما ذكرناه من الأدلة المتنازع فيها إذ العام إذا خص منه البعض يخص الباقي بخبر الواحد فبقي تحته المواضع التي لم يدل الدليل على تأخيرها. الثالث: أن الصحابي الذي تقدم إيمانه أفضل من غيره قال: الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأول: ونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ3} وإذا كان السبق في الإيمان سببا لزيادة الفضيلة والرضى فكذا السبق في الطاعة التي هي ثمرته. الجواب عنه: أن قياس الطاعة على الإيمان قياس في مقابلة النصوص الدالة على استحباب تأخير بعضها لما ذكرنا فلا يقبل على أن هذا قياس مع الفارق فان الإيمان حسن في جميع الأوقات والكفر قبيح في كلها فلا يجوز تأخير الإيمان بخلاف غيره من الطاعات. الرابع: قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ , أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 4 وهذا نص قاطع فيمن يكون سابقا في العبادة يكون مقربا إلى حضرة الله تعالى.

_ 1سورة الأنبياء: الآية 90 2 سورة البقرة: الآية 148 3سورة التوبة: الآية 100 4سورة التوبة: 10

الجواب عنه: أن المفسرين قد اختلفوا في المراد من السابق فقيل المراد بالسابق في الإيمان وقيل في الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: السابق في طلب معرفة الله تعالى فلا تكون الآية دليلا على تعجيل العبادة فتحمل على عبادة لم يدل الدليل على تأخيرها عملا بالدليلين. الخامس: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} 1 قال: المفسرون أشار بقوله {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} إلى صلاة الظهر والعصر وأشار بقوله: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} يعني ظلمته إلى صلاة المغرب والعشاء وأشار بقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} إلى صلاة الصبح ثم قال: {كَانَ مَشْهُوداً} يعني صلاة الفجر مشهود بحضور الملائكة وهم الشهداء ومعلوم أن هذا المعنى إنما يمكن إذا أدى الفجر في الغلس أول الصبح لتحضر ملائكة النهار. الجواب: أن هذا الاستدلال تكلف بعيد لا نترك به الدلائل الصريحة ولا نسلم أن كون الفجر مشهودا لا يمكن إلا بالصلاة في الغلس فإن قيل إن المراد بكونه المشهود إنه يشهده الكثير من المصلين في العادة وذلك يقتضي أن تؤخر لتكثير الجماعة فإنه وقت النوم والقيام منه ولهذا قيل قوله {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} حث على طول القراءة وقد قال: الطحاوي: من أصحابنا إنه إذا أراد تطويل القراءة يدخل في الغلس ويخرج في الإسفار جمعا بين الدلائل. السادس: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله" ورضاه أفضل من عفوه لأن الرضى للمطيعين والعفو للمقصرين. الجواب عنه: هذا الحديث رواه يعقوب بن الوليد عن العمري وهما ضعيفان قال: أحمد بن حنبل رحمه الله لا أعرف شيئا يثبت في أوقات الصلوات أولها أو آخرها يعني الرضوان والعفو وإن صح فنقول: المراد

_ 1سورة الإسراء: الآية 78

بالعفو هو الفضل قال: الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 1 أي الفضل من المال ولا يجوز أن يحمل العفو هنا على التجاوز عن التقصير فقد ذكر في إمامة جبريل عليه السلام تأخير أداء الصلوات في اليوم الثاني: إلى آخر الوقت ولايجوز أن يقصر جبريل ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فيه تقصير يحتاج إلى العفو على أن مذهبنا ليس فيه أداء الصلاة في آخر الوقت بل وسطه حتى قلنا إن أداء الصلاة بعد تغيير قرص الشمس مكروه فيكون من قبل عفو الله تعالى وكذا تأخير العشاء والمغرب إلى آخر وقتهما فنحن قائلون بموجب دليلكم وفي التحقيق ما قلناه أولى لأنه أوسط الأمور وهو الذي أشار إليه جبريل عليه السلام بقوله: [والوقت ما بين هذين الوقتين لك ولأمتك] أي وقت الاستحباب والأول: وية إذ الجواز ثابت في أول الوقت وفي آخره فلو كان أول الوقت أولى لكان ينبغي لجبريل عليه السلام في معرض التعليم أن يقول أول الوقت وقت لك ولأمتك. السابع: المسافر له الإفطار والصوم في رمضان وقد اتفقنا على أن تعجيل الصوم أفضل قال الله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2 فعلم أن تأخير الصلاة وإن كان جائزا ولكن الأفضل تقديمها. الجواب: أن هذا قياس في مقابلة النصوص الدالة على استحباب تأخير بعض الصلوات فلا يقبل مع أن الفرق بين الصوم والصلاة ثابت وهو أن في تعجيل الصوم أداءها في وقته وفي تأخيرها قضاءها في أيام أخر والأداء أفضل من القضاء ولا يلزم من تأخير الصلاة إلى الوقت المستحب قضاء. الثامن: أن التعجيل حرفة العباد المخلصين والتأخير حرفة الكسالى المقصرين ولا شك أن الأول: أفضل وقد ذم الله تعالى وأوعد الكسالى في الصلاة وقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ, الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} 3 فإذا

_ 1سورة البقرة: الآية 219 2سورة البقرة: الآية 184 3سورة الماعون: الآية 4

كان كذلك كان التقديم أفضل. الجواب عنه: أن حرفة المخلصين الاتباع في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وهو ما ذكرنا وهو واضح لمن تأمل وترك التعصب وحرفة المقصرين التأخير عن وقت الاستحباب لا التأخير لإدراك الفضيلة والوعيد لقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ, الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} لأجل اشتغالهم بأمور تلهيهم عن أداء الصلاة في أوقاتها ولا دلالة للاية على مذهب الخصم وهو ظاهر لا يخفى على المنصف. ثم قال: يفرض في مذهب الشافعي رحمه الله في ركعتين خمسة وثلاثون شيئا النية وتكبيرة الافتتاح والجمع بين النية والتكبيرة والقيام وقت القراءة وقراءة فاتحة الكتاب في جميع الركعات والركوع والطمأنينة فيه والقومة من الركوع والطمأنينة فيها والسجود والطمأنينة فيه والرفع من السجود والطمأنينة فيه والسجدة الثاني: ة والطمأنينة فيها والترتيب بين هذه الأركان والموالاة ومجموع هذه الأركان سبعة عشر في الركعة الأول: ى وفي الركعة الثاني: ة تسقط من هذا المجموع ثلاثة وهي النية والتكبير والجمع بينهما وتبقى أربعة عشر إذا ضمت مع ما في الأول: ى يصير المجموع إحدى وثلاثين وأربعة أخرى تفرض في التشهد وهي القعدة وقراءة التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام للخروج وإذا ضمت هذه الأربعة مع السابع: ة يصير المجموع خمسة وثلاثين فهذه هي أركان الصلاة عنده تفرض رعايتها فإن وقع الخلل في واحدة منها تبطل الصلاة وعند الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه جميع هذه الأشياء ليس من الأركان بل الأركان منها ستة والباقي من الواجبات والسنن وعند أبي حنيفة لا تشترط المقارنة بين النية والتكبير حتى لو نوى حين توضأ في بيته ولم يشتغل بعده بشيء يقطع النية جاز وتجعل المقدمة كالقائمة عند التكبير حكما كما في الصوم ولا يشترط عند أبي حنيفة رضي الله عنه تعيين لفظة التكبير حتى لو قال: بدلا منه الله أجل أو أعظم أو الرحمن أكبر أو لا إله إلا الله جاز لأن التكبير هو التعظيم لغة قال: الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} 1 أي

_ 1سورة يوسف: الآية 31

عظمنه وقال: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} 1 أي فعظم والتعظيم حاصل بقوله الله أعظم ولأن الركن ذكر الله على وجه التعظيم وهو الثابت بالنص قال: الله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} 2 وإذا قال: الله أعظم فقد وجد ما هو الركن وأما لفظ التكبير فثابت في الخبر فيعمل به حتى يكره غيره لمن يحسنه ولكن الركن ما هو الثابت بالنص ثم من قال: الرحمن أكبر فقد أتى بالتكبير قال: الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3 وروى مجاهد أن الأنبياء صلوات الله عليهم كانوا يفتتحون الصلاة بلا إله إلا الله وكذا تعيين قراءة الفاتحة ليس بفرض عند أبي حنيفة رحمه الله وهي واجبة والفرض مطلق القرآن لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 4 في الأول: يين ولو لم يقرأ في الأخريين بشيء جاز لقوله عليه الصلاة والسلام::"القراءة في الأوليين قراءة في الأخريين" والقومة من الركوع ليس بواجب عنده وكذلك الرفع من السجود والطمأنينة فيها ليس بفرض وكذا قراءة التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس بفرض وكذا لفظة السلام حتى لو قعد مقدار التشهد وتعمد الحدث أو عمل ما ينافي الصلاة تتم صلاته. حجة الشافعي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم في مدة ثلاث وعشرين سنة صلى وقد اتفق المسلمون أن صلاته لم تخل عن جميع ما ذكرنا من خمس وثلاثين خصلة وكل شيء فعله النبي صلى الله عليه وسلم يجب علينا المتابعة فيه قال: الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 5 وقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ففي هذا الحديث دليل ظاهر على وجوب هذه الأركان نعم لو قام دليل من الآية أو الخبر على أن بعض هذه الأشياء ليس من الأركان نقره بذلك.

_ 1سورة المدثر: الآية 3. 2سورة الأعلي: الآية 15. 3سورة الإسراء الآية 110. 4سورة المزمل: الآية 20 5سورة آل عمران: الآية 31

الجواب عنه: أنه يجب علينا متابعة النبي صلى الله عليه وسلم على الصفة التي فعلها ولم يدل دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذه الأشياء على أنها من الأركان ولو كان جميع مافعل النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ركنا لكان ينبغي أن يكون رفع اليدين في تكبيرة الافتتاح وفي كل خفض ورفع عنده والثناء في الافتتاح والتحميد والتسميع وتسبيحات الركوع والسجود وسائر ما فعله من الآداب أيضا من الأركان لعين ما ذكره الخصم لأن النبي صلى الله عليه وسلم مدة ثلاث وعشرين سنة فعله واتفق المسلمون على ذلك فلما لم تجعل هذه الأشياء من الأركان دل على أن ما ذكره من الدليل لا يصلح أن يكون دليلا على إثبات ركنية جميع ما جعله ركنا فكما قام الدليل عنده على كون هذه الأشياء ليس من الأركان فكذلك قام الدليل عند خصمه على كون بعض ما ذكره من الأركان ليس من الأركان على أن الركنية لا تثبت إلا بدليل قطعي وفي كون فعل النبي صلى الله عليه وسلم موجبا خلاف المعروف عند أهل الأصول فكيف يصلح دليلا على الركنية نعم إذا واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعل ولم يتركه ولم يدل دليل آخر على عدم الوجوب دل على الوجوب ونحن نقول بموجبه دون الركنية. مسألة: قراءة فاتحة الكتاب لا يتعين ركنا في الصلاة بل الركن مطلق القراءة وتعيين الفاتحة واجب في مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله قراءة الفاتحة ركن في الصلاة. حجة الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: الأول: قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 1 مطلق فتعيين الفاتحة يكون زيادة على هذا النص وهو نسخ فلا يثبت بخبر الواحد. الثاني: ما رواه البخاري ومسلم في حديث الأعرابي الذي صلى وخفف فجاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه الصلاة والسلام قال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" ثلاث مرات فقال: الرجل والذي بعثك بالحق ما أحسن غير

_ 1سورة المزمل: الآية 20

هذا فعلمني فقال: "إذا قمت في الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع" إلى آخر الحديث فلو كان قراءة الفاتحة ركنا لعلمه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان في معرض بيان الأركان وتعليمها فدل على أن الركن مطلق القراءة: الثالث: ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرج فناد في المدينة لا صلاة إلا بالقرآن ولو بفاتحة الكتاب". حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم في مدة ثلاث وعشرين سنة صلى وقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته فيجب متابعته على جميع الناس لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} 1 فظهر أنه لا تجوز الصلاة بدون الفاتحة إذ لو كانت الصلاة جائزة بدونها لكان النبي صلى الله عليه وسلم يتركها مرة فإذا لم يتركها مرة علم أن الصلاة بدونها لا تجوز. الجواب عنه: ما مر أن المواظبة تدل على الوجوب دون الركنية ونحن نقول بموجبه فإن الفاتحة عندنا واجبة ولا يلزم من كونها واجبة أن تبطل الصلاة بتركها وإذا لم يتركها النبي صلى الله عليه وسلم لكونها واجبة وتركه الواجب قصدا لا يجوز فنحن نقول بالإجماع على الصفة التي أتى أتى بها. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال: الرحمن الرحيم يقول الله تعالى مجدني عبدي وإذا قال: مالك يوم الدين يقول الله تعالى أثنى علي عبدي وفوض أمره إلي فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل" المقصود من هذا الخبر أن الله تعالى قال: قسمت الصلاة نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي وهذه القسمة بناء على قراءة الفاتحة

_ 1سورة الأنعام: الآية 153

في الصلاة فلو صحت الصلاة بدونها لما صحت هذه القسمة. الجواب عنه: المراد بالصلاة في هذا الحديث الفاتحة مجازا لأن الصلاة لا تجوز عنده ولا تكمل عندنا إلا بها فوجدت المناسبة بينهما ثم هذه القسمة لا تختص بالصلاة فإن الفاتحة تحميد وتمجيد وثناء ودعاء مطلقا سواء كان في الصلاة أو في غيرها فإذا قرأ العبد فاتحة الكتاب خارج الصلاة تصح هذه القسمة أيضا فلا تتعين كونها في الصلاة ولئن سلم كونها في الصلاة فلا تثبت الركنية بمثله إذ الركنية بخبر الواحد الصريح لاتثبت فبالمحتمل بطريق الأول: ى فغاية الحديث على تقدير التسليم أن تقتضي الوجوب فنحن نقول بموجبه: الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب". الجواب عنه: أن الركنية لا تثبت بخبر الواحد بل يثبت به الوجوب فالذي ذهبنا إليه عمل بالكتاب والسنة حيث قلنا إن مطلق القراءة ركن بالكتاب وهو قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 1 وتعيين الفاتحة واجب بالحديث عملا بالدليلين بقدر قوتهما والخصم مذهبه ضعيف من وجهين: الأول: أنه حط رتبة الكتاب حيث زاد عليه بخبر الواحد. والثاني: أنه رفع رتبة خبر الواحد حيث جعله ناسخا لإطلاق الكتاب التحقيق فيما قلناه حيث جمعنا بينهما وحملنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" على نفي الكمال دون نفي الجواز فإن الصلاة بدون الفاتحة ناقصة عندنا وإليه الإشارة في قوله عليه الصلاة والسلام: "كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج" الخداج عبارة عن النقصان مع بقاء الذات دون البطلان كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" الرابع: جميع أهل الشرق والغرب والموافق والمخالف يقرؤون بفاتحة

_ 1سورة المزمل: الآية 20

الكتاب في الصلاة فالمخالف لهم يدخل تحت الوعيد لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} 1 الآية. الجواب عنه: إنما لم نترك الفاتحة قصدا في الصلاة لأنها واجبة عندنا وترك الواجب قصدا لا يجوز فلا نكون مخالفين ولكن الكلام في كونها ركنا أو غير ركن ودليلكم لم يدل على كونها ركنا على أنا نعارضه بالمثل بأن نقول إن أهل الشرق والغرب كلهم يسبحون في الركوع والسجود فيقتضي أن تكون تسبيحات الركوع والسجود ركنا والمخالف لهم يدخل تحت هذا الوعيد فكل جواب للخصم في تلك الصورة فهو جواب لنا في هذه على أنه قد عرف بأنه قيل إن المراد بسبيل المؤمنين الإيمان فاتباع غير سبيل المؤمنين الكفر فيكون الوعيد للكفار لا لمن ترك الفاتحة في الصلاة والشافعي رحمه الله استدل به على كون الإجماع حجة وما سلم له الإستدلال به على ذلك فكيف نسلم استدلال الرازي به على كون الفاتحة ركنا في الصلاة وهو يعلم بضعف هذه الأدلة ولعل غرضه ترويج مذهبه على المقلدين فإنه يعلم قطعا أن كل شيء يفعله جميع المسلمين في الصلاة لا يقتضي أن يكون ركنا فيها. الخامس: أن قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 2 في الحقيقة حجة للشافعي رحمه الله تقريره أن الخطاب بقوله فاقرؤوا متوجه إلى جميع الأمة فما تيسر لجميع الأمة يكون مراده به وقراءة الفاتحة متيسرة لهم فعلم أن هذا دليل ظاهر على أن الفاتحة ركن في الصلاة. الجواب عنه: أن قول: {مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أعم من أن يكون فاتحة الكتاب أو غير ذلك كسورة الإخلاص والكوثر والعصر وغيرها كما أن الفاتحة متيسرة لهم فكذلك سورة الإخلاص فتعيين الفاتحة بالإرادة من الآية دون

_ 1سورة النساء: الآية 115 2سورة المزمل: الآية 20

سورة الإخلاص وغيرها ترجيح بلا مرجح وتخصيص بلا مخصص وهو مكابرة ظاهرة. مسألة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ليست آية من الفاتحة بل هي آية مستقلة من القرآن أنزلت للفصل بين السور عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله هي آية من الفاتحة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فاذا قال: الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدني عبدي" إلى آخر الحديث الاحتجاج به من وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر التسمية فلو كانت آية من الفاتحة لذكرها والثاني: أنه تعالى قال: "جعلت الصلاة" أي الفاتحة كما مر "بيني وبين عبدي نصفين" وهذا التنصيف إنما يحصل إذا قلنا إن التسمية ليست آية من الفاتحة لأن الفاتحة سبع ايات فيكون لله ثلاث ايات ونصف وهو من قوله: الحمد لله إلى قوله إياك نعبد وللعبد ثلاث آيات ونصف وهو من قوله: وإياك نستعين إلى آخر السورة فإذا جعلنا التسمية آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف وللعبد إثنان ونصف وذلك يبطل التنصيف. الثالث: ماجاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين فلو كانت التسمية آية منها لافتتح الصلاة بها. الرابع: نقل أهل المدينة بأسرهم عن ابائهم التابعين عن الصحابة رضي الله عنهم افتتاح الصلاة بالحمد لله رب العالمين.

الخامس: أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ولا تواتر بكونها آية من الفاتحة. السادس: أن العلماء اختلفوا في كونها أنها من الفاتحة وسوغوا الخلاف فيه وأدنى درجات الخلاف إيراث الشبهة والقرآن لا يثبت بدون اليقين. حجة الشافعي رحمه الله: أن التسمية مكتوبة بخط المصحف فإنهم كانوا يشددون في منع كتابة ما ليس من القرآن مبالغة في حفظ القرآن وصيانته وتمييزه عما ليس منه. الجواب عنه: أن القرآن يشترط فيه التواتر في المحل وعدم تواترة في المحل دليل على أنه ليس آية من الفاتحة فلا يثبت كونها من الفاتحة بالاحتمال غاية ما ذكرتم أن تقتضي كونها آية من القرآن وهو مسلم عندنا ولكن مطلوبكم كونها من الفاتحة ودليلكم لا يدل على ذلك وأما المعوذتان فلا خلاف في كونها من القرآن وغاية الأمر أنهما لم توجدا في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه وذلك لا يدل على أنهما ليسا من القرآن فإن عدم كتابته بناء على وضوح أمرهما فإنه لم يصرح بأنهما ليسا من القرآن وقد وقع الإجماع والتواتر على أنهما من القرآن والله أعلم. مسألة: لا يجب على المقتدي أن يقرأ الفاتحة أو القراءة خلف الإمام لا في صلاة سر ولا جهر عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم ومذهب الشافعي رحمه الله أن يقرأ الفاتحة إذا قرأ الإمام سرا أو جهرا وهو قول مالك رضي الله عنه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: الأول: ما رواه الترمذي عن أبي نعيم وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول من صلى ركعة ولم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا أن يكون وراء الإمام قال: ابن عبد البر رواه يحيى بن سلام عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "من كان له إمام فقراءة الإمام له

قراءة" حكاه الخطابي. الثالث: ما رواه مسلم عن عطاء بن يسار أنه أخبره أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء وكفى بزيد بن ثابت قدوة. الرابع: ما رواه الطحاوي عن يونس بن وهب أن مالكا حدثه عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل هل يقرأ خلف الإمام؟ فيقول: إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام. الخامس: ما رواه مسلم "وإذا قرأ فأنصتوا". حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وقال: الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا1} فيجمع بين الخبر والآية فتحمل الآية على الصلاة جهرا والخبر على الصلاة سرا وأيضا يمكن الجمع بينهما بأنه إذا قرأ الإمام جهرا وسكت بين الفاتحة والقراءة يقرأ المقتدي الفاتحة في تلك الوقفة حتى يكون عملا بالحديث والآية. الجواب عنه: يمكن العمل بهما بأن يحمل الخبر على الإمام أو المنفرد والحديث الذي ذكرناه وهو قوله إلا أن يكون وراء الإمام يدل على ذلك والآية على المقتدي. الحجة الثانية: أن صلاة السر إذا لم يقرأ فيها المقتدي ولا يستمع كان معطلا غير مشغول بالقراءة والاستماع والصلاة موضع العبادة دون التعطيل. الجواب عنه: أنه لما جعل قارئا حكما بقراءة الإمام لا يكون معطلا. مسألة: لو صلى إنسان في ليلة مظلمة أو حالة الاشتباه بالتحري إلى جهة ثم تبين أنه أخطأ في اجتهاده لا يعيد الصلاة عند أبي حنيفة وأصحابه رضي

_ 1سورة الأعراف: الآية 204

الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله يعيدها إذا استدبر القبلة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما رواه الترمذي عن عامر بن ربيعة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل على حياله فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 أي قبلته والمراد به حالة الإشتباه والنص والحديث مطلقان فلا يجوز تقييدهما بغير المستدبر ولأن المصلي مأمور بالتحري والاجتهاد حالة اشتباه القبلة والتكليف بحسب الوسع وقد أتى بما هو في وسعه وهو التوجه إلى جهة التحري والإتيان بالمأمور به كاف في الإجزاء فلا يجب عليه الإعادة كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 2 والذي قصد غير القبلة في إتيان المأمور به فلا بد من الإعادة. الجواب عنه: أن التوجه قابل بالنقل من جهة إلى أخرى ولهذا حول من الكعبة إلى بيت المقدس ثم منها إلى الكعبة ثم من عين الكعبة إلى جهاتها للبعيد عنها ثم إلى جهة التحري حالة الاشتباه ثم إلى أي جهة قدر حالة الخوف وأي جهة توجهت دابته في النفل فإذا صلى إلى جهة التحري فقد صلى متوجها إلى ما هو قبلة في حقه في تلك الحالة فلا يجب عليه الإعادة بخلاف طهارة الثوب والإناء ونجاستهما فإنهما لا يحتملان الانتقال: والتحول من موضع إلى آخر فإذا تبين أنه صلى في الثوب النجس أو توضأ من الإناء النجس تجب عليه الإعادة لذلك فافترقا. مسألة: المطيع والعاصي في رخصة السفر سواء عند أبي حنيفة وأصحابه

_ 1سورة البقرة: الآية 115 2سورة البقرة: الآية 144.

رحمهم الله وعند الشافعي رحمه الله سفر المعصية لا يفيد الرخصة فعلى هذا إذا أبق العبد من المولى أو سافر جماعة لنهب البلاد أو قطع الطريق لهم أن يقصروا الصلاة الرباعية ويفطروا في رمضان ويأكلوا الميتة إذا اضطروا إلى ذلك على المذهب الأول: دون الثاني. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إطلاق النصوص وهو قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر} 1 وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} 2 الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: "فرض المسافر ركعتان" فتقييد هذه النصوص بسفر الطاعة أو سفر المباح تحتاج إلى دليل ولأن نفس السفر ليس بمعصية وإنما المعصية مجاوره فصار كما لو سافر إلى الحج أو التجارة وهو يقطع الطريق أو يشرب الخمر أو يزني. حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 3 فشرط في الرخصة كونه غير باغ ولا عاد فإذا كان باغيا أو عاديا لا تصح له الرخصة. الجواب عنه: أن على قول أكثر أهل التفسير اختص قوله غير باغ ولا عاد بالأكل ومعناه غير باغ على مضطر آخر بالأخذ منه والاستئثار عليه ولا عاد في شدة الجوعة والأكل فوق العادة فإذا احتمل هذا لا يصلح حجة للخصم. الثاني: أن الرخصة إعانة على ذلك العمل فلو كان سفر المعصية سببا للرخصة كان إعانة عليها. الجواب عنه: أن الرخصة لطف من الله تعالى لعباده والله تعالى كريم لا يمنع الرزق من الكافر الذي هو سبب لبقائه في الكفر فكيف يمنع عن

_ 1سورة البقرة: الآية 184 2سورة المائدة: الآية 3. 3سورة البقرة: 173

الفاسق رخصته وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب أن يؤتى برخصه كما يحب أن يؤتى بعزائمه وهذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" مسألة: إذا ماتت المرأة لا يحل لزوجها غسلها عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله يحل وأجمعوا أنه إذا مات الرجل يحل لها غسله. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن المرأة لم تبق محلا للنكاح بعد موتها فلم تبق الزوجية فلا يحل له النظر إلى عورتها لقوله عليه الصلاة والسلام: "غض بصرك إلا عن زوجتك" وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة تموت بين الرجال فقال: تيمم بالصعيد ولم يفرق بين أن يكون فيهم زوجها أو لا يكون والدليل على أن النكاح ارتفع بموتها صحة التزويج بأختها وأربع سواها بخلاف موت الزوج لأن محل النكاح هي المرأة فيمكن إبقاء النكاح في حق هذا الحكم لبقاء محله لحاجته كما بقيت مالكيته بعد موته بقدر ما يقتضي به حوائجه من التجهيز والتكفين وقضاء الديون وتنفيذ الوصايا ولهذا تجب عليها العدة ولا يحل لها أن تتزوج قبل انقضاء العدة وهي أثر النكاح والشيء يعد باقيا ببقاء أثره فأما بعد موتها فلا يمكن بقاء النكاح بوجه لاستحالة بقاء الشيء بدون محله. حجة الشافعي رضي الله عنه من وجه: الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك" فإذا جاز ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جاز لأمته متابعة له. الجواب عنه من وجهين: الأول: أن زوجية النبي صلى الله عليه وسلم مسخرة لا تنقطع بالموت لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي" فيكون ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فلا تجوز فيها المتابعة.

الثاني: أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "غسلتك" أي قمت في تهيئة أسباب غسلك وأمرت به كما يقال: بني السلطان المدرسة. الوجه الثاني: ما روى عن علي رضي الله عنه أنه غسل فاطمة رضي الله عنها ولم تنكر عليه الصحابة فدل على الجواز. الجواب عنه: أنه قد روي أن فاطمة رضي الله عنها غسلتها أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم والدة أسامة بن زيد رضي الله عنه ولو ثبت أن عليا رضي الله عنه غسلها فقد روى أنه أنكر عليه بعض الصحابة واعتذر علي رضي الله عنه عن ذلك حين أنكره عليه ابن مسعود رضي الله عنه بقوله أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: "إن فاطمة زوجتك في الدنيا والآخرة" فإنكار ابن مسعود واعتذار علي رضي الله عنهما بذلك الجواب دليل ظاهر على أنه لا يجوز للرجل أن يغسل امرأته بعد موتها. الثالث: قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} 1 يدل على بقاء الزوجية فيجوز له غسلها. الجواب عنه: أن التسمية بالزوج باعتبار ما كان لا تقتضي بقاء الزوجية بعد فوات المحل والإرث بناء على السبب السابق على الموت ولو كانت الزوجية باقية لما جاز نكاح أختها والأربع سواها.

_ 1سورة النساء: الآية 12

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة مسألة: إذا هلك النصاب بعد وجوب الزكاة سقطت عند أبي حنيفة رضي الله عنه وأصحابه وقال: الشافعي رحمه الله: إذا هلك بعد التمكن من الأداء لا تسقط فيضمن قدر الزكاة. حجة أبي حنيفة من وجهين: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "هاتوا ربع عشر أموالكم" وربع الشيء لا يبقى بدونه فالواجب من النصاب تحقيقا لليسر فيسقط بهلاك محله كالعبد الجاني أو العبد المديون إذا مات سقط عن المولى الدفع بالجناية والدين لفوات محله أو كالشقص1 الذي فيه الشفعة إذا صار بحرا بطل فيه جزء الشفعة. الثاني: أن الشرع أوجب الزكاة بصفة اليسر وبهذا خص الوجوب بالمال النامي بعد الحول والحق متى وجب بصفة لا يبقى بدونها تحقيقا لليسر فلو بقي الوجوب بعد هلاك النصاب انقلب غرامة وهي لا تجب إلا بالتعدي ولم يوجد لأن الأداء غير موقت فلا يكون متعديا بالتأخير. حجة الشافعي رحمه الله من وجهين: الأول: أنه بعد ما حال الحول على النصاب وهو قادر على الأداء وتوجه عليه الخطاب بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2 فاذا لم يؤد كان مانعا للزكاة ولا يسقط عنه الخطاب والتكليف فيؤخذ منه لقوله عليه الصلاة والسلام: "من منع منا الزكاة فإنا نأخذها منه". الجواب عنه: أن الخطاب بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} مطلق عن

_ 1الشقص بكسر الشين المعجمة وسكون القاف القطعة من الأرض "لسان العرب – مادة شقص". 2سورة البقرة: الاية 43

الوقت لليسر فلا يكون الوجوب على الفور كي لا يصير عسرا منافيا لليسر وبهذا لا يصير قضاء بالتأخير فلا تصير مقصرا بالتأخير فلا يضمن لعدم التعدي لأنه إنما يصير متعديا لو امتنع عن الأداء بعد طلب من له الحق ولم يصر متعينا للطلب إذ المستحق فقير يعينه المالك بالأداء ولم يوجد وبعد طلب الساعي في المواشي إن امتنع من الأداء حتى هلك المال قال: مشايخ العراق يضمن لأن الساعي متعين للأخذ فيصير بالامتناع منه مفوتا فيضمن وقال: غيرهم من المشايخ لا يضمن وهو الأصح لانعدام التعيين لأن الرأي للمالك في اختيار المحل إن شاء أدى عين السائمة وإن شاء أدى قيمتها فلا يصير الحق متعينا إلا بأداء فلا يضمن بخلاف ما لو استهلك لأنه وجد التعدي فيضمن. الثاني: أن وجوب الزكاة تقرر عليه بالتمكن من الأداء ومن تقرر عليه الوجوب لا يبرأ بالعجز عن الأداء بهلاك المال كما في ديون العباد إذا أفلس لا يسقط بالعجز حتى لو ملك مالا آخر يجب الأداء منه. والجواب عنه: بالفرق بين ديون العباد والزكاة وهو أن ديون العباد متعلقة بالذمة دون عين المال وذمته باقية بعد هلاك المال فيبقى الدين ببقاء محله وأما الزكاة فمتعلقة بعين المال لأن الواجب جزء منه ولهذا جعل النصاب ظرفا للواجب قال: الله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 1 وقال عليه الصلاة والسلام: "في الورق أي الفضة ربع العشر وفي أربعين شاة شاة وفي خمس من الإبل شاة" فتسقط بهلاك محله فافترقا. مسألة: لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم وهو مذهب أكثر الصحابة والتابعين وحكى الحسن البصري فيه إجماع الصحابة رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله تجب

_ 1سورة المعارج: الآية 25

الزكاة في مالهما ويخاطب المولى أو الصبي بالأداء أو يخاطب الصبي بأداء زكاة ما مضى بعد البلوغ. حجة أبو حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى ينتبه وعن المجنون حتى يفيق" وفي إيجاب الزكاة في مالهما إجراء القلم عليهما ولأن الصبي ليس بأهل للخطاب بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1 وكذا المجنون لأنهما لا يخاطبان بالصلاة وسائر العبادات فلا يخاطب الولي باخراج زكاة مالهما إذ الولي لا يخاطب بأداء مالا يجب عليهما. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة شاة وفي الرقة ربع العشر وفي خمس من الإبل شاة وفي عشرين مثقالا نصف مثقال" وهذه النصوص عامة في حق البالغ والصبي والعاقل والمجنون. الجواب عنه: أن هذه النصوص لم تتناولهما لأنهما مرفوع عنهما القلم وإن قال والزكاة واجب في المال لا على الصبي والمجنون قلنا هذا منقوض بمال الجنين فإنه لا تجب الزكاة فيه على الذهب عندكم ذكره النووي رحمه الله في شرح المهذب مع وجود المال. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "ابتغوا في أموال اليتامى خيرا لا تأكلها الصدقة". الجواب عنه: أن هذا الحديث ضعيف لأن مداره على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب قال أحمد رحمه الله: لا يساوي شيئا وقال النسائي: متروك الحديث وقال يحيى: ليس بشيء ولئن سلمنا صحته فتأويله أن المراد بالصدقة النفقة فإن نفقة المرء على نفسه صدقة على ما جاء في الخبر والدليل علي صحة هذا التأويل أنه

_ 1سورة البقرة: الآية 43

أضاف الأكل إلى جميع المال والنفقة هي التي تأكل جميع المال دون الزكاة أو المراد بالصدقة صدقة الفطر والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "من ولى يتيما" فيلزم في ماله التثمير بالتجارة لأن التزكية اسم للتثمير فإن الزكاة عبارة عن الزيادة. الثالث: أن عليا رضي الله عنه أوجب الزكاة على الصبي والمجنون وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار". الجواب عنه: أنه قد روي عن علي رضي الله عنه أنه لا تجب الزكاة عليهما ولئن صح النقل عنه فهو معارض لقول سائر الصحابة وقد نقل إجماع الصحابة على عدم الوجوب وأيضا قول الصحابي ليس بحجة عند الخصم. الرابع: أن الصبي والمجنون إذا كانا من الأغنياء دخلا تحت الخطاب بقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ: "خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم". الجواب: ما مر من أن الصبي والمجنون ليسا من أهل الخطاب فلا يخاطبان بالزكاة. الخامس: أنه يجب على الصبي والمجنون العشر في أرضهما وصدقة الفطر في مالهما بالإجماع وكذا الزكاة والجامع دفع الحاجة عن الفقير. الجواب عنه: بالفرق وهو أن الزكاة عبادة خالصة فلا تجب عليهما كسائر العبادات بخلاف العشر فانه ليس بعبادة خالصة بل فيه معنى المؤنة وهما أهلان لوجود المؤنة كنفقة الزوجة وأما صدقة الفطر فلا تجب عليه على قول محمد رحمه الله وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إنما وجبت على مالهما لأن فيهما معنى المؤنة لاختصاصهما بمحل المؤنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أدوا عمن تمونون" فلا يجوز قياس العبادة الخالصة على ما فيه معنى المؤنة. مسألة: يجوز أداء القيمة مكان المنصوص عليه من الشاة والإبل والبقر

في الزكاة عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز أداء القيمة بل يؤدي من الذهب الذهب ومن الفضة الفضة ومن الإبل الإبل ومن الغنم الغنم. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: الأول: ما روى الامام أحمد بن حنبل عن الصنابحي قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة ناقة مسنة فغضب فقال: "ما هذه" فقال: ارتجعتها ببعيرين من إبل الصدقة فسكت والارتجاع أخذ سن مكان سن قاله أبو عبيد وفي الصحاح الارتجاع في الصدقة إنما يجب على رب المال أسنان فيأخذ المصدق أسنانا فوقها أو دونها بقيمتها فدل ذلك على جواز أداء القيمة في الزكاة. الثاني: ما روي عن طاوس قال: معاذ بن جبل لأهل اليمن ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم في الصدقة فهو أهون عليكم وخير للمهاجرين والأنصار بالمدينة والخميس ثوب طوله خمسة أذرع واللبيس الثوب الملبوس وأخذ الثوب مكان الصدقة لا يكون إلا باعتبار القيمة. الثالث: ما صح في حديث أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده الجذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه يجعل معها شاتين إن استيسرتا أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهما" فدل هذا على جواز أداء القيمة في الزكاة. الرابع: أن المقصود إغناء الفقير قال صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن المسألة" والإغناء يحصل بأداء القيمة كما يحصل بأداء المنصوص عليه من الشاة وغيرها وقد تكون القيمة أدفع للحاجة من غير الشاة. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن لأخذ الصدقات: "خذ

من الإبل الإبل ومن البقر البقر" فأخذ القيمة يكون مخالفا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. الجواب عنه: أن هذا خطاب لمعاذ وقد بعثه إلى أرباب المواشي الذين هم سكان البوادي فذكر ذلك للتيسير عليهم فان الأداء بما عندهم أيسر عليهم لعدم الدراهم والدنانير عندهم فيكون الأمر بالأخذ من غير الإبل للتيسير لا لتقييد الواجب به أو يحمل الأمر على الاستحباب دون الوجوب جمعا بين الأدلة. الثاني: ما كتب أبو بكر رضي الله عنه إلى أطراف البلاد في شرح أحوال الزكاة ومضمون الكتاب هذا كتاب الصدقة التي فرضها الله تعالى على الناس وأمر رسوله أن يأخذها منهم في كل خمس من الابل شاة وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض وفي خمس وثلاثين بنت لبون وفي أربعين حقة فهذا بيان الزكاة التي فرضها الله على عباده بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق على التفصيل فعلم أن ما أوجب الله تعالى من الزكاة هو ما فصل النبي صلى الله عليه وسلم فمن لم يؤد هذه الأشياء بأن يؤدي قيمتها فقد خالف الأمر ودخل تحت الوعيد بقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 1. الجواب عنه: أن هذا التفصيل لبيان قدر الواجب لما سمي لا للتقييد به وتخصيص المسمى أنه يسير على أرباب المواشي ألا ترى أن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 2 جعل محل الأخذ ما سمى بمطلق المال فالتقييد بكونه شاة أو إبلا زيادة على الكتاب وهو كالنسخ فلا يجوز بخبر الواحد والذي يفيد أن الحق في مطلق المالية قوله صلى الله عليه وسلم: "في خمس من الأبل" وكلمة في للظرفية حقيقة وعين الشاة لا توجد في الإبل وإنما توجد فيها مالية الشاة فعرف أن المراد بالشاة قدر

_ 1سورة البقرة: الآية 59 2سورة التوبة: الآية 103

ماليتها على أن الزكاة واجبة حقا لله تعالى لأن العبادة لا يستحقها غيره وقد أسقط حقه من صورة الشاة باقتضاء النص في ذلك لأنه عز وجل وعد أرزاق العباد بقوله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 1 ثم أوجب لنفسه حقا في مال الأغنياء وهي الزكاة ثم أمرهم بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2 بالصرف إلى الفقراء لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} 3 إيفاء للرزق الموعود لهم من الله والمال المسمى لا يحتمل انجاز الوعد منه لاختلاف المواعيد إذ الرزق عبارة عما تقع به الكفاية من المأكول والملبوس وسائر ما لا بد منه وكان الأمر بصرف هذا المال لإيفاء رزقهم دليلا على إذنه بالاستبدال بسائر الأموال لتندفع بها حوائجهم المختلفة إذ عين الشاة لا يصلح لجميع قضاء الحوائج فنحن إنما جوزنا القيمة بإذن الشارع الثابت باقتضاء النص والأحاديث الواردة التي مر ذكرها والخصم بدل ذلك الإذن بالتقييد فيكون هو داخلا تحت قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 4 لا نحن علم أن الاستشهاد بمثل هذه الآية الواردة في حق الكفار الذين يبدلون كلام الله لا يكون لائقا لأهل العلم في حق بعضهم ببعض في مسائل الاجتهاد ولكن نحن عارضناه بالمثل إذ معارضة الفاسد بمثله من وجوه النظر. الثالث: أن الأمة أجمعت أنه لو أدى القيمة مكان الشاة في الضحايا والهدايا لا يكون كافيا فلا يكفي في الزكاة فلا يخرج به عن عهدة الأمر إلا بأداء عين الشاة. الجواب عنه: أن القربة في الضحايا والهدايا في نفس إراقة الدماء على خلاف القياس ولهذا لو هلكت الشاة بعد أن ذبح قبل التصدق لا يلزمه

_ 1سورة هود: الآبة 6 2سورة التوبة: الآية 6. 3سورة البقرة: الآية 43 4سورة البقرة: الآية 53

شيء وإراقة الدم ليست بمنقومة حتى يجوز أداء قيمتها بدلها ولا يعقل فيها معنى فلا يجوز القياس عليها وأما وجه القربة في الزكاة فسد حاجة الفقير وهو أمر معقول وذلك المقصود حاصل بأداء القيمة بأتم الوجوه فيحوز بطريق الأول: ى فإن قيل هذا التعليل منقوض بالصلاة فإن المقصود منها حضور القلب فإذا حصل حضور القلب فلا تجب الصلاة ولما كان هذا باطلا بطل ما ذكرتموه هكذا أورده الخصم قلت المقصود من الصلاة تعظيم الله تعالى والخضوع والخشوع والتواضع في الظاهر أعمال الجوارح من الركوع والسجود وفي الباطن الحضور بالقلب وذلك المجموع لا يحصل بمجرد حضور القلب بدون الأركان. مسألة: تجب الزكاة في الحلي من الذهب والفضة عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم وهو مذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وعبد الله بن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري من الصحابة رضي الله عنهم وجمهور التابعين وعند الشافعي رحمه الله لا تجب الزكاة في الحلي المباح في قول وفي قول تجب. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: الأول: ما رواه حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان أي سوران غليظتان من ذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتعطين زكاة هذا" قالت لا قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار" فاختلعتهما وألقتهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت هما لله ورسوله رواه أبو داود والنسائي وقال النووي إسناده حسن. الثاني: ما رواه أبو داود بإسناده عن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه دخل على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم "فرأى في يدي فتخات أي خواتم من ورق فقال: "ما هذا يا عائشة" قلت صنعتهن أتزين لك بهن يا رسول الله قال: " أتؤدين زكاتهن" قلت لا أو ما شاء الله قال: "هي حسبك من النار"

أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. الثالث: ما رواه أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كنت ألبس أوضاحا أو حليا من ذهب فقلت يا زسول الله أكنز هو فقال: "ما بلغ أن تؤدي زكاتها فزكي فليس بكنز" أخرجه الحاكم أيضا في المستدرك على شرط البخاري ومسلم. الرابع: ما رواه الدارقطني عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن امرأة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن لي حليا وإن لي بني أخ أفيجزئ عني أن أجعل زكاة الحلبي فيهم قال: "نعم". الخامس: عموم القرآن والأحاديث في وجوب الزكاة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 1 الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: "في عشرين مثقال نصف مثقال وفي الرقة ربع العشر". حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: ما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في الحلي زكاة" الجواب عنه: قال: البيهقي والذي يروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "ليس في الحلي زكاة لا أصل له" وفيه عافية بن أيوب مجهول فمن احتج به مرفوعا كان مغرورا بدينه داخلا فيما يعيب به من يحتج بالكذابين". الثاني: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "زكاة الحلي عاريتها". الجواب عنه: أن هذا لا يوجد مرفوعا وقال: أبو بكر الرازي هذا لا يصح لأن الزكاة واجبة والعارية ليست بواجبة. والثالث: أن الحلي مال مبتذل في مباح فلا يكون حلي الرجال لأنها وإن كانت مبتذلة لكن في الحرام فلا يمكن الإلحاق بثياب المهنة.

_ 1سورة التوبة: الآية 34

الجواب عنه: أنه لا يجوز ترك الأحاديث المذكورة بالقياس على أن سبب وجوب الزكاة مال نام وذلك موجود في الحلي باعتبار أنه خلق الله تعالى الذهب والفضة للنماء ولكونهما أثمان الأشياء بخلاف ثباب البذلة فانها غير نامية فلا يقاس عليها. مسألة: من كان له مال فاستفاد في أثناء الحول من جنسه ضمه إلى ماله وزكاه بحوله كما في الأول: اد والأرباح عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله لا يضم إلى ما عنده بل يشترط لكل مال مستفاد حول على حدة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن المجانسة هي علة الضم في الأول: اد والأرباح لأنه عند المجانسة يتعسر التمييز فيعسر اعتبار الحول في كل مستفاد وما شرع إلا للتيسير فيعود الأمر على موضوعه بالنقص عدن اشتراط حول جديد لكل مستفاد وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1 وأي حرج أعظم من هذا فانه لو فرض أنه استفاد في يوم وقت الظهر شيئا ووقت العصر شيئا وفي الليل شيئا وفي كل يوم كذلك فيحتاج إلى حساب الحول لكل مستفاد وفيه من الحرج ما لا يخفى. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". الجواب عنه: أن الأول: اد والأرباح مخصوصان عن هذا الحديث فيخصص المتنازع فيه بالقياس عليهما. مسألة: لا تجب الزكاة على المديون إذا كان الدين يحيط بماله عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله الدين لا يمنع وجوب الزكاة.

_ 2سورة الحج: الآية 78

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: الأول: حديث عثمان رضي الله عنه حيث قال: في خطبته في رمضان ألا إن شهر زكاتكم حضر فمن كان له مال وعليه دين فليحتسب ماله بما عليه ثم ليترك بقية ماله ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وكان إجماعا منهم على أنه لا زكاة في المال المشغول بالدين. الثاني: أن المديون يحل له أن يأخذ الزكاة فلا يكون غنيا إذ الغني لا يحل له أحذ الصدقة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني" وإذا لم يكن غنيا لا تجب عليه الزكاة لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صدقة إلا عن ظهر غني". الثالث: أن ماله مشغول بحاجته الأصلية وهي قضاء الدين فاعتبر معدوما كالمشغول بالشرب للعطش وثياب اللبس. الرابع: أن الشرع لا يرد بما لا يفيد ولا فائدة في أن يأخذ المديون شاة من صدقة غيره ويعطي للفقير شاة من نصابه. الخامس: أن ملك المديون في النصاب ناقص فإن صاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه يأخذه من غير قضاء ولا رضى منه فصار من هذه الحيثية كالوديعة والمغصوب. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "هاتوا ربع عشر أموالكم" وهذا الخطاب عام يتناول المديون وغيره. الجواب عنه: أنه قد خص عنه الأموال المشغولة بالحاجة الأصلية فيخصص المتنازع فيه بجامع الحاجة والشغل بها. مسألة: لا تجب الزكاة في مال الضمان وهو المال الموقوف في الصحراء إذا نسي مكانه ولا يرجى وجدانه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يجب فيه الزكاة بجميع ما مضى من السنين إذا وجده مالكه.

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قول علي رضي الله عنه لا زكاة في مال الضمان وهذا لأن وجوب الزكاة هو المال النامي بالإجماع والإنماء لا يكون إلا بالقدرة على التصرف ولا قدرة ها هنا ولو زكى من أصل المال يلزمه استئصاله وهو حرج والحرج مرفوع لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1 حجة الشافعي رضي الله عنه: قوله عليه الصلاة والسلام: "في عشرين مثقالا نصف مثقال وفي الرقة ربع العشر" وهذا عام في جميع الأموال. الجواب أن وجوب الزكاة مختص بالمال النامي وغير النامي مخصوص عن المنصوص بالإجماع فيخص عنه المتنازع فيه بالقياس عليه بجامع عدم إمكان النماء. مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يجب العشر في الفواكه سواء بقيت إلى السنة أولا ومذهب الشافعي رحمه الله لا يجبر فيما لا يبقى وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله من وجوه الأول: حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: عموم قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 2 الثاني: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقي بماء السماء والعيون العشر" أخرجه البخاري ومسلم. الثالث: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أخرجته الأرض ففيه العشر" قال الإمام فخر الدين الرازي: مع تعصبه اختياري قول أبي حنيفة وقال أبو بكر ابن العربي: أقوى المذاهب في المسائل مسألة أبي حنيفة دليلا وأحوطها للمساكين نفعا.

_ 1سورة الحج: الآية 78 2سورة الأنعام: الآية 141.

حجة الشافعي رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس في الخضروات صدقة" أي عشر لأن الزكاة غير منفية بالإجماع. الجواب عنه: أن المراد بالصدقة المنفية في الحديث الزكاة لأن مطلق اسم الصدقة ينصرف إليها دون العشر والمراد بالنفي زكاة يأخذها العاشر إذا مر به فإنها منفية عند أبي حنيفة فلا يصح دعوى الإجماع. مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه إذا اجتمع على إنسان زكاة سنين ثم مات قبل الأداء ولم يوص بإخراج الزكاة لا تؤخذ من التركة وعند الشافعي تؤخذ منها أوصى بذلك أو لا. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مال إلا ما أكلت فأفنيت ولبست فأبليت وتصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو مال الوارث" فهذا الحديث يقتضي أن يكون الوارث هو المالك ولم يبق للميت ملك فكيف تؤخذ الزكاة من مال الوارث ولأن الواجب عليه إيتاء الزكاة باختياره مع النية لأن الزكاة عبادة فلا تتأدى إلا بالاختيار والنية فلا يكون المأخوذ من التركة زكاة وخلافة الوارث ليس باختيار الميت فإنها ثابتة شاء أو أبى فلا تتأدى العبادة بفضل وارث إلا أن يكون أوصى بذلك لوجود الاختيار منه لكنه يؤخذ من الثلث. حجة الشافعي رحمه الله: أن الزكاة حق الفقراء لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} 1والموت لا يبطل حقهم كديون العباد. الجواب: لا نسلم أن الزكاة قبل الأداء حق الفقراء بل هي حق الله لأنها عبادة لا يستحقها غيره والفقراء مصرفها وإنما يصير لهم بعد الدفع إليهم فإذا مات صار المال للورثة وحق العبد لاحتياجه مقدم بخلاف ديون العباد فإنهم أيضا محتاجون فيقدمون على الورثة لأن الدين مقدم على الإرث لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 2.

_ 1سورة التوبة: الآية 60 2سورة النساء: الآية 11

كتاب الصوم

كتاب الصوم مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن صوم رمضان يجوز بالنية من الليل وهو الأول: ى وإن لم ينو حتى الصبح أجزأته النية إلى ما قبل نصف النهار وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز إلا بالنية من الليل. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: الأول: ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا "أن أذن في الناس أن من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم" قاله يوم عاشوراء وكان يومئذ فرضا عليهم بدليل ما روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر قال الطحاوي: ففي أمر النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بصومه بعد ما أصبحوا دليل على أن من كان في يوم عليه صومه بعينه يجزئه نيته قبل نصف النهار الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال: "ألا من أكل فلا يأكلن بقية يومه ومن لم يأكل فليصم" وكان ذلك في رمضان. الثالث: عموم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1. الرابع: إشارة قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 2 وكلمة ثم للتراخي ومن ضرورته وقوع النية في النهار. حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه.

_ 1سورة البقرة: الآية 185 2سورة البقرة: الآية 187

الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل". الجواب عنه: أنه محمول على نفي الفضيلة والكمال إذ الحقيقة غير مرادة لوجود صوم النفل بدون النية من الليل بالاتفاق فيحمل على صوم لا يكون متعينا كقضاء رمضان وصوم الكفارات عملا بالدلائل. الثاني: قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 1 والنية من الليل مسارعة فتجب من الليل إذا ثبت الوجوب ثبت الاشتراط لعدم القائل بالفصل. الجواب عنه: الليل ليس بمحل الصوم فلا تجب المسارعة قبل دخول الوقت. الثالث: أن هذا الصوم لا يخلوا إما أن يكون منويا أو غير منوي وكلا القسمين باطل فبطل هذا الصوم وذلك لأنه إذا كان منويا والنية قصد وتعلق الصوم والقصد بالماضي محال فيكون بعضه منويا وبعضه غير منوي وهو غير متجزء فلا يكون الكل منويا وكذا إذا لم يكن منويا أصلا إذ الصوم عمل لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال الصوم" والعمل لا يصح إلا بالنية لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "الأعمال بالنيات" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا عمل لمن لا نية له" فظهر أن هذا الصوم غير جائز. الجواب: أن هذا الصوم منوي لكنه ركن واحد ممتد والنية لتعيينه لله وقد وجدت في الأكثر والأقل تابع له فيسترجع بالكثرة جانب الوجود فكأنه وجدت النية في الجميع حكما. الرابع: أن الصوم بنية من الليل أفضل بالإجماع فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد ينوي من الليل لأن أفضل الخلائق لا يترك أفضل الأعمال فتجب

_ 1سورة آلا عمران: الآية 133

متابعته علينا لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} 1. الجواب عنه: أن المتابعة هو الإتيان بالصفة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتي بها على سبيل الأول: وية دون الوجوب فنحن نتبعه كذلك. مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن صوم رمضان يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وبنية واجب آخر ومذهب الشافعي رحمه الله لا يتأدى إلا بتعيين النية أنه من رمضان. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن الفرض يتعين في هذا الوقت وغيره غير مشروع فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا انسلخ شعبان فلا صوم إلا صوم رمضان" فلا يحتاج إلى التعيين فيصاب بمطلق النية ومع الخطأ في الوصف لوجود أهل النية. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: أنه إذا لم ينو الصوم من رمضان فلا يحصل له من صوم رمضان قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 2 فلا يدل أنه قصده من رمضان فلا يحصل له صوم رمضان لقوله صلى الله عليه وسلم: {ليس للمرء من عمله إلا ما نوى} . الجواب عنه: أنه قد سعى بأصل النية وتعيين الشارع لا يكون أقل من تعيين العبد. الثاني: أن تعيين النية أفضل بالاتفاق فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى به لما ذكرنا أن أفضل الخلائق لا يترك أفضل الأعمال فيجب علينا الاتباع لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} 3 وإذا ثبت الوجوب ثبت الاشتراط.

_ 1سورة الأنعام: الآية 535. 2سورة النجم: الآية 39 3سورة الأنعام: الآية 153.

الجواب عنه: ما مر أن الاتباع هو الإتيان بالصفة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتى بها على صفة الأول: وية دون الوجوب فكذا في حقنا الثالث: أن الصوم بتعيين النية صحيح بالاتفاق وبلا تعيين مختلف فيه فتعيين النية أقرب إلى الاحتياط فيجب لقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". الجواب أن هذا الدليل يقتضي وجوب رعاية موضع الخلاف فيجب على الشافعي أن يتوضأ مما يخرج عن غير السبيلين كالدم وعن القهقهة في الصلاة ولا يأكل متروك التسمية عامدا إلى غير ذلك من مواضع الخلاف ولكن هو غير قائل بالوجوب فكذا نحن نقول بان الأول: ى مراعاة موضع الخلاف. مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن من رأى هلال رمضان وحده فشهد عند القاضي فرد شهادته ثم أفطر بالوقاع فعليه القضاء دون الكفارة ومذهب الشافعي رحمه الله أن عليه القضاء والكفارة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن القاضي رد شهادته بدليل شرعي وهو تهمة الغلط لأن تفرده بالرؤية مع تساوي كافة الناس في النظر والمنظر والجو والالتماس يورث تهمة الغلط وهذه الكفارة تندرئ بالشبهات ولأن عدم وجوب الصوم على غيره دليل على أن هذا اليوم ليس من رمضان في حق الكافة وكذا في حقه لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا شهركم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "صومكم يوم تصومون" فجعل الشهر مضافا إلى الكافة لا إلى واحد بعينه فلا تثبت الرمضانية إلا بوجوب الصوم على الكل فإذا لم تثبت الرمضانية قطعا لا تجب الكفارة. حجة الشافعي رحمه الله: أنه أفطر ورمضان حقيقة لتيقنه أنه من رمضان

_ 1سورة البقرة: الآية 185

لوجوب ما يوجب التيقن وهو الرؤية وتيقنه لا يتغير لشك غيره ولهذا أمر بالصوم فيه فتلزمه الكفارة بإفساده. الجواب عنه: أنه لما رد القاضي شهادته صار مكذبا شرعا فالتحق بالعدم على أن شبهة التخيل باقية في حقه لبعد المسافة ودقة المرئ فتحمل أنه رأى الخيال فلم يتحقق التيقن في حقه أيضا والقضاء محتاط في إيجابه دون الكفارة. مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه إذا أفاق المجنون في بعض شهر رمضان فعليه صوم ما بقي وقضاء ما مضى ومذهب الشافعي رحمه الله أنه ليس عليه قضاء ما مضى. حجة أبي حنيفة رحمه الله: أن السبب وهو شهود الشهر قد وجد قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1 والمراد به شهود بعض الشهر إذ لولا ذلك لكان السبب شهود جميع الشهر فيقع الصوم في شوال فينعقد سببا لوجوب القضاء إذ لا حرج في ذلك بخلاف المستوعب لأنه يحرج في ذلك وخلاف الصبي إذا بلغ لأنه عتد فيحرج الصبي الإيجاب عليه ولأن المجنون مريض فيجب عليه القضاء إذا أفاق لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . حجة الشافعي رحمه الله: أن القضاء إنما يجب في موضع تجب فيه نية الأداء والمجنون لم تجب عليه الأداء فلا يجب عليه القضاء لأنه مبني عليه ولا يجوز نقضه بقضاء ما فات من الصوم في زمان الحيض لأن ذلك ورد على خلاف القياس فلا يمكن إيراده نقضا على ما ثبت على وفق القياس. والجواب عنه: أن القضاء إذا كان بسبب جديد لا يكون مبنيا على الأداء وإن كان سبب الأداء فيكفي فيه وجود السبب وعدم الحرج كما في النائم والمغمى عليه إذا لم يزد على يوم وليلة

_ 1سورة البقرة الآية 185 2سورة البقرة الآية 184

مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه لو أفطر صائم في رمضان متعمدا بالأكل والشرب يجب عليه القضاء والكفارة ومذهب الشافعي رحمه الله أنه لا تلزمه الكفارة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما رواه الدارقطني عن عامر بن سعد عن أبيه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطرت يوما من رمضان متعمدا قال: "أعتق رقبة أو صم شهرين متتابعين أو أطعم ستين مسكينا" وكذا روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله إني أفطرت في رمضان فقال عليه الصلاة والسلام: "من غير سفر ولا مرض" قال: نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة" فهذا بإطلاقة يوجب الكفارة بالإفطار وإن كان بالأكل أو الشرب على أن بعض الرواة قال: إن الرجل قال: شربت في رمضان وهو الأصح عن أبي داود وقال: علي رضي الله عنه: إنما الأكل والشرب والجماع ولأن الكفارة إنما وجبت بالجماع لهتك حرمة الصوم بالإفطار وقد تحقق ذلك على الكمال بالأكل والشرب وهذا لأن الله تعالى أباح الأكل والشرب والجماع إلى أن يتبين الفجر ثم قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} 1 أي احفظوها عن هذه المفطرات الثلاث إلى الليل فصار الإمساك عن هذه المفطرات ركنا للصوم فإذا وجبت الكفارة بفوت الإمساك عن الجماع فكذا بفوت الإمساك عن الأكل والشرب للاستواء في الركنية. حجة الشافعي رحمه الله: أن أبا حنيفة رضي الله عنه يسلم أنه لو أفطر أولا بأكل الطين أو ابتلاع الحجر ثم أكل الطعام أو شرب الماء لا تجب عليه الكفارة وكذا لو ابتدأ بأكل الخبز وشرب الماء لا تجب عليه الكفارة لأنه لا تفاوت في الأكل بين أن يأكل الطين ويبلع الحجر ثم يأكل الطعام ويشرب الماء وبين أن يأكل الطعام ويشرب ابتداء.

_ 1سورة البقرة: الآية 187

الجواب عنه: أن هذا قياس مع الفارق وهو أنه إذا أفطر أولا بأكل الطين أو ابتلاع الحجر لم يبق صائما لقوله صلى الله عليه وسلم: "الفطر مما يدخل" والكفارة إنما تجب إذا أكل أو شرب وهو صائم بخلاف ما لو ابتدأ بالأكل والشرب لوجود الجناية على الصوم ثم قال: إن الجماع أقوى في الأثر لوجوب الكفارة من الأكل والشرب من وجوه: الأول: أنه إذا اشتد الجوع يجوز أكل مال الغير بقدر الحاجة ولو اشتد شهوة الجماع لا يجوز قضاؤه من الحرام. والثاني: أنه إذا اشتد الجوع والعطش يجوز له الإفطار ولو اشتد الشبق لا يجوز له الإفطار بالمباشرة فعلم أن الجماع في رمضان أشد إفطارا من الأكل والشرب. الثالث: أن المحرم بالحج أو العمرة يجوز له الأكل والشرب ولا يجوز له الجماع. والرابع: أنه لو أكل أو شرب الحرام لا يحد ولو جامع الحرام يحد. والجواب عنه: أن التفاوت بين الجماع وبين الأكل والشرب في هذه الأشياء لا يوجب التفاوت في وجوب الكفارة لوجود المساواة في الركنية فإنا نعلم قطعا أن عين الجماع ليس بجناية لوقوعه في محل مملوك وإنما الجناية بالفطر لهتك حرمة رمضان بإفساد صومه والجماع آلته وذلك المعنى موجود في الإفطار بالأكل والشرب ولا يتفاوت الحكم بتفاوت الآلة فإن القصاص يجب بالقتل العمد سواء كان بالسيف أو السكين أو السهم. مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه إذا أفطر بالجماع مرارا في رمضان فعليه كفارة واحدة وتتداخل الكفارات إذا كان قبل أداء الكفازة. ومذهب الشافعي أنه لا تتداخل الكفارات بل تجب لكل جماع كفارة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الكفارة إنما تجب في الإفطار الأول: عقوبة على هتك حرمة الشهر فإذا تكرر منه الهتك قبل أداء الكفارة حصل

المقصود وهو الانزجار بكفار ة واحدة فيتمكن شبهة فوات المقصود في الثاني: ة فتتداخلان كما لو زنى مرارا أو شرب الخمر مرارا فانه يكتفي بحد واحد بخلاف ما لو كفر للأولى ثم أفطر ثانيا لعدم حصول المقصود وهو الانزجار بالأول: ى فصار كما لو زنى فحد ثم زنى. حجة الشافعي رحمه الله: أن الإفطار الأول: بالوقاع موجب للكفارة بالإجماع والثاني أولى أن يكون موجبا لها لأن الأول: كان ذنبا بلا إصرار والثاني: ذنب مع إصرار فإذا كان الذنب بدون الاصرار موجبا للكفارة فمع الإصرار أولى. الجواب عنه: أن الثاني: إن وجد بعد أداء الكفارة عن الأول: ى فهو عندنا أيضا موجب للكفارة لعدم حصول المقصود بالأول: وإن وجد قبله فيكتفي بكفارة واحدة كما مر من معنى التداخل. مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وأصحابه أنه لو نذر بصوم يوم النحر صح نذره لكنه أفطر وقضى وعند الشافعي رحمه الله لا يصح نذره. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أنه نذر بصوم مشروع بأصله إذ النهي لغيره فإذا نذر به يجب الوفاء لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} 1 ويوفون بالنذر وقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى" لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاورة ثم يقضي اسقاطا للواجب وفيه عمل بأصله حيث جوزنا النذر وأسقطنا وصفه حيث قلنا بالإفطار والقضاء وإن صام فيه يخرج عن العهدة لأنه أدى كما التزم. حجة الشافعي رحمه الله: أن الصوم في يوم العيد حرام بالإجماع فلا يصح النذر به لأنه لا يصح النذر في معصية الله.

_ 1سورة الحج: الآية 29

الجواب أنه نذر بما هو مشروع بأصله وإن كانت المعصية تجاوره فعلا لا قولا. مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه من شرع في الصوم التطوع أو الصلاة التطوع يجب عليه إتمامه فان أفسده يجب عليه القضاء ومذهب الشافعي رحمه الله أنه لا قضاء عليه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه مالك عن ابن شهاب أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدي لهما طعام فأفطرتا فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدرنا لنسأله فبدرتني حفصة بالكلام وكانت بنت أبيها سباقة وقالت يا رسول الله إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين فأهدي لنا طعام فأفطرنا فقال رسول الله صلى الله عليه ورسلم: "اقضيا مكانه يوما آخر" ولأن المؤدى قربة وعمل فتجب صيانته عن الإبطال بالمعني فيه لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 1 وإذا وجب المضي وجب القضاء بإفساده. حجة الشافعي رحمه الله: أن الإجماع منعقد على أن الشرع جوز له ترك الصوم والصلاة المتطوع فيهما بجملة الأجزاء فاذا جاز له الترك بجملة الأجزاء فكذا جاز له ترك بعض الأجزاء. الجواب عنه: أنه قبل الشروع لم يؤد شيئا فجاز له تركه أما بعد الشروع فقد أدى بعض القربة فيجب حفظه باتمامه والقضاء بافساده.

_ 1سورة محمد: الآية 33

كتاب الحج

كتاب الحج مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وأصحابه أن القرآن أفضل من الإفراد ومذهب الشافعي رحمه الله أن الإفراد أفضل. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بقول: "بوادي العقيق أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة" وما رواه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بالبيداء وإنه رديف أبي طلحة يهل بالحج والعمرة جميعا وما رواه مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا رضي اله عنهما وعثمان ينهى عن المتعة والجمع بينهما فلما رأى علي رضي الله عنه ذلك أهل بهما لبيك بحجة وعمرة وقال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد ولأن فيه جمعا بين العبادتين فأشبه الصوم والاعتكاف والحراسة في سبيل الله وصلاة الليل. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "القرآن رخصة" والرخصة دون العزيمة ولأن في الإفراد زيادة التلبية والسفر والحلق. الجواب عنه: أن المقصود بما روي نفي قول الجاهلية أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور على أن قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} 1 محمول على الإحرام بهما من دويرة أهله فكان القران عزيمة لا رخصة والتلبية غير محصورة والسفر غير مقصود والحلق خروج عن العبادة فلا ترجيح بما ذكر. مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم: أن القارن يطوف

_ 1 سورة البقرة: الآية 196

طوافين ويسعى سعيين وعند الشافعي رحمه الله يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما رواه الطحاوي عن أبي النضر قال: أهللت بالحج فأدركت عليا فقلت له إني أهللت بالحج أفأستطيع أن أضيف إليه عمرة قال: لو كنت أهللت بالعمرة ثم أردت أن تضم إليها الحج ضممته قال: قلت كيف أصنع إذا أردت ذلك قال: تصب عليك أداوة ماء ثم تحرم بهما وتطوف لكل واحد منهما طوافا وعنه عن علي وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما قال: القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين وعنه عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين وما رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا فطاف طوافين وسعى سعيين ولما طاف صبي بن معبد طوافين وسعى سعيين قال: له عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك ولأن القرآن ضم عبادة إلى عبادة وذلك إنما يتحقق بأداء عمل لكل واحد على الكمال وذلك بطوافين وسعيين. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" ولأن مبنى القرآن على التداخل حتى أكتفي بتلبية واحدة وسفر وحلق واحد فكذلك في الأركان. والجواب عنه: أن معنى ما رواه دخلت وقت العمرة في وقت الحج لا أفعالها في أفعاله عملا بالدليلين والقرآن عبادة مقصودة فلا تداخل فيها والسفر للتوسل والتلبية للتحرم والحلق للتحلل فليست هذه الأشياء بمقاصد بخلاف الأركان.

كتاب البيع

كتاب البيع مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن من اشترى شيئا لم يره فهو جائز وله الخيار إذا رآه ومذهب الشافعي رحمه الله لا يصح العقد أصلا. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: الأول: ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي أي بوادي القرى بمال له بخيبر فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خيفة أن يزاد في البيع فقد تبايعا ما لم يكن بحضرتهما ولم ينكر عليهما أحد. الثاني: ما رواه الطحاوي عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن أبي وقاص الليثي قال: اشترى طلحة بن عبيد الله من عثمان بن عفان رضي الله عنهما مالا وكان المال في الكوفة فقيل لعثمان إنك قد غبنت فقال: عثمان لي الخيار لأني بعت ما لم أره وقيل مثل ذلك لطلحة فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره فحكما جبير بن مطعم فقضى أن الخيار لطلحة ولا خيار لعثمان وذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر أحد. الثالث: ما رواه الدارقطني عن مكحول ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء تركه" وذكر أن فيه ابن أبي مريم وهو متكلم فيه قلنا هذا طعن مبهم فلا يقبل. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الغرر" وبيع ما لم ير فيه غرر لأنه ربما يوافقه وربما لا يوافقه فيكون داخلا تحت النهي.

والجواب عنه: أن الغرر ليندفع بالخيار فإنه إذا لم يوافقه يرده. الثاني: أن جواز البيع مشروط بالرضى لقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 1 والرضى بالشيء إنما يحصل إذا كان معلوما بجميع صفاته وإذا لم يكن مرئيا لم يكن العلم بجميع الصفات حاصلا فلا يجوز بيع ما لم يكن مرئيا. والجواب عنه: أن هذا البيع تجارة عن تراض لوجود الإيجاب والقبول منهما بالتراضي والعلم إنما يشترط للزوم العقد دون انعقاده فاذا رضي بعد الرؤية تم العقد وإلا لا يتم. الثالث: أن بيع الغائب يفضي إلى الخصومة لأنه إن لم يوافق طبع المشتري وأراد الفسخ له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" ولو أراد البائع عدم الفسخ له ذلك لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 2 فبناء على هذين الدليلين المتعارضين تقع بينهما المنازعة وهي حرام لقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا} 3. الجواب عنه: أن الجهالة بعدم الرؤية لا تفضي إلى الخصومة لأنه إذا لم يوافقه يرده وليس للآخر أن يمتنع عن ذلك لأن خيار الرؤية ثابت للمشتري شرعا وهما قد رضيا بذلك حيث باشر ذلك العقد فترتفع المنازعة كما في خيارالشرط فصار كجهالة الوصف والمعاين المشار إليه. مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه إذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع والخيار لواحد من المتعاقدين والفسخ قبل الافتراق من المجلس وقال الشافعي رحمه الله: لكل واحد منهما خيار المجلس. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه:

_ 1سورة النساء: الآية 29 2سورة المائدة: الآية 1 3سورة الأنفال: الاية 46

الأول: قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وهذا عقد فيلزم الوفاء به بظاهر الآية وفي الفسخ بخيار المجلس نفي لزوم الوفاء به. الثاني: ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" وفي رواية حتى يقبضه ففيه دليل على أنه إذا وجد القبض جاز البيع ولو في مجلس العقد والبيع لا يجوز بعد ثبوت الملك له وإذا ثبت له الملك لا يجوز إبطاله إلا برضاه لقوله تعالى: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 1 الثالث: ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنت على بكر صعب لعمر وكان يغلبني فيتقدم القوم فيزجره عمر رضي الله عنه ويرده ثم تقدم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر:"بعنيه" فقال: هو لك يا رسول الله فقال: "بعنيه" فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت" أخرجه البخاري في باب ما لو اشترى شيئا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا وفي هبة النبي صلى الله عليه وسلم قبل التفرق بالأبدان دليل على أن البيع لازم بدون التفرق. الرابع: أن في الفسخ بدون رضى الآخر إبطال حقه فلا يجوز إلا بإذنه. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" رواه مالك في الموطأ. الجواب عنه: أن هذا الحديث منسوخ لأن مالكا رحمه الله رواه وترك العمل به فقيل له فيه فقال: رأيت إجماع أهل المدينة على خلافه وإجماع التابعين على مخالفة الخبر الواحد دل على انتساخه أو تقول الحديث محمول على خيار القبول وفي الحديث إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة حقيقة وبعدها مجازا والحمل على الحقيقة أولى والمراد بالتفرق تفرق الأقوال دون

_ 1سورة النساء: الآية 29

الأبدان وهو الواقع في الكتاب والسنة قال: الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} 1 وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} 2 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة". مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أنه إذا مات من له خيار الشرط في البيع بطل خياره ولا ينتقل إلى ورثته وعند الشافعي رحمه الله ينتقل إلى ورثته. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن المنافي لثبوت الخيار قائم وهو إبطال الملك على الآخر بالفسخ في مدة الخيار بدون رضاه وأنه إضرار به وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وإنما يثبت للمورث بالاشتراط ولم يشترط الخيار للوارث فلا يثبت ولا يمكن انتقال الخيار إلى الوارث لأن الخيار مشيئة وإرادة وهما وصفان قد عدما بموته فلا يتصور انتقالهما إليه. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: كون الملك قابلا لهذا والفسخ صفة من صفات هذا الملك وهذه الصفة أمر ينتفع به فيكون حقا وقد قال: صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالا أو حقا فهو لورثته بعد موته". الجواب عنه: أن المراد منه حق يمكن بقاؤه بعد موته والخيار قد بطل بموته لكونه مشيئة قائمة بالميت فلا يتصور فيها الإنتقال: إلى الوارث. الثاني: أجمعنا على أن خيار العيب للوارث ابتداء يورث فكذا خيار الشرط والجامع القدرة على دفع الضرر.

_ 1سورة النساء: الآية 130 2سورة البيتة: الآية 4

والجواب عنه: أن خيار العيب يثبت لا بطريق الإرث وذلك لأن المورث استحق المبيع سليما فكذا الوارث لأنه خليفته فأما نفس الخيار فلا يورث. مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن علة الربا في الأشياء الستة الكيل مع الجنس أو الوزن مع الجنس وعند الشافعي رحمه الله الطعم مع الجنس في المطعومات والثمنية مع الجنس في الأثمان. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل والفضل ربا إلى آخر الحديث" وجه التمسك به أن هذا الحديث قد أوجب كون المماثلة شرطا والمماثلة بين الشيئين باعتبار الصورة والمعنى في المعيار والمعيار هو الكيل والوزن فسوى الذات والجنسية في الصورة والمعنى فيظهر الفضل على ذلك فيتحقق الربا لأن الربا هو الفضل والمستحق في المعاوضة الخالي عن العوض والذي يؤيد هذا أنه روي مكان قوله مثلا بمثل كيلا بكيل وفي الذهب وزنا بوزن فدل على أن الكيل والوزن هو المؤثر في الربا مع الجنسية وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين". حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" رتب النبي صلى الله عليه وسلم على وصف المطعومية وهذا الوصف يناسب تحريم الربا لأن الطعام تتعلق به الحاجة الأصلية وبذلك القدر الزائد من مثل هذا الشيء يقتضي تفويت ما تتعلق به الحاجة الأصلية وأنه يناسب المنع فإن قالوا إنه يقتضي توسيع الطعام على الغير قلنا بذل الزائد يقتضي تفويته على أن المصلحتين إذا تعارضتا فتقديم المالك أولى فثبت أنه وصف مناسب والحكم المذكور عقيبه يقتضي كون الحرمة معللة به باتفاق العلماء على أن الحكم عقيب الوصف المناسب معلل به. الجواب عنه: أن في الحديث استثنى الحال بقوله سواء بسواء فالمراد منه

تساويهما في الكيل إذ المذكور في صدر الكلام هو الطعام وهو عين واستثناء الحال من العين لا يجوز فلا بد من تقدير شيء يصح به الاستثناء وهو عموم صدر الكلام في الأحوال أي لا تبيعوا في جميع الأحوال من المساواة والمفاضلة والمجازفة إلا في حال المساواة والمراد بالتساوي هو المساواة بالكيل بالإجماع فدل على أن الكيل هو العلة والوصف المذكور وهو الطعم أو الثمنية ليس بمناسب فلا يصح التعليل به لأنه من أعظم وجوه المنافع والسبيل في مثله التوسعة والإطلاق بأبلغ الوجوه لشدة الاحتياج إليه دون الحرمة. الثاني: أن العلة عند الإمامين إما الكيل أو الطعم والتعليل بالكيل لا يجوز وإلا لكان ما ليس بمكيل غير ربا فيلزم التخصيص في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" وذلك خلاف الأصل فثبت أن الكيل لا يصلح علة فتعين الطعم للعلية. الجواب: أن التخصيص حصل بنفس الحديث لما ذكرنا أن قوله إلا سواء بسواء حال فيقتضي عموم الأحوال وتلك الأحوال لا تستقيم إلا فيما يدخل تحت الكيل دون الطعم والتخصيص وإن كان على خلاف الأصل لكن ثبت بالدليل والقرينة وقد وجدت القرينة. مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن الجنس أو القدر بانفراده يحرم النسأ وعند الشافعي رحمه الله لا يحرمه: حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" وهذا نسيئة فيكون فيه الربا فيحرم لقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} 1 ولأنه قال: الربا من وجه ينظر إلى القدر أو الجنس والنقدية أوجبت فضلا في المالية إذ النقد خير من النسيئة فيتحقق شبهة الربا وهي ملحقة بالحقيقة احتياطا فيحرم وهذا لأن كل واحد من القدر أو الجنس جزء العلة فيكون

_ 1سورة البقرة: الآية 275

لكل واحد منهما شبهة العلية فتحرم به شبهة الربا وهي النسيئة إعمالا للدليل بقدر الإمكان. حجة الشافعي رحمه الله: العمومات المقتضية بحل البيع للتجارة مطلقا كقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 1 وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 2 والقرآن أولى من الخبر. الجواب عنه: قد خص من العمومات المذكورة حرمة الربا لقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} والعام إذا خص من البعض بنص يجوز تخصيص بعض أفراده بخبر الواحد والقياس فيخص المتنازع بما ذكرنا من الأدلة. مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يجوز بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل يدا بيد وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن الرطب تمر لقوله صلى الله عليه وسلم حين أهدى إليه الرطب: "أو كل تمر خيبر هكذا" وبيع التمر بمثله جائز لقوله صلى الله عليه وسلم: "التمر بالتمر مثلا بمثل" ولأن الرطب لا يخلو إما أن يكون تمرا أو لا فإن كان تمرا جاز البيع بآخر الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم". حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن بيع الرطب بالتمر: "أينقص إذا جف" فقيل نعم فقال عليه الصلاة والسلام: "لا إذن". الجواب عنه: أن مدار هذا الحديث عن زيد بن عياش وهو ضعيف عند أهل النقل. مسألة: مذهب أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أن من باع سيفا محلى بالفضة بمائة درهم فصاعدا وحليته خمسون درهما ودفع من الثمن خمسين

_ 1 سورة النساء: الآية 29 2 سورة البقرة: الآية 275

درهما جاز البيع وتكون الفضة بمقابلة الفضة والزائد بمقابلة السيف وهذا إذا كانت الفضة المقدرة ثمنا أزيد مما فيه كما ذكرنا بأن تكون المقدرة مائة وإن كانت مثله أو أقل منه أو لا يدري لا يجوز البيع وكذا لو باع قلادة فيها ذهب وجواهر بذهب أزيد مما في القلادة جاز فيكون الذهب بمثله والزيادة بمقابلة الجواهر ومذهب الشافعي رحمه الله لا يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن تصرف العاقل يحمل على الصحة وقد أمكن هنا الحمل على الصحة بأن تكون الفضة والذهب بمثلها والباقي بمقابلة الباقي والذي يؤيد هذا ما رواه الطحاوي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف المحلى بالفضة وعنه عن ابن المبارك عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بأن يباع السيف المفضض بأكثر مما فيه الفضة بالفضة والسيف بالفضل. حجة الشافعي رحمه الله: ما روي عن حنش أنه كان مع فضالة بن عبيد الله في غزاة قال: فصارت لي ولأصحابه قلادة فيها ذهب وورق وجوهر فأردت أن أشتريها فسألت فضالة فقال: أنزع ذهبها فاجعله في كفة واجعل ذهبك في كفة لا تأخذ إلا مثلا بمثل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لا يأخذ إلا مثلا بمثل". الجواب عنه: أن الأمر بالفضل من قول فضالة لا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ليس بحجة عنده فقد يجوز أن يكون أمر بذلك على أن أن البيع لا يجوز عنده في هذا الذهب حتى يفصل وقد يجوز أن يكون أمر بذلك لإحاطة علمه أن تلك القلادة لا توصل إلي علم ما فيها من الذهب إلا بعد أن يفصل أو يكون ما فيها من الذهب أكثر من الثمن والذي يؤيد هذا ما روي عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت يوم حنين قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخذف ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تباع حتى تفصل". مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يجوز بيع اللحم بالشاة

كيف ما كان وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز كيف ما كان. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن المقتضي لجواز هذا البيع ثابت وهو النص العام كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 1 وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 2 والمانع منتف وهو احتمال الربا لأن علة الربا القدر مع الجنس كما مر وهو منتف هنا لأن اللحم موجود والحيوان غير موجود. حجة الشافعي رحمه الله: أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك فلا يزاد على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ونصنا خاص ونصكم عام والخاص مقدم على العام. الجواب عنه: أنه لا نسلم أن الخاص مقدم على العام عندنا بل العام عندنا كالخاص على أن ما ذكرنا من العام قرآن فيقدم على خبركم. مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لو اشترى شيئا بدراهم معينة أو بدنانير معينة لا يتعينان حتى جاز للمشتري أن يمسك تلك الدراهم والدنانير ويعطي مثلهما ولو هلكتا قبل التسليم لا ينفسخ العقد ويطالب بتسليم مثلهما وعند الشافعي رحمه الله يتعينان. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن حكم الشرع في الأعيان أن البيع يتعلق به وجوب ملكها لا وجودها فإن وجودها شرط البيع لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان لا حكمه وفي جانب الأثمان يتعلق به وجودها ووجوبها معا حتى جاز الشراء بثمن ليس في ملك المشتري فلو صح التعيين انقلب الحكم شرطا فلا يجوز. حجة الشافعي رحمه الله: أن البيع وقع على الدنانير والدراهم المعينة

_ 1سورة البقرة: الآية 275 2سورة النساء: الآية 29

وهي أولى من المطلقة فلا يجوز إبدال ما هو أولى بما ليس بأولى بدون رضى مالكه. الجواب: أن التعيين لبيان المقدار لا غير إذ الثمن ثابت في الذمة بالدراهم المطلقة. مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه جواز بيع العقار قبل القبض ومذهب الشافعي رحمه الله عدم جوازه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن ركن البيع صدر من أهله في محله فيكون المقتضي للجواز ثابتا والمانع منتف وهو عرف البيع وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 1. حجة الشافعي رحمه الله: ما رواه حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا ابتعت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه" وهو نص صريح في المسألة. الجواب: أن المراد بالحديث ما ينقل ويحول لأن الحديث معلول بفرض انفساخ العقد على اعتبار الهلاك عملا بدلائل الجواز والهلاك في العقار غير جائز والذي يؤيد هذا ما ذكر المنقول صريحا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه" وفي الصحيحين من "ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله". مسألة: أهل الخلاف ذكروا ثلاث مسائل بمنع الرد فيها بالعيب عند أبي حنيفة ولا يمنع عند الشافعي رضي الله عنهما. أولهما: أن الزيادة المنفصلة المتولدة من الأصل بعد القبض يمنع رد الأصل وحده بالعيب فيه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يمنع رده فيرد الأصل بكل الثمن ويقبض الولد وحده بلا ثمن.

_ 1سورة النساء: الآية 29

وثانيها: أن وطء الثيب يمنع الرد عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يمنعه. وثالثهما: أنه إذا اشترى عبدين صفقة وقبض أحدهما ووجد بأحدهما عيبا فانه يأخذهما أو يدعهما وليس له أن يأخذ السليم ويرد المعيب عند أبي حنيفة وعند الشافعي رضي الله عنهما: له أن يرد المعيب خاصة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه في الأولى: أنه لا سبيل إلى رد الزيادة مع الأصل لأن البيع لم يرد عليها قصدا فلا يرد عليه الفسخ فلا سبيل إلى رد الأصل وحده لأنه لو سلمت الزيادة للمشتري بلا ثمن تكون ربا وهو حرام. وحجته في الثانية: أن الرد بالعيب فسخ العقد ودفعه من الأصل فيقع الوطء الموجود فيه منه في محل غير مملوك وهو حرام فلا يجوز الرد بالعيب. وحجته في الثالثة: أن الصفقة تتم بقبضها فتكون الزيادة تفريقا للصفقة قبل التمام وهو منهي عنه وذكر صاحب الكتاب دليلا لأبي حنيفة عاما وهو أن الرد ضرر وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" ثم قال: نصنا خاص ونصكم عام والخاص مقدم على العام وهذا لا يرد على ما ذكرنا من الدلائل على أن العام عندنا كالخاص. حجة الشافعي رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالرد بالعيب وهذا مطلق متناول لجميع العيوب وأيضا ترتيب جواز الرد على قيام العيب ترتيب الحكم على وصف يناسبه فيدل على كونه معللا به فيعم الحكم لعموم العلة. الجواب: أنه لا يمكن حمله على العام فانه لم يقض النبي صلى الله عليه وسلم بالرد على العاقد بجميع العيوب بل الحديث يقتضي أنه قضى بالرد في عيب هو ليس بعام ثم قوله المطلق يتناول جميع العيوب ليس بصحيح فإن المطلق متناول لفرد غير معين وإنما المتناول للجميع العام والمطلق غير العام والرد وإن كان معللا بالعيب لكن العلة إنما تعمل عند عدم المانع في السنة وقد وجد المانع

إلا في المتنازع فيه وهو ما ذكرنا من المعايب. مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يجوز للمشتري أن يزيد للبايع في الثمن بعد تمام البيع ويلتحق بأصل العقد ومذهب الشافعي رحمه الله أنه لا يصح على اعتبار ابتداء الصلة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} 1 والتراضي بعد الفريضة إنما يكون بالزيادة عليها فاذا جاز ذلك في المهر جاز في الثمن لعدم القائل بالفصل ولأن للعاقدين ولاية دفع العقد بالكلية بالإقالة فأولى أن يكون لهما ولاية التغيير وهما بالزيادة يغيران العقد من وصف مشروع إلى وصف مشروع وهو كونه رابحا أو خاسرا أو عدلا فجاز لهما ذلك. حجة الشافعي رحمه الله: لوصح هذا الإلحاق لصارت الزيادة جزءا من الثمن وهو غير جائز لأن جعلها جزءا من الثمن إذا كان مع بقاء العقد الأول: لزم أن يقال: إنه قد اشترى ملك نفسه لنفسه وهو محال وإن كان لا مع بقائه فهو أيضا محال لأن الأصل في العقد الأول: البقاء ما لم يزل ولا مزيل إلا هذا الإلحاق ويلزمه الدور وهو محال. الجواب عنه: أنا نختار أن الزيادة جعلت جزءا من الثمن لكن مع بقاء ذات العقد الأول: مع تغيير وصفه من كونه جائزا إلى كونه عدلا فهو مشروع فتصح الزيادة وتلتحق بأصل العقد فكأن العقد وقع على هذا المقدار لأن وصف الشيء يقوم به لا بوصفه وعلى اعتبار الإلتحاق لا يكون مشتريا ملك نفسه لنفسه ولا تكون الزيادة عوضا عن ملكه. مسألة: مذهب أبي حنيفة رحمه الله: إذا اشترى جارية أو ثوبا بألف درهم فقبضها ثم باعها من البايع بأقل مما اشترى منه قبل

_ 1سورة النساء: الآية 24

نقد الثمن لا يجوز البيع الثاني: ومذهب الشافعي رحمه الله أنه يجوز البيع الثاني. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه الدارقطني عن يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت أيفع قالت حججت أنا وأم حبيبة رضي الله عنها فدخلنا على عائشة رضي الله عنها فقالت لها أم حبيبة يا أم المؤمنين كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء وإنه أراد أن يبيعها فابتعتها منه بست مائة درهم نقدا فقالت بئسما اشتريت بئسما اشتريت وأبلغي زيد بن أرقم أنه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب فلو كان جائزا لما قالت عائشة مثل ذلك الوعيد فإن قيل لعلها أنها قالت ذلك لإرتكابه الحرام بالبيع بثمن مؤجل إلى العطاء وأنه فاسد لكونه بيعا إلى أجل مجهول ففسد البيع الأول: لجهالة الأصل وفسد الثاني: لكونه بنى عليه قلت إنما قالته لارتكابه المحرم وهو شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن لأن البيع إلى العطاء جائز عند عائشة رضي الله عنها ذكره في المبسوط فذلك الوعيد لا يكون لكونه بيعا إلى العطاء بل لكونه شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم إذ العقل لا يهتدي إلى ذلك ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه فإذا وصل إليه المبيع ووقعت المقاصة في ستمائة وذلك الباقي بلا عوض فيكون ربا وهو حرام. حجة الشافعي رحمه الله: العمومات وهو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1. والجواب عنه: أنا قد بينا أن فيه معنى الربا فيكون جوابنا بهذا النص على أن الحديث نص خاص في الباب فلا يترك بعام مخصوص. مسألة: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لو اشتري الثوب بالخمر

_ 1سورة البقر: الآية 275

يكون البيع فاسدا لا باطلا وكذا لو اشترى الخمر بالثوب وعند الشافعي رحمه الله البيع باطل في الصورتين. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: فيما إذا اشترى الثوب بالخمر لأن المشتري إنما قصد الثوب بالخمر لأنه هو المبيع وفيه إعزاز الثوب دون الخمر لأن الثمن وسيلة فبقي ذكر الخمر معتبرا في تلك الثوب لا في نفس الخمر حتى فسدت التسمية ووجدت قيمة الثوب دون الخمر وكذا إذا باع الخمر بالثوب يكون البيع فاسدا لا بطالا لأنه يعتبر شراء الثوب بالخمر لكونه بيع مقايضة فيكون كل واحد منهما ثمنا ومبيعا ولكن رجحنا في الخمر جهة الثمنية ترجيحا لجانب الفساد على البطلان صونا لتصرف العاقل على البطلان بقدر الإمكان. حجة الشافعي رحمه الله: أن الإجماع ينعقد على أن هذا الييع منهي عنه فيكون باطلا وأيضا أجمعنا على أنه لو قال: اشتريت هذا الخنزير بهذا الثوب يكون البيع باطلا فكذا لو قال: اشتريت هذا الثوب بهذا الخنزير أيضا يكون باطلا إذ لا تفاوت بين العقدين. الجواب عنه: أن النهي عن الأفعال الشرعية لا يقتضي البطلان بل يقتضي أن يكون مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه كما عرف في أصول الفقه وقد عملنا بموجب النهي وقلنا بأن هذا البيع فاسد والنهي لا يقتضي البطلان فإن البيع وقت النداء يوم الجمعة منهي عنه ومع ذلك يفيد الملك بالإجماع لكون النهي لمعنى في غيره بخلاف النهي عن بيع الحر والخمر والخنزير بالدراهم وعن بيع المضامين والملاقيح إذ النهي في هذه الأشياء مستعار عن النفي لعدم محلية الحر وأخواته للبيع وما ذكره من الإجماع في الدليل ممنوع لما ذكرنا أن البيع في الصورتين فاسد عندنا لا باطل. مسألة: تصرفات الفضولي موقوفة عند أبي حنيفة رضي الله عنه على الاجازة وعند الشافعي رحمه الله: باطلة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه الترمذي عن حكيم بن حزام أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار فاشترى أضحية فربح بها دينارا ثم اشترى مكانه أخرى فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحى بالشاة وتصدق بالدينار وعن عروة البارقي قال: دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا لأشتري له شاة فاشتريت له شاتين فبعت إحداهما بدينار وجئت بالشاة الأخرى والدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما كان من أمره فقال له: "بارك الله لك في صفقتك" فأجاز ما فعله ودعا له بالبركة وهو فضولي في بيع الشاة الأول: ى لأنه اشتراها بالوكالة بمال الموكل فيكون ملك موكله فإن قيل يجوز أن يكون وكيلا مطلقا لا فضوليا قلنا لم يوكله إلا في شراء أضحية أو شاة فلا يكون وكيلا مطلقا وإنما تصدق بالدينار لأن قصده أن يصرف الأضحية إلى الفقراء وهذا الدينار مستفاد منها فكره إمساكه ولأن تصرف الفضولي صدر من أهله في محله ولا ضرر في انعقاده فينعقد موقوفا حتى إذا رأى المالك فيه مصلحة أنفذه وإلا أبطله. حجة الشافعي رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبع ما ليس عندك" فعلم أن بيع ملك الغير لا يجوز. الجواب عنه: أن المراد بالنهي بيع المعدوم أو البيع البات ونحن نقول بموجبه. مسألة: إذا اشترى الكافر عبدا مسلما يجوز شراؤه عند أبي حنيفة رضي الله عنه ويجبر على البيع من مسلم أو العتق وعند الشافعي رحمه الله لا يصح. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: العمومات وهي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 1 وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 2 ولأن الركن في التصرف صدر عن أهله في محله عن ولاية شرعية فيصح ويترتب عليه حكمه

_ 1سورة البقرة: الآية 275 2سورة النساء: الآية 29

أما الركن فظاهر وأما المحل فلأن العبد المسلم محل لملك الكافر كما لو أسلم وهو عبد الكافر أو ورثه الكافر وأما الولاية فلأن الكافر مالك على التصرفات كلها ولكن يجبر على إزالة ملكه عنه دفعا لضرر استخدام الكافر إياه والذل في الانتفاع لا بمجرد النسبة مع المنع من الانتفاع بالبيع. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 1 فلو جاز الشراء يكون للكافر عليه سبيل وهو منفي بالنص. الجواب عنه: أن هذا عام مخصوص وهو أنا أجمعنا أنه لو أسلم عبد الكافر لا يزول عنه ملك الكافر مع بقاء الملك عليه وهذا سبيل عليه فيخص المتنازع بالقياس عليه أو المراد بالسبيل الاستيلاء عليهم وقهرهم. الثاني: أن العبودية ذلة والمالكية عزة فلو جاز كون المسلم عبدا للكافر يلزم ذلة المسلم وعزة الكافر وذلك لا يجوز لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 2. والجواب عنه: أن الذل إنما هو في الاستخدام ونحن لا نجوز ذلك بل نجبره على إزالة ملكه عنه بالبيع رعاية لعزة الإسلام ولأن الرق أثر الكفر لأنهم لما استنكف الكفار عن عبادة الله تعالى جعلهم عبيد عبيده سبحانه فثبوته باعتبار أثر الكفر لا باعتبار أنه مسلم ولو كان النص يجري على عمومه لكان ينبغي أن لا يرث المسلم أصلا لأن الرقيق ذليل حيث يباع في الأسواق كالبهائم والمسلم عزيز فلا يجوز إرقاقه وكان ينبغي أن لا يبقي رقيقا للكافر إذا أسلم عبده. الثالث: أن الإجماع منعقد على أن الكافر لا يجوز له التزوج بالمسلمة

_ 1سورة النساء: الآية 141 2سورة المنافقون: الآية 8

فلا يجوز أن يشتري المسلم لأن الذل الحاصل بملك اليمين أقوى من الذل الحاصل بملك النكاح فإذا لم يشرع الأدنى فبالأول: ى أن لا يشرع الأعلى. والجواب عنه: أن القياس فاسد لأن اتحاد الحكم شرط لصحة القياس ولم يوجد لأن الثابت هنا مجرد نسبة الملك إلى الكافر والثابت بالنكاح الملك والنسبة فكان أضر ولأنه لا فائدة في القول بجواز النكاح تم جبره على الطلاق فيكون عبثا فلا يشرع بخلاف الشراء فانه وسيلة إلى الربح بالبيع فيكون مشروعا لكونه من باب الإكتساب وأما ما ذكره أن هناك نصا خاصا فممنوع فانه لم ينص فيه بحرمة البيع. مسألة: بيع الكلب المعلم والحارس جائز عند أبي حنيفة رضي الله عنه وغير جائز عند الشافعي رحمه الله. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد أو ماشية" وروى الطحاوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما وعنه عن عطاء قال: لا بأس بثمن الكلب وهو قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ثمن الكلب من السحت وفتوى الراوي بخلاف الرواية دال على ثبوت النسخ عنده وعنه عن ابن شهاب أنه قال: إذا قتل الكلب فإنه تقوم قيمته فيغرم الذي قتله فهذا الزهري يقول هذا وقد روي أن ثمن الكلب من السحت فدل على ثبوت النسخ وعن إبراهيم لا بأس بثمن كلب الصيد وروى عن مالك رحمه الله أنه أجاز بيع الكلب الضاري والزرع والماشية وعن عثمان رضي الله عنه أنه أجاز بيع الكلب الضاري في المهر وجعل على قاتله عشرين من الإبل ولأنه مال منتفع به حراسة واصطيادا قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} 1 فيحوز بيعه قياسا على الفهد والبازي لجامع دفع الحاجة إذ الاحتياج إليه حاصل وجريان

_ 1سورة المائدة: الآية 4

الشح على أنه لا يوجد إلا بعوض فتمس الحاجة إلى تجويز بيعه. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ثمن الكلب خبيث" فيكون حراما لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 1. الجواب: أن هذا الحديث محمول على أنه كان ذلك في ابتداء الإسلام قلعا لهم عن اقتناء الكلاب كما كانت عادتهم وبهذا أمر بقتل الكلاب وغسل الإناء من ولوغها سبعا ثم نسخ ذلك حين تركوا الاقتناء لأن كلب الصيد مخصوص عنه بالحديث الذي روينا فنخص غيره قياسا عليه. مسألة: لا يجوز بيع لبن النساء في قدح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه جزء لآدمي والآدمي بجميع أجزائه مكرم قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 2 فيصان عن الابتذال بالبيع ولا فرق في ظاهر الرواية بين لبن الحرة والأمة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز بيع لبن الأمة لأنه يجوز بيع نفسها فكذا بيع جزئها وجه الظاهر أن الرق حل في نفسها دون اللبن لأن الرق يختص بمحل القوة وهو الحي ولا حياة في اللبن. حجة الشاقعي رحمه الله: أنه منتفع به فيجوز بيعه لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 3. الجواب عنه: أنه ليس كل منتفع به يجوز بيعه فإن الجزء منتفع به ولا يجوز بيعه بل محل البيع النفس دون جزء الآدمي. مسألة: إذا عقل الصبي كون البيع سالبا للملك جالبا للربح فأذن

_ 1سورة الأعراف: الآية 157 2سورة الإسراء: الآية 70 3سورة البقرة: الآية 275.

له الولي في تصرف البيع والشراء نفذ تصرفه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لاينفذ. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} 1 الآية أي اختبروا عقولهم وجربوا أحوالهم ومعرفتهم قبل البلوغ حتى إذا تبينتم منهم رشدا أي هداية في التصرفات دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ ففي هذا النص دليل ظاهر على اختبار أحوالهم في التصرفات ولا يحصل ذلك إلا بجواز تصرفهم فدلت الآية على جواز تصرفهم بإذن الولي ليختبر به النقصان لاحتمال الوقوع في الخسران ولأن التصرف المشروع صدر من أهله في محله عن ولاية شرعية فوجب تنفيذه. ثم اعلم أن تصرفات الصبي على ثلاثة أقسام ما هو نفع محض كقبول الهبة فهو جائز منه وإن لم يأذن الولي وما هو ضرر محض كالطلاق فهو غير جائز منه وإن أذن الولي وما هو متردد بين النفع والضرر كالبيع والشراء فهو جائز بإذن الولي. حجة الشافعي رحمه الله: أن الصبي المأذون من جهة الولي إما أن يكون له عقل كامل أولا فإن كان له عقل كامل فلا يكون للولي عليه ولاية لأنه إذا كان كامل العقل فشفقته على ماله أكثر من شفقة وليه عليه وتصرفه في ماله أصلح من تصرف غيره فينقطع عنه تصرف الولي فيجوز تصرفه فان لم يأذن له الولي وليس كذلك بالإجماع وإن لم يكن له عقل كامل لا تصح تصرفاته لأنه حينئذ يكون تصرفه سببا لفساد ماله وهو لا يجو. الجواب عنه: أنه قد حصل له أصل العقل ولكن لا بكمال بل فيه قصور فينجبر برأي الولي فلا بد من إذنه.

_ 1سورة النساء: الآية 2

مسألة: إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن بعد هلاك المبيع لم يتحالف المتبايعان عند أبي حنيفة رحمه الله والقول قول المشتري وعند الشافعي رحمه الله يتحالفان ويفسخ البيع علي قيمة الهلاك. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب التحالف عند قيام السلعة حيث قال: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" وذلك التحالف والتراد فيه لا يمكن إلا بعد قيام المبيع فلا يجري التحالف بعد هلاكه ثم البائع يدعي زيادة الثمن والمشتري ينكره والقول قول المنكر مع اليمين لقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وكذا المشتري ينكر دعوى البائع فيتحالفان. الجواب عنه: أن المشتري بعد قبض المبيع لا يدعي شيئا لأن المبيع سالم له لكن بقي دعوى البائع في زيادة الثمن والمشتري ينكره فيكتفي بحلفه. مسألة: أهل الخلاف يذكرون ثلاث مسائل في كتاب السلم. الأولى قال: أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز بيع السلم في الحيوان ولا في منقطع الجنس وقت العقد ولا يجوز إلا مؤجلا وقال: الشافعي رحمه الله يجوز السلم في المسائل الثلاث. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه في الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلم في الحيوان ولأنه بعد ذكر الأوصاف يبقى فيه تفاوت فاحش في المعاني الباطنية فيقضي إلى المنازعة فلا يجوز. وفي الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: "لاتسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها" وجه التمسك به أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد به النهي عن بيعها لأن ذلك الجواز فيه ثابت بشرط القطع فعرف أن المراد به النهي عن بيعها سلما. وفي الثالثة: قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "من أسلم في شيء فليسلم إلى أجل معلوم" رواه الجماعة ولأنه شرع رخصة دفعا لحاجة

المفلس فلا بد من الأجل ليقدر على التحصيل. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 1. الجواب عنه: أن هذا العام مخصوص منه البعض بقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} فيجوز تخصيص المتنازع فيه بما ذكرنا من الدلائل. الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 2. الجواب عنه: قد خص منه البعض أيضا فانه لا يجوز الربا وإن وجد التراضي بين المتعاقدين فيخص المتنازع فيه بما مر من دليلنا. الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال المسلم إلا بطيب من نفسه" والجواب عنه: كما مر وأن الربا لا يحل وإن كان من طيب نفس المتعاقدين. الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم رخص في المسلم وهذا يتناول جميع أنواع السلم إما لعموم القضية أو لأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فيعم الحكم بعموم العلية. والجواب: أن الألف واللام فيه للعهد دون الاستغراق والمعهود هو المعلوم بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" فلا يصح التمسك بعمومه لعدم عمومه ولئن سلم أنه عام لكنه قد خص منه ما لم يكن إلى أجل معلوم فيخص المتنازع بما ذكرناه من الدليل ولهذا قال: الخصم إنما يصح السلم

_ 1 سورة البقرة: الآية 275 2 سورة النساء: الآية 29

بإيجاب وقبول ممن له البيع إلى أجل معلوم فتضبط الصفة كثيرا لوجود موصوف مقدور التسليم عند الحلول بعوض مسلم في المجلس فلما شرط هو هذه الشرائط مع أن الحديث عام ليس فيه هذه الشرائط جاز لغيره أن يشترط شروطا أخرى بما عنده من الأدلة.

كتاب الرهن

كتاب الرهن مسألة: لا يجوز رهن المشاع عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 فهذا النص يقتضي أن لا يكون الرهن إلا مقبوضا والمشاع لا يمكن قبضه فلا يكون محلا للرهن. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 2 ورهن المشاع عقد فيجب الوفاء به ومن ضرورته صحة رهن المشاع. الجواب: أن الآية التي ذكرناها خاصة في باب الرهن وما ذكرتم من الاية عامة وقد خص منها العقود الفاسدة فإنه لا يجب الوفاء فيها فيخص المتنازع بالدليل المذكور. الثاني: أن المقصود من الآيتين أنه إذا لم يؤد الراهن الدين يبيع المرتهن الرهن ويستوفي دينه من ثمنه والمشاع يجوز بيعه فبقي بهذا المقصود فيجوز رهنه. والجواب: أن الاستيفاء بالبيع من أحكام جواز الرهن وهو مشروط بالقبض بالنص الذي ذكرنا وهو لا يتصور في المشاع فيكون هذا التعليل في مقابلة النص فلا يقبل. مسألة: لا يجوز للراهن أن ينتفع بالرهن بالركوب والاستخدام وشرب

_ 1سورة البقرة: الآية 283 2سورة المائدة: الآية 1

اللبن بدون رضى المرتهن ويكون جميع الزوائد رهنا مع الأصل عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله له الانتفاع بالركوب وشرب اللبن. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 ولو تمكن الراهن من الانتفاع بالرهن بدون رضى المرتهن لا يبقى مقبوضا إذا الانتفاع لا يمكن إلا بالاسترداد منه وحكم الرهن الحبس الدائم بالدين. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: أن منافع الرهن مال لأن الطبع يميل إليها ولا يجوز استيفاؤها لغير الراهن بالإجماع فلو لم يمكن استيفاؤها للراهن كان ذلك إضاعة وذلك لا يجوز لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. والجواب: إنما الرهن الذي هو عين كاللبن والتمر والصوف يمكن بقاؤه أو بقاء قيمته فيكون رهنا مع الأصل فيأخذه الراهن بعد أداء الدين فلا يكون إضاعة وما ليس بعين كالمنافع فيمكنه الانتفاع باذن المرتهن ولو لم يأذن له فهي أعراض ليس لها بقاء فلا تكون من الأموال ولئن سلمنا أنها من الأموال لكن الراهن رضي بتعطيلها حيث حبسه بالدين. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "الرهن مركوب محلوب وعلى من ركبه نفقته له غنمه وعليه غرمه" والاستدلال به من وجوه: الأول: أن الحديث دل على أن الرهن قد يكون مركوبا ومحلوبا وليس ذلك لغير الراهن فتعين أن يكون ذلك للراهن. الثاني: أنه قال: "على من ركبه نفقته" أثبت فيه جواز الركوب ولم يثبت لغير الراهن فوجب ثبوته له.

_ 1سورة اليقرة: الآية 283

الثالث: قوله "له غنمه وعليه غرمه" هذا الضمير لا يمكن رجوعه إليه. والجواب عنه: أن هذا الحديث موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه ولو كان مرفوعا فقد روى يحيى بن معين أن أبا هريرة رضي الله عنه أفتى بخلافه وذلك يوجب قدحا في الرواية لأن عمل الراوي بخلافه دليل على نسخه إذ لا يجوز له الخلاف ما لم يتبين له نسخه أو يحمل الحديث على أنه يجوز ذلك للمرتهن في ابتداء الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل دين جر نفعا فهو حرام" فلم يتعين كونه محلوبا ومركوبا لغير الراهن ولو سلم صحة الحديث وعدم نسخه وأن المراد به الراهن لكنا نقول إنه خبر الواحد في مقابلة الآية وهو قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 فلا يصح التمسك به إذ يحمل على أنه يجوز له ذلك برضى المرتهن. الثالث: أن الراهن يملك رقبة الرهن وملك الرقبة يكون سببا لجواز الانتفاع فيجوز له ذلك. الجواب عنه: أنه لما تعلق حق المرتهن استيفاء لدينه لا يجوز الانتفاع به ولو اعتقه لنفذ عتقه عند أبي حنيفة رضي الله عنه ويؤخذ منه قيمته ويجعل رهنا مكانه وعند الشافعي رحمه الله لا ينفذ عتقه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عتق إلا فيما يملكه ابن آدم" والاستثناء من النفي إثبات فوجب أن يجوز العتق فيما يكون مملوكا للإنسان والرهن مملوك للراهن بالإجماع فيصح إعتاقه. حجة الشافعي رحمه الله أن إعتاق الراهن يكون سببا لزوال حق المرتهن عن الرهن وهو ضرر في حقه فلا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".

_ 1سورة البقرة: الآية 283

الجواب عنه: أن ضرر المرتهن يندفع بأخذ الدين من الراهن إن كان الدين حالا أو يأخذ قيمته وجعلها رهنا مكانه إن كان الدين مؤجلا وإن كان معسرا سعى العبد في قيمته وقضى به الدين فلا يتضرر وأما القول بعدم العتق فأضرارها على العبد بحيث لا يندفع ضرره أصلا والذي ذكرناه أولى. مسألة: الرهن مضمون عند أبي حنيفة رضي الله عنه بأقل من قيمته ومن الدين فإن هلك في يد المرتهن وكان قيمة الرهن والدين سواء كان المرتهن مستوفيا لدينه حكما وإن كانت قيمة الرهن أكثر فالفضل أمانة وإن كانت أقل سقط من الدين بقدره ورجع بالفضل وعند الشافعي رحمه الله الرهن كله أمانة إذا هلك في يد المرتهن لا يسقط شيء من الدين. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه الطحاوي عن عطاء بن أبي رباح أن رجلا ارتهن فرسا فمات الفرس في يد المرتهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سقط حقك" وعنه أيضا أن الأئمة الثقات الفقهاء رفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرهن بما فيه" وهو مروي عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وجماعة من الفقهاءالذين ينتهي إلى قولهم مثل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبي بكر بن عبد الرحمن وخالد بن زيد والحسن البصري وشريح وعطاء رضي الله عنهم أجمعين. حجة الشافعي رحمه الله: أنه لم يوجد في هذا الدين الإبراء ولا الاستيفاء فلا يسقط أما أنه لم يوجد فيه الإبراء فظاهر وكذا لم يوجد فيه الاستيفاءلأن هذا الرهن لو كانت جارية لم يحل للمرتهن وطؤها حال الحياة ولايجب عليه تكفينها بعد الموت فإذا لم يوجد الإبراء ولا الاستيفاء وجب أن يبقى الدين كما كان لأن الأصل في الثابت البقاء. الجواب عنه: أن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء والرهن وثيقة لجانب الاستيفاء فيثبت الاستيفاء ثبوت ملك اليد والحبس من وجه ويتقرر بالهلاك ولكن الاستيفاء يقع بالمالكية وأما العين فأمانة ولهذا كانت نفقة

المرهون على الراهن في حياته وكفنه عليه بعد مماته ولأن ما ذكرنا من الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين لا يترك بهذا التعليل. مسألة: إذا خلل الخمر بإلقاء شيء فيها كالملح وغيره يحل ذلك الخل ويطهر عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يحل ولا يطهر. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "نعم الإدام الخل" مطلقا فيتناول خل الخمر بالتخليل وغيره وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير خلكم خل خمركم" مطلقا فيتناول التخليل ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد المحرم عن الخمر وهو الإسكار ويثبت الصفة النافعة له وهي تسكين الصفراء وكسر الشهوة والتغذي به والإصلاح مباح وكذا الصالح النافع للمصالح اعتبارا بالمخلل وبدباغة جلد الميتة. حجة الشافعي رحمه الله من وجهين: الأول: أن الله تعالى أمر باجتناب الخمر بقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} 1 وفي التخليل اقتراب من الخمر فيحرم. الجواب عنه: أن الاقتراب المنهي عنه هو الاقتراب للشراء والبيع وغيرهما مما فيه إعزازه وأما الاقتراب لإزالة الوصف المفسد منه فيجوز كالاقتراب للاراقة والتخليل أولى من الإراقة لما فيه من إحراز مال يصير به حلالا منتفعا به. الثاني: أن أبا طلحة رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تحليل خمر اليتامى فأمره باراقتها فلو كان التخليل جائزا لأمره به في حق اليتامى الجواب عنه: أن هذا محمول على أنه كان في ابتداء التحريم حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يبالغ في إزالة الخمر وإراقتها زجرا لهم وقلعا عن العادة المألوفة بها

_ 1سورة الأنعام: الآية 153

كما أمر بقتل الكلاب وغسل الإناء عند ولوغها سبعا وخمور الأيتام يومئذ كانت جائزة الإراقة لأنها ليست بمال في حق المسلمين وكافل اليتيم إنما يجب عليه حفظ المال وارتكاب أمر جائز وإن كان فيه مفسدة خاصة يجوز ارتكابها لمصلحة عامة كما إذا تترس الكفار بصبيان المسلمين وأسراهم فأنا لا نلتفت إلى ذلك ولا نكف عن القتال. مسألة: إذا اشترى رجل متاعا فأفلس ولا يقدر على أداء الثمن لا ينفسخ البيع عند أبي حينفة رضي الله عنه بل البائع أسوة الغرماء فيه وعند الشافعي رحمه الله فسخ البيع وأخذ المتاع. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات المشتري مفلسا فوجد البائع متاعه بعينه فهو أسوة الغرماء" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل باع سلعة فأدركها عند رجل قد أفلس فهو ماله بين غرمائه". فان قيل في إسناده ابن عياش وهو ضعيف فيكون مرسلا قلنا قد وثقه أحمد وإن كان مرسلا فهو حجة عندنا وقد احتج به الجصاص وأسنده. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "من وجد عين ماله عند رجل قد أفلس فهو أحق به ممن سواه". الجواب عنه: أن المراد به الوديعة والعارية وأمثالهما دون المبيع ولهذا قال: من وجد عين ماله وهو الوديعة والعارية وأما المبيع فلم يبق بالبيع من أمواله حقيقة وكان حمل الكلام على الحقيقة أولى. مسألة: قال: أبو حنيفة رضي الله عنه لا يحجر على الحر البالغ السفيه وتصرفه في ماله جائز وإن كان مبذرا لماله قال: الشافعي رحمه الله يحجر على السفيه المضيع لماله ويمنع عن التصرف فيه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ

الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} 1 الآية قد أثبت للسفيه ولاية المداينة وما روي أن حبان بن منقذ كان يغبن في البياعات فأتي أهله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبوا حجره فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع فقال: يا رسول الله لا صبر لي عن البيع قال عليه الصلاة والسلام: "إذا بعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام" فقد أطلق في البيع ولم يحجره ولأنه حر مخاطب عاقل قد تصرف في خالص حقه فلا يححر عليه لأن في سلب ولايته إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم وهو أشد ضررا من التبذير فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى بخلاف ما لو كان في الحجر دفع ضرر عام كالحجر على الطبيب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلس. حجة الشافعي رحمه الله: أن السفيه يضيع ماله فيما لا فائدة فيه فيحجر عليه نظرا له لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} 2. الجواب عنه: أن جمهور المفسرين قالوا هذا خطاب لكل من يملك مالا أن يعطي ماله لأحد من السفهاء قريب أو أجنبي رجل أو امرأة بعلمه أنه يضيعه فيما لا ينبغي ولهذا قال: أموالكم والأصل في الكلام الحقيقة ولم يقل أموالهم وهو محمول على أول البلوغ إلى حد يصير به جدا فهو خمس وعشرون سنة لأنه إذا بلغ هذا الحد لابد له من حصول رشد بزوال أثر الصبا عنه. مسألة: الصلح على الإنكار جائز عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وعلي وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله: باطل. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 3

_ 1سورة البقرة: الآية 282. 2سورة النساء: الآية 128. 3سورة النساء: الآية 128.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل صلح جائز فيما بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا" وما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ردوا الخصوم كي يصطلحوا فإن فصل القضايا يورث بينكم الضغائن وما روى أن أعرابيا جاء إلى عثمان رضي الله عنه فقال: إن بني عمك عدوا على إبلي وقتلوا أولادها وأكلوا ألبانها فصالحه عثمان على إبل بمثل إبله من غير نكير حجة الشافعي رحمه الله: الحديث الذي روينا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "كل صلح جائز إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما" وجه الاستدلال به أن المدعي إذا كان كاذبا فقد أخذ حراما وإن كان صادقا فقد حرم هذا الصلح حلالا لأنه ادعى الكل ثم أخذ البعض وحرم النصف الباقي الجواب عنه: أن ترك الحق أو دفع المال جائز لدفع الخصومة عن نفسه وافتداء اليمين وقد روي عن حذيفة بن اليمان أن رجلا ادعى عليه حقا فقال: خذ عشرة ولا تحلفني فأبى فقال: خذ عشرين ولا تحلفني فأبى إلى أربعين وهذا صلح مع إنكار فلو لم يجز لم يفعله الصحابي ولأن الأصل في الأموال مباحة والحرمة لحق الغير فإذا رضى قد ارتفع المحرم فلا يكون في الصلح على الإنكار تحريم الحلال ولا تحليل الحرام على أن المراد بالحديث أحل حراما لعينه كالخمر أو حرم حلالا لعينه كالعسل والسكر وغيرهما ثم لو سلمنا الخبر فهو من الآحاد فلم يترك به القرآن وهو قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . مسألة: المحال عليه إذا مات مفلسا من غير قضاء الدين عاد الدين إلى ذمة المحيل عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وعثمان وشريح رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله لا يعود. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لصاحب الحق اليد واللسان" ودين المحال عليه كان على المحيل وإنما رضي بانتقاله إلى المحال عليه بشرط سلامة حقه إليه إذ هو المقصود من الحوالة وإذا لم يسلم له فسخت الحوالة فيرجع الدين إلى ذمة المديون ولأن عثمان رضي الله عنه

قضى بعود الدين إلى ذمة المحيل وسئل عمر رضي الله عنه عن هذه المسألة فقال: يعود الدين إلى ذمة المحيل لا توى على مال امرئ مسلم فقد روي ذلك مرفوعا ومثله عن شريح من غير نكير. وحجة الشافعي رحمه الله: أن البراءة قد حصلت مطلقة بالحولة فإذا برئت الذمة مرة فوجب أن لا تصير مشعولة مرة أخرى لأن الأصل في الأمر بقاؤه على ما كان. الجواب عنه: أن البراءة كانت مقيدة بسلامة حقه لأن المقصود من الحوالة وصول حق صاحب الدين إليه فإذا مات مفلسا لم يحصل مقصوده والحوالة قابلة للفسخ فتنفسخ فصار كوصف السلامة في المبيع. مسألة: إذا مات الرجل وهو مفلس فتكفل رجل عنه للغرماء لا يصح عند أبي حنيفة رضي الله عنه في حق أحكام الدنيا فلا يطالب به ولا يحبس بل يكون متبرعا في إسقاط دين الميت وعند الشافعي رحمه الله يصح فيطالب به في الدنيا. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة والميت لم تبق له ذمة فلا يمكن الضم إليها ولأنه كفل بدين ساقط لأن الدين هو القصد حقيقة ولهذا يوصف بالوجوب لكنه في الحكم مال لم يؤل إليه وقد عجز الميت بنفسه وبخلفه ففاتت عاقبة الإستيفاء فيسقط ضرورة فإذا سقط لا تلزم الكفالة عنه. حجة الشافعي رحمه الله: ما روى أنه صلى الله عليه وسلم أتى بجنازة رجل من الأنصار ليصلي عليه فقال: "هل على صاحبكم دين" قالوا نعم ديناران فقال: أترك لهما وفاء قالوا لا قال: "صلوا على صاحبكم" فقال: أبو قتادة هما علي يا رسول الله فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه. الجواب عنه: يحتمل أن يكون أبو قتادة قال: ذلك وعدا بالتبرع بالأداء ولهذا لما أدى قال له صلى الله عليه وسلم: "الآن بردت جلده" ولا نزاع في أحكام الآخرة

فقد أمكن تصحيحه في حق أحكام الآخرة حتى لا يبقى للغريم أن يطالبه بالدين في الاخرة وصححناه في حقها لأن الدين لا يسقط بالموت في أحكام الآخرة والخلاف إنما هو في أحكام الدنيا ولا دلالة في الحديث عليه فإن التبرع بأداء الدين جائز من غير أن يثبت عليه ولا كلام فيه. مسألة: الكفالة بنفس من عليه الدين تصح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وجرير بن عبد الله وأبي بن كعب وعمران بن الحصين والأشعث بن قيس رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله لا تصح. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم" من غير فصل بين النفس والمال وهذا يفيد مشروعية الكفالة ينوعيه إذ الزعيم هو الكفيل وجاء في تأويل قوله تعالى: في سورة يوسف عليه السلام {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ} 1 قال: ابن عباس رضي الله عنهما موثقا أي كفيلا بنفس الأخ المبعوث منهم وقال: الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 2 والكفالة بالنفس عقد فيجب الوفاء به وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم". حجة الشافعي رحمه الله: أن الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص باطلة فكذا في الأموال والجامع أن إحضار الشخص لا قدرة له عليه. الجواب عنه: أنه يقدر علي تسليمه بطريقة أن يعلم الطالب مكانه فيخلي بينه وبينه أو يستعين بأعوان القاضي والحاجة ماسة إليه فلا مانع من الجواز على أنه تصح الكفالة بنفس من عليه الحد فلا يجوز القياس عليه وإن لم يصح بنفس الحد ولو سلم القياس فهو مردود بمقابلة ما ذكرنا من القرآن والحديث وأفعال الصحابة رضي الله عنهم والله أعلم.

_ 1سورة يوسف: الاية 66. 2سورة المائدة: الاية 1.

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة مسألة: الوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل والكثير عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز بنقصان فاحش وهو قول صاحبيه رحمهما الله. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن التوكيل بالبيع مطلق فيجري على إطلاقه في غير موضع التهمة والبيع بالغبن بيع ربما يرغب فيه عند سآمة المالك عن السلعة واحتياجه إلي الثمن فيدخل تحت التوكيل. حجة الشافعي رحمه الله: أن البيع بالغبن ضرر والظاهر أن الموكل لا يرضى بذلك فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" على أن مطلق الأمر يتقيد بالمتعارف وهو البيع بمثل القيمة فلا يدخل البيع بالغين تحت مطلق التوكيل لأنه غير متعارف ولهذا لو وكله بشراء الجمد فإن يتقيد بزمان الحاجة إليه أو وكله بشراء الفحم فإنه يتقيد بزمان الشتاء. الجواب عنه: أن البيع بالغبن متعارف عند شدة الحاجة إلى الثمن والتبرم من الغبن كما ذكرنا ومسألة: التوكيل بشراء الجمد والفحم وتقييدهما بزمان الحاجة ممنوع على قول أبي حنيفة رضي الله عنه والموكل قد رضي برأي الوكيل حيث أطلق له الوكالة بالبيع فلو كان غرضه التقييد لما أطلقه. مسألة: الوكيل بالخصومة لو أقر على موكله في مجلس القاضي جاز إقراره عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز إقراره عليه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} 1 فالظاهر من حال المسلم أن يوكله بالخصومة بمعني المنازعة

_ 1سورة الأنفال: الآية 46

والإنكار والمنازعة عند ظهور الحق لكونه مهجورا شرعا لجواز أن لا يكون الإنكار والمنازعة عند ظهور الحق مملوكا له والتمليك ربما لا يملكه الإنسان حرام فيحمل على الجواب الحق إقرارا كان أو إنكارا بطريق إطلاق السبب على المسبب فالجواب الحق قد يكون عنده الإقرار فلا يحل له الإنكار فجاز إقراره كما جاز إنكاره إذا كان محقا فيه فيملك مطلق الجواب دون الإنكار بعينه. حجة الشافعي رحمه الله: أن الوكيل مأمور بالخصومة وهي منازعة فالإقرار ضده لأنه مسالمة والأمر بالشيء لا يتناول ضده فصار كما لو وكله في باب الحدود والقصاص فإنه لا يملك الإقرار فيه فكذا في غيره. والجواب عنه: ما مر من أن الخصومة مهجورة شرعا فلا يجوز التوكيل به فيراد به مطلق الجواب ولا يكون الإقرار ضدا له وأما في الحدود والقصاص فإن كان الموكل هو المدعي فأقر عليه وكيله بما يسقط الحد نفذ إقراره عليه وإن كان الموكل هو المدعى عليه فقد قام المانع من تنفيذ إقرار الوكيل عليه وهو الشبهة المتمكنة فيه والحدود تندرئ بالشبهات. مسألة: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا برضى الخصم إلا أن يكون الموكل مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا وقال الشافعي رحمه الل: يجوز التوكيل من غير رضى الخصم. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الجواب مستحق على الخصم ولهذا يكلف بالحضور عند القاضي للجواب والناس متفاوتون في الخصومة قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم لتخصمون لدي لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" فيمكن أن يلحقه الضرر بدعوى الوكيل لكونه عالما بالحيل والتزوير فيتوقف على رضاه. حجة الشافعي رحمه الله: أنه يجوز ذلك في حق المريض والمرأة المخدرة مطلقا فكذا في غيرهما والجامع التوسل به إلى تحصيل المقصود.

الجواب عنه: أن الجواب غير مستحق على المريض والمسافر ولأن فيهما من الضرورة ما لا يخفى وكذا في المرأة المخدرة لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحق لحيائها فيلزم توكيلها.

كتاب الاقرار

كتاب الاقرار مسألة: إذا أقر الرجل في مرض موته بديون وعليه دين في صحته أو بديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة فديون الصحة المعروفة الأسباب تقدم على الديون التي لزمته في المرض بإقراره عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله دين الصحة ودين المرض يستويان. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الحقوق إذا احتمعت في مال الميت يقدم الأقوى كالتجهيز يقدم على الدين والوصية والميراث ودين الصحة أقوى لأنه ظهر بإقراره في وقت لم يتعلق بماله حق أصلا ولم يرد عليه نوع حجر ولهذا صح إعتاقه وهبته من جميع المال وفي المرض ورد عليه نوع حجر ولهذا لا ينفذ تصرفه إلا في الثلث فكان الأقوى أولى. حجة الشافعي رحمه الله: أن إقرار المريض في مرض الموت أقرب إلى الصدق لأنه آخر عهده من الدنيا وأول عهده من الآخرة فيكون خوفه أكثر ويكون أبعد من الكذب فإذا لم يكن الإقرار في حالة المرض أولى فلا أقل من أن يكون مساويا. الجواب عنه: أن الإقرار لا يعتبر دليلا إذا كان فيه إبطال حق الغير وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء ولهذا منع من التبرع إلا بقدر الثلث وفي حالة الصحة لم يتعلق حقهم بالمال لقدرته على الاكتساب فافترق حال الصحة والمرض. مسألة: إذا أقر المريض لوارثه بالعين أو لدين لا يصح إلا أن يصدقه بقية الورثة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله يصح. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث ولا إقرار له بالدين" ولأنه تعلق حق الورثة بماله في مرضه ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلا وفي تخصيص البعض به إبطال حق الباقين

بخلاف الإقرار به للأجنبي لأنه غير متهم فيه. حجة الشافعي رحمه الله: أن دلالة الإقرار على الصدق في مرض الموت أكثر من دلالته عليه في الصحة فإذا صح الإقرار في حالة الصحة ففي حال المرض أولى. الجواب عنه: بالفرق بين الحالين في عدم تعلق حق الغير بماله في حال الصحة وتعلقه في حالة المرض. مسألة: العارية أمانة إن هلكت من غير تعد لا يضمن عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو مروي عن علي وابن مسعود وشريح والحسن وإبراهيم النخعي والثوري رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله يضمن. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس على المستعير غير المغل ضمان" المغل الخائن فإذا لم يخن لم يضمن حجة الشافعي رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: "على اليد ما أخذت حتى ترد" وبعد الهلاك يتعذر الرد صورة فيلزمه الرد معنى بلزوم الضمان. الجواب عنه: أن المراد منه الأخذ بغير إذن المالك غصبا ولهذا لو أخذ على سبيل الوديعة لا يجب عليه الضمان بالهلاك بالإجماع فعلم أن المراد منه الأخذ غصبا دون الأخذ عارية.

كتاب الغصب

كتاب الغصب مسألة: لو غصب رجل عبدا من آخر فأبق العبد فضمنه المالك قيمته ملكه الغاصب عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يملكه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن المالك ملك ببدل العبد والبدل قابل للنقل من ملك إلى ملك فيملكه الغاصب دفعا للضرر عنه كي لا يجتمع البدل والمبدل عنه في ملك رجل واحد وهو المالك. حجة الشافعي رحمه الله: أن الغصب عدوان محض فلا يصلح سببا لذلك كمال المدبر. الجواب عنه: أن أداء الضمان مشروع يصلح سببا للملك بخلاف المدبرلأنه غير قابل للنقل من ملك إلى ملك فافترقا. مسألة: لو قطع رجل يدي عبد إنسان أو فقأ عينيه فالولي بالخيار إن شاء دفع عبده إلى الجاني وأخذ قيمته وإن شاء أمسكه ولا شيء له في النقصان عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله يضمنه كل القيمة ويمسك الجثة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن مالك العبد ملك بدله بتمامه فوجب أن يخرج العبد من ملكه وإلا لزم الجمع بين البدل والمبدل عنه وهو محال. حجة الشافعي رحمه الله: أن العبد كان في ملك مالكه والأصل في كل شيء بقاؤه على ما كان والضمان بمقابلة الدين فيبقى العبد في ملك مالكه الأول. الجواب عنه: أن العبد فيه معنى المالية ومعنى الآدمية فوقعنا على الشبيهين منهما فبالنظر إلى الآدمية يجب الضمان بإداء الغائب لا غير كما في

الحر وبالنظر إلى المالية ليس له أن يأخذ كل بدل العين مع إمساك الجثة كما ليس له ذلك في المال بأن خرق ثوب إنسان خرقا فاحشا فإنه يأخذ القيمة ويدفع الثوب إلى الخارق وليس له أن يمسك الثوب ويأخذ القيمة بالتمام. مسألة: ثمرة البستان المغصوب أمانة في يد الغاصب إذا هلكت لا ضمان عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا أن يتعدى فيها أو يطلبها مالكها فيمنعها وقال: الشافعي رحمه الله مضمونة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن سبب الضمان الغصب وهو عبارة عن إزالة اليد المحقة وإثبات اليد المبطلة ويد المالك لم تكن ثابتة على الزيادة حتى يزيلها الغاصب. حجة الشافعي رحمه الله: أن المقصود من ذلك البستان الثمرة فيكون غصبه غصبا للثمرة والمغصوب مضمون لا محالة. الجواب عنه: أنه لا نسلم أن غصب البستان غصب الثمرة إذ البستان موجود والثمرة معدومة لا يتصور الغصب في المعدوم. مسألة: لا يضمن الغاصب منافع ما غصبه إلا أن ينقص باستعماله فيغرم النقصان عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يضمنها. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إجماع الصحابة رضي الله عنهم أنهم حكموا في ولد المغرور بالقيمة والعقر ولم يحكموا بضمان المتعة ولو كان الضمان واجبا لحكموا به وروي أن رجلا استحق ناقة فقضى له النبي صلى الله عليه وسلم بها ولم ينقل أنه قضى بوجوب الأجر ولأن المنافع لا يمكن غصبها وإتلافها لأنه لا بقاء لها. حجة الشافعي رحمه الله: أن المنافع أموال متقومة حتى تضمن بالنقود وكذا بالغصوب لأن الغاصب منع المالك من الانتفاع فيضمن بقدر ما منعه من الانتفاع لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ

مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 1. الجواب عنه: أنه يمنع كون المنافع أموالا وإنما تتقوم في ضمن العقد بالتراضي لقيام العين مقامها كما عرف في موضعه والنص يقتضي أن يكون الضمان بالمثل ولا يمكن المماثلة بين الأعيان والمنافع لأن المنافع أعراض لا بقاء لها والأعيان باقية فلا مماثلة بينهما فلا يمكن إيجاب العين بمقابلة المنفعة. مسألة: إذا غصب رجل حنطة من آخر فطحنها زال ملك المالك عنها وملكها الغاصب وضمن مثل تلك الحنطة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لاينقطع حق المالك. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الغاصب أحدث صنعة متقومة صيرت حق المالك بها هالكا من وجه ولهذا تبدل الاسم وفات معظم المقاصد وحقه في الصنعة قائم من كل وجه فيترجح على الأصل الذي هو فائت من وجه. حجة الشافعي رحمه الله: أن العين باقية فتبقى على ملك المالك إذ الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان عليه وتتبعه الصفة. الجواب عنه: لا نسلم أن الأصل باق من كل وجه بل هو هالك من وجه كما مر وفيما قلنا رعاية للجانبين فإن حق المالك ينجبر بأخذ المثل وحق الغاصب يضيع في الصفة بلا جابر فالمصير إلى ما قلنا أولى. مسألة: إذا غصب ساحة فبنى عليها انقطع حق المالك ولزمه قيمتها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله له أن يخرب البناء ويأخذها. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن فيما ذهب إليه الخصم إضرار بالغاصب ينقض بنائه من غير خلف وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة

_ 1سورة البقرة الآية 194.

فكان أولى فصار كما خاط بالخيط المغصوب بطن ولده أو أدخل اللوح المغصوب في سفينة. حجة الشافعي رحمه الله أن عين المالك باق وهو غير راض بزوال ملكه فله أخذه. الجواب عنه: أن هذا منقوض فيما إذا خيط بطن إنسان بالخيط المغصوب فإنه ليس له شق البطن وأخذ الخيط وإن كان عين ملكه باقيا فكما لا يجوز له أخذ الخيط لدفع الضرر من النفس فكذا ليس له أخذ الساحة لدفع الضرر عن المال قال عليه الصلاة والسلام: "حرمة مال المؤمن المسلم كحرمة دمه" مسألة: إذا غصب رجل جارية إنسان وهي حبلى فما نقصت بالولادة فهو في ضمان الغاصب فإن كان في قيمة الولد وفاؤه جبر النقصان بالولد وسقط ضمانه عن الغاصب عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا ينجبر النقصان بالولد. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن سبب الزيادة والنقصان واحد وهو الولادة فلا يعد نقصانا فلا يوجب ضمانا كما لو غصب جارية فهزلت ثم سمنت أو سقطت أسنانها ثم نبتت. حجة الشافعي رحمه الله: أن الولد ملك المالك فلا يصلح جابرا للملك نفسه كما إذا هلك الولد قبل الرد وصار كما إذا جز صوف شاة أو قطع قوائم شجر غيره. الجواب عنه: أن سبب النقصان ها هنا القطع والجز وسبب الزيادة النمو فلم يتحد سبب الزيادة والنقصان وفيما نحن بصدده اتحد سبب الزيادة والنقصان فافترقا. مسألة: إذا أتلف المسلم خمر الذمي يضمن عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يضمن.

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن تقوم الخمر باق في حق أهل الذمة إذ الخمر لهم كالخل لنا ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون وإذا بقي التقوم فقد يكون إتلاف مال متقوم فيجب الضمان لقول علي رضي الله عنه: إنما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا ويجب الضمان بإتلاف مال متقوم لنا فكذا بإتلاف مالهم. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم في حق أهل الذمة: "لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين" والخمر في حق المسلم غير مضمون فكذا لا يكون مضمونا في حق الذمي. الجواب عنه: أن المسلم يعتقد حرمته ومأمور باجتنابه عنه فلا يكون في حقه متقوما بخلاف الذمي فإنه يعتقد إباحته ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون ولهذا لو باع الذمي الخمر لذمي جاز بيعه فانه غير ممنوع عن تمليك الخمر وتملكه بخلاف المسلم فافترقا.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة مسألة: الشفعة تستحق بالجوار عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله: لا شفعة بالجوار. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما رواه البخاري ومسلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بصقبه" ويروى بسقبه بالسين ومعناهما واحد وهو القرب وروي هذا التفسير مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قيل يا رسول الله ما سقبته قال: "شفعته" وقوله صلى الله عليه وسلم: "جار الدار أحق بالدار" ينتظر له إن كان غائبا غائبا إذا كان طريقهما واحدا رواه الترمدي وفي مسند أحمد رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جار الدار أحق بالدار من غيره" ولأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على استحقاق الشفعة بالجوار حتى قال علي وابن مسعود رضي الله عنهما: أنه قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة بالجوار وكتب عمر رضي الله عنه إلى شريح أن يقضي بالشفعة للجار الملازق. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لا يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". الجواب عنه: أن المراد به فلا شفعة لسبب الشركة في نفس المبيع أو حقه إذ المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم" يعني الشفعة لسبب الشركة في المبيع أو حقه فلا يلزم منه نفي الشفعة بالجوار. مسألة: الشفعة بين الشركاء على عدد رؤوسهم وإن اختلفت أملاكهم عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله على قدر الأنصباء. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو الاتصال فيستوون في الاستحقاق ألا ترى أنه لو انفرد واحد منهم استحق كمال الشفعة وهذا آية كمال السبب.

حجة الشافعي رحمه الله: أن الشفعة من مرافق الملك فيكون على قدر الأملاك كالربح والغلة والثمرة. الجواب عنه: أن الشفعة تملك ملك غير فلا يجعل من ثمرات ملكه بخلاف الربح والغلة والثمرة فإنها نماء الملك فيكون بعدد الملك.

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة مسألة: الإجارة لا تستحق بنفس العقد بل بشرط التعجيل أو بالتعجيل من غير شرط أو باستيفاء المعقود عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي يملك في الحال بنفس العقد. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن المبدل منافع الدار شهرا أو سنة وتلك المنافع لم تدخل في ملك المستأجر في الحال فوجب أن لا يخرج البدل عن ملكه في الحال وحاصله أن العقد ينعقد شيئا فشيئا على سبب حدوث المنافع والإجارة عقد معاوضة ومن قضيتها المساواة فمن ضرورة التراخي في جانب المنفعة التراخي في جانب البدل الآخر وإذا استوفى المنفعة ثبت الملك في الآخر لتحقيق التسوية وكذا إذا شرط التعجيل أو عجل لأن المساواة ثبتت حقا له وهو أبطله. حجة الشافعي رحمه الله: أن المنافع المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد فيجب الحكم فيما يقابله من البدل بنفس العقد. الجواب عنه: أن الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها والضرورة متحققة بجعله موجودا لتصحيح العقد ولا ضرورة في حق وجوب مقابله في الحال على أن الدار أقيمت مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها فلا ضرورة في جعل المنافع موجودة حكما. مسألة: وما تلف بعمد الأجير المشترك كتخريق الثوب من دقه وغرق السفينة من مده مضمون عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا ضمان عليه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن خرق الثوب ضرر حاصل بفعله فيلزمه الضمان والداخل تحت الإذن ما هو الداخل تحت العقد وهو العمل الصالح لأنه هو الوسيلة إلى الأثر دون العمل المقيد.

حجة الشافعي رحمه الله: أن القصار لم يقصر في العمل والنقصان ليس من قبله إذ لا قدرة له في ذلك والأمر بالفعل كان مطلقا فينتظمه بنوعية المعيب والسليم كالأجير الواحد ومعين القصار. الجواب عنه: أن المعين متبرع فلا يمكن تقييده بالصالح والأجير الواحد صارت منافعه مملكة للمستأجر بنفس تسليم النفس فإذا أجره بالتصرف في ملكه صح ويصير نائبا منابه فصار فعله منقولا إليه فكأنه فعل بنفسه فلهذا لا يضمنه. مسألة: لا تجوز إجارة المشاع عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا من الشريك وقال: الشافعي رحمه الله إجارة المشاع جائزة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن شرط جواز الإجارة أن يكون الأجر مقابلا للتسليم وتسليم المشاع وحده لا يتصور فلا تجوز إجارته. حجة الشافعي رحمه الله: لو أجر داره لرجلين جاز بالاتفاق مع أنه في الحقيقة أجر لكل واحد منهما النصف فعلم أن إجارة المشاع جائزة وتسليم المشاع صحيح بطريقة وهو المهايأة بأن يسكن هذا يوما وذاك يوما. الجواب عنه: أن التسليم إلى رجلين يقع جملة ثم الشيوع بتفرق الملك فيما بينهما طارئ فلا يمنع الجواز وأما المهايأة فإنما تستحق حكما للعقد بواسطة الملك وحكم الشيء يعقبه والقدرة على التسليم شرط العقد وشرط الشيء يسبقه فبينهما منافاة. مسألة: لا يجوز الاستئجار على الطاعات كالحج وغيره عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله في كل طاعة لا تتعين على الأجير. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما رواه الترمذي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: إن آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا" وما رواه الطحاوي عن عبد الرحمن الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤا القرآن

ولاتأكلوا به" وما رواه ابن ماجة عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: علمت رجلا القرآن فأهدى لي قوسا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو أخذتها أخذت قوسا من نار" فرددتها. حجة الشافعي رحمه الله ما روي أن نفرا من الصحابة رضي الله عنهم نزلوا على حي من أحياء العرب وكان سيدهم لدينا فسألوهم هل فيكم الراقي فرقى رجل من الصحابة بالفاتحة وشرط عليه قطيعا من الغنم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: "مايدريك أنها رقية خذوها واضربوا لي بسهم" وقال: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله". الجواب عنه: من وجوه: أحدهما أن القوم كانوا من أهل الحرب فجاز أخذ أموالهم بأي طريق كان. والثاني: أن حق الضيف كان لازما ولم يضيفوهم وكان الأخذ من الضيافة. الثالث: أن الرقية ليست بقربة محضة فجاز أخذ الأجرة عليها على أن المتأخرين من مشايخنا جوزو أخذ الأجرة على تعليم القرآن والله أعلم.

كتاب المأذون

كتاب المأذون مسألة: المولى إذا أذن للعبد في نوع من التجارة فهو مأذون في الجميع عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يصير مأذونا له إلا في ذلك النوع. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن الإذن في الشرع فك الحجر والعبد بعد ذلك يتصرف بنفسه لأهليته لأنه بعد الرق بقي أهلا بلسانه الناطق وعقله المميز والحجر عن التصرف حق المولى فإذا أسقط المولي حقه وفك الحجر فعند ذلك يظهر مالكية العبد فلا يتخصص بنوع دون نوع كالمكاتب. حجة الشافعي رضي الله عنه: أن الإذن من المولى توكيل وإنابة لا يستفيد الولاية إلا من جهة المولى ولهذا يملك حجره فيتخصص بما خصه لاحتمال أن يكون له بصيرة في نوع دون آخر كالمضارب. الجواب عنه: أن تصرف الوكيل واقع لموكله حتى لا يكون له قضاء دينه من ذلك المال وحكم التصرف في المأذون وهو المالك له حتى كان له أن يصرفه إلى قضاء الدين والنفقة وما استغنى عنه فخلفه المولى فيه فافترقا وزوال الحجر غير متجزئ فإذا زال بالنسبة إلى شيء يزول مطلقا وحاصله أن التوكيل نيابة فلا تعم الوكالة إذا خصصها الموكل والإذن فك الحجر دون الإنابة فيعم. مسألة: إذا رأى المولى عبده يبيع ويشتري فسكت ولم يمنعه عن ذلك يصير مأذونا في التجارة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يصير مأذونا بذلك. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن كل من رآه يظنه مأذونا فيعاقده فيتضرر به لو لم يكن مأذونا له ولو لم يكن المولى راضيا به لمنعه دفعا للضرر عن المسلمين والغرر فصار كسكوت الشفيع عند بيع الدار المشفوعة عن

طلب الشفعة فإنه دليل الرضى فتبطل شفعته دفعا للغرر فكذا هنا. حجة الشافعي رحمه الله: يحتمل أن يكون الرضى ويحتمل أن يكون السخط ويحتمل أن يكون للتوقف والحياء فلا يثبت الإذن بالشك. الجواب عنه: أن ترجيح جانب الرضى على غيره بالعرف دفعا للضرر عن المسلمين كما ذكرنا. مسألة: ديون العبد المأذون إذا كانت واجبة بالتجارة تتعلق برقبته فيباع فيها للغرماء عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يباع. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن كون هذا للدين ظاهر في حق المولى بدليل أن العبد يطالب به في الحال فيتعلق برقبته استيفاء لدين الاستهلاك والجامع دفع الضرر عن الناس والمولى قد رضي بذلك حين أذن له في التجارة. حجة الشافعي رحمه الله: أن رقبة العبد كانت مملوكة للمولى والأصل في الثابت بقاؤه فوجب الحكم ببقائها على ملك المالك فلا يجوز بيعها بدون إذن المالك كما في سائر الأملاك. الجواب عنه: أن سبب الدين وهو التجارة داخلة تحت الإذن وتعلق الدين برقبته استيفاء حامل على المعاملة فمن هذا الوجه صلح غرضا للمولى فيكون راضيا به فجاز بيعه بخلاف سائر الأملاك فإنه لا يجوز بيعها بدون رضاه.

كتاب الهبة مسألة: إذا وهب الرجل هبة لأجنبي بلا عوض فقبض وتسلم فله الرجوع عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم. وقال: الشافعي رحمه الله: لا رجوع فيها. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله عليه الصلاة والسلام: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب عليها" أي ما لم يعوض عنها وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت الهبة لذوي رحم محرم لم يرجع فيها ولو كانت لأجنبي فله الرجوع" وروى الطحاوي عن الأسود عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "من وهب هبة لذوي رحم محرم جازت ومن وهب هبة لغير ذوي رحم محرم فهو أحق بها ما لم يثب" وهكذا نقل عن علي رضي الله عنه. حجة الشافعي رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرجع الواهب في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده" وقوله صلى الله عليه وسلم: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه". الجواب عنه: أن المراد بالحديث الأول: نفي الرجوع على سبيل الاستقلال ونحن نقول بموجبه فانه لا يصح الرجوع عندنا إلا بالتراضي أو بقضاء القاضي إلا الوالد فإن له حق التملك في مال ولده عند الحاجة من غير رضى الولد ويسمى ذلك رجوعا نظرا إلى الظاهر أو المراد به الكراهة وهي ثابتة عندنا ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالكلب العائد في قيئه لاستقباحه في المرؤة إذ فعل الكلب لا يوصف بالصحة والفساد وإنما يوصف بالقبح طبعا وعادة لاستقذاره فلا يدل على عدم الجواز في الحكم. مسألة: لا يجوز هبة المشاع فيما يقسم عند أبي حنيفة رضي الله عنه

ولا يفيد الملك قبل القسمة وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصح الهبة إلا محوزة مقسومة مقبوضة" ولأن القبض شرط في الهبة والمشاع لا يقبل القبض إلا بضم غيره وذلك غير موهوب ولأن في تجويزه إلزامه شيئا لم يلتزمه وهو القسمة ولهذا امتنع جوازه قبل القبض لئلا يلزم التسليم. حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه" والاستثناء من النفي إثبات ولأن المشاع قابل للقبض بطريقه وهو المهايأة والمناوبة. الجواب عنه: أن دليلنا صريح ودليلكم غير صريح فيترجح على دليلكم والمهايأة تلزم فيما لم يتبرع به وهو المنفعة والهبة لاقت العين.

_ 1سورة المائدة: الآية 1.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة مسألة: إذا أودع إنسان شيئا عند صبي فأتلفه فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال الشافعي رحمه الله: عليه ضمان. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ...." ولأنه بالإيداع عند الصبي سلطه على ماله والظاهر من حاله الإتلاف لقصور عقله فيكون عن رضاه فلا يجب الضمان. حجة الشافعي رحمه الله: أن الإتلاف لو كان قبل الإيداع وجب عليه الضمان فكذا بعد الإيداع لأن قول المودع أحفظ هذا المال لو لم يكن مانعا من الإتلاف لا يكون أقل من عدم الرضى به فيضمن. الجواب عنه: بالفرق وهو أنه قبل الإيداع غير مسلط على الإتلاف من جهته وبعده مسلط عليه فافترقا. مسألة: إذا سافر المودع بالوديعة فتلفت لايضمنها عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا إذا كان الطريق مخوفا أو كان المالك نهاه عن المسافرة بها أما إذا لم ينهه عن ذلك ولم تكن المخاطرة في الطريق ظاهرة لم يضمن وقال: الشافعي رحمه الله يضمنها مطلقا. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن المودع أتى ما أمره المالك به فلا يجب عليه الضمان لأنه أمره بالحفظ مطلقا وعند المسافرة لا يمكنه حفظها إلا بالمسافرة بها إذ لا يمكنه أن يودع عند آخر وكان مأذونا له فيها والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمنا ولهذا يملكه الأب والوصي في مال الصبي. حجة الشافعي رحمه الله: مأمور المودع مأمور بحفظ كامل والسفر ليس فيه حفظ كامل فلا يكون مأذونا فيه فيجب عليه الضمان بالسفر. الجواب عنه: أنه يمنع أن السفر ليس فيه حفظ كامل لأنه ربما لا يجد في

البلد من يعتمد عليه في الحفظ وهو مضطر إلى السفر وكان المالك عالما بذلك عادة فيكون مأذونا دلالة فلا يضمن. مسألة: المودع إذا خالف وتعدى في الوديعة بأن كانت دابة فركبها أو ثوبا فلبسه ثم أزال التعدي وعاد إلى الوفاق لا يلزمه الضمان بالهلاك عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله: يضمن. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الأمر بالحفظ باق بعد الخلاف لأنه مطلق عن الوقت غير موقت فيكون باقيا فإذا عاد إلى الوفاق يكون آتيا بما أمره به المودع من الحفظ في جميع الأزمان فلا يلزمه الضمان. حجة الشافعي رحمه الله: وقت الخيانة لزمه الضمان والأصل في الثابت البقاء فوجب أن يبقى ذلك الوجوب بعد العود إلى الوفاق. الجواب عنه: أن الموجب للضمان هو الخيانة وقد زالت بالعود إلى الوفاق فيزول الضمان ولأنا نعارضه بالمثل وهو أن الضمان لم يكن واجبا قبل الخيانة والأصل في الثابت بقاؤه فبقي على ما كان من عدم لزوم الضمان. مسألة: إسلام الصبي العاقل صحيح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله: لا يصح. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن عليا رضي الله عنه أسلم وهو ابن ثمان سنين وروى الخلال وهو ابن عشر سنين وقد صحح النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه وافتخر علي رضي الله عنه بذلك وتمدح به حيث قال: سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيرا ما بلغت أوان حلمي فلو لم يكن إيمانه صحيحا لما افتخر به النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أتى بحقيقة الإيمان وهو التصديق والإقرار والحقائق لا يمكن ردها خصوصا الإيمان الذي لا يمكن الرد وقد جوزنا منه ما هو نفع محض كقبول الهبة فلأن يجوز

ما فيه سعادة أبدية ونجاة عقباوية سرمدية فهي من أجل المنافع وعاجله أولى حجة الشافعي رحمه الله: لوكان الإيمان صحيحا من الصبي لكان واجبا عليه ولو كان واجبا عليه لما جوز الشرع تركه إذ ترك إسلام من وجب عليه كفر والشارع لم يجز له التقرير على الكفر فعلم أن إسلام الصبي لا يصح وقد قيل إن عليا رضي الله عنه كان وقت إسلامه بالغا ابن خمس عشرة سنة. الجواب عنه: أنه لا نسلم أنه يلزم من الجواز الوجوب فإن أردتم أنه لا يجب عليه بمعنى أنه لا يأثم بتركه ولا يجب عليه الإيمان فمسلم ولكن لا يلزمه منه عدم الجواز والقبول إذا أتى به فإن المسافر إذا صام من رمضان يقع عن الفرض مع أنه لا يجب إتيانه في الحال ولا يأثم بتركه وإن ادعيت أنه لا وجوب عليه أصلا فهو ممنوع على ما اختاره الشيخ أبو منصور رحمه الله ونقله مذهبا لأهل السنة والجماعة وقد صح أن أول من أسلم من الصبيان علي رضي الله عنه فلا يصح دعوى أنه أسلم بعد البلوغ.

كتاب النكاح

كتاب النكاح مسألة: الاشتغال بالنكاح أفضل من التخلي لنفل العبادات عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عامة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله التخلي لنفل العبادات أفضل من النكاح. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن النكاح واجب أو سنة وعلى التقديرين فهو أفضل من النوافل لأنه إن كان في حالة التوقان فهو واجب عملا بظاهر الأمر لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} 1 ورجحان الواجب على النفل ظاهر وإلا فهو سنة لقوله صلى الله عليه وسلم: "النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني" وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة وينهى عنه التبتل نهيا شديدا ويقول: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة" رواه أحمد في مسنده وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعاكف بن بسر: "هل لك زوجة" قال: لا "ولا جارية" قال: لا قال: "وأنت موسر" قال: وأنا موسر قال: "إذن أنت من إخوان الشياطين إن من سنتنا النكاح شراركم عزابكم وأرذل موتاكم عزابكم" أخرجه أحمد رحمه الله في مسنده وروى ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم شبابا ليس لنا شئ فقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" أمر بالنكاح وقدمه على الصوم فهذه الأحاديث دالة على أنها سنة وهي أفضل من النوافل بالإجماع. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "أفضل الأعمال الصلاة" وهذا نص صريح في هذه المسألة.

_ 1سورة النساء: الآية 3.

الجواب عنه: أن المراد به أن أفضل الأعمال المفروضة الصلاة وأفضل النوافل الصلاة النافلة وليس المراد بأفضل الصلاة مطلقا ولا يلزم أن تكون الصلاة النافلة أفضل من الزكاة المفروضة والحج المفروض وليس كذلك ونحن قائلون بموجب الحديث وإنما الكلام بأن الصلاة النافلة أو النكاح الذي هو سنة والحديث لم يدل على أن النفل أفضل من السنة. الثاني: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1 ولم يقل بأنه ما خلق الجن والإنس إلا للنكاح فعلم أن العبادة أفضل. الجواب عنه: أن المراد من قوله ليعبدون ليعرفون قاله ابن عباس رضي الله عنهما ولئن سلمنا أن المراد به العبادات فالنكاح من جملة العبادات لكونها سنة ولهذا يثاب على إتيان أهله حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال: "أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر" فكذا إذا وضعها في الحلال كان له أجر ولأن النكاح سبب لولد صالح يدعو له بعد موته فيكون أولى من العبادة المنقطعة بموته وما يتضمنه النكاح من الواجبات فريضة كالإنفاق وسائر الفرائض ولا شك أن إتيان الفرائض أكثر ثوابا من النوافل فكان أولى لقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: "ما تقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضته". الثالث: من أدلة الشافعي رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام: "حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة" وكل ما فيه قرة عينه فهو أفضل فتكون الصلاة أفضل من النكاح قال مولانا فخر الدين الرازي رحمه الله مؤلف البهائية هذه الحجة استنبطها مولانا السلطان بهاء الدين خلد الله ملكه وسلطانه ولم أسمع من أحد غيره. الجواب عنه: أن في هذا الحديث قدم النكاح على الصلاة والتقديم دليل

_ 1سورة الذاريات: الآية 56.

على الترجيح وأيضا لم يقل في صلاة النفل فلا يكون دليلا لاحتمال أن يكون مراده صلاة الفرض. مسألة: ينعقد نكاح الحرة البالغة العاقلة برضاها ولم يعقد عليها ولي عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول علي وعائشة وموسى بن عبد الله بن يزيد والشعبي والزهري وقتادة والحسن البصري وابن سيرين والقاسم بن محمد والأوزاعي وابن جريج رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله لا ينعقد النكاح بعبارة النساء بل يحتاج إلى الولي. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: الكتاب والسنة والمعقول: أما الكتاب فقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 1 وهذا دليل على جواز تصرفها في العقد على نفسها وقد أضاف الله تعالى الفعل إليهن في مواضع من كتابه العزيز فقال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} 2 وقال تعالى {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} 3 وقال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} 4 فنسب التراجع إلى الزوجين من غير ذكر الولي. وأما السنة فمن وجوه: الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما الأيم أحق بنفسها من وليها ويروى من أبيها أخرجه الشيخان في الصحيحين وفي حديث آخر لابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البكر يستأذنها أبوها في نفسها" أخرجه الدارقطني وروي أن رجلا زوج ابنته وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أر لها خيرا فقال صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح لك اذهبي فانكحي من

_ 1 سورة البقرة: الآية 240. 2 سورة ااالبقرة: الآية 230. 3 سورة البقرة: الاية 232. 4 سورة البقققرة: الآية 230.

شئت" وقد زوجها من كفو رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه وقال: قتادة جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته فجعل الأمر إليها فقالت قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أنه ليس للآباء من الأمر شيء وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن بكرا زوجها أبوها بغير إذنها ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وروي رد نكاحها وأمثال هذه الأحاديث كثيرة فقد بلغت حد الشهرة من حيث المعنى وأما المعقول فهو أنها مكلفة قد ثبت أهليتها لجميع التكاليف الشرعية والبضع حقها دون الولي ولهذا يكون بذله لها فقد تصرفت في خالص حقها فجاز لها ذلك ولأنها تملك الإقرار بالنكاح فتملك الإنشاء. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" قالها ثلاثا رواه أبو داود وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" رواه أحمد رحمه الله في مسنده. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا بد في النكاح من أربعة الولي والزوج والشاهدين" أخرجه الدارقطني. الجواب عنه: أن الحديث الأول: ضعفه يحيى بن معين وعلى تقدير الصحة يحمل على الأمة والمكاتبة والمدبرة والصغيرة والمجنونة والمعتوهة بدليل ما ذكرنا من الأحاديث فنخص هذا العام بها ثم مفهوم هذا الحديث لو نكحت بإذن وليها جاز فالخصم لم يقل به فكانت حجة عليه وقال: الطحاوي ثم لو ثبت عن عائشة رضي الله عنها فقد ثبت عنها ما يخالفه فإنها زوجت حفصة بنت أخيها عبد الرحمن المنذر بن الزبير وهو غائب بالشام فلما قدم قال: أمثلي يصنع به هذا إلى أن قال: ما كنت أرد أمرا قضيتيه فقرت حفصة عند زوجها فلما كانت عائشة قد رأت تزويجها جائزا بغير إذن أبيها بعبارتها استحال أن يكون ترى ذلك وقد علمت مانسب إليها من رواية الحديث المذكور وأما الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" فرواه أبو إسحاق السبيعي عن أبي بردة فقطعه شعبة وسفيان الثوري وهما أثبت وأحفظ من جميع من رواه عن أبي إسحاق كذا قاله الطحاوي وأما

الحديث الثالث: ففي سنده ابن أبي فروة وهو ضعيف قاله أحمد والدارقطني وقال: النسائي متروك الحديث. الجواب العام عنه: أن هذه الأحاديث على تقدير صحتها أخبار آحاد وردت على مخالفة الكتاب وهو ما جاء من إضافة النكاح إليهن في مواضع من القرآن فلا يعمل بها. مسألة: الأب والجد لا يملك تزويج البكر البالغة بدون رضاها على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وابن عباس وأبي موسى وأبي هريرة وجابر وابن عمر ومالك والأوزاعي والشعبي وطاووس والثوري وأبي ثور رضي الله عنهم وقال الشافعي رحمه الله: يملك تزويجها بدون رضاها. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: الأحادث المذكورة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "البكر تستأمر وإذنها صماتها" وما روى أن رجلا أنكح ابنته فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكت إليه أنها نكحت وهي كارهة فانتزعها النبي صلى الله عليه وسلم من زوجها وقال: "لا تكرهوهن" وما روي أن جارية بكر أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا زوج ابنته وهي بكر فكرهت ذلك فرد عليه الصلاة والسلام نكاحها والأحاديث في هذا الباب كثيرة حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب أحق بنفسها من وليها" وتخصيص الثيب يدل على أن البكر حكمها ضد حكم الثيب فيكون للأب ولاية إجبارها لئلا يتعطل التنصيص على الثيب غير النافرة. الجواب عنه: أن المفهوم عندنا ليس بحجة ولو سلم كونه حجة لكن الأخذ بالمنطوق وهي الأحاديث التي ذكرناها أولى بلا خلاف على أن هذا المفهوم حجة عليه فإنه غايته أن لا تكون البكر أحق بنفسها من وليها فتكون إما مساوية له أو يكون هو راجحا عليها وعلى التقديرين لها حق في

نفسها فلا يجوز للولي إبطاله بلا رضاها. مسألة: يجوز للأب أن يزوج البنت الصغيرة بدون رضاها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز تزويجها بلا رضاها. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: العمومات المطلقة في باب النكاح وهو ما روى أبو حاتم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم ممن ترضون دينه وخلقه فأنكحوه وإلا تفعلوا تكن فتنة" رواه الترمذي وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يؤخرن الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفوا" ولأن علة الولاية الصغر وهو غير موجود بعد صيرورتها ثيبا ولأن النكاح يتضمن مصالح ولا يتوفر إلا بين المتكافئين عادة ولا يتفق الكفو في كل زمان والصغيرة عاجزة عن ذلك بنفسها فأثبتنا الولاية عليها في حالة الصغر إحرازا إلى كفو. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب أحق بنفسها من وليها" وهذه ثيب فلا يكون للولي تزويجها. الجواب عنه: أن المراد به المرأة البالغة التي لا زوج لها لأنها هي أحق بنفسها أما الصغيرة فلا إذ لا يجوز لها أن تعقد بنفسها فلو لم يجز للولي ذلك لفات الكفو. مسألة: غير الأب والجد كالأخ والعم يملكان نكاح الصغير والصغيرة على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "النكاح إلى العصبات" والأخ والعم من العصبات. وروي أنه صلى الله عليه وسلم زوج أمامة بنت حمزة عمر بن أبي سلمة فكانت صغيرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم زوج ابنة عمها وابن عمر زوج يتيمة وقال: "لها الخيار إذا بلغت" ولأن القرابة داعية إلى النظر خصوصا في حق الصغار كما في الأب والجد وما فيه من القصور أظهرناه في سلب ولاية الإلزام حيث قلنا بثبوت خيار البلوغ لهما في غير الأب والجد.

حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر". الجواب عنه: أن المراد باليتيمة البالغة دون الصغيرة إذ الصغيرة لا إذن لها وتسميتها يتيمة مجاز والدليل عليه ما روى أبو موسى رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها" وهذا صريح فيما قلنا إذ سكوت الصغيرة ليس بإذن. مسألة: الأب الفاسق يصلح وليا في النكاح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يكون وليا. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: العمومات نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "النكاح إلى العصبات" أطلق ولم يقيد بكون العصبات عدولا ولأن الأب وافر الشفقة وكامل الرأي وإن كان فاسقا فلا يقع الخلل في النظر فيصلح وليا. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل" والفاسق ليس بمرشد إذ الرشد عبارة عن الخصال الحميدة ورأس جميعها الطاعة فيفوت الرشد بالفسق. الجواب عنه: أن هذا الحديث اتفقوا على أنه وما جاء في معناه ضعيف قال صاحب الإصطلام من الشافعية من لم يثبت هذا الحديث يكفينا مؤنتهم اعترافهم بالضعف ولو سلمنا صحته فالمراد بقوله مرشد أي عاقل له رأي وتدبير دون المعتوه والسفيه. مسألة: ينعقد النكاح بحضور الشهود وإن كانوا غير عدول عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي لا ينعقد بحضرة فاسقين. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بشهود" من غير قيد ولأن الفاسق من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة ولأنه يصلح إماما وسلطانا فيصلح قاضيا وشاهدا بطريق أولى. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" وهذا نص في المسألة.

الجواب عنه: أن هذا الحديث غير صحيح لأن في سنده عدي بن الفضل أبي حرب قال: فيه يحيى بن معين ليس بثقة وإن صح فهو لنفي الكمال كما في قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" جمعا بين الدلائل. مسألة: ينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأتين عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا ينعقد. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إطلاق قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} 1 وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه أجاز شهادة امرأتين مع شهادة رجل في النكاح والفرقة فدل ذلك على أن الأموال والنكاح في هذا سواء. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" فالحديث دل على أن الانعقاد موقوف على حضور رجلين. الجواب عنه: أن المرأتين أقيمتا مقام الرجل فكأن النكاح وقع بحضرة رجلين حكما ولهذا قيل في تأويل قوله تعالى: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أي فتجعل إحداهما مع الأخرى كالذكر معنى لأنهما إذا اجتمعا كانتا بمنزلة الذكر. مسألة: إذا كان لامرأة إخوة فزوجها أحدهم برضاها من غير كفو بدون رضا البقية جاز عند أبي حنيفة رضي الله عنه ولا يثبت لأحد حق الاعتراض وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أنكح الوليان فالأول أحق منهما". حجة الشافعي رحمه الله: أن الحق ثابت للكل فإذا أسقط واحد منهم

_ سورة البقرة: الآية 282.

حقه لا يسقط حق الباقين بدون رضاهم لأنهم يتضررون بلحوق العار والضرر منفي لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام". الجواب عنه: أن الحق غير متجزئ فيسقط باسقاط البعض ولأنه لو لم يجز لتضرر العاقدان والمجيز ولا ضرر في الإسلام. فان قيل: لما تعارض الدليلان وجب القول بالبقاء على العدم قلنا الأصل في تصرف العقلاء الصحة وعدم التوقف على رضى الآخر فإذا تعارض الدليلان بقيت الصحة. مسألة: الولي الأقرب إذا غاب غيبة منقطعة تنتقل الولاية إلى الأبعد فيجوز له أن يزوجها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا تنتقل الولاية إلى الأبعد بل إلى السلطان. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "النكاح إلى العصبات" وهذا ينفي ولاية السلطان عند وجود العصبات وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء". وقوله صلى الله عليه وسلم: "السلطان ولي من لا ولي له" وفيه دليل على أن ولاية السلطان لا تظهر إلا عند فقد الأولياء. حجة الشافعي رحمه الله: أن الولاية الأولى كانت ثابتة والأصل الثابت البقاء فوجب القول ببقائها حالة الغيبة وإذا كان كذلك وجب أن لا تثبت الولاية للأبعد لأن إثبات الولاية للأبعد إبطال الأقرب وذلك ضرر والضرر منفي. الجواب عنه: أن هذا الدليل لا يعارض النصوص المذكورة وأن ولاية الأقرب إنما كان بطريق النظر للصغير وليس من النظر تفويض الولاية إلى من لا ينتفع برأيه لبعده ففرضناه إلى الأبعد فيقدم على السلطان لأن شفقته لقرابته أوفر من شفقة السلطان عليه. مسألة: للابن ولاية تزويج أمه إذا كانت مجنونة أو معتوهة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله: ليس له ذلك.

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الإبن مقدم على جميع العصبات وهذه الولاية مبنية عليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "النكاح إلى العصبات" والذي يويد هذا ما روي أن أم سلمة رضي الله عنها لما انقضت عدتها عن أبي سلمة رضي الله عنه خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لولدها عمر: "قم يا عمر زوج أمك من رسول الله صلى الله عليه وسلم" حجة الشافعي رحمه الله: أن الابن يستحيي من تزويج أمه فيكون عاجزا عن السؤال والتفحص ولا يكون له العلم بالمصالح والمفاسد فلا يصح له التزويج. الجواب عنه: أن هذا القياس مخالف للنص المذكور فلا يقبل. مسألة: يجوز لابن العم أن يزوج ابنة عمه من نفسه بحضرة شاهدين إذا كان وليا عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الواحد يجوز له أن يتولى طرفي العقد بدليل ما روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة" قال: نعم وقال للمرأة: "أترضين أن أزوجك فلانا" قالت: نعم فزوج أحدهما صاحبه وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لأم حكيم بنت قارظ: أتجعلين أمرك إلي قالت: نعم قال: فقد تزوجتك ذكره البخاري في صحيحه. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح الخاطب والولي وشاهدا عدل" الجواب عنه: أن هذا الحديث ضعيف لأن فيه أبا الخصيب قال الدارقطني: اسمه نافع بن ميسرة مجهول ولئن سلمنا صحته فالشخص إذا صار وليا خاطبا فهو كشخصين وعبارته كعبارتين فوجد حضور الأربعة معنى والعبرة للمعاني.

مسألة: الولي يملك إجبار عبده على النكاح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله: لا يملك ذلك. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 1 فمقتضاه الإجبار إذا أبى لأن الأمر مقتضاه التمكين فلو كان عاجزا لما خوطب بذلك ولأن النكاح إصلاح ملكه وتحصينه عن الزنا الذي هو سبب الهلاك والنقصان فيملكه قياسا على الأمة. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". الجواب عنه: أنه قد خص من هذا الحديث الصبي والمجنون والمعتوه فيخص العبد بما ذكرنا لأن المراد رفع الإثم دون الحكم لأن عين الخطأ والنسيان والإكراه موجود ولأن ما ذكرنا نص فيرجح على الخبر. مسألة: النكاح ينعقد بلفظ الهبة والبيع والتمليك والصدقة ونحوه عند أبي حنيفة رضي الله عنه كما ينعقد بلفظ الإنكاح والتزويج وقال: الشافعي رحمه الله لا ينعقد النكاح إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج ولفظ الهبة كان مخصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم لا لغيره. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما ثبت في البخاري أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت جئت أهب لك نفسي فقال: ما بي للنساء من حاجة فقال رجل من أصحابه زوجني بها إن لم يكن لك بها حاجة فقال: "ملكتكها بما معك من القرآن" فقد أنكح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ التمليك فلا يختص بلفظ التزويج والإنكاح. حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا

_ 1سورة النور: الآية 32.

لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 1 فدل على انعقاد النكاح بلفظ الهبة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك لأمته. الجواب عنه: أن هذه الآية دليل لنا فإنه قد انعقد النكاح بلفظ الهبة ولا اختصاص برسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث اللفظ لأنه لا تعظيم في اختصاصه بلفظ وإنما التعظيم والاختصاص في سقوط المهر واستباحة العضو له من غير بدل دون أمته وهو الصحيح وقد روي عن مجاهد وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وتدل عليه وجوه. الأول: قوله تعالى: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} 2 والحرج إنما يكون في وجوب المهر لا في شرعية النكاح بلفظ الهبة والشرعية بغير مهر تلزم كثرة الاختصاص والأصل عدمه لكون الثاني: أصلا. الثاني: أنه لما أخبر في هذه الاية أن ذلك كان خالصا له دون أمته مع إضافة لفظ الهبة إلى المرأة بقوله {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} دل ذلك على أن ما خص به صلى الله عليه وسلم من ذلك إنما هو استباحة العضو وهو البضع بغير بدل لأنه لو كان المراد اللفظ لما شاركه فيه غيره ولو كان من نسائه لأن المشاركة تنافي التخصيص فلما انضاف لفظ الهبة إلى امرأة علم أن التخصيص لم يقع في مجرد اللفظ بل عدم وجوب المهر عليه. مسألة: لا يجوز نكاح الأخت في عدة الأخت عن طلاق بائن أو ثلاث عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين" وروى عبيدة السلماني ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء كاجتماعهم على تحريم نكاح الأخت في عدة الأخت كعلي وابن مسعود وغيرهما وروي أن هذه الحادثة وقعت في زمن

_ 1سورة الأحزاب: الآية 50 2سورة الأحزاب: الآية 50.

مروان فشاور الصحابة فاتففوا على تحريمه ولأن نكاح الأول: ى قائم من وجه لبقاء أحكامه كالنفقة والمنع والفراش والاحتياط في عدم الجواز. حجة الشافعي رحمه الله: أن نكاح الأخت انقطع بالكلية بالثلاث أو الطلاق البائن فصارت كالأجنبية المحضة ولهذا لو وطئها مع العلم بالحرمة يجب عليه الحد فإذا صارت أجنبية مطلقة جاز نكاح أختها لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 1 ولا يكون جمعا بين الأختين. الجواب عنه: أنها لم تصر أجنبية بالبائن من جميع الوجوه لبقاء الأحكام التي ذكرنا من وجوب النفقة والسكنى فلا يجب عليه الحد في رواية وإن كان الحد واجبا في رواية أخرى لأن الملك قد زال في حق الحل فيثبت الزنا ولم يرتفع في حق ما ذكرنا من الأحكام فيصير جامعا بين الأختين من وجه والاحتياط في باب الفرج الحرمة فيترجح مذهبنا وما ذكرتم مخالف لإجماع الصحابة والحديث المذكور فلا يعتبر. مسألة: الزنا يوجب حرمة المصاهرة فمن زنا بامرأة حرمت عليه أمها وابنتها على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وابن مسعود وعمران ابن الحصين وجابر وأبي بن كعب وعائشة وابن عباس رضي الله عنهم في الأصح من مذهبه وجمهور التابعين كالشعبي والحسن البصري وإبراهيم النخعي والأوزاعي وطاووس ومجاهد وعطاء وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وقال الشافعي رحمه الله لا يحرم. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} 2 المراد بالنكاح الوطء لأنه حقيقة فيه وهو متناول للوطء الحلال والحرام والدليل على أن الوطء هو المراد قوله صلى الله عليه وسلم: "من وطئ امرأة حرمت عليه أمها وابنتها" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها

_ 1سورة النساء: الآية 3 2سورة النساء: الآية 22

وابنتها" ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه وفي رواية عنه عليه الصلاة والسلام "من مس امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها" ذكره السمعاني في الكفاية. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم الحرام الحلال" والزنا حرام فلا يحرم به الأم والبنت الحلالين. الجواب عنه: أن في هذا الحديث عثمان بن عبد الرحمن قال: يحيى بن معين كان يكذب وضعفه علي بن المديني جدا وقال: البخاري وأبو داود والنسائي ليس بشيء وقال: الدارقطني متروك وقال: ابن حبان يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به فلو سلم أنه صحيح فهو خبر الواحد لا يعمل به مع مخالفة الكتاب وهو قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقد عضد هذا إجماع الصحابة. مسألة: البنت المخلوقة من ماء الزنا يحرم على الزاني نكاحها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي يحل ويكره. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: النص والحديث والمعقول أما النص فقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} 1 وهذه بنته حقيقة لأنها مخلوقة من مائه فإذا قيل المراد به البنت المنسوبة إليه شرعا وهذه غير منسوبة إليه شرعا ولهذا لا ترث قلنا أنها غير منسوبة إليه شرعا ولكنها مخلوقة من مائه حقيقة فاعتبرنا الحقيقة وحرمة النكاح احتياطا واعتبرنا كونها غير منسوبة إليه شرعا في حرمان الإرث عملا بالمعنيين قال: ابن الجوزي قلت لبعض كبار الشافعية أليس الله خاطب العرب بما تعرفه فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} وهذا الزاني يعرف قبل الإسلام أن هذه ابنته فتحرم عليه ما هي بنته في لسانه ومعتقده فقال: ليست بنته في الشرع فقلت الشرع لا يدفع المعلومات الحسية فلم يكن له عنه جواب وأما الحديث

_ 1 سورة النساء: الآية 23.

فما مر من قوله صلى الله عليه وسلم: "من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا ابنتها" ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مس امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها" ذكره السمعاني في الكفاية فلو لم تكن هذه مخلوقة من مائه كانت تحرم عليه بهذا الحديث فكيف إذا كانت من مائه وأما المعقول فلأنها خلقت من مائه فتكون جزءا منه حقيقة وحسا كما هي جزء أمها والاستمتاع بالجزء حرام لما ورد في الصجيج في قضية امرأة هلال بن أمية مع شريك ابن سحماء إن جاءت به على صفة كذا فهو لشريك بن سحماء يعني الذي زنى. حجة الشافعي رضي الله عنه: أن البنت الحاصلة من الزنا ليس ببنت له شرعا بالإجماع في أربعة عشر حكما. الأول: لو ادعت النسب منه منعها القاضي من ذلك. . الثاني: أنها لاترث منه ولو كانت بنتا له لورثت منه. الثالث: أنه لا يملك تزويجها ولو كانت بنته يملك تزويجها لقوله صلى الله عليه وسلم: "زوجوا بناتكم الأكفاء" الرابع: أنه لا يكون له ولاية على مالها بالإجماع. الخامس: أنه لا تجب عليه نفقتها وكسوتها. السادس: أنه يحرم عليه النظر إليها ولو كانت بنتا له لما كان يحرم ذلك. السابع: أنه يقبل القاضي شهادته لها ولو كانت بنتا له لما قبل شهادته في حقها. الثامن: لا يحل له أن يرقد معها في بيت. التاسع: أنه لا يحل له المسافرة معها. العاشر: أنه لو قتلها وجب عليه القصاص ولو كانت بنتا له لما قتل بها.

الحادي عشر: أنه يجوز أداء زكاته إليها ولو كانت بنتا له لما جاز ذلك. الثاني عشر: أنه لو زنى بامرأة لا يصح دعوى النسب من الولد الحاصل بالزنى. الثالث عشر: أنه لو زنى بامرأة إنسان فولدت من الزاني فيكون هذا الولد ثابت النسب على. صاحب الفراش البتة فلو كان الولد للزاني أيضا لكان لولد واحد والدان وهو محال فإذا ثبت نسبه من صاحب الفراش شرعا لا يثبت من الزاني. الرابع: عشر: أن إثبات النسب من الزانى موجب لظهور الفاحشة فهو حرام لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 فإذا لم تكن بنتا له في هذه الأحكام فكذا لا تكون بنتا له في حرمة النكاح فيحل له نكاحها لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2. الجواب عنه: أن هذه الأحكام التي ذكرت مبنية على ثبوت النسب شرعا وهي غير ثابتة النسب منه فلا تثبت هذه الأحكام أما الحرمة فإنها غير مبنية على ثبوت النسب بل هي باعتبار الجزئية والبعضية حقيقة وحسا وإن لم تكن ثابتة النسب منه شرعا إذ الاستمتاع بالجزء حرام وإن لم تكن بنتا له شرعا والحسية لا مرد لها وفي الاحتياط أوجب وأولى إذ مبني الأبضاع على الاحتياط. مسألة: يجوز للإنسان أن يتزوج حارية ابنه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يجوز ذلك. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه ليس للأب في جارية الابن حقيقة

_ 1سورة النور: الآية 19. 2سورة النساء: الآية 24.

الملك فيجوز له التزوج بها بالعمومات وهو قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ, فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ألا ترى أن الابن ملكها من كل وجه فمن المحال أن يملكها الأب ولهذا يملك الابن من التصرفات كالبيع والهبة والوصية ما لا يبقى معه ملك الأب لو كان فدل على انتفاء ملك الأب. حجة الشافعي رحمه الله من وجهين: الأول: قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} 1 والجارية حلال للابن فتحرم على أبيه. الجواب عنه: المراد من الحلائل الزوجات أو الأمة الموطوءة التي ملكها أما الأمة التي ملكها ولم يطأها فليست بمرادة من النص. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" فيكون للأب شبهة الملك في مال الابن فتكون مملوكة من وجه فلا يحل له التزوج بها. الجواب عنه: أن الحقيقة ليست بمرادة فإن الإجماع ينعقد على أن الابن ماله ليس بمملوك للأب وإلا ما جاز بيعه ولا هبته فلا يحمل الكلام على التمليك بل على الاختصاص بأن يكون له حق التمليك عند الاحتياج إلى النفقة وغيرها فإذا لم تكن الجارية ملكا حقيقة جاز التزوج بها. مسألة: للحر أن يتزوج بالأمة مع القدرة على نكاح الحرة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز له أن يتزوج بأمة الغير إذا كان قادرا على نكاح الحرة أو لا يكون خائفا من الوقوع في الزنا. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: العمومات وهي قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ, فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} .

_ 1سورة النساء: الآية 23.

حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1 فالله تعالى علق نكاح الأمة بعدم استطاعة طول الحرة والمعلق بالشرط منتف قبل ثبوته. الجواب عنه: أن مفهوم الشرط ليس بحجة عندنا على ما عرف في الأصول. مسألة: إذا سبي الزوجان معا لا تقع الفرقة بينهما عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله تقع الفرقة بينهما والخلاف مبني على أن الفرقة بتباين الدارين حقيقة أو حكما أو السبي فعند أبي حنيفة رضي الله عنه يتباين الدارين ولم يوجد وعند الشافعي رحمه الله قد وجد السبي. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن تباين الدارين حقيقة وحكما لا تنتظم به المصالح فتناسبه الحرمة إذ النكاح لا يطلب إلا للمصالح فيفوت بفواتها وقد قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} 2 إلى قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 3 حجة الشافعي رحمه الله ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "في سبايا أوطاس لا توطأ الحبالى حتى يضعن حملهن ولا الحبالى حتى تستبرئن بحيضة" فدل الحديث على أنه يجوز الدخول بهن بعد وضع الحمل والاستبراء بحيضة ولو كان النكاح قائما بينهما لما أباح النبي صلى الله عليه وسلم جماعهن بعد الاستبراء أو الوضع. الجواب عنه: أن الحديث محمول على ما إذا سبيت وحدها عملا بالدليلين. مسألة: إذا كان بالزوجة أحد العيوب الخمسة التي هي الجنون والجذام والبرص والرتق والقرن فليس للزوج خيار فسخ النكاح عند

_ 1 سورة النساء: الآية 25. 2 سورة الممتحنة: الآية 10 3 سورة الممتحنة: الآية 10

أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يرد النكاح بهذه العيوب الخمسة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا قيلولة في النكاح". ولأن فوت الاستمتاع بالموت لا يوجب فسخ النكاح فاختلاله بهذه العيوب أولى وهذا لأن المستحق هو التمكين وهو حاصل ولأن فسخ النكاح ضرر وهو غير مشروع لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" بخلاف ما إذا وجدت الزوج مجبوبا أو عنينا لأنها تعجز عن قضاء وطرها بغيره وأما الزوج فلا يعجز عن قضاء وطره بغيرها فيكون الضرر من جانبها أقوى. حجة الشافعي رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من الأنصار فرأى في بدنها برصا ففسخ نكاحها. الجواب عنه: يحتمل أن يكون المراد أنه طلقها فيحمل عليه جمعا بين الأدلة. مسألة: إذا تزوج امرأة وصرح بنفي المهر يصح النكاح ويجب مهر المثل بنفس العقد عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يجب لها شيء أصلا. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} 1 فينبغي أن يكون الابتغاء هو النكاح ملصقا بالمال فيجب بمجرد العقد وما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ثم مات عنها ولم يفرض لها صداق ولم يكن دخل بها قال: أرى لها مثل صداق نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد معقل بن سنان الأشجعي أنه صلى الله عليه وسلم قضى في تزويج بروع بنت واشق الأشجعية بمثل ما قضيت قال: الترمذي حديث حسن صحيح وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه أيضا.

_ 1سورة النساء: الآية 24.

حجة الشافعي رحمه الله: أنه لما نفى الزوج صريحا ولم يقبل ورضيت بذلك المرأة لم يلزم عليه وإلا يلزم عليه من غير التزامه وهذا ليس له أصل في الشريعة فلا يجوز. الجواب عنه: أن هذا قياس في مقابلة النص وهو الحديث المذكور فلا يجوز. مسألة: إذا تزوج امرأة وخلا بها خلوة صحيحة بأن لم يكن هناك مانع من الوطء حسا أو شرعا ثم طلقها قبل الدخول بها فلها كامل المهر عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول جمهور الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم كزيد بن ثابت وابن عمر ومعاذ والمغيرة وعروة وأبي موسى وجمهور التابعين ومن بعدهم مثل زين العابدين وسعيد بن المسيب والزهري والنخعي والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق بن راهويه رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله لها نصف المهر. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما حكاه الطحاوي عن إجماع الصحابة وقال: أبو بكر الرازي هو اتفاق الصدر الأول: وروى أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن عوف عن زرارة ابن أبي أوفى قال: سمعته يقول قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب المهر ووجبت العدة. وروى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل" رواه الداقطني. ولما دخلت بنت يزيد الغفارية على النبي صلى الله عليه وسلم وجردها اللباه رأى بها وضحا ردها وقد أوجب لها مهرا وحرمت على من بعده وصارت سنة فيمن دخل على امرأة فأغلق بابا أو أرخى سترا أو جرد ثوبا أو خلا للباه أفضى أو لم يفض فقد وجب عليه الصداق وكذا الشيباء طلقها وأوجب لها مهرا ذكره ابن عساكر.

حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وهذا النص صريح في الباب. الجواب عنه: يجوز أن يكون كنى بالمسبب وهو المس عن السبب الذي هو الخلوة إذ الخلوة الصحيحة للمس ظاهرا وكذا الإفضاء هو الخلوة لأنه مأخوذ من الفضاء وهو المكان الخالي ولأن الخلوة مس حكما على ما ذكرنا فلا يكون مخالفا للنص. مسألة: الخلع تطليقة بائنة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله فسخ للنكاح. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "الخلع تطليقة بائنة" حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} 1 ذكر الطلاق مرتين ثم ذكر الخلع بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 2 ثم ذكر الطلاق بعد الخلع بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فلو كان الخلع طلاقا لزم كون الطلاق أربعا. الجواب عنه: أن هذا النص دل على أن الخلع طلاق إذ لو كان فسخا لما وقع الطلاق بعده وهذا النص يقتضي صحة وقوع الطلاق بعده حيث قال: فإن طلقها والفاء للوصل والتعقيب والمراد بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} بيان الشرعية لا الوقوع ولا يلزم من بيان الشرعية وجود الطلاق فلا يصير الطلاق أربعا. مسألة: المختلعة يلحقها صريح الطلاق عند أبي حنيفة رضي الله عنه

_ 1 سورة البقرة: الآية 229 2 سورة البقرة: الآية 230.

وهو قول ابن مسعود وأبي الدرداء وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله لا يلحقها ذلك. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وجه الاستدلال أن الله ذكر وقوع الطلاق عقيب الخلع فدل على شرعيته بعده وما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المختلعة يلحقها صريح الطلاق ما دامت في العدة". حجة الشافعي رحمه الله: أن المختلعة صارت أجنبية لم تبق في عقد نكاحه بدليل أنها لا تحل له إلا بعقد جديد ولو كان النكاح قائما لما احتاج إلى عقد جديد وإذا لم يبق النكاح لا يقع طلاقه إذ الطلاق لإزالة قيد النكاح والتقدير أنه لا نكاح بينهما فلا يمكن إزالته. الجواب عنه: أن النكاح قائم من وجه قبل انقضاء العدة لقيام بعض الأحكام من وجوب النفقة والسكنى وثبوت النسب والمنع من الخروج والتزوج بآخر وقيام الفراش فيلحقها الطلاق.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق مسألة: إذا قال: للأجنبية إن تزوجتك فأنت طالق فتزوجها وقع عليه الطلاق عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وابن مسعود وابن عمر والزهري وابن المسيب والنخعي والشعبي ومكحول وسالم بن عبد الله رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله لا يقع. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إجماع الصحابة والتابعين والعمومات والقياس على ما لو قال لامرأته إن تزوجت فلانة فأنت طالق والجامع بينهما دفع الحاجة المناسبة إلى تحقيق المانع من نكاح تلك لجواز كونها سيئة الأخلاق بذيئة اللسان لا يمكنه الامتناع من تزويجها إلا بمثل التعليق فورد الشرع بصحة التعليق في الأصل فتقتضي الصحة في الفرع. حجة الشافعي رحمه الله: أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن هذه المسألة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل النكاح". الجواب عنه: أنا نقول بموجبه فإن الطلاق لا يقع عندنا قبل النكاح إنما يقع بعده. مسألة: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا بكلمة واحدة فهو بدعة وحرام عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول جمهور الصحابة مثل أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله ليس بحرام بل هو مشروع مباح. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} 1 لإظهار عدتهن هكذا فسره ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما وقال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} 2 أي الطلاق الرجعي مرة بعد أخرى لا دفعة

_ 1 سورة الطلاق: الآية 1. 2 سورة البقرة: الآية 229.

فيقتضي شرعيته متفرقا وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن من السنة أن تستقبل العدة استقبالا فتطلقها في كل طهر بطلقة واحدة" وهذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما في سياقه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه لما سمع أن ابنه طلق امرأته في الحيض: "مر ابنك أن يراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء أمسك وإن شاء طلق فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء " وفي رواية "هكذا أمر ربك إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة". وروي أن رجلا طلق امرأته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم" سماه لعبا بكتاب الله وهو حرام. وحكى محمد رحمه الله أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما هو عليه مذهبنا فكان عمر رضي الله عنه لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا علاه بالدرة. حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} 1 أطلق ولم يفصل فيقتضي الشرعية بأي طريق كان. الجواب عنه: أن هذا النص ساكت عن ذكر العدد وما ذكرنا صريح فيكون أولى. مسألة: الطلاق الواقع بالكنايات نحو أنت حرام أو بائن أو بتة طلاق بائن عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله الواقع بجميع الكنايات رجعي. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن العمل بموجب اللفظ واجب وقد صرح بالبينونة والحرمة فثبت موجبها وهو كون الطلاق بائنا وهو مروي عن

_ 1 سورة البقرة: الاية 236

عمر وعلي وعثمان رضي الله عنهم. حجة الشافعي رحمه الله: أن الصريح أقوى من الكناية لأن الصريح لا يحتاج إلى النية والكناية تحتاج إليها فإذا وقع الطلاق الرجعي بالصريح فبالكناية أولى لأنها كناية عن الصريح. الجواب عنه: أن هذه الإطلاقات ليست بكناية عن الطلاق حقيقة بل هي حوامل لحقائقها لكن الإبهام فيما يحصل به الاستتار بالنسبة إلى المحل فلهذا الإبهام سميت كنايات مجازا فاحتاجت إلى النية فبعد النية كانت عاملة بموجبها بخلاف الصريح فان موجبه أن يكون معقبة للرجعية دون البينونة بالنص والاتباع فافترقا والكناية قد تكون أقوى من الصريح باتفاق أهل البيان. مسألة: لو قال لأمته أنت طالق ونوى به العتق لم تعتق عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله تعتق إذا نوى. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه نوى ما لا يحتمله لفظه لأن الإعتاق إثبات قوة في محل سلبت عنه القوة والطلاق رفع قيد عن محل رجعت فيه القوة فلا مناسبة بينهما فلا يصح مجازا عنه. حجة الشافعي رحمه الله: أن الطلاق عبارة عن إزالة القيد والعبودية قيد فإذا ذكر لفظ الطلاق ونوى به إزالة قيد العبودية يصح لأنه نوى محتمل كلامه. الجواب عنه: ما مر من الفرق وهو أن الطلاق رافع أي أن الطلاق إزالة قيد النكاح والإعتاق مثبت للقوة فلا مناسبة بينهما. مسألة: إذا قال: لإمرأته أنت طالق أو طلقتك ونوى الثلاث أو الاثنين لا يقع إلا واحدة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول جمهور الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وعند الشافعي رحمه الله يقع ما نوى من الثلاث أو الاثنتين.

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن قوله أنت طالق فنعت فرد حتى قيل للمثنى طالقان وللثلاث طوالق فلا يحتمل العدد لأنه ضده والشيء لا يحتمل ضده. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل امرئ ما نوى" فإذا نوى الثلاث ههنا ينبغي أن يقع الثلاث. الجواب عنه: أن النية بدون اللفظ لا تحتمل الثلاث فلا تقتضي وقوع الثلاث بالاتفاق حتى لو قال: لها أنت طالق واحدة ونوى الثلاث لا يقع إلا واحدة فكذا فيما نحن فيه طالق لا يحتمل الثلاث فلا تصح النية فيه والمراد من الحديث "لكل امرئ ما نوى" أي ثواب ما نوى ونحن نقول بموجبه ولا تعلق له بالمتنازع. مسألة: إذا قال: الرجل لامرأته أنا منك طالق ونوى الطلاق لا يقع به الطلاق عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يقع. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الطلاق إزالة قيد النكاح فيعمل في محل قيام النكاح والرجل ليس منكوحا لامرأته فلا يكون محلا للطلاق ألا ترى أنها هي الممنوعة عن التزوج والخروج ولهذا سميت منكوحة. حجة الشافعي رحمه الله: لو قال لها أنا منك بائن ونوى الطلاق يقع بالإجماع مع أن هذا اللفظ كناية وهي ضعيفة من الصريح فإذا وقع الطلاق بالضعيف فبالقوي أولى. الجواب عنه: أن مقتضى ذلك زوال وصلة النكاح وهي قائمة بينهما فصحت إضافته إلى كل واحد منهما وأما مقتضى الطلاق فهو رفع القيد عن النكاح فيصح إضافته إليها دونه. مسألة: إذا قال: لامرأته يدك طالق لا يقع الطلاق عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله يقع به. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه أضاف الطلاق إلى غير محله فيلغوا

كما لو قال: شعرك طالق وهذا لأن محل الطلاق ما يكون محلا للنكاح لأنه عبارة عن رفع قيد النكاح ولا قيد في اليد والشعر ولهذا لا يصح إضافة النكاح إليه حجة الشافعي رحمه الله: أنه لو قال: لها طلقتك نصف طلقة أو نصف يوم تقع الطلقة الكاملة في العمر كله فعلم أن بناء أمر الطلاق على النفاذ وشرعه الوقوع فإذا كان كذلك ينبغي أن لو قال: يدك طالق يقع الطلاق كاملا. الجواب عنه: أن الطلاق لا يتجزأ وذكر بعض مالا يتجزأ كذكر كله فإذا طلقها نصف تطليقة كانت طالقا تطليقة كاملة كذلك وكذا لا يتخصص الطلاق بوقت فإذا وقع في وقت كان واقعا في جميع الأوقات بخلاف قوله يدك طالق فان اليد غير محل لبعض الطلاق ولا لكله فلم يعتبر لكونه مضافا إلى غير محله فصار كما لو قال: ريقك طالق. مسألة: طلاق المكره واقع عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وعلي وابن عمر وابن جبير والشعبي والنخعي والزهري وابن المسيب وشريح وقتادة والثوري وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله غير واقع. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي قال: حديث حسن غريب وهو معمول به عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم فدل على أن الرضى ليس بشرط في وقوع الطلاق. وروي عن علي بن الحسن وعبد الحق والعقيلي من حديث صفوان الأصم أن رجلا كان نائما مع امرأته فقامت فأخذت سكينا وجلست على صدره فوضعت السكين على حلقه وقالت طلقني وإلا ذبحتك فناشدها الله فأبت فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا قيلولة في الطلاق".

وروى الطحاوي عن أبي سنان قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول طلاق السكران والمكره واقع ولأنه قصد إيقاع الطلاق في منكوحته حال أهليته فلا يعرى عن قضيته وهذا لأنه عرف الشرين فاختار أهونهما وهذا علامة القصد والاختيار لأنه غير راض بحكمه وذلك غير مانع من وقوع الطلاق كالهازل. حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 1 فلا يكون له أثر فلا يقع الطلاق حالة الإكراه. الجواب عنه: معنى الآية أن الله تعالى ما أمر بالإيمان على الإجبار بل على الاختيار ولأن الإيمان لا يتم إلا بتصديق القلب وذلك لا يحصل بالإكراه. والدليل على هذا قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 2 أي تمييز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة فلا يحتاج إلى الإكراه فان الإيمان لا يحصل به فاذا كان هذا مرادا بالنص لا يكون للاية دلالة على طلاق المكره. مسألة: إذا طلق الرجل امرأته في مرض موته ثلاثا أو واحدا بائنا فمات في العدة ورثته عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا ترثه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق امرأته في مرض موته فورثها عثمان رضي الله عنه وقال: فر من كتاب الله وكان ذلك بمحضر من الصحابة بلا نكير ووافقه علي وأبي وابن مسعود رضي الله عنهم وأشار بقوله فر من كتاب الله إلى قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ} . وروي عن الشعبي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى وشريح

_ 1سورة البقرة: الآية 256 2سورة البقرة: الآية 256

أن ورثا امرأة الفار وكذا حكى الكرخي عن عائشة رضي الله عنها والحسن البصري والنخعي وشريح والشعبي وطاووس اليماني رضي الله عنهم ولأن الزوجية سبب إرثها في مرض موته وهو قصد إبطاله فيرد عليه قصده دفعا للضرر عنها. حجة الشافعي رحمه الله: أن هذه ليست بزوجة لبطلان الزوجية بالثلاث بدليل أنه لو ماتت المرأة لا يرث الزوج عنها بالإجماع فإن لم تكن هي زوجته يكون الربع والثمن يصيب غيرها من الزوجات لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} 1 الآية فلا يمكن إبطال حقهن بإعطاء النصيب من الميراث. الجواب عنه: أن النكاح في العدة قائم في حق بعض الآثار كثبوت النسب والمنع من الخروج والبروز والنفقة والسكنى فجاز أن يبقى في حق إرثها عنه دفعا للضرر عنها بدون رضاها بخلاف إرثه عنها لأنه رضي بإبطال حقه حيث أقدم على البينونة. مسألة: إذا طلق الرجل امرأته الحرة وانقضت عدتها وتزوجت بزوج آخر فطلقها وانقضت عدتها ثم عادت إلى الزوج الأول: مطلقها ثنتين يملك الرجعة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يملك الرجعة وهذه المسألة: مبنية على أن الزواج الثاني: يهدم ما دون الثلاث عند أبي حنيفة رضي الله عنه وأبي يوسف رحمه الله وهو قول ابن مسعود وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم خلافا للشافعي ومحمد وزفر. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله عليه أفضل الصلاة والسلام "لعن الله المحلل والمحلل له" سماه محللا وهو مثبت للحل الجديد فيقتضي أن الزوج الثاني: يهدم ما طلقها الأول: لأنه إذا هدم الثلاث فما دونها أولى.

_ 1 سورة النساء: الآية 12

حجة الشافعي رحمه الله: أن الزوج الأول لما طلق في النكاح الأول: طلقة وفي الثاني طلقتين صار المجموع ثلاثا وبعد الثلاث لا يمكن الرجعة لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} 1. الجواب عنه: أن المراد بالآية الكريمة إيقاع الثلاث قبل الزوج الثاني: لأن الله تعالى بين حق الرجعة بعد المرتين بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 2 ثم طلقها فينصرف إلى إطلاقها في هذه الحالة وهذه الحالة قيام العدة وإنما تكون العدة قائمة قبل التزوج بزوج آخر. مسألة: الطلاق معتبر بالنساء عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما وقال: الشافعي رحمه الله يعتبر بالرجال وفائدة الخلاف تظهر في المسألتين. إحداهما: لو كان الزوج حرا والمرأة أمة يملك ثلاث تطليقات عند الشافعي رحمه الله وعند أبي حنيفة رضي الله عنه تطليقتين. وثانيهما: لو كان الزوج عبدا والمرأة حرة فعند أبي حنيفة رضي الله عنه يملك ثلاثا وعند الشافعي رحمه الله طلقتين. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} 3 أي أطهار عدتهن قاله ابن عباس رضي الله عنهما فإذا كانت عدة الحرة ثلاثة أقراء فينبغي أن يكون طلاقها ثلاثا سواء كان زوجها حرا أو عبدا وإذا كانت عدة الأمة قرأين فينبغي أن يكون طلاقها ثنتين لقوله صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان" من غير فصل بين حر وعبد وروى ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت الأمة تحت الرجل فطلقها

_ 1سورة البقرة: الآية230 2سورة البقرة: الآية 229 3سورة الطلاق: الاية 1

تطليقتين ثم استبرأها لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره" حجة الشافعي رحمه الله: أن اعتبار حرية الرجل أولى من اعتبار حرية المرأة لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} 1 وهذا نص صريح في أن اعتبار جانبه أولى. الجواب عنه: أن الآية ليست بصريحة في أن الطلاق معتبر في الرجال فيكون ما ذكرنا من الآية راجحا عليها لكونها صريحة باعتباره بالنساء أو نقول لما تعارضت الآيتان بقي التمسك بالحديث الذي ذكرنا. مسألة: التنجيز يبطل التعليق عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يبطله حتى لو قال: لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال: لها أنت طالق ثلاثا فتزوجها غيره ودخل بها ثم رجعت إلى الأول: ودخلت الدار لم يقع شيء عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله تقع الثلاث المعلقة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن اللفظ وإن كان مطلقا لكن قرينة الحال دليل على أن المراد الحل القائم لأن الجزاء طلقات هذا الملك لأنها هي المانعة لأن الظاهر عدم ما يحدث واليمين تعقد للمنع أو الحمل وإذا كان الجزاء ما ذكرنا وقد فات بتنجيز الثلاث المبطل للمحلية فلا تبقى اليمين. حجة الشافعي رحمه الله: أن لفظ التعليق مطلق فيتناول الحل القائم في النكاح الأول: والحادث بالنكاح الثاني: وقد بقي احتمال النكاح الثاني: فيبقى اليمين. الجواب عنه: أن المطلق يجوز تقييده بما ذكرناه من الدليل. مسألة: الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يحرم.

_ 1سورة البقرة: الآية 228

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الزوجية قائمة ما دامت في العدة في كثير من أحكام الشرع كالطلاق والإيلاء والظهار واللعان واستحقاق الميراث والنفقة والسكنى والمنع من الخروج والبروز وحرمة أختها وأربع سواها ولهذا يملك مراجعتها بلا رضاها لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 1 سماه بعلا فتكون هي زوجته فيصح وطؤها لبقاء الزوجية في الأحكام المذكورة فكذا في حل الوطء لقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} 2. حجة الشافعي رحمه الله: أن الأصل في الأبضاع الحرمة بدليل أنه تعارض دليلان أحدهما موجب للحل والآخر للحرمة فرجحنا الدليل الموجب للحرمة فإذا كان الأصل في الإبضاع الحرمة لم يخالف هذا الأصل إلا عند قيام النكاح التام فإذا طلقها وقع الخلل في النكاح فيبقى على أصل الحرمة. الجواب عنه: أن الخلل إنما يقع فيه بعد انقضاء العدة وأما ما دامت في العدة فلا خلل فيه لما ذكرنا من أحكام الزوجية وقد اعترف الإمام فخر الدين أن دليلنا أقوى. مسألة: إذ ظاهر الذمي من امرأته لا يصح ظهاره عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يصح ظهاره. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} 3 ولفظ منكم خطاب للمسلمين فتخص بهم وقوله عليه الصلاة والسلام لمسلمة بن صخر لما ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر: "استغفر الله ولا تعد حتى تكفر" مد الحرمة إلى التكفير والذمي ليس أهل التكفير لأنها عبادة ولهذا تتأدى بالصوم.

_ 1سورة البقرة: الآية 228 2سوورة المؤمنون: الاية6 3سورة المجادلة: الآية 2

حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا النص مطلق فيتناول المسلم والذمي. الجواب عنه: أن الآية الأول: ى مقيدة بقوله تعالى: منكم فيحمل المطلق عليها كما هو المذهب عند الخصم على أن في آخر الآية ما يدل على أن المراد بأول الآية المسلمون دون أهل الذمة وهو قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 1 فإن الصيام لا يتصور إلا من المسلمين مسألة: إذا أعتق العبد الكافر عن كفارة الظهار جاز عند أبي حنيفة رضي الله عنه لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} من غير قيد كون الرقبة مسلمة فيجري على إطلاقه. حجة الشافعي رحمه الله: أن الكافر نجس لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} 2 والنجس لا يجوز إخراجه في الطاعة لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} 3. الجواب عنه: أن القصد من الإعتاق تمكينه من الطاعة ثم كفره بسوء اختياره والكافر ليس بنجس حقيقة ولهذا أنزل النبي صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في مسجده ولو كان نجسا لما أنزلهم في مسجده بل النجاسة في اعتقاده لا تنافي إعتاقه عن الكفارة والمراد بالخبيث الحرام. مسألة: إذا أعتق المكاتب عن الكفارة جاز عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} 4

_ 1سورة المجادلة: الآية 4 2سورة التوبة: الآية 28 3سورة البقرة: الاية 267 4سورة البقرة: 177

واتفقوا على أن المراد منه المكاتبون فإذا كان المكاتب رقيقا جاز عن الكفارة لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" فيكون الرق قائما فيه فيكون إعتاقا للقن فيجوز عن الكفارة. حجة الشافعي رحمه الله: أنه إذا أعتق المكاتب يكون العتق حاصلا بعقد الكتابة بدليل أن الأول: اد والأكساب الحاصلة زمان الكتابة تكون ملكا للمكاتب ولو لم يكن العتق حاصلا بعقد الكتابة لما كان الأول: اد والأكساب ملكا له فإذا حصل العتق بجهة الكتابة فلا يكون من جهة الكفارة. الجواب عنه: أنه لم يحصل للمكاتب الحرية بجهة الكفارة لأن الكتابة فك الحجر فهي بمنزلة الإذن وإنما يعتق بأداء جميع البدل والمعلق بالشرط كالمعدوم قبل وجوده فصار كالمعلق عتقه بدخول الدار فلا تكون الكتابة مانعة عن الكفارة ولو كانت مانعة تنفسخ بمقتضى الإعتاق فيكون إعتاق قن المكاتب إلا أنه يسلم له الأكساب والأول: اد لأن العتق في حق المحل بجهة الكتابة أو لأن الفسخ ضروري لا يظهر في حق الولد والكسب. مسألة: إذا اشترى من عليه الكفارة أباه ناويا عن الكفارة صح ويقع عنها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يقع عنها. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "شراء القريب إعتاق" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" أي بنفس الشراء إذ لا يحتاج إلى إعتاق مستأنف فإذا كان الشراء تصح الكفارة إذا اشترى ناويا عنها. حجة الشافعي رحمه الله: أنه إذا اشترى أباه يعتق عليه سواء أعتقه أو لم يعتقه فلا يكون التحرير حاصلا باختياره وهو مأمور بتحرير اختياري ولم يوجد فلا يقع عن الكفارة. الجواب عنه: أن الشراء لما كان إعتاقا والشراء وجد باختياره فتكون النية مقارنة له فيقع عن الكفارة.

مسألة: العدة تتم بثلاثة حيض عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله بثلاثة أطهار والخلاف مبني على تفسير الأقراء. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1 والأقراء الحيض لقوله صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان" وعدة الأمة من جنس عدة الحرة ولأن المقصود من العدة معرفة براءة الرحم والمعرفة لا تحصل إلا بالحيض ولهذا كان استبراء الأمة بالحيض. حجة الشاقعي رحمه الله أن المقتضي لجواز النكاح قائم في جميع الأوقات لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "زوجوا بناتكم الأكفاء" وترك العمل بهذا في زمان العدة لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ولفظ القرء يحتمل الطهر والحيض فكان محتملا وكان المعارض في الأطهار الثلاث معلوما لأجل أن مدة العدة بالأطهار أقل من مدة العدة بالحيض وفي الحيض غير معلوم لأنه أطول المدتين والمشكوك لا يعارض المعلوم فوجب القول بجواز نكاحها عند انقضاء الأطهار الثلاثة. الجواب عنه: أن عدم جواز نكاح المعتدة كان ثابتا بيقين وانقضاء العدة وجواز نكاحها بمضي ثلاثة أطهار مشكوك فلا يعارض المعلوم ولأنه لو حمل الأقراء على الأطهار انتقض العدد المذكور في النص ولأنه حينئذ يصير قرئين وبعض الثالث: وذلك لا يجوز والله أعلم.

_ 1 سورة البقرة: الآية 228 2 سورة النساء: الاية 3

كتاب الحدود

كتاب الحدود مسألة: الزنا الموجب للحد لا يظهر إلا بالإقرار أربع مرات في أربعة مجالس عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يظهر بالإقرار مرة واحدة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: حديث ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر إقامة الحد عليه إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات في أربعة مجالس فلو ظهر دونها لما أخرها ولأن ظهور الزنا بالشهادة فارق ظهور غيره حتى اشترط أربعة شهداء بالنص وبالإجماع فكذا الإقرار يشترط فيه أن يكون أربعة مرات لظهوره به إعظاما لأمر الزنا وتحقيقا لمعنى الستر ودرء الحد بقدر الإمكان حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها" قالها حين اتهم رجل امرأته بالزنا فقد علق النبي صلى الله عليه وسلم الرجم بمطلق الاعتراف من غير اشتراط الأربع. الجواب عنه: أنه إن كان هذا الحديث متقدما على حديث ماعز كان منسوخا به وإن كان متأخرا انصرف إلى الاعتراف المعهود في هذا الباب وهو الإقرار أربع مرات ولأنه كان معهودا فيما بينهم بدليل قول أبي بكر رضي الله عنه لماعز اتق الله في الرابع: ة فإنها موجبة قال: أبو بردة رضي الله عنه كنا نقول لو لم يقل الرابع: ة لما رجمه ولأن ذلك الحديث ساكت عن اشتراط الأربع وحديث ماعز صريح فيه فيكون أولى. مسألة: المولى لا يملك إقامة الحد على مملوكه إلا بإذن الإمام عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يملك ذلك في الجلد. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إجماع الصحابة كابن عباس وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم مرفوعا عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع إلى الإمام الفيء والجمعة والحدود والصدقات" ولأن الحد خالص حق

الله ولأن المقصد منه إخلاء العالم عن الفساد ولأجل هذا لا يسقط بإسقاط العباد فيستوفيه من هو نائب الشرع وهو الإمام أو من أمره الإمام به حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" وهذا صريح وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها فإن عادت فليبعها ولو بضفير". الجواب عنه: أمر المولى بإقامة الحدود مقتضاه الوجوب وهو منفي بالإجماع فكان متروك الظاهر فيحمل علي ما إذا أذن له الإمام بذلك أو يحمل على الاقامة تسبيبا بالمرافعة إلى من له ولاية الإقامة أو على التعزيز بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "فان عادت فليبعها ولو بضفير" والبيع ليس بحد بالإجماع. مسألة: المرأة العاقلة إذا مكنت المجنون وطاوعته فزنا بها فلا حد عليه ولا عليها عند أبي جنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله الحد عليها. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن فعل الزنى إنما يتحقق حقيقة من الرجل لأنه هو الأصل ولهذا سمي واطئا والمرأة إنما هي محل لفعله ولهذا سميت موطوءة والزنا فعل من هو يؤجر على تركه ويأثم على فعله والمجنون ليس بمخاطب فلا يوصف فعله بالزنا فلا يتعلق الحد عليه فاذا امتنع في حقه امتنع في حق المرأة لأنها تبع له. حجة الشافعي رحمه الله: أن الزنا من المرأة ليس إلا التمكين ولا يتفاوت التمكين من العاقل موجبا ليحد فكذا التمكين من المجنون. الجواب عنه: أن الزنا لا يتحقق بين الرجل والمرأة لكن الأصل فيه الرجل لما ذكرنا فإذا امتنع في حقه الحد لكونه غير مخاطب امتنع في حقها تبعا. مسألة: إذا استأجر امرأة ليطأها فوطئها لا حد عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال الشافعي رحمه الله: الحد.

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه وطء فيه شبهة ملك لأنها قابلة بالنكاح وقد انضاف التمليك إليها بالاستئجار فيورث شبهة ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المال مهر البغي والحدود تدرأ بالشبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرأوا الحدود بالشبهات" وقد روي أن امرأة استسقت راعيا فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها ففعلت فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فدرأ عنها الحد وقال: ذلك مهرها أفتى بالحكم ونبه على العلة. حجة الشافعي رحمه الله: أن هذا الوطء زنا محض قبل عقد الإجارة لا شبهة فيه فينبغي أن لا يتفاوت هذا الوطء قبل الإجارة وبعده والزنا المحض موجب للحد. الجواب عنه: أن الشبهة قد طرأت بعد عقد الإجارة لما ذكرنا فيورث الشبهة بعده لا قبله.

كتاب السرقة

كتاب السرقة مسألة: إذا سرق رجل مقدار نصاب السرقة وقطعت يده وهلك المسروق لا يضمن السارق عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يضمن. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 1 جعل القطع جميع الجزاء فلو ضمن صار الجميع بعضا وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه". حجة الشافعي رحمه الله: أن الإجماع انعقد على قطع يده فيلزمه الضمان أيضا لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه بغير حق فيجب عليه رده إذا كان باقيا ورد قيمته إذا كان هالكا لقوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترده" الجواب عنه: أن التمسك بالكتاب أقوى والحديث الذي رويناه صريح في الباب فلا يعارضه ما ليس بصريح. مسألة: لا قطع على النباش عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله عليه القطع. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع على المختفي" وهو النباش بلغة أهل المدينة وروي أن عليا رضي الله عنه أتى بنباش فعزره ولم يقطع يده ووافقه ابن عباس رضي الله عنهما. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "من نبش قطعناه" وهذا نص صريح في الباب.

_ 1 سورة المائدة: الآية 38

الجواب عنه: أن هذا الحديث غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل هو موقوف على معاوية بن مرة لم يرفعه أحد وقيل هو من كلام زياد بن أبيه ذكره في خطبته ولئن سلمت صحته فهو محمول على السياسة بدليل أن فيه "من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه ومن نبش دفناه حيا ومن نقب نقبنا عن كبده" ومعلوم أن هذه الأحكام غير مشروعة إلا سياسة ثم إنه متروك الظاهر لأنه علق فيه بالقطع بمجرد النبش وبالإجماع ليس كذلك فإن نبش ولم يأخذ لا يقطع والله أعلم. مسألة: رجل سرق شيئا وحكم القاضي عليه بالقطع ثم إن المالك وهب المسروق من السارق قبل القطع وسلمه إليه سقط القطع عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يسقط. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن القضاء يحتاج إلى الإمضاء والإمضاء في باب الحدود من القضاء وكان ما حدث قبل الإمضاء كالحادث قبل القضاء ولو ملكها السارق قبل القضاء لا يقطع لأن الإنسان لا يقطع بملكه فكذا إذا ملك قبل الإمضاء. حجة الشافعي رحمه الله: ما روي أن صفوان كان نائما في المسجد متوسدا رداءه فجاءه سارق فسرقه فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده فأخرج ليقطع فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صفوان كأنه شق عليك يا رسول الله هو له صدقة وفي رواية وهبته منه فقال صلى الله عليه وسلم: "أفلا كان قبل أن تأتيني به" وأمر بقطعه. الجواب عنه: أن الهبة لا تثبت قبل القبول والقبض ثم أنه حكاية حال فلا عموم له. مسألة: السارق في المرة الأول: ى تقطع يده اليمنى وفي الثانية رجله اليسرى وفي الثالثة لا يقطع منه شيء بل يعزر ويخلد في الحبس حتى يتوب ويظهر عليه سيما الصالحين عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله تقطع في الثالث: ة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى.

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما روي أن عليا رضي الله عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم في هذه الحادثة فقال بعضهم تقطع يده اليسرى فقال: بم يستنجي وقال بعضهم رجله اليمنى فقال لهم فبم يمشي ثم قال: إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يأكل بها ويستنجي بها ولا رجلا يمشي عليها وبهذا حاج بقية الصحابة فغلبهم فدرأ عنه الحد فحل محل الإجماع ولأن المستحق عليه التأديب وفيما ذكره إهلاك معنى بتفويت منفعة البطش والمشي عليه. حجة الشافعي رحمه الله: أن المرة الثالثة موجبة للقطع لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 وقد أمكن قطع اليسرى فيجب القطع ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من سرق فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه وإن عاد فاقطعوه". الجواب عنه: أن الأمر في الآية لا يقتضي التكرار وعرف القطع في المرة الثاني: ة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والحديث طعن فيه الطحاوي وغيره من نقلة الحديث وعلى تقدير الصحة يحمل على السياسة بدليل آخر الحديث فإن عاد فاقتلوه فإن القتل غير مشروع في السرقة فيحمل على أنه كان ذلك في الابتداء حين كان القتل مشروعا. مسألة: إذا صال الجمل أو البقر الهائج على إنسان فقتله المصول عليه دفعا عن نفسه لزمه الضمان عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يلزمه شيء. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن هذه الدابة معصومة لحق المالك لا لاحترامها لذاتها فإنها خلقت محلا للتناول والابتذال فبقيت عصمتها ما دام حق مالكها باقيا وحقه لا يسقط بجناية الدابة بل يثبت له إباحة إتلافها

_ 1 سورة المائد: الآية 38

لإبقاء مهجته عند صولتها عليه بالقيمة كتناول طعام غيره حالة المخمصة رعاية للحقين. حجة الشافعي رحمه الله: أن دفع ضرر هذا الجمل أو البقر لازم عليه فيكون مأمورا بقتله وإلا يستحق العقاب بإلقاء نفسه إلى التهلكة وإذا لزم عليه فعله لا يجب عليه ضمانه. الجواب عنه: أن ما ذكرتم منقوض بتناول مال غيره حال المخمصة فإنه إذا اضطر ولم يجد ما يدفع جوعه إلا هذا الجمل أو البقر فإنه مأمور بقتله وأكله لئلا يستحق العقاب بإلقاء نفسه إلى التهلكة ومع هذا يلزم عليه الضمان بالإجماع رعاية لحق المالك فإن قيل مالك الجمل لو أراد قتل إنسان لدفع القتل عن نفسه لا يجب عليه شيء فكذا إذا صال جمله لا يجب عليه الضمان بقتله لأن الجمل ليس بأعز من مالكه فإذا لم يضمن بقتل مالكه فبقتل ملكه أولى قلنا المالك إذا قصد قتله فقد أبيح قتله ووجد منه إبطال العصمة فلا يضمن وأما فعل البهيمة فلا يبطل عصمة مالكه فافترقا.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد مسألة: إذا أسلم الحربي في دار الحرب وأقام بها ولم يهاجر إلى دار الإسلام فقتله مسلم أو ذمي لا يجب عليه القصاص ولا الدية عند أبي حنيفة رضي الله عنه ويجب عليه الكفارة في الخطأ وقال: الشافعي رحمه الله يجب عليه القصاص في العمد والكفارة في الخطأ. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 1 فالله تعالى أوجب الكفارة بقتله ولم يبين القصاص والدية ولو كانا واجبين لبينهما وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من أقام بين المشركين فلا دية له" ولأن العصمة المقومة إنما تثبت بدار الإسلام وهو قد أهدر عصمته بالمقام في دار الحرب فلا يجب بقتله القصاص والدية حجة الشافعي رحمه الله: أنه قد قتل المسلم عمدا وعدوانا فيكون موجبا للقصاص لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} 2. الجواب عنه: أن الآية مخصوصة بالإجماع ولهذا لو قتل الأب ابنه لا يقتص منه فيخص المتنازع فيه بما ذكرنا من الدليل. مسألة: إذا استولى الكفار على أموال المسلمين وأحرزوها بدار الحرب ملكوها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لم يملكوها. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} 3 سماهم فقراء مع إضافة الأموال إليهم

_ 1سورة النساء: الآية 92 2سورة البقرة: الآية 178 3سورة الحشر: الآية 8

والفقير من لا مال له لا من بعدت يده عن المال ومن ضرورته ثبوت الملك لمن استولى على أموالهم من الكفار وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يوم الفتح يا رسول الله ألا ننزل دارك فقال: "وهل ترك لنا عقيل من منزل" وكان للنبي صلى الله عليه وسلم دار بمكة ورثها من خديجة رضي الله عنها فاستولى عليها عقيل وكان مشركا وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا أصاب بعيرا له في الغنيمة فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالثمن" وروى تميم عن طرفة أنه عليه الصلاة والسلام قال: في بعير أخذه المشركون فاشتراه رجل من المسلمين ثم جاء المالك الأول: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "إن شئت أخذته بالثمن" فلو بقي في ملك المالك القديم لكان له الأخذ بغير شيء. حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 1 فينبغي أن لا يصير مال المسلم للكافر بالغلبة والاستيلاء عليه. الحجة الثانية: أن المسلم خير من الكافر والمسلم إذا استولى على مال مسلم آخر لا يصير ملكا له فالكافر أولى. الجواب عنه: أما الآية فمقتضاها نفي السبيل على نفس المسلم ونحن نقول بموجبه فإنه إذا استولى على نفسه يملكه ونحن نملكهم ولكن الأصل في الأموال عدم العصمة وإنما صار معصوما بالاحراز بدار الإسلام فإذا أحرزوها بدار الحرب زالت العصمة بزوال سببها فبقيت أموالا مباحة فتملك بالاستيلاء عليه وفيه وقع الغرق بين استيلاء المسلم والكافر وأن المسلم لم يحرزها إلى دار الحرب والحربي أحرزها فافترقا. مسألة: الغزاة إذا غنموا غنيمة لا يقسمونها في دار الحرب بل يخرجونها إلى دار الإسلام فيقسمونها فيها عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال الشافعي

_ 1 سورة الساء: الآية 141.

رحمه الله يجوز قسمتها في دار الحرب حجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما روى مكحول الشامي أنه عليه الصلاة والسلام ما قسم الغنيمة قط إلا في دار الإسلام وفي رواية أخرى أخر النبي صلى الله عليه وسلم القسمة إلى دار الإسلام مع طلب بعض الغانمين الغنيمة فلو جازت لما أخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب والقسمة بيع معنى فيدخل تحت النهي لأن الاستيلاء التام لا يثبت إلا بالاحراز بدار الإسلام لقدرتهم على التخليص مما دامت في دار الحرب لم يستحكم الملك حجة الشافعي رحمه الله: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنيمة في دار الحرب الجواب عنه: أن تلك المواضع التي قسم فيها النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة وإن كانت دار الحرب لكنها صارت دار الإسلام بظهور أحكامه فيها. مسألة: العبد المحجور عليه الممنوع من القتال لا يصح أمانة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال الشافعي رحمه الله يصح أمانة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} 1 فانتفت قدرته على الأمان. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" والعبد من أدنى المسلمين فيصح أمانه. الجواب عنه: أن المراد بالذمة الأمان المؤبد بأن يصير ذميا وهو صحيح من العبد فنحن نقول بموجبه وهذا لأن عقد الذمة خلف عن الإسلام فهو

_ 1 سورة النحل: الآية 75

يمنزلة الدعوى إليه فيصح منه بخلاف الأمان المؤقت والحديث لا يدل عليه. مسألة: كان الخمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم سهم لله ورسوله وكان يشتري به السلاح وسهم لذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم وسهم للمساكين وسهم لليتامى وسهم لأبناء السبيل وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سقط سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى فيأخذون بالفقر دون القرابة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله سهم النبي صلى الله عليه وسلم يدفع إلى الإمام وسهم ذوي القربى باق لهم. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: إجماع الصحابة على عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فإنهم قسموا خمس الغنيمة على ثلاثة أسهم ولم يعطوا ذوي القربى شيئا لقربهم بل لفقرهم مع أنهم شاهدوا قسمة النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا تأويل الآية وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير فحل محل الإجماع فلو كان سهمهم باقيا لما منعوهم وهذا لأن المراد بالقربى قربى النصرة دون القرابة بدليل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر فأعطى بني هاشم وبني المطلب ولم يعط بني عبد شمس ولا بني نوفل شيئا فقال عثمان وهو من بني عبد شمس وجبير بن مطعم وهو من بني نوفل يا رسول الله إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله فيهم ولكن نحن وبنو المطلب منك في القرابة سواء فما بالك أعطيتهم وحرمتنا فقال عليه الصلاة والسلام: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام لم يزالوا معي" وشبك بين أصابعه فجعل عليه الصلاة والسلام علة الاستحقاق النصرة والصحبة دون نفس القرابة وإلا لما أعطى البعض ومنع الآخرين ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تبق بعد وفاته فلا يبقى الاستحقاق ويدخل فقراء ذوي القربى والأصناف الثلاثة وقد روت أم هانئ هذا المعنى مرفوعا فقال عليه الصلاة والسلام: "سهم ذوي القربى لهم في حياتي وليس لهم بعد وفاتي" وكذا سهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بعد وفاته إذ غيره ليس في معناه من كل وجه.

حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} 1 وهذا نص صريح في المسألة. الجواب عنه: أن المراد بالقربى قربى النصرة لا قربى القرابة بما ذكرنا من الدليل وقد زالت النصرة بعد وفاته. مسألة: إذا أسلم الذمي أو مات بعد وجوب الجزية بمرور الحول سقطت عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا تسقط. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا جزية على مسلم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" وروي أن ذميا طولب بالجزية في زمن عمر رضي الله عنه فأسلم فقيل إنك أسلمت تعوذا فقال: إن أسلمت تعوذا فإن الإسلام يتعوذ به فأخبر عمر بذلك فقال: صدق وأسقط عنه الجزية ولأن الجزية وجبت عقوبة على الكفر وهي تسقط بالإسلام. حجة الشافعي رحمه الله: أن الجزية وجبت على العصمة والأمن فيما مضى لأن ماله كان في معرض التلف فحصلت له الصيانة بقبول الجزية وقد وصل إليه العوض فلا تسقط عنه للعوض بالإسلام والموت. الجواب عنه: أن هذا قياس في مقابلة النص والآثار فلا يقبل.

_ 1 سورة الأنفال: الآية 41

كتاب الصيد

كتاب الصيد مسألة: إذا ترك الذابح التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا يحل أكلها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يحل. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: الكتاب وهو قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه} 1 والسنة هي قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فإنك سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" علل الحرمة بترك التسمية عمدا وإنما الخلاف بينهم في الترك ناسيا. حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2 دل النص على أن المحرم من المطعومات هذه الأربعة ومتروك التسمية ليس منها فيحل. الجواب عنه: أن متروك التسمية من قبيل الميتة كذبيحة المجوس وأيضا قد زيد على هذه الأربعة أشياء كثيرة كأكل لحم الحمر والبغال والكلب والأسد وغيرها من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير بالدلائل الدالة عليه فكذا يزاد عليها متروك التسمية عامدا ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أوحي إليه في ذلك الوقت إلا تحريم الأربعة المذكورة ثم أوحي إليه تحريم غيرها بعده مسألة: إذا أرسل الصياد كلبه المعلم إلى الصيد وذكر اسم الله تعالى عليه فمات بأخذه ولم يأكل منه الكلب شيئا يؤكل بالاتفاق وإن أكل منه

_ 1سورة الأنعام: الآية 121 2سورة الأنعام: الآية 145

شيئا لا يؤكل عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يؤكل. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} 1 فالنص نطق باشتراط التعليم وكذا حديث عدي إذا أرسلت كلبك المعلم وتعليم الكلب لا يتحقق إلا بترك الأكل من الصيد فإذا أكل منه دل على أنه غير معلم فلا يجوز أكل ما بقي منه وقد صرح في هذا الحديث بهذا المعنى حيث قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه فلا تأكل لأنه أمسك على نفسه" وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} 2 فإذا أكل منه شيئا لم يمسك لصاحبه بل لنفسه فلا يحل. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة الخشني: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل" فقال: يا رسول الله أو يحل ولو أكل منه فقال صلى الله عليه وسلم "يحل" هذا نص صريح في المسألة. الجواب عنه: هذا الحديث ليس بمشهور فلا يعارض الكتاب والحديث الذي رويناه مسألة: أكل لحم الخيل مكروه عند أبي حنيفة رضي الله عنه واختلف المشايخ في أنه كراهية تحريم أو تنزيه وعند الشافعي رحمه الله غير مكروه وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} 3 ثم قسم الامتنان في قسمين في نوعين أحدهما الأنعام وبين وجه المنة فيها بثلاثة أنواع اللبن والأكل والحمل وثانيهما الخيل والبغال والحمير وبين وجه المنة فيها في الركوب والزينة فمن جعل القسمين

_ 1 سورة المائدة: الآية 4. 2سورة المائدة: الآية 2 3سورة النحل: الآية 8

واحدا فقد أخل بالتركيب الفصيح وهذا لأن الأكل من أعلى المنافع والحكيم لا يترك الإمتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها ولأنه آلة إرهاب الكفار ونصرة الإسلام فيكره أكله احتراما له ولهذا يصرف له بسهم في الغنيمة أو سهمين ولأن في إباحة أكله تقليل الة الجهاد فلا يباح. حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1 ولحم الخيل ليس من هذه الأربعة فيحل. جوابه ما مر وهو أنه في وقت نزول هذه الآية لم تكن المحرمات غيرها. الثاني: أن لحم الفرس من الطيبات فيحل بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 2. الجواب عنه: أن المراد بالطيبات ما يكون حلالا لا كل ما تستطيب النفس فلا يمكن الاستدلال به على أكل لحم الخيل ولو سلم ذلك فهو عام وقد خص عنه بعض ما تستطيبه النفس كالخمر فيجوز تخصيص الشارع فيه بما ذكرنا من الدلائل. الثالث: أن الخيل بعد الذبح من الطيبات فيحل لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} 3. الجواب عنه: ما مر. الرابع: أنه روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن فرسا ذبح على

_ 1سورة الأنعام: الآية 145 2سورة المائدة: الآية 4 3سورة المائدة: الآية 3

عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم. الجواب عنه: أن هذا خبر واحد مخالف لما ذكرنا من الآية. الخامس: ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى يوم خيبر عن لحم الحمر وأذن في لحوم الخيل". الجواب عنه: أن هذا الحديث معارض ما روى خالد بن الوليد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لحم الخيل والبغال" فإذا تعارضا فالترجيح للمحرم. مسألة: من نحر ناقة أو ذبح بقرة فوجد في بطنها جنينا ميتا لم يؤكل عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يؤكل وهو قول محمد وأبي يوسف رحمهما الله. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 1 والجنين ميتة فلا يحل أكله وقوله {وَالْمُنْخَنِقَةُ} 2 وهو الحيوان الذي يموت بانقطاع النفس والجنين كذلك وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 3 والجنين لم يذكر اسم الله عليه وقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} والجنين لم يذك. حجة الشافعي رحمه الله: ما روي أن جماعة من الصحابة قالوا يا رسول الله إنا ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أفنلقيه أم نأكله فقال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" الجواب عنه: أن هذا خبر واحد ورد على مخالفة ما ذكرنا من الآيات والتمسك بالقرآن أولى. مسألة: الأضحية واجبة على الأغنياء المقيمين عند أبي حنيفة رضي الله

_ 1 سورة المائدة: الآية 3. 2 المائدة: الآية 3. 3 سورة الأنعام: الآية 121

عنه وقال الشافعي رحمه الله ليس هي واجبة بل هي سنة مؤكدة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1 قيل المراد بالصلاة العيد وبالنحر الأضحية فقد أمر بهما وهو للوجوب وقوله صلى الله عليه وسلم: "ضحوا فإنها سنة أبيكم" أمر ومقتضاه الوجوب وتسميته سنة في شريعة إبراهيم عليه السلام أما في شريعتنا فواجبة لقوله صلى الله عليه وسلم: "على أهل كل بيت كل عام أضحية" وكلمة على الإيجاب وقوله صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" ومثل هذا الوعيد لا يكون إلا بترك الواجب. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم الضحى والأضحى والوتر" فدل على عدم الوجوب. الجواب عنه: أن التمسك بالكتاب والسنن المستفيضة أولى على أن المراد بقوله لم تكتب عليكم نفي الفريضة أي لم تفرض عليكم ولا يلزم من نفي الفريضة نفي الوجوب للفرق بينهما.

_ 1 سورة الكوثر: الآية2

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان مسألة: اليمين وهي الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه لا يوجب الكفارة عند أبي حنيفة وأصحابه وهو قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ويأثم فيها صاحبها وعند الشافعي يوجب ويأثم فيها صاحبها. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الكبائر لا كفارة فيهن الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وقتل النفس بغير حق واليمين الفاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم" وفي رواية "اليمين الغموس تدع الديار بلاقع" أي خرابا خاليات عن الأهل بشؤم اليمين الكاذبة وقال ابن عباس رضي الله عنهما كنا نعد اليمين الغموس من الكبائر التي لا كفارة فيهن وقوله كنا إشارة إلى الصحابة وهو حكاية الإجماع. حجة الشافعي رحمه الله من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} الآية دل النص على أن من حلف بالله كاذبا يجب عليه الكفارة فإذا حلف بالله على أمر ماض كاذبا عمدا يجب فيه الكفارة. الجواب عنه: أن المراد بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} 1 اليمين المنعقدة واليمين الغموس ليس بمنعقدة وهذا لأن اليمين تعقد للبر وهو لا يتصور في الغموس والنص إنما أوجب الكفارة في المنعقدة دون الغموس. الثاني: أن اليمين الكاذبة في المستقبل موجبة للكفارة في المستقبل اتفاقا فكذا في الماضي لجامع أنه وجد في الصورتين هتك حرمة اسم الله تعالى بالاستشهاد به كاذبا.

_ 1 سورة المائدة: الآية 89

الجواب عنه: أن اليمين المنعقدة مشروعة فتصلح سببا للكفارة واليمين الغموس حرام محض فلا تصلح موجبا للكفارة ولا يجوز قياس الحرام على المشروع. مسألة: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه" ذكر الكفارة بكلمة ثم وهي للتراخي فلا يجوز التقديم ولأن سبب وجوب الكفارة الحنث دون اليمين فلا يجوز أداء الكفارة قبله كما لا يجوز أداء الصلاة قبل الوقت. حجة الشافعي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ويأت الذي هو خير" فإذا صحت الروايتان خيرنا فجوزنا التقديم والتأخير. الجواب عنه: أن الواو لمطلق الجمع دون الترتيب وكلمة ثم نص على الترتيب فيكون أولى وحمل الواو عليه على أنا لو لم نحمله على التقديم يلزم إلغاء الأمر فإن التقديم ليس بواجب إجماعا وحقيقته في الأمر للوجوب. مسألة: من نذر أن يذبح ولده صح نذره ووجب عليه ذبح شاة ويخرج عن العهدة بذلك عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول محمد رحمه الله وقول صدور الصحابة مثل علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهموقول الشافعي رحمه الله لا يصح وهو قول أبي يوسف رحمه الله حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: النصوص الموجبة للوفاء بالنذور كقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} 1 {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"

_ 1سورة الإنسان: الآية 7. 2سورة الحج: الآية 29.

وقد نذر بالذبح ها هنا فيجب عليه الوفاء بقدر الإمكان بذبح الشاة بدلا عن ذبح الولد استدلالا بقصة الخليل عليه السلام فانه خرج عن العهدة بذبح الشاة عما أمره بذبح الولد بدليل قوله تعالى: حكاية عن إسماعيل عليه السلام {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} 1 حيث أخبره بقوله {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} 2وخرج بذبح الشاة عن العهدة بدليل قوله {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} 3 وهذا لأن في الآية تقديما وتأخيرا فان أئمة التفسير أجمعوا على أن تقدير الآية والله أعلم {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ, وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ , قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} 4 أي بذبح الفداء فعلم أنه صار بتحقيق الفعل في الشاة آتيا بما التزمه من ذبح الولد وإنما يكون كذلك أن لو كان النذر بذبح الولد التزاما لذبح الشاة قال أبو بكر الرازي قد تضمن الأمر بذبح الولد إيجاب شاة في العاقبة فلما صار موجب هذا اللفظ إيجاب شاة في العاقبة وشريعة إبراهيم عليه السلام وقد أمر الله تعالى باتباعه بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} 5 دل على أن من نذر بذبح ولد ففداؤه ذبح شاة وروى أن امرأة نذرت بذبح ولدها في زمن مروان بن الحكم فجمع فقهاء الصحابة رضي الله عنهم وسألهم وفيهم ابن عمر فقال: إن الله تعالى أمر بالوفاء بالعهد فقالت أتأمرني بقتل ولدي وإن الله حرم قتل النفس وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه المسألة: فأفتى بذبح مائة بدنة ثم أتيا إلى مسروق وكان جالسا في المسجد وقال للسائل سل ذلك الشيخ فسأله فقال: أرى عليك ذبح شاة فعاد إلى ابن عباس فقال له أرى عليك مثل ذلك وكأن غرض ابن عباس أن يعلم مذهب ابن مسعود من مسروق وعن القاسم بن محمد قال: كنت عند ابن عباس فجاءته امرأة فقالت إني نذرت أن أنحر ولدي فقال:

_ 1سورة الصافات: الآية 1. 1 2سورةى الصافات: الآية 102 3صورة الصافات: الآية 105 4سورة الصافات: الآية107. 5سورة النحل: الآية 123

لا تنحري ولدك وكفري عن يمينك فقال رجل عند ابن عباس لا وفاء لنذر فيه معصية الله فقال ابن عباس: قال: الله تعالى: في الظهار ما سمعت وأوجب فيه ما ذكره فهؤلاء الصحابة مع اختلافهم في موجب النذر كان اتفاقهم على صحة النذر فمن أنكر ذلك فقد خالف الإجماع. حجة الشافعي رحمه الله: أن النذر بذبح الولد معصية والنذر بالمعصية باطل لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله تعالى". الجواب عنه: إنا قد بينا أنه صار عبارة عن إيجاب الشاة بذكر ذبح الولد وذبح الشاة قربة فيصح النذر به وبه خرج الجواب عما حكى الإمام فخر الدين الرازي حيث قال: أجاب السلطان الأعظم بهاء الدين عن كلام الحنفية وهو في غاية الحسن وهو أن ذبح الولد في حق الخليل عليه السلام كان بأمر الله وفي مسألتنا ذبح الولد على خلاف أمر الله وهو حرام فلا تقاس هذه الصورة قلنا ذبح الولد صار عبارة عن ذبح الشاة فلا يكون حراما فيجوز القياس عليه.

كتاب أدب القاضي

كتاب أدب القاضي مسألة: لا يجوز القضاء بالبينة على الغائب عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "يا علي لا تقض لأحد الخصمين مالم تسمع كلام الآخر". حجة الشافعي رحمه الله: أن الحق قد ظهر عند القاضي بشهادة الرجلين فيجب القضاء لقوله عليه الصلاة والسلام: "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وأيضا قال صلى الله عليه وسلم: "لمعاذ حين أرسله إلى اليمن اقض بالظاهر". الجواب عنه: أن الحق لا يظهر إلا إذا أسلم الشهود من المعارض فلو كان الخصم حاضرا ربما يخرجهم أو يأتي بشهود على خلاف ما ادعاه عليه فلا بد من حضوره. مسألة: قضاء القاضي في العقود والفسوخ ينفذ ظاهرا وباطنا عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله ينفذ ظاهرا لا باطنا وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وصورته لو ادعى رجل على امرأة نكاحا وأقام على ذلك شاهدي زور ولم يعرف القاضي بذلك فحكم بالنكاح على ظن صدق الشاهدين نفذ قضاؤه ظاهرا وباطنا ويحل له وطؤها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وكذا في الطلاق وعند الشافعي رحمه الله لا يحل له وطؤها ولا يقع الطلاق. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما روي أن رجلا ادعى بين يدي علي رضي الله عنه بالنكاح فقالت المرأة يا أمير المؤمنين ليس بيننا نكاح وإن كان لابد فزوجني منه فقال علي رضي الله عنه: شاهداك زوجاك ولم يجبها إلى إنشاء النكاح وكان بمحضر من الصحابة من غير نكير فحل محل الإجماع

ولأنه إذا لم ينفذ القضاء باطنا تكون امرأة لواحد في الباطن وفي الظاهر لآخر وهو باطل. حجة الشافعي رحمه الله من وجهين: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لتختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فكأنما قضيت له بقطعة من نار" فلو نفذ القضاء باطنا لما قال: ذلك. الجواب عنه: أن هذا الحديث ورد في الأموال المرسلة بدليلها روي أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث درست فقضى لأحدهما فقال الآخر حقي يا رسول الله وذكر الحديث ونحن نقول بموجبه في الأموال المرسلة إذ الخلاف في الفسوخ والعقود دون الأموال المرسلة. الثاني: أن القول بنفوذ القضاء باطنا يفضي إلى بطلان العصمة في الأموال والضياع والعقار والنساء والعبيد فلا يكون هذا الحكم لائقا لأحكام الشريعة. الجواب عنه: أن هذا لازم عليكم أيضا لأنكم قائلون بنفوذ القضاء ظاهرا وهو يفضي إلى أمر شنيع مما ذكرنا وهو كون المرأة الواحدة بين رجلين ومذهبنا في غير العقود والفسوخ كمذهبكم فكل ما يرد علينا يرد عليكم والجواب كالجواب. مسألة: إذا عرض اليمين على المنكر فنكل جاز للقاضي أن يحكم عليه بالنكول عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو قول عمر وعلي وعثمان وابن عمر وابن عباس وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم وقال: الشافعي رحمه الله لا يجوز الحكم بالنكول. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما روي أن امرأة جاءت إلى عمر رضي الله عنه فادعت على زوجها أنه قال: لها حبلك على غاربك فحلفه عمر بالله ما أردت الطلاق فنكل فقضى عليه بالفرقة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه

اشترى من إنسان شيئا فادعى على البائع عيبا فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه فحلفه عثمان بالله ما بعته وبه عيب فكتمه فنكل فقضى عليه بالرد وكذا نقل عن علي وابن عباس وشريح رضي الله عنهم. حجة الشافعي رحمه الله: أن النكول لا يدل على صدق المدعي لاحتمال أن يكون المدعى عليه متوقفا لا يعرف أن دعواه صحيحة أو كاذبة فيجب عليه التوقف فلا يدل على صدق دعواه. الجواب عنه: قد ترجح جانب كونه ناكلا أو مقرا بالامتناع عن اليمين الواحب عليه بعد العرض. مسألة: إذا تنازع الخارج وذو اليد في الملك المطلق وأقاما البينة فبينة الخارج أولى عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله بينة ذي اليد أولى. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: الخارج أكثر إثباتا وإظهارا لأنه قد رد ما تثبته بينة ذي اليد إذ اليد دليل مطلق الملك فكان الملك ظاهرا لذي اليد من وجه وظهوره من وجه يمنع كون بينة ذي اليد مظهرة له من ذلك الوجه لاستحالة إظهار الظاهر وبينة الخارج مظهرة من كل وجه فكانت أكثر إظهارا فكان القضاء بها واجبا لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقض بالظاهر". حجة الشافعي رحمه الله: أن بينة ذي اليد ساوت بينة الخارج في الإثبات فترجح بينة ذي اليد باليد التي هي دليل الملك بالضرورة. الجواب عنه: أنه لا نسلم المساواة بين البينتين في الإثبات بل بينة الخارج أكثر إثباتا لما ذكرنا فترجح على بينة ذي اليد. مسألة: إذا أقام المدعي شاهدا واحدا ولم يجد شاهدا آخر فإن القاضي لا يحلف المدعي على ما ادعاه ولا يقضي بحلفه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله يحلفه فإذا حلف يقضي له بما ادعاه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ

رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" قسم والقسمة تنافي الشركة وجعل جنس الأيمان على المنكرين وليس وراء الجنس شيء. حجة الشافعي رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين وهذا صريح في المسألة. الجواب عنه: أن هذا الحديث منقطع ذكره الترمذي والطحاوي وهما أخذا على مسلم في تصحيحه وإن سلم صحته فهو خبر الواحد ورد على مخالفة الكتاب والسنة المشهورة فيكون العمل بالكتاب والسنة المشهورة أولى.

_ 1سورة البقرة: الآية 282.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات مسألة: المحدود في القذف لا تقبل شهادته وإن تاب عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله: تقبل شهادته إذا تاب. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} 1 وبعد التوبة داخل في الأبد والاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} 2 يصرف إلى ما يليه وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3 أو هو منقطع بمعنى لكن كما عرف في موضعه. حجة الشافعي رضي الله عنه: من وجهين الأول: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 4 والمحدود في القذف بعد التوبة عدل فيكون مقبول الشهادة. الجواب عنه: أن المراد بهذه الآية غير المحدود في القذف جمعا بين الدليلين. الثاني: أن الكفر أقبح من القذف والكافر إذا تاب وأسلم تقبل شهادته والمحدود إذا تاب أولى بقبول شهادته. الجواب عنه: أن المانع من رد شهادة الكافر الكفر وقد زال بالإسلام وأما المحدود فقد ردت شهادته على التأبيد جزاء على جريمته فلا تقبل شهادته وإن تاب. مسألة: شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة عند أبي حنيفة رضي

_ 1سروة النور: الآية 4. 2سورة البقرة: الاية 160. 3سورة الحشر: الآية 19. 4 سورة الطلاق: الآية 2.

الله عنه. وعند الشافعي رحمه الله غير مقبولة. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: ما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديا بشهادة اليهود وما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا قبلوا عقد الذمة فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" وللمسليمن أن يشهد بعضهم على بعض فكذا أهل الذمة. حجة الشافعي رحمه الله من وجهين: أحدهما: الكافر خائن والخائن لا تقبل شهادته لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة للخائن" الجواب عنه: أنه خائن في حق أهل الإسلام فلا تقبل شهادته عليهم لا في حق من يوافقه في الاعتقاد. ثانيها: أن الكافر فاسق والفاسق لا تقبل شهادته لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1. الجواب عنه: أنه فاسق بالنسبة إلى أهل الإسلام أما بالنسبة إلى أهل ملته إن كان يجتنب محظور دينه يكون عدلا إذ الكذب محظور في الأديان كلها. مسألة: لا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال الشافعي رحمه الله تعالى تقبل. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة لمتهم" وأحد الزوجين متهم في شهادته للآخر وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقبل شهادة الوالد لولده ولا الزوج لزوجته". حجة الشافعي رحمه الله: ما روى أن فاطمة رضي الله عنها ادعت فدكا

_ 1 سورةالحجرات: الآية 6.

بين يدي أبي بكر رضي الله عنه واستشهدت عليا رضي الله عنه وأم أيمن وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليها أحد. الجواب عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يحكم بتلك الشهادة ورد دعوى إرثها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" وكان علي رضي الله عنه يعلم أن شهادة الزوج لا تقبل لكنه إحترز عن إيحاشها بالامتناع والدليل عليه أن عليا رضي الله عنه لما ولى الخلافة لم يتعرض لأخذ أرض فدك بل أجرى الحكم فيها على ما كان في زمن الخلفاء قبله. مسألة: تقبل في الولادة والبكارة والعيوب بالنساء في موضع لايطلع عليه الرجال شهادة امرأة واحدة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا بد من شهادة الأربع منهن. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه" والجمع المحلى باللام يراد به الجنس فيتناول الأقل وهو الواحد عند تعذر الكل. حجة الشافعي رحمه الله: أن قول الواحدة محل التهمة فلا تقبل. الجواب عنه: الموجود في هذه الصورة ليس بشهادة ولهذا لا يشترط لفظ الشهادة وخبر الواحد في الديانات مقبول.

كتاب العتاق

كتاب العتاق مسألة: إذا ملك الإنسان أخاه بالشراء أو الهبة وغيرهما عتق عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وكذا كل ذي رحم محرم وإن لم يكن من الولادة وعند الشافعي رحمه الله لا يعتق عليه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله تعالى: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} 1 وفي الاسترقاق قطع الرحم وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه" وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله وجدت أخي يباع في السوق فاشتريته لأعتقه قال صلى الله عليه وسلم: "قد أعتقه الله عليك" وقد روى هذا عن عمر وابن مسعود وعطاء بن أبي رباح وهو قول الحسن وجابر والشعبي والزهري رضي الله عنهم. حجة الشافعي رحمه الله: قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 2 وإذا اشترى أخاه فهو من كسبه فيكون ملكا له. الجواب عنه: أن المراد بالآية الكريمة أن للنفس ثواب ما كسبت من الأعمال الصالحة وعليها إثم ما اكتسبت من الأعمال السيئة ولو كان عاما في المعنى الذي ذكره فهو قد خص عنه البعض فإنه لو اشترى أباه أو أمه أو ابنه أو بنته يعتق عليه بالإجماع ولا يصير ملكا له فيخص الأخ بالحديث الذي روينا. مسألة: إذا قال: الإنسان لغلام لا يولد مثله لمثله هذا ابني عتق عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال: الشافعي رحمه الله لا يعتق عليه وهو قول صاحبيه.

_ 1سورة محمد: الآية 22. 2 سورة البقرة" الآية 286.

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه لما تعذر العمل بالحقيقة وله مجاز متعين وجب العمل به إذ الإعمال أولى من الإلغاء فصار كأنه قال: هذا أخي من حين ملكته إذ البنوة ملتزم للحرية. حجة الشافعي رحمه الله أنه كان العبد ملكا له والأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان وهذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه على طريق الشفقة أو الإعتاق فيكون في الإعتاق شك وهو لا يعارض اليقين. الجواب عنه: أن قوله هذا ابني إخبار فيقتضي صدق الحرية حقيقة أو مجازا وتعذرت الحقيقة وتعين المجاز ولا يحتمل إرادة الشفقة بصيغة الإخبار ولهذا لو قال: بصيغة النداء بأن قال: يا ابني قلنا يحتمل الإكرام والشفقة ولا يعتق. مسألة: إذا أعتق إحدى أمتيه ثم وطئ إحداهما لا تتعين الأخرى للعتق عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله تتعين وهو قول صاحبيه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الملك قائم بالموطوءة لأن إيقاع العتق في المنكرة والموطوءة معينة والمنكرة غيرها فكان له وطؤها فلا يجعل بيانا. حجة الشافعي رحمه الله: أن الواحدة صارت حرة بإعتاقه والتي وطئها ليست بحرة إجماعا فتعينت الأخرى للعتق. الجواب عنه: أن العتق لم ينزل في الواحدة قبل البيان فبقي الاحتمال في الكل. مسألة: بيع المدبر المطلق لا يجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله يجوز. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "المدبر لا يباع ولا يوهب ولا يورث وهو حر من الثلث". حجة الشافعي رحمه الله: أن المدبر مملوك فيجوز بيعه أما بيان أنه

مملوك فإن المدبرة يجوز وطؤها وحل الوطء لا يكون إلا بملك النكاح أو بملك اليمين والنكاح منتف فيتعين ملك اليمين فإذا كان الملك باقيا جاز بيعه لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1. الجواب عنه: سلمنا أنه مملوك لكنه انعقد سبب حريته في الحال لأن الحرية تثبت بعد الموت لبطلان أهليته فتعين جعله سببا في الحال فصار كأم الولد فإنها وإن كانت مملوكة جاز وطؤها ولكن لا يجوز بيعها لما ذكرنا. مسألة: إذا قال: إنسان لأمته أول ولد تلدينه فهو حر فولدت ولدا ميتا ثم آخر حيا عتق الحي عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله لا يعتق وهو قول صاحبيه. حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه جعل عتق المولود أولا حرا والحرية لا تصلح إلا في الحي فيتقيد به وكأنه قال: أول ولد حي تلدينه فهو حر. حجة الشافعي رحمه الله: أن الحي مولود ثان والجزاء عتق أول ولد والشرط ولادة أول ولد فلا يكون الثاني شرطا عينه ولا عتق الثاني: جزاء عينه. الجواب عنه: أن المطلق يجوز تقييده بدلالة من جهة المتكلم ومن جهة سياق الكلام وقد وجدت فإن الحرية لا تتصور إلا في الحي فيتقيد به والله أعلم.

_ 1سورة البقرة: الآية 275.

خاتمة

خاتمة وقد انتهت ترجمة الكتاب ولنختم بذكر بيان القضاة والعدول والأحياء والأموات مفتقرون إلى تقليد الإمام الأعظم والمجتهد المقدم أبي حنيفة رضي الله عنه في عامة أحوالهم. أما القاضي فإنه ينعزل عند الشافعي رحمه الله بمجرد الفسق فيلزمه على مذهبه عصمة القاضي عن المعاصي ما دام قاضيا وإلا ينعزل ولم يوجد قط قاض على هذا باقيا على القضاء في مذهبه فإذا انعزل لم تنفذ أحكامه وتصرفاته فيجب عليه إظهار فسقه وتجديد توليته وإلا يلزم من المفسدة ما لا يخفى أو تقليد الإمام أبي حنيفة فإنه عنده لا ينعزل بالفسق. وأما العدول فلأن أبا حنيفة رضي الله عنه يثبت العدالة بظاهر الإسلام وأما الشافعي رحمه الله فقد شرط اجتناب الكبائر ظاهرا وباطنا والتزكية كذلك وأي عدل أو قاض لم يلم بمعصية ولأن الشركة التي تتعاطاها العدول فاسدة على غير مذهب أبي حنيفة فالتناول منها قادح في العدالة فكيف تنعقد عقود المسلمين بشهادتهم عندهم والعدالة شرط في انعقاد النكاح عندهم فيحتاجون إلى تقليد أبي حنيفة رضي الله عنه. وأما بيان احتياج الأموات فإنهم يحتاجون إلى مدد الأحياء باهداء ثواب القراءة إليهم وذلك لا يصل إليهم عند غير أبي حنيفة رضي الله عنه فلا يحصل لهم الخلاص من العقوبات والوصول إلى الدرجات إلا بتقليد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. وأما بيان احتياج كافة الناس فمن وجوه: الأول: أن تارك صلاة واحدة عندهم يقتل إما حدا وإما كفرا فيجب حينئذ قتل أكثر العالم إذ المواظبون على الصلوات أقل من التاركين في كل وقت خصوصا النساء فإن أكثرهن لم تصل في العمر إلا نادرا فسكوت

القضاة عن العامة والأزواج عن نسائهم فيه ما فيه وفي القول الذي يكفر تارك الصلاة يشكل بقاء الأنكحة مع تاركات الصلاة فاقامتهن معهم فيه من العسر ما لا يقاس عليه فيجب عليهم تقليد أبي حنيفة رضي الله عنه. الثاني: أن البياعات والمعاملات التي تباشرها العبيد والصغار من الغلمان وعامة الأحوال مشكلة عندهم فيجب عليهم أن لا يرسلوا في حوائجهم إلا العقلاء البالغين وأيضا لم يتعارف الناس البيع بالإيجاب والقبول بل يباشرون البياعات بالتعاطي وذلك غير جائز عندهم. الثالث: أن مذهبهم من ترك تشديدة من الفاتحة لا تجوز صلاته وذلك يعسر على أكثر العوام فلا تجوز صلاة القراء خلفهم ولا يجوز للعامة إلا بتقليد أبي حنيفة رضي الله عنه في جواز الصلاة بما تيسر من القرآن. الرابع: أنه يشترط عندهم قران النية باللسان والقلب ولم يمكن ذلك لمثل الجنيد وأبي يزيد في العمر إلا نادرا. الخامس: أن شرط الخروج عن عهدة الزكاة أن تفرق إلى ثلاثة من كل صنف من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} آلآية ولم يتفق ذلك لأحد في العمر. السادس: أن النفقة عندهم على الموسر مدان وعلى المعسر مد ولم يتفق ذلك على مذهبهم لأحد منهم. السابع: أن الحمامات اتي تسخن بالنجاسات والأقراص التي تخبز بالزبل والفخارات التي تعجن بالأرواث كلها مشكلة على مذهبهم. الثامن: أن بيع الروث والجلة لا يجوز عندهم مع أنهم يباشرونه. التاسع: أن الملبوسات التي يتناولها الجمهور من السنجاب والسمور والقاقم وسائر أصنافها غير طاهرة عندهم لأن شعر الميتة نجسة عندهم. العاشر أن بيع الباقلاء والفول الأخضر والجوز واللوز في قشورها

مشكل عندهم مع أنهم لا يحترزون عن أمثالها وهذه قطرة من بحار المسائل التي يحتاج الناس إلى تقليد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه فيها تركناها مخافة التطويل فالناس كلهم كما قال الشافعي عيال على أبي حنيفة في الفقه فيكون تقليده أذقع للحرج عنهم والله أعلم.

§1/1